المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تفسير قوله تعالى: (فآمن له لوط) - تفسير المنتصر الكتاني - جـ ١٦٣

[محمدالمنتصر الكتاني]

الفصل: ‌تفسير قوله تعالى: (فآمن له لوط)

‌تفسير قوله تعالى: (فآمن له لوط)

قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت:26].

وبعد هذه المدة الطويلة، وما لقي إبراهيم من عنت قومه، وقذفه في النار لم يؤمنوا له حتى الأقارب إلا لوط عليه السلام وزوجته ابنة عمه سارة، وكان لوط ابن أخيه قد آمن بنبوته ورسالته، وعندما آمن قال:{إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت:26]، أي: سأهجر دار الكفر التي يسكنها الظالمون وأهاجر إلى حيث أعبد الله حراً كما شئت وكما يأمرني ربي دون أن أجد معترضاً أو مانعاً أو متسلطاً قهاراً جباراً.

قوله: (فآمن له لوط) أي: آمن به، ومعنى: آمن له، أي: صدقه وقبل رسالته فعبد الله وحده، ونبذ الأوثان والأصنام، وبعد إيمانه قال:{إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت:26].

وقد اختلف في قائل ذلك، فقال بعضهم: الذي قال ذلك هو إبراهيم، والكلام لا يزال عن إبراهيم ولم ينته بعد.

وقال قوم: الضمير يرجع إلى أقرب مذكور كما هي قواعد لغة العرب التي نزل بها القرآن، والذي ذكر قبل ذلك بقرب هو لوط في قوله:{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ُ} [العنكبوت:26].

وسواء قلنا إن المهاجر هو لوط أو قلنا: إبراهيم، فقد هاجر إبراهيم وهاجر لوط، فهاجر إبراهيم إلى الشام، وهاجر معه ابن أخيه لوط إلى الشام، ثم استقل لوط بالهجرة إلى إقليم سدوم من أرض الشام، وهي اليوم أرض الغور في الأردن.

والهجرة إلى الله لا تنقطع إلى يوم القيامة كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام، وأما قوله لمن حاول أن يهاجر من مكة إلى المدينة بعد أن صارت مكة دار إسلام وفتحتها كلمة التوحيد:(لا هجرة بعد الفتح) فإن الكلام مقيد، وقواعد الأصول تقول: إن الكلام إذا قيد بقيد فروح الكلام هو ذلك القيد، وإليه يتوجه النفي والإثبات، فقوله:(لا هجرة بعد الفتح) الفتح هنا هو الفتح المعهود للسامع وهو فتح مكة، فالألف واللام في قوله: الفتح، للعهد الذهني الموجود في ذهن الطالب للهجرة وفي أذهان الحاضرين السامعين لذلك، فقال لأهل مكة:(لا هجرة بعد الفتح) أي: فقد أصبحت مكة دار إسلام فلا حاجة للهجرة منها؛ لأن الهجرة تكون من دار الكفر أو دار الفسق إلى دار الإيمان والتقوى والصلاح، وأما الهجرة من دار إيمان إلى دار إيمان بلا سبب فلا داعي لها ولا مرغب فيها.

ويسنثنى من ذلك إذا كان هناك سبب؛ كالهجرة لمكة المكرمة مثلاً رجاء الأجر في أن تكون الصلاة بمائة ألف صلاة، أو كالهجرة إلى المدينة المنورة رجاء أن تكون الصلاة بخمسين ألف صلاة، أو كالهجرة إلى القدس -وهي دار إسلام وأنوف اليهود وأنصارهم في الرغام- رجاء أن تكون الصلاة بخمسمائة صلاة، وهذا هو معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام:(لا تنقطع الهجرة إلى يوم القيامة).

والمعنى: إذا كانت دار الإسلام فالأندلس مثلاً عاشت مسلمة 800 عام، ثم انقلبت إلى الكفر والتنصير -أعادها الله للمسلمين- فإن بقي فيهم مسلم يجب عليه الهجرة منها.

كذلك الهجرة من دار الفاسقين، فقد تكون البلد بلد إسلام ولكن الحكام أصبحوا يتحاكمون بأحكام اليهود والنصارى ويتأدبون بآدابهم، وانتشر الفسق والدعارة علناً، وتكشفت الأعراض وتعرت النساء، وشربت الخمور، وانتشرت الفواحش بكل أنواعها وألوانها، فإن وجدت داراً وأرضاً ليس فيها ذلك، وهي أقرب للإيمان والطاعة فيستحسن بالمؤمن الهجرة إليها إن استطاع فراراً بدينه، وحفاظاً على دين أهله وأولاده، وأسوته في ذلك لوط وإبراهيم، وأصلهما معاً من ضواحي الكوفة، ولم تكن الكوفة إذ ذاك ولكن أرضها وبقعتها في أرض العراق، فأرسل إبراهيم إلى العراق وكان معه لوط في العراق أيضاً، وهم أبناء أسرة واحدة في مدينة الكوفة، ومكانها اليوم، ولا تزال تسمى بهذا الاسم، وهي أشبه بقرية منها بمدينة لها مقامها وسلطانها، فلما كانت الدار لا تزال دار كفر، ولا يزال النمرود سلطاناً عليها هاجر منها إبراهيم إلى الشام ومعه لوط، إلا أن لوطاً هاجر على حدة وهاجر إبراهيم على حدة، وكان مهاجر لوط أرض سدوم من أرض فلسطين في أرض الغور فيما يسمى اليوم بالبحر الميت، وكانت تسمى في التاريخ بالبحيرة المنتنة.

وذكر الهجرة من بلاد الكفر هنا يفيد أنها ستبقى مشروعة لكل المؤمنين، وأن هجران المؤمن بلاد الكفار أو بلاد الفاسقين ماض إلى يوم القيامة، ولكل إنسان نيته، وإنما الأعمال بالنيات.

قوله: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت:26].

إن ربي هو العزيز يعز من يشاء ويذل من يشاء، إنما العزة لله ولرسوله وللمؤمنين وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ.

ترك لوط وإبراهيم أرض الكفر والشرك في العراق طلباً لعزة التوحيد والإسلام والطاعة، ورغبة في عزة عبادة الله في حرية من غير مضايقة من حاكم ولا محكوم؛ ولذلك ختمت الآية بذكر العزة وبكون الله هو العزيز الحكيم، فهو العزيز الذي لا يقاوم وما من عزة إلا منه وإليه، إذ العزة لله، وهو الحكيم الذي يضع الأمور مواضعها أمراً ونهياً، فهو الحكيم في أفعاله، وفي أوامره، وفي نواهيه، وفي عقابه، وفي رحمته ومغفرته.

ص: 6