المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم ‌ ‌المقدمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ - تفسير العثيمين: الصافات

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

الفصل: بسم الله الرحمن الرحيم ‌ ‌المقدمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ

بسم الله الرحمن الرحيم

‌المقدمة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فإن من توفيق الله سبحانه وتعالى أن يسَّر لفضيلة شيخنا -تغمده الله بواسع رحمته ورضوانه- تفسير سورة "الصافات" في دروسه العلمية التي كان يعقدها رحمه الله تعالى بالجامع الكبير في مدينة عنيزة.

وقد عهدت مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية إلى فضيلة الشيخ فهد بن ناصر بن إبراهيم السليمان، أثابه الله، بالعمل لإعداد هذا الكتاب للنشر، فجزاه الله خيرًا.

نسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، موافقا لمرضاته، نافعًا لعباده، وأن يجزي فضيلة شيخنا عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، ويضاعف له المثوبة والأجر، ويعلي درجته في المهديين، إنه سميع قريب.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللجنة العلمية

في مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة الصافات

قال المؤلف -رحمه الله تعالى-

(1)

:

[سورة الصافات مكية، وآياتها 182].

المكية هي التي نزلت قبل الهجرة، فكل ما نزل قبل الهجرة فهو مكي، وإن نزل في غير مكة.

وكل ما نزل بعد الهجرة فهو مدني وإن نزل في مكة.

وعليه، فإن قوله تعالى:{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا} [المائدة: 5]. التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف في عرفة، من المدني، هذا أصح الأقوال في المكي والمدني. أن ما نزل بعد الهجرة مدني، وما نزل قبلها مكي.

أما البسملة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فإنها آية من كتاب الله مستقلة، ولهذا لا تحسب من آيات السورة التي بعدها، حتى في الفاتحة على القول الراجح: إنها ليست من السورة. وعلى هذا فالترقيم الموجود في المصاحف على خلاف القول الراجح، فإن الترقيم الموجود في المصاحف في الفاتحة عدت فيه البسملة آية من آياتها، والصحيح أنها كغيرها من السور

(1)

أخي الكريم إذا مر بك: قال المؤلف. فالمراد به جلال الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد بن محمد المحلي -رحمه الله تعالى- المتوفى سنة 864 هـ في تفسيره المسمى (تفسير الجلالين) حيث كان فضيلة الشيخ رحمه الله يعلق على ما تيسر منه وقد جعلت كلامه رحمه الله بين معكوفتين هكذا: [. .].

ص: 5

أن البسملة فيها آية مستقلة لا تحسب من آياتها. وهي مذكورة قبل كل سورة إلا سورة براءة، فإن سورة براءة لم يتقدمها بسملة، قيل: لأنها نزلت بالسيف، والبسملة رحمة فلا يناسب أن يذكر قبلها بسملة.

ولكن هذا ليس بصحيح، بل الصحيح أن الصحابة رضي الله عنهم لما كتبوا المصحف أشكل عليهم: هل براءة من الأنفال أو ليست من الأنفال، فتركوا البسملة ووضعوا خطًّا فاصلًا بينها وبين سورة الأنفال دون أن يضعوا البسملة.

ونحن نعلم أن البسملة لو نزلت قبل سورة براءة لثبتت؛ لأن الله يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]. فيكون اجتهاد الصحابة رضي الله عنهم في ذلك مطابقًا للواقع، أي مطابقًا لكونها لم تنزل في أول هذه السورة.

أما من حيث معناها فإن قول القائل: بسم الله. يعني بكل اسم من أسماء الله، وإنما قلنا: بكل اسم من أسماء الله؛ لأن اسم مفرد مضاف فيكون للعموم، فليس قول القائل: بسم الله. يعني اسمًا واحدًا من أسماء الله، بل يعني جميع أسماء الله، وهذا يدلك على عظمة هذه البسملة، أنك تبتدئ متبركًا ومستعينًا بكل اسم من أسماء الله عز وجل.

والباء فيها للمصاحبة والاستعانة، للمصاحبة من أجل حصول بركتها: فإن البسملة فيها بركة، ولذلك إذا ذُكِرت على الذبيحة صارت الذبيحة حلالًا طاهرة، وإذا لم تُذكر صارت حرامًا نجسة. إذا ذُكرت قبل الوضوء صار الوضوء صحيحًا. وإذا لم

ص: 6

تُذكر صار الوضوء فاسدًا، على قول من يرى أن البسملة من شروط الوضوء، أو من واجبات الوضوء، ولكن القول الراجح في البسملة في الوضوء أنها سنة، لقول الإمام أحمد رحمه الله: لا يثبت في هذا الباب -أي في باب التسمية في الوضوء- شيء.

إذا ذكرت على الطعام طردت الشيطان عنه، وإن لم تذكر فإن الشيطان يشارك الآكل والشارب.

فالمهم أنها بركة، ولهذا نقول: الباء للمصاحبة أي: أن المبسمل يصطحب في بسملته البركة.

والاستعانة، لأنها تعين الإنسان على مهماته.

وأما (الله) فهو العلم الخاص بالله سبحانه وتعالى، لا يسمى به غير الله ومعناها: ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين. أي أن إله بمعنى مألوه، أي معبود.

فإذا قال قائل: أين الهمزة في الله؟

فالجواب: أنها حذفت للتخفيف؛ لكثرة الاستعمال. كما حذفت من ناس، وأصلها أُناس. وحذفت من شر وخير، وأصلها أشر وأخير.

أما (الرحمن) فهو اسم من أسماء الله، و (الرحيم) كذلك اسم من أسمائه. والفرق بينهما أن الرحمن باعتبار الوصف، والرحيم باعتبار الفعل، ولهذا جاءت الرحمن بهذه الصيغة الدالة على السعة، فرحمة الله واسعة شاملة لكل شيء، وأما (الرحيم) فهو الموصول رحمته إلى خلقه.

وتقسم الرحمة باعتبار اسم (الرحيم) إلى قسمين:

ص: 7

عامة وخاصة.

أما (الرحمن) باعتبار الوصف فهو عام؛ لأنه ذو رحمة واسعة، كما قال تعالى:{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} [الأنعام: 147] هذه البسملة مشتملة على جار ومجرور، والجار والمجرور معمول لابد له من عامل، وهو المسمى بالمتعلق، فيقال مثلًا: الجار والمجرور متعلق بكذا، فأين متعلَّق البسملة؟ قال أهل العلم: متعلق البسملة فعل مقدر، متأخر، موافق للمبدوء به في مادته.

فإذا كنت تريد أن تتوضأ كان تقدير هذا المحذوف: باسم الله أتوضأ، وإذا كنت تريد أن تقرأ كان تقديره: باسم الله أقرأ، وعلى هذا فقس، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ومن لم يذبح فليذبح باسم الله"

(1)

فقدر الفعل يعني ليقول: ذبحت باسم الله.

لماذا قدر فعلًا؟ لأنه الأصل في العمل. ولهذا كانت الأفعال تعمل بدون شرط. والأسماء لا تعمل إلا بشروط، كاسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبهة وغير ذلك.

وقدر متأخرًا لوجهين:

الوجه الأول: تيمنًا بالبداءة باسم الله.

والوجه الثاني: من أجل الاختصاص، لأن تأخير العامل عن المعمول يفيد الاختصاص والحصر.

وقدر موافقًا للمبدوء به في مادته، لأنه أخص وأدل على

(1)

أخرجه البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب إذا حنث ناسيًا في الأيمان (رقم 6674)، ومسلم في كتاب الأضاحي، باب وقتها (رقم 1960)(1 - 3).

ص: 8

المقصود، فأنت إذا أردت أن تتوضأ وقلت: باسم الله أتوضأ، كان أخص مما لو قدرت باسم الله أبتدئ.

قال الله عز وجل: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2)} الواو هنا للقسم، والقسم تأكيد الشيء بذكر معظم بصيغة مخصوصة.

فقولنا: "تأكيد الشيء" هذه هي فائدة القسم، أنه يفيد التوكيد بذكر معظم، كأن المقسم يقول: إنني أؤكد هذا، كما أؤكد عظمة المحلوف به، ولا يمكن أن أحلف بهذا العظيم عندي إلا على أمر مؤكد.

وقولنا: "بصيغة مخصوصة" هي صيغة القسم، وحروف القسم ثلاثة: الواو، والباء، والتاء.

فالواو: أكثرها استعمالًا. والباء أكثرها صيغة، يعني أن الباء يُحلَف بها مع وجود الفعل وحذفه، وتدخل على الظاهر وعلى المضمر. والتاء أخص من الواو.

فإذًا أعم حروف القسم بالنسبة للاستعمال الباء؛ لأنها تستعمل مع وجود الفعل فتقول: أحلف بالله لتفعلنَّ كذا. ومع حذفه فتقول: بالله لتفعلنَّ كذا.

وتستعمل أيضًا مع الاسم الظاهر مثل: أحلف بالله.

ومع الاسم المضمر مثل: إن الله -وبه أحلف- لعلى كل شيء قدير، فهنا دخلت الباء على الضمير.

أما الواو فهي أكثرها استعمالًا، لكنها لا تدخل إلا على الظاهر، ولا يذكر معها فعل القسم.

ص: 9

التاء هي أقلها استعمالًا وتختص بالظاهر، وتختص أيضًا بأسماء معينة، وهي: الله ورب، قال ابن مالك: والتاء لله ورب. فتقول: تالله لأفعلنَّ كذا، وتقول: ترب الكعبة لأفعلنَّ كذا، أو تالرب لأفعلنَّ كذا، ولا يذكر معها فعل القسم، فهي أضيقها استعمالًا.

{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1)} الصافات اسم مجرور بواو القسم؛ لأن حروف القسم تجر. والصافات لها معنى ولها مراد، فما دل عليه اللفظ باعتبار اللغة فهو معنى، وما كان مرادًا للمتكلم فهو المراد.

والمعنى في الصافات يعني الأشياء القائمات على خط واحد مستقيم، فكل شيء متعدد يقوم على خط واحد مستقيم يسمى صافًّا، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ} [الصف: 4] يعني على خط مستقيم. هذا المعنى للصافات.

لكن ما المراد به؟ قال المؤلف: [الملائكة]، وأُنِّثت باعتبارها جماعات. وجماعات مؤنث.

وقد أخذ الزائغون بهذا الاشتباه أي تأنيث الملائكة، وقالوا: إن الملائكة بنات الله، ولهذا تذكر بصيغة التأنيث، ولكن لا شك أن هذا من باب التلبيس والتشبيه. فإن الله تعالى ذكر الملائكة بصيغة المذكر {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ} [الشورى: 5] ولم يقل: يسبحن بحمد ربهن، وعلى كل حال أنثت الملائكة باعتبارها جماعات؛ لأن الملائكة -عليهم الصلاة والسلام- جماعات مختلفة، كل جماعة لها وظيفة معينة، فمنها من وظيفتهم العبادة الخاصة لله من التسبيح والركوع

ص: 10

والسجود وغير ذلك. ومنهم ملائكة موكلون بحفظ بني آدم، وملائكة موكلون بحفظ أعمالهم وكتابتها، وملائكة موكلون بأشياء أخرى، منها ما نعلم ومنها ما لا نعلم.

فإذا قال قائل: من الملائكة؟

فالجواب: أنهم عالم غيبي خلقوا من نور، واستعبدهم الله سبحانه وتعالى في طاعته، فقاموا بها على أتم وجه، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

فإن قال قائل: هذا التعريف يرد عليه أن الملائكة قد تُرى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل على صورته التي خلق عليها، وله ستمائة جناح قد سد الأفق

(1)

، وأحيانًا يأتي جبريل بصورة بشر؟

فالجواب: أن هذا على سبيل الندرة، وما كان نادرًا فإنه لا يخرم القاعدة، أو لا يبطل التعريف. والنادر كما يقول العلماء: ليس له حكم.

ما وجه كون الملائكة توصف بالصافات؟

قال المؤلف:

1 -

[تصف نفوسها في العبادة، أو أجنحتها في الهواء، تنتظر ما تؤمر به]. هذا الصافات، وصفت بها الملائكة؛ لأنها تصف أنفسها للعبادة، يعني تهيئها لها.

2 -

أو يصفون عند الله عز وجل كما قال تعالى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)} [الصافات: 165 - 166].

(1)

أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم آمين (3232)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب في ذكر سدرة المنتهى (174).

ص: 11

3 -

أو تصف أجنحتها في الهواء تنتظر ما تؤمر به، كما قال الله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} . [الملك: 19]

فالطير إذا كان في الهواء وقد وضع أجنحته هكذا، لا تتحرك. يقال: إنه صاف.

فإذا قال قائل: (أو) في قول المؤلف هنا للتنويع أو للشك أو ماذا؟

يحتمل أن هذه للتنويع، يعني أنها تصف هكذا وهكذا. أو أنها للشك للتردد بين قولين قال بهما المفسرون.

ولكن المعنى الأول أحسن؛ لأن هذا وصف للملائكة، فهي تصف أنفسها للعبادة، وكذلك تصف أجنحتها في الهواء تنتظر ما تؤمر به.

{فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2)} قال المؤلف رحمه الله: [الملائكة تزجر السحاب، أي تسوقه].

إذًا فالموصوف شيء واحد، فالصافات هُنَّ الزاجرات، وقوله: [تزجر السحاب (أي تسوقه) لعل هذا على سبيل المثال من زجر الملائكة؛ لأن الملائكة تزجر السحاب أي تسوقه، وكذلك تزجر الميت الكافر عند موته، تزجر نفسه لتخرج، تقول: اخرجي أيتها النفس الخبيثة. وكذلك لعلها تزجر أشياء أخرى لا نعلمها.

المهم أن المراد بالزاجرات الملائكة. وكيف كانت زاجرة؟ نقول: لهذا عدة أوجه منها: زجر السحاب، وزجر النفوس الكافرة عند الموت، وغير ذلك مما يأمرها الله به أن تزجره.

ص: 12

{فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3)} [أي قُرَّاء القرآن يتلونه {ذِكْرًا (3)} مصدر من معنى التاليات]، قوله:{فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3)} عدل المؤلف بهذا الوصف عن الموصوف الأول فقال: [قراء القرآن يتلونه] أي النفوس التاليات، ولو قيل: إن المراد بها الملائكة أيضًا، لأن الملائكة تتلوا القرآن، كما قال تعالى:{كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)} [عبس: 11 - 16] فالملائكة تتلوا القرآن، فيمكن أن نجعل هذه الأوصاف الثلاثة كلها للملائكة.

والمؤلف رحمه الله أعرب {ذِكْرًا (3)} على أنها مصدر من معنى التاليات. فاستفدنا من هذا فائدة نحوية، وهي أن المصدر قد يكون من اللفظ، وقد يكون من المعنى، فإن كان من اللفظ، فهو مصدر لفظي، وإذا كان من المعنى فهو مصدر معنوي، فإذا قلت: قعدت جلوسًا، فجلوسًا مصدر معنوي. قعدت قعودًا مصدر لفظي، يقول المؤلف:[ذكرًا مصدر من معنى التاليات]، يعني الذاكرات ذكرًا، فالتاليات عنده بمعنى الذاكرات، وذكرًا مصدر لها من معناها، ولكن الذي يظهر خلاف كلام المؤلف رحمه الله وأن {ذِكْرًا (3)} مفعول للتاليات؛ لأن التاليات اسم فاعل قد استوفى شروط العمل لكونه محلى بأل، وذكرًا مفعول به، أي فاللاتي يتلين الذكر، والمراد بالذكر: القرآن وسمي ذكرًا:

1 -

لأنه ذكر لله عز وجل فإنه من أفضل الذكر.

2 -

ولأنه يذكر الإنسان بربه.

ص: 13

3 -

ولأنه يذكر الإنسان بأحكام ربه.

4 -

ولأنه يذكر الإنسان بنعم ربه.

5 -

ولأنه ذكر لمن عمل به أي شرف ورفعة، كما قال تعالى:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} . [الزخرف: 44].

6 -

ولأنه يعظ صاحبه ويذكره، كما قال تعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} . [ص: 29] فالقرآن ذكر من هذه الوجوه

الفوائد:

1 -

في الآيات الثلاث يقسم الله عز وجل بالملائكة باعتبار صفاتها: صافات، وزاجرات، وتاليات؛ لأن كل صفة منها تدل على عظمة الخالق عز وجل.

2 -

ومنها: فضيلة الملائكة في أحوالهم الثلاث: الصف، والزجر، والتلو؛ لأنه لا يحلف إلا بما كان أهلًا لأن يحلف به.

فإذا قال قائل: كيف حلف الله عز وجل بالمخلوق؟ لأن الملائكة مخلوقات مع أن الحلف بالمخلوق شرك.

فالجواب على ذلك: أن الله سبحانه وتعالى له أن يحلف بما شاء من خلقه، لأنه المالك كما أنه سبحانه وتعالى يأمر بما شاء، أرأيت أمر الله تعالى الملائكة أن تسجد لآدم والسجود لغير الله شرك، لكن الله يأمر بما شاء، أرأيت أمره إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام أن يذبح ابنه وذبح ابنه من أعظم الكبائر وصار بأمر الله طاعة لله عز وجل كذلك الحلف بغير الله شرك،

ص: 14

ولكن مع هذا لله أن يحلف بما شاء من خلقه. ولكن يجب أن نعلم أن لله لا يحلف بشيء من خلقه إلا كان هذا الشيء من أعظم آياته، فيكون الحلف بهذا المخلوق متضمنًا للحلف بآيات الله عز وجل التي هي فعله، لأن عظم المخلوق يدل على عظم الخالق.

3 -

ومن فوائدها: أن من صفات الملائكة الصف، قال الله تعالى:{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165)} [الصافات 165] وقال النبي عليه الصلاة والسلام: "ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها"

(1)

.

3 -

ومن فوائدها: أن الملائكة موكلة بالتصرف: بالزجر كزجر السحاب وزجر الكفار عند احتضارهم لقوله: {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2)} .

4 -

ومن فوائدها: أن الملائكة تتلوا الذكر أي تتلوا القرآن، وهذا يدل على قيام الملائكة بعبادة الله، وعلى فضيلة القرآن حيث تتلوه الملائكة، لقوله تعالى:{فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3)} .

* * *

{إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4)} الجملة هذه جواب القسم، ولذلك كسرت إنَّ هنا لوقوعها في جواب القسم؛ ولأنه اقترن خبرها باللام.

وإذا وقعت إنَّ جوابًا للقسم وجب كسرها، وإذا اقترن خبرها باللام، أو اسمها المؤخر، أو معمول أحدهما باللام وجب كسرها.

{إِنَّ إِلَهَكُمْ} الخطاب يقول المؤلف: [يا أهل مكة]،

(1)

أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب الأمر بالسكون في الصلاة والنهي عن الإشارة باليد

(430).

ص: 15

ولكن الصحيح أنه عام يشمل كل من خوطب، ولكن الذي أوجب المؤلف أن يجعله خاصًّا بأهل مكة؛ لأن هذه الآية مكية والمشركون هم أهل مكة.

ولكن لا ينبغي أن يقيد المعنى العام بمكان نزوله، وإذا كانت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص المكان.

فالصواب {إِنَّ إِلَهَكُمْ} يعني أيها الناس {لَوَاحِدٌ (4)} يعني لا شريك له، والواحد والأحد وما أشبههما تدل على الانفراد، أي أنه عز وجل لا شريك له، {إِلَهَكُمْ} فِعال بمعنى مفعول، أي مألوهكم، والمألوه هو الذي يعبد محبة وتعظيمًا، فبمحبته يقوم الإنسان بفعل الأوامر، وبتعظيمه ينتهي عن النواهي، إذًا إن معبودكم أيها الناس لواحد لا شريك له، فالله عز وجل لا شريك له في ربوبيته، ولا شريك له في ألوهيته، ولا شريك له في أسمائه وصفاته، دليل الربوبية قوله تعالى:{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون: 86 - 87] وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} [الرعد: 16] ودليل الألوهية قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} . [محمد: 19].

ودليل الأسماء والصفات قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11]. فالله تعالى واحد في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، سبحانه وتعالى.

ويرد على هذا أن للمشركين آلهة متعددة؟

والجواب: أن نقول: نعم لهم آلهة لكنها آلهة باطلة،

ص: 16

والدليل على أنها باطلة قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان: 30] وقوله سبحانه وتعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} . [النجم: 23].

ثم قال: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (رب) إما أن تكون عطف بيان، أو خبر مبتدأ محذوف، والتقدير هو رب السماوات والأرض.

ورب بمعنى خالق، ومالك، ومدبر، فهو الذي خلق السماوات والأرض، وهو الذي يملك السماوات والأرض، وهو المدبر للسماوات والأرض.

قال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54] وهذا انفراده بالخلق والتدبير، وقال تعالى:{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الجاثية: 27] وهذا انفراده بالملك.

والسماوات جمع سماء وهي معروفة، وعددها سبع سماوات بنص القرآن. قال تعالى:{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86)} . [المؤمنون: 86] وقال سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} . [الطلاق: 12]

الأرض كذلك سبع لظاهر القرآن وصريح السنة:

أما ظاهر القرآن ففي قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} ، [الطلاق: 12] فالمثلية هنا بالعدد؛ لأنه لا يمكن أن تكون الأرض مثل السماء في ذاتها ولا في سعتها وعظمتها، فالسماء أوسع وأعظم، ومادتها غير مادة الأرض؛ ولهذا يصف الله تعالى السماء بالقوة:{وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12)} . [النبأ: 12] {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ

ص: 17

سَقْفًا مَحْفُوظًا}. [الأنبياء: 32]{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47] ولم يرد ذلك في الأرض. إذًا يتعين أن تكون مماثلة في العدد.

أما السنة فصريحة مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "من اقتطع شبرًا من الأرض طوقه الله يوم القيامة من سبع أرضين"

(1)

.

{وَمَا بَيْنَهُمَا} يعني ورب ما بينهما، ولا شك أن الذي بينهما مخلوقات عظيمة بدليل أنها جعلت قسيمة وعديلة للسماوات والأرض. فلابد أن تكون شيئًا عظيمًا، ليس هي مجرد ما نرى من السحاب المسخر بين السماء والأرض، بل هناك أشياء عظيمة بين السماء والأرض من آيات الله عز وجل. نعرف منها السحاب فإنه بين السماء والأرض، والنجوم بين السماء والأرض، والشمس بين السماء والأرض، والقمر بين السماء والأرض، لقوله تعالى:{كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)} [الأنبياء: 33] وما اشتهر عن علماء الفلك سابقًا من أن الشمس في السماء الرابعة، والقمر في السماء الدنيا، وعطارد وزحل والمشتري في السماوات الأخرى، وهي على هذا الترتيب.

زحل شرى مريخه من شمسه

فتزاهرت بعطارد الأقمار

أعلاها زحل في السماء السابعة، (شرى) المشتري في السادسة، (مريخه) المريخ في السماء الخامسة، (من شمسه) الشمس في الرابعة، (فتزاهرت) الزهرة في الثالثة، بعطارد في

(1)

أخرجه البخاري في كتاب المظالم، باب إثم من ظلم شيئًا من الأرض (رقم 2452، 2453)، ومسلم في كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها (رقم 1610)(137) واللفظ لمسلم.

ص: 18

الثانية، الأقمار في السماء الدنيا.

هذا هو المشهور عند علماء الفلك سابقًا، ولكن هذا خلاف الصواب؛ لأن ظاهر النصوص أن الشمس والقمر والنجوم كلها دون السماء، ليست ملصقة في السماوات، بل هي في فلك يدور بين السماء والأرض، والقمر هو أقربها إلى الأرض بدليل أنه يكسف ما فوقه كما شاهدناه وشاهده غيرنا، أحيانًا تجده يمر من تحت النجمة فتغيب به، وهذا يدل على أنه تحت النجوم، على كل حال نقول: ما بين السماوات السبع السحاب والشمس والقمر والنجوم والكواكب وغيرها من أمور لا نعلمها، قد لا نعلم هذه الأمور، ويمكن أن العلم فيما بعد يطلعنا على شيء كثير منها.

{وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)} قال المؤلف رحمه الله: [أي والمغارب للشمس، لها كل يوم مشرق ومغرب]، فكأنه من باب الاكتفاء بذكر المقابل عن مقابله، نظير قوله تعالى:{وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] يعني والبرد، فإن السرابيل التي هي القمص وشبهها تقي الحر والبرد.

والمشارق جمع مشرق، فما المراد بالمشارق؟ هل المراد كما قال المؤلف: مشارق الشمس لأنها كل يوم لها مشرق؟ أو نقول: إن المشارق أعم فتشمل مشارق الشمس، ومشارق القمر، ومشارق النجوم، ومشارق كل ما شرق. أيهما أعم؟ الثاني أعم. فنقول: رب المشارق يعني مشارق الشمس، ومشارق القمر، ومشارق النجوم، ومشارق كل ما يشرق. وذكر الله المشارق دون المغارب، لأن المشارق أدل على القدرة من المغارب، إذ إن

ص: 19

الشروق ابتداء والغروب انتهاء.

وفي الشروق -أيضًا- ولاسيما في شروق الشمس إضاءة ونور يظهر فيه تمامًا كمال النعمة، وقوله {الْمَشَارِقِ} هنا بالجمع، وفي بعض الآيات جاءت بالتثنية، مثل قوله تعالى:{رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17)} [الرحمن: 17] وفي بعض الآيات جاءت بالإفراد كما قال تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)} [المزمل: 9] فهل هذا تناقض أم ماذا؟

الجواب: لا، وليس في القرآن شيء من التناقض {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء: 82] فالقرآن لا يمكن أن يتناقض بنفسه، ولا أن يتناقض مع صحيح السنة. وانتبه نقول: مع صحيح السنة، لأنه قد تأتي سنة ضعيفة تناقض القرآن، ومناقضتها للقرآن يدل على ضعفها، لكن مع صحيح السنة لا يمكن، فإن وجد شيء ظاهره التعارض فإنه لابد أن يكون هناك وجه لتصحيح التعارض: إما بإمكان الجمع وهو المرتبة الأولى للعمل بالنصوص التي ظاهرها التعارض. وإما بالنسخ إن علم التاريخ وكان النص مما يدخله النسخ. وإما الترجيح يكون أحدهما أرجح من الآخر، ولابد من هذه المراتب الثلاث. لكن أحيانًا قد لا يتسنى للناظر وجه من هذه الوجوه، قد يعجز عن الجمع، وقد لا يعرف النسخ، وقد لا يمكنه الترجيح، فموقفه حينئذ التوقف، وأن يقول: الله أعلم، ولا يجوز أن يعتقد بأي حال من الأحوال أن في القرآن أو صحيح السنة تناقضًا أبدًا، لكن هل له أن يحاول معرفة هذه المراتب، أو إذا أشكل عليه أول

ص: 20

مرة وقف؟ يجب أن يحاول النظر مرة بعد أخرى حتى يتبين، لئلا يقع في نفسه شك فيزيغ والعياذ بالله، فهذه الفائدة جاءت عرضًا، وهي أنه ليس في القرآن تناقض لا في نفسه ولا مع صحيح السنة، فإن وجد شيء ظاهره التناقض والتعارض وجب أن نستعمل المراتب الثلاث.

أولًا: الجمع، فإن لم يمكن فالنسخ، فإن لم يمكن فالترجيح، فإن لم نصل إلى ذلك فالتوقف لكن مع محاولة الوصول إلى مرتبة من هذا المراتب.

فبناءً على هذه القاعدة يمكن أن ننزل الاختلاف الوارد في المشرق والمغرب فنقول: المشرق باعتبار الجهة يعني جهة الشرق، {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [المزمل: 9] يعني جهة الشرق والمغرب جهة الغرب، بدليل قوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]. أي جهة الله على أحد التفسيرين، وأما المشرقين والمغربين فالمراد مشرقا الصيف والشتاء، ومغربا الصيف والشتاء، فالشمس مثلًا لها منتهى في مشرقها صيفًا، وهو مدار السرطان، ولها منتهى في مدارها شتاء وهو مدار الجدي.

فالفرق بين المشرقين فرق كبير، لا يستطيع أحد من المخلوقين أن يحول الشمس من مدار السرطان إلى مدار الجدي ولا شعرة واحدة.

وكذلك نقول بالنسبة للقمر؛ لأنه يدور على هذه المعالم: المشرقين والمغربين.

ص: 21

المشارق والمغارب الجمع فيها واضح، إما باعتبار مشارق، كل ما يشرق ومغارب كل ما يغرب من الشمس والقمر والنجوم والكواكب، وإما أنها المشارق اليومية للشمس، لأن كل يوم لها مشرق، وهذه المرتبة مرتبة الجمع، فالجمع بينها أن نقول: المشارق باعتبار مشارق كل ما يشرق، أو باعتبار المشارق مشارق الشمس كل يوم، والمشرقين باعتبار مشرقي الصيف والشتاء، ومغربيهما المشرق والمغرب الجهة.

الفوائد:

1 -

من فوائد هذه الآيات: وحدانية الله عز وجل في ألوهيته لقوله: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4)} .

2 -

ومن فوائدها: بطلان ألوهية ما سوى الله لقوله: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4)} فإذا كان واحدًا فما سواه فهو باطل.

3 -

ومن فوائدها: أهمية التوحيد؛ لأن الله تعالى أقسم بالملائكة على ثبوت هذا التوحيد؛ ولأن الله تعالى أكده بثلاثة مؤكدات: القسم، إن، اللام. {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4)} .

4 -

ومن فوائدها: التناسب بين المقسم به وعليه، فالمقسم به الملائكة في حال تلك الأوصاف: الصف والزجر والتلو. والمقسم عليه وحدانية الله، والتناسب بينهما: أن الملائكة إنما تفعل ذلك توحيدًا لله سبحانه وتعالى وتعظيمًا له.

5 -

ومن فوائدها: إثبات الربوبية لله سبحانه وتعالى لقوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ} .

ص: 22

6 -

ومن فوائدها: عموم ربوبيته في قوله {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)} .

7 -

ومن فوائدها: التلازم بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، فإن قوله:{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} بعد قوله: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4)} كالدليل على توحده بالألوهية، وذلك أنه إذا كان متوحدًا بالربوبية لزم أن يكون متوحدًا في الألوهية. كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] فكيف تعبدون غيره ممن لم يخلقكم ولا خلق أحدًا؟

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} . [الحج 73]

ولهذا قال أهل العلم: من أقر بتوحيد الربوبية لزمه أن يقر بتوحيد الألوهية وإلا كان متناقضًا؛ لأنه يقال له: كيف تقر بأن الله وحده هو الرب الخالق ثم تعبد معه من لا يخلق؟ وهل هذا إلا تناقض؟

وهذه الآية وما شابهها من آيات الكتاب العزيز تدل على التلازم بين توحيد الألوهية والربوبية، ووجه ذلك أنه يلزمه أن يقر بتوحيد الألوهية ولكن كيف تلزمه؟ لأنه إذا قال: إن الله سبحانه وتعالى واحد في الخلق فيجب ألا يعبد غيره.

8 -

ومن فوائدها: إثبات أن للسماوات عددًا لقوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ} وقد بين في مواضع بأنها سبع، وكذلك الأرض.

9 -

ومن فوائدها: الإشارة إلى عظم السماوات والأرض وما بينهما؛ لأن الله أضاف الربوبية إليها في مقام إقامة الحجة،

ص: 23

وهذا يدل على عظمتها، وأنها لعظمتها صارت كالدليل الملزم لتوحيد الألوهية.

10 -

ومن فوائدها: أن بين السماوات والأرض من المخلوقات العظيمة ما اقتضى أن يكون ما بين السماء والأرض قسيمًا للسماوات والأرض.

11 -

ومن فوائدها: تمام قدرة الله سبحانه وتعالى بتصريف المشارق والمغارب لقوله: {وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)} ولا أحد يستطيع أن يتصرف في هذه المشارق والمغارب لا بتقديم ولا بتأخير ولا بتغيير مكان، لو أن الخلق كلهم اجتمعوا على أن يقدموا طلوع الشمس بدقيقة واحدة، أو يؤخروها، أو يزحزحوها عن مكانها ما استطاعوا. وإنما ذلك إلى الله عز وجل هو الذي يتصرف فيها. وقد أمرها أن تسير كما أمرها بحكمته فسارت إلى أجل مسمى. فإذا أراد الله تعالى أن يغيرها غيَّرها وردها من حيث جاءت فشرقت من حيث غربت.

* * *

{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6)} (إنا) الضمير يعود على الله عز وجل، واستعمال ضمير الجمع عائدًا إلى الله من باب التعظيم، وليس من باب التعدد؛ لأن الآية تقول:{إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4)} لكن هذا من باب التعظيم، وقوله:{زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ} أي جعلنا عليها ما يزينها وهي الكواكب، ولهذا قال:{بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6)} وفي قراءة {بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ} وكلاهما صحيح. (بزينةِ الكواكبِ) أي بالكواكب المزينة للسماء كما قال

ص: 24

تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك 5] و (الكواكب) على القراءة التي ساقها المؤلف مضاف إليه، وزينةِ مضاف غير منون (بزينةِ الكواكب)؛ لأن الكواكب نفسها زينة تزين بها السماء الدنيا.

فإذا قال قائل: السماء الدنيا. لماذا سميت دنيا؟

فالجواب: لأنها أدنى إلى الأرض مما فوقها، فهي دنيا، وربما نقول: إنها أدنى مما فوقها في السعة والقوة، لأنه كلما علوت اتسع المكان، لأن السماوات على الأرض دائرة كالكرة، ومعلوم أنك كلما صعدت فسوف يتسع وكلما اتسع فسيكون أقوى، لأنه لو كان المتسع بقوة ما تحته ضعف، إذ كلما اتسع البناء لابد أن يكون أقوى، ونضرب لك مثلًا: لو أنك أتيت بمسلح خمسة أمتار يحتاج مثلًا إلى 10 سم لكن إذا جعلته 20 يحتاج إلى أكثر، يعني يحتاج أن يكون سميكًا أكثر؛ لأنه لو كان بسمك الأول مع سعته لكان يهضم، وكلما اتسع فلابد أن يكون أشد بناء وأحكم.

وقوله: {بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6)} يعني أن الكواكب تزين السماء.

وسنورد على هذا إيرادًا، وهو أننا ذكرنا قبل آنفًا أن النجوم والكواكب في فلك بين السماء والأرض، وظاهر الآية أن تزين السماء الدنيا بشيء لاصق به.

والجواب على ذلك أن يقال: إن الشيء قد يزين بالشيء، ولو كان منفصلًا عنه. أرأيت لو وضعت ثريات خارج القصر فإذا نظرت إلى القصر والثريات بينك وبينه فإن هذه الثريات ستكون

ص: 25

زينة للقصر مع أنها في الواقع ليست لاصقة به، فكل شيء يحول يكون بينك وبين شيء آخر فإنه سيتصف به الشيء الثاني، وسيكون في نظرك ملاصقًا له.

قال تعالى: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)} يقول المؤلف: [حفظًا منصوب بفعل مقدر: أي حفظناها بالشهب] أي حفظنا السماء الدنيا حفظًا. بالشُّهُب كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5] وقال هنا: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)} (من كل) قال المؤلف: [متعلق بالمقدر -وهو حفظناها- (شيطان مارد) عاتٍ خارج عن الطاعة]، شيطان نكرة يشمل كل شيطان، بل هو نكرة مضافة إليه (كل) فيكون فيه نوعان من أسباب العموم وهو التنكير وإضافة (كل) إليه.

وشيطان قيل إنه مأخوذ من شاط يشيط، وعلى هذا فالنون زائدة. وقيل: إنه من شطن بمعنى بَعُدَ، فالنون أصلية، وهذا هو الظاهر أن النون أصلية وهو مأخوذ من شطن إذا بعد؛ لأن الشيطان قد بَعُدَ من رحمة الله، قال تعالى:{وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35)} [الحجر: 35].

وقوله: (مارد)، المارد هو العاتي القوي العتو، والعياذ بالله.

وقوله: {لَا يَسَّمَّعُونَ} قال المؤلف رحمه الله: [أي الشياطين مستأنف وسماعهم هو في المعنى المحفوظ عنه]، {لَا يَسَّمَّعُونَ} الجملة -كما قال المؤلف- استئنافية، يعني أن الشياطين المردة لا يسمعون إلى الملأ الأعلى. هذه الجملة المستأنفة هي في المعنى المحفوظ عنه في قوله {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ

ص: 26

شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)} عن سماعهم إلى الملأ الأعلى، يعني أن السماء حفظت من الشياطين ألا يسمعوا إلى الملأ الأعلى {الْمَلَإِ الْأَعْلَى} الملائكة في السماء، وعُدِّي قال المؤلف:[السماع بإلى لتضمنه معنى الإصغاء].

الملأ في الأصل الجماعة، ويطلق في الغالب على الأشراف، كما يمر كثيرًا في المكذبين للرسل أن الله يقول:{قَالَ الْمَلَأُ} ، فالغالب أن الملأ هم الجماعة الأشراف والأعيان في قومهم.

ولا ريب أن الملائكة -عليهم الصلاة والسلام- أشراف؛ لأنهم عباد مسخرون لعبادة الله لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، منهم من أقوم عباد الله في طاعة الله وسيأتينا إن شاء الله في الفوائد هل هم أفضل من البشر، أو البشر أفضل منهم. وهنا يقول:{الْأَعْلَى} ، أي الأعلى مكانًا، فإن السماء أعلى من الأرض، ويمكن أن يراد به الأعلى وصفًا فيجمع بين الأمرين، كما أن الله سبحانه وتعالى إذا وصف بالأعلى فهو الأعلى مكانًا والأعلى وصفًا.

قال: [وعُدّي السماع بإلى لتضمنه معنى الإصغاء]، هذا جواب عن سؤال مقدر، وهو أن {سَمِعَ} في اللغة العربية تتعدى بنفسها، كما قال الله تعالى:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} [المجادلة: 1] وهنا قال: {لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ} ولم يقل: لا يسمعون الملأ، أجاب المؤلف عنه بأن الفعل ضمن معنى الإصغاء، والتضمين معناه أن يكون الفعل متضمنًا لمعنى يناسب المعمول، سواء كان

ص: 27

مفعولًا به أو مجرورًا، وهل التجوز إذا جاء مثل هذا التعبير هل يكون التجوز بالفعل أي أنه ضمن معنىً يناسب المعمول الذي تعدى إليه الفعل، أو أن التجوز في الحرف. ذكر أهل النحو في ذلك قولين:

القول الأول: وهو للكوفيين أن التجوز في الحرف.

والقول الثاني: أن الفعل متضمن معنى يناسب الحرف المتعدي إليه.

وأبين مثال لذلك قوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} . [الإنسان: 6] لو أننا أخذنا بظاهر اللفظ لكان المعنى أن هذه العين يُشرب بها، ومعلوم أن العين لا يمكن أن يشرب بها، لأنه لا يشرب إلا بالإناء من العين، فالعين لا يُشرب بها وإنما يشرب منها، فهل نقول: إن الباء هنا بمعنى (من) فيكون تجوز بالحرف، أو نقول: أن يشرب متضمن معنى يروى {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا} أي يروى بها عباد الله بعد شربهم منها، ذكرنا في هذا قولين لأهل العلم، ولا ريب أن جعل التضمين في الفعل أولى من جعله في المعمول؛ لأنك إذا جعلت التضمين في الفعل استفدت فائدتين:

الفائدة الأولى: ما دل عليه لفظ الفعل.

الفائدة الثانية: ما دل عليه معنى الفعل المتضمن إياه.

أما إذا جعلت التجوز في الحرف فإنك لا تستفيد إلا معنى واحدًا، وهو نزع الحرف وإحلال حرف آخر مكانه، ولم نستفد شيئًا ويبقى الفعل على ما هو عليه بمقتضى دلالة اللفظ، فالحاصل أن القول بأن الفعل يتضمن معنى يناسب الحرف، أو

ص: 28

يناسب المعمول أولى من القول بأن المعمول هو الذي فيه التجوز.

هنا {لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ} نقول: الفعل يتضمن معنى الإصغاء. يعني لا يصغون إليهم مستمعين.

وفي قراءة بتشديد الميم والسين {لَا يَسَّمَّعُونَ} وأصله يتسمعون، أدغمت التاء في السين فصارت يسَّمَّعون، والقراءة هذه سبعية؛ لأن في اصطلاح المؤلف أنه إذا قال: في قراءة، فهي سبعية وإذا قال: قرِئَ، فهي شاذة {وَيُقْذَفُونَ} قال المؤلف رحمه الله[أي الشياطين بالشهب من كل جانب من آفاق السماء، {دُحُورًا} مصدر دحره، أي طرده وأبعده وهو مفعول له]، {وَيُقْذَفُونَ} ، الضمير يعود على الشياطين فإذا قال قائل: إنه لم يتقدم ذكر الشياطين، فالجواب: بلى، تقدم في قوله {مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ} ، لأن كل شيطان عام، فيكون دالًّا على الجمع، إذن يقذفون أي الشياطين المعلوم جمعهم من قوله {كُلِّ شَيْطَانٍ} ، {وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8)} ، الذي يقذفهم الله عز وجل بأمره، يأمر هذه الشهب فتقذفهم، فالقذف هو الرمي بشدة {مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8)} أي من الجوانب التي تصيبهم من آفاق السماء. كما قال المؤلف. {دُحُورًا} يعني طردًا وإبعادًا. وهي كما قال المؤلف مفعول له، أي لأجل الدحور، والمفاعيل خمسة: المطلق، والمفعول به، والمفعول فيه، والمفعول له، والمفعول معه، وأمثلتها:

ضربت ضربًا أبا عمرو غداة أتى

وسرت والنيل خوفًا من عقابك لي

ص: 29

ضربت ضربًا مفعول مطلق، أبا عمرو مفعول به، غداة أتى المفعول فيه، وسرت والنيل المفعول معه، خوفًا من عقابك لي المفعول له.

{وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9)} أي دائم فهم يعذبون في هذه الدنيا بهذه الشهب، ويعذبون في الآخرة بالعذاب الدائم؛ لأن الشياطين من أصحاب النار.

قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} قال المؤلف رحمه الله[مصدر أي المرة، والاستثناء من ضمير (يسمعون) أي لا يسمع إلا الشيطان الذي سمع الكلمة من الملائكة فأخذها بسرعة {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ} كوكب مضيء {ثَاقِبٌ} يثقبه أو يحرقه أو يخبله]، لما قال {لَا يَسَّمَّعُونَ} وكان هذا النفي عامًّا: يعني لا يسمع أي واحد من هؤلاء الشياطين إلى الملأ الأعلى، استثنى الشياطين المردة الذين يخطفون الخطفة، ولهذا قال:{إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} يعني أخذ الشيء بسرعة، وخطفة مصدر يدل على الوحدة، يعني إلا شيطانًا يخطف الخطفة فهذا يسمع، ولكن هل إذا خطف الخطفة ينجو؟ قال الله تعالى:{فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)} فهنا استثنى من نفي سماعهم إلى السماء، استثنى الذي يخطف الخطفة فهو يسمع، ولكن هل ينجو حتى يصل إلى الأرض؟ قال:{فَأَتْبَعَهُ} أي تبعه شهاب ثاقب يعني كوكب مضيء ثاقب أي نافذ ينفذ فيه فيخرقه أو يحرقه أو يخبله. وربما ينجو من هذا الشهاب إذا أراد الله عز وجل، ويصل إلى الكاهن ويوحي إليه بما سمع، ثم الكاهن يكذب مع ما سمع كذبات كثيرة مئة كذبة أو أكثر

ص: 30

أو أقل، ثم يحدث الكاهن الناس بما سيكون، فإذا وقع قال: إنه يعلم الغيب، واتخذ من هذا دعاية لنفسه، ولهذا كان الكهان في العرب في الجاهلية كانوا معظمين يتحاكم الناس إليهم، لأنهم إذا أخبروا من هذه الأمور من علم الغيب وقع ما أخبروا به وصار لهم شأن كبير عند الناس، فصار الشياطين ثلاثة أقسام:

القسم الأول: قسم لا يمكنه السماع إطلاقًا.

القسم الثاني: قسم آخر يمكن أن يسمع على سبيل الخطف ويحرقه الشهاب.

والقسم الثالث: قسم يسمع على سبيل الخطف، وينجو، وكل هذا بإذن الله عز وجل وإرادته تبعًا لحكمته.

وكل هذه الآيات في بيان عظمة السماء، وأن السماء محفوظة محروسة لا يمكن أن يصل إليها أحد.

في هذه الآيات من الفوائد:

1 -

بيان أن الله تعالى زين السماء بهذه الكواكب، فإنك إذا رأيت السماء في ليلة صافية ليس فيها قمر ولا حولك إضاءة وجدت لها من الحسن ما لا تتصوره من حسن هذه النجوم، فيها اللامع والخفي والقريب بعضه من بعض والمتباعد بعضه من بعض، والمختلف الأشكال مما يدل على عظمة الخالق عز جل، وأنه سبحانه وتعالى جعل هذه النجوم زينة للسماء.

وفيها أيضًا فائدة غير الزينة أشار إليها بقوله: {وَحِفْظًا} .

وفيها فائدة ثالثة غير الحفظ والزينة: الاهتداء {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)} [النحل: 16] فهذه النجوم فيها هذه الفوائد الثلاث.

ص: 31

2 -

ومن فوائدها: أن السماوات متطابقة بعضها أدنى من بعض، لقوله:{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا} مما يدل على أن هناك سماوات فوقها، وهو كذلك.

3 -

ومن فوائدها: عناية الله سبحانه وتعالى بخلقه حيث زين لهم السقف الذي فوق رؤوسهم؛ لأنه لو كان مظلمًا حالكًا لا يرون فيه شيئًا منيرًا لكان في ذلك شيء من الإيحاش، ولكن الله تعالى اعتنى بهذا فزينه لهم.

4 -

ومنها عناية الله من وجه آخر حيث حفظ السماء الدنيا بهذه الكواكب، فإذا قال قائل: ما فائدة هذا الحفظ؟ قلنا: الفائدة لئلا تعبث الشياطين بما ينزل من السماء من الوحي، أو تعبث الشياطين بتغرير الخلق بالكهان وأنهم يعلمون الغيب.

5 -

ومن فوائدها: أن الشياطين مردة لقوله: {مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)} بناء على أن كلمة مارد صفة كاشفة، فإن جعلت صفة مقيدة ففيها دليل على أن الشياطين منهم مردة، ومنهم دون ذلك، والآية محتملة لأن تكون مارد صفة لكل شيطان، ومحتملة لأن تكون صفة لبعض الشياطين، وأن يكون بعضهم غير مارد.

6 -

ومن فوائدها: أن هؤلاء الشياطين لا يسمعون إلى الملأ الأعلى السماع الكامل بحيث ينالون مرادهم، بسبب هذه الشهب التي تحرقهم فلا يستطيع الواحد منهم أن يسمع سماعًا كاملًا يصغي إلى الملأ الأعلى كما يصغي الإنسان إلى شيخه وإلى محدثه، بل تجدهم يأتون إلى السماء خطفًا فيخطفون ما يسمعون دون أن يكون هناك مهلة وتأنٍّ؛ لأنها تخشى من الشهب.

ص: 32

7 -

ومن فوائدها: أن الشياطين أجسام لقوله: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)} لأنه لا يخرق ولا يحرق إلا ما كان جسمًا وهو كذلك، فإن الشياطين أجسام، لكنهم أجسام لطيفة تخترق الأجسام الكثيفة أجسام البشر، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام:"إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم"

(1)

.

كما أن الروح تجري من الجسد مجرى الدم، والروح جسم لطيف فكذلك الشياطين أجسام لطيفة تخترق الأجسام الكثيفة.

9 -

ومن فوائدها: أن الله سبحانه وتعالى قد يعطي هذه الأجسام اللطيفة قدرة يصلون بها إلى السماء؛ لقوله: {لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} ، ولا شك أنهم قد يصلون إلى السماء، وأن لديهم من القوة ما هو أشد من قوة البشر ذوي الأجسام الكثيفة، أرأيتم لما قال سليمان عليه الصلاة والسلام:{الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} [النمل: 38 - 39] وكان له وقت معين يقوم فيه من مقامه، فقال: أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك. يعني قبل أن يأتي الوقت الذي تقوم فيه، وكان سليمان عليه الصلاة والسلام في الشام، وعرش ملكة سبأ في اليمن، ويقول: آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين. قال الذي عنده علم من الكتاب

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الاعتكاف، باب زيارة المرأة زوجها في اعتكافه (رقم 2038)، ومسلم في كتاب السلام، باب بيان أنه يستحب لمن رؤي خاليًا بامرأة كانت زوجته أو محرمًا أن يقول: هذه فلانة ليدفع ظن السوء به (رقم 2174)(23).

ص: 33

والذي دعا الله عز وجل بما دعاه به: أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك. يعني قبل أن ترسل طرفك ثم ترده، لأن الذي تأتي به الملائكة، والملائكة أقوى من الشياطين، فلهذا رآه في الحال. فلما رآه مستقرًّا عنده قال: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي

} إلى آخر الآيات. المهم أن الشياطين لهم قوة وقدرة توصلهم إلى السماء، والذي أعطاهم هذه القوة والقدرة هو الله عز وجل ..

10 -

ومن فوائدها: فضيلة الملائكة، حيث وصفوا بأنهم الملأ الأعلى لعلو مكانهم ومكانتهم، ففيهم العلو الحسي والعلو المعنوي.

11 -

ومن فوائدها: أن الشهب التي تقذف بها الشياطين تأتيهم من كل جانب، فإلى أي جهة حاولوا الفرار يجدون الشهب، ولا يلزم أن تجتمع هذه الشهب عليهم، قد يكون شهاب واحد يأتيهم من جهة، لكن لو حاولوا الفرار أتاهم شهاب ثانٍ، وهكذا أي جهة يحاولون الفرار منها سيجدون الشهاب، قال:{وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8)} .

12 -

ومن فوائدها: أن الشياطين ليست أهلًا لأن تحل السماء أو تقعد فيها أو تقرب منها، ولهذا يقذفون لإبعادهم دحورًا.

13 -

ومن فوائدها: أن الشياطين مكلفون، يقع عليهم العقاب الدائم لقوله:{وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9)} يعني دائم.

14 -

ومن فوائدها: أن الشياطين قد تأتي بخبر السماء لقوله: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} ولكن قد يقول قائل: إن الله قال

ص: 34

{إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} قال: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)} وحينئذ لا يصل إلى مراده.

فالجواب: أنه قد دلت النصوص الأخرى على أنه قد يصل إلى مراده، فيصل إلى الكاهن قبل أن يدركه الشهاب.

* * *

ثم قال الله عز وجل: {فَاسْتَفْتِهِمْ} : قال المِؤلف رحمه الله: [استخبر كفار مكة تقريرًا أو توبيخًا {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} من الملائكة والسموات والأراضين وما فيهما، وفي الإتيان بمن تغليب للعقلاء].

{فَاسْتَفْتِهِمْ} يعني اطلب منهم الفتوى، والفتوى في الأصل هي الإخبار بالشيء، ولكنها في اصطلاح الفقهاء: هي الإخبار عن حكم شرعي.

وهنا ليس المراد بذلك الفتوى الشرعية، وإنما المراد بها الفتوى اللغوية، يعني: استخبرهم واسألهم أهم أشد خلقًا أم من خلقنا؟ فسيقولون من خلق الله أشد. كل يعرف أن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس، وكذلك الذين يؤمنون بالغيب يقرون بأن ما غاب عنا من مخلوقات الله أعظم مما نشاهد. اللهم إلا أحدًا يريد أن يكابر، ويقول: أنا أشد خلقًا، كما قال الشيطان لله عز وجل:{قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)} [الأعراف: 12] وكما قال فرعون لقومه: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52)} [الزخرف: 52] وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)} [النازعات: 24] وإلا فكل يعلم أن المخلوقات العظيمة كالسموات والأرض

ص: 35

والشمس والقمر أعظم من خلق الإنسان.

قال المؤلف: [وفي الإتيان بمن تغليب العقلاء]، أي في قوله {أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} ولم يقل: أما خلقنا. تغليبًا للعقلاء، وذلك أن ما خلقهم الله عز وجل فيهم العقلاء وفيهم غير العقلاء، يعني فيهم من يعقل وفيهم من لا يعقل. فالملائكة والجن يعقلون، والبهائم والجمادات لا تعقل، وإن كانت البهائم أقرب إلى العقل من الجمادات، ومع هذا كل هذه الأشياء لها عقل تدرك به خالقها عز وجل، كما قال تعالى:{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن جبل أحد يحب النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم يحبه

(1)

. وغلب العقلاء مع أنهم الأقل لأنهم أفضل وأشرف.

قال: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ} قال المؤلف رحمه الله: [أي أصلهم آدم {مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11)} لازب يلصق باليد، المعنى أن خلقهم ضعيف فلا يتكبرون بإنكار النبي والقرآن المؤدي إلى هلاكهم اليسير]. لما قال: {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} بين أصل خلقهم ليبين هل هم أشد أم من خلق الله؟

والحقيقة أن الجملة {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} تحتاج إلى وقفة بالنسبة للإعراب. الهمزة للاستفهام و (هم): مبتدأ و (أشد): خبر، (خلقًا): تمييز. لأن أفعل إذا جاء الاسم بعدها منصوبًا فهو

(1)

أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب خرص التمر (1482). ومسلم، كتاب الحج، باب أحد جبل يحبنا ونحبه (1392، 1393).

ص: 36

تمييز. وأما (من خلقنا) فهذا هو المعادل، ولهذا فالهمزة هنا للتسوية يعني أيستوي هم ومن خلقنا؟ والجواب: لا. لا يستوون. بل من خلق الله أعظم. والله أعلم.

الفوائد:

1 -

في هذه الآية الكريمة: ما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم مكلف بالإبلاغ والمحاجة؛ لقوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ} وهو كذلك، فإن الله أمره أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] وأمره أن يجادل قومه {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] وأخبر بأنه يحاجهم لقوله: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عمران: 20].

2 -

ويتفرع على هذه الفائدة: أن وظيفة أهل العلم الذين ورثوا علمه كوظيفته في هذا الباب فيلزمهم محاجّة أهل الباطل ومقارعتهم.

3 -

ويتفرع على ذلك: أن العلم نوع من الجهاد في سبيل الله؛ لأن طالب العلم يحاجُّ أعداء الشريعة بالحق ليدحض به باطلهم، وأحيانًا يكون الغزو الفكري أعظم فتكًا من الغزو المسلح كما هو مشاهد، فإن الغزو الفكري يدخل كل بيت باختيار صاحب البيت بدون أن يجد معارضة أو مقاومة، لكن الغزو العسكري لا يدخل البيت، بل ولا يدخل البلد إلا بعد قتال مرير ومدافعة شديدة، فأعداء المسلمين يتسلطون عليهم -أحيانًا- بالغزو المسلح بالقتال وهذا يمكن التحرز منه، وأحيانًا بالغزو الفكري وهو أشد وأنكى من الغزو المسلح؛ لأنه يصيب المسلمين في قعر

ص: 37

بيوتهم ولا يعلمون به، ربما يخرجون من الإِسلام ويمسح الإِسلام من أفئدتهم مسحًا كاملًا، وهم لا يشعرون، لأنهم يغرون المسلمين بالشهوات، والقلب إذا انغمس بالشهوات: نسي ما خلق له، نسي عبادة الله، ولم يكن في قلبه تعلق بالله عز وجل. فتجد الإنسان في حال قيامه وقعوده وذهابه ومجيئه لا يفكر إلا بهذه الشهوات، ولا يسعى إلا لهذه الشهوات، وكأنه لم يخلق لغيرها.

كذلك يغذون في نفوس الضعفاء تعظيم هؤلاء الكفار، وأنهم أكثر تقدمًا وأشد حضارة وأقوم طريقًا وما شابه ذلك. فينصهر المسلم في حرائق هؤلاء القوم، وهذا لا شك أنه موجود، وأن كثيرًا من البلاد الإسلامية زالت معنوياتها وهلكت شخصيتها بسبب هذا الغزو الفكري. إنهم لو غزوا البلاد الإِسلامية غزوًا عسكريًّا لحلوا بأبدانهم البلاد، ولكن قلوب الناس نافرة منهم مبغضة لهم، لكن المشكل أن يغزو الناس بصفاتهم وأخلاقهم وعقائدهم وهم جالسون في بيوتهم قد فتحوا لهم القلوب هذا هو المشكل، وهذا هو الدمار، ولهذا كان الغزو بالسلاح العلمي المستمد من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مساويًا إن لم يكن أنفع وأبلغ من الغزو العسكري، فأنا أحثكم -بارك الله فيكم- وأحث نفسي على أن نعد العدة لمكافحة أعدائنا الذين يريدون أن يغزونا في بيوتنا بأفكارهم الخبيثة وأخلاقهم الملوثة، وبأفكارهم المنحرفة حتى نحمي المسلمين من شر هؤلاء؛ لأن سلاحهم أعظم فتكًا وأشد من سلاح الحديد والنار، كما هو ظاهر، وربما

ص: 38

من خرج منكم إلى البلاد الأخرى، عرف أكثر مما أعرف مما أدى إلى الانحراف في العقيدة، والانجراف وراء الشهوات التي أصبحت بعض البلاد الإِسلامية كأنها بلاد كافرة، وهم الآن يحاولون أن يغزو هذه البلاد بكل ما استطاعوا، حتى إننا نجد -أحيانًا- في الصحف ينشر الدعوة إلى اضمحلال أخلاق المسلمين وعاداتهم، ينشر أحيانًا دعاية للأزياء الأوربية والإفرنجية، وبهذا اللفظ يفتح معرض للأزياء الغربية أو الأزياء الأوربية أو الموضات الأوربية أو ما أشبهه، كل هذا لأجل أن يفسدوا أخلاقنا، وإذا فسد الخلق فسدت العقيدة، وإذا فسدت العقيدة زال تعلق المسلمين بربهم، وحينئذ صاروا أضعف الأمم، نسأل الله الحماية والسلامة.

4 -

ومن فوائدها: أمر الله -تعالى- النبي صلى الله عليه وسلم أن يتحدى هؤلاء المكذبين بالاستفتاء: أهم أشد خلقًا أم من خلقنا؟

5 -

ومن فوائدها أيضًا: أنه ينبغي في المجادلة أن يؤتى بما يقر به الخصم ليكون حجة عليهم؛ لأنهم سيقرون بأن من خلق الله أشد خلقًا منهم، فإذا أقروا بذلك قامت عليهم الحجة.

6 -

ومن فوائدها: عظمة الله سبحانه وتعالى بعظمة خلقه؛ لأن عظم المخلوق يدل على عظم الخالق، ولهذا إذا شاهدنا قصرًا جيدًا في بنائه وهندسته، عرفنا أن الذي بناه كان جيدًا ماهرًا، والعكس بالعكس.

7 -

ومن فوائدها: الإشارة إلى خلق بني آدم أو إلى أصل خلقهم بأنهم خلقوا من طين لازب، يلصق باليد مهين لقوله:

ص: 39

{إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11)} .

8 -

ومن فوائدها: بيان قدرة الله سبحانه وتعالى حيث خلق هذا الإنسان الخصيم المبين من هذا الطين {مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11)} .

9 -

ومن فوائدها: الإشارة إلى إمكان البعث، وأن الله قادر عليه، وأنه القادر على هذه المخلوقات التي هي أشد خلقًا منهم وعلى خلقهم من الطين قادر على إعادتهم، {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11)} .

10 -

ومن فوائدها: إثبات الخلق لله في قوله: {أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} وفي قوله: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ} .

11 -

ومنِ فوائدهاِ أيضًا: تفاوت الخلق في العظم، لقوله:{فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} فتكون المخلوقات متفاوتة في عظمها ودلالتها على قدرة الله؛ لأن ما كان أعظم كان أدل على القدرة.

12 -

ويتفرع على هذه الفائدة: أنه كما تتفاضل الآيات الكونية كذلك تتفاضل الآيات الشرعية، ولهذا كان أعظم السور في كتاب الله سورة (الفاتحة)

(1)

وأعظم آية (آية الكرسي)

(2)

و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن

(3)

، فالآيات الكونية تتفاضل

(1)

عن أبي سعيد بن المعلى قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن" قال: "الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته". أخرجه البخاري كتاب التفسير، باب ما جاء في فاتحة الكتاب (4474).

(2)

أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب فضل سورة الكهف وآية الكرسى (810).

(3)

أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب فضل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (5015). =

ص: 40

بعضها أدل على القدرة من بعض، وكلها دليل على القدرة حتى الذباب أهون شيء يدل على قدرة الله عز وجل، وكذلك الآيات الشرعية.

{بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12)} في هذه الآية قراءتان بفتح التاء، فيعود الضمير على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالضم على الله سبحانه وتعالى، هذا هو القول الصحيح، وإذا كان عائدًا إلى الله عز وجل فهل هو عجب حقيقي أو مجازي؟ الصحيح أنه حقيقي وأنه كسائر الصفات، فإذا قال قائل: إن العجب هو حالة تطرأ على الإنسان لفعل ما لا يخطر له على بال، أو لحصول ما لا يخطر له على بال، فكيف يمكن أن يوصف الله به؟

فالجواب أن نقول: إن أنواع العجب ثلاثة أقسام: عجب استحسان، وعجب إنكار، وعجب استفهام، والعجب الذي بمعنى الاستفهام لا يكون في حق الله؛ لأنه يكون لخفاء الأسباب على هذا المستغرب للشيء المتعجب منه بحيث يأتيه بغتة بدون توقع، وهذا مستحيل على الله تعالى؛ لأن الله تعالى بكل شيء عليم. مثال: للعجب الذي يحمل عليه الاستحسان "يعجب ربك من الشاب ليست له صبوة"

(1)

، مثال عجب الإنكار من الله {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12)} هذا عجيب إنكار.

قوله: {وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14)} المراد بالآية أي آية؛ لأنها نكرة في سياق الشرط، والنكرة في سياق الشرط تفيد العموم،

= ومسلم، كتاب صلاة المسافرين باب فضل قراءة قل هو الله أحد (811).

(1)

أخرجه الإِمام أحمد (4/ 151) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (1658).

ص: 41

وأما قول المؤلف كانشقاق القمر فهذا للتمثيل فقط.

قال: {يَسْتَسْخِرُونَ (14)} ولم يقل: يسخرون، أي سخرية مع تكبر وتعالٍ، {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15)} (إن) نافية بمعنى ما، وخبرها {سِحْرٌ مُبِينٌ (15)} صفة لسحر، وهذا النوع من الاستثناء يسميه النحويون استثناء مفرغًا، لأن ما بعد (إلا) يتطلبه العامل الذي قبلها، فإذا كان ما بعد (إلا) يتطلبه العامل الذي قبلها سمي استثناء مفرغًا. تقول: ما قام إلا زيد، وما أكرمت إلا المجتهد، وما مررت إلا بعلي، فإذا كان الذي قبل (إلا) يتطلب ما بعدها سمي استثناء مفرغًا. فـ {مُبِينٌ (15)} بمعنى بيِّن ظاهر، وأبان تأتي لازمة ومتعدية، فإذا كانت لازمة فهي بمعنى "بان"، تقول: أبان الصبح، (أي بان وظهر)، وإذا استعمل متعديًا بمعنى أظهر. تقول: أبان الحق، (أي أظهر).

الفوائد:

في هذه الآيات من الفوائد:

1 -

إثبات العجب لله عز وجل على قراءة ضم التاء، وهو من صفات الله الفعلية؛ لأنه يتعلق بمشيئته، وكل شيء يتعلق بمشيئته فهو من الصفات الفعلية عند أهل العلم.

فإذا قال قائل: ما الذي يُعلمنا أنه يتعلق بمشيئته؟

فالجواب: أن كل صفة علقت على سبب فهي من الصفات الفعلية؛ لأن الأسباب حادثة، وما يترتب على الحادث فإنه حادث، وعلى هذا فنقول: الرضا من الصفات الفعلية لأن له سببًا، والغضب والكراهة والسخط وما أشبهه. وطريق أهل السنة

ص: 42

والجماعة في مثل هذه الصفة، إثباتها لله على الوجه اللائق به لا على وجه القصور والنقص.

2 -

ومن فوائدها أيضًا: علو منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم على قراءة الفتح، حيث اعتبر الله عز وجل تعجبه تعجبًا ينوه عنه في قوله:{بَلْ عَجِبْتَ} ومعلوم أن الذي ينوه عن أحواله عظيم عند من نوّه عنه، بخلاف من لا يؤبه له ولا يهتم به، ولهذا في أوساط الناس إذا غضب الملك ليس كغضب سائر الناس، تجده مثلًا يقال: تحدث الملك فغضب، لكن لو يأتي واحد من عامة الناس لو تفجر من الغضب ما تحدث الناس عنه، فتحدث الله عز وجل عن عجب الرسول صلى الله عليه وسلم يدل على علو منزلته عند الله وعلى عظم شأنه صلى الله عليه وسلم.

3 -

ومن فوائدها: أن هؤلاء القوم الذين أنكروا الحق زادوا في طغيانهم حتى صاروا يسخرون من الحق وأهل الحق، ولهذا قال تعالى:{وَيَسْخَرُونَ (12)} يعني مع تعجبك من أحوالهم هم يسخرون مما جئت به، ويسخرون بك، وهذه عادة أعداء الرسل يسخرون من الرسل ومما جاءوا به، ومما يفعلونه أيضًا.

قال الله تعالى عن نوح: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)} . [هود: 38 - 39].

4 -

من هذه الفائدة نأخذ فائدة أخرى: وهو أنه يجب على الدعاة إلى الحق أن يصبروا على ما ينالهم من الناس من السخرية؛

ص: 43

لأن أعداء الرسل أكثر من أولياء الرسل. فالدعاة إلى الحق يجب عليهم الصبر إذا سمعوا من يسخر بهم، سواء كان هؤلاء الساخرون من الكفار، أو من أولياء الكفار؛ لأنه يوجد من المسلمين من هو من أولياء الكافرين، فالواجب على الدعاة أن يصبروا؛ لأن الرسل الذين هم أهل الحق وقادة الحق وأئمة الحق قد سخر الناس منهم، فكيف بك أنت، فالواجب عليك أن تصبر، والواجب على كل داعية أن يصبر على ما يحصل له من السخرية، وليعلم أن العاقبة للمتقين.

5 -

ومن فوائدها: عتو هؤلاء المكذبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم لكونهم {وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13)} ولا يتعظون، وذلك لقسوة قلوبهم وعتوهم -نسأل الله العافية- عكس المؤمنين الذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صمًّا وعميانًا.

6 -

ومن فوائدها أيضًا: أن هؤلاء المكذبين إذا رأوا الآية الدالة على صدق الرسل ازدادوا سخرية وترفعًا {وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14)} وهذا فوق السخرية السابقة الذي قال: {وَيَسْخَرُونَ (12)} ، وكان المفروض أنهم إذا رأوا الآيات أن يستسلموا، ولكنهم على العكس من ذلك إذا رأوا الآية يستسخرون والعجب من قوم النبي عليه الصلاة والسلام الذين كذبوه أنهم قالوا:{اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ} [الأنفال: 32] فانظر إلى العتو -والعياذ بالله- كان الذي ينبغي أن يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه ووفقنا له، أما أن يقولوا هكذا فهذا

ص: 44

أكبر دليل على أنهم -والعياذ بالله- طاغون معتدون.

7 -

ومن فوائد الآيات: أن المعادين للرسل يصفون ما جاءوا به بالصفات القبيحة تنفيرًا للناس منهم، يؤخذ من قوله:{إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15)} وهم في ذلك كاذبون يعلمون أنه ليس بسحر، لكن قالوا هذا تنفيرًا للناس عن طريق الرسل.

وهل ورثت هذه المقالة؟ الجواب: نعم، ورثت هذه المقالة، من أول من جاء من الرسل إلى عصرنا هذا وإلى يوم القيامة، قال الله -تعالى-:{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)} [الذاريات: 52] كل أعداء الرسل يقولون: هذا ساحر أو مجنون.

هذه الكلمة وأريد جنس هذه الكلمة لا نوعها ورثت، فصار أهل الباطل الآن يلقبون أهل الحق بألقاب السوء، انظر مثلًا إلى أهل التعطيل يلقبون أهل الإثبات بقولهم: حشوية مجسمة مشبهة وما أشبه ذلك، فهم يقولون مثل هذا الكلام من أجل أن ينفروا الناس عن طريق الحق، كذلك -أيضًا- أعداء أهل الحق يقولون هؤلاء رجعيون، هؤلاء متحجرون، هؤلاء متشددون، هؤلاء متزمتون، هؤلاء متنطعون إلى غير ذلك من الألقاب، لكن أهل الحق الذين هم أهله لا يزدادون بهذه الألقاب إلا قوة وثباتًا على ما هم عليه، لأنهم يعلمون أنهم منصورون بنصر الله عز وجل، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)} [محمد: 7] وأنا كررت كثيرًا بأن انتصار الإنسان ليس انتصار شخصه فقط، قد ينصر الإنسان في حياته ويتبين له النصر، وقد ينصر بعد مماته،

ص: 45

بنصر ما قاله من الحق، ويكون كل من عمل بالحق الذي جاء به أو الذي بينه يكون له مثل أجره، وهذا انتصار. كل إنسان يحب أن ينتصر الحق الذي بينَّه للناس في حياته أو بعد مماته.

* * *

قوله تعالى: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16)} المراد بهذا الاستفهام الاستبعاد والإنكار، يعني أننا ننكر ونستبعد أننا نبعث إذا كنا ترابًا وعظامًا، وفي قوله:{أَإِذَا مِتْنَا} عدة قراءات.

أولًا: تحقيق الهمزتين تقول: أإذا.

ثانيًا: تسهيل الثانية.

ثالثًا: إدخال الألف في التحقيق.

رابعًا: إدخال الألف في التسهيل.

قوله: {أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17)} فيها قراءتان أيضًا:

1 -

تسهيل الواو.

2 -

فتحها.

الفوائد:

1 -

في هاتين الآيتين دليل على قوة إنكار هؤلاء المكذبين للبعث وذلك لأنهم أتوا به بصيغة الاستفهام المؤكد بإن، وهذا كقول أخوة يوسف له:{أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ} [يوسف: 90] يعني أتؤكد أنك يوسف. فهؤلاء قالوا: أيؤكد لنا أئنا مبعوثون، وإذا دخلت همزة الاستفهام على هذا دل على أنهم يؤكدون إنكارهم بالبعث.

2 -

ومن فوائدها: أن هؤلاء المكذبين يأتون بالشبه لأنهم

ص: 46

يقولون: {أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17)} يعني أو يبعث أيضًا آباؤنا الأولون، وهذا لقوة إنكارهم؛ لأنهم كما قال الله عنهم في سورة الجاثية:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)} [الجاثية: 25] وهل الذين قالوا إنكم تبعثون قالوا إن البعث يكون في الدنيا حتى تقولوا ائتوا بآبائنا؟ نعم لو قالت الرسل: إنكم يبعثون في الدنيا، أو إن آباءكم يبعثون في الدنيا صح أن يقولوا ائتوا بآبائنا، لكن الرسل يقولون: إن البعث لهم ولآبائهم يكون يوم القيامة، فهذه الشبهة التي أوردوها لا تزيدهم إلا سفهًا إلى سفههم، حجتهم التي ادعوها قالوا: إنكم تقولون إن آباءنا يبعثون هاتوهم ابعثوهم، وهذه ليست حجة؛ لأن الرسل ما قالوا إن آباءكم يبعثون الآن في الدنيا حتى تتحدوا بقولكم ائتوا بآبائنا، إنما قالوا يبعثون يوم القيامة.

{قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)} [الواقعة: 49 - 50] فهم يقولون: {أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17)} ليتوصلوا إلى الحجة الداحضة، فيقول الناس: إن هؤلاء يقولون: إن الناس يبعثون نحن وآباؤنا دعوهم يأتوا بآبائنا، والجواب على هذه الشبهة واضح جدًا، وهو أن الرسل لم يقولوا: إن آباءهم يبعثون الآن، وإنما يكون البعث يوم القيامة، وحينئذ تبطل حجتهم وينادون على أنفسهم بالسفه والعدوان، فإنهم ألزموا الرسل ما لم يلتزموه وما لم يقولوه.

3 -

من فوائدها: أن الجَدَّ يسمى أبًا لأنهم قالوا: {أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17)} وآباؤهم الأولون أجداد سابقون، فالجد يسمى أبًا،

ص: 47

ويتفرع على ذلك مسألة فرضية، وهي: أن الجد يسقط الأخوة أشقاء كانوا أم لأب أم لأم، وإسقاط الجد للإخوة من الأم بالإجماع، أما الأخوة الأشقاء أو لأب ففي إرثهم معه خلاف، والصحيح بلا شك أنهم لا يرثون مع الجد، وأنه لو هلك هالك عن أبي أبي أبي أبي أبي أب، أي الجد السادس وعن أخ شقيق فلا شيء للأخ الشقيق لأن الجد أب، والأب يحجب الأخوة، ولأن هذا الابن النازل بعض من الجد السابق، بخلاف الأخ فليس بعضًا منه، ومعلوم أن الأصل الذي هذا فرعه أولى بالميراث من شخص ليس أصلًا له ولا فرعًا له، وهذه المسألة تحقق إن شاء الله في الفرائض.

* * *

{قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18)} أمر الله نبيه أن يجيب عن الاستفهام السابق بقوله: {قُلْ نَعَمْ} ، يعني تبعثون، ونعم حرف جواب يجاب به الإثبات للتصديق، ويجاب به النفي كذلك للتصديق، فهو حرف جواب للتصديق: سواء كان الكلام نفيًا أو إثباتًا.

والخلاصة:

أن (نعم) يجاب بها للتصديق سواء كان نفيًا أو إثباتًا.

فإذا قلت: أقام زيد؟ وأجبت: بنعم، فهذا لتصديق القيام، يعني أنه قد قام.

وإذا قلت: ألم يقم زيد؟ فأجبت: نعم يعني لم يقم. فصدقت النفي.

و(بلى) لا يجاب بها في الإثبات، وإنما يجاب بها في

ص: 48

النفي لتكذيبه، فإذا قلت: ألم يقم زيد؟ فالجواب: بلى، يعني قد قام، خلافًا لما نفيت.

وأما (لا) فلا يجاب بها إلا في الإثبات لتكذيبه، أي لم يقم، أقام زيد، فقلت: لا، يعني لم يقم.

فهذه أحرف الجواب الثلاثة وأعمها (نعم) لأنها تكون في الإثبات وتكون في النفي، وأما (بلى) و (لا) فكل واحدة مختصة بشيء (بلى) في النفي و (لا) في الإثبات.

{قُلْ نَعَمْ} هذه للتصديق يعني نعم تبعثون. ولهذا قدر المؤلف ذلك في قوله تبعثون، يعني أنكم ستبعثون يوم القيامة بعد أن كنتم ترابًا وعظامًا ولكنكم لا تبعثون كما أنتم عليه في الدنيا في عزة وترف، بل {وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18)} صاغرون، والجملة هنا حال من نائب الفاعل في الفعل المقدر بعد الجواب، نعم تبعثون وأنتم داخرون.

والدخور بمعنى الصغار والذل، يعني أنهم يبعثون يوم القيامة على وجه الصغار لا على ما كانوا عليه في الدنيا كما قال الله تعالى:{وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45] بعد أن كان الواحد منهم في الدنيا يقلب مقلتيه كما شاء، فهم في الآخرة ينظرون من طرف خفي، مملوء بالخجل والخزي والعار -والعياذ بالله-.

الفوائد:

1 -

في هذه الآية الكريمة دليل على أهمية جواب هؤلاء الذين يتساءلون إذا ماتوا وكانوا ترابًا وعظامًا أيبعثون أو لا؟ وجه

ص: 49

ذلك أن الله أمر نبيه أمرًا خاصًّا بجوابه، وإذا أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأمر خاص فإنه دليل على أهمية ذلك الأمر؛ لأن الأصل أن جميع القرآن قد أمر أن يبلغه عليه الصلاة والسلام. {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] فإذا جاءت آية يقول الله فيها "قل" فهذا أمر خاص بتبليغهم، فيدل على العناية بهذا الشيء وأنه ذو أهمية.

2 -

ومن فوائدها: أنه يجب الرد على شبهات أهل الباطل؛ لأن الله لم يقل: اتركهم، بل قال:{قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18)} .

3 -

ومن فوائدها: أن المكذبين بالبعث يحشرون يوم القيامة صاغرين لقوله: {وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18)} ، وقد ذكرنا في أثناء التفسير عدة آيات تدل على أنهم يحشرون يوم القيامة أذلاء، كما قال تعالى:{وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45].

4 -

ومن فوائد الآية: أن المؤمنين بذلك يحشرون يوم القيامة أعزة. ووجهه أنه إذا كان جزاء هؤلاء المكذبين أنهم يحشرون على وجه الصغار والذل، فإن العكس يكون بالعكس. والجزاء من جنس العمل، فيحشر المؤمنون يوم القيامة أعزاء.

* * *

{فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)} يعني إذا كان الأمر كذلك أنهم يبعثون فهل يحتاج الأمر إلى علاج وإلى مدة؟ الجواب لا، فإنما هي أي زجرتهم للبعث زجرة واحدة، هذا هو الأصح في مرجع الضمير، ولهذا قال المؤلف [ضمير مبهم يفسره زجرة]

ص: 50

فيكون الضمير مرجعه مستفاد من الخبر، أي فإنما الزجرة لبعثهم زجرة واحدة، وهذا الذي قدره المؤلف لمرجع الضمير هو الصواب فيكون مرجع الضمير هو الخبر، وقال بعضهم:{فَإِنَّمَا هِيَ} أي البعثة التي يبعثونها، أي ما بعثتهم إلا زجرة واحدة أي بزجرة واحدة، ولكن ما قدره المؤلف أولى. {زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} ، قال المؤلف:[أي صيحة] يزجرون بها، فيقال: اخرجوا يعني من القبور. إذا قيل اخرجوا من القبور. خرجوا خروج رجل واحد لا يتخلف منهم أحد، ولا يخرجون ببطء لقوله تعالى:{وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)} [القمر: 50] فالمسألة لا تحتاج إلى تكرار طلب للخروج ولا إلى مهلة في زمان، بل بمجرد ما يقال: اخرجوا. فإذا هم قيام ينظرون. وهذا من تمام قدرة الرب عز وجل.

{فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} . (الفاء) حرف عطف و (إذا) فجائية أي ففي الحال مفاجئة، هم ينظرون. و (إذا) الفجائية اختلف النحويون فيها: هل هي حرف لا محل لها من الإعراب أو هي ظرف؟ ونحن لا يهمنا أن نقدرها حرفًا أو ظرفًا، المهم أن نعرف المعنى، وهي أنها تدل على المفاجئة يعني يأتي بسرعة.

وقوله: {فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)} يدل على أنهم بمجرد ما يخرجون يكونون أحياء يشعرون، وليس كالطفل الذي يخرج من بطن أمه لا يعلم شيئًا، فالناس في الدنيا يخرجون من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئًا، ولكن بعدئذ يجعل الله لهم سمعًا وأبصارًا وأفئدة. سمعًا يسمعون به ويعرفون، وإلا فالسمع موجود

ص: 51

به منذ خلق. وبصرًا كذلك يبصرون به ويعرفون، ولهذا تجد الصبي أول ما يولد لا يلتفت إلى شيء، تمر من عنده بالمصباح من أسطع ما يكون ولا يدري ما هو؟ ثم شيئًا فشيئًا يبدأ يعرف الألوان إذا اختلفت عليه ويتابع النظر، ولكن الذين يبعثون من القبور لا ينتظر بهم هكذا، أي لا تنمو أسماعهم وأبصارهم وأفئدتهم شيئًا فشيئًا، ولكن بمجرد ما يخرجون فإذا هم ينظرون.

قال المؤلف: [فإذا هم أي الخلائق أحياء ينظرون ما يفعل بهم] فإذا قال قائل: إن المؤلف قال [الخلائق] مع أن سياق الآية يقتضي أن المراد هؤلاء المنكرون {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17)} فإذا أخذنا بالسياق قلنا: إن الضمير يرجع إلى هؤلاء وآبائهم، وإذا نظرنا إلى الواقع قلنا: إن الضمير يرجع إلى جميع الخلائق. والواقع أن جميع الخلائق تخرج بهذه الصيحة فإذا هم ينظرون، وأفادنا المؤلف بقوله ما يفعل بهم، أفادنا أن النظر هنا نظر العين، وليس بمعنى الانتظار، مع أن الآية تحتمل أن يكون المعنى النظر بالعين وأن يكون المعنى الانتظار.

والنظر يأتي بمعنى الانتظار، كما في قوله تعالى:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} [الزخرف: 66]{يَنْظُرُونَ (19)} بمعنى ينتظرون.

{وَقَالُوا يَاوَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20)} قالوا أتى بالفعل الماضي مع أن القول مستقبل، لتحقق وقوعه، وهذا كثير في اللغة العربية، والقرآن الكريم يعبر عن المستقبل بالماضي لتحقق وقوعه، ومثاله قوله تعالى:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1] فإن أمر الله لم يأت بدليل

ص: 52

قوله {فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1] لكن أتى هنا بمعنى يأتي، وعبَّر عن المستقبل بالماضي لتحقق وقوعه.

فقوله عز وجل هنا: {وَقَالُوا} أي ويقولون، لكن عبَّر عنه بالماضي لتحقق وقوعه.

وقول المؤلف رحمه الله[قالوا أي الكفار، صحيح، ولو أنه قال: وقالوا أي المنكرون للبعث الذين قالوا: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17)} لكان أدق في التفسير؛ لأن الكافر أعم من المنكر للبعث، قد يكفر بغير إنكار للبعث، لكن المسألة فيها شيء من التسامح في التعبير.

وقوله: {يَاوَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20)} قال المؤلف: [ياء للتنبيه ويل مصدر لا فعل له من لفظه]، ولكن يحتمل أن تكون ياء حرف نداء، وأنهم نادوا الويل، كأنهم قالوا: يا ويلنا احضر، فهذا أوانك، والويل معناه هنا شدة التحسر والعذاب، قال تعالى:{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34)} [المرسلات: 34] أي حسرة وعذاب، فهنا يا ويلنا أي يا حسرتنا ويا عذابنا احضر فهذا أوانك. ويحتمل كما قال المؤلف: إن (ياء) للتنبيه، ولكن إذا قال قائل: هل تأتي ياء للتنبيه؟ الجواب: نعم، فإذا طلب منا مثال لا يحتمل إلا التنبيه، قلنا كقوله تعالى:{يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26)} [يس: 26] فإن ياء هنا للتنبيه، لأن ياء لا تدخل على الحروف، وإنما تدخل على الأسماء، ولكن جيء بها للتنبيه، وقوله رحمه الله:[ويلنا هلاكنا]، ولكن الويل كما قلت أخص من مجرد الهلاك، بل هو التحسر والعذاب، والويل مصدر لا فعل له من لفظه، ولكن من معناه.

ص: 53

{هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20)} ، قال المؤلف:[وتقول لهم الملائكة هذا يوم الدين] فجعل المفسر رحمه الله (هذا يوم الدين) من كلام الملائكة.

ولكن الصحيح أنه من كلام المنكرين يعني أنهم في ذلك اليوم يقرون بيوم الدين، ولكن لا ينفعهم الإقرار حينئذ، فهم يقرون بهذا اليوم إذا شاهدوه، {هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20)} المشار إليه الوقت الذي هم فيه ذلك اليوم الحاضر، والدين يعني الجزاء، واعلم أن الدين يطلق على الجزاء، ويطلق أحيانًا على العمل، فقوله تعالى:{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} [الكافرون: 6] المراد به العمل، وقوله تعالى:{مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [الانفطار: 18 - 19] المراد بالدين الجزاء.

وهنا {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)} المراد به الجزاء، أي هذا يوم الجزاء، قال {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)} .

الجملة هذه يحتمل أن تكون من كلامهم، ويحتمل أن تكون من كلام الملائكة، فإن كانت من كلامهم فالمعنى أن بعضهم يقول لبعض:{هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)} توبيخًا وتقريعًا وتنديمًا.

وإذا كان من كلام الملائكة فلا إشكال فيه، لأنهم يخاطبون قومًا يكذبون به، وقوله:{هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} بعد {هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20)} لأنه إذا أدين الناس وحوسبوا وجوزوا انفصلوا، انفصل بعضهم عن بعض: فريق في الجنة، وفريق في السعير.

ص: 54

قد يفصل بين المرء وأبيه، وبين المرء وأمه، وبين المرء وأقاربه: هؤلاء في الجنة وهؤلاء إلى النار. فإذًا سُمي يوم الفصل؛ لأنه يفصل فيه بين الخلائق، فيصرف قوم إلى النار، ويصرف قوم إلى الجنة. وسُمِّي يوم الفصل (أيضًا) لأنه يفصل بين الخلائق بالحكم بينهم بالعدل، بأخذ حق المظلوم من الظالم، كما يفصل القاضي في الدنيا بين المتخاصمين، فيعطي المظلوم حقه من الظالم.

وقوله: {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)} كنتم أي فيما مضى، أما الآن فيصدقون به؛ لأنهم قالوا:{هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20)} لكن فيما مضى يكذبون بهذا اليوم، ويقولون: كيف يمكن أن تبعث الخلائق بعد أن كانوا عظامًا وترابًا؟ !

فإذا قال قائل: ما الفائدة من قوله: {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)} ؟

قلنا: الفائدة من أجل زيادة التحسر على هؤلاء؛ لأنهم إذا قيل لهم: الذي كنتم به تكذبون فسوف يتحسرون ويقولون: يا ليتنا لم نكذب، فيكون في هذا زيادة ألم في نفوسهم، ومن جهة أخرى: التوبيخ لهؤلاء ولومهم على تكذيبهم حيث كذبوا بالحق، ففي ذلك فائدتان:

الفائدة الأولى: زيادة التحسر فيه.

والفائدة الثانية: التوبيخ واللوم على تكذيبهم بالحق.

قال المؤلف رحمه الله: [ويقال للملائكة: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا} أنفسهم بالشرك {وَأَزْوَاجَهُمْ} قرناءهم من الشياطين

ص: 55

{وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي غيره من الأوثان {فَاهْدُوهُمْ} دلوهم وسوقوهم إلى {صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)} طريق النار]. أعوذ بالله.

{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا} ، الخطاب من الله -والعلم عنده- إلى الملائكة، ومعنى احشروا أي اجمعوا كما قال تعالى:{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن: 9] وسُمِّي يوم الجمع وسُمِّي يوم الحشر؛ لأن الناس يحشرون فيه ويجتمعون، وقوله:{الَّذِينَ ظَلَمُوا} . قال المؤلف: [ظلموا أنفسهم بالشرك، ولكن ينبغي أن يقال: ظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى حذف المفعول به، وحذف المفعول به يؤذن بالعموم، فهم في الحقيقة ظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم، ولاسيما الرؤساء منهم الذين أضلوا أتباعهم فإنهم ظلموهم بتلبيس الحق بالباطل وإضلالهم.

{وَأَزْوَاجَهُمْ} ، قال المؤلف:[قرناءهم من الشياطين] كل زوج قرين، ومنه الزوج وزوجته فإنهما قرينان، وقيل المراد بالأزواج: الأصناف والأشكال، ومنه قوله تعالى:{وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58)} [ص: 58] أي أصناف، والمعنى متقارب؛ لأن الغالب أن القرين من جنس المقارن، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل"

(1)

.

{وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22)} أي والذي كانوا يعبدون في الدنيا،

(1)

أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب من يؤمر أن يجالس (رقم 4833) والترمذي في كتاب الزهد، باب 45 (رقم 2378) وقال: حسن غريب.

ص: 56

ولهذا أتى بالفعل الماضي {كَانُوا يَعْبُدُونَ (22)} أي في الدنيا، وجملة (كانوا يعبدون) صلة الموصول، والعائد محذوف، وتقديره: وما كانوا يعبدونه من دون الله.

وقول المؤلف: من الأوثان، إذا قال قائل: كيف تحشر الأوثان وهي جماد؟ وليس عليها حساب ولا عقاب؟

فالجواب: أنها تحشر إلى النار وتلقى في النار إهانة لعابديها، أما هي فلا شعور لها، لا تشعر بإهانة ولا كرامة، ولكن عابديها هم الذين يشعرون بالإهانة إذا كانت معبوداتهم تلقى في النار، فتلقى هذه المعبودات في النار إهانة لعابديها وبيانًا لكونها لا تنفعهم في أحوج ما يكونون إلى نفعها. وقوله:{وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ} هذه الآية عامة، وخصت بقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)} [الأنبياء: 101] لأننا لو أخذناها على عمومها لكان في الناس من يعبد الأنبياء، وكان في الناس من يعبد الملائكة، فهل يحشر هؤلاء المعبودون مع هؤلاء العابدين؟ فالجواب: لا، {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)} [الأنبياء: 98] ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)} [الأنبياء: 101] وعلى هذا فالعموم هنا مخصص بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101].

وقيل: إن العموم باق على ما هو عليه، لكنه عام أريد به الخاص، أريد به هؤلاء الذين أنكروا البعث، والذين أنكروا البعث لم يعبدوا الملائكة ولا الرسل إنما كانوا يعبدون هبل

ص: 57

واللات والعزى ومناة. وهبل واللات والعزى ومناة كلها في النار.

وعلى كل حال سواء قلنا: إن هذا عام أريد به الخاص، أي الذين يخاطبون الرسول عليه الصلاة والسلام وينكرون البعث. أو قلنا: إنه عام مخصوص، فإنه لا شك أن الذين يُعبدون من دون الله وهم من أولياء الله لن يحشروا إلى النار ولن يدخلوها.

{فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)} أي دلوهم، وهذه هداية الدلالة وهذا لا ينافي قوله تعالى:{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)} [مريم: 85 - 86] فإن الذي يساق يهدى أيضًا، أرأيت الرجل يسوق بعيره ويهديها، هؤلاء يساقون وفي نفس الوقت يقال اذهبوا من هنا، اذهبوا من هنا حتى يصلوا إلى النار، وقد ذكر الله أن هؤلاء يساقون إلى النار في حال يحتاجون معها إلى الماء، بل يضطرون إلى الماء، {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)} [مريم: 86] عطاشًا فإذا جاءوا لم يجدوا إلا النار المحرقة -والعياذ بالله- وهذا يكون كالصفعة على وجوههم حيث جاءوا وهم يرجون أن يشربوا، ولكنهم يفاجئون بما يزيدهم لهبًا وعطشًا.

{إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)} صراط بمعنى طريق، والصراط نوعان: صراط حسي وهو ما تمشي عليه الأقدام، وصراط معنوي وهو ما تمشي عليه القلوب، فمن استقام في الصراط المعنوي على دين الله استقام في الصراط الحسي يوم القيامة حتى يصل إلى

ص: 58

الجنة، ومن كان غير مستقيم في الدنيا على شريعة الله لم يكن مستقيمًا في الآخرة على طريق الجنة ولكن على طريق النار.

والصراط هنا حسي {الْجَحِيمِ (23)} النار، فالجحيم إذًا من أسماء النار، وأسماء النار في القرآن كثيرة متعددة.

الفوائد:

1 -

بيان قدرة الله عز وجل حيث تخرج الخلائق كلها بزجرة واحدة. وتخرج الخلائق كلها فورًا بدون تأخير، ففيه دليل على القدرة من وجهين:

الوجه الأول: عدم تكرار الأمر.

والوجه الثاني: سرعة الائتمار والامتثال لأمر الله عز وجل.

2 -

ومن فوائدها: أن الناس يخرجون يوم القيامة فينظرون، إما من نظر العين أو من الانتظار، وأيًا كان فإنه يدل على أنهم يخرجون إلى أمر غريب لم يألفوه؛ لأنهم كانوا في الأول في قبورهم ثم حشروا إلى شيء غريب لم يكونوا يعرفونه من قبل، لقوله:{فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)} .

3 -

ومن فوائدها: أن هؤلاء المكذبين يدعون يوم القيامة بالويل والثبور والهلاك، لقولهمِ:{يَاوَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20)} . كما قال تعالى في آية أخرى: {لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)} [الفرقان: 14].

4 -

ومن فوائدها: تحقق هذا القول وأنه أمر واقع كالحاضر، لقوله تعالى:{وَقَالُوا يَاوَيْلَنَا} فعبر عن المستقبل بالماضي لتحقق وقوعه.

ص: 59

5 -

ومن فوائدها: أن الناس يحشرون يوم القيامة فيجازون على أعمالهم، يؤخذ من قوله:{هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20)} وتكون هذه النتيجة للخلائق أن يحشروا يوم القيامة وأن يجازوا على أعمالهم وأن يكون هذا الجزاء نهائيًا ليس وراءه عمل ولا دونه أجل. لقوله: {هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20)} .

6 -

ومن فوائدها: أن يوم القيامة يوم فصل أي حكم بين الناس وتميز بعضهم عن بعض لقوله: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} .

7 -

ومن فوائدها: تقرير هؤلاء المكذبين لقوله: {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)} ووجه التقرير أن الإنسان إذا شاهد ما كذب به سوف يقول لمن حمله على هذا التكذيب أو وافقه عليه: هذا الذي كنت به تكذب، فيكون في ذلك زيادة في التحسر والندم على عدم التصديق بهذا اليوم.

8 -

ومن فوائدها: أن الناس يوم القيامة يميز بعضهم من بعض، ويجمع بعض الأصناف والأشكال والنظراء إلى بعض، لقوله:{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} وهذا من الفصل الذي ذكره الله في كتابه لقوله: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} .

9 -

ومن فوائدها: أن هؤلاء المكذبين لا ينفعهم اجتماعهم وحشر بعضهم إلى بعض، لقول الله سبحانه وتعالى في آية أخرى:{وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)} [الزخرف: 39] في الدنيا إذا شاركك أحد في العذاب نفعك، إما بأن يتحمل عنك جزءًا من هذا العذاب، وإما أن تتسلى به، لأن وقوع المصائب على غيرك تسليك وتساعدك على تحمل

ص: 60

هذه المصيبة والصبر عليها، كما قالت الخنساء في أخيها صخر:

وما يبكون مثل أخي ولكن

أسلِّي النفس عنه بالتأسي

10 -

ومن فوائدها: إهانة هؤلاء المشركين بحشر أصنامهم إلى النار، وجه ذلك أن إهانة المعبود إهانة للعابد، وأنا أضرب لكم مثلًا لو أن سيدًا تحته أرقاء أو رجلًا تحته عائلة، أهين هذا الرجل الذي تحته العائلة، أو الرجل الذي تحته الأرقاء فإن ذلك إهانة للعائلة وللأرقاء؛ لأنهم يقولون: هذا كبيرنا وعظيمنا الذي نعظمه، فإذا أهين فهو إهانة لنا، وإن لم يكن إهانة حسية، لكنها إهانة نفسية معنوية، فتهان هذه الأصنام إهانة لعابديها.

11 -

ومن فوائدها: جواز ذكر العموم وإن دخل فيه من ليس فيه إذا بين في موضع آخر، ويتفرع على هذا أنه لا يشترط في البيان مقارنته للمبين، لأن الذي يمتنع في البيان هو تأخيره عن وقت الحاجة، فإذا بين في وقت الحاجة زال هذا المحظور، وهذا قد بين في آيات كثيرة في القرآن بأن المؤمنين لا يدخلون النار {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)} [الأنبياء: 101] وكل الآيات التي في وعد المؤمنين والمتقين تمنع من دخول هؤلاء في النار وإن كانوا يُعبدون من دون الله.

12 -

ومن فوائدها: أن هؤلاء المكذبين المشركين يحشرون إلى طريق جهنم، كما أنهم في الدنيا اختاروا طريق أهل النار، فإنهم في الآخرة يجازون بمثل ذلك، فيدلون إلى طريق الجحيم، ويصدون عن طريق أهل النعيم.

ص: 61

ثم قال تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)} قفوهم يعني أوقفوهم، من وقف يقف، والأمر: قف. ووقف تستعمل لازمة ومتعدية، فإذا قلت: مشى فلان، فوقف، هذا لازم، وإذا قلت: وقفت القول، أو وقفت زيدًا عند المكان الفلاني فهذا متعد.

قفوهم لا شك أنه متعد، ووجهه أنه نصب المفعول به الهاء، والواو في {وَقِفُوهُمْ} فاعل.

وهنا فائدة: أن حرف المضارعة لا تحسب من بنية الفعل، ولهذا يقال: إذا أردت أن تصوغ فعل الأمر: فأتِ بفعله مضارعًا مجزومًا، ثم احذف حرف المضارعة، وهذه تفيد طالب العلم. فمثلًا: إذا أردت أن تأتي بفعل الأمر من: خاف. فتقول: خف. لأن المضارع المجزوم: يخف. احذف حرف المضارعة: خف.

مثال آخر: نامَ الأمر: نَم، نجريها على القاعدة لم يَنَمْ. احذف ياء المضارعة. نَمْ.

الأمر من: مَال؟ مِلْ. على القاعدة. لم يَمِل. احذف ياء المضارعة (مِلْ). لأن الأمر مقتطع من المضارع. ووجه ذلك أنك تأتي بالمضارع مجزومًا ثم تحذف حرف المضارعة. الأمر من "خَشِيَ": اخْشَ، هات المضارع مجزومًا: لم يَخْشَ إذا لابد أن نقول: اخشَ. لماذا؟ لأنه لا يمكن أن تبدأ بالسكون، لأنه لو حذفنا ياء المضارعة لبقي خاء ساكنة، والشين مفتوحة، والخاء الساكنة لا يمكن أن تنطق بها. إذا وجدت كلمة أولها ساكن، تأتي بهمزة الوصل، فتقول:"اخْشَ"، وفعل الأمر من رمى:"ارْمِ" لأن المضارع (لم يَرْمِ) أوله ساكن لابد أن يؤتى بالهمزة والله أعلمَ.

ص: 62

{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)} قال المؤلف رحمه الله: [احبسوهم عند الصراط]، الأمر من الله عز وجل والخطاب للملائكة فيما يظهر؛ لأن الملائكة هي التي تدبر الخلائق بأمر الله، فيقال للملائكة: قفوا هؤلاء المكذبين المشركين بالله {وَقِفُوهُمْ} يعني وقفوهم أي احبسوهم {إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)} قال المؤلف رحمه الله[عن جميع أقوالهم وأفعالهم] وكلمة {إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)} إما أن تكون كما قال المؤلف عامة يعني إنهم مسؤولون عن أقوالهم وأفعالهم وشركهم وانحرافهم وعن كل أحوالهم أو إنها مبينة بقوله: {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25)} فيكون المسئول عنه شيئًا واحدًا وهي أنهم يوقفون ويسألون هذا السؤال {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25)} يقال لهم ذلك توبيخًا وتقريعًا كما قال المؤلف: [ويقال لهم توبيخًا: {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25)} لا ينصر بعضكم بعضًا]، فالآية في الحقيقة محتملة المعنيين:

المعنى الأول: أنكم مسؤولون عن كل الأحوال والأعمال.

المعنى الثاني: أنكم مسؤولون هذا السؤال وهو: {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25)} وأيًا كان ففي الآية توبيخ وتهكم بهم حيث يقال لهم: {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25)} كنتم في الدنيا تتناصرون والذي ينصر هم العابدون ينصرون هذه الأصنام كما مر علينا في آخر سورة يس، {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)} [يس: 75] فالعابدون ينتصرون للآلهة، كما قال أبو سفيان قبل أن يسلم في غزوة أحد قال: اعلُ هبل، يفتخر به وينتصر له، فيقال لهم يوم القيامة:{مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25)} يعني أي شيء لكم يمنعكم من

ص: 63

التناصر؟ والجواب واضح يفيده قوله: {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)} منقادون أذلاء، وهذه الجملة المصدرة بـ"بل" تفيد الانتقال من أسلوب إلى آخر، يعني أنهم لا يتناصرون لأنهم اليوم مستسلمون هم وأصنامهم أذلاء صاغرون.

الاستفهام في قوله: {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25)} المراد به التوبيخ والتهكم يعني أين نصر بعضكم بعضًا الذي كان في الدنيا أفلا تتناصرون اليوم؟ والجواب: لا يمكن أن يتناصروا لأنهم أذلاء مستسلمون {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)} أي منقادون لحكم الله فيهم جزاءً ولحكم الله فيهم قدرًا.

{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27)} يعني أقبل بعضهم أي اتجه بعضهم إلى بعض، وجملة يتساءلون حال من الفاعل والمجرور، والفاعل في (بعضهم) والمجرور في (على بعض). أقبلوا يتساءلون يسأل بعضهم بعضًا تلاومًا وتخاصمًا، فصاروا بعد أن كانوا في الدنيا على وفاق وأخلاء صاروا في الآخرة أعداء {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)} [الزخرف: 67] يتساءلون يسأل بعضهم بعضًا على وجه التوبيخ والإنكار، {قَالُوا} أي الأتباع منهم للمتبوعين، {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28)} قال المؤلف رحمه الله[عن الجهة التي كنا نأمنكم منها، لحلفكم أنكم على الحق فصدقناكم واتبعناكم، المعنى أنكم أضللتمونا]، أي صار بعضهم يسأل بعضًا، الأتباع يسألون المتبوعين، والمتبوعون يسألون الأتباع، وكل يسأل بعضهم بعضًا لأنهم وقعوا في حيرة.

ص: 64

يقول بعضهم لبعض وهم الأتباع يقولون: {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ} {إِنَّكُمْ} الخطاب للمتبوعين {كُنْتُمْ} يعني في الدنيا {تَأْتُونَنَا} يعني في خطابكم لنا ودعوتكم إيانا {عَنِ الْيَمِينِ (28)} ، عن للمجاوزة يعني تأتوننا إتيانًا صادرًا عن اليمين، فما المراد باليمين؟

قيل: إن المراد باليمين الحلف، لقوله تعالى:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224] جمع يمين، فمعنى عن اليمين عن الحلف أي أن المتبوعين يحلفون للأتباع أنهم على حق، وهذا كقول الله تعالى عن الشيطان {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)} [الأعراف: 21].

وقيل: إن المراد باليمين هو التفاؤل، يعني أنكم تعدوننا خيرًا، وتقولون: اتبعونا فإنكم إن اتبعتمونا نلتم العزة والغلبة فتعدوننا بالخير وأنتم كاذبون علينا.

وقيل: المراد باليمين القوة كما في قوله تعالى: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93)} [الصافات: 93] أي بالقوة، وقيل: باليد اليمنى على كل حال.

إذًا باليمين فيها ثلاثة أقوال:

1 -

الحلف.

2 -

الخير.

3 -

القوة.

والحقيقة أن كل هذه الوجوه واقعة من المتبوعين، فهم يقسمون للأتباع أنهم على حق، وهم يتكلمون معهم عن طريق القوة، لأنهم متبوعون، وهم كذلك يعدونهم بالخير، يقولون: اتبعونا تكن لكم العزة والغلبة وما أشبه ذلك، فالآية شاملة لهذه

ص: 65

الوجوه الثلاثة. يقول الأتباع للمتبوعين: إنكم كنتم تأتوننا عن هذه الجهة الحلف أو القوة أو الخير.

والمؤلف رحمه الله يقول في تفسيرها [عن الجهة التي كنا نأمنكم بها]، وكلامه هذا صالح للوجوه الثلاثة؛ لأن الناس يؤمنون إذا حلفوا، ويؤمنون إذا وعدوا بالخير، ويؤمنون إذا كانوا أقوياء، لأن الغالب أن الضعيف يرى أن القوي على حق، وأنه بلغ هذه المرتبة لكونه محقًّا.

{قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29)} .

{قَالُوا} قال المؤلف رحمه الله: [أي المتَّبَعون] لو عبر رحمه الله بقوله المتبوعون لكان أوضح؛ لأن المتَّبَعون قد يقرأها الإنسان المتَّبِعون يعني الأتباع، والواقع أن الذي قال هم المتبوعون. {قَالُوا} أي المتبوعون للأتباع:{بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29)} {بَلْ} هنا في إبطال ما ادّعوه في قولهم: إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين، يعني بل لم نأتكم عن اليمين ولكنكم لم تكونوا مؤمنين، ولو كنتم مؤمنين لصدق قولكم إنا أضللناكم، أما أنكم غير مؤمنين من الأصل فالجناية منكم على أنفسكم.

ولهذا يقول المؤلف رحمه الله: [{بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29)} وإنما يصدق الإضلال منا أن لو كنتم مؤمنين فرجعتم عن الإيمان إلينا]، تبرأ المتبعون الآن من الأتباع وجعلوا اللوم على الأتباع أنفسهم، قالوا كما يقول الشيطان:{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا} .

ص: 66

[إبراهيم: 22] هؤلاء المتبعون يقولون كما قال الشيطان، يقولون للأتباع: أنتم الذين أضللتم أنفسكم، أما نحن فلم نضلكم؛ لأننا لم نخاطب قومًا مؤمنين، فأضللناهم بعد إيمانهم، إنما نخاطب قومًا انقادوا إلى الكفر باختيارهم، فاللوم عليهم لأنفسهم أما نحن فلا، وهذا مبين لقوله تعالى:{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)} [البقرة: 166].

الفوائد:

في الآيات المتقدمة فوائد:

1 -

منها: أن هؤلاء المكذبين إذا ساقتهم الملائكة إلى النار فإنهم يهينونهم عدة إهانات، فيقفونهم على الصراط يعني عنده، ومن المعلوم أن الإيقاف فيه إهانة للإنسان، بحيث يكون في يد غيره كالآلة.

2 -

ومن فوائدها أيضًا: أنهم يهانون إهانة أخرى معنوية، فيقال لهم:{مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25)} يعني أي شيء يمنعكم اليوم من التناصر بعد أن كنتم في الدنيا تتناصرون، وفي هذا من الإهانة والتوبيخ والتنديم ما هو ظاهر.

3 -

ومن فوائدها أيضًا: أن هؤلاء في ذلك الموقف أذلاء مستسلمون كما قال تعالى: {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)} وكانوا في الدنيا مستكبرين لا يقبلون الحق، بل يجادلون ويقدمون رقابهم للقتل ضد الحق والعياذ بالله، لكنهم في الآخرة مستسلمون.

4 -

ومن فوائدها: أن هؤلاء المكذبين يلوم بعضهم بعضًا ويسب بعضهم بعضًا، قال الله تعالى في آية أخرى: {ثُمَّ يَوْمَ

ص: 67

الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)} [العنكبوت: 25] لقوله: {قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28)} .

5 -

ومن فوائدها: بيان الأساليب التي يستعملها المضللون، وأنها أساليب متنوعة تارة بالقوة، وتارة بالتغرير والتلطف والإيعاد بالخير، وتارة بالتغرير بالتوكيد على أن ما هم عليه حق. وإذا رأيت إلى واقع النصارى اليوم وغيرهم من أهل الضلال المضلين عرفت كيف تنطبق هذه الآية على هؤلاء الدعاة إلى الشر، فالنصارى -مثلًا- المضللون الذين يسمون أنفسهم بالمبشرين، لكننا نقول إنهم مبشرون بالعذاب الأليم، يعدون الناس الخير ويفتحون المدارس ويغدقون الأموال على الناس من أجل تضليلهم وإخراجهم ويستغلون فرصة الفقر والجهل في مثل هذه الأمور.

6 -

ومن فوائدها: أن هؤلاء المتبوعين يعيدون التوبيخ على التابعين، حيث يقولون لهم: بل لم تكونوا مؤمنين، فالبلاء من عند أنفسكم لا من عندنا.

7 -

ومن فوائدها: أن من لم يكن إيمانه راسخًا فإن الدعاية الباطلة تؤثر عليه؛ لأن المؤمن إيمانًا راسخًا لا تضلله الدعاية ولا يمكن أن يتحول عن إيمانه الذي كان عليه لقوله: {بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29)} ولو كنتم مؤمنين حقًا إيمانًا ثابتًا ما أثَّر عليكم إضلالنا.

والمؤمن يرضى أن يموت ولو بأن يلقى من شاهق ولا يكفر

ص: 68

بالله عز وجل، لكن الذي إيمانه غير راسخ ولا ثابت هو الذي تضلله هذه الدعايات.

* * *

قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30)} (ما) نافية و (كان) فعل ماض يرفع المبتدأ وينصب الخبر، و (من سلطان) اسمها المؤخر مجرور بحرف من الزائد إعرابًا، و (لنا) خبر مقدم. خلافًا لمن قال: إن (ما) حجازية و (كان) زائدة، لأنك لو قلت:(وما لنا عليكم من سلطان) لصح الكلام، لأن (كان) هنا مراد وجودها لأنها تدل على زمن مضى، بخلاف ما لو سقطت فإنها لا تدل على الزمن الماضي، فإن الجملة لا تدل على الزمن الماضي، فيتعين هنا أن تكون (ما) نافية و (كان) فعل ماض غير زائد.

قوله: {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} المؤلف رحمه الله: [أي من قوة وقدرة تقهركم على متابعتنا]، واعلم أن السلطان بمعنى السلطة، وهو في كل موضع بحسبه فتارة يراد بالسلطان العلم، كما في قوله تعالى:{إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23] أي من دليل وبرهان، وتارة يراد به القدرة والقوة والغلبة كما في هذه الآية، يعني ليس لنا عليكم من سلطان نقهركم حتى تتبعونا، بل أنتم اتبعتمونا باختياركم وإرادتكم فكأنهم يقولون: لا تلومونا ولوموا أنفسكم، كما قال الشيطان لما قضى الأمر {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ

ص: 69

فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم: 22] فهؤلاء المتبوعون يجعلون اللوم كله على الأتباع، ونحن إذا نظرنا إلى الواقع وجدنا أن اللوم يكون على الأتباع وعلى المتبوعين، أما المتبوعون فإنهم زينوا لهم أعمالهم ودعوهم واستضعفوهم حتى أمالوهم إلى الباطل، وأما الأتباع فإنهم لم يجبروا على ذلك ولم يسخروا عليه، بل هم الذين تبعوا هذا باختيارهم، فكان على كل واحد من اللوم ما يتناسب وفعله، {بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30)} ، {بَلْ} هذه للإضراب الانتقالي لا لإبطال ما سبق، بل للانتقال من شيء إلى آخر فكرروا عليهم، قالوا في الأول:{بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29)} وقالوا الآن: {بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30)} والطاغي هو الذي تجاوز حده، كما قال الله تعالى:{إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11)} [الحاقة: 11] يعني لما تجاوز حده، فهم يصفونهم بأنهم طاغون أي متجاوزون لحدهم الذي ينبغي أن يكونوا عليه وهو اتباع الرسل لا أتباع هؤلاء المضلين. وقول المؤلف [ضالين] فيه نظر، لأن الطغيان أمر زائد على الضلال. فالصواب أن {طَاغِينَ (30)} بمعنى المتجاوزون للحد الذي ينبغي أن يكونوا عليه من أتباع الرسل.

{فَحَقَّ} وجب {عَلَيْنَا} جميعًا {قَوْلُ رَبِّنَا} حق علينا أي ثبت ووجب وصار حقًّا ليس فيه ظلم ولا باطل، {قَوْلُ رَبِّنَا} يعني أن كل من خرج عن طاعة الله وكذب بآياته فهو في النار.

قال المؤلف رحمه الله: [و {قَوْلُ رَبِّنَا} بالعذاب أي قوله {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)}]. [السجدة: 13] هذا على ما قال المؤلف هو المراد بقولهم: {قَوْلُ رَبِّنَا}

ص: 70

وكأنه يشير إلى قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)} [هود: 119] ولكن الظاهر أن المراد بقول الله المشار إليه هو قوله لإبليس {لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)} [الأعراف: 18] لأن الآية التي أشار إليها المؤلف فيها بيان أن الله سبحانه وتعالى قدر بحكمته أن يملأ النار من الكافرين، لكن ليس فيه الخطاب الموجه للشيطان وأتباعه، {لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)} فإن هذا هو الذي فيه الوعيد المباشر لمن اتبع الشيطان، فتفسير قولنا بالآية الثانية أولى من تفسيرها بما قال المؤلف، ثم قال:{إِنَّا لَذَائِقُونَ (31)} قال المؤلف رحمه الله: [{إِنَّا} جميعًا {لَذَائِقُونَ} العذاب بذلك القول، ونشأ عنه قولهم {فَأَغْوَيْنَاكُمْ} المعلل بقولهم:{إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32)} {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا} علينا الضمير يعود على الأتباع والمتبوعين، {إِنَّا لَذَائِقُونَ (31)} أيضًا يعود الضمير على الأتباع والمتبوعين. كأنهم يقولون إنا لم نخلص أنفسنا فكيف نخلصكم، ثم قال:{فَأَغْوَيْنَاكُمْ} يعني جعلناكم من أهل الغي بصدكم عن طريق الرشد، {إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32)} هذا تعليل لقولهم:{فَأَغْوَيْنَاكُمْ} لقولهم أي بقول هؤلاء الذي نقله الله عنهم.

الفوائد:

في هذه الآيات عدة من الفوائد:

1 -

تبرأ كل من التابع والمتبوع يوم القيامة من هؤلاء الضلال، فالمتبعون أو الأتباع يجعلون اللوم على المتبوعين والمتبوعون يجعلون اللوم على الأتباع.

ص: 71

2 -

ومن فوائدها: أن المتبوعين ليس لهم سلطان يكرهون به الأتباع، بل الأتباع هم الذين اختاروا لأنفسهم الضلالة.

3 -

ومن فوائدها: فيها دليل على أن هؤلاء المشركين والكافرين أعلم بالواقع من الجبرية وأشباههم الذين يقولون: إن الإنسان يجبر على عمله. فإن هؤلاء يقرون بأن الإنسان يفعل باختياره لقوله: {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30)} .

4 -

ومن فوائدها: أن الأتباع يوم القيامة لا ينتفعون باتباع المتبوعين، بل إن المتبوعين يوبخونهم على طغيانهم فيقولون: أنتم الذين تجاوزتم الحد بترككم اتباع الرسل ثم اتباعنا.

5 -

ومن فوائدها إثبات قول الله عز وجل وأنه يقول: لقوله: {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31)} والقول هو الكلام الذي يستفاد منه فائدة، فيتفرع على ذلك أن كلام الله بحرف وصوت، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافًا للأشعرية الذين يقولون: إن كلام الله هو المعنى القائم بالنفس، وأن ما يسمع من هذه الحروف والصوت فإنما هو مخلوق خلقه الله تعالى تعبيرًا عما في نفسه.

6 -

ومن فوائدها: إقرار المكذبين للرسل بالربوبية لقولهم: {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا} ويتفرع على ذلك الرد على عامة المتكلمين الذين يفسرون التوحيد بتوحيد الربوبية فقط، فيقولون: إن التوحيد هو أن تؤمن بأن الله تعالى واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في أفعاله لا شريك له، وواحد في صفاته لا شبيه له.

ففي هذه الجمل الثلاث لم يذكروا توحيد الألوهية، يعني

ص: 72

لم يقولوا: واحد في ألوهيته لا شريك له. وإنما جعلوا التوحيد ما يتضمن توحيد الربوبية وتوحيد الصفات فقط، على ما في هذا الكلام من إجمال يحتاج إلى تفصيل، لكن فيه حذف توحيد الألوهية، وهذا التوحيد الذي زعم عامة المتكلمين أنه هو التوحيد الذي جاءت به الرسل. لا شك أن المشركين كانوا يقرون به ولا ينكرونه، ومع هذا حكم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بالشرك واستباح دماءهم وأموالهم ونساءهم وأراضيهم.

7 -

ومن فوائدها: أن هؤلاء المكذبين من أتباع ومتبوعين كلهم ينالهم العذاب لقوله: {إِنَّا لَذَائِقُونَ (31)} أي ذائقون عذاب ربنا الذي حق علينا.

8 -

ومن فوائدها: التحذير من مصاحبة أهل الغواية لقوله: {فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32)} ، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من مصاحبة الصاحب السوء فقال:"مثل الجليس الصالح كحامل المسك وإما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ومثل الجليس السوء كنافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة"

(1)

.

9 -

ومن فوائدها: إطلاق الشيء على مسببه لقوله: {فَأَغْوَيْنَاكُمْ} لأنهم ليسوا هم الذين أغووهم، وإنما هم سبب إغوائهم، فإن الهداية والإضلال بيد الله عز وجل، لكن هؤلاء كانوا سببًا في غواية هؤلاء فأضافوا الفعل إليهم في قولهم:

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الذبائح والصيد، باب المسك (رقم 5534) ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب مجالسة الصالحين ومجانبة قرناء السوء (رقم 2628)(146).

ص: 73

{فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32)} .

* * *

قال الله عز وجل: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33)} هذا من قول الله تبارك تعالى وإن واسمها في إنهم، ومشتركون خبرها، وفي العذاب متعلق بـ (مشتركون)، ويومئذ يجوز أن تكون متعلقة بـ (مشتركون)، ويجوز أن تكون متعلقة بحال من الضمير في إنهم.

وقوله: {يَوْمَئِذٍ} أي يوم إذ تقوم القيامة فالتنوين عوضًا عن جملة محذوفة، وقوله:{فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33)} الضمير يعود على الأتباع والمتبوعين يشتركون يوم القيامة في العذاب أي في أصله، وإن كان بعضهم أشد عذابًا من بعض، لقوله تعالى:{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132].

واشتراكهم في العذاب لا يخفف عنهم؟ لقوله تعالى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)} [الزخرف: 39] بينما الناس في الدنيا إذا اشتركوا في العذاب أو المصائب فإن بعضهم يسلي بعضًا ويقويه ربما يتحمل جزءًا من العذاب. لكن في الآخرة لا ينفع هذا، كل منهم يرى أنه أشد الناس عذابًا -والعياذ بالله- ولا ينفعه مشاركة غيره له.

{فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33)} قال المؤلف رحمه الله: [أي لاشتراكهم في الغواية].

تفسير المؤلف تعليل لاشتراكهم في العذاب لأنهم اشتركوا في الغواية.

والمعنى أن هؤلاء مشتركون في العذاب كل يعذب بقدر

ص: 74

ذنبه فلا يظلم ربك أحدًا، ولا يمكن أن يسلم الأتباع من التبعة، وأن يسلم المتبوعون من التبعة، وأن هؤلاء انقادوا للضلال باختيارهم، وهؤلاء خدعوهم وغروهم، فكان على كل واحد من العذاب ما يستحقه وإن اشتركوا في أصله.

{إِنَّا كَذَلِكَ} [إنا كذلك كما نفعل بهؤلاء نفعل بالمجرمين]، هكذا قدر المؤلف كما نفعل بهؤلاء نفعل بالمجرمين.

ويحتمل أن يكون المعنى إنا كهذا الفعل نفعل بالمجرمين وهم مجرمون. إعراب هذه الجملة {إِنَّا} إن واسمها وجملة {نَفْعَلُ} خبرها {كَذَلِكَ} الكاف اسم بمعنى (مثل) منصوبة على المفعولية المطلقة، يعني إنا نفعل مثل ذلك الفعل بالمجرمين، وهذا التركيب يرد كثيرًا في القرآن، وإعرابه أن تجعل الكاف اسم بمعنى (مثل) وأن تجعلها منصوبة على أنها مفعول مطلق للفعل الذي يليها.

وقوله: {نَفْعَلُ} وصف الله نفسه بالفعل على سبيل التعظيم، حيث عاد الضمير إليه بصيغة الجمع، ومعلوم أنه سبحانه واحد، ولكنه وصف نفسه بهذا من باب التعظيم.

وقوله: {بِالْمُجْرِمِينَ (34)} المجرم هو الذي اكتسب الجرم وهو الإثم، فكل مجرم فإن الله تعالى يفعل به هكذا، ولكن الجرم نوعان: جرم لا عمل صالح معه فهذا يفعل به هكذا قطعًا وليس أهلًا للعفو. وجرم معه عمل صالح فهذا تحت المشيئة إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له، كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} . [النساء: 48].

قال المؤلف: [{إِنَّا كَذَلِكَ} كما نفعل بهؤلاء {نَفْعَلُ

ص: 75

بِالْمُجْرِمِينَ (34)} غير هؤلاء أي نعذبهم، التابع منهم والمتبوع]، وهذا يدل على أن هؤلاء كانوا مجرمين، لأنهم استحقوا من العذاب ما استحقه غيرهم.

[{إِنَّهُمْ} أي هؤلاء بقرينة ما بعدهم {كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35)}]{إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} ، القائل الرسل بدليل قوله:{وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36)} وربما نختار العموم يعني إذا قالت لهم الرسل أو غيرهم حتى غير الرسل ربما ينصحونهم ويقولون لهم: قولوا لا إله إلا الله، ولكنهم يجيبون بهذا الجواب الباطل.

وقوله: {إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} هذه الجملة هي كلمة التوحيد، التي دعت إليها جميع الرسل، قال الله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} [الأنبياء: 25].

وإعرابها أن نقول: لا نافية للجنس، وإله اسمها، وخبرها محذوف تقديره حق، وإلا أداة استثناء، ولفظ الجلالة (الله) بدل من الخبر المحذوف.

وقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} : إله بمعنى مألوه، والمألوه هو المعبود حبًّا وتعظيمًا، الذي تألهه القلوب وتنيب إليه وتخشع له، وإله أعني هذه الصفة فعال بمعنى مفعول تأتي كثيرًا في اللغة العربية مثل: البناء الفراش، بمعنى المبني، المفروش.

فمعنى لا إله إلا الله: لا معبود بحق إلا الله.

ولو أورد علينا مورد، بأن هناك آلهة دون الله تعالى

ص: 76

فالجواب: أن ألوهيتهم ليست حقًّا، والدليل قوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج: 62] وقد فسر عامة المتكلمين (لا إله إلا الله) بقولهم: لا قادر على الاختراع إلا الله. هذا تفسيرهم لها، كما نقله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في التدمرية يقولون:(لا إله إلا الله) أي: لا قادر على الاختراع إلا الله، ففسروها بما يقتضي توحيد الربوبية، وهذا التفسير غير حق. فإذا فسرنا معنى (لا إله إلا الله) أي: لا قادر على الاختراع إلا الله يعني على الخلق إلا الله، وهذا التفسير غير صحيح وباطل من أصله.

والدليل: أن المشركين لا يستكبرون عن أن يقولوا: إنه لا خالق إلا الله، بل يقرون بذلك، إذًا من فسره بهذا التفسير فقد أخطأ.

والمشركون الذين قاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم ما فسروه بهذا؛ لأنه لو فسروا بهذا ما استكبروا عنه.

إذًا فهذا التفسير يعتبر تفسيرًا باطلًا، ليس فيه قصور ولا نقص، بل فيه البطلان من الأصل.

سؤال: ما الفرق بين قولنا: لا معبود بحق إلا الله. وقولنا: لا معبود حق إلا الله؟

الجواب: إذا قلنا: لا معبود بحق إلا الله لم يأتِ الخبر، وصار (بحق) تعلق بمعبود، يعني لا أحد يعبد بحق إلا الله، ويكون الخبر على هذا هو (الله)، وهذا مشكل على قواعد النحو؛ لأن (لا) النافية للجنس لا تعمل إلا في النكرات.

وإذا قلنا: لا معبود حق. صارت (حق) خبر (لا) ولا تكون

ص: 77

متعلقة بالمعبود. ولهذا قال بعضهم في تقديرها: لا معبود موجود إلا الله، وهذا غير صحيح، لأن هناك موجودًا يعبد سوى الله. ولكن الصحيح أن نقول: لا معبود حق. كما لو قلت: لا أحد قائم إلا زيد. تكون قائم هي الخبر. لا معبود حق إلا الله.

وقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} الله علم على الذات المقدسة لا يسمى به غيره، وهو أصل الأسماء، ولهذا تأتي أسماء الله تعالى غالبًا تبعًا له، ولا يأتي هو تبعًا لغيره إِلا نادرًا، فالأكثر أن الأسماء تأتى كلها صفة لله {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 2 - 4] بسم الله الرحمن الرحيم. وربما تبعًا لها في مثل قوله: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} [إبراهيم: 1 - 2] فهنا أتت هذه الكلمة العظيمة (الله) تبعًا لما قبلها. أين جواب {إِذَا} في قوله {كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ} ؟ جواب (إذا){يَسْتَكْبِرُونَ (35)} ، ولكن قد يقول قائل: لماذا لم تجزم؟ كيف جعلتموها جوابًا لـ أن (إذا) ولم تجزموها مع أنها فعل مضارع، الجواب أن (إذا) حرف شرط غير جازم.

وقوله: {يَسْتَكْبِرُونَ (35)} أي: يتعالون كبرًا وفخرًا، فيرون أنهم أكبر من أن يقال لهم:{لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} ويأنفون من ذلك أي من قول هذه الكلمة، لأنهم يرون في أنفسهم أنهم أعظم وأكبر، ولهذا قال:{يَسْتَكْبِرُونَ (35)} أي: يستكبرون عن قولها فلا يقولونها ويستكبرون عمن قالها فلا يستجيبون له، فكبرياؤهم -والعياذ بالله- من الناحيتين.

الناحية الأولى: الاستكبار عن قول هذه الكلمة.

ص: 78

والثانية: الاستكبار عن الاستجابة لمن دعاهم إليها، ويقولون مع استكبارهم النفسي يقولون بألسنتهم:{أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا} في همزتيه أربع قراءات على حسب ما قال المؤلف:

1 -

أن تحقق الهمزتين.

2 -

أن تسهل الثانية.

3 -

أن تدخل ألفًا بينهما في حال التحقيق.

4 -

أن تدخل ألفًا بينهما في حال التسهيل.

{أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36)} الاستفهام هنا للنفي، وأكدوا هذا النفي بقوله:{أَئِنَّا لَتَارِكُو} أكدوه بإنا واللام، يعني هل يمكن أن نترك آلهتنا لهذا القائل الذي وصفوه بهذين الأمرين: شاعر ومجنون، أي لأجل قول محمد صلى الله عليه وسلم يعني لا يمكن أن نترك آلهتنا من أجل قول هذا الشاعر المجنون، والشاعر هو من يقول الشعر، والمجنون ضد العاقل، ومن المعلوم أن قولهم هذا كذب، ومع كونه كذبًا فهو متناقض. وجه التناقض أن المجنون كيف يكون شاعرًا؟ المجنون لا يمكن أن يأتي بكلام نثر منتظم، فكيف يأتي بكلام نظم يهز المشاعر، ويقال: إنه صدر من شاعر؟ ! لكن -والعياذ بالله- العمى إذا حل في القلب صار الإنسان لا يدري ما يقول، ربما يقول قولًا يتناقض وهو لا يدري.

ومن المعلوم أن الله تعالى كذبهم في هذا القول، فقال تعالى:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)} [يس: 69]] وقال تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)} [القلم: 1 - 2] بل أنت أعقل العقلاء،

ص: 79

فكذبهم الله عز وجل في قولهم هذا، وهم بلا شك كاذبون، فالنبي صلى الله عليه وسلم أعقل الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم أتى بقول ليس بشعر، بل أتى بكلام الله عز وجل، ولهذا قال تعالى:{بَلْ جَاءَ بِالْحَقّ} (بل) هذه للإضراب الإبطالي، أي بل كذبتم فيما قلتم، وإنما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحق، والباء هنا للمصاحبة يعني جاء مصحوبًا بالحق، فقوله حق وما جاء به أيضًا حق، فكون النبي صلى الله عليه وسلم يقول: هذا من عند الله. نقول: هذا حق هو صادق، وما يشتمل عليه القرآن فهو حق وضده الباطل، فالحق هنا وصف لقول النبي عليه الصلاة والسلام إنه رسول الله، ووصف لما جاء به، فيكون وصفًا للخبر والمخبر به، فخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأن هذا القرآن من عند الله نقول: حق، وما جاء به أيضًا فهو حق، وذلك لأن القرآن مشتمل على كمال العدل وكمال الصدق، كما قال تعالى:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115] فتكون الأحقية هنا من جهتين: من جهة الخبر، ومن جهة المخبر به، الخبر أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: هذا من عند الله حق ليس فيه كذب، المخبر به: أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فكله حق متضمن للحق، ليس فيه باطل، ودليل ذلك قوله تعالى:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115] فالصدق وصف للأخبار، والعدل وصف للأحكام، والقرآن كله إما خبر وإما حكم، فخبره صدق وحكمه عدل.

{وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)} قال المؤلف رحمه الله: [الجائين به وهو أن {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} صدّق أي النبي صلى الله عليه وسلم المرسلين الذين أرسلوا من قبله] وكيف صدقهم؟ نقول لتصديقه المرسلين

ص: 80

وجهان:

الوجه الأول: أن مجيئه وقع مطابقًا لما أخبروا به، فيكون ذلك تصديقًا، كما لو قلت: سيقدم زيد غدًا، فإذا قدم صار مصدقًا لقولك وصار مجيئه مصدقًا لقولك.

الوجه الثاني: صدق المرسلين أي قال: إن الرسل صادقون. وكلنا يعلم أن من دين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول الإنسان: آمنا بالله وبرسل الله {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285] فتصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن سبقه يكون على هذين الوجهين:

أولًا: أن مجيئه تصديق لما أخبروا به من أن سيبعث، وآخرهم عيسى عليه الصلاة والسلام، قال لقومه:{إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6].

والثاني: أنه وصف ما جاءت به الرسل السابقون بأنه صدق.

{بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)} قال [الجائين به، وهو أن لا إله إلا الله] في تفسير المؤلف رحمه الله شيء من القصور؛ لأنه صدّق المرسلين في هذا وفي غيره، وكأن المؤلف رحمه الله خصها بقول (لا إله إلا الله) بناء على السياق، حيث كان السياق في التحدث عن (لا إله إلا الله){إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)} أي صدَّقهم بأن لا إله إلا الله، ولكن الأولى الأخذ بالعموم فصدقهم في هذا وفي غيره.

ص: 81

الفوائد:

1 -

أن الأتباع والمتبوعين كل منهم مشترك في العذاب، لقوله:{فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33)} . والفائدة من ذلك أنه لن ينجو الأتباع ولا المتبوعين.

فإن قال قائل: هل الاشتراك يقتضي المساواة؟

فالجواب: لا. بل لكلٍّ درجات مما عملوا.

2 -

ومن فوائدها: إذلال هؤلاء المتبوعين الذين كانوا في الدنيا يعتلون على الخلق؛ لأنه جمع بينهم وبين من يستعبدونهم في الدنيا، {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33)} لأن الآخرة دار عدل.

3 -

ومنها: أن الله سبحانه وتعالى لم يظلمهم بهذا العذاب، لقوله:{إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34)} فهم لم يعذبوا إلا لجرمهم.

4 -

ومن فوائدها: أن الناس عند الله سواء، فكل من استحق عقابًا أو ثوابًا فهو له؛ لقوله:{إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34)} يعني لم نفعل بهؤلاء وحدهم، بل حكمنا هذا شامل لكل مجرم.

وكذلك يقال في الثواب: إن الله سبحانه وتعالى يثيب كل عامل بعمله بمقتضى الأوصاف التي يستحق بها هذا الثواب.

5 -

ومنها: إثبات الفعل لله عز وجل لقوله: {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ} والله سبحانه وتعالى فعَّال لما يريد، والفعل يقتضي التجدد بحسب المفعول، فخلق الله للسماوات والأرض لم يكن أزليًّا، وإنما كان حين خلق السماوات والأرض، وخلق الله

ص: 82

للجنين في بطن أمه لم يكن أزليًّا، بل هو حادث حين حدوث هذا الجنين.

6 -

وننتقل من هذه الفائدة إلى فائدة تتفرع عنها، وهي إثبات أفعال الله الاختيارية خلافًا لمن أنكر ذلك، وقال: إن الله لا يقوم به فعل اختياري. وعللوا ذلك بعلة باطلة، قالوا: لأن الفعل الاختياري يقتضي الحدوث، والحادث لا يقوم إلا بحادث، والله سبحانه وتعالى أزلي أبدي، ولا شك أن هذا القول قول باطل. فإن الحادث قد يقوم بغير الحادث كما في أفعال الله. أليس الله تعالى خلق السماوات والأرض ثم استوى على العرش، فحدث الاستواء بعد خلق السماوات والأرض؟ أوليس الله ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى الثلث الأخير؟ بلى، فحصل النزول بعد مضي ثلثي الليل، ومع ذلك فإن الله لم يزل ولا يزال موجودًا. ثم إن الإنسان بنفسه يجد أن أفعالًا منه تتجدد مع سبقه عليها. فالإنسان مثلًا فعله اليوم ليس فعله بالأمس وهو سابق على أفعاله فتقوم به الأفعال الحدوثية مع سبقه عليها، فإذا جاز هذا في المخلوق، فهو في الخالق من باب أولى؛ لأنه كمال.

7 -

ومن الفوائد: تمام سلطان الله عز وجل وقوته، وجه ذلك أن هؤلاء المجرمين معروفون بالعتو والكبرياء والغطرسة، كما في فرعون وغيره من الملأ، ومع ذلك فإن الله قاهرهم، يعذبهم ويفعل بهم ما يشاء مما تقتضيه حكمته.

8 -

ومن فوائد الآية الكريمة: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35)} أن هؤلاء المجرمين في غاية ما يكون من

ص: 83

العتو، فإنهم إذا قيل لهم هذه الكلمة العظيمة التي لو وزنت بها السماوات والأرض لرجحت بهن، يستكبرون عنها، ويرون أنهم أكبر قدرًا من أن يقولوها، أو أن يصدقوا من قال بها، لأنه قد سبق أن قلنا في التفسير يستكبرون عن الخبر والمخبر به.

9 -

ومن فوائد الآية الكريمة: وجوب الخضوع لما تقتضيه هذه الكلمة؛ لأن الله ساقها في القوم المستكبرين عنها مساق الذم، وعلى هذا فمن قبلها وخضع لها فقد نفى عن نفسه الذم وقام بما يجب عليه.

10 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن من قال: (لا إله إلا الله) بإخلاص فلابد أن يخضع لأوامر الله ولا يستكبر، ومن ثم جاءت نصوص كثيرة تعلق دخول الجنة على قول (لا إله إلا الله)، ومن المعلوم أن دخول الجنة لا يترتب على مجرد قولها، إذ إن المنافقين يقولونها ومع ذلك لا يدخلون الجنة، لكن المراد بمن قالها خاضعًا لما تقتضيه هذه الكلمة العظيمة من اتباع أوامر الله تعالى واجتناب نواهيه.

11 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أنه لا يجوز صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله، لقوله:{لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} فلا يجوز أن يصرف شيء من أنواع العبادة لغير الله لا صلاة ولا نذر ولا سجود ولا ركوع ولا حج، كله يجب أن يصرف لله عز وجل، لأنه هو المعبود حقًّا.

12 -

ومن فوائد الآية الكريمة {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36)} أن هؤلاء كذبوا بما تقتضيه شهادة أن لا إله إلا

ص: 84

الله وأن محمدًا رسول الله. فالأول {كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35)} والثاني إذا قيل: آمنوا بمحمد قالوا: {أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36)} . فلم يقوموا بـ (لا إله إلا الله)، ولم يقوموا بمحمد رسول الله، والله عز وجل يقرن دائمًا بين هاتين الكلمتين في آيات كثيرة، انظر إلى قوله:{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)} ، [المؤمنون: 68 - 69] ففي الأول الإشارة شهادة أن لا إله إلا الله، وفي الثاني {لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ} شهادة أن محمدًا رسول الله. ولهذا أيضًا جعل النبي صلى الله عليه وسلم هاتين الشهادتين ركنًا واحدًا من أركان الإسلام، فقال:"بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. ."

(1)

لتلازم هاتين الشهادتين، ولأن مبنى العبادة كلها على الإيمان بهاتين الشهادتين إذ إن مبنى العبادة على الإخلاص والمتابعة، اللذين يتحقق بهما شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.

13 -

ومن الفوائد: أن هؤلاء المستكبرين لم يكفهم الاستكبار عن الحق حتى قدحوا فيمن جاء بالحق. يؤخذ من قوله: {أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36)} فلم يكفهم أن تركوا الحق حتى هاجموا وقدحوا فيمن جاء به، وقد ورثت هذه الطريقة -أي القدح بمن جاء بالحق- فأهل البدع يسمون أهل السنة بكل

(1)

أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب {دُعَاؤُكُمْ} إيمانكم لقوله عز وجل:{قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} (8)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام (16).

ص: 85

عيب ووصف قبيح، سموهم المشبهة والمجسمة والحشوية والغثاء والنوابت والعامة، وما أشبه ذلك من الكلمات التي تفيد القدح، ولكن جعل الله سبحانه وتعالى لكل نبي عدوًّا من المجرمين، ولكل متبع نبي عدوًّا من المجرمين، فورث هؤلاء الأصفياء صفوة الخلق وهم الرسل -عليهم الصلاة والسلام- وورث هؤلاء الأشقياء أشقى الخلق الذين يقدحون في الرسل.

14 -

ومن الفوائد: شدة انتصار هؤلاء المشركين لآلهتهم، انظر كيف قالوا:{أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا} وهذا يدل على شدة انتصارهم لها وحميتهم الجاهلية، وقد سبق في سورة "يس" {يس (1)} أن الله تعالى قال عن هذه الآلهة:{لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)} [يس: 75] فالأصنام والآلهة لا تنصرهم، وهؤلاء جند محضرون لنصر هذه الآلهة.

15 -

ومنها: وقوله تعالى: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)} :

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بالحق، فكل دينه مشتمل على الحق فيما يتعلق بمعاملة الله تعالى أو فيما يتعلق بمعاملة عباد الله.

وقد قال الله تعالى في وصف القرآن الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] هذه الكلمة لو صنفت عليها مجلدات ما استوعبت مدلولها {يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} في كل شيء، في العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات إيجادًا أو تركًا، ولو أنك تتبعت الشريعة بقدر ما تستطيع لوجدت أن هذا الوصف منطبق على جميع خصال

ص: 86

الشريعة، كل خصال الشريعة أقوم من كل شيء، وهنا يقول:{بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ} ضد الحق هو الباطل، والباطل إما كذب في الأخبار، وإما جور في الأحكام، ولهذا قال الله تعالى:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115] وذكرنا لقوله {بِالْحَقِّ} معنى آخر غير كون ما جاء به حقًّا، وهو أنه صلى الله عليه وسلم صادق فيما جاء به فما جاء به حق، وهو صادق في قوله: إنه من عند الله، وليس بكاذب.

16 -

ومن فوائدها: الثناء على ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام لقوله: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ} بل والثناء على الرسول صلى الله عليه وسلم حيث وصفه بأنه جاء بالحق ولا شك أن من وصف من عند الله بأنه جاء بالحق لا شك أن هذا من أعظم المناقب والأوصاف الحميدة.

17 -

ومن فوائدها: الإشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم آخر الرسل لقوله: {وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)} فإن "ال" للعموم فتقتضي كل رسول، وهذا يشير وليس بصريح إلى خاتم النبيين، كما قال الله تعالى:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40].

الآية لها مدلول عظيم، قال:{وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} ، وكان مقتضى السياق أن يقول، "ولكن رسول الله وخاتم الرسل"، أو يقول:"ولكن نبي الله وخاتم النبيين"، لكن قال رسول الله؛ لأن وصف الرسالة أعلى من وصف النبوة، وخاتم النبيين يعني لن يأتي بعده لا رسول ولا نبي وهو كذلك، فهو عليه الصلاة والسلام أفضل الرسل، ولن يأتي بعده لا نبي ولا رسول.

ص: 87

18 -

ومن فوائدها: أنه يجب علينا أن نصدق من سبق من الرسل -عليهم الصلاة والسلام-؛ لأن نبينا صلى الله عليه وسلم صدق المرسلين، فيجب علينا نحن أن نصدق؛ لأنه يجب على المأموم متابعة الإمام، فإمامنا محمد -صلوات الله وسلامه عليه- فيجب علينا أن نتبعه.

19 -

ومن فوائدها: الإشارة إلى أن الرسل السابقين أخبروا به لقوله: {وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)} ولا شك أن الرسل السابقين أُعلموا به، وأن آخرهم عيسى عليه الصلاة والسلام بشر به، أما الأول فدليله قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)} [آل عمران: 81] فإن المراد بذلك محمد صلى الله عليه وسلم.

فإنه جاء مصدقًا لما معهم، فكان عليهم أن يؤمنوا به بمقتضى هذا العهد، وانظر إلى ليلة المعراج حيث صلى الرسل، بل الأنبياء صلوا جماعة، وكان إمامهم محمدًا صلى الله عليه وسلم مما يدل على أنه أفضلهم، فإن الإمامة في الصلاة تقتضي الإمامة التي فوق الصلاة.

20 -

ومن فوائدها: تناقض هؤلاء المكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم حيث وصفوه بأنه شاعر مجنون، لأن المجنون لا يمكن أن يكون شاعرًا فهم يتخبطون خبط عشواء، إلا أن يدعي مدع بأن الكلام مقسم أي: أن بعضهم يقول: شاعر، وبعضهم يقول: مجنون.

ص: 88

وينسب القول للجميع، وإن كانوا لم يقولوا به لأنهم راضون به، إن ادعى مدع ذلك فله وجه، لكن إن كان القائل يجمع بين الوصفين فقد تناقض.

* * *

قال الله تعالى: {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)} هذه الجملة مؤكدة بمؤكدين: أحدهما (إن) والثاني: اللام، وقوله:{لَذَائِقُو} هي الخبر وحذفت النون منها من أجل الإضافة؛ لأن المضاف تحذف منه النون إذا كان مثنى أو جمعًا، ويحذف منه التنوين إن كان مفردًا.

وقوله: {الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38)} الأليم هنا بمعنى المؤلم، وفعيل تأتي بمعنى مفعل، ومنه قول الشاعر:

أمن ريحانة الداعي السميع

تؤرقني وأصحابي هجوع

السميع بمعنى المسمع.

وقوله- عز وجل: {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38)} : فيه التفات، وذلك أن مقتضى السياق أن يقول:"إنهم لذائقوا العذاب" لأن الحديث كله جاء عن الغائب. {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36)} فكان مقتضى السياق أن يقول: إنهم لذائقوا العذاب الأليم، ولكن كان في السياق التفات من الغيبة إلى الخطاب فما فائدة هذا الالتفات؟

ذكرنا فيما سبق أن كل التفات فإن له فائدة مشتركة، وهي تنبيه المخاطب؛ لأن الكلام إذا كان على نسق واحد سها

ص: 89

المخاطب أو القارئ، ولكن إذا تغير الأسلوب فإنه ينتبه، لماذا تغير؟ وما وجه التغير؟ فتشترك جميع الالتفاتات في كل موضع بأن الغرض من ذلك التنبيه، ثم ينفرد كل موضع بما يختص به، فهنا التفات من الغيبة إلى الخطاب، لأن الخطاب أبلغ في الزجر، {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38)} أبلغ من إنهم لذائقوا العذاب الأليم. ولهذا إذا تأملنا قصة الخضر مع موسى عليه الصلاة والسلام، أول ما عتب عليه قال له:{أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72)} [الكهف: 72] وفي الثانية: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75)} [الكهف: 75] فالخطاب لا شك أن فيه قرعًا للذهن مباشرًا، فيكون أشد وقعًا من ضمير الغيبة.

وقوله: {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38)} هذا فيه حق اليقين؛ لأن هؤلاء تُوُعِّدوا بهذا العذاب، وتوعدهم بالعذاب هو علم يقين، ثم رأوا النار كما قال تعالى:{وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)} [الكهف: 53] وهذا عين اليقين ثم قيل لهم: {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38)} وهذا حق اليقين، فاجتمع في وعيد هؤلاء المراتب الثلاث: العلم، والعين، والحق.

{الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38)} المراد به عذاب جهنم -والعياذ بالله- لأنه مؤلم، وقد أخبر الله عز وجل عن إيلام هذا العذاب بأنواع عظيمة، ذكرها الله في كتابه، وذكر منها النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا كثيرًا في السنة، قال:{وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)} أي: ما تجزون من هذا العذاب إلا شيئًا قدمتموه أنتم لأنفسكم، وهنا قال المؤلف

ص: 90

في تقدير الآية: [إلا جزاء ما كنتم تعملون]. وهذا أمر معلوم؛ لأن الذي عملوه كان وبان، إذ إن العمل كان في الدنيا ومضى، والجزاء في الآخرة، فهم لم يجزوا العمل نفسه، وإنما جوزوا جزاء العمل، ومن ثمَّ قال المؤلف: إلا جزاء ما كنتم تعملون.

وإذا قال قائل: ما الفائدة من أن يُعبَّرَ عن الجزاء بالعمل؟

قلنا: الفائدة في ذلك أمران:

الأمر الأول: أن يعلم بأن الجزاء من جنس العمل، فكما تدين تدان، فإذا عبر عن الجزاء بالعمل فإن هذا معناه أو مقتضاه أن هذا الجزاء بقدر العمل.

الفائدة الثانية: قوة التوبيخ لهؤلاء؛ لأن الجزاء من فعل غيرهم، فإذا عبر عنه بالجزاء فإنه يكون أهون بعض الشيء، لكن إذا عبر بالعمل عن الجزاء صار أشد في التوبيخ، كأنه يقال لهم: هذا فعلكم أنتم بأنفسكم، ولهذا عبر عن الجزاء بالعمل.

وقوله: {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)} من حيث الإعراب: نقول: إن (الواو) نائب فاعل في (تجزون)، و (ما): اسم موصول في محل نصب مفعول آخر؛ لأن جزاء تنصب مفعولين، ولكن هل هي من باب ظن التي مفعولاها أصلهما المبتدأ والخبر، أو من باب (كسا) التي مفعولاها ليس أصلهما المبتدأ والخبر؟

الجواب الثاني: لأنه لو قدرت أن الواو مبتدأ، و (ما) خبر ما صح الكلام.

{إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40)} قال المؤلف رحمه الله: [أي

ص: 91

المؤمنين استثناء منقطع]، قوله تعالى:{إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ} هذا استثناء منقطع، والاستثناء المنقطع هو الذي يحل محله، (لكن).

فإن قيل: لماذا لم يعبر بـ (لكن بدل إلا؟ مادام أن المعنى على الاستدراك؛ لأن الاستثناء منقطع فلماذا لم يؤت بحرف الاستدراك الأصلي الذي هو لكن؟

قلنا في الجواب على ذلك: إنه أتى ليفيد قوة اتصال الثاني بما بعده؛ لأن الأصل في الاستثناء الاتصال، والأصل في (لكن) الانقطاع. فإذا جاءت (لكن) فصلت بين ما قبلها وما بعدها، لكن إذا جاءت (إلا) صار في ذلك إشارة إلى قوة اتصال ما بعدها بما قبلها وهو كذلك، فإنه لما ذكر جزاء المجرمين ذكر جزاء المخلصين، وهذا من كون القرآن العظيم مثاني تثنى فيه المعاني المتقابلة إذا ذكر الوعيد ذكر الوعد، وإذا ذكر المؤمن ذكر الكافر، وإذا ذكرت الجنة ذكر النار، وهكذا، فهو مثاني، لأنه لو جاء الكلام على نسق واحد في ذكر الخوف والنار لغلب على القارئ جانب الخوف وأدى ذلك إلى القنوط من رحمة الله. ولو جاء الكلام على نسق واحد في الوعد والترغيب لأدى ذلك إلى الرجاء فيقع الإنسان في الأمن من مكر الله عز وجل. فكان القرآن يأتي بهذا وبهذا، جنبًا إلى جنب، من أجل أن يكون الإنسان دائمًا بين الخوف والرجاء.

وقوله: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ} المراد بالعبودية هنا عبودية الشرع، لأن العبودية نوعان:

عبودية القدر، وعبودية الشرع.

ص: 92

فعبودية القدر شاملة لكل أحد. يعني للمؤمن والكافر، والبر والفاجر، كما قال تعالى:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} [مريم: 93] فالكل خاضعون لقدر الله عز وجل، لا يمكنهم الفرار منه ولا مصادمته ولا الاستكبار عنه.

أما عبودية الشرع فهي خاصة بمن أطاع الله عز وجل وتعبد لله بشرعه، فيخرج منها الكافرون؛ لأن الكافر لا يتعبد لله بشرعه، بل هو مستكبر عن شرعه، هذه الآية:{إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40)} من عبودية الشرع يعني إلا الذين تعبدوا لله بشرعه وأخلصهم الله تعالى لطاعته، فهؤلاء ليسوا كمن سبق.

قال: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40)} قال المؤلف: رحمه الله[أي المؤمنين] ولكن المخلَص فيه نوع اصطفاء أخلصهم الله لنفسه، فكانوا عبادًا لله لا لغيره؛ لأن التزام طاعة الله هو تحقيق عبادة الله تعالى، والإنسان العاصي لله تعالى عنده من الخروج عن عبادة الله بقدر ما حصل منه من المعصية؛ لأن الله تعالى قال:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23]. فهذا يدل على أن كل إنسان عصى الله فهو إنما يعصيه لهوى في نفسه، فإنه قد نقص من عبودية الله بقدر ما فعل من المعصية.

إذًا فالمخلص فيه نوع من الاصطفاء. أخلصهم الله لنفسه فكانوا عبادًا لله تعالى حقًّا، ولهذا قال {الْمُخْلَصِينَ (40)} . وعباد الله المخلصون هم الذين أخلصهم الله لنفسه، فلم يجعل للشيطان عليه سلطانًا، كما قال تعالى في حق الشيطان:{لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} [ص: 82 - 83] فالمخلص

ص: 93

محفوف برعاية الله سبحانه وتعالى وحمايته عن الشيطان، والمخلص أشد وقعًا من المؤمن.

{أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41)} أولئك الضمير يعود على عباد الله المخلصين، وأتى بأولئك الدال على البعد مع قرب ذكرهم ولم يقل:(هؤلاء)، بل قال:{أُولَئِكَ} تعظيمًا لشأنهم وبيانًا لعلو مرتبتهم. والإشارة بالبعيد تأتي لتعلية الشأن وتعظيمه، كما قال الفرزدق يخاطب جريرًا:

أولئك آبائي فجئني بمثلهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامع

قال: أولئك آبائي أشار إليهم بإشارة البعيد، تعظيمًا لشأنهم وتعلية لهم.

{أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41)} (أي عطاء)، قال المؤلف: رحمه الله[في الجنة]، والأولى أن تطلق كما أطلق الله عز وجل.

وقد يقال: يجازون أيضًا في الدنيا، لكن ظاهر سياق الآية:{فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43)} يدل على أنه المراد الرزق الحاصل لهم في الجنة.

وقوله: {رِزْقٌ} بمعنى عطاء {مَعْلُومٌ} ، يقول المؤلف:[بكرة وعشيًّا]، فكأنه يشير إلى أن المراد بالمعلوم معلوم الوقت. ولو قيل: إنه أعم فهو معلوم الوقت ومعلوم النوع ومعلوم في الدنيا ومعلوم عند ملاقاته لكان أشمل، فإن هذا الرزق معلوم في الدنيا لأن الله تعالى أعلمنا به وهو أيضًا معلوم الوقت لقوله:

ص: 94

{وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)} ، [مريم: 62] وهو معلوم العين والنوع إذا لاقوه. كما قال تعالى في سورة البقرة: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة: 25] فهو معلوم لديهم في الدنيا وكذلك في الآخرة، {فَوَاكِهُ} قال المؤلف رحمه الله[بدل أو بيان للرزق وهو ما يؤكل تلذذًا لا لحفظ الصحة]، {فَوَاكِهُ} بالرفع بدل، أو بيان للرزق؛ لأن كلمة رزق أعم من الفواكه، فيكون {فَوَاكِهُ} بدل بعض من كل، لأن الرزق أعم.

{فَوَاكِهُ} هنا لم تنون؛ لأنها ممنوعة من الصرف صيغة منتهى الجموع. {فَوَاكِهُ} على وزن فواعل.

وقال المؤلف رحمه الله في الفاكهة [هي ما يؤكل تلذذًا لا لحفظ صحة] يعني أن الفاكهة ما يأكله الإنسان للتلذذ لا للتقوت به، فهو عبارة عن أكل كمالي، وهكذا أهل الجنة يأكلون ما يأكلون فيها من باب التفكه لا لحفظ الصحة؛ لأن صحتهم مضمونة، فإن لهم أن يصحوا فلا يسقموا أبدًا، وأن يعيشوا فلا يموتوا أبدًا، فيكون كل ما يأكلونه في الجنة من قسم الفاكهة؛ لأن أهل الجنة؛ كما يقول المؤلف -:[مستغنون عن حفظها -أي حفظ الصحة- بخلق أجسامهم للأبد]. ولهذا جاء في الحديث: "أنهم لا يبولون ولا يتغوطون، وإنما يخرج ما يأكلونه رشحًا -يعني عرقًا- كَريح المسك"

(1)

فيتنعمون بهذا الأكل عند أكله وعند خروجه؛ لأنه يخرج رشحًا كرائحة المسك، كما لو طُلِي

(1)

أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في صفات الجنة وأهلها. وتسبيحهم فيها بكرة وعشيا (2835/ 20).

ص: 95

الإنسان بالمسك، فإنه يجد لذة ورائحة طيبة.

{وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42)} بثواب الله في جنات النعيم. وجملة {وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42)} جملة اسمية تفيد الثبوت والاستمرار، يعني هم مكرمون في هذه الجنة من كل وجه من قبل الله عز وجل، يكرمهم الله سبحانه وتعالى فينظرون إليه، ويعدهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبدًا، ومكرمون من قبل الملائكة، {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)} .

مكرمون من جهة الخدم {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18)} مكرمون من كل وجه لا يجدون يومًا من الأيام لحظة من اللحظات شيئًا من الإهانة، بل هم في غاية الإكرام من كل وجه، لو لم يكن إلا أن الله عز وجل أكرمهم وأباح لهم النظر إلى وجهه، ويتحدث إليهم عز وجل، وهذا غاية ما يكون من السرور، لا شيء أسر ولا أنعم ولا أفضل من مناجاة الله عز وجل، وهم ينظرون إلى وجهه.

{فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43)} الجنات جمع جنة، والجنة في اللغة العربية البستان الكثير الأشجار، وسمي بذلك؛ لأنه يجن من فيه، أي يستره ويغطيه، وأصل هذه المادة الجيم والنون أصلها من الستر، ولذلك تجد كل معانيها تعود إلى هذا، فالجنان القلب وهو مستتر، والجنة ما يجتن به المقاتل ويستتر به عن السهام، والجن عالم غيبي مستتر، والجنة بستان مستور بالأشجار، ولكن لا نفسر جنَّة النعيم بهذا، بل نقول: هي "الدار التي أعدها الله لأوليائه، وفيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على

ص: 96

قلب بشر"؛ لأنك لو قلت: إنها البستان الكثير الأشجار فإن الشوق إليها والنظر إليها يضعف، إذ إن المخاطب يتصور أن هذه الجنة كبساتين الدنيا، فيجول في بساتين الناس أي بستان أعظم؟ بستان فلان بن فلان فلا يتجاوز قلبه أو يتصوره هذا البستان، مع أن الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، كما قال الله عز وجل: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17] وقال الله تعالى في الحديث القدسي: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر"

(1)

. فالأحسن أن نفسر جنة الخلد بأنها الدار التي أعدها الله تعالى لأوليائه، وفيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

وقوله: {النَّعِيمِ (43)} هذا من باب إضافة الشيء إلى نوعه، أي جنات نعيم لا بؤس فيها ولا شقاء، نعيم للقلب وهو السرور، نعيم للبدن لأنهم يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤ ولباسهم فيها حرير. فهم منعمون في أبدانهم، ومنعمون فى قلوبهم، وانظر إلى قوله تعالى:{عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)} [الإنسان: 21] وقال تعالى أيضًا: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11)} [الإنسان: 11] فالنضرة في الوجه وهو الحسن، والسرور في القلب، فكان الحسن فيهم ظاهرًا وباطنًا، ولهذا سميت جنة النعيم لتنعم الإنسان فيها ظاهرًا

(1)

أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب يريدون أن يبدلوا كلام الله (رقم 7498) ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها (رقم 2824)(2، 3، 4).

ص: 97

وباطنًا، فقلبه منعَّم بالسرور، وبدنه منعَّم بالنضرة ولباس الحرير. {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44)} {عَلَى سُرُرٍ} جمع سرير وهي الكراسي التي يجلس عليها، ولكن ليست كسرر الدنيا، بل {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15)} [الواقعة: 15] مخروزة من الذهب، ولا يمكن أن تتصور حسن هذه السرر؛ لأن فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وما لم يخطر على قلب بشر لا يمكن أن يتصوره الإنسان؛ لأنه فوق ما يتصور، فكل شيء تقدره من النعيم والحسن فالجنة أعلى وأعظم، وقوله:{مُتَقَابِلِينَ (44)} حال من الضمير المستتر في قوله: {عَلَى سُرُرٍ} يعني: حال كونهم متقابلين، وهذا يدل على كمال أدبهم وسعة مجالسهم. على كمال الأدب؛ لأنهم متقابلون لا يولي أحدهم قفاه للآخر، كذلك أيضًا يدل على سعة المجالس؛ لأنهم إذا كانوا كثيرين وصاروا متقابلين لابد أن تكون الدائرة واسعة، إذًا فالمجالس واسعة مهما جاء من الناس، فإنها تسعهم ويتقابلون فيها، والظاهر أن جلوس الإنسان مع أهله وخاصته على هذا الوجه متقابلين لكمال أدبهم.

{يُطَافُ عَلَيْهِمْ} يطاف: فعل مضارع مبني للمجهول، ولم يذكر من يطوف عليهم، لكن ذكر في آية أخرى أنه {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19)} [الإنسان: 19] نسأل الله من فضله. ولدان يعني: غلمان صغار كأنهم لؤلؤ مكنون، إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤًا منثورًا من جمالهم وصفائهم وحسنهم. منثورًا لتفرقهم في خدمة أسيادهم. واللؤلؤ إذا نثر تبعثر في الأرض فهم متبعثرون في خدمة أسيادهم كل له عمل، وهذا يَسرُّ الإنسان أن

ص: 98

يجد هؤلاء الغلمان كل في عمله، ليس فيهم متعطل، وليس فيهم منتظر للآخر. ليسوا كغلمان الدنيا يتزاحمون كل واحد ينتظر الأجر، بل كل في خدمة معينة، وهذا ألذ ما يكون للسيد إذا رأى هؤلاء الغلمان قائمين بخدمته على هذا الوجه، {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19)} [الإنسان: 19].

وقوله: {بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45)} قال المؤلف: رحمه الله[هو الإناء بشرابه]، الكأس معروف وهو الإناء بشرابه، وقد بين الله سبحانه وتعالى أن هذا الكأس دهاق {وَكَأْسًا دِهَاقًا (34)} [النبأ: 34] أي مملوءة. ومع ذلك مملوءة بقدر معلوم ليست كبيرة، فإذا شربها الإنسان تعب، وإن أبقى منها فضلة صارت غير شهية، وليست صغيرة بحيث لا ترويه، وهم لا يعطشون، ولكن تلذذًا، بل قال الله تعالى:{مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16)} [الإنسان: 16] يعني: جُعِلَتْ بقدر ما يتلذذ به الشارب لا كبيرة ولا صغيرة.

وقوله: {بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45)} قال المؤلف رحمه الله: [من خمر يجري على وجه الأرض كأنهار الماء]، المعين في الأصل الماء الجاري، والمراد هنا بكأس من معين أي من خمر {مَعِينٍ} كعين الماء يجري. وقد بين الله سبحانه وتعالى في سورة القتال أنهار الجنة {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد: 15] أنهار تجري. والذي خلق من هذا الطائر الذي يشبه الذباب هذه الكميات الكثيرة من العسل قادر على أن يخلق أنهارًا من العسل في الجنة وليس هذا بغريب، وليست هذه

ص: 99

الأنهار تأتي من نحل، لكن تأتي بقول الله: كن فيكون، عسل مصفى لا شمع فيه ولا شوائب من أحسن ما يكون رؤية وطعمًا ورائحة. وقد قال ابن القيم رحمه الله في النونية بناء على حديث ورد في ذلك:

أنهارها في غير أخدود جرت

سبحان ممسكها عن الفيضان

يعني: ليست كأنهار الدنيا تحتاج إلى أخدود تمنعها من الذهاب يمينًا وشمالًا، أو حفرة تحفر للنهر؛ لئلا تجري على سطح الأرض، بل على حسب ما يريده أهلها من غير عمال يوجهونها حفرًا أو إقامة أخدود، بل تجري على ما تريد من غير تعب.

قال: سبحان ممسكها عن الفيضان. والذي أمسك البحر أن يغرق أهل الأرض -وهو ليس بشيء بالنسبة للجنة- قادر على أن يمسك هذه الأنهار لا تزيغ يمينًا ولا شمالًا.

الفوائد:

في هذه الآيات فوائد كثيرة منها:

1 -

أن هؤلاء المكذبين أو المستكبرين عن قول (لا إله إلا الله) سيذوقون العذاب لقوله: {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو} وهذه الجملة مؤكدة بمؤكدين وهما: إن، واللام.

2 -

ومن فوائدها: أن عذاب هؤلاء عذاب مباشر، كما يباشر الإنسان الأكل لقوله:{لَذَائِقُو الْعَذَابِ} ، والأصل فى الذوق أن يكون في الطعام الذي يؤكل، ثم أُطْلِقَ على كل شيء محقق وقوعه.

ص: 100

3 -

ومن فوائدها: أن عذاب هؤلاء -والعياذ بالله- أليم أي: مؤلم، وهو ألم لا يمكن للأبدان في الدنيا أن تتحمل جزءًا منه؛ لأنهم -والعياذ بالله- يعذبون بنار أشد من نار الدنيا بتسعة وستين جزءًا، وكلما نضجت جلودهم بُدِّلوا جلودًا غيرها ليذوقوا العذاب. فهو عذاب أليم ألمًا لا نظير له في الدنيا، ولا يمكن أن يتخيله الإنسان لشدته، نسأل الله أن يجيرنا منه.

4 -

ومن فوائدها: كمال عدل الله عز وجل حيث جعل الجزاء من جنس العمل، لقوله:{وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} بخلاف الملوك في الدنيا أو أولياء الأمور في الدنيا فإن جزاءهم على العمل قد يكون أكثر مما يستحق، قد يغضب الإنسان فيجازي من له سلطة عليه بأكثر مما يستحق، أما الله عز وجل فإنه لا يجازي الإنسان إلا بعمله.

5 -

ومن فوائدها: إثبات الجزاء، ولازمه إثبات البعث؛ لأن الجزاء الكامل على العمل إنما يكون يوم القيامة فيكون في الآية دليل على إثبات البعث وإثبات الجزاء.

6 -

ومن فوائدها: الرد على الجبرية الذين يقولون: إن عمل الإنسان لا ينسب إليه؛ لأنه مجبر عليه فتحرك الإنسان بالقول أو بالفعل كتحركه الاضطراري، بل كتحرك الريشة بالهواء، ولكن هذا القول ترده النصوص والعقول.

7 -

ومن فوائدها: أن القرآن مثاني، تثنى فيه المعاني، حتى يكون الإنسان بين الخوف والرجاء فيما إذا ثني الترغيب والترهيب كما في هذه الآيات {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40)} .

ص: 101

8 -

ومن فوائدها: شرف القائمين بأمر الله تعالى حيث أضافهم الله إلى عبوديته في قوله: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40)} ، ولا شك أن فخرًا للإنسان أن ينسب إلى عبادة الله، ولهذا يذكر الله سبحانه وتعالى وصف نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في أشرف مقاماته بالعبودية عند ذكر إنزال القرآن عليه {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1] {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23] ووصفه بالعبودية في مقام الإسراء والمعراج {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1] وقال في المعراج: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)} [النجم: 10] ووصفه بالعبودية في مقام الدفاع عنه: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] هذا تحدي للمكذبين للرسول عليه الصلاة والسلام أن يأتوا بمثل ما جاء به.

9 -

ومن فوائدها: أن الله سبحانه وتعالى يمنّ على من يشاء فيخلصهم لنفسه حتى لا يكونوا عبيدًا لغيره في قوله تعالى: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} ، وهذا أبلغ من المخلصين، وإن كان لكل منهما مزية، ولكن المخلص الذي أخلصه الله عز وجل لنفسه فلم يكن له إرادة سوى ربه هذا أبلغ.

15 -

ومن فوائدها: أن عباد الله عز وجل ينقسمون إلى قسمين:

عباد مخلصون، وعباد غير مخلصين.

فالعباد بمعنى: عبودية القدر هؤلاء غير مخلصين، بل هم

ص: 102

كالأنعام، بل هم أضل، وأما العباد لله تَعبُّد شَرْع فإن هؤلاء هم المخلصون.

11 -

من فوائدها: أن هؤلاء المخلصين لهم عطاء عند الله عز وجل معلوم عنده وعندهم {أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41)} فإن الله تعالى أخبر عباده بما ينالونه يوم القيامة من أنواع الثواب.

فإن قال قائل: هل هو معلوم بالحقيقة أو بالمعنى؟

فالجواب: أنه معلوم بالمعنى، أما الحقيقة فليس بمعلوم يعني: أننا لا نعلم كنه هذا النعيم، أو هذا الرزق، لقول الله تعالى:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} . [السجدة: 17].

ولقوله تعالى في الحديث القدسي: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"

(1)

.

إذًا لا نعلم من نعيم الآخرة إلا الأسماء فقط، أما الحقائق فإنها ليست معلومة، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما:"ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء"

(2)

، لكن الحقائق تختلف اختلافًا عظيمًا.

فهو معلوم المعنى لا معلوم الحقيقة والكنه؛ لأن ذلك لا يدرك إلا بحق اليقين.

(1)

تقدم ص 99.

(2)

أخرجه الطبري في تفسيره (للآية 25 من سورة البقرة)، وابن أبي حاتم في تفسيره للآية المذكورة، وأبو نعيم في (صفة الجنة)124.

ص: 103

12 -

ومن فوائدها: أن أهل الجنة يأكلون هذا الرزق تفكهًا وتنعمًا لا اقتياتًا يحتاجون إليه، لقوله:{فَوَاكِهُ} وفي الدنيا يأكل الإنسان الطعام أحيانًا اقتياتًا للحاجة إليه، وأحيانًا تفكهًا وتلذذًا. أما في الآخرة فكل طعامها تلذذ.

13 -

ومن فوائد الآيات: أن أهل الجنة مكرمون من وجوه ثلاثة:

1 -

من قبل الله عز وجل.

2 -

من قبل الملائكة عليهم الصلاة والسلام.

3 -

من قبل الخدم، الغلمان.

فهم مكرمون من كل وجه.

14 -

ومن فوائدها: أن جزاء الله تعالى للمحسن أكثر من عمله بكثير؛ لأن إحساننا نحن للعمل لو نسب إلى ثواب الله عز وجل لم يكن شيئًا. قال النبي عليه الصلاة والسلام: "لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها"

(1)

. ثم إحساننا مهما بلغ فهو منتهي بالموت، لكن ثواب الله لا انتهاء له. ثواب الآخرة لا منتهى له. إذًا يتبين من ذلك أن فضل الله عز وجل وجزاءه أكثر بكثير من عمل العامل، فيكون هذا مصداقًا لقوله تعالى:{كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)} . [البقرة: 261]

15 -

ومن فوائدها: أن الجنة أصناف وأنواع تؤخذ من

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب فضل رباط يوم في سبيل الله (رقم 2892).

ص: 104

قوله: {فِي جَنَّاتٍ} ولكنها تشترك كلها في أنها جنات نعيم.

16 -

ومن فوائدها أيضًا: أن الجنة كلها نعيم، نعيم للبدن، ونعيم للقلب، فنعيم القلب بالسرور والانبساط والفرح الدائم الذي لا يعتريه هم ولا غم ولا حزن، والبدن {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11)} [الإنسان: 11] {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9)} [الغاشية: 8 - 9] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على تنعم نفس البدن، وما يلبسه أيضًا من الزينة والحلي كذلك منعم فيه.

17 -

ومن فوائدها: سعة محلات أهل الجنة لكونهم متقابلين على السرر؛ لأن التقابل يؤدي إلى سعة المكان لاسيما مع كثرتهم.

18 -

ومن فوائدها: كمال أدب أهل الجنة حيث كانوا يتقابلون بحيث لا يقفو أحدهم الآخر، بل كلهم يكونون مستقبلي بعضهم بعضًا. وهذا لا شك أنه من كمال الأدب. والأدب كما أنه حسن في أهل الجنة فهو حسن في أهل الدنيا أيضًا، قال الله تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4] ولا شك أن الإنسان إذا كان مؤدبًا كان محبوبًا عند الناس، فالجفاء وعدم المبالاة بالناس خلق ذميم، ومن ثم ننظر في مسائل نعملها:

الأولى: مسألة السلام نجد كثيرًا من الناس مع أنهم حريصون على العبادة لكنهم لا يبالون بالسلام لا ابتداء ولا ردًّا، وهذا خلاف حال المؤمن مع أخيه، فمن حق المسلم على أخيه إذا لقيه أن يسلم عليه، ويسلم عليه سلامًا حقيقيًّا مقرونًا بالبشاشة، أما أن يسلم عليه برأس أنفه لولا حرف الصفير ما علمت أنه يسلم، فهذا

ص: 105

ليس بسلام، وأقبح من ذلك أن يسلم الإنسان على أخيه بصوت بين واضح المخارج مسموع، ثم يرد ذلك عليه بصوت لا يسمع، بل يرد عليه بأنفه أو بيده .. فإن هذا لا شك أنه حرام عليه؛ لأن الله يقول:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] فلابد أن يكون إما مثل وهو أدنى الواجب، أو أحسن وهو الأكمل.

الثانية: نجد بعض الناس يستدبر إخوانه ولا يهتم بهم، وهذا خطأ، ولا ينبغي، وأنا أراه بعض الأحيان إذا سلمت من الصلاة يأتي واحد من الناس يتقدم ما يشعر أن وراءه بشر مثله لماذا تتقدم عليه؟ هذا مما يوجب اختلاف القلوب، ولهذا قال الرسول -عليه الصلاة السلام- في القوم عند صف الصلاة قال:"لا تختلفوا فتختلف قلوبكم"

(1)

فجعل الاختلاف في التقدم والتأخر سببًا لاختلاف القلوب، أنا لو كنت بجنب هذا الرجل شعرت بأن هذا الرجل أهانني، حيمث تقدم عليَّ وولاني ظهره.

ويتعلل بعض الناس بأنه فيه ضيق وأنه يحب أن يريح رجليه، فيتقدم ليتربع.

فنقول: إذا كنت هكذا: إما أن تتقدم كثيرًا ثم تكون بعيدًا وإما أن تتأخر. يقول: لا أقدر أتأخر؛ لأن ورائي صفًّا يقضون الصلاة، نقول: إذن قم وتقدم بعيدًا حتى لا تستدبر الناس، أما أن تستدبر عباد الله بعد أن فرغوا من الصلاة وتجعلهم وراء ظهرك

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها

(رقم 432)(122).

ص: 106

فهذا لا شك أنه سوء أدب وأن الذي إلى جانبك سوف يشعر بأنك أهنته.

الثالثة: يوجد عند بعضنا، أن الصغير لا يقدر الكبير، يتقابل اثنان عند باب المسجد أو عند باب الدار ثم يتقدم الصغير بعجلة ليدخل قبل الكبير وهذا ليس فيه توقير الكبير. فتوقير واحترام الكبير من الخصال الطيبة ومن صفات المؤمن. فكون الإنسان لا يبالي ولا يهتم بغيره لا شك أنه خلاف الأدب.

فأهل الجنة -اللهم اجعلنا منهم- يكونون على السرر متقابلين، يجعلونها دائرة حتى يقابل بعضهم بعضًا.

19 -

ومن فوائدها: راحة أهل الجنة حيث كانوا متفرغين على السرر، يتحدث بعضهم إلى بعض، ويأنس بعضهم إلى بعض على وجه التقابل.

25 -

ومن فوائدها: أنه في حال جلوسهم على السرر فالخدم تطوف عليهم بأنواع الملذات والمشروبات. ومنها أنها تطوف عليهم بكأس من معين، كأس الخمر الصافي الخالي من الشوائب، وهذا الكأس يكون مقدرًا على حسب ما يحتاجه الشارب، ليس كبيرًا فيتعبه، ولا صغيرًا فينقص من لذته، كما قال الله تعالى:{وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16)} [الإنسان: 15 - 16]

* * *

{بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46)} . {بَيْضَاءَ} قال المؤلف رحمه الله: [أشد بياضًا من اللبن] هكذا قال المؤلف: إنها أشد بياضًا

ص: 107

من اللبن. والواقع أن الآية لا تدل على أنها أشد بياضًا، وإنما جاء أشد بياضًا من اللبن في وصف حوض النبي صلى الله عليه وسلم الذي يكون في عرصات القيامة، فقد جاء في وصفه أنه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، وأطيب من رائحة المسك

(1)

، أما الخمر في الجنة فوصفه الله تعالى بالبياض فقط، قال:{بَيْضَاءَ} و {لَذَّةٍ} لذيذة وهنا عبّر بلذة المصدر عن اسم الفاعل أو اسم المفعول؛ لأن لذيذ يصلح لاسم الفاعل واسم المفعول، لأن الوصف بالمصدر أبلغ من الوصف بالمشتق من المصدر، فأنت إذا قلت: فلان عدل. أبلغ من إذا قلت: فلان عادل. كأنك جعلته هو العدل بنفسه، فهنا وصف هذا الخمر أو هذه الكأس بأنها لذة يعني كأنها هي اللذة لا الشيء المتصف باللذة، فالتعبير بالوصف عن الموصوف أبلغ من التعبير بالموصوف؛ لأنه تعبير بالأصل عما تفرع منه، فالمشتق متفرع من المصدر، {لِلشَّارِبِينَ (46)} هذا من باب التوكيد يعني أنهم في حال شربهم إياها يتلذذون بها. قال المؤلف:[بخلاف خمر الدنيا، فإنها كريهة عند الشرب]، أما خمر الآخرة فهي لذة للشاربين. وهي سالمة من الآثار السيئة كما قال تعالى:{لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47)} .

{يُنْزَفُونَ} قال المؤلف رحمه الله: [بفتح الزاي وكسرها من نزف الشارب وأنزف أي: يسكرون بخلاف خمر الدنيا].

(1)

أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب في الحوض (6579)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم وصفاته (2992).

ص: 108

قال الله تعالى: {لَا فِيهَا غَوْلٌ} يعني ليس في هذه الكأس، والمراد الخمر الذي فيها غول، ورفعت غول مع أن (لا) نافية؛ لأنه يشترط لعملها عمل (إنّ) الترتيب، يعني أن يتقدم الاسم على الخبر، فإن تأخر وجب الرفع، وقوله {غَوْلٌ} أي:[ما يغتال عقولهم]، ففسر المؤلف الغول بأنه ما يؤثر على العقل. أي يسكرون، والسكر هو اغتيال العقل، فالقول الراجح في هذه الآية أن المراد بالغول ما يغتال أبدانهم من صداع في الرأس ووجع في البطن فخمر الآخرة لا غول فيها بخلاف خمر الدنيا، فإنه يكون فيها صداع، ويكون فيها وجع للبطن، كما ذكر ذلك ابن كثير وغيره، أما النزف فقال:{وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47)} يقول المؤلف: [من نزف الشارب وأنزف إذا سكر بخلاف خمر الدنيا]، فإن الإنسان يسكر فيها ويزول عقله. أما في الآخرة فهي خالية من هذا، إذًا يصدق عليها ما وصفها الله عز وجل في قوله:{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21] أي: مطهرًا من كل ما يحصل من خمر الدنيا.

قال: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48)} (عندهم) أي: عند أصحاب الجنة الذين هم عباد الله المخلصون، لأن الله قال:{إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40)} ثم ذكر ما لهم من الثواب فيكون الضمير عائدًا على عباد الله المخلصين، {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} قال المؤلف رحمه الله:[حابسات الأعين على أزواجهن، لا ينظرن إلى غيرهم لحسنهم عندهن].

قوله: {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} قاصرات اسم فاعل مضاف إلى

ص: 109

فاعله، أي التي قصرت أطرافهن على أزواجهن، يعني أنهن لا ينظرن إلى غير أزواجهن، وهذا لا شك أنه من نعمة الله على الزوج، ومن كمال السعادة ألا تنظر المرأة إلى غير زوجها؛ لأنها إذا نظرت إلى غير زوجها فسوف يلقي الشيطان في قلبها مودة هذا المنظور وكراهة الزوج، فإذا كانت قد قصرت طرفها على زوجها فإن هذا من كمال السعادة الزوجية.

ومن وجه آخر أنهن {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} أي قاصرات أطراف أزواجهن أي أن الزوج لا ينظر إلى سواها، فهو قد قصر طرفه عليها، وذلك لكمالها وحسنها في نظره، وحينئذ يكون لقاصرات الطرف معنيان:

المعنى الأول: أنهن قد قصرن أطرافهن على أزواجهن.

المعنى الثاني: أن أزواجهن قد قصروا أطرافهم عليهن وكلا المعنيين صحيح.

{عِينٌ} جمع عيناء، والمعنى أنهن حسنات العيون، وحسن العين يكون بأمرين:

1 -

سعة الأعين.

2 -

حسن الأعين، يعني: أن العين واسعة ومع سعتها فإنها جميلة حسنة. ولا شك أن حسن العين يوجب حسن الوجه ويزيده حسنًا إلى حسن، كالقلادة مثلًا تزيد المرأة حسنًا إلى حسنها، وقال:{كَأَنَّهُنَّ} قال المؤلف: رحمه الله[أي في اللون بيض للنعام {مَكْنُونٌ (49)} مستور بريشه لا يصل إليه غبار، ولونه وهو البياض فيه صفرة أحسن ألوان النساء]. لما وصف هؤلاء النساء

ص: 110

بأنهن عين وصف بقية أجسامهن فقال: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)} وكأنَّ هذه للتشبيه، والبيض في الآية الكريمة مُنَكَّر، ولكن المؤلف حمله على بيض معين، وهو بيض النعام، وببيض النعام أبيض في صفرة، قالوا: وهذا أحسن ألوان النساء. والذي خصصه ببيض النعام؛ لأن هذا هو المعروف عند العرب.

وقيل: إن البيض مطلق، والمعنى أنهن يشبهن في البياض والرقة البيض، وليس المراد البيض القشور، بل البيض الذي هو بياض البيضة لرقته وبيانه وحسنه، {مَكْنُونٌ (49)} بما على البيضة من القشرة. وهذا الأخير هو الأقرب لظاهر اللفظ؛ لأن الله عز وجل أطلق قال:{كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ} ولو كان المراد ما قاله المؤلف -رحمه الله تعالى- بيضًا معينًا لقال: كأنهن البيض المكنون، لتكون "ال" دالة على معهود ذهني، فالصواب أنه عام، وأنهن لرقتهن وبياضهن ونعومة الملمس كأنها البيض أي البياض الذي في البيض وهو مكنون بقشره، أما على رأي المؤلف فهو المكنون بالريش الذي تضعه النعامة على بيضها حتى لا يأتيه الغبار.

الفوائد: يستفاد من هذه الآية:

1 -

صفة هذا الخمر أو الكأس من المعين وأنه أبيض، لقوله:{بَيْضَاءَ}

2 -

ومن فوائدها: أن خمر الآخرة في غاية ما يكون من اللذة، ووجه ذلك أنه عبَّر باللذة عنه، والتعبير بالمعنى عن المتصف به أقوى من التعبير بالمشتق من ذلك المعنى، فإذا قلنا:

ص: 111

فلان عدل فهو أقوى من قولنا فلان عادل. ولهذا يرون أن النعت بالمصدر أوكد من النعت باسم الفاعل.

3 -

ومن فوائدها: أنها لذيذة حين الشرب خلافًا لخمر الدنيا فإنها كريهة حين الشرب، ولهذا قال:{لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46)} فتفيد أنهم في هذه الحال يتلذذون بها غاية اللذة. أما خمر الدنيا فإنها كريهة، ولكن الإنسان يتلذذ بها بما ينتج عنها من السكر نسأل الله العافية.

4 -

ومن فوائدها: أن خمر الآخرة ليس فيها ضرر عقلي ولا بدني. قوله تعالى: {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47)} .

5 -

ومن فوائدها: أن هؤلاء كما يتلذذون بالشراب، يتلذذون أيضًا بالنساء والزوجات لقوله:{وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48)} .

6 -

ويستفاد أيضًا: أن هؤلاء النساء حاضرات لا يغبن عن أزواجهن لقوله: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} أما في الدنيا فإن الزوجات قد يكن عند الإنسان، وقد يغبن باختياره، وقد يغبن بغير اختياره. أما في الجنة فإنهن حاضرات لا يغبن عن أزواجهن لقوله:{وَعِنْدَهُمْ} .

7 -

ربما نأخذ من هذا أيضًا فائدة: أنهن لا يذهبن إلى غير أزواجهن، وذلك بتقديم الخبر {وَعِنْدَهُمْ} والمعروف في قواعد البلاغة أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر.

8 -

ومن فوائدها: كمال أدب هؤلاء النساء لكونهن قاصرات الطرف على أزواجهن.

ص: 112

9 -

ومن فوائدها: أن المرأة إذا نظرت إلى غير زوجها فإن ذلك فتنة؛ لأن الله امتدح نساء الجنة بكونهن قاصرات الطرف على أزواجهن.

ويتفرع على ذلك أنه يجب على الإنسان أن يراعي زوجته في هذا الباب بحيث يمنعها من التطلع إلى غيره، سواء كان هذا التطلع إلى الرجل مباشرة، أو بواسطة الوسائل الإعلامية. فيمنعها من مشاهدة مجلات الأزياء الخبيثة التي يحصل بها الشر والفساد.

ويتفرع على هذه الفائدة أيضًا: أن يمنعها من الخروج إلى الأسواق إلا لحاجة؛ لأن المرأة إذا خرجت إلى الأسواق ورأت الناس فربما تعجب بأحدهم ويتعلق قلبها به فتعزف عن زوجها. وينقلب حبها لزوجها ضعيفًا، أو ربما يفقد، لكن نساء أهل الجنة لا ينظرن إلى غير أزواجهن.

10 -

ومن فوائدها بناء على المعنى الثاني في {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} : أن نساء أهل الجنة في غاية الكمال والجمال بحيث لا ينظر الرجل إلى سواها؛ لأنها تقصر طرفه عن غيرها. وهنا ذكر الله عز وجل صفتهن الحسية، ولهن صفة معنوية ذكرها الله تعالى بقوله:{فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70)} [الرحمن: 70] خيرات الأخلاق، حسان الأجسام، فتكون نساء أهل الجنة جامعات بين الحسن الظاهر والحسن الباطن.

11 -

ومن فوائدها: حسن أعين هؤلاء النساء لقوله: {عِينٌ (48)} وحسن العين يكون بجمال الشكل والسعة

ص: 113

والاستدارة، وشدة السواد في شدة البياض، وغير ذلك مما يكون جمالًا في العين.

12 -

ومن فوائدها: استعمال التشبيه التحسيني لقوله: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)} وهذا تشبيه تحسيني وعكس ذلك التشبيه التقبيحي قوله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65)} فقوله: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)} يراد به تحسين هؤلاء النساء.

13 -

ومن فوائدها: الاستدلال بالقياس بالتشبيه، فالتشبيه يؤخذ منه استعمال القياس؛ لأن القياس إلحاق فرع بأصل أي تشبيه في الحكم وإعطاؤه حكمه.

* * *

{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50)} .

سبق أن أهل الجنة على سرر متقابلين، لكن الإقبال هنا فسر بقوله:{يَتَسَاءَلُونَ (50)} يعني: صار بعضهم يسأل بعضًا مع اتجاه بعضهم إلى بعض، كما هو الأدب في المخاطبة أنك إذا خاطبت شخصًا فلا تخاطبه إلا وأنت مقبل عليه، بجملتك، فهم كذلك {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50)} قال المؤلف رحمه الله:[عمَّا مر بهم في الدنيا] وإن شئت فقل: يتساءلون عن كل أحوالهم في الدنيا وفي الآخرة؛ لأن الآية مطلقة، وما أطلقه الله فإنه لا ينبغي أن يقيد، ويكون ما ذكر من القصة مثلًا من الأمثال التي يتحدثون بها.

{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52)}

ص: 114

يعني من جملة ما يتحدثون به ما يجري لبعضهم من محاولة صده عن سبيل الله تعالى وكفره بالله عز وجل.

{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} أي من أهل الجنة {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51)} في الدنيا، لأن (كان) فعل ماضٍ {لِي قَرِينٌ (51)} قال المؤلف: رحمه الله[صاحب ينكر البعث] هذا القرين هل هو قرين جني أو إنسي؟ .

قيل: إنه جني، لقول الله تعالى:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)} . [الزخرف: 36].

وقيل: إنه إنسي يعني يقارنه ويوسوس له، والآية تحتمل معنيين، والقاعدة عندنا في التفسير: أن الآية إذا كانت تحتمل معنيين لا ينافي أحدهما الآخر، ولا مرجح لأحدهما فإن الواجب حملها عليهما، ولا شك أن للإنس شياطين كما أن للجن شياطين، وأن شياطين الإنس يوسوسون كما يوسوس شياطين الجن، إذًا فالآية عامة، قرين إما من الإنس، أو من الجن، أو منهما جميعًا، وقول المؤلف:[قرين صاحب] مشكل إذ كيف يكون المؤمن مصاحبًا لمشرك، لأن الواجب أن يكون بين المؤمنين والكافرين التباعد وعدم المصاحبة، لقول الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51] ولقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} . [الممتحنة: 1].

لكن قيل: إن المراد بالقرين هنا هو الشريك في المال، أو سفر أو ما أشبه ذلك، وليس المراد بذلك الصحبة التي تستوجب

ص: 115

الموالاة أو المحبة. يقول هذا القرين: {أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52)} .

قال المؤلف: [تبكيتًا] يعني يبكته ويلومه ويوبخه كيف تصدق بذلك؟

وقيل: بل يقول هذا نفيًا، وإنكارًا والآية تحتمل هذا وهذا، تحتمل أن هذا الفريق إذا عرض عليه المؤمن أن يؤمن بالبعث قال له هذا الكلام استبعادًا وإنكارًا له. ويحتمل أنه يبكته ويلومه ويوبخه على أن يصدق، يقول:{أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52)} . {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53)} مرَّ علينا أن مثل هذا الاستفهام المقرون بإن أو غيرها من أدوات التوكيد أنه استفهام يؤكد فيه المستفهم الإنكار، يقول: كيف تثبت وتصدق وتؤكد كذا وكذا مع أنه ليس بصحيح؟ ومنه قول أخوة يوسف: {أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي} [يوسف: 90] هذا {يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52)} يعني كيف تصدق تصديقًا مؤكدًا بأن واللام في هذا الأمر البعيد المنكر؟ وقوله: [بالبعث] إنما قيّد المؤلف ذلك بالبعث لقوله: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا} فيكون الذي خصص التصديق بالبعث قرينة السياق.

{أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53)} قال المؤلف رحمه الله: [في الهمزتين في الثلاثة مواضع ما تقدم] أي أربع قراءات:

1 -

تحقيق الهمزتين.

2 -

تسهيل الثانية.

3 -

إدخال ألف في التحقيق.

4 -

إدخال ألف في التسهيل.

ص: 116

يقول {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53)} ، أنكر ذلك أيضًا فانظر إلى هذا القرين المشؤوم -والعياذ بالله- الذي يبكّت ويوبخ وينكر هذا الأمر المؤكد الذي دل عليه الكتاب والسنة والعقل، فيقول كيف نبعث ونجازى بعد أن كنا ترابًا وعظامًا؟ ومناسبة الابتداء بالتراب قبل العظام؛ لأنه أبلغ في الحيلولة، أي بدأ بالأبعد فالأبعد فكونهم تراب أبعد من أن يخلقوا من كونهم عظامًا.

{قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)} يقول هذا الرجل لأصحابه الذين معه في الجنة: {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)} . والاستفهام هنا للعرض يعني يعرض عليهم أن يطلعوا معه إلى هذا القرين، وإنما عرض عليهم ذلك من أجل أن يتبين قدر نعمة الله تعالى عليهم، لأن الإنسان إذا رأى هذا القرين الذي كان معه في الدنيا. يقول له ما ذكر، إذا رآه في النار وهو في أكمل النعيم لا شك أنه يزداد شكرًا لله عز وجل على نعمته إذ لو شاء لجعله مثله، لاسيما وأن هذا الرجل يحاول بكل ما يستطيع أن يصد هذا عن سبيل الله عز وجل، فيكون للاطلاع فائدة عظيمة، وهي معرفة قدر نعمة الله عليهم بهذا النعيم، وليس المراد بهذا الاطلاع الشماتة بهذا الرجل، لأنه لو كان المراد الشماتة لكان في هذا نوع فخر على هذا الرجل واستطالة، ولكن المراد أن يعرفوا قدر نعمة الله عليهم، لأن الأشياء تتبين بضدها. {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)}. قال المؤلف رحمه الله:[فيقولون: لا]. أتى بهذا من قوله: {فَاطَّلَعَ} ولم يقل: فاطلعوا.

ص: 117

ولكن الجزم بأنهم قالوا: لا. فيه نظر، لاحتمال أنهم سكتوا، ولما علم أنه لا رغبة لهم في الاطلاع ذهب واطلع. ويحتمل أنهم مشوا معه ووقفوا ولكن لم يطلعوا، فلهذا لا ينبغي أن نجزم بأنهم قالوا: لا. لاسيما وأن المعروف من أدب أهل الجنة بعضهم مع بعض أنهم فوق هذا المستوى الذي يطلب منهم ويعرض عليهم عرضًا أن يطلعوا إلى هذا الرجل الذي كان يبكته وينكر البعث، لينظر ماذا فعل الله به؟ وما فعل الله بهذا المصدق حتى يتبين بذلك قدر نعمة الله عليه، وكمال حكمته بتعذيب هذا الرجل المنكر، يبعد أن يقولوا: لا، فإما أن يقال: إنهم قاموا واطلعوا، ولكنه لما كان هو المعني بهذا الأمر نسب الأمر إليه، فقال:{فَاطَّلَعَ} ، ويحتمل أنهم قاموا معه ولم يطلعوا، بل وقفوا عند المكان الذي وقف عليه، ويحتمل أنهم سكتوا وعرف أنهم لا يريدون ذلك، ثم تقدم. المهم أن لا نجزم بهذا القول الذي قاله المؤلف رحمه الله.

{فَاطَّلَعَ} قال المؤلف رحمه الله: [ذلك القائل من بعض كوى الجنة]، كُوّة يعني أن هذا الرجل اطلع على هذا {فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55)} رأى قرينه رؤية عين {فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55)} أي وسط النار يعذب، ولهذا قال له:{تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)} .

قال المؤلف: [قال له تشميتًا]، هذا ما ذهب إليه رحمه الله إنه قال ذلك يشمت به، ويحتمل أنه قال: تحدثًا بنعمة الله {تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56)} ولكن الله منَّ عليَّ فلم تستطع أن

ص: 118

ترديني، وهذا هو الأقرب، قوله:{تَاللَّهِ} هذا قسم بحرف التاء. والقسم هو: تأكيد الشيء بذكر معظم بصيغة مخصوصة، وكان القسم تأكيدًا، لأن المقسم كأنه يقول بلسان حاله: إن منزله هذا عندي وقدره عندي أؤكد به ما أخبرت به إذا كان خبرًا، أو ما سأفعله إن كان إنشاء.

{قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ} يقول المؤلف: [إن مخففة من الثقيلة] أي فأصلها إنَّ، وهي تفيد التوكيد، وإنما قال مخففة من الثقيلة؛ لأن (إن) تأتي على أوجه متعددة

(1)

:

و{كِدْتَ} قال المؤلف رحمه الله: [قاربت]، لأن كاد تدل على المقاربة، فهي من أفعال المقاربة، وقد اشتهر عند النحويين أن نفيها إثبات، وإثباتها نفي.

فإذا قلت: كاد يفعل، فهذا إثبات لكنه يدل على أنه لم يفعل.

وإذا قلت: لم يكد يفعل كذا، فهذا نفي لكنه يدل على أنه فعل، لقوله تعالى:{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)} . [البقرة: 71]

لكن هذا الذي اشتهر ليس بصحيح، فهي كغيرها من الأفعال: إثباتها إثبات، ونفيها نفي. فإذا قلت: كاد يفعل كذا، فإنها إذا كانت بمعنى قارب تدل بمادتها على أنه لم يفعل، لأن من قارب الشيء لم يدخل فيه.

وعلى هذا فإثباتها إثبات.

فهي أثبتت المقاربة. والمقاربة تدل على عدم الفعل.

(1)

سبق بيان هذه الأوجه في تفسير سورة يس ص (99).

ص: 119

وأما لم يكد يفعل كذا، فهذه تدل أيضًا على انتفاء الفعل، وأنه ما قارب أن يفعل هذا الشيء، لكن إن وجد قرينة تدل على الفعل مثِلِ:{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)} فالإثبات جاء من كلمة {فَذَبَحُوهَا} لا من كلمة {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)} .

ولهذا قال الله تعالي: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] فهل نقول إنه يراها؟ لا، بل نقول لا يقارب أن يراها يعني هذه الظلمات العظيمة لو تضع يدك إلى جنب عينك ما رأيتها. فهذا القول المشهور ليس بصحيح، بل نقول: إن (كاد) كغيرها من الأفعال إثباتها إثبات، ونفيها نفي، لكن معناها معنى قرب. قال:{إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56)} (اللام) هذه للتوكيد، لكن يعبر عنها بعض النحويين بقولهم: اللام فارقة، أو اللام لام الفرق، يعنون بذلك أنها تفرق بين "إن" النافية وبين "إن" المخففة من الثقيلة؛ لأنها إذا جاءت بعد "إن" فإنها تدل على أنها مخففة من الثقيلة وليست بنافية؛ لأن النفي لا يؤكد باللام.

وهل تجب هذه اللام الفارقة في خبر "إن"؟

نقول في هذا تفصيل: إن كان المعنى واضحًا فإنها لا تجب، وإن كان المعنى خفيًّا فإنها تجب أي إن احتمل السياق أن تكون "إن" للنفي وجب الإتيان بها باللام الفارقة، وإن لم يكن يحتمل لم يجب.

فقول الشاعر:

وإن مالك كانت كرام المعادن

ص: 120

هذه لم تأتِ بها اللام، لأن السياق يراد به مدح هؤلاء الجماعة أو هؤلاء القبيلة، والمدح لا يناسبه النفي، وإنما يناسبه الإثبات، لكن إذا قلت إن زيد قائم؛ وجب عليك الإتيان باللام فتقول: إن زيد لقائم لأنك لو لم تأتِ باللام لاحتمل أن يكون معنى قولك: إن زيد قائم. ما زيد قائم، ولهذا سماها بعض النحويين (لام الفرق) أو (اللام الفارقة).

ولهذا قال ابن مالك:

وخففت إن فقل العمل

وتلزم اللام إذا ما تهمل

وربما استغنى عنها إن بدا

ما ناطق أراده معتمدا

فبيّن رحمه الله أن اللام تلزم إذا أهملت، أما إذا أعملت فالأمر واضح.

وخلاصة هذه المسألة النحوية أن نقول: "إن" المخففة من الثقيلة تعمل ولكن عملها قليل، فإذا أهملت وجبت اللام في خبرها إلا إذا كان المعنى واضحًا. فإذا قلت: إن زيدًا قائمًا، لم تجب اللام، لأن إن النافية لا تنصب المبتدأ فالمعنى واضح أنها مخففة. وإذا قلت: إن زيد قائم، وجب الإتيان باللام لأنك لو حذفتها احتمل أن يكون للنفي وأن يكون للإثبات.

وإذا كان الرجل يمتدح شخصًا ويقول: إن زيد كريم، فلا يحتاج إلى اللام لأن المدح يقتضي أن تكون "إن" مخففة من الثقيلة لا نافية والله أعلم.

الفوائد:

1 -

كمال سرور أهل الجنة، وأنهم يتحادثون

ص: 121

ويتساءلون عما جرى في الدنيا، والتحدث عما جرى على الإنسان فيما سبق فيه لذة وراحة للنفس. أرأيت إذا تحدثت عن صباك ماذا تفعل وأنت صبي تجد في ذلك لذة وراحة ويذهب عنك الوقت وأنت لا تشعر به، فهم يتساءلون: ماذا حصل لنا في الدنيا؟ وكيف وصلنا إلى هذه النعمة؟ إلى غير ذلك من الأحاديث الممتعة الشيقة، ولهذا قال:{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50)} .

2 -

ومن فوائدها: كمال أدب أهل الجنة في أنهم عند المحادثة يقبل بعضهم على بعض لقوله: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50)} وهذا من كمال الأدب أن تقبل إلى محدثك خلافًا لمن عندهم سوء أدب تجده عند المحادثة: وهو على يمينك تصد عن اليسار، وأنت تسأل عن حاله، حتى مهما كان الأمر فإنه من سوء الأدب، ولو فرض أنك تنظر إلى اليسار لاشتغالك بأمر مهم كأنك تنظر إلي طفل صغير تخشى عليه أن يقع في بئر، أو ما أشبه ذلك فإننا نقول: لا تحدثه وأنت صادّ عنه، إذا فرغت من هذا النظر فأقبل عليه.

وهل يؤخذ من ذلك أن من سوء الأدب أن تسلم على الإنسان من ورائه؟ فأحيانًا يكون الإنسان واقفًا حوله جماعة يسلمون عليه كلهم أمامه، ولكن يأتي واحد من ورائه يسلم عليه، فهذا المسلم عليه بين أمرين: إما أن يقبل عليه فيستدبر الآخرين، وإما أن يبقى مستقبل الآخرين، ويسلم عليه مستدبرًا له. فنقول: ليس له حق أن يُسلم من ورائه. والناس يسلمون من أمامه، وأقول: إذا أردت أن تسلم فاذهب مع الناس، وربما أنه يريد أن

ص: 122

يتجاوز الآخرين حتى يسلم ويمشي، وأعتقد أنه من سوء الأدب مادام الناس كلهم مقبلين على الإنسان كيف تسلم عليه من وراء، فأنت تريد أن تقطع حديثه مع هؤلاء لأجل أن يقبل عليك. وإذا كان انتظار الدور معروفًا في مصالح الناس فليكن حتى في السلام.

وعلى كل حال كون أهل الجنة يقبل بعضهم على بعض يدل على أن الإنسان إذا أراد أن يحادث غيره فليكن مقبلًا عليه، أما أن يحادثه من وراء فهذا ليس من الأدب.

3 -

ومن فوائدها: جواز التحدث بنعمة الله، بل نقول جواز في الأصل وإلا فإن التحدث من الأمور المطلوبة، {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)} [الضحى: 11] لأن هذا الرجل تحدث عما أنعم الله به عليه من الهداية مع أنه كان له قرين يريد أن يغويه.

4 -

ومن فوائدها: جواز غيبة الشخص الداعي إلى الضلالة، من قوله:{إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} ولا شك أن هذا القرين يدعو إلى الكفر، فتجوز غيبة الداعي إلى الضلال أو الكفر في الدنيا، للمصلحة العظيمة وهي تحذير الناس منه، حتى لا يقعوا في شركه.

5 -

فيها أيضًا من الفوائد: أن دعاة الضلال يأتون بالشبه التي توجب ضلال الناس، لأن هذا الداعية إلى الضلال يقول:{أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53)} فيلبس عليه ويقول: كيف يبعث من كان ترابًا وعظامًا من أجل أن يجازى؟ ! ولا شك أن مثل هذه الشبهة تنطلي على عامة الناس.

ص: 123

ويتفرع على هذه الفائدة: أنه يجب الحذر من تشبيه أهل الضلال، وأن لا تدخل شبههم إلى قلب الإنسان، وقد ذكر ابن القيم عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمهما الله- أنه قال: اجعل قلبك بمنزلة الزجاجة الصافية، أو القارورة الصافية، ولا تجعله كالإسفنج يتشرب كل ما ورد عليه.

لأن الزجاجة الصافية يرى الشيء من ورائها صافيًا، ولكن ما يدخل إليها شيء، لو تضعها وسط الماء ما دخل إليها شيء، لكن الإسفنج يتشرب ويقبل كل ما يرد عليه ولو نقطة واحدة انتفخ منها، فالإنسان يجب عليه أن لا يتشرب الشبهات، وأن يكون قلبه صافيًا خالصًا لا يدخل إليه شيء من هذه الأشياء.

فإن قال قائل: قد لا أملك هذا الأمر فما موقفي إذا أورد عليَّ شخص شبهة من الشبه؟

الجواب على ذلك أن نقول: إن إيراد شيطان الإنس للشبه كإيراد شيطان الجن، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم إذا وردت على قلب الإنسان شبهات أن ينتهي عنها، وأن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم

(1)

، وعلى هذا فالدواء أن أقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وأقوم عن المكان ولا أبقى في جدال وصراع، وليس عندي علم أدفع به شبهاته، بل أقوم عن المجلس، أما أن أبقى وأنا ليس عندي علم أدفع به الشبهات فإنه ربما يؤثر عليّ، والقيام من هذا المكان الذي تلقى فيه الشبهات هو الإعراض، أو الانتهاء

(1)

أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده (رقم 3276) ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها (رقم 134)(214).

ص: 124

الذي أمر به النبي عليه الصلاة والسلام من ورد على قلبه شيء من الشبهات.

6 -

ومن فوائد الآيات: أنه قد يكون أعدى عدو للإنسان من كان مقارنًا له، لقوله:{إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51)} .

ويتفرع على هذه الفائدة:

7 -

الاحتراس من القرناء، وألا نلقي إليهم بالمودة والإسرار إلا بعد أن نخبر حالهم؛ لأن كثيرًا من الناس يتلطف إليك ويمشي معك لا من أجل أن يستفيد منك ولا من أجل أن تستفيد منه، بل من أجل أن يرى ما عندك فيقومك إما فى نفسه وإما عند غيره.

فليس كل قرين للإنسان يكون ناصحًا له. بدليل هذا {لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52)} فاحذر القرناء لا تركن إليهم إلا بعد أن تعرف صدق نصحهم ومودتهم، وحينئذ فالإنسان مدني بالطبع، لابد للإنسان من قرين وصاحب يشكو إليه أموره، ويفضي إليه بأسراره، ويستشيره في أموره، لابد من هذا، لكن احذر، لا تركن إلى شخص إلا وقد عرفت صدقه.

8 -

ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات الجزاء، لقوله:{أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53)} أي مجزيون ومحاسبون كما مر.

9 -

ومن فوائد قوله تعالى: {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)} أن هذا الذي أنعم الله عليه بالنجاة يطلب من إخوانه في الجنة ويعرض عليهم الاطلاع من أجل معرفة قدر نعمة الله عليهم، فإن الشيء لا يتبين إلا بضده.

ص: 125

هذه فائدة نقول في خلاصتها: إنه يندب للإنسان أن ينظر في ضلال من ضل ليتبين في ذلك قدر نعمة الله عليه في الهداية. فإن الأشياء إنما تتبين بضدها.

10 -

ومن فوائدها: أن أحوال يوم القيامة لا تقاس بأحوال الدنيا، فإن هذا ينظر من أعلى عليين إلى أسفل السافلين، فيرى صاحبه في سواء الجحيم.

فيتفرع على هذه الفائدة: أن كل ما ورد من أحوال يوم القيامة مما تستبعده النفوس لعدم مشاهدة نظيره في الدنيا لا ينبغي أن يكون محل استبعاد، فمثلًا ثبت في الصحيح أن الشمس تدنو من الخلائق يوم القيامة بمقدار ميل

(1)

. ولو أن الشمس دنت إلى الخلائق في هذه الدنيا من ذلك لأحرقتهم، لا يقول قائل: كيف يمكن أن يبقوا والشمس تدنو منهم إلى هذا الحد؟ ! كذلك أيضًا ورد أن الناس يختلفون يوم القيامة بالنسبة للعرق. فمنهم يبلغ كعبيه، ومنهم من يبلغ ركبتيه، ومنهم من يبلغ حقويه، ومنهم من يلجمه

(2)

، وهم في مكان واحد ربما يستبعد الإنسان وجود هذا، لأنه لا يشاهد نظيره في الدنيا، فنقول: لا تستبعد؛ لأن أحوال الآخرة ليست كأحوال الدنيا. ففي يوم القيامة المؤمنون نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم. والكافرون في ظلمة، والمكان واحد فلا يستفيد هؤلاء من نور هؤلاء، مع أنه في الدنيا لو كان

(1)

أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب الأرواح جنود مجندة. (رقم 3340) ومسلم، كتاب الجنة، باب في صفة يوم القيامة

(رقم 2864).

(2)

أخرجه مسلم، كتاب الجنة، باب في صفة يوم القيامة

رقم (2864).

ص: 126

أحدنا معه نور في يده ليضيء طريقه لانتفع به من كان حوله، فلا تستبعد في الآخرة أن يكون مثل هذا الأمر. لأن أحوال الآخرة لا تقاس بأحوال الدنيا، فهذا الرجل ينظر من أعلى عليين إلى أسفل السافلين، فيرى صاحبه، {فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55)} .

11 -

ومن فوائدها أيضًا: أن هذا المطلع يخاطب صاحبه في أسفل السافلين، ويكلمه، فكل واحد منهم يخاطب الآخر، وهذا أيضًا لا يجوز أن يستبعد؛ لأن أحوال الآخرة غير أحوال الدنيا، ولأننا ربما شاهدنا في هذه الدنيا ما يشابه هذه الحال بواسطة الاتصالات الحديثة، فالإنسان قد يخاطب صاحبه وهو في مشرق الأرض والآخر في مغربها ويخاطبه وينظر إليه.

12 -

ومن فوائدها: بيان توبيخ هؤلاء المفسدين في يوم القيامة، لأنه وبخهم بقوله:{تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56)} وقد جاء في آية أخرى بأنه يوم القيامة يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضًا، قال الله تعالى:{ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: 38].

13 -

ومن فوائدها: أن هذا القرين السيئ كان يحاول بكل جهده أن يهلك صاحبه، ولهذا من شدة دعايته كاد أن يهلك هذا {إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56)} .

14 -

ومن فوائدها: أن الهلاك الحقيقي هو هلاك الدين؛ لأنه وصف ذلك بالردى {إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56)} وهذا هو الحق، فإن الهلاك الحقيقي هو هلاك الدين، أما الدنيا فإنها إنما خلقت للفناء، وما خُلق الناس للبقاء في الدنيا {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)} .

ص: 127

[الرحمن: 26]{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)} . [الأنبياء: 34]{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57)} [العنكبوت: 57] فالهلاك الحقيقي هو هلاك الدين: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)} [الزمر: 15].

* * *

قال الله تعالى: {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)} لولا: حرف امتناع لوجود. إذا قلت: لولا زيد لقمت. امتنع القيام لوجود زيد. لأنها حرف امتناع لوجود.

{وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي} قلنا: إن لولا حرف امتناع لوجود. فالموجود النعمة، والممتنع: كونه من المحضرين.

قال أهل النحو: ولولا: خبر المبتدأ بعدها يحذف وجوبًا فى الغالب. قال ابن مالك: وبعد لولا غالبًا حذف الخبر حتم.

إذًا (نعمة) مبتدأ والخبر محذوف، وتقديره: ولولا نعمة ربي عليّ، أو كائنة أو ما أشبه ذلك.

{نِعْمَةُ رَبِّي} . النعمة: هي ما يكون بالإنعام، أي أثر إنعام الله عز وجل على العبد، وتنقسم إلى قسمين: نعمة عامة، ونعمة خاصة:

أما النعمة العامة فهي الشاملة لكل أحد من المؤمن والكافر، والبر والفاجر، فكل الناس يعيشون بنعمة الله عز وجل، وأما النعمة الخاصة فهرو التي أنعم الله بها على المؤمنين، ومنها قوله تعالى:{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] ثم هذه

ص: 128

النعمة الخاصة أيضًا فيها ما هو أخص، وهي نعمة الله على الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، ومنها قوله تعالى:{مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)} [القلم: 2] فإن هذه النعمة أخص النعم.

والنعمة في هذه الآية {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي} من الخاصة؛ لأن نعمة الله العامة كائنة حتى على هذا القرين الرديء، ولكن هذه نعمة خاصة.

قال المؤلف رحمه الله: [{وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي} عليَّ بالإيمان لكنت من المحضرين معك في النار]. اللام واقعة في جواب لولا، لأن (لكنت) هي جواب لولا، {لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)} معك في النار. وإن شئت فقل: لكنت من المحضرين معك في العذاب، ليكون أشد، فإن العذاب أعم وأشد من عذاب النار، وإن كان من في النار فهو معذب -والعياذ بالله-.

قوله: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى} الهمزة في {أَفَمَا} للاستفهام، والفاء: عاطفة و (ما): نافية حجازية ترفع الاسم وتنصب الخبر، وهي هنا عاملة لتمام الشروط.

{أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58)} هذا الاستفهام يقول المؤلف: رحمه الله[هو استفهام تلذذ وتحدث بنعمة الله تعالى من تأبيد الحياة وعدم التعذيب]. أي: أنهم يتلذذون بانتفاء الموت عنهم، ولا شك أن انتفاء الموت والخلود والتأبيد من أكبر ما يسر به الإنسان. ولهذا جاء في الحديث: "أنه إذا كان يوم القيامة جيء بالموت على صورة كبش فيوقف بين الجنة والنار، وينادى هؤلاء وهؤلاء فيقال لهم: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا

ص: 129

الموت، فيذبح، ويقال: يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت، فيزداد أهل النار غمًّا إلى غمهم، ويزداد أهل الجنة فرحًا إلى فرحهم"

(1)

لأنهم أمنوا من الموت، فهنا يتحدثون بهذه النعمة، وهي انتفاء الموت عنهم {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58)} .

{إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى} هذا الاستثناء كقوله تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56)} [الدخان: 56] وعلى هذا فالاستثناء منقطع، يعني لكن موتتنا الأولى حصلت وتمت في الدنيا.

وقوله: {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59)} معطوفة على: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58)} أي: وكذلك ما نحن بمعذبين، فانتفى عنهم الموت المستلزم للتأبيد، والعذاب المستلزم للتنعيم.

{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60)} .

{إِنَّ هَذَا} المشار إليه ما ذكر من النعيم لأهل الجنة، ومنه انتفاء الموت والتعذيب {لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60)}. اللام: مؤكدة وإن: مؤكدة وهو: ضمير فصل. وعلى هذه فتكون هذه الجملة مؤكدة بثلاث مؤكدات "إن"، و"اللام" و"ضمير الفصل" ثم إن المبتدأ والخبر كلاهما معرفة، فيدل على أن هذا الفوز فوز خاص بأهل الجنة. {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ} الخاص على هذا الوجه هو الفوز

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار (رقم 6548)، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء (رقم 2850)(43).

ص: 130

العظيم، فإذا قيل: ما هو الفوز؟ قلنا: إن الفوز هو حصول المطلوب وزوال المرهوب.

وقوله: {الْعَظِيمُ (60)} مأخوذ من العظمة، لأنه لا فوز أعظم من ذلك، قال الله تعالى:{فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185].

وبهذه المناسبة أنبه إلى أن ضمير الفصل له ثلاث فوائد:

1 -

التوكيد.

2 -

الحصر.

3 -

التمييز بين الخبر والصفة، لأنك إذا قلت مثلًا:(زيد فاضل) فإن الفاضل يحتمل أن تكون صفة وتكون خبرًا، فإذا قلت:(زيد هو الفاضل) تعين أن تكون خبرًا، وحصل بذلك التمييز بين الخبر والصفة، ثم قال عز وجل:{لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)} لمثل هذا المشار إليه ما ذكر من النعيم، وقوله:{لِمِثْلِ هَذَا} قال بعضهم: إن (مثل) هنا زائدة أي: لهذا فليعمل.

وقيل: بل هي غير زائدة أصلية، وأن (مثل) يؤتى بها للتعظيم والمبالغة، فإذا كان الإنسان يطلب منه أن يعمل العمل لمثل هذا، فما بالك بنفس هذا.

يقولون: إن المثل ملحق بمثيله إلحاقًا، كالمشبه ملحق بالمشبه به. فمرتبة المشبه به أعلى من مرتبة المشبه.

المثيل الذي قيل هذا مثل هذا أعلى من مماثله، لأنك إذا قلت هذا مثل هذا، فقد ألحقت الأول بالثاني. فإذا قيل لمثل هذا وصار الإنسان مطلوبًا منه أن يعمل لمثل هذا الشيء، فطلبه أن

ص: 131

يعمل لهذا الشيء نفسه من باب أولى. فيقولون: إن هذا من باب التوكيد، وهذا كقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . [الشورى: 11].

فإن مثل ليست بزائدة، ولكنه جئ بها للمبالغة إذا كان مثله سبحانه وتعالى -لو فرض له مثل- لا يماثله شيء، فما بالك به هو نفسه؟ فيكون هذا من باب التوكيد.

إذًا: (لمثل هذا) نقول هذا من باب التوكيد والمبالغة أي: أن الإنسان مطلوب منه أن يعمل لمثل هذا، فكيف بنفس هذا الشيء، فتكون مثل على هذا ليست بزائدة، بل هي أصلية، وفائدتها، التوكيد والمبالغة. ولهذا يقال للشخص: مثلك لا يبخل، ويريدون هو لا يبخل لكن أتوا بمثل من باب المبالغة يعني إذا كان المتشبه بك لا يبخل فأنت: من باب أولى وأحرى، فمثل هذا التركيب في اللغة العربية يقصد به المبالغة وليس هناك زيادة.

إذا لمثل هذا الفوز العظيم النبيل والنعيم العظيم {فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} و (الفاء) عاطفة و (اللام) لام الأمر.

وقوله: {فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)} أى: بشرع الله فإن هذا لو تذهب فى النفوس والأنفاس والنفائس لكان ذلك رخيصًا فى جانب هذا الفوز العظيم. فالواحد منا يسعى جهده ليحصل الدرهم والدينار فيشبع فى بطنه، ويكسو به عورته، وينعم به بدنه ذلك النعيم الزائف الزائل، وتجده يسهر في الليل ويتعب فى النهار من أجل الوصول إلى هذا الغرض لكن ثواب الآخرة أعظم

ص: 132

وأعظم ومع ذلك فعملنا قليل، وقد وبخنا الله عز وجل بقوله-:{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} [الأعلى: 16 - 17] فالذي ينبغي له العمل حقيقة بل الذي يجب على العاقل أن يعمل له هو ثواب الآخرة.

وهذه الآية {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)} كقوله تعالى {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} [المطففين: 26] هذا هو محل التنافس، وهذا هو محل العمل، وهو الجدير بذلك.

{لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)} قال المؤلف رحمه الله: [قيل: يقال لهم ذلك، وقيل هم يقولونه] وعلى كل حال فسواء هم الذين يقولونه، أو يقال لهم فإنه يفيد أن هذا الجزاء وهذا النعيم، وهذا الفوز هو الذي ينبغي أن تفنى فيه النفوس والأنفاس والنفائس.

الفوائد:

1 -

أن التحدث بنعمة الله عز وجل مشروع ومأمور به بشرط أن يكون المقصود به الثناء على الله تعالى لا الافتخار على عباد الله.

2 -

ومن فوائدها: أن نجاة الإنسان من عذاب الله من أكبر النعم، ولهذا قال {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي} ويدل ذلك أيضًا قوله تعالى:{الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا} [المائدة: 3] حيث جعل إكمال الدين من إتمام النعمة، وبالدين تكون النجاة من النار والفوز بدار القرار، فمن أكبر النعم بلا شك بل هي أكبر النعم أن يمن الله على الإنسان بالنجاة من النار ودخول الجنة.

ص: 133

3 -

ومن فوائدها: أن هذا المؤمن قال: {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي} فأضاف الربوبية إلى الله، وهذه الربوبية من الربوبيات الخاصة، وقد مرَّ علينا أن الربوبية عامة وخاصة، وقد اجتمع في قوله تعالى:{قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48)} [الشعراء: 47 - 48] الأولى عامة، والثانية خاصة، والربوبية الخاصة تقتضي تربية أخص من الربوبية العامة، لأن الله تعالى يربي هذا العبد تربية خاصة أكثر من الربوبية العامة.

4 -

ومن فوائدها: جواز إضافة الشيء إلى سببه، لقوله:{وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي} ولم يقل: ولولا ربي.

لكن قد يقول قائل: إن نعمة الله عز وجل إذا كان المراد بها فعل الله فهي من صفات الله فإضافة الشيء إليها كإضافته إلى الله، لقول النبي عليه الصلاة والسلام:"إلا أن يتغمدني الله برحمته"

(1)

. لكن إضافة الشيء إلى سببه على أقسام:

القسم الأول: أن يكون السبب معلومًا حقيقة حسًا أو شرعًا فنقول مثلًا: لولا فلان أنقذني من الغرق لهلكت. ولا بأس بذلك، لكن بشرط أن تشعر في قلبك أن فلانًا قد سخره الله لك ولم يستقل بفعله، ومن ذلك أي: من إضافة الشيء إلى سببه المعلوم قول النبي عليه الصلاة والسلام في عمه أبي طالب: "لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار"

(2)

فقال: "لولا أنا"

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل (رقم 6463) ومسلم، كتاب صفات المنافقين، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى (رقم 2816)(71).

(2)

أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار، باب قصة أبي طالب (رقم 3883)، ومسلم =

ص: 134

فأضاف الشيء إلى السبب المعلوم.

القسم الثاني: أن نضيف الشيء إلى الله تعالى وإلى سببه المعلوم فهذا جائز، ولكن بشرط أن يكون معطوفًا بحرف لا يقتضي التسوية، فلا يقول: لولا الله وفلان؛ لأن هذا شرك، لقول النبي عليه الصلاة والسلام للرجل الذي قال له ما شاء الله وشئت:"أجعلتني لله ندًا؟ "

(1)

لأن الواو تقتضي التسوية، فلا يجوز أن يسوى غير الله بالله، بل هو شرك، لكنه شرك أصغر إن كان شركًا لفظيًا، وأكبر إن اعتقد أن هذا السبب مساوٍ لله سبحانه وتعالى في حصول المسبب؛ لأنه إذا جعل شيئًا غير الله مساويًا له فهو شرك أكبر.

أما إذا أضيف بحرف لا يقتضي التسوية بل يقتضي الترتيب، فهذا نوعان: نوع جائز لا إشكال فيه، ونوع فيه بعض الشبهة، فإذا عطف بثم مثل: لولا الله ثم فلان فهذا جائز لا إشكال فيه؛ لأنك جعلت فلانًا تابعًا تبعية متأخرة، حيث عطفته بثم الدالة على التراخي.

أما إذا عطفته بفاء التي تقتضي الترتيب والتعقيب مثل: لولا الله ففلان. فهذا محل نظر، لكن الأقرب أنه جائز؛ لأنك أتيت بالفاء الدالة على الترتيب.

القسم الثالث: أن تضيفه إلى الله عز وجل وحده،

= في كتاب الإيمان، باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب والتخفيف عنه بسببه (رقم 209)(357).

(1)

(أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (رقم 988)، وأحمد في المسند (1/ 214، 283، 347).

ص: 135

وتغفل السبب بالكلية، فتقول: لولا الله لهلكت فهذا جائز.

القسم الرابع: أن تضيفه إلى الله بذكر السبب وتبين أن السبب مجرد سبب، مثل أن تقول: لولا أن الله أنقذني بفلان لهلكت، فهذا جائز.

القسم الخامس: أن يضيفه إلى سبب غير معلوم لا شرعًا ولا حسًّا فهذا شرك، لكن قد يكون أكبر وقد يكون أصغر.

فإذا قال: لولا فلان، يعني صاحب القبر أنقذني لهلكت فهذا شرك أكبر؛ لأن فلانًا لا يستطيع أن ينقذ.

وإن أضافه إلى سبب غير معلوم شرعًا ولا عرفًا ولا حسًّا لكنه ليس كالأول مثل: التمائم المعلقة على المريض من غير القرآن، فهذا شرك لكنه أصغر وليس بأكبر.

وهذا {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي} إذا كان المراد بذلك فعل الله فهو من باب إضافة الشيء إلى فعل الله، وهو كإضافته إلى الله عز وجل.

وإن كان المقصود بذلك المنعم به فهو إضافة إلى شيء مخلوق، لكنه سبب صحيح، وإضافة الشيء إلى سببه الصحيح جائز.

5 -

ومن فوائد الآيات: أن أهل الجنة لا يموتون فيها، لقوله:{أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى} وهذا غاية ما يكون من النعيم، نعيم لا يشوبه تنغيص؛ لأن نعيم الدنيا مهما بلغ يشوبه التنغيص: إذا ذكر الإنسان أن هذا النعيم سوف يزول، أو يزول هو عنه، لا شك أنه يتكدر عليه صفوه، ولهذا قال الشاعر:

ص: 136

لا طيب للعيش ما دامت منغصة لذاته

بادّكار الموت والهرم

مادام الإنسان يتذكر إما موت وإما هرم فإن العيش لن يطيب له، لكن من نعمة الله أن الإنسان يغفل عن هذا الشيء ولا يتذكر إلا الحالة التي هو عليها. لكن العاقل يكون حازمًا فيعمل لمستقبله.

فإذا قال قائل: هل لهذه الآية نظير في القرآن؟

فالجواب: نعم، قوله عز وجل:{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56)} [الدخان: 56] والاستثناء في هذه الآية كالاستثناء في الأولى، أي أنه منقطع. يعني لكن الموتة الأولى قد ذاقوها.

وقد يقول قائل: إن الاستثناء فيها متصل. وإذا قيل ما وجهه؟ قلنا: إن قوله: {إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى} استثناء من حال هؤلاء الذين قال الله عنهم: إنهم لا يذوقون الموت، لأن نعيم أهل الجنة متصل آخره بأوله، فإن أهل الجنة منعمون حتى في الدنيا. لقوله تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل: 97] فلا تظن أن الحياة الطيبة للمؤمنين في الآخرة فقط، بل هي في الآخرة وفي الدنيا أيضًا. لكن المشهور أن الاستثناء منقطع.

6 -

من فوائدها: انتفاء التعذيب عن أهل الجنة {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59)} ومن المعلوم أن هذه صفة سلبية، والصفة السلبية

ص: 137

في مقام المدح لابد أن تتضمن ثبوتًا؛ لأن الصفة السلبية في غير مقام المدح ليست مدحًا، فإنه قد يقال: الجدار لا يُعذب. وليس في هذا مدح للجدار. فلابد أن تكون هذه الصفة متضمنة لثبوت كمال، فما هو كمال النعيم؟ لما ذكروا انتفاء الموت فزال عنهم التنغيص به ذكروا أيضًا انتفاء التعذيب؛ لأن الإنسان قد يبقى في حياته معذبًا، فقالوا:{وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59)} لكمال حياتهم وكمال نعيمهم، أنهم لا يلحقهم مع البقاء تعذيب.

7 -

من فوائد قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60)} أن الفوز حقيقة هو الوصول إلى دار كرامة الله عز وجل فيترتب على هذه الفائدة: أن الإنسان مهما فاز في الدنيا فإن فوزه ليس بشيء بالنسبة إلى فوز الآخرة، لأنه قال:{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60)} .

ولهذا نظير في القرآن مثل قوله: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185] هذا الفوز ليس بحصول المال ولا الجاه ولا الرئاسة ولا بحصول الأولاد ولا الزوجات، الفوز حقيقة هو الوصول إلى دار النعيم المقيم. أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم ممن وصلها.

8 -

ومن الفوائد: أن الذي ينبغي أن يعمل له العامل، ويكدح له الكادح، ويتعب فيه التاعب هو هذا النعيم، لقوله:{لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)} فغيره لا تعمل ولا تتعب نفسك في أمر لا ينفعك في الآخرة، وليس معنى هذا أن نقول: لا تعمل

ص: 138

للدنيا، بل اعمل للدنيا لكن اجعل عملك في الدنيا من أعمال الآخرة.

فكيف يمكن هذا؟ يمكن تطلب المال من أجل أن تتعفف به عن الناس، من أجل الإنفاق على أهلك، تطلبه من أجل الصدقة به، تطلبه من أجل الاستعانة به في طلب العلم، تطلبه من أجل الجهاد في سبيل الله، فيكون طلب الدنيا طلب الآخرة ويكون هذا العمل عملًا للوصول إلى الجنة.

9 -

ومن فوائدها: وصف غير الله تعالى بالعظم فيقال العظيم للشيء العظيم، أيًّا كان، ويدل على ذلك قوله تعالى:{وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)} [النمل: 23] ويدل عليه أيضًا أن الله وصف العرش بأنه عظيم {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)} [النمل: 26] وعلى هذا فالصفات التي يشترك فيها الخالق والمخلوق لا بأس أن يوصف بها المخلوق، ولكن يجب أن يعلم بأن بين وصف المخلوق بها ووصف الخالق بها كما بين ذات الخالق وذات المخلوق، وأنه لا يلزم من الاشتراك في الاسم الاتفاق في المسمى.

10 -

ومن الفوائد: سفه أولئك القوم الذين يعملون للدنيا دون الآخرة؛ لأن الله تعالى قال: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)} فالذين يعملون للدنيا وهم في غفلة عن الآخرة لا شك أنهم سفهاء، وأنهم أمضوا أعمارهم فيما ليس فيه فائدة، بل فيما فيه خسارة، وقد قال الله تعالى: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ

ص: 139

دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)} [المؤمنون: 63] يحكي الله تعالى عن الكفار بأن قلوبهم في غمرة، يعني مغمورة، وأتي بفي الدالة على الظرفية، للدلالة. على أن الغمرة -والعياذ بالله- قد أحاطت بهذه القلوب، في غمرة من هذا، لكن أعمال الدنيا {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)} . لا يعملون لغيرها وهي من دون ذلك، وأتى بمن الدّالة على البعد في الدون عما خلق له الإنسان، هؤلاء قلوبهم في غمرة مما وعد الله به أهل الجنة، وتوعد به أهل النار، لكن أعمال الدنيا التي هي دون ذلك بمراحل كثيرة هم لها عاملون وهذا كقوله تعالى في توبيخ من يعذب يوم القيامة:{لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)} [ق: 22] في الدنيا في غفلة عن اليوم الآخر، ولا كأن هذا اليوم سيأتي، أما اليوم فقد كشف عنك الغطاء، فبصرك حديد قوي، تبصر الأشياء على حقيقتها في الآخرة، فهنا أمر الله أن نعمل لهذا، {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)} وأما ما دون هذا فلا ينبغي للإنسان اتعاقل أن يفني عمره ويتعب جسده وفكره في العمل له.

فإذا قال قائل: هل معنى ذلك أن أترك العمل للدنيا؟ فالجواب، لا. ولو قلنا بهذا لكان قول الله تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)} [الملك: 15] وكان قوله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 25] وكان قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] كل هذا كلام عبث ولغو، بل نقول: اعمل للدنيا، لكن الموفق يستطيع أن

ص: 140

يجعل عمل الدنيا عملًا للآخرة. والغافل بالعكس يجعل عمل الآخرة عملًا للدنيا.

11 -

ومنها أن أهل الجنة لا ينامون؛ لأن النوم يحتاج إليه الإنسان من أجل أن يستعد لنشاط المستقبل، وأن يستريح من تعب الماضي، وأما أهل الجنة فلا ينامون لكمال حياتهم، فليس عندهم تعب، {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)} [الحجر: 48] فهم لا ينامون لأنهم لا يحتاجون إليه، ولأن النوم يصد عن النعيم والتنعم بما أعد الله لهم.

12 -

ما أشرنا إليه آنفًا في قوله: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)} :

أنه ينبغي للعاقل أن يذهب أنفاسه ونفيسه ونفسه في العمل لهذه الغاية الحميدة، {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)} .

13 -

ومن فوائدها: الإشارة إلى أن العمل لغير هذا ليس من الحكمة وليس من العقل، بل العقل والحكمة يقتضي أن يكون عمله للغاية العظيمة: للوصول إلى الجنة.

14 -

في الآية رد على الجبرية حيث وجه الأمر إليهم ونسب العمل إليهم؛ لأن الأمر بالشيء لمن لا يستطيعه لا شك أنه ظلم وتكليف بما لا يطاق، وإثبات العمل أيضًا لمن لا إرادة له يعتبر مدحًا لغوًا، لأن هؤلاء إذا كانوا مجبرين فلا ينبغي أن يُمدحوا على محبوب ولا أن يذموا على مكروه.

ص: 141

قال الله تعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)} قال المؤلف رحمه الله: [المذكور لهم {خَيْرٌ نُزُلًا} وهو ما يعد للنازل من ضيف وغيره {أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)}].

(أم) هنا متصلة و (أم) المتصلة هي التي تذكر بين متعادلين، ويحل محلها "أو".

والمنقطعة التي تذكر يينِ شيئين متجانبين، ويحل محلها "بل" مثل {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32)} . قوله {أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32)} بمعنى بل، أي: لا تأمرهم أحلامهم بهذا، ولكن هم قوم طاغون.

{أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)} .

الجواب: ذلك بلا شك، ولكنه ذكر إما على سبيل التهكم بمن تنعموا في الدنيا ونسوا نعيم الآخرة، وإلا فلا أحد يشكل عليه أن ذلك خير من شجرة الزقوم، وهو كقوله تعالى:{آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)} [النمل: 59] فإنه من المعلوم لكل أحد أن الله خير، لكن هذا ذكر على سبيل التهكم بهِؤلاء، وأن معبوداتهم ليس فيها خير إطلاقًا. {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا} {أَذَلِكَ خَيْرٌ} مبتدأ وخبر. {نُزُلًا} تميز؛ لأنها جاءت بعد اسم التفضيل، فإن خير اسم تفضيل، حذفت منها الهمزة لكثرة الاستعمال، وأصل خير "أخير"، مثل شر أصلها "أشر"، {نُزُلًا}. النزل: هو ما يعد للضيف من التكرمة: كالأكل والشرب والفراش والمسكن وما أشبه ذلك، {أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)} قال المؤلف رحمه الله: [المعدّة لأهل النار، وهي من أخبث الشجر المرّ بتهامة، ينبتها الله في الجحيم

ص: 142

كما سيأتي]. شجرة الزقوم: شجرة خبيثة المنظر، كريهة الرائحة، مرة الطعم، إن نظر إليها إنسان لم يسر بها، وإن تذوقها فهي مرة، وإن شمها فهي كريهة، فهي إذًا بشعة المذاق، كريهة الرائحة، مشوهة المنظر، ومع ذلك إذا وصلت إلى بطونهم فإنها لا تفيدهم شيئًا فهي لا تسمن ولا تغني من جوع، ومع ذلك فإنها تزيدهم التهابًا وعطشًا -والعياذ بالله- كما ذكر الله تعالى في آية أخرى.

وسميت شجرة الزقوم قال العلماء: لأنهم يتزقمونها تزقمًا، أي: يتجرعونها تجرعًا؛ لأنها كريهة، لكن يحملهم عليها الجوع -والعياذ بالله- فيظنون أن هذه تسمن أو تغني من الجوع، وهي لا تسمن ولا تغني من جوع، فيتزقمونها تزقمًا. والعياذ بالله.

الفوائد:

1 -

من فوائدها: التهكم بعقول هؤلاء الذين يفضلون عمل الدنيا على عمل الآخرة. حيث قال: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)} ولا شك أن الجواب عند كل إنسان أن يقول: ذلك خير.

2 -

ومن فوائدها: إقامة الدليل على ضلال الإنسان بالغاية التي يؤول إليها أمره، فهؤلاء الذين فضلوا طريق أصحاب الجحيم اختاروا أن يكون نزلهم يوم القيامة شجرة الزقوم، ولا شك أن هذا ضلال بيّن، وسفه بعيد.

3 -

ومن فوائدها: إثبات الجزاء يوم القيامة؛ لأن شجرة الزقوم تكون في يوم القيامة.

ص: 143

4 -

ومن فوائدها: القدح والثناء بالسوء على هذه الشجرة، لأنه وصفها بأنها شجرة زقوم يتزقمها الإنسان تزقمًا يعني يبتلعها ابتلاعًا مكروهًا؛ لأنها -أي هذه الشجرة- كريهة المنظر، مرة الطعم، قبيحة الرائحة، ولهذا يتكرهونها لكن لضرورتهم إليها وشدة جوعهم يأكلونها.

* * *

قال الله عز وجل: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63)} قال المؤلف رحمه الله: [أي للكافرين من أهل مكة، إذ قالوا: النار تحرق الشجر فكيف تنبته].

شجرة الزقوم جعلها الله فتنة للظالمين أي اختبارًا يُختبرون بها، وفتنة أي سببًا للضلال، لأن الفتنة تطلق على الاختبار وتطلق على ما كان سببًا للضلال، {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج: 10] أي كانوا سببًا في إضلالهم، ويقول الله تعالى:{وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ} [الدخان: 17] أي اختبرناهم. أو إن شئت قل أضللناهم؛ لأن الله اختبر آل فرعون ولكنهم ضلوا -والعياذ بالله- فأضلهم الله.

{فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63)} أي: اختبارًا لهم وسببًا لضلالهم، اختبارًا لهم لأنهم لو آمنوا لصدقوا ولم يعترضوا، وسببًا لضلالهم لأنها جعلتهم يتخذون من هذا طعنًا فيما أخبر به الرسول عليه الصلاة والسلام، يقولون: هذا محمد يزعم أن الأشجار تنبت في النار، والعادة أن النار تحرق الأشجار فكيف تنبت في النار؟ ! ومعلوم أن الجواب على هذا يسير بالنسبة لنا، نقول: إن الله على

ص: 144

كل شيء قدير، وهي شجرة نارية توافق طبيعتها النار ولا تناقضها، قال الله عز وجل:{إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63)} المراد بالظالمين هنا الكفار، ولا شك أن الكفر ظلم، قال تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [لقمان: 13] ومعلوم أيضًا أن الظلم يختلف، فهو درجات متفاوتة عظيمة، منها ما يصل إلى الكفر، ومنها ما يصل إلى الفسق، ومنها ما هو دون ذلك.

سؤال: يقول بعض الناس: كيف يعذب الله إبليس وهو مخلوق من النار في النار؟ .

الجواب أن يقال: إنّ مادته لم تجعله نارًا. كما أن مادة الطين لم تجعل الآدمي طينًا.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: بيان الحكمة في مخلوقات الله عز وجل، وأنه سبحانه وتعالى قد يفتن العبد بما يظهره من آياته.

2 -

ومن فوائدها: أن المكذب بما أخبر الله به يعتبر من المفتونين الذين فتنهم الله عز وجل وأضلهم.

3 -

ومن فوائدها أيضًا: أن ذلك من الظلم، ولكن هذا الظلم هل هو ظلم لله ورسله أو ظلم لأنفسهم؟ .

الجواب: أنه ظلم لأنفسهم {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)} [البقرة: 57] فكل من حاد عن الصراط المستقيم فإنه ظالم لنفسه، لأن الواجب عليه أن يحسن رعاية هذه النفس،

ص: 145

فيقودها إلى ما فيه الخير والصلاح، ويذودها عما فيه الشر والفساد، وإذا كان الإنسان يجب عليه أن يرعى من ولاه الله عليهم من بني آدم ومن البهائم، فوجوب رعاية نفسه من باب أولى، ولهذا بدأ بالنفس في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} . [التحريم: 6].

4 -

ومن فوائد الآية: إطلاق الظلم على الكفر، مع أن الظلم أعم من الكفر، ولكن المراد به هنا الظلم المطلق الذي أشار الله إليه في قوله:{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)} [البقره: 254] فالظلم المطلق هو ظلم الكافر، والظلم المقيد هو ظلم الفاسق، فالمعاصي ظلم لكنها ظلم مقيد، فمثلًا يقال: هذا ظالم نفسه بأكل الربا، هذا ظالم نفسه بفعل الزنا، هذا ظالم نفسه بالاعتداء على الخلق، وهكذا، أما الظلم المطلق فهو ظلم الكافر؛ لأن الكافر -والعياذ بالله- لم يأتِ بعدل إطلاقًا حتى يقال: إن ظلمه ظلم مقيد.

{إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64)} هذه الجمل عن شجرة الزقوم بينها انقطاع بلاغي؛ لأن الاتصال هو العطف بالواو، وهنا كل جملة مستقلة، والحكمة من ذلك من أجل أن يعلم الإنسان عن هذه الشجرة من كل آية بصفة مستقلة، كأن كل صفة مستقلة تغني عن بقية الصفات. فكونها فتنة للظالمين هذا من أعظم ما يكون من الأوصاف التي يخاف منها عند إنكار هذه الشجرة، {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64)} قال المؤلف رحمه الله[أي: قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها]،

ص: 146

وهل هذه الشجرة واحدة للشخص، أو هي واحدة بالنوع والجنس؟

في ذلك احتمالان:

الأول: يحتمل أنها شجرة كبيرة تملأ النار كلها، ويتفرع منها أغصان في دركاتها كما هو ظاهر كلام المؤلف.

الثاني: يحتمل أنها شجرة متعددة، لكن أفردت باعتبار نوعها، كما تقول -مثلًا- إذا شاهدت شجرة: هذه مذاقها مر، مذاقها حلو، مذاقها كذا، لا تريد هذه الشجرة الواحدة، بل تريد هذا الجنس وهذا النوع، فشجرة الزقوم يحتمل أنها شجرة واحدة قد ملأت النار بأغصانها والله على كل شيء قدير، وإلا فإن النار بعيدة القعر، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمعنا وجبة فقال: "أتدرون ما هذا؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:"هذا حجر رمي به في النار حتى وصل إلى قعرها منذ سبعين خريفًا"

(1)

يعني سبعين سنة وهو يهوي في النار ما وصل إلى قعرها، هذه الشجرة إذا قلنا: إنها واحدة وأن أغصانها ملأت دركات النار فالله على كل شيء قدير، وإن قلنا: إنها واحدة بالجنس والنوع فليس في ذلك إشكال.

يقول جل وعلا: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64)} وما ظنك بهذه الشجرة النارية التي تخرج في أصل الجحيم، فيكون لمنبتها أثر فيها؛ لأن المنبت يؤثر على النابت، حتى إن

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في شدة حر نار جهنم وبعد قعرها وما تأخذ من المعذبين (رقم 2844)(31).

ص: 147

النوع الواحد إذا غرس في هذه الأرض اختلف عما إذا غرس في أرض أخرى وهو نوع واحد، هذه الشجرة التي تخرج في أصل الجحيم سوف يكون لمنبتها أثر فيها، ولهذا قال الله عز وجل {فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64)} ولم يقل: في الجحيم، ليبين أنها عميقة الجذور -والعياذ بالله- في النار.

الفوائد:

1 -

أن شجرة الزقوم خبيثة المنبت، لقوله تعالى:{تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64)} والخبيث المنبت يكون هو خبيثًا أيضًا؛ لأن العادة أن النبات يكون على حسب أرضه، كما يكون على حسب مائه أيضًا.

2 -

ومن فوائدها: بيان قدرة الله عز وجل حيث خلق هذه الشجرة في وسط النار، مع أن المعروف أن النار تحرق الأشجار، ولكن الله على كل شيء قدير، فها هي نار إبراهيم عليه الصلاة والسلام تحرق الأجسام بلا شك، ولكن لما قال الله لها {كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)} [الأنبياء: 69] لم تحرقه، بل كانت بردًا وسلامًا عليه.

3 -

ومن فوائدها: أن هذه الشجرة تنتشر إما أغصانها -كما قال المؤلف- أو أنواعها في النار كلها؛ لأن الله أخبر أن أهل النار يأكلون منها، ومعلوم أن النار دركات بعضها أسفل من بعض، فيلزم من ذلك أن تكون هذه الشجرة إما ذاتها ومنتشرة أغصانها، وإما نوعها موجودًا في جميع النار.

ص: 148

{طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65)} قال المؤلف رحمه الله: [المشبه بطلع النخل كأنه رؤوس الشياطين أي: الحيات القبيحة المنظر]، {طَلْعُهَا} يعني الثمر الذي يشبه طلع النخل كأنه رؤوس الشياطين، والشياطين جمع شيطان، وهل المراد الشيطان الحقيقي، أو المراد نوع من الحيات كما قال المؤلف؟ إذا نظرنا إلى ظاهر اللفظ قلنا: إن المراد الشيطان الحقيقي، واحتمال أن يكون المراد نوع من الحيات قبيحة المنظر وارد، لأن السيئ من الحيوان قد يسمى شيطانًا، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:"الكلب الأسود شيطان"

(1)

ولكن الواجب علينا إجراء القراَن على ظاهره، وأن نقول المراد بالشياطين: الشيطان المعروف، وإنما شبهت برؤوس الشياطين مع عدم رؤية الناس لها، لأن كل أحد يعرف أن ما ينسب إلى الشيطان فهو قبيح منفر، لا يركن إليه أحد، فالتشبيه هنا تشبيه بما يتخيل فكرًا، لا بما يعلم حسًّا، وعلى هذا فهو من أبلغ ما يكون من التشبيه في القبح ولا حاجة إلى أن نقول: إنها حيات، حتى لو قلنا بأنها حيات فهل هذه الحيات معلومة لكل أحد؟ إن حيات لا يعرفها إلا النادر من الناس لا ينفر الناس منها، بل إن المؤلف لما قال: إنها حيات، هبطت قيمة هذا القبح في نفس الإنسان، لكن كأنها رؤوس الشياطين، يقشعر جسم الإنسان ويقف شعره عندما يسمع هذا التشبيه القبيح، وعلى هذا فالصحيح أن المراد بذلك رؤوس الشياطين الحقيقية، ولكنها شبهت بها للعلم بأنها قبيحة عند جميع الناس وأنها منفرة.

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب قدر ما يستر المصلي (رقم 510)(265).

ص: 149

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية الكريمة: بيان أن هذه الشجرة لها طلع، ولكن طلعها أقبح ما يكون من الطلع؛ لأنه يشبه رؤوس الشياطين.

2 -

ومنها: أن من أغراض التشبيه ما يسمى عند البلاغيين بالتقبيح، فيشبه الشيء بما يستقبح نفسيًّا، وإن لم يكن معلومًا حسيًّا لقوله:{كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65)} .

3 -

ومن فوائدها: أن رؤوس الشياطين مستكرهة مستقبحة؛ لأنه شبه بها القبح، والتشبيه إلحاق الشيء بما هو أعلى منه في الصفة التي ألحق فيها، لأن المشبه دون المشبه به.

4 -

ومن فوائدها: إثبات أن للشياطين رؤوسًا.

5 -

ومن فوائدها: الرد على من يقول: إن الشياطين والجن هي قوى الشر، والملائكة قوى الخير، وليس هناك أجسام تحس، ووجه الدلالة أنه أثبت للشياطين رؤوسًا، ولا يمكن أن يكون في الأمور المعنوية التي لها قوى.

6 -

ومن فوائدها: ضلال من يعتمد على العقل في إثبات الأشياء أو نفيها؛ لأن الاعتماد على العقل يؤدي إلى أن يرد الإنسان ما في الكتاب والسنة من أجل ما يدعي أنه عقل.

* * *

{فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66)} {فَإِنَّهُمْ} أي: الكفار {لَآكِلُونَ مِنْهَا} مع قبحها لشدة جوعهم، الجملة هنا اسمية

ص: 150

مؤكدة بـ (إنّ) و (اللام) لإفادة أن أكلهم مستمر، لأن الجملة الاسمية تفيد الثبوت والاستمرار، وأكدت بـ (إنّ) و (اللام) للدلالة على أنهم يأكلون منها أكلًا مؤكدًا مع أنها قبيحة المنظر، كريهة الطعم والرائحة، لكن -والعياذ بالله- الجوع الشديد يضطرهم إلى أن يأكلوا منها قصرًا من غير شهوة ومن غير لذة، لكن لملء بطونهم فقط، وأكد أكلهم منها لئلا يقول قائل: إنها ما دامت على هذا الوصف فلن يأكل منها أحد، ومع ذلك فإن الإنسان لو كان في الدنيا ربما يفضل الموت على الأكل من هذا. لكن في النار يعذبون بالأكل فيها، ولهذا قال تعالى:{فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66)} يعني: أنهم لا يشبعون ولا يقتصرون على الضرورة، وأنت عندما يعرض لك في الدنيا وأنت جائع جوعًا شديدًا لحم منتن لا تملأ منه البطن وإنما تأكل بقدر الضرورة فقط، لو حاولت أن تملأ بطنك أبت عليك نفسك، ولو أنك ملأته لأوشك أن تتقيأه، لكن في النار يعذبون بذلك فلا يأكلون بقدر الحاجة بل يملؤون بطونهم، يأكل ويقول: هات هات، كما أنهم يجبرون على شرب الحميم ويشربونه شرب الهيم، شرب الإبل الهائمة العطشى، وهذا من شدة عذابهم -والعياذ بالله- أن تصل بهم الحال إلى الجوع الشديد الذي يضطرهم إلى أكل هذه الشجرة الخبيثة يملؤون بطونهم منها، وإلى العطش الشديد الذي يضطرهم إلى شرب الحميم، وهو الماء الحار الذي لا يستفيدون منه، بل قد قال الله تعالى:{وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)} . [محمد: 15]

ص: 151

وقال عز وجل في اغتسالهم {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20)} [الحج: 19 - 20] تصل حرارته إلى ما في البطون مع حيلولة بقية الجسم دونها لكن تصل الحرارة إلى ذلك، كما قال الله تعالى:{نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7)} [الهمزة: 6 - 7] تصل إلى القلوب، نسأل الله السلامة، اللَّهم نجنا من النَّار.

يقول تعالى: {فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66)} قوله: {الْبُطُونَ (66)} "ال" هنا للعهد الذهني، ولا يمكن أن نقول: إن "ال" العهد الذكري لأنَّه؛ سبق ما يدل على البطن لأنَّ العهد الذكري لابد أن يتقدم نفس اللفظ، وهنا لم يتقدم اللفظ، لكن تقدم ما يدل عليه في قوله:{فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ} لأنَّه لا يأكل إلَّا من له بطن.

الفوائد:

1 -

من فوائدها: إثبات أكلهم منها على سبيل التأكيد لقوله: {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا} .

2 -

ومن فوائدها: أنَّه ينبغي تأكيد الشيء المستبعد أمام المخاطب من أجل اطمئنان نفسه وإقراره به، ولهذا قال علماء البلاغة: إن المخاطب له ثلاث حالات:

1 -

ابتداء.

2 -

وشك.

3 -

وإنكار.

1 -

ففي الابتداء لا يحسن أن تؤكد له الخبر، بل تلقيه إليه غير مؤكد؛ لأنك إذا أكدته بدون سبب للتأكيد فقد يشك، ويقول: لولا أن هذا الرجل كاذب ما ذهب يؤكد الخبر بدون سبب،

ص: 152

فالفصاحة أن تلقيه إليه مجردًا من التأكيد.

فمثلًا: إذا أردت أن تخبر بقدوم زيد، تقول: قدم زيد، إذا كنت تخاطب رجلًا خطاب ابتداء، ليس عنده شك في قدومه ولا إنكار.

2 -

أن يكون عند المخاطب شك في الأمر فهنا يحسن أن يؤكد، ولكن لا يجب، فهذا الرجل الذي تخشى أن يكون شاكًّا بقدوم زيد لاستبعاده إياه، يحسن عندما تخبره أنَّه قادم أن تؤكد له، فتقول: قد قدم زيد، أو إن زيدًا قادم.

3 -

أن يكون منكرًا ففي هذه الحال يجب أن يؤكد له الخبر من أجل أن يزول عنه الإنكار ويطمئن إلى مدلول الخبر، كما لو كنت تخاطب شخصًا ينكر أن يكون فلان قدم البلد فتقول له: لقد قدم، وإن رأيت أنَّه يحتاج إلى زيادة. قلت: والله لقد قدم.

هذا باعتبار حال المخاطب أي: أنَّه يحسن توكيد الخبر، أو تجريده من التأكيد، أو وجوب تأكيده باعتبار حال المخاطب، وقد يكون التأكيد وعدمه باعتبار حال مدلول الخبر فإذا كان المدلول أمرًا هامًّا فإنَّه يؤكد حتَّى وإن كنت تخاطب من لا ينكر، مثل قوله تعالى:{لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)} [القيامة: 1 - 2] وأشباه ذلك مما أقسم الله به على البعث وهو يخاطب المؤمنين، فهنا نقول: تأكيد هذا الخبر مع إقرار المخاطب به يقصد بذلك بيان أهميته، وأنَّه أمر يجب أن يتأكد في قلب الإنسان، وأن يثبت فيه ويرسخ. قال أهل العلم: وقد ينزل المقر منزلة المنكر لفعله فعل المنكر مثل قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ

ص: 153

ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15)} [المؤمنون: 15] وهل الموت متردد فيه أو منكر؟ أبدًا، لا يتردد فيه ولا ينكره أي أحد من النَّاس، إذًا فلماذا يؤكد؟ لأنَّ المخاطب قد تكون حاله حال المنكر لعدم استعداده للموت، فيؤكد له الخبر.

{فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا} هنا أكد الله عز وجل أنهم سيأكلون؛ لأنَّ المقام مقام استبعاد للأكل، فقد يستبعد الإنسان أن يأكل هؤلاء من هذه الشجرة التي تخرج في أصل الجحيم وطلعها كأنه رؤوس الشياطين. فأكد الله ذلك بـ (إن) و (اللام) وأتى أيضًا بالجملة الاسمية الدّالة على استمرار أكله.

3 -

من فوائد الآية الكريمة: أن الله يعذب أهل النَّار بالأكل من هذه الشجرة بكونهم لا يشبعون، لقوله:{فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53)} فلا يأكلون منها بقدر الضرورة كما يأكل المضطر من الميتة بقدر الضرورة، ولكن يأكلون أكلًا يملأ بطونهم، كلما فرغ البطن قليلًا أكلوا.

* * *

{ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67)} (ثم): حرف عطف يدل على الترتيب والتراخي، مما يدل على أنهم إذا أكلوا عطشوا، وإذا عطشوا لا يأتيهم الماء في الحال، بل يأتيهم بعد مهلة بيّنها الله عز وجل بقوله:{وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف: 29] فهم ليسوا إذا أكلوها وعطشوا بها أعطوا الماء بسرعة، بل يستغيثون ويدعون أن يأتيهم ماء يبرد عليهم لهيب العطش، ولكن إذا أعطوا هذا الماء يعطونه شوبًا من حميم،

ص: 154

يعني: ماءً حارًّا حرارة عظيمة، والشوب: وهج النَّار. وهذا الوهج يبينه الله في الآية التي سقتها إذا قرب الماء من وجوههم ليشربوه شوى وجوههم -والعياذ بالله- شواها حتَّى إن لحومها لتتساقط من شدة حرارته، فإذا شربوه فإن أمعاءهم تستقبله لكنها تتقطع به {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)} [محمد: 15] كل هذا سيكون، ليس خبر الأولين، ولهذا يجب علينا إذا قرأنا مثل هذه الآيات أن نشعر بأن هذا هو علم اليقين، وأنَّه سيكون حق اليقين، هذا الأمر بعد أن يعطشوا ويستغيثوا لا يغاثون بماء بارد ولا بماء عذب، بل بشوب من حميم أي: ماءً حارًا، فيشربونه فيختلط بالمأكول منها فيصير شوبًا له، فسر المؤلف رحمه الله الشوب هنا بالخلط، ومنه شبت الماء باللبن أبي خلطه، وهو يصلح بهذا وهذا، فهو خلط، وهو أيضًا وهج حرارة هذا الحميم كل ذلك يكون، فالوهج يكون قبل الشرب، والشوب بعد الشرب.

{ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68)} يعني ثم بعد ذلك مرجعهم إلى الجحيم، والجملة جملة اسمية لم يقل ثم يرجعون، بل قال:{ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68)} مؤكدة بمؤكدين وهما: (إنّ) و (اللام)، وهذا التَّرتيب فيُه إشكال، فهل هو ترتيب ذكري أو هو معنوي؟ المؤلف يرى أنَّه ترتيب معنوي؛ أي: أنهم يخرجون من النَّار لشرب الحميم، ويحتمل أن يكون ترتيبًا ذكريًّا يعني بعد أن ذكر الله عز وجل ما لهم من هذا العذاب بين أن مرجعهم في يوم القيامة إلى هذا الجحيم لا يرجعون إلى سواه. أما المؤلف رحمه الله فيقول: [يفيد أنهم يخرجون منها لشرب الحميم وأنَّه

ص: 155

خارجها]، وهذه الفائدة فائدة ضعيفة بالواقع، وكوننا نستفيد هذه الفائدة من هذه الجملة ليس بمتعين، والله عز وجل يقول:{وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)} [الحجر: 48] فكيف يقال: إنهم يخرجون ويشربون الحميم ثم يردون، هذا بعيد جدًا، لكن إما أن نجعل التَّرتيب هنا للترتيب الذكري، أي: أن الله بعد أن ذكر أنواعًا من العقوبات لهم بين أن مآلهم إلى الجحيم الذي فيه هذه العقوبات.

والترتيب الذكري موجود في اللغة العربي، ومنه قول الشَّاعر:

إن من ساد ثم ساد أبوه

ثم ساد من بعد ذلك جده

وسيادة الأب سابقة على سيادته، وسيادة الجد سابقة على سيادة الأب.

أو يقال: إنهم كما قال الله عنهم: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة: 20] وأنهم يقربون من أبوابها ويسقون هذا الحميم فيقربون لتتطلع نفوسهم إلى الخروج، فيكون عندهم بعض الأمل، فإذا أمّلوا هذا الأمل ثم ردوا إلى أصل الجحيم صار هذا أشد عذابًا عليهم، لأن حصول اليأس بعد الأمل أشد من بقاء اليأس؛ لأن الأمل يرفع اليأس، وإذا أعيد إلى العذاب عاد اليأس، فكان أشد وقعًا.

أرأيت لو أن رجلًا مغلولًا بين يديك، وصرت تحاول فك عنقه، فإنه يفرح، لكن إذا عدت ثم شددته ربطًا وأتيت بغلٍّ آخر ازداد يأسًا وغمًّا إلى غمه، بعد أن رأى بصيص الأمل يعاد فيهان هؤلاء -والعياذ بالله- كلما أرادوا أن يخرجوا منها وحصل لهم

ص: 156

بعض الأمل أعيدوا فيها، فيكون {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68)} أي: إلى أصل الجحيم الذي كانوا قد أملوا أن يخرجوا منه حين قربوا من أبوابها.

الفوائد:

من فوائد الآية الكريمة: أن هذه الشجرة إذا أكلوها -والعياذ بالله- عطشوا وطلبوا الماء طلب المضطر إليه، بدليل قوله تعالى:{وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} [الكهف: 29] فهم يعطشون كثيرًا ويسألون سؤال المضطر، يستغيثون بالله عز وجل فإذا أغيثوا أغيثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه -والعياذ بالله- ولهذا قال:{ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67)} يعني مع هذا الأكل القبيح المستكره المبتلى بمحبته يشربون عليه من الحميم الذي يخالطه، وقد سبق أن هذا الحميم يقطع أمعاءهم.

2 -

ومن فوائد قوله: {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68)} أن هؤلاء الذين في النَّار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها، وهذا فيه زيادة تعذيبهم، لأن الإنسان إذا انفتح له باب الأمل والرجاء، ثم عاد إلى الخيبة صار ذلك أشق وأشد عليه مما لو استمر في خيبته، فيكون في هذا زيادة تعذيب له {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68)} .

3 -

ومن فوائدها أيضًا: أن هؤلاء لن يذوقوا نعيمًا أبدًا؛ لأن مرجعهم ومآلهم إلى الجحيم، فلا يمكن أن يخرجوا منها، نسأل الله لنا ولكم السلامة.

ص: 157

4 -

ومن فوائدها: أن ظاهرها يفيد تأبيد النَّار، لأنَّها المرجع النهائي، وهذا يقتضي أنَّه ليس هناك سواه، وهذا القول أعني أن النَّار مؤبدة هو القول المتعين الذي لا يجوز اعتقاد سواه، وذلك لأنَّ الله تعالى ذكر التأبيد في ثلاثة مواضع: في سورة النساء، وفي سورة الأحزاب، وفي سورة الجن.

ففي سورة النساء يقول الله عز وجل: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} . [النساء: 168 - 169].

وفي سورة الأحزاب يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} . [الأحزاب: 64 - 65]

وفي سورة الجن: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)} . [الجن: 23]

وبعد هذه الآيات الثلاث من عالم الغيب والشهادة لا يجوز العدول عن القول بمدلولها، فإذا كان الساكن خالدًا خلودًا مؤبدًا لزم أن يكون المسكون كذلك، أي مؤبدًا لا يمكن فناؤه، والقول بجواز فناء النَّار أو بوجوب فناء النَّار، قول ضعيف جدًا، وقد علق شيخنا الشَّيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله على ابن القيِّم رحمه الله في كتابه "شفاء العليل" حيث ذكر الخلاف عن بعض السلف بأنه قول ضعيف جدًا، واستغرب أن يقع هذا من ابن القيِّم رحمه الله لأنَّه قول منافٍ للقرآن، ولكن لكل جواد كبوة.

ص: 158

{إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)} {إِنَّهُمْ} أي: هؤلاء الظالمين الذين يعذبون بهذا العذاب {أَلْفَوْا} أي: وجدوا آباءهم ضالين تائهين عن الحق، وألفى بمعنى وجد، ومنه قوله تعالى:{وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف: 25]{وَأَلْفَيَا} وجدا سيدها.

{فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)} هم وجدوا آباءهم ضالين بعد أن قامت عليهم الحجة بضلال آبائهم، ولكن لم يتبعوا الحجة. قال:{فَهُمْ} يعني بعد أن وجدوا آباءهم ضالين -والعياذ بالله- هم {عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)} أي: يساقون ويزعجون، وهرع بمعنى عجّل وأسرع في الشيء، فهم على آثار آبائهم وعلى ما كانوا عليه من الشرك والظلم {يُهْرَعُونَ (70)} أي: يساقون بشدة ويسرعون إلى اقتفاء آثارهم، وقد جاءتهم الرسل بالحجة، ولكن قالوا:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)} [الزخرف: 23] وفي الآية الأخرى: {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)} [الزخرف: 22] فهم علموا أن آباءهم ضالين، ومع ذلك بقوا على ما هم عليه، بل صاروا يسابقون ويتمسكون أشد بما كان عليه آباؤهم.

الفوائد:

1 -

أن هؤلاء المكذبين اتبعوا آباءهم على الضلال، لقوله:{إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69)} فضلوا مثلهم.

2 -

ومن فوائدها: الإشارة إلى ذم التقليد المخالف للحق؛ لأنَّ الله تعالى ذكر هذا تنديدًا بهم وتوبيخًا لهم أن يجدوا آباءهم ضالين ثم يتبعوهم ويدعوا طريق الحق.

ص: 159

فإذا كان التقليد للضرورة بحيث إن الإنسان لا يتمكن من الوصول إلى الحكم عن طريق الاستدلال، فهنا يجوز التقليد للضرورة؛ لقول الله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)} [النحل: 43] ولم يقل: فاستنبطوا من القرآن والسنة إن كنتم لا تعلمون؛ لأنَّ من لا علم عنده لا يمكن أن يستنبط بنفسه، ولو حاول استنباط الأحكام من الأدلة وهو ليس عنده علم فسوف يضل ويتخبط خبط عشواء، فالإنسان الذي ليس عنده علم فرضه التقليد، والذي عنده علم فرضه الاجتهاد، وهذا القول وسط بين من يشددون في الإنكار على التقليد، وبين من يشددون في الإنكار على المجتهدين، فيكون التقليد للضرورة.

3 -

ومن فوائدها: إطلاق الآباء على الأجداد؛ لأنَّ الظاهر أن قوله: {آبَاءَهُمْ} يشمل الأب الأدنى والأب الأعلى. وإطلاق الأب على الجد ولو كان بعيدًا معروف في الكتاب والسنة، قال الله تعالى:{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] فسمى الله إبراهيم عليه السلام أبًا مع أنَّه جد بعيد، ويتفرع على هذه القاعدة: ترجيح القول بأن الجد من قبل الأب يسقط الإخوة مطلقًا أي سواء كانوا أشقاء، أو لأب، أو لأم في باب الميراث، وهو القول الراجح لأنَّه أب، وهذا القول هو قول أبي بكر الصِّديق رضي الله عنه، وروي عن ثلاثة عشر صحابيًّا، وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو القول الراجح المتعين، ووجه ذلك أن القائلين بالتوريث أتوا بتفصيلات لو كانت هي الشرع لوجب أن تبيّن في كتاب الله تعالى وسنة

ص: 160

رسوله عليه الصلاة والسلام.

4 -

ومن فوائدها: قبح عمل هؤلاء المقلدين، حيث كانوا يهرعون على آثار آبائهم في الضلال، أما في الحق فإنهم ينكصون على أعقابهم. فيتفرع على هذا حظر هؤلاء النَّاس الذين إذا جاء الحق موافقًا لأهوائهم أسرعوا إليه، وإذا كان غير موافق نكصوا عنه، وصاروا يتباطؤون فيه، وهؤلاء فيهم شبه ممن قال الله تعالى عنهم:{وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)} [النور: 49] فإذا كان الحق لهم أتوا إليه مذعنين، وإذا كان الحق عليهم نكصوا، وحاولوا أن يلووا أعناق النصوص لتوافق أهواءهم.

* * *

{وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71)} هذه الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات: اللام، وقد، والقسم المقدر، ففي هذه الآية الكريمة تأكيد ضلال من خالف الرسل -عليهم الصَّلاة والسلام-، وفيها تسلية النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ كل ما سبق فيه التحدث من أخبار قريش، فأراد الله عز وجل أن يسلي رسوله صلى الله عليه وسلم بأن قومك ليسوا أول من ضل، بل قد ضل قبلهم أكثر الأولين.

وفيها تأكيد لخبر هؤلاء الأمم الماضية التي قد يشك في خبرها من يشك.

كما أن فيها أيضًا زيادة تهديد لهؤلاء المكذبين؛ لأنَّ الله تعالى قال: ({وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72)} وأكد أيضًا هذه الجملة بالوجوه الثلاثة التي قد أشرنا إليها في قوله: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71)} .

ص: 161

وقوله: {ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71)} يعني لا كلهم، فإن من الأولين من اهتدى، ولكن أكثرهم ضل حتَّى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عرضت عليه الأمم:"رأيت النَّبيُّ ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد"

(1)

وقوله: {أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71)} أي: السابقين، فكل من سبق هذه الأمة فإنَّه يعتبر من الأولين.

الفوائد:

1 -

في الآية الكريمة دليل على أن الأمم السابقة قد ضل أكثرهم، وهو كذلك، وقد تقدم أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى النَّبيُّ ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد.

2 -

ومن فوائدها: تسلية النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بذكر المماثل للدَّين كذبوه؛ لأنَّ الإنسان يتسلى ويتأسى بغيره.

3 -

ومن فوائدها: عناية الله عز وجل برسوله صلى الله عليه وسلم حيث كان، يضرب له من الأمثلة ما يسليه بها؛ لأنَّ سلو الإنسان بغيره يكون عليه الأمر وفي يده قوة واندفاعًا فيما يدعو إليه.

4 -

ومن فوائدها: تهديد هؤلاء المكذبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصيبهم مثل ما أصاب الأمم السابقة.

* * *

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72)} هذه الجملة مؤكدة بما سبق بالقسم، واللام، وقد.

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنَّة بغير حساب ولا عذاب (رقم 220)(374).

ص: 162

وقوله: {أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72)} يعني رسلًا منذرين، كما قال الله تعالى:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [النساء: 165] لكنَّه هنا لم يذكر البشارة؛ لأنَّ المقام مقام تهديد، فكان طي البشارة أنسب والاقتصار على الإنذار أنسب، فقال:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72)} والرسول قال أهل العلم: الذي أوحي إليه بالشرع وأُمِرَ بتبليغه، فإن قلت: ماذا نصنع في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} ؟ [الحج: 52] حيث قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} [الحج: 52] فهو يقتضي أيضًا أن النَّبيُّ وهو الذي أوحي إليه بالشرع ولم يؤمر بالتبليغ قد أرسل.

فالجواب: أن تقدير الآية: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبأنا من نبي. فهو على حد قول الشَّاعر:

(علفتها تبنًا وماءً باردًا)

فالماء البارد لا يعلف ولكنه يسقى، وهو على تقدير: وسقيتها ماء باردًا.

ومن المعلوم أن حذف ما يعلم جائز، كما قال ابن مالك رحمه الله في ألفيته:

وحذف ما يعلم جائز كما

تقول: زيد بعدما من عندكما.

{مُنْذِرِينَ (72)} اسم فاعل من أنذر ينذر، والمنذر المخوف، أي مخوفين من خالف بالعقوبة وحرمان الثواب،

ص: 163

فالرسل -عليهم الصَّلاة والسلام- كلهم ينذرون من خالفهم بالعقوبة، وحرمان الثواب، لأنَّ العاصي يحرم من ثواب الطاعة، إذ لو شاء لأحل محل المعصية طاعة، وكذلك يعاقب بما تقتضيه هذه المعصية.

الفوائد:

1 -

في الآية الكريمة دليل على أن الله تعالى أقام الحجة على كل أمة لقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ} أي في الأولين {مُنْذِرِينَ (72)} ويؤيد ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)} [فاطر: 24] فكل الأمم قامت عليهم الحجة.

2 -

ويستفاد من الآية: أن من لم تبلغه الرسالة فلا حجة عليه؛ لأنَّه لم يبلغه الإنذار، وهو كذلك، ولكن ما حكمه في الدُّنيا والآخرة؟

فنقول: أما في الدُّنيا فيحكم بما يتعبد به ويتدين به، فإن كان يتدين باليهودية فهو يهودي، وإن كان بالنصرانية فهو نصراني، أو بالمجوسية فهو مجوسي، أو بالشيوعية فهو شيوعي، أي أننا لا نجري عليه أحكام المسلمين في هذه الحال؛ لأنَّه يدين بغير الإسلام، وليس لنا إلَّا الظاهر.

أما في الآخرة فحكمه إلى الله عز وجل وأصح الأقوال في هذا: أن الله سبحانه وتعالى يمتحنهم بما يشاء، فمن أطاع منهم دخل الجنَّة ومن عصى دخل النَّار.

فإذا قال قائل: وهل في الآخرة تكليف؟ أليس التكليف ينقطع بالموت؟

ص: 164

فالجواب: نعم، في الآخرة تكليف، قال الله عز وجل:{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)} [القلم: 42] ودعوتهم إلى السُّجود تكليف.

3 -

ومن فوائدها: أنَّه ينبغي في الخطاب أن يذكر ما يناسب المقام، وأن يحذف ما تكون الفصاحة في حذفه، وجهه أنَّه اقتصر هنا على ذكر الإنذار بالنسبة للرسل مع أن الرسل -عليهم الصَّلاة والسلام- حالهم الإنذار والتبشير، قال الله تعالى:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165].

4 -

ومن فوائد الآية: رحمة الله سبحانه وتعالى بالخلق، حيث لم يكلهم إلى عقولهم في تعبدهم لربهم عز وجل، وجهه أنَّه أرسل إليهم الرسل، وأرسل إليهم الرسل أيضًا ليس مجرد أن يقولوا: اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير، بل قرن دعوتهم بالإنذار والتبشير، ليكون ذلك حافزًا لهم على فعل الأوامر واجتناب النواهي.

* * *

{فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)} الخطاب هنا موجه لواحد مذكر فمن هو؟ أهو الرسول عليه الصلاة والسلام أم من يصح أن يوجه إليه الخطاب؟ الجواب: الثَّاني أعم. أي: فانظر أيها المخاطب، أو أيها السامع كيف كان عاقبة المنذرين، وهنا قال:{كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)} ولم يقل: (ماذا

ص: 165

كان) أي: انظر إلى الكيفية وإلى الغاية.

لأنَّ من نظر إلى الكيفية نظر إلى الغاية، لو قال: ماذا كان عقابهم؟ لكان الجواب: الهلاك. لكن كيف عقابهم؟ انظر إليه: إلى الكيفية. {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت: 40] فانظر إلى كيفية العاقبة لتستفيد بهذا النظر شدة العقوبة وملاءمتها للذنب؛ لأنَّ الله قال: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت: 40] أي: إن عقوبته ملائمة لذنبه، وأنت إذا تأملت هذا وجدت الأمر كما قال الله عز وجل، فمثلًا كانت عاد تفتخر بقوتها وتقول: من أشد منا قوة؟ فأهلكوا بألطف الأشياء وهي الرِّيح، أرسل الله عليهم ريحًا فدمرتهم، فأصبحوا لا يرى إلَّا مساكنهم، وكان فرعون يفتخر بالأنهار التي تجري من تحته، فأهلك بما كان يفتخر به وهو الماء، وهكذا كلما تأملت هلاك القوم المكذبين للرسل وجدت أن عقوبتهم مناسبة تمامًا لذنوبهم.

إذا (انظر كيف) أبلغ من (انظر ماذا كان عاقبتهم)، وجه ذلك أنَّها تدل على شدة الأخذ وعلى مناسبته للذنب، ثم إنك إذا نظرت إلى الكيفية ستنظر إلى العاقبة لكن إذا قيل: انظر إلى عاقبتهم، لم تأمر إلَّا بالنظر إلى عاقبتهم فقط.

وقوله: {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)} الجملة هنا استفهامية ولكنها في محل نصب مفعول، (انظر)، وهذا النظر بالقلب، والغالب أن النظر بالعين يعدى بـ (إلى) فيقال: نظر إليه، وأن نظر القلب يكون متعديًا بنفسه. {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ

ص: 166

وَالْأَرْضِ} [يونس: 101] يعني بالقلوب، أما بالأعين فلا يفيد إذا لم يتأثر بذلك القلب.

وقوله: {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)} المنذرين هنا اسم مفعول، الذين أنذروا وخوفوا، ولكن لم يخافوا ولم يؤثر فيهم الإنذار، فكيف كان عاقبتهم، قال المؤلف رحمه الله:[أي عاقبتهم العذاب]. يعني: أن العاقبة كانت وخيمة -والعياذ بالله-، عوقبوا بالعذاب المدمر المهلك.

الفوائد:

1 -

في الآية الكريمة: تنبيه العاقل إلى النظر في عواقب المكذبين، وكذلك النظر في عواقب المجيبين، فإن الإنسان مأمور بالنظر في حال هؤلاء وهؤلاء، فإذا نظر في عواقب المجيبين وأنها عواقب حميدة صار منهم، وإذا نظر إلى عواقب المكذبين حذر منهم وابتعد عنهم، لقوله تعالى:{فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)} .

2 -

ومن فوائدها: أن الله لا يعاقب على الذنب إلَّا بعد قيام الحجة، لقوله:{عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} ، فهم أنذروا فكانت العاقبة.

3 -

ومن فوائدها: الإشارة إلى أنَّه ينبغي للناظر أن ينظر إلى كيفية العقوبة، لتكون أعظم في تصوره من وجه، وليعرف حكمة الله عز وجل في مناسبة العقوبة للذنب من وجه آخر.

فينظر إلى هذين الأمرين لبيان هذه العقوبة وشدتها ولبيان مناسبتها للذنب، {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)} .

ص: 167

ثم قال سبحانه وتعالى: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)} فسرها المؤلف: باسم الفاعل أي المؤمنين، إشارة إلى أن المخلص هنا اسم فاعل، لأنَّ المفسِّر يطابق المفسَّر فيقول:{إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)} الاستثناء هنا منقطع؛ لأن ما بعده من غير جنس ما قبله. وإذا كان ما بعد إلَّا من غير جنس ما قبلها فهو استثناء منقطع، والاستثناء المنقطع يكون علامته أن يحل محل لكن، ولكن لماذا يؤتى بـ (إلا) بدل لكن؟ إشارة إلى قوة اتصال ما بعدها بما قبلها، فهي تفيد الاستدراك مع ارتباط ما قبلها بما بعدها، من حيث المعنى وإن كان هذا يختلف عن ذلك.

وقوله: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ} المراد بالعبودية هنا الخاصة. بدليل قوله تعالى: {الْمُخْلَصِينَ (74)} .

وسبق لنا قريبًا بيان أن العبودية تنقسم إلى عامة وخاصة. أي: المؤمنين، فإنهم نجوا من العذاب لإخلاصهم في العبادة. وهذا على قراءة كسر اللام، أو لأنَّ الله أخلصهم له على قراءة فتح اللام، فأفاد المؤلف رحمه الله أن في الآية قراءتين:

المخلِصين والمخلَصين، لكن لم يصرح بهما، وإنما أتى بمضمونهما. ففي الآية قراءتان في {مخلِصين} لإخلاصهم لله، لأنهم أخلصوا القصد لله عز وجل رب العباد، إليه الوجه والعمل، فلم يلتفتوا إلى ما سوى الله، والإنسان المخلص لله الذي أخلص قلبه له يوفق وتكون عاداته عبادات؛ لأنَّه دائمًا مع الله ودائمًا يتفكر في آيات الله، ودائمًا يحب القرب من الله، فيسعى إلى أن يكون قوله وفعله وتركه كله لله عز وجل، وهذا في

ص: 168

الحقيقة هو الرابح الذي ربح الوقت وربح العمر لم تضع عليه لحظة من اللحظات إلَّا وهو كاسب فيها، ولكن أكثر الناس في غفلة عن هذا الشيء، لم يخلصوا أنفسهم لله عز وجل، بل إن من الناس من قد تكون العبادات في حقه عادات يقوم ويتوضأ ويصلي لأنَّ هذه عادته كأن هذه العبادات عمل يومي يقوم به، ولهذا لا نجدها تؤثر في القلب للغفلة الشديدة عن الإخلاص لله عز وجل، فهم مخلصون لله بالعبادة، وكذلك مخلصون أخلصهم الله، قال المؤلف: رحمه الله[لها] أي: العبادة ولو قيل معنى أسمى من هذا لكان أولى، أخلصهم الله لنفسه واختصهم من بين سائر العباد. {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ} [ص: 47] الذين اصطفاهم الله وجعلهم صفوة عباده لنفسه، وهذا أبلغ في الثّناء مما قال المؤلف رحمه الله من أن الله أخلصهم للعبادة، بل نقول: أخلصهم له من بين سائر العباد.

الفوائد:

1 -

في الآية الكريمة: إشارة إلى أن المخلِص أو المخلَص -وهما متلازمان إخلاصهم هم وإخلاص الله لهم- إلى أن عاقبتهم النجاة، وجهه الاستثناء، {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)} فإن هؤلاء عاقبتهم النجاة وعاقبتهم حميدة.

2 -

ومن فوائدها: حث الإنسان على أن يكون من هؤلاء العباد لينجو.

3 -

ومن فوائدها: فضيلة الإخلاص لقوله: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)} والإخلاص هو الذي أمرنا به {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا

ص: 169

لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 14]{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2)} [الزمر: 2].

4 -

ومن فوائدها: تشريف هؤلاء المخلصين بإضافة عبوديتهم إلى الله تعالى، فإنَّه لا شك أنَّه من يضاف إلى الله عز وجل ينال الشرف، ولهذا شرف الله تعالى بيته بإضافته إليه فقال:{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج: 26] وشرف الله المساجد بإضافتها إليه {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ} [البقرة: 114] وسماها النَّبيُّ عليه الصلاة والسلام بيوت الله "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله"

(1)

وهذا لا شك تشريف للمضاف.

5 -

ومن فوائدها: بيان نعمة الله على هؤلاء العباد، حيث أخلصهم لنفسه فلم يكن لهم مقصود إلَّا الله عز وجل.

فإن قال قائل: أليس هؤلاء العباد لهم مقصود؟ فهم يأكلون قصدًا ويشربون قصدًا ويتمتعون بالمساكن وبالنساء قصدًا، فقد دخل في قصدهم قصد ما سوى الله، فما الجواب؟

الجواب: أنهم يتقربون إلى الله بهذا القصد. فمثلًا في الأكل: يأكل الإنسان تشهيًا بلا شك شهوة ودفعًا للضرورة، لكن يمكن أن يكون هذا الأكل عبادة من وجوه:

أولًا: إذا قصد به امتثال أمر الله؛ لأنَّ الله أمر بالأكل والشرب.

ثانيًا: إذا قصد به حفظ صحته وقيامِ بنيته؛ لأنَّ الإنسان مأمور بمراعاة نفسه، قال الله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} . [النساء: 29]

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على القرآن وعلى الذكر (رقم 2699)(38).

ص: 170

وقال النَّبيُّ عليه الصلاة والسلام: "إن لنفسك عليك حقًّا"

(1)

.

ثالثًا: إذا قصد بذلك الاستعانة بهذا الأكل والشرب على طاعة الله، ولاسيما إذا كان معينًا إعانة مباشرة، كما في قوله عليه الصلاة والسلام:"تسحروا فإن في السحور بركة"

(2)

.

رابعًا: إذا قصد بذلك التبسط بنعم الله تعالى، فإن الله تعالى يحب من عبده أن يتبسط بنعمته، لأنَّ الكريم يحب أن يتبسط الناس بكرمه، ومن أشرف وقت عند الكريم أن يطرق بابه الضيوف ليكرمهم. لكن البخيل بالعكس فإذا قصد الإنسان التنعم بنعمة الله والتبسط بها لا شك أن هذا قربة لله عز وجل؛ لأنَّ الله يحب إذا أنعم على أحد نعمة أن يرى أثر نعمته عليه.

فمن العلماء من يقول إذا قامت الحجة سواء فهم المدعو أو لم يفهم فلا عذر له، ومنهم من يقول: لابد أن تقام عليه الحجة ويفهمها، أما إذا قيل لهم بعث رسول يدعو إلى الهدى ولكنه ما فهم هذا الشيء فإنَّها لا تقوم عليه الحجة، لأنَّ الله تعالى يقول:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [إبراهيم: 4] بعد أن بين أنَّه ينقسم الناس بهؤلاء الرسل إلى ضال ومهتدٍ، والمسألة تحتاج إلى تأمل في

(1)

أخرجه البُخاريّ في أبواب التهجد، باب 20 (رقم 1153)، ومسلم في كتاب الصيام، باب النَّهي عن صيام الدهر لمن تضرر به أو فوّت حقًا أو لم يفطر العيدين والتشريق

(رقم 1159)(88).

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب بركة السحور من غير إيجاب. (رقم 1923)، ومسلم في كتاب الصيام، باب فضل السحور وتأكيد استحبابه واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر رقم (1095) رقم (45).

ص: 171

الواقع: هل يكتفى بمجرد قيام الحجة؟ وعليه أن يبحث عن المعنى، فيقال: أنت فرطت، لماذا لم تأتِ تستفهم؟ فأنت مقصر. أو يقال: إن الرجل إذا قامت عليه الحجة وبلغته لكن على وجه مهوش فهذا معذور لاسيما إذا مات في زمن لم يتمكن فيه من البحث والاستفسار، على كل حال هي مسألة لها غور عظيم، وتحتاج إلى مراجعة كلام أهل العلم في هذه المسألة مراجعة تامة، لأنَّها في وقتنا الحاضر تدعو الحاجة إلى فهمها، إذ إن فيه كثيرًا من المسلمين على هذا الوجه، يعني: بُين لهم الحق أو عرض لهم الحق عرضًا مهوشًا كما يوجد بين أهل البدع الآن، مثلًا فيه ناس عندها بدعة الرافضة أو بدعة الخوارج أو بدعة الأشعرية أو بدعة المعتزلة. بدع كثيرة مهوش على النَّاس فيها، ولبس فيها الحق بالباطل، فكثير من الناس يقولون: إن الحق معهم، وهم على بدعة وضلالة. فالمسألة في الحقيقة تحتاج إلى بحث تام في هذا الموضوع ومراجعة كلام أهل العلم، لاسيما العلماء المتحررون في أفكارهم مثل شيخ الإسلام ابن تيمية والشَّيخ محمَّد بن عبد الوهاب ومن أشبههم. رحمهم الله.

* * *

{وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75)} هذه الجملة كالتفصيل لقوله: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71)} فهنا شرع الله عز وجل يبين كيف كان هذا الضلال؟ ومتى كان؟ كان من أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، وهو نوح -عليه الصَّلاة

ص: 172

والسلام-، ونوح أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض بدليل الكتاب والسنة.

أما الكتاب فقوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] إذا ليس هناك نبي مرسل قبل نوح عليه السلام.

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد: 26].

فإذا كانت النبوة والكتاب في ذريتهم، فليس قبل نوح أحد أوتي النبوة والكتاب، والمراد بالنبوة نبوة الرسالة، أم نبوة الوحي والعبادة فقد سبقت لآدم، فإن آدم نبي مكلم لكنَّه ليس نبيًّا مرسلًا.

وأمَّا من السنة فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة: "أن النَّاس يأتون إلى نوح ويقولون: أنت أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض"

(1)

.

فنوح عليه الصلاة والسلام هو أول الرسل ولبث في قومه ألف سنة إلَّا خمسين عامًا، يدعوهم ليلًا ونهارًا.

{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6)} [نوح: 5 - 6] يدعوهم سرًّا وعلنًا {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9)} [نوح: 9] ولكنهم -والعياذ بالله- لا يزيدهم ذلك إلَّا نفورًا واستكبارًا مع قوة الرسالة والآيات العظيمة نكصوا

(1)

أخرجه البُخاريّ في كتاب أحاديث الأنبياء باب قول الله؛ عز وجل {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} ، (رقم 3340) ومسلم في كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنَّة منزلة فيها (رقم 193)(322).

ص: 173

واستكبروا، وما آمن معه إلَّا قليل، ولما رأى عليه الصلاة والسلام ما حصل من قومه وأيس منهم دعا عليهم:

{وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27)} [نوح: 26 - 27].

وقال: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)} [القمر: 10] فأجاب الله تعالى دعاءه، ولهذا قال:{وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75)} فانتصر الله له وأجاب دعاءه، قال الله تعالى:{فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12)} [القمر: 11 - 12] ماء ينزل من السماء، وماء ينبع ويفور من الأرض فورانًا عظيمًا، يشمل كل الأرض حتَّى التنور الذي هو موضع إيقاد النَّار صار يتفجر ماء، والسماء تهطل بماء منهمر عظيم، فالتقى الماء حتَّى بلغ قمم الجبال، ولم ينجُ منه أحد إلَّا من كان مؤمنًا فإنَّه مع نوح عليه الصلاة والسلام في السفينة. ولهذا قال تعالى:{وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75)} .

فنوح هو أول الرسل وآخرهم محمَّد صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالي: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] ولم يقل: وخاتم المرسلين، مع قوله:{وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ} إشارة أنَّه لا يمكن أن يأتي بعده لا نبي ولا رسول.

الجملة: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ} مؤكدة بثلاثة مؤكدات كما سبق: القسم، واللام، وقد، ونقول في توجيه التوكيد ما قلناه فيما سبق.

ص: 174

وقوله: {فَلَنِعْمَ} الفاء: حرف عطف تفيد التَّرتيب والتّعقيب، واللام: موطئة للقسم، وتقدير الكلام: فوالله لنعم المجيبون.

والمجيبون: فاعل نعم، ونعم وبئس وشبههما. تحتاجان إلى فاعل وإلى مبتدأ لتكون جملتهما خبرًا عنه. هذا المبتدأ يسمى المخصوص. بالمدح أو بالذم.

فأين المخصوص في هذه الآية؟ يقول المؤلف: رحمه الله (نحن) أي: فلنعم المجيبون نحن، وصدق ربنا عز وجل نعم المجيب: الله سبحانه وتعالى فإن إجابته ليست كإجابة غيره إجابة محققة، لكن بشرط أن تتم شروط الإجابة وأن تنتفي الموانع. فإن لم تتم شروط الإجابة فإنَّه لا يجيب عز وجل؛ لأنَّ إجابته كسائر أفعاله مبنية على الحكمة، والحكمة وضع الشيء في موضعه، فإذا تمت شروط الاستجابة صار للاستجابة محل فحلت الإجابة. وإذا لم تتم لم يكن للإجابة محل، فلم تتحقق الإجابة.

ولابد من انتفاء الموانع وسيأتي -إن شاء الله تعالى- ذكر هذه الشروط والموانع عند ذكر الفوائد، فالله تعالى أثنى على نفسه بأنه نعم المجيب وصدق الله العظيم، فإنَّه تعالى نعم المجيب: يجيب عباده إذا اقتضت الحكمة ذلك بوجود الشروط وانتفاء الموانع.

{فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75)} فهو قال المؤلف رحمه الله[له نحن أي دعانا على قومه فأهلكناهم بالغرق]. دعا الله على قومه

ص: 175

فأهلكهم بالغرق، فغرقوا عن آخرهم. وذكر أن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قال. "لو كان الله تعالى منجيًا أحدًا من الغرق لأنجى أم الصبي"

(1)

.

وأم الصبي امرأة كان معها صبي فلما رأت الماء يتزايد خافت على نفسها من الغرق، فلجأت إلى جبل فارتفع الماء حتَّى وصل إليها، ثم ارتفعت حتَّى وصلها الماء، ثم ارتفعت حتَّى وصلها الماء حتَّى بلغت قمة الجبل فوصلها الماء، فلما رأت الماء قد وصلها وألجمها رفعت الصبي فوق يدها لتغرق قبله، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فيما يذكر عنه:"لو رحم الله أحدًا لرحم أم الصبي" لأنَّ هذا من أبلغ ما يكون في الرحمة، أن تجعل موتها قبل موته، ترفعه على يديها حتَّى يدركها الغرق قبله. فهؤلاء وغيرهم من الأمم لا ينفعهم الإيمان إذا رأوا البأس، وانظر إلى فرعون لما أدركه الغرق قال الله تعالى:{آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)} . [يونس: 90] لكن ما نفعه ذلك، قيل له:{آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} . [يونس: 91] لم يكن أحد من الأمم نفعهم إيمانهم لما رأوا البأس {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)} . [يونس: 98] قال أهل العلم: والحكمة من ذلك: أن نبيهم خرج منهم مغاضبًا قبل أن يؤذن له، فلم تحق عليهم الكلمة لعدم تمام الإنذار في حقهم، فلهذا لما آمنوا كشف الله عذاب الخزي في الحياة الدُّنيا ومتعهم إلى حين،

(1)

أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 342، 547) وقال في الموضعيين: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي بقوله: إسناده مظلم، وموسى ليس بذاك. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 203): رواه الطّبرانيّ في الأوسط، وفيه موسى بن يعقوب الزمعي وثقه ابن معين وغيره، وضعفه ابن المديني، وبقية رجاله ثقات.

ص: 176

وسيجدون ما يستحقونه من العقوبة أو المثوبة.

قال الله عز وجل: {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)} . الأهل هنا هل نقول: المراد المؤمنون؟ أو نقول: إن الأهل هم خاصة الرجل، لأنَّ هناك فرقًا بين آل وأهل، آل: أتباع، وأهل: هم الخواص، خاصة الرجل كما قال الله تعالى:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33] أهل البيت الخاصة لا يشمل الأمة كلها. فهل نقول: المراد أهله الذين هم خاصته؟ هذا هو الأقرب من الآية، لكن في آيات أخرى تدل على أن الذي نجا هو ومن آمن معهم.

يستثنى من أهل نوح، ابنه الذي كفر به فإنَّه أدركه الغرق، ولما سأل نوح عليه الصلاة والسلام ربه قال:{رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)} ، [هود: 45 - 46] ويستثنى من ذلك امرأته كما قال الله تعالى في سورة التحريم. {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم: 10] أي: بالكفر لا بالفاحشة والزنى، لأنَّه من المستحيل أن يجعل الله امرأة نبي تزني، لأنَّ الزنى خبث، وقد قال الله تعالى:{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} [النور: 26] فخيانة امرأة نوح وامرأة لوط كانت بالكفر، والكفر قد يكون في امرأة النَّبيُّ وهو لا يعلم، ولهذا قال:{فَخَانَتَاهُمَا} يعني أخفت الكفر عن نوح وعن لوط -عليهما الصَّلاة والسلام-.

ص: 177

فـ (أهل) هنا ليس على عمومه، وإنَّما هو عام مخصوص، لأنَّ العام الذي أريد به الخاص لابد أن يكون معلومًا للمخاطب أنَّه لم يرد به إلَّا الخاص من أول الأمر، فأمَّا الشيء الذي لم يعلم إلَّا بنص آخر فإن هذا يسمى عامًا مخصوصًا.

{مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)} .

الكرب: ضد السعة، والإنسان المكروب هو الذي أصابه ما يكرب به، ولا شيء أعظم من كرب الموت.

وهذا الكرب الذي أصاب قومه كرب عظيم؛ لأنَّه غرق يموت الإنسان وهو ينظر، وموت الإنسان بمرض يعلم أنَّه لا قدرة له على إزالته، لكن بالغرق يموت وهو يؤمل أن ينجو، ولهذا تجده بكلِّ قواه يحاول النجاة ولكن لا تحصل، فكأنه يموت ويقطعه الموت وهو ينظر إليه، فلهذا صار كربًا عظيمًا؛ لأنَّه بالغرق، ومثله الموت بالحرق بالنار فإن الإنسان يموت بأمر يشعر بنفسه أنَّه يستطيع التخلص منه، ولكن يعجز فيكون وقع الموت عليه أشد، {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77)} في الآية إشكال إعرابي، وهو أن الباقين منصوبة مع أنَّها بعد {هُمُ} وهم يكون مبتدأ، والمبتدأ خبره مرفوع، وجاءت منصوبة هنا لأن (هم) ضمير فصل، وضمير الفصل ليس له محل من الإعراب، وعلى هذا فتكون الباقين المفعول الثَّاني لجعلنا؛ لأنَّ جعلنا من أفعال التصيير، فهي بمعنى صيرنا وتنصب مفعولين: المفعول الأوَّل ذريته، والمفعول الثَّاني الباقين.

ص: 178

وقوله: {هُمُ الْبَاقِينَ (77)} (هم): ضمير فصل، وضمير الفصل ليس له محل من الإعراب، لكن له محل من المعنى، فهو يميز بين الخبر والصفة، ويفيد التوكيد، ويفيد الحصر.

{ذُرِّيَّتَهُ} أي: نسله فقد جعل نسل نوح عليه الصلاة والسلام هم الباقين، ولهذا يقال: إن نوحًا عليه الصلاة والسلام هو الأب الثَّاني للبشرية، والأب الأوَّل آدم عليه الصلاة والسلام.

ويقال: إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أبو الأنبياء ولا يقال: أبو البشرية؛ لأنَّ البشر لم ينحصروا في ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام لكنَّه أبو الأنبياء، لأنَّ الأنبياء من بعده كلهم من ذريته كما قال تعالى:{وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد: 26] فما قبل إبراهيم عليه الصلاة والسلام من الأنبياء فهم من ذرية نوح عليه الصلاة والسلام؛ وما بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام من ذرية إبراهيم ونوح -عليهما الصَّلاة والسلام-؛ لأنَّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام من ذرية نوح عليه الصلاة والسلام {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77)} قال المؤلف: رحمه الله[فالناس كلهم من نسله عليه السلام وكان له ثلاثة أولاد: سام، وهو أبو العرب والفرس والروم، وحام: وهو أبو السودان، ويافث: وهو أبو الترك والخزر ويأجوج ومأجوج وما هنالك]. ما ذكره رحمه الله هو المشهور عند المؤرخين أن أولاد نوح عليه الصلاة والسلام كانوا ثلاثة: سام، وحام، ويافث، لكن لم يأتِ هذا بسنة صحيحة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم ولا في

ص: 179

القرآن ما يدل على ذلك، فالأولى أن نقول: إن الناس بعد نوح من ذريته، وأمَّا هذا التقسيم فيحتاج إلى دليل، وليس هناك دليل من كتاب الله تعالى ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم على ذلك، والله سبحانه وتعالى ذكر أن الأمم السابقة لا يعلمهم إلا الله، فقال جل وعلا:{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} [إبراهيم: 9] فإذا نفى الله علم أحد بهم إلَّا الله سبحانه وتعالى وجب أن يتلقى علمهم من الله سبحانه وتعالى لا من غيره، فنرجع إلى الوحي، وعلى هذا ما في كتب المؤرخين من أحوال الأمم الماضية إذا لم يكن عليه دليل من الكتاب والسنة فإنَّه مما يتوقف فيه، ولا يلزم به، كحديث بني إسرائيل، فهؤلاء الثلاثة الأبناء لنوح ممن يتوقف فيهم، ونحن لا يهمنا الباقون من أولاده ثلاثة أو ثلاثون، المهم أن نؤمن بما دل عليه كتاب الله وهو أن ذرية نوح هم الذين بقوا، وأمَّا من آمن معه فإما أنه ليس له ذرية أو قد يكون لهم ذرية ولكن لم تبق، فالله أعلم، ومن الجائز أن يكون له ابن ثم ينقطع نسله، فلا نعلم لكن الذي بقي نسله هو نوح.

{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78)} يعني أبقينا له ثناء حسنًا، ولم يقل: تركنا له بل قال: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78)} إشارة إلى أن تركنا مضمنة معنى يناسب حرف الجر المذكور، فلابد أن يضمن تركنا معنى مناسب لعلى، والمعنى المناسب لعلى هو الثّناء، يعني: أثنينا عليه ثناءً متروكًا في الآخرين، وهو كذلك. فإن الله سبحانه وتعالى أثنى عليه ثناء من أفضل الثّناء، قال -عز

ص: 180

وجل-: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)} [الإسراء: 3] هذا ثناء أعظم ما يكون من الثّناء، وأشرف ما يكون من الفخر أن الله يصف واحدًا من بني آدم فيقول:{إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)} يعني: قائمًا بالعبودية، وقائمًا بالشكر، عليه الصلاة والسلام. فالله أبقى عليه ثناء حسنًا في الآخرين إلى آخر الأمم بل إلى يوم القيامة؛ لأنَّ هذا الكتاب سيبقى إلى أن يرفعه الله عند قرب قيام الساعة.

{فِي الْآخِرِينَ (78)} [من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة]، والظاهر من الآيات الكريمة أن جميع الأنبياء الذين جاءوا من بعد نوح عليه الصلاة والسلام كان يذكر فيهم نوح بالثناء الحسن، فتكون الأنبياء كلهم والأمم يطرون نوحًا عليه الصلاة والسلام بما أثنى الله به عليه؛ لأنَّه مذكور في كل الكتب {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79)} (سلام) مبتدأ، ونُكِّر من أجل التعظيم أي: سلام عظيم، لأنَّه سلام من الله عز وجل، وهذا السَّلام معناه: أن الله سلَّمه من القوادح التي تقدح فيه، وحل محل هذه القوادح من البشر الثّناء من الله سبحانه وتعالى، فجمع الله له بين أمرين:

الثّناء، وبين تسليمه مما يقدح فيه، ولهذا نقول:{سَلَامٌ} بمعنى تسليم، أي: أن الله سلمه من كل ما يضره من القوادح التي تقدح فيه من بني آدم.

{فِي الْعَالَمِينَ (79)} . المراد بالعالمين هنا: مَن بعد نوح لا مَن قبله فيما يظهر، وعلى هذا فيكون عامًّا يراد به الخاص.

{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80)} المراد بالجمع {إِنَّا}

ص: 181

التعظيم، فإن الله واحد سبحانه وتعالى، ولكنه إذا ذكر اسمه بما يدل على الجمع فالمراد به التعظيم.

{كَذَلِكَ} أي: مثل هذا الجزاء نجزي {الْمُحْسِنِينَ (80)} فكل من أحسن فإن الله سبحانه وتعالى يجزيه كما جزى نوحًا عليه الصلاة والسلام، وقد جزى الله نوحًا بأمرين: بما ترك عليه في الآخرين، وبما سلمه في العالمين. فكذلك من كان مؤمنًا بالله عز وجل، محسنًا في عبادته، وإلى عباده فإن الله تعالى يجزيه كما جزى نوحًا، ولذلك تجد أن الله تعالى وضع في قلوب الناس وألسنتهم الثّناء على أئمة المسلمين على الرغم من أن من النَّاس من يقدح فيهم، لأنَّ كل واحد من أهل الخير لابد أن يقدح فيه واحد من أهل الشر {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان: 31] وكذلك كل من تمسك بهدي نبي فإن له عددًا من المجرمين بلا شك. لكن يقيض الله سبحانه وتعالى لهذا المؤمن من يبدل هذا القدح بالثناء، ومن يدفع هذا القدح. ولهذا قال عز وجل:{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80)} الذين أحسنوا، والإحسان ينقسم -كما تقدم- إلى قسمين:

1 -

إحسان في عبادة الله تعالى.

2 -

إحسان إلى عباد الله تعالى.

فالإحسان في عبادة الله لا نفسره بأحسن من تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "الإحسان أن تعبد الله كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك"

(1)

.

(1)

أخرجه البُخاريّ في كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام =

ص: 182

والعبادة في قوله: "أن تعبد الله كأنَّك تراه" عبادة طلب كأنَّك تراه، ومعلوم أن الله سبحانه وتعالى تشتاق إليه النفوس، فإذا كان يعبد الله كأنه يراه فسوف يلح في العبادة ليصل إلى محبوبه وهو الله عز وجل، "فإن لم تكن تراه" يعني إن لم تصل إلى هذه الدرجة وهي عبادة الرغبة والطلب، "فإنَّه يراك" فاعبده عبادة هرب وخوف منه، وهذا ليس كالأول؛ لأنَّ هذا يعبد الله خوفًا منه، والأول يعبده طمعًا، فالمرتبة الأولى أكمل من المرتبة الثَّانية، ولهذا جعلها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في الدرجة الثَّانية، إن لم تكن تراه وتعبده كأنَّك تراه فإنَّه يراك. فإياك أن تخالفه أو تقع في معصيته. أما الإحسان إلى عباد الله فهو بذل المعروف إليهم بالمال والبدن والجاه، وبعضهم قال: هو بذل الندى، وكف الأذى، وطلاقة الوجه.

بذل الندى: يعني العطاء، وكف الأذى: ألا تؤذي أحدًا لا بقولك ولا فعلك، وطلاقة الوجه: ألا تقابل الناس بوجه عابس مكفهر، لأنَّ الإنسان مهما كان إذا لقي الناس بوجه عابس مكفهر فليس محسنًا إليهم، بل إن الله سبحانه وتعالى عاتب النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الخلق حين حصل له ما حصل مع عبد الله بن أم مكتوم، رضي الله عنه مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم حصل له ما حصل اجتهادًا منه، فقال الله تعالى في ذلك {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ

= والإحسان وعلم الساعة (رقم 50) ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله سبحانه (رقم 9)(5).

ص: 183

اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)} [عبس: 1 - 10] كلمات عظيمة لكنها مع ذلك خففها الله عز وجل بأن بدأها بضمير الغيبة فقال: {عَبَسَ} كأنما يتحدث عن شخص آخر لا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: عبست وتوليت، لأنَّه كما مر علينا كثيرًا بأن المخاطب بصيغة الخطاب أعظم وأشد من التحدث بضمير الغيبة.

أما قولهم: الإحسان إلى عباد الله هو: بذل المعروف إليهم بالمال والبدن والجاه.

أما بالمال فظاهر، وبالبدن أن تخدمهم، ومع هذا إذا خدمت الإنسان وأعنته فأنت مأجور، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة"

(1)

. ومن البذل البدني: طلاقة الوجه؛ لأنَّها تتعلق بالبدن. أما الجاه بأن تنفع النَّاس بالتوسط والشفاعة فيما فيه الخير لهم ولك.

الفوائد:

1 -

في هذه الآية من الفوائد: بيان تأكيد الشيء بالقسم إذا دعت الحاجة إليه، وأن هذا من فصيح الكلام؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى أكد هذا بالقسم واللام وقد.

2 -

ومن الفوائد: حث النَّبي صلى الله عليه وسلم وغيره على دعاء الله

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل أنواع من المعروف (رقم 1009)(56).

ص: 184

-سبحانه وتعالى، وأن الله إذا ناداه عبده بالدعاء أجابه.

3 -

ومن فوائدها: إثبات سمع الله لقوله: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75)} ولا إجابة إلَّا بعد السمع.

4 -

ومن فوائدها: الثّناء على نوح عليه الصلاة والسلام، وذلك بلجوئه إلى رب عند حلول المضايق.

5 -

ومن فوائدها: الثّناء على الله سبحانه وتعالى بكمال الإجابة؛ لأنَّ الثّناء على المجيب يستلزم الثّناء على الإجابة.

فإجابة الله عز وجل ليست كإجابة غيره، بل هي إجابة فضل وإحسان، قد يعطي الإنسان أكثر مما سأل.

6 -

ومن فوائدها: بيان رحمة الله سبحانه وتعالى في إجابة دعوة الداعي.

ولكن لإجابة الدعاء شروط لابد أن تتحقق، وهي:

الشرط الأوَّل: الإخلاص لله عز وجل بأن يخلص الإنسان في دعائه إلى الله سبحانه وتعالى بقلب حاضر صادق في اللجوء إليه، عالم بأنه عز وجل قادر على إجابة الدعوة، مؤهل الإجابة في الله. سبحانه وتعالى.

الشرط الثَّاني: أن يشعر الإنسان حال دعائه بأنه في أمس الحاجة، بل في أمس الضرورة إلى الله سبحانه وتعالى وأن الله -تعالى- وحده هو الذي يجيب دعوة المضطر إذا دعاه ويكشف السوء.

الشرط الثالث: أن يكون متجنبًا لأكل الحرام، فإن أكل الحرام حائل بين الإنسان والإجابة.

فهذه الشروط لإجابة الدعاء، إذ لم تتوفر فإن الإجابة تبدو

ص: 185

بعيدة، فإذا توافرت ولم يستجب الله للداعي، فإنَّما ذلك لحكمة يعلمها الله عز وجل ولا يعلمها هذا الداعي، فعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم، وإذا تمت هذه الشروط ولم يستجب الله عز وجل فإنَّه إمَّا أن يدفع عنه من السوء ما هو أعظم، وإما أن يدخرها له يوم القيامة فيوفيه الأجر أكثر وأكثر، لأنَّ هذا الداعي الذي دعا بتوفر الشروط ولم يصرف عنه السوء ما هو أعظم، يكون قد فعل الأسباب ومنع الجواب لحكمة، فيعطي الأجر مرتين مرَّة على دعائه ومرَّة على مصيبته بعدم الإجابة فيدخر له عند الله عز وجل ما هو أعظم وأكمل.

7 -

ومن فوائدها: بيان قدرته عز وجل على إجابة الدعوة؛ لأنَّ الإجابة تستلزم القدرة عليها؛ لأنَّ العاجز لا يمكن أن يجيب.

8 -

ومن فوائدها: بيان عظمة الله، وذلك بالإتيان بالواو في صفته بقوله:{الْمُجِيبُونَ (75)} فإن هذه قطعًا ليست للجمع، لأنَّ الله واحد ولكنها للتعظيم.

ومن فوائد قوله: {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)} :

1 -

بيان أن قومه أصيبوا بكرب عظيم وهو الهلاك بالغرق، وأن الله سبحانه وتعالى نجَّى نوحًا وأهله.

2 -

ومن فوائدها أيضًا: بيان قدرة الله سبحانه وتعالى حيث حل العذاب بهذه الأمة، فنجى قومًا وغرق قومًا.

3 -

ومن الفوائد: كمال عدله سبحانه وتعالى حيث جازى كل واحد بما يستحق، فمن استحق النجاة نجَّاه، ومن

ص: 186

استحق الهلاك أهلكه.

4 -

جواز إطلاق العام وإن كان مخصوصًا؛ لأنَّ قوله: {وَأَهْلَهُ} يشمل المؤمن والكافر منهم، وقد دلت آية أخرى على أن من أهله ممن لم ينجُ.

* ومن فوائد قوله: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77)} : أن نوحًا هو الذي بقي نسله من بني آدم فكل من بقي من بعد نوح فهو من نسله، ولهذا يسمى الأب الثَّاني للبشرية.

وهنا سؤال وهو أن يقال: إن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ذكر أن الله خصه أنَّه بعثه إلى الناس كافّة، وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُبعث إلى قومه خاصة، وظاهر هذه الآية الكريمة أن نوحًا بعث إلى البشر جميعًا لقوله:{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77)} وذريته كانوا مباشرين له لم يكونوا في مكان آخر؟

والجواب على ذلك: أن هذه الآية لا تستلزم ما ذكر، فقد يكون هناك أمم في أماكن بعيدة لكنها فنيت ولم يبق إلَّا ذرية نوح، وتكون الأمم البعيدة التي لم تشملها دعوة نوح لها رسل ثم فنيت هذه الأمم والرسل الذين بعثوا إليها ولم يبق إلَّا ذرية نوح.

* ومن فوائد قوله: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78)} بيان فضل الله سبحانه وتعالى على العبد بثناء الآخرين عليه؛ لأنَّ الإنسان إذا مات انقسم الناس فيه إلى قسمين: قسم يثني ثناءً حسنًا، وقسم يثني ثناء سيئًا، وكل من تتفق الأمة عليه بالثناء وأعني بالأمة أمة الإجابة، فأمة الإجابة كثيرًا ما يتفقون على الثّناء على شخص معين، لكن أمة الدعوة التي فيهم الكافر والمؤمن والفاسق

ص: 187

والعاصي لا يتفقون على الثّناء على شخص؛ لأنَّ كل من قوي إيمانه ودعوته إلى الله فسيجد مضادا من أعداء الله سبحانه وتعالى، لكن أهل الخير والإيمان يحبون الداعية إلى الله ويثنون عليه ما يستحق.

* وفي قوله: {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79)} من الفوائد:

1 -

أن نوحًا عليه الصلاة والسلام قد برأه الله في الآخرين، حيث يقولون القول الذي فيه سلامته من القدح، فيكون الله قد جمع له بين الثّناء الحسن ودفع الثّناء السيئ لقوله:{سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79)} .

2 -

ومن فوائد الآية: إطلاق العام وإرادة الخاص؛ لأنَّ قوله: {فِي الْعَالَمِينَ (79)} لا يتناول مَنْ قبل نوح، فإن الظاهر أنَّه لم يسبق له ذكر فيما سبق.

* ومن فوائد قصَّة نوح عليه السلام ككل:

- إدخال البشارة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حيث يكون لهم أسوة في نوح ومن نجا معه، وتهديد المكذبين له، حيث يكون لهم إنذار لما جرى للمكذبين لنوح عليه الصلاة والسلام.

* ومن فوائد قوله: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80)} :

1 -

أن المحسن يجازى بمثل ما جوزي به نوح عليه الصلاة والسلام، وذلك بإنجائه من الهلاك وسلامة عرضه من الذكر السيئ، وكلما كان الإنسان أكثر إحسانًا كان أكثر ثوابًا وأسلم.

ص: 188

2 -

ومن فوائد الآية: إثبات القياس لقوله: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80)} يعني مثل هذا الجزاء نجزي كل محسن.

3 -

ومن فوائدها: أن الله سبحانه وتعالى يرتب الجزاء والعقوبة والثناء والقدح على الأوصاف لا على الأشخاص؛ لأنَّه هنا علّق الجزاء على الإحسان، ولهذا لم يأتِ شيء من أحكام الله سبحانه وتعالى مقيدًا بشخص لشخصه أبدًا حتَّى خصائص الرسل ليست من باب خصائص الأشخاص، لكن من باب خصائص الأوصاف؛ لأنَّ فيهم وصفًا زائدًا على غيرهم، وهو وصف النبوة والرسالة فخصوا ببعض الأحكام المناسبة لمقامهم، أما أن يخص شخص بعينه لأنَّه فلان ابن فلان مثلًا فهذا لا يوجد في الشريعة؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى يرتب الأحكام ويعلقها على الأوصاف لا على الأشخاص.

* ومن فوائد قوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81)} الإشارة إلى كمال هذين الوصفين وهما العبودية والإيمان، وأنهما أشوف وصف يتصف به الإنسان أن يكون عبدًا لله مؤمنًا به؛ لأنَّ الله تعالى قال:{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81)} يعني نوحًا، ونوح عليه الصلاة والسلام من أولي العزم من الرسل، فإذا كان من مناقبه وفضائله أن يكون من عباد الله المؤمنين دَلَّ ذلك على فضيلة العبودية والإيمان.

* ومن فوائد قوله: {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)} :

1 -

بيان حكمة الله سبحانه وتعالى حيث أغرق هؤلاء المكذبين لرسوله عليه الصلاة والسلام، بل المكذبين لرسله؛

ص: 189

لأنَّ الله قال: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)} . [الشعراء: 105]

وتكذيب قوم نوح ليس من أجل نوح، ولكن من أجل ما جاء به، ولهذا كان تكذيب رسول واحد تكذيب لجميع الرسل؛ لأنَّه تكذيب لجنس الرسالة وليس لشخص المرسل.

2 -

ومن فوائدها: إقامة العدل بإغراق هؤلاء المكذبين؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى لم يغرقهم ظلمًا، بل هم الذين ظلموا أنفسهم.

* * *

{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83)} هذه الجملة مكونة من (إنَّ) واسمها وخبرها، واسمها متأخر: إبراهيم والخبر مقدم "من شيعته"، واللام هنا لام التوكيد، أي: أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام من شيعة نوح عليه الصلاة والسلام، والشيعة تطلق في اللُّغة على كل من شايع الإنسان وتابعه وأعانه وناصره فهو شيعته. وإبراهيم عليه الصلاة والسلام من شيعة نوح عليه الصلاة والسلام أي: من أتباعه وأشكاله وناصري ما جاء به من الشرع، فإن من نصر الشرع في أي زمان ومكان فإنَّه ناصر لجميع الشرائع؛ لأنَّ تأييد الشرع الذي جاء من الله في أي زمان ومكان تأييد لشرع الله كله، ولهذا نحن نفرح بانتصار الرسل -عليهم الصَّلاة والسلام- وأتباعهم ولو كانوا في زمن بعيد، ولو كانوا ليسوا من الذين أرسلوا إلينا خاصة، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام من شيعة نوح أي: من مؤيديه وأتباعه فيما جاء به، وليس في نفس الشريعة، ولكن في الجنس أي أنَّه يؤيد وينصر

ص: 190

الوحي الذي هو من جنس الوحي الذي جاء به نوح عليه الصلاة والسلام، ولهذا قال المؤلف: رحمه الله[أي: ممن تابعه في أصل الدين] وهو قبول وحي الله عز وجل والعمل به والدعوة إليه، إذ جميع الرسل بعضهم لبعض شيعة، لأنهم كلهم يتناصرون ويؤمنون بالوحي كله. وقوله رحمه الله:[وإن طال الزمان بينهما وهو ألفان وستمائة وأربعون سنة وكان بينهما هود وصالح]. وقوله: [وإن طال الزمان بينهما] هذا صحيح ولا شك أن بين نوح عليه الصلاة والسلام وإبراهيم زمانًا طويلًا، لكن تقييدها بما ذكره المؤلف يحتاج إلى دليل صحيح، إمَّا من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نعلم لهذا أصلًا في القرآن ولا في السنة، فإن قيل: فإنَّما هو مما نقل عن بني إسرائيل فإننا لا نصدق به ولا نكذب به. وقوله: [وكان بينهما هود وصالح]، دليل ذلك أن الله سبحانه وتعالى يقرن قصَّة هود دائمًا بقصة نوح، ومن بعدها قصَّة صالح، وهذا مما يدل على أن هؤلاء الثلاثة قبل إبراهيم.

أما نبي الله إدريس فقد ذكر بعض المؤرخين أنَّه كان قبل نوح، ولكنه قول ضعيف جدًا؛ لأنَّه سبق لنا أن نوحًا عليه الصلاة والسلام هو أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، والقول بأن إدريس قبله قول ضعيف، بل هو باطل في الواقع، فنوح أول الرسل، وإدريس يظهر والله أعلم أنَّه من أنبياء بني إسرائيل.

{إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)} قال المؤلف رحمه الله[أي:

ص: 191

تابعه وقت مجيئه] يحتمل ما قال المؤلف، وأن في {إِذْ} متعلقة بقول {شِيعَتِهِ} أي: وممن شايعه حين جاء ربه بقلب سليم إبراهيم.

ويحتمل أن {إِذْ} استئنافية، وأن تقدير الكلام: اذكر إذ جاء ربه بقلب سليم، وهذا هو الأصح، فالصحيح أنها ليست متعلقة بذلك، وأنَّه من شيعته وقت المجيء، بل هو من شيعته وقت المجيء وغيره، لكن أراد الله تعالى أن ينوه بهذا الوصف العظيم لإبراهيم عليه الصلاة والسلام {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)} ومتى مجيئه لربه هل المراد جاء ربه حين لاقاه بعد الموت، أو جاء ربه حين آذاه قومه وهددوه بالإحراق، أم نطلق كما أطلق الله؟

الأولى أن نطلق كما أطلق الله ونقول: جاء ربه في الوقت الذي يعلم الله مجيئه فيه بقلب سليم. قال المؤلف: [سليم من الشَّك وغيره] والصحيح أن السلامة أعم مما قال المؤلف، فهو سليم من الشبهات، ليس فيه شك بأي وجه من الوجوه، بل هو على علم ويقين بما آمن به. وسليم من الشهوات ليس في قلبه هوى يخالف ما جاء به الوحي، وهذه هي سلامة القلب أن يكون سالمًا من الشبهات التي تعرض له، والشكوك فيكون مؤمنًا حقًا، ويكون سالمًا من الشهوات، والشهوات هي: الإرادات المخالفة لما جاء به الوحي، وليس كل قلب يهوى ما جاء به الوحي. فالقلوب جوَّالة يمينًا وشمالًا، أحيانًا قلب الإنسان نفسه يتجول، في بعض الأحيان يكون مقبلًا غاية الإقبال على الوحي محبًّا له

ص: 192

مطبقًا له، وأحيانًا يجد فتورًا عن الإقبال على الوحي وفتورًا عن تطبيق ما جاء به الوحي، ولهذا ينبغي للإنسان دائمًا أن يسأل الله تعالى الثبات على الأمر وثبات القلب؛ لأنَّ القلب بين أصبعين من أصابع الله يقلبهما كيف يشاء. فعلى الإنسان ألا يغتر بنفسه ولا يعجب بعقيدته، بل عليه أن يسأل الله دائمًا الثبات؛ لأنَّ القلب يعتريه شبهات ويعتريه شهوات، فأحيانًا يكون الإنسان مؤمنًا حقًّا ثم يلقي الشَّيطان في قلبه شبهة فيعمى -والعياذ بالله-، ويضل، وأحيانًا يكون الإنسان صالحًا مستقيما على أمر الله فيلقي الشَّيطان في قلبه شهوة فيضل، ويتبع الشهوات، فالقلب السليم: هو السالم من الشبهات والشهوات، فيكون إذا سلم من ذلك مستقيمًا على طاعة الله سبحانه وتعالى.

{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85)} {إِذْ} نقول فيه كما قلنا في قوله: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ} أنَّه جملة استئنافية لبيان حال إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فكان قلبه سليمًا صالحًا في نفسه، ومع ذلك يحاول إصلاح غيره قال المؤلف رحمه الله:[موبخًا لهم]، فالاستفهام هنا بمعنى التوبيخ، والتوبيح يستلزم الإنكار عليهم وزيادة، لأنك قد تنكر على الإنسان بدون توبيخ، ولكن إذا وبخته فإن توبيخك مستلزم للإنكار عليهم، قوله:{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ} سمى الله هذا الأب في سورة الأنعام فقال: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا} [الأنعام: 74] وكان أبوه مشركًا ووعده عليه الصلاة والسلام أن يستغفر له، {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)} [مريم: 47] فاستغفر له، ولكنه لما تبيّن له أنَّه

ص: 193

عدو لله تبرأ منه، ومحاورته بينه وبين أبيه في سورة مريم واضحة كيف كان يخاطبه بالرفق واللين، ولكن ذلك يخاطبه بالشدة والعنف، {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي} [مريم: 46] أي: دعني واتركني {مَلِيًّا} أي زمنًا طويلًا.

{مَاذَا تَعْبُدُونَ (85)} أن هذه الجملة استفهامية، ولكن هل (ذا) ملغاة، أو اسم موصول؟ يجوز الوجهان، فإن جعلناها اسمًا موصولًا أعربنا "ما": مبتدأ، و"ذا" خبره، وجعلنا العائد محذوفًا، والتقدير: ما الذي تعبدونه.

وإن جعلناها ملغاة فإننا نعرب "ماذا" جميعًا، ونقول:"ماذا" اسم استفهام، مفعول مقدم لتعبدون، أو نقول "ما" اسم استفهام مقدم لتعبدوه و (ذا) لا محل لها من الإعراب، حرف أو بمنزلة الحرف، ليس لها محل من الإعراب، والمعنى أنَّه أنكر عليهم وقال: ما الذي تعبدون؟ هل تعبدون إلهًا حقًّا أو تعبدون إلهًا باطلًا {أَئِفْكًا} قال المؤلف رحمه الله[في همزتيه ما تقدم] وهو التحقيق، وتسهيل الثَّانية، وإدخال الفاء بينهما في التحقيق والتسهيل، فتكون القراءات أربعًا.

يقول: قال المؤلف: [إفكا مفعول له، وآلهة مفعول به لتريدون. والإفك أسوأ الكذب أي تعبدون غير الله].

المؤلف رحمه الله أعرب لنا هذه الجملة فقال: إن "إفكًا" مفعول له أي مفعول لأجله، وأن قوله "آلهة" مفعول لتريدون، و"دون الله" صفة لآلهة والاستفهام في قوله:{أَئِفْكًا آلِهَةً} كالذي قبله، يعني أتريدون آلهة غير الله من أجل الإفك

ص: 194

والكذب، ويحملكم على هذا الإفك، وهو أسوأ الكذب.

والمعنى: أتريدون آلهة دون الله تعبدونها، فالإرادة هنا بمعنى القصد، والآلهة بمعنى المألوهة أي: المعبودة تريدون ذلك للإفك الذي أفكتموه وهو أسوأ الكذب، ولا شك أن أسوأ الكذب وأظلم الكذب من جعل مع الله إلهًا آخر فإنَّه أكذب الكاذبين، وأظلم الكاذبين، قال الله تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [لقمان: 13] وهنا قال: {دُونِ اللَّهِ} أي سواه وغيره، وربما تشعر بدون المنزلة أنَّها لا تساوي الله عز وجل فكيف تريدونها آلهة وتقصدونها.

{فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)} الاستفهام هنا استفهام تهديد على كلام المؤلف، يعني ماذا تظنون أن الله فاعل بكم إذا عبدتم غيره، أتظنون أن يترككم؟ والجواب: لا.

ويحتمل أن المعنى إذا اتخذتم مع الله غيره إلهًا فما ظنكم به؟ أتظنون أنَّه يقبل هذه الشركة، فالله عز وجل لن يقبل، قال الله تعالى: في الحديث القدسي: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه"

(1)

.

أو {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)} ؟ فما ظنكم بعظمته وجلاله، لو كنتم عظمتموه حق تعظيمه ما أشركتم به غيره.

فالاستفهام في قوله: {فَمَا ظَنُّكُمْ} تشمل كل هذه المعاني:

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله (رقم 2985)(46).

ص: 195

1 -

ما ظنكم به أن يترككم هملًا بدون عقاب.

2 -

ما ظنكم به إذا اتخذتم معه غيره أنكم تنقصتموه.

3 -

ما ظنكم به أنَّه يرضى أن تعبدوا معه غيره، كل هذا أمر إن كانوا يظنونه فقد أساءوا الظن بالله، ولم يقدروا الله حق قدره، ولكن هذه الظنون تلزمهم إذا اتخذوا مع الله غيره ولا يمكن أن يفروا عنها. وقوله:{بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47)} سبق لنا أن المراد بالعالم هنا ما سوى الله عز وجل فكل ما سوى الله فهو عالم، وسُمّوا عالمًا؛ لأنهم علم على الله، فيستدل بمخلوقاته سبحانه وتعالى عليه، كما قال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [فصلت: 37].

{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)} [الروم: 20]{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)} [الروم: 22] إلى آخر ما استدل الله به على نفسه من آياته.

فقوله: {بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)} الربوبية هنا عامة، ولم يقل: ما ظنكم بالله إشارة إلى أن هذه الآلهة المعبودة مربوبة لله عز وجل، فكيف تكون معبودة من دونه؟

وقد ضرب الله سبحانه وتعالى مثلًا في الإنسان المملوك هل يرضى سيده أن يشاركه أحد فيما يختص به؟ {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} [الروم: 28] الجواب: لا، فليس لنا مما ملكت أيماننا من شركاء فيما رزقنا الله.

ص: 196

وتأمل قوله (فيما رزقكم الله) يتبين لك أن هذا رزق الله ومع ذلك يحتكره الأسياد عن العبيد {فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} وهذا هو محط الاستفهام، والجواب: لا.

وإنَّما قلنا: هذا محط الاستفهام؛ لأنهم شركاء فيما رزقهم الله، لكن بقدر القوت والضرورة، فالعبد يشارك سيده، يأكل ويشرب ويلبس كما يفعل السيد، وهذا كله مشاركة في رزق الله لكن هل هم مساوون لأسيادهم في ذلك؟ لا، إذا كان هكذا فلماذا تساوون غير الله مع الله في عبادته؟ فالمهم أنَّه عليه الصلاة والسلام أراد إقامة البرهان على أن هذه الآلهة لا تصح أن تكون آلهة؛ لأنَّها مربوبة لله عز وجل والمربوب عبد لا يصح أن يكون ربًّا.

قال المؤلف: رحمه الله[وكانوا نجامين فخرجوا إلى عيد لهم وتركوا طعامهم عند أصنامهم، زعموا التبرك عليه فإذا رجعوا أكلوه، وقالوا للسيد إبراهيم: أخرج معنا {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88)}. إيهامًا لهم أنَّه يعتمد عليها ليعتمدوه].

قوله رحمه الله[قالوا للسيد إبراهيم]. تسمية إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالسيد فيه نظر، ولو أنَّه قال: إبراهيم الخليل أو الرسول، أما السيد في هذا المقام فممَّا لم يرد، ولا شك أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام سيد من سادات الخلق، لكن أن نعبر عنه بهذا الوصف عند ذكره عليه الصلاة والسلام وندع وصفه بالرسالة أو بالعبودية فهذا فيه نظر.

وهذا الكلام المتقدم الذي ذكر المؤلف أنَّه محذوف من

ص: 197

باب الإيجاز بالحذف يحتاج إلى دليل يثبت أن هؤلاء القوم صنعوا طعامًا ووضعوه عند هذه الأصنام للتبرك عليه، وأنهم أرادوا أن يأكلوه بعد رجوعهم وطلبوا خروج إبراهيم معهم، كل هذا يحتاج إلى دليل، وذكرنا فيما سبق أن قصص الأنبياء السابقين لا يعلمها إلَّا الله {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} [إبراهيم: 9] فإذا كان الأمر كذلك فإننا لا نتلقى أخبار هؤلاء إلَّا من الوحي، إمَّا بالكتاب وإما بالسنة، وما جاء من أخبارهم من غير هذا الطَّريق -أي طريق الوحي- فإننا نتوقف فيه ما لم نعلم مناقضته للشرائع، فإن علمنا مناقضته للشرائع وجب علينا رده، فإذًا نقتصر في القصة على ما ذكره الله عز وجل، وأن إبراهيم عليه السلام في يوم من الأيَّام نظر نظرة في النجوم من أجل محاجة قومه وإظهار عجزهم، فهو كما ذكر الله سبحانه وتعالى في سورة الأنعام عن محاجة إبراهيم لقومه لما جنّ عليه الليل رأى كوكبًا فقال: هذا ربي، فلما أفل -أي غاب- قال: لا أحب الآفلين؛ لأنَّ الرب لا يمكن أن يغيب عن مربوبه، فلما غاب هذا النجم علم أنَّه ليس برب، لأن الرب لابد أن يكون له كمال الرِّعاية لمن كان ربًّا له، فلما رأى القمر بازغًا، قال: هذا ربي والقمر أظهر وأبين من الكوكب، فلما أضل قال:{لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77)} . [الأنعام: 77]

وهذا تعريض لقومه بالضلال. فانظر التدرج كيف يكون؟ قال: لا أحب الآفلين، يعني هو تبرأ من ذلك، ثم عرَّض بأن قومه

ص: 198

ضالون {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77)} . [الأنعام: 77].

{فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} [الأنعام: 78] وهو صحيحٌ، فالشمس أعظم من القمر، فلما أفلت قال: يا قوم إنِّي بريء مما تشركون، فأعلن بشركهم وبالبراءة منهم، وهذا من كمال محاجته.

فلا يبعد أن تكون هذه الآية {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88)} من جنس المحاجة المذكورة في سورة الأنعام.

{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88)} أي: إبراهيم عليه الصلاة والسلام نظر نظرة في النجوم، أي: نظر إليها، وإنَّما فعل ذلك؛ لأنَّ قومه كانوا يعبدون النجوم، ويضعون لها الهياكل في الأرض، وأصل العبادة للنجوم، فنظر في هذه النجوم فلما نظر قال:{إِنِّي سَقِيمٌ (89)} وإنما نظر فيها وهو لا يعتقد عليه الصلاة والسلام من باب التورية، وهذا تورية بالفعل، فكما تكون التورية بالقول تكون التورية بالفعل. فالتورية بالقول كثيرة معروفة، التورية بالفعل: أن يري الإنسان غيره أنَّه يرى شيئًا وهو لا يريده، أو أنَّه معرضًا عن شيء وهو قد وضع باله عليه.

فهذا من التورية بالفعل، لأنك أظهرت لغيرك خلاف ما يراه، والتورية بالقول أظهرت لغيرك خلاف ما يسمعه، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام ورّى بالنظر بالنجوم ثم قال:{إِنِّي سَقِيمٌ (89)} .

وفسّر المؤلف رحمه الله (سقيم) بمعنى سأسقم وهذه

ص: 199

تورية قولية، لأنَّ ظاهر اللفظ (إنِّي سقيم) يعني الآن، ولا أستطيع الخروج معكم، ولكنه يريد سأسقم، لأنَّ اسم الفاعل صالح للزمان الحاضر والزمان المستقبل، فيصح أن تقول: إنِّي حاضر الآن، وإني حاضر غدًا، فلما كان صالحًا للأمرين، ونظر نظرة في النجوم وقال: إنِّي سقيم، تولوا عنه وتركوه وهو يريد عليه الصلاة والسلام بفعله هذا أمرًا سيتبين فيما بعد {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)} {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ} أي: مال في خفية إلى آلهتهم وهي الأصنام التي يعبدونها قال المؤلف: [وعندها الطَّعام]. فأخذ المؤلف من قوله: {أَلَا تَأْكُلُونَ (91)} أن الطَّعام عندها، لأنَّ عرض الأكل عليهم يدل على أن الأكل كان موجودًا. {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ} أي: مال بخفية وانطلق بخفية، والروغان كما هو معروف هو: سرعة الإنسان لكن على وجه لا أحد يَحْس به، فقال:{أَلَا تَأْكُلُونَ (91)} ؟ و"ألا" هنا للعرض، وهذا القول ليس على سبيل الإلزام، ولا يمكن أن يلزمها بأن تأكل لأنَّه يعلم أنَّها لن تأكل، ولكنه قاله على سبيل الاستهزاء والسخرية، وإلزام هؤلاء العابدين بأن هذه الأصنام لا تستحق العبادة، لا لأنها مستغنية عن الطَّعام ولكن لأنها لا تعقل ولا تعلم، والذي لا يعقل ولا يعلم لا يمكن أن يكون معبودًا، ثم إن صح وضع الطَّعام عندها من قبلهم فإن هذا دليل على أنَّها ليست صالحة للألوهية؛ لأنَّ الإله مستغن عن غيره، ولهذا أقام الله تعالى الدليل على أن عيسى ابن مريم وأمه ليس بإلهين بكونهما يأكلان الطَّعام، وأنَّه سبحانه وتعالى وحده الإله الحق بكونه يُطْعِم ولا يُطْعَم، فاحتياج ما يعبد إلى

ص: 200

الطعام دليل على نقص وأنه لا يصح أن يكون إلهًا. لكن هم من سخافتهم يجعلون هذا الطعام عندها كأنها تحتاجه وتأكله وتتصرف فيه. {مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ} الاستفهام هنا للتحقير، أي أنه يحقرها لكونها لا تنطق، وخاطب هذه الأصنام مخاطبة العقلاء في قوله:{مَا لَكُمْ} ولم يقل: مالكن. تنزلًا مع أصحابها الذين يجعلونها من ذوات العلم وذوات القبول والدفع عنهم. {مَا لَكُمْ لَا تَنطَقُونَ} يعني أي شيء يمنعكم من النطق إن كنتم آلهة؟

فإذا قال قائل: هذا الخطاب لهذه الأصنام هل كان في غيبة عابديها؟ إن قلت: نعم، فما فائدة هذا الخطاب؟ وإن قلت: لا، فكيف الجواب عن قوله:{فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)} ؟

والجواب: أن نقول: إن عابديها لم ينصرفوا كلهم عنها، بل كان عندها من الحراس ما يقتضي أن يتكلم إبراهيم عليه الصلاة والسلام على هذه الأصنام بمثل هذا الكلام، وإلا لو لم يكن عندها أحد لكان كلامه هذا لغوًا لا فائدة منه، لكن عندها من الحراس من يستطيع أن يعلم عنها ما علمه إبراهيم، بسبب أنه عرض عليهم الأكل، وإن هذه لم تنطق، وإذا كانت لم تنطق وليس لها إرادة ولا شعور لم تكن صالحة للعبادة. {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93)} في أول الآيات يقول:{فَرَاغَ إِلَئَالِهَتِهِمْ} أي: مال بخفية و (إلى) للغاية أما هنا فقال {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا} وإنما قال: "عليهم" دون "إليهم" لوقوع ذلك الضرب على هذه الأصنام ليكسرها عليه الصلاة والسلام، {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ} أي: على هذه الآلهة، وكما أشرت أولًا أنه خاطبها مخاطبة العاقل فأتى بميم

ص: 201

الجمع. {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93)} ، قوله:"ضربًا" مصدر في موضع الحال، أي: فراغ عليهم ضاربًا باليمين، ويجوز أن تكون مصدرًا لفعل محذوف، والتقدير: فراغ عليهم يضرب ضربًا.

وقول المؤلف: رحمه الله {باليمين} [بالقوة] لا يتعين، بل يجوز أن يكون باليمين أي باليد اليمنى، وضرب بها لأن اليد اليمين هي آلة العمل غالبًا، ولأن اليد اليمنى أقوى من اليد اليسرى في الغالب، ولهذا تجد من النادر أن يكون بعض الناس أعسر يعمل بيده اليسرى عمله بيده اليمنى، {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94)} لما بلغ قومه ما صنع أقبلوا {إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94)} أي: يسرعون على وجه الجماعات بدليل قوله: {فَأَقْبَلُوا} بالواو فهم أقبلوا إليه مسرعين للإنكار عليه، لماذا كسرها؟ وقد ذكر الله تعالى في سورة الأنبياء عنهم:{قَالُوْا مَن فَعَلَ هَذَا بآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِين} [الأنبياء: 59] فجعلوا ذلك ظلمًا وعدوانًا، فجاءوا يزفون لينتصروا لآلهتهم، وهكذا العابدون للأصنام ينتصرون للأصنام، والأصنام لا يستطيعون نصرهم، لكن هم جند محضرون لها. فهؤلاء أقبلوا يزفون إلى إبراهيم لينتصروا لآلهتهم، ولكنه عليه الصلاة والسلام كان قويًّا في ذات الله، {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95)} والاستفهام هنا للتوبيخ والإنكار، والاستهزاء بهم: كيف تعبدون شيئًا أنتم تنحتونه بأيديكم؟ وهل يليق عقلًا أن يكون المعبود مصنوعًا لعابده؟ هذا لا يليق، ولا يفعل هذا إِلَّا أسفه السفهاء. شيء تصنعه أنت بيدك ثم تعبده وتتضرع إليه وتنيب وتتعلق به وترجو منه النفع والضرر، هذا من

ص: 202

السفه، ولكن -والعياذ بالله- الإنسان إذا أعمى الله بصيرته لا يغنيه بصر العين، وكانوا في الجاهلية يفعلون شبه هذا الفعل، كانوا إذا نزلوا أرضًا في سفر جمعوا أربعة أحجار، ثلاثة منها للقدر، وواحدًا للعبادة، فصار هذا الحجر المعبود مساويًا لمناصب القدور، وبعضهم كانوا يعجنون إلهًا من العجوة يعني من التمر، بعبدونه من دون الله، فإذا جاعوا أكلوه، ولم يقولوا: أطعمنا، أو هيئ لنا طعامًا. هو نفسه يؤكل، هذا من السفه، كذلك قوم إبراهيم عليه السلام صنعوا أصنامًا بأيديهم ثم صاروا يعبدونها.

وقول المؤلف: رحمه الله[أصنامًا] إشارة إلى أن {تنحتون} تنصب مفعولين: أحدهما: العائد للموصول الذي تقديره: ما تنحتونه، والثاني: هذا المحذوف الذي قدره المؤلف: أتعبدون ما تنحتون أصنامًا.

{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعمَلُونَ} قال المؤلف رحمه الله[من نحتكم ومنحوتكم فأعبدوه وحده، وما مصدرية، وقيل: موصولة، وقيل: موصوفة].

{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ} إذا كان الله هو الخالق فهو أحق بالعبادة، هل الأحق بالعبادة من خلقكم أو من خلقتموه؟ من خلقكم، ولهذا قال:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} قول المؤلف: [من نحتكم ومنحوتكم].

أتى رحمه الله بالمصدر وأتى باسم المفعول من نحتكم إشارة إلى أن (ما) يجوز أن تكون مصدرية، ويجوز أن تكون

ص: 203

موصولة، فإذا جعلناها مصدرية صار التقدير: من نحتكم، وإذا جعلناها موصولة صارت: من منحوتكم.

وإذا جعلنا التقدير: والله خلقكم وعملكم، صارت (ما) مصدرية. وإذا جعلنا التقدير: والله خلقكم ومعمولكم، صارت (ما) موصولة. وإذا جعلنا (ما) موصولة فلابد من عائد يعود على (ما) وهو في الآية محذوف؛ أي: وما تعملونه، واللازم واحد على الاحتمالين، فإذا قلنا: إن المعنى "والله خلقكم وعملكم" فإن خالق العمل خالق للمعمول. وإذا جعلنا المعنى "والله خلقكم ومعمولكم"، فإنه إذا كان الله قد خلق المعمول وهم الذين باشروا عمله دل ذلك على خلق العمل وخلق العامل أيضًا.

وعلى كل تقدير ففي الآية إقامة الحجة على أن هذه الأصنام لا تصلح أن تكون معبودة؛ لأنها معمولة، وقوله:[وقيل: موصوفة]. الموصوفة هي التي يعبر عنها بالنكرة بالموصوف. يعني خلقكم وصنمًا تعملونه، أو وأصنامًا تعملونها، ولا نقول: والذي تعملون بل نقول: وأصنامًا تعملونها، وأفادنا المؤلف الآن أن لـ (ما) ثلاثة معانٍ: أن تكون مصدرية، وموصولة، وموصوفة، وهذه ثلاثة من عشرة لأن (ما) لها عشرة معاني.

محامل ما عشر إذا رمت عدها

فحافظ على بيت سليم من الشعر

ستفهم شرط الوصل فاعجب لنكرها

بكف ونفي زيد تعظيم مصدر

(ستفهم) الاستفهامية مثل: ما هذا؟

ص: 204

(شرط) الشرطية {وَمَا تَفعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يعْلَمْهُ اللَّهُ} . [البقرة: 197](الوصل): موصولة.

(فاعجب): التعجبية مثل: ما أحسن هذا! !

(لنكرها): النكرة الموصوفة. أو النكرة الواصفة.

تقول: مررت بما معجب لك، أي بشيء معجب لك.

وتقول: عرفته نوعًا ما، يعني نوعًا قليلًا، فهي نكرة واصفة.

(بكف) كافة مثل: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171] فهنا كفت (ما) عن العمل.

(ونفي): نافية: ما حضر زيد.

(زيد): زائدة {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37] ويا طالبًا خذ فائدة: ما بعد إذًا زائدة.

(تعظيم) يعني أنها تأتي للتعظيم، وهذه غير التعجب مثل أن تقول: مررت بما مذهل، أي بعظيم مذهل.

وربما نقول: إن ما التعجبية فيها نوع من التعظيم فإنها تدل على التعظيم والتعجب.

(مصدر): المصدرية ومنه هذه الآية: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعمَلُونَ} . [الصافات: 96].

فهذه محامل (ما) عشرة وينبغي لطالب النحو أن يحفظ مثل هذه الأبيات، لأنه تحصل له المعاني.

الفوائد:

1 -

{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83)} من فوائد هذه الآية

ص: 205

وما بعدها: أن أصل دين الأنبياء واحد، فكلهم شيعة للآخر مقوٍّ لدعوته، ودليل ذلك قوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} [الأنبياء: 25].

أي: رسول كان إِلَّا نوحي إليه أنه لا إله إِلَّا أنا فاعبدون.

2 -

أن الأنبياء وإن طال الزمن بينهم، فإنهم إنما يأتون بالوحي من الله، لأنه إذا طال الزمن تناسى الناس العهد واضمحل وانتهى، ولكن إذا كان بوحي من الله فإنه يتجدد بحسب تجدد هذا الوحي لأن بين إبراهيم ونوح أزمانًا طويلة.

3 -

ومن فوائدها: الثناء على إبراهيم، عليه السلام ووجهه أنه كان شيعة لمن كان يدعو إلى توحيد الله عز وجل، وكل من كان شيعة لمن يدعو إلى الله فإنه بلا شك محل ثناء.

4 -

ومن فوائد قوله: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)} الثناء على إبراهيم أيضًا بكونه جاء الله سبحانه وتعالى بقلب سليم، وهذه الصفة وإن كانت سلبية لكنها تتضمن كمالًا، لأن القلب إذا سلم من الشبهات والشهوات صار خالصًا لله تعالى: قصدًا وإرادة وعملًا، ففيها الثناء على إبراهيم بسلامة القلب.

5 -

ومن فوائدها: عناية الله سبحانه وتعالى بإبراهيم، عليه السلام وذلك بإضافة الربوبية إليه {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ} وهذه ربوبية خاصة، والربوبية الخاصة تقتضي عناية أكثر من الربوبية العامة، لأن المربوبين بالربوبية العامة شملتهم الرحمة العامة، لكن الربوبية الخاصة يكون لهم الرحمة الخاصة.

6 -

ومن فوائد قوله: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85)}

ص: 206

بيان قوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأنه لم تأخذه في الله لومة لائم، لأن رجلًا يخاطب أباه وقومه بهذه العبارة قوي في ذات الله عز وجل، إذ إن العادة أن الإنسان يحابي أباه وقومه، لكن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يحابهم، بل أنكر عليهم، وقال:{مَاذَا تَعْبُدُونَ} .

7 -

ومن فوائدها: أن قرب النسب من أهل الخير لا يفيد الإنسان شيئًا، فإبراهيم بالنسبة لأبيه أقرب شيء لأنه بضعة منه، ومع ذلك لم ينتفع به أبوه، بل كان مشركًا، يحاج ولده على ذلك، ويؤيد هذا قوله تعالى:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} [لقمان: 14، 15] فهذا يدل على تباين ما بين الابن والأبوين، حتى إنهما ليجاهدانه على الإشراك بالله، ومع ذلك قال الله تعالى:{عِلْمٌ فَلَا} .

8 -

ومن فوائدها: صحة نسبة القوم إلى الرسول وإن كذبوه، لقوله:{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ} والانتساب بالنسب لا يعني التبرؤ من الدين فيصح أن ينتسب الإنسان إلى أبيه الكافر، ولا يقال: إن هذا من باب الموالاة، بل هذا من باب الحقيقة، والنسب لا يزول باختلاف الدين أبدًا، وانظر إلى قوله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم:{وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [الأنعام: 66] فأضافهم إليه مع نسبة تكذيبه إليهم، وهذا يدل على أن الإنسان قد يكون من قوم كافرين وينسب إليهم، وأن ذلك لا يخدش في دينه.

9 -

ومن فوائدها: سفه هؤلاء القوم حيث كانوا يعبدون مع

ص: 207

الله غيره، ولهذا أنكر عليهم من كان من أعقل الخلق إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال:{مَاذَا تَعْبُدُونَ} ؟ وقد أرشد الله إلى هذا في قوله: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] وملة إبراهيم هي الحنيفية المبنية على الإخلاص، فكل من خالف ذلك فقد سفه نفسه، أي: أوقعها في السفه، الذي هو ضد الرشد والعقل.

10 -

ومن فوائد قوله: {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} أن كل من زعم أن مع الله إلهًا يعبده فهو آفك كاذب، لقوله:{أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} .

11 -

ومن فوائدها: أن دعوى كون هذه آلهة لا يعطيها سمة الألوهية؛ لأن الكذب لا يقلب الحقائق عن أصلها، فلو قلت مثلًا: قدم زيد، وهو لم يقدم لم يكن قادمًا، فهذه الآلهة وإن جعلوها آلهة لن تكون آلهة، كما قال الله تعالى في آية أخرى:{إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23].

12 -

ومن فوائدها: أن عابدي الآلهة من دون الله يقصدونها قصدًا حقيقيًّا بقلوبهم، كما يتجهون إليها بجوارحهم ولهذا قال:{دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} .

فليسوا يعبدونها مجرد عادة، ولكنهم يعبدونها قصدًا وعبادة، حتى إنهم نسوا الله عز وجل.

13 -

ومن فوائد قوله: {فَمَا ظَنُّكُمْ بَربِّ العَالَمَينَ} ؟ الإنكار الشديد من إبراهيم عليه الصلاة والسلام على قومه،

ص: 208

حيث سألهم موبخًا لهم: ما الذي تظنونه برب العالمين إذا عبدتم غيره؟ هل تظنونه ناقصًا لا يستحق أن يعبد وحده؟ هل تظنونه غافلًا عن عملكم فيدعكم بدون عقوبة؟ هل تظنونه يرضى بأن يُعبد معه غيره؟ كل هذا لم يكن، فظنكم ظنٌّ خاطئ.

14 -

ومن فوائدها: عموم ربوبية الله سبحانه وتعالى لقوله: {بَربِّ العَالَمِينَ} .

15 -

ومن فوائدها: إقامة الحجة على الخصم بما لا ينكره لقوله: {بَربِّ العَالَمِينَ} لأن العالم تشمل حتى آلهتهم التي يعبدونها، فإذا كانت آلهتهم مربوبة فكيف يمكن أن تكون معبودة؟ هذا تناقض، وقد مرّ علينا أن من أقر بانفراد الله بالربوبية لزمه أن يقر بانفراده بالألوهية وإلا صار متناقضًا. إذ لا يستحق العبادة إِلَّا الرب الخالق المالك المدبر، ومن لم يكن كذلك فإنه لا يستحق أن يُعبد.

16 -

ومن فوائدها: أن الخلق علم وآية ودليل على خالقهم، والخلق باعتبار كونه آية على وجود الله وقدرته وكمال سلطانه وتدبيره أمر معلوم، لكن قد يكون آية على معنى خاص، فمثلًا نزول المطر آية على الرحمة، والنكبات والخوف والنقص في الأموال والأنفس آية على عقوبته وغيرته وانتقامه ممن عصاه، فهناك معنىً عامًا تشترك فيه جميع الآيات، وهو كونها دالة على وجود الخالق عز وجل وكمال ربوبيته وسلطانه، وأنه لا يعارضه شيء من هذه المخلوقات.

وهناك معنىً خاصًّا للآية وما تدل عليه بعينها، كدلالة

ص: 209

الغيث على الرحمة، ودلالة الجدب على الانتقام ممن عصاه.

17 -

ومن فوائد قوله تعالى: {فَنَظَرَ نَظرَةً فِي النُّجُومِ} جواز التورية، وهي أن يظهر للمخاطب ما لا يريده، ويفهم منه المخاطب معنىً غير المراد، والتورية قد تكون واجبة، وقد تكون مستحبة، وقد تكون جائزة، وقد تكون مكروهة، وقد تكون محرمة، فتجري فيها الأحكام الخمسة. فإذا توقف على التورية إنقاذ معصوم من هلكة صارت واجبة، مثل أن يأتي شخص ظالم يسأل عن إنسان يريد أن يقتله وأنت تعرف مكان هذا الإنسان فهنا يجب عليك أن توري، لأن في ذلك إنقاذًا للمعصوم من الهلاك، وقد تكون مستحبة كما لو سألك سائل عن عمل صالح عملته تخشى أن تقع في الرياء إن أخبرته به فهنا التورية مستحبة.

وقد تكون مباحة، كما لو ورّيت على شخص يريد منك شيئًا لا تريد أن تعطيه، مثل أن يقول: يا أخي أقرضني مثلًا مئة ألف ريال. وأنت تعرف أن هذا الرجل مماطل لا يفي بالواجب، فهنا تكون التورية مباحة.

وقد تكون مكروهة كما إذا كانت لغير سبب، فالصحيح أنها مكروهة لما يخشى فيه من نسبة الإنسان إلى الكذب؛ لأن الإنسان إذا ورّى ثم ظهر الأمر على خلاف ما فهمه السامع نسبه إلى الكذب، فهذه مكروهة لا يبيحها إِلَّا السبب.

وقد تكون محرمة كما لو تخاصم رجلان إلى القاضي فادّعى أحدهما على الآخر بدعوى، فالمدعي عليه البينة، والمنكر عليه اليمين، فعجز المدعي عن البينة فحلف المدعى

ص: 210

عليه عند القاضي وقال: والله ما له عندي شيء. فالقاضي في مثل هذا التعبير يفهم براءة هذا المدعى عليه. والمدعى عليه أراد بما أن تكون اسم موصول. يعني: "والله الذي له عندي شيء". هذه التورية نقول: إنها حرام، لأنها تتضمن جحد الحق الواجب عليه أداؤه.

فإذا قال قائل: ما الأصل فيها الإباحة أو الكراهة؟

فالأقرب أن الأصل فيها الكراهة، ولكن قد تكون مباحة، وقد تكون مستحبة، وقد تكون واجبة، وقد تكون حرامًا.

18 -

ومن فوائدها: جواز إسناد الوصف إلى الإنسان باعتبار المستقبل، تؤخذ من قوله:{إِنِّي سَقِيمٌ} فإنه الآن ليس بسقيم، لكن كل إنسان عرضة لأن يسقم، على أنه يمكن أن يريد بقوله إني سقيم أي ضعيف باعتبار قوله تعالى:{وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا} . [النساء: 28] فيكون الوصف هنا حاليًّا.

19 -

ومن الفوائد في قوله: {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِريِنَ} أن هؤلاء القوم لما قال لهم هذا القول، وبعد أن نظر نظرة في النجوم اقتنعوا، فيتفرع على ذلك أن الإنسان المبطل قد يقتنع بالشيء ولو كان باطلًا في حقيقته وهو كذلك، فالإنسان المبطل إذا ورّى له في باطله ظن أنه حق فأخذ به واعتبره.

20 -

ومن فوائد قوله تعالى: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91)} إلى آخر الآيات بيان قوة إبراهيم -كما سبق- ما ذهب بسرعة وخفاء إلى هذه الآلهة ليكسرها، ولكنه عليه الصلاة والسلام لم يكسرها إِلَّا بعد أن أقام البينة على من كان عندها بأن

ص: 211

هذه الآلهة لا تصلح أن تكون آلهة. لأنها لا تعقل، لا تنطق، ولا تعرف ما ينفعها ولا تجلب لنفسها نفعًا، فلغيرها من باب أولى، ولهذا قال:{أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ} .

21 -

ومن فوائدها: جواز التورية كما سبق؛ لأنه عليه الصلاة والسلام يعلم أن هذه الأصنام لا تأكل ولا تنطق، لكن أراد بهذا السؤال إقامة الحجة على من كانوا عندها يحرسونها وينتصرون لها: بأن هذه الأصنام غير صالحة للعبادة؛ لأنها لا تعرف ما ينفعها ولا يضرها، ولا تجلب لنفسها نفعًا ولا تدفع عن نفسها ضررًا.

22 -

ومن فوائد قوله تعالى: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} بيان قوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

23 -

ومن فوائدها أيضًا: أنه ينبغي للإنسان إذا عمل عملًا أن يكون فيه جادًّا وحازمًا، فيفعله بقوة لا بتوان وكسل، خلاف لما يقوم به بعض الناس من الأعمال، حيث تجده يواجه عمله بضعف وتوانٍ وكسل.

والإنسان في الحقيقة مع نفسه على ما اعتاد، إذا اعتاد الحزم والقوة وألا يدع عملًا لوقت مستقبل صار حازمًا في أعماله مدركًا لآماله، أما إذا كان كسولًا متهاونًا يقول: أدع هذا الشيء إلى غدٍ. فإن الأعمال سوف تتراكم عليه، وسوف يجد في النهاية أنه عاجز عنها، لأنه إذا أخر عمل يوم إلى غد اجتمع عليه غدًا عملان: عمل الماضي وعمل الحاضر، فإن أخَّره مرة أخرى اجتمع عليه ثلاثة أعمال، وهكذا حتى يعجز ويكل، ولهذا منع

ص: 212

الإنسان الذي عليه قضاء رمضان أن يؤخره إلى ما بعد رمضان الثاني؛ لأنه إذا أخره إلى الثاني تراكمت عليه الديون ثم عجز بالتالي عن قضاء هذه الديون.

24 -

ومن فوائد الآية الكريمة في قوله تعالى: {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94)} بيان شدة انتصار هؤلاء لآلهتهم لأن قوله: {فَأَقْبَلُواْ} يدل على الترتيب والتعقيب والسببية أيضًا، أي: بسبب ما عمل بهذه الآلهة أقبلوا إليه {يَزِفُّونَ} .

والفاء تدل على الترتيب والتعقيب، ففيها دليل على شدة انتصار هؤلاء لآلهتهم مع بطلان هذه الآلهة.

25 -

ومن فوائدها: أن الاجتماع له أثر حتى في الباطل لقوله: {فَأقبَلُواْ إِلَيْهِ} يعني جميعًا، والناس إذا اجتمعوا صار بعضهم لبعض ظهيرًا. ومعلوم أن الإنسان ينتصر ويقوى بغيره.

26 -

ويتفرع على هذه الفائدة أن الإنسان إذا أراد عملًا مهمًّا وخشي أن يعجز عنه بنفسه فالأفضل أن يستعين بغيره ولا يقول: إن هذا استعانة بغير الله تعالى، لأن الله قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:{هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال: 62 - 63] ولا يعد هذا نقصًا في التوكل على الله عز وجل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام سيد المتوكلين، ومع ذلك فإن الله تعالى قال له:{هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بنَصْرِهِ وَبِالْمُؤمِنِينَ} . [الأنفال: 62] وقال سبحانه وتعالى {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} . [آل عمران: 159].

وهذه مسألة يغفل عنها بعض الناس، تجده يهم بالأمر

ص: 213

العظيم ولكن لا يتخذ له مناصرًا، هذا التصرف فيه نظر ولكن يجب أن تراعى الحكمة في هؤلاء المناصرين، هل الحكمة أن يذهبوا جميعًا، أو أن يتفقوا على رأي وإن تفرقوا في الذهاب؟ أقول: إنه يجب أن تستعمل الحكمة هنا؛ لأنه قد يكون من الحكمة أن يذهبوا جميعًا، وقد يكون من الحكمة أن يذهبوا متفرقين لكن يتفقون على رأي واحد، وهذه ترجع في الواقع إلى العمل الذي يريدون الاتفاق عليه، وإلى المواجه التي يريدون أن يواجهوه.

فإن بعض الناس قد يتأثر بالجماعة الكثيرة، ويخضع لهم، وبعض الناس قد تأخذه العزة بالإثم، ويظن أن هذا من باب التظاهر عليه، فلا يقبل منهم صرفًا ولا عدلًا.

والمهم أن الاجتماع على الشيء سبب للعزة والانتصار، ولكن كيف يعالج الشيء الذي اجتمعنا عليه؟ هل يعالج على سبيل الاجتماع أو الانفراد؟ هذا يرجع إلى ما تقتضيه الحال، والإنسان ينبغي أن يستعمل الحكمة في ذلك.

27 -

من فوائدها: أن أهل الباطل يسرعون إلى نيل غرضهم لقوله: {فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} ، وإذا كان أهل الباطل يسرعون إلى نيل غرضهم فينبغي أن يكون أهل الحق أسرع منهم؛ لأن أهل الحق منصورون وأهل الباطل مخذولون.

28 -

ومن فوائدها: أن هؤلاء القوم ينتصرون لأصنامهم ومعبوداتهم مع أنها باطلة، فينبغي أن يكون أهل الحق الذين ينتصرون لله عز وجل أشد منهم انتصارًا في دين الله -سبحانه

ص: 214

وتعالى-، وإذا نظرت إلى واقع المسلمين اليوم وجدت أنهم متفرقون، فكل عالم لا يأوي إلى عالم ولا يشاوره ولا يأخذ برأيه، بل إنه مع الأسف ربما يضاده في رأيه مع علمه بأنه على حق، لكن يكون فيه شبه من اليهود الذين حسدوا العرب على ما أعطاهم الله عز وجل من النبوة العظيمة التي جعلها فيهم، فإن اليهود كانوا يستفتحون على الذين كفروا ويؤملون النصر عليهم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم فلما جاء محمد كفروا بمحمد؛ لأنهم يظنون أنه يأتي من بني إسرائيل وأتى من العرب، وهم يظنون هذا تمنيًا وإلا فهم يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم.

29 -

ومن فوائد قوله تعالى: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحْتُونَ} الإنكار على أهل الباطل بباطلهم عن طريق العقل، والاحتجاج على أهل الباطل بباطلهم عن طريق العقل، أي كيف تنحتونه أنتم وتصنعونه أنتم، ثم بعد ذلك تعبدونه أليس الأولى من الناحية العقلية أن يكون هذا المنحوت هو الذي يعبدكم، لأنكم أنتم الذين نحتموه وأوجدتموه، ولكن عقولهم منتكسة فصار الأمر بالعكس يعبدون ما ينحتون.

30 -

ومن فوائد الآية الكريمة: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} إقامة الدليل على أن الله وحده هو الذي يستحق أن يعبد لقوله: {خلقكم} الخالق هو الذي يجب أن يُعبد.

كيف تعبد من لم يخلقك وتدع من خلقك؟ أو تعبد من لم يخلقك مشركًا له مع من خلقك؟ ولهذا أقام الله البرهان على أنه لا يصح أن يعبد سواه في قوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ

ص: 215

وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] ولم يقل: اعبدوا الله، إقامة للدليل عليهم بالربوبية.

31 -

ومن فوائدها: أن أعمال العباد مخلوقة لله لقوله: {خَلَقَكُمْ وَمَا تَعمَلُونَ} سواء جعلنا (ما) مصدرية، أم موصولة، إن جعلناها مصدرية فالأمر واضح: خلقكم وخلق عملكم، وإن جعلناها موصولة فلأن خلق المعمول فرع عن خلق العمل، فإذا كان معمولك الذي باشرت أنت عمله مخلوق لله فكيف بعملك الذي كان من عند الله، وفي هذه الآية رد على القدرية الذين أنكروا أن يكون لله سبحانه وتعالى شأن في أعمال بني آدم، وقالوا: إن الإنسان مستقل بعمله، وليس لله فيه إرادة ولا خلق.

32 -

وفي الآية رد على الجبرية الذين يقولون: إن الإنسان مجبر على عمله، لقوله:{تَعْمَلُونَ} حيث أضاف العمل إليهم، وإضافة العمل إلى الإنسان تقتضي أنه هو العامل وهو الفاعل حقيقة وهو كذلك.

فالإنسان حقيقة هو الذي يعمل ويفعل ويريد ويختار، ففي الآية الكريمة رد على الطائفتين المنحرفتين، وأهل السنة والجماعة قالوا: إن الإنسان له قدرة واختيار وإيجاد لعمله، ولكن الذي خلقه وخلق هذه القدرة والإرادة هو الله، ففعله يضاف إلى الله خلقًا وتقديرًا، ويضاف إليه إيجادًا ومباشرة، فهو مضاف إلى العبد باعتبار، ومضاف إلى الله باعتبار آخر.

33 -

ومن فوائدها: ما سبقت الإشارة إليه وهو إقامة الحجة على أهل الباطل بباطلهم عن طريق العقل، فإذا كان الله خلقهم

ص: 216

وخلق ما يعملون فكيف يعبدون هذا المخلوق لله ويجعلونه شريكًا مع الله في العبادة؟ !

* * *

{قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97)} أي: قال بعضهم لبعض: {ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا} . الأمر هنا إن كان من الرؤساء فهو أمر حقيقي، وإن كان من غير الرؤساء أو من الرؤساء بعضهم لبعض فهو أمر مشورة والتزام، وليس أمر إلزام، وذلك لأن أمر الإلزام إنما يكون من الأعلى إلى من دونه. وقالوا:{ابْنُوا لَهُ} اللام هنا ليست للملك، ولكنها للتعليل أي ابنوا لأجله بنيانًا، هذا البنيان بنوه من أجل أن يملؤوه حطبًا ثم يوقدوه على إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فبنوا بنيانًا وأضرموا النار في الحطب، كما أشار بعضهم على بعض، {فَأَلْقُوُه فِي الْجَحِيمِ} يقول المؤلف:[ابنوا له بنيانًا فاملؤوه حطبًا وأضرموه بالنار، فإذا التهب فألقوه في الجحيم في النار الشديدة]، قوله:{ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} هذه الآية فيها إيجاز حذف قدره المفسر، التقدير:[فاملؤوه حطبًا وأضرموه بالنار، فإذا التهب فألقوه في الجحيم]، وفي الإتيان بالفاء عقب قوله: ابنوا له بنيانًا، وحذف ما توسط بينهما إشارة إلى أنهم أرادوا الإسراع العظيم في هذا الأمر، كأنهم قالوا: ابنوا بنيانًا وألقوه مباشرة، وليس يلقى بالبنيان فقط ليتمتع فيه، ولكن بعد إيقاد النار فيه، وإنما أرادوا بهذا الإسراع والمبادرة كأنهم طووا ذكر ما بين البناء والإلقاء لعدم وجوده من سرعة المبادرة.

ويدل بذلك أيضًا قوله: {فَألْقُوهُ} والفاء تدل على الترتيب

ص: 217

والتعقيب، قال:{فِي الْجَحِيمِ} أي النار الشديدة. ففعلوا ذلك وألقوه في النار، ولكن خالق النار قال للنار:{كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} ، [الأنبياء: 69] فكانت بردًا وسلامًا عليه، لم تكن بردًا شديدة البرودة حتى يهلك، ولم تكن حارة، بل كانت على عكس ما يريد به الأعداء أرادوا بالنار أن تكون حارة مهلكة، والله عز وجل أراد أن تكون باردة مسلّمة، {كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] فكانت بردًا وسلامًا عليه، وهنا نقف لنبين أن بعض المفسرين قالوا: إنه في تلك اللحظة صارت جميِع النيران في جميع أقطار الدنيا باردة، ولكن هذا قول ضعيف جدًّا، مخالف للقرآن، لأن الله تعالى قال:{يا نار} وهذا النداء يكون موجه للمقصود بالنداء، ولهذا يسميها أهل النحو: نكرة مقصودة، فالمراد تلك النار التي خوطبت فقط، فصارت تلك النار التي خوطبت بردًا وسلامًا، وأما الزعم أن جميع النيران في جميع أقطار الدنيا صارت بردًا مخالف لظاهر القرآن، وليس له أي فائدة.

{فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)} .

الكيد في الأصل: "التوصل إلى الإيقاع بالخصم من حيث لا يدري" والكيد والمكر والخداع بمعنى واحد، أو بمعنى متقارب، لكنها كلها تدل على أن الإنسان يوقع خصمه من حيث لا يشعر، هذا في الأصل، قال تعالى:{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)} [الطارق: 15 - 16] ولكنهم هم أرادوا بذلك إهلاكًا لإبراهيم عليه الصلاة والسلام.

ص: 218

ويحتمل أنهم لما بنوا هذا البناء والنار في وسطه لا تشاهد فيظن الإنسان إذا رآه أنه قصر فيقدم على أن يستسلم للإلقاء، لأنه اعلم ما في جوفه لكان يهرب أو يدافع، فيكون هذا معنى الكيد أَي أنهم لم يشقوا الأرض كما فعل أصحاب الأخدود ويضعوا فيها الحطب ويوقدوه، ولكن بنوا بنيانًا من رآه من الخارج ظن أنه منزل سكن، ولكنه في الواقع حسب صنعهم نار تتأجج. فيمكن أن يقال: إن هذا هو المراد من قولهم: {كَيْدًا} لأن الكيد كما أسلفنا هو التوصل إلى الإِيقاع بالخصم من حيث لا يشعر، ولكن الله تعالى جعلهم {الأَسْفَلِينَ} وذلك بعدم نيل مرادهم بخروج إبراهيم سالمًا، فكان العلو له من وجهين:

الوجه الأول: أنه سلم مما أرادوا من إهلاكه.

الوجه الثاني: أن الله عز وجل أكرمه بأمر لم يكن معهودًا عند البشر، وهو سلامته من النار التي ظنوا أنها ستحرقه، فصاروا أسفلين من هذين الوجهين أنه سلم، وأن الله تعالى أكرمه بأمر لم يكن معهودًا، وهذا بلا شك يوجب أن يكون عاليًا عليهم، بل عاليًا علوًّا بالغًا؛ لأنه قال:{الْأَسْفَلِينَ} والأسفلين هذه اسم تفضيل أي البالغ في السفل غايته.

الفوائد:

1 -

شدة كيد هؤلاء المكذبين لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، حيث أروا الناس أنهم يبنون له بنيانًا دون أن يروه أنهم يريدون أن يحرقوه، لقوله:{فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} .

2 -

من فوائدها: أن النار التي أضرموها في هذا البنيان

ص: 219

كانت عظيمة، لقوله:{فِى الْجَحِيمِ} والجحيم هي النار العظيمة.

3 -

ومن فوائدها: عتوهم لأنهم قالوا: ألقوه، والإلقاء يدل على العنف وعدم الرحمة، وهم كذلك إذ لو كانوا يريدون رحمته ما هموا بإحراقه.

4 -

ومن فوائدها أيضًا: أن نيتهم هذه نية عدوان، لأنه قالوا {ابْنُواْ لَهُ} واللام ذكرنا أنها للتعليل، يعني ما بنوا هذا البنيان إِلَّا بهذه النية السيئة.

ومن فوائد قوله تعالى: {فَأَرَادُوا بِهِ كيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلينَ} .

1 -

بيان ما يكنه أعداء الإسلام للمسلمين وللإسلام من إرادة الكيد بالإسلام وأهله، وهذا كما أنه في الأمم السابقة فيكون في الأمم اللاحقة، لقول الله تعالى:{كَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان: 31].

2 -

ومن فوائدها: الرد على الجبرية لقوله: {فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْدًا} والجبرية ينفون أن يكون للإنسان إرادة في فعله، لأنهم يرون أن الإنسان مجبر على الفعل، وأن فعله الواقع بإرادته كفعله الواقع بغير إرادته، والكل عندهم سواء.

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن هؤلاء الذين كادوا كاد الله بهم، فجعلهم هم الأسفلين.

4 -

ومن فوائدها: أن من يتعالى على الحق فإن الله تعالى يجازيه بنقيض قصده؛ لأن هؤلاء أرادوا العلو والفساد في

ص: 220

الأرض، فعاملهم الله تعالى بنقيض قصدهم فجعلهم الأسفلين.

5 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن الحكم لله عز وجل، وأن بني آدم مهما بلغوا من الطغيان فإنهم تحت حكم الله تعالى وسلطانه، لقوله:{فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} .

6 -

أن الجزاء من جنس العمل، لأن هؤلاء لما طغوا واعتدوا وتعالوا عاقبهم الله تعالى بالسفل المناقض لما أرادوا، فكانت العقوبة مناسبة للفعل.

* * *

{وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} أي قال إبراهيم معلنًا هجرته من بلدهم إلى بلد الشام، وإنما قال ذلك لأنهم بلغوا إلى حد يكون به اليأس من هدايتهم، فإن قومًا أضرموا النار ليحرقوا بها داعيهم إلى الله قوم لا يرجى فيهم خير، ولهذا قال:{إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} .

فإن قلت: هل أُمر بذلك أو أُذن له بذلك؟

فالجواب: نعم، أُذن له بذلك، والدليل أن الله سبحانه وتعالى أقره فلم ينكر عليه، لكن يونس عليه الصلاة والسلام لما ذهب من غير أن يُؤذن له بين الله سبحانه وتعالى أن ذهابه عن غير إذن، فقال:{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} . [الأنبياء: 87].

ولما ذكر هجرة إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يذكر ما فيه انتقاد عليه، ولهذا قال:{وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} قال

ص: 221

المؤلف: [مهاجر إليه من دار الكفر {سَيَهْدِينِ} إلى حيث أمرني ربي بالمصير إليه وهو الشام، فلما وصل إلى الأرض المقدسة قال: {رَبِّ هَبْ لِي}]

{إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} ولم يقل: إلى الله، لأن المقام يختص بالربوبية أكثر، إذ إن الربوبية مقتضاها التدبير، وهو الآن يحتاج إلى مدبر يدبره إلى ما فيه مصلحته، فقال:{ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} والإضافة هنا إضافة تعطف وتحنن، وهي من الربوبية الخاصة، يعني إلى الرب الذي أرجو منه أن يهديني ويدلني لما فيه الخير.

وقوله: {سَيَهْدِينِ} السين هذه للتنفيس وتفيد أمرين:

تحقق الوقوع وقربه.

والمراد بالهداية هنا هداية الدلالة، أي سيهدين إلى ما فيه الخير والصلاح لهذه الدعوة، وربما يقال: إنها تشمل هداية الدلالة وهداية التوفيق.

الفوائد:

1 -

الثناء على إبراهيم عليه الصلاة والسلام بإعلانه الهجرة من بلده الذي يتضمن تحدي قومه وعدم مبالاته بهم، لأنهم لم يمسكوه ولم يمنعوه عن الهجرة، وهذا من حكمة الله عز وجل أن يظهر التحدي في مثل هذا ولا يقع.

2 -

ومنها: ثقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام بربه حيث قال: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} .

3 -

ومنها: الإشارة إلى الإخلاص في العمل لقوله: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} وهذا فيه إخلاص القصد لله عز وجل، وهذه هي

ص: 222

النية الصالحة أن يكون قاصدًا بعمله الوصول إلى رضوان الله عز وجل.

4 -

ومن فوائدها: تحنن الإنسان إلى ربه بالدعاء بأن يأتي بالعبارات الدالة على التحنن والتعطف والافتقار إلى الرب. لقوله: {إِلَى رَبِّي} فأضاف الربوبية إلى نفسه من باب التلطف والتحنن إلى الله عز وجل.

5 -

ومنعا: أنه ينبغي بل يجب على الإنسان أن لا يعتمد على نفسه، بل يعتمد على ربه عز وجل لقوله هنا:{سَيَهْدِينِ} .

* * *

{رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} هو قال المؤلف رحمه الله: [هب لي ولدًا من الصالحين]، أشار المؤلف بقوله [ولدًا] إلى أن المفعول الثاني لهب محذوف تقديره: ولدًا.

وقوله: {مِنَ الصَّالِحِينَ} ، الصالح: هو الذي صلح ظاهره وباطنه، ولزم من صلاحه أن يكون قائمًا بحقوق الله وحقوق عباده، وهو ضد الفاسد، وفساد كل شيء بحسبه، وصلاح كل شيء بحسبه، فصلاح الإنسان أن يكون مستعدًا لما أمر به قائمًا بأمر الله في حقوقه وحقوق عباده.

{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} الفاء في قوله: {فَبَشَّرْنَاهُ} تدل على الترتيب والتعقيب. وربما أيضًا تدل على السببية أي بسبب دعائه لله، أجاب الله دعوته وبشره {بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} .

ص: 223

{فَبَشَّرْنَاهُ} البشارة هي الإخبار بما يسر، هذا هو الأصل إذا أخبر الإنسان بما يسر قيل: بُشر، وإذا أخبر بما يخوف قيل له: أُنذر، ولهذا يذكر الله عز وجل دائمًا التقابل بين البشارة والإنذار {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالحَقِّ بَشِيَرًا وَنَذِيرًا} [البقرة: 119] {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [النساء: 165] فالبشارة في الأصل هي الإخبار بما يسر، وقد تطلق على الإخبار بما يسوء كقوله تعالى:{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24)} [الانشقاق: 24] إما من باب التهكم بهم كما تقول مثلًا للشخص: أبشر بالعقوبة. تتهكم به، وإما من باب الجامع بينهما، وهو أن كلًّا منهما يؤثر على البشرة تأثيرًا يظهر، فالبشارة تؤثر سرورًا وفرحًا واستنارة وجه وراحة قلب، والإنذار بالعكس يظلم الوجه ويصفر، ويحصل فيه الغم.

{فَبَشَّرْنَاهُ} أي بشرنا إبراهيم {بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} قال المؤلف -رحمه الله تعالى-[أي ذي حلم كثير]. وأشار بذلك إلى أن {حليم} صيغة مبالغة ولكن يحتمل أن تكون صفة مشبهة، أي بغلام صفته الدائمة المستمرة الحلم.

والحلم: هو التأني وعدم التسرع في مقابلة الأمور، بل يتلقاها الإنسان بطمأنينة واتزان وتصرف رشيد.

وضد الحليم سريع الغضب سريع الانفعال الذي لا يتأنى في الأمور ولا يتروى فيها فتجده يرد الشيء مبادرة. أو يقبله مبادرة، فالحلم في الحقيقة هو غاية ما يكون من الرشد. ووصف الله هذا الغلام هنا بالحلم، وفي آيتين من كتاب الله وصف الغلام الذي لإبراهيم بالعلم، وذلك لأن الغلامين اثنان: أحدهما وصف

ص: 224

بالعلم، والثاني: وصف بالحلم. والذي وصف بالحلم سيأتينا إن شاء الله بيان منه، وأما الذي وصف بالعلم فهو إسحاق عليه الصلاة والسلام، كما تفيد الآيات التي جاء في سياقها.

{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} الضمير في {بَلَغَ} يعود على الغلام والضمير في {مَعَهُ} يعود على إبراهيم. والسعي إما أن يراد به الكسب، وإما أن يراد به المشي، وكلاهما صحيح، ولكن الأقرب عندي أن المراد به المشي، فإن السعي يطلق على المشي كثيرًا، كما في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وكذلك قال تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 205] فالمراد بالسعي: يعني المشي، ولكن كلمة مع: تفيد المصاحبة، يعني صار تابعًا لأبيه يسير معه؛ لأن ليس صغيرًا، قد مكث في مكانه، وليس كبيرًا انفرد بنفسه، فالصغير الذي في المهد لا يبلغ السعي مع أبيه، والكبير الذي انفرد يبلغ السعي لا مع أبيه لأنه منفرد، أما هذا فقد بلغ مع أبيه السعي، وكان ملازمًا له، وهذا أشد ما يكون الأب تعلقًا بابنه إذا كان في مثل هذا السن؛ لأن الصغير الذي في المهد لا تتعلق به النفس تمامًا، والكبير الذي انفرد كذلك لا تتعلق به النفس تمامًا، وإنما تتعلق بمن كان في متل هذا السن، وهذه من حكمة الله عز وجل أن ابتلي إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه بهذا البلاء المبين.

قال: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} قال المؤلف رحمه الله[أي أن يسعى معه ويعينه، قيل: بلغ سبع سنين، وقيل: ثلاث عشرة

ص: 225

سنة] ويحتمل أن يكون ما بين السبع إلى ثلاث عشرة سنة، لأنه إذا زاد على ذلك فقد يستقل بنفسه، وما دون السبع يحتاج إلى من يعوله، ولا تتعلق به النفس كثيرًا لاسيما نفس الأب، أما الأم فقد يكون تعلق نفسها بالصغير أكثر من تعلقها بالكبير، ولكن الأب تتعلق نفسه بمن في مثل هذا السن.

{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} امتحن الله إبراهيم بمحنة عظيمة لا يصبر عليها إِلَّا من كان في مثل حاله، واعلم أن هذا الولد هو بكر إبراهيم، يعني أنه أول مولود وُلد له.

وولد له كما قيل على كبر السن، يعني أنه كان كبيرًا، ولد له هذا المولود البكر الذي ليس له ولد سواه فامتحنه الله، فأراه الله سبحانه وتعالى في المنام أنه يذبح هذا الولد، وهذا خبر بمعنى الأمر، لأن الذبح هنا مجرد فعل، رأى في المنام أنه يذبح ولده، فهو كما لو أُخْبِرَ بأنه يذبح ولده.

والإراءة إخبار بالفعل، ولهذا قيل: الخبر ما ترى لا ما تسمع.

فالله عز وجل أراه أنه يذبحه، وهذا خبر بمعنى الأمر، كما سيأتي إن شاء الله في قوله:{افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} أراه الله ذلك فلم ينزعج إبراهيم ولم يتأثر واطمأن إلى هذا، ثم عرض الأمر على هذا الابن لا للاستشارة ولكن للاختبار، وإذ لا يمكن أن يستشير إبراهيم ابنه فيما أمره الله به. وإنما عرض عليه الأمر ليختبره بهذا وينظر مدى قوة تحمله لهذا الأمر العظيم.

فلما بلغ معه السعي وأُري ما رأى، {قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى}

ص: 226

أي: رأيت في المنام {أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)} انظر هذا التلطف {يَابُنَيَّ} ، ليبعد عن ابنه أنه ذكر ذلك عن جفاء؛ لأن الإنسان إذا كان يبغض ابنه فإنه لا يهمه أن يعذبه أو أن يذبحه ولا يتأثر بذلك، لكنه قال:{يَابُنَيَّ} من باب التلطف به، وبيان أن الحنان قد بلغ في قلبه كل مبلغ وصغّره فقال:{يَابُنَيَّ} ، ولم يقل:"يا ابني" زيادة في التلطف، قال:{يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} قال المفسر: [أي رأيت] ولكنه عبر بالمضارع عن الماضي ليدل على استمرار حكم هذه الرؤية. وأنه مستمر على تنفيذ حكم هذه الرؤية، أو أنه نزَّل الماضي منزلة الحال، كأنه الآن يرى أنه يذبحه، وعلى كل حال فإن أرى هنا أبلغ من رأيت، لأن (رأيت) شيء مضى، أما (أرى) فهو شيء حاضر يدل على الاستمرار، وأنه سينفذ حكم ما رأى.

قال المؤلف: [ورؤيا الأنبياء حق، وأفعالهم بأَمر الله تعالى]. هاتان كلمتان تعبران عن سؤال مقدر، أولًا: قوله: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} قد يقول قائل: رؤيا المنام أضغاث أحلام، فأجاب عن ذلك بقوله: رؤيا الأنبياء حق، أنا لو رأيت في منامي أني أعتقت عبدي أو أوقفت دوري فلا يكون ذلك نافذًا؟ ولا أومر بذلك من أجل هذه الرؤيا، لكن رؤيا الأنبياء حق يعني أنها وحي. والثاني:[وأفعالهم بأمر الله] وهو أيضًا جواب عن سؤال مقدر، وإذا كانت هذه الرؤيا حقًّا فهل يثبت بها حكم شرعي؟

ص: 227

فأجاب المؤلف بما يقتضي: نعم. لأن أفعال الأنبياء بأمر الله لاسيما مثل هذا الفعل العظيم. هذا الفعل العظيم هو من أكبر الكبائر، لأنه قتل نفس بغير حق، وليست نفسًا بعيدة، بل قتل نفس قريبة، فهو جامع بين قتل النفس وبين قطيعة الرحم، لأن من قتل أجنبيًّا ليس كمن قتل قريبًا، لكن هذا القتل، هذا الذنب العظيم إذا كان بأمر الرب الذي له ملكوت السموات والأرض صار طاعة كما أن السجود لغير الله شرك، ولما كان بأمر الله تعالى كان تركه كفرًا، {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)} [البقرة: 34].

والمهم أن المؤلف أجاب عن هذه الرؤيا بأنها فعل من نبي، وأفعال الأنبياء تقع بأمرِ الله عز وجل لأنهم معصومون.

قال: {فَانظر مَاذَا تَرَى} من الرأي، يعني فكر في أمرك وانظر ماذا ترى؟ فكان جوابه جوابًا عجيبًا عظيمًا، {قَالَ يَاأَبَتِ افْعَل مَا تُؤمَرُ} وهذا شبيه بما وقع من عائشة رضي الله عنها حين خيّرها النبي صلى الله عليه وسلم بين أن تبقى معه وأن تفارقه للدنيا، وقال لها:"استأمري أبويك"، يعني استشيريهم فقالت رضي الله عنها: أفي هذا أستأمر أبوي، إني أختار الله ورسوله والدار الآخرة

(1)

.

{فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} وهذا من باب الاختبار في حال هذا

(1)

أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ}

(4785)، ومسلم، كتاب الطلاق، باب بيان أن تخييره امرأته لا يكون طلاقًا إِلَّا بالنية (22)(1475).

ص: 228

الابن وتهيئته لتنفيذ ما أمر الله به أباه، قال المؤلف:[من الرأي، شاوره ليأنس بالذبح وينقاد للأمر به]. أي لو أنه حين قام من النوم جَرَّ ابنه وذبحه بدون أن يخبره لفات في ذلك فائدتان عظيمتان:

الفائدة الأولى: عدم ظهور تقبل هذا الابن لأمر الله عز وجل.

الفائدة الثانية: أنه إذا أتاه بغتة صار أشد وقعًا في نفسه وأشد ألمًا مما لو أخبر به؛ لأن الإنسان إذا أخبر بالشيء قبل أن يقع واستعدت نفسه له وتهيأت، صار الوارد العظيم يرد على النفس وهي متهيأة فيسهل عليها، بخلاف ما إذا ورد على غرة فإنه يكون أشد وقعًا، وأشد ألمًا، ولهذا قال المؤلف رحمه الله:[ليأنس بالذبح وينقاد للأمر به]. قال: {يَاأَبَتِ} التاء عوضًا عن ياء الإضافة، وأصلها يا أبي، ولكن العرب قد يبدلون الياء تاءً فيقولون: يا أبتي، وعلى هذا فالتاء بدلًا عن الياء فهي ياء المتكلم. {افْعَل مَا تُؤْمَرُ} سبحان الله! لم يقل: يا أبت لا مانع عندي، بل قال:"افعل" فحثه على أن يفعل ولم يقل: افعل ما رأيت، بل قال:{تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} حثًّا لإبراهيم على أن يفعل؛ لأنه إذا ذكره أن هذا أمر الله فإنه يزيده قوة في تنفيذ هذا الأمر، لأن إسماعيل عليه الصلاة والسلام خاف أن تدرك إبراهيم عليه الصلاة والسلام رحمة الولد فيراجع الله عز وجل في ذلك، فأشار عليه أن يبادر بفعل ما أُمر به (افعل)، ولم يقل: ما رأيت، ليكون هذا أشد حثًّا لإبراهيم على الإقدام، ولهذا {سَتَجِدُنِي} ، السين كما قلنا فيما سبق قريبًا للتنفيس، وتفيد شيئين: التوكيد، وقرب الوقوع.

ص: 229

والتأكيد يعني تحقق هذا الشيء، ولكنه لما كان أمرًا مستقبلًا والإنسان لا يثق أن يقوم بالأمر المستقبل، قال:{إِن شَاءَ اللَّهُ} . وأتى بالاستثناء قبل ذكر المفعول الثاني للمبادرة به {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} ولم يقل: ستجدني من الصابرين إن شاء الله فبدأ بالاستثناء الدال على الاستدراك يعني إن لم يشأ الله لم تجدني كذلك، ولكن {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} وقوله:{إِن شَاءَ اللَّهُ} جملة معترضة بين مفعولي تجد، لأن المفعول الأول الياء، والثاني من الصابرين. أي من الصابرين على بلاء الله، وعلى هذا الأمر العظيم، لأن هذا من البلاء العظيم أن يصبر الإنسان على أن يقتل امتثالًا لأمر الله سبحانه وتعالى، وهنا لم يقل ستجدني إن شاء الله صابرًا، بل قال:{مِنَ الصَّابِرِينَ} إشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام سيكون له تأسٍ بمن سبق حتى يكون من جملة المتصفين بهذا الوصف وهو الصبر، قال الله تعالى:{فَلَمَّا أَسْلَمَا} يعني استسلما لأمر الله وانقادا لأمره، عن رضا ورغبة من الأب الذي عزم على أن ينفذ أمر الله عز وجل، والابن الذي تقبل هذا الأمر بانشراح صدر، وحث لأبيه على أن يفعل ما أمره الله به تعالى، وهذا غاية ما يكون من الاستسلام، وهذا استسلام القلب {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} هذا استسلام الجوارح يعني أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام تل ابنه للجبين، يعني صرعه على الأرض على جبينه ليذبحه، وإنما صرعه على جبينه من أجل أن لا يرى وجهه حين يذبحه، ولئلا يرى الابن السكين فيفزع، ومعلوم أن رؤية المذبوح السكين

ص: 230

تريعه، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى رجلًا يحد الشفرة ليذبح شاة فقال:"أتريد أن تميتها ميتتان"

(1)

وإبراهيم عليه الصلاة والسلام تل ابنه للجبين بسرعة وقوة في تنفيذ أمر الله عز وجل. قال المؤلف رحمه الله: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [صرعه عليه، ولكل إنسان جبينان بينهما الجبهة، وكان ذلك بمنى، وأمر السكين على حلقه فلم تعمل شيئًا بمانع من القدرة الإلهية] ونحن نقول وقلنا سابقًا: إن قصص الأنبياء السابقين إنما تؤخذ من الكتاب والسنة الصحيحة، لقوله تعالى:{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} [إبراهيم: 9] ونحن في قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام لا ينبغي لنا أن نتجاوز القرآن ولا أن نقدر شيئًا لا يقتضيه السياق فهنا نقول: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} صرعه على جبينه، والجبين هو طرف الجبهة يعني القرنين، وتقدم ذكر الحكمة في تله هكذا، وأما قول المؤلف:[وذلك بمنى]، فهذا يحتاج إلى دليل، وهو لا شك أنه بمكة، لأن إسماعيل نشأ بمكة من صغره، ولكن كونه في منى هذا يحتاج إلى دليل من الكتاب أو السنة، وإلا وجب التوقف فيه، وقوله:[وأمر السكين على حلقه فلم تعمل شيئًا بمانع من القدرة الإلهية] هذا أيضًا يحتاج إلى دليل، وليس في القرآن الكريم أنه

(1)

أخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 231 و 233 وقال: صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي. وقال في الموضع الآخر: على شرط الشيخين.

وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 33: رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجاله رجال الصحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع (رقم 93) والسلسلة الصحيحة (رقم 24).

ص: 231

أمرَّ السكين على حلقه، فالواجب علينا أن نتوقف في هذا، لا نصدق ولا نكذب؛ لأن القرآن لم يصدق ذلك ولم يكذبه، لكن عندي -والله أعلم- أن هذا لو وقع لكان من الحكمة أن يذكر، لأن فيه دلالة على آية من آيات الله عز وجل، وهي عدم تأثير السكين في حلقه، ولو وقع مثل هذا لذكره الله عز وجل لما فيه من الدلالة على آية عظيمة من آيات الله، والذي نجزم به أنه تله للجبين ليذبحه فقط، وكفى بذلك فخرًا أنه لم يبق إِلَّا أن يمر السكين على حلقه فماذا كان؟

قال الله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} ، قوله:{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} لما شرطية تحتاج إلى شرط وجوابه، فشرطها قوله:{أَسْلَمَا} {وَتَلَّهُ} معطوف عليه، {وَنَادَيْنَاهُ} لا يستقيم أن نجعله معطوفًا على {أَسْلَمَا} ولكن اختلف العلماء في الواو هنا فقيل: إنها زائدة وتقدير الكلام: فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا.

وقال آخرون: ليست بزائدة؛ لأن زيادة الحروف المعنوية التي تقتضي المغايرة لا يمكن أن يقع في القرآن الكريم، بل هي معطوفة على شيء مقدر والتقدير: فلما أسلما وتله للجبين، تحقق تنفيذ أمر الله، أو ما أشبه ذلك من الكلام المناسب، ثم عطف على الجواب المحذوف قوله:{وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا}

ص: 232

الفوائد:

1 -

أن كل أحد وإن علا قدره من البشر مفتقر إلى الله عز وجل، ومفتقر إلى من يعينه، لقوله:{رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} .

والمؤلف رحمه الله قدر أن في الآية محذوفًا تقديره ولدًا، وكأنه خص هذا الطلب بالولد لقوله تعالى:{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} على أن الآية تحتمل أن المحذوف ليس كلمة ولد، وأنه حذف المعمول لإفادة العموم أي هب لي من الصالحين من يكون عونًا لي من الأولاد وغيرهم، لأن القوم الذين كان فيهم غير صالحين، فسأل الله أن يهب له من الصالحين من يعينه ويساعده، فكانت الإجابة من الله أن بشره بمن يعينه من صلبه في قوله:{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} فيكون هذا الوجه الذي ذكرنا أعم من الوجه الذي قاله المؤلف رحمه الله.

2 -

ومن فوائد الآية: الحث على الاستعانة بالصالحين، لقوله:{رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} وأنه ينبغي للإنسان أن يكون قرناؤه من الصالحين؛ لأن القرين الصالح يعينك على الخير، ويحذرك من الشر، وكما مثَّل الرسول عليه الصلاة والسلام الجليس الصالح بحامل المسك، إما أن يحذيك، وإما أن يبيعك وإما أن تجد منه رائحة طيبة

(1)

.

من فوائد الآية الكريمة في قوله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} .

(1)

أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب في العطار وبيع المسك (2101) ومسلم كتاب البر والصلة، باب استحباب مجالسة الصالحين (2628)(146).

ص: 233

1 -

إجابة الله سبحانه وتعالى للدعاء لقوله: {فَبَشَّرْنَاهُ} والفاء تفيد التعقيب والترتيب والسببية، أي فبسبب دعائه ببشارته.

ويلزم من هذه الفائدة وهي إجابة الله عز وجل لمن دعاه صدق وعده تعالى لقوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] وقدرته على تحقيق ما وعد به؛ لأنه لو كان عاجزًا لم يعطِ ما دُعي به، ولكنه عز وجل على كل شيء قدير.

2 -

ومن فوائد هذه الآية: الثناء على إسماعيل عليه السلام لوصفه بالحلم.

3 -

ومن فوائدها: تبشير المرء بما ولد له من ولد، ولاسيما إذا كان ذكرًا؛ لأن الله عبر عن إخباره إبراهيم بأنه سيولد له بالبشارة فأخذ العلماء من هذا أنه تشرع بشارة من ولد له ولد ولاسيما إذا كان ذكرًا.

وهل يستفاد من الآية الكريمة إثبات كلام الله؟ لو كانت البشارة من الله لكان يستفاد من ذلك إثبات الكلام، لكن قد يكون بشرناه على لسان الملائكة يعني الملائكة هي التي بشرته فالله أعلم.

ومن فوائد الآية في قوله: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)} .

1 -

أن الله عز وجل قد يبتلي عبده المؤمن ببلوى عظيمة شديدة على النفوس، وذلك بما أرى الله نبيه إبراهيم عليه الصلاة

ص: 234

والسلام من ذبح ولده، ونحن نعلم أن الله لو قدر على ولدك أن يموت لكان هذا مصيبة عظيمة، لكن إذا أمرك الله سبحانه وتعالى أن تذبحه أنت بنفسك صار هذا أعظم وأشد، وصار الصبر على هذا الأمر أشد وأفضل من الصبر على موته بقدر من الله عز وجل.

2 -

ومن فوائدها: أن هذا الوقت الذي أمر إبراهيم فيه بذبح ابنه فيه كان وقتًا يكون فيه تنفيذ الأمر شديدًا لأنه بلغ معه السعي، فتنفيذ الأمر في هذا الحال يدل على كمال عبودية المأمور حيث نفذها في أشد ما يكون تعلقًا بابنه.

3 -

ومن فوائدها: أنه ينبغي لمن أراد أن ينفذ شيئًا مكروهًا لشخص أن يأتي بأسلوب يدل على أنه لا يريد الإضرار به، وإنما هو أمر لابد منه لقوله:{يا بني} فإن إتيانه على صيغة التلطف من أجل أن يبعد عنه تهمة أنه لا يحبه.

4 -

ومن فوائدها: أنه يجوز امتحان الشخص بما لا يؤخذ رأيه فيه، ولكن للاستعلام لقوله:{إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لا يريد أن ينظر إلى ابنه إن قال: لا تذبحني، ترك الذبح، بل يريد أن يعرف مدى قبوله واستعداده، فيكون في هذا تورية، والتورية لا شك أنها جائزة للاستعلام والاستخبار، ولاسيما عند الحكم في القضاء، وفي قصة سليمان عليه الصلاة والسلام في المرأتين اللتين تخاصمتا في ولد بينهما، حيث تخاصمتا عند داود عليه الصلاة والسلام، فحكم به للكبرى، ثم تخاصمتا عند سليمان عليه الصلاة والسلام فدعا بالسكين ليشقه نصفين بينهما،

ص: 235

وسليمان لن يفعل أبدًا، لكن هذا من باب التورية واستطلاع الحقيقة، فلما دعا بالسكين وأراهما أنه يريد أن يشقه نصفين، قالت الصغرى: هو ولدها يا نبي الله، فعرف أنه لها، لأنها أدركها حب الولد فتنازلت عن حقها منه ودعواها، والكبيرة رضيت لأنه لا يهمها أن يقتل ابن هذه المرأة، كما أكل الذئب ولدها.

(1)

إذًا نأخذ من هذا أنه يجوز للإنسان أن يورّي للشيء لاستطلاع الأمر واستظهاره؛ لأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما قال لابنه: {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} فإن ظاهر ذلك أنه يريد أن يستشيره ويأخذ رأيه إن وافق وإلا لم ينفذ، وليس الأمر كذلك، بل أراد أن يختبره لينظر مدى قبوله لهذا الأمر واستعداده لتنفيذه.

5 -

ومن فوائدها: أن رؤيا الأنبياء حق، وذلك أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام اعتمدها ولو لم تكن حقًّا لم يعتمدها، ولكن لو رأى أحدنا مثل هذه الرؤيا أنه يذبح ابنه فهل هذا حق؟ الجواب: لا، ليس بحق قطعًا لأننا لا نؤمر أبدًا عن طريق المنام ولا عن طريق اليقظة بذبح أبنائنا، لكن إما أن تكون رؤيا ويكون فيها إشارة إلى شيء مشابه، وإما أن تكون من الشيطان ليحزنك، أما أن تكون أمرًا يجب تنفيذه فهذا لا يمكن.

6 -

ومن فوائدها: حسن أدب إسماعيل، عليه الصلاة والسلام، حيث قال في جواب أبيه:{يَاأَبَتِ} ولم يقل: يا هذا، أو يسكت، بل قال:{يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} .

(1)

أخرجه البخاري كتاب أحاديث الأنبياء، باب قوله تعالى:{وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ} (3427) ومسلم كتاب الأقضية، باب اختلاف المجتهدين (1720)(20).

ص: 236

7 -

ومن فوائدها: أن الخبر قد يكون بمعنى الأمر، لأن هذه الرؤيا كما مر علينا بمنزلة الخبر، حيث لم يقل له في الرؤيا: اذبح ولدك، بل رأى نفسه يذبح الولد، ولكن الخبر قد يكون بمعنى الأمر، وهل يحتاج إلى قرينة في هذا أم لا؟ الجواب: نعم، يحتاج إلى قرينة؛ لأن الأصل في الخبر أنه لا يدل على الطلب، ولكن إذا وجد قرينة تقتضي ذلك كان أمرًا.

8 -

جواز حث المفضول للفاضل على فعل الأوامر لقوله: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} ويتفرع على هذه الفائدة أنه لا ينبغي للإنسان أن يحقر نفسه في الأمر بالخير، فيقول: هذا أجل مني، هذا أعلم مني، هذا أكبر مني، فلن آمره بشيء، بل نقول: مر بالخير سواء كنت أصغر سنًّا أو شأنًا من المأمور، أو مثله، أو أكبر منه.

9 -

أنه ينبغي للإنسان أن يعلق كل أمر مستقبل على مشيئة الله عز وجل لقوله: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} فإن هذا أمر مستقبل، وينبغي أن يعلق الإنسان كل أمر مستقبل بمشيئة الله سبحانه وتعالى.

فإن قال قائل: كيف نفهم هذا الحكم من قول إسماعيل عليه الصلاة والسلام؟

فالجواب: أن الله سبحانه وتعالى قصه علينا لنعتبر به، كما قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111] ويؤيد هذا أيضًا شرعنا، فإن الله قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23، 24].

ص: 237

10 -

ومن فوائدها: أن الصبر يكون على امتثال الأوامر وعلى المصائب، فإن قوله:{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} أي الصابرين على تنفيذ هذا الأمر، وعلى ما يقتضيه من الآلام لأنه ذبح.

والصبر ثلاثة أقسام دلت الآية على قسمين منها، والثالث: الصبر عن معصية الله.

11 -

ومن فوائد هذه الآيات في قوله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} فضيلة إبراهيم وإسماعيل -عليهما الصلاة والسلام- حيث استسلما لأمر الله في هذا الأمر العظيم، الذي لا يُقدم عليه إِلَّا أمثالهما، ولا شك أن هذا من مناقبهما.

12 -

ومن فوائدها: أنه ينبغي للإنسان أن يحول بين نفسه وبين كل شيء قد يعيقه عن تنفيذ أمر الله، لقوله:{وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} فإن هذا يهون عليهما الأمر فيهون عليهما التنفيذ.

وربما يتفرع على هذه الفائدة العمل بسد الذرائع ومنعها، أي الذرائع التي تحول بين المرء وبين تنفيذ أمر الله، أو توجب أن يقع فيما نهى الله عنه.

* * *

ثم قال تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)} .

{وَنَادَيْنَاهُ} ضمير الفاعل يعود على الله عز وجل.

والنداء يكون بالصوت العالي للمنادى، بخلاف المناجاة، فتكون بالصوت المنخفض، ولا شك أن الصوت العالي يقال لمن

ص: 238

كان بعيدًا، والصوت المنخفض يقال لمن كان قريبًا.

وقوله: {أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ} أن هذه تفسيرية، لأن التفسيرية هي التي تأتي بعد فعل، أو بعد عامل يتضمن معنى القول دون حروفه، فهي بمعنى: أي {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} صدقتها أي فعلت ما يقتضي تصديق هذه الرؤيا، وقد رأى أنه يذبح ابنه وعزم على ذلك، وقام ببعض العمل الذي يكون بين يدي الذبح، فجعل الله سبحانه وتعالى ذلك تصديقًا.

والرؤيا: ما يراه الإنسان في منامه.

وما يراه الإنسان في منامه وينقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: رؤيا.

القسم الثاني: حلم.

القسم الثالث: يكون عن حديث النفس، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"الرؤيا ثلاث: فالرؤيا الصالحة بشرى من الله، ورؤيا تخويف من الشيطان، ورؤيا مما يحدث المرء نفسه"

(1)

.

أما الأول فإنه من الله، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة

(2)

.

وأما الثاني فهو من الشيطان، وغالبًا ما يكون هذا فيما يمتنع شرعًا، أو حسًّا، أو عقلًا، أي أن الشيطان يصور للشخص شيئًا ممتنعًا في الشرع، أو ممتنعًا في العقل، أو ممتنعًا بالحس.

(1)

أخرجه البخاري معلقًا، كتاب التعبير، باب القيد في المنام (7017) ومسلم، كتاب الرؤيا (2263).

(2)

أخرجه البخاري، كتاب التعبير، باب الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة (6989)، ومسلم، كتاب الرؤيا (2263).

ص: 239

أو من أجل إحزان الرائي وإخلال عقله، وقد حدَّث رجل النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى في منامه أنه قد ذبح وأن رأسه تدحرج وأنه يشتد وراء رأسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تحدث الناس بما يتلاعب بك الشيطان في منامك"

(1)

لأن هذا الشيء غير معقول، إنسان قطع رأسه وهرب الرأس وذهب يشتد وراءه ليأخذه ويضعه على رقبته، هذا شيء ينافي العقل.

وأحيانًا يضرب لك الشيطان مثلًا بما يمتنع شرعًا كما يذكر عن عبد القادر الجيلاني رحمه الله أنه رأى نورًا عظيمًا وسمع من هذا النور قولًا يقول: إني أنا ربك. وحدثه، فقال: إنه قد وضح عنه الصلاة فقال له: كذبت ولكنك الشيطان وعرف أنه كاذب، لأنه حدثه بما يمتنع شرعًا، فإن وضع الصلاة لا يمكن أن يكون أبدًا وهي أهم أركان الإسلام، والوحي قد انقطع، فإذا رأى إنسان في منامه ما يمتنع شرعًا فإنه من الشيطان.

الثالث ما يريه الشيطان للإنسان في منامه، لأجل أن يحزن، وهذا كثير جدًّا، ودواء هذا ما أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا رأى في منامه ما يكره، فليقم وليتفل عن يساره ثلاثًا، وليقل: أعوذ بالله من شر الشيطان ومن شر ما رأيت، ثم ينقلب إلى الجنب الآخر، ولا يحدث الناس بما رأى، وبعد ذلك لا يضره هذا الحلم

(2)

.

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الرؤيا، باب لا يخبر بتلعب الشيطان به في المنام (رقم 2268)(14 - 16).

(2)

أخرجه مسلم، كتاب الرؤيا، باب في كون الرؤيا من الله (2261)(4 - 5).

ص: 240

القسم الثالث: ما يحدث به الإنسان نفسه في اليقظة، فإنه لشدة تعلق نفسه به قد يراه في منامه وهذا كثير.

{قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} قال المؤلف رحمه الله[بما أتيت به بما أمكنك من أمر الذبح، أي يكفيك ذلك، فجملة (ناديناه) جواب (لما) بزيادة الواو] هذا سبق البحث فيه، وبينا أن الصحيح فيه أن الواو ليست زائدة، ولكنها عاطفة على مقدر مناسب للمقام، لأن الواو من حروف المعاني وتفيد فائدة لا نستفيدها إذا قلنا بزيادتها، وما كان كذلك فإنه لا يمكن أن يكون زائدًا.

{إِنَّا كَذَلِكَ} أي: مثل جزائنا إياك {نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} وذلك بإزالة الشدة عنهم إذا فعلوا ما أمروا به، وشاهد هذا قوله تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]{يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)} [الطلاق: 4].

فهاتان آيتان تدلان أن الإنسان كلما اتقى الله زالت عنه الهموم وفرجت عنه.

وقوله: {الْمُحْسِنِينَ} يشمل الإحسان في عبادة الله، والإحسان إلى عباد الله. وقد تقدم ذلك.

{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} ، هذه الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات أولها: إن، والثاني: اللام، والثالث: ضمير الفصل.

{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} ولا شك أن الأمر كما قال ربنا عز وجل: إنه بلاء مبين، اختبار عظيم ظاهر أن أمر بذبح ابنه الذي فيه هلاكه وموته على يديه، والواحد منا قد لا يطيق الصبر على موت ابنه الذي جرى بفعل الله عز وجل فكيف يصبر على

ص: 241

أن يذبح ابنه بيده؟ ! ولهذا قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} وفسر المؤلف المبين هنا بالبين، ولكن يحتمل أن يكون المراد به المبين: المظهر يعني الذي أظهر حقيقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأنه يقدم محبة الله على ما يحب، قال أهل العلم: ولهذا جعله الله تعالى خليلًا له، والخلة هي أعلى أنواع المحبة، حيث قدم عليه الصلاة والسلام ما يحبه الله على ما تحبه نفسه.

{وَفَدَيْنَاهُ} قال المؤلف رحمه الله[أي: المأمور بذبحه وهو إسماعيل أو إسحاق قولان (بذبح) بكبش عظيم من الجنة، وهو الذي قربه هابيل جاء به جبريل عليه السلام فذبحه السيد إبراهيم مكبرًا]. تسمية إبراهيم عليه السلام بالسيد فيه نظر، ولا شك أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام سيد من سادات الخلق، لكن كونه يعبر عنه بهذا الوصف عند ذكره وندع وصفه بالرسالة أو بالعبودية وما أشبه ذلك فيه نظر.

{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} ، أي فدينا الذبيح، والذبيح الذي أمر بذبحه، أي جعل الله له فداء، فنقل الأمر من ذبح هذا الولد إلى ذبح الكبش؛ لأن الشيء الذي يقع فداء للشيء يكون بدلًا عنه ونائبًا منابه. فانتقل الأمر من ذبح هذا المولود إلى ذبح الكبش فصار فداءً له، وقول المؤلف:[بكبش عظيم] الكبش: هو الكبير من الضأن، أي: الكبير الجسم، وزيد في ذلك قوله (عظيم) يعني أنه من عظيم الكباش، ويقول المؤلف:[إنه الذي قرَّبه هابيل]، وهابيل هو أخو قابيل وكان هابيل قد قرب قربانًا فتُقبَّل منه، وقرب

ص: 242

قابيل قربانًا فلم يتقبل منه، فحسده قابيل وقال له لأقتلنك، فقال له هابيل:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)} [المائدة: 27]، يعني فلو اتقيت الله لقبل منك، والقصة معروفة في ابني آدم عليه الصلاة والسلام، ولكن ما قاله المؤلف -رحمه الله تعالى- دعوى تحتاج إلى دليل، وليس هناك دليل من الكتاب والسنة، بل إن الدليل على خلافه، لأن القربان الذي تقرب به هابيل لا يتعين أن يكون كبشًا، ثم على فرض أنه كبش فإنه قد ذُبح وأُكل ولن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم. لكن هذا مما يأخذه بعض المفسرين رحمهم الله عن الإسرائيليات، ولا يجوز أن يؤخذ عن الإسرائيليات مثل هذا الكلام؛ لأن هذا كلام يقطع بكذبه، وأخبار بني إسرائيل إذا كان يقطع بكذبها لا يجوز نقلها، إِلَّا على سبيل التكذيب لها.

وقول المؤلف رحمه الله: [إن الكبش من الجنة] ليس هناك دليل على أنه من الجنة. ولا على أن في الجنة كباشًا، فالصواب أنه ذبح من بهيمة الأنعام الموجودة في وقته أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن يذبحه، وظاهر الآية الكريمة أنه ذبحه فداء عن إسماعيل، ويجوز أيضًا أن يكون مع الفداء شكرًا لله سبحانه وتعالى على نعمته بزوال هذا البلاء المبين.

وأما قول المؤلف رحمه الله: [وهو إسماعيل أو إسحاق قولان] فالأمر كما ذكر اختلف العلماء رحمهم الله من هو الذي أُمر بذبحه هل هو إسماعيل أو إسحاق؟ والصحيح أنه إسماعيل بل إنه هو المتعين لعدة أوجه:

ص: 243

1 -

منها ما سيأتي في كلام المؤلف في قوله: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} . حيث قال المؤلف: [استدل بذلك على أن الذبيح غيره].

2 -

ومنها أن الله تعالى قال في إسحاق: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28)} [الذاريات: 28]، وفي الذبيح قال:{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)} [الصافات: 101]، وهذا غير هذا لأن الذي وصف بالحلم هو الذي صبر على الذبح، وتنفيذ أمر الله عز وجل.

3 -

ومنها أن الله وصف إسماعيل بأنه صادق الوعد {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54]، وهذا الوصف إنما يقال في أمر عظيم صدق به الإنسان، والوعد الذي وعد هو قوله لأبيه:{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)} وقد وفَّى بذلك.

4 -

ومنها أن الله تعالى وصف إسماعيل بأنه من الصابرين، ولم يصف بذلك إسحاق، فقال تعالى:{وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)} [الأنبياء: 85]، ولم يذكر إسحاق ولم يصفه بالصبر، ومعلوم أن الصبر الذي صبره إسماعيل هو الصبر الذي يستحق أن يثنى به عليه؛ لأنه صبر عظيم.

5 -

ومنها أن الله سبحانه وتعالى بشر بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، فقال:{وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)} [هود: 71]، ولو كان إسحاق الذي أمر بذبحه لكان هناك تناقض؛ لأنه كيف يؤمر بذبحه وقد بشر بابن له أي: لإسحاق؛ لأن يعقوب بن إسحاق، فإذا كان قد بشر بأن له ولدًا اسمه يعقوب، فلا يليق أن يؤمر بذبحه.

ص: 244

وقد يقول قائل: إنه بشر بيعقوب باعتبار المآل؛ لأنه إذا نسخ وجوب الذبح بقي هذا الولد ورزق ولدًا.

فيقال: نعم هذا يمكن أن يرد به لكن تفوت البشارة عندما يؤمر بالذبح، ومعلوم أن الإنسان المبشر بالشيء لا يمكن أن يزعج بضده، فإذا أزعج بضده انقلبت البشارة سوءًا.

6 -

قوله تعالى هنا: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ} بعد أن ذكر قصة الذبح كاملة، ولا يمكن أن يكون في القرآن تكرار.

7 -

أن الله تعالى ذكر البشارة بإسحاق للأم {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} ولم يذكر ذلك في إسماعيل.

8 -

أن الله تعالى قال في إسحاق: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} وإذا كان قد بُشر بأنه نبي، فإنه لا يليق ولا يسوغ أن يؤمر بذبحه بعد أن بشر بنبوته.

9 -

أنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنا ابن الذبيحين"

(1)

يعني إسماعيل وأباه عبد الله بن عبد المطلب.

فإن صح هذا الحديث فهو أيضًا دليل واضح على أن الذبيح إسماعيل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان من ذرية إسماعيل ولم يكن من ذرية إسحاق.

{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108)} تركنا: قال المؤلف: [أبقينا عليه في الآخرين ثناء حسنًا {سَلَامٌ} منا {عَلَى إِبْرَاهِيمَ}].

(1)

ذكره الحاكم في المستدرك (ج 2/ 609) ح (4048) وعلق الذهبي بقوله: إسناد واهٍ وقال الألباني في السلسلة الضعيفة (1/ 336 رقم 331): (4/ 172 رقم 1677) لا أصل له بهذا اللفظ.

ص: 245

أفاد المؤلف رحمه الله أن الترك هنا بمعنى الإبقاء، وأن مفعوله محذوف تقديره ثناءً حسنًا، وهذا أحد القولين في المسألة.

والقول الثاني: إن المفعول لتركنا هو قوله: {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} يعني أن الله ترك عليه في الآخرين السلام، أي أن يسلم من الثناء القبيح، ورجح هذا ابن القيم رحمه الله في كتابه:"جلاء الأفهام" وقال: إن مفعول تركنا هو الجملة في قوله: {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} ولهذا يثنى عليه إلى يوم القيامة، ويقال:"اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد". كما يقرأ في القرآن الكريم صفاته التي يثنى بها عليه.

وقوله: {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} السلام يعني السلامة من النقائص والعيوب التي تعتري البشر، ومن الثناء القبيح الواقع عليه من غيرهم، ولهذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان الناس كلهم يفخرون بالانتساب إليه حتى اليهود قالوا نحن على ملة إبراهيم، والنصارى قالوا نحن على ملة إبراهيم.

قال الله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)} [آل عمران: 67].

{كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} تقدم الكلام عليها.

{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} الجملة هذه استئنافية يقصد بها الثناء على إبراهيم بغاية ما يثنى به وهو الإيمان والعبودية. فالعبودية في قوله: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا} ، والعبودية هنا العبودية

ص: 246

الخاصة بل خاصة الخاصة؛ لأن العبودية تنقسم إلى قسمين: عامة مثل: {إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44)} [غافر: 44]

وخاصة: مثل: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} . [الفرقان: 63]

ومنها ما هو أخص وهي عبودية الرسالة في قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)} . [الفرقان: 1]

وكلما كان أخص فهو أكمل، والأخص ينافي الأعم؛ لأن العبودية الخاصة في ضمن العبودية العامة، فكل من كان عبدًا لله بالمعنى الخاص فهو عبد له بالمعنى العام، ولا عكس يعني ليس كل من كان عبدًا لله في المعنى العام يكون عبدًا لله في المعنى الخاص.

{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ} بشرنا إبراهيم بإسحاق يعني أعلمناه به على وجه يسر به بعد البشارة الأولى بإسماعيل، ولهذا كان إسماعيل أكبر من إسحاق عليهما الصلاة والسلام.

وقوله: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا} قال المؤلف رحمه الله[نبيًا: حال مقدرة أي يوجد مقدرًا نبوته]. أي بولادته ووجوده نبيًّا حال من إسحاق، وأفادنا المؤلف بأنها حال مقدرة، لكن لما كانت أمرًا واقعًا لا محالة وصف بها حال البشارة وإلا فإنه حال البشارة ليس بنبي إذ إنه صغير، ولكن سيكون نبيًّا، ولما كان هذا الأمر محققًا جعل كأنه حال واقعة وأمر واقع.

وقوله: {مِنَ الصَّالِحِينَ} أي: القائمين بحق الله تعالى وحق عباده.

ص: 247

{وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ} أي: على إبراهيم قال المؤلف رحمه الله[بتكثير ذريته {وَعَلَى إِسْحَاقَ} ولده بجعلنا أكثر الأنبياء من نسله].

أي: بارك الله على إبراهيم عليه الصلاة والسلام حيث جعل في ذريته النبوة والكتاب، فكل الأنبياء بعد إبراهيم من نسله وعلى إسحاق عليه الصلاة والسلام -أيضًا؛ لأن أنبياء بني إسرائيل كلهم من نسل إسحاق، وليس من ولد إسماعيل نبي إِلَّا محمد صلى الله عليه وسلم.

قال: [{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ} مؤمن {وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} كافر {مُبِينٌ}، بين الكفر].

{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا} أي: ذرية إبراهيم وإسحاق. {مُحْسِنٌ} أي: قائم بحق الله عز وجل وحق عباده، ومنهم {وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} بارتكاب المعاصي والعدوان على الحق وعلى الخلق.

{مُبِينٌ} أي: بيّن الظلم كما قال المؤلف. وعلى هذا فهي من أبان اللازم، ويجوز أن تكون من أبان المتعدي، ويكون المعنى: مظهر لظلمه، والواقع أن ذرية إسماعيل وإسحاق يتصفون بهذا الوصف: ظالم ومحسن. ولهذا لما قال إبراهيم حين قال له الله عز وجل: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)} [البقرة: 124]، فكان في قوله:{لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)} [البقرة: 124] إشارة أنه سيكون من ذرية إبراهيم من هو ظالم لا يستحق أن يكون إمامًا في دين الله عز وجل.

ص: 248

الفوائد:

من فوائد هذه الآية وما بعدها:

1 -

إثبات الكلام لله عز وجل لقوله: {وَنَادَينَهُ} أي: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، وأنه بصوت لقوله:{وَنَادَينَهُ} وبحرف لقوله: {أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)} إلى آخره.

2 -

ومن فوائدها: أن الآية شهدت لما دل عليه الحديث الصحيح من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب"

(1)

فإن أشد كرب وقع لإبراهيم عليه الصلاة والسلام بالنسبة لهذه القضية ما حصل منه حين تل ابنه على جبينه ليذبحه، فما تصورون لهذه الحال، إنه لكرب عظيم، وفي هذا الكرب العظيم جاء الفرج من الله عز وجل:{وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)} .

فالفرج يكون مع الكرب، وكلما اشتد الكرب والتجأ الإنسان إلى ربه كان الفرج إليه أسرع.

3 -

ومن فوائدها: أن فيها شاهدًا للحديث الصحيح أن الإنسان إذا قصد العمل وسعى به كتب له أجره لقوله: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} مع أنه لم يذبح، لكنه فعل ما أمر به، ولم يبق إِلَّا أن ينفذه.

والحديث الذي تشهد له هذه الآية.

(1)

أخرجه الإمام أحمد في المسند 1/ 307، وصححه محققو المسند (5/ 18 - 19 رقم 2803) طبعة مؤسسة الرسالة.

ص: 249

أولًا: ما ثبت في الصحيح في قصة الرجل الذي قال: "ليت لي مثل مال فلان فأعمل فيه مثل ما عمل فلان، وكان ينفق ماله في الخير"

(1)

.

وكذلك في قصة الرجلين يقتتلان كلاهما يدخل النار، فقيل: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ ! قال:"لأنه كان حريصًا على قتل صاحبه"

(2)

فإذا كان من فعل السيئة ولم يتمها يؤزر عليها فمن فعل الحسنة ولم يتمها من باب أولى أن يؤجر عليها.

4 -

ومن فوائدها: أن العبادة ما أمر الله به وإن كانت في غير هذا الموضع معصية، فإن قتل الابن من أكبر الكبائر، فإذا أمر الله به صار طاعة، ومن أفضل الطاعات؛ لأن تنفيذه من أشق ما يكون على النفس، فإذا نفذه الإنسان مع قوة الداعي لمنعه كان ذلك أكمل وأفضل. ولهذا نظير، فالسجود لغير الله شرك، ولما أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم صار السجود لآدم طاعة، فالحاصل أن العبادة ما أمر الله به، وإن كان جنسها قد يكون معصية في موضع آخر.

5 -

ومن فوائدها: العمل بالرؤيا إذا كانت صالحة، ولكن هل هذا في كل رؤيا؟

(1)

أخرجه الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر (2325) وابن ماجه، كتاب الزهد، باب النية (4228) وقال الترمذي: هذا حديثٌ حسن صحيح.

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (31)، ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب إذا تواجه المسلمان بسيفيها (2888)(14).

ص: 250

والجواب: أما رؤيا الأنبياء فيعمل بها؛ لأن رؤياهم وحي، وأما رؤيا غيرهم فإن شهدت النصوص الشرعية باعتبارها، أو وجدت قرائن حسية تشهد لها عُمل بها وإلا فلا.

مثال الأول: ما ذكره ابن القيم رحمه الله عن شيخه شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فسأله عن مسائل أشكلت عليه، ومنها أنه يقدم إليه جنائز لا يدري أمسلمون هم أم كافرون، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"عليك بالشرط يا أحمد". أي: أرشده إلى أن يشترط فيقول مثلًا: اللهم إن كان مؤمنًا فاغفر له وارحمه.

فهذه الرؤيا شهد الشرع باعتبارها، وهو جواز الدعاء المعلق على شرط مثل قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)} [النور 5 - 9]. فهنا دعاء معلق بشرط.

مثال الثاني: ما ذكر عن ثابت بن قيس رضي الله عنه الذي استشهد في اليمامة وأتاه رجل من الجيش فأخذ درعه ووضعه في رحله تحت قدر، فرأى أحد أصحاب ثابت بن قيس ثابتًا في المنام وأخبره بأنه مر به رجل وأخذ درعه ووضعه تحت قدر من الفخار وعنده فرس تستن، وذكر أشياء أوصى بها فلما بلغ ذلك أبا بكر رضي الله عنه أنفذ وصيته، لأن الرجل الذي رأى

ص: 251

هذه الرؤيا ذهب إلى المكان الذي ذكره ثابت، فوجد الأمر كما قال

(1)

.

فهنا وجدت قرينة حسية تدل على صدق الرؤيا.

من فوائد قوله تعالى: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} .

1 -

أن كل محسن فإن الله تعالى يجعل له من كل هم فرجًا، ويكتب له أجر العبادة وإن لم يفعلها إذا سعى في أسبابها، وهذا له أمثلة كثيرة، نذكر منها ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حج قارنًا بلا شك وساق الهدي، ومع ذلك قال:"لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة"

(2)

. فهنا تمنى صلى الله عليه وسلم أن يكون قد تمتع ولكنه قرن، فيكتب له أجر التمتع، الذي قال عنه:"لو استدبرت من أمري ما استقبلت لجعلتها عمرة".

فالإنسان الحريص على الخير قد يكتب الله له من الأجور ما هم أن يفعله وإن لم يفعله، وأن الله يفرج له كل كرب، وشاهد هذا قوله تعالى:{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3] ولكن لابد في هذه الحال من قيد، وهو أن ينتظر الإنسان فرج الله عز وجل فلا يبعد بنفسه عن الله وييأس بل ينتظر الفرج، فإذا انتظر الفرج مع تقواه وإحسانه

(1)

ذكره الحاكم في المستدرك (ج 3/ ص 261)(5035) وقال: صحيح على شرط مسلم، ورواه الطبراني في المعجم الكبير (ج 2/ ص 65) ح (1307).

(2)

أخرجه البخاري، كتاب الشركة، باب الاشتراك في الهدي والبدن (2504، 2506). ومسلم في كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم (رقم 1218)(147). واللفظ له.

ص: 252

فما أقرب الفرج إليه لقوله: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)} .

2 -

ومن فوائدها: بيان عظمة الرب عز وجل، حيث أسند الفعل إليه بضمير العظمة:{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)} .

ولا شك أن الله تعالى أثنى على نفسه بالعظمة والإحسان والفضل.

3 -

ومن فوائدها: أن الجزاء من جنس العمل {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)} . فكما أحسن في عبادة الله أحسن الله إليه، وقد قال الله عز وجل في سورة الرحمن:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)} [الرحمن: 60] يعني ما جزاء الإحسان إلا الإحسان. وبهذا يتبين لك كمال فضل الله عز وجل، فإن الله عز وجل هو الذي أحسن إليك، أولًا بتوفيقك للطاعات والإحسان، ثم أحسن إليك ثانيًا بالجزاء عليه.

فاعرف -أيها المؤمن- قدر نعمة الله عليك بالإحسانين: إحسان سابق للهداية، هداك الله ووفقك، وإحسان لاحق وهو الثواب العظيم، ونحن في الحقيقة في غفلة عن هذا، كثيرًا ما يعتمد الإنسان على نفسه بفعل الخير ولا يرى نعمة الله عليه به، مع أن الواجب أن ترى نعمة الله عليك به، إذا أتيت مثلًا إلى المسجد فاعرف قدر نعمة الله عليك، حيث سهل عليك المجيء إلى المسجد للصلاة، أو لقراءة العلم؛ لأن الله حرم أممًا كثيرة مما منّ الله به عليك، فما أكثر الذين لا يحضرون إلى المساجد، وما أكثر الذين يحضرون بأبدانهم لا بقلوبهم، وما أكثر الذين يحضرون عادة لا عبادة، وما أكثر الذين حرموا التردد إلى

ص: 253

المساجد لطلب العلم أو قراءة القرآن، فكل هذه يجب أن يتفطن لها الإنسان وأن يعرف قدر نعمة الله عليه بها، ثم يرجو ثواب الله عز وجل عليها، ويحسن الظن بالله سبحانه وتعالى، وقد قال الله سبحانه وتعالى:"أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني"

(1)

.

* فوائد قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)} .

1 -

ومن فوائدها: بيان أن الله عز وجل قد يختبر عبده المؤمن بمصائب يفعلها هو بنفسه، أو بمصائب يقدرها الله عليه لا اختيار له فيها، والأول أكمل من الثاني يعني أن يبتلي الله الإنسان بمصائب يفعلها هو بنفسه هذا أكمل من الثاني؛ لأن الثاني الذي يجري عليه بغير اختيار كما قال بعض السلف:"إما أن يصبر صبر الكرام، وإما أن يسلو سلو البهائم". لكن الشيء الذي يفعله بنفسه أعظم وأكمل، وما جرى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام من الاختبار من النوع الأول الذي قدر عليه المصيبة يفعلها هو بنفسه، وهو ذبح ابنه، فإنه سيفقده، وفقد الابن هذا السن -وهو أيَضًا وحيده الذي ليس له ولد سواه-، لا شك مصيبة عظيمة، ولهذا وصفه الله بأنه بلاء مبين.

2 -

ومن فوائدها: بيان حكمة الله عز وجل فيما يقدره على عبده المؤمن من مكروه، فلا يقول الإنسان: لماذا ابتلاني الله

(1)

أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)} رقم (7405)، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى (رقم 2675)(2).

ص: 254

تعالى بهذا دون غيري؟ بل يقول: لله في ذلك حكم عظيمة، والله عز وجل يبتلي المؤمن بالمصائب، فإذا صبر نال بذلك درجة الصابرين، وإذا احتسب الأجر بهذا الصبر نال بذلك ثواب الصابرين، والصبر مرتبة عالية يُوفّى فيها العامل أجره بلا حساب، ولا يمكن صبر بلا مصبور عليه، بل لابد من ابتلاء وامتحان يعلم به قدر صبر الإنسان حتى يثاب على قدر ما حصل منه من الصبر.

3 -

ومن فوائدها: فضيلة إبراهيم وإسماعيل -عليهما الصلاة والسلام-، وقد سبق، لكن من هذه الآية يتبين فضيلتهما بأنهما صبرا على هذا الابتلاء، صبرا صبر الكرام، وأسلما ولم يبق إلا التنفيذ حتى جاء الفرج من الله سبحانه وتعالى.

* ومن فوائد قوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} :

1 -

بيان أن رفع الذبح عن الابن جعل له مقابلًا لتكميل التنفيذ والامتثال، وذلك بأن أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأن يذبح فداء عن ابنه، ويكون هذا الذبح أي المذبوح عظيمًا، فلهذا قال:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} يعني أمرناه أن يذبح ذبحًا عظيمًا فداء له.

2 -

ومن فوائدها -على ما استنبطه بعض العلماء-: أن الإنسان إذا نذر ذبح ابنه وجب عليه أن يذبح فدية عنه كبشًا، قال: لأن هذا هو الذي أمر الله به إبراهيم عليه الصلاة والسلام ليكون فداء عن ابنه، ومعلوم أن الإنسان إذا نذر أن يذبح ابنه فإنه لا يحل له أن يوفي به؛ لأنه نذر معصية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن

ص: 255

يعصي الله فلا يعصه"

(1)

. وهذا الاستنباط جيد لولا مخالفته لظاهر السنة، وهو أن من نذر معصية فإنه يحرم عليه فعلها، ولكن يكفر كفارة يمين، فإذا قال شخص: لله عليَّ نذر أن أذبح أول ولد يأتيني، ثم أتاه ولد فإنه لا يحل له أن يذبحه ولكن نقول: عليك على القول الراجح أن تكفر كفارة يمين.

* ومن فوائد قوله تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109)} :

أنَّ الله تعالى أبقى لإبراهيم -عليه الصلاة السلام- ثناءً حسنًا وسلامًا في الآخرين. ثناء حسنًا يثني عليه بما حصل منه من الدعوة إلى الله عز وجل والصبر على البلاء الذي حصل له بغير اختياره، والصبر على البلاء الذي حصل له باختياره.

فمن البلاء الذي حصل له بغير اختياره الإحراق حين قال قومه: {حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} ، [الأنبياء: 68] ومن المعلوم ما يحصل للإنسان عندما يعزم على تحريقه لقاء الدعوة إلى الله؛ لأنه سيتألم لذلك ألمًا بدنيًّا وألمًا قلبيًّا. إن من الدعاة من إذا رأى عدم قبول الناس لدعوته تألم بمجرد أنهم لم يقبلوها فكيف إذا ردوها وأحرقوه من أجلها فإذا أشد ألمًا على القلب، ولا شك أن هذا بلاءً ومع ذلك صبر وأُلقي في النار، ولكن الله عز وجل أمرها أن تكون بردًا وسلامًا عليه.

البلاء الثاني الذي حصل باختياره هو الأمر بذبح ابنه وعزمه على أن ينفذ ذلك. هذا من الثناء الحسن على إبراهيم.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذور، باب النذر في الطاعة (رقم 6696).

ص: 256

كذلك أيضًا إبراهيم اتفقت الأمم على الثناء عليه وعلى ألا يعاب، ولهذا قال:{سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109)} . فإن قلت: إننا -نحن هذه الأمة- نسلم على إبراهيم وغيره فإننا نقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنكم إذا فعلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد صالح في السماء والأرض"

(1)

.

فالجواب: نعم إننا نسلم على كل عبد صالح في السماء والأرض، ولكن سلامنا على إبراهيم وأمثاله من أولي العزم من الرسل أشد وأبلغ من سلامنا على عامة الصالحين.

* ومن فوائد الآية في قوله تعالى: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110)} أن الله تعالى كرر هذه الجملة المفيدة لهذا الحكم ترغيبًا للناس في الإحسان فيستفاد منها: أنه ينبغي لمن تكلم في أمر يرغب فيه أن يكرر؛ لأن النفوس كلما تكرر لها الحكم ازدادت طمأنينة فيه ورغبة فيه، وفي مقام الترهيب كذلك يكرر، ألم تروا إلى قوله تعالى في سورة المرسلات:{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)} [المرسلات: 15] حيث كررت عدة مرات تحذيرًا وإنذارًا، فلكل مقام مقال. والتكرار قد يكون من الركاكة ومن البعد عن البلاغة، لكن إذا كان في موضع يحسن فيه كان ذلك من البلاغة، وهنا كرر الله هذه الجملة {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110)} في عدة آيات.

* ومن الفوائد في قوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)} :

(1)

أخرجه البخاري في كتاب العمل في الصلاة، باب من سمى قومًا أو سلم في الصلاة (رقم 1202)، ومسلم في كتاب الصلاة، باب التشهد في الصلاة (رقم 402)(55).

ص: 257

1 -

الثناء على إبراهيم عليه الصلاة والسلام بهذين الوصفين، وهما العبودية والإيمان، ويتفرع على ذلك:

أن من اتصف بالعبودية والإيمان ناله من الثناء بقدر ما اتصف به منهما، فكلما كان الإنسان لله أعبد وبه آمن كان الثناء عليه أكثر وأعظم، ولا تغتر بما تلاقيه في الدنيا من مجابهات، فإن هذا قد يرد ولكن يكون امتحانًا وابتلاءً واختبارًا، ويكون الثناء ولو بعد موت الإنسان، كم من أئمة من هذه الأمة أوذوا في حياتهم، ولكن بعد مماتهم صار جزاء هذه الأذية أن الله تعالى رفع لهم الذكر. وصارت العاقبة لهم، والثناء الحسن بعد مماتهم، والشواهد على ذلك كثيرة.

2 -

ومن فوائدها: فضيلة العبودية لله عز وجل، والإيمان به لأنه لا شك أن المراد بقوله:{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)} الثناء عليه، وإذا علق الحكم على وصف فإنه يقوى بقوته ويضعف بضعفه. فإذا كان الثناء معلقًا بالعبودية والإيمان فكلما كان الإنسان أشد عبادة وأقوى عبادة كان أحق بالثناء، وكلما كان الإنسان أقوى إيمانًا كان أحق بالثناء، والعكس بالعكس.

* ومن فوائد قوله تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112)} :

1 -

مشروعية البشارة بالولد -وقد سبقت- وذلك لأن الولد يسر به الإنسان بلا شك، لاسيما إذا بشر بأنه نبي كما في هذه الآية {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112)} . أو بأنه غلام حليم كما في

ص: 258

الآية التي في إسماعيل عليه الصلاة والسلام.

2 -

ومن فوائدها: الدليل الظاهر على أن الذي أُمر إبراهيم بذبحه إسماعيل وليس إسحاق، وقد بينا فيما تقدم تسعة أوجه تدل على أن الذي أُمر بذبحه هو إسماعيل عليه السلام.

3 -

ومن فوائدها: إثبات نبوة إسحاق لقوله: {بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا} .

4 -

أنه ينبغي عند البشارة أن يذكر ما يرجى من مستقبل ما بشر به، سواء كان ولدًا، أم مالًا، أم زوجة، أم بيتًا، أم غير ذلك، فالإنسان إذا توقع خيرًا في المستقبل فيما بشر به، فإنه ينبغي أن يقرن ذلك بالبشارة؛ لأن الله قرن نبوته بالبشارة به.

5 -

ومن فوائدها: الثناء على إسحاق عليه الصلاة والسلام بكونه {نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- جمعوا بين الصلاح بأنفسهم والإصلاح لأممهم، فهم صالحون مصلحون.

6 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن النبوة وصف كمال؛ لأن الله تعالى قرنها بالبشارة، فلولا أنها وصف كمال يستبشر به الإنسان لكان ذكرها لغوًا لا فائدة منه.

* ومن فوائد قوله تعالى: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)} :

1 -

أن الله سبحانه وتعالى بارك على إبراهيم وعلى إسحاق فمن بركات إبراهيم أن جميع الأنبياء من بعده كانوا من ذريته، لقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ

ص: 259

وَالْكِتَابَ}. [الحديد: 26] فمن سبق إبراهيم فهو من ذرية نوح، وأما من بعده فهو من ذرية إسحاق وإبراهيم، والذي ليس من ذرية إسحاق من ذرية إبراهيم، والذي من ذرية إسحاق من ذرية إبراهيم وإسحاق.

مثال: من لم يكن من ذرية إسحاق: إسماعيل ومحمد -صلى الله عليهما وسلم-. فإنهما من ذرية إبراهيم وليس من ذرية إسحاق.

أما أنبياء بني إسرائيل فكلهم من ذرية إسحاق.

2 -

ومن فوائدها: أن ذرية إبراهيم وإسحاق انقسموا إلى قسمين: محسن وظالم، وهذا يشمل: الإحسان المطلق، ومطلق الإحسان، والظلم المطلق، ومطلق الظلم.

فمطلق الإحسان يشترك معه مطلق الظلم؛ لأن من جمع حسنات وسيئات ففيه مطلق الإحسان ومطلق الظلم. أي ليس فيه الإحسان الكامل، لأن عنده ظلمًا، وليس فيه الظلم المطلق، لأن عنده إحسانًا.

فيكون الإحسان المطلق والظلم المطلق متقابلان. الإحسان المطلق هو الذي إذا فعل معصية ذكر الله فاستغفر فرفع عنه أثر المعصية، والظلم المطلق هو الكافر الذي ظلم بالكفر، كما قال تعالى:{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] فذرية إبراهيم وإسحاق ينقسمون إلى ثلاثة أقسام عند التفصيل:

أ - المحسن المطلق هو المؤمن الذي إذا فعل فاحشة أو ظلم نفسه ذكر الله فاستغفر لذنبه ومن يغفر الذنوب إلا الله.

ص: 260

ب - الظالم المطلق وهذا الكافر.

ج - من عنده مطلق الإحسان وهو المسلم الذي عنده معاصي، ومطلق الظلم وهو كذلك المسلم الذي عنده معاصي، فإن كثرت معاصيه على طاعاته صار إلى الظلم أقرب، وإن كثرت طاعاته على معاصيه صار إلى الإحسان أقرب.

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: {وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)} أن الظلم يكون بيّنًا أو مظهرًا لصاحبه، على حسب القول في {مُبِينٌ (113)} هل هي بمعنى بيِّن أي: ظاهر، أو بمعنى مظهر لظلم صاحبه؛ لأن الظلم: قد يكون ظلمًا بيِّنًا واضحًا كالعدوان على الناس على أموالهم، ودمائهم، وأعراضهم، فهذا يكون الرجل فيه مظهرًا لظلمه، وقد يكون خفيًّا يستتر به الإنسان، فهذا ظلم بيِّن بالنسبة له، ولكنه ليس مظهرًا له؛ لأنه قد أخفاه عن الناس والله أعلم.

* * *

{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114)} موسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام- من ذرية إسحاق، وأكد الله تعالى منته عليهما باللام، وقد، والقسم المقدر.

والمنة هي: العطاء بلا ثمن، وأعظم عطاء يعطيه الله تعالى الإنسان هو النبوة، ولهذا قال المؤلف:[بالنبوة]. {وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115)} ذكر الله منته على موسى وهارون بالنبوة ثم بنجاتهما وقومهما من الكرب العظيم. والكرب يحتمل أنه الهلاك كما سبق في نظيرها، ويحتمل أنه ما لحقهما من الشدة

ص: 261

من فرعون، فإن فرعون استعبد بني إسرائيل، وصار يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم، يذبح أبناءهم فأحيانًا يذبحهم ذبحًا كالغنم، وأحيانًا يقتلهم قتلًا، إما بأحجار، أو بغيرها، وكان يؤذيهم أشد الإيذاء، يسومهم سوء العذاب، ولا شك أن هذا سيكون فيه كرب عظيم على هؤلاء القوم، فنجاهم الله سبحانه وتعالى من ذلك. فذكر الله منته عليهم به.

{وَنَصَرْنَاهُمْ} الضمير يعود على موسى وهارون وقومهما أي: نصرناهم على عدوهم، وأعظم انتصار ما حصل في النهاية حيثما أمر موسى عليه الصلاة والسلام أن يخرج من مصر فاتجه إلى البحر الأحمر، ولما بلغه أمر بضربه فضربه فانفلق، فخرج موسى وقومه سالمين، ودخل فرعون وقومه فهلكوا حتى أراهم الله سبحانه وتعالى جثة فرعون فوق الماء؛ ليطمئنوا بموته ويتيقنوا ذلك، فلهذا كان ذلك نصرًا لهم.

وقوله: {فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116)} الغالبين في النهاية، وإلا فإن أول الأمر كان فرعون قد سامهم سوء العذاب، لكن العبرة بالنهاية، والنهاية أنهم غلبوا؛ لأن الله عز وجل يقول في آل فرعون:{كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27)} [الدخان: 25 - 27] يعني الأمر، كذلك مؤكد، {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28)} [الدخان: 28] وهؤلاء القوم هم بنو إسرائيل كما في آية الشعراء، فإذا من النصر العظيم أن الله تعالى يورث هؤلاء القوم الذين استضعفوا في الأرض، أرض هؤلاء العتاة الطغاة الفراعنة بكل سهولة.

ص: 262

{وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117)} أي: أعطيناهما الكتاب المستبين، وهو التوراة وسماه كتابًا؛ لأن الله سبحانه وتعالى كتبه بيده كما جاء ذلك في بعض الآثار

(1)

، فالله سبحانه وتعالى كتب التوراة بيده، قال الله تعالى:{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف: 145] فهي إذًا كتاب بمعنى مكتوب، ووصفه بأنه مستبين لأنه فيه تبيان كل شيء يحتاج إليه بنو إسرائيل، والمستبين أبلغ من المبين أو البيِّن؛ لأنه كلما كثرت الحروف كثرت المعاني في الغالب، ولهذا يقال: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، لكن هذا ليس دائمًا، بل في الغالب، فمثلًا كلمة (شجرة) حروفها أكثر من شجر ومع ذلك شجر أكثر من شجرة، وكذلك بقر ونمل وما أشبهه.

يقول الله تعالى: {الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117)} .

قال المؤلف رحمه الله: [البليَغ البيان] أتى المؤلف بكلمة: البليغ: البيان من قوله: {الْمُسْتَبِينَ (17)} لأن زيادة حروفها تدل على زيادة معناها [فيما أتى به من الحدود والأحكام وغيرها]، ولهذا يقال: إن أشمل كتاب بعد القرآن هو التوراة، وقد جعلها الله تعالى عمدة لبني إسرائيل {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة: 44].

{وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)} الصراط: الطريق لكن

(1)

أخرجه مسلم، كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام (2652)(13).

ص: 263

قال العلماء: إنه ليس كل طريق صراطًا، بل هو الطريق الواسع المستقيم المعتدل، الذي ليس فيه اعوجاج، وذلك لأنه مأخوذ من سرط أو زرط بمعنى التقمته بسرعة، فالطريق الواسع المستقيم العدل يسمى صراطًا، ولا شك أن صراط الله عز وجل الذي وضعه لعباده طريق واسع يسع كل من تمسك به.

وقوله: {وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ} ولم يقل إلى الصراط؛ لأن المراد بذلك هداية التوفيق وهداية الدلالة، وإذا كان المراد بالهداية الهدايتان فإنه يتعدى بنفسه، فيقال: اهدنا الصراط. وانظر إلى قوله تعالى في سورة الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة: 6] وقال في حق النبي صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى: 52] فإذا كانت الهداية بمعنى الدلالة تعدت بإلى، وإذا كانت بمعنى الدلالة والتوفيق تعدت بنفسها. ثم إنها إذا تعدت بنفسها تفيد الهداية إلى الصراط والهداية في الصراط، فتفيد المعنيين جميعًا: إلى الصراط بحيث يصل الإنسان إليه، وفيه بحيث لا يتجاوزه ولا يخرج عنه.

فحذف الجار فيه هذه الفائدة أن يكون أعم مما لو تعين الجار، فيكون شاملًا لهدايته إليه وللهداية فيه.

وقوله: {الْمُسْتَقِيمَ} وإذا جعلنا الصراط هو الطريق الواسع المعتدل صارت المستقيم بيانًا للواقع وصفة كاشفة؛ لأن لو حذفت وقيل: الصراط. لاستغني عنها إذا فسرنا الصراط بما ذكرنا.

أما إن فسر الصراط بمطلق الطريق فلابد من ذكرها.

ص: 264

وقوله: {الْمُسْتَقِيمَ (118)} يعني الذي استقام فليس فيه اعوجاج ولا انحراف، قال الله تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].

فالصراط المستقيم معتدل قائم، والسبل تخرج يمينًا وشمالًا، ولذلك من خرج عن الصراط المستقيم ضاع وتاه، قال الله تعالى:{كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى} [الأنعام: 71].

{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119)} قال المؤلف رحمه الله: [أبقينا عليهما في الآخرين ثناءً حسنًا {سَلَامٌ} منا {عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120)}] يقال في هاتين الآيتين ما سبق، قال: [{إِنَّا كَذَلِكَ} كما جزيناهما {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)} أيضًا نقول فيها كما سبق.

الفوائد:

1 -

عظيم منة الله عز وجل على موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام بالرسالة؛ لأن الرسالة من أعلى مقامات البشر، قال الله تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} . [النساء: 69].

2 -

ومن فوائد الآية الكريمة: تأكيد رسالتهما لقوله: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114)} .

3 -

ومن فوائدها: أن منْ منّ الله عليه بإرث الأنبياء بالعلم، فإن ذلك من أعظم المنن، ولهذا قال أهل العلم: إن العلم أفضل من المال، فلو اجتمع عالم وغني، فالعالم أفضل من الغني حتى

ص: 265

وإن بذل الغني ماله في سبيل الله، فالعالم المنتفع بعلمه والمعلم لغيره أفضل من صاحب المال.

4 -

ومن فوائدها: جواز تعدد الرسل في آنٍ واحد، وهذا قبل بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام، أما بعد بعثته فهو خاتم النبيين ولا نبي بعده.

5 -

ومن فوائد قوله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115)} بيان منة الله على موسى وهارون وقومهما بالنجاة من الهلاك، سواء كان على أيدي الفراعنة، أو بعذاب من عند الله عز وجل، فإن الله نجاهما، وقد ذكَّر الله قوم موسى بهذه النعمة {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [الأعراف: 141] وفي آية أخرى: {وَيُذَبِّحُونَ} ، [إبراهيم: 6] لأنهم تارة يقتلونهم، وتارة يذبحونهم، كما تذبح الشاة -والعياذ بالله- إرهابًا وإزعاجًا، فأنجاهم الله منهم.

6 -

ومن فوائد الآية الكريمة في قوله: {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115)} أن بني إسرائيل أصابهم كرب عظيم بسبب ما حصل لهم من استعباد فرعون لهم؛ لأنه كان استذلهم استذلالًا عظيمًا، فمن العلماء من قال: إنه فعل ذلك لأنه قيل له: إنه سيولد منهم ولد يكون ذهاب ملكك على يده.

ومنهم من قال: بل فعل ذلك لمجرد إذلالهم خشية من أن يكثروا، ويكون لهم عزة وشوكة ومنعة، وكونه فعل ذلك من أجل الخوف من هذا الذي قيل عنه ما -قيل- يحتاج إلى دليل.

ص: 266

7 -

ومن فوائد قوله تعالى: {وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116)} بيان منة الله عز وجل على الإنسان بالنصر، فإن النصر من أعظم النعم، لأن الإنسان يكون له عزة وغلبة، ويكون عدوه خائفًا منه، ذليلًا أمامه.

8 -

ومن فوائدها: أن الغلبة صارت في النهاية لموسى عليه الصلاة والسلام وقومه، ويتفرع على هذه الفائدة:

أخذ العبرة من ذلك بأن النصر بيد الله عز وجل قد ينصر من هو ضعيف، وقد يذل من هو قوي، كما قال تعالى:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)} [آل عمران: 26].

9 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن هلاك عدوك يعتبر غلبة لك، سواء كان هلاكه على يدك أو بعذاب من عند الله، فإنه بلا شك لم يكن هلاك فرعون وقومه على يد موسى وقومه، بل كان بفعل الله، ومع ذلك جعل الله سبحانه وتعالى إنجاء موسى وقومه من فرعون غلبة. والتخلص من العدو يسمى نصرًا وفتحًا وغلبة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة حين كانت الراية مع زيد بن حارثة، ثم كانت مع جعفر بن أبي طالب، ثم كانت مع عبد الله بن رواحة، وكلهم قتلوا رضي الله عنهم قال:"ثم أخذها خالد ففتح الله على يديه"

(1)

، وخالد رضي الله عنه لم ينتصر على الروم ولم يغلبهم، ولكن نجا منهم، فسمى النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة مؤتة (4262).

ص: 267

هذه النجاة فتحًا، كما سمى الله تعالى هنا نجاة موسى وهارون وقومه من فرعون أنها نصر وغلبة.

10 -

ومن فوائد قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117)} بيان عظيم منة الله سبحانه وتعالى بإيتاء الكتاب لموسى وهارون وهو من عطف الخاص على العام في قوله: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114)} لأن إيتاء الكتاب أعظم منه، ويتفرع على هذا:

أن من آتاه الله علم كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فله نصيب من هذه المنة.

11 -

ومن فوائد الآية: الثناء على التوراة في قوله: {الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ} أي: البالغ البيان، ولا شك أن التوراة هي أعظم كتاب أنزله الله تعالى علي بني إسرائيل.

12 -

ومن فوائدها: أن الله عز وجل ينزل الكتب تبيانًا للناس، فيؤخذ من ذلك أن العقول لا تستقل بمعرفة ما يجب لله من الحقوق، ولا بمعرفة ما يجب له من الصفات، ولا بمعرفة ما يجوز عليه ولا ما يمتنع. فيكون في ذلك رد على من حكموا العقول في باب أسماء الله وصفاته.

13 -

ومن فوائد قوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)} أن كل إنسان مفتقر إلى الله تعالى في الهداية مهما بلغت مرتبته، فهذا موسى وهارون منَّ الله عليهما بهدايتهما الصراط المستقيم، فلا يقول قائل: أنا عالم، أنا عابد. فيعتمد على نفسه ويعجب بها، بل يجب عليه أن يرى قدر نعمة الله عليه

ص: 268

بالهداية، فكم من أناس أضلهم الله وهم أقوى منه ذكاء.

14 -

ومن فوائدها: أن صراط الله عز وجل صراط مستقيم، لا اعوجاج فيه ولا ارتفاع ولا انخفاض، فهو سهل لسالكه، ومن المعلوم أن الصراط إذا كان معوجًّا أو فيه انخفاض أو ارتفاع فإنه يعيق سالكه، لكن صراط الله على العكس من ذلك مستقيم.

15 -

ومن فوائدها: أن الإنسان محتاج في الهداية إلى الصراط المستقيم إلى هدايتين: هداية دلالة وهي التي تتعدى بإلى، وهداية توفيق وهي التي تتعدى بنفسها، ولهذا قال:{وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)} ولم يقل: إلى الصراط.

16 -

ومن فوائد قوله تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119)} أن الله سبحانه وتعالى ذكر موسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام- في الآخرين وأثنى عليهما بما يستحقانه.

17 -

ومن فوائد قوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120)} أن الله سبحانه وتعالى دافع عن موسى وهارون، حيث سلمهما من الثناء القبيح في الآخرين، هذا على القول بأن سلام على موسى وهارون متعلق بقوله:{وَتَرَكْنَا} يعني أنه ترك عليهما السلام في الآخرين، أما إذا قلنا بأنه ترك عليهما ثناءً حسنًا وجعلنا السلام من الله، فهو جملة مستأنفة لا تتعلق بما قبلها.

18 -

ومن فوائد قوله تعالى: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي

ص: 269

الْمُحْسِنِينَ (121)} بيان فضل الله سبحانه وتعالى على عباده الذين أحسنوا، حيث يجزيهم بالحسنى، كما قال تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} . [يونس: 26]

19 -

ومنها أيضا بيان فضل الله سبحانه وتعالى على العباد من وجه آخر، وهو أنه هو الذي منّ عليهم بالإحسان أي جعلهم يحسنون، ثم منّ عليهم مرة ثانية بمجازاتهم على هذا الإحسان، وعلى هذا فكل إحسان تفعله فإن لله عليك فيه منتين.

المنة الأولى: توفيقك لهذا الإحسان.

والمنة الثانية: ثوابك على هذا الإحسان.

20 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن الله عز وجل لا يجزي العامل لشخصه، وإنما يجزيه لعمله؛ ولهذا بين أن هذا الجزاء لا يختص بموسى وهارون، بل هو لكل إنسان محسن.

21 -

ومن فوائد قوله تعالى: {إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)} الثناء على المؤمن الذي حقق عبودية الله، لقوله:{إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)} .

22 -

ومن فوائدها: أن البشر مهما علت منزلتهم ومرتبتهم فهم داخلون ضمن العبودية؛ لأن موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام من أكابر الأنبياء، ومع ذلك فإن الله تعالى وصفهما بالعبودية له سبحانه وتعالى.

ومن المعلوم أن وصف الإنسان بالعبودية لله شرف له وعز؛ لأنه ما من إنسان إلا وهو عبد، إما أن يكون عبدًا لهواه، وإما أن يكون عبدًا لمولاه، وكل إنسان له إرادة، وكل إنسان متحرك

ص: 270

ولكن ما هي الإرادة؟ وإلى أين التحرك؟ إن كانت الإرادة إرادة لله عز وجل والتحرك لدينه فهذه هي الحرية، وإذا كانت الإرادة لغيره والتحرك لغير شرعه فهذه رق. ولهذا نرى أن هؤلاء الفوضويين الذين يريدون أن يكون الناس فوضى مدعين أن هذه هي الحرية -نرى أن هؤلاء هم الذين ابتلوا بالرق؛ لأن الشيطان استرقهم وجعلهم عبيدًا له، ولو عبدوا الله سبحانه وتعالى لسلموا من هذا الرق، فهم تركوا الرق الذي خلقوا له وبلوا برق النفس والشيطان، كما قال ابن القيم رحمه الله في النونية:

هربوا من الرق الذي خلقوا له

وبلوا برق النفس والشيطان

الرق الذي خلقوا له هو العبودية لله، لكنهم بلوا برق النفس والشيطان، فما من إنسان يهرب من عبادة الله إلا وقع في عبادة الشيطان ولابد. فالعبودية وصف كمال للإنسان إذا كانت لله، وإذا كانت للشيطان فهي وصف نقص.

23 -

ومن فوائد الآية الكريمة فضيلة الإيمان، لقوله:{إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)} .

24 -

ومن فوائدها: أن كل جزاء وكل وصف علق بالإيمان فإن للأنبياء منه الحظ الأوفر والأكمل.

* * *

{وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123)} الجملة هذه مؤكدة بـ (إن) و (اللام). ويؤكد الله مثل هذه الأشياء التي يكفي فيها خبره

ص: 271

-سبحانه وتعالى عن كل توكيد جريًا على عادة العرب في توكيدهم الأمور الهامة، أو الأمور التي يكون المخاطب فيها شاكًّا، أو يكون المخاطب فيها منكرًا، فهم يؤكدون الخبر لأسباب منها هذه الأسباب الثلاثة: أن يكون المخبر به أمرًا هامًّا، أو أن يكون المخبر شاكًّا في الخبر، أو أن يكون منكرًا له، فيؤكدونه زيادة في طمأنينة المخاطب، وإلا فإن مجرد خبر الله تعالى في الشيء يغني عن كل توكيد، وقوله:{إِلْيَاسَ} قال المؤلف رحمه الله: [بالهمز أوله وتركه] يعني أن فيه قراءتين إلياس بهمزة قطع، وترك الهمزة {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} الذي يظهر أنه من أنبياء بني إسرائيل، قال المؤلف: رحمه الله[قيل: هو ابن أخي هارون أخي موسى، وقيل: غيره، أرسل إلى قوم ببعلبك ونواحيها] ليس هناك دليل على أنه ابن أخي هارون أخي موسى لا من القرآن ولا من السنة، وذكر قصته بعد قصتهما لا يفيد ذلك فالله تعالى يذكر قصة هود بعد نوح ومع ذلك بينهما زمن طويل، ونحن لا يهمنا صلة هذا النبي بالنبي الآخر من حيث النسب، لكن الذي يهمنا صلة دعوتهما ببعض، كما قال تعالى في قصة إبراهيم:{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83)} [الصافات: 83] فإن الأنبياء دعواهم واحدة، كلهم يدعون إلى توحيد الله، أما النسب فليس بهام.

فإلياس رسول أرسله الله تعالى إلى بعلبك -كما هو كلام المؤلف-

{إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} قال المؤلف رحمه الله[إذ منصوب

ص: 272

باذكر مقدرًا] أي اذكر إذ قال لقومه، وإذا قلنا: إنه منصوب باذكر مقدرًا فهل الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم؟ يعني اذكر إلياس لقومك، أو الخطاب لكل واحد يصح خطابه، ويكون المراد بقوله: اذكر المقدر أي: تذكر، يحتمل هذا وهذا، وعلى كل حال فإن الله أمر نبيه أن يذكر للناس هذه القصة، وأمر كل واحد أن يتذكر هذه القصة، لأن في ذلك عبرة.

{أَلَا تَتَّقُونَ (124)} {أَلَا} هنا: أداة تحضيض وليست أداة عرض؛ لأنه لا يقصد عرض التقوى عليهم، ولكن يحضهم على هذا، قال المؤلف:(ألا تتقون الله) فقدر المفعول المحذوف باسم الجلالة، ولكن الأولى أن يقال: إنه أعم من ذلك، ألا تتقون الله، ألا تتقون النار، كما قال تعالى:{وَاتَّقُوا النَّار} [آل عمران: 131] ألا تتقون يوم الحساب كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281] فحذف المفعول أعم، ولا ينبغي إذا دلت الآية على معنى أعم أن نقيدها بمعنى أخص؛ لأن هذا يعتبر نقصًا في تفسير الآية، بل إذا جاءت الآية عامة فلتبقى على عمومها، مطلقة فلتبقى على إطلاقها.

والتقوى: اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه.

{أَتَدْعُونَ بَعْلًا} الاستفهام هنا للتوبيخ والإنكار والتسفيه، وتدعون بمعنى تعبدون، فإن الدعاء يسمى عبادة. قال الله تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر: 60] ولم يقل: عن دعائي، وهذا يدل على أن

ص: 273

الدعاء يراد به العبادة وهو كذلك، ويحتمل أن يكون المراد بدعوتهم لهذا الصنم دعوة المسألة، وأنهم يستغيثون بهذا الصنم، وإن لم يركعوا له ويسجدوا له، كما يوجد الآن في كثير من المسلمين مع الأسف من يدعو الأولياء في قبورهم وإن كانوا لا يركعون لهم، ولا يسجدون، فكوننا نجعل الدعاء بمعنى العبادة أعم من أن نجعله بمعنى السؤال؛ لأن السؤال نفسه عبادة كل إنسان يسأل الله ولو حاجة دنيوية، فإنه يعتبر عابدًا لله عز وجل مثنيًا عليه؛ لأنه جعله المرجع سبحانه وتعالى وجعله ملاذه.

{أَتَدْعُونَ بَعْلًا} قال المؤلف رحمه الله[اسم صنم لهم من ذهب، وبه سمي البلد أيضًا مضافًا إلى (بك) أي أتعبدونه {وَتَذَرُونَ} أي: تتركون أحسن الخالقين.

وهنا قال: {أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125)} ولم يقل: تذرون الله، بل قال: أحسن الخالقين، فلابد أن يكون هناك نكتة، فالعدول عن اسم الله الذي يختص به وهو الله لابد أن يكون هناك نكتة، النكتة هنا هي: إقامة الحجة عليهم بعدم صلاحية معبودهم للعبادة، لأنه لا يستطيع الخلق، والله وحده هو الذي يقدر على الخلق وعلى أحسن الخلق، فالله تعالى أحسن الخالقين، وكل من خلق شيئًا فالله تعالى أحسن منه خلقًا حتى الذين يضاهئون بخلق الله لا يمكن أن يخلقوا مثل خلق الله، بل هم يقلدون على خلق الله، ولا يمكن أن يأتوا بمثله ولا أحسن منه، فالله سبحانه وتعالى هو أحسن الخالقين.

وفي قوله: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ} إشكال، وهو أنه قد

ص: 274

يفهم فاهم من هذه الآية أنهم لو دعوا البعل ولم يذروا الله فلا إنكار عليهم، فما الجواب؟

الجواب أن يقال: يحتمل أن هؤلاء القوم يدعون البعل، ولا يدعون الله ولا يعبدون الله، كما يوجد الآن في طوائف الكفر من لا يرون أحدًا يطاع ويتقى إلا زعماؤهم ورؤساؤهم، فالدول الشيوعية مثلًا كانوا لا يعرفون إلا ستالين ومن سن لهم هذه القوانين، ويرون أنه هو الرب الذي يجب أن يطاع وأن يخشى، ولا يعرفون الله، وعلى هذا فيكون قوله:{أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125)} على ظاهره، أي أنهم يدعون هذا البعل، ولا يدعون الله.

ويحتمل أنهم يدعون البعل، ويدعون الله، ولكن من دعا غير الله ودعا الله فإن الله غني عنه، فيكون كالتارك لدعاء الله، كما صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه أنه قال:"أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيره تركته وشركه"

(1)

وعلى هذا فيكون إلياس جعلهم تاركين لله لأنهم أشركوا به، ومن أشرك بالله معه غيره فالله غني عنه كأنه لم يعبد الله.

وعلى هذا فإما أن يكونوا قد تركوا الله على سبيل الحقيقة إذا كانوا يعبدون البعل ولا يعبدون الله، أو يكونوا تركوا الله على سبيل الحكم إذا كانوا يعبدون البعل ويعبدون الله، فإن هؤلاء حقيقة تركوا عبادة الله؛ لأن الله تعالى غني عنهم.

(1)

تقدم.

ص: 275

{اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126)} .

قال المؤلف: [برفع الثلاثة على إضمار هو، ونصبها على البدل من أحسن].

الثلاثة: الله، ربكم، ورب آبائكم.

يقول فيها قراءتان: الأولى: الرفع، على أنها خبر مبتدأ محذوف يعني هو رب، وتكون هذه الجملة منقطعة عما قبلها، استئنافية لبيان من هو أحسن الخالقين.

والقراءة الثانية بالنصب {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126)} على أنها بدل من أحسن. أي وتذرون {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126)} .

ومعنى الآية: فـ {اللَّهَ} بمعنى المألوه، وأصلها الإله، لكنها حذفت الهمزة للتخفيف لكثرة الاستعمال، {رَبَّكُمْ} أي: خالقكم ومالككم، والمدبر لأموركم، لأن الرب كما تقدم هو الخالق، المالك، المدبر، {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126)} ، يعني السابقين وهم: الأجداد، وإنما قال:{وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126)} إشارة إلى:

أولًا: أن الله عز وجل هو الذي بيده خلق الحياة والموت، فإن هؤلاء الآباء الأولين قد أماتهم الله، فيذكر هؤلاء بأنهم سوف يموتون كما مات آباؤهم الأولون، ومن المعلوم أن الإنسان إذا كان له قلب وذكر بالموت وأنه سوف ينتقل من هذه الحياة التي هي حياة العمل إلى حياة أخرى وهي حياة الجزاء فلابد أن يلين قلبه، وأن يعمل للدار المستقبلة التي لابد أن يصير إليها،

ص: 276

فكونه يذكر الآباء الأولين إشارة إلى تذكيرهم بأنهم سيموتون كما مات هؤلاء فليستعدوا.

ثانيًا: أن الله تعالى هو الخالق لموتهم وحياتهم، فإذا كان هو الخالق لذلك فإن الواجب أن يعبد وحده دون غيره، وهذا الصنم لا يخلق الموت ولا الحياة.

{فَكَذَّبُوهُ} أي: كذبوا ما جاء به خبرًا وطلبًا. كذبوه أنه رسول، وقالوا كما قال غيرهم -والعلم عند الله- {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168)} [الشعراء: 168] بل كل الذين سبقوه من الرسل قيل لهم ذلك، قال الله تعالى:{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [إبراهيم: 9 - 10] فكل من سبق يكذبون رسلهم يقولون: أنتم بشر، يعني ولو شاء الله أن يرسل رسولًا لجعله ملكًا، ولكن الله رد على هؤلاء قال:{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} [الأنعام: 9] أي في صورة الرجل؛ لأنه لا يتلاءم أن ينزل مَلَكٌ لبشر ليدلهم ويقودهم، وكيف يتبع الناس هذا الملك وهو على صورته الأصلية؟ لا يمكن لأنه لابد من التلاؤم، فلو أرسل الله ملكًا إلى البشر لجعله رجلًا مثلهم، وإذا جعله رجلًا عاد الأمر كما كان قالوا: نريد ملكًا، ولهذا قال:{وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)} [الأنعام: 9]{فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127)} (الفاء): هنا للسببية، أي: فبسبب تكذيبهم

ص: 277

أنهم لمحضرون، أي محضرون إلينا يوم القيامة وسيجازون على ذلك.

وأما قول المؤلف: [لمحضرون في النار] ففيه نظر؛ لأنه لم يسبق للنار ذكر، اللهم إلا أن يقال: إن الاستثناء {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128)} قد يدل على ذلك، لكن المعنى الذي أشرت إليه أولى: أي لمحضرون عندنا، كما قال الله تعالى:{وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)} . [يس: 32] والمهم أن الله تعالى أخبر عن هؤلاء بأنهم سوف يحضرون إلى الله، وسوف يجازيهم على أعمالهم.

{فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127)} وهذه الجملة مؤكدة بمؤكدين: إنّ، واللام {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128)} أي: الذين أخلصهم الله لنفسه، فأخلصهم من الشرك ومن تكذيب الرسل، والعبودية هنا عبودية خاصة.

والاستثناء هنا متصل على كلام المؤلف رحمه الله، وعلى ما أشرت إليه يكون منقطعًا، وجه ذلك أنه إذا قلنا: إنهم محضرون إلى الله فإنه لا يستثني أحد، كل سيحضر، وعلى هذا فيكون الاستثناء منقطعًا، يعني لكن عباد الله المخلصين سوف ينجون من هذا الحضور، أي من العذاب الذي يترتب على هذا الحضور والمجازاة.

أما على قول المؤلف {فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127)} في النار، فإن الاستثناء متصل، يعني أن قومه يحضرون في النار إلا المؤمن منهم {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128)} .

{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129)} قال المؤلف رحمه الله: [ثناءً

ص: 278

حسنًا {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130)} هو إلياس المتقدم ذكره، وقيل: هو ومن آمن معه، فجمعوا معه تغليبًا، كقولهم للمهلب وقومه: المهلبون، وعلى قراءة (آل ياسين) بالمد، أي أهله المراد به إلياس أيضًا].

أفادنا المؤلف أن في الآية قراءتين: الأولى إلياسين، والقراءة الثانية: آل ياسين، أما على القراءة الأولى إلياسين فهل إلياسين، هو إلياس؟ أو من قومه؟

فيه قولان للعلماء: فمن العلماء من قال إن إلياسين هو إلياس، فيكون كقوله تعالى:{سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120)} وهنا لم يذكر إلياس قال: سلام على إلياس، لكن اختلف اللفظ؛ لأن الاسم أعجمي، والعرب إذا عربت الاسم الأعجمي صار فيه شيء من التصرف، مثل جهنم يقال أصلها جهنام، وأصلها الفارسي كهنام، وعلى هذا لا نحتاج إلى التعب، فنقول: من أين اشتقت جهنم؟

وعلى كل حال: إذا جعلنا إلياسين هو إلياس نفسه صار جاء مرة بإلياس ومرة بإلياسين بناء على أن العرب يتصرفون في الأسماء الأعجمية المعربة، وفيه معنى آخر على القراءة الأولى إلياسين على أن المراد قومه، وأن الياء والنون زيدت كما تزاد في مسلم فيقال: مسلمين، فتكون إلياسين جمع لإلياس كما قال المؤلف:(المهلبون)، وأصلها يقال: المهلبيون، نسبة إلى المهلب، فآل ياسين أصلها إلياس ثم زيدت الياء والنون، وصار المراد بذلك قومه. هذا على قراءة إلياسين. فيكون فيها معنيان.

ص: 279

المعنى الأول: أنه إلياس نفسه، وهذا التصرف في اللفظ بناء على أنه اسم أعجمي، والعرب تتصرف بالأسماء الأعجمية عند تعريبها.

المعنى الثاني: أن المراد قومه وأنهم جمعوا باعتبار قومه.

أما على القراءة الثانية (آل ياسين) فهي أيضًا في كلمة ياسين تصرف تعريبي؛ لأن ياسين هو إلياس، وعلى هذا فيكون المراد بآل ياسين: إلياس وقومه، فآل الشخص يدخل فيهم، الشخص إلا إن ذكر معهم لم يدخل فيهم، كما تقول: اللهم صل على محمَّد وعلى آل محمَّد، أما إذا لم يذكر معهم فإنه يدخل فيهم كما في قوله تعالى:{أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} [غافر: 46] ومنهم فرعون بل هو أولهم: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)} [هود: 98] يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود.

الفوائد:

1 -

من فوائد قوله تعالى {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123)} إثبات رسالة إلياس، وسبق لنا أن إلياس فيما يظهر من أنبياء بني إسرائيل.

2 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن الله عز وجل يثني على عباده بما يستحقون من الأوصاف في الآخرين ليبقى ذكرهم مخلدًا.

فإنه لولا أن الله ذكر هؤلاء الأنبياء لطويت صحائفهم وما علم عنهم شيء.

ص: 280

3 -

ومن فوائد قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124)} : دليل على أن التقوى تطلق على فعل الأوامر وترك النواهي، قال:{أَلَا تَتَّقُونَ (124)} ؟ يعني بعبادة الله، ويدل لهذا قوله:{أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125)} .

4 -

ومن فوائدها: بيان تلطف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوة قومهم؛ لأنه قال: {أَلَا تَتَّقُونَ (124)} وهذا للعرض والحث، ولم يقل لهم: اتقوا الله، مع أن الرسل قد يقولون: اتقوا الله، لكن ينزل كل مخاطب منزلته بما يليق به.

5 -

ومن فوائد هذه الآية -وهي في الحقيقة فائدة في كل ما سبق من الآيات- اختصاص رسالة الرسول فيما سبق بقومه، لقوله:{إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124)} .

فإن قال قائل: إذا أخذتم من إضافة القوم إلى الرسول اختصاص الرسالة بقومه، فإن الله تعالى وصف النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك فقال:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] فهل تقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل إلى العرب فقط؟

فالجواب: لا، لكننا نأخذ عموم رسالته من أدلة أخرى كقوله تعالى:{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ} [الأعراف: 158] وكقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)} . [الفرقان: 1] وكقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة"

(1)

.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب التيمم، باب (1)(رقم 335) ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة (رقم 521)(3).

ص: 281

6 -

ومن فوائد قوله تعالى: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125)} : بيان سفه هؤلاء القوم، لأنهم يعبدون البعل وهو صنم ربما صنعوه بأيديهم فكان مخلوقًا، ويذرون الخالق عز وجل الذي هو أحسن الخالقين، وهذا لا شك أنه غاية السفه، فإن أحق من يعبد هو الله عز وجل.

7 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن الله عز وجل أحسن الخالقين خلقًا، في كل ما يعود إلى صفة الخلق من كمال الخلقة وجمالها ومناسبتها لطبيعتها وغير ذلك، ومن أراد أن يتوسع في هذا المجال فليقرأ كتاب مفتاح دار السعادة لابن القيم رحمه الله فإنه ذكر من ذلك العجب العجاب، في خلق الله عز وجل.

8 -

ومن فوائد الآية: أن غير الله تعالى يوسف بأنه خالق لقوله: {أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125)} ، ووجه ذلك أن في هذه الآية مفضلًا ومفضلًا عليه والمفضل الله عز وجل، والمفضل عليه ما سواه. ونقول: هذا هو الواقع أن هناك خالقين غير الله، لكن هذا الخلق ليس كخلق الله عز وجل؛ لأن خلق الله خلق إيجاد وأما خلق غيره فخلق تغيير وتحويل فقط. مثال ذلك: الذي خلق الخشب الله عز وجل، ثم يخلقه الآدمي فيحوله إلى أبواب وسرر وما أشبه ذلك، ويقال: خالق. والذي خلق الحديد الله عز وجل ويحوله الآدمي إلى أواني ومعدات ومراكب وما أشبه ذلك، هذا ليس خلق إيجاد حتى نقول: إنه مشاركة مع الله، ولكنه خلق تغيير وتحويل، يحول الشيء من شيء إلى شيء، ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام في المصورين يقال لهم: "أحيوا ما

ص: 282

خلقتم"

(1)

وهم في الحقيقة ما خلقوا حتى وإن صوروا وأبدعوا في الصورة فإنهِم لم يخلقوا كخلق الله.

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73] حتى وإن أبدع المصور في تصويره الذي جعله على مثال الآدمي أو مثال الحيوان، فإنه لن يكون كخلق الله.

9 -

ومن فوائد قوله تعالى: {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126)} أنه ينبغي للداعية أن يذكر الإنسان بما يكون سببًا لاتعاظه لقوله: {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126)} فيذكرهم بأن آباءهم قد فنوا وذهبوا، وإنكم أنتم سوف تذهبون كما ذهب الآباء.

10 -

ومن فوائد قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ} دليل على أن الإنسان مهما بلغ في عرض الدعوة إلى الله وبيانها والبلاغة في العظة فإنه لا يستلزم أن يؤثر فيمن وجه الخطاب إليه؛ لأن إلياس عرض الدعوة عليهم عرضًا رقيقًا، وبيَّن لهم الأدلة على أن الله وحده المستحق للعبادة ومع ذلك كذبوه. ويتفرع على هذه الفائدة:

أنه ينبغي للداعية إذا رُدّ قوله ألا يعتبر نفسه مقصرًا أو فاشلًا؛ لأنه أدى ما عليه وهو البلاغ، والهداية على الله عز وجل:{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:

(1)

أخرجه البخاري كتاب اللباس، باب من كره القعود على الصور (5957) ومسلم، كتاب اللباس، باب تحريم تصوير صورة الحيوان (2108)(97).

ص: 283

272] فلو أراد الله بهؤلاء خيرًا لانقادوا للهدى، أما أنت فقد أراد الله بك خيرًا لأنك بلغت ما عليك.

11 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: ترتب الجزاء على العمل، وتؤخذ من الفاء الدالة على السببية {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127)} فالجزاء مترتب على العمل، وقد ذكر الله في آية أخرى أن الجزاء يكون من جنس العمل، فقال:{فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت: 40] قدرًا وكيفية ثم فصل الله هذا الأخذ.

12 -

ومن فوائدها: إثبات الجزاء المتسبب على العمل في قوله: {فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127)} .

13 -

ومن فوائدها: إهانة هؤلاء وأمثالهم، حيث قال:{لَمُحْضَرُونَ (127)} ولم يقل: نحضرهم، ولكنه في آية أخرى قد يضيف العقوبة إلى نفسه عز وجل، مثل قوله تعالى:{ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)} . [مريم: 68].

14 -

ومن فوائد قوله تعالى: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128)} . بيان أن العباد المخلصين لا ينالهم عذاب هؤلاء في الآخرة قطعًا، وفي الدنيا فإنه يوشك أن يعم الله تعالى الصالح والفاسد بالعذاب، ولاسيما إذا قصر الصالح في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده.

15 -

ومن فوائدها: الثناء على هؤلاء الذين اتبعوا الرسل، لكونهم عبادًا لله ومخلصين.

16 -

ومن فوائد قوله تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ

ص: 284

عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130)} بيان أن الله تعالى يجازي المحسن بالإحسان حتى بعد موته، لقوله:{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129)} ، والواقع شاهد بذلك، فإن أئمة الإِسلام أبقى الله عليهم ثناء حسنًا في الآخرين، وصدّ كل لسان يقدح فيهم فجعل فيهم الثناء وسلمهم من القدح.

17 -

{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)}

يستفاد منها ما سبق في قصة موسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام-.

* * *

{وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133)} سبق نظيرها في آيات أخرى وأن فيها توكيدًا من وجهين إن واللام. وأن التوكيد يؤتى به عند إنكار المخاطب أو شكه، أو أهمية المخبر به وإن لم يكن هناك شك أو إنكار. وقوله:{وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133)} أي: لمن الذين أرسلهم الله تعالى، أرسل الله تعالى لوطا عليه الصلاة والسلام إلى قومه وكانوا -والعياذ بالله- يأتون الفاحشة وهي اللواط: يأتي الذكرُ الذكرَ، وهذه من أسفل الأخلاق -نسأل الله العافية-، ولهذا قال الله تعالى عن الزنا:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)} [الإسراء: 32] وقال عن اللواط على لسان لوط: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} [الأعراف: 80]. يعني التي استقر فحشها في فطر الناس و (ال) تفيد التقبيح والتعظيم، ولا شك أن فاحشة اللواط أعظم من فاحشة الزنا؛ لأنها قلب للفطرة التي فطر الله تعالى الخلق عليها، ولأن فيها عزوفًا عما أحل الله عز وجل، وهكذا

ص: 285

الإنسان المبتلى بالمحرم يبتلى -والعياذ بالله- بالعزوف عن الحلال، فتجده مستغنيًا بما حرم الله عما أحل الله، بخلاف الذي استغنى بالحلال عن الحرام، فإن الله تعالى يعينه ويجمل الحلال في عينه، ففي هذه الفاحشة عزوف الناس عن النساء، وبذلك يقل النسل وتقل الأمة وتضعف، وفي هذه الفاحشة أيضًا أسباب لأمراض كثيرة، فإن الإنسان -والعياذ بالله- إذا استعمل هذه الفاحشة فقد أتى الدبر الذي هو محل النجاسة والأذى، وإذا كان الله تعالى قال في المحيض {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] فإن أذى العذرة أخبث من أذى الدم، فكان في هذا أذى وسبب لأمراض لا يعلم مداها إلا الله عز وجل، وفيها أيضًا قتل لمعنويات الرجال، فإن هذا المفعول به لن يبقى على حاله التي هو عليها، فسوف يكبر ويكون رجلًا فما مدى شعوره إذا قابل من كان يفعل به فعل الرجل بالمرأة؟ ! إنه ذل وخزي وعار -والعياذ بالله-، لهذا كانت هذه الفاحشة جديرة بأن يرسل الله تعالى رسولًا من أجل القضاء عليها، فإن لوطًا عليه الصلاة والسلام أرسله الله تعالى بالتوحيد وبالقضاء على هذه الفاحشة العظيمة، ومع ذلك لم يؤمن معه إلا قليل، حتى أهله الذين هم أهله لم يتمحض إيمانهم، بل كان فيهم من ليس بمؤمن وهي امرأته، وبهذا نعرف مدى ما يناله الدعاة إلى الحق من الأذى والرد، ولا ينبغي للإنسان أن يستحسر إذا لم يجد قبولًا من الناس، فإن الرسل -عليهم الصلاة والسلام- وهم أكرم الخلق على الله لا يجدون قبولًا من كل أحد، قال النبي صلى الله عليه وسلم:

ص: 286

"عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والشعبي وليس معه أحد"

(1)

. بل إن من الأنبياء من يقتل، فجدير بنا ونحن نسمع هذه القصص أن لا نضجر إذا لم نجد قبولًا، وأن لا نضجر إن رأينا أذى، وأن لا نضجر إن رأينا عدوانًا، فلنصبر ولنحتسب، والوعد بالثواب أو بالعقاب يكون غدًا.

فلوط أرسله الله تعالى إلى قومه، ولكنهم لم يقبلوا قوله حتى إن الرسل الذين جاءوا إلى لوط جاءوا قومه يهرعون إليه، يسرعون يريدون هؤلاء الملائكة الذين أرسلهم الله تعالى على صورة شبان فتنة لهؤلاء، فراودوه عن ضيفه، فقال: هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين. أي خذوا النساء تزوجوهن، قالوا: لقد علمت ما لنا في بناتك من حق، وإنك لتعلم ما نريد. ولكن قال الله عز وجل:{فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} [القمر: 37] فهؤلاء الرجال الذين جاءوا قيل: إن جبريل عليه السلام ضربهم بجناحه. وقيل: إن الله تعالى طمس على أعينهم والله أعلم بكيفية ذلك، وهذا القول أحسن إلا أن يصح عن الرسول عليه الصلاة والسلام، أن جبريل ضربهم، فهؤلاء رجعوا عميًا، طمس الله أعينهم حتى صاروا لا يبصرون، والحاصل أنه لم يستجب له أحد من قومه، ولهذا قال:{إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135)} .

{إِذْ نَجَّيْنَاهُ} (إذ) ظرف لفعل محذوف تقديره: "اذكر" ولا

(1)

أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب يدخل الجنة سبعون ألفًا (6541) ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول

(374)(220).

ص: 287

يصح أن تتعلق بالمرسلين؛ لأنه كان مرسلًا قبل أن ينجى {وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134)} أي أهل بيته {إِلَّا عَجُوزًا} مستثنى من أهل، فإنها لم تنج، وذلك لأنها كانت كافرة على دين قومها، ولهذا وصفها الله تعالى في سورة التحريم بالخيانة، والمراد بالخيانة الخيانة في الدين لا في العرض {عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135)} قال المؤلف رحمه الله:[أي الباقين في العذاب] وذلك أن لوطًا عليه الصلاة والسلام أمر أن يخرج من القرية هو وأهله إلا امرأته، فبقيت المرأة فأصابها ما أصاب قومها من العذاب، ولهذا قال:{إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135)} أي: من جملة الغابرين الذين هلكوا {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136)} كلمة دمرنا تفيد معنى عظيمًا وهو أن هذا الإهلاك كان إهلاك تدمير لم يبق لهم قائمة بعده، وهي أشد وقعًا في النفوس من (أهلكنا) فهي كقوله تعالى:{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)} [الإسراء: 16] وأمر الله مترفيها أمر قدري وليس شرعي كما قاله بعض الناس، وليس المعنى كما قال بعضهم: أمرناهم بالشرع ففسقوا، لأن هذا يقتضي أن الله تعالى أمر بالشرع من أجل الفسق، والله تعالى أمر بالشرع من أجل الطاعة، ولكن الأمر هنا أمر كوني لقوله تعالى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82]{الْآخَرِينَ (136)} أي كفار قومه، وذلك أن الله سبحانه وتعالى أرسل عليهم حجارة من سجيل تضرب بيوتهم وتهدمها حتى جعل عاليها سافلها، لأن البناء إذا تهدم صار أعلاه أسفله، فدمروا حتى هلكوا عن آخرهم، وهذا الجزاء موافق مناسب للعمل، لأن هؤلاء كما

ص: 288

قلبوا فطرتهم التي خلقهم الله تعالى عليها قلبت منازلهم فجعل عاليها سافلها.

وقال بعض أهل العلم: إن جبريل عليه الصلاة والسلام حمل قراهم وهي سبع قرى حتى بلغ بها جو السماء ثم قلبها ثم أرسلت عليهم الحجارة

(1)

. ولكن في هذا نظر؛ لأن إرسال الحجارة عليهم بعد أن يقلبوا من السماء لا فائدة منه، إذ سيهلكون بدون هذه الحجارة، فالظاهر ما ذهب إليه بعض العلماء من أن هذه الحجارة ضربت بيوتهم حتى هدمتها فصار أعلاها أسفلها. وقولهم. إن القرى سبع. ظاهر القرآن أنها قرية واحدة قال الله تعالى عن الملائكة الذين أرسلوا {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} ، [العنكبوت: 31] وفي قوله: {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136)} دليل على أن التدمير كان بعد أن نُجِّىَ لوط عليه الصلاة والسلام، وهو كذلك، فإن لوطًا لما فارق هذه القرى وأهله نزل بهم العذاب، {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137)} قال المؤلف رحمه الله:[على آثارهم ومنازلهم في أسفاركم]{وَإِنَّكُمْ} الخطاب في هذه الآية الكريمة قال المؤلف إنه لأهل مكة، ويمكن أن يقال: إنه عام لكل من يمر بقراهم إلى يوم القيامة؛ لأن هذا القرآن للأمة إلى يوم القيامة {لَتَمُرُّونَ} أكد المرور بمؤكدين: (إن) و (اللام).

فإن قال قائل: لماذا أكده بمؤكدين مع أنهم لا ينكرون أنهم يمرون؟

قيل: الجواب على ذلك: أن استمرارهم في تكذيب

(1)

انظر تفسير ابن كثير رحمه الله الآية (82) من سورة هود.

ص: 289

الرسول صلى الله عليه وسلم مع أنهم يمرون على ديار الذين أهلكوا يشبه المنكر والمكذب، فنزلوا منزلة المنكر المكذب؛ لأنهم لم يعتبروا، ولم ينتفعوا بهذا المرور، فهو كقوله تعالى:{ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15)} [المؤمنون: 15]. فالموت لا ينكر، فكل يقر بالموت لكن العاصي فعله فعل المنكر؛ لأنه لم يرتدع ولم يقم بما يجب عليه.

{مُصْبِحِينَ (137)} حال. وأول المؤلف رحمه الله الإصباح هنا إلى النهار، فيكون من باب التعبير بالبعض عن الكل، ولكن قد ينازع في ذلك، ويقال: إن الناس يمرون عليهم مصبحين، لأن أكثر سير الناس في السفر يكون في الليل وفي أول النهار، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"استعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا"

(1)

والغدوة أول النهار، والروحة آخر النهار، فوسط النهار يكون المسافر نازلًا للراحة "وشيء من الدلجة" يعني أول الليل وفي آخر الليل يكون مستريحًا "والقصد القصد تبلغوا" يعني لا ترهقوا أنفسكم فتعجزوا "إن المنبت لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى".

فالأولى إبقاء الآية على ظاهرها وأنهم يمرون عليهم في الصباح أول النهار حين يكون السير أطيب {وَبِاللَّيْلِ} قال النحويون: إن الباء هنا بمعنى (في) فتكون للظرفية، و (في) تأتي بمعنى الباء فتكون للسببية مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "دخلت النار امرأة في

(1)

أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب الدين يسر (39) وكتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل (6463) واللفظ مركب من الموضعين.

ص: 290

هرة"

(1)

ففي هنا بمعنى الباء، أي بسبب هرة.

{أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)} أي أفلا يكون لكم عقول، والمراد بالعقول هنا عقول الرشد لا عقول الإدراك، لأن عقل الإدراك موجود عند هؤلاء، وهم في الإدراك عقلاء أذكياء، ولكن عقول الرشد غير موجودة عندهم، لأن كل شخص يكفر بالله أو يعصي الله فإنه لا عقل عنده، لكن إن كان كافرًا فقد انتفى عنه العقل بالكلية، وإن كان عاصيًا فقد انتفى عنه من العقل بقدر معصيته. والاستفهام في قوله:{أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)} للتوبيخ، لأن شخصًا يمر على ديار المكذبين ويرى آثارهم ولا يتعظ يستحق أن يوبخ، و (الفاء) هنا حرف عطف، والمعطوف عليه قيل: على ما سبق أي على {لَتَمُرُّونَ} وعلى هذا الوجه تكون الهمزة في غير محلها، أي أن الفاء تقدر قبل الهمزة فيكون التقدير:"إنكم لتمرون عليهم أفلا تعقلون".

وقيل: إن الهمزة مدخولها محذوف والتقدير: أسفهتم أو جهلتم أو ما أشبه ذلك مما يقتضيه المعنى، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف. وقد سبق لنا أن القول بأنها معطوفة على ما سبق أسهل؛ لأنه أحيانًا يصعب عليك أو يتعذر أن تدرك المعنى المناسب الذي يمكن أن يكون معطوفًا عليه، فلهذا نقول: إن القول بأنها معطوفة على ما سبق على تقدير تأخير الهمزة الأولى.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم (3318) ومسلم، كتاب السلام، باب تحريم قتل الهرة (2242).

ص: 291

س

(1)

: قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82)} [هود: 82] ألا يدل أنهم قلبوا ثم أتبعوا بالحجارة؟

ج: لو كان العطف بـ (ثمَّ) لكان يدل على ذلك، لما أمطروا بالحجارة تهدمت بيوتهم فصار عاليها سافلها.

س: أين مكان قرى لوط؟

ج: يقال: إن البحر الميت هو محل قرية قوم لوط.

س: إذا كانت قرية قوم لوط البحر الميت فكيف تمر عليهم قريش؟

ج: يقولون: إنهم في ذهابهم إلى الشام يمرون عليهم.

س: كيف يمرون على البحر هل هم في سفينة؟

ج: يمرون عليهم أي من عندهم في البر لا في السفينة.

* الفوائد:

1 -

أن لوطًا عليه الصلاة والسلام كان من الرسل، وقد مر علينا في التفسير أنه أرسل إلى قوم يأتون الفاحشة، وهي إتيان الذكران من العالمين، ويتركون ما خلق الله عز وجل لهم من الأزواج.

2 -

ومن الفوائد: عناية الرب عز وجل بالقضاء على سفاسف الأخلاق؛ لأن فاحشتهم هذه أوجبت أن يرسل الله إليهم رسولًا لدحضها والقضاء عليها.

3 -

ومن فوائد قوله تعالى: {إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134)} أن

(1)

من أسئلة الطلبة.

ص: 292

الله سبحانه وتعالى ينجي الذين اتقوا بمفازتهم، وأن الله نجا لوطًا وأهله إلا امرأته، ويتفرع على ذلك:

أنه ينبغي للإنسان المؤمن أن يغلب جانب الرَّجاء إذا كان قد قام بحق الله تعالى، وذلك حيث نجَّا الله سبحانه وتعالى المؤمنين المخلصين من عباده من عقوبة المكذبين المستكبرين.

4 -

ومن الفوائد: أنه قد تكون المرأة الكافرة تحت الرجل المؤمن من غير أن يعلم بها لقوله: {إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135)} وقد بيَّن الله سبب ذلك، أي سبب وقوع العذاب عليها بأنها كانت قد خانت زوجها بالكفر من غير أن يعلم، ويتفرع على هذه الفائدة:

أنه ينبغي للإنسان أن يتفقد أهله، وأن يتحرى، وأن يسبر أمورهم.

5 -

ومن فوائد قوله تعالى: {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136)} التحذير من أن يفعل الإنسان كفعل هؤلاء فيدمر، وتدمير قوم لوط حسي، ولكن ربما يدمر من شابههم تدميرًا معنويًّا، وقد يدمر تدميرًا حسيًّا، فيرسل الله مثلًا عليهم الصواعق والبرد وغير ذلك مما يدمرهم، لكن التدمير المعنوي محقق، وذلك بانقلاب الذكور إناثًا؛ لأن هؤلاء المفعول بهم -والعياذ بالله- يكونون كالمرأة تمامًا هو نفسه يطلب الرجال ويتتبعهم، لعلهم يفعلون به -والعياذ بالله- لأنه انقلب وصار كالمرأة تمامًا، ولا شك أن هذا تدمير للرجولة وقلب للمجتمع.

6 -

ومن فوائد قوله تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137)} الإشارة إلى أن الإنسان إذا رأى الشيء بعينه كان

ص: 293

ذلك أقوى يقينًا، مما إذا أخبر به لقوله:{وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137)} وتشاهدون آثارهم، وهذا يسمى حق اليقين، والخبر به يسمى علم اليقين.

7 -

قد يقال إن قوله: {وَبِاللَّيْلِ} إشارة على أن السير في الصباح أحسن منه في آخر النهار، لقوله:{مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ} هذا إن قلنا: إن المراد بالإصباح الوقت الخاص وهو أول النهار، أما إذا قلنا: إن المراد بالإصباح كل النهار وأنه عبر بالبعض عن الكل، كما أشار إليه المؤلف فليس في ذلك دليل.

8 -

ومن فوائد هذه الآية: جواز المسير بالليل. ووجه ذلك أن الله أقرهم فقال: {وَبِاللَّيْلِ} ولكن هذه الفائدة فيها نظر؛ لأن الله يتحدث عن فعل هؤلاء المكذبين، فقد يقال: إن المراد بيان إقامة الحجة لا إقرارهم، ولكن السنة قد دلت على جواز المشي بالليل.

9 -

ومن فوائد الآية الكريمة: النداء على من لم يتعظ بالسفة وعدم العقل لقوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)} .

10 -

ومن فوائدها: أن العقل حقيقة هو ما أرشد صاحبه إلى فعل الخير وترك الشر، وليس العقل هو الذكاء، فالعقل شيء، والذكاء شيء آخر، وكل من كان مكذبًا للرسل مستكبرًا عما جاءوا به فإنه ليس بعاقل، حتى وإن كان من أدهى الناس، فالإنسان المكذب للرسل المستكبر عما جاءوا به ليس بعاقل وإن كان ذكيًّا حتى وإن كان ذا شرف وجاه، فإنه ليس بعاقل لقوله:{أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)} وقد قال الله مثل هذا في بني إسرائيل الذين

ص: 294

يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب فقال: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} والله الموفق.

* * *

{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139)} هذه الجملة مؤكدة بمؤكدين: الأول: إن، والثاني: اللام، وسبب التأكيد أن إثبات الرسالة أمر ينكره كثير من الناس، والشيء الذي ينكر يجب أن يؤكد بما يدل على ثبوته، سواء كان ذلك عن طريق التأكيد اللفظي بأدوات مؤكدات، أو عن طريق التأكيد المعنوي بذكر الآيات والشواهد الدالة على ثبوته، والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- قد ثبتت رسالتهم: أي بالتوكيد اللفظي والتوكيد المعنوي، فأيدهم الله تعالى بالآيات الكونية والشرعية، وأيد الله رسالتهم بالمؤكدات اللفظية، كما في هذه الآية.

{لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139)} يعني لمن القوم الذين أرسلهم الله تعالى إلى عباده، ولم يبين إلى من أرسلوا، لكن قد ذكر في آيات أخرى أنه أرسل إلى قومه، وكذلك صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل نبي يبعث إلى قومه خاصة إلا النبي صلى الله عليه وسلم فإنه بعث إلى الناس عامة

(1)

، ويونس عليه الصلاة والسلام هو أحد أنبياء بني إسرائيل، أرسله الله تعالى إلى قومه، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- بيان قصته هنا.

{إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140)} قال المؤلف رحمه الله:

(1)

تقدم تخريجه.

ص: 295

[هرب {إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140)}: السفينة المملوءة حين غاضب قومه]{إِذْ أَبَقَ} يحتمل أن تكون {إِذْ} متعلقة بالمرسلين، أي لمن المرسلين في هذه الحال، أي أن إيباقه لم يسلبه الرسالة، ويحتمل أنها متعلقة بمحذوف تقديره: اذكر إذ أبق إلى الفلك المشحون. وهذا أحسن أن تكون متعلقة بمحذوف؛ لأنه لما أثبت رسالته بين حالًا من حالاته وهو إيباقه عليه الصلاة والسلام، وعلى هذا فنقول {إِذْ أَبَقَ} ليست متعلقة بالمرسلين، لأن رسالته كانت قبل أن يأبق، لكنها متعلقة بمحذوف، التقدير: اذكر إذ أبق، والإيباق هو الهرب، وكأنه عليه الصلاة والسلام خرج مسرعًا؛ لأنه خرج مغاضبًا لقومه حين لم يؤمنوا ولم ينزل بهم العذاب. قال:{الْفُلْكِ} يعني السفينة وهي مراكب الماء، وقد أنعم الله على العباد بالفلك تجري في البحر بأمره، تحمل الأرزاق من جهة إلى جهة، وامتن الله بها على العباد وعظمت منته في عصرنا الحاضر، فإن الفلك في عصرنا الحاضر ليس كالفلك فيما سبق، فالفلك كان على الشراع والهواء، وكان له معوقات وفيه مخاطر عظيمة. أما الفلك الآن فعلى العكس من ذلك، ومنَّ الله أيضًا بالفلك على عباده في عصرنا الحاضر بأن تنوعت هذه الفلك فصارت فلكًا مائيًا، وفلكًا بريًّا، وفلكًا هوائيًّا، فالهوائي الطائرات، والبري السيارات، والمائي السفن، وكل هذا داخل في قوله تعالى:{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} . [الزخرف: 12 - 13].

ص: 296

{الْمَشْحُونِ (140)} يعني المملوء من الركاب، فركب البحر مغاضبًا لقومه لما لم ينزل بهم العذاب الذي وعدهم به، فركب السفينة فوقفت في لجة البحر، فقال الملاحون: هنا عبد أبق من سيده تظهره القرعة، هكذا قال المؤلف رحمه الله: إن السفينة وقفت في لجة البحر، وأن وقوفها كان بسبب إيباق يونس. فقال الملاحون وهم قواد السفينة: هنا عبد أبق من سيده تظهره القرعة، ولكن ما ذكره المؤلف رحمه الله ليس عليه دليل، وهو من الإسرائيليات البعيدة، بل إن هذه السفينة المشحونة لما كانت في عرض البحر وهي مملوءة وصارت في لجة البحر ثقل الحمل، وإذا ثقل الحمل فلابد من أحد أمرين: إما أن يخفف الحمل، وإما أن يغرق الجميع، ولا شك أن تخفيف العمل أولى من غرق الجميع؛ لأنه إذا خفف الحمل نجا من بقي، وإذا بقي الحمل على ما هو عليه غرق الجميع، وبقاء البعض أولى من هلاك الكل، وهذا أمر عقلي، فاقترعوا إذ ليس إلقاء بعضهم في البحر أولى من إلقاء الآخر، فلا سبيل حينئذ إلى التخلص من هذه المشكلة إلا بالقرعة، فاقترعوا {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)} اقترعوا أيهم الذي يلقى. ومن المعلوم أننا إذا علمنا من يلقى علمنا من يبقى، ولهذا قال الله عز وجل:{فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)} قال المؤلف رحمه الله: [ساهم أي قارع أهل السفينة {فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)} المغلوبين بالقرعة فألقوه في البحر].

وظاهر صنيع المؤلف رحمه الله أنه لم يلق أحد سوى يونس، ولكن الآية تدل على خلاف ما يدل عليه كلام المؤلف،

ص: 297

لأنه {فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)} (من) هنا للتبعيض أي: بعضًا منهم، وهذا يدل على أن القرعة أصابته وأصابت غيره أيضًا، فالمسألة الآن واضحة فالفلك كان مملوءًا، ولابد أن يغرق إلا أن يلقى بعض ركابه، وإلقاء بعض الركاب أولى من هلاك الجميع. ولا سبيل إلى إلقاء البعض على التعيين؛ لأننا لو عينا أحدًا دون أحد كان في ذلك ظلم، وامتنع من عيناه، وصار في هذا خصومة، وربما غرقت السفينة في أثناء هذه الخصومة، إذًا فالطريق إلى تعيين من يلقى هو القرعة، فاقترعوا فأصابت القرعة قومًا ونجا منها قوم، وكان يونس عليه الصلاة والسلام من جملة الذين أصابتهم القرعة، فكان من المدحضين فألقي في البحر، قال الله تعالى:{فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ} ابتلعه {وَهُوَ مُلِيمٌ (142)} قال المؤلف رحمه الله: [أي آت بما يلام عليه من ذهابه إلى البحر وركوبه السفينة بلا إذن من ربه].

التقمه الحوت التقامًا ولم يمضغه؛ لأنه لو مضغه لتكسر وهلك، لكن الله تعالى سخر له هذا الحوت فالتقمه التقامًا وابتلعه حتى وصل إلى مقر بطنه دون أن يصيبه أذى.

وقوله: {وَهُوَ مُلِيمٌ (142)} الجملة هنا في موضع نصب على الحال من الهاء في قوله: {فَالْتَقَمَهُ} لا من الفاعل في التقمه، لأن الفاعل الحوت، والحوت ليس بمليم، بل المليم الملتقَم {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142)} أي: يونس ومعنى (مليم): آت بما يلام عليه، كما يقال:(منجد) لمن دخل نجدًا مثلًا، فمفعل قد تأتي بمعنى التلبس بالشيء، فالمليم هو الذي فعل ما يلام عليه،

ص: 298

والذي يلام عليه أنه خرج من قومه مغاضبًا لهم قبل أن يأذن الله له، وكان الواجب أن يصبر، ولهذا قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم:{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)} . [القلم: 48 - 50]

فيونس عليه الصلاة والسلام التقمه الحوت في حال يلام عليها، ووجه ذلك أنه خرج مغاضبًا من عند قومه بدون إذن من ربه عز وجل. {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)} .

(لولا) ترد كثيرًا في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية، وفي كلام الناس وهي ثلاث أدوات:(لو) و (لما) و (لولا):

* لو حرف امتناع لامتناع: لو جاء زيد لأكرمته، فالممتنع الإكرام لامتناع وجوده.

* ولما حرف وجود لوجود، لما جاء زيد أكرمته، فالذي وجد الإكرام لوجود المجيء.

* ولولا حرف امتناع لوجود تقول: لولا مجيء زيد لأكرمت فلانًا. فالذي امتنع إكرام فلان لوجود مجيء زيد.

وهنا {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ} الذي امتنع اللبث لوجود التسبيح، لولا أنه أي: يونس {كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143)} قال المؤلف رحمه الله: [الذاكرين بقوله كثيرًا في بطن الحوت {أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} [الأنبياء: 87]

ص: 299

يعني لولا أنه كان من المسبحين بهذا اللفظ أو بغيره، وهذا أولى أن نقول بهذا اللفظ أو بغيره، أي: كان ممن يسبح الله عز وجل. إما قبل أن يلتقمه الحوت، أو في أثناء وجوده في بطن الحوت لولا هذا {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ} أي: في بطن الحوت {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)} لصار بطن الحوت قبرًا له إلى يوم القيامة. ولكن لوجود التسبيح السابق أنجاه الله سبحانه وتعالى، {فَنَبَذْنَاهُ} النبذ بمعنى الطرح والإلقاء، وهنا قال، {فَنَبَذْنَاهُ} بصيغة الجمع مع أن النابذ واحد، ولكن أتى بصيغة الجمع من باب التعظيم، وذلك لكمال صفاته وكثرة صفاته عظم نفسه، {بِالْعَرَاءِ} قال المؤلف رحمه الله:[أي ألقيناه من بطن الحوت بالعراء بوجه الأرض أي بالساحل من يومه، أو بعد ثلاثة، أو سبعة أيام، أو عشرين، أو أربعين يومًا].

(العراء) وجه الأرض، والمراد به وجه الأرض الذي ليس فيه ما يظل من شجر ولا بناء، وسمي عراء لعروه عما يكسوه من الأشجار والبناء، فبقي عليه الصلاة والسلام على الساحل ليس عنده بناء ولا أشجار تظله بل عراء، ولكن الله سبحانه وتعالى لطف به؛ لأن رحمة الله سبقت غضبه. {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7] وأما قول المؤلف: [إنه من يومه، أو بعد ثلاثة، أو سبعة، أو عشرين، أو أربعين يومًا] فهذه أقاويل وكلها ليس عليها دليل، لكن لا شك أن الله سبحانه وتعالى أبقاه في بطن الحوت ما شاء الله أن يبقى، وأما تعيين ذلك فلابد فيه

ص: 300

من دليل عمن قوله حجة وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، وما عدا ذلك في مثل هذه الأمور فإنها لا تقبل.

{وَهُوَ سَقِيمٌ (145)} قال المؤلف رحمه الله: [عليل كالفرخ الممعط]، قوله: عليل تفسير للسقيم، والسقم بمعنى: المرض والعلة، وأما كونه كالفرخ الممعط، يعني: المنتوف شعره، فهذا ليس في الآية ما يدل عليه، لكن لا شك أن المريض يكون ضعيف البدن وليس عنده قدرة على مقاومة الشمس والهواء، وقوله:{وَهُوَ سَقِيمٌ (145)} يدل بظاهره على أن يونس بقي في بطن الحوت مدة أدت إلى سقمه.

{وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ} ولم يقل: (أنبتنا له)؛ لأنه بحاجة إلى ظل، فأنبت الله عليه ظلاًّ، {شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146)} ، (من) لبيان الجنس، كما يقال: خاتم من حديد، واليقطين هو: القرع، والقرع أنواع منها قرع يسمى عندنا (قرع نجد) هذا له شجر، وأشجاره لينة كالإِبْرَيْسَم ويقال: إنه لا يقع عليه الذباب.

النوع الثاني: من القرع فهو قرع ورقه خشن، حتى إن الإنسان إذا لمسه بيده يحس بالخشونة، والظاهر أن الذي أنبت الله عليه من النوع الأول اللين الذي يكون كالإبريسم، وهو أيضًا بارد الظل، فأنبت الله عليه هذه الشجرة، وأما قول المؤلف:[تظله بساقِ على خلاف العادة] فهذا يحتاج إلى دليل، لكن لا شك أن الله أَنبت عليه شجرة تظله، ولابد أن يكون لها نوع من الارتفاع، قال رحمه الله:[وكانت تأتيه وعلة صباحًا ومساء يشرب من لبنها حتى قوي]. الوعلة: الأنثى من الظباء يعني أنثى الأوعال،

ص: 301

فكانت تأتيه ويشرب من لبنها حتى قوي. وهذا الخبر يحتاج إلى دليل عن المعصوم، وليس فيه دليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو خبر إسرائيلي نتوقف فيه لا نصدق ولا نكذب، إن كان الله تعالى قيض له ذلك، فالله على كل شيء قدير، وهذا سبب حسي؛ لأن الإنسان يحتاج إلى غذاء، وإن كان الله تعالى قد قواه على تحمل الجوع والعطش، فهذا أيضًا ليس ببعيد، وحينئذ نجعل الآية فيه: أن الله قواه على خلاف العادة. أما إذا جعلناها وعلة فهنا يكون بقاؤه وتغذيته على حسب العادة من وجه، ومعجزة من وجه آخر، حسب العادة، حيث تغذى باللبن كغيره من البشر، وعلى خلاف العادة حيث قيض الله له هذه الوعلة التي ليست من جنسه، تأتي حتى يشرب من لبنها، لكن إذا قلنا: إن الله قوَّاه على تحمل الجوع والعطش صار هذا آية محضة، وليس هذا ببعيد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما نهى عن الوصال قالوا: يا رسول الله إنك تواصل، والوصال يعني أن يقرن الصائم بين يومين لا يفطر بينهما، قال:"إني ليست كهيئتكم إني يطعمني ربي ويسقيني"

(1)

يعني بلا أكل ولا شرب، ومع ذلك يكتفي بما أودع الله في قلبه من محبة الله وذكره عن الغذاء الجسدي، أي يكتفي بالغذاء الروحي عن الغذاء الجسدي، فالله على كل شيء قدير، ونظير هذا من بعض الوجوه أن الله سبحانه وتعالى قال: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب الوصال ومن قال: ليس في الليل صيام (1963) ومسلم في كتاب الصيام، باب النهي عن الوصال في الصوم (1102)(55).

ص: 302

الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ} [التوبة: 40] فهنا لم يذكر الله سبحانه وتعالى كيف نصره على قريش وهو في الغار، فعلى أي شيء يحمل؟ وردت أحاديث ضعيفة بأنه عششت عليه العنكبوت، وأنه صار على فم الغار حمامة، وأن الله أنبت شجرة تحجز رؤية المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر رضي الله عنه

(1)

فهذه الثلاث أمور حسية تمنع من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار، ولكن وجودها في هذا الوقت آية، فالله عز وجل أنبت هذه الشجرة، وسخر هذه الحمامة لتقف على باب الغار، وسخر العنكبوت لتنسج على بابه، وهذه آية لا شك، ولكن هناك آية أعظم من هذا، وهي آية محضة وهي أن الله سبحانه وتعالى أعمى أبصارهم عن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه لأنهم وقفوا على الغار على أقدامهم حتى قال أبو بكر رضي الله عنه:"لو نظر أحدهم إلى قدمه لأبصرنا"

(2)

كما صح ذلك عند البخاري ومسلم وغيرهما، وهذا مما يدل على ضعف قصة العنكبوت والحمامة

(1)

أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/ 348) وليس فيه ذكر للحمامة. وانظر السيرة النبوية لابن هشام (2/ 144) وقد مال محققا السيرة إلى تحسين حديث نسيج العنكبوت والحمامتين على باب الغار، استئناسًا بتحسين الحافظين ابن حجر وابن كثير، انظر هامش السيرة. وانظر الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم (ص/ 52) طبعة دار الصفا، ومال محققه إلى تضعيف الخبر.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله:{ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} (4663) ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه. (2381)

ص: 303

والشجرة، لأن هذا الثاني أبلغ آية من الأول، وكلام أبي بكر رضي الله عنه يدل على أنه ليس هناك حاجز حسي يمنع من الرؤيا لا شجرة ولا عش عنكبوت، وليس هناك ما يبعد أن يوجد في الغار أحد من وقوع الحمامة على بابه، والحمامة قد تقع على باب الحجرة ولو كان فيها أحد - كما هو مشاهد كثير.

فالحاصل أن بعض الناس يأتون بمثل هذه الآيات ولا يفكرون بأنها تضعف جانب الآية، لأن كون الآية أن الله أعمى أبصار قريش عن رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم مع أنهم واقفون على الغار أبلغ بكثير من نسيج العنكبوت، أو الشجرة، أو الحمامة، وأحسن هذه الروايات من حيث السند نسج العنكبوت ومع ذلك فهو ضعيف، وإذا كان ضعيف السند وشاذ المتن لمخالفته ما جاء في الصحيحين فإنه لا يكون مقبولًا.

{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)} أي أرسله الله تعالى بعد ذلك إلى قومه، وأتم رسالته إلى مئة ألف، وقوله:{أَوْ يَزِيدُونَ (147)} اختلف العلماء هنا:

فقيل: إن (أو) بمعنى بل، كما قاله المؤلف:[بل يزيدون عشرين، أو ثلاثين، أو سبعين] وتعيين الزيادة بعشرين أو ثلاثين أو سبعين ألفًا لا دليل عليه، ولا يمكن أن تكون الزيادة سبعين ألفًا. لأنه لو كانت الزيادة سبعين ألفًا ما صح أن يقال: مئة ألف أو يزيدون، بل يقال إلى مئة وسبعين ألفًا، لأن الفارق بين العدد الأول والثاني كثير، فعلى كلام المؤلف يكون الله تعالى أرسله إلى أكثر من مئة ألف وتكون (أو) هنا بمعنى (بل)، والمراد ببل التي

ص: 304

كانت (أو) بمعناها الإضراب الانتقالي، وليس الإضراب الإبطالي.

وذهب بعض العلماء إلى أن (أو) هنا للتحقيق، وليست للإضراب، أي إن لم يزيدوا على مئة ألف، لم ينقصوا، فكأن ما بعد (أو) لتأكيد ما قبلها، وليس للزيادة عليه، كما لو سألك سائل عن قوم: كم عددهم؟ فقلت: مئة ألف أو أكثر. يعني أنهم إن لم يزيدوا لم ينقصوا، وليس المراد إثبات الأكثرية أو الزيادة على هذا العدد، بل المراد تأكيد هذا العدد.

وعلى هذا تكون (أو) هنا إما بمعنى (بل) وإما للتحقيق، أي: تحقيق العدد السابق.

فعلى القول الأول يكون المرسل إليهم زائدين على مئة ألف، وعلى الثاني يكون المرسل إليهم مئة ألف، لكن أكد ذلك بقوله:{أَوْ يَزِيدُونَ (147)} .

{فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)} أي: أبقيناهم إلى حين، وهذا الحين هو وقت آجالهم التي قدرها الله لهم، يعني أنهم لم يهلكوا بهذا العذاب الذي أصابهم، كما قال تعالى:{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)} [يونس: 98].

في هذه الآيات فوائد:

1 -

إثبات رسالة يونس عليه الصلاة والسلام ويتفرع على هذه الفائدة:

وجوب الإيمان به رسولًا من عند الله.

ص: 305

2 -

ومن فوائدها: الثناء على يونس لقوله: {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139)} لأنه لا شك أن مقام الرسالة أعلى مقامات البشر، كما قال تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69] وهذا الذي عليه أمة الإسلام، أن مقام الرسالة أفضل من كل مقام، وأنها أعلى مقامات البشر، خلافًا لمن زعم أن أعلى مقامات البشر الولاية ثم النبوة ثم الرسالة، وقال في ذلك بعض الصوفية قولًا منكرًا، فقال:"مقام النبوة في برزخ، فويق الرسول ودون الولي"، فالولي أعلى شيء، ولقد كذبوا في ذلك، فمقام الرسالة أعلى المقامات، وكل رسول فهو ولي، ولا عكس، ثم النبوة ثم الولاية.

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أنه لا يجوز القدح في يونس عليه الصلاة والسلام من أجل ما حصل منه من عدم الصبر، فإن الله قال:{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} . [القلم: 48] لكنه لا يجوز أن نقدح فيه لذلك، لأنه أحد الرسل، والقدح بالرسل كفر، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى"

(1)

؛ لئلا يؤدي تفضيل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى احتقار يونس عليه الصلاة والسلام.

4 -

ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات جماعة الرسل لقوله: {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139)} ويقول الله عز وجل: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا

(1)

أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى:{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9)} (3395) ومسلم في كتاب الفضائل، وفي باب في ذكر يونس عليه السلام (رقم 2376)(166).

ص: 306

فِيهَا نَذِيرٌ (24)} [فاطر: 24] أي ما من أمة من الأمم إلا جاءها رسول تقوم به عليها الحجة، كما قال تعالى:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165].

5 -

ومن فوائد الآيات: أن مقام النبوة لا يمنع من فعل بعض ما لا يكون محبوبًا إلى الله، أي أن الرسول قد يفعل بعض المعاصي، أو يقوم بشيء لم يؤمر به، دليل ذلك قوله:{إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140)} والإيباق هرب العبد من سيده، والعبد إذا أبق من سيده فقد هرب منه تمردًا عليه، ولكن لا شك أن هذا الوصف إنما ينطبق على العبد المملوك للبشر لا على يونس عليه الصلاة والسلام، لكن الله عبر عن خروجه بالإيباق؛ لأنه خروج لم يؤمر به، وهذه المسألة أعني مسألة عصمة الرسل -عليهم الصلاة والسلام- محل خلاف طويل عريض بين العلماء -وقد سبق لنا في غير هذه الموضع بيان ذلك على وجه التفصيل- فذكرنا أنهم معصومون من كل ما يخدش الرسالة وينافي الرسالة مثل: الكذب والخيانة والشرك وما أشبه هذا، فهذا معصومون منه قطعًا؛ لأنهم إنما جاءوا لهدم الشرك، ولا يمكن أن يصدر منهم الكذب والخيانة، لأن هذا يؤدي إلى الشك فيما جاءوا به.

وثانيًا: هم معصومون أيضًا من كل ما يخل بالشرف، كالسرقة وشبهها مما يعد دناءة وخسة، وذلك لأن النبوة أعلى مقامات البشر، فلا ينبغي أن يتخلق من اتصفوا بها بأرذل أخلاق البشر.

ثالثًا: أنهم معصومون من الاستمرار في المعصية، ولا

ص: 307

يمكن أن يقروا عليها، بل لابد أن ينبهوا عليها ويحصل منهم التوبة بخلاف غيرهم من الناس فإنهم قد يفعلون المعصية، ويقرون عليها ولا يوفقون للتوبة منها.

وأما القول بأنه لا ذنوب لهم مطلقًا، فهذا قول يخالف الكتاب والسنة، فإن الله تعالى قال في كتابه لأشرف الرسل عليه الصلاة والسلام:{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19] وقال له: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)} [الفتح: 1 - 2] وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، علانيته وسره، وأوله وآخره"

(1)

، "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت"

(2)

وكل هذا صريح في أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد يقع منه الذنب، ولكن الشأن كل الشأن أنه لا يقر عليه.

6 -

ومن فوائدها: أن الله سبحانه وتعالى قد ييسر للعبد ما لا يكون له في الحسبان، وذلك من قوله:{إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140)} حيث قدر له أن يركب هذا الفلك المملوء من أجل الغاية التي أرادها الله، وهي أن يلتقمه الحوت ويغيبه ويضيق عليه حتىِ يتبين له أنه لا مفر من قدر الله، كما قال تعالى:{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} [الأنبياء: 87]

(1)

أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود (483).

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت"(رقم 6398)، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء

باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل (رقم 2719)(70).

ص: 308

7 -

ومن فوائدها: جواز المساهمة يعني: القرعة لقوله: {فَسَاهَمَ} فإن قال قائل: هذا من شرع من قبلنا، فالجواب: أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، فكيف وقد ورد شرعنا بوفاقه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فأيهما خرج سهمها خرج بها

(1)

، إذًا: يستفاد منه جواز المساهمة يعني: القرعة.

فإن قال قائل: المساهمة فيها خطر فهي ميسر، لأن الإنسان قد يكون غانمًا وقد يكون غارمًا.

فالجواب على ذلك من أحد وجهين:

الأول: المنع بأن نقول إن الإنسان لا يمكن في القرعة أن يكون غانمًا أو غارمًا، بل هو إما غانم وإما سالم، إما أن يغرم شيئًا فلا.

الثاني: التسليم بأنها فيها غرر، لكن الضرورة دعت إليها، إذ لا يمكن التوصل إلى التمييز بين المشتركين في حق من الحقوق إلا بالقرعة، ولذلك إذا أمكن التمييز بينهما بغير القرعة فإنه يجب التمييز بينهما بدون القرعة. فمثلًا أقرع النبي صلى الله عليه وسلم بين زوجاته إذا أراد السفر لأنه لا يمكن أن يذهب بهن جميعًا، لأنه لو أمكن لذهب بهن جميعًا، إذًا لابد أن نميز من الذي يستحق أن يخرج، فهنَّ متساويات في الحقوق، ولا سبيل إلى التعيين إلا بالقرعة، فإذا خرجت القرعة لواحدة فالباقيات لم يغرمن شيئًا، غاية ما

(1)

أخرجه البخاري، كتاب الجهاد، باب حمل الرجل امرأته في الغزو دون بعض نسائه (2879) ومسلم، كتاب التوبة، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف (2770).

ص: 309

هنالك أنه فإتهنَّ ما يرغبن فقط، ولهذا إذا خرجت القرعة عن هذا إلى الميسر صارت حرامًا. مثال ذلك: أراد اثنان مشتركان في قمح أن يقتسما القمح بينهما وهما شريكان بقدر النصف كل واحد له نصف، فقسم القمح أثلاثًا، أي: جعل ثلثان في جهة وثلث في جهة أخرى، وأرادوا القرعة أيهما يأخذ الثلثين فالقرعة هنا حرام؛ لأن أحدهما إما غانم وإما غارم، إما أن يأتيه أكثر من حقه، وإما أن ينقص حقه، فهذه تكون حرامًا؛ لأنها صارت ميسرًا، وإذا قسمنا القمح نصفين، وأردنا أن نميز كل واحد في حقه فما هو الطريق إذا لم يتنازل أحدهما للآخر ويخيره؟ فلا طريق لنا إلى التمييز بينهما إلا بالقرعة.

وهل ذكرت القرعة في القرآن في غير هذا الموضع؟ نعم في سورة آل عمران، {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)} [آل عمران: 44].

8 -

من فوائد الآية الكريمة: أنه ليس للمساهمة طريق معين فيسلك فيها ما يحصل به التميز: إما بكتب رقاع، أو بأحجار، أو بلفائف خرق أو بأي طريق، لأن المساهمة وردت في النصوص، ولم تعين طريقًا خاصًّا لها، فأي طريق توصلنا به إليها جاز.

9 -

من فوائدها: ارتكاب أدنى الضررين؛ لدفع أعلاهما، ووجه ذلك: أن هذه القرعة سيكون فيها هلاك بعض الركاب وهو أهون من هلاك الجميع، إذًا فالواجب إذا كان لابد من الضررين ارتكاب الأدنى، لأن ارتكاب الأدنى يسقط عنا ارتكاب المفسدة الزائدة، واجتناب المفسدة الزائدة واجب، ولهذا نقول: يجب

ص: 310

ارتكاب أدنى الضررين لدفع أعلاهما.

10 -

وفي هذه الآيات: دليل على العمل بمثل هذه القضية يعني لو كان الناس في مركب، وكان المركب مشحونًا وكان لابد من إلقاء بعض الركاب أو هلاك الجميع، فإنه يجوز أن يلقى بعض الركاب لكن عن طريق القرعة، ليبقى البقية.

فإن قال قائل: كيف نلقي هذا الرجل في البحر في الهلاك؟ وهل هذا إلا قتل نفس، فما الجواب؟

فالجواب: نعم هو قتل نفس لكن لإبقاء نفوس، وأيما أولى أن يقتل الجميع، أو أن ينجو البعض، الثاني بلا شك أولى، وهذا أمر لابد منه؛ لأننا لو أبقينا الجميع لكنا تسببنا لهلاك الجميع، وكوننا نتسبب لهلاك البعض أهون من كوننا نتسبب لهلاك الجميع، لكن هذا بشرط ألا يكون هناك احتمال ولو ضعيفًا بالنجاة، فإذا كان هناك احتمال فإنه لا يجوز ارتكاب مثل هذا، وإذا كانت الفلك مشحونة بأمتعة وأطعمة وأغنام وآدميين، فنبدأ بإلقاء بالأمتعة الشيء الذي ليس فيه روح، فإن أمنا، وإلا ألقينا الأطعمة، فإن أمنا وإلا ألقينا الحيوان، فإن أمنا وإلا أقرعنا بين البشر.

11 -

من فوائدها: حصول آية من آيات الله عز وجل وذلك بتسخير هذا الحوت ليونس حتى التقمه بدون مضغ، ولا شك أن هذا من آيات الله، لأن مثل هذا بعيد في العادة، لأن العادة أنه يمضغ، لكن هذا التقمه جميعًا، لم يُكسر له عظم ولم يُهشم له شيء من أضلاعه أو غيرها.

ص: 311

12 -

ومن فوائدها: حب الإعذار من الله عز وجل، وأنه يحب الإعذار من خلقه، أي إقامة العذر لما فعله عز وجل حتى لا ينسب فعله للظلم وللسفه، وتؤخذ من قوله:{فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142)} يعني ليس في حال لا يلام عليها، حتى يقال: إن في هذا ظلمًا له أو سفهًا في حقه، بل التقمه الحوت في حال هو مستحق فيها لذلك، ولهذا قال:{وَهُوَ مُلِيمٌ (142)} .

13 -

ومن فوائدها: أن الأنبياء قد يأتون ما يلامون عليه، ولكن ييسر لهم الخروج من ذلك لقوله:{وَهُوَ مُلِيمٌ (142)} .

14 -

ومن فوائدها: أن الطاعات السابقة تكون سببًا للنجاة من المهلكات اللاحقة، لقوله:{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)} فيكون في هذا شاهد لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة"

(1)

.

وهذا كما أنه مقتضى النصوص القولية فهو مقتضى النصوص الحالية، فإن أصحاب الغار الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار نفعهمِ الله تعالى بما سبق من أعمالهم الصالحة

(2)

، فأنت إذا عملت عملًا صالحًا، فإن هذا العمل قد يكون سببًا لنجاتك من مكاره عظيمة، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وهنا قال عز وجل:{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)} .

(1)

أخرجه الإمام أحمد في المسند 1/ 307، وصححه محققو المسند (5/ 18 - 19) رقم (2803) طبعة مؤسسة الرسالة.

(2)

أخرحه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار (3465) ومسلم، كتاب الذكر والدعاء

باب قصة أصحاب الغار الثلاثة

(2743).

ص: 312

15 -

ومن فوائدها: أنه لو بقي في بطنه لكان فيه آية من آيات الله، أن يبقى هذا الحوت من ذلك الوقت إلى يوم القيامة، لأن هذا ظاهر اللفظ أنه يبقى في بطنه إلى البعث.

16 -

ومن فوائدها: أن أفعال المخلوقات تنسب إلى الله عز وجل تقديرًا وقضاء، وتنسب إلى العامل مباشرة وكسبًا. وتؤخذ من قوله:{فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ} لأنه من المعلوم أن الذي لفظه هو الحوت، ومع ذلك لا نجزم بهذا، لأنه ربما أن الحوت لفظه، ويسر الله له من الريح ما يحمله إلى أن يصل إلى الأرض اليابسة، ويحتمل أن الحوت لفظه في الأرض اليابسة والله أعلم، المهم أن الله يسر له من أسباب الوصول إلى الأرض اليابسة ما أوصله إليها.

17 -

ومن فوائدها: أن الإنسان لا ينبغي له أن ييأس من الشفاء ولو بلغ به من المرض ما بلغ، لقوله:{وَهُوَ سَقِيمٌ (145)} إلى قوله: {وأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)} فهذا الرجل السقيم الذي بقي في بطن الحوت -ما شاء الله- وخرج سقيمًا عافاه الله وشفاه فلا تيأس من رحمة الله سبحانه وتعالى بما يصيبك من المرض، فإن الله قد ييسر لك ما يكون سببًا لشفائك.

18 -

ومن فوائدها: إثبات تأثير الأسباب، لقوله تعالى:{وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146)} لأن هذه الشجرة تظله وتبرد عليه وهي -كما أسلفنا- لينة الملمس، ويقال: إن الذباب لا يقع عليها، والله قادر على أن يظله بغمامة، وقادر على أن يبقيه في الشمس في العراء، ولا يتأثر، لكن الله عز وجل يبين لعباده أن

ص: 313

الأشياء تكون بأسبابها، ومرّ علينا في أصول الفقه بيان أن الأسباب مؤثرة، لكن لا بنفسها ولكن بما أودعه الله بها من أسباب التأثير.

19 -

ومن فوائدها: أن الله سبحانه وتعالى يرسل الرسل السابقين إلى قوم مخصوصين لقوله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)} .

20 -

استدل بعض المتأخرين بقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)} على إثبات الإحصاء السكاني لأنه قال: {إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)} فأحصاهم عددًا، مع أنه لو قال: فأرسلناه إلى قومه. كفى لكن عدهم عدًّا، ولا نعلم لهذا فائدة إلا الإحصاء، ولا شك أن الإحصاء إذا كان فيه فائدة فإنه داخل في عمومات النصوص الدالة على وجود ما فيه الفائدة، أما إذا لم يكن فيه فائدة وإنما يكون تطويلًا للمدة وإضاعة للوقت، وإتلافًا للمال بما ينفق عليه، فإنه كغيره مما لا فائدة منه لا يكون مطلوبًا.

21 -

ومن فوائدها: أن الله سبحانه وتعالى أنجى قوم يونس بعد أن عاينوا العذاب لقوله: {فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)} .

فإذا قال قائل: ما الحكمة أن يخص قوم يونس بأنه تقبل منهم التوبة بعد نزول العذاب.

فالجواب: أن الحكمة من هذا أن نبيهم لم يصبر حتى تتم إقامة الحجة عليهم، بل خرج منهم مغاضبًا قبل أن يؤذن له فلم تتم إقامة الحجة، فكان لهم شبه عذر في تأخير العذاب عنهم.

ص: 314

22 -

ومن فوائدها: أن الإنسان وإن نجا من الأسباب المهلكة فلن ينجو من الموت، بل لابد أن يموت طال الزمن أم قصر، لقوله:{فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} .

23 -

ومن فوائدها: أن الإيمان سبب لطول الحياة لقوله: {فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ} ولا شك أن الإيمان سبب لطول الحياة، لأن

نوحًا قال لقومه: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [نوح: 4] فبين لهم أنه إذا حصل منهم الإيمان والتوبة غفر الله لهم وأخرهم إلى أجل مسمى. وإن لم يفعلوا أهلكهم الله.

24 -

ومن فوائد الآيات كلها: إثبات عظمة الله سبحانه وتعالى لكونه يضيف الأفعال إلى نفسه بضمير الجمع، ومن المعلوم أن الله واحد، وقد اشتبه هذا على النصارى -عليهم لعنة الله- فقالوا بتعدد الآلهة لجمع الضمير الذي يضاف إلى الله عز وجل، وهذا من اتباع المتشابه فإنهم اتبعوا هذا المتشابه وأعرضوا عن الصريح في قوله تعالى:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} [البقرة: 163].

* * *

قال الله سبحانه وتعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149)} . الأمر في قوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ} يعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والهاء في قوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ} تعود إلى المشركين الذين جعلوا لله البنات ولهم البنون.

وقوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ} أي اطلب منهم أن يفتوك. والفتوى في الأصل: بيان الحكم الشرعي. وتوجيه الاستفتاء إليهم من

ص: 315

باب التهكم بهم، كأنهم نصبوا أنفسهم حكمًا يحكمون بما يشاؤون، وهذا كقوله تعالى:{ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)} [الدخان: 49] على أحد القولين في تفسيرها، وإلا فإن هؤلاء ليسوا أهلًا للاستفتاء فضلًا على أن يستفتوا عن هذا الأمر العظيم، لكن هذا من باب التهكم ثم بين المستفتي عنه فقال:{أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149)} والاستفهام هنا للتوبيخ، يعني يوبخهم على هذا الحكم المعلوم من قبل، لأنهم جعلوا لله البنات، وجعلوا لهم البنين، ولهذا قال المؤلف رحمه الله:[{فَاسْتَفْتِهِمْ} استخبر كفار مكة توبيخًا لهم] هذا يعود على الاستفهام، وأما التهكم فتوجيه الاستفتاء إليهم قال:{أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149)} بزعمهم أن الملائكة بنات الله، {وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149)} فيختصون بالأسنى] أي بالأشرف، يعني هل هذا حكم صحيح عادل، أو حكم باطل جائز؟ والجواب: معلوم لكل أحد أن هذا حكم باطل جائر، ولهذا قال الله تعالى في سورة النجم:{أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم: 21، 22] أي جائرة.

وقوله: {وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149)} ليست الجملة حالية، بل هي معطوفة على الجملة التي قبلها، فهي داخلة في ضمن الاستفهام، يعني كيف يكون لله البنات ولهم البنون، فإن هذا حكم جائر، ولهذا قال:{أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150)} (أم) هنا منقطعة، و (أم) المنقطعة هي التي تكون للإضراب، ولهذا تقدر بـ (بل) والهمزة، فمثلًا: أم خلقنا الملائكة، تقدير الكلام:

ص: 316

بل أخلقنا الملائكة إناثًا، و (أم) تكون متصلة وتكون منقطعة، فإذا حل محلها بل وهمزة الاستفهام فهي منقطعة، وإذا كانت بمعنى (أو) فهي متصلة، تقول: أعندك زيد أم عمرو؟ يعني أو عمرًا {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [المنافقون: 6] يعني أو لم تستغفر لهم، والمتصلة تأتي بعد همزة التسوية غالبًا.

{أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا} أي: جعلناهم إناثًا، وعلى هذا فتكون إناثًا مفعولًا ثانيًا لخلقنا، ويجوز أن نجعل خلقنا على بابها، وتكون إناثًا منصوبة على الحال، يعني أم خلقنا الملائكة حال كونها إناثًا والجواب: لا ما خلق الله الملائكة إناثًا، بل ولا ذكورًا، ولهذا لا نصف الملائكة بالأنوثة ولا بالذكورة، لأن الملائكة لا يتوالدون ولا يأكلون ولا يشربون، لكن هم قالوا: إن الملائكة بنات الله، فجعلوا الملائكة إناثًا.

{وَهُمْ شَاهِدُونَ (150)} في موضع نصب على الحال، يعني هل خلقنا الملائكة إناثًا حال كون هؤلاء شاهدين على خلقنا إياهم إناثًا؟ والجواب: لا، فما خلق الله الملائكة إناثًا ولا شهدوا خلقهم، وهذا كقوله في الآية الأخرى:{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)} [الزخرف: 19] والحاصل أن الله سبحانه وتعالى بين لهؤلاء حالين:

الحال الأولى: الحكم الجائر الذي حكموا به بينهم وبين الله، حيث جعلوا لله الملائكة وجعلوا لأنفسهم البنين، وهذا جور، كما تدل عليه آية النجم.

ص: 317

الحال الثانية: جعلهم الملائكة إناثًا، سواء جعلوا لأنفسهم البنين أم لم يجعلوا، وهذا أيضًا كذب وافتراء، لأنهم لم يشهدوا خلقهم حتى يحكموا عليهم بأنهم إناثًا، ولهذا قال:{أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150)} .

والملائكة: عالم غيبي خلقَهم الله من نور، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. فهم عالم غيبي لا نشاهدهم إلا أن يرينا الله إياهم على سبيل الكرامة، أو على سبيل الآية، لأنه ما من إنسان إلا لديه ملكان عن اليمين وعن الشمال قعيد، وملائكة يحفظونه من بين يديه، يحفظونه من أمر الله، ومن خلفه، ونحن لا نشاهدهم، وملائكة يحضرون مجالس الذكر ولا نشاهدهم لأنهم عالم غيبي، والملائكة خلقوا من نور، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

، وخلقوا صمدًا يعني لا يأكلون ولا يشربون، لأنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون، والملائكة منهم من علمنا بأعيانهم ومنهم من لم نعلم، فمن علمنا بأعيانهم جبريل وميكائيل وإسرافيل الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يسميهم في افتتاح صلاة الليل، فيقول:"اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي إلى صراط مستقيم"

(2)

فجبريل عليه السلام موكل بما في حياة

(1)

أخرجه مسلم، كتاب الزهد، باب في أحاديث متفرقة (2996).

(2)

أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه (رقم 770)(200).

ص: 318

القلوب وهو الوحي. وميكائيل موكل بما فيه حياة الأرض وهو المطر والنبات، وإسرافيل بما فيه حياة الأجساد عند نفخ الصور، فإنه قد التقم الصور ينتظر متى يؤمر، فيجب علينا أن نؤمن بالملائكة إجمالًا فيما لم نعلم اسمه، وتعيينًا فيمن علمنا اسمه، ونؤمن أيضًا بما نعلم من أوصافهم كجبرائيل له ست مئة جناح قد سد الأفق، وبما نعلم من أحوالهم وعباداتهم، لأن هذا من أصول الإيمان التي بينها الرسول صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام حين سأله عن الإيمان قال:"أن تؤمن بالله وملائكته"

(1)

وعلينا أيضًا أن نحب هؤلاء الملائكة وأن نجلهم ونعظمهم لأنهم عباد الله، عباد مكرمون منقادون لأمر الله، فنحبهم لله عز وجل، وعلينا أن نكرمهم فنبغض من عاداهم كاليهود مثلًا الذين عادوا جبريل، ونبغض أيضًا كل من سبهم أو تعرض لأذاهم، لأنهم من أشرف عباد الله.

وقد اختلف العلماء: هل الملائكة أفضل. أم صالح البشر أفضل؟ والخلاف في هذا معروف مشهور، وأكثره خلاف جدلي، لأن المقام والمرتبة عند الله عز وجل تدل على أن البشر أفضل، لأن البشر يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب، {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)} [الرعد: 23 - 24].

ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: البشر أفضل باعتبار

(1)

أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان

(50) ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان .... (9).

ص: 319

النهاية، والملائكة أفضل باعتبار البداية، لأن البشر خلقوا من طين والملائكة من نور، والنور أشرف من الطين.

ثم قال الله تعالى مبينًا حكمهم الباطل الذي قد علم مسبقًا قبل أن يستفتوا قال: {أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ} هذه الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات: ألا، وإن، واللام.

أما (ألا) فإنها تأتي بلا شك للتوكيد، كما تأتي كذلك للتنبيه والاستفتاح، ولهذا يقال: ألا أداة استفتاح يراد بها التنبيه، والتوكيد، والتحقيق أي تحقق ما بعدها.

{أَلَا إِنَّهُمْ} أي هؤلاء الذين جعلوا الملائكة إناثًا، وهؤلاء الذين جعلوا لله البنات ولهم ما يشتهون {إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ} أي من كذبهم ليقولون ولد الله، وهنا قدم السبب على المسبب. السبب هو: الإفك، والمسبب القول، وقدم الإفك على القول لأهميته، ومن أجل أن يتبين للإنسان بطلانه من قبل أن يؤتى به، وإلا فمقتضي السياق أن يقال:"ألا إنهم ليقولون ولد الله"؛ لأن (ليقولون) خبر إن، وكان مقتضى السياق أن تباشر الاسم، لكن أخرت لبيان أن هذا القول باطل، حتى يرد على الذهن، وقد علم بطلانه، و (من) هنا للسببية، أي: ألا إنهم بسبب إفكهم.

ويجوز أن تكون للتبعيض، يعني: ألا إنهم ليقولون هذا القول المأفوك من جملة إفكهم؛ لأن إفكهم كثير، فهم جعلوا لله ولدًا، وجعلوا لله شريكًا، وجعلوا لله زوجة، وكل هذا من الإفك.

فالحاصل أن {مِنْ} : يجوز أن تكون للتبعيض، ويجوز أن

ص: 320

تكون سببية، وقوله:{مِنْ إِفْكِهِم} أي كذبهم، لأن الإفك هو الكذب، كما قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور: 11] أي بالكذب. {لَيَقُولُونَ (151)} الجملة خبر إن، ومقول القول {وَلَدَ اللَّهُ} وعلى هذا فنقول: إن {وَلَدَ اللَّهُ} في محل نصب مقول القول.

وكيف قالوا: ولد الله؟ وبأي صيغة؟ قال المؤلف رحمه الله: [بقولهم الملائكة بنات الله]، ومعلوم أن البنت من الولد فإن الولد في اللغة العربية يطلق على البنت والابن، قال الله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11].

{وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152)} . هذه الجملة مؤكدة بمؤكدين: إن واللام، والمراد بها إبطال هذا القول، فيكون الله أبطل هذا القول قبل التحدث عن مقوله، وبعده، فأبطله قبل التحدث عن مقوله في قوله:{مِنْ إِفْكِهِم} وبعده بقوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152)} ونحن نشهد أنهم كذابون في هذا، فإن الله تعالى واحد أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد. وقد برهن الله عز وجل على بطلان هذا في سورة الأنعام. فقال تعالى:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)} [الأنعام: 100 - 101]

فقال {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام: 101] كيف يكون له ولد وليس له صاحبة، يعني زوجة؛ هذا مستحيل.

ص: 321

والثانية: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} والخالق لكل شيء لا يمكن أن يكون له ولد؛ لأن الولد جزء من الوالد، وإذا كان جزءًا منه لم يكن شيئًا مخلوقًا، لأن جزء الخالق يكون خالقًا مثله، قال الله تعالى:{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)} [الزخرف: 15].

{وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)} [الأنعام: 101]، وقد أعلمنا أنه ليس له ولد فكيف يكون خبره غير مطابق للواقع. فبرهن الله على امتناع وجود الولد من وجوه ثلاثة:

امتناع الصاحبة، وأنه خلق كل شيء، وأنه بكل شيء عليم، وعلمه بكل شيء وقد أخبرنا بأنه لم يلد يقتضي أنه لم يلد كذلك حقًا، لأن هذا الخبر لابد أن يكون مطابقًا لعلمه.

{أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)} اصطفى أصلها اصتفى، وهي مأخوذة من الصفوة، وصفوة الشيء خياره، وعلى هذا فيكون معنى اصطفى اختار. وهنا قال:{أَصْطَفَى} ، والمعروف أن همزة اصطفى همزة ووصل لا همزة قطع، فلماذا كانت هنا همزة قطع؟ قال رحمه الله:[بفتح الهمزة للاستفهام]. فالهمزة هنا ليست همزة الوصل التي يؤتى بها للتوصل إلى النطق بالساكن، ولهذا لا يكون ما بعدها إلا ساكن، فالهمزة هنا ليست همزة وصل، ولكنها همزة استفهام، فاستغني بها عن همزة الوصل؛ لأنها أي: -همزة الاستفهام- مفتوحة فيسهل النطق بالساكن بعدها، وأصل همزة الوصل جيء بها من أجل التوصل إلى النطق بالساكن، وإذا كان لدينا همزة قطع فإننا نستغني بها عن

ص: 322

همزة الوصل، مع أنه يجوز وجه آخر في غير هذه الآية أصطفى البنات، فتقلب همزة الوصل إلى مد، ومنه قوله تعالي:{آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)} [النمل: 59]{آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)} [يونس: 59] قال المؤلف رحمه الله: [{أَصْطَفَى} أي: أختار] أي هل يختار الله عز وجل البنات على البنين؟ يعني لو فرض فرضًا ممتنعًا غاية الامتناع أن الله يتخذ ولدًا فهل يصطفي البنات على البنين؟ لا، لأن البنين أشرف من البنات، ولا يمكن أن يختار الله البنات على البنين، لو فرض الفرض الممتنع المقطوع بامتناعه أن الله يختار ولدًا ما اختار البنات على البنين، كما أنكم أنتم لم تختاروا البنات على البنين، جعلتم البنين لكم ولله البنات، ولهذا قال:{أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)} الجواب لا، لا يمكن.

{مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154)} (ما) استفهامية وليست نافية وهي مبتدأ، والجار والمجرور (لكم) خبر.

والمعنى: أي شيء لكم حتى تحكموا هذا الحكم فتقولوا: إن لله البنات وهم الملائكة، وهذا الاستفهام للتوبيخ والإنكَار، {كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154)} أي هذا الحكم الفاسد، وهذا الحكم الجائر {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)} [النجم: 22] فهو حكم فاسد جائر.

{أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155)} الاستفهام هنا أيضًا للتوبيخ وكل الاستفهامات هنا تفيد التوبيخ والتقريع مع فائدة أخرى إذا دل المقام عليها.

{أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155)} قال المؤلف رحمه الله: [بإدغام التاء

ص: 323

في الذال]. أصلها (تتذكرون)، فأدغمت التاء في الذال فصارت: تذكرون.

وفي قراءة {تَذَكَّرُونَ (155)} قراءة سبعية، وهي الموجودة عندنا في المصحف، ومر علينا أنه إذا جاءت قراءتان في آية فإن الأفضل أن تقرأ بهذه مرة وبهذه مرة، لنحافظ على ما جاء في القرآن الكريم، لأن الكل من عند الله، إلا أننا قلنا: إن هذا لا ينبغي عند العامة، لأنه يحصل به فتنة العامي لأنه لا يفهم، وربما يكون عاميًا عاطفيًا غيورًا، فيرى أنك تحرّف القرآن فطالب العلم الذي يعلم أن هذه قراءة سبعية ينبغي له أن يقرأ بها مرة، وبما في المصحف مرة أخرى، حتى يأتي بالقرآن على الوجوه التي نزل بها.

{أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155)} التذكر يعني الاتعاظ، أي أفلا تتعظون، فتدركوا أن ما حكمتم به حكم جائر غير مقبول منكم، قال المؤلف رحمه الله في قوله:{تَذَكَّرُونَ (155)} [أنه سبحانه منزه عن الولد]. فالله سبحانه وتعالى منزه عن الولد بدليل العقل ودليل النقل.

أما دليل النقل فما أكثر الآيات التي يكثر الله فيها أنه لم يتخذ ولدًا، ومن ذلك قوله تعالى:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} . [الإخلاص: 1 - 4].

أما الدليل العقلي فنقول:

ص: 324

أولًا: لو كان لله ولد لكان جزءًا منه، وكان مستحقًّا للعبادة، كما استحق ذلك والده.

ثانيًا: لو اتخذ الله ولدًا لكان هذا الولد حادثًا، والحدوث يمتنع أن يكون جزءًا من الله، لأن الله لم يزل ولا يزال موجودًا بذاته سبحانه وتعالى، فإذا قدر أنه اتخذ ولدًا صار هذا الولد حادثًا، فكيف يكون حادثًا وهو جزء من الله، لأن الولد جزء من الوالد، كما قال الله تعالى:{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} [الزخرف: 15] وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن فاطمة بضعة مني"

(1)

.

ثالثًا: يمتنع أيضًا أن يتخذ الله ولدًا، لأن الولد لابد أن يكون مشبهًا لأبيه، والله سبحانه وتعالى ليس له شبيه ولا يماثله أحد.

رابعًا: الولد إنما يتخذه من يحتاج إليه لبقاء النوع، والله سبحانه وتعالى غير محتاج لأحد، ولهذا إذا كان الإنسان عقيمًا انقطع أثره من الدنيا، لكن إذا كان ولودًا وتولد له ولد بعد ولد بقي أثره في الدنيا، ولهذا كان التوالد بين البشر هو السبب الوحيد لبقاء النوع الإنساني، فهذه وجوه أربعة عقلية تدل على امتناع الولد على الله سبحانه وتعالى.

{أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156)} هذا إضراب انتقالي، بل ألكم. والإضراب الانتقالي انتقل الله عز وجل من توبيخهم على ما

(1)

أخرجه البخاري في كتاب فرض الخمس، باب ما ذكر من درع النبي صلى الله عليه وسلم (3110)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل فاطمة بنت النبي عليها السلام (2449)(93).

ص: 325

حكموا به من الولد لله سبحانه وتعالى إلى طلب الحجة، أي: بل ألكم سلطان مبين، والمراد بالسلطان هنا ما تكون به السلطة، والسلطان في كل موضع بحسبه.

ففي باب الولايات تكون السلطة بالإمارة، فالأمير: سلطان، وفي باب الأعمال تكون السلطة بالقوة، القوي القادر له سلطة على العمل. وفي باب المحاجة وطلب الدليل تكون السلطة بالدليل، فهنا {سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156)} أي دليل، يعني هل لكم دليل، لأن الدليل تكون به السلطة للمحاج يعني إذا حاجك إنسان وصار معه دليل صار له سلطان عليك أي سلطة، ولهذا قال:{أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156)} وكلمة {مُبِينٌ (156)} هنا يحتمل أن تكون من أبان اللازم ومن أبان المتعدي. لأن أبان الرباعي يكون لازمًا ويكون متعديًا، فإذا قلت: أبان الصبح. فهو لازم، وإذا قلت: أبان فلان الحق. هذا متعدٍّ. فكلمة {مُبِينٌ} هنا هل هي لازم أي إن المعنى {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ} بين، أم متعدٍّ أي: ألكم سلطان يبين ما تقولون أو يبين الحجة لكم؟ المتعدي هنا أحسن؛ لأن المتعدي متضمن للازم، لأن ما أبان غيره فهو بين في نفسه {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156)} قال المؤلف رحمه الله:[حجة واضحة أن لله ولدًا]. وصنيع المؤلف في قوله "واضحة" يدل على أنه جعل مبين من اللازم أي بين، ولكن الأرجح أنه من أبان المتعدي أي مبين، وذلك لأننا إذا جعلناه من المتعدي لزم منه وجود اللازم بخلاف العكس.

{فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ} هذا مفرع على قوله: {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ

ص: 326

مُبِينٌ (156)} يعني إن كان لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم الذي به السلطان، والأمر هنا للتحدي والإعجاز مثل قوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] فقوله: {بِكِتَابِكُمْ} أي بكتابكم الذي به الحجة والسلطان، وقول المؤلف رحمه الله:[التوراة] هذا لا شك أنه وهم؛ لأن هذه الآية ليست تخاصم اليهود حتى نقول إن المراد بذلك التوراة، إنما تخاصم المشركين الذين جعلوا الملائكة بنات الله، ولهذا في بعض نسخ المؤلف كلمة (التوراة) ساقطة، والنسخة التي سقطت منها أصح من النسخة التي ثبتت فيها، قال:[فأروني ذلك فيه] يعني أروني إن لله البنات في ذلك الكتاب الذي تأتون به، ثم أظهر إعجازهم بقوله:{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157)} في قولكم ذلك، وهذا يدل على أنه لا يمكن أن يأتوا بكتاب فيه أن الله جعل الملائكة بنات له، فهذا شيء مستحيل.

و(إن) في قوله {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157)} شرطية، وتحتاج إلى فعل الشرط وجوابه، ففعل الشرط موجود:{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157)} وجوابه قيل: إن جوابه محذوف دل عليه ما قبله، وهو:{فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ} والتقدير: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157)} {فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ} فيكون محذوفًا دل عليه ما قبله، ولا ينبغي ذكره أيضًا، لأن ذكره تطويل مستغنى عنه.

وقيل: إنَّ (إنْ) الشرطية في مثل هذا التركيب لا تحتاج إلى جواب أصلًا فتكون مسلوبة الجواب، وعلى هذا القول لا يكون في مثل هذا الترتيب تقدير، ويكون هذا المحذوف لما كان معلومًا

ص: 327

كان لا يحتاج إلى ذكره، وإذا لم نحتج إلى ذكره لم نحتج إلى تقديره.

{وَجَعَلُوا} الضمير يعود على المشركين الذين قالوا: إن الملائكة بنات الله.

فإن قال قائل: كيف يرجع الضمير إلى غير مذكور.

قلنا: إنه مذكور بالسياق فالسياق يعين مرجع الضمير، ولا يلزم في مرجع الضمير أن يكون اسمًا ظاهرًا بينًا، فإذا دل السياق على أن المراد به كذا عمل به. قال الله تعالى:{إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32)} [ص: 32] فالفاعل في قوله: {تَوَارَتْ} يعود على الشمس مع أنه لم يسبق لها ذكر لأنه معروف.

وقال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)} [الرحمن: 26](عليها) أي على الأرض مع أنه لم يسبق لها ذكر قريب، ولكن السياق يدل عليها، إذًا مرجع الضمير قد يكون متعينًا بالسياق.

{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ} أي بين الله {وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} يقال: والجِنَّة والجَنَّة والجُنَّة، وكلها تدور حول الاستتار والخفاء، لأن هذه المادة الجيم والنون تدور على هذا المعنى: الاستتار والخفاء، ومنه الجنان: القلب، ومنه الجنين: الحمل، ومنه الجنة: الجن، ومنه الجَنة: البستان ذو الأشجار الكثيرة، ومنه الجُنَّة. ما يستتر به المقاتل عن السهام كالترس.

فما المراد بالجنة هنا؟ يقول المؤلف: [الجنة أي الملائكة لاجتنانهم عن الأبصار] فهم عالم غيبي كالجن الذين هم ذرية

ص: 328

الشيطان، هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله ولكن هذا القول ضعيف جدًا، لأن الجنة اسم للجن لا للملائكة، قال الله تعالى:{الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)} [الناس: 5 - 6] يعني الجن، وقال تعالى:{أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} [المؤمنون: 70] أي جن أصابه بمس، ولا يمكن أن يعبر بالجن الذين خلقوا من نار عن الملائكة الذين خلقوا من نور، وهم من أشرف خلق الله عز وجل، قال الله تعالى:{بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)} [الأنبياء: 26 - 28] فالمراد بالجنة هنا الجن الذين هم: خلق غيبي خلقوا من نار، ولكن كيف جعلوا نسبًا؟ المراد بالنسب مجرد الصلة وليس النسب الذي هو القرابة، بل النسب الذي هو الصلة، وذلك أن المشركين لما قالوا: إن الملائكة بنات الله. قيل لهم: لا بنات إلا بزوجة، قالوا: نعم إن الله -جل وعلا وسبحانه عما يصفون- تزوج من الجن جنية فولدت الملائكة -قاتلهم الله- هذا هو النسب الذي جعلوا بين الله وبين الجنة، فالمراد أن النسب هنا مطلق الصلة، لا صلة القرابة فقط، هذا هو المعنى الذي يدل عليه استعمال الجنة في كلام الله، وأن المراد بالجنة الجن، يقول المؤلف رحمه الله موجهًا ما ذهب إليه من أن المراد بالجنة الملائكة قال:[لاجتنانهم عن الإبصار] وهذا لا يبرر أن نسمي الملائكة جنًّا.

يقول: [نسبًا بقولهم: إنها بنات الله] فجعل النسب هنا بمعنى القرابة، ولكن هذا القول ليس بصحيح.

ص: 329

{وَلَقَدِ} هذا الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات:

اللام، وقد، وهما ظاهران، والقسم المقدر، والتقدير: والله لقد علمت الجنة إنهم لمحضرون، والتأكيد هنا لا شك أنه في غاية ما يكون من البلاغة، يعني أن هؤلاء الجن الذين جعلوا بينهم وبين الله نسبًا تعلم في حكم الله ما لا يعلمه هؤلاء، فإنهم يعلمون أن هؤلاء الذين كذبوا على الله عز وجل سوف يحضرون يوم القيامة، ويبعثون ويعذبون بما يقتضيه جرمهم {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ} [أي قائلي ذلك {لَمُحْضَرُونَ (158)} للنار يعذبون فيها].

{سُبْحَانَ اللَّهِ} اسم مصدر سبح، ومعنى قولنا: اسم مصدر سبح، يعني أنه اسم مصدر فعله سبح، والمصدر من سبح تسبيحًا، لكن سبحان بمعنى تسبيح فهي اسم مصدر؛ لأن كل كلمة تضمنت معنى المصدر دون حروفه فهي اسم مصدر، وأمثلته كثيرة منها: كلام بمعنى تكليم، وسلام بمعنى تسليم.

وسبحان الله يقول المؤلف رحمه الله[تنزيهًا له]. والذي ينزه الله عنه:

الأول: النقص فيما أثبت لنفسه من الكمال.

الثاني: مماثلة المخلوقين.

قال الله تعالى عن الأول: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [ق: 38] وهذا يدل على كمال القدرة والقوة، {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)} [ق: 38] نفي لنقص القوة، يعني مع عظم هذه المخلوقات العظيمة وقصر المدة في خلقها لم يمس

ص: 330

الله سبحانه وتعالى شيء من اللغوب يعني من التعب والإعياء وهذا تنزيه عن النقص، وقال تعالى عن الثاني:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] تنزيه عن مماثلة المخلوقين.

{عَمَّا يَصِفُونَ (159)} يعني عن النقص عما يصفون من النقص والمماثلة، بأن قالوا: إن لله ولدًا، وهذا وصف لا يليق بالله سبحانه وتعالى، لأن ثبوت الولد يتضمن المماثلة ويتضمن النقص أيضًا، فهم بدعواهم الولد لله وصفوا الله بالنقص ووصفوه بمماثلة المخلوقين.

{إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)} العبودية مأخوذة من الذل، فالعابد بمعنى الذليل، والتعبد بمعنى التذلل، والعبودية نوعان:

عبودية للقدر، وعبودية للشرع. يعني تذلل للقدر، وتذلل للشرع.

أما عبودية القدر فإنها عامة لكل أحد، فما من إنسان إلا وهو متذلل لقدر الله تعالى لا يمكن أن يتخلص منه إطلاقًا، ودليل هذه قوله تعالى:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} [مريم: 93]

كل من في السماوات والأرض فهو عابد لله ذليل له، ولا يمكن أن يخرج عن ذلة القدر، حتى أعتى الناس وأطغى الناس عبد لله بهذا المعنى، ففرعون عبد لله في هذا المعنى، ولهذا أدركه الغرق.

الثاني: عبودية الشرع يعني التعبد بشرع الله، وهذا خاص بالمؤمنين؛ لأن الكافرين لم يتعبدوا لله بشرعه، بل هم

ص: 331

مستكبرون، ومن أمثلة ذلك وأدلته قوله تعالى:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] فالمراد بالعبودية هنا عبودية الشرع. يعني الذين تعبدوا بشرع الله، وهذه خاصة بالمسلمين المنقادين لأمر الله، وهذه تنقسم إلى قسمين: قسم أخص من الآخر، فعبودية الرسالة والنبوة أخص من عموم عبودية الإسلام، فمثلًا قوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23] هذه عبودية رِسالة فهي أخص من قوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] وقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1] هذه أيضًا عبودية خاصة الخاصة، أخص من قوله:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63].

قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)} [الحجر: 42] إن جعلنا الاستثناء منقطعًا فالعبودية عبودية الشرع خاصة، وإن جعلنا الاستثناء متصلًا فهي عبودية القدر، ولذلك اختلف العلماء فيها هل الاستثناء منقطع أو متصل؟ هذه الآية أيضًا نظيرها {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)} أي المؤمنين الذين أخلصهم الله تعالى لنفسه.

قال المؤلف رحمه الله: [استثناء منقطع] والاستثناء المنقطع علامته: أن يكون ما بعد (إلا) من غير جنس ما قبلها، وأن تكون (إلا) بمعنى (لكن)، ولهذا نسميه استثناء منقطعًا، كأن ما بعدها انقطع عما قبلها، وعليه إذا كان الاستثناء منقطعًا كما قال المؤلف نقول:{إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)} معناها لكن عباد الله

ص: 332

المخلصين لم يصفوه بهذا الوصف. ولهذا قال المؤلف رحمه الله[فإنهم ينزهون الله تعالى عما يصفه هؤلاء].

وذهب بعض العلماء إلى أن الاستثناء هنا متصل، فهو مستثنى من الواو في قوله:{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159)} ويكون المعنى سبحان الله عما يصفه الناس كلهم {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)} يعني إلا ما يصفه به عباد الله المخلصون، فإنه متصف به، وهذا احتمال. لكن ظاهر السياق ما ذهب إليه المؤلف، وأن قوله:{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159)} عائد إلى المشركين الذين وصفوه بأن له بنات، وهؤلاء لا يدخل فيهم المؤمنون، فالمؤمنون ليسوا من جنس المستثنى منه، وحينئذ يكون الاستثناء منقطعًا، ويكون فائدة هذا الاستثناء المنقطع الثناء على عباد الله المخلصين، حيث لم يصفوه بما وصفه به هؤلاء.

الفوائد:

1 -

في قول الله تبارك وتعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149)} : تحدي أهل الكفر والشرك ببيان الدليل على ما يقولون من الكذب والافتراء.

2 -

ومن فوائدها: التهكم بهؤلاء المشركين، حيث جعلهم بمنزلة العلماء الذين يستفتون، وهم أجهل الناس بلا شك.

3 -

ومن فوائدها: بيان جور هؤلاء المشركين، حيث جعلوا لله البنات وهم يكرهون البنات، {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)} [النحل: 58] مع أن البنين والبنات كلها ممتنعة عن الله؛ لأن الله لم يلد ولم يولد.

ص: 333

4 -

ومن فوائد الآيات: الإنكار على هؤلاء الذين قالوا: إن الملائكة بنات الله، لقوله:{أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150)} .

5 -

ومن فوائدها أيضًا: تحدي هؤلاء الذين ادعوا أن الله -سبحانه- وتعالى جعل الملائكة بنات له، لأنه يقال لهم هل شهدتم خلق الله للملائكة حتى تعلموا أنها بنات الله؟ والجواب: ما شهدوا، ولهذا قال:{أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150)} .

6 -

ومن فوائدها: إثبات الملائكة عليهم الصلاة والسلام، والإيمان بالملائكة أحد أركان الإيمان الستة كما هو معروف.

7 -

ومن فوائدها: أن كل من ادعى دعوى فإنه يطالب بالبينة عليها لقوله: {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150)} . فهل هم شاهدون حتى يدعوا ذلك؟

8 -

ومن فوائد الآية الكريمة: تأكيد إفك هؤلاء الكاذبين، الذين ادعوا أن لله ولدًا، لقوله:{أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151)} .

9 -

ومن فوائدها: أن هؤلاء لهم إفك متعدد، بناء على أن (من) للتبعيض {أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ} .

10 -

ومن فوائد الآيات: أن الله تعالى منزه عن الولد، لأن الله جعل هذه الدعوة إفكًا وكذبًا، وأكد الله ذلك بقوله:{وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152)} .

11 -

ومن فوائد الآيات أيضًا: الاستدلال على هؤلاء بدلالة

ص: 334

العقل، وهو أن يقال: كيف يصطفي الله البنات على البنين؟

هذا ليس بعقل وليس بمعقول، ولكن هم يجعلون هذا الشيء أمرًا معقولًا، وواجبًا أيضًا أن يكون لله البنات ولهم البنون.

12 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن هؤلاء الذين حكموا بهذا الحكم أشبه ما يكونون بالمجانين، ولهذا خوطبوا بمخاطبة المجنون حيث قيل لهم {مَا لَكُمْ} ؟ ما هذا العمل؟ هل هذا عمل عاقل؟

13 -

ومن فوائدها: الإنكار على كل حكم باطل لقوله: {كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154)} فإن هذا إنكار عليهم بهذا الحكم الذي يعلم بطلانه بضرورة العقل والنقل.

14 -

ومن فوائد الآية الكريمة: الإعلان بسفه هؤلاء، وإنهم لا ينتفعون بالآيات لقوله:{أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155)} .

15 -

ومن فوائدها أيضًا: توبيخ من لمَ يتذكر، لأن المراد بالاستفهام في قوله تعالى:{أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155)} هنا التوبيخ، فكل من لم يتذكر بآيات الله فلا شك أنه مستحق للوم والتوبيخ.

16 -

ومن فوائدها: إظهار عدل الله عز وجل في مجادلة العدو والخصم لقوله: {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156)} فلم يقتصر الله عز وجل على أن كذبهم، بل طلب منهم الحجة إن كانوا صادقين في دعواهم، ومن المعلوم أنهم لن يقيموا الحجة، ولهذا قال:{فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157)} .

17 -

ومن فوائدها أيضًا: جواز تحدي الخصم بما يعجز عنه، وأن ذلك طريق من طرق إفحامه، وذلك أن الخصم عند

ص: 335

المناظرة يمكن إبطال حجته بعدة أساليب منها: التحدي ولكن يجب أن يكون التحدي بما لا يمكن أن يقيم عليه البرهان والدليل؛ لأنك لو تحديته بشيء يمكنه أن يقيم عليه الدليل والبرهان، فأقام عليه الدليل والبرهان لخصمك ولضعف جانبك، فإياك أن تتحدى عند المناظرة إلا بشيء تعلم أنه لا يمكن أن يكون، ولهذا ذكر الله سبحانه وتعالى في محاجة إبراهيم مع الرجل حين قال إبراهيم:{رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258] فإبراهيم عليه الصلاة والسلام تحداه أولًا بأن الله يحيي ويميت، وأنت أيها المحاج لا تحيي ولا تميت، فلما ادعى كذبًا أنه يحيي ويميت، وكان في ذلك تلبيس على العامة، لأنه قال: أنا أحيي وأميت، آتي بالرجل المستحق للقتل فلا أقتله، فهذا على زعمه إحياء، والحقيقة أن هذا ليس إحياءً ولكنه رفع سبب يكون به الموت، وقد يبقى هذا الذي رفعنا عنه سبب الموت وقد لا يبقى.

وقال: إني أوتى بالرجل البريء فأقتله، فهذا إماتة على زعمه، وهذا ليس بإماتة، ولكنه فعل سبب يكون به الموت، وقد لا يكون به الموت، فالحاصل أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أراد قصر الطريق واختصاره، قال:{فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258] فانقطعت الحجة {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} وهذا من آداب المناظرة وهو إفحام الخصم بما لا يمكن أن يقيم عليه الحجة والبرهان.

ص: 336

ولكن كما قلت: يجب أن تلاحظ أنك إذا أفحمته أو تحديته بشيء يمكنه أن يقوم به فقام به، فهذا إضعاف لجانبك، وسيكون هذا أحد طرق هزيمتك {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156)} .

18 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن الحجة سلطان لصاحبها، لأنه يكون بها السلطة على خصمه الذي يحاجه.

19 -

من فوائدها: أن من تحدى غيره فله طلب البينة على ما قال ذلك الغير لقوله: {فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ} .

20 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن حجة القرآن حجة دامغة ملزمة، لا يمكن التخلص منها، ولهذا تأتي دائمًا بصورة التحدي إظهارًا لعجز المعارض، وعدم قدرته على المعارضة.

21 -

ومن فوائده: أن هؤلاء كاذبون فيما ادعوه عاجزون عن إقامة البرهان عليهم لقوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157)} .

22 -

ومن فوائد قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)} : بيان عتو هؤلاء وطغيانهم، حيث وصفوا الله سبحانه وتعالى بما لا يليق به، فجعلوا بينه وبين الجن نسبًا.

23 -

ومن فوائدها: أن هؤلاء الذين جعلوا بينها وبين الله نسبًا يعلمون أن هؤلاء معذبون على ما قالوا، محضرون في النار، لقوله:{وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} .

24 -

ومن فوائدها: أن هذه الجنة متبرئة مما يدعيه هؤلاء بجانبها، لأنها إذا علمت أنها محضرون في العذاب فإنها لن تقرهم على ما ادعوه لله سبحانه وتعالى من الولد.

ص: 337

25 -

ومن فوائد الآية الكريمة: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159)} : تنزيه الله عما وصفه الظالمون المعتدون لقوله: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159)} .

26 -

ومن فوائدها: أن صفات الله تكون سلبية -أي دالة على النفي- وتكون ثبوتية -أي دالة على الإيجاب-.

فقوله: {سُبْحَانَ اللَّهِ} هذا من صفات النفي، لأنه تنزيه، وصفات النفي التي وصف الله بها نفسه لا تدل على النفي المجرد، لأن النفي المجرد ليس بشيء فضلًا عن أن يكون مدحًا، وإنما تدل على ثبوت كماله المنزه عن هذا العيب، فتنزيه الله عما لا يليق به يتضمن كماله فيما يختص به سبحانه وتعالى، وهذه قاعدة في جميع الصفات المنفية: أنه لا يراد بها النفي المجرد، لأن النفي المجرد ليس بشيء؛ لأنه نفي، فضلًا عن أن يكون مدحًا إنما يراد بها إثبات كماله سبحانه وتعالى في صفاته حتى انتفى عنه كل صفة نقص.

27 -

ومن فوائد الآيات الكريمة: أن من عباد الله سبحانه وتعالى مَنْ منَّ عليهم فأخلصهم وأخلصوا له الحق، لقوله:{إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)} الذين أخلصهم الله مما أصيب به غيرهم، والذين أخلصوا لله فيما يصفونه به.

28 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن هذا القرآن الكريم مثاني تثنى فيه الأشياء، فإذا ذكر فيه صفة قوم مذمومة ذكر بعدها صفة الأقوام المحمودة، فلما ذكر ما وصفه به هؤلاء الظالمون

ص: 338

المعتدون بين أن هناك أناسًا ليسوا على هذه الحال. وهم عباد الله الذين أخلصهم الله تعالى لنفسه، وأخلصوا له ما يجب له.

* * *

{فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)} {فَإِنَّكُمْ} الخطاب هنا للكافرين، وفيه التفات من الغيبة إلى الحضور، لأن الكاف للمخاطب، والمخاطب حاضر، وما سبق الضمير فيه عائد على غائب:{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159)} فكلها بضمير الغيبة.

والالتفات من الغيبة أو العكس له فائدة، وهي تنبيه المخاطب، ووجه ذلك أن الخطاب إذا كان على وتيرة واحدة لم يكن فيه ما يدعو إلى الانتباه، فإذا تغير الأسلوب انتبه الإنسان، وهذه الفائدة مطردة في كل موضع فيه التفات.

وهناك فائدة أخرى تكون بحسب السياق، وليست مطردة في كل موضع، والفائدة هنا:{فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161)} هي أن الله سبحانه وتعالى لما تحدث عنهم بصيغة الغيبة، وكان الذي بعد ضمائر الغيبة أمرًا يظن صاحبه أنه قادر عليه خاطبه مخاطبة الحاضر إفادة إلى ذله وعدم قدرته على ما يقصد، فالكفار يحاولون فتن الناس عن دينهم بكل وسيلة، تارة بالدعاية لمعبوداتهم، وتارة بالقدح في عبادة الله، وتارة بالقدح في المسلمين وغير ذلك، فيظنون أنهم على شيء فخاطبهم الله تعالى

ص: 339

بخطاب صريح إذلالًا لهم فقال: {فَإِنَّكُمْ} أيها المشركون {وَمَا تَعْبُدُونَ (161)} من الأصنام وعبر بـ (ما) التي تستعمل غالبًا في غير العاقل؛ لأن أكثر معبود المشركين من غير العاقل، ويحتمل أن تكون (ما) مصدرية، أي: فإنكم وعبادتكم ما أنتم فاتنين عليه أحدًا.

والمعنى على الوجهين واحد. يعني: أنتم وأصنامكم لا تفتنون الناس {إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)} .

أو أنتم وعبادتكم لا تفتنون الناس عليها {إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)} والكفار يعبدون الأصنام فينذرون لها ويركعون ويسجدون ويستغيثون بها ويجعلونها كالإله سواءً، ومع هذا فإن عقولهم قد لعبت بهم بل شياطينهم قد لعبت بهم حيث يقولون:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} . [الزمر: 3].

والحقيقة أن عبادتهم إياها تبعدهم من الله ولا تقربهم منه، قال المؤلف رحمه الله[{مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162)} أي: على معبودكم، و (عليه) متعلق بقوله:{بِفَاتِنِينَ} أحدًا] و (إن) تحتاج إلى اسم وخبر، اسمها الكاف في:{إِنَّكُمْ} و {وَمَا تَعْبُدُونَ} معطوف عليه وجملة {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162)} هي الخبر. يعني أنتم ومعبوداتكم لا تفتنون أحدًا عن دين الله {إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)} .

وقوله رحمه الله[أي على معبودكم] ولم يقل: ما أنتم عليها أي معبوداتكم من أجل أن يشمل كل واحد على حدة، يعني أي واحد من هذه المعبودات لا يمكن أن تفتنوا عليه أحدًا من

ص: 340

الناس، وقوله:{بِفَاتِنِينَ (162)} أي بصادين؛ لأن الفتنة تأتي بمعنى الصد، قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج: 10] أي صدوهم كما تأتي بمعنى الاختبار مثل: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} [البقرة: 102] ولها معانٍ أخرى، لكن المراد بها هنا الصادّين، وقول المؤلف:[عليه متعلق بفاتنين] فيكون التقدير: ما أنتم بفاتنين عليه، وفاتن اسم فاعل من فتن، وهو فعل متعدٍّ ومفعوله محذوف قدَّره المؤلف بقوله:[أي أحدًا]. ومعنى الآية على سبيل العموم أن الله خاطب هؤلاء المشركين بأنهم ومعبوداتهم مهما عملوا من الحيل والدعاية لن يفتنوا أحدًا حتى يعبدوا هذه الأصنام {إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)} يعني إلا الذي هو صال الجحيم، وصال اسم فاعل، وحذفت الياء التي في آخر الفعل لالتقاء الساكنين. وهما: الياء وهمزة الوصل {إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)} .

وعلى كلام المؤلف تكون (من) في محل نصب بدلًا من المفعول المحذوف (أحدًا) ما أنتم بفاتنين أحدًا إلا من هو.

وذهب بعض المعربين إلى أن (من) مفعول لفاتنين، على أنه استثناء مفرّغًا، والاستثناء المفرغ هو الذي يكون ما بعد إلا معمولًا لما قبلها. سواء كان فاعلًا أو مفعولًا أو مجرورًا. فإذا قلت: ما قام إلا زيد. فهذا استثناء مفرغ. فتقول: (ما قام) ما نافية وقام فعل ماض و (إلا) أداة حصر وليست أداة استثناء، وزيد فاعل. وتقول: ما رأيت إلا عمرًا رأيت فعل وفاعل و (إلا) أداة حصر، وعمرًا مفعول. وتقول: ما مررت إلا بزيد. (إلا) أداة

ص: 341

حصر، بزيد جار ومجرور متعلق بمررت.

فعلى هذا تكون الآية {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُو} كالمثال الذي مثلّنا وهو ما رأيت إلا زيدًا.

وهذا الذي ذهب إليه بعض المعربين أصح مما ذهب إليه المؤلف، أي أن الاستثناء مفرغ، وعليه فلا نحتاج إلى تقدير المفعول به، فيكون (أحدًا) الذي قدره المؤلف مستغنى عنه، لأن الاستثناء مفرغ فكما أنك لو قلت ما رأيت إلا زيدًا لا تحتاج إلى تقدير ما رأيت أحدًا إلا زيدًا، فكذلك {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)} .

وخلاصة المقام أن نقول: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162)} (ما) نافية و (أن) اسمها (بفاتنين) خبرها. وفاتن اسم فاعل يحتاج إلى مفعول، والمفعول (من) في قوله:{إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)} .

وقوله: {صَالِ الْجَحِيمِ (163)} قال المؤلف: [في علم الله تعالى]، وإنما احتاج إلى تقدير في علم الله، لأن صال اسم فاعل وهم لم يصلوها حتى الآن، لأنهم ما ماتوا، فالمفتون حي فكيف يقال: صال الجحيم، وهو لم يمت بعد. لذا قال المؤلف: المراد صال الجحيم في علم الله، أي من علم الله أنه سيصلى الجحيم فهو الذي تفتنونه، وأما من علم الله أنه مؤمن فلن تفتنونه، وهذا كقوله تعالى:{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)} [الأعراف: 178].

الفوائد:

1 -

في قوله تعالى: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162)

ص: 342

إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)} بيان أن هؤلاء المجرمين الذين يصفون الله بما لا يليق به، ويصدون عن سبيل الله لن يستطيعوا أن يضلوا من هداهم الله، وإنما يضلون من هو صال الجحيم، أي من هو تابع لهم على إضلالهم حتى يصلى الجحيم.

2 -

ومن الفوائد: الإشارة إلى أن من تابع أهل السوء في سوئهم فإنه يخشى أن يكون ممن كتب عليه أنه من أصحاب الجحيم. لقوله: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)} .

3 -

ومن فوائدها: أن أهل البصيرة لا يمكن أن يكونوا من أصحاب النار، وذلك لأنهم يعرفون الحق ويعرفون الباطل، فيأخذون بالحق ويتجنبون الباطل، ووجه ذلك أن الله أخبر بأن هؤلاء المجرمين الضالين المضلين، لن يستطيعوا أن يفتنوا أحدًا عن دينه إلا من هو صال الجحيم، فليحذر الإنسان من فتنة أهل الشر والفساد؛ لئلا يكون من هو صال الجحيم.

4 -

ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات العذاب في الآخرة، لقوله:{إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)} والمراد جحيم الآخرة ونارها، وليس جحيم الدنيا.

5 -

ومن فوائد الآية الكريمة: انقسام الناس إلى قسمين: صال للجحيم، وناج منها، لأن الاستثناء في قوله:{إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)} يدل على أن هناك شيئًا مستثنى منه وهو القسم الثاني الذي قدر الله له النجاة.

ص: 343

{وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)} لما ذكر الله عز وجل أن هؤلاء المجرمين الظالمين قالوا: إن الملائكة بنات الله، بيّن سبحانه وتعالى على لسان الملائكة ما حال الملائكة وما مقامهم وما عملهم تجاه الله سبحانه وتعالى، فقال:{وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)} قال المؤلف رحمه الله: [قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: وما منا معشر الملائكة أحد، معشر يعني: جماعة، وأحد قدرها المؤلف لدلالة السياق عليها، وهي مبتدأ خبره (منا) السابق وقوله:{إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)} هذا الاستثناء مستثنى من أحد وهي جملة يمكن أن نجعلها دالة على الحال: حال هؤلاء الملائكة. وقوله: {إِلَّا لَهُ مَقَامٌ} أي: موضع قيام، لأن المقام مفعل يصح أن يكون اسم زمان واسم مكان، وهنا الظاهر اسم أنه مكان يعني إلا مكان قيام يقوم فيه يتعبد فيه لله عز وجل.

ويجوز أن نجعله اسم زمان أيضًا أي: وقتًا يقوم فيه لله، ومكانًا يقوم فيه لله، فتكون عبادة الملائكة مؤقتة بزمن، ومقيدة بمكان، ولا منافاة بين القولين، والقاعدة في التفسير: أنه إذا كانت الآية صالحة لمعنيين لا ينافي أحدهما الآخر حملت عليهما جميعًا، ولأن حملها عليهما جميعًا أوسع في المعنى من تخصيصها بأحدهما، فإن كان أحدهما ينافي الآخر طلب الترجيح، فما رجحه المرجح أخذ به وترك الآخر.

{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165)} (وإنا) الضمير يعود على الملائكة، {لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165)} يعني الذين يصفون عند الله سبحانه وتعالى، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا تصفون كما تصف

ص: 344

الملائكة عند ربها" قالوا: يا رسول الله وكيف ذلك؟ قال: "يتمون الأول فالأول ويتراصون"

(1)

هذا شأن الملائكة عند الله في مقام تعبدهم يصفون لله تعظيمًا له يكملون الأول فالأول [أقدمهم وأسباتهم أقربهم إلى الله عز وجل، وهكذا صفوف الصلاة، كلما كان أقدم وأقرب إلى الإمام فهو أفضل.

{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165)} قال المؤلف: رحمه الله[أقدامنا في الصلاة]، وكلمة [أقدامنا في الصلاة] تحتاج إلى دليل، لأن ظاهر الوصف {لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165)} أنه يعود على الملك نفسه لا على القدم، ثم إنا إذا قلنا أقدامنا نحتاج إلى إثبات أن للملائكة أقدامً، والله سبحانه وتعالى قد وصف الملائكة أنهم أولو أجنحة، فيحتاج هذا إلى دليل.

وقوله: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165)} فيها مؤكدان: المؤكد الأول: إنا، والثاني: اللام في قوله: {لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165)} .

{لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)} [الصافات: 166] الجملة مؤكدة بمثل ما أكدت الأولى. يعني وإنا معشر الملائكة لنحن المسبحون، قال المؤلف رحمه الله:[المنزهون الله عما لا يليق به] لأن التسبيح بمعنى التنزيه.

وتنزيه الله معناه تنزيهه عما لا يليق به ومداره على أمرين: أحدهما: أن ينزه عن مماثلة المخلوقين، ودليله قوله تعالي:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11].

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب الأمر بالسكون في الصلاة (رقم 430)(119).

ص: 345

الثاني: أن ينزه عن نقص في كماله، ومنه قوله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)} [ق: 38] فلما ذكر خلقه لهذه السماوات العظيمة والأرَض في هذه المدة الوجيزة بين أنه لم يلحقه في ذلك تعب ولا إعياء، وهذا تنزيه لله عن النقص في كماله.

قال: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)} الجملتان اسميتان، قال أهل العلم: والجملة الإسمية تدلَ على الثبوت والاستمرار، يعني أن هذا دأبهمِ، ويدل لذلك قوله تعالى في وصفهم:{وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)} [الأنبياء: 19 - 20] فالملائكة دائمًا في عبادة ليسوا كالبشر عندهم غفلة ولهو وسهو، بل هم دائمًا في عبادة الله، فهنا ثلاثة أقسام من الخلق.

1 -

شياطين، فهؤلاء دائمًا في معصية.

2 -

وملائكة، وهؤلاء دائمًا في طاعة.

3 -

وبشر، وهؤلاء أحيانًا في طاعة، وأحيانًا في معصية، وأحيانًا في غفلة.

الفوائد:

1 -

من فوائدها: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)} بيان أن الملائكة عليهم الصلاة والسلام منزهون عما يدعيه هؤلاء من كونهم بنات الله، ووجه ذلك أنهم مكلفون بالعبادة على حد معلوم، ومن كان مكلفًا بالعبادة لا يمكن أن يكون ابنًا أو ولدًا للمعبود.

ص: 346

2 -

ومن فوائدها: كمال انتظام الملائكة عليهم الصلاة والسلام بكونهم يلتزمون بالمقامات المعلومة التي عينها الله لهم {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)} .

3 -

ومنها: الإشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن يكون وقته منظمًا، وأن يجعل لكل شيء عملًا معلومًا حتى لا يضيع عليه الوقت؛ لأن الإنسان الذي يعمل بالوقت جزافًا لا ينتفع به، ولكن لا يعني قولنا هذا أن الإنسان يستمر على حال واحدة، لأنه قد يعرض للمفضول ما يجعله أفضل من الفاضل، بمعنى أنك لو رتبت انفسك ثم طرأ ما يوجب مخالفة هذا النظام فلا حرج عليك أن تخرم هذا النظام، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم حتى يقال: لا يفطر، وكان يقوم حتى يقال لا ينام

(1)

، أو بالعكس حسب ما تقتضيه المصلحة.

4 -

ومن فوائد الآيات الكريمة عمومًا: أن الملائكة عليهم الصلاة والسلام من أكمل الناس عبادة، حيث يجتمعون على عبادة الله، فيصفون له تعظيمًا له لقوله:{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165)} .

5 -

ومن فوائدها: أنه ينبغي تأكيد الخطاب إذا كان المخاطب منكرًا، أو مترددًا، أو كان المعنى ذا أهمية يحتاج إلى التوكيد لقوله:{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165)} من أجل تقرير هؤلاء المنكرين الذين يدعون أن الملائكة بنات الله فيقولون: نحن نصف لله تعبدًا له وتعظيمًا.

(1)

أخرخه البخاري، كتاب الصوم، باب صوم شعبان (1969) ومسلم، كتاب الصيام، باب صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان

(1156)(175).

ص: 347

6 -

ومنِ الفوائد: كمال تنزيه الملائكة لله في قوله: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)} .

7 -

ومن فوائدها: أن دأيهم أيضًا التسبيح، كما قال الله تعالى:{يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)} [الأنبياء: 20] ونستدل بهذه الآية؛ لأن الجملة جاءت اسمية، والجملة الإسمية تفيد الثبوت والاستمرار.

8 -

ومن فوائدها: تنزيه الله -سبحانه- وتعالى على ألسنة الملائكة عن كل ما لا يليق به، وهو سبحانه وتعالى منزه عن كل ما لا يليق به، ولهذا جاءت الآيات الكثيرة في نفي المماثلة عن الله، ونفي النقص وإثبات الحكمة ونفي اللعب والباطل في حقه تعالى {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [ص: 27]. {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38)} [الدخان: 38]. {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)} [القيامة: 36] أيحسب الإنسان أن يترك سدى إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على كماله عز وجل وانتفاء اللعب والبطلان عن أفعاله.

* * *

{وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168)} .

{وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167)} ، إن هنا: مخففة من الثقيلة. فأصلها: وإنّهم كانوا، لكن: خففت فقيل: {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167)} .

واسمها يكون محذوفًا، ويسمى ضمير الشأن، وضمير الشأن قالوا: إنه يكون مفردًا مذكرًا، لأن كلمة الشأن مفرد مذكر والتقدير: وإن كانوا، وإنه أي شأنهم ليقولون.

ص: 348

وقيل: إن ضمير الشأن يقدر بحسب السياق إن كان مفردًا مذكرًا فهو مفرد مذكر، وإن كان جمعًا فهو جمع، وبناء على هذا يكون تقدير الآية هنا: وإنهم كانوا ليقولون. (كانوا) فعل ناقص، الواو هي الاسم، واللام في قوله ليقولون لام التوكيد، وجملة يقولون: خبر كان، وكان واسمها وخبرها خبر إن المخففة من الثقيلة.

{كَانُوا} أي كفار مكة {لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169)} يعني لو نزل علينا الكتاب ككتب الأولين لكنا عباد الله المنقادين لشرعه المخلصين له.

ولكن هذه الحجة مردودة بقوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ} [الأنعام: 155 - 157] إذًا هذه الدعوة منهم مكابرة؛ لأنه أنزل عليهم كتاب أهدى الكتب وأقوم الكتب، ومع ذلك كفروا به {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168)} أي ما يذكرنا، والذي يذكر هو الكتاب، قال الله تعالى:{وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} [الأنبياء: 50] فالمراد بالذكر هنا ما يتذكر به الإنسان وهو الكتاب، وقوله:{مِنَ الْأَوَّلِينَ (168)} قال المؤلف: [من كتب الأمم الماضية] فيكون على تقدير مضاف من الأولين أي من كتبهم، وليس منهم أنفسهم، بل من الكتب التي نزلت إليهم، لو أن عندنا من هذا شيئًا {لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169)} اللام واقعة في

ص: 349

جواب (لو)، و (لو) هنا شرطية، أو مصدرية شرطية، والشرطية لا يليها إلا فعل، وهنا وليتها أن في قوله تعالى:{أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا} . فقالوا: وليتها أن، ولكنها على تقدير فعل، يعني لو ثبت أن عندنا ذكرًا {لكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169)} كقوله:{وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا} [الحجرات: 5] يعني لو ثبت أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرًا لهم.

{لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169)} أي: بالعبودية الشرعية؛ لأنهم بالعبودية القدرية كائنون فهم عبيد الله قدرًا، ولا يمكن أن يحيدوا عن قضاء الله وقدره، لكن لو كنا عباد الله شرعًا.

قال المؤلف رحمه الله: [المخلصين العبادة له]، المخلصين بكسر اللام هكذا فسر المؤلف، ولهذا قال العبادة له.

{الْمُخْلَصِينَ (169)} بالفتح الذين أخلصهم الله واصطفاهم.

فصار في المخلصين قراءتان: فتح اللام وكسرها، فعلى قراءة الفتح يكون المعنى: الذين أخلصهم الله تعالى لنفسه واصطفاهم، وعلى قراءة الكسر يكون معناه: الذين أخلصوا له العبادة، والمعنيان متلازمان، لأن كل من أخلص لله العبادة قد أخلصه الله لنفسه. قال المؤلف رحمه الله:{فَكَفَرُوا بِهِ} [بالكتاب الذي جاءهم، وهو القرآن الذي أشرف من تلك الكتب {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)} عاقبة كفرهم].

تقدير الآية: فقد جاءهم كتاب وجاءهم الذكر، ولكن لم يقبلوا هذا الذكر وكفروا به تكذيبًا في الخبر، واستكبارًا عن الأمر، فهم كذبوا الرسول عليه الصلاة والسلام لما قال: إنكم

ص: 350

ستبعثون فقالوا: لا بعث، وقال: إنه حق. فقالوا: كاذب. وقال: اعبدوا الله وحده لا شريك له. فعبدوا الأصنام، فهم ما صدقوا بما أخبر الله به في كتابه، ولا امتثلوا الأمر وانقادوا له، بل جمعوا بين كفر الجحود والاستكبار، -والعياذ بالله- مع أن القرآن أشرف من الكتب التي ادعوا أنه لو أتاهم من جنسها لكانوا عباد الله المخلصين، ومع هذا كفروا بهذا الكتاب، وهذا يدل على أن دعواهم هذه من أكذب الدعاوى. فقيل لهم: هذا ذكر، جاءكم ذكر أشرف الأذكار وأعظم الكتب السابقة، ومع ذلك كفرتم به.

قال الله تعالى: {فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)} الفاء في قوله تعالى: {فَكَفَرُوا} للترتيب، والفاء في قوله تعالى:{فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)} للترتيب والسببية، أي فبسبب كفرهم سوف يعلمون عاقبة أمرهم، وذلك بالذل في الدنيا والعذاب في الآخرة، وهذا الأمر حصل -ولله الحمد- فإن الله أذلهم في أعظم موقعة كانوا يفتخرون بها ويظنون فيها العزة والنصر في غزوة بدر، فإنهم خرجوا بصناديدهم وأشرافهم وكبرائهم، حتى قال أبو جهل لما أشير عليه بالرجوع قال:(والله لا نرجع حتى نقدم بدرًا فننحر فيها الجزور، ونشرب فيها الخمور، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبدًا). فانظر إلى البطر والكبر. حصل أن قتل هو والزعماء والأشراف الذين معه، وسمعت بهم العرب، وتحدثت العرب. بأخبارهم بما فيه العار والخزي إلى يوم القيامة، فهذا من العواقب الوخيمة، وفي بلدهم مكة خرج النبي صلى الله عليه وسلم منها خائفًا مستترًا، ودخلها ظافرًا منصورًا مؤزرًا، رفعت

ص: 351

الراية عند مدخل مكة عند الحجون ودخل البيت وكسّر الأصنام، ووقف على الباب وقريش تحته ينتظرون ماذا يفعل. فقال:"ما ترون أني فاعل بكم معشر قريش" قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم

(1)

، فعفى عنهم عليه الصلاة والسلام وسموا الطلقاء، أي من القتل والأسر، فانظر كيف كانت هذه العاقبة، فالنبي صلى الله عليه وسلم حماه الله منهم. تآمروا أن يقتلوه أو يثبتوه أو يخرجوه، ولكن صارت المؤامرة عليهم، هم الذينَ منَّ عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم فأطلقهم على أن ما في الآخرة أشد وأعظم، قال الله تعالى:{وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47)} [الطور: 47]، وقال تعالى:{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} [السجدة: 21] فعذاب الآخرة أشق -والعياذ بالله-، والغرض من قوله تعالى:{فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)} ، تهديد هؤلاء المكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم.

الفوائد:

1 -

من فوائد هذه الآيات الكريمات: أن هؤلاء المكذبين للرسول عليه الصلاة والسلام يدعون أنه لم يأتهم ذكر يتذكرون به، ولهذا يعترضون هذا الاعتراض يقولون:{لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169)} .

2 -

ومن فوائدها: أن حجج الكفار حجج مكابرة ليست مبنية على حق، فمثلًا قولهم:{لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168)} ماذا

(1)

أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب طلوع الشمس من مغربها (رقم 4081) والإمام أحمد في المسند (1/ 375) والحاكم 4/ 488 - 489، 545 - 546.

ص: 352

نقول: باطل، بل عندكم ذكر من أفضل الأذكار على الإطلاق.

3 -

ومن فوائد الآيات الكريمة: أن الناس لا يمكن أن يكون لهم استقامة إلا بكتب نازلة من السماء حتى المشركون الكفار يقرون بهذا، لقوله {لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169)} وهذه الفائدة يشهد لها الواقع، فإن الأمم الذين لم تنزل عليهم الكتب، تجدهم في فوضى مطردة، لا يستقيم لهم حال، ولا يمشون على خط مستقيم، بخلاف الأمم التي تنزل عليها الكتب، فإنها تكون مستقيمة بقدر تمسكها بهذه الكتب.

4 -

ومن فوائدها: أن الكتب المنزلة ذكر لمن نزلت إليهم ومعنى كونها {ذِكْرًا} على ثلاثة أوجه: فهي ذكر أي: شرف لمن نزلت إليهم، وهي ذكر يتذكرون بها ويتعظون بها، وهي ذكر يتقربون إلى الله تعالى بها؛ لأنها أفضل أنواع الذكر.

5 -

ومن فوائد هذه الآيات: أن هؤلاء الذين ادعوا لو أن عندهم ذكرًا من الأولين {لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169)} كانوا كذبة بدليل أن عندهم ذكر من الأولين، ولكن كفروا به، وسبق لنا أن كفرهم به، يشمل النوعين من الكفر، وهما: الجحد والاستكبار.

6 -

ومن فوائد الآيات: تهديد الكافرين لقوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)} ، وتهديد الكافرين لا شك أنه مطابق للحكمة؛ لأن الحجة قد قامت عليهم، وقد قال الله تعالى:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]

ص: 353

ثم قال الله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171)} أي: تقدمت في الأزل، وكلمة الله بينها هنا بقوله:{إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172)} ، هذه هي الكلمة السابقة التي قضى بها الله عز وجل في الأزل.

وقوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا} الجملة هنا فيها عدة مؤكدات وهي: اللام، وقد، والقسم المقدر. والتقدير: وتالله لقد سبقت، أو ووالله لقد سبقت، وكل جملة تأتي على هذا الوجه، ففيها هذه المؤكدات: القسم، واللام، وقد.

وقوله: {كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171)} المراد بالعباد هنا: العبودية الخاصة، بل أخص الخاصة وهي عبودية الرسالة.

وعبودية الخلق لله عز وجل عبودية كونية، وهذه عامة شاملة لجميع الخلق فما من مخلوق إلا وهو ذال لله قدرًا، وعبودية شرعية، وهي خاصة بمن يطيع الله، وأخص هذا النوع عبودية الرسالة؛ لأن الرسل مكلفون بما لم يكلف به غيرهم، فهم مكلفون بتحمل الرسالة وإبلاغها إلى الخلق ودعوة الناس إليها، ولهذا لا يرسل الله رسولًا إلا وهو يعلم أنه أهل للرسالة، كما قال تعالى:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] وقال الله لنبيه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الإنسان: 23، 24] فلما ذكر أنه نزل عليه القرآن لم يقل: فاشكر الله على هذه النعمة، بل قال:{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الإنسان: 24] إشارة إلى أن تنزيل القرآن عليه أمر يحتاج إلى صبر؛ لأنه يحتاج إلى معاناة ومجابهة الناس، ومن تأمل ما حصل للرسول صلى الله عليه وسلم من منباذة قومه

ص: 354

له، وإيذائهم إياه تبين له الحكمة في أنه قال:{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الإنسان: 24].

قال المؤلف رحمه الله: [ولقد سبقت كلمتنا بالنصر لعبادنا المرسلين وهي: {لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21] أو هي قوله: {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172)} ] فـ (أو): هنا للتردد يعني هل الكلمة هي قوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21] أو أن الكلمة هي قوله: {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172)} والاحتمال الثاني أولى؛ لأن الاحتمال الثاني يجعل تفسير الكلام في ضمن الكلام، والأول يجعل تفسير الكلام منفصلًا عنه، وإذا كان تفسيره متصلًا كان أولى، وعلى هذا فتكون الكلمة:{إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172)} وهي جزء من قوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21]

وقوله: {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172)} هذه الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات: الأول: إن، والثاني: اللام في (لهم)، والثالث: هم، لأن (هم) ضمير فصل، ثم هي أيضًا من حيث بنيتها. جملة توكيدية

(1)

، لأنها جملة اسمية، والجملة الاسمية تفيد الثبوت والاستمرار.

فـ (إن) للتوكيد، واللام للتوكيد، وهم ضمير الفصل للتوكيد، وضمير الفصل من حيث الإعراب ليس له محل من الإعراب، ومن حيث المعنى يفيد ثلاثة أشياء: التوكيد، والحصر، والفصل بين الخبر والصفة، ولهذا سمي ضمير فصل،

(1)

قولنا جملة توكيدية أحسن من قولنا: تأكيدية.

ص: 355

{إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172)} الهاء اسم إنّ، واللام للتوكيد، وهم ضمير فصل لا محل له من الإعراب. والمنصورون خبر إن.

يقول الله عز وجل {إِنَّهُمْ لَهُمُ} يعني لا غيرهم {الْمَنْصُورُونَ} أي: الذين ينصرهم الله عز وجل بما يقدره من الآيات، أو بما يرسله من الجنود، ففي بدر أرسل الله الملائكة فقاتلت مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الأحزاب أرسل الله تعالى الريح الشديدة ومعها جنود، {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9] فجمع الله في الأحزاب بين الملائكة تدخل الرعب في قلوب هؤلاء الأعداء، وبين الريح التي تزلزلهم حتى لم يقر لهم قرار فهربوا، فهم منصورون من قبل الله بما يرسل من الآيات، أو من الملائكة.

وقوله: {وَإِنَّ جُنْدَنَا} الجند هم المدافعون عمَّن هم جند له، الذين ينصرونه ويدافعون عنه، ومنه جنود الأمير والسلطان وما أشبه ذلك، وهنا يقول:{وَإِنَّ جُنْدَنَا} أي: جند الله، وهؤلاء الجند ليسوا جندًا لله لحاجة الله إليهم. ولكن لأنهم يدافعون عن شرعه فصاروا جندًا له، وهؤلاء الجند هم الغالبون لكونهم جند الله، والله سبحانه وتعالى له الغلبة:{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21] فجند الله الذين يذبون عن شريعته لابد أن تكون لهم الغلبة. ولهذا قال: {لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} والجملة كالأولى مؤكدة بثلاثة مؤكدات: إن، واللام، وضمير الفصل.

والغالبون اسم فاعل من غلب، وغلب فعل متعد، والفعل المتعدي لابد فيه من فاعل ومفعول. فالفاعل الجند {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ

ص: 356

الْغَالِبُونَ (173)} لكن الغالبون بأمر الله لا شك، والمفعول محذوف والتقدير: كما قال المؤلف رحمه الله: [الغالبون الكفار بالحجة والنصرة عليهم في الدنيا، وإن لم ينتصر بعض منهم في الدنيا ففي الآخرة]. أشار المؤلف إلى إشكال كنا نريد أن نؤخره إلى الفوائد، لكن الآن لابد من الكلام عليه.

{وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} فبين الله بيانًا مؤكدًا بثلاثة مؤكدات أن جنده المؤمنين الذين يدافعون عن دينه هم الغالبون، وأكد فيما قبل أن الرسل هم المنصورون، فإذا قال قائل: هل هذا الكلام المؤكد من الرب عز وجل مطابق للواقع، أو أن في الواقع ما يخالفه؟

فإذا قلت: مطابق للواقع ورد عليه في أُحد كانت الغلبة للمشركين، وفي الأنبياء من قتل {وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [آل عمران: 112] وفي أهل الخير من قتل {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 21] فما هو الجواب عن هذا؟

الجواب عن هذا من وجوه:

الوجه الأول: إما أن يكون النصر الذي وعد الله به الرسل، بناء على الأكثر، فإن الأغلب الأكثر بلا شك انتصار الرسل على أعدائهم واقرأ الآيات في الرسلِ تجد أن الله تعالى يقول:{وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)} [الشعراء: 65 - 66] وهذا انتصار بلا شك.

الوجه الثاني: أن يقال: إن المراد بالنصر نصر من أمروا

ص: 357

بالجهاد، فمن أمر بالجهاد فإن الله قد تكفل لهم بالنصر، وأما من لم يؤمروا به فليس هناك مغالبة بينهم وبين أعدائهم حتى يقال: إنهم انتصروا، ويكون قتلهم غير منافٍ للآية.

الوجه الثالث: أن يقال: إن المراد بالنصر المطلق هو نصر الآخرة، أما نصر الدنيا فليس بمضمون.

الوجه الرابع: أن المراد بالنصر انتصارهم بالحجة لا بالشخص، يعني انتصار ما جاءوا به، وظهوره دون الغلبة الحسية، فإن ذلك ليس بذي أهمية بالنسبة لغلبة ما جاءوا به من الشريعة.

فهذه أربعة أوجه في الجواب عن الواقع، الذي قد يخالف ظاهر الآية، ويجب أن نعلم أنه لا يمكن أن يوجد في القرآن شيء صريح يخالف الواقع ولا في السنة شيء صحيح صريح يخالف الواقع.

وتأمل القيد في قولنا بالنسبة للسنة: "صحيح"، لأنه قد يأتي في السنة أحاديث غير صحيحة، فلهذا احتجنا أن نقول صحيح، أما في القرآن فلا يحتاج نقول صحيح، لأنه منقول بالتواتر فكله صحيح.

إذًا لا يمكن أن يوجد في القرآن شيء صريح يخالف الواقع ولا في السنة شيء صحيح صريح يخالف الواقع، فإن وجد ما ظاهره مخالفة الواقع فاعلم أنه إما أن يكون مخالفة ولكن المخالفة من وهمك، بمعنى أن يكون الواقع غير مخالف لظاهر القرآن، أو يكون ما ظننته صريحًا من القرآن غير صريح، فمثلًا

ص: 358

كثير من العلماء -وليس أكثر العلماء- يقولون: إن الأرض ليست كروية، لأن الله يقول {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)} [الغاشية: 17 - 20].

والسطحية تنافي الكروية فإذًا من قال: إن الأرض كروية فقد خالف صريح القرآن، لأن الله يقول:{سُطِحَتْ (20)} فأنكروا أن تكون الأرض كروية بناء على فهمهم أن القرآن صريح في ذلك.

ومن العلماء من قال: إنها كروية، والواقع يشهد لقول هؤلاء؛ لأنه لا يمكن أن نقول الآن: إنها غير كروية، إذ لو أنك لو قمت من مطار جدة متجهًا إلى الغرب في طائرة فيكون منتهاك إلى جدة فترجع إلى جدة، إذًا هي كروية، فالشاهد الواقع المحسوس يشهد لهذا، فنقول: إذًا لابد أن يكون القرآن الذي زعموا أنه صريح بأنها ليست كروية لابد أن يكون على خلاف ما فهموا ولا يمكن أن يقول قائل: إن الواقع المحسوس كذب ولو قال: إن الواقع المحسوس كذب؛ لرماه الناس بالحجارة فضلًا عن حجارة الأفواه، وحينئذ يتعين علينا أن نقول: إن القرآن ليس صريحًا في هذا، فتحمل السطحية فيه على ما يحتاج الإنسان إليه من الأرض، فكل ما تحتاجه إليه من الأرض فهو سطح، يعني ما جعلت الأرض مسطحة مثل ظهر الجبل، أو مثل سفح الجبل، في صعودًا أبدًا، فكل ما تحتاج إليه فهو مسطح، ثم نقول في القرآن ما يدل على أنها كروية، مثل قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا

ص: 359

وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4)} [الانشقاق: 1 - 4] فيفهم من قوله: {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3)} [الانشقاق: 3] أنها غير ممدودة، ولهذا جاء في الحديث "إنه إذا كان يوم القيامة فإن الله يمد الأرض مد الأديم"

(1)

مد الأديم يعني الجلد تمد هكذا تكون سطحًا واحدًا. وأيضًا دليل آخر مثل قوله: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} [الزمر: 5] والتكوير: التدوير، ومعلوم أن الليل والنهار يدور على الأرض، فإذا كان هذا يدور فالذي يدور عليه يكون مستديرًا ولابد، المهم القاعدة عندنا أنه لا يمكن أبدًا أن يوجد في الواقع المحسوس ما يخالف صريح المنقول أبدًا، كما أنه لا يوجد في صريح المعقول ما يخالف صحيح المنقول، فالأولى نخاطب بها أهل المادة، والثانية نخاطب بها أهل العقول الذين يدعون أنهم أصحاب العقول كالمتكلمين وغيرهم، نقول: ليس في صريح القرآن ولا في صريح صحيح السنة ما يخالف المعقول. ونخاطب بهذا أهل الكلام وغيرهم ممن يتكلمون في العقائد في المعقولات.

وليس في صريح القرآن ولا في صريح صحيح السنة ما يخالف المحسوس، ونخاطب به أصحاب المادة الذين ليس عندهم إلا ما يشاهدونه بأعينهم، أو يسمعونه بآذانهم، وعلى هذا يكون قوله تعالى:{إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} محمول على أحد المحامل الأربعة.

(1)

أخرجه ابن ماجه كتاب الفتن، باب طلوع الشمس من مغربها (رقم 4081) والإمام أحمد في المسند (1/ 375) والحاكم 4/ 488 - 489، 545 - 546.

ص: 360

{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174)} [الصافات: 174] الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم و {عَنْهُمْ} الضمير يعود على أهل مكة، والمراد بالتولي ما فسره المؤلف رحمه الله بقوله:[أي أعرض عن كفار مكة].

{حَتَّى حِينٍ (174)} يعني إلى حين غير مبين، لكن علمه عند الله عز وجل، ولهذا قال المؤلف: [{حَتَّى حِينٍ (174)} تؤمر فيه بقتالهم، وعلى هذا فتكون الآية منسوخة بآيات السيف، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بالقتال إلا حين كان له قوة، وكان له شوكة، وذلك بعد هجرته إلى المدينة، أما في مكة فلم يؤمر بالقتال، لأن الحكمة لا تقتضيه وعلى هذا فيكون الحين الذي أُجل إليه التولي هو الأمر بقتالهم.

{وَأَبْصِرْهُمْ} يعني انظر إليهم إذا نزل بهم العذاب، وعلى هذا فيكون الإبصار البصر بالرؤية، يعني أنك ستبصرهم إذا نزل بهم العذاب، فيكون أمرًا للنبي صلى الله عليه وسلم بالإبصار حينما ينزل بهم العذاب، والمراد بقوله:{وَأَبْصِرْهُمْ} تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام وتطمينه بأن هؤلاء سوف يرون جزاءهم.

وقيل: إن المراد بالإبصار هنا الإنظار، {وَأَبْصِرْهُمْ} يعني أنظرهم أي: أمهلهم، كما في قوله:{فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)} [الطارق: 17] وكما في قوله تعالى: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29)} [السجدة: 29] وغاية القولين واحدة، يعني سواء قلنا: أبصرهم بعينك حين ينزل بهم العذاب، أو أنظرهم حتى يأتيهم العذاب.

وقوله: {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175)} هذه الجملة يراد بها: تهديد

ص: 361

هؤلاء بأنهم سوف يبصرون عاقبة أمرهم، وذلك بالذل والخزي والعار في الدنيا، وكذلك في الآخرة بالعذاب.

قال المؤلف رحمه الله: [فقالوا استهزاء: متى نزول هذا العذاب؟ قال الله تعالى تهديدًا لهم: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176)} الهمزة في قوله: {أَفَبِعَذَابِنَا} للاستفهام، والفاء عاطفة، وقد ذكر أهل العلم أن همزة الاستفهام إذا دخلت على حرف العطف، فإنه يجوز في إعرابها وجهان:

الوجه الأول: أن يكون المعطوف عليه مقدرًا بين الهمزة وحرف العطف، ويقدر بما يناسب.

الوجه الثاني: أن تكون الجملة معطوفة على ما سبق بدون تقدير، ويكون محل الهمزة بعد حرف العطف، وعلى هذا يكون التقدير: فـ (أبعذابنا) يستعجلون.

وعلى الأول تقدر ما يناسب المقام فتقول: أسخروا فبعذابنا يستعجلون.

واستعجالهم العذاب على وجهين:

الوجه الأول: أن يكون بالقول، فيقولون: الوعد {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)} [الملك: 25] أين العذاب الذي تعدوننا به؟ !

الوجه الثاني: أن يكون بالفعل وذلك بتماديهم بالمعصية، لأن المتمادي بالمعصية هو مستعجل للعذاب في حقيقة الأمر؛ لأن المعاصي سبب للعذاب، كما قال الله تعالى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96].

ص: 362

فاستمرار هؤلاء بتكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام يقتضي أن يتعجل لهم العذاب، وهذا استعجال بالفعل، فهؤلاء جمعوا بين الوجهين: الاستعجال بالفعل وبالقول.

{أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176)} (نا) هنا للتعظيم وليست للجمع؛ لأن الله تعالى واحد، وكل ضمير أضافه الله إلى نفسه بصيغة الجمع فالمراد به التعظيم.

{فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177)} {فَإِذَا نَزَلَ} الفاء تعود على العذاب، أي: إذا نزل العذاب بساحتهم، والساحة ساحة القوم أي: فناءهم، وهو ما قرب من بيوتهم وأرضهم، وهذا يعبر عنه بالتهديد والوعيد، فيقال: نزل العدو بساحتهم، كما في الحديث الصحيح في قصة خيبر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أقبل عليهم جعلوا يركضون إلى مخابئهم يقولون: جاء محمد والخميس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين"

(1)

. فهنا يقول الله عز وجل: {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} أي: حل العذاب بهم، وبساحتهم أي بفنائهم، وهذه الكلمة يقولها العرب للتهديد، قال المؤلف رحمه الله[قال الفراء: العرب تكتفي بذكر الساحة عن القوم]، (الفراء أحد علماء اللغة العربية وهو حجة فيما يقول).

فكأنه يقول: تقدير الآية: فإذا نزل بهم، ولكن لا حاجة إلى أن نقول هذا القول؛ لأنه من المعروف أن العدو إذا نزل في القوم

(1)

أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب ما يحقن بالأذان من الدماء (610) ومسلم، في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة خيبر (1365)(120).

ص: 363

ليس ينزل في دورهم من أول وهلة، ولكنه ينزل بساحتهم ومنازلهم، ثم يهجم عليهم ويغير عليهم، وفي هذا استعارة -كما يقول البلاغيون- حيث شبه العذاب بعدو ينزل بهم يعني بساحتهم، ثم حذف المشبه به ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو النزول بالساحة، ومثل هذه الاستعارة يسمونها استعارة مكنية؛ لأنه حذف فيها المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه.

{فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177)} قال المؤلف رحمه الله: في {فَسَاءَ} [بئس صباحًا، {صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177)}] وذلك لأن ساء من أفعال الذم، وأفعال الذم تحتاج إلى شيئين:

فاعل، وتمييز، فقدر المؤلف التمييز بقوله [صباحًا]، وأما الفاعل فهو في الآية، وهو قوله:{صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177)} أي: بئس صباح المنذرين صباحًا، أو ساء صباح المنذرين صباحًا، فالمؤلف قدّر التمييز، ولكن هل هذا التقدير لازم؟ الصحيح أنه ليس بلازم، وأن الفاعل يسد مسده، كما في هذه الآية وفي كثير من الآيات أيضًا مثل:{نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)} . [ص: 11] ولم يقل: نعم العبد عبدًا.

{فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177)} : المنذرين اسم مفعول أي ساء صباح القوم الذين لا حجة لهم، لأنهم أُنذروا وقامت عليهم الحجة فليس لهم عذر. قال المؤلف رحمه الله:[فيه إقامة الظاهر مقام المضمر]. لأن مقتضى السياق أن يقول: فإذا نزل بساحتهم فساء صباحهم، لكنه قال:{فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177)} فأقام الظاهر مقام المضمر.

ص: 364

وإقامة الظاهر مقام المضمر لابد لها من فائدة: إما لفظية، وإما معنوية، وإما لفظية معنوية، وهنا إقامة الظاهر مقام المضمر له فائدة لفظية ومعنوية، فاللفظية هي: مراعاة فواصل الآيات. لأن الله تعالى يعبر بالكلمة والظاهر خلاف التعبير بها من أجل مراعاة الفواصل. {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)} [طه: 70] ومن المعلوم أن موسى أفضل من هارون، وهو يقدم عليه في كتاب الله، لكن في هذه الآية قدم هارون على موسى مراعاة للفواصل؛ لأن سورة طه فواصلها غالبها بالألف. وهنا نقول:(فساء صباحهم) لم تنسجم الفاصلة مع التي قبلها والتي بعدها، فقال:{فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177)} وهذه فائدة لفظية.

أما المعنوية فهي التعميم وانطباق الوصف عليهم وإقامة الحجة على هؤلاء الذين نزل العذاب بساحتهم، وهي أنهم قد أنذروا ولم يكن لهم عذر، واستحقوا العذاب بعدل الله عز وجل {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177)} .

والإنذار يقول العلماء: هو: الإعلام المقرون بالتخويف. والبشارة هي: الإعلام المقرون بما يفرح ويسر. فالبشارة بالسار، والإنذار بخلافه.

إذًا {الْمُنْذَرِينَ} الذين أنذروا بإقامة الحجة عليهم أي: أعلموا بما يخوفهم إذا خالفوا أمر الله.

قال: {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179)} كرر تأكيدًا لتهديدهم، وتسلية لرسولَ الله صلى الله عليه وسلم، والآية التي قبلها يقول:{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175)} وهنا قال {وَتَوَلَّ

ص: 365

عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179)} فلم تختلف عنها إلا بحرف العطف الأول (فتول) والثاني و (تول)، والأولى قال:{أَبْصِرْهُمْ} والثانية (وأبصر)، فأطلق وإلا فهي هي، والفائدة من التكرار هو تكرار إنذارهم وذلك بتهديدهم، وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه كلما كرر الكلام ازداد توكيدًا.

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)} سبحان: اسم مصدر سبح. وهي منصوبة على أنها مفعول مطلق لفعل محذوف وجوبًا، ولهذا لا يجمع بين سبحان وسبح، ما يقال: سبح سبحان، و {سُبْحَانَ رَبِّكَ} أي تنزيهًا له، وقد تقدم ماذا ينزه الله عنه، وقوله:{رَبِّكَ} أضاف الربوبية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيكون المراد بها ربوبية خاصة؛ لأن الربوبية تنقسم إلى قسمين: عامة لجميع الخلق وهذه ربوبية السلطة والتدبير، وخاصة وهي ربوبية التربية والعناية، وقد اجتمع النوعان في قوله تعالى عن سحرة فرعون قالوا {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48)} [الشعراء: 47، 48] فالأولى عامة {بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47)} ، والثانية خاصة {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48)} ، ولهذا صار من مقتضى هذه الربوبية أن الله تعالى قال لهما:{لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} [طه: 46] قال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ} والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أي تنزيهًا لربك الذي شملك برعايته وعنايته ثم قال: {رَبِّ الْعِزَّةِ} أي الغلبة، ورب هنا بمعنى صاحب، وليست بمعنى خالق، وهي في القرآن تأتي بمعنى خالق ومالك ومدبر إلا في هذا الموضع فالمراد بها صاحب فقط، ولا يمكن أن تكون بمعنى خالق؛ لأن العزة صفة من صفات الله

ص: 366

-عز وجل، وصفات الله عز وجل غير مخلوقة فيتعين أن يكون المراد بالرب في قوله:{رَبِّ الْعِزَّةِ} صاحب العزة، وليس خالق، لأن صفات الرب غير مخلوقة وقوله:{رَبِّ الْعِزَّةِ} أضاف الرب هنا إلى العزة دون غيرهما من صفاته؛ لأن المقام يقتضي ذلك، فإن المقام الآن في ذكر مآل النبي صلى الله عليه وسلم ومآل المكذبين له، وأن مآله أن ينصره الله وأن تكون الغلبة له، وأن يكون الذل والخذلان لأعدائه، فالمقام هنا يقتضي الصفة التي تكون بها الغلبة وهي العزة، قال الله عز وجل في سورة المنافقين:{يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8] وهذه حقيقة يخرج الأعز الأذل، لكن من الأعز {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] وأما المنافقون فلا عزة لهم، وعلى هذا فنقول: إن الله ذكر هنا صفة العزة دون غيرها؛ لأن المقام يقتضي ذلك، حيث إنه في سياق الغلبة للرسول صلى الله عليه وسلم والذل لأعدائه، ومن أسماء الله تعالى: العزيز، وما أكثر وروده في الكتاب العزيز، قال العلماء وللعزة ثلاثة معانٍ:

الأول: عزة الغلبة.

الثاني: عزة القدر.

الثالث: عزة الامتناع.

فعزة الغلبة معناها: أن الله تعالى غالب لكل شيء. وعزة القدر أن الله تعالى فوق كل شيء قدرًا. وعزة الامتناع أن الله تعالى ممتنع أن يناله أحد بسوء. ومن الثالث قولهم: أرض عزاز يعني صلبة قوية ما تؤثر فيها المعاول.

ص: 367

{عَمَّا يَصِفُونَ (180)} يجوز في (ما) أن تكون مصدرية ويكون تقدير الكلام: سبحان ربك رب العزة عن وصفهم.

ويجوز أن تكون (ما) موصولة، ويكون العائد محذوفًا، والتقدير: عما يصفونه به. وقول المؤلف: [بأن له ولدًا] هذا كالمثال لما يصفون الله به مما ينزه عنه، وإلا فهم يقولون: إن له ولدًا، وله زوجة، وله شريكًا، وله معينًا وهكذا، فكل وصف لا يليق بالله فإن الله عز وجل منزه عنه، وإن وصفه به هؤلاء الأفاكون الكذابون.

{وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181)} {وَسَلَامٌ} مبتدأ، و {عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181)} خبره، والسلام هنا بمعنى التسليم، فهو اسم مصدر سلم مثل: كلام بمعنى التكليم ومعنى السلام عليهم: أن ما قالوه في ذات الله وفي صفات الله سالم من كل نقص. فيكون الله تعالى قد سبح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسول، ثم سلم على الرسل -عليهم الصلاة والسلام- لسلامة ما قالوه من نقص وعيب، فليس فيه كذب، وليس فيه سوء، ولهذا قال المؤلف رحمه الله:[{وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181)} المبلغين عن الله التوحيد والشرائع].

ولما ذكر التنزيه فيما وصف به نفسه وفيما وصفته به رسله -عليهم الصلاة والسلام- ذكر بعد ذلك الحمد الذي هو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم، فيكون في الآيات جمع بين التنزيه عن صفات النقص وبين إثبات صفات الكمال، وأتى بإثبات صفات الكمال بعد التنزيه؛ لتكون التحلية بعد التخلية،

ص: 368

يعني التزين بعد إزالة الأذى.

{وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} الحمد: وصف المحمود بالكمال المحبة والتعظيم، وكمال الله سبحانه وتعالى يدور على أمرين: كمال ذاتي، وكمال فعلي:

أما الكمال الذاتي فهو سبحانه وتعالى كامل في ذاته المتصفة بكل صفة كمال.

والكمال الفعلي أن الله تعالى كامل في أفعاله، فله الفضل على عباده بجلب ما ينفعهم ودفع ما يضرهم، ولهذا شرع للإنسان إذا انتهى من الأكل والشرب أن يحمد الله سبحانه وتعالى على ما رزقه من الطعام والشراب، وإن شئت فقل: إنك تحمد الله الذي لا يحتاج إلى ما تحتاج إليه من الأكل والشرب.

{رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} أي: خالقهم ومالكهم ومدبر أمورهم.

والعالم كل من سوى الله، وسموا عالمًا؛ لأنهم علم على خالقهم عز وجل، ففي كل شيء من مخلوقات الله آية تدل على وحدانيته وكماله.

{وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} قال المؤلف رحمه الله: [على نصرهم -أي نصر الرسل- وهلاك الكافرين] ولو أن المؤلف جعلها مطلقة {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} على كل شيء حتى على ما يقدره أحيانًا من غلبة أعدائه على أوليائه فإنه يحمد على ذلك، لما يترتب عليه من المصالح العظيمة كما في غزوة أحد التي ذكر الله تعالى فيها من الحكم أشياء كثيرة، ذكر منها جزءًا كبيرًا ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد.

ص: 369

والفائدة من قوله: {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} بعد قوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)} أن يثبت لنفسه صفات الكمال بعد أن نفى عن نفسه صفات النقص، ليجمع فيما وصفه به نفسه بين النفي والإثبات.

الفوائد:

1 -

من الفوائد أن الله عز وجل كتب لعباده المرسلين النصر لقوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا} ، وكلمة الله عز وجل الكونية لا تتبدل.

2 -

ومن فوائد هذه الآيات الكريمة: تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وتثبيته على ما كان عليه من الرسالة.

3 -

ومن فوائدها: تهديد أعداء الرسل وأنهم مخذولون، لأنه إذا كتب النصر للرسول فسيكون الخذلان لأعدائهم.

4 -

ومنها: أن نصر الرسل يكون من الله وبما يسره عز وجل من مخلوقاته وآياته، ولهذا قال:{لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172)} ولم يبين من الناصر ليكون هذا أشمل، قال الله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)} [الأنفال: 62]

5 -

ومنها: أن الغلبة لجنود الله الذين قاموا بنصر شريعته والذود عنها، لقوله:{وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} .

6 -

ومن فوائدها: تثبيت من دعا إلى الله عز وجل من أتباع الرسل -عليهم الصلاة والسلام- بأن لهم الغلبة، كما قال تعالى:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8].

فإن قال قائل: كيف تجمع بين هذه الآية وبين ما حصل

ص: 370

لبعض الرسل وبعض أتباعهم مما ينافي ظاهر الآية؟ سبق لنا الجواب عليه من عدة أوجه فلتكن معلومة.

7 -

في قوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ} تهديد هؤلاء المكذبين للرسول عليه الصلاة والسلام وأن طغيانهم لن يدوم لقوله: {حَتَّى حِينٍ (174)} فسينتهي هذا الطغيان، إما على يد الرسول عليه الصلاة والسلام حين يؤمر بالقتال، وإما بالموت بتقدير الله عز وجل، فهم لابد أن ينتهي أمرهم، ولا يمكن أن يستمر طغيانهم.

8 -

ومن فوائدها: تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم حيث أخبر أن أذاهم سينتهي أمره بعد حين.

9 -

ومنها: تهديد هؤلاء الأعداء الذين بلغوا من الطغيان والعدوان على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغوا.

10 -

ومن فوائد هذه الآيات: تحقيق هلاكهم وزوالهم، لقوله:{وَأَبْصِرْهُمْ} يعني إذا نزل بهم العذاب فسوف تبصر وتشاهد بعينك.

11 -

ومنها: إعادة التهديد مرة ثانية بأسلوب آخر بقوله: {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175)} .

12 -

ومن فوائدها: تأكيد المعنى بالعبارات المختلفة، ليكون ذلك أبلغ، وليترقب هؤلاء المهددون العذاب من كل وجه، لقوله:{فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175)} .

13 -

ومن فوائد الآيات الكريمة: بيان سفه هؤلاء المكذبين وطغيانهم، حيث كانوا يستعجلون العذاب.

ص: 371

ووجه هذا أنهم لو كانوا عقلاء لكانوا يخشون العذاب ولا يستعجلونه، وأنهم لو كان عندهم نوع من الاعتدال ما صاروا يتحدون الرسل فيقولون: هاتوا العذاب إن كنتم صادقين. فهم عندهم سفه، وعندهم مبالغة بالطغيان والعدوان، قال الله عز وجل:{وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)} [الأنفال: 32] وهذا يدل على سفه قريش، وأنهم من أبلغ ما يكون في السفه، وأنهم لو كانوا علماء راشدين لقالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليك. فهذا هو الصواب، أما فأمطر علينا حجارة من السماء. فهذا من أسفه ما يقوله البشر.

14 -

ومنها: أن الله سبحانه وتعالى يتحدث عن نفسه في مقام الوعيد بصيغة العظمة، إرهابًا وإزعاجًا لهؤلاء المتوعدين، لقوله:{أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176)} ولم يقل: (أفبالعذاب)، ولهذا لما جاء العذاب على سبيل الخبر قال:

{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)} [الحجر: 49، 50] ولم يقل: وأن عذابنا.

15 -

ومن فوائد الآية الكريمة أنه إذا نزل العذاب بقوم فلن يفلتهم، لقوله:{فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177)} .

16 -

ومن فوائدها: أنهم لو آمنوا في هذا الوقت فلن ينفعهم، لأنه لو نفعهم الإيمان لم تصدق عليهم هذه الجملة صدقًا كاملًا وهي قوله:{فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177)} لأنه لو نفعهم الإيمان لزال عنهم هذا السوء، ولكن الإيمان لن ينفعهم، وهذه سنة الله

ص: 372

-عز وجل في عباده إذا نزل بهم العذاب، فآمنوا، أن لا ينفعهم إيمانهم، قال الله تعالى:{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)} [غافر: 84، 85] وقال فرعون لما أدركه الغرق: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)} [يونس: 90] فقيل له: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)} [يونس: 91] يعني لن ينفعك، وقال الله تعالى في سورة النساء:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء: 18] وكل هذا يوجب للإنسان العاقل أن يبادر بالتوبة وألا يتأخر وألا يهمل؛ لأنه لا يدري متى يفاجئه الموت، وإذا نزل به الموت فإنه لن تنفعه التوبة، فلابد أن تكون التوبة في وقت تقبل فيه، ويستثنى من هذا قرية واحدة آمنت بعد نزول العذاب فيها ونفعها إيمانها وهم قوم يونس عليه السلام، والدليل على أنه نفعها إيمانها:{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)} [يونس: 98] والحكمة أن هؤلاء نفعهم إيمانهم بعد نزول العذاب بهم؛ لأن نبيهم عليه السلام خرج مغاضبًا قبل أن يؤذن له بالخروج فكان هذا عذرًا لهم.

17 -

ومن فوائد هذه الآيات: أن الله سبحانه وتعالى لن يهلك قومًا حتى يقيم عليهم الحجة بالإنذار {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} ، وهذا موجود في القرآن، قال تعالى: {أُخْرَى وَمَا كُنَّا

ص: 373

مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء: 15] وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115] والصحيح أن هذا عام، في التوحيد وما دونه، فهو شامل لفروع الإسلام كالصلاة والزكاة والطهارة وما إلى ذلك، فإن الإنسان لا يلزمه شيء منها إلا بعد قيام الحجة وبلوغ الرسالة، ولهذا كان القول الراجح أن من عاش في بادية بعيدًا عن الناس، ولم يصم، ولم يصل، ولم يزك، وهو جاهل، فإنه لا قضاء عليه، ولو بقي سنوات، والدليل على هذا نصوص كثيرة من السنة تدل على أن من كان جاهلًا نشأ في بادية بعيدة لا يدري عن الشرع فإنه لا قضاء عليه، فمثلًا الرجل الذي كان لا يطمئن في صلاته، بقي على هذا مدة الله أعلم بها، لا يحسن إلا هذا: إلا صلاة لا يطمئن فيها، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة ما مضى من صلاته، إنما أمره بإعادة صلاة الوقت الحاضر

(1)

لأن مطالبته بها في هذا الوقت قائمة، فلهذا أمره أن يعيد حتى تكون صلاته صحيحة، أما ما قبل فلم يأمره بالإعادة، ولم يأمر المرأة التي قالت: إنها تحيض حيضة كبيرة شديدة تمنع من الصلاة، لم يأمرها أن تعيد الصلاة مع أنها مستحاضة

(2)

، والمستحاضة تصلي، والأمثلة على هذا كثيرة. ولا فرق بين التوحيد وما دونه، فلو فرضنا: أن رجلًا مسلمًا كان

(1)

أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم (757) ومسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة

(397).

(2)

أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب غسل الدم (228) ومسلم، كتاب الحيض، باب المستحاضة وغسلها وصلاتها (333).

ص: 374

نشأ في بلد بعيد يعبد هذا القبر، ولا يدري أنه كفر، فإنه لا يرمى بالكفر؛ لأنه مسلم ارتكب هذا خطأ ولم يتعمد بقلبه، فليس عليه شيء، كما أن من ارتكب محظورًا: شركًا فما دونه متأولًا، ولم يجد من يفتح عليه، فإنه لا يكون كافرًا؛ لأنه لابد من القصد، ومما ورد الرجل الذي ضاعت ناقته في فلاة من الأرض، وطلبها ولم يجدها، وأيس منها، واضطجع في ظل شجرة ينتظر الموت، فبينما هو كذلك إذا بخطام ناقته متعلقًا بالشجرة، فأخذ بخطامها وقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك

(1)

، فجعل نفسه ربًّا، وجعل رب العالمين عبدًا، وهذه كلمة كفر، ولا شك في هذا، لكن هذا الرجل أخطأ من شدة الفرح، ولم يقصد الكلام، فلم يكن كافرًا لعدم قصده الكفر، وكذلك الرجل الذي كان مسرفًا على نفسه وقال لأهله: إذا مت فأحرقوني وذروني في اليم، ظنًّا منه أنه إذا فعل ذلك نجا من عذاب الله، ولكن الله قال له كن: فكان، فاجتمع فسأله عز وجل: لم فعلت هذا؟ قال: خوفًا من عذابك يا رب. قال له: خوفك من عذابي أنجاك من عذابي

(2)

، فأنجاه الله من العذاب، مع أن هذا كان شاكًّا في قدرة الله، لكن ليس عن قصد بل متأولًا، فلم يكن كافرًا، ومثل هذه المسائل لا يجوز الإنسان أن يتسرع فيها. -أعني مسألة التكفير والتفسيق أيضًا-، لأن بعض الأخوة يسارع في التكفير، ويلاحظ المقالة دون القائل، ويلاحظ الفعل دون الفاعل. فإذا كان هذا القول كفرًا، قال: من قال به فهو

(1)

أخرجه مسلم، كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها (2747).

(2)

أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل (3452).

ص: 375

كافر مطلقًا، وإذا كان هذا الفعل كفرًا، قال: من فعله فهو كافر مطلقًا، ولم ينظر إلى الموانع، لأن هذا القول مثلًا: إذا كان مكفرًا كان سببًا للكفر، لا شك، وهذا الفعل إذا كان مكفرًا كان سببًا للكفر، لكن هل الأسباب يعتريها موانع أو لا؟ قد يكون هناك مانع في هذا الشخص المعين يمنع من الحكم بكفره، فمنه الجهل والإكراه والنسيان والغلبة على النفس بحيث لا يتمكن، ولهذا لو أن أحدًا سها وقال كلمة الكفر فلا نقول: إنه يكفر، والنسيان والجهل صنوان في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

إذًا يجب على طالب العلم أن يفرق بين القول والقائل، والفعل والفاعل، فقد يكون القول كفرًا لكن القائل ليس بكافر، وقد يكون الفعل كفرًا، لكن الفاعل ليس بكافر، أرأيت لو أكره رجل أن يسجد لصنم، وقيل: إما أن تسجد وإما تضرب بالسيف. فسجد دفعًا للإكراه لا تقربًا للصنم، أيكفر؟ فلا يكفر؛ لأن الله يقول:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل: 106] يعني اختاره منشرحًا به صدره، فهذا الذي يقطع بكفره، وأما من ليس كذلك، فلا. لهذا يجب علينا أن لا نسارع في التكفير والتفسيق. وبعض الناس لغيرته يسارع في التكفير والتفسيق، ، فاتق الله، واعلم أنك إذا كفرت شخصًا ليس بكافر عاد الكفر عليك، كما ثبت ذلك في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

، أتريد أن تكون

(1)

أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال (6103، 6104) ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان حال إيمان من قال لأخيه =

ص: 376

كافرًا؟ فلا تكفر إلا من قامت الحجة على كفره.

ولا تقوم الحجة على كفره إلا بأمرين:

1 -

ثبوت أن هذا الشيء كفر.

2 -

تحقق شروط الكفر بحق هذا الفاعل أو هذا القائل.

وهذه المسألة أكررها لأهميتها، لأنه يبلغني أن قومًا من الناس لمجرد ما يقال إن فلانًا فعل كذا، يقول: أعوذ بالله، هذا كافر، ونبرأ إلى الله منه، وهذا غلط، فقتل النفس من كبائر الذنوب، ولما قتل أسامة بن زيد رضي الله عنه الرجل الذي قال: لا إله إلا الله متأولًا، ما قتله الرسول عليه الصلاة والسلام، وغاية ما هنالك: أنه قال: "أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله"؟ فقال أسامة: "يا رسول الله إنما قالها تعوذًا"

(1)

والقصة: أن رجلًا من الكفار قالها فهرب، فلما أدركه أسامة قال: لا إله إلا الله، فقتله أسامة، ظنًّا منه أنه قالها تعوذًا، يعني خوفًا من القتل. والقرينة قوية جدًّا، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد منا أن نحكم بما نظن، بل يريد أن نحكم بالظاهر، إنما أقضي بنحو مما أسمع. قال: أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟ قال: يا رسول الله، إنما قالها تعوذًا من القتل، قال:"أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟ " قال: إنما قالها تعوذًا، قال:"أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟ " يقول: فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت بعد. فالحاصل أنه

= المسلم: يا كافر (60)

(1)

أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أدن قال: لا إله إلا الله (96).

ص: 377

يجب علينا أن نرفق بأنفسنا وبالناس، وأن لا نكفر أحدًا حتى يتبين لنا أن هذا الشيء كفر، وأن هذا الذي قاله أو فعله ينطبق عليه شروط التكفير حتى لا نبؤ نحن بالكفر أو الفسق، والحمد لله الحكم إلى الله، فإذا كان الله لم يكفر هذا الشخص فلماذا نكفره؟ وإذا كفرنا من لم يكفره الله، فكأنما حرمنا ما أباحه الله، أو أبحنا ما حرمه الله، فعلينا أن نتق الله، والأصل في المسلم الإسلام، فما دام يدين بالإسلام، لكن يفعل خصلة من الكفر، أو يقول قولًا هو كفر وهو جاهل، لم ينشأ في بلد استتب فيه الإسلام، فكيف نقول إن هذا كافر؟ رجل بدوي ناشئ في أرض بعيدة عن العلوم الشرعية، لكن مسكين، كل صباح ينصب حجرًا ويسجد له وهو لا يدري فهل نقول هذا كافر؟ وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ولهذا نص العلماء رحمهم الله على أنه لو أن رجلًا جحد وجوب الصلاة، لكان كافرًا، لكن قالوا لو جحد وجوب الصلاة وهو ناشئ في بلد بعيد عن العلم الشرعي أو كان حديث عهد بالإسلام لم يكن كافرًا، لأنه جاهل.

إذًا قوله: {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177)} يدل على أنه لا يمكن أن يعذب أحد إلا بعد إبلاغه. وهل يكفي بلوغ الحجة أو لابد من فهم الحجة.

لابد مغِ فهم الحجة. ولهذا قال الله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)} [الشعراء: 198، 199] لأنهم لا يفهمونه، وإذا لم يؤمنوا به لعدم فهمهم فهم معذورون.

ص: 378

وقال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] أي: بلغتهم {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} ، فلابد من بيان الحجة. فلو قلت لإنسان أعجمي: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؟ وهو لا يدري معناها. فلا تقوم عليه الحجة، ولو قلت له: يا فلان أطلقت امرأتك؟ فقال: نعم. قلت: ثلاثًا قال: نعم، وأربعًا وخمسًا؟ وفهم أن أطلقت امرأتك جعلتها طليقة تروح وتجي لأنه أعجمي، لأنه لا يفهم معناها فلا تطلق. فهذه المسائل مهمة ينبغي للإنسان أن يعتني بها، وألا يوقع نفسه في هلكة، ويوقع غيره في هلكة على غير وجه شرعي، ويوالي ويعادي على وجه غير شرعي، فهذا شرع فمن حكم الله بكفره كفّرناه، ومن حكم بفسقه فسّقناه، ومن لم يحكم بكفره لم نكفره، ومن لم يحكم بفسقه لم نفسقه

(1)

. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(1)

* انظر الفتوى رقم 224 ص/ 130 ج/ 2 من مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى.

ص: 379