الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسير سورة الفاتحة
سورة الفاتحة سمِّيت بذلك؛ لأنه افتتح بها القرآن الكريم؛ وقد قيل: إنها أول سورة نزلت كاملة ..
هذه السورة قال العلماء: إنها تشتمل على مجمل معاني القرآن في التوحيد، والأحكام، والجزاء، وطرق بني آدم، وغير ذلك؛ ولذلك سمِّيت "أم القرآن"
(1)
؛ والمرجع للشيء يسمى "أُمّاً".
وهذه السورة لها مميزات تتميّز بها عن غيرها؛ منها أنها ركن في الصلوات التي هي أفضل أركان الإسلام بعد الشهادتين: فلا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب؛ ومنها أنها رقية: إذا قرئ بها على المريض شُفي بإذن الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم (قال للذي قرأ على اللديغ، فبرئ:"وما يدريك أنها رقية"
(2)
..
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 61، كتاب الأذان، باب 104: القراءة في الفجر، حديث رقم 772؛ وأخرجه مسلم في صحيحه ص 740 في كتاب الصلاة، باب 11: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، حديث رقم 878 [38] 395؛ وأخرجه الترمذي في جامعه ص 1968، كتاب تفسير القرآن، باب 15: ومن سورة الحجر، حديث رقم 3124، ولفظه:"الحمد لله أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني".
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 177، كتاب الإجارة، باب 16: ما يعطى في الرقية على أحياء العرب بفاتحة الكتاب، حديث رقم 2276؛ وأخرجه مسلم في صحيحه ص 1068، كتاب السلام، باب 23: جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار، حديث رقم 5733 [65]2201.
وقد ابتدع بعض الناس اليوم في هذه السورة بدعة، فصاروا يختمون بها الدعاء، ويبتدئون بها الخُطب ويقرؤونها عند بعض المناسبات.، وهذا غلط: تجده مثلاً إذا دعا، ثم دعا قال لمن حوله:"الفاتحة"، يعني اقرؤوا الفاتحة؛ وبعض الناس يبتدئ بها في خطبه، أو في أحواله. وهذا أيضاً غلط؛ لأن العبادات مبناها على التوقيف، والاتِّباع ..
القرآن
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم)
التفسير:.
قوله تعالى: {بسم الله الرحمن الرحيم} : الجار والمجرور متعلق بمحذوف؛ وهذا المحذوف يقَدَّر فعلاً متأخراً مناسباً؛ فإذا قلت: "باسم الله" وأنت تريد أن تأكل؛ تقدر الفعل: "باسم الله آكل" ..
قلنا: إنه يجب أن يكون متعلقاً بمحذوف؛ لأن الجار والمجرور معمولان؛ ولا بد لكل معمول من عامل ..
وقدرناه متأخراً لفائدتين:
الفائدة الأولى: التبرك بتقديم اسم الله عز وجل.
والفائدة الثانية: الحصر؛ لأن تأخير العامل يفيد الحصر، كأنك تقول: لا آكل باسم أحد متبركاً به، ومستعيناً به، إلا باسم الله عز وجل.
وقدرناه فعلاً؛ لأن الأصل في العمل الأفعال. وهذه يعرفها أهل النحو؛ ولهذا لا تعمل الأسماء إلا بشروط
وقدرناه مناسباً؛ لأنه أدلّ على المقصود؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من لم يذبح فليذبح باسم الله"
(1)
. أو قال صلى الله عليه وسلم "على اسم الله"
(2)
: فخص الفعل ..
و {الله} : اسم الله رب العالمين لا يسمى به غيره؛ وهو أصل الأسماء؛ ولهذا تأتي الأسماء تابعة له ..
و {الرحمن} أي ذو الرحمة الواسعة؛ ولهذا جاء على وزن "فَعْلان" الذي يدل على السعة ..
و {الرحيم} أي الموصل للرحمة من يشاء من عباده؛ ولهذا جاءت على وزن "فعيل" الدال على وقوع الفعل
فهنا رحمة هي صفته. هذه دل عليها {الرحمن} ؛ ورحمة هي فعله. أي إيصال الرحمة إلى المرحوم. دلّ عليها {الرحيم} ..
و {الرحمن الرحيم} : اسمان من أسماء الله يدلان على الذات، وعلى صفة الرحمة، وعلى الأثر: أي الحكم الذي تقتضيه هذه الصفة ..
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 77، كتاب العيدين، باب 23: كلام الإمام والناس في خطبة العيد، حديث رقم 985؛ وأخرجه مسلم في صحيحه ص 1027، كتاب الأضاحي، باب 1: وقتها، حديث رقم 5064 [1]1960.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ص 474، كتاب الذبائح والصيد، باب 17: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فليذبح على اسم الله"، حديث رقم 5500؛ وأخرجه مسلم في صحيحه ص 1027، كتاب الأضاحي، باب 1: وقتها، حديث رقم 5064 [2]1960.
والرحمة التي أثبتها الله لنفسه رحمة حقيقية دلّ عليها السمع، والعقل؛ أما السمع فهو ما جاء في الكتاب، والسنّة من إثبات الرحمة لله. وهو كثير جداً؛ وأما العقل: فكل ما حصل من نعمة، أو اندفع من نقمة فهو من آثار رحمة الله ..
هذا وقد أنكر قوم وصف الله تعالى بالرحمة الحقيقية، وحرّفوها إلى الإنعام، أو إرادة الإنعام، زعماً منهم أن العقل يحيل وصف الله بذلك؛ قالوا:"لأن الرحمة انعطاف، ولين، وخضوع، ورقة؛ وهذا لا يليق بالله عز وجل"؛ والرد عليهم من وجهين:.
الوجه الأول: منع أن يكون في الرحمة خضوع، وانكسار، ورقة؛ لأننا نجد من الملوك الأقوياء رحمة دون أن يكون منهم خضوع، ورقة، وانكسار ..
الوجه الثاني: أنه لو كان هذا من لوازم الرحمة، ومقتضياتها فإنما هي رحمة المخلوق؛ أما رحمة الخالق سبحانه وتعالى فهي تليق بعظمته، وجلاله، وسلطانه؛ ولا تقتضي نقصاً بوجه من الوجوه ..
ثم نقول: إن العقل يدل على ثبوت الرحمة الحقيقية لله عز وجل، فإن ما نشاهده في المخلوقات من الرحمة بَيْنها يدل على رحمة الله عز وجل؛ ولأن الرحمة كمال؛ والله أحق بالكمال؛ ثم إن ما نشاهده من الرحمة التي يختص الله بها. كإنزال المطر، وإزالة الجدب، وما أشبه ذلك. يدل على رحمة الله ..
والعجب أن منكري وصف الله بالرحمة الحقيقية بحجة أن العقل لا يدل عليها، أو أنه يحيلها، قد أثبتوا لله إرادة حقيقية
بحجة عقلية أخفى من الحجة العقلية على رحمة الله، حيث قالوا: إن تخصيص بعض المخلوقات بما تتميز به يدل عقلاً على الإرادة؛ ولا شك أن هذا صحيح؛ ولكنه بالنسبة لدلالة آثار الرحمة عليها أخفى بكثير؛ لأنه لا يتفطن له إلا أهل النباهة؛ وأما آثار الرحمة فيعرفه حتى العوام، فإنك لو سألت عامياً صباح ليلة المطر:"بِمَ مطرنا؟ "، لقال:"بفضل الله، ورحمته" ..
مسألة:
هل البسملة آية من الفاتحة؛ أو لا؟
في هذا خلاف بين العلماء؛ فمنهم من يقول: إنها آية من الفاتحة، ويقرأ بها جهراً في الصلاة الجهرية، ويرى أنها لا تصح إلا بقراءة البسملة؛ لأنها من الفاتحة؛ ومنهم من يقول: إنها ليست من الفاتحة؛ ولكنها آية مستقلة من كتاب الله؛ وهذا القول هو الحق؛ ودليل هذا: النص، وسياق السورة ..
أما النص: فقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: إذا قال: {الحمد لله رب العالمين} قال الله تعالى: حمدني عبدي؛ وإذا قال: {الرحمن الرحيم} قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي؛ وإذا قال: {مالك يوم الدين} قال الله تعالى: مجّدني عبدي؛ وإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} قال الله تعالى: هذا بيني وبين عبدي نصفين؛ وإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم}
…
إلخ، قال الله تعالى: هذا لعبدي؛ ولعبدي ما سأل"
(1)
؛ وهذا
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه ص 740، كتاب الصلاة، باب 11: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، حديث رقم 878 [38]395.
كالنص على أن البسملة ليست من الفاتحة؛ وفي الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "صلَّيت خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر؛ فكانوا لا يذكرون {بسم الله الرحمن الرحيم} في أول قراءة، ولا في آخرها"
(1)
: والمراد لا يجهرون؛ والتمييز بينها وبين الفاتحة في الجهر وعدمه يدل على أنها ليست منها ..
أما من جهة السياق من حيث المعنى: فالفاتحة سبع آيات بالاتفاق؛ وإذا أردت أن توزع سبع الآيات على موضوع السورة وجدت أن نصفها هو قوله تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} وهي الآية التي قال الله فيها: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين"؛ لأن {الحمد لله رب العالمين} : واحدة؛ {الرحمن الرحيم} : الثانية؛ {مالك يوم الدين} : الثالثة؛ وكلها حق لله عز وجل {إياك نعبد وإياك نستعين} : الرابعة. يعني الوسَط؛ وهي قسمان: قسم منها حق لله؛ وقسم حق للعبد؛ {اهدنا الصراط المستقيم} للعبد؛ {صراط الذين أنعمت عليهم} للعبد؛ {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} للعبد ..
فتكون ثلاث آيات لله عز وجل وهي الثلاث الأولى؛ وثلاث آيات للعبد. وهي الثلاث الأخيرة؛ وواحدة بين العبد وربِّه. وهي الرابعة الوسطى ..
ثم من جهة السياق من حيث اللفظ، فإذا قلنا: إن البسملة آية من الفاتحة لزم أن تكون الآية السابعة طويلة على قدر آيتين؛ ومن المعلوم أن تقارب الآية في الطول والقصر هو الأصل ..
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه ص 741، كتاب الصلاة، باب 13، حجة من قال: لا يجهر بالبسملة، حديث رقم 892 [52]399.
[53]
أخرجه ابن ماجه في سننه ص 2703 كتاب الأدب باب 55 فضل الحامدين حديث رقم 2803 وأخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 499 كتاب الدعاء وقال: هذا حديث صحيح الإسناد وأقره الذهبي وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 2/ 319 حديث رقم 3066.
فالصواب الذي لا شك فيه أن البسملة ليست من الفاتحة. كما أن البسملة ليست من بقية السور ..
القرآن
(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
التفسير:.
قوله تعالى: {الحمد لله رب العالمين} : {الحمد} وصف المحمود بالكمال مع المحبة، والتعظيم؛ الكمال الذاتي، والوصفي، والفعلي؛ فهو كامل في ذاته، وصفاته، وأفعاله؛ ولا بد من قيد وهو "المحبة، والتعظيم"؛ قال أهل العلم: "لأن مجرد وصفه بالكمال بدون محبة، ولا تعظيم: لا يسمى حمداً؛ وإنما يسمى مدحاً"؛ ولهذا يقع من إنسان لا يحب الممدوح؛ لكنه يريد أن ينال منه شيئاً؛ تجد بعض الشعراء يقف أمام الأمراء، ثم يأتي لهم بأوصاف عظيمة لا محبة فيهم؛ ولكن محبة في المال الذي يعطونه، أو خوفاً منهم؛ ولكن حمدنا لربنا عز وجل حمدَ محبةٍ، وتعظيمٍ؛ فلذلك صار لا بد من القيد في الحمد أنه وصف المحمود بالكمال مع المحبة، والتعظيم؛ و "أل" في {الحمد} للاستغراق: أي استغراق جميع المحامد ..
وقوله تعالى: {لله} : اللام للاختصاص، والاستحقاق؛ و "الله" اسم ربنا عز وجل؛ لا يسمى به غيره؛ ومعناه: المألوه. أي المعبود حباً، وتعظيماً ..
وقوله تعالى: {رب العالمين} ؛ "الرب": هو من اجتمع
فيه ثلاثة أوصاف: الخلق، والملك، والتدبير؛ فهو الخالق المالك لكل شيء المدبر لجميع الأمور؛ و {العالمين}: قال العلماء: كل ما سوى الله فهو من العالَم؛ وُصفوا بذلك؛ لأنهم عَلَم على خالقهم سبحانه وتعالى؛ ففي كل شيء من المخلوقات آية تدل على الخالق: على قدرته، وحكمته، ورحمته، وعزته، وغير ذلك من معاني ربوبيته ..
الفوائد:
. 1 من فوائد الآية: إثبات الحمد الكامل لله عز وجل، وذلك من "أل" في قوله تعالى:{الحمد} ؛ لأنها دالة على الاستغراق ..
. 2 ومنها: أن الله تعالى مستحق مختص بالحمد الكامل من جميع الوجوه؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابه ما يسره قال: "الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات"؛ وإذا أصابه خلاف ذلك قال: "الحمد لله على كل حال"[53]
…
3 ومنها: تقديم وصف الله بالألوهية على وصفه بالربوبية؛ وهذا إما لأن "الله" هو الاسم العَلَم الخاص به، والذي تتبعه جميع الأسماء؛ وإما لأن الذين جاءتهم الرسل ينكرون الألوهية فقط ..
. 4 ومنها: عموم ربوبية الله تعالى لجميع العالم؛ لقوله تعالى: (العالمين .. )
القرآن
(الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)
التفسير:.
قوله تعالى: {الرحمن الرحيم} : {الرحمن} صفة للفظ الجلالة؛ و {الرحيم} صفة أخرى؛ و {الرحمن} هو ذو الرحمة الواسعة؛ و {الرحيم} هو ذو الرحمة الواصلة؛ فـ {الرحمن} وصفه؛ و {الرحيم} فعله؛ ولو أنه جيء بـ "الرحمن" وحده، أو بـ "الرحيم" وحده لشمل الوصف، والفعل؛ لكن إذا اقترنا فُسِّر {الرحمن} بالوصف؛ و {الرحيم} بالفعل ..
الفوائد:
. 1 من فوائد الآية: إثبات هذين الاسمين الكريمين. {الرحمن الرحيم} لله عز وجل؛ وإثبات ما تضمناه من الرحمة التي هي الوصف، ومن الرحمة التي هي الفعل ..
. 2 ومنها: أن ربوبية الله عز وجل مبنية على الرحمة الواسعة للخلق الواصلة؛ لأنه تعالى لما قال: {رب العالمين} كأن سائلاً يسأل: "ما نوع هذه الربوبية؟ هل هي ربوبية أخذ، وانتقام؛ أو ربوبية رحمة، وإنعام؟ " قال تعالى: {الرحمن الرحيم} ..
القرآن
(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)
التفسير:
قوله تعالى: {مالك يوم الدين} صفة لـ {الله} ؛ و {يوم
الدين} هو يوم القيامة؛ و {الدين} هنا بمعنى الجزاء؛ يعني أنه سبحانه وتعالى مالك لذلك اليوم الذي يجازى فيه الخلائق؛ فلا مالك غيره في ذلك اليوم؛ و "الدين" تارة يراد به الجزاء، كما في هذه الآية؛ وتارة يراد به العمل، كما في قوله تعالى:{لكم دينكم ولي دين} [الكافرون: 6]، ويقال:"كما تدين تدان"، أي كما تعمل تُجازى ..
وفي قوله تعالى: {مالك} قراءة سبعية: {مَلِك} ، و "الملك" أخص من "المالك" ..
وفي الجمع بين القراءتين فائدة عظيمة؛ وهي أن ملكه جلّ وعلا ملك حقيقي؛ لأن مِن الخلق مَن يكون ملكاً، ولكن ليس بمالك: يسمى ملكاً اسماً وليس له من التدبير شيء؛ ومِن الناس مَن يكون مالكاً، ولا يكون ملكاً: كعامة الناس؛ ولكن الرب عز وجل مالكٌ ملِك ..
الفوائد:
. 1 من فوائد الآية: إثبات ملك الله عز وجل، وملكوته يوم الدين؛ لأن في ذلك اليوم تتلاشى جميع الملكيات، والملوك ..
فإن قال قائل: أليس مالك يوم الدين، والدنيا؟
فالجواب: بلى؛ لكن ظهور ملكوته، وملكه، وسلطانه، إنما يكون في ذلك اليوم؛ لأن الله تعالى ينادي:{لمن الملك اليوم} [غافر: 16] فلا يجيب أحد؛ فيقول تعالى: {لله الواحد القهار} [غافر: 16]؛ في الدنيا يظهر ملوك؛ بل يظهر ملوك يعتقد شعوبهم أنه لا مالك إلا هم؛ فالشيوعيون مثلاً لا يرون أن هناك رباً
للسموات، والأرض؛ يرون أن الحياة: أرحام تدفع، وأرض تبلع؛ وأن ربهم هو رئيسهم ..
. 2 ومن فوائد الآية: إثبات البعث، والجزاء؛ لقوله تعالى:(مالك يوم الدين)
. 3 ومنها: حث الإنسان على أن يعمل لذلك اليوم الذي يُدان فيه العاملون ..
القرآن
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
التفسير:
قوله تعالى: {إياك نعبد} ؛ {إياك} : مفعول به مقدم؛ وعامله: {نعبد} ؛ وقُدِّم على عامله لإفادة الحصر؛ فمعناه: لا نعبد إلا إياك؛ وكان منفصلاً لتعذر الوصل حينئذ؛ و {نعبد} أي نتذلل لك أكمل ذلّ؛ ولهذا تجد المؤمنين يضعون أشرف ما في أجسامهم في موطئ الأقدام ذلاً لله عز وجل: يسجد على التراب؛ تمتلئ جبهته من التراب. كل هذا ذلاً لله؛ ولو أن إنساناً قال: "أنا أعطيك الدنيا كلها واسجد لي" ما وافق المؤمن أبداً؛ لأن هذا الذل لله عز وجل وحده ..
و"العبادة" تتضمن فعل كل ما أمر الله به، وترك كل ما نهى الله عنه؛ لأن من لم يكن كذلك فليس بعابد: لو لم يفعل المأمور به لم يكن عابداً حقاً؛ ولو لم يترك المنهي عنه لم يكن
عابداً حقاً؛ العبد: هو الذي يوافق المعبود في مراده الشرعي؛ فـ "العبادة" تستلزم أن يقوم الإنسان بكل ما أُمر به، وأن يترك كل ما نُهي عنه؛ ولا يمكن أن يكون قيامه هذا بغير معونة الله؛ ولهذا قال تعالى:{وإياك نستعين} أي لا نستعين إلا إياك على العبادة، وغيرها؛ و "الاستعانة" طلب العون؛ والله سبحانه وتعالى يجمع بين العبادة، والاستعانة، أو التوكل في مواطن عدة في القرآن الكريم؛ لأنه لا قيام بالعبادة على الوجه الأكمل إلا بمعونة الله، والتفويض إليه، والتوكل عليه ..
الفوائد:
. 1 من فوائد الآية: إخلاص العبادة لله؛ لقوله تعالى: {إياك نعبد} ؛ وجه الإخلاص: تقديم المعمول ..
. 2 ومنها: إخلاص الاستعانة بالله عز وجل؛ لقوله تعالى: {وإياك نستعين} ، حيث قدم المفعول ..
فإن قال قائل: كيف يقال: إخلاص الاستعانة لله وقد جاء في قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة: 2] إثبات المعونة من غير الله عز وجل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"تعين الرجل في دابته، فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة"؟
(1)
..
فالجواب: أن الاستعانة نوعان: استعانة تفويض؛ بمعنى أنك تعتمد على الله عز وجل، وتتبرأ من حولك، وقوتك؛ وهذا
(1)
أخرجه البخاري ص 232، كتاب الجهاد، باب 72: فضل من حمل متاع صاحبه في السفر حديث رقم 2891؛ وأخرجه مسلم ص 837، كتاب الزكاة، باب 16: بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، حديث رقم 2335 [56] 1009، واللفظ لمسلم.
خاص بالله عز وجل؛ واستعانة بمعنى المشاركة فيما تريد أن تقوم به: فهذه جائزة إذا كان المستعان به حياً قادراً على الإعانة؛ لأنه ليس عبادة؛ ولهذا قال الله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة: 2)
فإن قال قائل: وهل الاستعانة بالمخلوق جائزة في جميع الأحوال؟
فالجواب: لا؛ الاستعانة بالمخلوق إنما تجوز حيث كان المستعان به قادراً عليها؛ وأما إذا لم يكن قادراً فإنه لا يجوز أن تستعين به: كما لو استعان بصاحب قبر فهذا حرام؛ بل شرك أكبر؛ لأن صاحب القبر لا يغني عن نفسه شيئاً؛ فكيف يعينه!!! وكما لو استعان بغائب في أمر لا يقدر عليه، مثل أن يعتقد أن الوليّ الذي في شرق الدنيا يعينه على مهمته في بلده: فهذا أيضاً شرك أكبر؛ لأنه لا يقدر أن يعينه وهو هناك ..
فإن قال قائل: هل يجوز أن يستعين المخلوقَ فيما تجوز استعانته به؟
فالجواب: الأولى أن لا يستعين بأحد إلا عند الحاجة، أو إذا علم أن صاحبه يُسَر بذلك، فيستعين به من أجل إدخال السرور عليه؛ وينبغي لمن طلبت منه الإعانة على غير الإثم والعدوان أن يستجيب لذلك ..
القرآن
(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)
التفسير:
قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} : {الصراط} فيه قراءتان: بالسين: {السراط} ، وبالصاد الخالصة:{الصراط} ؛
والمراد بـ {الصراط} الطريق؛ والمراد بـ "الهداية" هداية الإرشاد، وهداية التوفيق؛ فأنت بقولك:{اهدنا الصراط المستقيم} تسأل الله تعالى علماً نافعاً، وعملاً صالحاً؛ و {المستقيم} أي الذي لا اعوجاج فيه ..
الفوائد:.
1 من فوائد الآية: لجوء الإنسان إلى الله عز وجل بعد استعانته به على العبادة أن يهديه الصراط المستقيم؛ لأنه لا بد في العبادة من إخلاص؛ يدل عليه قوله تعالى: {إياك نعبد} ؛ ومن استعانة يتقوى بها على العبادة؛ يدل عليه قوله تعالى: {وإياك نستعين} ؛ ومن اتباع للشريعة؛ يدل عليه قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} ؛ لأن {الصراط المستقيم} هو الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم
. 2 ومن فوائد الآية: بلاغة القرآن، حيث حذف حرف الجر من {اهدنا}؛ والفائدة من ذلك: لأجل أن تتضمن طلب الهداية: التي هي هداية العلم، وهداية التوفيق؛ لأن الهداية تنقسم إلى قسمين: هداية علم، وإرشاد؛ وهداية توفيق، وعمل؛ فالأولى ليس فيها إلا مجرد الدلالة؛ والله عز وجل قد هدى بهذا المعنى جميع الناس، كما في قوله تعالى:{شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدًى للناس} [البقرة: 185]؛ والثانية فيها التوفيق للهدى، واتباع الشريعة، كما في قوله تعالى:{ذلك الكتاب لا ريب فيه هدًى للمتقين} [البقرة: 2] وهذه قد يحرمها بعض الناس، كما قال تعالى:{وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} [فصلت: 17]: {فهديناهم} أي بيّنّا لهم الحق، ودَلَلْناهم عليه؛ ولكنهم لم يوفقوا ..
3 ومن فوائد الآية: أن الصراط ينقسم إلى قسمين: مستقيم، ومعوج؛ فما كان موافقاً للحق فهو مستقيم، كما قال الله تعالى:{وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه} [الأنعام: 153]؛ وما كان مخالفاً له فهو معوج ..
القرآن
(صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ)
التفسير:.
قوله تعالى: {صراط الذين أنعمت عليهم} عطف بيان لقوله تعالى: {الصراط المستقيم} ؛ والذين أنعم الله عليهم هم المذكورون في قوله تعالى: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً (النساء: 69)
قوله تعالى: {غير المغضوب عليهم} : هم اليهود، وكل من علم بالحق ولم يعمل به ..
قوله تعالى: {ولا الضالين} : هم النصارى قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وكل من عمل بغير الحق جاهلاً به ..
وفي قوله تعالى: {عليهم} قراءتان سبعيتان: إحداهما ضم الهاء؛ والثانية كسرها؛ واعلم أن القراءة التي ليست في المصحف الذي بين أيدي الناس لا تنبغي القراءة بها عند العامة لوجوه ثلاثة:.
الوجه الأول: أن العامة إذا رأوا هذا القرآن العظيم الذي قد ملأ قلوبهم تعظيمه، واحترامه إذا رأوه مرةً كذا، ومرة كذا تنزل منزلته عندهم؛ لأنهم عوام لا يُفرقون ..
الوجه الثاني: أن القارئ يتهم بأنه لا يعرف؛ لأنه قرأ عند العامة بما لا يعرفونه؛ فيبقى هذا القارئ حديث العوام في مجالسهم ..
الوجه الثالث: أنه إذا أحسن العامي الظن بهذا القارئ، وأن عنده علماً بما قرأ، فذهب يقلده، فربما يخطئ، ثم يقرأ القرآن لا على قراءة المصحف، ولا على قراءة التالي الذي قرأها. وهذه مفسدة ..
ولهذا قال عليّ: "حدِّثوا الناس بما يعرفون؛ أتحبون أن يُكذب الله، ورسوله"
(1)
، وقال ابن مسعود:"إنك لا تحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة"
(2)
؛ وعمر بن الخطاب لما سمع هشام بن الحكم يقرأ آية لم يسمعها عمر على الوجه الذي قرأها هشام خاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهشام: "اقرأ"، فلما قرأ قال النبي صلى الله عليه وسلم:"هكذا أنزلت"، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر:"اقرأ"، فلما قرأ قال النبي صلى الله عليه وسلم "هكذا أنزلت"
(3)
؛ لأن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فكان الناس
(1)
أخرجه البخاري ص 14، كتاب العلم، باب 49: من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا، رقم 127.
(2)
أخرجه مسلم ص 675، مقدمة الكتاب، رقم 14.
(3)
أخرجه البخاري ص 189، كتاب الخصومات، باب 4: كلام الخصوم بعضهم في بعض، حديث رقم 2419؛ وأخرجه مسلم ص 805 - 806، كتاب صلاة المسافرين، كتاب فضائل القرآن وما يتعلق به، باب 48: بيان أن القرآن أنزل على سبعة أحرف وبيان معناها، حديث رقم 1899 [270]818.
يقرؤون بها حتى جمعها عثمان رضي الله عنه على حرف واحد حين تنازع الناس في هذه الأحرف، فخاف رضي الله عنه أن يشتد الخلاف، فجمعها في حرف واحد. وهو حرف قريش؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم الذي نزل عليه القرآن بُعث منهم؛ ونُسيَت الأحرف الأخرى؛ فإذا كان عمر رضي الله عنه فعل ما فعل بصحابي، فما بالك بعامي يسمعك تقرأ غير قراءة المصحف المعروف عنده! والحمد لله: ما دام العلماء متفقين على أنه لا يجب أن يقرأ الإنسان بكل قراءة، وأنه لو اقتصر على واحدة من القراءات فلا بأس؛ فدع الفتنة، وأسبابها ..
الفوائد:.
1 من فوائد الآيتين: ذكر التفصيل بعد الإجمال؛ لقوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} : وهذا مجمل؛ (صراط الذين أنعمت عليهم): وهذا مفصل؛ لأن الإجمال، ثم التفصيل فيه فائدة: فإن النفس إذا جاء المجمل تترقب، وتتشوف للتفصيل، والبيان؛ فإذا جاء التفصيل ورد على نفس مستعدة لقبوله متشوفة إليه؛ ثم فيه فائدة ثانية هنا: وهو بيان أن الذين أنعم الله عليهم على الصراط المستقيم ..
. 2 ومنها: إسناد النعمة إلى الله تعالى وحده في هداية الذين أنعم عليهم؛ لأنها فضل محض من الله ..
. 3 ومنها: انقسام الناس إلى ثلاثة أقسام: قسم أنعم الله عليهم؛ وقسم مغضوب عليهم؛ وقسم ضالون؛ وقد سبق بيان هذه الأقسام ..
وأسباب الخروج عن الصراط المستقيم: إما الجهل؛ أو العناد؛ والذين سببُ خروجهم العناد هم المغضوب عليهم. وعلى رأسهم اليهود؛ والآخرون الذين سبب خروجهم الجهل كل من لا يعلم الحق. وعلى رأسهم النصارى؛ وهذا بالنسبة لحالهم قبل البعثة. أعني النصارى؛ أما بعد البعثة فقد علموا الحق، وخالفوه؛ فصاروا هم، واليهود سواءً. كلهم مغضوب عليهم ..
. 4 ومن فوائد الآيتين: بلاغة القرآن، حيث جاء التعبير عن المغضوب عليهم باسم المفعول الدال على أن الغضب عليهم حاصل من الله تعالى، ومن أوليائه ..
. 5 ومنها: أنه يقدم الأشد، فالأشد؛ لأنه تعالى قدم المغضوب عليهم على الضالين؛ لأنهم أشد مخالفة للحق من الضالين؛ فإن المخالف عن علم يصعب رجوعه. بخلاف المخالف عن جهل ..
وعلى كل حال السورة هذه عظيمة؛ ولا يمكن لا لي، ولا لغيري أن يحيط بمعانيها العظيمة؛ لكن هذا قطرة من بحر؛ ومن أراد التوسع في ذلك فعليه بكتاب "مدارج السالكين" لابن القيم رحمه الله ..
القرآن
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة: 208)
التفسير:
{208} قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} : الخطاب للمؤمنين؛ وقد تَقدم أن الله تعالى إذا ابتدأ الحكم بالنداء فهو دليل على العناية به؛ لأن المقصود بالنداء تنبيه المخاطب؛ ولا يتطلب التنبيه إلا ما كان مهماً؛ فعندما أقول: «انتبه» يكون أقل مما لو قلت: «يا فلان انتبه» ؛ ثم إذا كان الخطاب للذين آمنوا فإن في ذلك ثلاث فوائد سبق ذكرها
(1)
.
قوله تعالى: {ادخلوا في السلم كافة} ؛ {السلم} فيها قراءتان: بفتح السين؛ وبكسرها؛ والمراد به الإسلام؛ وهو الاستسلام لله - تعالى - ظاهراً، وباطناً.
فإن قال قائل: كيف يقول: {ادخلوا في السلم} ونحن قد عرفنا من قبل أن الإيمان أكمل من الإسلام؛ لقوله تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} ؟ [الحجرات: 14]، قلنا: إن هذا الأمر مقيد بما بعد قوله: {في السلم} ؛ وهو قوله تعالى: {كافة} ؛ فيكون الأمر هنا منصباً على قوله تعالى: {كافة} ؛ و {كافة} اسم فاعل يطلق على من يكف غيره؛ فتكون التاء فيه للمبالغة، مثل: راوية، ساقية،
(1)
انظر 1/ 337.
علامة
…
وما أشبه ذلك؛ والتاء في هذه الأمثلة للمبالغة؛ فيكون {كافة} بمعنى كافاً؛ والتاء للمبالغة؛ قالوا: ومنه قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس} [سبأ: 28]، أي كافاً لهم عمَّا يضرهم لتخرجهم من الظلمات إلى النور.
وتأتي «كافة» بمعنى جميع، مثل «عامة» ، كقوله صلى الله عليه وسلم:«كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة»
(1)
؛ ووجه ارتباطها بالمعنى الأصلي - الذي هو الكف - أن الجماعة لها شوكة ومنعة تكف بجمعيتها من أرادها بسوء؛ وهنا قال تعالى: {ادخلوا في السلم كافة} هل المراد ادخلوا في السلم جميعه، فتكون {كافة} حالاً من {السلم} ؛ أو ادخلوا أنتم جميعاً في السلم، وتكون {كافة} حالاً من الواو في قوله تعالى:{ادخلوا} ؟ الأقرب: المعنى الأول؛ لأننا لو قلنا بالمعنى الثاني: ادخلوا جميعاً في السلم صار معنى ذلك أن بعض المؤمنين لم يدخل في الإسلام؛ وحينئذ فلا يصح أن يوجه إليه النداء بوصف الإيمان؛ فالمعنى الأول هو الصواب أن {كافة} حال من {السلم} يعني ادخلوا في الإسلام كله؛ أي نفذوا أحكام الإسلام جميعاً، ولا تدعوا شيئاً من شعائره، ولا تفرطوا في شيء منها؛ وهذا مقتضى الإيمان؛ فإن مقتضى الإيمان أن يقوم الإنسان بجميع شرائع الإسلام.
قوله تعالى: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} ؛ نهي بعد أمر؛ لأن اتباع خطوات الشيطان يخالف الدخول في السلم كافة؛ و {خطوات} جمع خُطوة؛ و «الخطوة» في الأصل هي ما بين القدمين عند مدِّهما في المشي.
(1)
سبق تخريجه 1/ 344.
قوله تعالى: {إنه لكم عدو مبين} : الجملة تعليلية مؤكدة بـ «إن» ؛ فتفيد شدة عداوة الشيطان لبني آدم؛ والعدو من يبتغي لك السوء؛ وهو ضد الوليّ؛ و {مبين} أي بيِّن العداوة؛ ويجوز أن تكون بمعنى مظهر للعداوة؛ لأن «أبان» الرباعية تصلح للمعنيين؛ ولا شك أن الشيطان بيِّن العداوة؛ ومظهر لعداوته؛ ألا ترى إلى إبائه السجود لأبينا آدم مع أن الله أمره به في جملة الملائكة.
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: فضل الإيمان؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} ؛ لأن هذا النداء تشريف وتكريم.
2 -
ومنها: أن الإيمان مقتض لامتثال الأمر؛ لأن الله صدَّر الأمر بهذا النداء؛ والحكم لا يقرن بوصف إلا كان لهذا الوصف أثر فيه؛ وهذه الفائدة مهمة؛ ولا شك أن الإيمان يقتضي امتثال أمر الله عز وجل.
3 -
ومنها: وجوب تطبيق الشرع جملة، وتفصيلاً؛ لقوله تعالى:{ادخلوا في السلم كافة} .
4 -
ومنها: أن الإنسان يؤمر بالشيء الذي هو متلبس به باعتبار استمراره عليه، وعدم الإخلال بشيء منه؛ لقوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة} ؛ ومثل هذا قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله} [النساء: 136] يعني: استمروا على ذلك.
5 -
ومنها: تحريم اتباع خطوات الشيطان؛ لقوله تعالى: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} ؛ والمعنى: أن لا نتبع الشيطان في سيره؛ لأن الله بين في آية أخرى أن الشيطان يأمر بالفحشاء،
والمنكر؛ وما كان كذلك فإنه لا يمكن لعاقل أن يتبعه؛ فلا يرضى أحد أن يتبع الفحشاء والمنكر؛ وأيضاً الشيطان لنا عدو، كما قال تعالى:{إن الشيطان لكم عدو} [فاطر: 6]، ثم قال تعالى:{فاتخذوه عدواً} ؛ ولا أحد من العقلاء يتبع عدوه؛ إذا كان الشيطان يأمر بالفحشاء والمنكر، وكان عدواً لنا، فليس من العقل - فضلاً عن مقتضى الإيمان - أن يتابعه الإنسان في خطواته -؛ وخطوات الشيطان بيَّنها الله عز وجل: يأمر بـ «الفحشاء» - وهي عظائم الذنوب؛ و «المنكر» - وهو ما دونها من المعاصي؛ فكل معصية فهي من خطوات الشيطان؛ سواء كانت تلك المعصية من فعل المحظور، أو من ترك المأمور، فإنها من خطوات الشيطان؛ لكن هناك أشياء بين الرسول صلى الله عليه وسلم أنها من فعل الشيطان، ونص عليها بعينها، مثل: الأكل بالشمال
(1)
، والشرب بالشمال
(2)
، والأخذ بالشمال، والإعطاء بالشمال
(3)
؛ وكذلك الالتفات في الصلاة اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد
(4)
؛ فهذه المنصوص عليها بعينها واضحة؛ وغير المنصوص عليها يقال فيها: كل معصية فهي من خطوات الشيطان.
(1)
سبق تخريجه 2/ 236.
(2)
راجع مسلماً ص 1039، كتاب الأشربة، باب 13: آداب الطعام والشراب وأحكامها، حديث رقم 5265 [105]2020.
(3)
راجع ابن ماجة ص 2675، كتاب الأطعمة، باب 8: الأكل باليمين، حديث رقم 3266؛ قال الألباني:"صحيح"(صحيح ابن ماجة 2/ 225، حديث رقم 2643 - 3266).
(4)
أخرجه البخاري ص 59 - 60، كتاب الأذان، باب 93: الالتفات في الصلاة، حديث رقم 751.
6 -
ومن فوائد الآية: تحريم التشبه بالكفار؛ لأن أعمال الكفار من خطوات الشيطان؛ لأن الشيطان يأمر بالفحشاء والمنكر؛ ولا أنكر من الكفر - والعياذ بالله -.
7 -
ومنها: شدة عداوة الشيطان لبني آدم؛ لقوله تعالى: {إنه لكم عدو مبين} .
8 -
ومنها: أنه لا يمكن أن يأمرنا الشيطان بخير أبداً؛ إذ إن عدوك يسره مساءتك، ويغمه سرورك؛ ولهذا قال تعالى في آية أخرى:{إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً} [فاطر: 6].
9 -
ومنها: قرن الحكم بعلته؛ لقوله تعالى: {لا تتبعوا خطوات الشيطان} ثم علل: {إنه لكم عدو مبين} .
ويتفرع على هذه الفائدة: أنه ينبغي لمن أتى بالأحكام أن يقرنها بالعلل التي تطمئن إليها النفس؛ فإن كانت ذات دليل من الشرع قرنها بدليل من الشرع؛ وإن كانت ذات دليل من العقل، والقياس قرنها بدليل من العقل، والقياس؛ وفائدة ذكر العلة أنه يبين سمو الشريعة وكمالها؛ وأنه تزيد به الطمأنينة إلى الحكم؛ وأنه يمكن إلحاق ما وافق الحكم في تلك العلة.
القرآن
(فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(البقرة: 209)
التفسير:
{209} قوله تعالى: {فإن زللتم} قال بعض العلماء: أي
عدلتم؛ وقال آخرون: أي ملتم؛ والمعنى متقارب؛ لأن العادل عن الشيء زال عنه.
قوله تعالى: {من بعد ما جاءتكم البينات} ؛ {البينات} صفة لموصوف محذوف - أي الآيات البينات -؛ وسمى الله ذلك زللاً؛ لأن في الميل، والعدول عن الحق هلكة، مثل لو زلّ الإنسان، وسقط في بئر مثلاً.
قوله تعالى: {فاعلموا أن الله عزيز حكيم} : هذا جواب الشرط؛ والمراد بالعلم أن نحذر ممن له العزة.
وذكر أهل العلم أن «العزيز» له ثلاثة معانٍ: عزة قدْر؛ وعزة قهر؛ وعزة امتناع؛ فعزة القدر - أي أنه عز وجل عظيم القدر -؛ لقوله تعالى: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة
…
} [الزمر: 67] الآية؛ أما عزة القهر فمعناها الغلبة - أي أنه سبحانه وتعالى غالب لا يغلبه شيء -؛ وهذا أظهر معانيها؛ وأما عزة الامتناع فمعناها أنه يمتنع أن يناله السوء - مأخوذ من قولهم: «أرض عزاز» أي قوية صلبة لا تؤثر فيها الأقدام -؛ وأما «الحكيم» أي ذو الحكم، والحكمة.
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: الوعيد على من زلّ بعد قيام الحجة عليه؛ لقوله تعالى: {فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات} ؛ فإن قيل: من أين يأتي الوعيد؟ قلنا: من قوله تعالى: {فاعلموا أن الله عزيز حكيم} ؛ لأن من معاني «العزة» الغلبة، والقهر؛ و «الحكمة»: تنزيل الشيء في مواضعه؛ فإذا كان هناك غلبة وحكمة، فالمعنى: أنه سينزِّل بكم ما تتبين به عزته؛ لأن هذا هو مقتضى حكمته.
2 -
ومنها: أن الله تعالى أقام البينات بالعباد؛ لقوله تعالى: {من بعد ما جاءتكم البينات} .
3 -
ومنها: أنه لا تقوم الحجة على الإنسان، ولا يستحق العقوبة إلا بعد قيام البينة؛ لقوله تعالى:{من بعد ما جاءتكم البينات} ؛ ولهذا شواهد كثيرة من الكتاب والسنة تدل على أن الإنسان لا حجة عليه حتى تقوم عليه البينة.
4 -
ومنها: وجوب الإيمان بأسماء الله، وما تضمنته من صفات؛ لقوله تعالى:{فاعلموا} علم اعتراف، وإقرار، وقبول، وإذعان؛ فمجرد العلم لا يكفي؛ ولهذا فإن أبا طالب كان يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم على حق، وأنه رسول الله؛ لكنه لم يقبل، ولم يذعن؛ فلهذا لم ينفعه إقراره؛ فالإيمان ليس مجرد اعتراف بدون قبول وإذعان.
5 -
ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله - وهما «العزيز» ، و «الحكيم» -؛ وإثبات ما تضمناه من صفة - وهي العزة، والحُكم، والحكمة.
القرآن
(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)(البقرة: 210)
التفسير:
{210} قوله تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله} : الاستفهام هنا بمعنى النفي؛ و {ينظرون} بمعنى ينتظرون؛ أي ما ينتظر هؤلاء المكذبون الذين زلوا بعد ما جاءتهم البينات؛ وتأتي
بمعنى النظر بالعين؛ فإن عديت بـ «إلى» فهي للنظر بالعين؛ وإن لم تعدّ فهي بمعنى الانتظار؛ مثال المعداة بـ «إلى» قوله تعالى: {لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم} [آل عمران: 77].
وقوله تعالى: {إلا أن يأتيهم الله} أي يأتيهم الله نفسه؛ هذا ظاهر الآية، ويجب المصير إليه؛ لأن كل فعل أضافه الله إليه فهو له نفسه؛ ولا يعدل عن هذا الظاهر إلا بدليل من عند الله.
قوله تعالى: {في ظلل من الغمام} ؛ {في} معناها «مع» ؛ يعني يأتي مصاحباً لهذه الظلل؛ وإنما أخرجناها عن الأصل الذي هو الظرفية؛ لأنا لو أخذناها على أنها للظرفية صارت هذه الظلل محيطة بالله عز وجل؛ والله أعظم، وأجلّ من أن يحيط به شيء من مخلوقاته؛ ونظير ذلك أن نقول: جاء فلان في الجماعة الفلانية أي معهم -؛ وإن كان هذا التنظير ليس من كل وجه؛ لأن فلاناً يمكن أن تحيط به الجماعة؛ ولكن الله لا يمكن أن يحيط به الظلل؛ وهذا الغمام يأتي مقدمة بين يدي مجيء الله عز وجل، كما قال تعالى:{ويوم تشقق السماء بالغمام} [الفرقان: 25]؛ فالسماء تشقق - لا تنشق - كأنها تنبعث من كل جانب؛ وقيل إن {في} بمعنى الباء؛ فتكون كقوله تعالى: {ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا} [التوبة: 52]؛ وهذا قول باطل لمخالفته ظاهر الآية؛ و {الغمام} : قالوا: إنه السحاب الأبيض الرقيق؛ لكن ليس كسحاب الدنيا؛ فالاسم هو الاسم؛ ولكن الحقيقة غير الحقيقة؛ لأن المسميات في الآخرة - وإن شاركت المسميات في الدنيا في الاسم - إلا أنها تختلف مثلما تختلف الدنيا عن الآخرة.
قوله تعالى: {والملائكة} بالرفع عطفاً على لفظ الجلالة؛
يعني: وتأتيهم الملائكة أيضاً محيطة بهم، كما قال الله تعالى:{كلا إذا دكت الأرض دكاً دكاً * وجاء ربك والملك صفاً صفاً} [الفجر: 21، 22]؛ وفي حديث الصور الطويل الذي ساقه ابن جرير، وغيره
(1)
أن السماء تشقق؛ فتشقق السماء الدنيا بالغمام، وتنزل الملائكة، فيحيطون بأهل الأرض، ثم السماء الثانية، والثالثة، والرابعة
…
؛
كل من وراء الآخر؛ ولهذا قال تعالى: {صفاً صفاً} [الفجر: 22] يعني صفاً بعد صف؛ ثم يأتي الرب عز وجل للقضاء بين عباده؛ ذلك الإتيان الذي يليق بعظمته وجلاله؛ ولا أحد يحيط علماً بكيفيته؛ لقوله تعالى: {ولا يحيطون به علماً} [طه: 110]؛ وقد تقدم الكلام على الملائكة عند قوله تعالى: {ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين} [البقرة: 177]؛ وبيَّنا أن الملائكة عالم غيبي مخلوقون من نور
(1)
راجع تفسير الطبري 24/ 418 - 420، تفرد به إسماعيل بن رافع، وقد اختلف فيه (ذكره ابن كثير في تفسيره سورة الأنعام 2/ 239)؛ قال الحافظ في التقريب:"ضعيف الحفظ"؛ وقال الدارقطني وغيره: "متروك الحديث"(ميزان الاعتدال 1/ 227)؛ وقال الذهبي: "ومن تلبيس الترمذي قال: ضعفه بعض أهل العلم، قال: وسمعت محمداً - يعني البخاري - يقول: هو ثقة مقارب الحديث"(المرجع السابق)؛ وقال البخاري في التاريخ الكبير: "محمد بن يزيد بن أبي زياد روى عنه إسماعيل بن رافع حديث الصور مرسل، ولم يصح" 1/ 260، رقم 829)؛ وقال ابن كثير في تفسيره (2/ 234، تفسير سورة الأنعام آية رقم 73): "وروينا حديث الصور بطوله من طريق الحافظ أبي القاسم الطبراني في كتابه المطولات
…
"؛ وقال أيضاً (2/ 239): "وقد اختلف عليه في إسناد هذا الحديث على وجوه كثيرة قد أفردتها في جزء على حدة، وأما سياقه فغريب جداً، ويقال: إنه جمعه من أحاديث كثيرة، وجعلها سياقاً واحداً، فأنكر عليه بسبب ذلك".
خلقهم الله عز وجل لعبادته يسبحون الليل والنهار لا يفترون.
قوله تعالى: {وقضي الأمر} : اختلف فيها المعربون؛ فمنهم من قال: إنها معطوفة على: {أن يأتيهم فتكون في حيّز الأمر المنتظر بمعنى: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله؛ وإلا أن يقضى الأمر؛ ولكنه أتى بصيغة الماضي لتحقق وقوعه؛ وعلى هذا فيكون محل الجملة النصب؛ لأن «تأتيهم الملائكة» منصوبة - يعني: هل ينظرون إلا إتيانَ الله في ظلل من الغمام، وإتيانَ الملائكة، وانقضاءَ الأمر -؛ ومنهم من قال: إنها جملة مستأنفة؛ أي: وقد انتهى الأمر، ولا عذر لهم بعد ذلك، ولا حجة لهم؛ و {الأمر} بمعنى الشأن؛ أي قضي شأن الخلائق، وانتهى كل شيء، وصار أهل النار إلى النار، وأهل الجنة إلى الجنة؛ ولهذا قال بعده:{وإلى الله ترجع الأمور} ؛ وفي {ترجع} قراءتان؛ الأولى: بفتح التاء، وكسر الجيم؛ والثانية: بضم التاء، وفتح الجيم؛ والمتعلِّق هنا مقدم على المتعَلَّق به؛ لأن {إلى الله} متعلق بـ {ترجع} ؛ وتقديم المعمول يفيد الحصر، والاختصاص؛ أي إلى الله وحده لا إلى غيره ترجع الأمور - أمور الدنيا والآخرة - أي شؤونهما كلها: الدينية، والدنيوية، والجزائية، وكل شيء، كما قال الله تعالى:{وإليه يرجع الأمر كله} [هود: 123] فالأمور كلها ترجع إلى الله عز وجل؛ ومنها أن الناس يرجعون يوم القيامة إلى ربهم، فيحاسبهم.
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: وعيد هؤلاء بيوم القيامة؛ لقوله تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام
…
} إلخ.
2 -
ومنها: أن الله تعالى لا يعذب هذه الأمة بعذاب عام؛
لأن الله جعل وعيد المكذبين يوم القيامة؛ ويدل لذلك آيات، وأحاديث؛ منها قول الله تبارك وتعالى:{بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر} [القمر: 46]، وقوله صلى الله عليه وسلم:«أنه سأل ربه أن لا يهلك أمته بسنة عامة فأجابه»
(1)
.
3 -
ومنها: إثبات إتيان الله عز وجل يوم القيامة للفصل بين عباده؛ وهو إتيان حقيقي يليق بجلاله لا تُعلَم كيفيته، ولا يسأل عنها - كسائر صفاته -؛ قال الإمام مالك رحمه الله وقد سئل عن قوله تعالى:{الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] كيف استوى؟ فقال: «الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة» ؛ هذا وقد ذهب أهل التعطيل إلى أن المراد بإتيان الله: إتيان أمره؛ وهذا تحريف للكلم عن مواضعه، وصرف للكلام عن ظاهره بلا دليل إلا ما زعموه دليلاً عقلياً وهو في الحقيقة وهمي، وليس عقلياً؛ فنحن نقول: الذي نسب فعل الإتيان إليه هو الله عز وجل؛ وهو أعلم بنفسه؛ وهو يريد أن يبين لعباده، كما قال تعالى:{يبين الله لكم أن تضلوا} [النساء: 176]؛ وإذا كان يريد أن يبين، وهو أعلم بنفسه، وليس في كلامه عِيٌّ، وعجز عن التعبير بما أراد؛ وليس في كلامه نقص في البلاغة؛ إذاً فكلامه في غاية ما يكون من العلم؛ وغاية ما يكون من إرادة الهدى؛ وغاية ما يكون من الفصاحة، والبلاغة؛ وغاية ما يكون من الصدق؛ فهل بعد ذلك يمكن أن نقول: إنه لا يراد به ظاهره؟! كلا؛ لا يمكن هذا إلا إذا قال الله هو عن نفسه أنه لم يرد ظاهره؛ إذاً المراد إتيان الله
(1)
أخرجه مسلم ص 1178/ كتاب الفتن، باب 5: هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض، حديث رقم 7258 [19]2889.
نفسه؛ ولا يعارض ذلك أن الله قد يضيف الإتيان إلى أمره، مثل قوله تعالى:{أتى أمر الله} [النحل: 1]، ومثل قوله تعالى:{أو يأتي أمر ربك} [النحل: 33]؛ لأننا نقول: إن هذا من أمور الغيب؛ والصفات توقيفية؛ فنتوقف فيها على ما ورد؛ فالإتيان الذي أضافه الله إلى نفسه يكون المراد به إتيانه بنفسه؛ والإتيان الذي أضافه الله إلى أمره يكون المراد به إتيان أمره؛ لأنه ليس لنا أن نقول على الله ما لا نعلم؛ بل علينا أن نتوقف فيما ورد على حسب ما ورد.
4 -
ومن فوائد الآية: إثبات الملائكة.
5 -
ومنها: إثبات عظمة الله عز وجل في قوله تعالى: {في ظلل من الغمام} ؛ فـ {ظلل} نكرة تدل على أنها ظلل عظيمة، وكثيرة؛ ولهذا جاء في سورة الفرقان:{ويوم تشقق السماء بالغمام} [الفرقان: 25] يعني تثور ثوراناً بهذا الغمام العظيم من كل جانب؛ كل هذا مقدمة لمجيء الجبار سبحانه وتعالى؛ وهذا يفيد عظمة الباري سبحانه وتعالى.
6 -
ومنها: أن الملائكة أجسام خلافاً لمن زعم أن الملائكة قوى الخير، وأنهم أرواح بلا أجسام؛ والرد على هذا الزعم في القرآن والسنة كثير.
7 -
ومنها: أن يوم القيامة به ينقضي كل شيء؛ فليس بعده شيء؛ إما إلى الجنة؛ وإما إلى النار؛ فلا أمل أن يستعتب الإنسان إذا كان من أهل النار ليكون من أهل الجنة؛ لكنه أتى بصيغة ما لم يسم فاعله لعظمة هذا الأمر؛ وهذا كقوله تعالى: {وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين} [هود: 44].
8 -
ومنها: أن الأمور كلها ترجع إلى الله وحده؛ لقوله تعالى:
{وإلى الله ترجع الأمور} أي الأمور الكونية، والشرعية؛ قال تعالى:{وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} [الشورى: 10]، وقال تعالى:{إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه} [يوسف: 40]؛ فالأمور كلها مرجعها إلى الله تبارك وتعالى؛ وما ثبت فيه أنه يرجع فيه إلى الخلق فإنما ذلك بإذن الله؛ فالحكم بين الناس مرجعه القضاة؛ لكن كان القضاة مرجعاً للناس بإذن الله تعالى.
9 -
ومنها: إثبات الأفعال الاختيارية لله - أي أنه يحدث من أفعاله ما شاء -؛ لقوله تعالى: {إلا أن يأتيهم الله} ؛ وهذا مذهب السلف الصالح خلافاً لأهل التحريف والتعطيل الذين ينكرون هذا النوع، ويحرفونه إلى معان قديمة لمنعهم قيام الأفعال الاختيارية بالله عز وجل؛ ومذهبهم باطل بالسمع، والعقل؛ فالنصوص المثبتة لذلك لا تكاد تحصى؛ والعقل يقتضي كمال من يفعل ما يشاء متى شاء، وكيف شاء.
10 -
ومن فوائد الآية: عظمة الله، وتمام سلطانه، وملكه؛ لقوله تعالى:{وإلى الله ترجع الأمور} .
القرآن
(سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)(البقرة: 211)
التفسير:
{211} قوله تعالى: {سل} أصلها اسأل؛ فنقلت حركة الهمزة إلى السين، ثم حذفت تخفيفاً؛ ثم حذفت همزة الوصل
لعدم الحاجة إليها؛ و {كم} استفهامية علقت الفعل {سل} عن العمل؛ فصارت هي، وجملتها في محل نصب؛ وأصله سل فلاناً عن كذا، وكذا؛ فعلقت الفعل عن المفعول الثاني؛ و {كم} تحتاج إلى مميِّز؛ لأن {كم} اسم مبهم تدل على عدد؛ والمعدود: قوله تعالى: {من آية بينة} ؛ و {آتينا} أي أعطينا؛ وهي تنصب مفعولين؛ المفعول الأول: الهاء؛ والمفعول الثاني: محذوف؛ والتقدير: كم من آية بينة آتيناهموها؛ وعاد الضمير المحذوف إلى متأخر لفظاً؛ لأنه متقدم رتبة؛ إذ {من آية} كان حقها أن تكون بعد {كم} ؛ وجملة: {ومن يبدل
…
} شرطية؛ و {مَن} اسم شرط جازم؛ ولهذا جزمت الفعل؛ وجوابه مفهوم من قوله تعالى: {فإن الله شديد العقاب} ؛ فالجملة هنا دالة على الجواب، وليست هي الجواب؛ لأن شدة عقاب الله ثابتة سواء بدلوا، أم لم يبدلوا.
قوله تعالى: {سل بني إسرائيل} ؛ الخطاب هل هو للرسول وحده؛ أو لكل من يتأتى خطابه؟ مثل هذه الخطابات تارة يقوم الدليل على أنها خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم، فتكون خاصة به؛ وتارة يقوم الدليل على أنها عامة له، ولغيره، فتكون عامة؛ وتارة لا يقوم الدليل على هذا، ولا على هذا؛ فالظاهر أنها عامة؛ لأن القرآن نزل للأمة إلى يوم القيامة؛ فمن أمثلة ما قام الدليل على أنها للرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى:{ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك * ورفعنا لك ذكرك} [الشرح: 1 - 4]؛ ومثال الذي قام الدليل على أنها عامة قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق: 1]؛ فقال تعالى: {يا أيها النبي} ؛ ولكن أمر بحكم عام، فقال تعالى:{إذا طلقتم النساء فطلقوهن} ؛ وأما المحتمل فهو كثير في القرآن؛ ومنه هذه الآية.
وقوله تعالى: {سل} : أي سؤال توبيخ، وتبكيت؛ لإقامة الحجة عليهم ببيان نعم الله التي كان حقه عليهم أن يشكروها، ولكن بدلوها كفراً؛ وإلا فالظاهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم بما آتاهم الله من الآيات البينات؛ و {بني إسرائيل} أي بني يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم؛ والمراد من ينتمي إليه؛ لا أبناء صلبه خاصة.
قوله تعالى: {كم آتيناهم من آية بينة} ؛ {كم} هذه تكثيرية - أي أعطيناهم آيات كثيرة -؛ والإيتاء هنا يشمل الإيتاء الشرعي، والإيتاء القدري الكوني؛ لأنهم أوتوا آيات بينات شرعية جاءت بها التوراة؛ وأوتوا آيات بينات كونية، كالعصا، واليد؛ و «الآية» بمعنى العلامة على الشيء؛ و {بينة} أي ظاهرة في كونها آية.
قوله تعالى: {ومن يبدل نعمة الله} أي ومن يجعل بدلها؛ والمفعول الثاني محذوف؛ تقديره: كفراً، كما يدل لذلك قوله تعالى في سورة إبراهيم:{ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً} [إبراهيم: 28].
قوله تعالى: {فإن الله شديد العقاب} أي قوي الجزاء بالعقوبة؛ وسمي الجزاء عقوبة، وعقاباً؛ لأنه يقع عقب الذنب مؤاخذة به.
وقوله تعالى: {شديد العقاب} هذا من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، مثل أن تقول: حسن الوجه - يعني: ذو الوجه الحسن -؛ فهي صفة مشبهة.
الفوائد:
1 -
من فوائد الآية: بيان كثرة ما أعطاه الله بني إسرائيل من الآيات البينة الدالة على صدق رسله؛ لقوله تعالى: {سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة} .
2 -
ومنها: تقريع بني إسرائيل الذين كفروا بآيات الله، وتوبيخهم؛ لأن المراد بالسؤال هنا سؤال توبيخ.
3 -
ومنها: أن الآيات من نعم الله؛ لأنها تحمل المرء على الإيمان؛ وفي الإيمان نجاته، وكرامته؛ لقوله تعالى:{ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته} .
4 -
ومنها: أن الآيات مبينة لما أتت دالةً عليه.
5 -
ومنها: التحذير من تبديل نعمة الله عز وجل؛ لقوله تعالى: {ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته} [البقرة: 211]؛ والمراد: تبديل الشكر بالكفر؛ لقوله تعالى: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً} .
6 -
ومنها: إثبات شدة العقاب من الله لمن بدل نعمته بالكفر؛ وهذا من تمام عدله وحكمته.
القرآن
(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)(البقرة: 212)
التفسير:
{212} قوله تعالى: {زين} مبني لما لم يسم فاعله؛ ونائب الفاعل {الحياة الدنيا} ؛ والتزيين جعل الشيء بهياً في عين الإنسان، أو في سمعه، أو في مذاقه، أو في فكره؛ المهم أن أصل التزيين جعل الشيء بهياً جميلاً جذاباً؛ والمزَيِّن إما أن يكون الله، كما في قوله تعالى: {إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا