الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وسبب هذا أن العباد مُقصرون عن القيام بحقوق الله كما ينبغي، وأدائها عَلَى الوجه اللائق بجلاله وعظمته، وإنما يؤدونها عَلَى قدر ما يطيقونه، فالعارف يعرف أن قدر الحق أعلى وأجلُّ من ذلك فهو يستحي من عمله ويستغفر من تقصيره فيه كما يستغفر غيره من ذنوبه وغفلاته، وكلما كان الشخصُ بالله أعرف كان له أخوف، وبرؤية تقصيره أبصر. ولهذا كان خاتم المرسلين وأعرفُهم برب العالمين صلى الله عليه وسلم يجتهد في الثناء عَلَى ربه، ثُمَّ يقول في آخر ثنائه:"لا أحصي ثناء عليك أنت، كما أثينت عَلَى نفسك"(1).
ومن هذا قول مالك بن دينار: لقد هممتُ أن أوصي إذا متُّ أن أقيد، ثُمَّ يُنطلقُ بي كما ينطلق بالعبد الآبق إِلَى سيده، فَإِذَا سألني قلت: يا رب، لم أرض لك نفسي طرفةَ عين.
وكان كهمس يصلي كل يوم ألف ركعة، فَإِذَا صلى أخذ بلحيته، ثُمّ يقول لنفسه: قومي يا مأوى كل سوء، فوالله ما رضيتُك لله طرفة عين.
فائدة:
الاستغفارُ يردُ مجردًا، ويردُ مقرونًا بالتوبة، فإن ورد مجردًا دخل فيه طلب وقاية شر الذنب الماضي بالدعاء، والندم عليه، وقاية الذنب المتوقع بالعزم عَلَى الإقلاع عنه.
وهذا الاستغفار الَّذِي يمنعُ الإصرار بقوله: «مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَلَوْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةٍ» (2). وبقوله: "لا صغيرةَ مع الإصرارِ، ولا كبيرةَ مع الاستغفار"(3) خرَّجهما ابن أبي الدُّنْيَا.
(1) أخرجه أبو داود (879)، والنسائي (169)، وابن ماجه (3841)، وأحمد (6/ 21).
(2)
أخرجه أبو داود (1514)، والترمذي (3559).
(3)
أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب"(853).
وكذا في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (1)، وفي "الصحيح" (2): "إذ أذنب عبدٌ ذنبًا
…
" الحديث.
وهو المانع من العقوبة في قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (3)، وإن ورد مقرونًا بالتوبة اختص بالنوع الأول، فإن لم يصحبه الندم عَلَى الذنب الماضي، بل كان سؤالاً مجردًا فهو دعاء محض، أن صحبه ندمٌ فهو توبةٌ.
والعزمُ عَلَى الإقلاع من تمام التوبة، والتوبة إذا قُبلت فهل تقبل جزمًا أم ظاهرًا؛ فيه خلاف معروف.
فيقال: الاستغفار المجرد هو التوبة مع طلب المغفرة بالدعاء، والمقرون بالتوبة هو طلب المغفرة بالدعاء فقط.
وكذلك التوبة إِن أطلقت دخلَ فيها الانتهاء عن المحظور، وفعل المأمور؛ ولهذا علق الفلاح عليها، وجعل من لم يتب ظالمًا. فالتوبة حينئذٍ تشمل فعل كل مأمور، وترك كل محظور، ولهذا كانت بداية العبد ونهايته، وهي حقيقة دين الإسلام.
وتارة تُقرنُ بالتقوى، أو بالعمل فتختص حينئذ بترك المحظور، والله أعلم.
وفي فضائل الاستغفار أحاديث كثيرة منها:
حديث: "جلاء القلوب تلاوةُ القرآن والاستغفار"(4).
(1) آل عمران: 135.
(2)
أخرجه البخاري (7507)، ومسلم (2758).
(3)
الأنفال: 33.
(4)
أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(8/ 197)، والخطيب في "التاريخ" (11/ 85) عن ابن عمر مرفوعًا بلفظ:"إِنَّ هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد. قالوا: يا رسول الله، فما جلاؤها؟ قال: قراءة "القرآن".
وأخرجه ابن عدي في "الكامل"(7/ 29) عن أنس مرفوعًا بلفظ: "إِنَّ للقلوب صدأ كصدأ الحديد وجلاؤها الاستغفار".
وحديث. "فإن تاب واستغفرَ ونَزَعَ صقلَ قلبُهُ"(1)
وحديث: "يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، وَلَا أُبَالِي"(2).
وحديث ابن عمر: "كُنَّا نَعُدُّ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فِي الْمَجْلِسِ الوَاحِدِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ، إنَّك أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ مِائَةَ مَرَّةٍ"(3).
وحديث أبي هريرة مرفوعًا: «إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ» خرَّجه البخاري (4).
ومن حديثه مرفوعًا: «لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» خرَّجه مسلم (5).
وفي "المسند"(6) من حديث عطية، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ قَالَ حِينَ يَأْوِي إِلَى فِرَاشِهِ؛ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيَّ القَيُّومَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، غَفَرَ {اللَّهُ} (7) لَهُ ذُنُوبَهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ رَمْلِ عَالِجٍ (8)، وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ وَرَقِ الشَّجَرِ".
وحديث: "مَنِ أكْثَرَ مِنَ الاسْتِغْفَارِ جَعَلَ اللهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا" خَرَّجَهُ
(1) أخرجه الترمذي (3334) وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي في "الكبرى"(6/ 110) وابن ماجه (4244)، وأحمد (2/ 297).
(2)
أخرجه الترمذي (3540). وقال: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
(3)
أخرجه أبو داود (1516)، والترمذي (3434)، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.
والنسائي في "الكبرى"(10251/ 5)، وابن ماجه (3814)، وأحمد (1/ 21).
(4)
برقم (6307).
(5)
برقم (2749).
(6)
أخرجه أحمد (3/ 10)، والترمذي (3397)، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث الوصافي عبيد الله بن الوليد.
(7)
سقط لفظ الجلالة من "الأصل"، "أ". والمثبت من "المسند".
(8)
هو ما تراكم من الرمل ودخل بعضه في بعض. "لسان العرب" مادة: (علج).
أحمد (1) من حديث ابن عباس ويعضده قوله تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} (2)، وقوله:{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا} (3).
قال رياح القيسي: لي نيفٌ وأربعون ذنبًا، قد استغفرتُ لكل ذنب مائة ألف مرة.
وقال الحسن: لا تملُّوا من الاستغفار.
وقال بكر المُزني: إِنَّ أعمال بني آدم ترفع فَإِذَا رُفعت صحيفةٌ فيها استغفار رُفعت بيضاء، وإذا رُفعت ليس فيها استغفار رفعت سوداء.
وعن الحسن قال: أكثروا من الاستغفار في بُيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طُرُقكم، وفي أسواقكم، فإنكم ما تدورن متى تنزل المغفرة.
قال لقمان لابنه: أيْ بُنيَّ عوّد لسانَكَ: اللهم اغفر لي، فإن لله ساعات لا يردّ فيها سائلاً.
ورئي عمر بن عبد العزيز في النوم فقِيلَ لَهُ: ما وجدت أفضل؟ قال: الاستغفار.
…
(1)(1/ 248).
(2)
نوح: 10.
(3)
هود: 3.