المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الْأَعْمَالِ الْوَاجِبَةِ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا - تفسير المنار - جـ ٢

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

الفصل: الْأَعْمَالِ الْوَاجِبَةِ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا

الْأَعْمَالِ الْوَاجِبَةِ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ)(9: 91) وَالنُّصْحُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَاجِبٌ حَتْمٌ، وَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا:(مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) إِلَى قَوْلِهِ: (إِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)(9: 120) وَذَكَرَ هَذَا اللَّفْظَ كَثِيرًا بَعْدَ ذِكْرِ الصَّبْرِ فِي مَوَاضِعِ الْيَأْسِ وَهُوَ وَاجِبٌ. وَبَعْدَ ذِكْرِ مُحَاوَلَةِ إِبْرَاهِيمَ ذَبْحَ وَلَدِهِ - وَكَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ - لَوْلَا مَا افْتَدَاهُ اللهُ تَعَالَى. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الزُّمَرِ عِنْدَ ذِكْرِ الْجَزَاءِ: (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)(39: 58) وَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنِ النَّفْسَ تُعَذَّبُ عَلَى تَرْكِ النَّوَافِلِ فَتَتَمَنَّى الرَّجْعَةَ لِتُؤَدِّيَهَا؟ وَمَنْ تَتَبَّعَ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا الْإِحْسَانَ يَرَى أَنَّ مِنْهَا مَا يُرَادُ بِهِ الْأَعْمَالُ الْمَفْرُوضَةُ

أَوَّلًا بِالذَّاتِ، وَمِنْهَا مَا يُرَادُ بِهِ مَا زَادَ عَنِ الْفَرْضِ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَمِنْهَا مَا يُرَادُ بِهِ إِحْسَانُ الْعَمَلِ وَإِتْقَانُهُ مُطْلَقًا، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِوُجُوبِ الْمُتْعَةِ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ: عَلِيٌّ وَابْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو قِلَابَةَ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمْ، وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي مِقْدَارِهَا وَقَدْ عَلِمْتَ الْمُخْتَارَ فِيهِ، وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ تُشْرَعُ لِغَيْرِ هَذِهِ الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَالْفَرْضِ أَمْ لَا وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) (2:

‌ 241)

.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) الْآيَةُ الْمَاضِيَةُ فِي حُكْمِ غَيْرِ الْمَمْسُوسَةِ إِذَا لَمْ يَفْرِضْ لَهَا، وَهَذِهِ فِي حُكْمِهَا وَقَدْ فَرَضَ لَهَا الْمَهْرَ، وَهُوَ أَنَّ لَهَا نِصْفَ الْمَهْرَ الْمَفْرُوضَ.

قَالَ (الْجَلَالُ) : فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ يَجِبُ لَهُنَّ وَيَرْجِعُ لَكُمُ النِّصْفُ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهَذَا جَرَى عَلَى أَنَّ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ هُوَ سَوْقُ الْمَهْرِ كُلِّهِ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ، خِلَافًا لِمَا اسْتَحْدَثَهُ النَّاسُ بَعْدُ مِنْ تَأْخِيرِ ثُلُثِ الْمَهْرِ أَيْ فِي الْغَالِبِ، وَقَدْ يُؤَخِّرُونَ أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ أَوْ أَقَلَّ حَتَّى كَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ سُنَنِ الدِّينِ، وَمَا هُوَ إِلَّا عَادَةٌ مِنَ الْعَادَاتِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ سَبَبَهَا حُبُّ الظُّهُورِ بِكَثْرَةِ الْمَهْرِ وَالْفَخْرِ بِهِ، مَعَ اجْتِنَابِ الْإِرْهَاقِ بِدَفْعِهِ كُلِّهِ. وَقَدَّرَ غَيْرُ الْجَلَالِ: فَالْوَاجِبُ نِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ - أَوْ - فَادْفَعُوا نِصْفَ مَا فَرَضْتُمْ، وَالْمَعْنَى ظَاهِرٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) أَيِ: النِّسَاءُ الْمُطَلَّقَاتُ عَنْ أَخْذِ النِّصْفِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ، وَهُوَ حَقُّ الْبَالِغَةِ الرَّشِيدَةِ (أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) قِيلَ: هُوَ الْوَلِيُّ مُطْلَقًا وَعَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، أَوِ الْوَلِيُّ الْمُجْبَرُ وَهُوَ الْأَبُ أَوِ الْجَدُّ فَيَعْفُو لَهُ عَنِ النِّصْفِ الْوَاجِبِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ، وَالشِّيعَةُ لَا تُبِيحُ لَهُ الْعَفْوَ عَنْ كُلِّهِ، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ: إِنَّ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هُوَ الزَّوْجُ الَّذِي بِيَدِهِ حَلُّهَا، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: عَبَّرَ عَنْهُ بِهَذَا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الَّذِي رَبَطَ الْمَرْأَةَ وَأَمْسَكَ الْعُقْدَةَ بِيَدِهِ لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يُحِلَّهَا وَيَدَعَهَا بِدُونِ شَيْءٍ، بَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْعَفْوُ وَالسَّمَاحُ بِكُلِّ مَا كَانَ قَدْ أَعْطَى وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ الْمُحَتَّمُ نِصْفَهُ، فَذَلِكَ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ:

(وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)

ص: 342

وَالْخِطَابُ عَلَى هَذَا خَاصٌّ بِالرِّجَالِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ عَامٌّ لِلنِّسَاءِ وَالرِّجَالِ، أَيْ مَنْ عَفَا فَهُوَ الْمُتَّقِي، وَيُرْوَى عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَ بِنْتًا لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَأَعْطَاهَا جَمِيعَ الْمَهْرِ، فَسُئِلَ عَنْ هَذَا فَقَالَ: أَمَّا التَّزَوُّجُ فَلِأَنَّهُ عَرَضَهَا عَلَيَّ فَمَا رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّهُ، وَأَمَّا الْعَفْوُ فَأَنَا أَحَقُّ بِالْفَضْلِ. هَكَذَا قَالَ مَنْ رَوَى الْقِصَّةَ بِالْمَعْنَى، وَفِي التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ أَنَّ جُبَيْرًا قَالَ: أَنَا أَحَقُّ بِالْعَفْوِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا لَفظُهُ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ، وَيُرَجِّحُهُ اخْتِلَافُ الْأَحْوَالِ، فَفِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ تَكُونُ الْمَصْلَحَةُ فِي عَفْوِ الرَّجُلِ عَنِ النِّصْفِ الْآخَرِ، وَفِي بَعْضِهَا تَكُونُ فِي عَفْوِ الْمَرْأَةِ عَنِ النِّصْفِ الْوَاجِبِ لَهَا; ذَلِكَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَدْ يَكُونُ مِنْ قِبَلِهِ بِلَا عِلَّةٍ مِنْهَا وَقَدْ يَكُونُ بِالْعَكْسِ، وَالَّذِي تَرَاهُ فِي عَامَّةِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّقْوَى هُنَا تَقْوَى اللهِ تَعَالَى الْمَطْلُوبَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ; وَذَلِكَ أَنَّ الْعَفْوَ أَكْثَرُ ثَوَابًا وَأَجْرًا.

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ التَّقْوَى فِي هَذَا الْمَقَامِ اتِّقَاءُ الرِّيبَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الطَّلَاقِ مِنَ التَّبَاغُضِ وَآثَارِ التَّبَاغُضِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي السَّمَاحِ بِالْمَالِ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي تَغْيِيرِ الْحَالِ; وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ:(وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) فَسَّرُوا الْفَضْلَ بِالتَّفَضُّلِ وَالْإِحْسَانِ، وَجَعَلُوهُ لِلتَّرْغِيبِ فِي الْعَفْوِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْمُرَادُ بِهِ الْمَوَدَّةُ وَالصِّلَةُ، أَيْ يَنْبَغِي لِمَنْ تَزَوَّجَ مِنْ بَيْتٍ ثُمَّ طَلَّقَ أَلَّا يَنْسَى مَوَدَّةَ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَيْتِ وَصِلَتَهُمْ، قَالَ: فَأَيْنَ هَذَا مِمَّا نَحْنُ عَلَيْهِ الْيَوْمَ مِنَ التَّبَاغُضِ وَالضِّرَارِ؟ !

عَلَى هَذَا السِّيَاقِ جَرَى فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَقِفُ الذِّهْنُ فِيهِ إِلَّا مَنْ كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى وُجُوهِ الْخِلَافِ فِي الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، يَقُولُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ الْوَلِيُّ: إِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الْعَقْدَ شَرْعًا وَعُرْفًا، وَقَدْ يَتَوَلَّى الْعَفْوَ عَنْ نِصْفِ الْمَهْرِ بِالنِّيَابَةِ عَنْ مُوَلِّيَتِهِ إِذَا هِيَ طَلَّقَتْ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، وَلَا حَدِيثَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الزَّوْجِ وَلَا مُعَامَلَةَ، وَإِنْ تَبَرَّعَ الزَّوْجُ بِالنِّصْفِ الْآخَرِ مِنَ الْمَهْرِ لَا يُسَمَّى عَفْوًا وَإِنَّمَا يُسَمَّى هِبَةً، وَإِنَّهُ كَانَ مِنْ مُقْتَضَى السِّيَاقِ أَنْ يُقَالَ - لَوْ

أُرِيدَ الزَّوْجُ -: ((إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ تَعْفُوا أَنْتُمْ)) ، وَإِنَّ عُقْدَةَ النِّكَاحِ لَمْ تَبْقَ فِي يَدِ الزَّوْجِ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَيَقُولُ الذَّاهِبُونَ إِلَى أَنَّهُ الزَّوْجُ: إِنَّ الْوَلِيَّ بِيَدِهِ عَقْدُ النِّكَاحِ لَا عُقْدَتُهُ الَّتِي هِيَ أَثَرُ الْعَقْدِ، وَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَسْمَحَ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِ مُوَلِّيَتِهِ; لِأَنَّهَا هِيَ الْمَالِكَةُ الْمُتَصَرِّفَةُ مِنْ دُونِهِ، وَأَنْتَ تَرَى الْجَوَابَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ عَمَّا أَوْرَدَهُ الْآخَرُ سَهْلًا، وَالْخَطْبُ أَسْهَلُ، فَالْمَعْنَى الْمُرَادُ أَنَّ الْوَاجِبَ نِصْفُ الْمَهْرِ إِلَّا أَنْ يَسْمَحَ الرَّجُلُ بِهِ كُلِّهِ، وَسَمَّى سَمَاحَهُ بِالنِّصْفِ الْآخَرِ عَفْوًا; لِأَنَّ الْمَعْهُودَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسُوقُونَ جَمِيعَ الْمَهْرِ عِنْدَ الْعَقْدِ كَمَا تَقَدَّمَ، أَوْ تَعْفُو الْمَرْأَةُ بِنَفْسِهَا أَوْ بِوَاسِطَةِ وَلِيِّهَا عَمَّا يَجِبُ لَهَا فَلَا تَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا، فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ عَفَا فَعَفْوُهُ أَقْرَبُ إِلَى التَّقْوَى، وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ عَقْدُ النِّكَاحِ هُوَ الزَّوْجُ أَكْثَرُ كَمَا تُشْعِرُ بِهِ الْعِبَارَةُ السَّابِقَةُ، وَيُرْوَى فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ والْبَيْهَقِيِّ.

ص: 343

وَقَدْ خُتِمَتِ الْآيَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) جَرْيًا عَلَى السُّنَّةِ الْإِلَهِيَّةِ بِالتَّذْكِيرِ وَالتَّحْذِيرِ بَعْدَ تَقْرِيرِ الْأَحْكَامِ; لِتَكُونَ مَقْرُونَةً بِالْمَوْعِظَةِ الَّتِي تُغَذِّي الْإِيمَانَ وَتَبْعَثُ عَلَى الِامْتِثَالِ.

وَفِي التَّذْكِيرِ بِاطِّلَاعِ اللهِ تَعَالَى وَإِحَاطَةِ بَصَرِهِ بِمَا يُعَامِلُ بِهِ الْأَزْوَاجُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا تَرْغِيبٌ فِي الْمُحَاسَنَةِ وَالْفَضْلِ، وَتَرْهِيبٌ لِأَهْلِ الْمُخَاشَنَةِ وَالْجَهْلِ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى بَعْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَا مَعْنَاهُ: مَنْ تَدَبَّرَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَفَهِمَ هَذِهِ الْأَحْكَامَ يَتَجَلَّى لَهُ نِسْبَةُ مُسْلِمِي هَذَا الْعَصْرِ إِلَى الْقُرْآنِ، وَمَبْلَغُ حَظِّهِمْ مِنَ الْإِسْلَامِ.

قَالَ: وَأَخُصُّ الْمِصْرِيِّينَ بِالذِّكْرِ; فَإِنَّ الرَّوَابِطَ الطَّبِيعِيَّةَ فِي النِّكَاحِ وَالصَّهْرِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْقَرَابَةِ صَارَتْ فِي مِصْرَ أَرَثَّ وَأَضْعَفَ مِنْهَا فِي سَائِرِ الْبِلَادِ، فَمَنْ نَظَرَ فِي أَحْوَالِهِمْ وَتَبَيَّنَ مَا يُرْجَى بَيْنَ الْأَزْوَاجِ مِنَ الْمُخَاصَمَاتِ وَالْمُنَازَعَاتِ وَالْمُضَارَّاتِ، وَمَا يَكِيدُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ، بَلْ يَجِدُهُمْ كَأَنَّهُمْ لَا شَرِيعَةَ لَهُمْ وَلَا دِينَ بَلْ آلِهَتُهُمْ أَهْوَاؤُهُمْ، وَشَرِيعَتُهُمْ شَهَوَاتُهُمْ، وَأَنَّ حَالَ الْمُمَاكَسَةِ بَيْنَ التُّجَّارِ فِي السِّلَعِ هِيَ أَحْفَظُ وَأَضْبُطُ مِنْ حَالِ الزَّوَاجِ، وَأَقْوَى فِي

الصِّلَةِ مِنْ رَوَابِطِ الْأَزْوَاجِ. وَسَرَدَ فِي الدَّرْسِ وَقَائِعَ تُؤَيِّدُ مَا ذَكَرَهُ (مِنْهَا) أَنَّ رَجُلًا هَجَرَ زَوْجَتَهُ - وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّهِ وَلَهُ مِنْهَا بِنْتٌ - بِغَيْرِ ذَنْبٍ غَيْرِ الطَّمَعِ فِي الْمَالِ، فَكَانَ كُلَّمَا كَلَّمُوهُ فِي شَأْنِهَا قَالَ: لِتَشْتَرِ عِصْمَتَهَا مِنِّي. (وَمِنْهَا) مَا هُوَ أَدْهَى مِنْ ذَلِكَ وَأَمَرُّ كَالَّذِينِ يَتْرُكُونَ نِسَاءَهُمْ بِغَيْرِ نَفَقَاتٍ حَتَّى قَدْ يَضْطَرُّوهُنَّ إِلَى بَيْعِ أَعْرَاضِهِنَّ، وَكَالْمُطَلَّقَاتِ الْمُعْتَدَّاتِ بِالْقُرُوءِ يَزْعُمْنَ أَنَّ حَيْضَهُنَّ حَبْسٌ، فَتَمُرُّ السُّنُونَ وَلَا تَنْقَضِي عِدَّتُهُنَّ بِزَعْمِهِنَّ، وَمَا الْغَرَضُ إِلَّا إِلْزَامُ الْمُطَلِّقِ النَّفَقَةَ طُولَ هَذِهِ الْمُدَّةِ انْتِقَامًا مِنْهُ، وَكَالَّذِينِ يَذَرُونَ أَزْوَاجَهُمْ كَالْمُعَلَّقَاتِ لَا يُمْسِكُونَهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا يُسَرِّحُونَهُنَّ بِإِحْسَانٍ، أَوْ يَفْتَدِينَ مِنْهُمْ بِالْمَالِ، فَأَيْنَ اللهُ وَأَيْنَ كِتَابُ اللهِ وَشَرْعُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَيْنَ هُمْ مِنْهُ؟ إِنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ فِي شَيْءٍ، وَلَكِنَّ الْمُسْرِفِينَ أَهْوَاءَهُمْ يَتَّبِعُونَ.

ص: 344

(حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) .

كَانَتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ أَحْكَامًا بَعْضُهَا فِي الْعِبَادَاتِ، وَبَعْضُهَا فِي الْحُدُودِ وَالْمُعَامَلَاتِ، آخِرُهَا مُعَامَلَةُ الْأَزْوَاجِ، وَرَأَيْنَا مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ أَنْ يَخْتِمَ كُلَّ حُكْمٍ أَوْ عِدَّةِ أَحْكَامٍ بِذِكْرِ اللهِ تَعَالَى وَالْأَمْرِ بِتَقْوَاهُ، وَالتَّذْكِيرِ بِعِلْمِهِ بِحَالِ الْعَبْدِ وَبِمَا أَعَدَّ لَهُ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى عَمَلِهِ، وَفِي هَذَا مَا فِيهِ مِنْ نَفْخِ رُوحِ الدِّينِ فِي الْأَعْمَالِ وَإِشْرَابِهَا

حَقِيقَةَ الْإِخْلَاصِ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّذْكِيرَ الْقَوْلِيَّ بِمَا يَبْعَثُ عَلَى إِقَامَةِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ عَلَى وَجْهِهَا قَدْ يَغْفُلُ الْمَرْءُ عَنْ تَدَبُّرِهِ، وَيَغِيبُ عَنِ الذِّهْنِ تَذَكُّرُهُ، بِانْهِمَاكِ النَّاسِ فِي مَعَايِشِهِمْ وَاشْتِغَالِهِمْ بِمَا يُكَافِحُونَ مِنْ شَدَائِدِ الدُّنْيَا، أَوْ مَا يَلَذُّ لَهُمْ مِنْ نَعِيمِهَا، وَلِهَذِهِ الضُّرُوبِ مِنَ الْمُكَافَحَاتِ، وَالْفُنُونِ مِنَ التَّمَتُّعِ بِاللَّذَّاتِ سُلْطَانٌ قَاهِرٌ عَلَى النَّفْسِ، وَحَاكِمٌ مُسَخِّرٌ لِلْعَقْلِ وَالْحِسِّ، يَنْتَكِبُ بِالْمَرْءِ سَبِيلَ الْهُدَى، حَتَّى تَتَفَرَّقَ بِهِ سُبُلُ الْهَوَى، فَمِنْ ثَمَّ كَانَ الْمُكَلَّفُ مُحْتَاجًا فِي تَأْدِيبِ الشَّهَوَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ، إِلَى مُذَكِّرٍ يُذَكِّرُهُ بِمَكَانَتِهِ الرُّوحَانِيَّةِ الَّتِي هِيَ كَمَالُ حَقِيقَتِهِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَهَذَا الْمُذَكِّرُ هُوَ الصَّلَاةُ، فَهِيَ الَّتِي تَخْلَعُ الْإِنْسَانَ مِنْ تِلْكَ الشَّوَاغِلِ الَّتِي لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا، وَتُوَجِّهُهُ إِلَى رَبِّهِ جَلَّ وَعَلَا، فَتُكَثِّرُ لَهُ مُرَاقَبَتَهُ، حَتَّى تَعْلُوَ بِذَلِكَ هِمَّتُهُ، وَتَزْكُوَ نَفْسُهُ، فَتَتَرَفَّعَ عَنِ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ، وَتَتَنَزَّهَ عَنْ دَنَاءَةِ الْفِسْقِ وَالْعِصْيَانِ، وَيُحَبَّبَ إِلَيْهَا الْعَدْلَ وَالْإِحْسَانَ، بَلْ تَرْتَقِيَ فِي مَعَارِجِ الْفَضْلِ إِلَى مُسْتَوَى الِامْتِنَانِ فَتَكُونُ جَدِيرَةً بِإِقَامَةِ تِلْكَ الْحُدُودِ، وَزِيَادَةِ مَا يُحِبُّ اللهُ تَعَالَى مِنَ الْكَرَمِ وَالْجُودِ، ذَلِكَ أَنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى بِإِقَامَتِهَا عَلَى وَجْهِهَا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَلَذِكْرُ اللهِ فِيهَا أَعْظَمُ مِنْ جَمِيعِ الْمُؤَثِّرَاتِ وَأَكْبَرُ، فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ قَدْ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا، فَقَدِ اسْتَثْنَى اللهُ تَعَالَى مِنْ هَذَا الْحُكْمِ الْكُلِّيِّ الْمُصَلِّينَ، إِذَا كَانُوا عَلَى الصَّلَاةِ الْحَقِيقِيَّةِ مُحَافِظِينَ.

لِهَذَا قَالَ:

(حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي وَجْهِ اخْتِيَارِ لَفْظِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْحِفْظِ: إِنَّ الصِّيغَةَ عَلَى أَصْلِهَا تُفِيدُ الْمُشَارَكَةَ فِي الْحِفْظِ وَهِيَ هُنَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: احْفَظِ الصَّلَاةَ يَحْفَظْكَ اللهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَا، كَقَوْلِهِ:(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)

ص: 345

(2: 152) أَوْ بَيْنَ الْمُصَلِّي وَالصَّلَاةِ نَفْسِهَا; أَيِ: احْفَظُوهَا تَحْفَظْكُمْ مِنَ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ بِتَنْزِيهِ نُفُوسِكُمْ عَنْهُمَا، وَمِنَ الْبَلَاءِ وَالْمِحَنِ بِتَقْوِيَةِ نُفُوسِكُمْ عَلَيْهِمَا كَمَا قَالَ:(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ)(2: 45) .

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَالَ: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ) وَلَمْ يَقُلْ: احْفَظُوهَا; لِأَنَّ الْمُفَاعَلَةَ تَدُلُّ عَلَى الْمُنَازَعَةِ وَالْمُقَاوَمَةِ، وَلَا يَظْهَرُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ الْمُفَاعَلَةَ

لِلْمُشَارَكَةِ; لِأَنَّ الصَّلَاةَ تَحْفَظُهُ كَمَا يَحْفَظُهَا، إِلَّا لَوْ كَانَتِ الْعِبَارَةُ حَافِظُوا الصَّلَوَاتِ، وَلَكِنَّهُ قَالَ:(عَلَى الصَّلَوَاتِ) أَيِ: اجْتَهَدُوا فِي حِفْظِهَا وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا اهـ. وَلَا يُرِيدُ الْأُسْتَاذُ بِهَذَا أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُحْفَظُ مِمَّا ذَكَرَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنَّ لَفْظَ (حَافِظُوا) لَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الثَّابِتِ فِي نَفْسِهِ، وَالَّذِي أَفْهَمُهُ فِي الْمُفَاعَلَةِ فِي الشَّيْءِ هُوَ فِعْلُهُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَمِنْهُ حَافَظَ عَلَيْهِ، وَوَاظَبَ عَلَيْهِ، وَدَوَامَ عَلَيْهِ، إِلَّا إِذَا كَانَتْ (عَلَى) لِلتَّعْلِيلِ كَقَاتَلَهُ عَلَى الْأَمْرِ; أَيْ: لِأَجْلِهِ، فَالْمُقَاتَلَةُ فِيهِ لِلْمُشَارَكَةِ وَلَا يَصِحُّ هُنَا، وَحِفْظُ الصَّلَاةِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِهَا كُلَّ مَرَّةٍ كَامِلَةَ الشَّرَائِطِ وَالْأَرْكَانِ الْعَمَلِيَّةِ، كَامِلَةَ الْآدَابِ وَالْمَعَانِي الْقَلْبِيَّةِ، فَالشَّيْءُ الَّذِي يُتَعَاهَدُ بِالْحِفْظِ دَائِمًا هُوَ الَّذِي لَا يَلْحَقُهُ النَّقْصُ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مَحْفُوظًا دَائِمًا.

وَالصَّلَوَاتُ هِيَ الْخَمْسُ الْمَعْرُوفَةُ بِبَيَانِ مَنْ بَيَّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ، وَنُقِلَتْ عَنْهُ بِالتَّوَاتُرِ الْعَمَلِيِّ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ جَمِيعِ الْفِرَقِ، فَهُمْ عَلَى تَفَرُّقِهِمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ جَاحِدَ صَلَاةٍ مِنَ الْخَمْسِ لَا يُعَدُّ مُسْلِمًا، عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَنْبَطُوا كَوْنَهَا خَمْسًا مِنْ ذِكْرِ الْوُسْطَى فِي الْجَمْعِ كَمَا فِي تَفْسِيرِ الرَّازِيِّ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الْتِمَاسِ النُّكْتَةِ، وَمِنْ آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ)(30: 17، 18) وَسَيَأْتِي بَيَانُ كُلِّ شَيْءٍ فِي مَحَلِّهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَكَانُوا يُعَبِّرُونَ عَنِ الصَّلَاةِ بِالتَّسْبِيحِ، وَيَقُولُونَ: سَبَّحَ الْغَدَاةَ مَثَلًا; أَيْ صَلَّى الْفَجْرَ.

وَالصَّلَاةُ الْوُسْطَى هِيَ إِحْدَى الْخَمْسِ، وَالْوُسْطَى مُؤَنَّثُ الْأَوْسَطِ، وَيُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ أَوْ أَشْيَاءَ لَهَا طَرَفَانِ مُتَسَاوِيَانِ، وَبِمَعْنَى الْأَفْضَلِ، وَبِكُلٍّ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ قَالَ قَائِلُونَ; وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي أَيِّ الصَّلَوَاتِ أَفْضَلُ وَأَيَّتُهَا الْمُتَوَسِّطَةُ؟ وَلِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ قَوْلًا أَوْرَدَهَا الشَّوْكَانِيُّ فِي (نَيْلِ الْأَوْطَارِ) أَصَحُّهَا رِوَايَةً مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ كَوْنِهَا صَلَاةَ الْعَصْرِ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ عِنْدَ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ مَرْفُوعًا ((شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ)) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ عَنْهُ بِلَفْظِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ:((مَلَأَ اللهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا كَمَا شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ)) وَلَمْ يَذْكُرِ الْعَصْرَ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا الظُّهْرُ لِأَنَّهُ شُغِلَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَنْهَا وَعَنِ الْعَصْرِ جَمِيعًا وَهِيَ مُتَوَسِّطَةٌ، وَكَانَتْ

تَشُقُّ عَلَيْهِمْ; لِأَنَّهَا تُؤَدَّى فِي وَقْتِ الْحَرِّ وَالْعَمَلِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عَلِيٍّ عِنْدَ

ص: 346

عَبْدِ اللهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ ((كُنَّا نَعُدُّهَا الْفَجْرَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: هِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ)) وَوَجْهُ مَا رَوَاهُ أَوَّلًا تَوَسُّطُهَا وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدَلْوِكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا)(17: 78) فَقَدْ أَشَارَ فِي الْآيَةِ إِلَى الصَّلَوَاتِ، وَجَعَلَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ مَزِيَّةً خَاصَّةً بِهَا، وَهِيَ كَوْنُ قُرْآنِهَا مَشْهُودًا، وَوَرَدَ فِي مَعْنَاهُ أَنَّهَا تَشْهَدُهَا مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ، وَفِي الْحَدِيثِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ صَلَاةَ الْعَصْرِ تَشَارِكُ صَلَاةَ الْفَجْرِ بِهَذِهِ الْمَزِيَّةِ، وَلِأَصْحَابِ الْأَقْوَالِ الْأُخْرَى فِي تَعْيِينِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى أَحَادِيثُ لَا تَصِلُ إِلَى دَرَجَةِ مَا وَرَدَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ، فَقِيلَ: هِيَ الْفَجْرُ، وَقِيلَ: هِيَ الظُّهْرُ كَمَا مَرَّ، وَقِيلَ: هِيَ الْمَغْرِبُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هِيَ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى أَبْهَمَ الصَّلَاةَ الْفُضْلَى الَّتِي ثَوَابُهَا أَكْثَرُ لِنُحَافِظَ عَلَى كُلِّ صَلَاةٍ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَوْلَا أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا إِحْدَى الْخَمْسِ لَكَانَ يَتَبَادَرُ إِلَى فَهْمِي مِنْ قَوْلِهِ: (وَالصَّلَاةُ الْوُسْطَى) أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ الْفِعْلُ، وَبِالْوُسْطَى الْفُضْلَى; أَيْ: حَافِظُوا عَلَى أَفْضَلِ أَنْوَاعِ الصَّلَاةِ; وَهِيَ الصَّلَاةُ الَّتِي يَحْضُرُ فِيهَا الْقَلْبُ وَتَتَوَجَّهُ بِهَا النَّفْسُ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَتَخْشَعُ لِذِكْرِهِ وَتَدَبُّرِ كَلَامِهِ، لَا صَلَاةُ الْمُرَائِينَ وَلَا الْغَافِلِينَ.

وَيُقَوِّي هَذَا قَوْلُهُ بَعْدَهَا: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) فَهُوَ بَيَانٌ لِمَعْنَى الْفَضْلِ فِي الْفُضْلَى وَتَأْكِيدٌ لَهُ، إِذْ قَالُوا: إِنَّ فِي الْقُنُوتِ مَعْنَى الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الضَّرَاعَةِ وَالْخُشُوعِ; أَيْ: قُومُوا مُلْتَزِمِينَ لِخَشْيَةِ اللهِ تَعَالَى وَاسْتِشْعَارِ هَيْبَتِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَلَا تَكْمُلُ الصَّلَاةُ وَتَكُونُ حَقِيقِيَّةً يَنْشَأُ عَنْهَا مَا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى مِنْ فَائِدَتِهَا إِلَّا بِهَذَا، وَهُوَ يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّفَرُّغِ مِنْ كُلِّ فِكْرٍ وَعَمَلٍ يَشْغَلُ عَنْ حُضُورِ الْقَلْبِ فِي الصَّلَاةِ وَخُشُوعِهِ، لِمَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ اللهِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ.

أَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ عِنْدَنَا نَصٌّ صَرِيحٌ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ يُنَافِي مَا ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُحْدَثِينَ: إِنَّ لَفْظَ ((صَلَاةِ الْعَصْرِ)) فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ مُدْرَجٌ مِنْ تَفْسِيرِ الرَّاوِي. قَالُوا: وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِيهَا، وَأَيَّدُوا ذَلِكَ بِبَعْضِ الرِّوَايَاتِ كَرِوَايَةِ مُسْلِمٍ:((شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ; يَعْنِي صَلَاةَ الْعَصْرِ)) وَمَا قَالَهُ فِي الْقُنُوتِ هُوَ لِبَابِ الْأَقْوَالِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَوْصَلَهَا ابْنُ الْعَرَبِيِّ إِلَى عَشَرَةٍ، نَظَمَهَا فِي قَوْلِهِ:

وَلَفْظُ الْقُنُوتِ اعْدُدْ مَعَانِيهِ تَجِدْ مَزِيدًا

عَلَى عَشْرِ مَعَانِي مُرْضِيَةْ

دُعَاءٌ، خُشُوعٌ، وَالْعِبَادَةُ، طَاعَةٌ

إِقَامَتُهَا إِقْرَارُنَا بِالْعُبُودِيَةْ

سُكُوتٌ، صَلَاةٌ، وَالْقِيَامُ، وَطُولُهُ

كَذَاكَ دَوَامُ الطَّاعَةِ الرَّابِحُ النِّيَةْ

وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ مَا عَدَا ابْنَ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: ((كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ يُكَلِّمُ الرَّجُلُ مِنَّا صَاحِبَهُ وَهُوَ إِلَى جَنْبِهِ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَتْ

ص: 347

(وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنِ الْكَلَامِ)) وَذَلِكَ أَنَّ الْقُنُوتَ عِبَارَةٌ عَنِ الِانْصِرَافِ عَنْ شُئُونِ الدُّنْيَا إِلَى مُنَاجَاةِ اللهِ تَعَالَى وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ لِدُعَائِهِ وَذِكْرِهِ، وَحَدِيثُ النَّاسِ مُنَافٍ لَهُ، فَيَلْزَمُ مِنَ الْقُنُوتِ تَرْكُهُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ قَالَ:((كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَيَرُدُّ عَلَيْنَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ، فَقُلْنَا - أَيْ بَعْدَ الصَّلَاةِ - يَا رَسُولَ اللهِ كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَيْكَ فِي الصَّلَاةِ فَتَرُدُّ عَلَيْنَا فَقَالَ: إِنَّ فِي الصَّلَاةِ شُغْلًا)) وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: الْمُرَادُ بِالْقُنُوتِ هُنَا الْقُنُوتُ الْمَعْرُوفُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَهُوَ إِنْ صَحَّ يُرَجَّحُ أَنَّهَا الصَّلَاةُ الْوُسْطَى.

الْمُحَافَظَةُ عَلَى الصَّلَوَاتِ آيَةُ الْإِيمَانِ الْكُبْرَى، وَقَدْ جَعَلَ الشَّرْعُ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْإِسْلَامِ وَأُخُوَّةِ الدِّينِ وَمَا لَهُ مِنَ الْحُقُوقِ، قَالَ تَعَالَى فِي أَوَائِلِ سُورَةِ التَّوْبَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الْمُعْتَدِينَ:(فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ)(9: 11) وَالْأَحَادِيثُ فِي مَنْطُوقِ الْآيَةِ وَمَفْهُومِهَا كَثِيرَةٌ، مِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ عز وجل) وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ هُنَا الْمُشْرِكُونَ أَهْلُ الْأَوْثَانِ لَا أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ تُقْبَلُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ كَالْمَجُوسِ، ذَلِكَ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُقَاوِمُونَ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ مَا لَا يُقَاوِمُهَا سِوَاهُمْ، وَكَانَ اسْتِقْرَارُ الدِّينِ مِنْ غَيْرِ دُخُولِ مُشْرِكِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فِي الْإِسْلَامِ ضَرْبًا مِنَ الْمُحَالِ، وَالْكَلَامُ هُنَا فِي مَكَانَةِ الصَّلَاةِ مِنَ الْإِسْلَامِ لَا فِي الدَّعْوَةِ وَحِمَايَتِهَا. وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ

وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ)) وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ)) صَحَّحَهُ النَّسَائِيُّ وَالْعِرَاقِيُّ، وَرَوَى أَحْمَدُ والطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا فَقَالَ:((مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نُورًا وَلَا بُرْهَانًا وَلَا نَجَاةً، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ)) وَفِي الْآثَارِ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى ذَلِكَ; فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ - وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَقِيقٍ الْعُقَيْلِيِّ قَالَ: ((كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَرَوْنَ شَيْئًا مِنَ الْأَعْمَالِ تَرْكُهُ كُفْرٌ غَيْرَ الصَّلَاةِ)) .

أَرَأَيْتَ هَذِهِ الْآيَاتِ الْعَزِيزَةَ، وَالْأَحَادِيثَ النَّاطِقَةَ بِالْعَزِيمَةِ، قَدْ نَالَ التَّأْوِيلُ مِنْهَا نَيْلَهُ فِي

ص: 348

الزَّمَنِ الْمَاضِي، وَأَعْرَضَ جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ عَنْهَا فِي الزَّمَنِ الْحَاضِرِ، حَتَّى كَثُرَ التَّارِكُونَ الْغَافِلُونَ وَالْمَارِقُونَ، وَقَلَّ عَدَدُ الْمُصَلِّينَ السَّاهِينَ وَنَدَرَ الْمُصَلُّونَ الْمُحَافِظُونَ؟ ذَلِكَ أَنَّ الْإِسْلَامَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمِينَ، الَّذِينَ يَصِفُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْمُتَمَدِّنِينَ قَدْ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ عَقِيدَةً دِينِيَّةً، إِلَى كَوْنِهِ جِنْسِيَّةً سِيَاسِيَّةً، آيَةُ الِاسْتِمْسَاكِ بِهِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ وَالدِّفَاعِ عَنْهُ مَدْحُ كُبَرَاءِ حُكَّامِهِ وَإِنْ كَانُوا لَا يُقِيمُونَ حُدُودَهُ وَلَا يُنَفِّذُونَ أَحْكَامَهُ، بَلْ رَفَعُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَى مَرْتَبَةِ التَّشْرِيعِ الْعَامِّ، وَاسْتِبْدَالِ الْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ بِمَا نَزَّلَ اللهُ مِنَ الْأَحْكَامِ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يُعَدَّ الَّذِي يَلْغُو بِمَدْحِ دَوْلَتِهِ أَوْ بِذَمِّ عَدُوٍّ لَهَا مِنْ أَكْبَرِ أَنْصَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ عَقِيدَتِهِ وَلَا يُقِيمُ الصَّلَاةَ وَلَا يُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَلَا يَحْفِلُ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مُخْلِصًا فِي دِفَاعِهِ يَتَحَرَّى بِهِ وَجْهَ الْمَنْفَعَةِ الْعَامَّةِ لَا تَتَبُّعِ طُرَقَ الْمَالِ وَالْجَاهِ، أَرَأَيْتَ هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمِينَ سِيَاسَةً؟ وَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَتُتْلَى عَلَيْهِ تِلْكَ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فَيُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَصُدُّهُ عَنْهَا عَدَمُ إِيمَانِهِ بِهَا وَهُوَ الَّذِي قَدْ يَصِفُ نَفْسَهُ أَوْ يَصِفُهُ أَقْرَانُهُ ((بِالْمُتَمَدِّنِ وَالْمُتَنَوِّرِ)) وَمِنْهُمْ مَنْ يَصْدِفُ

بِهِ عَنْهَا الِاتِّكَالُ عَلَى شَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ، وَالْغُرُورُ بِالِانْتِسَابِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَالِاعْتِقَادُ بِأَنَّ النِّسْبَةَ إِلَيْهِ كَافِيَةٌ فِي نَيْلِ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ وَعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ فِيهَا عَلَى شَيْءٍ، وَلَا سِيَّمَا الَّذِي يُسَمِّي نَفْسَهُ ((مَحْسُوبًا عَلَى أَحَدِ الصَّالِحِينَ)) وَهَذَا اعْتِقَادُ أَكْثَرِ الْعَامَّةِ، وَلَهُمْ مِنْ مَشَايِخِ الطُّرُقِ وَغَيْرِهِمْ مَا يُمِدُّهُمْ فِي غَيِّهِمْ وَيَسْتَدْرِجُهُمْ فِي غُرُورِهِمْ، وَمَا أَعْظَمَ غُرُورَ مَنْ يَأْخُذُ مِنْهُمُ الْعَهْدَ وَيُحَافِظُ عَلَى الْوِرْدِ.

نَعَمْ إِنَّ لِلْإِسْلَامِ دَوْلَةً وَإِنْ كَانَ هُوَ فِي نَفْسِهِ دِينًا لَا جِنْسِيَّةً، وَوَظِيفَةُ دَوْلَتِهِ أَوْ حُكُومَتِهِ إِنَّمَا هِيَ نَشْرُ دَعْوَتِهِ، وَحِفْظُ عَقَائِدِهِ وَآدَابِهِ، وَإِقَامَةُ فَرَائِضِهِ وَسُنَنِهِ، وَتَنْفِيذُ أَحْكَامِهِ فِي دَارِهِ، فَمَنْ يَنْصُرُ حُكُومَةَ الْإِسْلَامِ فَإِنَّمَا يَنْصُرُهَا بِمُسَاعَدَتِهَا عَلَى ذَلِكَ بِالْعَمَلِ بِهِ فِي نَفْسِهِ، وَبِحَمْلِ غَيْرِهِ مِنْ حَاكِمٍ وَمَحْكُومٍ عَلَيْهِ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمُقَوِّمُ وَالْمُعَزِّزُ لِلْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا الدَّوْلَةُ بِالْأُمَّةِ.

وَإِنَّ إِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ هُمَا أَعْظَمُ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، فَالصَّلَاةُ هِيَ الرُّكْنُ الرَّكِينُ لِصَلَاحِ النُّفُوسِ، وَالزَّكَاةُ هِيَ الرُّكْنُ الرَّكِينُ لِصَلَاحِ الِاجْتِمَاعِ، فَإِذَا هُدِمَا فَلَا إِسْلَامَ فِي الدَّوْلَةِ.

مَاذَا كَانَ مِنْ أَثَرِ تَرْكِ الصَّلَاةِ وَالتَّهَاوُنِ بِالدِّينِ فِي الْمُدُنِ وَالْقُرَى وَالْمَزَارِعِ؟ كَانَ مِنْ أَثَرِهِ فِي الْمُدُنِ فُشُوُّ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، تَجِدُ حَانَاتِ الْخَمْرِ وَمَوَاخِيرَ الْفُجُورِ وَالرَّقْصِ وَبُيُوتَ الْقِمَارِ غَاصَّةً بِخَاصَّةِ النَّاسِ وَعَامَّتِهِمْ حَتَّى فِي لَيَالِي رَمَضَانَ، لَيَالِي الذِّكْرِ وَالْقُرْآنِ، وَعَبَدَ النَّاسُ الْمَالَ، لَا يُبَالُونَ أَجَاءَ مِنْ حَرَامٍ أَمْ مِنْ حَلَالٍ، وَانْقَبَضَتِ الْأَيْدِي عَنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ، وَانْبَسَطَتْ فِي أَفْعَالِ الشَّرِّ، وَزَالَ التَّعَاطُفُ وَالتَّرَاحُمُ، وَقَلَّتِ الثِّقَةُ مِنْ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، فَلَا يَكَادُ يَثِقُ الْمُسْلِمُ إِلَّا بِالْأَجْنَبِيِّ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ فَسَادِ الْأَخْلَاقِ وَقُبْحِ الْفِعَالِ فِي الْأَفْرَادِ، وَأَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ انْحِلَالُ الرَّوَابِطِ الْمِلِّيَّةِ، بَلْ تَقَطُّعُ أَكْثَرِهَا، حَتَّى كَادَتِ الْأُمَّةُ تَخْرُجُ عَنْ

ص: 349

كَوْنِهَا أُمَّةً حَقِيقِيَّةً مُتَكَافِلَةً بِالْمَصَالِحِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْأَعْمَالِ الْمُشْتَرَكَةِ الَّتِي تَحْفَظُ وَحْدَتَهَا، وَطَفِقَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ ((الْمُتَمَدِّنِينَ)) الَّذِينَ قَطَعُوا رَوَابِطَهَا بِأَيْدِيهمْ، يُفَكِّرُونَ فِي جَعْلِ الرَّابِطَةِ الْوَطَنِيَّةِ لِأَهْلِ كُلِّ قُطْرٍ بَدَلًا مِنَ الرَّابِطَةِ الْمِلِّيَّةِ الْجَامِعَةِ لِأَهْلِ الْأَقْطَارِ الْكَثِيرَةِ، فَلَمْ يُفْلِحُوا، وَلَكِنَّ أَثَرَ كَلَامِهِمْ أَرْدَأَ التَّأْثِيرَ فِي مِصْرَ ; فَالْأُمَّةُ الْآنَ فِي دَوْرِ الِانْسِلَاخِ عَمَّا كَانَتْ بِهِ أُمَّةً بِسِيرَةِ سَلَفِهَا

الصَّالِحِينَ، فَتَنَكَّبَهَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ:(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)(19: 59) وَهَذَا الِانْسِلَاخُ هُوَ الْغَيُّ الَّذِي تَوَعَّدَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهِ فِي الدُّنْيَا.

وَأَمَّا أَثَرُ ذَلِكَ فِي الْقُرَى وَالْمَزَارِعِ فَاسْتِحْلَالُ جَمَاهِيرِ الْفَلَّاحِينَ لِإِهْلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ عَمَلًا لَا قَوْلًا، وَذَلِكَ بِاعْتِدَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَى زَرْعِ بَعْضٍ بِالْقَلْعِ قَبْلَ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ وَبِالسَّرِقَةِ بَعْدَهَا، وَعَلَى بَهَائِمِهِ بِالْقَتْلِ بِالسُّمِّ أَوِ السِّلَاحِ، بَلْ بِاعْتِدَائِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالسَّلْبِ وَالنَّهْبِ وَالْقَتْلِ، حَتَّى أَعْيَا ذَلِكَ الْحُكُومَةَ عَلَى اهْتِمَامِهَا بِأَمْرِهِمْ، فَبِلَادُ الْأَرْيَافِ الْمِصْرِيَّةِ لَا أَمْنَ فِيهَا عَلَى النَّفْسِ وَالْمَالِ بِتَأْمِينِ الْحُكُومَةِ; لِأَنَّهَا صَارَتْ كَالْبَوَادِي الَّتِي لَيْسَ فِيهَا حُكَّامٌ، لَا يَعْتَمِدُ أَحَدٌ عَلَى غَيْرِ نَفْسِهِ وَعُصْبَتِهِ فِي حِفْظِ نَفْسِهِ وَحَقِيقَتِهِ، وَلَوْ حَافَظَ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ عَلَى الصَّلَوَاتِ كَمَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى لَانْتَهَوْا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ بِالْوَازِعِ النَّفْسِيِّ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ كَمَا يَقُولُ مُخْتَارُ بَاشَا الْغَازِيُّ، كَالْبُولِيسِ (الْمُحْتَسِبِ) الْمُلَازِمِ يَمْنَعُ مِنْ عَمَلِ السُّوءِ، وَأَنَّى يُحَافِظُونَ عَلَيْهَا وَمِنْهُمُ الَّذِي كَفَرَ بِاللهِ تَقْلِيدًا، وَمِنْهُمُ الَّذِي آمَنَ تَقْلِيدًا بِمَا وَجَدَ عَلَيْهِ آبَاءَهُ، وَهُوَ أَنَّ مَرْضَاةَ اللهِ تَعَالَى بِالنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِهِ وَالْفَوْزِ بِنَعِيمِ الْآخِرَةِ عِنْدَهُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ أَحَدِ الْأَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِينَ وَإِنَّمَا يَتَوَسَّطُونَ لِمَنْ يُحْتَفَلُ بِمَوَالِدِهِمْ، أَوْ يُسَيَّبُ لَهُمُ السَّوَائِبُ مِنَ الْبَقَرِ وَغَيْرِ الْبَقَرِ، وَيُقَدَّمُ لِأَضْرِحَتِهِمُ الْهَدَايَا وَالنُّذُورُ، وَمِنْهُمُ الَّذِي يَتَعَلَّمُ كَيْفِيَّةَ أَقْوَالِ الصَّلَاةِ وَأَعْمَالِهَا الْبَدَنِيَّةِ يُؤَدُّونَهَا وَهُمْ عَنِ اللهِ سَاهُونَ، يُرَاءُونَ النَّاسَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ:(فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ)(107: 4) وَإِنَّمَا الْمُحَافِظُونَ عَلَى الصَّلَاةِ هُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ)(23: 1، 2) إِلَخْ الْآيَاتِ.

الْمُحَافِظُ عَلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ الْفُضْلَى يَنْتَهِي عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، فَلَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ بُيُوتِ الْقِمَارِ وَمَعَاهِدِ اللهْوِ وَالْفِسْقِ.

الْمُحَافِظَ عَلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ لَا يَمْنَعُ الْمَاعُونَ، بَلْ يَبْذُلُ مَعُونَتَهُ وَرِفْدَهُ لِمَنْ يَرَاهُ مُسْتَحِقًّا لَهُمَا.

الْمُحَافِظُ عَلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ لَا يُخْلِفُ وَلَا يَلْوِي فِي حَقِّ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا فَرَضَهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوِ الْتَزَمَهُ بِرًّا بِغَيْرِهِ، كَالِاشْتِرَاكِ فِي الْجَمْعِيَّاتِ الْخَيْرِيَّةِ.

الْمُحَافِظُ عَلَى هَذِهِ

الصَّلَاةِ لَا يُضِيعُ حُقُوقَ أَهْلِهِ وَعِيَالِهِ، وَلَا حُقُوقَ أَقَارِبِهِ وَجِيرَانِهِ، وَلَا حُقُوقَ مُعَامِلِيهِ وَإِخْوَانِهِ.

ص: 350

الْمُحَافِظُ عَلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ يُعَظِّمُ الْحَقَّ وَأَهْلَهُ، وَيَحْتَقِرُ الْبَاطِلَ وَجُنْدَهُ، فَلَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ وَلَا لِأُمَّتِهِ بِالذُّلِّ وَالْهَوَانِ، وَلَا يَغْتَرُّ بِأَهْلِ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ.

الْمُحَافِظُ عَلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ لَا تُجْزِعُهُ النَّوَائِبُ، وَلَا تَفُلُّ غِرَارَ عَزْمِهِ الْمَصَائِبُ، وَلَا تُبْطِرُهُ النِّعَمُ، وَلَا تَقْطَعُ رَجَاءَهُ النِّقَمُ، وَلَا تَعْبَثُ بِهِ الْخُرَافَاتُ وَالْأَوْهَامُ، وَلَا تَطِيرُ بِهِ رِيَاحُ الْأَمَانِيِّ وَالْأَحْلَامِ، فَهُوَ الْإِنْسَانُ الْكَامِلُ الَّذِي يُؤْمَنُ شَرُّهُ، وَيُرْجَى فِي النَّاسِ خَيْرُهُ، وَلَوْ أَنَّ فِينَا طَائِفَةً مِنَ الْمُصَلِّينَ الْخَاشِعِينَ لَأَقَمْنَا بِهِمُ الْحُجَّةَ عَلَى الْمَارِقِينَ وَالْمُرْتَابِينَ.

وَلَكِنَّ الْمُحَافِظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى مَعَ الْقُنُوتِ وَالْخُشُوعِ قَدْ صَارَ أَنْدَرَ مِنَ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ، وَمَنْ عَرَفَهُ لَا يُصَدِّقُ أَنَّ لِلصَّلَاةِ يَدًا فِي آدَابِهِ الْعَالِيَةِ، وَاسْتِقَامَتِهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَكَأَنِّي بِبَعْضِ الْقَارِئِينَ لِمَا تَقَدَّمَ وَقَدْ مَلُّوا مِنْهُ، وَرَمَوُا الْكَاتِبَ بِالْغُلُوِّ فِيهِ:(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ)(47: 24، 25) .

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) أَيْ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ فِيهَا قَانِتِينَ مُجْتَمِعِينَ فَيَفْتِنَكُمُ الْأَعْدَاءُ بِهُجُومِهِمْ عَلَيْكُمْ، أَوْ إِنْ خِفْتُمْ أَيَّ خَطَرٍ أَوْ ضَرَرٍ مِنْ قِيَامِكُمْ قَانِتِينَ فَصَلُّوا كَيْفَمَا تَيَسَّرَ لَكُمْ رَاجِلِينَ أَوْ رَاكِبِينَ، فَالرِّجَالُ جَمْعُ رَاجِلٍ وَهُوَ الْمَاشِي، وَالرُّكْبَانُ جَمْعُ رَاكِبٍ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا تَأْكِيدٌ لِلْمُحَافَظَةِ، وَبَيَانُ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَسْقُطُ بِحَالٍ ; لِأَنَّ حَالَ الْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ، أَوِ الْعِرْضِ، أَوِ الْمَالِ هُوَ مَظِنَّةُ الْعُذْرِ فِي التَّرْكِ، كَمَا يَكُونُ السَّفَرُ عُذْرًا فِي تَرْكِ الصِّيَامِ، وَكَالْأَعْذَارِ الْكَثِيرَةِ لِتَرْكِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَاسْتِبْدَالِ صَلَاةِ الظُّهْرِ بِهَا، وَالسَّبَبُ فِي عَدَمِ سُقُوطِ الصَّلَاةِ عَنِ الْمُكَلَّفِ بِحَالٍ أَنَّهَا عَمَلٌ قَلْبِيٌّ، وَإِنَّمَا فُرِضَتْ فِيهَا تِلْكَ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ لِأَنَّهَا مُسَاعِدَةٌ عَلَى الْعَمَلِ الْقَلْبِيِّ الْمَقْصُودِ بِالذَّاتِ، وَهُوَ تَذَكُّرُ سُلْطَانِ اللهِ تَعَالَى الْمُسْتَوْلِي عَلَيْنَا وَعَلَى الْعَالَمِ كُلِّهِ، وَمِنْ شَأْنِ الْإِنْسَانِ إِذَا أَرَادَ عَمَلًا قَلْبِيًّا يَجْتَمِعُ فِيهِ الْفِكْرُ، وَيَصِحُّ فِيهِ

تَوَجُّهُ النَّفْسِ، وَحُضُورُ الْقَلْبِ أَنْ يَسْتَعِينَ عَلَى ذَلِكَ بِبَعْضِ مَا يُنَاسِبُهُ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ.

وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ الْهَيْئَةَ الَّتِي اخْتَارَهَا اللهُ تَعَالَى لِلصَّلَاةِ هِيَ أَفْضَلُ مُعِينٍ عَلَى اسْتِحْضَارِ سُلْطَانِهِ، وَتَذَكُّرِ كَرَمِهِ، وَإِحْسَانِهِ، فَإِنَّ قَوْلَكَ:((اللهُ أَكْبَرُ)) فِي فَاتِحَةِ الصَّلَاةِ، وَعِنْدَ الِانْتِقَالِ فِيهَا مِنْ عَمَلٍ إِلَى عَمَلٍ يُعْطِيكَ مِنَ الشُّعُورِ بِكَوْنِ اللهِ أَكْبَرَ وَأَعْظَمَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ تَشْغَلُ بِهِ نَفْسَكَ، وَتُوَجِّهُ إِلَيْهِ هَمَّكَ مَا يَغْمُرُ رُوحَكَ، وَيَسْتَوْلِي عَلَى قَلْبِكَ وَإِرَادَتِكَ. وَفِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَتَذَكُّرِ رَحْمَتِهِ، وَرُبُوبِيَّتِهِ، وَمُعَاهَدَتِهِ عَلَى اخْتِصَاصِكَ إِيَّاهُ بِالْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ، وَمِنْ دُعَائِهِ: لِأَنْ يَهْدِيَكَ صِرَاطَهُ الَّذِي اسْتَقَامَ عَلَيْهِ مَنْ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّةُ النِّعْمَةِ مِنْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ مَا فِيهَا مِمَّا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِهَا. وَكُلُّ مَا تَقْرَؤُهُ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ لَهُ فِي النَّفْسِ آثَارٌ مَحْمُودَةٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمَعَارِفِ الْعَالِيَةِ، وَالْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ، وَالْعِبَرِ الْعَظِيمَةِ، وَالْهِدَايَةِ الْقَوِيمَةِ. وَانْحِنَاؤُكَ لِلرُّكُوعِ وَلِلسُّجُودِ بَعْدَ ذَلِكَ يُقَوِّي فِي النَّفْسِ

ص: 351

مَعْنَى الْعُبُودِيَّةِ، وَتَذَكُّرَ، عَظْمَةِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَنِعَمِ الرُّبُوبِيَّةِ، لِمَا فِي هَذَيْنِ الْعَمَلَيْنِ مِنْ عَلَامَةِ الْخُضُوعِ وَالْخُرُوجِ، عَنِ الْمَأْلُوفِ، وَمَا شُرِعَ فِيهِمَا مِنْ تَسْبِيحِ اللهِ، وَتَذَكُّرِ عَظَمَتِهِ، وَعُلُوِّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ.

فَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْكَ الْإِتْيَانُ بِبَعْضِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ عَنْكَ هَذِهِ الْعِبَادَةَ الْقَلْبِيَّةَ الَّتِي هِيَ رُوحُ الصَّلَاةِ، وَغَيْرَهَا، وَهِيَ الْإِقْبَالُ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَاسْتِحْضَارُ سُلْطَانِهِ، مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى تِلْكَ الْأَعْمَالِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ الَّذِي لَا يَمْنَعُ مِنْ مُدَافَعَةِ الْخَوْفِ الطَّارِئِ مِنْ سَبُعٍ مُفْتَرِسٍ، أَوْ عَدُوٍّ مُغْتَالٍ، أَوْ لِصٍّ مُحْتَالٍ، وَكَيْفَ يَسْقُطُ طَلَبُ الصَّلَاةِ الْقَلْبِيَّةِ فِي حَالِ خَوْفٍ وَهُوَ يُسَاعِدُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ، أَوْ تَخْفِيفِ وَقْعِهِ؟ فَالْآيَةُ تُعَلِّمُنَا أَنَّهُ يَجِبُ أَلَّا يُذْهِلَنَا عَنِ اللهِ تَعَالَى شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَلَا يَشْغَلَنَا عَنْهُ شَاغِلٌ، وَلَا خَوْفٌ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَلِذَلِكَ قَالَ:(فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) أَيْ: فَصَلُّوا مُشَاةً أَوْ رَاكِبِينَ كَيْفَمَا اتَّفَقَ، وَهَذَا فِي حَالَةِ الْمُلَاحَمَةِ فِي الْقِتَالِ، أَوْ مُقَاوَمَةِ الْعَدُوِّ، وَدَفْعِ الصَّائِلِ، أَوِ الْفِرَارِ مِنَ الْأَسَدِ ; أَيْ: مُمَارَسَةِ ذَلِكَ بِالْفِعْلِ، فَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ وَقْتَ الصَّلَاةِ صَلَّى الْمُكَلَّفُ رَاجِلًا أَوْ رَاكِبًا لَا يَمْنَعُهُ مِنْ صَلَاتِهِ الْكَرُّ، وَالْفَرُّ، وَلَا الطَّعْنُ، وَالضَّرْبُ، وَيَأْتِي مِنْ أَقْوَالِ الصَّلَاةِ بِمَا

يَأْتِي مَعَ الْحُضُورِ وَالذِّكْرِ، وَيُومِئُ بِالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَلَا يَلْتَزِمُ التَّوَجُّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ. وَأَمَّا صَلَاةُ الْخَوْفِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ كَصَلَاةِ الْجُنْدِ الْمُعَسْكِرِ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ جَمَاعَةً فَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ.

(فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) أَيْ: زَالَ خَوْفُكُمْ وَاطْمَأْنَنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ ; لِأَنَّهُ عَلَّمَكُمْ كَيْفَ تَعْبُدُونَهُ وَتُصَلُّونَ لَهُ فِي حَالِ الْخَوْفِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَوْنًا لَكُمْ عَلَى دَفْعِهِ; أَيْ: تَذَكَّرُوا نِعَمَهُ عَلَيْكُمْ بِهَذَا التَّعْلِيمِ وَاشْكُرُوهُ لَهُ، هَذَا إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْكَافَ لِلتَّعْلِيلِ، وَإِذَا قُلْنَا: إِنِ الْكَافَ لِلْبَدَلِيَّةِ فَالْمَعْنَى: فَاذْكُرُوهُ عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي عَلَّمَكُمْ إِيَّاهَا مِنْ قَبْلُ; أَيْ: فَصَلُّوا عَلَى السُّنَّةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْأَمْنِ بِإِتْمَامِ الْقِيَامِ، وَالِاسْتِقْبَالِ، وَالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ.

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)

ص: 352

هَذِهِ الْآيَاتُ تَتِمَّةُ مَا فِي السُّورَةِ مِنْ أَحْكَامِ الْأَزْوَاجِ، وَقَدْ جَاءَ الْأَمْرُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ - وَالصَّلَاةُ عِمَادُ الدِّينِ - لِلْعِنَايَةِ بِهَا، فَمَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ كَانَ جَدِيرًا بِالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِ اللهِ تَعَالَى وَالْعَمَلِ بِشَرِيعَتِهِ; وَلِذَلِكَ قَالَ:(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ)(2: 45) وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ ذَلِكَ، وَقَدْ خَطَرَ لِي وَجْهٌ آخَرُ هُوَ الَّذِي يَطَّرِدُ فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ الْخَاصِّ فِي مَزْجِ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَمِنْ عَقَائِدَ، وَحِكَمٍ، وَمَوَاعِظَ، وَأَحْكَامٍ تَعَبُّدِيَّةٍ، وَمَدَنِيَّةٍ، وَغَيْرِهَا، وَهُوَ نَفْيُ السَّآمَةِ عَنِ الْقَارِئِ، وَالسَّامِعِ مِنْ طُولِ النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنْهَا، وَتَجْدِيدُ نَشَاطِهِمَا وَفَهْمِهِمَا، وَاعْتِبَارُهُمَا فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا.

قَوْلُهُ: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا) إِلَخْ. فِيهِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ سَنَةً كَامِلَةً مُجَارَاةً لِعَادَاتِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ مَعَ تَخْيِيرِ الْمَرْأَةِ فِي الِاعْتِدَادِ فِي بَيْتِ الْمَيِّتِ، فَإِنِ اعْتَدَّتْ فِيهِ وَجَبَتْ نَفَقَتُهَا مِنْ تَرِكَتِهِ وَحَرُمَ عَلَى الْوَرَثَةِ إِخْرَاجُهَا، وَإِنْ خَرَجَتْ هِيَ سَقَطَ حَقُّهَا فِي النَّفَقَةِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْأَةِ مِنْ مِيرَاثِ زَوْجِهَا إِلَّا هَذَا الْمَتَاعُ وَالنَّفَقَةُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى:(وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ) مَعْنَاهُ فَلْيُوصُوا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ، أَوْ فَعَلَيْهِمْ وَصِيَّةٌ لِأَزْوَاجِهِمْ؛ إِذْ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَحَفْصٌ، عَنْ عَاصِمٍ (وَصِيَّةً) بِالنَّصْبِ، وَقَرَأَهَا ابْنُ كَثِيرٍ، وَنَافِعٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ بِالرَّفْعِ، وَقَوْلُهُ:(مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ) مَعْنَاهُ: أَنْ يُمَتِّعُوا مَتَاعًا، أَوْ مَتِّعُوهُنَّ مَتَاعًا، كَأَنَّهُ قَالَ: فَلْيُوصُوا لَهُنَّ وَصِيَّةً وَلْيُمَتِّعُوهُنَّ مَتَاعًا إِلَى آخِرِ الْحَوْلِ، وَقِيلَ: إِنَّ التَّقْدِيرَ جَعَلَ اللهُ ذَلِكَ لَهُنَّ مَتَاعًا. وَقَوْلُهُ: (غَيْرَ إِخْرَاجٍ) مَعْنَاهُ غَيْرُ مُخْرَجَاتٍ; أَيْ: يَجِبُ ذَلِكَ لَهُنَّ مُقِيمَاتٍ فِي دَارِ الْمَيِّتِ غَيْرَ مُخْرَجَاتٍ، فَلَا يُمْنَعْنَ السُّكْنَى. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْأَحْسَنُ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ مَتَاعًا مَصْدَرٌ بِمَعْنَى تَمْتِيعًا، أَوْ مَعْمُولٌ لِلْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ وَصِيَّةٌ، وَمَعْنَى (غَيْرَ إِخْرَاجٍ) غَيْرُ مُخْرَجَاتٍ، وَهُوَ حَالٌ مِنَ الْأَزْوَاجِ، وَالنُّكْتَةُ فِي الْعُدُولِ عَنْهُ هِيَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يُوصِيَ الرَّجُلُ بِعَدَمِ إِخْرَاجِ زَوْجِهِ، وَأَنْ يُنْفِذَ أَوْلِيَاؤُهُ وَصِيَّتَهُ فَلَا يُخْرِجُونَهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ، وَلَوْ قَالَ:((غَيْرَ مُخْرَجَاتٍ)) لَكَانَ تَحْتِيمًا عَلَيْهِنَّ بِالْبَقَاءِ فِي الْبُيُوتِ وَلَأَفَادَ عَدَمَ جَوَازِ إِخْرَاجِهِنَّ لِأَحَدٍ، وَلَوْ كَانَ وَلِيًّا كَأَبِيهَا، وَلَيْسَ هَذَا بِمُرَادٍ، فَعِبَارَةُ الْآيَةِ تُفِيدُ الْمَعْنَى الْمُرَادَ، وَلَا تُوهِمُ سِوَاهُ. هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، فَهِيَ عِنْدَهُمْ تُوجِبُ أَنْ تَكُونَ عِدَّةُ الْوَفَاةِ سَنَةً كَامِلَةً وَأَنْ يُنْفَقَ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ مِنْ تَرِكَةِ زَوْجِهَا مُقِيمَةً فِي دَارِهِ لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُهَا مِنْهُ إِلَّا أَنْ تَخْرُجَ بِاخْتِيَارِهَا فَتَسْقُطَ نَفَقَتُهَا.

قَالُوا: ثُمَّ نُسِخَتْ بِجَعْلِ الْعِدَّةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا كَمَا فِي تِلْكَ الْآيَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ عَلَيْهَا فِي الذِّكْرِ، وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهَا فِي النُّزُولِ، وَبِجَعْلِهَا وَارِثَةً لِلزَّوْجِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ مَعَ تَحْرِيمِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ فِي الْحَدِيثِ. أَقُولُ: وَعَلَيْهِ يَكُونُ الْإِصْلَاحُ لِتِلْكَ الْعَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي الِاعْتِدَادِ لِوَفَاةِ الزَّوْجِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْحِدَادِ عَلَيْهِ قَدْ حَصَلَ بِالتَّدْرِيجِ،

فَأُقِرَّتْ مُدَّةُ الْعِدَّةِ أَوَّلًا، وَلَكِنْ مُنِعَ أَنْ تَكُونَ بِتِلْكَ الْحَالَةِ الرَّدِيئَةِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، ثُمَّ نُسِخَتْ بِمَا تَقَدَّمَ.

ص: 353

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهُنَاكَ وَجْهٌ آخَرُ يَتَّصِلُ بِقَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ أَنَّ الْآيَةَ كَانَتْ فِي فَرْضِ الْوَصِيَّةِ، وَطُلِبَ مَعَ هَذَا الْفَرْضِ مِنْ وَرَثَةِ الْمَيِّتِ أَلَّا يُخْرِجُوا النِّسَاءَ فِي مُدَّةِ الْحَوْلِ، وَأَنَّ الْخُرُوجَ الَّذِي يَبْرَأُ بِهِ أَوْلِيَاءُ الْمَيِّتِ مِنَ الْوَصِيَّةِ الْمَفْرُوضَةِ الَّتِي هِيَ النَّفَقَةُ هُوَ الْخُرُوجُ الَّذِي بَعْدَ الْعِدَّةِ الَّتِي هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَعَشْرٌ، قَالَ: وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا التَّرَبُّصَ الَّذِي هُوَ الِاعْتِدَادُ كَمَا ذَكَرَ فِي غَيْرِهَا مِنْ آيَاتِ الْعِدَّةِ السَّابِقَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْوَصِيَّةَ، وَالْمُرَادُ بِهَا أَنْ يَسْتَوْصِيَ الرِّجَالُ بِالنِّسَاءِ اللَّوَاتِي يُتَوَفَّى أَزْوَاجُهُنَّ خَيْرًا بِأَلَّا يُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِ أَزْوَاجِهِنَّ بَعْدَ مَا كَانَ مِنْ قُوَّةِ عَلَاقَتِهِنَّ بِهَا إِلَى مُدَّةِ سَنَةٍ كَامِلَةٍ تَمُرُّ فِيهَا عَلَيْهِنَّ الْفُصُولُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي يَتَذَكَّرْنَ أَزْوَاجَهُنَّ فِيهَا، وَأَنْ يُجْعَلَ لَهُنَّ فِي مُدَّةِ السَّنَةِ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ يُنْفِقْنَهُ عَلَى أَنْفُسِهِنَّ، إِلَّا إِذَا خَرَجْنَ وَتَعَرَّضْنَ لِلزَّوَاجِ، أَوْ تَزَوَّجْنَ بَعْدَ الْعِدَّةِ الْمَفْرُوضَةِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَلَكِنْ لَمْ يَعْمَلْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا مَنْ بَعْدَهُمْ بِهَذَا; وَلِذَلِكَ قَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَذَهَبَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْوَصِيَّةِ كَانَ لِلنَّدْبِ وَتَهَاوَنَ النَّاسُ بِهِ كَمَا تَهَاوَنُوا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ - أَيْ كَاسْتِئْذَانِ الْأَوْلَادِ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ عِنْدَ دُخُولِ بُيُوتِهِمْ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ التَّهَاوُنِ بِالسِّتْرِ، قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ وَضْعِ الثِّيَابِ مِنَ الظَّهِيرَةِ فِي أَيَّامِ الْحَرِّ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ - قَالَ: وَعَلَى هَذَا فَلَا نَسْخَ لِأَنَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُصَارُ إِلَى النَّسْخِ إِذَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّصَّيْنِ.

هَذَا مَا جَرَى عَلَيْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَفِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ عَزَيْتُ مُخَالَفَةَ الْجُمْهُورِ إِلَى كَبِيرَيْنِ مِنْ قُدَمَاءِ الْمُفَسِّرِينَ وَهُمَا مُجَاهِدٌ، وَأَبُو مُسْلِمٍ، أَمَّا مُجَاهِدٌ فَقَدْ رَوَى عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ يَقُولُ: نَزَلَ فِي عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا آيَتَانِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)(2: 234) الْآيَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ. فَيَجِبُ حَمْلُ الْآيَتَيْنِ عَلَى

حَالَتَيْنِ، فَإِنِ اخْتَارَتِ الْإِقَامَةَ فِي دَارِ زَوْجِهَا الْمُتَوَفَّى وَالنَّفَقَةَ مِنْ مَالِهِ فَعِدَّتُهَا سَنَةٌ، وَإِلَّا فَعِدَّتُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، فَيَكُونُ لِلْعِدَّةِ عَلَى قَوْلِهِ أَجَلٌ مُحَتَّمٌ، وَهُوَ الْأَقَلُّ، وَأَجَلٌ مُخَيَّرٌ فِيهِ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ. وَأَمَّا أَبُو مُسْلِمٍ فَيَقُولُ: إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: مَنْ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَقَدْ وَصَّوْا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ بِنَفَقَةِ الْحَوْلِ وَسُكْنَى الْحَوْلِ، فَإِنْ خَرَجْنَ قَبْلَ ذَلِكَ وَخَالَفْنَ وَصِيَّةَ الْأَزْوَاجِ بَعْدَ أَنْ يُقِمْنَ الْمُدَّةَ الَّتِي ضَرَبَهَا اللهُ تَعَالَى لَهُنَّ، فَلَا حَرَجَ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ أَيْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ; لِأَنَّ إِقَامَتَهُنَّ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ غَيْرُ لَازِمَةٍ، قَالَ: وَالسَّبَبُ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي زَمَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُوَصُّونَ بِالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى حَوْلًا كَامِلًا، وَكَانَ يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ الِاعْتِدَادُ بِالْحَوْلِ; فَبَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالنَّسْخُ زَائِلٌ.

ص: 354

أَوْرَدَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ هَذَا فِي تَفْسِيرِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَاحْتَجَّ عَلَى قَوْلِهِ بِوُجُوهٍ:

(أَحَدُهَا) أَنَّ النَّسْخَ خِلَافُ الْأَصْلِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى عَدَمِهِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ.

(وَالثَّانِي) أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْمَنْسُوخِ فِي النُّزُولِ (أَيِ الْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ إِلَخْ.

وَلَعَلَّ لَفْظَ الْأَصْلِ سَقَطَ مِنَ النَّاسِخِ أَوِ الطَّابِعِ) وَإِذَا كَانَ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ فِي النُّزُولِ كَانَ الْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ فِي التِّلَاوَةِ أَيْضًا; لِأَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ أَحْسَنُ، فَأَمَّا تَقَدُّمُ النَّاسِخِ عَلَى الْمَنْسُوخِ فِي التِّلَاوَةِ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي الْجُمْلَةِ إِلَّا أَنَّهُ يُعَدُّ مِنْ سُوءِ التَّرْتِيبِ، وَتَنْزِيهُ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى عَنْهُ وَاجِبٌ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُتَأَخِّرَةً عَنْ تِلْكَ فِي التِّلَاوَةِ كَانَ الْأَوْلَى أَلَّا يُحْكُمَ بِكَوْنِهَا مَنْسُوخَةً بِتِلْكَ.

(الْوَجْهُ الثَّالِثُ) هُوَ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ النَّسْخِ وَبَيْنَ التَّخْصِيصِ كَانَ التَّخْصِيصُ أَوْلَى، وَهَا هُنَا إِنْ خَصَّصْنَا هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِالْحَالَتَيْنِ - عَلَى مَا هُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ - انْدَفَعَ النَّسْخُ فَكَانَ الْمَصِيرُ إِلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ أَوْلَى مِنَ الْتِزَامِ النَّسْخِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ فَالْكَلَامُ أَظْهَرُ; لِأَنَّكُمْ تَقُولُونَ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَعَلَيْهِمْ وَصِيَّةٌ لِأَزْوَاجِهِمْ، أَوْ تَقْدِيرُهَا: فَلْيُوصُوا وَصِيَّةً، فَأَنْتُمْ تُضِيفُونَ هَذَا الْحُكْمَ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَأَبُو مُسْلِمٍ يَقُولُ بَلْ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: ((وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَلَهُمْ وَصِيَّةٌ لِأَزْوَاجِهِمْ، أَوْ تَقْدِيرُهَا: وَقَدْ أَوْصَوْا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ،

فَهُوَ يُضِيفُ هَذَا الْكَلَامَ إِلَى الزَّوْجِ، وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنَ الْإِضْمَارِ فَلَيْسَ إِضْمَارُكُمْ أَوْلَى مِنْ إِضْمَارِهِ، ثُمَّ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْإِضْمَارُ مَا ذَكَرْتُمْ يَلْزَمُ تَطَرُّقُ النَّسْخِ إِلَى الْآيَةِ، وَعِنْدَ هَذَا يَشْهَدُ كُلُّ عَقْلٍ سَلِيمٍ بِأَنَّ إِضْمَارَ أَبِي مُسْلِمٍ أَوْلَى مِنْ إِضْمَارِكُمْ، وَأَنَّ الْتِزَامَ هَذَا النَّسْخِ الْتِزَامٌ لَهُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، مَعَ مَا فِي هَذَا الْقَوْلِ بِهَذَا النَّسْخِ مِنْ سُوءِ التَّرْتِيبِ الَّذِي يَجِبُ تَنْزِيهُ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى عَنْهُ، وَهَذَا كَلَامٌ وَاضِحٌ، وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا تَكُونُ جُمْلَةً وَاحِدَةً شَرْطِيَّةً فَالشَّرْطُ هُوَ قَوْلُهُ: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) وَالْجَزَاءُ هُوَ قَوْلُهُ: (فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) فَهَذَا تَقْدِيرُ قَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ وَهُوَ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ)) اهـ.

أَوْرَدْنَا كَلَامَ الرَّازِيِّ بِنَصِّهِ عَلَى إِسْهَابِهِ وَإِطْنَابِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْنِيدِ قَوْلِ الْجُمْهُورِ بِالْحُجَجِ الْبَيِّنَةِ الَّتِي يَقْتَنِعُ بِهَا أُولُو الْأَلْبَابِ، وَلِيَعْلَمَ الْمُقَلِّدُونَ أَنَّ فِي أَشْهَرِ مُفَسِّرِي الْقُرُونِ الْوُسْطَى مَنْ ضَعَّفَ ذَلِكَ الْقَوْلَ وَرَجَّحَ عَلَيْهِ كُلًّا مِنَ الْقَوْلَيْنِ الْمُخَالِفَيْنِ لَهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ جَوَازِ كَوْنِ النَّاسِخِ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْمَنْسُوخِ فِي التِّلَاوَةِ هُوَ مَا قَالَهُ الْأُصُولِيُّونَ، وَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ فِيهِ غَرِيبٌ مَا حَمَلَهُمْ عَلَيْهِ إِلَّا تَصْحِيحُ فَهْمِهِمْ لِمِثْلِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَوِ اغْتِرَارِهِمْ بِتَفْسِيرِ الْجُمْهُورِ

ص: 355

لَهُمَا، وَإِذَا سَهُلَ تَسْلِيمُ قَوْلِهِمْ بِجَوَازِ وُجُودِ آيَتَيْنِ فِي سُورَتَيْنِ تَنْسَخُ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى مَعَ وُجُودِ النَّاسِخَةِ فِي السُّورَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ فِي تَرْتِيبِ الْقُرْآنِ فَلَا يَسْهُلُ الْقَوْلُ بِأَنَّ آيَاتٍ مُتَنَاسِقَةً فِي سُورَةٍ وَاحِدَةٍ يُجْعَلُ السَّابِقُ مِنْهَا نَاسِخًا لِمَا بَعْدَهُ، وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ بِوُجُوبِ تَنْزِيهِ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُجِيزُهُ; لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي التَّنْزِيهِ يَدْخُلُ فِي بَابِ الْعَقَائِدِ، فَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْوَاجِبِ فِي الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ، فَكَيْفَ يُسَمَّى تَرْكُهُ جَائِزًا؟ وَإِذَا كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ فَهُوَ الْبُرْهَانُ الْقَاطِعُ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْجُمْهُورِ بِالنَّسْخِ.

بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ أَقُولُ: إِنَّ قَوْلَ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ بَعِيدٌ جِدًّا وَإِنْ فَضَّلَهُ الرَّازِيُّ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَيُرَجِّحُ قَوْلَ أَبِي مُسْلِمٍ أَمْرَانِ؛ أَحَدُهُمَا فِي الْعِبَارَةِ وَهُوَ جَعْلُ (الَّذِينَ

يُتَوَفَّوْنَ) فِيهِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالْجُمْهُورُ يَجْعَلُونَهُ بِمَعْنَى الَّذِينَ تَحْضُرُهُمُ الْوَفَاةُ; كَأَنَّ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ لَا تَجِبُ عِنْدَ الْقَائِلِ بِوُجُوبِهَا إِلَّا عَلَى مَنْ يَشْعُرُ بِدُنُوِّ أَجَلِهِ. وَثَانِيهِمَا مَا عُلِمَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ فِي إِلْزَامِ الْمَرْأَةِ بِبَيْتِ زَوْجِهَا الْمُتَوَفَّى سَنَةً كَامِلَةً، فَلَمَّا جَعَلَ الْإِسْلَامُ عِدَّتَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا كَانَ مِنْ مُقْتَضَاهُ أَنْ يُخْرِجَهَا الْوَرَثَةُ مِنَ الْبَيْتِ بَعْدَ مُضِيِّ الْعِدَّةِ، فَإِذَا كَانَتْ غَيْرَ رَاغِبَةٍ فِي الزَّوَاجِ يَشُقُّ عَلَيْهَا ذَلِكَ، فَكَانَ مِنَ اللَّائِقِ الْمُتَوَقَّعِ مِنَ الزَّوْجِ الْوَفِيِّ أَنْ يُوصِيَ بِعَدَمِ إِخْرَاجِهَا قَبْلَ الْحَوْلِ الْمُعْتَادِ جَبْرًا لِقَلْبِهَا، وَأَلَّا تُكَلَّفَ النَّفَقَةَ عَلَى نَفْسِهَا مَا دَامَتْ فِي الْبَيْتِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لِلنَّاسِ أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَى أَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ وَوَرَثَتِهِ فِيمَا تَفْعَلُهُ الْمَرْأَةُ إِذَا هِيَ خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِهِمْ; لِأَنَّ كَفَالَتَهُمْ إِيَّاهَا تَسْقُطُ حِينَئِذٍ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ مِنْهُمْ فِي إِكْرَامِهَا، وَإِنَّمَا قَيَّدَ الْفِعْلَ بِالْمَعْرُوفِ; لِأَنَّ مَنْعَهَا عَنِ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا قَصَّرُوا فِيهِ كَانَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ عَظِيمٌ.

وَهَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي يَتَّفِقُ مَعَ التَّفْسِيرِ الْمُخْتَارِ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ. وَهُوَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلنَّدْبِ لَا لِلْوُجُوبِ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ يُمْكِنُ التَّقَصِّي مِنْهُ بِجَعْلِ الْوَصِيَّةِ مِنَ اللهِ تَعَالَى لَا مِنَ الْمُتَوَفَّى، وَالتَّقْدِيرُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُخْتَارِ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا، وَصِيَّةً مِنَ اللهِ لِأَزْوَاجِهِمْ، أَوْ فَاللهُ يُوصِي وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ أَنْ يُمَتَّعْنَ مَتَاعًا وَلَا يُخْرَجْنَ مِنْ بُيُوتِ أَزْوَاجِهِنَّ إِلَى تَمَامِ الْحَوْلِ، فَإِنْ خَرَجْنَ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ بِالْوَصِيَّةِ فِيهِنَّ فِيمَا فَعَلْنَ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَرْعًا وَعَادَةً كَالتَّعَرُّضِ لِلْخِطَابِ بَعْدَ الْعِدَّةِ وَالتَّزَوُّجِ; إِذْ لَا وِلَايَةَ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ فَهُنَّ حَرَائِرُ لَا يُمْنَعْنَ إِلَّا مِنَ الْمُنْكَرِ الَّذِي يُمْنَعُ مِنْهُ كُلُّ مُكَلَّفٍ، وَجَعْلُ الْوَصِيَّةِ مِنَ اللهِ تَعَالَى مَعْهُودٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ:(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ)(4: 11) وَقَوْلِهِ: (غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ)(4: 12) وَهَذَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ النَّظْمِ الْكَرِيمِ فَهُوَ أَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ، وَلَا يُعَارِضُ آيَةَ تَحْدِيدِ الْعِدَّةِ وَلَا آيَةَ الْمَوَارِيثِ وَلَا حَدِيثَ ((لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ)) فَيَتَأَتَّى فِيهِ النَّسْخُ، سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ لِنَدْبٍ أَوْ لِلْوُجُوبِ، وَمَا قُلْنَا إِنَّهَا لِلنَّدْبِ إِلَّا لِعَدَمِ شُيُوعِ الْعَمَلِ بِهَا كَآيَةِ اسْتِئْذَانِ الْوِلْدَانِ فِي سُورَةِ النُّورِ، وَلَا يُمْكِنُ الْجَزْمُ بِأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ بِهَا أَحَدٌ أَلْبَتَّةَ إِذْ لَمْ يَطَّلِعْ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ عَلَى جَمِيعِ مُعَامَلَاتِ النَّاسِ فِي بُيُوتِهِمْ، فَتَأَمَّلْ هَذَا وَمَا قَبْلَهُ أَيُّهَا الْمُسْتَقِلُّ الْفَهْمِ الْمُعَافَى مِنْ جَهَالَةِ التَّقْلِيدِ، وَتَذَكَّرْ قَوْلَ الْمَثَلِ السَّائِرِ:(كَمْ تَرَكَ الْأَوَّلُ لِلْآخِرِ) .

ص: 356

وَقَدْ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) لِلتَّذْكِيرِ بِأَنَّ لِلَّهِ الْعِزَّةَ وَالْغَلَبَةَ فِيمَا يُرِيدُ مِنْ تَحْوِيلِ الْأُمَمِ عَنْ عَادَاتٍ ضَارَّةٍ إِلَى سُنَنٍ نَافِعَةٍ تَقْتَضِيهَا الْحِكْمَةُ، كَتَحْوِيلِ الْعَرَبِ عَنْ عَادَاتِهِمْ فِي الْعِدَّةِ وَالْحِدَادِ بِجَعْلِ الْمَرْأَةِ أَسِيرَةً ذَلِيلَةً مَقْهُورَةً مُدَّةَ سَنَةٍ كَامِلَةٍ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ إِكْرَامُهَا مَا دَامَتْ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا بَيْنَ أَهْلِهِ، وَعَدَمُ الْحَجْرِ عَلَى حُرِّيَّتِهَا إِذَا أَرَادَتِ الْخُرُوجَ مِنْهُ مَا دَامَتْ فِي حَظِيرَةِ الشَّرْعِ وَآدَابِ الْأُمَّةِ الْمَعْرُوفَةِ، فَهَذِهِ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ تُوَافِقُ مَصْلَحَةَ الْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) قَالَ (الْجَلَالُ) : كَرَّرَهُ لِيَعُمَّ الْمَمْسُوسَةَ أَيْضًا إِذِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ فِي غَيْرِهَا. وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - كَعَادَتِهِ - الْقَوْلَ بِالتَّكْرَارِ، قَالَ: كَأَنَّ مَا تَقَدَّمَ خَاصٌّ وَمَا هُنَا عَامٌّ، وَالصَّوَابُ أَنَّ كُلَّ آيَةٍ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْمُطَلَّقَاتِ وَرَدَتْ فِي نَوْعٍ مِنْهُنَّ، فَتَقَدَّمَ حُكْمُ مَنْ لَمْ تُمَسَّ وَقَدْ فُرَضَ لَهَا، وَحُكْمُ الْمَدْخُولِ بِهَا الْمَفْرُوضِ لَهَا، وَبَقِيَ حُكْمُ غَيْرِهِمَا (وَفِي الْمُذَكِّرَةِ الْمَأْخُوذَةِ فِي دَرْسِهِ: وَبَقِيَ حُكْمُ الْمَمْسُوسَةِ سَوَاءٌ فُرِضَ لَهَا أَمْ لَا) فَذَكَرَهُ هُنَا، وَلَمْ يُذْكُرْ ذَلِكَ بِالتَّرْتِيبِ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ كِتَابًا فَنِّيًّا فَيَكُونُ لِكُلِّ مَقْصِدٍ مِنْ مَقَاصِدِهِ بَابٌ خَاصٌّ بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ كِتَابُ هِدَايَةٍ وَوَعْظٍ يَنْتَقِلُ بِالْإِنْسَانِ مِنْ شَأْنٍ مِنْ شِئُونِهِ إِلَى آخَرَ، وَيَعُودُ إِلَى مَبَاحِثِ الْمَقْصِدِ الْوَاحِدِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، مَعَ التَّفَنُّنِ فِي الْعِبَارَةِ، وَالتَّنْوِيعِ فِي الْبَيَانِ، حَتَّى لَا يَمَلَّ تَالِيهِ وَسَامِعُهُ مِنَ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى الِاهْتِدَاءِ، يُوجِزُ أَحْيَانًا بِمَا يَعْجَزُ كُلُّ أَحَدٍ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ إِذَا كَانَ الْمَقَامُ يَقْتَضِي الْإِيجَازَ، وَيُطْنِبُ فِي مَقَامٍ آخَرَ حَيْثُ يَنْبَغِي الْإِطْنَابُ، وَهُوَ مُعْجِزٌ فِي إِطْنَابِهِ كَإِيجَازِهِ، لَا لَغْوَ فِيهِ وَلَا حَشْوَ، وَلِكُلِّ مَقَامٍ فِيهِ مَقَالٌ يَنْطَبِقُ عَلَى الْحِكْمَةِ، وَيُعِينُ عَلَى التَّدَبُّرِ وَالتَّذَكُّرِ.

أَقُولُ: إِنَّ الْمُطَلَّقَاتِ أَرْبَعٌ.

(1)

مُطَلَّقَةٌ مَدْخُولٌ بِهَا قَدْ فُرِضَ لَهَا مَهْرٌ فَلَهَا كُلُّ الْمَفْرُوضِ، وَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ، وَفِيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا)(2: 229) الْآيَةَ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا وَفِي مَعْنَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ:(وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا)(4: 20) .

(2)

وَمُطَلَّقَةٌ غَيْرُ مَدْخُولٍ بِهَا وَلَا مَفْرُوضٍ لَهَا، فَيَجِبُ لَهَا الْمُتْعَةُ بِحَسَبِ إِيسَارِ الْمُطَلِّقِ وَلَا مَهْرَ لَهَا، وَفِيهَا قَوْلُهُ

تَعَالَى: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ)(2: 236) الْآيَةَ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُهَا، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا لِآيَةِ الْأَحْزَابِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي تَفْسِيرِهَا اسْتِشْهَادًا.

(3)

وَمُطَلَّقَةٌ مَفْرُوضٌ لَهَا غَيْرُ مَدْخُولٍ بِهَا فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ الْمَفْرُوضِ، وَفِيهَا قَوْلُهُ:(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ)(2: 237) وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا أَيْضًا.

ص: 357

(4)

وَمُطَلَّقَةٌ مَدْخُولٌ بِهَا غَيْرُ مَفْرُوضٍ لَهَا، قَالُوا: وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا بِلَا خِلَافٍ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ:(فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً)(4: 24) مَعْنَاهُ: فَأَعْطُوهُنَّ مُهُورَهُنَّ بِالْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُسَمًّى; أَيْ: وَالْعُمْدَةُ فِي التَّقْدِيرِ مُسَاوَاتُهَا بِأَمْثَالِهَا عَلَى الْأَقَلِّ. وَلَمْ يَأْمُرْنَا تَعَالَى بِالتَّمْتِيعِ عِنْدَ ذِكْرِ نَوْعٍ مِنَ الْمُطَلَّقَاتِ إِلَّا غَيْرَ الْمَمْسُوسَاتِ مُطْلَقًا كَمَا فِي آيَةِ الْأَحْزَابِ، أَوْ مُقَيَّدًا بِقَوْلِهِ:(أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً)(2: 236) كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا آنِفًا.

ثُمَّ خَتَمَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأَحْكَامَ الْمَسْرُودَةَ هُنَا بِقَوْلِهِ: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ) إِلَخْ، فَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُطَلَّقَاتُ الْمَعْهُودَاتُ اللَّوَاتِي سَبَقَ الْأَمْرُ بِتَمْتِيعِهِنَّ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ)(2: 236) قَالَ رَجُلٌ: إِنْ أَحْسَنْتُ فَعَلْتُ، وَإِنْ لَمْ أُرِدْ ذَلِكَ لَمْ أَفْعَلْ; فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَفَسَّرُوا الْمُتَّقِينَ بِمُتَّقِي الْكُفْرِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ ذِكْرَ الْمُحْسِنِينَ هُنَاكَ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّخْيِيرِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذَا حُكْمٌ عَامٌّ فَتَجِبُ الْمُتْعَةُ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ، وَلَا تَكْرَارَ عَلَى هَذَا مَعَ الْآيَةِ الْآمِرَةِ بِتَمْتِيعِ مَنْ لَمْ تُمَسَّ وَلَمْ يُفْرَضْ لَهَا; لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُسُوقَةٌ لِحُكْمِ هَذِهِ الْمُتْعَةِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ وَلَا تَقْيِيدٍ بِكَوْنِهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الرَّجُلِ فِي الْإِيسَارِ، وَتِلْكَ سِيقَتْ لِبَيَانِ نَفْيِ الْجُنَاحِ عَمَّنْ طَلَّقَ مَنْ لَمْ يَمَسَّهَا وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا، وَجَاءَ فِي السِّيَاقِ أَنَّهُ يَجِبُ لَهَا تَمْتِيعٌ حَسَنٌ بِحَسَبِ وُسْعِ الْمُطَلِّقِ لِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِهَا، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْمُتْعَةُ مَشْرُوعَةً لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَطَاءٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ وَبُقُولِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا)(33: 28) وَقَدْ كُنَّ مَدْخُولًا بِهِنَّ مَفْرُوضًا لَهُنَّ الْمَهْرُ.

وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: وَاجِبَةٌ لِمَنْ لَمْ تُمَسَّ وَلَمْ يُفْرَضْ لَهَا مَنْدُوبَةٌ لِغَيْرِهَا، وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّ التَّمْتِيعَ خَاصٌّ بِمَنْ لَمْ تُمَسَّ وَلَمْ يُفْرَضْ لَهَا هِيَ أَنَّهُ بَدَلٌ مِمَّا يَجِبُ لِغَيْرِهَا مَنْ نِصْفِ الْمَهْرِ إِنْ فُرِضَ لَهَا وَلَمْ تُمَسَّ، أَوِ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى، أَوْ مَهْرِ الْمِثْلِ إِذَا كَانَتْ مَمْسُوسَةً، وَحَسْبُنَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ تَمْتِيعَ الْمُطَلَّقَاتِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ، وَقَدْ فَسَّرُوهُ بِالَّذِينِ يَتَّقُونَ الشِّرْكَ، أَوْ هُوَ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ مُطْلَقًا، إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ أَنَّ مَا تَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْمَهْرِ يُسَمَّى مَتَاعًا فِي عُرْفِ الْقُرْآنِ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ فَذْلَكَةً لِسَائِرِ الْآيَاتِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مَتَاعٌ تُمَتَّعُ بِهِ، فَمِنْهُنَّ مَنْ مَتَاعُهَا الْمَهْرُ الْمُسَمَّى أَوِ الْمُقَدَّرُ، وَمِنْهُنَّ مَنْ مَتَاعُهَا نِصْفُهُ، وَمِنْهُنَّ مَنْ لَهَا مَتَاعٌ غَيْرُ مَحْدُودٍ; لِأَنَّهُ عَلَى حَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ. وَأَحْوَطُ الْأَقْوَالِ وَأَوْسَطُهَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ الْمُتْعَةَ غَيْرَ الْمَهْرِ وَأَوْجَبَهَا لِمَنْ لَا تَسْتَحِقُّ مَهْرًا وَنَدَبَهَا لِغَيْرِهَا.

ص: 358

ثُمَّ خَتَمَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأَحْكَامَ بِقَوْلِهِ: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أَيْ: مَضَتْ سُنَّتُهُ تَعَالَى بِأَنْ يُبَيِّنَ لَكُمْ آيَاتِهِ فِي أَحْكَامِ دِينِهِ مِثْلَ هَذَا النَّحْوِ مِنَ الْبَيَانِ، وَهُوَ أَنْ يُذْكَرَ الْحُكْمُ وَفَائِدَتُهُ وَيَقْرِنُهُ بِذِكْرِ اللهِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ الَّتِي تُعِينُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، لِيَعُدَّكُمْ بِذَلِكَ لِكَمَالِ الْعَقْلِ فَتَتَحَرَّوُا الِاسْتِفَادَةَ مِنْ كُلِّ عَمَلٍ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَعْقِلُوا مَا تُخَاطَبُونَ بِهِ لِتَكُونُوا عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ دِينِكُمْ، عَارِفِينَ بِانْطِبَاقِ أَحْكَامِهِ عَلَى مَصَالِحِكُمْ بِمَا فِيهَا مِنْ تَزْكِيَةِ نُفُوسِكُمْ وَالتَّأْلِيفِ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، فَتَكُونُوا حَقِيقِينَ بِإِقَامَتِهَا وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَيْسَ مَعْنَى الْعَقْلِ أَنْ يُجْعَلَ الْمَعْنَى فِي حَاشِيَةٍ مِنْ حَوَاشِي الدِّمَاغِ، غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ فِي الذِّهْنِ، وَلَا مُؤَثِّرٍ فِي النَّفْسِ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنْ يَتَدَبَّرَ الشَّيْءَ وَيَتَأَمَّلَهُ حَتَّى تُذْعِنَ نَفْسُهُ لِمَا أُودِعَتْ فِيهِ إِذْعَانًا يَكُونُ لَهُ أَثَرٌ فِي الْعَمَلِ، فَمَنْ لَمْ يَعْقِلِ الْكَلَامَ بِهَذَا الْمَعْنَى فَهُوَ مَيِّتٌ وَإِنْ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ حَيٌّ - مَيِّتٌ مِنْ عَالَمِ الْعُقَلَاءِ حَيٌّ بِالْحَيَاةِ الْحَيَوَانِيَّةِ - وَقَدْ فَهِمْنَا هَذِهِ الْأَحْكَامَ وَلَكِنْ مَا عَقَلْنَاهَا، وَلَوْ عَقَلْنَاهَا لَمَا أَهْمَلْنَاهَا.

وَأَقُولُ: أَيْنَ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ الْمُثْلَى فِي بَيَانِ الْأَحْكَامِ مِنْ طَرِيقَةِ الْكُتُبِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَنَا بِكُتُبِ الْفِقْهِ، وَهِيَ غُفْلٌ فِي الْغَالِبِ مِنْ بَيَانِ فَائِدَةِ الْأَحْكَامِ وَانْطِبَاقِهَا عَلَى مَصَالِحِ الْبَشَرِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَزْجِهَا بِالْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ؟ وَأَيْنَ أَهْلُ التَّقْلِيدِ مِنْ هَدْيِ

الْقُرْآنِ؟ هُوَ يَذْكُرُ لَنَا الْأَحْكَامَ بِأُسْلُوبٍ يُعِدُّنَا لِلْعَقْلِ، وَيَجْعَلُنَا مِنْ أَهْلِ الْبَصِيرَةِ وَيَنْهَانَا عَنِ التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى، وَهُمْ يَأْمُرُونَنَا بِأَنْ نَخِرَّ عَلَى كَلَامِهِمْ وَكَلَامِ أَمْثَالِهِمْ صُمًّا وَعُمْيَانًا، وَمَنْ حَاوَلَ مِنَّا الِاهْتِدَاءَ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَمَا بَيَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ الْمُتَّبَعَةِ أَقَامُوا عَلَيْهِ النَّكِيرَ، وَلَعَلَّهُ لَا يَسْلَمُ مِنَ التَّبْدِيعِ وَالتَّكْفِيرِ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ بِهَذَا يُحَافِظُونَ عَلَى الدِّينِ وَمَا أَضَاعَ الدِّينَ إِلَّا هَذَا، فَإِنْ بَقِينَا عَلَى هَذِهِ التَّقَالِيدِ لَا يَبْقَى عَلَى هَذَا الدِّينِ أَحَدٌ، فَإِنَّنَا نَرَى النَّاسَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْهُ لِوَاذًا، وَإِذَا رَجَعْنَا إِلَى الْعَقْلِ الَّذِي هَدَانَا اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا، رُجِيَ لَنَا أَنْ نُحْيِيَ دِينَنَا فَيَكُونُ دِينُ الْعَقْلِ هُوَ مَرْجِعُ الْأُمَمِ أَجْمَعِينَ، وَهَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ تَعَالَى بِهِ (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (38: 88) .

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)

ص: 359

لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مِنَ الْأَحْكَامِ مَا ذَكَرَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ، قَفَّى عَلَيْهِ بِذِكْرِ بَعْضِ أَخْبَارِ الْمَاضِينَ لِأَجْلِ الْعِظَةِ وَالِاعْتِبَارِ بِمَا تَتَضَمَّنُهُ الْوَقَائِعُ وَالْآثَارُ، كَمَا هِيَ سُنَّةُ الْقُرْآنِ، فِي تَنْوِيعِ التَّذْكِيرِ وَالْبَيَانِ، بَلِ الِانْتِقَالُ هُنَا إِنَّمَا هُوَ مِنَ الْأَحْكَامِ مَسْرُودَةً مَعَ بَيَانِ حِكْمَتِهَا، وَالتَّنْبِيهِ لِفَائِدَتِهَا، إِلَى حُكْمٍ سَبَقَتْهُ حِكْمَتُهُ، وَتَقَدَّمَتْهُ فَائِدَتُهُ، فِي ضِمْنِ وَاقِعَةٍ مَضَتْ زِيَادَةً فِي الْبَصِيرَةِ وَمُبَالَغَةً فِي الْحَمْلِ عَلَى الِاعْتِبَارِ، وَهُوَ حُكْمُ الْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَيَتْلُوهُ حُكْمُ بَذْلِ الْمَالِ فِي سَبِيلِهِ. الْأَحْكَامُ السَّابِقَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْأَشْخَاصِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ، وَهَذَانِ الْحُكْمَانِ فِي أَمْرٍ عَامٍّ يَتَعَلَّقُ بِالْأُمَمِ مِنْ حَيْثُ حِفْظِ وُجُودِهَا، وَدَوَامِ اسْتِقْلَالِهَا، بِمُدَافَعَةِ الْمُعْتَدِينَ عَنْهَا، وَبَذْلِ الرُّوحِ وَالْمَالِ فِي حِفْظِ مَصَالِحِهَا، وَتَوْفِيرِ مَنَافِعِهَا; وَلِذَلِكَ كَانَ الْأُسْلُوبُ أَشَدَّ تَأْثِيرًا، وَأَعْظَمَ تَذْكِيرًا; لِأَنَّ الْإِشَارَةَ فِي سِيَاقِ التَّذْكِيرِ بِمَنَافِعِ الشَّخْصِ وَمَصَالِحِهِ فِي نَفْسِهِ وَفِيمَنْ يَتَّصِلُ

بِهِ كَافِيَةً لِلتَّذَكُّرِ وَالْعَمَلِ بِمَا يُوعَظُ بِهِ لِمُوَافَقَةِ ذَلِكَ لِهَوَاهُ، فَلَهَا مِنَ النَّفْسِ عَوْنٌ لَا يَغِيبُ، وَوَازِعٌ لَا يُعْصَى، وَأَمَّا الْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ فَإِنَّهُ لَا يَفْطُنُ لَهَا وَلَا يَرْغَبُ فِيهَا إِلَّا الْأَقَلُّونَ، فَالْعِنَايَةُ بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ بِمِقْدَارِ بُعْدِ الْجَمَاهِيرِ عَنْهَا، فَمِنْ ثَمَّ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ بِبَيَانٍ أَجْلَى وَأُسْلُوبٍ أَفْعَلَ وَأَقْوَى، كَمَا سَتَعْلَمُ تَفْسِيرَهَا عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، لَا عَنِ الْقَصَّاصِينَ وَأَصْحَابِ الْأَوْهَامِ.

رَوَوْا فِي قِصَّةِ (الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ) رِوَايَاتٍ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي وَلِعَ بِهَا الْمُفَسِّرُونَ وَكَلِفُوا بِتَطْبِيقِ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهَا، أَشْهَرُهَا أَبْعَدُهَا عَنِ السِّيَاقِ وَهِيَ رِوَايَةُ السُّدِّيِّ قَالَ: كَانَتْ قَرْيَةٌ وَقَعَ فِيهَا الطَّاعُونُ وَهَرَبَ عَامَّةُ أَهْلِهَا وَالَّذِينَ بَقُوا مَاتَ أَكْثَرُهُمْ، وَبَقِيَ قَوْمٌ مِنْهُمْ فِي الْمَرَضِ وَالْبَلَاءِ، ثُمَّ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْمَرَضِ وَالطَّاعُونِ رَجَعَ جَمِيعُ الَّذِينَ هَرَبُوا سَالِمِينَ، فَقَالَ مَنْ بَقِيَ مِنَ الْمَرْضَى: هَؤُلَاءِ أَحْرَصُ مِنَّا، لَوْ صَنَعْنَا مَا صَنَعُوا لَنَجَوْنَا مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْآفَاتِ، وَلَئِنْ وَقَعَ الطَّاعُونُ ثَانِيًا لَنَخْرُجَنَّ كَمَا خَرَجُوا، فَوَقَعَ وَهَرَبُوا وَهُمْ بِضْعَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفًا، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ ذَلِكَ الْوَادِي نَادَاهُمْ مَلَكٌ مِنْ أَسْفَلِ الْوَادِي وَآخَرُ مِنْ أَعْلَاهُ: أَنْ مُوتُوا. فَهَلَكُوا وَبَلِيَتْ أَجْسَامُهُمْ، فَمَرَّ بِهِمْ نَبِيٌّ يُقَالُ لَهُ: حِزْقِيلُ، فَلَمَّا رَآهُمْ وَقَفَ عَلَيْهِمْ وَتَفَكَّرَ فِيهِمْ; فَأَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ ((أَتُرِيدُ أُرِيكَ كَيْفَ أُحْيِيهِمْ)) ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقِيلَ لَهُ نَادِ: أَيَّتُهَا الْعِظَامُ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَجْتَمِعِي، فَجَعَلَتِ الْعِظَامُ يَطِيرُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ حَتَّى تَمَّتِ الْعِظَامُ، ثُمَّ أَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ نَادِ: أَيَّتُهَا الْعِظَامُ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَكْتَسِي لَحْمًا وَدَمًا، فَصَارَتْ لَحْمًا وَدَمًا، ثُمَّ نَادِ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَقُومِي. فَقَامَتْ، فَلَمَّا صَارُوا أَحْيَاءً قَامُوا، وَكَانُوا يَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى قَرْيَتِهِمْ بَعْدَ حَيَاتِهِمْ وَكَانَتْ أَمَارَاتُ أَنَّهُمْ مَاتُوا فِي وُجُوهِهِمْ، ثُمَّ بَقُوا إِلَى أَنْ مَاتُوا بَعْدَ ذَلِكَ بِحَسَبِ آجَالِهِمْ.

ص: 360

أَقُولُ: عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ اقْتَصَرَ (الْجَلَالُ) مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ السُّدِّيَّ هَذَا هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ الْكُوفِيُّ الْمُفَسِّرُ الْكَذَّابُ كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ - وَلَيْسَ هُوَ إِسْمَاعِيلُ السُّدِّيُّ التَّابِعِيُّ الَّذِي وَثَّقَهُ أَحْمَدُ وَضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ - وَذَكَرَ فِي عَدَدِهِمْ أَقْوَالًا أَقَلُّهَا

أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَأَكْثَرُهَا سَبْعُونَ أَلْفًا، وَأَنَّهُمْ عَاشُوا دَهْرًا، عَلَيْهِمْ أَثَرُ الْمَوْتِ، لَا يَلْبَسُونَ ثَوْبًا إِلَّا عَادَ كَالْكَفَنِ، وَاسْتَمَرَّتْ فِي أَسْبَاطِهِمْ!

وَهُنَاكَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: وَهِيَ أَنَّ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ اسْتَنْفَرَ عَسْكَرَهُ لِلْقِتَالِ فَأَبَوْا لِأَنَّ الْأَرْضَ الَّتِي دُعُوا إِلَى قِتَالِهَا مَوْبُوءَةٌ، فَأَمَاتَهُمُ اللهُ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حَتَّى انْتَفَخُوا وَعَجَزَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَنْ دَفْنِهِمْ فَأَحْيَاهُمُ اللهُ تَعَالَى وَبَقِيَ فِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ النَّتْنِ، وَفِي بَعْضِ الْقَصَصِ أَنَّ ذَلِكَ انْتَقَلَ إِلَى ذُرِّيَّتِهِمْ وَسَيَبْقَى فِيهِمْ حَتَّى يَنْقَرِضُوا! وَقَلَّمَا نَجِدُ فِي الْعُلَمَاءِ مَنْ يُنَبِّهُ النَّاسَ لِهَذِهِ الْأَكَاذِيبِ.

وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: هِيَ أَنْ حِزْقِيلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَدَبَ قَوْمَهُ إِلَى الْقِتَالِ فَكَرِهُوا وَجَبُنُوا، فَأَرْسَلَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْمَوْتَ فَكَثُرَ فِيهِمْ فَخَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ فِرَارًا مِنْهُ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ نَبِيُّهُمْ فَأَرْسَلَ اللهُ الْمَوْتَ عَلَى الْخَارِجِينَ، ثُمَّ ضَاقَ صَدْرُهُ فَدَعَا اللهَ فَأَحْيَاهُمْ، وَلَكِنَّ هَذَا لَمْ يُذْكَرْ فِي نُبُوَّةِ حِزْقِيلَ مِنْ كُتُبِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ وَلَا فِي غَيْرِهَا.

إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَأَلْقِ السَّمْعَ إِلَى مَا نَرْوِيهِ لَكَ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، وَتَدَبَّرْ مَا فِيهِ مِنْ حَقَائِقِ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ فِي الْقُرْآنِ; لِتَعْلَمَ أَنَّ حَقَائِقَ هِدَايَةِ كِتَابِ اللهِ يَتَجَلَّى مِنْهَا فِي كُلِّ عَصْرٍ لِلْعَارِفِينَ بِاللهِ مَا لَمْ يَتَجَلَّ لِسِوَاهُمْ، وَأَنَّهُ الْكِتَابُ الَّذِي لَا تَنْتَهِي هِدَايَتُهُ وَلَا تَنْفَدُ مَعَارِفُهُ، وَأَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ كَالْمَطَرِ قَدْ يَكُونُ فِي آخِرِهِ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي أَوَّلِهِ كَمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.

قَالَ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ) الِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلتَّعْجِيبِ وَالْعِبْرَةِ، وَالْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ بَلَغَهُ، وَالرُّؤْيَةُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، وَالْعِبَارَةُ اسْتُعْمِلَتِ اسْتِعْمَالَ الْمَثَلِ، فَهِيَ تُوَجَّهُ إِلَى مَنْ لَمْ يَرَ وَلَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ، وَالتَّقْدِيرُ: أَلَمْ يَنْتَهِ عِلْمُكَ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ

إِلَى حَالِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ (وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ) ؟ فَإِنَّ حَالَهُمْ عَجِيبَةٌ مِنْ حَقِّهَا أَلَّا تُجْهَلَ، فَإِنَّهُمْ فِي كَثْرَتِهِمْ أَحِقَّاءُ بِأَنْ يَكُونَ لَهُمْ مِنَ الشَّجَاعَةِ مَا يَرْبَأُ بِهِمْ عَنِ الْخُرُوجِ مِنْ وَطَنِهِمْ حَذَرًا مِنَ الْمَوْتِ.

ص: 361

قَالَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي هَذَا الْمَثَلِ مَا مِثَالُهُ: وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ هَذَا مَثَلٌ; أَيْ: لَا قِصَّةٌ وَاقِعَةٌ.

أَطْلَقَ الْقُرْآنُ الْقَوْلَ فِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَلَمْ يُعَيِّنْ عَدَدَهُمْ وَلَا أُمَّتَهُمْ وَلَا بَلَدَهُمْ، وَلَوْ عَلِمَ لَنَا خَيْرًا فِي التَّعْيِينِ وَالتَّفْصِيلِ لَتَفَضَّلَ عَلَيْنَا بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ، فَنَأْخُذَ الْقُرْآنَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، لَا نُدْخِلَ فِيهِ شَيْئًا مِنَ الرِّوَايَاتِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ الَّتِي ذَكَرُوهَا، وَهِيَ صَارِفَةٌ عَنِ الْعِبْرَةِ لَا مَزِيدَ كَمَالٍ فِيهَا، وَالْمُتَبَادَرُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ قَدْ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِسَائِقِ الْخَوْفِ مِنْ عَدُوٍّ مُهَاجِمٍ لَا مِنْ قِلَّتِهِمْ، فَقَدْ كَانُوا أُلُوفًا; أَيْ: كَثِيرِينَ، وَإِنَّمَا هُوَ الْحَذَرُ مِنَ الْمَوْتِ الَّذِي يُوَلِّدُهُ الْجُبْنُ فِي أَنْفُسِ الْجُبَنَاءِ فَيُرِيهِمْ أَنَّ الْفِرَارَ مِنَ الْقِتَالِ هُوَ الْوَاقِي مِنَ الْمَوْتِ، وَمَا هُوَ إِلَّا سَبَبُ الْمَوْتِ بِمَا يُمَكِّنُ الْأَعْدَاءَ مِنْ رِقَابِ أَهْلِهِ، قَالَ أَبُو الطِّيبِ:

يَرَى الْجُبَنَاءُ أَنَّ الْجُبْنَ حَزْمٌ

وَتِلْكَ خَدِيعَةُ الطَّبْعِ اللَّئِيمِ

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي قَوْلِ (الْجَلَالِ) إِنَّ الِاسْتِفْهَامَ بِهَا اسْتِفْهَامُ تَعْجِيبٍ وَتَشْوِيقٍ; أَيْ: إِنَّ الِاسْتِفْهَامَ الْحَقِيقِيَّ مُمْتَنِعٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى; وَلِذَلِكَ كَانَ أَكْثَرُ اسْتِفْهَامِ الْقُرْآنِ لِلْإِنْكَارِ أَوْ لِلتَّقْرِيرِ، وَلَكِنَّ الِاسْتِفْهَامَ هُنَا لِشَيْءٍ آخَرَ وَهُوَ مَا يُحْدِثُ الْعَجَبَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيُوجِبُ الشَّوْقَ لَهُ إِلَى مَا يَقُصُّ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى أَلَمْ يَنْتَهِ عِلْمُكَ إِلَى حَالِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ إِلَخْ؟ وَالرُّؤْيَةُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ بَصْرِيَّةً، وَلَمْ يَقُلْ: أَلَمْ تَعْلَمْ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الْأَمْرَ الْمَحْكِيَّ عَنْهُ قَدِ انْتَهَى فِي الْوُضُوحِ وَالتَّحَقُّقِ إِلَى مَرْتَبَةِ الْمَرْئِيِّ.

أَقُولُ: وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الْقِصَّةُ فِي مِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ وَاقِعَةً، بَلْ يَصِحُّ مِثْلُهُ فِي الْقِصَصِ التَّمْثِيلِيَّةِ، إِذْ يُرَادُ أَنَّ مِنْ شَأْنِ مِثْلِهَا فِي وُضُوحِهِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا حَتَّى كَأَنَّهُ مَرْئِيٌّ بِالْعَيْنَيْنِ.

وَمِنْهُ مَا نَبَّهَنَا عَلَيْهِ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَطْفِ بِالْفَاءِ وَبِثُمَّ، وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ الْعَطْفَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقَاتِلُوا) لِلِاسْتِئْنَافِ; لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْمَبْدُوءَةَ بِالْوَاوِ هُنَا جَدِيدَةٌ لَا تُشَارِكُ مَا قَبْلَهَا فِي إِعْرَابِهِ وَلَا فِي حُكْمِهِ الَّذِي يُعْطِيهِ الْعَطْفُ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهَذَا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْجُمْلَةِ الْمَبْدُوءَةِ بِوَاوِ الِاسْتِئْنَافِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا تَنَاسُبٌ وَارْتِبَاطٌ فِي الْمَعْنَى غَيْرُ ارْتِبَاطِ الْعَطْفِ وَالْمُشَارَكَةِ فِي الْإِعْرَابِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ هُنَا; فَإِنَّ الْآيَةَ الْأُولَى مُبَيِّنَةٌ لِفَائِدَةِ الْقِتَالِ فِي الدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ أَوِ الْحَقِيقَةِ، وَالثَّانِيَةَ آمِرَةٌ بِهِ بَعْدَ تَقْرِيرِ حِكْمَتِهِ وَبَيَانِ وَجْهِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، فَالِارْتِبَاطُ بَيْنَهُمَا شَدِيدُ الْأَوَاخِي، لَا يَعْتَرِيهِ التَّرَاخِي.

خَرَجُوا فَارِّينَ (فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا) أَيْ: أَمَاتَهُمْ بِإِمْكَانِ الْعَدُوِّ مِنْهُمْ، فَالْأَمْرُ أَمْرُ التَّكْوِينِ لَا أَمْرُ التَّشْرِيعِ; أَيْ: قَضَتْ سُنَّتُهُ فِي خَلْقِهِ بِأَنْ يَمُوتُوا بِمَا أَتَوْهُ مِنْ سَبَبِ الْمَوْتِ، وَهُوَ تَمْكِينُ الْعَدُوِّ الْمُحَارِبِ مِنْ أَقْفَائِهِمْ بِالْفِرَارِ، فَفَتَكَ بِهِمْ وَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّهُمْ

ص: 362

مَاتُوا; لِأَنَّ أَمْرَ التَّكْوِينِ عِبَارَةٌ عَنْ مَشِيئَتِهِ سُبْحَانَهُ فَلَا يُمْكِنُ تَخَلُّفُهُ، وَلِلِاسْتِغْنَاءِ عَنِ التَّصْرِيحِ بِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ:(ثُمَّ أَحْيَاهُمْ) وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِحْيَاءُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْكَلَامُ فِي الْقَوْمِ لَا فِي أَفْرَادٍ لَهُمْ خُصُوصِيَّةٌ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي الْأُمَمِ الَّتِي تَجْبُنَ فَلَا تُدَافِعُ الْعَادِينَ عَلَيْهَا، وَمَعْنَى حَيَاةِ الْأُمَمِ وَمَوْتِهَا فِي عُرْفِ النَّاسِ جَمِيعِهِمْ مَعْرُوفٌ، فَمَعْنَى مَوْتِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ هُوَ أَنَّ الْعَدُوَّ نَكَّلَ بِهِمْ فَأَفْنَى قُوَّتَهُمْ، وَأَزَالَ اسْتِقْلَالَ أُمَّتِهِمْ، حَتَّى صَارَتْ لَا تُعَدُّ أُمَّةً، بِأَنْ تَفَرَّقَ شَمْلُهَا، وَذَهَبَتْ جَامِعَتُهَا، فَكُلُّ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَفْرَادِهَا خَاضِعِينَ لِلْغَالِبِينَ ضَائِعِينَ فِيهِمْ، مُدْغَمِينَ فِي غِمَارِهِمْ، لَا وُجُودَ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّمَا وُجُودُهُمْ تَابِعٌ لِوُجُودِ غَيْرِهِمْ، وَمَعْنَى حَيَاتِهِمْ هُوَ عَوْدُ الِاسْتِقْلَالِ إِلَيْهِمْ; ذَلِكَ أَنَّ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى فِي الْبَلَاءِ يُصِيبُ النَّاسَ، أَنَّهُ يَكُونُ تَأْدِيبًا لَهُمْ، وَمُطَهِّرًا لِنُفُوسِهِمْ مِمَّا عَرَضَ لَهَا مِنْ دَنَسِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، أَشْعَرَ اللهُ أُولَئِكَ الْقَوْمَ بِسُوءِ عَاقِبَةِ الْجُبْنِ وَالْخَوْفِ وَالْفَشَلِ وَالتَّخَاذُلِ بِمَا أَذَاقَهُمْ مِنْ مَرَارَتِهَا، فَجَمَعُوا كَلِمَتَهُمْ، وَوَثَّقُوا رَابِطَتَهُمْ، حَتَّى عَادَتْ لَهُمْ وَحْدَتُهُمْ قَوِيَّةً فَاعْتَزُّوا وَكَثُرُوا إِلَى أَنْ خَرَجُوا مِنْ ذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا إِلَى عِزِّ الِاسْتِقْلَالِ، فَهَذَا مَعْنَى حَيَاةِ الْأُمَمِ وَمَوْتِهَا، يَمُوتُ قَوْمٌ مِنْهُمْ بِاحْتِمَالِ الظُّلْمِ، وَيَذِلُّ الْآخَرُونَ حَتَّى كَأَنَّهُمْ أَمْوَاتٌ، إِذْ لَا تَصْدُرُ عَنْهُمْ أَعْمَالُ الْأُمَمِ الْحَيَّةِ، مِنْ حِفْظِ سِيَاجِ الْوَحْدَةِ، وَحِمَايَةِ الْبَيْضَةِ، بِتَكَافُلِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ وَمَنَعَتِهِمْ

فَيَعْتَبِرُ الْبَاقُونَ فَيَنْهَضُونَ إِلَى تَدَارُكِ مَا فَاتَ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِمَا هُوَ آتٍ، وَيَتَعَلَّمُونَ مِنْ فِعْلِ عَدُوِّهِمْ بِهِمْ كَيْفَ يَدْفَعُونَهُ عَنْهُمْ، قَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ:((إِنَّ بَقِيَّةَ السَّيْفِ هِيَ الْبَاقِيَةُ ; أَيِ: الَّتِي يَحْيَا بِهَا أُولَئِكَ الْمَيِّتُونَ، فَالْمَوْتُ وَالْإِحْيَاءُ وَاقِعَانِ عَلَى الْقَوْمِ فِي مَجْمُوعِهِمْ عَلَى مَا عَهِدْنَا فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ، إِذْ خَاطَبَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَنِ تَنْزِيلِهِ بِمَا كَانَ مِنْ آبَائِهِمُ الْأَوَّلِينَ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ)(2: 49) وَقَوْلِهِ: (ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ)(2: 56) وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقُلْنَا: إِنَّ الْحِكْمَةَ فِي هَذَا الْخِطَابِ تَقْرِيرُ مَعْنَى وَحْدَةِ الْأُمَّةِ وَتَكَافُلِهَا، وَتَأْثِيرُ سِيرَةِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ حَتَّى كَأَنَّهَا شَخْصٌ وَاحِدٌ، وَكُلُّ جَمَاعَةٍ مِنْهَا كَعُضْوٍ مِنْهُ، فَإِنِ انْقَطَعَ الْعُضْوُ الْعَامِلُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ مُخَاطَبَةِ الشَّخْصِ بِمَا عَمِلَهُ قَبْلَ قَطْعِهِ، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ مَعْهُودٌ فِي سَائِرِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ. يُقَالُ: هَجَمْنَا عَلَى بَنِي فُلَانٍ حَتَّى أَفْنَيْنَاهُمْ أَوْ أَتَيْنَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَكَرُّوا عَلَيْنَا - مَثَلًا - وَإِنَّمَا كَرَّ عَلَيْهِمْ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ.

أَقُولُ: وَإِطْلَاقُ الْحَيَاةِ عَلَى الْحَالَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ الشَّرِيفَةِ فِي الْأَشْخَاصِ وَالْأُمَمِ، وَالْمَوْتِ عَلَى مُقَابِلِهَا مَعْهُودٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)(8: 24) وَقَوْلِهِ: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا)(6: 122) الْآيَةَ. وَانْظُرْ إِلَى دِقَّةِ التَّعْبِيرِ فِي عَطْفِ الْأَمْرِ بِالْمَوْتِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الدِّيَارِ بِالْفَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى اتِّصَالِ الْهَلَاكِ بِالْفِرَارِ مِنَ الْعَدُوِّ، وَإِلَى عَطْفِهِ الْإِخْبَارَ

ص: 363

بِإِحْيَائِهِمْ بِـ (ثُمَّ) الدَّالَّةِ عَلَى تَرَاخِي ذَلِكَ وَتَأَخُّرِهِ; وَلِأَنَّ الْأُمَّةَ إِذَا شَعَرَتْ بِعِلَّةِ الْبَلَاءِ بَعْدَ وُقُوعِهِ بِهَا وَذَهَابِهِ بِاسْتِقْلَالِهَا فَإِنَّهُ لَا يَتَيَسَّرُ لَهَا تَدَارُكُ مَا فَاتَ إِلَّا فِي زَمَنٍ طَوِيلٍ، فَمَا قَرَّرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُوَ مَا يُعْطِيهِ النَّظْمُ الْبَلِيغُ وَتُؤَيِّدُهُ السُّنَنُ الْحَكِيمَةُ، وَأَمَّا الْمَوْتُ الطَّبِيعِيُّ فَهُوَ لَا يَتَكَرَّرُ كَمَا عُلِمَ مِنْ سُنَّةِ اللهِ وَمِنْ كِتَابِهِ إِذْ قَالَ:(لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى)(44: 56) وَقَالَ: (وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ)(40: 11) وَلِذَلِكَ أَوَّلَ بَعْضُهُمُ الْمَوْتَ هُنَا بِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ السَّكْتَةِ وَالْإِغْمَاءِ الشَّدِيدِ لَمْ تُفَارِقْ بِهِ الْأَرْوَاحُ أَبْدَانَهَا، وَقَدْ قَالَ بَعْدَ مَا قَرَّرَهُ: هَذَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ فَلَا نُحَمِّلُ الْقُرْآنَ مَا لَا يَحْمِلُ لِنُطَبِّقَهُ عَلَى بَعْضِ قِصَصِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْقُرْآنُ لَمْ يَقُلْ إِنَّ أُولَئِكَ الْأُلُوفَ مِنْهُمْ كَمَا قَالَ فِي الْآيَاتِ

الْآتِيَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَوْ فَرَضْنَا صِحَّةَ مَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّهُمْ هَرَبُوا مِنَ الطَّاعُونِ، وَأَنَّ الْفَائِدَةَ فِي إِيرَادِ قِصَّتِهِمْ بَيَانُ أَنَّهُ لَا مَفَرَّ مِنَ الْمَوْتِ; لَمَّا كَانَ لَنَا مَنْدُوحَةٌ عَنْ تَفْسِيرِ إِحْيَائِهِمْ بِأَنَّ الْبَاقِينَ مِنْهُمْ تَنَاسَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ وَكَثُرُوا، وَكَانَتِ الْأُمَّةُ بِهِمْ حَيَّةً عَزِيزَةً; لِيَصِحَّ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ تَمْهِيدًا لِمَا بَعْدَهَا مُرْتَبِطَةً بِهِ، وَاللهُ تَعَالَى لَا يَأْمُرُنَا بِالْقِتَالِ لِأَجْلِ أَنْ نُقْتَلَ ثُمَّ يُحْيِينَا، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَبْعَثُ مُنْ قُتِلَ مِنَّا بَعْدَ مَوْتِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.

(إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) كَافَّةً بِمَا جُعِلَ فِي مَوْتِهِمْ مِنَ الْحَيَاةِ، إِذْ جَعَلَ الْمَصَائِبَ وَالْعَظَائِمَ مُحْيِيَةً لِلْهِمَمِ وَالْعَزَائِمِ كَمَا جَعَلَ الْهَلَعَ وَالْجُبْنَ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الْأَخْلَاقِ الَّتِي أَفْسَدَهَا التَّرَفُ وَالسَّرَفُ مِنْ أَسْبَابِ ضَعْفِ الْأُمَمِ، وَجَعَلَ ضَعْفَ أُمَّةٍ مُغْرِيًا لِأُمَّةٍ قَوِيَّةٍ بِالْوَثَبَانِ عَلَيْهَا، وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى اسْتِقْلَالِهَا، وَجَعَلَ الِاعْتِدَاءَ مُنَبِّهًا لِلْقُوَى الْكَامِنَةِ فِي الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ، وَمُلْجِئًا لَهُ إِلَى اسْتِعْمَالِ مَوَاهِبِ اللهِ فِيمَا وُهِبَتْ لِأَجْلِهِ حَتَّى تَحْيَا الْأُمَمُ حَيَاةً عَزِيزَةً، وَيَظْهَرَ فَضْلُ اللهِ تَعَالَى فِيهَا.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْمُرَادُ بِالْفَضْلِ هُنَا الْفَضْلُ الْعَامُّ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ إِمَاتَةَ النَّاسِ بِمَا يُسَلَّطُ عَلَى الْأُمَّةِ مِنَ الْأَعْدَاءِ يُنَكِّلُونَ بِهَا بِمَثَابَةِ هَدْمِ الْبِنَاءِ الْقَدِيمِ الْمُتَدَاعِي وَالضَّرُورَةُ قَاضِيَةٌ بِبِنَائِهِ، فَلَا جَرَمَ تَنْبَعِثُ الْهِمَّةُ إِلَى هَذَا الْبِنَاءِ الْجَدِيدِ فَيَكُونُ حَيَاةً جَدِيدَةً لِلْأُمَّةِ، تَفْسُدُ أَخْلَاقُ الْأُمَمِ فَتَسُوءُ الْأَعْمَالُ، فَيُسَلِّطُ اللهُ عَلَى فَاسِدِي الْأَخْلَاقِ النَّكَبَاتِ لِيَتَأَدَّبَ الْبَاقِي مِنْهُمْ فَيَجْتَهِدُوا فِي إِزَالَةِ الْفَسَادِ، وَإِدَالَةِ الصَّلَاحِ، وَيَكُونُ مَا هَلَكَ مِنَ الْأُمَّةِ بِمَثَابَةِ الْعُضْوِ الْفَاسِدِ الْمُصَابِ ((بِالْغَنْغَرِينَا)) يَبْتُرُهُ الطَّبِيبُ لِيَسْلَمَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَمَنْ لَا يَقْبَلْ هَذَا التَّأْدِيبَ الْإِلَهِيَّ فَإِنَّ عَدْلَ اللهِ فِي الْأَرْضِ يَمْحَقُهُ مِنْهَا (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) (2: 270) فَهَذِهِ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ بَيَّنَهَا الْقُرْآنُ وَكَانَ النَّاسُ فِي غَفْلَةٍ عَنْهَا، وَلِهَذَا قَالَ:

(وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) أَيْ: لَا يَقُومُونَ بِحُقُوقِ هَذِهِ النِّعْمَةِ، وَلَا يَسْتَفِيدُونَ مِنْ بَيَانِ هَذِهِ السُّنَّةِ; أَيْ هَذَا شَأْنُ أَكْثَرِ النَّاسِ فِي غَفْلَتِهِمْ وَجَهْلِهِمْ بِحِكْمَةِ رَبِّهِمْ، فَلَا تَكُونُوا كَذَلِكَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، بَلِ اعْتَبِرُوا بِمَا نَزَلَ عَلَيْكُمْ وَتَأَدَّبُوا بِهِ لِتَسْتَفِيدُوا مِنْ كُلِّ حَوَادِثِ الْكَوْنِ، حَتَّى مِمَّا يَنْزِلُ بِكُمْ مِنَ الْبَلَاءِ إِذَا وَقَعَ مِنْكُمْ تَفْرِيطٌ فِي بَعْضِ الشُّئُونِ،

وَاعْلَمُوا أَنَّ

ص: 364

الْجُبْنَ عَنْ مُدَافَعَةِ الْأَعْدَاءِ، وَتَسْلِيمِ الدِّيَارِ بِالْهَزِيمَةِ وَالْفِرَارِ، هُوَ الْمَوْتُ الْمَحْفُوفُ بِالْخِزْيِ وَالْعَارِ، وَأَنَّ الْحَيَاةَ الْعَزِيزَةَ الطَّيِّبَةَ هِيَ الْحَيَاةُ الْمِلِّيَّةُ الْمَحْفُوظَةُ مِنْ عُدْوَانِ الْمُعْتَدِينَ، فَلَا تُقَصِّرُوا فِي حِمَايَةِ جَامِعَتِكُمْ فِي الْمِلَّةِ وَالدِّينِ.

(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللهِ: هُوَ الْقِتَالُ لِإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ، وَتَأْمِينِ دِينِهِ وَنَشْرِ دَعْوَتِهِ، وَالدِّفَاعِ عَنْ حِزْبِهِ كَيْ لَا يُغْلَبُوا عَلَى حَقِّهِمْ، وَلَا يُصَدُّوا عَنْ إِظْهَارِ أَمْرِهِمْ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْقِتَالِ لِأَجْلِ الدِّينِ; لِأَنَّهُ يَشْمَلُ مَعَ الدِّفَاعِ عَنِ الدِّينِ وَحِمَايَةِ دَعَوْتِهِ الدِّفَاعَ عَنِ الْحَوْزَةِ إِذَا هَمَّ الطَّامِعُ الْمُهَاجِمُ بِاغْتِصَابِ بِلَادِنَا وَالتَّمَتُّعِ بِخَيْرَاتِ أَرْضِنَا، أَوْ أَرَادَ الْعَدُوُّ الْبَاغِي إِذْلَالَنَا، وَالْعُدْوَانَ عَلَى اسْتِقْلَالِنَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ فِتْنَتِنَا فِي دِينِنَا، فَهَذَا الْأَمْرُ مُطْلَقٌ كَأَنَّهُ أَمْرٌ لَنَا بِأَنْ نَتَحَلَّى بِحِلْيَةِ الشَّجَاعَةِ، وَنَتَسَرْبَلَ بِسَرَابِيلِ الْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ; لِتَكُونَ حُقُوقُنَا مَحْفُوظَةً، وَحُرْمَتُنَا مَصُونَةً، لَا نُؤْخَذُ مِنْ جَانِبِ دِينِنَا، وَلَا نُغْتَالُ مِنْ جِهَةِ دُنْيَانَا، بَلْ نَبْقَى أَعِزَّاءَ الْجَانِبَيْنِ، جَدِيرِينَ بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ سَاقَ اللهُ لَنَا الْعِبْرَةَ بِحَالِهِمْ، وَذَكَّرَنَا بِسُنَّتِهِ فِي مَوْتِهِمْ وَحَيَاتِهِمْ، لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُمْ قُوتِلُوا وَقُتِلُوا لِأَجْلِ الدِّينِ! فَالْقِتَالُ لِحِمَايَةِ الْحَقِيقَةِ كَالْقِتَالِ لِحِمَايَةِ الْحَقِّ كُلِّهِ جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَتَفْسِيرُ (الْجَلَالِ) سَبِيلَ اللهِ بِإِعْلَاءِ دِينِهِ تَقْيِيدٌ لِمُطْلَقٍ، وَتَخْصِيصٌ لِقَوْلٍ عَامٍّ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَدُوَّ إِذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ، يَكُونُ قِتَالُهُ فَرْضَ عَيْنٍ.

ذَكَّرَنَا اللهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا الْأَمْرِ بِأَنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ; لِيُنَبِّهَنَا عَلَى مُرَاقَبَتِهِ فِيمَا عَسَى أَنْ نَعْتَذِرَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِنَا فِي تَقْصِيرِهَا عَنِ امْتِثَالِ هَذَا الْأَمْرِ فِي وَقْتِهِ، وَأَخْذِ الْأُهْبَةِ لَهُ قَبْلَ الِاضْطِرَارِ إِلَيْهِ، أَمَرَنَا أَنْ نَعْلَمَ أَنَّهُ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِ الْجُبَنَاءِ فِي اعْتِذَارِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ: مَاذَا نَعْمَلُ؟ مَا فِي الْيَدِ حِيلَةٌ، لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللهِ كَاشِفَةٌ، لَيْسَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قَعَدْنَا هَاهُنَا، فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِفْتَاحُ الْجُبْنِ، وَعِلَلُ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ، فَهِيَ عِنْدَ أَهْلِهَا تَعِلَّاتٌ وَأَعْذَارٌ، وَعِنْدَ اللهِ تَعَالَى ذُنُوبٌ وَأَوْزَارٌ، وَمَا كَانَ مِنْهَا حَقًّا فِي نَفْسِهِ فَهُوَ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْبَاطِلُ - وَأَنْ نَعْلَمَ أَنَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَأْتِيهِ مَرْضَى الْقُلُوبِ وَضُعَفَاءُ الْإِيمَانِ مِنَ الْحِيَلِ

وَالْمُرَاوَغَةِ، وَالْفِرَارِ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ وَالْمُدَافَعَةِ، فَإِذَا عَلِمْنَا هَذَا وَحَاسَبْنَا بِهِ أَنْفُسَنَا، عَرَفْنَا أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُعْتَذِرِ بِلِسَانِهِ وَالْمُتَعَلِّلِ بِفِعَالِهِ مُخَادِعٌ لِرَبِّهِ وَلِنَفْسِهِ وَقَوْمِهِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بَعْدَ نَحْوٍ مِمَّا تَقَدَّمَ: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَهْزَأُ بِنَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَدْرِي إِذْ يُصَدِّقُ مَا يَعْتَادُهُ مِنَ التَّوَهُّمِ، وَهَذِهِ شِنْشَنَةُ الْمَخْذُولِينَ الَّذِينَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَخَيَّمَ عَلَيْهِمُ الشَّقَاءُ، تَعْمَلُ فِيهِمْ هَذِهِ الْوَسَاوِسُ مَالَا تَعْمَلُ الْحَقَائِقُ، وَقَدْ أَنْذَرَنَا اللهُ تَعَالَى أَنْ نَكُونَ مِثْلَهُمْ بِتَذْكِيرِنَا بِأَنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، لَا يُخَادَعُ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَنَقُولُ: إِنَّ هَذَا التَّذْكِيرَ كَانَ بِالْأَمْرِ بِالْعِلْمِ لَا بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ أَوِ التَّسْلِيمِ، فَمَنْ عَلِمَ عِلْمًا صَحِيحًا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ لِمَا يَقُولُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُ، حَاسَبَ نَفْسَهُ وَنَاقَشَهَا، وَمَنْ حَاسَبَ

ص: 365

نَفْسَهُ وَنَاقَشَهَا تَجَلَّى لَهُ كُلَّ آنٍ مِنْ تَقْصِيرِهَا مَا يَحْمِلُهُ عَلَى التَّشْمِيرِ لِتَدَارُكِ مَا فَاتَ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِمَا هُوَ آتٍ، فَمَنْ تَرَاهُ مُشَمِّرًا فَاعْلَمْ أَنَّهُ عَالِمٌ، وَمَنْ تَرَاهُ مُقَصِّرًا فَاعْلَمْ بِأَنَّهُ مَغْرُورٌ آثِمٌ.

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) .

الْقِتَالُ لِلدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ أَوْ لِحِمَايَةِ الْحَقِيقَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ لِتَجْهِيزِ الْمُقَاتَلَةِ وَلِغَيْرِ ذَلِكَ، لَا فَصْلَ فِي الْحَاجَةِ إِلَى هَذَا بَيْنَ الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ، فَإِذَا كَانَتْ مُقَاتَلَةُ الْقَبَائِلِ الْبَدَوِيَّةِ لَا تُكَلِّفُ رَئِيسَهَا أَنْ يَتَوَلَّى تَجْهِيزَهَا بَلْ يُجَهِّزُ كُلُّ وَاحِدٍ نَفْسَهُ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مُطَالَبٌ بِبَذْلِ الْمَالِ لِتَجْهِيزِ نَفْسِهِ، وَإِعَانَةِ مَنْ يَعْجَزُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ فُقَرَاءِ قَوْمِهِ، وَأَمَّا دُوَلُ الْحَضَارَةِ فَهِيَ تَحْتَاجُ فِي الِاسْتِعْدَادِ لِلْمُدَافَعَةِ وَالْمُهَاجَمَةِ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَهْلُ الْبَادِيَةِ، وَقَدْ كَثُرَتْ نَفَقَاتُ الدُّوَلِ الْحَرْبِيَّةِ الْيَوْمَ بِارْتِقَاءِ الْفُنُونِ الْعَسْكَرِيَّةِ، وَتَوَقُّفِ الْحَرْبِ عَلَى عُلُومٍ وَفُنُونٍ وَصِنَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ مَنْ قَصَّرَ فِيهَا كَانَ عُرْضَةً لِسُقُوطِ دَوْلَتِهِ; لِهَذَا قَرَنَ اللهُ تَعَالَى الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ، بِالْحَثِّ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ، فَالْمُرَادُ بِالْبَذْلِ هُنَا مَا يُعِينُ عَلَى الْقِتَالِ، وَمَا هُوَ بِمَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ مَا يُعْلِي شَأْنَ الدِّينِ، وَيَصُونُ الْأُمَّةَ وَيَمْنَعُهَا مِنْ عُدْوَانِ الْعَادِينَ، وَيَرْفَعُ مَكَانَتَهَا فِي الْعَالَمِينَ.

وَقَدْ ذُكِرَ حُكْمُ هَذَا الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ بِعِبَارَةٍ تَسْتَفِزُّ النُّفُوسَ، وَأُسْلُوبٍ يَحْفِزُ

الْهِمَمَ، وَيَبْسُطُ الْأَكُفَّ بِالْكَرَمِ، فَقَالَ:(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا) فَهَذِهِ الْعِبَارَةُ أَبْلَغُ مِنَ الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ، وَمِنَ الْأَمْرِ الْمَقْرُونِ بِبَيَانِ الْحِكْمَةِ، وَالتَّنْبِيهِ إِلَى الْفَائِدَةِ، وَالْوَجْهُ فِي اخْتِيَارِ هَذَا الْأُسْلُوبِ هُنَا عَلَى مَا قَرَّرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَنَّ الدَّاعِيَةَ إِلَى الْبَذْلِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ ضَعِيفَةٌ فِي نُفُوسِ الْأَكْثَرِينَ، وَالرَّغْبَةُ فِيهِ قَلِيلَةٌ; إِذْ لَيْسَ فِيهِ مِنَ اللَّذَّةِ وَالْأَرْيَحِيَّةِ مَا فِي الْبَذْلِ لِلْأَفْرَادِ، فَاحْتِيجَ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّأْثِيرِ.

يَدْفَعُ الْغَنِيُّ إِلَى بَذْلِ شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ مَالِهِ لِأَفْرَادٍ مِمَّنْ يَعِيشُ مَعَهُمْ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا إِزَالَةُ أَلَمِ النَّفْسِ بِرُؤْيَةِ الْمَعُوزِينَ وَالْبَائِسِينَ، وَمِنْهَا اتِّقَاءُ حَسَدِ الْفُقَرَاءِ وَاكْتِفَاءُ شَرِّ شِرَارِهِمْ، وَالْأَمْنُ مِنِ اعْتِدَائِهِمْ، وَمِنْهَا التَّلَذُّذُ بِرُؤْيَةِ يَدِهِ الْعُلْيَا، وَبِمَا يَتَوَقَّعُهُ مِنِ ارْتِفَاعِ الْمَكَانَةِ فِي النُّفُوسِ، وَتَعْظِيمِ مَنْ يَبْذُلُ لَهُمْ وَشُكْرِهِمْ وَحُبِّهِمْ; فَإِنَّ السَّخِيَّ مُحَبَّبٌ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ مَنْ يَنْتَفِعُ مِنْهُمْ بِسَخَائِهِ وَمَنْ لَا يَنْتَفِعُ، وَإِذَا كَانَ الْبَذْلُ إِلَى ذَوِي الْقُرْبَى أَوِ الْجِيرَانِ فَحَظُّ النَّفْسِ فِيهِ أَجْلَى، وَشِفَاءُ أَلَمِ النَّفْسِ بِهِ أَقْوَى، فَإِنَّ أَلَمَ جَارِكَ وَقَرِيبِكَ أَلَمٌ لَكَ، وَيَتَعَذَّرُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ نَاعِمًا

ص: 366

بَيْنَ أَهْلِ الْبُؤْسِ وَالضَّرَّاءِ، سَعِيدًا بَيْنَ الْأَشْقِيَاءِ، فَكُلُّ هَذِهِ حُظُوظٌ لِلنَّفْسِ فِي الْبَذْلِ لِلْأَفْرَادِ تُسَهِّلُ عَلَيْهَا امْتِثَالَ أَمْرِ اللهِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُؤَكَّدًا. وَقَدْ يَكُونُ فِيهَا مِنَ الرِّيَاءِ وَحُبِّ السُّمْعَةِ مَا يُنَافِي كَوْنَهَا قُرْبَةً وَتَعَبُّدًا.

وَأَمَّا الْبَذْلُ الَّذِي يُرَادُ هُنَا - وَهُوَ الْبَذْلُ لِلدِّفَاعِ عَنِ الدِّينِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ وَحِفْظِ حُقُوقِ أَهْلِهِ - فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْحُظُوظِ الَّتِي تُسَهِّلُ عَلَى النَّفْسِ مُفَارَقَةَ مَحْبُوبِهَا (الْمَالِ) إِلَّا إِذَا كَانَ تَبَرُّعًا جَهْرِيًّا يَتَوَلَّى جَمْعَهُ بَعْضُ الْحُكَّامِ وَالْأُمَرَاءِ أَوْ يُجْمَعُ بِأَمْرِ الْمُلُوكِ وَالسَّلَاطِينِ; وَلِذَلِكَ يَقِلُّ فِي النَّاسِ مَنْ يَبْذُلُ الْمَالَ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى، فَلِهَذَا كَانَ الْمَقَامُ يَقْتَضِي مَزِيدَ التَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي التَّرْغِيبِ، وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يُدْرِكُ شَأْوَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي تَأْثِيرِهَا، وَلَا سِيَّمَا مَوْقِعُهَا هَذَا بَعْدَ بَيَانِ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي مَوْتِ الْأُمَمِ وَحَيَاتِهَا.

حَسْبُكَ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ هَذَا الْبَذْلَ بِمَثَابَةِ الْإِقْرَاضِ لَهُ، وَهُوَ الْغَنِيُّ عَنِ الْعَالَمِينَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا يَقْتَرِضُ الْمُحْتَاجُ، وَأَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ

طَلَبِهِ بِهَذَا الضَّرْبِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ، الْمُسْتَعْمَلِ لِلْإِكْبَارِ وَالِاسْتِعْظَامِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ مَنْ ذَا الَّذِي يَفْعَلُ كَذَا؟ فِي الْأَمْرِ الَّذِي يَنْدُرُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ. يُقَالُ مَنْ ذَا يَتَطَاوَلُ إِلَى الْمَلِكِ فُلَانٍ؟ أَوْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْمَلُ هَذَا الْعَمَلَ وَلَهُ كَذَا؟ إِذَا كَانَ عَظِيمًا أَوْ شَاقًّا يَقِلُّ مَنْ يَتَصَدَّى لَهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:(مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ)(2: 255) وَقَالَ: (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ)(33: 17) ؟ الْآيَةَ، وَلَا يُقَالُ: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْرَبُ هَذِهِ الْكَأْسَ الْمَثْلُوجَةَ؟ - وَهَجِيرُ الصَّيْفِ مُتَّقِدٌ، وَالسَّمُومُ تَلْفَحُ الْوُجُوهَ - وَأَنَّهُ لَمْ يَكْتَفِ بِتَسْمِيَتِهِ إِقْرَاضًا وَبِالتَّعْبِيرِ عَنْهُ بِهَذَا الِاسْتِفْهَامِ حَتَّى قَالَ:(فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) ذَلِكَ أَنَّ الْإِقْرَاضَ هُوَ أَنْ تُعْطِيَ إِنْسَانًا شَيْئًا مِنَ الْمَالِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ مِثْلَهُ، فَالتَّعْبِيرُ بِالْإِقْرَاضِ يَقْتَضِي أَنَّ الْقَرْضَ لَا يَضِيعُ، وَلَيْسَ هَذَا بِكَافٍ فِي التَّرْغِيبِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْحَالُ هُنَا، فَصَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا يَرُدُّ مِثْلَهُ، بَلْ أَضْعَافَ أَضْعَافِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ، وَقَدْ قَالَ فِي مَقَامٍ آخَرَ:(وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ)(34: 39) وَهُوَ كَافٍ هُنَاكَ لِمَا عَلِمْتَ مِنَ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ، وَالتَّفَاوُتِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْحَالَيْنِ، وَإِنَّكَ لِتَجِدُ النَّاسَ عَلَى هَذَا التَّأْكِيدِ فِي التَّرْغِيبِ قَلَّمَا يَجُودُونَ بِأَمْوَالِهِمْ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (34: 13) .

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: مَعْلُومٌ أَنَّ اللهَ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ لِذَاتِهِ، وَلَا هُوَ عَائِلٌ لِجَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ فَيَقْتَرِضُ لَهُمْ، فَلَا بُدَّ لِهَذَا التَّعْبِيرِ بِالْإِقْرَاضِ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ - أَيْ غَيْرِ

ص: 367

مَا يُعْطِيهِ الْأُسْلُوبُ مِنَ التَّرْغِيبِ - فَمَا هَذَا الْوَجْهُ؟ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْفُقَرَاءَ عِيَالُ اللهِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ ; لِأَنَّ الْحَاجَاتِ الَّتِي تَعْرِضُ لَهُمْ يَقْضِيهَا

الْأَغْنِيَاءُ; وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ عَيَّالُ اللهِ: أَنَّ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْفَاقَةِ وَالْعَوْزِ إِنَّمَا كَانَ بِالْجَرْيِ عَلَى سُنَنِ اللهِ فِي أَسْبَابِ الْفَقْرِ، وَلِلْفَقْرِ أَسْبَابٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا الضَّعْفُ وَالْعَجْزُ عَنِ الْكَسْبِ وَمِنْهَا إِخْفَاقُ السَّعْيِ، وَمِنْهَا الْبِطَالَةُ وَالْكَسَلُ، وَمِنْهَا الْجَهْلُ بِالطُّرُقِ الْمُوَصِّلَةِ، وَمِنْهَا مَا تَسُوقُهُ الْأَقْدَارُ مِنْ نَحْوِ حَرَكَاتِ الرِّيَاحِ وَاضْطِرَابِ الْبِحَارِ وَاحْتِبَاسِ الْأَمْطَارِ، وَكَسَادِ التِّجَارَةِ وَرُخْصِ الْأَسْعَارِ، وَالْأَغْنِيَاءُ مُتَمَكِّنُونَ مِنْ إِزَالَةِ بَعْضِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ أَوْ تَدَارُكِ ضَرَرِهَا وَإِضْعَافِ أَثَرِهَا، كَإِزَالَةِ الْبِطَالَةِ بِإِحْدَاثِ أَعْمَالٍ وَمَصَالِحٍ لِلْفُقَرَاءِ، وَإِزَالَةِ الْجَهْلِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى التَّعْلِيمِ وَالتَّرْبِيَةِ - تَعْلِيمِ طُرُقِ الْكَسْبِ وَالتَّرْبِيَةِ عَلَى الْعَمَلِ وَالِاسْتِقَامَةِ وَالصِّدْقِ - وَإِذَا كَانَ فَقَرُ الْفَقِيرِ إِنَّمَا هُوَ بِالْجَرْيِ عَلَى سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ اللهِ فَإِزَالَةُ سَبَبِ فَقْرِهِ أَوْ مُسَاعَدَتِهِ عَلَيْهِ أَوْ فِيهِ إِنَّمَا يَجْرِي عَلَى سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِهِ تَعَالَى أَيْضًا كَمَا أَنَّ غِنَى الْغَنِيِّ كَذَلِكَ، فَالْإِنْفَاقُ لِإِحْيَاءِ سُنَّةِ اللهِ وَمُسَاعَدَةِ مَنْ يَنْتَسِبُونَ إِلَى اللهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُمْ عِيَالُهُ - إِذْ لَا غِنَى لَهُمْ بِكَسْبِهِمْ وَلَا حَوْلَ لَهُمْ وَلَا قُوَّةَ - يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْإِقْرَاضِ لَهُ تَعَالَى، فَالْفُقَرَاءُ عِيَالٌ، وَاللهُ يَعُولُهُمْ بِأَيْدِي الْأَغْنِيَاءِ، وَيَعُولُ الْأَغْنِيَاءَ بِتَوْفِيقِهِمْ لِأَسْبَابِ الْغِنَى.

أَقُولُ: هَكَذَا وَجَّهَ الْعِبَارَةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ قَالَ: إِنَّ الْحَثَّ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُرَادُ بِهِ الْإِنْفَاقُ فِي الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، لَا مُوَاسَاةُ الْفَقِيرِ، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ صِحَّةَ التَّعْبِيرِ فِي نَفْسِهِ حَيْثُمَا وَرَدَ وَإِنِ اسْتُعْمِلَ فِي مَقَامٍ آخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّغَابُنِ:(إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ)(64: 17) وَدَخَلَ فِيمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَهُوَ يَنْطَبِقُ عَلَى سَائِرِهَا; فَإِنَّ الْقِتَالَ لِحِمَايَةِ

الدِّينِ وَتَأْمِينِ دَعْوَتِهِ وَلِلدِّفَاعِ عَنِ الْأَنْفُسِ وَالْبِلَادِ هُوَ

ص: 368

مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، فَالْإِنْفَاقُ فِيهِ يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى إِقْرَاضًا لِلَّهِ تَعَالَى بِاعْتِبَارِ إِقَامَةِ سُنَّتِهِ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْحَقِّ الَّذِي يُرْضِيهِ جَلَّ شَأْنُهُ، وَقَدْ كُنْتُ أَزِيدُ مِثْلَ هَذَا الْبَحْثِ فِيمَا أَكْتُبُهُ وَأُسْنِدُهُ إِلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ اعْتِمَادًا عَلَى إِجَازَتِهِ مَعَ كَوْنِهِ مِمَّا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ.

ثُمَّ قَالَ رَوَّحَ اللهُ رُوحَهُ مَا مِثَالُهُ: وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْإِنْفَاقِ بِالْإِقْرَاضِ الَّذِي يُشْعِرُ بِحَاجَةِ الْمُسْتَقْرِضِ إِلَى الْمُقْرِضِ عَادَةً جَدِيرٌ بِأَنْ يَمْلِكَ قَلْبَ الْمُؤْمِنِ وَيُحِيطَ بِشُعُورِهِ وَيَسْتَغْرِقَ وِجْدَانَهُ حَتَّى يَسْهُلَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ مِنْ كُلِّ مَا يَمْلِكُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَحَيَاءً مِنْهُ، فَكَيْفَ وَقَدْ وَعَدَ بِرَدِّهِ مُضَاعَفًا أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَوَعْدُهُ الْحَقُّ؟ هَذَا التَّعْبِيرُ بِمَثَابَةِ الْهَزِّ وَالزِّلْزَالِ لِقُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَلْبٌ لَا يَلِينُ لَهُ وَيَنْدَفِعُ بِهِ إِلَى الْبَذْلِ قَلْبٌ لَمْ يَمَسُّهُ الْإِيمَانُ، وَلَمْ تُصِبْهُ نَفْحَةٌ مِنْ نَفَحَاتِ الرَّحْمَنِ قَلْبٌ خَاوٍ مِنَ الْخَيْرِ، فَائِضٌ بِالْخَبَثِ وَالشَّرِّ; أَيُّ لُطْفٍ مِنْ عَظِيمٍ يُدَانِي هَذَا اللُّطْفَ مِنَ اللهِ تَعَالَى بِعِبَادِهِ؟ جَبَّارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكِهِ، الْغَنِيِّ عَنِ الْعَالَمِينَ، الْفَعَّالِ لِمَا يُرِيدُ، الْمُقَلِّبِ لِقُلُوبِ الْعَبِيدِ، يُرْشِدُ عِبَادَهُ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِفَضْلٍ مِنَ الْمَالِ وَاخْتَصَّهُمْ بِشَيْءٍ مِنَ النِّعْمَةِ إِلَى مُوَاسَاةِ إِخْوَانِهِمْ بِمَا فِيهِ سَعَادَةٌ لَهُمْ أَنْفُسِهِمْ وَلِمَنْ يَعِيشُ مَعَهُمْ، وَيَهْدِيهِمْ إِلَى بَذْلِ شَيْءٍ مِنْ فُضُولِ أَمْوَالِهِمْ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي فِيهَا صَلَاحُ حَالِهِمْ، وَحِفْظُ شَرَفِهِمْ وَاسْتِقْلَالِهِمْ، فَيُبَرِّرُ هَذَا الْهُدَى وَالْإِرْشَادَ فِي صُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ دُونَ صِيغَةِ الْأَمْرِ وَالْإِلْزَامِ، وَيُسَمِّي نَفْسَهُ مُقْتَرِضًا لِيَشْعُرَ قَلْبُ الْغَنِيِّ بِمَعْنَى الْحَاجَةِ الَّتِي رُبَّمَا تُصِيبُهُ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ، ثُمَّ هُوَ يَعِدُهُ بِمُضَاعَفَةِ ذَلِكَ الْعَطَاءِ، أَيَكُونُ هَذَا اللُّطْفُ كُلُّهُ مِنْهُ بِعَبْدِهِ الَّذِي غَمَرَهُ بِنِعْمَتِهِ وَفَضْلِهِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِهِ، ثُمَّ يَجْمُدُ قَلْبُ هَذَا الْعَبْدِ وَتَنْقَبِضُ يَدُهُ، وَلَا يَسْتَحِي مِنْ رَبِّهِ، وَلَا يَثِقُ بِوَعْدِهِ، وَيُقَالُ مَعَ هَذَا: إِنَّهُ مُؤْمِنٌ بِهِ وَبِأَنَّ مَا أَصَابَهُ مِنَ الْخَيْرِ فَهُوَ مِنْ عِنْدِهِ؟ كَلَّا. مَثِّلْ فِي نَفْسِكَ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا يُرِيدُ أَنْ يَجْمَعَ إِعَانَةً لِلْفُقَرَاءِ أَوْ لِمَصْلَحَةٍ مِنْ مَصَالِحِ الدَّوْلَةِ، وَقَدْ خَاطَبَكَ بِمِثْلِ هَذَا الْخِطَابِ فِي التَّلَطُّفِ وَالِاسْتِعْطَافِ، وَمَثِّلْ فِي خَيَالِكَ مَوْقِعَ قَوْلِهِ مِنْ قَلْبِكَ، وَأَثَرَ كَلَامِهِ فِي يَدَيْكَ.

أَمَّا كَوْنُ الْقَرْضِ حَسَنًا، فَالْمُرَادُ بِهِ مَا حَلَّ مَحَلَّهُ وَوَافَقَ الْمَصْلَحَةَ، لَا مَا وُضِعَ

مَوْضِعَ الْفَخْفَخَةِ وَقُصِدَ بِهِ الرِّيَاءُ وَالسُّمْعَةُ، نَعَمْ إِنَّ مَا أُنْفِقَ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ حَسَنٌ - وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الشُّهْرَةُ - وَلَكِنَّهُ لَا يَكُونُ دَالًّا عَلَى إِيمَانِ الْمُنْفِقِ وَثِقَتِهِ بِرَبِّهِ وَابْتِغَائِهِ مَرْضَاتَهُ، وَلَا عَلَى حُبِّهِ الْخَيْرَ لِذَاتِهِ لِارْتِقَاءِ نَفْسِهِ وَعُلُوِّ هِمَّتِهِ بِمَا اسْتَفَادَ مِنْ فَضَائِلِ الدِّينِ وَحُسْنِ التَّهْذِيبِ،

ص: 369

فَلَا يَكُونُ لَهُ حَظٌّ مِنْ نَفَقَتِهِ يُقَرِّبُهُ إِلَى رَبِّهِ زُلْفَى، بَلْ يَكُونُ كُلُّ جَزَائِهِ تِلْكَ السُّمْعَةَ الْحَسَنَةَ ((فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)) ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُنْفِقُ فِي الْمَصَالِحِ بِنِيَّةٍ حَسَنَةٍ، وَلَكِنْ بِغَيْرِ بَصِيرَةٍ تُرِيهِ مَوَاطِنَ الْمَنْفَعَةِ بِنَفَقَتِهِ، فَيَبْنِي مَسْجِدًا حَيْثُ تَكْثُرُ الْمَسَاجِدُ; فَيَكُونُ سَبَبًا فِي زِيَادَةِ تَفَرُّقِ الْجَمَاعَةِ وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِحِكْمَةِ الشَّرْعِ، أَوْ يَبْنِي مَدْرَسَةً وَلَا يُحْسِنُ اخْتِيَارَ الْمُعَلِّمِينَ لَهَا، أَوْ يَفْرِضُ لَهَا مِنَ النَّفَقَةِ مَا لَا يَكْفِي لِدَوَامِهَا، فَيُسْرِعُ إِلَيْهَا الْخَرَابُ، أَوْ يَضَعُ فِيهَا مُعَلِّمِينَ فَاسِدِي الِاعْتِقَادِ أَوِ الْآدَابِ. فَيُفْسِدُونَ وَلَا يُصْلِحُونَ، فَمِثْلُ هَذَا كُلِّهِ لَا يُقَالُ لَهُ قَرْضٌ حَسَنٌ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِنْفَاقُ قَرْضًا حَسَنًا مُسْتَحِقًّا لِلْمُضَاعَفَةِ الْكَثِيرَةِ إِذَا وُضِعَ مَوْضِعَهُ مَعَ الْبَصِيرَةِ وَحُسْنِ النِّيَّةِ; لِيَكُونَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ مِنْ إِقَامَةِ الدِّينِ وَحِفْظِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مَنْفَعَةِ جَمِيعِ الْأَنَامِ مِنَ الطَّرِيقِ الَّذِي شَرَعَهُ الْإِسْلَامُ.

وَأَمَّا هَذِهِ الْمُضَاعَفَةُ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ - وَسَيَأْتِي فِي آيَةٍ أُخْرَى بُلُوغُهَا سَبْعَمِائَةِ ضِعْفٍ، وَالْمُرَادُ الْكَثْرَةُ - فَهِيَ تَكُونُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ; ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُنْفِقَ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ وَلِتَعْزِيزِ الْأُمَّةِ وَلِلْمُدَافَعَةِ عَنِ الْحَقِّ وَالْحَقِيقَةِ يَكُونُ مُدَافِعًا عَنْ نَفْسِهِ وَمُعَزِّزًا لَهَا وَحَافِظًا لِحُقُوقِهَا; لِأَنَّ اعْتِدَاءَ الْمُعْتَدِينَ عَلَى الْأُمَّةِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَى أَفْرَادِهَا، فَضَعْفُ الْأُمَّةِ وَإِذْلَالُهَا وَضَيَاعُ حُقُوقِهَا لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِمَا يَقَعُ عَلَى أَفْرَادِهَا وَهُوَ مِنْهُمْ، وَالْبَلَاءُ يَكُونُ عَامًّا (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (8: 25) ثُمَّ إِنَّ الْأُمَّةَ الَّتِي تَبْذُلُ أَغْنِيَاؤُهَا الْمَالَ وَتَقُومُ بِفَرِيضَةِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْأَعْمَالِ، فَيَكْفُلُ غَنِيُّهَا فَقِيرَهَا، وَيَحْمِي قَوِيُّهَا ضَعِيفَهَا، تَتَّسِعُ دَائِرَةُ مَصَالِحِهَا وَمَنَافِعِهَا، وَتَكْثُرُ مَرَافِقُهَا وَتَتَوَفَّرُ سَعَادَتُهَا، وَتَدُومُ عَلَى أَفْرَادِهَا النِّعْمَةُ، مَا اسْتَقَامُوا عَلَى الْبَذْلِ وَالتَّعَاوُنِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ يَكُونُونَ بِذَلِكَ مُسْتَحِقِّينَ لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ وَمُضَاعَفَةِ الثَّوَابِ فِيهَا.

وَأَقُولُ: لَوْ سِرْنَا فِي الْأَرْضِ وَسَبَرْنَا أَحْوَالَ الْأُمَمِ الْحَاضِرَةِ وَعَرَفْنَا تَارِيخَ الْأُمَمِ الْغَابِرَةِ لَرَأْينَا كَيْفَ مَاتَتِ الْأُمَمُ الَّتِي قَصَّرَتْ فِي هَذِهِ الْفَرِيضَةِ أَوِ اسْتُعْبِدَتْ، وَكَيْفَ عَزَّتِ الْأُمَمُ الَّتِي شَمَّرَتْ فِيهَا وَسَعِدَتْ، وَهَذِهِ الْمُضَاعَفَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ تَكُونُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَقَامَتْ هَذِهِ السُّنَّةَ الْإِلَهِيَّةَ فِي حِفْظِ بَيْضَتِهَا، وَإِعْزَازِ سُلْطَانِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُنْفِقُونَ فِيهَا يَبْتَغُونَ الْأَجْرَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى أَمْ لَا، وَإِنَّهَا لَمُضَاعَفَةٌ كَثِيرَةٌ لَا يُمْكِنُ تَحْدِيدُهَا، فَمَا أَجْهَلَ الْأُمَمَ الْغَافِلَةَ عَنْهَا وَعَنْ حَالِ أَهْلِهَا إِذْ يَرَوْنَ أَهْلَهَا قَدْ وَرِثُوا الْأَرْضَ وَسَادُوا الشُّعُوبَ فَيَتَمَنَّوْنَ لَوْ كَانُوا مِثْلَهُمْ، وَلَا يَدْرُونَ كَيْفَ يَكُونُ كَذَلِكَ!

وَمِنَ الْعَجَبِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ الْيَوْمَ أَجْهَلَ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ بِهَذِهِ السُّنَّةِ الْإِلَهِيَّةِ وَهُمْ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ وَلَا تَتَحَرَّكُ قُلُوبُهُمْ، وَلَا تَنْبَسِطُ أَيْدِيهِمْ عِنْدَ تِلَاوَةِ آيَاتِهِ الْحَاثَّةِ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ فِي سَبِيلِهِ، وَلَا سِيَّمَا هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي لَوْ أُنْزِلَتْ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا

ص: 370

مُتَصَدِّعًا مِنْ هَيْبَةِ اللهِ تَعَالَى وَالْحَيَاءِ مِنْهُ، عَمِلَ بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ قَوْمٌ فَسَعِدُوا، وَتَرَكَهَا آخَرُونَ فَشَقُوا، فَإِنْ كَانَ قَدْ فَاتَ الْأَوَّلِينَ قَصَدُ مَرْضَاةِ اللهِ بِإِقَامَةِ سُنَّتِهِ فَحُرِمُوا ثَوَابَ الْآخِرَةِ، فَقَدْ خَسِرَ الْآخِرُونَ بِتَرْكِهَا السَّعَادَتَيْنِ، وَذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ.

وَمِنَ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فِي الْآيَةِ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: ((الْقَرْضُ الْحَسَنُ: الْمُجَاهَدَةُ وَالْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللهِ)) وَهُوَ إِجْمَالٌ لِمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ، وَمِنْ مَحَاسِنِ عِبَارَاتِ الْمُفَسِّرِينَ هُنَا: أَنَّ لَفْظَ الْمُضَاعَفَةِ هُنَا لِلْمُبَالَغَةِ بِمَا فِي الصِّيغَةِ مِنْ مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ.

قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَنَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ (فَيُضَاعِفُهُ) بِالضَّمِّ بِتَقْدِيرِ: فَهُوَ يُضَاعِفُهُ، وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ بِالنَّصْبِ لِوُقُوعِهِ فِي حَيِّزِ الِاسْتِفْهَامِ الْمَعْرُوفِ فِي قَوَاعِدِ النَّحْوِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ (فَيُضَعِّفُهُ) بِالرَّفْعِ وَالتَّشْدِيدِ، وَابْنُ يَعْقُوبَ وَابْنُ عَامِرٍ بِالنَّصْبِ وَالتَّضْعِيفِ يَدُلُّ عَلَى التَّكْثِيرِ وَالتَّكْرَارِ.

قَالَ تَعَالَى: (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ) وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ وَالْبَزِّيُّ وَأَبُو بَكْرٍ (يَبْصُطُ) بِالصَّادِ، وَهِيَ لُغَةٌ، كَأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا تَفْخِيمُ السِّينِ لِمُجَاوِرَةِ الطَّاءِ، يَقْبِضُ الرِّزْقَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ فَيَجْهَلُونَ طُرُقَهُ الَّتِي هِيَ سُنَنُ اللهِ تَعَالَى فِيهِ، أَوْ يَضْعُفُونَ

فِي سُلُوكِهَا، وَيَبْسُطُهُ لِمَنْ يَشَاءُ بِمَا يَهْدِيهِمْ إِلَى تِلْكَ السُّنَنِ، وَيَفْتَحُ لَهُمُ الْأَبْوَابَ وَيُسَهِّلُ لَهُمُ الْأَسْبَابَ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُغْنِيَ فَقِيرًا وَيُفْقِرَ غَنِيًّا لَفَعَلَ، فَإِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لَهُ وَبِيَدِهِ الْقَبْضُ وَالْبَسْطُ، وَهُوَ وَاضِعُ السُّنَنِ الْهَادِي إِلَيْهَا، وَالْمُوَفِّقُ لِلسَّيْرِ عَلَيْهَا، فَلَيْسَ حَضُّهُ الْأَغْنِيَاءَ عَلَى مُوَاسَاةِ الْفُقَرَاءِ وَالْإِنْفَاقِ فِي الْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ أَوِ الْخَاصَّةِ مِنْ حَاجَةٍ بِهِ أَوْ عَجْزٍ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، كَلَّا، بَلْ هِيَ هِدَايَتُهُ الْإِنْسَانَ إِلَى طَرِيقِ الشُّكْرِ عَلَى النِّعَمِ بِمَا يَحْفَظُهَا وَيُفْضِي إِلَى الْمَزِيدِ فِيهَا، حَتَّى يَبْلُغَ كَمَالَهُ الِاجْتِمَاعِيَّ الَّذِي أَعَدَّهُ لَهُ بِحِكْمَتِهِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: يَقْبِضُ بَعْضَ الْأَيْدِي عَنِ الْبَذْلِ، وَيَبْسُطُ بَعْضَهَا بِالْفَضْلِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهُوَ لَا يَتَّفِقُ مَعَ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْآيَةِ وَلَا يَظْهَرُ بَعْدَهُ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ; أَيْ: لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُرَتَّبًا عَلَى عَمَلٍ لَنَا فِيهِ كَسْبٌ وَاخْتِيَارٌ، لَا عَلَى مَا تُصَرِّفُهُ الْأَقْدَارُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ هَذَا التَّعْقِيبَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَذْلَ وَاجِبٌ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ. أَقُولُ يُرِيدُ عِقَابَ الْآخِرَةِ، وَأَمَّا عِقَابَ الدُّنْيَا فَهُوَ أَظْهَرُ; لِأَنَّهُ مُشَاهَدٌ لِأَرْبَابِ الْبَصَائِرِ الْبَاحِثِينَ فِي شُئُونِ الْأُمَمِ، إِذْ لَا يَبْحَثُونَ فِي حَالِ أُمَّةٍ عَزِيزَةٍ إِلَّا وَيَرَوْنَ بَذْلَ أَغْنِيَائِهَا الْمَالَ لِنَشْرِ الْعُلُومِ وَإِتْقَانِ الْأَعْمَالِ، وَتَعَاوُنِ أَفْرَادِهَا عَلَى مَصْلَحَتِهَا هِيَ أَسْبَابُ عِزَّتِهَا وَرِفْعَتِهَا، وَلَا يَبْحَثُونَ فِي حَالِ أُمَّةٍ ذَلِيلَةٍ مَقْهُورَةٍ إِلَّا وَيَرَوْنَ أَغْنِيَاءَهَا مُمْسِكِينَ وَأَفْرَادَهَا غَيْرَ مُتَعَاوِنِينَ، فَعَلِمْنَا بِهَذَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:(وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ) إِلَخْ. بَيَانٌ لِطَرِيقِ الْمُضَاعَفَةِ وَدَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَتَذْكِيرٌ بِاللهِ وَبِتَدْبِيرِهِ لِخَلْقِهِ وَبِمَصِيرِ الْخَلْقِ إِلَيْهِ; أَيْ: فَهُوَ يُضَاعِفُ لَهُمْ فِي الدَّارَيْنِ. وَقَدْ عَهِدْنَا فِي الْقُرْآنِ خَتْمَ آيَاتِ الْأَحْكَامِ بِمِثْلِ هَذَا، وَعِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَبْلَغُ آيَاتِهِ.

ص: 371

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الرُّجُوعُ إِلَى اللهِ تَعَالَى رُجُوعَانِ: -

رُجُوعٌ فِي هَذَا الْعَالَمِ إِلَى سُنَّتِهِ الْحَكِيمَةِ وَنِظَامِ خَلِيقَتِهِ الثَّابِتِ كَكَوْنِ تَحْصِيلِ الْغَنِيِّ يَكُونُ بِكَذَا مِنْ عَمَلِ الْعَامِلِ وَكَذَا مِنْ تَوْفِيقِ اللهِ تَعَالَى وَتَسْخِيرِهِ، وَكَوْنِ الْفَقْرِ يَكُونُ بِكَذَا وَكَذَا مِنْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَكَكَوْنِ الْبَذْلِ مِنْ فَضْلِ الْمَالِ يَأْتِي بِكَذَا وَكَذَا مِنَ الْمَنَافِعِ الْخَاصَّةِ بِالْبَاذِلِ وَالْعَامَّةِ لِقَوْمِهِ الَّذِينَ يَعْتَزُّ بِعِزَّتِهِمْ وَيَسْعَدُ بِسَعَادَتِهِمْ، وَكَوْنِ تَرْكِ الْبَذْلِ يَأْتِي بِكَذَا وَكَذَا مِنَ الْمَفَاسِدِ وَالْمَضَارِّ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ وَلَا يَسْتَقِلُّ الْإِنْسَانُ بِعَمَلٍ

مِنْ ذَلِكَ تَمَامَ الِاسْتِقْلَالِ بِحَيْثُ يَسْتَغْنِي بِهِ عَنِ الرُّجُوعِ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِالْحَاجَةِ إِلَى مَعُونَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ وَتَسْخِيرِ الْأَسْبَابِ لَهُ. أَقُولُ: وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ بَعْضَ أَعْمَالِهِ يَتِمُّ بِكَسْبِهِ وَسَعْيِهِ وَجِدِّهُ لَمَا كَانَ رَاجِعًا إِلَّا إِلَى اللهِ تَعَالَى فِيهِ; لِأَنَّهُ مَا عَمِلَ وَلَا وَصَلَ إِلَّا بِالسَّيْرِ عَلَى سُنَّتِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُسْتَغْنِيًا عَنِ اللهِ تَعَالَى إِنْ قَدَّرَ أَنْ يُغَيِّرَ سُنَنَهُ وَنِظَامَ خَلْقِهِ وَيَنْفُذَ بِعَمَلِهِ مِنْ مُحِيطِ مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (55: 33، 34) .

قَالَ: وَأَمَّا الرُّجُوعُ الْآخِرُ فَهُوَ الرُّجُوعُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ حَيْثُ تَظْهَرُ نَتَائِجُ الْأَعْمَالِ وَآثَارُهَا (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)(83: 19) .

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) .

ص: 372

تَمْهِيدٌ فِي نِسْبَةِ قَصَصِ الْقُرْآنِ إِلَى التَّارِيخِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، وَبَيَانُ حَالِ الْأُمَمِ قَبْلَ الْقُرْآنِ وَبَعْدَهُ.

بَدَأَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمُقَدَّمَةٍ فِي قِصَصِ الْقُرْآنِ جَعَلَهَا كَالتَّمْهِيدِ لِتَفْسِيرِهَا، فَقَالَ مَا مِثَالُهُ مَعَ إِيضَاحٍ: تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ (أَلَمْ

تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ) (2: 243) الْآيَةَ. أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُعَيِّنْ أُولَئِكَ الْقَوْمَ وَلَا الزَّمَانَ وَلَا الْمَكَانَ اللَّذَيْنِ كَانُوا فِيهِمَا (يَعْنِي عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا قِصَّةٌ وَاقِعَةٌ لَا ضَرْبُ مَثَلٍ كَمَا قَالَ عَطَاءٌ) ثُمَّ ذَكَرَ هَاهُنَا قِصَّةً أُخْرَى عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَعَيَّنَ الْقَوْمَ وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ نَبِيٌّ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَهُ وَلَا الزَّمَانَ وَلَا الْمَكَانَ اللَّذَيْنِ حَدَثَتْ فِيهِمَا الْقِصَّةُ، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ اسْمَ طَالُوتَ وَجَالُوتَ وَدَاوُدَ.

يَظُنُّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الْآنَ - كَمَا ظَنَّ كَثِيرٌ مِمَّنْ قَبْلَهُمْ - أَنَّ الْقِصَصَ الَّتِي جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ يَجِبُ أَنْ تَتَّفِقَ مَعَ مَا جَاءَ فِي كُتُبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ النَّصَارَى بِالْعَهْدِ الْعَتِيقِ أَوْ كُتُبِ التَّارِيخِ الْقَدِيمَةِ، وَلَيْسَ الْقُرْآنُ تَارِيخًا وَلَا قَصَصًا وَإِنَّمَا هُوَ هِدَايَةٌ وَمَوْعِظَةٌ، فَلَا يَذْكُرُ قِصَّةً لِبَيَانِ تَارِيخِ حُدُوثِهَا، وَلَا لِأَجْلِ التَّفَكُّهِ بِهَا أَوِ الْإِحَاطَةِ بِتَفْصِيلِهَا، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ مَا يَذْكُرُهُ لِأَجْلِ الْعِبْرَةِ كَمَا قَالَ:(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)(12: 111) وَبَيَانُ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ كَمَا قَالَ: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)(3: 137) وَقَالَ: (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ)(40: 85) وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَالْحَوَادِثُ الْمُتَقَدِّمَةُ مِنْهَا مَا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَاللهُ تَعَالَى يَذْكُرُ مِنْ هَذَا وَذَاكَ مَا شَاءَ أَنْ يَذْكُرَ لِأَجْلِ الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ، فَيَكْتَفِي مِنَ الْقِصَّةِ بِمَوْضِعِ الْعِبْرَةِ وَمَحَلِّ الْفَائِدَةِ، وَلَا يَأْتِي بِهَا مُفَصَّلَةً بِجُزْئِيَّاتِهَا الَّتِي لَا تَزِيدُ فِي الْعِبْرَةِ بَلْ رُبَّمَا تُشْغَلُ عَنْهَا، فَلَا غَرْوَ أَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الْقِصَصِ الَّتِي يَعِظُنَا اللهُ بِهَا وَيُعَلِّمُنَا سُنَنَهُ مَا لَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ; لِأَنَّهُ لَمْ يُرْوَ وَلَمْ يُدَوَّنْ بِالْكِتَابِ. وَقَدِ اهْتَدَى بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ الرَّاقِينَ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ إِلَى الِاقْتِدَاءِ بِهَذَا، فَصَارَ أَهْلُ الْمَنْزِلَةِ الْعَالِيَةِ مِنْهُمْ يَذْكُرُونَ مِنْ وَقَائِعِ التَّارِيخِ مَا يَسْتَنْبِطُونَ مِنْهُ الْأَحْكَامَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ وَهُوَ الْأُمُورُ الْكُلِّيَّةُ، وَلَا يَحْفِلُونَ بِالْجُزْئِيَّاتِ لِمَا يَقَعُ فِيهَا مِنَ الْخِلَافِ الَّذِي يَذْهَبُ بِالثِّقَةِ، وَلِمَا فِي قِرَاءَتِهَا مِنَ الْإِسْرَافِ فِي الزَّمَنِ وَالْإِضَاعَةِ لِلْعُمُرِ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ تُوَازِيهِ، وَبِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ يُمْكِنُ إِيدَاعُ مَا عُرِفَ مِنْ تَارِيخِ الْعَالَمِ فِي مُجَلَّدٍ وَاحِدٍ يُوثَقُ بِهِ وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ، فَلَا يَكُونُ عُرْضَةً لِلتَّكْذِيبِ وَالطَّعْنِ، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الْمُصَنَّفَاتِ الَّتِي تَسْتَقْصِي الْوَقَائِعَ الْجُزْئِيَّةَ مُفَصَّلَةً تَفْصِيلًا.

إِنَّ مُحَاوَلَةَ جَعْلِ قَصَصِ الْقُرْآنِ كَكُتُبِ التَّارِيخِ بِإِدْخَالِ مَا يَرْوُونَ فِيهَا عَلَى أَنَّهُ

بَيَانٌ لَهَا هِيَ مُخَالَفَةٌ لِسُنَّتِهِ، وَصَرْفٌ لِلْقُلُوبِ عَنْ مَوْعِظَتِهِ، وَإِضَاعَةٌ لِمَقْصِدِهِ وَحِكْمَتِهِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ نَفْهَمَ

ص: 373

مَا فِيهِ، وَنُعْمِلَ أَفْكَارَنَا فِي اسْتِخْرَاجِ الْعِبَرِ مِنْهُ، وَنَزْعِ نُفُوسِنَا عَمَّا ذَمَّهُ وَقَبَّحَهُ، وَنَحْمِلَهَا عَلَى التَّحَلِّي بِمَا اسْتَحْسَنَهُ وَمَدَحَهُ، وَإِذَا وَرَدَ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْمِلَلِ أَوِ الْمُؤَرِّخِينَ مَا يُخَالِفُ بَعْضَ هَذِهِ الْقِصَصِ، فَعَلَيْنَا أَنْ نَجْزِمَ بِأَنَّ مَا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَى نَبِيِّهِ وَنُقِلَ إِلَيْنَا بِالتَّوَاتُرِ الصَّحِيحِ هُوَ الْحَقُّ وَخَبَرُهُ هُوَ الصَّادِقُ، وَمَا خَالَفَهُ هُوَ الْبَاطِلُ، وَنَاقِلُهُ مُخْطِئٌ أَوْ كَاذِبٌ، فَلَا نَعُدُّهُ شُبْهَةً عَلَى الْقُرْآنِ، وَلَا نُكَلِّفُ أَنْفُسَنَا الْجَوَابَ عَنْهُ، فَإِنَّ حَالَ التَّارِيخِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ كَانَتْ مُشْتَبِهَةَ الْأَعْلَامِ حَالِكَةَ الظَّلَامِ، فَلَا رِوَايَةَ يُوثَقُ بِهَا لِلْمَعْرِفَةِ التَّامَّةِ بِسِيرَةِ رِجَالِ سَنَدِهَا، وَلَا تَوَاتُرَ يُعْتَدُّ بِهِ بِالْأَوْلَى، وَإِنَّمَا انْتَقَلَ الْعَالَمُ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ مَنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، فَكَانَ بِدَايَةَ تَارِيخٍ جَدِيدٍ لِلْبَشَرِ، كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ - لَوْ أَنْصَفُوا - أَنْ يُؤَرِّخُوا بِهِ أَجْمَعِينَ اهـ.

أَقُولُ: إِنَّ الَّذِي يَسْبِقُ إِلَى الذِّهْنِ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ شُئُونِ الْأُمَمِ وَسِيَرِ الْعَالَمِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَمْ يَنْطَمِسْ وَلَمْ تَذْهَبِ الثِّقَةُ بِهِ، وَلَمْ يَنْقَطِعْ سَنَدُ رُوَاتِهِ كَمَا كَانَ قَبْلَهُ. وَبَيَانُ ذَلِكَ بِالْإِجْمَالِ: أَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ جَاءَ الْبَشَرَ بِهِدَايَةٍ جَدِيدَةٍ كَامِلَةٍ، كَانُوا قَدِ اسْتَعَدُّوا لِلِاهْتِدَاءِ بِهَا بِالتَّدْرِيجِ الَّذِي هُوَ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ، فَكَانَ مِنْ عَمَلِ الْمُسْلِمِينَ فِي حِفْظِ الْعِلْمِ وَالتَّارِيخِ الْعِنَايَةُ التَّامَّةُ بِالرِّوَايَةِ مَا يُقْبَلُ مِنْهَا وَمَا لَا يُقْبَلُ; وَلِذَلِكَ أَلَّفُوا الْكُتُبَ فِي تَارِيخِ الرُّوَاةِ لِتُعْرَفَ سِيرَتُهُمْ، وَيَتَبَيَّنَ الصَّادِقُ وَالْكَاذِبُ مِنْهُمْ، وَتُعْرَفَ الرِّوَايَةُ الْمُتَّصِلَةُ وَالْمُنْقَطِعَةُ، وَبَحَثُوا فِي الْكُتُبِ الْمُؤَلَّفَةِ مَتَى يُوثَقُ بِنِسْبَتِهَا إِلَى مُؤَلِّفِيهَا، وَبَيَّنُوا حَقِيقَةَ التَّوَاتُرِ الَّذِي يُفِيدُ الْيَقِينَ، وَالْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهِرُ مِنْ رِوَايَاتِ الْآحَادِ، فَبِهَذِهِ الْعِنَايَةِ لَمْ يَنْقَطِعْ سَنَدٌ لِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِلْمِ الَّتِي وُجِدَتْ فِي الْمُسْلِمِينَ، عَلَى أَنَّ الْعِنَايَةَ بِعُلُومِ الدِّينِ أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا كَانَتْ أَتَمَّ، ثُمَّ كَانَ شَأْنُ مَنْ قَفَّى عَلَى آثَارِهِمْ فِي الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ بَعْدَ ضَعْفِ حَضَارَتِهِمْ عَلَى نَحْوٍ مِنْ شَأْنِهِمْ فِي التَّصْنِيفِ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُمْ فِي ضَبْطِ الرِّوَايَةِ وَنَقْدِهَا وَالْأَمَانَةِ فِيهَا، فَلَمْ يَضِعْ شَيْءٌ مِنَ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَلَا مِنَ الْحَوَادِثِ وَالْوَقَائِعِ الَّتِي جَرَتَ فِي الْعَالَمِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَمَا اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ وَالْمُصَنِّفُونَ فِي جُزْئِيَّاتِهِ مِنْ تَارِيخِ الْإِسْلَامِ وَغَيْرِهِ يَسْهُلُ تَصْفِيَتُهُ فِي جُمْلَتِهِ، وَأَخْذُ الْمُصَفَّى مِنْهُ; لِأَجْلِ الِاعْتِبَارِ بِهِ، وَعِرْفَانِ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ مِنْهُ جَرْيًا عَلَى هَدْيِ الْقُرْآنِ فِيهِ.

لَقَدْ وَصَلَ الرَّاقُونَ فِي مَدَارِجِ الْعُمْرَانِ الْيَوْمَ إِلَى دَرَجَةٍ يَسْهُلُ عَلَيْهِمْ فِيهَا مِنْ ضَبْطِ جُزْئِيَّاتِ الْوَقَائِعِ مَا لَمْ يَكُنْ يَسْهُلُ عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ، كَاسْتِخْدَامِ الْكَهْرَبَاءِ فِي نَقْلِ الْأَخْبَارِ لِمَنْ يُدَوِّنُهَا فِي الصُّحُفِ، وَتَصْوِيرِ الْوَقَائِعِ وَالْمَعَاهِدِ بِمَا يُسَمُّونَهُ التَّصْوِيرَ الشَّمْسِيَّ (فُوتُغْرَافِيَا) وَسُهُولَةِ الِانْتِقَالِ - عَلَى الْكَاتِبِينَ - مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَتَأْمِينِ الْحُكَّامِ لَهُمْ مِنَ الْمَخَاوِفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدِ اجْتَمَعَ مِنْ هَذِهِ الْوَسَائِلِ فِي الْحَرْبِ الَّتِي كَانَتْ فِي هَذَيْنِ الْعَامَيْنِ بَيْنَ دَوْلَتَيِ الْيَابَانِ وَرُوسْيَا مَا لَمْ يَجْتَمِعْ لِمُدَوِّنِي التَّارِيخِ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْحُرُوبِ وَلَا غَيْرِ الْحُرُوبِ مِنْ حَوَادِثِ الزَّمَانِ. قَدْ كَانَ لِأَشْهَرِ الْجَرَائِدِ الْغَرْبِيَّةِ مُكَاتِبُونَ فِي مَوَاقِعِ الْحَرْبِ يَتَبَارَوْنَ فِي السَّبْقِ إِلَى الْوُقُوفِ عَلَى جُزْئِيَّاتِ الْحَوَادِثِ

ص: 374

وَإِيصَالِهَا إِلَى جَرَائِدِهِمْ، كَمَا تَفْعَلُ شَرِكَاتُ الْبَرْقِيَّاتِ (التِّلِغْرَافَاتِ) فِي إِنْبَاءِ الْمُشْتَرِكِينَ فِيهَا، وَكُنَّا نَرَى وَسَائِلَ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْخِلَافِ وَالتَّنَاقُضِ مَا يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْعِلْمُ بِالْحَقِيقَةِ، وَكَمْ مِنْ رِسَالَةٍ لِلشَّرِكَاتِ الْبَرْقِيَّةِ وَلِمُكَاتِبِي الْجَرَائِدِ كَانَتْ مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا فَتَبَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ كَذِبُهَا.

فَهَذِهِ آيَةٌ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الثِّقَةِ بِجُزْئِيَّاتِ الْوَقَائِعِ الَّتِي تَحْدُثُ فِي عَصْرِنَا وَيُعْنَى الْمُؤَرِّخُونَ أَشَدَّ الْعِنَايَةِ بِضَبْطِهَا، إِلَّا مَا يَبْلُغُ رُوَاتُهُ الْمُتَّفِقُونَ عَلَيْهِ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ الصَّحِيحِ وَقَلِيلٌ مَا هُوَ، فَمَا بَالُكَ بِمَا كَانَ فِي الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ؟

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ فِي قَصَصِ الَّذِينَ خَلَوْا هِيَ مُنْتَهَى الْحِكْمَةِ، وَمَا كَانَ لِمُحَمَّدٍ الْأُمِّيِّ النَّاشِئِ فِي تِلْكَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُمِّيَّةِ أَنْ يَرْتَقِيَ إِلَيْهَا بِفِكْرِهِ وَقَدْ جَهِلَهَا الْحُكَمَاءُ فِي عَصْرِهِ وَقَبْلَ عَصْرِهِ، وَلَكِنَّهَا هِدَايَةُ اللهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ أَوْحَاهَا إِلَى صَفْوَتِهِ مِنْهُمْ صلى الله عليه وسلم (وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ) (7: 43) فَعَلَيْنَا وَقَدْ ظَهَرَتِ الْآيَةُ وَوَضَحَتِ السَّبِيلُ أَلَّا نَلْتَفِتَ إِلَى رِوَايَاتِ الْغَابِرِينَ فِي تِلْكَ الْقِصَصِ، وَلَا نَعُدَّ مُخَالَفَتَهَا

لِلْقُرْآنِ شُبْهَةً نُبَالِي بِكَشْفِهَا كَمَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ رَوَّحَ اللهُ رُوحَهُ فِي مَقَامِ الرِّضْوَانِ.

(فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ قِصَصَ الْعَهْدَيْنِ الْعَتِيقِ وَالْجَدِيدِ الَّتِي يُسَمَّى مَجْمُوعُهَا (الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ) هِيَ وَحْيٌ مِنَ اللهِ شَهِدَ لَهَا الْقُرْآنُ وَهِيَ تُعَارِضُ بَعْضَ قِصَصِهِ.

(قُلْنَا) أَوَّلًا: إِنَّ تِلْكَ الْكُتُبَ لَيْسَ لَهَا أَسَانِيدُ مُتَّصِلَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ. ثَانِيًا: إِنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا أَثْبَتَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَعْطَى مُوسَى عليه السلام التَّوْرَاةَ وَهِيَ الشَّرِيعَةُ، وَأَنَّ أَتْبَاعَهُ قَدْ حَفِظُوا مِنْهَا نَصِيبًا وَنَسُوا نَصِيبًا، وَأَنَّهُمْ حَرَّفُوا النَّصِيبَ الَّذِي أُوتُوهُ، وَأَنَّهُ أَعْطَى عِيسَى عليه السلام الْإِنْجِيلَ - وَهُوَ مَوَاعِظُ وَبِشَارَةٌ - وَقَالَ فِي أَتْبَاعِهِ مِثْلَ مَا قَالَ فِي الْيَهُودِ:(فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ)(5: 14) .

وَيَجِدُ الْقَارِئُ تَفْصِيلَ هَذِهِ الْحَقَائِقِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَالْمَائِدَةِ وَالْأَعْرَافِ بِالنُّقُولِ مِنْ تَارِيخِ الْفَرِيقَيْنِ.

بَعْدَ هَذَا نَقُولُ: إِنَّ وَجْهَ الِاتِّصَالِ بَيْنَ آيَاتِ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا نَزَلَتْ فِي شَرْعِ الْقِتَالِ لِحِمَايَةِ الْحَقِيقَةِ وَإِعْلَاءِ شَأْنِ الْحَقِّ، وَبَذْلِ الْمَالِ فِي هَذِهِ السَّبِيلِ، سَبِيلِ اللهِ

ص: 375

لِعِزَّةِ الْأُمَمِ وَمَنَعَتِهَا وَحَيَاتِهَا الطَّيِّبَةِ الَّتِي يَقَعُ مَنْ يَنْحَرِفُ عَنْهَا مِنَ الْأَقْوَامِ فِي الْهَلَاكِ وَالْمَوْتِ، كَمَا عُلِمَ مِنْ قِصَّةِ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ فَارِّينَ مِنْ عَدُوِّهِمْ عَلَى كَثْرَتِهِمْ.

وَهَذِهِ الْقِصَّةُ - قِصَّةُ قَوْمٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ - تُؤَيِّدُ مَا قَبْلَهَا مِنْ حَاجَةِ الْأُمَمِ إِلَى دَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْهَا، فَهِيَ تُمَثِّلُ لَنَا حَالَ قَوْمٍ لَهُمْ نَبِيٌّ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ، وَعِنْدَهُمْ شَرِيعَةٌ تَهْدِيهِمْ إِذَا اسْتَهْدَوْا، وَقَدْ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ بِالْقَهْرِ - كَمَا خَرَجَ أَصْحَابُ الْقِصَّةِ الْأَوْلَى بِالْجُبْنِ - فَعَلِمُوا أَنَّ الْقِتَالَ ضَرُورَةٌ لَا بُدَّ مِنِ ارْتِكَابِهَا مَا دَامَ الْعُدْوَانُ فِي الْبَشَرِ، وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ جَبُنُوا وَضَعُفُوا عَنِ الْقِتَالِ فَاسْتَحَقُّوا الْخِزْيَ وَالنَّكَالَ، فَهَذِهِ الْقِصَّةُ الْمُفَصِّلَةُ فِيهَا بَيَانٌ لِمَا فِي تِلْكَ الْقِصَّةِ الْمُجْمَلَةِ: فَرَّ أُولَئِكَ مِنْ دِيَارِهِمْ فَمَاتُوا بِذَهَابِ اسْتِقْلَالِهِمْ وَاسْتِيلَاءِ الْعَدُوِّ عَلَى دِيَارِهِمْ.

فَالْآيَةُ هُنَاكَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ مَوْتَهُمْ هَذَا سَبَبٌ عَنْ خُرُوجِهِمْ فَارِّينَ بِجُبْنِهِمْ، وَلَمْ تُصَرِّحْ بِسَبَبِ إِحْيَائِهِمُ الَّذِي تَرَاخَتْ مُدَّتُهُ، وَلَكِنْ مَا جَاءَ بَعْدَهَا مِنَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ وَبَذْلِ الْمَالِ الَّذِي يُضَاعِفُهُ اللهُ تَعَالَى أَضْعَافًا كَثِيرَةً قَدْ هَدَانَا إِلَى سُنَّتِهِ فِي حَيَاةِ الْأُمَمِ.

وَجَاءَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ الْإِسْرَائِيلِيَّةُ تُمَثِّلُ الْعِبْرَةَ فِيهِ، وَتُفَصِّلُ كَيْفِيَّةَ احْتِيَاجِ النَّاسِ إِلَيْهِ; إِذْ بَيَّنَتْ أَنَّ هَؤُلَاءِ النَّاسَ احْتَاجُوا إِلَى مُدَافَعَةِ الْعَادِينَ عَلَيْهِمْ وَاسْتِرْجَاعِ دِيَارِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ مِنْ

أَيْدِيهِمْ، وَاشْتَدَّ الشُّعُورُ بِالْحَاجَةِ حَتَّى طَلَبُوا مِنْ نَبِيِّهِمُ الزَّعِيمِ الَّذِي يَقُودُهُمْ فِي مَيْدَانِ الْجِلَادِ، وَقَامُوا بِمَا قَامُوا بِهِ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ، وَلَكِنَّ الضَّعْفَ كَانَ قَدْ بَلَغَ مِنْ نُفُوسِهِمْ مَبْلَغًا لَمْ تَنْفَعْ مَعَهُ تِلْكَ الْعُدَّةُ، فَتَوَلَّوْا وَأَعْرَضُوا لِلْأَسْبَابِ الَّتِي أُشِيرُ إِلَيْهَا، وَأُلْهِمُ الْقَلِيلُ مِنْهُمْ رُشْدَهُمْ وَاعْتَبَرُوا فَانْتَصَرُوا.

قَالَ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ فِي تَفْسِيرِ الْقِصَّةِ السَّابِقَةِ لِهَذِهِ، وَالْمَلَأُ: الْقَوْمُ يَجْتَمِعُونَ لِلتَّشَاوُرِ، لَا وَاحِدَ لَهُ، قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: الْمَلَأُ الْأَشْرَافُ مِنَ النَّاسِ وَهُوَ اسْمٌ لِلْجَمَاعَةِ، كَالْقَوْمِ وَالرَّهْطِ وَالْجَيْشِ، وَجَمْعُهُ أَمْلَاءٌ، سُمُّوا مَلَأً لِأَنَّهُمْ يَمْلَئُونَ الْعُيُونَ رِوَاءَ الْقُلُوبِ هَيْبَةً (إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) وَهَذَا النَّبِيُّ لَمْ يُسَمِّهِ الْقُرْآنُ، وَقَالَ (الْجَلَالُ) : هُوَ شَمْوِيلُ، وَهَذَا أَقْوَى أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ مُعَرَّبُ صَمْوِيلَ، أَوْ صَمْوَئِيل، وَقِيلَ: إِنَّهُ يُوشَعُ، وَهَذَا مِنَ الْجَهْلِ بِالتَّارِيخِ; فَإِنْ يُوشَعَ هُوَ فَتَى مُوسَى، وَالْقِصَّةُ حَدَثَتْ فِي زَمَنِ دَاوُدَ وَالزَّمَنُ بَيْنَهُمَا بَعِيدٌ، وَبَعْثُ الْمَلِكِ عِبَارَةٌ عَنْ إِقَامَتِهِ وَتَوْلِيَتِهِ عَلَيْهِمْ (قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا) قَرَأَ نَافِعٌ وَحْدَهُ (عَسِيتُمْ) بِكَسْرِ السِّينِ وَهِيَ لُغَةٌ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا وَهِيَ اللُّغَةُ الْمَشْهُورَةُ، وَالْمَعْنَى هَلْ قَارَبْتُمْ أَنْ تُحْجِمُوا عَنِ الْقِتَالِ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ كَمَا أَتَوَقَّعُ - أَوْ أَتَوَقَّعُ مِنْكُمُ الْجُبْنَ عَنِ الْقِتَالِ إِنْ هُوَ كُتِبَ عَلَيْكُمْ؟ فَعَسَى لِلْمُقَارَبَةِ أَوْ لِلتَّوَقُّعِ (قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا)

ص: 376

أَيْ: أَيُّ دَاعٍ لَنَا يَدْعُونَا إِلَى أَلَّا نُقَاتِلَ وَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ الْقِتَالِ، وَهُوَ إِخْرَاجُنَا مِنْ دِيَارِنَا بِإِجْلَاءِ الْعَدُوِّ إِيَّانَا عَنْهَا، وَإِفْرَادِنَا عَنْ أَوْلَادِنَا بِسَبْيِهِ إِيَّاهُمْ وَاسْتِعْبَادِهِ لَهُمْ؟ (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) ذَلِكَ أَنَّ الْأُمَمَ إِذَا قَهَرَهَا الْعَدُوُّ وَنَكَّلَ بِهَا يَفْسُدُ بَأْسُهَا، وَيَغْلِبُ عَلَيْهَاالْجُبْنُ وَالْمَهَانَةُ، فَإِذَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى إِحْيَاءَهَا بَعْدَ مَوْتِهَا يَنْفُخُ رُوحَ الشَّجَاعَةِ وَالْإِقْدَامِ فِي خِيَارِهَا - وَهُمُ الْأَقَلُّونَ - فَيَعْمَلُونَ مَا لَا يَعْمَلُ الْأَكْثَرُونَ، كَمَا عَلِمْتَ مِنْ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:(ثُمَّ أَحْيَاهُمْ) وَمَا هُوَ مِنْكَ بِبَعِيدٍ، وَلَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ قَدِ اسْتَعَدَّ مِنْهُمْ لِلْحَيَاةِ إِلَّا الْقَلِيلُ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَفِي الْآيَةِ

مِنَ الْفَوَائِدِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ أَنَّ الْأُمَمَ الَّتِي تَفْسُدُ أَخْلَاقُهَا وَتَضْعُفُ، قَدْ تُفَكِّرُ فِي الْمُدَافَعَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا وَتَعْزِمُ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا إِذَا تَوَفَّرَتْ شَرَائِطُهَا الَّتِي يَتَخَيَّلُونَهَا عَلَى حَدِّ قَوْلِ الشَّاعِرِ:

وَإِذَا مَا خَلَا الْجَبَانُ بِأَرْضٍ

طَلَبَ الطَّعْنَ وَحْدَهُ وَالنِّزَّالَا

ثُمَّ إِذَا تَوَفَّرَتِ الشُّرُوطُ يَضْعُفُونَ وَيَجْبُنُونَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا غَيْرُ كَافِيَةٍ لِيَعْذُرُوا أَنْفُسَهُمْ وَمَا هُمْ بِمَعْذُورِينَ (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) الَّذِينَ يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأُمَّتَهُمْ بِتَرْكِ الْجِهَادِ دِفَاعًا عَنْهَا وَحِفْظًا لِحَقِّهَا، فَهُوَ يَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ فَيَكُونُونَ فِي الدُّنْيَا أَذِلَّاءَ مُسْتَضْعَفِينَ، وَفِي الْآخِرَةِ أَشْقِيَاءَ مُعَذَّبِينَ.

أَقُولُ: وَفِي تَارِيخِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا يُفِيدُ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا فِي الزَّمَنِ الَّذِي بُعِثَ فِيهِ صَمْوَئِيل نَبِيًّا مُلْهَمًا قَدِ انْحَرَفُوا عَنْ شَرِيعَةِ مُوسَى وَنَسُوهَا، فَعَبَدُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى، فَضَعُفَتْ رَابِطَتُهُمُ الْمِلِّيَّةُ، وَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْفِلَسْطِينِيِّينَ فَحَارَبُوهُمْ حَتَّى أَثْخَنُوهُمْ فَانْكَسَرُوا، وَسَقَطَ مِنْهُمْ ثَلَاثُونَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، وَأَخَذُوا تَابُوتَ عَهْدِ الرَّبِّ مِنْهُمْ، وَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَسْتَفْتِحُونَ - أَيْ: يَسْتَنْصِرُونَ وَيَطْلُبُونَ الْفَتْحَ - بِهِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، فَلَمَّا أَخَذَهُ أَهْلُ فِلَسْطِينَ انْكَسَرَتْ قُلُوبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَنْهَضْ هِمَّتُهُمْ لِاسْتِرْدَادِهِ، وَكَانُوا إِلَى ذَلِكَ الْعَهْدِ لَا مُلُوكَ لَهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ رُؤَسَاؤُهُمُ الْقُضَاةَ بِالشَّرِيعَةِ، وَمِنْهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَمِنْهُمْ صَمْوَئِيل كَانَ قَاضِيًا، فَلَمَّا شَاخَ جَعَلَ بَنِيهِ قُضَاةً وَكَانَ وَلَدُهُ الْبِكْرُ وَوَلَدُهُ الثَّانِي مِنْ قُضَاةِ الْجَوْرِ وَأَكَلَةِ الرِّشْوَةِ، فَاجْتَمَعَ كُلُّ شُيُوخِ بَنِي إِسْرَائِيلَ - وَهُمُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُمْ فِي الْقُرْآنِ بِالْمَلَأِ - وَطَلَبُوا مِنْ صَمْوَئِيلَ أَنْ يَخْتَارَ لَهُمْ مَلِكًا يَحْكُمُ فِيهِمْ كَسَائِرِ الشُّعُوبِ، فَحَذَّرَهُمْ وَأَنْذَرَهُمْ ظُلْمَ الْمُلُوكِ وَاسْتِعْبَادَهُمْ لِلْأُمَمِ، فَأَلَحُّوا فَأَلْهَمَهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَخْتَارَ لَهُمْ طَالُوتَ مَلِكًا، وَاسْمُهُ عِنْدَهُمْ شَاوِلُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:

(وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ)

ص: 377

الظَّاهِرُ أَنَّ طَالُوتَ تَعْرِيبٌ لِشَاوِلَ - وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا مِنْهُ فِي اللَّفْظِ - وَقِيلَ: إِنَّهُ لَقَبٌ لَهُ مِنَ الطُّولِ، كَمَلَكُوتٍ مِنَ الْمُلْكِ وَأَمْثَالِهَا; وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ طَوِيلًا مُشَذَّبًا، فَفِي سِفْرِ صَمْوَئِيلَ الْأَوَّلِ مِنَ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ ((مِنْ كَتِفِهِ فَمَا فَوْقُ كَانَ أَطْوَلَ مِنْ كُلِّ الشَّعْبِ)) وَفِيهِ ((فَوَقَفَ بَيْنَ

الشَّعْبِ فَكَانَ أَطْوَلَ مِنْ كُلِّ الشَّعْبِ مِنْ كَتِفِهِ فَمَا فَوْقُ)) - وَاعْتَرَضَ بِمَنْعِ صَرْفِهِ.

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عِنْدَ ذِكْرِ طَالُوتَ: هُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ ((شَاوِلَ)) وَقَدْ سَمَّاهُ اللهُ طَالُوتَ فَهُوَ طَالُوتُ، أَيْ أَنَّنَا لَا نَعْبَأُ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ لِمَا قَدَّمْنَا، وَإِذَا عَلِمَ الْقَارِئُ أَنَّ الْقَوْمَ لَا يَعْرِفُونَ كَاتِبَ سِفْرَيْ صَمْوَئِيلَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مَنْ هُوَ، وَلَا فِي أَيِّ زَمَنٍ كُتِبَا، فَإِنَّهُ يَسْهُلُ عَلَيْهِ أَلَّا يُعْتَدَّ بِتَسْمِيَتِهِمْ، وَأَمَّا اسْتِنْكَارُهُمْ جَعْلَهُ مَلِكًا فَقَدْ صَرَّحُوا بِهِ وَقَالُوا: إِنَّ مِنْهُمْ مَنِ احْتَقَرَهُ، وَلَكِنَّ أَخْبَارَهُمْ لَا تَتَّصِلُ بِأَسْبَابِهَا، وَلَا تُقْرَنُ بِعِلَلِهَا. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي اسْتِنْكَارِهِمْ لِمُلْكِهِ وَزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ: إِنَّهُ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ بِنْيَامِينَ لَا مِنْ بَيْتِ يَهُوذَا، وَهُوَ بَيْتُ الْمُلْكِ، وَلَا مِنْ بَيْتِ لَاوِي، وَهُوَ بَيْتُ النُّبُوَّةِ، وَفَهِمَ بَعْضُهُمْ مِنْ قَوْلِهِ:(وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ) أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا، وَقَالُوا: كَانَ رَاعِيًا أَوْ دَبَّاغًا أَوْ سَقَّاءً، وَلَا يَصِحُّ كَلَامُهُمْ فِي بَيْتِ الْمُلْكِ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مُلُوكٌ قَبْلَهُ، وَنَفْيُهُمْ سَعَةَ الْمَالِ الَّتِي تُؤَهِّلُهُ لِلْمُلْكِ فِي رَأْيِ الْقَائِلِينَ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا، وَإِنَّمَا الْعَبْرَةُ فِي الْعِبَارَةِ هِيَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ طِبَاعِ النَّاسِ، وَهِيَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الْمَلِكَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا لِلْمُلْكِ، أَوْ ذَا نَسَبٍ عَظِيمٍ يَسْهُلُ عَلَى شُرَفَاءِ النَّاسِ وَعُظَمَائِهِمُ الْخُضُوعُ لَهُ، وَذَا مَالٍ عَظِيمٍ يُدَبِّرُ بِهِ الْمُلْكَ، وَالسَّبَبُ فِي هَذَا أَنَّهُمْ قَدِ اعْتَادُوا الْخُضُوعَ لِلشُّرَفَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَمْتَازُوا عَلَيْهِمْ بِمَعَارِفِهِمْ وَصِفَاتِهِمُ الذَّاتِيَّةِ، فَبَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِيمَا حَكَاهُ عَنْ نَبِيِّهِ فِي أُولَئِكَ الْقَوْمِ أَنَّهُمْ مُخْطِئُونَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمُلْكِ يَكُونُ بِالنَّسَبِ وَسَعَةِ الْمَالِ بِقَوْلِهِ:

(قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) فَسَّرُوا اصْطِفَاءَ اللهِ تَعَالَى هُنَا بِوَحْيهِ لِذَلِكَ النَّبِيِّ أَنْ يَجْعَلَ طَالُوتَ مَلِكًا عَلَيْهِمْ، وَلَعَلَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ لَقَالَ: اصْطَفَاهُ لَكُمْ كَمَا قَالَ: (اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ)(2: 132) وَالْمُتَبَادَرُ عِنْدِي أَنَّ مَعْنَاهُ فَضَّلَهُ وَاخْتَارَهُ عَلَيْكُمْ بِمَا أَوْدَعَ فِيهِ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ الْفِطْرِيِّ لِلْمُلْكِ، وَلَا يُنَافِي هَذَا كَوْنَ اخْتِيَارِهِ كَانَ بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ; لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ هِيَ بَيَانٌ لِأَسْبَابِ الِاخْتِيَارِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ:(1) الِاسْتِعْدَادُ الْفِطْرِيُّ (2) السَّعَةُ فِي الْعِلْمِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ التَّدْبِيرُ (3) بَسْطَةُ الْجِسْمِ

ص: 378

الْمُعَبَّرُ بِهَا عَنْ صِحَّتِهِ وَكَمَالِ قُوَاهُ الْمُسْتَلْزِمِ ذَلِكَ لِصِحَّةِ الْفِكْرِ عَلَى قَاعِدَةِ ((الْعَقْلُ السَّلِيمُ فِي الْجِسْمِ السَّلِيمِ)) وَلِلشَّجَاعَةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْمُدَافَعَةِ وَلِلْهَيْبَةِ وَالْوَقَارِ

(4)

تَوْفِيقُ اللهِ تَعَالَى الْأَسْبَابَ لَهُ وَهُوَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَالِاسْتِعْدَادُ هُوَ الرُّكْنُ الْأَوَّلُ فِي الْمَرْتَبَةِ فَلِذَلِكَ قَدَّمَهُ، وَالْعِلْمُ بِحَالِ الْأُمَّةِ وَمَوَاضِعِ قُوَّتِهَا وَضَعْفِهَا وَجَوْدَةِ الْفِكْرِ فِي تَدْبِيرِ شُئُونِهَا، هُوَ الرُّكْنُ الثَّانِي فِي الْمَرْتَبَةِ، فَكَمْ مِنْ عَالِمٍ بِحَالِ زَمَانِهِ غَيْرُ مُسْتَعِدٍّ لِلسُّلْطَةِ اتَّخَذَهُ مَنْ هُوَ مُسْتَعِدٌّ لَهَا سِرَاجًا يَسْتَضِيءُ بِرَأْيهِ فِي تَأْسِيسِ مَمْلَكَةٍ أَوْ سِيَاسَتِهَا، وَلَمْ يَنْهَضْ بِهِ رَأْيُهُ إِلَى أَنْ يَكُونَ هُوَ السَّيِّدُ الزَّعِيمُ فِيهَا، وَكَمَالُ الْجِسْمِ فِي قُوَاهُ وَرِوَائِهِ هُوَ الرُّكْنُ الثَّالِثُ فِي الْمَرْتَبَةِ، وَهُوَ فِي النَّاسِ أَكْثَرُ مِنْ سَابِقِيهِ.

وَأَمَّا الْمَالُ فَلَيْسَ بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ تَأْسِيسِ الْمُلْكِ; لِأَنَّ الْمَزَايَا الثَّلَاثَ إِذَا وُجِدَتْ سَهُلَ عَلَى صَاحِبِهَا الْإِتْيَانُ بِالْمَالِ، وَإِنَّا لَنَعْرِفُ فِي النَّاسِ مَنْ أَسَّسَ دَوْلَةً وَهُوَ فَقِيرٌ أُمِّيٌّ، وَلَكِنَّ اسْتِعْدَادَهُ وَمَعْرِفَتَهُ بِحَالِ الْأُمَّةِ الَّتِي سَادَهَا، وَشَجَاعَتَهُ كَانَتْ كَافِيَةً لِلِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا وَالِاسْتِعَانَةِ بِأَهْلِ الْعِلْمِ بِالْإِدَارَةِ وَالشُّجْعَانِ عَلَى تَمْكِينِ سُلْطَتِهِ فِيهَا، وَقَدْ قَدَّمَ الْأَرْكَانَ الثَّلَاثَةَ عَلَى الرَّابِعِ; لِأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِمَوَاهِبِ الرَّجُلِ الَّذِي اخْتِيرَ مَلِكًا فَأَنْكَرَ الْقَوْمُ اخْتِيَارَهُ فَهِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالْجَوَابِ، وَأَمَّا تَوْفِيقُ اللهِ تَعَالَى بِتَسْخِيرِ الْأَسْبَابِ الَّتِي لَا عَمَلَ لَهُ فِيهَا لِسَعْيهِ فَلَيْسَ مِنْ مَوَاهِبِهِ وَمَزَايَاهُ فَتَقَدَّمَ فِي أَسْبَابِ اخْتِيَارِهِ، وَإِنَّمَا تُذْكَرُ تَتِمَّةً لِلْفَائِدَةِ وَبَيَانًا لِلْحَقِيقَةِ; وَلِذَلِكَ ذُكِرَتْ قَاعِدَةً عَامَّةً لَا وَصْفًا لَهُ.

وَلِلَّهِ دَرُّ الشَّاعِرِ الْعَرَبِيِّ حَيْثُ قَالَ فِي صِفَاتِ الْجَدِيرِ بِالِاخْتِيَارِ لِزَعَامَةِ الْأُمَّةِ وَقِيَادَتِهَا:

فَقَلِّدُوا أَمْرَكُمْ لِلَّهِ دَرُّكُمُو رَحْبَ

الذِّرَاعِ بِأَمْرِ الْحَرْبِ مُضْطَلِعَا

لَا مُتْرَفًا إِنْ رَخَاءُ الْعَيْشِ سَاعَدَهُ

وَلَا إِذَا عُضَّ مَكْرُوهٌ بِهِ خَشَعَا

(وَمِنْهَا) وَلَيْسَ يَشْغَلُهُ مَالٌ يُثَمِّرُهُ عَنْكُمْ، وَلَا وَلَدٌ يَبْغِي لَهُ الرَّفْعَا

وَأَقُولُ: إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ مَعْنَى إِسْنَادِ الشَّيْءِ إِلَى مَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى هُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَفْعَلُهُ بِلَا سَبَبٍ وَلَا جَرَيَانٍ عَلَى سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِهِ فِي نِظَامِ خَلْقِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) (13: 8) أَيْ: بِنِظَامٍ وَتَقْدِيرٍ مُوَافِقٍ لِلْحِكْمَةِ لَيْسَ فِيهِ جُزَافٌ وَلَا خَلَلٌ، فَإِيتَاؤُهُ الْمُلْكَ لِمَنْ يَشَاءُ بِمُقْتَضَى سُنَّتِهِ إِنَّمَا يَكُونُ بِجَعْلِهِ مُسْتَعِدًّا لِلْمُلْكِ فِي نَفْسِهِ، وَبِتَوْفِيقِ الْأَسْبَابِ لِسَعْيهِ فِي ذَلِكَ; أَيْ: هُوَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي نَفْسِ

ص: 379

الْمَلِكِ، وَالْآخَرُ فِي حَالِ الْأُمَّةِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا، وَفِي الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَامَّةِ ((كَمَا تَكُونُونَ يُوَلَّى عَلَيْكُمْ)) قَالَ فِي الدُّرَرِ الْمُنْتَثِرَةِ

رَوَاهُ ابْنُ جُمَيْعٍ فِي مُعْجَمِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ، والْبَيْهَقِيِّ فِي الشُّعَبِ مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا ثُمَّ قَالَ: هَذَا مُنْقَطِعٌ. وَفِي كَنْزِ الْعُمَّالِ أَخْرَجَهُ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ والْبَيْهَقِيِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ مُرْسَلًا.

نَعَمْ إِذَا أَرَادَ اللهُ إِسْعَادَ أُمَّةٍ جَعَلَ مَلِكَهَا مُقَوِّيًا لِمَا فِيهَا مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْخَيْرِ، حَتَّى يَغْلِبَ خَيْرُهَا عَلَى شَرِّهَا، فَتَكُونُ سَعِيدَةً، وَإِذَا أَرَادَ إِهْلَاكَ أُمَّةٍ جَعَلَ مَلِكَهَا مُقَوِّيًا لِدَوَاعِي الشَّرِّ فِيهَا حَتَّى يَتَغَلَّبَ شَرُّهًا عَلَى خَيْرِهَا، فَتَكُونُ شَقِيَّةً ذَلِيلَةً، فَتَعْدُوا عَلَيْهَا أُمَّةٌ قَوِيَّةٌ، فَلَا تَزَالُ تَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا، وَتَفْتَاتُ عَلَيْهَا فِي أُمُورِهَا، أَوْ تُنَاجِزُهَا الْحَرْبَ حَتَّى تُزِيلَ سُلْطَانَهَا مِنَ الْأَرْضِ، يُرِيدُ اللهُ تَعَالَى ذَلِكَ فَيَكُونُ بِمُقْتَضَى سُنَنِهِ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ، فَهُوَ يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ وَيَنْزِعُهُ مِمَّنْ يَشَاءُ. بِعَدْلٍ وَحِكْمَةٍ، لَا بِظُلْمٍ وَلَا عَبَثٍ; وَلِذَلِكَ قَالَ:(وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)(21: 105) وَقَالَ: (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)(7: 128) فَالْمُتَّقُونَ فِي هَذَا الْمَقَامِ - مَقَامِ اسْتِعْمَارِ الْأَرْضِ وَالسِّيَادَةِ فِي الْمَمَالِكِ - هُمُ الَّذِينَ يَتَّقُونَ أَسْبَابَ خَرَابِ الْبِلَادِ وَضَعْفِ الْأُمَمِ، وَهِيَ الظُّلْمُ فِي الْحُكَّامِ، وَالْجَهْلُ وَفَسَادُ الْأَخْلَاقِ فِي الدَّوْلَةِ وَالْأُمَّةِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ التَّفَرُّقِ وَالتَّنَازُعِ وَالتَّخَاذُلِ، وَالصَّالِحُونَ فِي هَذَا الْمَقَامِ هُمُ الَّذِينَ يَصْلُحُونَ لِاسْتِعْمَارِ الْأَرْضِ وَسِيَاسَةِ الْأُمَمِ بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهَا الِاجْتِمَاعِيِّ.

أَطَلْتُ فِي بَيَانِ مَعْنَى مَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى فِي إِتْيَانِ الْمُلْكِ ; لِأَنَّنِي أَرَى عَامَّةَ الْمُسْلِمِينَ يَفْهَمُونَ مِنْ مِثْلِ عِبَارَةِ الْآيَةِ فِي إِيجَازِهَا أَنَّ الْمُلْكَ يَكُونُ لِلْمُلُوكِ بِقُوَّةٍ إِلَهِيَّةٍ هِيَ وَرَاءَ الْأَسْبَابِ وَالسُّنَنِ الَّتِي يَجْرِي عَلَيْهَا الْبَشَرُ فِي أَعْمَالِهِمُ الْكَسْبِيَّةِ، وَهَذَا الِاعْتِقَادُ قَدِيمٌ فِي الْأُمَمِ الْوَثَنِيَّةِ، وَفِي مَعْنَاهُ عِبَارَةٌ فِي كُتُبِ النَّصْرَانِيَّةِ، وَبِهِ اسْتَعْبَدَ الْمُلُوكُ النَّاسَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّ سُلْطَتَهُمْ شُعْبَةٌ مِنَ السُّلْطَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَأَنَّ مُحَاوَلَةَ مُقَاوَمَتِهِمْ هِيَ كَمُحَاوَلَةِ مُقَاوَمَةِ الْبَارِي سبحانه وتعالى وَالْخُرُوجِ عَنْ مَشِيئَتِهِ.

وَكَانَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَوْجَزَ فِي الدَّرْسِ بِتَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ) إِذْ جَاءَ فِي آخِرِهِ، وَقَدْ كَتَبْتُ فِي مُذَكِّرَتِي عَنْهُ ((أَيْ: أَنَّهُ سُنَّةٌ فِي تَهْيِئَةِ مَنْ يَشَاءُ لِلْمُلْكِ)) وَمِثْلُ هَذَا الْإِجْمَالِ لَا يَعْقِلُهُ إِلَّا مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ

فِي إِرْثِ الْأَرْضِ وَفِي هَلَاكِ الْأُمَمِ وَتَكَوُّنِهَا، وَالْآيَاتُ الْوَارِدَةُ فِي أَنَّ لَهُ تَعَالى فِي الْبَشَرِ سُنَنًا لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَهَا، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:(إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(13: 11) فَحَالَةُ الْأُمَمِ فِي صِفَاتِ أَنْفُسِهَا - وَهِيَ عَقَائِدُهَا وَمَعَارِفُهَا وَأَخْلَاقُهَا وَعَادَاتُهَا - هِيَ الْأَصْلُ

ص: 380

فِي تَغَيُّرِ مَا بِهَا مِنْ سِيَادَةٍ أَوْ عُبُودِيَّةٍ وَثَرْوَةٍ أَوْ فَقْرٍ، وَقُوَّةٍ أَوْ ضَعْفٍ، وَهِيَ هِيَ الَّتِي تُمَكِّنُ الظَّالِمَ مِنْ إِهْلَاكِهَا. وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْبَيَانِ أَنْ نَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لَنَا الِاعْتِذَارُ بِمَشِيئَةِ اللهِ عَنِ التَّقْصِيرِ فِي إِصْلَاحِ شُئُونِنَا اتِّكَالًا عَلَى مُلُوكِنَا ; فَإِنَّ مَشِيئَتَهُ تَعَالَى لَا تَتَعَلَّقُ بِإِبْطَالِ سُنَّتِهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ فِي نِظَامِ خَلْقِهِ، وَلَا دَلِيلَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا فِي الْعَقْلِ وَلَا فِي الْوُجُودِ عَلَى أَنَّ تَصَرُّفَ الْمُلُوكِ فِي الْأُمَمِ هُوَ بِقُوَّةٍ إِلَهِيَّةٍ خَارِقَةٍ لِلْعَادَةِ، بَلْ شَرِيعَةُ اللهِ تَعَالَى وَخَلِيقَتُهُ شَاهِدَتَانِ بِضِدِّ ذَلِكَ (فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ) (59: 2) .

ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) عَلَى طَرِيقَةِ الْقُرْآنِ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى الدَّلِيلِ بَعْدَ الْحُكْمِ وَالتَّذْكِيرِ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَآثَارِهَا; أَيْ: وَاسْعُ التَّصَرُّفِ وَالْقُدْرَةِ، إِذَا شَاءَ أَمْرًا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ فِي نِظَامِ الْخَلِيقَةِ فَإِنَّهُ يَقَعُ لَا مَحَالَةَ، عَلِيمٌ بِوُجُوهِ الْحِكْمَةِ فَلَا يَضَعُ سُنَنَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمُلْكِ عَبَثًا، وَلَا يَتْرُكُ أَمْرَ الْعِبَادِ فِي اجْتِمَاعِهِمْ سُدًى، بَلْ وَضَعَ لَهُمْ مِنَ السُّنَنِ الْحَكِيمَةِ مَا هُوَ مُنْتَهَى الْإِبْدَاعِ وَالْإِتْقَانِ، وَلَيْسَ فِي الْإِمْكَانِ أَبْدَعُ مِمَّا كَانَ.

هَذَا وَقَدْ جَرَى الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ وُجُوهَ الرَّدِّ عَلَى مُنْكِرِي جَعْلِ طَالُوتَ مَلِكًا أَرْبَعَةٌ، وَأَحْسَنُ عِبَارَةٍ لَهُمْ عَلَى اخْتِصَارِهَا عِبَارَةُ الْبَيْضَاوِيِّ قَالَ: لَمَّا اسْتَبْعَدُوا تَمَلُّكَهُ لِفَقْرِهِ وَسُقُوطِ نَسَبِهِ رُدَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ:

(أَوَّلًا) بِأَنَّ الْعُمْدَةَ فِيهِ اصْطِفَاءُ اللهِ تَعَالَى، وَقَدِ اخْتَارَهُ عَلَيْكُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمَصَالِحِ مِنْكُمْ.

(ثَانِيًا) بِأَنَّ الشُّرُوطَ فِيهِ؛ وُفُورُ الْعِلْمِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأُمُورِ السِّيَاسِيَّةِ، وَجَسَامَةِ الْبَدَنِ لِيَكُونَ أَعْظَمَ خَطَرًا فِي الْقُلُوبِ، وَأَقْوَى عَلَى مُقَاوَمَةِ الْعَدُوِّ وَمُكَابَدَةِ الْحُرُوبِ لَا مَا ذَكَرْتُمْ، وَقَدْ زَادَهُ اللهُ فِيهَا، وَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ الْقَائِمُ يَمُدُّ يَدَهُ فَيَنَالُ رَأْسَهُ.

(ثَالِثًا) بِأَنَّهُ تَعَالَى مَالِكُ الْمُلْكِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَهُ أَنْ يُؤْتِيَهُ مَنْ يَشَاءُ.

(رَابِعًا) بِأَنَّهُ (وَاسِعٌ) الْفَضْلَ يُوَسِّعُ الْفَضْلَ عَلَى الْفَقِيرِ وَيُغْنِيهِ (عَلِيمٌ) بِمَنْ يَلِيقُ بِالْمُلْكِ وَغَيْرِهِ اهـ. فَجَعَلُوا الْأَوَّلَ بِمَعْنَى الثَّالِثِ

وَجَعَلُوا مَزِيَّةَ الْعَقْلِ وَمَزِيَّةَ الْبَدَنِ شَيْئًا وَاحِدًا وَهُمَا شَيْئَانِ، وَأَجْمَلُوا الْقَوْلَ فِي الْمَشِيئَةِ حَتَّى إِنَّ الْمُتَوَهِّمَ لَيَتَوَهَّمُ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ بِعِنَايَةٍ غَيْبِيَّةٍ لَا بِسُنَّةٍ إِلَهِيَّةٍ، وَجَعَلُوا كَوْنَهُ تَعَالَى وَاسِعًا عَلِيمًا وَجْهًا خَاصًّا. وَلَا أَحْفَظُ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي الْأَوَّلِ شَيْئًا، وَرَأْيُهُ فِي مَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى هُنَا مَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَقَدْ فَسَّرَ ((الْوَاسِعَ)) بِوَاسِعِ التَّصَرُّفِ وَالْقُدْرَةِ، وَهُوَ يَتَّفِقُ مَعَ قَوْلِهِمْ وَاسْعُ الْفَضْلِ، وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ (عَلِيمٌ) عَلِيمٌ بِوُجُوهِ الِاخْتِيَارِ وَمَنْ يَسْتَحِقُّ الْمُلْكَ.

ص: 381

(وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَلَمَا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمَيْنِ تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) .

قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَقْتَنِعُوا بِمَا احْتَجَّ بِهِ عَلَيْهِمْ نَبِيُّهُمْ مِنِ اسْتِحْقَاقِ طَالُوتَ الْمُلْكَ بِمَا اخْتَارَهُ اللهُ وَأَعَدَّهُ لَهُ بِاصْطِفَائِهِ، وَإِيتَائِهِ مِنْ سَعَةِ الْعِلْمِ وَبَسْطَةِ الْجِسْمِ مَا يُمَكِّنُهُ مِنَ الْقِيَامِ بِأَعْبَائِهِ، حَتَّى جَعَلَ لِذَلِكَ آيَةً تَدُلُّهُمْ عَلَى الْعِنَايَةِ بِهِ، وَهِيَ عَوْدُ التَّابُوتِ إِلَيْهِمْ، وَهَذَا التَّابُوتُ الْمُعَرَّفُ: صُنْدُوقٌ لَهُ قِصَّةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي كُتُبِ الْيَهُودِ، فَفِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ مَا نَصُّهُ:

ص: 382

((وَكَلَّمَّ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلًا: كَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَأْخُذُوا لِي تَقْدِمَةً مِنْ كُلِّ مَنْ بَحَثَهُ قَلْبُهُ تَأْخُذُونَ تَقْدِمَتِي، وَهَذِهِ هِيَ التَّقْدِمَةُ الَّتِي تَأْخُذُونَهَا مِنْهُمْ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ وَنُحَاسٌ وَأَسْمَانْجُونِي وَأُرْجُونَ وَقِرْمِزٌ وَبُوصٍ وَشَعْرِ مِعْزَى وَجُلُودِ كِبَاشٍ مُحَمَّرَةٍ وَجُلُودِ تَخْسٍ وَخَشَبِ سَنْطٍ وَزَيْتٍ لِلْمَنَارَةِ وَأَطْيَابٍ لِدَهْنِ الْمَسْحَةِ، وَلِلْبَخُورِ الْعِطْرُ، وَحِجَارَةِ جِزْعٍ وَحِجَارَةِ تَرْصِيعٍ لِلرِّدَاءِ وَالصُّدْرَةِ، فَيَصْنَعُونَ لِي مُقَدَّسًا لِأَسْكُنَ فِي وَسَطِهِمْ بِحَسَبِ جَمِيعِ مَا أَنَا أُرِيكَ مِنْ مِثَالِ الْمَسْكَنِ وَمِثَالِ جَمِيعِ آنِيَتِهِ، هَكَذَا تَصْنَعُونَ فَيَصْنَعُونَ تَابُوتًا مِنْ خَشَبِ السَّنْطِ طُولُهُ ذِرَاعَانِ وَنِصْفٌ، وَعَرْضُهُ ذِرَاعٌ وَنِصْفٌ، وَارْتِفَاعُهُ ذِرَاعٌ وَنِصْفٌ. وَتُغَشِّيهِ بِذَهَبٍ نَقِيٍّ، مِنْ دَاخِلٍ وَخَارِجٍ تُغَشِّيهِ، وَتَصْنَعُ عَلَيْهِ إِكْلِيلًا مِنْ ذَهَبٍ حَوَالَيْهِ، وَتَسْبِكُ لَهُ أَرْبَعَ حَلَقَاتٍ مِنْ ذَهَبٍ وَتَجْعَلُهَا عَلَى قَوَائِمِهِ الْأَرْبَعِ، عَلَى جَانِبِهِ الْوَاحِدِ حَلْقَتَانِ وَعَلَى جَانِبِهِ الثَّانِي حَلْقَتَانِ، وَتَصْنَعُ عَصَوَيْنِ مِنْ خَشَبِ السَّنْطِ وَتُغَشِّيهِمَا بِذَهَبٍ، وَتُدْخِلُ الْعَصَوَيْنِ فِي الْحَلَقَاتِ عَلَى جَانِبَيِ التَّابُوتِ لِيُحْمَلَ التَّابُوتُ بِهِمَا، تَبْقَى الْعَصَوَانِ فِي حَلْقَةِ التَّابُوتِ لَا تُنْزَعَانِ مِنْهَا، وَتَضَعُ فِي التَّابُوتِ وَالشَّهَادَةِ الَّتِي أُعْطِيكَ، وَتَصْنَعُ غِطَاءً مَنْ ذَهَبٍ نَقِيٍّ طُولُهُ ذِرَاعَانِ وَنِصْفٌ وَعَرْضُهُ ذِرَاعٌ وَنِصْفٌ، وَتَصْنَعُ كَرُوبَيْنِ مَنْ ذَهَبٍ صَنْعَةَ خِرَاطَةٍ تَصْنَعُهُمَا عَلَى طَرَفَيِ الْغِطَاءِ، فَاصْنَعْ كَرُوبًا وَاحِدًا عَلَى الطَّرَفِ مِنْ هُنَا، وَكَرُوبًا آخَرَ عَلَى الطَّرَفِ مِنْ هُنَاكَ، مِنَ الْغِطَاءِ تَصْنَعُونَ الْكَرُوبَيْنِ عَلَى طَرَفَيْهِ، وَيَكُونُ

الْكَرُوبَانِ بَاسِطَيْنِ أَجْنِحَتَهُمَا إِلَى فَوْقُ، مُظَلِّلَيْنِ بِأَجْنِحَتِهِمَا عَلَى الْغِطَاءِ وَوَجْهَاهُمَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى الْآخَرِ نَحْوَ الْغِطَاءِ يَكُونُ وَجْهَا الْكَرُوبَيْنِ، وَتَجْعَلُ الْغِطَاءَ عَلَى التَّابُوتِ مِنْ فَوْقُ، وَفِي التَّابُوتِ تَضَعُ الشَّهَادَةَ الَّتِي أَنَا أُعْطِيكَ)) اهـ.

هَذَا مَا وَرَدَ فِي صِفَةِ الْأَمْرِ بِصُنْعِ ذَلِكَ التَّابُوتِ الدِّينِيِّ، وَذَكَرَ بَعْدَهُ كَيْفِيَّةَ صُنْعِ الْمَائِدَةِ الدِّينِيَّةِ وَآنِيَتَهَا وَالْمَسْكَنَ وَالْمَذْبَحَ وَخَيْمَةَ الْعَهْدِ وَمَنَارَةِ السِّرَاجِ وَالثِّيَابِ الْمُقَدَّسَةِ، ثُمَّ فَصَّلَ فِي الْفَصْلِ 27 مِنْهُ كَيْفَ كَانَ صُنْعُ هَذَا التَّابُوتِ وَالْمَائِدَةِ وَالْمَنَارِ وَمَذْبَحِ الْبَخُورِ، وَهِيَ غَرَائِبُ يَعُدُّهَا عُقَلَاءُ هَذِهِ الْعُصُورِ أَلَاعِيبَ، وَالْحِكْمَةُ فِيهَا - وَاللهُ أَعْلَمُ - أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا - وَقَدِ اسْتَعْبَدَهُمْ وَثَنِيُّو الْمِصْرِيِّينَ أَحْقَابًا - قَدْ مَلَكَتْ قُلُوبُهُمْ عَظَمَةُ تِلْكَ الْهَيَاكِلِ الْوَثَنِيَّةِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الزِّينَةِ وَالصَّنْعَةِ الَّتِي تُدْهِشُ النَّاظِرَ، وَتَشْغَلُ الْخَاطِرَ، فَأَرَادَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَشْغَلَ قُلُوبَهُمْ عَنْهَا بِمَحْسُوسَاتٍ مِنْ جِنْسِهَا تُنْسَبُ إِلَيْهِ سبحانه وتعالى وَتُذْكَرُ بِهِ، فَالتَّابُوتُ سُمِّيَ أَوَّلًا تَابُوتَ الشَّهَادَةِ; أَيْ: شَهَادَةُ اللهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ تَابُوتَ الرَّبِّ وَتَابُوتَ اللهِ، كَذَلِكَ أُضِيفَ إِلَى اللهِ تَعَالَى كُلُّ شَيْءٍ صُنِعَ لِلْعِبَادَةِ، وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الدِّيَانَةَ لَيْسَتْ دَائِمَةً، فَلَا غَرْوَ إِذَا نَسَخَ الْإِسْلَامُ كُلَّ هَذَا الزُّخْرُفِ وَالصَّنْعَةِ مِنَ الْمَسَاجِدِ الَّتِي يُعْبَدُ فِيهَا اللهُ تَعَالَى حَتَّى لَا يَشْتَغِلَ الْمُصَلِّي عَنْ مُنَاجَاةِ اللهِ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَمَا كَلَّفَهُ ذَلِكَ الشَّعْبُ الَّذِي وَصَفَتْهُ كُتُبُهُ

ص: 383

الْمُقَدَّسَةُ بِأَنَّهُ صُلْبُ الرَّقَبَةِ أَوْ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ ((عَرِيضُ الْقَفَا)) عَلَى قُرْبِ عَهْدِهِ بِالْوَثَنِيَّةِ وَإِحَاطَةِ الشُّعُوبِ الْوَثَنِيَّةِ بِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ لَا يَلِيقُ بِحَالِ الْبَشَرِ فِي طَوْرِ ارْتِقَائِهِمْ; إِذْ لَا يُرَبَّى الرَّجُلُ الْعَاقِلُ بِمِثْلِ مَا يُرَبَّى بِهِ الطِّفْلُ أَوِ الْيَافِعُ، وَفِي سَائِرِ فَصُولِ سِفْرِ الْخُرُوجِ الثَّلَاثَةِ تَفْصِيلٌ لِمَا قَدَّمَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِصُنْعِ تِلْكَ الدَّارِ الَّتِي يُقَدَّسُ فِيهَا اللهُ، وَلِصُنْعِ الْخَيْمَةِ وَالتَّابُوتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَغَرَضُنَا مِنْهَا مَعْرِفَةُ حَقِيقَةِ التَّابُوتِ عِنْدَهُمْ، فَإِنَّكَ لَتَجِدُ فِي بَعْضِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَكُتُبِ الْقَصَصِ عِنْدَنَا أَقْوَالًا غَرِيبَةً عَنْهُ، مِنْهَا أَنَّهُ نَزَلَ مَعَ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَمَنْشَأُ تِلْكَ الْأَقْوَالِ مَا كَانَ يَنْبِذُ بِهِ الْإِسْرَائِيلِيُّونَ مِنَ الْقِصَصِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مُخَادَعَةً لَهُمْ، لِيَكْثُرَ الْكَذِبُ فِي تَفْسِيرِهِمْ لِلْقُرْآنِ فَيَضِلُّوا بِهِ، وَيَجِدُ رُؤَسَاءُ الْيَهُودِ مَجَالًا وَاسِعًا لِلطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ يَصُدُّونَ بِهِ قَوْمَهُمْ عَنْهُ.

وَفِي آخِرِ فَصُولِ سِفْرِ الْخُرُوجِ أَنَّ مُوسَى عليه الصلاة والسلام وَضَعَ اللَّوْحَيْنِ اللَّذَيْنِ فِيهِمَا شَهَادَةُ اللهِ - أَيْ: وَصَايَاهُ - لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التَّابُوتِ، وَفِي كُتُبِهِمُ الْأُخْرَى أَنَّهُ كَانَ بَعْدَهُ عِنْدَ فَتَاهُ يَشُوعَ - أَيْ: يُوشَعَ - وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَنْصِرُونَ بِهَذَا التَّابُوتِ، فَإِذَا ضَعُفُوا فِي الْقِتَالِ وَجِيءَ بِهِ وَقَدَّمُوهُ تَثُوبُ إِلَيْهِمْ شَجَاعَتُهُمْ، وَيَنْصُرُهُمُ اللهُ تَعَالَى، أَيْ يَنْصُرُهُمْ بِتِلْكَ الشَّجَاعَةِ الَّتِي تَتَجَدَّدُ لَهُمْ بِإِحْضَارِ التَّابُوتِ لَا بِالتَّابُوتِ نَفْسِهِ وَلِذَلِكَ غُلِبُوا عَلَى التَّابُوتِ فَأُخِذَ مِنْهُمْ عِنْدَمَا ضَعُفَ يَقِينُهُمْ وَفَسَدَتْ أَخْلَاقُهُمْ، فَلَمْ يُغْنِ عَنْهُمُ التَّابُوتُ شَيْئًا كَمَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.

أَقُولُ: وَفِي سِفْرِ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ (31: 24 - 30)((أَنَّ مُوسَى لَمَّا كَمَّلَ كِتَابَةَ هَذِهِ التَّوْرَاةِ أَمَرَ اللَّاوِيِّينَ حَامِلِي تَابُوتِ عَهْدِ الرَّبِّ قَائِلًا: خُذُوا كِتَابَ التَّوْرَاةِ هَذَا وَضَعُوهُ بِجَانِبِ تَابُوتِ عَهْدِ الرَّبِّ إِلَهِكُمْ لِيَكُونَ شَاهِدًا عَلَيْكُمْ)) .

ثُمَّ كَانَتْ حَرْبٌ بَيْنَ الْفِلَسْطِينِيِّينَ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى عَهْدِ عَالِيَا أَوْ عَالِيَ الْكَاهِنِ، فَانْتَصَرَ الْفِلَسْطِينِيُّونَ وَأَخَذُوا التَّابُوتَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ أَنْ نَكَّلُوا بِهِمْ تَنْكِيلًا فَمَاتَ عَالِي قَهْرًا، وَكَانَ صَمْوَئِيل - الَّذِي يُدْعَى فِي الْكُتُبِ الْعَرَبِيَّةِ شمويلَ - قَاضِيًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِهِ، وَهُوَ نَبِيُّهُمُ الَّذِي طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَبْعَثَ لَهُمْ مَلِكًا فَفَعَلَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَجَعَلَ رُجُوعَ التَّابُوتِ إِلَيْهِمْ آيَةً لِمُلْكِ طَالُوتَ الَّذِي أَقَامَهُ لَهُمْ، وَقَالُوا فِي سَبَبِ إِتْيَانِ التَّابُوتِ: إِنَّ أَهْلَ فِلَسْطِينَ ابْتُلُوا بَعْدَ أَخْذِ التَّابُوتِ بِالْفِيرَانِ فِي زَرْعِهِمْ وَالْبَوَاسِيرِ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَتَشَاءَمُوا مِنْهُ، وَظَنُّوا أَنَّ إِلَهَ إِسْرَائِيلَ انْتَقَمَ مِنْهُمْ فَأَعَادُوهُ عَلَى عَجَلَةٍ تَجُرُّهَا بَقَرَتَانِ، وَوَضَعُوا فِيهِ صُوَرَ فِيرَانٍ وَصُوَرَ بَوَاسِيرَ مِنَ الذَّهَبِ جَعَلُوا كَفَّارَةً لِذَنْبِهِمْ.

وَمِنَ الْمُدَوَّنِ فِي التَّارِيخِ الْمُقَدَّسِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَمَّا أَحْرَقَ الْبَابِلِيُّونَ هَيْكَلَ سُلَيْمَانَ فُقِدَتِ التَّوْرَاةُ وَتَابُوتُ الْعَهْدِ مَعًا لِأَنَّهُمَا قَدْ أُحْرِقَا فِيهِ.

ص: 384

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي التَّابُوتِ: (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ) فَقَدْ كَثُرَتْ فِيهِ الرِّوَايَاتُ، وَمِنْهَا مَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ نَقْلٌ وَلَا يَقْبَلُهُ عَقْلٌ، عَلَى أَنَّهَا مُتَعَارِضَةٌ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا كَمَا تَرَى فِي تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ وَهُوَ أُمُّ التَّفَاسِيرِ.

وَقَدْ أَوْرَدْنَا مَا أَوْرَدْنَا مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ لِيُعْلَمَ أَنَّ أَكْثَرَ مَا ذُكِرَ عَنِ التَّابُوتِ وَعَمَّا فِيهِ مِنَ الْغَرَائِبِ لَا أَصْلَ لَهُ فِي تِلْكَ الْكُتُبِ، وَإِنَّمَا وَحْيُ اللهِ تَعَالَى نَاطِقٌ بِأَنَّ فِيهِ سَكِينَةٌ، وَالسَّكِينَةُ فِي اللُّغَةِ مَا تَسْكُنُ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَيَطْمَئِنُّ بِهِ الْقَلْبُ، وَفِي إِتْيَانِ الصُّنْدُوقِ سَكِينَةٌ لَا تَخْفَى لِمَا كَانَ لَهُ مِنَ الشَّأْنِ الدِّينِيِّ عِنْدَ الْقَوْمِ، أَوْ فِيهِ مَا يُحْدِثُ لَهُمْ سَكِينَةً وَهِيَ الْفِيرَانُ وَالْبَوَاسِيرُ الذَّهَبُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى خَوْفِ الْعَدُوِّ، أَوِ الْأَلْوَاحُ أَوْ رَضَاضَتُهَا، وَهِيَ هِيَ الْبَقِيَّةُ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ، وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ نَحْوُ مَا قُلْنَاهُ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالْحَقِّ فِي مَعْنَى السَّكِينَةِ مَا قَالَهُ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ مِنْ أَنَّهَا الشَّيْءُ تَسْكُنُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ: (تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ) يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَلَائِكَةِ صُوَرُ الْكَرُوبَيْنِ وَقَدْ حَمَلَ التَّابُوتَ; أَيْ: وُضِعَ عَلَيْهِمَا كَمَا تَقُولُ فِي وَصْفِ الْقُصُورِ وَالتَّمَاثِيلِ الْمَصْنُوعَةِ: فِيهَا فُلَانٌ عَلَى فَرَسٍ مِنْ نُحَاسٍ، تُرِيدُ تِمْثَالَ الْمَلِكِ وَتِمْثَالَ الْفَرَسِ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْبَقَرَتَيْنِ اللَّتَيْنِ حَمَلَتَا التَّابُوتَ مِنْ بَعْضِ بِلَادِ الْفِلَسْطِينِيِّينَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتَا تَسِيرَانِ مُسَخَّرَتَيْنِ بِإِلْهَامِ الْمَلَائِكَةِ، وَفِي كُتُبِ الْقَوْمِ أَنَّ الْبَقَرَتَيْنِ اللَّتَيْنِ جَرَّتَا عَجَلَةَ التَّابُوتِ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا قَائِدٌ وَلَا سَائِقٌ، وَمَا يَجْرِي بِإِلْهَامٍ لَا كَسْبَ فِيهِ لِلْبَشَرِ وَهُوَ مِنَ الْخَيْرِ يُسْنَدُ إِلَى إِلْهَامِ الْمَلَائِكَةِ. رَوَى نَحْوَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ يَقُولُ: وَكَلَ بِالْبَقَرَتَيْنِ اللَّتَيْنِ سَارَتَا بِالتَّابُوتِ أَرْبَعَةً مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَسُوقُونَهُمَا إِلَخْ، وَخَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) قَالُوا: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَتِمَّةَ كَلَامِ نَبِيِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَهُمْ، أَيْ إِنَّ فِي مَجِيءِ التَّابُوتِ عَلَامَةٌ أَوْ حُجَّةٌ لَكُمْ تَدُلُّ عَلَى عِنَايَةِ اللهِ بِكُمْ، وَاصْطِفَائِهِ لَكُمْ هَذَا الْمَلِكَ الَّذِي يَنْهَضُ بشُئُونِكِمْ وَيُنَكِّلُ بِأَعْدَائِكُمْ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَرْضَوْا بِمُلْكِهِ وَلَا تَفَرَّقُوا عَنْهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ كَلَامٍ مِنْهُ تَعَالَى لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، مَعْنَاهُ أَنَّ فِيمَا أَوْحَاهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ آيَةٌ بَيِّنَةٌ عَلَى ثُبُوتِهِ; إِذْ لَوْلَا الْوَحْيُ لَمَا كَانَ يَعْرِفُهَا وَهُوَ الْأُمِّيُّ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ وَلَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا، وَلَا كَانَ يَعْرِفُ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْعِبْرَةِ وَالْفَائِدَةِ، وَلَا سِيَّمَا مَا يُعْتَبَرُ فِي الْمُلُوكِ

مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي تُؤَهِّلُهُمْ لِلْقِيَامِ بِأَعْبَاءِ السِّيَاسَةِ وَأَعْمَالِ الرِّيَاسَةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ آيَةً بَيِّنَةً وَعِبْرَةً نَافِعَةً لِمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَآيَاتِهِ الَّتِي تُؤَيِّدُ بِهَا أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ عليهم السلام; لِذَلِكَ قَيَّدَهَا بِالشَّرْطِ الَّذِي حُذِفَ جَوَابُهُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ.

عُلِمَ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ الْغَرَضَ الْأَوَّلَ مِنْ طَلَبِ الْقَوْمِ نَصْبَ الْمَلِكِ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَوَلَّى قِيَادَتَهُمْ لِلْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَيَثْأَرَ مِنْ أُولَئِكَ الْوَثَنِيِّينَ الَّذِينَ أَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ، فَكَانَ الْمُتَوَقَّعُ بَعْدَ بَيَانِ نَصْبِ الْمَلِكِ أَنْ يَذْكُرَ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ فِي الْقِتَالِ وَذَلِكَ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى،

ص: 385

ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) فَصَلَ بِالْجُنُودِ: انْفَصَلَ بِهِمْ مِنْ مَقَامِهِمْ وَقَادَهُمْ لِقِتَالِ أَعْدَائِهِمْ، وَأَصْلُهُ: فَصَلَ نَفْسَهُ عَنْهُ مُصَاحِبًا لَهُمْ، وَالْجُنُودُ: جَمْعُ جُنْدٍ بِالضَّمِّ وَهُوَ الْعَسْكَرُ وَأَصْلُهُ الْأَرْضُ الْغَلِيظَةُ ذَاتُ الْحِجَارَةِ ثُمَّ قِيلَ لِكُلِّ مُجْتَمَعٍ قَوِيٍّ جُنْدٌ، وَالشُّرْبُ: تَنَاوُلُ الْمَائِعِ بِالْفَمِ وَابْتِلَاعُهُ، وَطَعِمَ الشَّيْءَ مِنْ غِذَاءٍ وَشَرَابٍ ذَاقَهُ. قَالَ الشَّاعِرُ:

وَإِنْ شِئْتَ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخًا وَلَا بَرَدًا

وَالْغَرْفَةُ - بِالْفَتْحِ: الْمَرَّةُ، مِنْ غَرَفَ الشَّيْءَ إِذَا رَفَعَهُ مِنْ مَحَلِّهِ وَتَنَاوَلَهُ، وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْحِجَازِيُّونَ. وَالْغُرْفَةُ - بِالضَّمِّ: مَا يُغْتَرَفُ، وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكُوفِيُّونَ.

لَمَّا كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ قَبْلُ كَارِهِينَ لِمُلْكِ طَالُوتَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ أَذْعَنُوا مِنْ بَعْدُ، وَكَانَ إِذْعَانُ الْجَمِيعِ وَرِضَاهُمْ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهِ إِلَّا بِالِاخْتِبَارِ وَالِابْتِلَاءِ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَبْتَلِيَ هَذَا الْقَائِدُ جُنْدَهُ لِيَعْلَمَ الْمُطِيعَ وَالْعَاصِيَ وَالرَّاضِيَ وَالسَّاخِطَ، فَيَخْتَارَ الْمُطِيعَ الَّذِي يُرْجَى بَلَاؤُهُ فِي الْقِتَالِ، وَثَبَاتُهُ فِي مَعَامِعِ النِّزَالِ، وَيَنْفِيَ مَنْ يَظْهَرُ عِصْيَانُهُ، وَيُخْشَى فِي الْوَغَى خِذْلَانُهُ، فَإِنَّ طَاعَةَ الْجَيْشِ لِلْقَائِدِ وَثِقَتَهُ بِهِ مِنْ شُرُوطِ الظَّفْرِ، وَأَحْوَجُ الْقُوَّادِ إِلَى اخْتِبَارِ الْجَيْشِ مَنْ وَلِيَ عَلَى قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، أَوْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَكْرَهُهُ، فَإِذَا وُجِدَ فِي الْجَيْشِ مَنْ لَيْسَ مُتَّحِدًا مَعَهُ يُخْشَى أَنْ يُوضِعُوا خِلَالَهُ يَبْغُونَهُ الْفِتْنَةَ وَيَسِمُونَهُ بِالْفَشَلِ. أَخْبَرَ طَالُوتُ جُنُودَهُ بِأَنْ سَيَمُرُّونَ عَلَى نَهَرٍ يَمْتَحِنُهُمْ بِهِ بِإِذْنِ اللهِ، فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَا يُعَدُّ مِنْ أَشْيَاعِهِ الْمُتَّحِدِينَ مَعَهُ فِي أَمْرِ الْقِتَالِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَا يَشْرَبُهُ قَلِيلًا وَهُوَ غُرْفَةٌ تُؤْخَذُ بِالْيَدِ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يُتَسَامَحُ فِيهِ وَلَا يَرَاهُ مَانِعًا مِنَ الِاتِّحَادِ بِهِ وَالِاعْتِصَامِ

بِحَبْلِهِ، وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ أَيْ يَذُقْهُ بِالْمَرَّةِ فَإِنَّهُ مِنْهُ، وَهُوَ الَّذِي يَرْكَنُ إِلَيْهِ وَيُوثَقُ بِهِ تَمَامَ الثِّقَةِ، فَالِابْتِلَاءُ سَيَكُونُ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ: مَرْتَبَةُ مَنْ يَشْرَبُ فَيُرْوَى لَا يُبَالِي بِالْأَمْرِ، وَحُكْمُهُ أَنْ يُتَبَرَّأَ مِنْهُ، وَمَرْتَبَةُ مَنْ يَأْخُذُ بِيَدِهِ غُرْفَةً يَبُلُّ بِهَا رِيقَهُ وَهُوَ مَقْبُولٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَمَرْتَبَةُ مَنْ لَا يَذُوقُهُ أَلْبَتَّةَ، وَهُوَ الْوَلِيُّ النَّصِيرُ الَّذِي يُوثَقُ بِاتِّحَادِهِ، وَيُعَوَّلُ عَلَى جِهَادِهِ، قَالَ تَعَالَى:(فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) ذَلِكَ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا قَدْ فَسَدَ بَأْسُهُمْ وَتَزَلْزَلَ إِيمَانُهُمْ، وَاعْتَادُوا الْعِصْيَانَ فَسَهُلَ عَلَيْهِمْ عِصْيَانُهُمْ، وَشَقَّ عَلَيْهِمْ مُخَالَفَةُ الشَّهْوَةِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا هَوَانُهُمْ، وَلَمْ يَبْقَ فِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ فِي الْإِيمَانِ وَالْغَيْرَةِ عَلَى الْمِلَّةِ وَالْأُمَّةِ إِلَّا نَفَرٌ قَلِيلٌ (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (34: 13) وَالْعَدَدُ الْقَلِيلُ مِنْ أَهْلِ الْعَزَائِمِ يَفْعَلُ مَا لَا يَفْعَلُ الْكَثِيرُ مِنْ ذَوِي الْمَآثِمِ، كَمَا يُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى (فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ)

ص: 386

أَيْ فَلَمَّا جَاوَزَ النَّهْرَ طَالُوتُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ (قَالُوا) وَهُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ شَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ (لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ) الطَّاقَةُ أَدْنَى دَرَجَاتِ الْقُوَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الصِّيَامِ. وَجَالُوتُ هُوَ أَشْهَرُ أَبْطَالِ أَعْدَائِهِمُ الْفِلَسْطِينِيِّنَ، وَعَرَّبَهُ النَّصَارَى الَّذِينَ تَرْجَمُوا سِفْرَ صَمْوَئِيلَ الَّذِي فِيهِ الْقِصَّةُ ((جِلْيَاتُ)) وَلَا اعْتِدَادَ بِتَعْرِيبِهِمْ، وَالْعِبَارَةُ تُشْعِرُ بِأَنَّ جُنُودَ الْفِلَسْطِينِيِّينَ كَانُوا أَكْثَرَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ; أَيْ: قَالَ جُمْهُورُ الْجُنُودِ: لَيْسَ لَنَا أَدْنَى شَيْءٍ مِنْ جِنْسِ الطَّاقَةِ بِلِقَاءِ جَالُوتَ وَجُنُودِهِ.

(قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللهِ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا وَجَاوَزُوا النَّهَرَ مَعَ طَالُوتَ، وَقَدْ تَوَهَّمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْآخَرِينَ الَّذِينَ شَرِبُوا مِنَ النَّهَرِ لَمْ يُجَاوِزُوهُ; لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْهُمْ، وَظَنُّوا أَنَّ الْقَوْلَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ جَاوَزُوا النَّهَرَ، قَالَ ضِعَافُهُمْ: لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ، وَقَالَ أَقْوِيَاؤُهُمْ: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ إِلَخْ. ثُمَّ اشْتَدَّ بَعْضُهُمْ بِعَزِيمَةِ بَعْضٍ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِ انْتِصَارِهِمْ مَا يَأْتِي فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ، وَالْعِبَارَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ شَرِبُوا مِنَ النَّهَرِ لَمْ يُجَاوِزُوهُ، وَإِنَّمَا خَصَّ بِالذِّكْرِ الَّذِينَ لَمْ يَشْرَبُوا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ طَالُوتَ لِأَجْلِ الشُّرْبِ، فَهُمُ الَّذِينَ جَاوَزُوهُ

مَعَهُ مُقْتَرِنِينَ وَهُمُ الَّذِينَ يَعْتَدُّهُمْ مِنْهُ، وَيَتَبَرَّأُ مِنَ الْمُتَخَلِّفِينَ الْعَاصِينَ كَمَا عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ فِي الِابْتِلَاءِ.

سِيَاقُ الْكَلَامِ فِيمَنْ فَصَلَ بِهِمْ مِنَ الْجُنُودِ وَابْتُلُوا بِالنَّهَرِ، وَقَدْ قَالَ فِيهِمْ: إِنَّهُمْ شَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا، ثُمَّ أَعْلَمَنَا أَنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ وَصَفَهُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ جَاوَزُوا النَّهَرَ مَعَ طَالُوتَ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ أَطَاعُوا وَلَمْ يَشْرَبُوا، ثُمَّ أَخْبَرَنَا بِقَوْلَيْنِ يَصْلُحُ أَحَدُهُمَا لِمُعَارَضَةِ الْآخَرِ وَرَدِّهِ (الْأَوَّلُ) أَسْنَدَهُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ الْمَحْكِيِّ عَنْهُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: إِنَّهُمْ شَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَمِثْلُهُ يَصْدُرُ مِمَّنْ خَالَفَ الْقَائِدَ وَجَبُنَ عَنِ الْقِتَالِ، وَ (الثَّانِي) أَسْنَدَهُ إِلَى الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مَلَّاقُو اللهِ وَهُوَ يَنْطَبِقُ عَلَى الَّذِينَ أَطَاعُوا الْقَائِدَ وَاتَّحَدُوا مَعَهُ فَلَمْ يَعْصُوا، وَيَتَّفِقُ مَعَ وَصْفِ الْإِيمَانِ الَّذِي سَبَقَهُ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْجَمِيعَ جَاوَزُوا النَّهَرَ، وَأَنَّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ كَانَا بَعْدَ مُجَاوَزَتِهِ، وَأَنَّ التَّصْرِيحَ بِمُجَاوَزَةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ لَا يَجْعَلُ الْمُجَاوَزَةَ لِلْحَصْرِ وَإِنَّمَا هِيَ لِبَيَانِ الْمَعِيَّةِ وَالْمُصَاحَبَةِ، فَإِنَّ الْقَوْمَ افْتَرَقُوا عِنْدَ النَّهَرِ فَسَبَقَ مَنْ لَمْ يَشْرَبْ وَالْتَفَّ حَوْلَ الْقَائِدِ وَجَاوَزُوا النَّهَرَ مَعَهُ، وَتَخَلَّفَ الْآخَرُونَ قَلِيلًا لِلشُّرْبِ وَالِارْتِفَاقِ بِالْمَاءِ، ثُمَّ جَاوَزُوا وَلَحِقُوا بِالْآخَرِينَ كَمَا عُلِمَ مِنْ مُحَاوَرَتِهِمْ مَعَهُمْ بِمَا ظَهَرَ بِهِ أَثَرُ مَا فِي نَفْسِ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمَا عَلَى لِسَانِهِ. وَمِنْ بَدِيعِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ أَنْ يَحْذِفَ الشَّيْءَ وَيَأْتِيَ فِي السِّيَاقِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَذْكُرَ الْقَوْمَ بِوَصْفٍ غَيْرِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ أَوْ يَجْعَلُهُ فِي مَكَانِ الضَّمِيرِ لِإِفَادَةِ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ الْمَذْكُورَ هُوَ السَّبَبُ فِي الْفِعْلِ أَوِ الْوَصْفِ الَّذِي سِيقَ الْكَلَامُ لِتَقْرِيرِهِ، كَمَا وَصَفَ الَّذِينَ لَمْ يَشْرَبُوا بِالْإِيمَانِ مَرَّةً وَبِاعْتِقَادِ لِقَاءِ

ص: 387

اللهِ تَعَالَى مَرَّةً أُخْرَى، فَأَعْلَمَنَا أَنَّ هَذَا الْإِيمَانَ وَالِاعْتِقَادَ هُمَا سَبَبُ طَاعَةِ الْقَائِدِ وَتَرْكِ الشُّرْبِ، وَسَبَبُ الشَّجَاعَةِ وَالْإِقْدَامِ عَلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ الَّذِي يَفُوقُهُمْ عَدَدًا.

هَذَا مَا ظَهَرَ لِي فِي بَيَانِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالَ الَّذِينَ شَرِبُوا: لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ (قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ) : وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَهُ السُّدِّيُّ وَهُوَ أَنَّهُ جَاوَزَ النَّهَرَ مَعَ طَالُوتَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي لَمْ يَشْرَبْ مِنَ النَّهَرِ إِلَّا الْغَرْفَةَ، وَالْكَافِرُ الَّذِي شَرِبَ مِنْهُ الْكَثِيرَ، ثُمَّ وَقَعَ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِرُؤْيَةِ جَالُوتَ وَلِقَائِهِ وَانْخَذَلَ عَنْهُ أَهْلُ الشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ إِلَخْ،

وَفِيهِ ذَكَرَ قَوْلَ كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ وَوَسَمَ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّهُ لَمْ يُجَاوِزْ مَعَ طَالُوتَ النَّهَرَ إِلَّا أَهْلُ الْإِيمَانِ بِالْغَفْلَةِ وَرَدَّ عَلَيْهِ قَوْلَهُ.

وَفِي كُتُبِ الْيَهُودِ أَنَّ الِابْتِلَاءَ بِتَرْكِ شُرْبِ الْمَاءِ كَانَ عَلَى يَدِ جَدْعُونَ قَبْلَ قِصَّةِ طَالُوتَ، وَيُورِدُونَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَلِيقُ بِاللهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّهُ يُوَافِقُ مَا بُنِيَتْ عَلَيْهِ حَوَادِثُ تَارِيخِهِمْ مِنْ كَوْنِهَا كُلِّهَا عَجَائِبُ وَخَوَارِقُ عَادَاتٍ لَا شَيْءَ مِنْهَا مَبْنِيٌّ عَلَى سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، فَفِي الْفَصْلِ السَّابِعِ مِنْ سِفْرِ الْقُضَاةِ مَا نَصُّهُ:

((وَقَالَ الرَّبُّ لِجَدْعُونَ: إِنَّ الشَّعْبَ الَّذِي مَعَكَ كَثِيرٌ عَلِيَّ لِأَدْفَعَ الْمَدْيَانِيِّينَ بِيَدِهِمْ لِئَلَّا يَفْتَخِرَ عَلَى إِسْرَائِيلَ قَائِلًا: يَدِي خَلَّصَتْنِي، وَالْآنَ نَادِ فِي آذَانِ الشَّعْبِ قَائِلًا: مَنْ كَانَ خَائِفًا وَمُرْتَعِدًا فَلْيَرْجِعْ وَيَنْصَرِفْ مِنْ جَبَلِ جِلْعَادَ، فَرَجَعَ مِنَ الشَّعْبِ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، وَبَقِيَ عَشْرَةُ آلَافٍ، وَقَالَ الرَّبُّ لِجَدْعُونَ: لَمْ يَزَلِ الشَّعْبُ كَثِيرًا، انْزِلْ بِهِمْ إِلَى الْمَاءِ فَأُنَقِّيهِمْ لَكَ هُنَاكَ، وَيَكُونُ أَنَّ الَّذِي أَقُولُ لَكَ عَنْهُ هَذَا يَذْهَبُ مَعَكَ فَهُوَ يَذْهَبُ مَعَكَ، وَكُلُّ مَنْ أَقُولُ لَكَ عَنْهُ لَا يَذْهَبُ مَعَكَ فَهُوَ لَا يَذْهَبُ، فَنَزَلَ بِالشَّعْبِ إِلَى الْمَاءِ، وَقَالَ الرَّبُّ لِجَدْعُونَ: كُلُّ مَنْ يَلَغُ بِلِسَانِهِ مِنَ الْمَاءِ كَمَا يَلَغُ الْكَلْبُ فَأَوْقِفْهُ وَحْدَهُ، وَكَذَا كُلُّ مَنْ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ لِلشُّرْبِ.

وَكَانَ عَدَدُ الَّذِينَ وَلَغُوا بِيَدِهِمْ إِلَى فَمِهِمْ ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ، وَأَمَّا بَاقِي الشَّعْبِ جَمِيعًا فَجَثَوْا عَلَى رُكَبِهِمْ لِشُرْبِ الْمَاءِ; فَقَالَ الرَّبُّ لِجَدْعُونَ: بِالثَّلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ الَّذِينَ وَلَغُوا أُخَلِّصُكُمْ وَأَدْفَعُ الْمَدْيَانِيَّيْنِ لِيَدِكَ. وَأَمَّا سَائِرُ الشَّعْبِ فَلْيَذْهَبُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَكَانِهِ)) اهـ.

وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْقَوْمَ خَلَطُوا فِي تَارِيخِهِمْ، وَأَنَّ أَكْثَرَهُ لَا يُعْرَفُ كَاتِبُوهُ، وَمِنْهُ سِفْرُ صَمْوَئِيل الَّذِي فِيهِ قِصَّةُ طَالُوتَ، وَعِبَارَتُهُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كُتِبَ بَعْدَ حُدُوثِ وَقَائِعِهِ; فَإِنَّ الْكَاتِبَ يَذْكُرُ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ وَيَقُولُ: إِنَّهَا لَا تَزَالُ إِلَى الْآنِ كَأَنَّ الزَّمَنَ كَانَ كَافِيًا لِأَنْ تَنْدَرِسَ فِيهِ جَمِيعُ الرُّسُومِ وَالْمَعَالِمِ الَّتِي عُهِدَتْ عِنْدَ وُقُوعِ تِلْكَ الْوَقَائِعِ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ كَاتِبَهُ، وَإِنَّنَا نَرَى الْمُؤَرِّخِينَ فِي زَمَانِنَا يَغْلَطُونَ بِمَا يَقَعُ فِي عَهْدِهِمْ غَلَطًا أَبْعَدَ مِنْ هَذَا الْغَلَطِ فِي إِسْنَادِ الشَّيْءِ إِلَى غَيْرِ فَاعِلِهِ، وَتَقْدِيمِهِ أَوْ تَأْخِيرِهِ عَنْ زَمَنِهِ. وَكَمَا فَاتَ مُؤَرِّخِي بَنِي إِسْرَائِيلَ تَحْرِيرُ

ص: 388

الْوَقَائِعِ وَالْحَوَادِثِ بِالتَّدْقِيقِ فَاتَهُمْ مَا فِيهَا مِنَ الْعِبَرِ وَالْحِكَمِ، فَأَيْنَ مَا نَقَلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَنْهُمْ مِمَّا تَجِدُهُ

فِي عِبَارَةِ الْقُرْآنِ مِنْ صُنُوفِ الْعِبْرَةِ؟ فَالْحَقُّ مَا قَالَهُ اللهُ تَعَالَى فِي مَسْأَلَةِ النَّهَرِ وَغَيْرِهَا، وَلَا يُعْتَبَرُ مَا خَالَفَهُ مِنْ أَقْوَالِ سَائِرِ الْكُتُبِ مُعَارِضًا لَهُ فَيَحْتَاجُ إِلَى التَّوْفِيقِ أَوِ الْجَوَابِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مُقَدِّمَةِ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَاللهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.

(وَلَمَّا بَرَزُوا) أَيْ: لَمَّا ظَهَرَ طَالُوتُ وَجُنُودُهُ بِالْبَرَازِ، وَهِيَ بِالْفَتْحِ مَا اسْتَوَى مِنَ الْأَرْضِ (لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ) وَهُمْ أَعْدَاؤُهُ الْفِلَسْطِينِيُّونَ (قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) أَيْ: لَجَأَ قَوْمُ طَالُوتَ الْمُؤْمِنُونَ إِلَى اللهِ تَعَالَى يَدْعُونَهُ بِأَنْ يُفْرِغَ عَلَى قُلُوبِهِمُ الصَّبْرَ، وَيُثَبِّتَ أَقْدَامَهُمْ فِي مَوَاقِعِ الْقِتَالِ بِثَبَاتِ قُلُوبِهِمْ وَاطْمِئْنَانِهَا بِالْإِيمَانِ وَالثِّقَةِ بِهِ، وَيَنْصُرَهُمْ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، الَّذِينَ تَعَلَّقَتْ قُلُوبُهُمْ بِالْأَوْهَامِ.

وَهَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ بَعْضُهَا مُرَتَّبٌ عَلَى بَعْضٍ بِحَسَبِ الْأَسْبَابِ الْغَالِبَةِ، فَالصَّبْرُ سَبَبٌ لِلثَّبَاتِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ، وَأَجْدَرُ النَّاسِ بِالصَّبْرِ الْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ عز وجل الْغَالِبِ عَلَى أَمْرِهِ، كَمَا سَنُوَضِّحُهُ بَعْدَ تَمَامِ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ.

(فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ) أَيْ: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ مَا سَأَلُوا بِبَرَكَةِ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ، وَتَذَكُّرِهِمْ مَا يُؤْمِنُونَ بِهِ مِنْ قُوَّتِهِ الَّتِي لَا تُغَالَبُ فَهَزَمُوهُمْ، أَيْ كَسَرُوهُمْ كَسْرَةً انْتَهَتْ بِدَفْعِهِمْ مِنَ الْمَعْرَكَةِ، وَهَرَبِهِمْ مِنْهَا بِإِرَادَتِهِ الْمُنْفِذَةِ لِسُنَّتِهِ فِي نَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّابِرِينَ الثَّابِتِينَ، عَلَى الْكَافِرِينَ (وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ) قَالُوا: إِنَّ جَالُوتَ جَبَّارُ الْفِلَسْطِينِيِّينَ طَلَبَ الْبَرَازَ فَلَمْ يَجْرُؤْ أَحَدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مُبَارَزَتِهِ حَتَّى إِنَّ طَالُوتَ جَعَلَ لِمَنْ يَقْتُلُهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ ابْنَتَهُ، وَيُحَكِّمَهُ فِي مُلْكِهِ، ثُمَّ بَرَزَ لَهُ دَاوُدُ بْنُ يَسَى، وَكَانَ غُلَامًا يَرْعَى الْغَنَمَ، وَلَمْ يَقْبَلْ أَنْ يَلْبَسَ دِرْعًا وَلَا أَنْ يَحْمِلَ سِلَاحًا، بَلْ حَمَلَ مِقْلَاعَهُ وَحِجَارَتَهُ، فَسَخِرَ مِنْهُ جَالُوتُ وَاحْتَمَى عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَسْتَعِدَّ لَهُ، وَقَالَ: هَلْ أَنَا كَلْبٌ فَتَخْرُجُ إِلَيَّ بِالْمِقْلَاعِ؟ فَرَمَاهُ دَاوُدُ بِمِقْلَاعِهِ فَأَصَابَ الْحَجَرُ رَأْسَهُ فَصَرَعَهُ فَدَنَا مِنْهُ فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ، وَجَاءَ بِهِ فَأَلْقَاهُ إِلَى طَالُوتَ فَعُرِفَ دَاوُدُ، وَكَانَ لَهُ الشَّأْنُ الَّذِي وَرِثَ بِهِ مُلْكَ إِسْرَائِيلَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:(وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ) فَسَّرُوا الْحِكْمَةَ هُنَا بِالنُّبُوَّةِ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ تُفَسَّرَ بِالزَّبُورِ الَّذِي أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيْهِ،

كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا)(4: 163) وَبِهِ كَانَ نَبِيًّا، وَأَمَّا تَعْلِيمُهُ مِمَّا يَشَاءُ فَهُوَ صَنْعَةُ الدُّرُوعِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ:(وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ)(21: 80) .

ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى حِكْمَةَ الْإِذْنِ بِالْقِتَالِ الَّذِي قَرَّرَتْهُ الْآيَاتُ فَقَالَ: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) قَرَأَ نَافِعٌ ((دِفَاعُ اللهِ)) وَالْبَاقُونَ ((دَفْعُ اللهُ)) أَيْ: لَوْلَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَدْفَعُ أَهْلَ الْبَاطِلِ بِأَهْلِ الْحَقِّ، وَأَهْلَ الْفَسَادِ فِي

ص: 389

الْأَرْضِ بِأَهْلِ الْإِصْلَاحِ فِيهَا لَغَلَبَ أَهْلُ الْبَاطِلِ وَالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَبَغَوْا عَلَى الصَّالِحِينَ وَأَوْقَعُوا بِهِمْ حَتَّى يَكُونَ لَهُمُ السُّلْطَانُ وَحْدَهُمْ، فَتَفْسُدَ الْأَرْضُ بِفَسَادِهِمْ، فَكَانَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَى الْعَالَمَيْنِ وَإِحْسَانِهِ إِلَى النَّاسِ أَجْمَعِينَ أَنْ أَذِنَ لِأَهْلِ دِينِهِ الْحَقِّ الْمُصْلِحِينَ فِي الْأَرْضِ بِقِتَالِ الْمُفْسِدِينَ فِيهَا مِنَ الْكَافِرِينَ وَالْبُغَاةِ الْمُعْتَدِينَ، فَأَهْلُ الْحَقِّ حَرْبٌ لِأَهْلِ الْبَاطِلِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَاللهُ نَاصِرُهُمْ مَا نَصَرُوا الْحَقَّ وَأَرَادُوا الْإِصْلَاحَ فِي الْأَرْضِ، وَقَدْ سَمَّى هَذَا دَفْعًا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، إِذْ كَانَ سُنَّةً مِنْ سُنَنِهِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، وَسَمَّاهُ دِفَاعًا فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلًّا مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ الْمُصْلِحِينَ وَأَهْلِ الْبَاطِلِ الْمُفْسِدِينَ يُقَاوِمُ الْآخَرَ وَيُقَاتِلُهُ.

ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ إِيتَاءَ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْقِصَصِ مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ فَقَالَ: (تِلْكَ آيَاتُ اللهِ) يُشِيرُ إِلَى قِصَّةِ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَقِصَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّتِي بَعْدَهَا (نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ) فِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ مَا يَقُولُهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ مُخَالِفٌ لِهَذَا فَهُوَ بَاطِلٌ (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) إِذْ لَوْلَا الرِّسَالَةُ لَمَا عَرَفْتَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْقِصَصِ وَأَنْتَ لَمْ تَكُنْ فِي أَزْمِنَةِ وُقُوعِهَا وَلَا تَعَلَّمْتَ شَيْئًا مِنَ التَّارِيخِ، وَلَوْ تَعَلَّمْتَهُ لَجِئْتَ بِهَا عَلَى النَّحْوِ الَّذِي عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْقَصَّاصِينَ.

وَقَدْ قَرَّرَ تَعَالَى هَذِهِ الْحُجَّةَ عَلَى نُبُوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم فِي سُورَةِ الْقَصَصِ بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّةِ مُوسَى فِي مَدْيَنَ، وَذِكْرِ نُبُوَّتِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى

مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) (28: 44، 45) .

(السُّنَنُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ فِي الْقُرْآنِ وَالْأُمَمِ وَالِاسْتِقْلَالِ)

أَذْكُرُ مَا يَظْهَرُ لِي مِنَ السُّنَنِ وَالْأَحْكَامِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ فِي آيَاتِ هَذِهِ الْقِصَّةِ مُفَصَّلَةً مَعْدُودَةً لَعَلَّهَا تُوعَى وَتُحْفَظُ فَلَا تُنْسَى إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.

(السُّنَّةُ الْأُولَى) أَنَّ الْأُمَمَ إِذَا اعْتُدِيَ عَلَى اسْتِقْلَالِهَا وَأَوْقَعَ الْأَعْدَاءُ بِهَا فَهَضَمُوا حُقُوقَهَا تَتَنَبَّهُ مَشَاعِرُهَا لِدَفْعِ الضَّيْمِ وَتُفَكِّرُ فِي سَبِيلِهِ، فَتَعْلَمُ أَنَّهَا الْوَحْدَةُ الَّتِي يُمَثِّلُهَا الزَّعِيمُ الْعَادِلُ وَالْقَائِدُ الْبَاسِلُ، فَتَتَوَجَّهُ إِلَى طَلَبِهِ حَتَّى تَجِدَهُ كَمَا وَقَعَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ تَنْكِيلِ أَهْلِ فِلَسْطِينَ بِهِمْ.

(الثَّانِيَةُ) أَنَّ شُعُورَ الْأُمَّةِ بِوُجُوبِ حِفْظِ حُقُوقِهَا وَصِيَانَةِ اسْتِقْلَالِهَا إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَكَمَالِهِ فِي خَوَاصِّهَا، فَمَتَى كَثُرَ هَؤُلَاءِ الْخَوَاصُّ فِي أُمَّةٍ فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ الرَّئِيسَ الَّذِي يُمَلَّكُ عَلَيْهِمْ، كَمَا عَلِمْتَ مِنْ إِسْنَادِ طَلَبِ الْمُلْكِ إِلَى الْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُمْ شُيُوخُهُمْ وَأَهْلُ الْفَضْلِ فِيهِمْ.

ص: 390

(الثَّالِثَةُ) مَتَى عَظُمَ الشُّعُورُ فِي نُفُوسِ خَوَاصِّ الْأُمَّةِ بِوُجُوبِ حِفْظِ اسْتِقْلَالِهَا وَدَفْعِ ضَيْمِ الْأَعْدَاءِ عَنْهَا فَإِنَّهُ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَسْرِيَ إِلَى عَامَّتِهَا، فَيَظُنُّ النَّاقِصُ أَنَّ عِنْدَهُ مِنَ النَّعْرَةِ وَالْحَمِيَّةِ لِلْأُمَّةِ مَا عِنْدَ الْكَامِلِ، حَتَّى إِذَا خَرَجَتْ مِنْ طَوْرِ الْفِكْرِ وَالشُّعُورِ إِلَى طَوْرِ الْعَمَلِ وَالظُّهُورِ انْكَشَفَ عَجْزُ الْأَدْعِيَاءِ الْمُدَّعِينَ، وَلَمْ يَنْفَعْ إِلَّا صِدْقُ الصَّادِقِينَ، كَمَا عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:(فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)(2: 246) .

(الرَّابِعَةُ) أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْأُمَمِ الِاخْتِلَافَ فِي اخْتِيَارِ الرَّئِيسِ الَّذِي يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْهَا، وَالِاخْتِلَافُ مَدْعَاةُ التَّفَرُّقِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مُرَجِّحٌ يَقْبَلُهُ الْجُمْهُورُ مِنَ الْأُمَّةِ; لِذَلِكَ لَجَأَ الْمَلَأُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى نَبِيِّهِمْ وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَخْتَارَ لَهُمْ رَجُلًا يَكُونُ مَلِكًا عَلَيْهِمْ، وَقَدْ جَعَلَ الْإِسْلَامُ الْمُرَجِّحَ لِاخْتِيَارِ إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ مُبَايَعَةَ أُولِي الْأَمْرِ لِمَنْ يَخْتَارُونَهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَالْمَكَانَةِ فِي الْأُمَّةِ الَّذِينَ

هُمْ عَوْنُ السُّلْطَانِ وَقُوَّتُهُ بِاحْتِرَامِ الْأُمَّةِ لَهُمْ وَثِقَتِهَا بِهِمْ; وَلِذَلِكَ لَمْ يُنَصِّبِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِمَامًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي أَمْرِ الزَّعَامَةِ وَالْحُكْمِ، وَلَكِنِ اسْتَنْبَطَ بَعْضُ الْعُظَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ رِضَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِإِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ الدُّنْيَوِيَّةِ بِإِنَابَتِهِ عَنْهُ فِي الْإِمَامَةِ الدِّينِيَّةِ، وَهِيَ إِمَامَةُ الصَّلَاةِ، إِذْ أَمَرَ عِنْدَ مَا اشْتَدَّ مَرَضُهُ بِأَنْ يُصَلِّيَ أَبُو بَكْرٍ بِالنَّاسِ مَكَانَهُ، وَمَعَ هَذَا قَالَ عُمَرُ: إِنَّ بَيْعَةَ أَبِي بَكْرٍ كَانَتْ فَلْتَةً وَقَى اللهُ الْمُسْلِمِينَ شَرَّهَا. أَيْ إِنَّ الشُّورَى فِي انْتِخَابِهِ لَمْ تَكُنْ تَامَّةً، وَإِنَّمَا كَانَ هُوَ الَّذِي عَجَّلَ بِالْبَيْعَةِ خَوْفًا مِنْ عَاقِبَةِ طُولِ أَمَدِ الْخِلَافِ مَعَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى عَدَمِ دَفْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ نَصْبِ الْخَلِيفَةِ لَهُ، وَلَكِنَّ خِلَافَتَهُ وَإِمَامَتَهُ رضي الله عنه لَمْ تَثْبُتْ بِالْفِعْلِ إِلَّا بِمُبَايَعَةِ الْأُمَّةِ لَهُ.

(الْخَامِسَةُ) أَنَّ النَّاسَ لَا يَتَّفِقُونَ عَلَى التَّقْلِيدِ أَوِ الِاتِّبَاعِ فِيمَا يَرَوْنَهُ مُخَالِفًا لِمَصْلَحَتِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ ; وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى نَبِيِّهِمْ فِي جَعْلِ طَالُوتَ مَلِكًا عَلَيْهِمْ، وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا لَا يَنْهَضُ حُجَّةً إِلَّا فِي ظَنِّ الْمُنْكِرِينَ. وَمِنْ عَجِيبِ أَمْرِ النَّاسِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يَحْسَبُ أَنَّهُ يَعْرِفُ الصَّوَابَ فِي السِّيَاسَةِ وَنِظَامِ الِاجْتِمَاعِ فِي الْأُمَمِ وَالدُّوَلِ، فَلَا تَعْرِضُ مَسْأَلَةً عَلَى عَامِّيٍّ إِلَّا وَيُبْدِي فِيهَا رَأَيًا يُقِيمُ عَلَيْهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ هُوَ أَعْلَى مِنْ سَائِرِ الْعُلُومِ الَّتِي يَعْتَرِفُ الْجَاهِلُونَ بِهَا بِجَهْلِهِمْ، فَلَا يَحْكُمُونَ فِيهَا كَمَا يَحْكُمُونَ فِي عِلْمِ السِّيَاسَةِ وَالِاجْتِمَاعِ وَمَا يَعْقِلُهُ إِلَّا الْأَفْرَادُ مِنَ النَّاسِ، وَمِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّ عَامَّةَ الْمُسْلِمِينَ لِهَذَا الْعَهْدِ يَرَوْنَ أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى جَعْلِ الْخِلَافَةِ مُوَافِقَةً لِلْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي يَعْتَقِدُونَهَا مُخَالِفَةً لِمَصْلَحَتِهِمْ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَعُدُّ الدَّاعِيَ إِلَى ذَلِكَ عَدُوًّا لَهُمْ بَلْ لِلْإِسْلَامِ نَفْسِهِ.

ص: 391

(السَّادِسَةُ) أَنَّ الْأُمَمَ فِي طَوْرِ الْجَهْلِ تَرَى أَنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِالْمُلْكِ وَالزَّعَامَةِ أَصْحَابُ الثَّرْوَةِ الْوَاسِعَةِ كَمَا عُلِمَ مِنْ قَوْلِ الْمُنْكِرِينَ عَلَى مُلْكِ طَالُوتَ فِي تَأْيِيدِ إِنْكَارِهِمْ

(وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ) وَأَصْحَابُ الْأَنْسَابِ الشَّرِيفَةِ، كَمَا عُلِمَ مِمَّا فَسَّرَ بِهِ الْعُلَمَاءُ قَوْلَهُمْ لَهُ:(وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ) فَهَذَا الِاعْتِقَادُ مِنَ السُّنَنِ الْعَامَّةِ فِي الْأُمَمِ الْجَاهِلَةِ خَاصَّةً، فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي تَخْضَعُ لِأَصْحَابِ الْعَظَمَةِ الْوَهْمِيَّةِ، وَهِيَ الَّتِي لَيْسَتْ صِفَةً لِنَفْسِ صَاحِبِهَا كَالْمَالِ وَالِانْتِسَابِ إِلَى بَعْضِ الْعُظَمَاءِ فِي عُرْفِهِمْ، سَوَاءً كَانَتْ عَظَمَتُهُمْ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ. هَذَا مَوْضِعُ الْخَطَأِ فِي تَعْظِيمِ ذِي النَّسَبِ، وَيَشْتَدُّ خَطَرُهُ إِذَا صَارَ الْأَنْسَابُ يَسْتَعْلُونَ عَلَى النَّاسِ بِأَنْسَابِهِمْ دُونَ عُلُومِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَالْقُرْآنُ لَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ نَظَرٌ لَا مَحَلَّ هُنَا لِبَسْطِهِ، وَلَكِنْ نَقُولُ بِالْإِجْمَالِ: إِنَّ الِانْتِسَابَ إِلَى أَهْلِ الشَّرَفِ الْحَقِيقِيِّ، وَهُمْ أَصْحَابُ الْمَعَارِفِ الصَّحِيحَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ وَالنُّفُوسِ الْكَرِيمَةِ الْعَزِيزَةِ، لَهُ أَثَرٌ فِي النَّفْسِ عَظِيمٌ; فَإِنَّ سَلِيلَ الشُّرَفَاءِ جَدِيرٌ بِأَنْ يُحَافِظَ عَلَى كَرَامَةِ نَفْسِهِ فَلَا يُدَنِّسُهَا بِالْخِيَانَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَرِثَ شَيْئًا مِنْ فَضَائِلِهِمُ النَّفْسِيَّةِ فَيَكُونُ اسْتِعْدَادُهُ لِلْخَيْرِ أَعْظَمَ فِي الْغَالِبِ.

وَإِنَّكَ لِتَجِدُ الْأُمَمَ الرَّاقِيَةَ فِي الْعِلْمِ وَالِاجْتِمَاعِ تَخْتَارُ مُلُوكَهَا مِنْ سُلَالَةِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ وَتُحَافِظُ عَلَى قَوَانِينِ الْوِرَاثَةِ فِي ذَلِكَ، وَمَا ارْتَقَى عَنْ هَذَا إِلَّا أَصْحَابُ الْحُكُومَةِ الْجُمْهُورِيَّةِ.

وَقَدْ جَاءَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَسَطًا فَلَمْ يُغْفِلْ أَمْرَ النَّسَبِ بِالْمَرَّةِ لِئَلَّا تَتَّسِعَ دَائِرَةُ الْخِلَافِ بِطَمَعِ كُلِّ قَبِيلَةٍ فِي الْإِمَامَةِ الْكُبْرَى، وَلَمْ يَجْعَلِ الْأَمْرَ فِي بَيْتٍ مُعَيَّنٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْغَوَائِلِ، بَلْ جَعَلَهُ فِي قَبِيلَةٍ عَظِيمَةٍ كَثِيرَةِ الْعَدَدِ لَا تَخْلُو مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لِلْإِمَامَةِ - وَهِيَ مُحْتَرَمَةٌ فِي نَفْسِهَا - كَانَتْ مُحْتَرَمَةً فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، وَيُرْجَى أَنْ يَدُومَ احْتِرَامُهَا مَا دَامَ الْإِسْلَامُ الَّذِي أَتَمَّ اللهُ نِعْمَتَهُ عَلَى الْبَشَرِ بِجَعْلِ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ مِنْهَا أَلَا وَهِيَ قُرَيْشٌ. فَمِنَ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ أَنْ تَظَلَّ الرِّيَاسَةُ الْعُلْيَا لِلْأُمَّةِ مُرْتَبِطَةً بِتَارِيخِ مَاضِيهَا وَقَوْمِ مُؤَسِّسِهَا كَارْتِبَاطِ دِينِهَا بِوَطَنِهِ فِي عِبَادَتِهَا الشَّخْصِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ وَهُمَا الصَّلَاةُ وَالْحَجُّ.

(السَّابِعَةُ) أَنَّ الشُّرُوطَ الَّتِي تُعْتَبَرُ فِي اخْتِيَارِ الرَّجُلِ فِي الْمُلْكِ هِيَ مَا اسْتَفَدْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) الْآيَةَ، كَمَا تَقَدَّمَ.

(الثَّامِنَةُ) هِيَ مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ) كَمَا بَيَّنَاهُ مُعَزَّزًا بِالشَّوَاهِدِ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، عَلَى أَنَّ مَشِيئَتَهُ تَعَالَى إِنَّمَا تَنْفُذُ بِمُقْتَضَى سُنَنِهِ الْعَامَّةِ فِي

تَغْيِيرِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ

ص: 392

بِتَغْيِيرِهِمْ مَا فِي أَنْفُسِهِمْ، وَفِي سَلْبِ مُلْكِ الظَّالِمِينَ وَإِيرَاثِ الْأَرْضِ لِلصَّالِحِينَ، وَتَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالِهَا مُشَاهَدٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَأَيْنَ الْمُبْصِرُونَ؟ ! (أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ) (21: 44) أَوْ لَمْ يَسْمَعُوا دَعْوَةَ الْأَنْبِيَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ)(26: 150 - 152) أَيَظُنُّ الْمُسْلِمُ الْغَافِلُ أَنَّ مَشِيئَةَ اللهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: (قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ)(3: 26) هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ مُخَالَفَةِ سُنَنِهِ الَّتِي بَيَّنَتْهَا الْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِمَّا لَمْ نَذْكُرْهُ؟ بَلْ أَقُولُ وَلَا أَخْشَى فِي الْحَقِّ لَوْمَةَ لَائِمٍ: أَيَظُنُّ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ تَنَازُعَ الْأُمَمِ وَالدُّوَلِ عَلَى مَمَالِكِهِمْ وَسَلْبِهَا مِنْ أَيْدِيهِمْ مُخَالِفٌ لِعَدْلِ اللهِ الْعَامِّ وَسُنَنِهِ الْحَكِيمَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ؟ كَلَّا إِنَّهُ تَعَالَى مَا فَرَّطَ فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ، وَلَكِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ فَرَّطُوا فَذَاقُوا جَزَاءَ تَفْرِيطِهِمْ، فَإِنْ تَابُوا وَأَصْلَحُوا تَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَإِلَّا فَقَدَ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ.

(التَّاسِعَةُ) أَنَّ طَاعَةَ الْجُنُودِ لِلْقَائِدِ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ شَرْطٌ فِي الظَّفْرِ وَاسْتِقَامَةِ الْأَمْرِ، وَقَوَانِينُ الْجُنْدِيَّةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى طَاعَةِ الْجَيْشِ لِقُوَّادِهِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ وَالْمَعْقُولِ وَغَيْرِ الْمَعْقُولِ، فَإِذَا أَمَرَ الْقَائِدُ بِتَسْلِيمِ الدِّيَارِ أَوِ الْأَمْوَالِ أَوِ الْأَنْفُسِ لِلْأَعْدَاءِ وَجَبَ تَسْلِيمُهَا فِي قَانُونِ كُلِّ دَوْلَةٍ، نَعَمْ; إِنَّهُمْ قَرَنُوا بِهَذَا الْحَقِّ لِلْقَائِدِ إِيجَابَهُمْ عَلَيْهِ أَنْ يُبْرِمَ الْأُمُورَ بِاسْتِشَارَةِ أَهْلِ الرَّأْيِ فِي الْفُنُونِ الْعَسْكَرِيَّةِ، وَهُمُ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمْ أَرْكَانَ الْحَرْبِ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ وَرَئِيسَهُمُ مُقَيَّدُونَ بِدُسْتُورِ الدَّوْلَةِ الْعَامِّ، وَبِمُوَافَقَةِ مَجْلِسِ نُوَّابِ الْأُمَّةِ عَلَى مَا نَصَّ الدُّسْتُورُ عَلَى وُجُوبِ مُوَافَقَتِهِمْ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ يُحَاكَمُ وَيُعَاقَبُ.

(الْعَاشِرَةُ) أَنَّ الْفِئَةَ الْقَلِيلَةَ قَدْ تَغْلِبُ - بِالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ وَطَاعَةِ الْقُوَّادِ - الْفِئَةَ الْكَثِيرَةَ الَّتِي أَعْوَزَهَا الصَّبْرُ وَالِاتِّحَادُ، مَعَ طَاعَةِ الْقُوَّادِ; لِأَنَّ نَصْرَ اللهِ مَعَ الصَّابِرِينَ; أَيْ جَرَتْ سُنَّتُهُ بِأَنْ يَكُونَ النَّصْرُ أَثَرًا لِلثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ، وَأَنَّ أَهْلَ الْجَزَعِ وَالْجُبْنِ هُمْ أَعْوَانٌ لِعَدُوِّهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَهَذَا مُشَاهَدٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَهُوَ كَثِيرٌ لَا مُطَّرِدٌ كَمَا جَاءَ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.

(الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ) أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللهِ تَعَالَى وَالتَّصْدِيقَ بِلِقَائِهِ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ فِي مَوَاقِفِ الْجِلَادِ; فَإِنَّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِأَنَّ لَهُ إِلَهًا غَالِبًا عَلَى أَمْرِهِ يَمُدُّهُ بِمَعُونَتِهِ الْإِلَهِيَّةِ كَمَا أَمَدَّهُ بِالْقُوَى الرُّوحِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ، فَإِذَا ظَفَرَ بِإِذْنِهِ كَانَ مُصْلِحًا فِي الْأَرْضِ مُسْتَعْمِرًا فِيهَا، وَإِذَا قَبَضَهُ إِلَيْهِ بِانْتِهَاءِ أَجَلِهِ الْمُسَمَّى كَانَ فِي رَحْمَتِهِ نَاعِمًا فِيهَا، لَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَسْتَخِفَّ بِالْأَهْوَالِ، وَيَثْبُتَ فِي الْقِتَالِ ثَبَاتَ الْأَجْبَالِ، وَقَدْ وَافَقْنَا كِتَابَ الْإِفْرِنْجِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَصَرَّحُوا بِأَنَّ مِنْ أَسْبَابِ ثَبَاتِ الْبُوَيْرِ وَبَلَائِهِمْ فِي حَرْبِهِمْ لِلْإِنْجِلِيزِ كَوْنَهُمْ أَقْوَى إِيمَانًا وَأَرْسُخَ عَقِيدَةً، وَجَمِيعُ

ص: 393

الْأُمَمِ تَشْهَدُ بِأَنَّ الْجَيْشَ الْعُثْمَانِيَّ أَثْبَتُ جُيُوشِ الْعَالَمِ وَأَصْبَرَهُ وَأَشْجَعَهُ. وَقَدْ تَمَنَّى قَائِدٌ أَلْمَانِيٌّ يُعَدُّ مِنْ أَشْهَرِ قُوَّادِ الْأَرْضِ لَوْ أَنَّ لَهُ مِائَةَ أَلْفٍ مِنْ هَذَا الْجَيْشِ لِيَمْلِكَ بِهَا الْعَالَمَ، ذَلِكَ بِأَنَّهُ جَيْشٌ يُؤْمِنُ بِلِقَاءِ اللهِ تَعَالَى إِيمَانًا قَوِيًّا يَقِلُّ فِي قُوَّادِهِ مَنْ يُسَاوِيهِ فِيهِ.

(الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ) أَنَّ التَّوَجُّهَ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِالدُّعَاءِ مُفِيدٌ فِي الْقِتَالِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ) إِذْ عَطَفَهَا بِالْفَاءِ عَلَى آيَةِ الدُّعَاءِ، وَذَلِكَ مَعْقُولُ الْمَعْنَى; فَإِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ آيَةُ ذَلِكَ الْإِيمَانِ الَّذِي بَيَّنَّا فَائِدَتَهُ آنِفًا; وَلِذَلِكَ قَالَ عز وجل فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ:(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(8: 45) فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهَا فِي الْجُزْءِ الْعَاشِرِ.

(الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ) دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ مِنَ السُّنَنِ الْعَامَّةِ، وَهُوَ مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ عُلَمَاءُ الْحِكْمَةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِتَنَازُعِ الْبَقَاءِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْحَرْبَ طَبِيعِيَّةٌ فِي الْبَشَرِ; لِأَنَّهَا مِنْ فُرُوعِ سُنَّةِ تَنَازُعِ الْبَقَاءِ الْعَامَّةِ. وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ لَيْسَ نَصًّا فِيمَا يَكُونُ بِالْحَرْبِ وَالْقِتَالِ

خَاصَّةً، بَلْ هُوَ عَامٌّ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّنَازُعِ بَيْنَ النَّاسِ الَّذِي يَقْتَضِي الْمُدَافَعَةَ وَالْمُغَالَبَةَ. وَيَظُنُّ بَعْضُ الْمُتَطَفِّلِينَ عَلَى عِلْمِ السُّنَنِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ أَنَّ تَنَازُعَ الْبَقَاءِ الَّذِي يَقُولُونَ إِنَّهُ سُنَّةٌ عَامَّةٌ هُوَ مِنْ أَثَرَةِ الْمَادِّيِّينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَأَنَّهُ جَوْرٌ وَظُلْمٌ، هُمُ الْوَاضِعُونَ لَهُ وَالْحَاكِمُونَ بِهِ، وَأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِهَدْيِ الدِّينِ، وَلَوْ عَرَفَ مَنْ يَقُولُونَ هَذَا مَعْنَى الْإِنْسَانِ أَوْ لَوْ عَرَفُوا أَنْفُسَهُمْ، أَوْ لَوْ فَهِمُوا هَذِهِ الْآيَةَ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ سُورَةِ الْحَجِّ لَمَا قَالُوا مَا قَالُوا.

(الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ) قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) يُؤَيِّدُ السُّنَّةَ الَّتِي يُعَبِّرُ عَنْهَا عُلَمَاءُ الِاجْتِمَاعِ بِالِانْتِخَابِ الطَّبِيعِيِّ أَوْ بَقَاءِ الْأَمْثَلِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ جَعْلُ هَذَا مِنْ لَوَازِمِ مَا قَبْلَهُ; فَإِنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ مَا فُطِرَ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ مُدَافَعَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عَنِ الْحَقِّ وَالْمَصْلَحَةِ هُوَ الْمَانِعُ مِنْ فَسَادِ الْأَرْضِ، أَيْ: هُوَ سَبَبُ بَقَاءِ الْحَقِّ وَبَقَاءِ الصَّلَاحِ. وَيُعَزِّزُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي بَيَانِ حِكْمَةِ الْإِذْنِ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْقِتَالِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)

ص: 394

(22: 39 - 41) فَهَذَا إِرْشَادٌ إِلَى تَنَازُعِ الْبَقَاءِ وَالدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ، وَأَنَّهُ يَنْتَهِي بِبَقَاءِ الْأَمْثَلِ وَحِفْظِ الْأَفْضَلِ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مِنَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرَّعْدِ: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ)(13: 17) فَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ سُيُولَ الْحَوَادِثِ وَنِيرَانَ التَّنَازُعِ تَقْذِفُ زَبَدَ الْبَاطِلِ الضَّارَّ فِي الِاجْتِمَاعِ وَتَدْفَعُهُ، وَتُبْقِي إِبْلِيزَ الْحَقِّ النَّافِعَ الَّذِي يَنْمُو فِيهِ

الْعُمْرَانُ، وَإِبْرِيزَ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي يَتَحَلَّى بِهَا الْإِنْسَانُ، وَهُنَاكَ آيَاتٌ أُخْرَى فِي أَنَّ الْحَقَّ يُزْهِقُ الْبَاطِلَ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ وَدَفْعُ الشُّبَهِ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِهَا إِنْ أَمْهَلَنَا الزَّمَانُ، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ. اهـ.

ص: 395