الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
بين يدي الكتاب
الحمد لله رافع منازل المتمسكين بالذكر المبين، وهادي المؤمنين المتقين، الذين يتلونه آناء الليل وأطراف النهار، ويتدبرون آياته للعمل والموعظة والادّكار، تكفل سبحانه بحفظه؛ فلم يغير صفاءه كدر التحريف، ولم تحم حوله أخطاء التصحيف، فنحن نقرؤه اليوم كما نزل به الروح الأمين على قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
والصلاة والسلام الأتمان الأدومان الأكملان على من أرسله الله تعالى رحمة للعالمين، وسراجا منيرا للمخبتين، وعلى آله الطهر الميامين، وصحابته أجمعين.
أما بعد:
فقد أرسل المولى سبحانه رسوله بالهدى ودين الحق، وأنزل عليه القرآن مصدقا لما بين يديه من الكتاب، ليدّبّروا آياته وليتذكر أولو الألباب، كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، فهو المعجزة الخالدة الذي فاق كل بيان، وأخرس كل لسان، وأبهر أهل الفصاحة من قحطان وعدنان، بل تحدّى الجن والإنس أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، فكان المعجزة الدائمة، والبرهان الصادق، على ما أتى به رسوله من حقائق.
دامت لدينا ففاقت كل معجزة
…
عن النبيين إذ جاءت ولم تدم
من اتبع هداه .. فقد فاز برضاه، وكانت الجنة مأواه، وأما من خالفه وأباه .. فقد اتخذ إلهه هواه، لا يزيغ عنه إلا هالك، ولا يجحده إلا مكابر.
هذا؛ ولقد نزل القرآن الكريم بلغة العرب، وعلى نهج أساليبهم في الكلام، كما قال سبحانه:{وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} .
وكان الصحابة يفهمونه في جملته، ويعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، وكانوا يرجعون إلى المأمور بالبيان صلى الله عليه وسلم، لمعرفة التفاصيل والدقائق.
واشتهر عدد كبير من الصحابة بالتفسير، كالخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، وأبيّ بن كعب، وغيرهم، فكانت مصادرهم القرآن نفسه؛ لأن كثيرا من آياته يفسر بعضها بعضا، وما أجمل في موضع .. قد يأتي تفصيله في مواضع أخرى، حتى إن بعض المفسرين ألّفوا كتبا خاصة في تفسير القرآن بالقرآن.
المصدر الثاني لتفسيرهم هو السنة النبوية، وهذا ما يطلق عليه التفسير بالسنة.
هذا؛ بالإضافة إلى لغتهم التي نزل بها القرآن، وقد كانوا من خلّص العرب، وهم أقعد بمعرفة اللغة ومناحيها وأساليبها، وعندهم ديوان العرب، الشعر الذي كانوا يستجلون منه غريب القرآن، وطرق الأساليب، وكانوا معتمدين في ذلك على الرواية في حفظها وتبليغها، وحين بدأ المسلمون بتدوين علومهم ولا سيما علم الحديث .. كان مندرجا ضمن السنة، ثم انفصل تدريجيا عنها.
وبدأت المرحلة الأولى للتأليف المستقل في تفسير القرآن العظيم، وقد
تمثلت في التأليف في غريب القرآن، التي اقتصرت فيه هذه المرحلة على تفسير الكلمات الغريبة التي تحتاج إلى بيان، وذلك ككتب الرؤاسي (ت 170 هـ)، والكسائي (ت 189 هـ)، والفرّاء (ت 207 هـ).
ثم تلا ذلك المرحلة الثانية: وهي التفسير الكامل للقرآن الكريم، كتفاسير «ابن ماجه» (ت 273 هـ)، و «ابن جرير الطبري» (ت 310 هـ)، و «ابن المنذر» (ت 318 هـ)، و «ابن أبي حاتم» (ت 327 هـ)، فكانت هذه المؤلفات جامعة لتفسير الغريب، وما ورد من الآثار في معنى الآيات، وأسباب نزولها من الأحاديث وأقوال الصحابة والتابعين، وهذا ما يطلقون عليه: التفسير بالمأثور.
ولذا نجد هؤلاء يعتمدون في النقل على الأسانيد، وربما يذكرون عدة آراء في معنى الآية الواحدة، حتى صح أن يطلق على هذه التفاسير:
التفاسير الموسوعية، كتفسير ابن جرير الطبري. المسمى «جامع البيان» ، وهو مطبوع متداول، وقد حقق نحو نصفه العلّامة المحدث أحمد محمد شاكر، إلا أن المنية اخترمته قبل أن يتمه وأتمه أخوه العلامة محمود محمد شاكر رحمه الله وطبع في دار المعارف بمصر.
ثم تدرج التفسير في سلم التوسع، فدونت في أثناء التفسير العلوم العقلية أيضا، وكان من الطبعي أن يتضخم وتتسع أطرافه، لشحنه بالمعارف العامة والعلوم المتنوعة والآراء، بل والعقائد أيضا، فقد امتزج التفسير بذلك كله، وكثير من البارعين في فنون معينة من علوم اللغة وغيرها فسروا القرآن من زاوية تخصصهم؛ لأن عندهم من الملكات العلمية في تلك المجالات ما يستطيعون أن يبدعوا ويفيدوا، وبهذا تعددت الاتجاهات للمفسرين.
- فمنهم من عني بالتفسير اللغوي وما يتصل به، فكثر في منهجه التخريجات الإعرابية، والوجوه النحوية، وأكثر من الشواهد نظما ونثرا، ومنهم الزجاج، والواحدي في «البسيط» ، وأبو حيان في «البحر المحيط» .
- ومنهم من اتجه في تفسيره إلى مقارعة الفلاسفة، وذكر شبههم والرد عليها، والتوسع في هذا الميدان، كالفخر الرازي في تفسيره «مفاتيح الغيب» .
- ومنهم من عني باستنباط الأحكام الشرعية، وإيراد الفروع الفقهية، كل وفق مذهبه، مع الرد على من خالفه من أصحاب المذاهب الأخرى، كما فعل الجصاص الحنفي في «أحكام القرآن» ، والقرطبي المالكي في تفسيره «الجامع لأحكام القرآن» (1).
- وهناك تفاسير أخرى لها اتجاهات أخرى، إما عقائدية ك «تفسير القاضي عبد الجبار» و «الزمخشري» ، أو تاريخية عني مؤلفوها كثيرا بالقصص وأخبار الأمم السالفة، ك «تفسير الثعلبي» و «الخازن» .
والخلاصة: أن القرآن العظيم لا زال علماء الدين وغيرهم يغترفون من مناهله الروية، ويستنبطون من نصوصه الإلهية، فيواكب كل مصر، ويتلاءم مع كل عصر، ويهتدون منه إلى ما يقيم الحجة على أهل الزيغ والعناد، وما يثبت أنه منزل من رب العباد.
وقد قام العلماء الأجلة في العصر الحديث بجهودهم في هذا الميدان، فكتبوا فيه تأسيا بالسلف، فتراهم بين مؤلف جامع لأشتات التفاسير وبين مهذب لمطولاتها، ومنقح لما ورد من الإسرائيليات والحشو فيها، فبعضهم كانت غايته التبسيط والتهذيب والبيان، وبعضهم زاد فأفاد وألف فأجاد،
(1) انظر بتوسع أكثر في مقدمة «تفسير ابن كثير» (1/ 16 - 18) ط دار المعرفة بيروت.
فترى المكتبة الإسلامية الحديثة قد حوت أصنافا من المؤلفات المعاصرة في التفسير، منها على سبيل التذكير لا الحصر:«تفسير الشيخ طنطاوي جوهري» ، «تفسير الشيخ محمد متولي الشعراوي» ، «التفسير المنير» للدكتور الزحيلي، «صفوة التفاسير» للدكتور الصابوني، «تفسير آيات الأحكام» للدكتور السايس، «إعراب القرآن الكريم» لمحيي الدين درويش، وغيرها الكثير الكثير.
هذا؛ وإن من أجل كتب التفسير المعاصرة، وأوسعها وأنفسها كتاب «حدائق الروح والريحان» فإنه جمع فيه ما تفرق في غيره، وأوعب فأحسن، وانتقى فوفّق وأجمل؛ فقد ضمن هذا التفسير من الفرائد والفوائد، والعلوم واللطائف والنفائس المستجادات، ما تقر به أعين أهل العلم، وتقيده أفكار المستفيدين من تفسير الكتاب المبين، فإن هذا التفسير أكبر دليل للمقولة الشائعة:(كم ترك الأول للآخر) فقد جمع فأوعى، وبسط القول فشفى، وبحث فاستوفى، وأدنى عويص المسائل؛ فإذا هي على طرف الثمام، وقرّب ما كان بعيد المنال؛ فإذا هو داني الجنى، وجمع شتيت المعارف، فنظمها في سلك واحد، واصطفى من الآراء أرجحها، ومن الأقوال أقواها، وأرسل أشعة البيان في كافة مناحي التفسير، فحشدها في صعيد واحد، وضم شمل المتفرق، في أسلوب الراسخ المحقق، وطريقة العلم المدقق.
والعلماء على اختلاف مشاربهم وتخصصاتهم سيجدون في هذا التفسير ما ينشدونه من علم، وما يميلون إليه من فن، الكلّ سيجد فيه بغيته، وسيرتوي من منهله الروي، ويقطف من ثمره الشهي، فهو تفسير يغني عن غيره، ولا يغني عنه غيره، إلا أن غيره من روافده.
- فمن كان يبحث عن تفسير آية بالمأثور، ويريد الوقوف على أقوال الصحابة والتابعين فيها .. فسيصادف مطلبه، إضافة إلى التفسير العام.
- ومن كان همه معرفة النواحي اللغوية، والوقوف على الوجوه النحوية، أو الإعراب التفصيلي .. فإن هذا التفسير من خير ما يعرض هذه المباحث.
- ومن كان مغرما بالبلاغة القرآنية، وإعجازه البياني .. فإن هذا التفسير قد جعل من منهجه التحدث عن هذا الفن بعد كل مجموعة من الآيات.
- ومن كان منقّبا عن القراءات ووجوهها، محاولا الإحاطة بها وبمن قرأ بها .. فإن هذا المبحث من جملة الفنون التي اعتنى بها هذا التفسير.
- ومن يريد التفقه في الدين، واستنباط الأحكام الشرعية من النصوص القرآنية، ومعرفة آراء الأئمة الفقهاء في ذلك .. فعليه أن يتصفح هذا الكتاب الجليل.
وهكذا .. نجد أن بروز مثل هذا الكتاب في عالمنا المعاصر يختصر لنا الطريق، ويمهد لنا لمعرفة كثير من الفنون، دون الحاجة إلى الرجوع إلى عدة مصادر قديمة يحتاج البحث فيها إلى جهد ووقت، وما أضيق أوقات المعاصرين.
وفي الختام: أتقدم بالشكر إلى اللجنة التي قامت بتصحيح ومراجعة الطبعة الأولى لهذا التفسير، والتي تشرفت برئاستها
ومتابعة أمورها، فلله الحمد والمنة.
وقد أكرمنا الله سبحانه وتعالى بأخذ إجازة من المؤلف متع الله بحياته في جميع مروياته وعلومه، وقد أشار علينا المؤلف بأن نكون أول من يتدارس هذا التفسير مع طلبة العلم، فجزاه الله خير الجزاء.
ويسرنا أن نبشر القراء بأنه قريبا سيصدر للمؤلف متع الله بحياته شرح واف ل «صحيح الإمام مسلم» في ستة عشر مجلدا، والمسمى «الكوكب الوهاج والروض البهاج على صحيح مسلم بن الحجاج» .
نسأل الله أن ينفع بالمؤلف وعلومه، وأن يجعلنا خداما لكتابه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يكتب الأجر والثواب لكل من ساهم ويساهم في إخراج وتحقيق ونشر التراث الإسلامي الخالد بحاله ومقاله وماله، فلله الحمد والمنة، والصلاة والسلام على صاحب القرآن والسنة، وعلى آله وصحبه والوارثين للعلم والحكمة.
وكتبه أ. د. هاشم محمد علي مهدي مستشار الدراسات والبحوث برابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة في العشر الأواخر من رمضان سنة (1425 هـ)