المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المقدمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور - تفسير العثيمين: ص

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ ‌المقدمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور

‌المقدمة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فإن من توفيق الله سبحانه وتعالى أن يسَّر لفضيلة شيخنا -تغمده الله بواسع رحمته ورضوانه- تفسير سورة "صَ" في دروسه العلمية التي كان يعقدها رحمه الله تعالى بالجامع الكبير في مدينة عنيزة.

وقد عهدت مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية إلى فضيلة الشيخ فهد بن ناصر بن إبراهيم السليمان، أثابه الله، بالعمل لإعداد هذا الكتاب للنشر، وتخريج أحاديثه وآثاره، فجزاه الله خيراً.

نسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، موافقاً لمرضاته، نافعاً لعباده، وأن يجزي فضيلة شيخنا عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، ويضاعف له المثوبة والأجر، ويعلي درجته في المهديين، إنه سميع قريب.

وصلىّ الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللجنة العلمية

في مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية

ص: 5

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)} قال المؤلف

(1)

-رحمه الله تعالى-: [سورة (ص) مكية] والقرآن الكريم مكي ومدني، وأصح الأقوال في تمييز المكي من المدني: أن ما نزل قبل الهجرة فهو مكي، وما نزل بعدها فهو مدني وإن نزل في غير المدينة، فالحد الفاصل زمني وليس مكاني، فما بعد الهجرة مدني وما قبلها مكي.

قال: [ستٌّ أو ثمانٌ وثمانون آية] والآيات هي عبارة عن الفواصل التي تكون بين جملة أو جملتين فأكثر، وسُمِّيت آية لأنها

(1)

أخي الكريم: إذا مر بك: قال المؤلف، فالمراد به جلال الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد المحلي رحمه الله تعالى، المتوفى سنة 864 هـ. في تفسيره المسمى "تفسير الجلالين"، وقد جعلت كلامه رحمه الله بين معكوفتين هكذا [].

ص: 7

معجزة، فإن القرآن -كما سبق- قد تحدى اللهُ فيه الناسَ أن يأتوا بحديث مثله وإن قَلَّ.

قال: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} هذه البسملة آية من كتاب الله يؤتى بها في ابتداء كل سورة إلا سورة براءة فإنه لا يؤتى بها، وذلك أن الصحابة رضي الله عنهم لما كتبوا المصحف أشكل عليهم هل براءة بقية الأنفال. أو هي سورة مستقلة؟ فوضعوا فاصلاً دون بسملة؛ لأنه لو جزموا بأنها من الأنفال لم يضعوا فاصلاً، ولو جزموا بأنها مستقلة لوضعوا البسملة، ولكن هذا الاجتهاد منهم نعلم أنه هو المطابق للواقع، وأنهم مصيبون فيه قطعاً، وذلك لأن البسملة لو نزلت بين الأنفال وبراءة لبقيت، لأن الله يقول:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9] فلما لم تبق باجتهادٍ من الصحابة عُلِم أنهم كانوا مصيبين للواقع.

والبسملة جار ومجرور، ومضاف إليه، وصفة، أي: نعت. والقاعدة النحوية: أن كل جار ومجرور لا بد له من متعلَّق، أي: من شيء يتعلق به، والشيء الذي يتعلق به الجار والمجرور هو العامل، والجار والمجرور معمول، ولهذا قال ناظم الجمل:

لا بد للجار والمجرور من التعلّق

بفعل أو معناه نحو مرتقي

واستثنى كل زائد له عمل

كالباء ومن والكاف أيضاً ولعل

ص: 8

فكل حرف أصلي غير زائد فلا بد له من متعلق بفعل، أو بما كان بمعنى الفعل، كاسم الفاعل واسم المفعول. إذاً البسملة لا بد لها من متعلَّق، فما هو هذا المتعلَّق؟ أصح ما قيل في متعلَّق البسملة أنه فعل متأخر مناسب للمقام، فإذا كنت تريد أن تقرأ كان التقدير بسم الله أقرأ، وإذا أردت أن تأكل كان التقدير بسم الله آكل، وإذا أردت أن تذبح ذبيحة كان التقدير بسم الله أذبح. ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يخطب في الناس يوم النحر:"من لم يذبح فليذبح باسم الله"

(1)

وإنما ويقدّر فعلاً لأن الأصل في العمل هو الفعل، ولذلك يعمل في معموله بدون شرط، وأما اسم الفاعل واسم المفعول واسم التفضيل والمصدر فلا يعمل إلا بشرط.

ونقدِّره متأخراً فنقول: بسم الله أقرأ لسببين:

السبب الأول: التبرك بالبداءة باسم الله.

والسبب الثاني: إفادة الحصر، لأن تأخير العامل يفيد الحصر، فإن من طرق الحصر: تقديم ما حقه التأخير، وقدرناه مناسباً للمقام؛ لأنه أدلّ على المقصود مما لو قدرناه فعلاً عامّاً كما لو قيل: إن التقدير باسم الله أبتدئ، أو بسم الله أبدأ؛ لأن بسم الله أبدأ أو أبتدئ لم تعين الفعل الذي ابتدأت به، فالحاصل أننا نقدر المتعلَّق في البسملة أنه فعل متأخر مناسب للمقام.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب العيدين، باب كلام الإمام والناس في خطبة العيد (985)، ومسلم، كتاب الأضاحي، باب وقتها (1960).

ص: 9

الفوائد:

1 -

من فوائد هذه الآية: أنه ينبغي الابتداء بها في الأمور الهامة، ولهذا يبتدئ الله بها كل سورة إلا براءة، ومن المعلوم أن السورة من الأمور الهامة، وجاء في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال:"كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر"

(1)

والحديث حسن.

2 -

ومن فوائدها: إثبات الألوهية لله في قوله: {بِسْمِ اللَّهِ} .

3 -

ومن فوائدها: إثبات أسماء الله لقوله: {بِسْمِ اللَّهِ} وهذا مفرد مضاف فيعم كل اسم لله عز وجل، ولهذا يفسرها بعض المفسرين بقولهم: أي: بكل اسم من أسماء الله أبتدئ.

4 -

ومن فوائدها: التبرك بذكر اسم الله عز وجل، فتكون أسماء الله مما يدعى الله به لقوله:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] ومما يتبرك به ويستعان به؛ لأنها تقدم بين يدي الأمور الهامة.

وإذا أردت أن تعرف مدى بركة هذه التسمية فانظر إلى الذبيحة يُسمّى عليها فتكون طيبة حلالاً، ولا يسمّى عليها فتكون خبيثة حراماً مع أن الذابح واحد، والآلة المذبوح بها واحدة، ومكان الذبح واحد، وإنهار الدم واحد، كل شيء واحد، لكن لما فقدت التسمية صارت خبيثة ميتة لا يحل أكلها، فإذا سُمِّي عليها صارت طيبة.

(1)

أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" 14/ 329 (8712)، وأبو داود (4840).

ص: 10

وإذا أتى الرجل أهله فقال: "بسم الله اللهم جَنِّبْنا الشيطانَ، وجَنِّب الشيطان ما رزقتنا، فإنه، إنْ يقدر بينهما ولد في ذلك لم يَضُرَّه الشيطانُ أبداً"

(1)

وإنْ لم يُسمِّ بهذه التسمية كان عُرْضَة لأن يصاب ولده بالشيطان ويضر به.

5 -

من فوائد الآية الكريمة: إثبات الرحمة لله في قوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وأنها رحمة واسعة لقوله: {الرَّحْمَنِ} لأن الرحمة صفة تدل على السعة والامتلاء.

6 -

ومنها: إثبات الأسماء الثلاثة لله، وهي: الله والرحمن والرحيم.

* * *

قال الله عز وجل: {ص} قال المؤلف: [الله أعلم بمراده به] وذلك لأن كلمة (ص) حرف هجائي لا يدل على معنى في اللغة العربية، فذهب جماعة من العلماء إلى أن هذه الحروف الهجائية التي ابتُدِئتْ بها بعضُ السور رموز إلى معاني، وعيَّنها كل إنسان بما يرى أنه مناسب. وذهب آخرون إلى أنها أسماء من أسماء الله، أو من أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم، وذهب آخرون إلى ما ذهب إليه المؤلف، بأنها مجهولة المعنى، لا ندري ما معناها، ولكن القول الراجح ما ذهب إليه إمام المفسرين في عهده مجاهد رحمه الله أن نقول: ليس لها معنى، وذلك لأن الله تعالى يقول:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 193]، واللسانُ العربي لا

(1)

أخرجه مسلم، كتاب النكاح، باب ما يستحب أن يقوله عند الجماع (1434).

ص: 11

يُثبِت معنىً لهذه الحروف الهجائية، وعلى هذا فتكون هذه الحروف الهجائية مثل ن، ق، ص، الم وما أشبهها ليس لها معنى في اللغة العربية، إذاً ليس لها معنى في القرآن، لأن القرآن باللغة العربية. ولكن يشكل على هذا القول مع رجحانه أنه يقتضي أن يكون في القرآن كلمات لغو ليس منها فائدة!

والجواب عن هذا أن نقول: هي ليست لغواً في سياقها، فإنها جاءت لمغزىً عظيمٍ، وهذا المغزى أن هذا القرآن العظيم الذي أعجز فصحاء اللغة وأمراء البيان لم يكن بحروف غير مألوفة عندهم حتى يقولوا: لا نعرف هذه الحروف، بل كان بالحروف التي يتكون منها كلامهم.

قال الذين ذهبوا هذا المذهب: ودليل ذلك أنك لا تكاد ترى سورة مبدوءة بحرف هجائي إلا وجدتَ بعد هذا الحرف ذكر القرآن {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 1 - 2]، {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [آل عمران: 2]، {المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} ، {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس: 1]، فكل سورة مبدوءة بهذه الحروف الهجائية يأتي بعد الحروف الهجائية ذكرُ القرآن، ما عدا قوله تعالى:{الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 1 - 3]، و {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ

ص: 12

أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1 - 2]، ويمكن أن يُجاب عن ذلك بأن يُقال:

أما قوله: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} فلأنه ذكر صفة عظيمة من صفات مَن تمسك بالقرآن وهي الصبر على الأذى في ذات الله.

وأما الثانية: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ} فقد ذكر شيئاً من خصائص الوحي، وهو علم الغيب، فإن كون الروم غُلِبت الآن وستَغلِب في بضع سنين، من الأمر الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل، وهو من خصائص الوحي، وسواء كان هذا الجواب سديداً مقبولاً أم لم يكن، فإن النادر لا حكم له.

قال الله تعالى: {ص} نقول فيها: "ص" حرف هجائي ليس له معنى، لكن جيء به للإشارة إلى أن هذا القرآن الكريم الذي أعجز العرب كان من هذه الحروف التي يتركب منها كلامهم.

{وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} الواو هنا: حرف قسم ولهذا جَرَّت الكلمة التي بعدها "القرآن". والواو حرف قسم لا تدخل إلا على الاسم الظاهر، ولا يُذكر معها فعل القسم، بخلاف باء القسم، فإنها تدخل على الاسم الظاهر، وعلى الضمير، ويُذكر معها فعل القسم، ويحذف، وتدخل على كل اسم. قال الله تعالى:{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109] فذكر معها فعلُ القسم. وتقول: ربي به لأفعلنَّ، أو أقسم به لأفعلن، فهنا دخلت على الضمير. أما التاء فهي أخص أدوات القسم، لا تدخل إلا على لفظ الجلالة "الله"،

ص: 13

ولا يُذكر معها فعلُ القسم. وقيل: تدخل على لفظ الجلالة "الله" وعلى "ربّ" قال ابن مالك: والتاءُ لله وربِّ، وأكثر ما يقسم اللهُ به الواو، وذلك لأنها الأكثر على الألسن، فجاءت الأكثر في القرآن. {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} ذي بمعنى صاحب، وهي مجرورة، لكنها مجرورة بالحرف نيابة عن الكسرة، وقوله:{ذِي الذِّكْر} قال المؤلف: [أي: البيان أو الشرف] يعني أن القرآن ذو ذكر، أي: ذو بيان للناس، يُذكِّرهم ويتذكَّرون به، أو ذو شرف لشرفه وشرف من يعمل به. قال الله تعالى:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف: 44] فهو ذكر: يُذْكَرُ به ما ينفع الناس في معاشهم ومعادهم. وذكر: يتذكَّر به الناس ويتعظون به، وهو أعظم موعظة. وذكر: أي شرف لمن تمسك به.

قال المؤلف: [وجواب هذا القسم محذوف، إنما قال المؤلف: وجواب هذا القسم؛ لأنه ما من قسم إلا وله جواب. إذ إن القسم أركانه أربعة: مُقْسِم، ومُقْسَم به، ومُقْسَم عليه، وصيغة. فكل قَسَم لا بد فيه من هذه الأركان، والمقسم عليه هو جواب القسم إذن لا بد لكل قسمٍ من جواب، والجواب إن كان مذكوراً فهو معلوم، وإن كان محذوفاً فيعيّنه السياق. قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} [النور: 53] الجواب هنا مذكور {لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} ، وفي قوله تعالى:{قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7] مذكور، جواب القسم {لَتُبْعَثُنَّ} .

وفي هذه الآية قد وجد المُقْسَم به والصيغة {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} والمُقْسِم هو الله عز وجل. بقي المُقْسَم عليه، وهو جواب القسم.

ص: 14

يقول المؤلف: [إنه محذوف، وتقديره ما الأمر كما قال كفار مكة من تعدّد الآلهة] وحسب هذا التقدير يكون جواب القسم جملة منفية: ما الأمر كما قال كفار مكة من تعدّد الآلهة، لكن الأمر أن الإله واحد، وهو الله، وهذا التقدير الذي ذكره المؤلف لا يتعيَّن، يعني لو قال قائل: التقدير والقرآن ذي الذكر إن إلهكم لواحد. لو قال قائل هكذا، حصل به ما حصل من قول المؤلف: ما الأمر كما قال كفار مكة من تعدد الآلهة.

وذهب بعض العلماء إلى أن مثل هذا القسم لا يحتاج إلى جواب؛ لأن جوابه معلوم منه كقوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة: 1 - 3]، وقوله تعالى:{وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر: 1 - 5]، جواب القسم محذوف، فيكون المُقْسَم به متضمناً للجواب، كيف يكون متضمناً للجواب في هذه الجملة القسمية {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} ؟ يعني أنكم قد ذُكِّرتم بهذا القرآن الذي من جملة ما ذَكَّر به أن الله واحد، ولهذا ذهب ابن القيم رحمه الله في كتابه "التبيان في أقسام القرآن" إلى أن القسم أحياناً لا يحتاج إلى ذكر الجواب، بل ولا يحتاج إلى تقديره؛ لأنه يعلم من السياق المُقْسَم عليه.

قال الله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2)} بَلِ: هنا للإضراب، والإضراب نوعان: إبطالي وانتقالي، فالإبطالي إبطال لما قد سبق كأنه مسحه وأتى ببدله، والانتقالي إقرار لما سبق لكن انتقل من شيء إلى آخر، وما قبل هذا الإضراب يبقى كما هو لا يبطل.

ص: 15

قال المؤلف: [{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} من أهل مكة] وتقييد المؤلف للذين كفروا بأهل مكة فيه نظر، والأولى الأخذ بالعموم، وسلوك هذه الطريق، أعني أن يُخَصَّ القرآن ببعض أفراد العام ليس بسديد ولا جيد، وذلك لأنه نقص في التفسير، إلا أن يقوم دليل على ذلك، فإذا قام دليل على ذلك وجب الأخذ بالدليل، أما إذا لم يقم دليل على ذلك فالواجب الأخذ بالعموم، لأنه أعمّ وأكثر معنىً، فالذين كفروا من أهل مكة وغيرهم إلى يوم القيامة {فِي عِزَّة} ولكنها ليست عزة غلبة كالعزة التي في قوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] وإنما هي عزة أنفه وكبرياء وعناد، ولهذا قال المؤلف:[{فِي عِزَّةٍ} حميةٍ وتكبُّرٍ عن الإيمان] وهذه العزة مذمومة؛ لأنها عزة تمنع صاحبها من قبول الحق. وأما العزة التي هي عزة النصر فهي تأييد لصاحبها. وبينهما فرق كبير.

قوله: {فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} يعني مشاقة، فالشقاق مصدر شاقّ، كقتال مصدر قاتل، والمعنى مشاقة لله ولرسوله. قال الله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر: 4] وهنا قال المؤلف: [خلاف وعداوة للنبي صلى الله عليه وسلم]، وهذا أيضاً فيه نظر. لأنه خصّ الشقاق بالنبي صلى الله عليه وسلم مع أن الكافرين يشاقون الله ورسوله، فهم في أنفة وكبرياء وحمية ومشاقة لله ورسوله. يعني أنهم يجُانبون ما أمر الله به ورسولُه، كأنما يكونون في شِقّ، وما جاء به الوحي في شِقٍّ آخر، وربما يقول قائل: إنهم أيضاً في شقاق فيما بينهم، ولا سيما اليهود، فإن الله تعالى قال:{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: 14].

ص: 16

الفوائد:

1 -

من فوائدها: أن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى بحرف، تكلم به بالحروف العربية التي يتكلم الناس بها ويتركب منها كلامهم؛ لقوله:{ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} .

2 -

ومن فوائدها: فضيلة القرآن وشرفه، حيث أقسم الله به، ولا يقسم الله إلا بالشيء العظيم.

3 -

ومن فوائدها: جواز الإقسام بالقرآن، من أين يُؤخذ؟ هل يؤخذ من القرآن؟ هذا خطأ ليس في القرآن دليل على جواز الإقسام بالقرآن؛ لأن الله تعالى يقسم بما لا يجوز أن يقسم به المخلوق كقوله:{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1]، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1]، فإذا أقسم الله بشيء فإنه لا يلزم أن يجوز لنا الإقسام به؛ لأن الله يقسم بما شاء، لكننا نقسم بالقرآن بدليل آخر لا بهذه الآية، وهو أن القرآن كلام الله، فهو صفة من صفاته، والإقسام بصفات الله جائز.

4 -

ومن فوائدها: أن القرآن ذِكْر على الوجوه التي ذكرناها في معنى الذِّكْر، فهو موعظة يُتذكَّر به، وهو ذِكر يتذكَّر به الإنسان ويتعلم، وهو ذِكر يُنال به الشرف، وهو ذِكر لله يُتعبَّد لله -تعالى بتلاوته كما يُتعبَّد بغيره من الأذكار، مثل: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله.

5 -

ومن فوائدها: بيان ما في نفوس الكفار من الحمية والأنفة الباطلة؛ لقوله: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2)} .

ص: 17

6 -

ومن فوائدها: أن الكفار لا يسكتون على كفرهم ويستمرون في طغيانهم وأنفتهم، بل يحاولون أن يصدوا عباد الله عن دين الله، لأنهم في شقاق دائم، يشاقون الله ورسوله.

7 -

ومن فوائدها: أن لنا أن نقول: إنهم في عزة وشقاق مع الحق دائماً، سواء مع الله، أو مع الرسول، أو مع ورثة الرسول وهم العلماء، أو مع أتباع الرسول عموماً وهم المؤمنون، فهم في شقاق دائم مع الحق.

* * *

قال تعالى: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} قال المؤلف: [{كَمْ} أي: كثيراً {أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} أي: أمّة من الأمم الماضية] قوله: {كَمْ أَهْلَكْنَا} قدره المؤلف بقوله: كثيراً، وعلى هذا تكون كم تكثيرية، وهي في محل نصب على أنها مفعول مقدم لـ {أَهْلَكْنَا} و {مِنْ قَبْلِهِمْ} متعلق بـ {أَهْلَكْنَا} ، و {مِنْ قَرْنٍ} تمييز لـ {كَمْ} ، لأن كم اسم مبهم تحتاج إلى تمييز، أي: إلى شيء يبينها ويميزها، فلو قيل: كم أهلكنا من قبلهم، لم يتبين الكلام، ماذا أهلك؟ فإذا قال:{مِنْ قَرْن} ، تبين الكلام، ولهذا نقول: إن {مِنْ قَرْنٍ} تمييز لـ {كَمْ} مجرور بـ {مِنْ} .

{كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: من قبل الكفار الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: {مِنْ قَرْنٍ} أي: من أمة. والمعنى أن الله أهلك كثيراً من الأمم قبل هؤلاء، ومَن أهلك كثيراً من الأمم قبل هؤلاء فإنه حَرِيّ أن يهُلك هؤلاء، لكن إهلاك الأمم السابقة كان بعذاب من الله، وإهلاك المكذبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان بأيدي المؤمنين،

ص: 18

فالحروب والقتال الذي وقع بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم كان عذاباً لهؤلاء المكذبين، وكان على يدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كما قال الله تعالى:{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 14 - 15] ولا شك أن عذاب الأعداء على يد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أشفى لصدورهم مما لو كان العذاب من الله سبحانه وتعالى. وهذا شيء مشاهد. إذا كانت غلبة عدوك على يدك، كان ذلك أشفى لصدرك، وأحيا لنفسك وأقوى وأعز، مما لو أهلكه الله بعذاب من عنده. فلهذا كان هلاك المكذبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم على يد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

قوله تعالى: {مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا} ، الضمائر تعود على الألفاظ باعتبار لفظها، ويجوز أن تعود على الألفاظ باعتبار معناها. ألم تروا إلى قوله تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9]، قال:{اقْتَتَلُوا} ولم يقل: اقتتلا، لو قال: اقتتلا لكان الضمير عائداً على اللفظ {طَائِفَتَانِ} ، ولما قال:{اقْتَتَلُوا} صار عائداً على المعنى، لأن الطائفة جماعة. إذاً قوله:{فَنَادَوْا} أي: القرن، فأعاد الضمير عليها باعتبار المعنى.

وقوله: {فَنَادَوْا} يقول المؤلف: [حين نزول العذاب بهم] ولكن نادوا مَنْ؟ هل المعنى نادى بعضهم بعضاً؟ يستغيث بعضهم ببعض، أو المعنى أنهم نادوا الله، أي: دعوه أن يغيثهم، أو المعنى أنه حصل منهم الأمران؟

ص: 19

القاعدة عندنا في التفسير متى كان اللفظ صالحاً لمعنيين فأكثر فإنه يحمل عليهما جميعاً. وعلى هذا يكون (نادوا) محذوف المفعول من أجل العموم، أي: أن بعضهم ينادي بعضاً: يا فلان أغثني أغثني، وكذلك ينادون الله، لأن الله يقول:{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [غافر: 84].

ولكن قال الله تعالى: {فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)} لات: (لا) النافية زيدت عليها تاء التأنيث لتأنيث اللفظ، كما زيدت تاء التأنيث في "رُبَّتَ" وفي "ثُمَّتَ" لتأنيث اللفظ. تقول: رُبّ رجل لقيته، وتقول: رُبَّتَ رجل لقيته، وتقول: قام زيد ثمَّ قام عمرو، وتقول: قام زيد ثُمَّتَ قام عمرو. فإذاً هي (لا) النافية زيدت عليها تاء التأنيث، لتأنيث اللفظ فتصبح "لات" ،و (لا) النافية تعمل عمل ليس، واسمها محذوف في هذه الآية، وخبرها:{حِينَ مَنَاصٍ} والتقدير: [أي: ليس الحينُ حينَ فرار] فسره المؤلف بالمعنى، فعليه تكون "لا" بمعنى "ليس" واسمها محذوف تقديره الحينُ، وخبرها موجود، وهو قوله:{حِينَ مَنَاصٍ} والغالب أن خبر "لا" يكون زماناً نحو: لات حين، ولات أوان، قال الشاعر.

نَدِمَ البغاةُ ولاتَ ساعةَ مَنْدَمِ

والبغيُ مَرْتَعُ مبتغيه وَخيمُ

يعني وليست الساعةُ ساعةَ مَنْدَم.

وقوله: {مَنَاصٍ} المناص: الفرار والنجاة. يعني ليس الحينُ حينَ فرار ونجاة، لأنه بعد نزول العذاب لا ينفع نفس إيمانها. قال

ص: 20

المؤلف -رحمه الله تعالى-: [أي: ليس الحينُ حينَ فرار، والتاء زائدة لتأنيث اللفظ، والجملة حال من فاعل "نادوا"] وعلى هذا تكون في محل نصب؛ لأن الجملة الحالية دائماً في محل نصب. يعني نادوا في حال لا مناص لهم مما نزل بهم، ولهذا قدّر المؤلف:[أي: استغاثوا والحالُ أن لا مهربَ ولا منجى]. هذا ما قدّره المؤلف في جملة {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} أي: أنها حالية، فتكون مقيدة بحال مناداتهم، ولكن يجوز أن تكون استئنافية، فنادوا، ثم يخبر الله عز وجل أن هذا الوقت ليس وقت مفر، والفرق بين قولنا استئنافية أو حالية: أنه إذا كانت حالية صارت قيداً للمناداة. يعني نادوا في حال لا ينفعهم فيه النداء، وإذا كانت استئنافية تكون منفصلة من حيث القيدية عما قبلها، فيكون الله قد أخبر بأنهم نادوا، ثم أخبر بأنهم في حال ليسوا متمكنين من الفرار.

قال المؤلف: [وما اعتبر بهم كفار مكة] وهذه الثمرة من ذكر أن الله أهلك قروناً كثيرة فيما سبق، ومع هذا لم يعتبر بذلك أهل مكة، بل كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم وآذوه وقالوا: إنه مجنون، وإنه ساحر، وإنه كذاب، وإنه شاعر، وإنه كاهن، وكل وصف ينفّر الناسَ عنه وصفوه به صلى الله عليه وسلم، ولم يعتبروا بمن سبق، بل زادوا على هذا.

الفوائد:

1 -

من فوائد هذه الآية: تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام في أن الله تعالى أهلك المكذبين قبلهم فحَرِيّ أن يهلك هؤلاء. وقد بينا أثناء التفسير أن الله تعالى أهلك هؤلاء لكن على يد الرسول صلى الله عليه وسلم -

ص: 21

وأصحابه في الغزوات التي انتصر فيها، وقلنا: إن هذا النصر والتأييد أبلغ من النصر الذي يأتي به الله من عنده؛ لأن الله يعذب هؤلاء بأيدي عباده المؤمنين وحزبه.

2 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: تحذير هؤلاء المكذبين، وأنهم لن يعجزوا الله في شيء كما لم يعجزه من سبقهم ممن كان قبلهم من الأمم التي أُهلكت {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} .

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن التكذيب للرسل كان كثيرًا، لأن إهلاك القرون إنما كان بسبب تكذيبهم، فإذا كثرت القرون فلازم ذلك أن يكثر التكذيب، أي: إذا كثرت القرون المهلكة، كان لازم ذلك أن يكثر التكذيب.

4 -

ومن فوائد الآية الكريمة: بيان قوة الله وعظمته، حيث أهلك أمماً كثيرة وقروناً عظيمة، قال الله تعالى:{فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)} فبين الله عز وجل أن الذي خلقهم أشدّ منهم قوة، وأنه عذبهم بما هو من ألطف الأشياء، وهي الريح.

5 -

ومن فوائد هذه الآية: أن الأمم الهلَكة إذا نزل بهم العذاب لم يستفيدوا من الاستغاثة بالله ولا بأنفسهم؛ لقوله: {فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)} يعني ليس هناك فرار من هذا العذاب الذي نزل بهم.

* * *

ص: 22

قال الله تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} العجب يكون له سببان: السبب الأول: الإنكار، والسبب الثاني: الاستحسان، يعني يقال: عجب من كذا، أي: استحسنه، وعجب من كذا، أي: أنكره، فهو شبيه بأفعال الأضداد، لأن في اللغة العربية كلماتٍ تدل على المعنى وضده، تسمى عند علماء العربية: الأضداد في اللغة.

فالعجب تارة يكون استحساناً، وتارة يكون استنكاراً، فقول عائشة رضي الله عنها: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يعجبه التيامن في تنعله وترجله

(1)

. المراد بالإعجاب هنا الاستحسان، وفي قوله تعالى:{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ} هذا عجب استنكار وردٍّ، وليس عجب رضاً واستحسان، وهذا نظير قوله تعالى في سورة قَ:{بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} [ق: 2].

قوله: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} أنْ مصدرية على تقدير مِنْ، أي عجبوا مِنْ أن جاءهم، وقلنا: إنها مصدرية؛ لأن ما بعدها يُحوَّل إلى مصدر، أي عجبوا من مجيء المنذر منهم، وقوله:{مُنْذِرٌ} المنذر: هو المخبر بالخبر للتخويف، ولهذا نقول: إن الإنذار خبر مقرون بتخويف، والنبي صلى الله عليه وسلم كان منذراً، وكان مبشراً، ولكن الكفار يليق بحالهم الإنذار، قال تعالى:{لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} [الكهف: 2] والتبشير يكون للمؤمنين. وهنا قال: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} لأن هذا هو اللائق

(1)

أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب التيمن في الوضوء والغسل (168)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب التيمن في الطهور وغيره (268).

ص: 23

بحالهم، وقوله:{مِّنهُم} نسباً وجنساً، فهو منهم جنساً؛ لأنه بشر، ولم يُنزِل الله رسولاً على البشر من الملائكة. ونسباً؛ لأنه من قريش فهو منهم جنساً ونسباً، ومع ذلك عجبوا.

قال المؤلف: [رسولٌ من أنفسهم ينذرهم ويخوِّفهم النارَ بعد البعث] أي: بعد أن يبعثوا [وهو النبي صلى الله عليه وسلم]، عجبوا عجب استنكار ورفض ورَدٍّ مع أنهم كانوا يصفون الرسول صلى الله عليه وسلم بالصادق الأمين، ولما جاءهم بالرسالة صار كاذباً خائناً -والعياذ بالله- إذاً معاداتهم له ليس لشخصه، ولكن لِمَا جاء به.

قوله تعالى: {وَقَالَ الْكَافِرُونَ} فيه وَضْعُ الظاهر موضع المضمر، ويكون الكلام لو أُتيَ بالمضمر، وعجبوا أن جاءهم منذر منهم، وقالوا: هذا ساحر كذاب، لكن قال:{وَقَالَ الْكَافِرُونَ} والفائدة من الإظهار في موضع الإضمار:

أولاً: تنبيه المخاطب، لأن الكلام إذا تغير نسقُه أوجب للسامع أن ينتبه بخلاف ما إذا كان على نسق واحد، فقد يأتيه النوم، لكن إذا اختلف انتبه.

ثانياً: التسجيل على هؤلاء بالكفر لأنه لو قال: وقالوا هذا ساحر كذاب، لم نعرف حكمهم، أما إذا قال:{وَقَالَ الْكَافِرُونَ} عرفنا أنهم كافرون.

ثالثاً: أن الحامل لهم على هذا هو الكفر، فلا يبعد أن يأتي مِن غيرهم مثل ما أتى منهم، لأن العلة واحدة، فمتى وجدت هذه العلة

ص: 24

حصل المعلول من أي شخص كان، فهذه فوائد الإظهار في مواضع الإضمار.

{وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4)} يشيرون إلى المنذر منهم، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم {سَاحِرٌ كَذَّابٌ} جمعوا بين وصفين ذميمين: ساحر؛ لأنه يسبي عقول الناس، وكذاب، لأن ما جاء به كذب غير مطابق للواقع، فصار الرسول عليه الصلاة والسلام الذي هو أصدق الخلق، صار عندهم كذاباً، ولم يقولوا: كاذباً، لأن كذاباً تكون صفة للمتصف بصفة الكذب، كما تقول: نجار وحداد وما أشبه ذلك مما يكون صفة لازمة، فهم قالوا: إنه ساحر لقوة تأثيره على سامعه، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع الناسُ قراءتَه تأثروا بها تأثراً عظيماً، وكانت النساء والصبيان يجتمعون إلى بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ليسمعوا قراءته، وكانوا يتأثرون بهذه القراءة، فكان كفار قريش يقولون: إن محمداً سحر أبناءنا ونساءنا، وأنه ساحر، لقوة تأثيره فيهم، وكذاب، يعني أن ما جاء به فهو كذب لا حقيقة له. والكاذب هو المخبر بخلاف الواقع. فكل من أخبرك بخلاف الواقع فقد كذبك.

الفوائد:

1 -

في هذا دليل على سفه قريش الذين كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم ، واستنكروا ما جاء به. ووجه ذلك أنه لم يأتهم أحد غريب عليهم لا في جنسه، ولا في نسبه، فالذي جاءهم جنسه بشر مثلهم، ونسبه منهم من قريش، ومع ذلك يعجبون استنكاراً مما جاءهم.

ص: 25

2 -

ومن فوائد الآية: إقامة الحجة للرسول صلى الله عليه وسلم على هؤلاء، لقوله:{مُنْذِر} يعني لقد أقام عليهم الحجة بالإنذار، وقد قامت الحجة للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لم يفرط في رسالته، بل أنذر، وقام بما قام به من البلاغ.

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن هؤلاء الذين عجبوا استنكاراً كفارٌ، لقوله:{وَقَالَ الْكَافِرُونَ} .

4 -

ومن فوائدها: أن كل من قال مثل قولهم، وعجب مثل عجبهم فإنه كافر، من أيّ جنس كان من البشر.

5 -

ومن فوائدها: بيان قوة تأثير كلام الرسول صلى الله عليه وسلم في نفوس القوم، لقولهم:{هَذَا سَاحِرٌ} والساحر يؤثر في المسحور.

6 -

ومن فوائدها: كذبهم في وصف الرسول عليه الصلاة والسلام حيث قالوا: إنه ساحر كذاب، والحقيقة أنهم هم الكذابون بما وصفوا به الرسول صلى الله عليه وسلم.

7 -

ومن فوائدها: أن أعداء الرسل لا يعادونهم عداء شخصياً، ولكنهم يعادونهم عداء معنوياً، لما جاؤوا به من الرسالة. ويتفرع على هذه الفائدة أن الكافرين سيكونون أعداء لكل من يتبع الرسول. كل مَن اتبع الرسول سيجد له أعداء من الكافرين والمنافقين. ويتفرع على ذلك تسلية من وجد عداء من أعداء الله لتمسكه بكتاب الله وسنة رسوله، فإنه يقال: هذا العداء الذي حصل لك قد حصل لمن هو خير منك فلا تعجب.

ص: 26

8 -

ومن فوائد الآية: أن أعداء الرسل بل أعداء الرسالة يطلقون ألقاب السوء على من تمسك بالشرع، يضعون ألقاب السوء لكل من تمسك بالشريعة؛ لقولهم:{هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} وقد حصل هذا، فإن أهل التعطيل مثلاً يصفون أهل الإثبات من السلف بأنهم حشوية مجسمة ممثلة رعاع غوغاء وما أشبه ذلك من ألقاب السوء من أجل أن ينفروا الناس، والعجب أن هؤلاء الذين يضعون ألقاب السوء لو تأملنا لوجدنا هذا اللقب الذي وضعوه للمتمسكين بشريعة الله، يصدق عليهم هم، ألم يبلغكم قول المنافقين في الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه، قالوا: ما رأينا مثل قُرّائنا هؤلاء أرغبَ بطوناً، ولا أكذبَ ألسناً ولا أجبنَ عند اللقاء من هؤلاء القراء

(1)

. وهذه الأوصاف الثلاثة تنطبق عليهم هم، فهم أكذب الناس ألسناً، وأجبن الناس عند اللقاء، وأرغب الناس بطوناً، وليس لهم هَمٌّ إلا بطونهم.

9 -

ومن فوائد هذه الآيات: أن هؤلاء المكذبين للرسول عليه الصلاة والسلام لم يقيموا عليه حجة في ما كذبوه فيه، وليس عندهم إلا السبّ والعيب، وهذا يدل على ضعف حجة من ناوأك، فإذا وجدت الذي ناوَأك ليس عنده إلا الصراخ والعويك، ولطم الخد، ونتف الشعر وما أشبه ذلك، فاعلم أنه ليس له حجة إنما يريد أن يشوش عليك، لعلك تنهزم، وإلا فصاحب الحجة يدلي بحجته

(1)

أورده الطبري في "تفسيره" 6/ 409 (16927 و 16928 و 16930)، وابن كثير في "تفسيره" 4/ 171، سورة التوبة) الآية:65.

ص: 27

بهدوء وبدون إثارة، أما أن يسب ويشتم ويثور فإن هذا دليل على أنه مهزوم ومخذول، وأنه يريد أن يتخذ من هذا السلاح مهرباً ومخلصاً مما هو عليه من الضيق، الذي عجز أن يدفع به حجة خصمه.

* * *

قال الله تعالى: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} هذا مصب الإنكار. هذا الاستفهام يحمل معنيين:

المعنى الأول: التعجب الاستنكاري.

والثاني: الإنكار البليغ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث جعل الآلهة إلهاً واحداً. هنا قال:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} جعل نصبت مفعولين: الأول: الآلهة، والثاني: إلهاً واحداً. يعني أصيّر محمد الآلهة إلهاً واحداً! وهم يعبدون آلهة متعددة: اللات والعُزَّى ومناة وهبل وغيرها من الأصنام. كيف يأتي محمد ويقول: ليس هناك آلهة إلا الله. هذا عندهم من أكبر الكذب، حيث قال لهم:"قولوا: لا إله إلا الله" أي: كيف يسع الخلق كلّهم إلهٌ واحد؟ وهذا من جهلهم وغباوتهم أن ينكروا كون الآلهة إلهاً واحداً، فنقول لهم: من الخالق؟ وكم؟ يقولون: الخالق هو الله؟ وإنه واحد. فإذا كان الخالق هو الله، وهو واحد كما تؤمنون به، فإنه لا غرابة أن يكون الإله هو الله وهو واحد، ومن وسع الخَلْقَ خَلْقاً وسعهم تعبُّداً، فإذا كانت الآلهة لم تخلق شيئاً بإقراركم، فكيف تستحق أن تكون آلهة، وإذا كان يمكن انحصار الخلق في واحد، فإنه يمكن أن تنحصر العبادة في

ص: 28

واحد، ولهذا قال:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)} إن هذا: المشار إليه جَعْله الآلهة إلهاً واحداً {لَشَيْءٌ عُجَابٌ} أي: عجيب، لكن كلمة عجاب أبلغ من كلمة عجيب، لأنها تدل على المبالغة، أي: لا شيء يتعجب منه الإنسان عجباً عظيماً كثيراً، ولهذا عدلوا عن عجيب إلى عجاب {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)} .

قال الله تعالى: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} لم يذكر مكان الانطلاق؛ ليعم كل مكان يجتمعون فيه ويذكرون مثل هذا الشيء، فكلما اجتمعوا في مكان وتذاكروا فيما بينهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من التوحيد، انطلقوا من هذا المكان وهم يتواصون بالباطل والصبر عليه، ولهذا قال:{وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ} والملأ هم الأشراف والكبراء والوجهاء، وهم الذين كانوا يقابلون الرسل بالردّ والرفض خوفاً على مكانتهم من أن تزول باتباع الرسل.

ولو تأملتم القرآن لوجدتم أن الذين يقومون في وجوه الرسل هم الملأ والأشراف. أما الضعفاء من النساء والأولاد والفقراء فهم الذين يكونون أول من ينقاد للرسل.

وأما قول المؤلف: [{وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ} من مجلس اجتماعهم عند أبي طالب وسماعهم فيه من النبي صلى الله عليه وسلم: "قولوا: لا إله إلا الله"

(1)

] فهذا تقييد لمطلق، وقد ذكرنا أن تفسير القرآن بما هو أخص تفسير قاصر؛ لأنه يقصر المعنى المطلق على هذا المعنى المقيد، أو

(1)

انظر حديث ابن عباس في "مسند الإمام أحمد" 3/ 458 (2008) و 5/ 393 (3419)، و"تفسير ابن كثير" 7/ 53 - 54، سورة صَ، الآيات: 4 - 8.

ص: 29

المعنى العامّ على المعنى الخاصّ، وهذا نقص بلا شكّ، إلا إذا قام الدليل على ذلك فليتبع الدليل.

فقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173] هذا عامّ، ولكن إذا طبقنا هذا الكلام على الواقع وجدنا أن المرادَ بالناس الخاصَّ. {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} القائل واحد {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} أيضاً ليس كل الناس قد جمعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين لم تبلغهم الدعوة لم يجمعوا له، فيكون تفسيرنا الناس بخاصٍّ في هذه الآية، تفسيراً دلّ عليه الواقع، أما إذا لم يكن دليل فإن الواجب إبقاء القرآن على عمومه إنْ كان من العامّ، وعلى إطلاقه إنْ كان من المطلق.

هنا نقول: إن المؤلف رحمه الله جعل الانطلاق من مجلس خاصٍّ، وهو المجلس الذي اجتمعوا فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أبي طالب حين قال:"قولوا: لا إله إلا الله" ولكن الأولى أن نجعله عامّاً يشمل هذا المجلس وغيره.

قوله تعالى: {أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} أن امشوا واصبروا هل المراد هنا المشي بالقدم؟ أو المراد المشي على الطريقة؟ بمعنى سيروا على طريقتكم واصبروا على آلهتكم، من نظر إلى الانطلاق، {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ} قال: إن المراد بذلك المشي بالقدم، بمعنى أنهم إذا انطلقوا حثَّ بعضهم بعضاً على المشي والسير؛ لئلا يعودوا فيعرِّجوا على ما انطلقوا منه، كأنهم إنما ينطلقون فراراً، فيوصي بعضهم بعضاً بالمشي. وإذا نظرنا إلى المعنى أو إلى عموم أحوالهم قلنا: إن

ص: 30

المراد بذلك المشي على الطريقة، يعني سيروا على طريقتكم ولا يهمنكم أحد.

قوله تعالى: {وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} يعني: احبسوا أنفسكم عليها لا تحيدوا عنها. وهذا من باب التواصي بالباطل، يقول بعضهم لبعض: امشوا واصبروا على آلهتكم واثبتوا على عبادتها. إن هذا المذكور من التوحيد لشيء يراد {وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} يعني اثبتوا عليها في عبادتها، والدفاع عنها، وعدم قبول كل شيء يبطلها. اصبروا {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} هذا المشار إليه، ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من التوحيد.

{لَشَيْءٌ يُرَادُ} أي: يريده مَن جاء به، وهذا يدل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم. معناه أن هذا الرجل قال قولاً يريده، فهو جادّ في قوله، والشيء الذي يراد لا بد أن يسعى مريدُه ليحققه، بخلاف الإنسان الذي يقول القول باللسان لا بالقلب، ولهذا تجد الذي يقول القول بلسانه وقلبه، يصمم ويعزم على أن ينفذ ما قال. لكن الذي لا يريد يكون قوله بلسانه سطحياً، فقولهم:{إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} أي يريده قائله وهو النبي عليه الصلاة والسلام، وإذا صدر القول عن إرادة فهذا يعني أن صاحبه مصمم عليه، وعلى غلبته، وأن يكون هذا القول هو القول السائد الذي يمشي عليه الناس، بخلاف مَن قال قولاً لا يريده، مثل أن يقول القول مجاملة، أو من أجل إمضاء الوقت أو ما شابه ذلك. فإنه لا يكون عنده العزم الصادق على تنفيذ ما قاله.

ص: 31

الفوائد:

1 -

من فوائدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو هؤلاء إلى توحيد الله عز وجل في ألوهيَّته وهو مع هؤلاء يجادلهم في ألوهيته تعالى، ويدعوهم إلى توحيد الألوهية، لأن توحيد الربوبية عندهم ثابت مقرّون به، يقول الله تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9]{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87] لا ينكرون توحيد الربوبية لكنهم ينكرون توحيد الألوهية، ولذلك قالوا:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} فكان الصراع بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش على توحيد الألوهية، أما توحيد الربوبية فقد أقرّوا به.

2 -

ومن فوائد هذه الآية: وجوب تقديم الأهم فالأهم في الدعوة إلى الله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أول ما دعا هؤلاء إلى التوحيد لم يقل: صلّوا ولا زكّوا ولا صوموا ولا حجّوا، بل دعاهم إلى التوحيد، وهذا هو شأن القرآن، وهذا هو شأن سنة الرسول عليه الصلاة والسلام العملية، فإنه لما بعث معاذاً إلى اليمن أمره أن يدعوهم أول ما يدعوهم إليه إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: مكابرة هؤلاء الذين أنكروا توحيد الألوهية حيث ادعوا أن الدعوة إليه من الأمور العجيبة جداً لقولهم: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} وكما قلت آنفاً: إن مَن وصف

ص: 32

الحقّ بأوصاف الباطل فإن حقيقته أن تعود هذه الأوصاف إليه، فأيهما أشد عجباً رجل يدعو إلى توحيد الله، وآخر يدعو إلى الإشراك به ونفي التوحيد؟ أيهما أعجب؟ ولهذا نقول: والله إن الشيء العجاب أن تنكروا توحيد الله، وأن تَدّعوا أن لله شريكاً. هذا هو الشيء العجاب. أما رجل يدعو إلى توحيد الله الذي دلت عليه الفطرة، ودلت عليه الآيات الكونية والشرعية، فإن هذا ليس بعجاب، بل العجاب فعلكم أنتم.

4 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: استعمال المؤكدات في الكلام، وأنه من الأساليب اللغوية، لقولهم:{إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} فهم أكدوا هذه الجملة بمؤكدين بـ "إن" واللام {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} .

فوائد قوله تعالى: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6)} .

1 -

في هذه الآية دليل على تخوّف هؤلاء من تأثير دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم، ولهذا كانوا يتواصون بالصبر على آلهتهم، وكانوا يتواصون بالبقاء والثبات على طريقتهم، وكانوا يتواصون بالهروب من الأماكن التي يدعى فيها إلى التوحيد. كل هذا يؤخذ من قوله:{أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} .

2 -

ومن فوائد الآية: أن أهل الباطل يَحِنّون على باطلهم، ويحافظون عليه ويخافون من تزعزعه، لقوله:{وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُم} وهكذا أهل الباطل تجدهم دائماً يحوطون

ص: 33

باطلهم بالسياج الذي يمنع من الوصول إليه على وجه يمزق هذا الباطل.

3 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن للاجتماع على الشيء تأثير في بقائه وثباته. تؤخذ من التواصي بالثبات على ما هم عليه، والصبر على آلهتهم. ولا شك أن العمل الجماعي أكثر تأثيراً من العمل الفردي مهما كان الفرد في القوة، ولهذا أمر النبي عليه الصلاة والسلام بأن نتزوج الودود الولود من أجل كثرة الأمة

(1)

، فإن الكثرة لها تأثير عظيم، ولهذا امتن الله بها في كتابه على بني إسرائيل حيث قال:{وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء: 6]، وذكَّر شعيب قومه بها حيثْ قال:{وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86]، والعامة يقولون: الكثرة تغلب الشجاعة.

4 -

ومن فوائدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول قولاً يعني به ما يقول؛ لقولهم: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} .

5 -

ومن فوائدها أيضاً: أن الإنسان إذا عنى ما يقول فإن تأثيره في المخاطَب أكثر، لأن الخطاب يكون باللسان، واللسان وسيلة للتعبير عن ما قي القلب، ثم إن كان اللسان يعبر عن ما في القلب حقيقة، فإن الوسيلة التي تتلقى هذا القول وهي الأذن، توصل ما تسمع إلى القلب، ولهذا يقول العامة: إذا خرج الكلام من اللسان فلن يتجاوز الآذان، وما خرج من القلب نفذ إلى القلب، وهذا

(1)

انظر حديث أنس بن مالك في "مسند الإمام أحمد" 20/ 63 (12613)، وحديث معقل بن يسار عند أبي داود (2050)، والنسائي 6/ 65 - 66 (3227).

ص: 34

صحيح أن القول الخارج من القلب يؤثر أكثر بكثير من القول الخارج من اللسان، وأضرب لذلك مثلاً: لو قام رجلان يعظان الناس، أحدهما يعظ من قلب، وتشعر أنه يتكلم من أعماق قلبه، ويظهر أثر قوله على صفحات وجهه، والآخر أبلغ منه وأشدّ ترصيعاً للكلام وتنميقاً له، لكن قوله يخرج من لسانه فقط، وقلبه على خلاف ذلك، أو على الأقل لا يؤمن بما يقول، فالأول أشدّ تأثيراً.

ولو قام عاميّ يتكلم بكلام عاميّ لكن من أعماق قلبه تأثر الناس به أكثر مما لو تكلم رجل فصيح اللسان قوي البيان، لكن قلبه خالٍ مما يقول، وهذا الشيء مشاهد، ولهذا قال الكافرون:{إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} يعني يقال ويراد حقيقة، فهم لقوة إرادة النبي صلى الله عليه وسلم لما يقول، كانوا يخافون من هذه الإرادة ويقولون:{إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6)} والله أعلم.

* * *

قال الله تبارك وتعالى حاكياً عن قريش ما كانوا يتواصون به من الصبر على آلهتهم، والثبات عليها، نقل عنهم من جملة كلامهم:{مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} ما سمعنا بهذا، والمشار إليه التوحيد، أي: أنه لا إله إلا الله {فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} الملة: هي الدين الذي يكون عليه الإنسان، كما قال الله تعالى:{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123]، وتطلق الملة على الحقّ وعلى الباطل، فالكفار على ملةٍ والمسلمين على ملة، وفي كلام أهل الفقه في الفرائض:

ص: 35

لا يتوارث أهل مِلَّتين، وجاء في ذلك حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

، فالملة هي الدين الذي يكون عليه المَرْء من عقائد وعبادات وأخلاق.

وقوله: {فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} قال المؤلف: [أي: ملة عيسى عليه السلام] لأن عيسى هو آخر الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم، لم يكن بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم نبي، وما قيل عن نبوة بعض العرب مثل خالد بن سنان أو غيره فإنه لا صحة له، وذلك لأن العرب ليس فيهم رسول إلا إسماعيل عليه الصلاة والسلام ومحمد صلى الله عليه وسلم، وما سوى ذلك فكل ما يُدَّعَى من أن في العرب رسولاً أو نبياً فهو كذب.

يقول: {فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} أي: ملة عيسى عليه الصلاة والسلام، وذلك أن الذي سمعوه في ملة عيسى هو أن الله ثالث ثلاثة، وهذا ليس بتوحيد. والعجب من ضلال النصارى حيث يقولون: إننا نوحّد الله، وهم يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، فأين التوحيد في ثلاثة، لا يمكن أن تجعل الثلاثة واحداً؟ ! ولهذا يعتبر هذا من أضل ما ضل فيه النصارى، وهم كما هو معلوم ضالون، ولكن هذا من أشد ما يكون من الضلال. كيف تقول: إنك موحد وأنت تقول: إن الله ثالث ثلاثة: مريم وابنها والله، فالعرب الذين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ما سمعوا في ملة عيسى توحيداً، وإنما سمعوا فيها تثليثاً، فكأنهم يقولون: أنت يا محمد أتيت بملة لم تكن لمن قبلك، فالذين من قبلك آخرهم الملة النصرانية، وهم لا يقولون بالتوحيد.

(1)

حديث حسن أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" 11/ 245 (6664)، وأبو داود (2911).

ص: 36

{إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)} . إنْ يقول المؤلف: [ما] وعلى هذا فهي نافية، وعلامة "إن" النافية أن يأتي بعدها الإثبات بـ "إلَاّ" أو نحوها، وهنا أتى بعدها الإثبات بـ "إلَاّ" {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)} أي: ما هذا إلا اختلاق، و"إن" تأتي في اللغة العربية على أوجه: نافية، وزائدة، وشرطية، ومخففة من الثقيلة، فهنا "إنْ" نافية وفي قولك: إن أكرمتني أكرمتك؛ شرطية، وفي قوله تعالى:{وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 52] نافية: إذا أثبت "إلَاّ" فهي نافية. وفي قول الشاعر:

أنا ابنُ أُباةِ الضيمِ من آلِ مالكٍ

وإنْ مالكٌ كانت كرامَ المعادنِ

إنْ مالكٌ مخففة من الثقيلة، وفي قول الشاعر:

بني غُدانة ما إنْ أنتُمُ ذهباً

ولا صريفاً ولكن أنتُمُ الخزفُ

قال المؤلف هنا: [{إِنْ}: ما {هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)}: كذب] هذا المشار إليه ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من التوحيد، وقوله:{إِلَّا اخْتِلَاقٌ} أي إلاّ كذب، يقال: اختلق الكلام، أي: افتراه وكذبه، وهذا بناء مبني على قوله فيما سبق {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4)} ، والكذاب لا يأتي إلا بالكذب والاختلاق، ولما أنكروا التوحيد أنكروا الرسالة أيضاً فقالوا:{أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} هذا الاستفهام للنفي لكنه أتى بصيغة الاستفهام مبالغة في نفيه، كأنهم يتعجبون كيف ينزل عليه الذكر من بيننا ولم ينزل على أحد غيره؟ ! وهذا كقوله تعالى حكاية لقولهم:{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] القريتين: هما مكة والطائف.

ص: 37

يقولون: لولا نزل هذا القرآن على رجل من الأكابر والأشراف، لا على هذا الغلام الذي يعتبر من أصغر القوم، فكيف ينزل عليه الذكر من بيننا.

وقوله: {أَأُنْزِلَ} ذكر المؤلف فيها قراءات قال: [بتحقيق الهمزتين]: أي: همزة الاستفهام وهمزة الفعل، والتحقيق أن تقرأه هكذا {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} [وتسهيل الثانية] تسهيل الثانية بأن تمر عليها مراً فلا يظهر أنك حذفتها ولا أنك بيَّنتها، [وإدخال ألف بينهما على الوجهين] أي: وجهي التحقيق والتسهيل. ألف بينهما، أي: بين الهمزتين فتقول على قراءة التحقيق {أَأُنْزِلَ} وعلى قراءة التسهيل {أَأُنْزِلَ} فالقراءات إذن أربع: تحقيق الهمزتين بلا ألف، وتحقيق الهمزتين بألف، وتسهيل الثانية بدون ألف، وتسهيلها مع ألف.

{أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} عليه: على محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاء بهذا القرآن الذي يذكّرهم به. {الذِّكْرُ} : القرآن. وهذا إقرار منهم بأن القرآن ذكر، وإن كان يحتمل أن يكونوا قالوه على سبيل الاستهزاء والتهكم، وأنهم لا يؤمنون بأنه ذكر، وأيّاً كان فالمقصود بذلك نفي أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم هو الرسول.

يقول المؤلف: {مِنْ بَيْنِنَا} وليس بأكبرنا ولا أشرفنا] ويريدون أن يكون نزول القرآن على أكبرهم وأشرفهم، ولكن الذي نتيقن أنه لو نزل على أشرفهم وأكبرهم لكذبوا أيضاً، لكذبوا كما قال تعالى:{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 8 - 9]

ص: 38

فهم معاندون لا يريدون الحق، ونعلم أنه لو نزل على غير محمد صلى الله عليه وسلم لطلبوا أن يكون نزل على غيره؛ لأنهم لم ينفوا الرسالة حقيقة من أجل شخصية محمد صلى الله عليه وسلم، فإن شخصيته عندهم من أفضل الشخصيات، وأقواها أمانة، وأحسنها خلقاً، ولكن يقولون هذا على سبيل العناد والمكابرة، فهو كقولهم لما حدثوا بالبعث:{قَالُوا ائْتُوا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الجاثية: 25] وهذا مكابرة منهم، لأنهم لم يُحَدَّثوا بالبعث الآن، وإنما حُدِّثوا بالبعث يوم القيامة، فلم يأتِ الموعد الذي حُدِّد للبعث حتى يتحدوا بهذا التحدي فيقال لهم: إن الله يميتكم ثم يحييكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة، والرسل ما قالت لهم: إنكم تبعثون الآن حتى تقولوا: هاتوا آبائنا، وإنما يقولون: ستبعثون يوم القيامة، وسيأتي الله بآبائهم ومن سبقهم.

وقول المؤلف رحمه الله: [ليس بأكبرنا ولا أشرفنا]، أما قولهم: ليس بأكبرنا، إن كانوا قالوه فهم صادقون، فالرسول ليس بأكبرهم سناً، فيهم من يكبره سِنّاً، وأما قولهم: ولا أشرفنا، فهم كاذبون، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق. قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله اصطفى بني إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل كِنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم"

(1)

، وقال تعالى:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] فلم يجعل رسالته إلا في أحق الناس بها، وأجدرهم بها، وأولاهم بها.

(1)

أخرجه بنحوه مسلم كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم (2276).

ص: 39

يقول المؤلف: [أي: لم يُنزل عليه] هذا تفسير للاستفهام في قولهم: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} أي: أن الاستفهام للنفي، لكنه جاء على سبيل الاستفهام؛ للتعجب والاستبعاد من أن يُنزل عليه الذكرُ من بينهم.

قال الله تعالى: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي} بل: إغراء لإبطال ما ادعوه من كونهم يريدون أن ينزل القرآن على أشرفهم. يقول: هم في شك من ذكري، فكيف يقولون: لو نزل على أشرفنا، لو نزل على غير محمد، والشَّاكُّ في الأصل لا يطلب الفرع أصلاً، فإذا كانوا في شك من نزول هذا الذكر، بقطع النظر عن كونه من محمد صلى الله عليه وسلم فكيف يقولون:{أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} وعلى هذا فقولهم ليس مبني على أصل. يعني أنهم لم يؤمنوا بهذا الذكر أصلاً فضلاً عن أن يكون أنزل على محمد أو غيره.

{مِنْ ذِكْرِي} قال المؤلف: [وَحْيِيْ، أي: القرآن، حيث كذبوا الجائي به]، فإن من كذب من جاء بالشيء فإنه منكر للشيء؛ لأنه لو قال لك قائل: قَدِم فلان اليوم، فقلت: أنت كاذب، هل تكون مؤمناً بقدومه؟ لا، لا تكون مؤمناً بقدومه، وكيف تكون مؤمناً بقدومه وهو لم يأتك إلا من هذا الطريق الذي زعمت أن صاحبها كذاب، ولهذا إذا كان هذا الذكر لم يأتِ إلا عن طريق محمد صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إنه كاذب، وإنه ليس برسول، وليس له حق في الرسالة؛ لأنه يوجد مَن هو أحق منه، فكيف تقولون بأنه ذِكْر. إذاً هم في شك من هذا الذكر، وهل هذا الشك حقيقة أو على سبيل العناد؟

ص: 40

الظاهر -والله أعلم- أنه على سبيل العناد، لكن منهم من يشك لقوة الدعاية المضادة، ولا سيما إذا جاءت من أكابر، فسوف يلحق العامة شك من هذا القول.

وقوله: {مِنْ ذِكْرِي} أي: من الذكر الذي أنزلتُ، وهو القرآن، والشك هو التردد وعدم الجزم.

وقد قيل: إن الإدراك ينقسم إلى خمسة أقسام: إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكاً جازماً، وإدراك الشيء على خلاف ما هو عليه، وإدراك الشيء برجحان، وإدراك الشيء بمرجوحية، وإدراك الشيء على السواء، فهذه خمسة أقسام.

فإدراك الشيء على ما هو عليه إدراكاً جازماً يسمى علماً، كإدراكنا أن الواحد نصف الاثنين، هذا علم. وإدراك الشيء على خلاف ما هو عليه جهل مركب، مثل: أن تدرك أن غزوة بدر مثلًا في السنة الثالثة للهجرة، هذا نسميه جهلاً مركباً، وعدم إدراكه بالكلية هذا جهل بسيط، وإدراك الشيء مع رجحان ظن، وإدراكه مع المرجوحية وهم، وإدراكه مع التساوي شك، فهذه ستة أقسام. إدراكه على ما هو عليه، وعلى خلاف ما هو عليه، وعدم الإدراك بالكلية، والإدراك برجحان، والإدراك بمرجوحية، والإدراك بالتساوي.

والشك أحياناً يراد به التساوي، وأحياناً يطلق على الراجح والمرجوح والمساوي، وهذا ما يكون في كلام الفقهاء عندما يتحدثون عن الشك في الحدث أو الشك في نجاسة الطاهر، فإنهم يريدون الشك الراجح والمرجوح والمساوي، أي: بمعنى أنه إذا شككت في

ص: 41

نجاسة الماء الطاهر ولو غلب على ظنك أنه نجس فهو طاهر، وإذا شككت هل أحدثتَ، ولو غلب على ظنك أنك أحدثت فأنت طاهر، وعللوا ذلك بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً"

(1)

يعني حتى يتيقن ولا عبرة بالظن.

يقول الله تعالى: {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8)} بل: للإضراب الانتقالي لا الإبطالي {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} قال المؤلف: أي: [لم] وهذا تفسير ببعض المعنى؛ لأن "لما" و"لم " تشتركان في النفي لكنهما تختلفان فيما عداه، لأن "لم" لنفي غير المتوقع، و"لما" لنفي المتوقع القريب، فإذا قلت: لم يقم زيد، فهذا نفي لقيامه على وجه لا يتوقع منه القيام، وإذا قلت: لما يقم زيد، فهو نفي لقيامه على وجه يتوقع منه القيام عن قرب، وعلى هذا فقوله:{لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} أي: لم يذوقوه ولكن سيذوقونه قريباً.

قالوا: و"لما" تأتي على أوجه: تأتي نافية فتجزم الفعل المضارع كما تجزمه "لم"، وتأتي بمعنى حين، وتأتي شرطية، وتأتي استثنائية. هذه أربعة أوجه. تأتي نافية كنفي "لم" لكنها تختلف عنها بأن منفي "لم" لا يتوقع، ومنفيها يتوقع قريباً، مثل هذه الآية، وتأتي شرطية كقوله تعالى:{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [هود: 82]، وتأتي استثنائية كقوله تعالى:{إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] أي: ما كل نفس إلا عليها حافظ، وتأتي بمعنى "حين" فتقول: قدمت البلد

(1)

أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن (137)، ومسلم، كتاب الحيض، باب الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك (361).

ص: 42

لما طلعت الشمس، أي: حين طلعت الشمس. قال: {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8)} يذوقوا أصلها يذوقون لكن حذفت النون للجزم، لأن "لما" من حروف الجزم.

وقوله: {عَذَابِ} قد يشكل على طالب العلم، وهو أن الفعل واقع عليه، وهو مع ذلك لم يُنصَب، أي لم يقل: بل لما يذوقوا عذاباً، فكيف توجيه ذلك؟ كيف لم ينصب {عَذَابِ} مع أن الفعل واقع عليها؟ والجواب عن ذلك أن نقول: إن {عَذَابِ} أصلها: عذابي بالياء، والمضاف إلى ياء المتكلم تقدر عليه الحركات، ولذلك لا بد أنه يكسر من أجل مناسبة الياء، فتكون الحركات مقدرة عليه، وعلى هذا فنقول: عذاب مفعول يذوق، منصوب بفتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة تخفيفاً، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة، والياء هنا حذفت للتخفيف، وهذا كثير في القرآن واللغة العربية أن تحذف ياء المتكلم للتخفيف، كما في قوله تعالى:{الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد: 9]{وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: 11] والتقدير: المتعالي، ومن والي.

وقوله: {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8)} العذاب ليس مطعوماً يذاق، ولكن الإصابة به ذوق، وذوق كل شيء بحسبه، فإذا أعطيتك قطعة لحم ومضغتها فهذا ذوق، وإذا ضربتك وأحسست بالضرب فهذا ذوق، فذوق كل شيء بحسبه، وليس ذوق العذاب كذوق الطعام والشراب، بل هو ذوق مناسب له {لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ}. قال المؤلف:[ولو ذاقوه لصدَّقوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم فيما جاء به] ولكن هذا

ص: 43

التصديق لا ينفعهم، لأنه إذا صدّق الجاحد بعد نزول العذاب به فإن ذلك لا ينفعه، قال الله تعالى:{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 84 - 85].

الفوائد:

1 -

من فوائد قوله تعالى: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)} : أن المكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من التوحيد ليس عندهم دليل إلا ما كان عليه آباؤهم؛ لقولهم: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} .

2 -

ومن فوائدها: أن هؤلاء مكابرون معاندون فمع كونهم لا دليل عندهم قالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} .

3 -

ومن فوائدها: أن كل إنسان ليس عنده علم شرعي فإنه يلجأ إلى ما كان الناس عليه في العادة، وهذا كما هو في من سبق فهو في من حضر، كثير من الناس تنهاه عن المنكر فيقول: هذا الذي مشى عليه الناس، وهذا ليس بحجة، وهذا كما أنه سابق فهو أيضاً لاحق، فمن الناس مَن إذا أنكرت عليه المنكر قال: هذا ما زال الناس عليه، أو يقول: ما سمعنا بهذا، ومنه قول بعض العامة إذا نُبِّهوا على شيء لم يكونوا يعرفونه، قالوا: هذا دين جديد، ما سمعنا بهذا، وهذا ليس بحجة. وإنما الحجة الدليل القائم من كتاب الله، وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام.

ص: 44

4 -

ومن فوائد قوله تعالى: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8)} : أن هؤلاء يريدون أن يكون الشرع تابعاً لأهوائهم، يأتي الوحي من يشاؤون، ويمتنع عن من يشاؤون؛ لقوله:{أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} .

5 -

ومن فوائدها: أن صاحب الباطل لا يعرف أن حجَّتَه حجَّة عليه، لأن قولهم:{أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} هي حجة فيما لو نزل الذكر على من يشاؤون، لأنه لو نزل على مَن عيّنوه وأرادوه، لقال غيرهم:{أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} ويتفرع على هذه الفائدة كل مُبْطِل يحتج بحق، لكن استدلاله به باطل، فإنه لا حجة له، ومن ذلك ما يحتج به أهل التحريف في باب الصفات أو غيرها من الأدلة الصحيحة التي ليس لهم فيها استدلال. فمثلاً أهل التعطيل يستدلون لتعطيلهم بقول الله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ومن المعلوم أنه عند التأمل يكون هذا الدليل حجة عليهم، لأن نفي المماثلة يدل على ثبوت أصل المعنى، ولو لم يكن أصل المعنى ثابتاً لم يكن لنفي المماثلة فائدة. وهكذا كل مبطل يحتج لباطله بحجة صحيحة، لكن استدلاله بها غير صحيح، نجد أن هذه الحجة حجة عليه. وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه "درء تعارض العقل والنقل" المعروف بالعقل والنقل أنه ملتزم بأنه ما من صاحب باطل يحتج بآية أو حديث صحيح إلا كان دليله حجة عليه وليس له.

ص: 45

6 -

ومن فوائدها أيضاً: أن هؤلاء الذين اقترحوا هذا الاقتراح وأنكروا أن ينزل الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وسلم هم في شك مما يدَّعون، فإذا كانوا في شك فكيف يقترحون؟ ولهذا قال:{بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي} .

7 -

ومن فوائدها: أن المكذبين للرسل يوشك أن ينزل بهم العذاب، لقوله:{بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} .

8 -

ومن فوائدها: أن العذاب إذا نزل فإنه يكون ماساً للإنسان مؤثراً فيه، لأنه عبر عن ذلك بقوله:{بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} .

9 -

ومن فوائدها: أن الكلمات تفسر بحسب السياق، فالذوق في الأصل إنما هو للطعام والشراب، ولكن قد يراد به ما أصاب الإنسان إصابة مباشرة فإنه يسمى مذوقاً.

* * *

قال الله تعالى: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)} ، هذا كقوله تعالى:{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] قال بعدها: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32] حتى يقولوا نجعل النبوة في فلان دون فلان وهنا لما قالوا: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} قال بعدها: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)} يعني هل هم الذين يقسمون هذه الخزائن فيجعلون الرسالة في فلان دون فلان. و"أم" هنا بمعنى "بل"، والاستفهام يراد به النفي، وعلى هذا فتقدير الكلام: بل أعندهم خزائن رحمة

ص: 46

ربك، أي: ليست خزائن رحمة الله عندهم حتى يقولوا {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} ولماذا لم ينزل على فلان أو فلان؟

قوله: {خَزَائِنُ} جمع خزينة، والخزينة: مستودع الشيء يسمى خزينة، والرحمة: رحمة ربك، أي: ما يكون برحمته من الأرزاق الحسية والمعنوية، والجواب: لا ليس عندهم خزائن رحمة ربك.

وقوله: {الْعَزِيزِ} قال المؤلف: [الغالب {الْوَهَّابِ} أي: الكثير الهبات، وهي العطايا. قال:{رَحْمَةِ رَبِّكَ} فأضاف الرحمة إلى رب، ثم أضاف الربوبية إلي النبي صلى الله عليه وسلم {رَبِّكَ} اعتناءً به وبياناً أن ما حصل له من الرسالة فهو بمقتضى ربوبية الله الخاصة له، ولهذا نقول: أخص أنواع الربوبية ما كان للرسل، كما أن أخص العبودية عبودية الرسل، ولهذا أضاف الربوبية إليه، لأن أخصّ الربوبية ربوبية الله سبحانه وتعالى لرسله وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم، فكأنه يشير إلى أن رسالة الله للرسول صلى الله عليه وسلم من رحمته به. وقوله:{الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} فيه مناسبة عظيمة. العزيز لمقابلة هؤلاء الذين كانوا في عزة وشقاق، ليبين أن عزة الله فوق عزتهم وأنفتهم وحميتهم، وأنه غالب لهم وقاهر لهم. والوهاب بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم، يعني أنه وهبه النبوة.

العزيز: يقول المؤلف: إنه الغالب، وهذا أحد معانيه، ولكن اللفظ يشتمل على معانٍ أكثر، فالعزيز يدل على ثلاثة أنواع من العزة: عزة القدر، وعزة الامتناع، وعزة القهر، فعزة الامتناع: تعني امتناع الله سبحانه وتعالى عن كل نقص وعيب، فهو عزيز يمتنع عليه كل نقص وعيب. وعزة القدر: تعني عزة الشرف

ص: 47

والسيادة، فالسيادة المطلقة لله عز وجل، والعزة الطلقة لله عز وجل، يقول تعالى:{فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10]، والثالث عزة القهر: وهي عزة الغلبة، أي: أنه غالب لكل أحد، فعزة القهر تعني عزة الغلبة وأنه غالب لكل أحد، ومن أشعار الجاهلية:

أين المفر والإله الطالب

والأشرم المغلوب ليس الغالب

فإذاً يكون تفسير المؤلف رحمه الله للعزيز بالغالب تفسير للفظ ببعض المعاني، وهو تفسير قاصر، لأننا ذكرنا فيما سبق أن كل من فسر القرآن ببعض ما يدل عليه فإن تفسيره قاصر، لكن أحياناً يفسر القرآن ببعض ما دلّ عليه تمثيلاً لا حصراً، كتفسير بعضهم قول الله تعالى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32] فسر الظالم لنفسه بأنه الذي يؤخّر الصلاة عن وقتها، والمقتصد الذي يصليها في آخر الوقت، والسابق بالخيرات الذي يصليها في أول الوقت، وبعضهم فسّر الظالم لنفسه بالذي لا يزكي، والمقتصد بالذي يزكي ولا يتصدق، والسابق بالخيرات بالذي يزكي ويتصدق. فهذا التفسير نقول: لا شك أنه قاصر، لكن لم يرد المفسر أن المعنى منحصر في هذا، وإنما أراد بذلك التمثيل، يعني مثل الظالم لنفسه مثل الذي لا يزكي، والمقتصد مثل الذي يزكي ولا يتصدوا، والسابق بالخيرات مثل الذي يزكي ويتصدق.

قال المؤلف: [{الْوَهَّابِ (9)} من النبوة وغيرها، فيعطونها من شاؤوا؟ ] هذا مفرع على النفي، يعني هل عندهم خزائن الله من

ص: 48

النبوة وغيرها فيعطونها من شاؤوا ويمنعونها من شاؤوا؟ الجواب: لا.

ثم قال الله عز وجل: {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أم هنا للإضراب فهي بمعنى بل والهمزة، يعني بل ألهم ملك السماوات والأرض؟ وهذا الاستفهام للنفي، يعني ليس لهم ملك السماوات والأرض، وقوله:{مُلْكُ السَّمَاوَاتِ} السموات: جمع سماء، وهو في اللغة العربية كل ما علا، فكل ما علاك فهو سماء، ولكن المراد به هنا السماوات المعروفة المحفوظة، والمعروف أنها سبع سماوات كما صرح الله به في عدة آيات، وقوله:{وَالْأَرْضِ} هي هذه الأرض المعروفة، وهي سبع أراضين كما هو ظاهر القرآن في قوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] فإن المثلية هنا في العدد لا في الحجم ولا في الكيفية، وكما جاءت السنة بذلك صريحاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم:"من اقتطع شبراً من الأرض بغير حقّه، طوقه يوم القيامة من سبع أراضين"

(1)

.

وقوله: {وَمَا بَيْنَهُمَا} أي: ما بين السماء والأرض من المخلوقات العظيمة كالشمس والقمر والنجوم والكواكب وغيرها مما لا يعلمه إلا الله، وجعل ما بين السماوات والأرض قسيماً لهما يدل على أن ما بينهما مخلوقات عظيمة تقابل السماوات والأرض.

قال المؤلف: [إن زعموا ذلك] أي: أن لهم ملك السماوات والأرض فهل يملكون ذلك؟ لا، لا يمكن.

(1)

أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" 15/ 356 (9582)، وهو حديث صحيح.

ص: 49

قال المؤلف رحمه الله: [إن زعموا ذلك {فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10)}] كأن المؤلف رحمه الله جعل قوله: {فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ} جواباً لشرط مقدر، يعني إن زعموا أن لهم ملك السماوات والأرض، {فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ} [الموصلة إلى السماء، فيأتوا بالوحي، فيخصوا به من شاؤوا].

قوله: {فَلْيَرْتَقُوا} الفاء واقعة في جواب شرط مقدر، أي: فإن زعموا ذلك فليرتقوا، واللام: لام الأمر، وسكنت لوقوعها بعد فاء العطف، لأن لام الأمر تسكن إذا وقعت بعد الفاء وثم والواو، قال الله تعالى:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] هذه بعد ثم، {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] هذه بعد الواو، {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج: 15] هذه بعد الفاء، بخلاف لام التعليل فإن لام التعليل تكون مكسورة ولو وقعت بعد هذه الحروف، كما قال تعالى:{لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا} [العنكبوت: 66] ولم يقل: وليتمتعوا، لأن اللام للتعليل، فلام التعليل تكون مكسورة دائماً، ولام الأمر تكون مكسورة إلاّ إذا وقعت بعد الواو والفاء وثم، ولهذا قال:{فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج: 15] فاللام هنا للأمر، والظاهر أن المراد بالأمر هنا التحدي. يعني إن كانوا صادقين فليرتقوا في الأسباب، والأسباب: جمع سبب وهو كل ما يوصل إلى المقصود، وهذه الآية نظير قوله تعالى:{مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج: 15] أي: بشيء يوصله إلى السماء كالحبل {ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج: 15] فهنا قال:

ص: 50

{فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ} أي: فليجعلوا أسباباً يرتقون بها، ويصلون إلى السماء. ومعلوم أن هذا التحدي لا يمكن لهم أن يحققوه.

ثم قال المؤلف: [الموصلة إلى السماء، فيأتوا بالوحي، فيخصوا به من شاؤوا] بناء على قولهم: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} يعني إذاً فارتقوا إلى السماء، وأنزلوا الوحي، وخصوا به من شئتم.

ثم قال المؤلف: [و"أم" في الموضعين بمعنى همزة الإنكار]، الإنكار الذي بمعنى النفي. ثم قال: ليس عندهم خزائن الله وليس لهم ملك السماوات والأرض بل هم خالون من هذا كله.

الفوائد:

1 -

من فوائد هاتين الآيتين: إبطال حجة هؤلاء الذين قالوا: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} وذلك لأن انزال الوحي على شخص ما هو من فضل الله عليه، ومن خزائن رحمته، وهذا لا يملكه هؤلاء المقترحون، لأن الأمر والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.

2 -

ومن الفوائد: إثبات هذين الاسمين من أسماء الله: العزيز والوهاب، وإثبات ما تضمناه من صفة، فالعزيز تضمن صفة هي العزة، وأقسامها ثلاثة كما مر علينا في التفسير، والوهّاب تضمن صفة هي الهبة الكثيرة، وما أكثر هبات الله عز وجل، وتضمن القدرة؛ لأنه لا يهب إلا القادر، وتضمن الغنى؛ لأن مَن لا شيء عنده لا يمكن أن يهب، وتضمن الكرم، لأن البخيل لا يهب. ودلالة الوهاب على الهبة من باب دلالة التضمن، وعلى الهبة

ص: 51

والوهاب من باب دلالة المطابقة، وعلى القدرة والغنى والكرم من باب دلالة الالتزام.

فإذًا في هذا الاسم أنواع الدلالة الثلاثة، وهي الالتزام والمطابقة والتضمن، والفرق بين هذه الثلاثة أن دلالة اللفظ على جميع معناه دلالة مطابقة، وعلى جزء معناه دلالة تضمن، وعلى اللازم الخارج الذي لا يدل عليه بلفظه لكن من لوازمه دلالة التزام. وأضرب لها مثلًا في أمر حسي ليتبين به الأمر المعنوي. هذا بيت يشتمل على غرف ومجالس وبراحات، أي: أحواش. دلالة هذا البيت على جميع ما فيه من الغرف والمجالس والأحواش دلالة مطابقة، ودلالته على كل حجرةٍ وحدها، ولكل مجلس وحده، ولكل حوش وحده، دلالة تضمن، ودلالته على أن له بانيًا دلالة التزام؛ لأن البيت لا بد له من بانٍ، فنقول: هذا قد بناه بانٍ، ما هو الدليل؟ لأن البيت لا بد له من بانٍ. فالوهاب مثلًا دلالته على الاسم والصفة التي هي الهبة دلالة مطابقة، وعلى الاسم وحده أو الهبة وحدها دلالة تضمن، وعلى القدرة والغنى والكرم دلالة التزام.

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: مراعاة فواصل الآيات لسياق الآية، لأن العزيز الوهاب يناسب قوله:{أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} ومناسبة فواصل الآيات لمضمون الآية دليل على البلاغة، ولا يشذ عن هذا شيء، ولهذا لما قرأ رجل عند أعرابي:(والسارقُ والسارقةُ فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله والله غفور رحيم) استغرب الأعرابي كيف يقول: نكالًا من الله، ثم يقول: والله غفور

ص: 52

رحيم؟ المغفرة والرحمة لا تتناسب مع النكال، فقال الأعرابي للقارئ: أعد، قال:(والسارقُ والسارقةُ فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله والله غفور رحيم) قال: أعد ما هكذا الآية، قال:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] قال: الآن عزّ وحكم فقطع، ولو غفر ورحم ما قطع سبحانه وتعالى، ولهذا قال الله تعالى في سورة المائدة في الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 33 - 34] فأخذ العلماء من هذه الآية أنهم إذا تابوا قبل القدرة عليهم سقط عنهم الحد، لأن الله قال:{فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فإذا غفر لهم ورحمهم، فإنهم لا يقام عليهم الحد.

وفي هذه الآية {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)} مناسبة ظاهرة، لأن الله ذو رحمة، وذو عزة وغلبة، وذو هبة وعطاء، فيعطي من شاء بما تقتضيه عزته من خزائن رحمته.

لكن بعض الآيات تكون فواصلها مخالفة لمضمونها فيما يظهر، مثل قول عيسى عليه السلام: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ

ص: 53

الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 117 - 118] فهنا جاء قوله: {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} جوابًا لقوله: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} وكان المتوقع أن تكون الآية: وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم، فاستشكل بعض العلماء هذا، قالوا: كيف يقول: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ولم يقل: فإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم؟ وأجيب عن ذلك بأن عيسى عليه السلام لم يقتصر على ذكر المغفرة، بل ذكر المغفرة والتعذيب، قال: إن تعذبهم، وإن تغفر لهم، فكان الحكم الآن مترددًا بين المغفرة والرحمة، إن نظرنا إلى قوله:{وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} ، وبين العزة والحكمة والحكم إذا نظرنا إلى قوله:{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ} ، فصار ختم القول بقوله:{فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أنسب لأن المغفرة إن حصلت فهي من عزة وحكمة.

4 -

ومن فوائد قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10)} أن الخلق لا يملكون خزائن رحمة الله، ولا يملكون السموات والأرض وما بينهما؛ لأن ذلك لله عز وجل. ولهذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يقول:"اللهم لا مانع لما أعطيتَ، ولا معطي لما منعتَ"

(1)

فخزائن رحمة الله لا يملكها أحد، الذي يملكها هو الله عز وجل، وفي حديث ابن عباس "واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد

(1)

أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب الذكر بعد الصلاة (844)، ومسلم، كتاب الساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة، وبيان صفته (593)(137).

ص: 54

كتبه الله عليك"

(1)

. ويتفرع على هذه الفائدة أنه لا ينبغي للإنسان أن يعلق رجاءه إلا بالله عز وجل، ولا يعلق رجاءه بمخلوق إلا في الحدود الضعيفة المرسومة. يجعل الرَّجاء كله والتعلق كله بالله عز وجل، وإذا جعل هذا في الله، سخر الله له المخلوقات، حتى البشر يسخرهم له، لكن إذا تعلق بغير الله وُكِلَ إلى من تعلق به وضاع.

5 -

ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات ملكية الله للسماوات والأرض وما بينهما، لأن نفي ملك هؤلاء لها دليل على ثبوت الملكية لغيرهم ولا مالك لهذه إلا الله.

6 -

ومن فوائدها: عظم ما بين السماء والأرض، ووجهه أن الله جعل ما بينهما قسيمًا لهما، والقسيم لا بد أن يكون معادلًا أو مقاربًا لقسيمه، لا يمكن أن تأتي بشيء عظيم تقارن بينه وبين شيء بعيد منه في العِظَم.

7 -

ومن فوائد الآية الكريمة: تحديه هؤلاء المكذبين أن يأتوا بما يدل على أن لهم شيئًا من ملك السموات والأرض، لقوله:{فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10)} .

8 -

ومن فوائدها: أنه لا ينبغي التحدي إلا بما لا يستطيعه المُتحدَّى، لماذا؟ لأنك لو تحديته بشيء يستطيعه ثم قام به بطلت حجتك نهائيًا، وهذا يفيدك في باب المناظرة، وفي باب النظر، لأن الناس ناظر ومناظر، فالناظر هو الذي يتأمل الأدلة من ذات نفسه

(1)

أخرجه الترمذي، صفة القيامة (2516).

ص: 55

ويحكم عليها، والمناظر هو الذي يناقشها مع غيره، فمن فوائد النظر والمناظرة أن الإنسان لا يفرض شيئًا على وجه التحدي إلا إذا علم أنه غير ممكن للمُتحدَّى، لأنه لو فرض شيئًا يتحدّى به، ثم أتى به المُتحدَّى، بطلت حجته وانهارت، وانهارت قوة المدافعة والمهاجمة، كما هو معلوم، من أن يرتقوا إلى السماء والله أعلم.

9 -

ومن فوائد هذه الآية: أن بعض العلماء أخذ منها أنه لا يمكن الوصول إلى القمر، لأن الله قال:{فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10)} ثم قال: {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ} ومعلوم أن القمر في السماء، فإذا كان هؤلاء الذين يحاولون أن يرتقوا في الأسباب إلى السماء، جندًا حقيرين مهزومين، فإنه لا يمكن أن يصلوا إلى القمر، فهل يمكن أن يؤخذ هذا من هذه الآية؟ ظاهر الآية أنه ممكن أن نأخذ من هذه الآية دليلًا على أن الناس يصلون إلى القمر، إذا كان هذا ظاهر الآية فمعناه أن الآية دلت على إمكان الوصول إلى القمر، وهذا عكس ما استدل به بعض الناس، والحقيقة أنه لا يمكن أن يكون فيها دليل على الامتناع من الوصول إلى القمر، لأن القمر في السماء، التي بمعنى العلو، وليس في السماء التي جعلت سقفًا محفوظًا، وهذا أمر مؤكد لا يختلف فيه اثنان، وإذا كان السحاب في السماء، ويطلق عليه سماء، كما قال تعالى:{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17] والناس الآن يصعدون فوق السماء الذي هو السحاب. كثير منكم ركب الطائرة وهي فوق السحاب، والسحاب تحتها، فكذلك القمر في السماء، قال الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ

ص: 56

بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان: 61] فلا شك أن القمر في السماء، ولكن هل هو في السماء التي هي السقف المحفوظ الذي لا يدخل إليه أشرف الملائكة وأشرف البشر إلا باستئذان؟ لا، قطعًا، بل هو تحته بكثير، إذن نقول: إنه ليس في الآية دليل على استحالة الوصول إلى القمر، كما إنه ليس فيها دليل على إمكان الوصول إلى القمر، ويترك هذا الأمر للواقع، فإذا صح أنهم وصلوا إلى القمر فإن الشرع لم يقل باستحالة ذلك، وإذا لم يصح فإن الشرع لا يثبته. فإذا قالوا: وصلنا إلى القمر وثبت ذلك، قلنا: الحمد لله، هذا لا يعارض شرعنا، لا يعارض كتاب الله ولا سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ومعلوم أن القمر تحت النجوم، والنجوم قال الله فيها:{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك: 5] لكن القمر تحتها، وأنا وغيري شاهدنا أن القمر حجب النجوم، وأنا شاهدت ذلك بعيني، كان القمر يساير النجمة التي تسمى نجمة الصباح، ومعروف أن القمر يتأخر فإذا بها تختفي، لم نعد نشاهدها، فصار كما لو جاءت سحابة فحالت بيننا وبين القمر. وحدثني من أثق به، قال: إن هذا قد يقع أحيانًا ونشاهده. إذًا القمر ليس في السماء التي هي السقف المحفوظ، فإذا ثبت أنهم وصلوا إليه فلا غرابة في ذلك. إذًا ليس في الآية دليل على انتفاء الوصول إلى القمر.

10 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: بيان قدرة الله عز وجل، وأن الجنود مهما عظموا، حقيرون بالنسبة إلى قوة الله عز وجل وعزته، مهزومون أمام قوته، ولهذا قال:{مَهْزُومٌ} .

ص: 57

11 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنه يجب على هؤلاء المكذبين للرسول عليه الصلاة والسلام أن يعتبروا بمن سبقهم، لقوله:{مِنَ الْأَحْزَابِ (11)} أي: هم جند حقيرون مهزومون كما هُزم غيرهم من الأحزاب. قالت عاد: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15] فقال الله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15].

* * *

ثم قال تعالى: [{جُنْدٌ مَا} أي: هم جند حقير {هُنَالِكَ} أي: في تكذيبهم لك {مَهْزُومٌ} صفة جند {مِنَ الْأَحْزَابِ (11)} صفة جند أيضًا]{جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ} جند: خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: هم جند، وما: نكرة واصفة، لأن "ما" لها عشر معانٍ جمعت في قول الشاعر:

محامل ما عشر إذا رُمْتَ عَدَّها

فحافظْ على بيتٍ سليم من الشِّعرِ

ستفهم شرط الوصل فاعجب لنكرها

بكفٍّ ونفيٍ زِيدَ تعظيمِ مصدرِ

نوضح ذلك: ستفهم: استفهامية، شرط: شرطية، الوصل: موصولة، فاعجب: تعجبية، لنكرها: نكرة سواء واصفة أو موصوفة، بكف: كافة، ونفي: نافية، زيد: زائدة، تعظيم: للتعظيم، مصدر: مصدرية.

ص: 58

{جُنْدٌ مَّا} قال المؤلف: [هم جند حقير] فعلى هذا تكون "ما" هنا واصفة، يعني موصوف بها، لكن المراد بهذا التحقير، والدليل على ذلك التحقير قوله:{مَهْزُومٌ} والمهزوم حقير.

وقوله: {هُنَالِكَ} هنا إشارة للمكان، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، هنالك، أي: في ذلك المكان، المؤلف يقول:[أي: في تكذيبهم لك] فجعل الظرفية المكانية هنا التكذيب، ولكن يبدو أن الأمر على خلاف ما قال المؤلف رحمه الله، وأن المشار إليه المكان الحسي، لا المكان المعنوي، أي: أنهم إن ارتقوا في الأسباب، فسوف يهزمون، فيكون هنالك، أي: في المكان الذي يرتقون إليه، فإذا قدر أنهم ارتقوا إلى السماء فهل ستكون لهم الغلبة؟ أبدًا بالعكس، حتى لو ظنوا أنهم لو وصلوا إلى السماء، وصعدوا إلى السماء أنهم انتصروا، وصارت لهم العزة فالأمر بالعكس. هذا هو الذي يظهر من الآية الكريمة. أما جعل الظرف هو التكذيب فهذا بعيد، بل التكذيب سبب للخذلان.

{جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ} (مهزوم) يقول المؤلف: [صفة جند] صفة ثانية والأولى "ما" و {مِنَ الْأَحْزَابِ (11)} صفة جند أيضًا، يعني جند من الأحزاب مهزوم.

واعلم أنه إذا تكررت الصفة للنكرة فإن ما بعد الصفة الأولى يجوز أن يكون حالًا، فإذا قلت: مررت برجل عظيمٍ كريم شجاع، جاز لك أن تقول: مررت برجل عظيم كريمًا شجاعًا، ولكن الأولى أن تكون صفة، أي: نعتًا؛ لتناسق الكلام، وكونه على وتيرة واحدة،

ص: 59

فهنا عندنا ثلاث صفات لجند: "ما" و"مهزوم"، و"من الأحزاب"، ما الذي يجوز أن يكون منصوبًا على الحال؟ مهزومٌ، لكن لا يمكن هنا لأن حركة الإعراب ظهرت على أنه مرفوع، صفة، وكذلك من الأحزاب مثله يعني يجوز أن يكون صفة وهو الأصل، ويجوز أن نجعله في موضع نصب على الحال.

قال المؤلف رحمه الله: [أي: كالأجناد من جنس الأحزاب المتحزبين على الأنبياء قبلك، وأولئك قد قهروا وأهلكوا فكذلك نهلك هؤلاء] يعني أن هؤلاء جند من الأجناد الأخرى، والأجناد الأخرى الأحزاب الذين كذبوا الرسل كان مآلهم الهلاك والدمار، وقد مر علينا في أول السورة:{كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)} .

ثم بدأ الله عز وجل الإشارة إلى قصة أولئك الأجناد أو أولئك الأحزاب فقال عز وجل: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} أي: قبل الذين كذبوك من قريش ومن اليهود وغيرهم {قَوْمُ نُوحٍ} ونوح هو أول رسول أرسله الله عز وجل بدلالة القرآن والسنة، قال الله تعالى:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد: 26] ولو كان أحد قبل نوح لخرج من ذريتهما، وبه نعرف أن ما يوجد من شجرة الأنبياء التي كتب فيها أن إدريس قبل نوح خطأ، فإن إدريس بعد نوح بلا شك، أما السنة فصريحة في ذلك فإنه ثبت في حديث الشفاعة الطويل "أن الناس يأتون إلى نوحٍ فيقولون له: أنت

ص: 60

أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض"

(1)

وهذا صريح، وبه أيضًا نعرف أن ما يذكر في كتب التاريخ من أن إدريس جد لنوح فهو خطأ بلا شك، فإدريس فيما يظهر -والعلم عند الله- من أنبياء بني إسرائيل.

{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} نوح عليه الصلاة والسلام بعث إلى البشر حين اختلف الناس، وكان الناس في الأول على ملة واحدة، فاختلفوا، {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213] أرسله الله إلى قومه، فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، وهو يدعوهم إلى الله، ويأتيهم بالآيات، ويتحداهم، ولكنهم -والعياذ بالله- كلما دعاهم ازدادوا عتوًا ونفورًا، قال تعالى:{وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح: 7] ولما أذن الله تعالى بهلاكهم دعا نوح ربه {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر: 10] فانتصر الله له {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 11 - 14] وأمره الله أن يحمل معه مَنْ آمن من قومه، قال الله تعالى:{وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40].

فتصوروا أيها الدعاة كيف لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا وهو رسول، والناس لم يكثروا بعد، ومع ذلك ما آمن معه إلا قليل، حتى أحد نسله قد كفر به وهو ابنه الذي كان من المغرقين.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله عز وجل:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [هود: 25](3340)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها (194)(327).

ص: 61

{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} قال المؤلف رحمه الله: [تأنيث "قوم" باعتبار المعنى] هل قوم مؤنث؟ أو الفعل الذي كان القوم يفعلونه هو الذي أُنِّث؟ نقول: الفعل هو الذي أُنِّث {كَذَّبَتْ} ، أما قوم فليس فيها تاء التأنيث، لكن من المعلوم أن الفعل إذا أُنِّثَ فالفاعل مؤنث، فإذا وقع الفاعل لفعل مؤنث فهو مؤنث، لكن هذا اللفظ هل هو مؤنث لفظًا أو باعتبار المعنى؟ قال المؤلف: باعتبار المعنى، وهنا نسأل كيف يكون مؤنث باعتبار المعنى؟ لأن القوم جماعة، وكل جمع يجوز تأنيثه، قال ابن مالك رحمه الله:

والتاءُ مع جَمْع سوى السالِم مِنْ

مذكَّر كالتاءِ مع إحدى اللَّبِنْ

إحدى اللَّبِنْ: هي لَبِنة، فلبنة يجوز فيها التذكير والتأنيث، لكن التأنيث أرجح، كذلك جميع المجموع ما عدا جمع المذكر السالم يجوز فيه وجود التاء في الفعل.

{وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12)} عاد قوم هود، كانوا بالأحقاف،

وكانوا ذوي شدة وقوة، من أشد الناس قوة، فأُعجبوا بقوتهم واستكبروا وعصوا رسولهم عليه الصلاة والسلام، وافتخروا بما أعطاهم الله من القوة، كما قال الله عنهم:{فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15] فتأمل قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ} لأن فيها إشارة إلى أنهم ضعفاء أمام خالقهم، ولم يقل: أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات، قال: خلقهم، فهم مخلوقون، والخالق أعلى من المخلوق، وأشد منه قوة {هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا

ص: 62

بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت: 15] فأهلكهم الله. أهلكهم الله وعلى حين طمع في رحمته، أرسل الله عليهم ريحًا عظيمة، ولما رأوا ما تحمله الريح من الرمال العظيمة ظنوا أن ذلك سحاب. لما رأوا هذا قالوا:{هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} فقال الله تعالى: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 24 - 25] فعصفت بهم الريح العقيم حتى كانت تحمل الواحد منهم إلى جو السماء ثم تقلبه على رأسه، فصاروا {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7]، أعجاز النخل يعني أصولها وجذوعها؛ خاوية منتكسة، {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف: 25]، ومع ذلك ما آمن معه إلا نفر قليل.

{وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12)} قال المؤلف: [كان يَتِدُ لكل مَن يغضب عليه أربعة أوتاد يشد إليها يديه ورجليه ويعذبه] فرعون الذي أُرسل إليه موسى، وكان ملكًا قاهرًا لمصر جبارًا عنيدًا، استعبد أهل مصر وقال لهم:{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] وسخر بموسى وقال لهم: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 52] وفخر بما أعطاه الله تعالى من الأنهار، قال لهم:{أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الزخرف: 51] وكذب موسى وحاربه، لكن ليس بالسلاح بل بما جمع له من السحرة، لأنه أوْهَمَ الناسَ أن موسى كان ساحرًا، قال: هذا ساحر يرمي العصا في الأرض فتكون حية، ويدخل يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء، هذا ساحر.

ص: 63

وجمع السحرة، وألقوا ما عندهم من السحر العظيم الذي أرْهب الناس، حتى موسى عليه السلام رهب وخاف، فقال الله تعالى:{قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} [طه: 69 - 68] فأيّده الله، وألقى ما في يمينه وهي العصا، فصارت حية عظيمة التهمت الحبال والعصي التي ملؤوا بها الأرض، وصار يُخيل للناس أنها حيات وثعابين تسعى، فالتهمتها كلها، وسبحان الله كيف هذه الحية التي كانت عصا تلتهم كل هذا؟ ! هذا من آيات الله.

فلما رأى السحرة هذا الأمر دهشوا، وعلموا أن هذا ليس بساحر، لأن الساحر لا يمكن أن يأتي بمثل هذا الأمر، بل هو حقيقة، وهو آية أيَّدَ الله بها موسى، فآمنوا كلهم، وسجدوا لله ذُلًّا وعبادة، وقالوا معلنين:{آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف: 121 - 122] فماذا يكون تأثير هؤلاء القوم الذين انتصر بهم فرعون بين الناس؟ سيكون تأثيرهم بين الناس كبيرًا وعظيمًا. أرأيتم لو أنّ أحدًا من الملوك جمع أكبر ما عنده من المهندسين في حشد عظيم، ثم أقرّوا وأذعنوا لخصوم هذا الملك، ماذا يكون شعور الناس؟ سيكون شعورهم أن الملك مهزوم.

ولهذا لما حصل إيمان السحرة لجأ فرعون إلى القوة والقهر، وهددهم بأنه سيقطِّع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ويصلبهم على جذوع النخل حتى يذوقوا العذاب، ولكنهم بإيمانهم قالوا: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ

ص: 64

خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 72 - 73] فصمدوا أمام هذا الطاغية العنيد. لقد كانوا في أول النهار من السحرة الكفرة، وصاروا في آخر النهار من المؤمنين البررة، وبقي فرعون مستمرًا على طغيانه -والعياذ بالله- حتى أهلكه الله بالغرق بجنس ما كان يفتخر به على قومه وعلى موسى حين قال:{وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف: 51] فأهلك بالماء الذي كان يفتخر به.

وقول المؤلف في قوله تعالى: {وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ} قال: [كان يَتِدُ

] إلى آخره. الذي يظهر أن هذا ليس سبب الوصف بذي الأوتاد، وإنما السبب الحقيقي أن يراد بالأوتاد القوة التي ثَبَّتَ بها ملكه، كأوتاد الخيمة تثبت بها الخيمة، ولا يبعد أن يكون من جبروته أن يضع أوتادًا أربعة يصلب عليها الإنسان ويعذبه، لكن هذا لا يمكن أن يمتدح به فرعون على أنه ذو قوة، بل الصحيح المراد بالأوتاد هنا ما كان عليه من القوة التي ثبَّت بها ملكه، كأوتاد الخيمة تثبت بها الخيمة.

قال الله تعالى: {وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13)} قوله: {وَثَمُودُ} معطوفة على {قَوْمُ نُوحٍ} يعني: وكذبت قبلهم ثمود أصحاب صالح، وهم في مكان يقال له: الحِجْر، وتسمى الآن بمدائن صالح. أرسله الله سبحانه وتعالى إليهم ولكنهم كفروا به، ولم يؤمن معه إلا قليل، وآتاهم الله تعالى آية عظيمة، وهي ناقة يحلبونها يومًا وتشرب الماء يومًا آخر. وقيل: إن الواحد منهم يأتي

ص: 65

إليها فيسقيها ويأخذ من لبنها بقدر ما أسقاها، والله أعلم. والمهم أن هؤلاء القوم عندهم قوة مكَّنتهم من أن يتخذوا من الجبال بيوتًا. ولا تزال آثارهم باقية إلى اليوم. وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم بها وهو ذاهب إلى تبوك، فقنَّع رأسه صلى الله عليه وسلم يعني غطاه- وأسرع في السير، وقال:"لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين إلا وأنتم باكون، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، أن يصيبكم ما أصابهم"

(1)

.

قال: {وَقَوْمُ لُوطٍ} لوط: ابن أخي إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أرسله الله إلى قومه، وكانوا قد ارتكبوا الفاحشة -والعياذ بالله- فكانوا يأتون الرجال ويَدَعُون النساء. فوبَّخهم لوطٌ على ذلك وقال:{أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الشعراء: 165 - 166] فأنتم الآن تركتم الحلال إلى الحرام، وتركتم النزيه إلى الخسيس. ولكنهم أبوا واستكبروا حتى إن زوجته كانت منهم، فأمره الله أن يسري بأهله، وأرسل على قومه حجارة من سجيل، حتى جعل عاليها سافلها، وهذا من المناسبة بوضوح، فإن هؤلاء لما انقلبوا عن الحقيقة، ونزلوا إلى أسفل الأخلاق، جعل الله أعالي قريتهم سافلها. واختلف العلماء في معنى هذا، فقال بعضهم: إن الأرض حمُلت ثم نكِّست فصار عاليها سافلها، وقال بعضهم: بل إنها تهدمت من الحجارة التي أُرسلت عليهم حتى صار أعاليها سافلها

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم الحِجر (4419)، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم (2980).

(2)

انظر تفسير سورة الصافات لفضيلة الشيخ رحمه الله.

ص: 66

قال: {وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} والأيكة فيها قراءتان

(1)

، قال المؤلف:[{الْأَيْكَةِ} أي: الغَيْضة وهم قوم شعيب عليه السلام] والغيضة: هي الأشجار اللتف بعضها إلى بعض، وكانوا في نعيم ولكنهم عصوا شعيبًا وسخروا منه {قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 91] {قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود 87] يسخرون منه، وقال الله تعالى:{فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} [الشعراء: 189] قال أهل العلم: إنهم أصيبوا بحَرّ شديد جدًا، فأرسل الله غمامة لها ظل، فتنادوا إليها يستظلون بظلها، فكان ظلها أكثر إحراقًا من الشمس -والعياذ بالله- فأُتُوا من حيث أمنوا.

هؤلاء يقول الله عز وجل فيهم: {أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ} يعني أولئك الأحزاب العظماء الذين طغوا واستكبروا وكذبوا الرسل، فالإشارة هنا بصيغة البعد إما لدنو منزلتهم وبعدها عن الصواب، وإما لعلوها باعتبار حالهم التي كانوا عليها من الطغيان والعتو، وذلك لأن "أولئك" لا يشار بها إلا إلى الشيء البعيد علوًّا، أو نزولًا أو مساحة.

{أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ} جمع حزب، والحزب هو الطائفة، قال الله تعالى:{كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 32] أي: كلّ طائفة.

(1)

الأولى: (لَيْكَةَ) بلام مفتوحة من غير همز قبلها ولا بعدها، ونصب التاء، على أنه اسم غير منصرف للعلمية والتأنيث كطلحة، والثانية. (الأَيكةِ) بإسكان اللام وهمزة وصل قبلها، وهمزة قطع مفتوحة بعدها، وجر التاء على أنها مضاف إليه. "الكشف عن وجوه القراءات" لمكي 2/ 32.

ص: 67

{أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ} يحتمل أن تكون مبتدأ وخبر، يعني أولئك هم الأحزاب الذين كذبوا الرسل فأهلكناهم، ويحتمل أن تكون الأحزاب صفة لأولئك.

وقوله: {إِنْ كُلٌّ} الجملة خبر المبتدأ، قال المؤلف:[{إِنْ} ما {كُلٌّ}] أي: أن "إنْ" نافية، وقد سبق لنا أن قلنا: إن "إنْ" تستعمل في اللغة العربية على وجوه: النفي، والشرط، والمخففة من الثقيلة، والزائدة. قال المؤلف:[{إِنْ كُلٌّ} ما كل من الأحزاب {إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ}]، كلٌّ مِنْ هؤلاء الأحزاب كذب الرسل، والرسل: جمع رسول، {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ} أي: كل حزب كذَّب رسولَه، وعلى هذا فالجمع موزَّع على الجمع الذي قبله توزيع أفراد، أو هو توزيع جملة؟ أي: كل حزب كذَّب جميعَ الرسل؟ المؤلف مشى على الثاني، قال:[لأنهم إذا كذبوا واحدًا منهم، فقد كذبوا جميعهم، لأن دعوتهم واحدة، وهي دعوة التوحيد] فمشى رحمه الله على أن الجمع موزع على الأفراد توزيع جمع، يعني كل حزب كذب جميع الرسل، ويؤيد ما ذهب إليه رحمه الله قولُه تعالى:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105] فإن الله ذكر أن قوم نوح كذبوا المرسلين، ومن المعلوم أنه لم يُبعث رسولٌ قبل نوح حتى نقول: إنهم كذبوا من سبق، وعلى هذا فيكون ما ذهب إليه المؤلف أرجح مما يحتمله اللفظ احتمالًا مرجوحًا، وهو أن يكون الجمع موزعًا على ما قبله توزيع أفراد.

ص: 68

وقوله: {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ} يعني سبحانه وتعالى باعتبار الجملة؛ لأن بعض القوم آمنوا لكنهم كانوا قلة، والقلة مع الكثرة تنغمر فيها، فلهذا قال: إن كل من الأحزاب إلا كذب الرسل، ويحتمل أن يقال: إنه لا حاجة إلى هذا التقدير، أي: لا حاجة إلى أن نقول: إن هذا باعتبار الكثير من هؤلاء الأقوام، لأنه قال:{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} فيكون قوله: {إِنْ كُلٌّ} أي: من المكذبين إلا كذب الرسل، وعلى هذا فلا حاجة إلى استثناء الذين آمنوا، وإلى القول بأن الآية جاءت على الأغلب.

قال الله تعالى: {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ} الرسل الذين أرسلوا إليهم، وهنا نحتاج إلى الفرق بين الرسل والنبيين فنقول: أولًا: كل من ذكر في القرآن من النبيين فهو رسول، ودليل ذلك قوله تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78] وعلى هذا فيكون كل من ذكر في القرآن من الرسل؛ لأنهم قُصّوا علينا، وكل من قُصَّ علينا فهو رسول، أما على سبيل العموم فإن العلماء يقولون على المشهور عندهم: إن الرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه والدعوة إليه، لأنه رسول، والرسول ليس عليه إلا البلاغ {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] وأما النبي فهو الذي أوحي إليه بوحي لكن لم يأمر بالتبليغ، فيكون كالمجدد من هذه الأمة، فالمجدد من هذه الأمة صالح في نفسه لكنه يدعو بحسب استطاعته، فالنبي لم يكلف بالرسالة، وإنما أوحي إليه بما يُصلِحه ويَصْلَحُ به غيره لا على سبيل الإلزام بالرسالة.

ص: 69

وذهب بعض أهل العلم إلى أن الفرق: أن النبي هو من جدد شرع مَن قبله ولم يستقلّ بوحي، فهو يأتي بالشريعة السابقة، وأما الرسول فهو الذي يُجدَّد له الوحي، ويأتي بشرِيعة مستقلة، وهذا القول قد نقول: إنه جيد كقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44] ولكنه ينتقض بآدم عليه الصلاة والسلام، فإن آدم نبي ولم يكن تابعًا لشريعة سابقة، والقول إذا انتقض فهو ضعيف غير معتمد عليه.

قال الله تعالى: {فَحَقَّ عِقَابِ (14)} حق، أي: وجب وثبت، وقوله:{عِقَابِ} فاعل "حق" مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة، أي: يكسر ما قبل ياء المتكلم ليناسب الياء، فالكسرة التي يؤتى بها لمناسبة الياء تسمى حركة المناسبة أو كسرة المناسبة، وهي تمنع من ظهور ضمة الإعراب وفتحته على آخر الكلمة.

والعقاب: هو المؤاخذة على الذنب، ولهذا سمي عقابًا؛ لأنه يأتي عقب الجريمة، فكل عذاب على جريمة فإنه يسمى عقابًا. وهذا العقاب الذي أنزله الله بهم هو عقاب مبني على العدل؛ لأن الله سبحانه وتعالى أضافه إلى نفسه فقال:{فَحَقَّ عِقَابِ (14)} ، ونحن نعلم أن الرب عز وجل لا يظلم أحدًا أبدًا، لا يزيد في سيئاته، ولا ينقص من حسناته، لكن لو كان العقاب من غير الله لكان يمكن أن يزداد على الجريمة، أما العقاب الذي أضافه الله لنفسه فهو عقاب عدل.

ص: 70

الفوائد:

1 -

في هذه الآية تسلية وتهديد، تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام، وتهديد للمكذبين له أن يصيبهم مثل ما أصاب من قبلهم.

2 -

ومن فوائدها: إثبات الرسالة لنوح عليه الصلاة والسلام لقوله: {قَوْمُ نُوحٍ} وهو كذلك، فإن نوح هو أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض.

3 -

ومن فوائدها أيضًا: إثبات الرسالة لهود لقوله: {وَعَادٌ} وعاد هم قوم هود، فإنهم كذبوا هودًا.

4 -

وفي الآية: إثبات رسالة موسى لقوله: {وَفِرْعَوْنُ} ومعلوم أن الذي أُرسل لفرعون هو موسى، ففي الآية إثبات لرسالة موسى.

5 -

ومن فوائدها: أنه مهما عظم سلطان المكذبين للرسل فإنهم أذلاء بالنسبة لسلطان الله عز وجل لقوله: {وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ} .

6 -

من فوائد الآية: إثبات رسالة صالح لقوله: {وَثَمُودُ} والمرسل إلى ثمود أخوهم صالح.

7 -

ومن فوائدها: إثبات رسالة لوط لقوله: {وَقَوْمُ لُوطٍ} .

8 -

ومن فوائدها: إثبات رسالة شعيب لقوله: {وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} وهم قوم شعيب عليه السلام.

9 -

ومن فوائدها: أن جميع هؤلاء الأحزاب كذبوا الرسل لقوله: {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ} .

ص: 71

10 -

ومن فوائدها: الاعتبار بالأغلب، وأن الكل قد يطلق على الأغلب، لأن قوم نوح لم يكذبوا كلهم، قال الله تعالى:{وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40] وكذلك عاد، قال الله تعالى:{وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} [هود: 58] وكذلك لوط آمن معه مَنْ آمن مِنْ أهله، كما قال تعالى:{فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 35] كذلك فرعون لم يؤمن إلا حينما أدركه الغرق إيمانًا لا ينفعه، وكذلك صالح آمن معه من آمن، وعلى هذا فالله عز وجل قال:{إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ} إن كل، أي: من هؤلاء إلا كذب الرسل.

11 -

ومن فوائد الآية: أنه مَن كَذَّب رسولًا من الرسل فهو مكذب باعتبار الأغلب لجميع الرسل لقوله: {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ} وقد ذكرنا في تفسيرها أنها محتملة أن تكون عائدة لكل فرد باعتبار الجمع أو باعتبار الأفراد، أي: هل هو من توزيع الجمل أو من توزيع الأفراد، وذكرنا أنه من الراجح أنها من توزيع الجمل على الأفراد، وذكرنا الدليل على ذلك.

12 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن تكذيب الرسل سبب للعقوبة لقوله: {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14)} والفاء هنا سببية وهي عاطفة تدل على الترتيب والتعقيب، ففيها سببية وتعقيب، وأن العقاب حل بهم، وهم ما زالوا على تكذيبهم.

13 -

وقوله: {فَحَقَّ عِقَابِ} يؤخذ منه فائدة وهي شدة هذه العقوبة لأن الله أضافها إلى نفسه، وقد قال سبحانه وتعالى عن

ص: 72

نفسه: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 98] و {وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 98].

* * *

قال الله تعالى: {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)} ينظر إذا تعدت بـ "إلى" فهي نظر العين، وإن جاءت متعدية بنفسها صارت بمعنى الانتظار، وإن جاءت مطلقة فهي على حسب السياق، يعني إذا جاءت غير مقيدة بحرف جر، ولا مقيدة بمفعول، فهي على حسب السياق، مثال التي قيدت بـ "إلى" قوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23] فإن ناظرة هنا بمعنى باصرة بالعين؛ لأنها تعدت بـ "إلى" وأضيفت إلى الوجوه أيضًا التي هي مكان العيون، وإذا جاءت متعدية بنفسها فإنها تكون بمعنى الانتظار، ومنه قوله تعالى:{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18] وقد تأتي متعدية ويكون المراد بها نظر العبرة والتفكر كما في قوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101] وإن جاءت مطلقة غير متعدية بنفسها ولا بـ"إلى" فهي بحسب السياق، مثل قوله تعالى:{عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين: 23] منهم من قال: ينظرون بمعنى ينتظرون النعيم الذي يُؤتى به إليهم، ومنهم من قال: ينظرون، أي: ينظرون إلى ما أنعم الله به عليهم، ومنه النظر إلى وجه الله.

ص: 73

{وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً} متعدية بنفسها، فهي بمعنى ينتظر، أي: ما ينتظر هؤلاء، أي كفار أهل مكة، كما قال المؤلف:[أي: كفار مكة]{إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} يصاح بهم، واحدة لا تعاد مرة أخرى، كما قال الله تعالى:{بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 46]، وقال أيضًا:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ} [القمر: 49 - 50]، وقال:{إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 53] فالصيحة هي التي تكون يوم القيامة، كما قال المؤلف:[هي نفخة القيامة تحل بهم العذاب] وهي الساعة، هذه الصيحة الواحدة {مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)} [بفتح الفاء وضمها، أي: رجوع].

{مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)} ما: نافية، وليست هنا حجازية لاتفاق التميميين والحجازيين على عدم عملها، لأن الحجازيين يعملونها بشرط الترتيب، أي: تقدم الاسم على الخبر، وهنا لم يتقدم الاسم على الخبر، بل تأخر، فهي إذًا نافية، ولها: جار ومجرور خبر مقدم. و {مِنْ فَوَاقٍ} من: حرف جر زائد للتأكيد، و {فَوَاقٍ} مبتدأ مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. أما من حيث التصريف قال المؤلف:[إنها بفتح الفاء وضمها] فَواق وفُواق، ومعناه الرجوع وقيل: معناه الإمهال، يعني إنها لا تمهلهم، بل تأخذهم بسرعة، وقيل: إنها إن كانت فَواق فهي بمعنى الرجوع لأنها من أفاق يفيق إذا رجع إلى عقله، وإذا كانت فُواق فهي بمعنى الإمهال مأخوذ من قولهم: فُواق الناقة، وفُواق

ص: 74

الناقة: هو ما بين الحَلْبتيْنِ أو ما بين الرَّضْعَتيْنِ. ما بين الحلبتين إذا كانت تُحلب، وهي مدة وجيزة، مثاله: يعصر الإنسان الثدي ثم يتوقف ثم يعود ويعصره، فالمدة بين الحلبتين قليلة، وكذلك بين الرضعتين. الطفل الرضيع إذا كان يرضع ثدي الأم، يمص ثم يمص. وهم يطلقون هذا على سرعة الشيء وعدم إمهاله، ويمكن أن نقول: إن القراءتين تجمعان المعنيين، فيكون معنى {مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)} أي: ما لها من رجوع ولا إمهال.

الفوائد:

1 -

في هذا أشد التهديد للمكذبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولازم ذلك إثبات رسالته صلى الله عليه وسلم، ووجه أن الله توعد المكذبين له، ولولا أن رسالته حق لكان الوِعيد عليه هو كما قال تعالى:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44 - 47] الله أكبر، انظر إلى هذا الأسلوب الشديد للآيات الموجهة للرسول عليه الصلاة والسلام {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} بالقوة، {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} حتى لا يبقى به حياة. والوتين هو عرق يتصل بالقلب إذا قطع مات الإنسان فورًا {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} هذا وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، لو تقول على الله كلمة واحدة لأخذه الله باليمين، فكيف بالذين يتقولون على الله كلمات، ولا يبالون أن يقولوا: قال الله، وهو لم يقل.

ولهذا كان الإِمام أحمد رحمه الله من ورعه لا يمكن أن يقول: هذا حرام إلا إن كان قد نص على تحريمه، وإلا تجده يقول:

ص: 75

أكره هذا، أو لا يعجبني، أو لا يفعل، أو تركه أحب إليّ أو ما أشبه ذلك، ولكن كان إمامًا، وصار الناس يتداولون هذه الكلمات ويحللونها، هل إذا قال: لا تعجبني، يعني التحريم أو الكراهة، ثم بدأ الناس يتلقون كلامه ويحللونه، لأنه رحمه الله خاف الله واتقاه فجعل الله لكلماته نورًا، بخلاف الذين يقولون الآن: الإِسلام يحرم كذا وكذا، وإذا رأيت الإِسلام يحلله، ويمكن أن يوجبه في بعض الأحيان، وهذا يقول: يحرمه الإِسلام، يتكلم واحد معرض للخطأ باسم الإِسلام. وأنت لو قلت: أرى أن هذا حرام، قلنا: هذا رأيك، ويمكن أن تخطئ وتصيب. أما أن تقول: حرّم الإِسلام، وقال الإِسلام، وفعل الإِسلام، فهذه الأقوال خطيرة، لأن أعداء المسلمين إذا أخذوا مثل هذه الأقوال، وقالوا: هذا الإِسلام وكانت تخالف الإِسلام، أخذوا من هذا سببًا للقدح في الإِسلام. والإِسلام بريء منه، لكن بعض الناس يجعل لنفسه منصبًا عاليًا فوق مستواه.

2 -

ومن فوائد هذه الآية: تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام، لأنه إذا قيل له: سنهلك أعداءك، سوف يتسلى.

3 -

ومن فوائد هذه الآية: أن العذاب إذا أخذهم فإنه لن يرجع ولن يتأخر، قال تعالى:{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 84 - 85].

* * *

ص: 76

{وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)} لما توعدهم الرسول عليه الصلاة والسلام بيوم القيامة، وأن لهم العذاب فيه، تحدوا الرسول عليه الصلاة والسلام، بل تحدوا الله {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} بمعنى نصيبنا، يقولون ذلك تحديًا واستكبارًا وعنادًا -والعياذ بالله- وهذا كقولهم:{وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] هذا قول معاند مستكبر، وكان الواجب عليهم أن يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه ووفقنا له. هذا الواجب، أما أن يقولوا:{فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} فهذا لا شك أنه في غاية الاستكبار -والعياذ بالله-.

قال المؤلف: [وقالوا لما نزلت {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الحاقة: 19]{رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} أي: كتاب أعمالنا {قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} قالوا ذلك استهزاءً] ما ذهب إليه المؤلف يحتمله اللفظ، لكن لا دليل عليه فيه، والصحيح أن المراد بقطنا، أي: نصيبنا من العذاب الذي توعدتنا به، وقلت إنه سيأتيكم عذاب كما أتى الأحزاب من قبلكم، فكأنهم يقولون: إذا كان الأحزاب قد أوتوا العذاب من قبلنا فليأتنا نصيبنا. وهذا لا شك أنه في غاية ما يكون من التحدي والسخرية والاستكبار -والعياذ بالله- وأنت تعجب أن تصل الحال بالبشر، إلى هذا التحدي -والعياذ بالله- ولكن الشيطان عدو للإنسان، فإذا أطاعه حمله على شيء، يكاد الإنسان أن يقول: إن هذا الشيء لا يمكن أن يقع.

ص: 77

الفوائد:

قوله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)} في هذه الآية من الفوائد:

1 -

اعتراف المشركين بالربوبية لقولهم: {رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا} وهم مقرّون بالربوبية، ومقرّون بانفراد الله تعالى بها، قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]، وقال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25].

2 -

ومن فوائدها: أن الإقرار بالربوبية لا يخرج الإنسان من الكفر إذا كان لم يقرّ بتوحيد الألوهية؛ لأن هؤلاء مقرون بالربوبية، وأن الله هو الخالق الرازق والمنفرد بالخلق والرزق، لكنهم يشركون به في العبادة، يعبدون معه غيره، فلم يدخلهم ذلك في الإِسلام.

3 -

ومن فوائدها: بطلان ما ذهب إليه كثير من المتكلمين في تفسير التوحيد، حيث قالوا في تفسير التوحيد:(أن تؤمن بأن الله واحد في ذاته لا قسيم له، واحد في أفعاله لا شريك له، واحد في صفاته لا شبيه له)، فإن هذا لم يتعرضوا فيه لذكر الألوهية إطلاقًا، قالوا: إن الله واحد في ذاته لا قسيم له

إلخ هذا هو التوحيد عند عامة المتكلمين، ولا شك أن هذا التوحيد لم يدخل فيه توحيد الألوهية الذي جاءت الرسل بتحقيقه وإثباته والقتال عليه، لم يقولوا واحد في ألوهيته لا يُعبد غيره، أسقطوا هذا نهائيًا، ولا شك أن هذا قول باطل في أن هذا هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل، بل هذا من التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وليس هو التوحيد كله، بل فيه

ص: 78

أيضًا إجمال في قولهم: واحد في صفاته لا شبيه له، ولكن هذا ليس موضوعنا، لأننا نتكلم عن التفسير.

فالمشركون الذين قاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم، واستباح دماءهم وأموالهم ونساءهم وذريتهم، كانوا يقرون بما يدعي المتكلمون أنه هو التوحيد.

4 -

ومن فوائدها: استكبار هؤلاء المكذبين للرسول عليه الصلاة والسلام حيث تحدوه هذا التحدي وقالوا: {رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} أي: نصيبنا من العذاب، وهذا غاية ما يكون من الاستكبار والعناد.

5 -

ومن فوائد الآية الكريمة: إيمانهم بيوم الحساب. يؤخذ من قوله: {قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} ممكن أن نقول هكذا ويمكن أن نقول: إنهم قالوا ذلك على سبيل التهكم، فيكون هذا أشد في العناد والاستكبار، أي: قبل يوم الحساب الذي يزعمه محمَّد، فيكون المراد بهذا، التهكم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما أخبر به من يوم الحساب، وهذا هو الظاهر، أي: كأنهم يقولون: عجل لنا نصيبنا من العذاب قبل هذا اليوم الذي يقوله هذا الرجل.

* * *

فقال الله تعالى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} هم بقولهم: {رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} يريدون بذلك مضايقة الرسول عليه الصلاة والسلام حتى يضجر ويتعب نفسيًا وفكريًا وربما جسميًا، ولا شك أن هذا يؤذي الداعية.

ص: 79

وأنت لو دعوتَ إلى الله وقام واحد وقال: أهذا ما تتوعدنا به! ائتنا به، عجل لنا به، لا شك أنك تضيق، فالرسول صلى الله عليه وسلم بشر، لكنِ الربّ عز وجل يُصَبِّره شرعًا، ويعينه على ذلك قدرًا، يصبره شرعًا بالأمر اصبر اصبر ويعينه -على ذلك قدرًا، فقد صبر النبيُّ صبرًا لا يصبره أحد، قال تعالى:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف: 35].

والعجيب أن من صبره أنه صبر حين المقدرة عليهم، صبر على العذاب الذي يكون بيده، وعلى العذاب الذي يكون من عند الله، صبر على العذاب الذي يكون بيده حين فتح مكة ووقف على باب الكعبة وقريش تحته وقال:"يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟ " قالوا: خيرًا، أخ كريم، وابن أخٍ كريم، قال:"اذهبوا فأنتم الطلقاء"

(1)

في هذا الحال يستطيع أن يبطش بهم فكلهم أذلة بين يديه، لكن قال:"اذهبوا فأنتم الطلقاء" بل قال قبل ذلك: "من دخل داره فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن"

(2)

كل هذا من باب التسامح والعفو مع المقدرة.

أما عفوه وتسامحه مع المقدرة بأمر يوقعه الله سبحانه تعالى فيهم، فإنه لما رجع من الطائف بعد أن فعل به أهل الطائف ما فعلوا أرسل الله إليه جبريل ومعه ملك الجبال، وقال: إن الله يقرئك

(1)

انظر "السيرة النبوية" لابن هشام 4/ 43 فتح مكة.

(2)

انظر "السيرة النبوية" لابن هشام 4/ 36 فتح مكة.

ص: 80

السلام وهذا ملك الجبال يفعل ما تأمر به، فقال له ملك الجبال: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئًا"

(1)

اللهم صلِّ وسلم عليه.

انظر إلى العفو وإلى النظر البعيد، فأخرج الله -ولله الحمد- من أصلاب هؤلاء مَن عبد الله ولم يشرك به، وكانوا أئمة يهدون بأمر الله، فالنبي عليه الصلاة والسلام يجد المضايقات العظيمة من قريش لكنه يصبر على كل أذى، ولهذا قال الله له:{اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ص: 17] اصبر على ما يقولون من أقوال الاستهزاء والسخرية والكذب، قالوا: إنه ساحر مجنون كذاب كاهن، ولكنه يصبر، صبر على ما يقولون، وصبر على ما يفعلون أيضًا، أعظم شيء علمت به أنه كان ذات يوم ساجدًا عند الكعبة في آمن مكان، وأعظمه حرمة، وأقرب ما يكون من ربه، ساجدًا لله، وكان حوله ملأ من قريش، فقالوا: من ينتدب لنا يأتي بسلا جزور بني فلان يضعه على محمَّد وهو ساجد، فانتدب أشقاهم، وذهب وأتى بسلا الجزور ووضعه على ظهره، دم وروث وقدر ونجاسة على ظهره وهو ساجد، ولكنه لم يقم من السجود حتى جاءت ابنته فاطمة وهي صغيرة فأزاحته عنه، فقام صلى الله عليه وسلم، ثم لما فرغ من الصلاة دعا الله عليهم، فأجاب الله دعوته، فعذبهم بيده، وسُحِبوا في قليب بدر في غزوة بدر جثثًا منتنة خبيثة،

(1)

أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم: آمين والملائكة في السماء (3231)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين (1795).

ص: 81

وطرحوا في أحد الآبار هنالك

(1)

. اللهم انصر الحق أينما كان يا رب العالمين.

قال تعالى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} الخطاب في قوله تعالى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أمره الله أن يصبر على ما يقوله له أعداؤه مما يتعلق بجانب الرب عز وجل من إنكار توحيده، ومما يتعلق بالرسول صلى الله عليه وسلم من وصفه بأنه كذاب وساحر ومجنون، ومما يتعلق بأصحابه، وكل ما يقولون مما يسوءُ الرسولَ عليه الصلاة والسلام. أمره الله تعالى أن يصبر عليه، وكذلك أيضًا أن يصبر على ما يفعلون؛ لأن أذية المشركين له كانت بالقول وبالفعل جمعًا وإفرادًا.

والصبر هو حبس النفس عما لا يجوز في مقابلة البلية والمصيبة. وقد قسم العلماء رحمهم الله الصبر إلى ثلاثة أقسام فقالوا: صبر على أقدار الله المؤلمة، وصبر عن محارم الله، وصبر على طاعة الله، وهذا الأخير هو أعلى أنواع الصبر، لأن الصبر الأول هو صبر قهري. فالصبر على المصائب صبر قهري، لأن المصائب لم تقع باختيارك، وإنما هي بغير إرادتك فأنت أمامها إما أن تصبر صبر الكرام، وإما أن تسلوا سلوَّ البهائم، ثم الصبر عن محارم الله دون الصبر على أوامره، وذلك أن الصبر على محارم الله ليس فيه إلا كف النفس فقط، والكف أسهل من الفعل، وأما الصبر على الطاعة فهو أعلاها؛ لأن فيه صبرًا على

(1)

أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب إذا ألقي على ظهر المصلي قذرًا أو جيفة (240)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين (1794).

ص: 82

كفّ النفس وعلى فعلها، على كف النفس عن ترك هذا المأمور به، وعلى الفعل يرغمها على أن تفعل؛ ولهذا قال أهل العلم: إن الصبر على أوامر الله أفضل من الصبر عن نواهيه، والصبر عن نواهي الله أفضل من الصبر على أقدار الله المؤلمة.

ومن ثم لو سألنا سائلٌ: أيما أعلى مقامًا وأفضل، صبر يوسف عليه الصلاة والسلام على الحبس، أو صبره عن فعل الفاحشة بامرأة العزيز؟ قلنا: صبره عن الفاحشة أعظم وأعلى مرتبة.

قال تعالى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} أي: في الله أولًا، لأن السورة من أولها في إنكار توحيد ألوهية الله، وفي الرسول، وفيما جاء به، وفي أصحابه. {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ} اذكر يحتمل أن يكون من الذكر، أي: الإخبار عن حاله، أي: اذكر للناس قصة داود، ويحتمل أن اذكر بمعنى تذكر داود، وإذا كان اللفظ يحمل معنيين لا يتنافيان، فالقاعدة التفسيرية أن يحمل عليهما جميعًا، لأنه كلما كانت دلالة الآية أشمل وأعمّ كان أولى. {عَبْدَنَا دَاوُودَ} وصف الله داود عليه الصلاة والسلام بالعبودية، وهذه أخص أنواع العبودية، لأن العبودية إما عامة، وإما خاصة، وإما خاصة الخاصة، فوصف الرسل بالعبودية خاصة الخاصة، ووصف المؤمنين بالعبودية خاصة، ووصف عموم الناس بالعبودية عامة، وعليه فالعبودية في قوله تعالى:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93] عامة، وفي قوله تعالى:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] خاصة، وفي قوله:{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ} خاصة الخاصة، وداود من

ص: 83

أنبياء بني إسرائيل وهو بعد موسى، والدليل قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا} [البقرة: 246] وفي أثناء القصة قال: {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ} [البقرة: 251] إذًا فهو من بني إسرائيل من بعد موسى عليه الصلاة والسلام.

قال: {دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ} قال المؤلف رحمه الله: [{ذَا الْأَيْدِ} أي: القوة في العبادة] إذًا فالأيد ليست جمع يد، بل هي مفرد مصدر آد يئيدُ أيْدًا، ونظيره في التصريف باع يبيع بيعًا، وكال يكيل كيلًا، إذًا الأيد: القوة، ونظيرها قوله تعالى:{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47] أي: بقوة، وقول المؤلف رحمه الله:[القوة في العبادة]، ينبغي أن يقال: القوة مطلقًا في العبادة وغير العبادة حتى في الملك؛ لأن الله قال في هذه الآيات: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} [ص: 20] فهو ذو أيد في كل ما تكون القوة فيه صفة مدح، إذًا الأيد الأَوْلى أن نجعلها عامة في كل ما تكون القوة فيه، وهذه صفة مدح؛ لأن المقام مقام مدح لداود عليه الصلاة والسلام، ولهذا أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يذكره.

قال المؤلف: [{ذَا الْأَيْدِ} أي: القوة في العبادة، كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، ويقوم نصف الليل، وينام ثلثه، ويقوم سدسه] هذا عكس ما جاء في الحديث: "كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه"

(1)

فالعبارة فيها انقلاب على المؤلف، كان عليه الصلاة

(1)

أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب من نام عند السحر (1131)، ومسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر (1159)(189).

ص: 84

والسلام ينام نصف الليل؛ ليعطي نفسه حظها من الراحة، وليجدد نشاطه، لأن في النوم فائدتين للجسم: الأولى: قطع التعب السابق والاستراحة منه، كما قال الله تعالى:{وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} [النبأ: 9] أي: قطعًا لا حصل من المشقة والتعب، واستعداد الجسم للقوة في المستقبل، ولهذا إذا نام الإنسان وهو مشته للنوم، ثم قام وجد نفسه نشيطًا، فكان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، لأجل أن يعطي نفسه راحتها من تعب قيام الليل، وهكذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يفعل، فكان لا تُلْفِيهِ السحرَ إلا نائمًا، أي: غالب أحيانه ينام عليه الصلاة والسلام في آخر الليل.

يقول الله تعالى: {إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)} الجملة استئنافية لبيان حال داود: أنه قوي، وأنه رجَّاع إلى الله سبحانه وتعالى، كلما حدثته نفسه بالكسل عاد فنشط، وكلما حصل منه زلة عاد فتاب إلى الله. والأواب صيغة مبالغة من آب يؤوب، واسم الفاعل "آئِب"، وصيغة المبالغة أوّاب. قال المؤلف:[رجاع إلى مرضاة الله].

الفوائد:

ومن فوائد قوله تعالى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} .

1 -

أن الرسول صلى الله عليه وسلم يتأثر بتكذيبهم، ولهذا أمره الله بالصبر لأجل أن يعينه على صبره عليهم، وهذا أمر لا شك فيه، أي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام يتأثر من تكذيبهم ويتألم، لأنه عليه الصلاة والسلام جاء رسولًا من عند الله، فإذا كذَّبه هؤلاء، فإنهم

ص: 85

يكونون قد كذَّبوا الله عز وجل، فيتألم النبيُّ صلى الله عليه وسلم لذلك، كما أنه بشر يتألم بمقتضى الطبيعة البشرية أيضًا، فإن البشر لا بد أن يتألم إذا رُد قوله وكُذِّب وعُورض وقُدح فيه من أجله، لا بد أن يتأثر مهما كانت حاله.

2 -

ومن الفوائد: وجوب الصبر على أذى الكفار، لقوله تعالى:{اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} .

3 -

ومن الفوائد: أن النبي صلى الله عليه وسلم عبد مأمور، يُؤمر ويُنهى، وليس ربًا آمرًا ناهيًا، ولولا أن الله أمرنا بطاعته لكان كغيره من البشر، لا تجب طاعته، لكنه رسول الله، أمرنا الله بطاعته {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].

4 -

ومن الفوائد: أن هذا الأمر الصادر صادر منهم جميعًا، أو من أكثرهم، أو من أشرافهم ووجهائهم، لقوله:{عَلَى مَا يَقُولُونَ} فأضاف القول إلى الجميع، فإما أن يكون الجميع كلهم يقولون هذا، وإما أن يكون الأكثر يقول بذلك، فنسب إلى الجميع اعتبارًا بالأكثر، وإما أن يكون القائل هم الأشراف والوجهاء، فيكون قول هؤلاء قولًا للجميع، لأن الأتباع سوف يقلدونهم.

5 -

ومن الفوائد: ذكر ما يتسلى به العبد، وتذكيره بذلك لقوله:{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ} .

6 -

ومن فوائدها: فضيلة داود عليه الصلاة والسلام، وأنه عبد.

ص: 86

7 -

ومن فوائدها: أن داود قويٌّ في عبادته لقوله: {عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ} ذا الأيد أي: القوة في الوصف الذي وصفناه به وهو العبودية.

8 -

ومن فوائد الآية الكريمة: الثناء على القوي في العبادة لقوله: {عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ} أي: ذا القوة في العبادة، وعليه يتنزل قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"المؤمن القوي خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف"

(1)

فإن المراد بالقوة هنا القوة في الإيمان، يعني القوي في إيمانه، لأن القوي وصف يعود على المؤمن، فيكون المراد القوي في هذا الوصف، وليس قوي البدن، لأن قوة البدن قد تنفع وقد تضر، بخلاف قوة الإيمان فإنها نافعة لا مضرة فيها.

9 -

ومن الفوائد: فضيلة داود أيضًا من جهة أخرى وهو أنه مع قوته في العبادة رجّاع إلى الله من ذنبه في قوله: {إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)} أي: رجّاع إلى ربه لو أذنب فإنه يرجع إليه كما تدل عليه القصة التي ستأتي.

10 -

ومن فوائد الآية الكريمة أيضًا: إثبات العلل والأسباب، لأن الجملة في قوله:{إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)} تعليلية لكون داود عليه الصلاة والسلام موصوفًا بالقوة والعبودية، لأنه رجّاع إلى الله عز وجل، وكل من كان رجاعًا إلى الله فسوف يكون قويًا في عبوديته.

* * *

(1)

أخرجه مسلم، كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز (2664).

ص: 87

ثم ذكر الله تعالى ما مَنَّ به عليه فقال: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ} أي: ذللناها له، والله سبحانه وتعالى يذل له كل شيء، فسخر الله الجبال، أي: ذللها حتى تسبح بتسبيح داود، وهي، أي: الجبال تسبح تسبيحًا مطلقًا، وهذا هو التسبيح العام، وتسبح تسبيحًا خاصاً، كما أمرت أن تسبح مع داود عليه الصلاة والسلام، وإلا فهي تسبح تسبيحًا عامًّا مطلقًا، كما قال الله تعالى:{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] أي: ما من شيء إلا يسبح بحمده {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44].

أما التسبيح الذي سخر الله الجبال عليه مع داود فهو تسبيح خاصّ {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18)} والجبال جمع جبل وهو معروف، {مَعَهُ} ، أي: مع داود قال المؤلف رحمه الله: [يسبحن بتسبيحه {بِالْعَشِيِّ}: وقت صلاة العشاء {وَالْإِشْرَاقِ}: وقت الضحى]. قوله: {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ} الباء هنا ظرفية بمعنى "في" لكن يظهر- والله أعلم- أنه إذا أريد بالظرفية استيعاب الوقت أُتي بدل "في" بالباء، لأن الباء تدل على الاستيعاب والإحاطة كما في قوله تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ} [الحج: 29] وكما قال: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] ولهذا لا بد من استيعاب البيت بالطواف، واستيعاب ما بين الصفا والمروة في السعي. إذًا الباء هنا للظرفية لكنها جاءت مكان "في" للدلالة على الاستيعاب، يعني كل العشي.

ص: 88

وقول المؤلف: [{بِالْعَشِيِّ}: وقت صلاة العشاء، هذا فيه نظر، والصحيح أن المراد بالعشي آخر النهار، كما قال تعالى: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 42]. فالمراد بالعشي آخر النهار، وفي حديث أبي هريرة المشهور بحديث ذي اليدين، قال: صلىَّ بنا الرسول صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي

(1)

. يعني الظهر أو العصر.

قال المؤلف: [{وَالْإِشْرَاقِ}: وقت صلاة الضحى، وهو أن تشرق الشمس ويتناهى ضوؤها] هناك إشراق، وهناك شروق، وبينهما فرق، فالشروق ظهور الشمس، يقال: شرقت الشمس، يعني ظهرت، والإشراق: ارتفاع الشمس حتى يصحو ضوؤها وتكون بيضاء، فالإشراق معناه دخول الشمس في الإضاءة الكاملة البيضاء، والشروق ظهور الشمس، فإذا طلع حاجب الشمس من المشرق، يقال له: شروق، وإذا ارتفعت حتى زادت حمرتها أو صفرتها، يقال: إشراق. {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} أي: بعد أن ترتفع الشمس ويحسن ضوؤها.

{وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً} قال المؤلف رحمه الله: [وسخرنا الطير] أفادنا المؤلف أن الطير معطوفة على الجبال. أي: سخرنا الجبال وسخرنا الطير، وليست معطوفة على الضمير المستتر في قوله:{يُسَبِّحْنَ} على أنها مفعول معه، وقد يقول القائل: يسبحن والطيرَ، كقوله:{يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ: 10] فالمؤلف رحمه الله أفادنا بتقدير:

(1)

أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد (482)، ومسلم، كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له (573)(97).

ص: 89

سخرنا، أن الطيرَ معطوفة على الجبال، وقوله:{مَحْشُورَةً} منصوبة على الحال، يعني والطير حال كونها محشورة.

فإذا قال قائل: لماذا لا تجعلونها صفة للطير؟ قلنا: الذي يمنع من أن تكون صفة أنها لم توافق الموصوف في التعريف، والصفة تتبع الموصوف في التنكير والتعريف، و (محشورة) نكرة، بينما (الطير) معرفة.

{مَحْشُورَةً} يقول المؤلف: [مجموعة إليه تُسبِّح معه] لو قال قائل: أليست الحال صفة؟ فلماذا لا نقول: محشورة صفة للطير؟ نقول: هي صفة في المعنى، والخبر خبر مبتدأ صفة للمعنى، وما يعرف بالنعت عند النحويين صفة، لكن لا يلزم من الصفة في المعنى أن تكون صفة له في اللفظ.

قال المؤلف: [{كُلٌّ} من الجبال والطير {لَهُ أَوَّابٌ (19)} رجَّاع إلى طاعته بالتسبيح]. {كُلٌّ} منونة تنوينًا يُسمّى تنوين العَوض. كلّ وبعض تنوينهما تنوين عوض، وذلك لأنه لا بد من إضافة، ولكن قد يحذف المضاف إليه ويعوض عنه التنوين. كمثل كلّ والتقدير بدون قطع الإضافة: كلهن، أي: الجبال والطير، لأنها لا تعقل، كلهن له أواب، فحذف المضاف إليه وعوض عنه التنوين. قال المؤلف:[من الجبال والطير] هذه بيان للمضاف إليه، يعني أنها على تقدير كلهن، أي: الجبال والطير، {لَهُ} أي: لداود {أَوَّابٌ} أي: رجّاع إلى طاعته بالتسبيح، ويحتمل أن يكون رجّاع بمعنى أن هذه الطيور تذهب وتتعيش ثم ترجع لأجل أن تُؤَوِّب معه، والسياق

ص: 90

والمعنى لا يمنعه، فكلٌّ من الجبال والطير أواب إلى داود بمعنى مطيع له، وبمعنى آخر بالنسبة للطير أنها ترجع إليه بعد أن تذهب لتقوم بقوتها ثم تعود إليه.

الفوائد:

1 -

بيان أن الأمور كلها بيد الله لقوله: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ} أي: ذللناها، والجبال خلق عظيم لا يستطيع أحد أن يؤثر فيه، ولكن الله تعالى بقدرته يسخرها ويذللها.

2 -

ومن الفوائد أيضًا: أن للجماد إرادة، يدل عليه قوله:{يُسَبِّحْنَ} لأن التسبيح لا بد أن يكون بإرادة، ويدل على ذلك قوله:{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} ويترتب على هذه الفائدة ردُّ قول من يقول: إن قوله تعالى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77] فيه مجاز حيث قالوا: إنه لا إرادة للجدار، ونحن نقول: بل له إرادة، لأن الله تعالى أثبت له الإرادة.

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن كل شيء خاضع لأمر الله، الطير التي تسبح في الهواء خاضعة لأمر الله، وهذا هو ما أكده الله في قوله:{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ} [الملك: 19].

4 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الجبال والطير تسبح مع داود عليه السلام وترجّع معه؛ لقوله: {كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19)} أي: كل

ص: 91

لداود رجّاع، أي: مُرجّع معه، إذا سبّح سبّحت الجبال، إذا سبح سبحت الطيور المجموعة إليه، وقيل: إن الأواب: الرجّاع وليس المرجّع الذي يرجع إلى داود، والمعنيان متلازمان؛ لأنه إذا كان رجّاع يرجع إلى داود ليسبح معه فهو مرجّع معه، على أن في الآية قولًا آخر في مرجِع الضمير في قوله:{لَهُ أَوَّابٌ (19)} فإن من أهل العلم من قال: إن الضمير في قوله: "له" يعود إلى الله، وأنه من باب الالتفات بدلًا من أن يقول: كل لنا أواب، قال: كل له أواب، ولكن هذا المعنى لا يتعين، بل المعنى الأول أظهر كما مشى عليه المؤلف رحمه الله.

* * *

ثم قال الله تعالى: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} أي: قَوَّينا مُلْكَه، لأن الشد يأتي بمعنى التقوية، قال الله تعالى:{وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} [النبأ: 12] أي: قوية بدليل قوله: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47] أي: بقوة، فالشد هنا بمعنى القوة، أي: قَوَّينا مُلْكَه، وتقوية الملك فسرها المؤلف بقوله:[قَوَّيناه بالحرس والجنود] وهذا لا شك نوع من التقوية أن يكون لدى الملك حراس وجنود، الحراس هم الموالون له، والجنود هم التابعون له وإن لم يوالوه، لكنهم جنود له، متى أمرهم ائتمروا، وأما الحراس فهم المباشرون للملك، فالله شدَّ مُلْكَه بالحراس والجنود، هذا وجه من شدِّ المُلك، وشدَّ ملكه بقوة السلطان؛ لأن السلطان إذا كان ضعيفًا مهما كان عنده من الحرس والجنود فإنه ضعيف، لكن إذا أعطاه الله القوة والعزيمة وعدم المبالاة

ص: 92

بأعدائه فهذا شدُّ ملك. يوجد ملك عنده آلاف الجنود والحراس ولكنه ضعيف، يخاف من ظله، ولا يحمي حدوده، هذا لا شك أنه وإن كان عنده حراس كثيرون وجنود، فإن ملكه ضعيف، لأن غاية ما ينفعه الجنود به أن يكونوا مدافعين فقط، لكن إذا قَوَّى الله ملكه بما عنده من قوة العزيمة والجلد والصبر والتحمل وعدم المبالاة بالأعداء، صار حينئذ عنده قوة مهاجمة ومدافعة، الأمرين جميعًا. أمّا من عنده جنود فالغالب أنه يُحرَس لضعفه، ولا أحد يشك بأن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه من أقوى الناس ملكًا لكن خلافة، ومع ذلك ليس عنده جنود يحرسونه، بل هو بنفسه كان يجمع الحصباء في المسجد، ويضع رداءه عليها وينام عليه، ليس عنده أحد ومع ذلك فقد حماه الله عز وجل.

إذًا شدُّ المُلكِ ليس مقتصرًا على كثرة الحرس والجنود، بل قد يكون في الحرس والجنود ما يؤدي إلى الضعف، إذا كان الإنسان لا يقوَى ولا يتحرك إلا بالحرس والجنود، فهذا قد يكون دليلًا على ضعفه وخوفه وعدم أمنه، لذلك فإن اقتصار المؤلف رحمه الله على كثرة الحرس والجنود في شد الملك، لا شك أنه ضعيف جدًا، وأهم شيء أن يقوى ملكه بما لديه من الشخصية وقوة العزيمة وعدم المبالاة بأعدائه.

قال رحمه الله: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} قويناه بالحرس والجنود، وكان يحرس محرابه في كلّ ليلة ثلاثون ألف رجل] هذه إسرائيلية بلا شك، لم ترد عن معصوم، وبناء على ذلك، فإن كانت قريبة من التصور فإننا لا نصدقها ولا نكذبها، وإن كانت بعيدة من التصور فإننا

ص: 93

نكذبها. والبعيد من الواقع الذي لم يرد عن معصوم يُكَذَّب، لأنه ليس فيه خبر ثابت، فإذا لم يكن هناك خبر ثابت رجعنا إلى تحكيم العقل. فهل يعقل مثلًا أن يكون عند داود كلّ ليلة ثلاثون ألفًا يحرسون محرابه! على كل حال هذا خبر إسرائيلي، وأقرب ما يكون عندي أنه كذب، وأنه إن صح أن عنده حرسًا فليكونوا خمسة أو عشرة وما أشبه ذلك، ثم إنه سيأتينا في قصة الخصوم أنهم تسوروا المحراب، فهل يتسورون المحراب وحوله ثلاثون ألفًا؟

فالحاصل أن مثل هذه القصص الإسرائيلية تكون عندنا على ثلاثة أوجه:

الأول: ما شهد شرعنا ببطلانه فهو باطل.

الثاني: ما شهد شرعنا بصدقه فهو حق بشهادة شرعنا.

الثالث: ما لم يشهد شرعنا بخلافه فإننا نرجع إلى العقل إن كان قريبًا فإننا لا نصدق ولا نكذب، وإن كان بعيدًا فإننا نكذب، لأن هذا لما انتفى فيه الدليل الشرعي، نرجع فيه إلى الدليل العقلي، فإذا كان العقل يستبعده أبعدناه.

يقول تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)} آتيناه: أعطيناه، وهناك فرق بين آتيناه وأتيناه، آتيناه بمعنى أعطيناه، وتنصب مفعولين، من باب كسى، وأتيناه بمعنى جئناه، وتنصب مفعولًا واحدًا {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] أي: جئنا طائعين، {وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ} [الحجر: 64] أي: جئناك بالحق، أما آتى بالمد بمعنى أعطى، فتنصب مفعولين ليس أصلهما المبتدأ والخبر، قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ

ص: 94

الْحِكْمَةَ} هنا نصبت مفعولين: الأول: الهاء، والثاني: الحكمة. وما هي الحكمة؟ قال المؤلف: [النبوة والإصابة في الأمور]، لأن النبوة حكمة بلا شك. كل نبي فإنه مؤتىً للحكمة، قال الله تعالى:{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] والإصابة في الأمور أيضًا حكمة، كون الإنسان يوفق للإصابة في الأمور مثل أن يكون ذا رأي سديد، فإن هذا لا شك أنه حكمة، ولهذا يقال: فلان حكيم زمانه، أي: لإصابته في الأمور.

وقوله: {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} قال المؤلف: [البيان الشافي في كل قصد] فصل الخطاب، هل المعنى أنه يفصل الخطاب الصادر من غيره بمعنى أنه يفصلِ بين الخصوم، ما تخاطبوا فيه، كما يدل عليه قوله:{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} لأن المتخاصمين كل منهما يأتي بحجة، يتكلم ويقول، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"إنكم تختصمون إليَّ، ولعلَّ بعضَكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بنحو ما أسمع"

(1)

. إذًا فصل الخطاب يعني فصل الخطاب الحاصل من غيره، أي: يفصل في خطاب الناس، أو فصل الخطاب يعني خطابه هو، يعني أن خطابه كان فصلًا، أي: ذا بيان وفصاحة، نقول: المعنيان محتملان، فالآية تحتمل هذا وهذا، وهما لا يتنافيان، فيجب أن تكون الآية محمولة عليهما، حتى إن بعضهم قال: إن فصل الخطاب هو قوله: أما بعد، لأن "أما بعد" تفصل ما قبلها عن ما بعدها، ولكن هذا ليس

(1)

أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغضب، باب إثم من خاصم في باطل (2458)، ومسلم، كتاب الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة (1713).

ص: 95

بصحيح. أما بعد لا شك أنها تعطي الكلام رونقًا وجمالًا وتفصيلًا، لكن كوننا نجعلها هي فصل الخطاب فيه نظر، والله أعلم.

الفوائد:

1 -

من فوائد هذه الآية: أن الله سبحانه وتعالى قَوَّى ملك داود بما ذكرنا من التقوية المعنوية والحسية.

2 -

ومن فوائدها: أن تقوية المُلْك من أكبر أوصاف المَلِك التي يتمتع بها؛ لأن الله تعالى مَنَّ بها على داود عليه السلام في قوله: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} .

3 -

ومن فوائدها: الثناء على داود عليه السلام بأن الله تعالى مع تقوية ملكه آتاه الحكمة في تصرفه، قال تعالى:{وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ} .

4 -

ومن فوائدها: أن الله تعالى مَنَّ على داود عليه السلام بفصل الخطاب، أي: الخطاب الفصل البين الذي يفصل به بين الناس، ويفصل به بين الحق والباطل، وبين الضار والنافع.

* * *

قال الله عز وجل: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21)} الواو عاطفة والجملة معطوفة على ما سبق لأن الكلام كله في شأن داود، والاستفهام هنا يقول المؤلف:[للتعجب والتشويق إلى استماع ما بعده] يعني أن هذه القصة عجيبة، وأنها لكونها عجيبة مما يشوق إليه، والاستفهام كما نعلم جميعًا تختلف معانيه بحسب السياق، وإلا فإن الأصل فيه أنه الاستخبار عن

ص: 96

الشيء، أي: طلب الإفهام عنه، يقال: استفهم عن كذا، أي: طلب الإفهام عنه. هذا الأصل، لكن سياق الكلام يغير المعاني الأصلية إلى ما يقتضيه السياق، فالمراد به هنا التشويق، وله نظير، مثل قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10] المراد به هنا التشويق، وقد يكون المراد بالاستفهام التهويل مثل:{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] يقول: [{هَلْ} استفهام هنا للتعجب والتشويق إلى استماع ما بعده {أَتَاكَ} يا محمَّد] جعل المؤلف الخطاب هنا للرسول عليه الصلاة والسلام، ولكن يجوز أن يكون الأمر كما ذهب إليه المؤلف، ويجوز أن تكون الكاف لكل مَن يصح خطابه، أي: وهل أتاك أيها المخاطب، وإذا قلنا بهذا القول صارت دلالة الآية أعمّ.

والقاعدة عندنا في التفسير أنه كلما كان أعم فإنه أولى، وعليه فيكون المراد بالكاف هنا المخاطبة لكل من يصح خطابه، واعلم أن كل خطاب في القرآن الكريم موجه إلى مخاطب فإنه على ثلاثة أقسام:

الأول: أن يدل الدليل على أنه عامّ فيؤخذ بعمومه.

الثاني: أن يدل الدليل على أنه خاصّ فيؤخذ بخصوصه.

الثالث: أن لا يكون هناك دليل لهذا ولا لهذا فيؤخذ بعمومه.

مثال الأول: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]

ص: 97

فـ {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ} خطاب موجّه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، لكن حكمه عامّ؛ لقوله:{إِذَا طَلَّقْتُمُ} فجعل الحكم عامًا لجميع الأمة.

وما دل الدليل على خصوصه فمثل قوله تعالى: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس: 1 - 3] هذا خطاب خاصّ بالرسول عليه الصلاة والسلام لا يَشْرَكُهُ غيره.

وما كان محتملًا لهذا وهذا، فهو كثير ومنه هذه الآية {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} .

{وَهَلْ أَتَاكَ} مر علينا قريبًا الفرق بين أتاك وآتاك، {نَبَأُ الْخَصْمِ} نبأ بمعنى خبر، ولكنه لا يقال غالبًا إلا في الخبر الهام {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} [النبأ: 1 - 2]. فهنا نبأ بمعنى خبر، لكنه في أمر هام، وقوله:{الْخَصْمِ} أي: المتخاصمين بدليل قوله: {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} فالخصم لفظه مفرد لكن معناه الجمع، وسمّي المتخاصمون خصمًا؛ لأن كل واحد منهما يريد أن يَخْصِمَ صاحبه، أي: أن يغلبه في الحجة، ويقطع حجته {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} قوله: إذ متعلقة ولا يصح أن تتعلق بـ {أَتَاكَ} ؛ لأن تسورهم للمحراب سابق ولا بـ (النبأ)؛ لأن تسورهم للمحراب أيضًا سابق، ولكنها تتعلق بشيء مقدر يدل عليه السياق، يعني اذكر إذ تسوروا المحراب. قال المؤلف: [محراب داود، أي: مسجده، حيثما مُنعوا الدخول عليه من الباب لِشَغَلِهِ بالعبادة {تَسَوَّرُوا} بمعنى دخلوا مع سوره لأن المكان مسور، لأنه بيت يتعبد فيه، فهو مسور وله أبواب، فجاؤوا ذات يوم -أي الخصم- فوجدوا الباب مغلقًا، والخصوم كما

ص: 98

تعرفون كل ذي حاجة فهو أعمى، قالوا: هذا الذي أغلق باب بيته أو محرابه نتسلق أو نتسور عليه، نأتيه من فوق، فتسوروا المحراب، يقول المؤلف:[حيث مُنعوا الدخول عليه من الباب لِشَغَلِهِ بالعبادة، أي: خبرُهم وقصتُهم] فهو عليه الصلاة والسلام أغلق الباب، لأنه أراد أن يتعبد لله، وهذا لا شك أنه يمنع من وصول الخصوم إليه، لكن الله سبحانه وتعالى سلط هؤلاء حيث جاؤوا فوجدوا الباب مغلقًا، أو مُنعوا من الدخول، فتسوروا المحراب من السور.

قال الله تعالى: {إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ} "إذ" بدل من "إذْ" الأول، ويحتمل أن تكون متعلقة بتسوروا، وأنا أقول هكذا؛ لأن إذ: ظرف، والظرف والجار والمجرور لا بد لهم من متعلق، {فَفَزِعَ مِنْهُمْ} أي: خاف، وذلك لأنهم جماعة وتسوروا المحراب، ومثل هؤلاء يخيفون. أرأيت لو أن أحدًا تسوّر عليك البيت وهم جماعة، لا شك أنك ستخاف، والخوف هنا طبيعي تقضيه الطبيعة والجبلة، ففزع منهم، فلما رأوه قد فزع {قَالُوا لَا تَخَفْ} يعني أننا ما جئنا لقتل ولا نهب ولا تخريب {خَصْمَانِ} أي: نحن خصمان، [قيل: فريقان ليطابق ما قبله من ضمير الجمع، وقيل: اثنان، والضمير بمعناهما]، يعني خصمان، أي: طائفتان مختصمتان، والذين قالوا: إن المراد هنا بالخصمين الطائفتان استدلوا بدليل الجمع السابق، وهو قوله:{تَسَوَّرُوا} و {دَخَلُوا} وقيل: إنهم خصمان، أي: رجلان اثنان اختصموا، [والضمير بمعناهما]، أي: ضمير الجمع السابق بمعنى هما، أي: بمعنى الاثنين، ولكن الذي يظهر الأول، خصمان، أي:

ص: 99

فريقان مختصمان، لأن ذلك هو المطابق لضمير الجمع، ولأن ذلك هو الذي يحصل منه الفزع؛ لأنهم إذا كانوا جماعة صار الفزع منهم أكثر.

وقول المؤلف: [والخصم يطلق على الواحد وأكثر، صحيح فيقال لمدّعٍ خصم ومدعَى عليه خصم، ولو كان واحدًا، ويقال لجماعة مع جماعة: هم أيضًا خصم.

يقول المؤلف رحمه الله: [وهما مَلَكان جاءا في صورة خصمين، وقع لهما ما ذُكر على سبيل الفرض لتنبيه داود على ما وقع منه، وكان له تسع وتسعون امرأة، وطلب امرأة شخص ليس له غيرها، وتزوجها ودخل بها] يقول المؤلف: إن هذين الخصمين مَلَكان أرسلهما الله سبحانه وتعالى إلى داود من أجل أن ينبهه على قضية معينة. هذه القضية كما تقول الإسرائيليات: إنه عشق امرأة رجل، فأمر زوجها أن يخرج للجهاد لعله يُقتل، فإذا قُتل تزوجها، فأرسل الله تعالى إليه الملكين من أجل أن ينبهاه على بشاعة هذه القضية، لأنها بشعة من أدنى الناس فكيف تكون من نبي؟ ! وكأن الله سبحانه وتعالى لم يشأ أن ينبهه بالوحي فيقول: يا داود لِمَ تفعل كذا؟ كما نبَّه الله آدم حينما أكل من الشجرة بدون ضرب مثل، وكذلك نبه الله محمدًا عليه الصلاة والسلام حين عفى عن قوم من المنافقين بدون أن يتبين أمرهم بدون ضرب مثل، ونبّهه على تحريمه ما أحل الله له لابتغاء مرضاة أزواجه بدون ضرب مثل، إلى غير ذلك من الشواهد الكثيرة التي تدل على أن الله سبحانه وتعالى ينبه على ما يحصل من

ص: 100

الرسل بدون أن يضرب لهم أمثالًا، لكن هذه القصة الإسرائيلية أبت إلا أن يضرب مثلًا لفعل داود المدّعى المزعوم.

والحقيقة أن هذه القصة باطلة، لا يحل لأحد أن يعتقدها في داود عليه الصلاة والسلام، أنه عشق امرأة رجل وأراد أن يتزوجها، وأنه كان عنده تسع وتسعون امرأة، فأراد أن يكمل بها المئة. هذا غير لائق بأدنى واحد من الناس فضلًا عن نبي من أنبياء الله، لكن اليهود -لعنة الله عليهم- لا يبالون أن يلطخوا الأنبياء كما لطخوا مَنْ أرسلَ الأنبياءَ فقالوا:{يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] وقالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} [آل عمران: 181] وقالوا: إن الله يتعب، فليس غريب أن يلطخوا الأنبياء بالعشق والحيل والمكر، فلهذا لطخوا داود عليه السلام بهذه الكذبة.

والصحيح الذي لا شك فيه أنهم خصمان من البشر وليسوا ملائكة، خصمان من البشر تنازعا في قضية بينهما ستأتي في القرآن الكريم، وكل ما سوى ذلك فإنه كذب، لأن القرآن يكذبه فإن القرآن إذا أتى بالقصة فلا بد أن يأتي بها على وجه الكمال؛ لتكون عبرة، وعلى وجه الصراحة؛ لئلا يكون فيها التباس أو اشتباه، فالقصة كما هي في القرآن تمامًا، لا يوجد ملائكة ولا يوجد رجل له زوجة حسناء أرادها داود أبدًا، ولا يجوز للمسلم أن يعتقد هذا في أحد من أنبياء الله.

والقصة هي: أنهم دخلوا عليه فقالوا: {لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ} خصمان بغى بعضهما على

ص: 101

بعض، أي: اعتدى عليه؛ لأن البغي هو العدوان، وطلبوا منه: أن يحكم بينهم لكنهم أضافوا كلمة ليست بجيدة قالوا: {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} ومثل هذا لا ينبغي أن يقال لنبي من الأنبياء، بل ولا ينبغي أن يقال لأي حَكَم يُتحاكم إليه، لأنك إذا تحاكمت إلى رجل مع خصمك فإنكما تعتقدان أن ما يقوله هو الحق. ليس الحَكَم في مقام تهمة حتى يقال: احكم بيننا بالحق، ولهذا انتقد الصحابة رضي الله عنهم في قصة العسيف

(1)

الذي زنى بامرأة من استأجره لما حضر أبو الولد الزاني وزوج المرأة، قال أحدهما: للرسول صلى الله عليه وسلم: أَنْشُدُك اللهَ إلا قضيتَ بيننا بكتاب الله، فناشد الرسولَ صلى الله عليه وسلم أن يقضي بينهم بكتاب الله، قالوا: وقال الآخر، وكان أفقه منه: نعم فاقض بيننا بكتاب الله، ولم يناشد الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن طلبَ المناشدة في هذا المقام خطأ. فأنت ما جئت إليه إلا وأنت تعلم أنه يحكم بكتاب الله، فلا حاجة لأن تناشده.

هؤلاء قالوا: {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} وهو لن يحكم إلا به حتى بإقرارهم، لأنهما جعلاه حكماً {تُشْطِطْ} الشطط يعني النقص أو الجور، ولهذا قال المؤلف في تفسيره:[لا تحر] أي: لا تجر بالحكم فتميل مع أحدنا {وَاهْدِنَا} أرشدنا {إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} وسط الطريق الصواب] يعني إذا حكمت فاحكم بالحق، بالعدل، بدون جور {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} أي: دلنا إلى الصراط السواء، يعني إلى

(1)

أخرجه البخاري، كتاب الحدود، باب هل يأمر الإمام رجلاً فيضرب الحد غائباً عنه (6859، 6860)، ومسلم، كتاب الحدود، باب من اعترف بالزنى (1697، 1698).

ص: 102

وسط الصراط، أو إلى الصراط المستقيم، وعليه فتكون {سَوَاءِ} من باب إضافة الصفة إلى موصوفها. يعني اهدنا إلى الطريق السوي العدل، والهداية هنا هداية دلالة وإرشاد لأنه لا يستطيع أن يجبرهم على ما يحكم به، لكن هي دلالة، فلو قال المؤلف في {وَاهْدِنَا} لو قال: دلنا لكان أحسن.

والقضية هي: أن أحد الخصمين قال: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} سبحان الله، هذان الخصمان غريبان، يتخاصمان ثم يقول أحدهما للآخر:{إِنَّ هَذَا أَخِي} والخصومة عادة، أن الخصم يسبّ خصمَه فيقول: هذا المعتدي الظالم الفاجر، أما هذا فقال:{إِنَّ هَذَا أَخِي} وهو يدل على أن الخصومة ليست تحمل وراءها شيئاً من العداوة والبغضاء.

قال المؤلف: [{إِنَّ هَذَا أَخِي} أي: على ديني] وقال المؤلف هذا؛ ليفيد أن الأخوة هنا ليست أخوة نسب، بل هي أخوة الدين، {لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} أي: مئة إلا واحدة.

و{نَعْجَةٌ} منصوبة على أنها تمييز، وكلّ عدد له تمييز، لأن العدد إذا لم يذكر المعدود كان مبهماً، وإذا ذكر المعدود كان هذا تمييزه، ثم هذا التمييز قد يكون مجروراً وقد يكون منصوباً ففي قولنا: عشرة رجال، التمييز مجرور، وفي قولنا: عشرون رجلًا، التمييز منصوب، هنا {نَعْجَةٌ} التمييز منصوب؛ لأن كل ألفاظ العقود من عشرين إلى تسعين كلها يكون تمييزها منصوباً.

ص: 103

قال المؤلف في تفسير {نَعْجَةٌ} : [يعبر بها عن المرأة] يفيد بأن هذا ليس هو الأصل في النعجة، وهو كذلك، فالأصل أن النعجة أنثى الغنم، أنثى الشياه وليست هي المرأة، فإذا كان هذا هو الأصل فمن ادعى أن المراد بالنعجة هنا المرأة فعليه الدليل، لأن كل من ادعى خلاف الأصل فعليه الدليل، فالنعجة ليست هي المرأة، في هذه الآية، بل هي واحدة الضأن.

قال الله عز وجل: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} أي: مئة إلا واحدة {وَلِيَ نَعْجَةٌ} وأكّدها بقوله: {وَاحِدَةٌ} من أجل تقليلها، وإلا فإن الواحدة مفهومة من قوله:{وَلِيَ نَعْجَةٌ} لكنه قال: {وَاحِدَةٌ} تأكيداً للقلة، أي: ليس لي إلا واحدة شم قال: {أَكْفِلْنِيهَا} أي: اجعلني كافلها، وذلك بأن تضمها إلى نعاجي؛ لأنه إذا ضمها إلى نعاجه صارت في ملكه، وهو الكافل لها، {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} غلبني في الخطاب، قال المؤلف:[أي: الجدال] يعني أنه صار يجادلني حتى غلبني فأقررت له [وأقره الآخر على ذلك] الآخر يعني المدّعَى عليه، وليس في الآية ما يدلّ على أن المدّعَى عليه أقرّ أو أنه أنكر. المدَّعَى عليه مسكوت عنه، فدعوى أنه أقرّه يحتاج إلى دليل، ولو كان هذا هو الواقع لذكره الله عز وجل، لما في حذفه من الإيهام الذي يجعل حكم داود حكماً فيه شيء من الجور. لأن حذفه يؤدي إلى سوء الظن بداود عليه الصلاة والسلام، حيث لم يستكمل مجريات القضية.

فالظاهر -والله أعلم - أن داود عليه الصلاة والسلام لما سمع هذا العدوان من هذا الشخص الذي أنعم الله عليه بنعم كثيرة، ثم

ص: 104

ذهب يحاول أن يستلب حقّ هذا الفقير الذي ليس عنده إلا نعجة واحدة، كأنه عليه الصلاة والسلام غضب وحكم للمدَّعي فقال:{لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ} الجملة هنا مؤكدة بثلاث مؤكدات: القسم المقدر واللام وقد، لأن تقدير الكلام: والله لقد ظلمك.

وقوله: {ظَلَمَكَ} أصل الظلم في اللغة: النقص، ومنه قوله تعالى:{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا (33)} [الكهف: 33] ويطلق في الشرع على النقص والعدوان، يعني على نقص الحقّ والعدوان في طلب ما ليس للإنسان، فهو في الحقيقة العدوان سواء كان بنقص ما يجب أو بادعاء ما لا يستحق، فمن ضرب شخصاً أو أخذ ماله، قيل: إنه ظلمه، ومن جحد ما هو له وأنكر، قيل: إنه ظلمه. والظلم في قوله {لَقَدْ ظَلَمَكَ} من العدوان، ولهذا قال المؤلف:[{لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ} ليضمها {إِلَى نِعَاجِهِ}] قدر المؤلف: ليضمها، من أجل أن يصح التعبير بـ "إلى" لأن السؤال لا يتعدى بـ "إلى" لكنه مضمن معنى الضم، أي: بسؤاله أن يضم نعجتك إلى نعاجه.

وجه الظلم في هذا ظاهر، لأن صاحب التسعة والتسعين قد أنعم الله عليه نعمة كبيرة، وصاحب الواحدة معدم فقير، وأيضاً فإن هذه الواحدة ملك له، فكيف يعتدي هذا ويقول: أعطنيها، ويلح عليه حتى يغلبه في الحجاج والخاصمة.

ثم قال داود: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ} الشركاء {لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} عندنا كثير وقليل، كثير يبغي بعضهم على بعض، وقليل لا يبغي بعضهم على بعض، فالقليل

ص: 105

الذي لا يبغي بعضهم على بعض هم الذين وصفهم الله بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فالمؤمن العامل للصالحات لا يحدث منه البغي لما معه مِن الإيمان والعمل الصالح، ومَن فاته شيء مِن هذا الوصف حصل منه مِن البغي بمقدار ما فاته مِن الوصف، فمن نقص إيمانه حصل منه البغي، ومَن قلَّت أعماله الصالحة حصل منه البغي، لأن الأعمال الصالحة يجرّ بعضها بعضاً، فإذا عمل الإنسان عملاً صالحاً أتبعه بعمل آخر، لأن للطاعة لذة وسروراً في القلب، إذا قام الإنسان بها ازداد رغبة فيها، وإذا أعرض قلَّت أهمية الطاعات عنده وضعف قصده للطاعات وتجرّأ على المعاصي.

قوله: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ} يعني الشركاء {لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} اللام في قوله: {لَيَبْغِي} للتوكيد، ويبغي: من البغي، وهو العدوان، وهذا هو الواقع: أن كثيراً من الشركاء يبغي بعضهم على بعض، إما بأخذ بعض من مال الشركة، أو بكتمان الربح لو ربحت، أو التغرير بالمال بحيث يتصرف فيه على وجه ليس فيه حظ للشركة، أو بادعاء أن المشترك ملك خاص له. وأنواع العدوان بين الشركاء كثيرة، ولكن كثيراً من الشركاء يبغي بعضهم على بعض، ولهذا إذا أصلح الشركاء النية، ونصح بعضهم بعضاً أفلحوا، وفي الحديث:"إن الله تعالى يقول: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدُهما صاحبه فإذا خانه خرجت من بينهما"

(1)

.

(1)

أخرجه أبو داود، كتاب البيوع، باب في الشركة (3383)، والحاكم في "المستدرك" 2/ 60 (2322) وصححه ووافقه الذهبي، وانظر "نيل الأوطار" 3/ 696 (2335) كتاب الشركة والمضاربة، و"تهذيب الكمال" 10/ 400 - 401.

ص: 106

قال الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} إلا: أداة استثناء وما بعدها في محل نصب، لأن الجملة السابقة كلام تام موجب، وإذا سبق الاستثناء كلام تام موجب وجب النصب. قال ابن مالك:

ما اسْتَثْنَتْ إلاّ مع تمامٍ يَنْتَصِبْ

وبَعْدَ نَفْى أو كَنَفْيٍ انْتُخِبْ

إتباعُ ما اتَّصَلَ وانْصِبْ ما انْقَطَعْ

وعَنْ تميمٍ فيه إبدالٌ وَقَعْ

ولتمام الفائدة: إذا جاءت "إلا" بعد كلام تام موجب وجب نصب ما بعدها على الاستثناء، وإذا جاءت بعد كلام تام منفي، أي: مستكمل المفاعلة لكنه منفي، جاز فيما بعدها وجهان: الأول: النصب على الاستثناء، وإتباع ما بعدها لما قبلها في الإعراب، إلا إذا كان الاستثناء منقطعاً، أي: أن ما بعد "إلا" ليس من جنس ما قبلها فيجب النصب، وإذا وقعت "إلا" بعد كلام منفي ناقص كانت بحسب العوامل التي قبلها، إن كان العامل يقتضي رفعاً رُفع، وإن كان يقتضي نصباً نُصب، وإن كان يقتضي جرّاً جُر،

ونضرب لذلك أمثلة: (قام القومُ إلا زيداً)، بالنصب، لأن الكلام تام موجب. قام القومُ تم الكلام، موجب ليس به نفي، فتقول: إلا زيداً، وإذا قلت:(ما قام القوم إلا زيداً، أو إلا زيدٌ) جاز الوجهان الرفع على البدل، والنصب على الاستثناء، فيجوز أن تقول:(ما قام القوم إلا زيدٌ) بتنوين ضم، أو (ما قام القوم إلا زيداً) بتنوين الفتح.

ص: 107

أما قولنا: (ما قام القوم إلا بعيراً)، هنا يتعين النصب، لأن البعير ليس من جنس القوم، فالاستثناء منقطع، فيجب النصب هنا لتعذر البدلية، وعلى هذا إذا قال قائل: ما قام القوم إلا بعيرٌ قلنا: هذا خطأ، لأن الاستثناء منقطع فيجب النصب، وإذا قلت:(ما قام إلا زيدٌ) بالرفع؛ لأن ما قبلها ناقص منفي، فيجب أن تقول:(ما قام إلا زيدٌ)، وفي قولنا:(ما رأيت أحداً إلا زيداً) هذا تام منفي، وهذا منصوب على كل حال، ويجوز الوجهان، لكنه منصوب لأنك إن قلت: ما رأيت أحداً إلا زيداً، هو مستثنى فهو منصوب، وإن أعربته بدلاً فهو منصوب، إذاً يجوز الوجهان إعراباً أما شكلاً فلا يجوز إلا وجهاً واحداً وهو النصب، لأنك حتى وإن جعلته بدلاً سيكون منصوباً.

وفي الآية هنا {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} تام موجب، فالذين إذاً في محل نصب. {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} آمنوا بقلوبهم، وعملوا الصالحات بجوارحهم.

والعمل يطلق على القول والفعل، بخلاف الفعل فإنه يطلق على فعل الجوارح والقول على قول اللسان. {الصَّالِحَاتِ} هذه صفة لموصوف محذوف، أي: عملوا الأعمال الصالحاتِ، وجمعها باعتبار أنواع الصالحات: صلاة، وصدقة، وصيام، وحج، وبر، وصلة، وأنواع كثيرة فلهذا جمعت. وأحياناً يقول: عَمِلَ صالحاً فيفرد باعتبار جنس العمل على سبيل العموم.

والأعمال الصالحات قال أهل العلم: هي ما جمعت شرطين، وهما: الإخلاص لله، والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، فلا صلاح مع شرك،

ص: 108

ولا صلاح مع بدعة، قال الله تعالى:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110]، وعلى هذا لو أن رجلاً صلىّ رياء فعمله غير صالح لفقد الإخلاص. ولو أن رجلًا تعبد لله بما لم يشرعه الله، ولكنه مخلص يريد التقرب إليه، لا يريد شيئاً من الدنيا، فعمله غير صالح لعدم المتابعة.

وقد دل على بطلان ما فيه الشرك آيات من القرآن متعددة، وأحاديث من السنة متعددة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى في الحديث القدسي:"قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركتُه وشِرْكَه"

(1)

.

ودل أيضاً على اشتراط المتابعة آيات وأحاديث منها قوله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"

(2)

أي: مردود عليه.

قال الله تعالى: {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} الواو: حالية، وقليل: خبر مقدم، وهم: مبتدأ مؤخر، يعني وهم قليل، و"ما" في قوله:{وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} زائدة لفظاً وزائدة معنى، والمقصود بها تأكيد القلة، أي: قلة قليلة من العباد الصالحين من المؤمنين العاملين للصالحات.

وإذا تدبرنا الواقع وجدنا الآية منطبقة تماماً عليه، فإن الله يقول يوم القيامة: "يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك. فيقول: أخرج بعث جهنم من ذريتك فيقول: يا ربِّ كم أُخرج؟ فيقول: أخرجْ من كل

(1)

أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غبر الله (2985).

(2)

أخرجه مسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور (1718)(18).

ص: 109

مئةٍ تسعة وتسعين"

(1)

هؤلاء كلهم في النار وواحد في الجنة، إذاً القلة قليلة، واحد من مئة قليل جهداً. قال أبن القيم في النونية:

يا سلعةَ الرحمن ليس ينالُها

في الألفِ إلاّ واحدٌ لا اثنانِ

إذن نقول: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات من بني آدم قليلون جهداً، ويؤكد القلة قوله:{مَا} في {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} قال المؤلف رحمه الله: [{مَا} لتأكيد القلة، فقال الملكان صاعدين في صورتيهما إلى السماء: قضى الرجلُ على نفسه، فتنبَّه داود] الرجل يعني داود، لأنه حسب القصة الإسرائيلية المزعومة أن له تسعاً وتسعين امرأة، فطلب من رجل ليس عنده إلا امرأة واحدة أن يطلق امرأته ليتزوجها داود. وفي وجه آخر للقصة أنه أمره أن يخرج في الجيش من أجل أن يُقْتل حتى يتزوج امرأته. وقد بينا أن هذا لا دليل عليه، وأنه لا يليق بمقام العقلاء فضلاً عن الأنبياء، وأن هذه قصة مزعومة من اليهود، فهم الذين ركبوها على داود عليه السلام، لأن اليهود لا يعتقدون داود نبياً، وإنما هو على زعمهم مَلِك.

قال تعالى: {وَظَنَّ دَاوُودُ} قال المؤلف: [أي: أيقن أنما أوقعناه في فتنة، أي: بلّية بمحبته تلك المرأة] ظن، أي: أيقن، وإنما نفسره باليقين لأن الأمر أمر واقع من داود حسب القصة، والشيء الواقع لا يقال: إنه ظن، بل يقال: إنه علم، فإن قال قائل: هل لديك شاهد على أن الظن يأتي بمعنى العلم؟ قلت: نعم، قال الله تعالى: {وَإِنَّهَا

(1)

أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب كيف الحشر (6529).

ص: 110

لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 45: 46] إيماناً بملاقاة الله عز وجل، بل يجب على الإنسان أن يؤمن إيماناً يقينياً بأنه ملاقٍ ربه، والظن لا يكفي فيه، وإذا كان الظن لا يكفي فلا يمكن أن يكون مدحاً.

[{وَظَنَّ دَاوُودُ} أيقن {أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} قال: أوقعناه في فتنة، أي: بلّية]. هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله بناء على صحة القصة، ولكن الصحيح أن المراد بالفتنة الاختبار، فتناه، أي: اختبرناه، لأن الفتنة من معانيها الاختبار، قال الله تعالى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]، أي: اختباراً وابتلاءً، كما قال تعالى عن سليمان:{هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل: 40] إذاً {أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} أي: اختبرناه، وعلى رأي المؤلف، أي: ابتليناه بمحبة تلك المرأة، ولكن هذا ليس بصحيح. {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} الصحيح أنما اختبرناه، ولكن بأي شيء اختبرناه، لننظر:

أولاً: داود عليه السلام مأمور بأن يحكم بين الناس، فإنما وظيفته عامة، واختصاصه في الوقت بدخوله المحراب، وإغلاق الباب عليه، هذا يخالف مقتضى وظيفته. إذ مقتضى وظيفته أن يتفرغ للناس حتى يقابل الخصوم ويحكم بينهم، هذه واحدة، ولهذا سيأتينا - إن شاء الله - في الفوائد، أنه لا يجوز للحاكم بين الناس، ولمن كان في وظيفة عامة أن يشتغل بشيء خاص لنفسه.

ص: 111

ثانياً: أن داود عليه السلام سمع كلام الخصم الأول ولم يستمع إلى كلام الخصم الآخر، لأن القرآن ليس فيه أنه سمع إلى كلام الخصم الآخر.

ثالثاً: أنه حكم وقال: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} والحكم قبل سماع جواب الخصم الآخر فيه شيء من التسرع ما دام الخصم حاضراً.

لهذا علم داود عليه الصلاة والسلام أن الله تعالى ابتلاه بهذه الخصومة التي جاءت وهو يتعبد في محرابه وتسوروا عليه المحراب، فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب.

قال الله تعالى: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ} أي: طلب المغفرة، والمغفرة لغة: مأخوذة من المِغْفَر، وهو ما يستر به الرأس ليتقى به السهام. أما شرعاً: فالمغفرة هي ستر الذنب والتجاوز عنه، أي: إن الله يستر على العبد ذنبه فيما بينه وبين الخَلْق، ويتجاوز عنه فيما بينه وبين العبد، وهنا تتحقق الوقاية مع الإخفاء، لأنه إذا سُتِر عن الخَلْق، ثم عفي عنه من جانب الخالق عز وجل، حصلت الوقاية بالعفو من الخالق، والثاني الستر بعدم إظهار الخلق عليها.

فداود عليه الصلاة والسلام طلب من ربه أن يغفر له ما جرى منه {وَخَرَّ رَاكِعًا} خَرّ بمعنى نزل من أعلى إلى أسفل، ومنه خرير الماء من الميزاب أو من الشلال. وقوله:{رَاكِعًا} حال من فاعل خرّ، ولكن المؤلف رحمه الله فسر الركوع بالسجود، فقال:[أي: ساجداً] وذلك لأن الركوع الذي هو الانحناء لا يمكن أن يكون فيه خرور، لأن الراكع

ص: 112

يبقى ثابتاً، ولا يُتَصوَّر الخرور إلا بالسجود، ولكن التعبير بالركوع عن السجود من باب التعبير بالمعنى العام عن المعنى الخاص، لأن أصل الركوع في اللغة العربية هو الذل، كما قال الشاعر:

لا تُهينَ الفقيرَ عَلَّكَ أن

تركع يوماً والدهرُ قد رفعَهْ

(1)

يعني أن تذل، والدهر قد رفعه: أي قد رفع هذا الفقير. إذاً فالذي عين أن يكون الركوع هنا بمعنى السجود هو قوله: {وَخَرَّ} ولكنه عبر بالركوع عن السجود لإظهار أن هذا الركوع ركوع ذلّ لله عز وجل، ثم قال:{وَأَنَابَ} أي: رجع إلى الله، والإنابة: الرجوع مع الخشية فهو رجع إلى الله مع خشية الله سبحانه وتعالى.

قال الله تعالى: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} أي: سترنا وتجاوزنا، له أي: لداود، واللام في {لَهُ} يحتمل أن تكون للتعدية، أو أن تكون للتعليل، لكنها للتعدية أولى، وفي كونها للتعليل تأمل، أي: أننا غفرنا لداود ذلك الذي وقع منه، وهي الفتنة التي افتتن بها، ولم يتخذ الإجراء اللازم في الحكم.

قال: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} مع المغفرة. أضاف الله له هذه المنقبة {وَإِنَّ لَهُ} أي: لداود عندنا {لَزُلْفَى} قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أي: زيادة خير في الدنيا]، ويحتمل أن المرادَ بالزلفى زيادةُ القرب، كما قال تعالى:{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (31)} [ق: 31] أي: قرِّبت، فالزلفى تفسيرها بزيادة الخير فيه شيء من النظر، والصواب أن المراد بالزلفى القربى، أما حسن المآب، فهو زيادة الخير، قال المؤلف

(1)

هو للأضبط بن قُريع السعدي، انظر "خزانة الأدب" للبغدادي 11/ 450 - 456.

ص: 113

رحمه الله تعالى: [{وَحُسْنَ مَآبٍ (25)} مرجع في الآخرة]. هذا هو زيادة الخير، فصارت النتيجة بعد أن وقع من داود ما وقع ثم رجع إلى الله واستغفره، أن الله سبحانه وتعالى رفع عنه آثار هذا الذنب، فغفر له، وزاده على ذلك زيادتين عظيمتين مهمتين إحداهما: القرب من الله، والثانية: حسن المآب.

الفوائد:

1 -

أن هذه القصة عجيبة، وأنها مثار للعجب ولهذا شَوَّق الله إليها بقوله:{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} .

2 -

ومن فوائدها: بلاغة القرآن حيث يأتي بمثل هذه الصيغة في الأشياء التي ينبغي للإنسان أن يتشوق إليها، ويهتم بها.

3 -

ومن فوائدها: أن الخصم يطلق على الواحد والمتعدد اعتباراً بالمعنى، فإن الجماعة إذا كانت دعواهم واحدة صاروا كأنهم رجل واحد.

4 -

ومن فوائدها: أن من أتى البيوت من غير أبوابها فإن فعله هذا سبب للخوف والفزع، لقوله:{إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} .

5 -

ومن فوائدها: أن داود عليه الصلاة والسلام في هذه الحال كان قد أغلق الباب، أو جعل عليه حاجباً يمنع الناس من الدخول عليه.

6 -

ومن فوائدها: أن الحكم بين الناس أفضل من العبادات الخاصّة، لأن نفعه متعدٍّ، والعبادات الخاصّة نفعُها قاصر.

ص: 114

7 -

ومن فوائدها: أن الأنبياء يلحقهم من الطبائع البشرية ما يلحق غيرهم؛ لقوله: {فَفَزِعَ مِنْهُمْ} حيث لحقه الفزع كما يلحق سائر الناس.

8 -

ومن فوائدها: أنه ينبغي إن لم نقل يجب، أن يطمئن المُفْزِع مَن فزع منه بنفي سبب الفزع قبل كل شيء، حيث قالوا:{لَا تَخَفْ} ثم ذكروا القصة ولم يبدؤوا بالقصة مباشرة.

9 -

ومن فوائد القصة: بيان أن هذين الخصمين قد اعتدى بعضهم على بعض، أي أن المسألة ليست مسألة كلامية، أو ليس فيها عدوان، بل فيها عدوان اعتدى بعضهم على بعض بما ذكروا من السبب.

10 -

ومن الفوائد: أن هذين الخصمين أساءا الأدب من بعض الوجوه، حيث قالا:{فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ} ووجه الإساءة أنهم ما جاءا إلى الحَكَم إلا وهما يعتقدان أنه سيحكم بينهم بالحق، فإذا قالا:{فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} فإن هذا قد يولد تهمة من أنه لن يحكم بالحق.

11 -

ومن الفوائد: أن الحُكَم يحتاج إلى إلزام لقولهم: {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)} فإن هذا أمر زائد على الحُكَم، لأن الحُكَم أن يفصل بينهم، والهداية أن يدلهم على ذلك من أجل إلزامهم به.

12 -

ومن فوائدها: أن كل البشر يطلب الصراط السوي الذي ليس فيه ميل ولا إجحاف، لقولهم:{وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)} .

ص: 115

13 -

ومن فوائد هذه القصة: لباقة هذين الخصمين حيث لم تثر الخصومة ضغينتيهما، ولهذا قال:{إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} مع أنه قال في الأول: {بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} لكن هذا البغي لم تُفقد به الأخوة؛ لقوله: {إِنَّ هَذَا أَخِي} .

14 -

ومن الفوائد لهذه القصة: أن هذه الخصومة غريبة، فإن أحدهما كان له تسع وتسعون نعجة، والآخر له نعجة واحدة، ومع هذا طمع الأول في الثاني، وكان الذي يتبادر في الذهن أن يضيف الأول صاحب النعاج الكثيرة إلى الثاني ما تيسر.

15 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن بعض الخصوم قد يكون أقوى في المخاصمة من الآخر حتى يغلبه لقوله: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنكم تختصمون إليّ، ولعلّ بعضَكم أن يكون ألحن بحُجّته مِن بعض، فأقضي له بنحو مما أسمع منه، فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً، فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار"

(1)

.

16 -

ومن الفوائد: أنه ينبغي أن يكون الإنسان قوي الحجة، قوي البيان حتى يحصل له الغلبة على صاحبه، هذا إذا كان بحق، أما إذا كان بغير حق فإن الواجب على الإنسان أن يصمت لينطق غيره بالحق.

17 -

ومن الفوائد في القصة: أن داود عليه الصلاة والسلام حكم بينهم دون أن يسمع دفاع الخصم الآخر لقوله: {لَقَدْ ظَلَمَكَ

(1)

أخرجه مسلم، كتاب الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة (1713).

ص: 116

بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} ولعل داود عليه الصلاة والسلام أراد السرعة في إنهاء القضية، ليتفرغ لما احتجب له عن الناس من عبادة الله، وخاف أن يدلي هذا بشيء وهذا بشيء فيطول النزاع والخصام فبادر بالحكم.

18 -

ومن فوائد القصة: أن أكثر الشركاء يحصل من أحدهم بغي على الآخر لقوله: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} وهذا" من الغريب أن يكون الإنسان كلما قرب إلى الشخص تُوقِّعَ منه البغي أكثر مما لو كان بعيداً، لأن البعيد ليس بينه وبينه صلة، لكن الذي بينه وبينه صلة وهو الشريك، هو الذي ربما يجحده أو ينكره، أو يفعل شيئاً لم يأذن به أو ما شابه ذلك.

19 -

ومن الفوائد في القصة: أنه ليس جميع الخلطاء يحصل منهم البغي، لقوله:{وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ} .

25 -

ومن فوائد القصة: أنه كلما كان الإنسان أقوى إيماناً وأكثر عملاً من الصالحات كان أبعد عن الظلم والبغي.

21 -

ومن فوائدها: أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يحصل منهم البغي، والذي يمنعهم من ذلك هو إيمانهم بالله وبالحساب، وعملهم الصالح الذي يكون درعاً بينهم وبين العدوان والبغي، ووجهه أن استثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، إنما كان من أجل إيمانهم وعملهم للصالحات، والحكم إذا علق بوصف ازداد قوة بقوة ذلك الوصف. وهذه قاعدة.

ص: 117

22 -

ومن الفوائد: أن العمل لا ينفع إلا إذا بُني على الإيمان وكان صالحاً، فعمل بلا إيمان لا يقُبل، كما قال تعالى:{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة: 54]: 54] وكذلك لو كان هناك إيمان، لكن لم يكن العمل صالحاً لِفَقْد الإخلاص أو الاتباع فيه فإنه لا ينفع.

23 -

ومن فوائد هذه القصة: أن الجمع بين هذين الوصفين: الإيمان والعمل الصالح قليل؛ لقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} .

24 -

ومن فوائدها: أن الحاكم لا يحكم حتى يستوعب حجج الخصمين لقوله: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} .

25 -

ومن فوائدها: أن الحاكم الذي نصب نفسه ليكون حكماً بين العباد لا يحل له أن يختفي عنهم في الوقت الذي يكون وقتاً للتحاكم.

26 -

ومن فوائدها: أن الاشتغال بما فيه مصلحة عامة أفضل من الاشتغال بما فيه مصلحة خاصة.

27 -

ومن الفوائد: أن الأنبياء قد يفتنون ويختبرون لقوله تعالى: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} ولكن الفتنة التي يفتن بها الأنبياء لا يمكن أن تعود إلى إبطال مقومات الرسالة والنبوة، كالفتنة التي تعود إلى الكذب أو الشرك أو الأخلاق الرديئة وما أشبهها، هذا لا يمكن أن يقع من الأنبياء.

28 -

ومن فوائد القصة: أن كل شخص محتاج إلى الله عز وجل مفتقر إليه؛ لقوله: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ} .

ص: 118

29 -

ومن فوائد هذه القصة: أن الاستغفار سبب لمحو ما حصل من الذنوب؛ لأن الفاء في قوله: {فَاسْتَغْفَرَ} مبنية على قوله: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} .

30 -

ومن فوائد القصة: أن السجود خضوعاً لله من سنن الأنبياء؛ لقوله: {رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)} ، وهل يشرع لمن أذنب أن يفعل كما فعل داود، أو أن يصلي ركعتين تامتين؟

الجواب: المشروع إذا أذنب الإنسان أن يتوضأ ويسبغ الوضوء، ويصلي ركعتين لا يحُدِّث فيهما نفسه، فمن فعل ذلك فإنه يغفر لى ما تقدم من ذنبه.

31 -

ومن فوائد هذه القصة: إجابة الله سبحانه دعاء مَنْ دعاه؛ لقوله: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} وهذا يستلزم عدة صفات، منها العلم والسمع والبصر، يؤخذ ذلك من قول:{ذَلِكَ} لأن الذي حصل من داود قول يسمع، وفعل يرى، فالقول الذي يسمع قوله:{فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ} والفعل الذي يرى قول: {وَخَرَّ رَاكِعًا} فلما قال: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} ، عُلم أن الله قد سمع ما قال ورأى ما فعل، وتستلزم هذه الصفة {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} من الصفات - إضافة إلى العلم والسمع والبصر- القدرة، لأن المغفرة لا تقع إلا من قادر على الغفران، وتستلزم كذلك كرم الله عز وجل ولطفه بعباده، حيث يغفر لكل من أستغفر مهما عظم ذنبه، كما قال تعالى:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر: 53]

ص: 119

32 -

ومن فوائد هذه القصة: أن الله تعالى غفر لداود عليه السلام، وبيَّن ما لديه من الثواب لداود في قوله:{وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} .

33 -

ومن الفوائد لهذه الآية: إثبات العندية لله، وهي عندية قرب وعندية علم، ففي قوله تعالى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} [الأنعام: 59]، هذه عندية علم، وفي قوله تعالى:{وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأنبياء: 19]، هذه عندية قرب، {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)} .

34 -

ومن فوائدها أيضاً: الثناء على داود عليه الصلاة والسلام بحسن مآبه، أي: مرجعه إلى الله، لقوله:{وَحُسْنَ مَآبٍ} .

* * *

ثم قال الله تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى} يخاطب الله تعالى داود عليه الصلاة والسلام بالنداء، والمخاطبة بالنداء يراد بها التنبيه، لأن هناك فرقاً بين أن تقول: محمد قام وبين أن تقول: يا علي محمد قام، ففي القول الثاني تنبيه، وإذا كان الكلام يحتاج إلى تنبيه فإنه دليل على أهميته. إذ إن الكلام الذي يهتم به يقدم بين يديه ما يكون به التنبيه، فالله عز وجل ينادي داود عليه الصلاة والسلام تنبيهاً لما سيلقي عليه فيقول:{إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} أي: صيرناك، لأن جعل تارة يكون للتصيير، وتارة يكون للإيجاد كما في قوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ

ص: 120

وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] أي: أوجدهما، وفي قوله تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] أي: صيرناه، والفرق بينهما أنه إن تعدى إلى مفعول واحد، صار بمعنى الإيجاد، وإن تعدى إلى مفعولين صار بمعنى التصيير، ففي قوله تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} تعدى إلى مفعولين، الكاف وخليفه، فتكون بمعنى التصيير، {خَلِيفَةً} أي: خالفاً لنا في تبليغ شرعنا، وليس المراد أنه خالفاً لله أنه يأتي بعده، لأن الله تعالى هو الأول والآخر والظاهر والباطن، لكن خليفة لله في تبليغ شرعه وحكمه بين الناس.

وقوله: {فَاحْكُمْ} الفاء هذه للتفريع، أي: فبناء على كونك خليفة في الأرض احكم. قال المؤلف رحمه الله: [{خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} تدبر أمر الناس] كما يدبر الخلفاء أمر مَن جعلهم الله راعين له، {بِالْحَقِّ} أي: بالعدل، لأن الحق إن كان في مقابلة الخبر فهو بمعنى الصدق، وإن كان في مقابلة الحكم فهو بمعنى العدل، فإذا قيل: أخبرني محمد بكذا وهو حق يعني صدق، وإذا قلت: حكم فلان بكذا وهو حق يعني عدلاً. هنا يقول: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} أي: بالعدل، لأن الحق هنا وصف به الحكم فصار بمعنى العدل، وهذا يتضمن الحكم، وطريق الحكم، ولوازمه، فالحكم بأن تحكم بالشرع، وطريق الحق أن تعدل بين الخصمين في كل شيء، حتى إن العلماء يقولون: يجب على القاضي أن يعدل بين الخصمين في لفظه ولحظه وكلامه، وجلوسهما ودخولهما عليه، يعدل في كل شيء، ففي لفظه لا يغلظ القول لأحد الخصمين ويلين القول للآخر، وفي لحظه لا ينظر إلى

ص: 121

أحد الخصمين نظرة غضب وإلى الثاني نظرة رضا، وفي مجلسه لا يجلس أحد الخصمين إلى جانبه والآخر بعيد عنه، وفي دخولهما عليه لا يقول لأحدهما: ادخل، قبل الآخر حتى ولو كان كافراً، فإنه لا يقدّم المسلم عليه في الدخول، وإن كان بعض العلماء قد قال: إذا كان أحدهما كافراً فإنه يقدّم المسلم عليه في الدخول، ولكن المقام مقام حكم فالواجب فيه العدل، وهذا كفره عليه، وهذا إسلامه له، هذا إذا كان الدخول يحتاج إلى تقديم وتأخير. أما إذا كان الباب مفتوحاً فإنه لا يلزمه أن يجعل عند الباب رجلاً يقول: ادخلا جميعاً. يجعل الأمر موكولاً إلى الخصوم. مَن جاء فليدخل، قبل الآخر أو بعده، لكن إذا كان هناك ترتيب الدخول فلا يقدم أحدهما على الآخر، هذا طريق الحكم.

أما الحكم فإذا علم أن الحق مع أحدهما وجب عليه أن يحكم له به مهما كان، سواء كان عدواً أم صديقاً.

{فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} الناس: أصلها الأناس، لكن حذفت الهمزة تخفيفاً كما حذفت من شر وخير، قال الله تعالى:{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ} [المائدة: 60] أي: بما هو أشر من ذلك، ثم قال:{وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى} أي: هوى النفس، وإنما نهاه عن اتباع الهوى تعظيماً لهذا الأمر، ولا يلزم من نهيه عنه أن يكون ممكناً في حقه، كما قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ولا يلزم من هذا أن يكون الإشراك في حقه ممكناً. وقد يقال: إن الله

ص: 122

نهاه عن اتباع الهوى لقوة الهوى في البشر، فإن الهوى في البشر أمر مفطور عليه، لأنه يندر أن شخصاً يتقدم إليه أبوه مع شخص آخر عدوٍّ له، يندر ألا يكون له هوى، أو يتقدم إليه شخص من أصدقائه الحميمين مع آخر من أعدائه الألداء ثم لا يميل مع الأول، يندر هذا، فلقوة الداعي وهو الهوى نهى الله عنه، وإن كان لا يمكن في حقه.

وقوله تعالى: {فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} فيضلك الفعل هنا مضارع ولكنه منصوب لأنه وقع بعد النهي، والمضارع إذا اقترنت به الفاء - وهذه الفاء تدعى فاء السببية - بعد النهي صار منصوباً بأن مضمرة وجوباً.

وقوله: {فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي: يجعلك تضل وتحيد يميناً وشمالاً، وقوله {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} قال المؤلف- رحمه الله:[أي: عن الدلائل الدالة على توحيده] وهذا التفسير ضعيف جداً، بل المراد بسبيل الله طريقه الموصل إليه، لأن السبيل في الأصل هو الطريق، وأضيف إلى الله لأن الله هو الذي وضعه، وهو الذي شرعه، ولأن هذا السبيل يؤدي إلى الله، فأضيف إلى الله باعتبار وضعه، وباعتبار نهايته، وإذا قلنا: إن المراد بسبيل الله، أي: طريقه وشرعه، صار أعمّ مما قال المؤلف، وألصق باللفظ، لأن السبيل في اللغة الطريق، وليست الدلائل الدالة على التوحيد، لكن الدلائل الدالة على التوحيد لا شك أن النظر فيها من شريعة الله.

{إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)} لم يقل الله: إنك إن تتبع الهوى أو إن تضل عن سبيل

ص: 123

الله فلك عذاب شديد، بل أتى بالجملة الاستئنافية الاستقلالية، أولاً: تفادياً لمخاطبة داود عليه السلام بذلك، وثانياً: ليكون أعم. إذن فيه فائدتان، ولهذا قال الله تعالى:{عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3)} [عبس: 1 - 3] فعبر بالفعل الماضي الدال على الغائب، ولم يقل: عبست وتوليت أن جاءك الأعمى وما يدريك لعله يزكى، بل قال:{عَبَسَ وَتَوَلَّى} تفادياً لمخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الوصف.

وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)] قال المؤلف: [{إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي: عن الإيمان بالله] وهذا أيضاً فيه نظر، والصحيح أن سبيل الله هنا هو سبيل الله الأول، والمراد به شريعته، لأنها هي الطريق الموصل إليه. {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} الجملة خبر إنَّ، واسمها (الذين) و {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} خبرها، فالجملة هنا خبر لـ"إن"، وكل جملة تقع خبراً فلا بد فيها من رابط يربط بين هذه الجملة وبين المبتدأ، والرابط هنا الضمير في قو له:{لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} وقوله: {شَدِيدٌ} أي: قوي وعظيم، ويدلك على قوته وعظمته ما وصفه الله به في القرآن العظيم من صفات تنزعج لها القلوب، وتتفطر لها الأكباد.

{بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)} أي: بسبب نسيانهم يوم الحساب، فالباء هنا للسببية، وما: مصدرية، ولهذا قال المؤلف:[بنسيانهم {يَوْمَ الْحِسَابِ} المرتب عليه تركهم الإيمان، ولو أيقنوا بيوم الحساب لآمنوا في الدنيا] وقوله: {بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)} المراد بيوم الحساب

ص: 124

يوم القيامة، وأضيف إلى الحساب؛ لأن الناس يحاسبون فيه على أعمالهم، وأوّل ما يحاسب عليه الإنسان فيما يتعلق بحقّ الله هو الصلاة، وأول ما يحاسب عليه فيما يتعلق بحق العالمين هو الدماء، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:"أول مما يقضى بين الناس بالدماء"

(1)

.

الفوائد:

1 -

من فوائد هذه الآية: إثبات كلام الله، وأنه بحرف وصوت، وذلك من قوله تعالى:{يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ} فإن هذه الجملة مركبة من حروف، ولا بد أن تكون بصوت، لأنه يُخَاطَبُ بها داود، ولا بد أن يكون المخاطب سامعاً ولا سماع إلا بصوت، فيؤخذ منه الرد على الأشاعرة وغيرهم ممن قالوا: إن الله سبحانه وتعالى يتكلم، وأن كلامه هو المعنى القائم بذاته، الملازم له أزلاً وأبداً.

2 -

ومن الفوائد: أن الأمر أمر الله، هو الذي ينصب من شاء ويعزل من شاء.

3 -

ومنها: أنه لا مانع من أن يقول القائل للسلطان صاحب السلطة العليا في الأرض، أن يقول له: إنه خليفة الله، ولا يعني ذلك أن الله محتاج إلى أن يستخلف أحداً ليقوم عنه بتدبير الخلق، ولكنه خلَّفه، أي: جعله حاكماً بين الناس بما شرع الله سبحانه وتعالى.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب القصاص يوم القيامة (6533)، ومسلم، كتاب القسامة، باب المجازاة بالدماء في الآخرة (1678).

ص: 125

4 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: وجوب الحكم بين الناس بالحق لقوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} .

5 -

ويتفرع عن هذه الفائدة: أن منصب القضاء فرض كفاية، كما قال ذلك أهل العلم، وإذا لم يوجد إلا الشخص المعين المؤهل فإنه يكون فى حقه فرض عين.

6 -

ومن فوائد الآية: أنه لا ينبغي للشخص إذا وكل إليه تولي القضاء أن يفر منه ما دام يعرف من نفسه الكفاءة، وذلك لأنه إذا فرّ منه، وفرّ الثاني والثالث والرابع تعطل هذا المنصب العظيم الذي هو منصب الرسل عليهم الصلاة والسلام، ولكن إذا أتى الإنسان هذا الشيء بدون سؤال فليستعن بالله والله يعينه عليه.

7 -

ومن الفوائد: أنه يجب أن يحكم بين الناس بالحق، سوإء كان ذلك في طريق الحكم، أو في نفس الحكم، أما طريق الحكم فهو معاملة الخصمين بحيث تكون المعاملة بينهما على وجه العدل، وأما في الحكم فأن يحكم بما تقتضيه الشريعة.

8 -

ومن فوائد هذه الآية: أنه لا يجوز للقاضي الحاكم بين الناس أن يحابي أحداً لقرابة، أو صداقة، أو غنى، أو فقر، أو جاه، أو غير ذلك لقوله:{بِالْحَقِّ} ويؤيد هذا قوله: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى} .

9 -

ويستفاد من هذه الآية: أنه في المقام المهم ينبغي أن يذكر الإثبات المطلوب ويذكر ضده، كأن يقال: احكم بالحق حكماً لا يدخله الهوى، لأن من الكمال إثبات الكمال ونفي ضده، فمثلاً:

ص: 126

احكم بين الناس بالحق، هذا إثبات كمال، ولا تتبع الهوى نفي ضده، وإنما يؤتى بنفي الضد من أجل أن يتبين أن المطلوب ينبغي أن يكون مجرداً عن كل ما ينافيه.

10 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن اتباع الهوى سبب للإضلال عن سبيل الله لقوله: {فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ولكن هل الإضلال في نفس المخالفة؟ أم أن المخالفة نفسها ضلال، وتكون سبباً لإضلال آخر؟ الجواب هو الثاني، فإن الهوى يجلب للإنسان الضلال كما أنه هو نفسه ضلال، فإذا اتبعت الهوى في قضية ما، فانتظر اتباع الهوى في القضية التي تليها، لأن المعصية قبل أن يقع فيها الإنسان يجد نفسه تستوحش منها وتنفر، فإذا فعلها مرة هانت عليه، وانكسر الحجاب، فإذا هانت عليه أول مرة هانت عليه الثانية ثم الثالثة، حتى تصبح وكأنها لا شيء، ولهذا يضرب العامة مثلاً له فائدة، يقولون: بكثرة الإمساس يقل الإحساس، يعني إذا أكثر الإنسان مماسة الشيء قلّ إحساسه به.

والحاصل أن اتباع الهوى ضلال بنفسه، وسبب للضلال، ووجه ذلك أن المعصية تنفر منها النفس، فإذا فعلتها مرة هانت عليها، ثم الثانية تكون أهون، ثم الثالثة أهون، والرابعة أهون، حتى تصبح المعصية وكأنها ليست بمعصية، ولهذا قال:{فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} . فتجد القاضي مثلاً لا يمكن أن يحكم بالحيف والجور، وتجده نافراً من ذلك، فإذا حكم مرة هان عليه، ثم الثانية هان عليه، ثم الثالثة والرابعة وهكذا، لذلك قال:{وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} .

ص: 127

ويمكن أن يقال: إن هذا لا يختص بالحكم بين الناس، أي: أن اتباع الهوى سبب للإضلال عن سبيل الله في كل شيء، حتى في غير الحكم، حتى في المعاصي الخاصة التي في نفسك إذا اتبعت هواك فيها فاعلم أن هذا سبب في الإضلال عن سبيل الله، فعليك أن تتوقى المعاصي فإنها شر كلها.

11 -

ومن الفوائد: أن دين الله تعالى واحد لا يتشعب لقوله: {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} فأفردها، ويدل لهذا قوله تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]، فسبيل الله واحدة، وما خالفها فهو المتشتت. فهذا سببه الهوى، وهذا سببه خشية الناس، وهذا سببه كذا، وهذا سببه كذا، فتفرق السبل.

12 -

ومن فوائد الآية الكريمة: الثناء العظيم على شريعة الله، وذلك بإضافتها إلى الله، لأن كل ما أضيف إلى الله فإنه إذا كانت الإضافة خاصة فإن الإضافة تدل على شرفه.

13 -

ومن الفوائد: أن الضالين عن سبيل الله متوعدون بهذا الوعيد {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي: قوي، ويتفرع من هذه الفائدة الحذر من الضلال عن سبيل الله.

14 -

ومن الفوائد: أن من أسباب الضلال عن سبيل الله نسيان يوم الحساب، والغفلة عنه، والانغماس في الدنيا حتى تنسي الإنسان ما خُلِق له، وما هو مقبل عليه، ولهذا قال:{بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)} [ص: 26] أي: غفلوا عنه. وليس المراد بالنسيان الذهول الذي يعفى عنه، بل المراد بالنسيان الترك الذي هو الغفلة وعدم المبالاة به.

ص: 128

15 -

ومن فوائد الآية: الحذر من الانغماس في الدنيا الذي يوجب نسيان يوم الحساب. ومن ثم حرم الشرع كل لهو يلهو به الإنسان - إلا ما استثنى- يعني باطلاً ليس فيه خير، ثم قد يكون محرماً، وقد يكون ضياعاً للوقت بدون تحريم، لكن كل لهو يصد عن سبيل الله ينسي يوم الحساب، ولذلك تجد أقل الناس إيماناً بيوم الحساب أكثرهم ممارسة للملاهي. ولا يمكن أن يقع في قلبه تذكر ليوم الحساب إلا نادراً. إنْ وفق لسماع موعظة أو ما أشبه ذلك وإلا فهو غافل لاه.

16 -

ويتفرع على هذا: أن يعرف الإنسان عداوة أعداء الله الذين أغرقونا بالملاهي وأنواعها حتى صرفوا الشباب عن ما ينبغي أن يؤهل نفسه له، فأغرقوه بالملاهي بأنواعها حتى صار الإنسان كأنما خلق لهذا اللهو، وصار رأس ماله وعقب ماله كله هو هذا اللهو، لا يتكلم إلا به، ومن فاز به، ومن لم يفز، فضاع الشباب بسبب هذا اللهو الذي انغمسوا فيه، ونسوا يوم الحساب إلا من شاء الله.

17 -

ومن فوائد هذه الآية: إثبات الأسباب. تؤخذ من قوله تعالى: {بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)} لأن الباء هذه للسببية.

ويتفرع عن هذه الفائدة إثبات حكمة الله عز وجل، وأنه تعالى لا يفعل شيئاً إلا لسبب يقتضيه، حتى إن بعض أهل العلم قال: إن كون الله عز وجل خلق السماوات والأرض في ستة أيام دون أن يخلقها بلحظة من أجل ترتب هذا الخلق بعضه على بعض، حتى تكون الأسباب فاعلة فعلها فتنتج الشيء شيئاً فشيئاً حتى يتم، وهذا

ص: 129

ليس ببعيد ما دمنا نؤمن أن الله عز وجل حكيم، وأن كل شيء يكون بسبب، فلا يستبعد أن يكون بقاء خلق السماوات والأرض ممتداً إلى ستة أيام هو من أجل هذا، من أجل أن يترتب الخلق بعضه على بعض، وينبني بعضه على بعض، حتى يكون مطابقاً للحكمة، وإلا فنحن نعلم علم اليقين أنه لو شاء الله تعالى لقال: كن فيكون بلحظة، لكن الله تعالى حكيم.

19 -

ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات الحساب في الآخرة؛ لقوله تعالى: {بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} الحساب يختلف، حساب المؤمن أن يخلو الله به من غير أن يَطَّلع عليه أحد فيقرره بذنوبه، فيقول: فعلت كذا، وفعلت كذا، حتى إذا رأى أنه هلك، قال الله له:"إني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم"

(1)

، هذا حساب المؤمن، وهذا حساب يسير، {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 7 - 8] وما أيسر أن يخلو بك الله عز وجل وحدك، وليس عندكما أحد، ويكلمك وليس بينكما ترجمان، ويقول: إني قد سترتها لك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، الحمد لله على هذه النعمة.

أما الكافر فليس كذلك، الكافر ينادى عليه على رؤوس الخلائق {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)} [هود: 18] يخزون ويفضحون {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)} فهم يخزون بأعمالهم ويفضحون بها.

(1)

انظر ما ورد في "صحيح البخاري" الحديث (2441)، وعند مسلم (2768).

ص: 130

قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} قال المؤلف: [أي: عبثاً {ذَلِكَ} أي: خلق ما ذُكر لا لشيء {ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} من هل مكة {فَوَيْلٌ} وادٍ {لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)}].

يقول الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} خلقنا أي: أوجدنا، فالخلق بمعنى الإيجاد، لكنه إيجاد عن تقدير، لأن الإيجاد قد لا يكون عن تقدير ولا عن ترتيب، ولكن الخلق لا بد أن يكون عن ترتيب وتقدير، يقول:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ} السماء المراد بها الجنس، ويشمل جميع السموات، وكذلك الأرض، وقوله:{وَمَا بَيْنَهُمَا} معطوف على السماء، أي: ما خلقنا ما بينهما باطلًا، والذي بين السماء والأرض من المخلوقات مخلوقات عظيمة، بعضها معلوم لنا، وبعضها مجهول لنا لم نعلمه حتى الآن، لكن يغلب على الظن أنها مخلوقات عظيمة، لأن الله تعالى جعلها قسيمة لخلق السماء والأرض، وقسيم الشيء لا بد أن يكون مقارباً له، أو مساوياً له.

وقوله: {بَاطِلًا} هذا محط النفي، ولهذا نقول: لا يجوز الوقف على قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا} لأنك لو وقفت لأدى ذلك إلى أن يكون المعنى معنىً باطلًا، بل لا بد أن تصل فتقول: {

وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا}، لأن ذلك هو محط النفي، يعني ما خلقناهم باطلاً، أي: لأجل الباطل، وهذا كقوله:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38)} [الدخان: 38] فالباطل هنا بمعنى اللهو الذي لا فائدة فيه، فالله لم يخلق السماء والأرض باطلاً، ولو كان

ص: 131

خلقها باطلاً لكان ذلك في غاية السفه أن تخلق هذه المخلوقات العظيمة بما فيها لا لشيء بل للعب واللهو.

{بَاطِلًا} هو قال المؤلف: [أي: عبثاً]{ذَلِكَ} أي: اعتقاد أن خلق السماء والأرض باطلاً {ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني هذا ظن الكافرين الذين يظنون أن خلق السموات والأرض لمجرد اللعب واللهو، ولا يترتب على ذلك شيء، ومن هذا قولهم:{مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24]، ومن ذلك ما يظنه بعض الناس أن المقصود من خلق السماء والأرض وجود هذه الخليقة ثم فناؤها إلى غير رجعة، فنقول: مَن ظن ذلك أي أن الله خلقها عبثاً ولعباً فهو كافر، ولهذا قال:{ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} هم الذين يظنون: أن خلق السماء والأرض كان باطلًا، وقول المؤلف:[{ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} من أهل مكة] فيه نظر، لأنه قصر للدليل على بعض أفراده، والصواب أنه عامّ لأهل مكة وغيرهم، فالذين كفروا لا يظنون بالله إلا ظن السوء، فيظنون أن أفعاله عبث وباطل وليست لحكمة.

قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)} وقال المؤلف: {فَوَيْلٌ} وادٍ] في جهنم، ولكن هذا ليس صحيحاً بالنسبة للآية هذه، بل كلمة "ويل" كلمة وعيد بأمر شديد، لأنه قيل: ويل له من النار فهو يتوعد بها، كما تقول: ويل لك من فلان. وليس معنى ويل لك من فلان يعني وادٍ في فلان، بل هي كلمة وعيد على أمر شديد فقوله:{فَوَيْلٌ} أي: وعيد شديد للذين كفروا من النار، يعني ما أعظم ويلهم من نار جهنم - والعياذ بالله - وقوله: {لِلَّذِينَ

ص: 132

كَفَرُوا} خبر ويل، وقوله:{مِنَ النَّارِ (27)} بيان لويل، أي: أن هذا الشيء العظيم يكون للذين كفروا من النار.

ثم قال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} أم: هنا منقطعة؛ لأنه لم يذكر لها معادل، فهي بمعنى (بل) والهمزة، يعني بل أنجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهذا الاستفهام المقصود به النفي والاستنكار، يعني لا يمكن أبداً أن نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض، والمراد بالاستفهام النفي والإنكار، والإضراب هنا انتقالي {أَمْ نَجْعَلُ} أي: نصيّر، فهي تنصب مفعولين: الأول: {الَّذِينَ آمَنُوا} ، والثاني:{كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ} أي: لا يمكن أن نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض.

وقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا} أي: صدقوا بما يجب التصديق به على وجه القبول والإذعان، أي: تصديقاً مستلزماً للقبول والإذعان، وقوله:{وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي: عملوا الأعمال الصالحات، والأعمال الصالحات هي التي اجتمع فيها شيئان: الأول: الإخلاصِ لله عز وجل، والثاني: المتابعة لشريعة الله، فمن عمل عملاً موافقاً للشريعة في ظاهره لكنه يرائي فيه، فعمله ليس بصالح، لاختلال الإخلاص لله، والذي عمل عملاً مخلصاً فيه لله يريد به وجه الله، لكنه على غير الشريعة، ليس بصالح لأنه غير موافق لشريعة الله. فلا بد من أن يكون العمل خالصاً لله، وموافقاً لشريعة الله.

ص: 133

وقوله: {كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ} ، المفسد مقابل الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فيكون المراد بالمفسدين في الأرض: الكفّار الذين يعملون السيئات.

فكلُّ كافر فهو مفسد في الأرض، في مقابل:{الَّذِينَ آمَنُوا} . وكلُّ عاصٍ، فهو مفسد في الأرض، في مقابل:{وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ، فالشيء يُعرَف بمقابله.

ولهذا فسَّر أهل العلم قوله تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 56]، فسّروا ذلك بالمعاصي، قالوا: لا تفسدوا في الأرض بالمعاصي وهذا التفسير صحيح، يشهد له قوله تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} [الروم: 41].

فإن قيل: هل هدم البيوت فساد في الأرض؟ فالجواب أنها لا تُنْفي ولا تُثْبت، إنْ هدمَها الإنسان ظلماً وعدواناً، فهو فساد في الأرض، لأنه معصية لا يجوز للإنسان أن يعتدي على بيت أخيه، فيهدمه، وإنْ هدمَها لإصلاحها، فهذا ليس فساداً في الأرض.

وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} أم هنا أيضاً بمعنى بل، وهمزة الاستفهام الذي يراد بها الإنكار والنفي.

قال المؤلف رحمه الله: [{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ

} - لمّا قال كفار مكة للمؤمنين: إنّا نُعطى في الآخرة مثل ما تُعطون] هذا قد يكون صحيحاً، وقد لا يكون صحيحاً،

ص: 134

لكن إن كان صحيحاً فهو كقول اليهود: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: 80]، فكل أحد يدعي أنه على حق، وكل أحد يدعي أن الثواب له وأن الآخرة له، ولكن الشأن كل الشأن بمَن شهد الله له بذلك.

يقول: [{أَمْ} بمعنى همزة الإنكار] أم، يعني قوله:{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} لكن يقدَّر قبلها، بل لأن أم هذه تفيد الإضراب.

{أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ} أي: نصيِّر المتقين كالفجار، أي: لا يمكن أن نجعل المتّقي كالفاجر.

والمتقي مَن اتخذ وقاية من عذاب الله، بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، وهذا أجمعُ ما قيل في تعريف المتقي. والفجّار خلاف المتقين، يعني الذين فجروا وخرجوا عن طاعة الله إلى معصيته.

وهنا قابل المتقي بالفاجر، وفي سورة المطففين قابل الفاجر بالبَرِّ، قال تعالى:{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)} [المطففين: 7]، ثم قال:{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)} [المطففين: 18]. ومنه نأخذ أنّ التقوى والبِرَّ إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، يعني أن البِرَّ كلمة إن ذُكرت وحدها، فهي شاملة للتقوى، والتقوى إن ذُكرت وحدها، فهي شاملة "للبِرِّ، وإن جُمعتا جميعاً، البِرّ والتقوى، صار البِرّ فِعل الطاعة، والتقوى اجتناب المعصية، كقوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] يعني على فعل الطاعات، وترك المعاصي.

ص: 135

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: إثبات خلق السماء والأرض، وأنها حادثة بعد العدم، وليس في الكون شيء يكون أزلياً أبدياً أبداً. فالسموات ليست أزلية، بل هي مُبتدَعَة، وسوف تفنى، وكذلك كلّ شيء سوف يفنى إلا ما استثنى الله عز وجل وخلقه للبقاء، مثل الأرواح، فإنها خُلقت للبقاء، ومثل ذلك ما في الجنة من النعيم والوِلْدان والحور، وما أشبهها، فما دل الكتاب والسنة على بقائه وأبديته، فهو باقٍ أبدي، ولكن كل شيء لا يمكن أن يكون أزلياً أي: ليس له أول إلا الله عز وجل.

2 -

ومن فوائدها: أن الذي خلقها هو الله، لقوله:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ} ، وهذا كقوله تعالى:{أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الطور: 36] يتحداهم: هل هم الذين خلقوا السموات والأرض؟

3 -

ومن فوائدها: أن الله تعالى خلقها لحكمة عظيمة، ليس فيها سفه، لقوله:{بَاطِلًا} فإن نفي خلقها باطلاً يستلزم أنها خُلقت لحكمة عظيمة بالغة، وهو كذلك، وهذا فرد من أفراد مخلوقات الله عز وجل، فإن الله تعالى لم يخلق شيئاً عبثاً، ولم يَشْرَع شيئاً عبثاً، بل كل ما خلقه وشَرَعَه الله ودبّره، فهو لحكمة عظيمة، أحياناً نعرفها، وأحياناً لا نعرفها.

4 -

ومن فوائدها: إثبات الحكمة في أفعال الله، لقوله:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} إذ لو انتفت الحكمة لأمكن أن تُخلق السماء والأرض باطلًا.

ص: 136

5 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنّ لا أحد يظنّ أن ذلك باطلاً إلا الكافر، لقوله:{ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} .

6 -

ومن فوائدها: أنّ من ظن ذلك، فهو كافر.

والفرق بين الفائدتين: أن الفائدة الأولى يكون الكفر سابقاً، على هذا الظن، فيكون الكفر سبباً لهذا الظن.

أما الفائدة الثانية: أنّ هذا الظن سابقٌ على الكفر، فيكون هذا الظن سبباً للكفر.

إذاً، لا يظن أحد أن الله خلق السماء والأرض باطلًا إلا الكفار، وإذا ظنّ أحد أن الله خلق ذلك باطلًا، صار كافراً.

7 -

ومن فوائدها: إثبات الوعيد للكفار في قوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)} وأنهم سيدخلون النار، وهم أيضاً مخلدون فيها أبداً، كما ذكر الله تعالى ذلك في ثلاث آيات من كتاب الله في سورة النساء، في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء: 168 - 169]، وفي سورة الأحزاب:{إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الأحزاب: 64 - 65]، وفي سورة الجن:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23].

وبعد هذه الآيات الثلاث، لا ينبغي أن يلحقنا شك في أبدية النار، وإن قال ذلك من قاله من الناس، لأن هذا كلام الله، وهو خبر، والخبر في كتاب الله لا يمكن أن يَكْذِب، ولا يمكن أن يلحقه

ص: 137

النسخ، فلا عبرة بقول مَن قال: إن النار لا تؤبد، بل قوله مرفوض، باطل، مردود عليه، بدلالة القرآن الصريحة.

8 -

من فوائد الآيات كلها: أنّ من جملة الِحكمة، التي هي من صفات الله عز وجل أنّه لا يمكن أن يجعل المؤمن العامل للصالحات كالمفسد في الأرض، لأن ذلك ينافي الحكمة منافاةً بالغةً، لا يمكن أن يستوي المؤمنون والكافرون، كما لا يستوي الأعمى والبصير، قال الله تعالى:{مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} [هود: 24].

9 -

ومن فوائد الآية الكريمة: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أنّ الإيمان والعمل الصالح سبب لصلاح الأرض، وهذا يؤيِّده آيات كثيرة، مثل قوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96].

10 -

ومن فوائدها: أنّ المعاصي سبب للفساد في الأرض، لأنّه قابل هذا بالإيمان والعمل الصالح، ويشهد لهذا قوله تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41]، فكل فساد يحدث في الأرض من جدَب وفقر ومرض وفسادِ ثمارٍ، وغير ذلك، فإنه بسبب المعاصي، بما كسبت أيدي الناس.

11 -

ومن فوائدها: أنّ الله لا يمكن أن يجعل المتّقين كالفجّار في مآلهم، فالمتقي في جنات النعيم، والفاجر في عذاب الجحيم {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} .

ص: 138

قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} .

{كِتَابٌ} قال المؤلف: [خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا] والمشار إليه القرآن الكريم.

وكتاب بمعنى: مكتوب. ووُصِف القرآن بأنه كتاب لعدة أوجه:

الأول: أنه مكتوب في اللوح المحفوظ، كما قاله تعالى:{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)} [البروج: 21 - 22].

الثاني: أنه مكتوب في الصحف التي بأيدي الملائكة، كما قال تعالى:{كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 11 - 16].

الثالث: أنّه يُكتب في المصاحف، كما هو معروف، وربما يدّعي مدّعٍ أنه بمعنى مفروض على الأمة الإيمان به، والعمل به. فيكون هذا معنى رابعاً لكلمة (مكتوب).

وقوله: {أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} أنزله الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وإنزاله إلى محمد صلى الله عليه وسلم من الله يدلُّ على أنه كلام الله. ووجه ذلك: أنّ هذا الكتاب كلام، والكلام لا بد له من متكلِّم، فإذا كان الله هو الذي أنزله، لزم أن يكون هو المتكلم به، فيكون في هذا إثبات أن القرآن كلام الله.

وأحياناً ياتي التعبير بـ: {أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ} [النحل: 64، طه: 2] والجمع بينهما: أنّ "إلى" تفيد الغاية، أي: أنّ غاية هذا الإنزال إلى محمد صلى الله عليه وسلم، و"على" تفيد الاستعلاء.

ص: 139

وذلك لأن هذا القرآن جاء من (عَلٍ)، أي: من فوق، من الله عز وجل، ثم إن في "على" إفادة التحمل للشيء.

أنزله عليك: يعني لتتحمله، وتقوم به.

فالفرق إذاً من وجهين:

الوجه الأول: أن (إلى) تفيد الغاية، أي: أن غاية الإنزال إلى محمد صلى الله عليه وسلم، لا يتعداه إلى غيره، ولا نبي بعده، وأما (على) فتفيد الاستعلاء، أي: أنه نزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من فوق، وتفيد أيضاً التحمل لأنه نزل عليه كأنه فوقه، والشيء الذي فوقك لا بد أن تتحمله، ويؤيِّد هذا قولُه تعالى:{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)} [المزمل: 5]، وقوله:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الإنسان: 23 - 24] مما يدل على ثقله، وهو كذلك.

قال: {أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} مبارك: صفة لكتاب. و {أَنْزَلْنَاهُ} أيضاً صفة لكتاب، هذا بناء على إعراب المؤلف: أنّ {كِتَابٌ} خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون {كِتَابٌ}: مبتدأ، و {مُبَارَكٌ}: خبره، وجملة {أَنْزَلْنَاهُ} صفة لكتاب، وسوّغ الابتداء به وهو نكرة، وَصْفُهُ بجملة {أَنْزَلْنَاهُ} .

وبركة القرآن من عدة أوجه:

1 -

الوجه الأول في الثواب الحاصل بتلاوته، فإنّ من قرأ حرفاً واحداً منه، فله بكل حرف عشر حسنات، وهذه بركة عظيمة.

ص: 140

2 -

مباركٌ: من حيث الأثر المترتِّب على تلاوته، سواء كان عامّاً أم خاصّاً. فالخاصّ ما يحصل للإنسان بتلاوة القرآن من انشراح الصدر، ونور القلب وطمأنينته، كما هو مجرّب لمن قرأ القرآن بتدبر. وأمّا العام، فإن الله تعالى فتح بهذا القرآن مشارق الأرض ومغاربها، فإن المسلمين لما كانوا متمسكين بهذا الكتاب، سادوا العالم كله، ولا شك أن هذا من البركة بهذا القرآن.

3 -

ما يحصل بهذا القرآن من اجتماع الكلمة، وحفظ اللغة الأصيلة للقوم الذين نزل بلغتهم، فمن المعلوم أن الناس إذا كانوا على لغة واحدة، صاروا إلى الاجتماع أقرب، وإذا تفرَّقت لغاتهُم، صاروا إلى التفرُّق أقرب، لأنه إذا اتفقت لغاتهم، استطاعوا أن يتفاهموا فيما بينهم، وأن يعرف بعضهم ما عند بعض، وإذا اختلفت اللغات لم تحصل هذه الفائدة، فهذا من بركة القرآن الكريم.

وله أوجه أخرى ربما لا نستطيع أن نستوعبَها في هذا المكان، لكنها ظاهرة لمن تأملها.

وقوله: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} هذه متعلقة بأنزلناه، يعني أنزلناه ليدبروا آياته، ليدبروا: اللام: لام التعليل، ويدبروا: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، والواو: فاعل والجار والمجرور متعلقان بـ {أَنْزَلْنَاهُ} يعني: أنزلناه ليتدبَّروا آياته. والتدبُّر معناه التأمل في أدبار الأمور وعواقبها، وتكرار اللفظ على القلب، مرَّةً بعد مرَّةٍ، حتى يتَّضح المعنى، أي معناه: التأمل في معاني القرآن، وترديد هذا التأمل، حتى يتضح ما فيه المعنى. وأصل هذه

ص: 141

الكلمة: ليتدبَّروا، فأدغمت التاء في الدال، وإذا أدغمنا التاء في الدال جعلنا التاء دالاً، فصارت ليدَّبَّروا آياته، وقوله:{آيَاتِهِ} جمع آية، والآية هي ما تنتهي بفاصلة.

ومن حفظ الله لهذا القرآن أن آياته محفوظة مرقمة، أو محجوزة بعضها عن بعض، إلى يومنا هذا.

والآيات هي: العلامات، وهي علامات على أنّ هذا القرآن من عند الله عز وجل بما تحويه من اللفظ والمعنى.

ولهذا كانت الآية الواحدة مُعجزة للبشر، بل معجزة للخَلْق كلهم، لأنها آية من آيات الله.

قال المؤلف: [{لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}: ينظروا في معانيها، فيؤمنوا]. هذه حكمة من حِكم إنزال القرآن أن يتدبر الإنسان في الآيات، الثانية: قال: [{وَلِيَتَذَكَّرَ}: يتّعظ {أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} أصحاب العقول] هذه فائدة ثانية، جعل التذكر بعد التدبر، لأنه لا يمكن أن يتّعظ الإنسانُ بالشيء إلا إذا عرف المعنى الذي يتضمنّه، فيتدبَّر أولاً، ثم يتذكَّر ثانياً.

ففي المرحلة الأولى يقرأ الإنسانُ القرآن، وفي المرحلة الثانية يتدبَّره لفهم معانيه، ثم المرحلة الثالثة: يتّعظ به، والاتِّعاظ بالقرآن هو التأثُّر به في القلب والجوارح.

والتأثر بالقلب: إخلاص العبد لله، وإنابته إليه، وتوكله عليه، وما أشبه ذلك من أعمال القلوب.

ص: 142

وتأثر الجوارح: القيام بطاعة الله بالجوارح الظاهرة مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصوم، وغير ذلك.

فالفائدة من إنزال هذا القرآن المبارك تتركز على شيئين، هما: التدبُّر والتذكُّر.

{وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} أولو: بمعنى أصحاب، وهي ملحقة بجمع المذكر السالم، لأنه ليس لها مفرد من لفظها، بل لها مفرد من معناها. إذا قلنا: إنها بمعنى أصحاب، صار مفردها من المعنى صاحب، فأولو: جمع صاحب باعتبار المعنى.

وقوله: {أُولُو الْأَلْبَابِ} قال المؤلف: [أصحاب العقول] لأن صاحب العقل هو الذي يتعظ أما مَن لا عقل له، فإنه لا ينتفع بذلك.

والعقول هنا، هي عقول الرشد، لأن العقل عقلان: عقل إدراك، وعقل رشد. فعقل الإدراك هو ما يتعلق به التكليف. وعقل الرشد ما يكون بحُسْن التصرُّف. فالكفار مثلاً لهم عقول إدراك، لأن هذا هو الذي يتعلق به التكليف وليس لهم عقول رشد، لأنهم لم يُحسنوا التصرف. وكل مَن لا يَحْسُن التصرف، فإنه يصح أن ينفى عنه العقل، قال تعالى:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)} [البقرة: 44] ونحن فيما بيننا إذا وجدنا شخصاً يسيء التصرف، قلنا: إنه غير عاقل، وإن كان عاقلًا من حيث الإدراك، لكنّه غير عاقل من حيث التصرف.

ص: 143

والعقل الذي يُمدح، هو عقل الرشد. أما عقل الإدراك، فهذا يحصل لكل أحد، حتى الكفار والفجّار.

وقوله: {الْأَلْبَابِ} ألباب: جمع لب، ولب كل شيء المقصود منه. فالحبة مثلاً لبها ما كان بداخلها، المخ الذي بداخلها هو اللبّ، وما فوقه قشور، والبيضة الذي بداخلها هو اللب وما فوقه قشور.

الفوائد:

1 -

من فوائد هذه الآية: أنّ هذا القران كلام الله، لأن الله أضافه لنفسه في قوله:{أَنْزَلْنَاهُ} والقرآن كلامٌ، وإذا أضيف الكلام إلى أحد، لزم أن يكون صفة له، لأن الكلام معنى لا يقوم إلا بغيره.

2 -

ومن فوائد هذه الآية: إثبات علوّ الله عز وجل لقوله: {أَنْزَلْنَاهُ} . والإنزال لا يكون إلا من العُلو. وقد قرّرنا هذا كثيراً في عدة مجالس، قرّرنا علوَّ الله بذاته فوق خلقه، وبينا أنّه ثابتٌ بجميع أنواع الأدلة السمعية: الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، والفطرة.

3 -

ومن فوائد هذه الآية: أن القرآن كتاب، أي: مكتوب. وقد بيَّنا أنه مكتوب في ثلاثة مواضع:

أ- اللوح المحفوظ.

ب- والكتب التي بأيدي الملائكة.

جـ- والكتب التي بأيدي الإنسان.

ص: 144

4 -

ومن فوائد هذه الآية: إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} .

5 -

ومن فوائدها: فضيلة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان أهلاً لأن ينزَّل عليه القرآن. والقرآن لا ينزل إلا على مَن هو أهلٌ لإنزاله عليه لجمعه صفات الكمال البشرية.

6 -

ومن فوائد هذه الآية: أنّ القرآن الكريم مبارك، حسب الوجوه التي ذكرناها.

7 -

ومن فوائدها: الحثُّ على العناية به والتزامه، لأنه إذا كان مباركاً، فإن كل أحد من البشر يريد أن ينال بركة هذا الشيء المبارك.

8 -

ومن الفوائد: أن القرآن يُستشفى به، كما دلّت على ذلك آياتٌ كثيرة أخرى، يُستشفى به من أمراض القلوب، ومن أمراض الأبدان، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)} [يونس: 57].

إذاً فمن بركة القرآن؛ أنّه يُستشفى به من أمراض القلوب، ومن أمراض الأبدان.

والاستشفاء به من أمراض الأبدان يقع على وجوه متنوعة:

أ- منها: أن يُقرأ على المريض به، كقراءة الفاتحة على المريض، فإنها مفيدة جداً.

ب- ومنها: أن يُكْتَب في إناء ويُصَبّ عليه الماءُ، ويدار عليه الماءُ حتى يتغير بهذه الكتابة، ثم يُشرب، وهذا مجرّب.

ص: 145

جـ- ومنها - على رأي بعض العلماء من السلف والخلف -: أن يعلَّق بصفة تميمة، أي: يُكتب في جلد أو ما شابهه، ثم يعلَّق على المريض، فإنّ هذا قد اختلف فيه السلف، فرخَّص فيه بعضهم، ومنعه بعضهم. ومن رخَّص فيه، استدلَّ بعموم الأدلة الدالة على أنّ القرآن فيه الشفاء

(1)

.

9 -

ومن فوائد هذه الآية: أنّ مِن أعظم الِحكَم في إنزال القرآن؛ تدبر القرآن، لقوله تعالى:{لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} .

10 -

ومن فوائدها: حثّ الإنسان على تدبُّر الآيات. وأن لا يُقرأ القرآن قراءةً لفظيةً فقط، فإنّ الله تعالى قد ذمَّ هذا الجنس من الناس، أعني الذين يقرؤونه قراءةً لفظيةً، فقال تعالى:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78]. {أَمَانِيَّ} : يعني قراءة لفظية فقط، فوصفهم الله بأنهّم أميون لأنهم لم ينتفعوا بالقرآن، إذ لا يمكن أن يُنتفع بالقرآن إلا بفهم معانيه. فإذا لم تُفهم معانيه، صار العربي والعجمي على حدٍّ سواء.

11 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنّ تدبُّر القرآن فرض، لأن العملَ بالقرآن فرضٌ، ولا يتمّ العملُ إلا بالتدبُّر، وما لا يتمُّ الفرضُ إلا به، فهو فرض.

ولكن هل التدبر فرض عين، أم فرض كفاية؟ حسب الحال. قد يكون فرضَ عين، وقد يكون فرضَ كفاية، فما لا يتمّ دينُ العبدِ

(1)

انظر شرح فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى لكتاب التوحيد، باب ما جاء في الرقى والتمائم. لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى.

ص: 146

إلا به، فهو فرضُ عين، وما زاد على ذلك، فهو فرضُ كفاية. ولا بد أن يكون في الأمة الإسلامية مَن يفهم القرآن.

12 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنّ القرآن كله آيات دالة على المتكلم به سبحانه وتعالى، ولهذا قال:{لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} ولم يقل: آيات منه، أو عشر آيات، بل كل الآيات.

13 -

ومن الفوائد أيضاً: أنّ من أعظم ما نزل القرآن لأجله: التذكر، لقوله:{وَلِيَتَذَكَّرَ} .

14 -

ومن فوائدها: أن القرآن الكريم نزل موعظة للناس، كما قال الله تعالى في آيات أخرى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [يونس: 57]، وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} [النساء: 58]، فالقرآن نزل ليؤثر، ولم ينزل ليتبرك الإنسان بقراءته، أو ينال الأجر بقراءته فقط، هذا سهل، ولكن لا بد أن يؤثر تذكراً وموعظة.

15 -

ومن فوائد الآية: أنه لا يتذكر بالقرآن إلا أصحاب العقول، لقوله:{وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} .

16 -

من فوائدها: أن مَن تذكَّر بالقرآن، فهو صاحب عقل، ومَن لم يتذكَّر، فليس له عقل رشد، وجه ذلك أن الله جعل التذكر لمن اتصفوا بالعقول.

17 -

ومن فوائدها: أنّ لب الإنسان وروحه هو العقل؛ عقل الرشد لأن الله تعالى سمى هذه العقول ألباب، جمع لب، كأسباب: جمع سبب.

ص: 147

قال: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ} وهبنا: أعطينا. ووصف الله ذلك بأنه هبة، لأنه محض فضل منه لا يحتاج منا إلى شيء. قال الله تعالى:{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} [الشورى: 49 - 50] إذاً وهبنا لداود: أعطيناه هبة فضلاً منا.

وقوله: {سُلَيْمَانَ} لم ينوّن، لأنّه ممنوع من الصرف للعلمية، ولزيادة الألف والنون.

وداود: ممنوع من الصرف للعجمية والعلمية. قال المؤلف: [{سُلَيْمَانَ} ابنه]، من أين عرف المؤلف أنه ابنه؟ ألا يجوز أن يكون المراد وهبنا لداود سليمان يعني خادمه؟ الجواب: لا؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى سمّى الأولاد هبةً في قوله تعالى: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} يعني: يصنِّفهم ذكراناً وإناثاً {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى: 50].

قال: {نِعْمَ الْعَبْدُ} أي: سليمان، ونعم: فعل ماض جامد لإنشاء المدح، والجملة أُتي بها للمدح والثناء، وعلى نقيضها (بئس) فإنهّا كلمة لإنشاء الذمّ.

وقوله: {نِعْمَ الْعَبْدُ} المعروف أنّ (نعم أو بئس) تحتاج إلى فاعل، ومخصوص بالمدح في (نعم)، والذم في (بئس)، {نِعْمَ الْعَبْدُ} العبد: هو الفاعل، نعم في الماضي والعبد فاعل والمخصوص بالمدح: إمّا أن نقدره اسماً ظاهراً، أو ضميراً.

ص: 148

{إِنَّهُ أَوَّابٌ (30)} هذا سبب ثناء الله عز وجل على سليمان {إِنَّهُ} أي: سليمان.

{أَوَّابٌ} أي: رجّاع إلى الله عز وجل، سواء كان ذلك بترجيع الصوت بالذِّكر، أو بالرجوع إلى طاعة الله عز وجل.

والظاهر أن الآية شاملة للمعنيين: {إِنَّهُ أَوَّابٌ} رجّاع إلى طاعة الله، و {أَوَّابٌ} رجّاع بالتسبيح، أي: يرجّع الصوت به ويردِّده.

يقول المؤلف رحمه الله: [رجّاع بالتسبيح والذِّكر في جميع الأوقات] ولكن الصحيح أنه أعم مما قال المؤلف؛ أنّه رجّاع بالتسبيح والذِّكر، وكذلك رجّاع إلى الله بالتوبة والطاعة.

وقوله: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31)} .

{عُرِضَ} العارض، أبهمه للتفخيم، لأن الفعل هنا مبني للمجهول. يعني كأنه يوحي بأنّ له جنوداً كثيرة يعرضون عليه ما يعرِضون.

وقوله: {بِالْعَشِيِّ} هو ما بعد الزوال إلى غروب الشمس، وقوله:{بِالْعَشِيِّ} الباء هنا للظرفية؛ أي: فيه، ولكن الغالب أنّ الباء إذا جاءت في مكان "في" أنها تكون مستوعبة لجميع الوقت، كأنّ العشي صار كله مُستَوعباً؛ لهذا العرض، لكثرة الخيول التي تُعرَض عليه.

{الصَّافِنَاتُ} الصافنات مرفوعة وهي نائب فاعل {عُرِضَ} . فإذا قال قائل: {الصَّافِنَاتُ} جمع، والفعل مذكر {عُرِضَ} وهذا جمع ذات حِرٍ، يعني جمع مؤنث حقيقي، وابن مالك يقول في تاء التأنيث:

ص: 149

وتاءُ تأنيثٍ تلي الماضي إذا

كان لأنثى كأبَتْ هندُ الأذى

وإنّما تَلزمُ فعلَ مُضْمَر

مُتَّصِلٍ أو مُفْهِمٍ ذاتَ حِرِ

نقول: إنّما لم يجب التأنيث لوجود الفاصل، وهو قوله:{عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ} .

{الصَّافِنَاتُ} قال المؤلف: [الخيل، جمع صافنة، وهي القائمة على ثلاث، وإقامة الأخرى على طرف الحافِر، وهو من صَفنَ يَصْفِنُ صُفوناً].

{الصَّافِنَاتُ} هي: الخيل تقوم على ثلاث أرجل، وترفع الرابعة قليلًا، بحيث يكون طرف الحافر على الأرض، وهذا يدل على قوتها. وهو أيضاً من ناحية الجمال أجمل عند رؤيتها. ولو تصوَّرت الخيلَ مصفوفةً صافنةً، لكان لها أُبهّة، وتشعرُ بشيءٍ من العَظَمة من هذا المشهد الذي تشاهده.

قوله تعالى: {الْجِيَادُ (31)} قال المؤلف: [جمع جواد، وهو السابق، المعنى: أنها إذا استُوقِفَت سكنت، وإن ركضت سبقت] يعني: أنّ هذه الخيل التي عُرضت عليه موصوفة بهذين الوصفين: أنها من الصوافن، وأنها من الجياد؛ فهي إذا استُوقِفت وقفت على أحسن هيئة، وهو الصّفون، وإذا ركضتْ؛ ركضتْ على أكمل هيئة، وهي الجود. جيدة في السّبق، وتتحمل المشاق، ولو طال السير، وهذا غاية ما يكون من جمال الخيل؛ أن تكون هيئتها حين الوقوف ممّا يسر النفس، وأن يكون فعلها وأداؤها حين السير مما ينفع، لكونها من ذوات الجود.

ص: 150

وقول المؤلف: [كانت ألف فرس، عُرضت عليه، بعد أن صلَّى الظهر، لإرادته جهاد العدوِّ عليها، فعند بلوغ العرض منها تسع مئة، غربت الشمس، ولم يكن صلى العصر، فاغتم].

تقديره هذه الخيل بألف فرس يحتاج إلى دليل عن معصوم، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هناك دليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها ألف أو ألفان أو أقلّ أو أكثر. وحينئذ تكون مسؤوليتنا أن نقفَ حيث يقف القرآن، فلا نحددها بألف ولا بأكثر ولا بأقل، إنما هؤ عُرضت عليه في آخر النهار هذه الخيول الصافنات الجياد، فلما عرضت عليه نسي أن يصليِّ لقوة ما في قلبه من التعلُّق بهذه الخيول التي أعدّها للجهاد في سبيل الله، أو أعدها للزينة والتمتع؛ لأن سليمان كان من الأنبياء الملوك، قال تعالى:{وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35] والملوك من عادتهم أن يُسّروا ويبتهجوا بالنظر إلى الخيول، وسواء كان أعدّها للجهاد إن كان قد أُمر به، أو أعدّها للتمتع بها بصفته أنه ملك {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} . أحببت، أي: أردت، حب الخير. يعني محبة الخير، والخير يطلق على المال عموماً، كما في قوله:{إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 6] أي: لحب المال، والدليل على أن الخير هو المال قولُه تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180].

فقوله: {حُبَّ الْخَيْرِ} أي: حب المال، وتفسير المؤلف رحمه الله لهذا الخير بالخيل أخص من دلالة اللفظ، وقد مرَّ علينا أنه لا

ص: 151

يجوز أن يفسر اللفظ الأعم بالمعنى الأخص، لأنَّ هذا قصور في التفسير، لكن قد يكون عذر المؤلف أن السياق في الخيل، فيكون حمله لهذا العامّ على الخاصّ بقرينة السياق.

وهنا إشكال، وهو قوله:{أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} هل الحب يُحب؛ أي: لو قال قائل: لماذا لم تكن الآية: إنِّي أحببت الخير، كما قال تعالى:{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8]؟

لقد أوَّل المؤلف رحمه الله المحبّة التي جاءت بلفظ الفعل بالإرادة فقال: " [{إِنِّي أَحْبَبْتُ} أي: أردت {حُبَّ الْخَيْرِ}] لكنَّه رحمه الله وإن تخلص من تضارب اللفظ لم يتخلص من فساد المعنى؛ لأنَّه إذا قال: أردت {حُبَّ الْخَيْرِ} فالمراد قد يحصل، وقد لا يحصل مع أن حبه حاصل.

والجواب أن نقول: إن {أَحْبَبْتُ} الأوَّل على بابها و {حُبَّ} الثَّانية على بابها من باب التوكيد، كأنه أَحَبَ حُبَ الخير فضلاً عن الخيل، ومن أحب حب الشيء لزم أن يكون محباً للشيء، كما لو قلت: أنا أحب أن أحب فلانًا، أو أنا أحب أن أحب قراءة الكتاب الفلاني، فيكون هذا من باب التوكيد، كأنه كرّر المحبة مرتين، وبهذا نتخلص من الإيراد الذي يَرِدُ على تفسير المؤلف رحمه الله.

وقوله تعالى: {عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} ، قال المؤلف:[أي: صلاة العصر]، وهذا أيضاً فيه تفسير للعامّ بما هو أخصّ، وهو قصور في التفسير، وذلك لأنَّ الذِّكر أعمّ من الصَّلاة، فكل صلاة ذكر، وليس كل ذى صلاة، إذاً إذا فسَّرنا الذِّكر بالصلاة فقد فسَّرنا الأعمّ

ص: 152

بالأخصّ، وهذا قصور، لكن ربما يُعتذر عن المؤلف بسياق الآية، ولكن هذا العذر لا يقبل؛ من الذي يقول: إن سليمان أراد بذكر ربه صلاة العصر؟ إذ قد يكون أنه أراد ذكر الله في المساء، لأن المساء له أذكار معينة، وتكون صلاة العصر داخلة في هذا الذكر، وهذا هو الصحيح، أن المراد بالذكر في قوله:{ذِكْرِ رَبِّي} عموم الذكر، الذي يدخل فيه صلاة العصر.

وقوله: {عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} يشمل التذكر الذي هو ذكر القلب، ويشمل القول الذي هو ذكر اللسان، ويشمل الفعل الذي هو أفعال الجوارح إذا أدخلنا صلاة العصر في هذا؛ لأن صلاة العصر تشتمل على أنواع الذكر الثلاثة، فيها ذكر بالقلب، وذكر باللسان، وذكر بالجوارح.

وقوله: {عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} في إضافة الربوبية إلى الله، استعطاف من سليمان لله عز وجل حيث أذعن له في الربوبية التي تقتضي أن يكون مشغولاً بذكره سبحانه وتعالى.

وقوله: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} استشكل بعض العلماء تعدي الفعل بـ "عن".

قيل: إن "عن" تعني البدلية هنا، أي: بدل ذكر ربي، وقال بعض العلماء: إن {أَحْبَبْتُ} ضُمّن معنى آثرت، أي: آثرت حب الخير عن ذكر ربي. ومرّ علينا فيما سبق أنه إذا جِيء بمُتعلِّق لا يناسب المتعلَّق ظاهراً فإن لعلماء النحو في ذلك قولين:

ص: 153

الأوَّل: تضمين المتعلَّق معنى يناسب المتعلَّق.

والثَّاني: أن يضمَّن الحرف الذي لا يناسب المتعلَّق حرفاً يناسب المتعلَّق. وذكرنا أن الأولى أن يكون التجوز بالفعل.

قوله: {حَتَّى تَوَارَتْ} قال المؤلف: [أي: الشَّمس (32)} أي: استترت بما يحجبها عن الأبصار].

إذا قال قائل: {تَوَارَتْ} الفاعل ضمير مستتر، والشمس لم يسبق لها ذكر، فلماذا لا يقال:{حَتَّى تَوَارَتْ} أي: الخيل {بِالْحِجَابِ} يعني أنَّها أبعدت حتَّى استترت عنه، وكأنه شغل بالنظر إليها، وهي تتطارد وتتسابق حتَّى وصلت إلى مسافة بعيدة بحيث غابت عنه؟

نقول: لا شك أنَّه معنى محتمل في الآية: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32)} أي: هذه الخيول أبعدت واستترت. ولكن وردت أحاديث تؤيد ما ذهب إليه المؤلف من أن التي توارت هي الشَّمس. {بِالْحِجَابِ} أي: بما يحجبها عن الأبصار.

فما هو هذا الحجاب؟ الحجاب هو الأرض، كما قال الله تعالى عن ذي القرنين:{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [الكهف: 86] أي: في البحر، إذاً، الذي يسترها إذا غابت هي الأرض، لأنَّ الأرض كروية الشكل؛ إذا دارت الشمس عليها ووصلت الجانب المنحني؛ لا بد أن تغيب، وهكذا تغيب عن كل قومٍ شيئًا فشيئاً، حتَّى تطلع على مَن غابت عنهم أولاً.

ص: 154

{رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)} .

{رُدُّوهَا} الضمير راجعٌ إلى الخيل التي عُرضت عليه. أمر أن تُردَّ عليه، وترجع عليه مرَّة ثانية، من أجل أن يقضي عليها غضباً لله عز وجل، وتنكيلاً لنفسه التي تعلّقت بهذه الخيول، وأعرضت بها عن ذكر الله. {فَطَفِقَ} ، طفق: فعل ماض من أفعال الشروع، ويكون خبرها فعلًا. وبناءً على ذلك فإن قوله:{مَسْحًا} ليست خبراً لها، بل مصدراً (مفعولاً مطلقًا) للفعل المحذوف الذي هو الخبر، والتقدير: فطفق يمسح مسحاً، والجملة: خبر طفق.

قوله: {مَسْحًا بِالسُّوقِ} يعني يضربها مع سوقها جمع ساق و {وَالْأَعْنَاقِ} مع العنق، لأنّ الخيل تتعلق بها النَّفس، باعتبار المشي، وباعتبار الصفون عند الوقوف، وباعتبار الرقبة وطولها، وما عليها من الشعر وحسن العنق وهو دال على فراهتها، ولهذا ضرب عليه الصلاة والسلام مواقع الحسن في الخيل، وهي سوقها وأعناقها.

يقول المؤلف رحمه الله: [ذبحها وقطع أرجلها تقرباً إلى الله حيث اشتغل بها عن الصَّلاة، وتصدق بلحمها فعوضه الله خيراً منها وأسرع وهي الرِّيح تجري بأمره كيف شاء] يُحتمل ما قاله المؤلف، ويُحتمل أنَّه لم يتصدق بها؛ لأنَّه ذبحها تقرباً إلى الله تعالى بإتلافها، وما كان كذلك فإنَّه لا يؤكل. وعلى كل حال يحتمل أن سليمان تصدق بها كما قال المؤلف، أو أكلها، أو تركها، والله أعلم.

ص: 155

الفوائد:

1 -

أن الأولاد هبة من الله عز وجل للعبد، ويتفرع على ذلك أَنَّه يجب على العبد شكر الله على هذه النعمة.

2 -

الثّناء على سليمان في قوله: {نِعْمَ الْعَبْدُ} والعبودية هنا: العبودية الخاصة.

3 -

إثبات العِلل والأسباب لقوله: {إِنَّهُ أَوَّابٌ} ، فإن هذا هو سبب الثناء عليه.

4 -

فضيلة الأوبة إلى الله عز وجل، والرجوع إليه بالقلب والعمل، لأنَّ الله أثنى على سليمان بسبب ذلك.

5 -

من فوائد هذه الآية: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31)} بيان عظمة ملك سليمان عليه السلام، حيث كان النَّاس يَعرِضُون عليه هذه الخيول للتمتُّع بها، ومن أجل الاطِّلاع عليها وتفقدها، ووجه ذلك أنَّه قال:{إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ} .

وهذا يدل على أنّ هناك أناساً يَعرِضون عليه هذه الخيول.

6 -

أنّ هذه العادة، وهي عرض الخيول والتمتُّع بجريها في آخر النهار، عادة قديمة ما زال النَّاس عليها إلى اليوم. يعني لا تكاد تجد أحدًا يجُري مسابقة على الخيل في أول النهار؛ إنَّما يكون في آخر النهار، وهذا من العادات القديمة في النَّاس إلى اليوم.

7 -

أنَّه ينبغي اختيار الخيل الجيدة الجميلة، التي تَسُرُّ النَّفس في رؤيتها، وفي جريها لقوله:{الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} .

ص: 156

8 -

ينبغي اقتناء الخيل؛ حيث كان هذا من دأب الرسل عليهم الصَّلاة والسلام. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة"

(1)

. فمتى كانت الخيل أداة حرب، فالخير في نواصيها إلى يوم القيامة.

9 -

ذكر أنموذج من وصف سليمان عليه السلام بالأوّاب، حيث قال:{إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} .

10 -

أن المال خير، وهو كذلك، لأنَّ الإنسان إذا رُزق المال تمكّن من أن يتمتع تمتعاً كاملًا فيما يختص بالمال، بخلاف إذا ما ضُيِّقَ عليه المالُ، فإنَّه لا يستطيع أن يتمتع.

11 -

أنّ الإعراض عن ذكر الله بأمور الدُّنيا أمرٌ مذمومٌ، لأنَّ سليمان عليه الصلاة والسلام وبّخ نفسه في كونه أحب الخير وقدّمه على ذكر الله.

12 -

إثبات أن الشَّمس تجري دائماً، وليست تغيب بمعنى أنَّها تحتجب عن الأنظار في السماء، لقوله:{حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32)} .

13 -

إثبات أنّ الشَّمس هي التي تدور على الأرض في طلوعها وغروبها؛ لأنَّه أضاف الفعل إليها فقال: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32)} ولو كان الأمر كما يقول أهل الجغرافيا اليوم: إنّ الأرض هي التي تدور وتحتجب الشَّمس بسبب دورانها لقال: حتَّى توارينا بحجاب،

(1)

أخرجه البُخاريّ، كتاب الجهاد، باب الخيل معقود في نواصيها الخير (2850)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب الخيل في نواصيها الخير (1873).

ص: 157

أو حتَّى توارى بالحجاب؛ لأنَّه إذا كنت أنت الذي تدور، ومقابلك ثابت؛ فالذي يتوارى هو الدائر.

فإذا كان الله تعالى أثبت أن التواري للشمس، دل هذا على أنَّها هي التي تدور، وهذا كقوله:{وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف: 17] وهذه أربعة أفعال أضيفت كلها إلى الشَّمس.

وفي الصَّحيح عن أبي ذر رضي الله عنه أنَّه كان مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حين غربت الشَّمس، قال له:"أتدري أين تذهب؟ "، قلت: الله ورسوله أعلم، قال:"فإنَّها تسجدُ تحت العرش، فتستأذن، فإن أُذن لها وإلا قيل: فارجعي من حيث جئت، فتخرجُ من مغربها"

(1)

. هذا هو ظاهر القرآن. والواجب على المؤمن أن يتّبع ظاهرَ القرآن، لأنَّ هذا هو الطَّريق في كل شيء، كما في أسماء الله وصفاته نتبع ظاهر القرآن، وكما في الأحكام الشرعيّة نتبع ظاهر القرآن. إذا في الأمور الكونية نتبع ظاهر القرآن، لأنَّ ظاهر القرآن صدر من الخالق العليم، فهو أعلم مِن خَلْقِه بخَلْقِه، قال الله تعالى:{مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} [الكهف: 51] فإذا كان هذا صادراً من رب العالمين، يجب علينا أن نصدِّقه.

فالواجب علينا إذاً إجراء ظواهر الكتاب والسنة على ما هي عليه حتَّى يقوم لنا دليل حسي واضح يبيّن أن اللفظ ليس على

(1)

أخرجه البُخاريّ، كتاب بدء الخلق، باب صفة الشَّمس والقمر بحسبان (3199)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان (159)(250).

ص: 158

ظاهره، فلو فُرض أنَّه تبيّن تبيناً واضحاً مثل الشَّمس، أن الأرض هي التي تدور، فإننا نقول: عبّر بهذه الأفعال التي ظاهرها أن الشَّمس هي التي تدور باعتبار ما نشاهد، فتكون غربت باعتبار مشاهدتنا، لأنَّ المشاهَدَ المحسوسَ حسب الأمر الظاهر لعامة النَّاس أن الأرض ثابتةٌ والشمسُ تدور عليها، فيكون التعبير بحسب ما يشاهد النَّاس في الظاهر ولكن لا نحتاج إلى تأويل الآيات إلَّا إذا ثبت ثبوتاً حسّياً قطعياً لا إشكال فيه، لأنَّ الظاهرَ دلالتُه ظنيّة، ولا يمكن زحزحة هذه الدلالة إلَّا بدليل قطعي يكون أقوى منها.

14 -

ومن فوائد الآية: أن الأرض كروية لأنَّه لما أثبت أنَّها تتوارى بالحجاب، دلّ هذا على أن الأرض هي التي تحجبها، وهي كما نشاهد تنزل شيئًا فشيئاً حتَّى تكون في الأرض فيدل ذلك على أن الأرض كروية، وهذا أيضاً أمر مقطوع به ولا إشكال فيه، فهو ظاهر من القرآن، وظاهر في الواقع، ففي القرآن يقول الله تعالى:{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق: 1 - 4]. {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2)} وذلك يكون يوم القيامة، فقوله:{وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3)} يدل على أنَّها قبل هذا ليست ممدودة، بل هي كروية، وهذا لا يعارض قوله تعالى:{أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 17 - 20]، لأنَّ سطحها باعتبار المشاهدة، فأنت الآن إذا وقفت على الأرض تجدها مستوية إلى مد البصر.

ص: 159

15 -

ومن فوائد الآية في قوله: {رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)} : جواز التعزير بإتلاف المال، وهذه مسألة اختلف فيها الفقهاء، هل يجوز أن نعزر الإنسان بإتلاف ماله؟ أو لا يجوز؟ فمن العلماء من قال: إنَّه لا يجوز؛ لأنَّ إتلاف المال إفساد له، ويمكن أن نعزره بأخذ المال دون إتلافه. نأخذه منه وننفقه في جهة نافعة.

ومنهم من قال: بل إن ذلك جائز، واستدلوا لذلك بأن الغالّ من الغنيمة الذي يكتم ما غنم يحرَّق رحله، وهذا إتلاف له، مع أن الجيش قد يكون فيه حاجة إلى ماله، ومع هذا أُتلف، وهذا هو القول الراجح: أنَّه يجوز التعزير بإتلاف المال؛ أولاً: لدلالة السنة على ذلك. ثانياً: لأنَّ إتلافه أنكى وأعظم أثرًا؛ لأنَّه لو أُخذ وجعل في مصالح صار التنكيل خفياً، ثم قد يكون فتح باباً للولاة الظلمة إذا أرادوا المال أقاموا دعوى على شخص ما ثم قالوا: نعزره بأخذ ماله، ثم يأخذون ماله على أن يكون في بيت المال، ولكنه سيكون في جيوب هؤلاء الظلمة، فإذا قلنا: بأنه يحُرق ويُتلف أمام النَّاس، زال هذا المحظور، وبناء على ذلك إذا وجدنا مع الإنسان آلة لهو تصلح أن تستخدم في غير اللهو، وعزرناه بتكسيرها. كان ذلك سائغاً ولا نقول: حوِّلها إلى آلة غير آلة اللهو، لأن إتلافها أمام النَّاس أنكى وأشد مما لو أتلفت بإنفاقها في جهة ما.

16 -

ومن فوائد الآية: أن الإنسان لا بأس أن يعزر نفسه بإتلاف ماله بنفسه لفعل سليمان عليه الصلاة والسلام. فلو فرضنا أن الإنسان اشتغل بشيء معه عن ذكر الله تعالى وأراد أن يكسره،

ص: 160

لكان ذلك سائغاً جائزًا؛ لأنَّ هذا يؤدي إلى أن لا يعود مرّة أخرى إلى التشاغل عن ذكر الله عز وجل بشيء من المال.

17 -

ومن فوائد هذه الآية: قوة سلطان سليمان عليه الصلاة والسلام في أمره ونهيه لقوله: {رُدُّوهَا عَلَيَّ} فإن هذا يدلّ على أن له جنوداً كثيرة تأتمر بأمره، إذ لم يقل: رُدَّها، لو قال: ردَّها، لكان الخادم واحدًا، لكن لما قال:{رُدُّوهَا} دل على أن له جنوداً وخدماً كثيرون يخدموه.

18 -

ومن فوائدها: سرعة مبادرة سليمان عليه السلام في تنفيذ ما أراد من إتلاف هذا المال لقوله: {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)} .

قد يقول قائل: أليس في هذا تعذيب للحيوان إذا جعل يضرب سوقه بالسيف، فيقال: بلى، ولكن الظاهر أنَّه يعقرها أولاً، ثم يقطع عنقها ثانيًا، وهذا لا بأس به، لأنَّ الألم لا يدوم. وإنَّما خصّ السوق بالضرب، لأنَّها صافنات، والصافنة إذا رفعت حافرها بعض الشيء، صار لسوقها منظر جميل، فهو متعلَّق الرغبة، ولهذا جعل يضرب السوق، وأمَّا الأعناق فظاهر من أجل إتلافها نهائياً.

قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34)} هذه الجملة مؤكدة بثلاث مؤكدات وهي القسم المقدر، واللام المؤكدة للقسم، والثالث قد في قوله:{وَلَقَدْ} . {فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} ، أي:

ص: 161

اختبرناه، والضمير في {فَتَنَّا} يعود على الرب عز وجل، وجاء بضمير الجمع تعظيماً، لا تعديداً، لأنَّ الله سبحانه وتعالى واحد، ولكنه تارةً يعبِّر عن نفسه بلفظ الإفراد، وتارةً يعبِّر عن نفسه بلفظ الجمع، ولم يبين الله سبحانه وتعالى هذه الفتنة، لا عينها ولا نوعها، ولهذا ينبغي لنا أن نبهمَ ما أبهمه الله، ونُجمل ما أجمله، ونعلم أَنَّه إذا كان هنالك فائدة لنا في تعيين ما أبهمه لذكره، لأنَّ الله تعالى يقول:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] فكل شيء فيه مصلحة لا بد أن يبيِّنه الله عز وجل لنا، ولهذا نقول: إنّ هذه الفتنة إذا سألنا سائل: ما نوعُها، وما عيُنها؟ نقول: الله أعلم، لأنَّ الله تعالى لم يبيِّنها لنا، ولم تَرد في خبر عن معصوم، فوجب علينا أن نسكت.

وأمَّا ما ذُكر في هذا الموضع من الإسرائيليات؛ فإنَّها إسرائيليات كاذبة لا تليق بمقام النبوة، ولكن الإسرائيليون أتوا بها لأنهم لا يعتقدون أنّ داود وسليمان رسولان، بل يعتقدون أنَّهما مَلِكان، والملِك يجوز عليه كل شيء.

يقول المؤلف: [{فَتَنَّا سُلَيْمَانَ}: ابتليناه بسلب ملكه] ثم بدأ المؤلف بذكر القصة الإسرائيلية بسلب مُلكه، وذلك لتزوجه بامرأة هواها، وكانت تعبدُ الأصنام -نسألُ الله العافية-، هم جعلوا داود وسليمان كليهما عشيقين، ليس لهما همّ إلَّا النساء. وداود، -كما قالوا- أراد أن يتزوّج امرأة شخص، وكان عنده تسع وتسعون المرأة، فأراد أن يكمل المئة.

ص: 162

أما سليمان فيقول حسب القصة الكاذبة: إنَّه هَوِي امرأةً وعشقها، وكانت تعبدُ الأصنام في داره من غير علمه إذن صارت الدار دار كفر وشرك، وهذا نقطع بأنّه كذب، لأنَّه لو كان كذلك لبيَّنه الله عز وجل كما بّينه في قصَّة امرأتي نوح ولوط.

وقال: [وكان مُلكه في خاتمه، فنزعه عند إرادة الخلاء، ووضعه عند امرأته المسمّاة بالأمينة على عادته، فجاءها جنيٌّ في صورة سليمان، فأخذه منها]. ومما يدل على كذب هذه القصة قولهم: (فإذا أراد دخول الخلاء، نزعه) لماذا ينزعه؟ واسم سليمان ليس فيه لفظ الجلالة حتَّى يقول قائل: إنَّه تحرّز من الدخول بشيء فيه ذكر الله، وأيضًا يضعه عند امرأته المسماة بالأمينة على عادته. وهذا أيضاً يدلُّ على كذب القصة.

ثانياً: كيف يكون المُلك في الخاتم فقط؟

ثالثًا: إذا كان مُلكه في خاتمه فهل يمكن أن يفرِّط فيه هذا التفريط، يلقيه عند امرأة. وقد يقول قائل: إنَّها أمينة. ولكن نقول: ما هو الدليل على هذا؟ [فجاءها جنيّ في صورة سليمان، فأخذه منها] فلما أخذ الخاتم، صار سليمان بلا مُلك، لأن المُلك يتبع هذا الخاتم.

قال تعالى: {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34)} ، قال المؤلف:[هو ذلك الجني، وهو صخر أو غيره، جلس علي كرسي سليمان، وعكفت عليه الطير وغيرها، فخرج سليمان في غير هيئته، فرآه على كرسيه، وقال للنَّاس: أنا سليمان، فأنكروه]. لما جاء وجد هذا الجني المسمى بصخر أو غيره على الكرسي، فجعل يقول للنَّاس: أنا

ص: 163

سليمان، ويقولون له: لست سليمان، لأنَّ سليمان جالسٌ على كرسي المُلك، فأما أنت، فلستَ سليمان. فكيف ستكون حسرته؟ لا بد أن تكون حسرة شديدة وهذا هو القول الأوَّل.

وقال بعض العلماء: إن الله سلط شيطاناً دون أخذ الخاتم وبقطع النظر عن كون المُلك في الخاتم، وأنَّه أعطاه امرأته، وأنّ الِجنِّي جاءها، وأخذه منها، يقول الله تعالى:{وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} يعني في غيبة سليمان، لأنّ سليمان ليس دائماً على الكرسي، ولكنّ الله تعالى سلّط عليه شيطاناً، جلس على الكرسي، جعل يدبِّر شؤون الدولة، وسليمان لما جاء إلى مكان جلوسه وجده مشغولاً بهذا العفريت، وعَجَزَ عن إنزاله عن الكرسي، وعن تولِّي تدبير شؤون الدولة، فعرف أنَّه مفتون، وأن الله تعالى سلّط عليه هذا الشَّيطان ليختبره. هذا قول بعض العلماء.

وقد رُوي عن ابن عباس- رضي الله عنهما أنَّه شيطان، ولكن ابن عباس -كما هو معلوم- كان قد أخذ عن بني إسرائيل كثيرًا، وربما يكون هذا مما أخذه.

والقول الثالث: أنّ الجسد هو شقّ الولد، الذي اختبر الله تعالى به سليمان عليه السلام، حيث قال:"لأطوفنّ الليلة على تسعين امرأة تلد كل واحدة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله". حلف أن يطوف -يعني يجامع تسعين امرأة- وأنّ كل امرأة تلد غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقال له المَلَك: قل: إن شاء الله، فلم يقل اعتماداً على ما في نفسه من العزم على تنفيذ ما أراد، فنفَّذ ما أراد، وجامع تسعين

ص: 164

امرأة، ولكن ما أراده لم يتمكن منه، وهو أن تلد امرأة غلاماً يقاتل في سبيل الله، لأنَّ إرادة الله هي النافذة، فلم تحمل منهن إلَّا امرأة واحدة، فولدت شق إنسان

(1)

، لأجل أن يعرف سليمان وغيره أنّ الأمر بيد الله، وأنَّه لا يجوز أن يتألّى أحد على ربه سبحانه وتعالى.

يقول بعض المفسرين: إن هذا الولد هو الجسد، لأنَّ هذا الولد ليس كامل التدبير، نصف إنسان كيف يدبِّر؟ هذا هو الذي أُلقي على الكرسي ففتن به سليمان عليه السلام.

القول الرابع: أن قوله: {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} يعني بها سليمان نفسه، أي: ألقيناه هو نفسه على الكرسي جسداً، والجسد هو الذي لا يدبِّر، وليس عنده تفكير، أي: أن الله سلب من سليمان تفكيره الذي يدبِّر به شؤون مملكته فصار لا يحسن التدبير، ومَن لا يحسن التدبير كالجسد بلا روح، فيكون المراد بالجسد سليمان نفسه، ويكون تقدير الكلام: وألقيناه جسداً على كرسيه لا يحسن التدبير، وهذا أيضاً قريب، أن الله تعالى يسلب عن الإنسان عقله وتفكيره حتَّى يكون جسداً بلا روح، ومن المعلوم أن مملكة عظيمة كمملكة سليمان إذا فُقد منها المدبِّر سوف تتخلخل وتتزعزع.

فهذه أربعة أقوال في معنى قوله: {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34)} .

(1)

انظر "صحيح البُخاريّ"، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى:{وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ} (3424)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الاستثناء (1654)(25).

ص: 165

أما ما ذكره المؤلف فهو باطل بلا شك، وأمَّا ما ذكر من أنَّه الولد الشق فالظاهر أنَّه ضعيف. بقي عندنا قولان:

الأوَّل: أنَّه شيطان سلط على كرسي سليمان فبقي فيه، وصار يدبِّر شؤون مملكته.

والثَّاني: أنَّه سليمان نفسه سلب الله منه التفكير وتدبير شؤون المملكة فصار لا يحسن التدبير. هذان القولان محتملان، أقربهما إلى اللفظ الأوَّل، أي: أنَّه شيطان ألقي على الكرسي، لأنَّ جسداً نكرة تقتضي أن يكون الملقى غير الملقى على كرسيه، ولكن الثَّاني أقرب من حيث المعنى، أي: أن الله تعالى إذا سلب من الإنسان عقله وتفكيره وسلطته فهو بمنزلة الجسد.

وعلى كل حال هذه الفتنة التي حصلت لسليمان عليه السلام بإلقاء الجسد على كرسيه، سواء أكان هو نفسه أم شيطان جلس على الكرسي، لا شك أنَّها فتنة عظيمة، ولا يتصوّرها أحد لم تمسَّه هذه الفتنة، لأنَّ ما نسمع من المصائب والفتن وغيرها نسمعها على أنَّها تمر علينا مروراً ذهنياً، وليس هذا كالذي يباشر المصيبة والقضية نفسها.

وعلى كل حال سليمان عليه السلام لما وصل به الأمر إلى هذه الحال أناب إلى الله، لأنَّ من طبيعة الإنسان إذا أصيب بمصيبة أن يحاسب نفسه. أما قبل أن يصاب فقد يغفل، لكن إذا أصيب صار يحاسب نفسه، ورجع إلى الله، حتَّى المشركون إذا ركبوا في الفلك، وأصابتهم الأمواج التي يضرب بعضها بعضاً، يلجؤون إلى الله سبحانه وتعالى، يدعونه مخلصين له الدين أن ينجيهم. فمن طبيعة

ص: 166

الإنسان أن يعود إلى القوة التي يمكنها أن تدفع عنه المصيبة التي نزلت به، إلَّا مَن خرج عن هذه الطبيعة، وقد يخرج عن هذه الطبيعة ناس كثيرون، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76] فقد يخرج بعض النَّاس عن هذه الطبيعة الفطرية فتصيبه المصائب والنكبات والعذاب، ولكن قلبه يكون قاسياً لا يتأثر. نسأل الله العافية.

قال المؤلف: [{ثُمَّ أَنَابَ (34)} أي: رجع سليمان إلى ملكه بعد أيَّام، بأن وصل إلى الخاتم فلبسه، وجلس على كرسيه] هذا من أبعد ما يكون في التحريف لكلام الله عز وجل، والمتعيَّن أن المعنى: أناب إلى الله، أي: أنَّه عرف أن هذا الذي نزل به لأمر صدر منه، فرجع إلى الله وأناب إليه، وأحسن التوبة، وأصلح العمل.

{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)} بدأ بطلب المغفرة قبل طلب المُلك العظيم، الذي لا ينبغي لأحد من بعده، وذلك لأنَّ زوال أثر الذنوب هو الذي يحصل به المقصود، فالذنوب في الحقيقة تتراكم على القلب، وتمنعه من كثير من المصالح، فيسأل الإنسانُ التخلُّص من آثار هذه الذنوب، قبل أن يسأل ما يريد.

والمغفرة مأخوذة من المِغْفَر، وهو الذي يوضَع على الرأس، لاتِّقاء السهام في حال القتال، وهو شيء من حديد يُلبس تحت البيضة، أي: الخوذة، فهو يقي الرأس، وفي نفس الوقت يستره.

ص: 167

ولهذا نقول: إن مغفرة الذنوب سترها عن الخلق، مع التجاوز عن عقوبتها، أي: أن المغفرة جامعة لمعنيين هما: الستر والتجاوز عن الذنب، أي: أنّ الله تعالى لا يُعاقب عليه.

{وَهَبْ لِي مُلْكًا} يعني أعطني ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي، أي: لا يصلح أن يكون لأحد من بعدي. يعني مُلكاً عظيماً، لا يفكِّر فيه أحدٌ من بعدي، فغفر الله له واستجاب له.

قال المؤلف: [{مِنْ بَعْدِي} أي: سواي نحو: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية: 23] أي: سوى الله]، وليس المراد من بعدي زمناً، بل لا ينبغي لأحد في زمني أو زمن بعد زمني، ولكن المراد بـ:{من بعدي} : سواي، واستشهد لذلك بقوله:{فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية: 23] ومعلوم أنَّه لا أحد بعد الله، فالله هو الآخر الذي ليس بعده شيء، ولكن {مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} أي: من سوى الله.

والقول الثَّاني: أنّ المراد {لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} أي: ملكًا لا يغلبه عليه أحد، ويؤيد القول الأوَّل قوله عليه الصلاة والسلام حين تفلَّت عليه عفريت وهو يصلِّي، وأراد أن يمسكه وأن يربطه بسارية المسجد ليلعب به صبيان أهل المدينة، وقال:"لولا أنِّي ذكرتُ قول أحْي سليمان: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} لفعلت"

(1)

، وهذا يدلُّ على المراد {مِنْ بَعْدِي} زمناً.

(1)

أخرجه البُخاريّ، كتاب الصَّلاة، باب الأسير أو الغريم يربط في سارية المسجد (461)، ومسلم، كتاب المساجد، باب جواز لعن الشَّيطان في أثناء الصَّلاة (541).

ص: 168

والمرجَّح أنّ سليمان عليه الصلاة والسلام سأل مُلكاً عظيماً لا يكون لأحد من بعده، وبناءً عليه، فإنَّه يحصل الإشكال: لماذا تحجَّر هذا المُلك؟ قد نقول: إنّ القول الثَّاني أصح، وإنّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ترك ذلك تورُّعاً، لأنَّه خاف أن يكون مراد سليمان زمناً، فترك هذا من باب التورُّع، ولكن هذا الجواب فيه أيضاً بعض الشيء، لأنّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا فسر الآية بشيء أو أتى بشيء يقتضي تفسيرها على وجه ما، فإنَّه لا شكّ أولى من الاحتمال الآخر، وأن يكون المراد {مِنْ بَعْدِي} أي: مِن سواي، والله أعلم.

{إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)} : هذه جملة تعلقها بما قبلها، أنَّها من باب التوسل. لما سأل الله مُلكاً توسَّل إلى الله بالاسم الذي يناسب ما دعا به:{إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (أنت): يسمِّيها العلماء ضمير الفصل، وتفيد ثلاثة أشياء: التوكيد، والحصر، والتمييز أو الفصل بين الصفة والخبر.

وقوله: {الْوَهَّابُ} : صيغة مبالغة، وذلك لكثرة هِبات الله، وكثرة مَن يهبه الله، كل ما في الخلق من نعمة فهو من هبات الله، وما أكثر النِّعم على الإنسان، وما أكثر من أنعم الله عليه، ولهذا جاءت صورة المبالغة:{إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} .

قال تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36)} .

الفاء: للسببية من وجه، وللتعقيب من وجه آخر؛ أي: بسبب دعائه، وفور دعائه {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ} يعني ذللناها له، والريح: الهواء.

ص: 169

يقول الله تعالى: {تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} : تجري أي: تسير، {بِأَمْرِهِ} أي: على وفق أمره. {رُخَاءً} أي: لينة في سيرها وهبوبها، لينة في طاعتها، لا تستعصي، مثلًا: إذا كانت الرِّيح جنوباً وهو يريد أن يذهب إلى الجنوب يأمرها أن تهب شمالاً، فتهب شمالاً، فتحمله حيث أراد.

قد يقول قائل: كيف يتم الجمعِ بين قوله: {رُخَاءً} وبين قوله في آيات أخرى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 81]؟

والجواب: أنّ الجمع بينهما سهل، فهي رخاء؛ أي: ليس فيها زعزعة، وهي عاصفة؛ أي: سريعة، لأنَّ غُدوُّها شهر ورواحها شهر، يعني تمشي في الصباح، ولا يأتي زوال الشَّمس إلَّا وقد قطعت مسافة شهر. وبعد الزَّوال تمشي ولا يأتي الغروب، إلَّا وقد قطعت مسافة شهر، قال أهل العلم: إنَّه يضع على الأرض شيئًا كالبساط، ويجلس هو وحاشيته على البساط ثم يأمر الرِّيح فتحمله فيطير بين السماء والأرض، ومع ذلك هي رخاء، وكان المتبادر إلى الذهن أن مثل هذا الطيران يزعج الراكبين، على هذا البساط، ولكن الله تعالى جعلها رخاءً لينة، حتَّى كأنهم لا يطيرون، وليس فيها إزعاج، وهذا من آيات الله.

{حَيْثُ أَصَابَ} أي: حيث أراد؛ أي: الجهة التي يريد، وهذا لم يحصل لرسول غيره فيما نعلم، ولا لملك من الملوك يأمر الرِّيح فتسير به حيث أراد.

ص: 170

ثم قال: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37)} يعني سخَّرنا له الشياطين، والشياطين جمع شيطان، وهم عفاريت الجن. سخّر له {كُلَّ بَنَّاءٍ} ، يبني الأب نية العجيبة، {وَغَوَّاصٍ (37)} إن في البحر يستخرج اللؤلؤ.

{وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38)} أي: مشدودين في الأصفاد، وهي القيود، بجمع أيديهم إلى أعناقهم، سخَّر الله له الشياطين، أي: ذلّلهم له، يطيعونه، وينفذون أوامره، وقد صنفهم ورتبهم حسب قدراتهم واختصاصاتهم، منهم من يبني له البناء الشامخ العجيب، "و {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13].

والقسم الآخر: {وَغَوَّاصٍ (37)} يغوصون في البحار، يأتون له بأنواع اللؤلؤ والمرجان والدُّرر وغيرها، يأتون بكلِّ ما يريد.

وفيهم قوم مردة من الشياطين يؤدّون النَّاس، وربما يتمردون عليه ويعصونه، هؤلاء يقرنهم في الأصفاد، ويشدّ أيديهَم إلى أعناقهم، ويحبسهم في الأصفاد.

وقد يقول قائل: هل هذا من التسخير؟ نقول: نعم، هذا من التسخير. أنّ الله تعالى جعل له سلطة عليهم، فالله تعالى جعلهم يعصونه ويتمردون عليه، ويؤذون من في مملكته من أجل أن يُنزل بهم هذا العذاب؛ حتَّى يتبيَّن بذلك كمال سلطانه على هؤلاء الشياطين، لأنَّه لا يُعرف تمام السلطان إلَّا بإنزال العقوبات على المتمردين.

أما إذا كان السلطان يداهن المتمرِّدين، فإن هذا يدلُّ على ضعف السلطان، وأنّه ليس عنده قدرة على تدبير مملكته. وجعل الله تعالى

ص: 171

هؤلاء يتمرّدون على سليمان، أو يؤدّون من في مملكته؛ لأجل أن ينزل بهم بطشه، ويُعرف أَنَّه قوي، وذو سلطة، وسيطرة على هؤلاء الجن.

قال تعالى: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)} ، {هَذَا} المشار إليه ما سخَّره الله له من الرِّيح والسلطة على الشياطين.

{عَطَاؤُنَا} يعني الذي أعطيناك إياه؛ لأنَّه قال: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35] فأعطاه الله هذا العطاء، والذي فهمنا مما أعطاه تسخير الرِّيح، وتسخير الشياطين.

قال المؤلف: [{هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ} أعط منه من شئت، {أَوْ أَمْسِكْ} عن العطاء {بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)} أي: لا حساب عليك في ذلك].

أعطاه الله تعالى هذا المُلك، وقال له: أنت بالخيار، امنن على مَن شئت، وأمسك المنّة عمّن شئت، لا حساب عليك في ذلك. وهذا من التخيير المطلق في التصرف.

وقال: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)} ، لما ذكر الله ما مَنَّ على سليمان عليه السلام في الدُّنيا؛ ذكر ما منَّ عليه في الآخرة، وهو أن له عند الله مرتبة عالية في الآخرة، {لَزُلْفَى} قريبة من الله عز وجل، {وَحُسْنَ مَآبٍ (40)} أي: حسن مرجع، لأنَّ مرجعه إلى الجنَّة، التي فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

{وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى} ذكرنا فيما سبق أن العندية المضافة إلى الله تنقسم إلى قسمين: عندية علم (عندية الصفة)، وعندية قرب، كما

ص: 172

في هذه الآية. أما عندية العلم (عندية الصفة) كما في قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59] فإن هذه عندية علم (عندية صفة).

أما عندية القرب فتكون منفصلة عن الله، يكون الشيء عند الله؛ أي: قريب منه، وقوله:{لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)} الزلفى؛ أي: القربى، لأنَّ أعلى مراتب الخلق هي مراتب الأنبياء، قال الله تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69].

فوائد الآيات:

قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34)} .

1 -

من فوائد هذه الآية: أن الله قد يختبر عباده المصطفين عنده بما يشاء من اختبار، وينبغي أن نُبْهِم ما أبهمه الله تعالى، وأن لا نبحث عنه، ونتكلف ذلك كما يفعل بعض النَّاس.

2 -

ومن فوائدها: أنّ لسليمان عليه السلام كرسياً يجلس عليه كما يجلس الملوك؛ لأنّ الله جمع له بين النبوة والملك.

3 -

ومن فوائدها: أنّ الإنسان قد يُسلَب بعض النِّعم؛ إمّا جزاء على عملٍ عمله، واستحق عليه أن يُسلَب بعض النِّعم، وإما من أجل أن يترقَّى إلى درجة الصابرين، لأن الصبر درجة عالية لا تنال إلَّا بأسبابها.

ص: 173

والصبر ثلاثة أقسام:

1 -

صبر على طاعة الله.

2 -

وصبر عن معصيته.

3 -

وصبر على أقداره.

أما الصبر على طاعة الله، وعن المعصية فهو باختيار الإنسان، وأمَّا الصبر على أقدار الله، فالأقدار بغير اختياره، فقد يَبتلي الله العبد بأقدار تحتاج إلى صبر ومصابرة من أجل أن يستكمل مراتب الصبر. ومنه إلقاء الجسد على كرسي سليمان عليه الصلاة والسلام.

4 -

ومن فوائدها: أنّ الأنبياء عليهم الصَّلاة والسلام لا بد أن يرجعوا إلى الله، وينتبهوا، وهذا مستفاد من قوله تعالى:{ثُمَّ أَنَابَ (34)} بخلاف غيرهم، فإنهم قد يُبتلون بالذنوب، ولا يرجعون عنها، وهذا هو الفرق بين الأنبياء وغيرهم: أنّ الأنبياء معصومون عن الاستمرار في المعاصي، أما غيرهم، فلا.

5 -

ومن فوائدها: أنّ مسلوب التصرف والسُّلطة كأنه جسدٌ بلا روح، لقوله:{وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} ، وهذا على أحد الأقوال الأربعة التي ذكرناها.

وقال تعالى: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)} .

1 -

من فوائد هذه الآية: أن الأنبياء عليهم الصَّلاة والسلام معنيون أكثر بأمور الآخرة، ولهذا طلب من الله المغفرة قبل أن يطلب المُلك.

ص: 174

2 -

ومن فوائدها: أنّ الأنبياء عليهم الصَّلاة والسلام محتاجون إلى مغفرة الله، لقوله:{رَبِّ اغْفِرْ لِي} .

3 -

ومن فوائدها: أنهّم مربوبون، وليسوا أرباباً لقوله:{رَبِّ اغْفِرْ لِي} .

4 -

ومن فوائدها: جواز الذنوب على الأنبياء عليهم الصَّلاة

والسلام، وهذا مستفاد من قوله:{رَبِّ اغْفِرْ لِي} ، وذلك أنَّه لو لم يكن ذنب لما استغفر.

5 -

ومن فوائدها: جواز طلب الإنسان المُلك، لقوله:{وَهَبْ لِي مُلْكًا} ، ولكن يشترط في ذلك أن يكون لدى الإنسان استعداد للقيام بما سأل، أما أن يقول: رب هب لي ملكًا، وبِنِيَّتِه أن يضيِّعه؛ فإن هذا لا يجوز.

وقد اختلف أهل العلم في جواز سؤال الإمارة، هل يجوز للإنسان أن يسأل الإمارة أو القضاء أو ما أشبهها من الولايات؟ ! منهم مَن قال: إنّ ذلك جائز، ومنهم مَن قال: إنَّه محرَّم، ومنهم من فصَّل.

أمّا مَن قال: إنَّه جائز، فاستدلوا بقصة يوسف، حيث قال لملك مصر:{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] فسأل الولاية، وشرعُ مَن قبلنا شرعٌ لنا، ما لم يرد في شرعنا ما يخالفه.

ص: 175

كما استدلوا بحديث عثمان بن أبي العاص حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعلني إمام قومي. قال: "أنت إمامُهم"

(1)

.

أمّا مَن منع ذلك، فاستدل بحديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه أنّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له:"لا تسأل الإمارة، فإنّك إن أعطيتَها عن مسألة وُكلت إليها، وإن أُعطيتها من غير مسألة، أُعِنت عليها"

(2)

.

فنهاه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يسأل الإمارة، وبين له السبب؛ أنّ مَن أُعطيها عن مسألة، وُكِلَ إليها، ولم يعنه الله، ومَن أتته من دون مسألة، أعانه الله عليها.

واستدلوا أيضاً بأن رجلًا طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون عاملًا، فقال:"إنا لا نوليِّ هذا الأمر أحدًا سأله"

(3)

. وهذا يدلُّ على أَنَّه لا يسأل، وأنّ مَن سأل، فليس أهلًا لأن يولَّى.

وفصَّل آخرون، فقالوا: إنْ سألها لإصلاح ما فسد منها، فإن ذلك جائز، إذا علم مِن نفسه القدرة، وإلا فلا يجوز، لأنَّ السلامة للإنسان أسلم.

وهذا القول التفصيلي هو الصَّحيح، لأنَّ به تجتمع الأدلة، فإن الإنسان، مثلًا، إذا رأى ولايةً قام عليها شخص ليس أهلاً لها، إمّا

(1)

أخرجه أبو داود، كتاب الصَّلاة، باب أخذ الأجرة على التأذين (531)، والنَّسائيُّ، كتاب الأذان، باب اتخاذ المؤذِّن الذي لا يأخذ على أذانه أجرًا 2/ 23 (671).

(2)

أخرجه البُخاريّ، كتاب الأيمان والنذور، باب قول الله تعالى من {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (6622)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب ندب من حلف يميناً (1652).

(3)

أخرجه البُخاريّ، كتاب الأحكام، باب ما يكره من الحرص على الإمارة (7149).

ص: 176

في دينه، أو أمانته، وتصرفه، وهو يعلمُ من نفسه القدرة على القيام بها على أحسن حال، أو على الأقل بوجه أحسن مما كانت عليه، فلا بأس أن يسألها، لأنّ غرضه بذلك غرضٌ عملي وإصلاحي وليس غرضه شخصياً.

أمّا إذا لم يكن هنالك سبب، أو يعرف الإنسان من نفسه أَنَّه ضعيف لا يستطيع القيام به، فلا يسأل، ولا يجوز أن يسأل.

6 -

ومن فوائد هذه الآية: الثّناء على الله تعالى بأنه وهّاب يُعطي العطاء الكثير لقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)} .

7 -

ومن فوائدها: التوسُّل إلى الله تعالى بالاسم المناسب لما يدعو به لأنَّ قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)} يناسب قوله: {وَهَبْ لِي} وهذا هو أحد معاني قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] فإن أحد معانيها أن تجعلها وسيلةً لما تدعو به، فإن أردتَ أن تسأل المغفرة تقول: يا غفور، أو الرحمة فتقول: يا رحيم

وهكذا.

ثم قال تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36)} .

1 -

من فوائد هذه الآية: بيان قدرة الله عز وجل، وكمال سلطانه، حيث سخّر الرِّيح وذلَّلها.

2 -

ومن فوائدها: عموم سلطان الله عز وجل على الجماد والحي وغير ذلك؛ لأنَّه أمر الرِّيح، وهي جماد، فامتثلت.

3 -

ومن فوائدها: أنّ الله تعالى قد يسخِّر شيئًا من الكون لعبدٍ من عباده، كما سخَّر الرِّيح لسليمان عليه السلام، فإنَّه من الجائز أن يسخِّرها لغيره، إذا دُعي.

ص: 177

4 -

ومن فوائد هذه الآية: أن الرياح لها شعور واختيار، لقوله تعالى:{تَجْرِي بِأَمْرِهِ} لأنَّه إذا كان يأمرها وتشعر بالأمر، ثم تمتثل، فهو دليلٌ أن لها شعوراً ولها إرادة.

وهكذا كل شيء في الكون له شعور، وله إرادة، بحسب ما يليق به؛ لقول الله تعالى:{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [الإسراء: 44] ولا تسبيح إلَّا بإرادة، ولا تسبيح إلَّا بشعور بعظمة المسبَّح. ومن هنا نردُّ على مَن قالوا: إنّ المراد بقوله تعالى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77] أَنَّه مجاز، لأنّنا نقول لهم: ما الذي يمنع من إرادة الجدار؟ هو له إرادة، ولكن ليست كإرادة البشر، أو إرادة الحيوان المتحرك الذي يتحرك بإرادة، لكن الجدار له إرادة وهو ساكن لا يتحرك.

5 -

ومن فوائدها: أنّ هذه الرِّيح المسخَّرة تجري بسهولة ولين، وليس بعصفٍ مقلق، كما هي عادة الرياح، إنَّما هي رُخاء ولينة سهلة، كأنهّم على سطح.

6 -

ومن فوائدها: أن مَن ترك شيئًا لله، عوَّضه الله شيئًا خيراً منه؛ لأن كثيرًا من المفسرين جعلوا تسخير الرِّيح لسليمان عليه الصلاة والسلام، تنقله حيث يشاء، عوضًا عن الخيل التي أتلفها غضباً لله عز وجل، حينما ألهته عن ذكر الله.

وهذا قد يكون حقيقة، أنّ هذا الذي أعطاه الله تعالى من تسخير الرِّيح، كان جزاء له على فعله بالخيل. ولا شكّ أن مَن ترك شيئًا

ص: 178

لله، عوّضه الله خيراً منه، وهذا يقع كثيرًا في مسائل عديدة. وإن أردتَ أن تطبِّق هذا على نفسك، فجرِّب.

7 -

ومن فوائدها: أنّ هذه الرِّيح تتجه حيث أراد سليمان عليه الصلاة والسلام، ولو كانت في الأصل على وجهٍ آخر بمعنى أنَّه إذا كانت الرِّيح جنوبية، وأراد أن يذهب بها إلى الجنوب، فإنَّه يأمرها أن تكون شمالية، لتحمله إلى الجنوب.

ثم قال تعالى: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37)} .

1 -

من فوائد هذه الآية: بيان ما بسط الله لسليمان عليه الصلاة والسلام من السلطان، حيث كانت الشياطين المؤذية لبني آدم مسخَّرة له على هذا الوجه العظيم، وعلى هذا التقسيم.

2 -

ومن فوائدها: حُسن تدبير سليمان عليه الصلاة والسلام؛ حيث وزَّع هذا الجند من الشياطين حسب ما يليق بهم؛ فمنهم البنَّاء، ومنهم الغوَّاص.

3 -

ومن فوائدها: جواز تفخيم الأبنية وتكثيرها، والبناء الذي تبنيه الشياطين لا بد أن يكون فخماً محُكماً، ولكن هل يقال: إنّ هذا كان في شريعة سليمان؛ لأنَّه مَلِك يحتاج إلى أبهّة وعَظَمة، وإظهار قوة، وإظهار غنى، وإظهار سلطة، أم أنَّها عامة؟

أما أنها عامة للناس فلا. ولهذا جاءت شريعتنا بذمِّ مَن يجعل ماله في البناء. وربما يقال: إنَّه يفرَّق بين المَلِك السلطان وبين غيره، لأن إظهار المَلِك السلطان نفسه بمظهر العظمة أمام أعدائه؛ لا شك أن ذلك أمرٌ مطلوب.

ص: 179

ويُذكر أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وكان أميراً على الشَّام، في إمارة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان معاوية إذا أتى الإنسان إليه يجد حُجاباً وحرّاساً وشيئاً من الأبهة، وإذا جاء إلى الخليفة الذي فوقه، يجد أمراً بخلاف ذلك، يجد رداءً مرقعاً، وشخصاً ينام في المسجد، يكوِّم كتلةً من الرمل والحصباء ويتوسَّدها وليس بين يديه حاجب، ولا حوله جنود، فيتعجب كيف أمير هذا الرجل بهذه الأبَّهة؟ وهذا الخليفة الذي فوقه بهذا التواضع؟ !

أجاب العلماء عن ذلك بأنّ معاوية رضي الله عنه كان في بلاد الشَّام، وكانوا لا يخضعون لأمرائهم وسلاطينهم إلَّا إذا كانوا أمامهم على وجهٍ فيه أبهَّة وعَظَمة، فرأى معاوية أَنَّه من المناسب للحال أن يكوِّن نفسَه هذا التكوين، وليس قصده أن يتعاظم

(1)

، والدليل على هذا أَنَّه لما أتاه كتاب عمر رضي الله عنه، وأَظنُّه في كِسرْة عظم، في قصَّة اليهودي الذي أدخل معاوية بيته في بيت المال، بعد أن أُعطي عنه عِوَضاً كثيرًا؛ فرأى أنّ ذلك ظلم، فركب إلى عمر في المدينة يشكو معاوية، يقول: إنّ معاوية غصبني، وأخذ بيتي، وأدخله في بيت المال، فكتب عمر إلى معاوية يأمره بأن يرد عليه بيته، فلما جاءه الكتاب، أخذه معاوية ووضعه على رأسه تعظيماً للكتاب، وقال لليهودي: الآن افعل ما تشاء، تُريد أن نعيد إليك بيتك ونبنيه بأحسن ما تريد، أو تأخذ القيمة؟ فلما رأى هذا الأمر انبهر؛ كيف أن معاوية يفعل في كتاب عمر هذا الفعل، فشهد أن لا إله إلَّا الله

(1)

انظر "سير أعلام النبلاء" 3/ 133.

ص: 180

وأنّ محمدًا رسول الله، وقال: بيتي لبيت مال المسلمين، لما رأى العدل، انبهر وأسلم.

ونقول: قد يكون سليمان عليه السلام أراد بهذا العمل أن يُظهر قوة سلطانه وعظمته أمام أعدائه، وأن يفصَّل بين ما يكون فيه غرضٌ مقصود وبين ما ليس فيه غرض، والإنسان بشكل عامٍّ لا يشرع له أن يُذهب ماله ببناء القصور وتفخيمها. أما ذو السلطة الذي يريد أن يُظهر سلطته ليكون مهيباً أمام النَّاس حتَّى يتم له الأمر؛ لا حرج عليه في هذا.

قال تعالى: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)} .

1 -

من فوائد هذه الآيات: كمال ملك سليمان عليه السلام وسلطانه وتنظيمه لعمله وعمّاله، حيث جعل لكل طائفة ما يختص بها من العمل، فمنهم البنّاء، ومنهم الغوّاص. ومن تمام سلطانه؛ أن العاصي منهم والمتمرد قد صفده وقرنه مما يدل على عقوبة هؤلاء المخالفين.

2 -

ومن فوائدها: جواز التعزير بمثل هذا العمل؛ أي: بالشد والغلّ، وذلك لأنَّ التعزير لا يختصُّ بعقوبةٍ معينة، لأنّ المقصود به الإصلاح، فأي عقوبة كان بها الإصلاح، فهي الواجبة.

وقد يكون التعزير بالضرب وبالحبس وبالحرمان من بعض الحقوق، وبالتغريم المالي، وبالتوبيخ أمام النَّاس، والتعزير يُقْصَد به الإصلاح، فأي طريق يُقْصَد به الإصلاح كان به التعزير.

ص: 181

3 -

ومن فوائدها: أن الله تعالى أباح لسليمان العطاء والإمساك كما يشاء، بدون أن يحاسبه على اختياره، ولكنّا نعلم أنّ سليمان لن يتجرأ على الإعطاء في معصية الله، ولا الإمساك عما أوجب الله، لأنَّه نبيٌّ من الأنبياء لا يُقر على خطأ، وتكون الإباحة له هنا في الأشياء التي يُباح له فعلها أو تركها، ويكون هذا من باب التوسعة الصريحة له أن يُمسك أو يعطي.

4 -

ومن فوائدها: أن الله لما ذكر بأنّه أنعم عليه في هذه الدُّنيا، وكان الواهم قد يتوهّم أن ذلك ينقص من ثوابه يوم القيامة؛ بين أنّ ثوابه في الآخرة لا ينقص بهذا العطاء الذي أعطاه له في الدُّنيا، فقال تعالى:{وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)} .

5 -

ومن فوائد هذه الآية: أنّ النَّاس يختلفون في القرب من الله تعالى لقوله: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)} . وأقربهم من الله جواراً يوم القيامة أقربهم من عبادته في الدُّنيا، فكلما كان الإنسان في الدُّنيا أقوم بطاعة الله، وأقرب إلى الله؛ كان في الآخرة كذلك، لأنّ الجزاء من جنس العمل.

6 -

ومن فوائدها: أنَّه ينبغي للإنسان أن ينظر إلى مآبه ومآله، هل هو حسن أو سيئ، حتَّى إذا كان سيئاً سعى في إصلاحه، وإن كان حسناً حمد الله وازداد من فضله.

* * *

ص: 182

قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41)} . الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن يكون موجهاً لكل من يتأتى خطابه من البشر، وقوله:{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا} أعاد الفعل {وَاذْكُرْ} مع أَنَّه في قصَّة سليمان لم يعده بل قال: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ} [ص: 30] ولم يقل: (اذكر). قال بعض العلماء: لأنَّ سليمان بن داود فقصتهما متقاربة، وكأنما هي قصَّة نبي واحد، أما أيوب فهو منفصل عنهما، {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ} والمراد بالعبد هنا المتذلل لطاعة الله، وهذه العبودية من عبودية أخص الخاصة، لأنَّها عبودية الرسالة.

وقوله: {أَيُّوبَ} : عطف بيان أو بدل من {عَبْدَنَا} .

{إِذْ نَادَى رَبَّهُ} : إذ: متعلقة بـ {وَاذْكُرْ} ويجوز أن تتعلق بمحذوف حالًا من عبد، يعني في حال نداء ربه، {إِذْ نَادَى رَبَّهُ} أي: دعاه بصوت مرتفع، لأنَّ النداء يكون بالصوت المرتفع، والمناجاة تكون بالصوت المنخفض، قال تعالى:{وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52]، {إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ} [أي: بأني {مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ} ] قدَّر المؤلف الباء هنا لأن همزة (أن) مفتوحة، والقاعدة: أن همزة (أن) تكون مكسورة إذا جاءت بعد القول، كما في قوله تعالى:{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم: 30] ولكنها هنا مفتوحة، فقدر المؤلف الباء، لأنَّه إذا قدرنا الباء صارت تُسْبَك هي وما بعدها بمصدر، وإذا سبكت (أن) وما بعدها بمصدر، صارت مفتوحة الهمزة، كما قال ابن مالك:

وهَمْزَ إنَّ افْتَحْ لِسَدِّ مصدَرِ

مَسَدَّها وفي سِوى ذاكَ اكْسِرِ

ص: 183

و {مَسَّنِيَ} يعني أصابني، و {الشَّيْطَانُ} هو شيطان الجن.

وكان الشَّيطان قد آذاه. ولكن هل هو إيذاء نفسي بأن ألقى في قلبه الوساوس التي أنهكت بدنه، أو أنَّه إيذاء حسّى كما قال بعضهم: إنّ الشَّيطان نَفَث في جسده، حتَّى أصبح جسده كله جدري يعني حبوباً ضارة، فالله أعلم؛ يُحتمل هذا وهذا.

قوله: {مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41)} النصب يعني الضرر، والعذاب يعني الألم.

يقول المؤلف: [ونسبَ ذلك إلى الشَّيطان، وإن كانت الأشياء كلُّها من الله تعالى، تأدباً معه تعالى] نسب ذلك إلى الشَّيطان، لأنَّه السبب، وإلا فالأمر كله بقدر الله، والله تعالى بحكمته سلّط عليه الشَّيطان، ولكن تسلطه كان بقضاء الله وقدره. وأقول: نسبه إلى الشَّيطان، لأنَّه هو المباشر للعلة، وهو سبب لا شك، ولكنه سبب مباشر. وفي الحقيقة أنّ الشَّيطان إنَّما سُلِّط عليه بقضاء الله وقدره. والمؤلف يرى أَنَّه نَسبَ إلى الشَّيطان تأدُّباً، وإلا فالأصل نسبته إلى الله، فهو كقوله تعالى:{وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10] فالجن قالوا: {أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ} ، ومعلوم أنّ مُريد الشر هو الله عز وجل لحكمة، {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} ، فهم حذفوا الفاعل تأدباً مع الله عز وجل؛ لأنّ الشر ليس إليه.

على كلّ حالٍ الشَّيطان هو الذي مسَّ أيوب، ومسَّه إمَّا أن يكون مساً نفسياً أو حسياً.

ص: 184

ولما نادى ربه عز وجل، وتضرع إليه، وعلم أن لا ملجأ من الله إلَّا إليه، وبعد أن تفرغ قلبه من كل شيء سوى الله، جاءه الفرج فقيل له: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ

} أي: اضرب برجلك الأرض، فضرب الأرض بها فنبع منها الماء بإذن الله، ولم يحتج إلى حفار ولا إلى أحد يساعده. بل ضرب الأرض برجله ضربة واحدة فنبع الماء، والله على كل شيء قدير، وهذه إحدى الضربات التي نبع بها الماء على أنَّه آية من آيات الله.

والثانية: موسى ضرب الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً.

والثالثة: جبريل ضرب بجناحيه مكان زمزم، فنبع الماء، والله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير.

قال المؤلف رحمه الله: [فنبعت عين ماء فقيل له: {هَذَا مُغْتَسَلٌ} أي: ماء تغتسل به {بَارِدٌ وَشَرَابٌ} أي: تشرب منه، فاغتسل وشرب فذهب عنه كل داء كان بباطنه وظاهره] أي: أبيح له أن يغتسل ويشرب من الماء الذي نبع من الأرض، والغالب أن الماء النابع من الأرض يكون ساخناً، ولكن هذا بارد، فشرب منه واغتسل به، فذهب عنه كل داء كان في باطنه وظاهره بقدرة الله عز وجل وإرادته.

ثم قال الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} .

قال المؤلف: [أحيا الله له مَن مات من أولاده، ورزقه مثلهم]. فجعل المؤلف الهبة بمعنى الإحياء، ولكن هذا فيه نظر، لأنّ الإحياء يحتاج إلى ثبوت الإماتة من قبله، وليس في الآية ما يدلّ على هذا، بل

ص: 185

إن الله تعالى وهب له أهله حيث أووا إليه بعد أن شردوا منه، لأنَّ الرجل بسبب مرضه الحسي البدني أو النفسي، شرد منه أهلُه، وعجزوا عن أن يعيشوا معه، ولما عافاه الله، أوى إليه أهله، فتكون هذه الهبة إعادة ما سبق، كما سمّى عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه إعادة قيام رمضان جماعة سماها بدعة، وهي ليست بدعة في الواقع، وهذه هبة مع أنَّها ليست هبة، ولكنها إعادة موهوب شرد.

وأمَّا القول بإحيائهم بعد إماتتهم فهذا يحتاج إلى ثبوت الإماتة من قبل، ولكن الصَّحيح أنَّه لم تثبت الإماتة ولا الإحياء، وإنَّما هذه الهبة إعادة موهوب سابق، لأنهم نفروا منه، وشردوا عنه.

وقوله: {وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} نقول: إن الله رزقه أولاداً جدداً؛ لأنّ زوجته رجعت، وصلحت حاله، وصار ينجب، فبارك الله له في ولده.

ثم قال تعالى: {رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43)} . {رَحْمَةً} قال المؤلف: [نعمة، {وَذِكْرَى} موعظة] قوله: {رَحْمَةً} إن كان عائدًا على الأهل ومَن وُهب له من جديد؛ فهي رحمة مخلوقاً، والرحمة قد تطلق على المخلوق، كما قال الله تبارك وتعالى:"أنت رحمتي أرحم بك مَن أشاء"

(1)

ولذلك فإن تفسير المؤلف للرحمة بالنعمة تفسير صحيح؛ إذا جعلنا الرحمة هنا عائدة على الأهل والأولاد {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} فإنّ تفسيره صحيح؛ لأنَّ الرحمة مخلوقة.

(1)

أخرجه البُخاريّ، كتاب التفسير، باب {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30] (4850)، ومسلم، كتاب الجنَّة، باب النَّار يدخلها الجبارون (2846).

ص: 186

وإن أريد بالرحمة صفة الله عز وجل؛ يعني: أن هذا من رحمتنا؛ أي: ناشئ عن رحمة الله، فالرحمة هنا غير مخلوقة؛ لأنّ صفات الله سبحانه وتعالى غير مخلوقة.

إذا كلام المؤلف لا يمكن أن يُخطَّأ على الإطلاق؛ حيث فسر الرحمة بالنعمة، ومعلوم أنّ الأشاعرة يفسرون رحمة الله بالنعمة والإحسان، ولا يرون أن لله رحمة هي صفته، فكلام المؤلف لا ينتقد من كل وجه لاحتمال أن يكون المراد بالرحمة ما وهب الله له من الأهل ومثلهم معهم، يعني أراد بها الموهوب، والموهوب لا شك أنَّه مخلوق، أما إذا أردنا أن نفسر قوله:{رَحْمَةً مِنَّا} برحمة من عندنا، أي: الرحمة التي هي صفة الله عز وجل، أي: أن هذا ناشئ من رحمتنا، الرحمة التي نحن متصفون بها، فإن تفسير المؤلف هنا ليس صحيحًا؛ لأنَّ الرحمة هنا تكون صفة من صفات الله، وليست بمعنى نعمة يعني خلقاً بائناً عن الله عز وجل.

قوله: {رَحْمَةً} تُعرب مفعول لأجله، وهذه علة سابقة، والعلل قسمان: علل غائية منتظرة، وعلل سابقة موجبة، فمثلًا إذا غضب الإنسان وضرب ولده، الضرب هنا من الغضب، لأنَّ العلة سابقة موجبة. أما إذا سافر الإنسان ليتَّجر، فهنا العلة غائية لاحقة.

{رَحْمَةً مِنَّا} ، {مِنَّا} يعني نفسه تبارك وتعالى، وأتى بصيغة الجمع، تعظيماً لله عز وجل. والغريب أن الجمع من الألفاظ المتشابهة التي استدل بها النصراني على تعدُّد الآلهة، لأنَّ النصراني

ص: 187

يقول: إنّ الله ثالثُ ثلاثة، ليس إلهاً واحدًا، ويقول عندي دليل: خلقنا، أنزلنا، من لدنا، منا، عندنا، كل هذه تدل على الجمع، فنقول له: إنّ في قلبك لزيغاً، لأنك اتبعت المتشابه، {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: 7]، ما الذي أعمى بصيرتك عن قول الله تعالى:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163]؟ هذا محكم، والإتيان بصيغة الجمع للتعظيم أمرٌ وارد في اللُّغة العربيَّة، حتَّى النَّاس أنفسهم وهم بشر -لا يستحقون من العظمة ما يستحقه الخالق- يعبرون عن أنفسهم بصيغة الجمع تعظيماً لأنفسهم.

{رَحْمَةً مِنَّا} أي: من عند الله، {وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43)} أي: عظة لأصحاب العقول، {رَحْمَةً مِنَّا} هذه خاصة بأيوب وأهله، {وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43)} عامة، يتذكر بها أصحاب العقول، يتذكرون بأنّ المصائب تكون على الرسل وعلى غيرهم، وبأنّ الشَّيطان يمكن أن يسلّط على الرسول، ويتذكرون بها أن الإنسان إذا لجأ إلى ربه، ودعا ربه، فإن الله يجيبه، ويتذكرون بها أَنَّه كلما اشتد الكرب، قرُب الفرج، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اعلموا أنّ النصر مع الصبر، وأنّ الفرج مع الكرب، وأنّ مع العسر يسراً"

(1)

. وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، يعني قريب من هذه الحال التي

(1)

أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 5/ 18 - 19 (2803)، والبيهقيّ في "شعب الإيمان"(1074).

ص: 188

وصلت بالرسل إلى أن يقولوا: متى نصر الله؟ يعني يطلبونه شوقاً، لا استبعاداً، كأنهم يقولون: يا ربّ عجّل لنا بالنصر، فقال الله تعالى:{أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)} .

إذا ذكرى لأولي الألباب فيما يلي:

أولاً: أنّ البلاء يشمل الأنبياء.

ثانياً: أنّ الشَّيطان قد يسلّط على الأنبياء.

ثالثًا: أنّ الله تعالى يجيب دعوة المضطرين إليه، إذا صدق الإنسان في دعوته.

رابعاً: أنَّه كلما اشتدت الأمور؛ فانتظر الفرج، فهذا أيوب لما اشتد به الأمر، ولجأ إلى الله، أجاب الله تعالى دعاءَه.

خامساً: زوال كرب النَّبيُّ أيوب عليه السلام كان على يده، لأنَّ الله تعالى لم يُنزل شفاءً دون سبب ظاهر، بل بسبب هو الذي يباشره. قيل له:{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} فضرب برجله فخرج الدواء، وقيل له:{هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42)} فاغتسل فعالج نفسه إذًا هو الذي استخرج الدواء، وباشر العلاج، وكان علاجه على يده باستخراج الدواء واستعماله.

قال تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} ، قال المؤلف:[{ضِغْثًا} هو حزمة من حشيش أو قضبان {فَاضْرِبْ بِهِ} زوجتك، وكان قد حلف ليضربنَّها مئة ضربة لإبطائها عليه يومًا {وَلَا تَحْنَثْ} بترك ضربها، فأخذ مئة عود من الإذخر أو غيره، فضرب بها ضربةً واحدة].

ص: 189

وهذه الفتوى من الله عز وجل لأيوب، أفتاه بها تسهيلاً عليه وعلى أهله. وقد أشرنا قبل قليل أنَّه لما أصيب بهذه المصيبة مِن قِبل الشَّيطان، مصيبة نفسية ومصيبة بدنية ظاهرة شرد أهله، ومن ضمنهم زوجته التي كان ينبغي أن تبقى معه على السراء والضراء، فحلف أن يضربها مئة ضربة؛ لأنَّها أغضبته وتركته. فلما شفاه الله عز وجل من المرض وجب عليه أن يفي بيمينه فيضرب زوجته مئة ضربة. والمئة ضربة قد يكون فيها شيء من الاشمئزاز بالنسبة لزوجته، ومن الإحراج بالنسبة له؛ فأفتاه الله تعالى هذه الفتوى {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} فيه مئة شمراخ، واضربها به مرَّة واحدة، تكفي عن مئة ضربة، فأخذ بيده ضغثاً وضربها به ضربةً واحدةً، فصار ذلك براً بيمينه، ولهذا قال:{فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} ، ومفعول {فَاضْرِبْ} محذوف وحذف -والعلم عند الله- للستر، لأنَّه ليس في القرآن أمر بضرب الزوجة، ولكنه جاء في القصص المعروفة عن بني إسرائيل. وليس المقصود أن نعرف عين المضروب، ولكن المقصود أنّ الضرب الذي كان قد حلف عليه؛ يحصل بأخذ هذا الضغث والضرب به.

وقوله تعالى: {وَلَا تَحْنَثْ} أصل الحنث: الإثم، كما قال تعالى:{وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 46] يعني على الإثم العظيم. والمراد به هنا أن لا يبر بيمينَّه، وعدم البر باليمين أن يترك ما حلف على فعله، أو يفعل ما حلف على تركه، وهذا هو الحنث.

على سبيل المثال: حلف ليشترينَّ كتاباً قال: والله لأشترين كتاباً ولم يشتِر، حنث بترك ما حلف على فعله. أو حلف أن لا يبيع

ص: 190

الكتاب قال: والله لا أبيع الكتاب وباعه، حنث بفعل ما حلف على تركه، أو حلف ليشترينَّ هذا الكتاب، فاشتراه، فهذا برّ بيمينه، أو حلف ألا يبيع هذا الكتاب، فلم يبعه؛ برّ بيمينه، إذا موافقة اليمين برّ، ومخالفتها حنث.

قال أهل العلم: يُؤخذ من هذا أنّ عدم إبرار اليمين مكروه إلى الله تعالى، لأنَّه يسمى حنثاً، ولكن من نعم الله أنه رخّص لعباده بفعله، ولكن إذا فعلوه كفّروا بكفارة عن الحنث، لأنَّه لو كانت الكفارة عن اليمين لكان كل من يحلف يكفّر، لكنها عن الحنث، لأنّ الأصل الإثم في مخالفة اليمين. ولكن من رحمة الله عز وجل أن رخّص لنا الحنث وأن نكفّر عنه، ولهذا قال:{فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} .

ثم قال: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} أي: وجدنا أيوب عليه الصلاة والسلام، يعني ألفيناه صابراً، و (وجدَ) فعل ينصب مفعولين: الأوَّل: (الهاء) في قوله: {وَجَدْنَاهُ} ، والثاني:{صَابِرًا}

وصبر أيوب عليه الصلاة والسلام كان صبراً على قدر الله، وهذا ظاهر؛ لأنَّه صبر على ما مسه من الشَّيطان، وكان صبراً عن معصية الله، لأنَّه لم يجزع ولم يسخط، وكان صبراً على طاعة الله، لأنَّه لجأ إلى الله، ودعا الله عز وجل فأجابه. وأحياناً يكون الدواء بالدعاء أنجع بكثير من الدواء الحسي المادي، وفيما سبق إذا تعسرت الولادة، يؤتى إلى شخص، ويطلب منه أن يقرأ للحامل عند تعسُّر الولادة،

ص: 191

فيقرأ في ماء، ويذهبون به ويمسحون به ما حول المنطقة، وتشرب منه الحامل، فتضع بدون ألم، وهذا شيء مجرّب ومشاهَد، وهذا أهون بكثير من المعالجة بالأدوية الحسية المادية، فهو عليه الصلاة والسلام لجأ إلى الله، وطلب الشفاء منه، وهذا صبرٌ على طاعة الله، فحصل له أنواع الصبر كلها.

ثم قال تعالى: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)} . صبر أيوب عليه السلام هذا الصبر العظيم على المرض وفقد الأولاد وفقد الأهل، ومع ذلك لم ينس الله عز وجل، لجأ إليه عند الشدائد.

وقوله: {نِعْمَ الْعَبْدُ} نعم: فعل ماضٍ جامد لإنشاء المدح، والعبد: فاعل. وهذا الفعل وشبهه، يحتاج إلى شيئين: إلى فاعل ومخصوص بالمدح، فإن تقدَّم ما يدل على المخصوص، اُستغني بما تقدَّم، وإلا فإنَّه يقدّر، وإن كان ظاهراً، فظاهر، فمثلًا هنا {نِعْمَ الْعَبْدُ} السياق يدلُّ على المخصوص، وحينئذٍ لا حاجة إلى تقديره، لأنَّه من المعروف أنّ العبد هو أيوب، فلا حاجة إلى التقدير. ولكن بعض النَّحويين يقدر ولو عُلِم، لأنَّه يرى أَنَّه لا بد من ذكر الفاعل والمخصوص. فيقول المؤلف:[{نِعْمَ الْعَبْدُ} أيوب] أيوب هو المخصوص، والعبد فاعل.

{إِنَّهُ أَوَّابٌ} هذه جملة استئنافية تعليلية، تعليلاً للثناء على أيوب أَنَّه نعم العبد، لأنَّه كان {أَوَّابٌ} أي: رجّاع إلى الله عز وجل.

ص: 192

فوائد الآيات:

1 -

في هذه الآيات الثّناء على أيوب عليه الصلاة والسلام بما ذُكر من أوصاف، وفيها الإشارة بمناقبه، حيث أمر الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يذكرَ عبده أيوب.

2 -

ومن فوائدها: بيان أنّ الأنبياء عليهم الصَّلاة والسلام لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً لقوله تعالى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ} .

3 -

بيان صدق لجوء الأنبياء عليهم الصَّلاة والسلام إلى الله تعالى في كونهم يفزعون إليه عند الشدائد لقوله: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41)} .

4 -

ومن فوائدها: جواز إضافة الأشياء إلى أسبابها، لأنَّ أيوب عليه السلام أضاف هذا الضر إلى الشَّيطان لأنَّه سببه.

5 -

ومن فوائدها: جواز التوسُّل إلى الله تعالى بحال العبد، لأنّ أيوب عليه الصلاة والسلام توسّل إلى الله تعالى بحاله؛ وهو أنَّه مسّه الشَّيطان بنُصب وعذاب. ونظير هذا قول موسى:{رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] فتوسّل إلى الله تعالى بذكر حاله وأنّه فقير إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا أحد أنواع التوسُّل الجائز.

ويحسن هنا ذكر أنواع التوسل وهي:

أولاً: التوسُّل إلى الله تعالى بأسمائه.

ثانياً: التوسُّل إلى الله تعالى بصفاته.

ص: 193

ثالثًا: التوسُّل إلى الله تعالى بأفعاله.

رابعاً: التوسُّل إلى الله تعالى بذكر حال الداعي.

خامساً: التوسُّل إلى الله تعالى بدعاء مَن ترجى إجابته.

سادساً: التوسُّل إلى الله تعالى بالإيمان.

سابعاً: التوسُّل إلى الله تعالى بالعمل الصالح.

كل هذه الأنواع من التوسُّل جائزة.

فالتوسُّل إلى الله بأسمائه مثل أن تقول: اللهم يا غفور اغفر لي.

والتوسُّل إلى الله بصفاته مثل قولك: اللَّهم برحمتك أستغيث، اللَّهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، أحيني إذا علمت الحياة خيراً لي.

والتوسُّل إلى الله بأفعاله مثل: اللَّهم صلِّ على محمَّد وعلى آل محمَّد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم.

والتوسُّل إلى الله بذكر حال الداعي: كما في هذه الآية: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41)} .

والتوسُّل إلى الله تعالى بدعاء مَن تُرجَى إجابته: كتوسل الصّحابة بدعاء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.

والتوسُّل إلى الله تعالى بالإيمان مثل قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران: 193].

ص: 194

والتوسُّل إلى الله بالعمل الصالح: كقصة الثلاثة الذين لجؤوا إلى الغار، فانطبقت عليهم الصخرة، فتوسَّل كل منهم بعمله الصالح

(1)

.

أما التوسُّل الممنوع: فهو التوسل إلى الله تعالى بما لم يجعله وسيلة، لا شرعًا ولا قدراً، وهذا التوسل محرّم. وهو نوع من الاستهزاء بالله عز وجل، كأنَ الإنسان يتقدَّم بشيء يجعله وسيلة، وهو ليس بوسيلة، فكأنّه يستجهل الله عز وجل.

6 -

ومن الفوائد: بيان إجابة الله عز وجل للدعاء، وهو دليل على منته على عباده لقوله تعالى:{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} .

7 -

بيان قدرة الله عز وجل حيث أنبع الماء من ضرب الرِّجل.

8 -

إثبات الأسباب لقوله تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} ولو شاء الله تعالىٍ لأنبع له الماء بدون الركض بالرِّجل، ولكنّ الله تعالى جعل ذلك سبباً.

9 -

أنّ الله تعالى قد يجعل السبب الضعيف الذي لا يقوم بالمسبَّب سببًا مؤثِّراً، كما أنّه قادر على أن يمنع السبب المؤثِّر فلا يؤثِّر؛ فالركض بالرجل ليس من العادة أن يُنبع الماء، والإلقاء في النَّار من العادة أن يحرق، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام أُلقي في النَّار ولم يحترق، وأيوب عليه الصلاة والسلام ركض برجله الأرض

(1)

انظر "مسند الإمام أحمد" 19/ 438 (12454) حديث أنس: أن ثلاثة نفر

ص: 195

فنبع الماء. ففيه دليل على أنّ الله تعالى قد يجعل السبب الضعيف قوياً مؤثِّراً، ويجعل السبب القوي المؤثِّر غير مؤثِّر.

10 -

بيان القدرة الإلهية بكون هذا الماء النابع من جوف الأرض بارداً وصالحاً للشرب.

11 -

الإشارة إلى المطهر للباطن، وهو ما يعرف عند النَّاس الآن بالهلول، أي يتخذون أشياء ملينة للبطن، تنظِّفه، لقوله:{هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42)} .

12 -

أنّ الله تعالى يمُنُّ على العبد بأكثر مما فقد إذا صبر واحتسب، لأنّ أيوب عليه الصلاة والسلام وهب الله له أهلَه ومثلهم معهم، فأنت اصبر، تظفر.

13 -

أنّ ما حصل للإنسان مِن نعمة فإنَّه بمقتضى رحمة الله تعالى، لقوله:{رَحْمَةً مِنَّا} .

14 -

أنّ في هذه القصة العظيمة ذكرى لأولي الألباب، وقد بينا وجوه هذه الذكرى.

15 -

جواز استعمال الحِيل المباحة لقوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} ، وهذا الحكم ثابت حتَّى في الشريعة الإسلامية، فلو حلف رجلٌ على أن يضربَ شخصاً مئة مرَّة، وكان هذا الشخص لا يتحمل الضرب مئة مرَّة، قال أهل العلم: فله أن يأخذ ضغثاً به مئة شمراخ؛ ويضرب به ضربة واحدة، وبنوا على هذا ما لو زنى رجلٌ مريض مرضاً لا يُرجى زواله، ولا يتحمل الضرب مئة على

ص: 196

انفراد، قالوا: فإنَّه يُجمع له ضغث به مئة عود، ويُضرب به ضربةً واحدةً، أخذاً بما أفتى الله عز وجل به أيوب عليه الصلاة والسلام.

16 -

أنّ الحنثَ في اليمين في الأصل حرام؛ لقوله: {وَلَا تَحْنَثْ} ، ولكنَّ الله تعالى يسّر لعباده، وأجاز لهم الحنث مع الكفارة، ولهذا قال تعالى:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89]، إلى قوله:{وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89]، قال العلماء:{وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} أي: لا تُكثروا اليمين، وقال بعضهم: أي: احفظوها من الحنث، فلا تحنثوا فيها، والوجهان كلاهما لا يتنافيان.

والإنسان ينبغي له أن يحفظ يمينه فلا يحنث، ولكن مع ذلك أحياناً يكون الحنث خيراً.

وقد قسّم العلماء الحنث في اليمين إلى الأحكام الخمسة: قالوا: قد يجب الحنث، وقد يحَرُم، وقد يُكرَه، وقد يُستحَب، وقد يباح.

فإذا حلف أن لا يصليّ مع الجماعة؛ فالحنث واجب؛ لأنَّه يجب أن يصلِّي ويُكفِّر. ولو حلف أن يشرب الخمر، فالحنث واجب، يجب أن يدعه وأن يكفّر. ولو حلف على أن لا يشرب الخمر، كان الحنث محرّم، لأنَّه لو شربها لفعل محرّماً، ووقع في المحرّم. ولو حلف أن لا يصلِّي راتبةَ الظهر، فالحنث هنا مستحب. ولو حلف أن يأكلَ بصلاً أو ثوماً، وهو ممن يحضر المسجد؛ كان الحنث مستحباً. ولو حلف على أن لا يأكل البصل، يكون الحنث مكروهاً. المهم أن

ص: 197

المكروه والمستحب متضادان، والواجب والمحرَّم متضادان، أمّا المباح فهو إذا تساوت المصلحة والمفسدة، فهو مباح.

17 -

الثّناء على أيوب عليه الصلاة والسلام بالصبر، لقوله تعالى:{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} وهذا يتعدى إلى غيره أيضاً، فإنّ من كان صابراً فهو محل للثناء.

18 -

الثّناء على أيوب عليه السلام بهذا الوصف: {نِعْمَ الْعَبْدُ} والعبودية لله عز وجل لا شك أنها تمام الحرية، وكلُّ مَن كان لله أعبد، فهو أشد تحرراً ممن كان على العكس.

وقد قال ابن القيِّم رحمه الله بيتاً في النونية مفيداً، قال:

هربوا من الرِّقِّ الذي خُلقوا له

وبُلُوا برِقِّ النفسِ والشيطانِ

هؤلاء هربوا من عبادة الله سبحانه وتعالى وصاروا عبيداً لنفوسهم وشياطينهم، فأشرف أوصاف الإنسان أن يكون عبدًا لله عز وجل، أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من عباده الصَّالحين.

19 -

الثّناء على أيوب عليه السلام بكونه رجّاعاً إلى الله بفعل الطاعات وترك المعاصي لقوله: {إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)} . وعلى هذا يكون هذا الوصف لكل مَن اتّصف به، وكل مَن كان رجَّاعاً إلى الله فإنَّه يُثنى عليه.

20 -

إثبات الأسباب، وجواز نسبة الشيء إلى سببه المعلوم حِساً، أو شرعًا بدون أن يُنسب إلى الله. فلو قلت مثلًا: سقطت في البحر، ولولا فلان لغرقتُ، لكان هذا صحيحًا، لأنَّه أضافه إلى

ص: 198

سببٍ معلوم، فلان هو الذي انتشله من الماء. ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم في عمِّه أبي طالب:"لولا أنا لكان في الدَّركِ الأسفلِ من النَّار"

(1)

فأضاف الشيء إلى سببه المعلوم.

أمّا إذا أضافه إلى سبب غير معلوم، فهذا نوعٌ من الشِّرك، ثم قد يكون شركًا أكبر، وقد يكون شركاً أصغر، بحسب الحال. فإذا قال: سقطت في البحر ولولا فلان -الولي الميت- لهلكت، لكان هذا شركاً، وهو شرك أكبر في هذه الحالة.

* * *

قال تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45)} .

اذكر يا محمَّد، وتذكر أيها المخاطَب هؤلاء السادة الأبرار، {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ} إبراهيم بدل من عبادنا، بدل بعض من كل، وما عطف عليه يكمل الكل. والعبادة هنا أخصّ الخاصة، لأنهّا عبودية الرسالة والنبوة، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام إمام الحنفاء، الذي أُمرنا باتباع ملته:{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: 123]، وإسحاق ابنه، ويعقوب حفيده ابن ابنه.

قوله تعالى: {أُولِي الْأَيْدِي} قال المؤلف: [أصحاب القوى في العبادة، {وَالْأَبْصَارِ (45)} البصائر في الدين] يعني اذكرهم مشيراً إلى قوتهم في الدين، لأنَّ الأيدي جمع يد والمراد باليد هنا القوة، وكذلك

(1)

أخرجه البُخاريّ، كتاب مناقب الأنصار، باب قصَّة أبي طالب (3883)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب شفاعة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لأبي طالب (209)(357).

ص: 199

الأبصار أي: البصائر في دين الله، لأنهم رسل، وأبصر النَّاس في عبادة الله هم الرسل.

{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا} قال المؤلف: [وفي قراءة {عَبْدَنَا}، وإبراهيم بيان له، وما بعده عطف على عبدنا]، أي: أنَّها تقرأ بالجمع وبالإفراد، والقراءة هنا سبعية؛ لأنَّ القاعدة أن المؤلف إذا قال:[وفي قراءة] فهي سبعية، وإذا قال:[قرئ] فهي شاذة.

ثم قال: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ} أي: نقيناهم وصفيناهم، لأنَّ إخلاص الشيء أن تزيل شوائبه حتَّى يبقى خالصاً، ومنه إخلاص الدين لله وهو أن تزيل عنه شوائب الشرك.

وقوله: {بِخَالِصَةٍ} بينها المؤلف بقوله: [هي ذكرى الدار] أفاد المؤلف أن {ذِكْرَى} هي خبر مبتدأ محذوف تقديره: هي ذكرى، ويجوز أن تكون (ذكرى) بدلًا من (خالصة) أو عطف بيان لها. والمراد بالدار هنا الآخرة، أي: ذكرى الدار الآخرة. ذكرها والعمل لها. وفي قراءة بالإضافة، أي:{بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46)} وهي للبيان، أي الإضافة هنا بيانية على تقدير مِنْ، لأنَّ الإضافة البيانية تكون على تقدير مِنْ، كما تقول: خاتم فضة، أي: من فضة، أو تقول: ثوب خز، أي: من خز. باب خشب، أي: من خشب، وهكذا قال:{ذِكْرَى الدَّارِ} أي: الدار الآخرة، أي: تذكرها والعمل لها.

{وَإِنَّهُمْ} الضمير يعود على الثلاثة: إبراهيم وإسحاق ويعقوب {عِنْدَنَا} عند الله. والعندية هنا عندية المرتبة لا عندية المكان، لأنَّ مرتبتهم عند الله أنهم من هؤلاء {الْمُصْطَفَيْنَ} .

ص: 200

المصطفى اسم مفعول بمعنى المختار، وهنا {الْمُصْطَفَيْنَ} جمع مذكر سالم، ولكن فيه إشكال، وهو أن المعروف أن جمع المذكر السالم يكسر ما قبل الياء، نقول: المسلمِين والمؤمنِين والقانتِين والصابرِين والصادقِين، وهنا ما قبل الياء مفتوح، والمعروف أن الذي يفتح فيه ما قبل الياء هو المثنى، كما تقول: الرجلَيْن والمسلمَيْن والمؤمنَيْن وهكذا، فلماذا فتح ما قبل الياء في {الْمُصْطَفَيْنَ}؟ قال النحويون: لأنَّ أصله المصطفى بالألف فحذفت الألف لأنَّها ساكنة، ولأن الياء بعدها ساكنة فتحذف، كما قال ابن مالك:

إن ساكنين التقيا اكسر ما سبق

وإن يكن ليناً فحذفه استحق

فالآن التقى ألف وياء فتحذف الأولى منهما وهي هنا الألف وتبقى الفتحة دليل عليها، {الْمُصْطَفَيْنَ} يعني في العبادة والعلم والرسالة {الْأَخْيَارِ (47)} [جمع خيِّر بالتشديد]، والخيِّر على وزن فيعل، وهو كثير الخير، ولا شك أن هؤلاء الرسل الثلاثة فيهم خير كثير، وجاء من نسلهم رسل كرام، وأمم من أفضل الأمم. جاء من نسل إبراهيم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهي أفضل الأمم وأكرمها عند الله.

الفوائد:

1 -

من فوائد هذه الآيات: الثّناء على إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم الصَّلاة والسلام بأنهم أصحاب قوة في عبادة الله، وبصيرة في دين الله تعالى.

2 -

ومن فوائد هذه الآيات: أنَّه ينبغي ذكر أهل الخير بالثناء، لأنَّ في ذلك فائدتين:

ص: 201

الفائدة الأولى: إحياء ذكر هؤلاء ليتبين فضلهم ويُدعى لهم.

والفائدة الثانية: الاقتداء بهم واتباعهم فيما هم عليه مما استحقوا به الثناء.

3 -

ومن فوائد هذه الآيات: أن الله تعالى أخلص هؤلاء بخالصة، وهي تذكُّر الدار الآخرة، بحيث لا ينغمسون في ترف الدنيا.

4 -

ويتفرع عن هذه الفائدة: أن مَن أنعم الله عليه بهذه الصفة وهي تذكُّر الدار الآخرة فإن هذا من الأمر الذي يستحق الثناء عليه هو، ويستحق الربّ عز وجل عليه الشكر، حيث لم يجعل هذا ممن ينطوي في سلك أهل الدنيا.

5 -

ومن فوائد هذه الآيات: أن لله تعالى عبادًا مصطفين لقوله: {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ} لأن "من" هنا إما للجنس أو للتبعيض، فتدل دلالة واحدة.

6 -

ومن فوائدها: أنه إذا كان العامل له مراتب فإن العمل كذلك له مراتب، لأن العامل إنما ينال المراتب بحسب عمله.

ويتفرع عن هذه الفائدة ما فيه دليل لمذهب أهل السنة والجماعة: مِن أن الإيمان يزيد وينقص.

7 -

ومن فوائد هذه الآيات: أن إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم الصلاة والسلام من هؤلاء المصطفين.

8 -

ومن فوائدها أيضًا: أن مَن اصطفاهم الله فإنهم أصحاب خير وفضل لقوله تعالى: {الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47)} فرتب الخيرين على الاصطفاء.

ص: 202

{وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ} إسماعيل ابن إبراهيم أفرده بالذكر، لأن سلالته تختلف عن سلالة إسحاق ويعقوب، فإسحاق ويعقوب سلالتهما بنو إسرائيل، وهؤلاء سلالتهم العرب، ولهذا أفرده. {وَالْيَسَعَ} وهو نبي، واللام زائدة، فإذا كانت اللام زائدة فإن الأصل هو يسع، وهو نبي ولكنه نبي رسول، لأن كل نبي ذكر في القرآن فهو رسول. {وَذَا الْكِفْلِ} مختلف في نبوته، فقيل: إنه نبي، والكفل يعني العمل والنصيب، يعني صاحب العمل الكثير والنصيب، هذا على القول بأنه رسول، أما على القول بأنه غير رسول فقد قال المؤلف:[قيل: إنه كفل مئة نبي فروا إليه من القتل]، وكلمة قيل: تدل على أنه ضعيف، فالظاهر أن معنى ذا الكفل صاحب العمل الكثير، والجد والنشاط.

{وَكُلٌّ} أي: كلهم، وعلى هذا فإن التنوين عوض عن اسم كلهم {مِنَ الْأَخْيَارِ (48)} [جمع خيِّر بالتثقيل]. وقول المؤلف:[جمع خيِّر بالتثقيل] مثل قوله السابق: [جمع خيِّر بالتشديد].

الفوائد:

1 -

من فوائد هذه الآية: الثناء على إسماعيل واليسع وذا الكفل عليهم الصلاة والسلام، لأن الله أمر بذكرهم للثناء عليهم، وبيان فضيلة هؤلاء الرسل الثلاثة: إسماعيل واليسع وذا الكفل عليهم الصلاة والسلام.

2 -

ومن فوائدها: أن لله عبادًا أخيارًا منهم هؤلاء الثلاثة، لقوله:{وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)} .

ص: 203

3 -

ومن فوائدها: أن لله تعالى فضلًا على بعض العباد، يحُرمه البعض الآخر. حيث يجعل هؤلاء من المصطفين الأخيار، والآخرين على العكس من ذلك.

{هَذَا ذِكْرٌ} قال المؤلف: [لهم بالثناء الجميل هنا {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ} الشاملين لهم {لَحُسْنَ مَآبٍ (49)} مرجع في الآخرة].

قوله: {هَذَا ذِكْرٌ} يحتمل ما قال المؤلف، أي: أن هذا ذكر لهؤلاء السادة بالثناء الجميل، ويحتمل أن المراد هذا ذكر للناس، أي: تذكير لهم، كما قال الله تعالى في أول السورة:{ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)} وهذا الأخير أرجح، يعني هذا المذكور في آخر السورة ذكر لجميع الناس، ثم الناس ينقسمون إلى متَّقٍ وغير متَّقٍ {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ} ومنهم الرسل بل سادة المتقين وعلى رؤوسهم، {لَحُسْنَ مَآبٍ (49)} أي: مرجع، وهنا قال:{لَحُسْنَ} وفيه إشكال حيث إنه منصوب مع دخول اللام عليه، وهي لام الابتداء، وتسمى باللام المزحلقة دخلت على "حسن" اسم "إن" مؤخر، و {لِلْمُتَّقِينَ}: خبر مقدم.

{جَنَّاتِ عَدْنٍ} : بدل أو عطف بيان {لَحُسْنَ مَآبٍ (49)} ولهذا نصبت (جَنَّاتِ} لكن نصبت بالكسرة نيابة عن الفتحة، والجنة في الأصل البستان الكثير الأشجار، سمّي به لأن يَجُنُّ مَن كان فيه أي: يستره، والمراد بها دار النعيم التي أعدها الله للمتقين في الآخرة، وعدن بمعنى إقامة، أي: الجنات التي يقيم فيها ساكنها ولا يتحول

ص: 204

عنها، ولا يبغي عنها حولًا، ولا يرى أن لغيره فضلًا عليه، كلّ واحد من أهل الجنة يرى أنه لا فضل لأحد عليه، وهذا هو تمام النعيم، لأن الإنسان إذا رأى أن غيره أفضل منه احتقر ما أعطاه الله، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم"

(1)

.

قال: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50)} مفتحة ولم يقل: مفتوحة، وذلك لكثرة الفاتحين أو لكثرة الأبواب أو لهما جميعًا. فعلى الأول كثرة الفاتحين، يكون المعنى أن لهم خدمًا كثيرين يفتحون لهم الأبواب، وعلى الثاني يدل على أن أبوابها كثيرة لكثرة من يدخلها. ومن المعلوم أن أبواب الجنة الأصلية الكبيرة ثمانية، ولكن هناك غرف في وسط الجنة تجري من تحتها الأنهار لها أبواب فتفتح لهم الأبواب.

{مُتَّكِئِينَ فِيهَا} أي: في هذه الجنات، والاتكاء يدل على الهدوء والطمأنينة وعدم القلق، وأيضًا يدل على أن الإنسان ذو سلطان يُخدمَ ولا يَخدِم. وقوله:{فِيهَا} أي: في الجنات. وبيَّن المؤلف على أي شيء يتكئون فقال: [على الأرائك]، كما جاء ذلك في آيات أخرى.

{يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} يدعون، أي: يطلبون يعني يقولون: هاتوا فاكهة {كَثِيرَةٍ} كثيرة النوع وكثيرة العين، أي:

(1)

أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، حديث رقم (2963)(9).

ص: 205

أنواع كثيرة، وكذلك أعيان كثيرة. لو تطلب أيّما تطلب حصل لك. {وَشَرَابٍ (51)}: هذا الشراب بيَّن الله أنواعه وأجناسه بأنه أربعة {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد: 15] هذه أربعة أنواعٍ من شراب الجنة، ولكن هذه الأصناف تختلف عما في الدنيا اختلافا عظيمًا، أي: فلا تظن أن الماء كالماء الذي في الدنيا، أو أن العسل كالعسل الذي في الدنيا، أو أن اللبن كاللبن الذي في الدنيا، أو أن الخمر كالخمر الذي في الدنيا، بل تختلف اختلافًا عظيمًا لقوله تعالى:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] ولو كان لا يختلف لكنا نعلم هذا، وقال الله تعالى في الحديث القدسي:"أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"

(1)

اللهم اجعلنا من أهلها.

{وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} قال المؤلف: [حابسات العين على أزواجهن] قاصرات الطرف، أي: حابسات، والطرف: النظر، أي: أنهن يقصرن النظر على أزواجهن. هذا معنى من المعاني. والمعنى الثاني: قاصرات طرف أزواجهن فلا ينظر أزواجهن إلى غيرهن، والفرق بينهما ظاهر، ولكن اللفظ صالح للأمرين، فهن قاصرات طرفهن لا ينظرن إلى غير أزواجهن، وهن قاصرات طرف أزواجهن، فلا ينظر أزواجهن إلى غيرهن.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة (3244)، ومسلم، كتاب الجنة (2824).

ص: 206

أما نساء الدنيا فإن بعض النساء إذا خرجت إلى السوق أخذت تنظر إلى الرجال، وتقارن بين هذا الرجل وبين زوجها، وكذلك الرجل إذا خرج إلى السوق فبعض الرجال يتطلع إلى النساء ويقارن بين مَن يرى من النساء وبين زوجته، وتجده إذا وجد من النساء من هي أجمل من امرأته انشغل قلبه بها، وأعرض عن امرأته، وزهد فيها، ولهذا كان من الحكمة العظيمة وجوب ستر الوجه لأن الرجل إذا لم ير وجه المرأة لم يتغير نظره بالنسبة إلى امرأته، لكن إذا رأى امرأة كالشمس، وزوجته على خلاف ذلك، تعلق قلبه بهذه المرأة التي كالشمس، وزهد في امرأته.

{أَتْرَابٌ (52)} يعني أنهن على سن واحدة شابات بنات ثلاث وثلاثين سنة. كذلك أهل الجنة يدخلون الجنة وهم أبناء ثلاث وثلاثين سنة، ولا يتغير أحد منهم، يبقى على ما هو عليه، وكونهن أتراب يقال: إنهن أتراب في السن، وأتراب في الجمال، وفي كل شيء، لئلا يميل الإنسان إلى من فاقت غيرها، ويكون نظره إليهن على حد سواء.

قال الله تعالى: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ} قال المؤلف: في القراءات في {تُوعَدُونَ} [بالغيبة والخطاب التفاتًا]، الخطاب (ما توعدون)، والغيبة (ما يوعدون)، والقراءتان سبعيتان قال المؤلف:[التفاتًا] أيهم الذي فيه التفات الغيبة أم الخطاب؟ قال تعالى: {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50)} لهم غيبة {مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51)} يدعون غيبة {وَعِنْدَهُمْ} غيبة إذًا

ص: 207

الالتفات في أي شيء؟ الالتفات في الخطاب {هَذَا مَا تُوعَدُونَ} يعني يقال لهم: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ} على ضمير الخطاب وعلى ضمير الغيبة يكون هذا خبر من الله عز وجل بأن المذكور هو الذي يوعدون به يوم القيامة.

{لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53)} قال المؤلف رحمه الله: [أي: لأجله] هذا ما مشى عليه المؤلف، أي: أن اللام في قوله: {لِيَوْمِ} للتعليل، ولكن الصحيح أن اللام للتوقيت فهي كقوله تعالى:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] فاللام هنا بمعنى "في" لأنها للتوقيت، أي: هذا ما توعدون في ذلك اليوم {لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53)} وهو يوم القيامة، وسمي يوم الحساب، لأن الناس يحاسبون فيه على أعمالهم.

قال: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)} إنّ هذا يعني المشار إليه ما ذكر من نعيم الجنة {لَرِزْقُنَا} لعطاؤنا، واللام في قوله:{لَرِزْقُنَا} للتوكيد، {مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)} من: حرف جر زائد لفظًا ومعنىً، نفاد: اسم مجرور لفظًا بـ "من" في محل رفع مبتدأ مؤخر. {مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)} أي: انقطاع، و"ما" هنا يتفق فيها التميميون والحجازيون لتقدم الخبر، ولا تكون ما حجازية إلا مع الترتيب، لقول ابن مالك:

إعمالَ ليس أُعمِلَتْ ما دونَ إنْ

مع بقا النفي وترتيبٍ زُكِنْ

قال المؤلف: {مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} أي: انقطاع، والجملة حال من (رزقنا) أو خبر ثانٍ لـ"إن" أي: دائمًا أو دائم]. اختصار شديد من المؤلف رحمه الله. والجملة حال من (رزقنا) وعلى هذا يكون المعنى

ص: 208

{مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} أي: انقطاع، دائمًا، أو نقول: خبر ثانٍ لـ"إن" هذا لرزقنا، إن هذا ما له من نفاد، ويكون التقدير دائم إذًا في الكلام لف ونشر مرتب.

الفوائد:

1 -

من فوائد هذه الآيات: أن القرآن الكريم ذِكْرٌ يُذْكَر به الله بتلاوته، وذكر يتذكر به الإنسان معاده ومعاشه. وذكر يُذكِّر به غيره. وقد ذكرنا هذا في أول السورة.

2 -

ومن فوائد هذه الآيات: بشارة المتقين بأن لهم حسن المآب، أي: المرجع، وعلى العكس من ذلك غير المتقين لهم سوء المآب، لأن الله إذا حكم للشيء بصفة من الصفات، فإنه يُحكَم له بضده إذا انتفت هذه الصفة. لو قال قائل: لماذا لا تقولون: إنه إذا انتفت هذه الصفة ولم تثبت الصفة المتضادة، فلا يستحق الثناء المثبت بالصفة، ولا القدح الذي يكون بضدها؟ فالجواب على ذلك أن نقول: لا شك أن الأمورَ طرفان ووسط، الطرفان متضادان، والوسط بينهما، لكن قد دل الكتاب والسنة على أن التقوى وضدها ليست طرفًا ووسطًا بل هما طرفان متقابلان، كما قال الله تعالى:{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32] فإذا ثبت للمتقين حسن المآب فلغيرهم سوء المآب، ولا نجعل هنا شيئًا وسطًا، لأنه لا وساطة بين الإيمان والكفر، والتقوى والفسوق.

3 -

ومن فوائد هذه الآية: الحث على التقوى وذلك بذكر ثوابها. لأن الحث على الشيء يكون بالأمر به كما هو ظاهر، ويكون

ص: 209

بالوعيد على تركه والثناء على فعله. وطرق الحث على الشيء متنوعة ومنها ذكر حسن المآب.

4 -

من فوائد قوله تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50)} : إثبات الجنات لهؤلاء، وأنها هي حسن المآب لقوله:{جَنَّاتِ عَدْنٍ} ولا شك أن أحسن مآب يؤوب إليه البشر هو الجنات، فإن فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وكل إنسان مؤمن إنما يسعى إلى الوصول إلى هذه الغاية العظيمة.

5 -

ومن فوائدها: أن الجنات دار إقامة لقوله: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} فالناس مقيمون فيها لا يرحلون عنها، ولا يبغون عنها حولًا ففيها إقامتان: إقامة لا ارتحال عنها. والإقامة الثانية لا يبغي المقيم عنها حولًا. يرى أنها محل إقامة وأنها أشرف مكان، وذلك لأنه لو رأى أن غيره أشرف منه لم يتم نعيمه، لأنه يرى أنه قاصر، وهذا بخلاف أهل النار فكل واحد يرى أنه لا أحد أشد منه عذابًا؛ لأنه لو رأى أن أحدًا أشد منه عذابًا لتسلى به، لكنه بالعكس يرى أنه أشد الناس عذابًا.

وأهل الجنة لا يرى أحدهم أن أحدًا آخر أكمل منه نعيمًا، على وجه يفوقه، بل يرى أنه هو في أكمل ما يكون من النعيم حتى لا يتنغص عليه نعيمه.

6 -

ومن فوائد الآية: أن للجنة أبوابًا لقوله: {مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50)} .

ص: 210

7 -

ومن فوائدها: كثرة الخدم المستفاد من قوله: {مُفَتَّحَةً} ولم يقل: مفتوحة، بل هي تفتح. ويستقبلون بها، كلما دنوا من غرفة فتحت لهم الأبواب.

8 -

من فوائد قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51)} وَعِنْدَهُمْ: أن أهل الجنة يطلبون كل ما يشتهون من الفواكه لقوله: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} في سورة الدخان: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55)} [الدخان: 55].

9 -

ومن فوائدها: أن لأهل الجنة شرابًا، يدعون فيها بكل شراب، وقد مر علينا في التفسير أن أنواع الشراب أربعة.

10 -

من فوائد قوله تعالى: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52)} ما في الجنة من الأزواج المطهرة العفيفات البالغات في الحُسْن غايته لقوله: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} .

11 -

ومن فوائدها: أن هؤلاء قاصرات الطرف، خيرات الأخلاق، طيبات ليس فيهن نشوز إطلاقًا لقوله:{وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} في الدنيا الزوجة تارة تكون عندك، وتارة تغضب وتذهب إلى أهلها. لكن في الجنة زوجاتهم دائمًا عندهم، ليس هناك نشوز ولا غضب، بل أخلاق طيبة على ما ينبغي.

12 -

ومن فوائدهما: كمال عفة هؤلاء النساء لكونهن قاصرات الطرف على أزواجهن، لا ينظرن إلى غير أزواجهن، وفيها كمال جمال هؤلاء النساء، لأنهن يقصرن أطراف أزواجهن عليهن، فالزوج لا ينظر إلى غيرها؛ لأنها قد ملأت عينه، وسرت قلبه.

ص: 211

13 -

ومن فوائدها: أن هؤلاء النساء أو هؤلاء الأزواج أتراب متساويات في السن والخلق، بحيث لا تغار واحدة من الأخرى لكونها أجمل منها، أو أسن منها، أو ما أشبه ذلك لقوله:{أَتْرَابٌ} .

14 -

ومن فوائد قوله تعالى: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53)} : أنهم يخاطبون بما يسرهم، ويدخل السرور في قلوبهم لقوله:{هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53)} عكس أهل النار فإنهم يوبخون {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر: 50] وما أشبه ذلك، أما هؤلاء فيدخل في قلوبهم السرور فيقال لهم:{هَذَا مَا تُوعَدُونَ} به أخذتموه، ووصلتم إليه، وجنيتموه.

15 -

ومن فوائد هذه الآية: إثبات يوم القيامة، وأنه يوم الحساب لقوله:{لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53)} .

16 -

ومن فوائدها: حث الناس على العمل، لأنه كلما تذكر الإنسان أنه سوف يحاسب عن عمله، فإنه سوف يحرص ويجتهد في العمل حتى لا يحاسب على شيء يكون عليه.

17 -

من فوائد قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)} كان هذه الجنات التي وعد بها هؤلاء المتقون فضل من الله ومنَّة لقوله: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا} .

18 -

ومن فوائدها: أن هذا الرزق لا ينفد أبدًا، ولا ينقطع أبدًا. فالفاكهة في كل وقت، ولحم الطير في كل وقت، والشراب في كل وقت، والزوجات في كل وقت، وليس في الجنة فصل صيف

ص: 212

ليس فيه فاكهة شتاء، ولا فيها فصل شتاء ليس فيه فاكهة صيف. بل كل شيء ليس له نفاد.

قال: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55)} هذا: مبتدأ، لا بد له من خبر، وخبره محذوف قدَّره المؤلف بقوله:[للمؤمنين]، ولكن الصحيح أن نقدر: للمتقين، لأن الله قال:{هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49)} فالأولى أن نقول: هذا للمتقين، فما لغيرهم؟ قال:{وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ} كلام مستأنف {وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ} الطاغين: جمع طاغية، والطاغي مَن تجاوز الحدَّ، وحد الإنسان أن يكون عبدًا لله ممتثلًا لأمره مجتنبًا لنهيه، فمن لم يمتثل للأمر فهو طاغ، ومن ارتكب النهي فهو طاغ. قال تعالى:{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 24].

فإن قال قائل: ما الشاهد على أن الطغيان تجاوز الحد؟ قلنا: قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة: 11]. أي: لما تجاوز الماء حدّه.

{لَشَرَّ مَآبٍ} أي: شّر مرجع، وشر منصوبة على أنها اسم إن مؤخر. ما هو شر المآب؟ قال:{جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56)} هذا عطف بيان {لَشَرَّ مَآبٍ (55)} وهي نار جهنم، سميت بهذا الاسم لأنها تتضمن الجهمة لسوادها، لأنه ليس فيها نور، ولبعد قعرها -والعياذ بالله- فقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو وأصحابه رضي الله عنهم في المدينة وجبة، يعني وقعة شيء، فقال:"أتدرون ما هذا"؟

ص: 213

قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:"هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفًا فهو يهوي في النار حتى انتهى إلى قعرها"

(1)

سبعين سنة، هو حجر كبير له صوت عظيم يهوي في النار، لأنها بعيدة القعر جدًا، ولهذا صارت مدلهمة -والعياذ بالله- سوداء.

وقيل: إن لفظ جهنم ليس عربيًا وأن أصله في الفارسية كهنام، ولكنه عرب فصار جهنم. وعلى هذا فلا يرد علينا أنه من الجهمة، وهو السواد والبعد، فيقال: جهنم اسم للنار علم غير مشتق، وأيًّا كان فهو اسم من أسماء النار نعوذ بالله منها.

{يَصْلَوْنَهَا} حال، لأن جهنم معرفة، والمعرفة تكون الجملة بعدها حالًا. {يَصْلَوْنَهَا} قال المؤلف:[أي: يدخلونها]، لكن هذا لا يكفي، بل يصلونها، يعذبون بصلاها، وهو شدة الحرارة {فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56)}: الفراش، كما قال تعالى:{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا} [النبأ: 6] وفي آية أخرى {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} [البقرة: 22]{فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56)} أي: هي، لأنه -والعياذ بالله- افتراشها شديد، ولحافها شديد، قال تعالى:{لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16] نعوذ بالله.

{هَذَا} قال المؤلف رحمه الله: [أي: العذاب المفهوم مما بعده {فَلْيَذُوقُوهُ}]، اللام في قوله:{فَلْيَذُوقُوهُ} للأمر، والدليل على أنها لام الأمر وليست لام التعليل، أنها سكنت بعد الفاء، ولام

(1)

أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب في شدة حر نار جهنم وبعد قعرها (2844).

ص: 214

الأمر تسكن بعد الفاء والواو وثم. {فَلْيَذُوقُوهُ} أي: فليكتووا بحره، والاكتواء بحره هو ذوق، وذوق كل شيء بحسبه، فالطعام والشراب يذوقه الإنسان بمذاق الفم، والنار يذوقها بحرارتها في أي موضع من مواضع الجسم، والبرد كذلك يذوقه بلسعه في أي موضع من الجسم {فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ} قال المؤلف:[أي: ماء حار محرق، {وَغَسَّاقٌ} بالتخفيف والتشديد ما يسيل من صديد أهل النار] نعوذ بالله.

{هَذَا} : مبتدأ، و {حَمِيمٌ}: خبر، {وَغَسَّاقٌ}: معطوف عليه، وتكون جملة {فَلْيَذُوقُوهُ} معترضة بين المبتدأ والخبر للمبادرة بإهانتهم، فإن قوله:{فَلْيَذُوقُوهُ} لا شك أنه إهانة، فمن أجل المبادرة قدّم هذا على الخبر، أي: قدّم قوله: {فَلْيَذُوقُوهُ} وأصل الكلام على الترتيب: هذا حميم وغساق فليذوقوه.

انظر للشراب {حَمِيمٌ} : ماء حار، وليست حرارته سهلة أو يسيرة، قال تعالى:{وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف: 29] أولًا لا يأتيهم هذا الشراب بسهولة، إنما يأتيهم بعد أن يعطشوا عطشًا شديدًا ثم يسألوا الله أن يغيثهم من هذا العطش، وإذأ أغيثوا يغاثوا بهذا الماء كالمهل يشوي الوجوه، إذا دنى من وجوه مَن يشربوه شواها، قال العلماء: تتساقط لحوم الوجه، ثم إذا شربوا في البطون قطع أمعاءهم، قال تعالى:{وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد: 15] فيقطع ظاهرهم وباطنهم والعياذ بالله، قارن بين هذا الشراب وبين شراب أهل الجنة: {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ

ص: 215

يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد: 15] ومع ذلك يشربون ما يشاؤون، وهذه الأنهار لا تجري في أخاديد، ولا ضمن جدران تمنع سيلان الماء، إنما تجري على وجه الأرض، قال ابن القيم في النونية:

أنهارُها في غيرِ أخدودٍ جَرَتْ

سبحانَ مُمْسِكِها عن الفيضان

والغساق أيضًا -والعياذ بالله- بمجرد ما تسمع معناه تشمئز، صديد أهل النار، الصديد الذي يجري من أجسامهم من احتراقها هذا أيضًا نوع من شرابهم، فصار شرابهم إما ماء حار يشوي الوجوه ويقطع الأمعاء، وإما صديد أهل النار {يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 17].

قال الله عز وجل: {وَآخَرُ} قال المؤلف رحمه الله:

[بالجمع والإفراد]{وَآخَرُ} مفرد و {وَأُخَرُ} جمع، ففيها قراءتان سبعيتان، {مِنْ شَكْلِهِ} أي: من جنسه، [أي: مثل المذكور من الحميم والغساق {أَزْوَاجٌ (58)} أي: أصناف، أي عذابهم من أنواع مختلفة]. {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ} من جنسه، {أَزْوَاجٌ (58)} أصناف من العذاب يعذبون بها كما أراد الله عز وجل، ويهانون غاية الإهانة، يقرعون ويوبخون، ثم يُمَنَّونَ بالخروج، ترتفع بهم النار حتى يقتربوا من أبوابها {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة: 20] وهذا من شدة العذاب. لو أن شخصًا محبوسًا، وكان يقرب من الباب، يظن أنه سيخرج فإذا به يرد، فهذا أشد عذابًا عليه مما لو

ص: 216

بقي في مكانه، فهم يُنَوَّع عليهم العذاب أنواعًا عظيمة لا تخطر بالبال، ولا تدور في الخيال.

قال المؤلف: {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58)} : أصناف، أي: عذابهم من أنواع مختلفة. ويقال لهم عند دخولهم النار بأتباعهم {هَذَا فَوْجٌ} جمع {مُقْتَحِمٌ} داخل {مَعَكُمْ} النار بشدة، فيقول المتبوعون:{لَا مَرْحَبًا بِهِمْ} أي: لا سَعة عليهم {إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59)} {قَالُوا} أي: الأتباع: {بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ} أي: الكفر {لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60)} لنا ولكم النار] أعوذ بالله {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67] انظر كيف العداوة بين أهل النار {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: 38] وهكذا المجرمون في الدنيا الذين يوالي بعضهم بعضًا سوف يكونون يوم القيامة أعداء. فلا ولاية لأحد في الآخرة إلا من كان متقيًا، هؤلاء هم الذين تبقى ولايتهم، وأما غير المتقين فهم فإن كانوا أولياء في الدنيا فإن ولايتهم في الآخرة تزول نهائيًا.

{هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ} الفوج: الطائفة، والغالب أنها تكون للطائفة الكبيرة {مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ} أي: داخل بمشقة، لأن الاقتحام لا بد أن يكون هناك ازدحام شديد {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد: 11] أي: صعدها بشدة، هؤلاء أيضًا يدخلون النار بزحام شديد، فهو فوج مقتحم معكم، أي: يقال لهم، إذا دخلوا النار، وهذا من قيل أهل النار بعضهم لبعض، أو من قيل خزنة جهنم للقادة:{هَذَا فَوْجٌ} : يعنون الأتباع، داخل معكم النار. فيقول القادة والرؤساء

ص: 217

المتبوعون: {لَا مَرْحَبًا بِهِمْ} أي: لا نريدهم، نتبرأ منهم، ولا تتسع صدورنا ولا أمكنتنا لهم، والمرحب مأخوذ من الرحبة، وهي السعة فيقولون:{لَا مَرْحَبًا بِهِمْ} أي: لا نرحب بهم ولا نريدهم، بل نحن ننابذهم غاية المنابذة {إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59)} إنهم، أي: هؤلاء الذين اقتحموا معنا {صَالُو النَّارِ (59)} كما صليناها، فيجيب أتباع هؤلاء الرؤساء المتبوعين، {قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ} بل إضراب إبطال، يعني أبطلوا قولهم:{لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} يعني: قدَّمتم لنا الكفر، وسهلتم لنا سلوك سبله، وزينتموه في نفوسنا حتى تبعناكم {فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60)} لنا ولكم النار. أعوذ بالله كل منهم الآن يتبرأ من الآخر.

يقول الله عز وجل: {قَالُوا} أي: الأتباع: {رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61)} أي: مثل عذابه على كفره في النار]. {مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا} أي: مَن قدم لنا الكفر، وهم المتبوعون {فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61)} ضعفًا يعني زائدًا على عذاب الأصل، يعني عذبهم لكونهم كفروا، وعذبهم لكونهم قدموا لنا هذا الكفر، ولكن هذا ليس إليهم فلكل امرئ منهم ما عمل، وهؤلاء المتبوعون هل أجبروا الأتباع على اتباعهم؟ أبدًا لم يجبروهم، قال تعالى:{وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر: 47 - 48] حكم بينهم بعدله فجازى كل واحد منهم ما يستحق.

ص: 218

ثم قال الله عز وجل: {وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62)} يقول المؤلف: {وَقَالُوا} أي: كفار مكة وهم في النار] والصواب: أن المراد بهم كل الكفار. الكفار يرون أن المؤمنين كلَّهم ضالون. {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32)} [المطففين: 29 - 32] وليس هذا خاص بكفار مكة، كلُّ الكفار إلى اليوم يرون أن المؤمنين أشرار ضالون. ويصفونهم بأنهم طغاة مفسدون في الأرض، والحقيقة أن الأمر بالعكس. الطغاة المفسدون في الأرض الضالون الظالمون المعتدون هم الكافرون، كما قال الله تعالى:{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] فلا أحد أشد فسادًا وعدوانًا وظلمًا وطغيانًا من الكافر، لأنه يتمتع بنعم الله ويبارز الله بالكفر به.

ثم يقول الكفار: {مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62)} كنا، أي: في الدنيا {نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62)} نعدهم يعني باعتقادنا {مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا} [أي: في الدنيا {أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63)} فلم نرهم؟ ] يقول بعضهم لبعض: {مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ} ما لنا لا نرى فلانًا وفلانًا الذين كنا نعدهم من الأشرار؟ هل نحن اتخذناهم في الدنيا سخريًا، نسخر بهم ونقول: أنتم الشر، وأنتم الطغاة وما أشبه ذلك، وهم ليسوا كذلك؟ أم أنهم كما تصورناهم في الدنيا وعددناهم من الأشرار وأنهم الآن في النار، لكن أبصارنا زاغت عنهم.

ص: 219

فانظر كيف الاهتمام، يقولون: هل نحن اتخذناهم سخريًا في الدنيا وقلنا: إنهم من الأشرار وهم ليسوا منهم؟ هذا أولًا، وإذا كانوا ليسوا منهم فلن يدخلوا النار، أم أنهم كانوا أشرارًا حقيقة، وإن قولنا: إنهم كانوا أشرارًا كلامُ جَدٍّ، وهم الآن في النار، ولكن زاغت عنهم أبصارنا؟ والجواب الأول هو الحقيقي.

ولهذا قال الله عز وجل عنهم: {أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا} الهمزة: للاستفهام الإنكاري، سقطت لأجلها همزة الوصل، استغناء عنها، واتخذناهم: فعل ماض، وفاعل، ومفعول به أول، وسخريًا: مفعول به ثانٍ، بضم السين "سُخريًا" وكسرها "سِخريًا" أي: كنا نسخر بهم في الدنيا، والياء للنسب فالسخري أقوى من السخر، كما قيل في الخصوص: خصوصية، للدلالة على قوة ذلك، فافهمه، فإنه جيد.

{أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا} [أي: أمفقودون هم {أَمْ زَاغَتْ} مالت {عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63)} فلم نرهم؟ ] والجواب أن يقال: إنكم اتخذتموهم سخريًا وسخرتم بهم، واستهزأتم بهم، ووصفتموهم بالعيب والشر، وهم برآء منه.

قال المؤلف: {أَمْ زَاغَتْ} : مالت {عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} فلم نرهم؟ وهم فقراء المسلمين، كعمار وبلال وصهيب وسلمان] هذا بناء على أن القائلين كفار مكة، أما إذا قلنا بالعموم، فكل زمان له أهل.

قال تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)} {إِنَّ ذَلِكَ} أي: المشار إليه من كل ما ذكر من تخاصم أهل النار {لَحَقٌّ} ، أي: أمر ثابت واقع، وهذا تأكيد لخبر الله عز وجل، مع أن خبر الله كلَّه حقّ

ص: 220

وصدقّ وثابتٌ. والمراد بالحقّ هنا الصدق؛ لأنه إخبار عن أمر سيقع.

وقوله: {تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)} تخاصم: بدل أو عطف بيان لقوله: "حق" والمؤلف رحمه الله قدّره خبرًا لمبتدأ محذوف فقال: [وهو {تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} كما تقدم] يتخاصم الأتباع مع المتبوعين.

الفوائد:

1 -

ومن فوائد الآيات: كمال القرآن في التعليم والتبليغ، وأنه مثاني إذا ذكر المتقون وثوابهم ذكر المجرمون وعقابهم، ولهذا قال:{هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55)} الطاغين ضد المتقين لهم شر مآب.

2 -

ومن فوائد هذه الآيات: أنه ينبغي للداعية إلى الله أن تكون دعوته تارة بالترغيب، وتارة بالترهيب، بل الأفضل أن يجعل دعوته مشتملة على الترغيب والترهيب، وذلك لأنها أي: الدعوة إذا كانت مقتصرة على الترغيب صارت سببًا للأمن من مكر الله، وأن يتمادى الإنسان في معصية الله، ويرجو الله، وإذا كانت مشتملة على الترهيب صارت سببًا للقنوط من رحمة الله، واستبعاد الرحمة، وهذا ضرر، بل ينبغي أن يكون الداعية جامعًا بين هذا وهذا؛ ليحمل الناس على الرجاء وعلى الخوف. ولهذا قال الإمام أحمد: ينبغي أن يكون خوفه ورجاؤه واحدًا، فأيهم غلب هلك صاحبه. وقال بعض أهل العلم: الرجاء والخوف كالجناحين للطائر إن انخفض أحدهما سقط الطائر، وإن تساويا صار طيرانه متزنًا.

ص: 221

وقال بعض أهل العلم: ينبغي للإنسان عند فعل الطاعة أن يُغلِّب جانب الرجاء، وعند الهم بالمعصية أن يُغلِّب جانب الخوف، لأنه إذا فعل الطاعة فقد فعل سبب الرجاء، وإذا فعل المعصية فقد فعل ما يكون سببًا للخوف.

وقال بعض العلماء: ينبغي في حال الصحة أن يغلب جانب الخوف، وفي حال المرض أن يغلب جانب الرجاء حتى يموت وهو يحسن الظن بالله عز وجل.

ولعل القول الوسط هو أن الإنسان إذا فعل المعصية أو هَمّ بها غلَّب جانب الخوف، وإذا فعل الطاعة أو هَمَّ بها غلَّب جانب الرجاء. وهذا قول طيب، ولكن ليس قولنا: أن يغلب جانب الرجاء أو الخوف ألا يكون لديه شيء من الطرف الآخر، بل يجمع بين هذا وهذا، لكن الكلام على التغليب.

3 -

ومن فوائد هذه الآيات: أن الطاغين مآبهم شّر مآب، بخلاف المتقين فإن مآلهم أحسن مآب. الطاغون مآلهم شر مآب، لأن مآلهم إلى جهنم -والعياذ بالله- وقد ذكر الله تعالى من أنواع العقوبات في هذه الدار ما يكفي ردعًا للمؤمن عن المعصية.

4 -

من فوائد قوله تعالى: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56)} أن من أسماء النار جهنم.

5 -

ومن فوائدها: أن هؤلاء يصلونها، أي: يقعون في صلاها، أي: حرها الذي لا يمكن أن يبرد أبدًا، لكن مع ذلك ورد أنهم يطاف بهم أحيانًا في زمهرير شديد البرودة وأحيانًا في نار شديدة الحرارة.

ص: 222

6 -

ومن فوائدها: الثناء بالقدح على هذه الدار، أي: ذمّ هذه الدار، أما الجنة فإن الله تعالى قال:{وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: 30] فمدح دار المتقين، أما هذه فقال هنا:{فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56)} فأثنى عليها بالقدح والقبح والسوء.

7 -

من فوائد قوله تعالى: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58)} أن أهل النار -والعياذ بالله- يذوقونه، أي: العذاب، بين حميم وغساق، أي: يسقون ماءً حارًا وصديد أهل النار الغساق -والعياذ بالله-، والإنسان منهم {يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم: 17].

8 -

ومن فوائدها: تنويع العذاب للطغاة لقوله: {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58)} أي: أصناف متنوعة من العذاب، وهذه الأصناف مذكورة في الكتاب والسنة فمن أحب أن يراجعها فليراجعها في الكتب المؤلفة في ذلك.

9 -

ومن فوائد الآيات: أن أهل النار يتنازعون فيما بينهم ويتخاصمون ويتلاعنون، كما دخل فوج لعن الثاني {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: 38] وهنا يقول الله تعالى: {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59)} .

10 -

ومن فوائدها: أن الأتباع والمتبوعين من أهل النار كلهم يكونون في النار، فلا يعذر هؤلاء بتبعيتهم للسادة والكبراء، ولكن هذا ليس على إطلاقه، فإنه قد دلت النصوص على أنه لا يعذب أحد حتى تقوم عليه الحجة، وعلى هذا فيحمل الأتباع هنا على الأتباع

ص: 223

الذين بَلَغَتهم الحجة وبَلَّغتَهم الرسل، ولكن قالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة، ولهذا قال تعالى في الأحزاب:{يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 66 - 68] فدل هذا على أن هؤلاء الأتباع قد قامت عليهم الحجة، ولهذا يقولون:{يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} .

11 -

ومن فوائد هذه الآيات: أن أهل النار يكلم بعضهم بعضًا، وينظر بعضهم إلى بعض، وهم ليسوا أحياء ولا أمواتًا، ليسوا أحياءً منعمين، ولا أمواتًا مستريحين، بل هم أحياء معذبون.

12 -

ومن فوائد هذه الآيات: تبرؤ التابع من المتبوع، وبالعكس كما دلت على ذلك آيات سورة البقرة {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 166 - 167].

13 -

ومن فوائد الآيات: أن أهل النار يتذكرون ما جرى لهم في الدنيا لقوله: {وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62)} وكذلك أهل الجنة يتذكرون ما كان لهم في الدنيا، قال تعالى:{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} يقول لصحبه الذين معه في الجنة {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55)} رأى قرينه {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56)} وهو يسمع هذا في أعلى عليين وهذا في أسفل السافلين

ص: 224

يسمع {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات: 51 - 57] أي: من المحضرين في العذاب كما أنت محضر في العذاب.

14 -

ومن فوائد هذه الآية: قصور عقل أهل النار حيث قالوا: {كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62)} لأنهم إذا لم يروهم الآن فهم إما إنهم ليسوا في النار، وإما إن هؤلاء قد زاغت أبصارهم، وقد صرحوا بذلك في قولهم:{أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63)} فيقال: إن الواقع أنكم الآن مقصرون إما في الدنيا وإما في الآخرة، إن كنتم اتخذتموهم سخريًا فهذا تقصير في الدنيا، وإن كانت أبصاركم زاغت عنهم فهذا قصور في الآخرة.

15 -

ومن فوائد هذه الآيات: أن هذا الخصام الذي يقع بين أهل النار حق لقوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ} ويتفرع عن هذه الفائدة: أنه يجب على كل أحد أن لا يغتر بالسادة والمتبوعين، بل يكون همه نفسه.

ثم أمر الله رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم يقول لكفار مكة: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ} {قُلْ} لا شك أن الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه من الخطاب الخاصّ به، لأن الإنذار الذي هو إنذار الرسالة خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، وقول المؤلف:[{قُلْ} يا محمد لكفار مكة] وجه التخصيص أن هذه السورة مكية قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون الخطاب الموجه إليه بالإعلام بأنه منذر خاصّ بأهل مكة، ولكنه يقال: إن الأولى أن

ص: 225

يجعلها عامة، وأن يقال: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب والمكان.

{قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ} مخوف بالنار الكفار، فالإنذار بالنار للكفار، والبشارة بالجنة للمؤمنين، لكن المقام هنا يقتضي الإنذار.

{وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65)} هذا حصر من أعظم أنواع الحصر، لأنه مبني على النفي والإثبات، النفي المؤكد بـ "مِنْ"{وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} لأن "مِنْ" حرف جر زائد، والزائد يفيد زيادة المعنى في القرآن الكريم، وقوله:{وَمَا مِنْ إِلَهٍ} أي: ما من معبود حقّ إلا الله، وإلا فهناك آلهة تعبد لكن ليست بآلهة حقًا، بل هي أسماء سماها أصحابها ما أنزل الله بها من سلطان، ولهذا لا يعبدونها العبادة الحقة. إذا أصابهم الضر يدعون الله وحده، وهم بلسان حالهم يشهدون بأن هذه الأصنام التي يعبدونها ليست آلهة.

{وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65)} أي: ما من إله حق إلا الله خالق السماوات والأرض عز وجل، الواحد الذي لا شريك له، القهار الذي لا غالب له، بل هو قاهر لخلقه. والقهار هنا يجوز أن يكون التضعيف فيها للنسبة، ويجوز أن يكون التضعيف فيها للتكثير فتكون صيغة مبالغة، ويمكن أن نقول: إنها للأمرين جميعًا، فالله تعالى من صفاته اللازمة له أنه قهار، ولكثرة مَنْ يقهرهم مِن الجبابرة يكثر قهره، فتكون هذه للنسبة وللتكثير الذي يسمى المبالغة.

وقوله تعالى. {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} رب: هذه بدل من {اللهُ} ويجوز أن تكون خبرًا لمبتدأ محذوف تقديره: هو رب.

ص: 226

{السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} سبق الكلام عليهما كثيرًا.

وقوله: {وَمَا بَيْنَهُمَا} أي: من المخلوقات العظيمة التي نعلمها والتي لا نعلمها. وقد سبق لنا أن بيّنا أن كون الله تعالى يجعل ما بين السماوات والأرض قسيمًا للسماوات والأرض يدل على عظم ما بينهما من المخلوقات التي لم نصل إلى الآن إلى غايتها.

وقوله: {الْعَزِيزُ} قال المؤلف: [الغالب على أمره] وهذا أحد معاني العزيز، لأن العزيز له ثلاثة معانٍ: العزيز بمعنى ذي القدر والشرف، والعزيز بمعنى القهر والغلبة، والعزيز بمعنى الذي يمتنع أن يناله السوء، مأخوذ من أرض عزاز، أي: صلبة لا تؤثر فيها الفؤوس. إذًاا لعزة لها ثلاثة معانٍ: عزة القدر، وعزة القهر، وعزة الامتناع، أي: يمتنع أن يناله السوء سبحانه وتعالى.

وقوله: {الْغَفَّارُ (66)} أي: الكثير المغفرة، ولنا أن نجعلها نسبة، أي: أنه موصوف بالمغفرة دائمًا فما أكثر مَنْ يغفر الله لهم، وما أكثر الذنوب التي يغفرها الله عز وجل، وهنا قرن العزة بالمغفرة فاكسب معنى ثالثًا غير العزة والمغفرة، وهو أنه مع عزته وغلبته وقهره هو مع ذلك غفار بخلاف من يتصف بالعزة من المخلوقين فإنه في الغالب تكون عزته تغلب مغفرته، أو من اتصف بالمغفرة فتجد عنده ضعفًا وليس عنده عزة، فإذا اجتمعت العزة والمغفرة حصل من ذلك معنى مركب من اجتماعها، وهو أكمل مما لو انفرد أحدهما، ولا شك أن غلبة المغفرة على العزة فيها نقص، وغلبة العزة على

ص: 227

المغفرة فيها نقص، فإذا اجتمعا جميعًا صار هذا أكمل، أي: أن عزته وغلبته وقهره لا تخلو من المغفرة.

الفوائد:

1 -

من فوائد هذه الآية: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان رسالته لقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ} .

2 -

ومن فوائدها: أنه ينبغي في الكلام مراعاة الحال حيث إن المقام هنا مقام تهديد، فلهذا اقتصر على الإنذار فقط مع أن الله تعالى قال:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [البقرة: 119].

3 -

ومن فوائدها: توحيد الله تعالى بالألوهية ونفيها عما سواه لقوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} .

4 -

ومن فوائدها: أن الأسماء لا تغير المسميات، فإن هناك من يسمى إلهًا ولكنه حقًا ليس بإله، ويتفرع عن هذه الفائدة أننا لو سمينا الشيء المحرم باسم حلال فإنه لا يتغير الحكم فيه، ولهذا جاء في الحديث "أنه يشرب الخمر أناس يسمونها بغير اسمها"

(1)

وهذا يدل على أن الأسماء لا تغير السميات والحقائق.

5 -

ومن فوائد الآية: إثبات الوحدانية لله في قوله: {الْوَاحِدُ} .

6 -

ومن فوائدها: الرد على النصارى القائلين بأن الله تعالى ثالث ثلاثة، ويتفرع عن هذه الفائدة أيضًا أن دينهم كذب، وأعني

(1)

أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 29/ 615 (18073)، والنسائي في "المجتبى" 8/ 312 (5674).

ص: 228

دينهم الذي يدينون به الآن، لأن عيسى عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يأتي بآلهة متعددة، ولهذا يقول له الله عز وجل:{أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)} [المائدة: 116 - 117].

7 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات القهر التام لله عز وجل لقوله: {الْقَهَّارُ} وهذا يستلزم للمؤمن به أن يخاف من الله عز وجل من قهره، ويستلزم أيضًا تقوية المؤمن الواثق بالله في قهر أعدائه، لأنك إذا وثقت بأن الله هو القهار، وأن الله معك لكونك أتيت بالأوصاف التي تستوجب معية الله لك، فإن هذا يقوِّيك على عدوِّك، وتعلم أن هذا العدو لا بد أن يكون مقهورًا بقهر الله عز وجل.

8 -

وفي قوله عز وجل: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66)} إثبات عموم ربوبية الله عز وجل لقوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66)} لأن السماوات والأرض وما بينهما هي كل الكون الذي نعلم به، ولعل العرش والكرسي داخل في السماوات من حيث العلو.

9 -

ومن فوائدها: إثبات اسمين من أسماء الله وهما: العزيز والغفار، وإثبات ما تضمناه من الصفة مجتمعين ومنفردين، وهما أي: العزة والمغفرة مجتمعين أقوى وأشد وأعظم في كمال العزة والمغفرة.

ص: 229

ثم يقول الله تعالى: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68)} هو، أي: النبأ الذي أنبأتكم به والذي جئت به منذرًا؛ نبأ عظيم، والنبأ بمعنى الخبر، لكنه لا يكون إلا في الأمر الهام. قال الله تعالى:{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} [النبأ: 1 - 2] ووصف الله هذا النبأ بأنه عظيم، وهو القرآن، وقد وصف الله القرآن بأنه عظيم وكريم ومجيد؛ لأنه يتصف بهذه الصفات، ومن أخذ به نال من هذه الأوصاف بقدر ما أخذ به.

{أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68)} جملة استئنافية يراد بها لفت الانتباه إلى فداحة ما يرتكبونه من جريرة الإعراض عن ذلك النبأ، وهو القرآن، وشدة الشناعة على هؤلاء المكذبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهم مع هذا النبأ العظيمٍ لم يقبلوا عليه، بل أعرضوا عنه، ولم يلتفتوا إليه، ولم يقيموا له وزنًا.

{مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى} يعني هذا النبأ العظيم لا يمكن أن آتي به من عند نفسي، لأنه ليس لي علم بالملأ الأعلى، يعني: الملائكة فهم ملأ لكنهم فوق، إذ إن الأصل في مساكنهم السماوات، ولكن ينزلون إلى الأرض لأداء الوظائف التي كُلِّفوا بها {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى} قال المؤلف:[أي: الملائكة {إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)} في شأن آدم حين قال الله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30]] والصحيح أن معنى الآية أعم مما قاله المؤلف، لأن {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ

ص: 230

بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)} في شأن آدم، وفي الدرجات العُلى وغيرها مما يختصم فيه الملائكة، ويرجعون فيه إلى الله.

قال المؤلف: {إِنْ} : ما {يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا} أي: أني {نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)} بين الإنذار]. نقول: إنما أفادنا المؤلف أن "إنْ" هنا نافية، وهو أحد معانيها، دل على ذلك قوله تعالى:{إِلَّا أَنَّمَا} أي: أني {نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)} قوله؛ [أي: أني] تفسير لـ {إِنَّمَا أَنَا} لأن أصله أني، لكن دخلت ما الكافة على "أن" فأبطلت عملها. ثم لما دخلت عليها لزم أن ينفصل الضمير المتصل، دخلت (ما) على (أن) ففصلت بين (أن) والضمير، والضمير المتصل إذا وجد ما يفصله عما اتصل به صار منفصلًا، فهنا تكون {أَنَا} هي الياء في قول المؤلف:[أني].

قوله: {إِلَّا أَنَّمَا أَنَا} هذه الصيغة تكون أشد تأكيدًا للحصر، لأن الحصر استنفدناه من قوله:{إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا} واستثناه أيضًا من قوله: {أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)} فحُصِرَ حال النبي عليه الصلاة والسلام بأنه نذير مبين، وهذا الحصر حصر إضافي، أي: إنما أنا في هذه المسألة خاصّة، وهو الوحي، نذير مبين، وإلا فإنه بشر ينسى ويأكل ويشرب ويبشر، فالحصر إذًا إضافي بحسب السياق. وقوله {مُبِينٌ (70)} قال المؤلف:[بيّن الإنذار] والصواب: مُظهِر، وليست من أبان اللازم، بل هي من أبان المتعدي؛ لأن كلمة أبان تكون لازمة، كما تقول: أبان الصبح، أي: ظهر، وتكون متعدية، كما لو قلت: هذا مبين لهذا، أي: مظهر له، فالصواب: أن مبين هنا بمعنى مُظهِر.

ص: 231

الفوائد:

1 -

من فوائد هذه الآيات: عظم ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام من الوحي، وأنه نبأ عظيم، وهذا كقوله: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)[النبأ: 1 - 3].

2 -

ومن فوائدها: أنه متى عَظُمَ هذا النبأ العظيم، عَظُمَ مَن يأخذ بهذا النبأ لأنه أساس ومنهاج وطريق، فإذا عظم، عظم الآخذ به، ولهذا كانت الأمة الإسلامية عظيمة مرموقة مهيبة حين كانت آخذة به.

3 -

ومن فوائد هذه الآية: القدح في من أعرض عن هذا النبأ العظيم لقوله: {أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68)} يعني كيف يليق بكم أن تعرضوا عنه مع أنه نبأ عظيم؟ !

4 -

ومن فوائد قول الله عز وجل: {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)} نفي علم الرسول صلى الله عليه وسلم بالغيب سواء كان مستقبلًا أم حاضرًا ولكنه غائب عنه لقوله: {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى} نفي علم بملأ موجود لكنه غائب عنه، فإذا كان لا يعلم الغائب الموجود، فالغائب عنه المنتظر من باب أولى.

5 -

ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات الملأ الأعلى وهم الملائكة عليهم السلام.

6 -

ومن فوائدها: بيان علو مرتبة الملائكة، كما أن مكانهم كذلك عال، لأنهم في السماوات، كما قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي

ص: 232

السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26] وعلو المرتبة فيهم اختلف العلماء هل هي أعلى من البشر الصالحين أم صالحوا البشر أعلى من الملائكة وأفضل؟ فمنهم من قال: إن الملائكة أفضل، ومنهم من قال: إن صالحي البشر أفضل، والنزاع هنا قليل الفائدة، لأننا نعلم أن الملائكة لهم خصائص لا يلحقهم فيها البشر، وللبشر خصائص لا يلحقهم فيها الملائكة، فالتفضيل على الإطلاق لا يصح، لأن هؤلاء لهم ميزة وهؤلاء لهم ميزة.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الملائكة أفضل باعتبار كمال البداية؛ لأنهم خلقوا من نور، والنور أكمل وأفضل من الطين والتراب، وإن البشر أفضل باعتبار النهاية، لأن البشر يكونون في رحمة الله، والملائكة أنفسهم يدخلون عليهم من كل باب يهنئونهم {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)} [الرعد: 24].

ولكن الذي أرى أنه ينبغي أن يقال: إن التفضيل ليس باعتبار البداية والنهاية بل باعتبار بعض الخصائص التي تكون لهؤلاء دون هؤلاء.

7 -

ومن فوائد الآية: إثبات أن الملائكة عليهم السلام ذوو عقول لقوله: {إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)} .

8 -

ومن فوائدها: إثبات المناظرة والمخاصمة بين الملائكة، كما هي أيضًا تكون بين الرسل وأقوامهم، وبين أتباع الرسل بعضهم مع بعض.

ص: 233

9 -

ومن فوائد قوله تعالى: {إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)} إثبات الرسالة للرسول صلى الله عليه وسلم لقوله: {إِنْ يُوحَى إِلَيَّ} والوحي يكون للرسول إذا كان أوحي إليه أن ينذر الناس ويبشر الناس، ولكن الوحي يكون أحيانًا بالإلهام كما في قوله تعالى:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} [النحل: 68] فهذا وحي إلهام، وكما في قوله تعالى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7] هذا أيضًا وحي إلهام وليس وحي نبوة وإرسال.

10 -

ومن فوائد هذه الآية: إثبات أن الرسول صلى الله عليه وسلم نذير.

11 -

ومن فوائدها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم مبين لكل ما أنذر به؛ لأن معنى مبين مظهر للحق والوحي الذي جاء به.

12 -

ومن فوائدها: أنه لا يمكن أن يكون في شريعة النبي عليه الصلاة والسلام شيء مجهول أبدًا، بل كل ما جاء به فهو بيِّن، لكن الجهل أمر نسبي قد يكون الجهول شيئًا معينًا لبعض الناس، وهو بيِّن معلوم لأناس آخرين.

{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71)} قال المؤلف: [اذكر {إِذْ قَالَ}]، فأفادنا رحمه الله أن {إِذْ قَالَ} متعلق بمحذوف تقديره: اذكر {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71)} هو آدم، وقوله:{إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا} بشرًا: مفعول به لخالق لاستكمال شروط العمل [{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} : أتممته {وَنَفَخْتُ} : أجريت {فِيهِ مِنْ رُوحِي} فصار

ص: 234

حيًّا. . .] إلى آخره. قال المؤلف: [{وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} أجريت] وكأنه رحمه الله أَوَّلَ النفخَ بالإجراء، ولكن هذا خلاف ظاهر الآية، فظاهر الآية أن الله تعالى نفخ فيه من روحه، وهذا النفخ نثبته على ظاهره، لكن بدون أن يكون مماثلًا لنفخ المخلوقين. وتفسيره بالإجراء تفسير باللازم؛ لأنه إذا نفخ فيه الروح لزم أن تجري في البدن وتسري فيه.

وقوله: {فِيهِ مِنْ رُوحِي} قال المؤلف: [إضافة الروح إليه تشريف لآدم] يعني من روحي، ليس المراد من جزء مني، ولكن المراد من روحي، أي: من الأرواح التي خلقتها، وأضافها الله إلى نفسه تشريفًا وتعظيمًا، كما أضاف البيت إليه في قوله:{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج: 26] وكما أضاف المساجد إليه في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ} [البقرة: 114] وكما أضاف الناقة إليه في قوله تعالى: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} [الأعراف: 73] فالمضاف إلى الله إذا كان مخلوقًا فإن إضافته إليه تكون من باب التشريف والتعظيم، إذا كان هذا خاصًّا، أما إذا كان عامًّا فهو من باب الشمول والعموم، كقوله:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13].

ثم قال: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [ص: 72] قال المؤلف: [والروح جسم لطيف يحيا به الإنسان بنفوذه فيه] لو قال المؤلف: يحيا به الكائن الحي لكان أعم، لأن الإنسان له روح، والبهائم لها روح، وقول المؤلف:[جسم لطيف] أما كونه جسمًا فلأنه ثبت في القرآن الكريم أنها تقبض وتتوفى، وثبت في السنة أنها تكفن، تلف في الكفن

ص: 235

إما من الجنة أو النار

(1)

، وهذا يدل على أنها جسم، لكنه جسم لطيف لا يرى بالعين، إذا حل في الجسد حَيِيَ، وإذا فقد من الجسد صار الجسد جمادًا.

ونحن نشاهد مما يصنعه الآدمي ما يكون مثل هذا، إذا كان عندك سالب وموجب في الكهرباء واتصل بعضهما ببعض يسري التيار الكهربائي في المصباح الكهربائي فيضيء، والتيار الكهربائي شيء لا يرى بالعين، وإذا فقد أو قطع التيار أظلم المصباح. هذا وهو من صنع البشر، فكيف بالأمور الخارقة التي لا يعلمها إلا الله {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85]. وهذا الذي فسر المؤلفُ الروحَ به هو أحسن ما قيل في تفسير الروح.

يقول الله تعالى: {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)} قعوا: فعل أمر، والوقوع معناه: خروا على الأرض ساجدين، قال المؤلف:[سجود تحية بالانحناء] أما قوله: سجود تحية، فلا شك أن هذا هو المراد، يعني لا سجود عبادة، وأما قوله: بالانحناء ففيه نظر؛ لأن السجود هو الوقوع على الأرض، وهو ظاهر الآية، ولكن يقال: إن هذا السجود تحية كان جائزًا، ولكنه نسخ بعد ذلك {سَاجِدِينَ (72)} محلها من الأعراب حال من الفاعل في قعوا.

قال الله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73)} [فيه تأكيدان، وهما: كل وأجمعون {إِلَّا إِبْلِيس} قال المؤلف: [هو أبو

(1)

انظر حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 30/ 499 - 503 (18534).

ص: 236

الجن كان بين الملائكة] قوله: هو أبو الجن دليله قوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} [الكهف: 50] والدليل على أنه من الجن قوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] إذن فالجن ذرية الشيطان، والإنس ذرية آدم. نعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

قال المؤلف: [{إِلَّا إِبْلِيسَ} كان بين الملائكة] ولم يقل المؤلف: كان من الملائكة، لأن الله سبحانه وتعالى قال:{إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] إذن هو كان بينهم، ومن كان بين الناس فهو من الناس، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن مولى القوم من أنفسهم"

(1)

فهذا إبليس كان مع الملائكة يتعبد بعبادتهم فصح أن يشمله الخطاب الموجه إلى الملائكة، ولهذا لامه اللهُ على عدم السجود، فدلَّ على أن الخطاب كان شاملًا له.

{إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)} [في علم الله]، قول المؤلف:[في علم الله] بناء على أن "كان" تدل على المضي، ولكنه قد مرَّ علينا أن "كان" قد تكون مسلوبة الدلالة على الزمان، ويكون المراد بها الاتصاف بخبرها، كما في قوله تعالى:{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)} [النساء: 96] المعنى اتصف بالرحمة. إذًا نقول في هذه الآية {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} أي: واتصف بالكفر، ولا حاجة أن نقول: كان

(1)

أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 39/ 300 (23872)، وأبو داود، كتاب الزكاة، باب الصدقة على بني هاشم (1650)، والترمذي، باب ما جاء في كراهية الصدقة للنبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته ومواليه (657).

ص: 237

في علم الله، لأننا نقول: إن "كان" هنا مسلوبة الدلالة على الزمن فالمراد بها مجرد الاتصاف.

{قَالَ يَاإِبْلِيسُ} الفاعل في قال هو الله، لأنه قال:{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)} قال: {قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} يعني: أي شيء منعك؟ وهذا الاستفهام للتوبيخ والتعجب. يعني كيف تمتنع لمن خلقته بيدي، فالله تعالى خلق آدم بيديه، وهذا شرف له، وأمر الملائكة، وكان بينهم إبليس، بالسجود له تشريفًا له، فما الذي منعك أن تسجد؟

قال المؤلف في تفسير قوله: {بِيَدَيَّ} [أي: توليتُ خَلْقَه، وهذا تشريف لآدم، فإنَّ كلَّ مخلوق تولىّ الله خَلْقَه] عفا الله عنك أيها المؤلف يقول: [توليتُ خَلْقَه] فرارًا من إثبات اليد لله، ولا شك أن هذا تحريف، وأجاب عن الإضافة في قوله:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} بأن هذا تشريف لآدم، وإلا مخلوق فإن الله قد تولى خَلْقَه.

وبناء على كلام المؤلف لا يبقى لآدم عليه السلام فضل على سائر المخلوقات ما دمنا نفسر {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} أي: توليتُ خَلْقَه فإن الله تولى خلق بني آدم، وخلق الإبل والبقر والغنم وغير ذلك، فلم يبق لآدم فضل على أي أحد، بل لم يبقَ لآدم فضل على الشيطان الذي أبى أن يسجد، لأن الشيطان تولىَّ خلقه اللهُ عز وجل، ولهذا نقول إن المؤلف: أخطأ في هذا، وأن معنى الآية: أن الله تعالى خلقَ آدمَ بيده، وخلق غيرَ آدم من الشياطين والملائكة بكلمته، أي: بقول

ص: 238

كن، أما آدم فبيده، وهذا هو وجه الميزة والخصيصة لآدم عليه السلام أن الله خلقه بيده.

{أَسْتَكْبَرْتَ} [الآن عن السجود؟ استفهام للتوبيخ {أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75)} المتكبرين، فتكبرت عن السجود] مع الذين منزلتهم فوق، لأن الذي يأبى إما أن يكون في مكان أرفع فيكون مستحقًا للإباء، أو يكون مستكبرًا وموضعه دُونٌ، فيجعل نفسه في محل عالٍ، والله يقول له: هل أنت مستكبر أو أنك عالٍ في مرتبة أعلى من آدم، بل أعلى ممن أمرك ما الجواب؟

قال المؤلف: [{أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75)} المتكبرين، فتكبرت عن السجود لكونك منهم] أي: من العالين، وأما قول المؤلف: إن العالين هم المتكبرون فإنه يؤدي إلى أن لا يكون فرق بين المتقابلين، لأنه قال:{أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75)} ولم يقل: من المتكبرين، ولذلك يعتبر تفسير المتعالين بالمتكبرين خطأ بل {أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75)} أي: الذين علت منزلتهم بحيث لا يوجه إليهم الأمر بالسجود لمن هو دونهم، فإباء الشيطان عن السجود لآدم إما أن يكون لوصف يستحقه، وهذا يدل عليه {أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75)} أو لوصف لا يستحقه ولكنه استكبر، ورأى نفسه كبيرًا، وهذا في قوله:{أَسْتَكْبَرْتَ} .

قال الشيطان جوابًا على سؤال الله تعالى: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)} ، {خَيْرٌ مِنْهُ} من آدم، وهذه دعوى، وكل

ص: 239

إنسان يضيف الشيء إلى نفسه فإنه مدعٍ، وهذه قاعدة في الفقه، والمدعي عليه البينة. أتى إبليس ببينته فقال:{خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ} ولهذا نقول الجملة هنا استئنافية لبيان وجه الخيرية {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)} ، سبحان الله، الذي يُخلَق من النار خير من الذي يُخلَق من الطين، مع أن النار التي خُلِق منها الشيطان ليست هي نارًا مضيئة إنما هي {مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن: 15] أي: النار التي تكون في أعلى اللهب بين الدخان وبين النار المضيئة، حمراء معتمة، إنه اللهب المختلط بسواد النار، هذا المخلوق من هذه النار أيكون خيرًا من المخلوق من الطين البارد النافع؟ سبحان الله، هذا قلب للحقائق، ولهذا نقول: هذه دعوى مستندة إلى بينة زائفة باطلة. الدعوى {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} والبينة {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)} وهذه ليست بينة، هذه حجة عليه وليست حجة له، وقد ذكر أهل العلم في هذا المقام بيان أن ما خُلق منه آدم خير مما خُلق منه إبليس.

قال الله تعالى: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا} قيل: من الجنة، وقيل: من السماوات. والملائكة كلهم في الجنة في السماوات {فَاخْرُجْ مِنْهَا} أي: من السماوات هو أقرب للفظ. {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77)} رجيم، أي: مرجوم فهي فعيل بمعنى مفعول، ومعنى مرجوم، أي: مطرود مُبعَد، كما يبعد الإنسان إذا رجم، ومن المعلوم أن الرجل إذا أردنا أن نبعده كثيرًا صحنا به أولًا، فإذا هرب أتبعناه الحجارة فكان هذا أشد إبعادًا.

ص: 240

{وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78)} حاقة عليك لعنة الله، أي: طرده وإبعاده {إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78)} يوم الجزاء، وبعد يوم الدين لا تزول اللعنة لكنها إذا امتدت إلى يوم الدين فمعناه أنه قانط من رحمة الله، لا يمكن أن يُرحم. والذي تبقى معه اللعنة إلى يوم الدين لا يمكن أن تناله الرحمة.

قال الله تعالى: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79)} أي: الناس {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81)} طلب من الله أن يُنظِرَه إلى يوم بعث الناس، فهل أجابه الله إلى طلبه؟ أجابه الله إلى يوم الوقت المعلوم، قال المؤلف:[وقت النفخة الأولى] أي: قبل البعث، لأن الناس لا يبعثون إلا في النفخة الثانية، لكنهم يصعقون في النفخة الأولى، وهو أي: الشيطان إنما يريد أن يبقى حتى لا يبقى من بني آدم أحد، لأنه صار في نفسه غِلّ وحِقْد عظيم على آدم وذريته، كيف أُمر أن يسجد له؟ وكيف حكم بكفره لما أبى؟ صار في نفسه غِلّ وحِقْد، فسأل الله أن يبقيه إلى يوم البعث، فأجابه الله أن يبقى إلى يوم الوقت المعلوم، وإجابة الله إياه لحِكَم عظيمة نذكرها إن شاء الله مع الفوائد.

{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} يحتمل أن تكون الباء للقسم، ويحتمل أن تكون للاستعانة، فإن قلنا: إنها للقسم فقد أقسم بعزة الله، واختياره الإقسام بالعزة، لأن العزة فيها الغلبة، فأقسم بوصف لله يكون به

ص: 241

الغلبة، وإن قلنا: إنها للاستعانة فظاهر أن الاستعانة بعزة الله التي إذا أعان الله بها العبد غلب. {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)} اللام الواقعة في جواب القسم في قوله: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ} تؤيد أن الباء هنا للقسم؛ لأن هذا هو جواب القسم، وأغوينهم، أي: أسلك بهم طريق الغي، وهو خلاف طريق الرشد {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ} أي: من بني آدم {الْمُخْلَصِينَ (83)} الذين أخلصتهم. وهذا كقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42].

قال الله تعالى: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)} {قَالَ فَالْحَقُّ} الحق: مبتدأ لأنه متضمن معنى القسم بدليل أنه أُخبر عنه بجواب القسم وهو قوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} وقد أعربه المؤلف فقال: [بنصبهما ورفع الأول ونصب الثاني]{قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84)} فَنَصْبُهُ بالفعل بعده، أي: أن {وَالْحَقَّ} مفعول مقدَّم لأقول، أي: لا أقول إلا الحقّ، وتقديم المفعول أفاد الحصر، [ونصب الأول، قيل: بالفعل المذكور، وقيل: على المصدر، أي: أُحِقُّ الحقَّ، وقيل: على نزع حرف القسم، ورفعه على أنه مبتدأ محذوف الخبر، أي: فالحقُّ مني، وقيل: فالحقُّ قسمي، وجواب القسم {لَأَمْلَأَنَّ}].

إعرابات متعددة بنصبهما، نقول الثاني نصبه بالفعل بعده وهو واضح {وَالْحَقَّ أَقُولُ (84)} لأن الفعل بعده لم يستكمل مفعوله، ولم نجد مفعولًا له إلا الحق الذي سبق، إذًا الحق الثانية منصوبة بأقول

ص: 242

على كل حال، والخلاف في الأولى، الأولى إما منصوبة وإما مرفوعة، نصبها فيه أوجه: قيل: بالفعل المذكور، أي: فالحقَّ أقول والحقَّ أقول، فيكون الحق الأولى والثانية منصوبة بأقول، كما لو قلت: زيدًا وعَمْرَاً ضربتُ، فزيدًا وعمرًا منصوبان بضربت، إذن الحق، والحق منصوبان كلاهما بأقول، وقيل على المصدر أي: فأُحقُّ الحقَّ، وعلى هذا فيكون مصدرًا عامله محذوف تقديره: فأحق الحق، وقيل: على نزع حرف القسم، يعني فبالحق أقسم؛ لأنه إذا نزع الخافض نصب المخفوض، ولهذا يرد كثيرًا قولهم: منصوب بنزع الخافض، هذه ثلاثة أوجه، ورفع (الحقُّ) الأولى على أنه مبتدأ محذوف الخبر، أي: فالحقُّ مني، وهذا ضعيف، وقيل: فالحق قسمي، وهذا أقل ضعفًا من الأول، والذي يظهر لي أنه لا حاجة إلى هذا، والأحسنُ أن نقول: الحقّ: مبتدأ ضُمّن معنى القسم، وأجيب بقوله:{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} وصار في جواب القسم كفاية عن خبر المبتدأ، واستغني بجواب القسم عن خبر المبتدأ كما يستغني بجواب القسم عن جواب الشرط فيما إذا اجتمع شرط وقسم.

قال: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ} {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ} المراد الجنس ولهذا قال المؤلف: [بذريتك {وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ} أي: الناس، الذين أقسمت أن تغويهم {أَجْمَعِينَ} . ولهذا كانت النار دارًا لصنفين من المخلوقات فقط، وهما الجن والإنس، فالملائكة ليسوا من أهلها، والوحوش والحشرات وغيرها ليسوا من أهلها، لا يدخل النار إلا صنفين من المخلوقات، وهما الناس والجن.

ص: 243

الفوائد:

1 -

من فوائد هذه الآيات: إثبات الكلام لله عز وجل لقوله تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ} وإثبات أن كلامه بصوت مسموع تسمعه الملائكة في هذه القصة، وإثبات أنه بحرف، أي: بحروف متتابعة يتبع بعضها بعضًا لقوله: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71)} وكل هذا تأكيد لمذهب أهل السنة والجماعة، وقي هذا إثبات أن الكلام يتعلق بمشيئته.

2 -

ومن فوائد هذه الآيات: إثبات الخلق لله تعالى وأنه متعلق بمشيئته لقوله: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا} أي: سأخلقه.

3 -

ومن الفوائد: إثبات أن أصل بني آدم هو الطين، ولهذا جاءت طبائع بني آدم وألوانهم مختلفة كاختلاف الأرض، أو كاختلاف تربة الأرض فيها السهل واللين، والأحمر والأبيض والأسود، والحزن والصعب، لأنهم خلقوا من هذه التربة فصار اختلافهم كاختلاف الأصل الذي خلقوا منه.

وقلنا هنا: إن في هذه الآية إثبات أن بني آدم خلقوا من الطين، وفي آيات أخرى أنهم خلقوا من التراب، وفي آية ثالثة من صلصال كالفخار، ولا منافاة بين هذه الآيات، لأن التراب أصله طين، والطين أصل الصلصال الذي كالفخار، فالتراب يصير طينًا وحين يمكث مدة يتحجر فيكون صلصالًا.

4 -

ومن فوائد الآيات: إثبات الأفعال لله تعالى لقوله: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} وأن أفعاله تتعلق بمشيئته، لأن (إذا) شرطية تفيد المستقبل.

ص: 244

5 -

ومن فوائد هذه الآية: أن الله تعالى أتم خلق آدم فسواه كما قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4].

6 -

ومن فوائدها: تشريف الروح التي نفخت في آدم عليه السلام لقوله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} وهذا تشريف من وجهين:

الأول: أن الله هو الذي نفخها ولم يأمر أحدًا من الملائكة بنفخها.

والثاني: أن الله أضاف هذه الروح إلى نفسه المقدسة.

7 -

ومن فوائد الآية: أن العبادة طاعة الله على أي وجه كانت، حتى وإن كانت محرمة في وقت من الأوقات لقوله:{فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)} فالسجود لغير الله علامة شرك، لكن لما أمر الله به صار طاعة، والاستكبار عنه كفر.

8 -

ومن فوائد الآية: جواز تعليق الأمر بالشرط لقوله: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} أي: إذا جاز تعليق الأمر بالشرط فإن المأمور به يمكن أن ينفذ فيه الشرط، ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام لضُباعة بنت الزبير وقد اشتكت إليه عند إرادة الحج قال:"حُجِّي واشترطي أن مِحَليّ حيث حبستني"

(1)

"فإن لكِ على ربِّكِ ما استثنيتِ"

(2)

.

9 -

ومن فوائد هذه الآية: أن الملائكة عليهم السلام ذوو عقول يصح توجيه الخطاب إليهم وائتمارهم لقوله: {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)} .

(1)

أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب الأكفاء في الدين (5089)، ومسلم، كتاب الحج، باب جواز اشتراط المحرم (1207).

(2)

أخرجه النسائي في "المجتبى"، كتاب مناسك الحج، كيف يقول إذا اشترط 5/ 168 (2765).

ص: 245

10 -

ومن فوائد قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ} أن الملائكة كلهم سجدوا؛ لأن الآية عامة مؤكد عمومها بمؤكدين وهما: كل وأجمعون في قوله: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73)} .

11 -

ومن فوائد الآية: جواز توجه الأمر (الخطاب) إلى العموم، وإن كان فيهم من غير جنسهم، لقوله:{إِلَّا إِبْلِيسَ} فإن إبليس بلا شك أنه من غير الملائكة أصلًا ونهاية، لكنه كان فيهم، فصح أن يتوجه الخطاب إليه، وهذا ظاهر. لو أنك أمرت جماعة بالسجود، وفيهم من ليس منهم، ولكنه على صفتهم، ويعمل بعملهم، فتخلف لا بد أن تلومه، لأن الخطاب موجه للجميع.

12 -

ومن فوائد هذه الآية: أن الاسم قد يحمل معنى المسمى، لأن إبليس يبدو أنه اسم عربي من الإبلاس، وهو اليأس لأنه أيس من رحمة الله عز وجل، وردّ بأنه لو كان عربيًا لانصرف.

13 -

ومن فوائد هذه الآية: ذم الاستكبار عن أمر الله لقوله: {اسْتَكْبَرَ} ؛ لأن الاستفهام في قوله: {أَسْتَكْبَرْتَ} للتوبيخ وذم الاستكبار.

14 -

ومن فوائد هذه الآية: أن الاستكبار عن أمر الله كفر لقوله: {اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)} جزاء لاستكباره كان من الكافرين. وفرع بعض العلماء على هذا أن تارك الصلاة يكون كافرًا، لأن إبليس كفر، لأنه ترك سجدة، فما بالك بالذي يترك سجدات وركوعات وقيامًا وقعودًا، وهذا ليس بعيد، أي: أن الاستدلال بهذه الآية على كفر تارك الصلاة ليس ببعيد.

ص: 246

15 -

ومن فوائد هذه الآية: توبيخ إبليس لترك السجود لن شرفه الله عز وجل وأمره بالسجود له لقوله: {قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} .

16 -

ومن فوائدها: أن كلام الله تعالى يتعلق بمشيئته حيث صدر هذا القول بعد استكبار إبليس وتركه السجود.

17 -

ومن الفوائد: إثبات اليدين لله تعالى لقوله: {بِيَدَيَّ} وهذه صيغة تثنية تفيد أن لله يدين اثنتين تليق بجلاله.

18 -

ومن فوائدها: شرف آدم عليه السلام من حيث إن الله خلقه بيديه وفضله على غيره بهذا، إلا أنّ أهل العلم يقولون: إن الله غرس جنة عدن بيده وكتب التوراة بيده.

19 -

ومن فوائد هذه الآية: الرد على أهل التعطيل الذين قالوا: إن المراد باليد النعمة أو القوة، وذلك أن النعمة أو القوة لا تأتي بصيغة التثنية، لأن صيغة التثنية تدل على الحصر، وقوة الله غير محصورة، ونعمه أيضًا غير محصورة، قال تعالى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18].

20 -

ومن فوائد هذه الآية: أن يد الله لا تماثل أيدي المخلوقين، لأن الله أضافها إلى نفسه، والمضاف يكون حسب المضاف إليه، فكما أن ذات الله مقدسة لا تماثل ذوات المخلوقين، كذلك صفاته.

21 -

ومن فوائد هذه الآية: استعمال الحصر، أو كما يقولون: السبر والتقسيم في المناظرة والمجادلة لقوله تعالى: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ

ص: 247

مِنَ الْعَالِينَ (75)} وقد سبق تفسيرها. بأن المعنى: هل أنت استكبرت في نفسك، وأنت لست أهلًا للعلو، أو كنت عاليًا في أصلك حتى تمتنع عن السجود، أم أنت أكبر وفي مرتبة عالية أعلى من آدم حتى تمتنع عن السجود؟

22 -

ومن فوائدها: تنزيل الأشياء منازلها كقوله: {أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75)} لأن العالي إذا كان عاليًا على غيره فإنه لا يمكن أن يُنزَّل حتى يكون أنزل مِن غيره، بل كل أحد يُنزَّل في منزلته.

23 -

ومن فوائدها: بيان الدعوة الكاذبة التي ادعاها إبليس في قوله: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} .

24 -

ومن فوائدها: أن الإنسان قد يعمَى عن الحق فيستدل بما هو حجة عليه، يظن أنه حجة له لقوله:{خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)} .

25 -

ومن الفوائد: أن من قدَّم العقل على السمع فإنما هو متبع لخطوات الشيطان، لأن الشيطان قدَّم ما يدعي أنه عقل على السمع فأخطأ في ذلك، فهكذا كل من قدم العقل على السمع سواء في العلميات وهي علم العقائد، أو في العمليات فإنه مشابه لإبليس، متبع لخطواته، واعلم أن كلَّ بليه تقع من تحريف الكلم عن مواضعه، والاستكبار عن عبادة الله وغير ذلك فأصله من إبليس.

26 -

ومن الفوائد: إقرار إبليس بأن الله هو الخالق لقوله: {خَلَقْتَنِي} {وَخَلَقْتَهُ} .

ص: 248

27 -

ومن الفوائد في هذه الآية: أن إبليس كان قد أقر بانحطاط منزلته عن الربوبية لقوله: {خَلَقْتَنِي} والمخلوق لا يمكن أن يكون ربًا.

28 -

ومن الفوائد في الآيات: أن إبليس أعلم بحقائق صفات الله تعالى من كثير من أهل التعطيل، فالذين فسروا اليد بالقوة هنا لو كان تفسيرهم صحيحًا لقال إبليس: يا رب وأنا خلقتني بيديك، لأن الله خلق إبليس بقوته كما خلق آدم، لكن إبليس فهم أن المراد باليد غير القوة، ولهذا لم ينقض فضيلة آدم بأنه هو خُلِق بيد الله.

29 -

ومن فوائدها: أن إبليس في استكباره وإبائه صار مستحقًا للطرد والإبعاد ولهذا قيل له: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77)} .

30 -

ومن فوائدها: أن إبليس لما أُخرج أُبلغ بأنه مرجوم، والرجم زيادة على الطرد.

31 -

ومن الفوائد: أن إبليس ملعون لقوله: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78)} وفي آية أخرى: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35)} [الحجر: 35] فهل نقول: إن اللعنة المطلقة في قوله: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ} هي المقيدة في قوله هنا: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي} أو نقول: إن اللعنة هناك أعم فعلى إبليس لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، يحتمل هذا وهذا، يحتمل أن نأخذ بالمطلق؛ لأنه أعمّ، ويحتمل أن نحمل المطلق هناك على المقيد هنا.

32 -

ومن الفوائد في الآية: أننا لا ندعو على إبليس باللعنة، لأنه قد استحق هذه اللعنة بأمر الله أو بخبر الله {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي} فلا

ص: 249

حاجة إلى أن تقول: إبليس لعنه الله، لأنه ملعون. وقد قال ابن القيم رحمه الله على قول الرسول عليه الصلاة والسلام:"إن الشيطان يتعاظم في نفسه إذا قيل: تعس الشيطان"

(1)

قال: إن مثل ذلك إذا دعي عليه باللعنة والتقبيح وما أشبه ذلك، فإنه يتعاظم في نفسه، أي: كأنه لم يُقدَّر عليه ذلك، فإذا كان قد قُدِّرَ عليه فلا حاجة أن أدعو الله عليه، ولكن أستعمل ما أمرني الله به في قوله:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف: 200]. فإن قيل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم قال لإبليس لما جاءه في الصلاة بشهاب من نار ليجعله في وجهه، قال:"أعوذ بالله منك" ثلاث مرات، ثم قال:"ألعنك بلعنة الله"

(2)

.

فالجواب: بلى، لكن الرسول قيدها فقال:"ألعنك بلعنة الله".

33 -

ومن الفوائد في هذه الآية: إثبات الجزاء لقوله: {إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78)} والدين هنا بمعنى الجزاء.

34 -

ومن الفوائد في هذه الآيات: أن الله أجاب طلب إبليس ودعاءَه لكن لا {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79)} بل {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81)} ويوم الوقت المعلوم، هو يوم موت الناس أجمعين حين ينفخ في الصور فيصعقون جميعًا.

35 -

ومن الفوائد في هذه الآيات: أن الله قد يقدر أسباب الشر لحكمة، وذلك بإجابة دعاء إبليس أن ينظره إلى يوم الوقت المعلوم،

(1)

أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 34/ 198 (20591).

(2)

أخرجه مسلم، كتاب المساجد، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة (542)(40).

ص: 250

وإبليس لا شك أنه مبدأ كل شر، ولكن الله تعالى أبقاه لحكمة عظيمة، ولولا بقاء إبليس ما وجد عاص في الأرض، وإذا انتفى العصيان صار الناس أمة واحدة، ولم يكن الإيمان مزية، ولم يكن جهاد ولا أمر بالمعروف ولا نهي عن المنكر، ولو كان الناس أمة واحدة لتعطل كثير من شعائر الإسلام، فكان من الحكمة بقاء إبليس، وبقاء ما يدعو إليه إبليس.

36 -

ومن فوائد هذه الآيات: معرفة إبليس بالله حيث أقسم بعزة الله أن يغوي بني آدم لقوله: {فَبِعِزَّتِكَ} .

37 -

ومن فوائدها: أن من أسباب الإعانة أن يستعين الإنسان بما يناسب المقام من أسماء الله وصفاته، لأنه لم يقل: فبمغفرتك لأغوينهم، لو قال: فبمغفرتك لم يناسب المقام، لأنه يريد أن يتسلط والسلطة يناسبها من الصفات العزة دون المغفرة.

38 -

ومن فوائد هذه الآيات: أن إبليس وعد متوسلًا بعزة الله أن يغوي جميع بني آدم. ويتفرع عن هذه الفائدة أنه يجب الحذر من إبليس ووساوسه، فإذا قال قائل: ما الذي يُعلمني بوساوس الشيطان؟

الجواب سهل: كل شيء يأمرك بمنكر فهو من إبليس، وكل ما يثبِّطك عن الخير فهو من إبليس، فاحذر. فإذا وجدت في نفسك تأخرًا في الخير فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وإذا وجدت في نفسك إقدامًا على الشّر فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم، قال تعالى:{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268].

ص: 251

39 -

ومن فوائد هذه الآيات: مزية عباد الله تعالى المخلصين حيث سَلِمُوا من إغواء إبليس.

40 -

ومن فوائدها: أنه كل من كان لله تعالى أعبد كان أشد عصمة من الشيطان ووساوسه، لأنه استثنى من إغواء بني آدم عباده المخلصين، والمعلَّق بوصف يقوى بقوة ذلك الوصف.

41 -

ومن فوائد الآيات: أن الله تعالى يمن على من يشاء من عباده فيخلصهم له لقوله: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} [ص: 83].

42 -

ومن فوائد هذه الآيات: أن قول الله تعالى كلَّه حقٌّ لقوله: {وَالْحَقَّ أَقُولُ} قدم المعمول لإفادة الحصر.

43 -

ومن فوائدها: أن كل ما قدره الله تعالى فهو حق، سواء كان ملائمًا للبشر أو غير ملائم. وجه ذلك أن كل شيء قدّره الله كائن بقوله: كن، وكن قول، فإذا كان كل ما قاله الله حقًا لزم أن يكون كل ما قضاه حقًا، وهو كذلك، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام:"الخير كلُّه بيديك، والشر ليس إليك"

(1)

.

44 -

ومن فوائد هذه الآيات: أن الشيطان في جهنم لقوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ} .

45 -

ومن فوائدها: أن الله تعالى وعد جهنم بملئها، ويتفرع عن هذه الفائدة الحذر الشديد من أن يكون الإنسان من أهل جهنم، نعوذ بالله منها، وقد ثبت في الصحيحين: "أن جهنم لا تزال يُلقى

(1)

أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه (771)(201).

ص: 252

فيها وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع ربُّ العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط"

(1)

.

46 -

ومن فوائد هذه الآيات: أن للشيطان أتباعًا لقوله: {وَمِمَّنْ تَبِعَكَ} فإذا قيل: مَنْ أتباعه؟ قيل: المستكبرون عن عبادة الله، لأن أعظم ميزة يتميز بها الشيطان أنه مستكبر عن طاعة الله، فكل مَن استكبر عن طاعة الله فإنه مِن أتباع الشيطان.

* * *

يقول الله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْه} أي: على ما جئت به وعلى تبليغه {مِنْ أَجْرٍ} من: زائدة، وأجر: مجرور لفظًا منصوب محلًا على أنها مفعول به ثان لقوله: {أَسْأَلُكُمْ} .

واعلم أن سأل إن تعدت بـ "عن" فهي بمعنى الاستفهام، وإن تعدت بنفسها نصبت مفعولين، فهي بمعنى طلب العطاء، فإنَّ قولك: سألته عن كذا، يعني: الاستفهام، وإذا قلت: سألته كذا، فهو طلب العطاء، وهنا سأل طلب عطاء وعلى هذا فإن {أَجْرٍ} محلها النصب، وقول المؤلف:[جُعْل] تفسير لأجرٍ، يعني لست أطلب منكم أن تعطوني دراهم، أو تعطوني أرزاقًا، أو تزوجوني بناتكم، أو تسكنوني قصوركم على تبليغ الرسالة، ولكنه صلى الله عليه وسلم إنما يسأل الأجر مِن الله عز وجل.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30] (4848)، ومسلم، كتاب الجنة، باب النار يدخلها الجبارون (2848)(38).

ص: 253

{وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} أي: المتقولين القرآن من تلقاء نفسي، أي: وما أنا من المتقولين، ولكن عدل عن المتقولين إلى المتكلفين، لأن القرآن لا يمكن أن يأتي بمثله البشر حتى لو تكلف الإنسان وبذل الجهد، فإنه لا يمكن أن يأتي بمثله، ولما كان هذا القرآن لا يأتي بمثله البشر صار مَن أتى به متكلفًا لو كان جاء به من عنده، فهو يقول: أنا لا أتقول القرآن لا عن يسر ولا عن كلفة.

{إِنْ هُوَ} [أي: ما القرآن]. {إِنْ} فسرها المؤلف ب "ما"، وقد ذكرنا علامة "إن" التي بمعنى "ما" أن يأتي بعدها "إلا". [{إِنْ هُوَ} أي: ما القرآن {إِلَّا ذِكْرٌ} عظة {لِلْعَالَمِينَ} للإنس والجن العقلاء دون الملائكة] وقول المؤلف: [دون الملائكة]، إنْ أراد بإخراج الملائكة أنهم لا يكلفون بالعمل به فقد يكون مُسلّمًا، وإن أراد أنهم لا يتذكرون به ولا يتقربون به فهذا غير مسلم، لأن الله تعالى يقول:{كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 11 - 16] والمراد بهم الملائكة.

وقوله: {ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} تقدم معنى الذكر في أول السورة، وتقدم قريبًا {هَذَا ذِكْرٌ} [صَ: 49] وهذه الثالثة، والمعنى أنه ذكر بنفسه وشرفه وذكر بالوعظ به.

{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)} قال المؤلف رحمه الله: [{وَلَتَعْلَمُنَّ} يا كفار مكة {نَبَأَهُ} خبر صِدْقِه {بَعْدَ حِينٍ} أي: يوم القيامة] قوله: {وَلَتَعْلَمُنَّ} جعل المؤلف الضمير في تعلمن عائدًا إلى كفار مكة

ص: 254

بناء على أن الخطاب المذكور في هذه السورة لأهل مكة، لأنها مكية، ولكن قد ذكرنا أن العبرة بالعموم لا بخصوص المكان أو السبب، والخطاب لجميع الناس {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} فإن هذا النبأ الذي أنبا الله به بواسطة هذا القرآن الكريم سيعلمه الناس كلهم، وذلك ما أخبر به عما يكون يوم القيامة، فإن هذا القرآن أخبر عن ما يكون يوم القيامة، وهذا سيعلمه الناس كلهم بعد حين.

وهناك أشياء أخبر عنها القرآن مضت وانقضت، فهذه عَلِمَها بعد حين مَن سبق هذه الحوادث وأدركها، وهناك حوادث ستأتي يعلمها بعد حين مَنْ يدركها، وأما الذي يدركه جميع الناس فهو ما يكون يوم القيامة قال:{بَعْدَ حِينٍ} [أي: يوم القيامة، وعَلِمَ بمعنى عرف]، قال: علم بمعنى عرف، لأنه تعدى إلى واحد {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ} وعلم إذا تعدت إلى واحد فهي بمعنى عرف، كما تقول: علمت المسألة يعني عرفتها، قال:[واللام قبلها: لام قسم مقدر، أي: والله] لتعلمن نبأه.

الفوائد:

1 -

في هذه الآية من الفوائد: أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعلن بأنه لا يسأل على الرسالة أجرًا، أي: أجرًا دنيويًا، وأما أجر الآخرة فلا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم يرجوه، لأنه هو الدال على الخير، الآمر به، ولهذا مُنع ورثة الرسل مِن أن يرثوا شيئًا من أموالهم خوفًا من أن يقال إنما اكتسبه الرسل من أجل الرسالة. قال النبي عليه الصلاة

ص: 255

والسلام: "لا نُورَثُ، ما تركنا صدقةٌ"

(1)

بتنوين الضم، أما قول الرافضة: صدقةً، بتنوين النصب "لا نُورَث ما تركنا صدقةً" فهذا تحريف لفظي ومعنوي، وذلك لأن ما ترك صدقة لا يورث من الأنبياء ولا من غيرهم. لو أوصى الإنسان بشيء يجعل صدقة بعد موته نُفِذ ولم يُوْرَث لقوله تعالى:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] إلا أن ما زاد على الثلث يكون راجعًا إلى اختيار الورثة.

2 -

ومن فوائد هذه الآيات الكريمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسأل الناس أجرًا على دعوة الخلق إلى الحق، وهل هذا خاص به أو عامّ له وللأمة، أي: أنه يحرم على الإنسان أن يأخذ شيئًا على تبليغ الشريعة؟ الجواب: أنه متى وجب الإبلاغ حَرُم أخذ الأجر عليه، لأنه لا يجوز للإنسان أن يأخذ أجرًا على قيامه بالواجب، أما إذا كان ليس بواجب فلا بأس أن يأخذ أجرًا، لأنه يكون تطوعًا إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل. فإذا قال: أنا لا أحبس نفسي إلا بأجر، قلنا له: لا حرج ما دام الإبلاغ ليس بواجب، ويدل لهذا قول النبي عليه الصلاة والسلام:"إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله"

(2)

لكن متى وجب تعليم القرآن على شخص فإن أخذه أجرة على هذا التعليم يكون حرامًا.

3 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق فيما أخبر به من الوحي لقوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} .

(1)

أخرجه البخاري، كتاب فرض الخمس، باب فرض الخمس (3093)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا نورث (1759).

(2)

أخرجه البخاري، كتاب الطب، باب الرُّقَى بفاتحة الكتاب (5737).

ص: 256

4 -

ومن فوائدها: الإشارة إلى أن من الناس مَن يتقوَّل على الله، فيدعي أنه رسول، وهو ليس كذلك، وحينئذٍ نقول: من ادعى الرسالة فإن جاء بآية تدل على صدقه فهو رسول، وإلا فليس برسول، هذا قبل النبي محمد صلى الله عليه وسلم أما ما بعد النبي عليه الصلاة والسلام فمن ادعى الرسالة فهو كاذب، لأن الله تعالى يقول:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] فمن ادعى الرسالة، وأن الله تعالى أرسله بعد محمد عليه الصلاة والسلام فهو كاذب مرتد عن الإسلام ويجب قتله، ولا يرد على هذا أن عيسى عليه السلام ينزل آخر الزمان بصفته رسولًا؟ لأنه كان رسولًا قبل محمد صلى الله عليه وسلم، ثم هو أيضًا لا يأتي بشيء جديد، بل يأتي بشيء أقرَّه النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر به من قبل، وهو أنه يقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام

(1)

يعني أن أخذ الجزية من غير المسلمين لإقرارهم على دينهم له أمد في الشريعة الإسلامية.

5 -

ومن فوائد قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87)} أن هذا القرآن الكريم ذكر للعالين عمومًا يتذكرون به، لكن لا ينتفع به إلا المؤمنون، قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس: 57] وهذا عام {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57] وهذا خاص إذا جعلنا الهدى بمعنى التوفيق، وإذا قلنا الهداية هداية الإرشاد صار عامًا.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب قتل الخنزير (2222)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب نزول عيسى ابن مريم حاكمًا بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم (155)(242).

ص: 257

6 -

ومن فوائد قوله تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)} أن آيات النبي صلى الله عليه وسلم تأتي متتابعة منها ما علم في عهده، ومنها ما علم بعد ذلك، ومنها ما لا يعلم إلا يوم القيامة، والذي يعلم يوم القيامة يكون معلومًا لكل أحد، والذي يعلم في وقته يكون معلومًا لمن أدركه ولمن أتى من بعده، وكذلك نقول في الذي يأتي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم.

7 -

ومن الفوائد: أن الله تعالى تكفل بأن يعلم الناس صدق نبأ الرسول صلى الله عليه وسلم لقوله: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ} فإن هذه الجملة خبرية مؤكدة بثلاثة مؤكدات: اللام والقسم المقدر ونون التوكيد {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)} .

وإلى هنا انتهت هذه السورة الكريمة ونسأل الله تعالى أن يعيدنا عودًا حميدًا مستزيدين من الإيمان والعمل الصالح والعلم، إنه جواد كريم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[تم تفسير سورة ص والحمد لله رب العالمين]

ص: 258