المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌المقدمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ - تفسير العثيمين: يس

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

الفصل: بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌المقدمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ

بسم الله الرحمن الرحيم

‌المقدمة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فإن من توفيق الله سبحانه وتعالى أن يسَّر لفضيلة شيخنا -تغمده الله بوامع رحمته ورضوانه- تفسير سورة "يس" في دروسه العلمية التي كان يعقدها رحمه الله تعالى بالجامع الكبير في مدينة عنيزة.

وقد عهدت مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية إلى فضيلة الشيخ فهد بن ناصر بن إبراهيم السليمان، أثابه الله، بالعمل لإعداد هذا الكتاب للنشر، وتخريج أحاديثه وآثاره، فجزاه الله خيرًا.

نسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، موافقا لمرضاته، نافعًا لعباده، وأن يجزي فضيلة شيخنا عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، ويضاعف له المثوبة والأجر، ويعلي درجته في المهديين، إنه سميع قريب.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللجنة العلمية

في مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

قال المؤلف

(1)

-رحمه الله تعالى-[سورة (يس) مكية، أو إلا قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا} الآية، أو مدنية].

المكي ما نزل قبل الهجرة، وليس ما نزل بمكة، إذ قد ينزل بمكة بعد الهجرة ويكون مدنيًّا، فما نزل قبل الهجرة فهو مكي، وما نزل بعدها فهو مدني، وهذا القول هو الراجح من أقوال أهل العلم، والأقوال في هذه السورة ثلاثة:

الأول: أنها مكية.

الثانية: أنها مدنية.

الثالثة: أنها مكية إلا قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا} .

والذي يظهر أنها مكية؛ لأن أسلوبها أسلوب المكي، والسور المكية تمتاز عن السور المدنية: بقوة الأسلوب، وجزالة

(1)

أخي الكريم: إذا مر بك: قال المؤلف. فالمراد به جلال الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد المحلي رحمه الله تعالى، المتوفي سنة 864 هـ. في تفسيره المسمى "تفسير الجلالين" وقد جعلت كلامه رحمه الله بين معكوفتين هكذا [].

ص: 3

اللفظ، بخلاف السور المدنية فإن أسلوبها ألين؛ لأنه يخاطب قومًا آمنوا، ويخاطب أيضًا قومًا فيهم أهل كتاب، ليس عندهم من البلاغة في اللغة العربية ما عند العرب، فالظاهر -والله أعلم- أنها مكية، وإذا جعلناها مكية فإننا لا نقول باستثناء شيء منها؛ لأن الأصل أن السورة المكية كلها مكية، وأن السورة المدنية كلها مدنية، فمن ادعى استثناء آية، أو آيتين، أو أكثر فعليه الدليل، أما مجرد أن المعنى يليق بأهل المدينة في آية مثلًا، فهذا لا يكفي في الاستثناء؛ لأن الله تعالى قد يذكر معنًا يليق بأهل المدينة توطئة وتمهيدًا حتى يكون الناس على بصيرة، ولهذا يذكر الله تعالى في الآيات المكية قصص موسى عليه الصلاة والسلام مع أن العناية بقصص موسى في المدينة أولى؛ لأن فيها اليهود، أما مكة فليس فيها يهود، فبعض العلماء إذا نظر إلى أن المعنى يليق بالسور المدنية، أو بالأحكام المدنية ذهب يستثني ويقول: إلا آية كذا، إلا آية كذا، وهذا غير مسلم.

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)} البسملة آية من كتاب الله مستقلة، يؤتى بها في ابتداء كل سورة، ما عدا سورة براءة، وليست البسملة من الفاتحة ولا من غيرها، هذا هو القول الراجح، وأما من قال: إنها من الفاتحة وليست من غيرها، فقوله ضعيف لوجهين:

الأول: للتفريق بدون دليل.

والثاني: أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيح وهو قول الله تعالى: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي

ص: 4

نصفين"

(1)

، يدل على أن البسملة ليست من الفاتحة؛ لأنها لم تذكر في هذا الحديث؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يجهر بالبسملة في صلاته، وهذا يدل على أنها ليست من الفاتحة، وإلا لجهر بها كما يجهر في بقية الآيات.

أما إعرابها فهي: جار ومجرور، وصفة وموصوف، وهذا الجار والمجرور متعلق بمحذوف، وهذا المحذوف يقدر فعلًا متأخرًا مناسبًا، وقدرناه فعلًا، لأن الأصل في العوامل الأفعال، ولذلك تعمل الأفعال فعلها بدون شرط، والأسماء التي تعمل عمل الفعل لابد فيها من شروط، وقدرناه مناسبًا أو خاصًّا؛ لأنه أدل على المقصود، وقدرناه متأخرًا لفائدتين:

الأولى: الترك بتقديم اسم الله عز وجل.

الثانية: إفادة الحصر، فعندما تسمي على الوضوء فالتقدير: باسم الله أتوضأ، ولو قلت: باسم الله أبتديءُ فيصح، لكن ابتدائي عام، وأتوضأ أخص، والإتيان بالأخص أدل على المقصود، ولو قلت: أبتديء بسم الله، صح لكن فاتك التأخير، والتخصيص، والفعلية؛ لأنك قلت: أبتديء، وإذا قلت:"أبتديء باسم الله" فاتك التأخير والتخصيص، وإذا قلت:"أتوضأ باسم الله" فاتك التأخير فقط.

ولو قال قائل: هل يمكن أن نستدل لهذا القول بشيء من النص؟

نقول: نعم، قال النبي عليه الصلاة والسلام وهو يخطب

(1)

أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة 38 (395).

ص: 5

الناس في عيد الأضحى: "من لم يذبح فليذبح باسم الله"

(1)

، أو "فليذبح على اسم الله"

(2)

، فخص الفعل.

لفظ الجلالة: (الله) اسم لله رب العالمين، وهو أعلم الأعلام، أعلم حتى من الضمير؛ لأنه اسم يختص بالله لا يمكن أن يشاركه فيه أحد، ولهذا قالوا: أعرف المعارف على الإطلاق اسم الله؛ لأنه لا يشاركه فيه أحد، والضمير إذا قلت "قمت" فلا يشاركني أحد فيه، لكن صالح أن يستعمله غيري، أما الله فلا الشركة فيه.

{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} صفتان لله، والرحمن، والرحيم معناهما ذو الرحمة، لكن الرحمن باعتبارها وصفًا لله، والرحيم باعتبارها فعلًا له، ولهذا كان الرحمن عامًّا، والرحيم خاصًّا، قال تعالى:{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} فالرحمن لوحظ فيه الوصف، والرحيم لوحظ فيه الفعل، ولهذا لما لوحظ في الرحمن الوصف جاء على الأوزان التي تدل على الامتلاء والسعة، فصارت على وزن (فعلان).

والرحمة صفة من صفات الله سبحانه وتعالى الحقيقية الثابتة له على وجه الحقيقة لا المجاز، وقد أنكرها أهل التعطيل، ومنهم الأشاعرة، وقالوا: إنه ليس لله صفة هي الرحمة؛ لأن الرحمة رقة ولين، وهذا لا يليق بالله عز وجل، وفسروها إما

(1)

أخرجه البخاري، كتاب العيدين، باب كلام الإمام والناس في خطبة العيد (985) ومسلم كتاب الأضاحي، باب وقتها 1 (1960).

(2)

أخرجه البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب قوله صلى الله عليه وسلم:"فليذبح على اسم الله"(5500)، ومسلم، كتاب الأضاحي، باب وقتها (1960).

ص: 6

بالإرادة، لأنهم يؤمنون بالإرادة، وإما بالفعل؛ لأن الفعل منفصل عن الفاعل، -يعني المفعول منفصل عن الفاعل- فهم يفسرونها: إما بالإحسان وهو مخلوق منفصل، وإما بإرادة الإحسان؛ لأنهم يقرون بالإرادة، ولا شك أن قولهم هذا باطل، وأنه إنكار صفة من أعظم صفات الله عز وجل وهي من أبرز صفاته، فقد قال الله تعالى:"إن رحمتي سبقت غضبي"

(1)

والعجب كل العجب أنهم يقولون: إن الإرادة دل عليها العقل، والرحمة دل العقل على انتفائها، قالوا: لأن التخصيص دال على الإرادة، فمثلًا هذه سماء، وهذه أرض، وهذه شمس، وهذا قمر، إلى آخره، يدل على الإرادة لأنه لا مخصص إلا بإرادة، أما الرحمة فيقولون: إن العقل لا يدل عليها، بل يدل على انتفائها.

فنقول: عجبًا لكم، دلالة العقل على الرحمة أبلغ وأظهر وأوضح من دلالته على الإرادة، ولهذا جعلتم دلالة العقل على الإرادة بالتخصيص، وهذا لا يفهمه إلا خواص النالس، فلو سألت طالب العلم بدون أن يعرف البحث ما استدل بالتخصيص على الإرادة وهو طالب علم، لكن الرحمة كل يعرف أن لله تعالى رحمة، ويستدل عليها بالعقل، تأتي العامي في السوق فنقول: نزل المطر، واخضرت الأرض، ورويت الزروع، وما أشبه ذلك، من أين هذا؟ فيقول لك مباشرة: من رحمة الله، فيستدل بالنعم

(1)

أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قوله تعالى:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171)} (7453) ومسلم، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها تغلب غضبه (15)(6970).

ص: 7

التي هي من آثار الرحمة على الرحمة، ولكن نسأل الله لنا ولهم الهداية، من لم يجعل الله له نورًا فما له من نور.

قال الله تعالى: {يس (1)} قال المؤلف رحمه الله: [{يس (1)} الله أعلم بمراده به]، ولا شك أن الله أعلم بمراده ومراد غيره، وأعلم بكل شيء، ولكن ما المراد بهذين الحرفين الهجائيين؟ في هذا خلاف بين العلماء -رحمهم الله تعالى-:

القول الأول: ما ذهب إليه المؤلف، رحمه الله:"الله أعلم بمراده به" أي: لا ندري ماذا أراد الله عز وجل.

القول الثاني: أن معنى "يس" يا إنسان فـ "يا" حرف نداء على زعمهم، و"س" كلمة يعبر بها عن الإنسان.

وبعضهم أتي بغير ذلك أيضًا مما لا طائل تحته ولا دليل عليه، لكن يبقي النظر، هل نقول كما قال المؤلف:[الله أعلم بمراده] بجميع الحروف الهجائية التي ابتدأت بها السور، أو نقول إنه لا معنى لها بمقتضى قوله تعالى:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} . فإن مقتضى اللسان العربي المبين أن هذه الحروف ليس لها معنى، فإذا حكمنا بهذه القضية العامة {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} على كل كلمة أو حرف في القرآن الكريم فإننا نعلم أن "يس" ليس لها معنى بمقتضى اللسان العربي المبين، فـ "يا"حرف هجاء ليس له معنى، و"س" حرف هجاء ليس له معنى أيضًا، وهذا القول ذكره ابن كثير رحمه الله عن مجاهد رحمه الله وهو قول قوي، ويشهد له الآية التي استشهدت بها، إذن نقول: لا معنى لهذه الحروف.

ص: 8

فيرد علينا إشكال: إذا قلنا لا معنى لها، فكيف يأتي الله عز وجل في كتابه العظيم بكلام لغو لا معنى له؟

والجواب على هذا أن يقال: إن له مغزىً عظيمًا، هذا المغزى هو أنكم أيها العرب الذين عجزتم عن معارضة القرآن والإتيان بمثله عجزتم عن ذلك، لا لأن القرآن أتى بحروف جديدة، أو كلمات جديدة، بل هو من الكلمات التي تكونون منها كلامكم، حروف هجائية، ولهذا قلَّ أن تجد سورة مبدوءة بهذه الحروف الهجائية إلا وبعدها ذكر القرآن، مما يدل على أن هذا هو المراد بها، وهذا ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقبله الزمخشري أيضًا في تفسيره، وغيرهم من العلماء، على أن هذه حروف هجائية جيء بها لأجل إظهار عجز العرب عن معارضة هذا القرآن، مع أنه لم يأت بجديد في كلامهم.

{وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)} الواو للقسم فلها معنى، ولها عمل، عملها الجر، ومعناها التأكيد، والقسم: تأكيد الشيء بذكر معظم على صورة مخصوصة، ولابد أن يكون المحلوف به معظمًا ولو تقديرًا في ذهن المقسم، كأن المقسم المعظم يقول: بقدر تعظيمي لهذا الشيء وتأكدي منه وإثباتي له أؤكد المحلوف عليه.

ولهذا لابد أن يكون المحلوف به معظمًا، وإلا لكان الحلف لا فائدة منه. ثم قد يكون عظيمًا في ذاته حقيقة، وقد يكون معظمًا باعتبار المقسم به، فالذين يحلفون باللات والعزى يحلفون بمعظم لا بعظيم؛ لأنه معظم عندهم، لكنه ليس بعظيم في نفسه، والذين يقسمون بالله وآياته، يحلفون بعظيم وبمعظم في قلوبهم،

ص: 9

وهو معظم في نفسه. {وَالْقُرْآنِ} ، القرآن المراد هذا القرآن الذي نقرأه كلام الله عز وجل، وهو مشتق من قرأ بمعنى تلا لأنه متلو، أو من قرى بمعنى جمع؛ لأنه مجموع وجامع، فهو مشتق من المعنيين، من القراءة بمعنى التلاوة، ومن قرى بمعنى جمع، ومنه القرية لأنها مجتمع الناس، فالقرآن جامع بين المعنيين فهو متلو، وجامع ومجموع، كلمات مجموع بعضها إلى بعض، كلام جامع لكل ما فيه الخير والصلاح.

قوله: {الْحَكِيمِ} صفة للقرآن وهي بمعنى محكِم، أو بمعنى مُحْكَم، أو بمعنى حاكم كلها تحتمل، فالقرآن حاكم لأنه يجب الرجوع إليه {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}

(1)

{هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)}

(2)

على القول بأن القرآن مُحْكِم، لأنه متقن للأشياء {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا}

(3)

وكذلك أيضًا مُحْكَم؛ لأن الله تعالى أحكمه وأتقنه، فليس فيه تناقض ولا تعارض {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}

(4)

وهو أيضًا مشتمل على الحكمة، ففيه معنى الحكمة والحكم، وإذا كان حكيمًا فإننا نعلم أنه:

أولًا: حكيم في ترتيبه، فكل آية إلى جنب الأخري حتى وإن ظننا أنه لا ارتباط بينهما، فإنما ذلك إما لقصورنا أو

(1)

سورة النساء، الآية:59.

(2)

سورة الجاثية، الآية:29.

(3)

سورة الأنعام، الآية:115.

(4)

سورة النساء، الآية:82.

ص: 10

لتقصيرنا، فمثلًا لو قال قائل: قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)}

(1)

جاء في سياق آيات العدد فما هو الارتباط؟

نقول: إنه لابد أن هناك حكمة، لكن قصرت أفهامنا عنها، أو قصرنا في التدبر لطلبها ومراجعة كتب أهل العلم.

ثانيًا: حكيم في أحكامه، فأحكامه كلها عدل، موافقة للفطرة وللعقل الصريح، ولهذا لا تجد شيئًا من أحكام القرآن مناقضًا للفطرة أبدًا، بل هو موافق للفطرة، ولا تجد شيئًا في القرآن يكذبه العقل، أو يحيله أبدًا، بل إن العقل يقرر في الجملة ما جاء به القرآن.

ثالثًا: حكيم في أسلوبه يشتد في مواضع الشدة، ويلين في مواضع اللين، ويأتي بأساليب غريبة ما كانت معروفة في أساليب العرب، فبينما الآية سياقها خبري إذا بها تنتقل إلى سياق إنشائي من استفهام، أو نهي، أو أمر، أو ما أشبه ذلك، وكل هذا من الحكمة، بينما القرآن يتحدث بصيغة الغائب إذا به ينتقل إلى صيغة الحاضر، فينتقل من أسلوب إلى آخر، وهو ما يسمي بالالتفات، وأنواع هذا كثيرة في القرآن.

فالقرآن حكيم بكل معنى الحكمة، وبكل معنى الإحكام، وبكل معنى الحكم.

قال المؤلف -مقتصرًا على واحد منها-: [المُحْكَم بعجيب النظم، وبديع المعاني]، فأتى بمعنى واحد من معاني الحكيم،

(1)

سورة البقرة، الآية:238.

ص: 11

ونحن ذكرنا أشياء: ذو حكمة، ومُحْكِم، ومُحْكَم، وحاكم، فذكرنا أنه حاكم، وذو حكمة وحكم وإحكام، فيشمل أعم مما قاله المؤلف.

وإقسام الله تعالى بكتابه العظيم أو بكتابه الحكيم يدل على عظم هذا القرآن وعلى عظم ما جاء به من الأحكام والحكمة والحُكم، ثم ذكر المقسم عليه فقال:{إِنَّكَ} أي يا محمد {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)} فأقسم الله تعالى بكتابه على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم من المرسلين، وقوله:{لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)} لأنه سبقه الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهو خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام، وأكملهم شريعة، جاء ليتم مكارم الأخلاق، وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم رسالته برجل بنى قصرًا وأشاده وبقي موضع لبنة، فصار الناس يطوفون به، ويتعجبون منه إلا موضع هذه اللبنة قال:"فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين"

(1)

، والجملة {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)} مؤكدة بثلاثة مؤكدات: القسم، وإن، واللام.

قال المؤلف: {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى} متعلق بما قبله]، الذي قبله {الْمُرْسَلِينَ} ، مرسل اسم مفعول صالح للعمل؛ لأن يتعلق به المعمول، فالمعنى:"إنك لمن الذين أرسلوا على صراط مستقيم" لأن جميع الرسل على صراط مستقيم بلا شك، ولكن يحتمل وجهًا آخر أحسن مما قال المؤلف، وهو أن تكون {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)} خبرًا ثانيًا لـ (إن)، أي: إنك على صراط

(1)

أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم (3535) ومسلم، كتاب الفضائل، باب ذكر كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين (22)(2286).

ص: 12

مستقيم، وهذا أنسب، ويشهد له قوله تعالى:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}

(1)

.

فالوجه الثاني في إعراب {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)} أنها خبر ثان لـ (إن)، وقوله:{عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)} قال المؤلف: [أي طريق الأنبياء قبلك التوحيد والهدي، والتأكيد بالقسم وغيره رد لقول الكفار له: لست مرسلًا]، كما قال الله تعالى:{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا}

(2)

إذن فالكلام مطابق لمقتضي الحال؛ لأنه يخاطب المنكر، وقد سبق لنا في البلاغة أن للمخاطب ثلاث مراحل: أن يكون منكرًا، أو أن يكون مترددًا، أو أن لا يكون في ذهنه شيء لا إنكار ولا تردد، قالوا: فإن كان منكرًا وجب تأكيد الخبر له، وإن كان مترددًا حسن أن يؤكد له الخبر، وإن لم يكن في قلبه وذهنه شيء، فإنك تلقي إليه الخبر غير مؤكد هذا هو الأصل. فتخاطب إنسانًا ليس في ذهنه شيء عن مدلول الخبر فألق الخبر إليه غير مؤكد، تقول: زيد قائم، وإذا كنت تخاطب مترددًا في صحة الخبر فأكده له استحسانًا، وإذا كنت تخاطب منكرًا فإنه يجب أن تؤكد له الخبر. هذا هو الأصل، وقد يحذف التوكيد في موضع التوكيد، وقد يأتي التوكيد في غير موضع التوكيد لأسباب تعوف من السياق. فهنا الكفار يقولون: لست مرسلًا. فكان تأكيد خبر الرسالة لهم واجبًا يعني مما توجبه البلاغة، والوجوب هنا ليس وجوب التكليف الذي يأثم بتركه، بل

(1)

سورة الشوري، الآيتان: 52، 53.

(2)

سورة الرعد، الآية:43.

ص: 13

وجوب من حيث البلاغة.

{عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)} الصراط فعال بمعنى مفعول؛ لأن فعالًا تأتي بمعنى مفعول كثيرًا، كقولهم: بناء، وغراس، وفراش، بمعنى: مبني، مغروس، مفروش، فصراط فعال بمعنى مفعول أي: مصروط، والصراط: المرور بسرعة، ومنه قولهم:"صرط اللقمة" أي ابتلعها بسرعة، وفي اللهجة العامية عندنا نقول:"زرط" وهي لغة عربية في صراط، و"سراط" بالسين و"زراط" بالزاي فكلها لغة عربية، والصراط لا يكون صراطًا إلا إذا كان طريقًا واسعًا يتحمل طوائف يعبرون عليه، قالوا: أيضًا من صفاته أن يكون مستويًا ليس فيه طلوع ولا نزول {مُسْتَقِيمٍ} صفة له مؤكدة، أي: أنه لا اعوجاج فيه، ولا شك أن ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام صراط مستقيم، لأنه طريق واسع يسع كل الأمة منذ بعث إلى أن تقوم الساعة لا يمكن أن يضيق، وهو أيضًا صراط واسع لا يمكن أبدًا أن يضيق عن الأحكام الشرعية، فكل حادثة تنزل منذ بعث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة لابد أن يوجد حل لمشكلتها -إن كانت مشكلة- فيما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، ولذلك نقول: إن هذا الشرع في القرآن والسنة كامل لا يحتاج إلى تكميل، وهو أيضًا واسمع لا يمكن أن يضيق بأي جزئية تقع إلى يوم القيامة، إذن ليس هناك مشكل في الشريعة، لكن الإشكال إنما يأتي من قبل الناس: إما لقصور في الفهم، أو لتقصير في طلب العلم والهدي، أو الأشياء رانت على قلوبهم فأظلمتها حتى لا تبصر الحق، فقد يكون

ص: 14

الإنسان غير مقصر ولا قاصر، عنده فهم قوي، وعنده آلة قوية وعلم، لكن يكون على قلبه ذنوب تحول بينه وبين رؤية الصواب، ولهذا ينبغي للإنسان إذا أشكل عليه مسألة من المسائل بعد المراجعة والتتبع لكلام أهل العلم أن يكثر من الاستغفار؛ لأن الاستغفار يمحو الله به الخطايا فيكون القلب مستنيرًا، وربما يستنبط هذا من قوله تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)}

(1)

ويستدل له أيضًا بقوله تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)}

(2)

. فالذنوب منعت القلوب أن تري أحقية هذا الكتاب حتى قال القائل: إنها {أساطير الأولين} فهذا الدين صراط مستقيم واسع، يسع جميع الناس إذا دخلوه، وواسع يشمل جميع أحكام الحوادث والنوازل منذ بعث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة، ولكن الإشكال الذي يكون إما من قصورنا، أو تقصيرنا، أو من أمور رانت على القلوب فلا تري الحق.

* في الآيات الكريمات فوائد منها:

1 -

بيان أن هذا القرآن الذي أعجز البشر لم يكن بدعًا من لسانهم، وإنما من الحروف التي يركبون منها كلامهم، يشير إلى هذا قوله:{يس (1)} ولهذا لا تأتي هذه الحروف الهجائية في أول السورة إلا وجدت بعدها ذكر القرآن في الغالب.

(1)

سورة النساء، الآيتان: 105، 106.

(2)

سورة المطففين، الآيتان: 13، 14.

ص: 15

2 -

ومن فوائدها: عظمة القرآن العظيم؛ لأن الله تعالى أقسم به، ولا يقسم إلا بشيء معظم. والقرآن الكريم عظيم في نفسه.

3 -

ومن فوائدها: الثناء على القرآن بأنه حكيم على الوجوه الثلاثة التي ذكرناها عند قوله: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)} .

4 -

من فوائدها: العناية بإثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى أقسم عليها، وأكدها زيادة على القسم بإن واللام.

5 -

ثبوت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم فمن أنكرها فهو كافر؛ لأنه مكذب لله، ورسوله، وإجماع المسلمين.

6 -

من فوائدها: إثبات الرسل وأن ثمة رسلًا غير محمد صلى الله عليه وسلم لقوله هنا: {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)} ولهذا قال الله تعالى في آية أخرى: {مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ}

(1)

يعني لست أول رسول فإنه صلى الله عليه وسلم قد سبقه رسل من قبله.

7 -

من فوائدها: أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الشرع فهو الصراط المستقيم، لقوله:{عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)} والصراط المخالف للشرع فيه من العوج والشر بمقدار ما خالف شريعة النبي صلى الله عليه وسلم.

* * *

{تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)} {تَنْزِيلَ} خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو. أي: القرآن تنزيل العزيز الرحيم، وتنزيل مصدر نزل ينزل، والقرآن منزَّل يعني ينزل شيئًا فشيئًا كما قال تعالى: {وَقُرْآنًا

(1)

سورة الأحقاف، الآية:9.

ص: 16

فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)}

(1)

فإنه ينزل شيئًا فشيئًا، ويعبر أحيانًا عن القرآن بأنه أنزل باعتبار نهايته، فإنه باعتبار النهاية يكون نزل كله، وباعتبار التدريِج في تنزيله يكون منزلًا، وهكذا في القران نزول المطر، أحيانا يقول:{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا}

(2)

وأحيانًا يقول: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ}

(3)

فباعتبار أن المطر ينزل شيئًا فشيئًا يقال: "نزلنا" وباعتبار النهاية واجتماعه كله يقال: "أنزلنا" وقوله: {الْعَزِيزُ} قال المؤلف: [في ملكه] يعني الغالب في ملكه الذي لا يغلب فيه، وقد مر علينا في باب العقيدة أن العزيز من أسماء الله، وأن العزة لها ثلاثة معانٍ: عزة القدر، وعزة القهر، وعزة الامتناع.

فعزة القدر بمعنى أنه ذو قدر عظيم رفيع، وعزة القهر بمعنى أنه قاهر غالب، وعزة الامتناع أي أنه قوي لا يناله شيء، قال ابن القيم رحمه الله:

وهو العزيز فلن يرام جنابه

أني يرام جناب ذي السلطان

فالله عز وجل عزيز ممتنع أن يناله السوء، ومنه (الأرض العزاز) لقوتها وشدتها فقول المؤلف:[العزيز: في ملكه] فيه قصور، قال المؤلف:[الرحيم: بخلقه] وهنا نقول: إن الرحيم عامة، لأنها لم تقيد، فالمراد به الرحمة العامة، فالله سبحانه

(1)

سورة الإسراء، الآية:106.

(2)

سورة ق، الآية:9.

(3)

سورة الرعد، الآية:17.

ص: 17

وتعالى رحيم بخلقه كلهم، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}

(1)

حتى الكافر يرزقه الله تعالى العقل، والصحة، والأولاد، والمال، والأزواج، لكن هذه رحمة عامة، أما الرحمة الخاصة بالمؤمنين ففي قوله تعالى:{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)}

(2)

وهنا أضاف تنزيل القرآن إلى هذين الاسمين، {الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} إشارة إلى وجوب العمل بما جاء في القرآن، وأن من لم يعمل به فإن أمامه العزيز الذي يأخذه أخذ عزيز مقتدر، والرحيم إشارة إلى أن هذا القرآن إنزاله من مقتضى رحمته سبحانه وتعالى بخلقه؛ لأن الله تعالى ما رحم خلقه رحمة أعظم من إنزال القرآن الكريم؛ لأن به الحياة القلبية والبدنية، والفردية والاجتماعية، ففيه تهديد للذين يخالفون هذا القرآن بأنه نزل من عند عزيز ينتقم ممن خالفه. ورحيم: إشارة إلى أن هذا القرآن من مقتضى رحمته سبحانه وتعالى، قال المؤلف رحمه الله:[خبر مبتدأ مقدر، أي: القرآن] يعني بخبر مبتدأ مقدر {تَنْزِيلَ} بالرفع أي: القرآن، والتقدير: القرآن تنزيلُ العزيز الرحيم، وفي قراءة سبعية {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} وعلى هذه القراءة يكون منصوبًا على أنه مصدر عامله محذوف، يعني نزل تنزيل العزيز الرحيم.

* الفوائد:

1 -

أن القرآن منزل من عند الله لقوله: {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ

(1)

سورة هود، الآية:6.

(2)

سورة الأحزاب، الآية:43.

ص: 18

الرَّحِيمِ (5)}.

2 -

يستفاد منها أن القرآن كلام الله غير مخلوق.

3 -

إثبات علو الله لقوله: {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ} والنزول لا يكون إلا من أعلى، وعلو الله عز وجل دل عليه الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، والفطرة، كل هذه الأنواع الخمسة من الأدلة دلت على علو الله عز وجل.

4 -

ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات العزيز والرحيم اسمين من أسماء الله، وإثبات ما تضمناه من الوصف، وما تضمنه الرحيم من الأثر وهو الحكم، والعزيز في بعض معانيه وهو الغالب.

5 -

ومن فوائد الآية: إنذار المخالفين لهذا القرآن وذلك بإضافة {تَنْزِيلَ} إلى العزيز؛ لأنه إذا قيل: جاء هذا من عزيز، دل على إنذار من خالفه وتحذيره، فيكون في هذا الإنذار والتحذير من مخالفة هذا المنِزل؛ لأنه نزل من عزيز.

6 -

أن القرآن بل أن الشرع كله من آثار رحمة الله لقوله: {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)} .

فإن قلت: أين الرحمة في قطع يد السارق؟ وفي رجم الزاني المحصن؟ وفي قتل القاتل؟ وما أشبه ذلك.

فالجواب: أن الرحمة في ذلك واضحة جدًا، فقطع يد السارق فيها رحمة بالسارق وغيره، رحمة بالسارق لتردعه عن السرقة مرة أخرى، ولتكون كفارة لذنبه؛ لأن الحدود كفارة، يكفر بها عن فاعلها، وفيها أيضًا إصلاح المجتمع وحمايته من

ص: 19

الفوضى، فهذه رحمة، وكذلك نقول في بقية الحدود والقصاص إنه من رحمة الله عز وجل.

* * *

{لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)} قال المؤلف: [{لِتُنْذِرَ} به {قَوْمًا} متعلق بتنزيل]. {لِتُنْذِرَ} اللام هذه تسمى لام التعليل، والفعل بعدها منصوب باللام، وعلى مذهب البصريين منصوب بأن مضمرة بعد اللام، وعلى كل حال فهي تحتاج إلى متعلق، ومتعلقها قوله:{تَنْزِيلَ} يعني إنما نزل لتنذر قومًا ما أُنذر آباؤهم فهم غافلون. "تنذر": قال العلماء: الإنذار هو الإخبار المقرون بالتخويف، أو المتضمن للتخويف، فالإنسان مثلًا يأتي إلى قوم يصيح بهم: العدو، العدو. يقال: هذا منذر ونذير، فالنذير عن شيء يخوف، فهو إعلام متضمن للتخويف، هذا القرآن أنزله الله عز وجل لينذر النبي صلى الله عليه وسلم به {قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} أي: لم ينذروا في زمن الفترة وعلى هذا فـ (ما) نافية، يعني: لتنذر قومًا لم ينذروا ولم يخوفوا، لكن هذا في زمن الفترة، وأما قبل فقد أنذروا بواسطة إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، فإنه مرسل إلى العرب إلى قومه، وبعد ذلك لم ينذر هؤلاء، قال بعض المعربين الذين يجمعون الأقوال -صحت أو لم تصح أي أنهم يقولون أي احتمال- قالوا: ويجوز أن تكون "ما" موصولة، أي:(لتنذر قومًا الذي أنذره آباؤهم) فيجعلون ما موصولة، ويجعلون العائد محذوفًا تقديره (الذي أُنذره آباؤهم) أي: لتنذرهم الذي أُنذره آباؤهم، ولكن هذا وإن كان محتملًا من

ص: 20

قبل اللفظ، لكن بعيد من جهة المعني، لأن الآيات الكثيرة المتعددة تدل على أن قريشًا الذين بعث فيهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم لم يُنذر آباؤهم، ومنه قوله تعالى في سورة "الم" السجدة:{لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ}

(1)

وهذا صريح في أن "ما" هنا للنفي لا غير. قال المؤلف رحمه الله {فَهُمْ} أي: القوم {غَافِلُونَ (6)} عن الإيمان والرشد] غافلون لأنهم ما أتاهم نذير، ومعلوم أن النذر توجب حياة القلوب والانتباه، ولهذا تجد الإنسان نفسه إذا لم يأته واعظ يغفل وتكثر فيه الغفلة، فإذا أتاه واعظ فكأنما أيقظه من نوم، هؤلاء لما تطاول عليهم الأمد ولم يأتهم نذير، غفلوا وكأنهم ما خلقوا لعبادة الله، وجعلوا لهم أصنامًا يعبدونها من دون الله، ويركعون لها، ويسجدون، وينذرون ويوفون، فهم غافلون لعدم من يوقظهم، ولكن من هؤلاء الذين في زمن الفترة من عنده علم من الرسالة لكنه عاند وبقي على ما كان عليه آباؤه، كالذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالنار، فالذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالنار نعلم علم اليقين أن هؤلاء قد قامت عليهم الحجة ولولا ذلك ما كانوا من أهل النار، فأهل الفترة نوعان:

نوع علمنا من شهادة النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد بلغتهم الرسالة لحكم الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم بأنهم من أهل النار.

ونوع لا ندري عنهم شيئًا، فالواجب علينا أن نتوقف في أمرهم، وأن نقول: الله أعلم بما كانوا عاملين.

(1)

سورة السجدة، الآية:3.

ص: 21

وأصح الأقوال فيهم أنهم ممتحنون يوم القيامة بتكاليف الله أعلم بها، فمن أطاع منهم دخل الجنة، ومن عصى دخل النار.

* * *

* الفوائد:

1 -

من فوائد الآية الكريمة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم منذر، أي معلم إعلامًا يتضمن التخويف.

فإن قيل: وهل هو مبشِّر؟

فالجواب: نعم، مبشر، ولكن لم ذكر هنا ذكر الإنذار دون البشارة؟ والجواب على ذلك أن يقال: إما لأن المقام يقتضي ذلك، لأنه يخاطب قومًا طاغين، فالأليق في حقهم الإنذار والتخويف؛ لأنهم مخالفون وطاغون.

وإما أن يقال: إن هذا من باب ذكر أحد المتقابلين استغناء بذكره عن ذكر الآخر كما في قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ}

(1)

يعني والبرد.

2 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل إلى العرب خاصة لقوله: {مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} ، وهي نكرة مقصودة، والذين ما أنذر آباؤهم هم العرب، إذن اليهود والنصارى ما أرسل إليه لأنهم أنذر آباؤهم، ولكن نقول: إن الآيات الأخرى تدل على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم مثل قوله: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}

(2)

ومثل قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ

(1)

سورة النحل، الآية:81.

(2)

سورة الأعراف، الآية:158.

ص: 22

لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)}

(1)

وكقوله صلى الله عليه وسلم: "بعثت إلى الناس كافَّه"

(2)

والنصوص في هذا كثيرة متوافرة، ومن كذَّبها فقد كذب رسالته إلى العرب أيضًا؛ لأن الجنس واحد.

لكن قد يقال: لماذا خص العرب؟

فيقال: خصهم لأمرين:

الأول: أنه منهم، كما قال تعالى:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا}

(3)

.

والثاني: أنه باشر دعوتهم بنفسه، وهدى الله العرب على يديه قبل موته، ثم انتشرت رسالته في الآفاق، وقد ذكر ابن كثير رحمه الله هنا قاعدة وهي:"أن ذكر بعض أفراد العام بحكم يوافقه لا يقتضي التخصيص" كما ذكر ذلك أهل الأصول كالشنقيطي رحمه الله في تفسيره وغيره، وأن هذا هو رأي الجمهور، وهو الحق، فذكر بعض أفراد العام بحكم لا يقتضي التخصيص إذا كان يطابق حكم العام، فإذا قلت: أكرم الطلبة. ثم قلت: أكرم زيدًا. وهو منهم، فإنه لا يقتضي تخصيص الإكرام به؛ لأن الحكم هنا موافق للحكم العام، وذكر بعض أفراد العام بحكم يوافق العام ليس تخصيصًا له.

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: سب هؤلاء الذين غفلوا عن الرسالات لقوله: {فَهُمْ غَافِلُونَ (6)} وأن الغفلة عن البحث عن

(1)

سورة الفرقان، الآية:1.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا"(438) ومسلم، كتاب المساجد، باب المساجد ومواضع الصلاة 5 (523).

(3)

سورة الجمعة، الآية:2.

ص: 23

الرسالة يعتبر ذمًّا، وكذلك نقول فيمن غفل عن البحث في جزئيات الشريعة، فمثلًا من غفل عن البحث في أحكام الصلاة فإنه يذم، ومن غفل عن البحث في أحكام الزكاة وهو يحتاج لذلك نقول: إنه يذم، ولهذا نقول: إن تعلم العلم الشرعي فرض كفاية، ومن أراد أن يقوم بعبادة من العبادات كان تعلم أحكامها فرض عين، وبناء على هذا نقول: كل طلبة العلم في كل مكان قائمون بفرض كفاية، ولهذا يحسن بهم أن يستحضروا هذا الأمر، وأننا في مجالسنا هذه نقوم بفرض كفاية نثاب عليه ثواب الفرض، وقد قال الله تعالى:"ما تقرب إلى عبدي بشيء أحبَّ إلى مما افترضته عليه"

(1)

. وهذه مسألة يغفل عنها كثير من الطلبة، لا في المجالس الذكر والعلم ولا في المجالس الأخرى مجالس المراجعة، تجد الإنسان يراجع الكتاب لكنه لا يستحضر أنه الآن قائم بفرض كفاية، وهذا يفوت خيرًا كثيرًا، لهذا نسأل الله أن يعيننا على تذكر هذا المعنى حتى نكسب خيرًا بما نقرأه أو نراجعه.

4 -

ومن فوائد الآية: إثبات الحكمة لله المستفاد من قوله {لِتُنْذِرَ} .

* * *

{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)} اللام موطئة للقسم، أي: أنها تدل على أن هناك قسمًا محذوفًا تقديره: والله لقد حق. و"قد" للتحقيق، وعليه فالجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات: القسم المحذوف، واللام، وقد، وهذا التركيب يأتي في القرآن

(1)

أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع (6502).

ص: 24

كثيرًا وطريقه ما أشرنا إليه. {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ} أي وجب {الْقَوْلُ} هو القول بالعذاب كقوله تعالى: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)}

(1)

. في الآية الأخرى: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)}

(2)

فمن حقت عليه كلمة العذاب فإنه لا يمكن أن يهتدي مهما أوتي من آية، ولكن لا تحق كلمة العذاب إلا على من استحقها حتى لا يقال: إن الله تعالى قد أجبره على العمل، لقوله تعالى:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}

(3)

والله عز وجل ينظر في قلوب العباد فمن كان أهلًا للهداية هداه، ومن لم يكن أهلًا لها لم يهده، فمن حقت عليه الكلمة لما في قلبه من الزيغ -والعياذ بالله- فإنه لا يؤمن، وقوله:{عَلَى أَكْثَرِهِمْ} يعني على أكثر الذين بعث إليهم الرسول عليه الصلاة والسلام من العرب، وليس على كلهم، ولذا فقد كذب النبي صلى الله عليه وسلم من قريش أمم كثيرة وماتوا على الكفر، ولاسيما الصناديد منهم والأشراف، {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} (هم) الضمير يعود على أكثر، لا على "الهاء" في {فَهُمْ} {فهم} أي: الأكثر لا يؤمنون؛ حتى وإن جئت بالآيات العظيمة البينة فهم لا يؤمنون، لأنهم حقت عليهم كلمة العذاب.

* الفوائد:

1 -

من فوائد الآية الكريمة: تأكيد الخبر الهام وإن لم يكن

(1)

سورة يونس، الآية:33.

(2)

سورة غافر، الآية:6.

(3)

سورة الصف، الآية:5.

ص: 25

المخاطب منكرًا؛ لأن الله سبحانه هنا يخبر النبي عليه الصلاة والسلام والمؤمنين وهم لا ينكرون ذلك، لكن لأهميته أُكد.

2 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن من حقت عليه كلمة العذاب فإنه لا يؤمن، كما في قوله:{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)}

(1)

أي فقد ثبت أنه في النار فلا تنقذه.

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن من قريش الذين كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم من لم تحق عليه الكلمة فيؤمن لقوله تعالى: {عَلَى أَكْثَرِهِمْ} .

4 -

ومن فوائد الآية الكريمة: الإشارة إلى أنه ينبغي بل يجب على الإنسان اللجوء إلى الله عز وجل؛ لأنه هو الذي بيده ملكوت السموات والأرض، فلا تعتمد على ما في قلبك من رسوخ الإيمان مثلًا، وتعتقد أنه لن يتسلط عليك الشيطان، ولن يتسرب إليك هوى النفس الأمارة بالسوء، بل كن دائمًا لاجئًا إلى الله تعالى سائلًا الثبات لقوله:{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ} فالأمر كله بيد الله.

* * *

{إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)} {إِنَّا جَعَلْنَا} أي: صيرنا، ولهذا نصبت مفعولين، المفعول الأول: أغلالًا، والمفعول الثاني: مقدم، {فِي أَعْنَاقِهِمْ} وقوله:{أَغْلَالًا} الغل يكون باليد، كما قال تعالى:{غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ}

(2)

(1)

سورة الزمر، الآية:19.

(2)

سورة المائدة، الآية:64.

ص: 26

وهنا قال: {فِي أَعْنَاقِهِمْ} فمعناه أن اليد سوف تشد إلى العنق، ولهذا قال المؤلف:[بأن تضم إليها الأيدي؛ لأن الغل يجمع اليد إلى العنق، {فَهِيَ} أي: الأيدي مجموعة {إِلَى الْأَذْقَانِ}]، قوله:"مجموعة" أخذها من قوله: {إِلَى الْأَذْقَانِ} ويجوز أن نقدر بدل "مجموعة" منتهية أو بالغة {إِلَى الْأَذْقَانِ} جمع ذقن، وهو مجمع اللحيين، واللحيان هما العظمان اللذان عليهما الأسنان، ومجمعها يسمي الذقن، {فَهُمْ مُقْمَحُونَ} يقول المؤلف رحمه الله:[رافعون رؤوسهم]، والأحسن أن يقال: مرفوعو الرؤوس، لأن اليد مغلولة إلى العنق تضيق على الذقن، ثم يرتفع الرأس قال:[رافعون رؤوسهم لا يستطيعون خفضها] لو تصورت هذه الصورة لوجدتها صورة بشعة، وأن الإنسان لا يتمكن معها من التصرف الحر، رجل مشدودة يداه بعضها إلى بعض ثم مجموعة إلى العنق من عند الذقن، إذن لابد أن يرتفع رأسه اضطرارًا، وزاد بعض العلماء في القبح أنها مغمضة أجفانهم؛ لأنه إذا ارتفع رأسه باضطرار فإن من تمام الذل أن يغمض عينيه، ولكن صنيع المؤلف يدل على أنه ليس بشرط، فالمهم أنك إذا تصورت هذه الحال عرفت أن هؤلاء لا تصرف لهم في أنفسهم، وأنهم لا يستطيعون أن يتصرفوا بأخذ ولا رد بالنسبة لأيديهم، وبالنسبة لرؤوسهم لا يستطيعون تنزيلها، فهي دائمًا مرفوعة، وهذا تمثيل لحال هؤلاء المكذبين كما قال المؤلف:[وهذا تمثيل، والمراد أنهم لا يذعنون للإيمان، ولا يخفضون رؤوسهم له].

ص: 27

{وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)} قال المؤلف: {سَدًّا} [بفتح السين وضمها في الموضعين]، قراءتان سبعيتان، أي: سُدًا وسَدًّا {فَأَغْشَيْنَاهُمْ} أي أغشينا أبصارهم، جعلنا عليها غشاوة بحيث لا تبصر، ولهذا قال المؤلف:{فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)} [تمثيل أيضًا لسد طرق الإيمان عليهم] ليس هناك سد حقيقي كالجدار مثلًا، أو ثوب ساتر بل هذا من باب التمثيل، كأنهم لبعدهم عن الإيمان -والعياذ بالله- وانحجاب رؤيتهم إياه كأنهم جعل بينهم وبينه سد من بين أيديهم فلا يتقدمون، ومن خلفهم فلا يتأخرون، فهم ثابتون على الكفر لا يتقدمون ولا يتأخرون، ومع ذلك فإن أبصارهم عليها غشاوة لا تبصر الحق ولا تنظر إليه ولهذا قال:{فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} فِتأمل أيضًا حالهم الآن، أيديهم مغلولة إلى أعناقهم من تحت الأذقان وهم رافعون رؤوسهم، ومع ذلك بينهم وبين الإيمان سد من الإمام ومن الخلف، فهم لا يستطيعون أن يصلوا إلى الإيمان، ولا أن يصل إليهم الإيمان.

فنستفيد من هاتين الآيتين الكريمتين فوائد:

1 -

أن الله سبحانه وتعالى إذا أراد أن يحجب الإيمان عن الشخص جعله كالمغلولة يده إلى عنقه لقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا} .

2 -

أن هذا الذي جعلت يده إلى عنقه على سبيل الغل كأنه مكره أن يكون على هذه الحال، وهكذا الشيطان يوسوس للإنسان حتى يوقعه في الهلاك كأنه مكره على ذلك، ألم تروا إلى ما جري

ص: 28

للأبوين حين جاء إليهما الشيطان ووسوس إليهما، ولم يكتفِ بمجرد الوسواس بل قاسمهما وصار يحلف لهما بشتي الأيمان أنه ناصح، فهكذا الشيطان يأتي الإنسان حتى يغويه.

3 -

ومن فوائد الآيتين الكريمتين: أن هؤلاء قد حجب عنهم الهدي، لا يتقدمون إليه ولا يتأخرون عنه.

4 -

ومن فوائدها أيضًا: أن أبصارهم قد أغشيت وجعل عليها الغشاوة فلا تنظر.

5 -

ومن فوائد الآيتين: تحذير الإنسان إذا لم ينفتح له باب الهدى أن يكون من جنس أولئك، فإذا رأيت نفسك لا تعلم الهدي ولا تعرفه وحيل بينك وبينه فاعلم أنك على خطر، وإذا رأيت من نفسك أن الهدى ينفتح لك ويتبين، وينشرح به صدرك فاعلم أنك على خير، نحن نقيس هذا بحال هؤلاء جعل السد من بين أيديهم ومن خلفهم وصاروا لا يبصرون الحق، فإذا رأيت من نفسك هذه الحال فاعلم أنك على خطر فتداركها.

6 -

إن من بلاغة القرآن الكريم تمثيل المعقول بالمحسوس.

* * *

{وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10)} {وَسَوَاءٌ} خبر مقدم بمعنى مستوٍ، و {أَأَنْذَرْتَهُمْ} مبتدأ مؤخر مسبوك بمصدر، وإن لم تكن الهمزة من الحروف المصدرية لكن في مثل هذا التركيب قال العلماء: إنها تسبك وما بعدها بمصدر، وتقدير الكلام:"وإنذارك وعدمه سواء عليهم"{وَسَوَاءٌ} هنا لم يقل

ص: 29

فيها: "سواءان" لأنها مصدر، والمصدر لا يثنى ولا يجمع. قال المؤلف في بيان القراءة في قوله تعالى:{أَأَنْذَرْتَهُمْ} [بتحقيق الهمزتين، وإبدال الثانية ألفًا وتسهيلها، وأدخال ألف بين المسهلة والأخرى وتركه]، إدخال ألف بين المسهلة والأخرى، يعني على قراءة التسهيل تجعل فيها ألفًا أو تحذف الألف إدخال الألف بين الهمزة المحققة والمسهلة {أَأَنْذَرْتَهُمْ} تمد الأولى وتسهل الثانية فيكون عندنا ثلاثة حروف: الهمزة الأولى محققة، والألف، والهمزة الثانية مسهلة، وتركه كما قلناه في الأول بدون ألف ستحقق الأولى وتسهل الثانية بدون ألف. هذه القراءة سبعية؛ لأن المؤلف من عادته إذا جاءت قراءة شاذة غير سبعية يقول:(وقُرِئت)، وعلى كل حال هذا لا يختلف فيه المعنى، إنما هو في كيفية الأداء أما المعنى فلا يختلف.

والمعنى أن إنذارك وعدمه لهؤلاء سواء، ثم بين وجه التسوية فقال:{يُؤْمِنُونَ} هذا معنى التسوية، يعني معناه: أنذرت أم لم تنذر فإنهم لا يؤمنون، ولهذا فالجملة هنا استئنافية بيان للجملة الأولى، يعني أنهم لا يؤمنون سواء أنذرت أم لم تنذر، وهذا أمر مشاهد أن الإنسان الذي قد قضي عليه بالضلالة -والعياذ بالله- تأتي وتنصحه مرة بعد أخرى وتبين له وتحذره ولكن لا يزداد إلا نفورًا -والعياذ بالله- حتى إن بعض الناس يسخر ويستهزيء، فعلى كل حال هذا الذي ينذر ولا يتأثر بالإنذار يخشى عليه، كما أسلفنا من أن يكون قد طبع على قلبه وأنه لا يؤمن أبدًا.

ص: 30

* في الفوائد:

1 -

من فوائد الآية الكريمة: أن هؤلاء المكذبين للرسول عليه الصلاة والسلام لا يبالون ولا تتغير حالهم، سواء أنذرهم أم لم ينذرهم.

2 -

ومن فوائدها: تسلية النبي صلى الله عليه وسلم حيث إنه يتأثر بعدم الإيمان فسلاه سبحانه وتعالى بأن هؤلاء قد حقت عليهم كلمة العذاب، وأنهم لا يؤمنون، سواء أأنذرت أم لم تنذر. والرسول صلى الله عليه وسلم إذا لم يهتد الناس فإنه يشق عليه ذلك ويضيق به صدره، كما قال تعالى:{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)}

(1)

أي لعلك مهلكها إذ لم يؤمنوا، وهذا ليس عليه.

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينذرهم مع أنه قد أيس منهم، فيستفاد منه الإنذار حتى وإن يئست، وهذا أحد القولين في المسألة، فإن من أهل العلم من يقول: إذا أيست فلا تنذر {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)}

(2)

وإن لم تنفع فلا تذكر.

وقال بعض العلماء: بل تذكر وتنذر، سواء أم لم ينفع، بل يقولون: إنه لا يخلو من النفع مهما كان؛ لأن قل ما فيها من النفع أن يتبين للناس أن العمل الذي عليه هذا الرجل منكر، ولأنه ربما يهديه الله عز وجل، فكم من أناس كانوا أئمة في الكفر ثم هداهم الله عز وجل فكانوا أئمة في الدين.

4 -

من فوائد الآية الكريمة: أن هؤلاء قد حقت عليهم كلمة

(1)

سورة الشعراء، الآية:3.

(2)

سورة الأعلى، الآية:9.

ص: 31

العذاب، ومن حقت عليه الكلمة فلا يمكن أن يؤمن، سواء أنذر أم لم ينذر.

5 -

أن الأمر كله بيد الله عز وجل، فهو الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ولكن هذا مقرون بالحكمة، فمن اقتضت حكمة الله عز وجل أن يهتدي هداه الله، ومن اقتضت حكمته أن يضل أضله الله، وهذا مبني على قوله تعالى:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}

(1)

وحينئذ يكون حرمان الله الهداية للشخص، يكون الشخص هو السبب في حرمان نفسه الهداية؛ لأنه ليس أهلًا لها، فالله عز وجل ينظر في قلوب العباد من وجد في قلبه صلاحية للهدي هداه، ومن وجد في قلبه عدم الصلاحية لم يهده، فأصل بلائك من نفسك.

6 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن الضال -والعياذ بالله- الذي كتبت عليه الضلالة لا يبصر الحق وإن كان الحق بينًا واضحًا فإنه لا يبصره، يكودن على بصره غشاوة، كما أنه لا يعقله أيضًا لقوله تعالى:{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)}

(2)

الذي يعتقد أن القرآن أساطير الأولين وأنه لا يفيد، وأنه بمنزلة سواليف العجائز، يري هذه الرؤية في كتاب الله عز وجل، لأنه فاسد القلب، قلبه قد ران عليه ما كان يكسبه من الأعمال السيئة فلم ير الحق حقًّا.

ومن يكُ ذا فم مر مريض

يجد مرًّا به الماء الزلالا

(1)

سورة الصف، الآية:5.

(2)

سورة المطففين، الآيتان: 13، 14.

ص: 32

الماء الزلال الصافي الحلو العذب يجده المريض مرًّا، فإذا مرض الإنسان ذاق الماء الذي كان عذبًا في مذاقه من قبل يجده الآن مرًّا، لا لأن الماء مر، ولكن لأن المحل غير قابل، فيجد هذه العذوبة مرارة.

* * *

ثم قال تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)} قال: {إِنَّمَا تُنْذِرُ} هذه الجملة فيها حصر طريقه: "إنما" والتقدير: "لا تنذر إلا من اتبع الذكر" وقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} المراد بذلك. إنما تنذر الإنذار النافع، كأنه قال: لا ينتفع بإنذارك إلا من اتبع الذكر، ولهذا قال المؤلف:[ينفع إنذارك من اتبع الذكر: القرآن].

والمراد بالاتباع في قوله: {مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} المراد باتباع الذكر شيئان:

الشيء الأول: تصديق الخبر، واعتقاده مقتضاه.

والثاني: امتثال الأمر، واجتناب النهي.

هذا اتباع الذكر فمن استكبر عما فيه من الأمر، أو النهي فإنه لم يتبعه، ومن لم يصدق بأخباره فإنه لم يتبعه، فلا يتحقق اتباع الذكر إلا بهذين الأمرين: تصديق الأخبار، اتباع الأحكام: فعلًا للمأمور وتركًا للمحظور، وقوله:{الذِّكْرَ} المراد به القرآن، لقوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)}

(1)

وسمي القرآن ذكرًا:

(1)

سورة الحجر، الآية:9.

ص: 33

أولًا: لما فيه من التذكير والموعظة: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)}

(1)

.

ثانيًا: لما فيه من ذكر الأخبار الماضية، وقصص الأنبياء الغابرة المفيدة للقلب، كما قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}

(2)

.

ثالثًا: لما فيه من ذكر أحوال الناس في الجزاء يوم القيامة، وأنهم ينقسمون إلى: فريق في الجنة، وفريق في السعير.

رابعًا: لما فيه من ذكر العرب ورفع شأنهم، كما قال تعالى:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)}

(3)

فإن القرآن لا شك رفع من شأن العرب، وجعلهم هم الأمة الذين ترجع إليهم الأمم، فإن الأمم كلها لم تهتد إلا عن طريق العرب، ففي هذا رفع لشأنهم وعز لمكانتهم، فالقرآن جاء بلغتهم، ووصل إلى الناس عن طريقهم.

خامسًا: ذكر شريعة الله وأحكامه من الأوامر والنواهي، لأن هذا هو عديل أخبار الأمم السابقة، وأخبار الناس في المستقبل. فلهذا سمي القرآن ذكرًا.

قال الله عز وجل: {وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} "خشي": يقول المؤلف: [خافه ولم يره]، وعليه فهذا من باب الحد اللفظي؛ لأنه فسر بمرادفه، فتفسير الشيء بمرادفه يسمى حدًّا لفظيًّا، فإذا

(1)

سورة القمر، الآية:17.

(2)

سورة يوسف، الآية:111.

(3)

سورة الزخرف، الآية:44.

ص: 34

قلت: القمح هو البر. فهذا حد لفظي، وتفسير الخشية بالخوف فيه نظر؛ لأن هذا الحد غير مانع؛ لأن الخشية ليست مجرد الخوف، بل الخشية هي: الخوف عن علم بالمحوف وعظمته، بدليل قوله تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}

(1)

فالخوف قد لا يكون لعظمة المخوف، ولكن لضعف الخائف. لكن الخشية لا تكون إلا لعظمة المخوف إذا عرفها الخاشي عظم هذا المخشي فخشيه، إذن بينهما فرق، فتفسير الخشية بمطلق الخوف فيه نظر، والصواب أن يقال: الخشية هي الخوف عن علم بعظمة المخوف، فالخشية ناشئة عن تعظيم المخشي، أما الخوف فقد يكون ناشئًا عن ذلك، وقد يكون ناشئًا عن ضعف الخائف.

وقوله: {الرَّحْمَنَ} اختيار هذا الاسم هنا دون ذكر لفظ الجلالة (الله) عز وجل؛ لأن الإنسان الذي يخشى الله تعالى يخافه عن علم، فطمأن الله الخائف والخاشي بأنه إنما يخشى رحمانًا يرحمه، فكلما عظمت خشيتك لله عظمت رحمة الله بك؛ لأن الله عز وجل إذا خافه الإنسان وخشيه، فإنه يرحمه؛ لأنه ما من إنسان يخشى الله حقيقة إلا سيقوم بأوامره، ويجتنب نواهيه، وحينئذ يكون متعرضًا للرحمة، هذه المناسة لذكر الرحمن دون ذكر لفظ الجلالة:(الله) والله أعلم.

وقوله: {بِالْغَيْبِ} قال المؤلف: (ولم يره) كأنه يفسر أن المراد بالغيب: أنه يخشى الله مع غيبة الله عنه، فيكون بالغيب حالًا من المخشي، يعني يخشى الله والله غائب عنه، هذا أحد

(1)

سورة فاطر، الآية:28.

ص: 35

الوجهين في الآية.

الوجه الثاني: يخشى الله بالغيب، أي: يخشى الله في حال الغيبة عن الناس، يخشى الله في قلبه في عمل غائب لا يغفل، فيكون بالغيب حالًا من الخاشي، يعني أن هذا الإنسان الذي أنذرته وانتفع بإنذارك هو الذي اتبع الذكر وخشي الله بالغيب حال كونه غائبًا عن الناس، خشي الله بالغيب أي بالعمل الغائب، وهذه هي الخشية الحقيقية؛ لأن خشية الله تعالى في العلانية قد يكون سببها مراءاة الناس، ويكون في هذه الخشية شيء من الشرك؛ لأنه يرائي بها، ولكن إذا كان يخشى الله في مكان لا يطلع عليه إلا الله فهذا هو الخاشي حقيقة، وكم من إنسان عند الناس لا يفعل المعاصي ولكن فيما بينه وبين نفسه يتهاون بها. فهذا خشي الناس في الحقيقة ولم يخش الله عز وجل، لأن الذي يخشى الله لابد أن يقوم بقلبه تعظيم الله سبحانه وتعالى سواء بحضرة الناس، أو بغيبة الناس، أيضًا يخشى الله بالغيب أي بما غاب عن الأبصار نظرًا، وعن الأذان سمعًا، وهو خشية القلب، وخشية القلب إعظم ملاحظة من خشية الجوارح. لأن الذي يخشى الله بقلبه يكون مراقبًا لله عز وجل ولحقه أكثر، فيجب أن تراقب خشية القلب أكثر مما تراقب خشية الجوارح، إذ خشية الجوارح بإمكان كل إنسان أن يقوم بها حتى في بيته، فكل إنسان يستطيع أن يقوم يصلي ولا يتحرك، ينظر إلى موضع سجوده، يرفع يديه في موضع الرفع، يعني يستقيم استقامة تامة في ظاهر الصلاة، لكن القلب غافل. أما خشية القلب فهي الأصل، وهي التي يجب أن يراقبها الإنسان

ص: 36

ويحرص عليها حرصًا تامًّا، وهذا معنى قوله تعالى:{وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} إذًا الراجح من القولين أن قوله: {بِالْغَيْبِ} يعود على الخاشي أي يخشى الله تعالى غائبًا عن الخلق، ويخشي الله تعالى بخشية غائبة لا تظهر للعيون، ولا تسمعها الآذان، وهي خشية القلب.

أما قول المؤلف: [ولم يره] واعتبر أن الغيب هنا حال من المخشي، فهذا فيه نظر؛ لأن الله عز وجل لا يُري في الدنيا، ولكن آياته البينة الظاهرة كأن الإنسان يري ربه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"

(1)

. فآيات الله سواءً الآيات الكونية، أو الآيات الشرعية كلما تأمل فيها الإنسان ظهر له بها وجود الخالق، وظهر له كل ما تضمنته هذه الآيات من صفاته، ظهورًا بينًا كأنما يشاهد الله عز وجل، فالصواب إذًا المعنى الأول لأننا نقول: وإن لم نر الله لكَن نرى من آياته ما يدلنا دلالة قطعية يقينية على وجوده وعظمته، قوله:{فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ} بعد قوله: {تُنْذِرُ} من باب المتقابلات تنذر فينتفع بالإنذار، وإذا انتفع بالإنذار حصل له الثواب فاستحق البشارة ولهذا قال:{فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)} هو الجنة بمغفرة للذنوب، وأجر كريم على فعل الحسنات، والكريم يتضمن:

1 -

كرم الذات العيني.

2 -

وكرم الصفات، كقول النبي عليه الصلاة والسلام:

(1)

أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان (1)(8).

ص: 37

"إياك وكرائم أموالهم"

(1)

. يعني الكريم بذاتها وصفاتها، الأجر الكريم بذاته إذا نظرنا إلى نعيم الجنة بذاته، وجدنا أنه كريم أكرم وأجمل وأحسن وأنفع من نعيم الدنيا، ففي الجنة فاكهة، ونخل، ورمان، وعسل، وخمر إذا نسبت هذا إلى نعيم الدنيا وجدت أنه أكرم من نعيم الدنيا بذاته، وبصفاته أيضًا، طعمه ورائحته وغير ذلك هو أيضًا أكرم.

3 -

كريم أيضًا من حيث المقابلة، فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة. والأجر في الدنيا يكون بقدر العوض، تبيع على سيارة بعشرة آلاف ما أعطيك إلا عشرة ما أزيد، لكن في الآخرة أجر الآخرة أكرم وأعظم، لأنك تبذل واحدًا وتُعطي عشرة إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.

فصار كرم الأجر في الآخرة من عدة وجوه في: عينه، وصفته، ومقابلته أو معاوضته، فإنه أعظم بكثير من عوض الدنيا وأجر الدنيا [وأجر كريم هو الجنة] هذا تفسير للمراد، لا للمعني، ولا شك أن الجنة تشتمل على ما ذكرنا.

* الفوائد:

1 -

من فوائد هذه الآية: أنه لا ينتفع من إنذار الرسول عليه الصلاة والسلام إلا من اتصف بهذين الوصفين {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} .

2 -

ومن فوائدها: صحة نفي الشيء إذا كان لا ينتفع به وإن

(1)

أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب أخذ الصدقة من الأغنياء (1496) ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام 29 (19).

ص: 38

كان موجودًا، لقوله:{إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} فإن إنذاره لغيرهم حاصل، لكن لما لم ينتفعوا به صار وجوده كالعدم بالنسبة لهم، أما المنذر فقد قام بما يجب عليه.

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أنه كلما كان الإنسان أتبع للقرآن كان أشد تأثرًا به، لقوله:{إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} وبهذا نعرف القاعدة التي ذكرها بعض العلماء: (الطاعة تجلب الطاعة، والمعصية تجلب المعصية)؛ لأنه كلما كان الإنسان أتبع للقرآن صار أشد تأثرًا به، لقوله:{إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} .

4 -

ومن فوائد الآية: الثناء على هذا القرآن العظيم بأنه ذكر، وسبقت الأوجه في كونه ذكرًا.

5 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن الخشية لله سبب عظيم للتأثر بالقرآن والانتذار به، لقوله:{وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} .

6 -

ومن فوائدها: بيان فوائد الخشية لله، وأنها من أسباب الانتفاع بالقرآن، فكلما كان الإنسان أخشى لربه كان أفهم لكلامه.

7 -

ومن فوائدها: أن الخشية إنما تكون خشية حقيقية إذا كانت بالغيب، أما من خشي الله تعالى بالعلانية فقد تكون خشيته مدخولة، قد يكون خشي الله عز وجل من أجل أن الناس يرونه، لكن إذا كان بالغيب كان أدل على الإخلاص.

8 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن تبشر من اتصف بهذين الوصفين: وهما اتباع الذكر، والخشب لله عز وجل بالغيب فبشره بالجنة {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} . ولكن هل تنطبق هذه

ص: 39

البشارة على كل واحد بعينه؟

الجواب: لا، بل هي على سبيل العموم، وكل شخص اتصف بما تثبت به الجنة على سبيل العموم فإننا لا نشهد له بعينه ولكن يرجى له ذلك؛ لأنه في الظاهر قد انطبق عليه سبب الاستحقاق، لكن الباطن لا نعلمه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:"إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار"

(1)

. لهذا نقول في كل من ينطبق عليه وصف يستحق به دخول الجنة نقول: إننا لا نشهد له بعينه؛ لأن الشهادة له بعينه تحتاج إلى دليل معين، ولكننا نرجو له هذا، لأن ظاهر الأمر أنه يستحق؛ لانطباق الأوصاف عليه، لكن لا نشهد لأنه يخشى أن يكون باطنه غير ظاهره. وهذه القاعدة مهمة مفيدة، مثلًا: قتل رجل ممن يجاهد مع جيش، ظاهر جميع المجاهدين أنهم يجاهدون لتكون كلمة الله هي العليا، فهل إذا قتل على أيدي الأعداء نشهد بأنه شهيد؟ لا نشهد بأنه شهيد، ولكن نقول: يرجى أن يكون شهيدًا، يعني من الشهداء عند الله عز وجل، لأن ظاهر فعله ينطبق على الشهداء عند الله عز وجل، ولكن لا نشهد له بعينه، ولهذا ترجم البخاري رحمه الله على هذه المسألة في الصحيح قال:"باب: لا يقال فلان شهيد" ولكن كلمة (شهيد) صارت الآن رخيصة تبذل بأبخس الأثمان، فأي واحد يقتل ولو في قتلة جاهلية يقولون: هو شهيد. وهذا لا يجوز، أتدري ما

(1)

أخرجه البخاري، كتاب الجهاد، باب: لا يقال: فلان شهيد (2898) ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه 179 (112).

ص: 40

يستلزم على شهادتك له بأنه شهيد؟ يستلزم بأنك شهدت له بأنه من أهل الجنة، وهذه مسألة صعبة، لكن كما قلنا آنفًا في القاعدة النافعة:(إن من اتصف بأوصاف ينطبق على أهلها هذا الجزاء فإننا نرجوا له ذلك) أما أن نجزم فلا.

فهذا الذي اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب، هل نجزم له بالمغفرة والأجر الكريم؟ نقول: نعم، من فعل ذلك نشهد له على سبيل العموم، لكن على سبيل التخصيص نرجوا له ذلك.

9 -

من فوائد الآية الكريمة: أن البشارة تكون بانتفاء ما يكره وبحصول ما يحب {بِمَغْفِرَةٍ} انتفاء ما يكره {وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)} حصول محبوب، فيهنأ الإنسان ويبشر بزوال المكروه عنه، وبحصول المحبوب، اجتماعًا وانفرادًا، يعني سواء حصل له الأمران، أو حصل له أحدهما فإنه يبشر بانتفاء الشر عنه، كما يبشر بحصول الخير له.

10 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن خشية الرحمن بالغيب واتباع الذكر يحصل به مغفرة الذنوب، والأجر الكريم، فإن {بِمَغْفِرَةٍ} في مقابل الذنوب {وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)} في مقابل الثواب على الأعمال الصالحة.

* * *

قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)} . مناسبة هذه الآية لما قبلها لها مناسبتان:

المناسبة الأولى: أنه لما ذكر حال من ينتفع بذكرى الرسول

ص: 41

- صلى الله عليه وسلم ومن لا ينتفع، بين أن كلًّا منهم سوف يحيا بعد موته، وسوف يجازى على عمله، فالمناسبة ظاهرة ففيها بشارة للمؤمن المنتذر، وفيها إنذار وتخويف لمن خالف.

المناسبة الثانية: أن الله تعالى لما ذكر حال هؤلاء المكذبين فإن تكذيبهم بمنزلة الموت، وإذا كان الله قادر على إحياء الموتى إحياءً حسيًّا فهو قادر على إحياء هؤلاء الموتى بالكفر إحياءً معنويًّا. قال:{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى} {إِنَّا} ضمير جمع، والله عز وجل واحد، فتحمل هذه على التعظيم قطعًا. {نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى} {نَحْنُ} ضمير فصل؛ لأنها لو سقطت وقيل:"إنا نحيي الموتى" استقام الكلام، فهي ضمير فصل للتخصيص يعني: نحن لا غيرنا، {الْمَوْتَى} جمع ميت، ويشمل الموتى من بني آدم وغيرهم، لكن قوله:{وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} يدل على التخصيص، وهذا له نظائر في القرآن والسنة، إذا جاء لفظ عام، ثم ذكر بعده حكم يختص ببعض أفراده، فهل هذا يخصص العموم أو لا يخصصه؟

إذا نظرنا إلى تصرف العلماء رحمهم الله وجدنا أنهم أحيانًا يجعلونه مخصصًا للعموم، وأحيانًا لا يجعلونه مخصصًا للعموم، فمثلًا قوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا}

(1)

هذه الآية فيها عموم، وفيها حكم يختص ببعض أفراد هذا العموم. فقوله

(1)

سورة البقرة، الآية:228.

ص: 42

تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} يشمل من لها رجعة، ومن ليس لها رجعة، فهذا العموم، ثم قال بعد ذلك:{وَبُعُولَتُهُنَّ} أي بعولة المطلقات {أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} هذا الحكم يختص بالرجعيات فهل نقول: إن المراد بالمطلقات في قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} المراد بها الرجعيات أو هو عام؟ أكثر العلماء على أنه عام. ومن السنة قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: "قضي النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة"

(1)

في هذا عموم، وفي هذا حكم تعقبه يختص ببعض أفراد هذا العموم، فهل نأخذ بالعموم، أو نأخذ بما يقتضيه الحكم المعقب؟ فقوله:"قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم" يشمل كل مالم يقسم حتى لو كان بينك وبينه سيارة تبيع نصيبك منها ففيها الشفعة، أخذًا بالعموم "بكل ما لم يقسم" قوله:"فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" هذا يختص بالأراضي، فهل نقول: إن قوله: "في كل ما لم يقسم" يختص بالأراضي بدليل الحكم المفرع، ونقول: إذا كان شريكان في سيارة وباع أحدهما نصيبه فلا شفعة للثاني، أو نأخذ بالعموم ونجعل هذا الحكم الخاص لبعض أفراده يختص به؟ فيه أيضًا خلاف في هذه المسألة، والذي نحن فيها الآن {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى} يشمل كل ميت حتى البهائم {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} هذا خاص بالمكلفين فهل نقول:{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى} أي: من المكلفين

(1)

أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب بيع الشريك من شريكه (2213).

ص: 43

بدليل قوله: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} أو نقول: هو عام، وتعقيبه بحكم يختص ببعض أفراده لا يقتضي التخصيص؟ ينبني على الخلاف السابق، والعلماء يختلفون في مثل هذا، فنحن نقول: يمكن أن يقال: الموتى الذين يكتب لهم ما قدموا وآثارهم؛ بدليل قوله: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} .

وقد يقول قائل: اعتبر بالعموم {الْمَوْتَى} كل ميت {وَنَكْتُبُ} ما قدم بعضهم وهم المكلفون.

{وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)} قال المؤلف: [وكل شيء نصبه بفعل يفسره: أحصيناه {وَكُلَّ شَيْءٍ} (كل) هذه مفعول لفعل محذوف يفسره قوله: {أَحْصَيْنَاهُ} وعلى هذا فيكون التقدير: "أحصينا كل شيء" ولا تجمع بين المُفسِّر والمفسَّر، ولا تقل التقدير:"أحصينا كل شيء أحصيناه" لأنه لا يجمع بين المفسِّر والمفسَّر، فإذا أردت أن تقدر فقل التقدير: وأحصينا كل شيء في إمام مبين، لكن جعلت الصيغة على هذا الوجه ليكون لذكر المسند إليه مرتين لأن {وَكُلَّ شَيْءٍ} والضمير في {أَحْصَيْنَاهُ} يعودان على شيء واحد، فيكون هنا ذكر المعمول مرتين، مرة على أنه مفعول بفعل مقدر، ومرة على أنه ضمير لذلك المذكور وهو قوله:{أَحْصَيْنَاهُ} وهذا التركيب يسمي عند النحويين الاشتغال، والاشتغال تجري فيه الأحكام الخمسة: الوجوب، والاستحباب، والإباحة، والكراهة، والمنع، لكن هذا وجوب نحوي وليس وجوبًا شرعيًّا، يعني تارة يجب نصبه، وتارة يمتنع، وتارة يترجح نصبه، وتارة يترجح رفعه، وتارة يستوي

ص: 44

الأمران، وفي مثل هذا التركيب يترجح النصب؛ لأن قوله:{أَحْصَيْنَاهُ} معطوف على قوله: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} فإذا جعلنا الواو حرف عطف والجملة فعلية {أَحْصَيْنَاهُ} صار المعطوف جملة فعلية على جملة فعلية، ولو رفعنا -والرفع هنا جائز- وقلنا:"وكل شيء أحصيناه" صار العطف هنا عطف جملة إسمية على جملة فعلية، والأنسب أن نعطف جملة فعلية على جملة فعلية؛ لأن تناسب الجملتين أولى من تضادهما. ولهذا نقول: إن النصب هنا أرجح، مع جواز الرفع لولا أنه في كلام الله ولا يغير لكان يجوز أن أقول: وكلُّ شيء أحصيناه، ولهذا لو قلنا: زيدٌ ضربتُه، يجوز أن أقول:"زيدًا ضربته" لكن الرفع أرجح؛ لأنه الأصل، ليس فيه جملة نعطف عليها، لكن لو قلت:"ضربت زيدًا وعمروٌ أكرمته" يجوز في "عمرو أكرمته" النصب ويجوز الرفع، لكن النصب أرجح؛ لتناسب الجملتين، نحن ذكر هذا على سبيل الاستطراد، ولكن القاعدة: إذا جاءت جملة فيها اشتغال فإن كانت ابتدائية، أو معطوفة على جملة إسمية فالراجح الرفع، وإن كانت معطوفة على جملة فعلية فالراجح النصب.

{وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} هل الذي يكتب الله عز وجل، أو الملائكة بأمر الله؟

الجواب: الملائكة بأمر الله لقوله تعالى: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)}

(1)

.

(1)

سورة الانفطار، الآيات: 9 - 12.

ص: 45

وإسناد الكتابة إلى الآمر موجود في اللغة العربية كثيرًا، يقول السيد:(كتبت كذا وكذا) والمراد كتبه عبيده، فهنا يقول الله عز وجل:{وَنَكْتُبُ} والمراد ملائكتنا؛ ودليل ذلك قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)} وقوله: {مَا قَدَّمُوْا} أي: ما قدموه في في الدنيا من أعمال صالحة؛ لأن كل إنسان يعمل عملًا صالحًا في الدنيا فإنه قد قدمه، بمنزلة السلم، والسلم في البيع أن المشتري يقدم الثمن، فأنت الآن مقدم للثمن، والمثمن يكون يوم القيامة، وقد يكون في الدنيا ويوم القيامة جميعًا، فأنت الآن إذا عملت عملًا صالحًا فقد قدمت لنفسك ثمنًا تأخذ عوضه يوم القيامة، ثق بهذا وأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا، وقوله:{وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} يقول المؤلف رحمه الله: [نكتب في اللوح المحفوظ ما قدموا في حياتهم] هذا ما مشي عليه المؤلف أن المراد بالكتابة هنا الكتابة باللوح المحفوظ، وهذا التفسير مخالف لظاهر اللفظ؛ لأن قوله:{وَنَكْتُبُ} فعل مضارع، والمضارع لا يحمل على الماضي إلا بدليل: دليل لفظي كـ (لم) مثلًا: إذا دخلت على الفعل المضارع جعلته ماضيًا، أو دليل حالي يدل عليه السياق، وهنا لا دليل على أن المراد {وَنَكْتُبُ} في اللوح المحفوظ؛ لأن الكتابة في اللوح المحفوظ انتهت. كما قال تعالى:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)}

(1)

فاللوح المحفوظ انتهت كتابته، ولا يمكن أن تصاغ {وَنَكْتُبُ} بشيء

(1)

سورة الأنبياء، الآية:105.

ص: 46

انتهى، ولكن المراد (نكتب) في صحائف الأعمال، والذين يكتبون الملائكة بأمر الله عز وجل ما قدموا في حياتهم من خير وشر ليجازوا عليه، لكن ما قدموه من خير فهو مضمون، وما قدموه من شر فليس بمضمون. لأن الخير لا يمكن أن يهدر منه شيء، والشر قد يعفو الله عنه إذا لم يكن شركًا لقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}

(1)

وهذا من مصلحة الإنسان إذا كان غير مضمون، {وَنَكْتُبُ} . الآثار جمع أثر، والأثر ما أعقب الشيء، ومنه أثر القدم بعد المشي فإنه يعقبه، فما المراد بآثارهم؟ قال المؤلف:[ما استن به بعدهم] وهذا التفسير كمثال وليس حصرًا؛ لأن الذي يكتب بالآثار أكثر مما استن به بعدهم؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"

(2)

. فمثلًا الصدقة الجارية هذه من آثارهم، وإذا أوقف الإنسان مزرعة أو بستانًا على الفقراء وانتفعوا به بعد موته، صار هذا من الآثار بلا شك، وإن كان أصل التقديم في حياته لكن النفع صار بعد مماته، والعلم النافع من آثارهم فكل ما انتفع به بعد موته من علم فهو من آثاره. والولد الصالح أيضًا من آثاره؛ لأن الولد من كسب الإنسان، فإذا كان ولدًا صالحًا يك عو لأبيه أو أمه فهو من الآثار، وما اقتدي به الناس من الأعمال الصالحة، والأخلاق الحميدة فهو أيضًا من الآثار، فما ذكره

(1)

سورة النساء، الآية:48.

(2)

رواه مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته (1631).

ص: 47

المؤلف على سبيل المثال، وهذا الذي قاله المؤلف رحمه الله أن المراد بالآثار ما كان بعد موت الإنسان هذا هو الصحيح.

وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بالآثار: الآثار التي يتقدموا بها إلى الطاعة، كالمشي إلى الصلوات، فإن الله تعالى يكتب للإنسان كل خطوة فيرفع له بها درجة، ويحط عنه بها خطيئة. واستدل هؤلاء بأن النبي عليه الصلاة والسلام قال لبني سلمة:"دياركم تكتب آثاركم"

(1)

، فجعل الرسول عليه الصلاة والسلام الآثار تكتب، ولكن هذا الاستدلال فيه نظر؛ لأن قول الرسول "تكتب آثاركم" هذا مما قدموه في حياتهم، ولكن سماه أثرًا لأنه أثر، وهو المشي والمسير، فالصواب أن الآية كما قال المؤلف أن المراد بما قدموا: ما سبق من أعمال صالحة في حياتهم حتى آثار مسيرهم إلى المساجد، وآثارهم ما كان بعد موتهم. قال:{وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)} قال المؤلف: [{أَحْصَيْنَاهُ} ضبطناه]، والإحصاء بمعنى الضبط مأخوذ من الحصى، لأن العرب أمة أمية لا يكتبون، يضبطون الأشياء بالحصى وشبهها، ويقدرون بالرمح وما أشبهه، لا يقرءون ولا يكتبون، فكانوا إذا أرادوا ضبط الشيء أخذوا حصى، فإذا سألوا كم عدد القوم؟ أعطوه كيس الحصى، ولهذا قال الشاعر:

ولست بالأكثر منهم حصى

وإنما العزة للكاثر

ولست بالأكثر منهم حصى، يعني أن قومك ليسوا بكثيرين، ويضرب المثل فيقال: جاء قوم كُثرُ الحصى، فأحصيناه

(1)

أخرجه الإمام أحمد (14992).

ص: 48

ضبطناه، وسمي الضبط إحصاء، لأن العرب كانت تضبط الشيء بالحصى، قوله:{فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)} قال المؤلف رحمه الله: [كتاب مبين]، هذا صحيح {فِي إِمَامٍ} الإمام يطلق على عدة معانٍ يجمعها أنه مرجع، فإمام الصلاة مثلًا إمام، لأنه مرجع للمأمومين يقتدون به، وإمام الحكم كذلك مرجع يرجع الناس له، والكتاب إمام لأنه مرجع كما قال الله تعالى:{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)}

(1)

. إذًا {فِي إِمَامٍ} في كتاب، وقوله:{مُبِينٍ (12)} يقول المؤلف رحمه الله[بين]، لأن مبين هنا من الرباعي، من أبان يبين فهو مبين. أما بيّن فهي من الثلاثي، من بأن يبين، فهو بين، وكلمة (بأن) و (أبان) تأتيان بمعنى واحد فيقال: بأن الصبح، وأبان الصبح. وتنفرد أبان بأنها تأتي بمعنى أظهر وأوضح، أبان الشيء يعني أظهره وأوضحه. فإذا جاءت كلمة (مبين) في القرآن الكريم فإنها تصلح بأن تكون بمعنى (بين) وتصلح بأن تكون بمعنى (مظهر وموضح) لكن ليس كل موضع جاءت فيه تصلح للوجهين جميعًا، قد تكون في موضع لا تصلح إلا بين، فمثلًا:{وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}

(2)

معناها بين ظاهر، وقوله:{حَم}

(3)

بمعنى الموضح المظهر، وهو إذا كان موضح فهو واضح، لكنها هنا مبين بمعنى مظهر، أبين في

(1)

سورة الإسراء، الآيتان: 13، 14.

(2)

سورة آل عمران، الآية:164.

(3)

سورة الدخان، الآية:1.

ص: 49

المعنى، فكلمة (مبين) إذا صلحت أن تكون من الرباعي الذي بمعنى أظهر، فهو أولى من تفسيرها بالثلاثي الذي بمعنى ظهر، لأن المظهر جامع بين الظهور بنفسه والإظهار لغيره، فيكون معناه أشمل. وقول المؤلف عن الإمام المبين:[هو اللوح المحفوظ] وهذا صحيح يعني محتمل، فإن اللوح المحفوظ كتبت فيه أعمال العباد، ولكن هنا (مبين) هل الأنسب أن تكون كما فسرها المؤلف بين، أو مبين بمعنى مظهر؟ هل المعنى أنه كتاب بين، أو كتاب مبين يظهر الحقائق؟ الظاهر أن المعنى الأخير أولى؛ لأن هذا الكتاب مبين للأمور موضح لها، وكما قلنا: ما كان مبين فهو بين فهي صالحة لما يقول المؤلف: [هو اللوح المحفوظ] لأنه يقول: {أَحْصَيْنَاهُ} أي أنه قد انتهى، ويجوز أن تكون صحائف الأعمال لقوله تعالى:{اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)}

(1)

.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية الكريمة: بيان قدرة الله عز وجل في إحياء الموتى، وقد برهن الله عز وجل على قدرته على إحياء الموتى بأدلة عقلية، وأدلة حسية.

فمن الأدلة العقلية مثل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}

(2)

فهذا دليل عقلي على إمكان إحياء الموتى، وجهه أن الإعادة أهون من الابتداء، فالقادر على الابتداء قادر على الإعادة من باب أولى، وكما في قوله تعالى: {كَمَا

(1)

سورة الإسراء، الآية:14.

(2)

سورة الروم، الآية:27.

ص: 50

بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)}

(1)

هذا مثله أيضًا استدل الله تعالى بالابتداء على الإعادة.

أما الأدلة الحسية فما أكثر ما يضرب الله الأمثال بإحياء الأرض بعد موتها على قدرته على إحياء الموتى، مثل قوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)}

(2)

. وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)}

(3)

. والآيات في ذلك كثيرة، فقد برهن الله عز وجل على قدرته على إحياء الموتى بالأدلة العقلية، والحسية، لتكون لذوي العقول دليلًا، ولذوي الأبصار، والأدلة الظاهرة دليلًا أيضًا، فالإنسان العقلاني كما يقولون نستدل له أو عليه بالعقل، والإنسان السطحي الذي لا يستدل إلَّا بما يشاهد نستدل عليه بالأدلة الحسية.

2 -

ومن فوائد الآية الكريمة: الإشارة إلى أن من لم يخش الله ولم يتبع الذكر فإن الله قادر على أن يحيي قلبه فيخشى الله ويتبع الذكر، ووجه الدلالة أن الله تعالى ذكر هذا بعد أن ذكر انقسام الناس إلى من يخشى الله بالغيب ويتبع الذكر، ومن لم يكن كذلك، فيه إشارة إلى أن الله قادر على أن يرد هؤلاء إلى الحق.

(1)

سورة الأنبياء، الآية:104.

(2)

سورة فصلت، الآية:39.

(3)

سورة ق، الآيات: 9 - 11.

ص: 51

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن كل شيء مكتوب للإنسان إما له وإما عليه لقوله: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} .

4 -

ومن فوائدها: أن الله تعالى يكتب كل شيء القليل والكثير؛ لقوله: {مَا قَدَّمُوا} وما اسم موصول، والاسم الموصول يشمل الصغير والكبير، ويدل لذلك قوله تعالى:{مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا}

(1)

ويدل عليه أيضًا في آخر الآية: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)} .

5 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن الأعمال لا تنقطع بالموت لقوله: {وَآثَارَهُمْ} والاثار ذكرنا أنَّها أنواع: العلم، والصدقة الجارية، والولد الصالح يدعو له، وسنة يحييها فيتبعه الناس عليها.

6 -

ومن فوائد الآية الكريمة: بيان حكمة الله عز وجل في ضبط الأمور وإتقانها، وأنه لا يفوته شيء لقوله:{وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)} .

7 -

ومن فوائدها: أن ما يكتب على الإنسان فإنه حق بين واضح لا يمتري فيه أحد، لقوله:{مُبِينٍ (12)} والشيء المبين هو الذي يوضح الأشياء مع وضوحه في نفسه وهو كذلك، ولذلك يقول الله عز وجل:{وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)}

(2)

.

* * *

(1)

سورة الكهف، الآية:49.

(2)

سورة الإسراء، الآيتان: 13، 14.

ص: 52

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)} (اضرب) قال المؤلف: [اجعل] وهذا لا شك أنَّه معنى مقرب للمعنى أي اجعل مثلًا، وقيل: إن (اضرب) بمعنى اتخذ؛ لأن الضرب يدل على صناعة وتكييف، ومنه: ضرب الذهب خاتمًا، وضرب الذهب حليًّا، وضرب الذهب سكة، يعني نقودًا، بمعنى اتخذه حليًّا، اتخذه سكة وما أشبه ذلك، فشُبه ذكر المثل للاعتبار به بصناعة الشيء؛ لأن المثل يشتمل غالبًا على هيئة متكاملة مركبة من أجزاء متعددة، ولهذا لا يأتي المثل في تشبيه مفرد بمفرد، إنما يأتي المثل في تشبيه صورة مشتملة على أجزاء متعددة بصورة.

فلهذا سمي ضرب مثل، أي: صنع مثل، كما تصنع الأواني والخواتم وغيرها من معادنها، وقال المؤلف رحمه الله:[{لَهُمْ مَثَلًا} مفعول أول، {أصحاب} مفعول ثان]، وهذا الظاهر أنَّه سهو من المؤلف، والصواب العكس، لأن المضروب هو أصحاب القرية، فيكون هو المفعول الأول، و {مثلًا} هو المفعول الثاني، ففي إعراب المؤلف انقلاب، فالصواب: أن أصحاب القرية مفعول أول، و {مَّثَلًا} مفعول ثان، أي: اجعل أصحاب القرية لهؤلاء المكذبين لك اجعلهم مثلًا يعتبرون به، والمَثَل والمِثل كالشبه والشِّبه، أي: جعله أمرًا مشابهًا حتَّى يتعظوا.

وكلمة {وَاضْرِبْ} الخطاب فيها للرسول عليه الصلاة والسلام، أو لكل من يتأتى خطابه، وسبق لنا أن مثل هذا تارة يكون صريحًا؛ أنَّه عام، وتارة يكون صريحًا أنَّه خاص بالرسول

ص: 53

- صلى الله عليه وسلم، وتارة يحتمل الوجهين.

فمن الأشياء التي تكون صريحة بخصوصية الرسول عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)}

(1)

فهنا الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام قطعًا.

ومن الأشياء الصريحة أنَّه عام مثل قوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ}

(2)

ولم يقل: "إذا طلقت" فدل على أن الخطاب الأول يراد به العموم.

وأما احتمال أن يكون خاصًّا بالرسول عليه الصلاة والسلام أو عامًّا فهو كثير في القرآن، والأرجح أن نجعله عامًّا؛ لأنه أشمل، فإذا جعلناه عامًّا شمل الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره، إذًا نقول لأي داعية الآن: اضرب مثلًا للمكذبين بهذه القرية {أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} . قال المؤلف: [أنطاكية] فجعل (ال) للعهد الذهني يعني كأنها قرية معروفة مفهومة، ولكن هذا القول ضعفه ابن كثير رحمه الله في تفسيره وقال:(فعلى هذا يتعين أن هذه القرية المذكورة في القرآن قرية أخرى غير أنطاكية، كما أطلق ذلك غير واحد من السلف أيضًا، أو تكون أنطاكية - إن كان لفظها محفوظًا في هذه القصة - مدينة أخرى غير هذه المشهورة المعروفة، فإن هذه لم يعرف أنَّها أهلكت لا في الملة النصرانية ولا قبل ذلك. والله سبحانه وتعالى أعلم)

(3)

.

(1)

سورة الشرح، الآية:1.

(2)

سورة الطلاق، الآية:1.

(3)

انظر تفسير ابن كثير رحمه الله آخر تفسير الآية رقم (29) من سورة (يس).

ص: 54

وعلى هذا فيكون المراد بالقرية هنا: قرية غير معينة، وتكون (ال) للجنس لا للعهد الذهني، يعني: اضرب مثلًا لهم في قرية غير معينة وهذا هو الصحيح، وذلك لأن الله عز وجل لو كان في بيان هذه القرية بعينها مصلحة لبينها، وليس المقصود كما مر علينا كثيرًا تعين الأشخاص، أو الأماكن، أو الأزمان ليس فيه كثير فائدة في الغالب، المقصود العبرة في القصة وما وقع، ولهذا نرى بعض العلماء يتكلفون مثلًا فيما إذا جاء اسم رجل في حديث مبهم يتكلفون في طلب تعينه، وليس هذا بلازم، إلَّا أن يترتب على تعيينه اختلاف للحكم، أوإظهار للمعنى فهذا شيء آخر، وهنا لا يعنينا أن نعرف ما هي القرية، ومن هم أهلها، الذي يعنينا العبرة بما جرى في هذه القصة، فالصواب عدم تعينها بأنطاكية {إِذْ جَاءَهَا} [بدل اشتمال من أصحاب القرية] فتكون في محل نصب؛ لأن أصحاب منصوب، والبدل يتبع في الإعراب المبدل منه، فيكون {إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)} في محل نصب على أنَّه بدل من أصحاب القرية {إِذْ جَاءَهَا} أي أصحاب القرية {الْمُرْسَلُونَ (13)} لَهُم هو قال المؤلف رحمه الله:[أي رسل عيسى] وهذا القول ليس بصحيح، ولا دليل عليه، بل جاءها المرسلون الذين من جنس قوله في أول السورة {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)} جاءها المرسلون الذين هم من جنس هؤلاء، وعلى هذا فهم رسل من عند الله عز وجل، وليسوا من قبل عيسى صلى الله عليه وسلم، قال في تفصيل هذا المجيء وهذه القصة:{إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ} وهذا من عجائب القول أن يقول بعض العلماء: أي: رسل

ص: 55

عيسى، مع أن الله يقول:{إِذْ أَرْسَلْنَا} ولم يقل: إذ أرسل إليهم عيسى، بل قال:{إِذْ أَرْسَلْنَا} وعلى هذا فيتعين أن يكون المراد بالرسل المرسلون هنا رسلًا من عند الله، {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ} أي: إلى أصحاب القرية {اثْنَيْنِ} مهو من هؤلاء الثلاثة {فَكَذَّبُوهُمَا} التكذيب رد الخبر ونسبته إلى خلاف الواقع هذا هو التكذيب، فهؤلاء كذبوهما وقالوا: هذا أمر ليس بصحيح، ولستم برسل، فماذا كان؟ قال الله تعالى:{فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} وقال المؤلف: [بالتخفيف والتشديد]. {فَعَزَّزْنَا} هذا التشديد (عزَزنا) التخفيف، والقراءتان سبعيتان؛ لأن المؤلف ذكرهما على حد سواء، معنى (عززنا) قال: [قوينا الاثنين بثالث، يعني لما كُذِّب الاثنان أرسل الله ثالثًا معهم لأجل التقوية، وهذا كقول موسى عليه الصلاة والسلام لما أرسله الله تعالى إلى فرعون قال:{وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)}

(1)

فزيادة الواحد يقوي بلا شك، ونحن نشاهد حتَّى في أمرنا الواقع إذا قا شخص قولًا، ثم أيده آخر ازداد قوة ونشاطًا في تقرير هذا القول وتثبيته، {فَقَالُوا} الضمير يعود على الثلاثة {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)} أتوا بالجملة المؤكدة بـ (إنا)؛ لأن الحال تقتضي ذلك، فإنهم قد كذبوا وأنكروا، فجاءت الجملة الثانية مؤكدة؛ لأن المقام مقام تكذيب.

ولكن لو قال قائل: لماذا لم تؤكد بأكثر من مؤكد؟

قلنا: هي أكدت بأكثر من مؤكد، أكدت بمؤكد واحد لفظي

(1)

سورة طه، الآيات: 29 - 32.

ص: 56

وهو (إنا)، وأكدت بمؤكد معنوي وهو زيادة الرسول.

ولو قال قائل: هل المقام مقام تأكيد على سبيل الاستحسان، أو على سبيل الوجوب؟

قلنا: على سبيل الوجوب، فإذا قال: القاعدة أنَّه إذا كان على سبيل الوجوب فإن التأكيد يتكرر، يعني يؤتى بإن، واللام، والقسم، قلنا: هذا المؤكد مكرر، لكنه من نوعين: تأكيد باللفظ (إنا) وتأكيد بالمعنى تقويتهم بثالث: {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)} مرسلون من قبل الله عز وجل، وهم يعلمون ذلك أنهم ما دعوا الرسالة من شخص وإنَّما هي من الله، فكان جواب هؤلاء جواب غيرهم من المكذبين، والمكذبون يردودت أقوال الرسول، أحيانًا بنفي، وأحيانًا بإثبات، ففي النفي يقولون:{مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ} وكما قال تعالى: {قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} يعني نسلم إنا بشر مثلكم {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}

(1)

هذا جواب بالنفي. يعني أنتم بشر لستم ملائكة حتَّى نقبل، وأحيانًا بالإثبات {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)}

(2)

فصاروا أحيانًا يتهمون الرسل بالسحر والجنودت، وأحيانًا بالنفي يقولون: ما أنتم ملائكة حتَّى تكونوا رسلًا إلينا، ما أنتم إلَّا بشر مثلنا، فليس ببدع أن يقول أصحاب هذه القرية لهؤلاء الرسل: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ

(1)

سورة إبراهيم، الآيتان: 10 - 11.

(2)

سورة الذاريات، الآية:52.

ص: 57

مِثْلُنَا}، {وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ} أنكروا الرسالة من حيث جنس الرسول، وأنه بشر، وأنكروا الرسالة إنكار جحود بلا مبرر {وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ} من الذي يمنع فلم يذكروا حجة قوله:{وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ} هذه الجملة نفي و {مِنْ شَيْءٍ} نكرة في سياق النفي فتعم، ثم هذه النكرة مؤكدة بـ (من) الزائدة، لأن قوله:{مِنْ شَيْءٍ} بمعنى (شيئًا)، وقوله:{إِنْ أَنْتُمْ} قوله {إِنْ} بمعنى (ما) ففي الجملة حصر طريقة: النفي والإثبات {إِنْ أَنْتُمْ} يعني ما أنتم إلَّا تكذبون، وهذا الحصر - والعياذ بالله - حصر هم يرونه إضافيًّا، بمعنى ما أنتم إلَّا تكذبون فيما تدعون من الرسالة، ولا يلزم أنهم يدعون أنهم يكذبون في كل شيء؛ لكن فيما ذكروا من الرسالة، فصار إنكارهم مبنيًّا على أمرين:

الأول: أنهم بشر، يعني كأنهم يقولون: لو كنتم رسلًا لكنتم ملائكة.

الثاني: النفي الذي لم يبن على شيء، وإنَّما هو مجرد إنكار ومكابرة {وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15)} .

وهذا لا شك من سفههم، لأن إنزال الوحي على الرسل لهداية الخلق أمر يوجبه العقل فضلًا عن الشرع، لأن العباد لا يمكن أن يتعبدوا لله سبحانه وتعالى إلَّا بشيء شرعه ونصبه لهم دليل عليه وإلَّا فكيف يتعبدون؟ ! فإنزال الله عز وجل الوحي للبشر أمر يقتضي العقل وجوبه، مع أن الله قد أوجبه على نفسه، كما قال تعالى:{إِنَّ عَلَيْنَا لَلهُدَى (12)}

(1)

فالله أوجب على نفسه أن يبلغ

(1)

سورة الليل، الآية:12.

ص: 58

عباده سبحانه وتعالى ما يوصلهم إليه، وإلَّا لضلوا، إذًا هذه المكابرة وهي: دعوى أن الرحمن ما أنزل من شيء يكذبها العقل والشرع، لأن العقل يوجب أن ينزل الله على العباد شريعة يتعبدون بها له لتوصلهم إليه، إذ إن العقل لا يهتدي كيف يعبد الله، والشرع أوجب الله تعالى على نفسه أن يبلغ عباده شريعته، قال الله عز وجل:{إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13)}

(1)

وقال تعالى في القرآن الكريم: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)}

(2)

حيث أوجب الله على نفسه أن يهدي عباده، وهذه هداية البلاغ لا هداية التوفيق، ولو كانت هداية التوفيق لاهتدى كل أحد.

قوله: {إِلَّا تَكَذِّبُونَ (15)} . الكذب هو: الإخبار بخلاف الواقع، إذًا أنتم أخبرتمونا إنكم رسل، والواقع إنكم لستم برسل، ماذا قالوا لهم، قال الله عز وجل:{قَالُوا لَمُرْسَلُونَ (16)} الآن أكدوا الرسالة بثلاثة مؤكدات:

الأول: {رَبُّنَا يَعْلَمُ} لأن هذا جاري مجرى القسم.

والثاني: {إِنَّا} .

والثالث: اللام. لشدة إنكارهم.

فإذا قلنا: إن هذه ثلاثة مؤكدات مع التأكيد الأول وهو زيادة الثالث، صار أكدت الرسالة بأربع مؤكدات. {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ}. قال المؤلف: [جاري مجرى القسم، وزيد التأكيد به وباللام على ما قبله لزيادة الإنكار، أربع مؤكدات، لكن المؤلف

(1)

سورة الليل، الآيتان: 12، 13.

(2)

سورة القيامة، الآية:19.

ص: 59

لم يعتبر تأكيد الإرسال، مع أنَّه بلا شك مؤكد.

قوله تعالى: {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17)} قال المؤلف رحمه الله[التبليغ المبين

(1)

الظاهر، بالأدلة الواضحة، هذا حصر حقيقي أي: ما عليهم في جانب الرسالة إلَّا البلاع المبين في جانب الرسالة، فقولنا:(في جانب الرسالة) يقتضي أن يكون حصرًا إضافيًّا، لأن عليهم سوى البلاع أن يقوموا بعبادة الله الخاصة التي هي غير التبليغ، لكن هي بجانب الرسالة ما عليهم إلَّا البلاغ المبين، قال المؤلف:[التبليغ] كلمة بلاغ بمعنى تبليغ، فهي اسم مصدر من بلغ يبلغ، كما يقال: كلم يكلم، المصدر كلام، واسم المصدر كلام، بلغ يبلغ تبليغًا هذا مصدر، واسم المصدر بلاغ، أما تفسير المبين بالبين فهذا قد يقال: إن فيه نظرًا؛ لأن الظاهر أن المبين بمعنى المظهر، يعني البلاع المظهر لحقيقة الأمر الواقع، وهو أننا رسل من عند الله، وسبق لنا أننا فسرنا المبين بالمظهر على وجه صحيح صار متضمنًا لكونه بينًا، إذ لا يكون الشيء مبينًا إلَّا وهو بين في نفسه، أما قوله رحمه الله: [التبليغ البين الظاهر بالأدلة الواضحة، وهي: إبراء الأكمه، والأبرص، والمريض، وإحياء الموتى، هذا ليس بصحيح؛ لأن هذا مبني على أنهم رسل عيسى عليه الصلاة والسلام، والأمر ليس كذلك، لكن عليهم التبليغ البين بالرسالة فيبلغون تبليغًا بينًا.

في القصة فوائد كثيرة منها:

1 -

بيان ضرب الأمثال ليعتبر بها لقوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ

(1)

في بعض النسخ (البين).

ص: 60

مَثَلًا}، والخطاب كما سبق إما للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل من يتأتى خطابه.

2 -

أن العبرة بما في القصة من ضرب الأمثال، وأنه ليس من الضروري أن يعين المثل المضروب فهنا قال:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} . ولم يعين القرية، ولم يعين أولئك الأصحاب بأعيانهم؛ لأنه ليس هذا محل عبرة، بل العبرة في القصة كلها.

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: بيان أن الله عز وجل لن يدع الخلق بلا رسل لقوله: {إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)} وقوله: {إِذْ أَرْسَلْنَا} .

4 -

ومن فوائدها: بيان رحمة الله عز وجل في تعزيز الرسالة بالصيغة والعدد، لأنه قال:{إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)} فهنا التعزيز بالثالث تقوية فعلية، والتأكيد بـ (إنا) تقوية لفظية.

5 -

ومن فوائد الآية الكريمة: جواز تعدد الرسل مع اتحاد المرسل إليه؛ لأن الله أرسل لهذه القرية اثنين ثم عززهما بثالث.

6 -

ومن فوائدها: أن الذين يكذبون الرسل ليس عندهم إلَّا المكابرة، وليس عندهم حجة عقلية أو نقلية لقولهم:{قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15)} كل هذه الجمل الثلاث ليس فيها أي حجة تسوغ تكذيب هؤلاء الرسل، لأنك إذا رأيت هذه الحجج الثلاث أو الشبه لم تجد فيها حجة:

الأولى: أنهم ردوهم لأنهم بشر مثلهم، وقد سبق في التفسير بيان الرد عليها، وأنه لا يمكن أن يرسل للبشر إلَّا بشر

ص: 61

مثلهم، حتَّى لو أنزل إليهم ملائكة فإن الملائكة لابد أن يكونوا على صورة البشر، وحينئذ تعود الشبهة.

الثانية: ما أنزل الرحمن من شيء، فهذا نفي مجرد بدون ذكر حجة، وليس هذا بدليل للخصم إطلاقًا، لأن نفي قول الخصم بدون حجة ما هو إلَّا مكابرة.

الثالثة: وكذلك قوله: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15)} .

7 -

فوائد الآية الكريمة: بيان أن المعاندين للرسل ليس عندهم إلَّا المكابرة المحضة كقولهم: {وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ} وقولهم: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15)} .

8 -

أن حكمة الله عز وجل تقتضي أن يرسل للبشر بشرًا مثلهم.

9 -

ومن فوائد الآية الكريمة: جواز التأكيد بما يشبه القسم لقولهم: {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16)} . وهل هذا أقوى من التأكيد بالقسم، أو التوكيد بالقسم أقوى؟ الظاهر أن هذا أقوى من التوكيد بالقسم، لأنهم إذا قالوا {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16)} وإن لم يكونوا مرسلين استلزم قولهم هذا وصف الله بالجهل والعجز والقصور، لأنهم إذا قالوا: ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون، ولم يكونوا مرسلين، معناه: أن الله علم الحال على خلاف ما كانت عليه، إذا فرضنا أن الله يعلم أنهم مرسلون وهم غير مرسلين في الواقع، لزم من ذلك أن يكون الله جاهلًا بحالهم، وأن يكون الله تعالى عاجزًا عن الانتقام منهم وبيان كذبهم، لأنهم سيقولون: إنا مرسلون، ويأخذون بمقتضى هذه الرسالة، والله تعالى يعلم

ص: 62

أنهم غير مرسلين، وهذا يستلزم الجهل، إذًا فالتأكيد بمثل هذا أشد من التأكيد بالقسم لما يترتب عليه من اللوازم الخطيرة، ولهذا قال العلماء: لو قال قائل: الله يعلم أني ما فعلت كذا وهو فاعل قالوا: إن هذا يقتضي الكفر إذا كان يعلم معنى ما يقول، وما يلزم من قوله، ووجه ذلك ما أشرنا إليه آنفًا من كونه يستلزم أن يكون الله جاهلًا وعاجزًا.

10 -

ومن فوائد الآية الكريمة: جواز التأكيد بعدة مؤَكدات في جانب المنكر، بل قد نقول: إن التأكيد واجب إلَّا لفائدة، لقوله هنا:{قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16)} وقد سبق أن الجملة مؤكدة بثلاث مؤكدات.

11 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن الرسل عليهم الصلاة والسلام ليس عليهم هداية الخلق، وإنَّما عليهم إبلاغ الرسالة فقط، لقولهم:{وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17)} .

12 -

ومن فوائدها أيضًا: أنَّه يلزم الرسل أن يكون بلاغهم مبينًا مظهرًا للأمر على حقيقته.

13 -

ويتفرع على ذلك أنَّه لا إبهام في الشرائع، وأن الشرائع كلها واضحة، فإن جاء إبهام في نص، فهو مبين موضح في نص آخر، وإن بقي الإبهام قائمًا فالعلة في فهم المخاطب، إما لقصوره، أو لتقصيره، أما ما جاءت به الرسل فإنه يحصل به البلاغ المبين المظهر لكل ما تحتاج إليه الرسالة، لقوله:{وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17)} .

* * *

ص: 63

{قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18)} {تَطَيَّرْنَا} أي تشاءمنا، وأصل التطير مأخوذ من الطير، لأن الناس يتشاءمون بالطيور، أو يتفاءلون بها. فيرسلون الطيور فإن اتجهت إلى اليمين، أو اليسار، أو الأمام، أو الخلف، أو عادت، أو ذهبت ولم تعد تشاءموا، أو تفاءلوا على اختلاف بينهم فيما يكون التشاؤم أو فيما يكون التفاؤل، ثم تعدى الأمر إلى أن تكون الطيرة في كل شيء وهي:"التشاؤم بمرئي، أو مسموع، أو زمان، أو مكان"، وهذا التطير قد يكون له أصل، وقد لا يكون له أصل، قد يكون له أصل وذلك فيما إذا عوقبوا بمخالفة الرسل فيجعلون تلك العقوبة من شؤم هؤلاء الرسل، كأنهم يقولون: لولا أنكم أتيتم إلينا ما حصلت لنا هذه العقوبة، وقد يكون هذا التطير لا أصل له، وإنَّما هو دعوى مجردة من هؤلاء المكذبين، وهم قد يتطيرون بمعنى: أنَّه يحد من حرياتهم فيما تهواه أنفسهم، فيكون هذا شؤمًا وتضيقًا، مثل أن الرسل عليهم الصلاة والسلام ينهونهم عن عبادة الأصنام، وهم يهوون عبادة الأصنام، ومثل أن الرسل تأمرهم بعبادة الله وحده، فيقولون: ضيقت علينا العبادة، فيجعلون هذا التضييق بزعمهم شؤمًا، فيتطيرون بالرسل عليهم الصلاة والسلام، والحاصل أن التطير للرسل له ثلاث حالات:

الأولى: تطير بحد الشريعة من أهوائهم وشهواتهم، فيقولون: هذا تضييق علينا، وهو شؤم في زعمهم.

الثانية: تطير بما يصيبهم من العقوبات بسبب المخالفة فيقولون: هذا شؤمكم.

ص: 64

والثالثة: دعوى مجردة لا أصل لها فيقولون: إنا تطيرنا بكم لمجرد التشويه لما جاءت به الرسل.

وقول المؤلف رحمه الله: [انقطاع المطر عنَّا بسببكم] هذا أحد الوجوه الثلاثة التي أشرنا إليها آنفًا، بأنهم يتطيرون بهم بسبب العقوبة التي تحل بهم لمخالفتهم، ووجه آخر يتطيرون بهم بسبب الحد من بلوغ مآربهم في عبادتهم وشهواتهم ومعاملاتهم ومأكولاتهم ومشروباتهم، فيقولون: ضيقت علينا. الوجه الثالث: تطير المدعى الذي ليس له أصل، وقولهم: لانقطاع المطر عنا بسببكم. لتنفير الناس عن متابعتهم. يحتمل أن هذا هو السبب، ويحتمل أن ما حل بهم من العقوبات الأخرى التي من جملتها ما عاقب الله بها آل فرعون أرسل عليهم الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم والسنين، ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، تسع عقوبات، ويمكن أن يكون هناك عقوبات غير هذا أيضًا.

{لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18)} {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا} عن دعوتنا إلى اتباعكم وترك ما كنا عليه {لَنَرْجُمَنَّكُمْ} الجملة هذه جواب القسم، وليست جواب الشرط، لأنها قُرنت باللام، وأكدت بنون التوكيد، وهذا يدل على أنَّها جواب القسم، لا جواب الشرط، ولهذا أشار ابن مالك رحمه الله في الألفية حيث قال:

واحذف لدى اجتماع شرط وقسم جواب ما أخرت فهو ملتزم {لَنَرْجُمَنَّكُمْ} الرجم هو الرمي بالحجارة، ومنه رجم الزاني

ص: 65

المحصن أي يرمى بالحجارة حتَّى يموت {وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا} ليصيبنكم، ومس كل شيء بحسبه: فمس الإنسان للإنسان له معنى، ومس العقوبات والمصائب له معنى، والمراد بالمس هنا الإصابة، وقوله:{عَذَابٌ أَلِيمٌ (18)} العذاب هو ما يحصل لهؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام من هؤلاء المكذبين المعتدين من الضرب وشبهه، ومنه الحبس أيضًا فإنه عذاب أَلِيمٌ (18)} بمعنى مؤلم فهو فعيل، بمعنى مفعل، ومنه قول الشاعر:

أم الريحانة الداعي السميع

يؤرقني وأصحابي هجوع

(السميع) بمعنى المسمع، لا بمعنى السامع، فأليم بمعنى مؤلم، لا بمعنى آلم، قوله:{وَلَيَمَسَّنَّكُمْ} هل هذا على سبيل التنويع، أو على سبيل الجمع؛ يعني أنهم يرجمونهم ويعذبونهم قبل الرجم، أو أنَّه على سبيل التنويع، وأن الواو بمعنى "أو" أي: نرجمنكم حتَّى تموتوا، أو ليمسنكم منا عذاب أليم دون الرجم؟ الآية تحتمل معنيين، فإن جعلناها للجمع فإنها ليست على سبيل الترتيب، لأن الرجم هنا سابق في الذكر، لاحق في الواقع، لأن العذاب الأليم قبل الرجم، إذ إن الرجم لا عذاب بعده، فيكون فيها تقديم وتأخير، وأما إذا جعلنا الواو بمعنى "أو" للتقسيم، فيكون المعنى أنهم توعدوهم بأحد أمرين: إما الرجم، وإما العذاب المؤلم الشديد.

قوله تعالى: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)} {قَالُوْا} الضمير يعود على الرسل، يخاطبون أصحاب القرية الذين كذبوهم {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} أي شؤمكم ملازم

ص: 66

لكم، وذلك بسبب كفرهم فهم الشؤم على أنفسهم، وليس الشؤم من الرسل، بل من هؤلاء ولو شاءوا لآمنوا فزال عنهم ما حل بهم من العذاب والنقص، {أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} قال المؤلف رحمه الله[همزة استفهام دخلت على "إن" الشرطية، وفي همزتها التحقيق والتسهيل وإدخال ألف بينها بوجهيها وبين الأخرى] سبق مثل هذا وأن فيها خمس قراءات، أو أربع قراءات: التحقيق، والتسهيل، فيقال "إن" هذا التحقيق، والتسهيل، "أإن" بدون بيان الهمزة، إدخال ألف بينهما بوجهيها يعني وعدم الإدخال، فإدخال ألف التحقيق تقول آإن ذكرتم، وبالتسهيل أإن هذا إدخال ألف بينهما، وبين الأخرى التي هي همزة إن، والقراءات كلها سبعية

(1)

وقوله: {أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} قال المؤلف: [وعظتم وخوفتم، وجواب الشرط محذوف، أي: تطيرتم وكفرتم] قوله: {أَيِن} حرف شرط، والشرط يحتاج إلى فعل شرط، وإلى جواب الشرط، أما فعل الشرط فمذكور وهو قوله:{ذُكِّرْتُمْ} أما جواب الشرط محذوف، تقديره يقول المؤلف رحمه الله:[تطيرتم وكفرتم].

ولننظر ماذا حصل من التذكير لنعرف جواب الشرط {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18)} فالذي حصل منهم أنهم تطيروا، وأنهم توعدوا بالرجم والعذاب الأليم، فيكون الجواب مطابقًا للمذكور أي:{أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} تطيرتم، وتوعدتم بالرجم والعذاب الأليم، وكفرتم، قال

(1)

يمكن الرجوع إلى الشريط المسجل وهو الشريط الثاني آخر الوجه الثاني.

ص: 67

المؤلف: [وهو محل الاستفهام. والمراد به التوبيخ] وهو أي: جواب الشرط المحذوف محل الاستفهام، يعني هو الذي ينصب عليه الاستفهام لا التذكير؛ لأن التذكير ثابت وليس فيه إنكار، إنما الإنكار والتوبيخ بالتطير بهم، واعتدائهم على الرسل، فهو محل الاستفهام الذي يراد به التوبيخ، يعني أن الرسل عليهم الصلاة والسلام وبخوهم وقالوا: أتتشاءمون وتتوعدون؛ لأننا ذكرناكم، فهذا هو محل الاستفهام، وإنَّما نص المؤلف على ذلك لأنه قد يظن الظان أن محل الاستفيم هي الجملة الموالية لأداة الاستفهام وهي قوله:{أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} الواقع أن محل الاستفهام هو جواب الشرط، لا الشرط المذكور وهو أي الاستفهام للتوبيخ.

{بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)} هذا إضراب انتقال، يعني انتقلوا من الإنكار عليهم بكونهم يكذبون الرشمل ويتوعدونهم ويتطيرون بهم إلى وصفهم الحقيقي وهو أنهم قوم مسرفون، والإضراب يكون للإبطال، ويكون للانتقال، فإذا قلت: جاء زيا بل عمرو، فهذا إضراب إبطال، وإذا قلت: زيد في شك بل هو منكر، فهذا إبطال انتقال، ومنه قوله تعالى:{بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)}

(1)

ومنه هذه الآية الكريمة {أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)} وقوله: {مُسْرِفُونَ (19)} أي متجاوزون للحد، ووجه التجاوز:

أولًا: أنهم كذبوا الرسل بلا بينة وبلا دليل؛ لأنهم اعتمدوا على ما ليس حجة لهم، {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} وقالوا: {وَمَا

(1)

سورة النمل، الآية:66.

ص: 68

أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ} ووقالوا: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15)} هذا إسراف جاوز الحد.

ثانيًا: أنهم تطيروا بالرسل، وحقيقة الأمر أن الرسل عليهم الصلاة والسلام محل تفاؤل؛ لأن في اتباعهم الخير {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)}

(1)

وهؤلاء تطيروا بالرسل وليسوا محل ليتطير بهم.

ثالثًا: أنهم توعدوا الرسل بالعدوان عليهم إذا لم ينتهوا عن دعوتهم إلى الله تعالى، وإبلاغهم رسالته، لقوله:{لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18)} فكل هذا من الإسراف.

وهو كذلك من العدوان أيضًا، ووجه ذلك:

أولًا: أنَّه لا يجوز للإنسان عقلًا أن يرد شيئًا بلا بينة، مع أن هؤلاء الرسل لا شك أنهم أتوا بآية تدل على صدقهم، ما بعث الله رسولًا إلَّا أعطاه ما على مثله يؤمن البشر.

ثانيًا: تطيرهم بالرسل، والحقيقة أن التطير من أعمالهم هم؛ لأن الرسل قالوا وصدقوا فيما قالوا:"طائركم معكم" فتطيرهم بالرسل قلب للحقيقة، لأن حقيقة الأمر أن التطير من هؤلاء.

الوجه الثالث: أنهم توعدوا الرسل {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18)} .

(1)

سورة الأعراف، الآية:96.

ص: 69

الفوائد:

من فوائد الآيتين الكريمتين:

1 -

أن هؤلاء المكذبين تشاءموا بالرسل، وهذه دعوى باطلة، يدعيها كل مكذب بالرسل.

2 -

أن المكذبين بالرسل يدعى عليهم ما لم يكن منهم، تشويهًا وتنفيرًا.

3 -

يستفاد منها: بيان عدوان هؤلاء المكذبين للرسل عليهم الصلاة والسلام، حيمسا توعدوا الرسل إن لم ينتهوا عن الدعوة إلى الله بالرجم المؤدي إلى الهلاك، أو بالعذاب الأليم إن لم يرجموهم. وهذا فيه غاية العدوان العظيم على عباد الله، فهؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام كما قال مؤمن آل فرعون:{أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ}

(1)

فهؤلاء المكذبون للرسل الذين يتهددونَهُم بالقتل والرجم والعذاب الأليم من أشد الناس عدوانًا؛ لأنهم اعتدوا على الحق وعلى حامل الحق.

4 -

ومن فوائدها: أن الإنسان شؤمه بعمله، وليس بدعوته إلى الحق، لقوله:{طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} .

5 -

ومن فوائدها: أن الذنوب والتكذيب للرسل يكون سببًا للمحق والبلاء لقوله: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} وهذا هو سنة الله عز وجل في جميع المكذبين للرسل، أن الله يبتليهم بالعقوبات لعلهم يرجعون.

(1)

سورة غافر، الآية:28.

ص: 70

6 -

ومن فوائد الآية الكريمة: الإنكار على من ذكر فأعرض، لقوله:{أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} .

7 -

ومن فوائدها: جواز حذف ما علم بالسياق، ولا يعد هذا نقصًا في الكلام وبلاغته؛ لأن جواب الشرط محذوف لدلالته عليه، وربما يكون الحذف أبلغ.

8 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن هؤلاء القوم كانوا مسرفين على أنفسهم متجاوزين للحد لقوله: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)} . وسبق بيان وجه إسراف هؤلاء وتجاوزهم للحد.

* * *

{وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)} قال المؤلف: [هو حبيب النجار كان قد آمن بالرسل ومنزله بأقصى البلد]. قوله عز وجل: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} أي من أبعدها إلى المكان الذي فيه الرسل والمكذبون لهم، وهو وسط المدينة، لأن الغالب أن العلم والحضارة وكثرة السكان تكون في الوسط. وهذا الرجل كان في أبعد المدينة فسمع أن هؤلاء كذبوا الرسل - وكان رحمه الله قد آمن فجاء ينصح قومه، والله عز وجل يقول {رَجُلٌ} وهو نكرة غير معرف، والمؤلف يقول [حبيب النجار] وهذا الاسم والتعيين لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولعله متلقى عن بني إسرائيل، وموقفنا في مثل هذا ألا ننكر وألا نثبت، {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} وهنا بدء بيان مكانه قبل ذكره، وفي قصة موسى حين قتل القبطي ذكر

ص: 71

الرجل قبل مكانه فقال: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ}

(1)

وهنا ذكر المكان قبل ذكر الرجل {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ} وذلك لأن هذا الرجل كان مؤمنًا فسهل عليه أن يأتي من المكان البعيد، فذكر مكانه لبعده ليستدل به على قوة محبة هذا الرجل للخير ودفع الشر. أما ذلك فالمقصود به العلم أن يأتي أحد بالعلم، فبدأ بالآتي وهو الرجل قبل ذكر مكانه.

وهنا قال الله عز وجل: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} وفي أول الآية قال الله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} وهذا يدل على أن القرية تسمى مدينة، والمدينة أيضًا تسمى قرية، فمكة سماها الله تعالى قرية وهي أم القرى، {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ}

(2)

فالقرية ليست هي البلد الصغير كما يظن كثير من الناس، بل القرية تكون مدينة، ولذلك لأن أصل القرية معناه مأخوذ من القِرى، وهو التجمع فإن الناس يجتمعون فيها، فإن كانت بلدة كبيرة سميت في عرف الناس مدينة، وإن كانت دون ذلك سميت في عرف الناس قرية. فالتفريق بين القرية والمدينة ما هو إلَّا اصطلاح عرفي فقط.

قوله: {يَسْعَى} أي يشتد يركض لئلا تفوته الفرصة حين سمع بتكذيبهم {قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)} {قَالَ} هذا جملة مفصولة عما قبلها، أي أنَّها أتت بدون حرف العطف كأنها

(1)

سورة القصص، الآية:20.

(2)

سورة محمد، الآية:13.

ص: 72

جواب عن سؤال مقدر، تقديره فماذا قال حين جاء؟ ! {قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)} {يَاقَوْمِ} منادى منصوب بالنداء؛ لأنه مضاف، وقد حذفت منه ياء المتكلم، وأصلها (يا قومي) ولكن حذفت الياء للتخفيف، أو لالتقاء الساكنين؛ لأن اتبعوا مبدوءة بهمزة وصل، وهمزة الوصل ساكنة. قال الرجل:{قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)} ولم يقل يا أيها السفهاء، يا أيها الجهال، بل قال:{يَاقَوْمِ} توددًا وتعطفًا لهم، ولم يقل: يا إخواني، لأنه لا أخوة بين المؤمن والكافر، فهو مؤمن وهم كفار، لكن {يَاقَوْمِ} ، يصح أن يقال: يا قوم ولو كانوا كفارًا. قال الله تعالى مخاطبًا رسوله صلى الله عليه وسلم:

(1)

قال: {قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)} اتبعوهم بما دعوكم إليه من الإيمان والعمل الصالح، لأن هؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام دعوا إلى ما دعت إليه الرسل كلهم، وهو قوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)}

(2)

فهم دعوا إلى هذا، إلى الإيمان والعمل الصالح {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} كرر الأمر بالاتباع من باب التأكيد {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)} {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ} ولو حذفت اتبعوا الثانية وقيل: اتبعوا المرسلين من لا يسألكم أجرًا، لصح الكلام لكن كررت للتأكيد، لأنها هي المقصود الأول بالخطاب أن يتبعوا المرسلين {مَنْ} أي: الذي، وهم الرسل عليهم الصلاة والسلام، فإنهم يدعون

(1)

سورة الأنعام، الآية:66.

(2)

سورة الأنبياء، الآية:25.

ص: 73

الناس ولا يأخذون ولا يطلبون على دعوتهم من الناس أجرًا، لكنهم يرجون من الله الأجر، أما من الناس فلا يأخذون أجرًا، فهم لا يتخذون أجرًا على دعوتهم وعلى دلالتهم إلى الخير فإنما يرجون الأجر والثواب من الله {أَجْرًا} هنا محلها من الإعراب مفعول ثان، والكاف مفعول أول، وهذان المفعولان من باب مفعولي، كسا وأخواتها {وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)} فبين هنا أن هؤلاء الرسل على هدى وليسوا على ضلال، وهم لا يسألون أجرًا على ما دعوا إليه، وقوله:{وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)} يحتمل أن تكون الواو للاستئناف، وهو الأقرب لبيان حال هؤلاء الدعاة أنهم على هدى، ويحتمل أن تكون للحال أي: لا يسألونكم أجرًا مع كونهم مهتدين. ثم قال المؤلف: [فقيل له: أنت على دينهم؟ فقال: وما لي لا أعبد الذي فطرني] ما قدره المؤلف رحمه الله من أنَّه قيل للرجل: أنت على دينهم؟ لا يتعين، بل يجوز أن يكون الرجل قال:"وهم مهتدون وما لي لا أعبد الذي فطرني" على أن المراد به هؤلاء القوم كأنه قال: (وما لكم لا تعبدون الذي فطركم) لكن أضافه إلى نفسه من باب التلطف بالخطاب، هذا هو الأقرب لأمور:

أولًا: أن ما ذكره المؤلف لا دليل عليه، والسياق لا يستلزمه، وإذا كان لا دليل عليه من حيث النقل، ولا دليل عليه من حيث السياق؛ لأنه لا يستلزمه فالأصل عدمه.

ثانيًا: أن ما قلناه أبلغ في التلطف بالدعوة بدلًا أن يقول: (وما لكم لا تعبدون الذي فطركم) قال: {وَمَا لِيَ} فأضاف الأمر

ص: 74

هنا إلى نفسه تلطفًا.

وقوله {وَمَا لِيَ} الاستفهام هنا بمعنى الإنكار، يعني أي شيء يمنعني أن أعبد الله وحده، ولهذا قال:{لَا أَعْبُدُ} أي لا أتذلل للذي {فَطَرَنِي} قال المؤلف: [أي خلقني أي لا مانِع لي من عبادته الموجود مقتضيها، وأنتم كذلك] قوله: {لَا أَعْبُدُ} تقدم لنا أن العبادة هي التذلل لله عز وجل بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، محبة وتعظيمًا، وأن العبادة تطلق على التعبد الذي ذكرناه، وعلى المتعبد به وهي الأفعال التي يتعبد بها الإنسان، أو الأقوال، وعلى هذا حدها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - بأنها هي:(اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال، والأعمال الظاهرة، والباطنة). وقوله: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} ولم يقل: لأعبد الله ليقرن بين الحكم والدليل؛ لأن قوله: "أعبد الذي فطرني" مقتضى لكونه هو المعبود. إذ إنه هو الخالق، فلزم أن يكون هو المعبود وهذا كقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}

(1)

فقوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ} كتعليل للأمر بعبادته وحده، كما أنَّه الخالق وحده، فيجب أن يكون المعبود وحده، ولهذا قال المؤلف [الموجود مقتضيها] وما مقتضيها أنَّه هو الذي فطر الخلق، وابتدأ خلقهم، فلزم أن يكون هو المستحق للعبادة وأن يعبد، وقوله:{الَّذِي فَطَرَنِي} أي خلقني لأول مرة، والفطر والإبداع بمعنى الإيجاد لأول مرة، قال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ

(1)

سورة البقرة، الآية:21.

ص: 75

وَالْأَرْضِ}

(1)

وقال: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}

(2)

فالذي فطر الخلق لأول مرة وعلى غير مثال سابق هو الله تعالى، فإذن يجب أن يكون هو المعبود، أما أن تعبد غير الله، وهذا الغير لا يخلق بل هو مخلوق كما قال الله عز وجل:{لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)}

(3)

فكيف يصح أن يعبد هؤلاء، فهذا الرجل من فقهه وحكمته وحسن دعوته أنَّه قرن الحكم بالدليل، {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} هذا مما يؤيد ما قلنا من أنَّه يريد قومه، لكن من باب التلطف في خطابهم قال:{وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} كما تخاطب صاحبك الآن تحاوره أو تخاصمه تقول: ما لي لا أفعل كذا. وكذا يعني ما المانع؟ فإذا كان لا مانع لي، فهو لا مانع لك أيضًا، قال المؤلف رحمه الله:{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)} هو أبعد الموت فيجازيكم بكفركم، لو قال المؤلف: بعملكم، لكان أشمل، لأنه يجازيهم بالكفر إن استمروا عليه، ويجازيهم بالإسلام إن أسلموا، فلو عبر المؤلف بقوله:(سيجازيكم بعملكم) لكان أولى.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية الكريمة: بيان نصح هذا الرجل لقومه من وجهين:

الوجه الأول: أنَّه جاء من مكان بعيد، {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} .

(1)

سورة فاطر، الآية:1.

(2)

سورة البقرة، الآية:117.

(3)

سورة النحل، الآية:20.

ص: 76

الوجه الثاني: أنَّه جاء يشتد {يَسْعَى} فيستفاد منه أنَّه ينبغي للإنسان انتهاز الفرص في إنذار قومه ومناصحتهم، وأن لا يتوانى، فيقول: غدًا أذهب إليهم، أو في آخر النهار، أو ما أشبه ذلك، فيبادر بالنصيحة والموعظة؛ لأن هذا الرجل جاء يسعى.

2 -

من فوائد الآية الكريمة: أنَّه يجوز للإنسان أن يبادر بالإنذار قبل أن يقدم له مقدمة إذا دعت الحاجة إلى ذلك، لقوله:{اتَّبِعُوا} أمرهم من أول الأمر، ولم يأتِ بمقدمة تهيئهم للقبول. لأن الحال تستدعي ذلك.

3 -

ومنها أيضًا: أنَّه ينبغي التلطف بالقول في دعوة الغير لقوله: {يَاقَوْمِ} فإن هذا يستوجب اتباعه، وقبول نصحه، لأن للإنسان حدبًا وشفقة على قومه.

4 -

من فوائد الآية الكريمة: أن الرسل عليهم الصلاة والسلام لا يسألون الناس أجرًا على ما أتوا به من الدلالة والهداية لقوله: {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} .

5 -

ومن فوائدها: أنَّه ينبغي أن يقدم الوصف الموجب للقبول، قبل الوصف المفضل للقبول. فهنا قال:{اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)} والرسالة وصف يقتضي وجوب قبول المرسل.

{اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} هذا من باب الكمال.

6 -

ومن فوائدها: أنَّه ينبغي للداعية إلى الله عز وجل أن يترفع عن أخذ ما في أيدي الناس من الأموال حتَّى وإن أعطوه، لأنه ربما تنقص منزلته إذا قبل ما يعطى من أجل دعوته وموعظته، لأن الرسل عليهم الصلاة والسلام لا يسألون الناس أجرًا لا بلسان

ص: 77

الحال، ولا بلسان المقال، وبه نعرف قبح ما يعمله بعض الناس - وإن كان والحمد لله قد قل - يقوم ويعظ الناس موعظة قد تكون بليغة، فإذا انتهى قال: إني في حاجة وصاحب عائلة وما أشبه ذلك، فصارت الموعظة للدنيا.

فهل يستفاد منه هذا أنَّه لا يجوز أخذ الأجر على تعليم العلم، لما فيه من المخالفة لطريق الرسل، أو يقال لا. لأن الذي لا يجوز الأخذ عنه الدعوة لله عز وجل، فهذه لا يجوز أخذ الأجر عليها لوجوب الدعوة على الإنسان، أما التعليم الذي يحتاج إلى معاناة وإلى تعب وإلى تفهيم خاص فهذا لا بأس به، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام:"إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله"

(1)

.

هل يستفاد من الآية: أنَّه لا يجوز أخذ رزق من بيت المال للدعوة والإرشاد؟

الجواب: لا يستفاد، ولكن لا شك أن التنزه عن ذلك أولى، فكون الإنسان يذهب يدعو إلى الله عز وجل بدون أن يأخذ مقابلًا ولا من الحكومة، لا شك أن هذا أفضل، وأقرب إلى الخلاص وأشد وقعًا في نفوس الناس، حتَّى وإن لم يعلموا أنَّه لم يأخذ؛ لأن الله تعالى يلقي ذلك في قلوب الناس، أي يلقي القبول من هذا الناصح أو الداعي، وإن لم يعلموا أنَّه لا يأخذ شيئًا.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب الإجارة، باب: ما يعطى في الرقية على أحياء العرب بفاتحة الكتاب (2276) ومسلم، كتاب السلام، باب: جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار (65)(2201).

ص: 78

7 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن من طريق الدعوة أن يذكر الإنسان حال الداعية بوصفه بما يوجب قبول قوله؛ لقوله: {وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)} وقد ذكر ما يوجب قبول قولهم في أول الدعوة {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)} وفي آخرها في قوله: {وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)} .

8 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أنَّه يجب على من دعا إلى الله أن يكون على بصيرة وعلى علم؛ لأن هذا هو وصف الرسل عليهم الصلاة والسلام، فهم يدعون إلى الله على هدى منه، وأما من يدعو على غير هدى فإنه قد يفسد أكثر مما يصلح، لأن الذي يدعو على غير علم ربما يجعل الشيء الحرام حلالًا، والحلال حرامًا وهو لا يدري، فيحصل بذلك فساد في الدين والعقيدة.

9 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أنَّه لا بأس للإنسان أن يضيف الشيء إلى نفسه على سبيل الفرض تلطفًا، لقوله:{وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} يعني على فرض أنني أتخذ من دون الله آلهة فما الذي يمنعني أن أعبد الله عز وجل وحده؟ !

10 -

ومن فوائدها: الإرشاد إلى وجوب الإخلاص في العبادة لقوله: {الَّذِي فَطَرَنِي} فإن الله تعالى منفرد بفطر الخلق فيجب أن يفرد بالعبادة، فلا يدعي أحد أن الآلهة تخلق، إذًا لا يجوز أن تعطى شيئًا من العبادة التي يختص بها من يخلق وهو الله عز وجل.

11 -

ومنها: أنَّه من كمال الدعوة والتسليم قرن الحكم بدليله، أو علته؛ لقوله:{الَّذِي فَطَرَنِي} فإن هذا كتعليل لقوله:

ص: 79

{وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ} ولهذا عدل عن قوله: (ما لي لا أعبد الله) إلى قوله: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} ليكون هذا كدليل والتعليل لوجوب إفراده سبحانه بالعبادة، وهذا في القرآن الكريم والسنة كثير.

12 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أنَّه ينبغي ذكر ما يكون به الحذر والخوف بعد أن يذكر ما يكون الترغيب والحث لقوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)} فذكر ابتداء الخلق وانتهاءه، وأنه كله إلى الله عز وجل، وهنا نجد الفرق بين التعليل الأول {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} ولم يقل "وإليه أرجع" لأنه - كما قلنا - إنما أضاف ذلك إلى نفسه وهو يعني قومه، لكنه أضافه تلطفًا وتوبيخًا لهم، وكأنه يقول:"أنا لا أعبد إلَّا الذي فطرني" فلماذا تعبدون أنتم معه غيره وإليه ترجعون؟ ! .

* * *

{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23)} قال المؤلف: [أأتخذ في الهمزتين منه ما تقدم في {أَأَنْذَرْتَهُمْ} استفهام بمعنى النفي، فيكون {أَأَتَّخِذُ} أي: لا أتخذ، وقد سبق لنا أن الاستفهام إذا أتى بمعنى النفي فإنه يفيد معنى التحدي، ولكنه هنا يفيد معنى الامتناع، غاية الامتناع، يعني أنَّه لا يمكن أن أتخذ من دونه - أي غيره - {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} معروف أن أتخذ تنصب مفعولين {مِنْ دُونِهِ} هو المفعول الثاني {آلِهَةً} المفعول الأول، ويجوز أن نجعل {مِنْ دُونِهِ} في موضع النصب على الحال من

ص: 80

{آلِهَةً} ويكون الثاني محذوفًا أي: (أأتخذ أصنامًا آلهة) وهذا هو الذي مشى عليه المؤلف لقوله: [أأصنامًا] قال: [{إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ} التي زعمتموها {شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23)} صفة آلهة، يريد المؤلف في الإعراب أن قوله:{إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} هذه الجملة الشرطية صفة لآلهة، يعني لا أتخذ آلهة هذا شأنها، وهو أن الله لو أراده بضر لم تنفع شفاعتهم {لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} ، هذا معنى كلام المؤلف.

وقيل: إن الجملة استئنافية لبيان حال هذه الآلهة، أي: أأتخذ من دونه آلهة ثم قال: هذه الآلهة لا تغني شفاعتها شيئًا من دون الله، ولا تنقذ.

ولكن ما ذهب إليه المؤلف أظهر، فتكون الجملة الشرطية في موضع نصب صفة لآلهة قال:{إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ} يعني إن يردن الله عز وجل، وذكر الرحمن، لأن الرحمن اسم يدل على الرحمة، ولما كان الضر قد يفهم منه من يفهم من الناس انتفاء الرحمة عن المريد، ذكر ذلك باسم الرحمن لئلا يظن ظان، أو يتوهم الواهم هذا الوهم، أن إرادة الله الضر للإنسان تنافي الرحمة، لأن إرادة الضر بالإنسان قد يكون من رحمة الإنسان. قال الله تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)}

(1)

فما يصيب الإنسان من الضر له نتائج حميدة وهي الرجوع إلى الله عز وجل، والاعتبار

(1)

سورة الروم، الآية:41.

ص: 81

بما جرى، {لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} أي لا تنفعني بشيء، والشفاعة في الأصل هي: التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة. فهذه الأصنام التي تعبد من دون الله يدعي عابدوها أنهم إنما عبدوها لتقربهم إلى الله كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}

(1)

إذًا فهم يدعون أنهم يعبدونها لتشفع لهم، وهل هذا الوهم أو هذا الظن صحيح؟ الجواب: لا، لأنهم عبدوها ولم يتخذوها وسيلة، بل جعلوها غاية، ولهذا لا يخطر في قلوبهم حين التعبد لها إلَّا التعظيم لهذه الأصنام وينسون الخالق عز وجل، {وَلَا يُنْقِذُونِ} أَي من الهلكة، أو الضر الذي أراده الله تعالى بهم.

الفوائد:

1 -

بيان الإنكار والتسفيه والتوبيخ للذين يتخذون مع الله آلهة، لأن المراد من الاستفهام: الإنكار والتسفيه والتوبيخ لهؤلاء.

2 -

ومن فوائدها: أنَّه ينبغي قرن الحكم بالتعليل لأنه قال: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ

} إلى آخره، فهذه الآلهة لا تنفع، ولا تضر، ولا تدفع، فهي لا تنفع من عبدها، ولا تضر من عدل عنها، ولا تدفع عن عابديها ضرر الغير، يقول عز وجل:{إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} فهم لا يستطيعون دفع ضرر الغير، وهم - أي الآلهة - لا ينفعون عابديهم، ولا يضرون من عدل عن عبادتهم فهي قاصرة بنفسها لا

(1)

سورة الزمر، الآية:3.

ص: 82

تجلب نفعًا ولا ضرًّا، ولا تدفع الضر عن عابديها فتكون عبادتها خسران.

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن كل معبود فهو آلهة لقوله: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} لكن إن كان يستحق العبادة فهو إله حق وهذا لا يكون إلَّا لله عز وجل، وإن كان لا يستحق العبادة وهو من سوى الله فعبادته باطلة وألوهيته باطلة {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ}

(1)

.

4 -

ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات الإرادة لله عز وجل لقوله: {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ} وإرادة الله عز وجل تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: إرادة كونية.

القسم الثاني: إرادة شرعية.

فالإرادة الكونية هي التي بمعنى المشيئة، ويتعين فيها وقوع المراد، ولا يلزم أن يكون محبوبًا لله تعالى.

والإرادة الشرعية هي التي بمعنى المحبة، ولا يتعين فيه وقوع المراد، ويتعين أن يكون فيها محبوبًا لله عز وجل.

فإذا قال قائل: {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرّ} والضر شر على الإنسان فكيف نجمع بين هذا وبين قوله صلى الله عليه وسلم: "الشر ليس إليك"

(2)

.

(1)

سورة الحج، الآية:62.

(2)

أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الندب الأكيد إلى قيام ليلة القدر 201 (771).

ص: 83

فالجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: "الشر ليس منك"، بل قال:"الشر ليس إليك" والله عز وجل قد يريد الشر، لكن إرادته الشر خير، فالشر في مفعوله، لا في فعله، فقد يريد الله وقوع الشر، لكنه لمصلحة عظيمة، هذه المصلحة نفت نسبة الشر لله، ولهذا يفرق بين الشر منك، والشر إليك، فالشر لا يضاف إلى الرب، ولكن يضاف إلى المفعولات والمخلوقات، مع أن هذه المفعولات والمخلوقات شر من وجه، وخير من وجه، ففعله سبحانه وتعالى كله لحكمة وغاية محمودة، وانظر مثلًا إلى المرض إذا أصاب الإنسان، فلا شك أنَّه شر بالنسبة لصحته، ولكن لا تشعر بنعمة الصحة، لكن إذا مرضت شعرت بقدر النعمة، (وبضدها تتبين الأشياء)، فأنت الآن تتنفس النفس، تتنفس وأنت تأكل، تتنفس وأنت تتكلم، تتنفس وأنت قائم، وأنت قاعد، وأنت مضطجع، لا تحس بأي شيء، لكن لو قدر الله تعالى أن يحبس نفسك، ويصبح عندك ضيق تنفس عرفت قدر النفس، فالحاصل أن هذا الشر شر نسبي في الواقع حتَّى بالنسبة لمن وقع عليه.

مثال آخر: الفيضانات، والزلازل، والجدب، شرور، لكن بالنسبة إلى تقدير الله لها هي خير، فهي شر بالنسبة لمن أصابتهم، لكن خير بالنسبة للآخرين يتعظون ويخافون، وقد تكون خيرًا لأولئك المصابين بحيث يرجعون إلى الله عز وجل، ويعرفون أن المعصية عاقبتها وخيمة {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ

ص: 84

يَرْجِعُونَ (41)}

(1)

إذًا فلا منافاة بين قوله صلى الله عليه وسلم: "الشر ليس إليك" وبين مثل هذه الآية {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ} .

6 -

ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات صفة الرحمة لله عز وجل مؤخوذة من قوله: {الرَّحْمَنُ} ، لأن الرحمن وصف مشتق، والوصف المشتق يدل على المعنى المشتق منه، ولابد، بخلاف الأسماء الجامدة، كأسد، وحجر، وتراب، وما أشبهها هذه لا تدل على معنى، لكن الأسماء المشتقة لابد أن تدل على معنى، هذا بالنسبة إلى أسماء الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وكتابه، أما بالنسبة لمن تسمى بها من المخلوقين فقد تدل على المعنى وقد لا تدل، فقد نسمي شخصًا عبد الله وهو كافر بالله، وقد نسمي شخصًا محمدًا وهو مذمم، وقد نسمي خالدًا وهو سيموت، وقد نسمي صالحًا وهو من أفسد الناس.

7 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن عابدي الأصنام يموهون على الناس بعبادتهم، فيدعون أنهم يعبدونها لتكون شفيعًا لهم عند الله، وهذا عندما يسمعه السامع يظن أنهم يجعلون الآلهة في مرتبة دون الله؛ لأن مرتبة الشَّافع دون مرتبة المشفوع إليه.

فيقولون: (إنهم شفعاء لنا إلى الله)، والحقيقة أنهم لم يجعلوهم شفعاء، بل جعلوهم شركاء لله؛ لأنهم يعبدونهم كما يعبدون الله، فيستفاد منه الحذر من التلبيس في الأسماء أو بالتسمية، وأن صاحب الباطل قد يسمي نفسه بما يقتضي أن يكون على حق، وليس كذلك. فالمعتزلة - مثلًا - يسمون أنفسهم "أهل

(1)

سورة الروم، الآية:41.

ص: 85

التوحيد"، والمعطلة يسمون أنفسهم "أهل التنزيه"، يقولون: نحن ننزه الله، أما أنتم أهل السنة لا تنزهون الله جعلتموه صنمًا فمثلتموه بالخلق في إثبات الصفات. وهؤلاء أيضًا المعتزلة يقولون: نحن نفينا الصفات لنوحد الله، لأن تعدد الصفات يستلزم تعدد الموصوف، فهذا تمويه، والمعتزلة ينكرون أن يكون لله تعالى تعلق بفعل العبد، فيسمون أنفسهم أهل العدل، ويقولون أنتم يا أهل السنة أهل الظلم جعلتم الله ظالمًا حيثما هو الذي يقدر المعاصي على العبد ثم يعاقبه عليها، أما نحن فنحن أهل العدل نقول: الإنسان هو المستقل بنفسه وعمله، فإذا جوزي على معصيته فقد استحق الجزاء، لأنه فعله. والنصارى سموا أنفسهم بالمسيحيين تلطيفًا لحالهم، ليوهموا أنهم على دين المسيح، والواقع أن المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام بريء منهم وأنهم ليسوا على دينه، إذ لو كانوا على دينه وقابلين له لقبلوا بشارته بمحمد صلى الله عليه وسلم فإن عيسى عليه الصلاة والسلام بشرهم به، وقال:{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}

(1)

ولو كانوا مؤمنين بالإنجيل لآمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام، لأن الله يقول:{الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ}

(2)

فهم لا آمنوا بعيسى، ولا بكتاب عيسى وهو الإنجيل، لكن مع ذلك سموا أنفسهم بالمسيحيين تلطيفًا لما هم عليه من الباطل؛ ليصبغوا

(1)

سورة الصف، الآية:6.

(2)

سورة الأعراف، الآية:157.

ص: 86

نحلتهم بصبغة القبول، فيجب الحذر من التلبيس في التسمية؛ لأن هؤلاء يقولون: نعبد الآلهة ليكونوا شفعاء لنا. وهم في الحقيقة إنما جعلوهم شركاء.

8 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أنَّه لا أحد ينقذ من أراده الله تعالى بضر لقوله: {وَلَا يُنْقِذُونِ (23)} .

فإن قلت: كيف يجتمع هذا مع أننا نشاهد الغريق عصفت به الريح حتَّى سقط في الماء فجاء شخص فأنقذه، فهذا أنقذه مما أراده الله عز وجل به من السوء؟

فالجواب أن نقول: أن إنقاذه بتقدير الله عز وجل، لو شاء الله سبحانه وتعالى أن يهلك هذا الرجل لم يكن عنده أحد، ولو شاء الله أن يهلك لكان عنده من لا يجيد السباحة، ولو أراد الله أن يهلك لكان عنده من لا يريد الإحسان، فإذا قيض الله له شخصًا قادرًا على إنقاذه محبًا للإحسان أنقذه بقدر الله عز وجل، ونحن نؤمن بالأسباب، ولكن لا نؤمن بأنها مستقلة، فنكونُ وسطًا بين الذين ينكرون تأثير الأسباب، وبين الذين يدعون أنَّها مؤثرة بنفسها.

فنقول: هي مؤثرة لكن بجعل الله لها تأثيرًا، ولو شاء الله تعالى لسلب الأسباب تأثيرها، فالنار محرقة، وقال الله تعالى لها حين ألقي فيها إبراهيم عليه الصلاة والسلام:{كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)}

(1)

فصارت بردًا وسلامًا ولم تكن سببًا للإحراق، والماء جوهر سيال لا يمكن حجزه إلَّا بحاجز، ولما ضرب موسى

(1)

سورة الأنبياء، الآية:69.

ص: 87

عليه الصلاة والسلام البحر صار الماء كالجبال، بدون حواجز، وهذا خلاف الأسباب المعتادة، لكنه بقدر الله عز وجل، وبه نعرف أن الأسباب مؤثرة بجعل الله تعالى لها تأثيرًا، وإلَّا لسقط تأثيرها، لأن الكل بيد الله.

وبمناسبة ذكرنا نار إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال بعض المفسرين: إن الله لما قال لها: {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)} صارت جميع النيران في جميع أقطار الدنيا باردة ولا تحرق، واستغرب الناس ذلك وقالوا: ما لهذه النار ما غلا القدر عليها، ولكن هذا لا شك أنَّه قول خاطئ بعيد من الصواب، بل هو خلاف أمر الله عز وجل، لأن الله تعالى قال:{يا نار} ونار نكرة مقصودة، ولهذا بنيت على الضم فهي كالعلم يراد بها شيء معين، وهي النار التي ألقي فيها، ثم قال:{كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)} فهذا القول خلاف الآية الكريمة، وسبحان الله بعض الناس - رحمة الله عليهم وعفا عنهم - يذهبون المذاهب نقول: كيف تقع هذه من عالم، والغالب أن هذه تجدها عن بني إسرائيل فتأخذ مسلمة ولا ينتبه لمعارضتها لآي الكتاب.

* * *

{إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)} {إِنِّي إِذًا} هذه الجملة مؤكدة بإن؛ لأن المقام يقتضي التوكيد وقوله: {إِذًا} قال المؤلف: [أي: أن عبدت غير الله، لقوله {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} ويجوز أن نقدر {إِذًا} أي: إذا اتخذت من دونه آلهة، لقوله: {أَأَتَّخِذُ مِنْ

ص: 88

دُونِهِ آلِهَةً} (إذا) هذا ظرف يدل على الحال، و (إذا) تدل على المستقبل و (إذ) ظرف تدل على الماضي، فهذه الثلاثة تقاسمت الزمن (إذًا) للحال و (إذا) للمستقبل و (إذ) للماضي وتأتي (إذ) لغير ذلك، كما تأتي للتعليل مثلًا.

{إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)} اللام هنا للتوكيد، الجملة مؤكدة بمؤكدين يعني إن اتخذت معه آلهة، أو عبدت غيره {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)} قال المؤلف: أبين، والضلال هو أن يتيه الإنسان عن جادة الصواب، ثم إن كان عن علم كان طريقه طريق المغضوب عليهم، وإن كان عن جهل كان طريقه طريق الضالين، وقد ذكر الله تعالى في سورة الفاتحة فقال تعالى:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} والمغضوب عليهم هم الذين جانبوا الصواب عن علم، والضالون هم الذين جانبوه عن غير علم، والمهتدون الذين أنعم الله عليهم هم الذين عملوا بالصواب وعن علم، ووجه كون اتخاذ آلهة من دون الله ضلالًا مبينًا أنَّه حيدة عن الواجب شرعًا وعقلًا، فالواجب شرعًا أن لا تتخذ آلهة مع الله تعالى، كما جاءت به جميع الرسل، والواجب عقلًا أن لا تتخذ آلهة مع الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الإنسان وفطره، وهو الذي بيده النفع والضر، فكيف تتخذ معه آلهة لم تخلق ولا تنفع ولا تضر {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)} أعلن رحمه الله أنَّه آمن بالله عز وجل فقال:{إِنِّي آمَنْتُ} وهناك قال: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} إشارة إلى أنَّه ليس الله ربًّا

ص: 89

له وحده بل هو رب الجميع. والإيمان بالله عز وجل يتضمن الإيمان بأمور أربعة:

الأول: الإيمان بوجوده.

الثاني: الإيمان بربوبيته، وهنا صرح به في قوله:{آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ} فإثبات الربوبية إثبات للوجود.

الثالث: الإيمان بألوهيته.

الرابع: الإيمان بأسمائه وصفاته.

أي أنَّه متفرد بالربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات، وقوله:{آمَنْتُ} الإيمان في اللغة: التصديق عند كثير من المفسرين الذين يفسرون الإيمان، وقيل: إن معناه الإقرار والاعتراف، فهو أخص من التصديق. قال:{فَاسْمَعُونِ (25)} الفاء هذه عاطفة على قوله: " {آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ} على الجملة كلها، وقول:{فَاسْمَعُونِ (25)} أي: اسمعوا قولي، وهذا إعلان منه رحمه الله بإيمانه مراغمة لقولهم، وإقامة الحجة عليهم، ولهذا لما أعلن هذا الإعلان قتلوه، وقال المؤلف:[فرجموه فمات {قِيلَ} له عند موته {ادْخُلِ الْجَنَّةَ} وقيل: دخلها حيًّا].

لما أعلن رحمه الله هذا الإعلان، وراغمهم ولم يأبه بهم، ولم يهمه والظاهر - والله أعلم - أنهم توعدوه، حينئذ رجموه فقتلوه، فقيل له بعد موته {ادْخُلِ الْجَنَّةَ} ، الأمر هنا للتكريم، والجنة هي: الدار التي أعدها الله سبحانه وتعالى لأوليائه، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وقوله:{ادْخُلِ الْجَنَّةَ} بعد موته لأن الإنسان يعذب في

ص: 90

قبره، فإن كان من أهل الخير فإنه ينعَّم، وإن كان من أهل الشر فإنه يعذب قال:{قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26)} لما قيل له: ادخل الجنَّةَ، {قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26)} ، قال المؤلف:[حرف تنبيه] يعني (يا) حرف تنبيه وليست حرف نداء، لأنها دخلت على حرف و (يا) التي للنداء لا تدخل إلَّا على اسم، فإذا دخلت على ما لا يصح دخولها عليه فإنها لا تكون للنداء، وقد مر علينا في علامات الاسم أن من علاماته دخول النداء عليه، فإذا دخلت (يا) على غير اسم فهي للتنبيه، سواء دخلت على حرف مثل:{قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26)} أو دخلت على فعل، وأكثر ما تدخله من الأفعال على فعل الأمر فإنها تكون للتنبيه، ويجوز أن تكون حرف نداء، والمنادى محذوف، ويقدر بحسب السياق، فمثل هذه الآية:{يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26)} . نقدره فنقول: يا رب ليت قومي يعلمون. فصار في إعرابها وجهان:

أحدهما: أنَّها للتنبيه.

والثاني: أنَّها للنداء، والمنادى محذوف، ويقدر بحسب السياق. {يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26)} وقوله: ليت هنا للتمني، ولعل للترجي، والفرق بينهما أن التمني يكون فيما فيه تعذر، والترجي يكون فيما يقرب حصوله، وما كان بين ذلك فتارة تستعمل فيه ليت، وتارة تستعمل فيه لعل، وما كان من ذلك فأحيانًا لعل وأحيانًا ليت، بحسب قربه من التعذر أو من القرب.

قال {بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} .

قال المؤلف: [بغفرانه] أي: بما حصل لي {بِمَا غَفَرَ لِي

ص: 91

رَبِّي} الباء هنا متعلقة بـ (يعلمون) والعلم هنا بمعنى المعرفة، فلا تتعدى إلَّا إلى مفعول واحد، و (ما) مصدرية كما حلها المفسر وأولها إلى مصدر فقال [بغفرانه]. وهنا نذكر معاني (ما)، معاني (ما) عشرة:

1 -

استفهامية.

2 -

شرطية.

3 -

موصولة.

4 -

تعجبية

5 -

نكرة.

6 -

كافة.

7 -

نافية.

8 -

زائدة.

9 -

للتعظيم.

10 -

مصدرية.

والمغفرة هي ستر الذنب والتجاوز عنه، لأنها مأخوذة من المغفر، والمغفر فيه شيئان:

أحدهما: الستر لأنه يستر الرأس.

والثاني: الوقاية؛ لأن الإنسان يضع على رأسه المغفر في القتال ليتقي به السهام، وليس المغفرة بمعنى الستر فقط.

ثم قال: {بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} فأضاف الربوبية، وهي من الربوبية الخاصة، لأن الربوبية نوعان: ربوبية عامة، وربوبية خاصة، فالربوبية العامة هي الشاملة لجميع الخلق، التي مقتضاها التدبير والتصرف في الخلق كما تقتضيه حكمته، والخاصة هي التي يكون فيها عناية بهذا المربوب، كربوبية الله سبحانه وتعالى لرسله وأوليائه، وقد اجتمع النوعان في قول السحرة:{قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)}

(1)

الأولى: {بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} عامة، والثانية {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} خاصة، ويقابل ذلك العبودية فإنها عامة، وخاصة، فالعامة كقوله تعالى: {إِنَّ كُلُّ

(1)

سورة الأعراف، الآيتان: 121، 122.

ص: 92

مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)}

(1)

والخاصة كقوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا}

(2)

والخاصة فيها أخص وهي عبودية الرسل عليهم الصلاة والسلام، كقوله تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ}

(3)

.

{وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)} جعلني من المكرمين لدخوله الجنَّةَ؛ لأن دخول الجنَّةَ إكرام للإنسان من قبل الله تعالى، وإكرام من قبل الملائكة؛ لأن الملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار. وإكرام من جهة الولدان المخلدون الذين هم خدم لأهل الجنَّةَ، وإكرام من جهة الزوجات اللاتي هن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان، وإكرام من جهة بعضهم لبعض، فإنهم إخوان على سرر متقابلين، قد نزع الله ما في قلوبهم من غل، ومثل هذا لابد أن يكون فيه إكرام من بعضهم لبعض، فأهل الجنَّةَ مكرمون، ومنهم هذا الرجل المؤمن الناصح المخلص فإنه مكرم بدخول الجنَّةَ، قال الله عز وجل لما ذكر المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون ختم هذه الصفات بقوله:{أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)}

(4)

ولهذا قال هنا: {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)} .

(1)

سورة مريم، الآية:93.

(2)

سورة الفرقان، الآية:63.

(3)

سورة الفرقان، الآية:1.

(4)

سورة المعارج، الآية:35.

ص: 93

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية الكريمة: بيان أن من أعظم الضلال وأشده تيهًا أن يتخذ الإنسان مع الله آلهة لقوله: {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)} .

2 -

ومنها: أنَّه ينبغي التأكيد إذا كان المخاطب منكرًا، أو حاله حال المنكر، لأنه يخاطب قومه الذين اتخذوا مع الله آلهة ويقول:{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)} ولهذا أكد الجملة بمؤكدين (إن، واللام).

وربما يأخذ من الآية الكريمة أن كل من ضل عن الحق، أو كل من خالف الحق أصابه من الضلال بقدر ما خالف الحق؛ لقوله:{لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)} فيفيد أن الضلال قد يكون خفيًّا، وقد يكون بينًا واضحًا.

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: كمال نصح هذا الرجل لأنه قرر وحدانية الله عز وجل بعدة أمور، منها ما سبق في قوله:{وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} ومنها: التحذير من الشرك به لكون المشرك في ضلال مبين، وهكذا ينبغي للداعية لله عز وجل إذا دعا إلى الحق أن يذكر ما في لزومه من الفضائل، وأن يذكر ما في مخالفته من الضلال والسوء، حتَّى يجمع بين الترغيب والترهيب.

5 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن من وحد الله فهو على هدى مبين، بين واضح؛ لأنه أصاب الفطرة، وأصاب ما جاءت به الرسل.

6 -

يستفاد من هذه الآية {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ

ص: 94

فَاسْمَعُونِ (25)} فضيلة هذا الرجل بإعلانه الإيمان بالله عز وجل، فكل إنسان يؤمن ويعلن إيمانه بالله فإن ذلك له ميزة وفضيلة، قال الله تعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)}

(1)

أعلن أنَّه من المسلمين ولم يخف أحدًا سوى الله.

7 -

ومنها: قوة شخصية هذا الرجل، حيث أعلن أمام هؤلاء القوم أنَّه آمن، وآمن بربهم الذي يستلزم أن يكونوا مخلصين له بالعبادة إذا كان ربًا لهم، كأنه أقام الحجة عليهم بذلك، فإذا كان الله ربكم فواجب أن توحدوه، ولا تتخذوا معه آلهة، وهذا يدل على قوة شخصيته، زد على ذلك أنَّه تحداهم فقال:{فَاسْمَعُونِ (25)} فأنا لا أبالي بكم فاسمعوا إني آمنت بربكم الذي يجب أن توحدوه، لأنه ربكم.

8 -

ومن فوائد الآية الكريمة: بيان ربوبية الله تعالى العامة حيث قال: {بِرَبِّكُمْ} مع كونهم مشركين كفارًا، وهذا من الربوبية العامة.

9 -

يستفاد من هذه الآية الكريمة: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26)} . إثبات نعيم القبر لقوله: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} مع أن الساعة لم تقم بعد، ولم يدخل الناس الجنَّةَ، ويدل ذلك آيات من القرآن لقوله تعالى:{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ}

(2)

توفاهم الملائكة {طَيِّبِينَ} حال من الهاء

(1)

سورة فصلت، الآية:33.

(2)

سورة النحل، الآية:32.

ص: 95

و {يَقُولُونَ} حال من الملائكة، يعني حال كون الملائكة يقولون حين توفاهم ادخلوا الجنَّةَ فيستفاد من هذه الآية إثبات نعيم القبر. ومثل قوله:{فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85)} إلى قوله: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89)}

(1)

فهنا قال: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ} حين الموت، ثم قال:{فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89)} ومنها هذه الآية: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} لأن هذا قيل له: {ادْخُلِ الْجَنَّةَ} ولم تقم الساعة الآن، فهو دليل على أن الميت ينعم في قبره كأنه دخل الجنَّةَ، لأنه يلبس من الجنَّةَ، ويفرش من الجنَّةَ، ويفتح له باب من الجنَّةَ، ويأتيه من روحها ونعيمها فكأنه دخلها.

10 -

من فوائدها: أن هذا الرجل ناصح في حياته وبعد مماته، في حياته دعا قومه إلى توحيد الله عز وجل، وأن يؤمنوا ويتبعوا الرسل، وبعد مماته تمنى أن قومه يعلمون بغفران الله له من أجل أن يؤمنوا ويتبعوا الرسل، وهذا دليل أن المؤمن لا تلقاه إلَّا ناصحًا حتَّى بعد موته يكون ناصحًا، وهذا الرجل تمنى أن قومه يعلمون بما غفر الله له لعلهم يرجعون فيؤمنون كما آمن.

11 -

ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات وجود الجنَّةَ، وقد دل على ذلك آيات، وأحاديث كثيرة مثل قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ

(1)

سورة الواقعة، الآية:89.

ص: 96

أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)}

(1)

والإعداد بمعنى التهيئة، والنصوص في هذا كثيرة، وقد عرضت الجنَّةَ والنار على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي صلاة الكسوف.

وهل تبقى الجنَّةَ أبدًا؟

الجواب: نعم، وهذا متفق عليه بين أهل السنة، والنار موجودة الآن وهو متفق عليه، بين أهل السنة، وهل تفنى؟ الصحيح المقطوع به أنَّها لا تفنى؛ لأن الآيات صريحة في ذلك فقد ذكر الله تعالى تأبيد الخلود فيها في ثلاث آيات من كتابه، في سورة النساء، والأحزاب، والجن، في سورة النساء قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)}

(2)

. في سورة الأحزاب: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65)}

(3)

الثالثة في سورة الجن: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)}

(4)

فهذه ثلاث آيات صريحة في تأبيد أهل النار، ومع التصريح التأبيد ذكر عن بعض السلف أنهم كانوا يقولون بأنها تفنى، ولكن هذا القول لا شك - مهما قاله من قاله - فإن قوله مردود عليه.

12 -

ومن فوائد الآية الكريمة: منة الله عز وجل على من آمن بالمغفرة والإكرام، فيتفرع على هذه الفائدة: أن الإيمان سبب المغفرة، وسبب لإكرام الله تعالى للعبد.

(1)

سورة آل عمران، الآية:133.

(2)

سورة النساء، الآيتان: 168، 169.

(3)

سورة الأحزاب، الآيتان: 64، 65.

(4)

سورة الجن، الآية:23.

ص: 97

13 -

ومن فوائدها: أنَّه لا يتم النعيم إلَّا بزوال المكروه، ويستفاد هذا من قوله:{بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} .

14 -

ومنها: ما أشار إليه بعض الأدباء أن التخلية قبل التحلية لقوله: {بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} وهذا تخلية وإزالة {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)} هذا تحلية ولهذا قيل: التخلية قبل التحلية.

15 -

يستفاد منها: أن المغفرة تسبق الإكرام، والرحمة؟ ويدل لهذه القاعدة التتبع، فإن الغالب أن الله عز وجل إذا قرن بين الاسمين: الغفور والرحيم، يقدم الغفور على الرحيم.

16 -

ومن فوائد الآية أيضًا: إثبات الربوبية الخاصة من قوله: {رَبِّي} فهذا من الربوبية الخاصة.

17 -

ومن فوائدها: أن إكرام الله عز وجل لا يختص بهذا الرجل، بل هناك عالم يكرمهم الله تعالى لقوله:{وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)} ففيه حث على أن يفعل الإنسان كفعله لينال ما ناله ولم يقل (بما غفر لي ربي وأكرمني) بل قال: {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)} ليبين أن الإكرام ليس خاصًّا به، بل الإكرام موجود لكل من قام بعمل كعمله.

* * *

{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28)} قال المؤلف رحمه الله: [(ما) نافية: {أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ} أي حبيب]. بناءً على أن اسمه حبيب، وقد سبق أن اسمه لا يهمنا، المهم القصة، {مِنْ بَعْدِهِ} أي من بعد أن هلك ومات على أيديهم، وقوله:{مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ} أي ملائكة، فإن

ص: 98

الملائكة جنود الله عز وجل، قال الله تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}

(1)

وقال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)}

(2)

فجنده الملائكة {وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28)} هو قال المؤلف [ملائكة لإهلاك أحد] وقيل: ما كنا منزلين ملائكة لإهلاك هؤلاء، لأنهم أقل وأحقر من أن يبعث الله ملائكة من السماء تهلكهم، وهذا هو الأقرب، فيكون النفي هنا خاصًّا بهؤلاء القوم، لأن الله أنزل ملائكة في بدر، وأنزل ملائكة في غزوة حنين، وكذلك في غزوة الأحزاب فأرسل عليهم ريحًا وجنودًا لم تروها ولكن {وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28)} أي جنودًا لهؤلاء احتقارًا لهم، وهذا الذي مشى عليه المؤلف من أن المراد بالجند الملائكة هو الصحيح، خلافًا لقول بعض العلماء:{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ} أي من وحي ورسل، لأن الوحي تنزل به الملائكة، لكن ما مشى عليه المؤلف أصح بدليل ما يأتي فيما بعد، قال:{إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)} {إِنْ} قال المؤلف: [أي: (إن) بمعنى (ما)، وعلى هذا فهي نافية، وينبغي أن نستحضر معاني (إن):

1 -

تأتي نافية.

2 -

وشرطية كما لو قلت (إن قام زيد قام عمر).

3 -

وتأتي مخففة من الثقيلة مثل: وإن مالك كانت كرام المعادن.

4 -

تأتي زائدة. كقوله:

بني غدانة ما إن أنتم ذهب

ولا صريف ولكن أنتم الخزف

(1)

سورة المدثر، الآية:31.

(2)

سورة الصافات، الآية:173.

ص: 99

فتأتي على أربعة أوجه: نافية، وشرطية، ومخففة من الثقيلة، وزائدة، وإذا أتت بعدها (إلَّا) فهي نافية، وقد تكون نافية بدون (إلَّا)، كقوله تعالى:{إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا}

(1)

أي: ما عندكم. لكن القاعدة: أنَّه إذا أتت بعدها إلَّا فهي نافية، قال الله تعالى:{إِنْ كَانَتْ} قال المؤلف: [عقوبتهم] يعني ما كانت عقوبتهم التي عاقبهم الله بها لكفرهم {إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} قال المؤلف: [صاح بهم جبريل]{فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)} يعني ما احتاجوا إلى عناء ولا جند، ما هي إلَّا صيحة، ولم يبين الله سبحانه وتعالى الصائح، والمؤلف قال: إنه جبريل. ولا ينبغي أن نجزم بهذا إلَّا بدليل، لأن الواجب علينا أن نبهم ما أبهمه الله، إلَّا أن يرد تعيينه بدليل صحيح، ولم يرد تعيين الصائح بدليل صحيح، وعلى هذا فنقول: صيح بهم، ولا نجزم من هذا الصائح، المهم أنَّها صيحة واحدة، صيح بهم فهلكوا عن آخرهم، ولهذا قال:{فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)} (إذا) هنا فجائية تدل على تعاقب ما بعدها وما قبلها، أي أن ما بعدها وقع عقب ما كان قبلها مباشرة، ولهذا سميت فجائية، لأنها تفاجئ وتأتي فورًا فحين صيح بهم {فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)} وبهذا نعرف أن هؤلاء ماتوا عن آخوهم لأن {هُمْ} ضمير يفيد الجمع والشمول.

الفوائد:

من فوائد الآيتين الكريمتين:

1 -

أن الله عز وجل قد ينزل الملائكة لإهلاك المكذبين،

(1)

سورة يونس، الآية:68.

ص: 100

ووجهه أن نفي إنزال الملائكة على هؤلاء القوم يدل على إمكانه في غيرهم، وإلَّا لما صح النفي.

2 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن الملائكة جند لله عز وجل لقوله: {مِنْ جُنْدٍ} .

3 -

ومن فوائدها: أن الملائكة محلهم السماوات لقوله: {مِنَ السَّمَاءِ} . وهذا هو الأصل، لكنهم قد ينزلون إلى الأرض كما في قوله تعالى في ليلة القدر:{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا}

(1)

وكالملائكة الذين يحفظون بني آدم، والذين يكتبون أعمالهم، والذين يكتبون المتقدمين إلى الجمعة على أَبواب المساجد وما أشبه ذلك.

4 -

ومن فوائد الآية الكريمة: بيان حقارة هؤلاء القوم المكذبين لهؤلاء الرسل الثلاثة لقوله: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ} : {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} .

5 -

ومن فوائد الآية الكريمة: بيان عظمة الله عز وجل وذلك لذكره بصيغة الجمع {وَمَا أَنْزَلْنَا} {وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28)} ولا يقال إن هذا يفيد التعدد كما استدلت بذلك النصارى، وقالوا: إن الآلهة متعددة، لأن الله يقول:{وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28)} وما أشبه ذلك من الآيات، ويقال لهم: إن هذا التعدد للتعظيم، وكيف تستدلون بهذه الآيات المتشابهة وتعمون عن مثل قوله تعالى:{إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ}

(2)

وقوله: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ}

(3)

وقوله: {لَقَدْ كَفَرَ

(1)

سورة القدر، الآية:4.

(2)

سورة الصافات، الآية:4.

(3)

سورة النساء، الآية:171.

ص: 101

الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ}

(1)

لكن النصارى كغيرهم من أهل الزيغ يتبعون ما تشابه من القرآن ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله، ومن رأى اتباع المتشابهات من النصارى وغيرهم في نصوص الكتاب والسنة تبين له العجب العجاب، وأنه حبما علينا وجوبًا مؤكدًا طلب العلم لدفع شبهات هؤلاء، لأن هؤلاء انتشروا بيننا الآن وكثروا في هذه البلاد التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب"

(2)

هؤلاء يبثون في الناس سمومهم، وهم الآن كما سمعنا يوصلون نشرات تدعوا إلى النصرانية، ويرسلون أشرطة تدعوا إلى النصرانية، لأنهم بدأوا يعرفون المحلات، ويعرفون العناوين ثم يرسلون إليها، وعندنا من هذا عدد، يؤتى إلينا بنشرات وأشرطة مسجلة تدعوا إلى النصرانية، هذه إذا وقعت في أيدي أناس لا يعرفون جهلاء، على الأقل تركن نفوسهم، وإن كنت أستبعد جدًّا أن يتنصر أحد من المسلمين، لأن دين النصارى الذي هم عليه الآن كله ضلال، لكن لا شك أنَّه يوقع الشبهة والخلود والاطمئنان إلى هؤلاء، لذلك أنا أرى أنَّه يجب على شباب المسلمين اليوم أن يتسلحوا بسلاح العلم المبني على الأثر والنظر، لأن أولئك القوم يشبهون بما يدعون أنَّه عقل، ولا يكفي الآن أن نتعلم الأثر فقط، بل لابد من أثر ونظر، فالأثر إنما يكفي للمؤمن الذي قال الله عنه:

(1)

سورة المائدة، الآية:73.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه بلفظ "لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتَّى لا أدع إلَّا مسلمًا" كتاب الجهاد، باب إخراج اليهود من جزيرة العرب (1767).

ص: 102

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}

(1)

لكن المكذب لا يكفيه الأثر؛ لأنه لا يؤمن أصلًا بالأثر ويحتاج إلى نظر وعقل تدحض به حجته، والمهم أن مثل هذه الآية الكريمة {وَمَا أَنْزَلْنَا} {وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28)} يشبه بها النصارى على أن الله سبحانه وتعالى متعدد أكثر من واحد، وقد ذكرنا أنهم غفلوا بل عموا عن الآيات الواضحة الصريحة أن الله إله واحد، وأن الله كفَّر من زعم أن الله متعدد {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ}

(2)

.

6 -

في هذه الآية دليل على أن الله أهلك هؤلاء القوم بصيحة واحدة لم تكرر مرة أخرى، صيحة واحدة هلكوا بها، لكن لو قال قائل: ما نوع هذه الصيحة؟ هل قيل أهلكوا؟ نقول: الله أعلم بهذه الصيحة، هذه الصيحة أبهمها الله، يحتمل أنَّها صرخة، ويحتمل أنهم أمروا بالهلاك، المهم أنَّها صيحة واحدة فهلكوا عن آخرهم.

7 -

بيان قدرة الله عز وجل، وأن من عارض الله أو ضاد الله مهما عظم فإن إهلاكه يسير على الله عز وجل، كل شيء يكون بكلمة واحدة {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ}

(3)

وعند هذا الأمر الواحد {كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)} لا يتباطأ ولا يتأخر، فلمح البصر أسرع ما يكون، فإذا أراد الله شيئًا قال له: كن. فيكون كلمح البصر، وهذا يدل على عظمة الله وقدرته.

(1)

سورة الأحزاب، الآية:36.

(2)

سورة المائدة، الآية:73.

(3)

سورة القمر، الآية:50.

ص: 103

8 -

بيان قدرة الله تعالى وأنه قادر على إهلاك الخلق بصيحة واحدة فقط بدون أي فعل، بل صوت مزعج يقطع القلوب، لقوله:{إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} .

9 -

ومنها بيان ذل كل شيء لعظمته بحيث لا يكرر ولا يعيد ما أراده لقوله: {إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} لهذا أكدها بـ {وَاحِدَةً} لبيان أنهم لم يحتاجوا إلى إعادة الصيحة مرة ثانية، وهكذا جميع ما أمر الله تعالى به كونًا فإنه لا يحتاج إلى إعادة؛ لقوله تعالى في سورة القمر:{وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)} .

10 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن هذه الصيحة أهلكتهم جميعًا لم ينجُ منهم أحد لقوله تعالى: {فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)} وعلى هذا ترتيب فائدة أخرى وهي:

11 -

أن قبض ملك الموت لأرواح بني آدم أكبر مما نتصور، فإنه قد يقول قائل: كيف يقبض هذه الأرواح وهي تموت في آن واحد؟

فنقول: إن كيف في الأمور الغيبية لا ترد؛ لأن هذه أمور لا ندركها بحواسنا، فكل أمر غيبي لا تقل فيه: كيف؟ ولهذا لما قيل للإمام مالك - رحمه الله تعالى -: كيف استوى؟ قال: "الكيف غير معقول" أي: لا يمكن أن ندركه بالعقل حتَّى نسأل عنه.

12 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن هؤلاء القومِ الذين كذبوا الرسل الثلاثة هلكوا جميعًا لقوله: {فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)} وهذا يدل على أن من زعم أن هذه القرية التي أرسل إليها الثلاثة هي أنطاكية فإن زعمه باطل؛ لأن رسل عيسى عليه الصلاة والسلام

ص: 104

الذين أرسلوا إلى أنطاكية، كانوا بعد موسى عليه الصلاة والسلام ولم يهلك الله تعالى أمة على سبيل العموم بعد أن نزلت التوراة، هكذا قال كثير من العلماء، لقوله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} "

(1)

قالوا: هذه الآية تدل على أن الله لم يهلك أمة على سبيل العموم بعد نزول التوراة، وهذه الآية {فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)} تدل على أنهم هلكوا.

* * *

{يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30)} قال المؤلف رحمه الله: [هؤلاء ونحوهم ممن كذبوا الرسل فأهلكوا، وهي - أي الحسرة - شدة التألم، ونداؤها مجاز، أي: هذا أوانُكِ فاحضري] قوله: {يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} الحسرة هي: شِدة الندم والتألم والحزن على ما مضى، قال الله تعالى:{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ}

(2)

- أي ندمات وعناء - وقوله: {يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} قيل: إن القائل هم المكذبون، وأنهم تحسروا على أنفسهم، وقالوا: يا حسرة على العباد، ثم بينوا السبب كما سيأتي.

وقيل: إن الحسرة من اتباع الرسل، يعني من هذا الرجل ونحوه يتحسر على هؤلاء العباد.

(1)

سورة القصص، الآية:43.

(2)

سورة البقرة، الآيتان: 166، 167.

ص: 105

وقيل: إن التحسر من الله عز وجل، لكن ليس معناه أنَّه يتصف به، بل المعنى أنَّه يبين حسرة العباد على أنفسهم، يقول: يا حسرة واقعة على العباد، فتكون {عَلَى} قريبة من معنى {مِنْ} يعني أن الله تعالى يبين أن هؤلاء العباد المكذبين سوف يتحسرون على تكذيبهم وهذا أقرب إلى السياق، لقوله:{إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} فالكلام كلام الله عز وجل، لكن لما كان التحسر ندمًا وألمًا صار الله تعالى منزهًا عنه، فوجب أن يكون المراد: يا حسرة واقعة عليهم، أي: ما أشد تحسر العباد على ما فعلوا من التكذيب للرسل كما نبينه آخر الآية، وقوله تعالى:{عَلَى الْعِبَادِ} المراد بالعباد هنا العبودية العامة، وليست الخاصة، لأن العبودية الخاصة لا تحسر على أهلها، وقد تقدم أن العبودية تنقسم إلى قسمين: عبودية عامة وخاصة، فإن قيل: العبودية العامة يدخل فيها غير مكذبين؟

فالجواب أن نقول: العبودية هنا عامة، لكنه عام أريد به الخصوص وهم المكذبون للرسل، قال المؤلف: [ونداؤها مجاز، يعني ليس حقيقة؛ لأن النداء حقيقة إنما يوجه إلى من يعقل، وما لا يعقل فليس نداؤه على سبيل الحقيقة، ولهذا قالوا في قول الشاعر:

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي

بصبح وما الإصباح منك بأمثل

أن هذا يراد به التمني، وليس نداء بمعنى طلب الحضور، لأن الليل لا يعقل، فالنداء حقيقة إنما يوجه لمن يعقل، وإذا وجه

ص: 106

لمن لا يعقل صار له معنى آخر على سبيل التجوز، والمعنى أنَّه جعل غير العاقل كالعاقل، كأن الحسرة شيء يأتي ويذهب يقول:{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30)} (ما) نافية و (من) زائدة لوقوعها في سياق النفي، وهي زائدة، زائدة، زائدة لفظًا، وتزيد في المعنى، وهذا معنى قولنا:(زائدة، زائدة) وليس في القرآن حرف وإحد لا يفيد معنى أبدًا، فكل ما في القرآن فإنه يشتمل على المعاني، ولكن قد يكون زائدًا من حيث الإعراب فقط، ولهذا فإعراب (رسول) في هذه الآية فاعل مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الحرف الزائدة، وفائدتها التنصيص على العموم، لأن (رسول) نكرة في سياق النفي فيعم، فإذا جاءت (من) صارت أنص وأدل على العموم مما لو حذفت، ولهذا قالوا: إن فائدتها في مثل هذا السياق التنصيص على العموم، وقوله:{مِنْ رَسُولٍ} الرسول عند عامة أهل العلم هو بشر أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، ويطلق الرسول على الرسول الملكي، فإن الله سمى جبريل عليه الصلاة والسلام رسولًا كما في قوله تعالى:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)}

(1)

وقوله: {إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30)} أي: إلَّا كانوا يستهزءون به ولكن قدم المعمول وهو (به) لإفادة الحصر، ولمناسبة رؤوس الآيات فقدم لفائدتين: فائدة لفظية، وهي مراعاة الفواصل، وفائدة معنوية، وهي: الحصر، كأنه قال: (إذا أتاهم الرسول فكأنهم لا يستهزءون بأحد سوى هذا

(1)

سورة التكوير، الآيتان: 19، 20.

ص: 107

الرسول)، وهم يستهزءون بغيره، ولكن لما كان هؤلاء قد أمعنوا في الاستهزاء بالرسل صاروا كأنهم لا يستهزؤن إلَّا بالرسل والاستهزاء هو السخرية والهزء.

الفوائد:

1 -

في هذه الآية دليل على شدة تحسر العباد المكذبين للرسل لقوله: {يَاحَسْرَةً} ولهذا جاء النداء على سبيل التنكير، ليدل على أنَّها حسرة عظيمة؛ لأن التنكير يفيد أحيانًا التعظيم والشدة.

2 -

ومن فوائدها: أن هؤلاء المكذبين للرسل سيجدون أعمالهم حسرات عليهم، لقوله تعالى:{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30)} .

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات عدل الله عز وجل وهو أنَّه لا يؤخذ أحدًا إلَّا بذنبه لقوله: {يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30)} فلن يعاقب الله أحدًا إلَّا بذنب، بل إنه عز وجل قد يعفو عن الذنب إذا كان دون الشرك {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}

(1)

.

4 -

ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات الرسالة لقوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ} وأن الرسالة عامة في كل أمة؛ لأنه قال: {عَلَى الْعِبَادِ} ثم قال: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ} فكل العباد قد قامت عليهم الحجة {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)}

(2)

.

(1)

سورة النساء، الآية:48.

(2)

سورة فاطر، الآية:24.

ص: 108

5 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن الاستهزاء بالرسل كفر موجب للعقوبة؛ لأن السياق في قوم كذبوا الرسول فأهلكوا جميعًا ثم قيل: {يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30)} فدل هذا على أن الاستهزاء بالأنبياء أو بالرسل كفر، ويدل لهذا قوله تعالى:{قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}

(1)

فالاستهزاء بالكتب كفر، لقوله:{وآياته} والاستهزاء بشرع من الشريعة ولو بشعيرة واحدة كفر؛ لأن الاستهزاء بالشعيرة الواحدة استهزاء بكل الشريعة، كما أن الكفر بالشعيرة الواحدة كفر بجميع الشريعة، قال تعالى:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}

(2)

وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)}

(3)

، فمن آمن بالرسالة ولكن كفر بشعيرة واحدة منها، فقد كفر كفرًا تامًّا بالجميع، ومن استهزأ بشيء من شرائع الرسل ولو بشيء ليس بواجب، حتَّى بالشيء المندوب لو استهزأ فقد كفر؛ لأنه لا يمكن الإيمان ببعض دون بعض، بل من كره ما أنزل الله فقد كفر، والدليل {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)}

(4)

ولا تحبط الأعمال إلَّا بالكفر،

(1)

سورة التوبة، الآيتان: 65، 66.

(2)

سورة البقرة، الآية:85.

(3)

سورة النساء، الآيتان: 150، 151.

(4)

سورة محمد، الآية:9.

ص: 109

لقوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)}

(1)

. فالمسألة مسألة عظيمة ليست بالهينة، ولهذا يجب على المرء الرضى بكل ما شرع الله تعالى، فيرضى مثلًا بوجوب الصلاة، وتحريم الخمر، ووجوب الزكاة، وتحريم الرِّبَا، وعلى هذا فقس، فكل شيء يجب أن ترضى به وتقبله، ثم إن عملت به أثبت، وإن لم تعمل به عوقبت واستحققت العذاب إذا كان واجبًا، إلَّا إذا كالن هذا الواجب تركه كفر فإنه إذا تركته كفرت، فمثلًا يجب على الإنسان أن يؤمن بتحريم الرِّبَا، فإن أنكر تحريمه كفر، أو لم يقبل تحريمه كفر، وإذا آمن بتحريمه وقبله ورضي بالتحريم ولكن فعل الرِّبَا فلا يكفر، وحكمه حكم العصاة.

6 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أنَّه ما من رسول أرسل إلَّا وجد من يستهزئ به ومن يؤمن به، ولكن منهم من لا يجد من يؤمن به لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث السبعين ألفًا:"والنبي وليس معه أحد"

(2)

. فالاستهزاء حاصل لكل رسول.

مسألة:

واختلف العلماء فيمن لسب الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم هل

(1)

سورة البقرة، الآية:217.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب يدخل الجنَّةَ سبعون ألفًا بغير حساب (6541)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنَّةَ بغير حساب ولا عذاب 374 (220).

ص: 110

تقبل توبته؟ على قولين:

القول الأول: إنه لا تقبل توبته، بل يقتل قتل المرتد فلا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلى عليه، ولا يدفن مع المسلمين، وفي الآخرة أمره إلى الله تعالى، إن كان الله تعالى علم منه صدق التوبة فإنه لا يعذبه، وإن كان الله تعالى علم منه كذبها فإنه يعذب في الآخرة، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد - رحمه الله تعالى -.

والقول الثاني: تصح توبة من استهزأ بالله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن بالنسبة لمن استهزأ بالرسول صلى الله عليه وسلم يقتل، وأما من سب الله تعالى أو استهزأ به فإنه لا يقتل، وهذا هو الصحيح أن الإنسان إذا سب الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم أو استهزأ بهما فإنه يكفر، فإن تاب قبلت توبته، لكنه يقتل إذا كان السب أو الاستهزاء بالرسول عليه الصلاة والسلام، ولا يقتل إذا كان السب أو الاستهزاء بالله تعالى، والفرق بينهما: أن الاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم وسبه حق شخصي، وأما الاستهزاء بالله تعالى وسبه فهو حق لله عز وجل، وقد أخبرنا الله عز وجل أنَّه يقبل التوبة من جميع الذنوب، وإذا قبل الله توبته ارتفع عنه مقتضاها وهو القتل، أما الساب للرسول عليه الصلاة والسلام فإننا لا نعلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام عفى عن حقه، لذا وجب علينا أن نأخذ به.

* * *

{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31)} قال المؤلف رحمه الله: [أي: أهل مكة القائلون

ص: 111

للنبي صلى الله عليه وسلم لست مرسلًا، والاستفهام للتقرير أي: علموا]، الرؤية هنا فسرها المؤلف برؤية العلم؛ وذلك لأنهم لم يشاهدوا هذا بأعينهم، وإنَّما علموه بما بلغهم من الخبر، وقوله:[أي أهل مكة] الصحيح أن هذا ليس خاصًّا بأهل مكة، بل هو عام لكل من كذب الرسول صلى الله عليه وسلم، وكأن المؤلف رحمه الله جعله خاصًّا بأهل مكة لأن الآية مكية، ولكنه يقال: حتَّى وإن كانت الآية مكية، فإن المكذبين للرسل عليهم الصلاة والسلام من أهل مكة وغيرهم، فأهل الطائف كذبوا الرسول عليه الصلاة والسلام، وكذلك غيرهم كثير؛ لأن الناس لم يدنجلوا في دين الله أفواجًا إلَّا بعد فتح مكة {أَلَمْ يَرَوْا} يقول المؤلف:[(كم) خبرية بمعنى: كثيرًا، معمولة لما بعدها، مُعَلقَةٌ لما قبلها عن عمل]{يَرَوْا} بمعنى العلم، وإذا كانت الرؤية بمعنى العلم فإنها تنصب مفعولين، وقوله علقتها عن العمل، يعني أنَّها أبطلت عملها لفظًا، لأن التعليق يبطل العمل لفظًا فقط لا محلًّا، والإلغاء يبطله لفظًا ومحلًّا، والأفعال القلبية إما أن تعمل في اللفظ والمحل، وإما أن تعمل في المحل دون اللفظ، وأما أن لا تعمل لا في اللفظ ولا في المحل، الثالث: يسمى إلغاءً، والثاني: يسمى تعليقًا، والأول: يسمى إعمالًا، فكم هنا علقت {يَرَوْا} عن العمل في اللفظ، أما المحل فالجملة في محل نصب سدت مفعولي {يَرَوْا} ثم هي لها إعراب باعتبار ما بعدها، فباعتبار ما بعدها مفعول لما بعدها، وعليه فتقدر كما قال المؤلف [بمعنى: كثيرًا]، ثم قال:[والمعنى إن {أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ} كثيرًا {مِنَ الْقُرُونِ} الأمم]. وقوله سبحانه

ص: 112

وتعالى: {مِنَ الْقُرُونِ} {مِنَ} هذه لبيان الإبهام الواقع في كم و {الْقُرُونِ} جمع قرن، وهم الأمة المشتركة في عصر من العصور، والعصر مئة سنة، وعلى هذا يكون القرن مئة سنة، ولكن قد يكوق دون ذلك، فقد تكون أمة تبقى أقل من القرن، يهلكها الله عز وجل قبل أن يتم لها هذا العدد من السنين، لكن الضابط أن نقول: القرن هم الأمة التي اشتركت في عصر {أَنَّهُمْ} قال المؤلف رحمه الله: [أي المهلكين {إِلَيْهِمْ} أي إلى المكذبين، وفي نسخة [{إِلَيْهِمْ} أي إلى المكيين] لأن الخطاب لأهل مكة، فالمكذبون هم المكيون، والقول بأن {إِلَيْهِمْ} أي المكذبين أعم، فهؤلاء الأمم التي أهلكت هل رجعت إلى الأمم التي بعدها؟ لا، بل ذهبت وزالت وكأنها لم توجد ولم يبق إلَّا عملها.

{لَا يَرْجِعُونَ (31)} قال المؤلف: [أفلا يعتبرون بهم، وأنهم

- إلى آخره - بدل مما قبله برعاية المعنى المذكور] الذي قبله قوله: {كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ} كأنه قال: "ألم يروا أنهم لا يرجعون"، فهي بدل مما قبلها من حيث المعنى، أي: لا من حيث الإعراب؛ لأنها جملة مستقلة، وليست تابعة لها في الإعراب، ولكنها تابعة لها في المعنى.

والخلاصة: أن الله بين في هذه الآية بيانًا يقرر به هؤلاء المكذبين بأنه أهلك كثيرًا من الأمم السابقة، وأن هؤلاء المهلكين لا يرجعون إلى هؤلاء المكذبين، لأنهم انتهوا من الدنيا ولم يبق لهم الوجوع إليها حتَّى يستعتبوا، فالواجب على هؤلاء المكذبين أن يعتبروا بهم.

ص: 113

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية الكريمة: تقرير المكذبين بما يقرون به، أنَّه أهلك من سبقهم لقوله:{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ} .

2 -

ومن فوائد الآية: أنَّه يجب على الإنسان أن ينظر ويعتبر بحيث إذا نظر في عواقب الناس اتخذ من ذلك عبرة، لأن الاستفهام هنا مع كونه للتقرير مفيد للتوبيخ، لأن الواجب على من نظر في عاقبة المكذبين أن يرتدع عن الكذب.

3 -

من فوائد الآية أيضًا: أنَّه لا بعث ولا رجوع قبل يوم القيامة لقوله: {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31)} فلا أحد يبعث قبل يوم القيامة، اللهم إلَّا على سبيل الآية كما ثبت في القرآن أن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام يحيي الموتى بإذن الله تعالى، وكما في قصة الرجل الذي أماته الله مئة عام ثم بعثه، وكما في قصة بني إسرائيل الذين أخذتهم الصاعقة ثم بعثهم الله بعد موتهم، وكما في قصة الرجل الشاب الذي يقتله الدجال ثم يكلمه ويخاطبه فيقوم حيًّا، وإلَّا فإن الأصل أن من مات لا يرجع أبدًا، لقوله:{أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31)} .

* * *

{وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)} قال المؤلف: [إن نافية، أو مخففة] قوله نافية أي: بمعنى (ما)، ومخففة بمعنى (إن) لكنها خففت و (أو) في كلام المؤلف ليست للتخيير بل هي

ص: 114

للتنويع، لأنها على حسب القراءة الآتية في {لَمَّا}. {كُلٌّ} أي: كل الخلائق، وهي مبتدأ على التقديرين، أي على أنَّها نافية وعلى أنَّها مخففة؛ لأن المخففة تعمل في الجملة، واسمها ضمير الشأن محذوف فـ {كُلٌّ} مبتدأ على كلا الوجهين أي على أن (إن) نافية، أو مخففة {لَمَّا} قال المؤلف:[بالتشديد بمعنى إلَّا، أو بالتخفيف فاللام فارقة و (ما) مزيدة]{لَمَّا} بالتشديد بمعنى إلَّا، وعلى هذا تكون إن نافية، والتقدير:"وما كل إلَّا جميع لدينا محضرون"، وبالتخفيف فاللام فارقة بين "إن" النافية و"إن" المخففة و (ما) مزيدة، والتقدير على هذا "وإن كلٌّ لجميعٌ لدينا محضرون" لأن (ما) زائدة، فإذا أردنا أن نعرب هذه الآية نقول:(إن): نافية على قراءة التشديد، و (لما) بمعنى إلَّا.

الإعراب الثاني: (إن) مخففة على قراءة التخفيف، واللام فارقة وهي للتوكيد، و (ما) زائدة، والتقدير على هذا "وإن كلٌّ لجميع لدينا" {جَمِيعٌ} قال المؤلف:[خبر المبتد [أي: مجموعون] المبتدأ {كُلٌّ} .

فإن قال قائل: كيف يكون خبر لـ (كل) و (كل) تدل على الشمول؟

فالجواب: أن (كلًّا) تدل على الشمول، لكن لا يلزم من دلالتها على الشمول الاجتماع، فتقول: أكرم كل القوم، وقد يكون القوم متشتتين كل واحد بجانب، لكن {جَمِيعٌ} تدل على الاجتماع ففيها زيادة على الشمول وهي جمع الناس، فكل الناس يحضرون إلى الله عز وجل، ولكن هل حضورهم متفرق أو مجتمع؟

ص: 115

الجواب: حضورهم مجتمع؛ ودليله الآية {جَمِيعٌ} إذًا فلا يقول قائل: إن المبتدأ هو نفس الخبر؛ لأن كلمة {كُلٌّ} تدل على الشمول {جَمِيعٌ} تدل على الشمول، نقول: لا، لأن الفرق بينهما أن (كل) تدل على الشمول، وإن كانوا متفرقين و (جميع) تدل على الشمول مع الاجتماع.

قال المؤلف: [مجموعون {لدينا} عندنا في الموقف بعد بعثهم [محضرون} للحساب خبر ثان، أي: خبر ثان لـ (كل) فصار {كُلٌّ} لها الآن خبران الأول: {جَمِيعٌ} والثاني: {مُحْضَرُونَ} ، ومعنى هذه الآية: ما كل واحد من هؤلاء إلَّا محضر لدى الله عز وجل يوم القيامة، والناس جميع.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية الكريمة: إثبات البعث لقوله تعالى: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)} .

2 -

ومن فوائدها: كمال قدرة الله عز وجل حيث يجمع هذه الخلائق جميعًا في مكان واحد؛ لقوله: {لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا} .

3 -

ومن فوائد الآية: وجوب الاستعداد لهذا اليوم؛ لأن الله تعالى لم يخبرنا به لمجرد الاطلاع، ولكنه أخبرنا به من أجل أن نستعد له حتَّى نكون على أهبة لما سنحاسب عليه.

* * *

{وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33)} قال المؤلف رحمه الله: [{وَآيَةٌ لَهُمُ} على

ص: 116

البعث خبر مقدم {الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ} بالتخفيف والتشديد {أَحْيَيْنَاهَا} بالماء، مبتدأ، الآية في اللغة: العلامة والدليل القاطع على الشيء، وقول المؤلف: أخبر مقدم، المبتدأ الأرض، وقوله:{الْمَيْتَةُ} بالتخفيف والتشديد يعني أن فيها قراءتين (الميّتة) و (الميتة)، وهذا دليل على أن الميتة كما يطلق على الميت الذي قد فارقت روحه جسده، يطلق أيضًا على الذي سيموت خلاف لمن قال:(إن الميّت لمن سيموت) و (المَيْتَ لمن مات بالفعل)، فإن الأرض الميتة قد ماتت، ومع ذلك فيه هنا قراءتان: الميّتة، والميتَة {الْأَرْضُ} مبتدأ و {الْمَيْتَةُ} صفة و {أَحْيَيْنَاهَا} صفة للأرض، ولهذا قال المؤلف:(مبتدأ) جعله بعد قوله (أحييناها) ليبين أن الميتة وأحييناها كلاهما صفة للأرض، ولكن الصحيح أن {أَحْيَيْنَاهَا} جملة استئنافية لبيان وجه الآية في هذه الأرض، لأن محط الفائدة ليس هو موت الأرض، ولكن الله تعالى أحياها بعد موتها، أما على رأي المؤلف فإذا جعل {أَحْيَيْنَاهَا} صفة، فإنه يشكل علينا أن هذا مخالف للقاعدة المعروفة:"أن الجمل بعد المعارف أحوال". والجواب على ذلك أن يقال: إن الأرض هنا المراد بها الجنس فهي بمعنى النكرة ونظيرها قول الشاعر:

ولقد أمر على اللئيم يسبني

فمضيت ثمت قلت لا يعنيني

قال: (اللئيم يسبني): وتقدير: (على لئيم يسبني)، ومنه أيضًا على قول بعض المعربين {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ

ص: 117

أَسْفَارًا}

(1)

على أن جملة {يحمل} صفة الحمار، لأن المراد به الجنس، فهو بمعنى كمثل حمار يحمل أسفارًا، أما على القول الذي اخترناه فنقول: إن جملة {أَحْيَيْنَاهَا} استئنافية لبيان وجه الآية في هذه الأرض الميتة، ووجه كونها آية أن هذه الأرض الميتة أشجارها يابسة، وليس فيها ثمر، فينزل الله عليها المطر فتحيا بعد الموت، فالذي أحيائها وقدر على إحيائها قادر على إحياء الموتى، كما قال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)}

(2)

وعليه فنقول: وجه الآية أن نقيس الشاهد بالغائب، فالشاهد المنظور هو هذه الأرض ميتة، أشجارها يابسة ينزل عليها المطر فتخضر، فالذي أحياها قادر على إحياء الموتى.

{وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا} معطوف على {أَحْيَيْنَاهَا} يعني الأرض ميتة أحييناها بالزرع، فقام الزرع أخضر يهتز، ولكن مجرد كونه زرعًا لا يفيد الآدمي، وإنَّما يفيد البهائم، ويفيد الآدمي عند الضرورة لكن الفائدة العظمى منه {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا} {مِنْهَا} أي: من الأرض {حَبًّا} كالحنطة {فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33)} {فَمِنْهُ} أي: من هذا الحب يأكلون، وفائدة قوله:{فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33)} دليل على سهولة تناول هذا الحب وعظم فائدته، وأنه حب نافع سهل التناول، لأنه لو كان صعبًا لكانوا لا يستطيعون الأكل منه إلَّا بمشقة عظيمة، ولهذا قال:{فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33)} قدم المعمول

(1)

سورة الجمعة، الآية:5.

(2)

سورة فصلت، الآية:39.

ص: 118

لإفادة الحصر، لكنه حصر إضافي لسهولته كأنه لا أكل لهم إلَّا من هذا السهل المتيسر {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ} أي بساتين {مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} هذا غير الحب؛ لأن الخارج من الأرض يكون حبًّا، ويكون ثمرًا، الحب من الزروع، والثمر من الأشجار {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ} {جَعَلْنَا} بمعنى صيرنا، فهو ناصب لمفعولين، المفعول الأول {جَنَّاتٍ} والثاني:{فِيهَا} و {جَنَّاتٍ} جمع جنة وهي البستان الكثير الأشجار، سميت بذلك لأنه يجن من دخله وكان فيه لاستتارته به، وأصل هذه المادة - الجيم والنون - تدور على لعذا المعنى، أي: على الاستتار والخفاء، ومنه سمي القلب: جنانًا؛ لاستتاره، ومنه سمي: الجن؛ لاستتارهم وخفائهم، ومنه سمي الجُنة: الوقاية؛ لأن الإنسان يستتر بها، فكل هذه المادة تدل على الخفاء والاستتار، فالبستان الكثير الأشجار المتشابكة إذا كان فيه أحد لا يرى؛ لأن هذه الأشجار تستره {مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} النخيل والأعناب معروفة، ونص الله عليها لأنها طعام وقوتَ لا يحتاج إلى مؤنة، ولهذا يقتات رطبًا ويابسًا، فيقتات رطبًا كالرطب في التمر، وكالعنب في العنب، ويابسًا كالتمر الذي يؤول إليه الرطب، وكالزبيب الذي يؤول إليه العنب، فجمع الله بينهما؛ لأنهما قوت حلو لا يحتاج إلى مؤنة طبخ، وينتفع به رطبًا ويابسًا، {وَفَجَّرْنَا فِيهَا} أي في الأرض {مِنَ الْعُيُونِ (34)} قال المؤلف [بعضها]. ويجوز أن تكون {مِنَ} لبيان الجنس ويكون هذا عامًّا، وهو الأقرب أي: فجرنا فيها من العيون عيونًا كثيرة، وأصنافًا متنوعة، فمنها العيون الجارية

ص: 119

الغزيرة، ومنها العيون الراكدة التي لا تجري لكنها تنبع على جهة الأرض، ومنها العيون التي تكون بواسطة كالأنابيب المعروفة الآن تركز في الأرض فيخرج الماء، ومنها العيون التي تكون بلا واسطة كالذي يتفجر من رؤوس الجبال وغير ذلك، كل هذا دليل على قدرة الله عز وجل وعلى رحمته بعباده، يقول:{لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} {لِيَأْكُلُوا} الضمير يعود على الناس، واللام للتعليل، والفعل بعدها منصوب إما بها على مذهب الكوفيين، وإما بأن مضمرة على مذهب البصريين، وقوله:{مِنْ ثَمَرِهِ} قال المؤلف رحمه الله[بفتحتين وبضمتين] أي: ثَمَره، وثُمُرِهِ. وثمره هنا مفرد، ولم يقل (من ثمرهما) لأن الله عز وجل ذكر نخيلًا وأعنابًا فهما صنفان، ولم يقل (من ثمرهما) بل قال:{مِنْ ثَمَرِهِ} أي ثمر المذكور، فالضمير هنا يعود على المذكور من النخيل والأعناب. قال المؤلف:[{وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} أي لم تعمل الثمر {أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35)} نعمة الله تعالى عليهم] قوله: {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} في {مَا} قولان للمفسرين:

القول الأول: أنَّها نافية، وهو الذي مشى عليه المؤلف، يعني أن هذا الثمر الخارج من النخيل والأعناب لم تعمله أيدي الناس.

القول الثاني: أنَّها بمعنى الذي أي: (من الذي عملته أيديهم)، لأن الناس قد يعملون شيئًا يصلحونه، مثل عصير العنب، وكذلك دبس التمر، وكذلك الخبز الذي يخبزونه من الزروع، وغير ذلك مما يصنعه الناس بأيديهم ويتمتعون

ص: 120

ويتفكهون به، فهناك أنواع الحلوى تصنع باليد، فيكون الله تعالى امتن على العباد بأمرين: امتن بما يخرجه هو عز وجل من هذه الثمار والزروع، وامتن عليهم بما علمهم إياهم مما يعملونه بأيديهم، والمأكولات التي نأكلها نوعان: نوع لا نحدث فيه شيئًا نأكله كما يقولون طازجًا، ونوع آخر نعمل فيه، ونركبه مثلًا من عدة ثمرات وما أشبهها، فيكون الله عز وجل امتن على العباد بالأمرين جميعًا، والمعنى الثاني أعم فيكون أولى، على أن القاعدة:"أن الآية إذا كانت صالحة للاحتمالين فلا مانع من أن تحمل عليهما" فنقول: إن الله أراد هذا وهذا، أراد أن أيدينا لم تعمل هذه الثمرات التي تخرج من النخيل والأعناب، ولا هذه الحبوب التي تخرج من الزروع، وأراد أيضًا ما نعمله نحن بأيدينا على حسب ما نريد، فكل هذا نعمة، وقوله:{أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35)} الاستفهام هنا للتوبيخ، والجملة معطوفة على مقدر يعلم من السياق، يعني: أغفلوا عن ذلك فلا يشكرون، أو أكفروا به فلا يشكرون، لأن انتفاء الشكر يكون إما بالغفلة، أو بالكفر المتعمد، فكثير من الناس بالنسبة للنعم إما غافل ويرى هذا أمرًا معتادًا وكأنها شيء جار على العادة بدون أن يكون لله فيه منة، وهذا يحصل من المؤمن الذي لم يصب بضد تلك النعم، لأن الإنسان لا يعرف قدر النعمة إلَّا حيث يصاب بضدها، فلا يعرف قدر الشبع إلَّا من جاع، ولا قدر الري إلَّا من قد ظمأ، ولا قدر العافية إلَّا من مرض، ولا قدر الأنس إلَّا من فقد الأنيس، وهكذا وهذه غفلة.

ص: 121

وإما أن تكون كما قال تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)}

(1)

كفرًا بالنعمة وبطرًا يقول: "إنما أوتيته على علم عندي" وما أشبه ذلك وقوله: {أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35)} الشكر هو: (القيام بطاعة المنعم، وصرف نعمه فيما جعلها الله له)، فمن صرف نعم الله على غير ما جعلها الله له فليس بشاكر، فلو جعل النعم عونًا له على المعصية فصار يستعين بنعم الله على معصيته لم يكن شاكرًا؛ لأنه صرفها في غير ما جعلت له، وإنَّما أنعم الله علينا هذه النعم لنقوم بعبادته والتقوي عليها، والشكر متعلقه ثلاثة أشياء: القلب واللسان والجوارح، وعلى هذا قال الشاعر:

أفادتكم النعماء مني ثلاثة

يدي ولساني والضمير المحجب فشكر القلب: أن يعترف الإنسان بقلبه أن هذه النعمة من الله سبحانه وتعالى هو الذي منّ بها، إن كانت نعمة إيجادية، أو كانت دفع نقمة فإنها من الله وهو المانّ بها، فلا يجعل ذلك من أسباب عمله وذكائه، بل يجعل ذلك من فضل الله سبحانه وتعالى وإحسانه.

وشكر اللسان: أن يثني الإنسان بها على الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى:{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)} لكن لا على سبيل الفخر والعلو على الآخرين، فإنه إذا تحدث بها على سبيل الفخر والعلو على الآخرين صار هذا كفرًا لا شكرًا.

(1)

سورة النحل، الآية:83.

ص: 122

وشكر الجوارح: أن يقوم بطاعة المنعم عز وجل، ومن شكر الجوارح: أن يظهر أثر النعمة عليه، فإن كان غنيًّا ظهر ذلك عليه في مركوبه وملبوسه وكل مظهره، لأن الله تعالى إذا أنعم على أحد بنعمة أحب أن يرى أثر نعمته عليه.

فإذا قال قائل: هل بين الحمد والشكر فرق أو هما متفقان؟

فالجواب: أن بينهما فرقًا:

أولًا: أن الحمد متعلقه اللسان فقط، لأنه وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم، فلا يتعدى إلى الجوارح.

ثانيًا: أن الحمد يكون لإحسان المحمود ولكمال المحمود، والشكر للإحسان فقط، فالشكر يكون على النعم فقط، والحمد يكون على النعم وعلى أوصاف الكمال، فبين الحمد والشكر عموم وخصوص من وجه، فالحمد أعم من حيث السبب، وأخص من حيث المتعلق، والشكر أخص من حيث السبب، وأعم من حيث المتعلق، والله يحمد على نعمه، وعلى كماله فهذا سبب الحمد، والحمد إنما يكون باللسان فقط، والشكر إنما يكون على النعم فقط، فلا تقول: اشكر الله على كمال صفاته، بل على نعمه، فسبب الشكر أخص، لكنه يتعلق بالقلب واللسان والجوارح فهو أعم من حيثما المتعلق.

الفوائد:

في الآيات الكريمات فوائد منها:

1 -

بيان قدرة الله عز وجل على إحياء الأرض بعد موتها، لقوله تعالى:{وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} .

ص: 123

2 -

ومنها: الاستدلال بالشاهد على الغائب، فإن إحياء الأرض بعد الموت مشاهد، ويستدل بها على إحياء الله الموتى عند بعثهم يوم القيامة، وقد أشار الله تعالى إلى هذا الدليل بقوله:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)}

(1)

وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)}

(2)

والآيات في هذا كثيرة.

3 -

ومن فوائد الآيات الكريمة: جواز وصف الجماد بالموت والحياة، فإنه ليس خاص بذي الروح المتحرك، لقوله:{الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} فوصفها بالموت، ووصفها بالحياة.

4 -

ومن فوائد الآيات الكريمة: بيان عظمة الله سبحانه وتعالى، لقوله:{أَحْيَيْنَاهَا} {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا} بضمير العظمة.

5 -

ومن فوائد الآيات الكريمة: بيان نعمة الله عز وجل بما أخرج للناس من الأرض من الحبوب والثمار، الحبوب قوله:{وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا} والثمار قوله: {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} .

6 -

ومن فوائد الآيات الكريمة: بيان حاجة العبد لربه، لقوله:{فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33)} ، وكأن هذا الحصر فيه إشارة إلى تحدي الإنسان أنَّه لا يمكن أن يأكل إلَّا من هذا الذي أخرجه الله

(1)

سورة فصلت، الآية:39.

(2)

سورة ق، الآيات: 9 - 11.

ص: 124

له، وهذا من فوائد الحصر، كأنه يقول: إن كنت قادرًا فأخرج لنفسك ما تأكله، إنك لن تأكل إلَّا مما أخرجناه لك.

7 -

ومن فوائد الآيات الكريمة: بيان ما أنعم الله به على العباد من هذه الأشجار العظيمة الكثيرة المظلة لقوله: {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} فما أعظم نعم الله على العبد من هذه النخيل والأعناب.

8 -

ومن فوائد الآيات الكريمة: بيان فضل النخيل والأعناب، لأنها ثمر يؤكل بلا تعب، وثمر يقتات رطبًا ويابسًا.

9 -

ومن فوائد الآيات الكريمة: بيان قدرة الله عز وجل في تفجير الأرض عيونًا، هذه الأرض اليابسة جامدة يخرج منها هذا الرطب السائل وهو الماء، قال الله تعالى:{وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ}

(1)

وهذا من عظيم قدرة الله، وكان موسى عليه الصلاة والسلام يضرب الحجر اليابس، إما حجرًا معينًا - كما قيل - يحمله معه، وإما أي حجر كان يضربه فيتفجر اثنتي عشرة عينًا، على قدر قبائل بني إسرائيل، وهذه من تمام قدرة الله سبحانه وتعالى.

10 -

ومنها: بيان احتياج النخيل والأعناب إلى الماء، وأن ثمره يكثر بحسب الماء؛ لأنه قال:{وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} فدل هذا على أن الماء له أَثر في كثرة الثمار وطيبها، وهذا هو الواقع.

11 -

ومنها: الرد على الجبرية بإثبات العلة والحكمة في

(1)

سورة البقرة، الآية:74.

ص: 125

قوله: {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} والنصوص الدالة على إثبات حكمة الله عز وجل كثيرة جدًّا منها ما صرح الله تعالى به مثل قوله: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)}

(1)

ومنها ما صرع الله به على وجه السلب والنفي {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)}

(2)

. {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38)}

(3)

. ولا أدل على الصفة من إثباتها ونفي ضدها، فإن إثباتها يدل على الثبوت، ونفي ضدها يدل على كمالها، وأنها غير مشوبة بهذا النقص الذي يحصل بفقدها، أو بفقد كمالها، ولا شك أننا إذا نفينا الحكمة عن فعل الله عز وجل، أو عن شرع الله، لزم من ذلك النقص العظيم، وأن يكون الله عز وجل يفعل الشيء سفهًا وعبثًا تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.

12 -

ومن فوائد الآيات الكريمة: بيان ما أنعم الله به على العباد من هذا الثمر الذي يؤكل، أرأيت لو أن هذا الثمر صار مرًّا هل ينتفع به؟ ! ولهذا قال الله عز وجل في الماء:{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا}

(4)

فلم تستطيعوا شربه، هذا الثمر جعله الله شهيًّا للنفوس، تأكل منه، وتتغذى به الأبدان، ولهذا قال:{لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} شاء الله عز وجل لجعل هذا الثمر فاسدًا، فقد يكون

(1)

سورة القمر، الآية:5.

(2)

سورة ص، الآية:27.

(3)

سورة الدخان، الآية:38.

(4)

سورة الواقعة، الآيات: 68 - 75.

ص: 126

حلوًا لذيذًا شهيًّا لكن يجعل الله فيه آفة تفسده، وهذا موجود بكثرة، ولكن من نعمة الله أنَّه يبقى ويؤكل من ثمره.

13 -

ومن فوائدها: أننا لا نملك لأنفسنا أن نوجد هذا الثمر، وأن ذلك مجرد فضل من الله لقوله:{وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} فإن هذا ليس من صنعنا، فلو اجتمع الناس كلهم على أن يخرجوا رطبة واحدة أو حبة عنب ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، ومع هذا يخلق الله عز وجل هذه العناقيد التي لا تحصى كثرة، وهذه الأعذاق التي لا تحصى كثرة، ونحن لم نعمل ذلك بأيدينا، غاية ما هنالك أننا نوجه هذا الثمر حسب ما علمنا الله عز وجل، فنأخذ من طلع الفحل ما نجعله في طلع النخلة حتَّى يطيب الثمر، أما أننا خلقناه وأوجدناه فلا. وهذا على جعل (ما) في قوله تعالى:{وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} نافية.

14 -

ومن فوائدها: بيان نعمة الله عز وجل بما علمنا مما نصنعه من هذه الثمار، وعلى وجه يخالف ما خلقت عليه، حتَّى يتكون من هذا طيب على طيب لقوله:{وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} فإن الله تعالى علمنا كيف نصنع هذه الثمار على وجه نتلذذ بها، وننتفع بها أكثر مما هي عليه في الخلقة، وهذا على جعل (ما) موصولة.

15 -

ومن فوائد الآيات الكريمة: وجوب شكر نعمة الله عز وجل، لأن الله وبخ من لا يشكر، والشكر مع كونه طاعة الله يثاب الإنسان عليه، ويعرف به قدر نعمة الله عليه، فهو سبب للمزيد من هذه النعم لقوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ

ص: 127

لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)}

(1)

.

فإن قال قائل: نحن نرى كثيرًا من الناس قد أغدق الله عليهم النعم مع كفرهم بها؟ فبماذا نجيب عن هذه الآية؟

الجواب: على هذا أن نقول:

أولًا: إن الله تعالى قد عاقبهم عقوبة عظيمة؛ لأن العقوبة لا تنحصر في فقدان النعمة، بل العقوبة تكون بفقدان النعمة، وتكون بقسوة القلب ومرض القل، وإن كان أكثر الناس يظنون أن العقوبات إنما هي بزوال النعم، والواقع أن عقوبات القلوب بالمرض والقسوة والإعراض عن الله وعن ذكره هذه أكبر عقوبة، ثم هؤلاء المنعمون في أبدانهم لا تظنون أنهم منعمون في قلوبهم أبدًا، ففي قلوبهم من الضيق والحرج، وعدم الصبر على القضاء والقدر ما يجعلهم دائمًا في نار، ولا تجد أطيب حياة من حياة المؤمن وإن كان أفقر الناس {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)}

(2)

فهؤلاء قد عوقبوا عقوبة أعظم من إتلاف الأموال والثمار وغيرها وهو قسوة القلب ومرضه وإعراضه، فإن هذا يوجب للإنسان ضيق الصدر، والتعب من الحياة؛ لأنه لا يرضى بالله ربًّا، ولا بشرعه دينًا.

ثانيًا: أن نقول هذه النعم عجلت لهم عقوبة لهم واستدراجًا، ولهذا لما جاء عمر رضي الله عنه إلى النبي عليه

(1)

سورة إبراهيم، الآية:7.

(2)

سورة النحل، الآية:97.

ص: 128

الصلاة والسلام وهو على سرير مخيط من الليف فإذا هو قد أثر في جنبه، فبكى وقال له عليه الصلاة والسلام:"ما يبكيك؟ " قال: يا رسول الله، فارس والروم ينعمون بما نعموا من الدنيا وأنت على هذه الحال؟ فقال:"يا عمر، إن هؤلاء قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا"

(1)

فهؤلاء يعاقبون بهذه النعمة التي تدر عليهم، لأنه استدراج، ولأنهم إذا ماتوا وصاروا في العذاب صار هذا أشد عليهم، لأنهم فارقوا دنيا تعلقت بها قلوبهم، ونعموا به ثم أعقبها هذا العذاب - والعياذ بالله - فصاروا أشد حسرة. ويذكر عن ابن حجر العسقلاني رحمه الله وهو قاضي القضاة في مصر أنَّه مر ذات يوم بيهودي زيات يبيع الزيت، قد تعب من الزيت، وثيابه وسخة، وقاضي القضاة بمصر يمشي على عربة تجره الخيول، والناس حوله يمينًا وشمالًا، فأوقف اليهودي الموكب وقال: يا قاضي القضاة كيف تكون أنت في هذا الحال وأنا في هذا الحال ورسولكم يقول: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر"

(2)

فقال له ابن حجر رحمه الله: ما أنا فيه من النعيم في الدنيا هو سجن بالنسبة لنعيم المؤمن في الآخرة، وما أنت فيه من التعب والبلاء هو بالنسبة لعذاب الآخرة جنة، فأنت الآن في جنة؛ لأنك سوف تنتقل إلى عذاب لا تتصوره. فلما قال ذلك قال اليهودي:(أشهد أن لا إله إلَّا الله، وأن محمدًا رسول الله) فأسلم، فهؤلاء المنعمون نعيمهم في الحقيقة شقاء وعذاب، وإن نعمت أجسادهم، لكن

(1)

أخرجه البخاري، كتاب المظالم، باب الغرفة

(2468).

(2)

أخرجه مسلم، كتاب الزهد، باب الدنيا سجن للمؤمن وجنة الكافر (2956).

ص: 129

أكثر الناس في غفلة عن هذا، ومع الأسف أن هذا الداء دب إلى المسلمين، فصار أكثر المسلمين اليوم لا ينشدون إلَّا هذا النعيم أعني نعيم الدنيا، وفي غفلة عن نعيم الآخرة، ولهذا تجدهم يتحدثون دائمًا عن الترف واللهو وما أشبه ذلك، كأنهم ما خلقوا إلَّا لهذا، وهذا من أكبر ما يصد الإنسان عن دينه أن يكون قلبه معلقًا بالدنيا، ولا ينظر إلَّا إلى التنعم بها، ونحن لا ننكر أن ينال الإنسان من الدنيا ما يستفيد منه في الآخرة، بل إن الدنيا إذا جعلت وسيلة للآخرة صارت من الآخرة في الحقيقة، لكن ننكر أن تكون الدنيا أكبر هم الإنسان، كأنما خلق لها فقط، وهذا من نقص دينه، ونقص عقله، فكيف تجعل نفسك وحياتك الثمينة كيف تجعلها مهمة غاية الاهتمام بأمر ليس بمضمون، وليس بمخلد؟ ! قال الله تعالى منكرًا على قوم هود على لسان هود عليه الصلاة والسلام:{وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)}

(1)

فأنت لست بخالد، فكيف تجعل هذا الممر الذي أنت تعيش فيه تجعله أكبر همك، مع أنك لا تدري متى تفارقه؟ ! كل من هؤلاء المترفين لا يدري متى يموت، لكنه يدري أنَّه سوف يبقى في الآخرة - إن كان مؤمنًا بها - ومع هذا يعمل للدنيا التي لم يخلق لها، ويدع الآخرة التي خلق لها.

* * *

ثم قال عز وجل: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ} {كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ} قال المؤلف رحمه الله: [الأصناف {كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ} من الحبوب

(1)

سورة الشعراء، الآية:129.

ص: 130

وغيرها {وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ} من الذكور والإناث {وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)} من المخلوقات العجيبة الغريبة، {سُبْحَانَ} تأتي دائمًا منصوبة على أنَّها مفعول مطلق حذف منها العامل وجوبًا، وأصلها تسبيحًا لله، وتسبيحًا مصدر سبح، فالعامل محذوف وهو (سبح)، والمصدر محول إلى اسم مصدر، وهو التسبيح حول إلى سبحان وهو مأخوذ من سبح، أي: أبعد في الماء، فمعنى التسبيح في سبحان الله تنزيه الله تعالى عما لا يليق به، والذي لا يليق بالله عز وجل أمران:

أحدهما: النقص في صفاته.

الثاني: مماثلة المخلوقين فيها، على أنَّه يمكن أن نرد الثاني إلى الأول، ونقول: إن مماثلة المخلوقين نقص؛ لأن مماثلة الكامل بالناقص يجعله ناقصًا، قوله:{خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)} هذه الآية كقوله: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)}

(1)

فكل المخلوقات لا تقوم إلَّا بتركيب مادتين فأكثر، وليس فيها شيء يقوم من شيء واحد أبدًا، فكل شيء سواء مما تنبت الأرض، أو من بني آدم، أو من البهائم، أو مما لا نعلم، وهذه عامة من أعم ما يكون فإنه مكون من شيئين {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} تنزيه الله عز وجل عما لا يليق به، ولهذا جاءت الآية هنا {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} فالمخلوق لابد فيه من تعدد، والخالق منزه عن التعدد، وهذه هي الحكمة - والله أعلم - في أنَّه قال: {سُبْحَانَ

(1)

سورة الذاريات، الآية:49.

ص: 131

الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} ولم يقل (الحمد لله الذي خلق الأزواج) بل قال: {سُبْحَانَ} لأن كون كل شيء يحتاج إلى ازدواجية يدل على كمال الواحد المتفرد، الذي لا يماثله شيء من مخلوقاته، فبنو آدم لابد من ازدواجية ذكر وأنثى، وحتى المعاني التي فيه والأوصاف فيه تجد أنَّها مزدوجة، فيه غضب ورضى، وكراهة ومحبة، وقوة وضعف، إلى غير ذلك، لكن الخالق عز وجل واحد منفرد، لا يماثله شيء من مخلوقاته لا في ذاته ولا في صفاته.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية الكريمة: تنزيه الله تعالى نفسه عن كل نقص وعيب، لقوله:{سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} .

2 -

ومن فوائدها: التنبيه على وحدانيته عز وجل، ومخالفته للمخلوقات لقوله:{سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} فلم يقل: (سبحان الله) بل قال: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ} والجمع بين ما يثبت للعباد وما ينزه الله عنه قد ورد في غير موضع من القرآن، منها قوله تعالى:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)}

(1)

فلما ذكر حال الخلائق ذكر حال الخالق؛ لأنه عز وجل يبقى مع فناء غيره، كذلك هنا المخلوق كله مزدوج لابد فيه من زوجين {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ}

(2)

أما الرب عز وجل فإنه واحد، ولهذا قال:

(1)

سورة الرحمن، الآيتان: 26، 27.

(2)

سورة الذاريات، الآية:49.

ص: 132

{سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} .

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أنَّه ما من شيء مخلوق إلَّا وفيه زوجان، لقوله:{وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)} وهذا لفظ من أعم ما يكون من الكلمات.

4 -

ومن فوائد الآية أيضًا: أن بني آدم على أصناف متنوعة كما كان ذلك أيضًا فيما تنبته الأرض، بل وفي الأرض نفسها قال الله تعالى:{وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ}

(1)

فإثبات التجاور لها يقتضي أن كل واحد منها يخالف الآخر، لأن الجار غير جاره وكذلك هنا {مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ} يدل على أن في الأرض أصنافًا منوعة من النباتات، كذلك {وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ} فيما خلق الله عز وجل من بني آدم أصنافًا: ذكر وأنثى، أسود وأبيض، طويل وقصير، شقي وسعيد، ذكي وبليد، عاقل وسفيه، وهكذا ليعتبر الإنسان قدرة الله عز وجل على خلق هذه الأشياء المتضادة.

5 -

ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات الجهل للإنسان وأنه لا يحيط بكل شيء، لقوله:{وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)} وهذا إذا أضفتها إلى قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)}

(2)

تبين لك مدى جهل الإنسان في الأمور.

* * *

{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)} نقول: في إعرابها ما قلنا في آية {الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ} فيكون الليل مبتدأ، وآية

(1)

سورة الرعد، الآية:4.

(2)

سورة الإسراء، الآية:85.

ص: 133

خبر مقدم، ونقول في {نَسْلَخُ} كما قلنا في قوله:{أَحْيَيْنَاهَا} أي أنَّه يجوز أن تكون صفة الليل على حد قول الشاعر:

ولقد أمر على اللئيم يسبني

إلخ.

ويجوز أن تكون الجملة استئنافية لبيان هذه الآية، كيف كان الليل آية قال:{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)} "نسلخ" يقول المؤلف [نفصل] وسمى الله هذا الفصل سلخًا؛ لأنه يشبه سلخ الجلد من البهيمة {فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)} ، لأن النهار أمر وجودي يوجد بوجود الشمس، فهو وارد على الليل، فإذا غابت الشمس تبعها هذا الضوء كالجلد يسلخ من البهيمة، وأنت عندما تسلخ الجلد من البهيمة تجده يتراجع شيئًا فشيئًا، هكذا ضوء النهار بالنسبة لليل يسلخ الله سبحانه وتعالى النهار من الليل، كما يسلخ الجلد من البهيمة قال:{فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)} أي داخلون في الظلام {فَإِذَا} فجائية تدل على أنَّه بمجرد هذا الانسلاخ يظلم الجو، وكما نشاهد أن الانسلاخ يأتي شيئًا فشيئًا، لكن إذا تكامل الانسلاخ وجدت الظلمة كاملة، وهذه من حكمة الله عز وجل؛ لأنه لو ورد الظلام الدامس على الضوء الساطع لأخذ هذا بالأبصار، وبالأشجار، وبكثير من الأشياء، لكن كونه يأتي شيئًا فشيئًا، يتنزل الأمر من أعلى ما يكون من الإضاءة إلى الظلمة شيئًا فشيئًا.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية الكريمة: هذه الآية العظيمة في الليل، حيث يسلخ الله تعالى منه النهار سلخًا، كما يسلخ الجلد من

ص: 134

الشاة، وهذا يدل على أنَّه يأتي شيئًا فشيئًا.

2 -

من فوائد الآية الكريمة أيضًا: أن الأصل هو الظلام لقوله: {نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} ، فهذا يدل على أن الأصل هو الظلام، وأن النهار طارئ عليه، ولهذا يسلخ منه وهو كذلك، فإن أصل الضوء من الشمس، والشمس حادثة وواردة على الليل، فيكون الأصل الظلام ويأتي النور بعده.

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: تذكير الخلق بهذه النعمة لقوله: {فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)} وأنه لولا نعمة الله علينا بهذا النهار الذي يسلخ من الليل لكنا دائمًا في ظلمة، وهذا بلا شك متعب للناس وضار بهم، قال تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71)}

(1)

.

* * *

{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)} الواو حرف عطف و (الشمس) أيضًا معطوفة على الليل، يعني: وآية لهم الشمس أيضًا {تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} ويجوز أن تكون الواو استئنافية، الشمس مبتدأ، لكن المعنى الأول أقوى قال المؤلف:[والشمس تجري إلى آخره من جملة الآية لهم، أو آية أخرى، والقمر كذلك] أي سواء قلنا الجملة استئنافية وأن هذه الآية الأخرى جديدة، أو قلنا إن الواو حرف عطف فإنه لا شك أن الشمس على الوصف الذي ذكر الله تعالى آية من آيات الله. فالشمس آية من آيات الله في ذاتها، فهذا الجرم

(1)

سورة القصص، الآية:71.

ص: 135

الكبير العظيم الذي تصل حرارته إلى الأرض مع بعد المسافة بينها وبين الأرض، لا شك أن هذه من آيات الله، من يستطيع أن يوجد مثل هذه الكتلة النارية الملتهبة المضيئة التي يصل ضوؤها وشعاعها وحرارتها إلى الأرض مع هذه المسافة العظيمة؟ ! الجواب: لا أحد يستطيع، إذًا فهي آية من آيات الله، ثم ما يحصل فيها من المنافع من إنضاج الثمر، وتدفئة الأرض، والنور العظيم، كم طاقة يستفيدها الإنسان بنور هذه الشمس من الكهرباء، طاقة عظيمة سواء كان هذا فيما يحصل من الحرارة في أيام الشتاء التي يستغني بالشمس عند تدفئة المنازل، أو فيما يحصل بالإضاءة فإذا هذا أمر لا يقدر له ثمن، أما إنضاج الثمر، وإيباس الرطب وما أشبه ذلك مما فيه مصلحة الخلق فحدث ولا حرج، فهي آية عظيمة من آيات الله عز وجل.

وهي آية في مسيرها قال: {تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} يعني تسير جريًا، والجري هو المشي بشدة، وهكذا الشمس تسير بسرعة عظيمة جدًّا لا يعلم قدرها إلَّا الله عز وجل، أو قد يعلم بالوسائل الحديثة مدى سرعتها، لكن تأمل الطائرة تسير في سرعة عظيمة وهي قريبة منا، ومع ذلك نراها تمشي ببطء؛ لبعدها عنا فما بالك بالشمس؟ ! نحن نراها تسير لا شك في هذا، حتَّى إنك نظرت إلى الظل عند انفصاله من الشعاع تجده يتحرك كأنه يرتعد، وهذا يدل على أنَّها تمشي مشيًا عظيمًا، ومع هذا وهي بعيدة جدًّا ونشاهدها تسير هذا السير إذن فسريانها سريع جدًّا، وقد علم تقديره عند الفلكيين الآن وقوله:{لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قال المؤلف:

ص: 136

[إليه لا تتجاوزه]، والمستقر موضع القرار، كما قال الله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)}

(1)

وقال {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا}

(2)

. فالمستقر موضع القرار، وقال تعالى {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا}

(3)

فما هذا القرار الذي تجري الشمس إليه؟ هل هو قرار زمني؟ أو قرار مكاني؟ أو هما جميعًا؟

ثبت في الحديث الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه أنَّه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد حين غربت الشمس فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتدري أين تذهب؟ " فقال أَبو ذرٍّ: الله ورسوله أعلم، قال:"فإنها تذهب وتسجد تحت العرش، وتستأذن فذلك مستقرها"

(4)

، ثم قرأ:{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)} وهذا الحديث يدل على أن مستقرها مكاني؛ لأنها تسجد تحت العرش، وهذا السجود لا نعلم كيفيته؛ لأن الشمس ليست كالبشر حتَّى يقاس سجودها بسجود البشر، بل هي مخلوق أعظم، ولا ندري كيف تسجد؟ فإذًا لا يرد علينا السؤال: هل هي تسجد وهي سائرة أو تقف؟ وكيف يصح أن نقول: إنها تسجد وتستأذن وهي لا تزال مستمرة في الأفق؟ كل هذه الأسئلة إيرادات نجيب عليها عند ذكر الفوائد.

(1)

سورة البقرة، الآية:36.

(2)

سورة النمل، الآية:61.

(3)

سورة هود، الآية:6.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة الشمس والقمر (3199).

ص: 137

وقيل: إن المستقر مستقر زمني، وذلك عند تكويرها يوم القيامة، أي: عند منتهى سيرها في يوم القيامة، أي: تجري إلى يوم القيامة الذي هو موضع قرارها الزمني.

وقيل: إن المراد بالمستقر منتهى تنقلها في البروج الشمالية واليمانية، فلها حد تنتهي إليها من الشمال لا تتجاوزه، ولها حد تنتهي إليه من الجنوب لا تتجاوزه، وبناء على هذا يكون المستقر زمانيًّا ومكانيًّا، لأن غاية سيرها في الشمال يكون به ابتداء فصل الصيف، وغاية سيرها في الجنوب ابتداء فصل الشتاء، فهذا مستقر زمني مكاني، فهذه الشمس العظيمة التي لا يعلم قدرها إلَّا الذي خلقها سبحانه وتعالى لما فيها من المصالح العظيمة {تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} كل شيء له غاية، وكل شيء له منتهى إلى الله عز وجل. قال المؤلف:[{ذَلِكَ} أي: جريها {تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ} في ملكه {الْعَلِيمِ (38)} بخلقه] [{ذَلِكَ} أي: جريانها لمستقرها {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)} وأضاف التقدير هنا إلى هذا الاسم الكريم {الْعَزِيزِ} لأن هذه الشمس العظيمة تحتاج إلى قوة وسلطان قاهر، فلهذا أتى باسم {الْعَزِيزِ}؛ لأن العزيز يشمل ثلاثة معانٍ:

أولًا: العزيز في قدره.

ثانيًا: العزيز في قهره.

ثالثًا: العزيز في امتناعه.

أما في قدره فمعناها: أن الله ذو شأن عظيم لا يماثله أحد، وأما في قهره فمعناه أن الله له الغلبة والسلطان المطلق، يقول

ص: 138

الشاعر الجاهلي:

أين المفر والإله الطالب

والأشرم المغلوب ليس الغالب

وأما في امتناعه فالمعنى: أنَّه ممتنع عن كل نقص وعيب.

أما {الْعَلِيمِ (38)} فمعناه ذو العلم الكامل الشامل، فإن علم الله تعالى علم كامل لم يسبق بجهل ولا يلحقه نسيان، وشامل لكل ضغير وكبير، قال تعالى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)}

(1)

وما كتب في كتاب مبين إلَّا بعد أن كان معلومًا عند الله عز وجل، إذ المجهول لا يكتب، فهذا يدل على سعة علم الله عز وجل، وأنه محيط بكل شيء جملة وتفصيلًا.

فذكر الله هذين الاسمين {الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)} لمناسبة المقام، لأن الشمس ليست بالشيء الهين الذي يسهل قياده، بل هي شيء عظيم يحتاج إلى عزة وعلم.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية الكريمة: أن الشمس تجري أي تسير، وهذا هو الواقع، وظاهر القرآن الكريم أن سيرها ذاتي، وليس المراد أنَّها تجري برأي العين، وأن الذي يدور هو الأرض، والواجب إجراء القرآن الكريم على ظاهره حتَّى يقوم دليل صريح يكون لنا حجة أمام الله عز وجل إذا خرجنا عن ظاهر القرآن؛ لأن الذي تكلم بالقرآن هو الله الخالق عز وجل وهو العليم بخلقه، فإذا

(1)

سورة الأنعام، الآية:59.

ص: 139

قال: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي} وجب أن نقول: إن الشمس تجري، ولا يجوز أن نقول: إننا نحن الذين نجري، ولكن هي التي تجري بتقدير العزيز العليم.

2 -

ومن فوائدها: أن هذه الشمس التي هي دائمًا ودائبة لابد لها من منتهى لقوله: {لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} ويتفرع على هذا:

3 -

أن جميع الخلائق لها منتهى، فكل ما في الدنيا من خلائق له منتهى، وسوف يزول {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)}

(1)

.

4 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن هذه الشمس مقدرة تقديرًا بالغًا منظمًا لقوله: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)} ويشهد لهذا الواقع، فإن هذه الشمس منذ خلقها الله إلى أن تزول وهي في فلكها لا تتقدم ولا تتأخر عن السنة التي أمرها عز وجل أن تكون عليها، ولا ترتفع ولا تنخفض، حتَّى قيل: إنها لو تنخفض مقدار شعرة لأحرقت الأرض، ولو ارتفعت مقدار شعرة لجمدت الأرض، ولكن الله عز وجل جعلها على هذا التقدير البديع المحكم الذي لا يتغير {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)} .

5 -

ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات اسمين من أسماء الله وهما العزيز العليم، ويؤخذ منهما: إثبات صفتين تتضمنهما وهما العزة والعلم، ويؤخذ منهما أيضًا: إثبات الأثر، أو الحكم وهو أنَّه غالب لكل أحد، وعليم بكل شيء.

* * *

(1)

سورة إبراهيم، الآية:48.

ص: 140

قال الله عز وجل: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)} يقول المؤلف رحمه الله: [القمر بالرفع، والنصب]، ففيه وجهان في الإعراب: القمرُ بالرفع على أنَّه مبتدأ، وخبره {قَدَّرْنَاهُ} . والقمرَ بالنصب على أنَّه مفعول به لفعل محذوف يفسره المذكور، فيكون من باب الاشتغال، وهنا يتساوى الرفع والنصب في الرجحان؛ لأن الجملة التي قبله {وَالشَّمْسُ تَجْرِي} جملة اسمية، خبرها فعل، فلهذا جاز في القمر الوجهان، والمعروف أنَّه يترجح الرفع إذا عطف المشغول عنه على جملة اسمية، ويترجح النصب إذا عطف على جملة فعلية. قال المؤلف [وهو منصوب بفعل يفسره ما بعده] يعني يفسره المذكور والتقدير على هذا:(وقدرنا القمر منازل) ولا حاجة أن نقول كما يقول بعض الناس: التقدير وقدرنا القمر قدرناه؛ لأنه لا يجمع بين المفسِّر والمفسَّر، فإذا أردت أن تقدر فقل: التقدير (وقدرنا القمر منازل).

فإذا قلت: لماذا لم يقل عز وجل (وقدرنا القمر منازل).

قلنا: لأنه إذا أتى بالجملة الاسمية التي خبرها فعل صار كأنه أسند هذا إليه مرتين، أي: أسند الفعل الذي هو التقدير إلى القمر مرتين مرة بذكره اسمًا ظاهرًا، ومرة بذكره اسمًا مضمرًا {قَدَّرْنَاهُ} قال تعالى:{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ} وتقدير الله عز وجل للقمر منازل، لأنه بهذا التقدير يمكن أن يأتي على هذا الوجه الذي نشاهده، يتغير كل ليلة عن الأخرى، ولولا هذا التقدير ما تغير، لكنه مقدر منازل ثمانية وعشرين منزلًا، على حسب النجوم

ص: 141

المعروفة عند العرب، فكل ليلة ينزل منزلة، ويبقى ليلة واحدة إن كان تسعًا وعشرين ليلة، أو ليلتان إن كان ثلاثين، وتسمى هاتان الليلتان ليالي الاستسرار - يعني الاختفاء - يختفي فيها القمر، إما في أول الشهر التالي أو في آخر الشهر السابق، ومن أراد التفصيل العلمي فليقرأ ما كتبه أهل العلم في ذلك، ولا سيما في عصرنا هذا، فإنهم اطلعوا على أشياء عجيبة في هذا التقدير، والقمر قدره الله منازل كل يوم منزلة فهو يختلف كل ليلة عن الأخرى، ولهذا يبدو صغيرًا، ثم يكبر، ثم يعود ويصغر، بحسب قربه من الشمس، كلما قرب من الشمس ضعف نوره، لأن نور القمر مستمد من نور الشمس، هو نفسه ليس به إضاءة، جرم مظلم كما قال تعالى:{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً}

(1)

فهو جرم مظلم لا يستفيد نورًا إلَّا بغيره، فإذا قابل الشمس حصل فيه النور، وكلما أبعد عنها كثرت المقابلة؛ لأن السير كروي، فكلما قرب ضعفت المقابلة، فإذا ارتفع زادت المقابلة، ولهذا يمتلئ نورًا فيما إذا كان في المشرق، والشمس في المغرب لتمام المقابلة حينئذ، فيمتلئ نورًا، والجزء المنيِّر من القمر هو الذي يلي الشمس، ولهذا تجده في أيام الشتاء إذا كانت الشمس خلفه تكون فتحة قوسه نحو المشرق، وفي أيام الصيف تكون فتحة قوسه نحو الجنوب، لأن الشمس تكون عنه شمالًا، ويكون عنها جنوبًا فنجد فتحته نحو الجنوب، ولهذا يغلط بعض الناس الذي يظن أن اتجاه فتحة القمر - أي فتحة

(1)

سورة الإسراء، الآية:12.

ص: 142

قوسه - دائمًا إلى المشرق، أو الجنوب، هذا ليس بصواب، وإذا أردت أن تعرف هذا فتدبره {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)} أي: عاد القمر بعد تقدير هذه المنازل كالعرجون القديم، والعرجون هو: أصل الشماريخ الذي في طلع النخل، وهو إذا يبس يتقوس ويصفر، فشبه الله عز وجل القمر في رؤية العين بهذا العرجون القديم، أي: أنَّه يبدو دقيقًا أصفرًا متقوسًا.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية الكريمة: أن هذا القمر آية من آيات الله عز وجل، حيث هو موضوع في فلكه، ومع ذلك له منازل ينزلها كل ليلة، فليس مطلقًا ولكنه مقدر بمنازل ينزلها كل ليلة، والحكمة من هذه المنازل هي أن يعرف الناس عدد السنين والحساب كما قال الله تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}

(1)

حتَّى إن العالمين بمنازل القمر يعرفون الليلة من الشهر وإن كانوا لم يحسبوا من أول الأمر، بناء على معرفة المنازل، لأن هذه المنازل لا تتغير، وحلول القمر فيها أيضًا لا يتغير، فهي منظمة من عند الله عز وجل.

2 -

ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات القياس لقوله: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)} وكل تشبيه، أو مثل في القرآن الكريم فإنه يدل على القياس، لأن التشبيه، أو المثل إلحاق شيء بشيء لعلة، وهي التي تسمى في البلاغة وجه الشبه.

(1)

سورة يونس، الآية:5.

ص: 143

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: إطلاق القديم على غير الله خلافًا للمتفلسفة، أو الفلاسفة الذين يقولون: إن أخص وصف الله هو القدم. وهذا خطأ، فلو كان هذا أخص وصف الله لم يوصف به سوى الله، والقدم لا يدل على الأزلية، فهذا العرجون وصفه الله بأنه قديم ومع ذلك فإنه ليس أزليًّا، إذ إنه حادث بعد أن لم يكن، وبه يتبين بطلان قول هؤلاء الذين يقولون: إن أخص وصف الله عز وجل هو القدم. ولو قالوا: أخص وصف هو الأولية، لكنا نوافقهم على ما قالوا؛ لأن الله هو الأول الذي ليس قبله شيء، أما أن نقول: إن القدم أخص وصف الله مع أنَّه يوصف به الحادث فهذا لا يكون، ولا يصح.

4 -

ومن فوائد الآية الكريمة: فيها دليل على قدرة الله من حيث نور القمر، حيث يبتدئ ضعيفًا، ثم يزداد في القوة، ثم يرجع إلى الضعف، فإن هذا من قدرة الله عز وجل، إذ لو شاء لجعله ممتلئًا دائمًا، أو ناقصًا دائمًا.

5 -

وفيها أيضًا من الفوائد: الإشارة إلى حال الإنسان، فإن الإنسان إذا تدبر القمر وجد أنَّه مطابق لحال الإنسان، كما قال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً}

(1)

فحال الإنسان مساوية تمامًا لحال القمر، فالقمر يبدو ضعيفًا، ثم يزداد في القوة حتَّى إذا تكامل في القوة أخذ في النقص، وهكذا الإنسان بالنسبة لحياته.

* * *

(1)

سورة الروم، الآية:54.

ص: 144

{لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)} لما ذكر الله عز وجل أن الشمس تجري لمستقر لها، وأن هذا أمر مقدر من قبل العزيز العليم، وأن الله تعالى قدر القمر منازل ينزلها منزلة منزلة حتَّى يعود بعد امتلائه نورًا فيصير كالعرجون القديم، بين أن هذا النظام لا يمكن أن يتصادم أبدًا؛ لأنه مقدر من عند الله عز وجل العزيز العليم. منازل لا يتجاوزها ولا يتعداها، قال:{لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} يقول المؤلف: [يسهل ويصح]، لكن الأولى أن نقول: بمعنى يمكن، أي: لا يمكن للشمس أن تدرك القمر. وقد مر علينا أنَّه إذا جاءت كلمة (لا ينبغي) في القرآن فالمعنى الممتنع غاية الامتناع. كقوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)}

(1)

يعني أن ذلك مستحيل، وقال النبي عليه أفضل الصلاة والسلام:"إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام"

(2)

، أي أن ذلك مستحيل. {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي} أصلها:(الشمس لا ينبغي لها)، ولكن قدم النفي ليكون المنفي الجملة الاسمية كلها، فقال:{لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} يعني: لا يمكن أن تدرك القمر فتجتمع معه في الليل، فإذا غابت لا يمكن أن تخرج في زمن الليل فإذا قدرنا أنَّها تغيب في الساعة الثانية عشرة، وتخرج الساعة الثانية عشرة، فبين غروبها وطلوعها اثنتا عشرة ساعة، لا يمكن أن تطلع في الساعة

(1)

سورة مريم، الآية:92.

(2)

أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب في قوله:"إن الله لا ينام"(179).

ص: 145

الثامنة، فيكون بين غروبها وطلوعها ثمان ساعات، لأن هذا خلاف التقدير الذي قدره الله عز وجل لها، والذي جعلها تسير عليه لتمام قدرة الله تعالى، ونظام هذا الكون، وأنه لا يمكن أن يختلف أو يضطرب، لكن إذا جاء يوم القيامة فإنه يُجمع الشمس والقمر ويختل نظام الفلك، بل كل النظام يختلف {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)}

(1)

.

{وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} أي: الليل لا يسبق النهار، بل لا يأتي إلَّا بعده، وهنا قال:{وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} كان اليل هو الذي يمكن أن يسبق النهار، فنفى الله عز وجل أن يسبق الليل النهار، قيل: المراد أن الليل لا يأتي قبل انتهاء النهار، فيكون الله عز وجل ذكر الشروق في قوله:{لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} يعني لا يمكن للشمس أن تطلع في الليل {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} أي لا يمكن لليل أن يأتي في زمن النهار، فإذا قدرنا أن الشمس تغرب الساعة الثانية عشرة، فلا يمكن أن تغرب الساعة التاسعة مثلًا؛ لأنها لو غربت الساعة التاسعة لسبق الليل النهار ولو في بعض أجزائه.

وقيل: المعنى {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} أي: لا الليل يحل محل النهار فيتوالى ليلتان سواءً.

والمعنى صحيح على كلا القولين، فلا يمكن لليل أن يأتي وقد بقي شيء من النهار، ولا يمكن أن يأتي الليل كله في مكان النهار؛ لأن هذا ينافي تقدير الله عز وجل الذي سمى نفسه بأنه

(1)

سورة إبراهيم، الآية:48.

ص: 146

العزيز العليم. قال: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)} (كل) قال المؤلف: [تنويه عوض عن المضاف إليه من الشمس والقمر والنجوم، {فِي فَلَكٍ} مستدير {يَسْبَحُونَ (40)} يسيرون، نزلوا منزلة العقلاء، ذكر المؤلف النجوم، والنجوم في الآية غير مذكورة، فالصواب من الشمس والقمر، والمعنى: كل من الشمس والقمر، والليل والنهار يسبح في فلكه، والفلك هو الشيء المستدير، ومنه (فلكة المغزل) للشيء المستدير في أعلاه، والذي تغزل به النساء الصوف، له شيء شبه الطار في أعلاه مستدير هذا فلكة المغزل. فالفلك المستدير تدور فيه الشمس والقمر، والليل والنهار، وقوله: {يَسْبَحُونَ (40)} قال المؤلف: [يسيرون] ولكن المعنى أدق مما قال المؤلف رحمه الله لأن السبح هو العوم في الماء، فكأن هذه عائمة في الفلك الواسع، تدور وليست تسير على أرض مسطحة، أو على ماء، بل هي تعوم في هذا الأفق. وقول المؤلف:[يسيرون نزلوا منزلة العقلاء] أى: الشمس والقمر والليل والنهار نزلوا (منزلة العقلاء) وذلك بأن أتي بالواو التي هي للعقلاء، فالواو ضمير جمع لا تأتي إلَّا للعقلاء، وغير العقلاء إذا أردنا أن نضيف إليهم شيئًا على سبيل الجمع نأتي بنون النسوة، والعقلاء نأتي بالواو، أو الميم، فنقول مثلًا: الإبل ركبهن أربابهن، ولا تقول: الإبل ركبهم أربابهم. لأن الميم للعاقل، وتقول: الإبل شربن ولا تقول شربوا، لأن الواو للعاقل، وهنا {يَسْبَحُونَ (40)} أتى بالواو التي للعاقل يقول المؤلف:(إنها نزلت منزلة العقلاء) بإضافة السبح

ص: 147

والجريان إليها، والجريان والسبح إنما يكون من ذي الإرادة والعقل.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية الكريمة: في الآية دليل على أن سنة الله عز وجل لا تتغير هذا هو الأصل كما قال تعالى: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}

(1)

{وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)}

(2)

فسنة الله سبحانه وتعالى لا تتغير في الكون، ولكن هل هي سنة لازمة بحيث يمتنع على الله أن يغيرها؛ الجواب: لا، ولكن الله تعالى أخبرنا بأن هذه السنة لا تتغير، لكنها تتغير بتغيره ولهذا حبست الشمس ليوشع بن نون كلما جاء في الأحاديث الصحيحة

(3)

، ولهذا أيضًا إذا كان قرب الساعة فإنها تخرج من مغربها، ولهذا انشق القمر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصار فرقتين

(4)

، فهذه السنن الكونية لا تتبدل ولا تتغير، ولكن الله قادر على أن يبدلها، أو يغيرها ويكون هذ السبب.

2 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن الشمس لا يمكن أن تخرج ليلًا بحسب السنة الإلهية، أما بحسب قدرة الله تعالى فإنه يمكن أن تخرج ليلًا؛ لأن الله يقول:(كن) فيكون.

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن الليل لا يسبق النهار فلا

(1)

سورة الأحزاب، الآية:62.

(2)

سورة فاطر، الآية:43.

(3)

أخرجه مسلم، كتاب الجهاد، باب تحليل الغنائم لهذه الأمة خاصة (1747).

(4)

أخرجه البخاري، كتاب المناقب، . باب سؤال المشركين

فأراهم انشقاق القمر (3636) ومسلم، كتاب صفات المنافقين، باب انشقاق القمر (2800).

ص: 148

يدخل عليه، ولا يتقدمه بحيث تتوالى ليلتان جميعًا {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} هذا ما يظهر لنا من الآية الكريمة، وقد يكون لها معنى غير ما نفهمه من ظاهرها، ولهذا ربما يكون الذين يدرسون في علم الفلك يتبين لهم من هذا التعبير أكثر مما تبين لنا.

4 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن الشمس والقمر والليل والنهار في فلك، يعني في شيء مستدير كفلكة المغزل، وأنها تدور لقوله:{وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)}

5 -

ومن فوائدها: ضعف قول من يقول: (إن الشمس في السماء الرابعة، والقمر في السماء الدنيا)، فيجعلون الكواكب والشمس والقمر، كواكب معينة في كل سماء كوكب على هذا الترتيب من الأعلى للأدنى: زحل، المشتري، المريخ، الشمس، الزهرة، عطارد، القمر، هذه سبعة يقولون كل واحد في سماء (زحل) هو أعلاها في السماء السابعة - على كلام السابقين من علماء الفلك - (المشتري) في السماء السادسة، (المريخ) في السماء الخامسة. (الشمس) في السماء الرابعة، (الزهرة) في السماء الثالثة. (عطارد) في السماء الثانية. (القمر) في السماء الدنيا كما قيل:

زحل شرى مريخه من شمسه

فتزاهرت بعطارد الأقمار

فهذا البيت فيه ترتيب هذه الكواكب، وهذا الترتيب لا نعلمه من كتاب الله، ولا من سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ونحن نعرف إن هذه الكواكب بعضها فوق بعض بالكسوف، فإذا كان القمر يكسف الشمس عرفنا أنَّه تحتها، كما نعرف أن الغيم

ص: 149

تحت الشمس؛ لأنه يحجبها، فإذا كسف القمر شيئًا من النجوم عرفنا أن القمر تحتها، ولهذا القمر يكسف كل النجوم، والشمس، ولا شيء يكسفه منهما إلَّا الأرض، لأن الأرض تحته فتحجب نور الشمس عنه، فحينئذ ينكسف القمر، وقد شاهدت أنا وغيري أن القمر يكسف بعض النجوم تجري يسير حولها، ثم يغطيها، وهذا يدل على أن القمر نازل عن علو هذه الكواكب.

6 -

ومن فوائد الآية الكريمة: الرد على قول من يقول: (إن الشمس ثابتة وأنها لا تدور)، والعجب أنهم يقولون: إنها ثابتة، وأن القمر يدور على الأرض. وهذا غلط، لأن الله سبحانه وتعالى جعل الحكم واحدًا، قال:{وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)} فإذا فسرنا السبح بالدوران، وأثبتنا ذلك للقمر فلنثبته أيضًا للشمس.

* * *

{وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41)} قال المؤلف رحمه الله: [{وَآيَةٌ لَهُمْ} على قدرتنا {أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} وفي قراءة {ذرياتهم} أي آباءهم الأصول في {الْفُلْكِ} أي سفينة نوح عليه السلام {الْمَشْحُونِ (41)} المملوء].

قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ} أي: للناس جميعًا، يقول المؤلف: آية على قدرتنا، ونحن نسلم بذلك، لكن فيه أيضًا آية على شيء آخر، وهو رحمة الله عز وجل بالخلق ونعمته علينا، فالآية لنا دالة على قدرة الله ورحمته وفضله علينا بهذا الفلك، الذي سخره الله عز وجل يجري في البحر يحمل الأرزاق من جهة إلى جهة، ويحمل الناس، ويحمل المواشي، ويحمل كل ما فيه

ص: 150

مصلحتنا، فهو من الآيات الدالة على قدرة الله عز وجل، وعلى رحمته، وقوله:{أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} [يس: 41] هذه الجملة في تأويل مصدر هي المبتدأ يعني (وآية لهم حملنا ذريتهم) قال المؤلف: {ذُرِّيَّتَهُمْ} [أي: آباءهم الأصول]، فجعل المراد بالذرية هنا الأصول، يعني الآباء، مع أن المعروف في اللغة العربية، أن الذرية هم الفروع وليسوا الآباء، كما قال الله تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ}

(1)

والمؤلف رحمه الله ومن ذهب مذهبه في تفسير الآية يقول: إن الذرية لفظ مشترك بين الأصول والفروع؛ لأنها مأخوذة من ذرا، والذر كائن للأصول والفروع، ثم يقولون أيضًا: إن سياق الآية يدل على ذلك {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} لأن ذريتهم الصغار الموجودون معهم إذا حملوا هم، فسيحملون معهم في الفلك، وإن كان المراد بالذرية من يأتي فيما بعد، فكيف يكون ذلك آية وهي غير مشهودة لهم؟ إذن يتعين أن يكون المراد بالذرية الأصول، لأن الصغار المشهودون حملهم حمل لآبائهم؛ لأن الغالب أنهم لا يحملون إلا مع آبائهم، والصغار غير المشهودين، الذين يأتون فيما بعد، لا يكونون آية لمن لم يشاهدها، فتعين أن يكون المراد بالذرية الآباء.

وهذا الذي ذهب إليه المؤلف -رحمه الله تعالى- يوافق ظاهر الآية، لكنه يخالف ما كان معهودًا في اللغة العربية من أن الذرية هم الفروع، ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أن المراد

(1)

سورة الحديد، الآية:26.

ص: 151

بالضمير هنا الجنس لا العين، والمعنى {ذُرِّيَّتَهُمْ} أي: ذرية جنسهم، كنوح عليه الصلاة والسلام، من جنسنا آدمي بشر، فحمل الله ذريته في الفلك المشحون، قالوا: وهذا لا يمتنع في اللغة العربية، قال الله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13)}

(1)

{جَعَلْنَاهُ} أي: جنس الإنسان وليس عينه؛ لأن الذي جعل نطفة ليس آدم الذي خلق من سلالة من طين، ولا يمكن أن يكون نطفة في قرار مكين، بل غيره بلا شك، فالضمير عاد إلى آدم باعتبار الجنس، فليعد الضمير في قوله:{ذُرِّيَّتَهُمْ} إلى الموجودين باعتبار الجنس، فمن هو الجنس؟ قالوا: هو نوح؛ لأنه بشر وآدمي، وذريته هي المحمولة، فيكون المعنى: أن خلقنا ذريتهم، أي: ذرية جنسهم، وهو نوح عليه الصلاة والسلام حملت ذريته في الفلك المشحون، وخلق لهم من مثله ما يركبون، وهذا قريب جدًّا ولا يخالف ظاهر الآية، ويشير إلى أن هذه السفينة جعلت آية لمن بعد نوح عليه الصلاة والسلام يعتبرون بها ويصنعون مثلها قوله تعالى في سورة القمر:{وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)}

(2)

. فالمراد بالذرية هنا ذرية نوح عليه الصلاة والسلام، وأضيفت إلى هؤلاء باعتبار الجنس يعني (حملنا الذرية من جنسهم في الفلك المشحون).

وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس ولا يأباه السياق.

{فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41)} أي: سفينة نوح فـ (ال) هنا للعهد

(1)

سورة المؤمنون، الآيتان: 12، 13.

(2)

سورة القمر، الآية:15.

ص: 152

الذهني؛ لأنه لم يسبق لها ذكر، وليست للاستغراق؛ لأن المراد بها الفلك واحد، فتكون (ال) هنا للعهد الذهني، يعني: في الفلك المعهود في أذهانكم، وهو الذي قال الله تعالى لنوح:{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا}

(1)

والفلك يطلق على الجمع، ويطلق على المفرد، فمن إطلاقه على المفرد هذه الآية، وعلى الجمع مثل قوله تعالى:{حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ}

(2)

أي: الفلك، وهذا الضمير ضمير جمع، ولا يعود للمفرد، ولهذا قال بعض الفقهاء رحمهم الله (إن الأحدب الذي حدبته كالركوع ينوي الركوع، وهذا كفلك في العربية) لا يدري هل هو جمع، أو مفرد إلا بالنية، فالأحدب المقوس الظهر يركع بالنية ينوي الركوع، لأنه ما زال راكعًا أحدب، {الْمَشْحُونِ} أي: المملوء بأناس من البشر الذي آمنوا مع نوح وما آمن معه إلا قليل، مملوء ببقية الحيوانات؛ لأن الله قال فيه:{قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}

(3)

.

الفوائد:

في الآية الكريمة من الفوائد:

1 -

بيان ما في إنقاذ البشرية من الغرق في زمن نوح عليه الصلاة والسلام، فإنه لولا أن الله أبقى هؤلاء لزالت البشرية من الأرض، لكن الله تعالى أبقى نوحًا عليه الصلاة والسلام ومن

(1)

سورة المؤمنون، الآية:27.

(2)

سورة يونس، الآية:22.

(3)

سورة هود، الآية:40.

ص: 153

معه، ومع هذا لم يبق من نسل الذين معه أحد، وإنما الذين بقوا هم نسل نوح عليه الصلاة والسلام فقط، كما قال تعالى:{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77)}

(1)

أما غيرهم فلم يبق منهم أحد، ولهذا يسمى نوحًا أبا البشر الثاني.

2 -

من فوائد الآية الكريمة: بيان نعمة الله عز وجل بما أنعم على هؤلاء بتعليم السفن التي يركبونها في البحر، لولا هذه السفن ما استطاع أحد أن يعبر من يابسة إلى أخرى بينهما ماء، ولكن الله تعالى أعلمهم بصناعة هذه حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه.

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن السفينة التي كان فيها نوح عليه الصلاة والسلام كانت مملوءة من البشر وغيرهم لقوله: {الْمَشْحُونِ (41)} .

* * *

وقوله: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42)} قال المؤلف رحمه الله: [أي: مثل فلك نوح، وهو ما عملوه على شكله من السفن الصغار والكبار بتعليم الله تعالى {يَرْكَبُونَ (42)} فيه] يذكرهم الله عز وجل:

أولًا: بحمل آبائهم السابقين الذين هم ذرية نوح عليه الصلاة والسلام.

وثانيًا: بأن الله تعالى خلق لهم من مثل هذه الفلك ما يركبون، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)}

(2)

(1)

سورة الصافات، الآية:77.

(2)

سورة القمر، الآية:15.

ص: 154

فالناس تعلموا كيف يصنعون السفن، وصاروا يصنعون مثل هذه السفن، ولعل قوله تعالى في سورة القمر:{وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13)}

(1)

فيها الإشارة إلى مواد هذه السفينة، أو الفلك لأجل أن يتعلم الناس، لأنه لم يقل (حملناه على فلك) بل قال:{عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} كأنه يقول: إن هذه الفلك مصنوعة من الألواح والمسامير، حتى يتعلم الناس مواد هذه الفلك. {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42)} {مِنْ مِثْلِهِ} المراد بمثله هنا الجنس، وليس المراد المماثلة من كل وجه، وذلك لأن المماثلة من كل وجه قد تكون متعذرة، لكن يكفي الجنس، أما النوع فيختلف باختلاف الأعصار، فلكل عصر نوع سفنه، وما زالت ترتقي السفن في البحار إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه في عهدنا الحاضر، قال المؤلف -رحمه الله تعالى-:[بتعليم الله تعالى] إشارة إلى سؤال مقدر كأنه قال: كيف قال الله {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ} ؟ وهذه السفن مصنوعة بأيدي البشر وليست بخلق الله كخلق البعير التي نركب والفرس وما شابهها؟ فأجاب المؤلف: بأن الله تعالى أضاف خلقها إليه لأنها كانت بتعليمه سبحانه وتعالى.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية الكريمة: أن المماثلة قد لا تقتضي المساواة من كل وجه، لقوله:{مِنْ مِثْلِهِ} وليست السفن الموجودة والتي كانت في عهد نزول القرآن ليست كمثل سفينة نوح من كل وجه، ويدل على أن المماثلة قد لا تقتضي المساواة

(1)

سورة القمر، الآية:13.

ص: 155

من كل وجه قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}

(1)

فإن المراد هنا المماثلة في العدد فقط، وإلا فإن بين السماء والأرض من الفروق العظيمة ما هو ظاهر.

2 -

ومن فوائد الآية الكريمة: الإشارة إلى الراحة الحاصلة بهذه السفن، وأنها محل ركوب واستقرار لقوله:{مَا يَرْكَبُونَ (42)} .

3 -

وفيها أيضًا: بيان نعمة الله سبحانه وتعالى باستقرار الراكبين على هذه السفن.

* * *

{وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)} في الآية جملة شرطية فعل الشرط فيها {نَشَأْ} وجوابه {نُغْرِقْهُمْ} وفيها أيضًا استثناء مفرغ من أعم الأحوال وهو قوله: {إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا} وهي مفعول من أجله أي: إلا لأجل الرحمة التي من الله عز وجل، يقول الله عز وجل:{وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ} يعني إذا ركبوا السفن، والأمر كذلك قال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34)}

(2)

.

فحذر الله عز وجل من أمرين في هذه السفن: إما إسكان الريح فتبقى راكدة على ظهرها، وإما أن يغرقها وهنا يقول: {وَإِنْ نَشَأْ

(1)

سورة الطلاق، الآية:12.

(2)

سورة الشورى، الآيات: 32، 34.

ص: 156

نُغْرِقْهُمْ} وهم في سفنهم {فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ} الصريخ بمعنى المغيث، وسمي المغيث صريخًا؛ لأن عادة الإنسان إذا هاجمه أحد صرخ يستغيث، ومنه حديث غزوة بدر أن أبا سفيان بعث صارخًا إلى أهل مكة يستغيثهم {وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43)} أي: لا أحد يغيثهم، ولا أحد ينقذهم إذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يغرقهم {إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)} أي لا ينجيهم أحد إلا رحمة الله عز وجل، والاستثناء هنا قيل: إنه منقطع؛ لأن قوله: {وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا} بمعنى: لكن رحمة منا ينجون وينقذون، وقوله:{وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)} أي أنهم يمتعون إلى حين أجلهم؛ لأن الله تعالى جعل لكل شيء قدرًا، أي لا ينجيهم إلا رحمتنا لهم، وتمتيعنا إياهم بلذاتهم إلى انقضاءآجالهم.

الفوائد:

في الآيتين الكريمتين فوائد:

1 -

منها: إثبات مشيئة الله عز وجل لقوله تعالى: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ} .

2 -

ومنها: أن الله إذا أراد بقوم سوءًا فلا مرد له، لقوله:{فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43)} .

3 -

ومنها: بيان نعمة الله سبحانه وتعالى بإنجائهم من الغرق، وأن نجاتهم من الغرق ليست بكسبهم وعملهم، ولكنها من رحمة الله عز وجل.

4 -

ومنها: إثبات رحمة الله عز وجل لقوله: {إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا} .

ص: 157

5 -

ومنها: أن الله تعالى قد ينقذ الإنسان من الهلاك إلى أن يأتي أجله، لقوله تعالى:{وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)} .

6 -

ومنها: أن الخلود في هذه الدنيا متعذر، ومستحيل لقوله تعالى:{إِلَى حِينٍ (44)} وما كان له غاية فلابد أن ينقضي.

7 -

ومنها: أنه يجب على الإنسان أن ينظر إلى نعم الله تعالى بالإنقاذ من الشدائد، أو بحصول المحبوب أن ينظر إلى النعم على أنها فضل من الله عز وجل وليست بكسبه، ولكنها من الله لقوله:{وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ} .

* * *

ثم قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45)} قال المؤلف: [من عذاب هم الدنيا كغيرهم {وَمَا خَلْفَكُمْ} من عذاب الآخرة {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45)} أعرضوا]، قوله:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ} هذه الجملة شرطية، فعل الشرط فيها {قِيلَ} وجوابه محذوف، قدره المؤلف بقوله:(أعرضوا) وهذا التقدير لا شك أنه التماس من المؤلف رحمه الله وإلا فقد يكون الأمر أوسع مما قال المؤلف، وحذف مثل هذا فيه من البلاغة أن الذهن يقدر كل ما يمكن أن يقدره مما يترتب على هذا القول، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن الناس إذا قيل لهم:{اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ} تختلف إجاباتهم منهم من يعرض ويسكت، ومنهم من يستكبر ويسب، ومنهم من يقاتل: إلى غير ذلك من الأمور التي لا تخفى، فكان في حذف هذا من البلاغة ما هو ظاهر ليذهب الذهن كل مذهب في تقدير هذا المحذوف،

ص: 158

وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ} القائل هنا مبهم، لأن الفعل مبني للمجهول، ليشمل أي واحد يقول، سواء كان من قول الله عز وجل في كتابه، أو كان من قول الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته، أو كان من قول الدعاة بعد ذلك {لَهُمُ اتَّقُوا} أي: الكفار. {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} قال المؤلف: [من عذاب همّ الدنيا] ولكن الهم ليس هو العذاب فقط، فإن الله سبحانه وتعالى قد يعذب الكافر في الدنيا كما عذب الأمم السابقة، وكما عذب هذه الأمة أيضًا لكن عذاب هذه الأمة يكون بابتلاء بعضهم ببعض {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ}

(1)

{يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)}

(2)

كانت هذه في غزوة بدر حين قتل صناديد قريش، فسماها الله سبحانه وتعالى البطشة الكبرى، أما الأمم السابقة فعقوباتهم معروفة، فهنا {اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} من عذاب الدنيا العذاب المتنوع، سواء كان بأيدي المؤمنين، أو كان من فعل الله عز وجل، كالقحط والزلازل والغرق وغير ذلك {وَمَا خَلْفَكُمْ} من أمر الآخرة، وعذاب الآخرة أشق، وأشد، وأبقى.

قد يقول قائل: لو كان الأمر في التفسير بالعكس لكان أقرب إلى الصواب، {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} أي: من عذاب الآخرة؛ لأنه مستقبل {وَمَا خَلْفَكُمْ} أي: من عذاب الدنيا؛ لأن الدنيا هي التي يخلفها الإنسان وراءه.

ولكن يجاب عن هذا: بأن الذي بين أيديهم حقيقة هي

(1)

سورة محمد، الآية:4.

(2)

سورة الدخان، الآية:16.

ص: 159

الدنيا، وأما خلفهم فإن الخلف هو الوراء قد يطلق بمعنى الأمام، ومنه قوله تعالى:{وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)}

(1)

قال العلماء: معناه: أمامهم. وكقوله تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)}

(2)

أي: من أمامه.

وقيل: المراد بـ {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} المعاصي التي في مستقبلهم ويخشى أن يفعلوها {وَمَا خَلْفَكُمْ} المعاصي الماضية فيجعلون المراد بما بين أيديهم وما خلفهم من الأعمال لا من عذاب الله، وقد سبق أن قلنا: إن الآية إذا كانت تحتمل المعاني المقولة فيها بدون تعارض فإنها تحمل على الجميع. وقوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45)} لعل هنا للتعليل، أي: لأجل أن يرحمهم الله عز وجل إذا قيل لهم هذا الشيء، فجمع لهم بين الترغيب والترهيب، الترغيب بقوله:{لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45)} والترهيب في قوله: {اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُم} فهؤلاء جمع لهم بين الترغيب والترهيب ومع ذلك لا يستجيبون، بل يعرضون ويستكبرون ويسخرون، ويقولون: هذا أساطير الأولين، وما أشبه ذلك مما هو معروف عن هؤلاء إذا دعوا إلى الله تعالى.

الفوائد:

في هذه الآية الكريمة من الفوائد:

1 -

أن هؤلاء الكفار قد أقيمت عليهم الحجة وبلغتهم الدعوة ووعظوا، ولكن لم ينفعهم ذلك لقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ

(1)

سورة الكهف، الآية:79.

(2)

سورة إبراهيم، الآية:17.

ص: 160

لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ}.

2 -

ومن فوائدها: أن الإنسان إذا أعرض عن دين الله واستكبر كان عرضة للعذاب إما في الدنيا، أو في الآخرة، أو في الدنيا والآخرة لقوله تعالى:{اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ} .

3 -

ومن فوائدها: أن الإقبال إلى الله عز وجل، واجتناب معصيته سبب للرحمة لقوله:{لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} .

4 -

ومن فوائدها أيضًا: إثبات العلل والأسباب لقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ} فإن لعل هذا للتعليل، ولا أحد ينكر أن للأسباب تأثيرًا إلا من صرف عن مقتضى الفطرة، والناس اختلفوا في الأسباب والعلل على ثلاثة أقوال:

فمنهم من قال: إن الأسباب والعلل مؤثرة بذاتها، وأنه لابد لكل سبب من تأثيره في مسببه، ولابد في كل علة من تأثيرها في معلولها.

ومنهم من قال: إنه لا تأثير للعلل والأسباب، وإنما هي علامات وإمارات فقط، فإذا وجد المسبب أو المعلول لم يقولوا: إن ذلك من أجل السبب أو العلة، ولكن يقولون: إن ذلك حصل عنده لا به. ولا ريب أن هؤلاء يخالفون المنقول والمعقول. ولا أحد يوافقهم على ما ذهبوا إليه.

القول الثالث الوسط يقولون: إن الأسباب والعلل تأثر في معلولاتها ومسبباتها، ولكن بجعل الله ذلك فيها، فهي ليست مؤثرة بنفسها بل بما أودعه الله تعالى فيها من الأمر الموجب للسبب، أو للمعلول. وهذا القول هو المتعين، وهو الصواب؛

ص: 161

بدليل أن الله تعالى قد يسلب هذه العلة، أو هذا السبب التأثير فلا يبقى له تأثير إطلاقًا، وما قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام بغريبة حيث ألقي في نار تتأجج فقال الله عز وجل لهذه النار:{كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)}

(1)

فكانت بردًا وسلامًا، مع أنها هي سبب للإحراق، ولكنها صارت بردًا وسلامًا على إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهذا يدل على أن الأسباب والعلل إنما تؤثر بإرادة الله عز وجل وجعل هذه العلة أو السبب مؤثرًا.

5 -

ومن فوائد هذه الآية: إثبات رحمة الله عز وجل، وهي من الصفات الذاتية الفعلية، فهي من الصفات الذاتية لأن الله لم يزل رحيمًا بعباده ولا يزال، ومن الصفات الفعلية باعتبار تعلقها بالمرحوم، فإنها تتجدد باعتبار المرحوم، لا باعتبار أنها صفة من صفات الله، فهذا الذي رحمه الله من البشر حادث بعد أن لم يكن فتعلقت به الرحمة، ولا يخفى ما ذهب إليه الأشاعرة من إنكارهم الرحمة على وجه الحقيقة، وادعائهم أنه يراد بها الإحسان، أو إرادة الإحسان. ففسروها بالإرادة، لأنهم يثبتون أن لله تعالى الإرادة، وبالإحسان، لأنه مخلوق منفصل ليس من صفات الله، وهذا بلا شك قول باطل، وقد مر علينا بيان تعليلهم لإنكاره والرد عليهم. قالوا: إن الرحمة تقتضي رقة ولينًا وضعفًا، وهذا لا يليق بالله عز وجل، وأيضًا الرحمة لا يدل عليها العقل، ونحن لا نثبت من الصفات إلا ما دل عليه العقل، وقد بينا أن هذا القول ليس بالصواب:

(1)

سورة الأنبياء، الآية:69.

ص: 162

أولًا: أن الرحمة قد تقع من إنسان قوي، وذي سلطان ويوصف بالرحمة.

ثانيًا: ادعاؤهم أن العقل لا يدل عليها باطل، فإن العقل يدل عليها أكثر دلالة وأوضح دلالة من دلالة التخصيص على الإرادة، وقد مر علينا هذا كثيرًا.

* * *

{وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46)} {وَمَا تَأْتِيهِمْ} الضمير يعود هنا على المكذبين للرسل، {مِنْ} ، مهو هنا زائدة لفظًا، وزائدة في المعنى، أي: تعطيه معنى جديدًا، والمعنى الجديد تأكيد النفي والتنصيص على عمومه، أي: أي آية تأتيهم فإنهم لا يقبلونها، بل يعرضون عنها ويستكبرون، والآيات التي تأتي من الله عز وجل تنقسم إلى قسمين:

الأول: آيات كونية.

الثاني: آيات شرعية.

فالآيات الشرعية ما جاءت به الرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام، والإعراض عنها يكون بالتكذيب بالأخبار، والاستكبار عن الأحكام.

وأما الآيات الكونية فالإعراض عنها أنه لا يهتم بها، وأن لا تحرك منه ساكنًا، وأن لا يوجل منها قلبه، وأن يقول كالذين رأوا العذاب ينزل من السماء {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44)}

(1)

أو كالذين يقولون: إن الكسوف ليس أمرًا مخيفًا،

(1)

سورة الطور، الآية:44.

ص: 163

لأنه شيئًا طبيعيًّا، ولا ينبغي أن يخيف -نسأل الله العافية-، أو كالذين يرون الزلازل، والغرق، والدمار من الرياح العاتية وغيرها، ثم يقولون: هذا أمر طبيعي، ولا يحرك له ساكنًا، ولا ريب أن هذا يدل على قسوة القلوب وموتها، وإلا فإن الواجب على الإنسان أن يتعظ بهذه الآيات، فالإعراض عن الآيات الكونية معناه عدم المبالاة بها، وعدم الاكتراث بها، وأن لا تحرك من الإنسان ساكنًا، ولا تهز له عاطفة {إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46)} أي: إلا قابلوها بالإعراض، ولا يتأملونها، ولا يفكرون فيها، فإذا جاءت الآيات الشرعية في خبر كذبوها، وقالوا: هذا كذب، هذا سحر، هذا شعر، وإذا جاءت الأحكام الشرعية استكبروا عنها، ولم يذعنوا لها ولم ينقادوا لها بدون أن يتأملوا فيها وما فيها من المصالح، وكذلك في الآيات الكونية لا يكترثون بها ولا يهتمون بها.

الفوائد:

1 -

في هذه الآية دليل على أن الله عز وجل يذكر، أو يبين لعباده من الآيات ما يؤمن على مثله البشر، ووجه ذلك أنه لولا هذا لم يكن في الآيات فائدة.

2 -

من فوائدها: أن بني آدم قد يعتون عن الآيات فيعرضون عنها بدون نظر، والواجب على الإنسان أن ينظر أولًا، ثم يحكم ثانيًا، ولهذا يقال:(الحكم على الشيء فرع عن تصوره)، فانظر أولًا في الآيات هل هي آيات مقنعة، موجبة للصلاح، فلتكن صالحًا بها، هل هي لا تنفع، فحينئذ تعذر بالإعراض عنها.

ص: 164

3 -

من فوائد هذه الآية الكريمة: بيان قسوة قلوب هؤلاء، فإنهم لم يقبلوا آية من الآيات ودليله {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} .

4 -

ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات الربوبية العامة لقوله: {مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} . فأثبت الله تعالى أنه رب هؤلاء، وهو سبحانه وتعالى رب كل شيء {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ}

(1)

فكل شيء فالله ربه، حتى الكفار، وقد تكون الربوبية خاصة، أي: أنه يراد بها ربوبية خاصة، فيها مزيد عناية واعتناء، مثل قوله تعالى:{رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)}

(2)

فإن هذه الربوبية غير الربوبية العامة.

5 -

ومن فوائد الآية الكريمة: تقبيح حال هؤلاء والتحذير من فعلهم لقوله: {إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46)} مع أنها جاءت من ربهم الذي هو مالكهم، وخالقهم، وأمرهم إليه، ومع ذلك يعرضون.

* * *

قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)} {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} قال المؤلف: [أي قال فقراء الصحابة: أنفقوا علينا مما رزقكم الله من الأموال]، هكذا سار المؤلف في

(1)

سورة النمل، الآية:91.

(2)

سورة الأعراف، الآية:122.

ص: 165

تفسير الآية فجعل القائل هم الفقراء، وعلى هذا فتكون الآية في سؤال الفقراء من الأغنياء أن ينفقوا، أي: إذا جاء الفقراء يسألون الأغنياء أن ينفقوا تهكموا بهم، وقالوا: كيف نطعمكم، والله تعالى لم يشأ أن نطعمكم، ولو شاء أن نطعمكم لأعطيناكم بدون سؤال، هذا توجيه الآية على ما مشى عليه المؤلف رحمه الله.

لكن الذي ينبغي أن نجعل الآية عامة؛ لأنه أبهم فيها الفاعل، وإبهام الفاعل يراد به في بعض الأحيان التعميم، فـ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} أي: إذا قال لهم أحد من الناس، سواء كان الفقراء يسألونهم الإنفاق، أو كانوا الأغنياء يحثونهم على الإنفاق، لأن الأغنياء من الصحابة رضي الله عنهم مثلًا ينفقون فيحثون الأغنياء من الكفار على أن ينفقوا أيضًا، فالصواب أن نبقي الآية على إبهامها ليكون أعم، وقوله:{أَنْفِقُوا} الإنفاق بمعنى البذل والإعطاء وقوله: {مِمَّا رَزَقَكُمُ} أي مما أعطاكم الله، وفي قوله:{مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} دون قول: (أنفقوا من أموالكم) فيه تنبيه على أن هذا الذي بين أيديكم ليس من كسبكم في الواقع، ولكنه من رزق الله تعالى، فكان عليكم أن تنفقوا من هذا الذي رزقكم الله، لأن الله يأمركم به، فالذي أمركم بالإنفاق هو الذي أعطاكم هذا المال، فكيف تنكرون فضله وتستكبرون عن أمره فلا تنفقون؟ ! هذه هي الفائدة من قوله:{مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} فما كان الجواب: {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} قوله: {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا

} اللام هذا الأصح أن المراد بها الصلة، يعني قالوا قولًا يصل للذين آمنوا، والذين آمنوا هم

ص: 166

الذين قالوا لهم أنفقوا مما رزقكم الله {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا} قال المؤلف [استهزاء بهم] يحتمل ما ذكره المؤلف أنه استهزاء، ويحتمل أنه من باب الاحتجاج بالقدر عنادًا وتبجحًا يقولون:{أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} و {مَنْ} هنا بمعنى الذي، ويجوز أن تكون نكرة موصوفة، أي: نطعم أحدًا لو يشاء الله أطعمه من دوننا، أو أنطعم الذي لو يشاء الله أطعمهم، و {لَوْ} هنا حرف امتناع الامتناع، وشرطها قوله:{يَشَاءُ} وجوابها: {أَطْعَمَهُ} وقد أتت على خلاف الأكثر حيث حذفت اللام من الجواب، والأصل (من لو يشاء الله لأطعمه) فإن جواب (لو) إذا كان مثبتًا فالأكثر فيه إثبات اللام، وقد تحذف اللام، وقد اجتمِع الأمران في قوله تعالى:{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65)} ثم قال: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)}

(1)

فأتت اللام في جواب (لو) في الآية السابقة، وحذفت من الآية الثانية، وهذه الآية من سورة يس من باب محذوف اللام {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} قال المؤلف: إنهم يقولون ذلك [استهزاء بهم] يعني: أنطعم قومًا لو شاء الله أطعمهم، فإطعامهم إلى الله، هذا الوجه الأول.

الوجه الثاني: يحتمل أنه من باب الاحتجاج بالقدر فرارًا من اللوم، يعني: أنطعم قومًا أن لو يشاء الله أطعمهم فأطعمناهم، ولكن الله تعالى لم يشاء أن نطعمهم فلا نطعمهم.

(1)

سورة الواقعة، الآيات: 68 - 70.

ص: 167

الوجه الثالث: يحتمل أنهم قالوا هذا اعتراضًا على القدر، كما يقوله الاشتراكيون والشيوعيون، أي: لماذا يجعل الله هذا فقيرًا، ولا يعطه، فكأنهم في جوابهم هذا يعترضون على الله، ويقولون: الذي يطعمهم، والمسؤول عنهم هو الله، وكان على الله أن يطعمهم، لكن لم يشأ ذلك، فيكون في هذا نوع من الاعتراض على القدر.

فهذه ثلاثة أوجه:

الأول: الاستهزاء.

الثاني: الاحتجاج بالقدر.

الثالث: الاعتراض على القدر.

ثم قالوا: {إِنْ أَنْتُمْ} قال المؤلف: [أي: في قولكم لنا ذلك مع معتقدكم هذا {إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)} بين] يعني هؤلاء الكفار الذين أمروا أن ينفقوا على الفقراء، يقولون للذي أمرهم: أنت تعتقد أن الله لو شاء أطعمهم فيقول: نعم أعتقد ذلك، فيقولون: إذن كيف تأمرنا أن نطعمهم، والأمر بمشيئة الله ما أنت إلا في ضلال مبين وقوله:{إِنْ أَنْتُمْ} {إِنْ} هنا نافية، لوجود (إلا) بعدها، وإذا جاءت (إلا) بعد (إن) فهي دليل على (إن) نافية و (إن) ترد في اللغة العربية على أربعة أوجه هي:

الأول: تأتي زائدة، ومثاله قول الشاعر:

بني غدانة ما إن أنتم ذهب

ولا صريف ولكن أنتم الخزف

الثاني: تأتي شرطية، مثاله: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ

ص: 168

أَوْلَى بِهِمَا}

(1)

.

الثالث: تأتي نافية، مثاله:{إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)} .

الرابع: مخففة من الثقيلة، مثاله قول الشاعر:

وإن مالك كانت كرام المعادن.

وقال المؤلف: [مبين أي: بيّن] فهي من أبان القاصر، وأبان تأتي متعدية، ولازمة، فيقال: أبان الشيء، أي: أظهره، ويقال: أبان الصبح، أي: ظهر، إذن {مُبِينٍ} من الرباعي من أبان، يبين، فهو مبين ويحتمل أن تكون بمعنى (بين) على أنها من القاصر.

ويحتمل في غير هذا السياق أن تكون بمعنى (أبان) مثل {وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)}

(2)

ليس المعنى: وقرآن بين، بل وقرآن مبين للحق.

قال المؤلف: [وللتصريح بكفرهم موقع عظيم] أي في قول الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ولم يقل: (قالوا) بل قال: {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} فله موقع عظيم لأنه:

أولًا: التصريح بكفر هؤلاء، لو قال (قالوا) لقلنا لعلهم قالوا ذلك ليس بسبب الكفر، ولكن بسبب البخل، هذه فائدة، أن الإظهار في موضع الإضمار في هذه الآية للتصريح بكفرهم.

الفائدة الثانية: أن مثل هذه المقالة لا تصدر إلا من كافر،

(1)

سورة النساء، الآية:135.

(2)

سورة الحجر، الآية:1.

ص: 169

فيكون الكفر عامًّا لكل من قال هذه المقالة.

وقد مر علينا فيما سبق أن الإظهار في موضع الإضمار له ثلاث فوائد:

الفائدة الأولى: التصريح بالحكم على هؤلاء الذين يرجع إليهم الضمير.

الفائدة الثانية: أن من قال بمثل هذا فهو كافر، أو ظالم حسب السياق.

الفائدة الثالثة: العلة، وأن هذا القول سببه كذا وكذا حسب ما يوصف.

{قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا} اللام بمعنى (عن) يعني: قال الذين كفروا عن الذين آمنوا: يعني قالوا في حق الذين أمروا بالإنفاق عليهم وهم المؤمنون {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} .

الفوائد:

1 -

يستفاد من هذه الآية الكريمة أن هؤلاء الذين كفروا يوعظون وينبهون ولكنهم يستكبرون {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} فالحجة قائمة عليهم.

2 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن الإنسان إذا أنفق بأمر الله تعالى فلا منة له على الله عز وجل، لأن الله تعالى هو الذي أعطاه لقوله:{أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّه} .

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أنه ينبغي للمتكلم الواعظ أن يبين الأسباب التي تحث على فعل ما وعظ به لقوله: {مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّه} .

ص: 170

4 -

ومن فوائد الآية الكريمة أن هؤلاء الذين قالوا هذا الكلام: أنطعم من لو يشاء الله أطعمه أنهم كفار لقوله: {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} .

5 -

ومن فوائدها: أن البخل من صفات الكافرين، لقوله تعالى:{قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وإذا كان من صفات الكافرين فإنه لا ينبغي للمؤمن أن يتصف به، فكل ما كان من صفات الكافرين من اليهود والنصارى وغيرهم، فإن اللائق بالمسلم أن لا يفعله، لأنه إذا فعله صار متشبهًا بالكافرين في هذه الخصلة.

6 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن الإنسان قد يقول كلمة الحق يريد بها الباطل {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} فنحن نؤمن بأنه لو شاء الله لأطعم هؤلاء، لكن حكمته عز وجل اقتضت أن يجعل هؤلاء فقراء، وهؤلاء أغنياء.

7 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن المشركين يقرون بمشيئة الله وأنها نافذة في كل شيء، لقولهم:{مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} والمشركون أو الكافرون لا ينكرون ربوبية الله عز وجل، بل يقرون بها حتى الذين تظاهروا بإنكْارها إنما ينكرونها بألسنتهم لقوله تعالى عن آل فرعون:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ}

(1)

ولقول موسى عليه الصلاة والسلام، لفرعون:{قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ}

(2)

لكن ينكرون الربوبية استكبارًا ومكابرة، وإلا فإن قرارة نفوسهم تشهد بها.

(1)

سورة النمل، الآية:14.

(2)

سورة الإسراء، الآية:102.

ص: 171

8 -

ومن فوائد الآية الكريمة: الأساليب الدعائية التي يستعملها المشركون من قديم الزمان، حيث قالوا لهؤلاء المؤمنين، أو لهؤلاء القائلين: أنفقوا مما رزقكم الله. قالوا لهم: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)} وهذا الوصف المشين للمؤمنين من الكافرين هذا لم يزل ولا يزال موجودًا إلى يومنا هذا، فهم يصفون أهل الخير بالأوصاف العديدة المنفرة منهم، أو التي يقصدون بها استعداء الحكام على هؤلاء المؤمنين، يقولون: هؤلاء رجعيون، وهؤلاء متخلفون، هؤلاء متشددون، هؤلاء متزمتون، وما أشبه ذلك من الكلمات التي يصفون بها أولياء الله عز وجل، ونحن لا ننكر أنه يوجد من أهل الخير وأهل الدين من يغلو ويبالغ في عمله، أو في وصفه لغيره من التكفير والتفسيق، حتى يكفر من لم يكفره الله، ويفسق من لم يفسقه الله، نحن لا ننكر أن هذا موجود، ولكن يبدو لي -والله أعلم- أن وجود مثل هؤلاء المتشددين إنما جاء نتيجة لتطرف الآخرين في المعاصي والفسوق، فيريدون أن يحدثوا ردة فعل بالنسبة لهؤلاء، ولو استقام الناس كلهم على الدين ما حصل هذا التطرف، لكن إذا رأوا جانبًا متطرفًا في الفسوق والعصيان، وأنه مستمر على ذلك ومقر على ذلك من بعض ولاة الأمور، حصل رد فعل مقابل لهؤلاء، فتشدد هؤلاء في مقابل تراخي هؤلاء، ولكن التوسط هو الخير، ومع هذا فإن المتوسطين المعتدلين لا يسلمون من ألسنة المتطرفين الضالين، ولا من ألسنة المتطرفين الغالين، فالغالون مثلًا يقولون لهؤلاء المتوسطين: أنتم مفرطون، أنتم مداهنون، أنتم تقرون أهل

ص: 172

الشر، وأهل الشر يقولون: هؤلاء متشددون، هؤلاء يريدون من الناس أن يكونوا على شاكلتهم، وإلا فهم كافرون وما أشبه ذلك، والمهم أن ألقاب السوء التي يلقب بها أعداء الله أولياء الله لم تزل موجودة ولا تزال موجودة إلى يومنا هذا، حتى أهل البدع يلقبون أهل السنة بألقاب السوء يقولون: هؤلاء مشبهة. إذا أثبتوا الصفات على الحقيقة، وهؤلاء حشوية، هؤلاء نوابت وما أشبه ذلك من الكلمات التي تستوجب النفور منهم، والنيل من قدرهم، ولكن هذا لا يضر أهل الخير، ولكن يؤذيهم، والأذية غير الضرر، فقد يتأذى الإنسان بالشيء ولكن لا يتضرر به، فها هو الإنسان يتأذى من رائحة البصل والكراث، والشيء المستقذر، ومع ذلك لا يتضرر به، وقد أثبت الله لنفسه أنه يؤذى من المنافقين وغيرهم، ونفى عن نفسه التضرر، وقال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}

(1)

وقال في الحديث القدسي: "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر"

(2)

، وقال في الحديث القدسي:"يا عباد إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني"

(3)

، المهم أن مثل هذه الألقاب لا شك أنها تؤذي المؤمنين، ويتأذون منهم، وتضيق بها صدورهم، لكنها لا تضرهم، بل هي نافعة لهم؛ لأنهم إذا صبروا عليها أجروا على الصبر، وإذا تأذوا بدون صبر صارت كفارة لهم؛ لأنه لا يصيب المؤمن من هم ولا أذى ولا غم إلا كفر

(1)

سورة الأحزاب، الآية:57.

(2)

أخرجه البخاري، كثاب التفسير، تفسير سورة الجاثية (4826) ومسلم، كتاب الأدب، باب النهي عن سب الدهر (2246).

(3)

أخرجه مسلم، كتاب البر، باب تحريم الظلم 55 (2577).

ص: 173

الله به عنه حتى الشوكة يشاكها، لاسيما وأنه يؤذى هنا في ذات الله عز وجل، فيكون هذا منقبة لهم، ويكون هذا الإنسان الذي أوذي في الله قد ناله ما نال أولياء الله من الأنبياء والصديقين والشهداء، وقد أخبر النبي عليه أفضل الصلاة والسلام أنه يبتلى الصالحون الأمثل فالأمثل

(1)

، فإذا كان فيه قوة في دينه فإنه يؤذى أكثر؛ ليكون أبلغ في الامتحان، وإذا كان دينه أقل، فإن الله قد يرحمه فلا يحصل له من الأذية ما يحصل للآخر، وقد يبتليه الله عز وجل، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ}

(2)

نسأل الله السلامة.

9 -

ومن فوائد الآية الكريمة: المبالغة من أعداء الله بما يسمون به أولياء الله لقولهم: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)} كأنهم حصروا حالهم من كل وجه في الضلال المبين، كَأنه لا هداية فيهم إطلاقًا (ما أنتم إلا في ضلال) وهذا غاية ما يكون من العدوان من هؤلاء.

10 -

ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات مشيئة الله، وهي كثيرة في القرآن، ولكن كل ما ذكر الله تعالى من المشيئة فهي مقرونة أو مقيدة بالحكمة، إذ ليست مشيئة الله مجرد مشيئة بل هي مقرونة بالحكمة.

* * *

(1)

أخرجه الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء (2398) وقال: حديث حسن صحيح.

(2)

سورة الحج، الآية:11.

ص: 174

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)} أي يقول الكفار المكذبون بوعد الله عز وجل ومنه القيامة {مَتَى} هنا استفهام استبعاد وتحدي، أي: يقولون مستبعدين هذا الأمر متحدين من يقوله {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)} ، و {مَتَى} خبر مقدم و {هَذَا} مبتدأ مؤخر؛ وذلك لأن {مَتَى} واقعة موقع النكرة و {هَذَا الْوَعْدُ} معرفة، والمعهود أن المعرفة هي المبتدأ، والخبر يكون نكرة، وقد يكون معرفة، لكن إذا وجد نكرة ومعرفة، وأمكن أن تكون المعرفة للمبتدأ فهي المبتدأ؛ لأن المبتدأ محكوم عليه فلابد أن يكون معرفة، والمعرفة تعين المدلول وتخصصه، فلابد أن يكون المحكوم عليه معلومًا، ولهذا قال العلماء في هذه القاعدة:(إذا وجدت كلمتان إحداهما معرفة والأخرى نكرة، وأمكن أن تكون المعرفة هي المبتدأ فلتكن هي المبتدأ)، وتعليل ذلك أن المبتدأ محكوم عليه، فلابد أن يكون معلومًا متعينًا يقول:{مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)} أي: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)} بأننا نبعث فمتى يكون، ولا شك أن هذه الشبهة داحضة؛ لأن الذين قالوا بالبعث لم يعينوه بيوم معين، وانظر إلى حجتهم في آية أخرى تكن أبين {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)}

(1)

وهل الذين قالوا: إنهم يبعثون قالوا يبعثون في الدنيا حتى يقولوا: ائتوا بآبائنا، وإنما قالوا ستبعثون يوم القيامة، وقولهم:(ائتوا بآبائنا) أي: ابعثوهم لنا، هذا التحدي في غير محله، لأنه ما قيل لهم: إنكم ستبعثون في الدنيا،

(1)

سورة الجاثية، الآية:25.

ص: 175

بل في يوم القيامة، وهنا يقولون:{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)} . الجواب: ذكر الله تعالى هذا في القرآن: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ}

(1)

فالوعد لم يحن وقته بعد، انتظروا وسوف يأتي هذا الوعد.

الفوائد: من فوائد الآية الكريمة:

1 -

يستفاد منها: أن بني آدم يصل إلى حد التحدي لرب العالمين، ولمن بلغ رسالته لقولهم:{مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} .

2 -

ومن فوائدها: أن الرسل عليهم الصلاة والسلام بلغوا البلاغ المبين، وبينوا للناس أنهم سيبعثون ويجازون، وأنهم وعدوا بذلك لقوله:{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} .

3 -

ومن فوائدها: أن هؤلاء الذين قالوا هذا القول تحديًا واستبعادًا لم يصدقوا الرسل، بل كذبوهم، وليتهم نظروا في الأمر وفكروا لقوله هنا:{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)} .

* * *

قال الله تعالى: {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49)} قال المؤلف: [{مَا يَنْظُرُونَ} أي: ينتظرون {إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} وهي نفخة إسرافيل الأولى](نظر) تستعمل متعدية بنفسها، بمعنى الانتظار مثل:{مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ}

(2)

ولها أمثلة كثيرة، وأن تعدت بـ (في) صار المراد بها نظر الفكر تقول:(نظر في كذا) أي: فكر فيه

(1)

سورة الجاثية، الآية:26.

(2)

سورة فاطر، الآية:43.

ص: 176

وتأمله، وإذا تعدت بـ (إلى) فهي النظم بالعين تقول:(نظرت إليه)، ومنه قوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)}

(1)

{صَيْحَةً} يعني يصاح بهم، وذلك بالنفخة الأولى في الصور؛ لأن هذه النفخة يكون لها صوت عظيم مزعج يفزع الخلائق، قال الله تعالى:{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ}

(2)

فكل الخلائق تفزع إلا ما شاء الله عز وجل، فيفزعون فزعًا شديدًا يؤدي إلى صعق إلى الموت وحينئذ تكون نفخة واحدة فيها فزع، وفيها صعقة {تَأْخُذُهُمْ} أي: تأخذهم كما يأخذ العدو عدوه بحيث لا تمهلهم ولا تنظرهم {وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} قال المؤلف رحمه الله: [بالتشديد، أصله يختصمون نقلت حركة التاء إلى الخاء، وأدغمت في الصاد، أي: وهم غفلة عنها بتخاصم وتبايع، وأكل وشرب وغير ذلك، وفي قراءة (يَخْصِمون) كيضربون أي: يخصم بعضهم بعضًا].

القراءات التي ذكر المؤلف قراءتان فقط، يقول: بالتشديد أصله يختصمون، نقلت حركة التاء إلى الخاء، وحركة التاء هي الفتحة، وأدغمت التاء بالصاد فصارت على هذه القراءة (يَخْصِمُونَ)، والقراءة التي في المصحف {وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49)} بكسر الخاء، والقراءة الثالثة (يَخْصِمُونَ)، كيضربون، والقراءة الرابعة التي أشار إليها المحشي

(3)

هو أن تجعل الخاء لا مفتوحة

(1)

سورة القيامة، الآية: 22 - 23.

(2)

سورة النمل، الآية:87.

(3)

المحشي هو: الشيخ سليمان بن عمر العجيلي الشافعي الشهير بالجمل المتوفى سنة 1204 هـ رحمه الله تعالى وحاشيته هي: (الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين =

ص: 177

خالصة، ولا مكسورة خالصة وإنما تختلس الفتحة، فتكون بين الفتحة والكسرة، هذه القراءة الرابعة، والثالثة التي في المصحف لم يشر إليها المفسر، ووجه المحشي القراءة الموجودة في المصحف {يَخِصِّمُونَ (49)} بأن الحركة أزيلت من التاء، فصارت ساكنة، فلما صارت ساكنة حركت الخاء بالكسر لالتقاء الساكنين على الأصل، فالمهم يقول المؤلف رحمه الله أي: وهم في غفلة عنها بتخاصم وتبايع وأكل وشرب وغير ذلك.

فالصيحة إذن أخذتهم على غرة، وهم غافلون عنها، لاهون بأمورهم ودنياهم، يتخاصم بعضهم مع بعض، وهذا يدل على عدم ائتلاف قلوبهم في تلك الساعة، وأنهم من جنس البهائم، ولهذا لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، ولم يذكر الله عز وجل سوى التخاصم كأن أكثر ما هم عليه في ذلك الوقت هو التخاصم والتباغض والتدابر، لأنهم ليس عندهم إيمان، فهم شرار الخلق في معاملة الله، وشرار الخلق في التعامل فيما بينهم، وفي قراءة (يَخْصِمُونَ) كيضربون، أي يخصم بعضهًا بعضًا، فيكون الظهور للغالب في الخصومة لا للحق، لأنهم في هرج ومرج، وليس عندهم إيمان، ولا مروة، ولا خلق، هم شرار الخلق، فكانت هذه -والعياذ بالله- حالهم عند قيام الساعة.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية الكريمة: إثبات علم الله عز وجل وسمعه؛ لأن قوله: {يَنْظُرُونَ} جواب قولهم: {مَتَى هَذَا

= للدقائق الخفية).

ص: 178

الْوَعْدُ}.

2 -

ومن فوائدها: تهديد هؤلاء المكذبين بهذه الصيحة التي تأخذهم.

3 -

ومن فوائد هذه الآية: قدرة الله عز وجل حيثما يأخذ هؤلاء كلهم بصيحة واحدة لقوله: {إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} وهنا أكد الصيحة بـ (واحدة) ليبين أنه لا يعيدها مرة ثانية، بل بأول مرة يؤخذون.

4 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن هذه الصيحة تأتيهم بغتة لقوله: {وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49)} غافلون عنها.

5 -

ومن فوائد الآية الكريمة: بيان حال هؤلاء الذين تقوم عليهم القيامة، وتأخذهم الصيحة، وهي الخصومة والتنازع، مما يدل على سوء أحوالهم، وسوء أخلاقهم، وأنه لا هم لهم إلا هذه المخاصمة والمنازعة، شحًّا وطمعًا في الدنيا، وغفلة عن الآخرة، ولهذا جاء في الحديث الصحيح:"أن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق"

(1)

. وهؤلاء من المعلوم أنهم يأكلون ويشربون لكن لم يذكر الله إلا هذا التخاصم لبيان سوء حالهم في ذلك الزمن.

* * *

{فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)} أي: إذا أخذتهم لم يتجاوزوا مكانهم، بل لا يستطيعون الكلام لشدة ما هم

(1)

أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين" 176 (1924).

ص: 179

فيه من الفزع. {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} أي: لا يستطيعون أن يوصوا إلى أهليهم، وإلى صغارهم، وإلى سفهائهم؛ لأن الأمر عظيم لا يتكلمون فيه {وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)} لأنهم لا يتجاوزون مكانهم، فلا هم الذين وصلوا إلى أهليهم وشاهدوهم، ولا هم الذين استطاعوا أن يوصوا فيهم أحدًا، وهذا يدل على أن الأمر الذي أخذهم أمر عظيم، وهو كذلك لأن الله تعالى يقول:{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)}

(1)

{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)} قال المؤلف عن الصور: [وهو القرن، النفخة الثانية للبعث، وبين النفختين أربعون سنة]{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} النفخ في الصور يذكره الله عز وجل دائمًا بالبناء المجهول (نُفِخَ)؛ لأن الإبهام أبلغ في التهويل والتعظيم مما إذا ذكر الفاعل، ولهذا تجد قول الله تعالى:{فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78)}

(2)

أبلغ مما لو بين هذا الذي غشيهم، فالإبهام أحيانًا يفيد التهويل والتعظيم، وهنا أبهم النافخ وفي كل الآيات النافخ مبهم البيان عظم هذا الأمر، وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أن الذي وكل بالنفخ في الصور هو إسرافيل عليه الصلاة والسلام أحد حملة العرش

(3)

، وقد ذكر الله تعالى النفخ في الصور في هذه الآية، وفي سورة الزمر، وفي سورة النمل، وفي سورة الأنعام وغيرها،

(1)

سورة النمل، الآية:87.

(2)

سورة طه، الآية:78.

(3)

انظر ابن جرير الطبري في تفسيره جـ 20 ص 19، سورة النمل الآية (87).

ص: 180

وقد اختلف العلماء رحمهم الله في النفخات هل هن ثلاث أو هما اثنتان؟

فمنهم من قال: أنهن ثلاث.

النفخة الأولى: فزع، والنفخة الثانية: صعق وموت، والنفخة الثالثة: بعث.

وفي سورة الزمر قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)}

(1)

فذكر اثنتين، وفي سورة النمل {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)}

(2)

. ثم ذكر يوم القيامة وطوى ذكر الثانية، فيكون هذا الفزع قبل الموت، ثم الموت ثم البعث.

ومنهم من قال: إنهما اثنتان.

والظاهر أنهما اثنتان فقط، لكن الأولى منهما فيها فزع وصعق، والثانية فيها بعث، وهذا ظاهر ما ذهب إليه المؤلف حيث قال:[النفخة الثانية للبعث].

{فِي الصُّورِ} الصور قرن عظيم واسع، ورد في الحديث: أن سعته كما بين السماء والأرض

(3)

، ينفخ فيه للبعث فتخرج الأرواح منه، وتأوي كل روح إلى جسدها الذي تعمره في الدنيا لا تخطؤه على كثرة الأرواح الخارجة من هذا الصور، حتى لو قدر

(1)

سورة الزمر، الآية:68.

(2)

سورة النمل، الآية:87.

(3)

أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (3302). وعزاه ابن حجر في فتح الباري (36811) إلى أبي يعلى في الكبير.

ص: 181

أن عشرات الناس دفنوا في مكان واحد فإن روح كل واحد لا تأوي إلا إلى جسده تقدير العزيز العليم عز وجل.

{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)} {فَإِذَا هُمْ} الفاء عاطفة و (إذا) حرف دال على المفاجأة و {هُمْ} مبتدأ وجملة {يَنْسِلُونَ (51)} خبره و {مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ} متعلقة بـ {يَنْسِلُونَ (51)} {فَإِذَا هُمْ} أي: بمجرد ما يحصل النفخ لا يحصل وقت بين النفخ في الصور والخروج من القبور {مِنَ الْأَجْدَاثِ} أي: من القبور يخرجون إلى الله تعالى مسرعين، وقوله:{فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ} الضمير في {هُمْ} قال المؤلف: [أي المقبورون] وعلمنا أن المراد المقبورين؛ لقوله: {مِنَ الْأَجْدَاثِ} ؛ لأن الأجداث هي القبور، وقوله:{فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ} هذا بناء على الأغلب الكثير؛ لأن من الناس من لا يكون في جدث بل يلقى في اليم، أو يلقى في الأرض على ظاهرها، أو تأكله السباع، أو يحترق وتذروه الرياح، لكن الغالب والأكثر أنهم في القبور، وقوله:{إِلَى رَبِّهِمْ} فيها تقديم المعمول لإفادة الحصر، يعني لا ينسلون إلى دنيا، أو إلى قريب، أو إلى صديق، وإنما ينسلون إلى الله عز وجل، والنسلان معناه: السير بسرعة، كما قال تعالى:{وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)}

(1)

أي: يخرجون بسرعة.

الفوائد:

من فوائد الآيتين الكريمتين:

(1)

سورة الأنبياء، الآية:96.

ص: 182

1 -

أن النفخ في الصور إذا وقع لم يستطع أحد أن يتكلم ولا أن يتزحزح من مكانه، تؤخذ من قوله تعالى:{فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} هذا الكلام {وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)} لا يتزحزحون من مكانهم.

2 -

ومن فوائدها: قوة هذه الصدمة التي تصيبهم من هذه الصيحة، لأن الإنسان إذا قويت الصدمة أعجم على لسانه فصار لا يقدر على التكلم، وكذلك رجلاه تضعف حتى لا يستطيع الوقوف كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قصة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع قوله تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)}

(1)

قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها

(2)

.

3 -

وكذلك يدل على عظم هذه الصيحة أنهم لا يستطيعون الرجوع إلى أهليهم مع شدة تشوقهم إليهم، لكن لا يستطيعون، لأن الأمر أعظم من أن يتمكنوا من ذلك.

4 -

ومن فوائد الآية الثانية: إثبات النفخ في الصور، وهو من الأمور الغيبية التي يجب علينا أن نؤمن بها دون التعرض لكيفيتها. فلو قال قائل: كيف يكون النفخ في الصور؟ قلنا: هذا أمر لا نعلمه إلى الله عز وجل، لأنه غيبي ولم يخبر بكيفيته.

5 -

ومن فوائد الآية الكريمة: تمام قدرة الله عز وجل حيث كان مجرد النفخ يوجب أن يخرج الناس جميعًا من قبورهم

(1)

سورة الزمر، الآية:30.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته (4454).

ص: 183

مسرعين.

6 -

ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات البعث وأنه حياة حقيقية؛ لقوله: {يَنْسِلُونَ (51)} لأن الإسراع لا يكون إلا بحياة حقيقية.

7 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن الناس يسرعون إلى مكان معين ينزل الله تعالى فيه للفصل بين عباده؛ لقوله تعالى: {إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)} .

8 -

ومن فوائدها: الإشارة إلى الأجداث التي جعلها الله تعالى منازل للأموات، امتن الله بها على عباده، كما امتن عليهم بالقصور في الدنيا، قال الله تعالى:{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26)}

(1)

. فكما أن الله عز وجل منَّ علينا بهذه القصور فستتر بها ونقضي بها حوائجنا ونكون مع أهلنا فكذلك منَّ علينا سبحانه وتعالى بالقبور التي يستتر بها الإنسان عن الرؤية، ويحتمي بها عن الوحوش إلى غير ذلك مما تتضمنه هذه النعمة.

9 -

ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات الربوبية العامة، لقوله تعالى:{إِلَى رَبِّهِمْ} فهذه عامة لكل من يخرج من الأجداث، وقد مرَّ علينا أن الربوبية تنقسم إلى قسمين عامة وخاصة.

* * *

{قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)} قال المؤلف رحمه الله: [يا للتنبيه {يَاوَيْلَنَا} هلاكنا، وهو مصدر لا فعل له من لفظه {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا}

(1)

سورة المرسلات، الآيتان: 25، 26.

ص: 184

لأنهم كانوا بين النفختين نائمين لم يعذبوا].

قوله رحمه الله يا للتنبيه. بناءً على أن الويل ليس له عقل وإرادة، وإذا وجه النداء إلى من ليس له عقل ولا إرادة كان للتنبيه.

ولكن لو قيل: إن (ياء) للنداء بدليل أنها عملت فيما بعدها، لأن {يَاوَيْلَنَا} منصوب بياء النداء، كأنه قال: يا ويلنا أحضر، وهذا نظير قوله تعالى:{يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ}

(1)

ونظير قوله تعالى: {يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} .

والويل هو الهلاك، وهو مصدر ليس له فعل من لفظه، كما تكون بعض أسماء الأجناس ليس لها مفرد من لفظها، كإبل ليس لها مفرد من لفظها، وتكون بعض الأفعال ليس له مصدر مثل (يذروا) فإن أكثر النحويين يقولون: إنه ليس لها مصدر. وبعضهم يقول: لها مصدر وهو الوذر. {مِنْ} للاستفهام التعجبي أي ما الذي أخرجنا {مِنْ مَرْقَدِنَا} والمرقد مكان الرقادة، والمراد بها القبور، أي: من بعثنا من هذه الأمكنة التي كنا راقدين فيها. واختلف العلماء في هذا: هل إنهم يرقدون ثم يستيقظون عند النفخة الثانية، أو أن وجودهم في القبور بالنسبة إلى ما يشاهدونه في القيامة كأنه رقود، لأن الشيء إذا نسب إلى ما هو أعظم منه صار هينًا؟

القول الأخير هو الأصح، وهو الذي مشى عليه ابن كثير رحمه الله في تفسيره، لأنه ليس هناك دليل على أنهم ينامون

(1)

سورة الزمر، الآية:56.

ص: 185

بين النفختين كما ذكره المؤلف بقوله: [لأنهم كانوا بين النفختين نائمين لم يعذبوا] وهذا يحتاج إلى نقل صحيح؛ لأنه من أمور الغيب، والمرقد قد يكون للإنسان وإن كان يتألم بعض التألم، فها هو الإنسان ينام ويرى في منامه أحلامًا مزعجة مروعة حتى إنه من شدتها في بعض الأحيان يستيقظ، ومع ذلك فإنه إذا قام يقال: قام من مرقده.

فالصواب أن المرقد هنا مكان الرقاد، وأن عذابهم في قبورهم بالنسبة لعذاب الآخرة كالرقاد كما قال تعالى:{وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)}

(1)

.

{هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} قال المؤلف: [{هَذَا} أي: البعث {مَا} أي: الذي {وَعَدَ} به {الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ} فيه {الْمُرْسَلُونَ} أقروا حين لا ينفعهم الإقرار وقيل: يقال لهم ذلك].

هذه الآية فيها سكتة ينبغي الوقوف إن لم يجب على قوله: {مِنْ مَرْقَدِنَا} عند بعض القراء، لأجل أن يستأنف، فيقال:{هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} وهذا الجملة قيل: إنها تقال جوابًا لهم حين قالوا: من بعثنا من مرقدنا؟

وقيل: إنها منهم يقرون إذا شاهدوا أقروا فقالوا: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)} . والآية محتملة: يحتمل أنهم يقولون ذلك، ويحتمل أنه يقال لهم، وفي سورة الصافات قال الله تعالى: {وَقَالُوا يَاوَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ

(1)

سورة طه، الآية:127.

ص: 186

تُكَذِّبُونَ (21)}

(1)

فظاهر هذه الآية أن القائل هم هؤلاء وأن بعضهم يقول لبعض: هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون. فآية الصافات أظهر من هذه الآية من سورة يس، ولو قال قائل: هل يمكن أن يكون القول صادرًا منهم وإليهم؟ فالجواب: أن هذا ليس ببعيد، وإن كان الإنسان لا يكاد يجزم به. {هَذَا} المشار إليه البعث {مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} ما اسم موصول والصلة قوله:{وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)} وقدر المؤلف العائد بقوله: [به] والمعروف أن العائد المجرور لا يحذف إلا إذا كان عامل الموصول موافقًا لعامل المحذوف لفظًا ومعنى، هذا هو المعروف عند النحويين، ولكن الراجح أنه يجوز حذف العائد، سواء كان عامله من جنس عامل الموصول، أو من غير جنسه، وأن القاعدة التي ذكرها ابن مالك بقوله:(وحذف ما يعلم جائز) عامة لكل شيء ليست خاصة بالمبتدأ والخبر بل لكل شيء، وقوله:{مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} {الرَّحْمَنُ} اسم من أسماء الله عز وجل المختصة به، التي لا تطلق على غيره فلا يسمى أحد {الرَّحْمَنُ} أما رحيم فيوصف به الخلق، قال الله تعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)}

(2)

لكن رحمن لا يجوز أن يوصف بها أحد، والفرق بين الرحمن والرحيم: أن الرحيم باعتبار الفعل، والرحمن باعتبار الوصف، فإذا قال "الرحمن"

(1)

سورة الصافات، الآيتان: 20، 21.

(2)

سورة التوبة، الآية:128.

ص: 187

يعني ذو الرحمة الواسعة، والرحيم الذي تصل رحمته إلى من يشاء من عباده، وهنا ذكر {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} ولم يقل:(ما وعد الله)، لأن رحمة الله يوم القيامة تتجلى تجليًا أكثر منها في الدنيا، فإن لله تعالى مائة رحمة جعل منها رحمة في الأرض، فإذا كان يوم القيامة صار له مائة رحمة، التسعة والتسعون الباقية، والرحمة الأولى، وهذا يدل على تجلي رحمة الله تعالى في ذلك اليوم، ولهذا قال هنا:{هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} والرحمن مشتق يدل على صفة الرحمة، ويجب علينا في أسماء الله تعالى أن نؤمن بالاسم، وما دل عليه من الصفة، والأثر المترتب على ذلك، ويجوز أن نقول والحكم، فهنا {الرَّحْمَنُ} اسمه، والرحمة صفته، ويرحم من يشاء فعله سبحانه وتعالى، وهو أثر الرحمة قال:{هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} وعد الرحمن بأنه سيكون يوم يبعث فيه الناس، فيجزي فيه المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ومجازاة المحسن الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، {وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} أخبر بالصدق (وصدق القائل) بمعنى التصديق من المخاطب، فالصدق من المتكلم، يقال: صدق، ويقال: صدق بمعنى أخبر بالصدق. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ}

(1)

وصدق القائل، أي: أقر بقوله واعترف به، قال الله تعالى:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ}

(2)

فهو صادق وصدق والله أعلم.

(1)

سورة آل عمران، الآية:152.

(2)

سورة الزمر، الآية:33.

ص: 188

الفوائد:

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

في هذه الآية دليل على شدة حسرة المكذبين الذين يكذبون بالبعث إذا بعثوا يقولون {يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} ودليل ذلك قولهم: {يَاوَيْلَنَا} وهذه الكلمة دعاء بالثبور والحسرة على من نطق بها.

2 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن عذاب البرزخ بالنسبة إلى عذاب الآخرة هين، حتى إنه مثل النوم عند النائم.

3 -

ومن فوائدها: أن البقاء في القبور ما هو إلا كنوم النائم، ثم يستيقظ ويغادر المكان لقوله:{مِنْ مَرْقَدِنَا} .

4 -

ومن فوائد الآية الكريمة: توبيخ هؤلاء المكذبين حين يقال لهم: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} .

5 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن الله تعالى صادق الوعد لا يخلفه، وذلك لأن إخلاف الموعد يكون لأحد أمرين: إما الكذب، وإما العجز، وكلاهما منتفيان عن الله عز وجل فلا كذب في وعده، ولا عجز عن تنفيذه، ولهذا فهو عز وجل لا يخلف الميعاد لكمال صدقه وقدرته.

6 -

ومن فوائد الآية الكريمة: صدق الرسل عليهم الصلاة والسلام فيما يخبرون به عن الله سبحانه وتعالى وعن غيره، لقوله:{وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)} .

ص: 189

7 -

ومن فوائد الآية: أن المشركين يقرون إذا شاهدوا الحق، بأن ما وعد الله تعالى به فسيقع بناءً على أن قوله:{هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} من كلامهم، والإقرار بالحق بعد مشاهدته لا ينفع؛ لأن الإقرار بالحق إذا لم يكن غيبًا لم يكن الإنسان مؤمنًا بالغيب، بل يكون مؤمنًا بالشهادة.

فإن قلت: قال تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)}

(1)

فهنا أنكروا الشرك مع أنهم كانوا مشركين، بل أنهم يقرون بشركهم كما قال تعالى:{يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)}

(2)

فكيف الجمع؟

الجمع بينهما أنه يقال: إن يوم القيامة ليس لحظة ولا ساعة قليلة بل هو خمسون ألف سنة، فهم يتقلبون أحيانًا يقرون بكل ما عملوا، وأحيانًا ينكرون، إذا رأوا نجاة المؤمن قالوا:{وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)} لعلهم ينجون كما نجا غيرهم، ولكن يختم على أفواههم وتكلم أيديهم وأرجلهم، وحينئذ يقرون ولا يكتمون الله حديثًا والله أعلم.

* * *

(1)

سورة الأنعام، الآية:23.

(2)

سورة النساء، الآية:42.

ص: 190

{إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)}

(1)

.

الفوائد:

1 -

في هذه الآية دليل على كمال قدرة الله سبحانه وتعالى وأنه يصاح بأصحاب القبور صيحة واحدة، فيخرجون جميعًا لا يتخلف منهم أحد، ولهذا قال:{فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)} .

2 -

ومن فوائدها أيضًا: أن الله سبحانه وتعالى إذا أمر بشيء لا يعيد الأمر مرة ثانية، بل يكون الشيء بأول أمر، ونظير ذلك قوله تعالى:{وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)}

(2)

والذي يعيد الأمر والكلام هو العاجز، وأما القادر فلا يعيده.

3 -

ومن فوائدها أيضًا: الإشارة إلى أن الله تعالى ينزل للقضاء بين عباده، تؤخذ من قوله:{لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)} أي: عندنا والعند يدل على القرب، وقد ثبت بالنصوص أن الله عز وجل ينزل للقضاء بين عباده فيقضي بينهم.

* * *

قال تعالى: {فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)} .

(اليوم) أي: يوم القيامة حين يحضر الناس للفصل والقضاء، فـ (أل) هنا للعهد الحضوري، أي: ففي حضرتهم ذلك اليوم حينما يحضرون {لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} أي: لا تنقص،

(1)

لم أجد تفسير هذه الآية فيما بين يدي من أشرطة مسجلة.

(2)

سورة القمر، الآية:50.

ص: 191

والنقص يكون بأحد أمرين: إما بزيادة السيئات، وإما بنقص الحسنات، وكلا الأمرين منتف كما قال الله تعالى:{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)}

(1)

أي: لا يخاف هضمًا من حقه من الحسنات، ولا ظلمًا بزيادة السيئات، يقول:{لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} ونفس نكرة في سياق النفي، فتشمل كل نفس، حتى الكافر يكون عذابه على حسب عمله، ولهذا قال:{وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)} أي: لا تكافئون على أعمالكم إلا ما كنتم تعملون، قال المؤلف رحمه الله:[لا تجزون إلا جزاء ما كنتم تعملون] إنما قدر رحمه الله (جزاء) لئلا يتسلط الفعل على نفس العمل، والعمل قد مضى وانقضى، والذي يوجد في يوم القيامة هو الجزاء، ولهذا قال:[إلا جزاء ما كنتم تعملون] لا نفس العمل؛ لأن العمل إنما كان في الدنيا وليس في يوم القيامة، والذي في يوم القيامة هو الجزاء فلهذا قدر المؤلف [إلا جزاء ما كنتم تعملون].

فإن قال قائل: كلام المؤلف هنا: أفلا يكون منتقدًا؛ لأنه كالاستدراك على كلام الله عز وجل؟

فالجواب على هذا: أن يقال ليس بمنتقد، وليس مقتضاه الاستدراك على كلام الله، لأن المؤلف أراد أن يفسر المعنى المراد، ولم يرد أن في الكلام نقصًا، وقد علم في البلاغة أن الإيجاز نوعان: إيجاز حذف، وإيجاز قصر، وإيجاز الحذف معناه أن تكون الجملة فيها شيء محذوف يعلم من السياق،

(1)

سورة طه، الآية:112.

ص: 192

وإيجاز القصر أن تكون الجملة ذات كلمات يسيرة، ولها معاني كثيرة، فعلى كلام المؤلف يكون في الكلام إيجاز حذف.

فإذا قال قائل: إن هذا التركيب الذي ذكره المؤلف فيه شيء من الركاكة [لا تجزون إلا جزاء ما كنتم تعملون].

فالجواب: نعم القرآن أفصح بلا شك، وأبين، وأسد، لأن التعبير عن الجزاء بالعمل أبلغ في التأثير على الففس، فإذا علم الإنسان أنه لا يجزى يوم القيامة إلا عمله فإنه سوف يزدجر عن المحرمات، وسوف يقوى على فعل المأمورات؛ لأنه يعلم أن عمله هذا نفسه هو الذي سيجزاه يوم القيامة، فالذي يظهر لي أن الكلام لا يحتاج إلى هذا التقدير الذي ذكره المؤلف رحمه الله، لأن جعل العمل هو الذي يجزى به الإنسان أبلغ في إثارة النفس كما قررناه، وقوله:{إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)} أي: هذا في الدنيا {تَعْمَلُونَ (54)} خبر كاف، وتحتاج الجملة إلى عائد يعود على الموصوف (ما)؛ لأنه قد تقدر في علم النحو: أن كل اسم موصول يحتاج إلى عائد يربطه بصلته، كما أن كل خبر للمبتدأ يكون جملة يحتاج إلى رابط، يربط بين الجملة الخبرية وبين المبتدأ التي هي خبر عنه، هنا نقول: إن العائد محذوف أي: ما كنتم تعملونه، والعمل يطلق بلا شك على فعل الجوارح، ويطلق على القول، ويطلق على عمل القلب، وهو الركون إلى الشيء، والاطمئنان به، فإذا أطلق العمل شمل هذه الثلاثة: عمل القلب وهو ركونه إلى الشيء ورضاه وطمأنينته به، قول بمعنى عمل اللسان، فعل عمل الجوارح، هذا إذا أطلق العمل، أما إذا

ص: 193

قيل: عمل وقول، أو قيل: اعتقاد وعمل، فإن العمل يفسر هنا بعمل الجوارح، وهذا يكون كثيرًا في اللغة العربية وفي القرآن الكريم، وهو أن الشيء إذا أفرد يكون شاملًا، وإذا قرن بغيره صار خاصًّا؛ لأنه إذا قرن بغيره صار الكلام على جهة التقسيم، والتقسيم لابد فيه من مقسم، والمقسم يكون كل قسيم منه ضد القسيم الآخر، والخلاصة الآن أن المراد بالعمل هنا عمل القلب، والجوارح، واللسان الذي هو القول، لأن هذا كله يجازى عليه الإنسان يوم القيامة.

فإذا قال قائل: هل يشمل العمل الكف، أي: إذا ترك الإنسان المعصية، هل يقال: إن هذا عمل يجزى عليه؟

الجواب: نعم، يقال إنه عمل يجزى عليه؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من هم بالسيئة فلم يعملها كتبها الله حسنة كاملة"

(1)

. لأن تركها لله فما وجه كون الترك عملًا؟ لأن الترك كف النفس عن جماحها وإقدامها فهو عمل وحينئذ نقول كلمة: {يَعْمَلُونَ} تشمل أربعة أشياء هي: عمل القلب، واللسان، والجوارح، والترك. ويجزى عليها الإنسان.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية الكريمة: انتفاء الظلم مطلقًا في يوم القيامة؛ لأنه يوم العدل، كما قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ

(1)

أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب من هم بحسنة أو بسيئة (6491) ومسلم، كتاب الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة كتبت 207 (131).

ص: 194

لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}

(1)

.

2 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن الإنسان لا يظلم لا بقليل ولا بكثير لأن {شَيْئًا} نكرة في سياق النفي فتكون للعموم.

فإذا قال قائل: في غير هذا اليوم هل يظلم أحد؟

فالجواب: لا يظلم، لكن ذكر هذا اليوم لبيان الواقع؛ لأن هذا اليوم هو يوم الجزاء، فكأنه قال: هذا اليوم الذى هو الجزاء ليس فيه ظلم، ونظير ذلك قوله تعالى:{لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ}

(2)

.

3 -

من فوائد الآية الكريمة: أن الجزاء من جنس العمل لقوله: {وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)} فيستفاد منه:

5 -

كمال عدل الله عز وجل. وهذه فائدة متفرعة على الفائدة التي قبلها.

فإن قال قائل: أليس الإنسان العامل الحسنة يجزى بعشر حسنات؟

فالجواب: بلى، ولكن هذا من الجزاء الذي وعد الله به، فلا يكون منافيًا لظاهر الآية؛ لأن الله تعالى وعد من جاء بالحسنة أن يجعل له عشر أمثالها، فتكون داخلة في قوله تعالى:{إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)} .

5 -

ومن فوائد الآية الكريمة: جواز التعبير بالسبب عن السبب؛ لأن العمل سبب للجزاء، فيكون فيه التعبير بالسبب عن السبب.

* * *

(1)

سورة الأنبياء، الآية:47.

(2)

سورة غافر، الآية:17.

ص: 195

{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55)} لما ذكر الله عز وجل أن ذلك اليوم يجازى فيه العامل بعمله، ذكر أصناف العاملين، وهم صنفان: الصنف الأول: أصحاب الجنة، والصنف الثاني: المجرمون.

وأصحاب الجنة لم يذكر الله تعالى في هذه الآية عملهم، لكنه ذكر في آيات كثيرة عملهم الذي يكون سببًا لدخولهم الجنة، قال:{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55)} {أَصْحَابَ} جمع صحب، وصحب اسم جمع صاحب، والصاحب هو: الملازم لمصحوبه، ولا يسمى الشيء صاحبًا للشيء إلا بعد الملازمة حسب ما يقتضيه العرف، إلا شيئًا واحدًا استثناه العلماء وهو صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن صحبته تثبت بمجرد اللقاء ولو للحظة، فكل من اجتمع بالنبي عليه الصلاة والسلام ولو للحظة مؤمنًا به ومات على ذلك فهو صحابي له، {الْجَنَّةِ} تقدم أنها في اللغة العربية اسم للبستان الكثير الأشجار، وسمي بذلك لأنه لكثرة أشجاره، يجن من فيه وما فيه، ويجن بمعنى يستر، لأن هذه المادة (الجيم والنون) كلها تدور على هذا المعنى وهو الاستتار، ومنه سمي الجنين؛ لاستتاره في بطن أمه، وسمي الجن؛ لاستتارهم عن الأعين، وسميت الجُنة؛ لأن المقاتل يستتر بها عن السهام، فالجنة في اللغة كل بستان كثير الأشجار، وسمي بذلك؛ لأنه يجن من فيه من الساكن، وما فيه من الأشجار الصغيرة التي تكون تحت الأشجار الكبيرة، هذا هو أصل معنى

ص: 196

هذه الكلمة في اللغة، ومعناها شرعًا هي: الدار التي أعدها الله سبحانه وتعالى للمتقين: فيها لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)}

(1)

.

ولا يصح أن تقول: إن الجنة في الآخرة هي البستان كثير الأشجار، ولو قلت هكذا لنزلت من قيمتها في نفوس الناس، لكن إذا قلت: هي الدار التي أعدها الله للمتقين، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، صار ذلك حافزًا للعمل لها، وقوله:{الْيَوْمَ} يعني يوم القيامة و (أل) هنا للعهد الذكري، لأن سبق ذكره و (أل) تكون للعهد الذكري إذا سبق ذكر مدخولها، ومنه قوله تعالى:{إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16)}

(2)

فإذا كان مدخول (أل) سبق ذكره فهي للعهد الذكري. {فِي شُغُلٍ} الجار والمجرور وهو خبر {إِنَّ} {فِي شُغُلٍ} يقول المؤلف: [بسكون العين وضمها] شغْل وشغُل، والقرآءتان سبعيتان، لأن المؤلف رحمه الله من طريقه أنه إذا قال: في قراءة، وفي قراءة، فهما متساويتان، أي كلتاهما قراءة سبعية، أما إذا قال: وقرئ. فإن هذه القراءة تكون شاذة، فليعلم اصطلاحه حتى لا يشتبه. فيجوز لنا أن نقول:{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ} و {شُغُلٍ} .

(1)

سورة آل عمران، الآية:133.

(2)

سورة المزمل، الآيتان: 15، 16.

ص: 197

وهل الأفضل أن نقتصر على قراءة واحدة، أو أنه نقرأ تارة بهذه وتارة بهذه؟

الصحيح أن الأفضل أن نقرأ بهذه تارة وبهذه تارة، لأن الكل ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ونحن إذا بقينا على قراءة واحدة هجرنا بقية القراءات على أنها شرعية ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فالأولى أن نقرأ مرة بهذه ومرة بهذه إلا أمام العامة فلا تفعل ذلك، لأنك إذًا قرأت بقراءة مخالفة لما بين أيديهم من المصاحف فسوف يكون في ذلك فتنة، ويكون في ذلك زعزعة للثقة في كتاب الله عز وجل، لكن إذا كنت تقرأ لنفسك، أو تقرأ بين طلبة العلم فالأفضل أن تقرأ بهذا أحيانًا وبهذا أحيانًا، قال المؤلف رحمه الله: [في "شغل" بسكون الغين، وضمها، عما فيه أهل النار مما يتلذذون به، إذا هم منشغلون عما فيه أهل النار، ولو أن المؤلف جعلها مطلقة على إطلاقها لكان أولى، فهم في شغل عن كل شيء بما يتلذذون به، يعني كأنهم لا يفكرون في أي شيء آخر، لأن هذا الذي هم فيه من النعيم قد شغلهم، وانشغلوا به عن غيرهم هذا كقوله تعالى:{خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)}

(1)

أي: لا يبغون تحولًا أو نزولًا عما هم فيه، بل ولا صعودًا حتى النازل منهم يرى أنه أكمل الناس نعيمًا، فالأولى أن نطلق ونقول:{فِي شُغُلٍ} أي: أنهم مشتغلون بما هم فيه من النعيم عن كل شيء، لا ينتظر أحدهم نعيمًا أرقى مما هو فيه بحيث يرى أن نعيمه ناقص ولا يلتفت إلى شيء أبدًا {فِي شُغُلٍ} قال المؤلف: [كافتضاض

(1)

سورة الكهف، الآية:108.

ص: 198

الأبكار] والكاف للتشبيه، وليس للحصر، أي: من جملة ما ينشغلون به التلذذ بافتضاض الأبكار، من نساء الدنيا وكذلك الحور العين، وإنما مثل المؤلف بذلك لقوله تعالى:{هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ} قال [كافتضاض الأبكار لا شغل يتعبون فيه، لأن الجنة لا نصب فيها]، أي لا تعب، فهذا الشغل ليس شغلًا يتعبون فيه، ولكنه شغل يستريحون فيه، لأنه شغل فيما يسر وفيما يحصل به التنعم، قال:{فَاكِهُونَ (55)} : قال المؤلف: [ناعمون خبر ثان، لـ (إن) والأول {فِي شُغُلٍ}] أي قوله: {فَاكِهُونَ (55)} خبر ثان لـ (إن) والأول {فِي شُغُلٍ} الجار والمجرور، فتكون (إن) لها خبران، والخبر يجوز أن يتعدد، قال تعالى:{وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)}

(1)

فهذه خمسة أخبار، فالخبر يجوز أن يتعدد، لكن تعدد الخبر قد يكون لكل كلمة منه معنى مستقل، وقد تكون الكلمتان في معنى كلمة واحدة، فمثلًا إذا قلت هذا البرتقال حلو حامض، فهاتان كلمتان، لكنهما بمعنى كلمة واحدة:(مُز) أي: جامع بين الحلاوة والحموضة، لكن لو قلت: فلان قائم مسرور، فالخبران كل واحد منهما بمعنى مستقل، بدليل أن أحدهما ينفرد عن الآخر بمعنى مستقل، والخلاصة: أننا فهمنا من كلام المؤلف أن الخبر يجوز أن يتعدد سواء كان منسوخًا كما في الآية، أم غير منسوخ.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية الكريمة: أن الناس ينقسمون في ذلك

(1)

سورة البروج، الآيات: 14 - 16.

ص: 199

اليوم إلى قسمين: قسم هم أصحاب الجنة، وقسم هم أصحاب النار، أصحاب الجنة هذا جزاؤهم {فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55)} .

2 -

ويستفاد من قوله: {فَاكِهُونَ (55)} كمال النعيم؛ لأنه كل ما كمل النعيم كمل التفكه بهذه النعمة التي يتنعم بها الإنسان.

* * *

{هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56)} {هُمْ} أي: أصحاب الجنة {وَأَزْوَاجُهُمْ} جمع زوج، وتطلق على الذكر والأنثى، فيقال: هذا زوج فلانة، ويقال: هذه زوج فلان، لكن أهل العلم قالوا: يجب التفريق -وإن كان لغة ضعيفة- في باب الفرائض فيقال: زوجة للأنثى، ويقال: زوج للرجل، لئلا يشبه على المتعلم كون المسألة المتوفى فيه زوج ذكر أو زوج أنثى، وإلا فاللغة العربية الفصحى حذف التاء من زوج، سواء كان للأنثى أو الذكر {فِي ظِلَالٍ} جمع ظلة، خبر للمبتدأ هم، أو جمع ظل، والمعنى لا يختلف كثيرًا، فهم في ظلال ليس عندهم شمس تصهرهم، أو تسخن الجو، وإنما هو أنوار، قال بعض أهل العلم: كالنور الذي يكون بين طلوع الفجر وطلوع الشمس، فهو نور ساطع ولكنه لطيف، لأن ألطف ما يكون هو مثل ذلك الوقت فهو ظل ظليل {عَلَى الْأَرَائِكِ} قال المؤلف:[جمع أريكة، وهو السرير في الحَجَلَة، أو الفرش فيها]{عَلَى الْأَرَائِكِ} جمع الأريكة هي السرير في الحجلة، أو الفراش فيها، ولكن الأكثر أنها السرير، والحجلة عبارة عن بيت صغير في وسط البيت الكبير، أي أنها بمنزلة الحجرة الخاصة بالمنام فيما نعرفه بيننا، فالدار مثلًا

ص: 200

تشمل حجرًا كثيرة متعددة، والحجرة الخاصة بالنوم هي مثل الحجلة، خيمة صغيرة تكون خاصة بالرجل وأهله، أو بالرجل وحده، أو بالمرأة وحدها {مُتَّكِئُونَ (56)} قال المؤلف:[خبر ثانٍ متعلق على] أي: على الأرائك متعلقة بمتكئون، وعلى كلام المؤلف يكون المبتدأ (هم) وفي (ظلال) خبر و (متكئون) خبر ثان، فالجملة على كلامه واحدة لكنها متعددة الخبر:(هم في ظلال متكئون) و {عَلَى الْأَرَائِكِ} متعلقة بمتكئون، ومناسبة تقديمها على عاملها: مراعاة فواصل الآيات، والقرآن الكريم يكون فيه مراعاة الفواصل حتى كان أدى إلى تقديم المفضول على الفاضل في سورة (طه) في قوله:{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)}

(1)

فقدم هارون على موسى، مع أن موسى أفضل، مراعاة للفواصل، لأن الفواصل إذا كانت متفقة كان لها تأثير في الاستماع والإصغاء والقرآن أبلغ الكلام، هذا ما ذهب إليه المؤلف، ولنا رأي ثان في الإعراب أن تكون {عَلَى الْأَرَائِكِ} خبر مقدم {مُتَّكِئُونَ} مبتدأ مؤخر، وعلى هذا فتكون لدينا جملتان، جملة {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ} والثانية:{عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} وما ذكرناه أعم؛ لأن ما ذكرناه يشمل أن يكون متكئين على الأرائك مع الزوجات، أو بدون زوجاتهم، وعلى كلام المؤلف رحمه الله يقتضي أن يكونوا متكئين على الأرائك مع الزوجات.

(1)

سورة طه، الآية:70.

ص: 201

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية الكريمة: أن لأهل الجنة زوجات لقوله: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ} وقد وصف الله هؤلاء الزوجات بصفات كثيرة، فقال عز وجل في سورة الرحمن:{فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ}

(1)

وقال: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ}

(2)

فقاصرات الطرف يعني أنها تقصر طرفها على زوجها لا تنظر إلى غيره؛ لأنها ترى أن زوجها أكمل الأزواج فلا يمتد نظرها إلى غيره، وهي أيضًا قاصرات لطرف زوجها عليها، فزوجها لا يمتد بصره إلى غيرها، فكل منهما راضٍ بصاحبه، وهن أيضًا {خيرات حسان} خيرات الطباع، حسان الوجوه والأجسام، وصفاتهن كثيرة في القرآن الكريم.

2 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن الجنة ليس فيها شمس لقوله: {وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ} .

3 -

ومن فوائدها: كمال راحة أهل الجنة لقوله: {عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} ، فإن المتكئ عادة يكون مستريحًا مطمئنًا، وكلما اطمأن الإنسان ازدادت راحته، والاتكاء على الأرائك لا شك أنه دليل على راحة البال وعدم الانشغال.

4 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن لأهل الجنة فيها الفاكهة وهي كل ما يتفكه به، وقد ذكرنا أن جميع طعامهم فاكهة يتفكهون بها.

5 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن لأهل الجنة كل ما

(1)

سورة الرحمن، الآية:56.

(2)

سورة الرحمن، الآية:70.

ص: 202

يتمنونه، بل يعطون أكثر مما يتمنون، وفيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

6 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن هذا القرآن الكريم مثاني، تثنى فيه المعاني، فيذكر الشيء ويذكر ضده، لأنه لو ذكر ما يكون به الرجاء دون ما يكون فيه الخوف، لغلب جانب الرجاء على جانب الخوف ووقع الإنسان في الأمن من مكر الله، ولو ذكر فيه جانب الخوف دون جانب الرجاء، لوقع الإنسان في القنوط من رحمة الله، فكان الله عز وجل إذا ذكر النعيم ذكر ضده، وإذا ذكر أصحاب الجنة ذكر أصحاب النار، وهكذا، وهذا أحد معاني قوله تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ}

(1)

يعني أنه تثنى فيه المعاني حتى يكون اليسر لله تعالى على الوجه المطلوب.

* * *

ثم قال الله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57)} أي لأصحاب الجنة {فِيهَا} أي: الجنة {فَاكِهَةٌ} أي: ما يتفكهون به، وكل أكل أهل الجنة فاكهة، لأنهم يأكلونه على سبيل التفكه لا على سبيل الحاجة والضرورة، ففي الدنيا قد نأكل أحيانًا تفكهًا، وأحيانًا للحاجة، وأحيانًا للضرورة، أما في الجنة فكل ما نأكله للتفكه؛ لأنه ليس هناك ضرورة أو حاجة، ولهذا يأكل الإنسان الأكل ويخرج هذا الأكل رشحًا مثل العرق، أطيب من ريح المسك، وليس فيها بول أو غائط.

فإذا قال قائل: إذا جعلت الفاكهة اسمًا لكل ما يأكلون؛

(1)

سورة الزمر، الآية:23.

ص: 203

لأنهم يأكلونه على سبيل التفكه، فكيف تجيب عن قوله تعالى:{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}

(1)

والأصل في العطف أن يكون للمغايرة، والنخل والرمان يؤكل.

فالجواب: يعلم مما ذكرنا آنفًا وهو أن الشيء إذا أفرد صار له معنى عامًّا، وإذا قرن بغيره صار له معنى خاصًّا مقابلًا لما قرن معه، لأن التقسيم يقتضي أن يكون المقسم إليه من طرف، غير المقسم إليه من الطرف الآخر، فنقول: النخل والرمان نص عليهما بخصوصهما لخاصية فيهما، وإلا فهما من الفاكهة، فيكون هذا من جنس عطف الخاص على العام، وعطف الخاص على العام في اللغة العربية كثير، مثل:{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا}

(2)

والروح هو جبريل عليه السلام وهو من الملائكة، ثم قال المؤلف:{وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57)} كل ما يتمنونه فإنه حاصل، بل إن الله يعطيهم أكثر مما يتمنون؛ لأن أمنية الإنسان محدودة، قد يرى أن هذا أكبر شيء، وفيه شيء آخر أكبر منه ولكنه لا يدركه. فالإنسان في الآخرة يعطى كل ما يتمنى، بل يزاد على ما يتمنى.

فإذا قال قائل: هل إذا اشتهى الإنسان الشيء في الجنة يحصل بمجرد هذه الشهوة، أو لابد من الطلب؟

فالجواب: أن هذا الأمر محتمل، يحتمل أن الإنسان إذا اشتهى شيئًا حصل له، ويحتمل أنه لابد أن يدعيه، والدعوى

(1)

سورة الرحمن، الآية:68.

(2)

سورة القدر، الآية:4.

ص: 204

بمعنى الطلب، وفائدة الطلب إظهار صدق الإرادة، كما أن الفعل يدل على صدق الإرادة، فلو أن أحدًا من الناس قال: أريد أن أزور فلانًا، فإن هذه الإرادة لا تظهر إلا إذا زاره بالفعل، وإلا فما دام لم يقم بالفعل فإن الإرادة قد تكون غير صادقة، وعلى كل حال يكفينا أن الله عز وجل يقول:{وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ}

(1)

فإن ظاهر الآية أن كل ما تشتهيه وإن لم تطلبه يحصل لك.

* * *

{سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)} قال المؤلف رحمه الله: [{سَلَامٌ} مبتدأ {قَوْلًا} أي: بالقول. خبره] على أنه منصوب بنزع الخافض، لأنه قال: أي بالقول. والنصب بنزع الخافض في غير (أنا) و (أن) ليس بمطرد، بل هو سماعي، إن سمع عن العرب النصب عمل به، وإن لم يسمع لم يعمل به، وقاعدة ذلك: أنه قد يحذف حرف الجر، فإذا حذف حرف الجر صار مدخوله منصوبًا، ويقال فيه: منصوب بنزع الخافض، ولكنه كما قال ابن مالك رحمه الله:

في أن وأنا يطر ومع أمن

لبس كعجبت أن يدم

فالمؤلف مشى على أن {قولًا} منصوب بنزع الخافض أي سلام بالقول من رب رحيم، وهذا أحد الوجوه في الآية الكريمة، ويجوز أن يكون {سَلَامٌ} خبر لمبتدأ محذوف، أي: هي سلام يعني الجنة، سلام كما قال تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ

(1)

سورة الزخرف، الآية:71.

ص: 205

السَّلَامِ}

(1)

ويجوز أيضًا أن يكون الخبر قوله: {مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} أي سلام بالقول واقع من الله عز وجل، وهذه الوجوة لا ينافي بعضها بعضًا من حيث المعنى، فإن المعنى كله واحد وهو أن الله تعالى يسلم عليهم بالقول، ويقول لأهل الجنة: سلام عليكم، وقوله:{مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} الرب في اللغة العربية يطلق على عدة معانٍ:

فيطلق على رب العالمين عز وجل، وهو بهذا المعنى يشمل الخلق، والملك، والتدبير، فالرب هو الخالق المالك المدبر.

ويطلق الرب على الصاحب، مثل قولهم: رب البيت، أي صاحب البيت، ومثل قوله عليه الصلاة والسلام في ضالة الإبل:"معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر، حتى يجدها ربها"

(2)

، أي: صاحبها.

وقوله: {مِنْ رَبٍّ} المراد به المعنى الأول يعني الله تعالى، فالله تعالى هو الرب، أي: الخالق، المالك، المدبر و {رَحِيمٍ} من الرحمة وهي صفة ذاتية، لم يزل الله سبحانه وتعالى ولا يزال متصفًا بها، لكن أفرادها تجدد باعتبار المرحوم، فالله عز وجل يرحم من يشاء، ومعلوم أن المرحوم يتجدد، فرحمة الله تعالى لهذا المرحوم تتجدد، أما أصل المعنى فإن الله تعالى لم يزل ولا يزال رحيمًا، وأهل السنة والجماعة وهم السلف يفسرون "الرحمة" بمعنى يليق بالله عز وجل. وأهل التحريف يفسرون

(1)

سورة يونس، الآية:25.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب اللقطة، باب ضالة الغنم (2428) ومسلم، كتاب القطة، باب معرفة العفاص (1722).

ص: 206

"الرحمة" إما بالإحسان، وإما بإرادة الإحسان فيقولون: معنى رحيم، أي: محسن، أو مريد للإحسان، قالوا: لأن الله لا يمكن أن يتصف بالرحمة، فإن الرحمة تدل على الضعف، وعلى الرقة واللين، وهذا لا يليق بالله سبحانه وتعالى. وفسروها بالإرادة، لأنهم يثبتون الإرادة، أو بالإحسان؛ لأن الإحسان منفصل عن الله عز وجل وهو مخلوق، ولا شك أن هذا تحريف، والرحمة إن كان يلزم منها الرقة واللين فهذا باعتبار رحمة المخلوق، أما باعتبار رحمة الخالق فلا يلزم منه هذا المعنى، على أننا نمنع أن يكون من لازمها الرقة واللين؛ لأنا نجد الملك القوي الشجاع يكون فيه رحمة، ولا ينقص ذلك من قوته وسلطانه شيئًا، لكن لو سلمنا جدلًا أنها تستلزم الرقة واللين فإنما ذلك باعتبار رحمة المخلوق.

الفوائد:

1 -

في هذه الآية الكريمة: دليل على ما يتمتع به أهل الجنة من السلامة من كل الآفات، ومن الأمراض، ومن الموت، ومن غيره، لأن الله تعالى يقول لهم {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} وهذا اللفظ الصادر من الله عز وجل ليس دعاء ولكنه خبر من الله، وإنما يكون مثل هذا دعاء إذا وقع من المخلوق، أما إذا كان من الخالق فهو خبر، أي: أن الله تعالى يخبرهم بأنه سيسلمهم من كل آفة.

2 -

ومن فوائد الآية الكريمة: وإثبات أن الله يقول ويتكلم وهذا حق، وقد اختلف أهل القبلة في كلام الله عز وجل:

فمنهم من قال: يتكلم بحرف وصوت على وجه يليق به،

ص: 207

ولا يشبه صوته أصوات المخلوقين.

ومنهم من قال: إنه لا يتكلم، ولكن يخلق كلامًا ينسبه إليه تشريفًا وتكريمًا.

ومنهم من قال: إنه يتكلم، لكن كلامه ما يقدره في نفسه، وأما ما يسمع فهو مخلوق.

فالأول مذهب أهل السنة والجماعة، والثاني مذهب المعتزلة ومن وافقهم، والثالث مذهب الأشاعرة، وحقيقة الأمر أن مذهب الأشاعرة هو مذهب المعتزلة، لأن الكل منهم متفقون على أن ما بين أيدينا من المصحف مخلوق، لكن الجهمية والمعتزلة قالوا: هو كلام الله، وأولئك قالوا: عبارة عن كلام الله، فهم أسوأ منهم في هذه الناحية، لأن المعتزلة والجهمية يقولون: إن القرآن كلام الله، كما قال الله عنه كلام الله {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ}

(1)

لكن هم يقولون {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} أي: الكلام الذي هو عبارة عن كلام الله.

والجهمية والمعتزلة أقرب إلى الحقيقة من الأشاعرة، ولكن كل منهم في ضلال مبين.

والصواب أنه كلام الله تكلم به بنفسه، وسمعه منه جبريل عليه الصلاة والسلام وألقاه إلى محمد صلى الله عليه وسلم.

3 -

ومن فوائدها: إثبات الربوبية، وهي هنا فيما يظهر -والله أعلم- من الربوبية الخاصة؛ لأن الذي يخاطب به من القوم المخلصين، والربوبية كما تقدم، تنقسم إلى قسمين: خاصة،

(1)

سورة التوبة، الآية:60.

ص: 208

وعامة، فالعامة هي الشاملة لجميع الخلق، فإن جميع الخلق مربوبون لله عز وجل، هو خالقهم ومالكهم، ومدبرهم، ومنها قول الله تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} أما الربوبية الخاصة فهي مختصة بعباد الله المخلصين من عباده المؤمنين من الرسل وأتباعهم، وهي أخص من الأولى؛ لأنها تقتضي عناية خاصة بالمربوب، وتوفيقًا له، وإصلاحًا لحاله، ومنها قوله تعالى:{رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)}

(1)

فإن موسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام- من عباد الله المخلصين، فكانت الربوبية في حقهما خاصة، ومنه دعاء المؤمنين لله عز وجل بهذا الاسم مثل {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا}

(2)

فالمراد به الربوبية الخاصة؛ لأن التوسل بالأخص، أخص بالدعاء من التوسل بالأعم، وقد اجتمع القسمان في قوله تعالى:{قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}

(3)

. فالأولى عامة، والثانية خاصة.

والرب من أسماء الله دل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "أما الركوع فعظموا فيه الرب"

(4)

، وقوله صلى الله عليه وسلم في السواك:"مطهرة للفم مرضاة للرب"

(5)

.

4 -

في هذه الآية الكريمة: إثبات الرحمة لله عز وجل

(1)

سورة الأعراف، الآية:122.

(2)

سورة آل عمران، الآية:16.

(3)

سورة الأعراف، الآيتان: 121، 122.

(4)

أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود 479 (207).

(5)

أخرجه الإمام أحمد (1/ 3).

ص: 209

لقوله: {رَحِيمٍ (58)} . وكون (الرحيم) من أسماء الله لا يخفى.

5 -

وفي هذه الآية: إشارة إلى أنهم إنما وصلوا إلى هذه المنزلة برحمة الله لقوله: {مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)} وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله" أو قال: "لن يدخل أحد الجنة بعمله"، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته"

(1)

. اللهم تغمدنا برحمتك، فالرسول عليه الصلاة والسلام أخبر أن لا أحد يدخل الجنة إلا أن يتغمده الله برحمته، أي يسبغ عليه الرحمة، فحينئذ يدخل.

* * *

قوله تعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)} ، قال المؤلف رحمه الله[ويقول:{وَامْتَازُوا} ] يعني أن القائل الله عز وجل، وفي الجزم بذلك نظر، فقد يكون الله عز وجل هو الذي يقول للمجرمين: امتازوا، وقد يكون القائل ملك من الملائكة، ولهذا لو قال المؤلف:(ويقال) لكان أولى؛ لأن الجزم بأن القائل هو الله يحتاج إلى توقيف، أي: إلى النص من الشارع، {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)} {الْيَوْمَ} المراد باليوم يوم القيامة، فأل هنا فيه للعهد الذكري {أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)} قال المؤلف:[أي: انفردوا عن المؤمنين عند اختلاطهم بهم]، يعني يقال يوم القيامة: امتازوا أيها المجرمون، وتميزوا عن المؤمنين، وانفردوا عنهم؛ لأن طريق المجرمين غيرُ طريق الأبرار، فالأبرار طريقهم إلى الجنة،

(1)

أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل (6463). ومسلم، كتاب صفات المنافقين 75 (2816).

ص: 210

وهؤلاء طريقهم إلى النار، قال تعالى:{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)}

(1)

فيمتاز هؤلاء عن هؤلاء، يقال لهم:{وَامْتَازُوا} على سبيل التوبيخ والإهانة، لأنك إذا رأيت مجتمعًا فقلت مثلًا: أيها الطائفة الفلانية امتازوا وابتعدوا، صار في هذا من إذلالهم وإهانتهم ما هو ظاهر، وقوله:{أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)} المجرم فاعل الإجرام، والإجرام هو: الذنب والإثم، أي: أيها الآثمون المذنبون امتازوا عن المؤمنين المطيعين.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية الكريمة: أن المجرمين يهانون يوم القيامة، بحيث يميزون من المؤمنين بلفظ الطرد {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ} أي: انفردوا وأبعدوا.

2 -

ومن فوائدها: أن الله تعالى يميز بين المجرمين والأبرار يوم القيامة، كما ميز بينهم في الدنيا، فإن طريق هؤلاء غير طريق هؤلاء.

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أنه ينبغي لمن قام بعمل أن يذكر الوصف المناسب لهذا العمل، فهنا لما أمروا بالانصراف وطردوا ناسب أن يذكر سبب ذلك، حيث قال:{أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)} كأنه قال: (امتازوا لإجرامكم)، ولا شك أن ذكر سبب الحكم يزيل الشبهة واللبس والاعتراض، وينبني على هذه الفائدة:

(1)

سورة مريم، الآيتان: 85، 86.

ص: 211

4 -

أن تعليق الحكم بوصف يدل على أن هذا الوصف هو علة ذلك الحكم، فإذا قلت مثلًا: أكرم المجتهد من الطلبة، فهنا علق الإكرام بالاجتهاد، وهذا يفيد أن علة الإكرام هو الاجتهاد، فهذه القاعدة مفيدة لطالب العلم، وهي أن تعليق الحكم بوصف يدل على عليته، أي: أنه علة ذلك الحكم.

5 -

حذفت ياء النداء من قوله: {أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)} فلماذا؟ يمكن أن يقول علماء البلاغة: إنها حذفت من باب الإهانة لهم حتى لا يطيل الكلام؛ لأن طول الكلام مع المخاطب من باب التبسط إليه والانشراح لمخاطبته، فإذا اختصر فهو نوع من الإهانة، وليس هذا على إطلاقه، بل هذا على حسب السياق، قد يكون من الإكرام أن تختصر الكلام، وقد يكون من الإكرام أن تبسط الكلام، لكن المقام في هذا لا يقتضي ذلك، بل يقتضي أن اختصار الكلام وعدم تطويله من باب الإهانة لهم.

* * *

{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)} قال المؤلف رحمه الله: [آمركم {يَابَنِي آدَمَ} على لسان رسلي {أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} لا تطيعوه {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60)} بين العداوة {وَأَنِ اعْبُدُونِي} وحِّدوني وأطيعوني {هَذَا صِرَاطٌ} طريق {مُسْتَقِيمٌ (61)}].

{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ} الاستفهام هنا للتقرير، والغالب أنه إذا وقع بعد الاستفهام ما يدل على النفي فالاستفهام

ص: 212

للتقرير مثل: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)}

(1)

فهذا للتقرير {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ} للتقرير {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ}

(2)

للتقرير {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}

(3)

للتقرير {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}

(4)

للتقرير، وهكذا كلما جاء ما يدل على النفي بعد أداة الاستفهام فإن الاستفهام يكون فيه غالبًا للتقرير، هنا يقرر الله عز وجل أنه عهد إليهم، ولهذا يصح أن تحول -في غير القرآن- إلى فعل ماض، فيقال: قد عهدت إليكم.

فإذا قال قائل: ما المراد بهذا التقرير؟

فالجواب: المراد به التوبيخ، يعني يقرر الله هذا الأمر توبيخًا لهم، وإقامة للحجة عليهم، إن الله عهد إليهم أن لا يعبدوا الشيطان، والعهد إلى الشيء فسره المؤلف أنه الأمر، فقال:[آمركم] ولكنه في الحقيقة أبلغ من الأمر، لأن العهد إليه كأنه متضمن للعهد والميثاق، وهو كذلك فإن الله أخذ علينا الميثاق أن لا نعبد إلا إياه، وأن لا نعبد الشيطان؛ لأنه عدو، وقوله:{يَابَنِي آدَمَ} تشمل الذكر والأنثى، وإن كان الابن يقال في الأصل للذكر، والبنون تقال في الأصل للذكور، لكن إذا كان يراد به القبيلة، أو الجنس فإنه يشمل الذكر والأنثى، حتى إن الفقهاء رحمهم الله قالوا: إذا وقف على بني تميم، شمل ذكورهم

(1)

سورة الشرح، الآية:1.

(2)

سورة الزمر، الآية:71.

(3)

سورة الزمر، الآية:36.

(4)

سورة التين، الآية:8.

ص: 213

وإناثهم، لكن إذا وقف على بني فلان. أي: واحد من الناس ليس قبيلة، فإنه يختص بالذكور فقط، فبنوا آدم هنا قبيلة بل شامل لكل القبائل فيشمل الذكور والإناث، وقوله:{أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} فسر المؤلف العبادة هنا بالطاعة؛ لأن طاعة الغير في محارم الله تعالى نوع من العبادة، كما قال تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا}

(1)

قال عدي بن حاتم رضي الله عنه: يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم -يعني لسنا نصلي، أو نركع، أو نسجد لهم-، قال:"أوليس يحلون ما حرم الله فتحلونه ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ " قال نعم، قال:"فتلك عبادتهم"

(2)

. وهذا الحديث وإن كان ضعيفًا ولكن الواقع أن طاعة غير الله في مخالفة أمر الله نوع من العبادة؛ لأن العبادة في الأصل هي التذلل والخضوع، وطاعة الأمر تذلل وخضوع، وقوله:{الشَّيْطَانَ} هل المراد بذلك الجنس، أو المراد الشيطان المعين؟ الظاهر أن المراد به الجنس، فيشمل شياطين الإنس، وشياطين الجن، فكما أن للجن شياطين فللإنس شياطين، يوجد من الإنس شياطين يأمرون الناس بالإثم والعدوان وينهونهم عن البر والإحسان، وقوله:{إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60)} {إِنَّهُ} أي: الشيطان {لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60)} فكل أحد يأمرك بمخالفة أمر الله سبحانه وتعالى فإنه عدو لك شعر بذلك أم لم يشعر، وعلى

(1)

سورة التوبة، الآية:31.

(2)

أخرجه الترمذي، تفسير القرآن، باب ومن سورة التوبة (3095).

ص: 214

رأسهم الشيطان الأول الذي يقود كل شيطان {عَدُوٌّ} العدو ضد الولي، والولي من يتولاك ويحوطك ويعتني بك، فالعدو ضده وهو الذي لا يريد لك الخير، وإنما يريد لك الشر، وقوله:{مُبِينٌ} قال المؤلف: [بين العداوة] وفسر {مُبِينٌ} ببين، لأنها من (أبان) و (أبان) تأتي بمعنى أظهر، وتأتي بمعنى ظهر، فإن كانت بمعنى أظهر فهي متعدية، وإن كانت بمعنى ظهر فهي لازمة، ولا يمكن أن نقول: إنها من المتعدي، أو اللازم، إلا بقرينة من السياق، فهنا نقول:{مُبِينٌ} إذا فسرناها بما فسرها المؤلف [بين العداوة] صارت من اللازم، مع أنه يمكن أن نجعلها من المتعدي، ونقول {مُبِينٌ} مظهر للعداوة؛ لأنه يأمرك بالشر، لكن هذا ضعيف، إذ لو أبان عداوته ما تبعه أحد، وإنما يغر الناس كما قال تعالى:{فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ}

(1)

إذن فجعل {مُبِينٍ} هنا من باب اللازم من أبان بمعنى ظهر {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61} {لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} {وَأَنِ اعْبُدُونِي} هذا نفي وإثبات، وهو حقيقة التوحيد {وَأَنِ اعْبُدُونِي} (أن) هنا مصدرية، ويصح أن تكون مفسرة، لأن أعهد متضمنة معنى القول، وإذا سبق (أن) ما يتضمن معنى القول دون حروفه صارت تفسيرية، مثل قوله تعالى:{فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ}

(2)

قوله: {وَأَنِ اعْبُدُونِي} أن الله عهد إلينا أن نعبده وحده، أي: تذللوا لي بالطاعة، والمؤلف قال:[وحدوني وأطيعوني] وهذا المعنى

(1)

سورة الأعراف، الآية:22.

(2)

سورة المؤمنون، الآية:27.

ص: 215

صحيح، فالعبادة توحيد الله عز وجل بالطاعة، والتذلل له بامتثال أمره، واجتناب نهيه {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)} المشار إليه ترك عبادة الشيطان وإفراد الله بالعبادة {صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)} الصراط فسره المؤلف بالطريق، ولكن الصحيح أنه ليس مطلق الطريق صراطًا، بل الصراط هو الطريق الواسع المتساوي؛ لأنه مأخوذ من الصّرط أو من الزرط، والزرط كما نعلم هو ابتلاع الشيء بسرعة، ولا يكون الطريق طريقًا ذا سرعة إلا إذا كان واسعًا وكان سهلًا، وأما قوله:{مُسْتَقِيمٌ (61)} فهذا وصف له، والاستقامة تشمل اعتدال السير، وتشمل أيضًا انبساط الأرض، فإذا قدر أن الطريق يذهب يمينًا وشمالًا، لم يصح أن نقول: إنه مستقيم، وإذا كان فيه مرتفعات ومنخفضات فليس بمستقيم، لأن بعضه مرتفع وبعضه نازل، فالاستقامة معناها أنه خال من الانحراف يمينًا وشمالًا، وخالٍ من الاختلاف في ارتفاعه وانخفاضه وقوله:{صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)} أي: إلى الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى أضاف الصراط إلى نفسه، وأضاف الصراط إلى خلقه فقال سبحانه وتعالى في سورة الفاتحة:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فأضاف الصراط إلى الذين أنعم الله عليهم، وقال:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}

(1)

.

فإن قال قائل: كيف نجمع بين الإضافتين؟

فالجواب: نقول: أضاف الله الصراط إلى الذين أنعم الله

(1)

سورة الشورى، الآية: 52 - 53.

ص: 216

عليهم؛ لأنهم السالكون له، وأضافه إلى نفسه؛ لأنه هو الذي وضعه لعباده، وهو موصل إليه، كما تقول: هذا طريق مكة، أي: الموصل إلى مكة، وتقول: هذا طريق فلان -إذا كان هو الذي وضعه للناس وشقه لهم-، أو هو الذي سلكه ومشى عليه.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى يحب الأعذار من نفسه، أي: يحب أن يقيم العذر لنفسه؛ لتقوم الحجة على خلقه لقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ} فإن من عهد إلينا أن لا نعبد الشيطان وأن نعبده وحده، قد أقام علينا الحجة، وأقام العذر لنفسه وهذا كقوله تعالى:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}

(1)

.

2 -

من فوائدها: إثبات رحمة الله عز وجل بالخلق، حيث لم يجعل إخلاصهم له موكولًا إلى عقولهم، بل عهد بذلك إليهم على ألسنة الرسل -عليهم الصلاة والسلام- لأن الله لو جعل الإخلاص موكولًا إلى العقول لاختلفت العقول في ذلك اختلافًا كثيرًا؛ لأن الأهواء لا تنضبط، فجعل الله عز وجل ذلك مما تكفل به هو نفسه لعباده، ففيه إثبات رحمة الله عز وجل بهذا العهد الذي عهد به إلى عباده.

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أنه ينبغي التصفية قبل التحلية؛ أو يقال التخلية قبل التحلية لأنه قال: {لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} هذا تخلية {وَأَنِ اعْبُدُونِي} تحلية، يعني نفي وإثبات،

(1)

سورة النساء، الآية:165.

ص: 217

وهذا هو التوحيد، فالتوحيد مبني على نفي وإثبات؛ لأن النفي المجرد تعطيل محض وعدم، والإثبات المجرد لا يمنع المشاركة، فلا يتم التوحيد إلا بنفي وإثبات، ولهذا لو قلت:(لا قائم في البيت) فهذا نفي مجرد معناه العدم، وإذا قلت:(زيد قائم في البيت) فهذا إثبات مجرد لا يمنع المشاركة، أي: قد يكون رجل آخر في البيت قائم، فإذا قلت:(لا قائم في البيت إلا زيد) فحينئذ تحقق الانفراد وتحقق التوحيد، وصار لا يوجد قائم في هذا البيت إلا زيد، إذًا التوحيد لابد فيه من هذين الأمرين: النفي، والإثبات، ولكن بماذا يبدأ؟ يبدأ أولًا بالنفي ليرد الإثبات على مكان خال من الشوائب، خالص صالح لاستقرار الإثبات فيه، ولهذا يبدأ بالنفي ثم بالإثبات وهذا في القرآن كثير، ومنه قوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي}

(1)

فتبرأ أولًا من كل معبود، ثم أثبت العبادة لله وحده الذي فطره.

4 -

من فوائد الآية الكريمة: أن طاعة الشيطان في معصية الله -ولا تكون طاعة الشيطان إلا في معصية الله- نوع من العبادة لقوله: {أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} لأن الطاعة فيها نوع من التذلل، والعبادة هي التذلل، فمن أطاع الشيطان في معصية الله فقد عبده.

5 -

ومن فوائدها: أن العبادة لا تختص بالركوع والسجود والذبح والنذر وما أشبه ذلك، بل هي عامة شاملة لكل طاعة يكون فيها كمال التذلل.

(1)

سورة الزخرف، الآيتان: 26، 27.

ص: 218

6 -

ومن فوائد الآية الكريمة: وجوب الحذر من طاعة الشيطان، حيث سمى الله تعالى طاعته عبادة، وكل إنسان يحذر من أن يعبد مع الله غيره، ففيه التحذير من طاعة الشيطان في معصية الله عز وجل.

7 -

ومن فوائد الآية الكريمة: {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)} وجوب عبادة الله وحده لقوله: {وَأَنِ اعْبُدُونِي} والعبادة تطلق على معنيين:

أحدهما: التعبد.

الثاني: المتعبد به.

التعبد يعني التذلل لله عز وجل، وهي بهذا المعنى فعل العبد يعني صلاته وزكاته، وقيامه، وحجه، وما أشبه ذلك، وتطلق العبادة على المتعبد به وهي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال، الباطنة والظاهرة، القلبية والجوارحية.

8 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن الصراط المستقيم هو التوحيد لقوله: {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)} {هَذَا} أي ترك عبادة الشيطان والالتزام بعبادة الله {صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أي طريق مستقيم لا عوج فيه، وإنما كان كذلك؛ لأنه موصل إلى رضا الله تعالى وجنته، فهو صراط مستقيم.

9 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن الصراط قد يكون مستقيمًا وقد يكون معوجًا، قال الله تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}

(1)

فكل واحد من

(1)

سورة الأنعام، الآية:153.

ص: 219

البشر له طريق، فإن كان على شرع الله فهو مستقيم، وإن كان على خلافه فهو معوج.

* * *

ثم قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)} {وَلَقَدْ} هذه جملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات هي: القسم المقدر؛ لأن اللام موطأة للقسم، واللام، وقد، والتقدير: والله لقد أضل.

فإذا قال قائل: كيف يقسم الله عز وجل وهو الصادق بالقول بلا قسم؟

نقول في الجواب على ذلك وجوه:

الوجه الأول: الإشارة إلى أن هذا أمر هام يحتاج إلى القسم عليه، لأنه لولا أهميته ما أقسم عليه.

الوجه الثاني: أن القرآن نزل باللغة العربية، ومن أساليب اللغة العربية أن الشيء إذا أريد إثباته وتحقيقه فإنه يقسم عليه.

الوجه الثالث: أن المقسم به إذا كان مصرحًا به، فإن الإقسام به يدل على عظمته فإن الله لا يقسم بشيء إلا لعظمة ذلك الشيء، مثل قوله:{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2)}

(1)

. وما أشبه ذلك مما أقسم الله به فإنه يدل على عظمة المقسم. {أَضَلَّ مِنْكُمْ} بمعنى أضاع وصرف عن الطريق المستقيم، يعني قادكم إلى ضلال ليس فيه هدى {جِبِلًّا} ، قال المؤلف رحمه الله:

(1)

سورة الشمس، الآيتان:2.

ص: 220

[جبلًا: خلقًا جمع جبيل كقديم، وفي قراءة جُبُلًا بضم الباء] والقراءة هذه سبعية؛ لأن اصطلاح المؤلف: أنه إذا قال: وفي قراءة، أو قال: مثلًا بضم الباء، فهي سبعية. وإذا قال: وقرئ فهي شاذة، إذًا فيها قراءتان سبعيتان: جُبْلًّا، وجُبُلًّا، وفيها قراءة ثالثة ما ذكرها المؤلف (جِبِلًّا) وفيها قراءة رابعة (جِبِلًا) بدون تشديد اللام، ولكن المؤلف رحمه الله ليس تفسيره جمعًا للقراءات، إنما يذكر ما رأى أن المصلحة تقتضي ذكره، ولكن لا شك أنه لو ذكرها لكان أحسن؛ لأنه أحيانًا يذكر قراءات متعددة في صفة الحرف كما ذكر القراءات المتعددة التي تبلغ إلى ست قراءات في مثل {أَأَنْذَرْتَهُمْ} من التسهيل، والتحقيق، والحذف وما أشبه ذلك، ولكن الإنسان بشر، أحيانًا يغفل ويهمل ما ينبغي أن يذكر، أو يذكر ما لا يحتاج أن يذكر، {جِبِلًّا} أي: خلقًا كثيرًا، ولا يعني ذلك أن الأكثر لم يضل من قبل الشيطان، بل هو أضل أكثر الخلق. لأنه ثبت في الحديث الصحيح أن الله يوم القيامة يقول:"يا آدم. فيقول: لبيك وسعديك. فيقول: أخرج من ذريتك بعثًا إلى النار، فيقول: يا ربي وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين"، هؤلاء كلهم في النار من بني آدم وواحد في الجنة، فشق ذلك على الصحابة وعظم ذلك وقالوا: أينا ذلك الواحد يا رسول الله؟ قال: "أبشروا فإنكم في أمتين ما كانتا في شيء إلا كثرتاه: يأجوج ومأجوج"

(1)

وهو كذلك فإن من شاهد الخلق الآن ونحن في جزء يسير من العصور وجد أن

(1)

أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله:{وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} (4741).

ص: 221

تسعمائة وتسعة وتسعين كلهم على ضلال، حتى المنتسبون منهم للدين الإسلامي عند طوائف منهم ضلال عظيم يبلغ بهم الكفر، وإن كانوا منتسبين إلى الإسلام: إذًا المراد بالكثير هنا الأكثر، قال:{أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)} الهمزة هنا للاستفهام، والمراد بالاستفهام التوبيخ، يوبخهم على عدم العقل، والفاء هنا عاطفة، والمعطوف عليه: إما ما سبق، وإما جملة مقدرة مناسبة للمقام، رأيان لأهل العلم.

فمنهم من يقول: إن حرف العطف يعطف ما بعده على ما قبله، ولكن في الكلمة تقديم وتأخير بين حرف العطف والهمزة، ولو جعل كل واحد مكانه لكان اللفظ (فألم تكونوا تعقلون).

ومفهم من قال: إن الهمزة في محلها، وأن الفاء عاطفة على مقدر يفهم من المقام، أو من السياق، وهذا قد يكون أقرب إلى القواعد لكنه أصعب، إذ إنك في بعض المواضع لا تستطيع أن تقدر شيئًا، ولا تعلم أي شيء يناسب، وحينئذ يكون الثاني هو الأيسر، والقاعدة عندي فيما إذا اختلف النحويون في مسألة: أن الراجح هو الأيسر، ما لم يلزم منه اختلاف المعنى، بحيث يكون المعنى التابع للأيسر غير صحيح فحينئذ لا نتبع الأيسر؛ لأنه يخل بالمعنى ويؤدي إلى معنى غير صحيح. لكن ما دام المعنى مستقيمًا على الوجهين، فالأيسر هو الراجح (يسروا ولا تعسروا){أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)} يعني أنه وبخهم على عدم عقلهم، والعقل نوعان: عقل بمعنى الإدراك، وهو الذي يترتب عليه التكليف. وعقل بمعنى التصرف، وهو الذي يترتب عليه المدح، أو الذم،

ص: 222

فالأول هو مناط التكليف وهو الذي يقول فيه الفقهاء من شروط العبادة (العقل) والمراد بالعقل في الآية العقل الثاني قطعًا؛ لأنه لو انتفى عنهم عقل الإدراك لم يكونوا مكلفين ولا يتوجه إليهم باللوم، لكنهم انتفى عنهم عقل التصرف، فلم يحسنوا التصرف، فصاروا عقلاء غير عقلاء، عقلاء باعتبار الإدراك المترتب عليه التكليف، وغير عقلاء باعتبار التصرف المترتب عليه المدح أو الذم، فهم أعطوا ذكاء ولم يعطوا عقلًا، وما أحسن عبارة شيخ الإسلام رحمه الله في المتكلمين حيث قال في وصفهم:(إنهم أوتوا ذكاء، وما أوتوا زكاءً، وأوتوا فهومًا، ولم يؤتوا علومًا، وأوتوا سمعًا وأبصارًا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم، ولا أبصارهم، ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله، وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون)، أوتوا ذكاء وما أوتوا زكاءً -نسأل الله العافية- فكان ذكاؤهم حجة عليهم، وأوتوا فهومًا عندهم فهم لكنهم ما عندهم علم، والإنسان إذا تكلم بفهمه لا بعلمه ضل وضاع، فلابد من علم تبني عليه عقيدتك وعبادتك. فهؤلاء أوتوا عقولًا تقوم عليهم بها الحجة، ولكنهم حرموا من العقول التي يترتب عليها المدح والذم التي هي الرشد وحسن التصرف، فلم يستعملوا عقولهم التي أنعم بها الله عليهم فيما ينفعهم، والمؤلف رحمه الله يقول {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)} عداوته وإضلاله، أو ما حل بهم من العذاب فتؤمنون] يعني لو أنكم عقلتم عداوته وإضلاله، أو عقلتم ما حل بالمتبعين له من العذاب والنكال لكنتم تخالفونه ولا تعبدونه، ولأمنتم بالله وحده،

ص: 223

ولكن الهوى غطى الهدى كما قال عز وجل: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ}

(1)

.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية الكريمة: بيان عداوة الشيطان لبني آدم، حيث أضل منهم جبلًا كثيرًا، أي: خلقًا كثيرًا عظيمًا.

2 -

ومنها: التحذير من الشيطان وإغوائه؛ لأنه لا يمكن أن يسعى لهداية بني آدم، ولكنه يسعى لإضلالهم.

3 -

ومنها: أن من اتبع الشيطان في إغوائه وإضلاله فهو غير عاقل لقوله: {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)} .

4 -

ومنها: أن من ساء تصرفه صح أن ينفى عنه العقل، وإن كان عاقلًا عقلًا ظاهرًا، لقوله هنا:{أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)} . وقد مر علينا أن العقل عقلان: عقل هو مناط التكليف وهو عقل الإدراك، وعقل هو مناط المدح والذم، وهو عقل التصرف الذي يكون به الرشد.

5 -

ومنها: توبيخ ولوم من تبع الشيطان في إضلاله لكونه غير عاقل، لقوله:{أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)} .

{هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63)} قال المؤلف في تقدير الكلام: [ويقال لهم في الآخرة {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63)} {هَذِهِ} الإشارة هنا إلى قريب؛ لأن إشارة البعيد (تلك) وهنا يقول: {هَذِهِ جَهَنَّمُ} إشارة إلى قربها منهم، لأنه

(1)

سورة فصلت، الآية:17.

ص: 224

يؤتى بها يوم القيامة تقاد بسبعين ألف زمام، كل زمام يقوده سبعون ألف ملك، تقاد ويؤتى بها ويشاهدها الناس ويلحقهم من الرعب العظيم ما لا يقدر الواصفون على وصفه، ويقال لهؤلاء المجرمين:{هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63)} وفي آية أخرى قال الله فيها: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)}

(1)

كانوا قبل أن يدعوا إليها يقال لهم: {الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63)} فإذا دعوا إليها، والدع يدل على أنهم يتراجعون على أعقابهم خوفًا منها، ولكنهم يدفعون دفعًا بقوة -والعياذ بالله- إليها ويقال:{هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14)} . والتكذيب عنف في رد الحق، والدع عنف، فصار الجزاء من جنس العمل، أما حين عرضت عليهم وقربت منهم قيل لهم:{هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63)} . أي: توعدون بها ولكنهم يكذبون كما قال الله تعالى: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14)} فهم توعدوا بها لكنهم كذبوا -والعياذ بالله- ويوم القيامة يوبخون على هذا التكذيب ويقال: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63)} {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14)} .

وهنا إشكال وهو: أنه قيل: إن الوعد في الخير والإيعاد في الشر، وعليه قول الشاعر:

(1)

سورة الطور، الآيات: 13 - 16.

ص: 225

وإني وإن أوعدته أو وعدته

لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

وهنا قال: {تُوعَدُونَ} ؟

فنقول: الأمر -كما قال المفسر- على حذف معلوم وهو قوله: (بها) أي توعدون بها، لا توعدونها. لو قال:(توعدونها) لصار للإشكال محل؛ لأن الجنة قال الله فيها: {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ}

(1)

{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ}

(2)

لكن هؤلاء وعدوا بها، يعني أنه قيل لهم: إنكم سوف تلاقونها، وهذا هو الواقع.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية الكريمة: إثبات نار جهنم، وأنها تشاهد عينًا يوم القيامة، لقوله:{هَذِهِ} والإشارة تكون إلى مشار إليه محسوس.

2 -

ومنها: بيان صفة النار وأنها -والعياذ بالله- كلها ظلمة، وكلها سواد لقوله {جَهَنَّمُ} لأنها من الجهمة، أي: الظلمة والسواد.

3 -

ومنها أيضًا: تقريع هؤلاء، وإظهار خطأهم في تكذيبهم لقوله:{الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63)} .

4 -

ومن فوائد الآية: صدق وعد الله سبحانه وتعالى حيث صدق وعده بما وعد به هؤلاء المكذبين حتى شاهدوا ما وعدوا به عيانًا.

* * *

(1)

سورة مريم، الآية:61.

(2)

سورة التوبة، الآية:72.

ص: 226

{اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)} .

هذا الأمر كوني -إن كان من الله- وإن كان ممن أمرهم الله أن يقولوا ذلك من الملائكة فهو أيضًا أمر كوني، والمراد به الإهانة والإذلال، وإذ من المعلوم أنهم لن يستطيعوا أن يصلوها، لكن يقال ذلك على سبيل الإهانة والإذلال {الْيَوْمَ} أل هنا للعهد الذكري، وقد يكون بالنسبة لمخاطبة هؤلاء الكفار للعهد الحضوري، يعني: هذا اليوم للحاضر اصلوا النار فيه.

ويتردد علينا كثيرًا العهد الحضوري، والذكري، والذهني فما هو الفرق بينها؟

العهد الحضوري ما كان معهودًا لحضوره، والذكري ما كان معهودًا لذكره، والذهني ما كان معهودًا في الأذهان.

مثال العهد الذهني: إذا قلنا: اذهب إلى القاضي، وأنت مثلًا في بلد، فتذهب إلى قاضي البلد نفسه؛ لأن هذا معروف في الذهن.

مثال العهد الحضوري إذا قلت: اليوم نكرمك، كقوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}

(1)

.

ومثال العهد الذكري قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16)}

(2)

يعني الرسول المذكور وليس رسولًا آخر.

(1)

سورة المائدة، الآية:3.

(2)

سورة المزمل، الآيتان: 15، 16.

ص: 227

{بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)} (ما) مصدرية، أي: بكونكم تكفرون، والباء للسببية، أي: بسبب، وقوله:{بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)} أي تكفرون به بالدنيا، فقد كفروا بالله، واليوم الآخر، والملائكة، والكتاب، والنبيين، وبكل ما أخبر الله به، ولهذا لم يقوموا بطاعته؛ لأنه ليس عندهم إيمان، وإنما يقال لهم {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)} لإقامة الحجة عليهم، وبيان أنهم لم يظلموا، ولهذا {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9)}

(1)

.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية الكريمة: بيان أن هؤلاء المكذبين يأمرون أمر إهانة وإذلال ليصلوا النار لقوله: {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ} .

2 -

ومن فوائدها: إثبات الأسباب لقوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)} وإثبات الأسباب أمر معلوم بالشرع والعقل والحس، ولا ينكر إثبات الأسباب إلا جاهل بحقيقة الواقع، فإنه لا أحد ينكر أنك إذا رميت الزجاجة بحجر انكسرت به، وإذا ألقيت الخرق في النار احترق بها، ولا ينكر هذا إلا شخص مكابر في الواقع، ومع هذا فالأسباب لا تفعل بذاتها، ولا تؤثر بذاتها بل بخلق الله سبحانه وتعالى التأثير فيها، وحينئذ لا يكون في إثبات الأسباب شيء من الشرك، خلافًا لمن زعم أن إثبات تأثير الأسباب نوع من الشرك؛ لأننا نقول: إن هذه الأسباب إنما تؤثر

(1)

سورة الملك، الآيتان:9.

ص: 228

بخلق الله عز وجل التأثير فيها، ولهذا إذا شاء الله أن لا تؤثر لم تؤثر، فإن النار طبيعتها الإحراق ومع ذلك لم تحرق إبراهيم عليه الصلاة والسلام بل كانت بردًا وسلامًا عليه، لأن الله قال:{يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)}

(1)

.

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: كمال عدل الله سبحانه وتعالى لقوله: {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)} أي: فلم تظلموا، بل أنتم الذين فعلتم ذلك بأنفسكم.

* * *

{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)} {الْيَوْمَ} يعني يوم القيامة قال المؤلف رحمه الله: [{أَفْوَاهِهِمْ} أي: الكفار لقولهم: والله ربنا ما كنا مشركين {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} وغيرها {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)} فكل عضو ينطق بما صدر منه {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} الختم على الشيء بمعنى إغلاقه وعدم الوصول إليه، ومنه ختمت الكيس إذا أحكمت شده، وختمت عليه بالشمع ونحوه كما يقولون، ومعنى {نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} أي نسدها فلا تتكلم، وذلك أن المشركين يوم القيامة إذا رأوا الموحدين قد نجوا، تكلموا وتبرؤا من الشرك، وقالوا: والله ربنا ما كنا مشركين، أي: أقررنا بأننا غير مشركين لعلنا ننجوا كما نجا أهل التوحيد، وحينئذ يختم على أفواههم، لأن أفواههم صارت تتكلم بالكذب فيختم على أفواههم، وتنطق الجوارح بما عملت،

(1)

سورة الأنبياء، الآية:69.

ص: 229

والجلود بما مست، فإن الجلد يمس المحرمات كمس المرأة لشهوة مثلًا فتشهد عليهم الجوارح؛ ولهذا قال عز وجل:{وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ} نفس اليد تتكلم تقول: عملت كذا، عملت كذا، {وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} نفس الأرجل تقول: أشهد أنه عمل كذا وكذا، وتأمل الفرق بين اليد والرجل، في اليد قال الله تعالى:{وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ} والأرجل قال: {وَتَشْهَدُ} قال بعض العلماء: لأن اليد تخبر عما فعلت، والرجل تخبر عما فعل غيرها؛ لأن الأصل في المباشرة اليد، ولهذا دائمًا يعلق الكسب باليد فيقال:{فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}

(1)

أو {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ}

(2)

فلهذا كانت الأيدي مباشرة، والأرجل شاهدة؛ لأن الشاهد هو الذي يخبر عما فعل غيره، والفاعل هو الذي يخبر عما فعله هو بنفسه -هكذا قال بعض أهل العلم- وهو فرق لا بأس به، مع أن الإنسان قد يشهد على نفسه كقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}

(3)

فإقرار الإنسان على نفسه شهادة عليه، لكن الفرق الذي أشار إليه بعض العلماء وذكرناه آنفًا فرق لا بأس به، قول المؤلف:[وتشهد أرجلهم وغيرها] قوله: (وغيرها) لا يعني ذلك أنه يستدرك على القرآن، لكنه ينبه على موضع آخر من القرآن، ففي آية أخرى بين الله تعالى أنه تشهد عليهم الجلود {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ

(1)

سورة الشورى، الآية:30.

(2)

سورة الروم، الآية:41.

(3)

سورة النساء، الآية:135.

ص: 230

وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ}

(1)

فالسمع والبصر والجلود لم تذكر هنا في آية سورة يس، وإنما ذكرت الأيدي والأرجل، ولهذا قال المؤلف (وغيرها) إشارة إلى أن هناك أعضاء تشهد غير الأيدي والأرجل {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ} فالسمع بما سمع، والبصر بما رأى، والجلد بما مس {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} ولم يقل:(وقالوا لأبصارهم، وسمعهم: لم شهدتم) لأن عذاب الجلد عام يشمل الجسد كله، لكن عذاب السمع والبصر خاص بالسمع والبصر، ولهذا قالوا لجلودهم:{لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} لأن العذاب سيكون على الجلود، كما قال تعالى:{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ}

(2)

والحاصل أنه يشهد غير الأيدي والأرجل فيكون الشهداء ستة: الأيدي، والأرجل، والسمع، والبصر، والجلود، والألسن، فقد ذكر الله تعالى في سورة النور أن الألسن تشهد {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}

(3)

فاللسان أيضًا يشهد عليهم، لأن اللسان هو أعظم الجوارح خطرًا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ:"ألا أدلك على ملاك ذلك كله؟ " قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسان نفسه، وقال: "كف

(1)

سورة فصلت، الآيات: 20 - 22.

(2)

سورة النساء، الآية:56.

(3)

سورة النور، الآية:24.

ص: 231

عليك هذا"، قلت: يا رسول الله، إنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: "ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم" أو قال:"على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم"

(1)

، وكل صباح تكفر الجوارح اللسان يعني أنها تجِعل الأمر مناطًا به، ولهذا قال في سورة النور:{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ} ونص على الألسن في سورة النور لأنه ذكر فيها ما يتعلق بذلك من الأمور العظيمة كالقذف مثلًا، وأعظمه قذف عائشة رضي الله عنها ولهذا ذكرت في سورة النور الألسن؛ لأن القذف قول، فقال:{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)} .

{بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)} تنازعه عاملان الأول: (وتكلم) والثاني: (تشهد) والتنازع أن يتوارد عاملان على معمول واحد، مثل أن تقول: أكرمت ورأيت زيدًا، فإن أكرمت ورأيت عاملان على معمول واحد وهو: زيد، أما أيهما يعمل هل هو الأول أو الثاني؟ فالعلماء اختلفوا في ذلك: يقول ابن مالك:

والثاني أولى عند أهل البصرة

واختار عكسًا غيرهم ذا أصبح

فالعامل الثاني هو الذي يعمل عند البصريين، وعند الكوفيين الذي يعمل هو الأول.

{بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)} ولم يقل: (بما كانوا يعملون)، لأن العمل قد لا يكون من كسب الإنسان، فقد يكون العمل خطأ فلا يؤاخذ به الإنسان، فلا يكون من كسبه، بل الذي يكون من

(1)

أخرجه الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة (2616) وقال:"حديث حسن صحيح".

ص: 232

كسبه هو العمل الذي يترتب عليه الثواب أو العقاب، ولهذا قال الله تعالى في سورة البقرة:{لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}

(1)

ولم يقل: (لها ما عملت، وعليها ما عملت) فالكسب أخص من العمل؛ لأنه لا يلزم من كل عمل أن يكون كسبًا، فقد يكون وقع عن سهو، أو جهل فلا يؤاخذ به الإنسان، وقد يكون عن غير قصد فلا يؤاخذ به الإنسان، لكن مع ذلك أحيانًا يطلق العمل ويراد به العمل الذي هو كسب مثل قوله تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}

(2)

يقول المؤلف: [{بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} فكل عضو ينطق بما صدر منه] فاليد تنطق بما بطشت، والرجل بما مشت، والعين بما رأت، والأذن بما سمعت، والجلد بما مس، كما تقدم.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى يختم على أفواه المكذبين يوم القيامة فلا يتكلمون، وقد سبق لنا الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى عنهم:{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)}

(3)

وهو أن للقيامة أحوالًا: حال يكذبون، وحال يقرون، لكن بعد أن تشهد عليهم أيديهم وألسنتهم وأرجلهم.

2 -

ومن فوائد الآية الكريمة: بيان قدرة الله سبحانه وتعالى

(1)

سورة البقرة، الآية:286.

(2)

سورة فصلت، الآية:46.

(3)

سورة الأنعام، الآية:23.

ص: 233

لقوله: {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} فإنه خلاف العادة أن تكلم الأيدي والأرجل، ولكن الله على كل شيء قدير، ولهذا لما ذكر الله عنهم أنهم قالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا: أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء.

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن الإنسان يمكن أن يشهد بعضه على بعض؛ لأن هذا الرجل الواحد تشهد عليه أعضاؤه بما عمل، فهل يتفرع على هذا: أن الإنسان في الدنيا يمكن أن يشهد على نفسه؟ نعم يمكن، وشهادته على نفسه هو إقراره على نفسه.

4 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن العبرة في العمل بما كان فيه من كسب، لا مجرد العمل لقوله:{بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)} وذكرنا في التفسير الفرق بين قوله: {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}

(1)

وقوله: {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)} لأن مجرد العمل قد لا يكون كسبًا كما لو صدر من جاهل، أو صدر من ساهٍ، أو نائم، أو ما أشبه ذلك.

* * *

{وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66)} قال المؤلف رحمه الله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} لأعميناهم طمسًا {فَاسْتَبَقُوا} ابتدروا {الصِّرَاطَ} الطريق ذاهبين كعادتهم {فَأَنَّى} فكيف {يُبْصِرُونَ (66)} حينئذ أي: لا يبصرون].

قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ} (لو) حرف امتناع لامتناع،

(1)

سورة الأنعام، الآية:108.

ص: 234

والذي امتنع الطمس لامتناع المشيئة، فإذًا هي حرف امتناع لامتناع. لو جاء زيد لأكرمتك، امتنع المجيء والإكرام، و (لولا) حرف امتناع لوجود و (لما) حرف وجود لوجود، فهذه الأدوات الثلاث تنازعت الوجود والعدم (لو جاء زيد لأكرمتك) امتناع الامتناع، (لولا زيد لأكرمتك) امتناع لوجود فإن شئت قلت (لولا مجيء زيد لأكرمتك) لكي ينطبق المثلان هنا {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ} (نشاء) الضمير ضمير جمع، يعني لو نشاء نحن، وهذا من المشتبه؛ لأن النصراني ادعى تعدد الآلهة لمثل هذا الضمير، قال: فالله عز وجل يعبر عن نفسه بنحن و (نشاء)(نريد) وما أشبه ذلك إذًا فهو متعدد، ولكننا نرد عليه بأن الجمع هنا للتعظيم وليس للتعدد، لأنه عميت عينه وعميت بصيرته عن الآيات الصريحة المحكمة الدالة على أن الله إله واحد {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ}

(1)

ولكن كما قال الله عز وجل: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ}

(2)

إذًا الضمير (نشاء) وهو ضمير جمع للتعظيم وليس للجمع قطعًا، لأن الله واحد {لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} الطمس أبلغ من الإعماء؛ لأن الطمس إزالة العين مرة واحدة ليس لها أثر، والعمى يكون مع بقاء العين، لكن قد تكون قائمة في صورتها وقد تختلف، المهم أن الطمس إزالة العين ومعالمها نهائيًا، لو شاء الله تعالى لفعل ذلك بعد وجود العين، لأن الله قال:{لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} والله عز وجل على كل شيء قدير،

(1)

سورة النساء، الآية:171.

(2)

سورة آل عمران، الآية:7.

ص: 235

فكما كان قادرًا على شق العين فهو قادر على طمس ذلك الشق، وإذا كان البشر ربما يخيط الشق حتى يتلاءم فما بالك بالخالق عز وجل، الذي يقول للشيء:(كن) فيكون {فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66)} هو يعني طمس على أعينهم فصاروا يتسابقون لعلهم يدركون الطريق الذي يوصلهم إلى مقصودهم، وكأنك تتصورهم الآن يتنافرون تنافر الحمر لعلهم يهتدون إلى الطريق، وهل يمكن للأعمى أن يدل الطريق من حيث الدلالة البصرية؟ ! لا يمكن، ولهذا قال:{فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66)} يعني كيف يبصرون الطريق وقد طمس الله أعينهم؟ ! والمقصود بهذه الآية أن الله سبحانه وتعالى طمس قلوب هؤلاء، ولو شاء لطمس أعينهم، فصار الطمس حسيًّا معلومًا، وكما أن المطموسة عينه لا يبصر، فكذلك المطموسة بصيرته لا يبصر الحق، كيف يمكن لإنسان طمس الله بصيرته أن يبصر الحق ويهتدي؟ هذا شيء متعذر كما أن من طمس الله بصره لا يمكن أن يهتدي إلى الطريق.

الفوائد:

1 -

في هذه الآية الكريمة إثبات مشيئة الله عز وجل لقوله: {وَلَوْ نَشَاءُ} ولكن كل شيء معلق بمشيئة الله فإنه مقرون بالحكمة؛ لأن الله عز وجل لا يشاء مشيئة مجردة بل مشيئته تابعة لحكمته، ودليل ذلك قوله تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)}

(1)

. فقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)} يدل على أن مشيئته مقرونة بالعلم والحكمة.

(1)

سورة الإنسان، الآية:30.

ص: 236

2 -

ومن فوائد الآية الكريمة أيضًا: بين تمام قدرة الله، لقوله:{وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} فهذه الأعين مبصرة لو شاء الله لطمسها وصارت كأن لم تكن.

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: ضرب المثل عن الأشياء المعقولة بالأشياء المحسوسة، فإن هؤلاء لو طمست أعينهم ما استطاعوا أن يهتدوا إلى السبيل، فكذلك إذا طمس الله بصيرة القلب -والعياذ بالله- لم يستطع الوصول إلى الحق، ولم يعرف الحق.

4 -

ومن فوائد الآية الكريمة: كمال بلاغة القرآن؛ لأن الله لو شاء لقال: (ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فما استطاعوا أن يذهبوا ولا يرجعوا)، لكن أتى به على هذا السياق الذي فيه توسع؛ لأنه أبلغ في التأثير، ولأنه يكون له نسق جيد تهفو إليه الأسماع وتلتذ بسماعه.

* * *

{وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67)} في الآية السابقة {لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} انتفاء الدلالة، وفي الآية انتفاء السير. {لَمَسَخْنَاهُمْ} قيل: المراد بالمسخ -كما قال المؤلف-[قردة وخنازير، أو حجارة].

وقيل: المراد بالمسخ الإبقاء على ما هم عليه، يعني يمسخون على مكانتهم فلا يستطيعون التحرك وهو آدمي، لكنه ممسوخ لا يستطيع الحراك، وأيًّا كان فالله على كل شيء قدير، فقد قلب الله تعالى بني إسرائيل قردة وخنازير، {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ

ص: 237

اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)}

(1)

{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ}

(2)

والله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، والنبي عليه الصلاة والسلام قال:"أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار، أو يجعل صورته صورة حمار"

(3)

، والأمر هين على الله سبحانه وتعالى يقول:(كن) فيكون، فيقول:{وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} أي: حولنا صورهم إلى صور أخرى من القردة والخنازير، أو جعلناهم حجارة، أو أننا أبقيناهم ماكثين كالجماد. المهم أن الله سبحانه وتعالى لو شاء لمسخهم وأبقاهم في مكانهم لا يتحركون، ولهذا قال:{فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67)} أي فما استطاعوا أن يمضوا؛ لأنهم مسخوا على مكانتهم وبقوا ثابتين، ولا يستطيعون أن يرجعوا، والذي لا يستطيع أن يمضي ولا يرجع ثابت، كالعمود لا يتقدم أمامًا ولا يتأخر خلفًا، لو شاء الله عز وجل لمسخهم على هذا حتى ظهر أمرهم محسوسًا، أما بالنسبة للخير والتقدم إليه فهم لم يتقدموا للخير، ولكن تأخروا عنه إلى الشر، ولهذا كان سيرهم الذي يسيرون عليه في العمل عكس الاتجاه الصحيح، بل مضاد له تمامًا.

(1)

سورة البقرة، الآية:65.

(2)

سورة المائدة، الآية:60.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب إثم من رفع رأسه قيل الإمام (691) ومسلم، كتاب الصلاة، باب تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود ونحوهما 114 (427).

ص: 238

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية الكريمة: إثبات مشيئة الله عز وجل لقوله: {وَلَوْ نَشَاءُ} وقد سبق الكلام عن المشيئة وأنها مقرونة بالحكمة في فوائد الآية السابقة.

2 -

ومن فوائد الآية الكريمة: كمال قدرة الله عز وجل.

3 -

ومن فوائدها أيضًا: أن الله سبحانه وتعالى لو شاء لأثبتهم في مكانهم بحيث لا يستطيعون الذهاب ولا الرجوع {فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67)} .

* * *

{وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)} .

هذه الجملة شرطية، فعل الشرط قوله {نُعَمِّرْهُ} وجوابه:{نُنَكِّسْهُ} يقول الله عز وجل: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ} أي: نجعل عمره طويلًا، ولهذا قال المؤلف رحمه الله[بإطالة أجله {نُنَكِّسْهُ} وفي قراءة بالتشديد من التنكيس]، القراءة التي جعلها المؤلف أصلًا (نُنْكِسْهُ) من الإنكاس، والقراءة التي في المصحف {نُنَكِّسْهُ} من التنكيس، والإنكاس والتنكيس بمعنى الرد من حال كاملة إلى حال ناقصة، وقوله:{نُنَكِّسْهُ} أو {نُنَكِّسْهُ} {فِي الْخَلْقِ} يقول المؤلف في تفسيرها: [أي: خلقه، فيكون بعد قوته وشبابه ضعيفًا وهرمًا]. فكلما طال العمر بالإنسان فإنه يرجع للوراء، ليس في القوة البدنية فحسب، بل في القوة العقلية، والقوة البدنية، والقوة الفكرية، فيضعف ويعود إلى أرذل العمر، كما قال الله عز وجل، {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ

ص: 239

شَيْئًا}

(1)

، وقوله:{ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً}

(2)

والغرض من هذا التنبيه -وإن كان أمرًا واقعًا وكل يعرفه- الغرض منه أن يبادر الإنسان عمره مادام في قوته وشبابه، لأنه سيأتيه اليوم الذي لا يكون عنده تلك القدرة البدنية، ولا القدرة الفكرية، ويكون تفكيره محدودًا كتفكير الصبي لا يفكر إلا بما يحيط به جدران بيته، ويكون عقله كذلك محدودًا لا يستطيع أن ينظر ويعقل، ويفكر في الأمور، ويوازن بينها ويحكم عليها، كذلك أيضًا يكون حفظه للأشياء محدودًا، فيمر به الشيء في الصباح ولا يستطيع التعبير عنه في المساء، وكل هذا أمر واقع وظاهر، بل من الناس من يسلب عقله نهائيًا، وربما يصل إلى حد يشبه الجنون فيؤذي أهله بالصراخ والعويل والأناشيد وما أشبه ذلك حسب ما كان عليه حين الصغر، حتى قيل: إن الإنسان إذا كان جمالًا مثلًا، وكان ينشد الأشعار تجده إذا كبر وهرم يبدأ ينشد هذه الأشعار فكل هذا أمر لابد منه، ولهذا قال الشاعر:

لا طيب للعيش ما دامت منغصة

لذاته بادكار الموت والهرم

فكل إنسان عاقل إذا تذكر أن مآله إما موت عاجل، وإما هرم، فإنه لا يطيب له العيش، ولكن العاقل ليس معنى أنه لا يطيب له العيش أنه يبقى في ندم وفي حزن، بل يسعى ويستعد لهذه الحال التي لابد منها، {أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)}. قال المؤلف رحمه الله: [إن القادر على ذلك المعلوم عندهم قادر على البعث فيؤمنون به،

(1)

سورة النحل، الآية:70.

(2)

سورة الروم، الآية:54.

ص: 240

وفي قراءة بالتاء] أي: (أفلا تعقلون)، وهي سبعية كما تقدم من اصطلاح المؤلف. هكذا قال المؤلف رحمه الله: إن المراد الاستدلال بتغيير حال الإنسان إلى هذه الحالة الدانية على أن الله تعالى قادر على أن يبعثهم، وهذا الذي قاله ممكن، لكن أحسن منه أن يقال: إن معنى قوله: {أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)} أفلا يكون لكم عقل فتبادروا أعماركم قبل أن تصلوا إلى هذه الحال؟ تبادروها بالإيمان والعمل الصالح ما استطعتم، حتى إذا وصلتم إلى هذه الحالة، وإذا أنتم على أتم استعداد لها، وغالبًا أن الإنسان الذي يمضي وقته بطاعة الله سبحانه وتعالى إذا هرم تجده لا يهتم إلا بالطاعات، كثير من المسلمين إذا هرموا تجده يقول: أين الماء؟ أريد أن أتوضأ، أو تجده يصلي دائمًا، أو تجده يقرأ القرآن دائمًا، أو يذكر الله تعالى دائمًا، وهذا من نعمة الله سبحانه وتعالى أن الإنسان يهرم على الحال التي يكون عليها، وعكس ذلك سيكون بالعكس من كان في حال قوته وشبابه على غير هذا العمل الصالح سوف يكون هذيانه إذا كبر بهذا العمل السيء، نسأل الله العافية والسلامة.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية الكريمة: بيان حال الإنسان وأنه ينتقل من طور إلى طور، وقد بين الله عز وجل ذلك في قوله:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)}

(1)

. لكن هذه

(1)

سورة الروم، الآية:54.

ص: 241

الآية فيها دليل على أن الإنسان إذا تقادم في السن فإنه يرجع إلى الوراء لقوله: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} .

2 -

يتفرع على الفائدة السابقة: أنه ينبغي للإنسان أن يغتنم فرص العمر وقوته وشبابه قبل أن ينكس في الخلق.

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: التنديد بهؤلاء المكذبين؛ لقوله: {أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)} .

4 -

ومن فوائد الآية الكريمة: الحث على التعقل والتفكر وحسن التصرف حتى يكون الإنسان من العقلاء.

5 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن العقل غير الذكاء؛ لأن الإنسان قد يكون ذكيًّا ولكنه ليس بعاقل؛ لقوله: {أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)} ومن المعلوم أن هؤلاء عندهم من عقل الإدراك والذكاء الشيء الكثير.

* * *

{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)} قال المؤلف رحمه الله في تفسيره: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ} أي: النبي {الشِّعْرَ} رد لقولهم: إنما أتى به من القرآن شعرًا {وَمَا يَنْبَغِي} يسهل {لَهُ} الشعر {إِنْ هُوَ} ليس الذي أتى به {إِلَّا ذِكْرٌ} عظة {وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)} مظهر للأحكام وغيرها] قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} {وَمَا عَلَّمْنَاهُ} (نا) تعود إلى الله سبحانه وتعالى، وأما الضمير (الهاء) فيعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

فإذا قال قائل: أين مرجع الضمير لأن كل الآيات السابقة ليس فيها ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم؟

ص: 242

قلنا: إن الضمير يعلم مرجعه من السياق السابق، أو السياق اللاحق، وهذا يشبه العهد الذكري في (أل)، أو من الفهم بحيث يكون الأمر مفهومًا عند المخاطب، وهذا كالعهد الذهني، وهنا يعلم مرجع الضمير في قوله:{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)} ومعلوم أن الذي جاء بهذا الذكر والقرآن المبين هو محمد صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ} أي: ما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم الشعر؛ لأن الشعر لو علمه الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم لكان في ذلك حجة للمبطلين المكذبين، ولقالوا: إنما هذا القرآن من جملة الشعر الذي علم إياه، ولهذا لم يعلم الشعر، ولم يعلم الكتابة كما قال تعالى:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)}

(1)

فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل شعرًا أبدًا، وإذا قدر أن جرى على لسانه كلام موزون وزن الشعر فإنه ليس عن قصد وإرادة، وإنما جاء عفوًا، والذي يأتي عفوًا ليس مقصودًا فلا يكون معلومًا مثل قوله صلى الله عليه وسلم:

"أنا النبي لا كذب

أنا ابن عبد المطلب"

(2)

فإن هذا رجز، ولكنه ليس عن قصد، فلا يكون ذلك شعرًا، أما الشعر فإنه الكلام الموزون المقفى الذي يأخذ باللب، وسمي شعرًا لأنه يأخذ بالشعور، ولهذا تجد أن النظم يأخذ باللب أكثر من أن يأخذ النثر، فربما تسمع خطبة بليغة جيدة جدًّا، وتجد ما

(1)

سورة العنكبوت، الآية:48.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب الجهاد، باب من قاد دابة غيره (2864). ومسلم، كتاب الجهاد، باب غزوة حنين (1776).

ص: 243

يماثلها في المعاني بالنظم ولكنك ترى أن تأثير النظم أشد، وأقرب للشعور أكثر، ولهذا سمي شعرًا، وبه نعرف أن ما يسمى الآن بالشعر المنثور ليس بشعر؛ لأنه لا يأخذ بالمشاعر، فهو ليس بشعر وليس بنثر، وإنما هو كالمنافق لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، لا يطرب إليه من يطربون إلى النثر والخطب، ولا يطرب إليه من يطربون إلى الشعر والقصائد، فهو في الحقيقة ليس بشيء، ولكن لكل امرئ من دهره ما تعود، والذين أحدثوه يطربون له، ويرون أنه أشد شاعرية من شعر امرئ القيس. {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْر} قال المؤلف:[ردّ لقولهم: (إن ما أتى به من القرآن شعر] والمكذبون والذين يقومون ضد -أي إنسان- لا بد أن يصفوا قوله بالمعائب لأجل أن ينفر الناس عنه، ولكن كما قال الله عز وجل:{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ}

(1)

وقال الله سبحانه وتعالى في سورة الذاريات: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)}

(2)

كل الرسل وصفوا بهذين الوصفين من أعدائهم: السحر، والجنون، ومحمد عليه أفضل الصلاة والسلام أيضًا وصف بذلك، وصفوه بأنه ساحر، وشاعر، ومجنون، وكاهن، وكذاب، كل ذلك من أجل أن ينفروا الناس عنه، ولكن هل حصل الأمر وهل نفر الناس؟ أبدًا، لأن الحق -والحمد لله- سيعلو مهما قوبل به من صدمات فإن العاقبة له.

(1)

سورة التوبة، الآية:32.

(2)

سورة الذاريات، الآية:52.

ص: 244

فإذا قال قائل: هذا الوصف للرسول عليه الصلاة والسلام هل يتعدى إلى أتباعه؟

فالجواب: نعم. كل ما وصفت به الرسل يوصف بمثله أتباعهم، ألم تعلموا أن المجرمين إذا رأوا المؤمنين يقولون:{إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32)}

(1)

يصفونهم بالضلال، وفي عصرنا يصفونهم بالرجعية والتأخر وما أشبه ذلك من الكلمات التي ينفرون الناس بها عن الحق، وأهل البدع يصفون أهل السنة والجماعة بألقاب السوء يقولون: إنهم نوابت، غثاء، حشوية، مجسمة، مشبهة، وما أشبه ذلك، كل هذا من أجل التنفير عمّا هم عليه، ولكن الحمد لله أن الأمر يكون ثوابًا لهؤلاء الذين يوصفون بهذه العيوب، وامتحانًا لهم بالصبر على ما هم عليه من الحق، ثم العاقبة تكون لهم، {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} الشعر قال المؤلف:[أي: ما يسهل له الشعر]. بل هو صعب عليه إنشاءً، وصعب عليه إنشادًا، فهو عليه الصلاة والسلام إذا أنشد شعر غيره ينشده أحيانًا على غير الوزن المعروف، لأنه ليس له عناية بالشعر أو تحفظ له، أما بنفسه فلا ينشد.

ولكن الأولى أن نفسر {وَمَا يَنْبَغِي} أي: ما يمكن ولا يصلح له، ولا يليق به، لأنه كل ما جاءت في القرآن {وَمَا يَنْبَغِي} فالمراد بها الممتنع غاية الامتناع، كما في قوله تعالى:{وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)}

(2)

أي: مستحيل غاية الاستحال، ومثل قوله تعالى:{لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} يعني هذا شيء

(1)

سورة المطففين، الآية:32.

(2)

سورة مريم، الآية:92.

ص: 245

مستحيل أن تدرك القمر هذا حسب العادة فيما يتعلق بالشمس {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} أي ما يمكن ولا يليق به عليه الصلاة والسلام أن يكون شاعرًا. فلا يصح ولا يمكن أن يُعلم أو يتعلم الشعر؛ لأن تعلمه الشعر يوجب احتجاجًا من المبطلين كما في قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)}

(1)

فلو تعلم النبي صلى الله عليه وسلم الشعر لقالوا: إن هذا القرآن شعر مما تعلمه.

سؤال

(2)

: لماذا وصف العرب الجاهليون القرآن بالشعر مع أن الفرق بين الشعر والنثر واضح لدى عامتهم فضلًا عن خواصهم؟

الجواب: المبطل يموه بكل شيء، وإذا كثرت الدعايات والكلام والقول فقد ينقلب الأمر، فهم يعرفون أن هذا ليس بشعر، لكن قد يقولون: هذا شعر على وجه جديد وما أشبه ذلك، يروجون لدعايتهم حتى يشتبه الأمر.

سؤال: يقول من يروج للشعر الحديث: إن الشعر كان عند العرب بهذا الشكل بدليل أنهم نعتوا القرآن بالشعر وليس موزونًا ولا مقفى؟

الجواب: هذا من باب الترويج، ولهذا لا تستطيع أن تأتي بقصيدة واحدة أبدًا على مثل شعرهم هذا.

كما أنه لو كان يكتب لقالوا إن هذا شيء مما كتبه. {إِنْ هُوَ

(1)

سورة العنكبوت، الآية:48.

(2)

هذا السؤال والذي يليه طرحا على فضيلة الشيخ رحمه الله أثناء الدرس فأثبتهما مع جوابهما، والله الموفق.

ص: 246

إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)} قال المؤلف: [ليس الذي أتى به إلا ذكر] فأفادنا بأن (إن) هنا نافية، أي: ما هو إلا ذكر، و (إِن) تأتي لعدة معانٍ: تأتي زائدة، وشرطية، ونافية، ومخففة من الثقيلة. والذي يعين المعاني المتعددة في الكلمة الواحدة هو السياق، وهذه قاعدة في كل كلمة ذات معاني متعددة أنه يعينها السياق، وقرينة الحال، وهي هنا نافية، قال {هُوَ} الضمير يعود على المصدر المفهوم من {عَلَّمْنَاهُ} ، وكون مرجع الضمير مصدرًا معلومًا من الفعل السابق أمر لا يستغرب، ألم تر إلى قوله تعالى:{اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}

(1)

{هُوَ} أي: العدل المفهوم من كلمة: (اعدلوا) وهنا {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)} أي: ما الذي علمناه إلا ذكر وقرآن مبين. قوله: {إِلَّا ذِكْرٌ} قال المؤلف: [عظة] يعني موعظة يتذكر بها من تذكر، والذي يتذكر بهذا القرآن بينه الله تعالى في قوله:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)}

(2)

وهذا باعتبار الاستعداد والقبول، وجاء في آيات أخرى ما يدل على أن كل المتقين يتعظون بهذا القرآن، فيكون فيه بيان للذين يتعظون به من حيث السلوك، ففي سورة "ق" بيان الذين يتعظون به من حيث القبول والاستعداد بالتذكر، وفي الآيات الأخرى التي تربط التذكر بالقرآن بالإيمان والتقوى وما أشبه ذلك دليل على من يتعظ به من حيث السلوك والعمل،

(1)

سورة المائدة، الآية:8.

(2)

سورة ق، الآية:37.

ص: 247

وكلما ازداد الإنسان عملًا بالقرآن ازداد تذكرًا به، وهذا الذي ذكره المؤلف رحمه الله في معنى الذكر هو أحد المعاني؛ لأن الذكر الذي وصف به القرآن يتضمن عدة معان:

المعنى الأول: ما ذكره المؤلف وهو العظة والتذكر به.

المعنى الثاني: إنه ذكر يذكر به الله، وهو أشرف أنواع الذكر، لأن القرآن كلام الله عز وجل، فبمجرد ما تتلوه وأنت تشعر أنه كلام الله سوف تذكر عظمته عز وجل؛ ولأن القرآن يشتمل على أخبار هي أصدق الأخبار وأنفعها للقلوب؛ ولأنه يشتمل على قصص هي أحسن القصص وأجملها وأتمها؛ ولأنه يشتمل على أحكام من لدن حكيم خبير، هي أعدل الأحكام وأقومها لمصالح العباد؛ ولأنه يشتمل على أوصاف الله تعالى وأسمائه التي هي أفضل الأسماء وأشرف الأوصاف، وكل هذا ذكر، فالقرآن نفسه ذكر لله عز وجل؛ لأنه يشتمل على كل هذه المعاني التي بينها الله تعالى في كتابه.

المعنى الثالث: أنه رفعة وشرف لمن يقوم به ويعمل به لقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)}

(1)

والذكر بمعنى الرفعة والشرف موجود في القرآن كما في الآية السابقة، وكما في قوله تعالى:{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)}

(2)

أي: ذكرك بالشرف والتبجيل والتعظيم. ولا شك أن من تمسك بالقرآن فإن له الشرف والسيادة على جميع الخلق، ولهذا فإني أحثكم على أن تمسكوا

(1)

سورة الزخرف، الآية:44.

(2)

سورة الشرح، الآية:4.

ص: 248

بهذا القرآن العظيم، وإذا تمسكتم به عقيدة، وعملًا، وهديًا فستكون العاقبة لكم، ولا تظنوا أنكم قليلون -لو كنتم قليلين- فإن الاهتداء بالقرآن يستلزم أن ينجذب الناس للمهتدي به حتى يكثروا شيئًا فشيئًا، كالحجر تلقيه في اليم ثم تتسع الدائرة حتى يشمل اليم كله، فالحاصل أن الإنسان إذا تمسك بهذا القرآن الكريم فسوف يكون له الشرف والسيادة والظهور على جميع الخلق، قال:{وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} قرآن يحتمل أن يكون معنى مفعول، وأن يكون بمعنى فاعل؛ لأن قرآن مصدر مثل: الشكران، والغفران، والنكران، وما أشبهه، والمصدر يأتي بمعنى اسم الفاعل، ويأتي بمعنى اسم المفعول، وعلى هذا فهو قارئ ومقروء، أما كونه قارئًا فلأنه من القر يعني الجمع فهو جامع للأحكام، والأخلاق، والآداب الموجودة في الكتب السابقة قبله، كما قال الله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}

(1)

وجامع أيضًا لكل ما تقوم به أمور الدنيا وأمور الآخرة، وهو أيضًا مقروء أي: متلو؛ لأنه يتلى، والقراءة بمعنى التلاوة. {مُبِينٌ} قال المؤلف رحمه الله[مظهر للأحكام وغيرها] فـ {مُبِينٌ} هنا من (أبان) بمعنى أظهر، وقد سبق لنا مرارًا أن (أبان) يكون لازمًا، ويكون متعديًا، يكون لازمًا بمعنى ظهر، وهو كثير في القرآن مثل:{وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)}

(2)

أي: بين ظاهر،

(1)

سورة المائدة، الآية:48.

(2)

سورة آل عمران، الآية:164.

ص: 249

وتأتي مبين من (أبان) بمعنى أظهر، أي: المتعدي كما في الآية: {مُبِينٌ (69)} أي مظهر، مظهر للأحكام وغير الأحكام، كما قال الله تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}

(1)

فما من شيء يحتاج الناس إليه إلا وجد في القرآن، لكن وجوده في القرآن: إما أن يكون على وجه صريح، أو على وجه ظاهر، أو على وجه الإيماء والإشارة، أو على وجه الشمول والعموم، أو على وجه اللزوم، فالمهم أن القرآن مبين لكل شيء، تارة يذكر الدليل على المسألة، وتارة يذكر التوجيه إلى الدليل فمثلًا: هناك مسائل لا توجد في القرآن وهي من أهم أحكام الإسلام كعدد الركعات في الصلوات، وتقدير أنصبة الزكاة، وما يجب فيها، وما أشبهها لكن في القرآن ما يشير إليه مثل قوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}

(2)

فهذه الآية إذا وجهتها إلى السنة شملت جميع السنة، وشرعنا كله لا يعدو الكتاب والسنة، إذًا فالقرآن مبين لكل شيء، وهو أيضًا مبين لكل ما سبقنا من الحوادث التي يكون في بيانها مصلحة كقصص الأنبياء، وقصص الأولياء، وقصص المكذبين للرسل وغير ذلك، فكل ما سبق مما فيه مصلحة لنا فهو مذكور، أما ما ليس فيه مصلحة فإنه لا حاجة إلى ذكره، وقد يكون هذا الشيء الذي لم يذكر موكولًا إلى عقول الناس وتجاربهم، كما في كثير من طبائع الأشياء الأمور الطبيعية سواء الفلكية، أو الجولوجية، أو غير ذلك نجد أن القرآن لم

(1)

سورة النحل، الآية:89.

(2)

سورة الحشر، الآية:7.

ص: 250

يفصلها ولم يبينها؛ لأنه ليس فيها فائدة، فائدتها تكمن في أن الناس يطلبونها وينظرون في آيات الله، ويتحركون حتى يدركوها، ولهذا تجد بعض المسائل التي يتنازع فيها الناس كمسألة دوران الأرض ليست موجودة في القرآن على وجه صريح، ولو كان هذا مما يتعين علينا اعتقاده إثباتًا أو نفيًا لكان الله عز وجل يبينه بيانًا واضحًا كما بين الأمور التي لابد لنا من الاعتقاد فيها على وجه صريح، إذًا هذه موكولة للناس، واستخراج ما في الأرض من المعادن وغيرها من المصالح العظيمة التي لم يطلع عليها إلا أخيرًا هذه أيضًا لم تذكر في القرآن، وإن كان في القرآن إشارة إليها، لكنه لم تذكر على وجه التفصيل بل قال الله تعالى:{وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ}

(1)

وقطع من صيغ جموع التكثير لو تقول: "إنها ملايين القطع" لم يخرج عن دلالتها، هذه القطع لولا أنها تختلف في منافعها وذواتها وكل ما يتعلق بها ما قال الله {قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} إذًا هي متباينة. في هذه الآية تستطيع أن تقول: إن الله أرشدنا إلى استخراج المعادن من الأرض، لأن الله بين أنها قطع، وليست القطع التي فوق التراب فقط، ففيه أشياء كثيرة ما تعلم وربما تعلم في المستقبل، وربما بعضها علم الآن، فالقرآن مبين لكل شيء، وإذا تدبرت القرآن مرة بعد أخرى لا تعيد التدبر مرة ثانية إلا ظهر لك معنى جديدًا غير الأول، ولا يمكن لأحد أن يحيط بمعاني القرآن، لكن كلما تدبره الإنسان طالبًا للحق، مريدًا للصواب فإنه يهتدي إلى معاني كثيرة، سئل علي بن أبي طالب

(1)

سورة الرعد، الآية:4.

ص: 251

-رضي الله عنه هل عهد إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء - لأنه كان يروج في ذلك الوقت - من وقت علي والشيعة يروجون بأن النبي صلى الله عليه وسلم عهد بالخلافة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه فسئل هل عهد إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ يعني من الخلافة، أو من العلوم التي كتمها عن الناس؟ فقال: لا والذي برأ النسمة، وفلق الحبة إلا فهما يؤتيه الله تعالى من شاء في كتابه، وما في هذه الصحيفة، والذي في هذه الصحيفة العقل، وفكاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر

(1)

. الشاهد قوله: "إلا فهمًا يؤتيه الله تعالى من شاء من كتابه" وهذا الفهم يختلف فيه الناس اختلافًا كثيرًا جدًّا جدًّا، ترى بعض العلماء يتكلم عن آية يستخرج منها فوائد محدودة معدودة، وترى آخر يتكلم عليها ويستخرج منها أضعافًا مضاعفة بالنسبة لما استخرجه الأول، وكل هذا بحسب استعداد الإنسان وفهمه وبصيرته، وكلما ازداد الإنسان إيمانًا وتقوى ازداد هدى بالقرآن {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)}

(2)

.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية الكريمة: في هذه الآية رد وتكذيب للمشركين الذين قالوا: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم شاعر، حيث قال تعالى:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} .

2 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أنه لا يصلح ولا يليق برسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون شاعرًا؛ لأن مقام النبوة أسمى وأعلى من أن ينحط

(1)

أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب كتاب العلم (111).

(2)

سورة محمد، الآية:17.

ص: 252

الإنسان إلى رتبة الشعراء.

وقد يقال: إن فيها ملاحظة البعد عن الشبه، بمعنى أنه ينبغي للإنسان أن يبتعد عن كل ما يوجب الشبهة حوله، فمقام النبوة الذي ادعي فيه أنه شعر ينبغي أن يبتعد الإنسان عمّا يوجب هذه الشبهة، ويؤيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يمشي مع صفية رضي الله عنها فمر به رجلان فأسرعا فقال:"على رسلكما فإنها صفية بنت حيي"

(1)

وهذه فائدة عظيمة؛ لأن بعض الناس يقول: ما دمت نزيهًا فلا يهمني أن يسيء الناس الظن بي. وهذا ليس بصحيح، وليس من حسن الرعاية لنفسه أن ينزل بها إلى هذا الحد، بل الإنسان مأمور أن يدفع عن نفسه الشبهات واللوم والظن.

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن هذا القرآن العظيم الذي علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر، وقد تقدم في التفسير أنه ذكر من ثلاثة أوجه.

4 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أنه كلما تمسك المسلمون بهذا الكتاب العزيز فإنهم يزدادون عزة وشرفًا؛ لأن المعلق على وصف يقوى بقوة ذلك الوصف، ويضعف بضعف ذلك الوصف.

5 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن هذا القرآن مبين لكل شيء، فكل شيء يحتاج الناس إليه فهو مبين؛ لقوله تعالى:{وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)} .

* * *

(1)

أخرجه البخاري، كتاب الاعتكاف، باب زيارة المرأة زوجها في اعتكافه (2038) ومسلم، كتاب السلام، باب بيان أن يستحب لمن رؤي خاليًا بامرأة وكانت زوجة

أن يقول: هذه فلانة (2175).

ص: 253

{لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)} .

قال المؤلف: [بالياء والتاء]{لِيُنْذِرَ} بالياء الضمير يعود على القرآن {لتنذر} الضمير يعود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن على قراءة التاء قدر المؤلف:[لتنذر به] فكلمة [به] تعود على القراءة الثانية وهي: [لتنذر]، أما القراءة الأولى [لينذر] فلا تحتاج إلى هذا التقدير، ولا شك أن القرآن نفسه منذر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم منذر به، فالقرآن فيه وعيد، وفيه أوصاف لمن يستحق هذا الوعيد، وهذا هو الإنذار، كما أن فيه بشارة، وأوصافًا للمبشرين، وهذا هو التبشير، فالقرآن فيه بشارة وفيه إنذار، والنبي صلى الله عليه وسلم جاء بالقرآن، وأنذر به، وخوف به، ورغب به {مَنْ كَانَ حَيًّا} قال المؤلف:[يعقل ما يخاطب به وهم المؤمنون]{مَنْ كَانَ حَيًّا} هل المراد هنا بالحياة الحياة المعنوية التي هي حياة القلب، أو الحياة الحسية التي هي حياة الجسم؟

الظاهر أنه يشمل الأمرين، ولهذا قال ابن كثير رحمه الله: من كان حيًّا على وجه الأرض. يعني من كان حيًّا حياة جسمية؛ لأن رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم رسالة عامة لجميع الخلق، فهو ينذر من كان حيًّا، أي: ينذر كل حي، أو من كان حيًّا حياة معنوية يعني حياة القلب؛ لأن حي يراد به من يعقل ويتبصر ويؤمن، وعكسه الميت، ميت الجسم، وميت القلب، أما ميت الجسم فلا يمكن إنذاره بالقرآن، لأنه انتقل إلى دار الجزاء، ولا يمكن أن يفهم ولا يعلم، وأما ميت القلب فلأنه طبع على قلبه - والعياذ بالله - فلا يصل إليه النور ولا يصل إليه الحق {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ} قال

ص: 254

المؤلف: [بالعذاب {عَلَى الْكَافِرِينَ (70)} وهم كالميتين لا يعقلون ما يخاطبون به]، {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)} كان المتوقع أن يقال: ويحق القول على من كان ميتًا، أو على الأموات؛ لأن هذا مقتضى المقابلة، لكن عُدل عن هذا إلى ذكر الكافرين فقال:{وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)} وفائدة العدول عن ذكر المقابل بلفظه أمران:

الأمر الأول: أن المراد بالميت الكافر، وأن الكافر لا يمكن أن ينتفع بالقرآن.

الثاني: التسجيل

(1)

على أن من لم ينتفع بالقرآن فهو كافر، ومن انتفع به في شيء دون آخر ففيه خصلة من خصال الكفر، ولهذا كل معصية فهي من خصال الكفر، لكنها قد تكون قليلة، وقد تكون كثيرة، فلهذا عدل الله عز وجل والله أعلم - عن هذا إلى قوله {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)} دون قوله:"ويحق القول على الميتين" بل قال {عَلَى الْكَافِرِينَ (70)} ، ومن الأمثلة على هذا: -وهو كثير بالقرآن- قوله سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ}

(2)

لم يقل: (يقضون بالباطل) بل قال: {لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} ليشمل الباطل وغير الباطل، يعني ليس لهم قضاء إطلاقًا؛ لأنهم مربوبون مملوكون فلا يقضون بشيء.

(1)

هكذا هي في الشريط المسجل.

(2)

سورة غافر، الآية:20.

ص: 255

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية الكريمة: أن القرآن الكريم لا ينتفع به وينتذر إلا من كان حيًّا، أي حي القلب.

2 -

ومن فوائد الآية الكريمة: إن من كان ميت القلب -والعياذ بالله- فإنه لا ينتفع بالقرآن.

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن القرآن الكريم حجة على الكافرين لقوله تعالى: {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)} لأنه لن يحق عليهم القول إلا بعد أن تقوم عليهم الحجة، ويكون كفرهم عن عناد ولهذا قال:{وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)} .

4 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن الكافر لا ينتفع بالقرآن وإنما يكون حجة عليه، وهكذا كل من كان فيه خصلة من خصال الكفر فإنه يضعف انتفاعه بالقرآن وانتذاره به.

5 -

ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات العلة، وإن شئت فقل: الحكمة، لقوله تعالى:{لِيُنْذِرَ} اللام وكلما رأيت التعليل في كتاب الله عز وجل فهو مثبت للحكمة في أفعاله تعالى ومشروعاته.

* * *

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71)} {أَوَلَمْ يَرَوْا} الاستفهام هنا للتقرير؛ لأنه كلما دخل الاستفهام على نفي فهو للتقرير، سواء كانت أداة النفي حرفًا مثل:(لم)، أو فعلًا مثل:(ليس) فالاستفهام هنا للتقرير، والواو حرف عطف، والمعطوف عليه ما سبق، أو أن المعطوف عليه مقدر بين الهمزة والواو بحسب ما يقتضيه السياق، قال المؤلف:

ص: 256

[{يَرَوْا} يعلموا]. ففسر الرؤية هنا برؤية العلم، ويمكن أن يراد بها رؤية البصر، ورؤية البصر أشد وأقوى في التقرير من رؤية العلم، لأن رؤية العلم قد ينكر الإنسان، فيقول: أنا لا أعلم هذا، لكن رؤية البصر إذا كان الشيء أمامه لا يمكنه أن ينكر، والحقيقة أنها محتملة لهذا وهذا، فباعتبار أن الله خلق هذه الأشياء، لا شك أنها رؤية علم؛ لأننا لم نشهد خلق هذه الأشياء كما قال تعالى:{مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ}

(1)

وباعتبار المخلوق رؤية بصر؛ لأنه يشاهد ويعلم ولا يمكن إنكاره، قال المؤلف:[والاستفهام للتقرير، والواو الداخلة عليها للعطف] هل الواو داخلة أو مدخولة؟ المؤلف يقول: الواو على الهمزة" لكن نقول: دخلت الهمزة على الواو، فإذا قلت (سوف يقوم) فإن سوف دخلت على يقوم، فالداخل هو الأول، والمؤلف يقول: الواو الداخلة عليها، يشير إلى القول الثاني في مثل هذا التركيب وهو أن التقدير:(وألم يروا أنا خلقنا لهم) وهذا أحد القولين، فهنا المؤلف رحمه الله جعل الواو داخلة على الهمزة، والواقع أن الهمزة حسب الترتيب داخلة على الواو، ولكنه رحمه الله يرى أن في المسألة تقديمًا وتأخيرًا، وأن الواو داخلة على الهمزة في الأصل فأصله (وألم يروا) {أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ} قال:[في جملة الناس {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} عملناه بلا شريك ولا معين]{أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ} أي أوجدنا لهم من العدم أنعامًا، والله سبحانه وتعالى مختص بالخلق، فلا خالق إلا الله سبحانه وتعالى، وإضافة الخلق

(1)

سورة الكهف، الآية:51.

ص: 257

إلى المخلوق ليس على سبيل الإضافة بالنسبة إلى الله تعالى؛ لأن خلق الله تعالى للأشياء خلق إيجاد من عدم، وخلق المخلوق للأشياء ليس خلق إيجاد، ولكنه خلق تغيير من حال إلى حال، أو من وصف إلى وصف، فإذا نجرت الخشبة بابًا فقد خلقتها بابًا، لكن هل أنت أوجدت هذه الخشبة؟ الجواب: لا، لكن صيرتها إلى هيئة معينة، وهذا نوع من الخلق، ولهذا يقال: للمصورين يوم القيامة أحيوا ما خلقتم، مع أنهم لم يوجدوا الصورة من عدم، لكن غيروا ونقلوا من حال إلى حال، فالخلق الخاص بالله هو خلق الإيجاد، أما الخلق الذي يكون من المخلوق فما هو إلا تغيير وتحويل فقط {لَهُمْ} اللام في {لَهُمْ} للاستحقاق، ويصلح أن تكون للملك كما سيأتي في الآية نفسها {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} أي مما عملنا وليس المعنى أن الله سبحانه وتعالى خلق هذه الأنعام بيده، لو كان أراد ذلك سبحانه وتعالى وكان الواقع كذلك لقال:(مما عملنا بأيدينا) كما قال تعالى في آدم يخاطب إبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}

(1)

فهنا أضاف الخلق إلى نفسه وجعل المخلوق به اليد، أما هنا فأضاف العمل إلى اليد {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} فهو كقوله تعالى:{فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}

(2)

وما أشبهها مما يضاف فيه الفعل إلى اليد، والمراد الإنسان، كذلك هنا أضاف الله تعالى العمل إلى يديه والمراد نفسه، أي: مما عملنا، ولو قلنا: بأنه خلقها بيديه لكانت الأنعام أشرف من

(1)

سورة ص، الآية:75.

(2)

سورة الشورى، الآية:30.

ص: 258

الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهنا قال:{مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} بالجمع فهل الله عز وجل له أكثر من يدين؟ الجواب: لا، ليس لله أكثر من يدين، ليس له إلا يدان اثنتان، وجمع هنا من أجل المناسبة؛ لأن الأفصح في المثنى إذا أضيف إلى جمع الجمع، ألم تر إلى قول الله تعالى {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}

(1)

مع أنه ليس للإنسان إلا قلب واحد، فهنا لما أضافه إلى الضمير المفيد للجمع - وهنا للتعظيم بلا شك - ناسب الجمع، وأيضًا فإن الجمع أبلغ في التعظيم فلهذا جمعت، وأيضًا فإن هذه الأنعام لا يحصيها إلا الله عز وجل فهي جموع كثيرة، كل واحد منها تحتاج إلى فعل خاص؛ لأن لكل واحدة خلق خاص، فجمع أيضًا باعتبار المعمول الذي هو هذه الأنعام، وعلى كل حال فهذه الآية لا شك إنها تفيد إثبات اليد لله عز وجل، ولكنها لا تفيد أنه له أكثر من يدين لما تقدم من وجوه الجمع.

فإذا قال قائل: مأ هو الدليل على أنه ليس لله إلا يدان اثنتان؟

قلنا: الدليل أن الله تعالى تمدح بهما في مقام المدح والعطاء والرزق، ولو كان له أكثر من ذلك لذكرها لاقتضاء المقام إياه، قال الله تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}

(2)

ولو كان له أكثر من واحدة لقال: (بل أيديه) لأنه بلا شك كلما كثرت الأيدي كثر العطاء وهذا باعتبار المخلوق، أما الخالق عز وجل فعطاؤه لا ينفد، ولا يعد،

(1)

سورة التحريم، الآية:4.

(2)

سورة المائدة، الآية:64.

ص: 259

وليس له إلا يدان اثنتان، هذا ما عليه أهل السنة والجماعة.

{أَنْعَامًا} قال المؤلف: [هي الإبل والبقر والغنم] كأن المؤلف رحمه الله تعالى خصها بالإبل والبقر والغنم س لقوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}

(1)

. ولو قيل: بأن الآية أعم من ذلك؛ لأنه قد يكون هناك حيوانات يحصل بها من المنافع ما يحصل بهذه الأشياء الثلاثة: الإبل والبقر والغنم، {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71)} الفاء مفرعة على قوله:{أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ} أي: فعلى كونها خلقت لهم ولمصالحهم هم لها مالكون، وأتى بالجملة الإسمية للدلالة على الثبوت والاستمرار، أي: أن هذا الملك مستمر، وهذا الملك الذي ذكره الله عز وجل يقول فيه المؤلف:[ضابطون] فهو من ملك التصرف، وليس من الملك الشرعي الذي يحصل بالبيع والشراء والهبة وما أشبهها. أي: أنهم يملكونها ويضبطونها ويتصرفون فيها كما شاءوا.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية الكريمة: تقرير نعمة الله عز وجل على عباده، بهذه الأنعام؛ لقوله:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} .

2 -

ومن فوائدها أيضًا: أن هذه الأنعام ملك لنا ننتفع بها بجميع وجوه الانتفاعات لقوله: {خَلَقْنَا لَهُمْ} فكل وجوه الانتفاعات فإنه يجوز لنا أن ننتفع بها لأنها مادامت لنا فنحن فيها أحرار إلا ما قام الدليل على منعه. ويتفرع على هذه الفائدة:

(1)

سورة المائدة، الآية:1.

ص: 260

أنه يجوز أن نركب ما لم تجر العادة بركوبه، مثل أن نركب البقر، ولهذا قال الفقهاء: يجوز الانتفاع بهذه الحيوانات في غير ما خلقت له.

فإن قلت: ما الجواب عن الحديث الصحيح: "بينما رجل راكب بقرة يسوقها، إذ التفتت إليه فقالت له: إنا لم نخلق لهذا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فأنا أؤمن بذلك وأبو بكر وعمر"

(1)

.

فالجواب على هذا أن نقول: إن هذا الرجل ركبها ركوبًا يشق عليها، وهي ما خلقت لتعذب، وهو كذلك حتى لو أن الإنسان ركب الإبل على وجه يعذبها قلنا له: إنها لم تخلق لهذا.

3 -

من فوائد الآية الكريمة: صحة نسبة العمل إلى الله؛ لقوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} لكن لا يسمى الله بالعامل، كما لا يسمى بالصانع أخذًا من قوله:{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}

(2)

وذلك لأن باب الخبر أوسع من باب الإنشاء والتسمية، فيجوز أن نشتق من كل اسم صفة، ولا يجوز أن نشتق من كل صفة اسمًا.

ولهذا نقول: (الصفات أوسع من الأسماء)، أي باب صفات الله أوسع من باب الأسماء، لأن كل اسم متضمن لصفة، وليس كل صفة تتضمن اسمًا.

4 -

ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات اليد لله عز وجل؛ لقوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} وهذه اليد التي أضافها إلى نفسه يد حقيقية ثابتة، ولكن بدون أن تكون مماثلة لأيدي المخلوقين؛

(1)

أخرجه البخاري، كتاب الحرث والمزارعة، باب استعمال بقر للحراثة (2324 ومسلم بمعناه، كتاب فضائل الصحابة (2388).

(2)

سورة النمل، الآية:88.

ص: 261

لأن مماثلة الخالق للمخلوق ممتنعة غاية الامتناع عقلًا وسمعًا، قال الله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}

(1)

وقال: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ}

(2)

وأما العقل: فإن كل عاقل يدرك الفرق بين الخالق والمخلوق في الذات والصفات، فالواجب علينا أن نؤمن بكل ما وصف الله به نفسه من غير تمثيل.

ثم اعلم أن ما وصف الله به نفسه ينقسم إلى: صفات لازمة، وصفات غير لازمة، وإلى ما نظيره أجزاء وأبعاض لنا، فمثلًا: السمع، والعلم، والقدرة، والحياة هذه صفات لازمة، ويسميها أهل العلم الصفات الذاتية، ومثل: الاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والخلق وما أشبه ذلك، صفات غير لازمة، ويسميها أهل العلم: الصفات الفعلية. فالله لم يزل ولا يزال خالقًا، لكن المخلوق يتجدد، فكل خلق يتعلق بهذا المخلوق فإنه يكون حادثًا بعد أن لم يكن، ولكن هذا حدوث نوع، وليس حدوث جنس، لأن الله لم يزل ولا يزال خالقًا. والاستواء على العرش هذا لا شك أنه حادث؛ لأنه قبل العرش ليس مستو عليه، والذي نظيره أبعاض وأجزاء مثل: اليد، والوجه، والقدم، والعين، هذا نظيره بالنسبة لنا جزء من الذات، أو بعض منها، ولا يصح أن نقول: إنه جزء من الله، أو بعض من الله؛ لأن الله عز وجل لا يتجزأ ولا يتبعض، إذ إن الجزء ما جاز

(1)

سورة الشورى، الآية:11.

(2)

سورة النحل، الآية:74.

ص: 262

وجود أصله بعدمه، فبالنسبة لله لا يمكن أن يكون هكذا، يعني لا يمكن أن تنفصل اليد مثلًا - وحاشا لله عز وجل أو الوجه، أو ما أشبه ذلك، بالنسبة للمخلوق يمكن أن تنفصل، ولهذا يجب أن نقول: ما نظيره أجزاء وأبعاض لنا، ولا نقول ما هو أجزاء وأبعاض لله؛ لأن هذا منكر غاية الإنكار.

واليد نقول: إنها حقيقية، ثابتة لله على الوجه اللائق به، ولكن لا تماثل أيدي المخلوقين، وهذا مذهب السلف، وعليه جرى أئمة المسلمين، لكن ابتلي قوم بتحريف اليد وقالوا: إنها النعمة، أو القوة، بناءً على أن عقولهم تحيل أن يتصف الله عز وجل باليد الحقيقية، ولا شك أن هذا ضلال وجناية على النصوص. أما كونه ضلالًا؛ فلأنهم حكموا على الخالق بعقولهم القاصرة، وهذا لا شك أنه ضلال، إذ كيف تحكم على الخالق بعقلك؟ والخالق عز وجل يقول عن نفسه:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}

(1)

ويقول: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}

(2)

ويقول: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} وأنت تقول ليس له يد. سبحان الله؟ ولولا تأويلهم لها، وقولهم: نحن نثبت اليد ولكن المراد كذا. لكان هذا تكذيبًا للنصوص، ونحن نعلم أن المكذب للنصوص كافر.

وكان جناية على النصوص من وجهين؛ لأنهم يقولون: إن الله لم يرد كذا، وأراد كذا، فنفوا ما أراد الله، وأثبتوا ما لم يرده، فكان جناية على النصوص من الوجهين: السلبي والإيجابي.

(1)

سورة المائدة، الآية:64.

(2)

سورة ص، الآية:75.

ص: 263

السلبي حيث نفوا ما أثبت الله، والإيجابي أثبتوا ما لم يرده الله. إذ قال الله عز وجل:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}

(1)

قالوا: أراد باليدين النعمة أو القوة. نقول - سبحان الله - من الذي أعلمك؟ الله يقول: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وأنت تقول: ليس له يد، بل هي نعمة، من الذي قال لك هذا؟ فنفيك قول على الله بلا علم، وإثباتك لما أثبت قول على الله بلا علم، فكان جناية على النصوص من وجهين، والحقيقة أن الإنسان يعجب غاية العجب أن يسلك هذا المسلك أئمة مشهود لهم بالخير والصلاح ونفع الأمة، ولكنه يعرف بذلك تمام حكمة الله عز وجل وأن الإنسان مهما كان فهو ضعيف وقاصر، وإلا فالله سبحانه وتعالى يتحدث عن نفسه بحديث هو أصدق الحديث، وأحسن الحديث، وصادر من أعلم بما يقول. ثم نقول: الله ما أراد هكذا، فيجب أن نؤمن بأن الله له يد حقيقية لائقة به، لا تماثل أيدي المخلوقين بأي حال من الأحوال.

وهكذا يجب علينا أن نجري جميع آيات الصفات وأحاديثها.

فإن قيل: ما تقولون في تفسير بعض العلماء قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ}

(2)

أي: بقوة.

فالجواب: أن نقول هذا صحيح (أيد) هنا بمعنى قوة، لأن أيدٍ مصدر أد، يئيد، أيدًا، كباع يبيع بيعًا، وكال يكيل كيلًا، ولا يجوز أن نقول هي كقوله:{أَيْدِينَا} لأن الله لم ينسبها إلى نفسه،

(1)

سورة ص، الآية:75.

(2)

سورة الذاريات، الآية:47.

ص: 264

فلم يقل: "والسماء بنيناها بأيدينا" وإذا لم ينسب الله ذلك إلى نفسه حرم علينا أن ننسبه إلى الله، فكان يتعين أن نفسر قوله:{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} أي بقوة. وإذا لم يضف الله شيئًا إلى نفسه حرم أن نضيفه إليه. لأنا لو أضفناه إليه وهو لم يضف إليه لكنا نقول على الله بلا علم. ألم تر إلى قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)}

(1)

اختلف السلف في قوله: {عَنْ سَاقٍ} هل المراد عن شدة، أو المراد عن ساقه عز وجل، ونحن إذا أخذنا القاعدة التي قررناها الآن بأن ما لم يضفه الله إلى نفسه يحرم علينا أن نضيفه إليه، قلنا: إن المراد بالساق هنا الشدة ولابد، ولا يمكن أن نفسره بساق الله، لأن الله لم يضفه إلى نفسه فلم يقل:(يوم نكشف عن ساقنا) بل قال {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} ولكن إذا تأملت سياق الآية الكريمة وما جاء في الصحيحين في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وجدت أن ذلك يقتضي أن يكون المراد به ساق الله فإنه في حديث أبي سعيد الطويل المشهور، أن الله يكشف عن ساقه فيسجد له كل من كان يسجد لله تعالى في الدنيا، ويعجز عن السجود من لم يسجد لله في الدنيا

(2)

، فهنا {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)} نجد أن سياق الآية يوافق سياق الحديث، وحينئذ نقول: إن كلام الله

(1)

سورة القلم، الآية:42.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب يوم يكشف عن ساق (4919) ومسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية (183).

ص: 265

تعالى يفسر بكلام الله تعالى، ويفسر بكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا دل سياق حديث أبي سعيد على ما دل عليه سياق الآية فإن الآية تفسر به، وحينئذ يكون القول الراجح أن المراد بالساق الذي جاء على وجه النكرة المراد به ساق الله عز وجل، ولكنه نُكر للتعظيم، لأن التنكير قد يراد به التعظيم.

فإذا قال قائل: الآية التي معنا في سورة "يس"{مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} فهل تصفون الله بأن له أيدٍ كثيرة أم ماذا؟

نقول: الذي عليه أهل السنة أنه ليس لله إلا يدان اثنتان، وحينئذ نحتاج إلى الجمع بين هذا القول الذي دل عليه قوله تعالى:{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}

(1)

وقوله: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ}

(2)

وبين هذه الآية، {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} وإلى الجمع بينه وبين الإفراد الذي جاء في قوله تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)}

(3)

وما أشبه ذلك.

قال أهل العلم: الجمع بينهما متيسر - ولله الحمد - لأنه ليس في خلق الرحمن من تفاوت. ولا في كلامه من تفاوت أيضًا، فلا يتفاوت كلامه ولا يتناقض، كما لا يتناقض خلقه أيضًا، فالخلق منسجم بعضه مع بعض، وكذلك الشرع منسجم بعضه مع بعض. قالوا: إن المفرد المضاف يشمل؛ لأنه للعموم، ألم تر إلى

(1)

سورة ص، الآية:75.

(2)

سورة المائدة، الآية:64.

(3)

سورة الملك، الآية:1.

ص: 266

قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}

(1)

نعم لا تحصى مع أنه قال: {نِعْمَتَ اللَّهِ} واحدة، لكن المفرد المضاف يكون للعموم فيشمل كل ما يثبت لهذا المفرد المضاف وإن كثر، إذًا {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} لو فرض بأن هناك أيادي كثيرة، فيدخل واليدان فإنه تدخل، إذًا لا منافاة بين المفرد وبين العدد جمعًا كان أو مثنى، فقوله:{بِيَدِهِ الْمُلْكُ} اليد مفرد مضاف. والضمير مضاف إليه، والمفرد المضاف يفيد العموم. أي: مفرد مضاف فهو مفيد للعموم. ومثال لذلك: لو قال رجل لامرأته: طالق، وله أربع نسوة يطلق كل النسوة إلا إذا نوى أنها واحدة، ولو قال: عبدي حر، وله أكثر من عبد عتق الجميع، ما لم يُرد واحدًا.

ولو قال: بيتي وقف، وله بيوت صارت بيوته كلها وقفًا ما لم يرد واحدًا. فالمفرد المضاف يعم.

بقي لنا الجمع بين اليدين الثنتين، والجمع الذي هو "أيدينا" كيف نجمع بينهما؟

والجواب على هذا من وجهين:

الوجه الأول: أن كثيرًا من علماء اللغة العربية يقولون: إن أقل الجمع اثنان، واستدلوا لذلك بقوله تعالى:{إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}

(2)

فهنا جمع مع أن المراد اثنان.

وبقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ}

(3)

(إخوة)

(1)

سورة إبراهيم، الآية:34.

(2)

سورة التحريم، الآية:4.

(3)

سورة النساء، الآية:11.

ص: 267

جمع. مع أن الأم تحجب من الثلث إلى السدس باثنين. وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الاثنان وما فوقهما جماعة"

(1)

أي: في الصلاة.

ولكن أكثر علماء اللغة -وهو المشهور- يقولون: إن أقل الجمع ثلاثة، وحينئذ يمكن الجمع.

الوجه الثاني: وهو أن نقول: إن المراد بالجمع في قوله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} المراد به التعظيم، لأن الجمع يدل على التعظيم، ولهذا يأتي ضمير الجمع "نا" في مقام التعظيم. فكل ضمير أضافه الله إلى نفسه وهو (نا) فليس المراد به الجمع، بل المراد به التعظيم. فهنا الجمع للتعظيم، وللمناسبة أيضًا لأنه أضيف إلى ما يفيد الجمع فكان الأنسب أن يكون مجموعًا، فهذه المناسبة لفظية، وإرادة التعظيم مناسبة، معنوية. وبهذا يزول الإشكال.

فإذا قال قائل: لماذا لا تقولون: إن لله أيادي كثيرة؟

فالجواب: إن هذا يمنعه المعنى، لأن الله تعالى لما مدح وأثنى على نفسه بالعطاء لم يذكر إلا يدين اثنتين، ولو كان له أكثر لكان يذكر الأكثر؛ لأنه أبلغ في المدح. فلما قال:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}

(2)

عُلم أنه ليس له إلا يدان اثنتان، ومثل ذلك قوله تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}

(3)

فأثبت القبضة بيد،

(1)

أخرجه الإمام أحمد (2545) وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب الاثنان جماعة (972).

(2)

سورة المائدة، الآية:64.

(3)

سورة الزمر، الآية:67.

ص: 268

والسماوات مطويات بيمينه باليد الأخرى، والنصوص في هذا كثيرة، ولهذا نعتقد نحن أن الله سبحانه وتعالى ليس له إلا يدان اثنتان فقط.

ومثل ذلك نقول: في صفة العين، العين وردت مجموعة، ووردت مفردة {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)}

(1)

{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا}

(2)

فنقول: عين مفرد مضاف فيعم {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} إما أن نقول للتعظيم، أو بأن أقل الجمع اثنان، وليس لله أكثر من عينين اثنتين، ودليل ذلك حديث الدجال حينما تحدث النبي صلى الله عليه وسلم عنه، وبيّن تمويهاته قال:"إنه أعور العين اليمنى، وإن ربكم ليس بأعور"

(3)

، فبين العلامة الحسية الظاهرة وهي عور عين الدجال، ومن العجب أن بعض الناس قال: إن المراد بالعور هنا العيب، يريد أن يثبت أن لله تعالى أعينًا كثيرة، بناءً على الجمع في قوله:{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} ولكن هذا عور من هذا القائل؛ لأن الحديث صريح في أن المراد عور العين، حيث قال:"أعور العين اليمنى" ولم يقل: (أعور) فقط، فلو قال:(أعور) فقط، وربما يحتمل ما قاله، مع أن ما قاله ضعيف بعيد؛ لأن اللغة العربية لا تعبر بالعور عن العيب، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال:"أربع لا تجوز في الأضاحي: المريضة، والعجفاء، والعوراء، والعرجاء"

(4)

فجعل العور غير

(1)

سورة طه، الآية:39.

(2)

سورة القمر، الآية:14.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب الفتن، باب ذكر الدجال (731). ومسلم، كتاب الفتن، باب ذكر الدجال (101)(2933).

(4)

أخرجه الإمام أحمد (4/ 284).

ص: 269

العيب، فكل الثلاثة الأخرى عيوب، لكن جعل العور في العين، فنحن نقول لهم: أصل العور في العين ثم إذا جاء الحديث "أعور العين اليمنى" صار قاطعًا للاحتمال قطعًا نهائيًّا لا يمكن أن يراد به العيب.

فإذا قال قائل: ما وجهه؟

قلنا: وجهه: لو كان لله أكثر من عين لكان الرسول صلى الله عليه وسلم يذكره؛ لأنه أدل على تعظيم الله، وأبين في التميز من أن يقال: أن الفرق هو أن هذا أعور، والرب محز وجل ليس بأعور، وبهذا يتبين أن دلالة حديث الدجال -وهو صحيح- دلالة واضحة ظاهرة، على أنه روي في حديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام ذكره ابن القيم رحمه الله في مختصر الصواعق المرسلة "إذا قام أحدكم يصلي فإنه بين عيني الرحمن" وهذا الحديث فيه ضعف لكننا في الحقيقة لسنا بحاجة إليه، لأن الحديث الثابت في الصحيحين في قصص الدجال واضح والحمد لله.

5 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أننا نملك هذه الأنعام ملكًا شرعيًّا، وملكًا حسيًّا قدريًّا.

أما الشرعي: فإننا نملك أعيانها، ومنافعها بالبيع والشراء والتأجير وغير ذلك، أما الكوني الحسي فلأننا نملك زمامها وضبطها، وهي مسخرة لنا نقيمها وننيخها، ونذهب بها ونرجع بها، وهذا من تمام نعمة الله سبحانه وتعالى علينا بهذا الملك.

ص: 270

6 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أنه أتى بقوله: {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71)} بالجملة الإسمية التي تفيد الثبوت والاستمرار، أي: ملك مستقر تام.

* * *

{وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)} .

{وَذَلَّلْنَاهَا} أي: سخرناها وجعلناها ذليلة تنقاد لهم، وينتفعون بها كما يشاؤون، ولهذا نجد الصبي الصغير يقود هذا الجمل الكبير، وقد ذلل له ويقوده حيث شاء، بل إن الإنسان يقود البعير الكبير الجسم إلى مكان نحره وينقاد معه، ثم قسم الله عز وجل وجوه الانتفاع فقال:{فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} الركوب فعول، بمعنى: مركوب، أي: فمنها ما يركبونه، مثل الإبل.

{وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} مثل الغنم، ومنها ما يجمع بين الأكل والركوب مثل الإبل، فهذه الأنعام منها: ما يركب ويؤكل، ومنها ما يؤكل ولا يركب. وإذا قلنا: إن الآية أعم مما قال المؤلف، فإننا نقول: منها ما يركب ولا يؤكل، مثل: البغال والحمير والفيلة وغيرها.

فالله عز وجل جعل لهذه الأنعام فوائد متعددة: من الأكل والركوب، وفي سورة النحل ذكر أيضًا من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثًا ومتاعًا إلى حين. فالمنافع كثيرة في هذه الأنعام التي خلقها الله عز وجل لنا. وقوله سبحانه وتعالى:{فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} {من} في الموضعين هل هي للتبعيض، أو للابتداء، أو للجنس؟

مقتضى التقسيم أن تكون للتبعيض، أي: بعضها يركب وبعضها يؤكل.

ص: 271

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية الكريمة: بيان نعمة الله سبحانه وتعالى علينا بتذليل هذه الأنعام، ولو استعصت علينا ما تمكنا من الانتفاع بها، ولهذا لما ند بعير من الإبل في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أدركه رجل بسهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش، فما ندّ منها فاصنعوا به هكذا"

(1)

، فهذه البعير تمردت على أهلها ولم يدركوها إلا بالسهم.

2 -

ومن فوائد الآية الكريمة: بيان أن أفعال المخلوقات مخلوقة لله، لقوله:{وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} لكنها مفعولة للفاعل مباشرة. فهي تنسب لله عز وجل تقديرًا وخلقًا، وتنسب إلى الفاعل كسبًا وعملًا، فهذه الإبل المذللة الذي ذللها هو الله، إذًا أفعالها صادرة بخلق الله عز وجل. وهذا هو المذهب الصحيح في هذه المسألة، أي مسألة أفعال العباد هل هي مخلوقة لله، أو هي للعباد استقلالًا؟ والمسألة فيها ثلاثة مذاهب:

المذهب الأول: مذهب الجبرية، الذين يقولون: إن خلق الله عز وجل شامل لكل حركة في السماوات والأرض، وإن الإنسان مجبور على عمله ليس له فيه اختيار، بل الحركة الإرادية الاختيارية، كالحركة الإجبارية التي ليس له فيها إرادة.

ويقولون: إن أفعال الإنسان كحركة السعفة بالريح ليس

(1)

أخرجه البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب ما ند من البهائم فهو بمنزلة الوحش، (5509).

ص: 272

باختياره، فيقال لهم: إن هذا يلزم منه الفوضى بحيث يفعل كل إنسان ما شاء ويقول: هذا بغير اختياري، وأنا مجبور عليه، ويلزم منه أيضًا: أن الله إذا عذب الإنسان على معصية كان ظالمًا له، ويلزم عليه أن مدح الطائعين لغو لا فائدة منه؛ لأنه لا يمدح الإنسان على أمر يجبر عليه بدون اختياره، ويترتب عليه أيضًا: أن ذم العاضين ظلم؛ لأنه ذم لمن لا يختار هذا الفعل. وكما أنه يترتب عليه هذه اللوازم الباطلة فهو أيضًا مخالف للواقع، فإن الإنسان يجد الفرق بين فعله الاختياري، وبين فعله الاضطراري، يجد الفرق بين أن ينزل من السلم درجة درجة وبطمأنينة واختيار، وبين أن يأتي شخص ويدفعه دفعًا، حتى لا يتمكن من الوقوف، فالأمر واضح من الناحية الواقعية العقلية، أن هذا القول باطل من أبطل الأقوال. لكن الذي غرّ أصحابه أن الله عز وجل ذكر أنه خلق كل شيء، وأنه قدر كل شيء، وأنه لا يكون في ملكه ما لا يريد إلى غير ذلك من الأشياء التي يتعللون بها، لكنهم في الحقيقة نظروا إليها وغفلوا عن النصوص الأخرى الدالة على أن الإنسان فاعل باختياره، ولهذا قابلهم:

أصحاب المذهب الثاني: الذين نظروا إلى النصوص الدالة على أن الإنسان فاعل باختياره وإلى الواقع، فأنكروا أن يكون لله عز وجل إرادة، أو خلق في أفعال العباد، وقالوا: إن العبد مستقل بعمله يفعل ما يشاء، ويترك ما يشاء، وليس لله سبحانه وتعالى تعلق بفعل العبد.

وهؤلاء أقرب إلى المعقول من أولئك القوم؛ لأن الإنسان

ص: 273

لا شك يجد أنه فاعل بالاختيار، فهو يدخل بيته، ويخرج من بيته، ويأتي للمسجد، ويخرج من المسجد، ويختار هذا الفعل على وجه اختياري لا يشعر أبدًا بأن أحدًا يجبره على ذلك، ولكن ظل هؤلاء بسلبهم إرادة الله عز وجل وخلقه عن أفعال الخلق واعتقادهم أن الإنسان مستقل بما يحدثه، ولهذا سموا مجوس هذه الأمة؛ لمشابهتهم للمجوس في إثبات فاعلين للحوادث، وهم يقولون بإثبات فاعلين للحوادث. الذي من فعل الله، هذا من فعل الله، والذي من فعل الإنسان، وهذا من فعل الإنسان مستقلًا بها، فلهذا سموا مجوس هذه الأمة. وهؤلاء لا شك أنهم ضالون؛ لأنهم أخرجوا شيئًا في ملك الله عن ملك الله.

المذهب الثالث: أهل السنة والجماعة توسطوا بين القولين وأخذوا بالدليلين، وقالوا: إن الإنسان لا شك يفعل باختياره، ويدع باختياره، وإن له إرادة تامة وقدرة، والذي خلق هذه الإرادة والقدرة هو الله عز وجل، فلو شاء الله سبحانه وتعالى لسلبه الإرادة، ولو شاء لسلبه القدرة، ولذلك إذا سلب الله العبد الإرادة لم يترتب على فعله حكم، فالمجنون - مثلًا - لا يؤاخذ بأفعاله؛ لأنه لم يفعلها باختياره والعاجز لا يكلف {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}

(1)

إذًا فالله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الإرادة والقدرة في الإنسان، قالوا: والإرادة والقدرة هما السبب في وجود الفعل، فلولا الإرادة ما فعلت، ولولا القدرة ما فعلت، فالإرادة والقدرة هما سبب وجود الفعل، وإذا كانا مخلوقين لله

(1)

سورة التغابن، الآية:16.

ص: 274

فإن خالق السبب خالق للمسبب، فيضاف فعل العبد إلى الله من هذه الناحية، أي أن الله هو الذي أوجد فيه سبب الفعل، فصار بذلك فاعلًا. كما أن الإحراق مثلًا بالنار ينسب إلى النار، والذي أودع فيها هذه القوة هو الله عز وجل، فلذلك صار إحراق النار بفعل النار مباشرة، لكنه بتقدير الله سبحانه وتعالى خلقًا، وهذا الذي ذهب إليه أهل السنة والجماعة، هو المطابق للمنقول والمعقول والواقع؛ لأنه يجمع بين الأدلة الشرعية، ويصدق الأدلة الحسية. فالأدلة الشرعية إذا جمعتها من أطرافها وجدت أنها تنصب في طريق واحد، وهو الذي ذهب إليه أهل السنة والجماعة، ولولا هذا الاعتقاد لشُلت الحركة ولصار الإنسان اتكاليًّا لا يقول ولا يفعل، ولولا هذا الاعتقاد لم يلجأ الإنسان إلى ربه عز وجل في مهماته وملماته، فهو باعتبار أنه مريد فاعل، يتحرك ويعمل، وباعتبار أنه مخلوق مدبر، يرجع إلى الله عز وجل، فلا يكون اتكاليًّا، ولا يكون أنانيًّا. يعني أنه لن يستغني بنفسه عن ربه، ولن يكون اتكاليًّا يقول: إن قدر لي شيء صار، بل هو يعمل مستعينًا بالله معتمدًا عليه.

3 -

من فوائد هذه الآية الكريمة: أن لنا أن ننتفع بهذه الأنعام بالركوب، ولكن بشرط أن لا يكون في ذلك مشقة عليها، فإن كان في ذلك مشقة كان حرامًا؛ لأن المشقة تعذيب لها في غير محله.

4 -

ومن فوائد الآية الكريمة: جاز الاترداف على الدابة لعموم قوله: {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} ولكنه مقيد بما أشرنا إليه أن لا يكون

ص: 275

في ذلك مشقة.

5 -

ومن فوائد الآية الكريمة: حل هذه الأنعام، أو حل بعضها إذا جعلنا "من" للتبعيض وجعلنا "الأنعام" أعم من "بهيمة الأنعام" والحل في الأنعام كلها هو الأصل، ولهذا لو تنازع شخصان في أن هذا الحيوان حلال أو حرام، لكان القول قول من يقول بالحل حتى يقوم دليل على التحريم وذلك:

أولًا: لعموم قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}

(1)

.

ثانيًا: لعموم قوله: {وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)} فالأصل هو الحل حتى يقوم دليل على المنع، لكن هذا الحل مقيد بشروط الذكاة المعروفة؛ لأنها إذا لم تذك البهيمة الحلال ذكاة شرعية صارت حرامًا لا تحل، فهذا الإطلاق {وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)} مقيد بشروط وهو أن يكون مذكًا بذكاة شرعية، ومع هذا إذا اضطر الإنسان إليه حل له ولو لم يذك لقول الله تعالى:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}

(2)

.

6 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أنه يجوز تعذيب الحيوان إذا لم تتم المصلحة إلا به، لأن الأكل مصلحة، ولكن لا أكل إلا بعد الذبح، والذبح من أعظم ما يكون من الإيذاء، ولأن الشرع جاء بإباحة وسم البهائم بالنار من أجل حفظ ماليتها، ولأن الشرع جاء بمشروعية إشعار الإبل والبقر في الهدي ليعلم أنها هدي،

(1)

سورة البقرة، الآية:29.

(2)

سورة البقرة، الآية:173.

ص: 276

وإشعارها هو شق صفحة سنامها حتى يسيل منها الدم، وعلى هذا إذا احتجنا إلى تعذيب الحيوان من أجل حفظ ماليته أو غير ذلك فإنه لا بأس به، مثل ما يفعله بعض الناس الآن في الحمام إذا أراد أن تربي عنده فإنه ينتف مقدم الأجنحة لئلا تطير، حتى تألف المكان وتربى فيه، يقولون: لو أننا قصصناها قصًّا ما نبت لها ريش بسرعة. فلهذا يختارون أن ينتفوها نتفًا من أجل أن ينبت الريش بسرعة وتستعد للطيران.

* * *

{وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73)} .

قال المؤلف رحمه الله: [{وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ}] كأصوافها وأوبارها وأشعارها {وَمَشَارِبُ} من لبنها، جمع مَشْرَب بمعنى شرب، أو موضعه {أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73)} المنعم عليهم بها فيؤمنون. أي ما فعلوا ذلك].

المنافع أعم مما قاله المؤلف: [كأصوافها وأوبارها وأشعارها] فالكاف للتشبيه، والأصواف للضأن، والوبر للإبل، والشعر للبقر والغنم، وكذلك ما ينتفع بها من الحرث والزراعة عليها ودك الأرض وغير ذلك من المنافع التي لا تحصى، ولهذا أتى بصيغة منتهى الجموع. {مَنَافِعُ} . {وَمَشَارِبُ} إما موضع الشرب كما قال المؤلف، أو الشرب، ولكن الأولى أن نقول: إن لهم فيها مشارب أي: شربًا، وهذه المشارب تكون من الإبل والبقر والغنم فكلها يشرب الناس من ألبانها، وينتفعون بها شربًا وبيعًا، ولهذا قال تعالى:{أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73)} والهمزة

ص: 277

للاستفهام، والمراد به التوبيخ، أي أنهم لم يشكروا الله عز وجل فهم موبخون على عدم شكرهم.

وقول المؤلف رحمه الله: [أي ما فعلوا ذلك] لأنه يرى أن الاستفهام للنفي، وما ذكرناه من أنه للتوبيخ أحسن؛ لأن التوبيخ يدل على انتفاء ذلك، وأنهم موبخون على عدم الفعل.

وقد تقدم الكلام على معني الشكر ومتعلقه والفرق بينه وبين الحمد عند قوله تعالى: {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35)} .

الفوائد:

1 -

يستفاد من هذه الآية الكريمة: أن الله عز وجل خلق هذه الأشياء لمنافعنا، فأي منفعة يمكن أن نحصل عليها من هذه البهائم فإنها مباحة لنا، {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} لكن بشرط كما أسلفنا أن لا يكون في ذلك مشقة فإن كان فيها مشقة فإنها ممنوعة.

2 -

ومن فوائدها: حل ألبان هذه البهائم؛ لقوله: {وَمَشَارِبُ} .

3 -

يستفاد من قوله: {أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73)} وجوب شكر الله تعالى على هذه النعم، ووجهه أنه وبخ من لم يشكر، ولا توبيخ إلا على فعل محرم، أو ترك واجب. وشكر المنعم كما دل عليه الشرع فقد دل عليه العقل، فإن كل إنسان مدين لمن أنعم عليه أن يشكره بحسب ما تقتضيه الحال، ولهذا جاء في الحديث الصحيح:"من صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم كافأتموه"

(1)

.

(1)

أخرجه الإمام أحمد (682) وأبو داود، كتاب الزكاة، باب عطية من سأل بالله عز وجل (1672).

ص: 278

ثم قال الله عز وجل: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74)} .

{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: من غيره، ولا يمنع أن يكونوا اتخذوا آلهة مع الله، فهم اتخذوا من دون الله أي اتخذوا غير الله آلهة، وإنما قلنا ذلك لأن ظاهر قوله تعالى:{مِنْ دُونِ اللَّهِ} أنهم لم يتخذوا الله إلهًا، بل اتخذوا هذه الآلهة من دون الله وتركوا ألوهية الله تعالى، مع أن هؤلاء يتألهون إلى الله تعالى وإلى غيره، ولكن قد يقال: إن الفائدة من التعبير بقوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} مع أنهم يألهون الله تعالى ويألهون الأصنام أن الإنسان إذا اتخذ شريكًا مع الله فإن الله تعالى يتركه وشركه وكأنه لم يأله الله تعالى، كما جاء في الحديث القدسي الصحيح أن الله تعالى قال:"أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه"

(1)

.

{آلِهَةً} جمع إله، والإله بمعنى مألوه. أي: معبود، وفعال تأتي في اللغة العربية بمعنى مفعول في مواطن عديدة، منها: غراس بمعنى مغروس، وبناء بمعنى مبني، وفراش بمعنى مفروش. فهؤلاء - والعياذ بالله - يتألهون لهذه الأصنام كما يتألهون لله عز وجل يركعون لها ويسجدون وينذرون ويعكفون عليها.

(1)

أخرجه مسلم، كتاب الزهد، باب تحريم الرياء 46 (2985).

ص: 279

{لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74)} قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يمنعون من عذاب الله بشفاعة آلهتهم بزعمهم].

النصر بمعنى المنع من تسلط الأعداء، ولكنه في الحقيقة ليس المنعة فقط، ولكنه في الغالب يطلق على غلبة الأعداء، أي: لعلهم يغلبون. والواقع أن متخذي الأصنام يتخذونها للأمرين: لتشفع لهم عند الله تعالى فينجو من عذاب الله عز وجل؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}

(1)

.

وهم أيضًا ينتصرون بها عند الحرب والقتال، كما قال أبو سفيان في غزوة أحد: أعل هبل. فانتصر بإلهه واعتز به.

فهم اتخذوا هذه الآلهة للأمرين جميعًا: لدفع ما يكره، وحصول ما يحب. وهذا هو المناسب لقوله:{لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74)} لأن إطلاق النصر على مجرد دفع المكروه - هذا وإن كان واردًا - لكن إطلاق النصر على حصول المطلوب والعزة والرفعة أكثر في اللغة العربية. ولكن هل هؤلاء ينصرون بهذه الأصنام؟

الجواب: قال الله تعالى: {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)} . أي: هذه الآلهة التي اتخذوها للنصر لا تستطيع أن تنصرهم لا في الدنيا ولا في الآخرة، ودليل ذلك أنهم يضعون الأحجار بأيديهم ثم يعبدونها من دون الله تعالى، ويذهبون إلى

(1)

سورة الزمر، الآية:3.

ص: 280

الشجرة ويعبدونها، وهم إذا احتاجوا إلى الحطب قطعوها وأوقدوا بها، فكيف وهي لا تنصر نفسها تنصر غيرها؟ وهذا شيء مستحيل أن تنصرهم، ولهذا إذا كان يوم القيامة فإنهم كلهم يحصبون في النار كما قال الله تبارك وتعالى:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)}

(1)

لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها، فهي لا يمكن أن تنصرهم، وهذا كقوله تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)}

(2)

فهم في الدنيا غافلون عنهم، لأنها جمادات، وفي الآخرة يكونون لهم أعداء ويكفرون بعبادتهم.

فإذا قال قائل: إنه يوجد من يدعو الصنم بحصول مطلوب، أو دفع مكروه، ثم يحصل له المطلوب، أو يندفع عنه المكروه فما الجواب؟

قلنا: الجواب: أن هذا فتنة من الله عز وجل يفتن من شاء من عباده، والذي حصل لم يحصل بدعاء الصنم وإنما حصل عند دعاء الصنم، أي حصل عنده لا به، فالله عز وجل جعل هذا يحصل عند دعاء هذا الصنم ابتلاء وامتحانًا، والله عز وجل بحكمته قد ييسر أسباب المعصية ليبلو الإسنان هل يكون امتناعه عن المعصية خشية لله عز وجل، أو لعدم القدرة عليها، ألم تر إلى

(1)

سورة الأنبياء، الآية:98.

(2)

سورة الأحقاف، الآيتان:6.

ص: 281

قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ}

(1)

فابتلى الله الصحابة وهم محرمون بالصيد ينالونه بأيديهم فيما يعدو، وبرماحهم فيما يطير، ليعلم الله من يخافه بالغيب فلا يأخذ من هذا الصيد، فلم يأخذوا رضي الله عنهم من هذا الصيد وتركوه خشية لله لا عجزًا عن الوصول إليه، كما ابتلى الله تعالى بني إسرائيل الذين حرم عليهم الصيد يوم السبت بأن تأتي الحيتان يوم السبت شرعًا طافية على وجه الماء، وفي غير يوم السبت لا تأتيهم، وهذا امتحان من الله عز وجل، لكنهم لم يصبروا على هذه المحنة، بل ذهبوا يعاملون الله عز وجل معاملة الغر الجاهل يخادعون الله فأتوا بحيلة ومكر ونصبوا الشباك يوم الجمعة، فإذا جاءت الحيتان يوم السبت دخلت في الشباك، فإذا كان يوم الأحد أخذوها، فاحتالوا فقلبهم الله تعالى قردة {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)}

(2)

فهؤلاء الذين يدعون الأصنام لجلب نفع أو دفع ضرر يمتحنون ويختبرون فيدفع عنهم الضرر ويحصل لهم النفع، لكن عند هذا الدعاء وليس بهذا الدعاء، نجزم بذلك يقينًا؛ لأن هذه الأصنام لا تأتي بخير، ولهذا قال الله تعالى:{لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} .

قال المؤلف: [{لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} أي: آلهتهم. نزلوا منزلة العقلاء {وَهُمْ} أي: آلهتهم من الأصنام {لَهُمْ جُنْدٌ}

(1)

سورة المائدة، الآية:94.

(2)

سورة البقرة، الآية:65.

ص: 282

بزعمهم نصرهم {مُحْضَرُونَ (75)} في النار معهم]. قوله: نزلوا منزلة العقلاء، لأن واو الجماعة خاصة بالعقلاء، والذي يأتي لغير العقلاء ما يدل على التأنيث سواءً كان بالإفراد أو بالجمع، فلو مشى التعبير على الغالب لقال:(لا تستطيع نصرهم) أو الا يستطعن نصرهم) لكن قال: {لَا يَسْتَطِيعُونَ} تنزيلًا لهذه الأصنام منزلة العاقل؛ لأن هؤلاء يدعونها دعاء العاقل يرون أنها عاقلة تجلب النفع وتدفع الضرر فخوطبوا بما يعتقدون.

{وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)} المؤلف - رحمه الله تعالى - مشى على أن {وَهُمْ} الضمير يعود على الأصنام، أي والأصنام لعابديها جند ينصرونهم حسب زعمهم {مُحْضَرُونَ (75)} أي: معهم في النار، فهذه الأصنام جند لهؤلاء العابدين، لكن الجميع محضرون في نار جهنم يعذبون. وهذا قول فيه بعد عن ظاهر الآية وعن المعنى.

والصواب: أن الضمير في قوله تعالى: {وَهُمْ} يعود على العابدين {لَهُمْ} يعود على الأصنام {جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)} أي: حاضرون. فالمعنى أن هذه الأصنام لا تستطيع نصرهم، ولكن هؤلاء العابدين ينتصرون للأصنام ويكونون جندًا لها كما قال قوم إبراهيم:{حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68)}

(1)

فهؤلاء العابدون يعبدون ما لا ينفعهم ولكنهم هم ينتصرون لهذه الأصنام {وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)} ليدافعوا عن هذه الأصنام، فيكون في هذا التصرف نقص من وجهين:

(1)

سورة الأنبياء، الآية:68.

ص: 283

الوجه الأول: أنهم هم ينصرون هذه الأصنام وينتصرون لها ويدافعون عنها.

الوجه الثاني: أنهم انتصروا لشيء لا ينفعهم، والغالب أن الإنسان العاقل إنما ينتصر لمن ينفعه، وينتصر له، وأما من لا ينتصر له ولا ينفعه بشيء لايمكن أن ينتصر له.

فالمعنى الذي ذكرناه هو المتعين في الآية وهو المناسب، وهو الذي ينادي عليهم بالسفة والضلال.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية الكريمة: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً} : صحة إطلاق الإله على غير الله عز وجل؛ لقوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً} ولكن هل هذه الآلهة حق؟

الجواب: لا، هي آلهة باطلة لقول الله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}

(1)

فهي وإن سموها آلهة وعبدوها كما يعبدون الرب عز وجل فإنها لن تكون آلهة، {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}

(2)

.

2 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن هؤلاء الذين اتخذوا هذه الآلهة توهموا فيها أنها تنصرهم، ولكن أبطل الله هذا الوهم بقوله:{لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} .

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن الإنسان المبطل لابد أن

(1)

سورة الحج، الآية:62.

(2)

سورة النجم، الآية:23.

ص: 284

يتعلق بشيء يبرر به باطله، وهو هنا رجاء النصر {لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74)} ، وكل إنسان مبطل لابد أن يعلل ما ذهب إليه من الباطل كما مر كثيرًا في أقوال أهل البدع.

4 -

ومن فوائد قوله تعالى: {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)} أن هذه الآلهة لا يمكن أن تنصر عابديها لقوله: {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} .

فإن قلت: أليسوا يستغيثون بالآلهة فيغاثون أحيانًا؟

فالجواب: نعم، يمكن، وهو امتحان وفتنة، ولكن هذا الغوث حصل عندها لا بها، وفرق بين أن يكون الشيء حصل بالشيء، أو حصل عنده، والسبب غير، فسبب هذا الغوث الفتنة، وليس دعوة هذه الأصنام لقول الله سبحانه وتعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)}

(1)

.

5 -

من فوائد الآية الكريمة: أن هؤلاء العابدين جند محضرون لأصنامهم، يدافعون عن الأصنام وينتصرون لها، لقوله:{وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)} وفي هذا من المناداة بسفههم ما هو ظاهر، حيث يستنصرون بمن لا يستطيعون نصرهم، وهم ينصرونها، وهذا من السفه كيف تنصر شيئًا لا يستطيع نصرك ولا تستفيد منه، ولهذا يعتبر قوله:{وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)} كالدليل على سفه هؤلاء. أي: أنهم ينتصرون لهذه الآلهة وينصرونها مع أنها لا تنصرهم، وهذا الذي قررته بناء على ما

(1)

سورة الأحقاف، الآية:5.

ص: 285

اخترناه من أن معنى الآية (وهؤلاء العابدون للمعبودين جند محضرون) أما على رأي المؤلف فهو يرى خلاف ذلك، يرى أن هذه الأصنام جند لهؤلاء، لكنهم محضرون في النار جميعًا، وسبق بيان ضعف هذا القول.

* * *

{فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)} .

الخطاب في هذه الآية للرسول صلى الله عليه وسلم ومعنى {فَلَا يَحْزُنْكَ} أي لا يوقعك في الحزن، والحزن هو الندم والهم والتأسف لما مضى، والخوف هو الهم والترقب لما يستقبل. ولا شك أن هؤلاء المكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم يقولون في الله عز وجل، ويقولون في رسول الله صلى الله عليه وسلم قولًا عظيمًا، والنبي صلى الله عليه وسلم يحزن لهذا؛ لأنه أنصح الخلق للخلق، فيحزنه أن يتكلم هؤلاء بما عاقبته سيئة عليهم، وإن كان هذا لا يضره، ولكن يحزن، فقال الله عز وجل:{فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} وهذا كقوله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}

(1)

أي: لعلك مهلك نفسك لعدم إيمانهم، وقال الله عز وجل:{وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ}

(2)

والآيات في تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام وتقويته على التحمل والصبر على تكذيب هؤلاء كثيرة، وقد قالوا أشياء كثيرة:

{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}

(3)

وهذا طعن في الألوهية.

(1)

سورة الشعراء، الآية:3.

(2)

سورة النحل، الآية:127.

(3)

سورة ص، الآية:5.

ص: 286

وقالوا: {لَسْتَ مُرْسَلًا}

(1)

وهذا طعن في الرسالة، وقالوا: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم مجنون، وشاعر، وكاهن، وساحر، وهذا أيضًا عيب في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن الإنسان بشر سوف يتأثر إذا صودمت دعوته في لبها وأصلها وقيل:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)} والإنسان إذا صودم قوله الفقهي مثلًا يحس بنفسه بضغط، لكن إذا كان سيهدم أصله يكون أشد وأعظم، وإذا عيب عيبًا ذاتيًّا يكون أشد وأشد.

ولهذا يُسلي الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم في مثل هذه التوجيهات {فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} .

{إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)} . هنا يجب الوقوف على قوله: {قَوْلُهُمْ} لأنك لو وصلت لأوهم أن تكون جملة {إِنَّا نَعْلَمُ} من قولهم، وليست كذلك بل هي جملة استئنافية لبيان حال هؤلاء الذين يقولون ما يقولون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وحالهم أنهم مهددون بعلم الله عز وجل لما يسرون وما يعلنون، ما يسرونه فيما بينهم، وما يعلنونه للناس، ما يسرونه في أنفسهم، وما يبدونه لغيرهم، فعندنا إسراران:

الإسرار الأول: إسرار الإنسان ما في نفسه بحيث لا يعلم به أحد.

الإسرار الثاني: إسرار الأمر بينهم فلا يخرج لغيرهم، ونضرب لهذا مثلًا:

هؤلاء قوم عددهم عشرة يتحدثون فيما بينهم بأمر من

(1)

سورة الرعد، الآية:43.

ص: 287

الأمور، لكن لا يخرج لغيرهم فهذا إسرار، وأحد هؤلاء العشرة أضمر في نفسه شيئًا لم يخبر به زملاءه فهذا أيضًا إسرار.

فقوله: {مَا يُسِرُّونَ} يشمل هذا وهذا، أي: ما أسره كل إنسان في نفسه، وما أسروه فيما بينهم دون أن يعلنوه لغيرهم، وفي هذا من التهديد ما هو ظاهر، فالله تعالى يعلم ما يسرونه وما يعلنونه، وسوف يجازيهم على ذلك يوم القيامة.

* * *

{أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77)} .

{أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ} يرى بمعنى يعلم، والمعنى: أو لم يعلم، والاستفهام هنا للتقرير، والمراد به التوبيخ، (والواو) حرف عطف، والمعطوف عليه: إما مقدر بعد الهمزة، وإما ما سبق، وعلى الثاني تكون الهمزة منقولة عن مكانها، وأصله على القول الثاني (وألم ير) وقوله:{الْإِنْسَانُ} قال المؤلف: [وهو العاصي بن وائل] وعلى رأي المؤلف تكون (ال) هنا للعهد الذهني، ولكن الصحيح أن (ال) للجنس، أي: جنس الإنسان، ومنه العاصي بن وائل؛ لأن الأصل في (ال) أنها لبيان الجنس، كقوله تعالى:{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)} يعني: جنس الإنسان {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا}

(1)

ووجه كون ذلك هو الأصل. أن العهد يحصرها في شيء معين، والأصل بقاء اللفظ على عمومه، فإذا قال قائل:{أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ} إنه فلان بن فلان، فنقول الله

(1)

سورة العصر، الآيات: 1 - 3.

ص: 288

عز وجل، قال:{الْإِنْسَانُ} وهو شامل، إذًا فالصحيح أنه عام، لكن نجعل العاصى بن وائل مثالًا لمن قال هذا القول، أو لمن رأى هذا الرأي {أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} قال المؤلف:[مني إلى أن صيرناه شديدًا قويًّا {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ} شديد الخصومة لنا {مُبِينٌ (77)} بينها في نفي البعث] فالإنسان خلق من نطفة، وهو هذا المني، المهين كما وصفه الله عز وجل، هذا الماء المهين الذي خلق منه الإنسان، إذا رجع الإنسان إلى أصله وجد أنه كالنخامة ليس بشيء، ثم بعد هذا ينشئه الله عز وجل حتى يعطيه الفصاحة والبلاغة وقوة الحجة، وبعد أن يتربى بنعم الله في بطن أمه، ثم من صدر أمه بالثديين، ثم بما أنعم الله عليه من أنواع الطعام والشراب يقوى ويشتد عقله، وفكره، وذهنه فيكون خصيمًا، {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ} أي شديد الخصومة؛ لأن فعيل بمعنى فاعل، لكن تدل على المبالغة.

وقوله: {مُبِينٌ (77)} أي: بيّن، والذي يظهر أنها {مُبِينٌ (77)} بمعنى مُظهر، يعني مظهر لخصومته؛ لكونه شديد الخصومة قويها، وسيأتي إن شاء الله بيان نوع من جدل الإنسان وخصومته، فـ {مُبِينٌ (77)} أي: مظهر للخصومة، خلافًا لقول المؤلف: بينها.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية الكريمة: بيان أن الإنسان خلق من ضعف؛ لقوله: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} وهو كذلك.

ص: 289

2 -

ومن فوائدها أيضًا: أن هذا الإنسان الذي خلق من هذه المادة الضعيفة يترقى حتى يكون ذا خصومة مبينة؛ لقوله: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77)} .

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: النداء على الإنسان بالظلم، وجه ذلك: كيف يكون هذا الذي خلق من هذه النطفة يبلغ به الحد إلى أن يكون خصيمًا لله عز وجل بيّن الخصومة؟ ! لأن الإنسان يجب عليه إذا نظر إلى أصله أن يعرف قدر نفسه، لا أن يكون مخاصمًا لربه عز وجل.

4 -

من فوائد الآية الكريمة: أن الخصومة بالباطل مذمومة، ووجه ذلك أن الآية سيقت مساق الذم لا مساق المدح.

أما الخصومة لإثبات الحق وإبطال الباطل، فإنها ممدوحة لقول الله تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}

(1)

.

ولولا الجدال مع أهل الباطل ما تبين الحق، ولا اندحض الباطل، فلابد للإنسان من الجدال في إثبات الحق، وإبطال الباطل، أما إذا كان الأمر بالعكس فإنه مذموم.

ومن هنا يمكن أن نقسم الجدال إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: جدال محمود، مأمور به: إما وجوبًا، أو استحبابًا.

القسم الثاني: جدال مذموم، منهي عنه.

القسم الثالث: وجدال بين بين.

(1)

سورة النحل، الآية:125.

ص: 290

أما الجدال الممدوح فهو الذي يقصد به إثبات الحق، وإبطال الباطل، وهذا مأمور به، وهو كالجهاد في سبيل الله، فكما أن المجاهد مأمور بأن يحمل السلاح ضد عدوه ويقاتله، فطالب العلم مأمور بأن يحمل سلاح العلم، وهو المجادلة بالحق ليدحض به الباطل.

والقسم الثاني: بالعكس وهذا مذموم منهي عنه قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}

(1)

.

والقسم الثالث: بين بين، يعني لا يأمر به، ولا ينهى عنه، لكن لا شك أن تركه أولى، وهو الجدال في أمور لا تمس إلى الحق أو الباطل بصلة، كما يحصل في كثير من المجالس من المجادلات، فهذا لا شك أنه لا خير فيه، وأنه من المراء الذي ينبغي للإنسان تجنبه.

ثم إن أفضى إلى مفسدة كان منهيًّا عنه، وذلك إذا كان مع الجدال والمراء والمحاورة عداوة بين المتجادلين، أو تعصب لأحدهما من الحاضرين، ويحصل في ذلك تحزُّب.

وإن أفضى إلى مصلحة كان مأمورًا به، مثل: أن يكون المجادل مغرورًا بنفسه، ويرى أنه لا يغلبه أحد، فتجادله من أجل أن تكسر حدة هذا الغرور، وإن كان لا يترتب على هذا فائدة في حد ذاته، لكن فيه فائدة لغيره وهي كسر غرور هذا الشخص، حتى لا يبقى زاهيًا في نفسه، مترفعًا على غيره.

(1)

سورة الشورى، الآية:16.

ص: 291

{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)} {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا} يعني هذا الإنسان الذي كان خصيمًا مبينًا ضرب مثلًا لله عز وجل، يريد التعجيز والإنكار، وتقرير نفيه، وهذا المثل يبينه بقوله:{قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)} ولهذا جاءت الجملة مفصولة عما سبق؛ لأنها وقعت بيانًا لمبهم في قوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا} .

{وَنَسِيَ خَلْقَهُ} يعني ابتداءخلقه، أنه خلق من ماء مهين، فكان هذا الإنسان الخصيم المبين، والجملة في قوله:{وَنَسِيَ خَلْقَهُ} جملة يحتمل أن تكون جملة خبرية، ويحتمل أن تكون جملة حالية، أي: وقد نسي خلقه، يعني أنه في ضرب المثل قد نسي أصله، وهو أنه من مني ثم كان إنسانًا سويًّا خصيمًا مبينًا.

المثل بيّنه بقوله: {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)} يقول المؤلف رحمه الله: [ونسي خلقه من المني وهو أغرب من مثله]. لأن مثله الذي ضربه إعادة شيء كائن، وخلقه من المني ابتداء خلق، وأيهما أشد امتناعًا لو كان فيه امتناع على الله تعالى؟ الابتداء، ولهذا قال الله عز وجل:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}

(1)

فإذا كان كذلك فإن الإنسان الخصيم المبين يكون ضالًّا من وجهين:

الوجه الأول: استغرابه قدرة الله عز وجل على الإعادة.

الوجه الثاني: نسيانه أول الخلق، حيث نسي أنه خلق من

(1)

سورة الروم، الآية:27.

ص: 292

ماء مهين، حتى صار إنسانًا قويًّا خصيمًا مبينًا.

{قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)} أي: بالية و {مَنْ} استفهامية، والمراد به النفي، أو الإنكار، يعني لا أحد يحيي العظام وهي رميم. فالإنسان إذا مات ورم، أي: ذهب لحمه، وعصبه، وصارت عظامه تتفتت لقدمها، فهي إذًا رميم، هذه العظام الرميم هي أبعد شيء عن الحياة؛ لأنها تشبه التراب فهي أبعد شيء عن الحياة فكيف تحيا هذه العظام؟ هذا وجه استغراب هذا الرجل المنكر {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)} قال المؤلف:[أي بالية، ولم يقل رميمة بالتاء لأنه اسم لا صفة] الرميم تارة يراد به الصفة، يعني اسم المفعول، أو اسم الفاعل مرمومة، أو رامة.

وتارة يراد بها الاسم: يعني أن العظم إذا بلى يسمى رميمًا، فلما قصد به الاسم لم يحتج إلى التاء فقيل:(رميم) لأنه مثل أسد، وحجر، وشجر وما أشبه ذلك، لكن لو أريد الصفة لكان يؤنث فيقال:(رميمة) لأن العظام جمع، وكل جمع قابل للتأنيث لاسيما وأنه قال:{وَهِيَ} وهذه ضمير مؤنث.

قال المؤلف: [روي أنه أخذ عظمًا رميمًا ففتته وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: أترى يحيي الله هذا بعدما بلي ورم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "نعم ويدخلك النار"

(1)

]، المؤلف ساق هذا الأثر بالتضعيف؛ (روي) وهو جدير بذلك، لأن هذا الرجل المنكر سواء أنكر أمام النبي صلى الله عليه وسلم أو خلف ظهره فإنه منكر بكل حال، وليس من عادة الرسول عليه

(1)

ابن جرير الطبري في تفسيره ج 22 ص 31.

ص: 293

الصلاة والسلام أن يعامل الناس بمثل هذا الأسلوب بقوله: "نعم ويدخلك النار" فالأثر هذا يحتاج إلى نظر في سنده، وفي صحته.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية الكريمة: أن المجادل بالباطل يأتي بالشبهات التي ينصر بها باطلة؛ لقوله: {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)} فإن هذه شبهة تلبس على العامة؛ لأنه لم يقل: (من يحيي العظام) فقط، بل قال:{وَهِيَ رَمِيمٌ (78)} فكيف تحيا بعد أن رمّت؟ فأهل الباطل يأتون بالشبهات ليلبسوا على الناس.

2 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن هذا الإنسان استهان بربه حيث ضرب له الأمثال للتعجيز، لقوله:{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا} يعني قال: أنا أضرب لكم مثلًا بهذا الشيء الذي يعجز: {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)} .

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن المعارض للحق قد يصرح بالإنكار بدون مراوغة لقوله: {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ} وأحيانًا "يراوغ". فأيهما أهون؟

الذي يصرح ويبين أهون؛ لأن هذا يمكن أن يتقى شره، أما المراوغ فإنه في الواقع خطر، ولهذا كان خطر المنافقين على الإسلام أشد من خطر الكافرين الذين يصرحون بالعداوة؛ لأن المنافقين يغرون الناس ولا يمكن التحرز منهم.

* * *

{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)} يقول الله تعالى مبينًا قدرته على إحياء العظام وهي رميم: {قُلْ}

ص: 294

الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم {قُلْ} لهذا الذي أنكر أن يحيي الله العظام وهي رميم {يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} واعلم أن الله عز وجل إذا قال للرسول عليه الصلاة والسلام "قل" فهو أمر له بالإبلاغ. ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور بإبلاع القرآن عمومًا لقوله: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}

(1)

. فإذا خص شيئًا من الأحكام، أو من الأخبار بـ (قل) كان في ذلك عناية خاصة بهذا الذي أمر أن يقوله؛ لأنه أمر أن يبلغه على وجه الخصوصية، ومعلوم أن ما كان على وجه الخصوصية فهو أوكد مما دخل في العموم، وخلاصة هذه القاعدة: أن الله إذا أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: (قل) فهذا أمر خاص بتبليغ هذه المسألة، سواء كانت خبرًا، أو كانت حكمًا. {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} لم يقل:(يحيها الله) ليكون الجواب متضمنًا للدليل، لأنه لو قال:(يحيها الله) فهم الإنسان أن الله هو الذي يحييها، لكن إذا قال:{الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} كان هذا الجواب متضمنًا للدليل {الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} والذي أنشأها أول مرة هو الله عز وجل، ولم يخلق أحد من الخلق هذه العظام ولم ينشأها أول مرة، فإذا كان الله عز وجل أنشأها أول مرة، فهو قادر على إعادتها، لأن الإعادة أهون من الابتداء. وهذا هو الدليل الأول على إمكان إحياء هذه العظام وهي رميم، {الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} ووجه الاستدلال بهذا: أن القادر على الابتداء قادر على الإعادة من باب أولى.

ثانيًا: قال: {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)} قال المؤلف:

(1)

سورة المائدة، الآية:67.

ص: 295

[{خَلْقٍ} بمعنى مخلوق] فجعل المصدر بمعنى اسم المفعول، والذي يظهر أن المراد بالمصدر نفس المصدر، ومن المعلوم أنه لا مخلوق إلا بخلق، لكن إذا قال:{وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)} صار في هذا نصن على علمه بالخلق أي: كيف يخلق، وكيف ينشأ الخلق، فيكون أدل على قدرته على إحياء الموتى مما إذا قلنا وهو بكل مخلوق، لأنك إذا قلت بكل مخلوق صار علمه بالمخلوق بعد خلقه، لكن إذا كانت الآية على ظاهرها {بِكُلِّ خَلْقٍ} يعني: أنه يعلم كيف يخلق، والعالم بكيفية الخلق إذا أراده لم يستعصِ عليه، لأنه إذا كان عالمًا لم يبق إلا الإرادة، وإذا أراده وهو بكل خلق عليم، صنع ما علم عز وجل، فكونه بكل خلق عليم دليل على أنه قادر على أن يعيده، لأن الذي يعجز إما أن يكون لعجزه، وإما يكون لجهله، هنا لما قال:{الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} هذه القدرة {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)} هذا انتفاء الجهل، فإذا انتفى العجز المستفاد من قوله:{الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} وانتفى الجهل المستفاد من قوله: {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)} صار الخلق ممكنًا.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية الكريمة: بيان قوة الإقناع في إقامة الحجة من كلام الله عز وجل: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} فأقوى ما يسوق الحجج ويبينها هو كلام الله، لأن كلام الله عز وجل أبلغ الكلام وأحسنه، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ

ص: 296

حَدِيثًا}

(1)

، فحديث الله عز وجل لا شك أنه أصدق الحديث وأتمه، وأحسنه في الإقناع، وإقامة الحجة.

2 -

من فوائد الآية الكريمة: الاستدلال بالأشد على إمكان الأخف؛ لقوله: {يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} فقد استدل بالأشد على إمكان الأخف، فالأشد إحياؤها أَول مرة، والأخف الإعادة.

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أنه ينبغي للمستدل المناظر أن يأتي بالشيء الذي يقر به خصمه، من أجل أن تقوم عليه الحجة؟ لأنه قال:{يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} والخصم هنا لا ينكر أن الله تعالى أنشأها أول مرة.

فينبغي أن تأتي بالشيء الذي يُقر به خصمك لتقيم الحجة عليه بإقراره، وهذا أدب من أدب المناظرة، لأنه أقرب إلى الإقناع، وله نظائر منها:

- أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما ناظر الذي حاجه في ربه فقال إبراهيم: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}

(2)

. فعدل إبراهيم عن ذلك، وقال:{فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ}

(3)

وهذا يقر به الخصم، {فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} ، وهذا لا يمكن للخصم أن يقوم به.

فالحاصل أنه ينبغي للإنسان أن يتعلم طرق المناظرة

(1)

سورة النساء، الآية:87.

(2)

سورة البقرة، الآية:258.

(3)

سورة البقرة، الآية:258.

ص: 297

والمحاجة، وأن يأتي خصمه من الوجهة التي يقر بها حتى يقيم عليه الحجة؛ لأن المناظرة والمحاجة وسيلة لإحقاق الحق وإبطال الباطل.

4 -

ومن فوائد الآية الكريمة: تمام قدرة الله سبحانه وتعالى بإنشاء هذه العظام لأول مرة؛ لأنه لا أحد يستطيع أن يخلق هذه العظام {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ}

(1)

مع أن الذباب ليس فيه العظام القوية الصلبة، فإذا كانوا لا يقدرون على ذلك فهم على ما هو أعظم أعجز.

5 -

ومن فوائد الآية الكريمة: علم الله سبحانه وتعالى بكل خلق، وسبق لنا في التفسير هل الخلق هنا بمعنى المخلوق، أو بمعنى الفعل؟ وذكرنا أنه يحتمل الأمرين، لكن احتمال الفعل أكثر، يعني كل خلق فالله عليم به، ومن المعلوم أن العالم بالخلق عالم بالمخلوق كما قال تعالى:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}

(2)

إذًا يستفاد من ذلك عموم علم الله سبحانه وتعالى بكل خلق، أي: بكل صنع يصنعه مما نتصور، ومما لا نتصور، وبكل مخلوق؛ لأن العالم بالخلق عالم بالمخلوق.

* * *

{الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ

(1)

سورة الحج، الآية:73.

(2)

سورة الملك، الآية:14.

ص: 298

تُوقِدُونَ (80)} قال المؤلف: [أي: في جملة الناس {مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ} المرخ والعفار، أو كل شجر إلا العناب {نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)}].

{الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا} {جَعَلَ} بمعنى صيَّر، والذي جعل لنا من الشجر الأخضر نارًا هو الله عز وجل، وأراد المؤلف بقوله:[في جملة الناس] أن هذا الجعل ليس خاصًّا بالمخاطبين، أي: برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، بل هو عام لكل أحد، فهو جعل لهم في جملة الناس من الشجر الأخضر، المؤلف يقول:[المرخ والعفار]. وبناءً على كلامه تكون (ال) للعهد الذهني، ويكون عامًّا أريد به الخاص، ولكن سبق لنا أن هذا خلاف الظاهر، وأن (ال) الأصل فيها أنها تفيد الجنس، أي: العموم.

فالصواب أن المراد {مِنَ الشَّجَرِ} أي: من كل شجرة كما قال، وقوله:[إلا العناب] لا نعرف عن هذا شيئًا هل إنه مستثنى، وأن العناب لا يمكن أن تأتي منه النار - الله أعلم - على كل حال نحن نقول عندنا الأصل:{مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا} عامة، والشجر الأخضر فيه الرطوبة، والرطوبة يلزم منها البرودة، والنار التي تخرج من هذا الشجر الرطب البارد، يابسة وحارة، فهذا اليابس الحار متولد من رطب بارد، ولا يخفى ما بين الرطوبة والبرودة وبين الحرارة واليبوسة من التنافر العظيم.

فإذا كان الله عز وجل يولد هذا الشيء الذي بينه وبين المولد منه من التنافر ما هو ظاهر، فهو قادر على إحياء العظام وهي

ص: 299

رميم؛ لأن كونه يخلق الضد من الضد، أبلغ في القدرة من كونه يخلق الشيء من لا ضد، وهذا أمر ظاهر.

إذًا هذا الدليل الثالث على إمكان إحياء العظام وهي رميم.

وقوله: {فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)} "الفاء" هنا عاطفة و"إذا" فجائية يعني: أنه بمجرد ما أن تضرب عودًا بعود من هذا الشجر تقدح النار، فتوقد منه، فلا يحتاج إلى كبير عناء، بل إن الإيقاد أمر سهل، مفاجأ للعملية، والمفاجأة استفدناها من كلمة {فَإِذَا} وفي قولنا {أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)} دليل على استمرارية هذا العمل؛ لأن الجملة الإسمية تفيد الثبوت والاستمرار، وهذا أمر لا أحد ينكره، فلا أحد ينكر أنه يتولد من الشجر الأخضر نارًا يوقد الناس منها.

{فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)} قال المؤلف رحمه الله: [تقدحون وهذا دال على القدرة على البعث، فإنه جمع فيه بين الماء والنار والخشب، فلا الماء يطفئ النار، ولا النار تحرق الخشب].

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية الكريمة: بيان قدرة الله عز وجل حيث يتولد من هذا الشيء الرطب البارد، شيء حار يابس. فتولد الشيء من ضده دليل على كمال القدرة؛ لأن العادة أن الضدين متنافران، لا يلتقيان أبدًا، وهنا صار أحدهما يتولد من الآخر.

2 -

ومن فوائدها أيضًا: الاستدلال بالأشد على الأخف؛ لأن التنافر بين الرطب واليابس، والحار والبارد، أعظم من أن

ص: 300

يعاد الخلق، أو تعاد العظام بعد رميمها، فالقادر على هذا الشيء قادر على إحياء الموتى.

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: بيان نعمة الله علينا بجعله من الشجر الأخضر نارًا، ووجه الدلالة أنه قال:{الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ} وإلا لكان يكتفي فيقال: (الذي جعل من الشجر الأخضر نارًا) لكن ذلك لمصلحتنا، ففيه نعمة من الله عز وجل على عباده بهذه النار. وقد قرر الله هذه النعمة بقوله:{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72)}

(1)

ولا أحد ينكر ما في الطاقة الحرارية من المنافع العظيمة للخلق، فأنواعها بل أجناسها لا تحصى، فضلًا عن أفرادها.

4 -

ومن فوائد الآية الكريمة: تقرير الشيء بالواقع فبدلًا أن نلقيه تصورًا في الذهن نذكر واقعه بالفعل، تؤخذ من قوله:{فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)} فهو سبحانه وتعالى بين أنه جعل لنا من الشجر الأخضر نارًا، وهذا يعطينا تصورًا بأن الله سبحانه وتعالى جعل لنا من الشجر الأخضر نارًا، نستفيد منها، ثم حقق ذلك بذكر الأمر الواقع {فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)} أي: تحسونه بواقعكم، وتلمسونه بأيديكم.

* * *

{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)} . أجاب الله تعالى نفسه بنفسه، وخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس، كما قال الله تعالى:

(1)

سورة الواقعة، الآيتان: 71، 72.

ص: 301

{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ}

(1)

وهذا أمر معلوم بالحس والمشاهدة، فالبشر كلهم لا يساوون كوكبًا من الكواكب، فما بالك بهذه الكواكب والنجوم التي لا يحصيها إلا الله عز وجل، والسماوات العظيمة التي قال الله تعالى فيها:{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)}

(2)

؟ والذي خلق السموات والأرض أفلا يكون قادرًا على خلق الناس؛ الجواب: بلى والله، فالذي خلق هذه الأجرام العظيمة بما أودعها من المصالح العظيمة، قادر على أن يخلق مثلهم بالأولى والأحرى، وهذا هو الدليل الرابع.

قال: {وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)} قال المؤلف: [الخلاق: الكثير الخلق، فجعل فعّالًا من صيغة المبالغة، ولا شك أن الله عز وجل كثير الخلق، لكن ينبغي أن نقول أيضًا: إن فعّالًا هنا نسبة، أي: أنه موصوف بالخلق، ووصفه بالخلق أبلغ من وصفه بإيجاد الخلق، أو بفعل الخلق، يعني أننا لو قلنا: فلان نجار. ماذا يفيد قولنا: (إنه نجار) إذا جعلناه من باب النسبة، وماذا يفيد إذا جعلناه من باب المبالغة؟ إذا جعلناه من باب المبالغة: فالمعنى أنه كثير النجارة، فنجار يعني كثير النجارة، ولكن هل هو مجيدها؟ وهل هو مستحق لأن يوصف بهذه المهنة فيقال نجار؟ وهل النجارة وصفه، بمعنى أنه حاذق متقن لها؟ لا يلزم قد يكون وقد لا يكون.

(1)

سورة غافر، الآية:57.

(2)

سورة الذاريات، الآية:47.

ص: 302

أما إذا قلت: (نجار) على أنها نسبة، أي: صاحب صنعة، فهو أبلغ في الوصف، والنجار، أي: ذو الصنعة المتقن لها سواء نجر كثيرًا أو قليلًا فهو نجار متقن. فهنا يمكن أن نقول: {وَهُوَ الْخَلَّاقُ} نحملها على النسبة المفيدة لوصف الله عز وجل بهذه الصفة العظيمة، أي: ذو الخلق المتقن على أكمل وجه، ومع هذا فإن الله سبحانه وتعالى اجتمع في حقه الوصف والفعل يعني كثرة الخلق، فلا شك أن خلق الله عز وجل لا يحصى أجناسًا، فضلًا عن الأنواع، فضلًا عن الأفراد، من ذا الذي يحصي أجناس الخلق؟ من ذا الذي يحصي أنواع هذه الأجناس؟ ومن الذي يحصي أفراد هذه الأنواع؟ لا يستطيع أحد أن يحصي ذلك.

إذن فقد اجتمع في حق الله سبحانه وتعالى الأمران: النسبة الوصفية كمال الوصف، والثاني: الكثرة التي تفيدها صيغة المبالغة، فإذا كان الله سبحانه وتعالى خلاقًا، أي: من وصفه الخلق اللازم له، وكذلك كثير الخلق، هل يعجز عن أن يحيي العظام وهي رميم؟ لا.

{الْعَلِيمُ (81)} العلم دليل على القدرة على الإعادة؛ لأننا قلنا: إن عدم الإعادة إما أن يكون للعجز، وإما أن يكون للجهل، فكلما وصف الله نفسه بالعليم فإن ذلك يعني أنه قادر؛ لأنه لا يجهل كيف يخلق، وكيف ينشأ.

الفوائد:

1 -

من فوائد هذه الآية الكريمة: الاستدلال بالأشد على الأخف؛ لأن الله تعالى استدل بقدرته على خلق السموات

ص: 303

والأرض على قدرته على إحياء العظام وهي رميم.

2 -

ومن فوائد الآية الكريمة: بيان قدرة الله سبحانه وتعالى وعظمته حيث خلق هذه السماوات والأرض، بما فيهما من المصالح والمنافع، والأجرام الثابتة وغير الثابتة، وهذا دليل على كمال قدرته سبحانه وتعالى. وقد خلق الله تعالى السماوات والأرض في ستة أيام، ومع عظمتها وسعتها وكبرها قال الله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)}

(1)

أي: من تعب وإعياء.

3 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: الرد على الفلاسفة الذين يقولون: بقدم الأفلاك وجه ذلك: أنه قال: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} أي: أوجدها من العدم، ومعلوم أن الموجد ليس بقديم، والقديم عندهم هو الأزلي الذي لا بداية له، فالسماوات والأرض كانت معدومة، ثم أوجدت بقدرة الله سبحانه وتعالى، وأما من قال: بقدم الأفلاك، وأنه لم تزل ولا تزال هذه الطبيعة، فإنه ظالم لا يعلم عن هذا شيئًا؛ لأنه بنى الأمر على غير دليل عقلي ولا نقلي، بل إن الدليل العقلي والنقلي يدل على إمكان حدوث هذه الأفلاك، وأنها حادثة.

4 -

ومن فوائد الآية الكريمة: جواز إجابة السائل نفسه في الأمر المحقق المتقرر لقوله: {بَلَى} .

إذ قد يقول قائل: إن إجابة المتكلم نفسه لا معنى لها؛ لأن أجابته دعوى، أو تقرير لدعوى ادعاها.

(1)

سورة ق، الآية:38.

ص: 304

فيقال في الجواب: إذا كان الأمر ثابتًا واقعًا فإن إجابته نفسه لا تأتي بشيء جديد سوى أنه يقرر ما كان واقعًا معلومًا للمخاطب؛ ولهذا قال {بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)} .

5 -

في هذه الآية فائدة نحوية وهي: أن جواب الاستفهام المقرون بالنفي، إذا أريد إثباته يقال فيه:{بَلَى} ولا يقال: نعم؛ لأنك لو أجبت بنعم، لكان ذلك تقريرًا لنفي المنفي، مثاله:

لو قلت: أليس زيد بقائم؟ فقلت: نعم، يعني قررت النفي ليس بقائم، فإن قلت: بلى، فقد أثبت القيام.

6 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن الخلق وصف الله عز وجل الذي هو متصف به أزلًا وأبدًا لقوله: {وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)} فهو موصوف بالخلق من قبل أن يخلق؛ لأن صفة الخلق أزلية والمخلوق حادث، فهو عز وجل متصف بالخلق، ولهذا قلنا: إن النسبة في قوله: {وَهُوَ الْخَلَّاقُ} أظهر من كونها للمبالغة.

7 -

ومن فوائد الآية الكريمة: وصف الله تعالى بالعلم الأزلي؛ لقوله: {الْعَلِيمُ (81)} ولا شك أن الله تعالى موصوف بالعلم أزلًا وأبدًا، فإنه لم يزل ولا يزال عالمًا، لم يسبق علمه جهل، ولا يلحقه نسيان، كما قال موسى عليه الصلاة والسلام:{عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)}

(1)

.

* * *

{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} .

قال المؤلف: [{إِنَّمَا أَمْرُهُ} شأنه] يعني شأنه وحاله إذا

(1)

سورة طه، الآية:52.

ص: 305

أراد شيئًا أن يقول له: {كُنْ} فيكون، فلا يحتاج إلى إحضار آلات بناء مثلًا، أو إلى جنود يساعدونه، ولا إلى أن يعمل بيده عز وجل، بل يقول:{كُنْ} فيكون. وقوله رحمه الله: [شأنه] قد ينازع فيها، ويقال: إن المراد بالأمر أمر التكوين، يعني أمره أن يقول:{كُنْ} بدون أن يكرر كما في قوله: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)}

(1)

فجعل الأمر واحد الأوامر. والمؤلف يريد أن يجعل الأمر واحد الأمور.

ويمكن أن نقول بالأمرين جميعًا نقول: شأنه عز وجل في تمام قدرته أن يقول للشيء: (كن) فيكون، وأمره إذا أراد الشيء أن يقول:(كن) بدون تكرار، {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)}

(2)

. {إِذَا أَرَادَ شَيْئًا} قال المؤلف رحمه الله: [أي خلق شيء {أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} أي: فهو يكون]. والأولى أن لا نقيد {شَيْئًا} بالخلق، بل نقول: إذا أراد شيئًا خلقًا، أو إعدامًا، فالأولى إبقاء الآية على إطلاقها {شَيْئًا} سواء كان خلقًا، أو إيجادًا، أو إعدامًا وإتلافًا. ولكن الذي حمل المؤلف رحمه الله على أن يقول:[خلق شيء] لأن السياق للاستدلال على الخلق، وهو الإيجاد، فلهذا خصها به، ولكننا إذا قلنا: إنها على إطلاقها فإنها لا تمنع الخلق كما لا تمنع الإعدام. فالأولى أن يقال: {إِذَا أَرَادَ شَيْئًا} أي إيجاد شيء وخلقه، أو إعدامه.

(1)

سورة القمر، الآية:50.

(2)

سورة النازعات، الآية:13.

ص: 306

وقد يعتذر عن المؤلف فيقال: إن الإعدام فيه نوع خلق؛ لأن إتلاف الشيء القائم خلق، ولهذا قال الله عز وجل:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ}

(1)

مع أن الموت عدم وفناء، والأمر في هذا سهل، قال:{أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} {كُنْ} هنا الظاهر أنها تامة، وإذا جعلناها ناقصة صار المعنى: كن كذا. أي: تحول إلى كذا، لكن إذا جعلناها تامة صار المعنى أشمل، لتشمل ما أراد الله تعالى تحويله من شيء إلى شيء، وما أراد الله إيجاده أصلًا. يعني {كُنْ} أي: أن يوجد ويتكون، أو (كن كذا) أي بأن يكون الطويل قصيرًا، والقصير طويلًا وما أشبه ذلك، فإذا جعلناها تامة صار هذا أشمل {فَيَكُونُ (82)} قال المؤلف: يقول: [فهو يكون، وفي قراءة بالنصب عطفًا على {يَقُولَ}] قراءتان سبعيتان لأنه قال: [في قراءة] واصطلاح المؤلف رحمه الله إذا كانت القراءتان سبعيتين أن يقول: (وفي قراءة) وإذا كانت إحداهما شاذة قال عن الشاذة (قُرِئَ). في قوله: {فَيَكُونُ (82)} على قراءة الرفع بالفاء هنا للاستئناف، وجملة (يكون) خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير فهو يكون، أما على قراءة النصب فهي معطوفة على {أَنْ يَقُولَ} للشيء: كن فيكون، والفاء على كلا الوجهين دالة على الترتيب والتعقيب، يعني أن الشيء يكون فورًا بدون تأخير، وقد بين الله تعالى سرعة هذه الفورية في قوله:{وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)}

(2)

ولمح البصر ليس شيء أسرع

(1)

سورة الملك، الآية:2.

(2)

سورة القمر، الآية:50.

ص: 307

منه، وأمر الله عز وجل واحد كلمح البصر، وإذا كان هذا أمر الله وشأن الله فهل إذا قال للعظام الرميمة: كوني إنسانًا سويًّا هل يمتنع عليه ذلك؟ لا، ولهذا قال الله تعالى في سورة النازعات:{فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)}

(1)

وقال في هذه السورة: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)} .

الفوائد:

1 -

من فوائد هذه الآية الكريمة: الاستدلال بعموم قدرته عز وجل وتمامها على قدرته على إحياء الموتى.

2 -

ومن فوائدها أيضًا: بيان قدرة الله سبحانه وتعالى التامة التي لا يضاهيها، ولا يقاربها قدرة، لأنه إذا أراد شيئًا لم يتكلف لإحضار المواد، أو غيرها مما يتكون به هذا الشيء، وإنما يقول:{كُنْ} فيكون.

3 -

ومن فوائدها: إثبات الإرادة لله لقوله: {إِذَا أَرَادَ شَيْئًا} وإرادة الله سبحانه وتعالى كما قال أهل العلم تنقسم إلى قسمين: شرعية، وكونية.

فالشرعية: هي التي بمعنى المحبة.

والكونية: هي التي بمعنى المشيئة.

والفرق بينهما من حيث الأثر:

(1)

أن الإرادة الكونية لا بد فيها من وقوع المراد.

(2)

أن المراد فيها قد يكون محبوبًا لله، وقد يكون غير محبوب لله.

(1)

سورة النازعات، الآيتان: 13 - 14.

ص: 308

أما الإرادة الشرعية: فقد يقع فيها المراد، وقد لا يقع، ولا يكون المراد فيها إلا محبوبًا لله.

فإذا قال لك قائل: هل الله يريد الكفر؟

فقل له: أما شرعًا، فلا، وأما كونًا، فنعم.

ولو قال لك قائل: هل الله يريد الإيمان؟

فقل: نعم يريده شرعًا، وقدرًا إن وقع، لأنه إذا وقع فقد أراده قدرًا، وإذا لم يقع فلا نعلم هل أراده قدرًا أو لا؟ بل نقول: إنه الآن لم يرده قدرًا.

4 -

ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات القول لله؛ لقوله: {أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} .

5 -

ومن فوائدها: أن كلام الله عز وجل يكون بحرف؛ لقوله: {كُنْ} فإن "كن" كلمة مكونة من حرفين، وإثبات أنه بصوت لقوله:{أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} فهذا الخطاب موجه لما أراده الله، وهو يقتضي أن يكون هذا المراد سامعًا لهذا القول، ولا سماع إلا بصوت.

فيكون في الآية رد على قول الأشاعرة في كلام الله عز وجل حيث يقولون: إن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه، وأن ما يسمع من الأصوات والحروف وهو عبارة عن كلام الله، ويرون أن هذا المسموع مخلوق، ولهذا قال بعض المحققين منهم، أو المنصفين منهم: إنه في الحقيقة لا فرق بيننا وبين المعتزلة في كلام الله؛ لأننا متفقون على أن ما بين دفتي المصحف فهو مخلوق. فإذا كانوا متفقين على هذا، فإن قول المعتزلة قد يكون

ص: 309

خيرًا من قولهم؛ لأن المعتزلة يقولون: إن ما بين دفتي المصحف كلام الله. فكلهم يقولون: إنه مخلوق، لكن المعتزلة يقولون: إنه كلام الله، والأشاعرة يقولون: إنه عبارة عن كلام الله، فإضافته إلى الله على رأي الأشعرية مجاز لا حقيقة، وعلى كل حال في الآية رد على الأشعرية في تفسيرهم لكلام الله عز وجل، وحقيقة الأمر أنهم لا يثبتون الكلام؛ لأنهم إذا جعلوا الكلام هو المعنى القائم بالنفس فكأنما جعلوا الكلام هو العلم؛ لأن العلم هو المعنى القائم بالنفس، أما الكلام والقول فهو أمر زائد على ذلك.

6 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن أمر الله عز وجل إذا وجه لشيء فإن هذا الشيء يكون كما أمر؛ لقوله: {كُنْ فَيَكُونُ (82)} أي فيكون على ما أمر الله به، في العين، والوصف، فإذا أراد الله إيجاد شيء قال:{كُنْ} فكان على حسب ما أراده الله عز وجل.

* * *

{فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)} . (سبحان) بمعنى تنزيهًا، وهي اسم مصدر، والمصدر: تسبيح، وهي ملازمة للنصب على المفعولية المطلقة دائمًا، وملازمة أيضًا للإضافة حتى لو قطعت عن الإضافة لفظًا فهي مضافة تقديرًا. و (سبحان) معناها: التنزيه أي أن الله منزه عن النقص في صفاته، وعن مماثلة المخلوقين، فمثلًا ينزه أن يكون وجهه كوجه المخلوق، وينزه أن يعتري صفاته نقص بأي وجه، فمثلًا: العلم، علم البشر ناقص ابتداءً، وانتهاءً، وشمولًا، ابتداءً؛ لأنه مسبوق

ص: 310

بالجهل، وانتهاء؛ لأنه ملحوق بالنسيان، وشمولًا {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)}

(1)

لكن علم الله عز وجل كامل من هذه الوجوه كلها ابتداء، وانتهاء، وشمولًا، فهو سبحانه وتعالى عالم بعلمه الذي هو موصوف به أزلًا وأبدًا، وهو لا ينسى كما قال موسى عليه الصلاة والسلام، {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)}

(2)

وعلمه شامل لكل شيء، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)}

(3)

{لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)}

(4)

.

فالله تعالى منزه عن النقص في صفاته الثابتة له، ومنزه عن مماثلة المخلوقين، وقلنا: مماثلة، ولم نقل مشابهة والفرق واضح:

أولًا: أن المماثلة هي التي جاء نفيها في القرآن {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}

(5)

ولم يقل: "ليس كشبهه شيء" وقال: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ}

(6)

.

ثانيًا: أنه ما من شيئين موجودين إلا وبينهما نوع من التشابه، ولولا ذلك ما فهمنا من صفات الله شيئًا.

فمثلًا: الوجود للمخلوق وللخالق، بينهما تشابه من حيث

(1)

سورة الإسراء، الآية:85.

(2)

سورة طه، الآية:52.

(3)

سورة آل عمران، الآية:5.

(4)

سورة الطلاق، الآية:12.

(5)

سورة الشورى، الآية:11.

(6)

سورة النحل، الآية:74.

ص: 311

أصل المعنى، وإن كان هذا يختلف.

العلم: علم الخالق وعلم المخلوق، بينهما تشابه من حيث أصل المعنى لكنهما يختلفان.

فإذا نفيت المشابهة مطلقًا فهذا نفي للوجود في الواقع.

ثالثًا: أن المشابهة صار نفيها عند كثير من الناس نفيًا للصفات؛ لأن كثيرًا من أهل التعطيل يصفون من يثبت الصفات بالمشبهة، فإذا قلت: من غير تشبيه يعني من غير إثبات؛ لأن كل مثبت عندهم مشبه.

فلهذا كان التعبير بنفي التمثيل أولى من التعبير بنفي التشبه من ثلاثة أوجه.

فتنزيه الله عن منقص دليل على قدرته على إحياء العظام وهي رميم؛ لأن عجزه عن إحياء العظام وهي رميم نقص ينافي التنزيه، فإذا ثبت أن الله عز وجل منزه عن كل نقص، لزم من ذلك تنزيهه عن العجز عن إعادة هذه العظام.

{بِيَدِهِ} أي: بتصرفه مع إثبات اليد، فنحن نقول في قوله تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}

(1)

وما أشبهها ليس المعنى أن الملك في يد الله عز وجل، لكن في تصرفه مع ثبوت اليد، كما قلنا في قوله تعالى:{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا}

(2)

بمرأى منا، مع ثبوت العين؛ لأن السفينة ليست في وسط عين الله عز وجل حاشا وكلا، فالمنكر أن تقول: بيده أي أمره بدون أن تثبت اليد، أما إذا قلت

(1)

سورة الملك، الآية:1.

(2)

سورة القمر، الآية:14.

ص: 312

بيده بتصرفه وتدبيره مع ثبوت اليد فهذا هو المراد.

{مَلَكُوتُ} كما قال المؤلف في أصل {مَلَكُوتُ} [ملك لكن زيدت الواو والتاء للمبالغة] أي: زيدت للمبالغة في ملك الله لكل شيء، لأن ملك الله لكل شيء ملك تام لم يسبق بعدم، ولا يلحق بزوال، بينما ملك غيره ملك ناقص بالأصل لم يملك هذا الشيء ثم ملكه بعد، ومع ملكه إياه فإن هذا الملك قابل للزوال، ثم إن ملكه إياه ليس ملكًا مطلقًا يفعل فيه ما يشاء بل هو ملك مقيد، أما ملك الله فهو تام. ولهذا جاءت الواو والتاء للمبالغة {مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} أي ملك كل شيء.

وقوله: {بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} دليل على قدرته على إحياء العظام وهي رميم؛ لأن الذي يملك كل شيء ملكًا مطلقًا -مبالغًا فيه بالواو والتاء- قادر على أن يحول هذا المملوك إلى ما شاء، ولهذا فسر المؤلف رحمه الله الملكية هنا بالقدرة، فقال:[أي: القدرة على كل شيء]، ولكن هذا الكلام فيه نظر، بل نقول: مالك لكل شيء، وإذا ملكه ملكًا مطلقًا فهو قادر على أن يتصرف فيه كما شاء.

{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)} قال المؤلف: [تردون في الآخرة] أي: إليه لا إلى غيره ليجازيكم، ووجه الدلالة من هذه الجملة على القدرة على إحياء العظام وهي رميم أنه لا رجوع إلى الله في الآخرة إلا بعد إحياء هذه العظام الرميم، ولو قلنا: بعدم القدرة لانتفى الرجوع إلى الله عز وجل، وإذا انتفى الرجوع إلى الله تعالى صار وجود الدنيا كلها عبثًا ولعبًا، وهذا لا شك أنه منافٍ لكمال الله عز

ص: 313

وجل، فمجرد رجوعنا إلى الله تعالى يلزم منه القدرة على الإحياء. ولا يمكن أن نقول بعدم الرجوع؛ لأنا إذا قلنا بعدم الرجوع لكان إيجاد الخلق عبثًا، وهذا ممتنع غاية الامتناع.

فهذه عشرة أدلة في هذه الآيات على قدرة الله عز وجل على إحياء العظام وهي رميم، والله على كل شيء قدير، ولو لم يكن عندنا إلا هذه الجملة العامة {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)}

(1)

لكان كافيًا في بيان قدرته سبحانه وتعالى على إحياء العظام وهي رميم.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية الكريمة: تنزيه الله سبحانه وتعالى عن منقص وعيب، ويؤخذ من قوله:{فَسُبْحَانَ} ومر علينا في التفسير أن الذي ينزه الله عنه أمران:

الأول: النقص في صفاته.

الثاني: مماثلة المخلوقين.

فعلمه عز وجل لا يناله نقص، لا من حيثما الشمول، ولا من حيث السبق، ولا من حيث اللحوق، ولا يماثل علم المخلوقين، وهكذا بقية الصفات.

2 -

ومن فوائدها: أن ملكوت السماوات والأرض وكل شيء فهو بيد الله عز وجل؛ لقوله: {الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} فهو مالك لكل شيء، ولا أحد يشركه في ملكه، كما قال عز وجل: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ

(1)

سورة المائدة، الآية:17.

ص: 314

ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}

(1)

.

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن مرجع الخلائق إلى الله لقوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)} وهذا الرجوع يشمل الرجوع إلى الله يوم القيامة، والرجوع إلى الله تعالى في أحكام الخلق الكونية، والشرعية، كما قال تعالى:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}

(2)

وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)}

(3)

.

4 -

ومن فوائد الآية الكريمة: بيان حكمة الله سبحانه وتعالى وذلك بكون الرجوع إليه، وأنه لا بد من الرجوع إلى الله؛ لأنه لولا هذا الرجوع لكان خلق الخلق عبثًا لا فائدة منه، إذ إنه لولا هذا الرجوع والمجازاة على هذا العمل في هذا الرجوع لكانت الخليقة خلقت ليفسد في الأرض من يفسد، ويحصل الفتن والشرور والنهاية لا شيء.

5 -

في هذه الآيات كلها: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} إلى قوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)} .

إثبات قدرة الله سبحانه وتعالى على إحياء العظام وهي رميم وذلك من عشرة أوجه:

الأول: قوله: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} فإنه فيه استدلالًا بالأشد على الأخف.

(1)

سورة سبأ، الآيتان: 22، 23.

(2)

سورة الشورى، الآية:10.

(3)

سورة النساء، الآية:59.

ص: 315

الثاني: قوله: {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)} وعلمه بكل خلق يقتضي أنه سبحانه وتعالى قادر على إحياء العظام وهي رميم.

الثالث: قوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا} فإن من جعل من هذا الأخضر البارد الرطب نارًا وهي يابسة محرقة قادر على أن يعيد الخلق، لأن جعل النار من الشجر الأخضر أبلغ في القدرة.

الرابع: قوله: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} فقدرته على خلق السموات والأرض دليل على قدرته على إحياء العظام وهي رميم؛ لأن خلق السموات والأرض أعظم {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى} .

الخامس والسادس: قوله: {الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)} والخلاق صفة لازمة له، وكونه خلاقًا يشمل أن يخلق كل شيء، وكونه عليمًا يدل على أنه لا يخفى عليه شيء من الخلق حتى يعجز عنه.

السابع: أنه لا يستعصي عليه شيء، بل إذا أمر بشيء كان في الحال؛ لقوله:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} .

الثامن: تنزيه الله عز وجل عن كل نقص، ومن المعلوم أن العاجز عن إعادة الخلق ناقص، فإذا كان الله تعالى منزهًا عن كل نقص، كان ما وعد به من إحياء العظام وهي رميم واقعًا.

التاسع: قوله: {بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} ومن بيده ملكوت كل شيء فإنه مالك لكل شيء، والمالك لكل شيء قادر على أن يوجد المعدوم، ويعدم الموجود.

ص: 316

العاشر: قوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)} فإن هذا هو نتيجة الخلق أن يبعث الخلق ويرجعون إلى الله ليجازيهم بما عملوا.

وإلى هنا انتهى تفسير هذه السورة العظيمة، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 317