المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدمة المؤلف بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الْمُبدئ الْمُعيد، الفعال لِمَا - تقريب فتاوى ابن تيمية - جـ ١

[أحمد بن ناصر الطيار]

فهرس الكتاب

‌مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الْمُبدئ الْمُعيد، الفعال لِمَا يُريد، وصلى اللّه على نبيِّنا محمد صاحب الخُلُق الرشيد، والقول السديد، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فلقد كانت لي عنايةٌ بكتب ورسائل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله منذ وفَّقني الله في طلب العلم، وقد أُولعت به كما أُولع به غيري؛ لِمَا يمتلكه هذا الإمام من العلم الواسع، والحق الساطع، والتحقيق المتين، والنظر الثاقب.

وحينما أتيت إلى هذا السفر الكبير الضخم، والجبل الرفيع الصعب: رأيت الهمة تُنازعني، والإرادة تُخالفني، والوقتَ يُعاتبني؛ فالأشغال والأعمال كثيرةٌ، فدخول "مجموع الفتاوى" بينها قد يُعكر عليها، ويصرف الهمة عنها.

وهذا ما حدث بالفعل، فقد عزمت وصممت، وأقدمت وما باليت، وظننت -وصدق ظني- أنَّ كل عمل وشغل وعلم لن يكون أفضل وأنفع مما سأقدم عليه.

فاستعنت بالله تعالى على تيسير "مجموع الفتاوى" وغيرها من الكتب، وتسهيلها على طلاب العلم، وعملي فيها قريب من الاختصار والتهذيب.

وقد حاولت بكلّ جهدي أنْ أسهلها للناس، وقد أمضيتُ زمنًا طويلًا في ذلك.

ومجموع الفتاوى فيها من الصعوبة والإطالة ما لا يخفى، وكثيرًا ما يذكر

ص: 5

ابن تيمية رحمه الله في المسألة الواحدة مسائل كثيرة ويُطيل في تفصيلها، مما تُسبب تشتت عقل القارئ.

وخذ مثالًا على ذلك: سئل الشيخ رحمه الله عن طواف الحائض والجنب والمحدث.

فذكر في ثنايا الجواب مسائل عدة منها:

1 -

حكم قراءة القرآن للحائض وللنفساء قبل الغسل وبعد انقطاع الدم.

2 -

حكم لبث الحائض والجنب في المسجد.

3 -

الفرق بين الحائض والجنب.

4 -

حكم ارتكاب المحظورات للضرورة.

5 -

قاعدة: لا ينبغي أنْ يُنظر إلى غلظ المفسدة المقتضية للحظر إلا ويُنظر مع ذلك إلى الحاجة الموجبة للإذن؛ بل الموجبة للاستحباب أو الإيجاب.

6 -

حكم ومعنى تحلل المحصر.

7 -

حكم الْقَضَاء عَلَى الْمُحْصَرِ؟

8 -

هل يُباح للمرأة الزنى بالإكراه؟

9 -

هل يُباح للرجل الزنى بالإكراه؟

10 -

ما الحكم إذا أمكن العبد أن يفعل بعض الواجبات دون بعض؟

11 -

الحكمة من عدم الصوم مع الحيض.

12 -

الحكمة من عدم وجوب الصلاة للحائض.

13 -

الدليل على طهارة المني.

14 -

الدليل على عدم وجوب الوضوء من لمس النساء.

15 -

الدليل على طهارة النجاسات الخارجة من غير السبيلين.

ص: 6

16 -

الفرق بين الطواف والصلاة.

17 -

هل سجود التلاوة من الصلاة التي تشترط لها الطهارة؟

18 -

حكم الطهارة لصلاة الجنازة؟

19 -

مزايا الطواف.

20 -

معنى قول من قال من العلماء: إن طواف أهل الآفاق أفضل من الصلاة بالمسجد.

21 -

أمثلةٌ لقاعدة: العمل المفضول في مكانه وزمانه يقدم على الفاضل.

22 -

حكم العمرة؟

23 -

هل يجب على المتمتع سعيان؟

24 -

بيانُ أفضلية جنس الطواف على جنس قراءة القرآن.

25 -

بيانُ أن أقوال العلماء يحتج لها بالأدلة الشرعية، ولا يحتج بها على الأدلة الشرعية.

26 -

علامات المقلد، وأنه لا يجوز له الإفتاء.

27 -

الرد على من قال بأن من نسي طواف الإفاضة حتى عاد إلى بلده أنه يجزئه طواف القدوم.

28 -

حكم طواف الوداع والمبيت بمنى والرمي؟

29 -

حكم طَوَاف الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ.

30 -

هل طَهَارَة الْحَدَثِ شرطٌ أو واجبةٌ فِي الطَّوَافِ؟

هذه المسائل كلُّها جاءت في الفتوى، فكيف يستطيع العقل ضبط أصل المسألة وجوابها في ثنايا هذه المسائل الكبيرة المتناثرة؟

وخذ مثالًا آخر: سُئِلَ رحمه الله تعالى [248/ 26]: أَيُّمَا أَفْضَلُ لِمَن كَانَ بِمَكَّةَ: الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ أَو الْخُرُوجُ إلَى الْحِلِّ لِيَعْتَمِرَ مِنْهُ وَيعُودَ؟

ص: 7

وَهَل يُسْتَحَبُّ لِمَن كَانَ بِمَكَّةَ كَثْرَةُ الِاعْتِمَارِ فِي رَمَضَانَ أَو فِي غَيْرِهِ أَو الطَّوَافُ بَدَلَ ذَلِكَ؟

وَكَذَلِكَ كَثْرَةُ الِاعْتِمَارِ لِغَيْرِ الْمَكِّيِّ: هَل هُوَ مُسْتَحَبٌّ؟

فأجاب عن هذا السؤال بأكثر من خمسين صفحة، ذكر فيها عشرات المسائل الشائكة، التي قد يصدع منها رأس المتأمل فيها، ويشق ربط أولها بآخرها، وفيها من الغموض والعسر الشيء العظيم.

ويكفي أن تعلم أنه قال في (ص 267): هنا ثلاث مسائل مرتبة: أحدها الاعتمار فى العام أكثر من مرة، ثم الاعتمار لغير المكي، ثم كثرة الاعتمار للمكي.

ففصَّل المسألة الأولى في ثلاث صفحات، وفي المسألة الثانية في أكثر من عشرين صفحة! وأكثرها لا يتعلق بالمسألة نفسها!

فكنت أجد صعوبة بالغة في تهذيبها، وجمع متفرقها، ووضع كل كلام في مكانه المناسب له، وشرح غامضه.

وفي بحث له طويل جدًّا، تحدَّث عن العقيدة، وعن تحريم شدّ الرحال لزيارة القبور، وفي ثنايا البحث قرر أنّ السَّلَام الَّذِي لَا يَسْمَعُهُ النبي صلى الله عليه وسلم مَأْمُورٌ بِهِ العبد فِي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِن السَّلَامِ الْمُخْتَصِّ بِقَبْرِهِ، ثم استطرد في بعض مسائل الصلاة والسلام عليه وعلى غيره، وحكم ابتداء السلام ونحوها من المسائل الفقهية، في نحو خمس صفحات! ثم تدارك استطراده فقال: وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ لِبَسْطِهَا مَوَاضِعُ أُخَرُ. اهـ.

(1)

وهذا مثال آخر: تكلم في المجلد الرابع عشر عن مسألة الحمد والشكر، ثم استْطرد أثناء الحديث عنها فذكر مسائل التوحيد والشفاعة، والرد على الذين

(1)

(27/ 407 - 412).

ص: 8

يطلبون الشفاعة من الأموات، في قرابة أربعين صفحة، ثم لما انتهى منها قال: وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصودُ هُنَا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الْحَمْدِ الَّذِي هُوَ رَأْسُ الشُّكْرِ وَبَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ إذَا رَفَعَ رَأسَهُ مِن الرُّكُوعِ .. إلخ

(1)

.

وفي المجموع والمستدرك عليه الكثيرُ من التصحيفات والأخطاء، وقد وقفت على ما يقربُ من خمسمائةِ تصحيف وخطأ، لم أجد مَن نَبَّه على كثيرٍ منها، وعدمُ تصحيحِها يُوْقِعُ القارئ في لَبْسٍ ويظن أنَّ كلام الشيخ فيه تناقض.

مثال ذلك: ما جاء في "الفتاوى": إِذَا أَمْكَنَ الرَّجُلُ أَو الْمَرْأَةُ أَنْ يَغْتَسِلَ ويُصَلّيَ خَارجَ الْحَمَّامِ فَعَلَا ذَلِكَ.

فَإِنْ لَمْ يَمكُن ذَلِكَ؛ مِثْل أَنْ لَا يَسْتَيْقِظَ أَوَّلَ الْفَجْرِ وَإِن اشْتَغَلَ بِطَلَبِ الْمَاءِ خَرَجَ الْوَقْتُ، وَإِن طَلَبَ حَطَبًا يُسَخِّنُ بِهِ الْمَاءَ أَو ذَهَبَ إلَى الْحَمَّامِ فَاتَ الْوَقْتُ: فَإِنَّهُ يُصَلِّي هُنَا بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.

وَأَمَّا إذَا اسْتَيْقَظَ آخِرَ الْوَقْتِ، أَو إن اشْتَغَلَ بِاسْتِقَاءِ الْمَاءِ مِن الْبِئْرِ خَرَجَ الْوَقْتُ، أَو إنْ ذَهَبَ إلَى الْحَمَّامِ لِلْغُسْلِ خَرَجَ الْوَقْتُ: فَهَذَا يَغْتَسِلُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. اهـ.

(2)

هذا الكلام فيه تناقض ظاهر، لكن إذا عرفنا أن صواب العبارة هي: مِثْل أَنْ يَسْتَيْقِظَ أَوَّلَ الْفَجْرِ؛ أي: بحذف (لا) وقد حُذفت في الفتاوى المصريّة، وكذلك قوله: "أو إن اشتغل باستقاء

" خطأ يُخلّ بالمعنى، والصواب: "وإن اشتغل

"، بالعطف.

مثال آخر: قال رحمه الله: وَهَذَا قِيَاسُ مَذْهَبِنَا؛ لِأَنَّا نُوجِبُ عَلَى

(1)

الفتاوى (14/ 376 - 415).

(2)

الفتاوى (21/ 446 - 447).

ص: 9

أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ مِن الْمُعَاوَضَةِ بِالْبَيْعِ وَالْعِمَارَةِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْآخَرُ فِي الْعُرْفِ؛ مِثْلُ عِمَارَةِ مَا استهدم، هَذَا فِي شَرِكَةِ الْأمْلَاكِ، فَكَذَلِكَ فِي شَرِكَةِ الْعُقُودِ؛ فَإِنَّ مَقْصودَهَا هُوَ التَّصَرُّفُ، فَتَرْكُ التَّصَرُّفِ فِي الْمُضَارَبَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ قَد يَكُونُ أَعْظَمَ ضَرَرًا مِن تَرْكِ عِمَارَةِ الْمَكَانِ المستهدم فِي شَرِكَةِ الْأَمْلَاكِ.

وَمَن تَرَكَ بَيْعَ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ الْمُشْتَرَكَةِ؛ لِأَنَّهُ فنَاكَ يُمْكِنُ الشَّرِيكَ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ وَهُنَا غَرَّهُ وَضَيَّعَ عَلَيْهِ مَنْفَعَةَ مَالِهِ.

وهذه الجملةُ بهذه الصيغة لا يكون لها معنى.

وصوابها: .. قَد يَكُونُ أَعْظَمَ ضَرَرًا مِن تَرْكِ عِمَارَةِ الْمَكَانِ المستهدم فِي شَرِكَةِ الْأَمْلَاكِ، وَمِن تَرْكِ بَيْع الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ الْمُشْتَرَكَةِ.

وهناك أمثلة أخرى تجدها في هذا التهذيب بحول الله تعالى.

ولا ريب أن التلخيصَ أحسن وسيلةٍ للفهم والضبط، ولا يُمكن ضبط الكتب المطولة والصعبة إلا به، أو بكثرة فراجعتها وتكرارها.

ومن أهداف التقريب: تسهيل "مجموع الفتاوى" خاصة على طلاب العلم، وأنا أزعم أن كثيرًا من طلاب العلم -أو أكثرهم- لم يقرأها كاملة، وذلك لصعوبتها وطولها وعسرها، وتهذيبُها والتعليقُ على كثير من المواضع شرحًا وتصحيحًا وترجيحًا يفتح لهم أمل قراءتها والوقوف على دررها، وما لا يُدرك كله لا يُترك جلّه.

ولقد واجهت صعوبةً بالغة في هذا التقريب والتعليق عليه وشرح الغامض والمشكل فيه، فقد كان الكتاب الورقيّ بين يدي، والكتاب الإلكتروني في الحاسب الآلي أمامي، فأقرأ هنا، وألخص هنا!

وأنا أمَام أكثر من أربعين مُجلّدًا- "مجموع الفتاوى"، و"المستدرك"، و"الاختيارات"، و"مختصر الفتاوى المصريّة"، وكيرِها من كتبِه وكتب تلاميذِه-

ص: 10

فيها مِن الطول والتشعب والردود، وكنت أمكث في أحايين كثيرة أكثر من ساعة كاملة في وريقات قليلة، لفهمها فهمًا صحيحًا، ثم تهذيبها، والتعليق عليها، والنظر في التعارض في أقوالِه أو الأقوال المنسوبة إليه.

ولكن اللذة والأنس والسعادةَ التي ذقتها أثناء قراءتي له أنستني آلام المعاناة التي عانيتُها، والصعوبات التي واجهتها.

بل والله إني كنتُ أقول كثيرًا في نفسي أثناء القراءة -وبُحْت به لبعض خاصتي- كيف سيكون حالي بعد أنْ أنتهي من هذه الفتاوى؟

فقد كنت أعيش أحسن أيامي، وأمتع أوقاتي، وألذ ساعاتي، فكيف بحالي إن انتهيت منها؟ وكيف سأصبر على مفارقة هذه اللذائذ والمتع.

وكنت أشفق على نفسي عن حالي بعد الفراق، فلم أجد صديقًا يُغنيني- بعد كتاب الله تعالى- عن كل الأصدقاء والجلساء مثله.

وكنت في سائر الكتب المطولة والمختصرة إذا بدأت القراءة أتشوق لإنهائها، وقد تفتر الهمة، وتضعف العزيمة، فآخذها بالحزم والصبر والمصابرة، إلا فتاوى شيخ الإسلام رحمه الله، فإني كلما أنهيت مجلّدًا ازددت نشاطًا وأنسًا، وسعادةً وراحة، وهمتي في ازدياد عجيب، وعزيمتي تقوى، فسبحان من جعل فيما كتب ابن تيمية البركة التي لا تنضب.

وإنما أقول هذا لأنقل للقارئ المتعة التي سيجدها عند قراءته لهذا الكتاب.

‌طريقتي في العمل:

1 -

حافظت على كلامه ولم أتصرف فيه إلا بإشارة إلى التصرف، إلا اليسير جدًّا؛ كأن يذكر كلامًا ويقول فيه: فإنَّ .. فأقتصر على "إنَّ"، أو يقول: بأن .. ؛ فأغيرها لـ"إنَّ" وذلك حين بتر كلامه عن ما قبله.

ص: 11

وما بين المعقوفتين يكون من تصرفي لبيان مراد الشيخ رحمه الله إذا لم أضع حاشية عليها.

2 -

نقلتُ بعض كلامه إلى مكانه المخصص، وكثيرًا ما يستطرد الشيخ فيذكر مسائل لا تتعلق بالباب، أو يُسأل سؤالًا طويلًا يُذكر فيه الكثير من الأسئلة المختلفة، كما في السؤال الذي ذُكر في [22/ 264 - 265] فيُجيب الشيخ عن جميعها، فأنقل كلُّ كلام إلى ما يُناسبه.

3 -

لا أذكر إلا الكلام المهم والذي يحتاج إليه غالب الناس من طلاب العلم وغيرهم، وأما الفتاوى المعروفة لكل أحد، أو الاستدلالات الكثيرة التي يُغني عنها أحدها فقد تركتها.

مثال ذلك: (سُئِلَ رحمه لله: عَن رَجُلٍ قَالَ: إذَا دَعَا الْعَبْدُ لَا يَقُولُ: يَا اللهُ يَا رَحْمَنُ؟)

وجواب هذا السؤال لا يجهله الصغار والعامة فضلًا عن طلاب العلم، وقد أجاب الشيخ عنه في صفحة كاملة، بيَّن فيها أنه "لَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا دَعَا رَبَّهُ يَقُولُ: يَا اللهُ يَا رَحْمَنُ وَهَذَا مَعْلُوم بِالِاضْطِرَارِ مِن دِينِ الْإِسْلَامِ"

(1)

.

مثال آخر: سُئِلَ: عَمَّا إذَا أَبْدَلَ قَمْحًا بِقَمْحِ؟

فَأَجَابَ: إذَا أَبْدَلَ قَمْحًا بِقَمْحِ كَيْلًا بِكيْلِ مِثْلًا بِمِثْل: جَازَ. وَإِن كَانَ بِزِيَادَةٍ لَمْ يَجُزْ

(2)

.

والأمثلة من هذه الأسئلة السهلة التي يعرفها صغار طلاب العلم كثيرة.

والفتاوى لن يقرأها إلا من كان عنده علم واطلاع، فالمسائل السهلة الواضحة سيكون قد عرفها من قبل، أو يجدها بعد ذلك عند غيره من أهل العلم.

(1)

(22/ 487).

(2)

(29/ 424).

ص: 12

4 -

إذا كانت الفتوى أو البحث مجرد ذكر خلاف العلماء دون ترجيح فإني لا أذكره كله؛ بل لا أذكر إلا تقريراته وترجيحاته، وقد أذكر الخلاف في مواضع قليلة إذا كان المقام يستدعى ذلك.

5 -

صححت الأخطاء المطبعية التي وقفت عليها.

6 -

اختصرتُ بعض الأسئلة اختصارًا لا يُخل بالمقصود.

7 -

قسّمت الفوائد وجعلتها في فقرات؛ وذلك ليسهل فهمها واستيعابها، والشيخ رحمه الله قد يكتب بحثًا في مائتي صفحةٍ أو يُقاربها -كما فعل في إثبات أن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن! -.

وفي هذا البحث وغيره من التشعبات والاستطرادات ما الله به عليم، فانتقيت أهم ما خلص إليه، والدرر التي ذكرها في ثنايا بحوثه وفتاويه.

8 -

اقتصرتُ على أهم الفوائد، وسقتها كما جاءت دون التصرف فيها، إلا بحذف حرف ونحوه.

9 -

ذكرتُ بعض الأسئلة؛ لما فيها من الأهمية.

10 -

أطلتُ في بعض الفوائد المهمة، والتي لا يكفي القليل منها عن الكثير.

11 -

علقت على بعض الكلام المهم، ورجحت وشرحت في كثير من المواضع، وذكرت تخريج بعض الأحاديث والحكم عليها.

12 -

جمعت ما تفرق من كلامه في المسألة الواحدة في مكان واحد قدر الإمكان.

مثال ذلك: لم يُذكر في باب الحيض إلا القليل من مسائله، وكثير منها ذُكرت في أبواب أخرى.

فقد تكلم عن مسائل كثيرة في المجلد التاسع عشر في كِتَاب أُصُولِ الْفِقْهِ.

ص: 13

وتكلم عن الصفرة والكدرة وحكم قراءة الحائض للقرآن في كتاب الحج في المجلد السادس عشر.

فاسْتللت

[*]

هذه المسائل من هناك وألحقتها في باب الحيض.

وجمعت أقواله في كلِّ مسألةٍ في موضع واحد؛ وبهذا يسهل على الباحث الرجوع إلى كلّ كلامه الذي تكلم به عن أيّ مسألة ونحوها.

13 -

اقتصرت على أهم الأدلة والحجج التي يسوقها تأييدًا لرأيه.

والشيخ رحمه الله قد يسوق عشرات الأدلة العقلية والنقلية لتأييد قول مشهورٍ، ويكون دليله صحيحًا واضحًا، ولكنه يزيد أحيانًا في التأكيد والحجج.

مثال ذلك: من المعلوم أنَّ الطمأنينة في الصلاة واجبة، ودليلها حديث المسيئ صلاته، وهو حديث صحيح صريح في وجوبها، لكن الشيخ استطرد في ذكر الأدلة في أكثر من أربعين صفحة!!

(1)

وقد اقتصرت على أهم الأدلة فيها، والتي فيها لطائف وفوائد تُغني عن غيرِها.

والشيخ قد ينسى بعض الأمور من طول استطراده وتفصيلِه، مثال ذلك: قوله رحمه الله: وَاَلَّذِينَ اسْتَثْنَوْا قَبْرَ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِهِمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: -وَهُوَ الصَّحِيحُ- أَنَّ السَّفَرَ الْمَشْرُوعَ إلَيْهِ هُوَ السَّفَرُ إلَى مَسْجِدِهِ، وَهَذَا السَّفَرُ تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ

إلخ

(2)

.

ثم أطال في تقرير ذلك ولم يذكر الوجه الثاني.

14 -

رجعتُ إلى عدّة مصادر في كتابي هذا، منها:"المجموعة العليّة من كتب ورسائل وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية"، و"مختصر الفتاوى المصرية"، و"الفتاوى الكبرى"، و"اقتضاء الصرط المستقيم"، و"الاستقامة"،

(1)

(22/ 529 - 572).

(2)

(27/ 347).

[*] تعليق الشاملة: في المطبوع «فاسْتليت»

ص: 14

و"الاختيارات"، و"الإنصاف"، و"الآداب الشرعيّة"، و"الفروع"، و"كتب ابن القيم"، وغيرها من الكتب، ورجوعي إليها عند الحاجة.

والله تعالى أسأل أن ينفع ويُبارك به، وأن يجعل عملي خالصًا لوجهه، وطلبًا لمرضاتِه، وخدمةً لدينِه.

وفي ختام هذه المقدمة: أتقدم بالشكر الجزيل لطالب العلم الجاد والحريص: محمد بن عبد الله المسعر على ما بذله من جهد في مراجعة هذا التقريب وصفِّه. وأشكر المشايخ الفضلاء الذين ساهموا مساهمة كبيرة في مراجعة الكتاب وتصحيحه، جعل الله ذلك في ميزان حسناتهم.

كما أتقدم بالشكر والعرفان لدار ابن الجوزي على حرصهم على نشر العلم وإخراج الكتاب بصورة طيبة، والحمد لله ربِّ العالمين.

أحمد بن ناصر الطيار

خطيب جامع/ عبد الله بن نوفل بالزلفي

وداعية في وزارة الشؤون الإسلامية.

البريد الالكتروني:

[email protected]

رقم الجوال: 0503421866

ص: 15

‌مقدمة المراجع

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فإن مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى من أجلِّ وأنْفَس ما كتبه المتأخرون، وهو من أصحاب الفنون المختلفة في علوم الشريعة وغيرِها؛ حيث ما ترك فنًّا إلا وله فيه تأليف قيِّمٌ غالبًا.

وهو -رحمه الله تعالى- أعلم الناس في زمانه بالكتاب والسُّنَّة، وأوسع الناس اطِّلاعًا على أقوال السلف الصالح.

وهو بهذا يأخذ بمنهج أئمة السُّنَّة والجماعة كالإمام أبي حنيفة، والإمام مالكٍ، والإمام الشافعيّ، والإمام أحمد بن حنبل رحمهم الله تعالى.

ومن أجلِّ وأكبر ما وصل إلينا مِن علم شيخ الإسلام ابن تيمية، ما جمعه العلامة عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد رحمهما الله تعالى في "مجموع الفتاوى" و"المستدرك" عليه.

وقد عاق، كِبَرُ حجمه، وكثرة أجزائه، وتناثر مسائله كثيرًا من طلاب العلم عن قراءته والاستفادة منه.

ومثل هذا الكتاب بحاجة إلى اختصارٍ يستفيد منه العامة والخاصة من العلماء على وجه لا يخل بالمقصود.

ص: 17

وقد عمد شيخنا أحمد الطيار -نفع الله به وزاده من فضله- حرصًا منه على تسهيل العلم لطلابه إلى اختصار هذا الكتاب ليقربه إليهم بلا إطالة تمل، ولا اختصار يخل، وذلك في زمن زهَدَ فيه الكثير من الناس في القراءة الجادّة.

وقد اطلعت على بعض المختصرات التي اختصرها شيخنا ومن ذلك اختصار مدارج السالكين، وهو في قرابة مائةٍ وأربعين صفحة وهو غير مطبوع، ومنها أيضًا هذا المختصر الذي نحن بصدده الذي أسأل الله أن ينفع به ويجعله خالصًا لوجهه الكريم.

والاختصار في الحقيقة بشكلٍ عام قد يكون من مظاهر ضعف الحياة العلمية، ولكن الحاجة تدعو إليه في بعض الأحيان؛ فمثل وقتنا الحالي قد لا يتمكن كثير من طلاب العلم من قراءة بعض المطولات لكثرة الالتزامات والأشغال والله المستعان.

‌وهذه بعض الأعمال التي قمت بها:

- تصحيح الأخطاء الإملائية.

- تخريج الأحاديث مع بيان صحتها وضعفها، في كثير من المواضع.

- وضع عناوين رئيسية مرتبة تسهل على القارئ قراءته -وقد بلغت هذه العناوين قرابة مائة وأربعين عنوانًا-، وتحت كل عنوان أبوابٌ كثيرة، فقد يكون هناك بعض الفقرات التي لا تتعلق بسابقتها فيتشتت القارئ ولا يستطيع ترتيب بعض المسائل -في ذهنه- التي لا تتعلق بالباب.

مثال ذلك: وجدت مسائل في كتاب الزكاة تتعلق بكتاب البيع [53/ 25] وهي مسألة جواز المزارعة وغيرها من المسائل التي جاءت عرضًا في غير موضعها فنقلتُها إلى الباب الذي يخصها؛ ليسهل على القارئ فهم واستيعاب المسألة.

ص: 18

هذه أبرز الأعمال التي قمت بها.

ومن أهم مميزات هذا المختصر؛ أني قد سبرت بعض المسائل التي اختصرها شيخنا فكنت أتعجب منها، فقد يختصر مائة صفحة في عشر صفحات أو أقل، فكنت أرجع إلى أصل المسألة في الفتاوى فأجد أن شيخنا اختصر المسألة اختصارًا بديعًا، حيث يختصر زبدة المسألة، وقد يقتصر على بعض الأدلة التي تكون أصلًا في المسألة ويترك باقي الأدلة؛ لأن الأدلة التي اختارها تفي بالغرض.

والمجلد التاسع يقع في ثلاث مائة وتسع عشر صفحة وقد اختصره الشيخ بنحو إحدى وعشرين صفحة!.

وقد يقتصر على ردٍّ أو ردَّين لشيخ الإسلام على بعض المعارضين له.

وقد يُسأل شيخ الإسلام عن مسالة فيستطرد ويذكر مسائل قد لا تتعلق بالسؤال، وقد تصل هذه المسائل إلى عشرين مسألة في جواب واحد، فكان شيخنا يقتصر على جواب المسألة مع ذكر دليلها أو تعليلها إن وجد.

والله أسأل أن ينفع بهذا العمل ويجعله خالصًا متقبلًا.

محمد بن عبدالله بن محمد المسعر

27/ 4/ 1438 هـ

جوال: 0533332406

ص: 19

‌العلم والعلماء

(العلم، وفضله، وأقسامه، وفضائل الأعمال، ودرجاتها، وأقسام الناس في ذلك)

1 -

قال معاذ بن جبل رضي الله عنه

(1)

: (عليكم بالعلم فإن طلبه لله عبادة، ومعرفته خشية، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، ومذاكرته تسبيح، به يعرف الله ويعبد، وبه يمجد الله ويوحد، يرفع الله بالعلم أقوامًا يجعلهم للناس قادة وأئمة يهتدون بهم، وينتهون إلى رأيهم).

فجعل البحث عن العلم من الجهاد. [10/ 39]

2 -

العلم النافع هو أصل الهدى، والعمل بالحق هو الرشاد، وضد الأول الضلال، وضد الثاني الغي؛ فالضلال العمل بغير علم، والغي اتباع الهوى. قال تعالى:{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)} [النجم: 1، 2]، فلا ينال الهدى إلا بالعلم، ولا ينال الرشاد إلا بالصبر. [10/ 40]

3 -

رَأسُ الْفَضَائِلِ: الْعِلْمُ، وَكُلُّ مَن كَانَ أَفْضَلَ مِن غَيْرِهِ مِن الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ: فَإِنَّهُ أَعْلَمُ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى:{هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]. [4/ 408]

4 -

كان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: لا بد للسالك إلى الله من همة تسيره وترقيه، وعلم يبصره ويهديه.

(1)

قال ابن تيمية رحمه الله في (4/ 109): وَيُرْوَى مَرْفُوعًا وَهُوَ مَحْفُوظٌ عَن مُعَاذٍ.

ص: 21

وقال: العارف يسير إلى الله عزَّوجلَّ بين مشاهدة المنة

(1)

، ومطالعة عيب النفس. [المستدرك 1/ 143]

5 -

لا ريب أن الذين أوتوا العلم والإيمان أرفع من الذين أوتوا الإيمان فقط، كما دل عليه الكتاب والسُّنَّة.

والعلم الممدوح هو الذي ورَّثَه الأنبياءُ.

وطلب العلم الواجب لكونه معيَّنًا

(2)

على كل أحد: إما لكونه محتاجًا إلى جواب مسائل في أصول دينه أو فروعه، ولا يجد في بلده من يجيبه، وإما لكونه فرضٌ على الكفاية ولم يقم به من يُسْقِطُ الفرض؛ فيجوز السفر لطلب ذلك بدون رضى الوالدين، فلا طاعة لهما في ترك فريضة. [المستدرك 1/ 11 - 13]

6 -

ينبغي أن يخفض صوته عند المعلم، قال الشيخ تقي الدين: من رفع صوته على غيره علم كل عاقل أنه قلة احترام له. [المستدرك 5/ 227]

7 -

أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللهُ بِعِلْمِهِ. [10/ 270]

8 -

الْعِلْمُ الْمَشْرُوعُ وَالنُّسُكُ الْمَشْرُوعُ مَأْخُوذٌ عَن أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا مَا جَاءَ عَمَّن بَعْدَهُم فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ أَصْلًا وَإِن كَانَ صَاحِبُهُ مَعْذُورًا بَل مَأجورًا لِاجْتِهَادِ أَو تَقْلِيدٍ. [10/ 362]

9 -

لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّ هَذَا مُسْتَحَبٌّ أَو مَشْرُوعٌ إلَّا بِدَلِيلٍ شَرْعِيِّ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُثْبِتَ شَرِيعَةً بِحَدِيثٍ ضَعِيفٍ، لَكِنْ إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَمَلَ مُسْتَحَبٌّ بِدَلِيل شَرْعِيِّ وَرُوِيَ لَهُ فَضَائِلُ بِأَسَانِيدَ ضَعِيفَةٍ جَازَ أَنْ تُرْوَى إذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهَا كَذِبٌ، وَذَلِكَ أَنَّ مَقَادِيرَ الثَّوَابِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، فَإِذَا رُوِيَ فِي مِقْدَارِ الثَّوَابِ حَدِيثٌ لَا يُعْرَفُ أَنَّهُ كَذِبٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُكَذَّبَ بِهِ.

(1)

أي: منة الله عليه بالعافية والخير والصلاح.

(2)

قال في الحاشية: كذا في الأصل. وغالبًا ما تستعمل كلمة متعيَّنًا في مثل هذا.

ص: 22

وَهَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ يُرَخِّصُونَ فِيهِ وَفِي رِوَايَاتِ أَحَادِيثِ الْفَضَائِلِ.

وَأَمَّا أَنْ يُثْبِتُوا أَنَّ هَذَا عَمَلٌ مُسْتَحَبٌّ مَشْرُوعٌ بِحَدِيث ضَعِيفٍ فَحَاشَا للهِ.

كَمَا أَنَّهُم إذَا عَرَفُوا أَنَّ الْحَدِيثَ كَذِبٌ فَإِنَّهُم لَمْ يَكونوا يَسْتَحِلُّونَ رِوَايَتَهُ إلَّا أَنْ يُبَيِّنُوا أَنَّهُ كَذِبٌ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: مَن رَوَى عَنِّي حَدِيثًا يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِين

(1)

. [10/ 408]

10 -

الْعَالِمُ الْفَاجِرُ يُشْبِهُ الْيَهُودَ، وَالْعَابِدُ الْجَاهِلُ يُشْبِهُ النَّصَارَى، وَمِن أَهْلِ الْعِلْمِ مَن فِيهِ شَيءٌ مِن الْأَوَّلِ، وَمِن أَهْلِ الْعِبَادَةِ مَن فِيهِ شَيءٌ مِن الثَّانِي. [10/ 408]

11 -

مَن عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ. [10/ 501]

وَحُسْنُ الْقَصْدِ مِن أَعْوَنِ الْأَشْيَاءِ عَلَى نَيْلِ الْعِلْمِ وَدَرْكِهِ.

وَالْعِلْمُ الشَّرْعِيُّ مِن أَعْوَنِ الْأَشْيَاءِ عَلَى حُسْنِ الْقَصْدِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ قَائِدٌ وَالْعَمَلَ سَائِقٌ، وَالنَّفْسَ حَرُونٌ، فَإِنْ وَنَى قَائِدُهَا لَمْ تَسْتَقِمْ لِسَائِقِهَا، وَإن وَنَى سَائِقُهَا لَمْ تَسْتَقِمْ لِقَائِدِهَا، فَإِذَا ضَعُفَ الْعِلْمُ حَارَ السَّالِكُ وَلَمْ يَدْرِ أَيْنَ يَسْلُكُ، فَغَايَتُهُ أَنْ يستطرح لِلْقَدَرِ، وَإِذَا تَرَكَ الْعَمَلَ حَارَ السَّالِكُ عَن الطَّرِيقِ فَسَلَكَ غَيْرَهُ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ تَرَكَهُ، فَهَذَا حَائِرٌ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَسْلُكُ مَعَ كَثْرَةِ سيْرِهِ، وَهَذَا حَائِرٌ عَن الطَّرِيقِ زَائِغٌ عَنْهُ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ. [10/ 544]

12 -

عَن أَبِي حَيَّانَ التيمي قَالَ: "الْعُلَمَاءُ ثَلَاثَةٌ":

أ- فَعَالِمٌ باللهِ لَيْسَ عَالِمًا بِأَمْرِ اللهِ.

ب- وَعَالِمٌ بِأَمْرِ اللهِ لَيْسَ عَالِمًا باللهِ.

ج- وَعَالِمٌ باللهِ وَبِأَمْرِ اللهِ.

(1)

رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

ص: 23

فَالْعَالِمُ باللهِ الَّذِي يَخْشَاهُ، وَالْعَالِمُ بِأَمْرِ الله الَّذِي يَعْرِفُ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ. [10/ 545]

13 -

رِوَايَةُ الْأَحَادِيثِ الْمَكْذُوبَةِ مَعَ بَيَانِ كَوْنِهَا كَذِبًا جَائِزٌ.

وَأَمَّا رِوَايَتُهَا مَعَ الْإِمْسَاكِ عَن ذَلِكَ رِوَايَةُ عَمَل فَإِنَّهُ حَرَامٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ. [10/ 679]

14 -

الْعِلْمُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:

أ- "عِلْمٌ باللهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ" وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ، وَفِي مِثْلِهِ أَنْزَلَ اللهُ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ وَنَحْوَهُمَا.

ب- وَ"الْقِسْمُ الثَّانِي": الْعِلْمُ بِمَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ مِمَّا كَانَ مِن الْأُمُورِ الْمَاضِيَةِ، وَمَا يَكُونُ مِن الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ [من]

(1)

الْأُمُورِ الْحَاضِرَةِ، وَفِي مِثْل هَذَا أَنْزَلَ اللهُ آيَاتِ الْقَصَصِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَصِفَةَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

ج- وَ"الْقِسْمُ الثَّالِثُ": الْعِلْمُ بِمَا أَمَرَ اللهُ بِهِ مِن الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقُلُوبِ وَالْجَوَارحِ، مِن الْإِيمَانِ باللهِ مِن مَعَارِفِ الْقُلُوب وَأَحْوَالِهَا، وَأَقْوَالِ الْجَوَارحِ وَأَعْمَالِهَا.

وَهَذَا الْعِلْمُ يَنْدَرجُ فِيهِ الْعِلْمُ بِأُصُولِ الْإِيمَانِ وَقَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ، وَيَنْدَرجُ فِيهِ الْعِلْمُ بِالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ، وَهَذَا الْعِلْمُ يَنْدَرجُ فِيهِ مَا وُجِدَ فِي كُتبِ الْفقَهَاءِ مِن الْعِلْمِ بِأَحْكَامِ الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ جُزْءٌ مِن جُزْءٍ مِن جُزْءٍ مِن عِلْمِ الدِّينِ

(2)

، كَمَا أَنَّ الْمُكاشَفَاتِ الَّتِي يَكُونُ لِأَهْلِ الصَّفَا جُزْءٌ مِن جُزْءٍ مِن جُزْءٍ مِن عِلْمِ الْأُمُورِ الْكَوْنِيَّةِ.

(1)

ما بين المعقوفتين من المستدرك (1/ 11 - 13).

(2)

فالذي يعكف على كتب الفقه والأحكام، لم يَحُزْ إلا على الجزء اليسير من العلم والدين، وهذا بخلاف فهم كثير من طلاب العلم أن الفقه هو أهم العلوم وأنفعُها! فاكتفوا بهذا العلم وتوسعوا فيه، وتركوا العلوم الأخرى المهمة.

ص: 24

وَالنَّاسُ إنَّمَا يَغْلَطُونَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ؛ لِأَنَّهُم يَفْهَمُونَ مُسَمَّيَاتِ الْأَسْمَاءِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا يَعْرِفُونَ حَقَائِقَ الْاُمُورِ الْمَوْجُودَةِ.

فَرُبَّ رَجُلٍ يَحْفَظُ حُرُوفَ الْعِلْمِ الَّتِي أَعْظَمُهَا حِفْظُ حُرُوفِ الْقُرْآنِ وَلَا يَكُونُ لَهُ مِن الْفَهْمِ؛ بَل ولا مِن الإيمَانِ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ عَلَى مَن أُوتِيَ الْقُرْآنَ وَلَمْ يُؤْتَ حِفْظَ حُرُوفِ الْعِلْمِ. [11/ 396 - 398]

15 -

حُسْنُ الْمَسْأَلَةِ نِصْفُ الْعِلْمِ، إذَا كَانَ السَّائِلُ قَد تَصَوَّرَ السُّؤَالَ. [8/ 377]

16 -

مِن فِقْهِ الرَّجُلِ قِلَّةُ وُلُوعِهِ بِالْمَاءِ. [21/ 298]

17 -

لَا رَيْبَ أَنَّ النَّاسَ يَحْتَاجُونَ مَن يَتَلَقَّوْنَ عَنْهُ الْإِيمَانَ وَالْقُرْآنَ كَمَا تَلَقَّى الصَّحَابَةُ ذَلِكَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَتَلَقَّاهُ عَنْهُم التَّابِعُونَ، وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ اتِّبَاعُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلينَ بِإِحْسَانٍ، فَكَمَا أَنَّ الْمَرْءَ لَهُ مَن يُعَلِّمُهُ الْقُرْآنَ وَنَحْوَهُ، فَكَذَلِكَ لَهُ مَن يُعَلِّمُه الدِّينَ الْبَاطِنَ وَالظَّاهِرَ.

وَلَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ فِي شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَلَا يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَنْتَسِبَ إلَى شَيْخٍ مُعَيَّنٍ.

كُلُّ مَن أَفَادَ غَيْرَهُ إفَادَةً دِينِيَّةً هُوَ شَيْخُهُ فِيهَا، وَكُلُّ مَيِّتٍ وَصَلَ إلَى الْإِنْسَانِ مِن أَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ وَآثَارِهِ مَا انْتَفَعَ بِهِ فِي دِينِهِ فَهُوَ شَيْخُهُ مِن هَذِهِ الْجِهَةِ، فَسَلَفُ الْأُمَّةِ شُيُوخُ الْخُلَفَاءِ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ.

وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْتَسِبَ إلَى شَيْخٍ يُوَالِي عَلَى مُتَابَعَتِهِ وَيُعَادِي عَلَى ذَلِكَ؛ بَل عَلَيْهِ أَنْ يُوَالِيَ كُلَّ مَن كَانَ مِن أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَمَن عُرِفَ مِنْهُ التَّقْوَى مِن جَمِيعِ الشُّيُوخِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَا يَخُصُّ أَحَدًا بِمَزِيدِ مُوَالَاةٍ إلَّا إذَا ظَهَرَ لَهُ مَؤِيدُ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ، فَيُقَدِّمُ مَن قَدَّمَ اللهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ عَلَيْهِ، وَيُفَضِّلُ مَن فَضَّلَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ.

ص: 25

18 -

الْعِلْمُ لَا بُدَّ فِيهِ مِن نَقْلٍ مُصَدَّقٍ، وَنَظَرٍ مُحَقَّقٍ.

وَأَمَّا النُّقُولُ الضَّعِيفَةُ لَا سِيَّمَا الْمَكْذُوبَةُ فَلَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ النَّظَرِيَّاتُ الْفَاسِدَة وَالْعَقْلِيَّات الجهلية الْبَاطِلَةُ لَا يُحْتَجُّ بِهَا. [12/ 63]

19 -

لَمْ يَبْقَ مَسْأَلَةٌ فِي الدِّينِ إلَّا وَقَد تَكَلَّمَ فِيهَا السَّلَفُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُم قَوْلٌ يُخَالِفُ ذَلِكَ الْقَوْلَ أَو يُوَافِقُهُ، وَقَد بَسَطْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الصَّوَابَ فِي أَقْوَالِهِمْ أَكْثَرُ وَأَحْسَنُ، وَأَنَّ خَطَأهُم أَخَفُّ مِن خَطَأِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَأَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ أَكْثَرُ خَطأً وَأَفْحَشُ، وَهَذَا فِي جَمِيعِ عُلُومِ الدِّينِ.

20 -

لَا رَيْبَ أَنَّ اللهَ يَفْتَحُ عَلَى قُلُوب أَوْليَائِهِ الْمُتَّقِينَ، وَعِبَادِهِ الصَّالحِينَ، بِسَبَبِ طَهَارَةِ قُلُوبِهِم مِمَّا يَكْرَهُهُ، وَاَتِّبَاعِهِمْ مَا يحِبُّهُ، مَا لَا يَفْتَحُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ. [13/ 27]

وَهَذَا كَمَا قَالَ عَلِيٌّ: "إلَّا فَهْمًا يُؤْتِيهِ اللهُ عَبْدًا فِي كِتَابِهِ"، وَفِي الْأَثَرِ:"مَن عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ الله عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ".

وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ طَرَفَانِ وَوَسَطٌ:

أ- فَقَوْمٌ يَزْعُمُونَ أَنَّ مُجَرَّدَ الزُّهْدِ وَتَصْفِيَةِ الْقَلْبِ وَرِياضَةِ النَّفْسِ تُوجِبُ حُصُولَ الْعِلْمِ بِلَا سَبَبٍ آخَرَ.

ب- وَقَوْمٌ يَقُولُونَ: لَا أَثَرَ لِذَلِكَ؛ بَل الْمُوجِبُ لِلْعِلْمِ الْعِلْمُ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ أَو الْعَقْلِيَّةِ.

ج- وَأَمَّا الْوَسَطُ: فَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ مِن أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ مُعَاوَنَةً عَلَى نَيْلِ الْعِلْمِ؛ بَل هُوَ شَرْطٌ فِي حُصُولِ كَثِيرٍ مِن الْعِلْمِ وَلَيْسَ هُوَ وَحْدَهُ كَافِيًا.

فَمَن ظَنَّ أَنَّ الْهُدَى وَالْإِيمَانَ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ طَرِيقِ الْعِلْمِ مَعَ عَدَمِ الْعَمَلِ

ص: 26

بِهِ

(1)

، أَو بِمُجَرَّدِ الْعَمَلِ وَالزُّهْدِ بِدُونِ الْعِلْمِ

(2)

فَقَد ضَلَّ.

وَأَضَلُّ مِنْهُمَا مَن سَلَكَ فِي الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ طَرِيقَ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ وَالْكَلَامِ بِدُونِ اعْتِبَارِ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا الْعَمَلِ بِمُوجِبِ الْعِلْمِ

(3)

. [13/ 245 - 247]

21 -

حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: "حَفِظْت مِن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم جِرَابَيْنِ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْته فِيكُمْ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَلَو بَثَثْته لَقَطَعْتُمْ هَذَا الْبُلْعُومَ"

(4)

: إِنَّمَا كَانَ فِي ذَلِكَ الْجِرَابِ الْخَبَرُ عَمَّا سَيَكُونُ مِن الْمَلَاحِمِ وَالْفِتَنِ؛ فَالْمَلَاحِمُ الْحُرُوبُ الَّتِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ، وَالْفِتَنُ مَا يَكُونُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. [13/ 255]

22 -

الْعِلْمُ إمَّا

(5)

:

أ- نَقْلٌ مُصَدَّقٌ عَن مَعْصُومٍ.

ب- وَإِمَّا قَوْلٌ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مَعْلُومٍ.

وَمَا سِوَى هَذَا فَإِمَّا مُزَيَّفٌ مَرْدُودٌ، وَإِمَّا مَوْقُوفٌ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ بَهْرَجٌ وَلَا مَنْقُودٌ

(6)

. [13/ 329 - 330]

(1)

هذا قد يحصل لبعض طلاب العلم، الذين ينشغلون به عن العمل ونشرِه والدعوة إلى الله، ويكون اهتمامهم في جمع الكتب وتنوع القراءة، وربما في التباهي بذلك.

(2)

هذا حال الخوارج فهُم من أجهل الناس، ويرون أن الجهاد هو السبيل الوحيد إلى إقامة الدين والملة، بل ويلمزون العلماء وطلاب العلم الذين لم يصطفوا معهم بأنهم قاعدون ومُخذّلون، وعلماء سلاطين، والله المستعان.

(3)

هذا ينطبق في هذا الزمان على أدعياء التطور والتقدم، الذين استمدوا تعاليمهم من الغرب المنحل، واحتقروا علوم الدين، ورأوا أنها السبب في تخلف المسلمين صناعيًّا وتقنيًّا.

(4)

البخاري (120).

(5)

هذه الفائدة من مقدمة التفسير، وقد قال في أول كتابه:"كَتَبْت هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ مُخْتَصَرَةً بِحَسَبِ تَيْسِيرِ اللهِ تَعَالَى مِن إمْلَاءِ الْفُؤَادِ". اهـ.

فقد كتبها إملاءً وإنشاءً، دون الرجوع للمصادر والمراجع وكتب أهل العلم، وفيها من التحقيق والتأصيل ما لا يُوجد في غيرها، فرحمه الله، كم كان آيةً في العلم والضبط والحفظ والفهم!

(6)

كما قال ابن القيم في النونية: العلم قال الله قال رسوله

قال الصحابة هم أولو العرفان.

ص: 27

23 -

لَا رَيْبَ أَنَّ لَذَّةَ الْعِلْم أَعْظَمُ اللَّذَّاتِ.

واللَّذَّةُ الَّتِي تَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ وَتَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ هِيَ لَذَّةُ الْعِلْمِ باللهِ وَالْعَمَلِ لَهُ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِهِ. [14/ 162]

24 -

ذَكَرَ اللهُ أَنَّهُ يَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَن يَشَاءُ فِي قِصَّةِ مُنَاظَرَةِ إبْرَاهِيمَ، وَفِي قِصَّةِ احْتِيَالِ يُوسُفَ، وَلهَذَا قَالَ السَّلَفُ: بِالْعِلْمِ؛ فَإِنَّ سِيَاقَ الْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَقِصَّةُ إبْرَاهِيمَ فِي الْعِلْمِ بِالْحُجَّةِ وَالْمُنَاظَرَةِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْخَصْمِ عَن الدِّينِ، وَقِصَّةُ يُوسُفَ فِي الْعِلْمِ بِالسِّيَاسَةِ وَالتَّدْبِيرِ لِتَحْصُلَ مَنْفَعَةُ الْمَطْلُوبِ، فَالْأَوَّل عِلْمٌ بِمَا يَدْفَعُ الْمَضَارَّ فِي الدِّينِ، وَالثَّانِي عِلْمٌ بِمَا يَجْلِبُ الْمَنَافِعَ، أَو يُقَالُ: الْأَوَّلُ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يَدْفَعُ الْمَضَرَّةَ عَن الدِّينِ وَيجْلِبُ مَنْفَعَتَهُ، وَالثَّانِي عِلْمٌ بِمَا يَدْفَعُ الْمَضَرَّةَ عَن الدُّنْيَا ويجْلِبُ مَنْفَعَتَهَا

(1)

.

وَلهَذَا كَانَ الْمُقَصِّرُونَ عَن عِلْمِ الْحُجَجِ وَالدَّلَالَاتِ، وَعِلْمِ السِّيَاسَةِ وَالْإِمَارَاتِ مَقْهُورِينَ مَعَ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ

(2)

. [14/ 493 - 494]

25 -

السُّلْطَان نَوْعَانِ: سُلْطَانُ الْحُجَّةِ وَالْعِلْمِ، وَهُوَ أَكْثَرُ مَا سُمِّيَ فِي الْقُرْآنِ سُلْطَانًا.

وَالثَّانِي: سُلْطَانُ الْقُدْرَةِ.

وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ لَا يَقُومُ إلَّا بِالسُّلْطَانَيْنِ. [19/ 125]

(1)

هذا ظاهر بأنه تعالى أثنى على العالم بأمور الدنيا والدين، فكلّ علم من علوم الدنيا أُريد به نفع العباد ودفع مضارهم فهو محمود، ويرفع الله به صاحبه في الدنيا، وكذلك في الآخرة إنْ أراد به وجه الله.

(2)

أي: الْمُقَصِّرُونَ عَن عِلْم الْحُجَجِ وَالدَّلَالَاتِ، وَعِلْم السِّيَاسَةِ وَالْإمَارَاتِ والمفرطون بهما، يكونون دائمًا مَقْهُورِينَ مغلوبين أمام من هم أعلمَ منهم بالْحُجَجِ وَالدَّلَالَاتِ، والسِّيَاسَةِ وَالْإِمَارة، فينبغي على المسلمين أفرادًا وحكومات أنْ يعتنوا بهذين العلمين الشريفين، ليتغلبوا على من سواهم، ويرتفعوا على خصومهم وأعدائهم.

ص: 28

26 -

الْخَيْرُ وَالسَّعَادَةُ وَالْكَمَالُ وَالصَّلَاحُ مُنْحَصِرٌ فِي نَوْعَيْنِ: فِي الْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. [19/ 169]

27 -

كَثِيرٌ مِن أَهْلِ الْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ أَعْرَضَ عَن طَلَبِ الْعِلْمِ النَّبوِيِّ الَّذِي يَعْرِفُ بِهِ طَرِيقَ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَاحْتَاجَ لِذَلِكَ إلَى تَقْلِيدِ شَيْخٍ. [19/ 273]

28 -

كَثُرَ ذِكْرُ "طرسوس" فِي كُتُبِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ الْمُصَنَّفَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهَا كَانَت ثَغْرَ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى كَانَ يَقْصِدُهَا أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَالسَّرِيُّ السقطي وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْمَشَايخِ لِلرِّبَاطِ، وَتُوُفِّيَ الْمَأْمُونُ قَرِيبًا مِنْهَا

(1)

. [27/ 53]

29 -

كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُثْبِتَ شَيْئًا إلَّا بِعِلْم: فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْفِيَ شَيْئًا إلَّا بِعِلْمِ؛ وَلهَذَا كَانَ النَّافِي عَلَيْهِ الدَّلِيلَ، كَمَا أَنَّ الْمُثْبِتَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ. [6/ 514]

30 -

كُلَّمَا كَانَ الْإِنْسَانُ أَعْظَمَ رَغْبَة فِي الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ، وَأَقْدَرَ عَلَى ذَلِكَ مِن غَيْرِهِ، بِحَيْثُ تَكُونُ قُوَّتُهُ عَلَى ذَلِكَ أَقْوَى، وَرَغْبَتُهُ وَإِرَادَتُهُ فِي ذَلِكَ أَتَمَّ:

أ- كَانَ مَا يَحْصُلُ لَهُ إنْ سَلَّمَهُ اللهُ مِن الشَّيْطَانِ أَعْظَمَ.

ب- وَكَانَ مَا يَفْتَتِنُ بِهِ إنْ تَمَكَّنَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ أَعْظَمَ. [7/ 284]

31 -

لَيْسَ صلَاحُ الْإِنْسَانِ فِي مُجَرَّدِ أَنْ يَعْلَمَ الْحَقَّ دُونَ أَلَّا يُحِبَّهُ ويُرِيدَهُ وَيَتَّبِعَهُ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ سَعَادَتُهُ فِي أَنْ يَكُونَ عَالِمًا باللهِ مُقِرًّا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ دُونَ أَنْ يَكُونَ مُحِبًّا للهِ، عَابِدًا للهِ، مُطِيعًا للهِ؛ بَل أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللهُ بِعِلْمِهِ، فَإِذَا عَلِمَ الْإِنْسَان الْحَقَّ وَأَبْغَضَهُ وَعَادَاهُ كَانَ مُسْتَحِقًّا مِن غَضَبِ اللهِ وَعِقَابِهِ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ مَن لَيْسَ كَذَلِكَ، كَمَا أَنَّ مَن كَانَ قَاصِدًا لِلْحَقِّ

(1)

أما الآن! فهي بلد الكفار النصيريين، ومن على شاكلتهم من طوائف الرافضة والروس وغيرهم، وهذه البلدة منها ينطلق هؤلاء لقتال المسلمين في الشام، أعادها الله تعالى إلى حضن الإسلام.

ص: 29

طَالِبًا لَهُ -وَهُوَ جَاهِلٌ بِالْمَطْلُوبِ وَطَرِيقِهِ-كَانَ فِيهِ مِن الضَّلَالِ، وَكَانَ مُسْتَحِقًّا مِن اللَّعْنَةِ- الَّتِي هِيَ الْبُعْدُ عَن رَحْمَةِ اللهِ- مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ مَن لَيْسَ مِثْلُهُ. [7/ 586]

32 -

العبد إذا عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم، كما قال تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [النساء: 66] وقال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17].

وإذا ترك العبد العمل بعلمه عاقبه الله بأن يضله عن الهدى وأن لا يعرفه الصراط المستقيم، كما قال تعالى:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] وقال: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110].

وقال: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة:10]. [المستدرك 1/ 212]

33 -

مَن طلب العلم أو فعل غيره مما هو خير في نفسه

(1)

؛ لما فيه من المحبة له، لا لله ولا لغيره من الشركاء: فليمس مذمومًا؛ بل قد يثاب بأنواعٍ من الثواب، إما بزيادة فيها وفي أمثالها فيتنعم بذلك في الدنيا، ولو كان كل فعل حسن لم يفعل لله مذمومًا لما أطعم الكافرُ بحسناته في الدنيا لأنها تكون سيئات، وقد يكون من فوائد ذلك وثوابه في الدنيا أن يهديه اللّه إلى أن يتقرب بها إليه، وهذا معنى قول بعضهم، طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا للهِ، وقول الآخر: طلبهم له نية؛ يعني: نفس طلبه حسنة تنفعهم.

ومِن هذا قول خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم: كلا والله لا يخزيك الله، فعلمت أن النفس المطبوعة على محبة الأمر المحمود وفعلِه لا يوقعه الله فيما يضاد ذلك. [المستدرك 3/ 104 - 105]

* * *

(1)

كالصدقة والإصلاحِ بين الناس.

ص: 30

(الْعِلْمُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْعَقْلِ)

34 -

الْعِلْمُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْعَقْلِ، فَكُلُّ عَالِمٍ عَاقِلٌ، وَالْعَقْلُ شَرْطٌ فِي الْعِلْمِ. [7/ 399]

* * *

(التكلم بغير علم أو بغير عدل)

35 -

الْكَلَامُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِالْعِلْمِ وَالْقِسْطِ

(1)

، فَمَن تَكَلَّمَ فِي الدِّينِ بِغَيْرِ عِلْمٍ دَخَلَ فِي قَوْله تَعَالَى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، وَفي قَوْله تَعَالَى:{وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169]. [11/ 441]

36 -

مَن تَكَلَّمَ فِي الدِّينِ بِلَا عِلْمٍ كَانَ كَاذِبًا وَإِن كَانَ لَا يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ

(2)

، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَالَتْ لَهُ سبيعة الأسلمية وَقَد تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَكَانَت حَامِلًا فَوَضَعَتْ بَعْدَ مَوْتِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ قَلَائِلَ فَقَالَ لَهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بعكك: مَا أَنْتَ بِنَاكِحَةٍ حَتَّى يَمْضِيَ عَلَيْكِ آخِرْ الْأَجَلَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"كذَبَ أَبُو السَّنَابِلِ بَل حَلَلْتِ فَانْكحِي".

(1)

فكل من تكلم في الدين وغيره يجب عليه أنْ يجمع بين أمرين:

الأمر الأول: العلم.

والثاني: العدل.

فكلّ من لم يكن مُحيطًا بما سيتكلم عنه؛ فإنه سيتكلم بجهل وهوى غالبًا.

ومن تكلم بعلم ولكنه لم يُنصف وحكم هواه فإنه سيقع في الظلم والحيف والخطأ.

(2)

الكَذِب ينقسمُ إِلى أَقسام:

الأول: تَغْيِيرُ الحاكي ما يَسمَعُ مُتعمّدًا، وقولُهُ ما لا يَعْلَمُ نقلًا ورِوَايَةً.

الثّاني: أَنْ يقولَ قولًا يُشْبهُ الكَذِبَ، ولا يَقْصِد به إِلَّا الحَقَّ، ومنه حديثُ:"كَذَبَ إِبراهِيمُ ثَلاثَ كَذباتٍ"؛ أَي: قالَ قَولًا يُشْبِهُ الكَذِبَ، وهو صادقٌ في الثّلاث.

الثّالثُ: بمعنى الخَطَأ، وهو الذي يعنيه شيخ الإسلام.

والرّابعُ: البُطُولُ والرجوع والفتور، يُقال: كَذَبَ الرَّجُلُ: بمعنى بَطَلَ عليه أَمَلُهُ وما رَجاهُ، أو فتر ولم يصدق العزيمة.

ويُقال: حَمَل عليه ثم كَذَب؛ أي: خار وجبن، وقالوا: حملوا حَمْلَة صادِقَة، وصَدَق القومُ القِتالَ، إذا ثبتوا وصبروا.

ص: 31

وَكَذَلِكَ لَمَّا قَالَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ إنَّهُم يَقُولُونَ: إنَّ عَامِرًا قَتَلَ نَفْسَهُ وَحَبِطَ عَمَلُهُ، فَقَالَ:"كَذَبَ مَن قَالَهَا؛ إنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ" وَكَانَ قَائِلُ ذَلِكَ لَمْ يَتَعَمَّد الْكَذِبَ فَإِنَّهُ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا، وَقَد رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ أسيد بْنَ الحضير، لَكِنَّهُ لَمَّا تَكَلَّمَ بِلَا عِلْمٍ كَذَّبَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

وَقَد قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمَا مِن الصَّحَابَةِ فِيمَا يُفْتُونَ فِيهِ بِاجْتِهَادِهِمْ: إنْ يَكُن صَوَابًا فَمِن اللّهِ. وَإِن يَكُن خَطأً فَهُوَ مِنِّي وَمِن الشَّيْطَانِ. وَاللّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ.

فَإِذَا كَانَ خَطَأُ الْمُجْتَهِدِ الْمَغْفُورِ لَهُ هُوَ مِن الشَّيْطَانِ، فَكَيْفَ بِمَن تَكَلَّمَ بِلَا اجْتِهَادٍ يُبِيحُ لَهُ الْكَلَامَ فِي الدِّينِ؟

فَهَذَا خَطَؤُهُ أَيْضًا مِن الشَّيْطَانِ مَعَ أَنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَتُبْ، وَالْمُجْتَهِدُ خَطَؤُهُ مِن الشَّيْطَانِ وَهُوَ مَغْفُورٌ لَهُ. [10/ 499 - 450]

37 -

قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: أَكْثَرُ مَا يُفْسِدُ الدُّنْيَا: نِصْفُ مُتَكَلِّمٍ، وَنِصْفُ مُتَفَقِّهٍ، وَنِصْفُ مُتَطَبِّب، وَنِصْفُ نَحْوِيّ.

هَذَا يُفْسِدُ الْأَدْيَانَ، وَهَذَا يُفْسِدُ الْبُلْدَانَ، وَهَذَا يُفْسِدُ الْأَبْدَانَ، وَهَذَا يُفْسِدُ اللِّسَانَ. [5/ 118 - 119]

***

(ينبغي للإنسان أنْ يُحَاسبَ نَفْسَهُ عَلَى مَا يَجْزِمُ بِهِ)

38 -

الْجَازِمُ بِغَيْرِ عِلْمٍ يَجِدُ مِن نَفْسِهِ أَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِمَا جَزَمَ بِهِ، وَالْجَازِمُ بِعِلْمٍ يَجِدُ مِن نَفْسِهِ أَنَّهُ عَالِمٌ

(1)

.

(1)

فهذا هو الفارق بين العالم والمقلد.

وذلك تجد كثيرًا من العامة والمقلدين يجزمون بأمور كثيرة يعتقدونها، سواء في العقيدة كالقدر مثلًا، أو في الأحكام الفرعية ونحوها، ولكن سرعان ما يتزعزع هذا الجزم بورود الشبهات عليه، فربما سمع شبهة من ضالّ، أو قرأ قولًا يُخالف ما كان يعتقده حتى يبدأ يشك ويتردد، ويقل جزمه بما يعتقده.

وأما العالم والجازم بعلم ودليل فإنه لا يتأثر بهذه الشبهات، بل ربما تزيده إيمانًا ويقينًا وثباتًا.

ص: 32

فمَن حَاسَبَ نَفْسَهُ عَلَى مَا يَجْزِمُ بِهِ

(1)

: وَجَدَ أَكْثَرَ النَّاسِ الَّذِينَ يَجْزِمُونَ بِمَا لَا يُجْزَمُ بِهِ إنَّمَا جَزْمُهُم لِنَوْعٍ مِن الْهَوَى؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 119].

وَلهَذَا تَجِدُ الْيَهُودَ يُصَمِّمُونَ وَيُصِرُّونَ عَلَى بَاطِلِهِمْ؛ لِمَا فِي نُفُوسِهِمْ مِن الْكِبْرِ وَالْحَسَدِ وَالْقَسْوَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن الْأَهْوَاءِ.

وَأَمَّا النَّصَارَى فَأَعْظَمُ ضَلَالًا مِنْهُمْ، وَإِن كَانُوا فِي الْحَادَةِ وَالْأَخْلَاقِ أَقَلَّ مِنْهُم شَرًّا، فَلَيْسُوا جَازِمِينَ بِغَالِبِ ضَلَالِهِمْ.

بَل عِنْدَ الاعْتِبَارِ: تَجِدُ مَن تَرَكَ الْهَوَى مِن الطَّائِفَتَيْنِ وَنَظَرَ نَوْعَ نَظَرٍ تبَيَّنَ لَهُ الْإِسْلَامُ حَقًّا. [4/ 29 - 30]

***

(نصائح للْمُتَعَلِّمِ والأُسْتَاذِ)

39 -

عَلَى الْمُتَعَلِّمِ أَنْ يُحْسِنَ نِيَّتَهُ فِي ذَلِكَ ويَقْصِدَ بِهِ وَجْهَ اللّهِ تَعَالَى.

وَعَلَى الْمُعَلِّمِ أَنْ يَنْصَحَ لِلْمُتَعَلِّمِ وَيَجْتَهِدَ فِي تَعْلِيمِهِ.

وَعَلَى الْمُتَعَلِّمِ أَنْ يَعْرِفَ حُرْمَةَ أُسْتَاذِهِ وَيَشْكُرَ إحْسَانَهُ إلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ مَن لَا يَشْكُرُ النَّاسَ لَا يَشْكُرُ اللّهَ، وَلَا يَجْحَدَ حَقَّهُ وَلَا يُنْكِرَ مَعْرُوفَهُ.

وَعَلَى الْمُعَلِّمِينَ أَنْ يَكُونُوا مُتَعَاوِنِينَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى.

وَليْسَ لِأَحَدٍ مِن الْمُعَلِّمِينَ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَى الْآخَرِ وَلَا يُؤْذِيَهُ بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ بِغَيْرِ حَقٍّ.

وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُعَاقِبَ أَحَدًا عَلَى غَيْرِ ظُلْمٍ وَلَا تَعَدِّي حَدٍّ وَلَا تَضْيِيعِ حَقٍّ بَل لِأَجْلِ هَوَاهُ؛ فَإِنَّ هَذَا مِن الظُّلْمِ الَّذِي حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ.

(1)

سواءٌ في الاعتقاد أو في السلوك أو في الأحكام، فلا ينبغي للإنسان أن يجزم بشيء إلا بدليل صحيح يدل على الذي جزم به، حتى يخرج من التقليد والهوى، وكلُّ مقلد ففيه نوعٌ من الهوى، وكلما كثر وعظم التقليد كثر وعظم الهوى في قلبه.

ص: 33

وَإِذَا جَنَى شَخْصٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَاقَبَ بِغَيرِ الْعُقُوبَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَيْسَ لِأَحَد مِن الْمُتَعَلِّمِينَ وَالْأُسْتَاذِين أَنْ يُعَاقِبَهُ بِمَا يَشَاءُ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُعَاوِنَهُ وَلَا يُوَافِقَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ الْمُعَلِّمُ أَو الْأُسْتَاذُ قَد أَمَرَ بِهَجْرِ شَخْصٍ، أَو بِإِهْدَارِهِ وَإِسْقَاطِهِ وَإِبْعَادِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ نُظِرَ فِيهِ:

أ- فَإِنْ كَانَ قَد فَعَلَ ذَنْبًا شَرْعِيًّا عُوقِبَ بِقَدْرِ ذَنْبِهِ بِلَا زِيادَةٍ.

ب- وَإِن لَمْ يَكن أَذْنَبَ ذَنْبًا شَرْعِيًّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَاقَبَ بِشَيْءٍ لِأَجْلِ غَرَضِ الْمُعَلِّمِ أَو غَيْرِهِ.

وَلَيْسَ لِلْمُعَلِّمِينَ أَنْ يُحَزِّبوا النَّاسَ ويفْعَلُوا مَا يُلْقِي بَيْنَهُم الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ؛ بَل يَكُونُونَ مِثْل الْإِخْوَةِ الْمُتَعَاوِبينَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].

وَلَيْسَ لِأَحَد مِنْهُم أَنْ يَأْخُذَ عَلَى أَحَدٍ عَهْدًا بِمُوَافَقَتِهِ عَلَى كُلِّ مَا يُرِيدُهُ، وَمُوَالَاةِ مَن يُوَالِيهِ، وَمُعَادَاةِ مَن يُعَادِيهِ؛ بَل مَن فَعَلَ هَذَا كَانَ مَن جِنْسِ "جنكيزخان" وَأَمْثَالِهِ، الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَن وَافَقَهُم صَدِيقًا مُوَالِيًا، وَمَن خَالَفَهُم عَدُوًّا بَاغِيًا؛ بَل عَلَيْهِم وَعَلَى أَتْبَاعِهِمْ عَهْدُ اللهِ وَرَسُولِهِ بِأَنْ يُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ، ويفْعَلُوا مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، ويُحَرِّمُوا مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَيرْعَوْا حُقُوقَ الْمُعَلِّمِينَ كَمَا أَمَرَ اللهُ وَرَسُولُهُ.

فَإِنْ كَانَ أسْتَاذُ أَحَدٍ مَظْلُومًا نَصَرَهُ، وَإن كَانَ ظَالِمًا لَمْ يُعَاوِنْهُ عَلَى الظُّلْمِ بَل يَمْنَعُه مِنْهُ.

وَإِذَا وَقَعَ بَيْنَ مُعَلِّمٍ وَمُعَلِّمٍ، أَو تِلْمِيذٍ وَتلْمِيذٍ، أَو مُعَلِّمٍ وَيلْمِيذٍ خُصُومَةٌ وَمُشَاجَرَةٌ: لَمْ يَجُزْ لِأَحَد أَنْ يُعِينَ أَحَدَهُمَا حَتَّى يَعْلَمَ الْحَقَّ، فَلَا يُعَاوِنُهُ بِجَهْل وَلَا بِهَوَى؛ بَل يَنْظُرُ فِي الْأمْرِ: فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ أَعَانَ الْمُحِقَّ مِنْهُمَا عَلَى الْمُبْطِلِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُحِقُّ مِن أَصْحَابِهِ أَو أَصْحَابِ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُبْطِلُ

ص: 34

مِن أَصْحَابِهِ أو أَصْحَابِ غَيْرِهِ، فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ عِبَادَةَ اللهِ وَحْدَهُ وَطَاعَةَ رَسُولِهِ، وَاتِّبَاعَ الْحَقِّ وَالْقِيَامَ بِالْقِسْطِ.

وَمَن مَالَ مَعَ صَاحِبِهِ -سَوَاءٌ كَانَ الْحَقُّ لَهُ أَو عَلَيْهِ- فَقَد حَكَمَ بِحُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَخَرَجَ عَن حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَالْوَاجِبُ عَلَى جَمِيعِهِمْ أَنْ يَكُونُوا يَدًا وَاحِدَةً مَعَ الْمُحِقِّ عَلَى الْمُبْطِلِ، فَيَكُون الْمُعَظَّمُ عِنْدَهُم مَن عَظَّمَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَالْمُقَدَّمُ عِنْدَهُم مَن قَدَّمَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَالْمَحْبُوبُ عِنْدَهُم مَن أَحَبَّهُ الله وَرَسُولُهُ، وَالْمُهَانُ عِنْدَهُم مَن أَهَانَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، بِحَسَبِ مَا يُرْضِي اللّهَ وَرَسُولَة لَا بِحَسَبِ الْأَهْوَاءِ. [28/ 13 - 17]

40 -

طَالِبُ الْعِلْمِ إنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِطَلَبِهِ فِعْلُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَتَرْكُ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مِن الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: وَإِلَّا وَقَعَ فِي الضَّلَالِ. [22/ 307]

41 -

إذَا مَيَّزَ الْعَالِمُ بَيْنَ مَا قَالَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَمَا لَمْ يَقُلْهُ: فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ:

أ- أَنْ يَفْهَمَ فرَادَهُ ويفْقَهَ مَا قَالَهُ.

ب- وَيجْمَعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ ويضُمَّ كُلَّ شَكْلٍ إلَى شَكْلِهِ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللهُ بَيْنَهُ وَرَسُولُهُ، ويُفَرِّقُ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللهُ بَيْنَهُ وَرَسُولُهُ.

فَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، ويجِبُ تَلَقِّيهِ وَقَبُولُهُ، وَبِهِ سَادَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ كَالْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ. [27/ 316]

42 -

لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَّبعَ زَلَّاتِ الْعُلَمَاءِ، كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ إلَّا بِمَا هُم لَهُ أَهْلٌ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى عَفَا لِلْمُؤْمِنِينَ عَمَّا أَخْطَئُوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] قَالَ اللهُ: (قَد فَعَلْت).

وَأَمَرَنَا أَنْ نَتَّبعَ مَا أُنْزِلَ إلَيْنَا مِن رَبِّنَا، وَلَا نَتَّبعَ مِن دُونِهِ أَوْليَاءَ، وَأمَرَنَا أَنْ لَا نُطِيعَ مَخْلُوقًا فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ وَنَسْتَغْفِرَ لِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ، فَنَقولَ:{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} الْآيَةَ [الحشر: 10].

ص: 35

وَهَذَا أَمْرٌ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مَا كَانَ يُشْبِهُ هَذَا مِن الْأُمُورِ، وَنُعَظِّمُ أمْرَهُ تَعَالَى بِالطَّاعَةِ للهِ وَرَسُولِهِ، وَنَرْعَى حُقُوقَ الْمُسْلِمِينَ، لَا سِيَّمَا أَهْلَ الْعِلْمِ مِنْهُم كَمَا أَمَرَ اللهُ وَرَسُولُهُ.

وَمَن عَدَلَ عَن هَذِهِ الطَّرِيقِ: فَقَد عَدَلَ عَن اتِّبَاعِ الْحُجَّةِ إلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى فِي التَّقْلِيدِ، وَآذَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا، فَهُوَ مِن الظَّالِمِينَ.

وَمَن عَظَّمَ حُرُمَاتِ اللهِ وَأَحْسَنَ إلَى عِبَادِ اللهِ: كَانَ مِن أَوْليَاءِ اللهِ الْمُتَّقِينَ. [22/ 239]

* * *

(كيفية حصول العلم)

43 -

الْعِلْمُ يَحْصُلُ فِي النَّفْسِ كَمَا تَحْصُلُ سَائِرُ الْإِدْرَاكَاتِ وَالْحَرَكَاتِ بِمَا يَجْعَلُهُ اللهُ مِن الْأسْبَابِ.

وَعَامَّةُ ذَلِكَ

(1)

بِمَلَائِكَةِ اللهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يُنْزِلُ بِهَا عَلَى قُلُوبِ عِبَادِهِ مِن الْعِلْمِ وَالْقُوَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا يَشَاءُ.

وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِحَسَّانِ: "اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ القدس"

(2)

.

وَقَالَ تَعَالَى: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22].

وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: "إنَّ لِلْمَلَكِ لَمَّةً، وَللشَّيْطَانِ لَمَّةً، فَلَمَّةُ الْمَلَكِ: إيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ إيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ".

وَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي قَالَهُ ابْن مَسْعُودٍ هُوَ مَحْفُوظٌ عَنْهُ، وَرُبَّمَا رَفَعَهُ بَعْضُهُم إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

(1)

أي: العلوم النافعة.

(2)

رواه البخاري (453)، ومسلم (2485).

ص: 36

وَهُوَ كَلَامٌ جَامِعٌ لأُصُولِ مَا يَكُونُ مِن الْعَبْدِ مِن عِلْمٍ وَعَمَلٍ مِن شُعُورٍ وَإِرَادَةٍ. فَمَبْدَأُ الْعِلْمِ الْحَقِّ وَالْإِرَادَةِ الصَّالِحَةِ مِن لَمَّةِ الْمَلَكِ.

وَمَبْدَأُ الِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ وَالْإِرَادَةِ الْفَاسِدَةِ مِن لَمَّةِ الشَّيْطَانِ.

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} [البقرة: 268].

وَالشَّيْطَانُ وَسْوَاسٌ خَنَّاسٌ، إذَا ذَكَرَ الْعَبْدُ رَبَّهُ خَنَسَ، فَإِذَا غَفَلَ عَن ذِكْرِهِ وَسْوَسَ.

فَلِهَذَا كَانَ تَرْكُ ذِكْرِ اللهِ سَبَبًا وَمَبْدأً لِنُزُولِ الِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ، وَالْإِرَادَةِ الْفَاسِدَةِ فِي الْقَلْبِ.

وَمِن ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى: تِلَاوَةُ كِتَابِهِ وَفَهْمُهُ وَمُذَاكَرَةُ الْعِلْمِ

(1)

. [4/ 31 - 34]

* * *

(قول مُعَاذ بْن جَبَلٍ في فضل وشرف العلم)

44 -

قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ -ويُرْوَى مَرْفُوعًا- وَهُوَ مَحْفُوظٌ عَن مُعَاذٍ:

"عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ؛ فَإِنَّ تَعْلِيمَهُ حَسَنَةٌ، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ، وَمُذَاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ، وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ، وَتَعْلِيمَهُ لِمَن لَا يَعْلَمُهُ صَدَقَة، وَبَذْلَهُ لِأَهْلِهِ قُرْبَةٌ".

فَجَعَلَ الْبَاحِثَ عَن الْعِلْمِ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللهِ. [4/ 109]

* * *

(لا اعتبار لشهرة الأحاديث عند العامة)

45 -

كَمْ مِن أَشْيَاءَ مَشْهُورةٍ عِنْدَ الْعَامَّةِ؛ بَل وَعِنْدَ كَثِيرٍ مِن الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَالْمُتَكَلِّمِين أَو أَكْثَرِهِمْ، ثُمَّ عِنْدَ حُكَّامِ الْحَدِيثِ الْعَارِفِينَ بِهِ لَا أَصْلَ

(1)

فحضور الدروس والمحاضرات النافعة، وقراءة كتب العلم: يُعتبَرُ من ذكر الله تعالى؛ فطالب العلم وهو في درسه وبين كتبه في ذكر الله تعالى، وكل فضلٍ جاء في الذكر فإنه يشمله.

ص: 37

لَهُ؛ بَل قَد يَقْطَعُونَ بِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ، وَكَمْ مِن أَشْيَاءَ مَشْهُورَةٍ عِنْدَ الْعَارِفِينَ بِالْحَدِيثِ؛ بَل مُتَوَاتِرَةٍ عِنْدَهُمْ، وَأَكْثَرُ الْعَامَّةِ؛ بَل كَثِيرٌ مِن الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ لَمْ يَعْتَنُوا بِالْحَدِيثِ مَا سَمِعُوهَا. [6/ 409 - 410]

* * *

(ما لا بد للسالك والعارف منه)

46 -

قال ابن القيم رحمه الله: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: العارف لا يرى له على أحد حقًّا، ولا يشهد له على غيره فضلًا؛ ولذلك لا يعاتب، ولا يطالب، ولا يضارب.

ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- من ذلك أمرًا لم أشاهده من غيره. وكان يقول كثيرًا: مَا لِي شَيْءٌ، وَلَا مِنِّي شَيْءٌ، وَلَا فِيَّ شَيْءٌ، وَكَانَ كَثيرًا مَا يَتَمَثَّلُ بِهَذَا الْبَيْتِ:

أَنَا الْمُكَدِّي وَابْنُ الْمُكَدِّي

وَهَكَذَا كَانَ أبِي وَجَدِّي

وَكَانَ إِذَا أُثْنِي عَلَيْهِ فِي وَجْهِهِ يَقُولُ: وَاللهِ إِنِّي إِلَى الْآنَ أجَدِّدُ إِسْلَامِي كُلَّ وَقْتٍ، وَمَا أَسْلَمْتُ بَعْدُ إِسْلَامًا جَيِّدًا. [مدارج السالكين 1/ 520]

* * *

(النهي عن التعصب للأئمة والعلماء)

47 -

أَئِمَّةُ الدِّينِ هُم عَلَى مِنْهَاجِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ، وَالصَّحَابَة كَانُوا مُؤْتَلِفِينَ مُتَّفِقِينَ، وَإِن تَنَازَعُوا فِي بَعْضِ فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ فِي الطَّهَارَةِ أو الصَّلَاةِ أو الْحَجِّ أو الطَّلَاقِ أو الْفَرَائِضِ أَو غَيْرِ ذَلِكَ.

وَمَن تَعَصَّبَ لِوَاحِد بِعَيْنِهِ مِن الْأئِمَّةِ دُونَ الْبَاقِينَ: فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَن تَعَصَّبَ لِوَاحِدِ بِعَيْنِهِ مِن الصَّحَابَةِ دُونَ الْبَاقِينَ؛ كالرافضي الَّذِي يَتَعَصَّبُ لِعَلِيِّ دُونَ الْخُلَفَاءِ الثَّلَاثَةِ وَجُمْهُورِ الصَّحَابَةِ، وَكَالْخَارِجِيِّ الَّذِي يَقْدَحُ فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهما.

ص: 38

فَهَذِهِ طُرُقُ أَهْلِ الْبِدَع وَالْأَهْوَاءِ الَّذِينَ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّهُم مَذْمُومُونَ خَارِجُونَ عَن الشَّرِيعَةِ وَالْمِنْهَاجِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم.

فَمَن تَعَصَّبَ لِوَاحِدٍ مِن الأئِمَّةِ بِعَيْنِهِ فَفِيهِ شَبَهٌ مِن هَؤُلَاءِ.

فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنِ مُوَالَاةُ الْمُؤْمِنِينَ وَعُلَمَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْ يَقْصِدَ الْحَقَّ وَيَتَّبِعَهُ حَيْثُ وَجَدَهُ، ويعْلَمَ أَنَّ مَن اجْتَهَدَ مِنْهُم فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَمَن اجْتَهَدَ مِنْهُم فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ لِاجْتِهَادِهِ، وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ لَهُ. [22/ 252 - 253]

* * *

ص: 39

‌العقيدة وما ينافيها

48 -

من كان توكله على الله ودعاؤه له هو في حصول مباحات فهو من العامة، وإن كان في حصول مستحبات وواجبات فهو من الخاصة، كما أن من دعاه وتوكل عليه في حصول محرمات فهو ظالم لنفسه، ومن أعرض عن التوكل فهو عاص لله ورسوله؛ بل خارج عن حقيقة الإيمان. [10/ 36]

49 -

هاتان السورتان:- {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} [الكافرون: 1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص:1]- كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما في صلاة التطوع كركعتي الطواف، وسُنَّة الفجر، وهما متضمنتان للتوحيد.

فأما {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} : فهي متضمنة للتوحيد العملي الإرادي، وهو إخلاص الدين لله بالقصد والإرادة. [10/ 54]

وأما سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} : فمتضمنة للتوحيد القولي العملي

(1)

.

50 -

الرجاء وإن تعلق بدخول الجنة فالجنة اسم جامع لكل نعيم، وأعلاه النظر إلى وجه الله.

ومن هنا يتبين زوال الاشتباه في قول من قال: ما عبدتك شوقًا إلى جنتك ولا خوفا من نارك، وإنما عبدتك شوقًا إلى رؤيتك، فإن هذا القائل ظن

(1)

هكذا في جميع النسخ التي اطلعت عليها، ولعل الصواب: العلمي، كما عبّر به تلميذه ابن القيم في كتابه: اجتماع الجيوش الإسلامية (2/ 94) حيث قال: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} [الكافرون: 1] متضمنة للتوحيد العملي الإرادي، وسورة:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص:1] متضمنة للتوحيد الخبري العلمي.

ص: 40

هو ومن تابعه أن الجنة لا يدخل في مسماها إلا الأكل والشرب واللباس والنكاح والسماع ونحو ذلك مما فيه التمتع بالمخلوقات. [10/ 62 - 63]

51 -

فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِن رُوحِهِ وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائكَتَهُ وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيءٍ، فَلِمَاذَا أَخْرَجْتَنَا وَنَفْسَكَ مِن الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ، فَهَل وَجَدْثَ ذَلِكَ مَكْتُوبًا عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى".

وَآدَمُ عليه السلام لَمْ يَحْتَجَّ عَلَى مُوسَى بِالْقَدَرِ ظَنًّا أَنَّ الْمُذْنِبَ يَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ وَلَا عَاقِلٌ، وَلَو كَانَ هَذَا عُذْرًا لَكَانَ عُذْرًا لإبليس، وَقَوْمِ نُوحٍ وَقَوْمِ هُودٍ وَكُلِّ كَافِرٍ.

وَلَا مُوسَى لَامَ آدمَ أَيْضًا لِأَجْلِ الذَّنْبِ، فَإِنَّ آدَمَ قَد تَابَ إلَى رَبِّهِ فَاجْتَبَاهُ وَهَدَى، وَلَكِنْ لَامَهُ لِأجْلِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي لَحِقَتْهُم بِالْخَطِيئَةِ، وَلهَذَا قَالَ: فَلِمَاذَا أَخْرَجْتَنَا وَنَفْسَكَ مِن الْجَنَّةِ؟ فَأَجَابَهُ آدمَ أَنَّ هَذَا كَانَ مَكْتُوبًا قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ، فَكَانَ الْعَمَلُ وَالْمُصِيبَةُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَيْهِ مُقَدَّرًا، وَمَا قُدّرَ مِن الْمَصَائِبِ يَجِبُ الِاسْتِسْلَامُ لَهُ، فَإِنَّهُ مِن تَمَامِ الرضى باللهِ رَبًّا. [10/ 159 - 160]

52 -

هَذَا اللَّفْظَ (سُبْحَانَكَ) يَتَضَمَّنُ تَعْظِيمَ الرَّبِّ وَتَنْزِيهَهُ.

فَالتَّسْبِيحُ الْمُتَضَمِّنُ تَنْزِيهَهُ عَن السُّوءِ، وَنَفْيُ النَّقْصِ عَنْهُ يَتَضَمَّنُ تَعْظِيمَهُ. [10/ 284 - 250]

53 -

مِن النَّاسِ مَن يَحْسَبُ أَنَّ "الْجَلَالَ" هُوَ الصِّفَاتُ السَّلْبِيَّةُ، وَ"الْإِكْرَامَ" الصِّفَات الثُّبُوتِيَّةُ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الرَّازِي وَنَحْوُهُ.

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ كِلَيْهِمَا صِفَاتٌ ثُبُوتِيَّةٌ، وإثْبَاتُ الْكَمَالِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ النَّقَائِص، لَكِنْ ذَكَرَ نَوْعَي الثُّبُوتِ وَهُوَ مَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحَبَّ وَمَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعَظَّمَ: كَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [لقمان: 26] وَقَوْلِ سُلَيْمَانَ عليه السلام: {فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}

ص: 41

[النمل: 40] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} [التغابن: 1] فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَن يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ وَالْغِنَى لَا يَكُونُ مَحْمُودًا بَل مَذْمُومًا، إذِ الْحَمْدُ يَتَضَمَّنُ الْإِخْبَارَ عَن الْمَحْمُودِ بِمَحَاسِنِهِ الْمَحْبُوبَةِ، فَيَتَضَمَّنُ إخْبَارًا بِمَحَاسِنِ الْمَحْبُوبِ مَحَبَّةً لَهُ.

وَكَثِيرٌ مِمَن لَهُ نَصِيبٌ مِن الْحَمْدِ وَالْمَحَبَّةِ يَكُونُ فِيهِ عَجْزٌ وَضَعْفٌ وَذُلٌّ يُنَافِي الْعَظَمَةَ وَالْغِنَى وَالْمُلْكَ.

فَالْأَوَّلُ يُهَابُ ويُخَافُ وَلَا يُحَبُّ.

وَهَذَا يُحَبُّ وَيُحْمَدُ وَلَا يُهَابُ وَلَا يُخَافُ.

وَالْكَمَالُ اجْتِمَاعُ الْوَصْفَيْن. [10/ 252]

54 -

النَّاسُ وَإِن كَانُوا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ: لَا إلَهَ إلَّا الله، فَقَوْلُ الْعَبْدِ لَهَا مُخْلِصًا مِن قَلْبِهِ لَهُ حَقِيقَةٌ أُخْرَى، وَبِحَسَبِ تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ تَكْمُلُ طَاعَةُ اللهِ.

وَكُلَّمَا حَقَّقَ الْعَبْدُ الْإِخْلَاصَ فِي قَوْلِ: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ خَرَجَ مِن قَلْبِهِ تَأَلُّهُ مَا يَهْوَاهُ، وَتُصْرَفُ عَنْهُ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]

(1)

.

فَعَلَّلَ صَرْفَ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ عَنْهُ بِأَنَّهُ مِن عِبَادِ اللهِ الْمُخْلِصِينَ، وَهَؤُلَاءِ هُم الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] وَقَالَ الشَّيْطَانُ: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82، 83].

وَقَد ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَن قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ مُخْلِصًا مِن قَلْبِهِ حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ" فَإِنَّ الْإِخْلَاصَ يَنْفِي أَسْبَابَ دُخُولِ النَّارِ، فَمَن دَخَلَ النَّارَ مِن الْقَائِلِينَ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ لَمْ يُحَقِّقْ إخْلَاصَهَا الْمُحَرِّمَ لَهُ عَلَى

(1)

وفي قراءة أخرى متواترة: الْمُخلِصِين، بكسر اللام، فبينت القراءتان أنّ الله تعالى يصرف عن عباده المخلِصين السوء والفحشاء، وأنه بسبب ذلك جعلهم من المختارين المصطفين الأخيار.

ص: 42

النَّارِ؛ بَل كَانَ فِي قَلْبِهِ نَوْعٌ مِن الشِّرْكِ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِيمَا أَدْخَلَهُ النَّارَ، وَالشِّرْكُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِن دَبِيبِ النَّمْلِ؛ وَلهَذَا كَانَ الْعَبْدُ مَأمُورًا فِي كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ يَقُولَ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]. [10/ 260 - 261]

55 -

قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]. فَلَمْ يَقُلْ: "وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأَطِيعُوا أُولي الْأمْرِ مِنْكُمْ"؛ بَل جَعَلَ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ دَاخِلَةً فِي طَاعَةِ الرَّسُولِ، وَطَاعَةُ الرَّسُولِ طَاعَةٌ للهِ، وَأَعَادَ الْفِعْلَ فِي طَاعَةِ الرَّسُولِ دُونَ طَاعَةِ أُولي الْأَمْرِ؛ فَإنَّهُ مَن يُطِع الرَّسُولَ فَقَد أطَاعَ اللهَ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ إذَا أَمَرَهُ الرَّسُولُ بِأَمْرٍ أَنْ يَنْظُرَ هَل أَمَرَ اللهُ بِهِ أَمْ لَا، بِخِلَافِ أُولي الْأَمْرِ، فَإِنَّهُم قَد يَأْمُرُونَ بِمَعْصِيَةِ اللهِ، فَلَيْسَ كُلُّ مَن أَطَاعَهُم مُطِيعًا للهِ؛ بَل لَا بُدَّ فِيمَا يَأْمُرُونَ بِهِ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ مَعْصِيَةً للهِ، ويُنْظَرَ هَل أَمَرَ اللهُ بِهِ أَمْ لَا؟ سَوَاءٌ كَانَ "أُولي الْأَمْرِ" مِن الْعُلَمَاءِ أَو الْأمَرَاءِ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا تَقْلِيدُ الْعُلَمَاءِ وَطَاعَةُ أُمَرَاءِ السَّرَايَا وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَبِهَذَا يَكُونُ الدِّينُ كلُّهُ للهِ.

56 -

إِذَا أُفْرِدَ لَفْظُ التَّوْحِيدِ فَهُوَ يَتَضَمَّنُ قَوْلَ الْقَلْبِ وَعَمَلَهُ، وَالتَّوَكُّلُ مِن تَمَامِ التَّوْحِيدِ.

وَهَذَا كَلَفْظِ "الْإِيمَانِ" فَإِنَّهُ إذَا أُفْرِدَ دَخَلَتْ فِيهِ الْأَعْمَالُ الْبَاطِنَةُ وَالظَّاهِرَةُ، وَقِيلَ: الْإِيمَان قَوْلٌ وَعَمَلٌ؛ أَيْ: قَوْلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَعَمَلُ الْقَلْبِ وَالْجَوَارحِ. [10/ 266 - 267]

وَالْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ يَدْخُلُ فِيهِ الْإِسْلَامُ.

وَكَذَلِكَ لَفْظُ "الْعَمَلِ" فَإِنَّ الْإسْلَامَ الْمَذْكُورَ هُوَ مِن الْعَمَلِ، وَالْعَمَلُ الظَّاهِرُ هُوَ مُوجَبُ إيمَانِ الْقَلْبِ وَمُقْتَضَاهُ، فَإِذَا حَصَلَ إيمَانُ الْقَلْبِ حَصَلَ إيمَانُ الْجَوَارحِ ضَرُورَةً، وَإيمَانُ الْقَلْبِ لَا بُدَّ فِيهِ مِن تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَانْقِيَادِهِ، وَإِلَّا فَلَو

ص: 43

صَدَّقَ قَلْبُهُ بِأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ وَهُوَ يُبْغِضهُ وَيحْسُدُهُ ويسْتَكْبِرُ عَن مُتَابَعَتِهِ لَمْ يَكُن قَد آمنَ قَلْبُهُ. [10/ 268 - 269]

57 -

الْإِيمَانُ وَإِن تَضَمَّنَ التَّصْدِيقَ فَلَيْسَ هُوَ مُرَادِفًا لَهُ، فَلَا يُقَالُ لِكُلِّ مُصَدِّقٍ بِشَيءِ: إنَّهُ مُؤْمِنٌ بِهِ. فَلَو قَالَ: أَنَا أُصَدِّقُ بِأَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ وَأَنَّ السَّمَاءَ فَوْقَنَا وَالْأَرْضَ تَحْتَنَا وَنَحْو ذَلِكَ مِمَّا يُشَاهِدُهُ النَّاسُ ويعْلَمُونَهُ لَمْ يُقَلْ لِهَذَا: إنَّهُ مُؤْمِنٌ بِذَلِكَ؛ بَل لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِيمَن أَخْبَرَ بِشَيءٍ مِن الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ؛ كَقَوْلِ إخْوَةِ يُوسُفَ: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف:117] فَإِنَّهُم أَخْبَرُوهُ بِمَا غَابَ عَنْهُ، وَهُم يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَن آمَنَ لَهُ وَآمَنَ بِهِ؛ فَالْأَوَّلُ يُقَالُ لِلْمُخْبِرِ، وَالثَّانِي يُقَالُ لِلْمُخْبَرِ بِهِ. [10/ 269 - 270]

58 -

لَنْ يَسْتَغْنِيَ الْقَلْبُ عَن جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ إلَّا بِأَنْ يَكُونَ اللهُ هُوَ مَوْلَاهُ الَّذِي لَا يَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ، وَلَا يَسْتَعِينُ إلَّا بِهِ، وَلَا يَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَيْهِ، وَلَا يَفْرَحُ إلَّا بِمَا يُحِبُّهُ ويرْضاهُ، وَلَا يَكْرَهُ إلَّا مَا يُبْغِضُهُ الرَّبُّ وَيَكْرَهُهُ، وَلَا يُوَالِي إلَّا مَن وَالَاهُ اللهُ، وَلَا يُعَادِي إلَّا مَن عَادَاهُ الله، وَلَا يُحِبُّ إلَّا للهِ، وَلَا يُبْغِضُ شَيْئًا إلَّا للهِ، وَلَا يُعْطِي إلَّا للهِ، وَلَا يَمْنَعُ إلَّا للهِ.

فَكُلَّمَا قَوِيَ إخْلَاصُ دِينِهِ للهِ كَمُلَتْ عُبُودِيَّتُهُ وَاسْتِغْنَاؤُهُ عَن الْمَخْلُوقَاتِ، وَبِكَمَالِ عُبُودِيَّتِهِ للهِ يُبَرِّئُهُ مِن الْكِبْرِ وَالشِّرْكِ. [10/ 198]

59 -

إِنَّ الْإِنْسَانَ قَد يَقْصِدُ سُؤَالَ اللهَ وَحْدَهُ وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ، لَكِنْ فِي أُمُورٍ لَا يُحِبُّهَا اللهُ؛ بَل يَكْرَهُهَا وَيَنْهَى عَنْهَا، فَهَذَا وَإِن كَانَ مُخْلِصًا لَهُ فِي سُؤَالِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، لَكنْ لَيْسَ هُوَ مُخْلِصًا فِي عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ.

وَطَائِفَةٌ أُخْرَى قَد يَقْصِدُونَ طَاعَةَ اللهَ وَرَسُولِهِ لَكِنْ لَا يُحَقِّقُونَ التَّوَكُّلَ عَلَيْهِ وَالِاسْتِعَانَةَ بِهِ، فَهَؤلَاءِ يُثَابُونَ عَلَى حُسْنِ نِيَّتِهِمْ وَعَلَى طَاعَتِهِمْ، لَكِنَّهُم مَخْذُولُونَ فِيمَا يَقْصِدُونَهْ إذ لَمْ يُحَقِّقُوا الِاسْتِعَانَةَ باللهِ وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ، وَلهَذَا يُبْتَلَى الْوَاحِدُ مِن هَؤُلَاءِ بِالضَّعْفِ وَالْجَزَعِ تَارَةً، وَبِالْإِعْجَابِ أُخْرَى، فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مُرَادُهُ مِن

ص: 44

الْخَيْرِ كَانَ لِضَعْفِهِ، وَرُبَّمَا حَصَلَ لَهُ جَزَعٌ، فَإِنْ حَصَلَ فرَادُهُ نَظَرَ إلَى نَفْسِهِ وَقُوَّتِهِ فَحَصَلَ لَهُ إعْجَابٌ، وقد يُعْجَبُ بِحَالِهِ فَيَظُنُّ حُصُولَ مُرَادِهِ فَيُخْذَلُ

(1)

.

قَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25] إلَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)} [التوبة: 27].

وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُ النَّاسُ بَيْنَ الرِّيَاءِ وَالْعُجْبِ، فَالرِّيَاءُ مِن بَابِ الْإِشْرَاكِ بِالْخَلْقِ، وَالْعُجْبُ مِن بَابِ الْإِشْرَاكِ بِالنَّفْسِ، وَهَذَا حَالُ الْمُسْتَكْبِرِ، فَالْمُرَائي لَا يُحَقِّقُ قَوْلَهُ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5]، وَالْمُعْجَبُ لَا يُحَقِّقُ قَوْلَهُ:{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، فَمَن حَقَّقَ قَوْلَهُ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} خَرَجَ عَن الرِّيَاءِ، وَمَن حَقَّقَ قَوْلَهُ:{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} خَرَجَ عَن الْإِعْجَابِ. [10/ 276 - 277]

60 -

لم يؤمر بالحزن المنافي للرضى قط، مع أنه لا فائدة فيه، فقد يكون فيه مضرة لكنه يعفى عنه إذا لم يقترن به ما يكرهه الله.

لكن البكاء على الميت على وجه الرحمة حسن مستحب، وذلك لا ينافي الرضا، بخلاف البكاء عليه لفوات حظه منه، وبهذا يعرف معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لما بكى على الميت وقال:"إِنَّ هَذَهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا الله فِي قُلُوبِ محِبَادِه، وَإِنَّمَا يَرْحَم اللهُ مِنْ عِبَاده الرُّحَمَاء"

(2)

، فإن هذا ليس كبكاء من يبكي لحظه لا لرحمة الميت، فإن الفضيل بن عياض لما مات ابنه علي ضحك

(3)

وقال: رأيت أن الله قد قضى فأحببت أن أرضى بما قضى الله به، حاله حال حسن بالنسبة إلى أهل الجزع.

(1)

من أخطاء بعض طلاب العلم وأهل الصلاح أنهم ينشغلون بالعلم أو الدعوة عن تصحيح القلب والنية، فتسري إليهم أمراض القلب من العجب والغرور والاستطالة على الآخرين.

(2)

متفق عليه.

(3)

في الأصل: (فضحك)! ولعل الصواب حذف الفاء.

ص: 45

وأما رحمة الميت مع الرضى بالقضاء وحمد الله تعالى تعالى النبي صلى الله عليه وسلم فهذا أكمل. كما قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد: 17]، فذكر سبحانه التواصي بالصبر والمرحمة.

[10/ 46 - 47]

61 -

يُحَقِّقُ قَوْلَهُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} تَوْحِيد الْإِلَهِيَّةِ وَتَوْحِيد الرُّبُوبِيَّةِ، وَإِن كَانَت الْإِلَهِيَّةُ تَتَضَمَّنُ الرُّبُوبِيَّةَ، وَالرُّبُوبِيَّةُ تَسْتَلْزِمُ الْإِلَهِيَّةَ، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا إذَا تَضَمَّنَ الْآخَرَ عِنْدَ الِانْفِرَادِ لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَخْتَصَّ بِمَعْنَاهُ عِنْدَ الِاقْتِرَانِ.

وَلهَذَا كَانَت الْعِبَادَةُ مُتَعَلِّقَةً بِاسْمِهِ اللهِ وَالسُّؤَالُ مُتَعَلِّقًا بِاسْمِهِ الرَّبِّ .. وَلَمَّا كَانَت الْعِبَادَةُ مُتَعَلِّقَةً بِاسْمِ اللهِ تَعَالَى جَاءَت الْأَذْكَارُ الْمَشْرُوعَةُ بِهَذَا الِاسْمِ، مِثْلُ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ. وَمِثْلُ الشَّهَادَتَيْنِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ فَكَثِيرًا مَا يَجِيءُ بِاسْمِ الرَّبِّ؛ كَقَوْلِ آدمَ وَحَوَّاءَ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23]. [10/ 283 - 285]

62 -

تَنَازَعَ النَّاسُ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] فَعَلَى قَوْلِ الْخَوَارجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ لَا تُقْبَلُ حَسَنَةٌ إلَّا مِمَّن اتَّقَاهُ مُطْلَقًا فَلَمْ يَأْتِ كَبِيرَةً.

وَعِنْدَ الْمُرْجِئَةِ إنَّمَا يَتَقَبَّلُ مِمَّن اتَّقَى الشِّرْكَ فَجَعَلُوا أَهْلَ الْكبَائِرِ دَاخِلِينَ فِي اسْمِ "الْمُتَّقِينَ".

وَعِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يُتَقَبَّلُ الْعَمَلُ مِمَّن اتَّقَى اللهَ فِيهِ، فَعَمِلَهُ خَالِصًا للهِ مُوَافِقًا لِأَمْرِ اللهِ، فَمَن اتَّقَاهُ فِي عَمَلٍ تَقَبَّلَهُ مِنْهُ وَإِن كَانَ عَاصِيًا فِي غَيْرِهِ، وَمَن لَمْ يَتَّقِهِ فِيهِ لَمْ يَتَقَبَّلْهُ مِنْهُ وَإِن كَانَ مُطِيعًا فِي غَيْرِهِ. [10/ 322]

63 -

الدِّينُ الْقَائِمُ بِالْقَلْبِ مِن الْإِيمَانِ عِلْمًا وَحَالًا، هُوَ الْأَصْلُ، وَالْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ هِيَ الْفُرُوعُ، وَهِيَ كَمَالُ الْإِيمَانِ.

فَالدِّينُ أَوَّلُ مَا يُبْنَى مِن أُصُولِهِ وَيَكْمُلُ بِفُرُوعِهِ، كَمَا أَنْزَلَ اللهُ بِمَكَّةَ أُصُولَهُ

ص: 46

مِن التَّوْحِيدِ وَالْأَمْثَالِ الَّتِىِ هِيَ الْمَقَايِيسُ الْعَقْلِيَّةُ وَالْقِصَصُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ، ثُمَّ أَنْزَلَ بِالْمَدِينَةِ -لَمَّا صَارَ لَة قُوَّةٌ- فُرُوعَهُ الظَّاهِرَةَ مِن الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالْجِهَادِ وَالصّيَامِ وَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالزنى وَالْمَيْسِرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن وَاجِبَاتِهِ وَمُحَرَّمَاتِهِ. [10/ 355]

64 -

الْبَرَاءَةُ ضِدُّ الْوِلَايَةِ، وَأَصِلُ الْبَرَاءَةِ الْبُغْضُ، وَأَصْلُ الْوِلَايَةِ الْحُبُّ. [10/ 465]

65 -

لِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ: {حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة: 95] وَ {عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 7] وَ {عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 5] مَقَالَاتٌ مَعْرُوفَةٌ.

مِنْهَا: أَنْ يُقَالَ: {عِلْمَ الْيَقِينِ} مَا عَلِمَهُ بِالسَّمَاعِ وَالْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ وَالنَّظَرِ.

وَ {عَيْنَ الْيَقِينِ} مَا شَاهَدَهُ وَعَايَنَهُ بِالْبَصَرِ.

وَ {حَقُّ الْيَقِينِ} مَا بَاشَرَهُ وَوَجَدَهُ وَذَاقَهُ وَعَرَفَهُ بِالِاعْتِبَارِ.

فَالْأُولَى: مِثْلُ مَن أَخْبَرَ أَنَّ هُنَاكَ عَسَلًا وَصَدَّقَ الْمُخْبِرَ، أَو رَأَى آثَارَ الْعَسَلِ فَاسْتَدَلَّ عَلَى وُجُودِهِ.

وَالثَّاني: مِثْلُ مَن رَأَى الْعَسَلَ وَشَاهَدَهُ وَعَايَنَهُ.

وَالثَّالِثُ: مِثْلُ مَن ذَاقَ الْعَسَلَ وَوَجَدَ طَعْمَهُ وَحَلَاوَتَهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهُ.

وَالنَّاسُ فِيمَا أُخْبِرُوا بِهِ مِن أَمْرِ الْآخِرَةِ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ:

إحْدَاهَا: الْعِلْمُ بِذَلِكَ؛ لِمَا أَخْبَرَتْهُم الرُّسُلُ وَمَا قَامَ مِن الْأَدِلَّةِ عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ.

الثانِيَةُ: إذَا عَايَنُوا مَا وُعِدُوا بِهِ مِن الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ.

وَالثَّالِثَةُ: إذَا بَاشَروا ذَلِكَ؛ فَدَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ؛ وَذَاقُوا مَا كَانُوا يُوعَدُونَ، وَدَخَلَ أَهْلُ النَّارِ النَّارَ وَذَاقُوا مَا كَانُوا يُوعَدُونَ.

ص: 47

وَمِن ذَلِكَ مَا يَجِدُونَهُ مِن ثَمَرَةِ التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ وَالتَّوَكلُ وَالدُّعَاءُ للهِ وَحْدَهُ، فَإِنَّ النَّاسَ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ:

"مِنْهُم" مَن عَلِمَ ذَلِكَ سَمَاعًا وَاسْتِدْلَالًا.

"وَمِنْهُم" مَن شَاهَدَ وَعَايَنَ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ.

وَ"مِنْهُم" مَن وَجَدَ حَقِيقَةَ الْإِخْلَاصِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ والِالْتِجَاءِ إلَيْهِ وَالِاسْتِعَانَة بِهِ، وَقَطَعَ التَعَلُّقَ بِمَا سِوَاهُ. [10/ 645 - 650]

66 -

أَرْجَحُ الْمَكَاسِبِ: التَّوَكُّل عَلَى اللهِ وَالثِّقَةُ بِكِفَايَتِهِ وَحُسْنُ الظَّنِّ بِهِ. [10/ 662]

67 -

شَكَا أَصْحَاب رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَيْهِ فَقَالُوا: إِنَّا نَجِدُ فِى أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ. قَالَ "وَقَد وَجَدْتُمُوهُ؟ ".

قَالُوا نَعَمْ. قَالَ "ذَاكَ صَرِيحُ الإيمَانِ"

(1)

.

فَهُنَا لَمَّا اقْتَرَنَ بِالْوَسْوَاسِ هَذَا الْبُغْضُ وَهَذِهِ الْكَرَاهَةُ كَانَ هُوَ صَرِيحَ الْإِيمَانِ وَهُوَ خَالِصُهُ وَمَحْضُهُ؛ لِأَنَّ الْمُنَافِقَ وَالْكَافِرَ لَا يَجِدُ هَذَا الْبُغْضَ وَهَذِهِ الْكَرَاهَةَ مَعَ الْوَسْوَسَةِ بِذَلِكَ.

بَل إنْ كَانَ فِي الْكُفْرِ الْبَسِيطِ

(2)

وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَتَرَكَ

(1)

رواه مسلم (357). وقد أثبت لفظه.

(2)

الكفر البسيط يُقابل الكفر المركب، ويعنون بالكفر البسيط: الذي لم يكن عن معاندة وقصد للمخالفة، بخلاف الكفر المركب، فهو الذي يكون عن عناد وقصد للمخالفة والتكذيب.

فَإِنْ ضَمَّ من أعْرَض عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَتَرَكَ الْإِيمَانَ بِهِ إلَى ذَلِكَ ضِدَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ: وَقَعَ فِي التَّكْذِيبِ وَهُوَ الْكُفْرُ الْمُرَكَّبُ، وَإِن لَمْ يَضُمَّ إلَيْهِ شَيءٌ بَقِيَ فِي الْكُفْرِ الْبَسِيطِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي ريْبٍ أَو فِي إعْرَاضٍ وَغَفْلَةٍ. يُنظر: مجموع الفتاوى (2/ 78).

وقد قسم ابنَ القيم رحمه الله بدائع الفوائد (5/ 313) الجهل إلى قسمين:

- بسيط: وهو عبارة عن عدم المعرفة مع عدم تلبس بضد.

ومركب وهو جهل أرباب الاعتقادات الباطلة والقسم الأول هو الذي يطلب صاحبه العلم أما صاحب الجهل المركب فلا يطلبه.=

ص: 48

الْإِيمَانَ بِهِ -وَإِن لَمْ يَعْتَقِدْ تَكْذِيبَهُ- فَهَذَا قَد لَا يُوَسْوِسُ لَهُ الشَّيْطَانُ بِذَلِكَ، إذ الْوَسْوَسَةُ بِالْمُعَارِضِ الْمُنَافِي لِلْإِيمَانِ إنّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا عِنْدَ وُجُودِ مُقْتَضِيهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُن مَعَهُ مَا يَقْتَضِي الْإِيمَانَ لَمْ يَحْتَجْ إلَى مُعَارِضٍ يَدْفَعُهُ.

فَكُلُّ مَا وَقَعَ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ مِن خَوَاطِرِ الْكُفْرِ وَالنفَاقِ فَكَرِهَهُ وَأَلْقَاهُ ازْدَادَ إيمَانًا ويقِينًا، كَمَا أنَّ كُلَّ مَن حَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ بِذَنْبٍ فَكَرِهَهُ وَنَفَاهُ عَن نَفْسِهِ وَتَرَكَهُ للهِ ازْدَادَ صَلَاحًا وَبِرًّا وَتَقْوَى. [10/ 766 - 767]

68 -

أَمَّا تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِأنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ فَهَذَا قَد أَقَرَّ بِهِ الْمُشْرِكونَ الَّذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} [يوسف: 106] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَسْألُهُم مَن خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ فَيَقُولُونَ: اللهُ وَهُم يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ، وَقَالَ تَعَالَى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: 61].

فَالْكُفَّارُ الْمُشْرِكُونَ مُقِرُّونَ أَنَّ اللهَ خَالِقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَيْسَ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ مَن جَعَلَ للهِ شَرِيكًا مُسَاوِيًا لَهُ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ هَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ قَطُّ.

فَإنَّ جَمِيعَ هَؤُلَاءِ -وَإِن كَانُوا كُفَّارًا مُشْرِكِينَ مُتَنَوِّعِينَ فِي الشِّرْكِ- فَهُم مُقِرُّونَ بِالرَّبِّ الْحَقِّ الَّذِي لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَجَمِيعِ أَفْعَالِهِ؛ وَلَكِنَّهُم مَعَ هَذَا مُشْرِكُونَ بِهِ فِي أُلُوهِيَّتِهِ، بِأَنْ يَعْبُدُوا مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى يَتَّخِذُونَهَا شُفَعَاءَ أَو شُرَكَاءَ؛ أَو فِي رُبُوبِيَّتِهِ بِأَنْ يَجْعَلُوا غَيْرَهُ رَبَّ بَعْضِ الْكَائِنَاتِ دُونَهُ مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهُ رَبُّ ذَلِكَ الرَّبِّ وَخَالِقُ ذَلِكَ الْخَلْقِ.

وَقَد أَرْسَلَ اللهُ جَمِيعَ الرُّسُلِ وَأَنْزَلَ جَمِيعَ الْكُتُبِ بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ

= والكفر ينقسم كذلك إلى قسمين:

- بسيط، وهو عبارة عن عدم الإيمان واتباع الرسول مع عدم تلبس بضد.

ومركب، وهو جهل أرباب الاعتقادات الباطلة.

ص: 49

عِبَادَةُ الله وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} [الأنبياء: 25]. [11/ 51 - 52]

69 -

قَوْلُ الْقَائِلِ: نَحْنُ فِي بَرَكَةِ فُلَانٍ، أَو مِن وَقْتِ حُلُولِهِ عِنْدَنَا حَلَّتْ الْبَرَكَة: فَهَذَا الْكَلَامُ صَحِيح بِاعْتِبَار بَاطِلٌ بِاعْتِبَار

(1)

.

فَأَمَّا الصَّحِيحُ: فَأَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّهُ هَدَانَا وَعَلَّمَنَا وَأَمَرَنَا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَانَا عَن الْمُنْكَرِ فَبِبَرَكَةِ اتِّبَاعِهِ وَطَاعَتِهِ حَصَلَ لَنَا مِن الْخَيْرِ مَا حَصَلَ، فَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ.

وَأَمَّا الْمَعْنَى الْبَاطِلُ: فَمِثْلُ أَنْ يُرِيدَ الْإِشْرَاكَ بِالْخَلْقِ: مِثْلُ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ مَقْبُورٌ بِمَكَان فَيَظُنُّ أَنَّ اللهَ يَتَوَلَّاهُم لِأَجْلِهِ، وَإِن لَمْ يَقُومُوا بِطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهَذَا جَهْلٌ. [11/ 113 - 114]

70 -

مَن اعْتَقَدَ أَنَّ لِأَحَد مِن الْأَوْليَاءِ طَرِيقًا إلَى اللّهِ مِن غَيْرِ مُتَابَعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ كَافِرٌ مِن أَوْليَاءِ الشَّيْطَانِ. [11/ 170]

71 -

مَن ظَنَّ أَنَّ "الْقَدَرَ" حُجَّةٌ لِأَهْلِ الذُّنُوب فَهُوَ مِن جِنْسِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148]. [11/ 257]

72 -

إِنَّ اللهَ غَنِيٌّ وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ، وَقَد عُرِفَ أَنَّ قِيَامَ الصِّفَاتِ بِهِ لَا يَلْزَمُ حُدُوثَهُ وَلَا إمْكَانَهُ وَلَا حَاجَتَهُ.

فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَن الْعَالَمِينَ وَعَن خَلْقِهِ وَهُوَ غَنِيٌّ بِنَفْسِهِ. وأمَّا إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ غَنِيٌّ عَن نَفْسِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى نَفْسِهِ، وَفِي إطْلَاقِ كُل مِنْهُمَا إيهَامُ مَعْنًى فَاسِدٍ. [11/ 359]

73 -

مَن جَحَدَ وُجُوبَ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ: كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أَو جَحْدِ تَحْرِيمِ بَعْضِ

(1)

أي: صحيح من جهة، وباطلٌ من جهةٍ أخرى.

ص: 50

الْمُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ: كَالْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ وَالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالزنى وَغَيْرِ ذَلِكَ. أَو جَحْدِ حِلَّ بَعْضِ الْمُبَاحَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ: كَالْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَالنَّكَاحِ: فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَإِن أَضْمَرَ ذَلِكَ كَانَ زِنْدِيقًا مُنَافِقًا لَا يُسْتَتَابُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ؛ بَل يُقْتَلُ بِلَا اسْتِتَابَةٍ إذَا ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْهُ.

لَكِنْ مِنَ النَّاسِ مَن يَكُونُ جَاهِلًا بِبَعْضِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ جَهْلًا يُعْذَرُ بِهِ، فَلَا يُحْكَمُ بكُفْرِ أَحَدٍ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ مِن جِهَةِ بَلَاغٍ الرِّسَالَةِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].

وَلهَذَا لَو أَسْلَمَ رَجُلٌ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَة عَلَيْهِ، أَو لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْخَمْرَ يَحْرُمُ: لَمْ يَكْفُرْ بِعَدَمِ اعْتِقَادِ إيجَابِ هَذَا وَتَحْرِيمِ هَذَا؛ بَل وَلَمْ يُعَاقَبْ حَتَّى تَبْلُغَهُ الْحُجَّةُ النَبوِيَّةُ.

بَل قَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَن أَسْلَمَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَعْلَمْ أنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَة ثُمَّ عَلِمَ، هَل يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا تَرَكَهُ فِي حَالِ الْجَهْلِ؟

عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ:

أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَالثانِي: يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.

بَل النِّزَاعُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي كُلِّ مَن تَرَكَ وَاجِبًا قَبْلَ بُلُوغِ الْحِجَّةِ: مِثْلُ تَرْكِ الصَّلَاةِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ يَحْسَبُ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ بِتَيَمُّم، أَو مَن أَكلَ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِن الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ويحْسَبُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ، كَمَا جَرَى ذَلِكَ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ، أو مَسَّ ذَكَرَهُ أَو أَكَلَ لَحْمَ الْإِبِلِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ وُجُوبُ ذَلِكَ، وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ هَل يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ؟

عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ.

ص: 51

وَأَصْلُ ذَلِكَ: هَل يَثْبُتُ حُكْمُ الْخِطَابِ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِن سَمَاعِهِ؟

عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ.

الصَّحِيحُ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ: أَنَّ الْخِطَابَ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ أَحَدٍ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِن سَمَاعِهِ؛ فَإِنَّ الْقَضَاءَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ وَنَظَائِرِهَا، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى انْتِفَاءِ الْإِثْمِ؛ لِأَنَّ اللهَ عَفَا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَن الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي التَّأثِيمِ فَكَيْفَ فِي التَّكْفِيرِ؟ وَكَثِيرٌ مِن النَّاسِ قَد يَنْشَأُ فِي الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ الَّذِي يَنْدَرِسُ فِيهَا كَثِيرٌ مِن عُلُومِ النُّبُوَّاتِ حَتَّى لَا يَبْقَى مَن يُبَلِّغ مَا بَعَثَ اللهُ بِهِ رَسُولَهُ مِن الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، فَلَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا يَبْعَثُ اللهُ بِهِ رَسُولَهُ، وَلَا يَكُونُ هُنَاكَ مَن يُبَلِّغُهُ ذَلِكَ وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكْفُرُ، وَلهَذَا اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ مَن نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَن أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَكَانَ حَدِيثَ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ فَأَنْكَرَ شَيْئًا مِن هَذِهِ الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ حَتَّى يَعْرِفَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ.

وَقَد دَلَّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَا أَخْرَجَاهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَالَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ: فَإِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ وَاذْرُوا نِصْفَهُ فِي البَرِّ، وَبصْفَهُ فِي البَحْرِ؛ فَوَاللهِ لَئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ العَالَمِينَ؛ فَأَمَرَ الله البَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، وَأَمَرَ البَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: لِمَ فَعَلْتَ؟ قَالَ: مِن خَشْيَتِكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ، فَغَفَرَ لَهُ"

(1)

.

فَهَذَا الرَّجُلُ ظَنَّ أَنَّ اللهَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إذَا تَفَرَّقَ هَذَا التَّفَرُّقَ، فَظَنَّ أَنَّهُ لَا

(1)

قال الشيخ في موضع آخر: هَذَا الْحَدِيثُ مُتَوَاتِرٌ عَن النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم، رَوَاهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَالْأسَانيدِ مِن حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَحُذَيْفَةَ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو وَغَيْرِهِمْ، عَن النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِن وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ، يَعْلَمُ أَهْلُ الْحَدِيثِ أَنَّهَا تُفِيدُهُم الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ، وَإِن لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمْ مِمَن لَمْ يَشْرَكهُم فِي أَسْبَابِ الْعِلْمِ (12/ 491).

ص: 52

يُعِيدُهُ إذَا صَارَ كَذَلِكَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِن إنْكَارِ قُدْرَةِ الثهِ تَعَالَى وَإِنْكَارِ مَعَادِ الْأَبْدَانِ وإِن تَفَرَّقَتْ كُفْرٌ.

لَكِنَّهُ كَانَ مَعَ إيمَانِهِ باللهِ وَإيمَانِهِ بِأَمْرِهِ وَخَشْيَتِهِ مِنْهُ جَاهِلًا بِذَلِكَ ضَالًّا فِي هَذَا الظَّنّ مُخْطِئًا، فَغَفَرَ اللهُ لَهُ ذَلِكَ.

وَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الرَّجُلَ طَمِعَ أَنْ لَا يُعِيدَهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ، وَأَدْنَى هَذَا أَنْ يَكُونَ شَاكًّا فِي الْمَعَادِ، وَذَلِكَ كُفْرٌ -إذَا قَامَتْ حُجَّةُ النُّبُوَّةِ عَلَى مُنْكِرِهِ حُكِمَ بِكُفْرِهِ- هُوَ بَيِّنٌ فِي عَدَمِ إيمَانِهِ باللهِ تَعَالَى. [11/ 405 - 410]

74 -

مَن ظَنَّ أَنَّ التَّضْحِيَةَ عِنْدَ الْقُبُورِ مُسْتَحَبَّةٌ وَأَنَّهَا أَفْضَلُ: فَهُوَ جَاهِلٌ ضَالٌّ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.

وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ تُتَّخَذَ الْقبُورُ مَسَاجِدَ، فَلَعَنَ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ تَحْذِيرًا لِأُمَّتِهِ أَنْ تَتَشَبَّهَ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُعَظِّمُونَ الْقُبُورَ حَتَّى عَبَدُوهُمْ، فَكَيْفَ يَتَّخِذُ الْقَبْرَ مَنْسَكًا يَقْصِدُ النُّسُكَ فِيهِ؟ فَإِنَّ هَذَا أَيْضًا مِن التَّشَبُّهِ بِالْمُشْرِكِينَ

(1)

.

وَقَد قَالَ الْخَلِيلُ -صَلَاةُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ-: {إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162] فَيَجِبُ الْإِخْلَاصُ وَالصَّلَاةُ وَالنُّسُكُ للهِ، وَإِن لَمْ يَقْصِدِ الْعَبْدُ الذَّبْحَ عِنْدَ الْقَبْرِ، لَكِنَ الشَّرِيعَةَ سَدَّتِ الذَّرِيعَةَ، كَمَا نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عن الصَّلَاةِ وَقْتَ طُلُوعِ الشَمْسِ وَوَقْتَ غُرُوبِهَا؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكفَّارُ وَإِن كَانَ الْمُصَلِّي للهِ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ.

وَكَذَلِكَ اتِّخَاذُ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ قَد نَهَى عَنْهُ وَإِن كَانَ الْمُصَلِّي لَا يُصَلِّي إلَّا للهِ. وَقَالَ: "لَيْسَ مِنَّا مَن تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا"

(2)

، وَقَالَ:"مَن تَشَبَّهَ بِقَوْمِ فَهُوَ مِنْهُمْ"

(3)

. [27/ 495 - 496]

(1)

وليس شركًا أكبر، إلا إذا نحر لصاحب القبر تعظيمًا له.

(2)

رواه الترمذي (2695) وقال: هذا حديث إسناده ضعيف.

(3)

رواه أبو داود (4031)، وأحمد (5114)، وقال الألباني في صحيح أبي داود (4031): حسن صحيح.

ص: 53

75 -

مَن لَمْ يُقِرَّ بِأَنَّ بَعْدَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لَنْ يَكُونَ مُسْلِمٌ إلَّا مَن آمَنَ بِهِ وَاتَّبعَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَلَيْسَ بِمُسْلِم.

وَمَن لَمْ يُحَرِّم التَّدَيُّنَ -بَعْدَ مَبْعَثِهِ صلى الله عليه وسلم بِدِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، بَل مَن لَمْ يُكَفِّرْهُم وَيُبْغِضْهُمْ: فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. [27/ 464]

* * *

(قصتُه مع الصوفية البطائحية، وإنكاره عليهم)

76 -

كَتَبْتُ مَا حَضَرَنِي ذِكْرُهُ فِي الْمَشْهَدِ الْكَبِيرِ بِقَصْرِ الْإِمَارَةِ وَالْمَيْدَانِ بِحَضْرَةِ الْخَلْقِ مِن الْأُمَرَاءِ وَالْكُتَّابِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْفُقَرَاءِ الْعَامَّةِ وَغَيْرِهِمْ فِي أَمْرِ "البطائحية"

(1)

يَوْمَ السَّبْتِ تَاسِعَ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ خَمْسٍ

(2)

، لِتَشَوُّفِ الْهِمَمِ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ.

وَهُوَ أَنَّهُم وَإن كَانُوا مُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ وَطَرِيقَةِ الْفَقْرِ وَالسُّلُوكِ ويُوجَدُ فِي بَعْضِهِم التَّعَبُّدُ وَالتَّأَلُّهُ وَالْوَجْدُ وَالْمَحَبَّةُ وَالزُّهْدُ وَالْفَقْرُ وَالتَّوَاضُعُ وَلينُ الْجَانِبِ وَالْمُلَاطَفَة فِي الْمُخَاطَبَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ وَالْكَشْفِ وَالتَّصَرُّفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَا يُوجَدُ، فَيُوجَدُ أَيْضًا فِي بَعْضِهِمْ مِن الشِّرْكِ وَغَيْرِهِ مِن أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَمِن الْغُلُوِّ وَالْبِدَعِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِعْرَاضِ عَن كَثِيرٍ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَالِاسْتِخْفَافُ بِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ وَالْكَذِبِ وَالتَّلْبِيسِ وَإِظْهَارِ المخارق الْبَاطِلَةِ وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَالصَّدِّ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَا يُوجَدُ

(3)

.

وَقَد تَقَدَّمَتْ لِي مَعَهُم وَقَائِعُ مُتَعَدِّدَةٌ بَيَّنْت فِيهَا لِمَن خَاطَبْتُه مِنْهُم وَمِن

(1)

البطائحية: هم الرفاعية، لقبوا بالبطائحية نسبة إلى قرى عديدة في واسط بالعراق، ويلقبون بالأحمدية نسبة إلى أحمد الرفاعى رحمه الله.

وقد اقتصر مؤخرًا على تعريفهم بالرفاعية تمييزًا لهم عن جماعة الطريقة الأحمدية المنتسبة إلى أحمد البدوي.

(2)

وسبعمائة.

(3)

تأمل إنصافه مع هذه الطائفة الضالة المضلة، فلم يذكر مساوئهم ويُعرض عن محاسنهم.

ص: 54

غَيْرِهِمْ بَعْضَ مَا فِيهِمْ مِن حَقِّ وَبَاطِلٍ، وَأَحْوَالِهِم الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْإِشَارَاتِ، وَتَابَ مِنْهُم جَمَاعَة، وَأُدِّبَ مِنْهُم جَمَاعَةٌ مِن شُيُوخِهِمْ، وَبَيَّنْت صُورَةَ مَا يُظْهِرُونَهُ مِن المخاريق: مِثْل مُلَابَسَةِ النَّارِ وَالْحَيَّاتِ وَإِظْهَارِ الدَّمِ وَاللَّاذَنِ وَالزعْفَرَانِ وَمَاءِ الْوَرْدِ وَالْعَسَلِ وَالسُّكَّرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَإِنَّ عَامَّةَ ذَلِكَ عَن حِيَلٍ مَعْرُوفَةٍ وَأَسْبَاب مَصْنُوعَةٍ، وَأَرَادَ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْهُم قَوْمٌ إظْهَار ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَوْا مُعَارَضَتِي لَهُم رَجَعُوا وَدَخَلُوا عَلَى أَنْ أَسْتُرَهُم فَأَجَبْتهمْ إلَى ذَلِكَ بِشَرْطِ التَّوْبَةِ، حَتَّى قَالَ لِي شَيْخٌ مِنْهُم فِي مَجْلِسٍ عَامٍّ فِيهِ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ بِبَعْضِ الْبَسَاتِينِ لَمَّا عَارَضْتهمْ بِأَنِّي أَدْخُلُ مَعَكُم النَّارَ بَعْدَ أَنْ نَغْتَسِلَ بِمَا يُذْهِبُ الْحِيلَةَ، وَمَن احْتَرَقَ كَانَ مَغْلُوبًا، فَلَمَّا رَأَوْا الصِّدْقَ أَمْسَكُوا عَن ذَلِكَ.

وَحَكَى ذَلِكَ الشَّيْخُ أَنَّهُ كَانَ مَرَّةً عِنْدَ بَعْضِ أُمَرَاءِ التتر بِالْمَشْرِقِ، وَكَانَ لَهُ صَنَمٌ يَعْبُدُهُ، قَالَ: فَقَالَ لِي: هَذَا الصَّنَمُ يَأْكُلُ مِن هَذَا الطَّعَامِ كُلَّ يَوْمٍ وَيبْقَى أَثَرُ الْأَكْلِ فِي الطَّعَامِ بَيِّنًا يُرَى فِيهِ، فَأَنْكَرْت ذَلِكَ، فَقَالَ لِي: إنْ كَانَ يَأْكُلُ أَنْتَ تَمُوتُ؟ فَقُلْت: نَعَمْ، قَالَ: فَأَقَمْت عِنْدَهُ إلَى نِصْفِ النَّهَارِ وَلَمْ يَظْهَرْ فِي الطَّعَامِ أَثَرٌ، فَاسْتَعْظَمَ ذَلِكَ التتري وَأَقْسَمَ بِأَيْمَان مُغَلَّظَةٍ أَنَّهُ كُلَّ يَوْمٍ يُرَى فِيهِ أَثَرُ الْأَكْلِ، لَكِنَّ الْيَوْمَ بِحُضُورِك لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ.

فَقُلْت لِهَذَا الشَّيْخِ: أَنَا أُبَيِّنُ لَك سَبَبَ ذَلِكَ، ذَلِكَ التتري كَافِرٌ مُشْرِكٌ، وَلصَنَمِهِ شَيْطَانٌ يُغْوِيه بِمَا يُظْهِرُهُ مِن الْأَثَرِ فِي الطَّعَامِ، وَأَنْتَ كَانَ مَعَك مِن نُورِ الْإِسْلَامِ وَتَأْيِيدِ اللهِ تَعَالَى مَا أَوْجَبَ انْصِرَافَ الشَّيْطَانِ عَن أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِحُضُورِك، وَأَنْتَ وَأَمْثَالُك بِالنِّسْبَةِ إلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ الْخَالِصِ كالتتري بِالنِّسْبَةِ إلَى أَمْثَالِك، فالتتري وَأَمْثَالُهُ سُودٌ، وَأَهْلُ الْإِسْلَامِ الْمَحْضِ بِيضٌ، وَأَنْتُمْ بُلْقٌ فِيكُمْ سَوَادٌ وَبَيَاضٌ، فَأَعْجَبَ هَذَا الْمَثَلُ مَن كَانَ حَاضِرًا.

ثُمَّ ذُكِرَ لِي أَنَّهُ جَاءَهُم بَعْضُ أَكَابِرِ غِلْمَانِ الْمُطَاعِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِن

ص: 55

حُضُورِهِمْ لِمَوْعِدِ الِاجْتِمَاعِ، فَاسْتَخَرْت اللهَ تَعَالَى تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَاسْتَعَنْته وَاسْتَنْصَرْته وَاسْتَهْدَيْته وَسَلَكْت سَبِيلَ عِبَادِ اللهِ فِي مِثْل هَذِهِ الْمَسَالِكِ، حَتَى أُلْقِيَ فِي قَلْبِي أَنْ أَدْخُلَ النَّارَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ، وَأَنَّهَا تَكُونُ بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى مَن اتَّبَعَ مِلَّةَ الْخَلِيلِ

(1)

، وَأَنَّهَا تُحْرِقُ أَشْبَاهَ الصَّابِئَةِ أَهْلِ الْخُرُوج عَن هَذِهِ السَّبِيلِ.

وَكَانُوا لِفَرْطِ انْتِشَارِهِمْ فِي الْبِلَادِ وَاسْتِحْوَاذِهِمْ عَلَى الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْأَجْنَادِ لِخَفَاءِ نُورِ الْإِسْلَامِ وَاسْتِبْدَالِ أَكْثَرِ النَّاسِ بِالنُّورِ الظَّلَامَ، وَطُمُوسِ آثَارِ الرَّسُولِ فِي أَكْثَرِ الْأَمْصَارِ وَدُرُوسِ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ فِي دَوْلَةِ التَّتَارِ لَهُم فِي الْقُلُوبِ مَوْقِعٌ هَائِلٌ وَلَهُم فِيهِمْ مِن الِاعْتِقَادِ مَا لَا يَزُولُ بِقَوْلِ قَائِلٍ.

قَالَ الْمُخْبِرُ: فَغَدَا أُولَئِكَ الْأُمَرَاءُ الْأَكَابِرُ وَخَاطَبُوا فِيهِمْ نَائِبَ السُّلْطَانِ بِتَعْظِيمِ أَمْرِهِمْ.

قُلْت لِلْأَمِيرِ: وَأَنَا قَد اسْتَخَرْت اللهَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُم إنْ دَخَلُوا النَّارَ أدْخُلُ أَنَا وَهُمْ، وَمَن احْتَرَقَ مِنَّا وَمِنْهُم فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَكَانَ مَغْلُوبًا، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ نَغْسِلَ جُسُومَنَا بِالْخَلِّ وَالْمَاءِ الْحَارِّ.

فَقَالَ الْأَمِيرُ وَلمَ ذَاكَ؟

قُلْت: لِأنَّهُم يَطْلُونَ جُسُومَهُم بِأَدْوِيَة يَصْنَعُونَهَا مِن دُهْنِ الضَّفَادِع وَبَاطِنِ قِشْرِ النَّارِنْجِ وَحَجَرِ الطَّلْقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن الْحِيَلِ الْمَعْرُوفَةِ لَهُمْ، وَأَنَا لَا أَطْلِي جِلْدِي بِشَيْءٍ فَإِذَا اغْتَسَلْت أَنَا وَهُم بِالْخَلِّ وَالْمَاءِ الْحَارِّ بَطَلَت الْحِيلَة وَظَهَرَ الْحَقُّ؛ فَاسْتَعْظَمَ الْأَمِيرُ هُجُومِي عَلَى النَّارِ، وَقَالَ: أَتَفْعَلُ ذَلِكَ؟ فَقُلْت لَهُ: نَعَمْ

(2)

، قَد اسْتَخَرْت اللهَ فِي ذَلِكَ، وَأَلْقَى فِي قَلْبِي أنْ أَفْعَلَهُ، وَنَحْنُ لَا نَرَى هَذَا وَأَمْثَالَهُ ابْتِدَاءً؛ فَإِنَّ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ إنَّمَا تَكُونُ لِأُمَّةِ محَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الْمُتَّبِعِينَ لَهُ

(1)

رحمه الله! ما أعظم يقينه وتوكُّله وثقته بالله تعالى.

(2)

هذا يدل على عظيم إيمانه وثقته بالله تعالى، وهذه المنزلة قلّ من يصل إليها.

ص: 56

بَاطِنًا وَظَاهِرًا لِحجَّةٍ أَو حَاجَةٍ، فَالْحُجَّةُ لِإِقَامَةِ دِينِ اللهِ، وَالْحَاجَةُ لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِن النَّصْرِ وَالرِّزْقِ الَّذِي بِهِ يَقُومُ دِينُ اللهِ، وَهَؤُلَاءِ إذَا أَظْهَرُوا مَا يُسَمُّونَهُ إشَارَاتِهِمْ وَبَرَاهِينَهُم الَّتِي يَزْعُمُونَ أَنَّهَا تُبْطِلُ دِينَ اللهِ وَشَرْعَهُ وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَنْصُرَ اللّهَ وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم، وَنَقُومَ فِي نَصْرِ دِينِ اللّهِ وَشَرِيعَتِهِ بِمَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ مِن أَرْوَاحِنَا وَجُسُومِنَا وَأَمْوَالِنَا، فَلَنَا حِينَئِذٍ أَنْ نُعَارِضَ مَا يُظْهِرُونَهُ مِن هَذِهِ المخاريق بِمَا يُؤَيِّدُنَا اللهُ بِهِ مِن الْآيَاتِ.

وَليُعْلَمَ أَنَّ هَذَا مِثْلُ مُعَارَضَةِ مُوسَى لِلسَّحَرَةِ لَمَّا أَظْهَرُوا سِحْرَهُم أَيَّدَ اللهُ مُوسَى بِالْعَصَا الَّتِي ابْتَلَعَتْ سِحْرَهُمْ.

فَجَعَلَ الْأَمِيرُ يُخَاطِبُ مَن حَضَرَهُ مِن الْأُمَرَاءِ عَلَى السِّمَاطِ بِذَلِكَ، وَفَرِحَ بِذَلِكَ وَكَأَنَّهُم كَانُوا قَد أَوْهَمُوهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَهُم حَالٌ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى رَدِّهِ.

وَحَضَرَ شُيُوخُهُم الْأَكَابِرُ فَجَعَلُوا يَطْلُبُونَ مِن الْأَمِيرِ الْإِصْلَاحَ وَإِطْفَاءَ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ ويتَرَفَّقُونَ، فَقَالَ الْأَمِيرُ: إنَّمَا يَكُونُ الصُّلْحُ بَعْدَ ظُهُورِ الْحَقِّ.

فَلَمَّا جَلَسْنَا وَقَد حَضَرَ خَلْقٌ عَظِيمٌ مِن الْأُمَرَاءِ وَالْكُتَابِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْعَامَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَحَضَرَ شَيْخُهُم الْأَوَّلُ الْمُشْتَكِي وَشَيْخ آخَرُ يُسَمِّي نَفْسَهُ خَلِيفَةَ سَيِّدِهِ أَحْمَد وَهُم يُسَمُّونَهُ: عَبْدَ اللهِ الْكَذَّابَ، وَلَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ ذَلِكَ. وَكَانَ مِن مُدَّةٍ قَد قَدِمَ عَلَيَّ مِنْهُم شَيْخٌ بِصُورَة لَطِيفَةٍ، وَأَظْهَرَ مَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُم مِن الْمَسْأَلَةِ فَأَعْطَيْته طُلْبَتَهُ وَلَمْ أَتَفَطَّنْ لِكَذِبِهِ حَتَّى فَارَقَنِي، فَبَقِيَ فِي نَفْسِي أَنَّ هَذَا خَفِيَ عَلَيَّ تَلْبيسُهُ إلَى أَنْ غَابَ، وَمَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَيَّ تَلْبِيسُ أَحَدٍ؛ بَل أُدْرِكُهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ

(1)

، فَبَقِيَ ذَلِكَ فِي نَفْسِي وَلَمْ أَرَهُ قَطُّ إلَى حِينِ نَاظَرْته ذَكَرَ لِي أَنَّهُ ذَاكَ الَّذِي كَانَ اجْتَمَعَ بِي قَدِيمًا، فَتَعَجَّبْت مِن حُسْنِ صُنْعِ اللهِ أَنَّهُ هَتَكَهُ فِي

(1)

هذا من كمال فطنته وفراسته رحمه الله، وله مثل ذلك وأعظم، كما ذكره تلميذه ابن القيم.

ص: 57

أَعْظَمِ مَشْهَدٍ يَكُونُ حَيْثُ كَتَمَ تَلْبِيسَهُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ

(1)

.

فَلَمَّا حَضَرُوا تَكَلَّمَ مِنْهُم شَيْخٌ يُقَالُ لَهُ حَاتِمٌ بِكَلَام مَضْمُونهُ طَلَبُ الصُّلْحِ وَالْعَفْوِ عَن الْمَاضِي وَالتَّوْبَةُ، وَإِنَّا مُجِيبُونَ إلَى مَا طَلَبَ مِن تَرْكِ هَذِهِ الْأَغْلَالِ وَغَيْرِهَا مِن الْبِدَعِ وَمُتَّبِعُونَ لِلشَّرِيعَةِ.

فَقُلْت: أَمَّا التَّوْبَة فَمَقْبُولَةٌ.

فَانْتَدَبَ ذَلِكَ الشَّيْخُ "عَبْدَ اللهِ" وَرَفَعَ صَوْتَهُ وقال: نَحْنُ لَنَا الْأَحْوَالُ وَكَذَا وَكَذَا. وَادَّعَى الْأَحْوَالَ الْخَارِقَةَ كَالنَّارِ وَغَيْرِهَا وَاخْتِصَاصَهُم بِهَا وَأَنَّهُم يَسْتَحِقُّونَ تَسْلِيمَ الْحَالِ إلَيْهِم لِأَجْلِهَا.

فَقُلْت -وَرَفَعْت صَوْتِي وَغَضِبْت-: أَنَا أُخَاطِبُ كُلَّ أَحْمَدِيِّ مِن مَشْرِقِ الْأَرْضِ إلَى مَغْرِبِهَا، أَيُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي النَّارِ فَأَنَا أَصْنَعُ مِثْل مَا تَصْنَعُونَ، وَمَن احْتَرَقَ فَهُوَ مَغْلُوبٌ، وَرُبَّمَا قُلْت: فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ؛ وَلَكِنْ بَعْدَ أَنْ نَغْسِلَ جُسُومَنَا بِالْخَلِّ وَالْمَاءِ الْحَارِّ.

فَضَجَّ النَّاسُ بِذَلِكَ فَأَخَذَ يُظْهِرُ الْقُدْرَةَ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: أَنَا وَأَنْتَ نُلَفُّ فِي بَارِّيَةٍ

(2)

بَعْدَ أَنْ تُطْلَى جُسُومُنَا بِالْكِبْرِيتِ.

فَقُلْت: فَقُمْ، وَأَخَذْت أُكَرِّرُ عَلَيْهِ فِي الْقِيَامِ إلَى ذَلِكَ فَمَدَّ يَدَهُ يُظْهِرُ خَلْعَ الْقَمِيصِ، فَقُلْت: لَا حَتَّى تَغْتَسِلَ فِي الْمَاءِ الْحَارِّ وَالْخَلِّ، فَأظْهَرَ الْوَهْمَ عَلَى عَادَتِهِمْ، فَقَالَ مَن كَانَ يُحِبُّ الْأَمِيرَ: فَلْيُحْضِرْ خَشَبًا أو قَالَ حُزْمَةَ حَطَب.

فَقُلْت: هَذَا تَطْوِيلٌ وَتَفْرِيقٌ لِلْجَمْعِ؛ وَلَا يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودٌ؛ بَل قِنْدِيلٌ يُوقَدُ وَأُدْخِلُ إصْبَعِي وَإِصْبَعَك فِيهِ بَعْدَ الْغَسْلِ؛ وَمَن احْتَرَقَتْ إصْبَعُهُ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ؛ أَو قُلْت: فَهُوَ مَغْلُوبٌ.

(1)

فظهر أنّ إخفاء الله تعالى تلبيس هذا الرجل على الشيخ كان لمصلحةٍ أعظم، ومنفعة أكبر في المستقبل.

(2)

هي الحَصِيرُ المعمول من القَصَب.

ص: 58

فَلَمَّا قُلْت ذَلِكَ تَغَيَّرَ وَذَلَّ. وَذُكِرَ لِي أَنَّ وَجْهَهُ اصْفَرَّ.

وَمَشَايِخُهُم الْكبَارُ يَتَضَرَّعُونَ عِنْدَ الْأَمِيرِ فِي طَلَبِ الصُّلْحِ، وَجَعَلْت أُلِحُّ عَلَيْهِ فِي إظْهَارِ مَا أَدْعُوهُ مِن النَّارِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَهُم لَا يُجِيبُونَ، وَقَد اجْتَمَعَ عَامَّةُ مَشَايِخِهِمُ الَّذِينَ فِي الْبَلَدِ وَالْفُقَرَاءُ الْمُوَلَّهُونَ مِنْهُمْ، وَهُم عَدَدٌ كَثِيرٌ، وَالنَّاسُ يَضِجُّونَ فِي الْمَيْدَانِ ويتَكَلَّمُونَ بِأَشْيَاءَ لَا أَضْبِطُهَا.

فَذَكَرَ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ أَنَّ النَّاسَ قَالُوا مَا مَضْمُونُهُ: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 118]{فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119)} [الأعراف: 119].

فَلَمَّا ظَهَرَ لِلْحَاضِرِينَ عَجْزُهُم وَكَذِبُهُم وَتَلْبِيسُهُم وَتبَيَّنَ لِلْأُمَرَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يَشُدُّونَ مِنْهُم أَنَّهُم مُبْطِلُونَ، رَجَعُوا وَتَخَاطَبَ الْحَاجُّ بِهَادِر وَنَائِبُ السُّلْطَانِ وَغَيْرُهُمَا بِصُورَةِ الْحَالِ وَعَرَفُوا حَقِيقَةَ الْمُحَالِ، وَقُمْنَا إلَى دَاخِل وَدَخَلْنَا، وَقَد طَلَبُوا التَّوْبَةَ عَمَّا مَضَى وَسَأَلَنِي الْأمِيرُ عَمَّا تَطْلُبُ مِنْهُمْ؟ فَقُلْت: مُتَابَعَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

فَلَمَّا أظْهَرُوا الْتِزَامَ الْكِتَاب وَالسُّنَّةِ، وَجُمُوعُهُم بِالْمَيْدَانِ بِأَصْوَاتِهِمْ وَحَرَكَاتِهِمُ الشَّيْطَانِيَّةِ يُظْهِرُونَ أًحْوَالَهُمْ، قُلْت لَهُ: أَهَذَا مُوَافِقٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؟

فَقَالَ: هَذَا مِن اللهِ حَالٌ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ، فَقُلْت: هَذَا مِن الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، لَمْ يَأْمُرِ اللهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فَقَالَ: فَبِأَيِّ شَيْءٍ تَبْطُلُ هَذِهِ الْأَحْوَالُ.

فَقُلْت: بِهَذِهِ السِّيَاطِ الشَّرْعِيَّةِ.

فَأُعْجِبَ الْأمِيرُ وَضَحِكَ وَقَالَ: أَيْ وَاللهِ بِالسِّيَاطِ الشَّرْعِيَّةِ تَبْطُلُ هَذ الْأَحْوَالُ الشَّيْطَانِيَّة، كَمَا قَد جَرَى مِثْلُ ذَلِكَ لِغَيْرِ وَاحِدٍ، وَمَن لَمْ يُجِبْ إلَى الدِّينِ بِالسِّيَاطِ الشَّرْعِيَّةِ فَبِالسُّيُوفِ الْمُحَمَّدِيَّةِ.

ص: 59

وَأَمْسَكْت سَيْفَ الْأَمِيرِ وَقُلْت: هَذَا نَائِبُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَغُلَامُهُ، وَهَذَا السَّيْفُ سَيْفُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَن خَرَجَ عَن كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ضَرَبْنَاهُ بِسَيْفِ اللهِ، وَأَعَادَ الْأَمِيرُ هَذَا الْكلَامَ.

وَأَخَذَ بَعْضُهُم يَقُولُ: فَالْيَهُود وَالنَّصَارَى يُقَرُّونَ وَلَا نُقَرُّ نَحْنُ؟

فَقُلْت: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يُقِرُّونَ بِالْجِزْيَةِ عَلَى دِينِهِمُ الْمَكْتُومِ فِي دُورِهِمْ، وَالْمُبْتَدِعُ لَا يُقَرُّ عَلَى بِدْعَتِهِ.

فَأُفْحِمُوا لِذَلِكَ.

وَحَقِيقَةُ الْأمْرِ أَنَّ مَن أَظْهَرَ مُنْكَرًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يقَرَّ عَلَى ذَلِكَ، فَمَن دَعَا إلَى بِدْعَةٍ وَأَظْهَرَهَا لَمْ يُقَرَّ، وَلَا يُقَرُّ مَن أَظْهَرَ الْفُجُورَ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الذِّمَّةِ لَا يُقَرُّونَ عَلَى إظْهَارِ مُنْكَرَاتِ دِينِهِمْ، وَمَن سِوَاهُم فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا أَخَذَ بِوَاجِبَاتِ الْإِسْلَامِ وَتَرَكَ مُحَرَّمَاتِهِ، وَإِن لَمْ يَكن مُسْلِمًا وَلَا ذِمِّيًّا فَهُوَ إمَّا مُرْتَدٌّ وَإِمَّا مُشْرِكٌ وَإِمَّا زِنْدِيقٌ ظَاهِرُ الزَّنْدَقَةِ.

وَكَانَ قَد قَالَ بَعْضُهُمْ: نَحْنُ نُتَوِّبُ النَّاسَ.

فَقُلْت: مماذا تُتَوِّبُونَهُم؟

(1)

قَالَ: مِن قَطْعِ الطَّرِيقِ وَالسَّرِقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

فَقُلْت: حَالُهُم قَبْلَ تَتْويبِكم خَيْرٌ مِن حَالِهِمْ بَعْدَ تَتْويبِكم؛ فَإِنَّهُم كَانُوا فُسَّاقًا يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَ مَا هُم عَلَيْهِ ويرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ وَيَتُوبُونَ إلَيْهِ أَو يَنْوُونَ التَّوْبَةَ، فَجَعَلْتُمُوهُم بتَتْويبِكم ضَالِّينَ مُشْرِكِينَ خَارِجِينَ عَن شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، يُحِبُّونَ مَا يُبْغِضُهُ اللهُ وَيُبْغِضُونَ مَا يُحِبُّهُ اللهُ، وَبَيَّنْت أَنَّ هَذِهِ الْبِدَعَ الَّتِي هُم وَغَيْرُهُم عَلَيْهَا شَرُّ مِن الْمَعَاصِي.

قُلْت مُخَاطِبًا لِلْأَمِيرِ وَالْحَاضِرِينَ: أَمَّا الْمَعَاصِي فَمِثْلُ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ

(1)

أي: ننصح العاصين ونعظهم حتى يتوبوا ويرجعوا ويتركوا المعاصي.

ص: 60

فِي "صَحِيحِهِ" عَن عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَد جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ؛ فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: اللَّهُمَّ العَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"لَا تَلْعَنُوهُ، فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ".

قُلْت: فَهَذَا رَجُلٌ كَثِيرُ الشُّرْبِ لِلْخَمْرِ، وَمَعَ هَذَا فَلَمَّا كَانَ صَحِيحَ الِاعْتِقَادِ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَنَهَى عَن لَعْنِهِ.

وَأَمَّا الْمُبْتَدِعُ فَمِثْلُ مَا أَخْرَجَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَن أَبِي سَعِيدٍ الخدري وَغَيْرِهِمَا -دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَسِّمُ فَجَاءَهُ رَجُلٌ نَاتِئُ الْجَبِينِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، مَحْلُوقُ الرَّأسِ، بَيْنَ عَيْنَيْهِ أثَرُ السُّجُودِ، وَقَالَ مَا قَالَ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَخْرُجُ مِن ضئضئ هَذَا قَوْمٌ يَحْقِرُ أَحَدَكُمْ صَلَاَتهُ مَعَ صَلَاِتهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَقرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِن الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِن الرَّمِيَّةِ، لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنهُم قَتْلَ عَادٍ".

وَفي رِوَايَةٍ: لَو يَعْلَمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَهُم مَاذَا لَهُم عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ لَنَكَلُوا عَن الْعَمَلِ.

وَفِي رِوَايَةٍ: شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ خَيْرُ قَتْلَى مَن قَتَلُوهُ.

قُلْت: فَهَؤُلَاءِ مَعَ كَثْرَةِ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتِهِمْ وَمَا هُم عَلَيْهِ مِن الْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ أَمَرَ النَّبِي صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَفَمَ بِقَتْلِهِمْ، وَقَتَلَهُم عَلِي بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمَن مَعَهُ مِن أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ وَذَلِكَ لِخُرُوجِهِمْ عَن سُنَّةِ النَّبِيِّ وَشَرِيعَتِهِ.

ص: 61

فَلَمَّا ظَهَرَ قُبْحُ الْبِدَعِ فِي الْإِسْلَامِ وَأَنَّهَا أَظْلَمُ مِن الزنى وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَأَنَّهُم مُبْتَدِعُونَ بِدَعًا مُنْكَرَةً فَيَكُونُ حَالُهُم أَسْوَأَ مِن حَالِ الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَشَارِبِ الْخَمْرِ أَخَذَ شَيْخَهُم عَبْدُ اللهِ يَقُولُ: يَا مَوْلَانَا يُحْرِقُك الْفُقَرَاءُ بِقُلُوبِهِمْ!

فَقُلْت: مِثْل مَا أَحْرَقَنِي الرَّافِضَةُ لَمَّا قَصَدْت الصُّعُودَ إلَيْهِم وَصَارَ جَمِيعُ النَّاسِ يُخَوِّفُونِي مِنْهُم وَمِن شَرِّهِمْ، ويقُولُ أَصْحَابُهُمْ: إنَّ لَهُم سِرًّا مَعَ اللهِ فَنَصَرَ اللهَ وَأَعَانَ عَلَيْهِمْ.

وَكَانَ الْأُمَرَاءُ الْحَاضِرُونَ قَد عَرَفُوا بَرَكَةَ مَا يَسَّرَهُ الله فِي أَمْرِ غَزْوِ الرَّافِضَةِ بِالْجَبَلِ.

وَقُلْت لَهُمْ: أَنَا كَافِرٌ بِكُمْ وَبِأَحْوَالِكُمْ {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} [هود: 55]. وَلَمَّا رَدَدْت عَلَيْهِم الْأَحَادِيثَ الْمَكْذُوبَةَ أَخَذُوا يَطْلُبُونَ مِنِّي كُتُبًا صَحِيحَةً لِيَهْتَدُوا بِهَا فَبَذَلْت لَهُم ذَلِكَ.

وَأُعِيدُ الْكَلَامُ أَنَّهُ مَن خَرَجَ عَن الْكِتَابِ وَالسنَّةِ ضَرَبْت عُنُقَهُ، وَأَعَادَ الْأَمِيرُ هَذَا الْكَلَامَ وَاسْتَقَرَّ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ.

وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأحْزَابَ وَحْدَهُ. [11/ 445 - 475]

77 -

أَمَّا الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللهِ مِن الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمَشَايِخِ وَالْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَلَمْ يُنَازِعُوا إلَّا فِي الْحَلِفِ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ لَا بِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ. [11/ 506]

78 -

الْعَجَبُ مِن ذِي عَقْلٍ سَلِيمٍ يَسْتَوْصِي مَن هُوَ مَيّتٌ يَسْتَغِيثُ بِهِ، وَلَا يَسْتَغِيثُ بِالْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَيقْوَى الْوَهْمُ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَوْلَا اسْتِغَاثَتُهُ بِالشَّيْخِ الْمَيِّتِ لَمَا قُضِيَتْ حَاجَتُهُ! فَهَذَا حَرَامٌ فِعْلُهُ. [11/ 527]

ص: 62

79 -

كُلَّمَا كَانَ الرَّجُلُ أَعْظَمَ إخْلَاصًا: كَانَت شَفَاعَةُ الرَّسُولِ أَقْرَبَ إلَيْهِ.

قَالَ لَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَن أَسْعَدُ النَاسِ بِشَفَاعَتِك يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: مَن قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ

(1)

. [11/ 528]

80 -

لِلنَّاسِ فِي الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالْكَذِبِ وَالْفَوَاحِشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

قِيلَ: إنَّ قُبْحَهُمَا مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ، وَأَنَّهُم يَسْتَحِقُّونَ الْعَذَابَ عَلَى ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، وَإِن لَمْ يَأْتِهِم الرَّسُولُ كَمَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَكَثِيرٌ مِن أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَحَكَوْهُ عَن أَبِي حَنِيفَةَ نَفْسِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ.

وَقِيلَ: لَا قُبْحَ وَلَا حُسْنَ وَلَا شَرَّ فِيهِمَا قَبْلَ الْخِطَابِ، وَإِنَّمَا الْقَبِيحُ مَا قِيلَ فِيهِ: لَا تَفْعَلْ، وَالْحَسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ: افْعَلْ، أَو مَا أُذِنَ فِي فِعْلِهِ، كَمَا تَقُولُهُ الْأَشْعَرِيَّةُ وَمَن وَافَقَهُم مِن الطَّوَائِفِ الثَّلَاثَةِ.

وَقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ سَيِّءٌ وَشَرٌّ وَقَبِيحٌ قَبْلَ مَجِيءِ الرَّسُولِ، لَكِنَّ الْعُقُوبَةَ إنَّمَا تُسْتَحَقّ بِمَجِيءِ الرَّسُولِ، وَعَلَى هَذَا عَامَّةُ السَّلَفِ وَأَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَإِنَّ فِيهِمَا بَيَانُ أَنَّ مَا عَلَيْهِ الْكُفَّارُ هُوَ شَرٌّ وَقَبِيحٌ وَسَيِّءٌ قَبْلَ الرُّسُلِ وَإِن كَانُوا لَا يَسْتَحِقُّونَ الْعُقُوبَةَ إلَّا بِالرَّسُولِ. [11/ 677]

81 -

الصِّفَاتُ لَهَا ثَلَاثُ اعْتِبَارَاتٍ: تَارَةً تُعْتَبَرُ مُضَافَةً إلَى الرَّبِّ، وَتَارَةً تُعْتبرُ مُضَافَةً إلَى الْعَبْدِ، وَتَارَةً تُعْتترُ مُطْلَقَةً لَا تَخْتَصُّ بِالرَّبِّ وَلَا بِالْعَبْدِ.

فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: حَيَاةُ اللهِ وَعِلْمُ اللهِ وَقُدْرَةُ اللهِ وَكَلَامُ اللهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذَا كُلُّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَلَا يُمَاثِلُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ.

وَإِذَا قَالَ: عِلْمُ الْعَبْدِ وَقُدْرَةُ الْعَبْدِ وَكَلَامُ الْعَبْدِ فَهَذَا كُلُّهُ مَخْلُوقٌ وَلَا يُمَاثِلُ صِفَاتِ الرَّبِّ.

وَإِذَا قَالَ: الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْكَلَامُ فَهَذَا مُجْمَلٌ مُطْلَقٌ، لَا يُقَالُ عَلَيْهِ كُلِّهِ

(1)

رواه البخاري (99).

ص: 63

إنَّهُ مَخْلُوقٌ وَلَا إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوق؛ بَل مَا اتَّصَفَ بِهِ الرَّبُّ مِن ذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمَا اتَّصَفَ بِهِ الْعَبْدُ مِن ذَلِكَ فَهُوَ مَخْلُوقٌ.

فَالصِّفَةُ تَتْبَعُ الْمَوْصُوفَ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْصُوفُ هُوَ الْخَالِقَ فَصِفَاتُهُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ، وَإِن كَانَ الْمَوْصُوفُ هُوَ الْعَبْدَ الْمَخْلُوقَ فَصِفَاتُهُ مَخْلُوقَةٌ.

وَلَو قَالَ الْقَائِلُ: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ} [مريم: 12] وَمَقْصُودُة الْقُرْآنُ كَانَ قَد تَكَلَّمَ بِكَلَامِ اللهِ وَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ بِاتَّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَإِن قَصَدَ مَعَ ذَلِكَ تَنْبِيهَ غَيْرِهِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.

وَلَو قَالَ لِرَجُل اسْمُهُ يَحْيَى وَبِحَضْرَتِهِ كِتَابٌ: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ لَكانَ هَذَا مَخْلُوقًا؛ لِأَنَّ لَفْظَ يَحْيَى هنا مُرَادٌ بِهِ ذَلِكَ الشَّخْصُ وَبِالْكِتَابِ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَيْسَ مُرَادًا بِهِ مَا أَرَادَهُ اللهُ بِقَوْلِهِ: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ} وَالْكَلَامُ كَلَامُ الْمَخْلُوقِ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ.

[12/ 66 - 67]

82 -

قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51]

(1)

، فَرَّقَ بَيْنَ التَّكْلِيمِ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ -كَمَا كَلَّمَ مُوسَى-، وَبَيْنَ التَّكْلِيمِ بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ -كَمَا كَلَّمَ الْأَنْبِيَاءَ بِإِرْسَالِ رَسُولٍ إلَيْهِم-. [12/ 137]

(1)

قال ابن كثير رحمه الله تعالى عند تفسير هذه الآية: هذه مقامات الوحي بالنسبة إلى جناب الله عزَّوجلَّ، وهو أنه تعالى تارة يقذف في روع النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا لا يتمارى فيه أنه من الله عزَّوجلَّ، كما جاء في صحيح ابن حبان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن رُوح القُدُس نفث في رُوعي: أن نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب".

وقوله: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51] كما كلم موسى عليه السلام، فإنه سأل الرؤية بعد التكليم، فحجب عنها. وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجابر بن عبد الله:"ما كلم الله أحدًا إلا من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كفاحًا" الحديث، وكان أبوه قد قتل يوم أحد، ولكن هذا في عالم البرزخ، والآية إنما هي في الدار الدنيا.

وقوله: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51] كما ينزل جبريل عليه السلام وغيره من الملائكة على الأنبياء عليهم السلام. اهـ.

ص: 64

83 -

اعْلَمْ أَنَّ عَامَّةَ السُّوَرِ الْمَكّيَّةِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللهُ بِمَكَّةَ هِيَ فِي هَذَا الْإِيمَانِ الْعَامِّ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ جَمِيعِهِمْ وَالْمُؤْمِنِينَ جَمِيعِهِمْ، وَهَذَا الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ هُوَ فِي بَعْضِ الْمِلَلِ أَعْظَمُ قَدْرًا وَوَصْفًا.

وَمِنْهُ مَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الشَّرَائِعُ وَالْمَنَاهِجُ كَالْقِبْلَةِ وَالْمَنْسَكِ وَمَقَادِيرِ الْعِبَادَاتِ وَأَوْقَاتِهَا وَصِفَاتِهَا وَالسُّنَنِ وَالْأَحْكَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَمُسَمَّى الْإِيمَانِ وَالدِّينِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَيْسَ هُوَ مُسَمَّاهُ فِي آخِرِ زَمَانِ النُّبُوَّةِ؛ بَل مُسَمَّاهُ فِي الْآخِرِ أَكْمَلُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3].

وَلهَذَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ مِن الْأَوَّلينَ والآخرين مِن الَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ مِن أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُشْتَرِكِينَ فِي الْإِيمَانِ باللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، مَعَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِم الْإِقْرَارُ بِمَا لَا يَجِبُ عَلَيْنَا الْإِقْرَارُ بِهِ؛ مِثْلُ إقْرَارِهِمْ بِوَاجِبَاتِ التَّوْرَاةِ وبمحرماتها مِثْل السَّبْتِ وَشَحْمِ الثَّرْبِ

(1)

وَالْكُلْيَتَيْنِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِم التَّصْدِيقُ الْمُفَصَّلُ بِمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِم مِن أَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ وَصِفَاتِ الْيَوْمِ الْآخِرِ، وَنَحْنُ يَجِبُ عَلَيْنَا مِن الْإِيمَانِ بِذَلِكَ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ، وَيَجِبُ عَلَيْنَا مِن الْإِقْرَارِ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ دَاخِل فِي إيمَانِنَا وَلَيْسَ دَاخِلًا فِي إيمَانِهِمْ؛ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ بِهَذ الْأَشْيَاءِ دَاخِل فِي الْإِيمَانِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ. [12/ 475 - 476]

84 -

قَوْله صلى الله عليه وسلم: "لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِن وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِن"

(2)

(1)

شحم الثَّرْب: شحم رقيق يُغَشِّي الكرش والأمعاء، جمعها ثروب وأثراب.

(2)

رواه البخاري (5578)، ومسلم من حديث أبي هريرة (57).

ص: 65

فَنَفى عَنْهُ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الْجَنَّةَ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ نَفْيَ أَصْلِ الْإِيمَانِ وَسَائِر أَجْزَائِهِ وَشُعَبِهِ.

وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: نَفْيُ كَمَالِ الْإِيمَانِ لَا حَقِيقَتُهُ؛ أَيْ: الْكَمَالُ الْوَاجِبُ، لَيْسَ فوَ الْكَمَالُ الْمُسْتَحَبُّ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِ الْفُقَهَاءِ: الْغُسْلُ كَامِلٌ وَمُجْزِئٌ.

وَمِن هَذَا الْبَابِ: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم "مَن غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا"

(1)

لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ كَافِرٌ، كَمَا تَأوَّلَتْهُ الْخَوَارجُ، وَلَا أَنَّهُ لَيْسَ مِن خِيَارِنَا كَمَا تَأَوَّلَتْهُ الْمُرْجِئَةُ، وَلَكِنْ الْمُضْمَرُ يُطَابِقُ الْمَظْهَرَ، وَالْمَظْهَرُ هُوَ الْمُؤمِنُونَ الْمُسْتَحِقُّونَ لِلثَّوَابِ، السَّالِمُونَ مِن الْعَذَابِ، وَالْغَاشُّ لَيْسَ مِنَّا؛ لِأَنَّهُ مُتَعَرِّضٌ لِسُخْطِ اللهِ وَعَذَابِهِ

(2)

.

وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَمَن تَرَكَ بَعْضَ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ لِعَجْزِهِ عَنْهُ إمَّا لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِن الْعِلْمِ، مِثْلُ أَنْ لَا تَبْلُغَهُ الرِّسَالَةُ، أَو لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِن الْعَمَلِ: لَمْ

(1)

رواه مسلم (101).

(2)

قال رحمه الله في موضع آخر: الْمُؤْمِنُ الْمُطْلَقُ هُوَ الْمُؤَدِّي لِلْإِيمَانِ الْوَاجِب، وَلَا يَلْزَمُ مِن كَوْنِ إيمَانِهِ نَاقِصًا عَنِ الْوَاجِبِ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا حَابِطًا كَمَا فِي الْحَجِّ، وَلَا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ الْإِيمَانُ الْكَامِل كَمَا تَقُولهُ الْمُرْجِئَةُ. فَهَذَا فُرْقَانٌ يُزِيلُ الشُّبْهَةَ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَيُقَرِّرُ النُّصُوصَ كَمَا جَاءَتْ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:"مَن غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا" وَنَحْوُ ذَلِكَ، لَا يَجُوز أنْ يُقَالَ فِيهِ: لَيْسَ مِن خِيَارِنَا كَمَا تَقُولُهُ الْمُرْجِئَةُ، وَلَا أَنْ يُقَالَ: صَارَ مِن غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ كَافِرًا كَمَا تَقُولُهُ الْخَوَارجُ.

بَلِ الصَّوَابُ أَنَّ هَذَا الِاسْمَ الْمُضْمَرَ يَنْصَرِفُ إطْلَاقُهُ إلَى الْمُؤْمِنِينَ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ، الَّذِي بِهِ يَسْتَحِقُّونَ الثَّوَابَ بِلَا عِقَابٍ، وَلَهُم الْمُوَالَاةُ الْمُطْلَقَةُ، وَالْمَحَبَّة الْمُطْلَقَةُ.

فَإِذَا غَشَّهُم لَمْ يَكُن مِنْهُم حَقِيقَةً؛ لِنَقْصِ إيمَانِهِ الْوَاجِبِ الَّذِي بِهِ يَسْتَحِقُّونَ الثَّوَابَ الْمُطْلَقَ بِلَا عِقَابٍ، وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِن غَيْرِهِمْ مُطْلَقًا، بَل مَعَهُ مِنَ الْإِيمَانِ مَا يَسْتَحِق بِهِ مُشَارَكَتَهُم فِي بَعْضِ الثَّوَابِ، وَمَعَهُ مِنَ الْكَبِيرَةِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعِقَابَ، كَمَا يَقُولُ مَنِ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا ليَعْمَلُوا عَمَلًا فَعَمِلَ بَعْضُهُم بَعْضَ الْوَقْتِ، فَعِنْدَ التَّوْفِيَةِ يَصْلُحُ أنْ يُقَالَ: هَذَا لَيْسَ مِنَّا، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ الْكَامِلَ، وَإِنِ اسْتَحَقَّ بَعْضَهُ.

ص: 66

يَكُن مَأْمُورًا بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُ، وَلَمْ يَكُن ذَلِكَ مِن الْإِيمَانِ وَالدِّينِ الْوَاجِبِ فِي حَقِّهِ، وَإن كَانَ مِن الدِّينِ وَالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ فِي الْأصْلِ، بِمَنْزِلَةِ صَلَاةِ الْمَرِيضِ، وَالْخَائِفِ وَالْمُسْتَحَاضَةِ، وَسَائِر أَهْلِ الْأَعْذَارِ الَّذِينَ يَعْجِزُونَ عَن إتْمَامِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ صَلَاتَهُم صَحِيحَةٌ بِحَسَبِ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ وَبِهِ أُمِرُوا إذ ذَاكَ، وَإِن كَانَت صلَاةُ الْقَادِرِ عَلَى الْإِتْمَامِ أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللهِ مِن الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

عَن أَبِي هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثٍ حَسَنِ السِّيَاقِ، وَقَوْلُهُ:"صَلَاةُ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِن صَلَاةِ الْقَائِمِ، وَصَلَاةُ النَّائِمِ عَلَى النِّصْفِ مِن صَلَاةِ الْقَاعِدِ"

(2)

، وَلَو أَمْكَنَهُ الْعِلْمُ بِهِ دُونَ الْعَمَلِ لَوَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ عِلْمًا وَاعْتِقَادًا دُونَ الْعَمَلِ. [12/ 478]

85 -

النَّاسُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ

(3)

عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

قَوْلٌ أَنَّهُ يَجِبُ الِاسْتِثْنَاءُ، وَمَن لَمْ يَسْتَثْنِ كَانَ مُبْتَدِعًا.

وَقَوْلٌ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَحْظُورٌ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الشَّكَّ فِي الْإِيمَانِ.

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ أَوْسَطُهَا وَأَعْدَلُهَا أَنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ بِاعْتِبَارِ، وَتَرْكُهُ بِاعْتِبَارِ؛ فَإِذَا كَانَ مَقْصُودُهُ أَنِّي لَا أَعْلَمُ أَنِّي قَائِمٌ بِكُلِّ مَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيَّ، وَأَنَّهُ يَقْبَلُ أَعْمَالِي، لَيْسَ مَقْصُودُهُ الشَّكَّ فِيمَا فِي قَلْبِهِ، فَهَذَا اسْتِثْنَاؤُهُ حَسَنٌ، وَقَصْدُهُ أَنْ لَا يُزَكِّيَ نَفْسَهُ، وَأَنْ لَا يَقْطَعَ بِأَنَّهُ عَمِلَ عَمَلًا كَمَا أُمِرَ فَقُبِلَ مِنْهُ، وَالذُّنُوبُ كَثِيرَةٌ، وَالنِّفَاقُ مَخُوفٌ عَلَى عَامَّةِ النَّاسِ. [13/ 40 - 41]

86 -

الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يُسْتَثْنَى فِي الْإِسْلَامِ

(4)

، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَن أَحْمَد رضي الله عنه. [13/ 43]

(1)

(2664).

(2)

رواه البخاري (1116).

(3)

في الإيمان، بأن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله.

(4)

فلا تقل: إني مسلم إن شاء الله.

ص: 67

87 -

مَن لَمْ يَكُن لَهُ عِلْمٌ بِمَا يُصْلِحُ بَاطِنَهُ ويُفْسِدُهُ وَلَمْ يَقْصِدْ صَلَاحَ قَلْبِهِ بِالْإِيمَانِ وَدَفْعِ النِّفَاقِ: كَانَ مُنَافِقًا إنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يُظْهِرُهُ الْمُؤمِنُ وَالْمُنَافِقُ وَهُوَ عَلَانِيَةٌ، وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ.

وَكَلَامُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ فِي هَذَا أَكْثَرُ مِنْهَا فِي الْإِجَارَةِ وَالشُّفْعَةِ وَالحَيْضِ وَالطَّهَارَةِ بِكَثِيرِ كَثِيرٍ؛ وَلَكِنَّ هَذَا الْعِلْمَ

(1)

ظَاهِرٌ مَوْجُودٌ مَقُولٌ بِاللِّسَانِ، مَكْتُوبٌ فِي الْكُتُبِ؛ وَلَكِنْ مَن كَانَ بِأُمُورِ الْقَلْبِ أَعْلَمَ كَانَ أَعْلَمَ بِهِ، وَأَعْلَمَ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ.

لَكِنَّ النَّاسَ فِي حَقَائِقِ الْإِيمَانِ مُتَفَاضِلُونَ تَفَاضُلًا عَظِيمًا؛ فَأَهْلُ الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا يَعْلَمُونَ حَالَ أَهْلِ السُّفْلَى مِن غَيْرِ عَكْسٍ، كَمَا أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ يَنْزِلُ الْأَعْلَى إلَى الْأَسْفَلِ، وَلَا يَصْعَدُ الْأَسْفَلُ إلَى الْأَعْلَى.

وَالْعَالِمُ يَعْرِفُ الْجَاهِلَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ جَاهِلًا، وَالْجَاهِلُ لَا يَعْرِفُ الْعَالِمَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكن عَالِمًا

(2)

. [13/ 234 - 235]

= سيأتي قول شيخ الإسلام رحمه الله: وَأَحْمَد إنَّمَا مَنَعَ الِاسْتِثْنَاءَ فِيهِ عَلَى قَوْلِ الزُّهْرِيِّ: هُوَ الْكَلِمَةُ، هَكَذَا نَقَلَ الْأَثْرَمُ وَالْمَيْمُونِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْهُ.

وَأَمَّا عَلَى جَوَابِهِ الْآخَرِ الَّذِي لَمْ يَخْتَرْ فِيهِ قَوْلَ مَن قَالَ: الْإِسْلَامُ الْكَلِمَةُ فَيُسْتَثْنَى فِي الْإِسْلَامِ كَمَا يُسْتَثْنَى فِي الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجْزِمُ بِأَنَّهُ قَد فَعَلَ كُلَّ مَا أمِرَ بِهِ مِن الْإِسْلَامِ.

وَإذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "الْمُسْلِمُ مَن سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِن لِسَانِهِ وَيدِهِ" و"بُنيَ الْإسلام عَلَى خَمْسٍ": فَجَزْمُهُ بأَنَّهُ فعَل الْخَمْسَ بِلَا نَقْصٍ كَمَا أُمِرَ كَجَزْمِهِ بِإِيمَانِهِ، فَقَد قَالَ تعالى:{ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 258]؛ أَيْ: الْإِسْلَامِ كَافَّةً، أَيْ فِي جَمِيعِ شرَائِعِ الْإِسْلَام.

وَتَعْلِيلُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِن السَّلَفِ مَا ذَكَرُوهُ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ يَجِيءُ فِى اسْم الْإِسْلَامِ؛ فَإِذَا أُرِيدَ بِالْإِسْلَامِ الْكَلِمَةُ فَلَا اسْتِثْنَاءَ فِيهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد وَغَيْرُهُ، وَإِذَا أَرِيدَ بِهِ مَن فعَلَ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةَ كُلّهَا فَالِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ كَالِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ.

(1)

أي: المعاملات والعبادات الظاهرة.

(2)

صدق رحمه الله، فهذا يدل على كمال العلم وأهلِه، وأنهم أعلم بمصالح العامه والخاصة من أنفسهم.

ص: 68

88 -

قَد يَحْتَجُّ بَعْضُهُم بِقِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ، وَيظُنُّونَ أَنَّ الْخَضِرَ خَرَجَ عَن الشَّرِيعَةِ؛ فَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ مِن الْأوْليَاءِ مَا يَجُوزُ لَهُ مِن الْخُرُوجِ عَن الشَّرِيعَةِ، وَهُم فِي هَذَا ضَالُّونَ مِن وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخَضِرَ لَمْ يَخْرُجْ عَن الشَّرِيعَةِ؛ بَل الَّذِي فَعَلَهُ كَانَ جَائِزًا فِي شَرِيعَةِ مُوسَى؛ وَلهَذَا لَمَّا بَيَّنَ لَهُ الْأَسْبَابَ أَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَو لَمْ يَكُن جَائِزًا لَمَا أَقَرَّهُ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُن مُوسَى يَعْلَمُ الْأَسْبَابَ الَّتِي بِهَا أُبِيحَتْ تِلْكَ، فَظَنَّ أَنَّ الْخَضِرَ كَالْمَلِكِ الظَّالِمِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ الْخَضِرُ.

والثَّاني: أَنَّ الْخَضِرَ لَمْ يَكُن مِن أُمَّةِ مُوسَى، وَلَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ مُتَابَعَتُهُ؛ بَل قَالَ لَهُ: إنِّي عَلَى عِلْمٍ مِن عِلْمِ اللهِ عَلَّمَنِيهِ اللهُ لَا تَعْلَمُهُ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِن عِلْمِ اللهِ عَلَّمَكَهُ اللهُ لَا أَعْلَمُهُ؛ وَذَلِكَ أَنَّ دَعْوَةَ مُوسَى لَمْ تَكُنْ عَامَّةً، فَإِنَّ النَّبِيَّ كَانَ يُبْعَث إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم بُعِثَ إلَى النَّاسِ كَافَّةً

(1)

. [13/ 266]

89 -

الصَّوَابُ مَا عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْهُدَى، وَهُوَ أَنْ يُوصَفَ اللهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ أَو وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ، لَا يُتَجَاوَزُ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ، وَيتَّبعُ فِي ذَلِكَ سَبِيلَ السَّلَفِ الْمَاضِينَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، وَالْمَعَانِي الْمَفْهُومَةُ مِن الْكِتَابِ وَالسّنَّةِ لَا تُرَدُّ بِالشُّبُهَاتِ، فَتَكُونُ مِن بَابِ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَن مَوَاضِعِهِ، وَلَا يُعْرِضُ عَنْهَا

(1)

وقال رحمه الله في موضع آخر: وَمِمَّا يُبَيَّنُ الْغَلَطَ الَّذِي وَقَعَ فِي الِاحْتِجَاجِ بِقِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ عَلَى مُخَالَفَةِ الشَّرِيعَةِ: أَنَّ مُوسَى عليه السلام لَمْ يَكن مَبْعُوثًا إلَى الْخَضِرِ، وَلَا أَوْجَبَ اللهَ عَلَى الْخَضِرِ مُتَابَعَتَهُ وَطَاعَتَهُ؛ بَل قَد ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ "إنَّ الْخَضِرَ قَالَ لَهُ: يَا مُوسَى إنِّي عَلَى عِلْمٍ مِن عِلْمِ اللهِ عَلَّمَنِيهِ اللهُ لَا تَعْلَمُهُ وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِن عِلْمِ اللهِ عَلَّمَكَهُ اللهُ لَا أَعْلَمُهُ" وَذَلِكَ أنَّ دَعْوَةَ مُوسَى كَانَت خَاصَّةً. وَقَد ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ مِن غَيْرِ وَجْهٍ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ- فِيمَا فَضَّلَهُ اللهُ بِهِ عَلَى الْأنْبيَاءِ-: "كَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْت إلَى النَّاسِ عَامَّةً"، فَدَعْوَةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ الْعِبَادِ لَيْسَ لِأحَدِ الْخُرُوجُ عَن مُتَابَعَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَلَا اسْتِغْنَاءَ عَن رِسَالَتِهِ.

وَقِصَّةُ الْخَضِرِ لَيْسَ فِيهَا خُرُوجٌ عَن الشَّرِيعَةِ؛ وَلهَذَا لَمَّا بَيَّنَ الْخَضِرُ لِمُوسَى الْأسْبَابَ الَّتِي فَعَلَ لِأجْلِهَا مَا فَعَلَ وَافَقَهُ مُوسَى وَلَمْ يَخْتَلِفَا حِينَئِذٍ، وَلَو كَانَ مَا فَعَلَهُ الْخَضِرُ مُخَالِفًا لِشَرِيعَةِ مُوسَى لَمَا وَافَقَهُ. (11/ 425 - 456).

ص: 69

فَيَكونُ مِن بَاب الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بآيَاتِ رَبِهِم يَخِرُّونَ عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا، وَلَا يَتْرُكُ تَدَبُّرَ الْقُرْآَنِ فَيَكُونُ مِن بَابِ اَلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ. [13/ 305]

90 -

كُلُّ اسْمٍ مِن أَسْمَائِهِ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ الْمُسَمَّاةِ وَعَلَى الصِّفَةِ الَّتِي تَضَمُّنَهَا الِاسْمُ؛ كَالْعَلِيمِ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ وَالْعِلْمِ، وَالْقَدِيرِ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ وَالْقُدْرَةِ، وَالرَّحِيمِ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ وَالرَّحْمَةِ، وَمَن أَنْكَرَ دَلَالَةَ أَسْمَائِهِ عَلَى صِفَاتِهِ مِمَن يَدَّعِي الظَّاهِرَ

(1)

: فَقَوْلُهُ مِن جِنْسِ قَوْلِ غُلَاةِ الْبَاطِنِيَّةِ الْقَرَامِطَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا يُقَالُ هُوَ حَيٌّ وَلَا لَيْسَ بِحَيّ. [13/ 234]

91 -

كَثِيرٌ مِن الْمُتَكلِّمِينَ إنَّمَا يُقَرِّرُونَ الْوَحْدَانِيَّةَ مِن جِهَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَأَمَّا الرُّسُلُ فَهُم دَعَوْا إلَيْهَا مِن جِهَةِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِن الْمُتَصَوِّفَةِ الْمُتَعَبِّدَةِ

(1)

يقصد ابن حزم الظاهريّ رحمه الله -والله أعلم- حيث قال في كتابه: الفصل في الملل والأهواء

والنحل (1/ 409): ليست الأسماء مشتقة من صفة أصلًا .. وصح بهذا البرهان الواضح أنه لا

يدل حينئذ عليم على علم، ولا قدير على قدرة، ولا حي على حياة، وهكذا في سائر ذلك. اهـ.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الرد عليه: وَفِي حَدِيث الْبَاب -في الرجل الذي يَقْرَأُ لِأصْحَابِهِ فِي صَلَاتِهِمْ فَيَخْتِمُ بِقُلْ هُوَ اللهُ أحَدٌ، فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"سَلُوهُ لِأَيِّ شَيءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ؟ "، فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: لِأنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَن، وَأَنَا أحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"أَخْبِرُوهُ أنَّ اللهَ يُحِبُّهُ"-: حُجَّة لِمَن أَثْبَتَ أَنَّ لِلَّهِ صِفَة وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُور، وَشَذَّ اِبْن حَزْم فَقَالَ: هَذ لَفْظَة اِصْطَلَحَ عَلَيْهَا أَهْل الْكَلَام مِن الْمُعْتَزِلَة وَمَن تَبِعَهُم، وَلَمْ تَثْبُت عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَن أَحَد مِن أَصْحَابه، فَإِن اِعْتَرَضُوا بِحَدِيثِ الْبَاب فَهُوَ مِن أَفْرَاد سَعِيد بْن أبِي هِلَال وَفِيهِ ضَعْف، قَالَ: وَعَلَى تَقْدِير صِحَّته فَقُلْ هُوَ الله أحَد صِفَة الرَّحْمَن كَمَا جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيث، وَلَا يُزَاد عَلَيْهِ بِخِلَافِ الصِّفَة التِي يُطْلِقُونَهَا فَإِنَّهَا فِي لُغَة الْعَرَب لَا تُطْلَق إِلَّا عَلَى جَوْهَر أَو عَرَض! كَذَا قَالَ، وَسَعِيد مُتَّفَق عَلَى الِاحْتِجَاج بِهِ فَلَا يُلْتَفَت إِلَيْهِ فِي تَضْعِيفه، وَكَلَامه الْأخِير مَرْدُود بِاتِّفَاقِ الْجَمِيع عَلَى إِثْبَات الْأسْمَاء الْحُسْنَى، قَالَ الله تَعَالَى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] وَقَالَ بَعْد أنْ ذَكَرَ مِنْهَا عِدَّة أَسْمَاء فِي آخِر سُورَة الْحَشْر: {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 8]، وَالْأسْمَاء الْمَذْكُورَة فِيهَا بِلُغَةِ الْعَرَب صِفَات فَفِي إِثبَات أَسْمَائِهِ إِثْبَات صِفَاته؛ لِأنَّهُ إِذَا ثَبَتَ أنَّهُ حَيّ مَثَلًا فَقَد وُصِفَ بِصِفَةٍ زَائِدَة عَلَى الذَّات وَهِيَ صِفَة الْحَيَاة، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَوَجَبَ الِاقْتِصَار عَلَى مَا يُنْبِئُ عَن وُجُود الذَّات فَقَطْ، وَقَد قَالَ سبحانه وتعالى:{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)} [الصافات: 180] فَنَزَّهَ نَفْسه عَمَّا يَصِفُونَهُ بِهِ مِن صِفَة النَّقْص، وَمَفْهُومه أَنَّ وَصْفه بِصِفَةِ الْكَمَال مَشْرُوع. فتح الباري (13/ 436).

ص: 70

وَأَرْبَابِ الْأَحْوَالِ إنَّمَا تَوَجُّهُهُم إلَى اللهِ مِن جِهَةِ رُبُوبِيَّتِهِ

(1)

. [14/ 15]

92 -

مَا كَانَ كُفْرًا مِن الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ؛ كَالسُّجُودِ لِلْأَوْثَانِ، وَسَبِّ الرَّسُولِ وَنحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مُسْتَلْزِمًا لِكُفْرِ الْبَاطِنِ، وَإلَّا فَلَو قُدِّرَ أنَّهُ سَجَدَ قُدَّامَ وَثَنٍ وَلَمْ يَقْصِدْ بِقَلْبِهِ السُّجُودَ لَهُ؛ بَل قَصَدَ السُّجُودَ للهِ بِقَلْبِهِ: لَمْ يَكُن ذَلِكَ كُفْرًا

(2)

، وَقَد يُبَاحُ ذَلِكَ إذَا كَانَ بَيْنَ مُشْرِكِينَ يَخَافُهُم عَلَى نَفْسِهِ فَيُوَافِقُهُم فِي الْفِعْلِ الظَّاهِرِ وَيقْصِدُ بِقَلْبِهِ السُّجُودَ للهِ. [14/ 120]

93 -

هَذَا التَّوْحِيدُ [تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ]: هُوَ الْفَارِقُ بَيْنَ الْمُوَحِّدِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَعَلَيْهِ يَقَعُ الْجَزَاءُ وَالثَّوَابُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ، فَمَن لَمْ يَأْتِ بِهِ كَانَ مِن الْمُشْرِكِينَ الْخَالِدِينَ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ.

أَمَّا تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ: فَقَد أَقَرَّ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، وَكَانُوا يَعْبُدُونَ مَعَ اللهِ غَيْرَهُ، ويُحِبُّونَهُم كَمَا يُحِبُّونَهُ فَكَانَ ذَلِكَ التَّوْحِيدُ -الَّذِي هُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ- حُجَّةً عَلَيْهِمْ، فَإذَا كَانَ اللهُ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ، وَلَا خَالِقَ وَلَا رَازِقَ إلَّا هُوَ، فَلِمَاذَا يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ مَعَهُ، وَلَيْسَ لَهُ عَلَيْهِم خَلْقٌ وَلَا رِزْقٌ، وَلَا بِيَدِهِ لَهم مَنْعٌ وَلَا عَطَاءٌ؛ بَل هُوَ عَبْدٌ مِثْلُهُم لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا؟

فَإِنْ قَالُوا لِيَشْفَعَ! فَقَد قَالَ اللهُ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] فَلَا يَشْفَعُ مَن لَهُ شَفَاعَةٌ -مِن الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ- إلَّا بِإِذْنِهِ. [14/ 380]

(1)

وهذا ما يسلكُه كثيرٌ من أهل الدعوة وفقهم الله تعالى، فهم يبدؤون ويفتتحون دعوتهم للناس بتقرير توحيد الربوبية، فيقول: الله هو الذي خلقك ورزقك، وهو العظيم الكريم، وهو الذي يمدنا بالنعم، ويُسبغ علينا عظيم الجود والكرم، والذي له هذه الصفات هو من يستحق أنْ يُعبد ويُدعى، ونحو هذا، والشيخ ذكر بأن دعوة الرسل تكون بتقرير توحيد الألوهية أولًا؛ فجميعهم قال: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره".

(2)

وهذا يُؤكد أنّ مُوالاة الكفار في الظاهر ليس كفرًا إلا إذا والاهم في الباطن، بأنْ أحب انتصارهم على المسلمين المظلومين، وكره انتصار الحق على الباطل.

ص: 71

94 -

الْإِذْنُ نَوْعَانِ:

أ- إذْنٌ بِمَعْنَى الْمَشِيئَةِ وَالْخَلْقِ.

ب- وَإِذْنٌ بِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ وَالْإِجَازَةِ.

فَمِن الْأوَّلِ: قَوْلُهُ فِي السِّحْرِ: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102]، فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللهِ وَقُدْرَتهِ، وَإِلَّا فَهُوَ لَمْ يُبح السِّحْرَ.

وَالنَّوْعُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} [الأحزاب: 45، 46]، وَقَوْلُهُ:{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر: 5]؛ فَإِنَّ هَذَا يَتَضَمَّنُ إبَاحَتَهُ لِذَلِكَ وإجَازَتَهُ لَهُ، وَرَفْعَ الْجُنَاحِ وَالْحَرَجِ عَن فَاعِلِهِ، مَعَ كَوْنِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقَضَائِهِ.

فَقَوْلُهُ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] هُوَ هَذَا الْإِذْنُ الْكَائِنُ بِقَدَرِهِ وَشَرْعِهِ، وَلَم ئرِدْ بِمُجَرَّدِ الْمَشِيئَةِ وَالْقَدَرِ، فَإِنَّ السِّحْرَ وَانْتِصَارَ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَانَ بِذلِكَ الْإِذْن.

فَإِنْ قِيلَ: فَمِنَ الشُّفَعَاءِ مَن يَشْفَعُ بِدُونِ إذْنِ اللهِ الشَّرْعِيِّ، وَإِن كَانَ خَالِقًا لِفِعْلِهِ- كَشَفَاعَةِ نوحٍ لِابْنِهِ، وَشَفَاعَةِ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ، وَشَفَاعَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ اللهِ بْنِ أبي بْنِ سلول حِينَ صَلَّى عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ.

وَهَؤُلَاءِ قَد شَفَعُوا بِغَيْرِ إذْنٍ شَرْعِيِّ؟

قِيلَ: الْمَنْفِيُّ مِن الشَّفَاعَةِ بِلَا إذْنٍ: هِيَ الشَّفَاعَةُ التَّامَّةُ، وَهِيَ الْمَقْبُولَةُ.

فَالشَّفَاعَةُ: مَقْصُودُهَا قَبُولُ الْمَشْفُوعِ إلَيْهِ -وَهِيَ الشَّفَاعَةُ التَامَّةُ-. فَهَذِهِ هِيَ الَّتِي لَا تَكُونُ إلَّا بِإِذْنِهِ.

وَأَمَّا إذَا شَفَعَ شَفِيعٌ فَلَمْ تُقْبَل شَفَاعَتُهُ: كَانَت كَعَدَمِهَا وَكَانَ عَلَى صَاحِبِهَا التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ مِنْهَا، كَمَا قَالَ نوحٌ:{رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47].

ص: 72

وَهُوَ سُبْحَانَهُ إذَا أذِنَ لِلْمَشْفُوعِ لَهُ فَقَد أَذِنَ لِلشَّافِعِ، فَهَذَا الْإِذْنُ هُوَ الْإِذْنُ الْمُطْلَقُ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَذِنَ لِلشَّافِعِ فَقَطْ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَد أَذِنَ لِلْمَشْفُوعِ لَهُ، إذ قَد يَأْذَنُ لَهُ إذْنًا خَاصًّا.

وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِن الْمُفَسِّرِينَ، قَالُوا: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّفَاعَةَ لَا تَنْفَعُ إلَّا الْمُؤْمِنِينَ. [14/ 383 - 389]

95 -

نَصَّ الْأئِمَّةُ -كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ- عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الِاسْتِعَاذَةُ بِمَخْلُوقٍ. [15/ 227]

96 -

مَا وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بِهِ نَفْسَهُ مِن الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ

(1)

لَا بُدَّ أَنْ يَتَضَمَّنَ مَعْنًى ثُبُوتِيًّا، فَالْكَمَالُ هُوَ فِي الْوُجُودِ وَالثُّبُوتِ، وَالنَّفْيُ مَقْصُودُهُ نَفْيُ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ، فَإذَا نُفِيَ النَّقِيضُ الَّذِي هُوَ الْعَدَمُ وَالسَّلْبُ لَزِمَ ثُبُوتُ النَّقِيضِ الْآخَرِ الَّذِي هُوَ الْوُجُودُ وَالثُّبُوتُ؛ كَقَوْلِهِ تعالى:{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255] فَإنَّهُ يَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْحَيَاةِ والقيومية، وَقَوْله:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} يَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْمُلْكِ، وَقَوْله:{وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة: 255] يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُ بِالتَّعْلِيمِ دُونَ مَا سِوَاهُ. [16/ 99]

97 -

السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ وَسَائِرُ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ إذَا قَالُوا: "إنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَإنَّهُ فِي السَّمَاءِ فَوْقَ كُلِّ شَيءٍ" لَا يَقُولُونَ إنَّ هُنَاكَ شَيْئًا يَحْوِيهِ أَو يَحْصُرُهُ، أَو يَكُونُ مَحَلًّا لَهُ أَو ظَرْفًا وَوِعَاءً، سبحانه وتعالى عَن ذَلِكَ؛ بَل هُوَ فَوْقَ كُل شَيءٍ، وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَن كُلِّ شَيءٍ، وَكُلُّ شَيْءٍ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ، وَهُوَ عَالٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ الْحَامِلُ لِلْعَرْشِ وَلحَمَلَةِ الْعَرْشِ بِقُوَّتِهِ وَقُدْرَتهِ، وَكُلُّ مَخْلُوقٍ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ، وَهُوَ غَنِيٌّ عَن الْعَرْشِ وَعَن كُلِّ مَخْلُوقٍ.

(1)

صفات الله تنقسم إلى قسمين: ثبوتية وسلبية؛ فالثبوتية: ما أثبتها الله لنفسه؛ كالحياة والعلم والقدرة، ويجب إثباتها لله على الوجه اللائق به؛ لأن الله أثبتها لنفسه، وهو أعلم بصفاته، والسلبية: هي التي نفاها الله عن نفسه كالظلم فيجب نفيها عن الله، وهي تستلزم إثبات ضدها من الكمال.

ص: 73

وَمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِن قَوْلِهِ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] وَنَحْوِ ذَلِكَ قَد يَفْهَمُ مِنْهُ بَعْضُهُم أَنَّ "السَّمَاءِ" هِيَ نَفْسُ الْمَخْلُوقِ الْعَالِي -الْعَرْشُ فَمَا دُونَهُ-، فَيَقُولُونَ: قَوْلُهُ: {فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] بِمَعْنَى "عَلَى السَّمَاءِ" كَمَا قَالَ: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]؛ أَيْ: "عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ"، وَكَمَا قَالَ:{فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [آل عمران: 137]؛ أَيْ: "عَلَى الْأَرْضِ"، وَلَا حَاجَةَ إلَى هَذَا

(1)

؛ بَل "السَّمَاء" اسْمُ جِنْسٍ لِلْعَالِي لَا يَخُصُّ شَيْئًا، فَقَوْلُهُ:{فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]؛ أَيْ: "فِي الْعُلُوِّ دُونَ السُّفْلِ"، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى، فَلَهُ أَعْلَى الْعُلُوِّ، وَهُوَ مَا فَوْقَ الْعَرْشِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ غَيْرُهُ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى سبحانه وتعالى. [16/ 100 - 101]

98 -

الْبُخَارِيُّ إنَّمَا يُثْبِتُ خَلْقَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ حَرَكَاتِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ.

وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ هِيَ فِعْلُ الْعَبْدِ يُؤمَرُ بِهِ وَيُنْهَى عَنْهُ، وَأَمَّا الْكَلَامُ نَفْسُهُ فَهُوَ كَلَامُ اللهِ.

وَلَمْ يَقُل الْبُخَارِيُّ: إنَّ لَفْظَ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرَ مَخْلُوقٍ، كَمَا نَهَى أَحْمَد عَن هَذَا وَهَذَا.

وَاَلَّذِي قَالَ الْبُخَارِيُّ إنَّهُ مَخْلُوقٌ مِن أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَصِفَاتِهِمْ: لَمْ يَقُلْ أَحْمَد وَلَا غَيْرُهُ مِن السَّلَفِ إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَإن سَكَتُوا عَنْهُ لِظُهُورِ أَمْرِهِ، وَلكَوْنِهِمْ كَانُوا يَقْصدُونَ الرَّدَّ عَلَى الْجَهْمِيَّة.

وَاَلَّذِي قَالَ أَحْمَد إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ هُوَ كَلَامُ اللهِ لَا صِفَةُ الْعِبَادِ، لَمْ يَقُل الْبُخَارِيُّ إنَّهُ مَخْلُوقٌ.

وَلَكِنَّ أَحْمَد كَانَ مَقْصُودُهُ الرَّدَّ عَلَى مَن يَجْعَلُ كَلَامَ اللهِ مَخْلُوقًا إذَا بُلِّغَ عَنِ اللهِ، وَالْبُخَارِيَّ كَانَ مَقْصُودُهُ الرَّدَّ عَلَى مَن يَقُولُ: أَفْعَالُ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتُهُم غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ.

(1)

وصدق رحمه الله، وقد أصاب كبد الحقيقة والتحقيق في هذا، وبهذا نُجري كلام الله على ظاهره، ونجري حروف الجر على أصلها أيضًا، ونخرج بمعنى أعظم وألْيق وأنزه لله تعالى.

ص: 74

وَكِلَا الْقَصْدَينَ صَحِيحٌ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا.

وَقَد بَيَّنَ ذَلِكَ ابْن قُتَيْبَةَ فِي مَسْألَةِ اللَّفْظِ، وَلَكِنِ الْمُنْحَرِفُونَ إلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ يُنْكِرُونَ عَلَى الْآخَرِ

(1)

، وَاللهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. [16/ 392 - 393]

99 -

تَفْسِيرُ النُّزُولِ بِفِعْلِ يَقُومُ بِذَاتِهِ هُوَ قَوْلُ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْهُمْ. [16/ 398]

100 -

قَالَ أَبُو الْفَرَجِ: وَاعْلَمْ أَنَّ ذِكْرَ الْعَرْشِ مَشْهُورٌ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ. قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:

مَجِّدُوا اللَّهَ فَهُوَ لِلْمَجْدِ أَهْلٌ

رَبُّنَا فِي السَّمَاءِ أمْسَى كَبِيرًا

بِالْبِنَاءِ الْأَعْلَى الَّذِي سَبَقَ النَّا .... س وَسَوَّى فَوْقَ السَّمَاءِ سَرِيرًا

قُلْت: يُرِيدُ أَنَّهُ ذَكَرَهُ مِنَ الْعَرَبِ مَن لَمْ يَكُن مُسْلِمًا أخَذَهُ عَن أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنَّ أُمِّيَّةَ وَنَحْوَهُ إنَّمَا أَخَذَ هَذَا عَن أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِلَّا فَالْمُشْرِكُونَ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ هَذَا. [16/ 402 - 403]

101 -

فَرْقٌ بَيْنَ أَنْ يُقَالَ: "الرَّبُّ هُوَ الَّذِي يَأْتِي إتْيَانًا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ"، أَو يُقَالُ "مَا نَدْرِي هَل هُوَ الَّذِي يَأْتِي أَو أَمْرُهُ".

فَكَثِيرٌ مَن لَا يَجْزِمُ بِأَحَدِهِمَا بَل يَقُولُ: اُسْكُتْ فَالسُّكُوتُ أَسْلَمُ. وَلَا ريْبَ أَنَّهُ مَن لَمْ يَعْلَمْ فَالسُّكُوتُ لَهُ أَسْلَمُ، كَمَا قَالَ النَبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللهِ وَالْيَوْمِ الْاَخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَو لِيَصْمُتْ"

(2)

.

لَكِنْ هُوَ يَقُولُ: إنَّ الرَّسُولَ وَجَمِيعَ الْأُمَّةِ كَانُوا كَذَلِكَ لَا يَدْرُونَ هَلِ الْمُرَادُ بِهِ هَذَا أَو هَذَا وَلَا الرَّسُولُ كَانَ يَعْرِفُ ذَلِكَ!

فَقَائِلُ هَذَا مُبْطِلٌ مُتَكَلِّمٌ بِمَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَكَانَ يَسَعُهُ أَنْ يَسْكُتَ عَن

(1)

وهؤلاء أتوا من سوء الفهم، ونقص التأمل، وحسن الظن.

(2)

رواه البخاري (6475)، ومسلم (47).

ص: 75

هَذَا، لَا يَجْزِم بِأَنَّ الرَّسُولَ وَالْأَئِمَّةَ كُلَّهُم جُهَّالٌ يَجِبُ عَلَيْهِم السُّكُوتُ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ، ثُمَّ إنَّ هَذَا خِلَافُ الْوَاقِعِ. [16/ 412]

102 -

قَوْلُ مَن قَالَ: صِفَاتُ اللهِ لَا تَتَفَاضَلُ وَنَحْو ذَلِكَ: قَوْلٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَمَنِ الَّذِي جَعَلَ صِفَتَهُ الَّتِي هِيَ الرَّحْمَةُ لَا تَفْضُلُ عَلَى صِفَتِهِ الَّتِي هِيَ الْغَضَبُ؟ وَقَد ثَبَتَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ كتَبَ فِي كتَابٍ مَوْضوعٍ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إنَّ رَحْمَتي تَغْلِبُ غَضَبِي

(1)

-وَفِي رِوَايَةٍ- تَسْبِقُ غَضَبِي". [17/ 211]

103 -

لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَبْتَدِعَ اسْمًا مُجْمَلًا يَحْتَمِلُ مَعَانِيَ مُخْتَلِفَةً لَمْ يَنْطِقْ بِهِ الشَّرْعُ، وَيُعَلِّقْ بِهِ دِينَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَو كَانَ قَد نَطَقَ باللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ

(2)

، فَكَيْفَ إذَا أَحْدَثَ لِلَّفْظِ مَعْنًى آخَرَ؟

(3)

وَالْمَعْنَى الَّذِي يَقْصِدُهُ إذَا كَانَ حَقًّا: عَبّرَ عَنْهُ بِالْعِبَارَةِ الَّتِي لَا لَبْسَ فِيهَا.

فَإِذَا كَانَ مُعْتَقَدُهُ أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ، وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا سَمِيَّ لَهُ وَلَا كُفُوَ لَهُ وَلَا نِدَّ لَهُ: فَهَذِهِ عِبَارَاتُ الْقُرْآنِ تُؤَدِّي هَذَا الْمَعْنَى بِلَا تَلْبِيسٍ وَلَا نِزَاعٍ.

وَإِن كَانَ مُعْتَقَدُهُ أَنَّ الْأَجْسَامَ غَيْرُ مُتَمَاثِلَةٍ، وَأَنَّ كُلَّ مَا يُرَى وَتَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ فَهُوَ جِسْمٌ: فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَ مَا أَثْبَتَه اللهُ وَرَسُولُهُ مِن عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَسَائِرِ صِفَاتِهِ؛ كَقَوْلِهِ: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255].

ويقُولُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِيَانًا كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا تضامون فِيم رُؤْيَتِهِ"

(4)

فَشَبَّهَ الرُّؤْيةَ بِالرُّؤْيةِ وَإن لَمْ يَكُن الْمَرْئيُّ كَالْمَرْئِيِّ.

(1)

رواه البخاري (7404)، ومسلم (2751).

(2)

أي: ولو كان الاسم من لغة العرب، كلفظ الجسم والجهة.

(3)

يعني: أخرج اللفظ من معناه الذي وُضع له إلى معنى آخر أحدثه وابتدعه، وامتحن الناس عليه.

(4)

رواه البخاري (7436).

ص: 76

فَهَذِهِ عِبَارَاتُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَن هَذَا الْمَعْنَى الصَّحِيحِ، بِلَا تَلْبِيسٍ وَلَا نِزَاعٍ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ.

ثُمَّ بَعْدَ هَذَا مَن كَانَ قَد تَبَيَّنَ لَهُ مَعْنًى مِن جِهَةِ الْعَقْلِ أَنَّهُ لَازِمٌ لِلْحَقِّ لَمْ يَدْفَعْهُ عَن عَقْلِهِ، فَلَازِمُ الْحَقِّ حَقٌّ.

لَكِنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَا بُدَّ أَنْ يَدُلَّ الشَّرْعُ عَلَيْهِ، فَيُبَيِّنُهُ بِالْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَإِن قُدِّرَ أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ: لَمْ يَكُن مِمَّا يَجِبُ عَلَى النَّاسِ اعْتِقَادُهُ، وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إلَيْهِ، وَإِن قَدَّرَ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ حَقٌّ. [17/ 319 - 320]

104 -

مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمُتَحَيِّزَ هُوَ مَا بَايَنَ غَيْرَهُ فَانْحَازَ عَنْهُ، وَلَيْسَ مِن شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا مِن الْأَجْزَاءِ الْمُنْفَرِدَةِ، وَلَا أَنَّهُ يَقْبَلُ التَّفْرِيقَ وَالتَّقْسِيمَ، فَإِذَا قَالَ: إنَّ الرَّبَّ مُتَحَيّزٌ بِهَذَا الْمَعْنَى؛ أَيْ: أَنَّهُ بَائِنٌ عَن مَخْلُوقَاتِهِ: فَقَد أَرَادَ مَعْنًى صَحِيحًا، لَكِنَّ إطْلَاقَ هَذِهِ الْعِبَارَةِ بِدْعَةٌ، وَفِيهَا تَلْبِيسٌ، فَإِنَّ هَذَا الَّذِي أَرَادَهُ لَيْسَ مَعْنَى الْمُتَحَيِّزِ فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ اصْطِلَاحٌ لَهُ وَلطَائِفَتِهِ، وَفِي الْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ، فَصَارَ يَحْتَمِلُ مَعْنًى فَاسِدًا يَجِبُ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْهُ.

ولَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُطْلِقَ لَفْظًا يَدُلُّ عِنْدَ غَيْرِهِ عَلَى مَعْنًى فَاسِدٍ، وَيَفْهَم ذَلِكَ الْغَيْرُ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْفَاسِدَ، مِن غَيْرِ بَيَان مُرَادِهِ

(1)

. [17/ 374]

105 -

أَمَّا اسْتَوَى عَلَى كَذَا: فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَلُغَةِ الْعَرَبِ الْمَعْرُوفَةِ إلَّا بِمَعْنى وَاحِدٍ، قَالَ تَعَالَى:{فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح: 29].

وَهَذَا الْمَعْنَى يَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ:

أ- عُلُوَّهُ عَلَى مَا اسْتَوَى عَلَيْهِ.

(1)

وهذا يجري في الألفاظ الشرعية وغيرها.

ص: 77

ب- وَاعْتِدَالَهُ أَيْضًا.

فَلَا يُسَمُّونَ الْمَائِلَ عَلَى الشَّيْءِ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ.

وَقَوْلُهُ:

ثُمَّ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ

مِن غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مهراق

هُوَ مِن هَذَا الْبَابِ؛ فَإنَّ الْمُرَادَ بِهِ بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ، وَاسْتِوَاؤُهُ عَلَيْهَا؛ أَيْ: عَلَى كُرْسِيِّ مُلْكهَا، لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ مُجَرَّدَ الِاسْتِيلَاءِ؛ بَل اسْتِوَاءٌ مِنْهُ عَلَيْهَا. [17/ 374 - 375]

106 -

صَنَّفَ الرَّازِي

(1)

كِتَابَهُ فِي عِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ، وَأَقَامَ الْأَدِلَّةَ عَلَى حُسْنِ ذَلِكَ وَمَنْفعَتِهِ وَرَغَّبَ فِيهِ، وَهَذِهِ رِدَّةٌ عَنِ الْإِسْلَامِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِن كَانَ قَد يَكُونُ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ. [18/ 55]

107 -

الْخَوْضُ فِي ذَلِكَ -أي: في الْقَدَرِ- بِغَيْرِ عِلْمٍ تَامٍّ: أَوْجَبَ ضَلَالَ عَامَّةِ الْأُمَمِ؛ وَلهَذَا نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ عَنِ التّنَازُعِ فِيهِ. [18/ 137]

108 -

كَثِيرٌ مِن مُنَازَعَاتِ النَّاسِ فِي مَسَائِلِ الْإِيمَانِ، وَمَسَائلِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ، هِيَ مُنَازَعَاتٌ لَفْظِيَّة، فَإِذَا فُصِلَ الْخِطَابُ زَالَ الِارْتيَابُ. [18/ 279]

109 -

الْإَيمَانُ لَهُ حَلَاوَةٌ فِي الْقَلْبِ وَلَذَّةٌ لَا يَعْدِلُهَا شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ. [18/ 295]

110 -

إِنَّ الْإِنْسَانَ قَد يُؤتَى إيمَانًا مَعَ نَقْصِ عِلْمِهِ، فَمِثْلُ هَذَا الْإِيمَانِ قَد يُرْفَعُ مِن صَدْرِهِ

(2)

.

(1)

هو: أبو عبد الله الرازي المفسر المعروف المتوفى سنة (606 هـ)، وليس أبا بكر المعتزلي، ويدل عليه قوله: صَنَّفَ الرَّازِي كِتَابًا فِي عِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَالْأصْنَامِ وَعَمَلِ السِّحْرِ سَمَّاهُ "السِّرُّ الْمَكْتُومُ فِي السِّحْرِ وَمُخَاطَبَةِ النُّجُومِ" يُقَالُ: إنَّهُ صَنَّفَهُ لِأُمِّ السُّلْطَانِ عَلَاءِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ لَكْشِ بْنِ جَلَالِ الدِّينِ خَوَارِزْم شاه، وَكَانَ مِن أعْظَمِ مُلُوكِ الْأَرْضِ، وَكَانَ للرازي بِهِ اتِّصَالٌ قَوِيٌّ، حَتَّى أنَّهُ وَصَّى إلَيْهِ عَلَى أَوْلَادِهِ وَصَنَّفَ لَهُ كِتَابًا سَمَّاهُ لَهُ "الرِّسَالَة الْعَلَائِيَّة فِي الِاخْتِيَارَاتِ السَّمَاوِيَّةِ". (13/ 180).

وخَوَارِزْم شاه تُوفي في أواخر القرن السادس (596).

(2)

وذلك لأن الإيمان والصلاح لا يكفي لثبات الإنسان، بل لا بد من العلم الشرعي المؤصل، =

ص: 78

وَأَمَّا مَن أُوتيَ الْعِلْمَ مَعَ الْإِيمَانِ فَهَذَا لَا يُرْفَعُ مِن صَدْرِهِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَرْتَدُّ عَنِ الْإِسْلَامِ قَطُّ، بِخِلَافِ مُجَرَّدِ الْقُرْآنِ أَو مُجَرَّدِ الْإِيمَانِ فَإِنَّ هَذَا قَد يَرْتَفِعُ، فَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ.

لَكِنْ أَكْثَرُ مَا نَجِدُ الرِّدَّةَ فِيمَن عِنْدَهُ قُرْآنٌ بِلَا عِلْمٍ وَإِيمَانٍ، أَو مَن عِنْدَهُ إيمَانٌ بِلَا عِلْمٍ وَقُرْآنٍ.

فَأَمَّا مَن أُوتِيَ الْقُرْآنَ وَالْإِيمَانَ فَحَصَلَ فِيهِ الْعِلْمُ فَهَذَا لَا يُرْفَعُ مِن صَدْرِهِ. [18/ 305]

111 -

فِي السُّلُوكِ مَسَائِلُ تَنَازَعَ فِيهَا الشُّيُوخُ، لَكِنْ يُوجَدُ فِي الْكِتَابِ وَالسّنَّةِ مِنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ مَا يَفْهَمُهُ غَالِبُ السَّالِكِينَ.

فَمَسَائِلُ السُّلُوكِ مِن جِنْسِ مَسَائِلِ الْعَقَائِدِ كُلُّهَا مَنْصُوصَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْكَلَامِ لَمَّا أَعْرَضُوا عَنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَلَمَّا دَخَلُوا فِي الْبِدَعِ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ.

وَهَكَذَا الْفِقْهُ إنَّمَا وَقَعَ فِيهِ الِاخْتِلَافُ لِمَا خَفِيَ عَلَيْهِم بَيَانُ صَاحِبِ الشَّرْعِ، وَلَكِنَّ هَذَا إنَّمَا يَقَعُ النِّزَاعُ فِي الدَّقِيقِ مِنْهُ، وَأَمَّا الْجَلِيلُ فَلَا يَتَنَازَعُونَ فِيهِ.

وَالصَّحَابَةُ أَنْفُسُهُم تَنَازَعُوا فِي بَعْضِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي الْعَقَائِدِ، وَلَا فِي الطَّرِيقِ إلَى اللهِ الَّتِي يَصِيرُ بِهَا الرَّجُلُ مِن أَوْليَاءِ اللهِ الْأَبْرَارِ الْمُقَرَّبِينَ. [19/ 274]

* * *

= وقد رأينا بعضَ أهل الصلاح والاستقامة من انتكس ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولم نر عالِمًا أو طالب علم متمكن انتكس وتراجع والحمد لله.

ص: 79

(أنواع التوسل الممنوع)

112 -

مَن يَأْتِي إلَى قَبْرِ نَبِيِّ أَو صَالِحٍ أو مَن يَعْتَقِدُ فِيهِ أَنَّهُ قَبْرُ نَبِيِّ أَو رَجُلٍ صَالِحٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَيَسْأَلُهُ وَيَسْتَنْجِدُهُ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ:

إحْدَاهَا: أَنْ يَسْأَلَهُ حَاجَتَهُ، مِثْلُ أَنْ يَسْأَلَهُ أَنْ يُزِيلَ مَرَضَهُ أَو مَرَضَ دَوَابِّهِ، أَو يَقْضِيَ دَيْنَهُ .. وَنَحْو ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللهُ عزَّوجلَّ: فَهَذَا شِرْكٌ صَرِيحٌ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ صَاحِبُهُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ.

وَإِن قَالَ: أَنَا أَسْألُهُ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إلَى اللهِ مِنِّي لِيَشْفَعَ لِي فِي هَذ الْأمُورِ لِأنِّي أَتَوَسَّلُ إلَى اللهِ بِهِ كَمَا يُتَوَسَّلُ إلَى السُّلْطَانِ بِخَوَاصِّهِ وَأَعْوَانِهِ: فَهَذَا مِن أَفْعَالِ الْمُشْرِكِينَ وَالنَّصَارَى، فَإِنَّهُم يَزْعُمُونَ أَنَّهُم يَتَّخِذُونَ أَحْبَارَهُم وَرُهْبَانَهُم شُفَعَاءَ، يَسْتَشْفِعُونَ بِهِم فِي مَطَالِبِهِمْ، وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ اللهُ عَن الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُم قَالُوا:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3].

الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَلَّا تَطْلُبَ مِنْهُ الْفِعْلَ وَلَا تَدْعُوَهُ، وَلَكِنْ تَطْلُبُ أَنْ يَدْعُوَ لَك، كَمَا تَقُولُ لِلْحَيِّ: اُدْعُ لِى، وَكَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِم- يَطْلُبُونَ مِن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الدُّعَاءَ، فَهَذَا مَشْرُوعٌ فِي الْحَيِّ، وَأَمَّا الْمَيِّتُ مِن الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَغَيْرِهِمْ فَلَمْ يُشْرَعْ لنَا أنْ نَقُولَ: اُدْعُ لَنَا، وَلَا اسْأَلْ لَنَا رَبَّك، وَلَمْ يَفْعَلْ هَذَا أَحَدٌ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَلَا أَمَرَ بِهِ أحَدٌ مِن الْأَئِمَّةِ، وَلَا وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ؛ بَل الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيح أَنَّهُم لَمَّا أَجْدَبُوا زَمَنَ عُمَرَ رضي الله عنه اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذَا أَجْدَبْنَا نتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِيَنَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا فَيُسْقَوْنَ.

وَلَمْ يَجِيئُوا إلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَائِلِينَ: يَا رَسُولَ اللهِ اُدْعُ اللهَ لَنَا وَاسْتَسْقِ لَنَا وَنَحْنُ نَشْكُو إلَيْك مِمَّا أَصَابَنَا وَنَحْو ذَلِكَ، لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِن الصَّحَابَةِ قَطُّ؛ بَل هُوَ بِدْعَةٌ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ

(1)

.

(1)

أي: أنه مما أحدث وليس لأن حكمَه بدعة لا يصل إلى الشرك؛ بل هو من الشرك، كما قرره في عدة مواضع، كما سيأتي بحول الله.

ص: 80

وَذَلِكَ أَنَّ فِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ عَنْهُ قَالَ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ"

(1)

.

وَمِن أَعْظَمِ الشِّرْكِ: أَنْ يَسْتَغِيثَ الرَّجُلُ بِمَيِّتٍ أَو غَائِبٍ وَيَسْتَغِيثَ بِهِ عِنْدَ الْمَصَائِبِ، يَقُولُ: يَا سَيِّدِي فُلَانٌ؛ كَأَنَّهُ يَطْلُبُ مِنْهُ إزَالَةَ ضُرِّهِ أَو جَلْبَ نَفْعِهِ.

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَقُول: اللَّهُمَّ بِجَاهِ فُلَانٍ عِنْدَك أَو بِبَرَكَةِ فُلَانٍ أَو بِحُرْمَةِ فُلَانٍ عِنْدَك: افْعَلْ بِي كَذَا وَكَذَا، فَهَذَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِن النَّاسِ، لَكِنْ لَمْ يُنْقَلْ عَن أَحَدٍ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ أَنَّهُم كَانُوا يَدْعُونَ بِمِثْل هَذَا الدُّعَاءِ، وَلَمْ يَبْلُغْنِي عَن أَحَدٍ مِن الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ مَا أحْكِيهِ، إلَّا مَا رَأَيْت فِي فَتَاوَى الْفَقِيهِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ فَإِنَّهُ أَفْتَى: أَنَّهُ لَا يَجُوز لِأَحَد أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ إلَّا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إنْ صَحَّ الْحَدِيثُ فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَعْنَى الِاسْتِفْتَاءِ: قَد رَوَى النَّسَائِي وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ أَنْ يَدْعُوَ فَيَقُولَ: "اللَّهُمَّ: إنِّي أَسْأَلُك وَأتوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّك نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا مُحَمَّدُ: يَا رَسُولَ اللهِ إنِّي أتوَسَّلُ بِك إلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي لِيَقْضِيَهَا لِي، اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ"

(2)

.

(1)

صححه الألباني في تخريج المشكاة (715).

(2)

رواه ابن ماجه (1385)، والترمذي (3578)، وا لإمام أحمد (17240) وفيه:"وَتُشَفِّعُيني فِيهِ، وَتُشَفِّعُهُ فِيَّ"، وصححه الترمذي والألباني في صحيح الجامع الصغير (1279).

قال شيخ الإسلام: فَهَذَا طَلَبَ مِن النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْأَلَ اللهَ أنْ يَقْبَلَ شَفَاعَةَ النَبِيِّ لَهُ فِي تَوَجُّهِهِ بِنَبِيِّهِ إلَى اللهِ، هُوَ كَتَوَسُّلِ غَيْرِهِ مِن الصَّحَابَةِ بِهِ إلَى اللهِ، فَإِن هَذَا التَّوَجُّهَ وَالتَّوَسُّلَ هُوَ تَوَجُّهٌ وَتَوَسُّلٌ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ. اهـ. (27/ 132 - 133).

وقال الألباني رحمه الله: قوله في دعائه: "اللَّهُمَّ فشفعه في"؛ أي: اقبل شفاعته صلى الله عليه وسلم؛ أي: دعاءه فيّ "وشفعني فيه"؛ أي: اقبل شفاعتي؛ أي: دعائي في قبول دعائه صلى الله عليه وسلم فيّ، فموضوع الحديث كله يدور حول الدعاء كما يتضح للقارئ الكريم بهذا الشرح الموجز، فلا علاقة للحديث بالتوسل المبتدع، ولهذا أنكره الامام أبو حنيفة فقال: أكره أن يسأل الله إلا بالله، كما في "الدر المختار" وغيره من كتب الحنفية. اهـ. سلسلة الأحاديث الصحيحة والضعيفة (1/ 77).

ص: 81

فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ قَد اسْتَدَلَّ بِهِ طَائِفَةٌ عَلَى جَوَازِ التَّوَسُّلِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ.

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَيْسَ فِي هَذَا جَوَازُ التَّوَسُّلِ بِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ وَفِي مَغِيبِهِ؛ بَل إنَّمَا فِيهِ التَّوَسُّلُ فِي حَيَاتِهِ بِحُضُورِهِ، كمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذَا أَجْدَبْنَا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّنا فَتَسْقِيَنَا، وَإِنَّا نتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا فَيُسْقَوْنَ

(1)

.

وَقَد بَيَّنَ عُمَرُ بْن الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُم كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ فَيُسْقَوْنَ، وَذَلِكَ التَّوَسُّلُ بِهِ أَنَّهُم كَانُوا يَسْأَلُونَهُ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ لَهُم فَيَدْعُو لَهُم ويدْعُونَ مَعَهُ وَيَتَوَسَّلُونَ بِشَفَاعَتِهِ وَدُعَائِهِ

(2)

.

وَأَمَّا الرَّجُلُ إذَا أَصَابَتْهُ نَائِبَةٌ أَو خَافَ شَيْئًا فَاسْتَغَاثَ بِشَيْخِهِ يَطْلُبُ تَثْبِيتَ قَلْبِهِ مِن ذَلِكَ الْوَاقِعِ: فَهَذَا مِن الشِّرْكِ، وَهُوَ مِن جِنْسِ دِين النَّصَارَى.

فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: أَنَا أَدْعُو الشَّيْخَ لِيَكُونَ شَفِيعًا لِي: فَهُوَ مِن جِنْسِ دُعَاءِ النَّصَارَى لِمَرْيَمَ وَالْأَحْبَارِ وَالرّهْبَانِ، وَالْمُؤْمِنُ يَرْجُو رَبَّهُ ويخَافُهُ وَيَدْعُوهُ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، وَحَقُّ شَيْخِهِ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ ويتَرَحَّمَ عَلَيْهِ.

فَإِنْ زَعَمَ أَحَدٌ أَنَّ حَاجَتَهُ قُضِيَتْ بِمِثْل ذَلِكَ، وَأَنَّهُ مُثِّلَ لَهُ شَيْخُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ: فَعُبَّادُ الْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ وَنَحْوُهُم مِن أَهْلِ الشِّرْكِ يَجْرِي لَهُم مِثْلُ هَذَا كَمَا قَد تَوَاتَرَ ذَلِكَ عَمَّن مَضَى مِن الْمُشْرِكِينَ وَعَن الْمُشْرِكِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ، فَلَوْلَا ذَلِكَ مَا عُبِدَت الْأَصْنَامُ وَنَحْوُهَا، قَالَ الْخَلِيلُ عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ

(1)

رواه البخاري (3710).

(2)

وقال رحمه الله: تَوَسَّلُوا إلَيْهِ بِمَا شَرَعَهُ مِن الْوَسَائِلِ وَهِيَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَة وَدُعَاءُ الْمُؤمِنِينَ، كَمَا يَتوَسَّلُ الْعَبْدُ إلَى اللهِ بِالْإِيمَانِ بِنَبِيِّهِ وَبِمَحَبَّتِهِ وَمُوَالَاتِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالسَّلَامِ، وَكَمَا يَتَوَسَّلُونَ فِي حَيَاتِهِ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ، كَذَلِكَ يَتَوَسَّلُ الْخَلْقُ فِي الْآخِرَةِ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ، ويتَوَسَّلُ بِدُعَاءِ الصَّالِحِينَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"وَهَل تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إلَّا بِضُعَفَائِكُمْ: بِدُعَائِهِمْ وَصَلَاِتهِمْ وَاسْتِغْفَارِهِمْ". (27/ 123).

ص: 82

الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [ابراهيم: 35، 36]

(1)

. [27/ 72 - 90]

113 -

وَأَمَّا التَّمَسُّحُ بِقَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَقْبِيلُهُ فَكُلُّهُم كَرِهَ ذَلِكَ وَنَهَى عَنْهُ؛ وَذَلِكَ لِأنَّهُم عَلِمُوا مَا قَصَدَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِن حَسْمِ مَادَّةِ الشّرْكِ وَتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصِ الدّينِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. [27/ 80]

114 -

قَوْلُ الْقَائِلِ: انْقَضَتْ حَاجَتِي بِبَرَكَةِ اللهِ وَبَرَكَتِك: مُنْكَرٌ مِن الْقَوْلِ؛ فَإِنَّهُ لَا ئقْرَنُ باللهِ فِي مِثْل هَذَا غَيْرُهُ، حَتَّى إنَ قَائِلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْت فَقَالَ: "أَجَعَلْتَنى للهِ نِدًّا؟ بَل مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ"

(2)

.

وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: "لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ مُحَمَّد، وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ"

(3)

. [27/ 95]

115 -

لَمْ يَكُن فِي الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ وَالْمَشَايِخِ الْمُتَقَدِّمِينَ مَن يَقُولُ: إنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَجَابٌ عِنْدَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لَا مُطْلَقًا وَلَا مُعَيَّنًا، وَلَا فِيهِمْ مَن قَالَ: إنَّ دُعَاءَ الْإِنْسَانِ عِنْدَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَفْضَلُ مِن دُعَائِهِ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْبُقْعَةِ، وَلَا إنَّ الصَّلَاةَ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ أَفْضَل مِن الصَّلَاةِ فِي غَيْرِهَا، وَلَا فِيهِمْ مَن كَانَ يَتَحَرَّى الدُّعَاءَ وَلَا الصَّلَاةَ عِنْدَ هَذِهِ الْقُبُورِ؛ بَل أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَسَيِّدُهُم هُوَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ قَبْرٌ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ قَبْرُ نَبِيِّ غَيْرَ قَبْرِهِ، وَقَد اخْتَلَفُوا فِي قَبْرِ الْخَلِيلِ وَغَيْرِهِ

(4)

- وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُسَلَّمُ عَلَيْهِ عِنْدَ زَيارَتهِ وَعَلَى صَاحِبَيْهِ. [27/ 116]

(1)

تكلم الشيخ بإسهاب عن شبهة من يستدل على عبادة القبور والتوسل بأصحابها بأنّ كثيرًا من الناس قد دَعَا دَعْوَةً عِنْدَ القَبْر فقُضِيَتْ حَاجَتُه.

(2)

قال الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 266): إسناده حسن.

(3)

أخرجه الدارمي (2741).

(4)

قال الشيخ في موضع آخرة لَكِنَّ الصَّحِيحَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ قَبْرهُ، وَأمَّا يُونُسُ وَإِلْيَاسُ وَشُعَيْبٌ وَزَكَرِيَّا فَلَا يُعْرَفُ، وَقَبْرُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِقَصْرِ الْإِمَارَةِ الَّذِي بِالْكُوفَةِ، وَقَبْرُ مُعَاوِيةَ هُوَ الْقَبْرُ الَّذِي تَقُولُ الْعَامَّةَ إنَّهُ قَبْرُ هُودٍ. (27/ 445)

وقال في موضع آخر: وَأَمَّا "مَشْهَدُ عَلِيِّ" فَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ قَبْرَهُ؛ بَل قَد قِيلَ: إنَّهُ=

ص: 83

116 -

قَالَ مَالِكٌ: لَا أَرَى أَنْ يَقِفَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ويدْعُوَ، وَلَكِنْ يُسَلِّمُ وَيَمْضِي.

وَقَالَ أَيْضًا فِي "الْمَبْسُوطِ": لَا بَأْسَ لِمَن قَدِمَ مَن سَفَرٍ أَو خَرَجَ إلَى سَفَرٍ أَنْ يَقِفَ عَلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيُصَلِّي عَلَيْهِ وَيَدْعُو لَهُ وَلأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ.

فَقِيلَ لَهُ: فَإنَّ نَاسًا مِن أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا يَقْدَمُونَ مِن سَفَرٍ وَلَا يُرِيدُونَهُ، يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الْيَوْمِ مَرَّةً أَو أَكْثَرَ، وَرُبَّمَا وَقَفُوا فِي الْجُمْعَة أَو فِي الْيَوْمِ الْمَرَّةَ وَالْمَرَّتَيْنِ أَو أَكْثَرَ عِنْدَ الْقَبْرِ فَيُسَلِّمُونَ ويدْعُونَ سَاعَة.

فَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنِي هَذَا عَن أَحَدٍ مِن أَهْلِ الْفِقْهِ بِبَلْدَتِنَا، وَلَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا، وَلَمْ يَبْلُغْنِي عَن أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَصَدْرِهَا أَنَّهُم كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ إلَّا مَن جَاءَ مَن سَفَرٍ أَو أَرَادَهُ.

قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: رَأَيْت أَهْلَ الْمَدِينَةِ إذَا خَرَجُوا مِنْهَا أَو دَخَلُوهَا أَتَوْا الْقَبْرَ وَسَلَّمُوا، قَالَ: وَذَلِكَ دَأبِي

(1)

.

فَهَذَا مَالِكٌ وَهُوَ أَعْلَمُ أَهْلِ زَمَانِهِ-؛ أَيْ: زَمَنِ تَاجِ التَّابِعِينَ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ الَّذِينَ كَانَ أَهْلُهَا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ أَعْلَمَ النَّاسِ بِمَا يُشْرَعُ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَكْرَهُونَ الْوُقُوفَ لِلدُّعَاءِ بَعْدَ السَّلَامِ عَلَيْهِ.

وَبَيَّنَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ هُوَ الدُّعَاءُ لَهُ وَلصَاحِبَيْهِ، وَهُوَ الْمَشْرُوعُ مِنَ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ.

وَأَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا لَا يُسْتَحَبُّ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ كُلَّ وَقْتٍ؛ بَل عِنْدَ الْقُدُومِ مِن

=قَبْرُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ. (27/ 446).

وقال في موضع آخر: الْمَشْهَدُ الْمَنْسُوبُ إلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ رضي الله عنهما الَّذِي بالْقَاهِرَةِ كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ العُلَمَاءِ. (27/ 451)

(1)

المدخل لابن الحاج (المتوفى 737 هـ): (1/ 262) وقال فى آخر النقل عن مالك وابن القاسم: قَالَ الْبَاجِيُّ: فَفَرْقٌ بَيْنَ أهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْغُرَبَاءِ؛ لِأنَّ الْغُرَبَاءَ قَاصِدُونَ إلَى ذَلِكَ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ مُقِيمُونَ بِهَا لَمْ يَقْصِدُوهَا مِن أَجْلِ الْقَبْرِ وَالتَّسْلِيمِ. اهـ.

ص: 84

سَفَرٍ أَو إرَادَتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَحِيَّةٌ لَهُ، وَالْمُحَيَّا لَا يُقْصَدُ بَيْتُهُ كُلَّ وَقْتٍ لِتَحِيَّتِهِ، بِخِلَافِ الْقَادِمَيْنِ مِن السَّفَرِ. [27/ 117 - 118]

117 -

من الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الدُّعَاءَ عِنْدَ الْقُبُورِ لَو كَانَ أَفْضَلَ مِن الدُّعَاءِ عِنْدَ غَيْرِهَا وَهُوَ أَحَبُّ إلَى اللهِ وأجوب: لَكَانَ السَّلَفُ أَعْلَمَ بِذَلِكَ مِن الْخَلَفِ، وَكَانوا أَسْرَعَ إلَيْهِ، فَإِنَّهُم كَانُوا أَعْلَمَ بِمَا يُحِبُّهُ اللهُ ويرْضَاهُ، وَأَسْبَقَ إلَى طَاعَتِهِ وَرِضَاهُ، وَلَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُبَيِّنُ ذَلِكَ وُيرَغِّبُ فِيهِ. [27/ 123]

118 -

الْإِسْلَامُ دِينُ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ أَوَّلهِمْ وَآخِرِهِمْ، وَكُلُّهُم بُعِثُوا بِالْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ نُوحٌ عليه السلام {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [النمل: 91]. [27/ 149]

119 -

مَن اتَّخَذَ عَمَلًا مِن الْأَعْمَالِ عِبَادَةً وَدِينًا وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا فَهُوَ ضَالٌّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.

وقَصْدُ الْقُبُورِ لِأجْلِ الدُّعَاءِ عِنْدَهَا رَجَاءَ الْإِجَابَةِ: هُوَ مِن هَذَا الْبَابِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِن الشَّرِيعَةِ: لَا وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا، فَلَا يَكُونُ دِينًا وَلَا حَسَنًا وَلَا طَاعَةً للهِ وَلَا مِمَّا يُحِبُّهُ اللهُ ويرْضَاهُ، وَلَا يَكُونُ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا قُرْبَةً، وَمَن جَعَلَهُ مِن هَذَا الْبَابِ فَهُوَ ضَالٌّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. [27/ 152]

120 -

نَصَّ عَلَى النَّهْيِ عَن بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِن عُلَمَاءِ الْمَذَاهِبِ مِن أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد، وَمِن فُقَهَاءَ الْكُوفَةِ أَيْضًا، وَصَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُم بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ، وَهَذَا لَا ريبَ فِيهِ بَعْدَ لَعْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمُبَالَغَتِهِ فِي النَّهْيِ عَن ذَلِكَ.

وَاتِّخَاذُهَا مَسَاجِدُ يَتَنَاوَلُ شَيْئَيْنِ:

أ- أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهَا مَسْجِدًا.

ب- أَو يُصَلِّيَ عِنْدَهَا مِن غَيْرِ بِنَاءٍ، وَهُوَ الَّذِي خَافَهُ هُوَ وَخَافَتْهُ الصَّحَابَةُ إذَا دَفَنُوهُ بَارِزًا: خَافُوا أَنْ يُصَلَّى عِنْدَهُ فَيُتَّخَذَ قَبْرُهُ مَسْجِدًا. [27/ 160]

ص: 85

121 -

تَجُوزُ زَيارَةُ قَبْرِ الْكَافِرِ لِأَجْلِ الِاعْتِبَارِ دُونَ الِاسْتِغْفَارِ لَهُ .. وَأَمَّا زِيارَةُ الْقُبُورِ لِأَجْلِ الدُّعَاءِ عِنْدَهَا أَو التَّوَسُّلِ بِهَا أَو الِاسْتِشْفَاعِ بِهَا: فَهَذَا لَمْ تَأْتِ بِهِ الشَّرِيعَةُ أَصْلًا. [27/ 165]

122 -

السُّنَّةُ عِنْد الصَّحَابَةِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ إذَا سَلَّمَ الْعَبْدُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَيْهِ: أَنْ يَدْعُوَ اللهُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، وَلَا يَدْعُوَ مُسْتَقْبِلَ الْحُجْرَةِ.

وَالْحِكَايَةُ الَّتِي تُرْوَى فِي خِلَافِ ذَلِكَ عَن مَالِكٍ مَعَ الْمَنْصُورِ بَاطِلَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا.

وَلَمْ أَعْلَم الْأَئِمَّةَ تَنَازَعُوا فِي أَنَّ السُّنَّةَ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَقْتَ الدُّعَاءِ لَا اسْتِقْبَالُ الْقَبْرِ النَّبَوِيِّ.

وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا وَقْتَ السَّلَامِ عَلَيْهِ، فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: يُسَلِّمُ عَلَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقَبْرِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُسَلِّمُ عَلَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ مُسْتَدْبِرَ الْقَبْرِ.

فَإِذَا كَانَ الدُّعَاء فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الْأَئِمَّةُ فِيهِ بِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، كَمَا رُوِيَ عَن الصَّحَابَة، وَكَرِهُوا اسْتِقْبَالَ الْقَبْرِ، فَمَا الظَّنُّ بِقَبْرِ غَيْرِهِ؟

وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ قَصْدَ الدُّعَاءِ عِنْدَ الْقُبُورِ: لَيْسَ مِن دِينِ الْمُسْلِمِينَ.

وَمَن ذَكَرَ شَيْئًا يُخَالِفُ هَذَا مِن الْمُصَنِّفِينَ فِي الْمَنَاسِكِ أَو غَيْرِهَا فَلَا حُجَّةَ مَعَهُ بِذَلِكَ وَلَا مَعَهُ نَقْلٌ عَن إمَامٍ مَتْبُوعٍ.

وَلَمْ يَكُن فِي الْعُصُورِ الْمُفَضَّلَةِ مَشَاهِدُ عَلَى الْقُبُورِ، وَإِنَّمَا ظَهَرَ ذَلِكَ وَكَثُرَ فِي دَوْلَةِ بَنِي بويه؛ لَمَّا ظَهَرَت الْقَرَامِطَةُ بِأَرْضِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ كَانَ بِهَا زَنَادِقَةٌ كُفَّارٌ مَقْصُودُهُم تَبْدِيلُ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ فِي بَنِي بويه مِن الْمُوَافِقَةِ لَهُم عَلَى بَعْضِ ذَلِكَ، وَمِن بِدَعِ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ فَبَنَوْا الْمَشَاهِدَ الْمَكذُوبَةَ "كَمَشْهَدِ عَلِيٍّ" رضي الله عنه وَأَمْثَالِهِ.

وَصَنَّفَ أَهْلُ الْفِرْيَةِ الْأَحَادِيثَ فِي زِيَارَةِ الْمَشَاهِدِ وَالصَّلَاةِ عِنْدَهَا وَالدُّعَاءِ عِنْدَهَا وَمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ، فَصَارَ هَؤُلَاءِ الزَّنَادِقَةُ وَأَهْلُ الْبِدَعِ الْمُتَّبِعُونَ لَهُم يُعَظِّمُونَ

ص: 86

الْمَشَاهِدَ ويُهِينُونَ الْمَسَاجِدَ، وَذَلِكَ: ضِدُّ دِينِ الْمُسْلِمِينَ، وَيسْتَتِرُونَ بِالتَّشَيُّعِ. [27/ 166 - 168]

123 -

عَامَّةُ الْقُبُورِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدُ إمَّا مَشْكُوكٌ فِيهَا وَإِمَّا مُتَيَقَّنٌ كَذِبُهَا. [27/ 170]

124 -

إذَا قُضِيَتْ حَاجَةُ مُسْلِمٍ وَكَانَ قَد دَعَا دَعْوَةً عِنْدَ قَبْرِهِ: فَمِن أَيْنَ لَهُ أَنَّ لِذَلِكَ الْقَبْرِ تَأْثِيرًا فِي تِلْكَ الْحَاجَةِ؟.

ثُمَّ تِلْكَ الْحَاجَةُ:

أ- إمَّا أَنْ تَكُونَ قَد قُضِيَتْ بِغَيْرِ دُعَائِهِ.

ب- وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ قُضِيَتْ بِدُعَائِهِ.

فَإِنْ كَانَ: الْأَوَلَ فَلَا كَلَامَ.

وَإِن كَانَ الثَّانِيَ: فَيَكُونُ قَد اجْتَهَدَ فِي الدُّعَاءِ اجْتِهَادًا لَو اجتهده فِي غَيْرِ تِلْكَ الْبُقْعَةِ أَو عِنْدَ الصَّلِيبِ لَقُضِيَتْ حَاجَتُهُ؛ فَالسَّبَبُ هُوَ اجْتِهَادُهُ فِي الدُّعَاءِ لَا خُصُوصُ الْقَبْرِ. [27/ 176 - 177]

125 -

مَن ظَنَّ فِي عُبَّادِ الْأَصْنَامِ أَنَّهُم كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا تَخْلُقُ الْعَالَمَ، أَو أَنَّهَا تُنَزِّلُ الْمَطَرَ، أَو تُنْبِتُ الثَّبَاتَ، أَو تَخْلُقُ الْحَيَوَانَ أَو غَيْرَ ذَلِكَ: فَهُوَ جَاهِل بِهِم؛ بَل كَانَ قَصْدُ عُبَّادِ الْأَوْثَانِ لِأَوْثَانِهِمْ مِن جِنْسِ قَصْدِ الْمُشْرِكِينَ بِالْقُبُورِ لِلْقُبُورِ الْمُعَظَّمَةِ عِنْدَهُمْ، وَقَصْدِ النَّصَارَى لِقُبُورِ الْقِدّيسِينَ يَتَّخِذُونَهُم شُفَعَاءَ وَوَسَائِطَ وَوَسَائِلَ. [27/ 178]

126 -

الشِّرْكُ كَمَا قُرِنَ بِالْكَذِبِ قُرِنَ بِالسِّحْرِ فِي مِثْل قَوْله تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51] وَالْجِبْتُ: السِّحْرُ، وَالطَّاغُوتُ: الشَّيْطَانُ وَالْوَثَنُ.

وَهَذِهِ حَالُ كَثِيرٍ مِن الْمُنْتَسِبينَ إلَى الْمِلَّةِ يُعَظِّمُونَ السِّحْرَ وَالشِّرْكَ، وُيرَجِّحُونَ الْكُفَّارَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَمَسِّكِينَ بِالشَّرِيعَةِ.

[27/ 178 - 179]

ص: 87

127 -

أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ السَّاحِرَ كَافِرٌ يَجِبُ قَتْلُهُ، وَقَد ثَبَتَ قَتْلُ السَّاحِرِ عَن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانَ بْنِ عفان، وَحَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، وَجُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا عَنْهُ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [29/ 384]

ص: 88

‌مفصل الاعتقاد

(موت الملائكة في الأرض)

128 -

ما ذكر من نزول الملائكة إلى الأرض وأنهم يعبدون الله فيها ويموتون فيها لا أصل لذلك. [المستدرك 1/ 87]

129 -

الصواب الذي عليه المحققون أن الخضر عليه السلام ميت لم يدرك الإسلام. [المستدرك 1/ 87]

* * *

(الساعة الصغرى، والساعة الكبرى، وأدلتها، وعلاماتها، وأصناف الناس في الإقرار بها)

130 -

فصل في الأحاديث التي سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال: "إن يعش هذا الغلام فلن يدركه الهرم حتى تقوم الساعة"

(1)

المراد بذلك "ساعة القرن" وهي موتهم؛ فإن في "الصحيحين"

(2)

عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان الأعراب إذا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه متى الساعة؟ فينظر إلى أحدث إنسان منهم فيقول: "إن يعش هذا الغلام لم يدركه الهرم حتى تقوم عليكم ساعتكم".

قال هشام: يعني موتهم فهذا يبين تلك الأحاديث.

وقد يراد بالقيامة الموت، وأن من مات فقد قامت قيامته.

(1)

رواه مسلم (2953).

(2)

البخا ري (6167)، ومسلم (2953).

ص: 89

وليس واحد من هذين النوعين منافيًا لما أخبر الله به من "القيامة الكبرى" التي يقوم فيها الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة بعد أن تعاد الأرواح إلى الأجساد. [المستدرك 1/ 87 - 88]

131 -

الذي عليه السلف أن الروح التي تقبض بالموت ليست هي البدن ولا جزء منه ولا صفة من صفاته؛ بل هي جوهر قائم بنفسه. [المستدرك 1/ 92]

132 -

الإنسان منذ تفارق روحه بدنه هو إما في نعيم وإما في عذاب، فلا يتأخر النعيم والعذاب عن النفوس إلى حين القيامة العامة، وإن كان كماله حينئذ، ولا تبقى النفوس المفارقة لأبدانها خارجة عن النعيم والعذاب ألوفًا من السنين إلى أن تقوم القيامة الكبرى. [المستدرك 1/ 92 - 93]

* * *

ص: 90

‌الولاء والبراء

133 -

مِن جِنْسِ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ الَّتِي ذَمَّ اللهُ بِهَا أَهْلَ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقِينَ: الْإِيمَانُ بِبَعْضِ مَا هُم عَلَيْهِ مِن الْكُفْرِ أَو التَّحَاكُم إلَيْهِم دُونَ كِتَاب اللهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)} [النساء: 51] وَقَد عُرِفَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولهَا شَأْنُ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ -أَحَدِ رُؤَسَاءِ الْيَهُودِ- لَمَّا ذَهَبَ إلَى الْمُشْرِكِينَ وَرَجَّحَ دِينَهُم عَلَى دِينِ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ.

وَالطَّاغُوتُ: فعلوت مِن الطُّغْيَانِ، كَمَا أَنَّ الْمَلَكُوتَ فعلوت مِن الْمُلْك، وَالرَّحَمُوتُ وَالرَّهَبُوتُ والرغبوت: فعلوت مِن الرَّحْمَةِ وَالرَّهْبَة وَالرَّغْبَة.

وَالطُّغْيَانُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَهُوَ الظُّلْمُ وَالْبَغْيُ، فَالْمَعْبُودُ مِن دُونِ اللهِ إذَا لَمْ يَكُن كَارِهًا لِذَلِكَ: طَاغُوتٌ؛ ولهَذَا سَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْأَصْنَامَ طَوَاغِيتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لَمَّا قَالَ: "وَيتَّبعُ مَن يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ: الطَّوَاغِيتَ"

(1)

.

وَالْمُطَاعُ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، وَالْمُطَاعُ فِي اتِّبَاعِ غَيْرِ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ- سَوَاءٌ كَانَ مَقْبُولًا خَبَرُهُ الْمُخَالِفُ لِكِتَابِ اللهِ أَو مُطَاعًا أَمْرُهُ الْمُخَالِفُ لِأمْرِ اللهِ- هُوَ طَاغُوتٌ؛ وَلهَذَا سُمِّيَ مَن تحُوكِمَ إلَيْهِ مَن حَاكَمَ بِغَيْرِ كِتَابِ اللهِ: طَاغُوتٌ، وَسَمَّى اللهُ فِرْعَوْنَ وَعَادًا طُغَاةً، وَقَالَ فِي صَيْحَةِ ثَمُودَ:{فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} [الحاقة: 5].

فَمَن كَانَ مِن هَذ الْأُمَّةِ مُوَالِيًا لِلْكُفَّارِ مِن الْمُشْرِكِينَ أَو أَهْلِ الْكِتَابِ بِبَعْضِ

(1)

رواه البخاري (7437)، ومسلم (182).

ص: 91

أَنْوَاعِ الْمُوَالَاةِ وَنَحْوِهَا: مِثْل إتْيَانِهِ أَهْلَ الْبَاطِل وَاتِّبَاعِهِمْ فِي شَيءٍ مِن مَقَالِهِمْ وَفِعَالِهِم الْبَاطِلَ: كَانَ لَهُ مِن الذَّمّ وَالْعِقَابِ وَالنِّفَاقِ بِحَسَبِ ذَلِكَ. [28/ 199 - 201]

134 -

لْيَعْتَبِر الْمُعْتَبِرُ بِسِيرَةِ نُورِ الدِّينِ وَصَلَاحِ الدِّينِ ثُمَّ الْعَادِلِ كَيْفَ مَكَّنَهُم اللهُ وَأَيَّدَهُمْ، وَفَتَحَ لَهُم الْبِلَادَ وَأَذَلَّ لَهُم الْأَعْدَاءَ لَمَّا قَامُوا مِن ذَلِكَ بِمَا قَامُوا بِهِ

(1)

.

وَلْيَعْتَبِرْ بِسِيرَةِ مَن وَالَى النَّصَارَى كَيْفَ أَذَلَّهُ الله تَعَالَى وَكَبَتَهُ. [28/ 643]

135 -

الْمُسْلِمُونَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا قُلُوبُهُم وَاحِدَةٌ، مُوَالِيَةٌ للهِ وَلرَسُولِهِ وَلعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، مُعَادِيَةٌ لِأَعْدَاءِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَأَعْدَاءِ عِبَادِهِ الْمُؤمِنِينَ، وَقُلُوبُهُم الصَّادِقَةُ وَأَدْعِيَتُهُم الصَّالِحَةُ هِيَ الْعَسْكَرُ الَّذِي لَا يُغْلَبُ، وَالْجُنْدُ الَّذِي لَا يُخْذَلُ، فَإِنَّهُم هُم الطَّائِفَةُ الْمَنْصُورَةُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا أَخْبَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. [28/ 644]

136 -

أَصْلُ الْوِلَايَةِ: الْحُبُّ، وَأَصْلُ الْعَدَاوَةِ: الْبُغْضُ. [6/ 478]

* * *

(1)

من الجهاد وموالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين.

ص: 92

‌كتاب توحيد الألوهية

137 -

"الإله": هو الذي تألهه القلوب: بكمال المحبة، والتعظيم، والإجلال، والرجا والخوف. [المستدرك 1/ 15]

138 -

"الخليلان": هم أكمل خاصة الخاصة توحيدًا.

وكمال هذا التوحيد هو أن لا يبقى في القلب شيء لغير الله أصلًا؛ بل يبقى العبد مواليا لربه في كل شيء: يحب من أحب وما أحب، ويبغض ما أبغض وما أبغض، ويوالي من يوالي، ويعادي من يعادي، ويأمر بما يأمر به، وينهى عما نهى عنه.

[المستدرك 1/ 15]

139 -

بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم تَبَيَّنَ الْكَفْرُ مِن الْإِيمَانِ، وَالرِّبْحُ مِن الْخُسْرَانِ، وَالْهُدَى مِن الضَّلَالِ، وَالنَّجَاةُ مِن الْوَبَالِ، وَالْغَيُّ مِن الرَّشَادِ، وَالزَّيْغُ مِن السَّدَادِ، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ مِن أَهْلِ النَّارِ، وَالْمُتَّقُونَ مِن الْفُجَّارِ.

فَالنُّفُوسُ أَحْوَجُ إلَى مَعْرِفَةِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْهَا إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ؛ فَإِنَّ هَذَا إذَا فَاتَ حَصَلَ الْمَوْتُ فِي الدُّنْيَا، وَذَاكَ إذَا فَاتَ حَصَلَ الْعَذَابُ.

فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بَذْلُ جُهْدِهِ وَاسْتِطَاعَتِهِ فِي مَعْرِفَةِ مَا جَاءَ بِهِ وَطَاعَتِه؛ إذ هَذَا طَرِيقُ النَّجَاةِ مِن الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَالسَّعَادَةِ فِي دَارِ النَّعِيمِ، وَالطَّرِيقُ إلَى ذَلِكَ الرِّوَايَةُ وَالنَّقْلُ، إذ لَا يَكْفِي مِن ذَلِكَ مُجَرَّدُ الْعَقْلِ؛ بَل كَمَا أَنَّ نُورَ الْعَيْنِ لَا يَرَى إلَّا مَعَ ظُهُورِ نُورٍ قُدَّامَهُ، فَكَذَلِكَ نُورُ الْعَقْلِ لَا يَهْتَدِي إلَّا إذَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ شَمْسُ الرِّسَالَةِ، فَلِهَذَا كَانَ تَبْلِيغُ الدِّينِ مِن أَعْظَمِ فَرَائِضِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ مَعْرِفَةُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ رَسُولَهُ وَاجِبًا عَلَى جَمِيعِ الْأَنَامِ. [1/ 5 - 6]

ص: 93

140 -

لَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ مُتَمَيِّزا بِنَفْسِهِ- لِمَا خَصَّهُ اللهُ بِهِ مِن الْإِعْجَازِ الَّذِي بَايَنَ بِهِ كَلَامَ النَّاسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} [الاسراء: 88]، وَكَانَ مَنْقُولًا بِالتَّوَاتُرِ-: لَمْ يَطْمَعْ أَحَدٌ فِي تَغْيِيرِ شَيْءٍ مِن أَلْفَاظِهِ وَحُرُوفِهِ

(1)

، وَلَكِنْ طَمِعَ الشَّيْطَانُ أَنْ يُدْخِلَ التَّحْرِيفَ وَالتَّبْدِيلَ فِي مَعَانِيهِ بِالتَّغْيِيرِ وَالتَّأوِيلِ، وَطَمِعَ أَنْ يُدْخِلَ فِي الْأَحَادِيثِ مِن النَّقْصِ وَالِازْدِيَادِ، مَا يُضِلُّ بِهِ بَعْضَ الْعِبَادِ، فَأَقَامَ اللهُ تَعَالَى الْجَهَابِذَةَ النُّقَّادَ أَهْلَ الْهُدَى وَالسَّدَادِ، فَدَحَرُوا حِزْبَ الشَّيْطَانِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبُهْتَانِ، وَانْتُدِبُوا لِحِفْظِ السُّنَّةِ وَمَعَانِي الْقُرْآنِ مِن الزِّيَادَةِ فِي ذَلِكَ وَالنُّقْصَانِ. [1/ 7]

141 -

مَن كَانَ مُخْلِصًا فِي أَعْمَالِ الذينِ يَعْمَلُهَا للهِ: كَانَ مِن أَوْليَاءِ اللهِ الْمُتَّقِينَ أَهْلِ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ. [1/ 8]

142 -

قَالَ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس: 62 - 64]، وَقَد فَسَّرَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم الْبُشْرَى فِي الدُّنْيَا بِنَوْعَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: ثنَاءُ الْمُثْنِينَ عَلَيْهِ.

الثَّانِي: الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَو ترَى لَهُ.

فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ الرَّجُلُ يَعْمَلُ الْعَمَلَ لِنَفْسِهِ فَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: "تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ"

(2)

.

وَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: سُئِلَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَن قَوْلِهِ: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 64]، فَقَالَ:"هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَو تُرَى لَهُ"

(3)

. [1/ 8]

(1)

إلا الرافضة، فقد جاهروا في تحريف كلام الله، وصنفوا كتبًا في تحريف القرآن.

(2)

رواه مسلم (2642).

(3)

رواه ابن ماجه (3898).

ص: 94

143 -

الْقَائِمُونَ بِحِفْظِ الْعِلْم الْمَوْرُوثِ عَن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، الرُّبَّانُ الْحَافِظُونَ لَهُ مِن الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ: هُم مِن أَعْظَمِ أَوْليَاءِ اللهِ الْمُتَّقِينَ، وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ؛ بَل لَهُم مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِمْ مِن أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]

(1)

. [1/ 8 - 9]

144 -

قَالَ تَعَالَى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22].

وَأَهْلُ الْعِلْمِ الْمَأثُورِ عَن الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم أَعْظَمُ النَّاسِ قِيَامًا بِهَذ الْأُصُولِ، لَا تَأْخُذُ أَحَدَهُم فِي اللهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَلَا يَصُدُّهُم عَن سَبِيلِ اللهِ الْعَظَائِمُ؛ بَل يَتَكلَّمُ أَحَدُهُم بِالْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ، وَيَتَكَلَّمُ فِي أَحَبّ النَّاسِ إلَيْهِ، عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135]. [1/ 10]

145 -

نَجِدُ كَثِيرًا مِن الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَعَبِّدَةِ إنَّمَا هِمَّتُهُ طَهَارَة الْبَدَنِ فَقَطْ، ويزِيدُ فِيهَا عَلَى الْمَشْرُوعِ اهْتِمَامًا وَعَمَلًا، ويتْرُكُ مِن طَهَارَةِ الْقَلْبِ مَا أُمِرَ بِهِ إيجَابًا أَو اسْتِحْبَابًا، وَلَا يَفْهَمُ مِن الطَّهَارَةِ إلَّا ذَلِكَ، وَنَجِدُ كَثِيرًا مِن الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَفَقِّرَةِ إنَّمَا هِمَّتْهُ طِهَارَةُ الْقَلْبِ فَقَطْ، حَتَّى يَزِيدَ فِيهَا عَلَى الْمَشْرُوعِ اهْتِمَامًا وَعَمَلًا، وَيتْرُكُ مِن طَهَارَةِ الْبَدَنِ مَا أُمِرَ بِهِ إيجَابًا أَو اسْتِحْبَابًا.

فَالْأوَّلُونَ: يَخْرُجُونَ إلَى الْوَسْوَسَةِ الْمَذْمُومَةِ فِي كَثْرَةِ صَبِّ الْمَاءِ، وَتَنْجِيسِ مَا لَيْسَ بِنَجِس، وَاجْتِنَابِ مَا لَا يُشْرَعُ اجْتِنَابُهُ، مَعَ اشْتِمَالِ قُلُوبِهِم عَلَى أَنْوَاعٍ مِن الْحَسَدِ وَالْكِبْرِ وَالْغِلِّ لِإِخْوَانِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ مُشَابَهَةٌ بَيِّنَةٌ لِلْيَهُودِ.

وَالْآحرُونَ: يَخْرُجُونَ إلَى الْغَفْلَةِ الْمَذْمُومَةِ، فَيُبَالِغُونَ فِي سَلَامَةِ الْبَاطِنِ،

(1)

فهنيئًا لطلاب العلم المنشغلين بفهم الكتاب والسُّنَّة، والسالكين مسلك أهل العلم في البحث والقراءة والكتابة.

ص: 95

حَتَّى يَجْعَلُونَ الْجَهْلَ بِمَا تَجِبُ مَعْرِفَتُهُ مِن الشَّرِّ -الَّذِي يَجِبُ اتِّقَاؤُهُ-: مِن سَلَامَةِ الْبَاطِنِ

(1)

. ثُمَّ مَعَ هَذَا الْجَهْلِ وَالْغَفْلَةِ قَد لَا يَجْتَنِبُونَ النَّجَاسَاتِ، وَيُقِيمُونَ الطّهَارَةَ الْوَاجِبَةَ مُضَاهَاةً لِلنَّصَارَى. [1/ 15 - 16]

146 -

نَتِيجَةُ الْجَمَاعَةِ: رَحْمَةُ اللهِ وَرِضْوَانُهُ وَصَلَوَاتُهُ، وَسَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَبَيَاضُ الْوُجُوهِ.

وَنَتِيجَةُ الْفُرْقَةِ: عَذَابُ اللهِ وَلَعْنَتُهُ، وَسَوَادُ الْوُجُوهِ، وَبَرَاءَةُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ. [1/ 17]

147 -

قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ فِي السُّنَنِ مِن رِوَايَةِ فَقِيهَي الصَّحَابَةِ: عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ:"ثَلَاثٌ لَا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إخْلَاصُ الْعَمَلِ للهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ، وَلُزومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ دَعْوَتَهُم تُحِيطُ مِن وَرَائِهِمْ"

(2)

، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَحْفُوظِ:"إنَّ اللهَ يَرْضَا لَكُمْ ثَلَاثًا: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَن وَلَّاهُ اللهُ أَمْرَكمْ"

(3)

.

فَقَد جَمَعَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بَيْنَ الْخِصَالِ الثلَاثِ:

أ- إخْلَاصِ الْعَمَلِ للهِ.

ب- وَمُنَاصَحَةِ أُولي الْأَمْرِ.

ت- وَلُزومِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ.

(1)

وهناك طوائف من المنتسبين للخير والدعوة لهم شبه من هذا، حيث لا يعتنون بالعلم الشرعيّ، والفقه والعقيدة تعلُّمًا وتعليمًا، وكثيرًا ما يلمزون بعض العلماء بأنهم انشغلوا بالعلم عن الدعوة والعمل! ويعتنون بإصلاح القلوب وسلامتها من الغل والحسد.

(2)

رواه الترمذي (2658)، وابن ماجه (230)، والدارمي (234)، وأحمد (13350)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي.

(3)

رواه مالك في موطئه (2833)، وأحمد في مسنده (8799)، والبخاري في الأدب المفرد (442)، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (343).

وأصله في صحيح مسلم بدون لفظ: "وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَن وَلَّاهُ اللهُ أَمْرَكُمْ".

ص: 96

وَهَذِهِ الثَّلَاثُ:

أ- تَجْمَعُ أُصُولَ الدِّينِ وَقَوَاعِدَهُ.

ب- وَتَجْمَعُ الْحُقُوقَ الَّتِي للهِ وَلعِبَادِهِ.

ت- وَتَنْتَظِمُ مَصَالِحَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الْحُقُوقَ قِسْمَانِ:

أ- حَقٌّ للهِ.

ب- وَحَقٌّ لِعِبَادِهِ.

فَحَقُّ اللهِ: أَنْ نَعْبُدَهُ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، كَمَا جَاءَ لَفْظُهُ فِي أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ، وَهَذَا مَعْنَى إخْلَاصِ الْعَمَلِ للهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ.

وَحُقُوقُ الْعِبَادِ قِسْمَانِ:

أ- خَاصٌّ.

ب- وَعَامٌّ.

أَمَّا الْخَاصُّ: فَمِثْلُ بِرِّ كُلِّ إنْسَانٍ وَالِدَيْهِ، وَحَقِّ زَوْجَتِهِ وَجَارِهِ، فَهَذِهِ مِن فُرُوعِ الدِّينِ:

- لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ قَد يَخْلُو عَن وُجُوبِهَا عَلَيْهِ.

- وَلِأَنَّ مَصْلَحَتَهَا خَاصَّةٌ فَرْدِيَّةٌ.

وَأَمَّا الْحُقُوقُ الْعَامَّةُ فَالنَّاسُ نَوْعَانِ:

أ- رُعَاةٌ.

ب- وَرَعِيَّةٌ.

فَحُقُوقُ الرُّعَاةِ: مُنَاصَحَتُهُمْ.

وَحُقُوقُ الرَّعِيَّةِ: لُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ؛ فَإنَّ مَصْلَحَتَهُم لَا تَتِمُّ إلَّا بِاجْتِمَاعِهِمْ،

ص: 97

وَهُم لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ؛ بَل مَصْلَحَةُ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُم فِي اجْتِمَاعِهِمْ وَاعْتِصَامِهِمْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا.

فَهَذِهِ الْخِصَالُ تَجْمَعُ أصُولَ الدِّينِ.

وَقَد جَاءَت مُفَسَّرَةً فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

عَن تَمِيمٍ الداري قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ الدِّينُ النَّصِيحَةُ الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قَالُوا: لِمَن يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: للهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ".

فَالنَّصِيحَةُ للهِ وَلكِتَابِهِ وَلرَسُولِهِ: تَدْخُلُ فِي حَقِّ اللهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.

وَالنَّصِيحَةُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ: هِيَ مُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ؛ فَإِنَّ لُزُومَ جَمَاعَتِهِمْ هِيَ نَصيحَتُهُم الْعَامَّةُ، وَأَمَّا النَّصِيحَةُ الْخَاصَّةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُم بِعَيْنِهِ، فَهَذِهِ يُمْكِنُ بَعْضُهَا، ويتَعَذَّرُ اسْتِيعَابُهَا عَلَى سَبِيلِ التَّعْيِينِ. [1/ 18 - 19]

148 -

لَا بُدَّ لِلنَّفْسِ مِن شَيْءٍ تَطْمَئِنُّ إلَيْهِ وَتَنْتَهِي إلَيْهِ مَحَبَّتُهَا وَهُوَ إلَهُهَا، وَلَا بُدَّ لَهَا مِن شَيْءٍ تَثِقُ بِهِ وَتَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي نَيْلِ مَطْلُوبِهَا هُوَ مُسْتَعَانُهَا، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ هُوَ اللهُ أَو غَيْرُهُ.

وَإِذًا فَقَد يَكُونُ عَامًّا وَهُوَ الْكفْرُ؛ كَمَن عَبَدَ غَيْرَ اللهِ مُطْلَقًا، وَسَأَلَ غَيْرَ اللهِ مُطْلَقًا.

وَقَد يَكُونُ خَاصًّا فِي الْمُسْلِمِينَ؛ مِثْل مَن غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ الْمَالِ أَو حُبُّ شَخْصٍ أَو حَبُّ الرِّيَاسَةِ حَتَّى صَارَ عَبْدَ ذَلِكَ.

وَكَذَلِكَ مَن غَلَبَ عَلَيْهِ الثِّقَةُ بِجَاهِهِ وَمَالِهِ؛ بِحَيْثُ يَكُونُ عِنْدَهُ مَخْدُومُهُ مِن الرُّؤَسَاءِ وَنَحْوِهِمْ، أَو خَادِمُهُ مِن الْأَعْوَانِ وَالْأَجْنَادِ وَنَحْوِهِمْ، أَو أَصْدِقَاؤُه أَو

(1)

(55).

ص: 98

أَمْوَالِهِ: هِيَ الَّتِي تَجْلِبُ الْمَنْفَعَةَ الْفُلَانِيَّةَ، وَتَدْفَعُ الْمَضَرَّةَ الْفُلَانِيَّةَ، فَهُوَ مُعْتَمِدٌ عَلَيْهَا وَمُسْتَعِينٌ بِهَا، وَالْمُسْتَعَانُ هُوَ مَدْعُوٌّ وَمَسْؤُولٌ.

فَإِذَا عُلِمَ أَنَّ الْعَبْدَ لَا بُدَّ لَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحَالٍ مِن مُنْتَهًى يَطْلُبُهُ هُوَ إلَهُهُ، وَمُنْتَهَى يُطْلَبُ مِنْهُ هُوَ مُسْتَعَاُنهُ -وَذَلِكَ هُوَ صَمَدُهُ الَّذِي يَصْمُدُ إلَيْهِ فِي اسْتِعَانَتِهِ وَعِبَادَتِهِ-: تَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5] كَلَامٌ جَامِعٌ مُحِيطٌ أَوَّلًا وَآخِرًا لَا يَخْرُجُ عَنْهُ شَيْءٌ، فَصَارَت الْأقْسَامُ أَرْبَعَةً:

أ- إمَّا أَنْ يَعْبُدَ غَيْرَ اللهِ وَيسْتَعِينَهُ

(1)

-وَإِن كَانَ مُسْلِمًا- فَالشِّرْكُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِن دَبِيبِ النَّمْلِ.

ب- وَإِمَّا أَنْ يَعْبُدَهُ وَيسْتَعِينَ غَيْرَهُ؛ مِثْلُ كَثِيرٍ مِن أَهْلِ الدِّينِ، يَقْصِدُونَ طَاعَةَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَعِبَادَتَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَتَخْضَعُ قُلُوبُهُم لِمَن يَسْتَشْعِرُونَ نَصْرَهُم وَرِزْقَهُم وَهِدَايَتَهُم مِن جِهَتِهِ مِن الْمُلُوكِ وَالْأغْنِيَاءِ وَالْمَشَايِخِ

(2)

.

ج- وَإِمَّا أَنْ يَسْتَعِينَهُ -وَإِن عَبَدَ غَيْرَهُ-؛ مِثْلُ كَثِيرٍ مِن ذَوِي الْأَحْوَالِ وَذَوِي الْقُدْرَةِ وَذَوِي السُّلْطَانِ الْبَاطِنِ أَو الظَّاهِرِ، وَأَهْلِ الْكَشْفِ وَالتَّأْثِيرِ، الَّذِينَ يَسْتَعِينُونَهُ وَيَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ وَيسْأَلُونَهُ وَيَلْجَئُونَ إلَيْهِ، لَكِنَّ مَقْصُودَهُم غَيْرُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَغَيْرُ اتِّبَاعِ دِينِهِ وَشَرِيعَتِهِ الَّتِي بَعَثَ اللهُ بِهَا رَسُولَهُ.

د- وَالْقِسْمُ الرَّابعُ: الَّذِينَ لَا يَعْبُدُونَ إلَّا إيَّاهُ؛ وَلَا يَسْتَعِينُونَ إلَّا بِهِ

(3)

. [1/ 35 - 36]

(1)

كعباد القبور من الرافضة وغلاة الصوفية ونحوهم.

(2)

كم يقع في هذا القسم كثير من الناس وهو لا يشعر، فكم خضعت قلوب بعض طلاب العلم لأحد العلماء المحبين لهم، واستعانوا بهم في فهم الكتاب والسُّنَّة، دون الاستعانة بالله أولًا، وكثيرًا ما تصعب على بعضهم مسألة فيقول: ما لها إلا الشيخ الفلاني!

وكذلك الحال بالنسبة لغيرهم، فقد تخضع قلوبهم لبعض الأغنياء والرؤساء؛ فيعتمدون عليهم في أرزاقهم.

(3)

وهم أهل الدين والإيمان الصحيح.

ص: 99

149 -

أَعْظَمُ مَا يَكون الْعَبْدُ قَدْرًا وَحُرْمَةً عِنْدَ الْخَلْقِ: إذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَيْهِم بِوَجْه مِن الْوُجُوهِ، فَإِنْ أَحْسَنْتَ إلَيْهِم مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُم: كُنْتَ أَعْظَمَ مَا يَكُونُ عِنْدَهُم، وَمَتَى احْتَجْتَ إلَيْهِم -وَلَو فِي شَرْبَةِ مَاءٍ- نَقَصَ قَدْرُكَ عِنْدَهُم بِقَدْرِ حَاجَتِكَ إلَيْهِم، وَهَذَا مِن حِكْمَةِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ؛ لِيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ وَلَا يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ.

فَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ أَكْرَمُ مَا تَكُونُ عَلَيْهِ: أَحْوَجُ مَا تَكُونُ إلَيْهِ، وَأَفْقَرُ مَا تَكُونُ إلَيْهِ.

وَالْخَلْقُ أَهْوَنُ مَا يَكُونُ عَلَيْهِمْ: أَحْوَجُ مَا يَكُونُ إلَيْهِمْ. [1/ 39 - 40]

150 -

أَقْرِبَاؤُكَ وَأَصْدِقَاؤُكَ وَغَيْرُهُم إذَا أَكْرَمُوكَ لِنَفْسِكَ: فَهُم إنَّمَا يُحِبُّونَكَ وَيُكْرِمُونَكَ لِمَا يَحْصُل لَهُم بِنَفْسِكَ مِن الْكَرَامَةِ، فَلَو قَد وَلَّيْتَ وَلُّوا عَنْكَ وَتَرَكُوكَ، فَهُم فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا يُحِبُّونَ أَنْفُسَهُم وَأَغْرَاضَهُمْ. [1/ 41]

151 -

قَوْله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83]، {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} الْآيَةَ [الرعد: 15]، وَقَالَ:{بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116]، لَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ مُجَرَّدَ كَوْنِهِمْ مَخْلُوقِينَ مُدَبَّرِينَ مَقْهُورِينَ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يُقَالُ طَوْعًا وَكَرْهًا، فَإِنَّ الطَّوْعَ وَالْكَرْهَ إنَّمَا يَكُونُ لِمَا يَفْعَلُهُ الْفَاعِل طَوْعًا وَكَرْهًا، فَأَمَّا مَا لَا فِعْلَ لَهُ فِيهِ فَلَا يُقَالُ لَهُ سَاجِدٌ، أو قَانِتٌ؛ بَل وَلَا مُسْلِمٌ؛ بَل الْجَمِيعُ مُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ بِفِطْرَتِهِمْ، وَهُم خَاضِعُونَ مُسْتَسْلِمُونَ قَانِتُونَ مُضْطَرُّونَ مِن وُجُوهٍ:

أ- مِنْهَا: عِلْمُهُم بِحَاجَتِهِمْ وَضَرُورَتِهِمْ إلَيْهِ.

ب- وَمِنْهَا: دعَاؤُهُم إيَّاهُ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ.

ت- وَمِنْها: خُضُوعُهُم وَاسْتِسْلَامُهُم لِمَا يَجْرِي عَلَيْهِم مِن أَقْدَارِهِ وَمَشِيئَتِهِ.

ص: 100

وَالصَّوَابُ أَنَّ الْأَشْيَاءَ مُفْتَقِرَةٌ إلَى الْخَالِقِ لِذَوَاتِهَا، لَا لِأَمْر آخَرَ جَعَلَهَا مُفْتَقِرَةً إلَيْهِ؛ بَل فَقْرُهَا لَازِمٌ لَهَا، لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مُفْتَقِرَةٍ إلَيْهِ، كَمَا أَنَّ غِنَى الرَّبِّ وَصْفٌ لَازِمٌ لَهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ غَنِيِّ، فَهُوَ غَنِيٌّ بِنَفْسِهِ لَا بِوَصْف جَعَلَهُ غَنِيًّا.

وَمَا أَثْبَتَهُ الْقُرْآنُ مِن اسْتِسْلَامِ الْمَخْلُوقَاتِ وَسُجُودِهَا وَتَسْبِيحِهَا وَقُنُوتِهَا أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى هَذَا عِنْدَ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِن السَّلَفِ وَجُمْهُورِ الْخَلَفِ.

وَلَكِنَّ طَائِفَةً تَدَّعِي أَنَّ افْتِقَارَهَا وَخُضُوعَهَا وَخَلْقَهَا وَجَرَيَانَ الْمَشِيئَةِ عَلَيْهَا هُوَ تَسْبِيحُهَا وَقُنُوتُهَا، وَإِن كَانَ ذَلِكَ بِلِسَانِ الْحَالِ، وَلكَوْنِهَا دَلَالَةً شّاهِدَةً لِلْخَالِقِ جل جلاله. وَهَذَا يَقُولُهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ .. وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ:{وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 83]، قَالَ: إسْلَامُ الْكُلِّ: خُضُوعُهُم لِنَفَاذِ أَمْرِهِ فِي جِبِلِّهِمْ، لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ يَمْتَنِعُ مِن جِبِلَّةٍ جَبَلَهُ اللهُ عَلَيْهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ، لَكِنَّ الصَّوَابَ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: أَنَّ الْقُنُوتَ وَالِاسْتِلَامَ وَالتَّسْبِيحَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى ذَلِكَ.

وَهَذَا كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: إنَّ سُجُودَ الْكَارِهِ: ذُلُّهُ

(1)

وَانْقِيَادُهُ لِمَا يُرِيدُهُ اللهُ مِنْهُ مِن عَافِيَةٍ وَمَرَضٍ وَغِنًى وَفَقْرٍ.

وَكَمَا قَالَ بَعْضُهُم فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]، قَالَ: تَسْبِيحُهُ دَلَالَتُهُ عَلَى صَانِعِهِ، فَتُوجِبُ بِذَلِكَ تَسْبِيحًا مِن غَيْرِهِ.

وَالصَّوَابُ أَنَّ لَهَا تَسْبِيحًا وَسُجُودًا بِحَسَبِهَا. [1/ 44 - 45]

152 -

مَن طَلَبَ مِن الْعِبَادِ الْعِوَضَ: ثَنَاءً أَو دُعَاءً أَو غَيْرَ ذَلِكَ: لَمْ يَكُن مُحْسِنًا إلَيْهِم للهِ. [1/ 54]

(1)

في الأصل وجميع المصادر التي وقفت عليها بالعطف: وَذُلَّهُ، وهذا يقتضي أنه وما بعده معطوف على اسم إنّ، والخبر لم يُذكر! ولعل المثبت هو الصواب، ويكون قوله:"ذُلُّه" وما بعده الخبر.

ص: 101

153 -

تَوْحِيدُ اللهِ وَإِخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ فِي عِبَادَتِهِ وَاسْتِعَانَتِهِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ جِدًّا؛ بَل هُوَ قَلْبُ الْإِيمَانِ وَأَوَّلُ الْإِسْلَامِ وَآخِرُهُ .. وَهُوَ قَلْبُ الدِّينِ وَالْإِيمَانِ، وَسَائِرُ الْأَعْمَالِ كَالْجَوَارِحِ لَهُ.

وَإِخْلَاصُ الدِّينِ للهِ وَعِبَادَة اللهِ وَحْدَهُ وَمُتَابَعَة الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا جَاءَ بِهِ: هُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

وَلهَذَا أَنْكَرْنَا عَلَى الشَيْخِ يَحْيَى الصرصري

(1)

مَا يَقُولُهُ فِي قَصَائِدِهِ فِي مَدْحِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم من الِاستِغَاثَةِ بِهِ؛ مِثْل قَوْلِهِ: بِك أَسْتَغِيثُ وَأَسْتَعِينُ وَأَسْتَنْجِدُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. [1/ 70]

154 -

الْعِبَادَةُ وَالِاسْتِعَانَةُ وَمَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِن الدُّعَاءِ وَالِاستِغَاثَةِ وَالْخَشْيَةِ وَالرَّجَاءِ وَالْإِنَابَةِ وَالتَّوَكُّلِ وَالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ

(2)

: كُلُّ هَذَا للهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ فَالْعِبَادَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِأُلُوهِيَّتِهِ

(3)

، وَالِاسْتِعَانَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِرُبُوبِيَّتِهِ

(4)

. [1/ 74]

* * *

(قَاعِدَةٌ جَلِيلَةٌ فِي تَوْحِيدِ اللهِ)

155 -

هَذِهِ قَاعِدَةٌ جَلِيلَةٌ فِي تَوْحِيدِ اللهِ، وَإِخلَاصِ الْوَجْهِ وَالْعَمَلِ لَهُ، عِبَادَةً وَاسْتِعَانَةً .. قَالَ اللهُ تَعَالَى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]، وَقَالَ تَعَالَى:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123].

(1)

يحيى بن يوسف بن يحيى الأنصاري، أبو زكريا، شاعر من أهل صرصر، سكن بغداد، وكان ضريرًا، توفي سنة (656 هـ).

انظر في ترجمته: البداية والنهاية لابن كثير (13/ 211).

(2)

كلُّ هذه العباداتِ داخلةٌ في الأصلين العظيمين: العبادة والاستعانة، المذكورَين فِي كثير من الآيات؛ كقوله تعالى:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، وقوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5].

فمن حقق هاتين العبادتين في نفسه، ورسَّخَهُما في قلبه: فقد حقق العبادات القلبية والعملية جميعًا، وصلح شأنه، واستقامت حاله؛ فالواجب الاهتمام بهاتين العبادتين.

(3)

لأنها إفراد الله بأفعال العبد، فلا يُصلي إلا لله، ولا ينذر ولا يحج إلا لله.

(4)

لأنها إفراد الله بأفعال الله، فيُوقِن بأنه لا أحدَ يُستعان به إلا الله، ولا يَنْصُرُ ولا يُعِزُّ ولا يُذِلُّ إلا الله.

ص: 102

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} الآيَةَ [البينة: 5]، وَنَظَائِرُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِير، وَكَذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ، وَكَذَلِكَ فِي إجْمَاعِ الْأمَّةِ لَا سِيَّمَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مِنْهُم، فَإِنَّ هَذَا عِنْدَهُم قُطْبُ رَحَى الدِّينِ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ.

وَنبيِّنُ هَدَا بِوُجُوهٍ .. :

أَحَدُهَا: أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَقْصُودَ الْمَدْعُوَّ الْمَطْلُوبَ، وَهُوَ الْمُعِينُ عَلَى الْمَطْلُوبِ، وَمَا سِوَاهُ هُوَ الْمَكْرُوهُ، وَهُوَ الْمُعِينُ عَلَى دَفْعِ الْمَكْرُوهِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْجَامِعُ لِلْأُمُورِ الأَرْبَعَةِ دُونَ مَا سِوَاهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ؛ فَإِنَّ الْعُبُودِيَّةَ تَتَضَمَّنُ الْمَقْصُودَ الْمَطْلُوبَ، لَكِنْ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَالْمُسْتَعَانُ هُوَ الَّذِي يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ.

فَالْأوَّلُ: مِن مَعْنَى الْألُوهِيَّةِ.

وَالثانِي: مِن مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ.

إذ الْإِلَهُ: هُوَ الَّذِي يُؤَلَّهُ فَيُعْبَدُ مَحَبَّةً وَإِنَابَةً وَإِجْلَالًا، وَإِكْرَامًا، وَالرَّبُّ: هُوَ الَّذِي يُرَبِّي عَبْدَهُ فَيُعْطِيهِ خَلْقَهُ ثُمَّ يَهْدِيهِ إلَى جَمِيعِ أَحْوَالِهِ مِن الْعِبَادَةِ وَغَيْرِهَا.

الْوَجْة الثَّانِي: أَنَّ اللهَ خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ الْجَامِعَةِ لِمَعْرِفَتِهِ، وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ، وَمَحَبَّتِهِ، وَالْإِخْلَاصِ لَهُ.

فَبِذِكْرِهِ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ، وَبِرُويَتِهِ فِي الْآخِرَةِ تَقَرُّ عُيُونُهمْ، وَلَا شَيءَ يُعْطِيهِمْ فِي الْآخِرَةِ أَحَبُّ إلَيْهِم مِن النَّظَرِ إلَيْهِ، وَلَا شَئءَ يُعْطِيهِمْ فِي الدُّنْيَا أَعْظَمُ مِن الْإِيمَانِ بِهِ.

وَحَاجَتُهُم إلَيْهِ فِي عِبَادَتِهِمْ إيَّاهُ وَتَأَلُّهِهِمْ: كَحَاجَتِهِمْ وَأَعْظَمَ فِي خَلْقِهِ لَهُمْ، وَرُبُوبِيَّتِهِ إيَّاهُمْ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْغَايَةُ الْمَقْصُودَةُ لَهُمْ، وَبِذَلِكَ يَصِيرُونَ عَامِلِينَ مُتَحرِّكِينَ، وَلَا صَلَاحَ لَهُم وَلَا فَلَاحَ وَلَا نَعِيمَ وَلَا لَذَّةَ بِدُونِ ذَلِكَ بِحَالِ.

ص: 103

وَلهَذَا كَانَت لَا إلَهَ إلَّا اللهُ أَحْسَنَ الْحَسَنَاتِ، وَكَانَ التَّوْحِيدُ بِقَوْلِ: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ رَأْسَ الْأَمْرِ.

فَأَمَّا تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْخَلْقُ، وَقَرَّرَهُ أَهْلُ الْكَلَامِ: فَلَا يَكْفِي وَحْدَهُ، بَل هُوَ مِن الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا حَقُّ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوة وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا.

فَلَيْسَ فِي الْكَائِنَاتِ مَا يَسْكُنُ الْعَبْدُ إلَيْهِ ويطْمَئِنُّ بِهِ، ويتَنَعَّمُ بِالتَّوَجهِ إلَيْهِ إلَّا اللهُ سُبْحَانَهُ.

وَمَن عَبَدَ غَيْرَ اللهِ وَإِن أَحَبَّهُ وَحَصَلَ لَهُ بِهِ مَوَدَّة فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَنَوْعٌ مِن اللَّذَّةِ: فَهُوَ مَفْسَدَة لِصَاحِبِهِ أَعْظَمُ مِن مَفْسَدَةِ الْتِذَاذِ أَكْلِ طَعَامِ الْمَسْمُومِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ فَقْرَ الْعَبْدِ

(1)

إلَى اللهِ أَنْ يَعْبُدَ اللهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئا: لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ فَيُقَاسُ بِهِ، لَكِنْ يُشْبِهُ مِن بَعْضِ الْوُجُوهِ حَاجَةَ الْجَسَدِ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَبَيْنَهُمَا فُرُوقٌ كَثِيرَة.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ مَبْنِيٌّ عَلَى أصْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: عَلَى أَنَ نَفْسَ الْإِيمَانِ باللهِ وَعِبَادَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ وإِجْلَالَهُ هُوَ غِذَاءُ الْإِنْسَانِ وَقُوتُهُ وَصَلَاحُهُ وَقِوَامُهُ كَمَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْإِيمَانِ، وَكَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقرْآنُ، لَا كَمَا يَقُولُ مَن يَعْتَقِدُ مِن أَهْلِ الْكَلَامِ وَنَحْوِهِمْ أَنَّ عِبَادَتَهُ تَكْلِيفٌ وَمَشَقَّةٌ، وَخِلَافُ مَقْصُودِ الْقَلْبِ لِمُجَرَّدِ الِامْتِحَانِ وَالِاخْتِبَارِ، أَو لِأَجْلِ التَّعْوِيضِ بِالْأجْرَةِ كَمَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَغَيْرُهُم؛ فَإِنَّة وَإِن كَانَ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَا هُوَ عَلَى خِلَافِ هَوَى النَّفْسِ -وَاللهُ سُبْحَانَهُ يَأْجُرُ الْعَبْدَ عَلَى الْأَعْمَالِ الْمَأمُورِ بِهَا مَعَ الْمَشَقَّةِ- فَلَيْسَ ذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودَ الْأَوَّلَ بِالْأَمْرِ الشَّرْعِي، وَإِنَّمَا وَقَعَ ضِمْنًا وَتَبَعًا؛ وَلهَذَا لَمْ يَجِئْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ السَّلَفِ إطْلَاقُ الْقَوْلِ عَلَى

(1)

أي: حاجة العبد.

ص: 104

الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ أَنَّهُ تَكْلِيفٌ

(1)

، كَمَا يُطْلِقُ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِن الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ، وَإِنَّمَا جَاءَ ذِكْرُ التَّكْلِيفِ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ؛ كَقَوْلِهِ:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].

أَيْ: وإِن وَقَعَ فِي الْأَمْرِ تَكْلِيفٌ فَلَا يُكَلّفُ إلَّا قَدْرَ الْوُسْعِ، لَا أَنَّهُ يُسَمَّى جَمِيعُ الشَّرِيعَةِ تَكْلِيفًا، مَعَ أَنَّ غَالِبَهَا قُرَّةُ الْعُيُونِ، وَسُرُورُ الْقُلُوبِ، وَلَذَّاتُ الْأَرْوَاحِ، وَكَمَالُ النَّعِيمِ، وَذَلِكَ لِإرَادَةِ وَجْهِ اللهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَذِكْرِهِ وَتَوَجُّهِ الْوَجْهِ إلَيْهِ، فَهُوَ الْاِلَهُ الْحَقُّ الَّذِي تَطْمَئِن إلَيْهِ الْقُلُوبُ، وَلَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ أَبَدًا، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65].

الْأَصْلُ الثانِي: النَّعِيمُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ أَيْضًا، مِثْلُ النَّظَرِ إلَيْهِ لَا كَمَا يَزْعُمُ طَائِفَة مِن أَهْلِ الْكَلَامِ وَنَحْوِهِمْ أَنَّهُ لَا نَعِيمَ وَلَا لَذَّةَ إلَّا بِالْمَخْلُوقِ مِن الْمَأكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْمَنْكُوحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ بَل اللَّذَّةُ وَالنَّعِيمُ التَّامُّ فِي حَظِّهِمْ مِن الْخَالِقِ -سبحانة وتعالي-.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَخْلُوقَ لَيْسَ عِنْدَهُ لِلْعَبْدِ نَفْعٌ وَلَا ضَرَرٌ، وَلَا عَطَاءٌ وَلَا مَنْعٌ، وَلَا هُدًى وَلَا ضَلَالٌ، وَلَا نَصْرٌ وَلَا خِذْلَانٌ، وَلَا خَفْضٌ وَلَا رَفْعٌ، وَلَا عِزّ وَلَا ذُلٌّ؛ بَل رَبُّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَهُ وَرَزَقَهُ، وَبَصَّرَة وَهَدَاهُ وَأسْبَغَ عَلَيْهِ نِعَمَهُ، فَإذَا مَسَّهُ اللهُ بِضرٍّ فَلَا يَكْشِفُهُ عَنْهُ غَيْرُهُ، وإِذَا أَصَابَهُ بِنِعْمَةٍ لَمْ يَرْفَعْهَا عَنْهُ سِوَاهُ، وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَا يَنْفَعُهُ وَلَا يَضرُّهُ إلَّا بِإِذْنِ اللهِ.

(1)

وقد اصطلح علماء الأصول المتأخرون على تقسيم أحكام الله إلى أحكام تكليفية وأحكام وضعية.

وأصل كلمة تكليف: لا بأس بإطلاقه على بعض الأعمال الشرعية، لكن إطلاقه على الايمان غير صحيح، فعدم الايمان والإخلاص والتوحيد فيه كلفةٌ ومشقة.

أما الايمان بالله وذكره وتوحيده فهو لذة وسعادة وراحة وهدى، ولكن من لوازم الايمان ما فيه كلفة مطاقة، كالصلاة والصيام والحج.

ولذلك قال الصحابة حينما أنزل الله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284]: كُلِّفْنَا مِنَ الأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ: الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْجِهَادُ وَالصَّدَقَةُ، وَقَد أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذ الآيَةُ وَلَا نُطِيقُهَا.

ص: 105

وَهَذَا الْوَجْهُ أَظْهَرُ لِلْعَامَّةِ مِن الْأَوَّلِ؛ وَلهَذَا خُوطِبُوا بِهِ فِي الْقُرْآنِ أَكْثَرَ مِن الْأَوَّلِ، لَكِنْ إذَا تَدَبَّرَ اللَّبِيبُ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ وَجَدَ أَنَّ اللّهَ يَدْعُو عِبَادَهُ بِهَذَا الْوَجْهِ إلَى الْأَوَلِ.

فَهَذَا الْوَجْهُ يُحَقّقُ التَّوَكُّلَ عَلَى اللهِ وَالشُّكْرَ لَهُ وَمَحَبّتَهُ عَلَى إحْسَانِهِ.

الْوَجْهُ الرَّابعُ: أنَّ تَعَلُّقَ الْعَبْدِ بِمَا سِوَى اللهِ مَضَرَّةٌ عَلَيْهِ إذَا أَخَذَ مِنْهُ الْقَدْرَ الزَّائِدَ عَلَى حَاجَتِهِ فِي عِبَادَةِ اللهِ؛ فَإِنَّهُ إنْ نَالَ مِن الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَوْقَ حَاجَتِهِ ضرَّهُ وَأَهْلَكَهُ، وَكَذَلِكَ مِن النّكَاحِ وَاللِّبَاسِ، وَإِن أَحَبَّ شَيْئًا حبًّا تَامًّا بِحَيْثُ يُخَالِلُة فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْأَمَهُ أَو يُفَارِقَهُ. [1/ 20 - 28]

* * *

(ذمُّ الكبر)

156 -

التكبر شر من الشرك فإن المتكبر يتكبر عن عبادة الله تعالى، والمشرك يعبد الله وغيره. [المستدرك 1/ 16]

* * *

(الشهادة لا تُكَفِّر الدَّين ومظالم العباد)

157 -

تُكَفِّر الشهادة غير الدَّين .. وغير مظالم العباد؛ كقتلٍ، وظلمٍ، وزكاة، وحج أخرهما. [المستدرك 1/ 16]

* * *

(المستحب الاستخارة، ولم يُجعل الفألُ والطيرةُ أمرًا باعثًا على شيء من الفعل أو الترك)

158 -

الذي ينبغي الاستخارة التي علمها النبي -صلي الله عليه وسلم- أمته، لم يجعل الفأل والطيرة أمرًا باعثا على شيء من الفعل أو الترك، وإنما يأتمر وينتهي بذلك أهل الجاهلية الذي يستقسمون بالأزلام، وقد حرم الله الاستقسام بها: كالضرب بالحصى، والشعير، واللوح، والخشب، والورق المكتوب عليه

ص: 106

حروف أبجد، وأبيات شعر، ونحو ذلك، منهي عنه؛ لأنها من أسباب الاستقسام بالأزلام. [المستدرك 1/ 27]

* * *

‌(الْعِبَادُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَعْمَلُوا إلَّا لِحُظُوظِهِمْ

.. )

159 -

إنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ غَنِى حَمِيدٌ كَرِيم وَاجِدٌ رَحِيمٌ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ مُحْسِنٌ إلَى عَبْدِهِ مَعَ غِنَاهُ عَنْهُ، يُرِيدُ بِهِ الْخَيْرَ ويكْشِفُ عَنْهُ الضُّرَّ، لَا لِجَلْبِ مَنْفَعَةٍ إلَيْهِ مِن الْعَبْدِ، وَلَا لِدَفْعِ مَضَرَّةٍ؛ بَل رَحْمَة وَإِحْسَانًا، وَالْعِبَادُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَعْمَلُوا إلَّا لِحُظُوظِهِمْ.

إذَا تَبَيَّنَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَقْصِدُ مَنْفَعَتَكَ بِالْقَصْدِ الْأوَّلِ؛ بَل إنَّمَا يَقْصِد مَنْفَعَتَهُ بِكَ، وإِن كَانَ ذَلِكَ قَد يَكُونُ عَلَيْكَ فِيهِ ضَرَرٌ إذَا لَمْ يُرَاعِ الْعَدْلَ، فَإِذَا دَعَوْتَهُ فَقَد دَعَوْتَ مَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مَن نَفْعِهِ، وَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ يُرِيدُ لَكَ، وَلمَنْفَعَتِكَ بِكَ، لَا لِيَنْتَفِعَ بِك، وَذَلِكَ مَنْفَعَةٌ عَلَيْكَ بِلَا مَضَرَّةٍ، فَتَدَبَّرْ هَذَا، فَمُلَاحَظَةُ هَذَا الْوَجْهِ يَمْنَعُكَ أَنْ تَرْجُوَ الْمَخْلُوقَ أَو تَطْلُبَ مِنْهُ مَنْفَعَةً لَكَ، فَإِنَّهُ لَا يُرِيدُ ذَلِكَ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ.

وَلَا يَحْمِلَنَّكَ هَذَا عَلَى جَفْوَةِ النَّاسِ، وَتَرْكِ الْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ، وَاحْتِمَالِ الْأَذَى مِنْهُمْ؛ بَل أَحْسِنْ إلَيْهِم للهِ لَا لِرَجَائِهِمْ، وَكَمَا لَا تَخَفْهُم فَلَا تَرْجُهُمْ، وَخَفِ اللهَ فِي النَّاسِ وَلَا تَخَفِ النَّاسَ فِي اللهِ، وَارْجُ اللهَ فِي النَّاسِ وَلَا تَرْجُ النَّاسَ فِي اللهِ، وَكُنْ مِمَن قَالَ اللهُ فِيهِ:{وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20)} [الليل: 17 - 20]. [1/ 30 - 31]

* * *

(لَا تُعَلِّقْ رَجَاءَكَ بالخَلْقِ)

160 -

إنَّ الْخَلْقَ لَو اجْتَهَدُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ لَمْ يَنْفَعُوكَ إلَّا بِأَمْر قَد كَتَبَهُ اللّهُ لَكَ، وَلَو اجْتَهَدُوا أَنْ يَضُرُّوكَ لَمْ يَضُرُّوكَ إلَّا بِأَمْر قَد كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، فَهُم لَا يَنْفَعُونَكَ

ص: 107

إلا بِإِذْنِ اللهِ، وَلَا يَضُرُّونَكَ إلَّا بِإِذْنِ اللهِ، فَلَا تُعَلِّقْ بِهِم رَجَاءَكَ

(1)

. [1/ 31]

* * *

(الطريقة الصحيحة في إثبات الصانع)

161 -

لَمَّا كَانَ الْقِيَاسُ الْكُلِّيُّ فَائِدَتُهُ أَمْرٌ مُطْلَقٌ لَا مُعَيَّن: كَانَ إثْبَاتُ الصَّانِعِ بِطَرِيقِ الْآيَاتِ

(2)

هُوَ الْوَاجِبَ، كَمَا نَزَلَ بِهِ الْقُرْآن، وَفَطَرَ اللهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ، وَإِن كَانَت الطَّرِيقَةُ الْقِيَاسِيَّةُ صَحِيحَة، لَكِنَّ فَائِدَتَهَا نَاقِصَةٌ.

وَالْقُرْآنُ إذَا اسْتَعْمَلَ فِي الْآيَاتِ الْإِلَهِيَّاتِ: اسْتَعْمَلَ قِيَاسَ الْأَوْلَى لَا الْقِيَاسَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْمُشْتَرَكِ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْآيَةِ وَبَيْنَ الْقِيَاسِ: أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى عَيْنِ الْمَطْلُوبِ الَّذِي هِيَ آيَة وَعَلَامَة عَلَيْهِ، فَكلُّ مَخْلُوقٍ فَهوَ دَلِيلٌ وَآيَة عَلَى الْخَالِقِ نَفْسِهِ.

ثُمَّ الْفِطَرُ تَعْرِفُ الْخَالِقَ بِدُونِ هَذ الْآيَاتِ، فَإِنَّهَا قَد فُطِرَتْ عَلَى ذَلِكَ. [1/ 48 - 49]

* * *

‌(كيف يسعد الإنسان فِي تعَامُلِهِ مع الناس

؟)

162 -

السَّعَادَةُ فِي مُعَامَلَةِ الْخَلْقِ: أَنْ تُعَامِلَهُم للهِ، فَتَرْجُو اللهَ فِيهِمْ وَلَا تَرْجُوهُم فِي اللهِ، وَتَخَافُهُ فِيهِمْ وَلَا تَخَافُهُم فِي اللهِ، وَتُحْسِنُ إلَيْهِم رَجَاءَ ثَوَابِ اللهِ لَا لِمُكَافَأتِهِمْ، وَتَكُفّ عَن ظُلْمِهِمْ خَوْفًا مِن اللهِ لَا مِنْهُم. كَمَا جَاءَ فِي الأثَرِ:"اُرْجُ اللهَ فِي النَّاسِ وَلَا تَرْجُ النَّاسَ فِي اللهِ، وَخَف اللهَ فِي النَّاسِ وَلَا تَخَف النَّاسَ فِي اللهِ".

أَيْ: لَا تَفْعَلْ شَيْئًا مِن أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ وَالْقُرَبِ لِأَجْلِهِمْ، لَا رَجَاءَ مَدْحِهِمْ

(1)

وهذا لا يعني إلغاء اتخاذ الأسباب؛ كالشفاعة ونحوها، ولكن لا تُعلق قلبك بالناس، بل افعل الأسباب المأمور بها، واستعن على نفعها بالله تعالى.

(2)

الكونية؛ كالسماء والأرض والجبال والمخلوقات وغيرها.

ص: 108

وَلَا خَوْفًا مِن ذَمِّهِمْ؛ بَل اُرْجُ اللهَ وَلَا تَخَفْهُم فِي اللهِ فِيمَا تَأْتِي وَمَا تَذَرُ؛ بَل افْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ وَإِن كَرِهُوهُ.

وَفي الْحَدِيثِ: "إنَّ مِن ضَعْفِ الْيَقِينِ: أَنْ تُرْضِىَ النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ، أَو تَذُمَّهُم عَلَى مَا لَمْ يُؤْتك الله"

(1)

فَإِنَّ الْيَقِينَ يَتَضَمَّنُ:

أ - الْيَقِينَ فِي الْقِيَامِ بِأَمْرِ اللهِ وَمَا وَعَدَ اللهُ أَهْلَ طَاعَتِهِ.

ب- وَيتَضَمَّنُ الْيَقِينَ بِقَدَرِ اللهِ وَخَلْقِهِ وَتَدْبِيرِهِ.

فَإِذَا أَرْضَيْتَهُم بِسَخَطِ اللهِ: لَمْ تَكنْ مُوقِنًا لَا بِوَعْدِهِ وَلَا بِرِزْقِهِ؛ فَإنَّهُ إنَّمَا يَحْمِلُ الْإِنْسَانَ عَلَى ذَلِكَ:

أ - إمَّا مَيْل إلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِن الدُّنْيَا، فَيَتْرُكُ الْقِيَامَ فِيهِمْ بِأَمْرِ اللهِ لِمَا يَرْجُوة مِنْهُمْ.

ب- وَإِمَّا ضعْفُ تَصْدِيقٍ بِمَا وَعَدَ اللهُ أَهْلَ طَاعَتِهِ مِن النَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ وَالثَّوَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

فَإِنَّك إذَا أَرْضَيْتَ اللهَ نَصَرَكَ وَرَزَقَكَ وَكَفَاكَ مُؤْنَتَهُمْ، فَإِرْضَاؤُفم- بِسَخَطِهِ إنَّمَا يَكونُ خَوْفًا مِنْهُم وَرَجَاءً لَهُمْ؛ وَذَلِكَ مِن ضَعْفِ الْيَقِينِ.

وَإِذَا لَمْ يُقَدَّرْ لَك مَا تَظُنُّ أَنَّهُم يَفْعَلُونَهُ مَعَك: فَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ إلَى اللهِ لَا لَهُمْ؛ فَإِنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، فَإِذَا ذَمَمْتَهُم عَلَى مَا لَمْ يُقَدَّرْ كَانَ ذَلِكَ مِن ضَعْفِ يَقِينِكِ، فَلَا تَخَفْهُم وَلَا تَرْجُهُم وَلَا تَذُمَّهم مِن جِهَةِ نَفْسِكَ وَهَوَاكَ، لَكِنْ مَن حَمِدَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ الْمَحْمُودُ، وَمَن ذَمَّهُ اللهُ وَرَسُولُه صلى الله عليه وسلم فَهُوَ الْمَذْمُومُ.

كَتَبَتْ عَائِشَةُ إلَى مُعَاوِيةَ وَرُوِيَ أَنَّهَا رَفَعَتْهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَن أَرْضَى اللهَ

(1)

ضعفه الألباني في ضعيف الجامع (2009).

ص: 109

بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ

(1)

، وَمَن أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ لَمْ يُغْنُوا عَنْهُ مِن اللهِ شَيْئًا"

(2)

: هَذَا لَفْظُ الْمَرْفُوعِ.

وَلَفْظُ الْمَوْقُوفِ: "مَن أَرْضَى اللهَ بِسَخَطِ النَّاسِ رضي الله عنه وَأَرْضَى عَنْهُ النَّاسَ، وَمَن أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ عَادَ حَامِدُهُ مِن النَّاسِ لَهُ ذَامًّا"

(3)

، هَذَا لَفْظُ الْمَأْثُورِ عَنْهَا، وَهَذَا مِن أَعْظَمِ الْفِقْهِ فِي الدِّينِ.

وَالْمَرْفُوعُ أَحَقّ وَأَصْدَقُ؛ فَإِنَّ مَن أَرْضَى اللهَ بِسَخَطِهِمْ كَانَ قَد اتَّقَاهُ، وَكَانَ عَبْدَهُ الصَّالِحَ، وَاللهُ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَهُوَ كَافٍ عَبْدَهُ {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3].

فَاللهُ يَكْفِيهِ مُؤْنَةَ النَّاسِ بِلَا ريبٍ.

وَأمَّا كَوْنُ النَّاسِ كُلِّهِمْ يَرْضَوْنَ عَنْهُ: فَقَد لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ. [1/ 51 - 52]

* * *

(بِالتَّوْحِيدِ يَقْوَى الْعَبْدُ)

163 -

بِالتَّوْحِيدِ يَقْوَى الْعَبْدُ ويسْتَغْنِي، وَمَن سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى النَّاسِ فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ، وبالاستغفار يَغْفِرُ لَهُ ويدْفَعُ عَنْهُ عَذَابَهُ .. فَلَا يَزُولُ فَقْرُ الْعَبْدِ وَفَاقَتُهُ إلَّا بِالتَّوْحِيدِ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ لَمْ يَزَلْ فَقِيرًا مُحْتَاجًا مُعَذبًا فِي طَلَبِ مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ. [1/ 55 - 56]

* * *

(1)

ينبغي التنبه لأمر مهم، وهو أنه قد يظن بعض الناس -وخاصّةً الأكابر من العلماء والحكام والمجاهدين ونحوهم- أنهم يفعلون الشيء لإرضاء الله على حساب سخط الناس، وربما يكون من أسخطوه هم أهل الرأي والعقل والدين، والحقيقة أنهم يُرضون شريحة من المحبين والموالين لهم وهم لا يشعرون، ويظنون أنهم يفعلون ذلك لله تعالى.

(2)

رواه ابن حبان (277) وصححه الألباني في التعليقات الحسان.

(3)

صححه الألباني في شرح الطحاوية (268).

ص: 110

(وجوب الخوف من الله، وتحريم الخوف من غيره)

164 -

قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران: 175] أَيْ: يُخَؤفُكُمْ بِأَوْليَائِهِ، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ؛ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ وَأَهْلِ اللُّغَةِ كَالْفَرَّاءِ وَغَيْرِهِ.

قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَاَلَّذِي نَخْتَاره فِي الْآيَةِ: يُخَوِّفُكُمْ أَوْليَاءَهُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: أَعْطَيْتُ الْأَمْوَالَ: أَيْ: أَعْطَيْتُ الْقَوْمَ الْأَمْوَالَ؛ فَيَحْذِفُونَ الْمَفْعُولَ الْأَوَلَ.

قُلْتُ: وَهَذَا لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يُخَوِّفُ النَاسَ أَوْليَاءَهُ تَخْوِيفًا مُطْلَقًا، لَيْسَ لَهُ فِي تَخْوِيفِ نَاسٍ بِنَاسِ ضَرُورَةٌ؛ فَحَذَفَ الْأَوَّلَ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودًا.

فَدَلَّت الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ يَجْعَلُ أَوْليَاءَهُ مَخُوِّفِينَ، ويجْعَلُ نَاسًا خَائِفِينَ مِنْهُمْ.

وَدَلَّت الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخَافَ أَوْليَاءَ الشَّيْطَانِ، وَلَا يَخَافَ النَّاسَ كَمَا قَالَ:{فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44]، فَخَوْفُ اللهِ أَمَرَ بهِ، وَخَوْفُ أَوْليَاءِ الشَّيْطَانِ نَهَى عَنْهُ، قَالَ تَعَالَى:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [البقرة: 150]، فَنَهَى عَن خَشْيَةِ الظَّالِمِ وَأَمَرَ بِخَشْيَتِهِ.

بَل عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَخَافَ اللهَ وَحْدَهُ وَلَا يَخَافَ أَحَدًا؛ فَإِنَّ مَن لَا يَخَافُ اللهَ أَذَلُّ مِن أَنْ ئخَافَ، فَإِنَّهُ ظَالِمٌ وَهُوَ مِن أَوْليَاءِ الشَيْطَانِ؛ فَالْخَوْفُ مِنْهُ قَد نَهَى اللهُ عَنْهُ.

وَإِذَا قِيلَ: قَد يُؤْذِينِي؟

قِيلَ: إنَّمَا يُؤْذِيك بِتَسْلِيطِ اللهِ لَهُ، وإِذَا أَرَادَ اللهُ دَفْعَ شَرِّهِ عَنْك دَفَعَهُ، فَالْأَمْرُ للهِ، وَإِنَّمَا يُسَلَّطُ عَلَى الْعَبْدِ بِذُنُوبِهِ، وَأَنْتَ إذَا خِفْتَ اللهَ فَاتَّقَيْتَهُ وَتَوَكَّلْتَ

ص: 111

عَلَيْهِ كَفَاكَ شَرَّ كُل شَرِّ وَلَمْ يُسَلِّطْهُ عَلَيْكَ، فَإِنَّهُ قَالَ:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، وَتَسْلِيطُهُ يَكُونُ بِسَبَبِ ذُنُوبِك وَخَوْفِك مِنْهُ، فَإِذَا خِفْتَ اللَّهَ وَتُبْتَ مِن ذُنُوبِك وَاسْتَغْفَرْتَهُ لَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْكَ كَمَا قَالَ:{وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33]

(1)

. [1/ 56 - 57]

165 -

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} [آل عمران: 175]، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: كَابْنِ عَبَّاسِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكرِمَةَ والنَّخَعِي؛ وَأَهْلِ اللُّغَةِ كَالْفَرَّاءِ وَابْنِ قُتَيْبَةَ وَالزَّجَّاجِ وَابْنِ الْأنْبَارِيِّ، وَعِبَارَةُ الْفَرَّاءِ: يُخَوِّفُكُمْ بِأوْليَائِهِ كَمَا قَالَ: {لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} [الكهف: 2] بِبَأْسِ شَدِيدٍ، وَقَوْلُهُ:{لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} [غافر: 15].

وَقَد قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: يُخَوِّفُ أَوْليَاءَهُ الْمُنَافِقِينَ.

وَلَو أَنَّهُ أرِيدَ أَنَّهُ يُخَوِّفُ أوْليَاءَهُ: أَيْ: يَجْعَلُهُم خَائِفِينَ لَمْ يَكُن لِلضَّمِيرِ مَا يَعُود عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:{فَلَا تَخَافُوهُم} [آل عمران: 175].

وَأيْضًا فَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَعِدُ أَوْليَاءَهُ وَيُمَنِّيهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} [الأنفال: 48]، وَقَالَ تَعَالَى:{يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)} [النساء: 120].

وَلَكِنَّ الْكُفَّارَ يُلْقِي اللهُ فِي قُلُوبِهِم الرُّعْبَ مِن الْمُؤمِنِينَ، وَالشَّيْطَانُ لَا يَخْتَارُ ذَلِكَ. قَالَ تَعَالى:{لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} [الحشر: 13].

(1)

ومن عوّد نفسه ألا يخاف إلا الله تعالى، ولا يرجو إلا إياه: حصلت عنده طمأنينة عظيمة، وتوَكَّلٌ عليه، واعتمادٌ عليه، ورَزَقه الله ثقة مطلقة به، ولا يضعفُ عند المصائب، ولا يخور عند الفتن والنوائب.

ص: 112

وَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَ الْمُؤمِنَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخَافَ أَوْليَاءَ الشَّيْطَانِ وَلَا يَخَافُ النَّاسَ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44]؛ بَل يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَخَافَ اللهَ. [14/ 203 - 206]

* * *

(ينبغي للمؤمن أن يكون خوفه ورجاؤه واحدًا)

166 -

ينبغي للمؤمن أن يكون خوفه ورجاؤه واحدًا؛ فأيهما غلب هلك صاحبه، ونص عليه الإمام أحمد؛ لأن من غلب خوفه وقع في نوع من اليأس، ومن غلب رجاؤه وقع في نوع من الأمن من مكر الله. [المستدرك 1/ 147]

* * *

(الخوف المحمود)

167 -

الخوف المحمود ما حجزك عن محارم الله

(1)

[المستدرك 1/ 147]

* * *

(الْغُلُوّ فِي الْأُمَّةِ وَقَعَ فِي طَائِفَتَيْنِ)

168 -

الْغُلُوُّ فِي الْأمَّةِ وَقَعَ فِي طَائِفَتَيْنِ:

أ - طَائِفَةٍ مِن ضُلَّالِ الشِّيعَةِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَئِمَّةِ مِن أَهْلِ الْبَيْتِ الْألُوهِيَّةَ.

ب- وَطَائِفَةٍ مِن جُهَّالِ الْمُتَصَوِّفَةِ يَعْتَقِدُونَ نَحْو ذَلِكَ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ. [1/ 66]

* * *

(1)

فليس من علامات الخوف كثرة البكاء والحزن، بل فعلُ ما أمر الله تعالى وترك ما نهى عنه هو الخوف المحمود.

ص: 113

(الشَّهَادَتَانِ أَوَّلُ وَاجِبَاتِ الدِّينِ)

169 -

لَمَّا كَانَ أَصْلُ الدِّينِ الشَّهَادَتَيْنِ: كَانَت هَذِهِ الْأُمَّةُ الشُّهَدَاءَ، وَلَهَا وَصْفُ الشَّهَادَةِ، وَالْقِسِّيسُونَ لَهُم الْعِبَادَةُ بِلَا شَهَادَةٍ، وَلهَذَا قَالُوا:{رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)} [آل عمران: 53] وَلهَذَا كَانَ الْمُحَقّقُونَ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَتَيْنِ أَوَّلُ وَاجِبَاتِ الدِّينِ. [1/ 76]

* * *

(الْإِسْلَامُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ)

170 -

الْعِبَادَاتُ مَبْنَاهَا عَلَى الشَّرْعِ وَالِاتِّبَاعِ، لَا عَلَى الْهَوَى وَالِابْتِدَاعِ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ مَبْنِيّ عَلَى أَصْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ نَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.

وَالثَّانِي: أَنْ نَعْبُدَهُ بِمَا شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، لَا نَعْبُدَهُ بِالْأَهْوَاءِ وَالْبِدَع، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)} [الجاثية: 18]. [1/ 80]

* * *

(الفرق بين الْأَحْوَال الرَّحْمَانِيَّة والْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ)

171 -

الْأَحْوَالُ الرَّحْمَانِيَّةُ وَكَرَامَاتُ أَوْليَائِهِ الْمُتَّقِينَ:

أ - يَكُونُ سَبَبُهُ الْإِيمَانَ؛ فَإِنَّ هَذِهِ حَالُ أَوْليَائِهِ، قَالَ تَعَالَى:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)} [يونس: 62، 63].

ب- وَتَكُونُ نِعْمَةً للهِ عَلَى عَبْدِهِ الْمُومِنِ فِي دِينهِ وَدنْيَاهُ، فَتَكُونُ الْحُجَّةَ فِي الدِّينِ وَالْحَاجَةَ فِي الدُّنْيَا لِلْمُؤمِنِينَ، مِثْلَمَا كَانَت مُعْجِزَاتُ نَبِيّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، كَانَت الْحُجَّةَ فِي الدِّينِ وَالْحَاجَةَ لِلْمُسْلِمِينَ؛ مِثْلُ الْبَرَكَةِ الَّتِي تَحْصُلُ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، كَنَبْعِ الْمَاءِ مِن بَيْنِ أَصَابِعِهِ، وَمِثْلُ نُزُولِ الْمَطَرِ بِالِاسْتِسْقَاءِ، وَمِثْلُ

ص: 114

قَهْرِ الْكُفَّارِ، وَشِفَاءِ الْمَرِيضِ بِالدُّعَاءِ، وَمِثْلُ الْأَخْبَارِ الصَّادِقَةِ وَالنَّافِعَةِ بِمَا غَابَ عَن الْحَاضِرِينَ، وَأَخْبَارُ الْأنْبِيَاءِ لَا تَكْذِبُ قَطُّ.

وَأَمَّا أَصْحَابُ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ:

أ - فَهُم مِن جِنْسِ الْكُهَّانِ، يَكْذِبُونَ تَارَةً وَيَصْدُقُونَ أُخْرَى.

ب- وَلَا بُدَّ فِي أَعْمَالِهِمْ مِن مُخَالَفَةٍ لِلْأَمْرِ، قَالَ تَعَالَى:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)} [الشعراء: 221، 222] الْآيَتَيْنِ.

وَلهَذَا يُوجَدُ الْوَاحِدُ مِن هَؤُلَاءِ مُلَابِسًا الْخَبَائِثَ مِن النَّجَاسَاتِ وَالْأَقْذَارِ الَّتِي تُحِبُّهَا الشَّيَاطِينُ، وَمُرْتكِبًا لِلْفَوَاحِشِ، أَو ظَالِمًا لِلنَّاسِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ. [1/ 84 - 85]

* * *

(الشِّرْكُ باللّهِ أَعْظَمُ ذَنْبِ عُصِيَ اللهُ بِهِ)

172 -

اعْلَمْ رَحِمَكَ اللهُ أَنَّ الشِّرْكً باللهِ أَعْظَمُ ذَنْبٍ عُصِيَ الله بِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].

فَاللهَ -سُبْحَانَة- هُوَ الْمُسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ لِذَاتِهِ، قَالَ تَعَالَى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} [الفاتحة: 2] فَذَكَرَ الْحَمْدَ بالْأَلِفِ وَاللَّامِ الَّتِي تَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَمْدَ كُلَّهُ للهِ، ثُمَّ حَصَرَهُ فِي قَوْلِهِ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]، فَهَذَا تَفْصِيل لِقَوْلِهِ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} [الفاتحة: 2].

فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا مَعْبُودَ إلَّا اللهُ، وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ أَحَدٌ سِوَاهُ.

فَقَوْلُهُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} إشَارَةٌ إلَى عِبَادَتِهِ بِمَا اقْتَضَتْهُ إلَهِيَّتُهُ مِن الْمَحَبَّةِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.

{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} إشَارَةٌ إلَى مَا اقْتَضَتْهُ الرُّبُوبِيَّةُ مِن التَّوَكُّلِ وَالتَّفْوِيضِ

ص: 115

وَالتَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ الرَّبَّ -سبحانه وتعالي- هُوَ الْمَالِكُ وَفِيهِ أَيْضًا مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِصْلَاحِ، وَالْمَالِكُ: الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِي مُلْكهِ كَمَا يَشَاءُ. [1/ 89]

* * *

(أنواع الشرك)

173 -

الشِّرْكُ إنْ كَانَ شِرْكًا: يَكْفُرُ بِهِ صَاحِبُهُ، وَهُوَ نَوْعَانِ:

أ- شِرْكٌ فِي الْإِلَهِيَّةِ.

ب- وَشِرْكٌ فِي الرُّبُوبِيَّةِ.

فَأَمَّا الشِّرْكُ فِي الْإِلَهِيَّةِ: فَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ للهِ نِدًّا؛ أَيْ: مِثْلًا فِي عِبَادَتِهِ أَو مَحَبَّتِهِ أَو خَوْفِهِ أَو رَجَائِهِ أَو إنَابَتِهِ، فَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللهُ إلَّا بِالتَوْبَةِ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]، وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَاتَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُشْرِكِي الْعَرَبِ لِأَنَّهُم أَشْرَكُوا فِي الْإِلَهِيَّةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} الآيَة [البقرة: 165]{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3].

وَأَمَّا الرُّبوبِيَّةُ فَكَانُوا مُقِرّينَ بِهَا، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: 61].

وَمَا اعْتَقَدَ أَحَدٌ مِنْهُم قَطُّ أَنَّ الْأَصْنَامَ هِيَ الَّتِي تُنْزِلُ الْغَيْثَ، وَتَرْزقُ الْعَالَمَ وَتُدَبّرُهُ

(1)

.

وَإِنَّمَا كَانَ شِرْكُهُم كَمَا ذَكَرْنَا: اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُم كَحُبِّ اللهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَن أَحَبَّ شَيْئًا مِن دُونِ اللهِ كَمَا يُحِبّ اللهَ

(1)

وعلى هذا: فالرفضة اليوم أشد شركًا من الكفار والمشركين الأولين، فهم يعتقدون أن الأئمة ترزق وتتصرف في الكون، وبيدهم مقاليد الأمر، والحساب والجنة والنار، وصرحوا بذلك في كتبهم وعلى لسان مشايخهم وعوامهم.

ص: 116

تَعَالَى فَقَد أَشْرَكَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ:{قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)} [الشعراء: 96 - 98]

(1)

.

وَكَذَا مَن خَافَ أَحَدًا كَمَا يَخَافُ اللهَ، او رَجَاهُ كَمَا يَرْجُو اللهَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَأَمَّا النوْعُ الثَّانِي: فَالشّرْكُ فِي الرُّبُوبِيَّةِ، فَإِنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمَالِكُ الْمُدَبّرُ، الْمُعْطِي الْمَانِعُ، الضَّارُّ النَّافِعُ، الْخَافِضُ الرَّافِعُ، الْمُعِزُّ الْمُذِلُّ.

فَمَن شَهِدَ أَنَّ الْمُعْطِيَ أَو الْمَانِعَ أَو الضَّارَّ أَو النَّافِعَ أَو الْمُعِز أَو الْمُذِلَّ غَيْرُهُ: فَقَد أشْرَكَ بِرُبُوبِيَّتِهِ.

وَلَكِنْ إذَا أَرَادَ التَّخَلُصَ مِن هَذَا الشِّرْكِ: فَلْيَنْظُرْ إلَى الْمُعْطِي الْأَوَّلِ

(2)

مَثَلًا فَيَشْكُرَهُ عَلَى مَا أَوْلَاهُ مِن النِّعَمِ، وَيَنْظُرْ إلَى مَن أَسْدَى إلَيْهِ الْمَعْرُوفَ

(3)

فَيُكَافِئَهُ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ عليه السلام: "مَن أَسْدَى إلَيْكمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوَا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أنَّكُمْ قَد كَافَأْتمُوهُ"

(4)

؛ لِأنَّ النِّعَمَ كُلَّهَا للهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]، وَقَالَ تَعَالَى:{كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} [الإسراء: 20].

فَاللهِ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُعْطِي عَلَى الْحَقِيقَةِ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْأَرْزَاقَ وَقَدَّرَهَا، وَسَاقَهَا إلَى مَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ.

(1)

ومعلوم: أنهم ما سوَّوهم به في الخلق والرزق، والإحياء والإماتة، وإنما سووهم به في الدعاء والخوف والرجاء، والمحبة والتعظيم والإجلال. يُنظر: الدرر السنية (11/ 16).

(2)

وهو الله تعالى، فهو الذي أجرى النعم على يد المعطي، فالله هو المنعم، والمعطي قاسم، فمن يستحق خالص الشكر والثناء والمحبة؟

(3)

من البشر.

(4)

رواه الإمام أحمد (5365)، وأبو داود (5109)، والنسائي (2567)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود.

ص: 117

فَالْمُعْطِي: هُوَ الَّذِي أَعْطَاهُ وَحَرَّكَ قَلْبَهُ لِعَطَاءِ غَيْرِهِ

(1)

.

فَهُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ

(2)

.

وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا الْمَعْنَى: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: "إِذا سَألْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَو اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَد كتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَو اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَد كَتَبَة اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأقلَامُ وَجَفت الصُّحُفُ". قَالَ التِّرْمِذِيُّ

(3)

: هَذَا حَدِيث صَحِيحُ.

فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفَغ فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا اللهُ، وَلَا يَضُرُّ غَيْرُهُ، وَكَذَا جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا فِي مُقْتَضَى الرُّبُوبِيَّةِ.

فَمَن سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ الْعَظِيمَ:

أ - اسْتَرَاحَ مِن عُبُودِيَّةِ الْخَلْقِ وَنَظَرِهِ إلَيْهِمْ

(4)

.

ب- وَأَرَاحَ النَّاسَ مِن لَوْمِهِ وَذَمِّهِ إيَّاهمْ

(5)

.

ت- وَتَجَرَّدَ التَّوْحِيدُ فِي قَلْبِهِ، فَقَوِيَ إيمَاُنهُ، وَانْشَرَحَ صَدْرُهُ، وَتَنَوَّرَ قَلْبُهُ، وَمَن تَوَكَّلَ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُة.

وَلهَذَا قَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ-رحمه الله: مَن عَرَفَ النَّاسَ اسْتَرَاحَ.

(1)

والمعنى: أنَّ الْمُعْطِي من البشر: إنما الذي أعطاه وأغناه ربه -سبحانه وتعالي-، وهو سبحانه الَّذِي حَرَّكَ قَلْبَهُ لِعَطَاءِ غَيْرهِ؛ فالواجب أن يصرف المسلم الشكر الخالص، والثناء والحمد لله تعالى أولًا قبل شكر من أَعطاه من البشر، ثم بعد ذلك يُكافئه بالشكر والثناء الحسن.

(2)

كم يُرسخ كلام الشيخ رحمه الله العقيدة الصحيحة في قلب من يقرأ له، وكم يزرع في القلب محبة الله والتوكل عليه، وعبادته وحده واستعانته به، وصرف الثناء والشكر والحمد له وحده تعالى.

(3)

(2516).

(4)

فيسترح من مُراءاتهم، وانتظارِ مدحهم وخوفِ ذمِّهم.

(5)

لأنه أيقن أن الله تعالى هو الذي بيده مقاليد الأمور، وهو الذي بيده قلوب عباده، فإن شاء صرف بعضها له، وإن شاء صرفها عنه، فلا ينفع الانشغال بلوم المسيء والتشفي منه.

ص: 118

يُرِيدُ -وَاللهُ أَعْلَمُ-: أَنَّهُم لَا يَنْفَعُونَ وَلَا يَضُرُّونَ.

وَأَمَّا الشِّرْكُ الْخَفِيُّ فَهُوَ الَّذِي لَا يَكَادُ أَحَدٌ أَنْ يَسْلَمَ مِنْهُ؛ مِثْلُ أَنْ يُحِبَّ مَعَ اللهِ غَيْرَهُ.

فَإِنْ كَانَت مَحَبَّتُه للهِ؛ مِثْل حُبِّ النَّبِيّينَ وَالصَّالِحِينَ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ: فَلَيْسَتْ مِن هَذَا الْبَاب؛ لِأَنَّ هَذِهِ تَدُلُّ عَلَى حَقِيقَةِ الْمَحَبَّةِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَحَبَّةِ أَنْ يُحِبَّ الْمَحْبُوبَ وَمَا أَحَبَّهُ، ويكْرَهَ مَا يَكْرَهُهُ، وَمَن صَحَّتْ مَحَبّتهُ امْتَنَعَتْ مُخَالَفَتُهُ.

وَهَذَا مِيزَان لَمْ يَجْرِ عَلَيْكَ: كُلَّمَا قَوِيَتْ مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ صَغُرَتْ عِنْدَهُ الْمَحْبُوبَاتُ وَقَلَّتْ، وَكُلَّمَا ضَعُفَتْ كَثُرَتْ مَحْبُوبَاتُهُ وَانْتَشَرَتْ.

وَكَذَا الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَمُلَ خَوْفُ الْعَبْدِ مِن رَّبهِ لَمْ يَخَفْ شَيْئًا سِوَاهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب: 39].

وَإِذَا نَقَصَ خَوْفُهُ خَافَ مِن الْمَخْلُوقِ. وَعَلَى قَدْرِ نَقْصِ الْخَوْفِ وَزِيادَتِهِ يَكونُ الْخَوْفُ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَحَبَّةِ وَكَذَا الرَّجَاءُ وَغَيْرُهُ، فَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ الْخَفِيُّ الَّذِي لَا يَكَادُ أَحَدٌ أَنْ يَسْلَمَ مِنْهُ إلَّا مَن عَصَمَهُ اللهُ تَعَالَى.

وَقَد رُوِيَ أَنَّ الشِّرْكَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِن دَبِيبِ النَّمْلِ

(1)

.

وَطَرِيقُ التَّخَلُّصِ مِن هَذِهِ الْآفَاتِ كُلِّهَا: الْإِخْلَاصُ للهِ عز وجل، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} . [الكهف: 110].

وَلَا يَحْصُلُ الْإِخْلَاصُ إلَّا بَعْدَ الزُّهْدِ

(2)

، وَلَا زُهْدَ إلَّا بِتَقْوَى، وَالتَّقْوَى مُتَابَعَةُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. [1/ 88 - 94]

* * *

(1)

رواه أحمد (19606).

(2)

ومن الزهد: الزهدُ في حبّ المدح، والزهد في فضول المباحات، والزهدُ في التعلق بالدنيا ولذّاتها ومتعها.

ص: 119

(محَرِّكَاتُ الْقُلُوبِ الثَّلَاثَة)

174 -

اعْلَمْ أَنَّ مُحَرِّكَاتِ الْقُلُوبِ إلَى اللهِ عز وجل ثَلَاثَة:

أ- الْمَحَبَّةُ.

ب- وَالْخَوْفُ.

ت- وَالرَجَاءُ.

وَأَقْوَاهَا الْمَحَبَّةُ، وَهِيَ مَقْصُودَةٌ تُرَادُ لِذَاتِهَا؛ لِأَنَّهَا تُرَادُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بِخِلَافِ الْخَوْفِ فَإِنَّهُ يَزُولُ فِي الْآخِرَةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)} [يونس: 62].

وَالْخَوْفُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ: الزَّجْرُ وَالْمَنْعُ مِن الْخُرُوجِ عَن الطَّرِيقِ؛ فَالْمَحَبَّةُ تُلْقي الْعَبْدَ فِي السَّيْرِ إلَى مَحْبُوبِهِ، وَعَلَى قَدْرِ ضَعْفِهَا وَقُوَّتِهَا يَكونُ سَيْرُهُ إلَيْهِ، وَالْخَوْفُ يَمْنَعُهُ أَنْ يَخْرُجَ عَن طَرِيقِ الْمَحْبُوبِ، وَالرَّجَاءُ يَقُودُهُ.

فَهَذَا أَصْل عَظِيمٌ يَجِبُ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَنْ يَتَنَبَّهَ لَه؛ فَإِنَّهُ لَا تَحْصُلُ لَهُ الْعُبُودِيَّةُ بِدُويهِ، وَكل أَحَدٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا للهِ لَا لِغَيْرِهِ.

فَإنْ قِيلَ: فَالْعَبْدُ فِي بَعْضِ الْأحْيَانِ قَد لَا يَكُونُ عِنْدَهُ مَحَبَّة تَبْعَثُهُ عَلَى طَلَبِ مَحْبُوبِهِ، فَأيُّ شَئءٍ يُحَرّكُ الْقُلُوبَ؟

قُلْنَا: يُحَرِّكُهَا شَيْئَانِ:

أَحَدُهُمَا: كَثْرَةُ الذِّكْرِ لِلْمَحْبُوبِ؛ لِأنَّ كَثْرَةَ ذِكْرِهِ تُعَلّقُ الْقُلُوبَ بِه.

وَالثَّاني: مُطَالَعَةُ اَلَائِهِ وَنَعْمَائِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)} [الأعراف: 69]. [1/ 95 - 96]

* * *

‌(هل الأَوْلي: قَبُولُ مَالِ النَّاسِ أو ردُّه

؟)

175 -

بَابُ الطَّاعَةِ وَالتَّصْدِيقِ يَنْقَسِمُ إلَى مَشْرُوعٍ فِي حَقِّ الْبَشَرِ وَغَيْرِ مَشْرُوعٍ.

ص: 120

وأَمَّا الْعِبَادَةُ وَالِاسْتِعَانَةُ وَالتَّأَلُّهُ فَلَا حَقَّ فِيهَا لِلْبَشَرِ بِحَال؛ فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: مَا وَضَعْتُ يَدِي فِي قَصْعَةِ أَحَدٍ إلَّا ذَلَلْتُ لَهُ.

وَلَا ريبَ أَنَّ مَن نَصَرَكَ وَرَزَقَكَ كَانَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَيْكَ، فَالْمُؤْمِنُ يُرِيدُ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ سُلْطَان إلَّا للهِ وَلرَسُولِهِ، وَلمَن أَطَاعَ اللهَ وَرَسُولَهُ.

وَقَبُولُ مَالِ النَّاسِ: فِيهِ سُلْطَان لَهُم عَلَيْهِ:

- فَإِذَا قَصَدَ دَفْعَ هَذَا السُّلْطَانِ وَهَذَا الْقَهْرِ عَن نَفْسِهِ كَانَ حَسَنا مَحْمُودًا، يَصِحُّ لَهُ دِينُهُ بِذَلِكَ.

- وَإِن قَصَدَ التَّرَفُّعَ عَلَيْهِم وَالتَّرَؤُّسَ وَالْمُرَاءَاةَ بِالْحَالِ الْأوْلَى كَانَ مَذْمُومًا.

- وَقَد يَقْصدُ بِتَرْكِ الْأَخْذِ غِنَى نَفْسِهِ عَنْهُم فِي تَرْكِ أَمْوَالِهِمْ لَهُمْ.

فَهَذِهِ أَرْبَعُ مَقَاصِدَ صَالِحَةٌ: غِنَى نَفْسِهِ، وَعِزَّتُهَا حَتَى لَا تَفْتَقِرَ إلَى الْخَلْقِ وَلَا تَذِلَّ لَهُم، وَسَلَامَةُ مَالِهِمْ وَدِينِهِمْ عَلَيْهِم حَتَّى لَا تَنْقُصَ عَلَيْهِم أَمْوَائهُم فَلَا يُذْهِبُهَا عَنْهُمْ.

وَللرَّدّ وجُوهٌ مَكْرُوهَةٌ مَذْمُومَةٌ مِنْهَا:

أ- الرَّدُّ مُرَاءَاةً بِالتَّشَبُّهِ بِمَن يُرِيدُ غِنًى وَعِزَّةً وَرَحْمَةً لِلنَّاسِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ.

ب- وَمِنْهَا التَّكَبُّرُ عَلَيْهِم وَالِاسْتِعْلَاءُ حَتَّى يَسْتَعْبِدَهُم ويسْتَعْلِيَ عَلَيْهِم بِذَلِكَ فَهَذَا مَذْمُومٌ أَيْضًا.

ت- وَمِنْهَا الْبُخْل عَلَيْهِم فَإِنَّهُ إذَا أَخَذَ مِنْهُم احْتَاجَ أَنْ يَنْفَعَهُم ويقْضِيَ حَوَائِجَهُم، فَقَد يَتْرُكُ الْأَخْذَ بُخْلًا عَلَيْهِم بِالْمَنَافِعِ.

ج- وَمِنْهَا الْكَسَلُ عَن الْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ.

فَهَذِهِ أَرْبَعُ مَقَاصِدَ فَاسِدَةٌ فِي الرَّدّ لِلْعَطَاءِ: الْكِبْرُ وَالرِّيَاءُ وَالْبُخْلُ وَالْكَسَلُ.

فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ قَد يَتْرُكُ قَبُولَ الْمَالِ:

ص: 121

أ - لِجَلْبِ الْمَنْفَعَةِ لِنَفْسِهِ.

ب- أَو لِدَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْهَا.

ت- أَو لِجَلْبِ الْمَنْفَعَةِ لِلنَّاسِ.

ج- أَو دَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْهُمْ.

وَقَد يَتْرُكُهُ لِمَضَرَّةِ النَّاسِ، أَو لِتَرْكِ مَنْفَعَتِهِمْ، فَهَذَا مَذْمُومٌ، وَقَد يَكُونُ فِي التَرْكِ أَيْضًا مَضَرَّةُ نَفْسِهِ، أَو تَرْكُ مَنْفَعَتِهَا: إمَّا بِأَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ فَيَضُرُّهُ تَرْكُهُ، أَو يَكُونَ فِي أَخْذِهِ وَصَرْفِهِ مَنْفَعَةٌ لَهُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَيَتْرُكُهَا مِن غَيْرِ مُعَارِضٍ مُقَاوِمٍ.

فَلِهَذَا فَصَّلْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّهَا مَسْأَلَة عَظِيمَة.

لَكنَّ الْأَغْلَبَ أَنَّ تَرْكَ الْأخْذِ كَانَ أَجْوَدَ مِن الْقَبُولِ؛ وَلهَذَا يُعَظِّمُ النَّاسُ هَذَا الْجِنْسَ أَكْثَرَ، وإِذَا صَخَ الْأَخْذُ

(1)

: كَانَ أَفْضَلَ، أَعْنِي الْأَخْذَ وَالصَّرْفَ إلَى النَّاسِ

(2)

. [1/ 98 - 100]

* * *

‌(هل يجوز التَّوَسُّل بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

-؟)

176 -

الِاسْتِغَاثَةُ: طَلَبُ الْغَوْثِ، وَهُوَ إزَالَةُ الشِّدَّةِ؛ كَالِاسْتِنْصَارِ طَلَبُ النَّصْرِ، وَالِاسْتِعَانَةِ طَلَبُ الْعَوْنِ، وَالْمَخْلُوقُ يُطْلَبُ مِنْهُ مِن هَذِهِ الْأمُورِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْهَا؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72] وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15]، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2].

(1)

بأنْ كانت المصلحة في الأخذ.

(2)

مثال ذلك: رجل أهدى لأخيه أو صاحبه مالًا؛ فالسُّنة قبول الهدية، فإن كان محتاجًا له أخذه لنفسه، وإلا تصدق به لمن يحتاجه.

وبذلك جمع بين فضيلتين: تطييب قلب المهدي، والتصدق على المحتاج.

ص: 122

وَأَمَّا مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللهُ: فَلَا يُطْلَبُ إلَّا مِن اللهِ، وَلهَذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ لَا يَسْتَغِيثُونَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ويَسْتَسْقُونَ بِهِ ويتَوَسَّلُونَ بِهِ.

وَالتَّوَسُّلُ إلَى اللهِ بِغَيْرِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم سَوَاءٌ سُمِّيَ اسْتِغَاثَةً أَو لَمْ يُسَمَّ-: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِن السَّلَفِ فَعَلَهُ، وَلَا رَوَى فِيهِ أَثَرًا، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ إلَّا مَا أَفْتَى بِهِ الشَّيْخُ

(1)

مِن الْمَنْعِ.

وَأَمَّا التَّوَسُّلُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ففِيهِ حَدِيث فِي السُّنَنِ رَوَاهُ النَّسَائِي وَالتِّرْمِذِي

(2)

وَغَيْرُهُمَا أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنِّي أُصِبْت فِي بَصَرِي، فَادْعُ اللهَ لِي، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم:"تَوَضَّأْ وَصَلِّ رَكعَتَيْنِ ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ أسْأَلُك وَأتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ، يَا مُحَمَّدُ إنِّي أَتَشَفَّعُ بِك فِي رَد بَصَرِي، اللَهُمَّ شَفَعْ نَبِيَّك فيَّ، وَقَالَ: فَإِنْ كَانَت لَك حَاجَة فَمِثْلُ ذَلِكَ، فَرَدَّ اللهُ بَصَرَهُ".

فَلِأَجْلِ هَذَا الْحَدِيثِ اسْتَثْنَى الشَّيْخُ التَّوَسُّلَ بِهِ.

وَللنَّاسِ فِي مَعْنَى هَذَا قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا التَوَسُّلَ هُوَ الَّذِي ذَكَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه لَمَّا قَالَ: كُنَّا إذَا أَجْدَبْنَا نتَوَسَّلُ بِنَبِيِّنَا إلَيْك فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِينا فَاسْقِنَا

(3)

.

(1)

يعني به الشَّيْخَ عِزَّ الدينِ بْنَ عَبْدِ السَّلَامِ، حيث أَفْتَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّوَسُّلُ إلَى اللهِ تَعَالَى إلا بِالنَبِيِّ صلى الله عليه وسلم إنْ صَحَّ الْحَدِيثُ فِيهِ.

(2)

(3578).

(3)

رواه البخاري (1010).

قال الشيخ: فَلَو كَانَ السُّؤَالُ بِهِ مَعْرُوفًا عِنْدَ الصحَابَةِ لَقَالُوا لِعُمَر: إنَّ السُّؤَالَ وَالتوَسُّلَ بِهِ أوْلَى مِن السُّؤَالِ وَالتَّوَسُّلِ بِالْعَبَّاسِ، فَلِمَ نَعْدِلْ عَن الْأمْرِ الْمَشْرُوعِ الَّذِي كُنَّا نَفْعَلُهُ فِي حَيَاتِهِ وَهُوَ التَّوَسُّلُ بأَفْضَل الْخَلْقِ إلَى أنْ نتَوَسَّلَ بِبَعْض أَقَارِبِهِ؟

وَفي ذَلِكَ تَرْكُ السُّنَّةِ الْمَشْرُوعَةِ، وَعُدُولٌ عَن الأفْضَلِ، وَسُؤَالُ اللهِ تَعَالَى بِأَضْعَفِ السَّبَبَيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَعْلَاهُمَا، وَنَحْنُ مُضْطَرَّونَ غَايَةَ الِاضْطِرَارِ فِي عَامِ الرَّمَادَةِ الَّذِي يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي الْجَدْب.

وَاَلَّذِي فَعَلهُ عُمَرُ فَعَلَ مِثْلَة مُعَاوِيةُ بِحَضْرَةِ مَن مَعَهُ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ؛ فَتَوَسَّلُوا بيزيد بْنِ الْأَسْوَدِ الجرشي كَمَا تَوَسَّلَ عُمَرُ بِالْعَبَّاسِ. =

ص: 123

فَقَد ذَكَرَ عُمَرُ رضي الله عنه: أَنَّهُم كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ، ثُمَّ تَوَسَّلُوا بِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَتَوَسُّلهُم بِهِ هُوَ اسْتِسْقَاؤُهُم بِهِ؛ بِحَيْثُ يَدْعُو ويدْعُونَ مَعَهُ، فَيَكُونُ هُوَ وَسِيلَتَهُم إلَى اللهِ.

وَهَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ الصَّحَابَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَا فِي مَغِيبِهِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كانَ فِي مِثْل هَذَا شَافِعًا لَهُم دَاعِيًا لَهُمْ؛ وَلهَذَا قَالَ فِي حَدِيثِ الْأَعْمَى:"اللَّهُمَّ فَشَفعْهُ فِيَّ"، فَعُلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شَفَعَ لَهُ فَسَألَ اللهَ أَنْ يُشَفِّعَهُ فِيهِ.

وَالثَّانِيْ: أَنَّ التَّوَسُّلَ يَكُونُ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ وَفِي مَغِيبِهِ وَحَضْرَتِهِ

(1)

.

وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إنَّ مَن قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَقَد كَفَرَ، وَلَا وَجْهَ لِتَكْفِيرِهِ؛ فَإِن هَذِهِ مَسْأَلَة خَفِيَّة، لَيْسَتْ أَدِلَّتُهَا جَلِيَّةً ظَاهِرَةً، وَالْكُفْرُ إنَّمَا يَكُونُ بِاِنْكَارِ مَا عُلِمَ مِن الدِّينِ ضَرُورَةً، أَو بِإِنْكَارِ الْأَحْكَامِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْمُجْمَعِ عَلَيْهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ. [1/ 103 - 106]

* * *

‌(حكم الاستغاثة والاستعانة بالمخلوق

؟)

177 -

قَد يَكُونُ فِي كَلَامِ اللهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم عِبَارَة لَهَا مَعْنًى صَحِيحٌ، لَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَفْهَمُ مِن تِلْكَ غَيْرَ مُرَادِ اللهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، فَهَذَا يُرَدّ عَلَيْهِ فَهْمُهُ، كَمَا رَوَى الطَّبَرَانِي فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُنَافِق يُؤْذِي الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدّيقُ: قُومُوا بِنَا لِنَسْتَغِيثَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إنَّهُ لَا يُسْتَغَاثُ بِي، وَإِنَّمَا يُسْتَغَاثُ بِاللهِ".

= وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ مِن أصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ يُتَوَسَّلُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ بِدُعَاءِ أهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ، قَالُوا: وإِن كَانُوا مِن أَقَارِبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ أفْضَلُ؛ اقْتِدَاءَ بِعُمَرَ، وَلَمْ يَقُلْ أحَدٌ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ إنَّهُ يُسْأَلُ اللهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ لَا بِنَبِيٍّ وَلَا بِغَيْرِ نَبِيٍّ.

(1)

والشيخ وغيره من أهل العلم اختاروا القول الأول، وهو مذهب أهل السُّنَّة والجماعة.

ص: 124

فَهَذَا إنَّمَا أَرَادَ بِهِ النَبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَعْنَى الثَّانِيَ، وَهُوَ أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللهُ، وَإِلَّا فَالصَّحَابَةُ كَانُوا يَطْلُبُونَ مِنْة الدُّعَاءَ ويسْتَسْقُونَ بِهِ.

وَالِاسْتِغَاثَةُ بِمَعْنَى أَنْ يُطْلَبَ مِن الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مَا هُوَ اللَّائِقُ بِمَنْصِبِهِ لَا يُنَازعُ فِيهَا مُسْلِمٌ، وَمَن نَازَعَ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَهُوَ إمَّا كَافِرٌ إنْ أَنْكَرَ مَا يَكْفُرُ بِهِ وَإِمَّا مُخْطِى ضَالٌّ.

وَأَمَّا بِالْمَعْنَى الَّذِي نَفَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ أَيْضًا مِمَّا يَجِبُ نَفْيُهَا، وَمَن أَثْبَتَ لِغَيْرِ اللهِ مَا لَا يَكُونُ إلَّا للهِ فَهُوَ أَيْضًا كَافِرٌ إذَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الَّتِي يَكْفُرُ تَارِكُهَا.

وَمِن هَذَا الْبَابِ قَوْلُ أَبِي يَزِيدَ البسطامي: اسْتِغَاثَةُ الْمَخْلُوقِ بِالْمَخْلُوقِ كَاسْتِغَاثَةِ الْغَرِيقِ بِالْغَرِيقِ، وَقَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْقُرَشِيِّ الْمَشْهُورِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ: اسْتِغَاثَةُ الْمَخْلُوقِ بِالْمَخْلُوقِ كَاسْتِغَاثَةِ الْمَسْجُونِ بِالْمَسْجُونِ

(1)

.

وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمَفْهُومَ مِنْهَا

(2)

عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَكَانَ مُخْتَصُّا باللهِ: صَحَّ إطْلَاقُ نَفْيِهِ عَمَّا سِوَاهُ

(3)

، وَلهَذَا لَا يُعْرَفُ عَن أَحَدٍ مِن أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ جَوَّزَ مُطْلَقَ الِاسْتِغَاثَةِ بِغَيْرِ اللهِ، وَلَا أَنْكَرَ عَلَى مَن نَفَى مُطْلَقَ الِاسْتِغَاثَةِ عَن غَيْرِ اللهِ.

وَكَذَلِكَ الاسْتعانة

(4)

أَيْضا فِيهَا مَا لَا يَصْلُحُ إلَّا للهِ، وَهِيَ الْمُشَارُ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]؛ فَإِنَهُ لَا يُعِين عَلَى

(1)

قال الشيخ في موضع آخر بعد أن ساق كلامهما: وَهَذَا تَقْرِيبٌ، وإِلا فَهُوَ كَاسْتِغَاثَةِ الْعَدَمِ بِالْعَدَمِ؛ فَإِن الْمُسْتَغَاثَ بِهِ إنْ لَمْ يَخْلُق الْحَقُّ -وهو الله تعالى- فِيهِ قُوَّةً وَحَوْلًا وإِلَّا فَلَيْسَ لَهُ مِن نَفْسِهِ شَيْءٌ قَالَ سُبْحَانَهُ:{وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102]. ا هـ.

(2)

أي: من الاستغاثة.

(3)

أي: صح نفي طلب الاستغاثة من غير الله، كما نفاها النبي -صلي الله عليه وسلم-.

(4)

في الأصل: الِاسْتِغَاثَةُ، والتصويب من كتاب الرد على البكري (1/ 422).

ص: 125

الْعِبَادَةِ الْإِعَانَةَ الْمُطْلَقَةَ إلَّا اللهُ، وَقَد يُسْتَعَانُ بِالْمَخْلُوقِ فِيمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الِاسْتِنْصَارُ، قَالَ الله تَعَالَى:{وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72]، وَالنَّصْرُ الْمُطْلَقُ هُوَ خَلْقُ مَا بِهِ يَغْلبُ الْعَدُوَّ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللهُ.

[1/ 110 - 113]

178 -

قَالَ تَعَالَى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: 9] إنَّ الْإِغَاثَةَ أَحَقُّ بِالْأَفْعَالِ، وَالِاسْتِجَابَةَ أَحَقُّ بِالْأَقْوَالِ، وَقَد يَقَعُ كُلُّ مِنْهُمَا مَوْقِعَ الْآخَرِ.

قَالُوا: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسْتَغِيثِ وَالدَّاعِي أَنَّ الْمُسْتَغِيثَ يُنَادِي بِالْغَوْثِ، وَالدَّاعِيَ يُنَادِي بِالْمَدْعُوِّ وَالْمُغِيثِ.

وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّ مِن صِيغَةِ الِاسْتِغَاثَةِ: يَا للهِ لِلْمُسْلِمِينَ .. وَفي الدُّعَاءِ الْمَأثُور: "يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ بِرَحْمَتِك أَسْتَغِيثُ أَصلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ"، وَالِاسْتِغَاثَةُ بِرَحْمَتِهِ اسْتِغَاثَة بِهِ فِى الْحَقِيقَةِ، كَمَا أنَّ الِاسْتِعَاذَةَ بِصِفَاتِهِ اسْتِعَاذَةٌ بِهِ فِي الْحَقِيقَةِ. [1/ 111]

* * *

(كلام الله غير مخلوق)

179 -

اسْتَدَلَّ الْأَئِمَّة فِيمَا اسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ: بِقَوْلِهِ: "أعوذ بكلمات الله التامة"، قَالُوا: وَالِاسْتِعَاذَةُ لَا تَصْلُحُ بِالْمَخْلُوقِ. [1/ 112]

* * *

(الْحَلِف "بِعِزَّةِ اللهِ" و"لَعَمْرُ اللهِ")

180 -

ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ": الْحَلِفُ "بِعِزَّةِ اللهِ" و"لَعَمْرُ اللهِ" وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِن الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللهِ الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ. [1/ 112]

* * *

ص: 126

(الشَّفَاعَة الْمَنْفِيَّةُ فِي الْقُرآنِ)

181 -

فَصْلٌ: فِي الشَّفَاعَةِ الْمَنْفِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 48]. وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.

وَاحْتَجَّ بِكَثِير مِنْهُ الْخَوَارج وَالْمُعْتَزِلَةُ عَلَى مَنْعِ الشَّفَاعَةِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ، إذ مَنَعُوا:

أ - أَنْ يُشْفَعَ لِمَن يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ.

ب- أَو أَنْ يَخْرُجَ مِن النَّارِ مَن يَدْخُلُهَا.

وَلَمْ يَنْفُوا الشَّفَاعَةَ لِأَهْلِ الثَّوَابِ فِي زَيادَةِ الثَّوَابِ.

وَمَذْهَبُ سَلَفِ الْأمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَسَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ إثْبَاتُ الشَّفَاعَةِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِن النَّارِ مَن فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِن إيمَانٍ.

وَأَيْضًا: فَالْأَحَادِيثُ الْمُسْتَفِيضَةُ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الشَّفَاعَةِ فِيهَا- اسْتِشْفَاعُ أَهْلِ الْمَوْقِفِ لِيُقْضَى بَيْنَهُمْ، وَفِيهِم الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَهَذَا فِيهِ نَوْعُ شَفَاعَةٍ لِلْكُفَّارِ.

وَأَيْضًا: فَفِي "الصَّحِيحِ"

(1)

عَن الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمطَّلِبِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَل نَفَعْت أَبَا طَالِبٍ بِشَيءِ؟ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَك؟

قَالَ: "نَعَمْ، هُوَ فِي ضِحْضَاحٍ مِن نَارٍ، وَلَوْلَا أنا لَكانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِن النَّارِ".

فَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ لِشَفَاعَتِهِ فِي بَعْضِ الْكُفَّارِ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُ الْعَذَابُ. [1/ 116 - 117]

(1)

البخاري (3883).

ص: 127

182 -

الشَّفَاعَةُ الْمَنْفِيَّةُ: هِيَ الشَّفَاعَةُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ النَّاسِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَهِيَ أَنْ يَشْفَعَ الشَّفِيعُ إلَى غَيْرِهِ ابْتِدَاءً فَيَقْبَلُ شَفَاعَتَهُ، فَاَمَّا إذَا أَذِنَ لَهُ فِي أَنْ يَشْفَعَ فَشَفَعَ: لَمْ يَكُن مُسْتَقِلُّا بِالشَّفَاعَةِ؛ بَل يَكُونُ مُطِيعًا لَهُ؛ أَيْ: تَابِعًا لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ، وَتَكُونُ شَفَاعَتُهُ مَقْبُولَةً، ويكُونُ الْأَمْرُ كلُّهُ لِلْآمِرِ الْمَسْؤُولِ.

وَاَلَذِي يُبَيِّنُ أَنَّ هَذِهِ هِيَ الشَّفَاعَةُ الْمَنْفِيَّةُ أَنَّهُ قَالَ: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} [السجدة: 4] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُم مِن دُونِ اللهِ وَلي وَلَا شَفِيعٌ. وَأَمَّا نَفْيُ الشَّفَاعَةِ بِدُونِ إذْنِهِ: فَإِنَّ الشَّفَاعَةَ إذَا كَانَت بِإِذْنِهِ لَمْ تَكُنْ مِن دُونَهِ. [1/ 118]

183 -

ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الْمُسْتَفِيضَةِ بَلْ الْمُتَوَاتِرَةِ وَاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ: أَنَّ نَبِيَّنَا صلى الله عليه وسلم الشَّافِعُ الْمُشَفَّعُ، وَأَنَّهُ يُشَفَّغ فِي الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ النَّاسَ يَسْتَشْفِعُونَ بِهِ يَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يَشْفَعَ لَهُمْ إلَى رَبّهِمْ، وَأَنَّهُ يَشْفَعُ لَهُمْ.

ثُمَّ اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّهُ يَشْفَعُ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَأَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ أَحَدٌ.

وَأَمَّا الْخَوَارج وَالْمُعْتَزِلَةُ فَأَنْكَرُوا شَفَاعَتَهُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ، وَلَمْ يُنْكرُوا شَفَاعَتَهُ لِلْمُؤمِنِينَ، وَهَؤُلَاءِ مُبْتَدِعَة ضُلَّالٌ، وَفي تَكْفِيرِهِمْ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ.

وَأَمَّا مَنْ أَنْكَرَ مَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ وَالْإِجْمَاعِ: فَهُوَ كَافِرٌ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ

(1)

، وَسَوَاءٌ سَمَّى هَذَا الْمَعْنَى اسْتِغَاثَة أَوْ لَمْ يُسَمِّهِ.

(1)

ولا يلزم فهم الحجة، فهمًا لا شبهة عنده معها، فمن حين ما تبلغ الحجة والدعوة الصحيحة البينة بلغته التي يتكلم بها: فقد قامت الحجة عليه، وليس من شرط قيام الحجة أن يفهمها الفهم الجليّ، بل من حين ما تبلغه الحجة وجب عليه السعي إلى فهمها والنظر فيها من المصادر الصحيحة.

وقد نقل غير واحد الإجماع على أن بلغه القرآن ودعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قامت عليه الحجة، قال الله تعالى:{لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]، وقال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: فإنَّ أكثر الكفار والمنافقين لم يفهموا حجة الله مع =

ص: 128

وَأَمَّا مَنْ أَقَرَّ بِشَفَاعَتِهِ وَأَنْكَرَ مَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَهُ مِنْ التوَسُّلِ بِهِ وَالِاسْتِشْفَاعِ بِهِ

(1)

.. : هَذَا فَهوَ ضَالٌّ مُخْطِ مُبْتَدعٌ، وَفي تَكْفِيرِهِ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ.

وَأَمَّا مَنْ أَقَرَّ بِمَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ مِنْ شَفَاعَتِهِ وَالتَّوَسُّلِ بِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَكِنْ قَالَ لَا يُدْعَى إلا اللهُ، وَأَنَّ الْأَمُورَ الَّتي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إلَّا اللهُ لَا تُطْلَبُ إلَّا مِنْهُ؛ مِثْلَ غُفْرَانِ الذُّنُوبِ وَهِدَايَةِ الْقُلُوبِ وَإِنْزَالِ الْمَطَرِ وَإِنْبَاتِ النَّبَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَهَذَا مُصِيبٌ فِي ذَلِكَ؛ بَل هَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى:{وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135]، وَقَالَ:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56]. [1/ 108 - 109]

* * *

‌(هل يجوز اتخاذُ وَاسِطَةٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ اللهِ

؟)

184 -

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ-: عَن رَجُلَيْنِ تَنَاظَرَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا: لَا بُدَّ لَنَا مِن وَاسِطَةٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ اللهِ، فَإِنَّا لَا نَقْدِرُ أَنْ نَصِلَ إلَيْهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ؟

= قيامها عليهم، كما قال تعالى:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} [الفرقان: 44].

وقيام الحجة وبلوغها نوع، وفهمهم إياها نوع آخر، وكفرهم الله ببلوغها إياهم، مع كونهم لم يفهموها. وإن أشكل عليكم ذلك؛ فانظروا قوله صلى الله عليه وسلم في الخوارج:"أينما لقيتموهم فاقتلوهم" مع كونهم في عصر الصحابة، ويحقر معهم الإنسان عمل الصحابة، ومع إجماع الناس أن الذي أخرجهم من الدين، هو التشديد والغلو والاجتهاد، وهم يظنون أنهم مطيعون لله، وقد بلغتهم الحجة، ولكن لم يفهموها.

وكذلك: قتل علي رضي الله عنه الذين اعتقدوا فيه، وتحريقهم بالنار، مع كونهم تلاميذ الصحابة، ومع عبادتهم وصلاحهم؛ وهم أيضًا يظنون أنهم على حق، وكذلك إجماع السلف على تكفير أناس من غلاة القدرية، وغيرهم، مع كثرة علمهم، وشدة عبادتهم، وكونهم يظنون أنهم يحسنون صنعًا، ولم يتوقف أحد من السلف في تكفيرهم؛ لأجل أنهم لم يفهموا، فإن هؤلاء كلهم لم يفهموا. الدرر السنية:(11/ 74 - 75).

(1)

في حياتِه.

ص: 129

فَأَجَابَ: إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِن وَاسِطَةٍ تُبَلِّغُنَا أَمْرَ اللهِ: فَهَذَا حَقّ؛ فَإِنَّ الْخَلْقَ لَا يَعْلَمُونَ مَا يُحِبُّهُ اللهُ ويرْضَاة، وَمَا أَمَرَ بِهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ، وَمَا أَعَدَّهُ لِأَوْليَائِهِ مِن كَرَامَتِهِ، وَمَا وَعَدَ بِهِ أَعْدَاءَهُ مِن عَذَابِهِ، وَلَا يَعْرِفُونَ مَا يَسْتَحِقُّهُ اللهُ تَعَالَى مِن أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا الَّتِي تَعْجِزُ الْعُقُولُ عَن مَعْرِفَتِهَا وَأَمْثَالِ ذَلِكَ إلَّا بِالرُّسُلِ الَذِينَ أَرْسَلَهُم اللهُ إلَى عِبَادِهِ.

وإِن أَرَادَ بِالْوَاسِطَةِ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِن وَاسِطَةٍ فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ؛ مِثْل: أَنْ يَكُونَ وَاسِطَةً فِي رِزْقِ الْعِبَادِ وَنَصْرِهِمْ وَهُدَاهُمْ، يَسْأَلُونَهُ ذَلِكَ ويرْجُونَ إلَيْهِ فِيهِ: فَهَذَا مِن أَعْظَمِ الشِّرْكِ الَّذِي كَفَّرَ اللهُ بِهِ الْمُشْرِكِينَ؛ حَيْثُ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهُ أَوْليَاءَ وَشُفَعَاءَ، يَجْتَلِبُونَ بِهِم الْمَنَافِعَ ويجْتَنِبُونَ الْمَضارَّ.

فَمَن جَعَلَ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَسَائِطَ يَدْعُوهُم ويتَوَكَلُ عَلَيْهِم ويسْأَلُهُم جَلْبَ الْمَنَافِعِ وَدَفْعَ الْمَضَارِّ؛ مِثْل أَنْ يَسْأَلَهُم غُفْرَانَ الذنْبِ وَهِدَايَةَ الْقُلُوبِ وَتَفْرِيجَ الْكُرُوبِ وَسَدَّ الفاقات: فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَد قَالَ تَعَالَى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)} [يونس: 18]

وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ.

وَمَن سِوَى الْأَنْبِيَاءِ -مِن مَشَايخِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ- فَمَن أَثْبَتَهُم وَسَائِطَ بَيْنَ الرَّسُولِ وَأُمَّتِهِ يُبَلِّغُونَهُم وَيُعَلِّمُونَهُم وُيؤَدّبُونَهُم وَيَقْتَدُونَ بِهِمْ: فَقَد أَصَابَ فِي ذَلِكَ.

وَهَؤُلَاءِ إذَا أَجْمَعُوا فَإِجْمَاعُهُم حُجَّة قَاطِعَةٌ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَإِن تَنَازَعُوا فِي شَيءٍ رَدُّوهُ إلَى اللهِ وَالرَّسُولِ؛ إذ الْوَاحِدُ مِنْهُم لَيْسَ بِمَعْصُوم عَلَى الْإِطْلَاقِ.

وإِن أَثْبَتَهُم وَسَائِطَ بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ -كَالْحُجَّابِ الَّذِينَ بَيْنَ الْمَلِكِ

ص: 130

وَرَعِيَّتِهِ-، بِحَيْثُ يَكُونُونَ هُم يَرْفَعُونَ إلَى اللهِ حَوَائِجَ خَلْقِهِ، فَاَللهُ إنَّمَا يَهْدِي عِبَادَهُ ويرْزُقُهُم بتَوَسُّطِهِمْ، فَالْخَلْقُ يَسْأَلُونَهُم وَهُم يَسْأَلُونَ اللهَ، كَمَا أَنَّ الْوَسَائِطَ عِنْدَ الْمُلُوكِ: يَسأَلُونَ الْمُلُوكَ الْحَوَائِجَ لِلنَاسِ؛ لِقُرْبِهِم مِنْهُم وَالنَّاسُ يَسْأَلُونَهُمْ؛ أَدَبًا مِنْهُم أَنْ يُبَاشِرُوا سُؤَالَ الْمَلِكِ، أَو لِأَنَّ طَلَبَهُم مِن الْوَسَائِطِ أَنْفَعُ لَهُم مِن طَلَبِهِم مِن الْمَلِكِ؟ لِكَوْنِهِمْ أَقْرَبَ إلَى الْمَلِكِ مِن الطَّالِبِ لِلْحَوَائِجِ.

فَمَن أَثْبَتَهُم وَسَائِطَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: فَهُوَ كَافِرٌ مُشْرِكٌ، يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وإِلَّا قُتِلَ.

وَهَؤُلَاءِ مُشَبِّهُونَ للهِ، شَبَّهُوا الْمَخْلُوقَ بِالْخَالِقِ وَجَعَلُوا للهِ أَنْدَادًا، وَفِي الْقُرْآنِ مِن الرَّدِّ عَلَى هَؤُلَاءِ مَا لَمْ تتسِعْ لَهُ هَذِهِ الْفَتْوَى.

وقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22،23]، فَبَيَّنَ أَنَّ كُلَّ مَن دُعِيَ مِن دُونِهِ لَيْسَ لَهُ مُلْكٌ وَلَا شِرْكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَا هُوَ ظَهِيرٌ، وَأَنَّ شَفَاعَتَهُم لَا تَنْفَعُ إلَّا لِمَن أذِنَ لَهُ.

وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُلُوكِ؛ فَإِن الشَّافِعَ عِنْدَهُم قَد يَكُونُ لَهُ مُلْكٌ، وَقَد يَكُونُ شَرِيكًا لَهُم فِي الْمُلْكِ، وَتَد يَكُونُ مُظَاهِرًا لَهُم مُعَاوِنًا لَهُم عَلَى مُلْكهِمْ.

وَهَؤُلَاءِ يشفعُونَ عِنْدَ الْمُلُوكِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُلُوكِ هُم وَغَيْرُهُمْ، وَالْمَلِكُ يَقْبَلُ شَفَاعَتَهُمْ: تَارَةً بِحَاجَتِهِ

(1)

إلَيْهِمْ، وَتَارَةً لِخَوْفِهِ مِنْهُمْ، وَتَارَةً لِجَزَاءِ إحْسَانِهِمْ إلَيْهِ، وَمُكَافَأَتِهِمْ وَلِإِنْعَامِهِمْ عَلَيْهِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ

(1)

هكذا في جميع المصادر، ولعل الصواب باللام: لحَاجَتِهِ.

ص: 131

رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)} [الإسراء:56، 57].

فَأَخْبَرَ أَنَّ مَا يُدْعَى مِن دُويهِ لَا يَمْلِكُ كَشْفَ ضُرٍّ وَلَا تَحْوِيلَهُ، وَأَنَّهُم يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويخَافُونَ عَذَابَهُ وَيَتَقَرَّبُونَ إلَيْهِ.

فَهُوَ -سُبْحَانَهُ- قَد نَفَى مَا مِن الْمَلَائِكَةِ وَالْأنْبِيَاءِ إلَّا مِن الشَّفَاعَةِ بِإِذْنِهِ، وَالشَّفَاعَةُ هِيَ الدُّعَاءُ.

وَلَا ريبَ أَنَّ دُعَاءَ الْخَلْقِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ نَافِعٌ، وَاللهُ قَد أَمَرَ بِذَلِكَ، لَكِنَّ الدَّاعِيَ الشَّافِعَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ وَيَشْفَعَ إلَّا بِإِذْنِ اللهِ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَلَا يَشْفَعُ شَفَاعَةً نُهِيَ عَنْهَا؛ كَالشَّفَاعَةِ لِلْمُشْرِكِينَ وَالدُّعَاءِ لَهُم بِالْمَغْفِرَةِ. قَالَ تَعَالَى:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)} [التوبة: 113]

وَقَد قَالَ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)} [الأعراف: 55]-فِي الدُّعَاءِ-.

وَمِن الِاعْتِدَاءِ فِي الدُّعَاءِ:

أ - أَنْ يَسْألَ الْعَبْدُ مَا لَمْ يَكُن الرَّبُّ لِيَفْعَلَهُ؛ مِثْلُ: أَنْ يَسْألَهُ مَنَازِلَ الْأَنْبِيَاءِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ، أَو الْمَغْفِرَةَ لِلْمُشْرِكِينَ وَنَحْو ذَلِكَ.

ب- أَو يَسْأَلَهُ مَا فِيهِ مَعْصِيَةُ اللهِ؛ كَإِعَانَتِهِ عَلَى الْكفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ.

فَالشَّفِيعُ الَّذِي أَذِنَ اللهُ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ: شَفَاعَتُهُ فِي الدُّعَاءِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ عُدْوَانٌ.

وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ مَن أَثْبَتَ وَسَائِطَ بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ كَالْوَسَائِطِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الْمُلُوكِ وَالرَّعِيَّةِ فَهُوَ مُشْرِكٌ؛ بَل هَذَا دِينُ الْمُشْرِكِينَ عُبَّادُ الْأَوْثَانِ، كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّهَا تَمَاثِيلُ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَإِنَّهَا وَسَائِلُ يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إلَى اللهِ، وَهُوَ مِن الشِّرْكِ الَّذِي أَنْكَرَهُ اللهُ عَلَى النَّصَارَى حَيْثُ قَالَ: {اتَّخَذُوا

ص: 132

أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: 31].

وَقَد كَانَ النَبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحَقّقُ هَذَا التَّوْحِيدَ لأُمَّتِهِ ويحْسِمُ عَنْهُم مَوَادَّ الشِّرْكِ؛ إذ هَذَا تَحْقِيقُ قَوْلِنَا لَا إلَهَ إلا اللهُ، فَإِنَّ الْإِلَهَ هُوَ الَّذِي تَأْلَهُهُ الْقُلُوبُ لِكَمَالِ الْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ، وَالْإِجْلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، حَتَّى قَالَ لَهُم:"لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ، وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللهُ ثمَّ شَاءَ مُحَمدٌ"

(1)

، وَقَالَ لَهُ رَجُل: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْت، فَقَالَ:"أَجَعَلْتَنِي للهِ نِدًّا؟ بَل مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ"

(2)

، وَقَالَ:"مَن كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ باللهِ أَو لِيَصْمُتْ"

(3)

[1/ 121 - 136]

* * *

(الله الذي خلق السَّبَبَ)

185 -

الِالْتِفَاتُ إلَى الْأَسْبَابِ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ، وَمَحْوُ الْأَسْبَابِ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ، وَالْإِعْرَاضُ عَن الْأَسْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ قَدْحٌ فِي الشَرْعِ.

* * *

‌(معنى طَلَب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم من أُمَّتِهِ أَنْ يَدْعُوا لَهُ؟ وما الذي يحل ويحرم من سؤال الناس

؟)

186 -

مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وَهُوَ سَيِّدُ الشُّفَعَاءِ وَلَهُ شَفَاعَاتٌ يَختَصُّ بِهَا -وَمَعَ هَذَا- فَقَد ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ

(4)

عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذّنَ فَقُولُوا

(1)

رواه الدارمي (2741)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4378).

(2)

رواه أحمد (1839)، بلفظ:"أجعلتني لله عدلًا"، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 266): إسناده حسن.

(3)

رواه البخاري (2679).

(4)

رواه البخاري (611)، ومسلم (384)، واللفظ له.

ص: 133

مِثْل مَا يَقُولُ ثمَّ صَلُّوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّهُ مَن صَلَّى عَلَيَّ مَرَّة صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللهَ لِي الْوَسِيلَةَ؛ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْد مِن عِبَادِ اللهِ وَأَرْجُو أَنْ كُونَ ذَلِكَ الْعَبْدَ، فَمَن سَأَل اللهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ".

وَقَد قَالَ لِعُمَر لَمَّا أرَادَ أَنْ يَعْتَمِرَ وَوَدَّعَهُ: "يَا أَخِي لَا تَنْسَنِي مِن دُعَائِك"

(1)

.

فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَد طَلَبَ مِن أُمَّتِهِ أنْ يَدْعُوا لَهُ، وَلَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ مِن بَابِ سُؤَالِهِمْ؛ بَل أمْرُهُ بِذَلِكَ لَهُم كَأَمْرِهِ لَهُم بِسَائِرِ الطَّاعَاتِ الَّتِي يُثَابُونَ عَلَيْهَا، مَعَ أنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَهُ مِثْلُ أُجُورِهِمْ فِي كُل مَا يَعْمَلُونَهُ؛ فَإِنَّهُ قَد صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:"مَن دَعَا إلَى هُدًى كانَ لَهُ مِن الْأَجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَن اتَّبَعَهُ مِن غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِن أجُورِهِمْ شَيْئًا"

(2)

.

وَهُوَ دَاعِي الْأمَّةِ إلَى كُلِّ هُدًى، فَلَهُ مِثْلُ أُجُورِهِمْ فِي كُلِّ مَا اتبعُوهُ فِيهِ.

وَكَذَلِكَ إذَا صَلَّوْا عَلَيْهِ فَإِن اللهَ يُصَلِّي عَلَى أَحَدِهِمْ عَشْرًا، وَلَهُ مِثْلُ أُجُورِهِمْ، مَعَ مَا يَسْتَجِيبُهُ مِن دُعَائِهِمْ لَهُ، فَذَلِكَ الدُّعَاءُ قَد أعْطَاهُم اللهُ أَجْرَهُم عَلَيْهِ، وَصَارَ مَا حَصَلَ لَهُ بِهِ مِن النَّفْعِ نِعْمَةً مِن اللهِ عَلَيْهِ.

وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَ اللهَ لَمْ يَأمُرْ مَخْلُوقًا أنْ يَسْألَ مَخْلُوقًا إلا مَا كَانَ مَصْلَحَةً لِذَلِكَ الْمَخْلُوقِ إمَّا وَاجِبٌ أَو مُسْتَحَبٌّ.

وَإِن كَانَ قَصْدُهُ مَصْلَحَةَ الْمَأْمُورِ، أَو مَصْلَحَتَهُ وَمَصْلَحَةَ الْمَأمُورِ: فَهَذَا يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ.

وَإِن كَانَ قَصْدُهُ حُصُولَ مَطْلُوبِهِ مِن غَيْرِ قَصْدِ مِنْهُ لِانتِفَاعِ الْمَأمُورِ: فَهَذَا

(1)

رواه أبو داود (1498)، وابن ماجه (2894)، وأحمد (195)، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود.

(2)

رواه مسلم (2674).

ص: 134

مِن نَفْسِهِ أَتَى، وَمِثْلُ هَذَا السُّؤَالِ لَا يَأْمُرُ اللهُ بِهِ قَطُّ؛ بَل قَد نَهَى عَنْهُ؛ إذ هَذَا سُؤَالٌ مَحْضٌ لِلْمَخْلُوقِ مِن غَيْرِ قَصْدِهِ لِنَفْعِهِ وَلَا لِمَصْلَحَتِهِ، وَاللهُ يَأْمُرُنَا أَنْ نَعْبُدَهُ وَنَرْغَبَ إلَيْهِ، ويأْمُرُنَا أَنْ نُحْسِنَ إلَى عِبَادِهِ، وَهَذَا لَمْ يَقْصِدْ لَا هَذَا وَلَا هَذَا، فَلَمْ يَقْصِد الرَّغْبَةَ إلَى اللهِ وَدُعَائِهِ، وَهُوَ الصَّلَاةُ، وَلَا قَصَدَ الْإِحْسَانَ إلَى الْمَخْلُوقِ الَّذِي هُوَ الزَّكَاةُ.

وَإِن كَانَ الْعَبْدُ قَد لَا يَأْثَمُ بِمِثْل هَذَا السُّؤَالِ، لَكِنْ فَرْقٌ مَا بَيْنَ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الْعَبْدُ وَمَا يُؤْذَنُ لَهُ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَاب:"أَنَّهُم لَا يسترقون"

(1)

، وَإِن كَانَ الِاسْتِرْقَاءُ جَائِزًا؟ [1/ 132 - 134]

187 -

أَحَادِيث النَّهْيِ عَن مَسْاَلَةِ النَّاسِ الْأَمْوَالَ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ: "لَا تَحِلُّ الْمَسْأَلةُ إلَأ لِثَلَاَثةٍ"

(2)

.

فَأَمَّا سُؤَالُ مَا يَسُوغُ مِثْلُهُ مِن الْعِلْمِ: فَلَيْسَ مِن هَذَا الْبَابِ؛ لِأَنَّ الْمُخْبِرَ لَا يَنْقُصُ الْجَوَابُ مِن عِلْمِهِ بَل يَزْدَادُ بِالْجَوَابِ، وَالسَّائِلُ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم:"هَلَّا سَأَلوا إذ لَمْ يَعْلَمُوا؟ "

(3)

، وَلَكِنْ مِن الْمَسَائِلِ مَا يُنْهَى عَنْهُ، كمَا قَالَ تَعَالَى:{لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101]، وَكَنَهْيِهِ عَن أُغْلُوطَاتِ الْمَسَائِلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

(1)

رواه البخاري (5705)، ومسلم (218).

(2)

روى مسلم في صحيحه (1044) عَن قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الْهِلَالِيِّ قَالَ: تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً - والحمالة هي المال الذي يتحمله الإنسان؛ أي: يستدينه ويدفعه في إصلاح ذات البين كالإصلاح بين قبلتين ونحو ذلك -فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أسْألُهُ فِيهَا، فَقَالَ: أَقِمْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ؛ فَنَأْمُرَ لَكَ بهَا، ثُم قَالَ:"يَا قَبِيصَةُ إِنَ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِل إِلا لِأَحَدِ ثَلَاثَة: رَجُل تَحَمَّلَ حَمَالَةَ، فَحَلَّتْ لَهُ اَلْمَسْألَةُ حَتى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلِ أَصَابَتْهُ جَائِحَة اجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَى يُصِيبَ قِوَامًا مِن عَيْش، وَرَجُل أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَة مِن ذَوِي الْحِجَا مِن قَوْمِهِ: لَقَد أَصَابَتْ فُلَانَا فَاقَةٌ، فَحَلتْ لَهُ الْمسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِن عَيْشٍ، فَمَا سِوَاهُنَ مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتَا يَأُكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا".

(3)

رواه أبو داود (336)، وقال الألباني في صحيح أبي داود: حسن دون قوله: "إنما كان يكفيه".

ص: 135

وَأَمَّا سُؤَالُهُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ: فَقَد قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرِ: "لَا تَنْسَنَا مِن دُعَائِك"

(1)

، وَقَالَ:"إذَا سَمِعْتُم الْمُؤَذِّنَ: فَقُولُوا مِثْل مَا يَقُولُ ثُمَّ صلُّوا عَلَي فَإِنَّهُ مَن صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللهَ لي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْد مِن عِبَادِ اللهِ وَأرْجُو أَنْ أكُونَ أنَا ذَلِكَ الْعَبْدَ، فَمَن سَأَلَ اللهَ لي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتي يَوْمَ الْقِيَامَةِ"

(2)

.

وَقَد يُقَالُ فِي هَذَا: هُوَ طَلَبَ مِن الْأمَّةِ الدُّعَاءَ لَهُ لِأَنَّهُم إذَا دَعَوْا لَهُ حَصَلَ لَهُم مِن الْأَجْرِ أَكْثَرُ مِمَّا لَو كَانَ الدُّعَاءُ لِأَنْفُسِهِمْ، كَمَا قَالَ لِلَّذِي قَالَ: أَجْعَل صَلَاتِي كُلَّهَا عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: "إذًا يَكْفِيكَ اللهُ مَا أَهَمَّكَ مِن أَمْرِ دُنْيَاك وَآخِرَتِكَ"

(3)

.

فَطَلَبُهُ مِنْهُم الدُّعَاءَ لَهُ لِمَصْلَحَتِهِمْ كَسَائِرِ أمْرِهِ إيَّاهُم بِمَا أُمِرَ بِهِ، وَذَلِكَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِن الْمَصْلَحَةِ لَهُمْ؛ فَإِنَّهُ قَد صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:"مَا مِن رَجُلٍ يَدْعُو لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ بِدَعْوَة إلا وَكَّلَ اللهُ بِهِ مَلَكًا، كُلَّمَا دَعَا دَعْوَةً قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ وَلَك مِثْلُهُ"

(4)

.

وَقَوْلُ السَّائِلِ: أَجْعَلُ لَك مِن صَلَاتِي؟ يَعْنِي مِن دُعَائِي؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِي اللُّغَةِ هِيَ الدّعَاءُ قَالَ تَعَالَى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103].

فَيَكُونُ مَقْصُودُ السَّائِلِ: إنَّ لِي دُعَاءً أدْعُو بِهِ أَسْتَجْلِبُ بِهِ الْخَيْرَ وَأَسْتَدْفِعُ بِهِ الشَّرَّ، فَكَمْ أَجْعَلُ لَك مِن الدُّعَاءِ؟ قَالَ:"مَا شِئْت" فَلَمَّا انْتَهَى إلَى قَوْلِهِ: أَجْعَلُ لَك صَلَاتي كُلَّهَا؟ قَالَ: "إذًا تُكْفَى هَمَّك وَيُغْفَرُ ذَنْبُك".

وَهَذَا غَايَةُ مَا يَدْعُو بِهِ الْإِنْسَانُ مِن جَلْبِ الْخَيْرَاتِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّاتِ؛ فَإِنَّ

(1)

رواه أحمد (195).

(2)

رواه مسلم (384).

(3)

روى الترمذي (2457) وحسَّنه عَنِ أُبَي بْنِ كَعْب رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِن صَلَاتِي؟ فَقَالَ: "مَا شِئْتَ، قُلْتُ: الرُّبُعَ؟ قَالَ: مَا شِئْتَ؛ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ .. قُلْتُ: أَجْعَلُ لَكَ صَلَاتِي كُلَّهَا؟ قَالَ: إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ، وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ".

(4)

صحيح مسلم (2732).

ص: 136

الدُّعَاءَ فِيهِ تَحْصِيلُ الْمَطْلُوبِ وَانْدِفَاعُ الْمَرْهُوبِ

(1)

. [1/ 78 - 79، 350]

* * *

‌(نِعَمُ الدُّنْيَا بِدُونِ الدَّينِ هَل هِيَ مِن نِعَمِ الله

؟)

188 -

كُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ عَمَلًا لِلْخَيْرِ: ازْدَادَ إيمَانُهُ، هَذَا هُوَ الْإِنْعَامُ الْحَقِيقِي، الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ:{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7]، وَفِي قَوْلِهِ:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء: 69].

بَل نِعَمُ الدُّنْيَا بِدُونِ الدِّينِ هَل هِيَ مِن نِعَمِهِ أَمْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ مِن أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ.

وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهَا نِعْمَة مِن وَجْهٍ، وَإِن لَمْ تَكُنْ نِعْمَةَ تَامَّةً مِن وَجْهٍ، وَأَمَّا الْإِنْعَامُ بِالدِّينِ الَّذِي يَنْبَغِي طَلَبُهُ فَهُوَ مَا أمَرَ اللهُ بِهِ مِن وَاجِبِ وَمُسْتَحَبٍّ، فَهُوَ الْخَيْرُ الَّذِي يَنْبَغِي طَلَبُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ النعْمَة الْحَقِيقِيَّةُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ. [1/ 133 - 134]

* * *

(ثلاث قواعد في اتخاذ الْأَسْبَابِ)

189 -

مَعَ عِلْمِ الْمُؤمِنِ أنَّ اللهَ رَبُّ كلِّ شيء وَمَلِيكُهُ: فَإِنَّهُ لَا يُنْكِرُ مَا خَلَقَهُ اللهُ مِن الْأَسْبَابِ كَمَا جَعَلَ الْمَطَرَ سَبَبًا لِإِنْبَاتِ النَّبَاتِ .. وَكَمَا جَعَلَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ سَبَبًا لِمَا يَخْلُقُهُ بِهِمَا، وَكَمَا جَعَلَ الشَّفَاعَةَ وَالدُّعَاءَ سَبَبَا لِمَا يَقْضِيهِ بِذَلِكَ؛ مِثْلُ صَلَاةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى جِنَازَةِ الْمَيِّتِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِن الْأَسْبَابِ الَّتِي يَرْحَمُهُ اللهُ بِهَا وُيُثيبُ عَلَيْهَا الْمُصَلِّينَ عَلَيْهِ.

(1)

وإما أن يقال: المراد بالحديث: أنه يُشرِك النبيَّ عليه الصلاة والسلام في كلِّ دعاء يدعوه، وإلا فإن من المعلوم أن الإنسان لو أخذ بظاهر الحديث لكان لا يقول: ربّ اغفر لي، ولا يقول: اللَّهُمَّ ارحمني، ولا يقول اللَّهُمَّ ارزقني، بل يقول: اللَّهُمَّ صلّ على محمد ويكفى الهمّ، وهذا خلافُ ما جاءت به الشريعة، والإنسانُ مأمورٌ أنْ يدعو لنفسه في السجود وفي الجلسة بين السجدتين وفي دعاء الاستفتاح على أحد الوجوه التي وردت فيه. [لقاء الباب المفتوح للعلامة ابن عثيمين رحمه الله].

ص: 137

لَكنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ فِي الْأَسْبَابِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ:

أَحَدُهَما: أَنَّ السَّبَبَ الْمُعَيَّنَ لَا يَسْتَقِلُّ بِالْمَطْلُوب؛ بَل لَا بُدَّ مَعَهُ مِن أَسْبَابٍ أُخَرَ، وَمَعَ هَذَا فَلَهَا مَوَانِعُ، فَإِنْ لَمْ يُكمِلِ اللهُ الْأَسْبَابَ وَيَدْفَع الْمَوَانِعَ: لَمْ يَحْصُل الْمَقصُودُ.

وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَا شَاءَ كَانَ وَإِن لَمْ يَشَأ النَّاسُ، وَمَا شَاءَ النَّاسُ لَا يَكُونُ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ.

الثَّانِي: أَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الشَّئءَ سَبَبٌ إلَّا بِعِلْم، فَمَن أَثْبَتَ شَيْئًا سَبَبًا بِلَا عِلْمٍ أَو يُخَالِفُ الشَّرْعَ كَانَ مُبْطِلًا؛ مِئْل مَن يَظُنُّ أَنَ النَّذْرَ سَبَبٌ فِي دَفْعِ الْبَلَاءِ وَحُصُولِ النَّعْمَاءِ، وَقَد ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ

(1)

عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَن النَّذْرِ وَقَالَ: "إنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْر وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِن الْبَخِيلِ".

الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَعْمَالَ الدِّينِيَّةَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَّخَذَ مِنْهَا شَيءٌ سَبَبًا إلَّا أَنْ تَكُونَ مَشْرُوعَةً؛ فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ مَبْنَاهَا عَلَى التَّوْقِيفِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُشْرِكَ باللهِ فَيَدْعُوَ غَيْرَهُ، وَإِن ظَنَ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ فِي حُصُولِ بَعْضِ أَغْرَاضِهِ.

وَكَذَلِكَ لَا يَعْبُدُ اللهَ بِالْبِدَعِ الْمُخَالَفَةِ لِلشَّرِيعَةِ وإِن ظَنَّ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ قَد تُعِينُ الإِنْسَانَ عَلَى بَعْضِ مَقَاصِدِهِ إذَا أَشْرَكَ، وَقَد يَحْصُلُ بِالْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ بَعْضُ أَغْرَاضِ الْإِنْسَانِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ؛ إذ الْمَفْسَدَةُ الْحَاصِلَةُ بِذَلِكَ أَعْظَمُ مِن الْمَصْلَحَةِ الْحَاصِلَةِ بِهِ. [1/ 137 - 138]

* * *

(حكم قول الداعي: اللَّهمَّ إنِّي أَتَوَسَّلُ إلَيْك بالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وحكم الْحَلِفِ بِهِ)

190 -

أَمَّا قَؤلُ الْقَائِلِ: اللَّهُمَّ إنِّي أَتَوَسَّلُ إلَيْك بِهِ -أي: بالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ قَوْلَانِ، كَمَا لَهُم فِي الْحَلِفِ بِهِ قَوْلَانِ، وَجُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ كَمَالِكٍ

(1)

البخاري (6608)، ومسلم (1639).

ص: 138

وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسُوغُ الْحَلِفُ بِغَيْرِهِ مِن الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ، وَلَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتينِ عَن أَحْمَدَ.

وَالرِّوَايَة الْأُخْرَى: تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ .. وَأَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ قَد جَوَّزَ الْقَسَمَ بِهِ فَلِذَلِكَ جَوَّزَ التَوَسُّلَ بِهِ.

وَلَكِنَ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى عَنْهُ: هِيَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يُقْسِمُ بِهِ، فَلَا يُقْسَمُ عَلَى اللهِ بِهِ كَسَائِرِ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِن السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ قَالَ: إنَّهُ يُقْسَمُ بِهِ عَلَى اللهِ؛ كَمَا لَمْ يَقُولُوا إنَّهُ يُقْسَمُ بِهِم مُطْلَقًا؛ وَلهَذَا أَفْتَى أَبُو مُحَمَّدٍ بنُ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّهُ لَا يُقْسَمُ عَلَى اللهِ بِأَحَد مِن الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ، لَكِنْ ذُكِرَ لَهُ أَنَهُ رُوِيَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيث فِي الْإِقْسَامِ بِهِ فَقَالَ: إنْ صَخَ الْحَدِيثُ كَانَ خَاصًّا بِهِ.

وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْإِقْسَامِ بِهِ، وَقَد قَالَ النَبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَن كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللهِ وإِلَّا فَلْيَصْمُتْ"

(1)

. [1/ 140 - 141]

* * *

(فوائد ومسائل من كتاب التوسل والوسيلة) (معنى ابتغاء الوسيلة، وهل تنفع الشفاعة الكافر

؟)

(2)

191 -

قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] ابْتِغَاءُ الْوَسِيلَةِ إلَى اللهِ إنَّمَا يَكُونُ لِمَن تَوَسَّلَ إلَى اللهِ بِالْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَاتِّباعِهِ.

وَهَذَا التَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَطَاعَتِهِ: فَرْضٌ عَلَى كُل أَحَدٍ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَبَعْدَ مَوْتِهِ، فِي مَشْهَدِهِ وَمَغِيبِهِ، لَا يسْقط التَوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ

(1)

رواه البخاري (2679)، ومسلم (1646).

(2)

من هنا سأنتقي نفائس الفوائد والمسائل من كتاب التوسل والوسيلة، إلى حين الإشارة إلى الانتهاء من انتقاء الفوائد منه.

ص: 139

بِهِ وَبِطَاعَتِهِ عَن أَحَدٍ مِن الْخَلْقِ فِي حَالٍ مِن الْأَحْوَالِ بَعْدَ قِيَامِ الْحجَّةِ عَلَيْهِ، وَلَا بِعُذْر مِن الْأَعْذَارِ.

وَلَا طَرِيقَ إلَى كَرَامَةِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ وَالنَّجَاةِ هِن هَوَانِهِ وَعَذَابِهِ إلَّا التَوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِطَاعَتِهِ.

وَهُوَ صلى الله عليه وسلم شَفِيعُ الْخَلَائِقِ، صَاحِبُ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ الَّذِي يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ والآخرون، فَهُوَ أَعْظَمُ الشُّفَعَاءِ قَدْرًا، وَأَعْلَاهُم جَاها عِنْدَ اللهِ.

لَكِنْ شَفَاعَتُهُ وَدُعَاؤُهُ إنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهِ مَن شَفَعَ لَهُ الرَّسُولُ وَدَعَا لَهُ، فَمَن دَعَا لَهُ الرَّسُولُ وَشَفَعَ لَهُ: تَوَسَّلَ إلَى اللهِ بِشَفَاعَتِهِ وَدُعَائِهِ، كَمَا كَانَ أَصْحَابُهُ يَتَوَسَّلونَ إلَى اللهِ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ، وَكَمَا يَتَوَسَّلُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى اللهِ تبارك وتعالى بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.

وَلَفْظُ التَّوَسُّلِ فِي عُرْفِ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَسْتَعْلِمُونَهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى.

وَالتَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ يَنْفَغ مَعَ الْإِيمَانِ بِهِ، وَأَمَّا بِدُونِ الْإِيمَانِ بِهِ فَالْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ لَا تُغْنِي عَنْهُم شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ فِي الْآخِرَةِ.

وَلهَذَا نهِيَ عَن الِاسْتِغْفَارِ لِعَمِّهِ وَأَبِيهِ وَغَيْرِهِمَا مِن الْكُفَّارِ، وَنهِيَ عَن الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُنَافِقِينَ.

وَلَكِنَّ الْكُفَارَ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْكُفْرِ، كَمَا يَتَفَاضَلُ أَهْلُ الْإِيمَانِ فِي الْإِيمَانِ، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37].

فَإِذَا كَانَ فِي الْكُفَّارِ مَن خَفَّ كُفْرُهُ بِسَبَبِ نُصْرَتِهِ وَمَعُونَتِهِ فَماِنَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتُهُ فِي تَخْفِيفِ الْعَذَابِ عَنْهُ، لَا فِي إسْقَاطِ الْعَذَابِ بِالْكلِّيَّةِ

(1)

.

وَثَبَتَ فِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ"

(2)

عَن أَبِي هُرَيْرَةَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "يَلْقَى إبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ، فَيَقُولُ لَهُ

(1)

كَمَا فِي شفاعته صلى الله عليه وسلم لعمِّه أبي طالب.

(2)

(3350).

ص: 140

إبْرَاهِيمُ: ألَمْ أقلْ لَك لَا تَعْصِنِي؟ فَيَقُولُ لَهُ أَبُوهُ: فَالْيَوْمَ لَا أَعْصِيك، فَيَقُولُ ابْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ أَنْتَ وَعَدْتنِي أَنْ لَا تُخْزِينِى

(1)

يَوْمَ يُبْعَثونَ، وَأَيُّ خِزْي أَخْزَى مِن أَبِي الْأَبْعَدِ؟ فَيَقُولُ اللهُ عز وجل: إنِّي حَرَّمْت الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ، ثمَّ يُقَالُ: اُنْظُرْ مَا تَحْت رِجْلَيْك؟ فَيَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ بِذِيخ

(2)

مُتَلَطِّخٍ، فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ"، فَهَذَا لَمَّا مَاتَ مُشْرِكًا لَمْ يَنْفَعْهُ اسْتِغْفَارُ إبْرَاهِيمَ مَعَ عِظَمِ جَاهِهِ وَقَدْرِهِ

(3)

. [1/ 143 - 146]

* * *

(إقرار المشركين بتوحيد الربوبية لا الألوهية)

192 -

الْمُشْرِكُونَ مِن قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِم، الَّذِينَ أخْبَرَ الْقُرْآنُ بِشِرْكِهِمْ، وَاسْتَحَلَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دِمَاءَهُم وَأَمْوَالَهُم وَسَبَى حَرِيمَهُم وَأَوْجَبَ لَهُم النَّارَ: كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ اللهَ وَحْدَهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَمَا قَالَ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)} [لقمان: 25].

وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ جَعَلُوا مَعَهُ آلِهَةً أخْرَى مُقِرِّينَ بِأَنَّ آلِهَتَهُم مَخْلُوقَة، وَلَكِنَّهُم كَانُوا يَتَّخِذُونَهُم شُفَعَاءَ، وَيَتَقَرَّبُونَ بِعِبَادَتِهِمْ إلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ

(1)

في الأصل: تُخْزِنِي!، والتصويب من صحيح البخاري، وقد ذكر الشيخ هذا الحديث في موضع آخر (27/ 262) وأثبت لفظة البخاري.

(2)

الذيخ: ذكر الضبع الكثير الشعر، أُري أباه على غير هيئته ومنظره ليسرع إلى التبرؤ منه.

(3)

وكيف يتعلق بعض الناس بتوسلهم بأصحاب القبور، ويدعونهم من دون الله، ولا يتعلقون بالله تعالى وحده، ويُخلصون له العبادة والدعاء، والمحبة والخوف والرجاء؟

فهذا إبراهيم عليه السلام إما الحنفاء، وأعظم الأولياء بعد نبينا عليهما الصلاة والسلام لم تنفع أباه شفاعتُه وطلبه، فلو قدّر -جدلًا- أن صاحب القبر سمع توسل الداعي -المشرك- وشفع له-، فلا يعني ذلك أن الله تعالى سيقبل شفاعته، إلا إذا رضي عن المشفوع، والله أخبر في كتابه أنه لا يرضى عمن أشرك به، ودعا غيره، وتوسل به.

ص: 141

قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)} [يونس: 18]. [1/ 54]

* * *

(من توسل بالأموات ودعاهم من دون الله كفر)

193 -

قَالَ الله تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 56، 57]، قَالَ طَائِفَة مِن السَّلَفِ: كَانَ أَقْوَامٌ يَدْعُونَ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ كَالْعُزَيْرِ وَالْمَسِيحِ، فَبَيَّنَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ عِبَادُ اللهِ، كَمَا أَنَّ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهُم عِبَادُ اللهِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُم يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويخَافُونَ عَذَابَهُ وَيَتَقَرَّبُونَ إلَيْهِ، كَمَا يَفْعَلُ سَائِرُ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ.

وَالْمُشْرِكُونَ مِن هَؤُلَاءِ قَد يَقُولُونَ: إنَّا نَسْتَشْفِعُ بِهِمْ أَيْ: نَطْلُبُ مِن الْمَلَائِكَةِ وَالْأنْبِيَاءِ أَنْ يَشْفَعُوا، فَإِذَا أتَيْنَا قَبْرَ أَحَدِهِمْ طَلَبْنَا مِنْهُ أَنْ يَشْفَعَ لَنَا، فَإِذَا صَوَّرْنَا تِمْثَالَهُ -وَالتَّمَاثِيلُ إمَّا مُجَسَّدَةٌ وَإِمَّا تَمَاثِيلُ مُصَوَّرَةٌ كَمَا يُصَوِّرُهَا النَّصَارَى فِي كَنَائِسِهِمْ- قَالُوا: فَمَقْصُودُنَا بِهَذِهِ التَّمَاثِيلِ تَذَكُّرُ أَصْحَابِهَا وَسِيَرِهِمْ، وَنَحْن نُخَاطِبُ هَذِهِ التَّمَاثِيلَ، وَمَقْصُودُنَا خِطَابُ أَصْحَابِهَا لِيَشْفَعُوا لَنَا إلَى اللهِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُم: يَا سَيِّدِي فُلَانٌ .. اشْفَعْ لِي إلَى رَبِّك.

وَقَد يُخَاطِبُونَ الْمَيِّتَ عِنْدَ قَبْرِهِ: سَلْ لِي رَبَّك.

أَو يُخَاطِبُونَ الْحَيَّ وَهُوَ غَائِبٌ كَمَا يُخَاطِبُونَهُ لَو كَانَ حَاضِرًا حَيًّا، وَيُنْشِدُونَ قَصَائِدَ، يَقولُ أَحَدُهُم فِيهَا: يَا سَيِّدِي فُلَانٌ أَنَا فِي حَسْبِك، أَنَا فِي جِوَارِك، اشْفَعْ لِي إلَى اللهِ، سَل اللهَ لَنَا أَنْ يَنْصُرَنَا عَلَى عَدُوِّنَا، سَل اللهَ أَنْ يَكْشِفَ عَنَّا هَذِهِ الشِّدَّةَ، أَشْكُو إلَيْك كَذَا وَكَذَا، فَسَل اللهَ أَنْ يَكْشِفَ هَذِهِ الْكُرْبَةَ، أَو يَقُولُ أَحَدُهُم: سَل اللهَ أَنْ يَغْفِرَ لِي.

ص: 142

فَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ مِن خِطَابِ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ عِنْدَ قُبُورِهِمْ وَفِي مَغِيبِهِم وَخِطَابِ تَمَاثِيلِهِمْ: هُوَ مِن أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ الْمَوْجُودِ فِي الْمُشْرِكِينَ مِن غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَفِي مُبْتَدِعَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ أَحْدَثُوا مِن الشرْكِ وَالْعِبَادَاتِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ تَعَالَى، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21].

[4/ 158 - 159]

* * *

(حكم من تقرب بِعِبَادَةٍ لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَلَا مُسْتحَبَّةً)

194 -

مَن تَعَبَّدَ بِعِبَادَةٍ لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةً، وَهُوَ يَعْتَقِدُهَا وَاجِبَةً أَو مُسْتَحَبَّة: فَهُوَ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ بِدْعَةً سَيِّئَةً لَا بِدْعَةً حَسَنَةً بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الدِّينِ؛ فَإِن اللهَ لَا يُعْبَدُ إلَّا بِمَا هُوَ وَاجِبٌ أَو مُسْتَحَبٌّ. [1/ 160]

195 -

كُلُّ بِدْعَةٍ لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةً: فَهِيَ بِدْعَة سَيِّئَةٌ، وَهِيَ ضلَالَة بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.

وَمَن قَالَ فِي بَعْضِ الْبِدَعِ إنَّهَا بِدْعَة حَسَنَةٌ: فَإِنَمَا ذَلِكَ إذَا قَامَ دَلِيل شَرْعِيٌّ أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ، فَأَمَّا مَا لَيْسَ بِمُسْتَحَبٍّ وَلَا وَاجِبٍ فَلَا يَقُولُ احَدٌ مِن الْمُسْلِمِينَ إنَّهَا مِن الْحَسَنَاتِ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إلَى اللهِ.

وَمَن تَقَرَّبَ إلَى اللهِ بِمَا لَيْسَ مِن الْحَسَنَاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا أَمْرَ إيجَابٍ وَلَا اسْتِحْبَابٍ: فَهُوَ ضَالٌّ مُتَّبعٌ لِلشَّيْطَانِ، وَسَبِيلُهُ مِن سَبِيلِ الشَيْطَانِ. [1/ 162]

* * *

(حكم اتخاذ القبور مساجد ومعني ذلك)

196 -

فِي "الصَّحِيحَيْنِ"

(1)

عَن عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ قَبْلَ مَوْتِهِ: "لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أنبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ"، يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا.

(1)

رواه البخاري (1330)، ومسلم (529).

ص: 143

قَالَتْ عَائِشَةُ: وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأبْرِزَ قَبْرُهُ، وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا.

وَاتِّخَاذُ الْمَكانِ مَسْجِدًا: هُوَ أَنْ يُتخَذَ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَغَيْرِهَا، كَمَا تُبْنَى الْمَسَاجِدُ لِذَلِكَ.

وَالْمَكَانُ الْمُتَّخَذُ مَسْجِدًا إنَّمَا يُقْصَدُ فِيهِ عِبَادَةُ اللهِ وَدُعَاؤُهُ لَا دُعَاءُ الْمَخْلُوقِينَ، فَحَرَّمَ صلى الله عليه وسلم أَنْ تتخَذَ قُبُورُهُم مَسَاجِدَ بِقَصْدِ الصَّلَوَاتِ فِيهَا كَمَا تُقْصَدُ الْمَسَاجِدُ، وإِن كَانَ الْقَاصِدُ لِذَلِكَ إنَّمَا يَقْصِدُ عِبَادَةَ اللهِ وَحْدَهُ؛ لِأنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَة إلى أَنْ يَقْصِدُوا الْمَسْجِدَ لِأجْلِ صَاحِبِ الْقَبْرِ وَدُعَائِهِ وَالدُّعَاءِ بِهِ وَالدُّعَاءِ عِنْدَهُ، فَنَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَن اتِّخَاذِ هَذَا الْمَكَانِ لِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَرِيعَةَ إلَى الشِّرْكِ باللهِ.

وَالْفِعْلُ إذَا كَانَ يُفْضِي إلَى مَفْسَدَةٍ وَلَيْسَ فِيهِ مَصْلَحَة رَاجِحَةٌ: يُنْهَى عَنْهُ؛ كَمَا نُهي عَن الصَّلَاةِ فِي الْأوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِن الْمَفْسَدَةِ الرَّاجِحَةِ، وَهُوَ التَّشَبُّهُ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِي يُفْضِي إلَى الشِّرْكِ، وَلَيْسَ فِي قَصْدِ الصَّلَاةِ في تِلْكَ الْأَوْقَاتِ مَصْلَحَة رَاجِحَةٌ لِإِمْكَانِ التَّطَوُّعِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِن الْأوْقَاتِ.

وَلهَذَا تَنَازَعَ الْعْلَمَاءُ فِي ذَوَاتِ الْأَسْبَابِ: فَسَوَّغَهَا كَثِيرٌ مِنْهُم فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، وَهُوَ أَظْهَرُ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ؛ لِأن النَّهْيَ إذَا كَانَ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ أبِيحَ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، وَفِعْلُ ذَوَاتِ الْأسْبَابِ يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، ويفُوتُ إذَا لَمْ يُفْعَلْ فِيهَا، فَتَفُوتُ مَصْلَحَتُهَا، فَأُبِيحَتْ لِمَا فِيهَا مِن الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، بِخِلَافِ مَا لَا سَبَبَ لَهُ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ فِعْلُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْوَقْتِ فَلَا تَفُوتُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ

[1/ 163 - 164]

مَصْلَحَة رَاجِحَةٌ، وَفيهِ مَفْسَدَةٌ تُوجِبُ النَّهْيَ عَنْه.

197 -

لَو قَصَدَ الصَّلَاةَ عِنْدَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مِن غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَ دُعَاءَهُم وَالدُّعَاءَ عِنْدَهُمْ؛ مِثْل أَنْ يَتَّخِذَ قُبُورَهُم مَسَاجِدَ: لَكَانَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَلَكَانَ صَاحِبُهُ مُتَعَرضٌ لِغَضَبِ اللهِ وَلَعْنَتِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"اشْتَدَّ

ص: 144

غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ اَتخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ"

(1)

[1/ 166]

* * *

(العلامات الدالة على أنَّ ما يَحْصُلُ عِنْدَ الْقُبُورِ لِبَعْضِ النَّاسِ مِن خِطَابٍ يَسْمَعُه، وَشَخْصٍ يَرَاهُ، وَتَصَرفٍ عَجِيبٍ: مِن الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ)

198 -

جَعْلُ الْقُبُورِ أَوْثَانًا هُوَ أَوَّلُ الشرْكِ؛ وَلهَذَا يَحْصُلُ عِنْدَ الْقُبُورِ لِبَعْضِ النَّاسِ مِن خِطَابٍ يَسْمَعُهُ، وَشَخْصٍ يَرَاهُ، وَتَصَرُّفٍ عَجِيبٍ: مَا يَظُنُ أنَّهُ مِن الْمَيِّتِ، وَقَد يَكُونُ مِن الْجِنِّ وَالشيَاطِينِ؛ مِثْل أَنْ يَرَى الْقَبْرَ قَد انْشَقَّ وَخَرَجَ مِنْهُ الْمَيِّتُ وَكَلَّمَهُ وَعَانَقَهُ.

وَالْجَاهِل يَظُنُّ أنَ ذَلِكَ الَّذِي رَآهُ قَد خَرَجَ مِن الْقَبْرِ وَعَانَقَة أو كَلَّمَهُ هُوَ الْمَقْبُورُ أَو النَّبِيُّ أَو الصَّالِحُ وَغَيْرُهُمَا.

وَالْمُؤْمِنُ الْعَظِيمُ يَعْلَمُ أَنَّهُ شَيْطَانٌ، ويتبَيَّنُ ذَلِكَ بِأُمُور:

أَحَدُهَا: أَنْ يَقْرا آيَةَ الْكُرْسِيِّ بِصِدْق، فَإِذَا قَرَأَهَا تَغَيَّبَ ذَلِكَ الشَّخْصُ او سَاخَ فِي الْأرْضِ أَو احْتَجَبَ، وَلَو كَانَ رَجُلًا صَالِحًا، أَو مَلَكًا أَو جِنِّيًّا مُؤمِنًا لَمْ تَضُرَّهُ آيّةُ الْكُرْسِئ، وإِنَّمَا تَضُرُّ الشَّيَاطِينَ كَمَا ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ"

(2)

مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَمَّا قَالَ لَهُ الْجِنِّيُّ: اقْرَأ آيَةَ الْكُرْسِيِّ إذَا أَوَيْت إلَى فِرَاشِك فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ عَلَيْك مِن اللهِ حَافِظ وَلَا يَقْرَبُك شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"صَدَقَك وَهُوَ كَذُوبٌ".

ومِنْهَا: أَنْ يَسْتَعِيذَ باللهِ مِن الشَيَاطِينِ.

ومِنْهَا: أَنْ يَسْتَعِيذَ بِالْعُوَذِ الشَّرْعِيَّةِ؛ فَإِنَ الشَّيَاطِينَ كَانَت تَعْرِضُ لِلْأَنْبِيَاءِ فِي حَيَاتِهِمْ وَتُرِيد أَنْ تُؤْذِيَهُم وَتُفْسِدَ عِبَادَتَهُمْ، كَمَا جَاءَتِ الْجِنُّ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِشُعْلَةٍ

(1)

رواه مالك (475).

(2)

البخاري (2311).

ص: 145

مِن النَّارِ تُرِيدُ أَنْ تُحْرِقَهُ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ بِالْعُوذَةِ الْمَعْرُوفَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ عَن أَبِي التَّيَّاحِ أنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَنْبَشٍ التَّمِيمِيِّ، وَكَانَ كَبِيرًا: أَدْرَكْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ صَنَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ كَادَتْهُ الشيَاطِينُ، فَقَالَ: إِنَ الشَّيَاطِينَ تَحَدَّرَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْأَوْدِيَةِ وَالشّعَابِ، وَفيهِمْ شَيْطَان بِيَدِهِ شُعْلَةُ نَارٍ، يُرِيدُ أَنْ يُحْرِقَ بِهَا وَجْهَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَهَبَطَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ قُلْ، قَالَ:"مَا أقُولُ؟ " قَالَ: قُلْ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ، وَمِن شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَمِن شَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا، وَمِن شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمِن شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ، طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمَنُ، قَالَ: فَطَفِئَتْ نَارُهُمْ، وَهَزَمَهُمُ اللهُ تبارك وتعالى

(1)

.

فَإِذَا كَانَت الشَّيَاطِينُ تَأْتِي الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِتُؤْذِيَهُم وَتُفْسِدَ عِبَادَتَهُم فَيَدْفَعُهُم اللهُ تَعَالَى بِمَا يُؤَيِّدُ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ مِن الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ وَالْعِبَادَةِ وَمِن الْجِهَادِ بِالْيَدِ: فَكَيْفَ مَن هُوَ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ؟

فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَمَعَ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنّ بِمَا أَيَّدَهُ اللهُ تَعَالَى مِن أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ، وَمِن أَعْظَمِهَا الصَّلَاةُ وَالْجِهَادُ، وَأَكْثَرُ أَحَادِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ، فَمَن كَانَ مُتَّبِعًا لِلْأَنْبِيَاءِ نَصَرَهُ اللهُ سُبْحَانَهُ بِمَا نَصَرَ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ

(2)

.

ومِنْهَا: أَنْ يَدْعُوَ الرَّائِي بِذَلِكَ رَبَّهُ تبارك وتعالى لِيُبَيّنَ لَهُ الْحَالَ.

ومِنْهَا: أَنْ يَقُولَ لِذَلِكَ الشَّخْصِ: أَأَنْت فُلَانٌ؟ وَيُقْسِمُ عَلَيْهِ بِالْأَقْسامِ الْمُعَظَّمَةِ، وَيَقْرَأُ عَلَيْهِ قَوَارعَ الْقُرْآنِ.

(1)

جزمُ الشيخ بالحديث واستشهاده به يدل على أنه يرى صحته، وقد صححه الألباني كما في صحيح الجامع الصغير 1/ 76.

(2)

فمن ابتْلي بسحر أو وسواس أو عين فليلجأ إلى الله تعالى أولًا، ثم يتبع منهج الأنبياء في التعامل مع مثل هذا؛ كالصلاة والذكر والرقى، ثم يفعل الأسباب الحسية والطبية التي لا تُنافي الشرع.

ص: 146

إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِن الْأَسْبَابِ الَّتِي تَضُر الشَّيَاطِينَ. [1/ 168 - 171]

* * *

(تلاعب الشياطين بمن يواليهم)

199 -

الشَّيَاطِينُ يُوَالُونَ مَن يَفْعَلُ مَا يُحِبُّونَهُ مِن الشّرْكِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، فَتَارَةً يُخْبِرُونَهُ بِبَعْضِ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ لِيُكَاشِفَ بِهَا، وَتَارَةً يُؤذُونَ مَن يُرِيدُ أَذَاهُ بِقَتْلٍ وَتَمْرِيضٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَتَارَةً يَجْلِبُونَ لَهُ مَن يُرِيدُهُ مِن الْإِنْسِ، وَتَارَة يَسْرِقُونَ لَهُ مَا يَسْرِقُونَهُ مِن أَمْوَالِ النَّاسِ مِن نَقْدٍ وَطَعَامٍ وَثيَابٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ مِن كَرَامَاتِ الْأَوْليَاءِ، وَإِنَمَا يَكونُ مَسْرُوقًا، وَتَارَةً يَحْمِلُونَهُ فِي الْهَوَاءِ فَيَذْهَبُونَ بِهِ إلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ .. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ.

فَإِنَّهُ ما مِن أَحدٍ يَعْتَادُ دُعَاءَ الْمَيِّتِ وَالِاسْتِغَاثَةَ بِهِ نَبِيًّا كَانَ أَو غَيْرَ نَبِيٍّ إلَّا وَقَد بَلَغَهُ مِن ذَلِكَ مَا كَانَ مِن أَسْبَابِ ضَلَالِهِ. [1/ 174]

* * *

(حكم سُؤَالِ الْخَلْقِ الْحَاجَاتِ الدُّنْيَوِيَّةَ)

200 -

أَصْلُ سُؤَالِ الْخَلْقِ الْحَاجَاتِ الدُّنْيَوِيَّةَ الَّتِي لَا يَجِبُ عَلَيْهِم فِعْلُهَا لَيْسَ وَاجِبًا عَلَى السَّائِلِ وَلَا مُسْتَحَبًّا؛ بَل الْمَأْمُورُ بِهِ سُؤَالُ اللهِ تَعَالَى وَالرَّغْبَةُ إلَيْهِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ.

وَسُؤَالُ الْخَلْقِ فِي الْأَصْلِ مُحَرَّمٌ، لَكِنَهُ أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ، وَتَرْكُهُ تَوَكُّلًا عَلَى اللهِ أَفْضَلُ، قَالَ تَعَالَى:{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)} [الشرح: 7، 8] أَي: ارْغَبْ إلَى اللهِ لَا إلَى غَيْرِهِ.

وَفي "الصَّحِيحَيْنِ"

(1)

عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "يَدْخُلُ مِن أُمَّتِي الْجَنَّةَ

(1)

البخاري (5705)، ومسلم (218).

ص: 147

سَبْعُونَ ألفا بِغَيْرِ حِسَاب"، وَقَالَ: "هُم الَّذِينَ لَا يسترقون وَلَا يَكتَوُونَ وَلَا يَتَطَيرُونَ وَعَلَى رَبِهِم يَتَوَكَلُونَ".

فَمَدَحَ هَؤُلَاءِ بِأَنَّهُم لَا يسترقون؛ أَيْ: لَا يَطْلُبُونَ مِن أَحَدٍ أنْ يَرْقِيَهُمْ. وَالرُّقْيَةُ مِن جِنْسِ الدُّعَاءِ، فَلَا يَطْلُبُونَ مِن أَحَدٍ ذَلِكَ.

وَقَد رُوِيَ فِيهِ "وَلَا يَرْقُونَ" وَهُوَ غَلَطٌ؛ فَإِنَّ رقياهم لِغَيْرِهِمْ وَلِأَنْفُسِهِمْ حَسَنَة، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَرْقِي نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ وَلَمْ يَكُن يَسْتَرْقِي؛ فَإِنَّ رُقْيَتَهُ نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ مِن جِنْسِ الدُّعَاءِ لِنَفْسِهِ وَلغَيْرِهِ، وَهَذَا مَأْمُورٌ بِهِ.

وَمَا يُرْوَى أَنَّ الْخَلِيلَ لَمَّا ألْقِيَ فِي الْمَنْجَنِيقِ قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: سَلْ، قَالَ:"حَسْبِي مِن سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي" لَيْسَ لَهُ إسْنَاد مَعْرُوفُ وَهُوَ بَاطِلٌ؛ بَل الَّذِي ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ"

(1)

عَن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّه قَالَ:"حَسْبِي اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ"، قَالَهَا إبْرَاهِيمُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ حِينَ:{قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173] .. وَقَد رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ: هَل لَك مِن حَاجَةٍ؟ قَالَ: "أَمَّا إلَيْك فَلَا"، وَقَد ذَكَرَ هَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ.

وَأَمَّا سؤَالُ الْمَخْلُوقِ الْمَخْلُوقَ أَنْ يَقْضِيَ حَاجَةَ نَفْسِهِ أَو يَدْعُوَ لَهُ: فَلَمْ يُؤمَرْ بِهِ.

بِخِلَافِ:

1 -

سُؤَالِ الْعِلْمِ؛ فَإِنَّ اللهَ أَمَرَ بِسُؤَالِ الْعِلْمِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].

وَهَذَا لِأَنَّ الْعِلْمَ:

أ - يَجِبُ بَذْلُهُ، فَمَن سُئِلَ عَن عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّه بِلِجَامٍ مِن نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

(1)

البخاري (4564).

ص: 148

ب- وَهُوَ يَزْكُو عَلَى التَّعْلِيمِ لَا يَنْقُصُ بِالتَّعْلِيمِ، كَمَا تَنْقُصُ الْأَمْوَالُ بِالْبَذْلِ؛ وَلهَذَا يُشَبَّهُ بِالْمِصْبَاحِ.

2 -

وَكَذَلِكَ مَن لَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ حَقٌّ مِن عَيْنٍ أَو دَيْنٍ كَالْأَمَانَاتِ مِثْل الْوَدِيعَةِ وَالْمُضَارَبَةِ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَسْألَهَا مِمَن هِيَ عِنْدَه.

3 -

وَكَذَلِكَ مَالُ الْفَيءِ وَغَيْرِهِ مِن الْأمْوَالِ الْمُشْتَرَكَةِ الَّتِي يَتَوَلَّى قِسْمَتَهَا وَلِيُّ الْأَمْرِ.

4 -

وَمِن هَذَا الْبَابِ سُؤَالُ النَّفَقَةِ لِمَن تَجِبُ عَلَيْهِ.

5 -

وَسُؤَالُ الْمُسَافِرِ الضِّيَافَةَ لِمَن تَجِبُ عَلَيْهِ، كَمَا اسْتَطْعَمَ مُوسَى وَالْخَضِرُ أَهْلَ الْقَرْيَةِ.

6 -

وَكَذَلِكَ الْغَرِيمُ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ دَيْنَهُ مِمَن هُوَ عَلَيْهِ.

7 -

وَكُل وَاحِدٍ مِن الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ الْآخَرَ أَدَاءَ حَقِّهِ إلَيْهِ، فَالْبَائِعُ يَسْأَلُ الثَّمَنَ وَالْمُشْتَرِي يَسْأَلُ الْمَبِيعَ.

8 -

وَمِن هَذَا الْبَابِ قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1].

وَقَد يَكُونُ السُّؤَالُ مَنْهِيًّا عَنْهُ نَهْيَ تَحْرِيم أَو تَنْزِيهٍ، وَإِن كَانَ الْمَسْؤُولُ مَأُمُورًا بِإِجَابَةِ سُؤَالِهِ؛ فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مِن كَمَالِهِ أنْ يُعْطِيَ السَّائِلَ وَهَذَا فِي حَقِّهِ مِن فَضَائِلِهِ وَمَنَاقِبِهِ وَهُوَ وَاجِبٌ أَو مُسْتَحَبٌّ، وَإِن كَانَ نَفْسُ سُؤَالِ السَّائِلِ مَنْهِيُّا عَنْهُ.

وَلهَذَا لَمْ يُعْرَفْ قَطّ أَنَّ الصِّدِّيقَ وَنَحْوَهُ مِن أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ سَألُوهُ شَيْئًا مِن ذَلِكَ، وَلَا سَألُوة أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ، وَإِن كَانُوا يَطْلُبُونَ مِنْة أنْ يَدْعُوَ لِلْمُسْلِمِينَ.

وَكَانَت عَائِشَةُ إذَا أَرْسَلَتْ إلَى قَوْمٍ بِصَدَقَةٍ تَقُولُ لِلرَّسُولِ: "اسْمَعْ مَا يَدْعُونَ بِهِ لنا حَتَّى نَدْعُوَ لَهُم بِمِثْل مَا دَعَوْا لنَا، ويبْقَى أَجْرُنَا عَلَى اللهِ".

ص: 149

وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إذَا قَالَ لَك السَّائِلُ: بَارَكَ اللهُ فِيك فَقُلْ: وَفِيك بَارَكَ اللهُ.

فَمَن عَمِلَ خَيْرًا مَعَ الْمَخْلُوقِينَ سَوَاءٌ كَانَ الْمَخْلُوقُ نَبِيًّا أَو رَجُلًا صَالِحًا أَو مَلِكا مِن الْمُلُوكِ أَو غَنِيًّا مِن الْأَغْنِيَاءِ: فَهَذَا الْعَامِلُ لِلْخَيْرِ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ خَالِصًا للهِ يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللهِ، لَا يَطْلُبُ بِهِ مِن الْمَخْلُوقِ جَزَاءً وَلَا دُعَاءً وَلَا غَيْرَهُ، لَا مِن نَبِيٍّ وَلَا رَجُلٍ صَالِحٍ وَلَا مِن الْمَلَائِكَةِ؛ فَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْعِبَادَ كُلَّهُم أَنْ يَعْبُدُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.

وَهَذَا هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ الْأَوَّلينَ والآخرين مِن الرُّسُلِ.

فَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ الْمُسْلِمُ مِن الْقُرَبِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ كَالْإِيمَانِ باللهِ وَرَسُولِهِ، وَالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، وَمَحَبَّةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْإِحْسَانِ إلَى عِبَادِ اللهِ بِالنَّفْعِ وَالْمَالِ: هُوَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَفْعَلَهُ خَالِصًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا يَطْلُبُ مِن مَخْلُوقٍ عَلَيْهِ جَزَاءً: لَا دُعَاءً وَلَا غَيْرَ دُعَاءٍ، فَهَذَا مِمَّا لَا يَسُوغُ أَنْ يَطْلُبَ عَلَيْهِ جَزَاءً لَا دُعَاءً وَلَا غَيْرَهُ.

وَحَيْثُ أَمَرَ الْأُمَّةَ بِالدُّعَاءِ لَهُ- أي: للنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَذَاكَ مِن بَابِ أَمْرِهِمْ بِمَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، كَمَا يَأْمُرُهُم بِسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ والمستحبات، وَإِن كَانَ هُوَ يَنْتَفِعُ بِدُعَائِهِمْ لَهُ، فَهُوَ أَيْضًا يَنْتَفِعُ بِمَا يَأْمُرُهُم بِهِ مِن الْعِبَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ فَإِنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ

(1)

أَنَّهُ قَالَ: "مَن دَعَا إلَى هُدًى كانَ لَهُ مِن الْأَجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَن اتبَعَهُ مِن غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِن أجُورِهِمْ شَيءٌ"، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم هُوَ الدَّاعِي إلَى مَا تَفْعَلُهُ أُمَّتُهُ مِن الْخَيْرَاتِ، فَمَا يَفْعَلُونَهُ لَهُ فِيهِ مِن الْأَجْرِ مِثْلُ اجُورِهِمْ مِن غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِن اجُورِهِمْ شَيْءٌ.

وَلهَذَا لَمْ تَجْرِ عادَةُ السَّلَفِ بِأَنْ يُهْدُوا إلَيْهِ ثَوَابَ الْأَعْمَالِ؛ لِأَنَّ لَهُ مِثْل ثَوَابِ أَعْمَالِهِمْ بِدُونِ الْإِهْدَاءِ مِن غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِن ثَوَابِهِم شيء.

(1)

مسلم (2674).

ص: 150

وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأَبَوَانِ؛ فَإنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا يَفْعَلُهُ الْوَلَدُ يَكُون لِلْوَالِدِ مِثْلُ أَجْرِهِ

(1)

، وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ الْوَالِدُ بِدُعَاءِ الْوَلَدِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَعُودُ نَفْعُهُ إلَى الْأَبِ، كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ

(2)

: "إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِن ثَلَاث: صَدَقَة جَارِية، وَعِلْم يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَد صَالِح يَدْعُو لَهُ".

فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَطْلُبُة مِن أُمَّتِهِ مِن الدُّعَاءِ -طَلَبُهُ طَلَبُ أَمْرٍ وَتَرْغِيب، لَيْسَ بِطَلَبِ سُؤَالٍ.

فَمِن ذَلِكَ: أَمْرُهُ لنَا بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ.

وَمِن ذَلِكَ أَمْرُهُ بِطَلَبِ الْوَسِيلَةِ وَالْفَضِيلَةِ وَالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ.

وَمِن هَذَا الْبَابِ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَاجَه أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اسْتَأذَنَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الْعُمْرَةِ فَأَذِنَ لَهُ ثُمَّ قَالَ: "لَا تَنْسَنَا يَا أَخِي مِن دُعَائِك"، فَطَلَبُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم من عُمَرَ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ كَطَلَبِهِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ ويُسَلِّمَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَسْأَلَ اللهَ لَهُ الْوَسِيلَةَ وَالدَّرَجَةَ الرَّفِيعَةَ، وَهُوَ كَطَلَبِهِ أَنْ يَعْمَلَ سَائِرَ الصَّالِحَاتِ، فَمَقْصُودُهُ نَفْعُ الْمَطْلُوب مِنْهُ وَالْإِحْسَانُ إلَيْهِ، وَهُوَ صلى الله عليه وسلم أَيْضًا يَنْتَفِعُ بِتَعْلِيمِهِم الْخَيْرَ وَأَمْرِهِمْ بِهِ، وَيَنْتَفِعُ أيْضًا بِالْخَيْرِ الَّذِي يَفْعَلُونَهُ مِن الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَمِن دُعَائِهِمْ لَهُ.

وَمَن قَالَ لِغَيْرِهِ مِن النَّاسِ: اُدْع لِي -أَو لَنَا- وَقَصَدَ أَنْ يَنْتَفِعَ ذَلِكَ الْمَأمُورُ بِالدُّعَاءِ وَيَنْتَفِعَ هُوَ أَيْضا بِأَمْرِهِ ويفْعَلَ ذَلِكَ الْمَأْمُورُ بِهِ كَمَا يَأْمُرُهُ بِسَائِرِ فِعْلِ الْخَيْرِ: فَهُوَ مُقْتَدٍ بِالنَبِيِّ صلى الله عليه وسلم، مُؤْتَمٌّ بِهِ، لَيْسَ هَذَا مِن السُّؤَالِ الْمَرْجُوحِ.

(1)

وهذا خلافًا لِما يعتقده كثير من الناس، حيث يظنون أنّ كُلَ مَا يَفْعَلُهُ الْوَلَدُ من عملٍ صالح يَكُونُ لِلْوَالِدِ مِثْلُ أجْرِهِ، إلا في حالة واحدة، وهي ما إذا كان صلاح الابن عائدًا -بعد الله تعالى- إلى تربية الأب وجهده ونصحه، والله أعلم.

(2)

مسلم (1376).

ص: 151

وَأَمَّا إنْ لَمْ يَكن مَقْصُودُهُ إلا طَلَبَ حَاجَتِهِ، لَمْ يَقْصِدْ نَفْعَ ذَلِكَ وَالْإِحْسَانَ إلَيْهِ: فَهَذَا لَيْسَ مِن الْمُقْتَدِينَ بِالرَّسُولِ، الْمُؤتَمِّينَ بِهِ فِي ذَلِكَ؛ بَل هَذَا هُوَ مِن السُّؤَالِ الْمَرْجُوحِ الَّذِي تَرْكُهُ إلَى الرَّغْبَةِ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ أَفْضَلُ مِن الرَّغْبَةِ إلَى الْمَخْلُوقِ وَسُؤَالِهِ.

[1/ 181 - 193]

* * *

(حكم ومفاسد سُؤَالِ الْمَخْلُوقِينَ)

201 -

إِنَّ سُؤَالَ الْمَخْلُوقِينَ فِيهِ ثَلَاثُ مَفَاسِدَ:

أ - مَفْسَدَةُ الِافْتِقَارِ إلَى غَيْرِ اللهِ وَهِيَ مِن نَوْعِ الشِّرْكِ.

ب- وَمَفْسَدَةُ إيذَاءِ الْمَسْؤُولِ وَهِيَ مِن نَوْعِ ظُلْمِ الْخَلْقِ.

ج- وَفِيهِ ذُلٌّ لِغَيْرِ اللهِ وَهُوَ ظُلْمٌ لِلنَّفْسِ.

فَهُوَ مُشْتَمِل عَلَى أنْوَاعِ الظُّلْمِ الثلَاثَةِ.

فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمُومِنِينَ بِعِبَادَتِهِ وَالْإِحْسَانِ إلَى عِبَادِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} [النساء: 36]، وَهَذَا أَمْرٌ بِمَعَالِي الْأخْلَاقِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ ويكْرَهُ سَفْسَافَهَا.

فَأَيْنَ الْإِحْسَانُ إلَى عِبَادِ اللهِ مِن إيذَائِهِمْ بِالسُّؤَالِ وَالشِّحَاذَةِ لَهُمْ؟

وَأَيْنَ التَّوْحِيدُ لِلْخَالِقِ بِالرَّغْبَةِ إلَيْهِ، وَالرَّجَاءِ لَهُ، وَالتَّوَكُلِ عَلَيْهِ، وَالْحُبِّ لَهُ، مِن الْإِشْرَاكِ بهِ بِالرَّغْبَةِ إلَى الْمَخْلُوقِ، وَالرَّجَاءِ لَهُ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُحَبَّ كَمَا يُحَبُّ الَلَّه؟

وَأَيْنَ صَلَاحُ الْعَبْدِ فِي عُبُودِيَّةِ اللهِ وَالذُّلِّ لَهُ، وَالِافْتِقَارِ إلَيْهِ، مِن فَسَاد فِي عُبُودِيَّةِ الْمَخْلُوقِ وَالذُّلِّ لَهُ وَالِافْتِقَارِ إلَيْهِ؟

[1/ 191 - 195]

* * *

ص: 152

(المراد بلَفْظِ التَّوَسُّلِ)

202 -

لَفْظُ التَّوَسُّلِ قَد يُرَادُ بِهِ ثَلَاثَةُ أمُورٍ:

يُرَادُ بِهِ أمْرَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ:

أَحَدُهُمَا هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ: وَهُوَ التَّوَسُّلُ بِالْاِيمَانِ بِهِ وَبِطَاعَتِهِ.

وَالثَّانِي: دُعَاؤُهُ وَشَفَاعَتُهُ، وَهَذَا أَيْضًا نَافِعٌ، يَتَوَسَّلُ بِهِ مَن دَعَا لَهُ وَشفَعَ فِيهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.

وَمَن أنْكَرَ التَّوَسُّلَ بِهِ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْمَعْنيَيْنِ فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ مُرْتَدًّا.

وَأَمَّا دُعَاؤُهُ وَشَفَاعَتُهُ وَانْتِفَاعُ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ: فَمَن أَنْكَرَهُ فَهُوَ أَيْضًا كَافِرٌ، لَكِنَ هَذَا أَخْفَى مِن الْأَوَّلِ، فَمَن أَنْكَرَهُ عَن جَهْل عُرِّفَ ذَلِكَ، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى إنْكَارِهِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ.

أَمَّا دُعَاؤُهُ وَشَفَاعَتُة فِي الدُّنْيَا: فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِن أَهْلِ الْقِبْلَةِ.

وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: فَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ -وَهُم الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُم بِإِحْسَان وَسَائِرِ أئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ- أَنَّ لَهُ شَفَاعَاتٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَاصَّةً وَعَامَّةَ، وَأَنَّهُ يشفعُ فِيمَن يَأْذَنُ اللّهُ لَهُ أَنْ يَشْفعَ فِيهِ مِن أُمَّتِهِ مِن أَهْلِ الْكبَائِرِ، وَلَا يَنْتَفِعُ بِشَفَاعَتِهِ إلَّا أَهْلُ التَّوْحِيدِ الْمُؤْمِنُونَ دُونَ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَلَو كَانَ الْمُشْرِكُ مُحِبًّا لَهُ مُعَظمًا لَهُ لَمْ تُنْقِذْهُ شفَاعَتُهُ مِن النَّارِ، وَإِنَّمَا يُنْجِيهِ مِن النَّارِ التَّوْحِيدُ وَالْإِيمَانُ بِهِ؛ وَلهَذَا لَمَّا كَانَ أَبُو طَالِبٍ وَغَيْرُهُ يُحِبُّونَهُ وَلَمْ يُقِرُّوا بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي جَاءَ بِهِ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَخْرُجُوا مِن النَّارِ بِشَفَاعَتِهِ وَلَا بِغَيْرِهَا. [1/ 153 - 154]

203 -

لَفْظُ الْوَسِيلَةِ مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35]؛ فَالْوَسِيلَةُ الَّتِي أَمَرَ اللّهُ أَنْ تُبْتَغَى إلَيْهِ وَأَخْبَرَ عَن مَلَائِكَتِهِ وَأَنْبِيَائِهِ أَنَّهُم يَبْتَغُونَهَا إلَيْهِ: هِيَ مَا يُتَقَرَّبُ إلَيْهِ مِن

ص: 153

الْوَاجِبَاتِ والمستحبات، فَهَذِهِ الْوَسِيلَةُ الَّتِي أَمَرَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِابْتِغَائِهَا تتنَاوَلُ كُل وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ، وَمَا لَيْسَ بِوَاجِب وَلَا مُسْتَحَبٍّ لَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ مُحَرَّمًا أَو مَكْرُوهًا أَو مُبَاحًا.

فَالْوَاجِبُ وَالْمُسْتَحَبُّ: هُوَ مَا شَرَعَهُ الرَّسُولُ فَأَمَرَ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَو اسْتِحْبَابٍ، وَأَصْلُ ذَلِكَ الْإِيمَان بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ.

فَجِمَاعُ الْوَسِيلَةِ الَّتِي أَمَرَ اللّهُ الْخَلْقَ بِابْتِغَائِهَا: هُوَ التَّوَسُّلُ إلَيْهِ بِاتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، لَا وَسِيلَةَ لِأَحَد إلَى اللهِ إلَّا ذَلِكَ.

[1/ 199 - 200]

* * *

(المرادُ بالتَّوَسُّلِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّوَجُّهِ بِهِ فِي كَلَامِ الصَّحَابَةِ)

204 -

أَمَّا التَّوَسُّلُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّوَجّهُ بِهِ فِي كَلَامِ الصَّحَابَةِ فَيُرِيدُونَ بِهِ التَّوَسُّلَ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ.

وَالتَّوَسُّلُ بِهِ فِي عُرْفِ كَثيرٍ مِن الْمُتَأْخِّرِينَ يُرَادُ بِهِ الْإِقْسَامُ بِهِ وَالسُّؤَالُ بِهِ.

وَحِينَئِذٍ فَلَفْظُ التَّوَسّلِ بِهِ يُرَادُ بِهِ مَعْنيانِ صَحِيحَانِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُرَادُ بِهِ مَعْنًى ثَالِث لَمْ تَرِدْ بِهِ سُنَّةٌ:

فَأَمَّا الْمَعْنيَانِ الْأَوَّلَانِ الصَّحِيحَانِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ:

فَأَحَدُهُمَا هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ: وَهُوَ التَّوَسل بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِطَاعَتِهِ.

وَالثَّاني: دُعَاؤُهُ وَشَفَاعَتُهُ.

فَهَذَانِ جَائِزَانِ بِاِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَمِن هَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ:"اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذَا أَجْدَبْنَا تَوَسَّلْنَا إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا"

(1)

؛ أَيْ: بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ.

وقَوْله تَعَالَى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35]؛ أَي: الْقُرْبَةَ إلَيْهِ بِطَاعَتِهِ.

(1)

رواه البخاري (1010).

ص: 154

فَهَذَا التَّوَسُّلُ الْأَوَّلُ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ، وَهَذَا لَا يُنْكرُهُ أَحَدٌ مِن الْمُسْلِمِينَ.

وَأَمَّا التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ -كَمَا قَالَ عُمَرُ- فَإِنَّهُ تَوَسَّلَ بِدُعَائِهِ لَا بِذَاتِهِ؛ وَلهَذَا عَدَلُوا عَن التَّوَسُّلِ بِهِ إلَى التَّوَسُّلِ بِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ، وَلَو كَانَ التَّوَسُّلُ هُوَ بذَاتِهِ لَكَانَ هَذَا أَوْلَى مِن التَّوَسُّلِ بِالْعَبَّاسِ، فَلَمَّا عَدَلُوا عَن التَّوَسُّلِ بِهِ إلَى التَّوَسُّلِ بِالْعَبَّاسِ: عُلِمَ أَنَّ مَا يُفْعَل فِي حَيَاتِهِ قَد تَعَذَّرَ بِمَوْتِهِ، بِخِلَافِ التَّوَسُّلِ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ بِهِ وَالطَّاعَة لَهُ فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ دَائِمًا.

وَالثَّالِثُ: التَّوَسُّلُ بِهِ بِمَعْنَى الْإِقْسَامِ عَلَى اللّهِ بِذَاتِهِ وَالسُّؤَالِ بِذَاتِهِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي لَمْ يَكُنْ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَهُ فِي الاِسْتِسْقَاءِ وَنَحْوِهِ، لَا فِي حَيَاتِهِ وَلَا بَعْدَ مَمَاتِهِ، لَا عِنْدَ قَبْرِهِ وَلَا غَيْرِ قَبْرِهِ، وَلَا يُعْرَفُ هَذَا فِي شَيْءٍ مِن الْأَدْعِيَةِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَهُمْ، وَإِنَّمَا يُنْقَلُ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ ضَعِيفَةٌ مَرْفُوعَةٍ وَمَوْقُوفَةٍ، أَو عَمَّن لَيْسَ قَوْلُهُ حُجَّةً.

وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَاُبهُ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ وَنَهَوْا عَنْهُ حَيْثُ قَالُوا: لَا يُسْأَلُ بِمَخْلُوقٍ وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ: أَسْأَلُك بِحَقِّ أَنْبِيَائِك.

وَقَد اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ مَن حَلَفَ بِالْمَخْلُوقَاتِ الْمُحْتَرَمَةِ، أَو بِمَا يَعْتَقِدُ هُوَ حُرْمَتَهُ؛ كَالْعَرْشِ، وَالْكُرْسِيِّ، وَالْكَعْبَةِ، وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ .. وَغَيْرِ ذَلِكَ: لَا يَنْعَقِدُ يَمِينُهُ وَلَا كَفَارَةَ فِي الْحَلِفِ بِذَلِكَ.

وَالْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ حَرَامٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَقَد حُكِيَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ.

وَقِيلَ: هِيَ مَكْرُوهَة كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ.

وَالْأَوَّلُ أَصَح، حَتَّى قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: لَأَنْ أَحْلِفَ باللهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إلَيَّ مِن أَنْ أحْلِفَ بِغَيْرِ اللّهِ صَادِقًا.

وَذَلِكَ لِأنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللهِ شِرْكٌ، وَالشِّرْكُ أَعْظَمُ مِن الْكذِبِ.

ص: 155

وَإِنَّمَا نَعْرِفُ النِّزَاعَ فِي الْحَلِفِ بِالْأَنْبِيَاءِ، فَعَن أحْمَدَ فِي الْحَلِفِ بِالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم رِوَايَتَانِ:

إحْدَاهُمَا: لَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهِ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَافِعِيِّ.

وَالثانِيَة: يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهِ.

وَقَصَرَ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ النِّزَاعَ فِي ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً، وَعَدَّى ابْنُ عَقِيلٍ هَذَا الْحُكْمَ إلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ.

وَإِيجَابُ الْكَفَّارَةِ بِالْحَلِفِ بِمَخْلُوقِ وَإِن كَانَ نَبِيًّا: قَوْلٌ ضَعِيفٌ فِي الْغَايَةِ مُخَالِفٌ لِلْأصُولِ وَالنُّصُوصِ. [1/ 201 - 204]

205 -

الَّذِي قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأصْحَابُهُ وَغَيْرُهُم مِن الْعُلَمَاءِ -مِن أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْأَلَ اللهُ تَعَالَى بِمَخْلُوق: لَا بِحَقِّ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ- يَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ:

أَحَدُهُمَا: الْإِقْسَامُ عَلَى اللهِ سبحانه وتعالى بِهِ، وَهَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، كَمَا يُنْهَى أنْ يُقْسَمَ عَلَى اللهِ بِالْكَعْبَةِ وَالْمَشَاعِرِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.

والثَّانِي: السُّؤَالُ بِهِ، فَهَذَا يُجَوِّزهُ طَائِفَةٌ مِن النَّاسِ، وَنُقِلَ فِي ذَلِكَ آثَارٌ عَن بَعْضِ السَّلَفِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي دُعَاءِ كَثِيرٍ مِن النَّاسِ، لَكِنْ مَا رُوِيَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ كُلُّهُ ضَعِيفٌ بَل مَوْضُوعٌ، وَلَيْسَ عَنْهُ حَدِيثٌ ثَابِتٌ قَد يُظَنُّ أَنَّ لَهُم فِيهِ حُجَّةً إلَّا حَدِيثَ الْأَعْمَى الَّذِي عَلَّمَهُ أَنْ يَقُولَ:"أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ"

(1)

، وَحَدِيثُ الْأعْمَى لَا حُجَّةَ لَهُم فِيهِ؛ فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ إنَّمَا تَوَسَّلَ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَشَفَاعَتِهِ، وَهُوَ طَلَبَ مِن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الدُّعَاءَ، وَقَد أَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَ:"اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ"؛ وَلهَذَا رَدَّ اللّهُ عَلَيْهِ بَصَرَة لَمَّا دَعَا لَهُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ مِن آيَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

(1)

رواه الترمذي (3578)، وأحمد (17240)، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب.

ص: 156

وَهَذَا التَّوَسُّلُ بِالْأنْبِيَاءِ بِمَعْنَى السُّؤَالِ بِهِم - وَهُوَ الَّذِي قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُم أَنَّهُ لَا يَجُوزُ - لَيْسَ فِي الْمَعْرُوفِ مِن مَذْهَبِ مَالِكٍ مَا يُنَاقِضُ.

فَمَن نَقَلَ عَن مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ جَوَّزَ التَّوَسُّلَ بِهِ بِمَعْنَى الْإِقْسَامِ بِهِ أَو السُّؤَالِ بِهِ: فَلَيْسَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ نَقْل عَن مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ.

[1/ 222 - 224]

* * *

(معنى السؤال بالله وحكمه)

206 -

قَوْلُهُ: "سَأَلْتُك باللّهِ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا": سُؤَالٌ وَلَيْسَ بِقَسَم، وَفِي الْحَدِيثِ:"مَن سَأَلَكُمْ باللهِ فَأَعْطُوهُ"

(1)

، وَلَا. كَفَّارَةَ عَلَى هَذَا إذَا لَمْ يُجَبْ سُؤَالُهُ.

وَإِذَا قَالَ السَّائِلُ لِغَيْرِهِ: "أسْأَلُ بِاللّهِ" فَإِنَّمَا سَأَلَهُ بِإِيمَانِهِ باللهِ؛ وَذَلِكَ سَبَبٌ لِإِعْطَاءِ مَن سَأَلَهُ بِهِ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ الْإِحْسَانَ إلَى الْخَلْقِ.

فَقَد تَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ "أَسْأَلُك بِكَذَا" نَوْعَانِ: فَإِنَّ الْبَاءَ قَد تَكُونُ لِلْقَسَمِ وَقَد تَكُونُ لِلسَّبَبِ.

فَقَد يَكُونُ قَسَمًا بِهِ عَلَى اللّهِ، وَقَد يَكُونُ سُؤَالًا بِسَبَبِهِ.

فَأمَّا الْأَوَّلُ: فَالْقَسَمُ بِالْمَخْلُوقَاتِ لَا يَجُوزُ عَلَى الْمَخْلُوقِ فَكيْفَ عَلَى الْخَالِقِ؟

وَأمَّا الثَّانِي: وَهُوَ السُّؤَالُ بِالْمُعَظَّمِ كَالسُّؤَالِ بِحَقِّ الْأَنْبِيَاءِ: فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ، وَقَد تَقَدَّمَ عَن أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ.

[1/ 206 - 211]

* * *

(حكم قول الدَّاعِي: يَا سَيِّدِي يَا سَيِّدِي)

207 -

كَرِهَ مَالِكٌ وَابْنُ أَبِي عِمْرَانَ مِن أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرهمَا أَنْ يَقُولَ الدَّاعِي: يَا سَيِّدِي يَا سَيِّدِي، وَقَالُوا: قُلْ كَمَا قَالَت الْأَنْبِيَاءُ: رَبِّ رَبِّ.

(1)

رواه أبو داود (5109)، والنسائي (2567)، وأحمد (5365).

ص: 157

وَاسْمُهُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ يَجْمَعُ أَصْلَ مَعَانِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ؛ وَلهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُهُ إذَا اجْتَهَدَ فِي الدُّعَاءِ

(1)

. [1/ 207]

* * *

‌(معني الحديث: "أَسْأَلُكَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْك وَبِحَقِّ مَمْشَايَ هَذَا

")

208 -

جَاءَ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ مَاجَه عَن عَطِيَّةَ العوفي عَن أَبِي سَعِيدٍ الخدري عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ عَلَّمَ الْخَارِجَ إلَى الصَّلَاةِ أَنْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ: وَأَسْأَلُكَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْك، وَبِحَقِّ مَمْشَايَ هَذَا، فَإِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشَرًا وَلَا بَطَرًا وَلَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً"

(2)

، فَإِنْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا فَحَقُّ السَّائِلِينَ عَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَهُمْ، وَحَقُّ الْعَابِدِينَ لَهُ أَنْ يُثِيبَهُمْ، وَهُوَ حَقٌّ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَهُمْ، كَمَا يُسْأَلُ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي جَعَلَهُ سَبَبًا لِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:{وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الشورى: 26].

فَنَقُولُ: قَوْلُ السَّائِلِ للهِ تَعَالَى: "أَسْأَلُكَ بِحَقِّ فُلَانٍ وَفُلَانٍ مِن الْمَلَائِكةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَغَيْرِهِمْ، أَو بِجَاهِ فُلَانٍ، أَو بِحُرْمَةِ فُلَانٍ" يَقْتَضِي أَنَّ هَؤُلَاءِ لَهُم عِنْدَ اللّهِ جَاهٌ وَهَذَا صَحِيحٌ.

فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَهُم عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةٌ وَجَاهٌ وَحُرْمَة، يَقْتَضِي أَنْ يَرْفَعَ اللّهُ

(1)

قال ابن القيم رحمه الله: وَمِن تَجْرِيبَاتِ السَّالِكِينَ الَّتِي جَرَّبُوهَا فَأَلْفَوْهَا صَحِيحَةً أنَّ مَنْ أدْمَنَ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَوْرَثَهُ ذَلِكَ حَيَاةَ الْقَلْبِ وَالْعَقْلِ.

وكَانَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ شَدِيدَ اللَّهْجِ بِهَا جِدًّا، وَقَالَ لِي يَوْمًا: لِهَذَيْنِ الاِسْمَيْنِ وَهُمَا الْحَيُّ الْقَيُّومُ تَأْثِيرٌ عَظِيمٌ فِي حَيَاةِ الْقَلْبِ، وَكَانَ يُشِيرُ إِلَى أنَّهُمَا الاِسْمُ الْأعْظَمُ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَن وَاظَبَ عَلَى أرْبَعِينَ مَرَّةً كُلَّ يَوْمٍ بَيْنَ سُنَّةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْفَجْرِ "يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أنْتَ، بِرَحْمَتِكَ أسْتَغِيثُ": حَصَلَتْ لَهُ حَيَاةُ الْقَلْب، وَلَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ. اهـ. مدارج السالكين (1/ 446).

(2)

قال الشيخ: لَا يَقُومُ بِإِسْنَادِهِ حُجَّةٌ (1/ 369).

ص: 158

دَرَجَاتِهِمْ، وَيُعْظِمَ أَقْدَارَهُمْ، وَيَقْبَلَ شَفَاعَتَهُم إذَا شفعُوا، مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255].

وَيَقْتَضِي أَيْضًا أَنَّ مَن اتَّبَعَهُم وَاقْتَدَى بِهِم فِيمَا سُنَّ لَهُ الاِقْتِدَاءُ بِهِم فِيهِ كَانَ سَعِيدًا، وَمَن أَطَاعَ أَمْرَهُم الَّذِي بَلَّغُوهُ عَن اللّهِ كَانَ سَعِيدًا.

وَلَكِنْ لَيْسَ نَفْسُ مُجَرَّدِ قَدْرِهِمْ وَجَاهِهِمْ مِمَّا يَقْتَضِي إجَابَةَ دعَائِهِ إذَا سَأَلَ اللّهَ بِهِمْ، حَتَّى يَسْأَلَ اللّهَ بِذَلِكَ؛ بَل جَاهُهُم يَنْفَعُهُ أَيْضًا إذَا اتَّبَعَهُم وَأَطَاعَهُم فِيمَا أمرُوا بِهِ عَن اللهِ، أَو تَأَسَّى بِهِم فِيمَا سَنُّوهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَنْفَعُهُ أَيْضًا إذَا دَعَوْا لَهُ وَشفعُوا فِيهِ.

فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُن مِنْهُم دُعَاءٌ وَلَا شَفَاعَة، وَلَا مِنْهُ سَبَبٌ يَقْتَضِي الْإِجَابَةَ: لَمْ يَكُن مُتَشَفِّعًا بِجَاهِهِمْ، وَلَمْ يَكُن سُؤَالُهُ بِجَاهِهِمْ نَافِعًا لَهُ عِنْدَ اللهِ.

نَعَمْ، لَو سَأَلَ اللهَ بِإِيمَانِهِ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَمَحَبَّتِهِ لَهُ وَطَاعَتِهِ لَهُ وَاتِّبَاعِهِ: لَكانَ قَد سَأَلَهُ بِسَبَبٍ عَظِيمٍ يَقْتَضِي إجَابَةَ الدُّعَاءِ؛ بَل هَذَا أَعْظَمُ الْأَسْبَابِ وَالْوَسَائِلِ.

وَمَن قَالَ: بَل لِلْمَخْلُوقِ عَلَى اللهِ حَقٌّ: فَهُوَ صَحِيحٌ إذَا أَرَادَ بِهِ الْحَقَّ الَّذِي أَخْبَرَ اللّهُ بِوُقُوعِهِ؛ فَإِنَّ اللّهَ صَادِقٌ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَهُوَ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِحِكْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ.

وَهَذَا الْمُسْتَحِقُّ لِهَذَا الْحَقِّ إذَا سَألَ اللهَ تَعَالَى بِهِ: يَسْأَلُ اللّهَ تَعَالَى إنْجَازَ وَعْدِهِ، أَو يَسْأَلُهُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي عَلَّقَ اللهُ بِهَا الْمُسَبِّبَاتِ كَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَهَذَا مُنَاسِبٌ.

وَأَمَّا غَيْرُ الْمُسْتَحِقِّ لِهَذَا الْحَقِّ إذَا سَأَلَهُ بِحَقِّ ذَلِكَ الشَّخْصِ: فَهُوَ كَمَا لَو سَأَلَهُ بِجَاهِ ذَلِكَ الشَّخْصِ، وَذَلِكَ سُؤَالٌ بِأَمْر أَجْنَبِيٍّ عَن هَذَا السَّائِلِ، لَمْ يَسْأَلْهُ بِسَبَب يُنَاسِبُ إجَابَةَ دُعَائِهِ. [1/ 209 - 218]

209 -

مَا بَيَّنَ اللّهُ وَرَسُولُهُ أَنَّهُ حَقٌّ لِلْعِبَادِ عَلَى اللّهِ فَهُوَ حَقٌّ، لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي السُّؤَالِ بِذَلِكَ، فَيُقَالُ: إنْ كَانَ الْحَقُّ الَّذِي سَأَلَ بِهِ سَبَبًا لِإِجَابَةِ السُّؤَالِ حَسُنَ السُّؤَالُ بِهِ؛ كَالْحَقِّ الَّذِي يَجِبُ لِعَابِدِيهِ وَسَائِلِيهِ.

ص: 159

وَأَمَّا إذَا قَالَ السَّائِلُ: بِحَقِّ فُلَانٍ وَفُلَانٍ فَأُولَئِكَ إذَا كَانَ لَهُم عِنْدَ اللّهِ حَقٌّ أَنْ لَا يُعَذبَهُم وَأَنْ يُكْرِمَهُم بِثَوَابِهِ وَيَرْفَعَ دَرَجَاتِهِمْ - كَمَا وَعَدَهُم بِذَلِكَ وَأَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ - فَلَيْسَ فِي اسْتِحْقَاقِ أُولَئِكَ مَا اسْتَحَقُّوهُ مِن كَرَامَةِ اللّهِ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِمَطْلُوبِ هَذَا السَّائِلِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ مَا اسْتَحَقَّهُ بِمَا يَسَّرَهُ اللّهُ لَهُ مِن الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، وَهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ مَا اسْتَحَقَّهُ ذَلِكَ، فَلَيْسَ فِي إكْرَامِ اللهِ لِذَلِكَ سَبَبٌ يَقْتَضِي إجَابَةَ هَذَا.

وَإِن قَالَ: السَّبَبُ هُوَ شَفَاعَتُهُ وَدُعَاؤُهُ، فَهَذَا حَقٌّ إذَا كَانَ قَد شَفَعَ لَهُ وَدَعَا لَهُ، وَإِن لَمْ يَشْفَعْ لَهُ وَلَمْ يَدْعُ لَهُ لَمْ يَكُن هُنَاكَ سَبَبٌ.

وَإِن قَالَ: السَّبَبُ هُوَ مَحَبَّتِي لَهُ وَإِيمَانِي بِهِ وَمُوَالَاتِي لَهُ، فَهَذَا سَبَبٌ شَرْعِيٌّ، وَهُوَ سُؤَالُ اللّهِ وَتَوَسُّل إلَيْهِ بِإِيمَانِ هَذَا السَّائِلِ وَمَحَبَّتِهِ للّهِ وَرَسُولِهِ، وَطَاعَتِهِ للهِ وَرَسُولِهِ.

لَكِنْ يَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ للّهِ وَالْمَحَبَّةِ مَعَ اللّهِ، فَمَن أَحَبَّ مَخْلُوقًا كَمَا يُحِبُّ الْخَالِقَ فَقَد جَعَلَهُ نِدًّا للهِ، وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ تَضُرهُ وَلَا تَنْفَعُهُ، وَأَمَّا مَن كَانَ اللّه تَعَالَى أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُ وَأَحَبَّ أَنْبيَاءَهُ وَعِبَادَهُ الصَّالِحِينَ لَهُ فَحُبُّهُ للّهِ تَعَالَى هُوَ أَنْفَع الْأشْيَاءِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ مِن أَعْظَمِ الْأُمُورِ.

فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ التَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَطَاعَتِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أ - تَارَةً يَتَوَسَّل بِذَلِكَ إلَى ثَوَابِهِ وَجَنَّتِهِ، وَهَذَا أَعْظَمُ الْوَسَائِلِ.

ب - وَتَارَةً يَتَوَسَّلُ بِذَلِكَ فِي الدُّعَاءِ كمَا ذَكَرْتُمْ نَظَائِرَهُ.

فَيُحْمَلُ قَوْلُ الْقَائِلِ: أَسْأَلُك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ: أَنِّي أَسْأَلُكَ بِإِيمَانِي بِهِ وَبِمَحَبَّتِهِ وَأَتَوَسَّلُ إلَيْك بِإِيمَانِي بِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَد ذَكَرْتُمْ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ بِلَا نِزَاعٍ.

قِيلَ: مَن أَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى فَهُوَ مُصِيبٌ فِي ذَلِكَ بِلَا نِزَاعٍ، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَلَامُ مَن تَوَسَّلَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَمَاتِهِ مِن السَّلَفِ، كَمَا نُقِلَ عَن

ص: 160

بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَعَن الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ كَانَ هَذَا حَسَنًا.

وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ فِي الْمَسْألَةِ نِزَاعٌ.

وَلَكِنْ كَثِير مِن الْعَوَامِّ يُطْلِقُونَ هَذَا اللَّفْظَ وَلَا يُرِيدُونَ هَذَا الْمَعْنَى.

فَإِنْ قِيلَ: فَقَد يَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ بِحَق الرَّحِمِ؟

قِيلَ: الرَّحِمُ تُوجِبُ عَلَى صَاحِبِهَا حَقًّا لِذِي الرَّحِمِ كَمَا قَالَ اللّهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1].

وَحَقُّ ذِي الرَّحِمِ بَاقٍ بَعْدَ مَوْتِهِ. [1/ 219 - 222]

* * *5

(تضعيف قصة أبي جعفر مع الإمام مالك في التوسل بالنبي)

210 -

ذَكَرَ -أي: الْقَاضِي عِيَاضٌ- حِكايَةً بِإِسْنَاد غَرِيبٍ مُنْقَطِعٍ رَوَاهَا عَن غَيْرِ وَاحِدٍ إجَازَةً قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْن عُمَرَ بْنِ دِلْهَات، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ فِهْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْن أَحْمَدَ بْنِ الْفَرَحِ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْمُنْتَابِ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إسْحَاقَ بْنِ أَبِي إسْرَائِيلَ، حَدَّثنَا ابْنُ حميد قَالَ: نَاظَرَ أَبُو جَعْفَرٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَالِكًا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَرْفَعْ صَوْتَك فِي هَذَا الْمَسْجِدِ فَإِنَّ اللهَ أَدَّبَ قَوْمًا فَقَالَ: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2].

وَإِنَّ حُرْمَتَهُ مَيِّتًا كَحُرْمَتِهِ حَيًّا.

فَاسْتَكَانَ لَهَا أَبُو جَعْفَرٍ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللّهِ أَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَأدْعُو؟ أَمْ أَسْتَقْبِلُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم؟

فَقَالَ: وَلمَ تَصْرِفُ وَجْهَك عَنْهُ وَهُوَ وَسِيلَتُك وَوَسِيلَةُ أَبِيك آدمَ عليه السلام إلَى اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ بَل اسْتَقْبِلْهُ وَاسْتَشْفِعْ بِهِ فَيُشَفِّعَك اللهُ، قَالَ اللّه تَعَالَى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64].

ص: 161

قُلْت: وَهَذِهِ الْحِكَايَةُ مُنْقَطِعَةٌ؛ فَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ حميد الرَّازِيَّ لَمْ يُدْرِكْ مَالِكًا، لَا سِيَّمَا فِي زَمَنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، فَإِنَّ أَبَا جَعْفَرٍ تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ لسَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ مَالِكٌ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ حميد الرَّازِي سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِن بَلَدِهِ حِينَ رَحَلَ فِي طَلَبِ الْعِلْم إلَّا وَهُوَ كَبِيرٌ مَعَ أَبِيهِ، وَهُوَ مَعَ هَذَا ضَعِيفٌ عِنْدَ أَكْثَرِ أهْلِ الْحَدِيثِ، كَذَّبَهُ أَبُو زُرْعَةَ.

وَهَذِهِ الْحِكَايَةُ لَمْ يَذْكرْهَا أَحَدٌ مِن أَصْحَابِ مَالِكٌ الْمَعْرُوفِينَ بِالْأَخْذِ عَنْهُ.

وَلَكِنَّهَا مُنَاقِضَةٌ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ الْمَعْرُوفِ مِن وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا قَوْلُهُ: "أَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَأَدْعُو أَمْ أَسْتَقْبِلُ رَسُولَ اللّهِ وَأَدْعُو؟ فَقَالَ: وَلمَ تَصْرِفُ وَجْهَك عَنْهُ وَهُوَ وَسِيلَتُك وَوَسِيلَةُ أَبِيك آدمَ"؛ فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ عَن مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِن الْأَئِمَّةِ وَسَائِر السَّلَفِ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّ الدَّاعِيَ إذَا سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَيَدْعُو فِي مَسْجِدِهِ، وَلَا يَسْتَقْبِلُ الْقَبْرَ وَيَدْعُو لِنَفْسِهِ؛ بَل إنَّمَا يَسْتَقْبِلُ الْقَبْرَ عِنْدَ السَّلَامِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالدُّعَاءِ لَهُ. [1/ 227 - 230]

* * *

(الردّ علي ما روي أن عُثْمَانَ بْنَ حَنِيفٍ أمر رجلًا أن يدعو بدعاء الأعمى)

211 -

عَن أَبِي أمامة سَهْلِ بْنِ العتبية أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَخْتَلِفُ إلَى عُثْمَانَ بْنِ عفان فِي حَاجَةٍ لَهُ، وَكَانَ عُثْمَانُ لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ وَلَا يَنْظُرُ فِي حَاجَتِهِ، فَلَقِيَ الرَّجُلُ عُثْمَانَ بْنَ حَنِيفٍ فَشَكَا إلَيْهِ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ بْنُ حَنِيفٍ: ائْتِ الْمِيضَأَةَ فَتَوَضَّأْ، ثُمَّ ائتِ الْمَسْجِدَ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا مُحَمَّدُ إنِّي أَتَوَجَّهُ بِك إلَى رَبِّي فَيَقْضِي لِي حَاجَتِي، ثُمَّ اُذْكُرْ حَاجَتَك، ثُمَّ رُحْ حَتَّى أَرُوحَ مَعَك، قَالَ: فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ فَصَنَعَ ذَلِكَ،

ص: 162

ثُمَّ أَتَى بَعْدُ عُثْمَانَ بْنَ عفان فَجَاءَ الْبَوَّابُ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَأَدْخَلَهُ عَلَى عُثْمَانَ فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى الطِّنْفِسَةِ وَقَالَ: اُنْظُرْ مَا كَانَت لَك مِن حَاجَةٍ، فَذَكَرَ حَاجَتَهُ فَقَضَاهَا لَهُ.

ثُمَّ إنَّ الرَّجُلَ خَرَجَ مِن عِنْدِهِ فَلَقِيَ عُثْمَانَ بْنَ حَنِيفٍ فَقَالَ لَهُ: جَزَاك اللّهُ خَيْرًا مَا كَانَ يَنْظُرُ فِي حَاجَتِي وَلَا يَلْتَفِتُ إلَيَّ حَتَّى كَلَّمْتَه فِيَّ، فَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ حَنِيفٍ: مَا كَلَّمْته وَلَكِنْ سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ - وَجَاءَهُ ضَرِيرٌ فَشَكَا إلَيْهِ ذَهَابَ بَصَرِة.

قُلْت: وَقَد رَوَاهُ النَّسَائِي فِي كِتَابِ (عَمَلُ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ) .. وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِن هَؤُلَاءِ -لَا التِّرْمِذِيُّ وَلَا النَّسَائِي وَلَا ابْنُ مَاجَه- مِن تِلْكَ الطَّرِيقِ الْغَرِيبَةِ الَّتِي فِيهَا الزِّيَادَةُ.

فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَو كَانَت ثَابِتَةً لَمْ يَكُن فِيهَا حُجَّةٌ، وَإِنَّمَا غَايَتُهَا أَنْ يَكُونَ عُثْمَانُ بْنُ حَنِيفٍ ظَنَّ أَنَّ الدُّعَاءَ يُدْعَى بِبَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالدُّعَاءِ الْمَشْرُوعِ؛ بَل بِبَعْضِهِ، وَظَنَّ أَنَّ هَذَا مَشْرُوعٌ بَعْدَ مَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم.

وَمِثْلُ هَذَا لَا تَثْبُتُ بِهِ شَرِيعَةٌ كَسَائِرِ مَا يُنْقَلُ عَن آحَادِ الصَّحَابَةِ فِي جِنْسِ الْعِبَادَاتِ أَو الْإِبَاحَاتِ او الْإِيجَابَاتِ أَو التَّحْرِيمَاتِ إذَا لَمْ يُوَافِقْهُ غَيْرُهُ مِن الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ، وَكَانَ مَا يَثْبُتُ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُخَالِفُهُ لَا يُوَافِقُهُ، لَمْ يَكُن فِعْلُهُ سُنَّةً يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ اتِّبُاعُهَا؛ بَل غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الاِجْتِهَادُ، وَمِمَّا تَنَازَعَتْ فِيهِ الْأُمَّةُ، فَيَجِبُ رَدُّهُ إلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ.

وَلهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ: مِثْل مَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُدْخِلُ الْمَاءَ فِي عَيْنَيْهِ فِي الْوُضُوءِ، وَيَأْخُذُ لِأذُنَيْهِ مَاءً جَدِيدًا.

وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَغْسِلُ يَدَيْهِ إلَى الْعَضُدَيْنِ فِي الْوُضوءِ وَيَقُولُ: مَن اسْتَطَاعَ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ عُنُقَهُ وَيَقُولُ هُوَ مَوْضِعُ الْغُلِّ، فَإِنَّ هَذَا وَإِن اسْتَحَبَّهُ طَائِفَة مِن الْعُلَمَاءِ اتِّبَاعًا لَهُمَا فَقَد خَالَفَهُم فِي ذَلِكَ آخَرُونَ وَقَالُوا: سَائِرُ الصَّحَابَةِ لَمْ يَكُونُوا يَتَوَضَّؤُونَ هَكَذَا.

ص: 163

وَالْوُضُوءُ الثَّابِتُ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم الَّذِي فِي "الصَّحِيحَيْنِ" وَغَيْرِهِمَا مِن غَيْرِ وَجْهٍ لَيْسَ فِيهِ أَخْذُ مَاءٍ جَدِيدٍ لِلْأُذُنَيْنِ، وَلَا غَسْلُ مَا زَادَ عَلَى الْمَرْفِقَيْنِ وَالْكَعْبَيْنِ، وَلَا مَسْحُ الْعُنُقِ، وَلَا قَالَ النَبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَن اسْتَطَاعَ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ"؛ بَل هَذَا مِن كَلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ تجاءَ مُدْرَجًا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ، وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّكُمْ تَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِن آثَارِ الْوُضُوءِ"

(1)

، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ حَتَّى يَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ وَالسَّاقِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:"مَن اسْتَطَاعَ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ"، وَظَنَّ مَن ظَنَّ أَنَّ غَسْلَ الْعَضُدِ مِن إطَالَةِ الْغرَّةِ، وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ؛ فَإِنَّ الْغُرَّةَ فِي الْوَجْهِ لَا فِي الْيَدِ وَالرِّجْلِ، وَإِنَّمَا فِي الْيَدِ وَالرِّجْلِ الْحَجْلَةُ، وَالْغُرَّةُ لَا يُمْكِنُ إطَالَتُهَا؛ فَاِنَّ الْوَجْهَ يُغْسَلُ كُلُّهُ، لَا يُغْسَل الرَّأسُ، وَلَا غرَّةَ فِي الرَّأسِ، وَالْحَجْلَةُ لَا يُسْتَحَبُّ إطَالَتُهَا، وَإِطَالَتُهَا مُثْلَةٌ.

وَكَذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ كَانَ يَتَحَرَّى أَنْ يَسِيرَ مَوَاضِعَ سَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيَنْزِلَ مَوَاضِعَ مَنْزِلِهِ، وَيَتَوَضَّأُ فِي السَّفَرِ حَيْثُ رَآهُ يَتَوَضَّأُ، وَيَصُبَّ فَضْلَ مَائِهِ عَلَى شَجَرَةٍ صَبَّ عَلَيْهَا، وَنَحْو ذَلِكَ مِمَّا اسْتَحَبَّهُ طَائِفَةٌ مِن الْعُلَمَاءِ وَرَأَوْهُ مُسْتَحَبًّا، وَلَمْ يَسْتَحِبَّ ذَلِكَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ؛ كَمَا لَمْ يَسْتَحِبَّهُ وَلَمْ يَفْعَلْهُ أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَغَيْرِهِمْ، لَمْ يَفْعَلُوا مِثْل مَا فَعَلَ ابْنُ عُمَرَ.

وَلَو رَأَوْهُ مُسْتَحَبًّا لَفَعَلُوهُ، كَمَا كَانُوا يَتَحَرُّوْنَ مُتَابَعَتَهُ وَالِاقْتِدَاءَ بِهِ.

وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُتَابَعَةَ أَنْ يَفْعَلَ مِثْل مَا فَعَلَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَ؛ فَإِذَا فَعَلَ فِعْلًا عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ شُرِعَ لَنَا أنْ نَفْعَلَهُ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ؛ وَإِذَا قَصَدَ تخصِيصَ مَكَانٍ أَو زَمَانٍ بِالْعِبَادَةِ خَصَّصْنَاهُ بِذَلِكَ.

وَأَمَّا مَا فَعَلَهُ بِحُكْمِ الاِتِّفَاقِ وَلَمْ يَقْصِدْهُ؛ مِثْل أَنْ يَنْزِلَ بِمَكان وَيُصَلِّيَ فِيهِ لِكَوْنِهِ نَزَلَهُ لَا قَصْدًا لِتَخْصِيصِهِ بِهِ بِالصَّلَاةِ وَالنُّزُولِ فِيهِ، فَإِذا قَصَدنَا تَخْصِيصَ

(1)

رواه البخاري (136)، ومسلم (246).

ص: 164

ذَلِكَ الْمَكَانِ بِالصَّلَاةِ فِيهِ أَو النُّزُولِ لَمْ نَكُنْ مُتَّبِعِينَ؛ بَل هَذَا مِن الْبِدَعِ الَّتِي كَانَ يَنْهَى عَنْهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ؛ كَمَا ثَبَتَ بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيحِ مِن حَدِيثِ شُعْبَةَ عَن سُلَيْمَانَ التَّيمي عَن الْمَعْرُور بْنِ سويد قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي سَفَرٍ، فَصَلَّى الْغَدَاةَ ثُمَّ أَتَى عَلَى مَكَانٍ فَجَعَلَ النَّاسُ يَأْتُونَهُ فَيَقُولُونَ: صَلَّى فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عُمْرُ: "إنَّمَا هَلَكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُم اتَّبَعُوا آثَارَ أَنْبِيَائِهِمْ فَاتَّخَذُوهَا كَنَائِسَ وَبِيَعًا، فَمَن عَرَضَتْ لَهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ وَإِلَّا فَلْيَمْضِ".

فَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْصِدْ تَخْصِيصَهُ بِالصَّلَاةِ فِيهِ بَل صَلَّى فِيهِ لِأنَّهُ مَوْضِعُ نُزُولِهِ: رَأَى عُمَرُ أَنَّ مُشَارَكَتَهُ فِي صُورَةِ الْفِعْلِ مِن غَيْرِ مُوَافَقَةٍ لَهُ فِي قَصْدِهِ لَيْسَ مُتَابَعَةً؛ بَل تَخْصِيصُ ذَلِكَ الْمَكَانِ بِالصَّلَاةِ مِن بِدَعِ أَهْلِ الْكِتَاب الَّتِي هَلَكُوا بِهَا، وَنَهَى الْمُسْلِمِينَ عَن التَّشَبُّهِ بِهِم فِي ذَلِكَ، فَفَاعِلُ ذَلِكَ مُتَشَبِّهٌ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصُّورَةِ، وَمُتَشَبِّهٌ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي الْقَصْدِ الَّذِي هُوَ عَمَلُ الْقَلْبِ.

وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ؛ فَإِنَّ الْمُتَابَعَةَ فِي السُّنَّةِ أَبْلَغُ مِن الْمُتَابَعَةِ فِي صُورَةِ الْعَمَلِ، وَلهَذَا لَمَّا اشْتَبَهَ عَلَى كَثِيرٍ مِن الْعُلَمَاءِ جَلْسَةُ الاِسْتِرَاحَةِ: هَل فَعَلَهَا اسْتِحْبَابًا أَو لِحَاجَةٍ عَارِضَةٍ؛ تَنَازَعُوا فِيهَا.

وَكَذَلِكَ نُزُولُهُ بِالْمُحَصَّبِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مَن مِنَى لَمَّا اشْتَبَهَ: هَل فَعَلَهُ لِأَنَّهُ كَانَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ أَو لِكَوْنِهِ سُنَّةً؟ تَنَازَعُوا فِي ذَلِكَ.

وَمِن هَذَا وَضْعُ ابْنِ عُمَرَ يَدَهُ عَلَى مَقْعَدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَتَعْرِيفُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالْبَصْرَةِ، وَعَمْرِو بْنِ زاذان بِالْكُوفَةِ؛ فإِنَّ هَذَا لَمَّا لَمْ يَكُن مِمَّا يَفْعَلُهُ سَائِرُ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَكُن النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَرَعَهُ لِأُمَّتِهِ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُقَالَ هَذَا سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ؛ بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا مِمَّا سَاغَ فِيهِ اجْتِهَادُ الصَّحَابَةِ، أَو مِمَّا لَا يُنْكَرُ عَلَى فَاعِلِهِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الاِجْتِهَادُ، لَا لِأَنَّهُ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ سَنَّهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأُمَّتِهِ، أَو يُقَالُ فِي التَّعْرِيفِ: إنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ أَحْيَانًا لِعَارِض إذَا لَمْ يُجْعَلْ سُنَّةً رَاتِبَةً.

ص: 165

وَهَكَذَا يَقُولُ أَئِمَّةُ الْعِلْمِ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ: تَارَةَ يَكْرَهُونَهُ، وَتَارَةً يُسَوِّغُونَ فِيهِ الاِجْتِهَادَ، وَتَارَةً يُرَخِّصُونَ فِيهِ إذَا لَمْ يُتَّخَذْ سُنَّةً.

وَلَا يَقُولُ عَالِمٌ بِالسُّنَّةِ: إنَّ هَذِهِ سُنَّةٌ مَشْرُوعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا

يُقَالُ فِيمَا شَرَعَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ إذ لَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَسُنَّ وَلَا أَنْ يَشْرَعَ.

وَمَا سَنَّة خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ فَإِنَّمَا سَنُّوهُ بأمْرِهِ، فَهُوَ مِن سُنَنِهِ، وَلَا يَكُونُ فِي الدِّينِ وَاجِبًا إِلَّا مَا أَوْجَبَهُ، وَلَا حَرَامًا إلَّا مَا حَرَّمَهُ، وَلَا مُسْتَحَبًّا إلَّا مَا اسْتَّحَبَّهُ، وَلَا مَكْرُوهًا إِلَّا مَا كَرِهَهُ، وَلَا مُبَاحًا إلَّا مَا أَبَاحَهُ. [1/ 268 - 282]

* * *

(حكم النذر لغير الله، وحكم الحلف بالمخلوقات)

212 -

اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْذِرَ لِغَيْرِ اللهِ، لَا لِنَبِيٍّ وَلَا لِغَيْرِ نبِيٍّ، وَأَنَّ هَذَا النَّذْرَ شِرْكٌ لَا يُوَفِّي بِهِ.

وَكَذَلِكَ الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ لَا تَنْعَقِدُ بِهِ الْيَمِينُ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ، حَتَّى لَو حَلَفَ بِالِنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ؛ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. [1/ 268]

213 -

لَو حَلَفَ حَالِفٌ بِحَقِّ الْمَخْلُوقِينَ لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ. [1/ 304]

* * *

‌(معنى قوله تعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ

(59)} [التوبة: 59])

214 -

قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)} ، فَبَيَّنَ سبحانه وتعالى أَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي لِهَؤُلَاءِ أَنْ يَرْضَوْا بِمَا آتَاهُم اللهُ وَرَسُولُهُ، وَيَقُولُوا: حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤتِينَا اللهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إلَى اللهِ رَاغِبُونَ.

ص: 166

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} [التوبة: 59] وَلَمْ يَقُلْ: "وَرَسُولُهُ"؛ فَإِنَّ الحسب هُوَ الْكَافِي، وَاللهُ وَحْدَهُ كَافٍ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)} [الأنفال: 64]؛ اُّيْ: هُوَ وَحْدَهُ حَسْبُك وَحَسْبُ مَن اتَّبَعَك مِن الْمُؤْمِنِينَ، هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الصَّوَابُ الَّذِي قَالَهُ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلفِ.

وَالْمُرَادُ أَنَّ اللهَ كَافٍ لِلرَّسُولِ وَلمَن اتَّبَعَهُ، فَكُلُّ مَن اتَّبَعَ الرَّسُولَ فَاللَّهُ كَافِيهِ وَهَادِيهِ وَنَاصِرُهُ وَرَازِقُهُ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} فَذَكَرَ الْإِيتَاءَ للهِ وَرَسُولِهِ، لَكِنْ وَسَّطَهُ بِذِكْرِ الْفَضْلِ؛ فَإِنَّ الْفَضْلَ للهِ وَحْدَهُ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} فَجَعَلَ الرَّكْبَةَ إلَى اللهِ وَحْدَهُ دُونَ الرَّسُولِ وَغَيْرِهِ مِن الْمَخْلُوقَاتِ. [1/ 292 - 293]

(النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَشْفَعُ لِلْخَلْقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)

215 -

أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَشْفَعُ لِلْخَلْقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَعْدَ أَنْ يَسْألَهُ النَّاسُ ذَلِكَ، وَبَعْدَ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ.

ثُمَّ إنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ وَاسْتَفَاضَتْ بِهِ السُّنَنُ مِن أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يَشْفَعُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِن أُمَّتِهِ وَيَشْفَعُ أَيْضًا لِعُمُومِ الْخَلْقِ.

وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانوا يَسْتَشْفِعُونَ بِهِ وَيَتَوَسَّلُونَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ بِحَضْرَتِهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ"

(1)

عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ إذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ:

(1)

(1010).

ص: 167

"اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذَا أَجْدَبْنَا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا" فَيُسْقَوْنَ.

وَالتَّوَسُّلُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي ذَكَرَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَد جَاءَ مُفَسَّرًا فِي سَائِرِ أَحَادِيثِ الاِسْتِسْقَاءِ، وَهُوَ مِن جِنْسِ الاِسْتِشْفَاعِ بِهِ، وَهُوَ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ الدُّعَاءَ وَالشَّفَاعَةَ، وَيَطْلُبَ مِن اللّهِ أَنْ يَقْبَلَ دُعَاءَهُ وَشَفَاعَتَهُ، وَنَحْنُ نُقَدِّمُهُ بَيْنَ أَيْدِينَا شَافِعًا وَسَائِلًا لنَا بِأَبِي وَأُمِّي صلى الله عليه وسلم. [1/ 313 - 314]

* * *

‌(الكلام في حديث: "إذَا سَأَلْتُمْ اللّهَ فَاسْأَلُوهُ بِجَاهِي

.. ")

216 -

رَوَى بَعْضُ الْجُهَّالِ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إذَا سَأَلْتُمْ اللهَ فَاسْأَلُوهُ بِجَاهِي؛ فَإِنَّ جَاهِي عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ"، وَهَذَا الْحَدِيثُ كَذِبٌ لَيْسَ فِي شَيءٍ مِن كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا أَهْلُ الْحَدِيثِ، وَلَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ. [1/ 319]

* * *

(نهي النَّبِي عن اتخاذ القبور مساجد)

217 -

اسْتَفَاضَت الْأَحَادِيثُ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَن اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ، وَلَعَنَ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَنَهَى عَن اتِّخَاذِ قَبْرِهِ عِيدًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَوَّلَ مَا حَدَثَ الشِّرْكُ فِي بَنِي آدَمَ كَانَ فِي قَوْمِ نُوحٍ. [1/ 321]

* * *

‌(حكم الحلف بغير الله كالنبي صلى الله عليه وسلم

-)

218 -

اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ، فَلَو حَلَفَ بِالْكَعْبَةِ أَو بِالْمَلَائِكَةِ، أَو بِالْأَنْبِيَاءِ، أَو بِأَحَد مِن الشُّيُوخِ، أَو بِالْمُلُوكِ: لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ، وَلَا يُشْرَعُ لَهُ ذَلِكَ؛ بَل يُنْهَى عَنْهُ إمَّا نَهْيُ تَحْرِيمٍ وَإِمَّا نَهْيُ تَنْزِيهٍ.

ص: 168

فَإِنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ نَهْيُ تَحْرِيم، فَفِي الصَّحِيحِ

(1)

عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَن كانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ باللّهِ أَوَ لِيَصْمُتْ"، وَفِي الترْمِذِيِّ

(2)

عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَن حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَد أَشْرَكَ".

وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِن الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ تَنْعَقِدُ الْيَمِين بِأَحَدٍ مِن الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا فِي نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ عَن أَحْمَدَ رِوَايَتَيْنِ فِي أَنَّهُ تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهِ، وَقَد طَرَدَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ - كَابْنِ عَقِيل - الْخِلَافَ فِي سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ.

وَأَصْلُ الْقَوْلِ بِانْعِقَادِ الْيَمِينِ بِالنَّبِيِّ ضَعِيفٌ شَاذٌّ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدُ مِن الْعُلَمَاءِ فِيمَا نَعْلَمُ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهِ كَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمَدَ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح. [1/ 335 - 336]

* * *

(معنى قوله تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ})

219 -

قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1]، فَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالنَّصْبِ: إنَّمَا يَسْأَلُونَ باللهِ وَحْدَهُ لَا بِالرَّحِمِ، وَتَسَاؤُلُهُم باللهِ تَعَالَى يَتَضَمَّنُ إقْسَامَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ باللهِ، وَتَعَاهُدَهُم باللهِ.

وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْخَفْضِ فَقَد قَالَ طَائِفَةٌ مِن السَّلَفِ: هُوَ قَوْلُهُم أَسْأَلُك باللهِ وَبِالرَّحِمِ، وَهَذَا إخْبَارٌ عَن سُؤَالِهِمْ.

وَقَد يُقَالُ: إنَّهُ لَيْسَ بِدَلِيل عَلَى جَوَازِهِ، فَإِنْ كَانَ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِهِ فَمَعْنَى قَوْلِهِ: أَسْأَلُك بِالرَّحِمِ لَيْسَ إقْسَامًا بِالرَّحِمِ -وَالْقَسَمُ هُنَا لَا يَسُوغُ- لَكِنْ بِسَبَبِ الرَّحِمِ؛ أَيْ: لِأَنَّ الرَّحِمَ تُوجِبُ لِأَصْحَابِهَا بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ حُقُوقًا؛ كَسُؤَالِ الثَّلَاثَةِ للهِ تَعَالَى بِأَعْمَالِهِم الصَّالِحَةِ، وَكَسُؤَالِنَا بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَشَفَاعَتِهِ. [1/ 339]

* * *

(1)

البخاري (2679).

(2)

(1535).

ص: 169

(حكم قول: أسألك بكذا)

220 -

مَن قَالَ لِغَيْرِهِ: أَسْأَلُكَ بِكَذَا: فَإِمَّا انْ يَكُونَ مُقْسِمًا فَهَذَا لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى، وَالْكَفَّارَةُ فِي هَذَا عَلَى الْمُقْسِمِ لَا عَلَى الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ اُّئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ.

وَإِن لَمْ يَكُن مُقْسِمًا فَهُوَ مِن بَابِ السُّؤَالِ، فَهَذَا لَا كَفَّارَةَ فِيهِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. [1/ 345]

* * *

(حكم دعاء غير اللّه من الأحياء والأموات)

221 -

ذَكَرَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ وَأَئِمَّةُ الدِّينِ الْأدْعِيَةَ الشَّرْعِيَّةَ، وَأَعْرَضُوا عَن الْأَدْعِيَةِ الْبِدْعِيَّةِ؛ فَيَنْبَغِي اتِّبَاعُ ذَلِكَ.

وَالْمَرَاتِبُ فِي هَذَا الْبَابِ ثَلَاثٌ:

إحْدَاهَا: أَنْ يَدْعُوَ غَيْرَ اللهِ وَهُوَ مَيِّتٌ أَو غَائِبٌ، سَوَاءٌ كَانَ مِن الْأنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَو غَيْرِهِمْ، فَيَقُولُ: يَا سَيِّدِي فُلَانٌ أَغِثْنِي، أَو أَنَا أَسْتَجِيرُ بِك، أَو أَسْتَغِيثُ بِك، أَو اُنْصُرْني عَلَى عَدُوِّي، وَنَحْوُ ذَلِكَ: فَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ باللهِ.

وَالْمُسْتَغِيثُ بِالْمَخْلُوقَاتِ قَد يَقْضِي الشَّيْطَانُ حَاجَتَهُ أَو بَعْضَهَا، وَقَد يَتَمَثَّلُ لَهُ فِي صُورَةِ الَّذِي اسْتَغَاثَ بِهِ، فَيَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ كَرَامَة لِمَن اسْتَغَاثَ بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَان دَخَلَهُ وَأَغْوَاهُ لَمَّا أَشْرَكَ باللهِ، كَمَا يَتَكَلَّمُ الشَّيْطَانُ فِي الْأَصْنَامِ وَفِي الْمَصْرُوعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمِثْلُ هَذَا وَاقِعٌ كَثِيرًا فِي زَمَانِنَا وَغَيْرِهِ، وَأَعْرِفُ مِن ذَلِكَ مَا يَطُولُ وَصْفُهُ فِي قَوْمِ اسْتَغَاثُوا بِي أَو بِغَيْرِي وَذَكَرُوا أَنَّهُ أَتَى شَخْصٌ عَلَى صُورَتِي أَو صُورَةِ غَيْرِي، وَقَضَى حَوَائِجَهُمْ، فَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ مِن بَرَكَةِ الاِسْتِغَاثَةِ بِي أَو بِغَيْرِي، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ أَضَلَّهُم وَأَغْوَاهُمْ، وَهَذَا هُوَ أَصْلُ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَإتِّخَاذِ الشُّرَكَاءِ مَعَ اللهِ تَعَالَى فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِن الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ.

فَهَذَا أَشْرَكَ باللهِ نَعُوذُ باللهِ مِن ذَلِكَ.

ص: 170

الثَّانِيَةُ: أَنْ يُقَالَ لِلْمَيِّتِ أو الْغَائِبِ مِن الْأَنْبيَاءِ وَالصَّالِحِينَ: اُدْعُ اللهَ لِي، أَو اُدْعُ لَنَا رَبَّك، أَو اسْأَل اللهَ لَنَا، كَمَا تَقُولُ النَّصَارَى لِمَرْيَمَ وَغَيْرِهَا، فَهَذَا أَيْضًا لَا يَسْتَرِيبُ عَالِمٌ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَأَنَّهُ مِن الْبِدَعِ الَّتِي لَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِن سَلَفِ الْأُمَّةِ.

فَعُلِمَ أَّنهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْأَلَ الْمَيِّتُ شَيْئًا، لَا يُطْلَبُ مِنْهُ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ لَهُ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشْكَى إلَيْهِ شَيْءٌ مِن مَصَائِبِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَلَو جَازَ أَنْ يُشْكَى إلَيْهِ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ لَا يُفْضِي إلَى الشِّرْكِ، وَهَذَا يُفْضِي إلَى الشِّرْكِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَيَاتِهِ مُكَلَّفٌ اُّنْ يُجِيبَ سُؤَالَ مَن سَأَلَهُ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِن الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ لَيْسَ مُكَلَّفًا.

وَلَا يَلْزَمُ مِن جَوَازِ الشَّيءِ فِي حَيَاتِهِ جَوَازُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ فَإِنَّ بَيْتَهُ كل كَانَت الصَّلَاةُ فِيهِ مَشْرُوعَةَ، وَكَانَ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ مَسْجِدًا، وَلَمَّا دُفِنَ فِيهِ حَرُمَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا؛ كَمَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ"

(1)

عَنْهُ بأَنَّهُ قَالَ: "لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أنبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ"، يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا.

الثَّالِثَةُ: اُّنْ يُقَالَ: أَسْأَلُك بِفُلَان، أَو بِجَاهِ فُلَانٍ عِنْدَك وَنَحْوِ ذَلِكَ، الَّذِي تَقَدَّمَ عَن أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ.

وَتَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَشْهُورٍ عَن الصَّحَابَةِ؛ بَل عَدَلُوا عَنْهُ إلَى التَّوَسُّلِ بِدُعَاءِ الْعَبَّاسِ وَغَيْرِهِ.

وَقَد تبَيَّنَ مَا فِي لَفْظِ "التَوَسُّلِ" مِن الاِشْتِرَاكِ بَيْنَ مَا كَانَت الصَّحَابَةُ تَفْعَلُهُ، وَبَيْنَ مَا لَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَهُ؛ فَإِنَّ لَفْظَ التَّوَسُّلِ وَالتَّوَجهِ فِي عُرْفِ الصَّحَابَةِ وَلُغَتِهِمْ: هُوَ التَّوَسُّلُ وَالتَّوَجُّهُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ، وَلهَذَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَسَّلَ وَيَتَوَجَّهَ بِدُعَاءِ كُل مُؤْمِنٍ.

[1/ 350 - 356]، [1/ 18 - 20]

(1)

البخاري (436)، ومسلم (529).

ص: 171

222 -

هَؤُلَاءِ الْمُسْتَغِيثُونَ بِالْغَائِبِينَ وَالْمَيِّتِينَ عِنْدَ قُبُورِهِمْ وَغَيْرِ قُبُورِهِمْ لَمَّا كَانُوا مِن جِنْسِ عُبَّادِ الْأَوْثَانِ: صَارَ الشَّيْطَانُ يُضِلُّهُم وَيُغْوِيهِمْ كَمَا يَضِلُّ عُبَّادَ الْأَوْثَانِ وَيُغْوِيهِمْ، فَتَتَصَوَّرُ الشَّيَاطِينُ فِي صُورَةِ ذَلِكَ الْمُسْتَغَاثِ بِهِ، وَتُخَاطِبُهُم بِأَشْيَاءَ عَلَى سَبِيلِ الْمُكَاشَفَةِ، كَمَا تُخَاطِبُ الشَّيَاطِينُ الْكُهَّانَ، وَبَعْضُ ذَلِكَ صِدْقٌ، لَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَذِبٌ؛ بَل الْكَذِبُ أَغْلَبُ عَلَيْهِ مِن الصِّدْقِ.

وَقَد قَالَ الْخَلِيلُ عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 35، 36].

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَجَرَ لَا يُضِل كَثِيرًا مِن النَّاسِ إلَّا بِسَبَب اقْتَضَى ضَلَالَهُمْ، وَلَمْ يَكُن أَحَدٌ مِن عُبَّادِ الْأَصْنَام يَعْتَقِدُ أَنَّهَا خَلَقَت السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ؛ بَل إنَّمَا كَانُوا يَتَّخِذُونَهَا شُفَعَاءَ وَوَسَائِطَ لِأَسْبَاب:

أ - مِنْهُم مَن صَوَّرَهَا عَلَى صُوَرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ.

ب - وَمِنْهُم: مَن جَعَلَهَا تَمَاثِيلَ وَطَلَاسِمَ لِلْكَوَاكِبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ.

ج - وَمِنْهُمْ مَن جَعَلَهَا لِأَجْلِ الْجِن.

د - وَمِنْهُم: مَن جَعَلَهَا لِأَجْلِ الْمَلَائِكَةِ.

فَالْمَعْبُودُ لَهُم فِي قَصْدِهِمْ إنَّمَا هُوَ الْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ، أَو الشَّمْسُ أَو الْقَمَرُ.

وَهُم فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يَعْبُدُونَ الشَّيَاطِينَ، فَهِيَ الَّتِي تَقْصِدُ مِن الْإِنْسِ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَتُظْهِرُ لَهُم مَا يَدْعُوهُم إلَى ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)} [سبأ: 40، 41]

(1)

. [1/ 359 - 361]

* * *

(1)

الشيخ رحمه الله لا يرى أن عبادة المشركين للجن عن طريق القصد والمباشرة، ونحن نرى في الواقع من يعبد الجن صراحة ومباشرة، ويُسمون أنفسهم: عبدة الشياطين.

ص: 172

‌({إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ

(5)})

223 -

مَن فَهِمَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5] عَرَفَ أَنَّهُ لَا يُعِينُ عَلَى الْعِبَادَةِ الْإِعَانَةَ الْمُطْلَقَةَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ يُسْتَعَانُ بِالْمَخْلُوقِ فِيمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الاِسْتِغَاثَةُ لَا تَكُونُ إلَّا باللّهِ، وَالتَّوَكُّلُ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَيْهِ، {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126]، فَالنَّصْرُ الْمُطْلَقُ -وَهُوَ خَلْقُ مَا يَغْلِبُ بِهِ الْعَدُوَّ- لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللهُ. [1/ 357]

* * *

‌(دِينُ السْلَامِ مَبْنِيٌّ عَلَي أَصْلَيْنِ

.. )

224 -

دِينُ الْإِسْلَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ:

أ - عَلَى أَنْ يُعْبَدَ اللهُ وَحْدَهُ لَا يُشْرَك بِهِ شَيءٌ.

ب - وَعَلَى أنْ يُعْبَدَ بِمَا شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَهَذَانِ هُمَا حَقِيقَةُ قَوْلِنَا: "أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ".

فَالْإِلَهُ: هُوَ الَّذِي تَأْلَهُهُ الْقُلُوبُ عِبَادَةً وَاسْتِعَانَةً وَمَحَبَّةً وَتَعْظِيمًا وَخَوْفًا وَرَجَاءً وَإِجْلَالً وَإِكْرَامًا.

وَاللَّهُ عز وجل لَهُ حَقٌّ لَا يَشْرَكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، فَلَا يُعْبَدُ إلَّا اللهُ، وَلَا يُدْعَى إلَّا اللّهُ، وَلَا يُخَافُ إلَّا اللهُ، وَلَا يُطَاعُ إلَّا اللّهُ.

وَالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْمُبَلِّغُ عَن اللّهِ تَعَالَى أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَتَحْلِيلَهُ وَتَحْرِيمَهُ، فَالْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ، وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ.

وَالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَاسِطَةٌ بَيْنَ اللّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فِي تَبْلِيغِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَتَحْلِيلِهِ وَتَحْرِيمِهِ، وَسَائِرِ مَا بَلَّغَهُ مِن كَلَامِهِ. [1/ 365]

* * *

ص: 173

(اللّه سبحانه وتعالى قريب من عباده)

225 -

كَانَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِم إذَا سَألُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَن الْأَحْكَامِ أمِرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِإِجَابَتِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]، {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219].

فَلَمَّا سَأَلُوهُ عَنْهُ سبحانه وتعالى قَالَ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، فَلَمْ يَقُلْ سُبْحَانَهُ:"فَقُلْ"؛ بَل قَالَ تَعَالَى: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} ، فَهُوَ قَرِيبٌ مِن عِبَادِهِ

(1)

. [1/ 366]

* * *

(حوار الشيخ مع مجموعة من الرُّهبان)

226 -

لَمَّا كَانَ الشَّيْخُ فِي قَاعَةِ التَّرْسِيمِ

(2)

دَخَلَ إلَى عِنْدِهِ ثَلَاثَة رُهْبَانٍ مِن الصَّعِيدِ، فَنَاظَرَهُم وَأَقَامَ عَلَيْهِم الْحُجَّةَ بِأَنَّهُم كُفَّارٌ، وَمَا هُم عَلَى الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ إبْرَاهِيمُ وَالْمَسِيحُ.

فَقَالُوا لَهُ: نَحْنُ نَعْمَلُ مِثْل مَا تَعْمَلُونَ، أَنْتُمْ تَقُولُونَ بِالسَّيدَةِ نَفِيسَةَ

(3)

وَنَحْنُ نَقُولُ بِالسَّيدَةِ مَرْيَمَ، وَقَد أَجْمَعْنَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ عَلَى أَنَّ الْمَسِيحَ وَمَرْيَمَ أَفْضَلُ مِن الْحُسَيْنِ وَمِن نَفِيسَةَ.

وَأَنْتُمْ تَسْتَغِيثُونَ بِالصَّالِحِينَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ وَنَحْنُ كَذَلِكَ.

فَقَالَ لَهُمْ: وَأَيُّ مَن فَعَلَ ذَلِكَ

(4)

فَفِيهِ شَبَهٌ مِنْكُمْ، وَهَذَا مَا هُوَ دِينُ

(1)

إلى هنا انتهى ما انتقيتُه من فوائد ومسائل من كتاب التوسل والوسيلة.

(2)

الترسيم نوع من الحبس، حيث سجن فيه بمصر سنة 707 هـ.

وتأمل كيف لم يفتر الشيخ عن الدعوة والنصح حتى وهو مسجون!.

(3)

هي: نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وهي من الصالحات العابدات، كانت في المدينة ثم تحولت إلى مصر، وتوفيت بها سنة (208 هـ).

انظر: سير أعلام النبلاء (10/ 106)، البداية والنهاية (10/ 262).

(4)

وهو: الاستغاثة بالصالحين، وعبادتهم والتوسل إليهم.

ص: 174

إبْرَاهِيمَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ الدِّينَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ إبْرَاهِيمُ عليه السلام أَنْ لَا نَعْبُدَ إلَّا اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا نِدَّ لَهُ وَلَا صَاحِبَةَ لَهُ، وَلَا وَلَدَ لَهُ، وَلَا نُشْرِكَ مَعَهُ مَلَكًا، وَلَا شَمْسًا، وَلَا قَمَرًا، وَلَا كَوْكَبًا، وَلَا نُشْرِكَ مَعَهُ نَبِيًّا مِن الْأَنْبِيَاءِ وَلَا صَالِحًا {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} [مريم: 93].

وَأَنَّ الْأُمُورَ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُ اللّهِ لَا تُطْلَبُ مِن غَيْرِهِ.

وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نُؤْمِنُ بِهِم وَنُعَظمُهُم وَنُوَقّرُهُمْ وَنَتَّبِعُهُمْ، وَنُصَدِّقُهُم فِي جَمِيعِ مَا جَاؤُوا بِهِ وَنُطِيعُهُمْ، كَمَا قَالَ نُوحٌ وَصَالِحٌ وَهُودٌ وَشُعَيْبًا:{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح: 3]، فَجَعَلُوا الْعِبَادَةَ وَالتَّقْوَى للّهِ وَحْدَهُ، وَالطَّاعَةَ لَهُمْ؛ فَإِنَّ طَاعَتَهُم مِن طَاعَةِ اللّهِ.

فَلَو كَفَرَ أَحَدٌ بِنَبِيٍّ مِن الْأَنْبِيَاءِ وَآمَنَ بِالْجَمِيعِ مَا يَنْفَعُهُ إيمَانُهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِذَلِكَ النَّبِيِّ، وَكَذَلِكَ لَو آمَنَ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ وَكَفَرَ بِكِتَاب كَانَ كَافِرًا حَتَّى يُؤْمِنَ بِذَلِكَ الْكِتَابِ، وَكَذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ وَالْيَوْمُ الْآخِرُ.

فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْهُ قَالُوا: الدِّينُ الَّذِي ذَكَرْته خَيْرٌ مِن الدِّينِ الَّذِي نَحْنُ وَهَؤُلَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا مِن عِنْدِهِ.

[1/ 370 - 371]

* * *

(حكم الانْحِنَاءِ وتَقْبِيلِ الْأَرْضِ ونَحْو ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ السّجودُ مِمَّا يفْعَلُ قُدَّامَ بَعْضِ الشُّيُوخِ وَبَعْضِ الْمُلُوكِ)

227 -

أَمَّا تَقْبِيلُ الْأَرْضِ وَرَفْعُ الرَّأسِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ السُّجُودُ مِمَّا يُفْعَلُ قُدَّامَ بَعْضِ الشُّيُوخِ وَبَعْضِ الْمُلُوكِ: فَلَا يَجُوزُ؛ بَل لَا يَجُوزُ الاِنْحِنَاءُ كَالرُّكُوعِ أَيْضًا، كَمَا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلُ مِنَّا يَلْقَى أَخَاهُ أَيَنْحَنِي لَهُ؟ قَالَ: لَا

(1)

.

(1)

رواه الإمام أحمد (13044)، والترمذي (2728)، وحسنه، وضعفه محققو المسند.

ص: 175

وَأَمَّا فِعْلُ ذَلِكَ تَدَيُّنا وَتَقَرُّبًا: فَهَذَا مِن أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ، وَمَن اعْتَقَدَ مِثْل هَذَا قُرْبَةً وَتَدَيُّنًا فَفوَ ضَالٌّ مُفْتَرٍ؛ بَل يُبَيَّنُ لَهُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِدِين وَلَا قُرْبَةٍ، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ اُسْتُييبَ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ.

وَأَمَّا إذَا أُكرِهَ الرَّجُلُ عَلَى ذَلِكَ بِحَيْثُ لَو لَمْ يَفْعَلْهُ لَأَفْضَى إلَى ضَرْبِهِ، أَو حَبْسِهِ، او أَخْذِ مَالِهِ، أَو قَطْعِ رِزْقِهِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ مِن بَيْتِ الْمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِن الضَّرَرِ: فَإِنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ؛ فَاِنَّ الْإِكْرَاهَ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ يُبِيحُ الْفِعْلَ الْمُحَرَّمَ كشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَن أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكْرَهَهُ بِقَلْبِهِ، وَيَحْرِصَ عَلَى الاِمْتِنَاعِ مِنْهُ بِحَسَبِ الْإمْكَانِ، وَمَن عَلِمَ اللهُ مِنْهُ الصِّدْقَ أَعَانَهُ اللّهُ تَعَالَى، وَقَد يُعَافَى بِبَرَكَةِ صِدْقِهِ مِن الْأَمْرِ بِذَلِكَ.

وَأمَّا فِعْلُ ذَلِكَ لِأجْلِ فُضولِ الرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ فَلَا، وَإِذَا أُكْرِهَ عَلَى مَثَلِ ذَلِكَ وَنَوَى بِقَلْبِهِ أنَّ هَذَا الْخُضُوعَ للّهِ تَعَالَى: كَانَ حَسَنًا؛ مِثْل أنْ يَكْرَهَ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَيَنْوِيَ مَعْنًى جَائِزًا. [1/ 372 - 373]

* * *

(حكم النُّهُوضِ وَالْقِيَامِ عِنْدَ قُدُومِ شَخْصٍ معَيَّنٍ)

228 -

لَمْ تَكُنْ عَادَةُ السَّلَفِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ أَنْ يَعْتَادُوا الْقِيَامَ كُلَّمَا يَرَوْنَهُ صلى الله عليه وسلم كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِن النَّاسِ؛ بَل قَد قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكِ: "لَمْ يَكُن شَخْصٌ أَحَبُّ إلَيْهِم مِن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانُوا إذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا لَهُ؛ لِمَا يَعْلَمُونَ مِن كَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ"

(1)

، وَلَكِنْ رُبَّمَا قَامُوا لِلْقَادِمِ مِن مَغِيبِهِ تَلَقِّيًا لَهُ كَمَا رُوِيَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَامَ لِعِكْرِمَةَ، وَقَالَ لِلْأَنْصَارِ لَمَّا قَدِمَ سَعْدُ بْن مُعَاذٍ:"قُومُوا إلَى سَيِّدِكُمْ"

(2)

.

(1)

رواه الترمذي وصححه (2754)، والإمام أحمد (12345)، والبخاري في الأدب المفرد (946).

(2)

رواه البخاري (3043)، ومسلم (1768).

ص: 176

وَيَنْبَغِي لِلْمُطَاعِ أَنْ لَا يُقِرّ ذَلِكَ مَعَ أَصْحَابِهِ بِحَيْثُ إذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا لَهُ إلَّا فِي اللِّقَاءِ الْمُعْتَادِ.

وَأَمَّا الْقِيَامُ لِمَن يَقْدَمُ مِن سَفَرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ تَلَقِّيًا لَهُ فَحَسَن.

وَإِذَا كَانَ مِن عَادَةِ النَّاسِ إكْرَامُ الْجَائِي بِالْقِيَامِ، وَلَو تُرِكَ لَا عْتَقَد أَنَّ ذَلِكَ لِتَرْكِ حَقِّهِ، أَو قَصْدِ خَفْضِهِ، وَلَمْ يَعْلَم الْعَادَةَ الْمُوَافِقَةَ لِلسُّنَةِ: فَالْأَصْلَحُ انْ يُقَامَ لَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَصْلَحُ لِذَاتِ الْبَيْنِ، وَإِزَالَةِ التَّبَاغُضِ وَالشَّحْنَاءِ.

وَلَيْسَ هَذَا الْقِيَامُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "مَن سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِن النَّارِ"

(1)

؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَنْ يَقُومُوا لَهُ وَهُوَ قَاعِد، لَيْسَ هُوَ أَنْ يَقُومُوا لِمَجِيئِهِ إذَا جَاءَ، وَلهَذَا فَرَّقُوا بَيْنَ أَنْ يُقَالَ: قُمْت إلَيْهِ وَقُمْت لَهُ، وَالْقَائِمُ لِلْقَادِمِ سَاوَاهُ فِي الْقِيَامِ بِخِلَافِ الْقَائِمِ لِلْقَاعِدِ. [1/ 374 - 375]

229 -

أَمَّا الاِنْحِنَاءُ عِنْدَ التَّحِيَّةِ: فَيُنْهَى عَنْهُ .. وَكَذَلِكَ مَا هُوَ رُكُوعٌ نَاقِصٌ يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ عَنْهُ. [1/ 377]

* * *

‌(تَغييرُ الْأَسْمَاءِ الشركية إلَى الْأَسْمَاءِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَالْأَسْمَاءِ الكفرية إلَى الْأَسْمَاءِ الْإِيمَانِيَّةِ

.)

230 -

كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُعَبِّدُونَ أَنْفُسَهُم وَأَوْلَادَهُم لِغَيْرِ اللهِ، فَيُسَمُّونَ بَعْضَهُم عَبْدَ الْكَعْبَةِ كَمَا كَانَ اسْمُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَبَعْضَهُم عَبْدَ شَمْسٍ كَمَا كَانَ اسْمُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَاسْمُ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَبَعْضَهُم عَبْدَ اللَّاتِ، وَبَعْضَهُم عَبْدَ الْعُزَّى، وَبَعْضَهُم عَبْدَ مَنَاةَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُضِيفُونَ فِيهِ التَّعْبِيدَ إلَى غَيْرِ اللّهِ.

وَشَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ الدِّينُ الْخَالِصُ للّهِ وَحْدَهُ: تَعْبِيدُ الْخَلْقِ لِرَبِّهِمْ،

(1)

رواه الترمذي (2755).

ص: 177

كَمَا سَنَّهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَغييرُ الْأَسْمَاءِ الشركية إلَى الْأَسْمَاءِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَالْأسْمَاءِ الكفرية إلَى الْأَسْمَاءِ الْإِيمَانِيَّةِ.

وَعَامَّة مَا سَمَّى بهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللّهِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]؛ فَإِنَّ هَذَيْنِ الاِسْمَيْنِ هُمَا أَصْلُ بَقِيَّةِ أَسْمَاءِ اللّهِ تَعَالَى. [1/ 378 - 379]

* * *

ص: 178

‌كتاب توحيد الربوبية

231 -

لَمَّا كَانَ الْإِقْرَارُ بِالصَّانِعِ فِطْرِيُّا -كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ"

(1)

.. وَكَانَ الْمَقْصُودُ بِالدَّعْوَةِ: وُصُولَ الْعِبَادِ إلَى مَا خُلِقُوا لَهُ مِن عِبَادَةِ رَبِهِم وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالْعِبَادَةُ أَصْلُهَا عِبَادَةُ الْقَلْبِ، الْمُسْتَتبعِ لِلْجَوَارحِ: كَانَ هَذَا الْأَصْلُ الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ اللهِ بِمَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ هُوَ أَصْلُ الدَّعْوَةِ فِي الْقُرْآنِ، فَقَالَ تَعَالَى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56].

وَقَالَ فِي صَدْرِ الْبَقَرَةِ -بَعْدَ أَنْ صَنَّفَ الْخَلْقَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ وَمُنَافِقٌ- فَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} [البقرة: 21]، وَذَكَرَ آلَاءَهُ الَّتِي تَتَضَمَّنُ نِعْمَتَهُ وَقُدْرَتَهُ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِتَقْرِيرِهِ النُّبُوَّةَ بِقَوْلِهِ:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23]. [2/ 6 - 7]

232 -

فَاتِحَةُ دَعْوَةِ الرُّسُلِ: الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ، قَالَ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21]. [14/ 2]

233 -

إنَّ الْأَنْبِيَاءَ عليهم السلام دَعَوا النَّاسَ إلَى عِبَادَةِ اللّهِ أَوَّلًا بِالْقَلْبِ وَاللّسَانِ، وَعِبَادَتُهُ مُتَضَمِّنَة لِمَعْرِفَتِهِ وَذِكْرِهِ.

فَأَصْلُ عِلْمِهِمْ وَعَمَلِهِمْ: هُوَ الْعِلْمُ باللهِ وَالْعَمَلُ للهِ؛ وَذَلِكَ فِطْرِيٌّ كَمَا قَد

(1)

رواه البخاري (1358)، ومسلم (2658).

ص: 179

قَرَّرْته فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَبَيَّنْت أَنَّ أَصْلَ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ فِطْرِيٌّ ضَرُورِيٌّ، وَأَنَّهُ أَشَدُّ رُسُوخًا فِي النُّفُوسِ مِن مَبْدَأِ الْعِلْمِ الرِّيَاضِيِّ؛ كَقَوْلِنَا: إنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الاِثْنَيْنِ، وَمَبْدَأِ الْعِلْمِ الطَّبِيعِيِّ؛ كَقَوْلِنَا: إنَّ الْجِسْمَ لَا يَكُونُ فِي مَكَانَيْنِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَعَارِفَ أَسْمَاءٌ قَد تُعْرِضُ عَنْهَا أَكْثَرُ الْفِطَرِ، وَأَمَّا الْعِلْمُ الْإِلَهِيُّ فَمَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تُعْرِضَ عَنْهُ فِطْرَةٌ. [2/ 15 - 16]

234 -

إنَّ اللّهَ -سُبْحَانَهُ- لَمَّا كَانَ هُوَ الْأَوَّلَ الَّذِي خَلَقَ الْكَائِنَاتِ، وَالْآخِرَ الَّذِي إلَيْهِ تَصِيرُ الْحَادِثَات، فَهُوَ الْأصْلُ الْجَامِعُ، فَالْعِلْمُ بِهِ أَصْلُ كُلِّ عِلْمٍ وَجَامِعُهُ، وَذِكْرُهُ أَصْلُ كُلِّ كَلَامٍ وَجَامِعُهُ، وَالْعَمَلُ لَهُ أَصْلُ كُلِّ عَمَلٍ وَجَامِعُهُ.

وَلَيْسَ لِلْخَلْقِ صَلَاحٌ إلَّا فِي مَعْرِفَةِ رَبِهِم وَعِبَادَتِهِ، وَإِذَا حَصَلَ لَهُم ذَلِكَ: فَمَا سِوَاهُ إمَّا فَضْل نَافِعٌ، وَإِمَّا فُضُولٌ غَيْرُ نَافِعَةٍ، وَإمَّا أَمْرٌ مُضِرٌّ. [2/ 16]

235 -

فِي الدُّعَاءِ الَّذِي عَلَّمَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: يَا دَلِيلَ الْحَيَارَى دُلَّنِي عَلَى طَرِيقِ الصَّادِقِينَ، وَاجْعَلْنِي مِن عِبَادِك الصَّالِحِينَ؛ وَلهَذَا كَانَ عَامَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِن أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّ اللهَ يُسَمَّى دَليلًا.

وَمِن أسْمَائِهِ: الْهَادِي، وَقَد جَاءَ أيْضًا: الْبُرْهَانُ. [2/ 17 - 18]

236 -

الْأَقْيِسَةُ الْعَقْلِيَّةُ -الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ-: هِيَ الْغَايَةُ فِي دَعْوَةِ الْخَلْقِ إلَى اللّهِ، كَمَا قَالَ تعالى:{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الإسراء: 89]، فِي أوَّلِ سُبْحَانَ وَآخِرِهَا، وَسُورَةِ الْكَهْفِ، وَالْمَثَلُ هُوَ الْقِيَاسُ؛ وَلهَذَا اشْتَمَلَ الْقُرْآنُ عَلَى خُلَاصَةِ الطُّرُقِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي تُوجَدُ فِي كَلَامِ جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ مِن الْمُتَكَلِّمَةِ والمتفلسفة وَغَيْرِهِمْ، وَنَزَّهَ اللّهُ عَمَّا يُوجَدُ فِي كَلَامِهِمْ مِن الطُّرُقِ الْفَاسِدَةِ.

وَيُوجَدُ فِيهِ مِن الطُّرُقِ الصَّحِيحَةِ مَا لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْبَشَرِ بِحَالٍ. [2/ 46 - 47]

ص: 180

237 -

الْكَاهِنُ مُسْتَمِدٌّ مِن الشَّيَاطِينِ، وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، وَكِلَاهُمَا فِي لَفْظِهِ وَزْنٌ، هَذَا سَجْعٌ، وَهَذَا نَظْمٌ، وَكِلَاهُمَا لَهُ مَعَانٍ مِن وَحْيِ الشَّيَاطِينِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِن الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِن هَمْزِهِ وَنَفْثِهِ وَنَفْخِه" وَقَالَ: "هَمْزُهُ الموتة، وَنَفْثُهُ الشِّعْرُ، وَنَفْخُهُ الْكِبْرُ"

(1)

.

فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ: لَيْسَ فِيهِ أَنَّ الشُّعَرَاءَ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِم الشَّيَاطِين، إلَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُم كَذَّابًا أَثِيمًا، فَالْكَذَّابُ فِي قَوْلِهِ وَخَبَرِهِ، وَالْأَثيمُ فِي فِعْلِهِ وَأَمْرِهِ.

وَذَاكَ وَاللهُ أَعْلَمُ: لِأنَّ الشِّعْرَ يَكُونُ مِن الشَّيْطَانِ تَارَةً، وَيَكُونُ مِن النَّفْسِ أُخْرَى، كَمَا أَنَّهُ إذَا كَانَ حَقًّا يَكُونُ مِن رُوحِ الْقُدُسِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا دَعَا لِحَسَّانِ بْنِ ثَابِتِ:"اللَّهمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ"

(2)

.

وَأَمَّا الشَّاعِرُ فَشَأْنُهُ التَّحْرِيكُ لِلنُّفُوسِ، فَهُوَ مِن بَابِ الْأَمْرِ الْخَاصِّ الْمُرَغِّبِ؛ فَلِهَذَا قِيلَ فِيهِمْ:{يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224]، فَضَرَرُهُم فِي الْأَعْمَالِ لَا فِي الاِعْتِقَادَاتِ، وَأُولَئِكَ ضَرَرُهُم فِي الاِعْتِقَادَاتِ وَيَتْبَعُهَا الْأعْمَالُ؛ وَلهَذَا قَالَ:{أَفاكٍ أَثيمٍ} [الجاثية: 7]. [2/ 51 - 53]

* * *

(الله تعالي هو الدليل)

238 -

كيف يُطلب الدليل على من هو دليل على كل شيء؟.

وكان شيخ الإسلام رحمه الله كثيرًا ما يتمثل بهذا البيت:

وليس يصح في الأذهان شيء

إذا احتاج النهار إلى دليل [المستدرك 1/ 33]

* * *

(1)

رواه أبو داود (764)، وابن ماجة (857)، والدارمي (1275)، وأحمد (3828)، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود.

(2)

رواه البخاري (453)، ومسلم (2485).

ص: 181

(ضلال المتصوفة، ومنهم الغزالي)

239 -

إنَّ الْمُنْحَرِفِينَ الْمُشَابِهِينَ لِلصَّابِئَةِ: إمَّا مُجَرِّدَةٌ، وَإِمَّا مُنْحَرِفَةٌ إلَى يَهُودِيَّةٍ أَو نَصْرَانِيَّةٍ مَن أَهْلِ الْمَنْطِقِ وَالْقِيَاسِ، الطَّالِبِينَ لِلْعِلْمِ وَالْكَلَامِ، وَمِن أَهْلِ الْعَمَلِ وَالْوَجْدِ الطَّالِبِينَ لِلْمَعْرِفَةِ وَالْحَالِ: سَلَكُوا فِي أَصْلِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ طَرِيقَيْنِ .. وَأَكْثَرُهُم لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ إلَيْهِ طَرِيق إلَّا أَحَدُ هَذَيْنِ؛ كَمَا يَذْكُرُهُ جَمَاعَات: مِثْل ابْنِ الْخَطِيبِ، وَمَن نَحَا نَحْوَهُ؛ بَل مِثْلُ أَبِي حَامِدٍ لَمَّا حَصَرَ الطُّرُقَ فِي الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ الَّذِي هُوَ النَّظَرُ وَالْقِيَاسُ، أَو فِي التَّصَوُّفِ وَالْعِبَادَةِ الَّذِي هُوَ الْعَمَلُ وَالْوَجْدُ، وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ هَؤُلَاءِ الْأصْنَافِ الثَّلَاثَةِ.

بَل أَبُو حَامِدٍ لَمَّا ذَكَرَ فِي الْمُنْقِذِ مِن الضَّلَالِ

(1)

.......................

(1)

وهو مطبوعٌ بتحقيق: الدكتور عبد الحليم محمود.

وقد ذكر فيه ما وقع فيه من الحيرة والتردد والتقلبات الفكرية والنظرية والعملية، وإليك ملخص كلامه: "لما فرغت من هذه العلوم أقبلت بهمتي على طريق الصوفية، وعلمت أن طريقتهم إنما تتم بعلم وعمل، وكان حاصل علومهم قطع عقبات النفس، والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى وتحليته بذكر الله. وكان العلم أيسر علي من العمل؛ فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم.

ولم يبق إِلَّا ما لا سبيل إليه بالسماع والتعلم، بل بالذوق والسلوك.

وكان قد ظهر عندي أنه لا مطمع لي في سعادة الآخرة إِلَّا بالتقوى، وكف النفس عن الهوى، وأن رأس ذلك كله: قطع علاقة القلب عن الدنيا، بالتجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى، وأن ذلك لا يتم إِلَّا بالاعراض عن الجاه والمال، والهرب من الشواغل والعلائق.

ثم لاحظت أحوالي، فإذا أنا منغمس في العلائق، وقد أحدقتْ بي من الجوانب، ولاحظت أعمالي -وأحسنها التدريس والتعليم- فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة، ولا نافعة في طريق الآخرة.

ثم تفكرت في نيتي في التدريس، فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت، فتيقنت أني على شفا جرف هار، وأني قد أشفيت على النار، إن لم أشتغل بتلافي الأحوال. فلم أزل أتفكر فيه مدة، وأنا بعد على مقام الاختيار، أصمم العزم على الخروج من بغداد ومفارقة تلك الأحوال يومًا، وأحل العزم يوما، وأقدم فيه رجلًا وأؤخر عنه أخرى.

فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا، ودواعي الآخرة، قريبًا من ستة أشهر، أولها رجب سنة ئمان وثمانين وأربع مئة". =

ص: 182

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= ثم عزم على فراق بغداد، واتجه نحو الشام، وذكر أن الناس اعترضوا عليه، وحاولوا ثنيه عن رأيه.

وفرق ما كان معه من المال، ولم يدخر إِلَّا قدر الكفاف، وقوت الأطفال.

ثم دخل الشام، وأقام به قريبًا من سنتين، لم يشتغل إِلَّا بالعزلة والخلوة، والرياضة والمجاهدة، اشتغالًا بتزكية النفس، وتهذيب الأخلاق، وتصفية القلب لذكر الله تعالى، كما كان حصَّله من كتب الصوفية.

قال: "فكنت أعتكف مدة في مسجد دمشق، أصعد منارة المسجد طول النهار، وأغلق بابها على نفسي، وثم رحلت منها إلى بيت المقدس، أدخل كل يوم الصخرة، وأغلق بابها على نفسي.

ثم تحركت فيَّ داعية فريضة الحج، والاستمداد من بركات مكة والمدينة وزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من زيارة الخليل صلوات الله وسلامه عليه، فسرت إلى الحجاز، ثم جذبتني الهمم، ودعوات الأطفال إلى الوطن، فعاودته بعد أن كنت أبعد الخلق عن الرجوع إليه، فآثرت العزلة به أيضًا حرصًا على الخلوة، وتصفية القلب للذكر.

وكانت حوادث الزمان، ومهمات العيال، وضرورات المعيشة، تغير في وجه المراد، وتشوش صفوة الخلوة، وكان لا يصفو لي الحال إِلَّا في أوقات متفرقة. لكني مع ذلك لا أقطع طمعي منها، فتدفعني عنها العوائق، وأعود إليها.

ودمت على ذلك مقدار عشر سنين، وانكشفت لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها".

ثم أسرف في مدح الصوفية، وقد ذكر شيخ الإسلام شيئًا من ذلك.

ومما قال الغزاليُّ عنهم: حتى إنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة، وأرواح الأنبياء ويسمعون أصواتًا ويقتبسون منهم فوائد، ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال، إلى درجات يضيق عنها النطق، فلا يحاول معبر أن يعبر عنها إِلَّا اشتمل لفظه على خطأ صريح لا يمكنه الاحتراز عنه.

ثم ادعى أن كل من لم يكن على ما هم عليه بأنهم جهال حيث قال: "ووراء هؤلاء قوم جهال، هم المنكرون لأصل ذلك، المتعجبون من هذا الكلام، ويستمعون ويسخرون، ويقولون العجب! إنهم كيف يهذون! وفيهم قال الله تعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 16]. (ص 170 - 180).

فتأمل كيف وقع في هذه الأخطاء العقدية والسلوكية، ومن أخطرها: تركُه تعليم العلم ونشره، وتفرغُه للعبادة وتهذيب النفس على طريقة الصوفية المبتدعة، التي لم يتسابق إليها أحرص الناس على الخير والصلاح، وهم الصحابة"، بل المتواتر عنهم أنهم تفرغوا للعلم والدعوة والجهاد.

* نبيه: قوله: أن طريقتهم إنما تتم .. جاء في الأصل: إنا تتم. ولعل الصواب: المثبت. =

ص: 183

أَحْوَالَهُ فِي طُرُقِ الْعِلْمِ وَأَحْوَالِ الْعَالِمِ، وَذَكَرَ أَنَّ أَوَّلَ مَا عَرَضَ لَهُ مَا يَعْتَرِضُ طَرِيقَهُم -وَهُوَ السّفْسَطَةُ بِشُبَهِهَا الْمَعْرُوفَةِ- وَذَكَرَ أنَّة أَعْضَلَ بِهِ هَذَا الدَّاءُ قَرِيبًا مِن شَهْرَيْنِ، هُوَ فِيهِمَا عَلَى مَذْهَبِ السَّفْسَطَةِ بِحُكْمِ الْحَالِ، لَا بِحُكْمِ الْمَنْطِقِ وَالْمَقَالِ، حَتَّى شَفَى اللّه عَنْهُ ذَلِكَ الْمَرَضَ، وَعَادَت النَّفْسُ إلَى الصّحَّةِ وَالاِعْتِدَالِ، وَرَجَعَت الضَّرُورِيَّاتُ الْعَقْلِيَّةُ مَقْبُولَةً مَوْثُوقًا بِهَا عَلَى أَمْنٍ وَتَبَيُّنن، وَلَمْ يَكُن ذَلِكَ بِنَظْمِ دَلِيل وَتَرْتِيبِ كَلَامٍ؛ بَل بِنُور قَذَفَهُ اللهُ فِي الضَدْرِ، وَذَلِكَ النُّوز هُوَ مِفْتَاحُ أَكْبَرِ الْمَعَارِفِ.

قَالَ: فَمَنْ ظَنَّ أَن الْكَشْفَ مَوْقُوفٌ عَلَى الْأدِلَّةِ الْمُجَرَّدَةِ فَقَد ضَيَّقَ رَحْمَةَ اللّهِ الْوَاسِعَةَ.

ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ أَقْبَلَ بِهِمَّتِهِ عَلَى طَرِيقِ الصُّوفِيَّةِ، وَعَلِمَ أَنَّهَا لَا تَحْصُلُ إِلَّا بعِلْمٍ وَعَمَلٍ، فَابْتَدَأَ بِتَحْصِيلِ عِلْمِهِمْ مِن مُطَالَعَةِ كُتُبِهِمْ؛ مِثْل قُوتِ الْقُلُوبِ لَأبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ، وَكتُبِ الْحَارِثِ المحاسبي، والمتفرقات الْمَأْثُورَةِ عَن الْجُنَيْد وَالشِّبْلِيِّ وَأَبِي يَزِيدَ، حَتَّى طَلَعَ عَلَى كُنْهِ مَقَاصِدِهِم الْعِلْمِيَّةِ.

ثُمَّ إَّنهُ عَلِمَ يَقِينًا أنَّهُم أَصْحَابُ أحْوَال لَا أَصْحَابُ أَقْوَالٍ، وَأنَّ مَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِطَرِيقِ الْعِلْمِ قَد حَصَّلَهُ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ بِالتَّعَلُّمِ وَالسَّمَاعِ؛ بَل بِالذَّوْقِ وَالسُّلُوكِ.

= قال ابن كثير رحمه الله تعالى في أحداث (488): وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا خَرَجَ أبُو حَامِدٍ الْغَزالِيُّ مِن بَغْدَادَ مُتَوَجِّهًا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، تَارِكًا لِتَدْرِيسِ النِّظَامِيَّةِ، زَاهِدًا فِي الدُّنيا، لابسًا خَشِنَ الثِّيَابِ بَعْدَ نَاعِمِهَا، وَنَابَ عَنْهُ أخُوهُ في التدريس، ثم حج في السنة التالية ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ، وَقَد صَنَّفَ كِتَابَ الْإِحْيَاءِ فِي هَذ الْمُدَّةِ، وَكَانَ يَجْتَمِعُ إِلَيْهِ الْخَلْقُ الْكَثِيرُ كلَّ يَوْمٍ فِي الرِّبَاطِ فيَسْمَعُونَهُ. ا هـ. البداية والنهاية (12/ 183).

وكان مغيبه وخلوته وانعزاله قرابة عشر سنين، وفي هذه المدة، وبالتحديد سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة أخذت الفرنج بَيْتَ الْمَقْدِس! وسُفك على أيدهم وعلى أيدي العبيديين مئات الآلاف من الدماء الطاهرة، وزهقت الأَنفس البريئة، فهل من اللائق الانعزال عن المسلمين وتركهم تحت ظلم وجور الكفرة!

أليس من الواجب أنْ يُحرض الناس على الاجتماع والقوة ونصرةِ المظلومين؟

ص: 184

وَذَكَرَ أَنَّهُ تَخَلَّى عَشْرَ سِنِينَ، إلَى أَنْ قَالَ: انْكَشَفَ لِي فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْخَلَوَاتِ أُمُورٌ لَا يُمْكِنُ إحْصَاؤُهَا وَاسْتِقْصَاؤُهَا، وَالْقَدْرُ الَّذِي أَذْكُر لِيُنْتَفَعَ بِهِ: أَنِّي عَلِمْت يَقِينًا أَنَّ الصُّوفِيَّةَ هُم السَّالِكُونَ لِطَرِيقِ اللّهِ خَاصَّةً، وَأَنَّ سِيرَتَهُم أَحْسَنُ السِّيَرِ، وَطَرِيقَتَهُم أَصْوَبُ الطُّرُقِ، وَأَخْلَاقَهُم أَزْكَى الْأَخْلَاقِ.

قُلْت: يُسْتَفَادُ مِن كَلَامِهِ أَنَّ أَسَاسَ الطَّرِيقِ: هِيَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللّهِ كَمَا قَرَّرْته غَيْرَ مَرَّةٍ، وَهَذَا أَوَّلُ الْإِسْلَامِ، الَّذِي جَعَلَهُ هُوَ النِّهَايَةَ.

لَكِنْ هُوَ لَمْ يَعْرِفْ طَرِيقَةَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ مِن الْعَارِفِينَ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهَا، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ الْمَحْضَة الشَّاهِدَةُ عَلَى جَمِيعِ الطُّرُقِ.

وَلهَذَا أُصِيبَ صَاحِبُ الْخَلْوَةِ بِثَلَاثِ تَوَهُّمَاتٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ يَعْتَقِدَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ أَكْمَلُ النَّاسِ اسْتِعْدَادًا.

وَالثَّانِي: أَنْ يَتَوَهَّمَ فِي شَيْخِهِ أَنَّهُ أَكْمَلُ مَن عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَتَوَهَّمُ أَنَهُ يَصِلُ إلَى مَطْلُوبِهِ بِدُونِ سَبَبٍ، وَأَكْثَرُ اعْتِمَادِهِ عَلَى الْقُوَّةِ الْوَهْمِيَّةِ، فَقَد تَعْمَلُ الْأَوْهَامُ أَعْمَالًا لَكِنَّهَا بَاطِلَةٌ.

وَقَد ذَكَرَ الْقُرْآنُ صَلَاحَ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ، وَالْقُوَّةِ الْإِرَادِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ؛ كَقَوْلِهِ:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الفتح: 28]، فَالْهُدَى كَمَالُ الْعِلْمِ، وَدِينُ الْحَقِّ كَمَالُ الْعَمَلِ؛ كَقَوْلِهِ:{أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45].

لَكِنَّ النَّظَرَ النَّافِعَ أَنْ يَكُونَ فِي دَلِيلِ؛ فَإِنَّ النَّظَرَ فِي غَيْرِ دَلِيلٍ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْمَدْلُولِ عَلَيْهِ، وَالدَّلِيلُ هُوَ الْمُوَصِّلُ إلَى الْمَطْلُوبِ، وَالْمُرْشِدُ إلَى الْمَقْصُودِ، وَالدَّليلُ التَّامُّ هُوَ الرِّسَالَةُ.

وَكَذَلِكَ الْعِبَادَةُ التَّامَّةُ فِعْلُ مَا أُمِرَ بِهِ الْعَبْدُ وَمَا جَاءَت بِهِ الرُّسُلُ. [2/ 54 - 59]

* * *

ص: 185

(مَن ادَّعَى أَنَّ شَيْخًا مِن الْمَشَايِخِ يُخَلِّصُ مُوِيدِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِن الْعَذَابِ: فَقَد ادَّعَى أَنَّ شَيْخَة أَفْضَلُ مِن النبي)

240 -

مَن ادَّعَى أَنَّ شَيْخا مِن الْمَشَايِخِ يُخَلِّصُ مُرِيدِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِن الْعَذَابِ: فَقَد ادَّعَى أَنَّ شَيْخَهُ أَفْضَلُ مِن مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَن قَالَ هَذَا فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ.

فَإِنَّهُ قَد ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ

(1)

أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ لَا أُغْنِي عَنْك مِن اللهِ شَيْئًا، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللهِ لَا أُغْنِي عَنْك مِن اللهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ عَمَّ رَسُولِ اللّهِ لَا أُغْنِي عَنْك مِن اللهِ شَيْئًا".

وَقَد قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)} [الانفطار: 17 - 19]، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِن نُصُوصِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ.

وَقَد عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا الشَّفَاعَةُ. [2/ 105]

* * *

(ضلال وكفر ابن عربي، والواجب تجاه مُؤيّديه)

241 -

قَالَ الشَّيْخُ إبْرَاهِيمُ الجعبري لَمَّا اجْتَمَعَ بِابْنِ عَرَبِيٍّ: رَأَيْته شَيْخًا نَجِسًا يُكَذِّبُ بِكُل كِتَاب أَنْزَلَهُ اللهُ وَبِكُلِّ نَبِيٍّ أَرْسَلَهُ اللهُ.

وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ -لَمَّا قَدِمَ الْقَاهِرَةَ وَسأَلُوهُ عَنْهُ-: هُوَ شَيْخُ سُوءٍ كَذَّابٌ مَقْبُوحٌ، يَقُولُ بِقِدَمِ الْعَالَمِ، وَلَا يُحَرِّمُ فَرْجًا.

فَقَوْلُهُ: يَقُولُ بِقِدَمِ الْعَالَمِ؛ لِأنَّ هَذَا قَوْلهُ وَهَذَا كُفْرٌ مَعْرُوفٌ، فَكَفَّرَهُ الْفَقِيهُ أَبُو مُحَمَّدٍ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَكُن بَعْدُ ظَهَرَ مِن قَوْلِهِ: إنَّ الْعَالَمَ هُوَ اللهُ، وَإِنَّ الْعَالَمَ

(1)

البخاري (2753).

ص: 186

صُورَةُ اللهِ وَهُوِيَّةُ اللهِ؛ فَإِنَّ هَذَا أَعْظَمُ مِن كُفْرِ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ وَاجِبَ الْوُجُودِ، وَيَقُولُونَ إنَّهُ صَدَرَ عَنْهُ الْوُجُودُ الْمُمْكِنُ.

وَقَالَ عَنْهُ مَن عَايَنَهُ مِن الشُّيُوخِ: إنَّهُ كَانَ كَذَّابًا مُفْتَرِيًا.

وَفِي كُتُبِهِ -مِثْل الْفُتُوحَاتِ الْمَكيَّةِ وَأَمْثَالِهَا- مِن الْأَكَاذِيبِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى لَبِيبِ، هَذَا وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْإِسْلَامِ مِن ابْنِ سَبْعِينَ وَمِن القونوي والتلمساني وَأَمْثَالِهِ مِن أَتْبَاعِهِ، فَإِذَا كَانَ الْأَقْرَبُ بِهَذَا الْكُفْرِ -الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مَن كُفْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى - فَكَيْفَ بالذين هُم أَبْعَدُ عَن الْإِسْلَامِ؛ وَلَمْ أَصِفْ عُشْرَ مَا يَذْكُرُونَهُ مِن الْكُفْرِ.

وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ

(1)

الْتَبَسَ أَمْرُهُم عَلَى مَن لَمْ يَعْرِفْ حَالَهُم كَمَا الْتَبَسَ أَمْرُ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ لَمَّا ادَّعَوْا أَنَّهُم فَاطِمِيُّونَ، وَانْتَسَبُوا إلَى التَّشَيُّعِ، فَصَارَ الْمُتَّبِعُونَ مَائِلِينَ إلَيْهِم غَيْرَ عَالِمِينَ بِبَاطِنِ كُفْرِهِمْ.

وَلهَذَا كَانَ مَن مَالَ إلَيْهِم أَحَدَ رَجُلَيْنِ: إمَّا زِنْدِيقًا مُنَافِقًا، وَإِمَّا جَاهِلًا ضَالًا.

وَيَجِبُ عُقُوبَةُ كُلّ مَن انْتَسَبَ إلَيْهِمْ، أَو ذَبَّ عَنْهُمْ، أَو أَثْنَى عَلَيْهِمْ، أَو عَظَمَ كُتُبَهُمْ، أَو عُرِفَ بِمُسَاعَدَتِهِمْ وَمُعَاوَنَتِهِمْ، أَو كَرِهَ الْكَلَامَ فِيهِمْ، أَو أَخَذَ يَعْتَذِرُ لَهُم بِأَنَّ هَذَا الْكلَامَ لَا يَدْرِي مَا هُوَ! أَو مَن قَالَ إنَّهُ صَنَّفَ هَذَا الْكِتَابَ؛ وَأَمْثَالَ هَذِهِ الْمَعَاذِيرِ الَّتِي لَا يَقُولُهَا إِلَّا جَاهِلٌ أَو مُنَافِقٌ؛ بَل تَجِبُ عُقُوبَةُ كُلِّ مَنْ عَرَفَ حَالَهُم وَلَمْ يُعَاوِنْ عَلَى الْقِيَام عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ الْقِيَامَ عَلَى هَؤُلَاءِ مِن أَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ؛ لِأنَّهُم أَفْسَدُوا الْعُقُولَ وَالأدْيَانَ عَلَى خَلْقٍ مِن الْمَشَايخِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ، وَهُم يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ.

فَضَرَرُهُم فِي الدِّينِ: أَعْظَمُ مِن ضَرَرِ مَن يُفْسِدُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ دُنْيَاهُم

(1)

أي: ابن عربي والتلمساني وَأمْثَالَهُما.

ص: 187

وَيَتركُ دِينَهُمْ؛ كَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَكَالتَّتَارِ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ مِنْهُم الْأَمْوَالَ، وَيُبْقُونَ لَهُم دِينَهُمْ، وَلَا يَسْتَهِينُ بِهِم مَن لَمْ يَعْرِفْهُمْ، فَضَلَالُهُم وَإِضْلَالُهُم أَعْظَمُ مِن أَنْ يُوصَفَ، وَهُم أَشْبَهُ النَّاسِ بِالْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ.

وَمَن كَانَ مُحْسِنًا لِلظَّنِّ بِهِمْ، وَادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ حَالَهُمْ: عُرّفَ حَالَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يُبَايِنْهُم وَيُظْهِرْ لَهُم الْإِنْكَارَ وَإِلَّا أُلْحِقَ بِهِم وَجُعِلَ مِنْهُمْ.

وَأَمَّا مَن قَالَ: لِكَلَامِهِمْ تَأْوِيل يُوَافِقُ الشَّرِيعَةَ: فَإِنَّهُ مِن رُؤُوسِهِمْ وَأَئِمَّتِهِمْ؛ فَاِنَّهُ إنْ كَانَ ذَكِيًّا فَإِنَّة يَعْرِفُ كَذِبَ نَفْسِهِ فِيمَا قَالَهُ، وَإِن كَانَ مُعْتَقِدًا لِهَذَا بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَهُوَ أَكْفَرُ مِن النَّصَارَى، فَمَن لَمْ يُكَفِّرْ هَؤُلَاءِ وَجَعَلَ لِكَلَامِهِمْ تَأْوِيلًا كَانَ عَن تَكْفِيرِ النَّصَارَى بِالتَّثْلِيثِ وَالاِتِّحَادِ أَبْعَدَ.

وَجِمَاعُ أَمْرِ صَاحِبِ الْفُصُوصِ وَذَوِيهِ: هَدْمُ أصُولِ الْإِيمَانِ الثَّلَاثَةِ؛ فَإِنَّ أُصُولَ الْإِيمَانِ:

أ - الْإِيمَانُ باللّهِ.

ب - وَالْإِيمَانُ بِرُسُلِهِ.

ج - وَالْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ.

فَأَمَّا الْإِيمَانُ باللّهِ: فَزَعَمُوا أَنَّ وُجُودَهُ وُجُودُ الْعَالَمِ، لَيْسَ لِلْعَالَم صَانِعٌ غَيْرُ الْعَالَمِ.

وَأَمَّا الرَّسُولُ: فَزَعَمُوا أَنَّهُم أَعْلَمُ باللّهِ مِنْهُ وَمِن جَمِيعِ الرُّسُلِ، وَمِنْهُم مَن يَأْخُذُ الْعِلْمَ باللهِ -الَّذِي هُوَ التَّعْطِيلُ وَوَحْدَةُ الْوُجُودِ- مِن مِشْكَاتِهِ، وَأَنَّهُم يُسَاوُونَهُ فِي أَخْذِ الْعِلْمِ بِالشَّرِيعَةِ عَن اللّهِ.

وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ: فَقَد قَالَ:

فَلَمْ يَبْقَ إلَّا صَادِقُ الْوَعْدِ وَحْدَهُ

وَبِالْوَعِيدِ

(1)

الْحَقِّ عَيْنٌ تُعَايِنُ

(1)

لا يستقيم الوزن بهذه الكلمة، ورُويت: وما لوعيدِ .. وبهذا يستقيم الوزن.

ص: 188

وَإِن دَخَلُوا دَارَ الشَّقَاءِ فَإِنَّهُم

عَلَى لَذَّةٍ فِيهَا نَعِيمٌ يُبَايِنُ

وَهَذَا يُذْكَرُ عَن بَعْضِ أَهْلِ الضَّلَالِ قَبْلَهُ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ النَّارَ تَصِيرُ لِأَهْلِهَا طَبِيعَةً نَارِيَّةً يَتَمَتَعُونَ بِهَا، وَحِينَئِذٍ فَلَا خَوْفٌ وَلَا مَحْذُورٌ وَلَا عَذَابٌ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُسْتَعْذَبٌ.

ثمَّ إنَّهُ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ: عِنْدَهُ الْآمِرُ وَالنَّاهِي وَالْمَأمُورُ وَالْمَنْهِي وَاحِدٌ؛ وَلهَذَا كَانَ أَوَّلَ مَا قَالَهُ فِي الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ الَّتِي هِيَ أَكْبَرُ كُتُبِهِ:

الرَّبُّ حَقٌّ وَالْعَبْدُ حَقٌّ

يَا لَيْتَ شِعْرِي مَن الْمُكَلَّفُ؟

إنْ قُلْت عَبْدٌ فَذَاكَ رَبٌّ

أَو قُلْت رَبٌّ أَنَّى يُكَلَّفُ؟

وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: "فَذَاكَ مَيِّتٌ" رَأَيْته بِخَطِّهِ.

وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِهِ، فَإِنَّ عِنْدَهُ مَا ثَمَّ عَبْدٌ وَلَا وُجُودٌ إلَّا وُجُودُ الرَّبِّ، فَمَن الْمُكَلَّفُ؟

وَعَلَى أَصْلِهِ: هُوَ الْمُكَلَّفُ وَالْمُكلِّفُ كَمَا يَقُولُونَ: أَرْسَلَ مِن نَفْسِهِ إلَى نَفْسِهِ رَسُولًا

(1)

.

242 -

تَجِدُ عَامَّةَ أَهْلِ الْكَلَامِ وَمَن أَعْرَضَ عَن جَادَّةِ السَّلَفِ - إلَّا مَن عَصَمَ اللهُ- يُعَظِّمُونَ أَئِمَّةَ الاِتِّحَادِ، بَعْدَ تَصْرِيحِهِمْ فِي كتُبِهِم بِعِبَارَاتِ الاِتِّحَادِ، وَيَتَكَلَّفُونَ لَهَا مَحَامِلَ غَيْرَ مَا قَصَدُوهُ، وَلَهُم فِي قُلُوبِهِم مِن الْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ وَالشَّهَادَةِ بِالْإِمَامَةِ وَالْوِلَايَةِ لَهُم وَأَنَّهُم أَهْلُ الْحَقَائِقِ مَا اللّهُ بِهِ عَلِيمٌ.

هَذَا ابْنُ عَرَبِيٍّ يُصَرِّحُ فِي فُصُوصِهِ: أَنَّ الْوِلَايَةَ أَعْظَمُ مِن النُّبُوَّةِ؛ بَل أَكْمَلُ مِن الرِّسَالَةِ، وَمِن كَلَامِهِ:

مَقَامُ النُّبُوَّةِ فِي بَرْزَخٍ

فُوَيْقَ الرَّسُولِ وَدُونَ الْوَلِيِّ

وَبَعْضُ أَصْحَابِهِ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ بِأَنَّ وِلَايَةَ النَّبِيِّ أَفْضَلُ مِن نُبُوَّتِهِ.

(1)

ثم ذكر الشيخ بسنده قدح وذم العلماء الذين عاصروا ابن العربي وابن سبعين وغيرهما. (2/ 243 - 247).

ص: 189

وَأَيْضًا: فَمَا يَقُولُ هَذَا الْمُتَكَلِّفُ فِي قَوْلِ هَذَا الْمُعَظَمِ: إنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَبِنَةٌ مِن فِضَّةٍ، وَهُوَ لَبِنَتَانِ مِن ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَيَزْعُمُ أَنَّ لَبِنَةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم هِيَ الْعِلْمُ الظَّاهِرُ، وَلَبِنَتَاهُ: الذَّهَبُ عِلْمُ الْبَاطِنِ وَالْفِضَّةُ عِلْمُ الظَّاهِرِ، وَأَنَّهُ يَتَلَقَّى ذَلِكَ بِلَا وَاسِطَةٍ.

وَيُصَرِّحُ فِي فُصُوصِهِ أَنَّ رُتْبَةَ الْوِلَايَةِ أَعْظَمُ مِن رُتْبَةِ النُّبُوَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ يَأْخُذُ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَالنَّبِيَّ بِوَاسِطَةِ، فَالْفَضِيلَةُ الَّتِي زَعَمَ أَنَّهُ امْتَازَ بِهَا عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَعْظَمُ عِنْدِهِ مِمَّا شَارَكَهُ فِيهِ. [4/ 171 - 172]

243 -

أَمَّا مَا يَرْوِيه هَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ كَابْنِ عَرَبِيٍّ فِي الْفُصُوصِ وَغَيْرِهِ مِن جُهَّالِ الْعَامَّةِ: "كنْت نَبِيًّا وَآدمُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ"، "كُنْت نَبِيًّا وَآدمُ لَا مَاءَ وَلَا طِينَ": فَهَذَا لَا أَصْلَ لَهُ، وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ الصَّادِقِينَ وَلَا هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْعِلْمِ الْمُعْتَمَدَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ.

وَإِنَّمَا قَالَ: "بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ"، وَقَالَ:"وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ"

(1)

؛ لِأَنَّ جَسَدَ آدَمَ بَقِيَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ.

وَالْأحَادِيثُ فِي خَلْقِ آدمَ وَنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ مَشْهُورَة فِي كُتُب الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِمَا، فَأخْبَرَ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا، ايْ: كُتِبَ نَبِيًّا وَآدمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ.

وَهَذَا - وَاللّهُ أَعْلَمُ - لأنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ فِيهَا يُقَدَّرُ التَّقْدِيرُ الَّذِي يَكُونُ بِأَيْدِي مَلَائِكةِ الْخَلْقِ، فَيُقَدَّرُ لَهُم وَيَظْهَرُ لَهُمْ، وَيُكتَبُ مَا يَكُونُ مِن الْمَخْلُوقِ قَبْلَ نَفْخِ الرُوحِ فِيهِ. [2/ 147 - 148]

244 -

كُنْت قَدِيمًا مِمَن يُحْسِنُ الظَّنَّ بِابْنِ عَرَبِيٍّ وَيُعَظِّمُهُ؛ لِمَا رَأَيْت فِي كُتُبِهِ مِن الْفَوَائِدِ؛ مِثْل كَلَامِهِ فِي كَثِيرٍ مِن "الْفُتُوحَاتِ"، و"الكنة"، و"الْمُحْكَمِ الْمَرْبُوطِ"، و"الدُّرَّةِ الْفَاخِرَةِ"، و"مَطَالِعِ النُّجُومِ"، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

(1)

قال الشيخ: أيّ: مُلْتَفٌ وَمَطْرُوحٌ عَلَى وَجْهِ الْأرْضِ، صورَةً مِن طِينٍ، لَمْ تَجْرِ فِيهِ الرُّوحُ بَعْدُ. (2/ 150).

ص: 190

وَلَمْ نَكُنْ بَعْدُ اطَّلَعْنَا عَلَى حَقِيقَةِ مَقْصُودِهِ، وَلَمْ نُطَالِع الْفُصُوصَ وَنَحْوَهُ، وَكُنَّا نَجْتَمِعُ مَعَ إخْوَانِنَا فِي اللّهِ نَطْلُبُ الْحَقَّ وَنَتَّبِعُهُ، وَنَكْشِفُ حَقِيقَةَ الطَّرِيقِ، فَلَمَّا تبَيَّنَ الْأَمْرُ عَرَفْنَا نَحْنُ مَا يَجِبُ عَلَيْنَا

(1)

[2/ 464 - 465].

* * *

(بيان ضلال الحَلَّاج)

245 -

مَن اعْتَقَدَ مَا يَعْتَقِدُهُ الْحَلَّاجُ مِن الْمَقَالَاتِ الَّتِي قُتِلَ الْحَلَّاجُ عَلَيْهَا: فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إنَّمَا قَتَلُوهُ عَلَى الْحُلُولِ وَالاِتِّحَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِن مَقَالَاتِ أَهْلِ الزَّنْدَقَةِ وَالْإِلْحَادِ؛ كَقَوْلِهِ: أَنَا اللّهُ، وَقَوْلِهِ: إلَهٌ فِي السَّمَاءِ وَإِلَه فِي الْأَرْضِ.

وَقَد ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي فِي طَبَقَاتِ الصُّوفِيَّةِ: أنَّ أَكْثَرَ الْمَشَايخِ أَخْرَجُوهُ عَن الطَّرِيقِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَبُو الْقَاسِمِ القشيري فِي رِسَالَتِهِ مِن الْمَشَايخِ الَّذِينَ عَدَّهُم مِن مَشَايخِ الطَّرِيقِ، وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِن أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ذَكَرَ الْحَلَّاجَ بِخَيْر، لَا مِن الْعُلَمَاءِ وَلَا مِن الْمَشَايخِ.

وَنَحْنُ إنَّمَا عَلَيْنَا أَنْ نَعْرِفَ التَّوْحِيدَ الَّذِي أمِرْنَا بِهِ، وَنَعْرِفَ طَرِيقَ اللّهِ الَّذِي أمِرْنَا بِهِ، وَقَد عَلِمْنَا بِكِلَيْهِمَا أَنَّ مَا قَالَهُ الْحَلَّاجُ بَاطِل، وَأَنَهُ يَجِبُ قَتْلُ مِثْلِهِ.

وَأَمَّا نَفْسُ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ: هَل كَانَ فِي الْبَاطِنِ لَهُ أَمْرٌ يَغْفِرُ اللّهُ لَهُ بِهِ

(1)

كان شيخ الإسلام رحمه الله يقرأ كثيرًا لابن عربي الْمُلْحِد الزنديق، ويتدارس هو ومجموعة من طلاب العلم أيام شبابه كتبه، وكان يُحْسِنُ الظَّنَّ بِه وَيُعَظمُهُ! حتى تبين له فيما بعدُ فساد طويته، وضلال عقيدته.

فانظر كيف كانت كتب هذا الضال منتشرةً بين الناس، وقراءته لها هو وإخْوَانُه فِي اللّهِ دليلٌ على أنّ مشايخه -أو بعضهم- يُحسنون الظن بابن عربي وفكره وعقيدته، ومع ذلك لَمَّا تبين للشيخ ضلاله لم يتردد في تركه ونبذِه، وذلك لسلامة فطرتِه منذ نعومة أظفارِه، ولرسوخه بمنهج الكتاب والسُّنَّة، ولتثبيت الله له قبل ذلك وبعده.

ص: 191

مِن تَوْبَةٍ أَو غَيْرِهَا؟ فَهَذَا أَمْرٌ إلَى اللهِ، وَلَا حَاجَةَ لِأَحَدٍ إلَى الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ

(1)

. [2/ 480 - 487]

* * *

(بيان ضلال مذهب الاِتِّحَادِيةِ)

246 -

اعْلَمْ -هَدَاك اللّهُ وَأَرْشَدَك- أَنَّ تَصَوُّرَ مَذْهَبِ هَؤلاءِ - أي: الاِتِّحَادِيَّةِ - كَافٍ فِي بَيَانِ فَسَادِهِ، لَا يَحْتَاجُ مَعَ حُسْنِ التَّصَوُّرِ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ، وَإِنَّمَا تَقَعُ الشُّبْهَةُ لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَفْهَمُونَ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ وَقَصْدِهِمْ؛ لِمَا فِيهِ مِن الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ وَالْمُشْتَرِكَةِ؛ بَل وَهُم أَيْضًا لَا يَفْهَمُونَ حَقِيقَةَ مَا يَقْصِدُونَهُ وَيَقُولُونَهُ؛ وَلهَذَا يَتَنَاقَضُونَ كَثِيرًا فِي قَوْلِهِمْ، وَإِنَّمَا يَنْتَحِلُونَ شَيْئًا وَيَقُولُونَهُ أَو يَتَّبِعونَهُ.

وَلهَذَا قَد افْتَرَقُوا بَيْنَهُم عَلَى فِرَقٍ، وَلَا يَهْتَدُونَ إلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ فِرَقِهِمْ، مَعَ اسْتِشْعَارِهِمْ أَنَّهُم مُفْتَرِقُونَ

(2)

.

‌فصْلٌ

حَقِيقَةُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ: أنَّ وُجُودَ الْكَائِنَاتِ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ اللّهِ تَعَالَى، لَيْسَ وُجُودُهَا غَيْرَهُ، وَلَا شَيءَ سِوَاهُ أَلْبَتَّةَ.

وَلهَذَا مَن سَمَّاهُم حُلُولِيَّةً، أَو قَالَ هُم قَائِلُونَ بِالْحُلُولِ: رَأَوْهُ مَحْجُوبًا عَن مَعْرِفَةِ قَوْلِهِمْ، خَارِجًا عَن الدُّخُولِ إلَى بَاطِنِ أَمْرِهِمْ؛ لِأَنَّ مَن قَالَ: إنَّ اللّهَ يَحِلُّ فِي الْمَخْلُوقَاتِ فَقَد قَالَ بِأَنَّ الْمَحَلَّ غَيْرُ الْحَالِّ وَهَذَا تَثْنِيَةٌ عِنْدَهُم وَإِثْبَاتٌ لِوُجُودَيْنِ:

(1)

هذا هو المنهج السليم في التعامل مع أخطاء وضلالات الناس؛ فنحن علينا من الظاهر، وليس لنا دخل في الباطن، فلا يجوز أن نشهد بأنه قصد كذا وكذا إِلَّا بدليل بيّن.

(2)

أشار الشيخ رحمه الله تعالى أن تصور مذهب هؤلاء الفرقة المنحرفة والفرق الأخرى كالرافضة والخوارج وغيرهم من الفرق الضالة: يكفي في بيان فسادهم، لكن اشترط الشيخ أن يكون التصور حسنًا، لا أن يكون بأسلوب ضعيف، فإنه قد يضر المستمع ولا ينفعه، وربما وقع في قلبه ميلٌ لهم.

ص: 192

أَحَدُهُمَا: وُجُودُ الْحَقِّ الْحَال.

وَالثَّانِي: وُجُودُ الْمَخْلُوقِ الْمَحَلِّ وَهُم لَا يُقِرُّونَ بِإِثْبَاتِ وُجُودَيْنِ أَلْبَتَّةَ.

وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَقَلُّ كُفْرًا مِن قَوْلِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِن الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ كَانَ السَّلَفُ يَرُدُّونَ قَوْلَهُمْ، وَهُم الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ اللّهَ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَان.

وَلَا ريبَ أَنَّ إلْحَادَ هَؤُلَاءِ الْمُتَأخرِينَ وَتَجَهُّمَهُم وَزَنْدَقَتَهُم تَفْرِيعٌ وَتَكْمِيل لِإِلْحَادِ هَذِهِ الْجَهْمِيَّة الْأُولَى وَتَجَهُّمِهَا وَزَنْدَقَتِهَا

(1)

.

وَأَمَّا وَجْهُ تَسْمِيَتِهِمْ اتّحَادِيَّةً: فَفِيهِ طَرِيقَانِ:

أَحَدُهُمَا: لَا يَرْضَوْنَهُ؛ لِأَنَّ الاِتِّحَادَ عَلَى وَزْنِ الاِقْتِرَانِ، وَالاقْتِرَانُ يَقْتَضِي شَيْئَيْنِ اتَّحَدَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، وَهُم لَا يُقِرُّونَ بِوُجُودَيْنِ أَبَدًا.

وَالطَّرِيقُ الثَّانِي؛ صِحَّةُ ذَلِكَ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكثْرَةَ صَارَتْ وَحْدَةً.

وَاعْلَمْ أنَّ الْمَذْهَبَ إذَا كَانَ بَاطِلًا فِي نَفْسِهِ: لَمْ يُمْكِن النَّاقِدُ لَهُ أَنْ يَنْقُلَهُ عَلَى وَجْهٍ يُتَصَوَّرُ تَصَوُّرًا حَقِيقِيًّا؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَكُون إِلَّا لِلْحَقِّ.

فَامَّا الْقَوْلُ الْبَاطِلُ فَإِذَا بُيِّنَ: فَبَيَانُة يُظْهِرُ فَسَادهُ، حَتَّى يُقَالَ: كَيْفَ اشْتَبَهَ هَذَا عَلَى أَحَدٍ؛ وَيَتَعَجَّبُ مِن اعْتِقَادِهِمْ إيَّاهُ.

وَلَا يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَعْجَبَ، فَمَا مِن شَيْء؛ يُتَخَيَّلُ مِن أَنْوَاعِ الْبَاطِلِ إلَّا وَقَد ذَهَبَ إلَيْهِ فَرِيقٌ مِن النَّاسِ؛ وَلهَذَا وَصَفَ اللّهُ أَهْلَ الْبَاطِلِ بِأَنَّهُمْ:

أ - أَمْوَاتٌ.

ب - وَأَنَّهُم {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18].

ج - وَأَنَّهُم {لَا يَفْقَهُونَ} [الأعراف: 179].

(1)

وهكذا جميع البدع والضلالات تنموا وتزداد ضلالًا مع مرور الزمن، فالواجب على أهل العلم والرأي والحُكم أن يُبادروا إلى استئصالها وقطع دابرها.

ص: 193

د - وَأَنَّهُم {لَا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22].

هـ - وَأَنَّهُم {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)} [الذاريات: 8، 9].

و - وَأَنَّهُم {فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} رَ [التوبة: 45].

ز - وَأَنَّهُم {يَعْمَهُونَ} [يونس: 11].

فَعِنْدَهُمْ: الْإِنْسَانُ هُوَ غَايَةُ نَفْسِهِ، وَهُوَ مَعْبُودُ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ وَرَاءَهُ شَيْءٌ:

يَعْبُدُهُ أَو يَقْصِدُهُ، أَو يَدْعُوهُ أَو يَسْتَجِيبُ لَهُ؛ وَلهَذَا كَانَ قَوْلُهُم حَقِيقَةَ قَوْلِ فِرْعَوْنَ.

وَكُنْت أَقُولُ لِمَن أُخَاطِبُهُ: إنَّ قَوْلَهُم هُوَ حَقِيقَةُ قَوْلِ فِرْعَوْنَ، حَتَّى حَدَّثَنِي بَعْضُ مَن خَاطَبْته فِي ذَلِكَ مِن الثِّقَاتِ الْعَارِفِينَ أَنَّ بَعْضَ كُبَرَائِهِمْ لَمَّا دَعَا هَذَا الْمُحَدِّثَ إلَى مَذْهَبِهِمْ، وَكشَفَ لَهُ حَقِيقَةَ سِرِّهِمْ، قَالَ: فَقُلْت لَهُ: هَذَا قَوْلُ فِرْعَوْنَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَنَحْنُ عَلَى قَوْلِ فِرْعَوْنَ، فَقُلْت لَهُ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي اعْتَرَفُوا بِهَذَا؛ فَإِنَّهُ مَعَ إقْرَارِ الْخَصْمِ لَا يُحْتَاجُ إلَى بَيِّنَةٍ

(1)

.

وَلهَذَا حَدَّثُونَا أَنَّ ابْنَ الْفَارِضِ لَمَّا اُحْتُضِرَ أَنْشَدَ بَيْتَيْنِ:

إنْ كَانَ مَنْزِلَتِي فِي الْحُبِّ عِنْدَكُمُ

مَا قَد لَقِيت فَقَد ضَيَّعْت أَيَّامِي

(1)

سمّى من حدثه وذكر القصة مفصلة في موضع آخر فقال: حَدَّثَنِي بَهَاءُ الدِّين عَبْدُ السَّيِّدِ، الَّذِي كَانَ قَاضِي الْيَهُودِ وَأسْلَمَ وَحَسُنَ إسْلَامُهُ رحمه الله، وَكَانَ قَد اجْتَمَعَ بِالشِّيرَازِي أَحَدِ شُيُوخ هَؤُلَاءِ، وَدَعَاهُ إلَى هَذَا الْقَوْلِ وَزَيَّنَهُ لَهُ، فَحَذثَنِي بِذَلِكَ، فَبَيَّنْت لَهُ ضَلَالَ هَؤُلَاءِ وَكُفْرِهِمْ، وَأَنَّ قَوْلَهُم مِن جِنْسِ قَوْلِ فِرْعَوْنَ.

فَقَالَ لِي: إنَّهُ لَمَّا دَعَاهُ حَسَنْ الشِّيرَازِي إلَى هَذَا الْقَوْلِ قَالَ لَهُ: قَوْلُكُمْ هَذَا يُشْبهُ قَوْلَ فِرْعَوْنَ، فَقَالَ: نَعَمْ، وَنَحْنُ عَلَى قَوْلِ فِرْعَوْنَ!

وَكَانَ عَبْدُ السَّيِّدِ إذ ذَاكَ لَمْ يُسْلِمْ بَعْدُ، فَقَالَ: أنَا لَا أَدَعُ مُوسَى وَأذْهَبُ إلَى فِرْعَوْنَ، قَالَ لَهُ: وَلمَ؛ قَالَ لِأنَّ مُوسَى أَغْرَقَ فِرْعَوْنَ، فَانْقَطَعَ.

فَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِالنَّصْرِ الْقَدَرِيِّ الَّذِي نَصَرَ اللهُ بهِ مُوسَى، لَا بكَوْنِهِ كَانَ رَسُولًا صَادِقًا.

قُلْت لِعَبْدِ السَّيِّدِ: وَأقَرَّ لَك أَنَّهُ عَلَى قَوْلِ فِرْعَوْنَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْت: فَمَعَ إقْرَارِ الْخَصْمِ لَا يُحْتَاجُ إلَى بَيِّنَةِ، أَنَا كُنْت أرِيدُ أَنْ أبَيِّنَ لَك أَنَّ قَوْلَهُم هُوَ قَوْلُ فِرْعَوْنَ، فَإِذَا كَانَ قَد أَقَرَّ بِهَذَا فَقَد حَصَلَ الْمَقصُودُ (2/ 359).

ص: 194

أُمْنِيَّةٌ ظَفِرَتْ نَفْسِي بِهَا زَمَنًا

وَالْيَوْمَ احْسَبُهَا أَضْغَاثَ أَحْلَامِ

ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ هُوَ اللهُ، وَأَنَّهُ مَا ثَمَّ مَرَدٌّ إلَيْهِ، وَمَرْجِعٌ إلَيْهِ، غَيْرُ مَا كَانَ هُوَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا جَاءَتْهُ مَلَائِكَةُ اللهِ تَنْزِعُ رُوحَهُ مِن جِسْمِهِ، وَبَدَا لَهُ مِن اللهِ مَا لَمْ يَكُن يَحْتَسِبُ: تبَيُّنَ لَهُ أَنَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ مِن الشَّيْطَانِ.

وَكَذَلِكَ حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَن بَعْضِ مَن أَعْرِفُهُ وَلَهُ اتِّصَالٌ بِهَؤُلَاءِ عَن الْفَاجِرِ التلمساني: أَنَّهُ وَقْتَ الْمَوْتِ تَغَيَّرَ وَاضْطَرَبَ، قَالَ: دَخَلْت عَلَيْهِ وَقْتَ الْمَوْتِ فَوَجَدْته يَتَأَوَّهُ، فَقُلْت لَهُ: مِمَّ تَتَأَوَّهُ؛ فَقَالَ: مِن خَوْفِ الْفَوْتِ، فَقُلْت: سُبْحَانَ اللهِ وَمِثْلُك يَخَافُ الْفَوْتَ، وَأَنْتَ تُدْخِلُ الْفَقِيرَ إلَى الْخَلْوَةِ فَتُوَصِّلُهُ إلَى اللهِ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: زَالَ ذَلِكَ كُلُّهُ وَمَا وَجَدْت لِذَلِكَ حَقِيقَةً.

وَلَوْلَا أَنَّ أَصْحَابَ هَذَا الْقَوْلِ كَثُرُوا وَظَهَرُوا وَانْتَشَرُوا، وَهُم عِنْدَ كَثِيرِ مِن النَّاسِ سَادَاتُ الْأَنَامِ، وَمَشَايخُ الْإِسْلَامِ، وَاهْلُ التَّوْحِيدِ وَالتَّحْقِيقِ، وَأفْضَلُ أَهْلِ الطَّرِيقِ، حَتَّى فَضَّلُوهُم عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَأَكَابِرِ مَشَايخِ الدِّينِ: لَمْ يَكُن بِنَا حَاجَة إلَى بَيَانِ فَسَادِ هَذه الْأَقْوَالِ، وَإِيضَاحِ هَذَا الضَّلَالِ، وَلَكِنْ يعْلَمُ أنَّ الضَّلَالَ لَا حَدَّ لَهُ، وَانَّ الْعُقُولَ إذَا فَسَدَتْ لَمْ يَبْقَ لِضَلَالِهَا حَدٌّ مَعْقُولٌ، فَسُبْحَانَ مَن فَرَّقَ بَيْنَ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، فَجَعَلَ مِنْهُ مَن هُوَ أَفْضَلُ الْعَالَمِينَ، وَجَعَلَ مِنْهُ مَن هُوَ شَرٌّ مِن الشَّيَاطِينِ.

فَهَذِهِ الْمَقَالَاتُ وَأَمْثَالُهَا مِن أَعْظَمِ الْبَاطِلِ، وَقَد نَبَّهْنَا عَلَى بَعْضِ مَا بِهِ يُعْرَفُ مَعْنَاهَا، وَأنَّهُ بَاطِلٌ وَالْوَاجِبُ إنْكَارُهَا؛ فَإِنَ إنْكَارَ هَذَا الْمُنْكَرِ السَّارِي فِي كَثِيرٍ مِن الْمُسْلِمِينَ أوْلَى مِن إنْكَارِ دِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، الَّذِي لَا يَضِلُّ بِهِ الْمُسْلِمُونَ

(1)

، لَا سِيَّمَا وَأقْوَالُ هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِن أقْوَالِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى

(1)

وكذلك يُقال في إنكار مقالات وكتابات أشباههم في هذا العصر من الرافضة والمنافقين ونحوهم؛ فالواجب على أهل العلم والاختصاص أن يردُّوا عليهم، ويكشفوا ضلالهم، ويُحذروا الناس من شرهم.

ص: 195

وَفِرْعَوْنَ، وَمَن عَرَفَ مَعْنَاهَا وَاعْتَقَدَهَا كَانَ مِن الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَمَرَ اللّهُ بِجِهَادِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التحريم: 9]، وَالنِّفَاقُ إذَا عَظُمَ كَانَ صَاحِبُهُ شَرًّا مِن كُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَاب، وَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِن النَّارِ.

وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْمَقَالَاتِ وَجْهٌ سَائِغٌ

(1)

، وَلَو قُدِّرَ أَنَ بَعْضَهَا يَحْتَمِلُ فِي اللُّغَةِ مَعْنًى صَحِيحًا، فَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا إذَا لَمْ يُعْرَفْ مَقْصُودُ صَاحِبِهَا، وَهَؤُلَاءِ قَد عُرِفَ مَقْصُودُهُمْ، كَمَا عُرِفَ دِينُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالرَّافِضَةِ، وَلَهُم فِي ذَلِكَ كتُبٌ مُصَنَّفَة، وَأَشْعَارٌ مُؤَلَّفَةٌ وَكَلَامٌ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا.

وَقَد عُلِمَ مَقْصُودُهُم بِالضَّرُورَةِ، فَلَا يُنَازِعُ فِي ذَلِكَ إلَّا جَاهِلٌ لَا يُلْفَتُ إلَيْهِ.

وَيَجِبُ بَيَانُ مَعْنَاهَا، وَكَشْفُ مَغْزَاهَا لِمَن أَحْسَنَ الظَّنَّ بِهَا، وَخِيفَ عَلَيْهِ أَنْ يُحْسِنَ الظَّنَّ بِهَا، أَو أَنْ يَضِلَّ، فَإِنَّ ضَرَرَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَعْظَمُ مِن ضَرَرِ السُّمُومِ الَّتِي يَأْكُلُونَهَا وَلَا يَعْرِفُونَ أَنَّهَا سُمُومٌ، وَأَعْظَمُ مِن ضَرَرِ السُّرَّاقِ وَالْخَوَنَةِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُم سُرَّاقٌ وَخَوَنَةٌ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ غَايَةُ ضررهم مَوْتُ الْإِنْسَانِ، أَو ذَهَابُ مَالِهِ، وَهَذِهِ مُصِيبَةٌ فِي دُنْيَاهُ، قَد يَكُونُ سَبَبًا لِرَحْمَتِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَيَسْقُونَ النَّاسَ شَرَابَ الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ فِي آنِيَةِ أَنْبِيَاءِ اللّهِ وَأَوْليَائِهِ، وَيَلْبَسُونَ ثِيَابَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللّهِ، وَهُم فِي الْبَاطِنِ مِن الْمُحَارِبِينَ للّهِ وَرَسُولِهِ، وَيُظْهِرُونَ كَلَامَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي قَوَالِبِ أَلْفَاظِ أَوْليَاءِ اللهِ الْمُحَقِّقِينَ، فَيَدْخُلُ الرَّجُلُ مَعَهُم عَلَى أَنْ يَصِيرَ مُؤْمِنًا وَليًّا للهِ، فَيَصِيرُ مُنَافِقًا عَدُوّا للهِ. [2/ 138 - 145، 266 - 268، 357 - 361]

247 -

مَا تَضَمَّنَهُ كِتَابُ "فُصُوصِ الْحُكْمِ" وَمَا شَاكَلَهُ مِن الْكَلَامِ: فَإِنَّهُ كُفْرٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَبَاطِنُهُ أَقْبَحُ مِن ظَاهِرِهِ.

(1)

فليست محلًا للاجتهاد.

ص: 196

وَهَذَا يُسَمَّى مَذْهَبَ أَهْلِ الْوَحْدَةِ، وَأَهْلِ الْحُلُولِ، وَأَهْلِ الاِتِّحَادِ، وَهُم يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُم الْمُحَقِّقِينَ.

وَهَؤُلَاءِ نَوْعَانِ:

نَوْعٌ يَقُولُ بِذَلِكَ مُطْلَقًا، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ صَاحِبِ الْفُصُوصِ ابْنِ عَرَبيٍّ وَأَمْثَالِهِ؛ مِثْلُ ابْنِ سَبْعِينَ، وَابْنِ الْفَارِضِ، والقونوي، والششتري، وَالتِّلْمِسَانِيّ، وَأَمْثَالِهِمْ مِمَن يَقُولُ: إنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ، وَيَقُولُونَ: إنَّ وُجُودَ الْمَخْلُوقِ هُوَ وُجُودُ الْخَالِقِ، لَا يُثْبِتُونَ مَوْجُودَيْنِ خَلَقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ؛ بَل يَقُولُونَ: الْخَالِقُ هُوَ الْمَخْلُوقُ وَالْمَخْلُوقُ هُوَ الْخَالِقُ.

وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: فَهُوَ قَوْل مَن يَقُولُ بِالْحُلُولِ وَالاِتِّحَادِ فِي معَيَّنٍ؛ كَالنَّصَارَى الَّذِينَ قَالُوا بِذَلِكَ فِي الْمَسِيحِ عِيسَى، وَالْغَالِيَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِذَلِكَ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَطَائِفَةٍ مِن أَهْلِ بَيْتِهِ .. وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ مِمَن يَقُولُ بِإِلهِيَّةِ بَعْضِ الْبَشَرِ، وَبِالْحُلُولِ وَالاِتِّحَادِ فِيهِ، وَلَا يَجْعَلُ ذَلِكَ مُطْلَقًا فِي كُلِّ شَيْءٍ. [2/ 364 - 368]

* * *

(الْمَعْدُومُ الْمُمْكِن الَّذِي لَا يَكُونُ)

248 -

أَمَّا الْمَعْدُومُ الْمُمْكِنُ الَّذِي لَا يَكُونُ: فَمِثْلُ إدْخَالِ الْمُؤْمِنِينَ النَّارَ، وَإِقَامَةِ الْقِيَامَةِ قَبْلَ وَقْتِهَا، وَقَلْبِ الْجِبَالِ يَوَاقِيتَ

(1)

وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا الْمَعْدُومُ مُمْكِنٌ وَهُوَ شَيْءٌ ثَابِتٌ فِي الْعَدَمِ عِنْدَ مَن يَقُولُ الْمَعْدُومُ شَيْءٌ، وَمَعَ هَذَا فَلَيْسَ بِمُقَدَّر كَوْنهُ، وَاللهُ يَعْلَمُهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، يَعْلَمُ أَنَّهُ مُمْكِنٌ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ، وَكَذَلِكَ الْمُمْتَنِعَاتُ؛ مِثْلُ شَرِيكِ الْبَارِي وَوَلَدِهِ؛ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ أَنَّهُ {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: 3، 4]، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ

(1)

جمع ياقوتة، وهو نوعٌ مِن الأحجارِ الكريمة.

ص: 197

لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَا وَليٌّ مِن الذُّلِّ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ حَيٌّ قَيّومٌ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ. [2/ 154 - 155]

* * *

("‌

‌ مَن كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللّهُ: وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ

")

249 -

قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَن كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ: وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ"

(1)

.

وَفَضَائِلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَحَقَائِقُهَا وَمَوْقِعُهَا مِن الذينِ: فَوْقَ مَا يَصِفُهُ الْوَاصِفُونَ، وَيَعْرِفُهُ الْعَارِفُونَ، وَهِيَ حَقِيقَةُ الْأمْرِ كُلِّهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} [الأنبياء: 25]. [2/ 256]

* * *

(أصنافُ النَّاسِ الَّذِينَ ضَلُّوا فِي الْقَدَرِ)

250 -

النَّاسُ -الَّذِينَ ضَلُّوا فِي الْقَدَرِ- عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ:

أ - قَوْمٌ آمنُوا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَكَذَّبُوا بِالْقَدَرِ، وَزَعَمُوا أَنَّ مِن الْحَوَادِثِ مَا لَا يَخْلُقُهُ اللهُ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ.

ب - وَقَوْمٌ آمَنُوا بالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَوَافَقُوا أهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّهُ مَا شَاءَ اللهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكهُ، لَكِنْ عَارَضُوا هَذَا بِالْأمْرِ وَالنَّهْيِ، وَسَمَّوْا هَذَا حَقِيقَةً، وَجَعَلُوا ذَلِكَ مُعَارضٌ لِلشرِيعَةِ.

وَفِيهِمْ مَن يَقُولُ: إنَّ مُشَاهَدَةَ الْقَدَرِ تَنْفِي الْمَلَامَ وَالْعِقَابَ، وَإِنَّ الْعَارِفَ يَسْتَوِي عِنْدَهُ هَذَا وَهَذَا.

وَهُم فِي ذَلِكَ مُتَنَاقِضُونَ مُخَالِفُونَ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَالذَّوْقِ وَالْوَجْدِ، فَإِنَّهُم

(1)

رواه أبو داود (3116)، وأحمد (22034)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود.

ص: 198

لَا يُسَوُّونَ بَيْنَ مَن أَحْسَنَ إلَيْهِم وَبَيْنَ مَن ظَلَمَهُمْ، وَلَا يُسَوُّونَ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ، وَالْقَادِرِ وَالْعَاجِزِ، وَلَا بَيْنَ الطَّيِّبِ وَالْخَبِيثِ، وَلَا بَيْنَ الْعَادِلِ وَالظَّالِمِ؛ بَل يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا، وَيُفَرِّقُونَ أَيْضًا بِمُوجِبِ أَهْوَائِهِمْ وَأَغْرَاضِهِمْ لَا بِمُوجِبِ الْأمْرِ وَالنَّهْيِ، وَلَا يَقِفُونَ لَا مَعَ الْقَدَرِ وَلَا مَعَ الْأَمْرِ؛ بَل كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَنْتَ عِنْدَ الطَّاعَةِ قَدَرِيٌّ، وَعِنْدَ الْمَعْصِيَةِ جَبْرِيٌّ؛ أَيُّ: مَذْهَبٍ يُوَافِقُ هَوَاك تَمَذْهَبْت بِهِ.

يَقُولُ: أَنْتَ إذَا أَطَعْتَ جَعَلْتَ نَفْسك خَالِقًا لِطَاعَتِك، فَتَنْسَى نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْك إنْ جَعَلَك مُطِيعًا لَهُ، وَإِذَا عَصَيْتَ لَمْ تَعْتَرِفْ بِأَنَّك فَعَلْت الذَّنْبَ؛ بَل تَجْعَلُ نَفْسَك بِمَنْزِلَةِ الْمَجْبُورِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مُرَادِهِ، أَو الْمُحَرَّكِ الَّذِي لَا إرَادَةَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ وَلَا عِلْمَ، وَكِلَاهُمَا خَطَأٌ.

ج - وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ مِن الضَّالِّينَ فِي الْقَدَرِ: مَن خَاصَمَ الرَّبَّ فِي جَمْعِهِ بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ -كَمَا يَذْكُرُونَ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ إبْلِيسَ-، وَهَؤُلَاءِ خُصَمَاءُ اللهِ وَأَعْدَاؤُهُ.

وَأَمَّا أَهْلُ الْإِيمَانِ: فَئومِنونَ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَيَفْعَلُونَ الْمَأْمُورَ وَيَتْرُكُونَ الْمَحْظُورَ، وَيَصْبِرُونَ عَلَى الْمَقْدُورِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90]؛ فَالتَّقْوَى تَتَنَاوَلُ فِعْلَ الْمَأْمُورِ وَتَرْكَ الْمَحْظُورِ، وَالصَّبْرُ يَتَضَمَّنُ الصَّبْرَ عَلَى الْمَقْدُورِ.

وَهَؤُلَاءِ إذَا أَصَابَتْهُم مُصِيبَةٌ فِي الْأَرْضِ أَو فِي أَنْفُسِهِمْ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ، وَأَنَّ مَا أَصَابَهُم لَمْ يَكُن لِيُخْطِئَهُمْ، وَمَا أَخْطَاهُم لَمْ يَكُن لِيُصِيبَهُمْ، فَسَلَّمُوا الْأَمْرَ للّهِ وَصَبَرُوا عَلَى مَا ابْتَلَاهُم بِهِ.

وَأَمَّا إذَا جَاءَ أَمْرٌ اللّهِ فَإِنَّهُم يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ، وَيُسَابِقُونَ إلَى الطَّاعَاتِ، وَيَدْعُونَ رَبَّهُم رَغَبًا وَرَهَبًا، وَيَجْتَنِبُونَ مَحَارِمَهُ، وَيَحْفَظُونَ حُدُودَهُ، وَيَسْتَغْفِرُونَ اللّهَ وَيَتُوبُونَ إلَيْهِ مِن تَقْصِيرِهِمْ فِيمَا أَمَرَ، وَتَعَدِّيهِمْ لِحُدُودِهِ؛ عِلْمًا

ص: 199

مِنْهُم بِأَنَّ التَّوْبَةَ فَرْضٌ عَلَى الْعِبَادِ دَائِمًا، وَاقْتِدَاءً بِنَبِيِّهِمْ حَيْثُ يَقُولُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:"أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إلَى رَبِّكُمْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللّهَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ في الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ"

(1)

. [2/ 300 - 304، 328]

251 -

الرضى نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: الرضى بِفِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ وَتَرْكِ مَا نُهِيَ عَنْهُ.

وَيَتَنَاوَلُ مَا أَبَاحَهُ اللّهُ مِن غَيْرِ تَعَدٍّ إلَى الْمَحْظُورِ كَمَا قَالَ: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62].

وَهَذَا الرضى وَاجِبٌ.

وَالنَّوْعُ الثَّانِي: الرضى بِالْمَصَائِبِ: كَالْفَقْرِ وَالْمَرَضِ وَالذُّلِّ، فَهَذَا الرضى مُسْتَحَبٌّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَقَد قِيلَ: إنَّهُ وَاجِبٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الصَّبْرُ. [10/ 682]

252 -

الرضى بِالْقَضَاءِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:

أَحَدُهَا: الرضى بِالطَّاعَاتِ، فَهَذَا طَاعَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا.

وَالثَّانِي: الرضى بِالْمَصَائِبِ، فَهَذَا مَأمُورٌ بِهِ: إمَّا مُسْتَحَبٌّ وَإِمَّا وَاجِبٌ.

وَالثَّالِثُ: الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ، فَهَذَا لَا يُؤْمَرُ بِالرضى بِهِ بَل يُؤْمَرُ بِبُغْضِهِ وَسَخَطِهِ فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّهُ وَلَا يَرْضَاهُ.

وَهُوَ وَإِنْ خَلَقَهُ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِن الْحِكْمَةِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَخْلُقَ مَا لَا يُحِبّهُ لِإِفْضَائِهِ إلَى الْحِكْمَةِ الَّتِي يُحِبُّهَا كَمَا خَلَقَ الشَّيَاطِينَ. فَنَحْنُ رَاضُونَ عَن اللّهِ فِي أَنْ يَخْلُقَ مَا يَشَاءُ، وَهُوَ مَحْمُودٌ عَلَى ذَلِكَ.

وَامَّا نَفْسُ هَذَا الْفِعْلِ الْمَذْمُومِ وَفَاعِلُهُ فَلَا نَرْضَى بِهِ وَلَا نَحْمَدُهُ.

وَفَرْقٌ بَيْنَ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَمَا يُرَادُ لِإِفْضَائِهِ إلَى الْمَحْبُوبِ مَعَ كَوْنِهِ مُبْغِضًا

(1)

رواه أحمد (17847).

ص: 200

مِن جِهَةٍ أُخْرَى؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ الْوَاحِدَ يُرَادُ مِن وَجْهٍ وَيُكرَهُ مِن وَجْهٍ آخَرَ. كَالْمَرِيضِ الَّذِي يَتَنَاوَلُ الدَّوَاءَ الْكَرِيهَ؛ فَإِنَّهُ يُبْغِضُ الدَّوَاءَ وَيَكْرَهُهُ وَهُوَ مَعَ هَذَا يُرِيدُ اسْتِعْمَالَهُ لِإِفْضَائِهِ إلَى الْمَحْبُوبِ لَا لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مَحْبُوبٌ. [10/ 482 - 483]

* * *

(أنواع الفناء)

253 -

الْفَنَاءُ الشَّرْعِي

(1)

: أَنْ يَفْنَى بِعِبَادَةِ اللهِ عَن عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ، وَبِطَاعَتِهِ عَن طَاعَةِ مَا سِوَاهُ، وَبِالتَّوَكلِ عَلَيْهِ عَن التَّوَكُّلِ عَلَى مَا سِوَاهُ، وَبِسُؤَالِهِ عَن سُؤَالِ مَا سِوَاهُ، وَبِخَوْفِهِ عَن خَوْفِ مَا سِوَاهُ، وَهَذَا هُوَ إخْلَاصُ الدِّينِ للهِ وَعِبَادَتُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي أَرْسَلَ اللّه بِهِ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ بِهِ الْكُتُبَ. [22/ 307 - 308]

254 -

الفناء الذي يفضي بصاحبه إلى مثل هذا

(2)

حال ناقص، وإن كان صاحبه غير مكلف، ولهذا لم يود مثل هذا عن الصحابة الذين هم أفضل هذه الأمة ولا عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الرسل. [10/ 60]

255 -

الْفَنَاءُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:

أ - فَنَاءٌ عَن وُجُودِ السِّوَى.

ب - وَفَنَاءٌ عَن شُهُودِ السِّوَى.

ج - وَفَنَاءٌ عَن عِبَادَةِ السِّوَى.

فَالْأوَّلُ: هُوَ فَنَاءُ أَهْلِ الْوَحْدَةِ الْمَلَاحِدَةِ، وَهُوَ أنْ يُجْعَلَ الْوُجُودُ وُجُودًا وَاحِدًا

(3)

.

وَأَمَّا الثَّانِي: فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَعْرِضُ لِكَثِير مِن السَّالِكِينَ .. وَهُوَ أَنْ يَغِيبَ

(1)

وهناك فناءٌ بدْعِيّ، وهو الذي يتكلم عنه أهل التصوف.

(2)

أي: زوال العقل.

(3)

بِحَيْثُ يَرَى أَنَّ وُجُودَ الْخَالِقِ هُوَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ. 2/ 343

ص: 201

بِمَوْجُودِهِ عَن وُجُودِهِ، وَبِمَعْبُودِهِ عَن عِبَادَتِهِ، وَبِمَشْهُودِهِ عَن شَهَادَتِهِ، وَبِمَذْكُورِهِ عَن ذِكْرِهِ، فَيَفْنَى مَن لَمْ يَكُنْ، وَيَبْقَى مَن لَمْ يَزَلْ.

فَهَذَا حَالُ مَن عَجَزَ عَن شُهُودِ شَيْءٍ مِن الْمَخْلُوقَاتِ إذَا شَهِدَ قَلْبُهُ وُجُودَ الْخَالِقِ، وَهُوَ أَمْرٌ يَعْرِضُ لِطَائِفَةِ مِن السَّالِكِينَ.

وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ: فَهَذَا حَالُ النَّبِيِّينَ وَأَتْبَاعِهِمْ، وَهُوَ أَنْ يَفْنَى بِعِبَادَةِ اللّهِ عَن عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ، وَبِحُبِّهِ عَن حُبِّ مَا سِوَاهُ، وَبِخَشْيَتِهِ عَن خَشْيَةِ مَا سِوَاهُ، وَطَاعَتِهِ عَن طَاعَةِ مَا سِوَاهُ، وَبِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ عَن التَّوَكُّلِ عَلَى مَا سِوَاهُ، فَهَذَا تَحْقِيقُ تَوْحِيدِ اللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهُوَ الْحَنِيفِيَّةُ مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ.

وَيَدْخُلُ فِي هَذَا: أَنْ يَفْنَى عَن اتِّبَاعِ هَوَاهُ بطَاعَةِ اللّهِ، فَلَا يُحِبُّ إلَّا للّهِ، وَلَا يُبْغِضُ إلَّا للّهِ، وَلَا يُعْطِي إلَّا للّهِ، وَلَا يَمْنَعُ إَلَّا للّهِ، فَهَذَا هُوَ الْفَنَاءُ الدِّينِيُّ الشَّرْعِيُّ، الَّذِي بَعَثَ اللّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتبهُ. [2/ 313 - 314، 3/ 118 - 119]

* * *

(تحقيق القول في رؤية اللّه تعالى)

256 -

اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ أَحَدًا مِن الْمُؤْمِنِينَ لَا يَرَى اللهَ بِعَيْنِهِ فِي الدُّنْيَا، وَلَمْ يَتَنَازَعُوا إلَّا فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً، مَعَ أَنَّ جَمَاهِيرَ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ بِعَيْنِهِ فِي الدُّنْيَا، وَعَلَى هَذَا دَلَّت الْآثَارُ الصَّحِيحَةُ الثَّابِتَةُ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ.

وَلَمْ يَثْبُتْ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا عَن الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَمْثَالِهِمَا أَنَّهُم قَالُوا: إنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنِهِ؛ بَل الثَّابِتُ عَنْهُم إمَّا إطْلَاق الرُّؤيَةِ، وَإِمَّا تَقْيِيدُهَا بِالْفُؤَادِ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِن أَحَادِيثِ الْمِعْرَاجِ الثَّابِتَةِ أَنَّهُ رَآه بِعَيْنِهِ.

وَقَوْلُهُ: "أَتَانِي الْبَارِحَةَ رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ" الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ التّرْمِذِيُّ

ص: 202

وَغَيْرُهُ

(1)

: إنَّمَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ فِي الْمَنَامِ، هَكَذَا جَاءَ مفَسَّرًا.

وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أُمِّ الطُّفَيْلِ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا -مِمَّا فِيهِ رُؤْيَةُ رَبِّهِ- إنَّمَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ، كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي الْأَحَادِيثِ.

وَالْمِعْرَاجُ كَانَ بِمَكَّةَ.

وَقَد ثَبَتَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ أَنَّ مُوسَى قِيلَ لَهُ: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، وَأَنَّ رُؤَيةَ اللهِ أَعْظَمُ مِن إنْزَالِ كِتَابٍ مِن السَّمَاءِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً} [النساء: 153]، فَمَن قَالَ إنَّ أَحَدًا مِن النَّاسِ يَرَاهُ فَقَد زَعَمَ أنه أَعْظَمُ مِن مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، وَدَعْوَاهُ أعْظَمُ مِن دَعْوَى مَن ادَّعَى أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابًا مِن السَّمَاءِ.

وَالنَّاسُ فِي رُؤْيَةِ اللهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

فَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَأَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَ اللهَ يُرَى فِي الْآخِرَةِ بِالْأَبْصَارِ عِيَانًا، وَأَنَّ أَحَدًا لَا يَرَاهُ فِي الدُّنْيَا بِعَيْنِهِ، لَكِنْ يُرَى فِي الْمَنَامِ، ويحْصُلُ لِلْقُلُوبِ مِن الْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ مَا يُنَاسِبُ حَالَهَا.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ نفاة الْجَهْمِيَّة أَنَّهُ لَا يُرَى فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ.

وَالثَّالِثُ: قَوْلُ مَن يَزْعُمُ أَنَّهُ يُرَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَحُلُولِيَّةُ الْجَهْمِيَّة يَجْمَعُونَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، فَيَقُولُونَ: إنَّهُ لَا يُرَى فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَإِنَّهُ يُرَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. [2/ 335 - 337]

* * *

(1)

الترمذي (3234)، والدارمي (2195)، وأحمد (3484)، وقال الترمذي: حديث حسن غريب.

ص: 203

(توجيه حديث: مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، جُعْت فَلَمْ تُطْعِمْنِي)

257 -

فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ"

(1)

عَن أَبِي هُرَيْرَةَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ اللهَ عز وجل يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَو عُدْتَهُ لَوَجَدْتَني عِنْدَهُ؟

يَا ابْنَ آدَمَ جُعْت

(2)

فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ. وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأنتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ، فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَو أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي؟ "

فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ: ذَكَرَ الْمَعْنَيَيْنِ الْحَقَّيْنِ، وَنَفَى الْمَعْنَيَيْنِ الْبَاطِلَيْنِ وَفَسَّرَهُمَا.

فَقَوْلُهُ: "جُعْت وَمَرضْت" لَفْظُ اتِّحَادٍ يُثْبِتُ الْحَقَّ.

وَقَوْلُهُ: "لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ وَوَجَدْت ذَلِكَ عِنْدِي" نَفْيٌ لِلِاتِّحَادِ الْعَيْنِيِّ بِنَفْيِ الْبَاطِلِ، وَإِثْبَاتٌ لِتَمْيِيزِ الرَّبِّ عَن الْعَبْدِ.

وَقَوْلُهُ: "لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ" لَفْظُ ظَرْفٍ، وَبِكُلٍّ يَثْبُتُ الْمَعْنَى الْحَقُّ مِن الْحُلُولِ الْحَقِّ، الَّذِي هُوَ بِالْإِيمَانِ لَا بِالذَّاتِ.

وَفِي قَوْلِهِ فِي الْمَرِيضِ: "وَجَدْتنِي عِنْدَهُ"، وَفِي الْجَائِعِ:"لَوَجَدْت ذَلِكَ عِنْدِي" فَرْقَانِ حَسَنٌ؛ فَإِنَّ الْمَرِيضَ الَّذِي تُسْتَحَبُّ عِيَادَتُهُ وَيَجِدُ اللهَ عِنْدَهُ: هُوَ الْمُؤْمِنُ بِرَّبِّهِ، الْمُوَافِقُ لِإِلَهِهِ، الَّذِي هُوَ وَلِيُّهُ،

وَأَمَّا الطَّاعِمُ: فَقَد يَكُونُ فِيهِ عُمُومٌ لِكُل جَائِعٍ يُسْتَحَبُّ إطْعَامُهُ

(3)

؛ فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245].

(1)

(2569).

(2)

لفظ مسلم: اسْتَطْعَمْتُكَ.

(3)

فيشمل المؤمن والكافر، ولكن الشيخ لم يرض هذا التوجيه كما سيأتي.

ص: 204

فَمَن تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ وَاجِبَةٍ أَو مُسْتَحَبَّةٍ: فَقَد أَقْرَضَ اللهَ سُبْحَانَهُ بِمَا أَعْطَاهُ لِعَبْدِهِ.

لَكِنَّ الْأَشْبَهَ: أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ الْمَذْكورَ فِي الْجُوعِ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْمَرَضِ، وَهُوَ الْعَبْدُ الْوَلِيُّ الَّذِي فِيهِ نَوْعُ اتِّحَادٍ، وَإِن كَانَ اللهُ يُثِيبُ عَلَى طَعَامِ الْفَاسِقِ وَالذِّمِّيِّ.

وَنَظِيرُ الْقَرْضِ: النَّصْرُ فِي مِثْل قَوْله تَعَالَى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} [الحديد: 25] وَنَحْوُ ذَلِكَ.

فَقَد ذَكَرَ اللهُ فِي الْقُرْآنِ الْقَرْضَ وَالنَّصْرَ، وَجَعَلَهُ لَهُ، هَذَا فِي الرِّزْقِ وَهَذَا فِي النَّصْرِ.

وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْعِيَادَةُ، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ الْمَذْكُورَة فِي قَوْله تَعَالَى:{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة: 177]، وَقَوْلُهُ:{مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} [البقرة: 214].

وَإِنَّمَا فِي الْحَدِيثِ أَمْرُ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْفَرِدُ بِهِ الْوَاحِدُ الْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: "عَبْدِي مَرِضْت وَجُعْت"، فَلِذَلِكَ عَاتَبَهُ.

وَأَمَّا النَّصْرُ: فَيحْتَاجُ فِي الْعَادَةِ إلَى عَدَدٍ، فَلَا يَعْتَبُ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ مُعَيَّنٍ غَالِبًا.

أَو الْمَقْصُودُ بِالْحَدِيثِ التَّنْبِيهُ، وَفِي الْقُرْآنِ النَّصْرُ وَالرِّزْقُ، وَلَيْسَ فِيهِ

الْعِيَادَةُ؛ لِأَنَّ النَّصْرَ وَالْقَرْضَ فِيهِ عُمُومٌ لَا يَخْتَصُّ بِشَخْص دُونَ شَخْصٍ، وَأَمَّا

الْعِيَادَةُ: فَإِنَّمَا تَكُونُ لِمَن يَجِدُ الْحَقَّ عِنْدَهُ

(1)

. [2/ 391 - 393]

* * *

(1)

فرّق الشيخ رحمه الله بين الِاتِّحَادِ النَّوْعِيّ الْحُكْمِيّ والِاتِّحَادِ الْعَيْنِيِّ الذَّاتِيِّ.

وجعل ما جاء في الحديث من النوع الأول، وقال: فَسَّرَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ -سبحانه- فِي هَذَا الْحَدِيثِ أنَّهُ جُوعُ عَبْدِهِ وَمَحْبُوبِهِ؛ لِقَوْلهِ: "لَوَجَدْت ذَلِكَ عِنْدِي" وَلَمْ يَقُلْ: لَوَجَدْتنِي قَد أَكَلْته، =

ص: 205

(حكم قول: مَا رَأَيْت شَيْئًا إلَّا وَرَأَيْت اللهَ قَبْلَهُ، أَو رَأَيْت اللهَ بَعْدَهُ، أَو رَأَيْت اللهَ فِيهِ)

258 -

إِذَا قَالَ الْقَائِلُ: مَا رَأَيْت شَيْئًا إلَّا وَرَأَيْت اللهَ قَبْلَهُ لِأَنَّهُ رَبُّهُ، وَالرَّبُّ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعَبْدِ، أَو رَأَيْت اللهَ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ آيَتُهُ وَدَلِيلُهُ وَشَاهِدُهُ، وَالْعِلْمُ بِالْمَدْلُولِ بَعْدَ الدَّلِيلِ، أَو رَأَيْت اللهَ فِيهِ بِمَعْنَى ظُهُورِ آثَارِ الصَّانِعِ فِي صَنْعَتِهِ: فَهَذَا صَحِيحٌ.

بَل الْقُرْآنُ كُلُّهُ يُبَيِّنُ هَذَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ دِينُ الْمُرْسَلِينَ، وَسَبِيلُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِن النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَهُوَ اعْتِقَادُ الْمُسْلِمِينَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. [2/ 401]

* * *

‌(حكم قول: إنَّ مَا ثَمَّ إلَّا اللهُ

؟)

259 -

وسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رضي الله عنه: عَمَّن يَقُولُ: إنَّ مَا ثَمَّ إلَّا اللهُ؟

فَأَجَابَ رضي الله عنه: قَوْلُ الْقَائِلِ مَا ثَمَّ إلَّا اللهُ: لَفْظٌ مُجْمَلٌ، يَحْتَمِلُ مَعْنًى صَحِيحًا وَمَعْنًى بَاطِلًا، فَإِنْ أَرَادَ مَا ثَمَّ خَالِقٌ إلَّا اللهُ، وَلَا رَبٌّ إلَّا اللهُ، وَلَا يُجِيبُ الْمُضْطَرِّينَ وَيَرْزُقُ الْعِبَادَ إلَّا اللهُ .. فَهَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا صَحِيحَةٌ، وَهِيَ مِن صَرِيحِ التَّوْحِيدِ، وَبِهَا جَاءَ الْقُرْآنُ.

= وَلقَوْلِهِ: "لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ" وَلَمْ يَقُلْ: لَوَجَدْتني إيَّاهُ.

وَذَلِكَ لِأنَّ الْمُحِبَّ يَتَّفِقُ هُوَ وَمَحْبُوبُهُ بِحَيْثُ يَرْضَا أَحَدُهُمَا بِمَا يَرْضَاهُ الْآخَرُ، وَيَأْمُرُ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ، وَيُبْغِضُ مَا يُبْغِضُهُ، وَيَكْرَهُ مَا يَكْرَهُهُ، وَيَنْهَى عَمَّا يَنْهَى عَنْهُ.

وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَرْضَا الْحَقُّ لِرِضَاهُمْ، وَيَغْضَبُ لِغَضَبِهِمْ، وَالْكَامِلُ الْمُطْلَقُ فِي هَؤُلَاءِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلمَ.

وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِيهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10]، وَقَالَ:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80].

وَقَد جَاءَ فِي الْإِنْجِيلِ الَّذِي بِأَيْدِي النَّصَارَى كَلِمَاتٌ مُجْمَلَةٌ إنْ صَحَّ أَنَّ الْمَسِيحَ قَالَهَا فَهَذَا مَعْنَاهَا؛ كَقَوْلِهِ: أنَا وَأَبِي وَاحِدٌ. اهـ. (2/ 461 - 462)

ص: 206

وَأَمَّا إنْ أَرَادَ الْقَائِلُ: "مَا ثَمَّ إلَّا اللهُ" مَا يَقُولُهُ أَهْلُ الِاتِّحَادِ مِن أَنَّهُ مَا ثَمَّ مَوْجُودٌ إلَّا اللهُ، وَيَقُولُونَ: لَيْسَ إلَّا اللهُ؛ أَيْ: لَيْسَ مَوْجُودٌ إلَّا اللهُ، وَيَقُولُونَ: إنَّ وُجُودَ الْمَخْلُوقَاتِ هُوَ وُجُودُ الْخَالِقِ، وَالْخَالِقُ هُوَ الْمَخْلُوقُ، وَالْمَخْلُوقُ هُوَ الْخَالِقُ، وَالْعَبْدُ هُوَ الرَّبُّ، وَالرَّبُّ هُوَ الْعَبْدُ، وَنَحْو ذَلِكَ مِن مَعَانِي الِاتِّحَادِيَّةِ، الَّذِينَ لَا يُفَرِّقونَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، وَلَا يُثْبِتُونَ الْمُبَايَنَةَ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ، وَنَحْو ذَلِكَ مِن الْمَعَانِي الَّتِي تُوجَدُ فِي كَلَامِ ابْنِ عَرَبِيِّ الطَّائِي، وَابْنِ سَبْعِينَ، وَابْنِ الْفَارِضِ، والتلمساني، وَنَحْوِهِمْ مِن الِاتِّحَادِيَّةِ.

وَكَذَلِكَ مَن يَقُولُ بِالْحُلُولِ كَمَا يَقُولُهُ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ اللهَ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، ويجْعَلُونَهُ مُخْتَلِطًا بِالْمَخْلُوقَاتِ، حَتَّى إنَّ هَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَهُ فِي الْكِلَابِ وَالْخَنَازِيرِ وَالنَّجَاسَاتِ، أَو يَجْعَلُونَ وُجُودَ ذَلِكَ وُجُودَهُ، فَمَن أَرَادَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ فَهُوَ مُلْحِدٌ ضَالٌّ، يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ؛ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. [2/ 488 - 490]

* * *

‌(حديث: "لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرُ

")

260 -

قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرُ"

(1)

: مَرْوِيٌّ بِأَلْفَاظٍ أُخَر كَقَوْلِهِ: "يَقُولُ اللهُ: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الْأَمْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ"

(2)

.

فَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: "بِيَدِي الْأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ" يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ الزَّمَانُ؛ فَإِنَّهُ قَد أَخْبَرَ أَنَّهُ يُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَالزَّمَانُ هُوَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، فَدَلَّ نَفْسُ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ هُوَ يُقَلِّبُ الزَّمَانَ وَيُصَرِّفُهُ.

وَقَد أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِخَلْقِهِ الزَّمَانَ فِي غَيْرِ مَوْضِع كَقَوْلِهِ: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1]، وَقَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي

(1)

رواه مسلم (2246).

(2)

رواه البخاري (4826)، ومسلم (2246).

ص: 207

فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)} [الأنبياء: 33] .. وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن النُّصُوصِ الَّتِى تُبَيِّن أَنَّهُ خَالِقُ الزَّمَانِ

(1)

.

وَلَا يَتَوَهَّمُ عَاقِلٌ أَنَّ اللهَ هُوَ الزَّمَانُ.

إذَا تَبَيَّنَ هَذَا: فَلِلنَّاسِ فِي الْحَدِيثِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ:

أَحَدُهُمَا -وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ-: أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ خَرَجَ الْكَلَامُ فِيهِ لِرَدِّ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ وَمَن أَشْبَهَهُمْ؛ فَإِنَّهُم إذَا أَصَابَتْهُم مُصِيبَةٌ، أَو مُنِعُوا أَغْرَاضَهُمْ: أَخَذُوا يَسُبُّونَ الدَّهْرَ وَالزَّمَانَ، يَقُولُ أَحَدُهُمْ: قَبَّحَ اللهُ الدَّهْرَ الَّذِي شَتَّتَ شَمْلَنَا، وَلَعَنَ اللهُ الزَّمَانَ الَّذِي جَرَى فِيهِ كَذَا وَكَذَا.

وَالْقَوْلُ الثانِي -قَوْلُ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ وَطَائِفَةٍ مَعَهُ مِن أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفيَّةِ-: أنَّ الدَّهْرَ مِن أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى، وَمَعْنَاهُ: الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ.

وَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْأَوَّلُ لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، وَهُوَ الْآخِرُ لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ، فَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ.

إنَّمَا النِّزَاعُ فِي كَوْنِهِ يُسَمَّى دَهْرًا بِكُلِّ حَالٍ.

فَقَد أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ -وَهُوَ مِمَّا عُلِمَ بِالْعَقْلِ الصَّرِيحِ- أَنَّ اللهَ -سبحانه وتعالي- لَيْسَ هُوَ الدَّهْرَ الَّذِي هُوَ الزَّمَانُ أَو مَا يَجْرِي مَجْرَى الزَّمَانِ. [2/ 491 - 494]

* * *

(1)

وما خلقه لا يكون صفةً له، بل صفاته من ذاته سبحانه وتعالى.

ص: 208

‌كتاب مجمل اعتقاد السلف

(فوائد من العقيدة التدمرية)

261 -

الْكَلَامُ فِي بَابِ التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ: هُوَ مِن بَابِ الْخَبَرِ الدَّائِرِ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ.

وَالْكَلَامُ فِي الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ: هُوَ مِن بَابِ الطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ، الدَّائِرُ بَيْنَ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَبَيْنَ الْكَرَاهَةِ وَالْبُغْضِ، نَفْيًا وَإِثْبَاتًا

(1)

. [3/ 2]

262 -

قَد عُلِمَ أنَّ طَرِيقَةَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا: إثْبَاتُ مَا أَثْبَتَهُ مِن

(1)

التوحيد والصفات والشرع والقدر: أصلان من أصول الاعتقاد:

فالأصل الأول: هو الإيمان بأن الله واحد لا شريك له ولا شبيه، والإيمان بأنه سبحانه المتصف بصفات الكمال التي وصف بها نفسه ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم.

والأصل الثاني: الإيمان بالشرع والقدر.

والشرع: هو دين الله تعالى الذي شرعه لعباده، من الأوامر والنواهي، وأصل ذلك كله عبادته وحده لا شريك له. [يُنظر: ضرح الرسالة التدمرية للعلامة: عبد الرحمن بن ناصر البراك: (38)].

والشيخ ذكر أنّ الكلام في التوحيد والصفات هو من باب الخبر الدائر بين النفي والإثبات من قبل المتكلم، المقابل بالتصديق أو التكذيب من قبل المخاطب.

فقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58] هذا أثبات، وقوله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] هذا نفي.

وأما الكلام في الشرع والقدر: فهو من باب الطلب الدائر بين الأمر والنهي من قبل المتكلم، المقابل بالطاعة أو المعصية من قبل المخاطب؛ لأن المطلوب إما محبوب لله ورسوله فيكون مأمورًا به، وإما مكروه لله ورسوله فيكون منهيًّا عنه.

فعندما يأمرك الله بأمر؛ مثل: أقم الصلاة، فإنك ستقابل هذا الأمر بإرادةٍ أو كراهة، ولا تقابله بتصديق أو تكذيب؛ لأنه ليس خبرًا، بل أمرًا، ولكن عندما يقول الله:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1] فإنك إما أن تصدق أن الله أحد واحد، أو تكذب لأنه خبر. [يُنظر: تقريب التدمرية، وشرحها للعلامة ابن عثيمين:(ص 9)].

ص: 209

الصِّفَاتِ مِن غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ، وَمِن غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ.

وَكَذَلِكَ يَنْفُونَ عَنْهُ مَا نَفَاهُ عَن نَفْسِهِ مَعَ إثْبَاتِ مَا أَثْبَتَهُ مِن الصِّفَاتِ مِن غَيْرِ إلْحَادٍ، لَا فِي أَسْمَائِهِ وَلَا فِي آيَاتِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى ذَمَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)} [الأعراف: 180].

فَطَرِيقَتُهُم تَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، مَعَ نَفْيِ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ، إثْبَاتًا بِلَا تَشْبِيهٍ، وَتَنْزِيهًا بِلَا تَعْطِيلٍ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فَفِي قَوْلِهِ:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} رَدٌّ لِلتَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ، وَقَوْلُهُ:{وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} رَدٌّ لِلْإِلْحَادِ وَالتَّعْطِيلِ. [3/ 4]

263 -

اللهُ سُبْحَانَهُ بَعَثَ رُسُلَهُ بِإِثْبَاتٍ مُفَصَّلٍ، وَنَفْيٍ مُجْمَلٍ؛ فَأَثْبَتُوا للهِ الصِّفَاتِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ، وَنَفَوْا عَنْهُ مَا لَا يَصْلُحُ لَهُ مِن التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} ؛ أَيْ: نَظِيرًا يَسْتَحِقُّ مِثْل اسْمِهِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: 3، 4].

وَأَمَّا الْإِثْبَات الْمُفَصَّلُ: فَإِنَّهُ ذَكَرَ مِن أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ مَا أَنْزَلَهُ فِي مُحْكَمِ آيَاتِهِ كَقَوْلِهِ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} الآيَةَ [البقرة: 255] بِكَمَالِهَا، وَقَوْلِهِ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2)} [الإخلاص: 1، 2] السُّورَةَ، وَقَوْلِهِ:{هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم: 2]، {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54]، {هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الجاثية: 37]، {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الأحقاف: 8].

وَأَمَّا مَن زَاغَ وَحَادَ عَن سَبِيلِهِمْ مِن الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَمَن دَخَلَ فِي هَؤُلَاءِ مِن الصَّابِئَةِ والمتفلسفة وَالْجَهْمِيَّة وَالْقَرَامِطَةِ

ص: 210

وَالْبَاطِنِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ: فَإِنَّهُم عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ يَصِفُونَهُ بِالصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ، وَلَا يُثْبِتُونَ إلَّا وُجُودا مُطْلَقًا، لَا حَقِيقَةَ لَة عِنْدَ التَّحْصِيلِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إلَى وُجُودٍ فِي الْأَذْهَانِ، يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُهُ فِي الْأَعْيَانِ.

فَقَوْلُهُم يَسْتَلْزِمُ غَايَةَ التَّعْطِيلِ وَغَايَةَ التَّمْثِيلِ؛ فَإِنَّهُم يُمَثِّلُونَهُ بِالْمُمْتَنِعَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ وَالْجَمَادَاتِ، وَيُعَطِّلُونَ الْأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ تَعْطِيلًا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الذَّاتِ. [3/ 4 - 7]

264 -

إِذَا كَانَ مِن الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ فِي الْوُجُودِ مَا هُوَ قَدِيمٌ وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ، وَمَا هُوَ مُحْدَثٌ مُمْكِنٌ يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ: فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مَوْجُودٌ وَهَذَا مَوْجُودٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِن اتِّفَاقِهِمَا فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ هَذَا مِثْل وُجُودِ هَذَا؛ بَل وُجُودُ هَذَا يَخُصُّهُ، وَوُجُودُ هَذَا يَخُصُّهُ، وَاتِّفَاقُهُمَا فِي اسْمٍ عَامٍّ: لَا يَقْتَضِي تَمَاثُلَهُمَا فِي مُسَمَّى ذَلِكَ الِاسْمِ عِنْدَ الْإِضَافَةِ وَالتَّخْصِيصِ وَالتَّقْيِيدِ وَلَا فِي غَيْرِهِ.

فَلَا يَقُولُ عَاقِلٌ: إذَا قِيلَ أَنَّ الْعَرْشَ شَئْءٌ مَوْجُودٌ وَأَنَّ الْبَعُوضَ شَيْءٌ مَوْجُودٌ: إنَّ هَذَا مِثْل هَذَا؛ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي مُسَمَّى الشَّيْءِ وَالْوُجُودِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخَارجِ شَيْءٌ مَوْجُودٌ غَيْرُهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ؛ بَل الذِّهْنُ يَأْخُذُ مَعْنًى مُشْتَرَكًا كُلِّيًّا هُوَ مُسَمَّى الِاسْمِ الْمُطْلَقِ.

وَإِذَا قِيلَ هَذَا مَوْجُودٌ وَهَذَا مَوْجُودٌ: فَوُجُودُ كُلٍّ مِنْهُمَا يَخُصُّهُ لَا يَشْرَكُهُ فِيهِ غَيْرْهُ، مَعَ أَنَّ الِاسْمَ حَقِيقَةٌ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا.

وَلهَذَا سَمَّى اللهُ نَفْسَهُ بِأَسْمَاء وَسَمَّى صِفَاتِهِ بِأَسْمَاء، وَكَانَت تِلْكَ الْأَسْمَاءُ مُخْتَصَّةً بِهِ إذَا أُضِيفَتْ إلَيْهِ، لَا يَشْرَكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ، وَسَمَّى بَعْضَ مَخْلُوقَاتِهِ بِأَسْمَاء مُخْتَصَّةٍ بِهِم مُضَافَةٍ إلَيْهِمْ، تُوَافِقُ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ إذَا قُطِعَتْ عَن الْإِضَافَةِ وَالتَّخْصِيصِ، وَلَمْ يَلْزَمْ مِن اتّفَاقِ الِاسْمَيْنِ وَتَمَاثُلِ مُسَمَّاهُمَا وَاتِّحَادِهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّجْرِيدِ عَن الْإِضَافَةِ وَالتَّخْصِيصِ: اتِّفَاقُهُمَا، وَلَا

ص: 211

تَمَاثُلَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْإِضَافَةِ وَالتَّخْصِيصِ، فَضْلًا عَن أَنْ يَتَّحِدَ مُسَمَّاهُمَا عِنْدَ الْإِضَافَةِ وَالتَّخْصِيصِ.

فَقَد سَمَّى اللهُ نَفْسَهُ حَيًّا فَقَالَ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]، وَسَمَّى بَعْضَ عِبَادهِ حَيًّا فَقَالَ:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [يونس: 31].

وَلَيْسَ هَذَا الْحَي مِثْل هَذَا الْحَيِّ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ الْحَيَّ اسْمٌ للهِ مُخْتَصٌّ بِهِ، وَقَوْلَهُ:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [الروم: 19] اسْمٌ لِلْحَيِّ الْمَخْلُوقِ مُخْتَصٌّ بِهِ، وَإِنَّمَا يَتَّفِقَانِ إذَا أُطْلِقَا وَجُرِّدَا عَن التَّخْصِيصِ.

وَكَذَلِكَ سَمَّى اللهُ نَفْسَهُ عَلِيمًا حَلِيمًا، وَسَمَّى بَعْضَ عِبَادِهِ عَلِيمًا فَقَالَ:{وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: 28]؛ يَعْنِي: إسْحَاقَ، وَسَمَّى آخَرَ حَلِيمًا فَقَالَ:{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)} [الصافات: 101]؛ يَعْنِي: إسْمَاعِيلَ، وَلَيْسَ الْعَلِيمُ كَالْعَلِيمِ، وَلَا الْحَلِيمُ كَالْحَلِيمِ.

وَسَمَّى نَفْسَهُ الْجَبَّارَ الْمُتَكَبِّرَ، وَسَمَّى بَعْضَ خَلْقِهِ بِالْجَبَّارِ الْمُتَكَبِّرِ، قَالَ:{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35]، وَلَيْسَ الْجَبَّارُ كَالْجَبَّارِ، وَلَا الْمُتَكَبِّرٌ كَالْمُتَكَبِّرِ، وَنَظَائِرُ هَذَا مُتَعَدِّدَةٌ.

وَكَذَلِكَ سَمَّى صِفَاتِهِ بِأَسْمَاء، وَسَمَّى صِفَاتِ عِبَادِهِ بِنَظِيرِ ذَلِكَ، فَقَالَ:{وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]، وَقَالَ:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات: 58] .. وَسَمَّى صفَةَ الْمَخْلُوقِ عِلْمًا وَقُوَّةً فَقَالَ: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، وَقَالَ:{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76].

وَهَكَذَا وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْغَضَبِ فَقَالَ: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ} [الفتح: 6]، وَوَصَفَ عَبْدَهُ بِالْغَضَبِ فِي قَوْلِهِ:{فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [طه: 86]، وَليسَ الْغَضَبُ كَالْغَضَبِ .. وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ.

ص: 212

فَلَا بُدَّ مِن إثْبَاتِ مَا أَثْبَتَهُ اللهُ لِنَفْسِهِ، وَنَفْيِ مُمَاثَلَتِهِ بِخَلْقِهِ، فَمَن قَالَ: لَيْسَ للهِ عِلْمٌ وَلَا قُوَّةٌ وَلَا رَحْمَةٌ وَلَا كَلَامٌ، وَلَا يُحِبُّ وَلَا يَرْضَا وَلَا نَادَى وَلَا نَاجَى وَلَا اسْتَوَى: كَانَ مُعَطِّلًا جَاحِدًا مُمَثِّلًا للهِ بِالْمَعْدُومَاتِ وَالْجَمَادَاتِ.

وَمَن قَالَ: لَهُ عِلْمٌ كَعِلْمِي، أَو قُوَّةٌ كَقُوَّتِي، أَو حُبٌّ كَحُبِّي، أَو رِضَاءٌ كَرِضَايَ، أَو يَدَانِ كيداي، أَو اسْتِوَاءٌ كَاسْتِوَائِي: كَانَ مُشَبِّهًا مُمَثّلًا للهِ بِالْحَيَوَانَاتِ؛ بَل لَا بُدَّ مِن إثْبَاتٍ بِلَا تَمْثيلٍ، وَتَنْزِيهٍ بِلَا تَعْطِيلٍ. [3/ 9 - 16]

265 -

الْقَوْلُ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ كَالْقَوْلِ فِي بَعْضٍ:

- فَإِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ مِمَن يَقُولُ: بِأَنَ اللهَ حَيٌّ بِحَيَاة، عَلِيمٌ بِعِلْم، قَدِيرٌ بِقُدْرَة، سَمِيعٌ بِسَمْع، بَصِيرٌ بِبَصَر، مُتَكَلِّمٌ بِكلَام، مُرِيدٌ بِإِرَادَة، وَيَجْعَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ حَقِيقَةً، وَيُنَارعُ فِي مَحَبَّتِهِ وَرِضَاه وَغَضَبِهِ وَكَرَاهَتِهِ، فَيَجْعَلُ ذَلِكَ مَجَازًا، وَيُفَسِّرُهُ إمَّا بِالْإِرَادَةِ، وَإِمَّا بِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ مِن النِّعَمِ وَالْعُقُوبَاتِ، فَيُقَالُ لَهُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا نَفَيْتَهُ وَبَيْنَ مَا أَثْبَتَّهُ؛ بَل الْقَوْلُ فِي أَحَدِهِمَا كَالْقَوْلِ فِي الْآخَرِ.

- وَإِن كَانَ الْمُخَاطَبُ مِمَن يُنْكِرُ الصِّفَاتِ وَيُقِرُّ بِالْأَسْمَاءِ كَالْمُعْتَزِلِيِّ الَّذِي يَقُولُ: إنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ، وَيُنْكِرُ أَنْ يَتَّصِفَ بِالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، قِيلَ لَهُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ إثْبَاتِ الْأَسْمَاءِ وَإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ، فَإِنَّك إنْ قُلْت: إثْبَات الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ يَقْتَضِي تَشْبِيهًا أَو تَجْسِيمًا؛ لِأَنَّا لَا نَجِدُ فِي الشَّاهِدِ مُتَّصِفًا بِالصِّفَاتِ إلَّا مَا هُوَ جِسْمٌ.

قِيلَ لَك: وَلَا نَجِدُ فِي الشَّاهِدِ مَا هُوَ مُسَمُّى حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ إلَّا مَا هُوَ جِسْمٌ، فَإِنْ نَفَيْت مَا نَفَيْت لِكَوْنِك لَمْ تَجِدْهُ فِي الشَّاهِدِ إلَّا لِلْجِسْمِ فَانْفِ الْأَسْمَاءَ؛ بَل وَكُلَّ شَيْءٍ؛ لِأَنَّك لَا تَجِدُهُ فِي الشَّاهِدِ إلَّا لِلْجِسْمِ، فَكُلُّ مَا يَحْتَجُّ بِهِ مَن نَفَى الصِّفَاتِ يَحْتَجُّ بِهِ نَافِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، فَمَا كَانَ جَوَابًا لِذَلِكَ كَانَ جَوَابًا لِمُثْبِتِي الصِّفَاتِ.

- وَإِن كَانَ الْمُخَاطَبُ مِن الْغُلَاةِ نفاة الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَقَالَ: لَا

ص: 213

أَقُولُ: هُوَ مَوْجُودٌ وَلَا حَيٌّ وَلَا عَلِيمٌ وَلَا قَدِيرٌ؛ بَل هَذِهِ الْأَسْمَاءُ لِمَخْلُوقَاتِهِ، إذ هِيَ مَجَازٌ؛ لِأنَّ إثْبَاتَ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ التَّشْبِيهَ بِالْمَوْجُودِ الْحَيِّ الْعَلِيمِ.

قِيلَ لَهُ: كَذَلِكَ إذَا قُلْت: لَيْسَ بِمَوْجُود وَلَا حَيٍّ وَلَا عَلِيمٍ وَلَا قَدِيرٍ: كَانَ ذَلِكَ تَشْبِيهًا بِالْمَعْدُومَاتِ، وَذَلِكَ أَقْبَحُ مِن التَّشْبِيهِ بِالْمَوْجُودَاتِ.

وَقِيلَ ثَانِيًا: فَمَا لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ وَالْعَمَى وَالْبَصَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِن الْمُتَقَابِلَاتِ أَنْقَصُ مِمَّا يَقْبَلُ ذَلِكَ، فَالْأَعْمَى الَّذِي يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِالْبَصَرِ أَكْمَلُ مِن الْجَمَادِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ وَاحِدًا مِنْهُمَا، فَأَنْتَ فَرَرْت مِن تَشْبِيهِهِ بِالْحَيَوَانَاتِ الْقَابِلَةِ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَوَصَفْته بِصِفَاتِ الْجَامِدَاتِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ ذَلِكَ.

فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِن الْنُّفَاةِ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ مِن الصِّفَاتِ: لَا يَنْفِي شَيْئًا فِرَارًا مِمَّا هُوَ مَحْذُورٌ إلَّا وَقَد أَثْبَتَ مَا يَلْزَمُهُ فِيهِ نَظِيرُ مَا فَرَّ مِنْهُ، فَلَا بُدَّ فِي آخِرِ الْأَمْرِ مِن أَنْ يُثْبِتَ مَوْجُودًا وَاجِبًا قَدِيمًا مُتَّصِفًا بِصِفَات تُمَيِّزُهُ عَن غَيْرِهِ، وَلَا يَكُونُ فِيهَا مُمَاثِلًا لِخَلْقِهِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَكَذَا الْقَوْلُ فِي جَمْعِ الصِّفَاتِ.

وَكُلُّ مَا تُثْبِتُهُ مِن الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: فَلَا بُدَّ أَنْ يَدُلَّ عَلَى قَدْرٍ تَتَوَاطَأْ فِيهِ الْمُسَمَّيَاتُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا فُهِمَ الْخِطَابُ.

وَلَكِنْ نَعْلَمُ أَنَّ مَا اخْتَصَّ اللهُ بِهِ وَامْتَازَ عَن خَلْقِهِ: أَعْظَمُ مِمَّا يَخْطِرُ بِالْبَالِ، أَو يَدُورُ فِي الْخَيَالِ. [3/ 17 - 24]

266 -

الْقَوْلُ فِي الصِّفَاتِ كَالْقَوْلِ فِي الذَّاتِ، فَإِنَّ اللهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ.

فَإِذَا كَانَ لَهُ ذَاتٌ حَقِيقَة لَا تُمَاثِلُ الذَّوَاتَ: فَالذَّاتُ مُتَّصِفَةٌ بِصِفَاتٍ حَقِيقَةً لَا تمَاثِلُ سَائِرَ الصِّفَاتِ.

فَإِذَا قَالَ السَّائِلُ: كَيْفَ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ؟

قِيلَ لَهُ كَمَا قَالَ رَبِيعَةُ وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُمَا رضي الله عنهما: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، وَالْكَيْفُ

ص: 214

مَجْهُولٌ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَن الْكَيْفِيَّةِ بِدْعَةٌ؛ لِأَنَّهُ سُؤَالٌ عَمَّا لَا يَعْلَمُهُ الْبَشَرُ، وَلَا يُمْكِنُهُم الْإِجَابَةُ عَنْهُ.

وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: كَيْفَ يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا؟

قِيلَ لَهُ: كَيْفَ هُوَ؟

فَإِذَا قَالَ: لَا أَعْلَمُ كَيْفِيَّتَهُ.

قِيلَ لَهُ: وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ نُزُورلهِ؛ إذ الْعِلْمُ بِكَيْفِيَّةِ الصفَةِ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِكَيْفِيَّةِ الْمَوْصُوفِ، وَهُوَ فَرْعٌ لَهُ وَتَابعٌ لَهُ، فَكَيْفَ تُطَالِبُنِي بِالْعِلْمِ بِكَيْفِيَّةِ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، وَتَكْلِيمِهِ، وَاسْتِوَائِهِ، وَنُزُولهِ، وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذَاتِهِ؟

وَإِذَا كُنْت تُقِرُّ بِأَنَّ لَهُ حَقِيقَةً ثَابِتَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُسْتَوْجِبَةً لِصِفَاتِ الْكَمَالِ لَا يُمَاثِنهَا شَيْءٌ، فَسَمْعُهُ، وَبَصَرُهُ، وَكَلَامُهُ، وَنُزُولُهُ، وَاسْتِوَاؤُهُ: ثَابِتٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهُوَ مُتَّصِفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي لَا يُشَابِهُهُ فِيهَا سَمْعُ الْمَخْلُوقِينَ وَبَصَرُهُم وَكَلَامُهُم وَنُزُولُهُم وَاسْتِوَاؤُهُمْ. [3/ 25 - 26]

267 -

لَا يُوجَدُ لنفاة بَعْضِ الصِّفَاتِ دُونَ بَعْضٍ

(1)

: قَانُونٌ مُسْتَقِيمُ.

فَإِذَا قِيلَ لَهُم: لِمَ تَأَوَّلْتُمْ هَذَا وَأَقْرَرْتُمْ هَذَا وَالسُّؤَالُ فِيهِمَا وَاحِدٌ؟

لَمْ يَكُن لَهُمْ جَوَابٌ صَحِيحٌ، فَهَذَا تَنَاقُضُهُم فِي النَّفْيِ.

وَكَذَا تَنَاقُضُهُم فِي الْإِثْبَاتِ؛ فَإِنَّ مَن تَأَوَّلَ النُّصُوصَ عَلَى مَعْنًى مِن الْمَعَانِي الَّتِي يُثْبِتُهَا، فَإِنَّهُم إذَا صَرَفُوا النَّصَّ عَن الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ مُقْتَضَاهُ إلَى مَعْنًى آخَرَ: لَزِمَهُم فِي الْمَعْنَى الْمَصْرُوفِ إلَيْهِ مَا كَانَ يَلْزَمُهُم فِي الْمَعْنَى الْمَصْرُوفِ عَنْهُ.

فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: تَأْوِيلُ مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَسَخَطِهِ: هُوَ إرَادَتُهُ لِلثَّوَابِ

(1)

كالأشعريّة، حيث أثبتوا سبع صفات، وهِيَ: الْحَيَاة وَالْعلم وَالْقُدْرَة والإرادة والسمع وَالْبَصَر وَالْكَلَام، ونفوا غيرها!

ص: 215

وَالْعِقَابِ، كَانَ مَا يَلْزَمُهُ فِي الْإِرَادَةِ نَظِيرَ مَا يَلْزَمُهُ فِي الْحُبِّ وَالْمَقْتِ وَالرضى وَالسَّخَطِ. [3/ 26]

268 -

إِنَّ اللهَ -سبحانه وتعالي- أَخْبَرَنَا عَمَّا فِي الْجَنَّةِ مِن الْمَخْلُوقَاتِ مِن أَصْنَافِ الْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ والمناكح وَالْمَسَاكِنِ، فَأَخْبَرَنَا أنَّ فِيهَا لَبَنا وَعَسَلًا وَخَمْرًا وَمَاءً وَلَحْمًا وَحَرِيرًا وَذَهَبًا وَلمحضَّةَ وَفَاكِهَةً وَحُورًا وَقُصُورًا، وَقَد قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا شَيءٌ مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إلَّا الْأسْمَاءَ.

وإِذَا كَانَت تِلْكَ الْحَقَائِقُ الَّتِي أَخْبَرَ اللهُ عَنْهَا هِيَ مُوَافِقَةً فِي الْأسْمَاءِ لِلْحَقَائِقِ الْمَوْجُودَةِ فِي الدُّنْيَا وَلَيْسَتْ مُمَاثِلَةً لَهَا؛ بَل بَيْنَهُمَا مِن التَّبَايُنِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللهُ تَعَالَى: فَالْخَالِقُ -سبحانه وتعالي- أَعْظَمُ مُبَايَنَة لِلْمَخْلُوقَاتِ مِن مُبَايَنَةِ الْمَخْلُوقِ لِلْمَخْلُوقِ.

وَمُبَايَنَتُهُ لِمَخْلُوقَاتِهِ: أَعْظَمُ مِن مُبَايَنَةِ مَوْجُودِ الْاَخِرَةِ لِمَوْجُودِ الدُّنْيَا؛ إذ الْمَخْلُوقُ أَقْرَبُ إلَى الْمَخْلُوقِ الْمُوَافِقِ لَهُ فِي الِاسْمِ مِن الْخَالِقِ إلَى الْمَخْلُوقِ. [3/ 28]

269 -

إنَّ الرُّوحَ إذَا كَانَت مَوْجُودَةً حَيَّةً عَالِمَةَ قَادِرَةً سَمِيعَة بَصِيرَةً، تَصْعَدُ وَتَنْزِلُ، وَتَذْهَبُ وَتَجِيءُ، وَنَحْو ذَلِكَ مِن الصِّفَاتِ، وَالْعُقُولُ قَاصِرَةٌ عَن تَكْيِيفِهَا وَتَحْدِيدِهَا؛ لِأنَّهُم لَمْ يُشَاهِدُوا لَهَا نَظِيرًا، وَالشَّيْءُ إنَّمَا تُدْرَكُ حَقِيقَتُهُ بِمُشَاهَدَتِهِ أَو مُشَاهَدَةِ نَظِيرِهِ، فَإِذَا كَانَت الرُّوحُ مُتَّصِفَةً بِهَذِهِ الصِّفَاتِ مَعَ عَدَمِ مُمَاثَلَتِهَا لِمَا يُشَاهَدُ مِن الْمَخْلُوقَاتِ: فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِمُبَايَنَتِهِ لِمَخْلُوقَاتِهِ مَعَ اتِّصَافِهِ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِن أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ.

وَأَهْلُ الْعُقُولِ هُم أَعْجَزُ عَن أَنْ يَحُدُّوهُ أَو يُكَيِّفُوهُ مِنْهُم عَن أَنْ يَحُدُّوا الرُّوحَ أَو يُكَيِّفُوهَا.

فَإِذَا كَانَ مَن نَفَى صِفَاتِ الرُّوحِ جَاحِدًا مُعَطِّلًا لَهَا، وَمَن مَثَّلَهَا بِمَا يُشَاهِدُهُ مِن الْمَخْلُوقَاتِ جَاهِلًا مُمَثِّلًا لَهَا بِغَيْرِ شَكْلِهَا، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ ثَابِتَةٌ

ص: 216

بِحَقِيقَةِ الْإِثْبَاتِ، مُسْتَحِقَّةٌ لِمَا لَهَا مِن الصِّفَاتِ: فالْخَالِقُ -سبحانه وتعالي- أَوْلَى أَنْ يَكونَ مَن نَفَى صِفَاتِهِ جَاحِدًا مُعَطِّلًا، وَمَن قَاسَهُ بِخَلْقِهِ جَاهِلًا بِهِ مُمَثِّلًا.

وَهُوَ - سبحانه وتعالي - ثَابِتٌ بِحَقِيقَةِ الْإِثْبَاتِ، مُسْتَحِقٌّ لِمَا لَهُ مِن الْأَسمَاءِ وَالصِّفَاتِ. [3/ 33 - 34]

270 -

فَصْلٌ: وَأَمَّا الْخَاتِمَةُ الْجَامِعَةُ فَفِيهَا قَوَاعِدُ نَافِعَةٌ:

الْقَاعِدَةُ الْأُولَى: أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ مَوْصُوفٌ بِالْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ.

فَالْإِثْبَاتُ: كَإِخْبَارِهِ بِأَنَّهُ بِكُل شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّهُ سَمِيْعٌ بَصِيرٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.

وَالنَّفْيُ: كَقَوْلِهِ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ.

وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ النَّفْيَ لَيْسَ فِيهِ مَدْحٌ وَلَا كَمَالٌ إلَّا إذَا تَضَمَّنَ إثْبَاتًا، وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ النَّفْيِ لَيْسَ فِيهِ مَدْحٌ وَلَا كَمَالٌ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ الْمَحْضَ عَدَمٌ مَحْضٌ.

فَلِهَذَا كَانَ عَامَّةُ مَا وَصفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ مِن النَّفْي مُتَضَمِّنًا لِإِثْبَاتِ مَدْحٍ؛ كَقَوْلِهِ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255] إلَى قَوْلِهِ: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255]، فَنَفْيُ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ: يَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْحَيَاةِ وَالْقِيَامِ، فَهُوَ مُبَيِّنٌ لِكَمَالِ أَنَّهُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] إنَّمَا نَفَى الْإِدْرَاكَ الَّذِي هُوَ الْإِحَاطَةُ، كَمَا قَالَهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، وَلَمْ يَنْفِ مُجَرَّدَ الرُّويَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَا يُرَى، وَلَيْسَ فِي كَوْنِهِ لَا يُرَى مَدْحٌ؛ إذ لَو كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْمَعْدُومُ مَمْدُوحًا، وَإِنَّمَا الْمَدْحُ فِي كَوْنِهِ لَا يُحَاطُ بِهِ وَإِن رُئيَ؛ كَمَا أَنَّهُ لَا يُحَاطُ بِهِ وَإِن عُلِمَ

(1)

.

فَكَمَا أَنَّهُ إذَا عُلِمَ لَا يُحَاطُ بِهِ عِلْمًا: فَكَذَلِكَ إذَا رُئِيَ لَا يُحَاطُ بِهِ رُويَةً.

(1)

كما قال تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110].

ص: 217

فَكَانَ فِي نَفْيِ الْإِدْرَاكِ مِن إثْبَاتِ عَظَمَتِهِ مَا يَكُونُ مَدْحًا وَصِفَةَ كَمَالٍ، وَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى إثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ لَا عَلَى نَفْيِهَا، لَكِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى إثْبَاتِ الرُّؤَيةِ مَعَ عَدَمِ الْإِحَاطَةِ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا. [3/ 35 - 37]

الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ عَن رَبِّهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ، سَوَاءٌ عَرَفْنَا مَعْنَاهُ أَو لَمْ نَعْرِفْ؛ لِأَنَّهُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ.

فَمَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: وَجَبَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ الْإِيمَانُ بِهِ وَإِن لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَاهُ، وَكَذَلِكَ مَا ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا، مَعَ أَنَّ هَذَا الْبَابَ يُوجَدُ عَامَّتُهُ مَنْصُوصًا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ سَلَفِ الْأُمَّةِ.

وَمَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُتَأخِّرُونَ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا: فَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَل وَلَا لَهُ أَنْ يُوَافِقَ أَحَدًا عَلَى إثْبَاتِ لَفْظِهِ أَو نَفْيِهِ حَتَّى يَعْرِفَ مُرَادَهُ، فَاِنْ أَرَادَ حَقًّا قُبِلَ، وَإِن أَرَادَ بَاطِلًا رُدَّ، وَإِن اشْتَمَلَ كَلَامُهُ عَلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ لَمْ يُقْبَل مُطْلَقًا وَلَمْ يُردَّ جَمِيعُ مَعْنَاهُ؛ بَل يُوقَفُ اللَّفْظُ وَيُفَسَّرُ الْمَعْنَى، كَمَا تَنَازَعَ النَّاسُ فِي الْجِهَةِ وَالتَّحَيُّزِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

فَيُقَالُ لِمَن نَفَى الْجِهَةَ: أَتُرِيدُ بِالْجِهَةِ أَنَّهَا شَيْءٌ مَوْجُودٌ مَخْلُوقٌ؟ فَاللهَ لَيْسَ دَاخِلًا فِي الْمَخْلُوقَاتِ، أَمْ تُرِيدُ بِالْجِهَةِ مَا وَرَاءَ الْعَالَمِ؟ فَلَا رَيْبَ أَنَّ اللهَ فَوْقَ الْعَالَمِ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقَاتِ.

وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِمَن قَالَ اللهُ فِي جِهَةٍ: أَتُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ اللهَ فَوْقَ الْعَالَمِ؟ أَو تُرِيدُ بِهِ أَنَّ اللهَ دَاخِلٌ فِي شَيءٍ مِن الْمَخْلُوقَاتِ؟ فَإِنْ أَرَدْت الْأَوَّلَ فَهُوَ حَقٌّ، وَإِن أَرَدْت الثَّانِيَ فَهُوَ بَاطِلٌ.

وَكَذَلِكَ لَفْظُ التَّحَيُّزِ: إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ اللهَ تَحُوزُهُ الْمَخْلُوقَاتُ فَاللهُ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ.

وَإِن أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ مُنْحَازٌ عَن الْمَخْلُوقَاتِ؛ أَيْ: مُبَايِنٌ لَهَا مُنْفَصِلٌ عَنْهَا لَيْسَ

ص: 218

حَالًّا فِيهَا: فَهُوَ سُبْحَانَهُ كَمَا قَالَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ: فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِن خَلْقِهِ.

الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ: إذَا قَالَ الْقَائِلُ: ظَاهِرُ النُّصُوصِ مُرَادٌ أَو ظَاهِرُهَا لَيْسَ بِمُرَادِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: لَفْظُ الظَّاهِرِ فِيهِ إجْمَالٌ وَاشْتِرَاكٌ، فَإِنْ كَانَ الْقَائِلُ يَعْتَقِدُ أَنَّ ظَاهِرَهَا التَّمْثِيلُ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، أَو مَا هُوَ مِن خَصَائِصِهِمْ، فَلَا رَيْبَ أنَّ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ.

وَلَكِنَّ السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ لَمْ يَكُونُوا يُسَمُّونَ هَذَا ظَاهِرَهَا، وَلَا يَرْتَضُونَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ كُفْرًا وَبَاطِلًا، وَاللهُ -سبحانه وتعالي- أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ مِن أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ الَّذِي وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ لَا يَظْهَرُ مِنْهُ إلَّا مَا هُوَ كُفْرٌ أَو ضَلَالٌ.

ثُمَّ إنَّ مِن الْمَعْلُومٍ أَنَّ الرَّبَّ لَمَّا وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ: لَمْ يَقُل الْمُسْلِمُونَ إنَّ ظَاهِرَ هَذا غَيْرُ مُرَادٍ؛ لِأَنَّ مَفْهُومَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ مِثْلُ مَفْهُومِهِ فِي حَقِّنَا؛ فَكَذَلِكَ لَمَّا وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ خَلَقَ آدَمَ بِيَدَيْهِ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُهُ غَيْرَ مُرَادٍ؛ لِأَنَّ مَفْهُومَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ كَمَفْهُومِهِ فِي حَقِّنَا

(1)

؛ بَل صِفَةُ الْمَوْصُوفِ تُنَاسِبُهُ.

فَإِذَا كَانَت نَفْسُهُ الْمُقَدَّسَةُ لَيْسَتْ مِثْل ذَوَاتِ الْمَخْلُوقِينَ: فَصِفَاتُهُ كَذَاتِهِ لَيْسَتْ كَصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، وَنِسْبَةُ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ إلَيْهِ كَنِسْبَةِ صِفَةِ الْخَالِقِ إلَيْهِ، وَلَيْسَ الْمَنْسُوبُ كَالْمَنْسُوبِ، وَلَا الْمَنْسُوبُ إلَيْهِ كَالْمَنْسُوبِ إلَيْهِ

(2)

؛ كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: "تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ"، فَشَبَّهَ الرُّؤْيَةَ بِالرُّؤَيةِ، وَلَمْ يُشَبِّه الْمَرْئِيَّ بِالْمَرْئِيِّ. [3/ 43 - 47]

(1)

وهو: التمثيل.

(2)

المنسوب هو الصفة، والمنسوب إليه هو الموصوف، أي: ليست الصفة المنسوبة إلى الله كالصفة المنسوبة إلى المخلوق، ولا المنسوب إليه كالمنسوب إليه؛ أي: وليس الخالق الذي تنسب إليه صفاته كالمخلوق الذي تنسب إليه صفاته. [شرح الرسالة التدمرية للشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك: (249)].

ص: 219

وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِالْقَاعِدَةِ الرَّابِعَةِ: وَهُوَ أَنَّ كَثِيرًا مِن النَّاسِ يَتَوَهَّمُ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ أَو كَثِيرٍ مِنْهَا، أَو أَكْثَرِهَا أَو كُلِّهَا، أَنَّهَا تُمَاثِلُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يَنْفِيَ ذَلِكَ الَّذِي فَهِمَهُ، فَيَقَعُ فِي أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ مِن الْمَحَاذِيرِ:

أَحَدُهَا: كَوْنُهُ مثَّلَ مَا فَهِمَهُ مِن النُّصُوصِ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، وَظَنَّ أَنَّ مَدْلُولَ النُّصُوصِ هُوَ التَّمْثِيلُ.

الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا جَعَلَ ذَلِكَ هُوَ مَفْهُومَهَا وَعَطَّلَهُ: بَقِيَت النُّصُوصُ مُعَطَّلَةً عَمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِن إثْبَاتِ الصِّفَاتِ اللَّائِقَةِ باللهِ.

فَيَبْقَى مَعَ جِنَايَتِهِ عَلَى النُّصُوصِ، وَظَنِّهِ السَّيِّئِ الَّذِي ظَنَّهُ باللهِ وَرَسُولِهِ -حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ الَّذِي يُفْهَمُ مِن كَلَامِهِمَا هُوَ التَّمْثيلُ الْبَاطِلُ-: قَد عَطَّلَ مَا أَوْدَعَ اللهُ وَرَسُولُهُ فِي كَلَامِهِمَا مِن إثْبَاتِ الصِّفَاتِ للهِ وَالْمَعَانِي الْإِلَهِيَّةِ اللَّائِقَةِ بِجَلَالِ اللهِ تَعَالَى.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَنْفِي تِلْكَ الصِّفَاتِ عَن اللهِ عز وجل بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَيَكُونُ مُعَطِّلًا لِمَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ.

الرَّابعُ: أَنَّهُ يَصِفُ الرَّبَّ بِنَقِيضِ تِلْكَ الصِّفَاتِ، مِن صِفَاتِ الْأَمْوَاتِ وَالْجَمَادَاتِ، أَو صِفَاتِ الْمَعْدُومَاتِ، فَيَكُونُ قَد عَطَّلَ بِهِ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا الرَّبُّ، وَمَثَّلَهُ بِالْمَنْفوصَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ، وَعَطَّلَ النُّصُوصَ عَمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِن الصِّفَاتِ، وَجَعَلَ مَدْلُولَهَا هُوَ التَّمْثِيلَ بِالْمَخْلُوقَاتِ.

فَيجْمَعُ فِي كَلَامِ اللهِ وَفِي اللهِ بَيْنَ التَّعْطِيلِ وَالتَّمْثِيلِ؟ فيَكُونُ مُلْحِدًا فِي أَسْمَاءِ اللهِ وَآيَاتِهِ. [3/ 48 - 49]

الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّا نَعْلَمُ بِما

(1)

أُخْبِرْنَا بِهِ مِن وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ.

(1)

في الأصل وكثير من النسخ: لمَّا، والتصويب من شرح التدمرية للشيخ ابن عثيمين، وفي شرح الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك: ما.

ص: 220

فَإِنَّ اللهَ قَالَ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [محمد: 24] .. فَأَمَرَ بِتَدَبُّرِ الْكِتَابِ كلِّهِ.

وَقَد قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)} [آل عمران: 7]، وَجُمْهُورُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَخَلَفِهَا عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى قَوْلِهِ:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَن أبي بْنِ كَعْب وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ.

وَقَد رُوِيَ عَن مُجَاهِدٍ وَطَائِفَةٍ: أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ.

وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ.

فَإِنَّ لَفْظَ التَّأْوِيلِ قَد صَارَ بِتَعَدُّدِ الِاصْطِلَاحَاتِ مُسْتَعْمَلًا فِي ثَلَاثَةِ مَعَانٍ:

أَحَدُهَا -وَهُوَ اصْطِلَاحُ كَثِيرٍ مِن الْمُتَأَخِّرِينَ مِن الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ-: أَنَّ التَّأْوِيلَ هُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَن الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ لِدَلِيل يَقْتَرِنُ بِهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي عَنَاهُ أَكْثَرُ مَن تَكَلَّمَ مِن الْمُتَأَخِّرِينَ فِي تَأْوِيلِ نُصُوصِ الصِّفَاتِ وَتَرْكِ تَأْوِيلِهَا، وَهَل ذَلِكَ مَحْمُودٌ أَو مَذْمُومٌ، أَو حَق أَو بَاطِلٌ.

الثَّانِي: أَنَّ التَّأْوِيلَ بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ، وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى اصْطِلَاحِ الْمُفَسِّرِينَ لِلْقُرْآنِ كَمَا يَقُولُ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَمْثَالُهُ -مِن الْمُصَنِّفِينَ فِي التَّفْسِيرِ-: وَاخْتَلَفَ عُلَمَاءُ التَّأْوِيلِ.

الثَّالِثُ: مِن مَعَانِي التَّأْوِيلِ: هُوَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي يَؤُولُ إلَيْهَا الْكَلَامُ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 53].

فَتَأْوِيلُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِن أَخْبَارِ الْمُعَادِ هُوَ مَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ فِيهِ مِمَّا يَكُونُ

ص: 221

مِن الْقِيَامَةِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ يُوسُفَ لَمَّا سَجَدَ أَبَوَاهُ وَإِخْوَتُهُ قَالَ:{هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 100]، فَجَعَلَ عَيْنَ مَا وَجَدَ فِي الْخَارجِ هُوَ تَأْوِيلَ الرُّؤْيَا.

فَإِنَّ نَفْسَ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ: هُوَ تَأْوِيلُ الْأَمْرِ بِهِ، وَنَفْسَ الْمَوْجُودِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ هُوَ تَأْوِيلُ الْخَبَرِ، وَالْكَلَامُ خَبَرٌ وَأَمْرٌ.

إذَا عُرِفَ ذَلِكَ: فَتَأوِيلُ مَا أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى بهِ عَن نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ الْمُتَّصِفَةِ بِمَا لَهَا مِن حَقَائِقِ الْأسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: هُوَ حَقِيقَةٌ لِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ الْمُتَّصِفَةِ بِمَا لَهَا مِن حَقَائِقِ الصِّفَاتِ.

وَتَأْوِيلِ مَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ تَعَالَى مِن الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ: هُوَ نَفْسُ مَا يَكُونُ مِن الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ.

وَلهَذَا مَا يَجِيءُ فِي الْحَدِيثِ نَعْمَلُ بِمُحْكَمِهِ وَنُؤْمِنُ بِمُتَشَابِهِهِ؛ لِأَنَّ مَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ عَن نَفْسِهِ وَعَن الْيَوْمِ الْآخِرِ فِيهِ أَلْفَاظٌ مُتَشَابِهَةٌ يُشْبِهُ مَعَانِيهَا مَا نَعْلَمُهُ فِي الدُّنْيَا، كَمَا أَخْبَرَ أَنَّ فِي الْجَنَّةِ لَحْمًا وَلَبَنًا وَعَسَلًا وَخَمْرًا وَنَحْو ذَلِكَ، وَهَذَا يُشْبِهُ مَا فِي الدُّنْيَا لَفْظًا وَمَعْنًى، وَلَكِنْ لَيْسَ هُوَ مِثْلَهُ وَلَا حَقِيقَتَهُ، فَأَسْمَاءُ اللهِ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ أَوْلَى.

فَنَحْنُ إذَا أَخْبَرَنَا اللهُ بِالْغَيْبِ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ مِن الْجَنَّةِ وَالنَّارِ: عَلِمْنَا مَعْنَى ذَلِكَ، وَفَهِمْنَا مَا أُرِيدَ مِنَّا فَهْمُهُ بِذَلِكَ الْخِطَابِ، وَفَسَّرْنَا ذَلِكَ.

وَأَمَّا نَفْسُ الْحَقِيقَةِ الْمُخْبَرِ عَنْهَا مِثْل الَّتِي لَمْ تَكنْ بَعْدُ، وَإِنَّمَا تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: فَذَلِكَ مِن التَّأوِيلِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا الله.

وَاللهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَنَا أَنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ غَفُورٌ رَحِيمٌ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِن أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، فَنَحْنُ نَفْهَمُ مَعْنَى ذَلِكَ وَنُمَيِّزُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَبَيْنَ الرَّحْمَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ، وَنَعْلَمُ أَنَّ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا اتَّفَقَتْ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى ذَاتِ اللهِ، مَعَ تَنَوُّعِ مَعَانِيهَا، فَهِيَ مُتَّفِقَةٌ مُتَوَاطِئَةٌ مِن حَيْثُ الذَاتُ، مُتَبَايِنَةٌ مِن جِهَةِ الصِّفَاتِ.

ص: 222

وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلُ مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ وَالْمَاحِي وَالْحَاشِرِ وَالْعَاقِبِ.

وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ الْقُرْآنِ مِثْلُ الْقُرْآنِ وَالْفُرْقَانِ وَالْهُدَى وَالنُّورِ وَالتَّنْزِيلِ وَالشِّفَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَمِثْلُ هَذِهِ الأسْمَاءِ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهَا: هَل هِيَ مِن قَبِيلِ الْفتَرَادِفَةِ لِاتِّحَادِ الذَّاتِ، أَو مِن قَبِيلِ الْمُتَبَايِنَةِ لِتَعَدُّدِ الصِّفَاتِ؟.

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا مُتَرَادِفَةٌ فِي الذَّاتِ مُتَبَايِنَةٌ فِي الصِّفَاتِ. [3/ 48 - 59]

271 -

قَوْلُهُ - تعالى -: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)} [الملك: 16] مَن تَوَهَّمَ أَنَّ مُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ اللهُ فِي دَاخِلِ السَّمَوَاتِ فَهُوَ جَاهِلٌ ضَالٌّ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِن كُنَّا إذَا قُلْنَا: إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ فِي السَّمَاءِ يَقْتَضِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ حَرْفَ (فِي) مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ وَبِمَا بَعْدَهُ، فَهُوَ بِحَسَب الْمُضَافِ إلَيْهِ.

وَلهَذَا يُفَرَّقُ بَيْنَ كَوْنِ الشَّئءِ فِي الْمَكَانِ، وَكَوْنِ الْجِسْمِ فِي الْحَيِّزِ، وَكَوْنِ الْعَرَضِ فِي الْجِسْمِ، وَكَوْنِ الْوَجْهِ فِي الْمِرْاَةِ، وَكَوْنِ الْكَلَامِ فِي الْوَرَقِ، فَإِنَّ لِكُلِّ نَوْعٍ مِن هَذ الْأَنْوَاعِ خَاصَّةً يَتَمَيَّزُ بِهَا عَن غَيْرِهِ، وَإِن كَانَ حَرْفُ (فِي) مُسْتَعْمَلًا فِي ذَلِكَ.

وَلَمَّا كَانَ قَد اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِ الْمُخَاطَبِينَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى، وَأَنَّهُ فَوْقَ كُلِّ شَيءٍ: كَانَ الْمَفْهُومُ مِن قَوْلِهِ: إنَّهُ فِي السَّمَاءِ أَنَّهُ فِي الْعُلُوِّ، وَأَنَّهُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ.

وَكَذَلِكَ الْجَارِيةُ لَمَّا قَالَ لَهَا أَيْنَ اللهُ؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، إنَّمَا أَرَادَت الْعُلُوَّ مَعَ عَدَمِ تَخْصِيصِهِ بِالْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ وَحُلُولِهِ فِيهَا.

وإِذَا قِيلَ الْعُلُوُّ: فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ مَا فَوْقَ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا، فَمَا فَوْقَهَا كُلَّهَا هُوَ فِي السَّمَاءِ، وَلَا يَقْتَضِي هَذَا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ ظَرْفٌ وُجُودِيٌّ يُحِيطُ بِهِ، إذ لَيْسَ فَوْقَ الْعَالَمِ شَيْءٌ مَوْجُود إلَّا اللهُ، كَمَا لَو قِيلَ: الْعَرْشُ فِي السَّمَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْعَرْشُ فِي شَيْءٍ آخَرَ مَوْجُودٌ مَخْلُوقٌ.

ص: 223

وَإِن قُدِّرَ أَنَّ السَّمَاءَ الْمُرَاد بِهَا الْأَفْلَاكُ: كَانَ الْمُرَادُ إنَّهُ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]، وَكَمَا قَالَ:{فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [آل عمران: 137]، وَيُقَالُ: فُلَانٌ فِي الْجَبَلِ، وَفِي السَّطْحِ، وَإِن كَانَ عَلَى أَعْلَى شَيءٍ فِيهِ. [3/ 52 - 53]

272 -

وَصَفَ -تعالى- الْقُرْآنَ كُلَّهُ بِأَنَّهُ مُحْكَمٌ وَبِأَنَّهُ مُتَشَابِهٌ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ جَعَلَ مِنْهُ مَا هُوَ مُحْكَمٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ مُتَشَابِهٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ الْإِحْكَامُ وَالتَّشَابُهُ الَّذِي يَعُمُّهُ، وَالْإِحْكَامُ وَالتَّشَابُهُ الَّذِي يَخُصُّ بَعْضَهُ.

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَحْكَمَ آيَاتِهِ كُلَّهَا.

وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 23] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ كُلُّهُ مُتَشَابِهٌ.

وَالْحُكْمُ: هُوَ الْفَصْلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ؛ فَالْحَاكِمُ يَفْصِلُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، وَالْحُكْمُ فَصْلٌ بَيْنَ الْمُتَشَابِهَاتِ عِلْمًا وَعَمَلًا، إذَا مَيَّزَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالصِّدْقِ وَالْكذِبِ، وَالنَّافِعِ وَالضَّارِّ، وَذَلِكَ يَتَضمَّنُ فِعْلَ النَّافِعِ وَتَرْكَ الضَّارِّ.

وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ مُحْكَمٌ بِمَعْنَى الْإِتْقَانِ، فَقَد سَمَّاهُ اللهُ حَكِيمًا بِقَوْلِهِ:{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)} [يونس: 1] فَالْحَكِيمُ بِمَعْنَى الْحَاكِمِ؛ كَمَا جَعَلَهُ يَقصُّ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)} [النمل: 76]، وَجَعَلَهُ مُفْتِيًا فِي قَوْلِهِ:{قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} [النساء: 127]؛ أَيْ: مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ، وَجَعَلَهُ هَادِيًا وَمُبَشّرًا فِي قَوْلِهِ:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} [الإسراء: 9].

وَأَمَّا التَّشَابُهُ الَّذِي يَعُمُّهُ: فَهُوَ ضِدُّ الِاخْتِلَافِ الْمَنْفِيِّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].

ص: 224

فَالتَّشَابُة هُنَا: هُوَ تَمَاثُلُ الْكَلَامِ وَتَنَاسُبُهُ، بحَيْثُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَإِذَا أَمَرَ بِأَمْر لَمْ يَأْمُرْ بِنَقِيضِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ؛ بَل يَأْمُرُ بِهِ أو بِنَظِيرِهِ أَو بِمَلْزُومَاتِهِ، وَإِذَا نَهَى عَن شَيْءٍ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ؛ بَل يَنْهَى عَنْهُ أَو عَن نَظِيرِهِ أَو عَن مَلْزُومَاتِهِ، إذَا لَمْ يَكُن هُنَاكَ نَسْخٌ.

وَكَذَلِكَ إذَا أَخْبَرَ بِثُبُوتِ شَيْءٍ: لَمْ يُخْبِرْ بِنَقِيضِ ذَلِكَ؛ بَل يُخْبِرُ بِثُبُوتِهِ أَو بِثُبُوتِ مَلْزُومَاتِهِ، وَإِذَا أَخْبَرَ بِنَفْيِ شَيْءٍ لَمْ يُثْبِتْهُ؛ بَل يَنْفِيهِ أَو يَنْفِي لَوَازِمَهُ.

بِخِلَافِ الْقَوْلِ الْمُخْتَلِفِ، الَّذِي يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضًا.

فَالْأَقْوَالُ الْمُخْتَلِفَةُ هُنَا هِيَ الْمُتَضَادَّةُ، وَالْمُتَشَابِهَةُ هِيَ الْمُتَوَافِقَةُ.

فَهَذَا التَّشَاُبهُ الْعَامُّ لَا يُنَافِي الْإِحْكَامَ الْعَامَّ؛ بَل هُوَ مُصَدِّقٌ لَهُ؛ فَإِنَّ الْكَلَامَ الْمُحْكَمَ الْمُتْقَنَ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، لَا يُنَاقِضُ بَعْضُهُ بَعْضًا، بِخِلَافِ الْإِحْكَامِ الْخَاصِّ؛ فَإِنَّهُ ضِدُّ التَّشَاُبهِ الْخَاصِّ.

وَالتَّشَابُهُ الْخَاصُّ هُوَ مُشَابَهَةُ الشَّيءِ لِغَيْرِهِ مِن وَجْهٍ، مَعَ مُخَالَفَتِهِ لَهُ مِن وَجْهٍ آخَرَ، بِحَيْثُ يَشْتَبِهُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ أنَّهُ هُوَ أَو هُوَ مِثْلُهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

وَالْإِحْكَامُ: هُوَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا، بِحَيْثُ لَا يَشْتَبِهُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ.

وَهَذَا التَّشَاُبهُ إنَمَا يَكُونُ بِقَدْر مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مَعَ وُجُودِ الْفَاصِلِ بَيْنَهُمَا.

ثُمَّ مِن النَّاسِ مَن لَا يَهْتَدِي لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمَا، فَيَكُونُ فشْتَبِهًا عَلَيْهِ، وَمِنْهُم مَن يَهْتَدِي إلَى ذَلِكَ.

فَالتَّشَابُهُ الَّذِي لَا يَتَمَيَّزُ مَعَهُ: قَد يَكُونُ مِن الْأمُورِ النِّسْبِيَّةِ الْإِضَافِيَّةِ، بِحَيْثُ يَشْتَبِهُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ، وَمِثْلُ هَذَا يَعْرِفُ مِنْهُ أَهْلُ الْعِلْمِ مَا يُزِيلُ عَنْهُم هَذَا الِاشْتِبَاه.

وَمِن هَذَا الْبَابِ: الشُّبَهُ الَّتِي يَضِلُّ بِهَا بَعْضُ النَّاسِ، وَهِيَ مَا يَشْتَبِهُ فِيهَا الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ حَتَّى تَشْتَبِهَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ، وَمَن أُوتِيَ الْعِلْمَ بِالْفَصْلِ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا لَمْ يَشْتَبِهْ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ.

ص: 225

وَالْقِيَاسُ الْفَاسِدُ إنَّمَا هُوَ مِن بَابِ الشُّبُهَاتِ؛ لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ لِلشَّيْءِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ بِمَا لَا يُشْبِهُهُ فِيهِ، فَمَن عَرَفَ الْفَصْلَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ: اهْتَدَى لِلْفَرْقِ الَّذِي يَزُولُ بِهِ الِاشْتِبَاهُ وَالْقِيَاسُ الْفَاسِدُ.

وَمَا مِن شَيْئَيْنِ إلَّا وَيَجْتَمِعَانِ فِي شَيءٍ وَيَفْتَرِقَانِ فِي شَيْءٍ، فَبَيْنَهُمَا اشْتِبَاهٌ مِن وَجْهٍ، وَافْتِرَاقٌ مِن وَجْهٍ.

فَلِهَذَا كَانَ ضَلَالُ بَنِي آدَمَ مِن قِبَلِ التَّشَابُهِ.

وَالْقِيَاسُ الْفَاسِدُ لَا يَنْضَبِطُ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: أَكْثَرُ مَا يُخْطِئُ النَّاسُ مِن جِهَةِ التَّأْوِيلِ وَالْقِيَاسِ، فَالَتَّأْوِيلُ: فِي الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ، وَالْقِيَاسُ: فِي الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ.

وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَالتَّأْوِيلُ الْخَطَأُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْألْفَاظِ الْمُتَشَابِهَةِ، وَالْقِيَاسُ الْخَطَأُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَعَانِي الْمُتَشَابِهَةِ.

وَمَن هَدَاهُ اللهُ: فَرَّقَ بَيْنَ الْأمُورِ وَاِن اشْتَرَكَتْ مِن بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَعَلِمَ مَا بَيْنَهُمَا مِن الْجَمْعِ وَالْفَرْقِ، وَالتَّشَابُهِ وَالِاخْتِلَافِ.

وَهَؤُلَاءِ لَا يَضِلُّونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِن الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُم يَجْمَعُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُحْكَمِ الْفَارِقِ الَّذِي يُبَيِّنُ مَا بَيْنَهُمَا مِن الْفَصْلِ وَالِافْتِرَاقِ.

وَهَذَا كَمَا أَنَّ لَفْظَ (إَّنا) وَ (نَحْنُ) وَغَيْرهُمَا مِن صِيَغٍ الْجَمْعِ يَتَكَلَّمُ بِهَا الْوَاحِدُ لَهُ شُرَكَاءُ فِي الْفِعْلِ، وَيَتَكَلَّمُ بِهَا الْوَاحِدُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَهُ صِفَاتٌ تَقُومُ كُلُّ صِفَةٍ مَقَامَ وَاحِدٍ، وَلَهُ أَعْوَانٌ تَابِعُونَ لَهُ، لَا شُرَكَاءَ لَهُ، فَإِذَا تَمَسَّكَ النَّصْرَانِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر: 9] وَنَحْوَهُ عَلَى تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ: كَانَ الْمُحْكَمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 163] وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا يُزِيلُ مَا هُنَاكَ مِن الِاشْتِبَاهِ، وَكَانَ مَا ذَكَرَهُ مِن صِيغَةِ الْجَمْعِ مُبَيِّنًا لِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِن الْعَظَمَةِ، وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَطَاعَةِ الْمَخْلُوقَاتِ مِن الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ.

ص: 226

وَأَمَّا حَقِيقَةُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ مِن حَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ وَالضفَاتِ وَمَا لَهُ مِن الْجُنُودِ الَّذِينَ يَسْتَعْمِلُهُم فِي أفْعَالِهِ: فَلَا يَعْلَمُهُم إلَّا هُوَ {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31]، وَهَذَا مِن تَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللهُ.

الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ: أنَّهُ لِقَائِل أَنْ يَقُولَ: لَا بُدَّ فِي هَذَا الْبَابِ مِن ضَابِط يُعْرَفُ بِهِ مَا يَجُوزُ عَلَى اللهِ مِمَّا لَا يَجُوزُ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ؛ إذ الِاعْتِمَادُ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى مُجَرَّدِ نَفْي التَّشْبِيهِ أَو مُطْلَقِ الْإِثْبَاتِ مِن غَيْرِ تَشْبِيهٍ لَيْسَ بِسَدِيد، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَا مِن شَيْئَيْنِ إلَّا بَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ، وَقَدْرٌ مُمَيَّزٌ؛ فَالنَّافِي إن اعْتَمَدَ فِيمَا يَنْفِيهِ عَلَى أَنَّ هَذَا تَشْبِيهٌ قِيلَ لَهُ: إنْ أرَدْت أَنَّهُ مُمَاثِلٌ لَهُ مِن كُلِّ وَجْهِ فَهَذَا بَاطِلٌ، وَإِن أَرَدْت أَنَّة مُشَابِهٌ لَهُ مِن وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، أَو مُشَارِكٌ لَهُ فِي الِاسْمِ لَزِمَك هَذَا فِي سَائِرِ مَا تُثْبِتُهُ.

وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ مُجَرَّدَ الِاعْتِمَادِ فِي نَفْيِ مَا يُنْفَى عَلَى مُجَرَّدِ نَفْيِ التَّشْبِيهِ لَا يُفِيدُ؛ إذ مَا مِن شَيْئَيْنِ إلَّا يَشْتَبِهَانِ مِن وَجْهٍ وَيَفْتَرِقَانِ مِن وَجْهٍ، بِخِلَافِ الِاعْتِمَادِ عَلَى نَفْيِ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ سُبْحَانَهُ مُقَدَّسٌ عَنْهُ، فَإِنَّ هَذِهِ طَرِيقَةٌ صَحِيحَة.

وَكَذَلِكَ إذَا أُثْبَتَ لَهُ صِفَاتِ الْكمَالِ وَنَفَى مُمَاثَلَةَ غَيْرِهِ لَهُ فِيهَا: فَإِنَّ هَذَا نَفْيُ الْمُمَاثَلَةِ فِيمَا هُوَ مُسْتَحِقٌّ لَهُ، وَهَذَا حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ، وَهُوَ أنْ لَا يَشْرَكُهُ شَيْءٌ مِن الْأَشْيَاءِ فِيمَا هُوَ مِن خَصَائِصِهِ، وَكُلُّ صِفَةٍ مِن صِفَاتِ الْكَمَالِ فَهُوَ مُتَّصِفٌ بِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُمَاثِلُهُ فِيهِ أَحَدٌ؛ وَلهَذَا كَانَ مَذْهَبُ سَلَفِ الْأمَّةِ وَأئِمَّتِهَا إثْبَاتَ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِن الصِّفَاتِ، وَنَفْيَ مُمَاثَلَتِهِ بِشَيْءٍ مِن الْمَخْلُوقَاتِ.

وَالْمَعَانِي الَّتِي يُوصَفُ بِهَا الرَّبُّ تَعَالَى كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْم وَالْقُدْرَةِ؛ بَل الْوُجُودُ وَالثُّبُوتُ وَالْحَقِيقَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ: تَجِبُ لَوَازِمُهَا؛ فَإِنَّ ثبُوتَ الْمَلْزُومِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ اللَّازِمِ، وَخَصَائِصُ الْمَخْلُوقِ الَّتِي يَجِبُ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْهَا لَيْسَتْ مِن لَوَازِمِ ذَلِكَ أَصْلًا؛ بَل تِلْكَ مِن لَوَازِمِ مَا يَخْتَصُّ بِالْمَخْلُوقِ مِن وُجُودٍ وَحَيَاةٍ وَعِلْمٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

ص: 227

وَاللهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَن خَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ، وَمَلْزُومَاتِ خَصَائِصِهِمْ.

وَهَذَا الْمَوْضِعُ مَن فَهِمَهُ فَهْفا جَيِّدًا وَتَدَبَّرَهُ: زَالَتْ عَنْهُ عَامَّة الشُّبُهَاتِ، وَانْكَشَفَ لَهُ غَلَطُ كَثِيرٍ مِن الْأَذْكِيَاءِ فِي هَذَا الْمَقَامَ.

وَأَمَّا فِي طُرُقِ الْإِثْبَاتِ: فَمَعْلُومٌ -أَيْضًا- أَنَّ الْمُثْبَتَ لَا يَكْفِي فِي إثْبَاتِهِ مُجَرَّدُ نَفْيِ التَّشْبِيهِ؛ إذ لَو كَفَى فِي إثْبَاتِهِ مُجَرَّدُ نَفْيِ التَّشْبِيهِ لَجَازَ أَنْ يُوصَفَ سُبْحَانَهُ مِن الْأَعْضَاءِ وَالْأَفْعَالِ بِمَا لَا يَكَادُ يُحْصَى مِمَّا هُوَ مُمْتَنِعٌ عَلَيْهِ مَعَ نَفْيِ التَّشْبِيهِ، وَأَنْ يُوصَفَ بِالنَّقَائِصِ الَّتِي لَا تَجُوزُ عَلَيْهِ مَعَ نَفْيِ التَّشْبِيهِ، كَمَا لَو وَصَفَهُ مُفْتَرٍ عَلَيْهِ بِالْبُكَاءِ وَالْحُزْنِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ مَعَ نَفْي التَّشْبِيهِ.

وَبِالْجُمْلَةِ: فَالسَّمْعُ قَد أَثْبَتَ لَهُ مِن الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِ الْكَمَالِ مَا قَد وَرَدَ، فَكُلُّ مَا ضَادَّ ذَلِكَ فَالسَّمْعُ يَنْفِيه، كَمَا يَنْفِي عَنْهُ الْمِثْل وَالْكُفُؤَ؛ فَإِنَّ إثْبَاتَ الشَّيْءِ نَفْيٌ لِضِدِّهِ وَلمَا يَسْتَلْزِمُ ضِدَّهُ.

وَالْعَقْلُ يَعْرِفُ نَفْيَ ذَلِكَ، كَمَا يَعْرِفُ إثْبَاتَ ضِدِّهِ، فَإِثْبَات أَحَدِ الضِّدَّيْنِ نَفْيٌ لِلْآخَرِ وَلمَا يَسْتَلْزِمُهُ.

فَطُرُقُ الْعِلْمِ بِنَفْيِ مَا يُنَزَّهُ عَنْهُ الرَّبُّ مُتَّسِعَةٌ، لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى مُجَرَّدِ نَفْيِ التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ، كَمَا فَعَلَهُ أَهْلُ الْقُصُورِ وَالتَّقْصِيرِ الَّذِينَ تَنَاقَضُوا فِي ذَلِكَ، وَفَرَّفوا بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، حَتَّى أَنَّ كُلَّ مَن أَثْبَتَ شَيْئًا احْتَجَّ عَلَيْهِ مَن نَفَاهُ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ التَّشْبِيهَ.

وَقَد تَقَدَّمَ أَنَّ مَا يُنْفَى عَنْهُ -سُبْحَانَهُ-: النَّفْيُ الْمُتَضَمِّنُ لِلْإِثْبَاتِ؛ إذ مُجَرَّدُ النَّفْيِ لَا مَدْحَ فِيهِ وَلَا كَمَالَ، فَإِنَّ الْمَعْدُومَ يُوصَفُ بِالنَّفْيِ، وَالْمَعْدُومُ لَا يُشْبِهُ الْمَوْجُودَاتِ، وَلَيْسَ هَذَا مَدْحًا لَهُ؛ لِأَنَّ مُشَابَهَةَ النَّاقِصِ فِي صِفَاتِ النَّقْصِ نَقْصٌ مُطْلَقًا، كَمَا أَنَّ مُمَاثَلَةَ الْمَخْلُوقِ فِي شَيءٍ مِن الصِّفَاتِ تَمْثِيلٌ وَتَشْبِيهٌ يُنَزَّهُ عَنْهُ الرَّبُّ تبارك وتعالى، وَالنَّقْصُ ضِدُّ الْكَمَالِ.

ص: 228

وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا اسْتِيفَاءَ مَا يَثْبُتُ لَهُ وَلَا مَا يُنَزَّهُ عَنْهُ وَاسْتِيفَاءَ طُرُقِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى جَوَامِعِ ذَلِكَ وَطُرُقِهِ.

وَمَا سَكَتَ عَنْهُ السَّمْعُ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا وَلَمْ يَكن فِي الْعَقْلِ مَا يُثْبِتُهُ وَلَا يَنْفِيه: سَكَتْنَا عَنْهُ، فَلَا نُثْبِتُهُ وَلَا نَنْفِيه.

فَنُثْبِتُ مَا عَلِمْنَا ثُبُوتَهُ، وَنَنْفِي مَا عَلِمْنَا نَفْيَهُ، وَنَسْكُتُ عَمَّا لَا نَعْلَمُ نَفْيَهُ وَلَا إثْبَاتَهُ. [3/ 69 - 88]

الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةُ: أَنْ يُقَالَ: إنَّ كَثِيرًا مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ السَّمْعُ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ أَيْضًا، وَالْقُرْآنُ يُبَيِّنُ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ الْعَقْلُ وُيرْشِدُ إلَيْهِ وُينَبِّهُ عَلَيْهِ؛ كَمَا ذَكَرَ اللهُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.

فَإِنَّهُ -سبحانه وتعالي-: بَيَّنَ مِن الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ وَعَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَقُدْرَيهِ وَعِلْمِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا أَرْشَدَ الْعِبَادَ إلَيْهِ وَدَلَّهُم عَلَيْهِ؛ كَمَا بَيَّنَ أَيْضًا مَا دَلَّ عَلَى نُبُوَّةِ أَنْبِيَائِهِ، وَمَا دَلَّ عَلَى الْمُعَادِ وَإِمْكَانِهِ.

فَهَذِهِ الْمَطَالِبُ هِيَ شَرْعِيَّةٌ مِن جِهَتَيْنِ:

- مِن جِهَةِ أَنَّ الشَّارعَ أَخْبَرَ بِهَا.

- وَمِن جِهَةِ أَنَّهُ بَيَّنَ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الَّتِي يَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَيْهَا.

وَالْأَمْثَالُ الْمَضْرُوبَةُ فِي الْقُرْآنِ: هِيَ أَقْيِسَةٌ عَقْلِيَّةٌ، وَهِيَ أَيْضًا عَقْلِيَّةٌ مِن جِهَةِ أَنَّهَا تُعْلَمُ بِالْعَقْلِ أَيْضًا.

وَكَثِيرٌ مِن أَهْلِ الْكَلَامِ يُسَمِّي هَذِهِ الْأُصُول الْعَقْلِيَّة لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهَا لَا تُعْلَمُ إلَّا بِالْعَقْلِ فَقَطْ.

وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ مِن صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى مَا قَد يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ، كَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ عَالِمٌ وَأَنَّهُ قَادِرٌ وَأَنَّهُ حَيٌّ؛ كَمَا أَرْشَدَ إلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك: 14]. [3/ 88]

ص: 229

273 -

لَا بُدَّ مِن الْإِيمَانِ بِخَلْقِ اللهِ وَأَمْرِهِ

(1)

، فَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ، وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا باللهِ.

وَقَد عَلِمَ مَا سَيَكونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، وَقَدَّرَ الْمَقَادِيرَ وَكَتَبَهَا حَيْثُ شَاءَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} [الحج: 70].

وَفِي "الصَّحِيح"

(2)

عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ اللهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَاِئقِ

(3)

قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ".

وَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللهَ أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا خَلَقَ الْجنَّ وَالْإِنْسَ لِعِبَادَتِهِ، وَبِذَلِكَ أرْسَلَ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ، وَعِبَادَتهُ تَتَضَمَّنُ كَمَالَ الذُّلِّ وَالْحُبِّ لَهُ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ كَمَالَ طَاعَتِهِ {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80].

وَهَذَا الدِّينُ هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي لَا يَقْبَل اللهُ دِينًا غَيْرَهُ، لَا مِن الْأَوَّلينَ وَلَا مِن الآخرين؛ فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى عَن نُوحٍ {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [النمل: 91].

وَقَالَ عَن إبْرَاهِيمَ: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)} [البقرة: 131]، إلَى قَوْلِهِ:{فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132].

(1)

وهذا هو الأصل الثاني من مادة التدمرية، وَهُوَ التَّوْحِيدُ فِي الْعِبَادَاتِ، الْمُتَضَمِّنُ لِلْإيمَانِ بالشَّرْع وَالْقَدَرِ جَمِيعًا.

وَالأصَل الأول: هو توحيد الصفات.

(2)

مسلم (2653).

(3)

قال رحمه الله: وَهَذَا التَّقْدِيرُ بَعْدَ وُجُودِ الْعَرْشِ، وَقَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بخَمْسِينَ ألْفِ سَنَةٍ (6/ 551).

ص: 230

وَقَالَ عَن مُوسَى: {يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 84].

وَقَالَ فِي خَبَرِ الْمَسِيحِ: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)} [المائدة: 111].

وَقَالَ فِيمَن تَقَدَّمَ مِن الْأَنْبِيَاءِ: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44].

وَقَالَ عَن بلقيس أَنَّهَا قَالَتْ: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44].

فَالْإِسْلَامُ يَتَضَمَّنُ الِاسْتِسْلَامَ للهِ وَحْدَهُ، فَمَن اسْتَسْلَمَ لَهُ وَلغَيْرِهِ كَانَ مُشْرِكًا، وَمَن لَمْ يَسْتَسْلِمْ لَهُ كَانَ مُسْتَكْبِرًا عَن عِبَادَتِهِ، وَالْمُشْرِكُ بِهِ وَالْمُسْتَكْبِرُ عَن عِبَادَتِهِ كَافِرٌ.

وَالِاسْتِسْلَامُ لَهُ وَحْدَهُ: يَتَضَمَّنُ عِبَادَتَهُ وَحْدَهُ وَطَاعَتَهُ وَحْدَهُ.

فَهَذَا دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللهُ غَيْرَهُ؛ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِأَنْ يُطَاعَ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِفِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَإِذَا أَمَرَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بِاسْتِقْبَالِ الصَّخْرَةِ ثُمَّ أَمَرَنَا ثَانِيًا بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ: كَانَ كُلٌّ مِن الْفِعْلَيْنِ حِينَ أَمَرَ بِهِ دَاخِلًا فِي الْإِسْلَامِ.

فَالدِّين هُوَ الطَّاعَةُ وَالْعِبَادَةُ لَهُ فِي الْفِعْلَيْنِ.

فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ دِينُهُم وَاحِدٌ، وَإِن تَنَوَّعَت الشِّرْعَةُ وَالْمِنْهَاجُ وَالْوَجْهُ وَالْمَنْسَكُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ وَاحِدًا.

وَقَد تَنَازَعَ النَّاسُ فِيمَن تَقَدَّمَ مِن أُمَّةِ مُوسَى وَعِيسَى: هَل هُم مُسْلِمُونَ أَمْ لَا؟ وَهُوَ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ الْخَاصَّ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم الْمُتَضَمِّن لِشَرِيعَةِ الْقُرْآنِ: لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا أُمَّة مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

وَالْإِسْلَامُ الْيَوْمَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَتَنَاوَلُ هَذَا، وَأَمَّا الْإِسْلَامُ الْعَامُّ الْمُتَنَاوِلُ

ص: 231

لِكُلِّ شَرِيعَةٍ بَعَثَ اللهُ بِهَا نَبِيًّا فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ إسْلَامَ كُلِّ أُمَّةٍ مُتَّبِعَةٍ لِنَبِيِّ مِن الْأَنْبِيَاءِ.

وَرَأْسُ الْإِسْلَامِ مُطْلَقًا شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَبِهَا بُعِثَ جَمِيعُ الرُّسُلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].

وَقَد بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ الشِّرْكَ بِالْمَلَائِكَةِ، وَالشِّرْكَ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَالشِّرْكَ بِالْكوَاكِبِ، وَالشِّرْكَ بِالْأَصْنَامِ -وَأَصْلُ الشِّرْكِ الشِّرْكُ بِالشَّيْطَانِ- فَقَالَ عَن النَّصَارَى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: 31].

وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدًا مِن الْخَلْقِ لَمْ يَزْعُمْ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ شَارَكُوا اللهَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ بَل وَلَا زَعَمَ أَحَدٌ مِن النَّاسِ أَنَّ الْعَالَمَ لَهُ صَانِعَانِ مُتَكَافِئَانِ فِي الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ؛ بَل وَلَا أَثْبَتَ أَحَدٌ مِن بَنِي آدَمَ إلَهًا مُسَاوِيًا للهِ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ.

بَل عَامَّةُ الْمُشْرِكِينَ باللهِ: مُقِرُّونَ بِأَنَّهُ لَيْسَ شَرِيكُهُ مِثْلَهُ؛ بَل عَامَّتُهُم يُقِرُّونَ أنَّ الشَّرِيكَ مَمْلُوكٌ لَة، سَوَاءٌ كَانَ مَلَكًا أَو نَبِيًّا أَو كَوْكَبًا أَو صَنَمًا؛ كَمَا كَانَ فشْرِكُو الْعَرَبِ يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ:"لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك إلَّا شَرِيكًا هُوَ لَك تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ".

وَقَد ذَكَرَ أَرْبَابُ الْمَقَالَاتِ: مَا جَمَعُوا مِن مَقَالَاتِ الْأَوَّلينَ والآخرين فِي الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ، وَالْآرَاءِ وَالدِّيَانَاتِ، فَلَمْ ينقُلُوا عَن أَحَدٍ إثْبَاتَ شَرِيك مُشَارِكٍ لَهُ فِي خَلْقِ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَا مُمَاثِلٍ لَه فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ.

وَبِهَذَا وَغَيْرِهِ: يُعْرَفُ مَا وَقَعَ مِن الْغَلَطِ فِي مُسَمَّى التَّوْحِيدِ؛ فَإِنَّ عَامَّةَ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ يُقَرِّرُونَ التَّوْحِيدَ فِي كُتُبِ الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ: غَايَتُهُم أَنْ يَجْعَلُوا التَّوْحِيدَ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ، فَيَقُولُونَ:

ص: 232

هُوَ وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ لَا قَسِيمَ لَهُ، وَوَاحِدٌ فِي صِفَاتِهِ لَا شَبِيهَ لَهُ، وَوَاحِدٌ فِي أَفْعَالِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ

(1)

.

وَأَشْهَرُ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ عِنْدَهُم هُوَ الثَّالِثُ، وَهُوَ تَوْحِيدُ الْأَفْعَالِ، وَهُوَ أَنَّ خَالِقَ الْعَالَمِ وَاحِدٌ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ هَذَا هُوَ التَّوْحِيدُ الْمَطْلُوبُ، وَأَنَّ هَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِنَا لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، حَتَّى قَد يَجْعَلُوا مَعْنَى الْإِلَهِيَّةِ الْقُدْرَةَ عَلَى الِاخْتِرَاعِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ مِن الْعَرَب الَّذِينَ بُعِثَ إلَيْهِم مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم أوَّلًا لَمْ يَكُونُوا يُخَالِفُونَهُ فِي هَذَا؛ بَل كَانُوا يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى إنَّهُم كَانُوا يُقِرُّونَ بِالْقَدَرِ أيْضًا، وَهُم مَعَ هَذَا مُشْرِكُونَ.

وَكَذَلِكَ النَّوْعُ الثَّاني -وَهُوَ قَوْلُهُم: لَا شَبِيهَ لَهُ فِي صِفَاتِهِ-: فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْأمَمِ مَن أَثْبَتَ قَدِيمًا مُمَاثِلًا لَهُ فِي ذَاتِهِ.

وَكَذَلِكَ النَّوْعُ الثَّالِثُ -وَهُوَ قَوْلُهُم: هُوَ وَاحِدٌ لَا قَسِيمَ لَهُ فِي ذَاتِهِ، أَو لَا جُزْءَ لَهُ، أَو لَا بَعْضَ لَهُ-: لَفْظٌ مُجْمَلٌ؛ فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أَحَدٌ صَمَدٌ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ أنْ يَتَفَرَّقَ أَو يَتَجَزَّأَ، أَو يَكُونَ قَد رُكِّبَ مِن أَجْزَاءٍ، لَكِنَّهُم يُدْرِجُونَ فِي هَذَا اللَّفْظِ نَفْيَ عُلُوِّهِ عَلَى عَرْشِهِ، وَمُبَايَنَتَهُ لِخَلْقِهِ، وَامْتِيَازَهُ عَنْهُمْ، وَنَحْو ذَلِكَ مِن الْمَعَانِي الْمُسْتَلْزِمَةِ لِنَفْيِهِ وَتَعْطِيلِهِ، وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ مِن التَّوْحِيدِ.

فَقَد تَبَيَّنَ أَنَّ مَا يُسَمونَهُ تَوْحِيدًا: فِيهِ مَا هُوَ حَقٌّ، وَفِيهِ مَا هُوَ بَاطِلٌ.

(1)

يُنظر في ذلك من كتب الأشاعرة: مجرد مقالات الأشعري لابن فورك (ص 55)، والاعتقاد للبيهقي (ص 63)، وشرح أسماء الله الحسنى للقشيري (ص 215)، والشامل (ص 345 - 348)، والإرشاد (ص 52)، ولمع الأدلة (ص 86)، وإحياء علوم الدين (1/ 33)، والاقتصاد في الاعتقاد (ص 49)، ونهاية الأقدام (ص 90) وغيرها.

وبناءً على تعريفهم للإيمان فقد أخرجوا توحيد الألوهية من تقسيمهم للتوحيد.

فلذلك فإن أي مجتمع أشعري تجد فيه توحيد الالهية مختلًّا، وينتشر بينهم الشرك والبدعة؛ لأنهم لم يتعلّموا أن الله واحد في عبادته لا شريك له.

ص: 233

وَلَو كَانَ جَمِيعُهُ حَقًّا: فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ إذَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ كُلِّهِ لَمْ يَخْرُجُوا مِن الشِّرْكِ الَّذِي وَصَفَهُم بِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَقَاتَلَهُم عَلَيْهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم؛ بَل لَا بُدَّ أَنْ يَعْتَرِفُوا أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ.

وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْإِلَهِ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى الِاخْتِرَاعِ، كَمَا ظَنَهُ مَن ظَنَّهُ مِن أَئِمَّةِ الْمُتَكَلِّمِين .. فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُقِرُّونَ بِهَذَا وَهُم مُشْرِكُونَ؛ بَل الْإِلَهُ الْحَقُّ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِق بِأَنْ يُعْبَدَ، فَهُوَ إلَهٌ بِمَعْنَى مَألُوهٍ، لَا إلَهَ بِمَعْنَى آلِهٍ.

وَالتَّوْحِيدُ: أَنْ يُعْبَدَ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.

وَالْإِشْرَاكُ: أَنْ يُجْعَلَ مَعَ اللهِ إلَهًا آخَرَ.

وَإِذَا تبَيَّنَ أَنَّ غَايَةَ مَا يُقَزرُهُ هَؤُلَاءِ النُّظَّارُ، أَهْلُ الْإِثْبَاتِ لِلْقَدَرِ، الْمُنْتَسِبُونَ إلَى السُّنَّةِ: إنَّمَا هُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ.

وَكَذَلِكَ طَوَائِفُ مِن أَهْلِ التَّصَوُّفِ، وَالْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْمَعْرِفَةِ وَالتَّحْقِيقِ وَالتَّوْحِيدِ: غَايَةُ مَا عِنْدَهُم مِن التَّوْحِيدِ هُوَ شُهُودُ هَذَا التَّوْحِيدِ، وَأَنْ يَشْهَدَ أَنَّ اللهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ. [3/ 89 - 101]

* * *

(مذاهب الفرق الضالة في التوحيد)

274 -

كَانَ جَهْمٌ يَنْفِي الصِّفَاتِ وَيَقُولُ بِالْجَبْرِ، فَهَذَا تَحْقِيقُ قَوْلِ جَهْمٍ، لَكِنَّهُ إذَا أَثْبَتَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ: فَارَقَ الْمُشْرِكِينَ مِن هَذَا الْوَجْهِ، لَكِنَّ جَهْمًا وَمَن اتَّبَعَهُ يَقُولُ بِالْإِرْجَاءِ، فَيَضْغفُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالثوَابُ وَالْعِقَابُ عِنْدَهُ.

والنجارية والضرارية وَغَيْرُهُم: يَقْرَبُونَ مِن جَهْمٍ فِي مَسَائِلِ الْقَدَرِ وَالْإِيمَانِ، مَعَ مُقَارَبَتِهِمْ لَهُ أَيْضًا فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ.

والْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةُ: خَيْرٌ مِن هَؤُلَاءِ فِي بَابِ الصِّفَاتِ؛ فَإِنَّهُم يُثْبِتُونَ للهِ الصِّفَاتِ الْعَقْلِيَّةَ، وَأَئِمَّتُهُم يُثْبِتُونَ الصّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ فِي الْجُمْلَةِ.

ص: 234

وَأَمَّا فِي بَابِ الْقَدَرِ وَمَسَائِلِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ: فَأَقْوَالُهُم مُتَقَارِبَةٌ.

والْكُلَّابِيَة: هُم أَتْبَاعُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كِلَابٍ، الَّذِي سَلَكَ الْأَشْعَرِيُّ خُطَّتَهُ.

وَأَصْحَابُ ابْن كِلَابٍ كَالْحَارِثِ الْمُحَاسَبِيِّ، وَأَبِي الْعَبَّاسِ القلانسي وَنَحْوِهِمَا: خَيْرٌ مِن الْأشْعَرِيَّةِ فِي هَذَا وَهَذَا.

فَكُلَّمَا كَانَ الرَّجُلُ إلَى السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ أَقْرَبَ كَانَ قَوْلُهُ أَعْلَى وَأَفْضَلَ.

والكَرَّامِيَة قَوْلُهُم فِي الْإِيمَانِ قَوْلٌ مُنْكَرٌ، لَمْ يَسْبِقْهُم إلَيْهِ أَحَدٌ، حَيْثُ جَعَلُوا الْإِيمَانَ قَوْلَ اللِّسَانِ، وَإِن كَانَ مَعَ عَدَمِ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ.

فَيَجْعَلُونَ الْمُنَافِقَ مُومِنًا، لَكِنَّهُ يخْلدُ فِي النَّارِ، فَخَالَفُوا الْجَمَاعَةَ فِي الِاسْمِ دُونَ الْحُكْمِ.

وَأَمَّا فِي الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَالْوَعِيدِ: فَهُم أَشْبَهُ مِن أَكْثَرِ طَوَائِفِ الْكَلَامِ الَّتِي فِي أَقْوَالِهَا مُخَالَفَةٌ لِلسُّنَّةِ.

وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ: فَهُم يَنْفُونَ الصِّفَاتِ، وَيُقَارِبُونَ قَوْلَ جَهْمٍ، لَكِنَّهُم يَنْفُونَ الْقَدَرَ، فَهُم وَإِن عَظَّمُوا الْأمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ، وَغَلَوْا فِيهِ، فَهُم يُكَذِّبُونَ بِالْقَدَرِ، فَفِيهِمْ نَوْعٌ مِن الشِّرْكِ مِن هَذَا الْبَابِ.

وَالْإِقْرَارُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مَعَ إنْكَارِ الْقَدَرِ: خَيْرٌ مِن الْإِقْرَارِ بِالْقَدَرِ مَعَ إنْكَارِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ.

وَلهَذَا لَمْ يَكن فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مَن يَنْفِي الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ، وَكَانَ قَد نَبَغَ فِيهِم الْقَدَرِيَّةُ، كَمَا نَبَغَ فِيهِم الْخَوَارجُ الحرورية.

وَإِنَّمَا يَظْهَرُ مِن الْبِدَعِ أَوَّلًا مَا كَانَ أَخْفَى، وَكُلَّمَا ضَعُفَ مَن يَقُومُ بِنُورِ النُّبُوَّةِ قَوِيَت الْبِدْعَةُ. [3/ 102 - 104]

* * *

ص: 235

(الْكَلَامِ فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ: شهادة ألَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَأَنَّ محَمَّدًا رَسُولُ اللهِ)

275 -

إِقْرَارُ الْمُشْرِكِ بِأَنَّ اللهَ رَبُّ كُلّ شَيْءٍ؛ وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ: لَا يُنْجِيهِ مِن عَذَابِ اللهِ إنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ إقْرَارُهُ بِأَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ أَحَدٌ إلَّا هُوَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَيَجِبُ تَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ، وَطَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ.

فَلَا بُدَّ مِن الْكَلَامِ فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ:

الْأَصْلُ الْأوَّلُ: تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ:

فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ عَن الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُم أَثْبَتُوا وَسَائِطَ بَيْنَهُم وَبَيْنَ اللهِ يَدْعُونَهُم وَيتَّخِذُونَهُم شُفَعَاءَ بِدُونِ إذْنِ اللهِ، قَالَ تَعَالَى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)} [يونس: 18]، فَأَخْبَرَ أَنَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا هَؤُلَاءِ شُفَعَاءَ مُشْرِكُونَ.

وَمِن تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَثْبَتَ لَهُ حَقًّا لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ مَخْلُوقٌ؛ كَالْعِبَادَةِ، وَالتَّوَكُّلِ، وَالْخَوْفِ، وَالْخَشْيَةِ، وَالتَقْوَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11)} [الزمر: 11].

وَكُلٌّ مِن الرُّسُلِ يَقُولُ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].

وَقَد قَالَ تَعَالَى فِي التَّوَكُّلِ: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)} [التوبة: 59].

فَقَالَ فِي الْإِتْيَانِ: {مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 59]، وَقَالَ فِي التَوَكُّلِ:{وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} [آل عمران: 173] وَلَمْ يَقُلْ: وَرَسُولُهُ؛ لِأنَّ الْإِتْيَانَ

ص: 236

هُوَ الْإِعْطَاءُ الشَّرْعِيُّ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْإِبَاحَةَ وَالْإِحْلَالَ الَّذِي بَلَّغَهُ الرَّسُولُ، فَإِنَّ الْحَلَالَ مَا أَحَلَّهُ وَالْحَرَامَ مَا حَرَّمَهُ، وَالدِّينَ مَا شَرَعَهُ.

وَأَمَّا الحسب: فَهُوَ الْكَافِي، وَاللهُ وَحْدَهُ كَافٍ عَبْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)} [الأنفال: 64]؛ أَيْ: حَسْبُك وَحَسْبُ مَن اتَّبَعَك مِن الْمُؤْمِنِينَ هُوَ اللهُ فَهُوَ كَافِيكُمْ كُلُّكُمْ.

وَقَالَ فِي الْخَوْفِ وَالْخَشْيَةِ وَالتَّقْوَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)} [النور: 52] فَأَثْبَتَ الطَّاعَةَ للهِ وَالرَّسُولِ، وَأَثْبَتَ الْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى للهِ وَحْدَهُ.

وَقَد قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44].

الْأَصْلُ الثَّانِي: حَقُّ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم.

فَعَلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِهِ، وَنُطِيعَهُ، وَنَتَّبِعَهُ، وَنُرْضِيَهُ، وَنُحِبَّهُ، وَنُسَلِّمَ لِحُكْمِهِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]. [3/ 105 - 110]

* * *

‌(يَجِبُ الْإِيمَانُ بِخَلْقِ اللهِ وَأَمْرِهِ: بِقَضَائِهِ وَشَرْعِهِ

.. )

276 -

مِن الْمَعْلُومِ أَنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِخَلْقِ اللهِ وَأَمْرِهِ: بِقَضَائِهِ وَشَرْعِهِ.

وَيتَضَمَّنُ هَذَا الْأَصْلُ مِن إثْبَاتِ عِلْمِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ، وَمَشِيئَتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ، وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ، مَا هُوَ مِن أُصُولِ الْإِيمَانِ.

وَمَعَ هَذَا فَلَا يُنْكِرُونَ مَا خَلَقَهُ اللهُ مِن الْأَسْبَابِ الَّتِي يَخْلُقُ بِهَا الْمُسَبِّبَاتِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 57].

فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَفْعَلُ بِالْأَسْبَابِ.

ص: 237

وَمَن قَالَ: إنَّهُ يَفْعَلُ عِنْدَهَا لَا بِهَا فَقَد خَالَفَ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَأَنْكَرَ مَا خَلَقَهُ اللهُ مِن الْقُوَى وَالطَّبَائِعِ. [3/ 111 - 112]

* * *

‌(هَل الْأَفْعَالُ يُعْرَفُ حَسَنُهَا وَقَبِيحُهَا بِالْعَقْلِ

؟)

277 -

الْإِنْسَانُ مُضْطَرٌّ إلَى شَرْعٍ فِي حَيَاتِهِ الدُّنْيَا؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِن حَرَكَةٍ يَجْلِبُ بِهَا مَنْفَعَتَهُ، وَحَرَكَةٍ يَدْفَعُ بِهَا مَضَرَّتَهُ، وَالشَّرْعُ هُوَ الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأفْعَالِ الَّتِي تَنْفَعُهُ وَالْأفْعَالِ الَّتِي تَضُرُّهُ، وَهُوَ عَدْلُ اللهِ فِي خَلْقِهِ، وَنُورُهُ بَيْنَ عِبَادِهِ، فَلَا يُمْكِنُ لِلْآدَمِيِّينَ أَنْ يَعِيشُوا بِلَا شَرْعٍ يُمَيِّزُونَ بِهِ بَيْنَ مَا يَفْعَلُونَهُ وَيتْرُكُونَهُ.

وَفِي هَذَا الْمَقَامِ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي أَنَّ الْأفْعَالَ هَل يُعْرَفُ حَسَنهَا وَقَبِيحُهَا بِالْعَقْلِ، أَمْ لَيْسَ لَهَا حَسَنٌ وَلَا قَبِيحٌ يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ؟

فَإِنَّهُم اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كَوْنَ الْفِعْلِ يُلَائِمُ الْفَاعِلَ أَو يُنَافِرُهُ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ سَبَبًا لِمَا يُحِبُّهُ الْفَاعِلُ وَيَلْتَذُّ بِهِ، وَسَبَبًا لِمَا يُبْغِضُهُ وُيؤْذِيه، وَهَذَا الْقَدْرُ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ تَارَةً، وَبِالشَّرْعِ أُخْرَى، وَبِهِمَا جَمِيعًا أُخْرَى.

لَكِنَّ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ وَمَعْرِفَةَ الْغَايَةِ الَّتِي تَكونُ عَاقِبَةُ الْأَفْعَالِ مِن السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ: لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالشَّرْعِ، فَمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِن تَفَاصِيلِ الْيَوْمِ الْآخِرِ، وَأَمَرَتْ بِهِ مِن تَفَاصِيلِ الشَّرَائِعِ لَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ، كَمَا أَنَّ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِن تَفْصِيلِ أَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ لَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ، وإِن كَانُوا قَد يَعْلَمُونَ بِعُقُولِهِمْ جُمَلَ ذَلِكَ.

وَلَكِنْ تَوَهَّمَتْ طَائِفَةٌ أَنَّ لِلْحُسْنِ وَالْقُبْحِ مَعْنًى غَيْرَ هَذَا وَأَنَّهُ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ.

وَقَابَلَتْهُم طَائِفَةٌ أُخْرَى ظَنَّتْ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ مِن الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ: يَخْرُجُ عَن هَذَا.

فَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَثْبَتَتَا الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ الْعَقْلِيَّيْنِ أَو الشَّرْعِيَّيْنِ وَأَخْرَجَتَاهُ عَن هَذَا الْقِسْمِ غَلِطَتْ.

ص: 238

وَجِمَاعُ ذَلِكَ: أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ فِي الْأَمْرِ مَن أَصْلَيْنِ، وَلَا بُدَّ لَهُ فِي الْقَدَرِ مِن أَصْلَيْنِ.

فَفِي الْأَمْرِ: عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِي الِامْتِثَالِ عِلْمًا وَعَمَلًا، فَلَا تَزَالُ تَجْتَهِدُ فِي الْعِلْمِ بِمَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَالْعَمَلِ بِذَلِكَ.

ثُمَّ عَلَيْهِ أنْ يَسْتَغْفِرَ وَيَتُوبَ مِن تَفْرِيطِهِ فِي الْمَأْمُورِ وَتَعَدِّيهِ الْحُدُودَ؛ وَلهَذَا كَانَ مِن الْمَشْرُوعِ أَنْ يَخْتِمَ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ بِالِاسْتِغْفَارِ، فَكانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا انْصَرَفَ مِن صِلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا، وَقَد قَالَ اللهُ تَعَالَى:{وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17]، فَقَامُوا بِاللَّيْلِ وَخَتَمُوهُ بِالِاسْتِغْفَارِ، وَآخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر: 1 - 3].

وَأَمَّا فِي الْقَدَرِ: فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعِينَ باللهِ فِي فِعْلِ مَا أمَرَ بِهِ ويتَوَكَّلَ عَلَيْهِ ويدْعُوَهُ، وَيَرْغَبَ إلَيْهِ وَيَسْتَعِيذَ بِهِ، وَيَكُونَ مُفْتَقِرًا إلَيْهِ فِي طَلَبِ الْخَيْرِ وَتَرْكِ الشَّرِّ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْمَقْدُورِ، وَيعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُن لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَاَهُ لَمْ يَكُن لِيُصِيبَهُ، وَإِذَا آذَاهُ النَّاسُ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مُقَدَّرٌ عَلَيْهِ.

وَهُم مَأْمُورُونَ أَنْ يَنْظرُوا إلَى الْقَدَرِ فِي الْمَصَائِبِ، وَأَنْ يَسْتَغْفِرُوا مِن المعائب، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر: 55]، فَمَن رَاعَى الْأَمْرَ وَالْقَدَرَ كَمَا ذُكرَ: كَانَ عَابِدًا للهِ مُطِيعًا لَهُ، مُسْتَعِينًا بِهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ، مِن الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِن النَّبِيِّينَ وَالصِّدّيقِينَ وَالشهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا.

وَقَد جَمِع اللهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فِي مَوَاضِعَ؛ كَقَوْلِهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]، وَقَوْلِهِ:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، وَقَوْلِهِ:{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10].

فَالْعِبَادَةُ للهِ وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ.

ص: 239

وَلَا بُدَّ فِي عِبَادَتِهِ مِن أَصْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: إخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ.

وَالثَّانِي: مُوَافَقَةُ أمْرِهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ.

وَلهَذَا ذَمَّ اللهُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى اتِّبَاعِ مَا شَرَعَ لَهُم شُرَكَاؤُهُم مِن الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ مِن عِبَادَةِ غَيْرِهِ، وَفِعْلِ مَا لَمْ يَشْرَعْهُ مِن الدِّينِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، كَمَا ذَمَّهُم عَلَى أَنَّهُم حَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللهُ

(1)

.

وَالدِّينُ الْحَقُّ أَنَّهُ لَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللهُ وَلَا دِينَ إلَّا مَا شَرَعَهُ.

ثُمَّ إنَّ النَّاسَ فِي عِبَادَتِهِ وَاسْتِعَانَتِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:

أ - فَالْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ: هُم لَهُ وَبِهِ يَعْبُدُونَهُ وَيَسْتَعِينُونَهُ.

ب - وَطَائِفَةٌ تَعْبُدُهُ مِن غَيْرِ اسْتِعَانَةٍ وَلَا صَبْرٍ، فَتَجِدُ عِنْدَ أحَدِهِمْ تَحَرِّيًا لِلطَّاعَةِ وَالْوَرَعِ وَلُزُومِ السُّنَّةِ، لَكِنْ لَيْسَ لَهُم تَوَكُّلٌ وَاسْتِعَانَةٌ وَصَبْرٌ؛ بَل فِيهِمْ عَجْزٌ وَجَزَعٌ.

ج - وَطَائِفَةٌ فِيهِم اسْتِعَانَةٌ وَتَوَكُّلٌ وَصَبْرٌ مِن غَيْرِ اسْتِقَامَةٍ عَلَى الْأمْرِ وَلَا مُتَابَعَةِ لِلسُّنَّةِ، فَقَد يُمَكَّنُ أَحَدُهُم وَيَكُونُ لَهُ نَوْعٌ مِن الْحَالِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَيُعْطَى مِن الْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّأْثِيرَاتِ مَا لَمْ يُعْطَهُ الصِّنْفُ الْأَوَّلُ، وَلَكِنْ لَا عَاقِبَةَ لَهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِن الْمُتَّقِينَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى.

فَالْأوَّلُونَ: لَهُم دِينٌ ضَعِيفٌ وَلَكنَّهُ مُسْتَمِرٌّ بَاقٍ، إنْ لَمْ يُفْسِدْهُ صَاحِبُهُ بِالْجَزَعِ وَالْعَجْزِ.

وَهَؤُلَاءِ لِأَحَدِهِمْ حَالٌ وَقُوَّةٌ، وَلَكِنْ لَا يَبْقَى لَهُ إلَّا مَا وَافَقَ فِيهِ الْأَمْرَ وَاتَّبعَ فِيهِ السُّنَّةَ.

ص: 240

د - وَشَرُّ الْأَقْسَامِ: مَن لَا يَعْبُدُهُ وَلَا يَسْتَعِينُهُ، فَهُوَ لَا يَشْهَدُ أنَّ عِلْمَهُ للهِ وَلَا أَنَّهُ باللهِ.

فَالْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُهُم مِن الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْقَدَرَ: هُم فِي تَعْظِيمِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ خَيْرٌ مِن هَؤُلَاءِ الْجَبْرِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ يُعْرِضُونَ عَن الشَّرْعِ وَالْأمْرِ وَالنَّهْيِ.

وَالصُّوفِيَّةُ هُم فِي الْقَدَرِ وَمُشَاهَدَةِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ: خَيْرٌ مِن الْمُعْتَزِلَةِ، وَلَكِنْ فِيهِمْ مَن فِيهِ نَوْعُ بِدَعٍ مَعَ إعْرَاضٍ عَن بَعْضِ الأمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، حَتَّى يَجْعَلُوا الْغَايَةَ هِيَ مُشَاهَدَةُ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْفَنَاءِ فِي ذَلِكَ، وَيَصِيرُونَ أَيْضًا مُعْتَزِلِينَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَسُنَّتِهِمْ، فَهُم مُعْتَزِلَةٌ مِن هَذَا الْوَجْهِ.

وَقَد يَكُون مَا وَقَعُوا فِيهِ مِن الْبِدْعَةِ شَرًّا مِن بِدْعَةِ أُولَئِكَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَكِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ نَشَأَتْ مِن الْبَصْرَةِ.

وَإِنَّمَا دِينُ اللهِ مَا بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، وَهُوَ طَرِيقَةُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَيْرِ الْقُرُونِ، وَأَفْضَلِ الْأمَّةِ وَأَكْرَمِ الْخَلْقِ عَلَى اللهِ تَعَالَى بَعْدَ النَّبِيِّينَ، قَالَ تَعَالَى:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رضي الله عنهم} [التوبة: 100]، فَرَضِيَ عَن السَّابِقِينَ الْأَوَّلينَ رضى مُطْلَقًا، وَرَضِيَ عَن التَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَانٍ

(1)

. [3/ 114 - 128]

* * *

(العقيدة الواسطية)

278 -

هَذَا اعْتِقَادُ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ الْمَنْصُورَةِ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ -أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ- وَهُوَ: الْإِيمَانُ باللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ: خَيْرِهِ وَشَرِّهِ.

(1)

إلى هنا انتهى المقصود من العقيدة التدمرية.

ص: 241

وَمِن الْإِيمَانِ باللهِ: الْإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم مِن غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيل وَمِن غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ؛ بَل يُومِنُونَ بِأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

فَلَا يَنْفُونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَلَا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ، وَلَا يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اللهِ وَآيَاتِهِ، وَلَا يُكَيِّفُونَ وَلَا يُمَثِّلُونَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا سَمِيَّ لَهُ، وَلَا كُفُوَ لَهُ، وَلَا نِدَّ لَهُ، وَلَا يُقَاسُ بِخَلْقِهِ -سبحانه وتعالي-؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ، وَأَصْدَقُ قِيلًا، وَأَحْسَنُ حَدِيثًا مِن خَلْقِهِ.

ثُمَّ رُسُلُهُ صَادِقُونَ مَصْدُوقُونَ، بِخِلَافِ الَّذِينَ يَقُولُونَ عَلَيْهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ.

وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَد جَمَعَ فِيمَا وَصَفَ وَسَمَّى بِهِ نَفْسَهُ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، فَلَا عُدُولَ لِأَهْلِ السّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَمَّا جَاءَ بِهِ الْمُرْسَلُونَ؛ فَإِنَّهُ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِن النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ.

وَقَد دَخَلَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي سُورَةِ الْإِخْلَاصِ .. وَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي أَعْظَمِ آيَةٍ فِي كِتَابِهِ

(1)

.

وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: 58].

وَهَذَا الْبَابُ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى كَثِيرٌ، مَن تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ طَالِبًا لِلْهُدَى مِنْهُ تبَيَّنَ لَهُ طَرِيقُ الْحَقِّ

(2)

.

فَصْلٌ: فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

فَالسُّنَّةُ تُفَسِّرُ الْقُرْآنَ وَتُبَيِّنُهُ، وَتَدُلُّ عَلَيْهِ وَتُعَبِّرُ عَنْهُ، وَمَا وَصَفَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم

(1)

وهي: آية الكرسي.

(2)

وهذا قيد مهم، فكثير من الناس يقرأ القرآن ولا يجد له تأثيرًا في قلبه وعمله وسلوكه، وذلك لأنّه يقرؤه طالبًا للأجر والبركة فحسب، ولكن الشأن فيمن يقرؤه طلبًا للهداية والعمل.

ص: 242

بِهِ رَبَّهُ عز وجل مِن الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ الَّتِي تَلَقَّاهَا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْقَبُولِ وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهَا كَذَلِكَ؛ مِثْلُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرِ فَيَقُولُ: مَن يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَن يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَن يَسْتَغْفِرُنِى فَأَغْفِرَ لَهُ؟ ". مُتَّفَق عَلَيْهِ

(1)

.

وَقَولهُ صلى الله عليه وسلم: "للهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِن أَحَدِكمْ بِرَاحِلَتِهِ". الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأحَادِيثِ الَّتِي يُخْبِرُ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَن رَبِّهِ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ.

فَإِنَّ الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ -أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ- يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ، كَمَا يُؤْمِنُونَ بِمَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ مِن غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَمِن غَيْرِ تَكْيِفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ.

بَل هُم الْوَسَطُ فِي فِرَقِ الْأُمَّةِ، كَمَا أَنَّ الْأمَّةَ هِيَ الْوَسَطُ فِي الْأُمَمِ.

فَهُم وَسَطٌ فِي (بَابِ صِفَاتِ اللهِ -سبحانه وتعالي-) بَيْنَ أَهْلِ التَّعْطِيلِ الْجَهْمِيَّة، وَأَهْلِ التَّمْثِيلِ الْمُشَبِّهَةِ.

وَهُم وَسَطٌ فِي (بَابِ أَفْعَالِ اللهِ تَعَالَى) بَيْنَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ.

وَفِي (بَابِ وَعِيدِ اللهِ) بَيْنَ الْمُرْجِئَةِ والوعيدية مِن الْقَدَرَّيةِ وَغَيْرِهِمْ.

وَفِى (بَابِ أَسْمَاءِ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ) بَيْنَ الحرورية وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَبَيْنَ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَة.

وَفِي (أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بَيْنَ الرَّوَافِضِ وَالْخَوَارجِ.

فَصْلٌ: وَقَد دَخَلَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِن الْإِيمَانِ باللهِ: الْإِيمَانُ بِمَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ

(1)

البخاري (1145)، ومسلم (758).

(2)

البخاري (6309)، ومسلم (2675)، واللفظ له.

ص: 243

فِي كِتَابِهِ، وَتَوَاتَرَ عَن رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ: مِن أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ، عَلِيٌّ عَلَى خَلْقِهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَهُم أَيْنَمَا كَانُوا، يَعْلَمُ مَا هُم عَامِلُونَ، كَمَا جَمَعَ بَيْنَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)} [الحديد: 4].

وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ} أَنَّهُ مُخْتَلِطٌ بِالْخَلْقِ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا تُوجِبُهُ اللُّغَةُ، وَهُوَ خِلَافُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ، وَخِلَافُ مَا فَطَرَ اللهُ عَلَيْهِ الْخَلْقَ؛ بَل الْقَمَرُ آيَةٌ مِن آيَاتِ اللهِ مِن أَصْغَرِ مَخْلُوقَاتِهِ هُوَ مَوْضُوعٌ فِي السَّمَاءِ، وَهُوَ مَعَ الْمُسَافِرِ وَغَيْرِ الْمُسَافِرِ أيْنَمَا كَانَ.

فَصْلٌ: وَقَد دَخَلَ فِي ذَلِكَ: الْإِيمَانُ بِأَنَهُ قَرِيبٌ مِن خَلْقِهِ فجِيبٌ.

فَصْلٌ: وَمِن الْإِيمَانِ باللهِ وَكُتُبِهِ: الْإِيمَانُ بأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى تَكَلَّمَ بِهِ حَقِيقَةً، وَأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم هُوَ كَلَامُ اللهِ حَقِيقَةً لَا كَلَامُ غَيْرِهِ.

فَصْلٌ: وَقَد دَخَلَ أَيْضًا فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِن الْإِيمَانِ بِهِ وَبِكُتُبِهِ وَبِرُسُلِهِ: الْإِيمَانُ بِأَنَّ الْمُؤمِنِينَ يَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِيَانًا بِأَبْصَارِهِمْ.

فَصْلٌ: وَمِن الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ: الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِمَّا يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ فَيُؤْمِنُونَ بِفِتْنَةِ الْقَبْرِ وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ وَبِنَعِيمِهِ.

فَأَمَّا الْفِتْنَةُ: فَإِنَّ النَّاسَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ، فَيُقَالُ لِلرَّجُلِ:"مَن رَبُّك وَمَا دِينُك وَمَن نَبِيُّك؟ "

(1)

.

ثُمَّ بَعْدَ هَذِهِ الْفِتْنَةِ: إمَّا نَعِيمٌ وَإِمَّا عَذَابٌ إلَى أَنْ تَقُومَ الْقِيَامَةُ الْكُبْرَى،

(1)

رواه أبو داود (4753)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود.

ص: 244

فَتُعَادُ الْأَرْوَاحُ إلَى الْأَجْسَادِ، وَتَقُومُ الْقِيَامَةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ.

فَيَقُومُ النَّاسُ مِن قُبُورِهِمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، وَتَدْنُو مِنْهُم الشَّمْسُ وَيُلْجِمُهُم الْعَرَقُ.

وَتُنْصَبُ الْمَوَازِينُ، فَتُوزَنُ فِيهَا أَعْمَالُ الْعِبَادِ.

وَتُنْشَرُ الدَّوَاوِينُ -وَهِيَ صَحَائِفُ الْأَعْمَالِ- فَآخِذٌ كِتَابَةُ بِيَمِينِهِ وَآخِذ كِتَابَهُ بِشَمَالِهِ، أَو مِن وَرَاءِ ظَهْرِهِ.

ويُحَاسِبُ اللهُ الْخَلَائِقَ، وَيَخْلُو بِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ، كَمَا وُصِفَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

وَأَمَّا الْكُفَّارُ: فَلَا يُحَاسَبُونَ مُحَاسَبَةَ مَن تُوزَنُ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ؛ فَإنَّهُ لَا حَسَنَات لَهُمْ، وَلَكِنْ تُعَدُّ أَعْمَالُهُم وَتُحْصَى فَيُوقَفُونَ عَلَيْهَا وَيُقَرَّرُونَ بِهَا وَيُجْزَوْنَ بِهَا.

وَفِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ: الْحَوْضُ الْمَوْرُودُ لِمُحَمَّد صلى الله عليه وسلم.

وَالصِّرَاطُ مَنْصُوبٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ -وَهُوَ الْجِسْرُ الَّذِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ-، يَمُرُّ النَّاسُ عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ.

فَإِذَا عَبَرُوا عَلَيْهِ وَقَفُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِن بَعْضٍ، فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُم فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَأَوَّلُ مَن يَسْتَفْتِحُ بَابَ الْجَنَّةِ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وَأَوَّلُ مَن يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِن الْأُمَمِ أُمَّتُهُ.

وَلَهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْقِيَامَةِ - ثَلَاثُ شَفَاعَاتٍ:

أَمَّا الشَّفَاعَةُ الْأُولَى: فَيشفعُ فِي أَهْلِ الْمَوْقِفِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَهُم بَعْدَ أَنْ تَتَرَاجَعَ الْأَنْبِيَاءُ: آدم وَنُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَن الشَّفَاعَةِ، حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَيْهِ.

ص: 245

وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّانِيَةُ: فَيشفعُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ.

وَهَاتَانِ الشَّفَاعَتَانِ خَاصَّتَانِ لَهُ.

وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّالِثَةُ: فَيشفعُ فِيمَن اسْتَحَقَّ النَّارَ.

وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ لَهُ وَلسَائِرِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَيشفعُ فِيمَن اسْتَحَقَّ النَّارَ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا، ويشفعُ فِيمَن دَخَلَهَا أنْ يَخْرُجَ مِنْهَا.

وَتُؤمِنُ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ -أَهْلُ السُّنَّة وَالْجَمَاعَةِ- بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ.

وَالْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ عَلَى دَرَجَتَيْنِ كُلُّ دَرَجَةٍ تَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ:

فَالدَّرَجَةُ الْأُولَى: الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى عَلِمَ مَا الْخَلْق عَامِلُونَ بِعِلْمِهِ الْقَدِيمِ الَّذِي هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِ أَزَلًا، وَعَلِمَ جَمِيعَ أَحْوَالِهِمْ مِن الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي وَالْأرْزَاقِ وَالْآجَالِ، ثُمَّ كَتَبَ اللهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ .. كَمَا قَالَ -سبحانه وتعالي-:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} [الحج: 70].

فَهَذَا الْقَدَرُ قَد كَانَ يُنْكِرُهُ غُلَاةُ الْقَدَرِيَّةِ قَدِيمًا، وَمُنْكِرُهُ الْيَوْمَ قَلِيلٌ.

وَأَمَّا الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: فَهُوَ مَشِيئَةُ اللهِ النَّافِذَةُ، وَقُدْرَتُهُ الشَّامِلَةُ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِأَنَّ مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مِن حَرَكَةٍ وَلَا سُكُونٍ إلَّا بِمَشِيئَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ، لَا يَكُونُ فِي مُلْكِهِ إلَّا مَا يُرِيدُ، وَأَنَّهُ سبحانه وتعالى عَلَى كُلِّ شَئِءٍ قَدِيرٌ مِن الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ.

وَالْعِبَادُ فَاعِلُونَ حَقِيقَةً وَاللهُ خَالِقُ أَفْعَالِهِمْ.

وَللْعِبَادِ قُدْرَةٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَلَهُم إرَادَةٌ، وَاللهُ خَالِقُهُم وَخَالِقُ قُدْرَتهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} [التكوير: 28، 29].

ص: 246

وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ مِن الْقَدَرِ: يُكَذِّبُ بِهَا عَامَّةُ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ سَمَّاهُم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَجُوسَ هَذِهِ الْأمَّةِ، وَيَغْلُو فِيهَا قَوْمٌ مِن أَهْلِ الْإِثْبَاتِ حَتَّى سَلَبُوا الْعَبْدَ قُدْرَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ، وُيخْرجُونَ عَن أَفْعَالِ اللهِ وَأَحْكَامِهِ حِكَمَهَا وَمَصَالِحَهَا.

فَصْلٌ: وَمِن أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ: أَنَّ الدِّينَ وَالْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، قَوْلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَعَمَلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارحِ.

وَأَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ.

وَهُم مَعَ ذَلِكَ لَا يُكَفِّرُونَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِمُطْلَقِ الْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْخَوَارجُ؛ بَل الْأُخُوَّةُ الْإِيمَانِيَّةُ ثَابِتَةٌ مَعَ الْمَعَاصِي كَمَا قَالَ سبحانه وتعالى فِي آيَةِ الْقِصَاصِ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178].

وَلَا يَسْلُبُونَ الْفَاسِقَ الْمِلِّي اسْمَ الْإِيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَا يُخَلِّدُونَهُ فِي النَّارِ كَمَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ؛ بَل الْفَاسِقُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ فِي مِثْل قَوْله تَعَالَى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92].

وَقَد لَا يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2].

ويقُولُونَ: هُوَ مُومِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ، أَو مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ، فَلَا يُعْطَى الِاسْمَ الْمُطْلَقَ، وَلَا يُسْلَبُ مُطْلَقَ الِاسْمِ.

فَصْلٌ: وَمِن أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: سَلَامَةُ فلُوبِهِم وَأَلْسِنَتِهِمْ لِأصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ كَمَا وَصَفَهُم اللهُ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} [الحشر: 10].

ص: 247

ويُحِبُّونَ أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ويتولونهم، وَيَحْفَظُونَ فِيهِمْ وَصِيَّةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قَالَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ:"أُذَكِّرُكُمْ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمْ اللهَ في أَهْلِ بَيْتِي"

(1)

.

وَيَتَوَلَّوْنَ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ.

وَيَتَبرَّؤُونَ مِن طَرِيقَةِ الرَّوَافِضِ الَّذِينَ يُبْغِضُونَ الصَّحَابَةَ وَيَسُبُّونَهُمْ.

وَمِن طَرِيقَةِ النَّوَاصِبِ الَّذِينَ يُؤْذُونَ أَهْلَ الْبَيْتِ بِقَوْلٍ أَو عَمَلٍ.

وَيُمْسِكونَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ.

وَمِن أُصُولِ أَهْلِ السُّنَةِ وَالْجَمَاعَةِ: التَّصْدِيقُ بِكَرَامَاتِ الْأوْليَاءِ، وَمَا يُجْرِي اللهُ عَلَى أيْدِيهِمْ مِن خَوَارِقِ الْعَادَاتِ فِي أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْمُكَاشَفَاتِ، وَأنْوَاعِ الْقُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرَات.

فَصْلٌ: ثُمَّ مِن طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: اتِّبَاعُ آثَارِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَاتبُاعُ سَبِيلِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلينَ مِن الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَاتبُاعُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قَالَ:"عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِن بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ"

(2)

.

وَيعْلَمُونَ أَنَّ أَصْدَقَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

وَيُؤْثِرُونَ كَلَامَ اللهِ عَلَى كَلَامِ غَيْرِهِ مِن كَلَامِ أَصْنَافِ النَّاسِ، وَيُقَدِّمُونَ هَدْيَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى هَدْيِ كُلِّ أَحَدٍ.

وَبِهَذَا سُمُّوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

(1)

رواه مسلم (2408).

(2)

رواه أبو داود (4607)، وابن ماجه (42)، والدارمي (96)، وأحمد (17144)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود.

ص: 248

وَسُمُّوا أَهْلَ الْجَمَاعَةِ: لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ هِيَ الِاجْتِمَاعُ وَضِدُّهَا الْفُرْقَةُ، وَإِن كَانَ لَفْظُ الْجَمَاعَةِ قَد صَارَ اسْمًا لِنَفْسِ الْقَوْمِ الْمُجْتَمِعِينَ، وَالْإِجْمَاعُ هوَ الْأَصْلُ الثَّالِثُ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ.

وَهُم يَزِنُونَ بِهَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ النَاسُ مِن أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ، بَاطِنَةٍ أَو ظَاهِرَةٍ مِمَّا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالدِّينِ.

وَالْإِجْمَاعُ الَّذِي يَنْضَبِطُ: هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ؛ إذ بَعْدَهُم كَثُرَ الِاخْتِلَافُ وَانْتَشَرَت الْأُمَّة.

فَصْلٌ: ثُمَّ هُم مَعَ هَذه الْأُصُولِ: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَن الْمُنْكَرِ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ.

وَيَرَوْنَ إقَامَةَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ مَعَ الْأُمَرَاءِ، أَبْرَارًا كَانوا أَو فُجَّارًا، وَيُحَافِظُونَ عَلَى الْجَمَاعَاتِ.

ويدِينُونَ بِالنَّصِيحَةِ لِلْأُمَّةِ.

وَيَأْمُرُونَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلَاءِ، وَالشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ، وَالرضى بِمُرِّ الْقَضَاءِ، وَيَدْعُونَ إلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ.

وَيعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: "أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا أَحْسَنُهُم خُلُقًا"

(1)

.

وَيَنْدُبُونَ إلَى أَنْ تَصِلَ مَن قَطَعَك، وَتُعْطِيَ مَن حَرَمَك، وَتَعْفُوَ عَمَّن ظَلَمَك.

وَيَأْمُرُونَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَصِلَةِ الْأَرْحَام، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْإِحْسَانِ إلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالرِّفْقِ بِالْمَمْلوكِ، وَينْهَوْنَ عَن الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ، وَالْبَغْيِ وَالِاسْتِطَالَةِ عَلَى الْخَلْقِ بِحَقٍّ أَو بِغَيْرِ حَقٍّ.

(1)

رواه أبود داود (4682)، والترمذي (1162)، والدارمي (2834)، وأحمد (7402)، وقال الترمذي: حسن صحيح.

ص: 249

وَيَأْمُرُونَ بِمَعَالِي الْأَخْلَاقِ وَيَنْهَونَ عَن سَفْسَافِهَا.

وَكُلُّ مَا يَقُولُونَهُ أَو يَفْعَلُونَهُ مِن هَذَا أَو غَيْرِهِ: فَإِنَّمَا هُم فِيهِ مُتَّبِعُونَ لِلْكِتَاب وَالسُّنَّةِ.

وَطَرِيقَتُهُمْ: هِيَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ مُحَمَّدًا.

لَكِنْ لَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ أَنَّ أُمَّتَهُ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةٌ -وَهِيَ الْجَمَاعَةُ-"

(1)

، وَفِي حَدِيثٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:"هُم مَن كانَ عَلَى مِثْل مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي": صَارَ الْمُتَمَسِّكُونَ بِالْإِسْلَامِ الْمَحْضِ الْخَالِصِ عَن الشَّوْبِ: هُم أَهْل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.

وَفِيهِم الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَالصَّالِحُونَ وَمِنْهُم أَعْلَامُ الْهُدَى، وَمَصَابِيحُ الدُّجَى، أُولُوا الْمَنَاقِبِ الْمَأثُورَةِ وَالْفَضَائِلِ الْمَذْكُورَةِ.

وَفِيهِم الْأَبْدَالُ الْأَئِمَّةُ الَّذِينَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتهِمْ وَدِرَايَتهِمْ.

وَهُم الطَّائِفَةُ الْمَنْصُورَةُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ النَبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِن أُمَّتِي عَلَى الْحَق ظَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُم مَن خَذَلَهُم وَلَا مَن خَالَفَهُم حَتى تَقُومَ السَّاعَةُ"

(2)

.

فَنَسْأَلُ اللهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ، وَأَنْ لَا يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذ هَدَانَا، وَيَهَبَ لَنَا مِن لَدُنْهُ رَحْمَةً إنَّهُ هُوَ الْوَهَّابُ، وَاللهُ أَعْلَمُ.

وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا

(3)

. [3/ 129 - 159]

* * *

(1)

رواه أبو داود (4596)، والترمذي (2640)، وابن ماجه (3991، 3992)، وأحمد (8396)، وقال الترمذي: حسن صحيح.

(2)

رواه مسلم (1920).

(3)

إلى هنا انتهى المقصود من العقيدة الواسطية.

ص: 250

(حكاية الشيخ لمناظرة الواسطية)

(1)

279 -

أَمَّا الِاعْتِقَادُ: فَلَا يُؤْخَذُ عَنِّي وَلَا عَمَّن هُوَ أَكْبَرُ مِنِّي؛ بَل يُؤْخَذُ عَن اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ، فَمَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ وَجَبَ

(1)

كان الحاكم في هذا الوقت: المظفر الجاشنكير بيبرس، وكان يُدني المبتدعة من الاتحادية والحلولية والصوفية.

وكانت هذه المناظرة سَنَة خَمْسٍ وَسَبْعِمِائَةٍ.

وكان الشيخ تقي الدين يَنَالُ مِنَ الْجَاشْنكِيرِ، وَمِن شَيْخِهِ نَصْر الْمَنْبِجِيِّ، وَيقُولُ: زَالَتْ أَيَّامُهُ، وَانْتَهَتْ رَياسَتُهُ، وَقَرُبَ انْقِضَاءُ أجْلِهِ، وَيَتَكَلَّمُ فِيهِمَا وَفِي ابْنِ عَرَبِيِّ وَأَتْبَاعِهِ.

ولم يُخيب الله تعالى ظن الشيخ، فعاد الملك المنصور قلاوون إلى الملك سَنَة تِسْع وَسَبْعِمِائَةِ، وزالت دولة الْجَاشْنَكِيرِ، وخُذل هو وشيخه نصر المنبجي الاتحادي الحلولي.

وَلَمَّا دَخَلَ السُّلْطَانُ إِلَى مِصْرَ يَوْمَ عِيدِ الْفِطْرِ لَمْ يَكُن لَهُ دَأْبٌ إِلَّا طَلَبَ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ مِنَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ مُعَزَّزًا مُكَرَّمًا مُبَخلًا، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ فِي ثَانِي يَوْم مِن شَوَّالٍ بَعْدَ وُصُولِهِ بِيَوْم أو يَوْمَيْنِ، فَقَدِمَ الشَيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عَلَى السُّلْطَانِ فِي يَوْمِ ثَامِنِ الشَّهْرِ، وَخَرَجَ مَعَ الشَّيْخِ خَلْقٌ يُوَدِّعُونَهُ، وَاجْتَمَعَ بِالسُّلْطَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَأكْرَمَهُ، وَتَلَقَّاهُ فِي مَجْلِسٍ حَافِلٍ فِيهِ قُضَاةُ الْمِصْرِيِّينَ وَالشَّامِيِّينَ، وَأصْلَحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ.

ثُمَّ نَزَلَ الشَّيْخُ إِلَى الْقَاهِرَةِ، وَسَكَنَ بِالْقُرْبِ مِن مَشْهَدِ الْحُسَيْنِ، وَالنَّاسُ يَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهِ، وَالْأمَرَاءُ، وَالْجُنْدُ، وَجَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْقُضَاةِ، مِنْهُم مَن يَعْتَذِرُ إِلَيْهِ، وَيَتَنَصَّلُ مِمَّا وَقَعَ مِنْهُ، فَقَالَ: أنَا قَد حَالَلْتُ كل مَن آذَانِى.

قَالَ ابْنُ الْقَلَانِسِيِّ: سَمِعْتُ الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّين يَذْكُرُ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّلْطَانِ مِنَ الْكَلَام لَمَّا انْفَرَدًا فِي ذَلِكَ الشُّبَّاكِ الَّذِي جَلَسَا فِيهِ، وَأَنَّ السُّلْطَانَ اسْتَفْتَى الشَّيْخَ فِي قَتْلِ بَعْضِ الْقُضَاةِ بِسَبَبِ مَا كَانُوا تَكَلَّمُوا فِيهِ، وَأخْرَجَ لَهُ فَتَاوَى بَعْضِهِمْ بِعَزْلِهِ مِنَ الْمُلْكِ وَمُبَايِعَةِ الْجَاشْنَكِيرِ، وَأَنَّهُم قَامُوا عَلَيْكَ وَآذَوْكَ أنْتَ أيْضًا! وَأخَذَ يَحُثُّهُ بِذَلِكَ عَلَى أَنْ يُفْتِيَهُ فِي قَتْلِ بَعْضِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ حَنَقُهُ عَلَيْهِم بِسَبَبِ مَا كَانُوا سَعَوْا فِيهِ مِن عَزْلِهِ وَمُبَايَعَةِ الْجَاشْنَكِيرِ، فَفَهِمَ الشَّيْخُ مُرَادَ السُّلْطَانِ، فَأَخَذَ فِي تَعْظِيمِ الْقُضَاةِ وَالْعُلَمَاءِ، وَيُنْكِرُ أَنْ يَنَالَ أحَدًا مِنْهُم سُوءٌ، وَقَالَ لَهُ: إِذَا قَتَلْتَ هَؤُلَاءِ لَا تَجِدُ بِعْدَهُم مِثْلَهُمْ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّهُم قَد آذَوْكَ وَأرَادُوا قَتْلَكَ مِرَارًا، فَقَالَ الشَيْخُ: مَن آذَانِي فَهُوَ فِي حِلٍّ، وَمَن آذَى اللهَ وَرَسُولَهُ فَاللهُ يَنْتَقِمُ مِنْهُ، وَأَنَا لَا أَنْتَصِرُ لِنَفْسِي. وَمَا زَالَ بِهِ حَتَّى حَلُمَ عَنْهُمُ السُّلْطَانُ وَصَفَحَ.

قَالَ: وَكَانَ قَاضِي الْمَالِكِيَّةِ ابْنُ مَخْلُوفٍ يَقُولُ: مَا رَأَيْنَا مِثْل ابْنِ تَيْمِتةَ، حَرَّضْنَا عَلَيْهِ، فَلَمْ نَقْدِرْ عَلَيْهِ، وَقَدَرَ عَلَيْنَا فَصَفَحَ عَنَّا وَحَاجَجَ عَنَّا.

يُنظر: البداية والنهاية لابن كثير (المتوفى 774 هـ)، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي (18/ 83 - 94).

ص: 251

اعْتِقَادُهُ، وَكَذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ؛ مِثْل "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ". [3/ 161]

280 -

أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ أَقْوَامًا كَذَبُوا عَلَيَّ وَقَالُوا لِلسُّلْطَانِ أَشْيَاءَ، وَتَكَلَّمْت بِكَلَام احْتَجْت إلَيْهِ

(1)

؛ مِثْل أَنْ قلْت: مَن قَامَ بِالْإِسْلَامِ أَوْقَاتَ الْحَاجَةِ غَيْرِي؟ وَمَن الَّذِي أَوْضَحَ دَلَائِلَهُ وَبَيَّنَهُ؟ وَجَاهَدَ أَعْدَاءَهُ وَأَقَامَهُ لَمَّا مَالَ؟ حِينَ تَخَلَّى عَنْهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَلَا أَحَدٌ يَنْطِقُ بِحُجَّتِهِ، وَلَا أَحَدٌ يُجَاهِدُ عَنْهُ، وَقُمْت مُظْهِرًا لِحُجَّتِهِ مُجَاهِدًا عَنْهُ مُرَغِّبًا فِيهِ.

فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ يَطْمَعُونَ فِي الْكلَامِ فِيَّ فَكَيْفَ يَصْنَعُونَ بِغَيْرِي؟ وَلَو أَنَّ يَهُودِيًّا طَلَبَ مِن السُّلْطَانِ الْإِنْصَافَ لَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُنْصِفَهُ. [3/ 163]

281 -

كُلُّ مَن خَالَفَنِي فِي شَيءٍ مِمَّا كَتَبْته فَأَنَا أَعْلَمُ بِمَذْهَبِهِ مِنْهُ. [3/ 163]

282 -

لَمَّا رَأَى هَذَا الْحَاكِمُ الْعَدْلُ

(2)

: مُمَالَأَتَهُم وَتَعَصُّبَهُمْ، وَرَأَى قِلَّةَ الْعَارِفِ النَّاصِرِ وَخَافَهُم قَالَ: أَنْتَ صَنَّفْت اعْتِقَادَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، فَتَقُولُ هَذَا اعْتِقَادُ أَحْمَدَ.

يَعْنِي: وَالرَّجُلُ يُصَنِّفُ عَلَى مَذْهَبِهِ، فَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ هَذَا مَذْهَبٌ مَتْبُوعٌ، وَغَرَضُهُ بِذَلِكَ قَطْعُ مُخَاصَمَةِ الْخُصُومِ.

فَقُلْت: مَا جَمَعْت إلَّا عَقِيدَةَ السَّلَفِ الصَّالِحِ جَمِيعِهِمْ، لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ اخْتِصَاصٌ بِهَذَا، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ إنَّمَا هُوَ مُبَلِّغُ الْعِلْمِ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم.

وَلَو قَالَ أَحْمَدُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِهِ مَا لَمْ يَجِئْ بِهِ الرَّسُولُ لَمْ نَقْبَلْهُ، وَهَذِهِ عَقِيدَةُ محَمَّدٍ.

وَقُلْت مَرَّاتٍ: قَد أَمْهَلْت كُلَّ مَن خَالَفَنِي فِي شَيءٍ مِنْهَا ثَلَاثَ سِنِينَ، فَإِنْ

(1)

أي: لم يشأ الشيخ أن يقوله لولا حاجته لذلك، وليس كلامه من باب الْمِنَّة، حاشاه، ولكن من باب إقناع الأمير بحرصه على الخير ونشره، وخبث الخصوم وسوء طويّتهم.

(2)

أي: الْأَمِير رُكْن الدِّينِ الجاشنكير أُسْتَاذ دَارِ السُّلْطَانِ.

ص: 252

جَاءَ بِحَرْف وَاحِدٍ عَن أَحَدٍ مِن الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي أَثْنَى عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. يُخَالِفُ مَا ذَكَرْته: فَأنَا أَرْجِعُ عَن ذَلِكَ. [3/ 169]

283 -

الْإَمَامُ أَحْمَدُ رحمه الله لِمَا انْتَهَى إلَيْهِ مِن السُّنَّةِ وَنُصُوصِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرُ مِمَّا انْتَهَى إلَى غَيْرِهِ وَابْتُلِيَ بِالْمِحْنَةِ وَالرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَع أَكْثَرَ مِن غَيْرِهِ: كَانَ كَلَامُهُ وَعِلْمُهُ فِي هَذَا الْبَابِ أَكْثَرَ مَن غَيْرِهِ، فَصَارَ إمَامًا فِي السُّنَّةِ أَظْهَرَ مِن غَيْرِهِ، وَإِلَّا فَالْأَمْرُ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ شُيُوخِ الْمَغَارِبَةِ -الْعُلَمَاءِ الصُّلَحَاءِ-: الْمَذْهَبُ لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَالظُّهُورُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.

يَعْنِي: أَنَّ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَحْمَدُ عَلَيْهِ جَمِيعُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، وَإِن كَانَ لِبَعْضِهِمْ مِن زِيادَةِ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ وَإِظْهَارِ الْحَق وَدَفْعِ الْبَاطِلِ مَا لَيْسَ لِبَعْض. [3/ 170]

284 -

لَمَّا جَاءَت مَسْأَلَةُ الْقُرْآنِ: "وَمِن الْإِيمَانِ بِهِ الْإِيمَانُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللهِ، غَيْرُ مَخْلُوقٍ، مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ": نَازَعَ بَعْضُهُم فِي كَوْنِهِ "مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ"، وَطَلَبُوا تَفْسِيرَ ذَلِكَ.

فَقُلْت: أَمَّا هَذَا الْقَوْلُ: فَهُوَ الْمَأْثُورُ الثَّابِتُ عَن السَّلَفِ؛ مِثْلُ مَا نَقَلَهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ: "أَدْرَكْت النَّاسَ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً يَقُولُونَ: اللهُ الْخَالِقُ وَمَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ، إلَّا الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ كَلَامُ اللهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ".

وَقَد جَمَعَ غَيْرُ وَاحِدٍ مَا فِي ذَلِكَ مِن الْآثَارِ عَن النَّبِيِّ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ؛ كَالْحَافِظِ أَبِي الْفَضْلِ بْنِ نَاصِرٍ، وَالْحَافِظِ أَبِي عَبْدِ اللهِ المقدسي.

وَأَمَّا مَعْنَاهُ: فَإِنَّ قَوْلَهُم: مِنْهُ بَدَأَ؛ أَيْ: هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ، وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَهُ مِن لَدُنْهُ، لَيْسَ هُوَ كَمَا تَقُولُ الْجَهْمِيَّة: أَنَّهُ خُلِقَ فِي الْهَوَى، أَو غَيْرِهِ، أَو بَدَأَ مِن عِنْدِ غَيْرِهِ.

وَأَمَّا إلَيْهِ يَعُودُ: فَإِنَّهُ يَسْرِي بِهِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ مِن الْمَصَاحِفِ وَالصُّدُورِ،

ص: 253

فَلَا يَبْقَى فِي الصُّدورِ مِنْهُ كَلِمَةٌ وَلَا فِي الْمَصَاحِفِ مِنْهُ حَرْفٌ، وَوَافَقَ عَلَى ذَلِكَ غَالِبُ الْحَاضِرِينَ وَسَكَتَ الْمُنَازِعُونَ. [3/ 174 - 175]

285 -

قَالُوا: فَإِذَا قِيلَ: إنَّ هَذَا مِن أُصُولِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ خَرَجَ عَن الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ مَن لَمْ يَقلْ بِذَلِكَ؛ مِثْلُ أَصْحَابِنَا الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَمَن يَقُولُ الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ، وَإِذَا لَمْ يَكُونُوا مِن النَّاجِينَ لَزِمَ أنْ يَكونوا هَالِكِين؟.

قُلْت لَهُم: ولَيْسَ كُلُّ مَن خَالَفَ فِي شَيْءٍ مِن هَذَا الِاعْتِقَادِ يَجبُ أَنْ يَكُونَ هَالِكًا؛ فَإِنَّ الْمُنَازعَ قَد يَكُونُ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا يَغْفِرُ اللهُ خَطَأَهُ، وَقَد لَا يَكُونُ بَلَغَهُ فِي ذَلِكَ مِن الْعِلْمِ مَا تَقُومُ بِهِ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَقَد يَكُونُ لَهُ مِن الْحَسَنَاتِ مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ سَيِّئاتِهِ.

وَإِذَا كانَت أَلْفَاظُ الْوَعِيدِ الْمُتَنَاولَةُ لَهُ لَا يَجِبُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا الْمُتَأَوِّلُ، والتائب

(1)

، وَذُو الْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ، وَالْمَغْفُورُ لَهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ: فَهَذَا أَوْلَى؛ بَل مُوجِبُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ مَن اعْتَقَدَ ذَلِكَ نَجَا فِي هَذَا الِاعْتِقَادِ، وَمَن اعْتَقَدَ ضِدَّهُ فَقَد يَكُونُ نَاجِيًا وَقَد لَا يَكُونُ نَاجِيًا، كَمَا يُقَالُ: مَن صَمَتَ نَجَا. [3/ 177 - 179]

286 -

لَمَّا انْتَهَيْتُ إلَى ذِكْرِ الْمُعْتَزِلَةِ: سَأَلَ الْأمِيرُ عَن مَعْنَى الْمُعْتَزِلَةِ فَقُلْت: كَانَ النَّاسُ فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ قَد اخْتَلَفُوا فِي الْفَاسِقِ الْمِلِّي وَهُوَ أَوَّلُ اخْتِلَافٍ حَدَثَ فِي الْمِلَّةِ: هَل هوَ كَافِرٌ أَو مُؤْمِنٌ؟ فَقَالَت الْخَوَارجُ: إنَّهُ كَافِرٌ، وَقَالَت الْجَمَاعَةُ: إنَّهُ مُؤمِنٌ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: نَقُولُ هُوَ فَاسِقٌ لَا مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ، نُنَزِّلُهُ مَنْزِلَةً بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ، وَخَلَّدُوهُ فِي النَّارِ وَاعْتَزَلُوا حَلَقَةَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَأَصْحَابِهِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فَسُمُّوا مُعْتَزِلَةً.

وَقَالَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ بِجُبَّتِهِ وَرِدَائِهِ

(2)

: لَيْسَ كَمَا قُلْتَ، وَلَكِنَّ أوَّلَ مَسْأَلَةٍ

(1)

في الأصل: والقانت، والتصويب من العقود الدرية (ص 247).

(2)

هو صَفِيّ الدِّينِ الْهِنْدِيّ، وَقد أحضرهُ أصحابه في الجلسة الثانية التي عُقدتْ لمناظرة شيخ الإسلام وقَالُوا: هَذَا أَفْضَلُ الْجَمَاعَةِ وَشَيْخُهُم فِي عِلْمِ الْكَلَامِ. يُنظر: (3/ 181).

ص: 254

اخْتَلَفَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ مَسْأَلَةُ الْكَلَامِ، وَسُمّيَ الْمُتَكَلِّمُونَ مُتَكَلِّمِينَ لِأَجْلِ تَكَلُّمِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ أَوَّلُ مَن قَالَهَا عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، ثُمَّ خَلَفَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ عَطَاءُ بْنُ وَاصِلٍ.

هَكَذَا قَالَ وَذَكَرَ نَحْوًا مِن هَذَا.

فَغَضِبْت عَلَيْهِ وَقُلْت: أَخْطَأْت، وَهَذَا كَذِبٌ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَقُلْت لَهُ: لَا أَدَبَ وَلَا فَضِيلَةَ، لَا تَأَدَّبْت مَعِي فِي الْخِطَابِ، وَلَا أَصَبْت فِي الْجَوَابِ

(1)

.

ثُمَّ قُلْت: النَّاسُ اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ فِي خِلَافَةِ الْمَأْمُونِ وَبَعْدَهَا فِي أَوَاخِرِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَد كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ فِي زَمَنِ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، بَعْدَ مَوْتِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِي أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَمْ يَكُن أُولَئِكَ قَد تَكَلَّمُوا فِي مَسْألَةِ الْكَلَامِ، وَلَا تَنَازَعُوا فِيهَا.

وَإِنَّمَا أَوَّلُ بِدْعَتِهِمْ تَكَلُّمُهُم فِي مَسَائِلِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ وَالْوَعِيدِ.

فَقَالَ: هَذَا ذَكَرَهُ الشِّهْرِسْتَانِيّ فِي كِتَابِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ.

فَقُلْت: الشِّهْرِسْتَانِيّ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي اسْمِ الْمُتَكَلِّمِينَ لِمَ سُمُّوا مُتَكَلِّمِينَ؟ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي اسْمِ الْمُعْتَزِلَةِ.

وَالْأَمِيرُ إنَّمَا سَأَلَ عَن اسْمِ الْمُعْتَزِلَةِ.

وَأَنْكَرَ الْحَاضِرُونَ عَلَيْهِ، وَقَالُوا: غَلِطْت.

وَقُلْت فِي ضِمْنِ كَلَامِي: أَنَا أَعْلَمُ كُلَّ بِدْعَةٍ حَدَثَتْ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَوَّلُ مَن ابْتَدَعَهَا، وَمَا كَانَ سَبَب ابْتِدَاعِهَا

(2)

.

وَأَيْضًا: فَمَا ذَكَرَهُ الشِّهْرِسْتَانِيّ لَيْسَ بِصَحِيح فِي اسْم الْمُتَكَلِّمِينَ؛ فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ كَانُوا يُسَمَّوْنَ بِهَذَا الِاسْمِ قَبْلَ مُنَازَعَتِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ عَن وَاصِلِ بْنِ عَطَاءٍ: إنَّهُ مُتَكَلِّمٌ وَيصِفُونَهُ بِالْكَلَامِ، وَلَمْ يَكُن النَّاسُ اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ.

(1)

الشيخ يقسو عندما يقل أدب المخاطب معه ويكذب عليه، وانظر ثقته بما ينقله ويتكلم به.

(2)

هذا من سعة اطلاعه وإحاطته بمذاهب الفرق والأديان.

ص: 255

وَقُلْت أَنَا وَغَيْرِي: إنَّمَا هُوَ وَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ؛ أَيْ: لَا عَطَاءُ بْنُ وَاصِلٍ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُعْتَرِضُ.

قُلْت: وَوَاصِلٌ لَمْ يَكُن بَعْدَ مَوْتِ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، وَإِنَّمَا كَانَ قَرِينَةُ

(1)

.

وَقُلْت لِهَذَا الشَّيْخِ: مَن فِي أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رحمه الله حَشْوِيٌّ بِالْمَعْنَى الَّذِي تُرِيدُهُ؟ الْأَثْرَمُ، أَبُو دَاوُد، المروذي، الْخَلَّالُ، أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ، أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ، ابْنُ حَامِدٍ، الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، أَبُو الْخَطَّابِ، ابْنُ عَقِيلٍ؟

وَرَفَعْت صَوْتِي وَقُلْت: سَمِّهِمْ، قُلْ لِي مِنْهُمْ؟ مَن هُمْ؟

أَبِكَذِبِ ابْنِ الْخَطِيبِ وَافْتِرَائِهِ عَلَى النَّاسِ فِي مَذَاهِبِهِم تَبْطُلُ الشَّرِيعَةُ وَتَنْدَرِسُ مَعَالِمُ الدِّينِ؟ كَمَا نَقَلَ هُوَ وَغَيْرُهُ عَنْهُم أَنَّهُم يَقُولُونَ: إنَّ الْقُرْآنَ الْقَدِيمَ هُوَ أَصْوَاتُ الْقَارِئينَ وَمِدَادُ الْكَاتِبِينَ وَأَنَّ الصَّوْتَ وَالْمِدَادَ قَدِيمٌ أَزَليٌّ! مَن قَالَ هَذَا؟ وَفِي أَيِّ كِتَابٍ وُجِدَ هَذَا عَنْهُم؟ قُلْ لِي، وَكَمَا نُقِلَ عَنْهُم أَنَّ اللهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ بِاللُّزومِ الَّذِي ادَّعَاهُ وَالْمُقَدِّمَةُ الَّتِي نَقَلَهَا عَنْهُم، وَأَخَذْت أَذْكُرُ مَا يَسْتَحِقُّهُ هَذَا الشَّيْخُ مِن أَنَّهُ كَبِيرُ الْجَمَاعَةِ. [3/ 182 - 186]

287 -

هَذَا اللَّفْظُ -أي: الْحَشْوِيَّة- أَوَّلُ مَن ابْتَدَعَهُ الْمُعْتَزِلَةُ، فَإِنَّهُم يُسَمُّونَ الْجَمَاعَةَ وَالسَّوَادَ الْأعْظَمَ الْحَشْوَ، كَمَا تُسَمِّيهِم الرَّافِضَةُ الْجُمْهُورَ، وَحَشْوُ النَّاسِ: هُم عُمُومُ النَّاسِ وَجُمْهُورُهُمْ، وَهُم غَيْرُ الْأَعْيَانِ الْمُتَمَيِّزِينَ. [3/ 185 - 186]

* * *

(كتاب عَبْد اللهِ ابْن تَيْمِيَّة الذي بيَّن فيه ما جرى لأخيه في جلسات أصحاب المذاهب له)

288 -

كَتَبَ عَبْدُ اللهِ ابْنُ تَيْمِيَّة لِأَخِيهِ زَيْنِ الدِّينِ

(2)

: .. أُعَرِّفُهُ بِمَا مَنَّ اللهُ

(1)

فانظر إلى كبيرهم كيف يُخلط ويجهل هذه الأمور المعروفة المشهورة؟ فما بالك بما أعظم منها؟

(2)

فيما جرى لابن تيمية مع أخيه من المحنة على يدي بعض مشايخ المذاهب بسبب عقيدته الواسطية.

ص: 256

سُبْحَانَهُ عَلَيْنَا وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ بِالنَّصْرِ الْأَكْبَرِ وَالْفَتْحِ الْمُبِينِ.

وَهُوَ أَنَّهُ -لَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ الثَّامِنُ مِن رَجَبٍ- جَمَعَ نَائِبُ السُّلْطَانِ الْقُضَاةَ الْأَرْبَعَةَ وَنُوَّابَهُم وَالْمُفْتِينَ وَالْمَشَايِخَ .. ثُمَّ سَأَلَ نَائِبُ السُّلْطَانِ عَن الِاعْتِقَادِ.

فَقَالَ: لَيْسَ الِاعْتِقَادُ لِي وَلَا لِمَن هُوَ أَكْبَرُ مِنِّي؛ بَل الِاعْتِقَادُ يُؤْخَذُ عَن اللهِ سبحانه وتعالى وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ.

وَسَأَلُوهُ عَن الظَّاهِرِ هَل هُوَ مُوَافِقٌ أَمْ لَا؟

فَقَالَ: هَذَا لَيْسَ فِي الْعَقِيدَةِ، وَأَنَا أَتَبَرَّعُ بِالْجَوَابِ عَن أَكْثَرِ مَن حَكَى مَذْهَبَ السَّلَفِ- كالخطابي وَأَبِي بَكْرٍ الْخَطِيبِ، والبغوي، وَأَبِي بَكْرٍ وأبي الْقَاسِمِ التَّمِيمِيِّ، وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَابْنِ الْبَاقِلَانِي، وَأَبِي عُثْمَانَ الصَّابُونِيِّ، وَأَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، وَالسَّيْفِ الآمدي، وَغَيْرِهِمْ- فِي نَفْيِ الْكَيْفِيَّةِ وَالتَّشْبِيهِ عَنْهَا، وَأَنَّ الْكَلَامَ فِي الصِّفَاتِ فَرْعٌ عَلَى الْكَلَامِ فِي الذَّاتِ، يُحْتَذَى فِيهِ حَذْوُهُ، ويُتَبّعُ فِيهِ مِثَالُهُ.

فَإِذَا كَانَ إثْبَاتُ الذَّاتِ إثْبَاتَ وُجُودٍ [لا إِثْبَات]

(1)

كَيْفِيَّةٍ: فَكَذَلِكَ إثْبَاتُ الصِّفَاتِ إثْبَاتُ وُجُودٍ لَا إثْبَاتُ كَيْفِيَّةٍ.

وَقَد نَقَلَ طَائِفَةٌ [من المتأخرين]

(2)

أَن مَذْهَبَ السَّلَفِ أَنَّ الظَّاهِرَ غَيْرُ مُرَادٍ.

قَالَ: وَالْجَمْعُ بَيْنَ النَّقْلَيْنِ: أَنَّ الظَّاهِرَ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ، فَالظَّاهِرُ الَّذِي لَا يَلِيقُ إلَّا بِالْمَخْلُوقِ غَيْرُ مُرَادٍ، وَأَمَّا الظَّاهِرُ اللَّائِقُ بِجَلَالِ اللهِ تَعَالَى وَعَظَمَتِهِ فَهُوَ مُرَادٌ. [3/ 202 - 207]

289 -

جَعَلَ نَائِبُ السُّلْطَانِ كُلَّمَا ذَكَرَ حَدِيثًا وَعَزَاهُ إلَى الصَّحِيحَيْنِ يَقُولُ لَهُمْ: هَكَذَا قَالَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقولُونَ: نَعَمْ.

(1)

في الأصل: لإثبات، ولعل المثبت هو الصواب.

(2)

في الأصل بياض، والمثبت لا يستقيم المعنى إلا به.

ص: 257

فَيَقُولُ: فَمَن قَالَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ شَيءٍ يُقَالُ لَهُ؟

(1)

وَقَالَ لَهُ: كُلُّ شَيْءٍ قُلْته مِن عِنْدِك قُلْته؟

فَقَالَ: بَل أَنْقُلُه جَمِيعًا عَن نَبِيِّ الْأُمَّةِ صلى الله عليه وسلم وَأُبَيِّنُ أَنَّ طَوَائِفَ الْإِسْلَامِ تَنْقُلُهُ عَن السَّلَفِ كَمَا نَقَلْته وَأَنَّ أَئِمَّةَ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ وَأَنَا أُنَاظِرُ عَلَيْهِ وَأَعْلَمُ كُلَّ مَن يُخَالِفُنِي بِمَذْهَبِهِ. [3/ 209]

* * *

(فوائد من جَوَابِ وَرَقَةٍ أُرْسِلَتْ إلَيْهِ فِي السِّجْنِ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِمِائَةٍ)

290 -

دَلَّ كِتَابُهُ سبحانه وتعالى عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِن الْفِتْنَةِ لِكلِّ مِن الدَّاعِي إلَى الْإِيمَانِ، وَالْعُقُوبَةِ لِذَوِي السَّيِّئَاتِ وَالطُّغْيَانِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)} [العنكبوت: 2 - 4].

فَأَنْكَرَ سُبْحَانَهُ عَلَى مَن يَظُنُّ أَنَّ أَهْلَ السَّيِّئَاتِ يَفُوتُونَ الطَّالِبَ، وَأَنَّ مُدَّعِي الْإِيمَانِ يُتْرَكُونَ بِلَا فِتْنَةٍ تُمَيِّزُ بَيْنَ الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ.

وَأَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ أَنَّ الصِّدْقَ فِي الْإِيمَانِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]. [3/ 212]

291 -

أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ عِنْدَ وُجُودِ الْمُرْتَدِّينَ، فَلَا بُدَّ مِن وُجُودِ الْمُحِبِّينَ الْمَحْبُوبِينَ الْمُجَاهِدِينَ، فَقَالَ: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ

(1)

أدرك هذا النائب بفطرته السليمة صحة منطق الشيخ وحجته.

ص: 258

وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54]

(1)

.

وَهَؤُلَاءِ هُم الشَّاكِرُونَ لِنِعْمَةِ الْإِيمَانِ، الصَّابِرُونَ عَلَى الِامْتِحَانِ.

فَإِذَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِالصَّبْرِ وَالشُّكْرِ: كَانَ جَمِيعُ مَا يَقْضِي اللهُ لَهُ مِن الْقَضَاءِ خَيْرًا لَهُ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"لَا يَقْضِي اللهُ لِلْمُؤْمِنِ مِن قَضَاءٍ إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ"

(2)

. [3/ 213]

292 -

هَذِهِ "الْقَضِيَّةُ" لَيْسَ الْحَقُّ فِيهَا لِي؛ بَل للهِ وَلرَسُولِهِ وَللْمُؤْمِنِينَ مِن شَرْقِ الْأَرْضِ إلَى مَغْرِبِهَا، وَأَنَا لَا يُمْكِنُنِي أَنْ أُبَدِّلَ الدِّينَ وَلَا أُنَكِّسَ رَايَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا أرْتَدَّ عَن دِينِ الْإِسْلَامِ لِأَجْلِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ.

نَعَمْ، يُمْكِنُنِي أَنْ لَا أَنْتَصِرَ لِنَفْسِي، وَلَا أُجَازِيَ مَن أَسَاءَ إلَيَّ وَافْتَرَى عَلَيَّ، وَلَا أطْلُبُ حَظِّي، وَلَا أَقْصِدُ إيذَاءَ أَحَدٍ بِحَقِّي، وَهَذَا كُلُّهُ مَبْذُولٌ مِنِّي وَللَّهِ الْحَمْدُ، وَنَفْسِي طَيِّبَةَ بِذَلِكَ

(3)

. [3/ 214 - 215]

293 -

أَنَا عَلَى أَيِّ شَيْءٍ أَخَافُ؟ إنْ قُتِلْت كُنْت مِن أَفْضَلِ الشُّهَدَاءِ، وَكَانَ عَلَيَّ الرَّحْمَةُ وَالرِّضْوَانُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكَانَ عَلَى مَن قَتَلَنِي اللَّعْنَةُ الدَّائِمَةُ فِي الدُّنْيَا، وَالْعَذَابُ فِي الْآخِرَةِ.

لِيَعْلَمَ كُلُّ مَن يُؤْمِنُ باللهِ وَرَسُولِهِ أَنِّي إنْ قُتِلْت: لِأَجْلِ دِينِ اللهِ.

وَإِن حُبِسْت: فَالْحَبْسُ فِي حَقِّي مِن أعْظَمِ نِعَمِ اللهِ عَلَيَّ.

ووالله مَا أُطِيقُ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيَّ فِي هَذَا الْحَبْسِ، وَلَيْسَ لِي مَا أَخَافُ النَّاسَ عَلَيْهِ، لَا أَقْطَاعِي، وَلَا مَدْرَسَتِي، وَلَا مَالِي، وَلَا رِياسَتِي، وَجَاهِي.

(1)

وقد انتشر المرتدون والمنافقون انتشارًا عظيمًا، فهل أنت ممن أحبهم الله تعالى فجاء بهم لنصرة دينِه، ومُحاربة أعدائه بما تستطيعه؟ نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم.

(2)

رواه أحمد (12160).

(3)

وقد صدق رحمه الله تعالى، فلم يتكلم أثناء كتابة هذه الرسالة وهو محبوس على أعدائه الذين سعوا في سجنه، ودبروا المكايد لإلحاق الضرر به.

ص: 259

وَإِنَّمَا الْخَوْفُ عَلَيْكُمْ إذَا ذَهَبَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِن الرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ، وَفَسَدَ دِينُكمْ الَّذِي تَنَالُونَ بِهِ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهَذَا كَانَ مَقْصُودُ الْعَدُوِّ الَّذِي أَثَارَ هَذِهِ الْفِتْنَةَ. [3/ 215 - 216]

إنَ فِي الْمُؤْمِنِينَ مَن يَسْمَعُ كَلَامَ الْمُنَافِقِينَ وَيُطِيعُهُم وَإِن لَمْ يَكُن مُنَافِقًا؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47]، وَقَد قَالَ اللهُ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم:{وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب: 48]. [3/ 216]

294 -

أَحْضَرْت فِي الشَّامِ أَكْثَرَ مِن خَمْسِينَ كِتَابًا: مِن كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَأَهْلِ الْحَدِيثِ، وَالْمُتَكَلِّمِين، وَالصُّوفِيَّةِ، كُلُّهَا تُوَافِق مَا قُلْته بِأَلْفَاظِهِ، وَفِي ذَلِكَ نُصُوصُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا.

وَلَمْ يَسْتَطِع الْمُنَازِعُونَ مَعَ طُولِ تَفْتِيشِهِمْ كُتُبَ الْبَلَدِ وَخَزَائِنَهُ أَنْ يُخْرِجُوا مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ عَن أَحَدٍ مِن أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَسَلَفِهِ. [3/ 217]

* * *

(حرصُه على جمع الكلمة، وموقفه من الجماعات والفرق الإسلاميّة)

(1)

295 -

أَنَا كُنْت مِن أَعْظَمِ النَّاسِ تَأْلِيفًا لِقُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ، وَطَلَبًا لِاتِّفَاقِ كَلِمَتِهِمْ، وَاتِّبَاعًا لِمَا أُمِرْنَا بِهِ مِن الِاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللهِ، وَأَزَلْت عَامَّةَ مَا كَانَ فِي

(1)

اجْتِمَاعُ كَلِمَةِ المسلمين، واتحادُهم، وعدمُ التسبب في أيِّ أمرٍ يُفرق جمعهم، ويُحدث تنافر قلوبهم: أمرٌ جاءت به الأدلة القطعية المتواترة، وهو مِن أعظم أركان دين الإسلام، وهو مِمَّا امْتَنَّ الله تعالى به على هذه الأمة فقال:{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)} [الأنفال: 63].

فلا يجوز لأحدٍ أنْ يسعى في شرخٍ أمر امتنّ الله به على أمة الإسلام.

بل جاء النصّ الصريح الصحيح بقتل من سعى في شَقِّ عَصَا المسلمين، وتفرِيقِ جَمَاعَتهم، ففي صحيح مسلم عَنْ عَرْفَجَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَن أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ، يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ، أَو يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ". [يُنظر: سِيرَةُ وأخْلاقُ وعَبْقريَّةُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ رحمه الله للمؤلف (112)].

ص: 260

النُّفُوسِ مِن الْوَحْشَةِ، وَبَيَّنْت لَهُم أَنَّ الْأَشْعَرِيَّ كَانَ مِن أَجَلِّ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِمَام أَحْمَدَ رحمه الله وَنَحْوِهِ، الْمُنْتَصِرِينَ لِطَرِيقِهِ، كَمَا يَذْكُرُ الْأَشْعَرِيُّ ذَلِكَ فِي كُتُبِهِ

(1)

.

فَهُوَ أَقْرَبُ إلَى أُصُولِ أَحْمَدَ مِن ابْنِ عَقِيلٍ، وَأَتْبَعُ لَهَا؛ فَإِنَّهُ كُلَّمَا كَانَ عَهْدُ الْإِنْسَانِ بِالسَّلَفِ أَقْرَبَ كَانَ أَعْلَمَ بِالْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ.

وَلَمَّا أَظْهَرْتُ كَلَامَ الْأَشْعَريِّ -وَرَآه الْحَنْبَلِيَّةُ- قَالُوا: هَذَا خَيْرٌ مِن كَلَامِ الشَّيْخِ الْمُوَفَّقِ وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِاتِّفَاقِ الْكَلِمَةِ.

وَأَظْهَرْت مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي مَنَاقِبِهِ أَنَّهُ لَمْ تَزَل الْحَنَابِلَةُ وَالْأَشَاعِرَةُ مُتَّفِقِينَ إلَى زَمَنِ القشيري فَإِنَّهُ لَمَّا جَرَتْ تِلْكَ الْفِتْنَةُ بِبَغْدَادَ تَفَرَّقَت الْكَلِمَةُ. [3/ 227 - 229]

* * *

(الشيخ لا يدعو إلَى مَذْهَبٍ حَنْبَلِيٍّ وَغَيْرِ حَنْبَلِيٍّ، ولا يُكفر المعين)

296 -

فِي عُمْرِي إلَى سَاعَتِي هَذِهِ لَمْ أَدْعُ أَحَدًا قَطُّ فِي أُصُولِ الدِّينِ إلَى مَذْهَبٍ حَنْبَلِيٍّ وَغَيْرِ حَنْبَلِيٍّ، وَلَا انْتَصَرْت لِذَلِكَ، وَلَا أَذْكُرُهُ فِي كَلَامِي، وَلَا أَذْكُرُ إلَّا مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا.

هَذَا مَعَ أَنِّي دَائِمًا وَمَن جَالَسَنِي يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنِّي: أَنِّي مِن أَعْظَمِ النَّاسِ نَهْيًا عَن أَنْ يُنْسَبَ مُعَيَّنٌ إلَى تَكْفِيرٍ وَتَفْسِيقٍ وَمَعْصِيَةٍ، إلَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ قَد قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الرسالية الَّتِي مَن خَالَفَهَا كَانَ كَافِرًا تَارَةً وَفَاسِقًا أُخْرَى وَعَاصِيًا

(1)

قال في كتابه الإبانة عن أصول الديانة تحقيق: د. فوقية حسين محمود (ص 20): قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها، التمسك بكتاب الله ربنا عزَّوجلَّ، وبسُّنَّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وما روي عن السادة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل -نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته- قائلون، ولما خالف قوله مخالفون. اهـ.

ص: 261

أُخْرَى وَإِنِّي أُقَرِّرُ أَنَّ اللهَ قَد غَفَرَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ خَطَأَهَا، وَذَلِكَ يَعُمُّ الْخَطَأ فِي الْمَسَائِلِ الْخَبَرِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْمَسَائِلِ الْعَمَلِيَّةِ.

وَمَا زَالَ السَّلَفُ يَتَنَازَعُونَ فِي كَثِيرٍ مِن هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَلَمْ يَشْهَدْ أَحَدٌ مِنْهُم عَلَى أَحَدٍ لَا بِكُفْر وَلَا بِفِسْق وَلَا مَعْصِيَةٍ.

وَكُنْت أُبَيِّنُ لَهُم أَنَّمَا نُقِلَ لَهُم عَن السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مِن إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِتَكْفِيرِ مَن يَقُولُ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ أَيْضًا حَقُّ، لَكِنْ يَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّعْيِينِ.

وَهَذِهِ أَوَّلُ مَسْألَةٍ تَنَازَعَتْ فِيهَا الْأُمَّةُ مِن مَسَائِلِ الْأُصُولِ الْكِبَارِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ "الْوَعِيدِ"؛ فَإِنَّ نُصُوصَ الْقُرْآنِ فِي الْوَعِيدِ مُطْلَقَةٌ؛ كَقَوْلِهِ:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} الْآيَةَ [النساء: 10].

وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا وَرَدَ: مَن فَعَلَ كَذَا فَلَهُ كَذَا، فَإِنَ هَذِهِ مُطْلَقَةٌ عَامَّةٌ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ مَن قَالَ مِن السَّلَفِ: مَن قَالَ كَذَا فَهُوَ كَذَا.

ثُمَّ الشَّخْصُ الْمُعَيَّنُ يلتغي حُكْمُ الْوَعِيدِ فِيهِ بِتَوْبَة، أَو حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ، أَو مَصَائِبَ مُكفِّرَةٍ، اُّو شَفَاعَةٍ مَقْبُولَةٍ.

وَالتَّكْفِيرُ هُوَ مِن الْوَعِيدِ، فَإِنَّهُ وَإِن كَانَ الْقَوْلُ تَكْذِيبًا لِمَا قَالَهُ الرَّسُولُ، لَكِنْ قَد يَكُونُ الرَّجُل حَدِيثَ عَهْدٍ بِإِسْلَام، أو نَشَأَ بِبَادِيَة بَعِيدَةٍ.

وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكْفُرُ بِجَحْدِ مَا يَجْحَدُهُ حَتَّى تَقومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ.

وَقَد يَكُون الرَّجُلُ:

أ- لم يَسْمَعْ تِلْكَ النُّصُوص.

ب- أَو سَمِعَهَا وَلَمْ تَثْبُتْ عِنْدَهُ.

ج- أَو عَارَضَهَا عِنْدَهُ مُعَارِضٌ آخَرُ أوْجَبَ تَأْوِيلَهَا، وَإن كَانَ مُخْطِئًا.

وَكُنْت دَائِمَا أَذْكُرُ الْحَدِيثَ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ

(1)

فِي الرَّجُلِ الَّذِي قَالَ:

(1)

البخاري (3481)، ومسلم (2756).

ص: 262

"إذَا أَنَا مُتُّ فَأحْرِقُوني ثُمَّ اسْحَقُونِي، ثُمَّ ذروني فِي الْيَمِّ، فَوَاللهِ لَئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِي عَدَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا مِن الْعَالَمِينَ، فَفَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ فَقَالَ اللهُ لَهُ: مَا حَمَلَك عَلَى مَا فَعَلْت؟ قَالَ: خَشْيَتُك، فَغفَرَ لَهُ".

فَهَذَا رَجُلٌ:

أ- شَكَّ فِي قُدْرَةِ اللهِ.

ب- وَفِي إعَادَتِهِ إذَا ذُرِّيَ.

ج- بَل اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا يُعَادُ.

وَهَذَا كُفْرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، لَكِنْ كَانَ جَاهِلًا لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ، وَكَانَ مُؤْمِنًا يَخَافُ اللهَ أَنْ يُعَاقِبَهُ فَغَفَرَ لَهُ بِذَلِكَ.

وَالْمُتَأَوِّلُ مِن أَهْلِ الِاجْتِهَادِ الْحَرِيصُ عَلَى مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ أَوْلَى بِالْمَغْفِرَةِ مِن مِثْل هَذَا. [3/ 229]

فمَن أخطأ في بعض مسائل الاعتقاد من أهل الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر والعمل الصالح: لم يكن أسوأ حالًا من هذا الرجل، فيغفر الله خطأه أو يعذبه إن كان منه تفريط في اتباع الحق على قدر دينه.

وأما تكفير شخصٍ عُلِم إيمانُه بمجرد الغلط في ذلك: فعظيم. [الاستقامة: 135]

297 -

مَا ذَكَرْتُمْ مِن لِينِ الْكَلَامِ وَالْمُخَاطَبَةِ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ: فَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي مِن أَكْثَرِ النَّاسِ اسْتِعْمَالًا لِهَذَا.

لَكِنَّ كُلَّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ حَسَنٌ، وَحَيْثُ أَمَرَ اللهُ وَرَسُولُهُ بِالْإِغْلَاظِ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ لِبَغْيِهِ وَعُدْوَانِهِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِمُقَابَلَتِهِ، لَمْ نَكُنْ مَأمُورِينَ أَنْ نُخَاطِبَهُ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. [3/ 232]

ص: 263

(لا يَسُوغُ فِي الْعَقْلِ وَلَا الدِّينِ طَلَبُ رضى الْمَخْلُوقِينَ)

298 -

مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَسُوغُ فِي الْعَقْلِ وَلَا الدِّينِ طَلَبُ رضى الْمَخْلُوقِينَ لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ.

وَالثَّانِي: أَنَّا مَأْمُورُونَ بِأَنْ نَتَحَرَّى رضى اللهِ وَرَسُولِهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62]. [3/ 232 - 233]

299 -

الْأَصْلُ الَّذِي يَجِبُ اتِّبَاعُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ: "لَا تَبْدَؤُوهُم بِقِتَالٍ وَإِن أكثبوكم فَارْمُوهُم بِالنَّبْلِ"

(1)

عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ، وَلَمْ نَرْمِ إلَّا بَعْدَ أَنْ قَصَدُوا شَرَّنَا، وَبَعْدَ أَنْ أكثبونا، وَلهَذَا نَفَعَ اللهُ بِذَلِكَ. [3/ 233]

300 -

لَمَّا ذَكَرَ الطيبرسي الْقُضَاةَ وَأَجْمَلَهُمْ: قُلْت لَهُ: إنَّمَا دَخَلَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ: ابْن مَخْلُوفٍ، وَذَاكَ رَجُلٌ كَذَّابٌ فَاجِرٌ، قَلِيلُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ؛ فَجَعَلَ يَتَبَسَّمُ لَمَّا جَعَلْت أَقُولُ هَذَا؛ كَأَنَّهُ يَعْرِفُهُ وَكَأَنَّهُ مَشْهُورٌ بِقُبْحِ السِّيرَةِ. [3/ 235]

301 -

أَنَا مَا بَغَيْت عَلَى أَحَدٍ، وَلَا قُلْت لِأحَدٍ وَافِقْنِي عَلَى اعْتِقَادِي وَإِلَّا فَعَلْت بِك، وَلَا أَكْرَهْت أَحَدًا بِقَوْل وَلَا عَمَلٍ؛ بَل مَا كَتَبْت فِي ذَلِكَ شَيْئًا قَطُّ، إلَّا أَنْ يَكُونَ جَوَابَ اسْتِفْتَاءٍ بَعْدَ إلْحَاحِ السَّائِلِ وَاحْتِرَاقِهِ، وَكَثْرَةِ مُرَاجَعَتِهِ، وَلَا عَادَتِي مُخَاطَبَةُ النَّاسِ فِي هَذَا ابْتِدَاءً. [3/ 243]

302 -

مَن أَنْكَرَ شَيْئًا مِمَّا قُلْته فَلْيَقُلْ إنِّي أُنْكِرُ كَذَا، وَيَكْتُبُ خَطَّهُ بِمَا أَنْكَرَهُ.

وَأَنَا أَكْتُبُ خَطِّي بِالْجَوَاب، ويُعْرَضُ الْكَلَامَانِ عَلَى جَمِيعِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ -شَرْقًا وَغَرْبًا- وَأَنَا قَائِلٌ ذَلِكَ.

وَقَد قُلْت قَبْلَ ذَلِكَ بِدِمَشْقَ: هَذِهِ الْإِنْكَارَاتُ الْمُجْمَلَة لَا تُفِيدُ شَيْئًا؛ بَل

(1)

رواه البخاري (2900، 3984).

ص: 264

مَن أَنْكَرَ شَيْئًا فَلْيَكْتُبْ خَطَّهُ بِمَا أَنْكَرَهُ وَبِحُجَّتِهِ، وَأَنَا أَكْتُبُ خَطِّي بِجَوَاب ذَلِكَ، وَيرَى أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ الْكَلَامَيْنِ، فَهَذَا هُوَ الطَّرِيق فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ

(1)

.

[3/ 244]

303 -

مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أنَّ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى النَّاسِ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُنْكِرَ إلَّا بِحُجَّةٍ وَبَيَانٍ؛ إذ لَيْسَ لِأَحَد أَنْ يُلْزِمَ أَحَدًا بِشَيْء، وَلَا يَحْظُرَ عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا بِلَا حُجَّةٍ خَاصَّةٍ، إلَّا رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمُبَلِّغُ عَن اللهِ، الَّذِي أَوْجَبَ عَلَى الْخَلْقِ طَاعَتَهُ فِيمَا أَدْرَكَتْهُ عُقُولُهُم وَمَا لَمْ تدْرِكْهُ، وَخَبَرُهُ مُصَدَّقٌ فِيمَا عَلِمْنَاهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْهُ.

وَأَمَّا غَيْرُهُ إذَا قَالَ هَذَا صَوَابٌ أو خَطَأٌ: فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ بِمَا يَجِبُ بِهِ اتِّبُاعُهُ: [لم يجب اتباعه]

(2)

.

فَأَوَّلُ دَرَجَاتِ الْإِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ الْمُنْكِرُ عَالِمًا بِمَا يُنْكِرُهُ.

وَمَا يَقْدِرُ النَّاسُ عَلَيْهِ: فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِن خَلْقِ اللهِ كَائِنًا مَن كَانَ أَنْ يُبْطِلَ قَوْلًا أَو يُحَرِّمَ فِعْلًا إلَّا بِسُلْطَانِ الْحُجَّةِ، وَإِلَّا كَانَ مِمَن قَالَ اللهُ فِيهِ:{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر: 56]. [3/ 245]

304 -

أَنَا فِي سِعَةِ صَدْرٍ لِمَن يُخَالِفُنِي؛ فَإِنَّهُ وَإِن تَعَدَّى حُدُودَ اللهِ فِيَّ بِتَكْفِيرٍ، أَو تَفْسِيقٍ، أَو افْتِرَاءٍ، أَو عَصَبِيَّةٍ جَاهِلِيَّةٍ: فَأَنَا لَا أَتَعَدَّى حُدُودَ اللهِ فِيهِ؛ بَل أَضْبُطُ مَا أَقُولُهُ وَأَفْعَلُهُ، وَأَزِنُهُ بِمِيزَانِ الْعَدْلِ.

وَذَلِكَ أَنَّك مَا جَزَيْت مَن عَصَى اللهَ فِيك بِمِثْل أنْ تُطِيعَ اللهَ فِيهِ،

(1)

وإنما قال الشيخ ذلك: لِمَا صح عنده وعند أهل العلم أن الأمة لا تجتمع على ضلالة، وإذا عُرض الحق والباطل على علماء الأمة فلا بدّ أنْ يُجمع كلُّهُم أو أكثرهم على الحق وردِّ الباطل.

(2)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، والسياق يقتضيه، وقد نبه عليها صاحب كتاب: مباحث الأمر التي انتقدها شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (12).

ص: 265

قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 120]

(1)

. [3/ 245 - 246]

305 -

إِنَّ النَّاسَ يَعْلَمُونَ أَنِّي مِن أَطْوَلِ النَّاسِ رُوحًا وَصَبْرًا عَلَى مُرِّ الْكَلَامِ، وَأَعْظَمِ النَاسِ عَدْلًا فِي الْمُخَاطَبَةِ لِأقَلِّ النَّاسِ. [3/ 251]

* * *

(منهج الشيخ في التعامل مع ولاة الأمر)

306 -

عَلَيَّ أنْ أُطِيعَ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَأُطِيعَ أُولِي الْأَمْرِ إذَا أَمَرُونِي بِطَاعَةِ اللهِ، فَإِذَا أَمَرُونِي بِمَعْصِيَةِ اللهِ فَلَا طَاعَةَ لِمَخْلُوق فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، هَكَذَا دَلَّ عَلَيْه الْكتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْأمَّةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].

وَقَد ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ

(2)

عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوق فِي مَعْصِيَةِ اللهِ".

وَأَنْ أَصْبِرَ عَلَى جَوْرِ الْأَئِمَّةِ، وَأَنْ لَا أَخْرُجَ عَلَيْهِم فِي فِتْنَةٍ؛ لِمَا فِي الصَّحِيح

(3)

عَن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَن رَأَى مِن أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَليَصْبِرْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مَن فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَمَاتَ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ".

وَمَأْمُورٌ أَيْضًا مَعَ ذَلِكَ أَنْ أَقُولَ أَو أَقُومَ بِالْحَقِّ حَيْثُ مَا كُنْت، لَا أَخَافُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ؛ كَمَا أَخْرَجَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ"

(4)

عَن عبادة بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: "بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي يُسْرِنَا وَعُسْرِنَا وَمَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَأَثَرَة عَلَيْنَا، وَأَنْ لَا نُنَازعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُولَ -أَو نَقُومَ- بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ".

(1)

إلى هنا انتهى المقصود.

(2)

مسلم (1844).

(3)

البخا ري (7054)، ومسلم (1849).

(4)

البخاري (7200، 7199)، ومسلم (1709).

ص: 266

فَبَايَعَهُم عَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ الْجَامِعَةِ، وَهِيَ:

أ- الطَّاعَةُ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَإِن كَانَ الْآمِرُ ظَالِمًا.

ب- وَتَرْكُ مُنَازَعَةِ الْأَمْرِ أَهْلَهُ.

ج- وَالْقِيَامُ بِالْحَقِّ بِلَا مَخَافَةٍ مِن الْخَلْقِ. [3/ 249 - 250]

* * *

‌({فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:

59])

307 -

الْأُمَّة لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَلَا تَرْتَدُّ جَمِيعُهَا؛ بَل لَا بُدَّ أَنْ يُبْقِيَ اللهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَن هُوَ ظَاهِرٌ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ فَإِذَا مَاتَ كُلُّ مُؤْمِنٍ فَقَد جَاءَت السَّاعَةُ. [18/ 303]

308 -

الله سبحانه عصم هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة، ولم يعصم آحادها من الخطأ، لا صِدِّيقًا ولا غير صدِّيق، لكن إذا وقع بعضها في خطأ فلا بد أنْ يُقيم الله فيها من يكون على الصواب في ذلك الخطأ؛ لأن هذه الأمة شهداء على الناس، وهم شهداء الله في الأرض، وهم خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فلا بد أن تامر بكل معروف وتنهى عن كل منكر، فإذا كان فيها من يأمر بمنكر متأولًا فلا بد أن يكون فيها من يأمر بذلك المعروف.

309 -

اللهُ سُبْحَانَهُ قَد أَمَرَ فِي كِتَابِهِ عِنْدَ تَنَازُعِ الْأُمَّةِ بِالرَّدِّ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، لَمْ يَأْمُرْ عِنْدَ التَّنَازُعِ إلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ أصْلًا.

وَقَد قَالَ الْأَئِمَّةُ: إنَّ أُولِي الْأَمْرِ صِنْفَانِ: الْعُلَمَاءُ وَالْأُمَرَاءُ.

وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ مَشَايِخُ الدِّينِ وَمُلُوكُ الْمُسْلِمِينَ، كُلُّ مِنْهُم يُطَاعُ فِيمَا إلَيْهِ مِن الْأَمْرِ، كَمَا يُطَاعُ هَؤُلَاءِ بِمَا يُومَرُونَ بِهِ مِن الْعِبَادَاتِ، وُيرْجَعُ إلَيْهِم فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَالْإِخْبَارِ عَن اللهِ.

ص: 267

وَكَمَا يُطَاعُ هَؤُلَاءِ فِي الْجِهَادِ وَإِقَامَةِ الْحَدِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُبَاشِرُونَهُ مِن الْأَفْعَالِ الَّتِي أَمَرَهُم اللهُ بِهَا.

وَإِذَا اتَّفَقَ هَؤُلَاءِ عَلَى أَمْرٍ فَإِجْمَاعُهُم حُجَّةٌ قَاطِعَة؛ فَإِنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَإِن تَنَازَعُوا فَالْمَرَدُّ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. [3/ 250]

* * *

(بعض كلام الشيخ عما جرى له وهو في الحبس)

310 -

جَاءَ الْفَتَّاحُ أَوَّلًا فَقَالَ: يُسَلِّمُ عَلَيْك النَّائِبُ، وَقَالَ: إلَى مَتَى يَكُونُ الْمُقَامُ فِي الْحَبْسِ؟ أَمَا تَخْرُجُ؟ هَل أَنْتَ مُقِيمٌ عَلَى تِلْكَ الْكَلِمَةِ أَمْ لَا؟.

فَقُلْت لَهُ: سَلِّمْ عَلَى النَّائِبِ وَقُلْ لَهُ أَنَا مَا أَدْرِي مَا هَذِهِ الْكَلِمَةُ؟

(1)

وَإِلَى السَّاعَةِ لَمْ أَدْرِ عَلَى أَيِّ شَيءٍ حُبِسْت؟ وَلَا عَلِمْت ذَنْبِي؟

(2)

.

فَجَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَتَّاحُ وَمَعَهُ شَخْصٌ مَا عَرَفْته، لَكِنْ ذَكَرَ لِي أَنَّهُ يُقَالُ لَهُ عَلَاءُ الدِّينِ الطيبرسي .. لَكِنَّهُ جَاءَ مَجِيءَ الْمُكْرِهِ عَلَى أَنْ أُوَافِقَ إلَى مَا دَعَا إلَيْهِ .. وَجَعَلْتُ كُلَّمَا أَرَدْت أَنْ أُجِيبَهُ وَأُحَمِّلَهُ رِسَالَةً يُبَلِّغُهَا لَا يُرِيدُ أَنْ يَسْمَعَ شَيْئًا مِن ذَلِكَ وَيُبَلِّغَهُ؛ بَل لَا يُرِيدُ إلَّا مَا مَضْمُونُهُ الْإِقْرَارُ بِمَا ذَكَرَ وَالْتِزَامُ عَدَمِ الْعَوْدِ إلَيْهِ!

(3)

وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46]؛ فَمَتَى ظَلَمَ الْمُخَاطِبُ لَمْ نَكُنْ مَأْمُورِينَ أَنْ نُجِيبَهُ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.

(1)

أي: التي لأجلها سُجن.

(2)

وهذا حال أكثر العلماء والدعاة والمصلحين في هذا الزمان، فهم يُسجنون ولا يعلمون لم سُجنوا؟ وما ذنبهم؟ وهذا من الابتلاء الذي يرفع الله به درجاتهم، ويُعلي ذكرهم.

(3)

وهذا حال الظلمة من الحكام والمشايخ والقضاة، يُريدون من الناس الموافقة على رأيهم دون قيد أو شرط.

ص: 268

وَلَمَّا رَأَيْته يُلِحُّ فِي الْأَمْرِ بِذَلِكَ أَغْلَظْت عَلَيْهِ فِي الْكَلَامِ وَقُلْت: دَعْ هَذَا الْفُشَارَ

(1)

وَقُمْ رُحْ فِي شُغْلِك، فَأَنَا مَا طَلَبْت مِنْكُمْ أَنْ تُخْرِجُونِي.

وَجَعَلَ غَيْرَ مَرَّةٍ يَقُولُ لِي: أَتُخَالِفُ الْمَذَاهِبَ الْأَرْبَعَةَ؟

فَقُلْت: أَنَا مَا قُلْت إلَّا مَا يُوَافِقُ الْمَذَاهِبَ الْأَرْبَعَةَ، وَلَمْ يَحْكُمْ عَلَيَّ أَحَدٌ مِن الْحُكَّامِ إلَّا ابْنُ مَخْلُوفٍ، وَأَنْتَ كُنْت ذَلِكَ الْيَوْمَ حَاضِرًا.

فَلَمَّا ذَهَبُوا بِي إلَى الْحَبْسِ: حَكَمَ بِمَا حَكَمَ بِهِ، وَأَثْبَتَ مَا أَثْبَتَ، وَأَمَرَ فِي الْكِتَابِ السُّلْطَانِيِّ بِمَا أَمَرَ بِهِ، فَهَل يَقُولُ أَحَدٌ مِن الْيَهُودِ أو النَّصَارَى- دَع الْمُسْلِمِينَ- أنَّ هَذَا حُبِسَ بِالشَّرْعِ فَضْلًا عَن أَنْ يُقَالَ: شَرْعُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِاللهِ؟

وَهَذَا مِمَّا يَعْلَمُ الصِّبْيَانُ الصِّغَارُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِشَرْعِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ.

وَهَذَا الْحَاكِمُ

(2)

هُوَ وَذَوُوه دَائِمًا يَقُولُونَ: فَعَلْنَا مَا فَعَلْنَا بِشَرْعِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِاللهِ.

ثُمَّ النَّصَارَى فِي حَبْسٍ حَسَنٍ، يُشْرِكُونَ فِيهِ باللهِ وَيَتَّخِذُونَ فِيهِ الْكَنَائِسَ، فَيَا لَيْتَ حَبْسنَا كَانَ مِن جِنْسِ حَبْسِ النَّصَارَى، وَيَا لَيْتَنَا سُوِّينَا بِالْمُشْرِكِينَ وَعُبَّادِ الْأوْثَانِ؛ بَل لِأولَئِكَ الْكَرَامَةُ وَلنَا الْهَوَانُ.

فَهَل يَقُولُ مَن يُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِهَذَا؟

وَبِأَيِّ ذَنْبٍ حُبسَ إخْوَتِي فِي دِينِ الْإِسْلَامِ غَيْرَ الْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ.

وَمَن قَالَ: إنَّ ذَلِكَ فُعِلَ بِالشَّرْعِ فَقَد كَفَرَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. [3/ 251 - 254]

* * *

(1)

أي: الهذر وكثرة الكلام بلا فائدة.

(2)

أي: القاضي الذي حكم على الشيخ بالسجن ظلمًا وجوزًا.

ص: 269

(تتمة للفوائد المنتقاة من العقيدة الواسطية)

311 -

أَنَا لَمْ يَصْدُرْ مِنِّي قَطُّ إلَّا جَوَابُ مَسَائِلَ، وَإِفْتَاءُ مُسْتَفْتٍ، ما كَاتَبْت أَحَدًا أَبَدًا، وَلَا خَاطَبْته فِي شَيْءٍ مِن هَذَا؛ بَل يَجِيئُنِي الرَّجُلُ الْمُسْتَرْشِدُ الْمُسْتَفْتِي بِمَا أنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ فَيَسْألُنِي مَعَ بُعْدِهِ، وَهُوَ مُحْتَرِقٌ عَلَى طَلَبِ الْهُدَى، أَفَيَسَعُنِي فِي دِينِي أَنْ أَكْتُمَهُ الْعِلْمَ؟

وَقَد قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم"مَن سُئِلَ عَن عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ أَلجَمَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَام مِن نَارٍ"

(1)

.

وَقَد قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)} [البقرة: 159].

أَفَعَلَى أَمْرِك أَمْتَنِعُ عَن جَوَابِ الْمُسْتَرْشِدِ لِأَكُونَ كَذَلِكَ؟ وَهَل يَأُمُرُنِي بِهَذَا السُّلْطَانُ أَو غَيْرُهُ مِن الْمُسْلِمِينَ؟. [3/ 258 - 259]

312 -

لَو كَانَ الَّذِي حَكَمَ بِهِ ابْن مَخْلُوفٍ هُوَ مَذْهَب مَالِكٍ أَو الْأشْعَرِيِّ: لَمْ يَكُن لَهُ أَنْ يُلْزِمَ جَمِيعَ النَّاسِ بِهِ وَيُعَاقِبَ مَن لَمْ يُوَافِقْهُ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ، فَكَيْفَ وَالْقَوْلُ الَّذِي يَقُولُهُ وَيُلْزِمُ بِهِ هُوَ خِلَافُ نَصِّ مَالِكٍ وَأَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ، وَخِلَافُ نَصِّ الْأشْعَرِيِّ وَأَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ؟.

ثُمَّ لَو فُرِضَ أَنَّ هَذَا الَّذِي حَكَمَ فِيهِ مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ: لَمْ يَكن لَهُ أَنْ يَنْقُضَ حُكْمَ غَيْرِهِ، فَكَيْفَ إذَا نقضَ حُكْم حُكَّامِ الشَّامِ جَمِيعِهِمْ بِلَا شُبْهَةٍ؛ بَل بِمَا يُخَالِفُ دِينَ الْمُسْلِمِينَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ؟ [3/ 268]

313 -

نَحْن إنَّمَا نَدْخُلُ فِيمَا يُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، لَيْسَ لنَا غَرَضٌ مَعَ أَحَدٍ؛ بَل نَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ وَنَعْفُو وَنَغْفِرُ. [3/ 270]

(1)

رواه أبو داود (3658)، والترمذي (2649)، وقال: حديث حسن.

ص: 270

314 -

أَنَا وَاللهِ مِن أَعْظَمِ النَّاسِ مُعَاوَنَة عَلَى إطْفَاءِ كُلِّ شَرِّ، وَإِقَامَةِ كُلِّ خَيْرٍ. [3/ 271]

315 -

مَا يَنْبَغِي لِأَحَد أَنْ يَحْمِلَهُ تَحَنُّنُهُ لِشَخْص وَموَالَاتُهُ لَهُ عَلَى أَنْ يَتَعَصَّبَ مَعَهُ بِالْبَاطِلِ، أَو يُعَطِّلَ لِأَجْلِهِ حُدُودَ اللهِ تَعَالَى. [3/ 271]

316 -

صَنَّفْت كِتَابًا كَبِيرًا سَمَّيْته "الصَّارِمَ الْمَسْلُولَ عَلَى شَاتِمِ الرَّسُولِ"، وَذَكَرْت فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا لَمْ أَعْرِفْ أَحَدًا سَبَقَ إلَيْهِ

(1)

. [3/ 277]

* * *

(فوائد من قاعدة أهل السُّنَّة والجماعة)

317 -

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: صَحَّ الْحَدِيثُ فِي الْخَوَارجِ مِن عَشَرَةِ أَوْجُهٍ.

وَقَد خَرَّجَهَا مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ" وَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ طَائِفَةً مِنْهَا.

وَالْخَوَارِجُ هُم أَوَّلُ مَن كَفَّرَ الْمُسْلِمِينَ يُكَفِّرُونَ بِالذُّنُوبِ، وَيُكَفرُونَ مَن خَالَفَهُم فِي بِدْعَتِهِمْ ويسْتَحِلُّونَ دَمَهُ وَمَالَهُ.

وَهَذِهِ حَالُ أَهْلِ الْبِدَعِ يَبْتَدِعُونَ بِدْعَةً وُيكَفِّرُونَ مَن خَالَفَهُم فِيهَا.

وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَتَّبِعُونَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ، فَيَتَّبِعُونَ الْحَقَّ وَيَرْحَمُونَ الْخَلْقَ.

وَأَوَّلُ بِدْعَةٍ حَدَثَتْ فِي الْإِسْلَامِ بِدْعَةُ الْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ، حَدَثَتَا فِي أَثْنَاءِ خِلَافَةِ أَمِيرِ الْمُومِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَعَاقَبَ الطَّائِفَتَيْنِ.

أَمَّا الْخَوَارِجِ فَقَاتَلُوهُ فَقَتَلَهُمْ.

وَأَمَّا الشِّيعَةُ فَحَرَّقَ غَالِيَتَهُم بِالنَّارِ، وَطَلَبَ قَتْلَ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَبَأٍ فَهَرَبَ مِنْهُ، وَأَمَرَ بِجَلْدِ مَن يُفَضِّلُهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ.

(1)

إلى هنا ما يتعلق بالعقيدة الواسطية وما لحق الشيخ من الأذى الحسي والمعنوي بسببها، والاعتراضات عليها والجواب عنها، وقصته مع المبتدعة الذين حرضوا السلطان عليه.

ص: 271

وَرُوِيَ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ قَالَ: "خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ"، وَرَوَاهُ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ". [3/ 279]

318 -

مِن أُصُولِ أَهْلِ السنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: أنَّهُم يُصَلَّونَ الْجُمَعَ وَالْأَعْيَادَ وَالْجَمَاعَاتِ، لَا يَدَعُونَ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْبِدَعِ مِن الرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ.

فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مَسْتُورًا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ بِدْعَةٌ وَلَا فُجُورٌ: صَلَّى خَلْفَهُ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ بِاتِّفَاقِ الْأَثِمَّةِ الْأرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِن أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ.

وَلَكِنْ إذَا ظَهَرَ مِن الْمُصَلِّي بِدْعَةٌ أَو فُجُورٌ وَأَمْكنَ الصَّلَاةُ خَلْفَ مَن يُعْلَمُ أَنَّهُ مُبْتَدِعٌ أَو فَاسِقٌ مَعَ إمْكَانِ الصَّلَاةِ خَلْفَ غَيْرِهِ: فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يُصَحِّحُونَ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ.

وَأَمَّا إذَا لَمْ يُمْكِن الصَّلَاةُ إلَّا خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ أَو الْفَاجِرِ كَالْجُمُعَةِ الَّتِي إمَامُهَا مُبْتَدِعٌ أَو فَاجِرٌ، وَلَيْسَ هُنَاكَ جُمُعَةٌ أُخْرَى: فَهَذِهِ تُصَلَّى خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ وَالْفَاجِرِ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَل وَغَيْرِهِمْ مِن أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَهُمْ.

وَكَانَ بَعْض النَّاسِ إذَا كَثُرَت الْأهْوَاءُ يُحِبُّ أَنْ لَا يُصَلِّيَ إلَّا خَلْفَ مَن يَعْرِفُهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ، كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَن أحْمَدَ أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ لِمَن سَألَهُ.

وَلَمْ يَقُلْ أَحْمَدُ إنَهُ لَا تَصِحُّ إلَّا خَلْفَ مَن أَعْرِفُ حَالَهُ.

فَالصَّلَاةُ خَلْفَ الْمَسْتُورِ جَائِزَةٌ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَن قَالَ: إنَّ الصَّلَاةَ مُحَرَّمَةٌ أَو بَاطِلَةٌ خَلْفَ مَن لَا يُعْرَفُ حَالُهُ فَقَد خَالَفَ إجْمَاعَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.

وَقَد كَانَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِم يُصَلُّونَ خَلْفَ مَن يَعْرِفُونَ فُجُورَهُ، كَمَا صَلَّى عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ مِن الصَّحَابَةِ خَلْفَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي

ص: 272

معيط، وَكَانَ قَد يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَصَلَّى مَرَّةً الطُّبْحَ أَرْبَعًا، وَجَلَدَهُ عُثْمَانُ بْنُ عفان عَلَى ذَلِكَ.

وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ مِن الصَّحَابَةِ يُصَلُّونَ خَلْفَ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ.

وَكَانَ الصَّحَابَةُ وَالَتَّابعون يُصَلُّونَ خَلْفَ ابْنِ أبِي عُبَيْدٍ

(1)

، وَكَانَ مُتَّهَمًا بِالْإِلْحَادِ وَدَاعِيًا إلَى الضَّلَالِ. [3/ 280 - 281]

319 -

لَا يَجُوزُ تَكْفِيرُ الْمُسْلِمِ بِذَنْب فَعَلَهُ، وَلَا بِخَطَأ أَخْطَأ فِيهِ؛ كَالْمَسَائِلِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا أَهْلُ الْقِبْلَةِ.

وَالْخَوَارجُ الْمَارِقُونَ الَّذِينَ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقِتَالِهِمْ: قَاتَلَهُم أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَحَدُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَاتَّفَقَ عَلَى قِتَالِهِمْ أَئِمَّةُ الدِّينِ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَن بَعْدَهُمْ.

وَلَمْ يُكَفِّرْهُم عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَغَيْرُهُمَا مِن الصَّحَابَةِ؛ بَل جَعَلُوهُم مُسْلِمِينَ مَعَ قِتَالِهِمْ، وَلَمْ يُقَاتِلْهُم عَلِيٌّ حَتَّى سَفَكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ، وَأَغَارُوا عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَاتَلَهُم لِدَفْعِ ظُلْمِهِمْ وَبَغْيِهمْ لَا لِأنَّهُم كُفَّارٌ.

وَلهَذَا لَمْ يَسْبِ حَرِيمَهُم وَلَمْ يَغْنَمْ أَمْوَالَهُمْ.

وَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ثَبَتَ ضَلَالُهُم بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ لَمْ يُكَفَّرُوا مَعَ أَمْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ بِقِتَالِهِمْ، فَكَيْفَ بِالطَّوَائِفِ الْمُخْتَلِفِينَ الَّذِينَ اشْتَبَهَ عَلَيْهِم الْحَقُّ فِي مَسَائِلَ غَلِطَ فِيهَا مَن هُوَ أَعْلَئم مِنْهُمْ؟.

(1)

يعني به: المُخْتَار بن أَبِي عُبَيْدٍ الثَّقَفِيّ، قال عنه الذهبي رحمه الله: المُخْتَار بن أَبِي عُبَيْدٍ الثَّقَفِيّ الكَذَّابُ، وَقَد قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"يَكوْنُ فِي ثَقِيْفٍ كذَّاب وَمُبِيْرٌ". فَكَانَ الكَذَّابُ هَذَا، ادعى أَنَّ الوحْيَ يَأْتِيهِ، وَأنَّهُ يَعْلَمُ الغَيْبَ، وَكَانَ المُبِيْرُ الحَجَّاج -قَبَّحَهُمَا اللهُ-. اهـ. سير أعلام النبلاء (4/ 504).

ص: 273

وَالْأَصْلُ أَنَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُم وَأَعْرَاضَهُم مُحَرَّمَةٌ مِن بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، لَا تَحِلُّ إلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَرَسُولِهِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا خَطَبَهُم فِي "حَجَّةِ الْوَدَاعِ""إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكمْ هَذَا في شَهْرِكُمْ هَذَا"

(1)

.

وَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ مُتَأَوِّلًا فِي الْقِتَالِ أَو التَّكْفِيرِ لَمْ يُكَفَّرْ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بلتعة: يَا رَسُولَ اللهِ دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ

(2)

.

وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ"

(3)

عَن أُسَامَةَ بْنِ زيدٍ أَنَّهُ قَتَلَ رَجُلًا بَعْدَ مَا قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، وَعَظَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ لَمَّا أَخْبَرَهُ وَقَالَ:"أقَتَلْته بَعْدَ مَا قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ؟ ".

وَمَعَ هَذَا لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ قَوَدًا، وَلَا دِيَةً، وَلَا كَفَّارَةً؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَأَوِّلًا، ظَنَّ جَوَازَ قَتْلِ ذَلِكَ الْقَائِلِ لِظَنِّهِ أَنَّهُ قَالَهَا تَعَوُّذًا.

فَهَكَذَا السَّلَفُ قَاتَلَ بَعْضُهُم بَعْضًا مِن أهْلِ الْجَمَلِ وصفين وَنَحْوِهِمْ وَكُلُّهُم مُسْلِمُونَ مُؤْمِنُونَ.

وَلهَذَا كَانَ السَّلَفُ مَعَ الِاقْتِتَالِ يُوَالِي بَعْضُهُم بَعْضًا مُوَالَاةَ الدِّينِ، لَا ئعَادُونَ كَمُعَادَاةِ الْكُفَّارِ، فَيَقْبَلُ بَعْضُهم شَهَادَةَ بَعْضٍ، وَيَأْخُذُ بَعْضُهُم الْعِلْمَ عَن بَعْضٍ، وَيتَوَارَثُونَ وَيَتَنَاكَحُونَ، وَيَتَعَامَلُونَ بِمُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، مَعَ مَا كَانَ بَيْنَهُم مِن الْقِتَالِ وَالتَّلَاعُنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

هَذَا مَعَ أَنَّ اللهَ أَمَرَ بِالْجَمَاعَةِ والائتلاف، وَنَهَى عَن الْبِدْعَةِ وَالِاخْتِلَافِ ..

قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّ يَدَ اللهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ"

(4)

.

(1)

رواه البخاري (67)، ومسلم (1218).

(2)

رواه البخاري (3007)، ومسلم (2494).

(3)

البخاري (4269)، ومسلم (96).

(4)

رواه النسائي (4020).

ص: 274

فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ إذَا صَارَ فِي مَدِينَةٍ مِن مَدَائِنِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَهُم الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ، ويُوَالِيَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يُعَادِيَهُمْ

(1)

.

وَإِن رَأى بَعْضَهُم ضَالًّا أَو غَاوِيًا وَأَمْكَنَ أَنْ يَهْدِيَهُ ويُرْشِدَهُ فَعَلَ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا.

وَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يُوَلّيَ فِي إمَامَةِ الْمُسْلِمِينَ الْأَفْضَلَ وَلَّاهُ، وَإِن قَدَرَ أَنْ يَمْنَعَ مَن يُظْهِرُ الْبِدَع وَالْفُجُورَ مَنَعَهُ.

وَإِن لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ فَالصَّلَاةُ خَلْفَ الْأَعْلَمِ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ الْأسْبَقِ إلَى طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ أَفْضَلُ.

وَإِن كَانَ فِي هَجْرِهِ لِمُظْهِرِ الْبِدْعَةِ وَالْفُجُورِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ: هَجَرَهُ؛ كَمَا هَجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى تَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ

(2)

.

وَأَمَّا إذَا وُلِّي غَيْرُهُ

(3)

بِغَيْرِ إذْنِهِ

(4)

وَلَيْسَ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ: كَانَ تَفْوِيتُ هَذِهِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ جَهْلًا وَضَلَالًا، وَكَانَ قَد رَدَّ بِدْعَةً بِبِدْعَة.

حَتَّى إنَّ الْمُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ خَلْفَ الْفَاجِرِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي إعَادَتِهِ الصَّلَاةَ، وَكَرِهَهَا أَكْثَرُهُمْ، حَتَّى قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةِ عبدوس: مَن أَعَادَهَا فَهُوَ مُبْتَدِعٌ.

وَهَذَا أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يُعِيدُونَ الصَّلَاةَ إذَا صَلَّوْا خَلْفَ أَهْلِ الْفُجُورِ وَالْبِدَعِ، وَلَمْ يَأْمُر اللهُ تَعَالَى قَطُّ أحَدًا إذَا صَلَّى كَمَا أُمِرَ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ.

(1)

وهذا بخلاف فعل الخوارج قديمًا وحديثًا، فهم يفارقون جماعة المسلمين ولا يوالون موالاة المحبة والأخوة والنصرة إلا من سار على نهجهم وطريقتهم؛ ولذا حصل منهم أذية ومخازي بالمؤمنين، والله المستعان.

(2)

رواه البخاري (4418)، ومسلم (2769).

(3)

أي: غير الْأَعْلَم بِكِتَاب اللهِ وَسُنَّةِ نَبيِّهِ.

(4)

أي: بغير إذن اَلمصلي، حيث ولّى الحاكم إمامًا بغير إذن جماعة المسجد كلهم أو أكثرهم وهو ممن لم يخترْه.

ص: 275

وَقَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّ الصَّحَابَةَ صَلَّوْا بِغَيْرِ مَاءٍ وَلَا تَيَمُّمِ لَمَّا فَقَدَتْ عَائِشَةُ عِقْدَهَا وَلَمْ يَأْمُرْهُم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْإِعَادَةِ

(1)

.

بَل أَبْلَغُ مِن ذَلِكَ: أَنَّ مَن كَانَ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ جَهْلًا بِوُجُوبِهَا: لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقَضَاءِ! فَعَمْرُ وَعَمَّارٌ لَمَّا أَجْنَبَا -وَعَمْرُ

(2)

لَمْ يُصَلِّ، وَعَمَّارٌ تَمَرَّغَ كَمَا تَتَمَرَّغُ الدَّابَّةُ-: لَمْ يَأُمُرْهُمَا بِالْقَضَاءِ

(3)

.

وَأَبُو ذَرٍّ لَمَّا كَانَ يُجْنِبُ وَلَا يُصَلِّي لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقَضَاءِ.

وَالْمُسْتَحَاضَةُ لَمَّا اسْتَحَاضَتْ حَيْضَةً شدِيدَةً مُنْكَرَةً مَنَعَتْهَا الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ لَمْ يَأْمُرْهَا بِالْقَضَاءِ

(4)

.

وَقَد اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي خِطَابِ اللّهِ وَرَسُولِهِ: هَل يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْعَبِيدِ قَبْلَ الْبَلَاع؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أحْمَدَ وَغَيْرِهِ:

أ- قِيلَ: يَثْبُتُ.

ب- وَقِيلَ: لَا يَثْبُتُ.

ج- وَقِيلَ: يَثْبُتُ الْمُبْتَدَأُ دُونَ النَّاسِخِ.

وَالصَّحِيحُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].

فَالْمُتَأَوِّلُ وَالْجَاهِل الْمَعْذُورُ لَيْسَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُعَانِدِ وَالْفَاجِرِ؛ بَل قَد جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيءٍ قَدْرًا. [3/ 282 - 288]

* * *

(1)

رواه البخاري (334)، ومسلم (367).

(2)

في الأصل: وَعَمْروٌ! في كلا الموضعين، والصواب المثبت.

(3)

ثبت في صحيح البخاري (338) ومسلم (368) أنّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْن الخَطَّاب رضي الله عنه فَقَالَ: إِنِّي أَجْنَبْتُ فَلَمْ أُصِب المَاءَ، فَقَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ لِعُمَرَ بْن الخَطَّابِ رضي الله عنه: أَمَا تَذْكُرُ أَنَّا كُنَّا فِي سَفَرٍ أَنَا وَأَنْتَ، فَأَمَّا أنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ، وَأَمَّا أنَا فَتَمَعَّكْتُ فَصَلَّيْتُ، فَذَكَرْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا" فَضَرَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بكَفَّيْهِ الأَرْضَ، وَنَفَخَ فِيهِمَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ.

(4)

رواه الإمام أحمد (27474) عَن حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ رضي الله عنها.

ص: 276

‌(المسائل التي هي من أصول الدِّين لا بدّ أنْ يُبيّنها النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم

-)

320 -

إِنَّ الْمَسَائِلَ الَّتِي هِيَ مِن أُصُولِ الدِّينِ -الَّتِي تَسْتَحِقُّ أَنْ تُسَمَّى أُصُولَ الدِّينِ، أَعْنِي الدِّينَ الَّذِي أَرْسَلَ اللهُ بِهِ رَسُولَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كِتَابَهُ-: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَمْ يُنْقَلْ عَن النَّبِيِّ فِيهَا كَلَامٌ؛ بَل هَذَا كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ فِي نَفْسِهِ؛ إذ كَوْنُهَا مِن أُصُولِ الدِّينِ يُوجِبُ أَنْ تَكونَ مِن أَهَمِّ أُمُورِ الدِّينِ، وَأَنَّهَا مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الدِّينُ.

ثُمَّ نَفْيُ نَقْلِ الْكَلَامِ فِيهَا عَن الرَّسُولِ يُوجِبُ أَحَدَ أَمْرَيْنِ:

أ- إمَّا أَنَّ الرَّسولَ أَهْمَلَ الْأُمُورَ الْمُهِمَّةَ الَّتِي يَحْتَاجُ الدِّينُ إلَيْهَا فَلَمْ يُبَيِّنْهَا.

ب- أَو أَنَّهُ بَيَّنهَا فَلَمْ تَنْقُلْهَا الْأُمَّةُ.

وَكِلَا هَذَيْنِ بَاطِلٌ قَطْعًا. [3/ 294]

* * *

(جواب الشيخ على من قال بأن الشرع إنما يدل بطريق الخبر الصادق، وأن دلالته موقوفة على العلم بصدق المخبر)

321 -

إِنَّهُ وَإِن كَانَ يَظنُّ طَوَائِفُ مِن الْمُتَكلِّمِينَ والمتفلسفة أَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا يَدُلُّ بِطَرِيقِ الْخَبَرِ الصَّادِقِ، فَدَلَالَتُهُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْعِلْمِ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ، وَيَجْعَلُونَ مَا يُبْنَى عَلَيْهِ صِدْقُ الْمُخْبِرِ مَعْقُولَاتٍ مَحْضَةً: فَقَد غَلِطُوا فِي ذَلِكَ غَلَطًا عَظِيمًا.

بَل ضَلُّوا ضَلَالًا مُبِينًا فِي ظَنِّهِمْ أَنَّ دَلَالَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إنَّمَا هِيَ بِطَرِيقِ الْخَبَرِ الْمُجَرَّدِ.

بَل الْأَمْرُ مَا عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا -أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ- مِن أَنَّ اللهَ سبحانه وتعالى بَيَّنَ مِن الْأدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الْعِلْمِ بِذَلِكَ مَا لَا يُقَدِّرُ أَحَدٌ مِن هَؤُلَاءِ قَدْرَهُ.

ص: 277

وَنِهَايَةُ مَا يَذْكُرُونَة جَاءَ الْقُرْآنُ بِخُلَاصَتِهِ عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ، وَذَلِكَ كَالْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ الَّتِي يَذْكُرُهَا اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الَّتِي قَالَ فِيهَا:{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الروم: 58]؛ فَإِنَّ الْأَمْثَالَ الْمَضْروبَةَ هِيَ "الْأَقْيِسَةُ الْعَقْلِيَّةُ"، سَوَاءٌ كَانَت قِيَاسَ شُمُولٍ أَو قِيَاسَ تَمْثِيلٍ.

وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا: أَنَّ الْعِلْمَ الْإِلَهِيَّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَدَلَّ فِيهِ بِقِيَاسِ تَمْثِيلٍ يَسْتَوِي فِيهِ الْأَضلُ وَالْفَرْعُ، وَلَا بِقِيَاسٍ شُمُولِيٍّ تَسْتَوِي أَفْرَادُهُ؛ فَإِنَّ اللهَ سبحانه وتعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمَثَّلَ بِغَيْرِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ هُوَ وَغَيْرُهُ تَحْتَ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ تَسْتَوِي أَفْرَادُهَا.

وَلهَذَا لَمَّا سَلَكَ طَوَائِفُ مِن الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ مِثْل هَذِهِ الْأقْيِسَةِ فِي الْمَطَالِبِ الْإِلَهِيَّةِ: لَمْ يَصِلُوا بِهَا إلَى يَقِينٍ؛ بَل تَنَاقَضَتْ أَدِلَّتُهُمْ، وَغَلَبَ عَلَيْهِم بَعْدَ التَّنَاهِي الْحَيْرَةُ وَالِاضْطِرَابُ؛ لِمَا يَرَوْنَهُ مِن فَسَادِ أَدِلَّتِهِمْ أو تَكَافئِهَا.

وَلَكِنْ يُسْتَعْمَل فِي ذَلِكَ قِيَاسُ الْأَوْلَى، سَوَاءٌ كَانَ تَمْثِيلًا أَو شُمُولًا؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60].

مِثْل أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ كَمَالٍ ثَبَتَ لِلْمُمْكِنِ أَو الْمُحْدثِ لَا نَقْصَ فِيهِ بِوَجْه مِن الْوُجُوهِ: فَالْوَاجِبُ الْقَدِيمُ أَوْلَى بِهِ.

وَكُلُّ كَمَالٍ لَا نَقْصَ فِيهِ بِوَجْه مِن الْوُجُوهِ ثَبَتَ نَوْعُهُ لِلْمَخْلُوقِ: فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْهُ.

وَأَنَّ كُلَّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ فِي نَفْسِهِ: فَإِنَّهُ يَجِبُ نَفْيُهُ عَن الرَّبِّ تبارك وتعالى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.

وَأَنَّهُ أَحَقُّ بِالْأُمُورِ الْوُخودِيَّةِ مِن كُلِّ مَوْجُودٍ، وَأَمَّا الْأمُورُ الْعَدَمِيَّةُ فَالْمُمْكِنُ بِهَا أَحَقُّ وَنَحْوُ ذَلِكَ. [3/ 296 - 297]

ص: 278

(معنى قَوْلهُ -تعالى-: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ})

322 -

قَوْلُهُ -تعالى-: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [الروم: 28]؛ أَيْ: كَخِيفَةِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ:{ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 85].

فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَكونُ مَمْلُوكُهُ شَرِيكَهُ فِيمَا لَهُ حَتَّى يَخَافَ مَمْلُوكهُ كَمَا يَخَافُ نَظِيرُهُ؛ بَل تَمْتَنِعُونَ أَنْ يَكُونَ الْمَمْلُوكُ لَكُمْ نَظِيرًا، فَكَيْفَ تَرْضَوْنَ لِي أَنْ تَجْعَلُوا مَا فوَ مَخْلُوقِي وَمَمْلُوكِي شَرِيكًا لِي، يُدْعَى وَيُعْبَدُ -كَمَا أُدْعَى وَأُعْبَدَ- كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك إلَّا شَرِيكًا هُوَ لَك تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. [3/ 302 - 303]

* * *

(حكم تعلُّم علم المنطق وعلم الكلام واللُّغة الإفرنجية)

323 -

إنَّ فِي الْقُرْآنِ وَالْحِكْمَةِ النَّبَوِيَّةِ عَامَّةَ أُصُولِ الدِّينِ مِن الْمَسَائِلِ وَالدَّلَائِلِ، الَّتِي تَسْتَحِقُّ أَنْ تَكُونَ أُصُولَ الدِّينِ.

وَأَمَّا مَا يُدْخِلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الْمُسَمَّى مِن الْبَاطِلِ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِن أُصُولِ الدِّينِ.

وَهَذَا التَّقْسِيمُ يُنَبِّهُ أَيْضًا عَلَى مُرَادِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ بِذَمِّ الْكَلَامِ وَأَهْلِهِ؛ إذ ذَلِكَ يَتَنَاوَلُ لِمَن اسْتَدَلَّ بِالْأَدِلَّةِ الْفَاسِدَةِ، أَو اسْتَدَلَّ عَلَى الْمَقَالَاتِ الْبَاطِلَةِ

(1)

.

(1)

فليس علم الكلام أو المنطق مذمومًا على إطلاقه، بل يُذم صاحبه في حالتين:

الحالة الأولى: إذا اسْتَدَلَّ بالْأدِلَّةِ الْفَاسِدَةِ.

الحالة الثانية: إذا اسْتَدَلَّ عَلَى الْمَقَالَاتِ الْبَاطِلَةِ. =

ص: 279

فَأَمَّا مَن قَالَ الْحَقَّ الَّذِي أَذِنَ اللهُ فِيهِ حُكْمًا وَدَلِيلًا: فَهُوَ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ.

وَأَمَّا مُخَاطَبَةُ أَهْلِ اصْطِلَاحٍ بِاصْطِلَاحِهِمْ وَلُغَتِهِمْ: فَلَيْسَ بِمَكْرُوه:

- إذَا اُحْتِيجَ إلَى ذَلِكَ.

- وَكَانَت الْمَعَانِي صَحِيحَةً

(1)

.

كَمُخَاطَبَةِ الْعَجَمِ مِن الرُّومِ وَالْفُرْسِ وَالتُّرْكِ بِلُغَتِهِمْ وَعُرْفِهِمْ؛ فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ حَسَنٌ لِلْحَاجَةِ.

وَإِنَّمَا كَرِهَهُ الْأَئِمَّةُ إذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَيْهِ؛ وَلهَذَا قَالَ النَّبِيُّ لِأُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ العاص- وَكَانَت صَغِيرَةً وُلدَتْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ؛ لِأنَّ أَبَاهَا كَانَ مِن الْمُهَاجِرِينَ إلَيْهَا- فَقَالَ لَهَا: "يَا أُمَّ خَالِدٍ هَذَا سَنَا"

(2)

.

وَالسَّنَا بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ الْحَسَنُ؛ لِأَنَّهَا كَانَت مِن أَهْلِ هَذِهِ اللُّغَةِ.

وَكَذَلِكَ يُتَرْجَمُ الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ لِمَن يَحْتَاجُ إلَى تَفْهِيمِهِ إيَّاهُ بِالتَّرْجَمَةِ.

وَكَذَلِكَ يَقْرَأُ الْمُسْلِمُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِن كُتُبِ الْأُمَمِ وَكَلَامِهِمْ بِلُغَتِهِمْ، ويُتَرْجِمُهَا بِالْعَرَبِيَّةِ، كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ كِتَابَ الْيَهُودِ لِيَقْرَأَ لَهُ ويكْتُبَ لَهُ ذَلِكَ، حَيْثُ لَمْ يَأْمَن مِن الْيَهُودِ عَلَيْهِ.

فَالسَّلَفُ وَالْأئِمَّةُ لَمْ يَكرَهُوا الْكلَامَ لِمجَرَّدِ مَا فِيهِ مِن الِاصْطِلَاحَاتِ الْمُوَلَّدَةِ؛ كَلَفْظِ الْجَوْهَرِ، وَالْعَرَضِ، وَالْجِسْم، وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ بَل لأنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِهَذِهِ الْعِبَارَاتِ فِيهَا مِن الْبَاطِلِ الْمَذْمُومِ فِي الْأَدِلَّةِ وَالْأَحْكَامِ مَا

= فالأول: الدليل الذي استدل به خطأٌ في ذاته، ولو أراد التوصل إلى نتيجة صحيحة.

والثاني: النتيجة باطلة، ولو كان الاستدلال صحيحًا في ذاته، لكنه يريد التوصل إلى باطل.

(1)

هذان هما الشرطان في جواز مُخَاطَبَةِ أَهْلِ اصْطِلَاح بِاصْطِلَاحِهِمْ كالمنطق وعلم الكلام، وَلُغَتِهِمْ كاللغة الأعجمية.

(2)

رواه البخاري (5845).

ص: 280

يَجِبُ النَّهْيُ عَنْهُ؛ لِاشْتِمَالِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَعَانٍ مُجْمَلَةٍ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ.

فَإِذَا عُرِفَت الْمَعَانِي الَّتِي يَقْصِدُونَهَا بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ، وَوُزِنَتْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ بِحَيْثُ يُثْبِتُ الْحَقَّ الَّذِي أَثْبَتَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وينْفِي الْبَاطِلَ الَّذِي نَفَاهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ؛ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْحَقَّ.

وَالسَّلَفُ وَالْأئِمَّةُ الَّذِينَ ذَمُّوا وَبَدَّعُوا الْكَلَامَ فِي الْجَوْهَرِ وَالْجِسْمِ وَالْعَرَضِ: تَضَمَّنَ كَلَامُهُم ذَمَّ مَن يُدْخِلُ الْمَعَانِيَ الَّتِي يَقْصِدُهَا هَؤُلَاءِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي أُصُولِ الدِّينِ فِي دَلَائِلِهِ وَفِي مَسَائِلِهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا.

فَأَمَّا إذَا عَرَفَ الْمَعَانِيَ الصَّحِيحَةَ الثَّابِتَةَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَعَبَّرَ عَنْهَا لِمَن يَفْهَمُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ لِيَتَبَيَّنَ مَا وَافَقَ الْحَقَّ مِن مَعَانِي هَؤُلَاءِ وَمَا خَالَفَهُ: فَهَذَا عَظِيمُ الْمَنْفَعَةِ، وَهُوَ مِن الْحُكْمِ بِالْكِتَاب بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213].

وَهُوَ مِثْلُ الْحُكْمِ بَيْنَ سَائِرِ الْأُمَمِ بِالْكتَابِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِن الْمَعَانِي الَّتِي يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِوَضْعِهِمْ وَعُرْفِهِمْ.

وَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى:

أ- مَعْرِفَةِ مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

ب- وَمَعْرِفَةِ مَعَانِي هَؤُلَاءِ بِألْفَاظِهِمْ.

ج- ثُمَّ اعْتِبَارِ هَذِهِ الْمَعَانِي بِهَذِهِ الْمَعَانِي لِيَظْهَر الْمُوَافِقُ وَالْمُخَالِفُ. [3/ 303 - 308]

* * *

‌(هل يجب مَعْرِفَة مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول عَلَى التَّفْصِيلِ؟ وهل يجب في مسائل أصول الدين العلم القطعيُّ بها

؟)

324 -

لَا ريْبَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُؤْمِنَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ إيمَانًا عَامًّا مُجْمَلًا، وَلَا ريْبَ أَنَّ مَعْرِفَةَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ عَلَى التَّفْصِيلِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ.

ص: 281

وَأَمَّا مَا يَجِبُ عَلَى أَعْيَانِهِمْ: فَهَذَا يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ قَدْرِهِمْ، وَمَعْرفَتِهِمْ، وَحَاجَتِهِمْ.

وَمَا أُمِرَ بِهِ أَعْيَانُهُمْ: فَلَا يَجِبُ عَلَى الْعَاجِزِ عَن سَمَاعِ بَعْضِ الْعِلْمِ أَو عَن فَهْمِ دَقِيقِهِ مَا يَجِبُ عَلَى الْقَادِرِ عَلَى ذَلِكَ.

ويَجِبُ عَلَى مَن سَمِعَ النُّصُوصَ وَفَهِمَهَا مِن عِلْمِ التَّفْصِيلِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى مَن لَمْ يَسْمَعْهَا.

وَيجِبُ عَلَى الْمُفْتِي وَالْمُحَدِّثِ وَالْمُجَادِلِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى مَن لَيْسَ كَذَلِكَ.

فإِنَّهُ وَإِن كَانَ طَوَائِفُ مِن أَهْلِ الْكَلَامِ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَسَائِلَ الْخَبَرِيَّةَ الَّتِي قَد يُسَمُّونَهَا مَسَائِلَ الْأُصُولِ

(1)

يَجِبُ الْقَطْعُ فِيهَا جَمِيعِهَا، وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ فِيهَا بِغَيْرِ دَلِيلٍ يُفِيدُ الْيَقِينَ، وَقَد يُوجبُونَ الْقَطْعَ فِيهَا كُلّهَا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ: فَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ عَلَى إطْلَاقِهِ وَعُمُومِهِ خَطِأٌ مُخَالِفٌ لِلْكتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا.

ثُمَّ هُم مَعَ ذَلِكَ مِن أَبْعَدِ النَاسِ عَمَّا أَوْجَبُوهُ؛ فَإِنَّهُم كَثِيرًا مَا يَحْتَجُّونَ فِيهَا بِالْأَدِلَّةِ الَّتِي يَزْعُمُونَهَا قَطْعِيَّاتٍ وَتَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ مِن الْأُغْلُوطَاتِ، فَضْلًا عَن أَنْ تَكُونَ مِن الظَّنِّيَّاتِ.

وَأَمَّا التَّفْصِيلُ: فَمَا أَوْجَبَ اللهُ فِيهِ الْعِلْمَ وَالْيَقِينَ وَجَبَ فِيهِ مَا أَوْجَبَهُ اللهُ مِن ذَلِكَ؛ كَقَوْلِهِ: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 98]، وَقَوْلِهِ:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19]، وَكَذَلِكَ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِمَا أَوْجَبَ اللهُ الْإِيمَانَ بِهِ.

وَقَد تَقَرَّرَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْوُجُوبَ مُعَلَّقٌ بِاسْتِطَاعَةِ الْعَبْدِ؛ كَقَوْلِهِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].

(1)

أي: أصول الدين، كالإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر والقدر، ونحوها من المسائل والأحكام العلمية الخبرية، وقد خرج بذلك فروع الدين، وهي المسائل والأحكام العملية، وإن كان هذا التقسيم لا يرتضيه الشيخ رحمه الله تعالى.

ص: 282

فَإِذَا كَانَ كَثِيرٌ مِمَّا تَنَازَعَتْ فِيهِ الْأُمَّةُ -مِن هَذِهِ الْمَسَائِلِ الدَّقِيقَةِ- قَد يَكُونُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِن النَّاسِ مُشْتَبِهًا، لَا يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى دَلِيلٍ يُفِيدُهُ الْيَقِينُ، لَا شَرْعِيٌّ وَلَا غَيْرُهُ: لَمْ يَجِبْ عَلَى مِثْل هَذَا فِي ذَلِكَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ.

وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِن اعْتِقَادٍ قَوِيِّ غَالِبٍ عَلَى ظَنِّهِ لِعَجْزِهِ عَن تَمَامِ الْيَقِينِ؛ بَل ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مُطَابِقًا لِلْحَقِّ.

فَالِاعْتِقَاذ الْمُطَابِقُ لِلْحَقِّ يَنْفَعُ صَاحِبَة وَيُثَابُ عَلَيْهِ وَيَسْقُطُ بِهِ الْفَرْضُ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهُ.

لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْرفَ أَنَّ عَامَّةَ مَن ضَلَّ فِي هَذَا الْبَابِ او عَجَزَ فِيهِ عَن مَعْرِفَةِ الْحَقِّ: فَإِنَّمَا هُوَ لِتَفْرِيطِهِ فِي اتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَتَركِ النَّظَر وَالِاسْتِدْلَال الْمُوَصِّل إلَى مَعْرِفَتِهِ، فَلَمَّا أَعْرَضُوا عَن كِتَابِ اللهِ ضَلُّوا. [3/ 312 - 314]

* * *

({ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ})

325 -

طَالَبَ سُبْحَانَهُ مَن اتَّخَذَ دِينًا بِقَوْلِهِ: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} [الأحقاف: 4].

فَالْكِتَابُ: [هو]

(1)

الْكِتَابُ.

وَالْأثَارَةُ كَمَا قَالَ مَن قَالَ مِن السَّلَفِ: هِيَ الرِّوَايَةُ وَالْإسْنَادُ، وَقَالُوا: هِيَ الْخَطُّ أيْضًا؛ إذ الرِّوَايَةُ وَالْإِسْنَادُ يُكْتَبُ بِالْخَطِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَثَارَةَ مِن الْأثَرِ.

فَالْعِلْمُ الَّذِي يَقُولُهُ مَن يُقْبَلُ قَوْلُهُ: يُؤْثَرُ بِالْإِسْنَادِ، وَيُقَيَّدُ بِالْخَطِّ، فَيَكُونُ كُلُّ ذَلِكَ مِن آثَارِهِ. [3/ 316]

* * *

(1)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، والمثبت من كتاب: درء تعارض العقل والنقل (1/ 57).

ص: 283

‌(هل في الشريعة تَكْلِيف مَا لَا يُطَاقُ

؟)

326 -

هَذِهِ الْعِبَارَةُ -وهي: تَكْلِيف مَا لَا يُطَاقُ- وَإن كَثُرَ تَنَازُعُ النَّاسِ فِيهَا نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الْخِلَافَ الْمُحَقَّقَ فِيهَا نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَا اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى جَوَازِهِ

(1)

وَوُقُوعِهِ؛ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي إطْلَاقِ الْقَوْلِ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا يُطَاقُ.

وَالثَّانِي: مَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُطَاقُ، لَكِنْ تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ الْأَمْرِ بِهِ، وَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي عَدَمِ وُقُوعِهِ.

فَأمَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرٌ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُطَاقُ وَتَنَازَعُوا فِي وُقُوعِ الْأَمْرِ بِهِ: فَلَيْسَ كَذَلِكَ.

فَالنَّوْعُ الْأوَّلُ: كَتَنَازُعِ الْمُتَكَلِّمِينَ مِن مُثْبِتَةِ الْقَدَرِ ونفاته فِي اسْتِطَاعَةِ الْعَبْدِ، وَهِيَ قُدْرَتُهُ وَطَاقَتُهُ: هَل يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَعَ الْفِعْلِ لَا قَبْلَهُ، أَو يَجِبُ أَنْ تَكونَ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْفِعْلِ، أَو يَجِبُ أَنْ يمُونَ مَعَهُ وَإِن كَانَت مُتَقَدّمَةً عَلَيْهِ؟.

الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ مُحَقِّقُو الْمُتَكَلِّمِينَ وَأَهْلُ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَغَيْرِهِمْ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ: وَهُوَ أَنّ الِاسْتِطَاعَةَ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَهِيَ الْمُصَحِّحَةُ لِلْفِعْلِ لَا يَجِبُ أَنْ تُقَارِنَ الْفِعْلَ.

وَأَمَّا الِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَجِبُ مَعَهَا وُجُودُ الْفِعْلِ فَهِيَ مُقَارِنَةٌ لَهُ.

فَالْأُولَى: كَقَوْلِهِ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل: عمران:97].

وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: "صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ"

(2)

.

(1)

أي: جواز تَكْلِيف مَا لَا يُطَاقُ.

(2)

رواه البخاري (1117).

ص: 284

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَجَّ وَالصَّلَاةَ تَجِبُ عَلَى الْمُسْتَطِيع، سَوَاءٌ فَعَلَ أَو لَمْ يَفْعَلْ.

فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةَ لَا تَجِبُ أَنْ تَكونَ مَعَ الْفِعْلِ.

وَالثَّانِيَةُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود: 20] عَلَى قَوْلِ مَن يُفَسِّرُ الِاسْتِطَاعَةَ بِهَذِهِ.

وَأَمَّا عَلَى تَفْسِيرِ السَّلَفِ وَالْجُمْهُورِ: فَالْمُرَادُ بِعَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ مَشَقَّةُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَصُعُوبَتُهُ عَلَى نُفُوسِهِمْ، فَنُفُوسُهِم لَا تَسْتَطِيعُ إرَادَتَهُ وَإن كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى فِعْلِهِ لَو أَرَادُوهُ، وَهَذِهِ حَالُ مَن صَدَّهُ هَوَاهُ وَرَأْيُهُ الْفَاسِدُ عَن اسْتِمَاعِ كُتبِ اللهِ الْمُنَزَّلَةِ وَاتِّبَاعِهَا.

فَقَد أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الِاسْتِطَاعَةُ هِيَ الْمُقَارِنَةُ لِلْفِعْلِ الْمُوجِبَةُ لَهُ

(1)

.

وَأمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: فَكَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْعَاجِزَ عَن الْفِعْلِ لَا يُطِيقُهُ، كَمَا لَا يُطِيقُ الْأَعْمَى وَالْأَقْطَعُ وَالزَّمِنُ

(2)

نَقْطَ الْمُصْحَفِ وَكِتَابَتَهُ، وَالطَّيَرَانَ؛ فَمِثْلُ هَذَا النَّوْعِ قَد اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِع فِي الشَّرِيعَةِ.

وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ الْأَمْرِ بِهِ عَقْلًا

(3)

.

(1)

وقد ذكر هذه المسألة في موضع آخر (8/ 290 - 292).

(2)

أي: المريض.

(3)

ذهب الأشاعرة إلى جواز تكليف ما لا يطاق به عقلًا وإن لم يقع في الشرع، وقد أجازوه عقلًا بناء على نفيهم الحسن والقبيح العقليين، وقالوا: هذا مرجعه إلى الشريعة، فهي التي تحسن وتقبح، ولا دخل للعقل في ذلك!.

وذهب المعتزلة إلى عدم جواز تكليف ما لا يطاق؛ لأنه قبيح، والله تعالى منزه عن فعل القبيح فلا يجوز صدوره منه، وهم يرون أنّ التحسين والتقبيح يُدرك بالعقل.

والصواب في المسألة هو التفصيل، أما إطلاق القول فيها فهو من البدع المحدثة كما نص على ذلك الشيخ كما سيأتي.

وقال الشيخ في تفصيل ذلك: تكليف ما لا يطاق ينقسم إلى قسمين:

أحدهما: ما لا يطاق للعجز عنه كتكليف الزمن المشي وتكليف الإنسان الطيران ونحو ذلك فهذا كير واقع في الشريعة عند جماهير أهل السُّنَّة المثبتين للقدر.

والثاني: ما لا يطاق للاشتغال بضده كاشتغال الكافر بالكفر؛ فإنه هو الذي صده عن=

ص: 285

وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ النِّزَاعَ فِي هَذَا الْأَصْلِ يَتَنَوَّعُ تَارَةً إلَى الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَتَارَةً إلَى جَوَازِ الْأَمْرِ.

وَمِن هُنَا شَبَّهَ مَن شَبَّهَ مِن الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى النَّاسِ حَيْثُ جَعَلَ الْقِسْمَيْنِ قِسْمًا وَاحِدًا، وَادَّعَى تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ مُطْلَقًا؛ لِوُقُوعِ بَعْضِ الْأَقْسَامِ الَّتِي لَا يَجْعَلُهَا عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ مِن بَابِ مَا لَا يُطَاقُ.

وَالنِّزَاعُ فِيهَا لَا يَتَعَلَّقُ بِمَسَائِلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ؛ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَسَائِلِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ.

وَإِذَا عُرِفَ هَذَا: فَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ مِن الْبِدَع الْحَادِثَةِ فِي الْإِسْلَام؛ كَإِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأنَّ النَّاسَ مَجْبُورُونَ عَلَى أَفْعَالِهِمْ، وَقَدَ اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا عَلَى إنْكَارِ ذَلِكَ وَذَمِّ مَن يُطْلِقُهُ، وَإِن قَصَدَ بِهِ الرَّدَّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ لَا يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَلَا بِأَنَّهُ شَاءَ الْكَائِنَاتِ.

وَقَالُوا: هَذَا رَدُّ بِدْعَةٍ بِبِدْعَةِ، وَقَابَلَ الْفَاسِدَ بِالْفَاسِدِ وَالْبَاطِلَ بِالْبَاطِلِ. [3/ 318 - 322]

* * *

(هل العبد مجبور؟ والراجح في نفي الجبر)

327 -

يَدْخُلُ عِنْدَهُم -أي: الْأَئِمَّة- الْمُجْبِرَةُ فِي مسَمَّى الْقَدَرِيَّةِ الْمَذْمُومِينَ؛ لِخَوْضِهِمْ في الْقَدَرِ بِالْبَاطِلِ؛ إذ هَذَا جِمَاعُ الْمَعْنَى الَّذِي ذُمَّتْ بِهِ الْقَدَرِيَّةُ.

= الإيمان، وكالقاعد في حال قعوده؛ فإن اشتغاله بالقعود يمنعه أن يكون قائمًا، والإرادة الجازمة لأحد الضدين تنافي إرادة الضد الآخر، وتكليف الكافر الإيمان من هذا الباب.

ومثل هذا ليس بقبيح عقلًا عند أحد من العقلاء؛ بل العقلاء متفقون على أمر الإنسان ونهيه بما

لا يقدر عليه حال الأمر والنهي لاشتغاله بضده إذا أمكن أن يترك الضد ويفعل الضد المأمور به.

وإنما النزاع: هل يسمى هذا تكليف ما لا يطاق؛ لكونه تكليفًا بما انتفت نيه القدرة المقارنة للفعل؟ فمن المثبتين للقدر من يدخل هذا في تكليف ما لا يطاق.

ومنهم من يقول: هذا لا يدخل فيما لا يطاق، وهذا هو الأشبه بما في الكتاب والسُّنَّة وكلام السلف؛ فإنه لا يقال للمستطيع المأمور بالحج إذا لم يحج إنه كلف بما لا يطيق، ولا يقال لمن أمر بالطهارة والصلاة فترك ذلك كسلًا أنه كلف ما لا يطيق. اهـ. منهاج السُّنَة (3/ 104 - 105).

ص: 286

وَلهَذَا تَرْجَمَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ فَقَالَ: (الرَّدُّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ، وَقَوْلهمْ: إنَّ اللهَ أَجْبَرَ الْعِبَادَ عَلَى الْمَعَاصِي).

ثُمَّ روي عَن عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَن بَقِيَّةَ بْنِ الْوَلِيدِ قَالَ: سَأَلْت الزُّبَيْدِيَّ وَالْأَوْزَاعِي عَن الْجَبْرِ، فَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ: أَمْرُ اللهِ أَعْظَمُ وَقُدْرَتُهُ أَعْظَمُ مِن أَنْ يَجْبُرَ أَو يَعْضُلَ، وَلَكِنْ يَقْضي وَيُقَدِّرُ وَيخْلُقُ وَيجْبِلُ عَبْدَهُ عَلَى مَا أَحَبَّ.

وَقَالَ الأوزاعي: مَا أَعْرِفُ لِلْجَبْرِ أَصْلًا فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ، فَأَهَابُ أَنْ أَقُولَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْقَضَاءَ وَالْقَدَرَ وَالْخَلْقَ وَالْجَبْلَ فَهَذَا يُعْرَفُ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ عَن رَسُولِ اللهِ.

فَهَذَانِ الْجَوَابَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا هَذَانِ الْإِمَامَانِ فِي عَصْرِ تَابِعِي التَّابِعِينَ مِن أَحْسَنِ الْأَجْوِبَةِ.

وَجَوَابُ الأوزاعي أَقْوَمُ مِن جَوَابِ الزُّبَيْدِيِّ؛ لِأَنَّ الزُّبَيْدِيَّ نَفَى الْجَبْرَ، وَالْأَوْزَاعِي مَنَعَ إطْلَاقَهُ؛ إذ هَذَا اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ مَعْنًى صَحِيحًا، فَنَفْيُهُ قَد يَقْتَضِي نَفْيَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ.

وَهَكَذَا يُقَالُ فِي نَفْي الطَّاقَةِ عَلَى الْمَأمُورِ؛ فَإِنَّ إثْبَاتَ الْجَبْرِ فِي الْمَحْظُورِ نَظِيرُ سَلْبِ الطَّاقَةِ فِي الْمَأْمُورِ. [3/ 322 - 325]

* * *

‌(هل يعاقب من لم يقر بما أخبر به الرسول ولم يبلغه أنه أخبر به

؟)

328 -

عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يُقِرَّ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِن أَنَّ الرَّسُولَ أَخْبَرَ بِهِ وَأَمَرَ بِهِ، وَأَمَّا مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَلَمْ يَبْلُغْهُ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِهِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ: فَهُوَ لَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ الْإِقْرَارِ بِهِ مُفَصَّلًا، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي إقْرَارِهِ بِالْمُجْمَلِ الْعَامِّ.

ثُمَّ إنْ قَالَ خِلَافَ ذَلِكَ مُتَأَوّلًا كَانَ مُخْطِئًا يُغْفَرُ لَهُ خَطَؤُهُ، إذَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ تَفْرِيطٌ وَلَا عُدْوَانٌ.

وَلهَذَا يَجِبُ عَلَى الْعُلَمَاءِ مِن الِاعْتِقَادِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى آحَادِ الْعَامَّةِ،

ص: 287

وَيجِبُ عَلَى مَن نَشَأَ بِدَارِ عِلْمٍ وَإِيمانٍ مِن ذَلِكَ مَا لَا يَجِبُ عَلَى مَن نَشَأَ بدَارِ جَهْلٍ.

وَأَمَّا مَا عَلِمَ ثُبُوتَهُ بِمُجَرَّدِ الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ دُونَ الرِّسَالَةِ: فَهَذَا لَا يُعَاقَبُ إنْ لَمْ يَعْتَقِدْهُ. [3/ 327 - 328]

329 -

يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْلَمَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ، فَيَعْلَمَ مَا أَمَرَ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَمَا أَمَرَ بِعِلْمِهِ؛ بِحَيْثُ لَو كَانَ لَه مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ لَوَجَبَ عَلَيْهِ تَعَلُّمُ عِلْمِ الزَّكَاةِ، وَلَو كَانَ لَهُ مَا يَحُجُّ بِهِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ تَعَلُّمُ عِلْم الْحَجِّ، وَكَذَلِكَ أَمْثَالُ ذَلِكَ.

وَيجِبُ عَلَى عُمُومٍ الْأمَّةِ عِلْمُ جَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ؛ بِحَيْثُ لَا يَضِيعُ مِن الْعِلْمِ الَّذِي بَلّغَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّتَهُ شَيْءً، وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّة.

لَكِنَّ الْقَدْرَ الزَّائِدَ عَلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُعَيَّنُ: فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، إذَا قَامَتْ بِهِ طَائِفَةٌ سَقَطَ عَن الْبَاقِينَ.

وأَمَّا الْعِلْمُ الْمُرَغَّبُ فِيهِ جُمْلَةً: فَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم! أُمَّتَهُ، لَكِنْ يُرَغَبُ كُلُّ شَخْصٍ فِي الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ إلَيْهِ أَحْوَجُ، وَهُوَ لَهُ أَنْفَعُ.

وَهَذَا يَتَنَوَّعُ، فَرَغْبَةُ عُمُومِ النَاسِ فِي مَعْرِفَةِ الْوَاجِبَاتِ والمستحبات مِن الْأَعْمَالِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ أَنْفَعُ لَهُمْ.

وَكُلُّ شَخْصٍ مِنْهُم يَرْغَبُ فِي كُلِّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِن ذَلِكَ، وَمَن وَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ شُبْهَةٌ فَقَد تَكُونُ رَغْبَتُهُ فِي عَمَل يُنَافِيهَا أَنْفَعَ مِن غَيْرِ ذَلِكَ. [3/ 328 - 329]

* * *

(فضل اليقين بالله وأسباب الحصول عليه)

330 -

أَمَّا الْيَقِينُ فَهُوَ طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ وَاسْتِقْرَارُ الْعِلْمِ فِيهِ .. وَضِدُّ الْيَقِينِ: الرَّيْبُ، وَهُوَ نَوْعٌ مِن الْحَرَكَةِ وَالِاضْطِرَابِ.

ص: 288

ثُمَّ الْيَقِينُ يَنْتَظِمُ مِنْهُ أَمْرَانِ:

أ- عِلْمُ الْقَلْبِ.

ب- وَعَمَلُ الْقَلْبِ.

فَإِنَّ الْعَبْدَ قَد يَعْلَمُ عِلْمًا جَازِمًا بِأَمْر، وَمَعَ هَذَا فَيَكُونُ فِي قَلْبِهِ حَرَكَةٌ وَاخْتِلَاجٌ مِن الْعَمَلِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ذَلِكَ الْعِلْمُ؛ كَعِلْمِ الْعَبْدِ أَنَّ اللهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ، وَلَا خَالِقَ غَيْرُهُ، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأ لَمْ يَكُنْ، فَهَذَا قَد تَصْحَبُهُ الطُّمَأْنِينَةُ إلَى اللهِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَقَد لَا يَصْحَبُهُ الْعَمَلُ بِذَلِكَ:

- إمَّا لِغَفْلَةِ الْقَلْبِ عَن هَذَا الْعِلْمِ، وَالْغَفْلَةُ هِيَ ضِدُّ الْعِلْمِ التَّامِّ، وَإِن لَمْ تَكُنْ ضِدًّا لِأَصْلِ الْعِلْمِ.

- وَإِمَّا لِلْخَوَاطِرِ الَّتِي تَسْنَحُ

(1)

فِي الْقَلْبِ مِن الِالْتِفَاتِ إلَى الْأَسْبَابِ، وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ.

وَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "سَلُوا اللهَ الْيَقِينَ وَالْعَافِيَةَ، فَمَا أعْطِيَ أَحَدٌ بَعْدَ الْيَقِينِ شَيْئًا خَيْرًا مِن الْعَافِيَةِ"

(2)

.

فَأَهْل الْيَقِينِ إذَا اُبْتُلُوا ثَبَتُوا، بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ فَإِنَّ الِابْتِلَاءَ قَد يُذْهِبُ إيمَانَهُ أَو يُنْقِصُهُ، قَالَ تَعَالَى:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة: 24].

أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)} [آل عمران:173] فَهَذِهِ حَالُ هَؤُلَاءِ.

(1)

أي: تعرض وتخطر.

(2)

رواه الإمام أحمد (5)، (17)، (34)، وابن ماجه (3849)، والترمذي (3849) والبخاري في الأدب المفرد (724)، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد وغيره.

ص: 289

وَأَمَّا كَيْفَ يَحْصُلُ الْيَقِينُ؟ فَبِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:

أَحَدُهَا: تَدَبُّرُ الْقرْآنِ.

وَالثَّانِي: تَدَبُّرُ الْآيَاتِ الَّتِي يُحْدِثُهَا اللهُ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ الَّتِي تُبَيِّنُ أَنَّهُ حَقٌّ.

وَالثَّالِثُ: الْعَمَلُ بِمُوجِب الْعِلْمِ

(1)

، قَالَ تَعَالَى:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ.

وَأمَّا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِن الْمُتَفَلْسِفَةِ وَمَن تَبِعَهُم مِن الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَصوِّفَةِ: أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إلَى اللهِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ ذِكْرُ طَرِيقِ مَعْرِفَتِهِ بِالِاسْتِدْلَالِ بِالْعَقْلِ: فَتَفْسِيرُ الْآيَةِ بِذَلِكَ خَطَأٌ مِن وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا.

فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يُري الْآيَاتِ الْمَشْهُودَةَ لِيُبَيِّنَ صِدْقَ الْآيَاتِ الْمَسْمُوعَةِ، مَعَ أَنَّ شَهَادَتَهُ بِالْآيَاتِ الْمَسْمُوعَةِ كَافِيَةٌ.

لِأنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَدُلَّ عِبَادَهُ بِالْقُرْآنِ بِمُجَرَّدِ الْخَبَرِ كَمَا يَظُنُّهُ طَوَائِفُ مِن أَهْلِ الْكَلَامِ: يَظُنُّونَ أَنَّ دَلَالَةَ الْقُرْآنِ إنَّمَا هُوَ بِطَرِيقِ الْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ الَّذِي هُوَ الرَّسُولُ. [3/ 329 - 331]

* * *

(معنى الذَّاتِ في اللغة)

331 -

إِنَّ لَفْظَ (الذَّاتِ) فِي لُغَتِهِمْ

(2)

: لَمْ يَكُن كَلَفْظِ الذَّاتِ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِينَ؛ بَل يُرَادُ بِهِ مَا يُضَافُ إلَى اللهِ؛ كَمَا قَالَ خبيب رضي الله عنه:

وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإن يَشَأْ

يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ

(1)

قال الشيخ: فَإِنَّ الْعَمَلَ بِمُوجِب الْعِلْمِ يُثْبِتُهُ وَيُقَرِّرُرُ، وَمُخَالَفَتُهُ تُضْعِفُهُ بَل قَد تذْهِبُهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام ة 110](3/ 332).

(2)

أي: الصحابة والتابعين.

ص: 290

وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: "لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ إلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ كلُّهَا فِي ذَاتِ اللهِ"

(1)

.

وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1]{وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)} [الحديد: 6] وَنَحْوُ ذَلِكَ.

فَإِنَّ ذَاتَ تَأْنِيثُ (ذُو)، وَهُوَ يُسْتَعْمَل مُضَافًا يُتَوَصَّل بِهِ إلَى الْوَصْفِ بِالْأَجْنَاسِ، فَإِذَا كَانَ الْمَوْصُوفُ مُذَكَّرًا قِيلَ ذُو كَذَا، وَإِن كَانَ مُؤَنَّثًا قِيلَ ذَاتُ كَذَا.

فَإِنْ قِيلَ: أُصِيبَ فُلَانٌ فِي ذَاتِ اللهِ، فَالْمَعْنَى فِي جِهَتِهِ وَوُجْهَتِهِ؛ أَيْ: فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَأَحَبَّهُ وَلِأجْلِهِ.

وَفَصْلُ الْخِطَابِ: أنَّهَا لَيْسَتْ مِن الْعَرَبِيَّةِ الْعَرْبَاءِ؛ بَل مِن الْمُوَلَّدَةِ؛ كَلَفْظِ الْمَوْجُودِ، وَلَفْظِ الْمَاهِيَّةِ، وَالْكَيْفِيَّةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا اللَّفْظُ يَقْتَضِي وُجُودَ صِفَاتٍ تُضَافُ الذَّاتُ إلَيْهَا، فَيُقَالُ: ذَاتُ عِلْمِ، وَذَاتُ قُدْرَةٍ، وَذَاتُ كَلَامٍ، وَالْمَعْنَى كَذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ وُجُودُ شَيْءٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ فِي الْخَارجِ لَا يَتَّصِفُ بِصِفَةٍ ثُبُوتِيَّةٍ أَصْلًا؛ بَل فَرْضُ هَذَا فِي الْخَارِجِ كَفَرْضِ عَرَضٍ يَقُومُ بِنَفْسِهِ لَا بِغَيْرِهِ. [6/ 99]

* * *

(العقل لا يُلغى ولا يُعطى فوق ما يستحقّه)

332 -

كثِيرٌ مِن الْمُتَصَوِّفَةِ يَذُمُّونَ الْعَقْلَ ويعِيبُونَهُ، ويرَوْنَ أنَّ الْأحْوَالَ الْعَالِيَةَ وَالْمَقَامَاتِ الرَّفِيعَةَ لَا تَحْصُلُ إلَّا مَعَ عَدَمِهِ، وَيُقِرُّونَ مِن الْأمُورِ بِمَا يُكَذِّبُ بِهِ صَرِيحُ الْعَقْلِ.

ويمْدَحُونَ السُّكرَ وَالْجُنُونَ وَالْوَلَهَ، وَأُمُورًا مِن الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ التِي لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ زَوَالِ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ.

(1)

رواه مسلم (2371)، بلفظ: "ثنتين في ذات الله

".

ص: 291

كَمَا يُصَدِّقُونَ بِأُمُور يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ الصَّرِيحِ بُطْلَانُهَا مِمَن لَمْ يُعْلَمْ صِدْقُهُ.

وَكِلَا الطَّرَفَيْنِ مَذْمُومٌ؛ بَل الْعَقْلُ شَرْطٌ فِي مَعْرِفَةِ الْعُلُومِ، وَكَمَالِ وَصَلَاحِ الْأَعْمَالِ، وَبِهِ يَكْمُلُ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ.

لَكِنَّهُ لَيْسَ مُسْتَقِلًّا بِذَلِكَ؛ بَل هُوَ غَرِيزَةٌ فِي النَّفْسِ وَقُوَّةٌ فِيهَا، بِمَنْزِلَةِ قُوَّةِ الْبَصَرِ الَّتِي فِي الْعَيْنِ.

فَإِن اتَّصَلَ بِهِ نورُ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ كَانَ كَنُورِ الْعَيْنِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ نُورُ الشَّمْسِ وَالنَّارِ.

وَإِن انْفَرَدَ بِنَفْسِهِ: لَمْ يُبْصِر الْأُمُورَ الَّتِي يَعْجِزُ وَحْدَهُ عَن دَرْكِهَا.

وَإِن عُزِلَ بِالْكلِّيَّةِ: كَانَت الْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ مَعَ عَدَمِهِ: أُمُورًا حَيَوَانِيَّةً، قَد يَكُونُ فِيهَا مَحَبَّةٌ وَوَجْدٌ وَذَوْقٌ كَمَا قَد يَحْصُلُ لِلْبَهِيمَةِ.

فَالْأَحْوَالُ الْحَاصِلَةُ مَعَ عَدَمِ الْعَقْلِ نَاقِصَةٌ، وَالْأَقْوَالُ الْفخَالِفَةُ لِلْعَقْلِ بَاطِلَةٌ.

وَالرُّسُلُ جَاءَت بِمَا يَعْجِزُ الْعَقْلُ عَن دَرْكِهِ، لَمْ تَأْتِ بِمَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ امْتِنَاعُهُ.

لَكن الْمُسْرِفُونَ فِيهِ

(1)

: قَضَوْا بِوُجُوبِ أَشْيَاءَ وَجَوَازِهَا وَامْتِنَاعِهَا؛ لِحُجَج عَقْلِيَّةٍ بِزَعْمِهِمْ، اعْتَقَدُوهَا حَقًّا وَهِيَ بَاطِلٌ، وَعَارَضُوا بِهَا النُّبُوَّاتِ وَمَا جَاءَت بِهِ.

وَالْمُعْرِضُونَ عَنْهُ: صَدَّقُوا بِأَشْيَاءَ بَاطِلَةٍ، وَدَخَلُوا فِي أَحْوَالٍ وَأَعْمَالٍ فَاسِدَةٍ، وَخَرَجُوا عَن التَّمْيِيزِ الَّذِي فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَنِي آدَمَ عَلَى غَيْرِهِمْ.

وَقَد يَقْتَرِبُ مِن كلِّ مِن الطَّائِفَتَيْنِ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ: تَارَةً بِعَزْلِ الْعَقْلِ عَن مَحَلِّ وِلَايَتِهِ، وَتَارَةً بِمُعَارَضَةِ السُّنَنِ بِهِ. [3/ 338 - 339]

* * *

(1)

أي: في العقل، حيث يُعطونه أكبر من حجمِه، ويُعظّمونه فوق ما يستحقه.

ص: 292

(حديث الافتراق)

333 -

الْحَدِيثُ صَحِيحٌ مَشْهُورٌ فِي السُّنَنِ وَالْمَسَانِدِ؛ كَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمْ

(1)

وَلَفْظُهُ: "افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ عَلَى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً، وَافْتَرَقَتْ النَّصَارَى عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً، وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً".

وَفِي لَفْظٍ: "عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً".

وَفِي رِوَايَةٍ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَن الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ؟ قَالَ: "مَن كَانَ عَلَى مِثْل مَا أنا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي".

وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: "هِيَ الْجَمَاعَةُ، يَدُ اللهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ"

(2)

.

وَلهَذَا وَصَفَ الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ بِأَنَّهَا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَهُم الْجُمْهُورُ الْأَكْبَرُ وَالسَّوَاد الْأَعْظَمُ.

وَأَمَّا الْفِرَقُ الْبَاقِيَةُ فَإِنَّهُم أَهْلُ الشُّذُوذِ، وَالتَّفَرُّقِ، وَالْبِدَعِ، وَالْأَهْوَاءِ.

وَلَا تَبْلُغُ الْفِرْقَةُ مِن هَؤُلَاءِ قَرِيبًا مِن مَبْلَغِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ، فَضْلًا عَن أَنْ تَكُونَ بِقَدْرِهَا؛ بَل قَد تَكُونُ الْفِرْقَةُ مِنْهَا فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ.

وَشِعَارُ هَذ الْفِرَقِ: مُفَارَقَةُ الْكِتَابِ وَالسّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.

فَمَن قَالَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ: كَانَ مِن أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ

(3)

.

وَأَمَّا تَعْيِينُ هَذِهِ الْفِرَقِ: فَقَد صَنَّفَ النَّاسُ فِيهِمْ مُصَنَّفَاتٍ وَذَكَرُوهُم فِي كُتُبِ الْمَقَالَاتِ، لَكِنَّ الْجَزْمَ بِأَنَّ هَذِهِ الْفِرْقَةَ الْمَوْصُوفَةَ

(4)

هِىَ إحْدَى الثِّنْتَيْنِ

(1)

رواه أبو داود (4596)، والترمذي (2640)، وابن ماجه (3991)، وأحمد (8396).

(2)

رواه النسائي (4020).

(3)

هذا هو الضابط المطرد الصحيح.

(4)

أيَّا كانت، كالأشعرية أو الصوفية ونحوها، وكذلك يُقال في هذا الزمان، فمن عيّن مجموعةً أو طائفة بأنها هي الناجية: فقد أخطأ.

ص: 293

وَالسَّبْعِينَ: لَا بُدَّ لَهُ مِن دَلِيلٍ؛ فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ الْقَوْلَ بِلَا عِلْمٍ عُمُومًا، وَحَرَّمَ الْقَوْلَ عَلَيْهِ بِلَا عِلْمٍ خُصُوصًا، فَقَالَ تَعَالَى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36].

وَأَيْضًا: فَكَثِيرٌ مِن النَّاسِ يُخْبِرُ عَن هَذِهِ الْفِرَقِ بِحُكْمِ الظَّنِّ وَالْهَوَى، فَيَجْعَلُ طَائِفَتَهُ وَالْمُنْتَسِبَةَ إلَى مَتْبُوعِهِ الْمُوَالِيَةَ لَهُ هُم أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَيَجْعَلُ مَن خَالَفَهَا أَهْلَ الْبِدَعِ، وَهَذَا ضَلَالٌ مُبِينٌ.

فَإِنَّ أَهْلَ الْحَقِّ وَالسُّنَّةِ: لَا يَكُون مَتْبُوعُهُم إلَّا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَن الْهَوَى، إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى، فَهوَ الَّذِي يَجِبُ تَصْدِيقُهُ فِي كُل مَا أَخْبَرَ، وَطَاعَتُهُ فِي كُل مَا أمَرَ.

وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمَنْزِلَةُ لِغَيْرِهِ مِن الْأَئِمَّةِ؛ بَل كُلُّ أَحَدٍ مِن النَّاسِ يُؤْخَذُ مِن قَوْلِهِ ويُتْرَكُ إلَّا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

فَمَن جَعَلَ شَخْصًا مِن الْأشْخَاصِ غَيْرَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَن أحَبَّهُ وَوَافَقَهُ كَانَ مِن أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَمَن خَالَفَهُ كَانَ مِن أهْلِ الْبِدْعَةِ وَالْفُرْقَةِ: كَانَ مِن أَهْلِ الْبِدَع وَالضَّلَالِ وَالتَّفَرُّقِ.

وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ أحَق النَاسِ بِأَنْ تَكُونَ هِيَ الْفِرْقَةُ النَاجِيَةُ: أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ

(1)

، الَّذِينَ لَيْسَ لَهُم مَتْبُوعٌ يَتَعَصَّبُونَ لَهُ إلَّا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهْم أَعْلَمُ النَّاسِ بِأقْوَالِهِ وَأَحْوَالِهِ، وَأعْظَمُهُم تَمْيِيزًا بَيْنَ صَحِيحِهَا وَسَقِيمِهَا، وَأَئِمَّتُهُم فُقَهَاءُ فِيهَا، وَأَهْلُ مَعْرِفَةٍ بِمَعَانِيهَا وَاتِّبَاعًا لَهَا، تَصْدِيقًا وَعَمَلًا، وَحُبًّا وَمُوَالَاةً لِمَن وَالَاهَا، وَمُعَادَاةَ لِمَن عَادَاهَا، الَّذِينَ يردون

(2)

الْمَقَالَاتِ الْمُجْمَلَةَ إلَى مَا جَاءَ بِهِ

(1)

وأهل الحديث مصطلحٌ يُقصد به: الذين يعلمونه ويعملون به، ولا يُقدمون عليه قياسًا ولا رأيًا ولا قول أحد من الناس.

والشيخ لم يقل: بأنهم هم الفرقة الناجية، بل قال: أحق الناس بِأنْ تَكُونَ هِيَ الْفِرْقَةَ النَّاجِيَة.

(2)

في الأصل: (يَرْوُونَ)، ولعل الصواب المثبت.

ص: 294

مِن الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، فَلَا يُنَصِّبُونَ مَقَالَةً وَيَجْعَلُونَهَا مِن أُصُولِ دِينِهِمْ، وَجُمَلِ كَلَامِهِمْ، إنْ لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ؛ بَل يَجْعَلُونَ مَا بُعِثَ بِهِ الرَّسُولُ مِن الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي يَعْتَقِدُونَهُ ويعْتَمِدُونَهُ

(1)

.

وَمَا تَنَازَعَ فِيهِ النَّاسُ مِن مَسَائِلِ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَالْوَعِيدِ وَالْأسْمَاءِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَن الْمُنْكَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَرُدُّونَهُ إلَى الثهِ وَرَسُولِهِ، وَيُفَسِّرُونَ الْأَلْفَاظَ الْمُجْمَلَةَ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا أَهْلُ التَّفَرقِ وَالِاخْتِلَافِ، فَمَا كَانَ مِن مَعَانِيهَا مُوَافِقًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَثَبَتُوهُ، وَمَا كَانَ مِنْهَا مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَبْطَلُوهُ.

وَلَا يَتَّبِعُونَ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأنْفُسُ؛ فَإِنَّ اتِّبَاعَ الظَّن جَهْلٌ، وَاتِّبَاعَ هَوَى النَّفْسِ بِغَيْرِ هُدًى مِن اللهِ ظُلْمٌ.

وَجِمَاعُ الشَّرِّ: الْجَهْلُ وَالظُّلْمُ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] إلَى آخِرِ السُّورَةِ.

وَمِمَّا يَنْبَغِي أَيْضًا أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الطَّوَائِفَ الْمُنْتَسِبَةَ إلَى مَتْبُوعِينَ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَالْكَلَامِ عَلَى دَرَجَاتٍ: مِنْهُم مَن يَكُونُ قَد خَالَفَ السُّنَّةَ فِي أُصُولٍ عَظِيمَةٍ، وَمِنْهُم مَن يَكونُ إنَّمَا خَالَفَ السُّنَّةَ فِي أمُورٍ دَقِيقَةٍ.

وَمَن يَكُونُ قَد رَدَّ عَلَى غَيْرِهِ مِن الطَّوَائِفِ الَّذِينَ هُم أَبْعَدُ عَن السُّنَّةِ مِنْهُ: فَيَكونُ مَحْمُودًا فِيمَا رَدَّهُ مِن الْبَاطِلِ وَقَالَهُ مِن الْحَقِّ.

لَكِنْ يَكُونُ قَد جَاوَزَ الْعَدْلَ فِي رَدِّهِ بِحَيْثُ جَحَدَ بَعْضَ الْحَقِّ وَقَالَ بَعْضَ الْبَاطِلِ

(2)

، فَيَكُونُ قَد رَدَّ بِدْعَةً كَبِيرَةً بِبِدْعَةٍ أَخَفَّ مِنْهَا، وَرَدَّ بِالْبَاطِلِ بَاطِلًا بِبَاطِلٍ أَخَفَّ مِنْهُ، وَهَذِهِ حَالُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.

(1)

قول الشيخ: فَمَن جَعَلَ شَخْصًا مِن .. إلى هنا هو من أنفس الكلام وأحسنه، وأكثر الخلافات التي نراها بين الأفراد والجماعات الإسلامية سببها الإخلال بما قرره الشيخ هنا.

فينبغي نشر هذا الكلام، وجعلُه قاعدةً يسير عليها المسلم.

(2)

أما إذا كان الردُّ صوابًا، ولم يجحد حقًّا: فقد أحسن، وهو محمودٌ كما قال الشيخ رحمه الله تعالى.

ص: 295

وَمِثْلُ هَؤُلَاءِ إذَا لَمْ يَجْعَلُوا مَا ابْتَدَعُوهُ قَوْلًا يُفَارِقُونَ بِهِ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ يُوَالُونَ عَلَيْهِ وَيُعَادُونَ: كَانَ مِن نَوْعِ الْخَطَأِ، وَاللهُ سبحانه وتعالى يَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ خَطَأَهُم فِي مِثْل ذَلِكَ.

وَلهَذَا وَقَعَ فِي مِثْل هَذَا كَثِيرٌ مِن سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا، لَهُم مَقَالَات قَالُوهَا بِاجْتِهَاد، وَهِيَ تُخَالِفُ مَا ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

بِخِلَافِ مَن وَالَى مُوَافِقَهُ وَعَادَى مُخَالِفَهُ، وَفَرَّقَ بَيْنَ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَكفَّرَ وَفَسَّقَ مُخَالِفَهُ دُونَ مُوَافِقِهِ فِي مَسَائِلِ الْآرَاءِ وَالِاجْتِهَادَاتِ، وَاسْتَحَلَّ قِتَالَ مُخَالِفِهِ دُونَ مُوَافِقِهِ: فَهَؤُلَاءِ مِن أَهْلِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافَاتِ.

وَلهَذَا كَانَ أَوَّلَ مَن فَارَقَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ مِن أَهْلِ الْبِدَعِ الْخَوَارجُ الْمَارِقُونَ.

وَقَد قَاتَلَهُم أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَمِيرِ الْمؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.

وَقَد كَانَ أَوَّلُهُم خَرَجَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَأَى قِسْمَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَا مُحَمَّدُ اعْدِلْ فَإِنَّك لَمْ تَعْدِلْ

(1)

.

فَكَانَ مَبْدَأُ الْبِدَعِ هُوَ الطَّعْنَ فِي السُّنَّةِ بِالظَّنِّ وَالْهَوَى؛ كَمَا طَعَنَ إبْلِيسُ فِي أَمْرِ رَبِّهِ بِرَأيِهِ وَهَوَاهُ.

وَأَمَّا تَعْيِينُ الْفِرَقِ الْهَالِكَةِ فَأَقْدَمُ مَن بَلَغَنَا أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي تَضْلِيلِهِمْ يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ ثُمَّ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَهُمَا -إمَامَانِ جَلِيلَانِ مِن أَجِلَّاءِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ- قَالَا: أُصُولُ الْبِدَع أَرْبَعَةٌ: الرَّوَافِضُ وَالْخَوَارجَ وَالْقَدَرِّيَة وَالْمُرْجِئَةُ، فَقِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ: وَالْجَهْمِيَّة؟ فَأَجَابَ بِأَنَّ أُولَئِكَ لَيْسُوا مِن أُمَّةِ مُحَمَّدٍ.

وَفَصْلُ الْخِطَابِ فِي هَذَا الْبَابِ بِذِكْرِ أَصْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْكَافِرَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِن أَهْلِ الصَّلَاةِ لَا يَكُونُ إلَّا

(1)

رواه مسلم (1063).

ص: 296

مُنَافِقًا

(1)

.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَأَهْلُ الْبِدَعِ فِيهِم الْمُنَافِقُ الزِّنْدِيقُ، فَهَذَا كَافِرٌ.

ويكْثُرُ مِثْلُ هَذَا فِي الرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّة؛ فَإِنَّ رُؤَسَاءَهُم كَانُوا مُنَافِقِينَ زَنَادِقَةً، وَأَوَّلُ مَن ابْتَدَع الرَّفْضَ كَانَ مُنَافِقًا.

وَكَذَلِكَ التَّجَهُّمُ فَإِنَّ أَصْلَهُ زَنْدَقَةٌ وَنِفَاقٌ؛ وَلهَذَا كَانَ الزَّنَادِقَةُ الْمُنَافِقُونَ مِن الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَأَمْثَالِهِمْ يَمِيلُونَ إلَى الرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّة لِقرْبِهِم مِنْهُمْ.

وَمِن أَهْلِ الْبِدَعِ مَن يَكُونُ فِيهِ إيمَانٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا

(2)

، لَكِنْ فِيهِ جَهْلٌ وَظُلْمٌ، حَتَّى أَخْطَأَ مَا أَخْطَأَ مِن السُّنَّةِ، فَهَذَا لَيْسَ بِكَافِر وَلَا مُنَافِقٍ.

ثُمَّ:

أ- قَد يَكُونُ مِنْهُ عُدْوَانٌ وَظُلْمٌ يَكُونُ بِهِ فَاسِقًا أَو عَاصِيًا.

ب- وَقَد يَكونُ مُخْطِئًا مُتَأَوِّلًا مَغْفُورًا لَهُ خَطَؤُهُ.

ج- وَقَد يَكون مَعَ ذَلِكَ مَعَهُ مِن الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى مَا يَكُونُ مَعَهُ مِن وِلَايَةِ اللهِ بِقَدْرِ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ.

فَهَذَا أَحَدُ الْأَصْلَيْنِ.

وَالْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَقَالَةَ تَكُونُ كُفْرًا؛ كَجَحْدِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ، وَتَحْلِيلِ الزنى وَالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَنِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ.

ثُمَّ الْقَائِلُ بِهَا قَد يَكُونُ بِحَيْثُ لَمْ يَبْلُغْهُ الْخِطَابُ، وَكَذَا لَا يكفرُ بِهِ

(1)

فيُعامل معاملة المنافقين؛ كحال الرافضة الذين لا يُظهرون الرفض المحض في مجتمعات أهل السُّنَّة والجماعة.

(2)

تأمل: مبتدع يكون فيه إيمان ظاهرًا وباطنًا!! وهذه الجملة لو لم تصدر من شيخ الإسلام لأنكرها من أنكرها، لكنه الخبير بعلوم الشريعة وأسرارها ومقاصدها.

وعلى هذا: فلا يجوز بغض المبتدع مطلقًا، والقسوة عليه، وعدم قبول الحق الذي يصدر منه، بل يجب النظر في نوع البدعة وحال المبتدع.

ص: 297

جَاحِدُهُ؛ كَمَن هُوَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، أَو نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ لَمْ تَبْلُغْهُ شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ: فَهَذَا لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ بِجَحْدِ شَيْءٍ مِمَّا أُنْزلَ عَلَى الرَّسُولِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَى الرَّسُولِ.

وَمَقَالَاتُ الْجَهْمِيَّة هِيَ مِن هَذَا النَّوْعِ؛ فَإِنَّهَا جَحْدٌ لِمَا هُوَ الرَّبُّ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَلمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ.

وَتُغَلَّظ مَقَالَاتُهُم مِن ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ النُّصُوصَ الْمُخَالِفَةَ لِقَوْلِهِمْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ كَثِيرَةٌ جِدًّا مَشْهُورَةٌ، وَإِنَّمَا يَرُدُّونَهَا بِالتَّحْرِيفِ.

الثَّانِي: أَنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ تَعْطِيلُ الصَّانِعِ، وَإِن كَانَ مِنْهُم مَن لَا يَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُم مُسْتَلْزِمٌ تَعْطِيلَ الصَّانِعِ، فَكَمَا أنَّ أَصْلَ الْإِيمَانِ الْإِقْرَارُ باللهِ فَأَصْل الْكُفْرِ الْإِنْكَارُ للهِ.

الثَّالِثُ: أَنَّهُم يُخَالِفُونَ مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْمِلَلُ كُلُّهَا، وَأَهْلُ الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ كُلِّهَا.

لَكِنْ مَعَ هَذَا قَد يَخْفَى كَثِيرٌ مِن مَقَالَاتِهِمْ عَلَى كَثِيرٍ مِن أَهْلِ الْإِيمَانِ، حَتَّى يَظُنَّ أَن الْحَقَّ مَعَهُمْ؛ لِمَا يُورِدُونَهُ مِن الشُّبُهَاتِ.

ويكُونُ أُولَئِكَ الْمُؤمِنُونَ مُؤْمِنِينَ باللهِ وَرَسُولِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا

(1)

، وَإِنَّمَا الْتَبَسَ عَلَيْهِم وَاشْتَبَهَ هَذَا، كَمَا الْتَبَسَ عَلَى غَيْرِهِمْ مِن أَصْنَافِ الْمُبْتَدِعَةِ، فَهَؤُلَاءِ

(1)

كلام الشيخ صريحٌ بأنَّ مَن اعتقد ببعض أقوال الجهمية الكفرية الظاهرة الكفر: مؤمنون بالله ورسوله باطنًا وظاهرًا، فليسوا كفارًا، وهذا تصريح منه بمنع القول بتكفير جميع الأعيان الذين يقولون بشيء من أقوال الجهمية.

لكن الشيخ لم يقل: كلها؛ لأن منها ما لا يخفى على أهل الإيمان، كاعتقاد أن الله تعالى في كل مكان بذاته، في الحشوش والأماكن القذرة ونحوها، فهذا لا شك أن من اعتقد ذلك يكفر.

وهكذا يُقال في الرافضة، فمن خفي على أحد من أهل الإيمان بعض مقالاتهم واعتقد صحتها فلا يكفر مثلهم، إلا إذا اعتقد ما لا يخفى؛ كاعتقاد تحريف القرآن وتكفير الصحابة إلا نزرًا يسيرًا.

ص: 298

لَيْسُوا كُفَّارًا قَطْعًا؛ بَل قَد يَكُونُ مِنْهُم الْفَاسِقُ وَالْعَاصِي، وَقَد يَكُونُ مِنْهُم الْمُخْطِئُ الْمَغْفُورُ لَهُ، وَقَد يَكُونُ مَعَهُ مِن الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى مَا يَكُونُ مَعَهُ بِهِ مِن وِلَايَةِ اللهِ بِقَدْرِ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ.

وَأَصْلُ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ الَّذِي فَارَقُوا بِهِ الْخَوَارجَ وَالْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةَ وَالْمُرْجِئَةَ: أَنَّ الْإِيمَانَ يَتَفَاضَلُ وَيتَبَعَّضُ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "يَخْرُجُ مِن النَّارِ مَن كَانَ في قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِن إيمَانٍ"

(1)

.

وَحِينَئِذٍ فَتَتَفَاضَلُ وِلَايَةُ اللهِ وَتَتَبَعَّضُ بِحَسَبِ ذَلِكَ.

وَإِذَا عُرِفَ أصْلُ الْبِدَعِ فَأَصْلُ قَوْلِ الْخَوَارجِ:

أ- أَنَّهُمُ يُكَفِّرُونَ بِالذَّنْبِ.

ب- وَيَعْتَقِدُونَ ذَنْبًا مَا لَيْسَ بِذَنْبٍ.

ج- وَيرَوْنَ اتِّبَاعَ الْكِتَابِ دُونَ السُّنَّةِ الَّتِي تُخَالِفُ ظَاهِرَ الْكِتَابِ -وَإِن كَانَت مُتَوَاتِرَةً-.

د- ويُكَفِّرُونَ مَن خَالَفَهُم وَيَسْتَحِلُّونَ مِنْهُ لِارْتِدَادِهِ عِنْدَهُم مَا لَا يَسْتَحِلُّونَهُ مِن الْكَافِرِ الْأصْلِيِّ؛ كَمَا قَالَ النَبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهِمْ: "يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ"

(2)

؛ وَلهَذَا كَفَّرُوا عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَشِيعَتَهُمَا، وَكَفَّرُوا أَهْلَ صفين - الطَّائِفَتَيْنِ- فِي نَحْوِ ذَلِكَ مِن الْمَقَالَاتِ الْخَبِيثَةِ.

وَأَصْلُ قَوْلِ الرَّافِضَةِ:

أ- أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَصَّ عَلَى عَلِيٍّ نَصًّا قَاطِعًا لِلْعُذْرِ.

ب- وَأنَّهُ إمَامٌ مَعْصُومٌ وَمَن خَالَفَهُ كَفَرَ.

ج- وَأنَّ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأنْصَارَ كَتَمُوا النَّصَّ وَكَفَرُوا بِالْإِمَامِ الْمَعْصُومِ،

(1)

رواه الترمذي (1999)، وقال: حسن صحيح غريب.

(2)

رواه البخاري (3344)، ومسلم (1064).

ص: 299

وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ، وَبَدَّلُوا الدِّينَ، وَغَيَّرُوا الشَّرِيعَةَ، وَظَلَمُوا وَاعْتَدَوْا؛ بَل كَفَرُوا إلَّا نَفَرًا قَلِيلًا، بِضْعَةَ عَشَر أَو أَكْثَرَ، ثُمَّ يَقُولُونَ: إنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَنَحْوَهُمَا مَا زَالَا مُنَافِقَيْنِ، وَقَد يَقُولُونَ: بَل آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا.

وَأَكْثَرُهُم يُكَفِّرُ مَن خَالَفَ قَوْلَهُمْ، ويُسَمُّونَ أَنْفُسَهُم الْمُؤْمِنِينَ، وَمَن خَالَفَفم كُفَّارًا.

وَيَجْعَلُونَ مَدَائِنَ الْإِسْلَامِ الَّتِي لَا تَظْهَرُ فِيهَا أَقْوَالُهُم دَارَ رِدَّةٍ، أَسْوَأَ حَالًا، مِن مَدَائِنِ الْمُشْرِكِينَ وَالنَّصَارَى.

وَلهَذَا يُوَالُونَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ عَلَى بَعْضِ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَى مُعَادَاتِهِمْ وَمُحَارَبَتِهِمْ؛ كَمَا عُرِفَ مِن مُوَالَاتِهِم الْكُفَّارَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَمِن مُوَالَاتِهِم الْإِفْرِنْجَ النَّصَارَى عَلَى جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَمِن مُوَالَاتِهِم الْيَهُودَ عَلَى جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ.

وَمِنْهُم ظَهَرَتْ أُمَّهَاتُ الزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ؛ كَزَنْدَقَةِ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ.

وَلَا ريْبَ أَنَّهُم أَبْعَدُ طَوَائِفِ الْمُبْتَدِعَةِ عَن الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

وَلهَذَا كَانُوا هُم الْمَشْهُورِينَ عِنْدَ الْعَامَّةِ بِالْمُخَالَفَةِ لِلسُّنَّةِ، فَجُمْهُورُ الْعَامَّةِ لَا تَعْرِفُ ضِدَّ السُّنِّيِّ إلَّا الرَّافِضِيَّ، فَإِذَا قَالَ أَحَدُهُم: أَنَا سُنِّيٌّ، فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: لَسْت رافضيًّا.

وَأَمَّا الْقَدَرِيَّةُ الْمَحْضَةُ فَهُم خَيْرٌ مِن هَؤُلَاءِ بِكَثِير، وَأَقْرَبُ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَغَيْرَهُم مِن الْقَدَرِيَّةِ هُم جهمية أَيْضًا.

وَأَمَّا الْمُرْجِئَةُ فَلَيْسُوا مِن هَذ الْبِدَعِ الْمُغَلَّظَةِ؛ بَل قَد دَخَلَ فِي قَوْلِهِمْ طَوَائِفُ مِن أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْعِبَادَةِ، وَمَا كَانُوا يُعَدّونَ إلَّا مِن أَهْلِ السُّنَّةِ، حَتَّى تغلظ أَمْرُهُم بِمَا زَادُوهُ مِن الْأَقْوَالِ الْمُغَلَّظَةِ. [3/ 345 - 357]

* * *

ص: 300

(كفر من جعل في أحد نَوْعًا مِن الْإِلهِيَّةِ)

334 -

كُلُّ مَن غَلَا فِي حَيٍّ أَو فِي رَجُلٍ صَالِحٍ .. وَجَعَلَ فِيهِ نَوْعًا مِن الْإِلَهِيَّةِ؛ مِثْل أَنْ يَقُولَ: كُلُّ رِزْقٍ لَا يَرْزُقُنِيهِ الشَّيْخُ فُلَانٌ مَا أُرِيدُهُ، أَو يَقُولَ إذَا ذَبَحَ شَاةً: بِاسْمِ سَيِّدِي، أَو يَعْبُدُهُ بِالسُّجُودِ لَهُ، أَو لِغَيْرِهِ، أَو يَدْعُوهُ مِن دُونِ اللهِ تَعَالَى؛ مِثْل أَنْ يَقُولَ: يَا سَيِّدِي فُلَانُ اغْفِرْ لِي أَو ارْحَمْنِي أَو اُنْصُرْنِي، أَو اُرْزُقْنِي، أَو أَغِثْنِي، أَو أَجِرْنِي، أَو تَوَكَّلْت عَلَيْك، أَو أَنْتَ حَسْبِي، أَو أَنَا فِي حَسْبِك، أَو نَحْو هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَال الَّتِي هِيَ مِن خَصَائِصِ الرُّبُوبِيةِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ إلَّا للهِ تَعَالَى، فَكُلُّ هَذَا شِرْكٌ وَضَلَالٌ، يُسْتَتَابُ صَاحِبُهُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، فَإِنَّ اللهَ إَّنمَا أَرْسَلَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا نَجْعَلَ مَعَ اللهِ إلَهًا آخَرَ.

وَاَلَّذِينَ كَانُوا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى: لَمْ يَكونُوا يَعْتَقِدُونَ أَنّهَا تَخْلُقُ الْخَلَائِقَ، أَو أَنَّهَا تُنْزِلُ الْمَطَرَ، أَو أَنَّهَا تنْبِتُ النَّبَاتَ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمَلَائِكَةَ وَالْكوَاكِبَ وَالْجِنَّ وَالتَّمَاثِيلَ الْمُصَوَّرَةَ لِهَؤلَاءِ، أَو يَعْبُدُونَ قُبُورَهُم وَيقُولُونَ: إنَّمَا نَعْبُدُهُم لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللهِ زُلْفَى، وَيقُولُونَ: هُم شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ، فَأرْسَلَ اللهُ رُسُلَهُ تَنْهَى أَنْ يُدْعَى أَحَدٌ مِن دُونِهِ؛ لَا دُعَاءَ عِبَادَةٍ وَلَا دُعَاءَ اسْتِغَاثَةٍ. [3/ 395 - 396]

* * *

(عِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ: هِيَ أَصْل الدِّينِ)

335 -

عِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ: هِيَ أَصْلُ الدِّينِ، وَهُوَ التَّوْحِيدُ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ بِهِ الْكُتُبَ فَقَالَ تَعَالَى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].

وَلهَذَا كَانَت كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ أَفْضَلَ الْكَلَامِ وَأَعْظَمَهُ، فَأَعْظَمُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ آيَةُ الْكُرْسِيِّ {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255]،

ص: 301

وقَالَ صلى الله عليه وسلم "مَن كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ"

(1)

.

وَالْإِلَهُ: الَّذِي يَأْلَهُهُ الْقَلْبُ عِبَادَةً لَهُ، وَاسْتِعَانَةً، وَرَجَاءً لَهُ، وَخَشْيَةً، وَإِجْلَالًا، وَإِكْرَامًا. [3/ 397 - 400]

* * *

(حكم إعراب القرآن وتجويده ونقطه)

336 -

الْقُرْآنُ كَلَامُ اللهِ بِحُرُوفِهِ وَنَظْمِهِ وَمَعَانِيهِ، كُلُّ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ اللهِ.

وَإِعْرَابُ الْحُرُوفِ

(2)

هُوَ مِن تَمَامِ الْحُرُوفِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَن قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَعْرَبَهُ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشَرُ حَسَنَاتٍ"

(3)

.

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما: حِفْظُ إعْرَابِ الْقُرْآنِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِن حِفْظِ بَعْضِ حُرُوفِهِ

(4)

.

وَإِذَا كَتَبَ الْمُسْلِمُونَ مُصْحَفًا فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ لَا يُنَقِّطُوهُ وَلَا يُشَكِّلُوهُ جَازَ ذَلِكَ؛ كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَكْتُبُونَ الْمَصَاحِفَ مِن غَيْرِ تَنْقِيطٍ وَلَا تَشْكِيلٍ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا عَرَبًا لَا يَلْحَنُونَ.

(1)

رواه أبو داود (3116)، وأحمد (22034)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود.

(2)

أي: نطق الحروف مشكلة، وصحيحة الإعراب.

(3)

رواه الطبراني (7574)، قال في مجمع الزوائد (11655): فِيهِ نَهْشَلٌ وَهُوَ مَتْرُوكٌ. وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (2348): "موضوع".

(4)

نقل العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة: (2348) عن أبي الربيع سليمان بن سبع في كتابه "شفاء الصدور"(4/ 17/ 2) قوله:

"معنى قوله: "ولم يعرب منه شيئًا"؛ أي: أرسله إرسالًا، ولم يقف عند رؤوس الآي، ويمر عليها، ولا يعطي الحروف حقها من الأعراب، لشدة هذه، ولم يرد أنه يلحن حتى يغير المعاني".

قال الألباني: وإن مما لا شك فيه أن إعراب القرآن وقراءته -كما ذكر- من الوقوف على رؤوس الآي -كما هو السُّنَّة-، وإعطاء الحروف حقها، وإخراجها من مخارجها -حسبما هو مقرر في علم التلاوة والتجويد- أمرٌ مهم.

وقد صح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

لأن أقرأ آية بإعراب أحب إلي من أن أقرأ كذا وكذا آية بغير إعراب.

أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(10/ 457/ 9967) بسند صحيح، رجاله كلهم ثقات. اهـ.

ص: 302

وَهَكَذَا هِيَ الْمَصَاحِفُ الَّتِي بَعَثَ بِهَا عُثْمَانُ رضي الله عنه إلَى الْأَمْصَارِ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ.

ثُمَّ فَشَا "اللَّحْنُ" فَنُقِّطَت الْمَصَاحِفُ وَشُكِّلَتْ بِالنُّقَطِ الْحُمْرِ، ثُمَّ شُكِّلَتْ بِمِثْل خَطِّ الْحُرُوفِ، فَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي كَرَاهَةِ ذَلِكَ.

وَالصَّحِيحُ أنَّه لَا بَأْسَ بِهِ. [3/ 401 - 402]

* * *

(الاِقْتِصَادُ وَالِاعْتِدَالُ فِي أَمْرِ الصَّحَابَةِ والْقَرَابَةِ، والتحذير من امْتِحَانِ الْمُسْلِمِينَ بِرجل أو مسألة ونحو ذلك)

337 -

يَجِبُ الِاقْتِصَادُ وَالِاعْتِدَالُ فِي أَمْرِ الصَّحَابَةِ وَالْقَرَابَةِ رضي الله عنهم؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى أَثْنَى عَلَى أَصْحَابِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم مِن السَّابِقِينَ وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَانٍ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ رَضِيَ عَنْهُم وَرَضُوا عَنْهُ، وَذَكَرَهُم فِي آيَاتٍ مِن كِتَابِهِ.

وَقَد اتَّفَقَ عَامَّة أَهْلِ السُّنَّةِ مِن الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْأجْنَادِ عَلَى أَنْ يَقُولُوا: أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ ثُمَّ عَلِيٌّ رضي الله عنهم.

وَكَذَلِكَ نُؤْمِنُ بِالْإِمْسَاكِ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، وَنَعْلَمُ أَنَ بَعْضَ الْمَنْقُولِ فِي ذَلِكَ كَذِبٌ.

وَهُم كَانُوا مُجْتَهِدِينَ؛ إمَّا مُصِيبِينَ لَهُم أَجْرَانِ، أَو مُثَابِينَ عَلَى عَمَلِهِم الصَّالِحِ مَغْفُورٌ لَهُم خَطَؤُهُمْ.

وَمَا كَانَ لَهُم مِن السَّيِّئَاتِ -وَقَد سَبَقَ لَهُم مِن اللهِ الْحُسْنَى- فَإِنَّ اللهَ يَغْفِرُهَا لَهُمْ؛ إمَّا بِتَوْبَة، أَو بِحَسَنَات مَاحِيَةٍ، أَو مَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ، أَو غَيْرِ ذَلِكَ.

وَنَعْلَمُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه كَانَ أَفْضَلَ وَأَقْرَبَ إلَى الْحَقِّ مِن مُعَاوِيةَ وَمِمَن قَاتَلَهُ مَعَهُ؛ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ

(1)

عَن أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِن الْمُسْلِمِينَ تَقْتُلُهُم أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ".

(1)

رواه البخاري (6163)، ومسلم (1065)، واللفظ له.

ص: 303

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَعَ كُلِّ طَائِفَةٍ حَقٌّ، وَأَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه أَقْرَبُ إلَى الْحَقِّ.

وَأَمَّا الَّذِينَ قَعَدُوا عَن الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ؛ كَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَغَيْرِهِمَا رضي الله عنه: فَاِتَّبَعُوا النُّصُوصَ الَّتِي سَمِعُوهَا فِي ذَلِكَ عَن الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ

(1)

.

وَكَذَلِكَ آلُ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لَهُم مِن الْحُقُوفِ مَا يَجِبُ رِعَايَتُهَا؛ فَإِنَّ اللهَ جَعَلَ لَهُم حَقًّا فِي الْخُمُسِ وَالْفَيْءِ، وَأَمَرَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِم مَعَ الصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَنَا:"قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ"

(2)

.

وَآلُ مُحَمَّدٍ: هُم الَّذِينَ حَرُمَتْ عَلَيْهِم الصَّدَقَةُ، هَكَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا مِن الْعُلَمَاءِ رحمهم الله؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّد وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ"

(3)

.

وَقَد كَانَت الْفِتْنَةُ لَمَّا وَقَعَتْ بِقَتْلِ عُثْمَانَ وَافْتِرَاقِ الْأُمَّةِ بَعْدَهُ: صَارَ قَوْمٌ مِمَن يُحِبُّ عُثْمَانَ ويغْلُو فِيهِ يَنْحَرِفُ عَن عَلِيِّ رضي الله عنه؛ مِثْلُ كَثِيرٍ مِن أَهْلِ الشَّامِ مِمَن كَانَ إذ ذَاكَ يَسُبُّ عَلِيًّا رضي الله عنه ويُبْغِضُهُ.

وَقَوْمٌ مِمَن يُحِبُّ عَلِيًّا رضي الله عنه وَيغْلُو فِيهِ يَنْحَرِفُ عَن عُثْمَانَ رضي الله عنه؛ مِثْلُ كَثِيرٍ مِن أَهْلِ الْعِرَاقِ مِمَن كَانَ يُبْغِضُ عُثْمَانَ وَيَسُبُّهُ رضي الله عنه.

ثُمَّ تغلظت بِدْعَتُهُم بَعْدَ ذَلِكَ، حَتَّى سَبُّوا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما، وَزَاد الْبَلَاءُ بِهِم حِينَئِذٍ.

فَهَذَا مَوْضِعٌ يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَتَثَبَّتَ فِيهِ، وَيَعْتَصِمَ بِحَبْلِ اللهِ؛ فَإِنَّ السُّنَّةَ مَبْنَاهَا عَلَى الْعِلْمِ، وَالْعَدْلِ، وَالِاتِّبَاعِ لِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.

(1)

وهو الذي اختاره الشيخ رحمه الله في مواضع أخرى.

(2)

رواه البخاري (3370)، ومسلم (406).

(3)

رواه النسائي (2612)، وأحمد (7758).

ص: 304

وَلَمْ يَكُن أَحَدٌ إذ ذَاكَ يَتَكَلَّم فِي يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَلَا كَانَ الْكلَامُ فِيهِ مِن الدِّينِ، ثُمَّ حَدَثَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أَشْيَاءُ، فَصَارَ قَوْمٌ يُظْهِرُونَ لَعْنَةَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوَيةَ، وَرُبَّمَا كَانَ غَرَضُهُم بِذَلِكَ التَّطَرُّقَ إلَى لَعْنَةِ غَيْرِهِ، فَكَرِهَ أَكْثَرُ أَهْلِ السُّنَّةِ لَعْنَةَ أَحَدٍ بِعَيْنِهِ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ قَوْمٌ مِمَن كَانَ يَتَسَنَّنُ؛ فَاعْتَقَدَ أَنَّ يَزِيدَ كَانَ مِن كِبَارِ الصَّالِحِينَ وَأَئِمَّةِ الْهُدَى، وَصَارَ الْغُلَاةُ فِيهِ عَلَى طَرَفَيْ نَقِيضِ.

وَهَذَا الْغُلُوُّ فِي يَزِيدَ مِن الطَّرَفَيْنِ خِلَافٌ لِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ.

فَإِنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيةَ وُلدَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ بْنِ عفان رضي الله عنه، وَلَمْ يُدْرِك النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا كَانَ مِن الصَّحَابَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَلَا كَانَ مِن الْمَشْهُورِينَ بِالدِّينِ وَالصَّلَاحِ، وَكَانَ مِن شُبَّانِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا كَانَ كَافِرًا وَلَا زِنْدِيقًا، وَتَوَلَّى بَعْدَ أَبِيهِ عَلَى كَرَاهَةٍ مِن بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ وَرضى مِن بَعْضِهِمْ، وَكَانَ فِيهِ شَجَاعَةٌ وَكَرَمٌ، وَلَمْ يَكن مُظْهِرًا لِلْفَوَاحِشِ كَمَا يَحْكِي عَنْهُ خُصُومُهُ.

وَجَرَتْ فِي إمَارَتِهِ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ:

أَحَدُهَا: مَقْتَل الْحُسَيْنِ رضي الله عنه، وَهُوَ لَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِ الْحُسَيْنِ وَلَا أَظْهَرَ الْفَرَحَ بِقَتْلِهِ، وَلَا نَكَّتَ بِالْقَضِيبِ عَلَى ثَنَايَاهُ رضي الله عنه، وَلَا حَمَلَ رَأْسَ الْحُسَيْنِ رضي الله عنه إلَى الشَّامِ، لَكِنْ أَمَرَ بِمَنْعِ الْحُسَيْنِ رضي الله عنه وَبِدَفْعِهِ عَن الأمْرِ وَلَو كَانَ بِقِتَالِهِ.

فَزَادَ النُّوَّابُ عَلَى أَمْرِهِ.

فَطَلَبَ مِنْهُم الْحُسَيْنُ رضي الله عنه أَنْ يَجِيءَ إلَى يَزِيدَ أَو يَذْهَبَ إلَى الثَّغْرِ مُرَابِطًا أَو يَعُودَ إلَى مَكَةَ، فَمَنَعُوهُ رضي الله عنه إلَّا أَنْ يَسْتَأْسِرَ لَهُمْ، وَأَمَرَ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ بِقِتَالِهِ- فَقَتَلُوهُ مَظْلُومًا- لَهُ وَلطَائِفَة مِن أَهْلِ بَيْتِهِ رضي الله عنهم.

وَكَانَ قَتْلُهُ رضي الله عنه مِن الْمَصَائِبِ الْعَظِيمَةِ؛ فَإِنَّ قَتْلَ الْحُسَيْنِ وَقَتْلَ عُثْمَانَ قَبْلَة: كَانَا مِن أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْفِتَنِ فِي هَذِهِ الْأمَّةِ، وَقَتَلَتُهُمَا مِن شِرَارِ الْخَلْقِ عِنْدَ اللهِ.

وَلَمَّا قَدِمَ أَهْلُهُم رضي الله عنهم عَلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوَيةَ أَكْرَمَهُم وَسَيَّرَهم إلَى الْمَدِينَةِ،

ص: 305

وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَعَنَ ابْنَ زِيادٍ عَلَى قَتْلِهِ وَقَالَ: كُنْت أَرْضَى مِن طَاعَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ بِدُونِ قَتْلِ الْحُسَيْنِ.

لَكِنَّهُ مَعَ هَذَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ إنْكَارُ قَتْلِهِ، وَالِانْتِصَارُ لَهُ وَالْأَخْذُ بِثَأرِهِ، كَانَ هُوَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ، فَصارَ أَهْلُ الْحَقِّ يَلُومُونَهُ عَلَى تَرْكِهِ لِلْوَاجِبِ مُضَافًا إلَى أُمُورٍ أُخْرَى.

وَأَمَّا خصُومُهُ فَيَزِيدُونَ عَلَيْهِ مِن الْفِرْيَةِ أَشْيَاءَ.

وَأمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي: فَإِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ نَقَضُوا بَيْعَتَهُ، وَأَخْرَجُوا نُوَّابَهُ وَأَهْلَهُ، فَبَعَثَ إلَيْهِم جَيْشًا، وَأَمَرَهُ إذَا لَمْ يُطِيعُوهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ أَنْ يَدْخُلَهَا بِالسَّيْفِ، وَيُبِيحَهَا ثَلَاثًا، فَصَارَ عَسْكَرُهُ فِي الْمَدِينَةِ النَّبّوَيَّةِ ثَلَاثًا، يَقْتُلُونَ وينْهَبُونَ وَيَفْتَضُّونَ الْفُرُوجَ الْمُحَرَّمَةَ

(1)

.

(1)

وكان ذلك سنة ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ للهجرة، قال ابن كثير رحمه الله: أبَاحَ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ، الَّذِي يَقُولُ فِيهِ السَّلف مسرف بن عقبة -قبحه الله من شيخ سوءٍ ما أجهله- المدينة ثلاثةَ أَيَّامٍ كَمَا أمَرَهُ يَزِيدُ، لَا جَزَاهُ اللهُ خَيْرًا، وَقَتَلَ خَلْقًا مِن أَشْرَافِهَا وَقُرَّائِهَا، وَانْتَهَبَ أمْوَالًا كَثِيرَةً مِنْهَا، وَوَقَعَ شرٌّ عَظِيمٌ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ.

قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: وَأَبَاحَ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ الْمَدِينَةَ ثلاثة أيام، يقتلون من وجدوا من النَّاسَ، وَيَأُخُذُونَ الْأمْوَالَ.

وَوَقَعُوا عَلَى النِّسَاءِ حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ حَبلَتْ أَلْفُ امْرَأَةٍ فِي تلك الأيام من غير زوج. اهـ. البداية والنهاية (8/ 241).

قلت: وإذا كان هذا فعل هذا الأمير الفاجر، وبأمر من أمير المؤمنين، وهو ابن صحابي جليل، ومعدود من التابعين، وفي أشرف القرون، وفيه الكثير من الصحابة وجلة التابعين، ومع ذلك استباح مدينة رسول الله، وفيها بعض الصحابة وأولادهم، واستُبيحت فروج كثير من النساء، وحصل قتلٌ وتشريد، وظلم وبغي: فما بالك بفعل من بعده من الملوك والأمراء بمن خرج عليهم لانتزاع الملك منهم، وأهل المدينة لم يريدوا انتزاع الملك من أمير المؤمنين، وإنما نزعوا الطاعة من أمير المدينة، فكيف بمن ينزع طاعة الحاكم ويشرع في أخذ ملكه وسلطانه!!

فإنه سيفعل أشد الجرائم والإبادة للحفاظ على ملكه، وقد رأينا ورأى الناس أمثال هؤلاء؛ ولذلك حرم الاسلام الخروج على وليّ الأمر المسلم وإنْ كان فاجرًا؛ لِمَا يترتب على ذلك من المفاسد العظيمة.

ص: 306

5 ثُمَّ أَرْسَلَ جَيْشًا إلَى مَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ فَحَاصَرُوا مَكَّةَ، وَتوُفِّيَ يَزِيدُ وَهُم مُحَاصِرُونَ مَكَّةَ، وَهَذَا مِن الْعُدْوَانِ وَالظُّلْمِ الَّذِي فُعِلَ بِأَمْرِهِ.

وَلهَذَا كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ مُعْتَقَدُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَئِمَّةِ الْأُمَّةِ أَنَّهُ لَا يُسَبُّ وَلَا يُحَبُّ، قَالَ صَالِحُ بْن أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: قُلْت لِأَبِي: إنَّ قَوْمًا يَقُوُلونَ: إنَّهُم يُحِبُّونَ يَزِيدَ، قَالَ: يَا بُنَيَّ وَهَل يُحِبُّ يَزِيدَ أَحَدٌ يُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؟

فَقُلْت: يَا أَبَتِ فَلِمَاذَا لَا تلعنه؟

قَالَ: وَمَتَى رَأَيْت أَبَاك يَلْعَنُ أَحَدًا؟

فَيَزِيدُ عِنْدَ عُلَمَاءِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَلِكٌ مِن الْمُلُوكِ، لَا يُحِبُّونَهُ مَحَبَّةَ الصَّالِحِينَ وَأَوْليَاءِ اللهِ، وَلَا يَسُبُّونَهُ؛ فَإِنَّهُم لَا يُحِبُّونَ لَعْنَةَ الْمُسْلِمِ الْمُعينِ؛ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ"

(1)

عَن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُدْعَى حِمَارًا، وَكَانَ يُكْثِرُ شُرْبَ الْخَمْرِ، وَكَانَ كُلَّمَا أُتِيَ بِهِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَعَنَهُ الله مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"لَا تَلْعَنْهُ؛ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ".

وَمَعَ هَذَا فَطَائِفَةٌ مِن أَهْلِ السُّنَّةِ يُجِيزُونَ لَعْنَهُ؛ لِأنَّهُم يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ فَعَلَ مِن الظُّلْمِ مَا يَجُوزُ لَعْنُ فَاعِلِهِ.

وَطَائِفَةٌ أُخْرَى تَرَى مَحَبَّتَهُ؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ تَوَلَّى عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ وَبَايَعَهُ الصَّحَابَةُ، وَيقُوُلُونَ: لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ مَا نُقِلَ عَنْهُ، وَكَانَت لَهُ مَحَاسِنُ، أَو كَانَ مُجْتَهِدًا فِيمَا فَعَلَه.

وَالصَّوَابُ هُوَ مَا عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ: مِن أَنَّهُ لَا يُخَصُّ بِمَحَبَّةٍ وَلَا يُلْعَنُ.

وَمَعَ هَذَا فَإِنْ كَانَ فَاسِقًا أَو ظَالِمًا فَاللَّهُ يَغْفِرُ لِلْفَاسِقِ وَالظَّالِمِ لَا سِيَّمَا إذَا أَتَى بِحَسَنَات عَظِيمَةٍ.

(1)

(6780).

ص: 307

وَقَد رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ"

(1)

عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَوَّلُ جَيْشٍ يَغْزُو الْقُسْطَنْطِينِية مَغْفُورٌ لَهُ"، وَأَوَّلُ جَيْشٍ غَزَاهَا كَانَ أَمِيرُهُم يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ مَعَهُ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ" رضي الله عنه.

فَالْوَاجِبُ الِاقْتِصَارُ فِي ذَلِكَ، وَالْإِعْرَاضُ عَن ذِكْرِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيةَ وَامْتِحَانِ الْمُسْلِمِينَ بِهِ؛ فَإِنَّ هَذَا مِن الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ

(2)

. [3/ 405 - 414]

* * *

(حكم الانتماء والانتساب إلى طائفة أو شيخ؟، والْمُوَالَاة وَالْمُعَادَاة بِغَيْرِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي عَلَّقَ اللهُ بِهَا ذَلِكَ)

(3)

338 -

لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا فِي الْآثَارِ الْمَعْرُوفَةِ عَن

(1)

(2924)، ولفظه:"أوَّلُ جَيْشٍ مِن أُمَّتِى يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ".

(2)

كذلك لا يجوز امتحان الناس بغيره، كمن يمتحن أحدًا بمحبة أو بغض فلان من العلماء أو المصلحين أو الدعاة، فهذا كما قال الشيخ: مِن الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.

وقد حذر الشيخ من هذا المنهج والسلوك السقيم في مواضع كثيرة، منها قوله رحمه الله في نصيحته لأهل البحرين الذين حصل بينهم خلاف فى مسألة رؤية الكفار دثه تعالى في عرصات يوم القيامة: لَا يَنْبَغِي لِأهْلِ الْعِلْم أنْ يَجْعَلُوا هَذهِ الْمَسْألَةَ مِحْنَةً وَشِعَارًا، يُفَضِّلُونَ بِهَا بَيْنَ إخْوَانِهِمْ وَأضْدَادِهِمْ؛ فَإِنَّ مِثْل هَذَا مِمَّا يَكْرَهُهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَكَذَلِكَ لَا يُفَاتِحُوا فِيهَا عَوَامَّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُم فِي عَافِيَةٍ وَسَلَام عَن الْفِتَنِ. اهـ. (6/ 504).

ومن ذلك قوله في مسألة التسمي بأسماء لم يُسمّ الله بها: فَلَا يَجُوزُ لِأحَدٍ أَنْ يَمْتَحِنَ النَّاسَ بِهَا، وَلَا يُوَالِىَ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَلَا يُعَادِيَ عَلَيْهَا. اهـ. (3/ 416).

(3)

منهج أهل السُّنَّة والجماعة في هذا الباب:

أولًا: عدم الانتساب لأيّ فرقة وجماعة والتعصب لها، ولكنهم يقبلون الحق من أيّ أحد كان، ولا يردونه إذا جاء من مبتاع أو من انتسب إلى أي جماعة وحزب، قال شيخ الإسلام رحمه الله: وَنَحْنُ إِنَّمَا نَرُدُّ مِنْ أَقْوَالِ هَذَا -أي: الحليّ الرافضي- وَغَيْرِهِ مَا كَانَ بَاطِلًا، وَأمَّا الْحَقُّ فَعَلَيْنَا أنْ نَقْبَلَهُ مِنْ كُلِّ قَائِلٍ، وَلَيْسَ لِأحَدٍ أَنْ يَرُدُّ بِدْعَةً بِبِدْعَةٍ، وَلَا يُقَابِلَ بَاطِلًا بِبَاطِلٍ. اهـ. منهاج السُّنَّة النبوية (3/ 77).

ثانيًا: عدم ظلم مَن رُدّ عليه بحق؛ برميه بما ليس فيه، وبتقويله ما لم يقله، والزيادة على ما يستحقّه.=

ص: 308

سَلَفِ الْأَئِمَّةِ لَا شُكيلي وَلَا قرفندي

(1)

.

وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ إذَا سُئِلَ عَن ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: لَا أَنَا شكيلي وَلَا قرفندي؛ بَل أَنَا مُسْلِمٌ مُتَّبعٌ لِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ

(2)

.

= فلا يجوز أن يعاقب شخص بأكثر مما يستحقه شرعًا، وإذا كان لا يجوز ذلك في ألفاظ الجرح، فكيف بالمعاملة؟!

ثالثًا: التفريق بين درجات البدع، فالمبتاع بدعة خفيّة، لا يُعامل كما يُعامل المبتدع بدعة ظاهرة.

ومن البدع الخفية: المسائل التي لم تبلغ درجة التواتر بين أهل العلم، وحصل فيها خلاف، قال شيخ الإسلام رحمه الله: تَوَاتَرَ عِنْدَ الْخَاصَّةِ -مِن أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْهُ- الْحُكْمُ بِالشُّفْعَةِ، وَتَحْلِيفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَرَجْمُ الزَّانِي الْمُحْصَنِ، وَاعْتِبَارُ النِّصَابِ فِي السَّرِقَةِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِن الْأحْكَام الَّتِي يُنَازِعُهُم فِيهَا بَعْضُ أَهْلِ الْبِدَعِ.

وَلهَذَا كانَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ مُتَّفَّقِينَ عَلَى تَبْدِيعِ مَن خَالَفَ فِي مِثْل هَذِهِ الْأُصُولِ، بِخِلَافِ مَن نَازَع فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ التِي لَمْ تَبْلُغْ هَذَا الْمَبْلَغَ فِي تَوَاتُرِ السُّنَنِ عَنْهُ؛ كَالتَّنازُعِ بَيْنَهُم فِي الْحُكْمِ بِشَاهِدٍ وَيمِينٍ، وَفِي الْقُسَامَةِ، وَالْقُرْعَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن الْأمُورِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ هَذَا الْمَبْلَغَ.

وَأَمَّا "عُثْمَان وَعَلِيٌّ": فَهَذِهِ دُونَ تِلْكَ؛ فَإِنَّ هَذ كَانَ قَد حَصَلَ فِيهَا نِزَاعٌ.

رابعًا: التفريق بين لا يدعو إلى بدعته، وبين من يدعو إليها.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فَرَّقَ جُمْهُورُ الْأئِمَّةِ بَيْنَ الدَّاعِيَةِ وَغَيْر الدَّاعِيَةِ؛ فَإِنَّ الدَّاعِيَةَ أظْهَرَ الْمُنْكَرَ فَاسْتَحَقَّ الْاِنْكَارَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ السَّاكِتِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَن أسَرَّ بِالذَّنْبِ فَهَذَا لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ فِي الظَّاهِر". اهـ.

خامسًا: أَنْ يَكُونَ الرّدُّ عليهم على وجْهِ النُّصْحِ وابْتغاءِ وجْهِ الله تعالى لا لِهَوَى الشَّخْصِ معَ الْإِنْسانِ.

سادسًا: أنّ الِاعْتِصَامَ بِالْجَمَاعَةِ والائتلاف مِن أُصُولِ الدِّينِ المعلومة من الدين بالضرورة، فلا يجوز السعي في نقض هذا الأصل بأيّ شكل من أشكال الفرقة إلا بأصل يُقابل ذلك الأصل، ودليل صحيح صريح لا يقبل التأويل، والسب والقدح في أحد من أهل السُّنَّة من الفرقة، وسيُسأل القادح يوم القيامة عن حجته في قدحه الذي خرم به الألفة والجماعة.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: إِنَّ الِاعْتِصَامَ بِالْجَمَاعَةِ والائتلاف مِن أصُولِ الدِّينِ، وَالْفَرْعُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ مِن الْفُرُوعِ الْخَفِيَّةِ، فَكيْفَ "يقْدَحُ فِي الْأَصْلِ بِحِفْظِ الْفَرْعِ؟. اهـ.

(1)

هذه أسماء ينتسب إليها بعض الناس؛ كالأشعرية والصوفية ونحوها، والله أعلم.

(2)

كذلك يُقال في هذا الزمان: لا ينبغي الانتساب إلى أيّ جماعة والتقيّد بها، وإذا كان مع الانتساب تعصُّبٌ فهذا حرام قطعًا، قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: لا يجوز أبدًا أن يتفرق المسلمون، فيكون هذا تبليغي، وهذا سلفي، وهذا إخواني، وهذا جهادي، وهذه جماعة إسلامية، هذا يدخل في قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي=

ص: 309

وَقَد رَويْنَا عَن مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ: أَنَّهُ سَألَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَقَالَ: أَنْتَ عَلَى مِلَّةِ عَلِيِّ أَو مِلَّةِ عُثْمَانَ؟

فَقَالَ: لَسْتُ عَلَى مِلَّةِ عَلِيٍّ وَلَا عَلَى مِلَّةِ عُثْمَانَ؛ بَل أَنَا عَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

وَكَذَلِكَ كَانَ كُلُّ مِن السَّلَفِ يَقُولُونَ: كُلُّ هَذِهِ الْأهْوَاءِ فِي النَّارِ.

= شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159]، ويكون ارتكابًا لما نهى الله عنه؛ لقول الله تبارك وتعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] هؤلاء لم يعتصموا بحبل الله جميعًا وتفرقوا. اهـ. دروس وفتاوى الحرم المدني (1/ 36).

وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: والبصير الصادق: يضرب في كل غنيمة بسهم، ويعاشر كل طائفة على أحسن ما معها، ولا يَتحيَّز إلى طائفة ويَنْأى عن الأخرى بالكلية: أن لا يكون معها شيء من الحق.

فهذه طريقة الصادقين، ودعوى الجاهلية كامنة في النفوس.

سمع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته قائلًا يقول: يا للمهاجرين، وآخر يقول: ياللأنصار! فقال: (ما بال دعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم". هذا وهما اسمان شريفان سماهم الله بهما في كتابه، فنهاهم عن ذلك، وأرشدهم إلى أن يتداعوا بالمسلمين، والمؤمنين، وعباد الله، وهي الدعوى الجامعة. بخلاف المفرقة كالفلانية والفلانية؛ فالله المستعان. ولا يذوق العبد حلاوة الإيمان، وطعم الصدق واليقين، حتى تخرج الجاهلية كلها من قلبه.

وقد سئل بعض الأئمة عن السُّنَّة فقال: ما لا اسم له سوى (السُّنَّة).

يعني: أن أهل السُّنَّة ليس لهم اسم يُنسبون إليه سواها.

فمن الناس من يتقيَّد بلباس لا يلبس غيره، أو بالجلوس في مكان لا يجلس في غيره، أو مِشية لا يمشي غيرها، أو بزِيٍّ وهيئة لا يخرج عنهما، أو عبادة معينة لا يتعبد بغيرها، وإن كانت أعلى منها، أو شيخ معين لا يلتفت إلى غيره، وإن كان أقرب إلى الله ورسوله منه، فهؤلاء كلهم محجوبون عن الظَّفر بالمطلوب الأعلى، مصدودون عنه، قد قيدتهم العوائد والرسوم والأوضاع والاصطلاحات عن تجريد المتابعة؛ فأضحوا عنها بمعزل، ومنزلتهم منها أبعد منزل.

وأيضًا: فإنهم لم يتقيَّدوا بعمل واحد يجري عليهم اسمه، فيُعرفون به دون غيره من الأعمال؛ فإن هذا آفة في العبودية، وهي عبودية مقيدة، وأما العبودية المطلقة: فلا يُعرف صاحبها باسم معين من معاني أسمائها، فإنه مجيب لداعيها على اختلاف أنواعها، فله مع كل أهل عبودية نصيب يضرب معهم بسهم، فلا يتقيد برسم، ولا إشارة، ولا اسم، ولا بزي، ولا طريق وضعي اصطلاحي، بل إن سُئل عن شيخه قال: الرسول، وعن طريقه قال: الإتباع، وعن مذهبه قال: تحكيم السُّنَّة، وعن مقصوده ومطلبه قال:{يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]. اهـ. مدارج السالكين (2/ 370، 3/ 174).

ص: 310

ويقُولُ أَحَدُهُم: مَا أُبَالِي أَيُّ النِّعْمَتَيْنِ أَعْظَمُ؟ عَلَى أَنْ هَدَانِي اللهُ لِلْإِسْلَامِ، أَو أَنْ جَنَّبنِي هَذ الْأَهْوَاءَ.

وَاللهُ تَعَالَى قَد سَمَّانَا فِي الْقُرْآنِ الْمُسْلِمِينَ، الْمُؤْمِنِينَ، عِبَادَ اللهِ، فَلَا نَعْدِلُ عَن الْأَسْمَاءِ الَّتِي سَمَّانَا اللهُ بِهَا إلَى أَسْمَاء أَحْدَثَهَا قَوْمٌ -وَسَمَّوْهَا هُم وَآبَاؤُهُم- مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ.

بَل الْأَسْمَاءُ الَّتِي قَد يَسُوغُ التَّسَمِّي بِهَا: مِثْل انْتِسَابِ النَّاسِ إلَى إمَامٍ كَالْحَنَفِيِّ وَالْمَالِكِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَالْحَنْبَلِيِّ، أَو إلَى شَيْخٍ كَالْقَادِرِيِّ والعدوي وَنَحْوِهِمْ، أَو مِثْل الِانْتِسَاب إلَى الْقَبَائِلِ؛ كَالْقَيْسِيِّ وَالْيَمَانِيِّ، وَإِلَى الْأَمْصارِ كَالشَّامِيِّ وَالْعِرَاقِيِّ وَالْمِصْرِيِّ

(1)

.

فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْتَحِنَ النَّاسَ بِهَا، وَلَا يُوَالِيَ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَلَا يُعَادِيَ عَلَيْهَا

(2)

؛ بَل أَكْرَمُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاهُم مِن أَيِّ طَائِفَةٍ كَانَ.

وَاللهُ سُبْحَانَهُ قَد أَوْجَبَ مُوَالَاةَ الْمُومِنِينَ بَعْضهُم لِبَعْض، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِم مُعَادَاةَ الْكَافِرِينَ.

فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55]

(3)

.

(1)

ذكر الشيخ أنه في هذه الحالة قد يسوغ التسمي بهذه الأسماء، وذلك في حالة عدم التعصب لمن انتسب إليه، وعدمِ عيبِ من عاداه، وعدمِ أخذه أقواله على جهة التسليم، وإذا كان بخلاف ذلك فلا يسوغ.

(2)

هذه الحالة التي لا يسوغ التسمي بهذه الأسماء.

(3)

قال الشيخ رحمه الله: يأمر سبحانه بموالاة المؤمنين حقًّا -الذين هم حزبه وجنده- ويخبر أن هؤلاء لا يوالون الكافرين ولا يوادونهم.

والموالاة والموادة: وإن كانت متعلقة بالقلب، لكن المخالفة في الظاهر أعون على مقاطعة الكافرين ومباينتهم.

ومشاركتهم في الظاهر: إن لم تكن ذريعة أو سببًا قريبًا أو بعيدًا إلى نوع مَّا من الموالاة والموادة، فليس فيها مصلحة المقاطعة والمباينة، مع أنها تدعو إلى نوع ما من المواصلة -كما توجبه الطبيعة وتدل عليه العادة- ولهذا كان السلف رضي الله عنهم يستدلّون بهذه الآيات على ترك الاستعانة بهم في الولايات. اقتضاء الصراط المستقيم:(ص 184).

ص: 311

فَقَد أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ وَليَّ الْمُؤْمِنِ هُوَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَعِبَادُهُ الْمُؤْمِنِينَ

(1)

، وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلَّ مُؤمِنٍ مَوْصُوفٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، سَوَاءٌ كَانَ مِن أَهْلِ نِسْبَةٍ، أَو بَلْدَةٍ، أَو مَذْهَبٍ، أَو طَرِيقَةٍ، أَو لَمْ يَكُنْ.

وَكَيْفَ يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْأُمَّةِ بِأَسْمَاء مُبْتَدَعَةٍ لَا أَصْلَ لَهَا فِى كِتَاب اللهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم؟

وَهَذَا التَّفْرِيقُ الَّذِي حَصَلَ مِن الْأُمَّةِ؛ عُلَمَائِهَا وَمَشَايِخِهَا، وَأُمَرَائِهَا وَكُبَرَائِهَا: هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ تَسَلُّطَ الْأعْدَاءِ عَلَيْهَا؛ وَذَلِكَ بِتَرْكِهِم الْعَمَلَ بِطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة: 14].

فَمَتَى تَرَكَ النَّاسُ بَعْضَ مَا أَمَرَهُم اللهُ بِهِ: وَقَعَتْ بَيْنَهُم الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ، وَإِذَا تَفَرَّقَ الْقَوْمُ فَسَدُوا وَهَلَكُوا، وَإِذَا اجْتَمَعُوا صَلَحُوا وَمَلَكُوا؛ فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ رَحْمَةٌ وَالْفُرْقَةَ عَذَابٌ.

وَجِمَاعُ ذَلِكَ: فِي الْأمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَن الْمُنْكَرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران: 104].

فَمِن الْأمْرِ بِالْمَعْرُوفِ: الْأَمْرُ بالائتلاف وَالِاجْتِمَاعِ، وَالنَّهْيُ عَن الِاخْتِلَافِ وَالْفُرْقَةِ.

وَمِن النَّهْيِ عَن الْمُنْكَرِ: إقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى مَن خَرَجَ مِن شَرِيعَةِ اللهِ تَعَالَى. [3/ 415 - 422]

339 -

مَن نَصَّبَ شَخْصًا كَائِنًا مَن كَانَ، فَوَالَى وَعَادَى عَلَى مُوَافَقَتِهِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ فَهُوَ {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} الْآيَةَ [الروم: 32].

(1)

هكذا بالنصب في جميع المصادر، والسياق يقتضي الرفع؛ لأن (المؤمنون) صفة (وَعِبَادُهُ)، والصفة تتبع الموصوف. والله أعلم.

ص: 312

وَإِذَا تَفَقَّهَ الرَّجُلُ وَتَأَدَّبَ بِطَرِيقَةِ قَوْمٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِثْل اتِّبَاعِ الْأَئِمَّةِ وَالْمَشَايخِ: فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ قُدْوَتَهُ وَأَصْحَابَهُ هُمُ الْعِيَارُ، فَيُوَالِي مَن وَافَقَهُمْ، ويُعَادِي مَن خَالَفَهُمْ.

فَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُعَوِّدَ نَفْسَهُ التَّفَقُّهَ الْبَاطِنَ فِي قَلْبِهِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَهَذَا زَاجِرٌ.

وَكَمَائِنُ الْقُلُوبِ تَظْهَرُ عِنْدَ الْمِحَنِ

(1)

.

وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَدْعُوَ إلَى مَقَالَةٍ أَو يَعْتَقِدَهَا لِكَوْنِهَا قَوْلَ أَصْحَابِهِ، وَلَا يُنَاجِزَ عَلَيْهَا؛ بَل لِأَجْلِ أَنَّهَا مِمَّا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، أَو أَخْبَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ؛ لِكَوْنِ ذَلِكَ طَاعَةً للهِ وَرَسُولِهِ

(2)

. [20/ 8 - 9]

340 -

تَجِدُ قَوْمًا كَثِيرِينَ يُحِبُّونَ قَوْمًا وَيُبْغِضُونَ قَوْمًا لِأَجْلِ أَهْوَاءٍ لَا يَعْرِفُونَ مَعْنَاهَا وَلَا دَلِيلَهَا؛ بَل يُوَالُونَ عَلَى إطْلَاقِهَا، أَو يُعَادُونَ مِن غَيْرِ أَنْ تَكُونَ مَنْقُولَةً نَقْلًا صَحِيحًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَسَلَفِ الْأُمَّةِ، وَمِن غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا هُم يَعْقِلُونَ مَعْنَاهَا وَلَا يَعْرِفُونَ لَازِمَهَا وَمُقْتَضَاهَا.

وَسَبَبُ هَذَا إطْلَاق أَقْوَالٍ لَيْسَتْ مَنْصُوصَةً، وَجَعْلُهَا مَذَاهِبَ يُدْعَى إلَيْهَا ويُوَالِي ويُعَادِي عَلَيْهَا، وَقَد ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ:"إنَّ أَصْدَقَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللهِ إلَخْ"، فَدِينُ الْمُسْلِمِينَ مَبْنِيُّ عَلَى اتِّبَاعِ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ وَمَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْأمَّةُ، فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ أُصُولٌ مَعْصُومَةٌ، وَمَا تَنَازَعَتْ فِيهِ الْأُمَّةُ رَدُّوهُ إلَى اللهِ وَالرَّسُولِ.

وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ ينَصِّبَ لِلْأُمَّةِ شَخْصًا يَدْعُو إلَى طَرِيقَتِهِ ويُوَالِي وَيُعَادِي

(1)

صدق رحمه الله، فخفايا القلوب وما انطوت عليه من حسد وغلّ وكبر لا تظهر إلا عند المحن، فلا تغترّ بنفسك ولا بأحد حتى تهب رياح المحن والفتن فتكشف الخبايا.

(2)

ولا يكاد يخلو أحدٌ من الناس مما حذر منه الشيخ رحمه الله، فقد ينتصر بعض الناس لمقالة عالم من العلماء، لا لأنَّ الدليل معه، بل لأنه في نظره أعلم وأفقه من غيره، وهذا يُحدث التعصب الأعمى، والتقليل من مكانة النصوص في النفوس.

ص: 313

عَلَيْهَا غَيْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا يُنَصَّبَ لَهُم كَلَامًا يُوَالِي عَلَيْهِ وَيُعَادِي غَيْرَ كَلَامِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ؛ بَل هَذَا مِن فِعْلِ أَهْلِ الْبِدَعِ الَّذِينَ يُنَصِّبُونَ لَهُم شَخْصًا أَو كَلَامًا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ يُوَالُونَ بِهِ عَلَى ذَلِكَ الْكَلَامِ أَو تِلْكَ النِّسْبَةِ وَيُعَادُونَ

(1)

. [20/ 163 - 164]

341 -

لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُعَلِّقَ الْحَمْدَ وَالذَّمَّ وَالْحُبَّ وَالْبُغْضَ وَالْمُوَالَاةَ وَالْمُعَادَاةَ وَالصَّلَاةَ

(2)

وَاللَّعْنَ بغَيْرِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي عَلَّقَ اللهُ بِهَا ذَلِكَ؛ مِثْل أَسْمَاءِ الْقَبَائِلِ وَالْمَدَائِنِ وَالْمَذَاهِبِ

(3)

وَالطَّرَائِقِ الْمُضَافَةِ إلَى الْأَئِمَّةِ وَالْمَشَايِخِ، وَنَحْو ذَلِكَ مِمَّا يرَادُ بِهِ التَّعْرِيفُ، كمَا قَالَ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وَقَالَ تَعَالَى:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)} [يونس: 62].

وَالِانْتِسَابُ إلَى عَالِمٍ أَوْ شَيْخٍ: إنَّمَا يُقْصَدُ بِهَا التَّعْرِيفُ بِهِ لِيَتَمَيَّزَ عَنْ غَيْرِهِ، فَأَمَّا الْحَمْدُ وَالذَّمُّ وَالْحُبُّ وَالْبُغْضُ وَالْمُوَالَاةُ وَالْمُعَادَاةُ فَإِنَّمَا تَكُون بِالْأَشْيَاءِ الَّتِي أَنْزَلَ اللهُ بِهَا سُلْطَانَهُ، وَسُلْطَانُهُ كِتَابُهُ، فَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا وَجَبَتْ مُوَالَاتُهُ مِنْ أَيِّ صِنْفٍ كَانَ، وَمَنْ كَانَ كَافِرًا وَجَبَتْ مُعَادَاتُهُ مِنْ أَيِّ صِنْفٍ كَانَ

(4)

، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)} [المائدة: 55]، وَقَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا

(1)

تأمل هذا الكلام الثمين، فهو يُقرر قاعدتين عظيمتين:

القاعدة الأولى: أنه لا يجوز لأحدٍ أنْ ينصب للأمة شخصًا يدعو إلى طريقته، ويوالي ويعادي عليها، غير النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز له أنْ يجعل الشيخ الفلاني هو الحق، ومن عداه أو خالفه في بعض آرائه على الباطل.

القاعدة الثانية: أنه لا يجوز لأحدٍ أنْ ينصب للأمة كلامًا يوالي عليه ويعادي، غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة.

(2)

أي: الدعاء.

(3)

والجماعة والأحزاب.

(4)

ولو كان ينتسب إلى أهل السُّنَّة والجماعة.

ص: 314

الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51]، وَقَالَ تَعَالَى:{لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1].

وَمَنْ كَانَ فِيهِ إيمَانٌ وَفِيهِ فُجُورٌ: أُعْطِيَ مِن الْمُوَالَاةِ بِحَسَبِ إيمَانِهِ، وَمِن الْبُغْضِ بِحَسَبِ فُجُورِهِ، وَلَا يَخْرُجُ مِن الْإِيمَانِ بِالْكُلِّيَةِ بِمُجَرَّدِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي كَمَا يَقُولُهُ الْخَوَارجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ، وَلَا يُجْعَلُ الْأَنْبِيَاءُ وَالصِّدّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَالصَّالِحُونَ بِمَنْزِلَةِ الْفُسَّاق فِي الْإِيمَانِ وَالدِّينِ وَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَالْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [لحجرات: 9، 10] فَجَعَلَهُمْ إخْوَةً مَعَ وُجُودِ الِاقْتِتَالِ وَالْبَغْيِ. [28/ 227 - 229]

* * *

(حكم من كفَّر المسلمين)

342 -

مَن كَفَّرَ الْمُسْلِمِينَ أَو اسْتَحَلَّ دِمَاءَهُم وَأمْوَالَهُم بِبِدْعَة ابْتَدَعَهَا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ: فَإِنَّهُ يَجِبُ نَهْيُهُ عَن ذَلِكَ وَعُقُوبَتُهُ بِمَا يَزْجُرُهُ وَلَو بِالْقَتْلِ أو الْقِتَالِ.

ص: 315

‌كتاب مفصل اعتقاد السلف

‌(فوائد من جواب الشيخ لمن سأله عن مَذْهَب السَّلَفِ فِي الِاعْتِقَادِ وَمَذْهَبِ غَيْرِهِمْ مِن الْمُتَأَخِّرِينَ؟ مَا الصَّوَاب مِنْهُمَا ومن يختار منهما؟ وهَل أَهْل الْحَدِيثِ أَوْلَى بالصَّوَابِ مِن غَيْرِهِمْ؟ وَهَل هُم الْمُرَادُونَ بِالْفِرْقَةِ النَّاجيَةِ؟ وَهَلَ حَدَثَ بَعْدَهُم عُلُومٌ جَهِلُوهَا وَعَلِمَهَاَ غَيْرُهُمْ

؟)

(1)

(منهج السلف في باب الصفات)

343 -

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ

(2)

نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} [النساء: 115]، وَقَد شَهِدَ اللهُ لِأَصْحَابِ نَبِيّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَن تَبِعَهُم بِإِحْسَانٍ بِالْإِيمَانِ،

(1)

وقد قال في بداية الجواب: هَذِهِ الْمَسَائِلُ بَسْطُهَا يَحْتَمِلُ مُجَلَّدَاتٍ، لَكِنْ نُشِيرُ إلَى الْمُهِمِّ مِنْهَا.

ومع أنه ذكر أنه سيشير إلى الجواب مجرد إشارة لا بسط، إلا أنه كعادته لم يتحكم في قلمه، ولم يستطع إيقاف يده، فخطت أناملُه مائةً وتسعين صفحة!! فرحمه الله ذلك العالِمَ النجيب، ذا الفهم والعلم العجيب، فكم كان يمتلك من العلوم العظيمة، والمعارف الواسعة.

وإني أجزم لو أنَّ عالِمًا غيره وخاصةً في العصر الحاضر سُئل نفس السؤال لَمَا تجاوز في الإجابة عدة ورقات، وليس هذا نقصًا في العالم، بل هو المتبادر والمتوقع؛ فيكفي الجوابُ تقريرَ الصواب، وإن أطال فأشار إلى المذاهب الباطلة على جهة الاختصار فذاك نفلٌ وزيادة. ولكن الشيخ خرج عن هذا المعهود، وهذا فضل الله يُؤتيه من يشاء.

(2)

قد تدعي كل فرقةٍ أنها هي المؤمنة، ومن تبع غير سبيلهم دخل في الوعيد.

فيُجاب عن ذلك بما ذكره الشيخ بأنّ هذه الآية: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100]: بيّنت من هم المؤمنون المرضيُّ عنهم، وهم السابقون من الصحابة ومن تبع هديهم، واقتفى أثرهم.

ص: 316

فَعلِمَ قَطْعًا أَنَّهُم الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْكرِيمَةِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100]

(1)

.

فَحَيْثُ تَقَرَّرَ أَنَّ مَن اتَّبعَ غَيْرَ سَبِيلِهِمْ: وَلَّاهُ اللهُ مَا تَوَلَّى وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ.

فَمِن سَبِيلِهمْ فِي الِاعْتِقَادِ: الْإِيمَانُ بِصِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ الَّتِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ وَسَمَّى بِهَا نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَتَنْزِيلِهِ، أَو عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، مِن غَيْرِ زِيادَةٍ عَلَيْهَا وَلَا نَقْصٍ مِنْهَا، وَلَا تَجَاوُزٍ لَهَا وَلَا تَفْسِيرٍ لَهَا، وَلَا تَأْوِيلٍ لَهَا بِمَا يخَالِفُ ظَاهِرَهَا، وَلَا تَشْبِيهٍ لَهَا بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، وَلَا سِمَاتِ المحدَثين؛ بَل أَمَرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ، وَرَدُّوا عِلْمَهَا إلَى قَائِلِهَا، وَمَعْنَاهَا إلَى الْمُتَكَلِّمِ بِهَا.

وَعَلِمُوا أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهَا صَادِقٌ لَا شَكَّ فِي صِدْقِهِ فَصَدَّقُوهُ، وَلَمْ يَعْلَمُوا حَقِيقَةَ مَعْنَاهَا فَسَكَتُوا عَمَّا لَمْ يَعْلَمُوهُ، وَأَخَذَ ذَلِكَ الْآخِرُ عَن الْأَوَّلِ، وَوَصَّى بَعْضُهُم بَعْضًا بِحُسْنِ الِاتِّباعِ، وَالْوُقُوفِ حَيْثُ وَقَفَ أَوَّلُهُمْ، وَحَذَّرُوا مِن التَّجَاوُزِ لَهُمْ، وَالْعُدُولِ عَن طَرِيقَتِهِمْ، وَبَيَّنُوا لَنَا سَبِيلَهُم وَمَذْهَبَهُمْ.

وَنَرْجُو أنْ يَجْعَلَنَا اللهُ تَعَالَى مِمَّن اقْتَدَى بِهِم فِي بَيَانِ مَا بَيَّنُوهُ، وَسُلُوكِ الطَّرِيقِ الَّذِي سَلَكُوهُ

(2)

.

وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَهُم مَا ذَكَرْنَاهُ: أَنَّهُم نَقَلُوا إلَيْنَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ وَأَخْبَارَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَقْلَ مُصَدِّقٍ لَهَا مُؤْمِنٍ بِهَا قَابِلٍ لَهَا، غَيْرِ مُرْتَاب فِيهَا، وَلَا شَاكِّ فِي صِدْقِ قَائِلِهَا، وَلَمْ يُفَسِّرُوا مَا يَتَعَلَّقُ بِالصِّفَاتِ مِنْهَا، وَلَا تَأَوَّلُوهُ، وَلَا شَبَّهُوهُ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ؛ إذ لَو فَعَلُوا شَيْئًا مِن ذَلِكَ لنقِلَ عَنْهُمْ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُكْتَمَ بِالْكُلِّيَّةِ.

(1)

فقد أخبر الله تعالى أنه رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ورضي عمن تبع هديهم وسنتهم ممن جاء بعدهم، ووعدهم بالجنة، فعُلم من هذا: أن رضوان الله وجنته لا ينالها غيرهم، فوجب معرفة هديهم والسير على خُطاهم.

(2)

آمين يا رب العالمين، ونسأل الله لكلّ من قرأ هذا الكلام أن يجعله كذلك بمنه وكرمه سبحانه وتعالى.

ص: 317

إذ لَا يَجُوز التَّوَاطُؤُ عَلَى كِتْمَانِ مَا يُحْتَاجُ إلَى نَقْلِهِ وَمَعْرِفَتِهِ لِجَرَيَانِ ذَلِكَ فِي الْقُبْحِ مَجْرَى التَّوَاطُؤِ عَلَى نَقْلِ الْكَذِبِ وَفِعْلِ مَا لَا يَحِلُّ.

بَل بَلَغَ مِن مُبَالَغَتِهِمْ فِي السُّكُوتِ عَن هَذَا: أَنَّهُم كَانُوا إذَا رَأَوْا مَن يَسْأَلُ عَن الْمُتَشَابِهِ بَالَغُوا فِي كَفِّهِ:

- تَارَةً بِالْقَوْلِ الْعَنِيفِ.

- وَتَارَةً بِالضَّرْبِ.

- وَتَارَةً بِالْإِعْرَاضِ الدَّالِّ عَلَى شِدَّةِ الْكَرَاهَةِ لِمَسْأَلَتِهِ.

وَلَمَّا سُئِلَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5] كَيْفَ اسْتَوَى؟

فَأَطْرَقَ مَالِكٌ وَعَلَاهُ الرُّحَضَاءُ -يَعْنِي الْعَرَقَ- وَانْتَظَرَ الْقَوْمُ مَا يَجِيءُ مِنْهُ فِيهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إلَى السَّائِلِ وَقَالَ:"الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ، وَأَحْسَبُك رَجُلُ سُوْءٍ"، وَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ.

وَهَذَا الْجَوَابُ مِن مَالِكٍ رحمه الله فِي الِاسْتِوَاءِ شَافٍ كَافٍ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ؛ مِثْل النُّزُولِ، وَالْمَجِيءِ، وَالْيَدِ، وَالْوَجْهِ، وَغَيْرِهَا.

فَيُقَالُ فِي مِثْل النُّزولِ: النُّزُولُ مَعْلُومٌ، وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ.

وَهَكَذَا يُقَالُ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ؛ إذ هِيَ بِمَثَابَةِ الِاسْتِوَاءِ الْوَارِدِ بهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.

وَثَبَتَ عَن مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ -صَاحِبِ أَبِي حَنيفَةَ- أَنَّهُ قَالَ: "اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ كُلُّهُم مِن الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الثِّقَاتُ عَن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي صِفَةِ الرَّبِّ عز وجل مِن غَيْرِ تَفْسِيرٍ وَلَا وَصْفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ، فَمَن فَسَّرَ شَيْئًا مِن ذَلِكَ فَقَد خَرَجَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ،

ص: 318

فَإِنَّهُم لَمْ يَصِفُوا وَلَمْ يُفَسِّرُوا، وَلَكِنْ آمَنُوا بِمَا فِي الْكتَابِ وَالسُّنَّةِ ثُمَّ سَكَتُوا، فَمَن قَالَ بِقَوْلِ جَهْمٍ فَقَد فَارَقَ الْجَمَاعَةَ". انْتَهَى.

فَانْظُرْ -رَحِمَك اللهُ- إلَى هَذَا الْإِمَامِ كَيْفَ حَكَى الْإِجْمَاعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَا خَيْرَ فِيمَا خَرَجَ عَن إجْمَاعِهِمْ. [4/ 1 - 5]

* * *

(كلام استحسنه الشيخ لعَبْدِ الْعَريزِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ)

344 -

مَا أَحْسَنَ مَا جَاءَ عَن عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ قَالَ: عَلَيْك بِلُزُومِ السُّنَّةِ؛ فَإِنَّهَا لَك بإِذْنِ اللهِ عِصْمَةٌ؛ فَإِنَّ السُّنَّةَ إنَّمَا جُعِلَتْ لِيُسْتَنَّ بِهَا وَيُقْتَصَرَ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا سَنَّهَاَ

(1)

مَن قَد عَلِمَ مَا فِي خِلَافِهَا مِن الزَّلَلِ وَالْخَطَأ وَالْحُمْقِ وَالتَّعَمُّقِ.

فَارْضَ لِنَفْسِك بمَا رَضُوا بِهِ لِأَنْفُسِهِمْ

(2)

؛ فَإِنَّهُم عَن عِلْمٍ وَقَفُوا

(3)

، وَبِبَصَرٍ نَافِذٍ كَفُّوا

(4)

، وَلَهُمْ

(5)

كَانُوا عَلَى كَشْفِهَا

(6)

أَقْوَى، وَبِتَفْصِيلِهَا لَو كَانَ فِيهَا أَحْرَى.

وَإِنَّهُم لَهُم السَّابِقُونَ، وَقَد بَلَغَفم عَن نَبِيِّهِمْ مَا يَجْرِي مِن الِاخْتِلَافِ بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ، فَلَئِنْ كَانَ الْهُدَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ لَقَد سَبَقْتُمُوهُم إلَيْهِ، وَلَئِنْ قُلْتُمْ حَدَثَ حَدَثٌ بَعْدَهُم فَمَا أَحْدَثَهُ إلَّا مَن اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِهِمْ، وَرَغِبَ بِنَفْسِهِ عَنْهُمْ،

(1)

وهو النبي صلى الله عليه وسلم.

(2)

أي: ارض لنفسك أن تسلك في كل باب من أبواب الدين والشريعة ما قد رضيه أسلاف هذه الأمة لأنفسهم.

(3)

فكما أن الكلام يكون علمًا كذلك السكوت يكون علمًا، فسكوتهم كان عن علم، وليس قصورًا وجهلًا، فلا تُحدث في الدين أمورًا لم يتكلموا فيها؛ فتكون بذلك قد جهَّلتهم وسفهتهم.

(4)

كفوا وامتنعوا عن الخوض في هذه المسائل ببصيرةٍ نافذة.

(5)

اللام موطئة للقسم؛ كأنه قال: والله لهم.

(6)

أي: السُّنَّة.

ص: 319

وَاخْتَارَ مَا نَحَتَهُ فِكْرُهُ عَلَى مَا تَلَقَّوْهُ عَن نَبِيِّهِمْ، وَتَلَقَّاهُ عَنْهُم مَن تَبِعَهُم بِإِحْسَانٍ.

وَلَقَد وَصَفُوا مِنْهُ مَا يَكْفِي، وَتَكَلَّمُوا مِنْهُ بِمَا يَشْفِي، فَمَن دُونَهُم مُقَصِّرٌ، وَمَن فَوْقَهُم مُفْرِطٌ

(1)

، لَقَد قَصَّرَ دُونَهُم أُنَاسٌ فَجَفَوْا، وَطَمَحَ

(2)

آخَرُونَ فَغَلَوْا، وَإِنَّهُم فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ. [4/ 7 - 8]

* * *

(فضل أهل الحديث على غيرهم)

345 -

مِن الْمَعْلُومِ أَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ يُشَارِكُونَ كُلَّ طَائِفَةٍ فِيمَا يَتَحَلَّوْنَ بِهِ مِن صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَيَمْتَازُونَ عَنْهُم بِمَا لَيْسَ عِنْدَهُمْ.

فَإِنَّ الْمُنَارعَ لَهُم لَا بُدَّ أَنْ يَذْكُرَ فِيمَا يُخَالِفُهُم فِيهِ طَرِيقًا أُخْرَى؛ مِثْل الْمَعْقُولِ، وَالْقِيَاسِ، وَالرَّأيِ، وَالْكَلَامِ، وَالنَّظَرِ، وَالِاسْتِدْلَالِ، وَالْمُحَاجَّةِ، وَالْمُجَادَلَةِ، وَالْمُكاشَفَةِ، وَالْمُخَاطَبَةِ، وَالْوَجْدِ، وَالذَّوْقِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَكُلُّ هَذ الطُّرُقِ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ صَفْوَتُهَا وَخُلَاصَتُهَا، فَهُم أَكْمَلُ النَّاسِ عَقْلًا، وَأَعْدَلُهُم قِيَاسًا، وَأَصْوَبُهُم رَأيًا، وَأَسَدُّهُم كَلَامًا، وَأَصَحُّهُم نَظَرًا، وَأَهْدَاهُم اسْتِدْلَالًا، وَأقْوَمُهُم جَدَلًا، وَأَتَمُّهُم فِرَاسَةً، وَأَصْدَقُهُم إلْهَامًا، وَأَحَدُّهُم بَصَرًا وَمُكَاشَفَةً، وَأَصْوَبُهُم سَمْعًا وَمُخَاطَبَةً، وَأَعْظَمُهُم وَأَحْسَنُهُم وَجْدًا وَذَوْقًا.

وَهَذَا

(3)

هُوَ لِلْمُسْلِمِينَ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، وَلِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ الْمِلَلِ.

فَكُلُّ مَن اسْتَقْرَأَ أَحْوَالَ الْعَالَمِ وَجَدَ الْمُسْلِمِينَ أَحَدَّ وَأَسَدَّ عَقْلًا، وَأَنَّهُم

(1)

أي: من أحدث في الدين فلا يخلو من صنفين:

الأول: إما أن يكون إنسانًا مُفَرِّطًا جدًّا فيما كانوا عليه غير تابع لهم.

الثاني: وإما أن يكون إنسانًا جريئًا غاليًا في الدين متنطّعًا، ويتبع سبيل غير المؤمنين.

(2)

أي: تجاوز وتعدى.

(3)

أي: ما تقدّم من الطرق.

ص: 320

يَنَالُونَ فِي الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ مِن حَقَائِقِ الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ أَضْعَافَ مَا يَنَالُهُ غَيْرُهُم فِي قُرُونٍ وَأَجْيَالٍ.

وَكَذَلِكَ أَهْل السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ تَجِدُهُم كَذَلِكَ مُتَمَتِّعِينَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اعْتِقَادَ الْحَقِّ الثَّابِتِ يُقَوِّي الْإِدْرَاكَ وَيُصَحِّحُهُ، قَالَ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17].

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: "آيَةُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ

(1)

يَوْمُ الْجَنَائِزِ"؛ فَإِنَّ الْحَيَاةَ بِسَبَبِ اشْتِرَاكِ النَّاسِ فِي الْمَعَاشِ يُعَظِّمُ الرَّجُلُ طَائِفَتَهُ، فَأَمَّا وَقْتَ الْمَوْتِ فَلَا بُدَّ مِن الِاعْتِرَافِ بِالْحَقِّ مِن عُمُومِ الْخَلْقِ.

وَلهَذَا لَمْ يُعْرَفْ فِي الْإِسْلَامِ مِثْلُ جِنَازَيهِ، مَسَحَ الْمُتَوَكِّلُ مَوْضِعَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَوَجَدَ أَلْفَ أَلْفٍ وَسِتَّمِائَةِ أَلْفٍ، سِوَى مَن صَلَّى فِي الْخَانَاتِ وَالْبُيُوتِ، وَأَسْلَمَ يَوْمَئِذٍ مِن الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عِشْرُونَ أَلْفًا.

وَهُوَ إنَّمَا نَبُلَ عِنْدَ الْأُمَّةِ بِاتِّباَعِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ.

وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَغَيْرُهُمَا إنَّمَا نَبُلُوا فِي الْإِسْلَامِ بِاتّبَاعِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ.

وَكَذَلِكَ مُتَكلِّمَةُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ مِثْل الْكُلَّابِيَة والكَرَّامِيَة وَالْأشْعَرِيَّةِ إنَّمَا قُبِلُوا وَاتُّبِعُوا واستحمدوا إلَى عُمُومِ الْأُمَّةِ بِمَا أَثْبَتُوهُ مِن أُصُولِ الْإِيمَانِ .. وَالرَّدِّ عَلَى الْكُفَّارِ مِن الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَبَيَانِ تَنَاقُضِ حُجَجِهِمْ، وَكَذَلِكَ استحمدوا بِمَا رَدُّوهُ عَلَى الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ مِن أَنْوَاعِ الْمَقَالَاتِ الَّتِي يُخَالِفونَ فِيهَا أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.

فَحَسَنَاتُهُم نَوْعَانِ:

أ- إمَّا مُوَافَقَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ.

ب- وَإِمَّا الرَّدُّ عَلَى مَن خَالَفَ السُّنَّةَ وَالْحَدِيثَ بِبَيَانِ تَنَاقُضِ حُجَجِهِمْ.

(1)

أي: المبتدعة.

ص: 321

وَلَمْ يَتَّبعْ أَحَدٌ مَذْهَبَ الْأَشْعَرِيِّ وَنَحْوَهُ إلَّا لِأَحَدِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ أَو كِلَيْهِمَا.

وَكُلُّ مَن أَحَبَّهُ وَانْتَصَرَ لَهُ مِن الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ فَإِنَّمَا يُحِبُّه وَينْتَصِرُ لَهُ بِذَلِكَ.

فَالْمُصَنِّفُ فِي مَنَاقِبِهِ

(1)

الدَّافِعُ لِلطَّعْنِ وَاللَّعْنِ عَنْهُ؛ كالبيهقي، والقشيري أَبِي الْقَاسِمِ، وَابْنِ عَسَاكِرَ الدِّمَشْقِيِّ: إنَّمَا يَحْتَجُّونَ لِذَلِكَ بِمَا يَقُولُهُ مِن أَقْوَالِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ، أَو بِمَا رَدَّهُ مِن أَقْوَالِ مُخَالِفِيهِمْ، لَا يَحْتَجُّونَ لَهُ عِنْدَ الْأُمَّةِ وَعُلَمَائِهَا وَأُمَرَائِهَا إلَّا بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ. [4/ 9 - 13]

* * *

(فضل الرد على المبتدعة، بشرط الاعتدال في الرد)

346 -

الرَّادُّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَع: مُجَاهِدٌ، حَتَّى كَانَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى يَقُولُ: الذَّبُّ عَن السُّنَّةِ أَفْضَلُ مِن الْجِهَادِ.

وَالْمُجَاهِدُ قَد يَكُونُ عَدْلًا فِي سِيَاسَتِهِ، وَقَد لَا يَكُونُ، وَقَد يَكونُ فِيهِ فُجُورٌ

(2)

. [4/ 13]

* * *

(1)

أي: أبي الحسن الأشعري رحمه الله.

(2)

رحمه الله تعالى، ما أنصفه وأعدله وأحكمه، فحينما أطلق القول بأن الرَّادّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ: مُجَاهِدٌ: استدرك فبيَّن أنّه الرَّادَّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ ليس محمودًا دائمًا، كما أنّ المجاهد ليس محمودًا دائمًا، فمن الْمُجَاهِدين من يَكُون عَدلًا مُنصفًا فِي سِيَاسَتِهِ، وَمنهم من لَا يَكُونُ كذلك، بل قَد يَكُونُ فِيهِ فُجُورٌ وجرأةٌ على الكبائر.

وكذلك الحال في الرد على المبتدعة، فالرادُّ عليهم لا يخلو من ثلاث حالات:

الحالة الأولى: أن يردّ بعدل ورفق وعلم وإخلاص؛ فهذا كالمجاهد الصالح المخلص العادل.

الحالة الثاثية: أن يردّ عليهم بجور وعنف وجهل، ولكن معه إخلاصٌ، فهو كمن يُجاهد لله، ولكنه يظلم ويبطش ويجور.

الحالة الثالثة: أن يردّ عليهم بعدل ورفق وعلم ورياء، فهذا كمن يقاتل رياءً وسمعة.

فالواجب أن يتقي الله كل من يردّ على غيره، ويُراعي الأدب والإخلاص، وألا يردَّ إلا بعلم وحكمة وعدل.

ص: 322

(ذَمَّ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ أَهْلَ الْكَلَامِ)

347 -

ذَمَّ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ أَهْلَ الْكَلَامِ وَالْمُتَكَلِّمِين الصفاتية؛ كَابْنَ كَرَّامٍ وَابْنِ كَلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ. [4/ 14]

348 -

لَا يُعْرَفُ مِن أَهْلِ الْكَلَامِ أحَدٌ إلَّا وَلَهُ فِي الْأِسْلَام مَقَالَةٌ يُكَفِّرُ قَائِلُهَا عُمُومَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى أَصْحَابَهُ، وَفِي التَّعْمِيمِ مَا يُغْنِي عَن التَّعْيِينِ. [4/ 53]

349 -

أَمَّا مُتَكَلِّمَةُ أهْلِ الْإِثْبَاتِ مِن الْكُلَّابِيَة والكرَّامِيَة وَالْأشْعَرِيَّةِ مَعَ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وِأَهْلِ الْحَدِيثِ: فَهَؤُلَاءِ فِي الْجُمْلَةِ لَا يَطْعَنُونَ فِي السَّلَفِ؛ بَل قَد يُوَافِقُونَهُم فِي أَكْثَرِ جُمَلِ مَقَالَاتِهِمْ. [4/ 156]

* * *

(وصف أهل الكلام وحيرتهم)

350 -

قال ابن القيم رحمه الله: وقال لي شيخنا مرة في وصف هؤلاء

(1)

: إِنَّهم طَافُوا عَلى أَربَابِ المَذَاهِب، ففازوا بِأَخسِّ المَطَالب

(2)

. [الفوائد: 105]

* * *

(الكلام عن محاسن الأمين والدولة العباسية والأموية)

351 -

تَجِدُ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ كُلَّمَا ظَهَرَ وَقَوِيَ كَانَت السُّنَّةُ وَأَهْلُهَا أَظْهَرَ وَأقْوَى، وَإِن ظَهَرَ شَيْءٌ مِن الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ ظَهَرَت الْبِدَعُ بِحَسَبِ ذَلِكَ؛ مِثْلُ دَوْلَةِ الْمَهْدِيِّ وَالرَّشِيدِ وَنَحْوِهِمَا مِمَن كَانَ يُعَظِّمُ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ، وَيغْزُو أعْدَاءَهُ مِن الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، كَانَ أهْلُ السُّنَّةِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ أَقْوَى وَأكْثَرَ، وَأهْلُ الْبِدَعِ أَذَلَّ وَأَقَلَّ.

فَإِنَّ الْمَهْدِيَّ قَتَلَ مِن الْمُنَافِقِينَ الزَّنَادِقَةِ مَن لَا يُحْصِي عَدَدَهُ إلَّا اللهُ، وَالرَّشِيدُ كَانَ كَثيرَ الْغَزْوِ وَالْحَجِّ.

(1)

قال في الحاشية: يعني المتكلمين.

(2)

ويُقال كذلك للعلمانيين في هذا الزمان، فقد طافوا على أرباب الفكر والدنيا، ففازوا بأخس المطالب.

ص: 323

وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا انْتَشَرَت الدَّوْلَةُ الْعَبَّاسِيَّةُ، وَكَانَ فِي أَنْصَارِهَا مِن أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْأَعَاجِمِ طَوَائِفُ مِن الَّذِينَ نَعَتَهُم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حيْثُ قَالَ:"الْفِتْنَةُ هَاهُنَا"

(1)

: ظَهَرَ حِينَئذٍ كَثِيرٌ مِن الْبِدَعِ، وَعُرِّبَتْ أَيْضًا إذ ذَاكَ طَائِفَةٌ مِن كُتُبِ الْأَعَاجِمِ- مِن الْمَجُوسِ الْفُرْسِ وَالصَّابِئِينَ الرُّومِ وَالْمُشْرِكِينَ الْهِنْدِ-.

وَكَانَ الْمَهْدِيُّ مِن خِيَارِ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَأَحْسَنِهِمْ إيمَانًا وَعَدْلًا وَجُودًا

(2)

، فَصَارَ يَتَتَبَّعُ الْمُنَافِقِينَ الزَّنَادِقَةَ كَذَلِكَ.

وَكَانَ خُلَفَاءُ بَنِي الْعَبَّاسِ أَحْسَنَ تَعَاهُدًا لِلصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا مِن بَنِي أُمَيَّةَ؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ كَانُوا كَثِيرَ الْإِضَاعَةِ لِمَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ، كَمَا جَاءَت فِيهِم الْأَحَادِيثُ:"سَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَن وَقْتِهَا، فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا وَاجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُم نَافِلَةً"

(3)

.

لَكِنْ كَانَت الْبِدَعُ فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْفَاضلَةِ مَقْمُوعَةً، وَكَانَت الشَرِيعَةُ أَعَزَّ وَأَظْهَرَ، وَكَانَ الْقِيَامُ بِجِهَادِ أَعْدَاءِ الدِّينِ مِن الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ أَعْظَمَ.

وَفِي دَوْلَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمَأْمُونِ: ظَهَرَ "الخُرَّمية"

(4)

وَنَحْوُهُم مِن الْمُنَافِقِينَ، وَعَرَّبَ مَن كُتُبِ الْأَوَائِلِ الْمَجْلُوبَةِ مِن بِلَادِ الرُّومِ مَا انْتَشَرَ بِسَبَبِهِ مَقَالَاتُ الصَّابِئِينَ، وَرَاسَلَ مُلُوكَ الْمُشْرِكِينَ مِن الْهِنْدِ وَنَحْوِهِمْ، حَتَّى صَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُم مَوَدَّةٌ.

(1)

رواه البخاري (3279)، ومسلم (2955).

(2)

وهذا بخلاف ما صوَّره لنا المسعودي في مروج الذهب، حيث ذكر عنه ما يقبح ويشين، وذكر أخاه المأمون بأحسن الأوصاف والأخلاق، والمسعودي في مروجه يُسيء إلى تاريخنا المشرق في كثير من المواضع، ولا أدل على ذلك: من أنه لا يذكر من تاربخ أمراء بين أمية والعباس إلا قصص الحب والغرام واللهو واللعب والمزاح، ولا يذكر فتوحاتهم ومحاسنهم إلا النزر اليسير.

(3)

رواه مسلم (648).

(4)

هم أَتبَاع بابك الخرمي في زمن المأمون سنة 201 هـ، الَّذِي ظهر بنَاحِيَة أذربيجان، وَكَثُر أتْبَاعه، وَكَانَ يسْتَحل المُحرمَات كلهَا، وَهزمَ كثيرًا من عَسَاكِر بني الْعَبَّاس، فِي مُدَّة عشْرين سنة، إِلَى أَن أسر مَعَ أخِيه إِسْحَاق، وصلب بسر من رأى فِي أيَّام المعتصم.

ص: 324

فَلَمَّا ظَهَرَ مَا ظَهَرَ مِن الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَقَوِيَ مَا قَوِيَ مِن حَالِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ: كَانَ مِن أَثَرِ ذَلِكَ مَا ظَهَرَ مِن اسْتِيلَاءِ الْجَهْمِيَّهَ وَالرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ مِن أَهْلِ الضَّلَالِ، وَتَقْرِيبِ الصَّابِئَةِ وَنَحْوِهِمْ مِن الْمُتَفَلْسِفَةِ.

فَتَوَلَّدَ مِن ذَلِكَ مِحْنَةُ الْجَهْمِيَّة، حَتَّى اُمْتُحِنَت الْأُمَّةُ بِنَفْيِ الصِّفَاتِ، وَالتَّكْذِيبِ بِكَلَامِ اللهِ وَرُؤْيتِهِ، وَجَرَى مِن مِحْنَةِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مَا جَرَى مِمَّا يَطُولُ وَصْفُهُ.

وَكَانَ فِي أَيَّامِ الْمُتَوَكِّلِ: قَد عَزَّ الْإِسْلَامُ حَتَّى أُلْزِمَ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِالشُرُوطِ الْعُمَرِيَّةِ، وَأُلْزِمُوا الصَّغَارَ، فَعَزَّت السُّنَّةُ وَالْجَمَاعَةُ، وَقُمِعَت الْجَهْمِيَّة وَالرَّافِضَةُ وَنَحْوُهُمْ. [4/ 20 - 22]

* * *

(ذم الْفَلَاسِفَةَ وَالْمُتَكَلِّمِين، وذكر موقف له في صغره)

352 -

إنَّ الْفَلَاسِفَةَ وَالْمُتَكَلِّمِين مِن أَعْظَمِ بَنِي آدَمَ حَشْوًا وَقَوْلًا لِلْبَاطِلِ، وَتَكْذِيبًا لِلْحَقِّ فِي مَسَائِلِهِمْ وَدَلَائِلِهِمْ، لَا يَكَادُ -وَاللهُ أَعْلَمُ- تَخْلُو لَهُم مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ عَن ذَلِكَ.

وَأَذْكُرُ أَنِّي قُلْت مَرَّةً لِبَعْضِ مَن كَانَ يَنْتَصِرُ لَهُم مِن الْمَشْغُوفِينَ بِهِم -وَأَنَا إذ ذَاكَ صَغِيرٌ قَرِيبُ الْعَهْدِ مِن الِاحْتِلَامِ- كُلُّ مَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ فَفِيهِ بَاطِلٌ:

- إمَّا فِي الدَّلَائِلِ.

- وَإِمَّا فِي الْمَسَائِلِ.

إمَّا أَنْ يَقُولُوا مَسْأَلَةً تَكُونُ حَقًّا لَكِنْ يُقِيمُونَ عَلَيْهَا أَدِلَّةً ضَعِيفَةً

(1)

.

وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ بَاطِلًا

(2)

.

(1)

فهنا: الباطل في الاستدلال، لا في أصل المسألة.

(2)

ولو احتج بدليل صحيح، لكنه لا يصلح للاستدلال في مسألته.

ص: 325

فَأَخَذَ ذَلِكَ الْمَشْغُوفُ بِهِم يُعَظِّمُ هَذَا، وَذَكَرَ مَسْأَلَةَ التَّوْحِيدِ.

فَقُلْت: التَّوْحِيدُ حَقٌّ، لَكِن اُذْكُرْ مَا شِئْت مِن أدِلَّتِهِم الَّتِي تَعْرِفُهَا حَتَّى أَذْكُرَ لَك مَا فِيهِ.

فَذَكَرَ بَعْضَهَا بِحُرُوفِهِ، حَتَّى فَهِمَ الْغَلَطَ، وَذَهَبَ إلَى ابْنِهِ -وَكَانَ أَيْضًا مِن الْمُتَعَصِّبِينَ لَهُم- فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ.

فَأَخَذَ يُعَظِّمُ ذَلِكَ عَلِيَّ، فَقُلْت: أنَا لَا أَشُكُّ فِي التَّوْحِيدِ، وَلَكِنْ أَشُكُّ فِي هَذَا الدَّلِيلِ الْمُعَيَّنِ

(1)

.

وَيَدُلُّك عَلَى ذَلِكَ أمُورٌ:

أَحَدُهَا: أنَّك تَجِدُهُم أعْظَمَ النَّاسِ شَكًّا وَاضْطِرَابًا، وَأَضْعَفَ النَّاسِ عِلْمًا وَيقِينًا، وَهَذَا أمْرٌ يَجِدُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَيشْهَدُهُ النَّاسُ مِنْهُمْ.

وَإِنَّمَا فَضِيلَةُ أحَدِهِمْ: بِاقْتِدَارِهِ عَلَى الِاعْتِرَاضِ وَالْقَدْحِ وَالْجَدَلِ، وَمِن الْمَعْلُومِ أنَّ الِاعْتِرَاضَ وَالْقَدْحَ لَيْسَ بِعِلْم، وَلَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ.

وَأحْسَنُ أحْوَالِ صَاحِبِهِ أنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِّيِّ

(2)

.

وَإِنَّمَا الْعِلْمُ فِي جَوَابِ السُّؤَالِ

(3)

.

وَلهَذَا تَجِدُ غَالِبَ حُجَجِهِمْ تَتَكَافَأُ؛ إذ كُلٌّ مِنْهُم يَقْدَحُ فِي أَدِلَّةِ الْآخَرِ.

حَتَّى قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ: أكْثَرُ الناسِ شَكًّا عِنْدَ الْمَوْتِ أَهْلُ الْكَلَام.

وَهَذَا أبُو عَبْدِ اللهِ الرَّازِي مِن أعْظَمِ النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ -بَابِ الْحِيرَةِ وَالشَّكِّ وَالِاضْطِرَابِ- لَكِنْ هُوَ مُسْرِفٌ فِي هَذَا الْبَابِ؛ بِحَيْثُ لَهُ نَهْمَةٌ فِي

(1)

انظر إلى نبوغه ني صغره، وقوة حججه وهو قريب من البلوغ، حيث يُجادل رجلًا كبيرًا، ويذكر له أنه مستعد أن يُجيب عن أي دليل يحتج به.

(2)

فالعامي قد يُكثر من الجدال والنقاش والاعتراض، بخلاف المتمكن من العلم، فإنه قليل الجدال والاعتراض.

(3)

وهذا هو العلم الحقيقي، ولذلك لا يدل كثرةُ اعتراض الطالب على الشيخ أو جدالهِ في المسائل الدينية على علمه وفهمه.

ص: 326

التَّشْكِيكِ دُونَ التَّحْقِيقِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُحَقِّقُ شَيْئًا وَيثْبُتُ عَلَى نَوْع مِن الْحَقِّ. [4/ 27 - 28]

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّك تَجِدُ أَهْلَ الْكَلَامِ أَكْثَرَ النَّاسِ انْتِقَالًا مِن قَوْلٍ إلَى قَوْلٍ، وَجَزْمًا بِالْقَوْلِ فِي مَوْضِعٍ، وَجَزْمًا بِنَقِيضِهِ وَتَكْفِيرِ قَائِلِهِ فِي مَوْضِع آخَرَ، وَهَذَا دَليلُ عَدَمِ الْيَقِينِ.

فَإِنَّ الْإِيمَانَ كَمَا قَالَ فِيهِ قَيْصَرُ لَمَّا سَأَلَ أَبَا سُفْيَانَ عَمَّن أَسْلَمَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "هَل يَرْجِعُ أَحَدٌ مِنْهُم عَن دِينِهِ سَخْطَةً لَهُ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ إذَا خَالَطَ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ لَا يَسْخَطُهُ أَحَدٌ".

وَلهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ -عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَو غَيْرُهُ-: "مَن جَعَلَ دِينَهُ غَرضى لِلْخُصُومَاتِ أَكْثَرَ التَّنَقُّلَ".

وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ فَمَا يُعْلَمُ أَحَدٌ مِن عُلَمَائِهِمْ وَلَا صَالِحِ عَامَّتِهِمْ رَجَعَ قَطُّ عَن قَوْلِهِ وَاعْتِقَادِهِ؛ بَل هُم أَعْظَمُ النَّاسِ صَبْرًا عَلَى ذَلِكَ، وَإن اُمْتُحِنُوا بِأَنْوَاعِ الْمِحَنِ، وَفُتِنُوا بِأَنْوَاعِ الْفِتَنِ.

وَهَذِهِ حَالُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ مِن الْمُتَقَدِّمِينَ كَأَهْلِ الْأخْدُودِ وَنَحْوِهِمْ، وَكَسَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ مِن الْأئِمَّةِ.

حَتَّى كَانَ مَالِكٌ رحمه الله يَقُولُ: "لَا تَغْبِطُوا أَحَدًا لَمْ يُصِبْهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ بَلَاءٌ".

يَقُولُ: إنَّ اللهَ لَا بُدَّ أَنْ يَبْتَلِيَ الْمُؤْمِنَ، فَإِنْ صَبَرَ رَفَعَ دَرَجَتَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت: 2، 3]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة: 24]

(1)

.

(1)

أخبر تعالى أنه اختار من اصطفى وجعلهم أئمة يُؤتم ويُقتدى بهم، ويهدون الناس بأمر الله لا =

ص: 327

وَمَن صَبَرَ مِن أَهْلِ الْأَهْوَاءِ عَلَى قَوْلِهِ: فَذَاكَ لِمَا فِيهِ مِن الْحَقِّ؛ إذ لَا بُدَّ فِي كُلِّ بِدْعَةٍ -عَلَيْهَا طَائِفَةٌ كَبِيرَةٌ- مِن الْحَقِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم، وُيوَافِقُ عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ: مَا يُوجِبُ قَبُولَهَا؛ إذ الْبَاطِلُ الْمَحْضُ لَا يُقْبَلُ بِحَال.

وَبِالْجُمْلَةِ: فَالثَّبَاتُ وَالِاسْتِقْرَارُ فِي أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ أضْعَافُ أَضْعَافِ أَضْعَافِ مَا هُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ؛ بَل الْمُتَفَلْسِفُ أَعْظَمُ اضْطِرَابًا وَحَيْرَةً فِي أَمْرِهِ مِن الْمُتَكَلِّمِ.

وَأَيْضًا: تَجِدُ أَهْلَ الْفَلْسَفَةِ وَالْكَلَامِ أَعْظَمَ النَّاسِ افْتِرَاقًا وَاخْتِلَافًا .. وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ أَعْظَمُ النَّاسِ اتِّفَاقًا وَائْتِلَافًا.

وَلَسْتَ تَجِدُ اتِّفَاقًا وَائْتِلَافًا إلَّا بِسَبَبِ اتِّبَاع آثَارِ الْأَنْبِيَاءِ مِن الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ، وَلَا تَجِدُ افْتِرَاقًا وَاخْتِلَافًا إلَّا عِنْدَ مَن تَرَكَ ذَلِكَ وَقَدَّمَ غَيْرَهُ عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى:{وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118، 119].

فَأَخْبَرَ أَنَّ أَهْلَ الرَّحْمَةِ لَا يَخْتَلِفُونَ

(1)

، وَأَهْلُ الرَّحْمَةِ هُم أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ قَوْلًا وَفِعْلًا، وَهُم أَهْلُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مِن هَذِهِ الْأمَّةِ، فَمَن خَالَفَهُم فِي شَيْءٍ فَاتَهُ مِن الرَّحْمَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ.

وَأَيْضًا: الْمُخَالِفُونَ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ هُم مَظِنَّةُ فَسَادِ الْأَعْمَالِ:

- إمَّا عَن سَوْءِ عَقِيدَةٍ وَيفَاقٍ.

- وَإِمَّا عَن مَرَضٍ فِي الْقَلْبِ وَضَعْفِ إيمَانٍ.

= بأهوائهم وعقولهم، حينما حققوا شرطي الولاية، وهما: الصبر والثبات على الطاعات والمصيبات، واليقين بالله وبوعده.

(1)

ليس المقصود بنفي الاختلاف: مطلق الخلاف، فلا ريب أن أهل العلم والفضل يختلفون فيما بينهم في مسائل العلم ووجهات النظر، دمانما المقصود بنفي الاختلات: الاختلاف المؤدي إلى التباغض والكراهية والسباب.

ص: 328

فَفِيهِمْ مِن تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ، وَاعْتِدَاءِ الْحُدُودِ، وَالِاسْتِخْفَافِ بِالْحُقُوقِ، وَقَسْوَةِ الْقَلْبِ، مَا هُوَ ظَاهِرٌ لِكُلِّ أحَدٍ.

وَعَامَّةُ شُيُوخِهِمْ يُرْمَوْنَ بِالْعَظَائِمِ، وَإِن كَانَ فِيهِمْ مَن هُوَ مَعْرُوفً بِزُهْد وَعِبَادَةٍ فَفِي زُهْدِ بَعْضِ الْعَامَّةِ مِن أَهْلِ السُّنَّةِ وَعِبَادَتِهِ مَا هُوَ أَرْجَحُ مِمَا هُوَ فِيهِ. [4/ 50 - 53]

* * *

(الله سُبْحَانَهُ خَلَقَ عِبَادَهُ عَلَى الْفِطْرَةِ الَّتِي فِيهَا مَعْرِفَةُ الْحَقِّ والْبَاطِلِ)

353 -

اللهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ عِبَادَهُ عَلَى الْفِطْرَةِ الَّتِي فِيهَا مَعْرِفَةُ الْحَقِّ وَالتَّصْدِيقُ بِهِ، وَمَعْرِفَةُ الْبَاطِلِ وَالتَّكْذِيبُ بِهِ، وَمَعْرِفَةُ النَّافِعِ الْمُلَائِمِ وَالْمَحَبَّةُ لَهُ، وَمَعْرِفَةُ الضارِّ الْمُنَافِي وَالْبُغْضُ لَهُ بِالْفِطْرَةِ.

فَمَا كَانَ حَقًّا مَوْجُودًا صَدَّقَتْ بِهِ الْفِطْرَةُ، وَمَا كَانَ حَقًّا نَافِعًا عَرَفَتْهُ الْفِطْرَةُ فَأَحَبَّتْهُ وَاطْمَأَنَّتْ إلَيْهِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ.

وَمَا كَانَ بَاطِلًا مَعْدُومًا كَذَّبَتْ بِهِ الْفِطْرَةُ فَأَبْغَضَتْهُ الْفِطْرَةُ فَأَنْكَرَتْهُ، قَالَ تَعَالَى:{يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف:157]. [4/ 32]

* * *

(ذِكْرُ اللهِ يعْطِي الْإِيمَانَ)

354 -

ذِكْرُ اللهِ يُعْطِي الْإِيمَانَ، وَهُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ.

وَالْقُرْآنُ يُعْطِي الْعِلْمَ الْمُفَصَّلَ، فَيَزِيدُ الْإِيمَانَ؛ كَمَا قَالَ جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللهِ البجلي وَغَيْرُهُ مِن الصَّحَابَةِ:"تَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَازْدَدْنَا إيمَانًا". [4/ 38]

* * *

ص: 329

(حكاية نَجْمِ الدِّينِ الكُبْريّ مع أَبي عَبْدِ اللهِ الرَّازِي، وَآخَرُ مِن مُتَكَلِّمِي الْمُعْتَزِلَةِ)

355 -

فِي الْحِكايَةِ الْمَحْفُوظَةِ

(1)

عَن نَجْمِ الدِّينِ الكُبْريّ لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ مُتَكَلِّمَانِ أَحَدُهمَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الرَّازِي، وَالْآخَرُ مِن مُتَكَلِّمِي الْمُعْتَزِلَةِ، وَقَالَا: يَا شَيْخُ بَلَغَنَا أَنَّك تَعْلَمُ عِلْمَ الْيَقِينِ؟

فَقَالَ: نَعَمْ، أَنَا أَعْلَمُ عِلْمَ الْيَقِينِ.

فَقَالَا: كَيْفَ يُمْكِنُ ذَلِكَ وَنَحْنُ مِن أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى السَّاعَةِ نتَنَاظَرُ فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدُنَا أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْآخَرِ دَلِيلًا؟ -وَأَظُنُّ الْحِكَايَةَ فِي تَثْبِيتِ الْإِسْلَامِ-

(2)

.

فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا تَقُولَانِ، وَلَكِنْ أَنَا أَعْلَمُ عِلْمَ الْيَقِينِ.

فَقَالَا: صِفْ لنَا عِلْمَ الْيَقِينِ؟

فَقَالَ: عِلْمُ الْيَقِينِ -عِنْدَنَا- وَارِدَاتٌ تَرِدُ عَلَى النُّفُوسِ، تَعْجِزُ النُّفُوسُ عَن رَدِّهَا.

فَجَعَلَا يَقُولَانِ: وَارِدَاتٌ تَرِدُ عَلَى النُّفُوسِ تَعْجِزُ النُّفُوسُ عَن رَدِّهَا، وَيسْتَحْسِنَانِ هَذَا الْجَوَابَ.

فَقَالَا لَهُ: مَا الطَّرِيق إلَى ذَلِكَ؟

فَقَالَ: تَتْرُكَانِ مَا أَنْتُمَا فِيهِ وَتَسْلُكَانِ مَا أَمَرَكُمَا اللهُ بِهِ مِن الذِّكْرِ وَالْعِبَادَةِ.

فَقَالَ الرَّازِي: أَنَا مَشْغُولٌ عَن هَذَا.

وَقَالَ الْمُعْتَزِلِيُّ: أَنَا قَد احْتَرَقَ قَلْبِي بِالشُّبُهَاتِ، وَأُحِبُّ هَذِهِ الْوَارِدَاتِ، فَلَزِمَ الشَّيْخَ مُدَّةً ثُمَّ خَرَجَ مِن مَحَلِّ عِبَادَتِهِ وَهُوَ يَقُولُهُ: وَاللهِ يَا سَيِّدِي مَا الْحَقُّ

(1)

فالقصة صحيحة محفوظة، وفيها عبرة وعظة لمن تدبرها.

وقد ذكرها الذهبي في تاريخ الإسلام: (44/ 394) وقال: نَجْم الدِّينِ الكُبْريّ محدِّث معروف بالسُّنَّة والتَّعبُّد كبير الشأن. ومن مناقبه أنَّهُ استشهد في سبيل الله.

(2)

جزم الذهبي بأنهما تناظرا في معرفة الله وتوحيده.

ص: 330

إلَّا فِيمَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الْمُشَبِّهَةُ- يَعْنِي: الْمُثْبِتِينَ لِلصِّفَاتِ؛ فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ يُسَمُّونَ الصفاتية مُشَبِّهَةً-.

وَذَلِكَ أَنَّهُ عَلِمَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ عَن قَلْبِهِ أَنَّ رَبَّ الْعَالَمِ لَا بُدَّ أَنْ يَتَمَيَّزَ عَن الْعَالَمِ، وَأَنَّ يَكُونَ بَائِنًا مِنْهُ، لَهُ صِفَاتٌ تَخْتَصُّ بِهِ، وَأَن هَذَا الرَّبَّ الَّذِي تَصِفُهُ الْجَهْمِيَّة إنَّمَا هُوَ عَدَمٌ مَحْضٌ.

وَهَذَا مَوْضِعُ الْحِكَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَن الشَّيْخِ الْعَارِفِ أَبِي جَعْفَرٍ الهمداني لِأبِي الْمَعَالِي الجُوَيْنِي لَمَّا أخَذَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: كَانَ اللهُ وَلَا عَرْشَ.

فَقَالَ: يَا أُسْتَاذُ دَعْنَا مِن ذِكْرِ الْعَرْشِ-يَعْنِي: لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا جَاءَ فِي السَّمْعِ- أَخْبِرْنَا عَن هَذِهِ الضَّرُورَةِ الَّتِي نَجِدُهَا فِي قُلُوبِنَا فَإِنَّهُ مَا قَالَ عَارِفٌ قَطُّ "يَا اللهُ" إلَّا وَجَدَ مِن قَلْبِهِ ضَرُورَةً تَطْلُبُ الْعُلُوَّ، لَا تَلْتَفِتُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً، فَكَيْفَ نَدْفَعُ هَذِهِ الضَّرُورَةَ عَن قُلُوبِنَا؟

قَالَ: فَلَطَمَ أَبُو الْمَعَالِي عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ: حَيَّرَنِي الهمداني حَيَّرَنِي الهمداني وَنَزَلَ.

وَذَلِكَ لأنَّ نَفْسَ اسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ بَعْدَ أنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ عُلم بِالسَّمْعِ الَّذِي جَاءَت بِهِ الرُّسُلُ؛ كَمَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ.

وَأَمَّا كَوْنُهُ عَالِيًا عَلَى مَخْلُوقَاتِهِ بَائِنًا مِنْهُمْ: فَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ الضَّرُورِيَّةِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا جَمِيعُ بَنِي آدَمَ.

وَكُلُّ مَن كَانَ باللهِ أَعْرَفَ، وَلَهُ أَعْبَدَ، وَدُعَاؤُهُ لَهُ أَكْثَرَ، وَقَلْبُهُ لَهُ أذْكَرَ: كَانَ عِلْمُهُ الضَّرُورِيُّ بِذَلِكَ أقْوَى وَأَكْمَلَ.

فَالْفِطْرَةُ مُكمَّلَةٌ بِالْفِطْرَةِ الْمُنْزَلَةِ؛ فَإِنَّ الْفِطْرَةَ تُعْلِمُ الْأمْرَ مُجْمَلًا، وَالشَّرِيعَةُ تُفَصِّلُهُ وَتُبيِّنُهُ، وَتَشْهَدُ بِمَا لَا تَسْتَقِلُّ الْفِطْرَةُ بِهِ.

[4/ 43 - 45]

وَالْجَارَيَةُ الَّتِي قَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَيْنَ اللهُ؟ " قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، قَالَ:

ص: 331

"أَعْتِقهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ"

(1)

.

جَارَيةٌ أَعْجَمِيَّةٌ، أَرَأَيْت مَن فقَّههَا وَأَخْبَرَهَا بِمَا ذَكَرَتْهُ؟

وَإِنَّمَا أَخْبَرَتْ عَن الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَهَا اللهُ تَعَالَى عَلَيْهَا، وَأَقَرَّهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ، وَشَهِدَ لَهَا بِالْإِيمَانِ.

فَلْيَتَأمَّل الْعَاقِلُ ذَلِكَ يَجِدْهُ هَادِيًا لَهُ عَلَى مَعْرِفَةِ رَبِّهِ، وَالْإِقْرَارِ بِهِ كَمَا يَنْبَغِي، لَا مَا أَحْدَثَهُ الْمُتَعَمِّقُونَ والمتشدقون مِمَن سَوَّلَ لَهُم الشَّيْطَانُ وَأَمْلَى لَهُمْ. [4/ 62]

* * *

(الرَّجُلُ لا يَصْدُرُ عَنْهُ فَسَادُ الْعَمَلِ إلَّا لحَاجَتِه أو جَهْله)

356 -

مِن الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعِلْمَ أَصْلُ الْعَمَلِ، وَصِحَّةُ الْأُصُولِ تُوجِبُ صِحَّةَ الْفُرُوعِ، وَالرَّجُلُ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ فَسَادُ الْعَمَلِ إلَّا لِشَيْئَيْنِ:

- إمَّا الْحَاجَةُ

(2)

.

- وَإِمَّا الْجَهْلُ.

(1)

رواه مسلم (537).

(2)

والحاجة نوعان:

الأول: حاجة حقيقية، فيُباح للرجل فعل ما يحرم لأجلها؛ كنظر الطبيب إلى عورته، وغيبة الخصم لخصمه عند القاضي ونحو ذلك.

الثاني: حاجة غير حقيقية، وقد تكون محرمةً أو مكروهة، ومن أمثلتها:

أ- البروز والشهرة، فيفعل كل شيء ولو كان قبيحًا لأجلها، وعلاج ذلك بالبحث عن عيوب النفس، والانشغال بالعلم والعمل الصالح، ومعرفة أن الله يحب الخفاء، كما في صحيح مسلم (7621) أنّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:"إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنيّ الْخَفِيَّ".

ب- شهوة الفرج أو المال؛ فيرتكب العظائم لإشباع شهوته، وعلاج حب المال بالقناعة، وشهوة الفرج بالنكاح وغض البصر.

ت- الشعور بالكمال والمكانة؛ فيسب غيره ويقدح به لشعوره بالنقص الذي لا يسده إلا الطعن فيمن يُنافسه، وعلاج ذلك بإشباع النفس بما يُكملها الكمال الحقيقي، وهو التضلع بالعلم النافع، والقرب من الله ومحبته ورجائه، وإقناع النفس بأن الناس لا ينفع مدحهم، ولا يضر ذمهم؛ فالواجب الانشغال بمن ينفع مدحه، ويقبح ذمه، وهو الله تعالى.

ص: 332

فَأَمَّا الْعَالِمُ بِقُبْحِ الشَّيءِ الْغَنِيُّ عَنْهُ: فَلَا يَفْعَلُهُ.

اللَّهُمَّ إلَّا مَن غَلَبَ هَوَاهُ عَقْلَهُ، وَاسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ الْمَعَاصِي: فَذَاكَ لَوْنٌ آخَرُ وَضَرْبٌ ثَانٍ. [4/ 53]

* * *

(مَن صَنَّفَ فِي مَذْهَب الْمُشْرِكِينَ وَنَحْوِهِمْ أَحْسَن أَحْوَالِهِ أنْ يَكُونَ مُسْلِمًا)

357 -

مَن صَنَّفَ فِي مَذْهَبِ الْمُشْرِكِينَ وَنَحْوِهِمْ أَحْسَنُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا.

فَكَثِيرٌ مِن رُؤُوسِ هَؤُلَاءِ هَكَذَا تَجِدُهُ تَارَةً يَرْتَدُّ عَن الْإِسْلَامِ رِدَّةً صَرِيحَةً، وَتَارَةً يَعُودُ إلَيْهِ مَعَ مَرَضٍ فِي قَلْبِهِ وَنِفَاقٍ، وَقَد يَكونُ لَهُ حَالٌ ثَالِثَةٌ يَغْلِبُ الْإِيمَانُ فِيهَا النِّفَاقَ، لَكِنْ قَلَّ أَنْ يَسْلَمُوا مِن نَوْعِ نِفَاقٍ.

وَأَبْلَغُ مِن ذَلِكَ: أَنَّ مِنْهُم مَن يُصَنِّفُ فِي دِينِ الْمُشْرِكِينَ وَالرِّدَّةِ عَن الْإِسْلَامِ؛ كَمَا صَنَّفَ الرَّازِي كِتَابَهُ فِي عِبَادَةِ الْكوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ، وَأَقَامَ الْأَدِلَّةَ عَلَى حُسْنِ ذَلِكَ وَمَنْفَعَتِهِ وَرَغَّبَ فِيهِ، وَهَذِهِ رِدَّةٌ عَن الْإِسْلَامِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ

(1)

، وإِن كَانَ قَد يَكُونُ تَابَ مِنْهُ وَعَادَ إلَى الْإِسْلَامِ. [4/ 55]

* * *

(أَهْل الْحَدِيث والسُّنَّةِ لا يُنْكِرُونَ حجَّةَ الْعَقْلِ)

358 -

مِن الْعَجَبِ أَنَّ أَهْلَ الْكَلَامِ يَزْعُمُونَ أَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ أَهْلُ تَقْلِيدٍ، لَيْسُوا أَهْلَ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، وَأَنَّهُم يُنْكِرُونَ حُجَّةَ الْعَقْلِ!

فَيُقَالُ لَهُم: لَيْسَ هَذَا بِحَقِّ؛ فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ لَا يُنْكرُونَ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، هَذَا أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَهُمْ.

(1)

لم يُكفره الشيخ، وإنما كفر ما قرره من الباطل.

ص: 333

وَاللهُ قَد أَمَرَ بِالنَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ والتفكر وَالتَّدَبُّرِ فِي غَيْرِ آيَةٍ

(1)

.

وَلَا يُعْرَفُ عَن أَحَدٍ مِن سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَعُلَمَائِهَا أَنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ.

وَلَكِنْ وَقَعَ اشْتِرَاكٌ، فِي لَفْظِ "النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ"، وَلَفْظِ "الْكَلَامِ"؛ فَإِنَّهُم أنْكَرُوا مَا ابْتَدَعَهُ الْمُتَكلِّمُونَ مِن بَاطِلِ نَظَرِهِمْ وَكَلَامِهِمْ وَاسْتِدْلَالِهِمْ، فَاعْتَقَدُوا أنَّ إنْكَارَ هَذَا مُسْتَلْزِمٌ لِإِنْكَارِ جِنْسِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. [4/ 55 - 56]

* * *

(تقديم أهل الكلام عقولهم على الحديث)

359 -

الْعَجَبُ أَنَّ مِن هَؤُلَاءِ

(2)

مَن يُصَرِّحُ بِأَنَّ عَقْلَهُ إذَا عَارَضَهُ الْحَدِيثُ- لَا سِيَّمَا فِي أَخْبَارِ الصِّفَاتِ- حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى عَقْلِهِ، وَصَرَّحَ بِتَقْدِيمِهِ عَلَى الْحَدِيثِ، وَجَعَلَ عَقْلَهُ مِيزَانًا لِلْحَدِيثِ!

فَلَيْتَ شِعْرِي:

- هَل عَقْلُهُ هَذَا كَانَ مُصَرّحًا بِتَقْدِيمِهِ فِي الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، فَيَكُونُ مِن السَّبِيلِ الْمَأُمُورِ بِاتِّبَاعِهِ؟

- أَمْ هُوَ عَقْلُ مُبْتَدِعٍ جَاهِلٍ ضَالٍّ حَائِرٍ خَارج عَن السَّبِيلِ؟

فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ. [4/ 57 - 58]

* * *

(ضلال الرازي وانحرافات الغزالي)

360 -

إنَّ الَّذِينَ لَبَّسُوا الْكَلَامَ بِالْفَلْسَفَةِ مَن أَكَابِرِ الْمُتَكَلِّمِينَ تَجِدُهُم يَعُدُّونَ مِن الْأَسْرَارِ الْمَصُونَةِ وَالْعُلُومِ الْمَخْزُونَةِ: مَا إذَا تَدَبَّرَهُ مَن لَهُ أَدْنَى عَقْلٍ وَدِينٍ وَجَدَ فِيهِ مِن الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ مَا لَمْ يَكُن يَظُنُّ أَنَّهُ يَقَعُ فِيهِ هَؤُلَاءِ.

(1)

والحجج العقلية تُعتَبَر من النظر والتدبر والتفكر، فلا مانع من استعمالها.

(2)

أي: أهل الكلام.

ص: 334

حَتَّى قَد يُكَذِّبُ بصُدُورِ ذَلِكَ عَنْهُمْ؛ مِثْلُ تَفْسِيرِ حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ الَّذِي أَلَّفَهُ أبُو عَبْدِ اللهِ الرَّازِي، الًّذِي احْتَذَى فِيهِ حَذْوَ ابْنِ سِينَا، وَعَيْنِ الْقُضَاةِ الهمداني؛ فَإِنَّهُ رَوَى حَدِيثَ الْمِعْرَاجِ بِسِيَاق طَوِيلٍ، وَأَسْمَاءٍ عَجِيبَةٍ، وَتَرْتِيبٍ لَا يُوجَدُ فِي شَيْءٍ مِن كُتُب الْمُسْلِمِينَ، لَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَلَا الْحَسَنَةِ وَلَا الضَّعِيفَةِ الْمَرْوِيَّةِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ.

ثُمَّ إنَّهُ مَعَ الْجَهْلِ بِحَدِيثِ الْمِعْرَاجِ .. فَسَّرَهُ بِتَفْسِيرِ الصَّابِئَةِ الضَّالَّةِ الْمُنَجِّمِينَ، وَجَعَلَ مِعْرَاجَ الرَّسُولِ تَرَقِّيه بِفِكْرِهِ إلَى الْأَفْلَاكِ، وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ رَآهُم هُم الْكَوَاكِبُ، فَآدمُ هُوَ الْقَمَرُ، وَإِدْرِيسُ هُوَ الشَّمْسُ، وَالْأَنْهَارُ الْأَرْبَعَةُ هِيَ الْعَنَاصِرُ الْأَرْبَعَةُ، وَأَنَّهُ عَرَفَ الْوُجُودَ الْوَاجِبَ الْمُطْلَقَ، ثُمَّ إنَّهُ يُعَظِّمُ ذَلِكَ وَيَجْعَلُهُ مِن الْأَسْرَارِ وَالْمَعَارِفِ الَّتِي يَجِبُ صَوْنُهَا عَن أَفْهَامِ الْمُؤْمِنِينَ وَعُلَمَائِهِمْ.

حَتَّى إنَّ طَائِفَةً مِمَن كَانُوا يُعَظِّمُونَهُ لَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ تَعَجَّبُوا مِنْهُ غَايَةَ التَّعَجُّبِ، وَجَعَلَ بَعْضُ الْمُتَعَصِّبِينَ لَهُ يَدْفَعُ ذَلِكَ، حَتَّى أَرَوْهُ النُّسْخَةَ بِخَطِّ بَعْضِ الْمَشَايِخِ الْمَعْرُوفِينَ الْخَبِيرِينَ بِحَالِهِ وَقَد كَتَبَهَا فِي ضِمْنِ كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ:"الْمَطَالِبَ الْعَالِيَةَ"، وَجَمَعَ فِيهِ عَامَّةَ آرَاءِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين.

وَتَجِدُ أَبَا حَامِدٍ الْغَزَالِيَّ -مَعَ أَنَّ لَهُ مِن الْعِلْمِ بِالْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ وَالْكَلَامِ وَالْأصُولِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَعَ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَحُسْنِ الْقَصْدِ وَتَبَحُّرِهِ فِي الْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَكْثَرَ مِن أُولَئِكَ- يَذْكُرُ فِي كِتَابِ "الْأَرْبَعِينَ" وَنَحْوِهِ كِتَابَهُ: "الْمَضْنُونُ بِهِ عَلَى غَيْرِ أَهْلِهِ".

فَإِذَا طَلَبْت ذَلِكَ الْكِتَابَ وَاعْتَقَدْت فِيهِ أَسْرَارَ الْحَقَائِقِ وَغَايَةَ الْمَطَالِبِ: وَجَدْته قَوْلَ الصَّابِئَةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ بِعَيْنِهِ قَد غُيِّرَتْ عِبَارَاتُهم وَتَرْتيبَاتُهُمْ.

وَأَمَّا "الْمَضْنُونُ بِهِ عَلَى غَيْرِ أَهْلِهِ" فَقَد كَانَ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِن الْعُلَمَاءِ يُكَذِّبُونَ ثُبُوتَهُ عَنْهُ، وَأَمَّا أَهْلُ الْخِبْرَةِ بِهِ وَبِحَالِهِ فَيَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ كَلَامُهُ؛

ص: 335

لِعِلْمِهِمْ بِمَوَادِّ كَلَامِهِ وَمُشَابَهَةِ بَعْضِهِ بَعْضًا، وَلَكِنْ كَانَ هُوَ وَأَمْثَالُهُ -كَمَا قَدَّمْت- مُضْطَرِبِينَ لَا يَثْبُتُونَ عَلَى قَوْلٍ ثَابِتٍ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُم مِن الذَّكَاءِ وَالطَّلَبِ مَا يَتَشَوَّفُونَ بِهِ إلَى طَرِيقَةِ خَاصَّةِ الْخَلْقِ، وَلَمْ يُقَدَّرْ لَهُم سُلُوكُ طَرِيقِ خَاصَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ وَرِثُوا عَن الزَسُولِ صلى الله عليه وسلم الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ.

وَهُوَ يَمِيلُ إلَى الْفَلْسَفَةِ، لَكِنَهُ أَظْهَرَهَا فِي قَالَبِ التَّصَوُّفِ وَالْعِبَارَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ.

وَلهَذَا فَقَد رَدَّ عَلَيْهِ عُلَمَاء الْمسْلِمِينَ، حَتَى أَخَصُّ أَصْحَابِهِ أَبُو بَكْرٍ بنُ الْعَرَبِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ:"شَيْخُنَا أَبُو حَامِدِ دَخَلَ فِي بَطْنِ الْفَلَاسِفَةِ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُم فَمَا قَدَرَ"

(1)

. [4/ 62 - 66]

* * *

(ندم بعض العلماء على الدخول في علم الكلام)

361 -

تَجِدُ عَامَّةَ هَؤُلَاءِ الْخَارِجِينَ عَن مِنْهَاجِ السَّلَفِ مِن الْمُتَكلِّمَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ يَعْتَرِفُ بِذَلِكَ إمَّا عِنْدَ الْمَوْتِ، وَإِمَّا قَبْلَ الْمَوْتِ وَالْحِكَايَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَة مَعْرُوفَةٌ:

- هَذَا أَبُو الْحَسَنِ الْأشْعَرِيُّ: نَشَأَ فِي الِاعْتِزَالِ أَرْبَعِينَ عَامًا يُنَاظِرُ عَلَيْهِ، ثُمَّ رَجَعَ عَن ذَلِكَ وَصَوَّحَ بِتَضْلِيلِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَبَالَغَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ.

- وَهَذَا أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ مَعَ فَرْطِ ذَكَائِهِ وَتَأَلُّهِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِالْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ، وَسُلُوكِهِ طَرِيقَ الزُّهْدِ وَالرِّيَاضَةِ وَالتَّصَوُّفِ، يَنْتَهِي فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ

(1)

وقد ذكر الشيخ أن أبا الْمَعَالي وَأبا حَامِدٍ الْغَزَالِيّ وَابْن الْخَطِيبِ وَأَمْثَالهمْ قَلِيلو الْمَعْرِفَةِ بِآثَارِ السَّلَفِ، وقال: لَمْ يَكُن لَهُم مِن الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ مَا يُعَدُّونَ بِهِ مِن عَوَامِّ أهْلِ الصِّنَاعَةِ فَضْلًا عَن خَوَاصِّهَا، وَلَمْ يَكُن الْوَاحِدُ مِن هَؤُلَاءِ يَعْرِفُ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمًا وَأَحَادِيثَهُمَا إلا بِالسَّمَاعِ، كَمَا يَذْكُرُ ذَلِكَ الْعَامَّةُ، وَلَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُتَوَاتِرِ عِنْدَ أهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَبَيْنَ الْحَدِيثِ الْمُفْتَرَى الْمَكْذُوبِ. وَكُتُبُهُم أصْدَقُ شَاهِدٍ بِذلِكَ، فَفِيهَا عَجَائِبُ. اهـ. (4/ 71 - 72).

ص: 336

إلَى الْوَقْفِ وَالْحَيْرَةِ، وَيُحِيلُ فِي اَخِرِ أَمْرِهِ عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ الْكَشْفِ، وَإِن كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ رَجَعَ إلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَصَنَّفَ:"إلْجَامَ الْعَوَامِّ عَن عِلْمِ الْكَلَامِ".

- وَكَذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الرَّازِي قَالَ فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي أَقْسَامِ اللَّذَّاتِ: "لَقَد تَأَمَّلْتُ الطُّرُقَ الْكَلَامِيَّةَ، وَالْمَنَاهِجَ الْفَلْسَفِيَّةَ، فَمَا رَأيْتهَا تَشْفِي عَلِيلًا، وَلَا تَرْوِي غَلِيلًا، وَرَأَيْت أَقْرَبَ الطُّرُقِ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ:

أقْرَأُ فِي الْإِثْبَاتِ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10].

وَأَقْرَأُ فِي النَّفْيِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11].

ثُمَّ قَالَ: وَمَن جَرَّبَ مِثْل تَجْرِبَتِي عَرَفَ مِثْل مَعْرِفَتِي"، وَكَانَ يَتَمَثَّلُ كَثيرًا:

نِهَايَةُ إقْدَامِ الْعُقُولِ عِقَالُ

وَأَكْثَرُ سَعْيِ الْعَالَمِينَ ضَلَالُ

وَأرْوَاحُنَا فِي وَحْشَةٍ مَن جُسُومِنَا

وَحَاصِلُ دُنْيَانَا أَذًى وَوَبَالُ

وَلَمْ نَسْتَفِدْ مَن بَحْثَنَا طُولَ عُمْرِنَا

سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ قِيلَ وَقَالُوا

- وَهَذَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ تَرَكَ مَا كَانَ يَنْتَحِلُهُ وَيُقَرِّرُهُ، وَاخْتَارَ مَذْهَبَ السَّلَفِ، وَكَانَ يَقُولُ:"يَا أَصْحَابَنَا لَا تَشْتَغِلُوا بِالْكَلَامِ، فَلَو أَنِّي عَرَفْت أَنَّ الْكَلَامَ يَبْلُغُ بِي إلَى مَا بَلَغَ مَا اشْتَغَلْت بِهِ".

وَقَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ: "لَقَد خُضت الْبَحْرَ الْخِضَمَّ، وَخَلَّيْت أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَعُلُومَهُم وَدَخَلْت فِيمَا نَهَوْنِي عَنْهُ، وَالْآنَ إنْ لَمْ يَتَدَارَكْنِي رَبِّي بِرَحْمَتِهِ فَالْوَيْلُ لِابْنِ الجُوَيْنِي، وَهَا أنذا أَمُوتُ عَلَى عَقِيدَةِ أُمِّي، -أَو قَالَ-: عَقِيدَةِ عَجَائِزِ نَيْسَابُورَ". [4/ 72 - 73]

* * *

ص: 337

(قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} الآية)

362 -

قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)} [النور: 39، 40].

ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَثَلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: مَثَلُ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ الْمُرَكَّب الَّذِي يَحْسَبُهُ صَاحِبُهُ مَوْجُودًا، وَفِي الْوَاقِعِ يَكُونُ خَيَالًا مَعْدُومًا كَالسَّرَابِ، وَأَنَّ الْقَلْبَ عَطْشَانٌ إلَى الْحَقِّ؛ كَعَطَشِ الْجَسَدِ إلَى الْمَاءِ، فَإِذَا طَلَبَ مَا ظَنَّهُ مَاءً وَجَدَهُ سَرَابًا، وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ، وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ.

وَهَكَذَا تَجِدُ عَامَّةَ هَؤُلَاءِ الْخَارِجِينَ عَن السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.

وَالْمَثَلُ الثَّانِي: مَثَلُ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ الْبَسِيطِ الَّذِي لَا يَتَبَيَّنُ فِيهِ صَاحِبُهُ حَقًّا، وَلَا يَرَى فِيهِ هُدًى.

وَالْكُفْرُ الْمُرَكَّبُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْبَسِيطِ، وَكُلُّ كُفْرٍ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِن جَهْلٍ مُرَكَّبٍ.

فَضَرَبَ اللهُ سُبْحَانَهُ الْمَثَلَيْنِ بِذَلِكَ لِيُبَيِّنَ حَالَ الِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ، ويُبَيِّنَ حَالَ عَدَمِ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ -وَهُوَ يُشْبِهُ حَالَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَالضَّالِّينَ-.

حَالَ الْمُصَمِّمِ عَلَى الْبَاطِلِ حَتَّى يَحِل بِهِ الْعَذَابُ، وَحَالَ الضَّالِّ الَّذِي لَا يَرَى طَرِيقَ الْهُدَى. [4/ 75]

* * *

(ضلال الرافضة، وتأليفهم كتبًا ونسبتها للأئمة)

363 -

إِنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ "الرَّافِضَةَ" مِن أَكْثَرِ الطَّوَائِفِ كَذِبًا وَادِّعَاءً لِلْعِلْمِ الْمَكْتُومِ؛ وَلهَذَا انْتَسَبَتْ إلَيْهِم الْبَاطِنِيَّةُ وَالْقَرَامِطَةُ.

ص: 338

وَهَؤُلَاءِ خَرَجَ أَوَّلُهُم فِي زَمَنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، وَصَارُوا يَدَّعُونَ أنَّهُ خُصَّ بِأَسْرَارٍ مِن الْعُلُومِ وَالْوَصِيَّةِ، حَتَّى كَانَ يَسْأَلُهُ عَن ذَلِكَ خَوَاصُّ أَصْحَابِهِ فَيُخْبِرُهُم بِانْتِفَاءِ ذَلِكَ.

وَأَمَّا الْكَذِبُ وَالْأَسْرَارُ الَّتِي يَدَّعُونَهَا عَن جَعْفَرٍ الصَّادِقِ: فَمِن أَكْبَرِ الْأَشْيَاءِ كَذِبًا، حَتَّى يُقَالَ: مَا كُذِبَ عَلَى أَحَدٍ مَا كُذِبَ عَلَى جَعْفَرٍ رضي الله عنه.

وَمِن هَذِهِ الْأُمُورِ الْمُضَافَةِ:

أ- كِتَابُ "الْجَفْرِ" الَّذِي يَدَّعُونَ أَنَّهُ كَتَبَ فِيهِ الْحَوَادِثَ، وَالْجَفْرُ: وَلَدُ الْمَاعِزِ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَتَبَ ذَلِكَ فِي جِلْدِهِ.

ب- وَكَذَلِكَ كِتَابُ "الْبِطَاقَةِ" الَّذِي يَدَّعِيهِ ابْنُ الحلي وَنَحْوُهُ مِن الْمَغَارِبَةِ.

ج- وَمِثْلُ كِتَابِ: "الْجَدْوَلِ" فِي الْهِلَالِ، وَ"الْهَفْتِ" عَن جَعْفَرٍ.

د- وَكَثيرٍ مِن تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ.

هـ- وَمِثْلُ كِتَابِ "رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا" الَّذِي صَنَّفَهُ جَمَاعَةٌ فِي دَوْلَةِ بَنِي بويه بِبَغْدَادَ، وَكَانُوا مِن الصَّابِئَةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ الْمُتَحَنِّفَةِ، جَمَعُوا بِزَعْمِهِمْ بَيْنَ دِينِ الصَّابِئَةِ الْمُبَدِّلِينَ وَبَيْنَ الْحَنِيفِيَّةِ، وَأَتَوْا بِكَلَامِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَبِأَشْيَاءَ مِن الشَّرِيعَةِ، وَفِيهِ مِن الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّ طَائِفَةً مِن النَّاسِ -مِن بَعْضِ أَكَابِرِ قُضَاةِ النَّوَاحِي- يَزْعُمُ أَنَّهُ مِن كَلَامِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ، وَهَذَا قَوْلُ زِنْدِيقٍ وَتَشْنِيعُ جَاهِلٍ.

و- وَمِثْلُ مَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ الْعَامَّةِ مِن مَلَاحِمِ "ابْنِ غنضب"

(1)

؛ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَانَ مُعَلِّمًا لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَكُن فِي الْوُجُودِ بِاتِّفَاقِ أهْلِ الْعِلْمِ.

(1)

قال صاحب كتاب: صيانة فتاوى شيخ الإسلام (ص 29):

و (ابن غنضب) تصحيف صوابه: (ابن عقب)، كما ورد كذلك في المنهاج (7/ 182، 183)، وكما ذكره خليفة في كشف الظنون (2/ 1818).

ص: 339

وَهُوَ شِعْرٌ فَاسِدٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَاظِمَهُ جَاهِلٌ.

وَكَذَلِكَ عَامَّةُ هَذِهِ الْمَلَاحِمِ الْمَرْوِيَّةِ بِالنَّظْمِ وَنَحْوِهِ، عَامَّتُهَا مِن الْأَكَاذِيبِ.

وَقَد أَحْدثَ فِي زَمَانِنَا مِن الْقُضَاةِ وَالْمَشَايِخِ غَيْرَ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، وَقَد قَرَّرْت بَعْضَ هَؤُلَاءِ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ أَن ادَّعَى قِدَمَهَا، وَقُلْت لَهُ: بَل أَنْتَ صَنَّفْتهَا وَلَبَّسْتهَا عَلَى بَعْضِ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا كَانَ الْمُسْلِمُونَ مُحَاصرِي عَكَّةَ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِن الْقُضَاةِ وَغَيْرِهِمْ لَبَّسُوا عَلَى غَيْرِ هَذَا الْمَلِكِ. [4/ 77 - 80]

* * *

(باب الْكَذِبِ فِي الْحَوَادِثِ الْكَوْنِيَّةِ أكْثَرُ مِنْهُ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ)

364 -

بابُ الْكَذِب فِي الْحَوَادِثِ الْكَوْنِيَّةِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ؛ لِأنَّ تَشَوُّفَ الَّذِينَ يُغَلِّبُونَ الدُّنْيَا عَلَى الدِّينِ إلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ، وَإِن كَانَ لِأَهْلِ الدِّينِ إلَى ذَلِكَ تَشَوُّفٌ، لَكِنَّ تَشَوُّفَهُم إلَى الدِّينِ أَقْوَى، وَأُولَئِكَ لَيْسَ لَهُم مِن الْفُرْقَانِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مِن النُّورِ مَا لِأَهْلِ الدِّينِ؛ فَلِهَذَا كَثُرَ الْكَذَّابُونَ فِي ذَلِكَ، وَنَفَقَ مِنْهُ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَأُكِلَتْ بِهِ أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ بِالْبَاطِلِ، وَقُتِلَتْ بِهِ نُفُوسٌ كَثِيرَةٌ مِن الْمُتَشَوِّفَةِ إلَى الْمُلْكِ وَنَحْوِهَا.

فَلِهَذَا تَجِدُ عَامَّةَ مَن فِي دِينِهِ فَسَادٌ يَدْخُلُ فِي الْأَكَاذِيبِ الْكَوْنِيَّةِ؛ مِثْلُ أَهْلِ الِاتِّحَادِ؛ فَإِنَّ ابْنَ عَرَبِيِّ -فِي كِتَابِ "عَنْقَاءِ مُغْرِبٍ" وَغَيْرِهِ- أَخْبَرَ بِمُسْتَقْبَلَاتٍ كَثِيرَةٍ عَامَّتُهَا كَذِبٌ. [4/ 80 - 81]

* * *

‌(ما المقصودُ بِأَهْلِ الْحَدِيثِ

؟)

365 -

نَحْنُ لَا نَعْنِي بِأَهْلِ الْحَدِيثِ: الْمُقْتَصِرِينَ عَلَى سَمَاعِهِ، أَو كِتَابَتِهِ، أَو رِوَايَتِهِ؛ بَل نَعْنِي بِهِمْ: كُلَّ مَن كَانَ أَحَقَّ بِحِفْظِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَفَهْمِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَاتِّبُاعِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا.

وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْقُرْآنِ.

* * *

ص: 340

(جهل علماء الطوائف الضالة بالقرآن والسُّنَّة بخلاف أهل الحديث)

366 -

إِذَا تَدَبَّرَ الْعَاقِلُ وَجَدَ الطَّوَائِفَ كلَّهَا كُلَّمَا كَانَت الطَّائِفَةُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ أَقْرَبَ: كَانَت بِالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ أَعْرَفَ، وَأَعْظَمَ عِنَايَةً.

وَإِذَا كَانَت عَن اللهِ وَعَن رَسُولِهِ أَبْعَدَ: كَانَت عَنْهُمَا أَنْأَى.

حَتَّى تَجِدَ فِي أَئِمَّةِ غلَمَاءِ هَؤُلَاءِ مَن لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ؛ بَل رُبَّمَا ذُكِرَتْ عِنْدَهُ آيَةٌ فَقَالَ: لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ الْحَدِيثِ.

وَقَد بَلَغَنَا مِن ذَلِكَ عَجَائِبُ، وَمَا لَمْ يَبْلُغْنَا أَكْثَرُ

(1)

.

وَحَدَّثَنِي ثِقَةٌ أَنَّهُ تَوَلَّى مَدْرَسَةَ مَشْهَدِ الْحُسَيْنِ بِمِصْرَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ رَجُلٌ يُسَمَّى شَمْسَ الدِّينِ الأصبهاني .. فَقَرَأَ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {المص} [الأعراف: 1] حَتَّى قِيلَ لَهُ: أَلِفٌ، لَامٌ، مِيمٌ، صَادٌ.

فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْحُكُومَةَ الْعَادِلَةَ لِيَتَبَيَّنَ لَك أَنَّ الَّذِينَ يَعِيبونَ أَهْلَ الْحَدِيثِ ويعْدِلُونَ عَن مَذْهَبِهِم جَهَلَةٌ زَنَادِقَةٌ مُنَافِقُونَ بِلَا ريْبٍ.

وَلهَذَا لَمَّا بَلَغَ الْإِمَامَ أَحْمَدَ عَن ابْنِ أَبِي قتيلة أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ بِمَكَّةَ فَقَالَ: قَوْمُ سَوْءٍ، فَقَامَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -وَهُوَ يَنْفُضُ ثَوْبَهُ- ويقُولُ: زِنْدِيقٌ زِنْدِيقٌ زِنْدِيقٌ، وَدَخَلَ بَيْتَهُ

(2)

.

فَإِنَّهُ عَرَفَ مَغْزَاهُ.

وَعَيْبُ الْمُنَافِقِينَ لِلْعُلَمَاءِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ: قَدِيمٌ مِن زَمَنِ الْمُنَافِقِينَ

(1)

وفي هذا الزمان كشفت القنوات الفضائيّةُ جهل أكثر علماء الشيعة والصوفية -فضلًا عن عوامهم- بالقرآن تلاوةً ومعنى، ورأينا من يُخطئ في نطق الآيات من مراجعهم، ومن يذكر كلامًا وينسبه للقرآن.

وأما كذبهم في اختلاق القصص المنسوبة إلى أثمتهم فهو أشهر من أنْ يُذكر.

(2)

يُنظر: سير أعلام النبلاء (11/ 299).

ص: 341

الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

(1)

.

وَأَمَّا أَهْلُ الْعِلْمِ فَكَانُوا يَقُولُونَ: هُم

(2)

"الْأَبْدَالُ"؛ لِأَنَّهُم أَبْدَالُ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَائِمُونَ مَقَامَهُم حَقِيقَةً.

كُلٌّ مِنْهُم يَقُومُ مَقَامَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْقَدْرِ الَّذِي نَابَ عَنْهُم فِيهِ:

- هَذَا فِي الْعِلْمِ وَالْمَقَالِ.

- وَهَذَا فِي الْعِبَادَةِ وَالْحَالِ.

- وَهَذَا فِي الْأمْرَيْنِ جَمِيعًا.

وَكَانُوا يَقُولُونَ: هُم الطَّائِفَةُ الْمَنْضورَةُ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، الظَّاهِرُونَ عَلَى الْحَقِّ؛ لِأَنَّ الْهُدَى وَدِينَ الْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ رُسُلَهُ مَعَهُمْ، وَهُوَ الَّذِي وَعَدَ اللهُ بِظُهُورِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا. [4/ 96 - 97]

* * *

(التشابه والتوافق بين الرَّافِضَةِ، وَالْقَرامِطَةِ، والاتحادية)

367 -

تَجِدُ بَيْنَ "الرَّافِضَةِ"، "وَالْقَرَامِطَةِ"، "والاتحادية": اقْتِرَانًا وَاشْتِبَاهًا، يَجْمَعُهُم أُمُورٌ:

مِنْهَا: الطَّعْنُ فِي خِيَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَفِيمَا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَفِيمَا اسْتَقَرَّ مِن أُصُولِ الْمِلَّةِ وَقَوَاعِدِ الدِّينِ، وَيدَّعُونَ بَاطِنًا امْتَازُوا بِهِ وَاخْتَصُّوا بِهِ عَمَّن سِوَاهُمْ.

ثمَّ هُم مَعَ ذَلِكَ مُتَلَاعِنُونَ مُتَبَاغِضُونَ مُخْتَلِفُونَ. [4/ 103 - 104]

* * *

(1)

ولم يزالوا على ذلك إلى يومنا هذا؛ بل هم اليوم أشد وأجرأ وأنكى.

(2)

أي: أَهْلُ الْحَدِيث.

ص: 342

(حكم ترجمة كتب الكفار الدينية والدنيوية، وقبول قولهم وأخبارهم)

368 -

إِذَا حَصَلَ مِن مُسْلِمَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ عَلِمُوا مَا عِنْدَهُم بِلُغَتِهِمْ، وَتَرْجَمُوا لنا بِالْعَرَبِيَّةِ: انْتَفَعَ بِذَلِكَ فِي مُنَاظَرَتِهِمْ وَمُخَاطَبَتِهِمْ كَمَا كَانَ عَبْدُ اللهِ بْن سَلَامٍ وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ وَغَيْرُهُم يُحَدِّثُونَ بِمَا عِنْدَهُم مِن الْعِلْمِ، وَحِيئنِذٍ يُسْتَشْهَدُ بِمَا عِنْدَهُم عَلَى مُوَافَقَةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَيَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِم مِن وَجْهٍ، وَعَلَى غَيْرِهِمْ مِن وَجْهٍ آخَرَ.

وَلهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93]، فَأُمِرْنَا أَنْ نَطْلُبَ مِنْهُم إحْضَارَ التَّوْرَاةِ وَتلَاوَتَهَا إنْ كَانُوا صَادِقِينَ فِي نَقْلِ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُم كَانُوا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِن الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِن الْكِتَابِ، وَيَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقولُونَ هَذَا مِن عِنْدِ اللهِ، ويَكْذِبُونَ فِي كَلَامِهِمْ وَكِتَابِهِمْ.

فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ التَّرْجَمَةُ إلَّا مِن ثِقَةٍ.

وَهَكَذَا مُنَاظَرَةُ الصَّابِئَةِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُشْرِكِينَ وَنَحْوِهِمْ؛ فَإِنَّ الصَّابِئِيَّ الْفَيْلَسُوفَ إذَا ذَكَرَ مَا عِنْدَ قُدَمَاءِ الصَّابِئَةِ الْفَلَاسِفَةِ مِن الْكَلَامِ:

- فَإِنْ ذَكَرَ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ؛ مِثْل مَسَائِلِ الطِّبّ وَالْحِسَاب الْمَحْضِ الَّتِي يَذْكُرُونَ فِيهَا ذَلِكَ وَكَتَبَ مَن أَخَذَ عَنْهُم مِثْلُ: مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا الرَّازِي وَابْنُ سِينَا وَنَحْوِهِمَا مِن الزَّنَادِقَةِ الْأَطِبَّاءِ مَا غَايَتُهُ: انْتِفَاعٌ بِآثَارِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا فَهَذَا جَائِزٌ؛ كَمَا يَجُوزُ السُّكْنَى فِي دِيَارِهِمْ، وَلُبْسُ ثِيَابِهِم وَسِلَاحِهِمْ، وَكَمَا تَجُوزُ مُعَامَلَتُهُم عَلَى الْأَرْضِ، كَمَا عَامَلَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَهُودَ خَيْبَرَ، وَكَمَا اسْتَأْجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ لَمَّا خَرَجَا مِن مَكَّةَ مُهَاجِرَيْنِ ابْنَ أريقط هَادِيًا خِرِّيتًا، وَالْخِرِّيتُ الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ، وَائْتَمَنَاهُ عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَدَوَابِّهِمَا، وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرِ صُبْحَ ثَالِثَةٍ.

ص: 343

وَكَانَت خُزَاعَةُ عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُسْلِمُهُم وَكَافِرُهُمْ، وَكَانَ يَقْبَلُ نُصْحَهُمْ.

وَكُلُّ هَذَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ".

وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ يَنْصُرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَيذُبُّ عَنْهُ مَعَ شِرْكِهِ، وَهَذَا كَثِيرٌ.

فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ فِيهِم الْمُؤْتَمَنُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75].

وَلهَذَا جَازَ ائْتِمَانُ أَحَدِهِمْ عَلَى الْمَالِ، وَجَازَ أَنْ يَسْتَطِبَّ الْمُسْلِمُ الْكافِرَ إذَا كَانَ ثِقَةً، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْأئِمَّةُ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ.

إذ ذَلِكَ مِن قَبُولِ خَبَرِهِمْ فِيمَا يَعْلَمُونَة مِن أَمْرِ الدُّنْيَا، وَائْتِمَان لَهُم عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ جَائِزٌ إذَا لَمْ يَكُن فِيهِ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ؛ مِثْلُ وِلَايَتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَعُلُوِّهِ عَلَيْهِم وَنَحْوِ ذَلِكَ.

- وَإِن ذَكَرُوا

(1)

مَا يَتَعَلَّق "بِالدِّينِ"؛ فَإِنْ نَقَلُوهُ عَن الْأَنْبِيَاءِ كَانُوا فِيهِ كَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَسْوَأ حَالًا.

وَاِن أحَالُوا مَعْرِفَتَهُ عَلَى الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ: فَإِنْ وَافَقَ مَا فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ حَقٌّ، وَإِن خَالَفَهُ فَفِي الْقُرْآنِ بَيَانُ بُطْلَانِهِ بِالْأمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)} [الفرقان: 33].

فَفِي الْقُرْآنِ الْحَقُّ وَالْقِيَاسُ الْبَيِّنُ الَّذِي يُبَيِّنُ بُطْلَانَ مَا جَاؤُوا بِهِ مِن الْقِيَاسِ.

وَإِن كَانَ مَا يَذْكُرُونَة مُجْمَلًا فِيهِ الْحَقُّ -وَهُوَ الْغَالِبُ عَلَى الصَّابِئَةِ الْمُبَدِّلِينَ مِثْلُ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ وَعَلَى مَن اتَّبَعَهُم مِن الْآخَرِينَ- قُبلَ الْحَقّ وَرُدّ الْبَاطِلُ

(2)

.

(1)

أي: الفلاسفة ونحوهم.

(2)

فلا يُرد كلامهم كلّه، مع أنهم كفار، فكيف يردّ بعض المنتسبين للسُّنَّة كتب علماء وأدباء ومفكرين جملةً وتفصيلًا؟ ولا يقبل منهم أيّ حقّ، ولا يذكرهم إلا بالذم المطلق، وهذا شيخ الإسلام يُجيز أخذ الحق الذي في كتب الكفار، ويُثني على بعض ما جاء فيها، فأين الإنصاف والعدل؟

ص: 344

وَالْحَقُّ مِن ذَلِكَ: لَا يَكونُ بَيَانُ صِفَةِ الْحَقِّ فِيهِ كَبَيَانِ صِفَةِ الْحَقِّ فِي الْقُرْآنِ؛ فَالْأَمْرُ فِي هَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْقُرْآنِ وَمَعَانِيهِ وَتَفْسِيرِهِ وَتَرْجَمَتِهِ. [4/ 109 - 115]

* * *

(القرآن والسُّنَّة كاشفان لمقالات الفلاسفة وغيرهم من الأمم التي فيها ضلال وكفر)

369 -

إذَا تَدَبَّرَ الْمُؤْمِنُ الْعَلِيمُ سَائِرَ مَقَالَاتِ الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ مِن الْأُمَمِ الَّتِي فِيهَا ضَلَالٌ وَكُفْرٌ: وَجَدَ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ كَاشِفَين لِأَحْوَالِهِمْ، مُبَيِّنَينَ لِحَقِّهِمْ، مُمَيِّزَينَ بَيْنَ حَقِّ ذَلِكَ وَبَاطِلِهِ.

وَالصَّحَابَةُ رضي الله عنهم كَانُوا أَعْلَمَ الْخَلْقِ بِذَلِكَ كَمَا كَانُوا أَقْوَمَ الْخَلْقِ بِجِهَادِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، كمَا قَالَ فِيهِمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: "مَن كَانَ مِنْكُمْ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَن قَد مَاتَ؛ فَإِنَّ الْحَيَّ لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ.

أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ:

- كَانُوا أَبَرَّ هَذه الْأُمَّةِ قُلُوبًا.

- وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا.

- وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا.

- قَوْمٌ اخْتَارَهُم اللهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ.

- وَإِقَامَةِ دِينِهِ

(1)

.

فَاعْرِفُوا لَهُم حَقَّهُمْ، وَتَمَسَّكوا بِهَدْيِهِمْ؛ فَإِنَّهُم كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ"

(2)

.

(1)

ذكر خمس صفات عظيمة لهم، مما أوجب معرفة قدرهم، والاقتداء بهم، فرضي الله عنهم وأرضاهم، ووفقنا لاتباع طريقتهم وسُنَّتهم.

(2)

رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1810)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 305)،=

ص: 345

فَأخْبَرَ عَنْهُم بِكَمَالِ بِرِّ الْقُلُوبِ مَعَ كَمَالِ عُمْقِ الْعِلْمِ.

وَهَذَا قَلِيلٌ فِي الْمُتَأَخِّرِينَ؛ كَمَا يُقَالُ: "مِن الْعَجَائِبِ: فَقِيهٌ صُوفِيٌّ، وَعَالِمٌ زَاهِدٌ".

فَإِنَّ أَهْلَ بِرِّ الْقُلُوبِ، وَحُسْنِ الْإِرَادَةِ، وَصَلَاحِ الْمَقَاصِدِ: يُحْمَدُونَ عَلَى سَلَامَةِ قُلُوبِهِم مِن الْإِرَادَاتِ الْمَذْمُومَةِ، وَيَقْتَرِنُ بِهِم كَثِيرًا عَدَمُ الْمَعْرِفَةِ وَإِدْرَاكِ حَقَائِقِ أَحْوَالِ الْخَلْقِ الَّتِي تُوجِبُ الذَّمَّ لِلشَّرِّ وَالنَّهْيِ عَنْهُ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ.

وَأَهْلُ التَّعَمُّقِ فِي الْعُلُومِ: قَد يُدْرِكُونَ مِن مَعْرِفَةِ الشُّرُورِ وَالشُّبُهَاتِ مَا يُوقِعُهُم فِي أَنْوَاعِ الْغَيِّ وَالضَّلَالَاتِ.

وَأَصْحَابُ مُحَمَّدٍ: كَانُوا أَبَرَّ الْخَلْقِ قُلُوبًا وَأَعْمَقَهُم عِلْمًا.

ثُمَّ إنَّ أَكْثَرَ الْمُتَعَمِّقِينَ فِي الْعِلْمِ مِن الْمُتَأَخِّرِينَ يَقْتَرِنُ بِتَعَمُّقِهِم التَّكَلُّفُ الْمَذْمُومُ مِن الْمُتَكَلِّمِينَ والمتعبدين، وَهُوَ الْقَوْلُ وَالْعَمَلُ بِلَا عِلْمٍ، وَطَلَب مَا لَا يُدْرَكُ.

وَأَصْحَابُ مُحَمَّدٍ: كَانُوا -مَعَ أَنَّهُم أَكْمَلُ النَّاسِ عِلْمًا نَافِعًا وَعَمَلًا صَالِحًا- أَقَلَّ النَّاسِ تَكَلُّفًا، يَصْدُرُ عَن أَحَدِهِم الْكلِمَةُ وَالْكَلِمَتَانِ مِن الْحِكْمَةِ، أَو مِن الْمَعَارِفِ مَا يَهْدِي الثهُ بِهَا أُمَّةً، وَهَذَا مِن مِنَنِ اللهِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ.

وَتَجِدُ غَيْرَهُم يَحْشُونَ الْأَوْرَاقَ مِن التَّكَلُّفَاتِ وَالشَّطَحَاتِ مَا هُوَ مِن أَعْظَمِ الْفُضُولِ الْمُبْتَدَعَةِ، وَالْآرَاءِ الْمُخْتَرَعَةِ، لَمْ يَكُن لَهُم فِي ذَلِكَ سَلَفٌ إلَّا رَعُونَاتُ النُّفُوسِ الْمُتَلَقَّاة مِمَن سَاءَ قَصْدُهُ فِي الدّينِ. [4/ 137 - 138].

* * *

= عن ابن عمر، وذكره البغوي في شرح السُّنَّة (1/ 214)، عن ابن مسعود بصيغة الجزم ولم يُسنده، وضعفه الألباني في ضعيف المشكاة (54).

ص: 346

(الموقف السليم من الْأَسْمَاءِ الَّتِي لَمْ يَدُلّ الشَّرْعُ عَلَى ذَمِّ أَهْلِهَا وَلَا مَدْحِهِمْ)

370 -

أمَّا الْأَسْمَاءُ الَّتِي لَمْ يَدُلّ الشَّرْعُ عَلَى ذَمِّ أَهْلِهَا وَلَا مَدْحِهِمْ

(1)

فَيُحْتَاجُ فِيهَا إلَى مَقَامَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: بَيَانُ الْمُرَادِ بِهَا.

وَالثَّانِي: بَيَانُ أنَّ أُولَئِكَ مَذْمُومُونَ فِي الشَّرِيعَةِ.

وَالْمُعْتَرِضُ عَلَيْهِ: لَهُ أَنْ يَمْنَعَ الْمَقَامَيْنِ فَيَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الَّذِينَ عَنَيْتهمْ دَاخِلُونَ فِي هَذ الْأَسْمَاءِ الَّتِي ذَمَمْتهَا، وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى ذَمِّهَا.

وَإِن دَخَلُوا فِيهَا: فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ مَن دَخَلَ فِي هَذِهِ الْأسْمَاءِ فَهُوَ مَذْمُومٌ فِي الشَّرْعِ. [4/ 147]

* * *

(كتمان السني إيمانه في بِلَادِ الرَّافِضَةِ وَالْخَوَارِجِ)

371 -

لَيْسَ مَذْهَبُ السَّلَفِ مِمَّا يُتَسَتَّرُ بِهِ إلَّا فِي بِلَادِ أَهْلِ الْبِدَع؛ مِثْلُ بِلَادِ الرَّافِضَةِ وَالْخَوَارِجِ

(2)

.

فَإِنَّ الْمُؤمِنَ الْمُسْتَضْعَفَ هُنَاكَ قَد يَكْتُمُ إيمَانَهُ وَاسْتِنَانَهُ؛ كَمَا كَتَمَ مُؤمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ إيمَانَهُ، وَكَمَا كَانَ كَثِيرٌ مِن الْمُؤْمِنِينَ يَكْتُمُ إيمَانَهُ حِينَ كَانُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ. [4/ 149]

* * *

(1)

مثل لفظ: الْحَشْو وَالتَّجْسِيم.

(2)

تأمل كيف مثّل للفرقة التي يستر المؤمن إيمانه بينهم: الخوارج، فإنهم لا يدينون بدين المسلمين السُّنَّة من كل وجه؛ بل يُفارقونهم في أصول دينهم في أمور كثيرة، ولذلك قرنهم الشيخ بالرافضة، من جهة مُباينتهم لأهل السُّنَّة.

ص: 347

‌(حكم الانتساب لمذهب السلف، وكيف يُعرف مذهب السلف

؟)

372 -

لَا عَيْبَ عَلَى مَن أَظْهَرَ مَذْهَبَ السَّلَفِ وَانْتَسَبَ إلَيْهِ وَاعْتَزَى إلَيْهِ؛ بَل يَجِبُ قَبُولُ ذَلِكَ مِنْهُ بِالِاتِّفَاقِ

(1)

.

[4/ 149]

373 -

مِن الْمَعْلُومِ أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ إنْ كَانَ ئعْرَفُ بِالنَّقْلِ عَنْهُم فَلْيُرْجَعْ فِي ذَلِكَ إلَى الْآثَارِ الْمَنْقُولَةِ عَنْهُمْ، وَإِن كَانَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِالِاسْتِدْلَالِ الْمَحْضِ؛ بِأَنْ يَكُونَ كُلُّ مَن رَأَى قَوْلًا عِنْدَهُ هُوَ الصَّوَابُ قَالَ:"هَذَا قَوْلُ السَّلَفِ؛ لِأَنَّ السَّلَفَ لَا يَقُولُونَ إلَّا الصَّوَابَ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ" فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُجَرِّئُ الْمُبْتَدِعَةَ عَلَى أَنْ يَزْعُمَ كُلٌّ مِنْهُمْ: أَنَّهُ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ.

فَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ قَد عَابَ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ؛ حَيْثُ انْتَحَلَ مَذْهَبَ السَّلَفِ بِلَا نَقْلٍ عَنْهُمْ؛ بَل بِدَعْوَاهُ: أَنَّ قَوْلَهُ هُوَ الْحَقُّ.

وَأَمَّا أَهْلُ الْحَدِيثِ: فَإِنَّمَا يَذْكُرُونَ مَذْهَبَ السَّلَفِ بِالنُّقُولِ الْمُتَوَاتِرَةِ، يَذْكُرُونَ مَن نَقَلَ مَذْهَبَهُم مِن عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ، وَتَارَةً يَرْوُونَ نَفْسَ قَوْلِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ.

فَصَارَ مَذْهَبُ السَّلَفِ مَنْقُولًا بِإِجْمَاعِ الطَّوَائِفِ، وَبِالتَّوَاتُرِ، لَمْ نُثْبِتْهُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الْإِصَابَةِ لنَا وَالْخَطَأِ لِمُخَالِفِنَا كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْبِدَعِ.

[4/ 151 - 152]

* * *

(مِن أَسْبَاب انْتِقَاصِ الْمُبْتَدِعَةِ لِلسَّلَفِ: مَا حَصَلَ فِي الْمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِم مِن نَوْعِ تَقْصِيرٍ وعُدْوَانٍ)

374 -

مِن أَسْبَابِ انْتِقَاصِ هَؤُلَاءِ الْمُبْتَدِعَةِ لِلسَّلَفِ: مَا حَصَلَ فِي الْمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِم مِن نَوْعِ تَقْصِيرٍ وَعُدْوَانٍ، وَهَا كَانَ مِن بَعْضِهِمْ مِن أُمُورٍ اجْتِهَادِيَّةٍ الصَّوَابُ فِي خِلَافِهَا؛ فَإِنَّ مَا حَصَلَ مِن ذَلِكَ صَارَ فِتْنَةً لِلْمُخَالِفِ لَهُمْ، ضَلَّ بِهِ ضَلَالًا كَبِيرًا. [4/ 155]

* * *

(1)

بشرط ألا يكون ذلك على سبيل التعصب والتحزب الْمَقيت.

ص: 348

(ذمّ من ترك مذهب السلف، واتبع مذهب الخلف)

375 -

إنَّ كَثِيرًا مِن أَصْحَابِ أَبِي مُحَمَّدٍ مِن أَتْبَاعِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ يُصَرِّحُونَ بِمُخَالَفَةِ السَّلَفِ -فِي مِثْل مَسْألَةِ الْإِيمَانِ، وَمَسْألَةِ تَأْوِيلِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ- يَقُولُونَ:"مَذْهَبُ السَّلَفِ: أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَينْقُصُ، وَأَمَّا الْمُتَكَلِّمُونَ مِن أَصْحَابِنَا: فَمَذْهَبُهُم كَيْتُ وَكيْتُ"!

وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ: "مَذْهَبُ السَّلَفِ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي الصِّفَاتِ لَا تُتأَوَّلُ، والمتكلمون يُرِيدُونَ تَأْوِيلَهَا إمَّا وُجُوبًا وَإِمَّا جَوَازًا". وَيَذْكُرُونَ الْخِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِم الْمُتَكَلِّمِينَ.

هَذَا مَنْطُوقُ أَلْسِنَتِهِمْ، وَمَسْطُورُ كُتُبِهِمْ.

أَفَلَا عَاقِلٌ يَعْتَبِرُ؟ وَمَغْرُورٌ يَزْدَجِرُ؟: أنَّ السَّلَفَ ثَبَتَ عَنْهُم ذَلِكَ حَتَّى بِتَصْرِيحِ الْمُخَالِفِ، ثُمَّ يُحْدِثُ مَقَالَةً تَخْرُجُ عَنْهُمْ!

أَلَيْسَ هَذَا صَرِيحًا أنَّ السَّلَفَ كَانُوا ضَالِّينَ عَن التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ، وَعَلِمَهُ الْمُتَأخِّرُونَ؟

وَهَذَا فَاسِدٌ بِضَرُورَةِ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَالدِّينِ الْمَتِينِ.

وَأَيْضًا: فَقَد يَنْصُرُ الْمُتَكَلِّمُونَ أَقْوَالَ السَّلَفِ تَارَةً، وَأَقْوَالَ الْمُتَكَلِّمِينَ تَارَةً؛ كَمَا يَفْعَلُهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِثْلُ أَبِي الْمَعَالِي الجُوَيْنِي، وَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ، وَالرَّازِي وَغَيْرِهِمْ.

وَتَارَةً يَجْعَلُونَ إخْوَانَهُم الْمُتَأَخِّرِينَ أَحْذَقَ وَأَعْلَمَ مِن السَّلَفِ وَيَقُولُونَ: "طَرِيقَةُ السَّلَفِ أَسْلَمُ، وَطَرِيقَة هَؤُلَاءِ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ"!

فَيَصِفُونَ إخْوَانَهُم بِالْفَضِيلَةِ فِي الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ وَالتَحْقِيقِ وَالْعِرْفَانِ، وَالسَّلَفَ بِالنَّقْصِ فِي ذَلِكَ، وَالتَّقْصِيرِ فِيهِ، أَو الْخَطَأِ وَالْجَهْلِ.

وَغَايَتُهُم عِنْدَهُمْ: أَنْ يُقِيمُوا أَعْذَارَهُم فِي التَّقْصِيرِ وَالتَّفْرِيطِ.

ص: 349

وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا شُعْبَةٌ مِن الرَّفْضِ؛ فَإِنَّهُ وَإِن لَمْ يَكُن تَكفِيرًا لِلسَّلَفِ -كَمَا يَقُولُهُ مَن يَقُولُهُ مِن الرَّافِضَةِ وَالْخَوَارجِ-، وَلَا تَفْسِيقًا لَهُم- كَمَا يَقُولُهُ مَن يَقُولُهُ مِن الْمُعْتَزِلَةِ وَالزَّيْدِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ-: كَانَ تَجْهِيلًا لَهُمْ، وَتَخْطِئَةً وَتَضْلِيلًا وَنِسْبَةً لَهُم إلَى الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي، وَإِن لَمْ يَكُن فِسْقًا فَزَعْمًا: أَنَّ أَهْلَ الْقُرُونِ المفضولة فِي الشَّرِيعَةِ أَعْلَمُ وَأَفْضَلُ مِن أَهْلِ الْقُرُونِ الْفَاضِلَةِ.

وَمِن الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ لِمَن تَدَبَّرَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِن جَمِيعِ الطَّوَائِفِ: أَنَّ خَيْرَ قُرُونِ هَذِهِ الْأُمَّةِ -فِي الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالِاعْتِقَادِ وَغَيْرِهَا مِن كُلِّ فَضِيلَةٍ-: الْقَرْنُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِن غَيْرِ وَجْهٍ.

وَأَنَّهُم أَفْضَلُ مِن الْخَلَفِ فِي كُلِّ فَضِيلَةٍ مِن عِلْمٍ وَعَمَلٍ وَإيمَانٍ وَعَقْلٍ وَدِينٍ وَبَيَانٍ وَعِبَادَةٍ.

وَأَنَّهُم أَوْلَى بِالْبَيَانِ لِكُلِّ مُشْكِلٍ.

هَذَا لَا يَدْفَعُهُ إلَّا مَن كَابَرَ الْمَعْلُومَ بِالضَّرورَةِ مِن دِينِ الْإِسْلَامِ، وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ. [4/ 156 - 157]

* * *

(آداب الحوار والردود)

376 -

إِنَّ الرَّدَّ بِمُجَرَّدِ الشَّتْمِ وَالتَّهْوِيلِ لَا يَعْجَزُ عَنْهُ أَحَدٌ.

وَالْإِنْسَانُ لَو أَنَّهُ يُنَاظِرُ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ: لَكَانَ عَلَيْهِ أنْ يَذْكُرَ مِن الْحُجَّةِ مَا يُبَيِّنُ بِهِ الْحَقَّ الَّذِي مَعَهُ، وَالْبَاطِلَ الَّذِي مَعَهُمْ.

وَمَن يَرُدُّ عَلَى النَّاسِ بِالْمَعْقُولِ إنْ لَمْ يُبَيِّنْ حُجَّةٌ عَقْلِيَّةً وَإلَّا كَانَ قَد أَحَالَ النَّاسَ عَلَى الْمَجْهُولَاتِ؛ كَمَعْصُومِ الرَّافِضَةِ، وَغَوْثِ الصُّوفِيَّةِ. [4/ 186 - 187]

* * *

ص: 350

(نُفُورُ النَّافِرِينَ، أَو مَحَبَّةُ الْمُوَافِقِينَ: لَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ الرجل وَلَا فَسَادِهِ)

377 -

مِن الْمَعْلُومِ أَنَّ مُجَرَّدَ نُفُورِ النَّافِرِينَ، أَو مَحَبَّةِ الْمُوَافِقِينَ: لَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ وَلَا فَسَادِهِ، إلَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ بِهُدَى مِن اللهِ؛ بَل الِاسْتِدْلَالُ بِذَلِكَ هُوَ اسْتِدْلَالٌ بِاتباعِ الْهَوَى بِغَيْرِ هُدًى مِن اللهِ.

فَإِنَّ اتِّبَاعَ الْإِنْسَانِ لِمَا يَهْوَاهُ: هُوَ أَخْذُ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ الَّذِي يُحِبُّهُ، وَرَدُّ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ الَّذِي يُبْغِضُهُ بِلَا هُدًى مِن اللهِ، قَالَ تَعَالَى:{وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 119]

(1)

. [4/ 189]

* * *

(الفرق بين أقْوَال الْأَنبِيَاءِ وغيرِهم، والواجب تجاهها)

378 -

الْأَقْوَالُ نَوْعَانِ:

أقوَالٌ ثَابِتَةٌ عَن الْأَنْبِيَاءِ:

فَهِيَ مَعْصُومَةٌ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا حَقًّا، عَرَفَهُ مَن عَرَفَهُ، وَجَهِلَهُ مَن جَهِلَهُ، وَالْبَحْثُ عَنْهَا إنَّمَا هُوَ عَمَّا أَرَادَتْهُ الْأَنْبِيَاءُ.

فَمَن كَانَ مَقْصُودُهُ مَعْرِفَةَ مُرَادِهِمْ مِن الْوَجْهِ الَّذِي يُعْرَفُ مُرَادُهُمْ: فَقَد سَلَكَ طَرِيقَ الْهُدَى.

وَمَن قَصَدَ أَنْ يَجْعَلَ مَا قَالُوهُ تبَعًا لَهُ؛ فَإِنْ وَافَقَهُ قَبِلَهُ وَإِلَّا رَدَّهُ وَتَكَلَّفَ لَهُ مِن التَّحْرِيفِ مَا يُسَمِّيهِ تَأْوِيلًا، مَعَ أَنَّهُ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ كَثِيرًا مِن ذَلِكَ أَو أَكْثَرَهُ لَمْ تُرِدْهُ الْأَنْبِيَاءُ: فَهُوَ مُحَرِّفٌ لِلْكَلِمِ عَن مَوَاضِعِهِ، لَا طَالِبٌ لِمَعْرِفَةِ التَّأْوِيلِ الَّذِي يَعْرِفُهُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ.

(1)

إنها قاعدة منضبطةٌ، تعرف بها: هل أنت متبع لهواك أم لا؟ فتمسّك بها، وزِنْ بها كلّ أقوالك وأفعالك التي تُحبها أو تكرهها.

ص: 351

النَّوْعُ الثَّانِي: مَا لَيْسَ مَنْقُولًا عَن الْأَنْبِيَاءِ، فَمَن سِوَاهُم لَيْسَ مَعْصُومًا، فَلَا يُقْبَلُ كَلَامُهُ وَلَا يُرَدُّ إلَّا بَعْدَ تَصَوُّرِ مُرَادِهِ وَمَعْرِفَةِ صَلَاحِهِ مِن فَسَادِهِ. [4/ 191 - 192]

* * *

‌(ما هي الْمُجَادَلَةُ الْمَحْمُودَةُ والذمومة

؟)

379 -

مَا أَكْثَرَ مَن يُحْتَجُّ بِهِ مِن الْمُنْتَسِبِينَ إلَى عِلْمٍ أَو عِبَادَةٍ بِحُجَجٍ لَيْسَتْ مِن أصُولِ الْعِلْمِ، وَقَد يُبْدِي ذووا الْعِلْمِ لَهُ مُسْتَنَدًا مِن الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَاللهُ يَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ لَهَا وَعَمَلَهُ بِهَا: لَيْسَ مُسْتَنِدًا إلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُهَا دَفْعًا لِمَن يُنَاظِرُهُ.

والْمُجَادَلَةُ الْمَحْمُودَةُ: إنَّمَا هِيَ إبْدَاءُ الْمَدَارِكِ، [وإظهارُ الْحُجَجِ]

(1)

، الَّتِي هِيَ مُسْتَنَدُ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ، وَأَمَّا إظْهَارُ غَيْرِ ذَلِكَ: فَنَوْعٌ مِن النِّفَاقِ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ

(2)

. [4/ 195]

* * *

(الحذر من طاعهَ أَحَدٍ فِي دِينٍ لَمْ يَأْذَن الله بهِ، ومتى يُعذر ويُلام من فعل ذلك)

380 -

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، فَمَن نَدبَ إلَى شَيْءٍ يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللهِ، أَو أَوْجَبَهُ بِقَوْلِهِ

(1)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، والتصويب من اقتضاء الصراط المستقيم (ص 90) الذي هو أصل هذا الكلام.

(2)

مقصود الشيخ رحمه الله بهذا الكلام المتين: أنّ المجادلة المحمودة شرعًا وعقلًا: هي بأنْ يُبدي الْمُجادل الذي يُجادل عن رأيه أو مذهبِه بالأدلة والحجج والبراهين، أما من يُجادل بغير ذلك؛ كأنْ يُجادل بمجرد دعوى أنّ شيخه أفضل من ثميخه، أو أن رأيه هو الذي عليه الناس، أو يُكثر من ذمّ خصمه وعيبِه واتهامه بالسفه والجهل ونحو ذلك: فهذا كما قال الشيخ: بأنه نَوْعٌ مِن النِّفَاقِ فِي الْعِلْمَ وَالْعَمَلِ، وهو حيلة الجبان الضعيف.

ص: 352

أَو فِعْلِهِ مِن غَيْرِ أَنْ يُشَرِّعَهُ اللهُ: فَقَد شَرَعَ مِن الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ.

وَمَن اتَّبَعَهُ فِي ذَلِكَ: فَقَد اتَّخَذَ شَرِيكًا للهِ شَرَعَ فِي الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، وَقَد يُغْفَرُ لَهُ لِأَجْلِ تَأْوِيلٍ إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا الِاجْتِهَادَ الَّذِي يُعْفَى مَعَهُ عَن الْمُخْطِئِ

(1)

.

لَكِنْ لَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31].

فَمَن أَطَاعَ أَحَدًا فِي دِينٍ لَمْ يَأْذَن اللهُ بِهِ؛ مِن تَحْلِيلٍ، أَو تَحْرِيمٍ، أَو اسْتِحْبَابٍ، أَو إيجَابٍ: فَقَد لَحِقَهُ مِن هَذَا الذَّمِّ نَصِيبٌ، كَمَا يَلْحَقُ الْآمِرَ النَّاهِيَ.

ثُمَّ قَد يَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا مَعْفُوًّا عَنْهُ، فَيَتَخَلَّفُ الذَّمُّ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ، أَو وُجُودِ مَانِعِهِ، وَإِن كَانَ الْمُقْتَضِي لَهُ قَائِمًا.

وَيَلْحَقُ الذَّمُّ:

أ- مَن تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ فَتَرَكَهُ.

ب- أَو قَصَّرَ فِي طَلَبِهِ فَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ.

ج- أَو أَعْرَضَ عَن طَلَبِهِ لِهَوَى، أَو كَسَلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. [4/ 195]

* * *

‌(ما هو التَّقْلِيدُ الْمَذْمُوم

؟)

381 -

إنَّ التَّقْلِيدَ الْمَذْمُومَ: هُوَ قَبُولُ قَوْلِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ؛ كَاَلَّذِينَ ذَكَرَ اللهُ عَنْهُم أَنَّهُم {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة: 170].

(1)

فليس كلُّ من اجتهد يُعفى عنه؛ بل لا بدّ أن يكون الْمجتهد طالبًا الحق باذلًا الوسع في طلبِه، تاركًا لهوى النفس.

قال شيخ الإسلام في درء تعارض العقل والنقل (2/ 316): الفاضل المجتهد في طلب العلم، بحسب ما أدركه في زمانه ومكانه، إذا كان مقصودُه متابَعَةَ الرسول بحسب إمكانه: هو أحق بأن يَتَقبَّل الله حسناته، ويثيبه على اجتهاداته، ولا يؤاخِذه بما أخطأه؛ تحقيقًا لقوله تعالى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]. اهـ.

ص: 353

قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170].

وَقَالَ: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)} [الصافات: 69، 70].

وَنَظَائِرُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثيرٌ.

فَمَن اتَّبَعَ دِينَ آبَائِهِ وَأَسْلَافِهِ لِأَجْلِ الْعَادَةِ الَّتِي تَعَوَّدَهَا وَتَرَكَ اتِّبَاعَ الْحَقِّ الَّذِي يَجِبُ اتِّبَاعُهُ: فَهَذَا هُوَ الْمُقَلِّدُ الْمَذْمُومُ.

[4/ 197 - 198]

* * *

(كلُّ من عصى الله فإنما يَتَّبِعَ الظَّنَّ، أو يَتَّبِعُ مَا يَهْوَاهُ)

382 -

الْمُطِيعُ لِلْمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ:

أ- إمَّا أَنْ يَتَّبعَ الظَّنَّ.

ب- وَإِمَّا أنْ يَتَّبعَ مَا يَهْوَاه.

ج- وَكَثِيرٌ يَتَّبِعُهُمَا.

وَهَذِهِ حَالُ كُلِّ مَن عَصَى رَسُولَ اللّهِ مِن الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ مِن الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَمِن أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ مِن هَذِهِ الْأُمَّةِ.

وَبَيَان ذَلِكَ: أَنَّ الشَّخْصَ: إمَّا أَنْ يُبَيَّنَ لَهُ أَنَّ مَا بَعَثَ اللهُ بِهِ رَسُولَهُ حَقٌّ:

- وَيَعْدِلُ عَن ذَلِكَ إلَى اتِّبَاعِ هَوَاهُ.

- أَو يَحْسَبُ أَنَّ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِن تَرْكِ ذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ.

فَهَذَا مُتَبعٌ لِلظَّنِّ.

وَالْأوَّلُ مُتَّبعٌ لِهَوَاهُ.

قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْأَوَّلينَ: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33].

ص: 354

وَقَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْأَخْسَرِينَ: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} الكهف: 103، 104].

فَالْأَوَّلُ: حَالُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَلَا يَتَّبِعُونَهُ؛ كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْيَهُودِ.

وَالثَّانِي: حَالُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، قَالَ تَعَالَى:{وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 119]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [لقصص: 50]

(1)

.

وَكُلُّ مَن يُخَالِفُ الرُّسُلَ: هُوَ مُقَلِّدٌ، مُتَّبغ لِمَن لَا يَجُوزُ لَهُ اتِّبُاعُهُ.

وَكَذَلِكَ مَن اتَّبَعَ الرَّسُولَ بِغَيْرِ بَصِيرَةٍ وَلَا تَبَيُّنٍ، وَهُوَ الَّذِي يُسْلِمُ بِظَاهِرِهِ، مِن غَيْرِ أنْ يَدْخُلَ الإيمَانُ إلَى قَلْبِهِ كَاَلَّذِي يُقَالُ لَهُ فِي الْقَبْرِ: مَا رَبُّك؟ وَمَا دِينُك؟ وَمَا نَبِيُّك

(2)

؟

فَيَقُولُ: هاه هاه لَا أَدْرِي، سَمِعْت النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْته -هُوَ مُقَلِّدٌ-.

فَيُضْرَبُ بِمِرْزَبَّةٍ مِن حَدِيدٍ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا كُلُّ شَيْءٍ إلَّا الْإنْسَانَ، وَلَو سَمِعَهَا الْإِنْسَانُ لَصُعِقَ؛ أَيْ: لَمَاتَ.

وَقَد قَالَ تَعَالَى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 4]، فَمَن لَمْ يَدْخُل الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ وَكَانَ مُسْلِمًا فِي الظَّاهِرِ: فَهُوَ مِن الْمُقَلِّدِينَ الْمَذْمُومِينَ.

فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُقَلِّدَ مَذْمُومٌ- وَهُوَ مَن اتَّبَعَ هَوَى مَن لَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ؛

(1)

أما من اتبع هواه بهدىً من الله فلا ذمّ عليه، وقد يكون محمودًا؛ كمن يتبع هواه في اختيار الزوجة التي تُناسبه ليحصّن فرجه، فله أجر في ذلك، وقد قالت عائشةُ رضي الله عنها لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"مَا أَرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارعُ فِي هَوَاكَ". رواه البخاري (5113)، ومسلم (1464).

(2)

الذي وجدته في كتب السُّنَّة بلفظ: مَن رَبُّكَ، وَمَا دِينُكَ، وَمَن نَبِيُّكَ. هكذا رواه الترمذي (3120)، وأبو داود (4753)، وغيرُهما.

ص: 355

كَاَلَّذِي يَتْرُكُ طَاعَاتِ رُسُلِ اللهِ وَيَتَّبعُ سَادَاتِهِ وَكُبَرَاءَهُ، أَو يَتَّبعُ الرَّسُولَ ظَاهِرًا مِن غَيْرِ إيمَانٍ فِي قَلْبِهِ-: تَبَيَّنَ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى كُلَّهُم مُقَلِّدُونَ تَقْلِيدًا مَذْمُومًا، وَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ مِن هَذِهِ الْأُمَّةِ. [4/ 199 - 201]

* * *

(طرق إقناع الكفار من أهل الكتاب وغيرِهم بصحة دين الإسلام)

383 -

إنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُم يَتَّبِعُونَ مُوسَى وَعِيسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ إنَّمَا يَتَّبِعُونَهُم لِأَجْلِ أَنَّهُم رُسُلُ اللهِ

(1)

.

وَمَا مِن طَرِيقٍ تَثْبُتُ بِهَا نُبُوَّةُ مُوسَى وَعِيسَى إلَّا وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم أَوْلَى وَأَحْرَى.

مِثَالُ ذَلِكَ: إذَا قَالَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى:

- قَد ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ أَنَّ مُوسَى وَعِيسَى مَعَ دَعْوَاهُ النُّبُوَّةَ ظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِهِ.

- وَأَنَّهُ جَاءَ مِن الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَجِئْ بِهِ مُفْتَرٍ كَذَّابٌ، ظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِهِ.

وَإِنَّمَا يَجِيءُ بِهِ مَعَ دَعْوَى النُّبُوَّةِ نَبِيٌّ صَادِقٌ.

قِيلَ لَهُ: كُلٌّ مِن هَاتَيْنِ الطَّرِيقَتَيْنِ دَلِيل يُثْبِتُ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بطَرِيقِ الْأَوْلَى.

فَإِنَّهُ مِن الْمَعْلُومِ أَنَّ الَّذِينَ نَقَلُوا مَا دَعَا إلَيْهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم مِن الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ، وَنَقَلُوا مَا جَاءَ بِهِ مِن الْآيَاتِ الْمُعْجِزَاتِ: أَعْظَمُ مِن الَّذِينَ نَقَلُوا مِثْل ذَلِكَ عَن مُوسَى وَعِيسَى

(2)

.

(1)

فاتباع اليهود لموسى والنصارى لعيسى لكونهم يعتقدون أنهما نبيَّان، ليس لكونهما حكيمين أو صالحين فحسب.

(2)

فتواتر النقل عن النبي محمد أعظم وأكثر وأصح وأضبط وأوثق من النقل عن موسى وعيسى عليهم وعلى نبينا أزكى الصلاة والتسليم.

ص: 356

وَمَا جَاءَ بِهِ مِن هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ

(1)

: أَعْظَمُ مِمَّا جَاءَ بِهِ مُوسَى وَعِيسَى.

فَإِنَّ الَّذِي عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مِن تَوْحِيدِ اللهِ وَمَعْرِفَةِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَمَلَائِكَتِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَمَعْرِفَةِ الْيَوْم الْآخِرِ، وَصِفَةِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ: أَعْظَمُ وَأَجَلُّ بِكَثِير مِمَّا عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.

وَهَذَا بَيِّنٌ لِكُلِّ مَن يَبْحَثُ عَن ذَلِكَ.

وَمَا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مِن الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ؛ مِثْل الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَغَيْرِهَا مِن الصَّلَوَاتِ، وَالْأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ: أَعْظَمُ وَأَجَلُّ مِمَّا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ.

وَمَا عِنْدَهُم مِن الشَّرِيعَةِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالْمُنَاكَحَاتِ وَالْأَحْكَامِ وَالْحُدُودِ وَالْعُقُوبَاتِ: أَعْظَمُ وَأَجَلُّ مِمَّا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ.

فَالْمُسْلِمُونَ فَوْقَهُم فِي كُلِّ عِلْيم نَافِعٍ، وَعَمَلٍ صَالِحٍ، وَهَذَا يَظْهَرُ لِكُلِّ أَحَدٍ بِأَدْنَى نَظَرٍ، لَاْ يَحْتَاجُ إلَى كَثِيرِ سَعْيٍ.

وَالْمُسْلِمُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ كُل هُدًى وَخَيْرٍ يَحْصُلُ لَهُمْ: فَإِنَّمَا حَصَلَ بِنَبِيِّهِمْ صلى الله عليه وسلم.

فَكَيْفَ يُمْكِنُ مَعَ هَذَا أَنْ يَكُونَ مُوسَى وَعِيسَى نَبِيَّيْنِ، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ بِنَبِيّ، وَأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى عَلَى الْحَقِّ؟

فَمَا هُم عَلَيْهِ مِن الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ: أَعْظَمُ مِمَّا عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ وَذَلِكَ إنَّمَا تَلَقَّوْهُ مِن نَبِيِّهِمْ.

فَأَصْلُ دِينِهِمْ حَقٌّ .. لَكِنْ كُلٌّ مِن الدِّينَيْنِ مُبَدَّلٌ مَنْسُوخٌ؛ فَإِنَّ الْيَهُودَ بَدَّلُوا وَحَرَّفُوا، ثُمَّ نُسِخَ بَقِيَّةُ شَرِيعَتِهِمْ بِالْمَسِيحِ صلى الله عليه وسلم.

وَنَفْسُ الْكُتُبِ الَّتِي بِأَيْدِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى- مِثْلُ نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهِيَ أَكْثَرُ

(1)

وهما: الدِّين وَالشَّرِيعَة، والآيَات الْمُعْجِزَات.

ص: 357

مِن عِشْرِينَ نُبُوَّةً وَغَيْرُهَا- تُبَيِّنُ أَنَّهُم بَدَّلُوا، وَأَنَّ شَرِيعَتَهُم تُنْسَخُ، وَتُبَيِّنُ صِحَّةَ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؛ فَإِنَّ فِيهَا مِن الْإِعْلَامِ وَالدَّلَائِلِ عَلَى نُبُوَّةِ خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ: مَا قَد صَنَّفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ مُصَنَّفَاتٍ.

وَفِيهَا أَيْضًا مِن التَّنَاقُضِ وَالِاخْتِلَافِ مَا يُبَيِّنُ أَيْضًا وُقُوعَ التَّبْدِيلِ.

وَفِيهَا مِن الْأَخْبَارِ مِن نَحْوٍ بَعْدَهَا مَا يُبَيِّنُ أَنَهَا مَنْسُوخَةٌ.

وَقَد نَاظَرْنَا غَيْرَ وَاحِدٍ مِن أَهْلِ الْكِتَاب، وَبَيَّنَا لَهُم ذَلِكَ، وَأَسْلَمَ مِن عُلَمَائِهِمْ وَخِيَارِهِمْ طَوَائِفُ، وَصَارُوا يُنَاظِرُونَ أَهْلَ دِينِهِمْ، وَيُبَيِّنونَ مَا عِنْدَهُم مِن الدَّلَائِلِ عَلَى نبوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم

(1)

.

‌فَصْلٌ

وَأمَّا إنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ لَا يُقِرُّ بِنُبُوَّةِ نَبِيِّ مِن الْأَنْبِيَاءِ؛ لَا مُوسَى وَلَا عِيسَى وَلَا غَيْرِهِمَا: فَلِلْمُخَاطَبَةِ طُرُقٌ مِنْهَا:

[الطريق الأول]: أَنَّ نَسْلُكَ فِي الْكَلَامِ بَيْنَ أهْلِ الْمِلَلِ وَغَيْرِهِمْ -مِن الْمُشْرِكِينَ وَالصَّابِئِينَ والمتفلسفة والبراهمة وَغَيْرِهِمْ- نَظِيرَ الْكَلَام بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، فَنَقُولُ: مِن الْمَعْلُومِ لِكُلِّ عَاقِلٍ لَهُ أَدْنَى نَظَرٍ وَتَأَمُّلٍ: أَنَّ أَهْلَ الْمِلَلِ أَكْمَلُ فِي الْعُلُومِ النَّافِعَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مِمَن لَيْسَ مَن أهْلِ الْمِلَلِ، فَمَا مِن خَيْرٍ يُوجَدُ عِنْدَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مَن أهْلِ الْمِلَلِ إلَّا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مَا هُوَ أكْمَلُ مِنْهُ، وَعِنْدَ أهْلِ الْمِلَلِ مَا لَا يُوجَدُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ.

وَذَلِكَ أَنَّ الْعُلُومَ وَالْأعْمَالَ نَوْعَانِ:

(نَوْعٌ) يَحْصُلُ بِالْعَقْلِ؛ كَعِلْمِ الْحِسَابِ وَالطِّبِّ، وَكَالصِّنَاعَةِ مِن الْحِيَاكَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَالتِّجَارَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذِهِ الْأمُورُ عِنْدَ أهْلِ الْمِلَلِ كَمَا هِى عِنْدَ غَيْرِهِمْ.

(1)

وفي العصر الحديث أسلم الآلاف من أهل الكتاب بعد الحوار معهم، ووقوفهم على حقائق القرآن، وتناقض وأخطاء ما في كتبهم.

ص: 358

بَل هُم فِيهَا أَكْمَلُ؛ فَإِنَّ عُلُومَ الْمُتَفَلْسِفَةِ- مِن عُلُومِ الْمَنْطِقِ وَالطَّبِيعَةِ وَالْهَيْئَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ- مِن مُتَفَلْسِفَةِ الْهِنْدِ وَالْيُونَانِ وَعُلُومِ فَارِسٍ وَالرُّومِ، لَمَّا صَارَتْ إلَى الْمُسْلِمِينَ هَذَّبُوهَا وَنَقَّحُوهَا؛ لِكَمَالِ غقُولِهِمْ، وَحُسْنِ أَلْسِنَتِهِمْ، وَكَانَ كَلَامُهُم فِيهَا أَتَمَّ وَأَجْمَعَ وَأَبْيَنَ، وَهَذَا يَعْرِفُهُ كُلُّ عَاقِلٍ وَفَاضِلٍ

(1)

.

النَّوْعُ الثَّانِي: مَا لَا يُعْلَمُ إلَّا بِخَبَرِ الرُّسُلِ، فَهَذَا يُعْلَمُ بِوُجُوه:

- مِنْهَا: اتِّفَاقُ الرُّسُلِ عَلَى الْإِخْبَارِ بِهِ مِن غَيْرِ تَوَاطُؤٍ وَلَا اتِّفَاقٍ بَيْنَهُمْ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا أَخْبَرَ وَاحِدٌ عَن عُلُومٍ طَوِيلَةٍ فِيهَا تَفَاصِيلُ كَثِيرَةٌ، لَا يُمْكِنُ فِي الْعَادَةِ خَطَؤُهُمْ، وَأَخْبَرَ غَيْرُهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَعَ الْجَزْمِ بِأَنَّهُمَا لَمْ يَتَوَاطَآ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ يُمْكِنُ الْكَذِبُ فِي مِثْل ذَلِكَ: أَفَادَ خَبَرُهُمَا الْعِلْمَ، وَإِن لَمْ يُعْلَمْ حَالُهُمَا.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُوسَى أَخْبَرَ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم! وقَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ الْمَسِيحُ.

وَمَعْلُومٌ أَيْضًا لِكُلِّ مَن كَانَ عَالِمًا بِحَالِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ نَشَأَ بَيْنَ قَوْمٍ أُمِّيِّينَ، لَا يَقْرَؤُونَ كِتَابًا، وَلَا يَعْلَمُونَ عُلُومَ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُن عِنْدَهُم مَن يَعْلَمُ مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَنُبُوَّةَ الْأَنْبِيَاءِ.

وَقَد أَخْبَرَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم مِن تَوْحِيدِ اللهِ وَصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَعَرْشِهِ وَكُرْسِيِّهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ وَأَخْبَارِهِمْ وَأَخْبَارِ مُكَذِّبِيهِمْ: بِنَظِيرِ مَا يُوجَدُ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ مِن التَّوْرَاةِ وَغَيْرِهَا.

فَمَن تَدَبَّرَ التَّوْرَاةَ وَالْقُرْآنَ: عَلِمَ أَنَّهُمَا جَمِيعًا يَخْرُجَانِ مِن مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ،

(1)

وقل مثل هذا في علوم الغرب في العصر الحديث، فإنهم توصلوا إلى علوم في السلوك والتعامل والأخلاق والتربية والنظام والقانون، ولكن فيها من الأخطاء والزلات والعيوب الشيء الكثير، كتقريرهم حق المرأة في الزنى والشاب في اللواط، ونحو ذلك من الأخطاء، فلما حصلت في أيدي المسلمين، هذبوها ونقحوها؛ لكمال عقولهم، وحسن ألسنتهم، فكان كلامُهم فيها أتم وأجمع وأنفع.

ص: 359

كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ النَّجَاشِيُّ، وَكَمَا قَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ: هَذَا هُوَ النَّامُوسُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى.

وَلهَذَا قَرَنَ اللهُ تَعَالَى بَيْنَ التَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ فِي مِثْل هَذَا فِي قَوْلِهِ: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} [القصص: 48].

وَقَالَت الْجِنُّ: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأحقاف: 30].

وَمِن الطُّرُقِ: أَنَّ الرُّسُلَ جَاؤُوا مِن الْعُلُومِ النَّافِعَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ عَاقِلٍ لَبِيبٍ، وَلَا يُنْكِرُهُ إلَّا جَاهِلٌ غَاوٍ.

فَإِذَا تَبَيَّنَ صِدْقُهُمْ: وَجَبَ التَّصْدِيقُ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرُوا بِهِ، وَوَجَبَ الْحُكْمُ بِكُفْرِ مَن آمَنَ بِبَعْضٍ وَكَفَرَ بِبَعْضِ. [4/ 201 - 215]

* * *

(معنى الآية: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ})

384 -

قَالَ تعَالَى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس: 94]، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَشُكَّ وَلَمْ يَسْأَلْ، وَلَكِنَّ هَذَا حُكْمٌ مُعَلَّقٌ بِشَرْطٍ، وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ يُعْدَمُ عِنْدَ عَدَمِهِ، وَفِي ذَلِكَ سَعَةٌ لِمَن شَكَّ أَو أَرَادَ أَنْ يَحْتَجَّ أَو يَزْدَادَ يَقِينًا. [4/ 209]

* * *

‌(هَل الرُّوح قَدِيمَةٌ أَو مَخْلُوقَةٌ

؟)

385 -

رُوحُ الْآدَمِيِّ مَخْلُوقَةٌ مُبْدَعَةٌ بِاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَسَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَقَد حَكَى إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ غَيْرُ وَاحِدٍ مِن أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ مِثْلُ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي الْإِمَامِ الْمَشْهُورِ، الَّذِي هُوَ أَعْلَمُ أَهْلِ زَمَانِهِ بِالْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ أَو مِن أَعْلَمِهِمْ.

وأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] فَقَد قِيلَ إنَّ

ص: 360

الرُّوحَ هُنَا لَيْسَ هُوَ رُوحُ الْآدَمِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ مَلَكٌ فِي قَوْلِهِ:{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النبأ: 38].

وَقِيلَ: بَل هُوَ رُوحُ الْآدَمِيِّ.

وَالْقَوْلَانِ مَشْهُورَانِ.

وَسَوَاءٌ كَانَت الْآيَةُ تَعُمُّهُمَا أَو تَتَنَاوَلُ أَحَدَهُمَا: فَلَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّوحَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْقُرْآنِ يُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ تَارَةً، ويُرَادُ بِهِ الْمَفْعُولُ تَارَةً أُخْرَى، وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: ا]، وَقَوْلِهِ:{وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [الأحزاب: 38]، وَهَذَا فِي لَفْظٍ غَيْرِ الْأمْرِ؛ كَلَفْظِ الْخَلْقِ وَالْقُدْرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْكَلِمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَلَو قِيلَ: إنَّ الرُّوحَ بَعْضُ أَمْرِ اللهِ، أَو جُزْءٌ مِن أَمْرِ اللهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا فوَ صَرِيحٍ فِي أَنَّهَا بَعْضُ أَمْرِ اللهِ: لَمْ يَكن الْمُرَادُ بِلَفْظِ الْأمْرِ إلَّا الْمَأْمُورُ بِهِ لَا الْمَصْدَرُ؛ لِأنَّ الرَّوحَ عَيْنٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا، تَذْهَبُ وَتَجِيءُ، وَتُنَعَّمُ وَتُعَذَّبُ، وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُسَمَّى مَصْدَرِ: أَمَرَ يَأْمُرُ أَمْرًا.

وَهَذَا قَوْلُ سَلَفِ الْأمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَجُمْهُورِهَا.

أَمَّا الْأعْيَانُ الْقَائِمَةُ بِأَنْفُسِهَا فَلَا تُسَمَّى أَمْرًا لَا بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ بِهِ، وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ؛ كَمَا سُمِّيَ الْمَسِيحُ كَلِمَةً؛ لِأنَّهُ مَفْعُولٌ بِالْكَلِمَةِ، وَكَمَا يُسَمَّى الْمَقْدُورُ قُدْرَةً، وَالْجَنَّةُ رَحْمَةً، وَالْمَطَرُ رَحْمَةً فِي مِثْل قَوْلِهِ:{فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 50].

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ لَفْظَةَ (مِنْ) فِي اللُّغَةِ قَد تَكُونُ لِبَيَانِ الْجِنْسِ؛ كَقَوْلِهِمْ: بَابٌ مِن حَدِيدٍ، وَقَد تَكُونُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ؛ كَقَوْلِهِمْ: خَرَجْت مِن مَكَّةَ.

فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} لَيْسَ نَصًّا فِي أَنَّ الرُّوحَ بَعْضُ الْأَمْرِ وَمِن جِنْسِهِ؛ بَل قَد تَكُون لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ؛ إذ كُوِّنَتْ بِالْأَمْرِ وَصَدَرَتْ عَنْهُ ..

ص: 361

كَقَوْلِهِ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13]، وَنَظِيرُ هَذَا أَيْضًا قَوْلُهُ. {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53].

فَإِذَا كَانَت الْمُسَخَّرَاتُ وَالنِّعَمُ مِن اللهِ وَلَمْ تَكُنْ بَعْضَ ذَاتِهِ بَل مِنْهُ صَدَرَتْ: لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْمَسِيحِ: "رُوحٌ مِنْهُ" أَنَّهَا بَعْضُ ذَاتِ اللهِ. [4/ 216 - 229]

* * *

(الْجَانّ مُخَاطَبُونَ بِفرُوعِ الْإِسْلَامِ، مع فروق في الحدّ بينهم وبين الإنس)

386 -

لَا ريبَ أَنَّهُم [أي: الْجَانّ] مَأْمُورُونَ بِأَعْمَالٍ زَائِدَةٍ عَلَى التَّصْدِيقِ، وَمَنْهِيُّونَ عَن أَعْمَالٍ غَيْرِ التَّكْذِيبِ، فَهُم مَأْمُورُونَ بِالْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ بِحَسْبِهِمْ؛ فَإِنَّهُم لَيْسُوا مُمَاثِلِي الْإِنْسِ فِي الْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ، فَلَا يَكُونُ مَا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ مُسَاوِيًا لِمَا عَلَى الْإِنْسِ فِي الْحَدِّ، لَكِنَّهُم مُشَارِكُونَ الْإِنْسَ فِي جِنْسِ التَّكْلِيفِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ.

وَهَذَا مَا لَمْ أَعْلَمْ فِيهِ نِزَاعًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.

وَكَذَلِكَ لَمْ يَتَنَازَعُوا أَنَّ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ مِنْهُم يَسْتَحِقُّونَ لِعَذَابِ النَّارِ كَمَا يَدْخلُهَا مِن الْآدَمِيِّينَ.

لَكِنْ تَنَازَعُوا فِي أَهْلِ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِن أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: إلَى أَنَّهُم يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ.

وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْهُم أَبُو حَنِيفَةَ -فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ- إلَى أَنَّ الْمُطِيعِينَ مِنْهُم يَصِيرُونَ تُرَابًا كَالْبَهَائِمِ، وَيكُونُ ثَوَابُهُم النَّجَاةَ مِن النَّارِ.

وَأَمَّا التَّكْلِيفُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ: فَدَلَائِلُهُ كَثِيرَةٌ؛ مِثْلُ مَا فِي "مُسْلِمٍ"

(1)

عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أتانِي دَاعِي الْجِنِّ،

(1)

(450).

ص: 362

فَذَهَبْت مَعَهُ فَقَرَأت عَلَيْهِم الْقُرْآنَ فَانْطَلَقُوا، فَآرَانَا آثَارَهُم وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ، وَسَألُوهُ الزَّادَ فَقَالَ:"لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أوْفَرُ مَا يَكونُ، وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ".

فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَسْتَنْجُوا بِالْعَظْمِ وَالرَّوْثِ"؛ وَذَلِكَ لِئَلَّا يُفْسِدَ عَلَيْهِم طَعَامَهُم وَعَلَفَهُمْ.

وَهُنَا يُبَيِّنُ أَنَّمَا أَبَاحَ لَهُم مِن ذَلِكَ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، دُونَ مَا لَمْ يُذْكَر اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ

(1)

. [4/ 233 - 234]

* * *

(حكم تصوير الشجر والمعادن وغيرها)

387 -

يَجُوزُ تَصْوِيرُ صُورَةِ الشَّجَرِ وَالْمَعَادِنِ فِي الثِّيَابِ وَالْحِيطَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَن صَوَّرَ صُورَةً كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخ"

(2)

، وَلهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِلْمُسْتَفْتِي الَّذِي اسْتَفْتَاهُ:"صَوِّرْ الشَّجَرَ وَمَا لَا رُوحَ فِيهِ".

وَلِهَذَا نَصَّ الْأئِمَّةُ عَلَى ذَلِكَ وَقَالُوا: الصُّورَةُ هِيَ الرَّأْسُ لَا يَبْقَى فِيهَا رُوحٌ، فَيَبْقَى مِثْلُ الْجَمَادَاتِ

(3)

. [29/ 370]

* * *

(1)

ووجه التكليف: أنهم أُمروا أمرًا شرعيًّا أنْ يأكلوا كلّ عَظْمٍ، بشرط أنْ يذكروا اسْم اللهِ عَلَيْهِ، وهذا تكليفٌ شرعيّ.

(2)

رواه أحمد (2213).

(3)

نص بعض الفقهاء على أن تصوير أو رسم ناقص الأعضاء الظاهرة التي لا تبقي الحياة بدونها لا يحرم، ومن ذلك: رسم الوجه وحده، فكما أنه يجوز رسم عضو اليد وحده، فكذلك يجوز رسم الوجه وحده، لا فرق، قال ابن قدامة رحمه الله: وكذلك إذا كان في ابتداء التصوير صورة بدن بلا رأس، أو رأسًا بلا بدن، أو جعل له رأس وسائر بدنه صورة غير حيوان، لم يدخل في النهي؛ لأن ذلك ليس بصورة حيوان. اهـ. المغني:(8/ 111)

وجاء في حاشية الصاوي على الشرح الصغير (5/ 210): الْحَاصِلُ أنَّ تَصَاوِيرَ الْحَيَوَانَاتِ تَحْرُمُ إجْمَاعًا إنْ كَانَت كَامِلَةَ لَهَا ظِلٌّ مِمَّا يَطُولُ اسْتِمْرَارُهُ، بِخِلَافِ نَاقِصِ عُضْوٍ لَا يَعِيشُ بِهِ =

ص: 363

‌(متى يُصوّر الجنين، ويُكتب رزقه وأجله

؟)

388 -

سُئِلَ رحمه الله: عَن حَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ النُّطْفَةَ تَكونُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَقَةً، ثمَّ أَرْبَعِينَ مُضْغَةً، ثُمَّ يَكُون التَّصْوِيرُ وَالتَّخْطِيطُ وَالتَّشْكِيلُ".

ثُمَّ وَرَدَ عَن حُذَيْفَةَ بْنِ أسيد: "أَنَّهُ إذَا مَرَّ لِلنُّطْفَةِ اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً بَعَثَ اللهُ تَعَالَى إلَيْهَا مَلَكًا فَصَوَّرَهَا وَخَلَقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا وَجِلْدَهَا وَلَحْمَهَا وَعِظَامَهَا، ثُمَّ يَقُولُ يَارَبّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ شَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟

(1)

".

فَمَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ؟

فَأَجَابَ: أَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فَهُوَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ"

(2)

عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ-: "إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعٍ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَة، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْل ذَلِكَ، ثُمَّ يَكونُ مُضْغَةً مِثْل ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ إلَيْهِ الْمَلَكُ، فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وُيؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَو سَعِيدٌ".

فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ التَّصْوِيرِ مَتَى يَكُونُ، لَكِنَّ فِيهِ أَنَّ الْمَلِكَ يَكْتُبُ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَة وَشَقِيٌّ أَو سَعِيدٌ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ وَبَعْدَ أَنْ يَكُونَ مُضْغَةً.

وَحَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِك الَّذِي فِي "الصَّحِيحِ"

(3)

يُوَافِقُ هَذَا وَهُوَ مَرْفُوعٌ قَالَ: "إن اللهَ عزَّوجلَّ وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ نُطْفَةٌ؛ أَيْ رَبِّ عَلَقَةٌ؛ أَيْ رَبِّ مُضْغَةٌ، فَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهَا قَالَ الْمَلَكُ: أَيْ رَبِّ ذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟

= لَو كَانَ حَيَوَانًا، وَبِخِلَافِ مَا لَا ظِلَّ لَهُ كَنَقْشِ فِي وَرَقٍ أو جِدَارٍ.

وَفِيمَا لَا يَطُولُ اسْتِمْرَارُهُ خِلَافٌ وَالصَّحِيحُ حُرْمَتُهُ. اهـ.

(1)

رواه مسلم (2645).

(2)

رواه البخاري (6594)، ومسلم (2643).

(3)

رواه البخاري (6595)، ومسلم (2646).

ص: 364

شَقِيٌّ أَو سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ فَمَا الْأَجَلُ؟ فَيُكْتَبُ كذَلِكَ: فِي بَطْنِ أُمّهِ".

فَبَيَّنَ فِي هَذَا أَنَّ الْكِتَابَةَ تَكُونُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مُضْغَةً.

وَأمَّا حَدِيثُ حُذَيْفَةَ بْنِ أسيد فَهُوَ مِن أَفْرَادِ مُسْلِمٍ وَلَفْظُهُ: سَمِعْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً بَعَثَ اللهُ إلَيْهَا مَلَكًا فَصَوَّرَهَا وَخَلَقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا وَجِلْدَهَا وَلَحْمَهَا وَعِظَامَهَا، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ أَذَكرٌ أَمْ أنْثَى؟ فَيَقْضِي رَبُّك مَا شَاءَ وَيكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَقُولُ يَا رَبِّ رِزْقُهُ؟ فَيَقْضِي رَبُّك مَا شَاءَ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَارَبِّ أَجَلُهُ؟ فَيَقْضِي رَبُّك مَا شَاءَ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ؛ ثُمَّ يُخْرجُ الْمَلَكُ بِالصَّحِيفَةِ فِي يَدِهِ فَلَا يَزِيدُ عَلَى مَا أُمِرَ وَلَا يَنْقُصُ".

فَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ أَنَّ تَصْوِيرَهَا بَعْدَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَأَنَّهُ بَعْدَ تَصْوِيرِهَا وَخَلْقِ سَمْعِهَا وَبَصَرِهَا وَجِلْدِهَا وَلَحْمِهَا وَعِظَامِهَا يَقُولُ الْمَلَكُ: يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟

وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَا يمُونُ لَحْمًا وَعَظْمًا حَتَّى تكونَ مُضْغَةً.

فَهَذَا مُوَافِقٌ لِذَلِكَ الْحَدِيثِ فِي أَنَّ كِتَابَةَ الْمَلَكِ تَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ تَقْدِيرُ اللَّحْمِ وَالْعِظَامِ.

وَقَد رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ بِأَلْفَاظِ فِيهَا إجْمَالٌ بَعْضُهَا أَبْيَنُ مِن بَعْضٍ.

وَحِينَئِذٍ فَيُقَالُ: أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لَازِمٌ:

أ- إمَّا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأُمُورُ عَقِيبَ الْأَرْبَعِينَ، ثُمَّ تَكُونُ عَقِبَ الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ، وَلَا مَحْذُورَ فِي الْكِتَابَةِ مَرَّتَيْنِ، وَيَكُونُ الْمَكْتُوبُ أَوَّلًا فِيهِ كِتَابَةُ الذَّكَرِ وَالْأْنْثَى.

ب- أَو يُقَالُ: إنَّ أَلْفَاظَ هَذَا الْحَدِيثِ لَمْ تُضْبَطْ حَقَّ الضَّبْطِ؛ وَلهَذَا اخْتَلَفَتْ رُوَاتُهُ فِي أَلْفَاظِهِ؛ وَلهَذَا أَعْرَضَ الْبُخَارِيُّ عَن رِوَايَتِهِ، وَقَد يَكونُ أَصْلُ الْحَدِيثِ صَحِيحًا، وَيَقَعُ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ اضْطِرَابٌ، فَلَا يَصْلُحُ حِينَئِذٍ أَنْ يُعَارَضَ بِهَا مَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، الَّذِي لَمْ تَخْتَلِفْ

ص: 365

أَلْفَاظُهُ؛ بَل قَد صَدَّقَهُ غَيْرُهُ مِن الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. [4/ 238 - 241]

* * *

‌(مَا مِن مَوْلودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، وما مصير من مات صغيرًا

؟)

389 -

قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِن مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يهَوِّدَانِهِ أَو يُنَصِّرَانِهِ، أَو يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَل تُحِسُّونَ فِيهَا مِن جَدْعَاءَ"

(1)

: الصَّوَابُ أَنَّهَا فِطْرَةُ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَاسَ عَلَيْهَا وَهِيَ فِطرَةُ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ الْفِطْرَةُ الَّتِي فَطَرَهُم عَلَيْهَا يَوْمَ قَالَ:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172].

وَهِيَ السَّلَامَةُ مِن الِاعْتِقَادَاتِ الْبَاطِلَةِ، وَالْقَبُولُ لِلْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ.

فَإِنَّ حَقِيقَةَ "الْإِسْلَامِ" أَنْ يَسْتَسْلِمَ للهِ لَا لِغَيْرِهِ، وَهُوَ مَعْنَى لَا إلهَ إلَّا اللهُ وَقَد ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَثَلَ ذَلِكَ فَقَالَ:"كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَل تُحِسُّونَ فِيهَا مِن جَدْعَاءَ؟ "

(2)

.

بَيَّنَ أَنَّ سَلَامَةَ الْقَلْبِ مِن النَّقْصِ كَسَلَامَةِ الْبَدَنِ، وَأنَّ الْعَيْبَ حَادِثٌ طَارِئٌ.

وَلهَذَا ذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ: إلَى أَنَّ الطِّفْلَ مَتَى مَاتَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ الْكَافِرَيْنِ حُكِمَ بِإسْلَامِهِ؛ لِزَوَالِ الْمُوجِبِ لِلتَّغْيِيرِ عَن أَصْلِ الْفِطْرَةِ.

وَقَد رُوِيَ عَنْهُ وَعَن ابْنِ الْمُبَارَكِ: أَنَّهُم قَالُوا: "يُولَدُ عَلَى مَا فُطِرَ عَلَيْهِ مِن شَقَاوَةٍ وَسَعَادَةٍ".

(1)

رواه البخاري (1358)، ومسلم (2658).

(2)

شبَّه النبي صلى الله عليه وسلم سلامة فطرة الإنسان بسلامة أعضاء الدابة الحديثةِ الولادة؛ فالدابة تلد بهيمة جمعاء تامة الأعضاء مستوية الخلق؛ فهل تبصرون شاةً جدعاء؟ مقطوعة الأذن أو الأنف أو غير ذلك؟ أي: إن الناس يفعلون بها ذلك، فكذلك يفعلون بالمولود الذي يولد على الفطرة السليمة.

ص: 366

وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يُنَافِي الْأَوَّلَ؛ فَإِنَّ الطِّفْلَ يُولَدُ سَلِيمًا وَقَد عَلِمَ اللهُ أَنَّهُ سَيَكْفُرُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَصِيرَ إلَى مَا سَبَقَ لَهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، كَمَا تُولَدُ الْبَهِيمَةُ جَمْعَاءَ، وَقَد عَلِمَ اللهُ أَنَّهَا سَتُجْدَعُ.

وَهَذَا مَعْنَى مَا جَاءَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ"

(1)

عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْغُلَامِ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ:"طُبعَ يَوْمَ طُبعَ كَافِرًا، وَلَو تُرِكَ لَأَرْهَقَ أَبَويهِ طُغْيَانًا وَكُفْرًا".

يَعْنِي: طَبَعَهُ اللهُ فِي أُمّ الْكِتَابِ؛ أَيْ: كَتَبَهُ وَأَثْبَتَهُ كَافِرًا؛ أَيْ: أَنَّهُ إنْ عَاشَ كَفَرَ بِالْفِعْلِ.

وَلهَذَا لَمَّا سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَمَّن يَمُوتُ مِن أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ صَغِيرٌ قَالَ: "اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ"

(2)

.

أَي: اللهُ يَعْلَمُ مَن يُؤْمِنُ مِنْهُم وَمَن يَكْفُرُ لَو بَلَغُوا.

ثُمَّ إنَّهُ قَد جَاءَ فِي حَدِيثٍ إسْنَادُهُ مُقَارِبٌ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ اللهَ يَمْتَحِنُهُم وَيبْعَثُ الَيْهِم رَسُولًا فِي عَرْصِةِ الْقِيَامَةِ، فَمَن أَجَابَهُ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ وَمَن عَصَاهُ أَدْخَلَهُ النَّارَ".

فَهُنَالِكَ يَظْهَرُ فِيهِمْ مَا عَلِمَهُ اللهُ سُبْحَانَهُ، وَيجْزِيهِمْ عَلَى مَا ظَهَرَ مِن الْعِلْمِ، وَهُوَ إيمَانُهُم وَكُفْرُهُمْ، لَا عَلَى مُجَرَّدِ الْعِلْمِ.

وَهَذَا أَجْوَدُ مَا قِيلَ فِي أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَعَلَيْهِ تَتَنَزَّلُ جَمِيعُ الْأَحادِيثِ

(3)

.

(1)

(2661).

(2)

رواه البخاري (1383)، ومسلم (2658).

(3)

قال الشيخ في موضع آخر عن أَطْفَال الْكُفَّارِ: أَصَحُّ الْأقْوَالِ فِيهِمْ: "اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ"؛ كَمَا اُّجَابَ بِذلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيح. وَلَا نَحْكُمُ لِمُعَيَّن مِنْهُم بِجَنَّةِ وَلَا نَارٍ. وَأَمَّا عَرَصَاتُ الْقِيَامَةِ فَيُمْتَحَنُونَ فِيهَا كَمَا يُمْتَحَنُونَ فِي الْبَرْزَخِ، فَيُقَالُ لِأحَدِهِمْ: مَن رَبُّك؟ وَمَا دِينُك؟ وَمَن نَبِيُّك؟. ا هـ. (4/ 303 - 304)

ص: 367

وَمَثَلُ الْفِطْرَةِ مَعَ الْحَقِّ: مَثَلُ ضَوْءِ الْعَيْنِ مَعَ الشَّمْسِ، وَكُلُّ ذِي عَيْنٍ لَو تُرِكَ بِغَيْرِ حِجَابٍ لَرَأَى الشَّمْسَ.

وَالِاعْتِقَادَاتُ الْبَاطِلَة الْعَارِضَة مِن تَهَوّدٍ وَتَنَصّرٍ وَتَمَجّس: مَثَلُ حِجَابٍ يَحُولُ بَيْنَ الْبَصَرِ وَرُؤْيَةِ الشَّمْسِ.

وَلَا يَلْزَمُ مِن كَوْنِهِمْ مَوْلُودِينَ عَلَى الْفِطْرَةِ أَنْ يَكُونُوا حِينَ الْوِلَادَةِ مُعْتَقِدِينَ لِلْإِسْلَامِ بِالْفِعْلِ

(1)

؛ فَإِنَّ اللهَ أَخْرَجَنَا مِن بُطُونِ أمَّهَاتِنَا لَا نَعْلَمُ شَيْئًا، وَلَكِنْ سَلَامَةُ الْقَلْبِ وَقَبُولُهُ وَإِرَادَتُهُ لِلْحَقِّ ائَذِي هُوَ الْإِسْلَامُ، بِحَيْثُ لَو تُرِكَ مِن غَيْرِ مُغَيِّرٍ لَمَا كَانَ إلَّا مُسْلِمًا.

وَهَذِهِ الْقُوَّةُ الْعِلْمِيَّةُ الْعَمَلِيَّةُ الَّتِي تَقْتَضِي بِذَاتِهَا الْإِسْلَامَ مَا لَمْ يَمْنَعْهَا مَانِعٌ: هِيَ فِطْرَةُ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا.

[4/ 245 - 247]

390 -

الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ فِيمَن لَمْ يُكَلَّفْ فِي الدُّنْيَا مِن أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ وَنَحْوِهِمْ: مَا صَحَّ بِهِ الْحَدِيثُ، وَهُوَ أَنَّ اللَّه أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ فَلَا نَحْكُمُ لِكُلِّ مِنْهُم بِالْجَنَّةِ وَلَا لِكُلِّ مِنْهُم بِالنَّارِ؛ بَل هُم يَنْقَسِمُونَ بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ مِنَ الْعِلْمِ إذَا كُلِّفُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْعَرَصَاتِ كَمَا جَاءَت بِذَلِكَ الْآثَارُ. [18/ 142]

391 -

الصِّغَارُ يَتَفَاضَلُونَ بِتَفَاضُلِ آبَائِهِمْ، وَتُفَاضِلُ أَعْمَالِهِمْ -إذَا كَانَت لَهُم أَعْمَالٌ-؛ فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ ابْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ هُوَ كَغَيْرِهِ، وَالْأَطْفَالُ الصِّغَارُ يُثَابُونَ عَلَى مَا يَفْعَلُونَهُ مِن الْحَسَنَاتِ، وَإِن كَانَ الْقَلَمُ مَرْفُوعًا عَنْهُم فِي السَّيِّئَاتِ؛ كَمَا ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ": أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَفَعَت إلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: "نَعَمْ. وَلَك أَجْرٌ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ"

(2)

.

فَالصَّبِيُّ يُثَابُ عَلَى صَلَاتِهِ وَصَوْمِهِ وَحَجِّهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن أَعْمَالِهِ، وَيُفَضَّلُ بِذَلِكَ عَلَى مَن لَمْ يَعْمَلْ كَعَمَلِهِ.

(1)

تنبيه لطيفٌ جدًّا.

(2)

(1336).

ص: 368

وَهَذَا غَيْرُ مَا يُفْعَلُ بِهِ إكْرَامًا لِأَبَوَيْهِ، كَمَا أَنَّهُ فِي النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ قَد يَنْتَفِعُ بِمَا يَكْسِبُهُ وَبِمَا يُعْطِيهِ أَبَوَاهُ، وَيتَمَيَّزُ بِذَلِكَ عَلَى مَن لَيْسَ كَذَلِكَ.

وَقَد قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّ أَطْفَالَ الْكُفَّارِ يَكُونُونَ خَدَمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَلَا أصْلَ لِهَذَا الْقَوْلِ.

وَأَمَّا الْوُرُودُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] فَقَد فَسَّرَهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ" عَن جَابِرٍ: بِأَنَّهُ الْمُرُورُ عَلَى الصِّرَاطِ.

وَالصِّرَاطُ هُوَ الْجِسْرُ، فَلَا بُدَّ مِن الْمُرُورِ عَلَيْهِ لِكُلِّ مَن يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، مَن كَانَ صَغِيرًا فِي الدُّنْيَا وَمَن لَمْ يَكُنْ.

وَالْوِلْدَانُ الَّذِينَ يَطُوفُونَ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ: خَلْقٌ مِن خَلْقِ الْجَنَّةِ، لَيْسُوا مِن أَبْنَاءِ الدُّنْيَا؛ بَل أَبْنَاءُ أَهْلِ الدُّنْيَا إذَا دَخَلُوا الْجَنَةَ كَمُلَ خَلْقُهُم كَأَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَى صُورَةِ آدَمَ أَبْنَاءِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ فِي طُولِ سِتِّينَ ذِرَاعًا. [4/ 278 - 279]

392 -

أطفال المسلمين في الجنة إجماعًا.

وأما أطفال المشركين فأصح الأجوبة فيهم ما ثبت في "الصحيحين": أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنهم فقال: "اللهُ أَعْلمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِين"

(1)

فلا نحكم على معين منهم لا بجنة ولا نار.

ويروى أنهم يمتحنون يوم القيامة، فمن أطاع منهم دخل الجنة، ومن عصى دخل النار.

وقد دلت الأحاديث الصحيحة على أن بعضهم في الجنة وبعضهم في النار.

والصحيح في أطفال الكفار أنهم يمتحنون في عرصات القيامة. [المستدرك 1/ 106]

* * *

(1)

تقدم تخريجه.

ص: 369

(الْبَهَائِمُ يَحْشُرُهَا اللهُ سُبْحَانَهُ)

393 -

أَمَّا الْبَهَائِمُ فَجَمِيعُهَا يَحْشُرُهَا اللهُ سُبْحَانَهُ؛ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، قَالَ تَعَالَى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)} [الأنعام: 38]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)} [التكوير: 5]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)} [الشورى: 29].

وَحَرْفُ (إذَا) إنَّمَا يَكُون لِمَا يَأْتِي لَا مَحَالَةَ.

وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ؛ فَإِنَّ اللهَ عزَّوجلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْشُرُ الْبَهَائِمَ وَيقْتَصُّ لِبَعْضِهَا مِن بَعْضٍ ثُمَّ يَقُولُ لَهَا: كُونِي تُرَابًا، فَتَصِيرُ تُرَابًا، فَيَقُولُ الْكَافِرُ حِينَئِذٍ:{يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: 40]. [4/ 248]

* * *

(عَرْضُ الْأَدْيَانِ عَلَى الْعَبْدِ وَقْتَ الْمَوْتِ لَيْسَ هُوَ أَمْرًا عَامًّا لِكُلِّ أَحَدٍ)

394 -

أَمَّا عَرْضُ الْأَدْيَانِ عَلَى الْعَبْدِ وَقْتَ الْمَوْتِ فَلَيْسَ هُوَ أَمْرًا عَامًّا لِكُلِّ أَحَدٍ، وَلَا هُوَ أَيْضًا مُنْتَفِيًا عَن كُلِّ أَحَدٍ؛ بَل مِن النَّاسِ مَن تُعْرَضُ عَلَيْهِ الْأَدْيَانُ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَمِنْهُم مَن لَا تُعْرَضُ عَلَيْهِ، وَقَد وَقَعَ ذَلِكَ لِأَقْوَامِ.

وَهَذَا كُلُّهُ مِن فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ الَّتِي أُمِرْنَا أَنْ نَسْتَعِيذَ مِنْهَا فِي صِلَاتِنَا: مِنْهَا: مَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَعِيذَ فِي صِلَاتِنَا مِن أَرْبَع: "مِن عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِن عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِن فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِن فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ"

(1)

.

وَلَكِنْ وَقْتُ الْمَوْتِ أَحْرَصُ مَا يَكُونُ الشَّيْطَانُ عَلَى إغْوَاءِ بَنِي آدَمَ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ الْحَاجَةِ.

(1)

رواه البخاري (1377)، ومسلم (588).

ص: 370

وأَمَّا الْفِتْنَةُ فِي الْقُبُورِ فَهِيَ الِامْتِحَانُ وَالِاخْتِبَارُ لِلْمَيِّتِ حِينَ يَسْأَلُهُ الْمَلَكَانِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا كُنْت تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟

فَيُثَبِّبُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ، فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: اللهُ رَبِّي، وَالْإِسْلَامُ دِينِي، وَمُحَمَّدٌ نَبِيِّي.

وَيقُولُ: هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ جَاءَنَا بِالْبَيِّناتِ وَالْهُدَى، فَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبعْنَاهُ.

فَيَنْتَهِرَانِهِ انتهارة شَدِيدَةً -وَهِيَ آخِرُ فِتَنِهِ الَّتِي يُفْتَنُ بِهَا الْمُؤْمِنُ- فَيَقُولَانِ لَهُ: كَمَا قَالَا أَوَّلًا

(1)

.

وَقَد تَوَاتَرَت الْأَحَادِيث عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْفِتْنَةِ مِن حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَغَيْرِهِمْ رضي الله عنهم، وَهِيَ عَامَّةٌ لِلْمُكَلَّفِينَ إلَّا النَّبِيِّينَ فَقَد اُخْتُلِفَ فِيهِمْ.

وَكَذَلِكَ اُخْتُلِفَ فِي غَيْرِ الْمُكَلَّفِينَ كَالصّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ فَقِيلَ: لَا يُفْتَنُونَ؛ لِأَنَّ الْمِحْنَةَ إنَّمَا تَكُونُ لِلْمُكَلَّفِينَ، وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ.

(1)

رواه الإمام أحمد (18614) من حديث الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه، قال شيخ الإسلام: حَدِيثٌ حَسَنٌ ثَابِتٌ. اهـ. (4/ 290)

وضعف محققو المسند رواية الإمام أحمد، والتي جاء فيها هذا اللفظ:"فَيَنْتَهِرَانِهِ انتهارة شَدِيدَةً".

وقد رواه أبو داود بلفظ آخر وبدون هذه الزيادة (4753).

ورواه من طريق أبي هريرة رضي الله عنه (8769) بلفظ قريب من لفظ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وصححه محققو المسند.

وقال شيخ الإسلام: حَدِيث مَعْرُوفٌ جَيِّدُ الْإِسْنَادِ.

قال: وَقَوْلُهُ: "فِيهَا اللهُ" بمَنْزِلَةِ قَوْله تَعَالَى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)} [الملك:16].

وَبِمَنْزِلةِ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيح أنَّ النَبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِجَارِيَةِ مُعَاوَيةَ بْنِ الْحَكَم: "أَيْنَ اللهُ؟ " قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ قَالَ: "مَن أَنا؟ " قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ، قَالَ:"أَعْتِقْهَا فَإنَّهَا مُؤْمِنَةٌ".

وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ أنَّ السَّمَاءَ تَحْصُرُ الرَّبَّ وَتَحْوِيهِ كَمَا تَحْوِي الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَغَيْرَهُمَا؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ، وَلَا يَعْتَقِدُهُ عَاقِلٌ. اهـ. (4/ 271)

وقد صحح الألباني جميع هذه الأحاديث والألفاظ.

يُنظر: صحيح الجامع (1968 - 860).

ص: 371

وَعَلَى هَذَا فَلَا يُلَقَّنُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ.

وَقِيلَ: يُلَقَّنُونَ وَيُفْتَنُونَ أَيْضًا، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِقَوْلِ مَن يَقُولُ: إنَّهُم يُكَلَّفُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ مِن أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ.

وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ رضي الله عنه عَن أَهْلِ السُّنَّةِ، وَاخْتَارَهُ وَهُوَ مُقْتَضَى نُصُوصِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.

[4/ 255 - 257]

* * *

(الله تعالى يَذْكرُ في السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ الْقِيَامَةَ الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى)

395 -

مَذْهَبُ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ بَل وَسَائِرِ أَهْلِ الْمِلَلِ إثْبَات الْقِيَامَةِ الْكبْرَى، وَقِيَامِ النَّاسِ مِن قُبُورِهِمْ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ هُنَاكَ، وَإِثْبَاتُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فِي الْبَرْزَخِ -مَا بَيْنَ الْمَوْتِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ-.

هَذَا قَوْلُ السَّلَفِ قَاطِبَةً وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ ذَلِكَ فِي الْبَرْزَخِ قَلِيلٌ مِن أَهْلِ الْبِدَعِ.

وَهُوَ سبحانه وتعالى فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ يَذْكُرُ الْقِيَامَةَ الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى؛ كَمَا فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ؛ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي أَوَّلهَا الْقِيَامَةَ الْكُبْرَى، وَأَنَّ النَّاسَ يَكُونونَ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7)} [الواقعة: 1 - 7].

ثُمَّ إنَّهُ فِي آخِرِهَا ذَكَرَ الْقِيَامَةَ الصُّغْرَى بِالْمَوْتِ، وَأَنَّهُم ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ بَعْدَ الْمَوْتِ فَقَالَ:{فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)} [الواقعة: 83 - 94].

ص: 372

فَهَذَا فِيهِ أَنَّ النَّفْسَ تَبْلُغُ الْحُلْقومَ، وَأَنَّهُم لَا يُمْكِنُهُم رَجْعُهَا، وَبَيَّنَ حَالَ الْمُقَرَّبِينَ وَأَصْحَابِ الْيَمِينِ وَالْمُكَذِّبِينَ حِينَئِذٍ.

وَفِي سُورَةِ الْقِيَامَةِ: ذَكَرَ أَيْضًا الْقِيَامَتَيْنِ فَقَالَ: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1)} [القيامة: 1]، ثُمَّ قَالَ:{وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)} [القيامة: 2]، وَهِيَ نَفْسُ الْإِنْسَانِ.

وَقَد قِيلَ: إنَّ النَّفْسَ تَكُونُ لَوَّامَةً وَغَيْرَ لَوَّامَةٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَل نَفْسُ كُلِّ إنْسَانٍ لَوَّامَةٌ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَشَرٌ إلَّا يَلُومُ نَفْسَهُ وَيَنْدَمُ إمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ، فَهَذَا إثْبَاتُ النَّفْسِ.

ثُمَّ ذَكَرَ مَعَادَ الْبَدَنِ فَقَالَ: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6)} [القيامة: 3 - 6].

وَوَصَفَ حَالَ الْقِيَامَةِ إلَى قَوْلِهِ: {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)} [القيامة: 25].

ثُمَّ ذَكَرَ الْمَوْتَ فَقَالَ: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26)} [القيامة: 26]، وَهَذَا إثْبَاتٌ لِلنَّفْسِ وَأَنَّهَا تَبْلُغُ التَّرَاقِيَ كَمَا قَالَ هُنَاكَ:{بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} وَالتَّرَاقِي مُتَّصِلَةٌ بِالْحُلْقُومِ.

ثُمَّ قَالَ {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27)} [القيامة:27] يَرْقِيهَا، وقَيلَ: مَن صَاعِدٌ يَصْعَدُ بِهَا إِلَى الله؟ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ هَذَا قَبْلَ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ قَالَ: {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28)} [القيامة:28] فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُم يَرْجُونَهُ وَيَطْلُبُونَ لَهُ رَاقِيًا يَرْقِيهِ. [4/ 262 - 265]

* * *

‌(المقصود باليقين في قوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ

(99)})

396 -

قَوْلُهُ: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق: 19]؛ أَيْ: جَاءَت بِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ مِن ثَوَابٍ وَعِقَابٍ، وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ.

لَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّهَا جَاءَت بِالْحَقِّ الَّذِي هُوَ الْمَوْتُ؛ فَإِنَّ هَذَا مَشْهُورٌ لَمْ يُنَازَعْ فِيهِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إنَّ الْمَوْتَ بَاطِلٌ حَتَّى يُقَالَ: جَاءَت بِالْحَقِّ.

ص: 373

وَقوْلُهُ: {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]؛ فَالْإِنْسَانُ وَإِن كَرِهَ الْمَوْتَ فَهُوَ يَعْلَمُ أنَّهُ تُلَاقِيهِ مَلَائِكَتُهُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} [الحجر: 99]، وَالْيَقِينُ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ .. وَإِلَّا فَنَفْسُ الْمَوْتِ -مُجَرَّد عَمَّا بَعْده- أَمْرٌ مَشْهُورٌ لَمْ يُنَارعْ فِيهِ أَحَدٌ حَتَّى يُسَمَّى يَقِينًا. [4/ 265 - 266]

* * *

(التشابه بين النوم والموت)

397 -

عَوْدُ الرُّوحِ إلَى بَدَنِ الْمَيِّتِ فِي الْقَبْرِ لَيْسَ مِثْل عُودِهَا إلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَإِن كَانَ ذَاكَ قَد يَكُونُ أَكْمَلَ مِن بَعْضِ الْوُجُوهِ، كَمَا أَنَّ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى لَيْسَتْ مِثْل هَذ النَّشْأَةِ، وَإِن كَانَت أَكْمَلَ مِنْهَا.

بَل كُلُّ مَوْطِنٍ فِي هَذ الدَّارِ وَفِي الْبَرْزَخِ وَالْقِيَامَةِ: لَهُ حُكْمٌ يَخُصُّهُ.

وَهَل يُسَمَّى ذَلِكَ مَوْتًا؟ فِيهِ قَوْلَانِ:

قِيلَ: يُسَمَّى ذَلِكَ مَوْتًا، وَتَأَوَّلُوا عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى:{رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا} [غافر: 11]، قِيلَ: إنَّ الْحَيَاةَ الْأولَى فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَالْحَيَاةَ الثَّانِيَةَ فِي الْقَبْرِ، وَالْمَوْتَةَ الثَّانِيَةَ فِي الْقَبْرِ.

وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ كَقَوْلِهِ: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [البقرة: 28]؛ فَالْمَوْتَةُ الْأُولَى قَبْلَ هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَالْمَوْتَةُ الثَّانِيَةُ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ.

وقَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الحج: 66] بَعْدَ الْمَوْتِ.

فَالرُّوحُ تَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ مَتَى شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَتُفَارِقُهُ مَتَى شَاءَ اللهُ تَعَالَى، لَا يتوقت ذَلِكَ بِمَرَّة وَلَا مَرَّتَيْنِ، وَالنَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ. وَلهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ إذَا أَوَى إلَى فِرَاشِهِ:"بِاسْمِك اللَّهُمَّ أَمُوتُ وَأَحْيَا"، وَكَانَ إذَا اسْتَيْقَظَ يَقُولُ:"الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ"

(1)

.

(1)

رواه البخاري (6324).

ص: 374

فَقَدَ سَمَّى النَّوْمَ مَوْتًا وَالِاسْتِيقَاظَ حَيَاةً.

وَقَد قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42]، فَبَيَّنَ أَنَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ عَلَى نَوْعَيْنِ:

أ- فَيَتَوَفَّاهَا حِينَ الْمَوْتِ.

ب- وَيتَوَفَّى الْأَنْفُسَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ بِالنَّوْمِ.

ثُمَّ إذَا نَامُوا:

- فَمَن مَاتَ فِي مَنَامِهِ أَمْسَكَ نَفْسَهُ.

- وَمَن لَمْ يَمُتْ أَرْسَلَ نَفْسَهُ.

وَالنَّائِمُ يَحْصُلُ لَه فِي مَنَامِهِ لَذَّةٌ وَأَلَمٌ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ لِلرُّوحِ وَالْبَدَنِ، حَتَّى إنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ فِي مَنَامِهِ مَن يَضْرِبُهُ، فَيُصْبحُ وَالْوَجَعُ فِي بَدَنِهِ، وَيرَى فِي مَنَامِهِ أَنَّهُ أُطْعِمَ شَيْئًا طَيِّبًا، فَيُصْبحُ وَطَعْمُهُ فِي فَمِهِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ.

فَإِذَا كَانَ النَّائِمُ يَحْصُلُ لِرُوحِهِ وَبَدَنِهِ مِن النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ مَا يُحِسُّ بِهِ- وَاَلَّذِي إلَى جَنْبِهِ لَا يُحِسُّ بِهِ- حَتَّى قَد يَصِيحُ النَّائِمُ مِن شِدَّةِ الْأَلَمِ، أَو الْفَزَعِ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ، وَيسْمَعُ الْيَقْظَانُ صِيَاحَهُ، وَقَد يَتَكَلَّمُ إمَّا بِقُرْآنِ، وَإِمَّا بِذِكْر وَإِمَّا بِجَوَاب، وَالْيَقْظَانُ يَسْمَعُ ذَلِكَ وَهُوَ نَائِمٌ، عَيْنُهُ مُغْمَضَةٌ، وَلَو خُوطِبَ لَمْ يَسْمَعْ: فَكَيْفَ يُنْكَرُ حَالُ الْمَقْبُورِ الَّذِي أَخْبَرَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ؟.

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: ذَلِكَ الَّذِي يَجِدُهُ الْمَيّتُ مِن النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ مِثْلَمَا يَجِدُهُ النَّائِمُ فِي مَنَامِهِ؛ بَل ذَلِكَ النَّعِيمُ وَالْعَذَابُ أَكْمَلُ وَأَبْلَغُ وَأَتَمُّ.

وَهُوَ نَعِيمٌ حَقِيقِيٌّ وَعَذَابٌ حَقِيقِيٌّ، وَلَكنْ يُذْكَرُ هَذَا الْمَثَلُ لِبَيَانِ إمْكَانِ ذَلِكَ. [4/ 274 - 276]

* * *

ص: 375

(سماع الميت قرع نعالهم والسلام عليه: عام)

398 -

قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80]، المراد السماع المعتاد الذي يتضمن القبول والانتفاع -كما في حق الكفار- السماع النافع في قوله:{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23]، وقوله تعالى:{لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} [الملك: 10] فإذا كان قد نفى عن الكافر السمع مطلقًا وعلم أنه إنما نفى سمع القلب المتضمن للفهم والقبول لا مجرد سماع الكلام فكذلك المشبه به وهو الميت. [المستدرك 1/ 94]

* * *

(قول الميت قدموني أمرٌ باطن آخر)

399 -

الحديث الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: "إِنَّ الميت إذا حُمِل قال: قدموني" أو يقول: "يا ويلها" الحديث

(1)

، ليس هذا هو الكلام المعتاد بتحريك اللسان؛ فإنه لو كان كذلك لسمعه كل أحد، ولكن هو أمر باطن آخر، وليس هو مجرد الروح، فإن الروح منفصل عن البدن؛ فإن النائم قد يسمع ويتكلم، وذلك بروحه وبدنه الباطن، بحيث يظهر أثر ذلك في بدنه، حتى إنه قد يقوم ويصيح ويمشي ويتنعم بدنه ويتعذب ومع ذلك فعيناه مغمضتان، وغالبهم أن لسانه لا يتحرك، لكن إذا قوي أمر الباطن فقد ينطلق اللسان الظاهر حتى يصوت به ولو نودي من حيث الظاهر لا يسمع، فكما أن النائم حاله لا تشبه حال اليقظان -ولا أحواله مختصة بالروح فالميت أبلغ من ذلك- فإن معرفته بالأمور أكمل من النائم.

[المستدرك 1/ 94 - 95]

400 -

أرواح المؤمنين وإن كانت في الجنة فلها اتصال بالبدن إذا شاء الله تعالى من غير زمن طويل، كما تنزل الملائكة في طرفة عين. قال مالك رحمه الله: بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت ولهذا روي: "أنها على أفنية القبور"، و"أنها في الجنة" والجميع حق.

(1)

رواه البخاري (1314).

ص: 376

وفي "الصحاح" أنها ترد إليه بعد الموت ويسأل وترد فتكون متصلة بالبدن بلا ريب والله أعلم. [المستدرك 1/ 95]

401 -

استفاضت الأخبار بمعرفة الميت بحال أهله وأصحابه في الدنيا، وأن ذلك يعرض عليه، وأنه يرى ويدري بما يُفعل عنده، ويسرُّ بما كان حسنًا، ويتألم بما كان قبيحًا.

وروي أن الموتى يسألون الميت عن حال أهليهم فيُعَرِّفهم أحوالهم وأنه ولد لفلان ولد، وتزوجت فلانة ومات فلان فما جاء؟ فيقولون: راح إلى أمه الهاوية. [المستدرك 1/ 95]

* * *

(قد يصف الميت للنائم دواء، أو يجيبه عن مسألة)

402 -

قال ابن القيم رحمه الله: وأما من حصل له الشفاء باستعمال دواء رأى من وصفه له في منامه فكثير جدًّا، وقد حدثني غير واحد ممن كان غير مائل إلى شيخ الإسلام ابن تيمية أنه رآه بعد موته وسأله عن شيء كان يشكل عليه من مسائل الفرائض وغيرها فأجابه بالصواب. [الروح 34]

403 -

الأرض تُبَدَّل كما ثبت في "الصحيحين"

(1)

: "أنَّ النَّاسُ يُحْشَرُون يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ؛ كَقُرْصَةِ النَّقِيِّ، لَيْسَ فِيهَا عَلَمٌ لِأَحَدٍ"

(2)

.

فهذا الحديث وسائر الآثار تبين أن الناس يحشرون على الأرض المبدَّلة.

وأما قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء: 104] فالطي غير التبديل، وقال تعالى:{وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67].

(1)

البخاري (6521)، ومسلم (2790).

(2)

قوله: (عفراء)؛ أي: بيضاء مشوبة بحمرة. (كَقُرْصَةِ النَّقِيِّ) كرغيف مصنوع من دقيق خالص من الغش والنخالة. (علم) علامة يستدل بها؛ أي: مستوية لا حدب فيها ولا بناء عليها ولا شيء سواه.

ص: 377

فطيُّ السموات لا ينافي أن يكون الخلق في موضعهم، وليس في شيء من الأحاديث أنهم يكونون عند الطي على الجسر كما روي ذلك، وقد تبدل الأرض غير الأرض وإن كان في تلك الرواية ما فيها

(1)

. [المستدرك 1/ 102 - 104]

* * *

(وفي البرزخ والعرصة تكليف)

404 -

الدنيا دار تكليف بلا خلاف، وكذلك البرزخ وعرصة القيامة، وإنما ينقطع التكليف بدخول دار الجزاء وهي الجنة أو النار، كما صرح بذلك أصحابنا وغيرهم، والامتحان في البرزخ لمن لم يكن مكلفًا ففيه القولان لأصحابنا وغيرهم، وعلى هذا لا خلاف في امتحانهم في العرصة، وغير المكلف قد يرحم. [المستدرك 1/ 105]

* * *

(الْعَذَابُ وَالنَّعِيمُ عَلَى النَّفْسِ وَالْبَدَنِ جَمِيعًا في القبر)

405 -

سُئِلَ شَيْخ الْإِسْلَامِ -قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ وَهُوَ بِمِصْر-: عَن عَذَابِ الْقَبْرِ: هَل هُوَ عَلَى النَّفْسِ وَالْبَدَنِ، أَو عَلَى النَّفْسِ دُونَ الْبَدَنِ؟

فَأَجَابَ رضي الله عنه وَجَعَلَ جَنَّةَ الْفِرْدَوْسِ مُنْقَلَبَهُ وَمَثْوَاهُ آمِينَ-: بَل الْعَذَابُ وَالنَّعِيمُ عَلَى النَّفْسِ وَالْبَدَنِ جَمِيعًا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، تُنَعَّمُ النَّفْسُ وَتُعَذَّبُ مُنْفَرِدَةً عَن الْبَدَنِ، وَتُعَذَّبُ مُتَّصِلَة بِالْبَدَنِ وَالْبَدَنُ مُتَّصِل بِهَا، فَيَكُونُ النَّعِيمُ وَالْعَذَابُ عَلَيْهِمَا فِي هَذِهِ الْحَالِ مُجْتَمِعَينَ، كَمَا يَكونُ لِلرُّوحِ مُنْفَرِدَةً عَن الْبَدَنِ.

(1)

يعني: ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [براهيم: 48] فأين يكون الناس يومئذ يا رسول الله؟ " قال: "على الصراط".

قال الشيخ: حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم يدل على أن التبديل وهم على الصراط، لكن البخاري لم يورده، فلعله تركه لهذه العلة وغيرها؛ فإن سنده جيد. اهـ. (1/ 103)

ص: 378

وَهَل يَكونُ الْعَذَابُ وَالنَعِيمُ لِلْبَدَنِ بِدُونِ الرُّوحِ؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِأهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ وَالْكَلَامِ، وَفِي الْمَسْألَةِ أَقْوَالٌ شَاذَّةٌ لَيْسَتْ مِن أَقْوَالِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ:

قَوْلُ مَن يَقُولُ: إنَّ النَّعِيمَ وَالْعَذَابَ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى الرُّوحِ، وَأَنَّ الْبَدَنَ لَا يُنَعَّمُ وَلَا يُعَذَّبُ.

وَقَوْلُ مَن يَقُولُ: إنَّ الرُّوحَ بِمُفْرَدِهَا لَا تُنَعَّمُ وَلَا تُعَذَّبُ، وَإِنَّمَا الرُّوحُ هِيَ الْحَيَاةُ.

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ الشَّاذُّ: قَوْلُ مَن يَقُولُ إنَ الْبَرْزَخ لَيْسَ فِيهِ نَعِيمٌ وَلَا عَذَابٌ؛ بَل لَا يَكُونُ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ الْقِيَامَةُ الْكُبْرَى، كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَن يَقُولُهُ مِن الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِم، الَّذِينَ يُنْكِرُونَ عَذَابَ الْقَبْرِ وَنَعِيمَهُ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرُّوحَ لَا تَبْقَى بَعْدَ فِرَاقِ الْبَدَنِ، وَأَنَّ الْبَدَنَ لَا يُنَعَّمُ وَلَا يُعَذَّبُ.

فَجَمِيعُ هَؤُلَاءِ الطَّائِفَتَيْنِ ضُلَّالٌ فِي أَمْرِ الْبَرْزَخِ.

فَإِذَا عَرَفْت هَذِهِ الْأقْوَالَ الثَّلَاثَةَ الْبَاطِلَةَ: فَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأئِمَّتِهَا:

- أَنَّ الْمَيِّتَ إذَا مَاتَ يَكُونُ فِي نَعِيمٍ أَو عَذَابٍ.

- وَأَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ لِرُوحِهِ وَلبَدَنِهِ.

- وَأَنَّ الرُّوحَ تَبْقَى بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْبَدَنِ مُنَعَّمَةَ أَو مُعَذَّبَةً.

- وَأَنَّهَا تَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ أَحْيَانًا، فَيَحْصُلُ لَهُ مَعَهَا النَّعِيمُ وَالْعَذَابُ.

ثُمَّ إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الْكُبْرَى أُعِيدَت الْأرْوَاحُ إلَى اجْسَادِهَا، وَقَامُوا مِن قُبُورِهِمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَمَعَادُ الْأبْدَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَهَذَا كُلُّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ.

ص: 379

وَهَل يَكُونُ لِلْبَدَنِ دُونَ الرُّوحِ نَعِيمٌ أَو عَذَابٌ؟ أَثْبَتَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْهُم وَأَنْكَرَهُ أَكْثَرُهُمْ.

وفي "الصَّحِيحَيْنِ"

(1)

عَن قتادة عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ".

قَالَ: "يَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ، قَد أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ" قَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا".

وعَن كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ إلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ". رَوَاهُ النَّسَائِي وَرَوَاهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ كِلَاهُمَا

(2)

.

وَقَوْلُهُ: "يَعْلُقُ" بِالضَّمِّ؛ أَيْ: يَأكُلُ.

فَقَد أَخْبَرَتْ هَذِهِ النُّصُوصُ أَنَّ الرُّوحَ تُنَعَّمُ مَعَ الْبَدَنِ الَّذِي فِي الْقَبْرِ -إذَا شَاءَ اللهُ-، [وَأنها]

(3)

تُنَعَّمُ فِي الْجَنَّةِ وَحْدَهَا، وَكِلَاهُمَا حَقٌّ

(4)

.

وَقَد رَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ ذِكْرِ الْمَوْتِ عَن مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: "بَلَغَنِي أَنَّ الرُّوحَ مُرْسَلَة تَذْهَبُ حَيْثُ شَاءَتْ"، وَهَذَا يُوَافِقُ مَا رُوِيَ:"أَنَّ الرُّوحَ قَد تَكُونُ عَلَى أَفْنِيَةِ الْقُبُورِ"، كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ:"إنَّ الْأَرْوَاحَ تَدُومُ عَلَى الْقُبُورِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ يَوْمَ يُدْفَنُ الْمَيِّتُ لَا تُفَارِقُ ذَلِكَ".

وَقَد تُعَادُ الرُّوحُ إلَى الْبَدَنِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْمَسْأَلَةِ" كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي صَحَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَا مِن رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ الرَّجُلِ الَّذِي

(1)

البخاري (1374)، ومسلم (2875) واللفظ له.

(2)

النسائي (2073)، وابن ماجه (4271)، ومالك (643)، وأحمد (15778).

(3)

في الأصل: وَإِنَّمَا، ولعل المثبت هو الصواب؛ ليستقيم المعنى.

(4)

قال الشيخ في موضغ آخر: أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ، وَأَرْوَاحُ الْكَافِرِينَ فِي النَّارِ، تُنَعَّمُ أرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ، وَتُعَذَّبُ أَرْوَاحُ الْكافِرِينَ، إلَى أنْ تُعَادَ إلَى الْأبْدَانِ. اهـ. (4/ 311)

ص: 380

كَانَ يَعْرِفُهُ في الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إلَّا رَدَّ اللهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ حَتَّى يَرُدَّ عليه السلام".

وَهَذَا الْبَابُ فِيهِ مِن الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ مَا يَضِيقُ هَذَا الْوَقْتُ عَن اسْتِقْصَائِهِ، مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْأَبْدَانَ الَّتِي فِي الْقُبُورِ تُنَعَّمُ وَتُعَذَّبُ -إذَا شَاءَ اللهُ ذَلِكَ- كَمَا يَشَاءُ، وَأَنَّ الْأَرْوَاحَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْبَدَنِ وَمُنَعَّمَةٌ وَمُعَذَّبَةٌ.

وَلهَذَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالسَّلَامِ عَلَى الْمَوْتَى.

وَقَد انْكَشَفَ لِكَثِيرٍ مِن النَّاسِ ذَلِكَ حَتَّى سَمِعُوا صَوْتَ الْمُعَذَّبِينَ فِي قُبُورِهِمْ، وَرَأوْهُم بِعُيُونِهِمْ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ فِي آثَارٍ كَثِيرَةٍ مَعْرُوفَةٍ، وَلَكِنْ لَا يَجِبُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ دَائِمًا عَلَى الْبَدَنِ فِي كُلِّ وَقْتٍ؛ بَل يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ.

[4/ 282 - 296]

* * *

(ردُّ عائشة على ابْنِ عُمَر رضي الله عنهما روايته لحديث: "إنَّهُم لَيَسْمَعُونَ الْآنَ مَا أقُولُ"، والصواب في ذلك)

406 -

فِي "الصَّحِيحَيْنِ"

(1)

عَن ابْنِ عُمَر رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ عَلَى قَلِيبِ بَدْرٍ فَقَالَ: "هَل وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكمْ حَقًّا"؟! وَقَالَ: "إنَّهُم لَيَسْمَعُونَ الْآنَ مَا أقُولُ".

فَذُكرَ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ فَقَالَتْ: وَهِمَ ابْنُ عُمَرَ، إنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إنَّهُم لَيَعْلَمُونَ الْآنَ أَنَّ الَّذِي قُلْت لَهُم هُوَ الْحَقُّ"، ثُمَّ قَرَأَتْ قَوْله تَعَالَى:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَ} [النمل: 80] حَتَّى قَرَأَت الْآيَةَ.

وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ: اتَّفَقُوا عَلَى صِحَّةِ مَا رَوَاهُ أَنَسٌ

(2)

وَابْنُ عُمَرَ، وَإِن كَانَا لَمْ يَشْهَدَا بَدْرًا؛ فَإِنَّ أَنَسًا رَوَى ذَلِكَ عَن أَبِي طَلْحَةَ وَأَبُو طَلْحَةَ شَهِدَ بَدْرًا.

(1)

البخاري (3981)، ومسلم (932).

(2)

وهو ما ثبت فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال عن قَتْلَى بَدْرٍ: "مَا أنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُم لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا".

ص: 381

وَعَائِشَةُ تَأَوَّلَتْ فِيمَا ذَكَرَتْهُ، كَمَا تَأَوَّلَتْ أَمْثَالَ ذَلِكَ.

وَالنَّصُّ الصَّحِيحُ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُقَدَّمٌ عَلَى تَأوِيلِ مَن تَأوَّلَ مِن أَصْحَابِهِ وَ غَيْرِهِ.

وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَنْفِي ذَلِكَ؛ فَإنَّ قَوْلَهُ: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80] إنَّمَا أَرَادَ بِهِ السَّمَاعَ الْمُعْتَادَ الَّذِي يَنْفَعُ صَاحِبَهُ؛ فَإِنَّ هَذَا مَثَلٌ ضُرِبَ لِلْكُفَّارِ، وَالْكُفَّارُ تَسْمَعُ الصَّوْتَ، لَكِنْ لَا تَسْمَعُ سَمَاعَ قَبُولٍ بِفِقْه وَاتِّبَاع؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة: 171]. [4/ 297 - 298]

* * *

‌(بمَاذَا يُخَاطَبُ النَّاسُ يَوْمَ الْبَعْثِ

؟)

407 -

لَا يُعْلَمُ بَأَيِّ لُغَةٍ يَتَكَلَّمُ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ [أي: يَوْم الْبَعْثِ]، وَلَا بِأَيِّ لُغَةٍ يَسْمَعُونَ خِطَابَ الرَّبِّ؛ لِأنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُخْبِرْنَا بِشَيْء مِن ذَلِكَ وَلَا رَسُولُهُ عليه الصلاة والسلام، وَلَمْ يَصِحَّ أَنَّ الْفَارِسِيَّةَ لُغَةُ الجهنميين، وَلَا أَنَّ الْعَبَربِيَّةَ لُغَةُ أَهْلِ النَّعِيمِ الْأبَدِيِّ.

وَلَا نَعْلَمُ نِزَاعًا فِي ذَلِكَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم؛ بَل كُلُّهُم يَكُفُّونَ عَن ذَلِكَ؛ لِأنَّ الْكَلَامَ فِي مِثْل هَذَا مِن فُضُولِ الْقَوْلِ.

[4/ 300]

* * *

‌(المراد بالْمِيزَان، وما كيفيته

؟)

408 -

الْمِيزَانُ: هُوَ مَا يُوزَنُ بِهِ الْأَعْمَالُ، وَهُوَ غَيْرُ الْعَدْلِ؛ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكتَابُ وَالسُّنَّةُ؛ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى:{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف: 8]، {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف: 9].

وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ تِلْكَ الْمَوَازِينِ: فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ كَيْفِيَّةِ سَائِرِ مَا أُخْبِرْنَا بِهِ مِن

ص: 382

الْغَيْبِ

(1)

. [4/ 302]

* * *

(لم يصحَّ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَي أَحْيَا لَهُ أَبَوَيْهِ حَتَّى أَسْلَمَا عَلَى يَدَيْهِ)

409 -

سُئِلَ الشَّيْخُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: هَل صَحَّ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ اللهَ تبارك وتعالى أَحْيَا لَهُ أَبَوَيْهِ حَتَّى أَسْلَمَا عَلَى يَدَيْهِ ثُمَّ مَاتَا بَعْدَ ذَلِكَ؟

فَأجَابَ: لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ عَن أَحَدٍ مِن أَهْلِ الْحَدِيثِ؛ بَل أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ.

فَلَا نِزَاعَ بَيْنَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ أَنَّهُ مِن أَظْهَر الْمَوْضُوعَاتِ كَذِبًا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ فِي الْحَدِيثِ: لَا فِي الصَّحِيحِ وَلَا فِي السُّنَنِ وَلَا فِي الْمَسَانِيدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِن كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفَةِ، وَلَا ذَكَرَهُ أَهْلُ كُتُبِ الْمَغَازِي وَالتَّفْسِيرِ، وَإِن كَانُوا قَد يَرْوُونَ الضَّعِيفَ مَعَ الصَّحِيحِ.

وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِم"

(2)

: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: "إنَّ أَبَاك فِي النَّارِ"، فَلَمَّا أَدْبَرَ دَعَاهُ فَقَالَ:"إنَّ أَبِيِ وَأَبَاك فِي النَّارِ".

وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ"

(3)

أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: "اسْتَأْذَنْت رَبِّي أَنْ أَزُورَ قَبْرَ أُمِّي فَأَذِنَ لِي، وَاسْتَأْذَنْته فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ". [4/ 324 - 326]

* * *

(1)

فالمعنى معلوم، والكيف مجهول.

(2)

(203).

(3)

(976).

ص: 383

‌كتاب الأسماء والصفات

(توحيد الأسماء والصفات)

(الأسماء الحسنى)

410 -

ترتيب أسماء الله سبحانه وتعالى الظاهرة نحو مائة وخمسين موجودة في كتاب الله: مفردة، ومفرقة، ومضافة، ومشبهة بالمضافة. [المستدرك 1/ 43]

* * *

‌أسماء الله وصفاته

411 -

الِاسْمُ "الصَّمَدُ" فِيهِ لِلسَّلَفِ أَقْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ قَد يُظَنُّ أَنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَل كُلُّهَا صَوَابٌ، وَالْمَشْهُورُ مِنْهَا قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّمَدَ هُوَ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ.

وَالثانِي: أَنَّهُ السَّيِّدُ الَّذِي يُصْمَدُ إلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ.

وَالْأوَّلُ: هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ السَّلَفِ مِن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَطَائِفَةٍ مِن أَهْلِ اللُّغَةِ.

وَالثانِي: قَوْلُ طَائِفَةٍ مِن السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَجُمْهُورِ اللُّغَوِيَّين.

وَلَيْسَتِ الدَّالُ مُنْقَلِبَةً عَنِ التَّاءِ؛ بَل الدَّالُ أَقْوَى، وَالْمُصْمَدُ أَكْمَلُ فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْمُصْمَتِ، وَكُلَّمَا قَوِيَ الْحَرْفُ كَانَ مَعْنَاهُ أَقْوَى؛ فَإِنَّ لُغَةَ الرَّبِّ فِي غَايَةِ الْإِحْكَامِ وَالتَّنَاسُبِ، وَلهَذَا كَانَ الصَّمْتُ إمْسَاكٌ عَن الْكَلَامِ مَعَ إمْكَانِهِ، وَالْإِنْسَانُ أَجْوَفُ يُخْرِجُ الْكَلَامَ مِن فِيهِ لَكِنَّهُ قَد يَصْمُتُ، بِخِلَافِ الصَّمَدِ فَإِنَّهُ إنَّمَا اُسْتُعْمِلَ فِيمَا لَا تَفَرُّقَ فِيهِ كَالصَّمَدِ وَالسَّيِّدِ وَالصَّمَدُ مِنَ الْأَرْضِ، وَصِمَادُ

ص: 384

الْقَارُورَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْمُتَنَاسِبَةِ أَكْمَلُ مِن أَلْفَاظِ الصَّمَدِ.

ولَفْظُ الصَّمَدِ فِيهِ الْجَمْعُ، وَالْجَمْعُ فِيهِ الْقُوَّةُ، فَإِنَّ الشَّيْءَ كُلَّمَا اجْتَمَعَ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ وَلَمْ يَكُن فِيهِ خَلَلٌ كَانَ أَقْوَى مِمَّا إذَا كَانَ فِيهِ خُلُوٌّ، وَلهَذَا يُقَالُ لِلْمَكَانِ الْغَلِيظِ الْمُرْتَفِعِ: صَمَدٌ؛ لِقُوَّتِهِ وَتَمَاسُكِهِ وَاجْتِمَاعِ أَجْزَائِهِ، وَالرَّجُلُ الصَّمَدُ هُوَ السَّيِّدُ الْمَصْمُودُ؛ أَيْ: الْمَقْصُودُ.

وَالنَّاسُ إنَّمَا يَقْصِدُونَ فِي حَوَائِجِهِمْ مَن يَقُومُ بِهَا، وَإِنَّمَا يَقُومُ بِهَا مَن يَكُونُ فِي نَفْسِهِ مُجْتَمِعًا قَوُّيًّا ثَابِتًا، وَهُوَ السَّيِّدُ الْكَرِيمُ، بِخِلَافِ مَن يَكُونُ هَلُوعًا جَزُوعًا يَتَفَرَّقُ وُيقْلِقُ وَيتَمَزَّقُ مِن كَثْرَةِ حَوَائِجِهِمْ وَثِقَلِهَا، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِسَيِّدٍ صَمَدٍ يَصْمُدُونَ إلَيْهِ فِي حَوَائِجِهِمْ. [17/ 215 - 233]

412 -

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2)} [الإخلاص: 1، 2]، أَدْخَلَ اللَّامَ فِي الصَّمَدِ وَلَمْ يُدْخِلْهَا فِي أَحَدٍ؛ لِأَّنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَوْجُودَاتِ مَا يُسَمَّى أَحَدًا فِي الْإِثْبَاتِ مُفْرَدًا غَيْرَ مُضَافٍ إلَّا اللهُ تَعَالَى؛ بِخِلَافِ النَّفْي وَمَا فِي مَعْنَاهُ: كَالشَّرْطِ وَالِاسْتِفْهَامِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: هَل عِنْدَك أَحَدٌ؟ وَإِن جَاءَنِي أَحَدٌ مِن جِهَتِك أَكْرَمْته، وَإِنَّمَا اسْتُعْمِلَ فِي الْعَدَدِ الْمُطْلَقِ يُقَالُ: أَحَدٌ، اثْنَانِ، وَيُقَالُ: أَحَدَ عَشر، وَفِي أَوَّلِ الْأَيَّامِ يُقَالُ: يَوْمُ الْأَحَدِ.

فَإِنَّ فِيهِ -عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ- ابْتَدَأَ اللهُ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ أَخْبَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ: أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّام، وَقَد ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ: أَنَّ آخِرَ الْمَخْلُوقَاتِ كَانَ آدَمَ خُلِقَ يَوْم الْجُمُعَةِ.

وَإِذَا كَانَ آخِرُ الْخَلْقِ كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ أَوَّلَهُ كَانَ يَوْمَ الْأَحَدِ لِأَنَّهَا سِتَّةٌ.

وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي قَوْلِهِ: "خَلَقَ اللهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ": فَهُوَ حَدِيثٌ مَعْلُولٌ قَدَحَ فِيهِ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ كَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ.

ص: 385

قَالَ الْبُخَارِيُّ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى كَعْبٍ، وَقَد ذَكَرَ تَعْلِيلَهُ البيهقي أيْضًا وَبَيَّنُوا أَنَّهُ غَلَطُ لَيْسَ مِمَّا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مِمَّا أَنْكَرَ الْحُذَّاقُ عَلَى مُسْلِمٍ إخْرَاجَهُ إيَّاهُ، كَمَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ إخْرَاجَ أَشْيَاءَ يَسِيرَةٍ.

وَأَمَّا اسْمُ (الصَّمَدِ) فَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ، فَلَمْ يَقُلْ:"الله صمد"؛ بَل قَالَ: {اللَّهُ الصَّمَدُ (2)} [الإخلاص: 2] فَبَيَّنَ أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يَكُونَ هُوَ الصَّمَدَ دُونَ مَا سِوَاهُ. [17/ 235 - 236]

413 -

كُلُّ لَفْظٍ وُجِدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالْإِثْبَاتِ أُثْبِتَ ذَلِكَ اللَّفْظُ، وَكُلُّ لَفْظٍ وُجِدَ مَنْفِيًّا نُفِيَ ذَلِكَ اللَّفْظُ، وَأَمَّا الْأَلْفَاظُ الَّتِي لَا تُوجَدُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، بَل وَلَا فِي كَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَانٍ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا إثْبَاتُهَا وَلَا نَفْيُهَا، وَقَد تَنَازَعَ فِيهَا النَّاسُ؛ فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ لَا تُثْبَتُ وَلَا تُنْفَى إلَّا بَعْدَ الِاسْتِفْسَارِ عَن مَعَانِيهَا:

أ- فَإِنْ وُجِدَتْ مَعَانِيهَا مِمَّا أَثْبَتَهُ الرَّبُّ لِنَفْسِهِ أُثْبِتَتْ.

ب- وَإن وُجِدَتْ مِمَّا نَفَاهُ الرَّبُّ عَن نَفْسِهِ نُفِيت.

ج- وَإِن وَجَدْنَا اللَّفْظَ أُثْبِتَ بِهِ حَقٌّ وَبَاطِل أَو نُفِيَ بِهِ حَقٌّ وَبَاطِلٌ أَو كَانَ مُجْمَلًا يُرَادُ بِهِ حَقٌّ وَبَاطِلٌ وَصَاحِبُهُ أَرَادَ بِهِ بَعْضَهَا لَكِنَّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُوهِمُ النَّاسَ أَو يُفْهِمُهُم مَا أَرَادَ وَغَيْرَ مَا أَرَادَ: فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ لَا يُطْلَق إثْبَاتُهَا وَلَا نَفْيُهَا؛ كَلَفْظِ الْجَوْهَرِ وَالْجِسْمِ وَالتَّحَيُّزِ وَالْجِهَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِن الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَدْخُلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَقَلَّ مَن تَكَلَّمَ بِهَا نَفْيًا أَو إثْبَاتًا إلَّا وَأَدْخَلَ فِيهَا بَاطِلًا وَإِن أَرَادَ بِهَا حَقًّا.

وَالسَّلَفُ وَالْأئِمَّةُ كَرِهُوا هَذَا الْكَلَامَ الْمُحْدَثَ؛ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى بَاطِلٍ وَكَذِبٍ وَقَوْلٍ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ. [17/ 304]

414 -

لَا يُوصَفُ اللهُ تَعَالَى بِشَيْءٍ مِن خَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ، وَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ مِن الْأَسْمَاءِ مَا يَخْتَصُّ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ جِسْمٌ وَلَا جَسَدٌ. [17/ 315]

ص: 386

415 -

يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَى شَيْئَيْنِ

(1)

:

أَحَدُهُمَا: مَعْرِفَةُ مَا أرَادَ اللهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم بِأَلْفَاظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، بِأَنْ يَعْرِفُوا لُغَةَ الْقُرْآنِ الَّتِي بِهَا نَزَلَ، وَمَا قَالَهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُم بِإِحْسَانٍ وَسَائِرُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَعَانِي تِلْكَ الْأَلْفَاظِ.

فَإِنَّ الرَّسُولَ لَمَّا خَاطَبَهُم بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَرِّفَهُم مَا أَرَادَ بِتِلْكَ الْألْفَاظِ، وَكَانَت مَعْرِفَةُ الصَّحَابَةِ لِمَعَانِي الْقُرْآنِ أَكْمَلَ مِن حِفْظِهِمْ لِحُرُوفِهِ، وَقَد بَلَّغُوا تِلْكَ الْمَعَانِيَ إلَى التَّابِعِينَ أَعْظَمَ مِمَّا بَلَّغُوا حُرُوفَهُ.

وَلَا يَحْفَظُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ إلَّا الْقَلِيلُ مِنْهُمْ -وَإِن كَانَ كُلُّ شَيْءٍ مِن الْقُرْآنُ يَحْفَظُهُ مِنْهُم أَهْلُ التَّوَاتُرِ-.

فَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَعْرِفَةَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَمَا أَرَادَهُ بِأَلْفَاظِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ: هُوَ أَصْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَالسَّعَادَةِ وَالنَّجَاةِ، ثُمَّ مَعْرِفَةُ مَا قَالَ النَّاسُ فِي هَذَا الْبَابِ ليَنْظُرَ الْمَعَانِيَ الْمُوَافِقَةَ لِلرَّسُولِ وَالْمَعَانِيَ الْمُخَالِفَةَ لَهَا.

وَالْأَلْفَاظُ نَوْعَانِ:

أ- نَوْعٌ يُوجَدُ فِي كَلَامِ اللهِ وَرَسُولِهِ.

ب- وَنَوْعٌ لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ اللهِ وَرَسُولِهِ.

فَيَعْرِفَ مَعْنَى الْأوَّلِ، وَيجْعَلُ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْأصْلَ، وَيعْرِفُ مَا يَعْنِيهِ النَّاسُ بِالثَّانِي ويُرَدَّ إلَى الْأَوَّلِ.

هَذَا طَرِيقُ أهْلِ الْهُدَى وَالسُّنَّةِ.

وَطَرِيقُ أهْلِ الضَّلَالِ وَالْبِدَعِ بِالْعَكْسِ، يَجْعَلُونَ الْأَلْفَاظَ الَّتِي أَحْدَثُوهَا وَمَعَانِيهَا هِيَ الْأَصْلَ، وَيجْعَلُونَ مَا قَالَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ تبَعًا لَهُمْ، فَيَرُدُّونَهَا بِالتَّأوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ إلَى مَعَانِيهِمْ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ نُفَسِّرُ الْقُرْآنَ بِالْعَقْلِ وَاللُّغَةِ، يَعْنُونَ أَنَّهُم

(1)

لم يذكر الثاني.

ص: 387

يَعْتَقِدُونَ مَعْنًى بِعَقْلِهِمْ وَرَأْيِهِمْ، ثُمَّ يَتَأَوَّلُونَ الْقُرْآنَ عَلَيْهِ بِمَا يُمْكِنُهُم مِن التَّأْوِيلَاتِ وَالتَّفْسِيرَاتِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِتَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَن مَوَاضِعِهِ، وَلهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد: أَكْثَرُ مَا يُخْطِئُ النَّاسُ مِن جِهَةِ التَّأْوِيلِ وَالْقِيَاسِ. [17/ 353 - 355]

416 -

لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللهُ أَنْزَلَ كَلَامًا لَا مَعْنَى لَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَجَمِيعُ الْأُمَّةِ لَا يَعْلَمُونَ مَعْنَاهُ، كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَن يَقُولُهُ مِن الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهَذَا الْقَوْلُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ خَطَأٌ. [17/ 390]

417 -

اللهُ تَعَالَى قَد نَفَى الْمُمَاثَلَاتِ فِي بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ وَكِلَاهُمَا جِسْمٌ؛ كَقَوْلِهِ: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] مَعَ أَنَ كِلَاهُمَا بَشَرٌ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إذَا كَانَ لِرَبِّ السَّمَوَاتِ عِلْمٌ وَقُدْرَةٌ أَنَّهُ يَكُونُ مُمَاثِلًا لِخَلْقِهِ؟

وَاللهُ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ. [17/ 318]

418 -

اللهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، وَمَا لَا يَكُونُ أَنْ لَو كَانَ كَيْفَ كَان يَكُونُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَد قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ، وَكَتَبَ أَعْمَالَ الْعِبَادِ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُوهَا، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَرِيحِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ، ثُمَّ إنَّهُ يَأْمُرُ الْمَلَائِكَةَ بِكِتَابَتِهَا بَعْدَ مَا يَعْمَلُونَهَا، فَيُقَابِلُ بِهِ الْكِتَابَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى الْوُجُودِ وَالْكِتَابَةَ الْمُتَأَخِّرَةَ عَنْهُ، فَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ، هَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِن السَّلَفِ -وَهُوَ حَقٌّ-. [12/ 127]

* * *

(مستقرّ الرحمة)

419 -

قال له

(1)

رجل: جمعنا الله وإياك في مستقر رحمته.

فقال: لا تقل هذا.

(1)

أي: للإمام أحمد.

ص: 388

وكان أبو العباس يميل إلى أنه لا يكره الدعاء بذلك، ويقول: إن الرحمة ههنا المراد بها الرحمة المخلوقة، ومستقرها الجنة، وهو قول طائفة من السلف. [المستدرك 1/ 64]

* * *

(لا يُؤَثِّرُ المخلوقُ في الخالق رضى ولا غضبًا)

420 -

قال ابن القيم رحمه الله: وسألت شيخ الإسلام رحمه الله يومًا فقلت له: إذا كان الرب سبحانه يرضى بطاعة العبد، ويفرح بتوبته، ويغضب من مخالفته، فهل يجوز أن يُؤَثِّر الْمُحْدَث في القديم حبًّا وبغضًا وفرحًا وغير ذلك؟.

قال لي: الرب سبحانه هو الذي خلق أسباب الرضى والغضب والفرح، وإنما كان بمشيئته وخلقه، فلم يكن ذلك التأثير من غيره؛ بل من نفسه بنفسه، والممتنع أن يؤثر غيره فيه، وأما أن يخلق هو أسبابًا ويشاؤها ويقدرها تقتضي رضاه ومحبته وفرحه وغضبه فهذا ليس بمحال، فإن ذلك منه بدأ وإليه يعود. [مدارج السالكين 2/ 405]

* * *

‌(استواؤه تعالى على العرش بحد، هل يقال لصفاته حد، وله مقدار ونهاية

؟)

421 -

أثبت أئمة من أهل السُّنَّة "الحد".

وأنكر ذلك آخرون من المتكلمين: كأبي المعالي الجويني وطوائف من المعتزلة، والأشعرية، وبعض الحنبلية.

وفصل الخطاب: أن "الحد" له عدة معاني ترجع إلى أصلين: منها ما هو متفق عليه بين المسلمين، ومنها ما هو متفق عليه بين أهل السُّنَّة، ومنها ما هو متنازع فيه.

فإن "الحد":

ص: 389

- يكون لحقيقة الشيء النوعية، وهو حد الماهية.

- ويكون لعينه الذاتية، وهو حد لوجوده.

فالأول: هو "الحد" الذي يتكلم فيه المتكلمون من المنطقيين وغيرهم.

والثاني: كالحد الذي ينعته الشروطيون في حدود العقار وفي حُلَى الأشخاص.

فإذا انحصر نوعه في شخصه كالشمس مثلًا كان له حد بالاعتبارين.

وهو بالاعتبار الأول: كلي لا يمنع نفس تصور معناه من وقوع الشركة فيه.

وهو بالاعتبار الثاني: عيني يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه.

فأما الأول: فهو بمعنى انفصاله عن غيره وتميزه عنه بحيث لا يختلط به .. خلافًا للجهمية الذين يجعلونه مختلطًا بالمخلوقات.

وأما الثاني: فهو بمعنى صفاته القائمة به المميزة له عن غيره، كما يقال في حُلية الموصوف ونعوته، فله حد بهذا الاعتبار.

وأما "الحد" بمعنى المقدار والنهاية فهذا مورد النزاع، فقيل: لا حد له ولا غاية ولا مقدار، وقيل: له حد من جانب العرش فقط، وقيل: له حد ونهاية لا يعلمها غيره؛ إذ لا يعقل موجود بدون ذلك. [المستدرك 1/ 65 - 68]

* * *

(الساق من الصفات)

422 -

نُقل عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] أنه قال: عن شدة.

وثبت في "الصحيحين"

(1)

من حديث أبي سعيد رضي الله عنه في حديثه الطويل

(1)

البخاري (7439)، ومسلم (182).

ص: 390

الذي فيه تجلى الله تعالى لعباده يوم القيامة "وأنه يحتجب ثم يتجلى، قال: فيكشف عن ساقه فينظرون إليه".

والذي في القرآن (ساق) ليست مضافة فلهذا وقع النزاع هل هو من الصفات أم لا؟

قال شيخ الإسلام رحمة الله عليه: ولا أعلم خلافًا عن الصحابة في شيء مما يعد من الصفات المذكورة في القرآن إلا هذه الآية، لعدم الإضافة فيها.

والذي يجعلها من الصفات يقول فيها كقوله في قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، وقوله:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27]، ونحو ذلك فإن الصفات تثبت ويجب تنزيه الرب عن التمثيل؛ لأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. [مختصر الفتاوي 201 - 202]

* * *

(فوائد من الحموية الكبرى)

(1)

423 -

مِن الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَد عَلَّمَ أُمَّتَهُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ، وَقَالَ:"تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا لنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إلَّا هَالِكٌ"

(2)

.

وَمُحَالٌ مَعَ تَعْلِيمِهِمْ كُلَّ شَيْءٍ لَهُم فِيهِ مَنْفَعَةٌ فِي الدِّينِ -وَإِن دَقَّتْ-: أَنْ يَتْرُكَ تَعْلِيمَهُم مَا يَقُولُونَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَيَعْتَقِدُونَهُ فِي قُلُوبِهِم فِي رَبِّهِم وَمَعْبُودِهِمْ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

فَكَيْفَ يَتَوَهَّمُ مَن فِي قَلْبِهِ أَدْنَى مُسْكَةٍ مِن إيمَانٍ وَحِكْمَةٍ أَنْ لَا يَكُونَ بَيَانُ هَذَا الْبَابِ قَد وَقَعَ مِن الرَّسُولِ عَلَى غَايَةِ التَّمَامِ؟

(1)

قال الجامع رحمه الله: تُسمى الحموية الكبرى؛ لأن المؤلف. زاد فيها زياداتٍ على ما في الحموية الصغرى.

(2)

رواه ابن ماجه (43)، وأحمد (17142)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه.

ص: 391

ثُمَّ إذَا كَانَ قَد وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ: فَمِن الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ خَيْرُ أُمَّتِهِ وَأَفْضَلُ قُرُونِهَا قَصَّروا فِي هَذَا الْبَابِ، زَائِدِينَ فِيهِ أَو نَاقِصينِ عَنْهُ.

ثُمَّ مِن الْمُحَالِ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ الْقُرُونُ الْفَاضِلَةُ -الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم- كَانُوا غَيْرَ عَالِمِينَ، وَغَيْرَ قَائِلِينَ فِي هَذَا الْبَابِ بِالْحَقِّ الْمُبِينِ؛ لِأنَّ ضِدَّ ذَلِكَ:

- إمَّا عَدَمُ الْعِلْمِ وَالْقَوْلِ.

- وَإِمَّا اعْتِقَادُ نَقِيضِ الْحَقِّ، وَقَوْلِ خِلَافِ الصِّدْقِ.

وَكِلَاهُمَا مُمْتَنِعٌ. [5/ 7 - 8]

424 -

لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَالِفُونَ أَعْلَمَ مِن السَّالِفِينَ، كَمَا قَد يَقُولُهُ بَعْضُ الْأَغْبِيَاءِ -مِمَن لَمْ يُقَدِّرْ قَدْرَ السَّلَفِ؛ بَل وَلَا عَرَفَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ حَقِيقَةَ الْمَعْرِفَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا- مِن أَنَّ طَرِيقَةَ السَّلَفِ أَسْلَمُ، وَطَرِيقَةَ الْخَلَفِ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.

وَإِن كَانَت هَذِهِ الْعِبَارَةُ إذَا صَدَرَتْ مِن بَعْضِ الْعُلَمَاءِ قَد يَعْنِي بِهَا مَعْنًى صَحِيحًا.

فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُبْتَدِعِينَ الَّذِينَ يُفَضِّلُونَ طَرِيقَةَ الْخَلَفِ مِن الْمُتَفَلْسِفَةِ وَمَن حَذَا حَذْوَهُم عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ: إنَّمَا أُتُوْا مِن حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ طَرِيقَةَ السَّلَفِ هِيَ مُجَرَّدُ الْإِيمَانِ بِأَلْفَاظِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، مِن غَيْرِ فِقْهٍ لِذَلِكَ، بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّيِّينَ الَّذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78]، وَأَنَّ طَرِيقَةَ الْخَلَفِ هِيَ اسْتِخْرَاجُ مَعَانِي النُّصُوصِ الْمَصْرُوفَةِ عَن حَقَائِقِهَاْ بِأَنْوَاعِ الْمَجَازَاتِ وَغَرَائِبِ اللُّغَاتِ، فَهَذَا الظَّنُّ الْفَاسِدُ أَوْجَبَ تِلْكَ الْمَقَالَةَ، الَّتِي مَضمُونُهَا نَبْذُ الْإِسْلَامِ وَرَاءَ الظَّهْرِ، وَقَد كَذَبُوا عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ، وَضَلُّوا فِي تَصْوِيبِ طَرِيقَةِ الْخَلَفِ .. لَا سِيَّمَا وَالْإِشَارَةُ بِالْخَلَفِ إلَى ضَرْب مِن الْمُتَكَلِّمِينَ، الَّذِينَ كَثُرَ فِي بَابِ الدِّينِ اضْطِرَابُهُمْ، وَغَلُظَ عَن مَعْرِفَةِ اللهِ حِجَابُهُمْ، وَأَخْبَرَ

ص: 392

الْوَاقِفُ عَلَى نِهَايَةِ إقْدَامِهِمْ بِمَا انْتَهَى إلَيْهِ أَمْرُهُمْ. [5/ 8 - 10]

425 -

هَذَا كِتَابُ اللهِ مِن أَوَّلهِ إلَى آخِرِهِ، وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِن أَوَّلهَا إلَى آخِرِهَا، ثُمَّ عَامَّةُ كَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، ثُمَّ كَلَامُ سَائِرِ الْأَئِمَّةِ: مَمْلُوءٌ بِمَا هُوَ إمَّا نَصٌّ وَإِمَّا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ اللهَ سبحانه وتعالى هُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى، وَهُوَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ عَلَى كُل شَيْءٍ، وَأَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَأَنَّهُ فَوْقَ السَّمَاءِ؛ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10].

وَفِي الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ مَا لَا يُحْصَى إلَّا بِالْكُلْفَةِ؛ مِثْل قِصَّةِ مِعْرَاجِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إلَى رَبِّهِ، وَنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ مِن عِنْدِ اللهِ، وَصُعُودِهَا إلَيْهِ.

فَلَئِنْ كَانَ الْحَقُّ مَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ السَّالِبُونَ النَّافُونَ لِلصِّفَاتِ الثَّابتَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِن هَذ الْعِبَارَاتِ وَنَحْوِهَا، دُونَ مَا يُفْهَمُ مِن الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إمَّا نَصًّا وَإِمَّا ظَاهِرًا: فَكَيْفَ يَجُوزُ عَلَى اللهِ تَعَالَى ثُمَّ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ عَلَى خَيْرِ الْأُمَّةِ: أَنَّهُم يَتَكَلَّمُونَ دَائِمًا بِمَا هُوَ إمَّا نَصٌّ وَإِمَّا ظَاهِرٌ فِي خِلَافِ الْحَقِّ؟

ثُمَّ الْحَقُّ الَّذِي يَجِبُ اعْتِقَادُهُ لَا يَبُوحُونَ بهِ قَطُّ، وَلَا يَدُلُّونَ عَلَيْهِ لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا، حَتَّى يَجِيءَ أَنْبَاطُ الْفرْسِ وَالرُّومِ وَفُرُوخُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْفَلَاسِفَةُ يُبَيِّنونَ لِلْأُمَّةِ الْعَقِيدَةَ الصَّحِيحَةَ الَّتِي يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَو كُلِّ فَاضِلٍ أَنْ يَعْتَقِدَهَا؟

لَئِنْ كَانَ مَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمُونَ الْمُتَكَلِّفُونَ هُوَ الِاعْتِقَادُ الْوَاجِبُ، وَهُم مَعَ ذَلِكَ أُحِيلُوا فِي مَعْرِفَتِهِ عَلَى مُجَرَّدِ عُقُولِهِمْ، وَأَنْ يَدْفَعُوا بِمَا اقْتَضَى قِيَاسَ عُقُولِهِمْ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ نَصًّا أَو ظَاهِرًا: لَقَد كَانَ تَرْكُ النَّاسِ بِلَا كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ أَهْدَى لَهُم وَأَنْفَعَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ؛ بَل كَانَ وُجُودُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ضَرَرًا مَحْضًا فِي أَصْلِ الدِّينِ.

فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ عَلَى مَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ: إنَّكُمْ يَا مَعْشَرَ الْعِبَادِ لَا تَطْلُبُوا مَعْرِفَةَ اللهِ عزَّوجلَّ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ مِن الصِّفَاتِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا: لَا مِن الْكِتَابِ وَلَا مِن

ص: 393

السُّنَّةِ، وَلَا مِن طَرِيقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ، وَلَكِن اُنْظُرُوا أَنْتُمْ فَمَا وَجَدْتُمُوهُ مُسْتَحِقًّا لَهُ مِن الصِّفَاتِ فَصِفُوهُ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَو لَمْ يَكُنْ، وَمَا لَمْ تَجِدُوهُ مُسْتَحِقًّا لَهُ فِي عُقُولِكُمْ فَلَا تَصِفُوهُ بِهِ.

ثُمَّ هُم هَهُنَا فَرِيقَانِ:

أ- أَكْثَرُهُم يَقُولُونَ: مَا لَمْ تُثْبِتْهُ عُقُولُكُمْ فَانْفُوهُ.

ب- وَمِنْهُم مَن يَقُولُ: بَل تَوَقَّفُوا فِيهِ.

وَمَا نَفَاهُ قِيَاسُ عُقُولِكُم الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ وَمُضْطَرِبُونَ اخْتِلَافًا أَكْثَرَ مِن جَمِيعِ مَن عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ: فَانْفُوهُ، وَإِلَيْهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ فَارْجِعُوا، فَإِنَّهُ الْحَقُّ الَّذِي تَعَبَّدْتُكُمْ بِهِ.

وَمَا كَانَ مَذْكُورًا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِمَّا يُخَالِفُ قِيَاسَكُمْ هَذَا، أَو يُثْبِتُ مَا لَمْ تُدْرِكْهُ عُقُولُكُمْ -عَلَى طَرِيقَةِ أَكْثَرِهِمْ-: فَاعْلَمُوا أَنِّي أَمْتَحِنُكُمْ بِتَنْزِيلِهِ، لَا لِتَأْخُذُوا الْهُدَى مِنْهُ، لَكِنْ لِتَجْتَهِدُوا فِي تَخْرِيجِهِ عَلَى شَوَاذِّ اللُّغَةِ، وَوَحْشِيِّ الْأَلْفَاظِ، وَغَرَائِبِ الْكَلَامِ، أَو أَنْ تَسْكُتُوا عَنْهُ مُفَوِّضِينَ عِلْمَهُ إلَى اللهِ، مَعَ نَفْي دَلَالَتِهِ عَلَى شَيْءٍ مِن الصِّفَاتِ!

هَذَا حَقِيقَةُ الْأَمْرِ عَلَى رَأيِ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ.

وَهَذَا الْكَلَامُ قَد رَأَيْته صَرَّحَ بِمَعْنَاهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ لَازِمٌ لِجَمَاعَتِهِمْ لُزُومًا لَا مَحِيدَ عَنْهُ.

وَلَازِمُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ: أَنْ لَا يَكُونَ الْكِتَابُ هُدًى لِلنَّاسِ وَلَا بَيَانًا وَلَا شِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَلَا نُورًا وَلَا مَرَدًّا عِنْدَ التّنَازُعِ.

[5/ 12 - 19]

* * *

(أَصْل مَقَالَةِ التَّعْطِيلِ لِلصِّفَاتِ)

426 -

أَصْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ [مَقَالَةِ التَّعْطِيلِ لِلصِّفَاتِ]: إنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ عَن تَلَامِذَةِ الْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ وَضُلَّالِ الصَّابِئِينَ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ مَن حُفِظَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ هَذِهِ

ص: 394

الْمَقَالَةَ فِي الْإِسْلَامِ -أَعْنِي أَنَّ اللهَ سبحانه وتعالى لَيسَ عَلَى الْعَرْشِ حَقِيقَةً، وَأَنَّ مَعْنَى اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى وَنَحْو ذَلِكَ- هُوَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ، وَأَخَذَهَا عَنْهُ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَأَظْهَرَهَا، فَنُسِبَتْ مُقَالَةُ الْجَهْمِيَّة إلَيْهِ. [5/ 20]

427 -

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد رضي الله عنه: لَا يُوصَفُ اللهُ إلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، أَو وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم، لَا يُتَجَاوَزُ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ.

وَمَذْهَبُ السَّلَفِ: أَنَّهُم يَصِفُونَ اللهَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ، مِن غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَمِن غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ، وَنَعْلَمُ أَنَّ مَا وُصِفَ اللهُ بِهِ مِن ذَلِكَ فَهُوَ حَقٌّ لَيْسَ فِيهِ لُغْزٌ وَلَا أَحَاجِيٌّ؛ بَل مَعْنَاهُ يُعْرَفُ مِن حَيْثُ يُعْرَفُ مَقْصُودُ الْمُتَكَلِّمِ بِكَلَامِهِ، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ:

أ- أَعْلَمَ الْخَلْقِ بِمَا يَقُولُ.

ب- وَأَنْصَحَ

(1)

الْخَلْقِ فِي بَيَانِ الْعِلْمِ.

ج- وَأَفْصَحَ الْخَلْقِ فِي الْبَيَانِ وَالتَّعْرِيفِ وَالدَّلَالَةِ وَالْإِرْشَادِ.

وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَ ذَلِكَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، لَا فِي نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ الْمَذْكُورَةِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَلَا فِي أفْعَالِهِ.

فَكَمَا نَتَيَقَّنُ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَهُ ذَاتٌ حَقِيقَةً، وَلَهُ أَفْعَالٌ حَقِيقَة: فَكَذَلِكَ لَهُ صِفَاتٌ حَقِيقَةً، وَهُوَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، لَا فِي ذَاتِهِ، وَلَا فِي صِفَاتِهِ، وَلَا فِي أَفْعَالِهِ.

(1)

في الأصل: وَأفْصَحَ! والذي يظهر أنّ الصواب: وأنصح لثلاثة أمور:

الأمر الأول: لأنه يسلم من التكرار.

الأمر الثاني: أنه يُعطي معنى جديدًا، بخلاف "وأفصح" فهو عين الثالث.

الأمر الثالث: أنّ الشيخ صاغ هذه العبارة بأسلوب آخر بلفظ "وأنصح"؛ كقوله: وَمَن عَلِمَ أنَّ الرَّسُولَ أعْلَمُ الْخَلْقِ بِالْحَقِّ، وَأَفْصَحُ الْخَلْقِ فِي الْبَيَانِ، وَأنْصَحُ الْخَلْقِ لِلْخَلْقِ: عَلِمَ أَنَّهُ قَد اجْتَمَعَ فِي حَقِّهِ كَمَالُ الْعِلْم بِالْحَقِّ، وَكَمَالُ الْقُدْرةِ عَلَى بَيَانِهِ، وَكَمَالُ الْإِرَادَةِ لَهُ. اهـ. والله أعلم.

ص: 395

وَكُلُّ مَا أَوْجَبَ نَقْصًا أَو حُدُوثًا فَإِنَّ اللهَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ حَقِيقَةً؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْكَمَالِ الَّذِي لَا غَايَةَ فَوْقَهُ، وُيمْتَنِعُ عَلَيْهِ الْحُدُوثُ لِامْتِنَاعِ الْعَدَمِ عَلَيْهِ.

وَمَذْهَبُ السَّلَفِ: بَيْنَ التَّعْطِيلِ وَالتَّمْثِيلِ، فَلَا يُمَثِّلُونَ صِفَاتِ اللهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ، كَمَا لَا يُمَثِّلُونَ ذَاتَه بِذَاتِ خَلْقِهِ، وَلَا يَنْفُونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ، فَيُعَطِّلُوا أَسْمَاءَهُ الْحُسْنَى، وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا، ويُحَرِّفُوا الْكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ، وَيُلْحِدُوا فِي أَسْمَاءِ اللهِ وَآيَاتِهِ.

وَكُلُّ وَاحِدٍ مِن فَرِيقَيْ التَّعْطِيلِ وَالتَّمْثِيلِ: فَهُوَ جَامِعٌ بَيْنَ التَّعْطِيلِ وَالتَّمْثِيلِ، أَمَّا الْمُعَطِّلُونَ فَإنَّهُم لَمْ يَفْهَمُوا مِن أَسْمَاءِ اللهِ وَصَفَاتِهِ إلَّا مَا هُوَ اللَّائِق بِالْمَخْلُوقِ، ثُمَّ شَرَعُوا فِي نَفْيِ تِلْكَ الْمَفْهُومَاتِ، فَقَد جَمَعُوا بَيْنَ التَّعْطِيلِ وَالتَّمْثِيلِ، مَثَّلُوا أَوَّلًا وَعَطَّلُوا آخِرًا.

[5/ 26 - 27]

428 -

مَعْلُومٌ لِلْمُؤمِنِينَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

أ- أَعْلَمُ مَن غَيْرِهِ بِذَلِكَ.

ب- وَأَنْصَحُ مَن غَيْرِهِ لِلْأُمَّةِ.

ج- وَأَفْصحُ مَن غَيْرِهِ عِبَارَةً وَبَيَانًا.

بَل هُوَ أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِذَلِكَ، وَأَنْصَحُ الْخَلْقِ لِلْأُمَّةِ، وَأَفْصَحُهُمْ.

فَقَد اجْتَمَعَ فِي حَقِّهِ كَمَالُ الْعِلْمِ، وَالْقُدْرَةِ، وَالْإِرَادَةِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ أَو الْفَاعِلَ إذَا كَمُلَ عِلْمُهُ وَقُدْرَتهُ وَإِرَادَتُهُ: كَمُلَ كَلَامُهُ وَفِعْلُهُ.

وَإِنَّمَا يَدْخُلُ النَّقْصُ:

- إمَّا مِن نَقْصِ عِلْمِهِ.

- وَإِمَّا مَن عَجْزِهِ عَن بَيَانِ عِلْمِهِ.

- وَإِمَّا لِعَدَمِ إرَادَتِهِ الْبَيَانَ.

ص: 396

وَالرَّسُولُ هُوَ الْغَايَةُ فِي كَمَالِ الْعِلْمِ، وَالْغَايَةُ فِي كَمَالِ إرَادَةِ الْبَلَاغِ الْمُبِينِ، وَالْغَايَةُ فِي قُدْرَتهِ عَلَى الْبَلَاغِ الْمُبِينِ.

وَمَعَ وُجُودِ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَالْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ: يَجِبُ وُجُودُ الْمُرَادِ؛ فَعُلِمَ قَطْعًا أَنَّ مَا بَيَّنَه مِن أَمْرِ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ: حَصَلَ بِهِ مُرَادُهُ مِن الْبَيَانِ، وَمَا أَرَادَهُ مِن الْبَيَانِ فَهُوَ مُطَابِقٌ لِعِلْمِهِ، وَعِلْمُهُ بِذَلِكَ أَكْمَلُ الْعُلُومِ.

فَكُلُّ مَن ظَنَّ أَنَّ غَيْرَ الرَّسُولِ أَعْلَمُ بِهَذَا مِنْهُ، أَو أَكْمَلُ بَيَانًا مِنْهُ، أَو أَحْرَصُ عَلَى هَدْيِ الْخَلْقِ مِنْهُ: فَهُوَ مِن الْمُلْحِدِينَ لَا مِن الْمُؤْمِنِينَ.

وَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُم بِإِحْسَان وَمَن سَلَكَ سَبِيلَهُم فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقَامَةِ. [5/ 30 - 31]

* * *

(معنى لفظ التأويل)

429 -

إِنَّ لَفْظَ التَّأْوِيلِ يُرَادُ بِهِ ثَلَاث مَعَانٍ:

فَالتَّأْوِيلُ فِي اصْطِلَاحِ كَثِيرٍ مِن الْمُتَأَخِّرِينَ هُوَ: صَرْفُ اللَّفْظِ عَن الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ لِدَليل يَقْتَرِنُ بِذَلِكَ.

فَلَا يَكُونُ مَعْنَى اللَّفْظِ الْمُوَافِقِ لِدَلَالَةِ ظَاهِرِهِ تَأْوِيلًا عَلَى اصْطِلَاحِ هَؤُلَاءِ، وَظَنُّوا أَنَّ مُرَادَ اللهِ تَعَالَى بِلَفْظِ التَّأْوِيلِ ذَلِكَ، وَأَنَّ لِلنُّصُوصِ تَأْوِيلًا يُخَالِفُ مَدْلُولَهَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللهُ، وَلَا يَعْلَمُهُ الْمُتَأَوِّلُونَ.

ثُمَّ كَثِيرٌ مِن هَؤُلَاءِ يَقولُونَ: تُجْرى عَلَى ظَاهِرِهَا، فَظَاهِرُهَا مُرَادٌ، مَعَ قَوْلِهِمْ: إنَّ لَهَا تَأْوِيلًا بِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللهُ!

وَهَذَا تَنَاقُضٌ وَقَعَ فِيهِ كَثِيرٌ مِن هَؤُلَاءِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ مِن أصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ.

وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّ التَّأْوِيلَ هُوَ تَفْسِيرُ الْكَلَامِ، سَوَاءٌ وَافَقَ ظَاهِرَهُ أَو

ص: 397

لَمْ يُوَافِقْة، وَهَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ فِي اصْطِلَاحِ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ.

وَهَذَا التَّأْوِيلُ يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِوَقْفِ مَن وَقَفَ مِن السَّلَفِ عِنْدَ قَوْلِهِ:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] .. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ بِاعْتِبَار.

وَالْمَعْنَى الثَّالِثُ: أنَّ التَّأْوِيلَ هُوَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي يَؤُولُ الْكَلَامُ إلَيْهَا، وَإِن وَافَقَتْ ظَاهِرَهُ.

فَتَأْوِيلُ مَا اخْبَرَ اللهُ بِهِ فِي الْجَنَّةِ مِن الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَالنِّكَاحِ وَقِيَامِ السَّاعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: هُوَ الْحَقَائِقُ الْمَوْجُودَةُ أنْفُسُهَا، لَا مَا يُتَصَوَّرُ مِن مَعَانِيهَا فِي الْأَذْهَانِ، ويُعَبَّرُ عَنْهُ بِاللِّسَانِ.

وَهَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ فِي لُغَةِ الْقُرْآنِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَن يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: {يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف: 100].

وَهَذَا التَّأْوِيلُ هُوَ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللهُ.

وَتَأْوِيلُ الصِّفَاتِ: هُوَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي انْفَرَدَ اللهُ تَعَالَى بِعِلْمِهَا، وَهُوَ الْكَيْفُ الْمَجْهُولُ. [5/ 35 - 36]

* * *

(أقوال السلف في باب الأسماء والصفات)

430 -

نَحْنُ نَذْكُرُ مِن أَلْفَاظِ السَّلَفِ بِأعْيَانِهَا، وَأَلْفَاظِ مَن نَقلَ مَذْهَبَهُمْ:

رَوَى أَبُو بَكْرٍ البيهقي فِي "الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ" بِإِسْنَاد صَحِيحٍ عَن الأوزاعي قَالَ: كُنَّا -وَالتَّابِعُونَ مُتَوَافِرُونَ-: نَقُولُ: إنَّ اللهَ -تَعَالَى ذِكْرُهُ- فَوْقَ عَرْشِهِ، وَنُؤْمِنُ بِمَا وَرَدَتْ فِيهِ السُّنَّةُ مِن صِفَاتِهِ.

وَقَد حَكَى الأوزاعي -وَهُوَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فِي عَصْرِ تَابِعِ التَّابِعِينَ، الَّذِينَ هُم "مَالِكٌ" إمَامُ أهْلِ الْحِجَازِ، وَ"الأوزاعي "إمَامُ أَهْلِ الشَّامِ، وَ"اللَّيْثُ" إمَامُ أَهْلِ مِصْرَ، وَ"الثَّوْرِيُّ" إمَامُ أَهْلِ الْعِرَاقِ- حَكَى شُهْرَةَ الْقَوْلِ فِي زَمَنِ

ص: 398

التَّابِعِينَ بِالْإِيمَانِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى فَوْقَ الْعَرْشِ وَبِصِفَاتِهِ السَّمْعِيَّةِ.

وَإِنَّمَا قَالَ الأوزاعي هَذَا بَعْدَ ظُهُورِ مَذْهَبِ جَهْمٍ الْمُنْكِرِ لِكَوْنِ اللهِ فَوْقَ عَرْشِهِ وَالنَّافِي لِصفَاتِهِ؛ لِيَعْرِفَ النَّاسُ أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ خِلَافُ ذَلِكَ.

وَرَوَى أَيْضًا عَن الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَأَلْت مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ وَاللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ وَالْأوْزَاعِي عَن الْأَخْبَارِ الَّتِي جَاءَت فِي الصِّفَاتِ، فَقَالُوا: أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَت بِلَا كَيْفٍ.

فَقَوْلُهُم رضي الله عنهم: "أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ": رَدٌّ عَلَى الْمُعَطِّلَةِ، وَقَوْلُهُم:"بِلَا كَيْفٍ"رَدٌّ عَلَى الْمُمَثِّلَةِ.

وَالزُّهْرِيُّ وَمَكْحُولٌ: هُمَا أَعْلَمُ التَّابِعِينَ فِي زَمَانِهِمْ، وَالْأَرْبَعَةُ الْبَاقُونَ أَئِمَّةُ الدُّنْيَا فِي عَصْرِ تَابِعِي التَّابِعِينَ.

وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَاد -كُلُّهُم أَئِمَّةٌ ثِقَاتٌ - عَن سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة قَالَ: سُئِلَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَن قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} كَيْفَ اسْتَوَى؟

قَالَ: الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَمِن اللهِ الرِّسَالَةُ، وَعَلَى الرَّسُولِ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ، وَعَلَيْنَا التَّصْدِيقُ.

وَهَذَا الْكَلَامُ مَرْوِيٌّ عَن مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ تِلْمِيذِ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِن غَيْرِ وَجْهٍ.

فَقَوْلُ رَبِيعَةَ وَمَالِكٍ: "الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ": مُوَافِقٌ لِقَوْلِ الْبَاقِينَ: أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَت بِلَا كَيْفٍ؛ فَإِنَّمَا نَفَوْا عِلْمَ الْكَيْفِيَّةِ وَلَمْ يَنْفوا حَقِيقَةَ الصِّفَةِ.

وَلَو كَانَ الْقَوْمُ قَد آمَنُوا بِاللَّفْظِ الْمُجَرَّدِ مِن غَيْرِ فَهْمٍ لِمَعْنَاهُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِاللهِ: لَمَا قَالُوا: "الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ" وَلَمَا قَالُوا: أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَت بِلَا كَيْفٍ.

ص: 399

وَرَوَى البيهقي وَغَيْرُهُ

(1)

بِإِسْنَاد صَحِيحٍ عَن أَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سلام قَالَ: هَذِهِ الْأحَادِيثُ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا: "ضَحِكَ رَبُّنَا مِن قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ غيرِهِ"، "وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رَبُّك فِيهَا قَدَمَهُ"

(2)

، "وَالْكُرْسِيُّ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ"

(3)

، وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِي "الرُّؤيَةِ" هِيَ عِنْدَنَا حَقٌّ حَمَلَهَا الثِّقَاتُ بَعْضُهُم عَن بَعْضٍ، غَيْرَ أَنَّا إذَا سُئِلْنَا عَن تَفْسِيرِهَا لَا نُفَسِّرُهَا، وَمَا أَدْرَكْنَا أَحَدًا يُفَسِّرُهَا.

أَبُو عُبَيْدٍ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ: الَّذِينَ هُم الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَلَهُ مِن الْمَعْرِفَةِ بِالْفِقْهِ وَاللُّغَةِ وَالتَّأْوِيلِ مَا هُوَ أَشْهَرُ مِن أَنْ يُوصَفَ، وَقَد كَانَ فِي الزَّمَانِ الَّذِي ظَهَرَتْ فِيهِ الْفِتَنُ وَالْأَهْوَاءُ، وَقَد أَخْبَرَ أَنَّهُ مَا أَدْرَكَ أَحَدًا مِن الْعُلَمَاءِ يُفَسِّرُهَا؛ أَيْ: تَفْسِيرَ الْجَهْمِيَّة

(4)

. [5/ 38 - 51]

431 -

قَد يَرْوِي كَثِيرٌ مِن النَّاسِ فِي الصِّفَاتِ وَسَائِرِ أَبْوَابِ الِاعْتِقَادَاتِ وَعَامَّةِ أبْوَابِ الدِّينِ أَحَادِيث كَثِيرَة تَكُونُ مَكْذُوبَةً مَوْضُوعَةً عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهِيَ قِسْمَانِ:

- مِنْهَا مَا يَكُونُ كَلَامًا بَاطِلًا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ، فَضْلًا عَن أنْ يُضَافَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

- وَالْقِسْمُ الثَّانِي مِن الْكَلَامِ: مَا يَكُونُ قَد قَالَهُ بَعْضُ السَّلَفِ، أَو بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، أَو بَعْضُ النَّاسِ وَيكُونُ حَقًّا، أَو مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، أَو مَذْهَبًا لِقَائِلِهِ فَيُعْزَى إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

(1)

ابن ماجه (181)، وأحمد (16187)، وصححه الألباني في الصحيحة (2810).

(2)

رواه البخاري (7449)، ومسلم (2848).

(3)

قال الذهبي في العلو (76): رواته ثقات، وقال ابن حجر في فتح الباري (8/ 47): إسناده صحيح، وقال الألباني في مختصر العلو (45): صحيح موقوف.

(4)

وقد نقل الشيخ آثارًا كثيرة في إثبات الصفات وعدم تحريفها أو تعطيلها أو تأويلها، وخص الأئمة الأربعة وأصحابهم، الذين سار أتباعهم من بعدهم على خلاف ما عليه أئمتهم، إلا ما شاء الله، وذكر نصوص أئمة الأشاعرة كأبي الحسن الأشعري، والباقلاني، وأئمة الصوفية؛ كالحارث المحاسبي وغيرهم. (ص 39 - 99).

ص: 400

وَهَذه الْمَسَائِلُ وإن كَانَ غَالِبُهَا مُوَافِقًا لِأُصُولِ السُّنَّةِ، فَفِيهَا مَا إذَا خَالَفَهُ الْإِنْسَانُ لَمْ يُحْكَمْ بِأَنَّهُ مُبْتَدِعٌ. [3/ 379 - 380]

* * *

(نُور الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُغْنِي عَن كُلِّ شَيْءٍ)

432 -

مِلَاكُ الْأَمْرِ: أَنْ يَهَبَ اللهُ لِلْعَبْدِ حِكْمَةً وَإِيمَانًا؛ بِحَيْثُ يَكُونُ لَهُ عَقْلٌ وَدِينٌ حَتَّى يَفْهَمَ وَيدِينَ.

ثُمَّ نُورُ الْكتَابِ وَالسُّنَّةِ يُغْنِيهِ عَن كُلِّ شَيْءٍ

(1)

.

وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِن النَّاسِ قَد صَارَ مُنْتَسِبًا إلَى بَعْضِ طَوَائِفِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَمُحْسِنًا لِلظَّنِّ بِهِم دُونَ غَيْرِهِمْ، وَمُتَوَهِّمًا أَنَّهُم حَقَّقُوا فِي هَذَا الْبَابِ مَا لَمْ يُحَقِّقْهُ غَيْرُهُمْ.

فَلَو أُتِي بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعَهَا حَتَّى يُؤْتَى بِشَيْء مِن كَلَامِهِمْ

(2)

.

ثُمَّ هُم مَعَ هَذَا مُخَالِفُونَ لِأَسْلَافِهِمْ غَيْرُ مُتَّبِعِينَ لَهُمْ، فَلَو أَنَّهُم أَخَذُوا بِالْهُدَى الَّذِي يَجِدُونَهُ فِي كَلَامِ أَسْلَافِهِمْ لَرُجِيَ لَهُم مَعَ الصِّدْقِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ أَنْ يَزْدَادُوا هدًى.

وَمَن كَانَ لَا يَقْبَلُ الْحَقَّ إلَّا مِن طَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ، ثُمَّ لَا يَتَمَسَّكُ بِمَا جَاءَت بِهِ مِن الْحَقِّ: فَفِيهِ شَبَهٌ مِن الْيَهُودِ الَّذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ

(1)

صدق رحمه الله، فنُورُ الْكِتَاب وَالسُّنَّةِ يُغْنِي المتمسك بهما، المهتدي بهديهما عَن كُلِّ شَيْءٍ.

فالأنس بهما أعظم وأدوم من كل أنس، والاستغناء بهما يُزهِّدُ عن التعلق بالغناء الظاهر المادي، والعلم الحاصل منهما في التربية والتعامل والسلوك والأخلاق والعشرة والأدب والإيمان أعظم وأجل من غيرهما ولا مقارنة.

ومن نورهما ومشكاتهما تُكتسب القناعة والورع والزهد والهمة والعقل والحكمة.

(2)

وهذا حال من لم يجعل القرآن والسُّنَّة منهجه وسبيله، وغايةَ مقصدِه، ومصدر علمه، ومنبع فهمه، ومورد استدلاله.

ص: 401

قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)} [البقرة:91]

(1)

. [5/ 100]

* * *

(معنى المعيَّة)

433 -

لَا يَحْسَبُ الْحَاسِبُ أَنَّ شَيْئًا مِن ذَلِكَ يُنَاقِضُ بَعْضَهُ بَعْضًا أَلْبَتَّةَ؛ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ: مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِن أَنَّ اللهَ فَوْقَ الْعَرْشِ يُخَالِفُهُ الظَّاهِرُ مِن قَوْلِهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد: 4]، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:"إذ قَامَ أَحَدُكُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّ اللهَ قِبَلَ وَجْهِهِ"

(2)

، وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذَا غَلَطٌ.

وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ مَعَنَا حَقِيقَةً، وَهُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ حَقِيقَةً .. ؛ وَذَلِكَ أَنَّ كَلِمَةَ (مَعَ) فِي اللُّغَةِ إذَا أُطْلِقَتْ فَلَيْسَ ظَاهِرُهَا فِي اللُّغَةِ إلَّا الْمُقَارَنَةَ الْمُطْلَقَةَ، مِن غَيْرِ وُجُوبِ مُمَاسَّةٍ أَو مُحَاذَاةٍ عَن يَمِينٍ أَو شِمَالٍ، فَإِذَا قُيِّدَتْ بِمَعْنَى مِن الْمَعَانِي دَلَّتْ عَلَى الْمُقَارَنَةِ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى.

فَإِنَّهُ يُقَالُ: مَا زِلْنَا نَسِيرُ وَالْقَمَرَ مَعَنَا، أَو وَالنَّجْمَ مَعَنَا.

فَاللهُ مَعَ خَلْقِهِ حَقِيقَةً وَهُوَ فَوْقَ عَرْشِهِ حَقِيقَةً .. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ: إنَّهُ مَعَهُم بِعِلْمِهِ، وَهَذَا ظَاهِرُ الْخِطَابِ وَحَقِيقَتُهُ.

[5/ 102 - 103]

434 -

الْمَعِيَّةُ مَعِيَّتَانِ: عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ.

(1)

ومن أمثلة ذلك:

1 -

من ينتسب للسلف الصالح رحمهم الله ويطعن فيمن يُخالفهم، ثم لا يأخذ بما تواتر عنهم في باب الرفق بالمخالف المجتهد، ولا يُراعي الأدب في النصيحة، ولا يحفظ لسانه من الغيبة والسباب والطعن، ولا يأخذ بمنهجهم في الحرص على الاجتماع والتآليف، وترك التثريب على العالم والداعية المجتهد.

2 -

من يُحب شيخًا وينقل أقواله، ولا يأخذ بقولِه إذا خالف هواه وما هو مقتنع به، ويتأول كلامه، وربما عارضه بقول عالم أو شيخ آخر، وربما قال: بأنّه لم يتبين له الصواب في المسألة أو الرأي.

(2)

رواه البخاري (753)، ومسلم (547).

ص: 402

فَالْأُولَى كَقَوْلِهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4].

وَالثَّانِيَةُ كَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} [النحل: 128]. [5/ 227]

* * *

(معنى: الله فِي السَّمَاءِ، وبيان أنَّ مَعَانِي الْحُرُوفِ مُتَوَاطِئَةٌ فِي الْغَالِبِ لَا مُشْتَرَكَةٌ)

435 -

عِنْدَ النَّاسِ أَنَّ "اللهَ فِي السَّمَاءِ""وَهُوَ عَلَى الْعَرْشِ" وَاحِدٌ؛ إذ السَّمَاءُ إنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْعُلُوَّ؛ فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللهَ فِي الْعُلُوِّ لَا فِي السُّفْلِ، وَقَد عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ كُرْسِيَّهُ -سبحانه وتعالي- وَسِعَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنَّ الْكُرْسِيَّ فِي الْعَرْشِ كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، وَأَنَّ الْعَرْشَ خَلْقٌ مِن مَخْلُوقَاتِ اللّهِ، لَا نِسْبَةَ لَهُ إلَى قُدْرَةِ اللهِ وَعَظَمَتِهِ، فَكَيْفَ يُتَوَهَّمُ بَعْدَ هَذَا أَنَّ خَلْقًا يَحْصُرُهُ وَيحْوِيهِ؟ وَقَد قَالَ سُبْحَانَهُ:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]، وَقَالَ:{فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [آل عمران: 137] بِمَعْنَى (عَلَى) وَنَحْوُ ذَلِكَ.

وَهُوَ كَلَامٌ عَرَبِيٌّ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، وَهَذَا يَعْلَمُهُ مَن عَرَفَ حَقَائِقَ مَعَانِي الْحُرُوفِ، وَأَنَّهَا مُتَوَاطِئَةٌ فِي الْغَالِبِ لَا مُشْتَرَكَةٌ

(1)

.

[5/ 106]

* * *

‌(معني حديث: فَإِنَّ اللهَ قِبَلَ وَجْهِهِ

؟)

436 -

قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَإنَّ اللهَ قِبَلَ وَجْهِهِ فَلَا يَبْصُقْ قِبَلَ وَجْهِهِ"

(2)

: حَقٌّ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَهُوَ قِبَلَ وَجْهِ الْمُصَلِّي.

(1)

اللفظ المشترك هو: ما اتحد لفظه، واختلف معناه؛ مثل (عين الماء) و (عين المال) و (عين السحاب).

والمتواطئ: هو ما اتحد لفظه ومعناه، ولكنه يختلف باختلاف السياق والإضافة.

(2)

تقدم تخريجه.

ص: 403

بَل هَذَا الْوَصفُ يَثْبُتُ لِلْمَخْلُوقَاتِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَو أَنَّهُ يُنَاجِي السَّمَاءَ، أَو يُنَاجِي الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ: لَكَانَت السَّمَاءُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ فَوْقَهُ، وَكَانَت أَيْضًا قِبَلَ وَجْهِهِ. [5/ 107]

* * *

(الردّ على من قال: مَذْهَبُ السَّلَفِ إقْرَارُ الصفات عَلَى مَا جَاءَت بهِ، مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ ظَاهِرَهَا غَيْرُ مُرَادٍ)

437 -

اعْلَمْ أَنَّ مِن الْمُتَأَخِّرِينَ مَن يَقُولُ: مَذْهَبُ السَّلَفِ إقْرَارُهَا

(1)

عَلَى مَا جَاءَت بِهِ، مَعَ اعْتِقَادِ انَّ ظَاهِرَهَا غَيْرُ مُرَادٍ.

وَهَذَا اللَّفْظُ مُجْمَلٌ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: "ظَاهِرهَا غَيْرُ مُرَادٍ":

- يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالظَّاهِرِ: نُعُوتَ الْمَخْلُوقِينَ، وَصِفَاتِ المحدثين؛ مِثْلُ أَنْ يُرَادَ بِكَوْنِ "الله قَبِلَ وَجْهِ الْمُصَلِّي" أَنَّهُ مُسْتَقِرٌّ فِي الْحَائِطِ الَّذِي يُصَفي إلَيْهِ، وَإِنَّ "اللهَ مَعَنَا" ظَاهِرُهُ أَنَّهُ إلَى جَانِبِنَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ.

وَمَن قَالَ: إنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ: فَقَد أَصَابَ فِي الْمَعْنَى، لَكِنْ أَخْطَأَ بِإِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذَا ظَاهِرُ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ؛ فَإِنَّ هَذَا الْمُحَالَ لَيْسَ فوَ الظَّاهِرُ.

اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَعْنَى الْمُمْتَنِعُ صَارَ يَظْهَرُ لِبَعْضِ النَّاسِ، فَيَكونُ الْقَائِل لِذَلِكَ مُصِيبًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، مَعْذُورًا فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ.

فَإنَّ الظُّهُورَ وَالْبُطُونَ قَد يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ، وَهُوَ مِن الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ.

وَكَانَ أَحْسَن مِن هَذَا أَنْ يُبَيِّنَ لِمَن اعْتَقَدَ أَنَّ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ: أَنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ الظَّاهِرَ، حَتَّى يَكُونَ قَد أَعْطَى كَلَامَ اللّهِ وَكَلَامَ رَسُولِهِ حَقَّهُ لَفْظًا وَمَعْنى.

(1)

أي: الصفات.

ص: 404

- وَإِن كَانَ النَّاقِلُ عَن السَّلَفِ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: "الظَّاهِرُ غَيْرُ مُرَادٍ" عِنْدَهُم أَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي تَظْهَرُ مِن هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ مِمَّا يَلِيق بِجَلَالِ اللهِ وَعَظَمَتِهِ، وَلَا يَخْتَصُّ بِصِفَةِ الْمَخْفوقِينَ؛ بَل هِيَ وَاجِبَةٌ للهِ، أَو جَائِزَةٌ عَلَيْهِ جَوَازًا ذِهْنِيًّا، أَو جَوَازًا خَارِجِيًّا، غَيْرَ مُرَادٍ: فَهَذَا قَد أَخْطَأَ فِيمَا نَقَلَهُ عَن السَّلَفِ، أَو تَعَمَّدَ الْكَذِبَ.

وَاللهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَعْدَ الْبَحْثِ التَّامِّ وَمُطَالَعَةِ مَا أَمْكَنَ مِن كَلَامِ السَّلَفِ: مَا رَأَيْت كَلَامَ أَحَدٍ مِنْفم يَدُلُّ -لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا وَلَا بِالْقَرَائِنِ- عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ بَل الَّذِي رَأَيْته أَنَّ كَثِيرًا مِن كَلَامِهِمْ يَدُلُّ -إمَّا نَصَّا وَإِمَّا ظَاهِرًا- عَلَى تَقْرِيرِ جِنْسِ هَذ الصِّفَاتِ. [5/ 108 - 110]

* * *

(الْأَقْسَامُ الْمُمْكِنَةُ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا)

438 -

جِمَاعُ الْأَمْرِ: أَنَّ الْأَقْسَامَ الْمُمْكِنَةَ فِي آيَاتِ الضفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا سِتَّةُ أَقْسَامٍ، كُلُّ قِسْمٍ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِن أَهْلِ الْقِبْلَةِ: قِسْمَانِ يَقُولَانِ: تجْرى عَلَى ظَوَاهِوِهَا.

وقِسْمَانِ يَقُولَانِ: هِيَ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهَا.

وقِسْمَانِ يَسْكُتُونَ.

أَمَّا الْأَوَّلُونَ فَقِسْمَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَن يُجْرِيهَا عَلَى ظَاهِرِهَا، ويجْعَلُ ظَاهِرَهَا مِن جِنْسِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، فَهَؤُلَاءِ الْمُشْبِهَة وَمَذْهَبُهُم بَاطِلٌ، أَنْكَرَهُ السَّلَفُ، وَإلَيْهِم يَتَوَجَّهُ الرَّدُّ بِالْحَقِّ.

الثَّانِي: مَن يُجْرِيهَا عَلَى ظَاهِرِهَا اللَّائِقِ بِجَلَالِ اللهِ.

وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الَّذِي حَكَاهُ الخطابي وَغَيْرُهُ عَن السَّلَفِ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ جُمْهُورِهِمْ، وَكَلَامُ الْبَاقِينَ لَا يُخَالِفُهُ.

ص: 405

وَأَمَّا الْقِسْمَانِ اللَّذَانِ يَنْفِيَانِ ظَاهِرَهَا .. فَهَؤُلَاءِ قِسْمَانِ:

قِسْمٌ: يَتَأَوَّلُونَهَا ويُعَيِّنُونَ الْمُرَادَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى، أَو بِمَعْنَى عُلُوِّ الْمَكَانَةِ وَالْقَدْرِ، أَو بِمَعْنَى ظُهُورِ نُورِهِ لِلْعَرْشِ، أَو بِمَعْنَى انْتِهَاءِ الْخَلْقِ إلَيْهِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِن مَعَانِي الْمُتَكلِّمِينَ.

وَقِسْمٌ يَقُولُونَ: اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ بِهَا، لَكِنَّا نَعْلَمُ أَنَّة لَمْ يُرِدْ إثْبَاتَ صِفَةٍ خَارِجِيَّةٍ عَمَّا عَلِمْنَاهُ.

وَأمَّا الْقِسْمَانِ الْوَاقِفَانِ:

فَقَوْمٌ يَقُولُونَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُهَا الْمُرَادَ اللَأئِق بِجَلَالِ اللهِ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُرَادُ صِفَةَ اللهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ.

وَهَذِهِ طَرِيقَةُ كَثِيرٍ مِن الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ.

وَقَوْمٌ: يُمْسِكُونَ عَن هَذَا كُلِّهِ، وَلَا يَزِيدُونَ عَلَى تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَقِرَاءَةِ الْحَدِيثِ، مُعْرِضِينَ بِقُلُوبِهِم وَأَلْسِنَتِهِمْ عَن هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ.

فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ السِّتَّةُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ الرَّجُلُ عَن قِسْمٍ مِنْهَا. [5/ 113 - 117]

* * *

(تتمة للفوائد المنتقاة من الحموية الكبرى)

439 -

مَن عَلِمَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ مِن الْمُتَفَلْسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْغَالِبِ {لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)} [الذاريات: 8، 9] يَعْلَمُ الذَكِيُّ مِنْهُم وَالْعَاقِلُ: أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ فِيمَا يَقولُهُ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَأَنَّ حُجَّتَهُ لَيْسَتْ بِبَيِّنَةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ كَمَا قِيلَ فِيهَا:

حُجَجٌ تهافت كَالزُّجَاجِ تَخَالُهَا

حَقُّا وَكُلٌّ كَاسِرٌ مَكْسُورٌ

(1)

(1)

أصل هذا البيت -والله أعلم- لابن الرومي، حيث قال كما في ديوانه (2259):

لذوي الجدالِ إذا غدوا لجدالهم

حججٌ تَضِلُّ عن الهدى وتجورُ

وَهَنٌ كآنية الزجاج تَصادمتْ

فهوتْ وكلٌّ كاسِرٌ مكسور

ص: 406

وَيَعْلَمُ الْعَلِيمُ الْبَصِيرُ بِهِمْ: أَنَهُم مِن وَجْهٍ مُسْتَحِقُّونَ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه حَيْثُ قَالَ: حُكْمِي فِي أَهْلِ الْكَلَامِ أَنْ يُضْرَبُوا بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ، وَيُطَافُ بِهِم فِي الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ، وُيقَالُ: هَذَا جَزَاءُ مَن أَعْرَضَ عَن الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْكَلَامِ.

وَمِن وَجْهٍ آخَرَ: إذَا نَظَرْت إلَيْهِم بِعَيْنِ الْقَدَرِ -وَالْحَيْرَةُ مُسْتَوْلِيَةٌ عَلَيْهِمْ، وَالشَّيْطَانُ مُسْتَحْوِذٌ عَلَيْهِم-: رَحِمَتْهُم وَترفَّقْت بِهِمْ

(1)

، أُوتُوا ذَكَاءً وَمَا أُوتُوا زكَاءً، وَأُعْطُوا فُهُومًا وَمَا أُعْطُوا عُلُومًا، وَأُعْطُوا سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف: 26].

وَمَن كَانَ عَلِيمًا بِهَذِهِ الْأمُورِ: تَبَيَّنَ لَهُ بِذَلِكَ حِذْقُ السَّلَفِ وَعِلْمُهُم وَخِبْرَتُهُمْ؛ حَيْثُ حَذَّرُوا عَن الْكَلَامِ وَنَهَوْا عَنْهُ، وَذَمُّوا أَهْلَهُ، وَعَابُوهُمْ، وَعَلِمَ أَنَّ مَن ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَمْ يَزْدَدْ مِن اللّهِ إلَّا بُعْدًا

(2)

. [5/ 119 - 120]

* * *

(لَمْ يَثْبُتْ أَنْ لَفَظَ "اسْتَوَى" فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى اسْتَوْلَى)

440 -

لَمْ يَثْبُتْ أَنْ لَفَظَ "اسْتَوَى" فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى اسْتَوْلَى؛ إذ الَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ عُمْدَتُهُم الْبَيْتُ الْمَشْهُورُ:

ثُمَّ اسْتَوَى بِشْر عَلَى الْعِرَاقِ

مِن غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مِهْرَاقِ

ولَمْ يَثْبُتْ نَقْل صَحِيحٌ أَنَّهُ شِعْر عَرَبِيٌّ، وَكَانَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِن أَئِمَّةِ اللُّغَةِ

(1)

هكذا المؤمن ينظر بعينين لأهل المعاصي والمبتدعة: عين يرى من خلالها شؤم وضلال فعلهم، فيُنكر عليهم ويغضب لله من مُخالفتهم لشريعة ربهم.

وعين يرى من خلالها القدر الجاري عليهم، والبؤس والشقاء الذي يعيشونه، والضلال الذي لم يشأ الله أن يُخرجهم منه، فيرقّ لهم، ويرحم حالهم، وبتلطف في الإنكار عليهم.

(2)

إلى هنا انتهت الفوائد المنتقاة من الحموية الكبرى.

ص: 407

أَنْكَرُوهُ، وَقَالُوا: إنَّهُ بَيْت مَصْنُوعٌ لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ، وَقَد عُلِمَ أَنَّهُ لَو احْتَجَّ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَاحْتَاجَ إلَى صِحَّتِهِ، فَكَيْفَ بِبَيْت مِن الشِّعْرِ لَا يُعْرَفُ إسْنَادُهُ، وَقَد طَعَنَ فِيهِ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ؟

وَذُكِرَ عَن الْخَلِيلِ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْمُظَفَّرِ فِي كِتَابِهِ الْإِفْصَاحِ قَالَ: سُئِلَ الْخَلِيلُ: هَل وَجَدْت فِي اللُّغَةِ اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى؟

فَقَالَ: هَذَا مَا لَا تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ، وَلَا هُوَ جَائِزٌ فِي لُغَتِهَا.

وَهُوَ إمَامٌ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَا عُرِفَ مِن حَالِهِ.

فَحِينَئِذٍ حَمْلُة عَلَى مَا لَا يُعْرَفُ حَمْلٌ بَاطِلٌ

(1)

. [5/ 146]

* * *

(كرَوِيَّةُ الْأَرض والأفلاك، وصفةُ العرش وأنه مُقبب)

441 -

اعْلَمْ أَنَّ الْأرْضَ قَد اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا كُرَوِيَّةُ الشَكْلِ، وَهِيَ فِي الْمَاءِ الْمُحِيطِ بِأَكْثَرِهَا؛ إذ الْيَابسُ السُّدُسُ وَزِيادَةٌ بِقَلِيل، وَالْمَاءُ أَيْضًا مُقَبَّبٌ مِن كُلِّ جَانِبٍ لِلْأَرْضِ، وَالْمَاءُ الَّذِي فَوْقَهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ كَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا مِمَّا يَلِي رُؤُوسَنَا، وَلَيْسَ تَحْتَ وَجْهِ الْأَرْضِ إلَّا وَسَطُهَا وَنِهَايَةُ التَّحْتِ الْمَرْكَزُ، فَلَا يَكُونُ لَنَا جِهَةٌ بَيِّنَةٌ إلَّا جِهَتَانِ: الْعُلُوُّ وَالسُّفْلُ، وإِنَّمَا تَخْتَلِفُ الْجِهَاتُ بِاخْتِلَافِ الْإِنْسَانِ.

فَعُلُوُّ الْأَرْضِ وَجْهُهَا مِن كُلِّ جَانِبٍ، وَأَسْفَلُهَا مَا تَحْتَ وَجْهِهَا.

وَنهَايَةُ الْمَرْكَز -هُوَ الَّذِي يُسمَّى مَحَطَّ الْأَثْقَالِ-: فَمِن وَجْهِ الْأَرْضِ.

وَالْمَاءُ مِن كُلِّ وُجْهَةٍ إلَى الْمَرْكَزِ: يَكُونُ هُبُوطًا، وَمِنْهُ إلَى وَجْهِهَا صُعُودًا، وَإِذَا كَانَت سَمَاءُ الدُّنْيَا فَوْقَ الْأَرْضِ مُحِيطَة بِهَا فَالثَّانِيَةُ كُرَوِيَّة

(2)

وَكَذَا

(1)

وقد ذكر الشيخ اثني عشر وجهًا في إبطال تَأوِيلِ مَن تَأوَّلَ اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى. (ص 144 - 149).

(2)

في الأصل: كريّة! والتصويب من النسخة التي حققها: أنور الباز - عامر الجزار.

ص: 408

الْبَاقِي

(1)

.

وَالْكُرْسِيُّ فَوْقَ الْأَفْلَاكِ كُلِّهَا، وَالْعَرْشُ فَوْقَ الْكُرْسِيِّ، وَنسْبَةُ الْأَفْلَاكِ وَمَا فِيهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكُرْسِيِّ كَحَلْقَة فِي فَلَاةٍ، وَالْجُمْلَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَرْشِ كَحَلْقَة فِي فَلَاةٍ.

وَالْأَفْلَاكُ مُسْتَدِيرَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالأجْمَاعِ؛ فَإِنَّ لَفْظَ "الْفُلْكِ" يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِدَارَةِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى:{وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40]، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي فَلْكَةٍ كَفَلْكَةِ الْمِغْزَلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُم: تَفَلَّكَ ثَدْيُ الْجَارَيةِ إذَا اسْتَدَارَ، وَأَهْلُ الْهَيْئَةِ وَالْحِسَابِ مُتَّفِقُونَ عَلَى ذَلِكَ.

وَأَمَّا الْعَرْشُ فَإِّنهُ مُقَبَّبٌ

(2)

؛ لِمَا رُوِيَ فِي السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُد

(3)

عَن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ عَلَى عَرْشِهِ، وإنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَوَاتِهِ وَأَرْضِهِ كلهَكَذَا" وَقَالَ بِأُصْبُعِهِ مِثْل الْقُبَّةِ.

وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ فَلَكٌ مُسْتَدِيرٌ مُطْلَقًا؛ بَل ثَبَتَ أَنَّهُ فَوْقَ الْأَفْلَاكِ، وَأَنَّ لَهُ قَوَائِمَ؛ كَمَا جَاءَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ"

(4)

عَن أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأنبِيَاء؛ فَإنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأكُونُ أَوَّلَ مَن يُفِيقُ، فَإِذَا أتا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِن قَوَائِمِ الْعَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ".

(1)

قال الشيخ في موضع آخر: السَّمَوَاتُ مُسْتَدِيرَةٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَد حَكَى إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِن الْعُلَمَاءِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ؛ مِثْلُ أَبِي الْحُسَيْنِ أحْمَد بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الْمُنَادِي أَحَدِ الْأعْيَانِ الْكِبَارِ مِن الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ مِن أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد، وَلَهُ نَحْوُ أَرْبَعِمِائَةِ مُصَنَّفٍ، وَحَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ بنُ حَزْمٍ، وَأَبو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَرَوَى الْعُلَمَاءُ ذَلِكَ بِالْأسَانِيدِ الْمَعْرُوفَةِ عَن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَذَكَرُوا ذَلِكَ مِن كِتَاب اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَبَسَطُوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ بِالدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ، وَإِن كَانَ قَد أقِيمَ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا دَلَائِلُ حِسَابِيَّةٌ، وَلَا أعْلَمُ فِي عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْمَعْرُوفينَ مَن أنْكَرَ ذَلِكَ. اهـ.

(2)

أي: مَبنيّ على شكل قُبَّة. والقبة: بناء مستدير مقوس.

(3)

(4726)، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود.

(4)

البخاري (2412)، ومسلم (2374).

ص: 409

وَفِي "عُلُوِّهِ" قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "إذَا سَألتُم اللهَ فَاسْألوهُ الْفِرْدَوْسَ؛ فَإِنَّهُ وَسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَاهَا، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أنْهَارُ الْجَنَّةِ"

(1)

.

فَقَد تبَيَّنَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ أَعْلَى الْمَخْلُوقَاتِ وَسَقْفُهَا، وَأَنَّهُ مُقَبَّبٌ، وَأَنَّ لَهُ قَوَائِمَ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهُوَ فَوْقُ، سَوَاءٌ كَانَ مُحِيطًا بِالْأَفْلَاكِ أَو كَيْرَ ذَلِكَ، فَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ وَالسُّفْلِيَّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْخَالِقِ -سبحانه وتعالي- فِي غَايَةِ الصَّغَرِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الْآيَةَ [الزمر: 67]

(2)

. [5/ 150 - 152]

442 -

فِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ"

(3)

عَن أَبِي هرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَشولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ، كُلُّ دَرَجَتَيْنِ بَيْنَهُمَا كمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَإذَا سَأَلْتُم اللهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ؛ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تُفَجَّرُ أنهَارُ الْجَنَّةِ".

وفي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ"

(4)

عَن أَبِي سَعِيدٍ الخدري أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَا أبا سَعِيدٍ مَن رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا وَبِالاسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّد نَبِيًّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ".

فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ

(5)

، فَقَالَ: أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ، فَفَعَلَ.

قَالَ: "وَأُخْرَى يَرْفَعُ اللهُ بِهَا الْعَبْدَ مِائَةَ دَرَجة مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ"، قَالَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ"

(6)

.

(1)

رواه البخاري (2790).

(2)

قال الشيخ في موضع آخر: وَتَحْتَ الْعَرْشِ بَحْرٌ؛ كَمَا جَاءَ فِي الْأحَادِيثِ، وَكَمَا ذُكرَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، وَكَمَا أَخْبَرَ اللهُ أنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأرْضَ فِي سِتَّةِ أيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ. اهـ. (6/ 595)

(3)

(2790)

(4)

(1884).

(5)

تعجب رضي الله عنه وحُق له أن يعجب - من سهولة هذا العمل الذي من عمل به أوجب الله له الجنة، وضمنها له.

(6)

ما أوسع الجنة! فإذا كان بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأرْضِ، والمجاهد يَرْفَعُه اللهُ بِهَا مِائَةَ دَرَجَةٍ، فما هي درجة النبيين والصديقين؟ وهم أرفع وأكمل من الشهداء بنص القرآن في عدة مواضع، حيث قدمهم في الترتيب عليهم.

نسأل الله تعالى الفردوس الأعلى من الجنة.

ص: 410

وَقَد اسْتَدَلَّ مَن اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَرْشَ مقَبَّبٌ: بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد

(1)

وَغَيْرِهِ عَن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: قال رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ عَلَى عَرْشِهِ، وَإِنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَوَاتِهِ وَأَرْضِهِ هَكَذَا -وَقَالَ بِأصَابِعِهِ مِثْل الْقُبَّةِ-" وَفِي لَفْظٍ: "وَإِنَّ عَرْشَهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ، وَسَمَوَاتُهُ فَوْقَ أَرْضِهِ هَكَذَا -وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ مِثْل الْقُبَّةِ-".

وَهَذَا الْحَدِيثُ - وَإِن دَلَّ عَلَى التَّقْبِيبِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَن الْفِرْدَوْسِ: إنَّهَا أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَاهَا، مَعَ قَوْلِهِ: إنَّ سَقْفَهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ، هاِنَ فَوْقَهَا عَرْشَ الرَّحْمَنِ، وَالْأَوْسَطُ لَا يَكُونُ الْأَعْلَى إلَّا فِي الْمُسْتَدِيرِ، فَهَذَا - لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّه فَلَكٌ مِن الْأَفْلَاكِ؛ بَل إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ فَوْقَ الْأفْلَاكِ كلِّهَا أَمْكَنَ هَذَا فِيهِ، سَوَاءٌ قَالَ الْقَائِلُ إنَّهُ مُحِيطٌ بِالْأَفْلَاكِ، أَو قَالَ إنَّهُ فَوْقَهَا وَلَيْسَ مُحِيطًا بِهَا، كَمَا أَنَّ وَجْهَ الْأَرْضِ فَوْقَ النِّصْفِ الْأَعْلَى مِن الْأَرْضِ وَإِن لَمْ يَكُن مُحِيطًا بِذَلِكَ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفَلَكَ مُسْتَدِيرٌ مِثْلُ ذَلِكَ، لَكِنَّ لَفْظَ الْقُبَّةِ يَسْتَلْزِمُ اسْتِدَارَة مِن الْعُلُوِّ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ اسْتِدَارَةً مِن جَمِيعِ الْجَوَانِبِ إلَّا بِدَليلٍ مُنْفَصِلٍ.

وَلَفْظُ الْفَلَكِ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِدَارَةِ مطْلَقًا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)} [الأنبياء: 33] يَقْتَضِي أنَّهَا فِي فَلَكٍ مُسْتَدِير مُطْلَقًا.

وَأَمَّا لَفْظُ الْقُبَّةِ: فَإِنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ لِهَذَا الْمَعْنَى، لَا بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ، لَكِنْ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِدَارَةِ مِن الْعُلُوِّ؛ كَالْقُبَّةِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى الْأَرْضِ.

وَقَد قَالَ بَعْضُهُم: إنَّ الْأَفْلَاكَ غَيْرُ السَّمَوَاتِ، لَكِنْ رَدَّ عَلَيْهِ غَيْرُهُ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَ اللهَ تَعَالَى قَالَ:{أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16)} [نوح: 15، 16] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ، وَقَد أَخْبَرَ أنَّهُ فِي الْفَلَكِ. [6/ 554 - 557]

* * *

(1)

تقدم تخريجه.

ص: 411

(القاعدة المراكشيّة)

(1)

(الصحابةُ تَلَقَّوْا عَن النبي حفظ وفهم الْقُرآنَ وَالسُّنَّةَ، ويدل على ذلك عدّة وجوه)

443 -

يَجِث عَلَى الْخَلْقِ الْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ أَو السُّنَّةُ الْمَعْلُومَةُ وَجَبَ عَلَى الْخَلْقِ الْإِقْرَارُ بِهِ جُمْلَةً، وَتَفْصِيلًا عِنْدَ الْعِلْمِ بِالتَّفْصِيلِ، فَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا حَتَّى يُقِرَّ بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ تَحْقِيقُ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ.

إذَا تَبَيَّنَ هَذَا: فَقَد وَجَبَ عَلَى كُل مُسْلِمٍ تَصْدِيقهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَن اللهِ تَعَالَى مِن أَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ، مِمَّا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ عَنْهُ، كَمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّابِقُونَ الْأوَّلُونَ مِن الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَاني الَّذِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم وَرَضُوا عَنْهُ.

فَإِنَّ هَؤُلَاءِ هُم الَّذِينَ تَلَقَّوْا عَنْهُ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ، وَكَانُوا يَتَلَقَّوْنَ عَنْهُ مَا فِي ذَلِكَ مِن الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ.

وَهَذَا مَعْلُومٌ مِن وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ الْعَادَةَ الْمُطَّرِدَةَ الَّتِي جَبَلَ اللهُ عَلَيْهَا بَنِي آدمَ تُوجِبُ اعْتِنَاءَهُم بِالْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِم لَفْظًا وَمَعْنًى؛ بَل أَنْ يَكُونَ اعْتِنَاؤُهُم بِالْمَعْنَى أَوْكَدَ؛ فَإِنَّه قَد عُلِمَ أَنَّهُ مَن قَرَأَ كِتَابًا فِي الطِّبِّ أَو الْحِسَابِ أَو النَّحْوِ أَو الْفِقْهِ أو غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ رَاغِبًا فِي فَهْمِهِ وَتَصَوُّرِ مَعَانِيهِ، فَكَيْفَ بِمَن قَرَؤُوا كِتَابَ اللهِ تَعَالَى الْمُنَزَّلَ إلَيْهِم، الَّذِي بِهِ هَدَاهُم اللهُ، وَبِهِ عَرَّفَهُم الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ، وَالْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَالْهدَى وَالضَّلَالَ، وَالرَّشَادَ وَالْغَيَّ.

فَمِن الْمَعْلُومِ أَنَّ رَغْبَتَهُم فِي فَهْمِهِ وَتَصَوُّرِ مَعَانِيهِ أَعْظَمُ الرَّغَبَاتِ؛ بَل إذَا

(1)

سأنتقي أهم الفوائد منها.

ص: 412

سَمِعَ الْمُتَعَلِّمُ مِن الْعَالِمِ حَدِيثًا فَإِنَّهُ يَرْغَبُ فِي فَهْمِهِ، فَكَيْفَ بِمَن يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ مِن الْمُبَلِّغِ عَنْهُ؟

بَل وَمِن الْمَعْلُومِ أَنَّ رَغْبَةَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي تَعْرِيفِهِمْ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ أَعْظَمُ مِن رَغْبَتِهِ فِي تَعْرِيفِهِمْ حُرُوفَهُ؛ فَإِنَّ مَعْرِفَةَ الْحُرُوفِ بِدُونِ الْمَعَانِي لَا تُحَصِّلُ الْمَقْصُودَ؛ إذ اللَّفْظُ إنَّمَا يُرَادُ لِلْمَعْنَى.

الْوَجْهُ الثانِي: أَنَّ اللهَ -سبحانه وتعالي- قَد حَضَّهُم عَلَى تَدَبُّرِهِ وَتَعَقُّلِهِ وَاتِّبَاعِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29].

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)} [يوسف: 2] فَبَيَّنَ أَنَّهُ أَنْزَلَة عَرَبِيًّا لِأَنْ يَعْقِلُوا، وَالْعَقْلُ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ الْعِلْمِ بِمَعَانِيهِ. [5/ 154 - 158]

* * *

(وُجُوبُ إثْبَاتِ الْعُلُوِّ للهِ تَعَالَى وَنَحْوِهِ يَتَبَيَّنُ مِن وُجُوهٍ)

444 -

وُجُوبُ إثْبَاتِ "الْعُلُوّ للهِ تَعَالَى" وَنَحْوِهِ يَتَبَيَّنُ مِن وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ الْمُسْتَفِيضَةَ الْمُتَوَاتِرَةَ وَغَيْرَ الْمُتَوَاتِرَةِ وَكَلَامَ السَّابِقِينَ وَالتَابعِينَ وَسَائِرِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ: مَمْلُوءٌ بِمَا فِيهِ إثْبَاتُ الْعُلُوّ للهِ تَعَالَى عَلَى عَرْشِهِ بِأَنْوَاعِ مِن الدَّلَالَاتِ، وَوُجُوهٍ مِن الصِّفَاتِ، وَأَصْنَافٍ مِن الْعِبَارَاتِ:

أ - تَارَةً يُخْبِرُ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، وَقَد ذَكَرَ الِاسْتِوَاءَ عَلَى الْعَرْشِ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ.

ب - وَتَارَة يُخْبِرُ بِعُرُوجِ الْأَشْيَاءِ وَصُعُودِهَا وَارْتفَاعِهَا إلَيْهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158].

ج - وَتَارَةً يُخْبِرُ بِنُزُولهَا مِنْهُ أَو مِن عِنْدِهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102].

ص: 413

د- وَتَارَةً يُخْبِرُ بِأَنَّهُ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} [الأعلى: 1].

هـ - وَتَارَةً يُخْبِرُ بِأَنَّهُ فِي السَّمَاءِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16].

و - وَتَارَةً يَجْعَلُ بَعْضَ الْخَلْقِ عِنْدَهُ دُونَ بَعْضٍ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنبياء: 19]، وُيخْبِرُ عَمَّن عِنْدَهُ بِالطَّاعَةِ كَقَوْلِهِ:{إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)} [الأعراف: 206].

الْوَجْهُ الثَّانِي فِي تَبْيِينِ وُجُوبِ الْإِقْرَارِ بِالْإِثْبَاتِ وَعُلُوِّ اللهِ عَلَى السَّمَوَاتِ أنْ يُقَالَ: مِن الْمَعْلُومِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى:

أ - أَكْمَلَ الدِّينَ.

ب - وَأَتَمَّ النّعْمَةَ.

ج - وَأَنَّ اللهَ أَنْزَلَ الْكِتَابَ تِبْيَانا لِكلِّ شَيءٍ.

د - وَأَنَّ مَعْرِفَةَ مَا يَسْتَحِقُّهُ اللهُ وَمَا يُنَزَّهُ عَنْهُ هوَ مِن أجَلِّ أمُورِ الدّينِ وَأَعْظَمِ أُصُولِهِ.

هـ - وَأَنَّ بَيَانَ هَذَا وَتَفْصِيلَهُ أَوْلَى مَن كُل شَيْءٍ.

فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْبَابُ لَمْ يُبَيِّنْهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يُفَصِّلْهُ، وَلَمْ يُعْلِمْ أُمَّتَهُ مَا يَقُولُونَ فِي هَذَا الْبَابِ؟

وَكَيْفَ يَكُونُ الدِّينُ قَد كَمُلَ وَقَد تُرِكُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ الْبَيْضَاءِ وَهُم لَا يَدْ رُونَ بِمَاذَا يَعْرِفُونَ رَبَّهُمْ: أَبِمَا تَقولُهُ الْنُّفَاةُ أَو بِأقْوَالِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ؟

(1)

. [5/ 164 - 174]

445 -

الْعُلُوُّ مِن الصِّفَاتِ الْمَعْلُومَةِ بِالسَّمْعِ مَعَ الْعَقْلِ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْمُثْبِتَةِ، وَأَمَّا الِاسْتِوَاءُ عَلَى الْعَرْشِ فَمِن الصّفَاتِ الْمَعْلُومَةِ بِالسَّمْعِ لَا بِالْعَقْلِ. [5/ 227]

* * *

(1)

إلى هنا انتهت الفوائد المنتقاة من القاعدة المراكشية.

ص: 414

(الرد على أهل التشبيه والتمثيل، وأهل النفي والتعطيل)

446 -

قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] رَدٌّ عَلَى أهْلِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ، وَقَوْلُهُ:{وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] رَدٌّ عَلَى أَهْلِ النَّفْيِ وَالتَّعْطِيلِ.

فَالْمُمَثِّلُ: أَعْشَى، وَالْمُعَطِّلُ أَعْمَى، الْمُمَثِّلُ: يَعْبُدُ صَنَمًا، وَالْمُعَطِّلُ: يَعْبُدُ عَدَمًا. [5/ 196]

* * *

(الْمُعْتَزِلَةُ الْنَّفَاةِ لِلصِّفَاتِ قَالُوا: إنَّ اللَّه مُتَكَلِّمٌ حَقِيقَةً، عَلِيمٌ حَقِيقَةً، قَدِيرٌ حَقِيقَةً)

447 -

اتَّفَقَ جَمِيعُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ عَلَى أَنَّ اللهَ حَيٌّ حَقِيقَةً، عَلِيمٌ حَقِيقَةً، قَدِيرٌ حَقِيقَةً، سَمِيعٌ حَقِيقَةً، بَصِيرٌ حَقِيقَةً، مُرِيدٌ حَقِيقَةً، مُتَكَلِّمٌ حَقِيقَةً، حَتَّى الْمُعْتَزِلَةُ الْنُّفَاةُ لِلصّفَاتِ قَالُوا: إنَّ اللهَ مُتَكَلِّمٌ حَقِيقَةً؛ كَمَا قَالُوا -مَعَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ-: إنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَقِيقَةً، قَدِيرٌ حَقِيقَةً.

وإِنَّمَا يُنْكِرُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ حَقِيقَةً: الْنُّفَاةُ مِن الْقَرَامِطَةِ الْإِسْمَاعِيلِيَّة الْبَاطِنِيَّةِ، وَنَحْوِهِم مِن الْمُتَفَلْسِفَةِ الَّذِينَ يَنْفُونَ عَن اللهِ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى، ويقُولُونَ: لَيْسَ بِحَيّ، وَلَا عَالِمٍ وَلَا جَاهِل، وَلَا قَادِرٍ وَلَا عَاجِزٍ، وَلَا مَوْجُودٍ وَلَا مَعْدُومٍ، فَهَؤُلَاءِ وَمَن ضَاهَاهُم يَنْفُونَ أَنْ تَكُونَ لَهُ حَقِيقَةً .. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُسَمِّيهِم الْمُسْلِمُونَ الْمَلَاحِدَةَ؛ لِأَنَّهُم أَلْحَدُوا فِي أَسْمَاءِ اللهِ وَآيَاتِهِ، وَقَد قَالَ الله تَعَالَى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)} [الأعراف: 180].

قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَهْلُ السُّنَّةِ مُجْمِعُونَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالصِّفَاتِ الْوَارِدَةِ كُلِّهَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَالْإِيمَانِ بِهَا، وَحَمْلِهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا عَلَى الْمَجَازِ، إلَّا أَنَّهُم لَا ئكيِّفُونَ شَيْئًا مِن ذَلِكَ، وَلَا يَحُدُّونَ فِيهِ صِفَة مَحْصُورَةً.

ص: 415

وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدَعِ مَن الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارج: فَيُنْكِرُونَهَا وَلَا يَحْمِلُونَهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ، ويزْعُمونَ أَنَّ مَن أَقَرَّ بِهَا مُشَبِّةٌ، وَهُم عِنْدَ مَن أَقَرَّ بِهَا نَافُونَ لِلْمَعْبُودِ لَا مُثْبِتُونَ.

وَالْحَقُّ فِيمَا قَالَهُ الْقَائِلُونَ بِمَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَهُم وَأَئِمَّةُ الْجَمَاعَةِ. اهـ.

وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَن الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ هُوَ فِي بَعْضِ مَا يَنْفونَهُ مِن الصِّفَاتِ، وَأَمَّا فِيمَا يُثْبِتُونَهُ مِن الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ كَالْحَيِّ وَالْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَالْمُتَكَلِّمِ فَهُم يَقُولُونَ: إنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ. [5/ 196 - 198]

* * *

(الكلام في قرب الله تعالى ونزوله)

448 -

قَوْلُهُ تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] هُوَ قُرْبُ ذَوَاتِ الْمَلَائِكَةِ، وَقُرْبُ عِلْمِ اللهِ مِنْهُ، وَهُوَ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ، وَهُم لَا يَعْملونَ شَيْئًا إلَّا بِأَمْرِهِ، فَذَاتُهُم أَقْرَبُ إلَى قَلْبِ الْعَبْدِ مِن حَبْلِ الْوَرِيدِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضهُم أَقْرَبَ إلَيْهِ مِن بَعْضٍ.

وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقر: 186] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْبَ نَعْتُهُ، لَيْسَ هُوَ مُجَرَّدَ مَا يَلْزَمُ مِن قُرْبِ الدَّاعِي وَالسَّاجِدِ.

وَدُنُوُّه عَشِيَّةَ عَرَفَةَ: هُوَ لِمَا يَفْعَلُهُ الْحَاجُّ لَيْلَتئِذٍ مِن الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ وَالتَّوْبَةِ، وإِلَّا فَلَو قُدِّرَ أَنَّ أَحَدًا لَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ الدُّنُوُّ إلَيْهِمْ، فَإِنَّهُ يُبَاهِي الْمَلَائِكَةَ بِأَهْلِ عَرَفَةَ، فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ أَحَد لَمْ يَحْصُلْ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى قُرْبِهِ مِنْهُم بِسَبَبِ تَقَرُّبِهِم إلَيْهِ.

وَالنَّاسُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ يَكُون فِي قُلُوبِهِم مِن التَّوَجُّهِ وَالتَّقَرُّبِ وَالرِّقَّةِ مَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ

(1)

، وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِنُزُولهِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَقَوْلِهِ:

(1)

وهذا يجده أهل قيام الليل، فهم من أسعد الناس وأعظمهم راحةً ونشاطًا وهمّة، ويجدون في =

ص: 416

"هَل مِن دَاعٍ؟ هَل مِن سَائِلٍ؟ هَل مِن تَائِبٍ؟ "

(1)

.

وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْقُرْبِ مِن جِنْسِ الْكَلَامِ فِي نُزُولهِ كُلَّ لَيْلَةٍ، وَدُنُوّهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، وَتَكْلِيمِهِ لِمُوسَى مِن الشَّجَرَةِ، وَقَوْلِهِ:{أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل: 8]، وَقَد بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَذَكَرْنَا مَا قَالَهُ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ؛ كَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَإِسْحَاقَ، وَغَيْرِهِمَا مِن أَنَّهُ يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ، وَبَيَّنَّا أَنَّ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ.

وَرُوحُ الْعَبْدِ فِي بَدَنِهِ لَا تَزَالُ لَيْلًا وَنَهَارًا إلَى أَنْ يَفوتَ، وَوَقْتُ النَّوْمِ تَعْرُجُ، وَقَد تَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ، وَهِيَ لَمْ تُفَارِقْ جَسَدَهُ، وَكَذَلِكَ "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِن رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ"

(2)

، وَرُوحُهُ فِي بَدَنِهِ، وَأَحْكَامُ الْأَرْوَاحِ مُخَالِفٌ لِأَحْكَامِ الْأَبْدَانِ، فَكَيْفَ بِالْمَلَائِكَةِ؟ فَكَيْفَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ؟

وَاللَّيْلُ يَخْتَلِفُ: فَيَكُونُ -ثُلْثُهُ بِالْمَشْرِقِ قَبْلَ أَنْ يَكونَ ثُلْثهُ بِالْمَغْرِبِ، وَنزُولُهُ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُهُ إلَى سَمَاءِ هَؤُلَاءِ فِي ثُلْثِ لَيْلِهِمْ، وَإِلَى سَمَاءِ هَؤُلَاءِ فِي ثُلْثِ لَيْلِهِمْ، لَا يَشْغَلُهُ شَأنٌ عَن شَأنٍ، وَكَذَلِكَ قُرْبُهُ مِن الدَّاعِي الْمُتَقَرِّبِ إلَيْهِ وَالسَّاجِدِ لِكُلِّ وَاحِدٍ بِحَسَبِهِ حَيْثُ كَانَ، وَأيْنَ كَانَ، وَالرَّجُلَانِ يَسْجُدَانِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَلكُل وَاحِدٍ قُرْبٌ يَخُصُّهُ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ الْآخَرُ.

وَالرَّبّ سُبْحَانَهُ لَا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَن سَمْعٍ، وَلَا تُغْلِطُهُ الْمَسَائِلُ؛ بَل هُوَ سُبْحَانَهُ يُكَلمُ الْعِبَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُحَاسِبُهُمْ، لَا يَشْغَلُهُ هَذَا عَن هَذَا.

قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: كَيْفَ يُكَلِّفهُم يَوْمَ الْقِيَامَةِ كُلّهُم فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ؟

قَالَ: كَمَا يَرْزُقُهُم فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ.

وَاللهُ سُبْحَانَهُ فِي الدُّنْيَا يَسْمَعُ دُعَاءَ الدَّاعِينَ، ويُجِيبُ السَّائِلِينَ، مَعَ اخْتِلَافِ اللُّغَاتِ، وَفُنُونِ الْحَاجَاتِ.

= آخر الليل من حضور القلب والسكون والفهم واللذة ما لا يجدونه في جميع أوقاتهم.

(1)

رواه مسلم (758).

(2)

رواه مسلم (482).

ص: 417

فَفِي الْجُمْلَةِ: مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِن قُرْبِ الرَّبِّ مِن عَابِدِيهِ وَدَاعِيهِ هوَ مُقَيَّد مَخْصُوصٌ، لَا مُطلَقٌ عَامٌ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ؛ كَمَا قَالَ:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186] فَهَذَا قُرْبُهُ مِن دَاعِيه.

وَأَمَّا قُرْبُهُ مِن عَابِدِيهِ: فَفِي مِثْل قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 57]، وَقَالَ:"مَن تَقرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذرَاعًا"

(1)

فَهَذَا قُرْبُة إلَى عَبْدِهِ وَقُرْبُ عَبْدِهِ إلَيْهِ

(2)

.

وَدُنُوُّهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا: لَا يَخْرُجُ عَن الْقِسْمَيْنِ؛ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ"

(3)

فَدُنُوُّهُ لِدُعَائِهِمْ.

وَأَمَّا نُزُولُهُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ:

- فَإِنْ كَانَ لِمَن يَدْعُوهُ وَيَسْألُهُ ويسْتَغْفِرُهُ

(4)

: فَإِنَ ذَلِكَ الْوَقْتَ يَحْصُلُ فِيهِ مَن قُرْبِ الرَّبِّ إلَى عَابِدِيهِ مَا لَا يَحْصُلُ فِي غَيْرِهِ، فَهُوَ مِن هَذَا.

- وَإِن كَانَ مُطْلَقًا: فَيَكُونُ بِسَبَبِ الزَّمَانِ كَوْنُة يَصْلُحُ لِهَذَا، وإن لَمْ يَقَعْ فِيهِ.

وَنَظِيرُهُ "سَاعَةُ الْإِجَابَةِ" يَوْمَ الْجُمُعَةِ: رُوِيَ أَنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِفِعْلِ الْجُمُعَةِ، وَهِيَ مِن حِينِ يَصْعَدُ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ إلَى أَنْ تَنْقَضِيَ الصَلَاةُ؛ وَلهَذَا تَكُونُ مُقَيَّدَةً بِفِعْلِ الْجُمُعَةِ، فَمَن لَمْ يُصَلِّ الْجُمْعَةَ لِغَيْرِ عُذْرٍ وَيَعْتَقِدْ وُجُوبَهَا: لَمْ يَكُن لَهُ فِيهَا نَصِيبٌ.

(1)

رواه البخاري (7537)، ومسلم (2675).

(2)

فقوله: "مَن تَقرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا": هذا قُرْبُ عَبْدِهِ إلَيْهِ -سبحانه وتعالي-.

وقوله: "تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذِرَاعًا": هَذَا قُرْبُهُ تعالى إلَى عَبْدِهِ.

فبقدر قربك -أيها المؤمن- من ربك عبادةً ودعاءً وتوكلًا ورجاءً وخضوعًا: يقربك منه، فيُجيب دعاءك، ويعطيك سُؤلك، ويقضي لك حاجتك، ويزيدك علمًا، ويُوسعك فهمًا.

(3)

رواه الترمذي (3585)، ومالك (572)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي.

(4)

أي: ليس نزولًا مطلقًا في جميع الأحوال.

ص: 418

وَأَمَّا مَن كَانَت عَادَتُهُ الْجُمُعَةَ ثُمَّ مَرِضَ أَو سَافَرَ: فَإِنَّهُ يُكتَبُ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ، وَكَذَلِكَ الْمَحْبُوسُ وَنَحْوُة، فَهَؤُلَاءِ لَهُم مِثْلُ أَجْرِ مَن شَهِدَ الْجُمُعَةَ، فَيَكُونُ دُعَاؤُهُم كَدُعَاءِ مَن شَهِدَهَا.

وَقَد تَكُونُ الرَّحْمَةُ الَّتِي تَنْزِلُ عَلَى الْحُجَّاج عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، وَعَلَى مَن شَهِدَ الْجُمُعَةَ: تَنْتَشِرُ بَرَكَاتُهَا إلَى غَيْرِهِمْ مِن أَهْلِ الْأعْذَارِ، فَيَكُونُ لَهُم نَصِيبٌ مِن إجَابَةِ الدُّعَاءِ، وَحَظٌّ مَعَ مَن شَهِدَ ذَلِكَ، كَمَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ.

فَهَذَا مَوْجُودٌ لِمَن يُحِبُّهُمْ، وَيُحِبُّ مَا هم فِيهِ مِن الْعِبَادَةِ، فَيَحْصُلُ لِقَلْبِهِ تَقَرُّبٌ إلَى اللهِ وَيَوَدُّ لَو كَانَ مَعَهُمْ.

وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ الَّذِي لَا يَرَى الْحَجَّ بِرًّا وَلَا الْجُمُعَةَ فَرضًا وَبِرًّا؛ بَل هُوَ مُعْرِضٌ عَن مَحَبَّةِ ذَلِكَ وإرَادَتِهِ: فَهَذَا قَلْبُهُ بَعِيدٌ عَن رَحْمَةِ اللهِ؛ فَإنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِن الْمُحْسِنِينَ وَهَذَا لَيْسَ مِنْهُمْ.

وَرُوِيَ فِي ساعَةِ الْجُمُعَةِ أَنَّهَا آخِرُ النَّهَارِ، فَيَكُونُ سَبَبُهَا الْوَقْتَ.

449 -

لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَصْفُ الرَّبِّ تَعَالَى بِالْقُرْبِ مِن كُلِّ شَيءٍ أَصْلًا؛ بَل قُرْبُهُ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ خَاصٌّ لَا عَامٌّ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] فَهُوَ سُبْحَانَهُ قَرِيبٌ مِمَن دَعَاهُ.

وَكَذَلِكَ مَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ"

(1)

عَن أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُم كَانُوا مَعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَكانُوا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُم بِالتَّكْبِيرِ، فَقَالَ:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أنفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا، إن الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِن عُنُقِ رَاحِلَتِهِ".

فَقَالَ: "إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أقرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ" لَمْ يَقُلْ إنَّهُ قَرِيبٌ إلَى كُلِّ مَوْجُودٍ.

(1)

البخاري (2992)، ومسلم (2704).

ص: 419

وَكَذَلِكَ قَوْلُ صَالِحٍ عليه السلام: {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61] هوَ كَقَوْلِ شُعَيْبٍ: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)} [هود: 90]، وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَه:{قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61] مَقْرون بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، أَرَادَ بِهِ قَرِيبٌ مُجِيبٌ لِاسْتِغْفَارِ الْمُسْتَغْفِرِينَ التَّائِبِينَ إلَيْهِ، كَمَا أنَّه رَحِيمٌ وَدُودٌ بِهِمْ، وَقَد قَرَنَ الْقَرِيبَ بِالْمُجِيبِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُقَالُ إنَّهُ مُجِيبٌ لِكُل مَوْجُودٍ، وإِنَّمَا الْإِجَابَةُ لِمَن سَأَلَهُ وَدَعَاهُ، فَكَذَلِكَ قُرْبُهُ -سبحانه وتعالي-.

وَأَسْمَاءُ اللهِ الْمُطْلَقَةُ؛ كَاسْمِهِ السَّمِيعِ، وَالْبَصِيرِ، وَالْغَفُورِ، وَالشَّكُورِ، وَالْمُجِيبِ، وَالْقَرِيبِ: لَا يَجِبُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِكلِّ مَوْجُودٍ؛ بَل يَتَعَلَّقُ كُلُّ اسْمٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ، وَاسْمُهُ الْعَلِيمُ لَمَّا كَانَ كُلُّ شَيْءٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا تَعَلَّقَ بِكُلِّ شَيءٍ.

وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)} [ق: 16]: فَالْمُرَادُ بِهِ قُرْبُهُ إلَيْهِ بِالْمَلَائِكَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَن الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ مِن السَّلَفِ، قَالُوا: مَلَكُ الْمَوْتِ أَدْنَى إلَيْهِ مِن أَهْلِهِ وَلَكِنْ لَا تبصِرُونَ الْمَلَائِكَةَ.

وَقَد قَالَ طَائِفَةٌ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} [الواقعة: 85] بِالْعِلْمِ، وَقَالَ بَعْضُهُم: بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَلَفْظُ بَعْضِهِمْ: بِالْقُدْرَةِ وَالرُّؤْيةِ.

وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ ضَعِيفَةٌ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَصْفُة بِقُرْب عَامٍّ مِن كُلِّ مَوْجُودٍ حَتَّى يَحْتَاجُوا أَنْ يَقُولُوا بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالرُّؤيَةِ.

وَكَأَنَّهُم ظَنُّوا أَنَّ لَفْظَ الْقُرْبِ مِثْل لَفْظِ الْمَعِيَّةِ؛ فَإِنَّ لَفْظَ المَعِيَّةِ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ وَالْمُجَادَلَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} ، وقَوْله تَعَالَى:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .

وَقَد ثَبَتَ عَن السَّلَفِ أَنَّهُم قَالُوا: هُوَ مَعَهُم بِعِلْمِهِ.

ص: 420

وَقَد ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ أَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَانٍ، وَلَمْ يُخَالِفْهُم فِيهِ أَحَدٌ يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ.

فَلَفْظُ الْمَعِيَّةِ لَيْسَتْ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَلَا شيْء مِن الْقُرْآنِ يُرَادُ بِهَا اخْتِلَاطُ إحْدَى الذَّاتَيْنِ بِالْأخْرَى؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح: 29] وَقَوْلِهِ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]، وَمِثْلُ هَذَا كَثيرٌ.

فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {وَهُوَ مَعَكُمْ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَاتَه مُخْتَلِطَة بذَوَاتِ الْخَلْقِ.

وَطَائِفَةٌ مِن أَهْلِ السُّنَّةِ تُفَسّرُ الْقُرْبَ فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ بِالْعِلْمِ؛ لِكَوْنِهِ هُوَ الْمَقْصُود، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ يَعْلَمُ ويسْمَعُ دُعَاءَ الدَّاعِي حَصَلَ مَقْصُودُهُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اقْتَضَى أَنْ يَقُولَ مَن يَقُولُ: إنَّهُ قَرِيبٌ مِن كُلِّ شَيءٍ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ؛ فَإِنَّ هَذَا قَد قَالَهُ بَعْضُ السَّلَفِ.

لَكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ: إنَّ نَفْسَ ذَاتِهِ قَرِيبَةٌ مِن كُلِّ شيْءٍ.

وَهَذَا الْمَعْنَى يُقِرُّ بِهِ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ، مَن يَقُولُ: إنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَمَن يَقُولُ إنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ.

وَسِيَاقُ الْآيَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمَلَائِكة؛ فَإِنَّهُ قَالَ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [ق: 16 - 18] فَقَيَّدَ الْقُرْبَ بِهَذَا الزَّمَانِ، وَهُوَ زَمَانُ تَلَقِّي الْمُتَلَقِّيَيْنِ، قَعِيدٌ عَن الْيَمِينِ وَقَعِيدٌ عَن الشِّمَالِ، وَهُمَا الْمَلَكَانِ الْحَافِظَانِ اللَّذَانِ يَكتُبَانِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَو كَانَ الْمُرَادُ قُرْبَ ذَاتِ الرَّبّ لَمْ يَخْتَصَّ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْحَالِ، وَلَمْ يَكُن لِذِكْرِ الْقَعِيدَيْنِ وَالرَّقِيبِ وَالْعَتِيدِ مَعْنى مُنَاسِب.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأخْرَى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85)} [الواقعة: 83 - 85] فَلَو أَرَادَ قرْبَ ذَاتِهِ لَمْ يَخُصَّ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْحَالِ، وَلَا قَالَ:{وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} ؛ فَإِنَّ هَذَا

ص: 421

إنَّمَا يُقَالُ إذَا كَانَ هُنَاكَ مَن يَجُوزُ أَنْ يُبْصَرَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَلَكِنْ نَحْنُ لَا نُبْصِرُهُ، وَالرَّبُّ تَعَالَى لَا يَرَاهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا الْمَلَائِكَةُ وَلَا الْبَشَرُ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّهُ ذَكَرَهُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فَقَالَ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} ، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وَهَذَا كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:{نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3)} [القصص: 3] وَقَالَ: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} [يوسف: 3]، وَقَالَ:{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)}

(1)

.

فَإنَّ مِثْل هَذَا اللَّفْظِ إذَا ذَكَرَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِجُنُودِهِ وَأَعْوَانِهِ مِن الْمَلَائِكَةِ

(2)

؛ فَإِنَّ صِيغَةَ "نَحْنُ" يَقُولُهَا الْمَتْبُوعُ الْمُطَاعُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَهُ جُنودٌ يَتَّبِعُونَ أَمْرَهُ، وَلَيْسَ لِأحَد جُنْدٌ يُطِيعُونَهُ كَطَاعَةِ الْمَلَائِكَةِ رَبَّهُمْ، وَهُوَ خَالِقُهُم وَرَبُّهُم، فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْعَالِمُ بِمَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ، وَمَلَائِكَتُهُ تَعْلَمُ؛ فَكَانَ لَفظُ نَحْنُ هنَا هُوَ الْمُنَاسِب.

وَأَمَّا قُرْبُ الرَّبِّ قُرْبًا يَقُومُ بِهِ بِفِعْلِهِ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ: فَهَذَا تَنْفِيهِ الْكُلَّابِيَةُ وَمَن يَمْنَعُ قِيَامَ الْأفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِذَاتِهِ.

وَأمَّا السَّلَفُ وَأئِمَّةُ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ: فَلَا يَمْنَعُونَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِن أَهْلِ الْكَلَامِ.

فَنُزُولُهُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاء الدُّنْيَا، وَنُزُولُهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، وَنَحْو ذَلِكَ: هُوَ مِن هَذَا الْبَابِ

(3)

؛ وَلهَذَا حُدَّ النُّزُولِ بِأَنَّهُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَكَذَلِكَ تَكْلِيمُهُ لِمُوسَى عليه السلام.

(1)

والذي تلاه وقصه وأقرأه عليه إنما هو جبريل، وليس الله تعالى.

(2)

ولا يَفْهمُ أيُّ عاقلٍ من قول الملك أو الأمير: أمسكنا بالقاتل، وعاقبنا المجرم، وسجنا المتهم أنّ الممسك والمعاقب والساجن هو الأمير أو الملك نفسُه؛ بل أعوانه الذين يتصرفون تحت إمرتِه وسلطتِه.

(3)

أي: ينزل نزولًا يَقُومُ بِهِ بِفِعْلِهِ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ.

ص: 422

فَإِنَّهُ لَو أُرِيدَ مُجَرَّدُ تَقْرِيبِ الْحُجَّاجِ وَقُوَّامِ اللَّيْلِ إلَيْهِ: لَمْ يَخُصَّ نزُولَهُ بِسَمَاءِ الدُّنْيَا، كَمَا لَمْ يَخُصَّ ذَلِكَ فِي إجَابَةِ الدَّاعِي، وَقُرْبِ الْعَابِدِينَ لَهُ قَالَ تَعَالَى:"مَن تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِرَاعًا"، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ تكُونُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، بِزِيَادَةِ تَقْرِيبِهِ لِلْعَبْدِ إلَيْهِ جَزَاءً عَلَى تَقَرُّبِهِ بِاخْتِيَارِهِ.

فَكُلَّمَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ بِاخْتِيَارِهِ قَدْرَ شِبْرٍ: زَادَهُ الرَّبُّ قُرْبًا إلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ كَالْمُتَقَرِّبِ بِذِرَاعِ.

فَكَذَلِكَ قُرْبُ الرَّبِّ مِن قَلْبِ الْعَابِدِ، وَهُوَ مَا يَحْصُلُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ مِن مَعْرِفَةِ الرُّبِّ وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَهُوَ الْمَثَلُ الْأعْلَى؛ وَهَذَا أَيْضًا لَا نِزَاعَ فِيهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ يَصِيرُ مُحِبًّا لِمَا أَحَبَّ الرَّبُّ، مُبْغِضًا لِمَا أَبْغَضَ، مُوَالِيًا لِمَن يُوَالِي، مُعَادِيًا لِمَن يُعَادِي، فَيَتَّحِدُ مُرَادُهُ مَعَ الْمُرَادِ الْمَأمُورِ بِهِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ.

وَهَذَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي مُوَالَاةِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ، وَمُوَالَاةِ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ؛ فَإِنَّ الْوِلَايَةَ ضِدُّ الْعَدَاوَةِ، والْوِلَايَةُ تَتَضَمَّنُ الْمَحَبَّةَ وَالْمُوَافَقَةَ، والْعَدَاوَةُ تَتَضَمَّنُ الْبُغْضَ وَالْمُخَالَفَةَ. [5/ 493 - 511]

وَعَلَى هَذَا: فَالْقُرْبُ لَا مَجَازَ فِيهِ.

وَقَد تَقَدَّمَ أَنَّا لَا نَذُمُّ كُلَّ مَا يُسَمَّى تَأْوِيلًا، وإنَّمَا نَذُمُّ تَحْرِيفَ الْكَلِمِ عَن مَوَاضِعِهِ، وَمُخَالَفَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقَوْلَ فِي الْقُرْآنِ بِالرَّأيِ.

[6/ 20 - 21]

* * *

(حِكَايَةُ مُنَاظِرَةٍ فِي الْجِهَةِ وَالتَّحَيُّزِ)

450 -

صُورَةُ مَا طُلِبَ مِن الشيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّة رحمه الله وَرَضِيَ عَنْهُ- حِينَ جِيءَ بِهِ مِن دِمَشْقَ عَلَى الْبَرِيدِ، وَاعْتُقِلَ بِالْجُبِّ بِقَلْعَةِ الْجَبَلِ، بَعْدَ عَقْدِ الْمَجْلِسِ بِدَارِ النِّيَابَةِ، وَكَانَ وُصُولُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِن شَهْرِ رَمَضَانَ، وَعُقِدَ الْمَجْلِسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ السَّابعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ، بَعْدَ صَلَاةِ

ص: 423

الْجُمُعَةِ، وَفِيهِ اُعْتُقِلَ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ

(1)

.

وَصُورَةُ مَا طُلِبَ مِنْهُ أَنْ يَعْتَقِدَ:

- نَفْيَ الْجِهَةِ عَن اللهِ وَالتَّحَيُّزِ.

- وَأَنْ لَا يَقُولَ: إنَّ كَلَامَ اللهِ حَرْفٌ وَصَوْتٌ قَائِمٌ بِهِ؛ بَل هُوَ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِهِ.

- وَأَنَّهُ سبحانه وتعالى لَا يُشَارُ إلَيْهِ بِالْأَصَابعِ إشَارَةً حِسِّيَّةً.

- وَيُطْلَبُ مِنْهُ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِهَا عِنْدَ الْعَوَامِّ.

- وَلَا يَكْتُبُ بِهَا إلَى الْبِلَادِ وَلَا فِي الْفَتَاوَى الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا.

فَأَجَابَ عَن ذَلِكَ: أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: يُطْلَبُ مِنْهُ أَنْ يَعْتَقِدَ نَفْيَ الْجِهَةِ عَن اللهِ وَالتَّحَيُّزِ: فَلَيْسَ فِي كَلَامِي إثْبَاتُ هَذَا اللَّفْظِ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ هَذَا اللَّفْظِ نَفْيًا بِدْعَة، وَأَنَا لَمْ أَقُلْ إلَّا مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ.

وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: لَا يَقُولُ إنَّ كَلَامَ اللهِ حَرْفٌ وَصَوْتٌ قَائِمٌ بِهِ؛ بَل هُوَ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِهِ: فَلَيْسَ فِي كَلَامِي هَذَا أَيْضًا وَلَا قُلْته قَطُّ؛ بَل قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ الْقُرْآنَ حَرْفٌ وَصَوْتٌ قَائِمٌ بِهِ بِدْعَةٌ، وَقَوْلُة مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِهِ بِدْعَةٌ، لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِن السَّلَفِ لَا هَذَا وَلَا هَذَا، وَأَنَا لَيْسَ فِي كَلَامِي شَيءٌ مِن الْبِدَع؛ بَل فِي كَلَامِي مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ السَّلَفُ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ.

وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: لَا يُشَارُ إلَيْهِ بِالْأَصَابِع إشَارَةً حِسِّيَّةً: فَلَيْسَ هَذَا اللَّفْظُ فِي كَلَامِي؛ بَل فِي كَلَامِي إنْكَارُ مَا ابْتَدَعَهُ الْمُبْتَدِعُونَ مِن الْأَلْفَاظِ النَّافِيَةِ؛ مِثْل قَوْلِهِ: إنَّهُ لَا يُشَارُ إلَيْهِ؛ فَإِنَّ هَذَا النَّفْيَ أَيْضًا بِدْعَةٌ؛ فَإِنْ أَرَادَ الْقَائِلُ أَنَّهُ لَا يُشَارُ إلَيْهِ: مِن أَنَّ اللهَ لَيْسَ مَحْصُورًا فِي الْمَخْلُوقَاتِ وَغَيْر ذَلِكَ مِن الْمَعَانِي الصَّحِيحَةِ: فَهَذَا حَقٌّ، وَإِن أَرَادَ أَنَّ مَن دَعَا اللهَ لَا يَرْفَعُ إلَيْهِ يَدَيْهِ: فَهَذَا خِلَافُ

(1)

وهذه محنةٌ من المحن الكثيرة التي تعرض لها، ومع ذلك فهو صابر ثابت، لم تزده تلك المصائب إلا ثباتًا وإيمانًا وحبًّا لله، وقد أخبر الشيخ أن المصائب تفتح للمؤمن الكثير من المعارف والإيمانيات واللطائف التي لا يعلمها إلا الله تعالى.

ص: 424

مَا تَوَاتَرَتْ بِهِ السُّنَنُ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمَا فَطَرَ اللهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ مِن رَفْعِ الْأَيْدِي إلَى اللهِ فِي الدُّعَاءِ.

وإِذَا سَمَّى الْمُسَمِّي ذَلِكَ إشَارَة حِسِّيَّةً وَقَالَ إنَّهُ لَا يَجُوزُ: لَمْ يُقْبَل ذَلِكَ مِنْهُ.

أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ

(1)

: لَا يَتَعَرَّضُ لِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِهَا عِنْدَ الْعَوَامِّ: فَأَنَا مَا فَاتَحْت عَامِّيًّا فِي شَيْءٍ مِن ذَلِكَ قَطُّ

(2)

.

وَأَمَّا الْجَوَابُ بِمَا بَعَثَ اللهُ بِهِ رَسُولَهُ لِلْمُسْتَرْشِدِ الْمُسْتَهْدِي: فَقَد قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَن سُئِلَ عَن عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِن نَارٍ"

(3)

، وَقَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)} [البقرة: 159].

وَلَا يُؤمَرُ الْعَالِمُ بِمَا يُوجِبُ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ. [5/ 264 - 266]

* * *

(أقوال من ينفي العلو والصفات)

451 -

هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَنْفُونَ عُلُوَّهُ -سبحانه- بِنَفْسِهِ عَلَى الْعَالَمِ: هُم فِي رُؤَيتهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

- مِنْهُم مَن يَقُولُ: إنَّهُ تَجُوزُ رُؤيَتُهُ وَذَلِكَ وَاقِعٌ فِي الآخِرَةِ، وَهَذَا قَوْلُ كُل مَن انْتَسَبَ إلَى السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِن طَوَائِفِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَغَيْرِهِمْ؛ كالْكُلَّابِيَة والكَرَّامِيَة وَالْأشْعَرِيَّةِ، وَقَوْلِ أَهْلِ الْحَدِيثِ قَاطِبَةً، وَشُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَتْبَاعِ الْأئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِن الْفُقَهَاءِ، وَعَامَّةُ هَؤُلَاءِ يُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ؛ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

(1)

من المبتدعة الذين سجنوه وألزموه أن يعتقد ما يعتقدون.

(2)

وهكذا ينبغي ألا يُثار عند العامة ما لا تحتمله عقولهم، أو قد يترتب عليه فتن وتشكيك؛ كالحديث عن القدر بالتفصيل.

(3)

رواه أبو داود (3658)، والترمذي (2649)، وابن ماجه (264)، وأحمد (7571)، وقال الترمذي: حديث حسن.

ص: 425

وَمِنْهُم طَائِفَةٌ يَنْفُونَ الصِّفَاتِ مَعَ دَعْوَاهُم أَنَّهُم يُثْبِتُونَ الرُّؤْيَةَ؛ كَابْنِ حَزْمٍ وَأَبِي حَامِدٍ فِي بَعْضِ أَقْوَالِهِ.

- والْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ مَن يُنْكِرُ الرُّويَةَ؛ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِن الْجَهْمِيَّة الْمَحْضَةِ مِن الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ وَغَيْرِهِمْ.

وَكَذَلِكَ يَنْفُونَ الصِّفَاتِ ويقُولُونَ بِإثْبَاتِ ذَاتٍ بِلَا صِفَاتٍ، أَو يَقُولُونَ بِإثْبَاتِ وُجُودٍ مُطْلَقٍ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ، لَا يُوصَفُ بِشَيء مِن الُأمُورِ الثُّبُوتِيَّةِ؛ كَمَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ. [5/ 282]

* * *

(شرح حديث النزول)

(1)

452 -

كَانَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ يُسَمُّونَ نفاة الصِّفَاتِ مُعَطِّلَةً؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ تَعْطِيلُ ذَاتِ اللهِ تَعَالَى، وَإِن كَانُوا هُم قَد لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ قَوْلَهُم مُسْتَلْزِمٌ لِلتَّعْطِيلِ. [5/ 326]

453 -

رُوحُ ابْنِ آدمَ: تَسْمَعُ وَتُبْصِرُ وَتَتَكَلَّمُ وَتَنْزِلُ وَتَصْعَدُ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ، وَالْمَعْقُولَاتِ الصَّرِيحَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَتْ صِفَاتُهَا وَأَفْعَالُهَا كَصِفَاتِ الْبَدَنِ وَأَفْعَالِهِ.

فَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: إنَّ صِفَاتِ الرُّوحِ وَأَفْعَالَهَا مِثْلُ صِفَاتِ الْجِسْمِ الَّذِي هُوَ الْجَسَدُ، وَهِيَ مَقْرُونَةٌ بِهِ، وَهُمَا جَمِيعًا الْإنْسَانُ، فَإذَا لَمْ يَكُن رُوحُ

(1)

هو في الأصل جواب لسؤالٍ وُجه للشيخ قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ عن رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا فِي حَدِيثِ النُّزُولِ: أحَدُهُمَا مُثْبِتٌ وَالآخَرُ نَافٍ. فأجاب في أكثر من مائتين وستين صفحة!! [321 - إلى آخر المجلد: 585]. وقد حشد الأدلة والبراهين النقلية والعقلية في ثبوت هذا الحديث، وأنه على ظاهره، وأنه لا يترتب على النزول خلوه من العرش، وردّ على المبتدعة والفلاسفة، وتطرق لمسألة في علم الفلك، ومسائل كثيرة جدًا، فكم مُلئ هذا الإمام علمًا، وكم رُزق فهمًا، وكم أحاط بأقوال أهل السُّنَّة والبدعة والفلاسفة والعلوم الأخرى.

وسأنتقي أهم ما جاء في هذه الفتوى.

ص: 426

الْإِنْسَانِ مُمَاثِلًا لِلْجِسْمِ الَّذِي هُوَ بَدَنُهُ: فَكيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الرَّبُّ تبارك وتعالى وَصِفَاتُه وَأَفْعَالُهُ مِثْل الْجِسْمِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ؟!.

[5/ 354]

454 -

سُئِلَ بَعْضُ أئِمَّةِ نفاة الْعُلُوِّ عَن النُّزُولِ فَقَالَ: يَنْزِلُ أَمْرُهُ.

فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: فَمِمَّن يَنْزِلُ؟ مَا عِنْدَك فَوْقَ الْعَالَمِ شَيءٌ، فَمِمَّن يَنْزِلُ الْأمْرُ؟ مِن الْعَدَمِ الْمَحْضِ؟ فَبُهِتَ. [5/ 369]

* * *

(حوار إسحاق بن راهويه للأمير عبد الله بن طاهر حول مسألة النزول)

455 -

الْأحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي إتْيَانِ الرَّبِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَثِيرَةٌ، وَكَذَلِكَ إتْيَانُهُ لِأهْلِ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ السَّلَفُ عَلَى مَن يُنْكِرُ الْحَدِيثَ

(1)

، فَبَيَّنُوا لَهُ أَنَّ الْقُرْآنَ يُصَدِّقُ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ، كَمَا احْتَجَّ بِهِ إسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه عَلَى بَعْض الْجَهْمِيَّة بِحَضْرَةِ الْأمِيرِ عَبْدِ اللهِ بْنِ طَاهِرٍ أَمِيرِ خُرَاسَانَ.

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ الرباطي: حَضَرْت مَجْلِسَ الْأمِيرِ عَبْدِ اللهِ بْنِ طَاهِرٍ ذَاتَ يَوْمٍ، وَحَضَرَ إسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه، فَسُئِلَ عَن حَدِيثِ النُّزُولِ أَصَحِيحٌ هُوَ؟

فَقَالَ: نَعَمْ.

فَقَالَ لَهُ بَعْضُ قُوَّادِ عَبْدِ اللهِ: يَا أبَا يَعْقُوبَ أتَزْعُمُ أَنَّ اللهَ يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ؟

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: كَيْفَ يَنْزِلُ؟

قَالَ: أَثْبِتْهُ فَوْقُ حَتى أَصِفَ لَك النُّزُولَ؟

(2)

فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَثْبَتُّهُ فَوْقُ.

(1)

وهو: ينزل الله كل ليلة إلى السماء الدنيا.

(2)

أي: أقرَّ بأن الله تعالى فوق السماء في العلوّ.

ص: 427

فَقَالَ لَهُ إسْحَاقُ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} [الفجر: 22].

فَقَالَ الْأَمِيرُ عَبْدُ اللهِ بْن طَاهِرٍ: يَا أَبَا يَعْقُوبَ هَذَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ؟

فَقَالَ إسْحَاقُ: أَعَزَّ اللهُ الْأَمِيرَ، وَمَن يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَن يَمْنَعهُ الْيَوْمَ؟

ثُمَّ بَعْدَ هَذَا إذَا نَزَلَ: هَل يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ أَو لَا يَخْلُو؟

هَذِهِ مَسْألَة أُخْرَى تَكَلَّمَ فِيهَا أَهْلُ الْإِثْبَاتِ:

فَمِنْهُم مَن قَالَ: لَا يَخْلو مِنْهُ الْعَرْشُ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَن الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِي رِسَالَتِهِ إلَى مُسَدَّدٍ، وَعَن إسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه، وَحَمَّادِ بْنِ زيدٍ، وَغثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ الدارمي وَغَيْرِهِمْ.

وَمِنْهُم مَن أَنْكَرَ ذَلِكَ وَطَعَنَ فِي هَذِهِ الرِّسَالَةِ، وَقَالَ: رَاوِيهَا عَن أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ.

وَالْقَوْلُ الْأوَّلُ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ؛ كَحَمَّادِ بْنِ زيْدٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه، وَغَيْرِهِمَا.

قَالَ ابْنُ بَطَّةَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ، ثَنَا أَحْمَد بْنُ عَلِيٍّ الْأَبَّارُ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ قَالَ: قَالَ إسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه: دَخَلْت عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ طَاهِرٍ فَقَالَ: مَا هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي تَرْوُونَهَا؟ قُلْت: أَيُّ شَيءٍ أَصْلَحَ اللهُ الْأَمِيرَ؟ قَالَ: تَرْوُونَ أَنَّ اللهَ يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا؟ قُلْت: نَعَمْ، رَوَاهَا الثِّقَاتُ الَّذِينَ يَرْوُونَ الْأَحْكَامَ، قَالَ: أَيَنْزِلُ وَيَدَعُ عَرْشَه؟ قَالَ: فَقُلْت: يَقْدِرُ أَنْ يَنْزِلَ مِن غَيْرِ أَنْ يَخْلُوَ الْعَرْشُ مِنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْت: وَلمَ تتَكَلَّمُ فِي هَذَا.

وَقَد رَوَاهَا اللكائي أَيْضًا بِإِسْنَادٍ مُنْقَطِعٍ، وَاللَّفْظُ مُخَالِف لِهَذَا.

وَهَذَا الْإِسْنَادُ أَصَحُّ.

وعَبْدُ اللهِ بْنُ طَاهِر -وَهُوَ مِن خِيَارِ مَن وَليَ الْأَمْرَ بِخُرَاسَانَ-: كَانَ يَعْرِفُ أَنَّ اللهَ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَأَشْكَلَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَنْزِلُ؛ لِتَوَهُّمِهِ أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَخْلُوَ

ص: 428

مِنْهُ الْعَرْشُ، فَأَقَرَّهُ الْإِمَامُ إسْحَاقُ عَلَى أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَقَالَ لَهُ: يَقْدِرُ أَنْ يَنْزِلَ مِن غَيْرِ أَنْ يَخْلوَ مِنْهُ الْعَرْشُ؟ فَقَالَ لَهُ الْأَمِيرُ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ إسْحَاقُ: لِمَ تَتَكَلَّمُ فِي هَذَا؟

يَقُولُ: فَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ: لَمْ يَلْزَمْ مِن نُزُولهِ خُلُوُّ الْعَرْشِ مِنْهُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَرَضَ عَلَى النُّزُولِ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ خُلُوُّ الْعَرْشِ.

[5/ 374 - 377]

وَفي الْجُمْلَةِ: فَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ طَائِفَة قَلِيلَةٌ مِن أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَجُمْهُورُهُم عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ، وَهُوَ الْمَأثُورُ عَن الْأَئِمَّةِ الْمَعْرُوفينَ بِالسُّنَّةِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَن أَحَدٍ مِنْهُم بِإِسْنَاد صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ أَنَ الْعَرْشَ يَخْلُو مِنْهُ

(1)

. [5/ 396]

* * *

‌(الردّ على مَا حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ عَن بَعْضِ الْحَنْبَلِيَّةِ: أَنَّ أَحْمَد لَمْ يَتَأَوَّلْ إلَّا ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ، وهل اخْتَلَفَ اجْتِهَادُ الإمام أحمد فِي تَأْوِيلِ الْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ وَالنُّزُول؟ ومعنى الأثرين:"الْحَجَر الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللهِ في الْأَرْضِ"، "إنِّي لَأَجِدُ نَفَسَ الرَّحْمَنِ مِن جِهَةِ الْيَمَنِ

")

456 -

أَمَّا مَا حَكَاهُ أبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ عَن بَعْضِ الْحَنْبَلِيَّةِ: أَنَّ أَحْمَد لَمْ يَتَأوَّلْ إلَّا ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: "الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللهِ فِي الْأَرْضِ"

(2)

، وَ"قُلُوبُ الْعِبَادِ

(1)

قال الشيخ بعد ذلك وقد ذكر الأقوال وأعادها: الْقَوْلُ الثَّالِثُ - وَهُوَ الصَّوَابُ وَهُوَ الْمأثُورُ عَن سَلَفِ الْأمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا -: أنَّهُ لَا يَزَالُ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَلَا يَخْلُو الْعَرْشُ مِنْهُ، مَعَ دُنُوِّهِ وَنُزُولهِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَلَا يَكُونُ الْعَرْشُ فَوْقَهُ.

وَكَذَلِكَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ كَمَا جَاءَ بهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَةُ، وَلَيْسَ نُزُولُهُ كَنُزُولِ أجْسَامِ بَنِي آدَمَ مِن السَّطْحِ إلَى الْأَرْضِ، بِحَيْثُ يَبْقَى السَّقْفُ فَوْقَهُمْ؛ بَل اللهُ مُنَزَّهٌ عَن ذَلِكَ.

(2)

قال ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 575): لا يصح، وقال الألباني في السلسلة الضعيفة (223): منكر، وقال ابن عثيمين ني مجموع فتاويه (1/ 256): موضوع باطل وفي ثبوته عن ابن عباس نظر.

ص: 429

بَيْنَ أصْبُعَيْنِ مِن أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ"

(1)

، و"إِنِّي أَجِدُ نَفَسَ الرَّحْمَنِ مِن قِبَلِ الْيَمَنِ"

(2)

: فَهَذِهِ الْحِكَايَةُ كَذِبٌ عَلَى أَحْمَد، لَمْ يَنْقُلْهَا أَحَدٌ عَنْة بِإِسْنَاد، وَلَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِن أَصْحَابِهِ نَقْلَ ذَلِكَ عَنْهُ، وَهَذَا الْحَنْبَلِيُّ الَّذِي ذَكَرَ عَنْهُ أَبُو حَامِدٍ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ، لَا عِلْمُهُ بِمَا قَالَ، وَلَا صِدْقُهُ فِيمَا قَالَ.

وَأَيْضًا: وَقَعَ النِّزَاعُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ: هَل اخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُ فِي تَأْوِيلِ الْمَجِيءِ وَالْأِتْيَانِ وَالنُّزولِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؟ لِأَنَّ حَنْبَلًا نَقَلَ عَنْهُ فِي "الْمِحْنَةِ" أَنَّهُم لَمَّا احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "تَجِيءُ الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ كَأنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَو غَيَايَتَانِ أَو فِرْقَانِ مِن طَيْرٍ صَوَافَّ"

(3)

وَنَحْوِ ذَلِكَ مِن الْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ إتْيَانُ الْقُرْآنِ وَمَجِيئُهُ.

وَقَالُوا لَهُ: لَا يُوصَفُ بِالْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ إلَّا مَخْلُوقٌ.

فَعَارَضَهُم أَحْمَد بِقَوْلِهِ -

(4)

وَأَحْمَد وَغَيْرُهُ مِن أَئِمَّةِ السُّنَّةِ فَسَّرُوا هَذَا الْحَدِيثَ بأنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَجِيءُ ثَوَابِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ، كَمَا ذَكَرَ مِثْل ذَلِكَ مِن مَجِيءِ الْأَعْمَالِ فِي الْقَبْرِ وَفِي الْقِيَامَةِ، وَالْفرَادُ مِنْهُ ثَوَابُ الْأَعْمَالِ.

وَالنَبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اقْرَؤُوا الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا يَجِيئَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"،

فَلَمَّا أَمَرَ بِقِرَاءَتِهِمَا وَذَكَرَ مَجِيئَهُمَا يُحَاجَّانِ عَن الْقَارِئِ: عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ قِرَاءَةَ الْقَارِئِ لَهُمَا، وَهُوَ عَمَلُهُ، وَأَخْبَرَ بِمَجِيءِ عَمَلِهِ الَّذِي هُوَ التِّلَاوَةُ لَهُمَا فِي الصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا، كَمَا أَخْبَرَ بِمَجِيءِ غَيْرِ ذَلِكَ مِن الْأَعْمَالِ.

(1)

رواه مسلم (2654).

(2)

رواه الإمام أحمد (10978) عن أبي هُرَيْرَةَ مرفوعًا بلفظ: "ألَا إِنَّ الإيمَانَ يَمَانٍ، وَالْحِكمَةَ يَمَانِيَةٌ، وَأَجدُ نَفَسَ رَبَّكُمْ مِن قِبَلِ الْيَمَنِ".

وضعفه الأَلباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (1097).

(3)

رواه مسلم (804).

(4)

هذه جملة اعتراضية، والعجيب من إطالة الشيخ في الجملة الاعتراضية، والتي لا يُطال فيها، ولكن الشيخ كعادته لا يُمسك يده إذا كان القلم بين أصابعه. رحمه الله رحمة واسعة، وجمعنا به في جنات عدن.

ص: 430

وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَخْبَرَ بِمَجِيءِ الْقُرْآنِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَرَادَ بِهِ الْإِخْبَارَ عَن قِرَاءَةِ الْقَارِئِ، الَّتِي هِيَ عَمَلُهُ، وَذَلِكَ هُوَ ثَوَابُ قَارِئِ الْقُرْآنِ، لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ نَفْسَ كَلَامِهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ، وَهُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، يَتَصَوَّرُ صُورَةَ غَمَامَتَيْنِ.

فَلَمْ يَكُن فِي هَذَا حُجَّةٌ للجهمية عَلَى مَا ادَّعَوْه -

(1)

.

ثُمَّ إنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد فِي الْمِحْنَةِ عَارَضَهُم بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210]، قَالَ: قِيلَ: إنَّمَا يَأْتِي أَمْرُهُ.

هَكَذَا نَقَلَ حَنْبَلٌ، وَلَمْ يَنْقُلْ هَذَا غَيْرُهُ مِمَن نَقَلَ مُنَاظَرَتَهُ فِي "الْمِحْنَةِ"؛ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ أَحْمَد، وَصَالِحِ بْنِ أَحْمَد، والمروذي وَغَيْرِهِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ أَحْمَد فِي ذَلِكَ:

- فَمِنْهُم مَن قَالَ: غَلِطَ حَنْبَلٌ، لَمْ يَقُلْ أَحْمَد هَذَا، وَقَالُوا: حَنْبَلٌ لَهُ غَلَطَاتٌ مَعْرُوفَة، وَهَذَا مِنْهَا، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي إسْحَاقَ بْنِ شاقلا.

- وَمِنْهُم مَن قَالَ: بَل أَحْمَد قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْزَامِ لَهُمْ.

يَقُولُ: إذَا كَانَ أَخْبَرَ عَن نَفْسِهِ بِالْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ، وَلَمْ يَكن ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ مَخْلُوقٌ؛ بَل تَأَوَّلْتُمْ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ جَاءَ أَمْرُهُ، فَكَذَلِكَ قُولُوا: جَاءَ ثَوَابُ الْقُرْآنِ، لَا أَنَّهُ نَفْسُهُ هُوَ الْجَائِي؛ فَإِنَّ التَّأوِيلَ هُنَا أَلْزَمُ؛ فَإِنَّ الْمُرَادَ هُنَا الْإِخْبَارُ بِثَوَابِ قَارِئِ الْقُرْآنِ، وَثَوَابُهُ عَمَلٌ لَهُ، لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْإِخْبَارَ عَن نَفْسِ الْقُرْآنِ.

فَإِذَا كَانَ الرَّبُّ قَد أَخْبَرَ بِمَجِيءِ نَفْسِهِ ثُمَّ تَأَوَّلْتُمْ ذَلِكَ بِاَمْرِهِ، فَإِذَا أَخْبَرَ بِمَجِيءِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَلَأَنْ تتَأَوَّلُوا ذَلِكَ بِمَجِيءِ ثَوَابِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى.

وإِذَا قَالَهُ لَهُم عَلَى سَبِيلِ الْإِلْزَامِ: لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكونَ مُوَافِقًا لَهُم عَلَيْهِ، وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَلْتَزِمَ هَذَا؛ فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَة فِي مَجِيءِ

(1)

إلى هنا انتهت الجحلة الاعتراضية مع شيء من التصرف.

ص: 431

أَعْمَالِ الْعِبَادِ، وَالْمُرَادُ مَجِيءُ قِرَاءَةِ الْقَارِئِ الَّتِي هِيَ عَمَلُهُ، وَأَعْمَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَة، وَثَوَابُهَا مَخْلُوقٌ.

وَلهَذَا قَالَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِن السَّلَفِ: أنَّهُ يَجِيءُ ثَوَابُ الْفرْآنِ، وَالثَّوَابُ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى أَعْمَالِ الْعِبَادِ، لَا عَلَى صِفَاتِ الرَّبِّ وَأَفْعَالِهِ.

وَذَهَبَ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ مِن أَصْحَابِ أَحْمَد إلَى أَنَّ احْمَد قَالَ هَذَا ذَلِكَ الْوَقْتُ، وَجَعَلُوا هَذَا رِوَايَةً عَنْهُ، ثُثَم مَن يَذْهَبُ مِنْهُم إلَى التَّأوِيلِ - كَابْنِ عَقِيل وَابْنِ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرِهِمَا- يَجْعَلُونَ هَذِهِ عُمْدَتَهُمْ، حَتَّى يَذْكُرَهَا أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَلَا يَذْكُرُ مِن كَلَامِ أَحْمَد وَالسَّلَفِ مَا يُنَاقِضُهَا.

وَلَا ريبَ أَنَّ الْمَنْقُولَ الْمُتَوَاتِرَ عَن أحْمَد يُنَاقِضُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَيُبَيِّنُ أنَّهُ لَا يَقُولُ: إنَّ الرَّبَّ يَجِيءُ وَيَأْتِي وَيَنْزِلُ أَمْرُهُ؛ بَل هُوَ يُنْكِرُ عَلَى مَن يَقُولُ ذَلِكَ.

* * *

457 -

وسُئِلَ الشَّيْخُ تَقِي الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ -: عَن قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللهِ فِي الْأَرْضِ"

(1)

، وَقَوْلِهِ:"إني لَأَجِدُ نَفَسَ الرَّحْمَنِ مِن جِهَةِ الْيَمَنِ"

(2)

.

فَأَجَابَ رحمه الله: أَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: فَقَد رُوِيَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِإِسْنَاد لَا يَثْبُتُ، وَالْمَشْهُورُ إنَّمَا هُوَ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:"الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللهِ فِي الْأَرْضِ، فَمَن صَافَحَهُ وَقَبَّلَهُ فَكَأنَّمَا صَافَحَ اللهَ وَقَبَّلَ يَمِينَةُ".

وَمَن تَدَبَّرَ اللَّفْظَ الْمَنْقُولَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ لَا إشْكَالَ فِيهِ إلَّا عَلَى مَن لَمْ يَتَدَبَّرْهُ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: "يَمِينُ اللهِ فِي الْأَرْضِ" فَقَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ: "فِي الْأَرْضِ"، وَلَمْ يُطْلِقْ فَيَقُولَ

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

تقدم تخريجه.

قال في "القاموس" في مادة "نفس": اسمْ وُضِعَ موضعَ المصدر الحقيقي، من نَفَس تنفيسًا ونَفَسًا؛ أي: فَرّجَ تفريجًا، والمعنى: أنها تُفرجَ الكربَ، وتَنشُر الغيث، وتُذهِبُ الجَدْبَ.

ص: 432

يَمِينُ اللهِ، وَحُكْمُ اللَّفْظِ الْمُقَيَّدِ يُخَالِفُ حُكْمَ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ

(1)

.

ثُمَّ قَالَ: "فَمَن صَافَحَهُ وَقَبَّلَهُ فَكأنَّمَا صَافَحَ اللهَ وَقَبَّلَ يَمِينَهُ" وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُشَبَّهَ غَيْرُ الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَهَذَا صَرِيخ فِي أَنَّ الْمُصَافِحَ لَمْ يُصَافِحْ يَمِينَ اللهِ أَصْلًا، وَلَكِنْ شُبِّهَ بِمَن يُصَافِحُ اللهَ، فَأَوَّلُ الْحَدِيثِ وَآخِرُهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الْحَجَرَ لَيْسَ مِن صِفَاتِ اللهِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ عَاقِلٍ، وَلَكِنْ يُبَيِّنُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى كَمَا جَعَلَ لِلنَّاسِ بَيْتًا يَطُوفُونَ بِهِ: جَعَلَ لَهُم مَا يَسْتَلِمُونَهُ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ تَقْبِيلِ يَدِ الْعُظَمَاءِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ تَقْرِيبٌ لِلْمُقَبِّلِ وَتَكْرِيمٌ لَهُ، كَمَا جَرَت الْعَادَةُ.

وَأمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي: فَقَوْلُهُ: "مِن الْيَمَنِ" يُبَيِّن مَقْصُودَ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْيَمَنِ اخْتِصَاصٌ بصِفَاتِ اللهِ تَعَالَى حَتَى يُظَنَّ ذَلِكَ، وَلَكنْ مِنْهَا جَاءَ الَّذِينَ يُحِبُّهُم وُيحِبُّونَهُ، الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ:{مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54].

وَهَؤُلَاءِ هُم الَّذِينَ قَاتَلُوا أَهْلَ الرِّدَّةِ، وَفَتَحُوا الْأمْصَارَ، فَبِهِم نَفَّسَ الرَّحْمَنُ عَن الْمُؤمِنينَ الْكُرُبَاتِ، وَمَن خَصَّصَ ذَلِكَ بِأوَيْسِ فَقَد أَبْعَدَ. [6/ 397 - 398]

* * *

(خطأ تَأْوِيل الْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ وَالنُّزُولِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِمَعْنَى الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ)

458 -

تَأوِيلُ الْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ وَالنزُولِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِمَعْنَى الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: فوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ، وَتَأوَّلُوا ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [فصلت: 11]، وَجَعَلَ ابْنُ الزَّاغُونِي وَغَيْرُهُ ذَلِكَ هُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمَد.

(1)

قال الشيخ: فَتَقْيِيدُهُ بِالْأرْضِ يَدُلُّ عَلَى أنَّهُ لَيْسَ هُوَ يَدُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَلَا يَكُونُ الْيَدَ الْحَقِيقِيَّةَ، وَقَوْلُهُ:"فَمَن صَافَحَهُ وَقَبَّلَهُ فَكَأنَّمَا صَافَحَ اللهَ وَقَيْلَ يَمِينَهُ": صَرِيحٌ فِي أَن مُصَافِحَهُ وَمُقَبِّلَهُ لَيْسَ مُصَافِحًا للهِ وَلَا مُقَبِّلًا لِيَمِينِهِ؛ لِأنَّ الْمُشَبَّهَ لَيْسَ هُوَ الْمُشَبَّهُ بِهِ، وَقَد أتَى بِقَوْلِهِ:"فَكَأَنَّمَا" وَهِيَ صَرِيحَة فِي التَّشْبِيهِ. اهـ. (6/ 580 - 581)

ص: 433

وَالصَّوَابُ: أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ التَّأوِيلَاتِ مُبْتَدَعَةٌ، لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِن الصَّحَابَةِ شَيْئا مِنْهَا، وَلَا أَحَدٌ مِن التَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَانٍ، وَهِيَ خِلَافُ الْمَعْرُوفِ الْمُتَوَاتِرُ عَن أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ: أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ مِن أَئِمَّةِ السُّنَّةِ. [5/ 409]

* * *

(كراهة السَّلَف أَنْ تُرَدَّ الْبِدْعَةُ بِالْبِدْعَةِ)

459 -

كَرِهَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ -كَالْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ- أَنْ تُرَدَّ الْبِدْعَةُ بِالْبِدْعَةِ، فَكَانَ أَحْمَد فِي مُنَاظَرَتِهِ للجهمية لَمَّا نَاظَرُوهُ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ، وَأَلْزَمَهُ أَبُو عِيسَى مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بُرْغُوثٌ أَنَّهُ إذَا كَانَ غَيْرَ مَخْلُوقٍ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ اللهُ جِسْمًا، وَهَذَا مُنْتَفٍ، فَلَمْ يُوَافِقْهُ أَحْمَد لَا عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ وَلَا عَلَى إثْبَاتِهِ؛ بَل قَالَ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: 1 - 4].

وَنَبَّهَ أَحْمَد عَلَى أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يَدْري مَا يُرِيدُونَ بِهِ، وَإِذَا لَمْ يَعْرفْ مُرَاد الْمُتَكَلِّمِ بِهِ لَمْ يُوَافِقْة، لَا عَلَى إثْبَاتِهِ وَلَا عَلَى نَفْيِهِ.

فَإِنْ ذَكَرَ مَعْنًى أَثْبَتَهُ اللهُ وَرَسولُهُ أَثْبَتْنَاهُ، وَإِن ذَكَرَ مَعْنًى نَفَاهُ اللهُ وَرَسُولُهُ نَفَيْنَاهُ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ الْمُبِينِ، وَلَمْ نَحْتَجْ إلَى أَلْفَاظٍ مُبْتَدَعَةٍ فِي الشَّرْعِ، مُحَرَّفَةٍ فِي اللُّغَةِ، وَمَعَانِيهَا مُتَنَاقِضَةٌ فِي الْعَقْلِ؛ فَيَفْسُدُ الشَّرْعُ وَاللُّغَةُ وَالْعَقْلُ.

وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَفْظُ "الْجَبْرِ" كَرِهَ السَّلَفُ أَنْ يُقَالَ جَبَرَ، وَأَنْ يُقَالَ مَا جَبَرَ. [5/ 429 - 430]

* * *

(الأدلة عَلَى عَوْدِ الرُّوحِ إلَى الْبَدَنِ بعد الموت)

460 -

عَن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّ الْمَيِّتَ تَحْضُرُهُ الْمَلَائِكَةُ، فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَيَقُولُونَ: اُخْرُجِي أيَّتُهَا النَّفْسُ الطَيِّبَةُ .. وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ السَّوْءُ قَالَ: أُخْرُجِي أيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ .. ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إلَى السَّمَاءِ

ص: 434

فَيُسْتَفْتَحُ لَهَا فَيُقَالُ: مَن هَذَا؟ فَيُقَالُ: فُلَانٌ فَيَقُولُونَ: لَا مَرْحَبًا بِالنفْسِ الْخَبِيثَةِ، كَانَت فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ، ارْجِعِي ذَمِيمَةً، فَإنَّهَا لَنْ تُفْتَحَ لَك أَبْوَابُ السَّمَاءِ، فَتُرْسَلُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَتَصِيرُ إلَى قَبْرِهِ .. "

(1)

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلَهُ: "فَيَصِيرُ إلَى قَبْرِهِ" كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رُوِيَ مِن طُرُقٍ تُصَدِّقُ حَدِيثَ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ .. مَعَ أَنَّ سَائِرَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ تَدُلُّ عَلَى عَوْدِ الرُّوحِ إلَى الْبَدَنِ؛ إذ الْمَسْأَلَةُ لِلْبَدَنِ بِلَا رُوحٍ قَوْلٌ قَالَهُ طَائِفَةٌ مِن النَّاسِ، وَأَنْكَرَهُ الْجُمْهُورُ.

وَكَذَلِكَ السُّؤَالُ لِلرُّوحِ بِلَا بَدَنٍ: قَالَهُ ابْنُ مَيْسَرَةَ وَابْنُ حَزْمٍ.

وَلَو كَانَ كَذَلِكَ: لَمْ يَكُن لِلْقَبْرِ بِالرُّوحِ اخْتِصَاصٌ.

وَزَعَمَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ لا الْعَوْدَ" لَمْ يَرْوِهِ إلَّا زاذان عَن الْبَرَاءِ وَضَعَّفَهُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَهُ؛ بَل رَوَاهُ غَيْرُ زاذان عَن الْبَرَاءِ .. مَعَ أَنَّ زاذان مِن الثِّقَاتِ، رَوَى عَن أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ كَعُمَر وَغَيْرِهِ، وَرَوَى لَهُ مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ" وَغَيْرُهُ.

وَحَدِيثُ زاذان مِمَّا اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ عَلَى رِوَايَتهِ وَتَلَقِّيه بِالْقَبُولِ.

وَأَرْوَاحُ الْمُومِنِينَ فِي الْجَنَّةِ وَإِن كَانَت مَعَ ذَلِكَ قَد تُعَادُ إلَى الْبَدَنِ؛ كَمَا أَنَّهَا تَكُونُ فِي الْبَدَنِ ويُعْرَجُ بِهَا إلَى السَّمَاءِ كَمَا فِي حَالِ النَّوْمِ: أَمَّا كَوْنُهَا فِي الْجَنَّةِ فَفِيهِ أَحَادِيثُ عَامَّة، وَقَد نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِن الْعُلَمَاءِ، وَاحْتَجُّوا بِالْأَحَادِيثِ الْمَأثُورَةِ الْعَامَّةِ، وَأَحَادِيثَ خَاصَّةٍ فِي النَّوْمِ وَغَيْرِهِ.

فَالْأوَّلُ: مِثْلُ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ الْمَشْهُورِ .. أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يعلقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللهُ إلَى جَسَدِهِ"، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يعلقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى جَسَدِهِ، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَالنَّسَائِي وَابْنُ

(1)

رواه ابن ماجه (4262)، وأحمد (8769)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (3456).

ص: 435

مَاجَه وَالتّرْمِذِي، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَن صَحِيحٌ

(1)

.

وَهَذ الْإِعَادَةُ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْله تَعَالَى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)} [طه: 55] لَيْسَتْ هِيَ النَّشْاَةَ الثَّانِيَةَ. [445 - 449]

* * *

(معنى قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا})

461 -

عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي تَفْسِيرِ هَذ الْآيَةِ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42]، قَالَ: تَلْتَقِي أَرْوَاحُ الْأَحْيَاءِ فِي الْمَنَامِ بِأَرْوَاحِ الْمَوْتَى، وَيتَسَاءَلُونَ بَيْنَهُمْ، فَيُمْسِكُ اللهُ أَرْوَاحَ الْمَوْتَى، ويُرْسِل أَرْوَاحَ الْأَحْيَاءِ إلَى أَجْسَادِهَا.

وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدِ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ .. عَن السدي {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} ، قَالَ: يَتَوَفَّاهَا فِي مَنَامِهَا، قَالَ: فتلْتَقِي رُوحُ الْحَيِّ وَرُوحُ الْمَيِّتِ فَيَتَذَاكَرَانِ وَيَتَعَارَفَانِ، فَتَرْجِعُ رُوحُ الْحَيِّ إلَى جَسَدِهِ فِي الدُّنْيَا إلَى بَقِيَّةِ أَجَلِهِ فِي الدُّنْيَا، وَتُرِيدُ رُوحُ الْمَيِّتِ أَنْ تَرْجِعَ إلَى جَسَدِهِ فَتُحْبَس.

وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ، وَهوَ أَنَّ قَوْلَهُ:{فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [الزمر: 42] أُرِيدَ بِهَا أَنَ مَن مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ لَقِيَ رُوحَ الْحَيِّ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي -وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ-: أَنَّ كُلًّا مِن النَّفْسَيْنِ الْمُمْسَكَةِ وَالْمُرْسَلَةِ تُوُفِّيَتَا وَفَاةَ النَّوْمِ، وَأَمَّا الَّتِي تُوُفِّيَتْ وَفَاةَ الْمَوْتِ فَتِلْكَ قِسْمٌ ثَالِثٌ، وَهِيَ الَّتِي قَدَّمَهَا بِقَوْلِهِ:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} ، وَعَلَى هَذَا يَدُلُّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ؛ فَإِنَّ اللهَ قَالَ:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر:

(1)

رواه النسائي (2073)، وابن ماجه (4271)، ومالك (643)، وأحمد (15777)، وصححه الألباني في صحيح النسائي.

ولم أجده عند الترمذي.

ص: 436

42] فَذَكَرَ إمْسَاكَ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتُ مِن هَذِهِ الْأَنْفُسِ الَّتِي تَوَفَّاهَا بِالنَّوْمِ، وَأَمَّا الَّتِي تَوَفَّاهَا حِينَ مَوْتِهَا فَتِلْكَ لَمْ يَصِفْهَا بِإِمْسَاك وَلَا إرْسَالٍ، وَلَا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْتِقَاءَ الْمَوْتَى بِالنِّيَامِ.

وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْآيَةَ تتنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ؛ فَإِنَّ اللهَ ذَكَرَ تَوْفِيَتَيْنِ:

أ - تَوَفِّي الْمَوْتِ.

ب - وَتَوَفِّي النَّوْمِ.

وَذَكَرَ إمْسَاكَ الْمُتَوَفَّاةِ، وَإِرْسَالَ الْأخْرَى.

وَمَعْلُومٌ أَنَهُ يُمْسِكُ كُلَّ مَيتَةٍ، سَوَاءٌ مَاتَتْ فِي النَّوْمِ أَو قَبْلَ ذَلِكَ، ويُرْسِلُ مَن لَمْ تَمُتْ.

وَقَوْلُهُ: {يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} يَتَنَاوَلُ مَا مَاتَتْ فِي الْيَقَظَةِ وَمَا مَاتَتْ فِي النَّوْمِ، فَلَمَّا ذَكَرَ التَّوْفِيَتَيْنِ ذَكَرَ أَنَّهُ يُمْسِكهَا فِي أَحَدِ التَّوْفِيَتَيْنِ ويُرْسِلُهَا فِي الْأُخْرَى، وَهَذَا ظَاهِرُ اللَّفْظِ وَمَدْلُولُهُ بِلَا تَكَلُّفٍ.

وَمَا ذُكرَ مِن الْتِقَاءِ أَرْوَاحِ النِّيَامِ وَالْمَوْتَى لَا يُنَافِي مَا فِي الْآيَةِ، وَلَيْسَ فِي لَفْظِهَا دَلَالَة عَلَيْهِ، لَكِنَّ قَوْلَهُ:{فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} يَقْتَضِي أَنَّهُ يُمْسِكُهَا لَا يُرْسِلُهَا كَمَا يُرْسِلُ النَّائِمَةَ، سَوَاءٌ تَوَفَّاهَا فِي الْيَقَظَةِ أَو فِي النَّوْمِ؛ وَلذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"اللَّهُمَّ أَنْتَ خَلَقْت نَفْسِي وَأَنْتَ تَتَوَفَّاهَا، لَك مَمَاتُهَا وَمَحْيَاهَا، فَإِنْ أَمْسَكْتهَا فَارْحَمْهَا، وَإِن أَرْسَلْتهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَك الصَّالِحِينَ"

(1)

.

فَوَصَفَهَا بِأَنَّهَا فِي حَالِ تَوَفِّي النَّوْمِ: إمَّا مُمْسَكَة وَإِمَّا مُرْسَلَة.

وَإِذَا كَانَت الرُّوحُ تَعْرُجُ إلَى السَّمَاءِ مَعَ أَنَّهَا فِي الْبَدَنِ: عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ عُرُوجُهَا مِن جِنْسِ عُرُوجِ الْبَدَنِ الَّذِي يَمْتَنِعُ هَذَا فِيهِ.

(1)

رواه مسلم (2712)، بلفظ:"اللَّهُمَّ خَلَقْتَ نَفْسِي وَأَنْتَ تَوَفَّاهَا، لَكَ مَمَاتُهَا وَمَحْيَاهَا، إِنْ أَحْيَيْتَهَا فَاحْفَظْهَا، وَإِن أمَتَّهَا فَاغْفِرْ لَهَا، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْألكَ الْعَافِيَةَ".

ص: 437

وَعُرُوجُ الْمَلَائِكَةِ وَنُزُولُهَا مِن جِنْسِ عُرُوجِ الرُّوحِ وَنُزُولهَا، لَا مِن جِنْسِ عُرُوجِ الْبَدَنِ وَنُزُولهِ.

وَضعُودُ الرَّبِّ فَوْقَ هَذَا كُلِّهِ وَأَجَلُّ مِن هَذَا كُلِّهِ؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى أَبْعَدُ عَن مُمَاثَلَةِ كُلِّ مَخْلُوقٍ مِن مُمَاثَلَةِ مَخْلُوقٍ لِمَخْلُوق.

وإذَا عُرِفَ هَذَا: فَإِنَّ لِلْمَلَائِكَةِ مِن ذَلِكَ مَا يَلِيقُ بِهِمْ، وَإِنَّ مَا يُوصَفُ بِهِ الرَّبُّ تبارك وتعالى هُوَ أَكْمَلُ وَأَعْلَى وَأَتَمُّ مِن هَذَا كُلِّهِ.

وَحِينَئِذٍ فَإِذَا قَالَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ؛ كَحَمَّادِ بْنِ زيدٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَغَيْرِهِمَا مِن أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَةِ أَنَّهُ يَنْزِلُ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ: لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: إنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعُ؛ بَل إذَا كَانَ الْمَخْلُوقُ يُوصَفُ مِن ذَلِكَ بِمَا يَسْتَحِيلُ مِن مَخْلُوقٍ آخَرَ؛ فَالرُّوحُ تُوصَفُ مِن ذَلِكَ بِمَا يَسْتَحِيلُ اتِّصَافُ الْبَدَنِ بِهِ، كَانَ جَوَازُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الرَّب تبارك وتعالى أَوْلَى مِن جَوَازِهِ مِن الْمَخْلُوقِ كَأرْوَاحِ الْآدَمِيِّينَ وَالْمَلَائِكَةِ.

[5/ 452 - 459]

* * *

‌(ما المقصود بلَفْظِ الليل والنَّهَار فِي كَلَامِ الشَّارِعِ

؟)

462 -

النُّزُولُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ -عَلَى قَائِلِهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ- الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ

(1)

، وَاتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ عَلَى صِحَّتِهِ: هُوَ: "يَنْزِلُ رَبُّنَا تبارك وتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ: مَن يَدْعُوني فَاَسْتَجِيبَ لَهُ، مَن يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَن يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ".

وَأَمَّا رِوَايَةُ النِّصْفِ وَالثُّلُثَيْنِ فَانْفَرَدَ بِهَا مُسْلِمٌ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ

(2)

، وَقَد قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إنَّ أَصَحَّ الرّوَايَاتِ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ: "إذَا بَقِيَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرِ".

(1)

البخاري (1145)، ومسلم (758).

(2)

(758).

ص: 438

وَقَد رُوِيَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِن رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِن الصَّحَابَةِ كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا، فَهوَ حَدِيث مُتَوَاتِرٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ.

وَاَلَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ: "إذَا بَقِيَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرِ".

فَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَد ذَكَرَ النُّزولَ أَيْضًا: "إذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأوَّلِ لا "وَإِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ": فَقَوْلُهُ حَقٌّ، وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ

(1)

، وَيَكُونُ النُّزُولُ أَنْوَاعًا ثَلَاثَةً: الْأَوَّلُ إذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ إذَا انْتَصَفَ وَهُوَ أَبْلَغ، ثُمَّ إذَا بَقِيَ ثُلُثُ اللَّيْلِ وَهُوَ أَبْلَغُ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ.

وَلَفْظُ "اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ" فِي كَلَامِ الشَّارعِ إذَا أُطْلِقَ: فَالنَّهَارُ مِن طُلُوعِ الْفَجْرِ كَمَا فِي قَولِهِ -سبحانه وتعالي-: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114]، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:"صُمْ يَوْمًا وَأفطِرْ يَوْمًا"

(2)

وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا أَرَادَ صَوْمَ النَّهَارِ مِن طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَكَذَلِكَ وَقْتُ صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَأَوَّلُ وَقْتِ الصِّيَامِ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ الْمَعْلُومِ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ وَالْإِجْمَاعِ الَّذِي لَا ريبَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ.

وَأَمَّا إذَا قَالَ الشَّارعُ صلى الله عليه وسلم: "نِصْفُ النَّهَارِ": فَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ: النَّهَارَ الْمُبْتَدِئَ مِن طُلُوعِ الشَّمْسِ، لَا يُرِيدُ قَطُّ -لَا فِي كَلَامِهِ وَلَا فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِن عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِنِصْفِ النَّهَارِ- النَّهَارَ الَّذِي أَوَّلُهُ مِن طُلُوعِ الْفَجْرِ؛ فَإِنَّ نِصْفَ هَذَا يَكُونُ قَبْلَ الزَّوَالِ.

وَالنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَخْبَرَ بِالنُّزُولِ إذَا بَقِيَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، فَهَذَا اللَّيْلُ الْمُضَافُ إلَيْهِ الثُّلُث يَظْهَرُ أَنَّهُ مِن جِنْسِ النَّهَارِ الْمُضَافِ إلَيْهِ النِّصْفُ، وَهُوَ الَّذِي يَنْتَهِي إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ.

(1)

رحمه الله تعالى، ما أشدّ تعظيمه للشريعة، وما أعظم انقياده للكتاب والسُّنَّة، وهو بهذا يُذكرنا بموقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه حينما جاء إليه كفار قريش فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس؟ قال: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم. قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق، قالوا: أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة.

(2)

رواه البخاري (1976)، ومسلم (1159).

ص: 439

وَكَذَلِكَ لمَّا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "وَقْتُ الْعِشَاءِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ أَو إلَى الثُّلُثِ": فَهُوَ هَذَا اللَّيْلُ.

وَكَذَلِكَ الْفُقَهَاءُ إذَا أَطْلَقُوا ثُلُثَ اللَّيْلِ وَيصْفَهُ: فَهُوَ كَإِطْلَاقِهِمْ نِصْفَ النَّهَارِ.

وَهَكَذَا أَهْلُ الْحِسَابِ لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَ هَذَا.

وَقَد يُقَالُ: بَل هُوَ اللَّيْلُ الْمُنْتَهِي بِطُلُوعِ الْفَجْرِ

(1)

، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:"أَفْضَلُ الْقِيَامِ قِيَامُ دَاوُد، كانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، ويقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ"

(2)

، وَالْيَوْمُ الْمُعْتَادُ الْمَشْرُوعُ وإلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ بَل إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ. [5/ 470 - 472]

* * *

(بيان قدرة الله على الحساب وسماع الداعي والنزول، دون أن يشغله شأن عن شأن)

463 -

ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" أَنَّهُ -سبحانه- يَنْزِلُ، وَفِي لَفْظٍ:"يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرِ"

(3)

، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ:"أقرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِن عَبْدِهِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ"

(4)

.

(1)

وهو الراجح -والله أعلم-؛ لِمَا ثبت عَن عَائشَةَ رضي الله عنها؛ أن بلَالًا كَانَ يُؤَذِّنُ بليْلٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أَمِّ مَكتُومٍ، فَإنَّهُ لَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يَطْلعَ الفَجْرُ". رواه البخاري (1918)، ومسلم (1092).

وثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِن بلَالًا يُؤَذِّنُ بلَيْل، فَكلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمَّ مَكتُومٍ"، ثُمَّ قَالَ: وَكَانَ رَجُلًا أعْمَى، لَا يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ: أصْبَحْتَ أصْبَحْتَ. رواه البخاري (617).

فدل ذلك على أنّ الصبح يحين من طلوع الفجر، والليل ينتهي بطلوع الصبح كما لا يخفى.

(2)

رواه البخاري (1131)، ومسلم (1159).

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

رواه الترمذي (3579)، وقال: حسن صحيح.

ص: 440

أَمَّا النُّزُولُ الَّذِي لَا يَكُونُ مِن جِنْسِ نُزُولِ أَجْسَامِ الْعِبَادِ: فَهَذَا لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لِخَلْق كَثِيرٍ، وَيَكُونُ قَدْرُهُ لِبَعْضِ النَّاسِ أَكْثَرَ؛ بَل لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَقْرُبَ إلَى خَلْقٍ مِن عِبَادِهِ دُونَ بَعْضٍ، فَيَقْرُبُ إلَى هَذَا الَّذِي دَعَاهُ دُونَ هَذَا الَّذِي لَمْ يَدْعُهُ.

وَجَمِيعُ مَا وَصَفَ بِهِ الرَّبُّ عز وجل نَفْسَهُ مِن الْقُرْبِ: فَلَيْسَ فِيهِ مَا هُوَ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا فِي الْمَعِيَّةِ؛ فَإِنَّ الْمَعِيَّةَ وَصَفَ نَفْسَهُ فِيهَا بِعُمُومٍ وَخُصُوصٍ.

وَأَمَّا قُرْبُهُ مِمَّا يَقْرُبُ مِنْهُ: فَهُوَ خَاصٌّ لِمَن يَقْرُبُ مِنْهُ؛ كَالدَّاعِي، وَالْعَابِدِ، وَكَقُرْبِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، وَدُنُوِّهِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا لِأَجْلِ الْحُجَّاجِ، وَإِن كَانَت تِلْكَ الْعَشِيَّةُ بِعَرَفَةَ قَد تَكُونُ وَسَطَ النَّهَارِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ، وَتَكُونُ لَيْلًا فِي بَعْضِ الْبِلَادِ؛ فَإِنَّ تِلْكَ الْبِلَادَ لَمْ يَدْنُ إلَيْهَا وَلَا إلَى سَمَائِهَا الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا دَنَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا الَّتِي عَلَى الْحُجَّاجِ، وَكَذَلِكَ نُزُولُهُ بِاللَّيْلِ.

وَهَذَا كَمَا أَنَّ حِسَابَهُ لِعِبَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُحَاسِبُهُم كُلَّهُم فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكل مِنْهُم يَخْلُو بِهِ كَمَا يَخْلُو الرَّجُلُ بِالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ، وَذَلِكَ الْمُحَاسَبُ لَا يَرَى أَنَّهُ يُحَاسَبُ غَيْرُهُ.

قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: كَيْفَ يُحَاسِبُ اللهُ الْعِبَادَ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ؟ قَالَ: كَمَا يَرْزُقُهُم فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ.

وَكَذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ"

(1)

عَن أَبِي هُرَيْرَةَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَبعَبْدِي مَا سَأَل، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} [الفاتحة: 2]، قَالَ اللهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)} ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} ، قَالَ: مَجَّدَنِي

(1)

(395).

ص: 441

عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} قَالَ: هَدَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، ولعَبْدِي مَا سَأَل، فَإذَا قَالَ:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلعَبْدِي مَا سَأَلَ".

فَهَذَا يَقُولُهُ -سبحانه وتعالي- لِكُلِّ مُصَلٍّ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ، فَلَو صَلَّى الرَّجُلُ مَا صَلَّى مِن الرَّكَعَاتِ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ، وَفِي تِلْكَ السَّاعَةِ يُصَلِّي مَن يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ مَن لَا يُحْصِي عَدَدَة إلَّا اللهُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُم يَقُولُ اللهُ لَهُ كَمَا يَقُولُ لِهَذَا، كَمَا يُحَاسِبُهُم كَذَلِكَ، فَيَقُولُ لِكلِّ وَاحِدٍ مَا يَقُولُ لَهُ مِن الْقَوْلِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَلِكَ سَمْعُهُ لِكَلَامِهِمْ، يَسْمَع كَلَامَهُم كُلَّهُ مَعَ اخْتِلَافِ لُغَاتِهِمْ، وَتَفَنُّنِ حَاجَاتِهِمْ، يَسْمَعُ دعَاءَهُم سَمْعَ إجَابَةٍ، ويسْمَعُ كُلَّ مَا يَقولُونَهُ سَمْعَ عِلْمٍ وَإِحَاطَةٍ، لَا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَن سَمْعٍ، وَلَا تُغَلِّطُهُ الْمَسَائِلُ، وَلَا يَتَبَرَّمُ بِإِلْحَاحِ الْمُلِحِّينَ؛ فَاِنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ هَذَا كُلَّهُ، وَهُوَ الَّذِي يَرْزُقُ هَذَا كُلَّهُ، وَهُوَ الَّذِي يُوَصِّلُ الْغِذَاءَ إلَى كُلِّ جُزْءٍ مِن الْبَدَنِ عَلَى مِقْدَارِهِ وَصِفَتِهِ الْمُنَاسِبَةِ لَهُ، وَكَذَلِكَ مِن الزَّرْعِ.

وَكرْسِيُّهُ قَد وَسِعَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا، فَإِذَا كَانَ لَا يَؤُودُهُ خَلْقُهُ وَرِزْقُهُ عَلَى هَذِهِ التَّفَاصِيلِ: فَكيْفَ يَؤُودُهُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ؟ أَو سَمْعُ كَلَامِهِمْ؟ أَو رُؤَيةُ أَفْعَالِهِمْ؟ أَو إجَابَةُ دُعَائِهِمْ؟ -سبحانه وتعالي- عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.

{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} [الزمر: 67]. [5/ 478 - 480]

* * *

(الْمَلَكُ والشَّيْطَان يعلمان مَا فِي قَلْبِ بْنِ آدَمَ)

464 -

الْمَلَكُ يَعْلَمُ مَا يَهُمُّ بِهِ الْعَبْدُ مِن حَسَنَةٍ وَسَيِّئَةٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِن عِلْمِهِمْ بِالْغَيْبِ الَّذِي اُخْتُصَّ اللهُ بِهِ .. بَل مَا فِي قَلْبِ ابْنِ آدمَ يَعْلَمُونَهُ؛ بَل وَيُبْصِرُونَهُ ويسْمَعُونَ وَسْوَسَةَ نَفْسِهِ؛ بَل الشَّيْطَانُ يَلْتَقِمُ قَلْبَهُ:

ص: 442

- فَإِذَا ذُكِرَ اللهُ: خَنَسَ.

- وَإِذَا غَفَلَ قَلْبُهُ عَن ذِكْرِهِ: وَسْوَسَ.

وَيَعْلَمُ: هَل ذَكَرَ اللهَ أَمْ غَفَلَ عَن ذِكْرِهِ؟

وَيَعْلَمُ مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ مِن شَهَوَاتِ الْغَيِّ فَيُزيِّنُهَا لَهُ. [5/ 508]

465 -

وسُئِلَ رحمه الله عَن قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا هَمَّ الْعَبْدُ بِالْحَسَنَةِ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً" الْحَدِيثَ

(1)

. فَإذَا كَانَ الْهَمُّ سِرًّا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ فَكَيْفَ تَطَّلِعُ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِ؟

فَأجَابَ: رُوِيَ عَن سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة فِي جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْألَةِ قَالَ: "إنَّهُ إذَا هَمَّ بِحَسَنَةٍ شَمَّ الْمَلَكُ رَائِحَةَ طَيِّبَةً، وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئةٍ شَمَّ رَائِحَة خَبِيثَةً".

وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ اللهَ قَادِرٌ أَنْ يُعْلِمَ الْمَلَائِكَةَ بِمَا فِي نَفْسِ الْعَبْدِ كَيْفَ شَاءَ، كَمَا هُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُطْلِعَ بَعْضَ الْبَشَرِ عَلَى مَا فِي الْإِنْسَانِ.

فَإِذَا كَانَ بَعْضُ الْبَشَرِ قَد يَجْعَلُ اللهُ لَهُ مِن الْكَشْفِ مَا يَعْلَمُ بِهِ أحْيَانًا مَا فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ: فَالْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِالْعَبْدِ أَوْلَى بِأَنْ يُعَرِّفَهُ اللهُ ذَلِكَ. [4/ 253 - 254]

* * *

(المراد بالْبَاطِلِ)

466 -

لفْظُ الْبَاطِلِ: يُرَادُ بِهِ الْمَعْدُومُ، ويُرَادُ بِهِ مَا لَا يَنْفَعُ؛ كَقَوْلِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم:"كُلُّ لَهْوٍ يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ إلا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ، وَتَأدِيبَهُ فَرَسَهُ، وَمُلَاعَبَتَهُ لِزَوْجَتِهِ؛ فَإِنَّهُنَّ مِن الْحَقِّ"

(2)

.

فَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ:

أَلَا كُلُّ شَيءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ

(1)

رواه مسلم (130).

(2)

رواه الترمذي (1637)، وابن ماجه (2811)، والدارمي (2449)، وأحمد (17300)، وقال الترمذي: حسن صحيح.

ص: 443

هَذَا مَعْنَاهُ، أَنَّ كُل مَعْبُودٍ مِن دُونِ اللهِ بَاطِلٌ؛ كَقَوْلِهِ:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج: 62].

[5/ 516 - 517]

* * *

‌(معنى الاستواء في قوله تعالي: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الفرقان:

59])

467 -

قَالَ أبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ: حدثَنَا عِصَامُ بْنُ الرواد، حدثَنَا آدمَ، حدثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ عَن الرَّبِيعِ عَن أَبِي الْعَالِيَةِ {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [فصلت: 11]، يَقُولُ: ارْتَفَعَ.

قَالَ: وَرُوِيَ عَن الْحَسَنِ - يَعْني: الْبَصْرِيَّ - وَالرَّبِيعَ بْنَ أَنَسٍ مِثْلُهُ كَذَلِكَ.

وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ" فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ قَالَ: قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} ارْتَفَعَ فَسَوَّى خَلْقَهُنَّ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} عَلَا عَلَى الْعَرْشِ.

وَقَالَ أَبُو عَمْرو الطلمنكي

(1)

: قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ فِي قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]، الِاسْتِوَاءُ مِن اللهِ عَلَى عَرْشِهِ الْمَجِيدِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا عَلَى الْمَجَازِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ اللهِ:{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28] .. إلَّا أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ مِن أَهْلِ الْإِثْبَاتِ فِي هَذَا عَلَى أَقْوَالِ:

فَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله: إنَّ الِاسْتِوَاءَ مَعْقُولٌ، وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَة.

وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَمَن تَابَعَهُ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُم كَثِيرٌ: إنَّ مَعْنَى اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ: اسْتَقَرَّ.

وَقَالَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ: اسْتَوَى؛ أَيْ: ظَهَرَ.

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى: اسْتَوَى بِمَعْنَى عَلَا، وَتَقُولُ الْعَرَبُ:

(1)

في كتابِه: الوصول إلى معرفة الأصول.

ص: 444

اسْتَوَيْت عَلَى ظَهْرِ الْفَرَسِ، بِمَعْنَى عَلَوْت عَلَيْهِ، وَاسْتَوَيْت عَلَى سَقْفِ الْبَيْتِ بِمَعْنَى عَلَوْت عَلَيْهِ .. وَقَالَ:{اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} بِمَعْنَى: عَلَا عَلَى الْعَرْشِ.

وَقَوْلُ الْحَسَنِ وَقَوْلُ مَالِكٍ: مِن أَنْبَلِ جَوَابٍ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْمَسْألَةِ، وَأَشَدِّهِ اسْتِيعَابًا؛ لِأَنَّ فِيهِ نَبْذَ التَّكْيِيفِ، وَإِثْبَاتَ الِاسْتِوَاءِ الْمَعْقُولِ، وَقَد ائْتَمَّ أَهْلُ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ، واستجودوه وَاسْتَحْسَنُوهُ.

ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَن تَأَوَّلَ اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى.

وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ (59)} [الفرقان: 59]؛ يَعْنِي: اسْتَقَرَّ.

قَالَ: وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: صَعِدَ.

وَقِيلَ اسْتَوْلَى.

وَقِيلَ: مَلَكَ.

وَاخْتَارَ هُوَ مَا حَكَاهُ عَن الْفَرَّاءِ وَجَمَاعَةٍ أَنَّ مَعْنَاهُ: أَقْبَلَ عَلَى خَلْقِ الْعَرْشِ وَعَمَدَ إلَى خَلْقِهِ، قَالَ: ويدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11]؛ أَيْ: عَمَدَ إلَى خَلْقِ السَّمَاءِ.

وَهَذَا الْوَجْهُ مِن أَضْعَفِ الْوُجُوهِ؛ فَإِنَّهُ قَد أَخْبَرَ أَنَّ الْعَرْشَ كَانَ عَلَى الْمَاءِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي "صَحِيح الْبُخَارِيِّ"

(1)

عَن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "كَانَ اللهُ وَلَمْ يَكُن شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُة عَلَى الْمَاءِ، وَكتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شيْء، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْض".

فَإِذَا كَانَ الْعَرْشُ مَخْلُوقًا قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ: فَكَيْفَ يَكُون اسْتِوَاؤُهُ عَمْدَهُ إلَى خَلْقِهِ لَهُ؟ لَو كَانَ هَذَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ: أَنَّ اسْتَوَى عَلَى كَذَا

(1)

(3191).

ص: 445

بِمَعْنَى أَنَّهُ عَمَدَ إلَى فِعْلِهِ، وَهَذَا لَا يُعْرَفُ قَطُّ فِي اللُّغَةِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، لَا فِي نَظْمٍ وَلَا فِي نَثْرٍ.

وَمَن قَالَ: اسْتَوَى بِمَعْنَى عَمَدَ: ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11]؛ لِأَنَّهُ عُدِّيَ بِحَرْفِ الْغَايَةِ، كَمَا يُقَالُ: عَمَدْت إلَى كَذَا وَقَصَدْت إلَى كَذَا، وَلَا يُقَالُ: عَمَدْت عَلَى كَذَا، وَلَا قَصَدْت عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ أَيْضًا، وَلَا هُوَ قَوْلُ أَحَدٍ مِن مُفَسِّرِي السَّلَفِ؛ بَل الْمُفَسِّرُونَ مِن السَّلَفِ قَوْلُهُم بِخِلَافِ ذَلِكَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَن بَعْضِهِمْ.

وَإِنَّمَا هَذَا الْقَوْلُ وَأَمْثَالُهُ اُبْتُدِعَ فِي الْإِسْلَامِ لَمَّا ظَهَرَ إنْكَارُ أَفْعَالِ الرَّبِّ الَّتِي تَقُومُ بِهِ، ويفْعَلُهَا بِقُدْرَتهِ وَمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، فَحِينَئِذٍ صَارَ يُفَسِّرُ الْقُرْآنَ مَن يُفَسِّرُهُ بِمَا يُنَافِي ذَلِكَ، كَمَا يُفَسِّرُ سَائِرُ أَهْلِ الْبِدَعِ الْقُرْآنَ عَلَى مَا يُوَافِق أَقَاوِيلَهُمْ.

وَأَمَّا أَنْ ينْقَلَ هَذَا التَّفْسِير عَن أَحَدٍ مِن السَّلَفِ فَلَا؛ بَل أَقْوَالُ السَّلَفِ الثَّابِتَةُ عَنْهُم مُتَفِقَةٌ فِي هَذَا الْبَابِ، لَا يُعْرَفُ لَهُم فِيهِ قَوْلَانِ، كَمَا قَد يَخْتَلِفُونَ أَحْيَانًا فِي بَعْضِ الآَيَاتِ.

وَإِن اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ: فَمَقْصودُهُم وَاحِدٌ، وَهُوَ إثْبَاتُ عُلُوِّ اللهِ عَلَى الْعَرْشِ.

فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ اللهُ لَا يَزَالُ عَالِيًا عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَكَيْفَ يُقَالُ: ثُمَّ ارْتَفَعَ إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ؟ أَو يُقَالُ: ثُمَّ عَلَا عَلَى الْعَرْشِ؟

قِيلَ: هَذَا كَمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَصْعَدُ، وَرُوِيَ:"ثُمَّ يَعْرُجُ"، هُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ فَوْقَ الْعَرْشِ؛ فَإِنَّ صُعُودَهُ مِن جِنْسِ نُزُولهِ.

وَإِذَا كَانَ فِي نُزُوله لَمْ يَصِرْ شَيْءٌ مِن الْمَخْلُوقَاتِ فَوْقَهُ: فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَصْعَدُ وَإِن لَمْ يَكُن مِنْهَا شَيْءٌ فَوْقَهُ.

ص: 446

وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} إنَّمَا فَسَّرُوهُ بِأَنَّهُ ارْتَفَعَ

(1)

: لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَ هَذَا؛ {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:9 - 12].

فَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّ اسْتِوَاءَهُ إلَى السَّمَاءِ كَانَ بَعْدَ أَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَخَلَقَ مَا فِيهَا: تَضَمَّنَ مَعْنَى الصُّعُودِ؛ لِأَنَّ السَّمَاءَ فَوْقَ الْأَرْضِ؛ فَالِاسْتِوَاءُ إلَيْهَا ارْتفَاعٌ إلَيْهَا.

فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ إنَّمَا اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ بَعْدَ أَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، فَقَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُن عَلَى الْعَرْشِ؟

قِيلَ: الِاسْتِوَاءُ عُلُوٌّ خَاصٌّ، فَكل مُسْتَوٍ عَلَى شيْء عَالٍ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كُلُّ عَالٍ عَلَى شيْء مُسْتَوٍ عَلَيْهِ.

وَلهَذَا لَا يُقَالُ لِكُلّ مَا كَانَ عَالِيَا عَلَى غَيْرِهِ: إنَّهُ مُسْتَوٍ عَلَيْهِ، وَاسْتَوَى عَلَيْهِ.

وَلَكِنْ كُلُّ مَا قِيلَ فِيهِ إنَّهُ اسْتَوَى عَلَى غَيْرِهِ: فَإِنَّهُ عَالٍ عَلَيْهِ.

وَاَلَّذِي أَخْبَرَ اللهُ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ: الِاسْتِوَاءُ، لَا مُطْلَقُ الْعُلُوِّ، مَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنَّهُ كَانَ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، لَمَّا كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ لَمَّا خَلَقَ هَذَا الْعَالَمَ كَانَ عَالِيًا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُن مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ، فَلَمَّا خَلَقَ هَذَا الْعَالَمَ اسْتَوَى عَلَيْهِ؛ فَالْأَصْلُ أَنَّ عُلُوَّهُ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ وَصْفٌ لَازِمٌ لَهُ، كَمَا أنَّ عَظَمَتَهُ وَكِبْرِيَاءَهُ وَقُدْرَتَهُ كَذَلِكَ، وَأَمَّا الِاسْتِوَاءُ فَهُوَ فِعْل يَفْعَلُهُ -سبحانه وتعالي- بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتهِ. [5/ 518 - 523]

* * *

(1)

وهذا المعنى هو الذي انتصر له الشيخ.

ص: 447

‌(أقوال العلماء في إقْعَادِ الْمَيِّتِ في قبره: هل يُقعد بدنُه أو روحُه

؟)

468 -

ثَبَتَ فِي "الصَحِيحَيْنِ"

(1)

مِن حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إذَا أقعِدَ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ أُتِيَ ثُمَّ شَهِدَ أَنْ لَا إلهَ إلا اللهُ، فَدَلِكَ قَوْلُهُ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] ".

وَالنَّاسُ فِي مِثْل هَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

أ - مِنْهُم مَن يُنْكِرُ إقْعَادَ الْمَيِّتِ

(2)

مُطْلَقًا؛ لِأنَّهُ قَد أَحَاطَ بِبَدَنِهِ مِن الْحِجَارَةِ وَالتُّرَابِ مَا لَا يُمْكِنُ قُعُودُهُ مَعَهُ وَقَد يَكُونُ فِي صَخْرٍ يُطْبِقُ عَلَيْهِ، وَقَد يُوضَعُ عَلَى بَدَنِهِ مَا يَكْشِفُ فَيُوجَدُ بِحَالِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ.

وَلهَذَا صَارَ بَعْضُ النَّاسِ إلَى أَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ إنَمَا هُوَ عَلَى الرُّوحِ فَقَطْ، كَمَا يَقُولُهُ ابْنُ مَيْسَرَةَ وَابْنُ حَزْمٍ، وَهَذَا قَوْلٌ مُنْكَرٌ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.

ب - وَصَارَ آخَرونَ إلَى أَنَّ نَفْسَ الْبَدَنِ يَقْعُدُ عَلَى مَا فَهِمُوهُ مِن النُّصُوصِ.

ج - وَصَارَ آخَرُونَ يَحْتَجُّونَ بِالْقُدْرَةِ، وَبِخَبَرِ الصَّادِقِ، وَلَا يَنْظُرُونَ إلَى مَا يُعْلَمُ بِالْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ، وَقُدْرَةُ اللهِ حَق، وَخَبَرُ الصَّادِقِ حَقٌّ، لَكِنَ الشَّأنَ فِي فَهْمِهِمْ.

وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ النَّائِمَ يَكُونُ نَائِمًا، وَتَقْعُدُ رُوحُهُ، وَتَقُومُ وَتَمْشِي، وَتَذْهَبُ وَتَتَكلَّمُ، وَتَفْعَلُ أَفْعَالًا وَأمُورًا بِبَاطِنِ بَدَنِهِ مَعَ رُوحِهِ، وَيَحْصُلُ لِبَدَنِهِ وَرُوحِهِ بِهَا نَعِيمٌ وَعَذَابٌ، مَعَ أَنَّ جَسَدَهُ مُضْطَجَعٌ، وَعَيْنَيْهِ مُغْمَضَةٌ، وَفَمَهُ مُطْبَقٌ، وَأَعْضَاءَهُ سَاكِنَةٌ، وَقَد يَتَحَرَّكٌ بَدَنُهُ لِقُوَّةِ الْحَرَكَةِ الدَّاخِلَةِ، وَقَد يَقُومُ ويمْشِي وَيَتَكَلَّمُ وَيَصِيحُ

(1)

البخاري (1369)، ومسلم (2871)، واللفظ للبخاري.

(2)

بِبَدَنِهِ.

ص: 448

لِقُوَّةِ الْأَمْرِ فِي بَاطِنِهِ: كَانَ هَذَا مِمَّا يُعْتَبَرُ بِهِ أَمْرُ الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ؛ فَإِنَّ رُوحَهُ تَقْعُدُ وَتَجْلِسُ، وَتُسْأَلُ وَتُنَعَّمُ وَتُعَذَّبُ وَتَصِيحُ، وَذَلِكَ مُتَّصِلٌ بِبَدَنِهِ، مَعَ كَوْنِهِ مُضْطَجِعًا فِي قَبْرِهِ.

وَقَد يَقْوَى الْأمْرُ حَتَّى يَظْهَرَ ذَلِكَ فِي بَدَنِهِ، وَقَد يُرَى خَارِجًا مِن قَبْرِهِ وَالْعَذَابُ عَلَيْهِ، وَمَلَائِكةُ الْعَذَابِ مُوَكَّلَةٌ بِهِ، فَيَتَحَرَّكُ بَدَنُهُ ويمْشِي وَيَخْرُجُ مِن قَبْرِهِ، وَقَد سَمِعَ غَيْرُ وَاحِدٍ أصْوَاتَ الْمُعَذَّبِينَ فِي قُبُورِهِمْ، وَقَد شُوهِدَ مَن يَخْرُجُ مِن قَبْرِهِ وَهُوَ مُعَذَّبٌ، وَمَن يَقْعدُ بَدَنُهُ أَيْضًا إذَا قَوِيَ الْأَمْرُ

(1)

.

لَكِنَّ هَذَا لَيْسَ لَازِمًا فِي حَقِّ كُلِّ مَيِّتٍ؛ كَمَا أنَّ قُعُودَ بَدَنِ النَّائِمِ لِمَا يَرَاهُ لَيْسَ لَازِمًا لِكُلِّ نَائِمٍ؛ بَل هُوَ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْأمْرِ.

وَقَد عُرِفَ أَنَّ أَبْدَانًا كَثِيرَةً لَا يَأكلُهَا التُّرَابُ؛ كَأبْدَانِ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ مِن الصِّدِّيقِينَ وَشُهَدَاءِ أحُدٍ وَغَيْرِ شُهَدَاءِ أُحُدٍ، وَالْأخْبَارُ بِذَلِكَ مُتَوَاتِرَةٌ.

لَكِنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِن إقْعَادِ الْمَيِّتِ مُطْلَقًا هُوَ مُتَنَاوِلٌ لِقُعُودِهِمْ بِبَوَاطِنِهِمْ، وَإِن كَانَ ظَاهِرُ الْبَدَنِ مُضْطَجِعًا.

وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا: إخْبَارُهُ صلى الله عليه وسلم بِمَا رَآه لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ مِن الْأَنْبِيَاءِ فِي السَّمَوَاتِ، وَأَنَّهُ رَأَى آدَمَ وَعِيسَى وَيَحْيَى ويُوسُفَ وَإِدْرِيسَ وَهَارُونَ وَمُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَأَخْبَرَ أَيْضًا أَنَّهُ رَأَى مُوسَى قَائِمًا يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ، وَقَد رَآهُ أيْضًا فِي السَّمَوَاتِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَبْدَانَ الْأنْبِيَاءِ فِي الْقُبُورِ إلَّا عِيسَى وَإِدْرِيسَ.

وَإِذَا كَانَ مُوسَى قَائِمًا يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ ثُمَ رَآهُ فِي السَّمَاءِ السَّادِسةِ مَعَ قُرْبِ الزَّمَانِ: فَهَذَا أَمْرٌ لَا يَحْصُلُ لِلْجَسَدِ.

(1)

لو كان هذا الكلام من غير الشيخ وأمثاله الذين عُرفوا بتحري الصدق والأمانة لسارعنا إلى تكذيبه، واعتقدنا أن من رأى ذلك إنما رأى تخييلاتٍ أو شياطين، ولكن الشيخ صادق بار، يعرف ما يقول.

ص: 449

وَمِن هَذَا الْبَابِ أَيْضًا: نُزُولُ الْمَلَائِكَةِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِم وَسَلَامُهُ: جِبْرِيلَ وَغَيْرِهِ.

فَإِذَا عُرِفَ أَنَّ مَا وُصِفَتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ وَأرْوَاحُ الْآدَمِيِّينَ مِن جِنْسِ الْحَرَكَةِ وَالصُّعُودِ وَالنُّزولِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَا يُمَاثِلُ حَرَكَةَ أَجْسَامِ الْآدَمِيِّينَ وَغَيْرِهَا مِمَّا نَشْهَدُهُ بِالْأَبْصَارِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ يُمْكِنُ فِيهَا مَا لَا يُمْكِنُ فِي أَجْسَامِ الْآدَمِيِّينَ: كَانَ مَا يُوصَفُ بِهِ الرَّبُّ مِن ذَلِكَ أَوْلَى بِالْإِمْكَانِ، وَأَبْعَد عَن مُمَاثَلَةِ نُزُولِ الْأَجْسَامِ؛ بَل نُزُولُهُ لَا يُمَاثِلُ نزُولَ الْمَلَائِكَةِ وَأَرْوَاحَ بَنِي آدَمَ، وَإِن كَانَ ذَلِكَ أَقْرَبَ مِن نُزُولِ أَجْسَامِهِمْ.

وَإِذَا كَانَ قُعُودُ الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ لَيْسَ هُوَ مِثْل قُعُودِ الْبَدَنِ: فَمَا جَاءَت بِهِ الْآثَارُ عَن النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِن لَفْظِ الْقُعُودِ وَالْجُلُوسِ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى؛ كَحَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، وَحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَغَيْرِهِمَا: أَوْلَى أَنْ لَا يُمَاثِلَ صِفَاتِ أَجْسَامِ الْعِبَادِ. [5/ 542 - 527]

* * *

(نِزَاعُ النَّاسِ في الْأَفْعَالِ اللَّازِمَةِ الْمُضَافَةِ إلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ: نَاشِئٌ عَن نِزَاعِهِمْ فِي أَصْلَيْنِ)

469 -

نِزَاعُ النَّاسِ فِي مَعْنَى حَدِيثِ النَّزُولِ وَمَا أَشْبَهَهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِن الأفْعَالِ اللَّازِمَةِ الْمُضَافَةِ إلَى الرَّبِّ - سبحانه وتعالي -؛ مِثْل الْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ وَالِاسْتِوَاءِ إلَى السَّمَاءِ وَعَلَى الْعَرْشِ؛ بَل وَفِي الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّيَةِ مِثْل الْخَلْقِ وَالْإِحْسَانِ وَالْعَدْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: هوَ نَاشِئٌ عَن نِزَاعِهِمْ فِي أَصْلَيْنِ:

أَحَدِهِمَا: أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى هَل يَقُومُ بِهِ فِعْلٌ مِن الْأَفْعَالِ؛ فَيَكُونُ خَلْقُهُ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فِعْلًا فَعَلَهُ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ، أَو أَنَّ فِعْلَهُ هُوَ الْمَفْعُولُ، وَالْخَلْقَ هُوَ الْمَخْلُوقُ؟

ص: 450

عَلَى قَوْلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ:

والْأوَّلُ: هُوَ الْمَأثُورُ عَن السَّلَفِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ عَن الْعُلَمَاءِ مُطْلَقًا وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ نِزَاعًا.

وَذَهَبَ آخَرُونَ مِن أَهْلِ الْكَلَامِ: الْجَهْمِيَّة وَأَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ إلَى أَنَّ الْخَلْقَ هُوَ نَفْسُ الْمَخْلُوقِ، وَلَيْسَ للهِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ صُنْعٌ، وَلَا فِعْلٌ، وَلَا خَلْقٌ، وَلَا إبْدَاعٌ، إلَّا الْمَخْلُوقَاتِ أَنْفُسَهَا، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِن الْفَلَاسِفَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ.

الْأَصْلُ الثانِي الَّذِي تُبْنَى عَلَيْهِ أَفْعَالُ الرَّبِّ تَعَالَى اللَّازِمَةُ وَالْمُتَعَدِّيَةُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هَل تَقُومُ بِهِ الْأُمُورُ الِاخْتِيَارِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِقُدْرَيهِ وَمَشِيئَتِهِ أَمْ لَا؟

فَمَذْهَبُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَكَثِيرٍ مِن طَوَائِفِ الْكَلَامِ وَالْفَلَاسِفَةِ جَوَازُ ذَلِكَ.

وَذَهَبَ نفاة الصِّفَاتِ مِن الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ والْكُلَّابِيَة مِن مُثْبِتَةِ الصِّفَاتِ إلَى امْتِنَاعِ قِيَامِ ذَلِكَ بِهِ.

وَمِن تَمَامِ الْأَصْلِ الثانِي: لَفْظُ "الْحَرَكَةِ" .. الَّتِي تَتَنَاوَلُ مَا يَقُومُ بِذَاتِ الْمَوْصُوفِ مِن الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ؛ كَالْغَضَبِ وَالرضى وَالْفَرَحِ وَكَالدُّنُوِّ وَالْقُرْبِ وَالِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ؛ بَل وَالْأَفْعَالُ الْمُتَعَدِّيَةُ؛ كَالْخَلْقِ وَالْإِحْسَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، هَل يُوصَفُ اللهُ بِهَا أَمْ يَجِبُ نَفْيُهُ عَنْهُ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: قَوْلُ مَن يَنْفِي ذَلِكَ مُطْلَقًا وَبِكُل مَعْنًى، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُومَ بِالرَّبِّ شَيْءٌ مِن الْأمُورِ الِاخْتِيَاريَّةِ، فَلَا يَرْضَا عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكن رَاضِيًا عَنْهُ، وَلَا يَغْضَبُ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُن غَضْبَانَ، وَلَا يَفْرَحُ بِالتَّوْبَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، وَلَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتهِ إذَا قِيلَ إنَّ ذَلِكَ قَائِمٌ بِذَاتِهِ.

وَهَذَا الْقَوْلُ أَوَّلُ مَن عُرِفَ بِهِ هُم الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ، وَانْتَقَلَ عَنْهُم إلَى الْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ والسالمية، وَمَن وَافَقَهُم مِن أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إثْبَاتُ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ الهشامية والكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ مِن طَوَائِفِ أَهْلِ الْكَلَامِ الَّذِينَ صَرَّحُوا بِلَفْظِ الْحَرَكَةِ.

ص: 451

وَالْقَوْلُ الْمَشْهُورُ عَن السَّلَفِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَةِ وَالْحَدِيثِ: هُوَ الْإِقْرَارُ بِمَا وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِن أَنَّهُ يَأْتِي وَيَنْزِلُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِن الْأفْعَالِ اللَّازِمَةِ. [5/ 538 - 577]

* * *

(مَن قَالَ إنَّ الْقُرْآن مُحْدَثٌ فَقَد قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ)

[5/ 532]

470 -

مَن كَانَ مِن عَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يُطْلِقُ لَفْظَ "الْمُحْدَثِ" إلَّا عَلَى الْمَخْلُوقِ الْمُنْفَصِلِ - كَمَا كَانَ هَذَا الِاصْطِلَاحُ هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمُتَنَاظِرِينَ الَّذِينَ تَنَاظَرُوا فِي الْقُرْاَنِ فِي مِحْنَةِ الْإِمَامِ أَحْمَد رحمه الله، وَكَانُوا لَا يَعْرِفُونَ لِلْمُحْدَثِ مَعْنًى إلَّا الْمَخْلُوقَ الْمُنْفَصِلَ - فَعَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنْ يُقَالَ الْقُرْاَنُ مُحْدَثٌ؛ بَل مَن قَالَ: إنَّهُ مُحْدَثٌ، فَقَد قَالَ: إنَّه مَخْلُوقٌ.

* * *

(منشأ القول بخلق القرآن، وسبب محنة الإمام أحمد وذكر ما جرى له، ورأي الشيخ في ابْنِ كُلَّابٍ)

471 -

لَمَّا اعْتَقَدَ أَئِمَّةُ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ أَنَّ مَعْنَى كَوْنِ اللهِ خَالِقًا لِكُلِّ شَيءٍ: أَّنَّهُ لَمْ يَزَلْ غَيْرَ فَاعِلٍ لِشَيء، وَلَا مُتَكَلِّم بِشَيْء حَتَّى أَحْدَثَ الْعَالَم: لَزِمَهُم أَنْ يَقُولُوا: إنَّ الْقُرْآنَ أَو غَيْرَهُ مِن كَلَامِ اللهِ مَخْلُوقٌ مُنْفَصِلٌ بَائِنٌ عَنْهُ.

فَلَمَّا امْتُحِنَ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَاشْتَهَرَتْ هَذِهِ الْمِحْنَةُ، وَثَبَّتَ اللهُ مَن ثَبَّتَهُ مِن أئِمَّةِ السُّنَّةِ، وَكَانَ الْإِمَامُ الَّذِي ثَبَّتَهُ اللهُ وَجَعَلَهُ إمَامًا لِلسُّنَّةِ، حَتَّى صَارَ أَهْلُ الْعِلْمِ بَعْدَ ظُهُورِ الْمِحْنَةِ يَمْتَحِنُونَ النَّاسَ بِهِ، فَمَن وَافَقَهُ كَانَ سُنِّيًّا، وَإِلَّا كَانَ بِدْعِيًّا: هُوَ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ، فَثبَتَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ.

وَكَانَ الْمَأْمُونُ لَمَّا صَارَ إلَى الثَّغْرِ بطرسوس كَتَبَ بِالْمِحْنَةِ كِتَابًا إلَى نَائِبِهِ بِالْعِرَاقِ إسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ، فَدَعَا الْعُلَمَاءَ وَالْفُقَهَاءَ وَالْقُضَاةَ، فَامْتَنَعُوا عَن الْإِجَابَةِ وَالْمُوَافَقَةِ، فَأعَادَ عَلَيْهِ الْجَوَابَ، فَكتَبَ كِتَابًا ثَانِيًا يَقُولُ فِيهِ عَن

ص: 452

الْقَاضِيَيْنِ: بِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إسْحَاقَ: إنْ لَمْ يُجِيبَا فَاضْرِبْ أعْنَاقَهُمَا، ويقُولُ عَن الْبَاقِينَ إنْ لَمْ يُجِيبُوا فَقَيّدْهُم فَأَرْسِلْهُم إلَيَّ.

فَأَجَابَ الْقَاضِيَانِ وَذَكَرَا لِأَصْحَابِهِمَا أَنَّهُمَا مُكْرَهَانِ، وَأجَابَ أكْثَرُ النَّاسِ قَبْلَ أنْ يُقَيِّدَهُم لَمَّا رَأَوْا الْوَعِيدَ، وَلَمْ يُجِبْ سِتَّةُ أَنْفُسٍ، فَقَيَّدَهُمْ، فَلَمَّا قُيِّدُوا أَجَابَ الْبَاقُونَ إلَّا اثْنَيْنِ: أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ وَمُحَمَّدَ بْنَ نُوحٍ النَّيْسَابُورِيَّ، فَأَرْسَلُوهُمَا مُقَيَّدَيْنِ إلَيْهِ، فَمَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ نُوحٍ فِي الطَّرِيقِ، وَمَاتَ الْمَأْمُونُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ أَحْمَد إلَيْهِ، وَتَوَلَّى أَخُوهُ أَبُو إسْحَاقَ، وَتَوَلَّى الْقَضَاءَ أَحْمَد بْنُ أَبِي دُؤَاد، وَأَقَامَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ فِي الْحَبْسِ مِن سَنَةِ ثَمَانِي عَشْرَةَ إلَى سَنَةِ عِشْرِينَ.

ثُمَّ إنَّهُم طَلَبُوة وَنَاظَرُوهُ أَيَّامًا مُتَعَدِّدَةً، فَدَفَعَ حُجَجَهمْ، وَبَيَّنَ فَسَادَهَا، وَأَنَّهُم لَمْ يَأْتُوا عَلَى مَا يَقُولُونَهُ بِحُجَّة لَا مِن كِتَابٍ وَلَا مِن سُنَّةٍ وَلَا مِن أَثَرٍ.

وَلَمَّا اشْتَهَرَ هَذَا وَتَبَيَّنَ لِلنَّاسِ بَاطِنُ أَمْرِهِمْ، وَأَنَّهُم مُعَطِّلَةٌ لِلصِّفَاتِ .. : كَثُرَ رَدُّ الطَّوَائِفِ عَلَيْهِم بِالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْآثَارِ تَارَةً، وَبِالْكَلَامِ الْحَقِّ تَارَةً، وَبِالْبَاطِلِ تَارَةً.

وَكَانَ مِمَّن اُنْتَدبَ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ: أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ، وَكَانَ لَهُ فَضْلٌ وَعِلْمٌ وَدِينٌ.

وَمَن قَالَ: إنَّهُ ابْتَاَع مَا ابْتَدَعَهُ لِيُظْهِرَ دِينَ النَّصَارَى فِي الْمُسْلِمِينَ: فَهَذَا كَذِبٌ عَلَيْهِ.

وإِنَّمَا افْتَرَى هَذَا عَلَيْهِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْجَهْمِيَّة الَّذِينَ رَدَّ عَلَيْهِمْ.

وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ لَمَّا رَجَعَ عَن الِاعْتِزَالِ: سَلَكَ طَرِيقَةَ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ كُلَاب.

وَابْنُ كُلَّابٍ لَمَّا رَدَّ عَلَى الْجَهْمِيَّة: لَمْ يَهْتَدِ لِفَسَادِ أَصْلِ الْكَلَامِ الْمُحْدَثِ الذي ابْتَدَعُوهُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ؛ بَل وَافَقَهُم عَلَيْهِ.

وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَذُمُّونَ ابْنَ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيَّ بِالْبَاطِلِ هُم مِن أَهْلِ

ص: 453

الْحَدِيثِ

(1)

.

وَابْنُ كُلَّابٍ أَحْدَثَ مَا أَحْدَثَهُ: لَمَّا اضْطَرَّهُ إلَى ذَلِكَ مِن دُخُولِ أَصْلِ كَلَامِ الْجَهْمِيَّة فِي قَلْبهِ، وَقَد بَيَّنَ فَسَادَ قَوْلِهِمْ بِنَفْيِ عُلُو اللهِ، وَنَفْيِ صِفَاتِهِ، وَصَنَّفَ كُتُبًا كَثِيرَةً فِي أَصْلِ التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ، وَبَيَّنَ أَدِلَّةً كَثِيرَةً عَقْلِيَّةً عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة، وَبَيَّنَ فِيهَا أَنَ عُلُوَّ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ وَمُبَايَنَتَهُ لَهُم مِن الْمَعْلُومِ بِالْفِطْرَةِ وَالْأدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْقِيَاسِيَّةِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.

وَكَذَلِكَ ذَكَرَهَا الْحَارِثُ المحاسبي فِي كِتَابِ "فَهْمُ الْقُرْآنِ" وَغَيْرِهِ، بَيَّنَ فِيهِ مِن عُلُوِّ اللهِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ مَا بَيَّنَ بِهِ فَسَادَ قَوْلِ الْنُّفَاةِ.

وَفَرِحَ الْكَثِيرُ مِن النُّظَّارِ الَّذِينَ فَهِمُوا أَصْلَ قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَعَلِمُوا ثُبُوتَ الصِّفَاتِ للهِ، وَأَنْكَرُوا الْقَوْلَ بِأَنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ، فَرِحُوا بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي سَلَكَهَا ابْنُ كُلَّابٍ.

وَكانَ فِي هَذَا مِن كَسْرِ سَوْرَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة مَا فِيهِ ظُهُورُ شِعَارِ السُّنَّةِ

(2)

، وَفوَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَأَنَّ اللهَ يُرَى فِي الْآخِرَةِ، وإِثْبَاتُ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِن أصُولِ السُّنَّةِ.

(1)

انظر: إلى هذا الإنصاف والعدل الفريد من نوعه، ولكنه ليس غريبًا على من تربى على الإسلام؛ فالشيخ كما هو معروف ينتسب إلى الحديث وأهلِه، ومَدَحهم في مواضع كثيرة جدًّا، وبيّن أنهم أصح الطوائف منهجًا وعقيدةً، ومع ذلك: فقد انتصر لابنِ كُلَّابٍ وَالْأشعَرِيّ، وهما ليسا من أهل الحديث؛ بل قد ردّ على بعض أقوالهما، ومما قال عنهما: ذَمَّ السَّلَفُ وَالأئِمَّةُ أهْلَ الْكَلَامِ وَالْمُتكَلِّمِين الصفاتية؛ كَابْنِ كَرَّامٍ وَابْنِ كُلَّابِ وَالْأشعَرِيِّ. اهـ.

ومع ذلك: فقد عاب على من ذمّهما بِالْبَاطِلِ مِن أهْلِ الْحَدِيثِ.

وهذا درس لكل مؤمن عاقل، ألا يُدافع عن محبوبه من الأفراد أو الطوائف أو الحكام في الخطأ والصواب، ويذم المخالف ولو قال الحق؛ بل يردّ الباطل ولو جاء من حبيب، ويقبل الحق ولو جاء من بغيض، والبصير الصادق كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى: يضرب في كل غنيمة بسهم، ويعاشر كل طائفة على أحسن ما معها، ولا يَتحيَّز إلى طائفة وَينْأى عن الأخرى بالكلية: أن لا يكون معها شيء من الحق. اهـ.

(2)

مع أنَّ كَسْر سَوْرةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة لم يكن على يد أهل السُّنَّة والجماعة؛ بل على يد من عنده بدعٌ في المعتقد، ولكن المؤمن يفرح بانتصار من يُخالفه من أهل القبلة الذين عندهم بدعٌ قليلة على من عندهم بدع كبيرة وعظيمة.

ص: 454

لَكِنَّ "الْأصْلَ الْعَقْلِيَّ" الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ ابْنُ كُلَّاب قَوْلَهُ فِي كَلَامِ اللهِ وَصِفَاتِهِ هُوَ اصْلُ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ بِعَيْنِهِ، وَصَارُوا إذَا تَكَلَّمُوا فِي خَلْقِ اللهِ السَّمَوَاتِ وَالْأرْضَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن الْمَخْلُوقَاتِ إنَّمَا يَتَكَلَّمُونَ بِالْأصْلِ الَّذِي ابْتَدَعَهُ الْجَهْمِيَّة وَمَن اتَّبَعَهُمْ، فَيَقُولُونَ قَوْلَ أَهْلِ الْمِلَّةِ كَمَا نَقَلَهُ أولَئِكَ، ويُقَرِّرُونَهُ بِحُجَّةِ أولَئِكَ. [5/ 552 - 558]

472 -

كَانَ قُدَمَاءُ الْجَهْمِيَّة يُنْكِرُونَ جَمِيعَ الصِّفَاتِ للهِ الَّتِي هِى فِينَا أعْرَاضٌ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، أَو أجْسَامٌ كَالْيَدِ وَالْوَجْهِ.

وحدثاؤهم اُّقَرُّوا بِكَثِير مِن الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ فِينَا أَعْرَاضٌ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَأَنْكَرُوا بَعْضَهَا، وَالصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ فِينَا أجْسَامٌ.

وَفِيهِمْ مَن أَقَرَّ بِبَعْضِ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ فِينَا أجْسَامٌ كَالْيَدِ.

وَاُّمَّا السَّلَفِيَّةُ

(1)

: فَعَلَى مَا حَكَاهُ الخطابي وَأَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُمَا قَالُوا: مَذْهَبُ السَّلَفِ إجْرَاءُ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَآياتِ الصِّفَاتِ عَلَى ظَاهِرِهَا، مَعَ نَفْيِ الْكَيْفِيَّةِ وَالتَّشْبِيهِ عَنْهَا، فَلَا نَقُولُ: إنَّ مَعْنَى الْيَدِ الْقُدْرَةُ، وَلَا إنَّ مَعْنَى السَّمْعِ الْعِلْمُ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الصِّفَاتِ فَرْعٌ عَلَى الْكَلَامِ فِي الذَّاتِ، يُحْتَذَى فِيهِ حَذْوَهُ ويُتَبَّعُ فِيهِ مِثَالُهُ.

فَإِذَا كَانَ إثْبَاتُ الذَّاتِ إثْبَاتَ وُجُودٍ لَا إثْبَاتَ كَيْفِيَّة: فَكَذَلِكَ إثْبَاتُ الصِّفَاتِ إثْبَاتُ وُجُودٍ لَا إثْبَاتُ كَيْفِيَّةٍ.

فَقَد أَخْبَرَك الخطابي وَالْخَطِيبُ -وَهُمَا إمَامَانِ مِن أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، مُتَّفَقٌ عَلَى عِلْمِهِمَا بِالنَّقْلِ وَعِلْمِ الخطابي بِالْمَعَانِي- أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ إجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا مَعَ نَفْيِ الْكَيْفِيَّةِ وَالتَّشْبِيهِ عَنْهَا.

(1)

فيه أن هذه اللفظة لم تكن وليدة اليوم، وهي لا تعني الانتماء إلى حزب، ولا تعني اتخاذها ذريعةً للطعن في العلماء والمصلحين والمجتهدين؛ بل تعني التمسك بآثار ومنهج السلف الصالح من الصاحبة والتابعين، علمًا وعملًا وسلوكًا.

ص: 455

وَاللهُ يَعْلَمُ أَنِّي قَد بَالَغْتُ فِي الْبَحْثِ عَن مَذَاهِبِ السَّلَفِ فَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنْهُم خَالَفَ ذَلِكَ

(1)

.

وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أنَسٍ الْإِمَامُ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ نَافِعٍ وَهُوَ مَشْهُورٌ عَنْهُ: إنَّ اللهَ فِي السَّمَاءِ، وَعِلْمُهُ فِي كُل مَكَانٍ لَا يَخْلُو مِن عِلْمِهِ مَكَان.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ مِثْل مَا قَالَ مَالِكٌ.

وَالْآثَارُ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ وَسَائِرِ عُلَمَاءِ الْأمَّةِ بِذَلِكَ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ مَن تَتَبَّعَهَا، وَقَد جَمَعَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا مُصَنَّفَاتٍ صِغَارًا وَكبَارًا، وَمَن تَتَبَّعَ الْآثَارَ عَلِمَ أَيْضَا قَطْعًا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَلَ عَن أَحَدٍ مِنْهُم حَرْفٌ وَاحِدٌ يُنَاقِضُ ذَلِكَ؛ بَل كُلُّهُم مُجْمِعُونَ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَعَقِيدَةٍ وَاحِدَةٍ، يُصَدِّقُ بَعْضُهم بَعْضًا.

ثُمَّ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُم قَالَ يَوْمًا مِن الدَّهْرِ: ظَاهِرُ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ، وَلَا قَالَ: هَذ الْآيَةُ أَو هَذَا الْحَدِيثُ مَصْرُوفٌ عَن ظَاهِرِهِ، مَعَ أَنَّهُم قَد قَالُوا مِثْل ذَلِكَ فِي آيَاتِ الْأحْكَامِ الْمَصْرُوفَةِ عَن عُمُومِهَا وَظَاهِرِهَا، وَتَكَلَّمُوا فِيمَا يُسْتَشْكلُ مِمَّا قَد يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ تَنَاقُض، وَهَذَا مَشْهُورٌ لِمَن تَأَمَّلَهُ

(2)

.

وَهَذ الصِّفَاتُ أَطْلَقُوهَا بِسَلَامَةٍ، وَطَهَارَةٍ، وَصَفَاءٍ، لَمْ يَشُوبُوهُ بِكَدَر وَلَا غِشٍّ.

وَلَو لَمْ يَكُن هَذَا هوَ الظَّاهِرَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ: لَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ سَلَفُ الْأُمَّةِ قَالُوا لِلْأُمَّةِ: الظَّاهِرُ الَّذِي تَفْهَفونَهُ غَيْرُ مُرَادٍ، أوْ

(3)

لَكَانَ أَحَد مِن الْمُسْلِمِينَ اسْتَشْكَلَ هَذ الْآيَةَ وَغَيْرَهَا.

وَاعْلَمْ أَنَّ عَامَّةَ مَن يُنْكِرُ هَذِهِ الصِّفَةَ [أي: الاستواء] وَأَمْثَالَهَا إذَا بَحَثْت عَن

(1)

أقسم وهو الصادق البار رحمه الله بأنه بذل وسعه في البحث عن آثار السلف في باب الأسماء والصفات، فلم يجد من خالف في ما قرره ونقله عنهم.

(2)

كلام متين، واستدلال بديع، وهو مقنع لكل من خلا قلبه من الهوى.

(3)

في الأصل: ولكان! والمثبت من الفتاوى الكبرى: (6/ 470)

ص: 456

الْوَجْهِ الَّذِي أنْكَرُوهُ وَجَدْتهمْ قَد اعْتَقَدُوا أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ؛ كَاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِينَ، أَو اسْتِوَاءٍ يَسْتَلْزِمُ حُدُوثًا أو نَقْصًا، ثُمَّ حَكَوْا عَن مُخَالِفِهِمْ هَذَا الْقَوْلَ، ثُمَّ تَعبِوا فِي إقَامَةِ الْأدِلَّةِ عَلَى بُطْلَانِهِ، ثُمَّ يَقُولُونَ: فَيَتَعَيِّنُ تَأوِيلُهُ؛ إمَّا بِالِاستِيلَاء، أَو بِالظُّهُورِ وَالتَّجَلِّي، أَو بِالْفَضْلِ وَالرُّجْحَانِ الَّذِي هُوَ عُلُّوُّ الْقَدْرِ وَالْمَكانَةِ.

وَيَبْقَى الْمَعْنَى الثَّالِثُ وَهُوَ اسْتِوَاءٌ يَلِيقُ بِجَلَالِهِ يَكُونُ دَلَالَةُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَيْهِ كَدَلَالَةِ لَفْظِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ عَلَى مَعَانِيهَا: قَد دَلَّ السَّمْعُ عَلَيْهِ.

واَلَّذِي يُبَيِّنُ لَك خَطَأَ مَن أَطْلَقَ الظَّاهِرَ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي يَلِيقُ بِالْخَلْقِ: أَنَّ الْألْفَاظَ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَا مَعْنَاهُ مُفْرَدٌ؛ كَلَفْظِ الْأسَدِ وَالْحِمَارِ وَالْبَحْرِ وَالْكَلْبِ، فَهَذِهِ إذَا قِيلَ: أسَدُ اللهِ وَأسَدُ رَسُولِهِ، أو قِيلَ لِلْبَلِيدِ: حِمَارٌ، أو لِلْعَالِمِ أو السَّخِيِّ أَو الْجَوَادِ مِن الْخَيْلِ: بَحْرٌ، أَو قِيلَ لِلْأَسَدِ: كَلْبٌ: فَهَذَا مَجَازٌ.

ثُمَّ إنْ قُرِنَتْ بهِ قَرِينَةٌ: تَبَيَّنَ الْمُرَادُ؛ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِفَرَسِ أَبِي طَلْحَةَ: "إنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا"

(1)

، وَقَوْلِهِ:"إنَّ خَالِدًا سَيْفٌ مِن سُيُوفِ اللهِ سَلَّهُ اللهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ"

(2)

، وَقَوْلِهِ لِعُثْمَانِ:"إنَّ اللهَ يقمصك قَمِيصًا"

(3)

، وَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ:"الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللهِ فِي الْأَرْضِ، فَمَن اسْتَلَمَهُ وَصَافَحَهُ فَكَأَنَّمَا بَايَعَ رَبَّهُ"

(4)

، أو كَمَا قَالَ، وَنَحْو ذَلِكَ.

فَهَذَا اللَّفْظُ فِيهِ تَجَوُّزٌ، وَإِن كَانَ قَد ظَهَرَ مِن اللَّفْظِ مُرَادُ صَاحِبِهِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا الظَّاهِرِ فِي اسْتِعْمَالِ هَذَا الْمُتَكَلِّمِ، لَا عَلَى الظَّاهِرِ فِي الْوَضْعِ الأوَّلِ.

وَكُلُّ مَن سَمِعَ هَذَا الْقَوْلَ: عَلِمَ الْمُرَادَ بِهِ، وَسَبَقَ ذَلِكَ إلَى ذِهْنِهِ؛

(1)

رواه البخاري (2627)، ومسلم (2307).

(2)

رواه أحمد (43).

(3)

رواه الترمذي (3705)، وأحمد (25162)، وقال الترمذي: حسن غريب.

(4)

تقدم تخريجه.

ص: 457

لِاسْتِحَالَةِ إرَادَةِ الْمَعْنَى الْأوَّلِ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ نَصًّا لَا مُحْتَمَلًا.

وَلَيْسَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى: مِن التَّأوِيلِ الَّذِي هُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَن الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ فِي شيْء.

وَهَذَا أحَدُ مثارات غَلَطِ الغالطين فِي هَذَا الْبَاب؛ حَيْثُ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْمَعْنَى الْمَفْهُومَ مِن هَذَا اللَّفْظِ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ، وَأَنَّ اللَّفْظَ مُتَّأَوَّلٌ.

النَّوْعُ الثَّانِي مِن الْألفَاظِ: مَا فِي مَعْنَاهُ إضَافَةٌ:

أ - إمَّا بِأنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إضَافَةً مَحْضَةً؛ كَالْعُلُوِّ وَالسُّفُولِ وَفَوْق وَتَحْت، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

ب - أو أنْ يَكُونَ مَعْنًى ثُبُوتِيًّا فِيهِ إضَافَةٌ؛ كَالْعِلْمِ وَالْحُبِّ وَالْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ: فَهَذَا النَّوْعُ مِن الْألْفَاظِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ لَهُ مَعْنًى مُفْرَد بِحَسَبِ بَعْضِ مَوَارِدِهِ لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدِهِمَا: أنَّه لَمْ يُسْتَعْمَلْ مُفْرَدًا قَطُّ.

الثَّانِي: أنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُ مِنْهُ الِاشْتِرَاكُ أَو الْمَجَازُ؛ بَل يُجْعَلُ حَقِيقَةً فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ مَوَارِدِهِ.

وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِن هَذَا الْبَابِ؛ فَإِنَّ لَفْظَ: "اسْتَوَى" لَمْ تَسْتَعْمِلْهُ الْعَرَبُ فِي خُصُوصِ جُلُوسِ الْآدَمِيِّ -مَثَلًا- عَلَى سَرِيرِهِ حَقِيقَةً حَتَّى يَصِيرَ فِي غَيْرِهِ مَجَازًا، كَمَا أَنَّ لَفْظَ "الْعِلْمِ" لَمْ تَسْتَعْمِلْهُ الْعَرَبُ فِي خُصُوصِ الْعُرْفِ الْقَائِمِ بِقَلْبِ الْبَشَرِ الْمُنْقَسِمِ إلَى ضَرُورِيِّ ونَظَرِيِّ حَقِيقَةً، وَاسْتَعْمَلَتْهُ فِي غَيْرِهِ مَجَازًا.

بَل الْمَعْنَى تَارَةً: يُسْتَعْمَلُ بِلَا تَعْدِيَةٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص: 14]، وَتَارَةً: يُعَدَّى بِحَرْفِ الْغَايَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11]، وَتَارَةً: يُعَدَّى بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ.

ثُمَّ هَذَا تَارَةَ: يَكُونُ صِفَةً لثهِ، وَتَارَةً: يَكُونُ صِفَةً لِخَلْقِهِ، فَلَا يَجِبُ أَنْ يُجْعَلَ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ حَقِيقَةً وَفِي الْآخَرِ مَجَازًا.

ص: 458

وَلَا يَجُوز أَنْ يُفْهَمَ مِن اسْتِوَاءِ اللهِ الْخَاصِّيَّةَ التِي تَثْبُتُ لِلْمَخْلُوقِ دُونَ الْخَالِقِ؛ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47]، وقَوله تَعَالَى:{مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71]. [32/ 176 - 185]

473 -

كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَد يُحَذِّرُ مِن الْكُلَّابِيَة، وَأَمَرَ بِهَجْرِ الْحَارِثِ الْمُحَاسَبِيِّ لِكوْنِهِ كَانَ مِنْهُمْ، وَقَد قِيلَ عَن الْحَارِثِ إنَّهُ رَجَعَ فِي الْقُرْآنِ عَن قَوْلِ ابْنِ كُلَّابٍ، وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إنَّ اللهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْت، وَمِمَن ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْهُ الكلاباذي فِي كِتَابِ التَّعَرُّفُ لِمَذْهَبِ التَّصَوُّفِ. [5/ 532]

* * *

(حقيقة قول الجهمية)

474 -

عن عاصم بن عدي: ناظرت جهميًّا فتبين من كلامه أنه اعتقد أنْ ليس في السماء ربٌّ، قال شيخ الاسلام: كان الجهمية يدورون على ذلك، ولم يكونوا يصرحون به لوفور السلف والأئمة وكثرة أهل السُّنَّة، فلما بعد العهد وانقرض الأئمة صرح أتباعهم بما كان أولئك يشيرون إليه ويدورون حوله.

قال: وهكذا ظهرت البدع كلما طال الأمر وبعد العهد اشتد أمرهم وتغلظت. [اجتماع الجيوش الإسلامية 2/ 218]

475 -

الآيات التي فيها صفات الله سبحانه التي تأولها متأخرو الجهمية وسموها الصفات السمعية، وهي ما سوى الصفات السبعة

(1)

: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} الآية [البقرة: 9]، {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)} [البقرة: 14، 15]، {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ

(1)

قال في الحاشية: هذا العنوان من خط المؤلف، ويدل على أن الأشاعرة المتأخرين جهمية كما سمى كتابه الذي رد فيه على الرازي:"بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية" وكما صرح بأن هذا مذهب الأشاعرة في الرسالة "التدمرية".

ص: 459

فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)} [آل عمران: 53، 54]، {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]. [المستدرك 1/ 77]

476 -

الأشعري وأئمة أصحابه؛ كأبي الحسن الطبري وأبي عبد الله بن مجاهد والقاضي أبي بكر متففون على إثبات الصفات الخبرية التي ذكرت في القرآن؛ كالاستواء والوجه واليدين، وإبطال تأويلها، وليس للأشعري في ذلك قولان أصلًا.

ولم يذكر أحدٌ عن الأشعري في ذلك قولين، ولكنْ لأتباعه قولان في ذلك.

ولأبي المعالي الجويني في تأويلها قولان: أَوَّلهما في الإرشاد، ورجع عن التأويل في رسالته النظامية وحرمه، ونقل إجماع السلف على تحريمه، وأنه ليس بواجب ولا جائز. [المستدرك 1/ 85]

* * *

(قاعدة جليلة في التفريق بين آيَاتِ الصِّفَاتِ وغيرِها)

477 -

لَا ريبَ أَنَّهُ - سبحانه - قَرِيبٌ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتهِ وَتَدْبِيرِهِ مِن جَمِيعِ خَلْقِهِ، لَمْ يَزَلْ بِهِم عَالِمًا، وَلَمْ يَزَلْ عَلَيْهِم قَادِرًا، هَذَا مَذْهَبُ جَمِيعِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَعَامَّةِ الطَّوَائِفِ.

وَإِذَا كَانَ قُرْبُ عِبَادِهِ مِنْهُ نَفْسَهُ، وَقُرْبُهُ مِنْهُم لَيْسَ مُمْتَنِعًا عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ مِن السَّلَفِ وَأَتْبَاعِهِمْ مِن أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ: لَمْ يَجِبْ أَنْ يُتَأوَّلَ كُلُّ نَصٍّ فِيهِ ذِكْرُ قُرْبِهِ مِن جِهَةِ امْتِنَاعِ الْقُرْبِ عَلَيْهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِن جَوَازِ الْقُرْبِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَوْضِعٍ ذُكِرَ فِيهِ قُرْبُهُ يُرَادُ بِهِ قُرْبُهُ بِنَفْسِهِ.

بَل يَبْقَى هَذَا مِن الْأمُورِ الْجَائِزَةِ، ويُنْظَرُ فِي النَّصِّ الْوَارِدِ:

- فَإِنْ دَلَّ عَلَى هَذَا: حُمِلَ عَلَيْهِ.

- وَإِن دَلَّ عَلَى هَذَا: حُمِلَ عَلَيْهِ.

ص: 460

وَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي لَفْظِ الْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ، وَإِن كَانَ فِي مَوْضِعٍ قَد دَلَّ عِنْدَهُم عَلَى أَنَّهُ هُوَ يَأتِي: فَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَأْتِي بِعَذَابِهِ؛ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} [النحل: 26]، وقَوْله تَعَالَى:{فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر: 2].

فَتَدَبَّرْ هَذَا؛ فَإنَّهُ كَثِيرًا مَا يَغْلَطُ النَّاسُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إذَا تَنَازَعَ الْنُّفَاةُ وَالْمُثْبِتَةُ فِي صِفَةٍ وَدَلَالَةٍ نُصَّ عَلَيْهَا، يُرِيدُ الْمُرِيدُ أنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ اللَّفْظَ -حَيْثُ وَرَدَ- دَالًّا عَلَى الصِّفَةِ وَظَاهِرًا فِيهَا، ثُمَّ يَقُولُ النَّافِي: وَهُنَاكَ لَمْ تَدُلَّ عَلَى الصِّفَةِ فَلَا تَدُلُّ هُنَا، وَقَد يَقُولُ بَعْضُ الْمُثْبِتَةِ: دَلَّتْ هُنَا عَلَى الصِّفَةِ فَتَكُونُ دَالَّةً هُنَاكَ.

بَل لَمَّا رَأَوْا بَعْضَ النُّصُوصِ تَدُلُّ عَلَى الصِّفَةِ: جَعَلُوا كُلَّ آيَةِ فِيهَا مَا يَتَوَهَّمُونَ أَئهُ يُضَافُ إلَى اللهِ تَعَالَى -إضَافَةَ صِفَةٍ- مِن آيَاتِ الصِّفَاتِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56].

وَهَذَا يَقَعُ فِيهِ طَوَائِفُ مِن الْمُثْبِتَةِ والْنُّفَاةِ، وَهَذَا مِن أَكْبَرِ الْغَلَطِ؛ فَإنَّ الدَّلَالَةَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ:

أ - بِحَسَبِ سِيَاقِهِ.

ب - وَمَا يُحَفُّ بِهِ مِن الْقَرَائِنِ اللَّفْظِيَّةِ وَالْحَاليَّةِ

(1)

.

(1)

مثال ذلك: قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [سبأ: 31]، فلا يُقال بأن للقرآن يدين!

بل المعنى: وَلَا بالَّذِي كَانَ أَمَامَهُ سَابِقًا عَلَيْهِ مِنَ الْكُتُب.

وذلك أن لَفْظَ الْيَدَيْنِ قَد يُسْتَعْمَلُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ اسْتَعْمَالًا خَاصًّا، بِلَفْظٍ خَاصٍّ لَا تُقْصَدُ بِهِ فِي ذَلِكَ النِّعْمَةُ وَلَا الْجَارِحَةُ وَلَا الْقُدْرَةُ، وإنَّمَا يُرَادُ بهِ مَعْنَى أَمَام.

وَاللَّفْظُ الْمُخْتَصُّ بِهَذَا الْمَعْنَى هُوَ لَفْظَةُ الْيَدَيْنِ الَّتِيَ أُضِيفَتْ إِلَيْهَا لَفْظَةُ "بَيْنَ" خَاصَّةً، أعْنِي لَفْظَةَ "بَيْنَ يَدَيْهِ"، فَإنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ أمَامُهُ. وَهُوَ اسْتِعْمَال عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ فِي لُغَةِ الْعَرَب لَا يُقْصَدُ فِيهِ مَعْنَى الْجَارِحَةِ وَلَا النِّعْمَةِ وَلَا الْقُدْرَةِ، وَلَا أَيَّ صِفَةٍ كَائِنَةٍ مَا كَانَتْ. يُنظر: أضواء البيان (7/ 288).

ص: 461

وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي أَمْرِ الْمَخْلُوقِينَ، يُرَادُ بِألْفَاظِ الصِّفَاتِ مِنْهُم فِي مَوَاضِعَ كَثيرَةٍ غَيْرُ الصِّفَاتِ.

وَأنَا أَذْكُرُ لِهَذَا مِثَالَيْنِ نَافِعَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: صِفَةُ الْوَجْهِ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ إثْبَاتُ هَذِهِ الصِّفَةِ مَذْهَبَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ الصفاتية مِن الْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَريَّةِ والكرَّامِيَة، وَكَانَ نَفْيُهَا مَذْهَبَ الْجَهْمِيَّة مِن الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ وَمَذْهَبَ بَعْضِ الصفاتية مِن الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ: صَارَ بَعْضُ النَّاسِ مِن الطَّائِفَتَيْنِ كُلَّمَا قَرَأَ آيَةً فِيهَا ذِكْرُ الْوَجْهِ جَعَلَهَا مِن مَوَارِدِ النِّزَاعِ؛ فَالْمُثْبِتُ يَجْعَلُهَا مِن الصِّفَاتِ الَّتِي لَا تُتَأَوَّلُ بِالصَّرْفِ، وَالنَّافِي يَرَى أَنَّهُ إذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ صِفَةً فَكذَلِكَ غَيْرُهَا.

مِثَالُ ذَلِكَ: قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، أدْخَلَهَا فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ طَوَائِفُ مِن الْمُثْبِتَةِ والْنُّفَاةِ، حَتَّى عَدَّهَا أُولَئِكَ؛ كَابْنِ خُزَيْمَة مِمَّا يُقَرِّرُ إثْبَاتَ الصِّفَةِ، وَجَعَلَ النَّافِيَةَ تَفْسِيرَهَا بِغَيْرِ الصِّفَةِ حُجَّةً لَهم فِي مَوَارِدِ النِّزَاعِ.

وَلهَذَا لَمَّا اجْتَمَعْنَا فِي الْمَجْلِسِ الْمَعْقُودِ وَكُنْت قَد قُلْت: أَمْهَلْت كُلَّ مَن خَالَفَنِي ثَلَاثَ سِنِينَ إنْ جَاءَ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ عَن السَّلَفِ يُخَالِفُ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْته كَانَت لَهُ الْحُجَّةُ، وَفَعَلْت وَفَعَلْت، وَجَعَلَ الْمُعَارِضُونَ يُفَتِّشُونَ الْكُتُبَ فَظَفِرُوا بِمَا ذَكَرَهُ البيهقي فِي كِتَابِ "الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ" فِي قَوْله تَعَالَى:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ عَن مُجَاهِدٍ وَالشَّافِعِيِّ أنَّ الْمُرَادَ قِبْلَةُ اللهِ، فَقَالَ أَحَدُ كُبَرَائِهِمْ - فِي الْمَجْلِسِ الثَّانِي - قَد أحْضَرْت نَقْلًا عَن السَّلَفِ بِالتَّأوِيلِ، فَوَقَعَ فِي قَلْبِي مَا أَعَدَّ، فَقلْت: لَعَلَّك قَد ذَكَرْت مَا رُوِيَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} : نَعَمْ، قلْت: الْمُرَادُ بِهَا قِبْلَةُ اللهِ، فَقَالَ: قَد تَأَوَّلَهَا مُجَاهِدٌ وَالشَّافِعِيُّ وَهُمَا مِن السَّلَفِ، وَلَمْ

ص: 462

يَكُن هَذَا السُّؤَالُ يَرِدُ عَلَيَّ

(1)

؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُن شَيءٌ مِمَّا نَاظَرُونِي فِيهِ صِفَةَ الْوَجْهِ، وَلَا أُثْبِتُهَا، لَكِنْ طَلَبُوهَا مِن حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَكَلَامِي كَانَ مُقَيَّدًا كَمَا فِي الْأَجْوِبَةِ، فَلَمْ أَرَ إحْقَاقَهُم فِي هَذَا الْمَقَامِ؛ بَل قُلْت: هَذِهِ الْآيَةُ لَيْسَتْ مِن آيَاتِ الصِّفَاتِ أَصْلًا، وَلَا تَنْدَرجُ فِي عُمُومِ قَوْلِ مَن يَقُولُ: لَا تُؤَوَّلُ آيَاتُ الصِّفَاتِ.

قَالَ: أَلَيْسَ فِيهَا ذِكْر الْوَجْهِ؟

فَلَمَّا قُلْت: الْمُرَادُ بِهَا قِبْلَةُ اللهِ؟

قَالَ: أَلَيْسَتْ هَذِهِ مِن آيَاتِ الصِّفَاتِ؟

قُلْت: لَا، لَيْسَتْ مِن مَوَارِدِ النِّزَاع، فَإِنّي إنَّمَا أُسَلِّمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَجْهِ - هُنَا- الْقِبْلَةُ؛ فَإِنَّ "الْوَجْهَ" هُوَ الْجِهَةُ فِي لغَةِ الْعَرَبِ، يُقَالٌ: قَصَدْت هَذَا الْوَجْهَ، وَسافَرْت إلَى هَذَا الْوَجْهِ؛ أَيْ: إلَى هَذِهِ الْجِهَةِ، وَهَذَا كَثِيرٌ مَشْهُورٌ؛ فَالْوَجْهُ هُوَ الْجِهَةُ، وَهُوَ الْوَجْهُ؛ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148]؛ أَيْ: مُتَوَلِّيهَا، فَقَوْلُهُ تَعَالَى:{وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} كَقَوْلِهِ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} كِلْتَا الْآيَتَيْنِ فِي الففْظِ وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبَتَانِ، وَكِلَاهُمَا فِي شَأنِ الْقِبْلَةِ.

وَالْوَجْهُ وَالْجِهَة هُوَ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْآيَتَيْنِ أَنَّا نُوَلِّيهِ: نَسْتَقْبِلُهُ.

وَالْمِثَالُ الثَّانِي: لَفْظَة الْأمْرِ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82]، وَقَالَ:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]، وَاسْتَدَلَّ طَوَائِفُ مِن السَّلَفِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ غيْرُ مَخْلُوقٍ؛ بَل هُوَ كَلَامُهُ وَصِفَةٌ مِن صِفَاتِهِ بِهَذ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا: صَارَ كَثِيرٌ مِن النَّاسِ يَطْرُدُ ذَلِكَ فِي لَفْظِ الْأَمْرِ حَيْثُ وَرَدَ، فَيَجْعَلُهُ صِفَةً طَرْدًا لِلدَّلَالَةِ، ويجْعَلُ دَلَالَتَهُ عَلَى غَيْرِ الصِّفَةِ نَقْضًا لَهَا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَبَيَّنْت فِي بَعْضِ رَسَائِلِي: أَنَّ الْأَمْرَ وَغَيْرَهُ مِنَ الصِّفَاتِ يُطْلَقُ عَلَى الصِّفَةِ تَارَةً، وَعَلَى مُتَعَلَّقِهَا أُخْرَى، فَالرَّحْمَةُ

(1)

أي: أنّ اعتراضه عليّ بهذا السؤال غلط ليس في محلّه.

ص: 463

صِفَةٌ للهِ، ويُسَمَّى مَا خَلَقَ رَحْمَةً، وَالْقُدْرَةُ مِن صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى، ويُسَمَّى الْمَقْدُورُ قُدْرَةً، ويُسَمَّى تَعَلُّقُهَا بِالْمَقْدُورِ قُدْرَةً، وَالْخَلْقُ مِن صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى، ويُسمَّى خَلْقًا، وَالْعِلْمُ مِن صِفَاتِ اللهِ ويُسَمَّى الْمَعْلُومُ، أَو الْمُتَعَلَّقُ عِلْمًا:

- فَتَارَةً يُرَادُ الصِّفَةُ.

- وَتَارَةً يُرَادُ مُتَعَلَّقُهَا.

- وَتَارَةَ يُرَادُ نَفْسُ التَّعَلُّقِ.

وَالْأمْرُ مَصْدَرٌ؛ فَالْمَأمُورُ بِهِ يُسَمَّى أَمْرًا، وَمِن هَذَا الْبَابِ سُمّيَ عِيسَى صلى الله عليه وسلم كَلِمَةً؛ لِأنَّهُ مَفْعُولٌ بِالْكَلِمَةِ، وَكَائِنٌ بِالْكَلِمَةِ، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَن سُؤَالِ الْجَهْمِيَّة لَمَّا قَالُوا: عِيسَى كَلِمَةُ اللهِ، فَهُوَ مَخْلُوقٌ، وَالْقُرْآنُ إذَا كَانَ كَلَامَ اللهِ لَمْ يَكُن إلَّا مَخْلوقًا؛ فَإِنَّ عِيسَى لَيْسَ هُوَ نَفْسَ كَلِمَةِ اللهِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأنَّهُ خُلِقَ بِالْكلِمَةِ عَلَى خِلَافِ سُنَّةِ الْمَخْلُوقِينَ، فَخُرِقَتْ فِيهِ الْعَادَةُ، وَقيلَ لَهُ: كُنْ فَكَانَ.

وَالْقُرْآنُ نَفْسُ كَلَامِ اللهِ.

فَمَن تَدَبَّرَ مَا وَرَدَ فِي بَاب أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، وَأنَّ دَلَالَةَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ عَلَى ذَاتِ اللهِ، أَو بَعْضِ صِفَاتِ ذَاتِهِ: لَا يُوجِبُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ هُوَ مَدْلُول اللَّفْظِ حَيْثُ وَرَدَ، حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ طَرْدًا لِلْمُثْبِتِ وَنَقْضًا لِلنَّافِي؛ بَل يُنْظَرُ فِي كُلِّ آيَةٍ وَحَدِيثٍ بِخُصُوصِهِ وَسِيَاقِهِ، وَمَا يُبَيِّنُ مَعْنَاهُ مِن الْقُرْآنِ وَالدَّلَالَاتِ.

فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ مُهِمٌّ نَافِعٌ فِي بَابِ فَهْمِ الْكتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالِاسْتِدْلَالِ بِهِمَا مُطْلَقًا، وَنَافِعٌ فِي مَعْرِفَةِ الِاسْتِدْلَالِ، وَالِاعْتِرَاضِ، وَالْجَوَابِ، وَطَرْدِ الدَّلِيلِ وَنَقْضِهِ، فَهُوَ نَافِعٌ فِي كُلِّ عِلْمٍ خَبَرِيٍّ أو إنْشَائِيٍّ، وَفِي كُلِّ اسْتِدْلَالٍ أو مُعَارَضَةٍ مِن الْكِتَابِ وَالسُّنةِ، وَفي سَائِرِ أدِلَّةِ الْخَلْقِ. [6/ 13 - 19]

478 -

يجب اتباعُ طريقةِ السلف من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسانٍ، فإنّ إجماعَهم حجةً قاطعة، وليس لأحد أن يخالفَهم فيما أجمعوا عليه، لا في الأصول ولا في الفروع. وحكى غيرُ واحدٍ

ص: 464

من أهل العلم بآثارهم وأقوالِهم، قالوا في قوله:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] ونحوه: إنه بعِلمِه، وحَكَوا إجماعَهم على إمرارِ آيات الصفات وأحاديثها وإنكارَهم على المحرِّفين لها.

ولهذا لا يَقدِر أحد أن يَحكِيَ عن أحدٍ من الصحابة والتابعين وغيرهم من سلف الأمَّة بنقلٍ صحيح أنه تأوَّلَ الاستواءَ بالاستيلاءِ أو نحوِه من معاني أهل التحريف؛ بل ينقل عنهم أنهم فسروا الآية بما يَقتضي أنه سبحانَه فوقَ عرشِه، ويُمكِنُه أن ينقل بالإسناد الصحيح أنهم قالوا في قوله:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} أنهم قالوا: بعلمه. [المجموعه العلية 1/ 69]

* * *

(حكم تفسير إحْدَى الآيَتَيْنِ بِظَاهِرِ الْأُخْرَى)

479 -

يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِين أَنْ تُفَسَّرَ إحْدَى الْآيَتَيْنِ بِظَاهِرِ الْأخْرَى، وَيُصْرَفَ الْكَلَامُ عَن ظَاهِرِهِ؛ إذ لَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ أَحَدٍ مِن أهْلِ السُّنَّةِ، وإِن سُمِّيَ تَأْوِيلًا وَصَرْفًا عَن الظَّاهِرِ، فَذَلِكَ لِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ، وَلمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ وَالسَّلَفِ عَلَيْهِ؛ لِأنَّهُ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ، لَيْسَ تَفْسِيرًا لَهُ بِالرَّأيِ.

وَالْمَحْذُورُ: إنَّمَا هُوَ صَرْفُ الْقُرْآنِ عَن فَحْوَاهُ بِغَيْرِ دَلَالَةِ مِن اللهِ وَرَسُولِهِ وَالسَّابِقِينَ. [6/ 21]

* * *

‌(حكم التَّسَمِّي فِي الْأُصُولِ بِالْحَنْبَلِيَّةِ وَغَيْر ذَلِكَ، ووجوب مراعاة الأحوال والأشخاص في الإنكار، وأهمية التفريق بين المسائل الدقيقة والمسائل الكبيرة، وهل يصح تقسيم المَسَائِلِ إلى أُصُولٍ وفرُوعٍ

؟)

480 -

السالمية: هُم وَالْحَنْبَلِيَّةُ كالشَّيْءِ الْوَاحِدِ، إلَّا فِي مَوَاضِعَ مَخْصُوصَةٍ تَجْرِي مَجْرَى اخْتِلَافِ الْحَنَابِلَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَفِيهِمْ تَصَوُّفٌ.

وَمَن بَدَّعَ مِن أَصْحَابِنَا هَؤُلَاءِ: يُبَدِّعُ أَيْضًا التَّسَمِّيَ فِي الْأُصُولِ بِالْحَنْبَلِيَّةِ

ص: 465

وَغَيْر ذَلِكَ، وَلَا يَرَى أَنْ يَتَسَمَّى أَحَدٌ فِي الْأُصُولِ إلَّا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

وَهَذِهِ طَرِيقَة جَيِّدَةٌ، لَكِنَّ هَذَا مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ؛ فَإنَّ مَسَائِلَ الدِّقِّ

(1)

فِي الْأصُولِ لَا يَكَادُ يَتَّفِقُ عَلَيْهَا طَائِفَةٌ؛ إذ لَو كَانَ كَذَلِكَ لَمَا تَنَازَعَ فِي بَعْضِهَا السَّلَفُ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَقَد يُنْكَرُ الشَّيْءُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، وَعَلَى شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ.

وَأَصلُ هَذَا: أَنَّ الْمَسَائِلَ الْخَبَرِيَّةَ قَد يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمَسَائِلِ الْعَمَلِيَّةِ، وَإِن سُمِّيَتْ تِلْكَ "مَسَائِلَ أُصُولٍ"، وَهَذِهِ "مَسَائِلَ فُرُوع"؛ فَإِنَّ هَذِهِ تَسْمِيَة مُحْدَثَةٌ، قَسَّمَهَا طَائِفَةٌ مِن الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِين، وَهُوَ عَلَى الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ أَغْلَبُ، لَا سِيَّمَا إذَا تَكَلَّمُوا فِي مَسَائِل التَّصْوِيبِ وَالتَّخْطِئَةِ.

وَأَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمُحَقِّقِينَ وَالصُّوفِيَّةِ فَعِنْدَهُم أَنَّ الْأَعْمَالَ أَهَمّ وَآكَدُ مِن مَسَائِل الْأَقْوَالِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا

(2)

.

(1)

أي: الدقيقة. انظر: لسان العرب، مادة:"دقق".

(2)

يُستفاد من كلام الشيخ رحمه الله ما يلي:

أولًا: أنّ الأولى للمسلم أنْ يتسمى بالاسم الذي ارتضاه الله تعالى وسمى به المسلمين؛ كاسم الإسلام وأهل السُّنَّة والجماعة، وهذه هي الطريق التي قال عنها الشيخ: جيدة، ولا ينبغي الانتساب لغيرها؛ كالحنبلية ونحوها، وقد قال رحمه الله: لَكِنَ مُجَرَّدَ الِانْتِسَابِ إلَى الْأشْعَرِيِّ بِدْعَةٌ. اهـ. (6/ 359)، إلا في باب الفروع الفقهية؛ فالأمر فيه واسع.

ثانيًا: أنّ التسمي بغير ما سمانا الله به مما يسوغ فيه الاجتهاد، فلو انتسب إلى الحنابلة في باب الاعتقاد أو إلى غيرهم بشرط سلامة العقيدة فإنه لا يُنكر عليه، وقد كثرت التسميات في العصر الحديث، وذلك للحاجة إليها في بعض الدول.

ثالثًا: أنّ هناك مسائل دقيقة خفية، وهناك مسائل كبيرة ظاهرة، أما المسائل الدقيقة الخفية: وهي التي يخفى دليلها، أو يندر ورودها ويعسر فهم تفاصيلها: فهذه المسائل أخطأ في بعضها بعضُ السلف من الصحابة والتابعين، ولا يجوز أنْ يجري السباب والتبديع بين المسلمين فيها.

وأما المسائل الكبيرة الظاهرة، وهي التي ظهر لجميع أو أغلب الناس دليلها وحكمها: فهذه لا يجوز الخلاف فيها، ويجب الإنكار على من خالف فيها بالحكمة والموعظة الحسنة.

رابعًا: أن الإنكار يختلف حسب الأحوال والأشخاص، فقد يقترف شخصان بدعة أو حرامًا، فيُنكر على أحدهما ولا يُنكر على الآخر، فقد يكون أحدهما حديث عهد بالإسلام، أو =

ص: 466

وَقَد يَكُونُ الْإِقْرَارُ بِالْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ أَوْجَبَ مِن الْإِقْرَارِ بِالْقَضَايَا الْقَوْلِيَّةِ؛ بَل هَذَا هوَ الْغَالِبُ؛ فَإِنَّ الْقَضَايَا الْقَوْليَّةَ يَكْفِي فِيهَا الْإِقْرَارُ بِالْجُمَلِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ.

وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الْوَاجِبَةُ: فَلَا بُدَّ مِن مَعْرِفَتِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِهَا لَا يُمْكِنُ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهَا مُفَصَّلَةً.

وَلهَذَا تُقِرُّ الْأمَّةُ مَن يُفَصِّلُهَا عَلَى الْإطْلَاقِ وَهم الْفُقَهَاءُ، وإن كَانَ قَد يُنْكَرُ عَلَى مَن يَتَكَلَّمُ فِي تَفْصِيلِ الْجُمَلِ الْقَوْلِيَّةِ؛ لِلْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى تَفْصِيلِ الْأَعْمَالِ الْوَاجِبَةِ، وَعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى تَفْصِيلِ الْجُمَلِ الَّتي وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهَا مُجْمَلَةً

(1)

.

وَكَثِيرٌ مِن تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ أَو أَكْثَرهُ مِن هَذَا الْبَابِ؛ فَإنَّ الِاخْتِلَافَ فِي كَثِيرٍ مِن التَّفْسِيرِ هُوَ مِن بَابِ الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ الْخَبَريَّةِ، لَا مِن بَابِ الْعَمَلِيَّةِ، لَكِنْ قَد تَقَعُ الْأهْوَاءُ فِي الْمَسَائِلِ الْكِبَارِ كَمَا قَد تَقَعُ فِي مَسَائِلِ الْعَمَلِ. [6/ 56 - 60]

* * *

(الرِّسَالَة الأكملية)

(2)

481 -

إِذَا أَخْبَرَ اللهُ بِالشيءِ وَدَلَّ عَلَيْهِ بِالدَّلَالَاتِ الْعَقْلِيَّةِ: صَارَ مَدْلُولًا عَلَيْهِ بِخَبَرِهِ، وَمَدْلُولًا عَلَيْهِ بِدَلِيلِهِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي يُعْلَمُ بِهِ، فَيَصِيرُ ثَابِتَا بِالسَّمْعِ

= جاهلًا بالحكم الشرعي، والآخر مُعاندًا عالمًا بالحكم، فيُنكر عليه بخلاف الأول.

فالواجب مراعاة المصلحة والحال والشخص عند الإنكار.

خامسًا: أنَّه يُنكَر على مَن يَجعلُ المسائل الخبرية أصولًا والمسائل العمليَّة فروعًا، فهناك مِن المسائل العملية ما هي أصول في الدين، ومِن المسائل الخبرية ما هي فروع في الدين.

ولا يُفهم من كلام الشيخ رحمه الله يُنكرُ تقسيم الدين إلى أصول وفروع، فقد نص على ذلك في مواضع كثيرة منها قوله: أحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ نَهَى عَن تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ مِن الْعُلَمَاءِ فِي الْفُرُوعِ. فَكَيْفَ يُقَلَّدُ أحْمَد وَغَيْرُهُ فِي أصُولِ الدِّينِ؟. اهـ. (6/ 215 - 216)

(1)

فالفقهاء يذكرون خلاف العلماء في المسائل العملية الفقهية، ولو كانت عند العامة، ولا يُنكر أحدٌ ذلك، بينما يُنكرون من العالم إذا تكلم في المسائل الخبرية وهي العقائد ونحوها، وذكروا خلاف الناس فيها؛ كالأشعرية والمعتزلة ونحوهم.

(2)

سأنتقي أهم الفوائد مما جاء فيها.

ص: 467

وَالْعَقْلِ، وَكِلَاهُمَا دَاخِلٌ فِي دَلَالَةِ الْقُرْآنِ الَّتِي تُسَمَّى الدَّلَالَةَ الشَّرْعِيَّةَ. [6/ 72]

482 -

ثُبُوتُ "مَعْنَى الْكَمَالِ" قَد دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ بِعِبَارَاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ دَالَّة عَلَى مَعَانِي مُتَضَمِّنَةٍ لِهَذَا الْمَعْنَى، فَمَا فِي الْقُرْآنِ مِن إثْبَاتِ الْحَمْدِ لَهُ وَتَفْصِيلِ مَحَامِدِهِ، وَأَنَّ لَهُ الْمَثَل الْأعْلَى، وإِثْبَاتِ مَعَانِي أَسْمَائِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: كُلُّهُ دَالٌّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَقَد ثَبَتَ لَفْظُ "الْكَامِلِ" فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2)} [الإخلاص: 1، 2] أَنَّ "الصَّمَدَ" هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْكَمَالِ، وَهوَ السَّيِّدُ الَّذِي كَمُلَ فِي سُؤددِهِ، وَالشَّرِيفُ الَّذِي قَد كَمُلَ فِي شَرَفِهِ، وَالْعَظِيمُ الَّذِي قَد كمُلَ فِي عَظَمَتِهِ. [6/ 72]

483 -

اللهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ النُّصُوصَ لِمُجَرَّدِ تَقْرِيرِ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ؛ بَل ذَكَرَهَا لِبَيَانِ أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ دُونَ مَا سِوَاهُ، فَأفَادَ الْأصْلَيْنِ اللَّذَيْنِ بِهِمَا يَتِمُّ التوْحِيدُ: وَهُمَا إثْبَاتُ صِفَاتِ الْكَمَالِ رَدًّا عَلَى أَهْلِ التَّعْطِيلِ، وَبَيَانِ أنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ لَا إلهَ إلَّا هُوَ رَدًّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ. [6/ 83]

* * *

(لَفْظُ التَّشَابُهِ لَيْسَ هُوَ التَّمَاثُلَ)

484 -

لَفْظُ "التَّشَابُهِ" لَيْسَ هُوَ التَّمَاثُلَ فِي اللَّغَةِ، قَالَ تَعَالَى:{وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة: 25]، وَقَالَ تَعَالَى:{مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} [الأنعام: 141]، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ شَيْئًا هُوَ مُمَاثِلٌ فِي اللُّغَةِ. [6/ 113]

* * *

(لَفْظ الْمُنَاسَبَةِ مُجْمَلٌ)

485 -

الْمُنَاسَبَةُ: لَفْظٌ مُجْمَلٌ؛ فَإِنَّهُ قَد يُرَادُ بِهَا التَّوَلُّدُ وَالْقَرَابَةُ، فَيُقَالُ: هَذَا نَسِيبُ فُلَانٍ وَيُنَاسِبُهُ إذَا كَانَ بَيْنَهُم قَرَابَةٌ مُسْتَنِدَةٌ إلَى الْوِلَادَةِ وَالْآدَمِيَّةِ، وَاللهُ -سبحانه وتعالي- مُنَزَّهٌ عَن ذَلِكَ.

ص: 468

ويُرَادُ بِهَا الْمُمَاثَلَةُ، فَيُقَالُ: هَذَا يُنَاسِبٌ هَذَا: أَيْ: يُمَاثِلُهُ، وَاللهُ -سبحانه وتعالي- أَحَدٌ صَمَدٌ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَهُ كُفُوًا أحَدٌ.

ويُرَاد بِهَا الْمُوَافَقَةُ فِي مَعْنًى مِن الْمَعَانِي، وَضِدُّهَا الْمُخَالَفَةُ.

وَالْمُنَاسَبَةُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ: ثَابِتَةٌ؛ فَإنَّ أَوْليَاءَ اللهِ تَعَالَى يُوَافِقُونَهُ فِيمَا يَأمُرُ بِهِ فَيَفْعَلُونَهُ، وَفيمَا يُحِبُّهُ فَيُحِبُّونَهُ، وَفِيمَا نَهَى عَنْهُ فَيَتْرُكُونَهُ، وَفيمَا يُعْطِيهِ فَيُصِيبُونَهُ.

وَاللهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ، جَمِيل يُحِبُّ الْجَمَالَ، عَلِيمٌ يُحِبُّ الْعِلْمَ، نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ.

فَإِذَا أُرِيدَ بِالْمُنَاسَبَةِ هَذَا وَأَمْثَالُهُ: فَهَذِهِ الْمُنَاسَبَةُ حَقٌّ، وَهِيَ مِن صِفَاتِ الْكمَالِ؛ فَإنَّ مَن يُحِبُّ صِفَاتِ الْكَمَالِ أَكْمَلُ مِمَن لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ صِفَاتِ النَّقْصِ وَالْكَمَالِ، أَو لَا يُحِبُّ صِفَاتِ الْكَمَالِ

(1)

. [6/ 114 - 115]

* * *

(يُفَرَّقُ بَيْنَ دُعَاء الله وَالْإِخْبَارِ عَنْهُ، فَلَا يدْعَى إلَّا بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَأَمَّا الْإِخْبَارُ عَنْهُ فيُخبَر عنه بغيرها بشرط ألَا يَكونَ بِاسْمٍ سَيِّئٍ)

486 -

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف: 180]. وَالْحُسْنَى: الْمُفَضَّلَةُ عَلَى الْحَسَنَةِ، وَالْوَاحِدُ الْأَحَاسِنُ.

وَقَد يُقَالُ: جِنْسُ "الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى" بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ نَفْيُهَا عَنْهُ كَمَا فَعَلَهُ الْكُفَّارُ، وَأَمَرَ بِالدُّعَاءِ بِهَا، وَأَمَرَ بِدُعَائِهِ مُسَمًّى بِهَا، خِلَافُ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِن النَّهْيِ عَن دُعَائِهِ بِاسْمِهِ الرَّحْمَنِ.

فَقَد يُقَالُ: قَوْلُهُ: {فَادْعُوهُ بِهَا} أَمْرٌ أَنْ يُدْعَى بِالْأسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَأَنْ لَا

(1)

إلى هنا انتهت الفوائد المنتقاة من الرِّسَالَة الأكملية.

ص: 469

يُدْعَى بِغَيْرِهَا؛ كَمَا قَالَ: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5]، فَهُوَ نَهْيٌ أَن يُدْعَوْا لِغَيْرِ آبَائِهِمْ.

وَيُفَرَّقُ بَيْنَ دُعَائِهِ وَالْإِخْبَارِ عَنْهُ، فَلَا يُدْعَى إلَّا بِالْأسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَأمَّا الْإِخبَارُ عَنْهُ: فَلَا يَكُونُ بِاسْمٍ سَيِّئٍ، لَكِنْ قَد يَكُونُ بِاسْم حَسَنٍ، أَو بِاسْم لَيْسَ بِسَيِّئٍ وَإِن لَمْ يُحْكَمْ بِحُسْنِهِ؛ مِثْل اسْمِ: شَيءٍ، وَذَاتٍ، وَمَوْجُودٍ، إذَا أرِيدَ بِهِ الثَّابِتُ، وَأمَّا إذَا أُرِيدَ بهِ الْمَوْجُودُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ فَهُوَ مِن الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَكَذَلِكَ الْمُرِيدُ، وَالْمُتَكَلِّمُ

(1)

؛ فَإِنَّ الْإرَادَةَ وَالْكَلَامَ تَنْقَسِمُ إلَى مَحْمُودٍ وَمَذْمُومٍ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مِن الْأسْمَاءِ الْحُسْنَى، بِخِلَافِ الْحَكِيمِ وَالرَّحِيمِ وَالصَّادِقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا مَحْمُودًا.

وَهَكَذَا كَمَا فِي حَق الوَّسُولِ حَيْثُ قَالَ: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 163] فَأَمَرَهُم أَنْ يَقُولُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، يَا نَبِيَّ اللُّهِ، كَمَا خَاطَبَهُ اللهُ بِقَوْلِهِ:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ} [الممتحنة: 12]{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة: 41] لَا يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، يَا أَحْمَد، يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَإِن كَانُوا يَقُولُونَ فِي الْإِخْبَارِ -كَالْأَذَانِ وَنَحْوِهِ-: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ كمَا قَالَ تَعَالَى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29].

فَهوَ سُبْحَانَهُ: لَمْ يُخَاطِبْ مُحَمَدًا إلَّا بِنَعْتِ التَّشْرِيفِ؛ كَالرَّسُولِ وَالنَّبِيِّ وَالْمُزَّمِّلِ وَالْمُدَّثِّرِ، وَخَاطَبَ سَائِرَ الْأنْبِيَاءِ بِأَسْمَائِهِمْ، مَعَ أَنَّهُ فِي مَقَامِ الْاِخْبَارِ عَنْهُ قَد يَذْكُر اسْمَهُ.

فَقَد فَرَّقَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ حَالَتَي الْخِطَابِ فِي حَقِّ الرَّسُولِ، وَأَمَرَنَا بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا فِي حَقِّهِ

(2)

.

(1)

فالمريد قد يُريد الخير وقد يريد الشر، والمتكلم قد يتكلم بالخير وقد يتكلم بالشر.

(2)

قال العلامة محمد رشيد رضا رحمه الله في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة: 41]: الْخِطَابُ بِوَصْفِ الرَّسُولِ تَشْرِيفٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. =

ص: 470

وَكَذَلِكَ هُوَ الْمُعْتَادُ فِي عُقُولِ النَّاسِ إذَا خَاطَبُوا الْأَكَابِرَ مِن الْأمَرَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْمَشَايخِ وَالرُّؤَسَاءِ، لَمْ يُخَاطِبُوهُم وَيَدْعُوهُم إلَّا بِاسْم حَسَنٍ، وَإِن كَانَ فِي حَالِ الْخَبَرِ عَن أَحَدِهِمْ يُقَالُ: هُوَ إنْسَانٌ، وَحَيَوَانٌ نَاطِقٌ، وَجِسْمٌ، وَمُحْدَثٌ، وَمَخْلُوقٌ، وَمَرْبُوبٌ، وَمَصْنُوعٌ، وَابْنُ أُنْثَى، وَيَأْكُلُ الطَّعَامَ، وَيَشْرَبُ الشَّرَابَ

(1)

.

لَكِنَّ كُلَّ مَا يُذْكَرُ مِن أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ فِي حَالِ الإخْبَارِ عَنْهُ: يُدْعَى بِهِ فِي حَالِ مُنَاجَاتِهِ وَمُخَاطَبَتِهِ، وَإِن كَانَت أَسْمَاءُ الْمَخْلُوقِ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى نَقْصِهِ وَحُدُوثهِ، وَأَسْمَاءُ اللهِ لَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى نَقْصٍ وَلَا حُدُوثٍ؛ بَل فِيهَا الْأَحْسَنُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْكَمَالِ وَهِيَ الَّتِي يُدْعَى بِهَا.

وَأَمَّا فِي الْأَسْمَاءِ الْمَأثُورَةِ فَمَا مِن اسْمٍ إلَّا وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى مَعْنى حَسَنٍ. [6/ 141 - 143]

487 -

النَّاسُ مُتَنَازِعُونَ: هَل يُسَمَّى اللهُ بِمَا صَحَّ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ وَإِن لَمْ يَرِدْ بِإِطْلَاقِهِ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ؟ أَمْ لَا يُطْلَقُ إلَّا مَا أَطْلَقَ نَصٌّ أَو إجْمَاعٌ؟

عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورينِ.

= وَفِي هَذَا التَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِيمِ تَعْلِيمٌ وَتَأْدِيبٌ لِلْمُؤْمِنِينَ يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَن مُخَاطَبَتِهِ بِاسْمِهِ وَالْأمْرَ بِأَنْ يُخَاطِبُوهُ بِوَصْفِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَدْعُوهُ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللهِ.

وَلَكِنَّ الْمُفَسِّرِينَ يَغْفَلُونَ عَن هَذَا، فَيُكَرِّرُ كَثِيرٌ مِنْهُم كَلِمَةَ "يَا مُحَمَدُ" عِنْدَ تَفْسِيرِهِمْ لِخِطَاب اللهِ لِرَسُولهِ بِمِثْلِ:{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)} [الكوثر: 1]، وَمَا أشْبَهَهُ مِنَ الْخِطَابِ، وَأَخَذَة عَنْهُم قُرَّاءُ التَّفْسِيرِ، فَيَكَادُونَ يَقُولُونَهُ فِي تَفْسِيرِ كُلِّ خِطَابٍ، وَإِن لَمْ يُذْكَرِ النَّدَاءُ فِي الْكِتَابِ. اهـ. تفسير المنار (6/ 335).

(1)

والناس والعلماء كذلك يفرقون بين الإخبار والمناداة، فيقولون عن الرجل: الأعرج، الأسمر، الأعمش، الأعمى، إذا أرادوا الإخبار عن وصفه، ولا يعيبون ذلك، ولكن يعيبون ويستقبحون أنْ يُنادى بذلك، فلو قال أحد للأعمى: يا أعمى! أو للأعرج: يا أعرج: لكان قبيحًا في حقه، واسْتُحق اللوم.

ص: 471

وَعَامَّةُ النُّظَّارِ يُطْلِقونَ مَا لَا نَصَّ فِي إطْلَاقِهِ وَلَا إجْمَاعَ؛ كَلَفْظِ الْقَدِيمِ وَالذَّاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَمِن النَّاسِ مَن يَفصِلُ بَيْنَ الْأسْمَاءِ الَّتِي يُدْعَى بِهَا وَبَيْنَ مَا يُخْبَرُ بِهِ عَنْهُ لِلْحَاجَةِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا يُدْعَى بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى كَمَا قَالَ:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} .

وَأَمَّا إذَا اُحْتِيجَ إلَى الْإِخْبَارِ عَنْهُ مِثْلُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ هُوَ بِقَدِيم، وَلَا مَوْجُودٍ، وَلَا ذَاتٍ قَائِمَةٍ بِنَفْسِهَا، وَنَحْو ذَلِكَ: فَقِيلَ فِي تَحْقِيقِ الْإِثْبَاتِ؛ بَل هُوَ سُبْحَانَهُ قَدِيمُ، مَوْجُود، وَهُوَ ذَاتٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا.

وَقِيلَ: لَيْسَ بِشَيء، فَقِيلَ: بَل هُوَ شَيءٌ.

فَهَذَا سَائِغٌ

(1)

؛ وَإِن كَانَ لَا يُدْعَى بِمِثْل هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَا يَدُذ عَلَى الْمَدْحِ؛ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: يَا شَيءُ إذ كَانَ هَذَا لَفْظَا يَعُمُّ كُلَّ مَوْجُودٍ، وَكَذَلِكَ لَفْظُ ذَاتٌ وَمَوْجُودٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ.

إلَّا إذَا سَمَّى بِالْمَوْجُودِ الَّذِي يَجِدُهُ مَن طَلَبَهُ كَقَوْلِهِ: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} [النور: 39]، فَهَذَا أَخَصُّ مِن الْمَوْجُودِ الَّذِي يَعُمُّ الْخَالِقَ وَالْمَخْلُوقَ. [9/ 300 - 301]

* * *

(الْمُضَافَاتُ إلَى الله سُبْحَانَهُ فِي الْكِتَاب وَالسُّنَّةِ لَا يَخْلُو مِن ثَلَاثَةِ أقْسَامٍ)

488 -

الْمُضَافَاتُ إلَى اللهِ سُبْحَانَهُ فِي الْكِتَاب وَالسُّنَّةِ لَا يَخْلُو مِن ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

أَحَدُهَاْ: إضَافَةُ الصِّفَةِ إلَى الْمَوْصُوفِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة: 255].

(1)

والشيخ يستعمل هذه العبارات في كثير من المواضع.

ص: 472

الْقِسْمُ الثَّانِي: إضَافَةُ الْمَخْلُوقَاتِ؛ كَقَوْلِهِ: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس: 13]. فَهَذَا الْقِسْمُ لَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ فِي أنَّهُ مَخْلُوقٌ، كَمَا أَنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ لَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي أَنَّهُ قَدِيمٌ وَغَيْرُ مَخْلُوقٍ.

الثَّالِثُ: مَا فِيهِ مَعْنَى الصِّفَةِ وَالْفِعْلِ؛ مِثْل قَوْلِهِ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، وَقَوْلِهِ:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82]، وَقَوْلِهِ:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} [الكهف: 109]، وَقَوْلِهِ:{يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} [الفتح: 15].

وَقَوْلِهِ: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء: 93]، وَقَوْلِهِ:{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119]، وَقَوْلُهُ:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} [الفجر: 22].

فَالنَّاسُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ والْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَكَثِيرٍ مِن الْحَنْبَلِيَّةِ وَمَن اتَبَعَهُم مِن الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ - أنَّ هَذَا الْقِسْمَ لَا بُدَّ أَنْ يُلْحَقَ بِأحَدِ الْقِسْمَيْنِ قَبْلَهُ، فَيَكُونُ:

- إمَّا قَدِيمًا قَائِمًا بِهِ عِنْدَ مَن يُجَوِّزُ ذَلِكَ وَهُم الْكُلَّابِيَة.

- وَإِمَّا مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ، ويمْتَنِعُ أَنْ يَقُومَ بِهِ نَعْتٌ أو حَالٌ أو فِعْل أَو شَيْءٌ لَيْسَ بِقَدِيم.

ويُسَمُّونَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ: مَسْأَلَةَ حُلُولِ الْحَوَادِثِ بِذَاتِهِ.

وَيَقُولُونَ: يَمْتَنِعُ أَنْ تَحِلَّ الْحَوَادِثُ بِذَاتِهِ .. وَرَأَوْا أَنَّ تَجْوِيزَ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ حُدُوثَهُ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي دَلَّهُم عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ قِيَامُ الْحَوَادِثِ بِهَا.

وَالْقَوْلُ الثانِي - وَهُوَ قَوْلُ الكَرَّامِيَة، وَكَثِيرٍ مِن الْحَنْبَلِيَّةِ، وَأكْثَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَمَن اتَّبَعَهُم مِن الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَجُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَأكْثَرُ كَلَامِ السَّلَفِ، وَمَن حَكَى مَذْهَبَهُم حَتَّى الْأَشْعَرِيَّ - أَنَّ هَذِهِ الضفَاتِ الْفِعْلِيَّةَ وَنَحْوَهَا

ص: 473

الْمُضَافَةَ إلَى اللهِ: قِسْمٌ ثَالِثٌ، لَيْسَتْ مِن الْمَخْلُوقَاتِ الْمُنْفَصِلَةِ عَنْه، وَلَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ الْقَدِيمَةِ الْوَاجِبَةِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِهَا مَشِيئَتُهُ، لَا بِأَنْوَاعِهَا وَلَا بِأعْيَانِهَا.

وَقَد يَقُولُ هَؤُلَاءِ: إنَّهُ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ، وَيَسْكُتُ إذَا شَاءَ، وَلَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَتَكلَّمُ إذَا شَاءَ وَيَسْكُتُ إذَا شَاءَ، وَكَلَامُهُ مِنْهُ لَيْسَ مَخْلُوقًا.

وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ: وَإِن كَانَ لَهُ مَشِيئَة قَدِيمَةٌ فَهُوَ يُرِيدُ إذَا شَاءَ، وَيَغْضَبُ وَيَمْقُت.

وَيُقِرُّ هَؤُلَاءِ أَو أَكْثَرُهُم مَا جَاءَ مِن النُّصُوصِ عَلَى ظَاهِرِهِ مِثْل قَوْلِهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] أَنَّهُ اسْتَوَى عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُن مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ.

وَأَمَّا نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: فَلَا رَيْبَ أَنَّ ظَاهِرَهَا مُوَافِق لِهَذَا الْقَوْلِ. [6/ 144 - 152]

* * *

(المراد بالمحدث في قَوْله - تعالى -: {مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ})

489 -

قَوْله - تعالى -: {مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] الْأِطْلَاقَاتُ قَد تُوهِمُ خِلَافَ الْمَقْصُودِ، فَيُقَالُ:

- إنْ أَرَدْت بِقَوْلِك مُحْدَثٌ أَنَّهُ مَخْلُوق مُنْفَصِل عَن اللهِ كَمَا يَقُولُ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ والنجارية: فَهَذَا بَاطِلٌ لَا نَقُولُهُ.

- وَإِن أَرَدْت بِقَوْلِك إنَّهُ كَلَامٌ تَكَلَّمَ اللهُ بِهِ بِمَشِيئَتِهِ، بَعْدَ أَنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ بِعَيْنِهِ، وَإِن كَانَ قَد تَكَلَّمَ بِغَيْرِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، مَعَ أنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ: فَإِنَّا نَقُولُ بِذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَهُوَ قَوْلُ السَّلَفِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ. [6/ 161]

* * *

ص: 474

(الله تكلم بالقرآن قبل أن يخلُقَ الخلق)

490 -

لَا خِلَافَ عَن أَبِي عَبْدِ اللهِ

(1)

أنَّ اللهَ كَانَ مُتَكَلِّمًا بِالْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ، وَقَبْلَ كُلِّ الْكَائِنَاتِ [مَوْجُودًا]

(2)

، وَأَنَّ اللهَ فِيمَا لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا كَيْفَ شَاءَ وَكَمَا شَاءَ وَإِذَا شَاءَ أَنْزَلَ كَلَامَهُ، وَإِذَا شَاءَ لَمْ يُنْزِلْهُ. [6/ 163]

* * *

(ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ اللهَ يوصَفُ بِالسُّكوتِ)

491 -

فِي حَدِيثِ سَلْمَانَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ الله فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ" .. فَثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَالْإجْمَاعِ أَن اللهَ يُوصَفُ بِالسُّكُوتِ، لَكِنَّ السُّكُوتَ يَكُونُ تَارَةً عَن التَّكَلُّمِ، وَتَارَةً عَن إظْهَارِ الْكَلَامِ وَإِعْلَامِهِ. [6/ 178 - 179]

* * *

‌(الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى: هَل هُوَ هُوَ أَو غَيْرُهُ

؟)

492 -

فَصْلٌ: فِي "الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى": هَل هُوَ هُوَ، أَو غَيْرُة؟ أَو لَا يُقَالُ هُوَ هُوَ، وَلَا يُقَالُ هُوَ غَيْرُهُ؟ أَو هُوَ لَهُ؟ أَو يُفْصَلُ فِي ذَلِكَ؟

فَإِنَّ النَّاسَ قَد تَنَازَعُوا فِي ذَلِكَ، وَالنِّزَاعُ اشْتَهَرَ فِي ذَلِكَ بَعْدَ الْأَئِمَّةِ بَعْدَ أحْمَد وَغَيْرِهِ، وَاَلَّذِي كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ أحْمَد وَغَيْرِهِ: الْإِنْكَارُ عَلَى الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ يَقُولُونَ: أَسْمَاءُ اللهِ مَخْلُوقَةٌ.

فَيَقُولُونَ: الِاسْمُ غَيْرُ الْمُسَمَّى، وَأَسْمَاءُ اللهِ غَيْرُهُ، وَمَا كَانَ غَيْرُهُ فَهُوَ

(1)

يعني: الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

(2)

الذي يظهر أن هذه الكلمة مقحمة، والصواب حذفها، والدليل على ذلك أمور منها:

أولًا: أنها لم تُذكر إلا في الفتاوى، فلم تُذكر في العقيدة الأصفهانية المطبوعة التي هي الأصل.

ثانيًا: أنه لا معنى لها في هذا الموضع.

ص: 475

مَخْلُوقٌ، وَهَؤُلَاءِ هُم الَّذِينَ ذَمَّهُم السَّلَفُ، وَغَلَّظُوا فِيهِم الْقَوْلَ؛ لِأنَّ أَسْمَاءَ اللهِ مِن كَلَامِهِ، وَكَلَامُ اللهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ.

وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ الْمَعْرُوفَ عَن أَئِمَّةِ السُّنَّةِ إنْكَارُهُم عَلَى مَن قَالَ أَسْمَاءُ اللهِ مَخْلُوقَةٌ، وَكَانَ الَّذِينَ يُطْلِقُونَ الْقَوْلَ بِأَنَّ الِاسْمَ غَيْرُ الْمُسَمَّى هَذَا مُرَادُهُمْ.

وَاَلَّذِينَ قَالُوا الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى كَثِيرٌ مِن الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ؛ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبِي الْقَاسِمِ الطبري، واللالكائي، وَأَبِي مُحَمَّدٍ البغوي صَاحِبِ شَرْحِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ.

قَالَ أبُو بَكْرِ بْنُ فورك .. : وَاَلَّذِي هُوَ الْحَقُّ عِنْدَنَا قَوْلُ مَن قَالَ: اسْمٌ الشَّيءِ هُوَ عَيْنُهُ وَذَاتُهُ، وَاسْمُ اللهِ هُوَ اللهُ، وَتَقْدِيرُ قَوْلِ الْقَائِلِ: بِسْمِ اللهِ أَفْعَلُ: أَيْ: بِاللهِ أفْعَلُ، وَإِنَّ اسْمَهُ هُوَ هُوَ.

قَالَ: وإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سلام.

قُلْت

(1)

: لَو اقْتَصَرُوا عَلَى أَنَّ أَسْمَاءَ الشَّيءِ إذا ذُكِرَتْ فِي الْكَلَامِ فَالْمُرَادُ بِهَا الْمُسَمَّيَاتُ: لَكَانَ ذَلِكَ مَعْنًى وَاضِحًا، لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ مَن فَهِمَهُ، لَكِنْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى ذَلِكَ؛ وَلهَذَا أَنْكَرَ قَوْلَهُم جُمْهُورُ النَّاسِ مِن أَهْلِ السّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ؛ لِمَا فِي قَوْلِهِمْ مِن الْأُمُورِ الْبَاطِلَةِ؛ مِثْلُ دَعْوَاهُم أنَّ لَفْظَ اسْمٍ الَّذِي هُوَ "ا س م" مَعْنَاهُ: ذَاتُ الشَّيءِ وَنَفْسُهُ، وَأَنَّ الْأَسْمَاءَ -الَّتِي هِيَ الْأَسْمَاءُ- مِثْلُ زيدٍ وَعَمْرٍو هِيَ التَّسْمِيَاتُ لَيْسَتْ هِيَ أَسْمَاءَ الْمُسَمَّيَاتِ، وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ، مُخَالِفٌ لِمَا يَعْلَمُهُ جَمِيعُ النَّاسِ مِن جَمِيعِ الْأُمَمِ وَلمَا يَقُولُونَهُ.

فَإِنَّهُم يَقُولُونَ: إن زيدًا وَعَمْرًا وَنَحْو ذَلِكَ هِيَ أَسْمَاءُ النَّاسِ.

وَالتَّسْمِيَةُ: جَعْلُ الشَّيءِ اسْمًا لِغَيْرِهِ، هِيَ مَصْدَرُ سَمَّيْته تَسْمِيَة، إذَا جَعَلْت

(1)

القائل: شيخ الإسلام، يستدرك على قول ابن فورك وغيره الذين قالوا بأن الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى.

ص: 476

لَهُ اسْمًا، وَالِاسْمُ: هُوَ الْقَوْلُ الدَّالُّ عَلَى الْمُسَمَّى، لَيْسَ الِاسْمُ الَّذِي هُوَ لَفْظُ اسْمٍ هُوَ الْمُسَمَّى؛ بَل قَد يُرَادُ بِهِ الْمُسَمَّى؛ لِأنَّهُ حُكمٌ عَلَيْهِ وَدَليل عَلَيْهِ.

ثُمَّ قَد عُرِفَ أَنَّهُ إذَا أَطُلِقَ الِاسْمُ فِي الْكَلَامِ الْمَنْظومِ: فَالْمُرَادُ بِهِ الْمُسَمَّى؛ فَلِهَذَا يُقَالُ: مَا اسْمُ هَذَا؟ فَيُقَالُ: زَيْدٌ، فَيُجَابُ بِاللَّفْظِ، وَلَا يُقَالُ: مَا اسْمُ هَذَا، فَيُقَالُ: هُوَ هُوَ.

وَأَمَّا احْتِجَاجُهُم بِقَوْلِهِ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} [الأعلى: 1]، وَأَنَّ الْمُرَادَ سَبِّحْ رَبَّك الْأَعْلَى، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)} [الرحمن: 78] وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَهَذَا لِلنَّاسِ فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ وَكِلَاهُمَا حُجَّة عَلَيهِمْ:

مِنْهُم مَن قَالَ: "الِاسْمُ" هُنَا صِلَةٌ، وَالْمُرَادُ سَبِّحْ رَبَّك، وَتبَارَكَ رَبُّك.

وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ لَيْسَ بِصِلَة؛ بَل أَمَرَ اللهُ بِتَسْبِيحِ اسْمِهِ، كَمَا أَمَرَ بِذِكْرِ اسْمِهِ.

وَالْمَقْصُودُ بِتَسْبِيحِهِ وَذِكْرِهِ: هُوَ تَسْبِيحُ الْمُسَمَّى وَذِكْرُهُ؛ فَإِنَّ الْمُسَبِّحَ وَالذَّاكِرَ إنَّمَا يُسَبِّحُ اسْمَهُ ويذْكُرُ اسْمَهُ فَيَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى، فَهُوَ نَطَقَ بِلَفْظِ رَبِّي الْأَعْلَى، وَالْمُرَادُ هُوَ الْمُسَمَّى بِهَذَا اللَّفْظِ، فَتَسْبِيحُ الِاسْمِ هُوَ تَسْبِيحُ الْمُسَمَّى.

لَكِنْ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ اسْمٍ الَّذِي هُوَ "أَلِفٌ سِينٌ مِيمٌ" الْمُرَادُ بِهِ الْمُسَمَّى.

لَكِنْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَسْمَاءَ اللهِ؛ مِثْلُ: الله، وَرَبُّنَا، وَرَبِّي الْأَعْلَى، وَنَحْوُ ذَلِكَ: يُرَادُ بِهَا الْمُسَمَّى، مَعَ أَنَّهَا هِيَ فِي نَفْسِهَا لَيْسَتْ هِيَ الْمُسَمَّى، لَكِنْ يُرَادُ بِهَا الْمُسَمَّى.

وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِن "السُّمُوِّ" وَهُوَ الْعُلُوُّ كَمَا قَالَ النُّحَاةُ الْبَصْرِيُّونَ، وَقَالَ النُّحَاةُ الْكُوفِيُّونَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِن "السِّمَةِ" وَهِيَ الْعَلَامَةُ، وَهَذَا صَحِيحٌ فِي

ص: 477

الِاشِتقَاقِ الْأَوْسَطِ، وَهُوَ مَا يَتَّفِق فِيهِ حُروفُ اللَّفْظَيْنِ دُونَ تَرْتِيبِهِمَا؛ فَإِنَّهُ فِي كِلَيْهِمَا (السِّينُ وَالْمِيمُ وَالْوَاوُ) وَالْمَعْنَى صَحِيحٌ؛ فَإِنَّ السِّمَةَ وَالسِّيمَا الْعَلَامَةُ.

وَمِنْهُ يُقَالُ: وَسمْته أَسِمُهُ كَقَوْلِهِ: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)} [القلم: 16]، وَمِنْهُ التَّوَسُّمُ كقَوْلِهِ:{لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75].

لَكِنَّ اشْتِقَاقَهُ مِن السِّمُوِّ هُوَ الِاشْتِقَاقُ الْخَاصُّ الَّذِي يَتَّفِقُ فِيهِ اللَّفْظَانِ فِي الْحُرُوفِ وَتَرْتِيبِهَا، وَمَعْنَاهُ أَخَصُّ وَأَتَمُّ؛ فَإِنَّهُم يَقُولُونَ فِي تَصْرِيفِهِ: سَمَّيْت وَلَا يَقُولُونَ وَسَمْت، وَفِي جَمْعِهِ أَسْمَاءٌ لَا أوسام، وَفِي تَصْغِيرِهِ سمي لَا وسيم. [6/ 185 - 208]

* * *

(إبْرَاهِيم عليه السلام لَمْ يَقْصِدْ يِقَوْلِهِ: {هَذَا رَبِّي} إنَّه رَبُّ الْعَالَمِينَ)

493 -

إبْرَاهِيم عليه السلام لَمْ يَقْصِدْ بِقَوْلِهِ: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 77] إنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَلَا كَانَ أَحَدٌ مِن قَوْمِهِ يَقُولُونَ إنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِن تَجْوِيزِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ؛ بَل كَانُوا مُشْرِكِينَ مُقِرّينَ بِالصَّانِعِ، وَكَانُوا يَتَّخِذُونَ الْكَوَاكِبَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أَرْبَابًا يَدْعُونَهَا مِن دُونِ اللهِ ويبْنُونَ لَهَا الْهَيَاكِلَ. [6/ 254]

* * *

(كان الشيخ في صغره على مَذْهَبِ الْآبَاءِ ويقول بِبعض قَوْلِ أَهْلِ الْبِدَعِ)

494 -

وَلَكنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ

(1)

وَمَسْألَةُ الزِّيَارَةِ

(2)

وَغَيْرهمَا حَدَثَ مِن الْمُتَأَخرِينَ فِيهَا شُبَهٌ.

وَأَنَا وَغَيْرِي كُنَّا عَلَى مَذْهَبِ الْآبَاءِ فِي ذَلِكَ نَقولُ فِي الْأَصْلَيْنِ بِقَوْلِ أَهْلِ

(1)

وهي: حلول الحوادث، وهو أنه يَمْتَنِعُ أنْ تَحِلَّ الْحَوَادِثُ بذَاتِهِ، فينفون أَنْ تَقُومَ بهِ أمُورٌ تتَعَلقُ بقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، فينفون عنه النزُول والمَجِيء والاسْتِوَاء وَالإتْيَان والخَلْق وغَيْرُ ذَلِكَ.

(2)

أي: زَيارة القبور البدعية.

ص: 478

الْبِدَع

(1)

؛ فَلَمَّا تبَيَّنَ لنَا مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ: دَارَ الْأمْرُ:

أ - بَيْنَ أَنْ نتَّبعَ مَا أَنْزَلَ اللهُ.

ب - أَو نتَّبعَ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا.

فَكَانَ الْوَاجِبُ هُوَ اتِّبَاعُ الرَّسُولِ، وَأَنْ لَا نَكُونَ مِمَن قِيلَ فِيهِ:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [لقمان: 21]، وَقَد قَالَ تَعَالَى:{قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف: 24].

فَالْوَاجِبُ اتِّبَاع الْكتَابِ الْمُنَزَّلِ، وَالنَّبِيِّ الْمُرْسَلِ، وَسَبِيلِ مَن أَنَابَ إلَى اللهِ، فَاتَّبَعْنَا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ؛ كَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، دُونَ مَا خَالَفَ ذَلِكَ مِن دِينِ الْآبَاءِ وَغَيْرِ الَآبَاءِ. [6/ 258]

* * *

(مَا يَحْتَجُّ بهِ الْمُبْطِلُ مِن الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى الْحَقِّ، لَا تَدُلُّ عَلَى قَوْلِ الْمُبْطِلِ)

495 -

قَاعِدَةٌ شَرِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَحْتَجُّ بِهِ الْمُبْطِلُ مِن الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى الْحَقِّ، لَا تَدُلُّ عَلَى قَوْلِ الْمُبْطِلِ.

وَهَذَا ظَاهِرٌ يَعْرِفُة كُلُّ أَحَدٍ، فَإِنَّ الدَّلِيلَ الصَّحِيحَ لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى حَق لَا عَلَى بَاطِلٍ.

يَبْقَى الْكَلَامُ فِي أَعْيَانِ الْأَدِلَّةِ، وَبَيَانِ انْتِفَاءِ دَلَالَتِهَا عَلَى الْبَاطِلِ وَدَلَالَتِهَا عَلَى الْحَقِّ: هُوَ تَفْصِيلُ هَذَا الْإِجْمَالِ.

وَالْمَقْصُودُ هُنَا شَيْءٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ نَفْسَ الدَّلِيلِ الَّذِي يَحْتَجُّ بِهِ الْمُبْطِلُ هُوَ بِعَيْنِهِ إذَا أُعْطي حَقُّهُ وَتَمَيَّزَ مَا فِيهِ مِن حَقٍّ وَبَاطِلٍ وَبُيِّنَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ: تَبَيَّنَ أَنَّهُ

(1)

فالشيخ نشأ على ما كان عليه آباؤه والكثير من مشايخه، وكان هو وغيرُه يرون الزيارة البدعية، وينفون أو يُؤوِّلون بعض الصفات؛ كالنزول والاستواء، ومع ذلك لم يستمر على ذلك؛ بل لَمَّا تبين له خطأ ذلك أنكره وهجر البدع، وتمسك بالسنَّة.

ص: 479

يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُبْطِلِ الْمُحْتَجِّ بِهِ فِي نَفْسِ مَا احْتَجَّ بِهِ عَلَيْهِ.

وَهَذَا عَجِيبٌ، قَد تَأمَّلْته فِيمَا شَاءَ اللهُ مِن الْأدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ فَوَجَدْته كَذَلِكَ. [6/ 288]

* * *

(الْكَلَامُ فِي الصِّفَاتِ فَرْعٌ عَلَى الْكَلَامِ فِي الذَّاتِ)

496 -

إنَّ الْكَلَامَ فِي الصِّفَاتِ فَرْعٌ عَلَى الْكَلَامِ فِي الذَّاتِ، يُحْتَذَى حَذْوُهُ، ويُتَّبَغ فِيهِ مِثَالُهُ، فَإذَا كَانَ إثْبَاتُ الذَّاتِ إثْبَاتَ وُجُودٍ لَا إثْبَاتَ كَيْفِيَّةٍ، فَكذَلِكَ إثْبَاتُ الصِّفَاتِ إثْبَات وُجُوب لَا إثْبَاتُ كَيْفِيَّةٍ. [6/ 355]

* * *

(الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز، وهي مناظرة للشيخ مع أحد الْمُؤَوِّلين للصفات)

497 -

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ-:

السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتهُ، السَّلَامُ عَلَى جِيرَانِهِ سُكَّانِ الْمَدِينَةِ طِيبَةَ، مِن الْأحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، مِن الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَسَائِرِ الْمُؤمِنِينَ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.

إلَى الشيحِ الْإِمَامِ الْعَارِفِ النَّاسِكِ الْمُقْتَدِي الزَّاهِدِ الْعَابِدِ

(1)

: شَمْسِ الدِّينِ، كَتَبَ اللهُ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُ بِرُوح مِنْهُ، وَآتاهُ رَحْمَةً مِن عِنْدِهِ، وَعَلَّمَهُ مِن لَدُنْهُ عِلْمًا.

مِن أَحْمَد ابْنِ تَيْمِيَّة

(2)

: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، أَمَّا بَعْدُ: .. مَا ذَكَرْتَ مِن طَلَبِ الْأسْبَابِ الْأرْبَعَةِ الَّتِي لَا بُدَّ فِيهَا مِن صَرْفِ الْكَلَامِ مِن حَقِيقَتِهِ

(1)

هذه من عادة الشيخ رحمه الله، حيث يُنزل الناس والعلماء منازلهم، ويناديهم بأحسن وأفضل الألقاب والأسماء.

(2)

انظر إلى: أدبه وتواضعه، حيث قدم ذكر المرسَل إليه قبل نفسِه.

ص: 480

إلَى مَجَازِهِ، فَأنَا أَذْكُرُ فلَخَّصَ الْكَلَامِ الَّذِي جَرَى بَيْنِي وَبَيْنَ بَعْضِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ

(1)

، وَهُوَ مَا حَكَيْته لَك وَطَلَبْته، وَكَانَ إنْ شَاءَ اللهُ لَهُ وَلغَيْرِهِ بِهِ مَنْفَعَةٌ عَلَى مَا فِي الْحِكَايَةِ مِن زَيادَةٍ وَنَقْصٍ وَتَغْيِيرٍ.

قَالَ لِي بَعْضُ النَّاسِ: إذَا أَرَدْنَا أنْ نَسْلُكَ طَرِيقَ سَبِيلِ السَّلَامَةِ وَالسُّكُوتِ

وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الَّتِي تَصْلُحُ عَلَيْهَا السَّلَامَةُ: قُلْنَا كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: آمَنْت بِاللهِ وَبِمَا جَاءَ عَن اللهِ عَلَى مُرَادِ اللهِ، وَآمَنْت بِرَسُولِ اللهِ وَمَا جَاءَ عَن رَسُولِ اللهِ عَلَى مُرَادِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

وَإِذَا سَلَكْنَا سَبِيلَ الْبَحْثِ وَالتَّحْقِيقِ: فَإِنَّ الْحَقَّ مَذْهَبُ مَن يَتَأَوَّلُ آياتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثَ الصِّفَاتِ مِن الْمُتَكَلِّمِينَ.

فَقُلْت لَهُ: أَمَّا مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ حَقٌّ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَقِدَهُ، وَمَن اعْتَقَدَهُ وَلَمْ يَأْتِ بِقَوْل يُنَاقِضُهُ فَإِنَّهُ سَالِكٌ سَبِيلَ السَّلَامَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَأَمَّا إذَا بَحَثَ الْإِنْسَانُ وَفَحَصَ: وَجَدَ مَا يَقُوُلهُ الْمُتَكَلِّمُونَ مِن التَّأوِيلِ الَّذِي يُخَالِفُونَ بِهِ أَهْلَ الْحَدِيثِ كُلَّهُ بَاطِلًا، وَتَيَقَّنَ أَن الْحَقَّ مَعَ أَهْلِ الْحَدِيثِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.

فَاسْتَعْظَمَ ذَلِكَ وَقَالَ: أَتُحِبُّ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ أَنْ يَتَنَاظَرُوا فِي هَذَا؟

فَتَوَاعَدْنَا يَوْمًا، فَكَانَ فِيمَا تَفَاوَضْنَا: أَنَّ أمَّهَاتِ الْمَسَائِلِ الَّتِي خَالَفَ فِيهَا مُتَأخِّرُو الْمُتَكَلِّمِينَ -مِمَن يَنْتَحِلُ مَذْهَبَ الْأَشْعَرِيِّ- لِأَهْلِ الْحَدِيثِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ:

أ - وَصْفُ اللهِ بِالْعُلُوِّ عَلَى الْعَرْشِ.

(1)

هذه من عادته كذلك، أنه يستر على المخطئ إلا إذا كان من الدعاة للبدعة المحرضين عليها، فيُشْهره لئلا يُغتر به، ويُحْذَرَ من أفكارِه.

ص: 481

ب - وَمَسْألَةُ الْقُرْآنِ.

ت - وَمَسْأَلَةُ تَأوِيلِ الصِّفَاتِ.

فَقُلْت لَهُ: نَبْدَأ بِالْكَلَامِ عَلَى مَسْألَةِ تَأوِيلِ الصِّفَاتِ؛ فَإِنَّهَا الْأمُّ وَالْبَاقِي مِن الْمَسَائِلِ فَرْعٌ عَلَيْهَا.

وَقُلْت لَهُ: مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَهُم السَّلَفُ مِن الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ وَمَن سَلَكَ سَبِيلَهُم مِن الْخَلَفِ: أَنَّ هَذِهِ الأحَادِيثَ تُمَرُّ كَمَا جَاءَتْ، ويُؤْمَنُ بِهَا وَتُصَدَّقُ، وَتُصَانُ عَن تَأوِيلٍ يُفْضِي إلَى تَعْطِيلٍ، وَتَكْيِيفٍ يُفْضِي إلَى تَمْثِيلٍ.

وَقَد أَطْلَقَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِمَن حَكَى إجْمَاعَ السَّلَفِ -مِنْهم الخطابي- مَذْهَبَ السَّلَفِ: أَنَّهَا تُجْرى عَلَى ظَاهِرِهَا مَعَ نَفْيِ الْكَيْفِيَّةِ وَالتَّشْبِيهِ عَنْهَا؛ وَذَلِكَ أنَّ الْكَلَامَ فِي الصِّفَاتِ فَرْعٌ عَلَى الْكَلَامِ فِي الذَّاتِ، يُحْتَذَى حَذْوُهُ، ويُتَّبَعُ فِيهِ مِثالُهُ؛ فَإذَا كَانَ إثْبَاتُ الذَّاتِ إثْبَاتَ وُجُودٍ لَا إثْبَاتَ كَيْفِيَّةٍ: فَكَذَلِكَ إثْبَات الصِّفَاتِ إثْبَاتُ وُجُودٍ لَا إثْبَاتُ كَيْفِيَّةٍ.

فَنَقُولُ: إنَّ لَهُ يَدًا وَسَمْعًا، وَلَا نَقُولُ إنَّ مَعْنَى الْيَدِ الْقُدْرَةُ، وَمَعْنَى السَّمْعِ الْعِلْمُ.

فَقُلْت لَهُ: وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: مَذْهَبُ السَّلَفِ أَنَّ الظَّاهِرَ غَيْرُ مُرَادٍ وَيَقُولُ: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ غَيْرُ مُرَادٍ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ خَطَأٌ: إمَّا لَفْظًا وَمَعْنًى، أَو لَفْظًا لَا مَعْنًى؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ قَد صَارَ مُشْتَرِكًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ:

أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْيَدَ جَارِحَةٌ مِثْلُ جَوَارحِ الْعِبَادِ، وَظَاهِرُ الْغَضَبِ غَلَيَانُ الْقَلْبِ لِطَلَب الِانْتِقَامِ، وَظَاهِرُ كَوْنِهِ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَكُونَ مِثْل الْمَاءِ فِي الظَّرْفِ، فَلَا شَكَّ أنَّ مَن قَالَ: إنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ وَشِبْهَهَا مِن صفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَنُعُوتِ الْمُحْدَثِينَ غَيْرُ مُرَادٍ مِن الْآيَاتِ وَالْأحَادِيثِ فَقَد صَدَقَ وَأَحْسَنَ.

لَكِنَّ هَذَا الْقَائِلَ أَخْطَأَ حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الظَّاهِرُ مِن هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ، وَحَيْثُ حكى عَن السَّلَفِ مَا لَمْ يَقُولُوهُ؛ فَإِنَّ ظَاهِرَ

ص: 482

الْكَلَامِ: هُوَ مَا يَسْبِقُ إلَى الْعَقْلِ السَّلِيمِ مِنْهُ لِمَن يَفْهَمُ بِتِلْكَ اللُّغَةِ.

ثُمَّ قَد يَكُونُ ظُهُورُهُ:

- بِمُجَرَّدِ الْوَضْعِ.

- وَقَد يَكُونُ بِسِيَاقِ الْكَلَامِ.

وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمَعَانِي الْفحْدَثَةُ الْمُسْتَحِيلَةُ عَلَى اللهِ تَعَالَى هِيَ السَّابِقَةَ إلَى عَقْلِ الْمُؤْمِنِينَ؛ بَل الْيَدُ عِنْدَهُم كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالذَّاتِ، فَكَمَا كَانَ عِلْمُنَا وَقُدْرَتُنَا وَحَيَاتُنَا وَكَلَامُنَا وَنَحْوُهَا مِن الصِّفَاتِ أَعْرَاضا تَدُلُّ عَلَى حُدُوثنَا، يَمْتَنِعُ أَنْ يُوصَفَ اللهُ سُبْحَانَهُ بِمِثْلِهَا: فَكَذَلِكَ أَيْدِينَا وَوُجُوهُنَا وَنَحْوُهَا أَجْسَامًا كَذَلِكَ مُحْدَثَةً يَمْتَنِعُ أَنْ يُوصَفَ اللهُ تَعَالَى بِمِثْلِهَا.

وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ إنَّمَا هِيَ صِفَاتُ اللهِ -سبحانه وتعالي- كمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ، نِسْبَتُهَا إلَى ذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ كَنِسْبَةِ صِفَاتِ كُلِّ شَيْءٍ إلَى ذَاتِهِ، فَيُعْلَمُ أَنَّ الْعِلْمَ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لِلْمَوْصُوفِ، وَلَهَا خَصَائِصُ، وَكَذَلِكَ الْوَجْهُ.

قُلْت لَهُ: إذَا وَصَفَ اللهُ نَفْسَهُ بِصِفَةٍ أَو وَصَفَهُ بِهَا رَسُولُهُ أَو وَصَفَة بِهَا الْمُومِنُونَ -الَّذِينَ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَدِرَايَتِهِمْ- فَصَرْفُهَا عَن ظَاهِرِهَا اللَّائِقِ بِجَلَالِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَحَقِيقَتِهَا الْمَفْهُومَةِ مِنْهَا إلَى بَاطِنٍ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ، وَمَجَازٍ يُنَافِي الْحَقِيقَةَ: لَا بُدَّ فِيهِ مِن أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ:

أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ مُسْتَعْمَلٌ بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَكَلَامَ السَّلَفِ جَاءَ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِشَيء مِنْهُ خِلَافُ لِسَانِ الْعَرَبِ، أو خِلَافُ الْأَلْسِنَةِ كُلِّهَا، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ مَا يُرَادُ بِهِ اللَّفْظُ، وإِلَّا فَيُمْكِنُ كُلُّ مُبْطِلٍ أَنْ يُفَسِّرَ أَيَّ لَفْظٍ بِأَيِّ في مَعْنًى سَنَحَ لَهُ، وَإِن لَمْ يَكُن لَهُ أَصْل فِي اللُّغَةِ.

الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعَهُ دَلِيل يُوجِبُ صَرْفَ اللَّفْظِ عَن حَقِيقَتِهِ إلَى مَجَازِهِ.

ص: 483

ثُمَّ إن ادَّعَى وُجُوبَ صَرْفِهِ عَن الْحَقِيقَةِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِن دَلِيلٍ قَاطِعٍ عَقْلِيٌّ أَو سَمْعِيٍّ يُوجِبُ الصَّرْفَ.

وَإِن ادَّعَى طُهُورَ صَرْفِهِ عَن الحَقِيقَةِ فَلَا بُدَّ مِن دَلِيلٍ مُرَجحٍ لِلْحَمْلِ عَلَى الْمَجَازِ.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِن أَنْ يَسْلَمَ ذَلِكَ الدَّلِيلُ -الصَّارِفُ- عَن مُعَارِضٍ.

الرَّابِعُ: أَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم إذَا تَكَلَّمَ بِكلَام وَأَرَادَ بِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ وَضِدَّ حَقِيقَتِهِ: فَلَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ لِلْأُمَّةِ أنَّهُ لَمْ يُرِدْ حَقِيقَتَهُ، وَأَنَّهُ أَرَادَ مَجَازَهُ، سَوَاءٌ عَيَّنَهُ أَو لَمْ يُعَيِّنْهُ لَا سِيَّمَا فِي الْخِطَابِ الْعِلْمِيِّ الَّذِي أرِيدَ مِنْهُم فِيهِ الِاعْتِقَادُ وَالْعِلْمُ، دُونَ عَمَلِ الْجَوَارحِ.

فَإنَهُ -سبحانه وتعالي- جَعَلَ الْقُرْآنَ نُورًا وَهُدًى وَبَيَانًا لِلنَّاسِ وَشِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ لِيُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نَزلَ إلَيْهِم وَليَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَلئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ.

ثُمَّ هَذَا الرَّسُولُ الْأُمِّيُّ الْعَرَبِيُّ بُعِثَ بِأَفْصَحِ اللُّغَاتِ، وَأَبْيَنِ الْأَلْسِنَةِ وَالْعِبَارَاتِ، ثُمَّ الْأُمَّةُ الَّذِينَ أَخَذُوا عَنْهُ كَانُوا أَعْمَقَ النَّاسِ عِلْمًا، وَأَنْصَحَهُم لِلْأُمَّةِ، وَأَبْيَنَهُم لِلسُّنَّةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَكلَّمَ هوَ وَهَؤُلَاءِ بِكَلَامٍ يُرِيدُونَ بِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ، إلَّا وَقَد نَصبَ دَلِيلًا يَمْنَعُ مِن حَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ:

- إمَّا إَنْ يَكونَ عَقلِيًّا ظَاهِرًا مِثلُ قَوْلِهِ: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23]؛ فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِعَقْلِهِ أَنَّ الْمُرَادَ أُوتيَتْ مِن جِنْسِ مَا يُوتَاهُ مِثْلُهَا، وَكَذَلِكَ:{خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]، يَعْلَمُ الْمُسْتَمِعُ أَنَّ الْخَالِقَ لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْعُمُومِ.

- أَو سَمْعِيًّا ظَاهِرًا؛ مِثْلُ الدَّلَالَاتِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَةِ الَّتِي تَصْرِف بَعْضَ الظَّوَاهِرِ.

ص: 484

وَلَا يَجُوزُ أنْ يُحِيلَهُم عَلَى دَلِيل خَفِيٍّ لَا يَسْتَنْبِطُهُ إلَّا أَفْرَادُ النَّاسِ، سَوَاءٌ كَانَ سَمْعِيًّا أَو عَقْلِيًّا؛ لِأنَّهُ إذَا تَكَلَّمَ بِالْكَلَام الَّذِي يُفْهَمُ مِنْهُ مَعْنًى وَأَعَادَهُ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً، وَخَاطَبَ بِهِ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ، وَفِيهِم الذكِيُّ وَالْبَلِيدُ، وَالْفَقِيهُ وَغَيْرُ الْفَقِيهِ، وَقَد أَوْجَبَ عَلَيْهِم أَنْ يَتَدَبَّرُوا ذَلِكَ الْخِطَابَ ويعْقِلُوهُ، ويتَفَكَّرُوا فِيهِ وَيَعْتَقِدُوا مُوجَبَهُ، ثُمَّ أَوْجَبَ أَنْ لَا يَعْتَقِدُوا بهَذَا الْخِطَابِ شَيْئًا مِن ظَاهِرِهِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ دَلِيلًا خَفِيًّا يَسْتَنْبِطُهُ أَفْرَادُ النَّاسِ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ ظَاهِرَهُ: كَانَ هَذَا تَدْلِيسًا وَتَلْبِيسًا، وَكَانَ نَقِيضَ الْبَيَانِ، وَضِدَّ الْهُدَى، وَهُوَ بِالْأَلْغَازِ وَالْأَحَاجِيِّ أَشبَة مِنْهُ بِالْهُدَى وَالْبَيَانِ.

فَكَيْفَ إذَا كَانَت دَلَالَةُ ذَلِكَ الْخِطَابِ عَلَى ظَاهِرِهِ أَقْوَى بِدَرَجَاتٍ كَثِيرَةٍ مِن دَلَالَةِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ الْخَفِيِّ عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ غَيْرُ مُرَادٍ، أَمْ كَيْفَ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْخَفِيُّ شبْهَةً لَيْسَ لَهَا حَقِيقَةٌ؟

فَسَلَّمَ لِي ذَلِكَ الرَّجُلُ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ.

قُلْت: وَنَحْنُ نتَكَلَّمُ عَلَى صِفَةٍ مِن الصِّفَاتِ، وَنَجْعَلُ الْكَلَامَ فِيهَا أُنْمُوذَجًا يُحْتَذَى عَلَيْهِ، وَنُعَبِّرُ بِصِفَةِ "الْيَدِ"، وَقَد قَالَ تَعَالَى:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64]، وَقالَ تَعَالى لإبليس:{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمرة 67]، وَقَالَ تَعَالَى:{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1]، وَقَالَ تَعَالَى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71)} [يس: 71].

وَقَد تَوَاتَرَ فِي السُّنَّةِ مَجِيءُ "الْيَدِ" فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

فَالْمَفْهُومُ مِن هَذَا الْكَلَامِ: أَنَّ للهِ تَعَالَى يَدَيْنِ مُخْتَصَّتَيْنِ بِهِ ذَاتِيَّتَيْنِ لَهُ كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ آدمَ بِيَدِهِ دُونَ الْمَلَائِكَةِ وَإِبْلِيسَ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقْبِضُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَوَاتِ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، وَأَنَّ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ، وَمَعْنَى

ص: 485

بَسْطِهِمَا بَذْلُ الْجُودِ وَسَعَةُ الْعَطَاءِ؛ لِأَنَّ الْإِعْطَاءَ وَالْجُودَ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ بِبَسْطِ الْيَدِ وَمَدِّهَا، وَتَرْكُهُ يَكُونُ ضَمًّا لِلْيَدِ إلَى الْعُنُقِ، صَارَ مِن الْحَقَائِقِ الْعُرْفِيَّةِ، إذَا قِيلَ هُوَ مَبْسُوطُ الْيَدِ فُهِمَ مِنْهُ يَدٌ حَقِيقَةً، وَكَانَ ظَاهِرُهُ الْجُودَ وَالْبُخْلَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29].

قُلْت لَهُ: فَالْقَائِلُ:

- إنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ يَدٌ مِن جِنْسِ أَيْدِي الْمَخْلُوقِينَ، وَأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ جَارِحَةً: فَهَذَا حَقٌّ.

- وَإِن زَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ يَدٌ زَائِدَةٌ عَلَى الصِّفَاتِ السَّبْعِ

(1)

: فَهُوَ مُبْطِلٌ.

فَيَحْتَاجُ إلَى تِلْكَ الْمَقَامَاتِ الْأَرْبَعَةِ:

- أمَّا الْأَوَّلُ: فَيَقُولُ: إنَّ الْيَدَ تَكُونُ بِمَعْنَى النِّعْمَةِ وَالْعَطِيَّةِ؛ تَسْمِيَةً لِلشَّيءِ بِاسْمِ سَبَبِهِ، كَمَا يُسَمَّى الْمَطَرُ وَالنَّبَاتُ سَمَاءً، وَمِنْهُ قَوْلُهُم: لِفُلَان عِنْدَهُ أَيَادٍ.

- وَقَد تَكُونُ الْيَدُ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ؛ تَسْمِيَةً لِلشَّيءِ بِاسْمِ مُسَبِّبِهِ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ هِيَ تُحَرِّكُ الْيَدَ، يَقُولُونَ: فُلَانٌ لَهُ يَدٌ فِي كَذَا وَكَذَا .. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]، وَالنكَاحُ كَلَام يُقَالُ، وإِنَّمَا مَعْنَاهُ: أَنَّهُ مُقْتَدِر عَلَيْهِ.

- وَقَد يَجْعَلُونَ إضَافَةَ الْفِعْلِ إلَيْهَا إضَافَةَ الْفِعْلِ إلَى الشَّخْصِ نَفْسِه؛ لِأَنَّ غَالِبَ الْأَفْعَالِ لَمَّا كَانَت بِالْيَدِ جُعِلَ ذِكْرُ الْيَدِ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ فُعِلَ بِنَفْسِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [آل عمران: 182]؛ أَيْ: بِمَا قَدَّمْتُمْ؛ فَإِنَّ بَعْضَ مَا قَدَّمُوهُ كَلَامٌ تكلَّمُوا بِهِ.

قُلْت لَهُ: وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ لُغَةَ الْعَرَبِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ فِي هَذَا كُلِّهِ، والمتأولون لِلصِّفَاتِ الَّذِينَ حَرَّفُوا الْكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ وَأَلْحَدُوا فِي أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ

(1)

أي: صفات الله تعالى السبع التي يُثبتها الأشاعرة، ويُؤوِّلون ما عداها، وهي: قدرة الله تعالى عز وجل، وعلمه، وحياته، وإرادته، وسمعه، وبصره، وكلا مه، وزعموا أنها صفات له أزلية.

ص: 486

تَأَوَّلُوا قَوْلَهُ: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، وَقَوْلَهُ:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} عَلَى هَذَا كُلِّهِ، فَقَالُوا: إنَّ الْمُرَادَ نِعْمَتُهُ؛ أَيْ: نِعْمَةُ الدُّنْيَا وَنعْمَةُ الْآخِرَةِ، وَقَالُوا: بِقُدْرَتهِ، وَقَالُوا: اللَّفْظُ كِنَايَةٌ عَن نَفْسِ الْجُودِ، مِن غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ يَدٌ حَقِيقَةً؛ بَل هَذِهِ اللَّفْظَةُ قَد صَارَتْ حَقِيقَةً فِي الْعَطَاءِ وَالْجُودِ.

وَقَوْلُهُ: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ؛ أَيْ: خَلَقْته أنَا، وَإِن لَمْ يَكُن هُنَاكَ يَدٌ حَقِيقِيَّة.

قُلْت لَهُ: فَهَذِهِ تَأوِيلَاتُهُمْ؟

قَالَ: نَعَمْ.

قُلْت لَهُ: فَنَنْظُرُ فِيمَا قَدَّمْنَا:

الْمَقَامُ الْأوَّلُ: أَنَّ لَفْظَ "الْيَدَيْنِ" بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي النِّعْمَةِ وَلَا فِي الْقُدْرَةِ؛ لِأَنَّ مِن لُغَةِ الْقَوْمِ اسْتِعْمَالَ الْوَاحِدِ فِي الْجَمْعِ؛ كَقَوْلِهِ: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)} [العصر: 2]، وَلَفْظُ الْجَمْعِ فِي الْوَاحِدِ؛ كقَوْلِهِ:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ} [آل عمران: 173]، وَلَفْظُ الْجَمْعِ فِي الِاثْنَيْنِ كَقَوْلِهِ:{صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4].

أَمَّا اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْوَاحِدِ فِي الِاثْنَيْنِ أَو الِاثْنَيْنِ فِي الْوَاحِدِ: فَلَا أَصْلَ لَهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ عَدَد، وَهِيَ نصُوصٌ فِي مَعْنَاهَا، لَا يُتَجَوَّزُ بِهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: عِنْدِي رَجُل وَيعْنِي: رَجُلَيْنِ، وَلَا عِنْدِي رَجُلَانِ ويعْنِي بِهِ: الْجِنْسَ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْوَاحِدِ يَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِ، وَالْجِنْسُ فِيهِ شِيَاعٌ، وَكَذَلِكَ اسْمُ الْجَمْعِ فِيهِ مَعْنَى الْجِنْسِ، وَالْجِنْسُ يَحْصُلُ بِحُصُولِ الْوَاحِدِ.

فَقَوْلُهُ: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقُدْرَةُ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَبَّرَ بِالِاثْنَيْنِ عَن الْوَاحِدِ.

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ النِّعْمَةُ؛ لِأَنَّ نِعَمَ اللهِ لَا تُحْصَى، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَبَّرَ عَن النِّعَمِ الَّتِي لَا تُحْصَى بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ.

ص: 487

وَلَسْت تَجِدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَلَا الْعَجَمِ -إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى- أَنَّ فَصِيحًا يَقُولُ: فَعَلْت هَذَا بِيَدَيَّ، أَو فُلَانٌ فَعَلَ هَذَا بِيَدَيْهِ، إلَّا ويكُون فَعَلُه بِيَدَيْهِ حَقِيقَةً.

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَا يَدَ لَهُ، أَو أَنْ يَكُونَ لَه يَدٌ وَالْفِعْلُ وَقَعَ بِغَيْرِهَا.

وَبِهَذَا الْفَرْقِ الْمُحَقَّقِ:

- تَتَبَيَّنُ مَوَاضِعُ الْمَجَازِ وَمَوَاضِعُ الْحَقِيقَةِ.

- وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْآيَاتِ لَا تَقْبَلُ الْمَجَازَ أَلْبَتَّةَ مِن جِهَةِ نَفْسِ اللُّغَةِ.

قَالَ لِي: فَقَد أَوْقَعُوا الِاثْنَيْنِ مَوْقِعَ الْوَاحِدِ فِي قَوْلِهِ: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24]، وَإِنَّمَا هُوَ خِطَابٌ لِلْوَاحِدِ.

قُلْت لَه: هَذَا مَمْنُوعٌ، بَل قَوْلُهُ:{أَلْقِيَا} قَد قِيلَ: تَثْنِيَةُ الْفَاعِلِ لِتَثْنِيَةِ الْفِعْلِ، وَالْمَعْنَى: أَلْقِ أَلْقِ.

وَقَد قِيلَ: إنَّه خِطَابٌ لِلسَّائِقِ وَالشَّهِيدِ.

وَمَن قَالَ: إنَّهُ خِطَابٌ لِلْوَاحِدِ قَالَ: إنَّ الْإِنْسَانَ يَكُون مَعَهُ اثْنَانِ: أَحَدُهُمَا عَن يَمِينِهِ وَالْآخَرُ عَن شِمَالِهِ، فَيَقُولُ: خَلِيلَيَّ خَلِيلَيَّ.

ثُمَّ إنَّهُ يُوقِعُ هَذَا الْخِطَابَ وَإِن لَمْ يَكُونَا مَوْجُودَيْنِ؛ كَأَنَّهُ يُخَاطِبُ مَوْجُودَيْنِ.

فَقَوْلُهُ: {أَلْقِيَا} عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ إنَّمَا هُوَ خِطَابٌ لِاثْنَيْنِ يُقَدَّرُ وُجُودُهُمَا، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ أَلْبَتَةَ.

قُلْت لَهُ: الْمَقَامُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: هَبْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْنِيَ بِالْيَدِ: حَقِيقَةَ الْيَدِ، وَأَنْ يَعْنِيَ بِهَا: الْقُدْرَةَ، أَو النِّعْمَةَ، أَو يَجْعَلَ ذِكْرَهَا كِنَايَةً عَن الْفِعْلِ، لَكِنْ مَا الْمُوجِبُ لِصَرْفِهَا عَن الْحَقِيقَةِ؟

فَإِنْ قُلْت: لِأَنَّ الْيَدَ هِيَ الْجَارِحَةُ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ عَلَى اللهِ سُبْحَانَهُ.

ص: 488

قُلْت لَك: هَذَا وَنَحْوُهُ يُوجِبُ امْتِنَاعَ وَصْفِهِ بِأَنَّ لَهُ يَدًا مِن جِنْسِ أَيْدِي الْمَخْلُوقِينَ، وَهَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ، لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ يَدٌ تُنَاسِبُ ذَاتَهُ تَسْتَحِقُّ مِن صِفَاتِ الْكَمَالِ مَا تَسْتَحِقُّ الذَّاتُ؟

قَالَ: لَيْسَ فِي الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ مَا يُحِيل هَذَا

(1)

.

قُلْت: فَإِذَا كَانَ هَذَا مُمْكِنًا وَهُوَ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ: فَلِمَ يُصْرَفُ عَنْهُ اللَّفْظُ إلَى مَجَازِهِ؟

وَكُلُّ مَا يَذْكُرُهُ الْخَصْمُ مِن دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ وَصْفِهِ بِمَا يُسَمَّى بِهِ - وَصَحَّت الدَّلَالَةُ -: سُلِّمَ لَهُ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يَسْتَحِقُّة الْمَخْلُوقُ مُنْتَفٍ عَنْهُ، وَإِنَّمَا حَقِيقَةُ اللَّفْظِ وَظَاهِرُهُ يَدٌ يَسْتَحِقُّهَا الْخَالِقُ؛ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ؛ بَل كَالذاتِ وَالْوُجُودِ.

الْمَقَامُ الثَّالِثُ: قُلْت لَهُ: بَلَغَك أَنَّ فِي كِتَابِ اللهِ أَو فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَو عَن أَحَدٍ مِن أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ: أَنَّهُم قَالُوا: الْمُرَادُ بِالْيَدِ خِلَافُ ظَاهِرِهِ، أَو الظَّاهِرُ غَيْرُ مُرَادٍ، أَو هَل فِي كِتَابِ اللهِ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ وَصْفِهِ بِالْيَدِ دَلَالَةً ظَاهِرَةً؛ بَل أَو دَلَالَة خَفِيَّةً؟.

وَكَذَلِكَ: هَل فِي الْعَقْلِ مَا يَدُلُّ دَلَالَةً ظَاهِرَةً عَلَى أَنَّ الْبَارِيَ لَا يَدَ لَهُ أَلْبَتَّةَ؟.

فَإِذَا لَمْ يَكُن فِي السَّمْعِ وَلَا فِي الْعَقْلِ مَا يَنْفِي حَقِيقَةَ الْيَدِ أَلْبَتَّةَ، وَإِن فُرِضَ مَا يُنَافِيهَا فَإِنَّمَا هُوَ مِن الْوُجُوهِ الْخَفِيَّةِ -عِنْدَ مَن يَدَّعِيهِ-، وَإِلَّا فَفِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ شُبْهَةٌ فَاسِدَةٌ.

(1)

المناظر لشيخ الاسلام سلّم بهذا الكلام؛ وذلك يدل على خلوه من الهوى والعلم عند الله، ومتى نزع الإنسان من قلبه آفة الهوى: وُفق لقبول الحق، ومتى استحكم فيه الهوى: ترك الأدلة التي هي أوضح من الشمس في رابعة النهار، وأوضح من القمر إذا كان بدرًا لا يحجُبه سحابٌ أو غُبار.

ص: 489

فَهَل يَجُوزُ أَنْ يُمْلَأَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِن ذِكْرِ الْيَدِ وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ بِيَدِهِ، وَأَنَّ {يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ، وَأَنَّ الْمُلْكَ بِيَدِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ مَا لَا يُحْصَى، ثُمَّ إنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأُولي الْأَمْرِ لَا يُبَيِّنُونَ لِلنَّاسِ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يُرَادُ بِهِ حَقِيقَتُهُ، وَلَا ظَاهِرُهُ حَتَّى يَنْشَأَ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ بَعْدَ انْقِرَاضِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ فَيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِم عَلَى نَبِيِّهِمْ، وَيَتْبَعَهُ عَلَيْهِ بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ وَمَن سَلَكَ سَبِيلَهُم مِن كُلِّ مَغْمُوصٍ عَلَيْهِ بِالنِّفَاقِ؟.

وَكَيْفَ يَجُوزُ لِلسَّلَفِ أَنْ يَقُولُوا: أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ، مَعَ أَنَّ مَعْنَاهَا الْمَجَازِيَّ هُوَ الْمُرَادُ، وَهُوَ شَيْءٌ لَا يَفْهَمُهُ الْعَرَبُ، حَتَّى يَكُونَ أَبْنَاءُ الْفُرْسِ وَالرُّومِ أَعْلَمَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ مِن أَبْنَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ؟

الْمَقَامُ الرَّابعُ: قُلْت لَهُ: أَنَا أَذْكرُ لَك مِن الْأَدِلَّةِ الْجَلِيَّةِ الْقَاطِعَةِ وَالظَّاهِرَةِ مَا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ للهِ يَدَيْنِ حَقِيقَةً:

فَمِن ذَلِكَ تَفْضِيلُهُ لِآدَمَ: يَسْتَوْجِبُ سُجُودَ الْمَلَائِكَةِ وَامْتِنَاعَهُم عَن التَّكَبُّرِ عَلَيْهِ، فَلَو كَانَ الْمُرَاد أَنَّهُ خَلَقَهُ بِقُدْرَتهِ أَو بِنِعْمَتِهِ أَو مُجَرَّدِ إضَافَةِ خَلْقِهِ إلَيْهِ لَشَارَكَهُ فِي ذَلِكَ إبْلِيسُ وَجَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ.

قَالَ لِي: فَقَد يُضَافُ الشَّيْءُ إلَى اللهِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ؛ كَقَوْلِهِ: {نَاقَةُ اللَّهِ} [الأعراف: 73]، وَبَيْتُ اللهِ.

قُلْت لَهُ: لَا يمُونُ الْإِضَافَةُ تَشْرِيفًا حَتَّى يَكُونَ فِي الْمُضَافِ مَعْنًى أَفْرَدَهُ بِهِ عَن غَيْرِهِ، فَلَو لَمْ يَكُن فِي النَّاقَةِ وَالْبَيْتِ مِن الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ مَا تَمْتَازُ بِهِ عَلَى جَمِيعِ النُّوقِ وَالْبُيُوتِ لَمَا اسْتَحَقَّا هَذِهِ الْإِضَافَةَ، وَالْأَمْرُ هُنَا كَذَلِكَ، فَإِضَافَةُ خَلْقِ آدَمَ إلَيْهِ أَنَّهُ خَلَقَهُ بِيَدَيْهِ، يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ خَلَقَهُ بِيَدَيْهِ أَنَّهُ قَد فَعَلَهُ بِيَدَيْهِ، وَخَلَقَ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ: كُنْ فَيَكُونُ؛ كَمَا جَاءَت بِهِ الْآثَارُ.

وَمِن ذَلِكَ أَنَّهُم إذَا قَالُوا: بِيَدِهِ الْمُلْكُ، أو عَمِلَتْهُ يَدَاك، فَهُمَا شَيْئَانِ:

أَحَدُهُمَا: إثْبَاتُ الْيَدِ.

ص: 490

وَالثَّانِي: إِضَافَةُ الْمُلْكِ وَالْعَمَلِ إلَيْهَا.

وَالثَّانِي: يَقَعُ فِيهِ التَّجَوُّزُ كَثِيرًا.

أَمَّا الْأوَّلُ: فَإِنَّهُم لَا يُطْلِقُونَ هَذَا الْكَلَامَ إلَّا لِجِنْسٍ لَهُ يَدٌ حَقِيقَةً، وَلَا يَقولُونَ: يَدُ الْهَوَى، وَلَا يَدُ الْمَاءِ.

فَهَبْ أَنَّ قَوْلَهُ: بِيَدِهِ الْمُلْكُ قَد عُلِمَ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقُدْرَتهِ، لَكِنْ لَا يُتَجَوَّزُ بِذَلِكَ إلَّا لِمَن لَهُ يَدٌ حَقِيقَةً

(1)

.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ قَوْله تَعَالَى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، وَقَوْلِهِ:{مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} مِن وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ هُنَا أَضَافَ الْفِعْلَ إلَيْهِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ خَلَقَهُ بِيَدَيْهِ، وَهُنَاكَ أَضَافَ الْفِغلَ إلَى الْأَيْدِي.

الثَّانِي: أَنَّ مِن لُغَةِ الْعَرَبِ أَنَّهُم يَضَعُونَ اسْمَ الْجَمْعِ مَوْضِعَ التَّثْنِيَةِ إذَا أُمِنَ اللَّبْسُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]؛ أَيْ: يَدَيْهِمَا، وَقَوْلِهِ:{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]؛ أَيْ: قَلْبَاكُمَا، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:{مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا}

(2)

.

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَكَثِيرَة جِدًّا مِثْلُ؛ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمُقْسِطُونَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِن نُورٍ عَن يَمِينِ الرَّحْمَنِ، وَكلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ في حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وُلُّوا". رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(3)

.

فَذَكَرْت لَه هَذِهِ الْأَحَادِيثَ وَغَيْرَهَا، ثُمَّ قُلْت لَهُ: هَل تَقْبَلُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ

(1)

سبحان من فهم هذا الإمام هذا الفهم العجيب، وأعطاه حسن البيان والفصاحة وقوة الحجة!.

(2)

يُلاحظ أن شبههم كثيرة وقويةٌ بعض الشيء، ولكن كلّ الشبه في كل زمان ومكان مهما قويت وانتشرت، قد قيّض الله تعالى لها من يرُدّها ويُبطلها، ويُبين زيفها وخطأها.

(3)

(1827).

ص: 491

تَأْوِيلًا، أَمْ هِيَ نُصُوصٌ قَاطِعَةٌ؟ وَهَذِهِ أَحَادِيثُ تَلَقَّتْهَا الْأمَّة بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ، وَنَقَلتهَا مِن بَحْرٍ غَزِيرٍ.

فَأظْهَرَ الرَّجُلُ التَّوْبَةَ وَتبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ.

فَهَذَا الَّذِي أَشَرْت إلَيْهِ -أَحْسَنَ اللهُ إلَيْك- أَنْ أَكْتُبَهُ.

وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.

وَإِن كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ لِلْمَدِينَةِ كِتَابًا يَتَضَمَّنُ أخْبَارَهَا؛ كَمَا صُنِّفَ أَخْبَارُ مَكَّةَ: فَلَعَلَّ تُعَرِّفُونَا بِهِ

(1)

. [6/ 351 - 373]

* * *

(إِنَّ لله تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَن أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ)

498 -

قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتْسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَن أَحْصَاهَما دَخَلَ الجَنَّةَ"

(2)

: تَقْيِيدُهُ بِهَذَا الْعَدَدِ بِمَنْزِلَةِ قَوْله تَعَالَى: {تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 30]، فَلَمَّا اسْتَقَلُّوهُم قَالَ:{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31]، فَأَنْ لَا يَعْلَمَ أَسْمَاءَة إلَّا هُوَ أَوْلَى.

فَقَوْلُه: "إنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ" قَد يَكُونُ لِلتَّحْصِيلِ بِهَذَا الْعَدَدِ فَوَائِدُ غَيْرُ الْحَصْرِ، وَمِنْهَا: ذَكَرَ أَنَّ إحْصَاءَهَا يُورِثُ الْجَنَّةَ.

وَبِكلِّ حَالٍ: فَتَعْيِينُهَا لَيْسَ مِن كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِحَدِيثِهِ، وَلَكِنْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَن السَّلَفِ أَنْوَاعٌ، مِن ذَلِكَ مَا ذَكَرَة التِّرْمِذِيُّ، وَمِنْهَا غَيْرُ ذَلِكَ. [6/ 381 - 382]

* * *

(1)

هذا من شغف الشيخ بالكتب، ولا يكاد يسمع بكتاب إلا بادر بقراءته، والله أعلم.

(2)

رواه البخاري (2736)، ومسلم (2677).

ص: 492

‌(الفرق بين النور والنار، وهل يُسَمَّى المصباح نارًا

؟)

499 -

عَن أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: "قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ:

أ - إنَّ اللهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنبغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ.

ب - يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ.

ج - يُرْفَعُ إلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ.

د - حِجَابُهُ النُّورُ -أَو النَّارُ- لَو كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ مِن خَلْقِهِ"

(1)

.

فَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ ذِكْرُ حِجَابِهِ؛ فَإِنَّ تَرَدُّدَ الرَّاوِي فِي لَفْظِ النَّارِ وَالنُّورِ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ مِثْل هَذِهِ النَّارِ الصَّافِيَةِ الَّتِي كَلَّمَ بِهَا مُوسَى يُقَالُ لَهَا نَارٌ وَنُورٌ، كَمَا سَمَّى اللهُ نَارَ الْمِصْبَاحِ نُورًا، بِخِلَافِ النَّارِ الْمُظْلِمَةِ كَنَارِ جَهَنَّمَ، فَتِلْكَ لَا تُسَمَّى نُورًا.

فَالْأَقْسَامُ ثَلَاثَةٌ:

أ - إشْرَاقٌ بِلَا إحْرَاقٍ، وَهُوَ النُّورُ الْمَحْضُ كَالْقَمَرِ.

ب - وَإحْرَاقٌ بِلَا إشْرَاقٍ، وَهِيَ النَّارُ الْمُظْلِمَةُ.

ج - وَمَا هُوَ نَارٌ وَنُورٌ؛ كَالشَّمْسِ وَنَارِ الْمَصَابيحِ الَّتِي فِي الدُّنْيَا، تُوصَفُ بِالأَمْرَيْنِ.

وإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: صَحَّ أَنْ يَكُونَ -سبحانه- نُورَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَأَنْ يُضَافَ إلَيْهِ النُّورُ، وَلَيْسَ الْمُضَافُ هُوَ عَيْنَ الْمُضَافِ إلَيْهِ.

[6/ 387 - 388]

(1)

رواه مسلم (179).

هذه الكلمات عظيمة؛ ولذلك اقتصر عليها النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وحفظها الصحابة ووعوها، فينبغي لنا أن نفهمها ونعيها ونتذاكر بها، ونُذكر غيرنا بها.

ص: 493

وَاَلَّذِي رَآهُ مُوسَى: كَانَ نَارًا بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَهُوَ أَيْضًا نُورٌ كَمَا فِي الْحَدِيثِ، وَالنَّارُ هِيَ نُورٌ. [6/ 585]

* * *

(الْعِلْمُ: مَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَالنَّافِعُ مِنْهُ: مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ)

500 -

كَتَبْت قَدِيمًا فِي بَعْضِ كُتُبِي لِبَعْضِ الْأَكَابِرِ: إنَّ الْعِلْمَ مَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَالنَّافِعُ مِنْهُ مَا جَاءَ بهِ الرَّسُولُ؛ فَالشَّأْنُ فِي أَنْ نَقُولَ عِلْمًا، وَهُوَ النَّقْلُ الْمُصَدَّقُ، وَالْبَحْثُ الْمُحَقَّقُ؛ فَإنَّ مَا سِوَى ذَلِكَ -وَإِنَّ زَخْرَفَ مِثْلَهُ بَعْضُ النَّاسِ- خَزَفٌ مُزَوَّقٌ، وإلَّا فَبَاطِلٌ مُطْلَقٌ. [6/ 388]

* * *

(الْعَرْشُ مَوْجُودٌ بِالْكِتَابِ وَالسّنَّةِ وَالإِجْمَاعِ)

501 -

الْعَرْشُ مَوْجُود بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا، وَكَذَلِكَ الْكُرْسِيُّ ثَابِثٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ جمْهُورِ السَّلَفِ.

وَقَد نُقِلَ عَن بَعْضِهِمْ أَنَّ كُرْسِيَّهُ عِلْمُهُ.

وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ؛ فَإنَّ عِلْمَ اللهِ وَسِعَ كُلَّ شَيءٍ كَمَا قَالَ: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7].

وَاللهُ يَعْلَمُ نَفْسَهُ، وَيَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا لَمْ يَكُنْ، فَلَو قِيلَ وَسِعَ عِلْمُهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَمْ يَكُن هَذَا الْمَعْنَى مُنَاسِبًا، لَا سِيَّمَا وَقَد قَالَ تَعَالَى:{وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255]؛ أَيْ: لَا يُثْقِلُهُ وَلَا يُكْرِثُهُ، وَهَذَا يُنَاسِبُ الْقُدْرَةَ لَا الْعِلْمُ، وَالْآثَارُ الْمَأثُورَةُ تَقْتَضِي ذَلِكَ. [6/ 584]

* * *

ص: 494

‌كتاب الإيمان الكبير

(1)

502 -

فَرَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ

(2)

عليه السلام بَيْنَ مُسَمَّى "الْإِسْلَامِ"، وَمُسَمَّى "الْإِيمَانِ"، وَمُسَمَّى "الْإِحْسَانِ" فَقَالَ: الْإِسْلَامُ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وَأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إن اسْتَطعْت إلَيْهِ سَبِيلًا، وَقَالَ: الْإيمَانُ: أَنْ تُؤمِنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ.

[7/ 6]

503 -

الْمَرَاتِب الْأَرْبَعَة:

أ - الْمُسْلِمُ مَن سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِن لِسَانِهِ وَيَدِهِ.

ب - وَالْمُؤمِنُ مَن أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ.

ج - وَالْمُهَاجِرُ مَن هَجَرَ السَّيِّئَاتِ.

د - وَالْمُجَاهِدُ مَن جَاهَدَ نَفْسَهُ لله.

وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِن حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو وفضالة بْنِ عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمَا بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، وَهُوَ فِي السُّنَنِ، وَبَعْضُهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ". [7/ 7]

* * *

(1)

سأنتقي أهم وأبرز الفوائد والمسائل التي ذكرها في كتابه، وأجعلها على فقرات ليسهل فهمها.

(2)

رواه مسلم (8).

ص: 495

‌(تَنَوُّعُ دَلَالَةِ اللَّفْظِ بحسبِ التَّجْرِيدِ وَالاقْتِرَانِ، ومعنى الإيمان لغة وشرعًا، والفرق بينه وبين الإسلام، والرد على المبتدعة، وهل النزاع بين أهل السُّنَّة ومرجئة الفقهاء نزاعٌ لفظيّ

؟)

504 -

اسْمُ الْإِيمَانِ:

- تَارَةً يُذْكَرُ مُفْرَدًا غَيْرَ مَقْرُونٍ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ وَلَا بِاسِمِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَلَا غَيْرِهِمَا.

- وَتَارَة يُذْكَرُ مَقْرُونًا إمَّا:

أ - بِالْإِسْلَامِ؛ كَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ جبرائيل

(1)

: "مَا الْإِسْلَامُ وَمَا الْإِيمَانُ؟ "، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 35].

ب - وَكَذَلِكَ ذُكِرَ الْإِيمَانُ مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ وَذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِن الْقُرْآنِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [فصلت: 8].

ج - وَإِمَّا مَقْرُونًا بِاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ} [الروم: 56].

فَلَمَّا ذَكَرَ الْإِيمَانَ مَعَ الْإِسْلَامِ: جَعَلَ الْإِسْلَامَ هُوَ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ: الشَّهَادَتَانِ وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْحَجُّ، وَجَعَلَ الْإِيمَانَ مَا فِي الْقَلْبِ مِن الْإِيمَانِ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ.

وَهَكذَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد

(2)

عَن أَنَسٍ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "الإسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالإِيمَانُ: في الْقَلْبِ".

وَإِذَا ذُكِرَ اسْمُ الْإِيمَانِ مُجَرَّدًا: دَخَلَ فِيهِ الْإِسْلَامُ وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ؛ كَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الشُّعَبِ: "الِإيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَما قَوْلُ لَا إلهَ إلَّا اللهُ

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

(12381)، وضعفه الألباني في ضعيف الجاهع (2280).

ص: 496

وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الأَذَى عَن الطَّرِيقِ"

(1)

.

وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يُجْعَلُ فِيهَا أعْمَالُ الْبِرِّ مِن الْإِيمَانِ.

ثُمَّ إنْ نَفْىَ الْإِيمَانَ عِنْدَ عَدَمِهَا

(2)

: دَلَّ عَلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ.

وَإِن ذَكَرَ فَضْلَ إيمَانِ صَاحِبِهَا -وَلَمْ يَنْفِ إيمَانَهُ-: دَلَّ عَلَى أَنَّهَا مُسْتَحَبَّة.

فَمَن قَالَ: إنَّ الْمَنْفِيَّ هُوَ الْكَمَالُ: فَإنْ أَرَادَ أَنَّهُ نَفْيُ الْكَمَالِ الْوَاجِبِ الَّذِي يُذَمُّ تَارِكُهُ وَيتَعَرَّضُ لِلْعُقُوبَةِ: فَقَد صَدَقَ.

وَإِن أَرَادَ أَنَّهُ نَفْيُ الْكَمَالِ الْمُسْتَحَبِّ: فَهَذَا لَمْ يَقَعْ قَطُّ فِي كَلَامِ اللهِ وَرَسُولِهِ. [7/ 13 - 15]

وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ كُل مَا نَفَاهُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِن مُسَمَّى أَسْمَاء الْأمُورِ الْوَاجِبَةِ؛ كَاسْمِ الْإِيمَانِ، وَالْإِسْلَامِ، وَالدِّينِ، وَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالطَّهَارَةِ، وَالْحَجِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ: فَإِنَّمَا يَكُونُ لِتَرْكِ وَاجِبٍ مِن ذَلِكَ الْمُسَمَّى، وَمِن هَذَا قَوْله تَعَالَى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} النساء: 65، فَلَمَّا نَفَى الْأِيمَانَ حَتَّى تُوجَدَ هَذِهِ الْغَايَةُ دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْغَايَةَ فَرْضٌ عَلَى النَّاسِ، فَمَن تَرَكَهَا كَانَ مِن أَهْلِ الْوَعِيدِ لَمْ يَكُن قَد أَتَى بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ الَّذِي وُعِدَ أَهْلُهُ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ بِلَا عَذَابٍ؛ فَإِنَّ اللهَ إنَّمَا وَعَدَ بِذَلِكَ مَن فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَأَمَّا مَن فَعَلَ بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ وَتَرَكَ بَعْضَهَا فَهُوَ مُعَرَّضٌ لِلْوَعِيدِ. [7/ 37]

وَحَقِيقَةُ الْفَرْقِ

(3)

: أنَّ الْإِسْلَامَ دِينٌ، وَالدِّينُ: مَصْدَرُ دَانَ يَدِينُ دِينًا: إذَا خَضَعَ وَذَلَّ، وَدِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي ارْتَضَاهُ اللهُ وَبَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ هُوَ الِاسْتِسْلَامُ للهِ وَحْدَهُ، فَأَصْلُة فِي الْقَلْبِ هُوَ الْخُضُوعُ للهِ وَحْدَهُ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ.

(1)

رواه مسلم (35).

(2)

كقوله: "لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه".

(3)

بَيْن الإسلام والإيمان، وقد أتى بالفرق الدقيق الواضح المقنع.

ص: 497

فَمَن عَبَدَهُ وَعَبَدَ مَعَهُ إلَهًا آخَرَ: لَمْ يَكُن مُسْلِمًا.

وَمَن لَمْ يَعْبُدْهُ بَل اسْتَكْبَرَ عَن عِبَادَتِهِ: لَمْ يَكُن مُسْلِمًا.

وَالْإِسْلَامُ: هُوَ الِاسْتِسْلَامُ للهِ، وَهُوَ الْخُضُوعُ لَهُ وَالْعُبُودِيَّةُ لَهُ، هَكَذَا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: أَسْلَمَ الرَّجُلُ إذَا اسْتَسْلَمَ.

فَالْإِسْلَامُ فِي الْأَصْلِ: مِن بَابِ الْعَمَلِ: عَمَلُ الْقَلْبِ وَالْجَوَارحِ.

وَأَمَّا الْإِيمَانُ: فَأَصْلُهُ تَصْدِيقٌ وَإِقْرَارٌ وَمَعْرِفَة، فَهُوَ مِن بَابِ قَوْلِ الْقَلْبِ الْمُتضَمِّنِ عَمَلَ الْقَلْبِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ التَّصْدِيقُ، وَالْعَمَلُ تَابعٌ لَهُ، فَلِهَذَا فَسَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْإِيمَانَ بِإِيمَانِ الْقَلْبِ وَبِخضُوعِهِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ باللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبهِ وَرُسُلِهِ.

وَفَسَّرَ الْإِسْلَامَ بِاسْتِسْلَامٍ مَخْصُوصٍ هُوَ الْمَبَانِي الْخَمْسُ.

وَهَكَذَا فِي سَائِرِ كَلَامِهِ صلى الله عليه وسلم يُفَسِّرُ الْإِيمَانَ بِذَلِكَ النَّوْعِ، ويُفَسِّرُ الْإِسْلَامَ بِهَذَا.

وَذَلِكَ النَّوْعُ أَعْلَى؛ وَلهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "الإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ"

(1)

.

فَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو وَأَبِي هُرَيْرَةَ جَمِيعًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْمُسْلِمُ مَن سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِن لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُؤْمِنُ مَن أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ"

(2)

، فَفَسَّرَ الْمُسْلِمَ بِأَمْر ظَاهِرٍ، وَهُوَ سَلَامَةُ النَّاسِ مِنْهُ، وَفَسَّرَ الْمُؤْمِنَ بِأَمْر بَاطِنٍ، وَهُوَ أَنْ يَأْمَنُوهُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ أَعْلَى مِن تِلْكَ؛ فَإِنَّ مَن كَانَ مَأْمُونًا سَلِمَ النَّاسُ مِنْهُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَن سَلِمُوا مِنْهُ يَكُونُ مَأمُونًا، فَقَد يَتْرُكُ أَذَاهُم وَهُم لَا يَأْمَنُونَ إلَيْهِ؛ خَوْفًا أَنْ يَكُونَ تَرَكَ أَذَاهُم لِرَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ، لَا لِإِيمَانٍ فِي قَلْبِهِ.

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

رواه الترمذي (2627)، وقال: حسن صحيح.

ص: 498

وَفِي حَدِيثِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَن عَمْرِو بْنِ عبسة أَنَ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: "إطْعَامُ الطعَامِ، وَلينُ الْكَلَامِ"، قَالَ: فَمَا الإِيمَانُ؟ قَالَ: السَّمَاحَةُ وَالصَّبْرُ"

(1)

، فَإِطْعَامِ الطَّعَامِ عَمَلٌ ظَاهِرٌ يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ لِمَقَاصِدَ مُتَعَدِّدَةٍ، وَكَذَلِكَ لِينُ الْكَلَامِ، وَأَمَّا السَّمَاحَةُ وَالصَّبْرُ فَخُلُقَانِ فِي النفْسِ. [7/ 263 - 264]

وَأَهْلُ الْبِدَعِ إنَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِم الدَّاخِلُ: لِأَنَّهُم أَعْرَضُوا عَن هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَصَارُوا يَبْنُونَ دِينَ الْإِسْلَامِ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ يَظُنُّونَ صِحَّتَهَا:

- إمَّا فِي دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ.

- وَإِمَّا فِي الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ.

وَلَا يَتَأَمَّلُونَ بَيَانَ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَكُلُّ مُقَدِّمَاتٍ تُخَالِفُ بَيَانَ اللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهَا تَكُونُ ضَلَالًا، وَلهَذَا تَكَلَّمَ أَحْمَد فِي رِسَالَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الرَّد عَلَى مَن يَتَمَسَّكُ بِمَا يَظْهَرُ لَهُ مِن الْقُرْآنِ مِن غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ بِبَيَانِ الرَّسُولِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.

مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمُرْجِئَةَ لَمَّا عَدَلُوا عَن مَعْرِفَةِ كَلَامِ اللهِ وَرَسُولِهِ أَخَذُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَغَيْرِهِمَا بِطُرُق ابْتَدَعُوهَا؛ مِثْل أَنْ يَقُولُوا: الْإِيمَانُ فِي اللُّغَةِ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَالرَّسُولُ إنَّمَا خَاطَبَ النَّاسَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ لَمْ يُغَيِّرْهَا، فَيَكُونُ مُرَادُهُ بِالْإِيمَانِ التَّصْدِيقَ، ثُمَّ قَالُوا: وَالتَّصْدِيقُ إنَّمَا يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، أَو بِالْقَلْبِ؛ فَالْأَعْمَالُ لَيْسَتْ مِن الْإِيمَانِ.

ثُمَّ عُمْدَتهُم فِي أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ قَوْلُهُ: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17]؛ أَيْ: بِمُصَدِّقٍ لنَا.

فَيُقَالُ لَهُمْ: هَاتَانِ الْمُقَدِّمَتَانِ، كِلَاهُمَا مَمْنُوعَةٌ:

[المقدمة الأولى]: لَيْسَ هُوَ مُرَادِفًا لَهُ

(2)

وَذَلِكَ مِن وُجُوهٍ:

(1)

رواه أحمد (19435)، بلفظ: "طيب الكلام، وإطعام الطعام

".

(2)

أي: ليس الْإِيمَانُ مرادفًا للإسلام.

ص: 499

أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ لِلْمُخْبِرِ إذَا صَدَّقْته: صَدَّقَهُ، وَلَا يُقَالُ: آمَنَهُ، وَآمَنَ بِهِ؛ بَل يُقَالُ: آمَنَ لَهُ، كَمَا قَالَ:{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26].

فَإِنْ قِيلَ: فَقَد يُقَالُ: مَا أَنْتَ بِمُصَدِّق لنَا.

قِيلَ: اللَّامُ تَدْخُلُ عَلَى مَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ إذَا ضَعُفَ عَمَلُهُ، إمَّا بِتَأخِيرِهِ، أَو بِكَوْنِهِ اسْمَ فَاعِلٍ، أَو مَصْدَرًا، أَو بِاجْتِمَاعِهِمَا، فَيُقَالُ: فُلَانٌ يَعْبُدُ اللهَ وَيَخَافُهُ وَيَتَّقِيهِ، ثُمَّ إذَا ذُكرَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ قِيلَ: هُوَ عَابِدٌ لِرَبِّهِ، مُتَّقٍ لِرّبِّهِ، خَائِفٌ لِرَبِّهِ، وَكَذَلِكَ تَقُولُ: فُلَانٌ يَرْهَبُ اللهَ، ثُمَّ تَقُولُ: هُوَ رَاهِبٌ لِرِّبهِ، وَإِذَا ذَكَرْت الْفِعْلَ وَأَخَّرْته تُقَوِّيهِ بِاللَّامِ كَقَوْلِهِ:{وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154].

وَهَذَا بِخِلَافِ لَفْظِ الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّهُ تَعَدَّى إلَى الضَّمِيرِ بِاللَّامِ دَائِمًا، لَا يُقَالُ: آمَنْته قَطُّ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: آمَنْت لَهُ، كَمَا يُقَالُ: أَقْرَرْت لَهُ، فَكَانَ تَفْسِيرُهُ بِلَفْظِ الْإِقْرَارِ أَقْرَبَ مِن تَفْسِيرِهِ بِلَفْظِ التَّصْدِيقِ، مَعَ أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا

(1)

.

الثَّانِيْ: أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادِفًا لِلَفْظِ التَّصْدِيقِ فِي الْمَعْنَى، فَإِنَّ كُلَّ مُخْبِرٍ عَن مُشَاهَدَةٍ أَو غَيْبٍ يُقَالُ لَهُ فِي اللُّغَةِ: صدَقْت، كَمَا يُقَالُ: كَذَبْت، فَمَن قَالَ: السَّمَاءُ فَوْقَنَا، قِيلَ لَهُ: صَدَقَ، كَمَا يُقَالُ: كَذَبَ.

وَأَمَّا لَفْظُ الْإِيمَانِ: فَلَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الْخَبَرِ عَن غَائِبٍ، لَمْ يُوجَدْ فِي الْكَلَامِ أَنَّ مَن أَخْبَرَ عَن مُشَاهَدَةٍ؛ كَقَوْلِهِ: طَلَعَت الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ أَنَّهُ يُقَالُ: آمَنَّاهُ، كَمَا يُقَالُ: صَدَّقْنَاهُ.

فَإِنَّ الْإِيمَانَ مُشْتَقٌّ مِن الْأَمْنِ، فَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي خَبَرٍ يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ الْمُخْبِرُ كَالْأَمْرِ الْغَائِبِ الَّذِي يُؤتَمَنُ عَلَيْهِ الْمُخْبِرُ.

(1)

قال الشيخ في كتابه: الإيمان الأوسط: مَعْلُومٌ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْإقْرَارُ، لَا مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ، وَالْإِقْرَارُ ضُمِّنَ قَوْلَ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ، وَعَمَلَ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ الِانْقِيَادُ. اهـ. (7/ 638)

ص: 500

وَلهَذَا لَمْ يُوجَدْ قَطُّ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ لَفْظُ آمَنَ لَهُ إلَّا فِي هَذَا النَّوْعِ.

فَاللَّفْظُ مُتَضَمِّنٌ:

أ - معنى التَّصْدِيقِ.

ب - وَمَعْنَى الِائتِمَانِ وَالْأَمَانَةِ.

كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاسْتِعْمَالُ وَالِاشْتِقَاقُ؛ وَلهَذَا قَالُوا: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17]؛ أَيْ: لَا تُقِرُّ بِخَبَرِنَا وَلَا تَثِقُ بِهِ، وَلَا تَطْمَئِنُّ إلَيْهِ وَلَو كُنَّا صَادِقِينَ؛ لِأَنَّهُم لَمْ يَكُونُوا عِنْدَهُ مِمَن يُؤتَمَنُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَو صَدَقُوا لَمْ يَأمَن لَهُمْ.

الثَّالِثُ: أَنَّ لَفْظَ الْإِيمَانِ فِي اللُّغَةِ لَمْ يُقَابَل بِالتَّكْذِيبِ كَلَفْظِ التَّصْدِيقِ .. بَل الْمَعْرُوفُ فِي مُقَابَلَةِ الْإِيمَانِ لَفْظُ الْكُفْرِ.

يُقَالُ: هُوَ مُؤْمِنٌ أَو كَافِرٌ، وَالْكُفْرُ لَا يَخْتَصُّ بِالتَّكْذِيبِ؛ بَل لَو قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ إنَّك صَادِقٌ، لَكِنْ لَا أَتَّبِعُك؛ بَل أُعَادِيك، وَأُبْغِضُك، وَأُخَالِفُك، وَلَا أُوَافِقُك: لَكَانَ كُفْرُهُ أَعْظَمَ، فَلَمَّا كَانَ الْكُفْرُ الْمُقَابِلُ لِلْإِيمَانِ لَيْسَ هُوَ التَّكْذِيبَ فَقَط: عُلِمَ أنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ هُوَ التَّصْدِيقُ فَقَطْ؛ بَل إذَا كَانَ الْكُفْرُ يَكُونُ تَكْذِيبًا، ويكُونُ مُخَالَفَةً وَمُعَادَاةً وَامْتِنَاعًا بِلَا تَكْذِيبٍ: فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ تَصْدِيقًا مَعَ مُوَافَقَةٍ وَمُوَالَاةٍ وَانْقِيَادٍ، لَا يَكْفِي مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ، فَيَكُونُ الْإسْلَامُ جُزْءَ مُسَمَّى الْإِيمَانِ، كَمَا كَانَ الِامْتِنَاعُ مِن الِانْقِيَادِ مَعَ التَّصْدِيقِ جُزْءَ مُسَمَّى الْكُفْرِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُؤمِنٍ مُسْلِمًا مُنْقَادًا لِلْأَمْرِ، وَهَذَا هُوَ الْعَمَلُ.

وَأَمّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ فَيُقَالُ: إنَّهُ إذَا فُرِضَ أَنَّهُ مُرَادِفٌ لِلتَّصْدِيقِ فَقَوْلُهُمْ: إنَّ التَّصْدِيقَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْقَلْبِ أَو اللِّسَانِ عَنْهُ جَوَابَانِ:

أَحَدُهُمَا. الْمَنْعُ؛ بَل الْأفْعَالُ تُسَمَّى تَصْدِيقًا؛ كَمَا ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" عَن النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْأُذُنُ تَزْنِي وَزِنَاهَا السَّمْعُ، وَالْيَدُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْبَطْشُ، وَالرِّجْلُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْمَشْيُ، وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى ذَلِكَ

ص: 501

وَيَشْتَهي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَو يُكَذِّبُهُ"

(1)

.

وَكَذَلِكَ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَطَوَائِفُ مِن السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.

الْجَوَابُ الثَّانِي: إذَا كَانَ أَصْلُهُ التَّصْدِيقَ فَهُوَ تَصْدِيق مَخْصُوصٌ، كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ دُعَاءٌ مَخْصُوصٌ، وَالْحَجَّ قَصْدٌ مَخْصُوصٌ، وَالصِّيَامَ إمْسَاكٌ مَخْصُوصٌ، وَهَذَا التَّصْدِيقُ لَهُ لَوَازِمُ: صَارَتْ لَوَازِمُهُ دَاخِلَةً فِي مُسَمَّاهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ؛ فَإِنَّ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْمَلْزُومِ، وَيَبْقَى النِّزَاعُ لَفْظِيًّا: هَل الْإِيمَانُ دَالٌّ عَلَى الْعَمَلِ بِالتَّضَمُّنِ أَو بِاللُّزُومِ؟

وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ أَكْثَرَ التَّنَازُعِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: هُوَ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ، وَإِلَّا فَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ مِن الْفُقَهَاءِ -كَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَن قَالَ ذَلِكَ، وَمَن اتَّبَعَهُ مِن أَهْلِ الْكوفَةِ وَغَيْرِهِمْ- مُتَّفِقُونَ مَعَ جَمِيعِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَ أَصْحَابَ الذُّنُوبِ دَاخِلُونَ تَحْتَ الذَّمِّ وَالْوَعِيدِ، وَإِن قَالُوا: إنَّ إيمَانَهُم كَامِلٌ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ، فَهُم يَقُولُونَ: إنَّ الْإِيمَانَ بِدُونِ الْعَمَلِ الْمَفْرُوضِ وَمَعَ فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ يَكُونُ صَاحِبُهُ مُسْتَحِقًّا لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ؛ كَمَا تَقُولُهُ الْجَمَاعَةُ.

وَيَقُولُونَ أَيْضًا: بِأنَّ مِن أَهْلِ الْكَبَائِرِ مَن يَدْخُلُ النَّارَ كَمَا تَقُولُهُ الْجَمَاعَةُ.

وَاَلَّذِينَ يَنْفُونَ عَن الْفَاسِقِ اسْمَ الْإِيمَانِ مِن أَهْلِ السنَّةِ: مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ.

فَلَيْسَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمِلَّةِ نِزَاعٌ فِي أَصْحَاب الذُّنُوب إذَا كَانوا مُقِرِّينَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَمَا تَوَاتَرَ عَنْهُ أَنَّهُم مِن أهْلِ الْوَعِيدِ، وَأَنَّهُ يَدْخُلُ

(1)

اللفظ لأحمد (8526)، والذي عند البخاري (6612)، ومسلم (2657)، بلفظ:"إِن اللهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَى، أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزنى العَيْنِ النَّظَرُ، وَزنى اللِّسَانِ المَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أو يُكَذِّبُهُ".

ص: 502

النَّارَ مِنْهُم مَن أَخْبَرَ اللهُ وَرَسُولُهُ بِدُخُولِهِ إلَيْهَا، وَلَا يُخَلَّدُ مِنْهُم فِيهَا أَحَدٌ، وَلَا يَكُونُونَ مُرْتَدّينَ مُبَاحِي الدِّمَاءِ.

وَلَكِنَ الأقْوَالَ الْمُنْحَرِفَةَ:

أ- قَوْلُ مَن يَقُولُ بِتَخْلِيدِهِمْ فِي النَّارِ؛ كَالْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ.

ب- وَقَوْلُ غُلَاةِ الْمُرْجِئَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: مَا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُم يَدْخُلُ النَّارَ؛ بَل نَقِفُ فِي هَذَا كُلّهِ .. [7/ 286 - 297]

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَقَد يَكُون الرَّجُلُ مُسْلِمًا يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَمَعَهُ الْإِيمَانُ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِن أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَلَيْسَ مَعَهُ هَذَا الْإِيمَانُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ، لَكِنَّ هَذَا يُقَالُ: مَعَهُ مَا أُمِرَ بِهِ مِن الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ.

وَقَد يَكُونُ مُسْلِمًا يَعْبُدُ اللهَ كَمَا أُمِرَ، وَلَا يَعْبُدُ غَيْرَهُ، ويَخَافُهُ ويَرْجُوهُ: وَلَكِنْ لَمْ يَخْلُصْ إلَى قَلْبِهِ أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَلَا أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ أَحَبَّ إلَيْهِ مِن جَمِيعِ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَأَنْ يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَأَنْ يَخَافَ اللهَ لَا يَخَافَ غَيْرَهُ، وَأَنْ لَا يَتَوَكَّلَ إلَّا عَلَى اللهِ، وَهَذِهِ كُلُّهَا مِن الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ، وَلَيْسَتْ مِن لَوَازِمِ الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الِاسْتِسْلَامُ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الْخُضُوعَ للهِ وَحْدَهُ، وَالِانْقِيَادَ لَهُ، وَالْعُبُودِيَّةَ للهِ وَحْدَهُ، وَهَذَا قَد يَتَضَمَّنُ خَوْفَهُ وَرَجَاءَهُ.

وَأَمَّا طُمَأنِينَةُ الْقَلْبِ بِمَحَبَّتِهِ وَحْدَهُ، وَأَنْ يَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَبِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَحْدَهُ، وَبِأَنْ يُحِبَّ لِأَخِيهِ الْمُومِنِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ: فَهَذِهِ مِن حَقَائِقِ الْإِيمَانِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِهِ.

فَمَن لَمْ يَتَّصِفْ بِهَا: لَمْ يَكُن مِن الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا وَإِن كَانَ مُسْلِمًا.

وَكَذَلِكَ وَجَلُ قَلْبِهِ إذَا ذُكرَ اللهُ، وَكَذَلِكَ زَيادَةُ الْإِيمَانِ إذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِ آيَاتُهُ.

ص: 503

فَإنْ قِيلَ: فَفَوَاتُ هَذَا الْإيمَانِ مِن الذُّنُوبِ أَمْ لَا؟

قِيلَ: إذَا لَمْ يَبْلُغ الْإِنْسَانَ الْخِطَابُ الْمُوجِبُ لِذَلِكَ: لَا يَكُونُ تَرْكهُ مِن الذُّنُوبِ.

وَأَمَّا إنْ بَلَغَهُ الْخِطَابُ الْمُوجِبُ لِذَلِكَ فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ: كَانَ تَرْكهُ مِن الذُّنُوبِ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ.

وَكَثِيرٌ مِن النَّاسِ أو أكْثَرُهُم لَيْسَ عِنْدَهُم هَذِهِ التَّفَاصِيلُ الَّتِي تَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ، مَعَ أَنَّهُم قَائِمُونَ بِالطَّاعَةِ الْوَاجِبَةِ فِي الْإِسْلَامِ، وإِذَا وَقَعَتْ مِنْهُم ذُنُوبٌ تَابُوا وَاسْتَغْفَرُوا مِنْهَا، وَحَقَائِقُ الْإِيمَانِ الَّتِي فِي الْقُلُوب لَا يَعْرِفُونَ وُجُوبَهَا؛ بَل وَلَا أَنَّهَا مِن الْإِيمَانِ؛ بَل كَثِيرٌ مِمَن يَعْرِفُهَا مِنْهُم يَظُنُّ أنَّهَا مِن النَّوَافِلِ الْمُسْتَحَبَّةِ إنْ صَدَّقَ بِوُجُوبِهَا.

فَالْإِسْلَامُ يَتَنَاوَلُ:

أ - مَن أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَلَيْسَ مَعَهُ شَيءٌ مِن الْإِيمَانِ وَهُوَ الْمُنَافِقُ الْمَحْضُ.

ب - وَيَتَنَاوَلُ مَن أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ مَعَ التَّصْدِيقِ الْمُجْمَلِ فِي الْبَاطِنِ وَلَكِنْ لَمْ يَفْعَل الْوَاجِبَ كُلَّهُ، لَا مِن هَذَا وَلَا هَذَا، وَهُم الْفُسَّاقُ، يَكُونُ فِي أَحَدِهِمْ شُعْبَةُ نِفَاقٍ.

ج - ويتَنَاوَلُ مَن أَتَى بِالْإِسْلَامِ الْوَاجِبِ وَمَا يَلْزَمُهُ مِن الْإِيمَانِ، وَلَمْ يَأتِ بِتَمَامِ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا فُسَّاقًا تَارِكِينَ فَرِيضَةً ظَاهِرَةً، وَلَا مُرْتَكِبِينَ مُحَرَّمًا ظَاهِرًا، لَكِنْ تَرَكُوا مِن حَقَائِقِ الْإِيمَانِ الْوَاجِبَةِ عِلْمًا، وَعَمَلًا بِالْقَلْبِ يَتْبعُهُ بَعْضُ الْجَوَارِحِ مَا كَانُوا بِهِ مَذْمُومِينَ.

وَهَذَا هُوَ النِّفَاقُ الَّذِي كَانَ يَخَافُهُ السَّلَفُ عَلَى نُفُوسِهِمْ؛ فَإنَّ صَاحِبَهُ قَد يَكونُ فِيهِ شُعْبَةُ نِفَاقٍ.

د - وَبَعْدَ هَذَا مَا مَيَّزَ الله بِهِ الْمُقَرَّبِينَ عَلَى الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ مِن إيمَانٍ وَتَوَابِعِهِ؛ وَذَلِكَ قَد يَكُونُ مِن بَابِ الْمُسْتَحَبَّاتِ، وَقَد يَكُونُ أيْضًا مِمَّا

ص: 504

فُضِّلَ بِهِ الْمُؤمِنُ: إيمَان وَإِسْلَامٌ مِمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَى غَيْرِهِ.

وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَن رَأَى مِنْكُمْ مُنْكرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإيمَانِ"

(1)

، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "فَمَن جَاهَدَهُمْ

(2)

بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَن جَاهَدَهُم بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَن جَاهَدَهُم بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ"

(3)

.

فَإِنَّ مُرَادَهُ: أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ هَذَا الْإِنْكَارِ مَا يَدْخُل فِي الْإِيمَانِ حَتَّى يَفْعَلَهُ الْمُؤْمِنُ؛ بَل الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ آخِرُ حُدُودِ الْإِيمَانِ.

لَيْسَ مُرَادُهُ: أَنَّ مَن لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ لَمْ يَكُن مَعَهُ مِن الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ؛ وَلهَذَا قَالَ: "لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ" فَجَعَلَ الْمُؤمِنِينَ ثَلَاثَ طَبَقَاتٍ، وَكُل مِنْهُم فَعَلَ الْإِيمَانَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ، لَكِنَّ الْأَوَّلَ لَمَّا كَانَ أَقْدَرَهُم كَانَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ أَكْمَلَ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الثَّانِي، وَكَانَ مَا يَجِبُ عَلَى الثَّانِي أَكْمَلَ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْآخَرِ، وَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِم بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِمْ مَعَ بُلُوغِ الْخِطَابِ إلَيْهِم كُلِّهِمْ

(4)

. [7/ 426 - 428]

فاسْمُ الْإِيمَانِ:

- تَارَةً يُطْلَقُ عَلَى مَا فِي الْقَلْبِ مِن الْأَقْوَالِ الْقَلْبِيَّةِ وَالْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ؛ مِن التَّصْدِيقِ وَالْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَتَكُونُ الْأَقْوَالُ الظَّاهِرَةُ وَالْأَعْمَالُ: لَوَازِمهُ وَمُوجِبَاتهُ وَدَلَائِلهُ.

- وَتَارَةً عَلَى مَا فِي الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ، جُعِلَا لِمُوجَبِ الْإِيمَانِ وَمُقْتَضَاهُ دَاخِلًا فِي مُسَمَّاهُ.

(1)

رواه مسلم (49).

(2)

أي: جاهد مَن جاء بعد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ممن يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤمَرُونَ.

(3)

رواه مسلم (50).

(4)

يُلاحظ أنّ الشيخ أطال إطالة طويلة جدًّا في الكلام على هذه المسألة، وهي الإيمان والإسلام، ومعناهما اللغوي والشرعي، والفرق بينهما، علمًا أنّ كلامه هذا شافٍ وكافٍ.

ص: 505

وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ تُسَمَّى إسْلَامًا، وَأَنَّهَا تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ تَارَةً، وَلَا تَدْخُلُ فِيهِ تَارَةً.

وَذَلِكَ أَنَّ الِاسْمَ الْوَاحِدَ تَخْتَلِفُ دَلَالَتُهُ بِالْإِفْرَادِ وَالِاقْتِرَانِ، فَقَد يَكُونُ عِنْدَ الْإِفْرَادِ فِيهِ عُمُومٌ لِمَعْنَيَيْنِ، وَعِنْدَ الِاقْتِرَانِ لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى أَحَدِهِمَا؛ كَلَفْظِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ، إذَا أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا تَنَاوَلَ الْآخَرَ، وَإِذَا جُمعَ بَيْنَهُمَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مُسَمًّى يَخُصُّهُ.

وَإِذَا أُفْرِدَ اسْمُ الْإِيمَانِ فَقَد يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا .. وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ الْإِسْلَامُ دَاخِلًا فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَجُزْءًا مِنْهُ، فَيُقَالُ حِينَئِذٍ: إنَّ الْإِيمَانَ اسْمٌ لِجَمِيعِ الطَّاعَاتِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ.

وَأَمَّا إذَا قُرنَ الْإِيمَان بِالْإِسْلَامِ: فَإِنَّ الْإِيمَانَ فِي الْقَلْبِ وَالْإِسْلَامَ ظَاهِرٌ

(1)

. [7/ 551 - 553]

‌فصل

وَمِن هَذَا الْبَابِ

(2)

: لَفْظُ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ؛ فَالْكُفْرُ إذَا ذُكِرَ مُفْرَدًا فِي وَعِيدِ الْآخِرَةِ دَخَلَ فِيهِ الْمُنَافِقُونَ؛ كَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)} [المائدة: 5].

ثُمَّ قَد يُقْرَنُ الْكُفْرُ بِالنِّفَاقِ فِي مَوَاضِعَ .. فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140].

وَكَذَلِكَ لَفْظُ الصَّالِحِ وَالشَّهِيدِ وَالصّدِّيقِ: يُذْكَرُ مُفْرَدًا فَيَتَنَاوَلُ النَّبِيِّينَ، قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْخَلِيلِ:{وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت: 27].

(1)

وعلى هذا فيكون مُسَمَّى الْاِسْلَامِ خَارِجًا عَنْهُ، كَمَا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَإن كَانَ لَازِمًا. انظر:(7/ 555).

(2)

أي: تَنَوُّعُ دَلَالَةِ اللَّفْظِ بحسبِ التَّجْرِيدِ وَالِاقْتِرَانِ.

ص: 506

وَقَد يُذْكَرُ الصَّالِحُ مَعَ غَيْرِهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69]، قَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ: الصَّالِحُ: الْقَائِمُ بِحُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ.

وَلَفْظُ الصَّالِحِ خِلَافُ الْفَاسِدِ، فَإِذَا أُطْلِقَ فَهُوَ الَّذِي أَصْلَحَ جَمِيعَ أَمْرِهِ، فَلَمْ يَكُن فِيهِ شَيءٌ مِن الْفَسَادِ، فَاسْتَوَتْ سَرِيرَتُهُ وَعَلَانِيَتُهُ، وَأَقْوَالُهُ وَأَعْمَالُهُ عَلَى مَا يُرْضِي رَبَّهُ، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ النَّبِيِّينَ وَمَن دُونَهُمْ.

وَلَفْظُ الصّدِّيقِ: قَد جُعِلَ هُنَا مَعْطُوفًا عَلَى النَّبِيِّينَ، وَقَد وَصَفَ بِهِ النَّبِيِّينَ فِي مِثْل قَوْلِهِ:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)} [مريم: 41]، {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56)} [مريم: 56].

وَكَذَلِكَ الشَّهِيدُ قَد جُعِلَ هُنَا قَرِينَ الصّدِّيقِ وَالصَّالِحِ، وَقَد قَالَ:{وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} [الزمر: 69]، وَلَمَّا قُيِّدَت الشَّهَادَةُ عَلَى النَّاسِ وُصِفَتْ بِهِ الْأُمَّةُ كُلُّهَا فِي قَوْلِهِ:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]، فَهَذ شَهَادَةٌ مُقَيَّدَةٌ بِالشَّهَادَةِ عَلَى النَّاسِ؛ كَالشَّهَادَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ:{لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13]، وَقَوْلِهِ:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282].

وَلَيْسَتْ هَذ الشهَادَةُ الْمُطْلَقَةُ فِي الْآيَتَيْنِ؛ بَل ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران: 140].

وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْمَعْصِيَةِ وَالْفُسُوقِ وَالْكُفْرِ: فَإِذَا أُطْلِقَتْ الْمَعْصِيَةُ للهِ وَرَسُولِهِ دَخَلَ فِيهَا الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ؛ كَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23].

وَقَالَ

(1)

فِيمَن يَجُورُ فِي الْمَوَارِيثِ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ

(1)

هذه أمثلة للمعصية المقيدة، التي لا يدخل فيها الكفر.

ص: 507

حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء: 14]، فَهُنَا قَيَّدَ الْمَعْصِيَةَ بِتَعَدِّي خدُودِهِ فَلَمْ يَذْكُرْهَا مُطْلَقَةً.

وَقَالَ: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] فَهِيَ مَعْصِيَة خَاصَّة.

وَقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 152]، فَاخْبَرَ عَن مَعْصِيَةِ وَاقِعَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَهِيَ مَعْصِيَةُ الرُّمَاةِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7]، جَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَاتِبَ.

وَقَد قَالَ: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة: 12]. فَقَيَّدَ الْمَعْصِيَةَ.

وَمِن هَذَا الْبَابِ: ظُلْمُ النَّفْسِ، فَإنَّهُ إذَا أُطْلِقَ تَنَاولَ جَمِيع الذُّنُوبِ؛ فَإِنَّهَا ظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ، قَالَ تَعَالَى:{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [هود: 101].

ثُمَّ قَد يُقْرَنُ بِبَعْضِ الذُّنُوبِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران: 135].

وَأَمَّا لَفْظُ الظُّلْمِ الْمُطْلَقِ: فَيَدْخُلُ فِيهِ الْكُفْرُ وَسَائِرُ الذُّنُوبِ، قَالَ تَعَالَى:{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22)} [الصافات: 22].

قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: وَنُظَرَاؤُهُمْ، وَهَذَا ثَابِتٌ عَن عُمَرَ.

وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَشْبَاهُهُمْ، وَكَذَلِكَ قَالَ قتادة وَالْكَلْبِيُّ: كُلُّ مَن عَمِلَ بِمِثْل عَمَلِهِمْ، فَأهْلُ الْخَمْرِ مَعَ أَهْلِ الْخَمْرِ، وَأَهْلُ الزنى مَعَ أَهْلِ الزّنَا.

وَزَوْجُ الشَّيءِ نَظِيرُهُ، وَسُمِّيَ الصِّنْفُ زَوْجًا لِتَشَابُهِ أَفْرَادِهِ؛ كَقَوْلِهِ:{أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 7]، وَقَالَ:{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)} [الذاريات: 49].

قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِن الْمُفَسِّرِينَ: صِنْفَيْنِ وَنَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ: السَّمَاءُ

ص: 508

وَالْأرْضُ، وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَالْبَرُّ وَالْبَحْرُ، وَالسَّهْلُ وَالْجَبَلُ، وَالشتَاءُ وَالصَّيْفُ، وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ، وَالْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ .. وَأَشْبَاة ذَلِكَ.

فَلَا ريبَ أَنَّ هَذ الْآيَةَ تَنَاوَلَت الْكُفَّارَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْآيَةِ.

وَتَمَامُ الْكَلَامِ يُبَيِّن أَنَّ الْآيَةَ -وَإِن تَنَاوَلَت الظَّالِمَ الَّذِي ظَلَمَ بِكُفْرِهِ- فَهِيَ أَيْضًا مُتَنَاوِلَة مَا دُونَ ذَلِكَ، وَإِن قِيلَ فِيهَا:{وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} [الصافات: 22]، فَقَد ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ، تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ"

(1)

.

وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ الظُّلْمَ الْمُطْلَقَ يَتَنَاوَلُ الْكُفْرَ، وَلَا يَخْتَصُّ بِالْكُفْرِ؛ بَل يَتَنَاوَلُ مَا دُونَهُ أَيْضًا، وَكُلٌّ بِحَسَبِهِ؛ كَلَفْظِ الذَّنْبِ وَالْخَطِيئَةِ وَالْمَعْصِيَةِ؛ فَإِنَّ هَذَا يَتَنَاوَلُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ؛ كَمَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ"

(2)

عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: "أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك".

وَقَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)} [البقرة: 254]، فَالْكُفْرُ الْمُطْلَقُ: هُوَ الظُّلْمُ الْمُطْلَقُ؛ وَلهَذَا لَا شَفِيعَ لِأَهْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا نَفَى الشَّفَاعَةَ فِي هَذِهِ الآيَةِ.

وإذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالظُّلْمُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:

أ - فَالظلْمُ الَّذِي هُوَ شِرْكٌ لَا شَفَاعَةَ فِيهِ.

ب - وَظُلْمُ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، لَا بُدَّ فِيهِ مِن إعْطَاءِ الْمَظْلُومِ حَقَّهُ، لَا يَسْقُطُ حَقُّ الْمَظْلُومِ لَا بِشَفَاعَة وَلَا غَيْرِهَا، وَلَكِنْ قَد يُعْطَى الْمَظْلُومُ مِن الظَّالِمِ، كَمَا قَد يُغْفَرُ لِظَالِمِ نَفْسِهِ بِالشَفَاعَةِ.

(1)

رواه البخاري (2887).

(2)

البخاري (4477)، ومسلم (86).

ص: 509

فَالظَّالِمُ الْمُطْلَقُ مَالَهُ مِن شَفِيعٍ مُطَاعٍ، وَأَمَّا الْمُوَحِّدُ فَلَمْ يَكُن ظَالِمًا مُطْلَقًا؛ بَل هُوَ مُوَحِّدٌ مَعَ ظُلْمِهِ لِنَفْسِهِ.

وَهَذَا إنَّمَا نَفَعَهُ فِي الْحَقِيقَةِ إخْلَاصُهُ للهِ فَبِهِ صَارَ مِن أَهْل الشَّفَاعَةِ.

ج - وَأَمَّا الظُّلْمُ الْمُقَيَّدُ: فَقَد يَخْتَصُّ بِظُلْمِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ، وَظُلْمِ النَّاسِ بَعْضَهُم بَعْضًا؛ كَقَوْلِ آدَمَ عليه السلام وَحَوَّاءَ:{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23]، وَقَوْلِ مُوسَى:{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} [النمل: 44]، وقَوْله تَعَالَى:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135].

لَكِنَّ قَوْلَ آدمَ وَمُوسَى إخْبَارٌ عَن وَاقِعٍ لَا عُمُومَ فِيهِ، وَذَلِكَ قَد عُرِفَ وَللهِ الْحَمْدُ أَنَّهُ لَيْسَ كفْرًا.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران: 135] فَهُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ، يَعُمُّ كُلَّ مَا فِيهِ ظُلْمُّ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ، وَهُوَ إذَا أَشْرَكَ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ.

وَقَد تَقَدَّمَ أَنَّ ظُلْمَ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ ذَنْبٍ كَبِيرٍ أَو صَغِيرٍ مَعَ الْإِطْلَاقِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32]، فَهَذَا ظُلْمٌ لِنَفْسِهِ مَقْرُونٌ بِغَيْرِهِ، فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الشرْكُ الْأَكْبَرُ.

وَفي "الصَّحِيحَيْنِ"

(1)

عَن ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ لَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]، شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ، ألَمْ تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].

(1)

البخاري (32)، ومسلم (124).

ص: 510

وَاَلَّذِينَ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِم ظَنُّوا: أَنَّ الظُّلْمَ الْمَشْرُوطَ هُوَ ظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ، وَأنَّهُ لَا يَكُونُ الْأَمْنُ وَالاهْتِدَاءُ إلَّا لِمَن لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَهُم مَا دَلَّهُم عَلَى أَنَّ الشِّرْكَ ظُلْمٌ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى.

وَحِينَئِذٍ فَلَا يَحْصُلُ الْأَمْنُ وَالِاهْتِدَاءُ إلَّا لِمَن لَمْ يَلْبِسْ إيمَانَهُ بِهَذَا الظُّلْمِ، وَمَن لَمْ يَلْبِسْ إيمَانَهُ بِهِ كَانَ مِن أَهْلِ الْأَمْنِ وَالِاهْتِدَاءِ.

وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يُؤَاخَذَ أَحَدُهُم بِظُلْمِ نَفْسِهِ إذَا لَمْ يتب.

وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ":

- إنْ أَرَادَ بِهِ الشّرْكَ الْأَكْبَرَ: فَمَقْصُودُهُ أَنَّ مَن لَمْ يَكُن مِن أَهْلِهِ فَهُوَ آمِنٌ مِمَّا وُعِدَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِن عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهُوَ مُهْتَدٍ إلَى ذَلِكَ.

- وَإِن كَانَ مُرَادُهُ جِنْسَ الشِّرْكِ: فَيُقَالُ: ظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ كَبُخْلِهِ -لِحُبِّ الْمَالِ- بِبَعْضِ الْوَاجِبِ هُوَ شِرْكٌ أَصْغَرُ، وَحُبُّه مَا يُبْغِضُهُ اللهُ حَتَّى يَكُونَ يُقَدِّمُ هَوَاهُ عَلَى مَحَبَّةِ اللهِ شِرْكٌ أَصْغَرُ وَنَحْوُ ذَلِكَ.

فَهَذَا صَاحِبُهُ قَد فَاتَهُ مِن الْأَمْنِ وَالِاهْتِدَاءِ بِحَسَبِهِ؛ وَلهَذَا كَانَ السَّلَفُ يُدْخِلُونَ الذُّنُوبَ فِي هَذَا الظُّلْمِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.

وَمِن هَذَا الْبَابِ لَفْظ الصَّلَاح وَالْفَسَادِ: فَإِذَا أُطْلِقَ الصلَاحُ تَنَاوَلَ جَمِيعَ الْخَيْرِ، وَكَذَلِكَ الْفَسَادُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الشَّرِّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي اسْم الصَّالِحِ، وَكَذَلِكَ اسْمُ الْمُصْلِحِ وَالْمُفْسِدِ.

وَقَد يُقْرَنُ أَحَدُهُمَا بِمَا هُوَ أَخَصُّ مِنْهُ؛ كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)} [البقرة: 205].

قِيلَ: بِالْكُفْرِ، وَقِيلَ: بِالظُّلْمِ، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ. [7/ 13 - 84]

505 -

اسْم الْإِيمَانِ قَد يُذْكَرُ مُجَرَّدًا، وَقَد يُذْكَرُ مَقْرُونًا بالْعَمَل أَو بِالْإِسْلَامِ.

ص: 511

فَإذَا ذُكِرَ مُجَرَّدًا تَنَاوَلَ الْأَعْمَالَ؛ كَمَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ": "الْإيمَانُ بِضْعٌ وَسِتونَ أَو بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا قَوْلُ: لَا إلهَ إلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأذَى عَن الطَرِيقِ".

وَإِذَا أُفْردَ الْإِيمَانُ أُدْخلَ فِيهِ الْأَعْمَال الظَّاهِرَة؛ لِأَنَّهَا لَوَازِمُ مَا فِي الْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ مَتَى ثَبَتَ الْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ وَالتَّصْدِيقُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ: وَجَبَ حُصُولُ مُقْتَضَى ذَلِكَ ضَرُورَةً؛ فَإنَّهُ مَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إلَّا أَبْدَاهَا اللهُ عَلَى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ، فَإذَا ثَبَتَ التَّصْدِيقُ فِي الْقَلْبِ لَمْ يَتَخَلَّف الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ أَلْبَتَّةَ.

وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ لَفْظَ الْإِيمَانِ تَخْتَلِفُ دَلَالَتُهُ بِالْإِطْلَاقِ وَالِاقْتِرَانِ، فَإِذَا ذُكِرَ مَعَ الْعَمَلِ أُرِيدَ بِهِ أَصْلُ الْإِيمَانِ الْمُقْتَضِي لِلْعَمَلِ، وَإِذَا ذُكِرَ وَحْدَهُ دَخَلَ فِيهِ لَوَازِمُ ذَلِكَ الْأَصْلِ.

وَكَذَلِكَ إذَا ذُكِرَ بِدُونِ الْإِسْلَامِ كَانَ الْإِسْلَامُ جُزْءًا مِنْهُ وَكَانَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤمِنًا فَإِذَا ذَكَرَ لَفْظَ الْإِسْلَامِ مَعَ الْإِيمَانِ تَمَيَّزَ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ كَمَا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَكَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 35] وَلهَذَا نَظَائِرُ كلَفْظِ الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ وَالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. [18/ 271 - 272]

* * *

(الْخَشْيَةُ أَبَدًا مُتَضَمِّنَةٌ لِلرَّجَاءِ)

506 -

الْخَشْيَةُ أَبَدًا مُتَضَمِّنَةٌ لِلرَّجَاءِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَت قُنُوطًا؛ كَمَا أَنَّ الرَّجَاءَ يَسْتَلْزِمُ الْخَوْفَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ أَمْنًا.

فَأَهْلُ الْخَوْفِ للهِ وَالرَّجَاءِ لَهُ: هُم أَهْلُ الْعِلْمِ الَّذِينَ مَدَحَهُم اللهُ. [7/ 21]

* * *

ص: 512

(الْخُشوعُ يَتَضَمَّن التَّوَاضُع والسُّكُون)

507 -

الْخُشُوعُ يَتَضَمَّنُ مَعْنيَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: التَّوَاضُعُ وَالذُّلُّ.

وَالثَّانِي. السُّكُونُ وَالطُّمَأنِينَةُ.

وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلِينِ الْقَلْبِ الْمُنَافِي لِلْقَسْوَةِ.

فَخُشُوعُ الْقَلْبِ يَتَضَمَّنُ عُبُودِيَّتَهُ للهِ وَطُمَأنِينَتَهُ أَيْضًا؛ وَلهَذَا كَانَ الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ يَتَضَمَّنُ هَذَا وَهَذَا: التَّوَاضُعَ وَالسُّكُونَ.

وَكَانَ الرَّجُلُ مِن الْعُلَمَاءِ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ يَهَابُ الرَّحْمَنَ أَنْ يَشدّ بَصَرهُ، أَو أَنْ يُحَدّثَ نَفْسَهُ بِشَيءٍ مِن أَمْرِ الدُّنْيَا.

فَإِنْ قِيلَ: فَخُشُوعُ الْقَلْبِ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِن الْحَقِّ وَاجِبٌ؟

قِيلَ: نَعَمْ، لَكنَّ النَّاسَ فِيهِ عَلَى قِسْمَيْنِ:

أ - مُقْتَصِدٌ.

ب - وَسَابِقٌ.

فَالسَّابِقُونَ: يَخْتَصُّونَ بالمستحبات.

وَالْمُقْتَصِدُونَ الْأَبْرَارُ: هُم عُمُومُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْجَنَّةِ.

وَمَن لَمْ يَكُن مِن هَؤُلَاءِ وَلَا هَؤُلَاءِ: فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ. [7/ 28 - 29]

* * *

(التوكل على الله)

508 -

لَا بُدَّ مِن التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَمِن طَاعَتِهِ فِيمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ

(1)

. [7/ 30]

* * *

(1)

يا لها من جملة عظيمة النفع، ومن طبقها انتفع انتفاعًا كبيرًا في دينه ودنياه.

ومن أمثلة هذه القاعدة: =

ص: 513

(بُغض المحرمات تزرع في القلب الإيمان)

509 -

مَن لَمْ يَكُن فِي قَلْبِهِ بُغْضُ مَا يُبْغِضُهُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِن الْمُنْكرِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِن الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ: لَمْ يَكُن فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانُ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللهُ عَلَيْهِ.

فَإنْ لَمْ يَكن مُبْغِضًا لِشَيء مِن الْمُحَرَّمَاتِ أَصْلًا: لَمْ يَكُن مَعَهُ إيمَانٌ أَصْلًا. [7/ 41]

510 -

فِي "صحِيحِ مُسْلِمٍ"

(1)

عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا مِن نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللهُ فِي أمّةٍ قَبْلِي إِلا كَانَ لَهُ مِن أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ، وَأَصْحَابٌ يَأخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِن بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَن جَاهَدَهُم بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَن جَاهَدَهُم بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَن جَاهَدَهُم بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ".

فَعُلِمَ أَنَّ الْقَلْبَ إذَا لَمْ يَكُن فِيهِ كَرَاهَةُ مَا يَكْرَهُهُ اللهُ: لَمْ يَكُن فِيهِ مِن الْإِيمَانِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الثَّوَابَ.

وَقَوْلُهُ: "مِن الإيمَانِ"، أَيْ: مِن هَذَا الْإِيمَانِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ؛ أَيْ: لَيْسَ وَرَاءَ هَذِهِ الثَّلَاثِ مَا هُوَ مِن الْإِيمَانِ وَلَا قَدْرُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ.

وَالْمَعْنَى: هَذَا آخِرُ حُدُودِ الْإِيمَانِ، مَا بَقِيَ بَعْدَ هَذَا مِن الْإِيمَانِ شَيءٌ. [7/ 52]

* * *

= - أن يطيع الله طالب العلم في نشر علمه، والاستزادة من العلم والعمل به، وما لا يستطيعه من تحصيل بعض العلوم الصعبة، أو تبليغ العلم ونشره في نطاق واسع: فليتوكل على الله في بذل الأسباب التي تُعينه على القيام بذلك.

- أن يُطيع الله المربي في تربية أبنائه حسب ما أمره الله، وحسب قدرته، ويتوكل على الله فيما ليس في مقدورِه.

(1)

(50).

ص: 514

‌(ما هي الشفاعة الحسنة والسيئة

؟)

511 -

قَالَ تَعَالَى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء: 85]، وَالشَّافِعُ الَّذِي يُعِينُ غَيْرَهُ فَيَصِيرُ مَعَهُ شَفْعًا بَعْدَ أَنْ كَانَ وِتْرًا.

وَلهَذَا فُسِّرَت الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ:

أ - بِإِعَانَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْجِهَادِ، وَالشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ بِإعَانَةِ الْكُفَّارِ عَلَى قِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ.

ب - وَفُسِّرَت الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ بِشَفَاعَةِ الْإِنْسَانِ لِلْإِنْسَانِ لِيَجْتَلِبَ لَهُ نَفْعًا، أَو يُخَلِّصَهُ مِن بَلَاءٍ.

فَالشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ: إعَانَةٌ عَلَى خَيْرٍ يُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُوُلهُ، مِن نَفْعِ مَن يَسْتَحِقُّ النَّفْعَ، وَدَفْعِ الضُّرِّ عَمَّن يَسْتَحِقُّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْهُ.

وَالشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ: إعَانَتُهُ عَلَى مَا يَكرَهُهُ اللهُ وَرَسُولُهُ؛ كَالشَّفَاعَةِ الَّتِي فِيهَا ظُلْمُ الْإِنْسَانِ، أَو مَنْعُ الْإِحْسَانِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ.

ج - وَفُسِّرَت الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ بِالدُّعَاءِ لِلْمُؤمِنِينَ، وَالسَّيِّئَةُ بِالدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ.

د - وَفُسِّرَت الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَ اثْنَيْنِ.

وَكُلُّ هَذَا صَحِيحٌ؛ فَالشَّافِعُ زَوْجُ الْمَشْفُوعِ لَهُ. [7/ 64 - 65]

* * *

(ذمّ التقليد وأنواعه)

(1)

512 -

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: 31].

(1)

قال العلامة محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى: الْمُقَلِّدُونَ قَد خَسِرُوا أنْفُسَهُم؛ لِأنَّهُم حَرَمُوا =

ص: 515

وَفِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ -وَهُوَ حَدِيث حَسَنٌ طَوِيلٌ رَوَاهُ أَحْمَد

وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا- وَكَانَ قَد قَدِمَ عَلَى النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم وهُوَ نَصْرَانِيٌّ فَسَمِعَهُ يَقْرأُ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: فَقُلْت لَهُ: إنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ.

قَالَ: أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَل اللهُ فَتُحَرِّمُونَهُ، وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَتُحِلُّونَهُ؟

قَالَ: فَقُلْت: بَلَى.

قَالَ: فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ

(1)

.

فَقَد بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ عِبَادَتَهُم إيَّاهُم كَانَت فِي تَحْلِيلِ الْحَرَامِ وَتَحْرِيمِ الْحَلَالِ، لَا أَنَّهُم صَلَّوْا لَهُم وَصَامُوا لَهُم وَدَعَوْهُم مِن دُونِ اللهِ، فَهَذِهِ عِبَادَةٌ لِلرِّجَالِ، وَتِلْكَ عِبَادَةٌ لِلْأَمْوَالِ، وَقَد بَيَّنهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَقَد ذَكَرَ اللهُ أَنَّ ذَلِكَ شِرْكٌ بِقَوْلِهِ:{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} .

وَلَا رَيْبَ أَنَّهَا تَتَنَاوَلُ الشّرْكَيْنِ: الْأَصْغَرَ وَالْأكْبَرَ، وَتَتَنَاوَلُ أَيْضًا مَن اسْتَكْبَرَ عَمَّا أَمَرَهُ اللهُ بِهِ مِن طَاعَتِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِن تَحْقِيقِ قَوْلِ لَا إلهَ إلَّا اللهُ؛ فَإِنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ، فَكُلُّ مَا يُعْبَدُ بِهِ اللهُ فَهُوَ مِن تَمَامِ تَأَلُّهِ الْعِبَادِ لَهُ، فَمَن اسْتَكْبَرَ عَن بَعْضِ عِبَادَتِهِ سَامِعًا مُطِيعًا فِي ذَلِكَ لِغَيْرِهِ؛ لَمْ يُحَقِّقْ قَوْلَ: لَا إلهَ إلَّا اللهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ.

وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَخَذُوا أَحْبَارَهُم وَرُهْبَانَهُم أَرْبَابًا -حَيْثُ أَطَاعُوهُم فِي تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللهُ وَتَحْرِيمِ مَا أَحَل اللهُ- يَكُونُونَ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُم بَدَّلُوا دِينَ اللهِ فَيَتْبَعُونَهُم عَلَى التَّبْدِيلِ، فَيَعْتَقِدُونَ

= أَنْفُسَهُم مِنَ اسْتِعْمَالِ أَشْرَفِ النِّعَمِ الْغَرِيزِيَّةِ وَهُوَ الْعَقْلُ، وَحَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أفْضَلَ الْفَضَائِل الْكَسْبِيَّةِ وَهُوَ الْعِلْمُ وَالْفَهْمُ.

فَالْفَوْزُ وَالْفَلَاحُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَالْعَزِيمَةِ الْحَافِزَةِ إِلَى الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ، فَمَن خَسِرَ إِحْدَى الْفَضِيلَتَيْنِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَسِرَ نَفْسَهُ سَوَاءً كَانَ فَرْدًا، أَو أُمَّةً، فَمَا بَالُ مَن خَسِرَهُمَا كِلْتَيْهِمَا وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى. اهـ. تفسير المنار (7/ 283).

(1)

رواه الترمذي (3095).

ص: 516

تَحْلِيلَ مَا حَرَّمَ اللهُ، وَتَحْرِيمَ مَا أَحَلَّ اللهُ، اتِّبَاعًا لِرُؤَسَائِهِمْ، مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُم خَالَفُوا دِينَ الرُّسُلِ: فَهَذَا كُفْرٌ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ اعْتِقَادُهُم وَإيمَانُهُم [بِتَحْرِيمِ الْحَرَامِ وَتَحْلِيلِ الْحَلَالِ]

(1)

: ثَابِتًا، لَكِنَّهُم أَطَاعُوهُم فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُسْلِمُ مَا يَفْعَلُهُ مِن الْمَعَاصِي الَّتِي يَعْتَقِدُ أَنَّهَا مَعَاصٍ، فَهَؤُلَاءِ لَهُم حُكْمُ أَمْثَالِهِمْ مِن أَهْلِ الذُّنُوبِ.

ثُمَّ ذَلِكَ الْمُحَرِّمُ لِلْحَلَالِ وَالْمُحَلِّلُ لِلْحَرَامِ: إنْ كَانَ مُجْتَهِدًا قَصْدُهُ اتِّبَاعُ الرَّسُولِ، لَكِنْ خَفِيَ عَلَيْهِ الْحَقُّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَقَد اتَّقَى اللهَ مَا اسْتَطَاعَ، فَهَذَا لَا يُؤَاخِذُهُ اللهُ بِخَطَئِهِ؛ بَل يُثِيبُهُ عَلَى اجْتِهَادِهِ الَّذِي أَطَاعَ بِهِ رَبَّهُ.

وَلَكِنْ مَن عَلِمَ أَنَّ هَذَا [خَطَأٌ]

(2)

فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ثُمَّ اتَّبَعَهُ عَلَى خَطَئِهِ، وَعَدَلَ عَن قَوْلِ الرَّسُولِ: فَهَذَا لَهُ نَصِيبٌ مِن هَذَا الشرْكِ الَّذِي ذَمَّهُ اللهُ، لَا سِيَّمَا إن اتَّبَعَ فِي ذَلِكَ هَوَاهُ، وَنَصَرَهُ بِاللِّسَانِ وَالْيَدِ، مَعَ عِلْمِهِ بِأنَّهُ مُخَالِفٌ لِلرَّسُولِ، فَهَذَا شِرْكٌ يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْعُقُوبَةَ عَلَيْهِ.

وَلهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إذَا عَرَفَ الْحَقَّ لَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ أَحَدٍ فِي خِلَافِهِ.

وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ التَّقْلِيدِ لِلْقَادِرِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ، وَإِن كَانَ عَاجِزًا عَن إظْهَارِ الْحَقِّ الَّذِي يَعْلَمُهُ: فَهَذَا يَكُونُ كَمَن عَرَفَ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ حَقٌ وَهُوَ

(1)

في الأصل: بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ وَتَحْلِيلِ الْحَرَامِ.

قال في صيانة فتاوى شيخ الإسلام (ص 59): أشار عدد من أهل العلم إلى أنها قد تكون تصحيفًا من النساخ، والأظهر أن العبارة هي:(بتحريم الحرام وتحليل الحلال).

(2)

هكذا في الأصل وجميع النسخ، ولعل الصواب: أخطأ، والمعنى: أنّ الْمُحَرِّم لِلْحَلَالِ وَالْمُحَلِّل لِلْحَرَامِ: إنْ كَانَ خطؤه عن اجتهادٍ فهو معذور، وَلَكِنْ مَن عَلِمَ أَن المجتهدَ أخَطَأ فِيمَا جَاءَ بهِ الرَّسُولُ، ثُمَّ اتَّبَعَهُ عَلَى خَطَئِهِ؛ تقليدًا، وترك ما جاء به الرسول: فَهَذَا لَهُ نَصِيبٌ مِن هَذَا الشِّرْكِ الَّذِي ذَمَّهُ اللهُ.

ص: 517

بَيْنَ النَّصَارَى، فَإِذَا فَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِن الْحَقِّ: لَا يُؤَاخَذُ بِمَا عَجَزَ عَنْهُ، وَهَؤُلَاءِ كَالنَّجَاشِيِّ وَغَيْرِهِ.

وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُتَّبعُ لِلْمُجْتَهِدِ عَاجِزًا عَن مَعْرِفَةِ الْحَقِّ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَقَد فَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِثْلُهُ مِن الِاجْتِهَادِ فِى التَّقْلِيدِ: فَهَذَا لَا يُؤَاخَذُ إنْ أَخْطَأَ؛ كَمَا فِى الْقِبْلَةِ.

وَأَمَّا إنْ قَلَّدَ شَخْصًا دُونَ نَظِيرِهِ بِمُجَرَّدِ هَوَاهُ وَنَصَرَهُ بِيَدِهِ وَلسَانِهِ مِن غَيْرِ عِلْمٍ أَنَّ مَعَهُ الْحَقَّ: فَهَذَا مِن أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ:

- وَإِن كَانَ مَتْبُوعُهُ مُصِيبًا: لَمْ يَكن عَمَلُهُ صَالِحًا.

وَإن كَانَ مَتْبُوعُهُ مُخْطِئًا: كَانَ آثِمًا؛ كَمَن قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأيِهِ:

- فَإنْ أَصَابَ: فَقَد أخْطَأَ.

- وَإِن أَخْطَأَ: فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِن النَّارِ.

وَهَؤُلَاءِ مَن جِنْسِ مَانِعِ الزَّكَاةِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِيهِ الْوَعِيدُ، وَمِن جِنْسِ عَبْدِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَمَّا أَحَبَّ الْمَالَ حُبًّا مَنَعَهُ عَن عِبَادَةِ اللهِ وَطَاعَتِهِ: صَارَ عَبْدًا لَهُ.

وَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ، فَيَكُونُ فِيهِ شِرْكٌ أَصْغَرُ، وَلَهُم مِن الْوَعِيدِ بِحَسَبِ ذَلِكَ. [7/ 67 - 72]

* * *

(المراد بالتسوية في قوله تعالى: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ

(98)}

513 -

قَالَ تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)} [الشعراء: 94 - 98]، لَمْ يُرِيدُوا بِهِ أَنَّهُم جَعَلُوهُم مُسَاوِينَ للهِ مِن كُلِّ وَجْهٍ؛ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِن بَنِي آدَمَ، وَلَا نُقِلَ عَن قَوْمٍ قَطُّ مِن الْكُفَّارِ أَنَّهُم قَالُوا: إنَّ هَذَا

ص: 518

الْعَالَمَ لَهُ خَالِقَانِ مُتَمَاثِلَانِ، حَتَّى الْمَجُوسِ الْقَائِلِينَ بِالْأَصْلَيْنِ: النُّورِ وَالظُّلْمَةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ النُّورَ خَيْرٌ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وَيُحْمَدَ، وَأَنَّ الظُّلْمَةَ شِرِّيرَةٌ تَسْتَحِقُّ أَنْ تُذَمَّ وَتُلْعَنَ.

وَكذَلِكَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّ أَرْبَابَهُم لَمْ تُشَارِك اللهَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ بَل كَانُوا مُقِرِّينَ بِأنَّ اللهَ وَحْدَهُ خَلَقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا، كَمَا أَخْبَرَ اللهُ عَنْهُم بِذَلِكَ فِي غَيْرِ آيَةٍ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)} [العنكبوت: 61]. [7/ 74 - 75]

* * *

‌(هل مَبْدَأ اللُّغَاتِ: تَوْقِيفِيَّةٌ أو اصْطِلَاحِيَّةٌ

؟)

514 -

تَنَازَعَ الْأَشْعَرِيُّ وَأَبُو هَاشِمٍ فِي مَبْدَأِ اللُّغَاتِ: فَقَالَ أَبُو هَاشِمٍ: هِيَ اصْطِلَاحِيَّةٌ، وَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ: هِيَ تَوْقِيفِيَّةٌ.

ثُمَّ خَاضَ النَّاسُ بَعْدَهُمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ آخَرُونَ: بَعْضُهَا تَوْقِيفِيٌّ وَبَعْضُهَا اصْطِلَاحِيٌّ، وَقَالَ فَرِيقٌ رَابِعٌ بِالْوَقْفِ.

وَالْمَقْصُودُ أنه لَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَنْقُلَ عَن الْعَرَبِ؛ بَل وَلَا عَن أُمَّةٍ مِن الْأُمَمِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ فَوَضَعُوا جَمِيعَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِي اللُّغَةِ، ثُمَّ اسْتَعْمَلُوهَا بَعْدَ الْوَضْعِ، وَإِنَّمَا الْمَعْرُوفُ الْمَنْقُولُ بِالتَّوَاتُرِ اسْتِعْمَالُ هَذِهِ الألْفَاظِ فِيمَا عَنَوْهُ بِهَا مِن الْمَعَانِي

(1)

.

نَعَمْ، قَد يَضَعُ النَّاسُ الِاسْمَ لِمَا يَحْدُثُ مِمَّا لَمْ يَكُن مَن قَبْلَهمْ يَعْرِفُهُ فَيُسَمِّيهِ، كَمَا يُولَدُ لِأَحَدِهِمْ وَلَدٌ فَيُسَمّيهِ اسْمًا، إمَّا مَنْقُولًا وَإِمَّا مُرْتَجَلًا، وَقَد

(1)

وقد نفى الشيخ رحمه الله أَنْ تكون الْألْفَاظُ الْعَرَبِيَّةُ وُضِعَتْ أَوَّلًا لِمَعَانٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ اُسْتُعْمِلَتْ فِيهَا؛ فيَكُونُ لَهَا وَضْعٌ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ.

قال: وَهَذَا الْقَوْلُ لَا نعْرِفُ أَحَدًا مِن الْمُسْلِمِينَ قَالَهُ قَبْلَ أَبِي هَاشِمِ بْنِ الجبائي. (7/ 90)

ص: 519

يَكُونُ الْمُسَمَّى وَاحِدًا لَمْ يَصْطَلِحْ مَعَ غَيْرِهِ، وَقَد يَسْتَوُونَ فِيمَا يُسَمُّونَهُ.

وَكَذَلِكَ قَد يَحْدُثُ لِلرَّجُلِ آلَةٌ مِن صِنَاعَةٍ، أَو يُصَنِّفُ كِتَابًا، أَو يَبْنِي مَدِينَةً، وَنَحْو ذَلِكَ، فَيُسَمِّي ذَلِكَ بِاسْم؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِن الْأَجْنَاسِ الْمَعْرُوفَةِ حَتَى يَكُونَ لَهُ اسْمٌ فِي اللُّغَةِ الْعَامَّةِ. وَقَد قَالَ اللهُ:{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)} [الرحمن: 1 - 4] .. وَهُوَ سُبْحَانَهُ إذَا كَانَ قَد عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا وَعَرَضَ الْمُسَمَّيَاتِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ، فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُعَلِّمْ آدَمَ جَمِيعَ اللُّغَاتِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا جَمِيعُ النَّاسِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ تِلْكَ اللّغَاتِ اتَّصَلَتْ إلَى أَوْلَادِهِ، فَلَا يَتَكَلَّمُونَ إلا بِهَا: فَإِنَّ دَعْوَى هَذَا كَذِبٌ ظَاهِرٌ.

وَالْعُلَمَاءُ مِن الْمُفَسّرِينَ وَغَيْرِهِمْ لَهُم فِي الْأَسْمَاءِ الَّتِي عَلَّمَهَا اللهُ آدَمَ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ عَن السَّلَفِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إنَّمَا عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ مَن يَعْقِلُ.

وَالثَّانِي: أَنَّ اللهَ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيءٍ، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ.

وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ} [البقرة: 31]؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ مَن يَعْقِلُ وَمَن لَا يَعْقِل فَغُلّبَ مَن يَعْقِلُ.

فَبِالْجُمْلَةِ يَكْفِينَا أَنْ يُقَالَ: الْإِلْهَامُ كَافٍ فِي النُّطْقِ بِاللُّغَاتِ مِن غَيْرِ مُوَاضَعَةٍ مُتَقَدّمَةٍ، وَإِذَا سُمّيَ هَذَا تَوْقِيفًا فَلْيُسَمَّ تَوْقِيفًا، وَحِينَئِذٍ فَمَن ادَّعَى وَضْعًا مُتَقَدِّمًا عَلَى اسْتِعْمَالِ جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ فَقَد قَالَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَإِنَّمَا الْمَعْلُومُ بِلَا ريبٍ هُوَ الِاسْتِعْمَالُ. [7/ 91 - 96]

* * *

ص: 520

(الرد على من زعم أنّ الْإِيمَانَ في اللغة والشرع هُوَ التَّصْدِيقُ)

515 -

قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي التَّمْهِيدِ: فَإِنْ قَالُوا: فَخَبِّرُونَا مَا الْإِيمَانُ عِنْدَكُمْ؟

قِيلَ: الْإِيمَان هُوَ التَّصْدِيقُ بِاللهِ وَهُوَ الْعِلْمُ، وَالتَّصْدِيقُ يُوجَدُ بِالْقَلْبِ.

فَإِنْ قَالَ: فَمَا الدَّليلُ عَلَى مَا قلْتُمْ؟

قِيلَ: إجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ قَاطِبَةً عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَبَعْثَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هُوَ التَّصْدِيقُ لَا يَعْرِفُونَ فِي اللغَةِ إيمَانًا غَيْرَ ذَلِكَ.

وَهَذَا عُمْدَةُ مَن نَصَرَ قَوْلَ الْجَهْمِيَّة فِي مَسْألَةِ الْإِيمَانِ، وَللْجُمْهُورِ مِن أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ عَن هَذَا أَجْوِبَةٌ.

(الْأوَّلُ): قَوْلُ مَن يُنَارعُ فِي أَنَّ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ التَّصْدِيقُ وَيَقُولُ: لَيْسَ هُوَ التَّصْدِيقَ؛ بَل بِمَعْنَى الْإِقْرَارِ وَغَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: إجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ قَاطِبَةً عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ هُوَ التَّصْدِيقُ.

فَيُقَالُ لَهُ: مَن نَقَلَ هَذَا الْإِجْمَاعَ؟ وَمِن أَيْنَ يُعْلَمُ هَذَا الْإِجْمَاعُ؟ وَفِي أَيِّ كِتَابٍ ذُكِرَ هَذَا الْإِجْمَاعُ؟

(الثَّانِي): أَنْ يُقَالَ: أَتَعْنِي بِأَهْلِ اللُّغَةِ نَقَلَتَهَا كَأَبِي عَمْرٍو وَالْأصْمَعِيِّ وَالْخَلِيلِ وَنَحْوِهِمْ، أو الْمُتَكَلِّمِينَ بِهَا؟

(1)

فَإِنْ عَنَيْت الْأَوَّلَ: فَهَؤُلَاءِ لَا يَنْقُلُونَ كُلَّ مَا كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِإِسْنَاد، وَإِنَّمَا يَنْقُلُونَ مَا سَمِعُوهُ مِن الْعَرَبِ فِي زَمَانِهِمْ، وَمَا سَمِعُوهُ فِي دَوَاوِينِ الشِّعْرِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بِالْإِسْنَادِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيمَا نَقَلُوهُ لَفْظَ الْإِيمَانِ فَضْلًا عَن أَنْ يَكُونُوا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ.

(1)

أي: العرب.

ص: 521

وَإِن عَنَيْت الْمُتَكَلِّمِينَ بِهَذَا اللَّفْظِ قَبْلَ الْاِسْلَامِ: فَهَؤُلَاءِ لَمْ نَشْهَدْهُم وَلَا نَقَلَ لنَا أَحَدٌ عَنْهُم ذَلِكَ.

(الثَّالِثُ): أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ عَن هَؤُلَاءِ جَمِيعِهِمْ أَنَّهُم قَالُوا: الْإِيمَانُ فِي اللُّغَةِ هُوَ التَّصْدِيقُ؛ بَل وَلَا عَن بَعْضِهِمْ، وإن قُدَّرَ أَنَّهُ قَالَهُ وَاحِدٌ أَو اثْنَانِ فَلَيْسَ هَذَا إجْمَاعًا.

(الرَّابعُ): أَنْ يُقَالَ: هَؤُلَاءِ لَا يَنْقُلُونَ عَن الْعَرَبِ أَنَّهُم قَالُوا: مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ كَذَا وَكَذَا، وَإِنَّمَا يَنْقُلُونَ الْكَلَامَ الْمَسْمُوعَ مِن الْعَرَبِ، وَأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ كَذَا وَكَذَا.

وَحِينَئِذٍ فَلَو قُدِّرَ أَنَّهُم نَقَلُوا كَلَامًا عَن الْعَرَبِ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ: لَمْ يَكُن ذَلِكَ أَبْلَغَ مِن نَقْلِ الْمُسْلِمِينَ كَافَّةً لِلْقُرْآنِ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَإِذَا كَانَ مَعَ ذَلِكَ قَد يَظُنُّ بَعْضُهُم أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مَعْنًى وَلَمْ يُرِدْهُ، فَظَنُّ هَؤُلَاءِ ذَلِكَ فِيمَا يَنْقُلُونَهُ عَن الْعَرَبِ أَوْلَى.

(الْخَامِسُ): أَنَّهُ لَو قُدِّرَ أَنَّهُم قَالُوا هَذَا فَهُم آحَادٌ لَا يَثْبُتُ بِنَقْلِهِم التَّوَاتُرُ.

والتَّوَاتُرُ مِن شَرْطِهِ اسْتِوَاءُ الطَّرَفَيْنِ وَالْوَاسِطَةِ، وَأَيْنَ التَّوَاتُرُ الْمَوْجُودُ عَن الْعَرَبِ قَاطِبَةً قَبْلَ نزُولِ الْقُرْآنِ أنَّهُم كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ لِلْإِيمَانِ مَعْنًى غَيْرَ التَّصْدِيقِ؟

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَقْدَحُ فِي الْعِلْمِ بِاللُّغَةِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ؟

قِيلَ: فَلْيَكُنْ، وَنَحْنُ لَا حَاجَةَ بِنَا مَعَ بَيَانِ الرَّسُولِ لِمَا بَعَثَهُ اللهُ بِهِ مِن الْقُرْآنِ أَنْ نَعْرِفَ اللُّغَةَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ

(1)

.

(1)

فكلام الله تعالى وكلام رسوله بما تضمنه من البيان والألفاظ يُغني عن الرجوع إلى ما قالته العرب قبل ذلك، ولكن لا يعني ذلك أنه لا يُستفاد من لغة العرب قبل الإسلام؛ بل يُستفاد منها من وجوه:

الأول: زيادة توضيح ما نطق به الكتاب والسُّنة من الألفاظ والمعاني. =

ص: 522

وَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ، وَاَلَّذِينَ خُوطِبُوا بِهِ كَانُوا عَرَبًا، وَقَد فَهِمُوا مَا أُرِيدَ بِهِ، وَهُم الصَّحَابَةُ.

ثُمَّ الصَّحَابَةُ بَلَّغُوا لَفْظَ الْقُرْآنِ وَمَعْنَاهُ إلَى التَّابِعِينَ، حَتَّى انْتَهَى إلَيْنَا، فَلَمْ يَبْقَ بِنَا حَاجَة إلَى أَنْ تَتَوَاتَرَ عِنْدَنَا تِلْكَ اللُّغَة مِن غَيْرِ طَرِيقِ تَوَاتُرِ الْقرْآنِ.

(السَّادِسُ) أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ شَاهِدًا مِن كَلَام الْعَرَبِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا اسْتَدَلَّ مِن غَيْرِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِ النَاسِ: فُلَانٌ يُؤْمِنُ بِالشَّفَاعَةِ، وَفُلَانٌ يُؤْمِنُ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَفُلَانٌ يُومِنُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ، وَفُلَانٌ لَا يُومِنُ بِذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَ هَذَا لَيْسَ مِن ألْفَاظِ الْعَرَبِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ.

(السَّابِعُ): أَنْ يُقَالَ: مَن قَالَ ذَلِكَ فَلَيْسَ مُرَادُهُ التَّصْدِيقَ بِمَا يُرْجَى ويُخَافُ بِدُونِ خَوْفٍ وَلَا رَجَاءٍ؛ بَل يُصَدِّقُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ وَيَخَافُهُ، وَيُصَدِّقُ بِالشَّفَاعَةِ وَيَرْجُوهَا.

وَإِلَّا فَلَو صَدَّقَ بِأنَّهُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ وَلَمْ يَكُن فِي قَلْبِهِ خَوْفٌ مِن ذَلِكَ أَصْلًا: لَمْ يُسَمُّوهُ مُؤمِنًا بِهِ، كَمَا أَنَّهُم لَا يُسَمُّونَ مُؤمِنًا بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ إلَّا مَن رَجَا الْجَنَّةَ وَخَافَ النَّارَ، دُونَ الْمَعْرِضِ عَن ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ حَقٌّ.

كَمَا لَا يُسَمُّونَ إبْلِيسَ مُؤمِنًا بِاللهِ وَإِن كَانَ مُصَدِّقًا بِوُجُودِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ، وَلَا يُسَمُّونَ فِرْعَوْنَ مُؤمِنًا وإن كَانَ عَالِمًا بِأنَّ اللهَ بَعَثَ مُوسَى وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ الْآيَاتِ.

بَل الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ مَمْلُوءَانِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْإِيمَانِ إلَّا بِالْعَمَلِ مَعَ التَّصْدِيقِ، وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ أَكْثَرُ بِكَثِير مِن مَعْنَى الصَّلَاةِ

= الثاني: زيادة الإيمان واليقين بالقرآن الكريم، حيث إنه ما نزل إلا بلغة العرب الذي تحداهم القرآن أن يأتوا بمثله، فهم عربٌ أقحاح، والقرآن جاء بلغتهم التي يتخاطبون بها، ومع ذلك لم يستطيعوا أن يأتوا بسورة من مثلِه.

ص: 523

وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ تِلْكَ إنَّمَا فَسَّرَتْهَا السُّنَّةُ، وَالْإِيمَانُ بَيَّنَ مَعْنَاهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ. [7/ 123 - 128]

وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهُ لَمْ يَثْبُت الْمَدْحُ إلَّا عَلَى إيمَانٍ مَعَهُ الْعَمَلُ، لَا عَلَى إيمَانٍ خَالٍ عَن عَمَلٍ.

فَإذَا عُرِفَ أَنَّ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ وَاقِعٌ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ: كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ نِزَاعُهُم لَا فَائِدَةَ فِيهِ؛ بَل يَكُونُ نِزَاعًا لَفْظِيًّا، مَعَ أَنَّهُم مُخْطِئُونَ فِي اللَّفْظِ، مُخَالِفُونَ لِلْكتَابِ وَالسُّنَّةِ.

وَإِن قَالوا: إنَّهُ لَا يَضرُّهُ تَركُ الْعَمَلِ: فَهَذَا كُفْرٌ صَرِيحٌ.

ويَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ: قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)} [البقرة: 177].

فَقَوْلُهُ: {صَدَقُوا} [العنكبوت: 3]؛ أَيْ: فِي قَوْلِهِمْ: آمَنُوا؛ كَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 15]؛ أَيْ: هُم الصَّادِقُونَ فِي قَوْلِهِمْ آمَنَّا بِاللهِ.

وَقَد قَالَ فِي آيَةِ الْبِرِّ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] فَجَعَلَ الْأَبْرَارَ هُم الْمُتَّقِينَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّجْرِيدِ، وَقَد مَيَّزَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ الِاقْتِرَانِ وَالتَّقْيِيدِ فِي قَوْلِهِ:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2].

وَدَلَّتْ هَذ الآيَةُ عَلَى أَنَّ مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَمُسَمَّى الْبِرِّ وَمُسَمَّى التَّقْوَى عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَاحِدٌ؛ فَالْمُؤْمِنونَ هُم الْمُتَّقُونَ وَهُم الْأَبْرَارُ.

وَهَؤُلَاءِ الْمُؤمِنُونَ الْأَبْرَارُ الْأَتْقِيَاءُ: هُم أَهْلُ السَّعَادَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَهُم أَهْلُ

ص: 524

الْجَنَّةِ الَّذِينَ وُعِدُوا بِدُخُولِهَا بِلَا عَذَابٍ، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم:"مَن غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا، وَمَن حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا"

(1)

، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِن هَؤُلَاءِ؛ بَل مِن أَهْلِ الذُّنُوبِ الْمُعَرَّضِينَ لِلْوَعِيدِ أُسْوَةَ أَمْثَالِهِمْ. [7/ 181 - 184]

وَبِهَذَا تَبَيَّن أَنَّ الشَّارِعَ يَنْفِي اسْمَ الْإِيمَانِ عَن الشَّخْصِ لِانْتِفَاءِ كَمَالِهِ الْوَاجِبِ، وَإِن كَانَ مَعَهُ بَعْضُ أَجْزَائِهِ؛ كَمَا قَالَ:"لَا يَزْنِي الزانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ"

(2)

.

وَلهَذَا أَنْكَرَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِن الْأَئِمَّةِ عَلَى مَن فَسَّرَ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنَّا": لَيْسَ مِثْلَنَا، أَو لَيْسَ مِن خِيَارِنَا، وَقَالَ: هَذَا تَفْسِيرُ الْمُرْجِئَةِ، وَقَالُوا: لَو لَمْ يَفْعَلْ هَذِهِ الْكَبِيرَةَ كَانَ يَكُونُ مِثْل النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَكَذَلِكَ تَفْسِيرُ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ بِأنَّهُ يَخْرُجُ مِن الْإِيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ وَيسْتَحِقُّ الْخُلُودَ فِي النَّارِ: تَأوِيلٌ مُنْكَرٌ، فَلَا هَذَا وَلَا هَذَا. [7/ 524 - 525]

* * *

(لَا يُوجَدُ إطْلَاق اسْم الْكَلَامِ وَلَا أَنْوَاعِهِ عَلَى مجَرَّدِ الْمَعْنَى، مِن غَيْرِ شَيْءٍ يَقْتَرنُ بِهِ مِن عِبَارَةٍ وَلَا إشارَةٍ وَلَا غَيْرِهِمَا)

516 -

لَا يُوجَدُ قَطُّ إطْلَاقُ اسْمِ الْكَلَامِ وَلَا أَنْوَاعِهِ؛ كَالْخَبَرِ، أَو التَّصْدِيقِ، وَالتَّكْذِيبِ، وَالْأَمْرِ، وَالنَّهْيِ، عَلَى مُجَرَّدِ الْمَعْنَى، مِن غَيْرِ شَيءٍ يَقْتَرِنُ بِهِ مِن عِبَارَةٍ وَلَا إشَارَةٍ وَلَا غَيْرِهِمَا، وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ مُقَيَّدًا.

وَإِذَا كَانَ اللهُ إنَّمَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ: فَهِيَ لَا تَعْرِفُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ وَغَيْرَهُمَا مِن الْأَقْوَالِ إلَّا مَا كَانَ مَعْنًى وَلَفْظًا، أَو لَفْظًا يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى؛ وَلهَذَا لَمْ يَجْعَل اللهُ أَحَدًا مُصَدّقًا لِلرُّسُلِ بِمُجَرَّدِ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ الَّذِي فِي قُلُوبِهِم حَتَّى يُصَدِّقوهُم بِألْسِنَتِهِمْ.

(1)

رواه مسلم (101).

(2)

تقدم تخريجه.

ص: 525

بَل أَوَّلُ مَن عُرِفَ فِي الْإِسْلَام أَنَّهُ جَعَلَ مُسَمَّى الْكَلَامِ الْمَعْنَى فَقَط: هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ، وَهُوَ مُتَأخِّرٌ -فِي زَمَنِ مِحْنَةِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَل-، وَقَد أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ السُّنَّةِ وَعُلَمَاءُ الْبِدْعَةِ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الذِي هُوَ أَظْهَرُ صِفَاتِ بَنِي آدَمَ -كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 23]- لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ حَتَّى جَاءَ مَن قَالَ فِيهِ قَوْلًا لَمْ يَسْبِقْهُ إلَيْهِ أحَدٌ مِن الْمُسْلِمِينَ وَلَا غَيْرِهِمْ.

فَإِنْ قَالُوا: فَقَد قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} [المجادلة: 8]، وَقَالَ:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [الأعراف: 205]، وَنَحْو ذَلِكَ؟

قِيلَ: إنْ كَانَ الْمُرَادُ أنَّهُم قَالُوهُ بِألْسِنَتِهِمْ سِرًّا فَلَا حجَّةَ فِيهِ، وَهَذَا هُوَ الذِي ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ.

قَالُوا: كَانُوا يَقُولُونَ: سَامٌ عَلَيْك، فَإذَا خَرَجُوا يَقُولُونَ فِي أنْفُسِهِمْ؛ أَيْ: يَقُولُ بَعْضُهُم لِبَعْضِ: لَو كَانَ نَبِيًّا عُذّبْنَا بِقَوْلِنَا لَهُ مَا نَقُولُ.

وَإِن قُدِّرَ أَنَّهُ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَهُم قَالُوهُ فِي قُلُوبِهِم فَهَذَا قَوْلٌ مُقَيَّدٌ بِالنَّفْسِ.

مَعَ أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ نَظَائِرُهُ؛ فَإنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"يَقُولُ اللهُ: مَن ذَكرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْته فِي نَفْسِي، وَمَن ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكرْته فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُ"

(1)

، لَيْسَ المُرَادُ أنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِهِ بِلِسَانِهِ؛ بَل الْمُرَادُ أَنَّهُ ذَكَرَ اللهَ بِلِسَانِهِ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} [الأعراف: 205] هُوَ الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ.

وقَوْله تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران:

(1)

رواه أحمد (8650)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1488).

ص: 526

41] .. هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ، وَالْمَعْنَى: آيَتُك أَلَّا تُكَلّمَ النَّاسَ، لَكِنْ تَرْمُزُ لَهُم رَمْزًا كَنَظَائِرِهِ فِي الْقُرْآنِ.

وَقَوْلُهُ: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 13] هُوَ الرَّمْزُ، وَلَو قُدِّرَ أَنَّ الرَّمْزَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ: لَكَانَ قَد دَخَلَ فِي الْكَلَامِ الْمُقَيَّدِ بِالِاسْتِثْنَاءِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51]، وَلَا يَلْزَمُ مِن ذَلِكَ أَنْ يَدْخُلَ فِي لَفْظِ الْكَلَامِ الْمُطْلَقِ.

وَأَمَّا الْبَيْتُ الَّذِي يُحْكَى عَن الْأَخْطَلِ أَنَّهُ قَالَ:

إنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا

جُعِلَ اللّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلًا

فَمِن النَّاسِ مَن أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِن شِعْرِهِ وَقَالُوا: إنَّهُم فَتَّشُوا دَوَاوِينَهُ

فَلَمْ يَجِدُوهُ.

وَلَو احْتَجَّ مُحْتَجٌّ فِي مَسْألَةٍ بِحَدِيث أَخْرَجَاهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَقَالُوا: هَذَا خَبَرٌ وَاحِدٌ، وَيَكُونُ مِمَّا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَصْدِيقِهِ وَتَلَقِّيهِ بِالْقَبُولِ، وَهَذَا الْبَيْتُ لَمْ يَثْبتْ نَقْلُهُ عَن قَائِلِهِ بِإسْنَاد صَحِيحٍ، وَلَا تَلَقَّاهُ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ بِالْقَبُولِ، فَكَيْفَ يَثْبُتُ بِهِ أَدْنَى شَيْءٍ مِن اللُّغَةِ فَضْلًا عَن مُسَمَّى الْكَلَامِ؟.

فَعُلِمَ أَنَّ الْأَخْطَلَ لَمْ يُرِدْ بِهَذَا أَنْ يَذْكُرَ مُسَمَّى الْكَلَامِ، وَلَا أَحَد مِن الشُّعَرَاءِ يَقْصِدُ ذَلِكَ الْبَتَّةَ.

وَإِنَّمَا أَرَادَ -إنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ-: مَا فَسَّرَهُ بِهِ الْمُفَسِّرُونَ لِلشِّعْرِ؛ أَيْ: أَصْلُ الْكَلَامِ مِن الْفُؤَادِ، وَهُوَ الْمَعْنَى، فَإِذَا قَالَ الْإِنْسَانُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ فَلَا تَثِقْ بِهِ.

بِالْجُمْلَةِ: فَمَن احْتَاجَ إلَى أَنْ يَعْرِفَ مُسَمَّى الْكَلَامِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَالْفُرْسِ وَالرُّومِ وَالتُّرْكِ وَسَائِرِ أَجْنَاسِ بَنِي آدَمَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ: فَإِنَّهُ مِن أَبْعَدِ النَّاسِ عَن مَعْرِفَةِ طُرُقِ الْعِلْمِ، ثُمَّ هُوَ مِن الْمُوَلَّدِينَ وَلَيْسَ مِن الشُّعَرَاءِ الْقُدَمَاءِ. [7/ 132 - 139]

* * *

ص: 527

(نُصُوصُ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُصَدِّقِينَ بِالرَّبِّ)

517 -

نُصُوصُ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُصَدِّقِينَ بِالرَّبِّ، حَتَّى فِرْعَوْنُ الَّذِي أَظْهَرَ التَّكْذِيبَ كَانَ فِي بَاطِنِهِ مُصَدِّقًا، قَالَ تَعَالَى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14].

وَلَمَّا قَالَ فِرْعَوْنُ: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} [يونس: 90] قَالَ اللهُ: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)} [يونس: 91] فَوَصَفَهُ بِالْمَعْصِيَةِ وَلَمْ يَصِفْهُ بِعَدَمِ الْعِلْمِ فِي الْبَاطِنِ، كَمَا قَالَ:{فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16]، وَكَمَا قَالَ عَن إبْلِيسَ:{فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)} [ص: 73، 74] فَلَمْ يَصِفْهُ إلَّا بِالْإِبَاءِ وَالِاسْتِكْبَارِ وَمُعَارَضَتِهِ الْأَمْرَ، لَمْ يَصِفْهُ بِعَدَمِ الْعِلْمِ

(1)

. [7/ 151 - 152]

* * *

(معنى قوله تعالي: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ})

518 -

لَفْظُ التِّلَاوَةِ إذَا أُطْلِقَتْ فِي مِثْل قَوْلِهِ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} [البقرة: 121]: تَنَاوَلَت الْعَمَلَ بِهِ، كَمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ؛ مِثْل ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمْ، قَالُوا: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ: يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ، فَيُحِلُّونَ حَلَالَهُ وَيُحَرِّمُونَ حَرَامَهُ، وَيَعْمَلُونَ بِمُحْكَمِهِ وَيُؤمِنُونَ بِمُتَشَابِهِهِ.

وَقِيلَ: هُوَ مِن التِّلَاوَةِ بِمَعْنَى الِاتِّبَاعِ؛ كَقَوْلِهِ: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2)} [الشمس: 2] وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ مَن لَمْ يَقْرَأهُ.

(1)

فهذا دليل على أمرين:

الأول: أنَّ الإيمان ليس هو مجرد التصديق، ففرعون وإبليس كانا مُصدقين في الباطن، ولكنهما وأمثالهما عصوا واستكبروا، فلم ينفعهم التصديق.

الثاني: أن الله تعالى لا يُعذب أحدًا حتى يقيم الحجة عليه، فلا يُؤاخذ أحدًا قبل علمه.

ص: 528

وَقِيلَ: بَل مِن تَمَامِ قِرَاءَتِهِ أَنْ يَفْهَمَ مَعْنَاهُ وَيَعْمَلَ بِهِ، كَمَا قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي: حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ عُثْمَانُ بْنُ عفان وَعَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُم كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِن الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، قَالُوا: فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْاَنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا.

وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ بِإسْنَادِهِ الثَّابِتِ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} قَالَ: يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتبُاعِهِ

(1)

. [7/ 167 - 168]

* * *

(الصواب أَنَّ الْكَلَام وَالْقَوْل يَتَنَاوَلُ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا، وتوجيه الشيخ اختلاف عبارات السَّلَفِ في تعريف الْإِيمَان)

519 -

النَّاسُ لَهُم فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ وَالْقَوْلِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ؛ فَاَلَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْفُقَهَاءُ وَالْجُمْهُورُ أَنَهُ يَتَنَاوَلُ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا، كَمَا يَتَنَاوَلُ لَفْظَ الْإِنْسَانِ لِلرُّوحِ وَالْبَدَنِ جَمِعيًا.

وَقِيلَ: بَل مُسَمَّاهُ هُوَ اللَّفْظُ، وَالْمَعْنَى لَيْسَ جُزْءَ مُسَمَّاهُ؛ بَل هُوَ مَدْلُولُ

(1)

قال ابن جرير الطبري رحمه الله: القول في تأويل قوله تعالى: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} [البقرة: 121] اختلف أهل التأويل في تأويل قوله عز وجل: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} ، فقال بعضهم: معنى ذلك يتبعونه حق اتباعه.

وقال آخرون: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} ، يقرؤونه حق قراءته.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل ذلك أنه بمعنى: يتبعونه حق اتباعه، من قول القائل: ما زلت أتلو أثره، إذا اتبع أثره، لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن ذلك تأويله. اهـ. تفسير الطبري (2/ 566 - 569).

قلت: وقد ذكر القائلين للقول الأول وهم كثير، ولم يذكر قائلًا للقول الثاني.

ولم يذكر ابن الجوزي وابن كثير والسعدي في معنى الآية غير القول الأول. زاد المسير (1/ 157)، تفسير ابن كثير (1/ 403)، تفسير السعدي (65).

قال القرطبي بعد أن ساق القول الأول: وَقِيلَ: يَقْرَؤونَهُ حَقَّ قِرَاءَتِهِ.

قُلْتُ: وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى يُرَتلُونَ أَلْفَاظَهُ، وَيَفْهَمُونَ مَعَانِيَهُ، فَإنَّ بِفَهْمِ الْمَعَانِي يَكُونُ الاتباع لمن وفق. اهـ. تفسير القرطبي (2/ 96).

ص: 529

مُسَمَّاهُ، وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِن أَهْلِ الْكلَامِ مِن الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَطَائِفَةٍ مِن الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ النُّحَاةِ؛ لِأَنَّ صِنَاعَتَهُم مُتَعَلقَةٌ بِالْأَلْفَاظِ.

وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ مَن قَالَ مِن السَّلَفِ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ: أَرَادَ قَوْلَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَعَمَلَ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ

(1)

.

وَمَن [أَرَادَ]

(2)

الِاعْتِقَادَ: رَأَى أَنَّ لَفْظَ الْقَوْلِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إلَّا الْقَوْلُ الظَّاهِرُ، أَو خَافَ ذَلِكَ فَزَادَ الِاعْتِقَاد بِالْقَلْبِ.

وَمَن قَالَ: قَوْلٌ وَعَمَل وَنِيَّةٌ، قَالَ: الْقَوْلُ يَتَنَاوَلُ الِاعْتِقَادَ وَقَوْلَ اللِّسَانِ، وَأَمَّا الْعَمَلُ فَقَد لَا يُفْهَمُ مِنْهُ النِّيَّةُ فَزَادَ ذَلِكَ.

وَمَن زَادَ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ: فَلِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَا يَكُونُ مَحْبُوبًا للهِ إلَّا باتِّبَاعِ السُّنَّةِ.

وَأولَئِكَ لَمْ يُرِيدُوا كُلَّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، إنَّمَا أَرَادُوا مَا كَانَ مَشْرُوعًا مِن الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ، وَلَكِنْ كَانَ مَقْصُودُهُم الرَّدَّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ الَّذِينَ جَعَلُوهُ قَوْلًا فَقَطْ، فَقَالُوا: بَل هُوَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ.

وَاَلَّذِينَ جَعَلُوهُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: فَسَّرُوا مُرَادَهُم كَمَا سُئِلَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ التستري عَن الْإِيمَانِ مَا هُوَ؟

(1)

قال الشيخ في موضع آخر: الْقَوْل الْمُطْلَق وَالْعَمَل الْمُطْلَق فِي كَلَامِ السَّلَفِ: يَتَنَاوَلُ قَوْلَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَعَمَلَ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ.

فَقَوْلُ اللِّسَانِ بدُونِ اعْتِقَادِ الْقَلْبِ: هُوَ قَوْلُ الْمُنَافِقِينَ، وَهَذَا لَا يُسَمَّى قَوْلًا إلَّا بِالتَّقْييدِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 11].

وَكَذَلِكَ عَمَلُ الْجَوَارِحِ بِدُونِ أَعْمَالِ الْقُلُوب: هِيَ مِن أعْمَالِ الْمُنَافِقِينَ الَّتِي لَا يَتَقَبَّلُهَا اللهُ.

فَقَوْلُ السَّلَفِ: يَتَضَمَّنُ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ الْبَاطِنَ وَالظَّاهِرَ.

لَكِنْ لَمَّا كَانَ بَعْضُ النَّاسِ قَد لَا يَفْهَمُ دُخُولَ النِّيَّةِ فِي ذَلِكَ: قَالَ بَعْضُهُمْ: وَنِيَّةٌ، ثُمَّ بَيَّنَ آخَرُونَ أَنَّ مُطْلَقَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالنيَّةِ لَا يَكُونُ مَقْبُولَا إلَّا بمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ. اهـ. (7/ 505 - 506).

(2)

هكذا في جميع النسخ التي وقفت عليها، ولعل الصواب: زَادَ؛ لأن المعنى لا يستقيم إلا بذلك.

ص: 530

فَقَالَ: قَوْلٌ وَعَمَل وَنِيَّةٌ وَسُنَّةٌ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ إذَا كَانَ قَوْلًا بِلَا عَمَلٍ فَهُوَ كُفْرٌ، وَإِذَا كَانَ قَوْلًا وَعَمَلًا بِلَا نِيَّةٍ فَهُوَ نِفَاقٌ، وَإِذَا كَانَ قَوْلًا وَعَمَلًا وَنِيَّةً بِلَا سُنَّةٍ فَهُوَ بِدْعَةٌ. [7/ 170 - 171]

* * *

(عَطْفُ الشَّيءِ عَلَى الشَّيءِ فِي الْقُرْآنِ وَسَائِرِ الْكَلَامِ أنواع)

520 -

عَطْفُ الشَّيءِ عَلَى الشَّيْءِ فِي الْقُرْآنِ وَسَائِرِ الْكَلَامِ يَقْتَضِي مُغَايَرَةً بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، مَعَ اشْتِرَاكِ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ الَّذِي ذَكَرَ لَهُمَا.

وَالْمُغَايَرَةُ عَلَى مَرَاتِبَ:

أ - أَعْلَاهَا أَنْ يَكُونَا مُتَبَايِنَيْنِ لَيْسَ أَحَدُهُمَا هُوَ الْآخَرَ وَلَا جُزْأَهُ، وَلَا يُعْرَفُ لُزُومُهُ لَهُ؛ كَقَوْلِهِ:{الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الفرقان: 59] وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَوْلِهِ: {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98]، وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ.

ب - وَيَلِيهِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا لُزُومٌ كَقَوْلِهِ: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} [البقرة: 42]، وَقَوْلِهِ:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115]، وَقَوْلِهِ:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [النساء: 136].

فَإِنَّ مَن كَفَرَ بِاَللَّهِ فَقَد كَفَرَ بِهَذَا كُلّهِ؛ فَالْمَعْطُوفُ لَازِمٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ.

وَفِي الْاَيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ لَازِمٌ؛ فَإِنَّهُ مَن يُشَاقِق الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى فَقَد اتبعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤمِنِينَ.

قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَن لَمْ يَكُن مُتَّبِعًا سَبِيلَهُمْ: كَانَ مُتَّبِعًا غَيْرَ سَبِيلِهِمْ، فَاسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ اتبُاعَ سَبِيلِهِمْ وَاجِبٌ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْرُجَ عَمَّا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ.

وَفِي الثَّانِي نِزَاعٌ.

وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} : هُمَا مُتَلَازِمَانِ؛ فَإِنَّ مَن

ص: 531

لَبَّسَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ فَجَعَلَهُ مَلْبُوسًا بِهِ خَفَى مِن الْحَقِّ بِقَدْرِ مَا ظَهَرَ مِن الْبَاطِلِ، فَصَارَ مَلْبُوسًا، وَمَن كَتَمَ الْحَقَّ احْتَاجَ انْ يُقِيمَ مَوْضِعَهُ بَاطِلًا فَيُلْبِسُ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ؛ وَلهَذَا كَانَ كُلُّ مَن كَتَمَ مِن أَهْلِ الْكِتَاب مَا أَنْزَلَ اللهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يُظْهِرَ بَاطِلًا.

وَهَكَذَا "أَهْلُ الْبِدَعِ" لَا تَجِدُ أَحَدًا تَرَكَ بَعْضَ السُّنَّةِ الَّتِي يَجِبُ التَّصْدِيقُ بِهَا وَالْعَمَلُ إلَّا وَقَعَ فِي بِدْعَةٍ، وَلَا تَجِدُ صَاحِبَ بِدْعَةٍ إلَّا تَرَكَ شَيْئًا مِن السُّنَّةِ.

وَقَد قَالَ تَعَالَى: {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة: 14] فَلَمَّا تَرَكُوا حَظًّا مِمَّا ذُكرُوا بِهِ اعتاضوا بِغَيْرِهِ، فَوَقَعَتْ بَيْنَهُم الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ.

وَقَد تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ: إذَا عَصَيْت أَمْرِي فَأنْتِ طَالِقٌ إذَا نَهَاهَا فَعَصَتْهُ هَل يَكُونُ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي أَمْرِهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:

قِيلَ: لَا يَدْخُلُ لِأَنَّ حَقِيقَةَ النَّهْيِ غَيْرُ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ.

وَقِيلَ: يَدْخُلُ لأنَّ ذَلِكَ يُفْهَمُ مِنْهُ فِي الْعُرْفِ مَعْصِيَةُ الْأمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّ مَا ذُكرَ فِي الْعُرْفِ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ مِن كُلِّ مُتَكَلِّمٍ إذَا قِيلَ: أَطِعْ أَمْرَ فُلَانٍ أَو فُلَانٍ يُطِيعُ أَمْرَ فُلَانٍ، أَو لَا يَعْصِي أَمْرَهُ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ النَّهْيُ؛ لِأَنَّ النَّاهِيَ آمِرٌ بِتَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ فَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ:{وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)} [البقرة: 42] وَلَمْ يَقلْ: لَا تَكْتُمُوا الْحَقَّ، فَلَمْ يَنْهَ عَن كُلٍّ مِنْهُمَا لِتَلَازُمِهِمَا.

وَلَيْسَتْ هَذِهِ "وَاوَ الْجَمْعِ" الَّتِي يُسَمِّيهَا الْكُوفِيُّونَ "وَاوَ الصَّرْفِ" كَمَا قَد يَظنُّهُ بَعْضُهُمْ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَكُونُ الْمَعْنَى: لَا تَجْمَعُوا بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا وَحْدَهُ غَيْرَ مَنْهِيٍّ عَنْهُ.

وَأَيْضًا: فَتِلْكَ إنَّمَا تَجِيءُ إذَا ظَهَرَ الْفَرْقُ؛ كَقَوْلِهِ: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142].

ص: 532

ج - وَالثَّالِثُ: عَطْفُ بَعْضِ الشَّيءِ عَلَيْهِ؛ كَقَوْلِهِ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238].

د - وَالرَّابِعُ: عَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيءِ لِاخْتِلَافِ الصِّفَتَيْنِ؛ كَقَوْلِهِ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4)} [الأعلى: 1 - 4]، وَقَوْلِهِ:{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)} [البقرة:4،3].

وَقَد جَاءَ فِي الشِّعْرِ مَا ذُكِرَ أَنَّهُ عَطْفٌ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ فَقَطْ كقَوْلِهِ:

وَأَلْفَى قَوْلَهَا كَذِبًا وَمَيْنًا

وَمِنَ النَاسِ مَن يَدَّعِي أَنَّ مِثْل هَذَا جَاءَ فِي كِتَابِ اللهِ، كَمَا يَذْكرُونَهُ فِي قَوْلِهِ:{شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] وَهَذَا غَلَطٌ، مِثْلُ هَذَا لَا يَجِيءُ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي كَلَامٍ فَصِيحٍ. [7/ 172 - 177]

* * *

(دلالة أسماء الله تعالى على ذاته وصفاته تكون بالمطابقة، وبالتضمن، وبالالتزام)

521 -

أَسْمَاؤة -تعالى- كُلُّهَا مُتَّفِقَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ، ثُمَّ كُلُّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى مِن صِفَاتِهِ، لَيْسَ هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْمُ الْآخَرُ؛ فَالْعَزِيز يَدُلُّ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ عِزَّتِهِ، وَالْخَالِقُ يَدُلُّ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ خَلْقِهِ، وَالرَّحِيمُ يَدُلُّ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ رَحْمَتِهِ، وَنَفْسُهُ تَسْتَلْزِمُ جَمِيعَ صِفَاتِهِ.

فَصَارَ كُلُّ اسْمٍ يَدُلُّ:

أ - عَلَى ذَاتِهِ وَالصِّفَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ بِطَرِيقِ الْمُطَابَقَةِ.

ب - وَعَلَى أَحَدِهِمَا بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ.

ص: 533

ج - وَعَلَى الصِّفَةِ الْأُخْرَى بِطَرِيقِ اللُّزومِ

(1)

.

وَهَكَذَا أَسْمَاءُ كِتَابِهِ: الْقُرْآنُ، وَالْفُرْقَانُ، وَالْكِتَابُ .. وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ رَسولِهِ: مُحَمَّد، وَأَحْمَد، وَالْمَاحِي .. كُلُّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ مِن صِفَاتِهِ الْمَمْدُوحَةِ غَيْرِ الصِّفَةِ الْأخْرَى.

وَهَكَذَا مَا يُثَنَّى ذِكْرُهُ مِن الْقَصَصِ فِي الْقُرْآنِ؛ كَقِصَّةِ مُوسَى وَغَيْرِهَا، لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهَا أَنْ تَكُونَ سَمَرًا؛ بَل الْمَقْصُودُ بِهَا أَنْ تَكُونَ عِبَرًا؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111]؛ فَاَلَّذِي وَقَعَ شَيءٌ وَاحِدٌ وَلَهُ صِفَاتٌ، فَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِعِبَارَات مُتَنَوِّعَةٍ، كُلُّ عِبَارَةٍ تَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ مِن الصِّفَاتِ الَّتِي يَعْتَبِرُ بِهَا الْمُعْتَبِرُونَ، وَلَيْسَ هَذَا مِن التَكْرِيرِ فِي شَيءٍ.

وَهَكَذَا أَسْمَاءُ دِينِهِ الَّذِي أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، يُسَمَّى إيمَانًا، وَبِرًّا، وَتَقْوَى، وَخَيْرًا، وَدِينًا، وَعَمَلًا صَالِحًا، وَصِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَنَحْو ذَلِكَ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ وَاحِدٌ، لَكِنَّ كُلَّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ لَيْسَتْ هِيَ الصِّفَةَ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا الْآخَرُ، وَتَكُونُ تِلْكَ الصِّفَةُ هِيَ الْأَصْلَ فِي اللَّفْظِ، وَالْبَاقِي كَانَ تَابِعًا لَهَا لَازِمًا لَهَا، ثُمَّ صَارَتْ دَالَّةً عَلَيْهِ بِالتَّضَمُّنِ.

فَإِنَّ الْإِيمَانَ: أَصْلُهُ الْإِيمَانُ الَّذِي فِي الْقَلْبِ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِن شَيْئَيْنِ:

أ - تَصْدِيقٍ بِالْقَلْبِ.

ب- وإقْرَارِهِ وَمَعْرِفَتِهِ.

وَيُقَالُ لِهَذَا: قَوْلُ الْقَلْبِ.

قَالَ الْجُنَيْد بْنُ مُحَمَّدِ: التَّوْحِيدُ: قَوْلُ الْقَلْبِ، وَالتَّوَكُّلُ: عَمَلُ الْقَلْبِ.

فَلَا بُدَّ فِيهِ مِن قَوْلِ الْقَلْبِ وَعَمَلِهِ، ثُمَّ قَوْلِ الْبَدَنِ وَعَمَلهِ.

(1)

مثال ذلك: "الخالق" يدل على ذات الله، وعلى صفة الخلق بالمطابقة، ويدل على الذات وحدها وعلى صفة الخلق وحدها بالتضمن، ويدل على صفتي العلم والقدرة بالالتزام.

القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى، للعلامة ابن عثيمين (11).

ص: 534

وَلَابُدَّ فِيهِ مِن عَمَلِ الْقَلْبِ

(1)

؛ مِثْل حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَخَشْيَةِ اللهِ، وَحُبّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَبُغْضِ مَا يُبْغِضُهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَإِخْلَاصِ الْعَمَلِ للهِ وَحْدَهُ، وَتَوَكُّلِ الْقَلْبِ عَلَى اللهِ وَحْدَهُ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن أَعْمَالِ الْقُلُوبِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَجَعَلَهَا مِن الْإِيمَانِ. [7/ 185 - 186]

* * *

(الْقَلْبُ هُوَ الْأَصلُ فإذا صلح صلح العمل ولابد، والرد على الجهمية والمرجئة)

522 -

الْقَلْبُ هُوَ الْأَصْلُ، فَإِذَا كَانَ فِيهِ مَعْرِفَةٌ وَإِرَادَةٌ سَرَى ذَلِكَ إلَى الْبَدَنِ بِالضَّرُورَةِ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَخَلَّفَ الْبَدَنُ عَمَّا يُرِيدُهُ الْقَلْبُ؛ وَلهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:"ألَا إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ ألا وَهِيَ الْقَلْبُ"

(2)

.

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: "الْقَلْبُ مَلِكٌ وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ، فَإِذَا طَابَ الْمَلِكُ طَابَتْ جُنُودُهُ، وَإِذَا خَبُثَ الْمَلِكُ خَبُثَتْ جُنُودُهُ".

وَقَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ تَقْرِيبٌ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنُ بَيَانًا؛ فَإِنَّ الْمَلِكَ وإن كَانَ صَالِحًا فَالْجُنْدُ لَهُم اخْتِيَارٌ قَد يَعْصُونَ بِهِ مَلِكَهُمْ، وَبِالْعَكْسِ فَيَكُونُ فِيهِمْ صَلَاحٌ مَعَ فَسَادِهِ، أَو فَسَادٌ مَعَ صَلَاحِهِ، بِخِلَافِ الْقَلْبِ؛ فَإِنَّ الْجَسَدَ تَابعٌ لَهُ لَا يَخْرُجُ عَن إرَادَتِهِ قَطُّ.

فَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ صَالِحًا بِمَا فِيهِ مِن الْإِيمَانِ عِلْمًا وَعَمَلًا قَلْبِيًّا: لَزِمَ ضَرُورَةً صَلَاحُ الْجَسَدِ بِالْقَوْلِ الظَّاهِرِ، وَالْعَمَلِ بِالْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ، كَمَا قَالَ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ: قَوْلٌ وَعَمَلٌ، قَوْلٌ بَاطِنٌ وَظَاهِرٌ، وَعَمَلٌ بَاطِنٌ وَظَاهِرٌ، وَالظَّاهِرُ تَابعٌ لِلْبَاطِنِ لَازِمٌ لَهُ، مَتَى صَلَحَ الْبَاطِنُ صَلَحَ الظَّاهِرُ، وإذَا فَسَدَ فَسَدَ؛ وَلهَذَا قَالَ

(1)

فلا يكفي قَوْل الْبَدَنِ وَعَمَلُه، وهو قول اللسان وعمل الأركان؛ بل لا بد من عَمَلِ الْقَلْبِ.

(2)

رواه البخاري (52)، ومسلم (1599).

ص: 535

مَن قَالَ مِن الصَّحَابَةِ عَن الْمُصَلِّي الْعَابِثِ: لَو خَشَعَ قَلْبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ

(1)

.

فَلَا بُدَّ فِي إيمَانِ الْقَلْبِ مِن حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَأَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] فَوَصَفَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاَنَّهُم اشَدُّ حُبًّا للهِ مِن الْمُشْرِكِينَ لِأَنْدَادِهِمْ.

وَفِي الْآيَةِ قَوْلَانِ:

- قِيلَ: يُحِبُّونَهُم كَحُبِّ الْمُؤْمِنِينَ اللهَ، وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ مِنْهُم لِأَوْثَانِهِمْ.

- وَقِيلَ: يُحِبُّونَهُم كَمَا يُحِبُّونَ اللهَ، وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ مِنْهُمْ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَالْأَوَّلُ قَوْلٌ مُتَنَاقِضٌ وَهُوَ بَاطِلٌ؛ فَإنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يُحِبُّونَ الْأَنْدَادَ مِثْل مَحَبَّةِ الْمُؤْمِنِينَ للهِ.

وَتَسْتَلْزِمُ

(2)

الْإِرَادَةَ، وَالْإِرَادَةُ التَّامَّةُ مَعَ الْقُدْرَةِ تَسْتَلْزِمُ الْفِعْلَ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ

(1)

وبهذا يتبتن أنّ صلاح القلب والسريرة أولى بالعناية من الأعمال الظاهرة، ومتى وجد الأنسان ضعفًا في عمله وهمّته فليُصلح قلبه يصلُح له عملُه.

والله تعالى قدَّم في كتابه الإيمان وأعمالَ القلوب، على أعمال الجوارح، كما فى قولِه تعالى:{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} [البقرة: 2، 3].

وقوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)} [الحج: 34، 35].

وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} [الأنفال: 2، 3].

وقد تكرر في القرآن في عشرات المواضع قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [يونس: 4].

ففي هذه المواضع وغيرِها قدَّم الله تعالى أعمال القلوب على أعمال الجوارح، وما ذاك إلا لأهميّتها ووجوبِ العنايعة بها.

فما بال الكثير منَ الناس يُقَدِّم ما أخره الله؟ ويُؤخر ما قدمه؟

(2)

أي: محبةُ اللهِ وَرَسُولِهِ.

ص: 536

يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُحِبًا للهِ وَرَسُولِهِ، مُرِيدًا لِمَا يُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ إرَادَةً جَازِمَةً، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ: وَهُوَ لَا يَفْعَلُهُ، فَإِذَا لَمْ يَتَكَلَّم الْإِنْسَانُ بِالْإِيمَانِ مَعَ قُدْرَتِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانُ الْوَاجِبُ الَّذِي فَرَضَهُ اللهُ عَلَيْهِ.

وَمِن هُنَا يَظْهَرُ خَطَأ قَوْلِ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَمَن اتَّبَعَة، حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ الْإِيمَانَ مجَرَّدُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَعِلْمِهِ، لَمْ يَجْعَلُوا أَعْمَالَ الْقَلْبِ مِن الْإِيمَانِ، وَظَنُّوا أَنَّهُ قَد يَكُونُ الْإِنْسَانُ مُؤْمِنًا كَامِلَ الْإِيمَانِ بِقَلْبِهِ وَهُوَ مَعَ هَذَا يَسُبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيُعَادِي اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيُعَادِي أَوْليَاءَ اللهِ، ويُوَالِي أَعْدَاءَ اللهِ.

قَالُوا: وَإِنَّمَا ثَبَتَ لَهُ فِي الدُّنْيَا أَحْكَامُ الْكُفَّارِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ أَمَارَةٌ عَلَى الْكُفْرِ لِيُحْكَمَ بِالظَّاهِرِ.

وَهَذَا الْقَوْلُ مَعَ أَنَّهُ أَفْسَدُ قَوْلٍ قِيلَ فِي الْإِيمَانِ فَقَد ذَهَبَ إلَيْهِ كَثِيرٌ مِن أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُرْجِئَةِ.

وَقَد كَفَّرَ السَّلَفُ -كَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ- مَن يَقُولُ بِهَذَا الْقَوْلِ، وَقَالُوا: إبْلِيسُ كَافِرٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا كُفْرُهُ بِاسْتِكْبَارِهِ وَامْتِنَاعِهِ عَن السُّجودِ لِآدَمَ، لَا لِكَوْنِهِ كَذَّبَ خَبَرًا.

قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)} [المائدة: 51، 52].

وَالْمُفَسِّرُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ قَوْمٍ مِمَن كَانَ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَفِي قَلْبِهِ مَرَضٌ، خَافَ أَنْ يُغْلبَ أَهْل الْإِسْلَامِ، فَيُوَالِي الْكُفَّارَ مِن الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ؛ لِلْخَوْفِ الذِي فِي قُلُوبِهِمْ، لَا لِاعْتِقَادِهِمْ أنَّ مُحَمَّدًا كَاذِبٌ وَالْيَهُودَ وَالنَّصَارَى صَادِقُونَ، وَأَشْهَرُ النُّقُولِ فِي ذَلِكَ أَنَّ عبادة بْنَ الصَّامِتِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ لِي مَوَالِيَ مِن الْيَهُودِ، وَإِنّي أَبْرَأُ إلَى اللهِ مِن وِلَايَةِ يَهُودَ، فَقَالَ

ص: 537

عَبْدُ اللهِ بْنُ أبي: لَكِنِّي رَجُلٌ أَخَافُ الدَّوَائِرَ وَلَا أَبْرأُ مِن وِلَايَةِ يَهُودَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.

وَالْمُرْجِئَةُ الَّذِينَ قَالُوا: الْإِيمَان تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَقَوْلُ اللِّسَانِ، وَالْأَعْمَالُ لَيْسَتْ مِنْهُ: كَانَ مِنْهُم طَائِفَةٌ مِن فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ وَعُبَّادِهَا، وَلَمْ يَكُن قَوْلُهُم مِثْل قَوْلِ جَهْمِ.

وَالْمُرْجِئَةُ ثَلَاَثَةُ أَصْنَافٍ:

الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ مُجَرَّدُ مَا فِي الْقَلْبِ، ثُمَّ مِن هَؤُلَاءِ مَن يُدْخِلُ فِيهِ أَعْمَالَ الْقُلُوبِ، وَهُم أَكْثَرُ فِرَقِ الْمُرْجِئَةِ.

وَمِنْهُم مَن لَا يُدْخِلُهَا فِي الْإِيمَانِ كَجَهْم.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مَن يَقُولُ: هُوَ مُجَرَّدُ قَوْلِ اللِّسَانِ، وَهَذَا لَا يُعْرَفُ لِأَحَد قَبْلَ الكَرَّامِيَة.

وَالثَّالِثُ: تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَقَوْلُ اللِّسَانِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَن أهْلِ الْفِقْهِ وَالْعِبَادَةِ مِنْهُمْ. [7/ 187 - 195]

وَلَمْ أَرَ أَنَا فِي كِتَابِ أَحَدٍ منهم أَنَّهُ قَالَ: الْأَعْمَالُ لَيْسَتْ مِن الدِّينِ

(1)

؛ بَل يَقُولُونَ: لَيْسَتْ مِن الْإِيمَانِ.

وَأَمَّا احْتِجَاجُهُم بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِلْأَمَةِ: "أَعْتِقْهَا فَإنَّهَا مُؤْمِنَةٌ"

(2)

فَهُوَ مِن حُجَجِهِم الْمَشْهُورَةِ، وَبِهِ احْتَجَّ ابْنُ كُلَّابٍ وَكَانَ يَقُولُ: الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ وَالْقَوْلُ.

وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ الظَّاهِرَ الَّذِي تَجْرِي عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ فِي الدُّنْيَا: لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ فِي الْبَاطِنِ الَّذِي يَكُونُ صَاحِبُهُ مِن أَهْلِ السَّعَادَةِ فِي الْآخِرَةِ. [7/ 207 - 210]

* * *

(1)

كما نُقل ذلك عن بعض المتقدمين.

(2)

رواه مسلم (537).

ص: 538

(لَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِن الْعَامَّةِ أَنْ يَعْرِفَ كُلَّ مَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ، وَكلَّ مَا نَهَى عَنْهُ، وَكُلَّ مَا أَخْبَرَ بهِ؛ بَل إنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ هُوَ وَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ)

523 -

لَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِن الْعَامَّةِ أَنْ يَعْرِفَ كُلَّ مَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ، وَكُلَّ مَا نَهَى عَنْهُ، وَكُلَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ؛ بَل إنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ هُوَ وَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ، فَمَن لَا مَالَ لَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ أَمْرَهُ الْمُفَصَّلَ فِي الزَّكَاةِ، وَمَن لَا اسْتِطَاعَةَ لَهُ عَلَى الْحَجِّ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ أَمْرَهُ الْمُفَصَّلَ بِالْمَنَاسِكِ، وَمَن لَمْ يَتَزَوَّجْ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ مَا وَجَبَ لِلزَّوْجَةِ، فَصَارَ يَجِبُ مِن الْإِيمَانِ تَصْدِيقًا وَعَمَلًا عَلَى أَشْخَاصٍ مَا لَا يَجِبُ عَلَى آخَرِينَ. [7/ 156]

* * *

(افْتَتَحَ اللهُ الْبَقَرَةَ وَوَسطَها وَخَتَمَها بالْإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا جَاءَت بِهِ الْأنبِيَاءُ)

524 -

لَمَّا كَانَت سُورَةُ الْبَقَرَةِ سَنَامَ الْقُرْآنِ، وَيُقَالُ إنَّهَا أَوَّلُ سُورَة نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ: افْتَتَحَهَا اللهُ بِأرْبَعِ آيَاتٍ فِي صِفَةِ الْمُؤمِنِينَ وَآيَتَيْنِ فِي صِفَةِ الْكَافِرِينَ وَبِضْع عَشْرَةَ آيةٍ فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ فَإنَّهُ مِن حِينِ هَاجَرَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم صَارَ النَّاسُ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: إمَّا مُؤْمِن، وَإِمَّا كَافِرٌ مُظْهِرٌ لِلْكُفْرِ، وإمَّا مُنَافِقٌ، بِخِلَافِ مَا كَانُوا وَهُوَ بِمَكَّةَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُن هُنَاكَ مُنَافِقٌ وَلهَذَا قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ: لَمْ يَكُن مِن الْمُهَاجِرِينَ مُنَافِقٌ، وَإِنَّمَا كَانَ النِّفَاقُ فِي قَبَائِلِ الْأَنْصَارِ؛ فَإِنَ مَكَّةَ كَانَت لِلْكُفَّارِ مُسْتَوْلِينَ عَلَيْهَا، فَلَا يُؤمِنُ وَيُهَاجِرُ إلَّا مَن هُوَ مُؤمِنٌ.

وَاللهُ تَعَالَى افْتَتَحَ الْبَقَرَةَ، وَوَسَّطَ الْبَقَرَة، وَخَتَمَ الْبَقَرَةَ بِالْإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا جَاءَت بِهِ الْأَنْبِيَاءُ:

- فَقَالَ فِي أَوَّلِهَا: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا

ص: 539

أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 1 - 5]

(1)

.

- وَقَالَ فِي وَسَطِهَا: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} الآيَةَ [البقرة: 136، 137].

- وَقَالَ فِي آخِرِهَا: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)} [البقرة: 285] وَالْآيَةُ الْأخْرَى. [7/ 200 - 201]

* * *

(الْمُؤْمِنُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْجَنَّةِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا فِي الْبَاطِنِ بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ)

525 -

الْمُؤمِنُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْجَنَّةِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُؤمِنًا فِي الْبَاطِنِ بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، حَتَّى الكَرَّامِيَة الَّذِينَ يُسَمُّونَ الْمُنَافِقَ مُؤْمِنًا، وَيقُولُونَ: الْإِيمَانُ هُوَ الْكَلِمَةُ، يَقُولُونَ: إنَّهُ لَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ إلَّا الْإِيمَانُ الْبَاطِنُ.

(1)

قال الشيخ: قِيلَ: هَؤُلَاءِ جَمِيعُ الْمُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بمَا أنْزِلَ إلَيْهِ، وَمَا أنْزِلَ مَن قَبْلِهِ، وَهَؤُلَاءِ هُم الَّذِينَ يُومِنُونَ بِالْغَيْبِ، وَهُم صِنْفٌ وَاحِدٌ، وإنَّمَا عُطِفُوا لِتَغَايُرِ الصِّفَتَيْنِ؛ كَقَوْلِهِ:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5)} [الأعلى: 1 - 5]، فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ، وَعَطَفَ بَعْضَ صِفَاتِهِ عَلَى بَعْضٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:{وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] وَهِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ.

وَالصِّفَاتُ: إذَا كَانَت مَعَارِفَ كَانَت لِلتَّوْضِيحِ، وَتَضَمَّنَت الْمَدْحَ أو الذَّمّ.

تَقُولُ: هَذَا الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي فَعَلَ كَذَا، وَهُوَ الَّذِي فَعَلَ كَذَا، وَهُوَ الَّذِي فَعَلَ كَذَا، تُعَدِّدُ مَحَاسِنَهُ، وَلهَذَا مَعَ الْإِتْبَاعِ قَد يَعْطِفُونَهَا وَيَنْصِبُونَ أَو يَرْفَعُونَ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ. اهـ. (7/ 199 - 200)

ص: 540

وَقَد حَكَى بَعْضُهُم عَنْهُم أَنَّهُم يَجْعَلُونَ الْمُنَافِقِينَ مِن أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ غَلَطٌ عَلَيْهِمْ، إنَّمَا نَازَعُوا فِي الِاسْمِ لَا فِي الْحُكْمِ، بِسَبَبِ شُبْهَةِ الْمُرْجِئَةِ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتبعَّضُ وَلَا يَتَفَاضَلُ. [7/ 215 - 216]

* * *

(سَائِرُ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً: مَن كَانَ مُؤْمِنًا باللهِ وَرَسُولِهِ: لَمْ يَكُن كَافِرًا فِي الْبَاطِنِ، وَإن أَخْطأَ فِي التَّأوِيلِ كَائِنًا مَا كَانَ)

526 -

لَا يُجْعَلُ أَحَدٌ بِمُجَرَّدِ ذَنْبًا يذنبه وَلَا بِبِدْعَةٍ ابْتَدَعَهَا -وَلَو دَعَا النَّاسَ إلَيْهَا-: كَافِرًا فِي الْبَاطِنِ إلَّا إذَا كَانَ مُنَافِقًا.

فَأمَّا مَن كَانَ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ وَمَا جَاءَ بِهِ، وَقَد غَلِطَ فِى بَعْضِ مَا تَأَوَّلَهُ مِن الْبِدَعِ: فَهَذَا لَيْسَ بِكَافِرٍ أَصْلًا.

وَالْخَوَارِجُ كَانُوا مِن أَظْهَرِ النَّاسِ بِدْعَةً وَقِتَالًا لِلْأُمَّةِ، وَتَكْفِيرًا لَهَا: وَلَمْ يَكُن فِي الصَّحَابَةِ مَن يُكَفِّرُهُمْ، لَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَلَا غَيْرُهُ؛ بَل حَكَمُوا فِيهِمْ بِحُكْمِهِمْ فِي الْمُسْلِمِينَ الظَّالِمِينَ الْمعْتَدِينَ.

وَكَذَلِكَ سَائِرُ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً:

- مَن كَانَ مِنْهم مُنَافِقًا فَهُوَ كَافِرٌ فِي الْبَاطِنِ.

- وَمَن لَمْ يَكُن مُنَافِقًا؛ بَل كَانَ مُؤْمِنًا بِاللهِ وَرَسُولِهِ فِي الْبَاطِنِ: لَمْ يَكُن كَافِرًا فِي الْبَاطِنِ، وَإِن أَخْطَأَ فِي التَّأوِيلِ كَائِنًا مَا كَانَ خَطَؤُهُ

(1)

، وَقَد يَكُونُ فِي بَعْضِهِمْ شُعْبَةٌ مِن شُعَبِ النِّفَاقِ، وَلَا يَكُونُ فِيهِ النّفَاقُ الَّذِي يَكُونُ صَاحِبُهُ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِن النَّارِ.

وَمَن قَالَ: إنَّ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً كلُّ وَاحِدٍ مِنْهُم يَكْفُرُ كُفْرًا يَنْقُلُ عَن الْمِلَّةِ: فَقَد خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وإجْمَاعَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ؛

(1)

هذا من أصرح المواضع التي يُحذر فيها شيخ الإسلام من التكفير بالعموم، ويمتنع منه.

ص: 541

بَل وَإِجْمَاعَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِ الْأَرْبَعَةِ، فَلَيْسَ فِيهِمْ مَن كَفَّرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِن الثّنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَإِنَّمَا يُكَفِّرُ بَعْضُهُم بَعْضًا بِبَعْضِ الْمَقَالَاتِ

(1)

.

وَإِنَّمَا قَالَ الْأَئِمَّةُ بِكُفْرِ هَذَا: لِأَنَّ هَذَا فَرْضُ مَا لَا يَقَعُ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِمَّا أُمِرَ بِهِ مِن الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ، وَيفْعَلُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِن الْمُحَرَّمَاتِ مِثْل الصَّلَاةِ بِلَا وُضُوءٍ وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ وَنِكَاحِ الْأُمَّهَاتِ

(2)

، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُؤمِنٌ فِي الْبَاطِنِ؛ بَل لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا لِعَدَمِ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي قَلْبِهِ.

وَلهَذَا كَانَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ يُكَفِّرُونَ أَنْوَاعًا مِمَن يَقُولُ كَذَا وَكَذَا؛ لِمَا فِيهِ مِن الِاسْتِخْفَافِ، وَيَجْعَلونَهُ مُرْتَدًّا بِبَعْضِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ، مَعَ النِّزَاعِ اللَّفْظِىِّ الَّذِي بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَبَيْنَ الْجُمْهُورِ فِي الْعَمَلِ: هَل هُوَ دَاخِل فِي اسْمِ الْإِيمَانِ أَمْ لَا؟

(1)

قال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في حديثه عن حديث الافتراق: هَذِهِ الْفِرَقُ وَإِن كَانَت عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالِ، فَلَمْ تَخْرُجْ مِنَ الْأُمَّةِ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ:"تَفْتَرِقُ أُمَّتِي"، فَإنْهُ لَو كَانَت بِبِدْعَتِهَا تَخْرُجُ مِنَ الْأُمَّةِ لَمْ يُضِفْهَا إِلَيْهَا.

فَإنْ قِيلَ: فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَكْفِيرِ أهل البدع؛ كالخوارج، والقدرية وغيرهما.

فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يَدُلُّ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً عَلَى خُرُوجِهِمْ عَن الْإِسْلَامِ.

وَالْأصْلُ بَقَاؤُهُ حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ، وإذا قلنا بتكفيرهم فليسوا إذن مِن تِلكَ الْفِرَقِ؛ بَلِ الْفِرَقُ مَن لَمْ تؤدّهم بدعتهم إلى الْكُفْرِ، وَإِنَّمَا أبْقَتْ عَلَيْهِم مِن أوْصَافِ الْإسْلَام مَا دَخَلُوا بِهِ فِي أَهْلِهِ، وَالْأمْرُ بِالْقَتْلِ فِي حَدِيثِ الْخَوَارجِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْكفْرِ؛ إذ لِلْقَتْلِ أَسْبَابٌ غَيْرُ الْكُفْرِ، كَقَتْلِ الْمُحَارِبِ وَالْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ بِغَيْرِ تَأوِيلٍ، وَمَا أشْبَهَ ذَلِكَ؛ فالحق أن لا يُحْكَمَ بِكُفْرِ مَن هَذَا سَبِيلُهُ.

وَبِهَذَا كُلِّهِ يَتبَيَّنُ أن التَعْيِينَ فِي دُخُولِهِمْ تَحْتَ مُقْتَضَى الْحَدِيثِ صَعْبٌ، وَأَنَّهُ أَمْرٌ اجْتِهَادِيٌّ لَا قَطْعَ فِيهِ، إِلا مَا دَل عَلَيْهِ الذَلِيلُ الْقَاطِعُ للعذر وما أعز وجود مثله. اهـ. تهذيب كتاب الموافقات للمؤلف (497 - 498)، الاعتصام (ص 455).

(2)

كما نُقل عن عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاح أنه سُئل عمن يقول: نَحْنُ نُقِرُّ بِأنَّ الصَّلَاةَ فَرْضٌ وَلَا نُصَلِّي، وَبِأنَّ الْخَمْرَ حَرَامٌ وَنَشْرَبُهَا، وَأنَّ نِكَاحَ الْأُمَّهَاتِ حَرَامٌ وَنَحْنُ نَنْكِحُ، فَنَثَرَ يَدَهُ مِن يَدِ السائل وَقَالَ: مَن فَعَلَ هَذَا فَهُوَ كَافِرٌ.

ص: 542

وَلهَذَا فَرَضَ مُتَأخِّرُو الْفُقَهَاءِ مَسْأَلَةً يَمْتَنِعُ وُقُوعُهَا: وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا كَانَ مُقِرًّا بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ، فَدُعِيِ إلَيْهَا وَامْتَنَعَ، وَاسْتُتِيبَ ثَلَاثًا مَعَ تَهْدِيدِهِ بِالْقَتْلِ، فَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى قُتِلَ: هَل يَمُوتُ كَافِرًا أَو فَاسِقًا؟

عَلَى قَوْلَيْنِ، وَهَذَا الْفَرْضُ بَاطِلٌ؛ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ فِي الْفِطْرَةِ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللهَ فَرَضَهَا عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ يُعَاقِبُهُ عَلَى تَرْكِهَا، وَيَصْبِرُ عَلَى الْقَتْلِ؛ وَلَا يَسْجُدُ للهِ سَجْدَةً مِن غَيْرِ عُذْرٍ لَهُ فِي ذَلِكَ، هَذَا لَا يَفْعَلُهُ بَشَرٌ قَطُّ؛ بَل وَلَا يُضْرَبُ أَحَدٌ مِمَن يُقِرُّ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ إلَّا صَلَّى، لَا يَنْتَهِي الْأَمْرُ بهِ إلَى الْقَتْلِ.

وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّ الْقَتْلَ ضَرَرٌ عَظِيمٌ، لَا يَصْبِرُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ إلَّا لِأَمْر عَظِيمٍ؛ مِثْل لُزُومِهِ لِدِينٍ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ إنْ فَارَقَهُ هَلَكَ فَيَصْبِرُ عَلَيْهِ حَتَّى يُقْتَلَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الدّينُ حَقًّا أَو بَاطِلًا.

أَمَّا مَعَ اعْتِقَاده أَنَّ الْفِعْلَ يَجِبُ عَلَيْهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا: فَلَا يَكُونُ فِعْلُ الصَّلَاةِ أَصْعَبَ عَلَيْهِ مِن احْتِمَالِ الْقَتْلِ قَطُّ.

وَنَظِيرُ هَذَا لَو قِيلَ: إنَّ رَجُلًا مِن أَهْلِ السنَّةِ قِيلَ لَة: تَرْضَّ عَن أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَامْتَنَعَ عَن ذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ، مَعَ مَحَبَّتِهِ لَهُمَا وَاعْتِقَادِهِ فَضْلَهُمَا، وَمَعَ عَدَمِ الْأَعْذَارِ الْمَانِعَةِ مِن التَّرَضِّي عَنْهُمَا: فَهَذَا لَا يَقَعُ قَطُّ.

وَكَذَلِكَ لَو قِيلَ: إنَّ رَجُلًا يَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَقَد طُلِبَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ هُنَاكَ رَهْبَةٌ وَلَا رَغْبَة يَمْتَنِعُ لِأَجْلِهَا، فَامْتَنَعَ مِنْهَا حَتَى قُتِلَ: فَهَذَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَاطِنِ يَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ.

وَلهَذَا كَانَ الْقَوْلُ الظَّاهِرُ: مِن الْإِيمَانِ الَّذِي لَا نَجَاةَ لِلْعَبْدِ إلَّا بِهِ عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِن الْأَوَّلينَ والآخرين. [7/ 217 - 219]

* * *

ص: 543

(الإيمان يَزِيدُ وَيَنْقصُ، والرد على الْخَوَارِج وَالْمُعْتَزِلَة والمرجئة)

527 -

قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ الْإِيمَانَ إذَا ذَهَبَ بَعْضُهُ ذَهَبَ كُلُّهُ: مَمْنُوعٌ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي تَفَرَّعَتْ عَنْهُ الْبِدَعُ فِي الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّهُم ظَنُّوا أَنَّهُ مَتَى ذَهَبَ بَعْضُهُ ذَهَبَ كُلُّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيءٌ.

ثُمَّ قَالَت الْخَوَارجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ: هُوَ مَجْمُوعُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَهُوَ الْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ كَمَا قَالَهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ، قَالُوا: فَإِذَا ذَهَبَ شَيءٌ مِنْهُ لَمْ يَبْقَ مَعَ صَاحِبِهِ مِن الْإِيمَانِ شَيءٌ فَيُخَلَّدُ فِي النَّارِ.

وَقَالَت الْمُرْجِئَةُ عَلَى اخْتِلَافِ فِرَقِهِمْ: لَا تُذْهِبُ الْكَبَائِرُ وَتَرْكُ الْوَاجِبَاتِ الظاهِرَةِ شَيْئًا مِن الْإِيمَانِ؛ إذ لَو ذَهَبَ شَيءٌ مِنْهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَئٌ، فَيَكُونُ شَيْئًا وَاحِدًا يَسْتَوِي فِيهِ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ.

وَنُصُوصُ الرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ تَدُلُّ عَلَى ذَهَابِ بَعْضِهِ وَبَقَاءِ بَعْضِهِ؛ كَقَوْلِهِ: "يَخْرُجُ مِن النَّارِ مَن كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِن إيمَانٍ"

(1)

.

وَلهَذَا كَانَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ يَتَفَاضَلُ، وَجُمْهُورُهُم يَقولُونَ: يَزِيدُ وَيَنْقُصُ.

وَالزّيَادَةُ قَد نَطَقَ بِهَا الْقُرْآنُ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2]، وَهَذِهِ زَيادَةٌ إذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِم الْآيَات أَيَّ وَقْتٍ تُلِيَتْ، لَيْسَ هُوَ تَصْدِيقُهُم بِهَا عِنْدَ النُّزُولِ، وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُهُ الْمُومِنُ إذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ زَادَ فِي قَلْبِهِ بِفَهْمِ الْقُرْآنِ وَمَعْرِفَةِ مَعَانِيهِ مِن عِلْمِ الْإِيمَانِ مَا لَمْ يَكُنْ، حَتَّى كَأنَّهُ لَمْ يَسْمَع الْآيَةَ إلَّا حِينَئِذٍ، وَيَحْصُلُ فِي قَلْبِهِ مِن الرَّغْبَةِ فِي الْخَيْرِ، وَالرَّهْبَةِ مِن الشَّرِّ مَا لَمْ يَكُنْ، فَزَادَ عِلْمُهُ بِاللهِ، وَمَحَبّتهُ لِطَاعَتِهِ، وَهَذِهِ زِيَادَةُ الْإِيمَانِ. [7/ 223 - 218]

* * *

(1)

رواه الترمذي (1999)، وقال: حسن صحيح غريب.

ص: 544

(لَفْظُ "الْإِيمَانِ": أكْثَرُ مَا يذْكَرُ فِي الْقُرآنِ مُقَيَّدًا)

528 -

لَفْظُ "الْإِيمَانِ": أَكْثَرُ مَا يُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ مُقَيَّدًا، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ اللَّفْظُ مُتَنَاوِلًا لِجَمِيعِ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ؛ بَل يُجْعَلُ مُوجِبًا لِلَوَازِمِهِ، وَتَمَامِ مَا أَمَرَ بِهِ، وَحِينَئِذٍ يَتَنَاوَلهُ الِاسْمُ الْمُطْلَقُ؛ قَالَ تَعَالَى:{آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8)} [الحديد: 7، 8].

وَقَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ السُّورَةِ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)} [الحديد: 28].

وَقَد قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: إنَّهَا خِطَابٌ لِقُرَيْش، وَفِي الثَّانِيَةِ: إنَّهَا خِطَابٌ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.

وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَقُلْ قَطُّ لِلْكُفَّارِ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة: 9]. [7/ 230]

* * *

(مَن عَرَفَ الْقُرآنَ وَالسُّنَنَ وَمَعَانِيَهَا لَزِمَهُ مِن الْإِيمَانِ الْمُفَصَّلِ بذَلِكَ مَا لَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ)

529 -

لَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ مِن الْإِيمَانِ الْمُفَصَّلِ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ مَا يَجِبُ عَلَى مَن بَلَغَهُ غَيْرُهُ، فَمَن عَرَفَ الْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ وَمَعَانِيَهَا لَزِمَهُ مِن الْإِيمَانِ الْمُفَصَّلِ بِذَلِكَ مَا لَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ، وَلَو آمَنَ الرَّجُلُ بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ شَرَائِعَ الدِّينِ مَاتَ مُؤْمِنًا بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِن الْإِيمَانِ، وَلَيْسَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَا مَا وَقَعَ عَنْهُ مِثْل إيمَانِ مَن عَرَفَ الشَّرَائِعَ فَآمَنَ بِهَا وَعَمِلَ بِهَا؛ بَل إيمَانُ هَذَا أَكْمَلُ وُجُوبًا وَوُقُوعًا؛ فَإِنَّ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِن الْإِيمَانِ أَكْمَلُ، وَمَا وَقَعَ مِنْهُ أَكْمَلُ. [7/ 232]

* * *

ص: 545

(أهميَّةُ تأمُّلِ الْآيَات الْمَخْلُوقَة وَتدبر الْآيَات الْمَتْلُوَّة)

530 -

قَالَ تَعَالَى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]؛ أَيْ: إنَّ الْقُرْآنَ حَق، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:{أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] فَإنَّ اللهَ شَهِيدٌ فِي الْقُرْآنِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ، فَآمَنَ بِهِ الْمُومِنُ، ثُمَّ أَرَاهُم فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ مِن الْآيَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى مِثْل مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ، فَبَيَّنَتْ لَهُم هَذِهِ الآيَاتُ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ، مَعَ مَا كَانَ قَد حَصَلَ لَهُم قَبْلَ ذَلِكَ. وَقَالَ تَعَالَى:{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)} [ق: 6 - 8]؛ فَالْآيَاتُ الْمَخْلُوقَةُ وَالْمَتْلُوَّةُ: فِيهَا تَبْصِرَةٌ وَفِيهَا تَذْكِرَةٌ، تَبْصِرَةٌ مِن الْعَمَى، وَتَذْكِرَةٌ مِن الْغَفْلَةِ، فَيُبْصِرُ مَن لَمْ يَكُن عَرَفَ حَتَّى يَعْرِفَ، وَيَذْكُرُ مَن عَرَفَ وَنَسِيَ.

وَالْإِنْسَانُ يَقْرَأُ السُّورَةَ مَرَّاتٍ حَتَّى سُورَة الْفَاتِحَةِ، وَيَظْهَرُ لَهُ فِي أَثْنَاءِ الْحَالِ مِن مَعَانِيهَا مَا لَمْ يَكُن خَطَرَ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، حَتَّى كَأَنَّهَا تِلْكَ السَّاعَةُ نَزَلَتْ، فَيُؤمِنُ بِتِلْكَ الْمَعَانِي، وَيزْدَادُ عِلْمُهُ وَعَمَلُهُ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي كُلِّ مَن قَرَأَ الْقُرْآنَ بِتَدَبُّرٍ، بِخِلَافِ مَن قَرَأَهُ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْهُ، ثُمَّ كُلَّمَا فَعَلَ شَيْئًا مِمَّا أُمِرَ بِهِ اسْتَحْضَرَ أَنَّهُ أُمِرَ بِهِ فَصَدَّقَ الْأَمْرَ، فَحَصَلَ لَهُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مِن التَّصْدِيقِ فِي قَلْبِهِ مَا كَانَ غَافِلًا عَنْهُ، وَإِن لَمْ يَكُن مُكَذِّبًا مُنْكِرًا. [7/ 236 - 237]

* * *

(أَثبَتَ الكتاب والسُّنَّة إسْلَامًا بِلَا إيمَانٍ)

531 -

أَثْبَتَ اللهُ فِي الْقُرْآنِ إسْلَامًا بِلَا إيمَانٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحجرات: 14].

ص: 546

وَقَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ"

(1)

عَن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقاصٍ قَالَ: أَعْطَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَهْطًا وَتَرَكَ فِيهِمْ مَن لَمْ يُعْطِه وَهُوَ أَعْجَبُهُم إلَيَّ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ ما لَك عَن فُلَانٍ؟ فَوَاللهِ إنِّي لَأَرَاهُ مُؤمِنًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أو مُسْلِمًا"، أَقُولُهَا ثَلَاثًا ويُرَدِّدُهَا عَلَىَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثًا.

فَهَذَا الْإِسْلَامُ الَّذِي نَفَى اللهُ عَن أَهْلِهِ دُخُولَ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ: هَل هُوَ إسْلَامٌ يُثَابُونَ عَلَيْهِ؟ أَمْ هُوَ مِن جِنْسِ إسْلَامِ الْمُنَافِقِينَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إسْلَامٌ يُثَابُونَ عَلَيْهِ وُيخْرِجُهُم مِن الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْإِسْلَامَ هُوَ الِاسْتِسْلَامُ خَوْفَ السَّبْيِ وَالْقَتْلِ؛ مِثْل إسْلَامِ الْمُنَافِقِينَ.

قَالُوا: وَهَؤُلَاءِ كُفَّارٌ؛ فَإنَّ الْإِيمَانَ لَمْ يَدْخُلْ فِي قُلُوبِهِمْ، وَمَن لَمْ يَدْخُل الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ فَهُوَ كَافِرٌ.

وَهَذَا اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي، وَالسَّلَفُ مُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى انَّ الْإِسْلَامَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ إسْلَامٌ يُثَابُونَ عَلَيْهِ وَأَنَهُم لَيْسُوا مُنَافِقِينَ

(2)

: أَنَّهُ قَالَ: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ

(1)

البخاري (27)، ومسلم (150).

(2)

لم يرجح الشيخ هنا أحد الأقوال، لكن قال في (7/ 305): قَولُ مَن قَالَ مِن السَّلَفِ: أَسْلَمْنَا؛ أيْ: اسْتَسْلَمْنَا خَوْفَ السَّيْفِ، وَقَوْلُ مَن قَالَ: هُوَ الْإسْلَامُ: الْجَمِيعُ صَحِيحٌ؛ فَإنَّ هَذَا إنَّمَا أرَادَ الدُّخُولَ فِى الْإسْلَامِ، وَالْإسْلَامُ الظاهِرُ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُنَافِقُونَ، فَيَدْخُلُ فِيهِ مَن كَانَ فِي قَلْبِهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ، وَقَد عُلِمَ أنهُ يَخْرُجُ مِن النَارِ مَن فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِن إيمَانٍ، بِخِلَافِ الْمُنَافِقِ الْمَحْضِ الَّذِي قَلْبُهُ كُلُّهُ أَسْوَدُ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَكُونُ فِي الدَّرْكِ الْأسْفَلِ مِن النَّارِ. اهـ.

وقد تكلم على هذه الآية في (7/ 476 وما بعدها).

ص: 547

قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]، ثُمَّ قَالَ:{وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} ؛ فَدَلَّ عَلَى أنَّهُم إذَا أَطَاعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ مَعَ هَذَا الْإِسْلَامِ: آجَرَهُم اللهُ عَلَى الطَّاعَةِ، وَالْمُنَافِقُ عَمَلُهُ حَابِطٌ فِي الْآخِرَةِ.

* * *

قَالَ تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)} [الحجرات: 17] يَعْنِي: فِي قَوْلِكُمْ: {آمَنَّا} .

يَقُولُ: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ؛ فَاللّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكمْ لِلْإِيمَانِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُم قَد يَكُونُونَ صَادِقِينَ فِي قَوْلِهِمْ:{آمَنَّا} .

ثُمَّ صِدْقُهُمْ:

- إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ اتِّصَافُهُم بِأنَهُم {آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 15].

- وإمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّهُم لَمْ يَكُونُوا كَالْمُنَافِقِينَ؛ بَل مَعَهُم إيمَانٌ وإن لَمْ يَكُن لَهُم أَنْ يَدَّعُوا مُطْلَقَ الْإِيمَانِ، وَهَذَا اشْبَهُ وَاللهُ أَعْلَمُ؛ لِأَنَّ النِّسْوَةَ الْمُمْتَحَنَاتِ قَالَ فِيهِنَّ:{فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10]، وَلَا يُمْكِنُ نَفْيُ الرَّيْبِ عَنْهُنَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.

وَلأنَّ اللهَ إنَّمَا كَذَّبَ الْمُنَافِقِينَ وَلَمْ يُكَذِّبْ غَيْرَهُمْ، وَهَؤُلَاءِ لَمْ يُكذّبْهُم وَلَكِنْ قَالَ:{لَمْ تُؤْمِنُوا} [الحجرات: 14] كَمَا قَالَ: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ"

(1)

.. وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مُنَافِقِينَ.

وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ ذَمَّهم لِكَوْنِهِمْ مَنَّوْا بِإسْلَامِهِمْ لِجَهْلِهِمْ وَجَفَائِهِمْ، وَأَظْهَرُوا مَا فِي أَنْفُسِهِمْ مَعَ عِلْمِ اللهِ بِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: {قُلْ

(1)

رواه البخاري (13)، ومسلم (45).

ص: 548

أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الحجرات: 16]، فَلَو لَمْ يَكُن فِي قُلُوبِهِم شَيءٌ مِن الدِّينِ لَمْ يَكُونُوا يُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِهِمْ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ الظَّاهِرَ يَعْرِفهُ كُلُّ أَحَدٍ.

وَدَخَلَت الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: {أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} ؛ لِأنَّهُ ضُمنَ مَعْنَى يُخْبِرُونَ وَيُحَدِّثُونَ، كَأنَهُ قَالَ: أَتُخْبِرُونَهُ وَتُحَدّثُونَهُ بِدِينِكُمْ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ.

وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَدُل عَلَى أَنَّ الَّذِي أَخْبَرُوا بِهِ اللهَ هُوَ مَا ذَكَرَهُ اللهُ عَنْهُم مِن قَوْلِهِمْ: {آمَنَّا} [الحجرات: 14] فَإِنَّهُم أَخْبَرُوا عَمَّا فِي قُلُوبِهِمْ. [7/ 238 - 245]

وَهَذِهِ الآيَةُ مِمَّا احْتَجَّ بِهَا أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَثْنَى فِي الْإِيمَانِ دُونَ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ أَصْحَابَ الْكَبَائِرِ يَخْرُجُونَ مِن الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ. [7/ 253]

* * *

(الْخِطَابُ بِالْإِيمَانِ يَدخُلُ فِيهِ ثَلَاث طَوَائِف)

532 -

الْخِطَابُ بِالْإِيمَانِ

(1)

يَدْخُلُ فِيهِ ثَلَاثُ طَوَائِف:

أ- يَدْخُلُ فِيهِ الْمُومِنُ حَقًّا.

ب - وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُنَافِقُ فِي أَحْكَامِهِ الظَّاهِرَةِ، وَإِن كَانُوا فِي الْآخِرَةِ فِي الدَّرْكِ الْأسْفَلِ مِن النَّارِ، وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ يَنْفِي عَنْهُ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ، وَفِي الظَّاهِرِ يَثْبُتُ لَهُ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ الظَّاهِرُ.

ت - وَيَدْخُلُ فِيهِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا وَإِن لَمْ تَدْخُلْ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ، لَكِنْ مَعَهُم جُزْءٌ مِن الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ يُثَابُونَ عَلَيْهِ. [7/ 241]

* * *

(1)

أي: الْخِطَاب بِـ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 254].

ص: 549

(الإقْرَارُ بالشهادة لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ مَعَه مِن الْيَقِينِ مَا لَا يَقْبَل الرَّيْبَ، والكلام عن المنافقين، وضعافِ الإيمان)

533 -

خَتَمَ اللهُ الرُّسُلَ بِمُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، فَلَا يَكُونُ مُسْلِمًا إلَّا مَن شَهِدَ أَنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ بِهَا يَدْخُلُ الإنسان فِي الْإِسْلَامِ.

فَمَن قَالَ

(1)

: الْإِسْلَامُ الْكَلِمَةُ وَأرَادَ هَذَا: فَقَدَ صَدَقَ.

ثُمَّ لَا بُدَّ مِن الْتِزَامِ مَا امَرَ بِهِ الرَّسُولُ مِن الْأَعْمَالِ الظَاهِرَةِ؛ كَالْمَبَانِي الْخَمْسِ، وَمَن تَرَكَ مِن ذَلِكَ شَيْئًا نَقَصَ إسْلَامُهُ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِن ذَلِك.

وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ إذَا عَمِلَهَا الْإِنْسَانُ مُخْلِصًا للهِ تَعَالَى: فَإنَّهُ يُثِيبُه عَلَيْهَا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا مَعَ إقْرَارِهِ بِقَلْبِهِ أَنَّهُ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَيَكُونُ مَعَهُ مِن الْإِيمَانِ هَذَا الْإِقْرَارُ، وَهَذَا الْإِقْرَارُ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ مَعَهُ مِن الْيَقِينِ مَا لَا يَقْبَلُ الرَّيْبَ

(2)

، وَلَا أَنْ يَكُونَ مُجَاهِدًا، وَلَا سَائِرَ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْمُومِنُ عَن الْمُسْلِمِ الَّذِي لَيْسَ بِمُؤمِن.

وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِن الْمُسْلِمِينَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا مَعَهُم هَذَا الْإسْلَامُ بِلَوَازِمِهِ مِن الْإِيمَانِ، وَلَمْ يَصِلُوا إلَى الْيَقِينِ وَالْجِهَادِ، فَهَؤُلَاءِ يُثَابُونَ عَلَى إسْلَامِهِمْ وَإِقْرَارِهِمْ بِالرَّسُولِ مُجْمَلًا، وَقَد لَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُ جَاءَ بِكِتَابٍ، وَقَد لَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُ جَاءَهُ مَلَكٌ، وَلَا أنَّهُ أخْبَرَ بِكَذَا، وإذَا لَمْ يَبْلُغْهُم أن الرَّسُولَ أَخْبَرَ بِذَلِكَ لَمْ يَكُن عَلَيْهِم الْإِقْرَارُ الْمُفَصَّلُ بِهِ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِن الْإقْرَارِ بِأنَّهُ رَسُولُ اللهِ، وَأَنَّهُ صَادِقٌ فِي كُلِّ مَا يُخْبِرُ بِهِ عَن اللهِ.

(1)

من العلماء، كما ورد عن بعض السلف.

(2)

ذكر العلماء أن من شروط شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله: اليقين المنافي للشك والريب، وكلام شيخ الاسلام لا يُخالف هذا، وإنما يقصد الشيخ أن اليقين درجات، فيكفي لصحة الإسلام أن يُوقن بقلبه، ولا يلزم أن يكون قويًّا بحيث لا يقبل الريب في المستقبل، وعند ورود الشبهات أو الشهوات عليه.

ص: 550

ثُمَّ الْإِيمَانُ الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ: فِيهِ تَفْصِيل، وَفِيهِ طُمَأْنِينَةٌ وَيَقِينٌ، فَهَذَا مُتَمَيِّزٌ بِصِفَتِهِ وَقَدْرِهِ فِي الْكَميَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ مَعَهُم مِن الْإِيمَانِ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسلِهِ وَتَفْصِيلِ الْمُعَادِ وَالْقَدَرِ مَا لَا يَعْرِفُهُ هَؤُلَاءِ.

وَأَيْضًا: فَفِي قُلُوبِهِم مِن الْيَقِينِ وَالثَّبَاتِ وَلُزُومِ التَّصْدِيقِ لِقُلُوبِهِم مَا لَيْسَ مَعَ هَؤُلَاءِ، وَأولَئِكَ هُم الْمُومِنُونَ حَقًّا، وَكُلُّ مُؤْمِنٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، فَإنَّ الْإِيمَانَ يَسْتَلْزِمُ الْأَعْمَالَ، وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا هَذَا الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِسْلَامَ للهِ وَالْعَمَلَ لَهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى هَذَا الْإِيمَانِ الْخَاصِّ، وَهَذَا الْفَرْقُ يَجِدُه الْإِنْسَانُ مِن نَفْسِهِ، وَيَعْرِفُهُ مِن غَيْرِهِ، فَعَامَّةُ النَّاسِ إذَا أَسْلَمُوا بَعْدَ كُفْرٍ، أَو وُلدُوا عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْتَزَمُوا شَرَائِعَهُ، وَكَانُوا مِن أَهْلِ الطَّاعَةِ للهِ وَرَسُولِهِ: فَهُم مُسْلِمُونَ، وَمَعَهُم إيمَان مُجْمَلٌ، وَلَكنَّ دُخُولَ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ إلَى قُلُوبِهِم إنَّمَا يَحْصُلُ شَيْئًا فَشَيْئًا إنْ أَعْطَاهُم اللهُ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَكَثِيرٌ مِن النَّاسِ لَا يَصِلُونَ لَا إلَى الْيَقِينِ، وَلَا إلَى الْجِهَادِ، وَلَو شُكِّكُوا لَشَكُّوا، وَلَو أُمِرُوا بِالْجِهَادِ لَمَا جَاهَدُوا، وَلَيْسُوا كُفَّارًا وَلَا مُنَافِقِينَ؛ بَل لَيْسَ عِنْدَهُم مِن عِلْمِ الْقَلْبِ وَمَعْرِفَتِهِ وَيَقِينِهِ مَا يَدْرَأْ الرَّيْبَ، وَلَا عِنْدَهُم مِن قُوَّةِ الْحُبِّ للهِ وَلرَسُولِهِ مَا يُقَدِّمُونَهُ عَلَى الْأَهْلِ وَالْمَالِ

(1)

، وَهَؤُلَاءِ إنْ عُوفُوا مِن الْمِحْنَةِ وَمَاتُوا دَخَلُوا الْجَنَّةَ.

وَإِن اُبْتُلُوا بِمَن يُورِدُ عَلَيْهِم شُبُهَاتٍ تُوجِبُ ريْبَهُمْ: فَإنْ لَمْ يُنْعِم اللهُ عَلَيْهِم بِمَا يُزِيلُ الرَّيْبَ وَإِلَّا صَارُوا مُرْتَابِينَ، وَانْتَقَلُوا إلَى نَوْعٍ مِن النِّفَاقِ.

وَكَذَلِكَ إذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِم الْجِهَادُ وَلَمْ يُجَاهِدُوا: كَانُوا مِن أَهْلِ الْوَعِيدِ؛ وَلهَذَا لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ أَسْلَمَ عَامَّةُ أَهْلِهَا، فَلَمَّا جَاءَت الْمِحْنَةُ وَالِابْتِلَاءُ نَافَقَ مَن نَافَقَ

(2)

.

(1)

وهذا واقع أكثر الناس من العامة من المسلمين في أنحاء العالم الإسلامي، وانظر إلى: نظرة الشيخ وسماحته وعدم تشدده خلافًا لِمَا يُنقل عنه أنه يُكفر الناس والمخالفين؛ فالشيخ لا يكاد يُكفر مسلمًا مهما ضعف يقينه، وعظمت بدعته.

(2)

ومن أعظم حكم الله تعالى من المحن والفتن: {حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179].=

ص: 551

فَلَو مَاتَ هَؤلَاءِ قَبْلَ الِامْتِحَانِ: لَمَاتُوا عَلَى الْإِسْلَامِ وَدَخَلُوا الْجَنَّةَ، وَلَمْ يَكونُوا مِن الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا الَّذِينَ اُبْتُلُوا فَظَهَرَ صِدْقُهُمْ، قَالَ تَعَالَى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)} [الحج: 11].

وَلهَذَا ذَمَّ اللهُ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُم دَخَلُوا فِي الْإِيمَانِ ثُمَّ خَرَجُوا مِنْهُ بقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)} [المنافقون: 3]، وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:{قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)} [التوبة: 65، 66] فَقَد أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: قَد كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ.

وَقَوْلُ مَن يَقُولُ عَن مِثْل هَذِهِ الْآيَاتِ: إنَّهُم كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ بِلِسَانِهِمْ مَعَ كُفْرِهِمْ أَوَّلًا بِقُلُوبِهِمْ: لَا يَصِحُّ؛ لِأنَّ الْإِيمَانَ بِاللِّسَانِ مَعَ كُفْرِ الْقَلْبِ: قَد قَارَنَهُ الْكُفْرُ، فَلَا يُقَالُ: قَد كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكمْ؛ فَإنَّهُم لَمْ يَزَالُوا كَافِرِينَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.

وَإِن أُرِيدَ: أَنَّكُمْ أَظْهَرْتُمْ الْكُفْرَ بَعْدَ إظْهَارِكُم الْإِيمَانَ: فَهُم لَمْ يُظْهِرُوا لِلنَّاسِ إلَّا لِخَوَاصِّهِمْ، وَهُم مَعَ خَوَاصِّهِمْ مَا زَالُوا هَكَذَا.

بَل لَمَّا نَافَقُوا، وَحَذِرُوا أَنْ تَنْزِلَ سُورَةٌ تبَيِّنُ مَا فِي قُلُوبِهِم مِن النِّفَاقِ، وَتَكَلَّمُوا بِالِاسْتِهْزَاءِ: صَارُوا كَافِرِينَ بَعْدَ إيمَانِهِمْ، وَلَا يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَى أَنَّهُم مَا زَالُوا مُنَافِقِينَ، وَقَد قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ

(1)

وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ

= فقد ذَكَرَ سبْحَانَهُ أَنَّ الْمُظْهِرِينَ لِلْإِيمَانِ مَا كَانَ لِيَدَعَهُم حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِن الطَّيِّبِ وَيَمْتَحِنَهُمْ.

(1)

قال ابن جرير رحمه الله بعد أن ذكر خلاف العلماء في صفة الجهاد الذي أمَر اللهُ نبيِّه به في المنافقين: أولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب، ما قال ابن مسعود: من أنّ الله أمر =

ص: 552

الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [التوبة: 73، 74].

فَهُنَا قَالَ: {وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} [التوبة: 74].

فَهَذَا الْإِسْلَامُ قَد يَكُونُ مِن جِنْسِ إسْلَامِ الْأَعْرَابِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ:{بَعْدِ إِيمَانِكُمْ} [البقرة: 109] وَ {بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} [التوبة: 74]: سَوَاءً وَقَد يَكُونُونَ مَا زَالُوا مُنَافِقِينَ، فَلَمْ يَكن لَهُم حَالٌ كَانَ مَعَهُم فِيهَا مِن الْإِيمَانِ شَيءٌ؛ لِكَوْنِهِمْ أَظْهَرُوا الْكُفْرَ وَالرِّدَّةَ.

وَلهَذَا دَعَاهُم إلَى التَّوْبَةِ فَقَالَ: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا} بَعْدَ التَّوْبَةِ عَن التَّوْبَةِ {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} وَهَذَا إنَّمَا هُوَ لِمَن أَظْهَرَ الْكُفْرَ فَيُجَاهِدُهُ الرَّسُولُ بِاِقَامَةِ الْحَدِّ وَالْعُقُوبَةِ.

وَهَؤُلَاءِ الصِّنْفُ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ غَيْرُ الَّذِينَ كفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ حَلَفُوا بِاللهِ مَا قَالُوا وَقَد قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ الَّتِي كَفَرُوا بِهَا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُم سَعَوْا فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَصِلُوا

= نبيَّه صلى الله عليه وسلم من جهاد المنافقين، بنحو الذي أمرَه به من جهاد المشركين. فإن قال قائل: فكيف تركهم صلى الله عليه وسلم مقيمين بين أظُهرِ أصحابه، مع علمه بهم؟ قيل: إن الله تعالى ذكره إنما أمر بقتال من أظهرَ منهم كلمةَ الكفر، ثم أقام على إظهاره ما أظهر من ذلك. وأمّا مَن إذا اطُّلع عليه منهم أنه تكلم بكلمة الكفر وأُخِذ بها، أنكرها ورجع عنها وقال:"إني مسلم"، فإن حكم الله في كلّ من أظهر الإسلام بلسانه، أن يحقِنَ بذلك له دمه وماله، دمان كان معتقدًا غير ذلك، وتوكَّل هو جلّ ثناؤه بسرائرهم، ولم يجعل للخلق البحثَ عن السرائر. فلذلك كان النبيّ صلى الله عليه وسلم، مع علمه بهم وإطْلاع الله إياه على ضمائرهم واعتقاد صُدورهم، كان يُقِرّهم بين أظهر الصحابة، ولا يسلك بجهادهم مسلك جهاد من قد ناصبَه الحرب على الشرك بالله؛ لأن أحدهم كان إذا اطُّلِع عليه أنه قد قال قولا كَفَرَ فيه بالله، ثم أخذ به أنكره وأظهر الإسلام بلسانه. فلم يكن صلى الله عليه وسلم يأخذه إلا بما أظهر له من قوله، عند حضوره إياه وعزمه على إمضاء الحكم فيه، دون ما سلف من قولٍ كان نطقَ به قبل ذلك، ودون اعتقاد ضميرِه الذي لم يبح الله لأحَدٍ الأخذ به في الحكم، وتولَّى الأخذَ به هو دون خلقه. اهـ. تفسير الطبري (14/ 360).

ص: 553

إلَى مَقْصُودِهِمْ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ: "هَمُّوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا" لَكِنْ {بِمَا لَمْ يَنَالُوا} فَصدَرَ مِنْهُم قَوْلٌ وَفِعْلٌ.

قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65] فَاعْتَرَفُوا وَاعْتَذَرُوا، وَلهَذَا قِيلَ:{لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)} [التوبة: 66] فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُم لَمْ يَكُونُوا عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ قَد أَتَوْا كُفْرُا؛ بَل ظَنُّوا أَن ذَلِكَ لَيْسَ بِكُفْر، فَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُفْرٌ يَكْفُرُ بِهِ صَاحِبُهُ بَعْدَ إيمَانِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُم إيمَانٌ ضَعِيفٌ، فَفَعَلُوا هَذَا الْمُحَرَّمَ الَّذِي عَرَفُوا أَنَّهُ مُحَرَّمٌ، وَلَكِنْ لَمْ يَظُنُّوهُ كُفْرًا، وَكَانَ كُفْرًا كفَرُوا بِهِ؛ فَإِنَّهُم لَمْ يَعْتَقِدُوا جَوَازَهُ، وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِن السَّلَفِ فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ ضُربَ لَهُم الْمَثَل فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّهُم أَبْصَرُوا ثُمَّ عَمُوا وَعَرَفُوا، ثُمَّ أَنْكَرُوا وَآمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا.

وَكَذَلِكَ قَالَ قتادة وَمُجَاهِدٌ: ضُربَ الْمَثَل لإِقْبَالِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَسَمَاعِهِمْ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَذَهَابِ نُورِهِمْ، قَالَ:{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)} [البقرة: 17، 18] إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ.

وَأَمَّا قَوْلُ مَن قَالَ: الْمُرَادُ بِالنُّورِ مَا حَصَلَ فِي الدُّنْيَا مِن حَقْنِ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَإِذَا مَاتُوا سُلِبُوا ذَلِكَ الضَّوْءَ كَمَا سُلِبَ صَاحِبُ النَّارِ ضَوْءُهُ: فَلَفْظُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ.

قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ أَحَدٌ مِن الْمُسْلِمِينَ إلَّا يُعْطَى نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَمَّا الْمُنَافِقُ فَيُطْفَأُ نُورُهُ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيُشْفِقُ مِمَّا رَأَى مِن إطْفَاءِ نُورِ الْمُنَافِقِ، فَهُوَ يَقُولُ:{رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم: 8] وَهُوَ كَمَا قَالَ.

وَالْجَزَاءُ فِي الْآخِرَةِ هُوَ مِن جِنْسِ الْعَمَلِ فِي الدُّنْيَا، فَلِهَذَا أُعْطُوا نُورًا ثُمَّ طفئ؛ لِأَنَّهُم فِي الدُّنْيَا دَخَلُوا فِي الْإِيمَانِ ثُمَّ خَرَجُوا مِنْهُ، وَلهَذَا ضَرَبَ اللهُ لَهُم الْمَثَلَ بِذَلِكَ.

ص: 554

وَهَذَا الْمَثَلُ هُوَ لِمَن كَانَ فِيهِمْ آمَنَ ثُمَّ كَفَرَ، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُعْطَوْنَ فِي الْاَخِرَةِ نورًا ثُمَّ يُطْفَأُ.

وَلهَذَا قَالَ: {فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18] إلَى الْإِسْلَامِ فِي الْبَاطِنِ.

وَهَذَا الْمَثَلُ مَضْرُوبٌ لِبَعْضِهِمْ، وَهُم الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا.

وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يَزَالُوا مُنَافِقِينَ: فَضُربَ لَهُم الْمَثَل الْآخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} [البقرة: 19] وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ.

فَإِنَّ الْمُفَسِّرِينَ اخْتَلَفُوا هَل الْمَثَلَانِ مَضْرُوبَانِ لَهُم كُلِّهِمْ

(1)

، أَو هَذَا الْمَثَلُ لِبَعْضِهِمْ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.

وَالثَّانِي: هُوَ الصَّوَابُ

(2)

؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {أَوْ كَصَيِّبٍ} ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِهَا أَحَدُ

(1)

ممن اختار هذا القول العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله.

(2)

وهو اختيار الحافظ ابن كثير رحمه الله، وقد وافق شيخ الاسلام في كلامه كله، وقرر ذلك وزاد عليه بكلام بديع جدًّا، قال رحمه الله: إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا صَارَ النَّاسُ أقْسَامًا: مُؤْمِنُونَ خُلّص، وَهُمُ الْمَوْصُوفُونَ بِالْآيَاتِ الْأَرْبَعِ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ، وَكُفَّارٌ خُلَّصٌ، وَهُمُ الْمَوْصُوفُونَ بِالْآيَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَمُنَافِقُونَ، وَهُم قِسْمَانِ: خُلَّصٌ، وَهُمُ الْمَضْرُوبُ لَهُمُ الْمَثَلُ النَّارِيُّ، وَمُنَافِقُونَ يَتَرَدَّدُونَ، تَارَةً يَظْهَرُ لَهُم لُمَعٌ مِنَ الْإِيمَانِ وَتَارَةً يَخْبُو، وَهُم أَصْحَابُ الْمَثَلِ الْمَائِيِّ، وَهُم أخَفُّ حَالًا مِنَ الَّذِينَ قَبْلَهُمْ.

ثُمَّ ضَرَبَ مَثَلَ العُبّاد مِنَ الْكُفَّارِ، الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أنَّهُم عَلَى شَيْءٍ، وَلَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ، وَهُم أصْحَابُ الْجَهْلِ الْمُرَكَّب، فِي قَوْلِهِ:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} الْآيَةَ [النُّورِ: 39]. ثُمَّ ضَرَبَ مَثَلَ الْكُفَّارِ الجُهَّال الجَهْلَ الْبَسِيطَ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ:{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)} [النُّورِ: 40]، فَقَسَّمَ الْكُفَّارَ هَاهُنَا إِلَى قِسْمَيْنِ: دَاعِيَةٌ وَمُقَلِّدٌ، كَمَا ذَكَرَهُمَا فِي أوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)} [الحج: 3].

وَقَالَ بَعْدَهُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8)} ] الْحَجِّ: 8] (1) وَقَد قَسَّمَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَوَّلِ الْوَاقِعَةِ وَآخِرِهَا وَفِي سورَةِ الْإِنْسَانِ، إِلَى قِسْمَيْنِ: سَابِقُونَ وَهُمُ الْمُقَرَّبُونَ، وَأصْحَابُ يَمِينٍ وَهُمُ الْأَبْرَارُ. =

ص: 555

الْأَمْرَيْنِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُم مَثَلُهُم هَذَا وَهَذَا، فَإِنَّهُم لَا يَخْرُجُونَ عَن الْمَثَلَيْنِ؛ بَل بَعْضُهُم يُشْبِهُ هَذَا، وَبَعْضُهُم يُشْبِهُ هَذَا، وَلَو كَانُوا كُلُّهُم يُشْبِهُونَ الْمَثَلَيْنِ لَمْ يَذْكُرْ (أَوْ)؛ بَل يَذْكُر الْوَاوَ الْعَاطِفَةَ.

وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ:

- أَنَّهُ قَالَ فِي الْمَثَلِ الْأوَّلِ: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 171].

وَقَالَ فِي الثَّانِي: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)} [البقرة: 19، 20].

فَبَيَّنَ فِي الْمَثَلِ الثَّانِي: أَنَّهُم يَسْمَعُونَ وَيُبْصِرُونَ {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} .

وَفِي الْأَوَّلِ: كَانُوا يُبْصِرُونَ ثُمَّ صَارُوا {فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 17، 18].

- وَفِي الثَّانِي: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ} الْبَرْقُ {مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة: 20].

فَلَهُم حَالَانِ: حَالُ ضِيَاءٍ، وَحَالُ ظَلَامٍ، وَالْأَوَّلُونَ بَقُوا فِي الظُّلْمَةِ.

فَالْأَوَّلُ: حَالُ مَن كَانَ فِي ضَوْءٍ فَصَارَ فِي ظُلْمَةٍ.

وَالثَّانِي: حَالُ مَن لَمْ يَسْتَقِرَّ لَا فِي ضَوْءٍ وَلَا فِي ظُلْمَةٍ؛ بَل تَخْتَلِفُ عَلَيْهِ الْأحْوَالُ الَّتِي تُوجِبُ مَقَامَهُ وَاسْتِرَابَتَهُ.

= فَتُلُخِّصَ مِن مَجْمُوعِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ صِنْفَانِ: مُقَرَّبُونَ وَأبْرَارٌ، وَأَنَّ الْكَافِرِينَ صِنْفَانِ: دُعَاةٌ وَمُقَلِّدُونَ، وَأَنَّ الْمُنَافِقِينَ -أَيْضًا- صِنْفَانِ: مُنَافِقٌ خَالِصٌ، وَمُنَافِقٌ فِيهِ شُعْبَةٌ مِن نِفَاقٍ. اهـ. تفسير ابن كثير (1/ 193).

ص: 556

يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّهُ سبْحَانَهُ ضَرَبَ لِلْكُفَّارِ أَيْضًا مَثَلَيْنِ بِحَرْفِ (أَوْ) فَقَالَ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)} [النور:39، 40].

فَالْأوَّلُ: مِثْلُ الْكُفْرِ الَّذِي يَحْسِبُ صَاحِبُهُ أَنَّهُ عَلَى حَق وَهُوَ عَلَى بَاطِلٍ، {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: 8] فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ؛ فَلِهَذَا مَثَّلَ بِسَرَاب بِقِيعَة.

وَالثَّانِي: مِثْلُ الْكُفْرِ الَّذِي لَا يَعْتَقِدُ صَاحِبُة شَيْئًا؛ بَل هُوَ فِي {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} مِن عِظَمِ جَهْلِهِ لَمْ يَكُن مَعَهُ اعْتِقَادٌ أَنَّهُ عَلَى حَقٍّ؛ بَل لَمْ يَزَلْ جَاهِلًا ضَالًّا فِي ظُلُمَاتٍ مُتَرَاكِمَةٍ.

وَأَيْضًا: فَقَد يَكُونُ الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ تَارَةً مُتَّصِفًا بِهَذَا الْوَصْفِ وَتَارَةً مُتَّصِفًا بِهَذَا الْوَصْفِ فَيَكُونُ التَّقْسِيمُ فِي الْمَثَلَيْنِ لِتَنَوُّعِ الْأَشْخَاصِ وَلتَنَوُّعِ أَحْوَالِهِمْ. [7/ 269 - 278]

* * *

(المُؤْمِنُ يُبْتَلَى بِوَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ وَبِوَسَاوِسِ الْكُفْرِ)

534 -

الْمُؤْمِنُ يُبْتَلَى بِوَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ وَبِوَسَاوِسِ الْكُفْرِ الَّتِي يَضِيقُ بِهَا صَدْرُهُ؛ كَمَا قَالَت الصَّحَابَة: يَا رَسُول اللهِ إنَّ أَحَدَنَا لَيَجِدُ فِي نَفْسِهِ مَا لَئِنْ يَخِرُّ مِن السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ أَحَبُّ إلَيْهِ مِن أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، فَقَالَ:"ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ"

(1)

.

وَفِي رِوَايَةٍ: مَا يَتَعَاظَمُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ: قَالَ: "الْحَمْدُ للهِ الَّذِي رَدَّ كيْدَهُ إلَى الْوَسْوَسَةِ"

(2)

.

(1)

رواه مسلم (132).

(2)

رواه أبو داود (5112).

ص: 557

أَيْ: حُصُولُ هَذَا الْوَسْوَاسِ مَعَ هَذِهِ الْكَرَاهَةِ الْعَظِيمَةِ لَهُ وَدَفْعه عَن الْقَلْبِ: هُوَ مِن صَرِيحِ الْإِيمَانِ، كَالْمُجَاهِدِ الَّذِي جَاءَهُ الْعَدُوُّ فَدَافَعَهُ حَتَّى غَلَبَهُ، فَهَذَا أَعْظَمُ الْجِهَادِ.

وَالصَّرِيحُ: الْخَالِصُ؛ كَاللَّبَنِ الصَّرِيحِ.

وَإِنَّمَا صَارَ صَرِيحًا: لَمَّا كَرِهُوا تِلْكَ الْوَسَاوِسَ الشَّيْطَانِيَّةَ وَدَفَعُوهَا، فَخَلَصَ الْإِيمَانُ فَصَارَ صَرِيحًا.

وَلَا بُدَّ لِعَامَّةِ الْخَلْقِ مِن هَذِهِ الْوَسَاوِسِ:

- فَمِن النَّاسِ مَن يُجِيبُهَا فَيَصِيرُ كَافِرًا أَو مُنَافِقًا.

- وَمِنْهُم مَن قَد غَمَرَ قَلْبَهُ الشَّهَوَاتُ وَالذُّنُوبُ، فَلَا يُحِسُّ بِهَا إلَّا إذَا طَلَبَ الدِّينَ، فَإِمَّا أَنْ يَصِيرَ مُؤْمِنًا وَإِمَّا أَنْ يَصِيرَ مُنَافِقًا.

وَلهَذَا يَعْرِضُ لِلنَّاسِ مِن الْوَسَاوِسِ فِي الصَّلَاةِ مَا لَا يَعْرِضُ لَهُم إذَا لَمْ يُصَلُّوا؛ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَكْثُرُ تَعَرُّضُهُ لِلْعَبْدِ إذَا أَرَادَ الْإِنَابَةَ إلَى رَبِّهِ وَالتَّقَرُّبَ إلَيْهِ وَالِاتِّصَالَ بِهِ؛ فَلِهَذَا يَعْرِضُ لِلْمُصَلِّينَ مَا لَا يَعْرِضُ لِغَيْرِهِمْ، وَيَعْرِضُ لِخَاصَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ أَكْثَرَ مِمَّا يَعْرِضُ لِلْعَامَّةِ؛ وَلهَذَا يُوجَدُ عِنْدَ طُلَّابِ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ مِن الْوَسَاوِسِ وَالشُّبُهَاتِ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ

(1)

؛ لِأَنَّهُ

(2)

لَمْ يَسْلُكْ شَرْعَ اللهِ وَمِنْهَاجَهُ بَل هُوَ مُقْبِلٌ عَلَى هَوَاهُ فِي غَفْلَةٍ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ، وَهَذَا مَطْلُوبُ الشَّيْطَانِ.

بِخِلَافِ الْمُتَوَجِّهِينَ إلَى رَبِّهِم بِالْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ؛ فَإنَّهُ عَدُوُّهُم يَطْلُبُ صَدَّهُم عَن اللهِ، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6]، وَلهَذَا أَمَرَ قَارِئَ الْقُرْآنِ أَنْ يَسْتَعِيذَ بِاللهِ مِن الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ؛ فَإِنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ تُورِثُ الْقَلْبَ الْإِيمَانَ الْعَظِيمَ، وَتَزِيدُهُ يَقِينًا وَطُمَأْنِينَةً وَشِفَاءً.

(1)

وهذا في بداية طلب العلم والاستقامة، أما حينما يسلكون الجادة في العلم والعبادة المبنية على الكتاب والسُّنَّة: فلا يكاد يجد الشيطان طريقًا إلى قلوبهم.

(2)

أي: من عدا طُلَّاب الْعِلْمِ وَالْعِبَادَة، من أصحاب الشهوات واللهو والغفلة.

ص: 558

وَهَذَا مِمَّا يَجِدُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ مِن نَفْسِهِ؛ فَالشَّيْطَانُ يُرِيدُ بِوَسَاوِسِهِ أَنْ يُشْغلَ الْقَلْبَ عَن الِانْتِفَاعِ بِالْقُرْآنِ، فَأَمَرَ الله الْقَارِئَ إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ أَنْ يَسْتَعِيذَ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)} [النحل: 98].

فَإِنَّ الْمُسْعِيذَ بِاللهِ مُسْتَجِيرٌ بِهِ، لَاجِئٌ إلَيْهِ، مُسْتَغِيثٌ بِهِ مِن الشَّيْطَانِ؛ فَالْعَائِذُ بِغَيْرِهِ مُسْتَجِيرٌ بِهِ، فَإِذَا عَاذَ الْعَبْدُ بِرَبِّهِ كَانَ مُسْتَجِيرًا بِهِ، مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ، فَيُعِيذُهُ اللهُ مِن الشَّيْطَانِ وَيُجِيرُهُ مِنْهُ

(1)

. [7/ 282 - 283]

* * *

(يَجبُ الرُّجُوعُ فِي مُسَمَّيَاتِ الْأَسْمَاءِ إلَى بَيَانِ اللهِ وَرَسُولِهِ)

535 -

مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْأَلْفَاظَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ إذَا عُرِفَ تَفْسِيرُهَا وَمَا أُرِيدَ بِهَا مِن جِهَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَمْ يَحْتَجْ فِي ذَلِكَ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِأَقْوَالِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ

(2)

.

وَلهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: الْأَسْمَاءُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:

أ- نَوْعٌ يُعْرَفُ حَدُّهُ بِالشَّرْعِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ.

ب- وَنَوْعٌ يُعْرَفُ حَدُّهُ بِاللُّغَةِ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ.

ج- وَنَوْعٌ يُعْرَفُ حَدُّهُ بِالْعُرْفِ كَلَفْظِ الْقَبْضِ وَلَفْظِ الْمَعْرُوفِ فِي قَوْلِهِ: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] وَنَحْوِ ذَلِكَ.

فَاسْمُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ: قَد بَيَّنَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مَا يُرَادُ بِهَا فِي كَلَامِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْخَمْرِ وَغَيْرِهَا.

(1)

وينبغي لمن استعاذ بالله والْتجأ إليه من الشيطان أن يفعل الأسباب للنجاة منه، أما أن يستعيذ بالله بلسانه دون أنْ يتخذ الأسباب المنجية منه: فليس صادقًا في استعاذته ولجوئه إلى ربه، فإنَّ من قصده سبع ليفترسه فقال: أعوذ منك بذلك الحصن، وهو ثابت على مكانه، فإنَّ ذلك لا ينفعه؛ بل لا يعيذه إلَّا بتبديل المكان، فكذلك من يتبع الشهوات -التي هي محابُّ الشيطان- فلا يغنيه مجرد القول، فليقترن قوله بالعزم على التعوذ بحصن الله تعالى من شرّ الشيطان.

(2)

ولكن يُستأنس بأقوالهم.

ص: 559

فَلَو أرَادَ أَحَدٌ أَنْ يُفَسِّرَهَا بِغَيْرِ مَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُقْبَل مِنْهُ.

وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي اشتِقَاقِهَا وَوَجْهِ دَلَالَتِهَا: فَذَاكَ مِن جِنْسِ عِلْمِ الْبَيَانِ.

وَتَعْلِيلُ الْأَحْكَامِ: هوَ زِيادَةٌ فِي الْعِلْمِ، وَبَيَانُ حِكْمَةِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ، لَكِنَّ مَعْرِفَةَ الْمُرَادِ بِهَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى هَذَا.

وَاسْمُ الْإِيمَانِ وَالْإسْلَامِ وَالنِّفَاقِ وَالْكُفْرِ هِيَ أَعْظَمُ مِن هَذَا كُلِّهِ؛ فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَد بَيَّنَ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ بَيَانًا لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى ذَلِكَ بِالِاشْتِقَاقِ وَشَوَاهِدِ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

فَلِهَذَا يَجِبُ الرُّجُوعُ فِي مُسَمَّيَاتِ هَذِهِ الأسْمَاءِ إلَى بَيَانِ اللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُ شَافٍ كَافٍ؛ بَل مَعَانِي هَذِهِ الْأَسمَاءِ مَعْلُومَةٌ مِن حَيْثُ الْجُمْلَةُ لِلْخَاصَّهِ وَالْعَامَّةِ. [7/ 286 - 287]

* * *

(إذَا قُلْنَا: أهْلُ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِالذَّنْبِ: فَإِنَّمَا نُرِيدُ بهِ الْمَعَاصِي كَالزنى وَالشُّرْبِ، وَأَمَّا أركان الإسلام ففِي تَكْفِيرِ تَارِكِهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ)

536 -

اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ مَن لَمْ يَأْتِ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الْأَرْبَعَةُ فَاخْتَلَفُوا فِي تَكْفِيرِ تَارِكِهَا.

وَنَحْنُ إذَا قُلْنَا: أَهْلُ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكفُرُ بِالذَّنْبِ: فَإِنَّمَا نُرِيدُ بِهِ الْمَعَاصِيَ كَالزنى وَالشُّرْبِ، وَأَمَّا هَذِهِ الْمَبَانِي فَفِي تَكْفِيرِ تَارِكِهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ، وَعَن أَحْمَد: فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ:

وَإِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ: أنَّهُ يَكْفُرُ مَن تَرَكَ وَاحِدَةً مِنْهَا.

وَعَنْهُ رِوَايَهٌّ ثَانِيَةٌ: لَا يَكْفُرُ إلَّا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَقَطْ.

وَرِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ: لَا يَكْفُرُ إلَّا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ إذَا قَاتَلَ الْإِمَامَ عَلَيْهَا.

ص: 560

وَرَابِعَةٌ: لَا يَكْفُرُ إلَّا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ.

وَخَامِسَةٌ: لَا يَكْفُرُ بِتَرْكِ شَيْءٍ مِنْهُنَّ.

وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مَعْرُوفَةٌ لِلسَّلَفِ. [7/ 302]

* * *

(الصَّحَابَةُ يَخْشَوْنَ النِّفَاقَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يَخَافوا التَّكْذِيبَ للهِ وَرَسُولِهِ)

537 -

كَانَ الصَّحَابَةُ يَخْشَوْنَ النِّفَاقَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يَخَافُوا التَّكْذِيبَ للهِ وَرَسُولِهِ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَعْلَمُ مِن نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يُكذبُ اللهَ وَرَسُولَهُ يَقِينًا، وَهَذَا مُسْتَنَدُ مَن قَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا، فَإِنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ مَا يَعْلَمُهُ مِن نَفْسِهِ مِن التَّصْدِيقِ الْجَازِمِ، وَلَكِن الْإِيمَانُ لَيْسَ مُجَرَّدَ التَّصْدِيقِ؛ بَل لَا بُدَّ مِن أَعْمَالٍ قَلْبِيَّةٍ تَسْتَلْزِمُ أَعْمَالًا ظَاهِرَة، فَحُبُّ اللهِ وَرَسُولِهِ مِن الْإِيمَانِ، وَحُبُّ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَبُغْضُ مَا نَهَى عَنْهُ هَذَا مِن أَخَصِّ الْأُمُورِ بِالْإِيمَانِ. [7/ 305 - 306]

* * *

(لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ التَّصْدِيقِ شَيْءٌ مِن حُبِّ اللهِ وَخَشْيَةِ اللهِ)

538 -

إِنَّ الْمُسْلِمَ الْمُسْتَحِقَّ لِلثَّوَابِ: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا، وَإِلَّا كَانَ مُنَافِقًا، لَكِنْ لَيْسَ كُلُّ مَن صَدَّقَ قَامَ بِقَلْبِهِ مِن الْأَحْوَالِ الْإِيمَانِيَّةِ الْوَاجِبَةِ؛ مِثْلُ كَمَالِ مَحَبَّةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمِثْلُ خَشْيَةِ اللهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ فِي الْأَعْمَالِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ؛ بَل يَكُونُ الرَّجُلُ مُصَدِّقًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُرَائِي بِأَعْمَالِهِ، وَيَكُونُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ أحَبَّ إلَيْهِ مِن اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ

(1)

.

وَقَد خُوطِبَ بِهَذَا الْمُؤْمِنُونَ فِي آخِرِ الْأمْرِ فِي سُورَةِ بَرَاءَة فَقِيلَ لَهُم: {إنْ

(1)

وقد ثبت في الصحيحين أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِن وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ". =

ص: 561

كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَثِيرًا مِن الْمُسْلِمِينَ أَو أَكْثَرَهُم بِهَذِهِ الصِّفَةِ.

وَقَد ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَإِنَّمَا الْمُومِنُ مَن لَمْ يَرْتَبْ

(1)

، وَجَاهَدَ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ.

فَمَن لَمْ تَقُمْ بِقَلْبِهِ الْأَحْوَالُ الْوَاجِبَةُ فِي الْإِيمَانِ: فَهُوَ الَّذِي نَفَى عَنْهُ الرَّسُولُ الْإِيمَانَ، وَإِن كَانَ مَعَهُ التَّصْدِيقُ، وَالتَّصْدِيقُ مِن الْإِيمَانِ.

وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ التَّصْدِيقِ شَيْءٌ مِن حُبِّ اللهِ وَخَشْيَةِ اللهِ، وَإِلَّا فَالتَّصْدِيقُ الَّذِي لَا يَكُونُ مَعَهُ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ لَيْسَ إيمَانًا أَلْبَتَّةَ؛ بَل هُوَ كَتَصْدِيقِ فِرْعَوْنَ وَالْيَهُودِ وَإِبْلِيسَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ السَّلَفُ عَلَى الْجَهْمِيَّة. [7/ 306 - 307]

* * *

(الْإِنْسَان يَكونُ فِيهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ، ويَكُونُ فِيهِ إيمَانٌ وَكُفْرٌ لا يَنْقُلُ عَن الْمِلَّةِ)

539 -

إِذَا كَانَ مِن قَوْلِ السَّلَفِ: أنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ فِيهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ: فَكذَلِكَ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّهُ يَكُونُ فِيهِ إيمَانٌ وَكُفْرٌ، لَيْسَ هُوَ الْكُفْرُ الَّذِي يَنْقُلُ عَن الْمِلَّةِ؛ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابُهُ فِي قَوْله تعَالَى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، قَالُوا: كَفَرُوا كُفْرًا لَا يَنْقُلُ عَن الْمِلَّةِ،

= ومثل هذا النفي للإيمان لا ينفي وجوده ولا صحته؛ بل ينفي كماله الواجب كما قرر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.

والقاعدة التي قررها كما تقدم هي: إنْ نَفَى الْإِيمَانِ عِنْدَ عَدَمِهَا -أي: أعْمَال الْبِرِّ-: دَلَّ عَلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ.

وَإِن ذَكَرَ فَضْلَ إيمَانِ صَاحِبِهَا -وَلَمْ يَنْفِ إيمَانَهُ-: دَلَّ عَلَى أنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ. اهـ.

(1)

أي: يشُكّ.

ص: 562

وَقَد اتَّبَعَهُم عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِن أَئِمَّةِ السُّنَّةِ. [7/ 312]

540 -

بَعْضُ النَّاسِ يَكُونُ مَعَهُ شُعْبَةٌ مِن شُعَبِ الْكُفْرِ وَمَعَهُ إيمَانٌ أَيْضًا، وَعَلَى هَذَا وَرَدَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي تَسْمِيَةِ كَثِيرٍ مِن الذُّنُوبِ كُفْرًا، مَعَ أَنَّ صَاحِبَهَا قَد يَكُونُ مَعَهُ أَكْثَرُ مِن مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِن إيمَانٍ فَلَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ؛ كَقَوْلِهِ:"سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ"

(1)

، وَقَوْلُهُ:"لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ"

(2)

.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "مَن قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَد بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا"

(3)

، فَقَد سَمَّاهُ أَخَاهُ حِينَ الْقَوْلِ، وَقَد أَخْبَرَ أَنَّ أَحَدَهُمَا بَاءَ بِهَا، فَلَو خَرَجَ أَحَدُهُمَا عَن الْإِسْلَامِ بِالْكليَّةِ لَمْ يَكُن أَخَاهُ؛ بَل فِيهِ كُفْرٌ. [7/ 355]

* * *

‌النفاق

541 -

النِّفَاقُ يُطْلَقُ عَلَى النِّفَاقِ الْأَكْبَرِ الَّذِي هُوَ إضْمَارُ الْكُفْرِ، وَعَلَى النِّفَاقِ الْأَصْغَرِ الَّذِي هُوَ اخْتِلَافُ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ فِي الْوَاجِبَاتِ. [11/ 140]

542 -

الْمُنَافِقُ لَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى نِفَاقِهِ وَمَا أَضْمَرَهُ، كَمَا قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عفان: مَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إلَّا أَظْهَرَهَا اللهُ عَلَى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ، وَقَد قَالَ تَعَالَى عَن الْمُنَافِقِينَ:{وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [محمد: 30]، ثُمَّ قَالَ:{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30]، وَهُوَ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ؛ أَيْ: وَاللهِ لَتَعْرِفَهُم فِي لَحْنِ الْقَوْلِ.

فَمَعْرِفَةُ الْمُنَافِقِ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ لَا بُدَّ مِنْهَا، وَأَمَّا مَعْرِفَتهُ بِالسِّيمَا فَمَوْقُوفَةٌ عَلَى الْمَشِيئَةِ. [14/ 110]

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

رواه البخاري (121)، ومسلم (65).

(3)

رواه البخاري (6104)، ومسلم (60)، واللفظ للبخاري.

ص: 563

543 -

اللهُ تَعَالَى يُحِبُّ تَمْيِيزَ الْخَبِيثِ مِن الطَّيِّبِ وَالْحَقِّ مِن الْبَاطِلِ، فَيُعْرَفُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافَ: مُنَافِقُونَ أَو فِيهِمْ نِفَاقٌ وَإِن كَانُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ كَوْنَ الرَّجُلِ مُسْلِمًا فِي الظَّاهِرِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مُنَافِقًا فِي الْبَاطِنِ؛ فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ كلَّهُم مُسْلِمُونَ فِي الظَّاهِرِ، وَالْقُرْآنُ قَد بَيَّنَ صِفَاتِهِمْ وَأَحْكَامَهُم.

وَإِذَا كَانُوا مَوْجُودِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي عِزَّةِ الْإِسْلَامِ مَعَ ظُهُورِ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ وَنُورِ الرِّسَالَةِ: فَهُم مَعَ بُعْدِهِمْ عَنْهُمَا أَشَدُّ وُجُودًا، لَا سِيَّمَا وَسَبَبُ النِّفَاقِ هُوَ سَبَبُ الْكُفْرِ، وَهُوَ الْمُعَارِضُ لِمَا جَاءَت بِهِ الرُّسُلُ. [28/ 202]

544 -

هُنَا نفاقان:

أ- نِفَاقٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ.

ب- وَنِفَاقٌ لِأهْلِ الْعَمَلِ وَالْعِبَادَةِ.

فَأَمَّا النِّفَاق الْمَحْضُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِي كُفْرِ صَاحِبِهِ: فَأَنْ لَا يَرَى وُجُوبَ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ، وَلَا وُجُوبَ طَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَ بِهِ، وَإِن اعْتَقَدَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ الرَّسُولَ عَظِيمُ الْقَدْرِ عِلْمًا وَعَمَلًا.

أَمَّا النِّفَاقُ الَّذِي هُوَ دُونَ هَذَا:

- فَأنْ يَطْلُبَ الْعِلْمَ بِاللهِ مِن غَيْرِ خَبَرِهِ.

- أَو الْعَمَلَ للهِ مِن غَيْرِ أَمْرِهِ.

كَمَا يُبْتَلَى بِالْأَوَّلِ كَثِيرٌ مِن الْمُتَكَلِّمَةِ.

وَبِالثَّانِي كَثِيرٌ مِن الْمُتَصَوِّفَةِ.

فَهُم يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ يَجِبُ تَصْدِيقُهُ أَو تَجِبُ طَاعَتُهُ، لَكِنَّهُم فِي سُلُوكِهِم الْعِلْمِيِّ وَالْعَمَلِيِّ غَيْرَ سَالِكِينَ هَذَا الْمَسْلَكَ؛ بَل يَسْلُكُونَ مَسْلَكًا آخَرَ:

- إمَّا مِن جِهَةِ الْقِيَاسِ وَالنَّظَرِ.

- وَإِمَّا مِن جِهَةِ الذَّوْقِ وَالْوَجْدِ.

ص: 564

- وَإِمَّا مِن جِهَةِ التَّقْلِيدِ.

وَمَا جَاءَ عَن الرَّسُولِ:

- إمَّا أَنْ يُعْرِضُوا عَنْهُ.

- وَإِمَّا أَنْ يَرُدُّوهُ إلَى مَا سَلَكُوهُ.

فَانْظُرْ نِفَاقَ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ، مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بَاطِنًا وَظَاهِرًا بِأَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم أَكْمَلُ الْخَلْقِ، وَأَفْضَل الْخَلْقِ، وَأَنَّهُ رَسُولٌ، وَأَنَّهُ أَعْلَمُ النَّاسِ.

لَكِنْ إذَا لَمْ يُوجِبُوا مُتَابَعَتَهُ وَسَوَّغوا تَرْكَ مُتَابَعَتِهِ: كَفَرُوا، وَهَذَا كَثيرٌ جِدًّا. [7/ 639 - 640]

545 -

الأشبه أن الزنديق لا بد أن يذكر أنه تائب باطنًا، وإن لم يقل فلعل أن يكون باطنه تغير. [المستدرك 3/ 54]

546 -

أَخْبَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ فِينَا قَوْمًا سَمَّاعِينَ لِلْمُنَافِقِينَ يَقْبَلُونَ مِنْهُم كَمَا قَالَ: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47] وَإِنَّمَا عَدَّاهُ بِاللَّامِ لِأَنَّهُ مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى الْقَبُولِ وَالطَّاعَةِ، كَمَا قَالَ اللهُ عَلَى لِسَانِ عَبْدِهِ:"سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَهُ"؛ أَي: اسْتَجَابَ لِمَن حَمِدَهُ، وَكَذَلِكَ {سَمَّاعُونَ لَهُمْ}؛ أَيْ: مُطِيعُونَ لَهُمْ.

فإِذَا كَانَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْمٌ سَمَّاعُونَ لِلْمُنَافِقِينَ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِمْ؟

(1)

. [25/ 129]

547 -

مَن يَقْصِدُ عَيْبَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِعَيْبِ أَزْوَاجِهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ

(2)

. [15/ 360]

* * *

(1)

هذا وهم يسمعون الحق غضًّا طريًّا مِن فيِّ النبي صلى الله عليه وسلم كلّ يوم أو أكثر الأيام، ومع ذلك ففيهم من يستمع للمنافقين ويُعجب بكلامهم.

فالواجب على المؤمن أنْ يحذر مِن أن يُعجب بالمنافقين والمفسدين عقديًّا أو فكريًّا ويُطيعهم وهو لا يشعر بضلالهم.

(2)

كما هو دين الرافضة قديمًا وحديثًا.

ص: 565

‌(هَل الْمُنَافِق الزِّنْدِيق يَرِثُ وَيُورَثُ وَإن عُلِمَ فِي الْبَاطِنِ أَنَّهُ مُنَافِقٌ، وهَل يُسْتَتَابُ

؟)

548 -

إِنَّ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالُوا: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8]، هُم فِي الظَّاهِرِ مُؤْمِنُونَ يُصَلُّونَ مَعَ النَّاسِ، وَيَصُومُونَ وَيَحُجُّونَ وَيَغْزُونَ، وَالْمُسْلِمُونَ يُنَاكِحُونَهُم ويوارثونهم، كَمَا كَانَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَحْكُم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمُنَافِقِينَ بِحُكْمِ الْكُفَّارِ الْمُظْهِرِينَ لِلْكُفْرِ، لَا فِي مُنَاكَحَتِهِمْ وَلَا موارثتهم وَلَا نَحْوِ ذَلِكَ.

بَل لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبيّ ابْنُ سلول -وَهُوَ مِن أَشْهَرِ النَّاسِ بِالنِّفَاقِ- وَرِثَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللهِ، وَهُوَ مِن خِيَارِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَن كَانَ يَمُوتُ مِنْهُم يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ الْمُؤْمِنُونَ، وَإِذَا مَاتَ لِأَحَدِهِمْ وَارِثٌ وَرِثُوهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ.

وَقَد تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُنَافِقِ الزِّنْدِيقِ الَّذِي يَكْتُمُ زَنْدَقَتَهُ: هَل يَرِثُ وَيُورَثُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَرِثُ ويُورَثُ وَإِن عُلِمَ فِي الْبَاطِنِ أَنَّهُ مُنَافِقٌ، كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُوَالَاةِ الظَّاهِرَةِ، لَا عَلَى الْمَحَبَّةِ الَّتِي فِي الْقُلُوبِ، فَإِنَّهُ لَو عُلِّقَ بِذَلِكَ لَمْ تُمْكِنْ مَعْرِفَتُهُ، وَالْحِكْمَةُ إذَا كَانَت خَفِيَّةً أَو مُنْتَشِرَةً عُلِّقَ الْحُكْمُ بِمَظِنَّتِهَا، وَهُوَ مَا أَظْهَرَهُ مِن مُوَالَاةِ الْمُسْلِمِينَ.

فَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ"

(1)

: لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْمُنَافِقُونَ وَإِن كَانُوا فِي الْآخِرَةِ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِن النَّارِ؛ بَل كَانُوا يُورَثُونَ وَيَرِثُونَ، وَكَذَلِكَ كَانُوا فِي الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ كَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ.

وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَن شُبُهَاتٍ كَثِيرَةٍ تُورَدُ فِي هَذَا الْمَقَامِ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِن الْمُتَأَخِّرِينَ مَا بَقِيَ فِي الْمُظْهِرِينَ لِلْإِسْلَامِ عِنْدَهُم إلَّا عَدْلٌ أَو فَاسِقٌ، وَأَعْرَضُوا عَن حُكْمِ الْمُنَافِقِينَ، وَالْمُنَافِقُونَ مَا زَالُوا وَلَا يَزَالُونَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

(1)

رواه البخاري (6764)، ومسلم (1614).

ص: 566

وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوَّلًا يُصَلِّي عَلَيْهِم وَيَسْتَغْفِرُ لَهُم حَتَّى نَهَاهُ اللهُ عَن ذَلِكَ فَقَالَ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84]، وَقَالَ:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80]، فَلَمْ يَكُن يُصَلِّي عَلَيْهِم وَلَا يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ.

وَلَكِنْ دِمَاؤُهُم وَأَمْوَالُهُم مَعْصُومَةٌ لَا يَسْتَحِلُّ مِنْهُم مَا يَسْتَحِلُّهُ مِن الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَا يُظْهِرُونَ أَنَّهُم مُؤْمِنُونَ؛ بَل يُظْهِرُونَ الْكُفْرَ دُونَ الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم قالَ: "أُمِرْت أَنْ أُقاَتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وَأنِّي رَسُولُ اللهِ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُم وَأَمْوَالَهُم إلا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُم عَلَى اللهِ"

(1)

.

وَكَانَ مَن مَاتَ مِنْهُم صَلَّى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَافِقٌ، وَمَن عَلِمَ أَنَّهُ مُنَافِقٌ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ.

وَلَو حَضَرَتْ جِنَازَةُ أَحَدِهِمْ صَلَّى عَلَيْهَا، وَلَمْ يَكُن مَنْهِيًّا عَن الصَّلَاةِ إلَّا عَلَى مَن عَلِمَ نِفَاقَهُ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يُنَقِّبَ عَن قُلُوبِ النَّاسِ، وَيَعْلَمَ سَرَائِرَهُمْ، وَهَذَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بَشَرٌ.

وَلهَذَا لَمَّا كَشَفَهُم اللهُ بِسُورَةِ بَرَاءَةٌ بِقَوْلِهِ: {وَمِنْهُمْ} صَارَ يَعْرِفُ نِفَاقَ نَاسٍ مِنْهُم لَمْ يَكُن يَعْرِفُ نِفَاقَهُم قَبْلَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ اللهَ وَصَفَهُم بِصِفَات عَلِمَهَا النَّاسُ مِنْهُمْ، وَمَا كَانَ النَّاسُ يَجْزِمُونَ بِأَنَّهَا مُسْتَلْزِمَةٌ لِنِفَاقِهِمْ، وَإِن كَانَ بَعْضُهُم يَظُنُّ ذَلِكَ وَبَعْضُهُم يَعْلَمُهُ، فَلَمْ يَكُن نِفَاقُهُم مَعْلُومًا عِنْدَ الْجَمَاعَةِ، بِخِلَافِ حَالِهِمْ لَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ؛ وَلهَذَا لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ بَرَاءَةٌ كَتَمُوا النِّفَاقَ، وَمَا بَقِيَ يُمْكِنُهُم مِن إظْهَارِهِ أَحْيَانًا مَا كَانَ يُمْكِنُهُم قَبْلَ ذَلِكَ، وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61)

(1)

رواه البخاري (25)، ومسلم (20).

ص: 567

سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)} [الأحزاب: 60، 62]، فَلَمَّا تُوُعِّدُوا بِالْقَتْلِ إذَا أَظْهَرُوا النِّفَاقَ كَتَمُوهُ.

وَلهَذَا تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِتَابَةِ الزِّنْدِيقِ: فَقِيلَ: يُسْتَتَابُ، وَاسْتَدَلَّ مَن قَالَ ذَلِكَ بِالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْبَلُ عَلَانِيَتَهُم وَيَكِلُ أَمْرَهُم إلَى اللهِ.

فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَبَعْدَ هَذَا أَنْزَلَ اللهُ:{مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61)} [الأحزاب: 61]، فَعَلِمُوا أَنَّهُم إنْ أَظْهَرُوهُ كَمَا كَانُوا يُظْهِرُونَهُ قُتِلُوا فَكَتَمُوهُ.

وَالزِّنْدِيقُ: هُوَ الْمُنَافِقُ، وَإِنَّمَا يَقْتُلُهُ مَن يَقْتُلُهُ إذَا ظَهَرَ مِنْهُ أَنَّهُ يَكْتُمُ النِّفَاقَ.

قَالُوا: وَلَا تُعْلَمُ تَوْبَتُهُ؛ لِأنَّ غَايَةَ مَا عِنْدَهُ أَنَّهُ يُظْهِرُ مَا كَانَ يُظْهِرُ، وَقَد كَانَ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ وَهُوَ مُنَافِقٌ، وَلَو قُبِلَتْ تَوْبَةُ الزَّنَادِقَةِ لَمْ يَكُن سَبِيلٌ إلَى تَقْتِيلِهِمْ، وَالْقُرْآنُ قَد تَوَعَّدَهُم بِالتَّقْتِيلِ. [7/ 210 - 215]

* * *

‌(إذَا كَانَ مَا أَوْجَبَهُ الله مِن الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ أَكْثَرَ مِن أركان الإسلام الْخَمْسة فَلِمَاذَا قَالَ: الْإِسْلَامُ هَذِهِ الْخمْسة

؟)

549 -

مِمَّا يُسْأَلُ عَنْهُ: أَنَّهُ إذَا كَانَ مَا أَوْجَبَهُ اللهُ مِن الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ أَكْثَرَ مِن هَذِهِ الْخَمْسِ فَلِمَاذَا قَالَ: الْإِسْلَامُ هَذِهِ الْخَمْسُ؟

وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ الدِّينَ الَّذِي هُوَ اسْتِسْلَامُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ مُطْلَقًا، الَّذِي يَجِبُ للهِ عِبَادَةً مَحْضَةً عَلَى الْأَعْيَانِ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَن كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ ليَعْبُدَ اللهَ بِهَا مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، وَهَذ هِيَ الْخَمْسُ.

وَمَا سِوَى ذَلِكَ: فَإِنَّمَا يَجِبُ بِأَسْبَاب لِمَصَالِحَ، فَلَا يَعُمُّ وجُوبُهَا جَمِيعَ النَّاسِ، بَلْ:

- إمَّا أَنْ يَكُونَ فَرضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ؛ كَالْجِهَادِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَن الْمُنْكرِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِن إمَارَةٍ وَحُكْمٍ وَفُتْيَا، وَإِقْرَاءٍ وَتَحْدِيثٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

ص: 568

- وَإِمَّا أَنْ يَجِبَ بِسَبَبِ حَقٍّ لِلْآدَمِيِّينَ يَخْتَصُّ بِهِ مَن وَجَبَ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَقَد يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ.

وَتَجِبُ عَلَى شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ، فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، لَمْ تَجِبْ عِبَادَةً مَحْضَةً للهِ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ قَادِرٍ؛ وَلهَذَا يَشْتَرِكُ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، بِخِلَافِ الْخَمْسَةِ فَإِنَّهَا مِن خَصَائِصِ الْمُسْلِمِينَ.

وَكَذَلِكَ مَا يَجِبُ مِن صِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَحُقُوقِ الزَّوْجَةِ وَالْأَوْلَادِ، وَالْجِيرَانِ، وَالشُّرَكَاءِ، وَالْفُقَرَاءِ، وَمَا يَجِبُ مِن أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَالْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ وَالْإِمَارَةِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَن الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادِ: كُلُّ ذَلِكَ يَجِبُ بِأَسْبَاب عَارِضَةٍ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ؛ لِجَلْبِ مَنَافِعَ وَدَفْعِ مَضَارَّ، لَو حَصَلَتْ بِدُونِ فِعْلِ الْإِنْسَانِ لَمْ تَجِبْ، فَمَا كَانَ مُشْتَرِكًا فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَمَا كَانَ مُخْتَصًّا فَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى زيدٍ دُونَ عَمْرٍو، لَا يَشْتَرِكُ النَّاسُ فِي وُجُوبِ عَمَلٍ بِعَيْنِهِ عَلَى كُل أَحَدٍ قَادِرٍ سِوَى الْخَمْسِ؛ فَإِنَّ زَوْجَةَ زيدٍ وَأَقَارِبه لَيْسَتْ زَوْجَةَ عَمْرٍو وَأَقَارِبه، فَلَيْسَ الْوَاجِبُ عَلَى هَذَا مِثْل الْوَاجِبِ عَلَى هَذَا، بِخِلَافِ صَوْمِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالزَّكَاةِ؛ فَإِنَّ الزَّكَاةَ وَإِن كَانَت حَقًّا مَالِيًّا فَإِنَّهَا وَاجِبَةٌ للهِ؛ وَلهَذَا وَجَبَتْ فِيهَا النِّيَّةُ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَفْعَلَهَا الْغَيْرُ عَنْهُ بِلَا إذْنِهِ، وَلَمْ تُطْلَبْ مِن الْكُفَّارِ. [7/ 314 - 315]

وَحُقُوقُ الْعِبَادِ لَا يُشْتَرَطُ لَهَا النِّيَّةُ، وَلَو أَدَّاهَا غَيْرُهُ عَنْهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ، وَيُطَالَبُ بِهَا الْكُفَّارُ.

* * *

(معنى قول الفقهاء: لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ)

550 -

يُقَالُ: لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ؛ أَيْ: لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ يَجِبُ بِسَبَبِ الْمَالِ سِوَى الزَّكَاةِ، وَإِلَّا فَفِيهِ وَاجِبَاتٌ بِغَيْرِ سَبَب الْمَالِ؛ كَمَا تَجِبُ النَّفَقَاتُ لِلْأَقَارِبِ، وَالزَّوْجَةِ، وَالرَّقِيقِ، وَالْبَهَائِمِ. [7/ 316]

* * *

ص: 569

(التفاضل عند الله فِي الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ لا في الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ)

551 -

إنَّ الشَّخْصَيْنِ قَد يَتَمَاثَلَانِ فِي الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ؛ بَل يَتَفَاضَلَانِ، وَيَكُونُ الْمَفْضُولُ فِيهَا أَفْضَلَ عِنْدَ اللهِ مِن الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ فِي الْإيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ

(1)

.

وَأَمَّا إذَا تَفَاضَلَا فِي إيمَانِ الْقُلُوب فَلَا يَكُونُ الْمَفْضُولُ فِيهَا أَفْضَلَ عِنْدَ اللهِ أَلْبَتَّةَ.

وَلهَذَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ، وَإِن كَانَ الْفَاضِلُ أَقَلَّ عَمَلًا مِن الْمَفْضُولِ؛ كَمَا فَضَّلَ اللهُ نَبِيَّنَا صلى الله عليه وسلم -وَمُدَّةُ نُبُوَّتِهِ بِضْعٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً- عَلَى نُوحٍ وَقَد لَبِثَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا، وَفَضَّلَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَقَد عَمِلُوا مِن صَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى الْمَغْرِبِ عَلَى مَن عَمِلَ مِن أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَعَلَى مَن عَمِلَ مِن صَلَاةِ الظُّهْرِ إلَى الْعَصْرِ، فَأَعْطَى اللهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ أَجْرَيْنِ، وَأَعْطَى كُلًّا مِن أُولَئِكَ أَجْرًا أَجْرًا؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي فِي قُلُوبِهِم كَانَ أَكْمَلَ وَأفْضَلَ، وَكَانَ أُولَئِكَ أَكْثَرَ عَمَلًا، وَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ أَجْرًا، وَهُوَ فَضْلُهُ يُؤْتِيه مَن يَشَاءُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي تَفَضَّلَ بِهَا عَلَيْهِم وَخَصَّهُم بِهَا.

وَهَكَذَا سَائِرُ مَن يُفَضِّلُهُ اللهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يُفَضِّلُهُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا التَّفْضِيلَ بِالْجَزَاءِ، كَمَا يَخُصُّ أَحَدَ الشَّخْصَيْنِ بِقُوَّةٍ يَنَالُ بِهَا الْعِلْمَ، وَبِقُوَّة يَنَالُ بِهَا الْيَقِينَ وَالصَّبْرَ وَالتَّوَكُّلَ وَالْإِخْلَاصَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُفَضِّلُهُ اللهُ بِهِ، وَإِنَّمَا

(1)

فينبغي أن تكون نية الإنسان -وخاصة طالب العلم- مُنصبّةً على تقوية إيمانه وصدقه وإخلاصه وتوحيده، وتعلقه بخالقه، ولا ينبغي أن يكون اهتمامه بكثرة أعماله ومُحاضراته، والاهتمام بالتأليف والنظر في شؤون الآخرين، ويُهمل جانب الإيمان واليقين والتعلق بالله.

وعلى ما قرره شيخ الإسلام رحمه الله: قد يكون العالم أو طالب العلم الذي ليس عنده قدرات في الحفظ أو التأليف والدعوة، أفضل عند الله تعالى ممن برعوا في التأليف والأعمال الخيرية والدعوة والمناشط في القنوات وغيرها.

وصدق من قال: مَا سَبَقَهُم أَبُو بَكْرٍ بكَثْرَةِ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ، وَلَكِنْ بشَيْءٍ وَقَرَ فِي قَلْبهِ.

فانظر إلى: ما وقر في قلبك، قبلَ أَن تنظر إلى كثرة أعمالك وعلومَك.

ص: 570

فَضَّلَهُ فِي الْجَزَاءِ بِمَا فَضَّلَ بِهِ مِن الْإِيمَانِ. [7/ 341 - 343]

* * *

(أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وغيرهما لِجَمَاعَةٍ مِمن يرى رَأْيَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ، لَكِنْ مَن كَانَ دَاعِيَةً إلَى هذه البدع لَمْ يُخَرِّجُوا لَهُ)

552 -

لَمَّا اشْتَهَرَ الْكَلَامُ فِي الْقَدَرِ، وَدَخَلَ فِيهِ كَثِيرٌ مِن أَهْلِ النَّظَرِ وَالْعُبَّادِ: صَارَ جُمْهُورُ الْقَدَرِيَّةِ يُقِرُّونَ بِتَقَدُّمِ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا يُنْكِرُونَ:

- عُمُومَ الْمَشِيئَةِ وَالْخَلْقِ.

- وَعَن عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ فِي إنْكَارِ الْكِتَابِ الْمُتَقَدِّمِ رِوَايَتَانِ.

وَقَوْلُ أُولَئِكَ: كَفَّرَهُم عَلَيْهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمْ.

وَأمَّا هَؤُلَاءِ: فَهُم مُبْتَدِعُونَ ضَالُّونَ، لَكِنَّهُم لَيْسُوا بِمَنْزِلَةِ أُولَئِكَ، وَفِي هَؤُلَاءِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِن الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ كُتِبَ عَنْهُم الْعِلْمُ، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ لِجَمَاعَةٍ مِنْهُمْ، لَكِنْ مَن كَانَ دَاعِيَةً إلَيْهِ لَمْ يُخَرِّجُوا لَهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ فقَهَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ: أَنَّ مَن كَانَ دَاعِيَةً إلَى بِدْعَةٍ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ لِدَفْعِ ضَرَرِهِ عَن النَّاسِ، وَإِن كَانَ فِي الْبَاطِنِ مُجْتَهِدًا، وَأَقَلُّ عُقُوبَتِهِ أَنْ يُهْجَرَ فَلَا يَكون لَهُ مَرْتَبَةٌ فِي الدِّينِ، لَا يُؤْخَذُ عَنْهُ الْعِلْمُ، وَلَا يُسْتَقْضَى

(1)

، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ.

وَمَذْهَبُ مَالِكٍ قَرِيبٌ مِن هَذَا، وَلهَذَا لَمْ يُخَرِّجْ أَهْلُ الصَّحِيحِ لِمَن كَانَ دَاعِيَةً، وَلَكِنْ رَوَوْا هُم وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَن كَثِيرٍ مِمَن كَانَ يَرَى فِي الْبَاطِنِ رَأيَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْخَوَارجِ وَالشِّيعَةِ.

وَقَالَ أَحْمَد: لَو تَرَكْنَا الرِّوَايَةَ عَن الْقَدَرِّيَةِ لَتَرَكْنَا أَكْثَرَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ.

(1)

أي: لا يكون قاضيًا.

ص: 571

وَهَذَا لَأَنَّ مَسْأَلَةَ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَإِرَادَةِ الْكَائِنَاتِ: مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ، وَكَمَا أَنَّ الْقَدَرِيَّةَ مِن الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرَهُم أخطأوا فِيهَا فَقَد أَخْطَأَ فِيهَا كَثِيرٌ مِمَن رَدَّ عَلَيْهِم أَو أَكْثَرُهُمْ؛ فَإِنَّهُم سَلَكُوا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِم مَسْلَكَ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَأَتْبَاعِهِ، فَنَفَوْا حِكْمَةَ اللهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِه، وَنَفَوْا رَحْمَتَهُ بِعِبَادِهِ، وَنَفَوْا مَا جَعَلَهُ مِن الْأَسْبَابِ خَلْقًا وَأَمْرًا، وَجَحَدُوا مِن الْحَقَائِقِ الْمَوْجُودَةِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ وَشَرَائِعِهِ مَا صَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِنُفُورِ أَكْثَرِ الْعُقَلَاءِ الَّذِينَ فَهِمُوا قَوْلَهُم عَمَّا يَظُنُّونَهُ السنَّةَ؛ إذ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ قَوْلَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْقَدَرِ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي ابْتَدَعَهُ جَهْمٌ. [7/ 385 - 386]

* * *

(بدعةُ مُرْجِئَةِ الْفُقَهَاءِ مِن بِدَعِ الْأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ، لَا مِن بِدَعِ الْعَقَائِدِ)

553 -

دَخَلَ فِي "إرْجَاءِ الْفُقَهَاءِ" جَمَاعَةٌ هُم عِنْدَ الْأُمَّةِ أَهْلُ عِلْمٍ وَدِينٍ، وَلهَذَا لَمْ يُكَفِّرْ أَحَد مِن السَّلَفِ أَحَدًا مِن مُرْجِئَةِ الْفُقَهَاءِ؛ بَل جَعَلُوا هَذَا مِن بِدَعِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، لَا مِن بِدَعِ الْعَقَائِدِ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِن النِّزَاعِ فِيهَا لَفْظِيٌّ، لَكِنَّ اللَّفْظَ الْمُطَابِقَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هُوَ الصَّوَابُ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ بِخِلَافِ قَوْلِ اللهِ وَرَسُولِهِ، لَا سِيَّمَا وَقَد صَارَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى بدَع أَهْلِ الْكَلَام مِن أَهْلِ الْإِرْجَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَإِلَى ظُهُورِ الْفِسْقِ فَصَارَ ذَلِكَ الْخَطَأُ الْيَسِيرُ فِي اللَّفْظِ سَبَبًا لِخَطَأٍ عَظِيمٍ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ؛ فَلِهَذَا عَظُمَ الْقَوْلُ فِي ذَمِّ الْإِرْجَاءِ حَتَّى قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِي: لَفِتْنَتُهُم -يَعْنِي: الْمُرْجِئَةَ- أَخْوَفُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مِن فِتْنَةِ الأزارقة.

وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: مَا اُبْتُدِعَتْ فِي الْإِسْلَامِ بِدْعَةٌ أَضَرُّ عَلَى أَهْلِهِ مِن الْإِرْجَاءِ. [7/ 394 - 395]

554 -

أَنْكَرَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَمَن اتَّبَعَهُ تَفَاضُلَ الْإِيمَانِ وَدُخُولَ الْأَعْمَالِ فِيهِ وَالِاسْتِثْنَاءَ فِيهِ، وَهَؤُلَاءِ مِن مُرْجِئَةِ الْفُقَهَاءِ.

وَامَّا إبْرَاهِيمُ النَّخَعِي -إمَامُ أَهْلِ الْكُوفَةِ شَيْخُ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ-

ص: 572

وَأَمْثَالُهُ وَمَن قَبْلَهُ مِن أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ كعلقمة وَالْأَسْوَدِ: فَكَانُوا مِن أَشَدِّ النَّاسِ مُخَالَفَةً لِلْمُرْجِئَةِ، وَكَانُوا يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ.

لَكِن حَمَّادَ بْنَ أَبِي سُلَيْمَانَ خَالَفَ سَلَفَهُ، وَاتَّبَعَهُ مَن اتَّبَعَهُ، وَدَخَلَ فِي هَذَا طَوَائِفُ مِن أهْلِ الْكُوفَةِ وَمَن بَعْدَهُمْ.

ثُمَّ إنَّ السَّلَفَ وَالْأئِمَّةَ اشْتَدَّ إنْكَارُهُم عَلَى هَؤُلَاءِ وَتَبْدِيعُهُم وَتَغْلِيظُ الْقَوْلِ فِيهِمْ، وَلَمْ أَعْلَمِ أَحَدًا مِنْهُم نَطَقَ بِتَكْفِيرِهِمْ، بل هُم مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُم لَا يُكَفَّرُونَ فِي ذَلِكَ. [7/ 507]

* * *

(أيُّهما أفضل: الْإِيمَان أو الْإِسْلَام؟ وحكم الاستثناء في الإسلام)

555 -

النَّاسُ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

أ- فَالْمُرْجِئَةُ يَقُولُونَ: الْإِسْلَامُ أَفْضَلُ، فَإِنَّهُ يَدْخُل فِيهِ الْإِيمَانُ.

ب- وَآخَرُونَ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ سَوَاءٌ، وَهُم الْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ، وَطَائِفَةٌ مِن أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَةِ، وَحَكَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ عَن جُمْهُورِهِمْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

ت- وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِيمَانَ أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان.

ثُمَّ هَؤُلَاءِ

(1)

مِنْهُم مَن يَقُولُ: الْإِسْلَامُ مُجَرَّدُ الْقَوْلِ، وَالْأَعْمَالُ لَيْسَتْ مِن الْإِسْلَامِ.

وَالصَّحِيحُ أنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ كُلُّهَا، وَأَحْمَد إنَّمَا مَنَعَ الِاسْتِثْنَاءَ فِيهِ عَلَى قَوْلِ الزُّهْرِيِّ: هُوَ الْكَلِمَةُ، هَكَذَا نَقَلَ الْأَثْرَمُ وَالْمَيْمُونِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْهُ.

(1)

أي: أصحاب القول الثالث.

ص: 573

وَأَمَّا عَلَى جَوَابِهِ الْآخَرِ الَّذِي لَمْ يَخْتَرْ فِيهِ قَوْلَ مَن قَالَ: الْإِسْلَامُ الْكَلِمَةُ فَيُسْتَثْنَى فِي الْإِسْلَامِ كَمَا يُسْتَثْنَى فِي الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجْزِمُ بِأَنَّهُ قَد فَعَلَ كُلَّ مَا أُمِرَ بِهِ مِن الْإِسْلَامِ.

وَإِذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "الْمُسْلِمُ مَن سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِن لِسَانِهِ وَيَدِهِ"

(1)

و "بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ"

(2)

: فَجَزْمُهُ بِأَنَّهُ فعَل الْخَمْسَ بِلَا نَقْصٍ كَمَا أُمِرَ كَجَزْمِهِ بِإِيمَانِهِ، فَقَد قَالَ تَعَالَى:{ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208]؛ أَيْ: الْإِسْلَامِ كَافَةً؛ أَيْ: فِي جَمِيعِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ.

وَتَعْلِيلُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِن السَّلَفِ مَا ذَكَرُوهُ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ يَجِيءُ فِي اسْمِ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا أُرِيدَ بِالْإِسْلَامِ الْكَلِمَةُ فَلَا اسْتِثْنَاءَ فِيهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد وَغَيْرُهُ، وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ مَن فعَل الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةَ كُلّهَا فَالِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ كَالِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ. [7/ 414 - 415]

* * *

(الِاسْم الْوَاحِد ينْفَى وَيُثْبَتُ بِحَسَبِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ)

556 -

جِمَاعُ الْأَمْرِ: أَنَّ الِاسْمَ الْوَاحِدَ يُنْفَى وَيُثْبَتُ بِحَسَبِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ، فَلَا يَجِبُ إذَا أُثْبِتَ أَو نُفِيَ فِي حُكْم أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ، وَهَذَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَسَائِرِ الْأُمَمِ؛ لأنَّ الْمَعْنَى مَفْهُومٌ.

مِثَالُ ذَلِكَ: الْمُنَافِقُونَ قَد يُجْعَلُونَ مِن الْمُؤْمِنِينَ فِي مَوْضِعٍ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ يُقَالُ: مَا هُم مِنْهُمْ.

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى

(1)

رواه البخاري (10)، ومسلم (41).

(2)

رواه البخاري (8)، ومسلم (16).

ص: 574

الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)} [الأحزاب: 18، 19] فَهُنَالِكَ جَعَلَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الْخَائِفِينَ مِن الْعَدُوِّ النَّاكِلِينَ عَن الْجِهَادِ النَّاهِينَ لِغَيْرِهِمْ الذَّامِّينَ لِلْمُؤْمِنِينَ: مِنْهُمْ.

وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56)} [التوبة: 56].

فَإِذَا قَالَ اللهُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6] وَنَحْو ذَلِكَ: فَهُوَ أَمْرٌ فِي الظَّاهِرِ لِكُلِّ مَن أَظْهَرَهُ، وَهُوَ خِطَابٌ فِي الْبَاطِنِ لِكُلِّ مَن عَرَفَ مِن نَفْسِهِ أَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِلرَّسُولِ، وَإِن كَانَ عَاصِيًا، وَإِن كَانَ لَمْ يَقُمْ بِالْوَاجِبَاتِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ.

[7/ 418 - 423]

* * *

(حكم الِاسْتِثْنَاء فِي الْإِيمَانِ)

557 -

أَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْإِيمَانِ بِقَوْلِ الرَّجُلِ: أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللهُ: فَالنَّاسُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

أ- مِنْهُم مَن يُوجِبُهُ.

ب- وَمِنْهُم مَن يُحَرِّمُهُ.

ج- وَمِنْهُم مَن يُجَوِّزُ الْأَمْرَيْنِ بِاعْتِبَارَيْنِ، وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ.

فَاَلَّذِينَ يُحَرِّمُونَهُ: هُم الْمُرْجِئَةُ وَالْجَهْمِيَّة وَنَحْوُهُم مِمَن يَجْعَلُ الْإِيمَانَ شَيْئًا وَاحِدًا يَعْلَمُهُ الْإِنْسَانُ مِن نَفْسِهِ؛ كَالتَّصْدِيقِ بِالرَّبِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِي قَلْبِهِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُم: أَنَا أَعْلَمُ أَنِّي مُؤْمِنٌ، كَمَا أَعْلَمُ أَنِّي تَكَلَّمْت بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَكَمَا أَعْلَمُ أَنِّي قَرَأْت الْفَاتِحَةَ .. فَقَوْلِي: أَنَا مُؤْمِنٌ كَقَوْلِي: أَنَا مُسْلِمٌ، وَكَقَوْلِي: تَكَلَّمْت بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَقَرَأَت الْفَاتِحَةَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِن الْأُمُورِ الْحَاضِرَةِ الَّتِي أَنَا أَعْلَمُهَا وَأَقْطَعُ بِهَا، وَكَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَنَا قَرَأت الْفَاتِحَةَ إنْ شَاءَ اللهُ، كَذَلِكَ لَا يَقُولُ: أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللهُ.

ص: 575

لَكنْ إذَا كَانَ يَشُكُّ فِي ذَلِكَ فَيَقُولُ: فَعَلْته إنْ شَاءَ اللهُ.

قَالُوا: فَمَن اسْتَثْنَى فِي إيمَانِهِ فَهُوَ شَاكٌّ فِيهِ، وَسَمَّوْهُم الشَّكَّاكَةَ.

وَاَلَّذِينَ أَوْجَبُوا الِاسْتِثْنَاءَ لَهُم مَأْخَذَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مَا مَاتَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ، وَالْإِنْسَانُ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ اللهِ مُؤْمِنًا وَكَافِرًا بِاعْتِبَارِ الْمُوَافَاةِ وَمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللهِ أَنَّهُ يَكونُ عَلَيْهِ، وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ لَا عِبْرَةَ بِهِ.

وَمَأْخَذُ هَذَا الْقَوْلِ: طَرَدَهُ طَائِفَةٌ مِمَن كَانُوا فِي الْأَصْلِ يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ، وَكَانوا قَد أَخَذُوا الِاسْتِثْنَاءَ عَن السَّلَفِ، وَكَانَ أَهْلُ الشَّامِ شَدِيديْنَ عَلَى الْمُرْجِئَةِ .. وَاسْتَثْنَوْا أَيْضًا فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ كَقَوْلِ الرَّجُلِ: صَلَّيْت إنْ شَاءَ اللهُ وَنَحْو ذَلِكَ، بِمَعْنَى الْقَبُولِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِن الْآثَارِ عَن السَّلَفِ.

ثُمَّ صَارَ كَثِيرٌ مِن هَؤُلَاءِ بِآخرَةٍ يَسْتَثْنُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَيَقُولُ: هَذَا ثَوْبِي إنْ شَاءَ اللهُ، وَهَذَا حَبْلٌ إنْ شَاءَ اللهُ.

فَإِذَا قِيلَ لِأَحَدِهِمْ: هَذَا لَا شَكَّ فِيهِ.

قَالَ: نَعَمْ لَا شَكَّ فِيهِ، لَكِنْ إذَا شَاءَ اللهُ أَنْ يُغَيِّرَهُ غَيرَهُ.

فَيُرِيدُونَ بِقَوْلِهِمْ إنْ شَاءَ اللهُ جَوَازَ تَغْيِيرِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَإِن كَانَ فِي الْحَالِ لَا شَكَّ فِيهِ؛ كَأَنَّ الْحَقِيقَةَ عِنْدَهُم الَّتِي لَا يُسْتَثْنَى فِيهَا مَا لَمْ تَتَبَذَلْ، كَمَا يَقُولُهُ أولَئِكَ فِي الْإِيمَانِ: إنَّ الْإِيمَانَ مَا عَلِمَ اللهُ أَنَّهُ لَا يَتَبَدَّلُ حَتَّى يَمُوتَ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ.

لَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ قَالَهُ قَوْمٌ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ بِاجْتِهَاد وَنَظَرٍ، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسْتَثْنُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ تَلَقَّوْا ذَلِكَ عَن بَعْضِ أَتْبَاعِ شَيْخِهِمْ، وَشَيْخُهُم الَّذِي يَنْتَسِبُونَ إلَيْهِ يُقَالُ لَهُ: أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ مَرْزُوقٍ لَمْ يَكُن مِمَن يَرَى هَذَا

ص: 576

الِاسْتِثْنَاءَ؛ بَل كَانَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ مَن كَانَ قَبْلَهُ، وَلَكِنْ أَحْدَثَ ذَلِكَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بَعْدَهُ.

وَأَمَّا مَذْهَبُ سَلَفِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ؛ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابِهِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَابْنِ عُيَيْنَة، وَأَكْثَرِ عُلَمَاءِ الْكُوفَةِ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ، وَغَيْرِهِ مِن أَئِمَّةِ السُّنَّةِ فَكانُوا يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ

(1)

.

وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ عَنْهُمْ، لَكِنْ لَيْسَ فِي هَؤُلَاءِ مَن قَالَ: أَنَا أَسْتَثْنِي لِأَجْلِ الْمُوَافَاةِ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ إنَّمَا هُوَ اسْمٌ لِمَا يُوَافِي بِهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ؛ بَل صَرَّحَ أَئِمَّةُ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إنَّمَا هُوَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَتَضَمَّنُ فِعْلَ الْوَاجِبَاتِ، فَلَا يَشْهَدُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بذَلِكَ، كَمَا لَا يَشْهَدُونَ لَهَا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَعْلَمُونَهُ، وَهُوَ تَزْكِيَةٌ لِأَنْفُسِهِمْ بِلَا عِلْمٍ.

وَأَمَّا الْمُوَافَاةُ: فَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِن السَّلَفِ عَلَّلَ بِهَا الِاسْتِئْنَاءَ.

وَالْمَأْخَذُ الثَّانِي فِي الِاسْتِثْنَاءِ

(2)

: أَنَّ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ يَتَضَمَّنُ فِعْلَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ عَبْدَهُ كُلَّهُ، وَتَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ كُلِّهَا، فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ: أَنَا مُؤْمِنٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَقَد شَهِدَ لِنَفْسِهِ بِأَنَّهُ مِن الْأَبْرَارِ الْمُتَّقِينَ الْقَائِمِينَ بِفِعْلِ جَمِيعِ مَا أُمِرُوا بِهِ، وَتَرْكِ كُلِّ مَا نُهُوا عَنْهُ، فَيَكُونُ مِن أَوْليَاءِ اللهِ، وَهَذَا مِن تَزْكِيَةِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ وَشَهَادَتِهِ لِنَفْسِهِ بِمَا لَا يَعْلَمُ، وَلَو كَانَت هَذِهِ الشَّهَادَةُ صَحِيحَةً لَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ أنْ يَشْهَدَ لِنَفْسِهِ بِالْجَنَّةِ إنْ مَاتَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، وَلَا أَحَدَ يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ بِالْجَنَّةِ، فَشَهَادَتُهُ لِنَفْسِهِ بِالْإِيمَانِ كَشَهَادَتِهِ لِنَفْسِهِ بِالْجَنَّةِ إذَا مَاتَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ.

(1)

قال الشيخ في موضع آخر: الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْإِيمَانِ سُنَّةٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَأَكْثَرِ أَهْلِ السُّنَّةِ. اهـ. (7/ 666)

(2)

المأخذ الأول ذكره في (ص 429)، ثم استطرد وأطال حتى ظننت أنه نسي المأخذ الثاني، فإذا به يذكره بعد سبع عشرة صفحة!! (446).

ص: 577

وَهَذَا مَأْخَذُ عَامَّةِ السَّلَفِ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَثْنُونَ، وَإِن جَوَّزُوا تَرْكَ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَعْنَى آخَرَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.

قَالَ أَبُو دَاوُد: أَخْبَرَنِي أَحْمَد بْنُ أَبِي شريح أَنَّ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ كَتَبَ إلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأْلَةِ أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، فَجِئْنَا بِالْقَوْلِ، وَلَمْ نَجِئْ بِالْعَمَلِ، فَنَحْنُ نَسْتَثْنِي فِي الْعَمَلِ.

وَقَد كَانَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِن السَّلَفِ مَعَ هَذَا يَكْرَهُونَ سُؤَالَ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ: أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ؟ وَيَكْرَهُونَ الْجَوَابَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ بِدْعَةٌ أَحْدَثَهَا الْمُرْجِئَةُ لِيَحْتَجُّوا بِهَا لِقَوْلِهِمْ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَعْلَمُ مِن نَفْسِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَافِر؛ بَل يَجِدُ قَلْبَهُ مُصَدِّقًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، فَيَقُولُ: أَنَا مُؤْمِن، فَيُثْبِتُ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ؛ لِأَنَّك تَجْزِمُ بِأَنَّك مُؤْمِنٌ، وَلَا تَجْزِمُ بِأَنَّك فَعَلْت كُلَّ مَا أُمِرْت بِهِ.

فَلَمَّا عَلِمَ السَّلَفُ مَقْصِدَهُمْ: صَارُوا يَكْرَهُونَ الْجَوَابَ، أَو يُفَصِّلُونَ فِي الْجَوَابِ، وَهَذَا لِأَنَّ لَفْظَ "الْإِيمَانِ" فِيهِ إطْلَاقٌ وَتَقْيِيدٌ، فَكَانُوا يُجِيبُونَ بِالْإِيمَانِ الْمُقَيَّدِ الَّذِي لَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ شَاهِدٌ فِيهِ لِنَفْسِهِ بِالْكَمَالِ، وَلهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ إذَا أَرَادَ ذَلِكَ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَقْرِنَ كَلَامَهُ بِمَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يُرِد الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ الْكَامِلَ؛ وَلهَذَا كَانَ أَحْمَد يَكْرَهُ أَنْ يُجِيبَ عَلَى الْمُطْلَقِ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ يُقَدِّمُهُ

(1)

.

قَوْلُنَا: يَكُونُ هَذَا إنْ شَاءَ اللهُ: حَقٌّ؛ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا إنْ شَاءَ اللهُ، وَاللَّفْظُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا التَّعْلِيقُ، وَلَيْسَ مِن ضَرُورَةِ التَّعْلِيقِ الشَّكُّ؛ بَل هَذَا بِحَسَبِ عِلْمِ الْمُتَكَلِّمِ، فَتَارَةً يَكُونُ شَاكًّا، وَتَارَةً لَا يَكُونُ شَاكًّا، فَلَمَّا كَانَ الشَّكُّ يَصْحَبُهَا كَثِيرًا لِعَدَمِ عِلْمِ الْإِنْسَانِ بِالْعَوَاقِبِ ظَنَّ الظَّانُّ أَنَّ الشَّكَّ دَاخِل فِي مَعْنَاهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

(1)

سبحان من وهبه هذا الفهم والإحاطة بأقوال السلف والمبتدعة، حتى عرف مقاصدهم ومآخذهم.

ومن جاء بعده من أهل السُّنَّة فإنما يأخذ خلاصة كلامه، وزبدة فهمه واسْتنتاجاتِه.

ص: 578

فَقَوْلُهُ: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الفتح: 27] لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ شَكٌّ مِن اللهِ؛ بَل وَلَا مِن رَسُولِهِ الْمُخَاطَبِ وَالْمُؤْمِنِينَ؛ وَلهَذَا قَالَ ثَعْلَبٌ: هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِن اللهِ وَقَد عَلِمَهُ، وَالْخَلْقُ يَسْتَثْنُونَ فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ.

وَقَد قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23، 24] فَإِنَّ قَوْلَهُ: "لَأفْعَلَنَّ": فِيهِ مَعْنَى الطَّلَبِ وَالْخَبَرِ، وَطَلَبُهُ جَازِمٌ، وَأَمَّا كَوْنُ مَطْلُوبِهِ يَقَعُ: فَهَذَا يَكُونُ إنْ شَاءَ اللهُ.

وَطَلَبُهُ لِلْفِعْلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِن اللهِ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، فَفِي الطَّلَبِ: عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَ مِن اللهِ، وَفِي الْخَبَرِ: لَا يُخْبِرُ إلَّا بِمَا عَلِمَهُ اللهُ، فَإِذَا جَزَمَ بِلَا تَعْلِيقٍ كَانَ كَالتَّأَلِّي عَلَى اللهِ فَيُكَذِّبُهُ اللهُ.

فَالْمُسْلِمُ فِي الْأمْرِ الَّذِي هُوَ عَازِمٌ عَلَيْهِ وَمُرِيدٌ لَه وَطَالِبٌ لَهُ طَلَبًا لَا تَرَدُّدَ فِيهِ: يَقُولُ: إنْ شَاءَ اللهُ لِتَحْقِيقِ مَطْلُوبِهِ، وَحُصُولِ مَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ؛ لِكَوْنِهِ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَشِيئَةِ اللهِ، لَا لِتَرَدُّدٍ فِي إرَادَتِهِ.

وَالرَّبُّ تَعَالَى مُرِيدٌ لِإِنْجَازِ مَا وَعَدَهُم بِهِ إرَادَةً جَازِمَةً لَا مَثْنَوِيَّةَ فِيهَا.

وَلهَذَا تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِيمَن أَرَادَ بِاسْتِثْنَائِهِ فِي الْيَمِينِ هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ التَّحْقِيقُ فِي اسْتِثْنَائِهِ لَا التَّعْلِيقُ: هَل يَكُونُ مُسْتَثْنِيًا بِهِ، أَمْ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ إذَا حَنِثَ؟ بِخِلَافِ مَن تَرَدَّدَتْ إرَادَتُهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُسْتَثْنِيًا بِلَا نِزَاعٍ.

وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْجَمِيعِ مُسْتَثْنِيًا لِعُمُومِ الْمَشِيئَةِ.

وَقَد تَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: إنْ شَاءَ اللهُ يَكُونُ مَعَ كَمَالِ إرَادَتِهِ فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ، وَهُوَ يَقولُهَا لِتَحْقِيقِ الْمَطْلُوبِ، لِاسْتِعَانَتِهِ بِاللهِ فِي ذَلِكَ، لَا لِشَكٍّ فِي الْإِرَادَةِ. [7/ 429 - 458]

558 -

الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْإِيمَانِ: مَأْثُورٌ عَن ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ مِن السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ، لَا شَكًّا فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِم الْإِيمَانُ بِهِ؛ فَإِنَّ الشَّكَّ فِي ذَلِكَ كُفْرٌ، وَلَكنَّهُم اسْتَثْنَوْا فِي الْإِيمَانِ:

ص: 579

أ- خَوْفًا أَلَّا يَكُونُوا قَامُوا بِوَاجِبَاتِهِ وَحَقَائِقِهِ، وَقَد قَالَ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60]، قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم:"هُوَ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ وَيَخَافُ أَنْ لَا يُتَقَبَّلَ مِنْهُ"

(1)

.

ب- وَاسْتَثْنَوْا أَيْضًا لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِالْعَاقِبَةِ.

وَالْإِيمَانُ النَّافِعُ: هُوَ الَّذِي يَمُوتُ الْمَرْءُ عَلَيْهِ.

ج- وَاسْتَثْنَوْا خَوْفًا مِن تَزْكِيَةِ النَّفْسِ.

وَنَحْوِ ذَلِكَ مِن الْمَعَاني الصَّحِيحَةِ.

وَكَذَلِكَ مَن اسْتَثْنَى فِي أَعْمَالِ الْبِرِّ؛ كَقَوْلِهِ: صَلَّيْتُ إنْ شَاءَ اللهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَهَذَا كُلُّهُ اسْتِثْنَاءٌ فِي أَفْعَالٍ لَمْ يُعْلَمْ وُقُوعُهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ الْمَقْبُولِ، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ فِيمَا لَمْ تُعْلَمْ حَقِيقَتُهُ، أَو فِي مُسْتَقْبَلٍ عُلِّقَ بِمَشِيئَةِ اللهِ، لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا بِمَشِيئَةِ اللهِ.

فَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فِي مَاضٍ مَعْلُومٍ: فَهَذِهِ بِدْعَةٌ بِخِلَافِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ. [8/ 427]

* * *

(الِاسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ)

559 -

الِاسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ:

- يَحْصُلُ فِي الْخَبَرِ الْمَحْضِ.

- وَفِي الْخَبَرِ الَّذِي مَعَهُ طَلَبٌ.

فَالْأَوَّلُ: إذَا حَلَفَ عَلَى جُمْلَةٍ خَبَرِيَّةٍ لَا يَقْصِدُ بِهِ حَضًّا وَلَا مَنْعًا؛ بَل تَصْدِيقًا أَو تَكْذِيبًا؛ كَقَوْلِهِ: وَاللهِ لَيَكُونَنَّ كَذَا إنْ شَاءَ اللهُ، أَو لَا يَكُونُ كَذَا.

وَالْمُسْتَثْنِي قَد يَكُونُ عَالِمًا بِأَنَّ هَذَا يَكُونُ أَو لَا يَكُونُ.

(1)

رواه الترمذي (3157)، وابن ماجه (4198)، وأحمد (25263)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي.

ص: 580

وَالثانِي: مَا فِيهِ مَعْنَى الطَّلَبِ؛ كَقَوْلِهِ: وَاللهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، أَو لَا أَفْعَلُهُ إنْ شَاءَ اللهُ؛ فَالصِّيغَةُ صِيغَةُ خَبَرٍ ضَمَّنَهَا الطَّلَبَ، وَلَمْ يَقُلْ: وَاللهِ إنِّي لَمُرِيدٌ هَذَا وَلَا عَازِمٌ عَلَيْهِ.

(1)

[7/ 459](1)

* * *

(1)

إلى هنا انتهت الفوائد المنتقاة من كتاب الإيمان الكبير.

ص: 581

‌كِتَابُ الْإِيمَانِ الأوسط

(1)

‌(ما المقصود بالزنديق

؟)

560 -

لَمَّا كَثُرَت الْأَعَاجِمُ فِي الْمُسْلِمِينَ تَكَلَّمُوا بِلَفْظِ الزِّنْدِيق، وَشَاعَتْ فِي لِسَانِ الْفُقَهَاء، وَتَكَلَّمَ النَّاسُ فِي الزِّنْدِيقِ: هَل تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ؟.

وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ الزِّنْدِيقَ فِي عُرْفِ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءِ هُوَ الْمُنَافِقُ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنَ غَيْرَهُ، سَوَاءٌ أَبْطَنَ دِينًا مِن الْأدْيَانِ؛ كَدِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَو غَيْرِهِمْ، أو كَانَ مُعَطِّلًا جَاحِدًا لِلصَّانِعِ وَالْمَعَادِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. [7/ 471]

* * *

(ضلال الخوارج والمعتزلة)

561 -

الْفَاسِقُ الْمِلِّي: مِمَّا تَنَازَعَ النَّاسُ فِي اسْمِهِ وَحُكْمِهِ، وَالْخِلَافُ فِيهِ أَوَّلُ خِلَافٍ ظَهَرَ فِي الْإِسْلَامِ فِي مَسَائِلِ أُصُولِ الدِّينِ. [7/ 479]

562 -

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد: صَحَّ الْحَدِيثُ فِي الْخَوَارجِ مِن عَشَرَةِ أوْجُهٍ.

وَهَذِهِ الْعَشَرَةُ أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ" مُوَافَقَةً لِأحْمَدَ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْهَا عِدَّةَ أَوْجُهٍ، وَرَوَى أحَادِيثَهُم أَهْلُ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ مِن وُجُوهٍ أُخَرَ.

وَهَؤُلَاءِ الْخَوَارجُ لَهُم أَسْمَاءٌ:

(1)

سأنتقي أهم وأبرز الفوائد والمسائل التي ذكرها في كتابه، وأجعلها على فقرات ليسهل فهمها.

ص: 582

- يُقَالُ لَهُم: الحرورية؛ لِأَنَّهُم خَرَجُوا بِمَكَان يُقَالُ لَهُ حَرُورَاءُ.

- وَيُقَالُ لَهُم أهْلُ النهروان؛ لِأَنَّ عَلِيًّا قَاتَلَهُم هُنَاكَ.

وَمِن أَصْنَافِهِمْ:

- الإباضية: أَتْبَاعُ عَبْدِ اللهِ بْنِ إبَاضٍ.

- والأزارقة: أتْبَاعُ نَافِعِ بْنِ الْأَزْرَقِ.

- والنَّجَدَاتُ: أَصْحَابُ نَجْدَةَ الحروري.

وَهُم أَوَّلُ مَن كَفَّرَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِالذُّنُوبِ؛ بَل بِمَا يَرَوْنَهُ هُم مِن الذُّنُوبِ

(1)

، وَاسْتَحَلُّوا دِمَاءَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَلِكَ، فَكَانُوا كَمَا نَعَتَهُم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"يَقْتُلُونَ أَهْلَ الاسْلَامِ ويدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ"

(2)

، وَكَفَّرُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالبٍ وَعُثْمَانَ بْنَ عفان وَمَن وَالَاهُمَا، وَقَتَلُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ؛ مُسْتَحِلِّينَ لِقَتْلِهِ، قَتَلَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجِمٍ المرادي مِنْهُمْ، وَكَانَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِن الْخَوَارجِ مُجْتَهِدِينَ فِي الْعِبَادَةِ، لَكِنْ كَانُوا جُهَّالًا فَارَقُوا السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ.

فَقَالَ هَؤُلَاءِ: مَا النَّاسُ إلَّا مُؤْمِنٌ أَو كَافِرٌ، وَالْمُؤْمِنُ مَن فَعَلَ جَمِيعَ الْوَاجِبَاتِ، وَتَرَكَ جَمِيعَ الْمُحَرَّمَاتِ، فَمَن لَمْ يَكُن كَذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ، مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ

(3)

.

ثُمَّ جَعَلُوا كُلَّ مَن خَالَفَ قَوْلَهُم كَذَلِكَ فَقَالُوا: إنَّ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَنَحْوَهُمَا حَكَمُوا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ، وَظَلَمُوا فَصَارُوا كُفَّارًا.

(1)

وهو كذلك؛ فالخوارج على مدى الزمان يقتلون أهل الإسلام بزعم أنهم ارتكبوا ذنوبًا وكبائر ونواقض للإسلام، والواقع ليس كلذلك؛ بل العكس صحيح في كثير من الأمور.

فقد رأينا من قتل أباه وأمه وصديقه وقريبه، وهم مسلمون يُصلون؛ لاعتقادهم أنهم اقترفوا ناقضًا من نواقض الإسلام، وليس بصحيح.

(2)

رواه البخاري (3344)، ومسلم (1064).

(3)

وخوارج هذا الزمان: لم يُصرحوا بذلك، ولكن أفعالهم تدل على ذلك، فهم يُقاتلون ويقتلون كلّ من خالفهم، ورفض رأيهم والدخول تحت رايتهم، ويستحلون دمه؛ بل ويُمثلون به.

فأي فرق بينهم وبين أسلافهم؟

ص: 583

وَمَذْهَبُ هَؤُلَاءِ بَاطِلٌ بِدَلَائِلَ كَثِيرَةٍ مِن الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ دُونَ قَتْلِهِ، وَلَو كَانَ كَافِرًا مُرْتَدًّا لَوَجَبَ قَتْلُهُ؛ لِأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَن بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ"

(1)

، وَقَالَ:"لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٍ بَعْدَ إسْلَامٍ، وَزنًى بَعْدَ إحْصَانٍ، أَو قَتْلِ نَفْسٍ يُقْتَلُ بِهَا"

(2)

.

وَأَمَرَ سُبْحَانَهُ أَنْ يُجْلَدَ الزَّانِي وَالزَّانِيَةُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَلَو كَانَا كَافِرَيْنِ لَأَمَرَ بِقَتلِهِمَا.

وَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يُجْلَدَ قَاذِفُ الْمُحْصَنَةِ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، وَلَو كَانَ كَافِرًا لَأَمَرَ بِقَتْلِهِ.

فَلَمَّا شَاعَ فِي الْأُمَّةِ أَمْرُ الْخَوَارجِ تَكلَّمَت الصَّحَابَةُ فِيهِمْ، وَرَوَوْا عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْأَحَادِيثَ فِيهِمْ، وَبَيَّنُوا مَا فِي الْقُرْآنِ مِن الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَظَهَرَتْ بِدْعَتُهُم فِي الْعَامَّةِ، فَجَاءَت بَعْدَهُم الْمُعْتَزِلَةُ، الَّذِينَ اعْتَزَلُوا الْجَمَاعَةَ بَعْدَ مَوْتِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَهُم: عَمْرُو بْن عُبَيْدٍ، وَوَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ الْغَزالُ، وَأَتْبَاعُهُمَا فَقَالُوا: أَهْل الْكَبَائِرِ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ كَمَا قَالَت الْخَوَارِجُ، وَلَا نُسَمِّيهِمْ لَا مُؤْمِنِينَ وَلَا كُفَّارًا؛ بَل فُسَّاقٌ، نُنْزِلُهُم مَنْزِلَةً بَيْنَ مَنْزِلَتَيْنِ، وَأَنْكَرُوا شَفَاعَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِن أُمَّتِهِ، وَأَنْ يَخْرُجَ مِن النَّارِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَهَا. [7/ 479 - 484]

563 -

احْتَجَّت الْخَوَارجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]، قَالُوا: فَصَاحِبُ الْكَبِيرَةِ لَيْسَ مِن الْمُتَّقِينَ، فَلَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنْهُ عَمَلًا.

وَقَد أَجَابَتْهُم الْمُرْجِئَةُ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُتَّقِينَ مَن يَتَّقِي الْكُفْرَ.

(1)

رواه البخاري (3017).

(2)

رواه أبو داود (4502)، والترمذي (2158)، وقال: حديث حسن، من حديث عثمان رضي الله عنه، وأصله في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

ص: 584

وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ: أَنَّ الْمُرَادَ مَن اتَّقَى اللهَ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ .. فَمَن عَمِلَ لِغَيْرِ اللهِ -كَأَهْلِ الرِّيَاءِ- لَمْ يُقْبَل مِنْهُ ذَلِكَ.

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "مَن عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ"

(1)

؛ أَيْ: فَهُوَ مَرْدُودٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ.

وَخَوْفُ مَن خَافَ مِن السَّلَفِ أَنْ لَا يُتَقَبَّلَ مِنْهُ؛ لِخَوْفِهِ أَنْ لَا يَكُونَ أَتَى بِالْعَمَلِ عَلَى وَجْهِهِ الْمَأْمُورِ، وَهَذَا أَظْهَرُ الْوُجُوهِ فِي اسْتِثْنَاءِ مَن اسْتَثْنَى مِنْهُم فِي الْإِيمَانِ وَفِي أَعْمَالِ الْإِيمَانِ؛ كَقَوْلِ أَحَدِهِمْ: أنَا مُؤمِنٌ إنْ شَاءَ اللهُ، وَصَلَّيْت إنْ شَاءَ اللهُ؛ لِخَوْفِ أَنْ لَا يَكُونَ أتَى بِالْوَاجِبِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ، لَا عَلَى جِهَةِ الشَّكِّ فِيمَا بِقَلْبِهِ مِن التَّصْدِيقِ. [7/ 494 - 496]

* * *

(عُقُوبَةُ الذُّنُوب تَزُولُ عَن الْعَبْدِ بِنَحْوِ عَشَرَةِ أَسْبَابٍ، وبيانُ أنّ الْحَسَنَات قد تُكَفِّرُ الْكَبَائِر)

564 -

دَلَّتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: عَلَى أَنَّ عُقُوبَةَ الذُّنُوبِ تَزُولُ عَن الْعَبْدِ بِنَحْوِ عَشَرَةِ أَسْبَابٍ:

أَحَدُهَا: التَّوْبَةُ، وَهَذَا متَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ تَعَالَى:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر: 53].

السَّبَبُ الثَّانِي: الِاسْتِغْفَارُ، كَمَا فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ"

(2)

: "لَو لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْم يُذْنِبُونَ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ".

وَقَد يُقَالُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: الِاسْتِغْفَارُ هُوَ مَعَ التَّوْبَةِ؛ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث: "مَا أَصَرَّ مَن اسْتَغْفَرَ وَإِن عَادَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ"

(3)

.

(1)

رواه مسلم (1718).

(2)

(2749).

(3)

رواه أبو داود (1514)، وضعفه الألباني.

ص: 585

وَقَد يُقَالُ: بَل الِاسْتِغْفَارُ بِدُونِ التَّوْبَةِ مُمْكِن وَاقِعٌ؛ فَإِنَّ هَذَا الِاسْتِغْفَارَ إذَا كَانَ مَعَ التَّوْبَةِ مِمَّا يُحْكَمُ بِهِ عَامٌّ فِي كُلِّ تَائِبٍ، وَإِن لَمْ يَكُن مَعَ التَّوْبَةِ فَيَكُونُ فِي حَقِّ بَعْضِ الْمُسْتَغْفِرِينَ الَّذِينَ قَد يَحْصُلُ لَهُم عِنْدَ الِاسْتِغْفَارِ مِن الْخَشْيَةِ وَالْإِنَابَةِ مَا يَمْحُو الذُّنُوبَ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبِطَاقَةِ بِأَنَّ قَوْلَ: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ ثَقُلَتْ بِتِلْكَ السَّيِّئَاتِ، لَمَّا قَالَهَا بِنَوْع مِن الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ الَّذِي يَمْحُو السَّيِّئَاتِ، وَكَمَا غَفَرَ لِلْبَغِيِّ بِسَقْيِ الْكَلْبِ لِمَا حَصَلَ فِي قَلْبِها إذ ذَاكَ مِن الْإِيمَانِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ.

السَّبَبُ الثَّالِثُ: الْحَسَنَاتُ الْمَاحِيَةُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:"الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إذَا اُجْتُنِبَت الْكَبَائِرُ"

(1)

.

وَسُؤَالُهُم عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَقُولُوا: الْحَسَنَاتُ إنَّمَا تُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ فَقَطْ، فَأَمَّا الْكَبَائِرُ فَلَا تُغْفَرُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ؛ كَمَا قَد جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ:"مَا اُجْتُنِبَت الْكَبَائِرُ".

فَيُجَابُ عَن هَذَا بِوُجُوه:

أَحَدُهَا: أَن هَذَا الشَّرْطَ جَاءَ فِي الْفَرَائِضِ؛ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعَةِ وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]؛ فَالْفَرَائِضُ مَعَ تَرْكِ الْكَبَائِرِ مُقْتَضِيَةٌ لِتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ، وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الزَّائِدَةُ مِن التَّطَوُّعَاتِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهَا ثَوَابٌ آخَرُ؛ فَإنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7، 8].

(1)

رواه مسلم (233).

ص: 586

الثَّانِي: أَنَّهُ قَد جَاءَ التَّصْرِيحُ فِي كَثِيرِ مِن الْأَحَادِيثِ بِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ قَد تَكُونُ مَعَ الْكَبَائِرِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "غُفِرَ لَهُ وَإِن كَانَ فَرَّ مِن الزَّحْفِ"

(1)

.

الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ لِأَهْلِ بَدْرٍ وَنَحْوِهِمْ: "اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَد غَفَرْت لَكُمْ"

(2)

: إنْ حُمِلَ عَلَى الصَّغَائِرِ أَوً عَلَى الْمَغْفِرَةِ مَعَ التَّوْبَةِ لَمْ يَكُن فَرْقٌ بَيْنَهُم وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ.

فَكَمَا لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى الْكُفْرِ؛ لِمَا قَد عُلِمَ أنَّ الْكُفْرَ لَا يُغْفَرُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ: لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى مُجَرَّدِ الصَّغَائِرِ الْمُكَفَّرَةِ بِاجْتِنَابِ الْكبَائِرِ.

الرَّابِعُ: أَنَّهُ قَد جَاءَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ: "أَنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ مِن عَمَلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الصَّلَاةُ، فَإنْ أَكْمَلَهَا وَإِلَّا قِيلَ: اُنْظُرُوا هَل لَهُ مِن تَطَوُّعٍ، فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ أُكْمِلَتْ بِهِ الْفَرِيضَةُ، ثُمَّ يُصْنَعُ بِسَائِرِ أَعْمَالِهِ كَذَلِكَ"

(3)

.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ النَّقْصَ الْمُكَمَّلَ لَا يَكُونُ لِتَرْكِ مُسْتَحَبٌّ؛ فَإِنَّ تَرْكَ الْمُسْتَحَبِّ لَا يَحْتَاجُ إلَى جبران، وَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ الْمُسْتَحَبِّ الْمَتْرُوكِ وَالْمَفْعُولِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ يَكْمُلُ نَقْصُ الْفَرَائِضِ مِن التَّطَوُّعَاتِ

(4)

.

(1)

رواه أبو داود (1517)، والترمذي (3577)، وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

(2)

رواه البخاري (3007)، ومسلم (2429).

(3)

رواه ابن ماجه (1425)، والترمذي (413)، وأبو داود (864)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (2020 - 892).

(4)

وجاء في الآداب الشرعية (1/ 147، 148)، والمستدرك (1/ 128): ذكر الشيخ تقي الدين رضي الله عنه: أن الحسنة تعظم ويكثر ثوابها بريادة الإيمان والإخلاص حتى تقابل جميع الذنوب، وذكر حديث:"فثقلت البطاقة وطاشت السجلات"، وحديث:"البغي التي سقت الكلب فشكر الله لها ذلك فغفر لها"، وحديث:"الذي نحى غصن شوك عن الطريق فشكر الله له ذلك فغفر له". اهـ.

وهذا ظاهرٌ أن شيخ الإسلام رحمه الله يرى أنّ الْحَسَنَات قد تُكَفِّرُ الْكَبَائِر.

ولكن جاء خلاف ذلك، ففي المستدرك (3/ 126)، والفتاوى المصرية (105): صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صيام يوم عرفة يكفر سنتين، وصيام يوم عاشوراء يكفر سنة" لكن إطلاق القول بأنه يكفر لا يوجب أن يكفر الكبائر بلا توبة فإنه صلى الله عليه وسلم قال في: "الجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر"، ومعلوم أنَّ الصلاةَ هي أفضل من الصيام، =

ص: 587

السَّبَبُ الرَّابِعُ -الدَّافِعُ لِلْعِقَابِ-: دُعَاءُ الْمُؤْمِنِينَ لِلْمُؤْمِنِ؛ مِثْلُ صَلَاتِهِمْ عَلَى جِنَازَتهِ، فَعَن عَائِشَةَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَا مِن مَيِّتٍ

= وصيام رمضان أعظم من صيام يوم عرفة، ولا يكفر السيئات إلا باجتناب الكبائر كما قيده النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يظن أن صوم يوم أو يومين تطوعًا يكفر الزنى والسرقة وشرب الخمر، والميسر، والسحر، ونحوه؟ فهذا لا يكون.

وتكفير الطهارة والصلاة وصيام رمضان وعرفة وعاشوراء للصغائر فقط، وكذا الحج؛ لأن الصلاة ورمضان أعظم منه. اهـ.

فالشيخ له قولان في المسألة.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: الأظهر -والله أعلم- في هذه المسألة -أعني: مسألة تكفير الكبائر بالأعمال- أنه أريد أن الكبائر تمحى بمجرد الإتيان بالفرائض، وتقع الكبائر مكفرة بذلك كما تكفر الصغائر باجتناب الكبائر، فهذا باطل. وإن أريد أنه قد يوازن يوم القيامة بين الكبائر وبين بعض الأعمال، فتمحى الكبيرة بما يقابلها من العمل، ويسقط العمل، فلا يبقى له ثواب، فهذا قد يقع.

وقال: وذهب قوم من أهل الحديث وغيرهم إلى أن هذه الأعمال تكفر الكبائر، ومنهم ابن حزم الظاهري.

ووقع مثله في كلام ابن المنذر في قيام ليلة القدر، قال: يرجى لمن قامها أن يغفر له جميع ذنوبه صغيرها وكبيرها.

فإن كان مرادهم أن من أتى بفرائض الإسلام وهو مصر على الكبائر تغفر له الكبائر قطعًا: فهذا باطل قطعًا، يُعلم بالضرورة من الدين بطلانه. وهذا أظهر من أن يحتاج إلى بيان:

وإن أراد هذا القائل أَن من ترك الأصرار على الكبائر، وحافظ على الفرائض من غير توبة ولا ندم على ما سلف منه، كفرت ذنوبه كلها بذلك، واستدل بظاهر قوله:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)} [النساء: 31]، وقال: السيئات تشمل الكبائر والصغائر، وكما أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر من غير قصد ولا نية، فكذلك الكبائر، وقد يستدل لذلك بأن الله وعد المؤمنين والمتقين بالمغفرة وتكفير السيئات، وهذا مذكور في غير موضع من القرآن، وقد صار هذا من المتقين، فإنه فعل الفرائض، واجتنب الكبائر، واجتناب الكبائر لا يحتاج إلى نية وقصد: فهذا القول يمكن أن يقال في الجملة.

والصحيح قول الجمهور: أن الكبائر لا تكفر بدون التوبة؛ لأن التوبة فرض على العباد، وقد قال عز وجل:{وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [لحجرات: 11]، وقد فسرت الصحابة كعمر وعلي وابن مسعود التوبة بالندم، ومنهم من فسرها بالعزم على أن لا يعود، وقد روي ذلك مرفوعًا من وجه فيه ضعف، لكن لا يُعلم مخالف من الصحابة في هذا، وكذلك التابعون ومن بعدهم، كعمر بن عبد العزيز، والحسن وغيرهما.

جامع العلوم والحكم (429 - 438).

ص: 588

يُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِن الْمُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ مِائَةً كُلُّهُم يَشْفَعُونَ إلَّا شُفعُوا فِيهِ".

وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا مِن رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جِنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا لَا يُشْرِكُونَ بِاللهِ شَيْئًا إلَّا شَفَّعَهُم اللهُ فِيهِ". رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ

(1)

.

السَّبَبُ الْخَامِسُ: مَا يُعْمَلُ لِلْمَيِّتِ مِن أَعْمَالِ الْبِرِّ؛ كَالصَّدَقَةِ وَنَحْوِهَا؛ فَإِنَّ هَذَا يَنْتَفِعُ بِهِ بِنُصُوصِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ وَاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ وَالْحَجُّ.

وَلَا يَجُوز أَنَّ يُعَارَضَ هَذَا بِقَوْلِهِ: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 39] لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَد ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْتَفِعُ بِمَا لَيْسَ مِن سَعْيِهِ؛ كَدُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ وَاسْتِغْفَارِهِمْ لَهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} الْآيَةَ [غافر: 7].

وَدُعَاءُ النَّبِيِّينَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِغْفَارُهُمْ.

الثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ فِي ظَاهِرِهَا إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلَّا سَعْيُهُ، وَهَذَا حَقٌّ، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ وَلَا يَسْتَحِقُّ إلَّا سَعْيَ نَفْسِهِ، وَأَمَّا سَعْيُ غَيْرِهِ فَلَا يَمْلِكُهُ وَلَا يَسْتَحِقُّهُ، لَكِنْ هَذَا لَا يَمْنَع أَنْ يَنْفَعَهُ اللهُ وَيَرْحَمَهُ بِهِ؛ كَمَا أَنَّهُ دَائِمًا يَرْحَمُ عِبَادَهُ بِأَسْبَاب خَارِجَةٍ عَن مَقْدُورِهِمْ.

السَّبَبُ السَّادِسُ: شَفَاعَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْره فِي أَهْلِ الذُّنُوبِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ كَمَا قَد تَوَاتَرَتْ عَنْهُ أَحَادِيثُ الشَّفَاعَةِ؛ مِثْل قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِن أُمَّتِي"

(2)

.

(1)

(947، 948).

(2)

رواه أبو داود (4739)، والترمذي (2435)، وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه.

ص: 589

السَّبَبُ السَّابِعُ: الْمَصَائِبُ الَّتِي يُكَفِّرُ اللهُ بِهَا الْخَطَايَا فِي الدُّنْيَا؛ كَمَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ"

(1)

عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِن وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَنٍ وَلَا غَمٍّ وَلَا أَذًى -حَتَّى الشَّوْكَةُ يَشَاكُهَا- إلَّا كَفَّرَ اللهُ بِهَا مِن خَطَايَاهُ".

السَّبَبُ الثَّامِنُ: مَا يَحْصُلُ فِي الْقَبْرِ مِن الْفِتْنَةِ وَالضَّغْطَةِ وَالرَّوْعَةِ.

السَّبَبُ التَّاسِعُ: أَهْوَالُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَكَرْبُهَا وَشَدَائِدُهَا.

السَّبَبُ الْعَاشِرُ: رَحْمَةُ اللهِ وَعَفْوُهُ وَمَغْفِرَتُهُ بِلَا سَبَبٍ مِن الْعِبَادِ.

فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ قَد يُدْفَعُ عَن أَهْلِ الذُّنُوب بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ الْعَشَرَةِ: كَانَ دَعْوَاهُمْ

(2)

أَنَّ عُقُوبَاتِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ مُخَالِفٌ لِذَلِكَ

(3)

. [7/ 487 - 501]

565 -

ذكر الشيخ تقي الدين رضي الله عنه: أن الحسنة تعظم ويكثر ثوابها بزيادة الإيمان والإخلاص حتى تقابل جميع الذنوب، وذكر حديث:"فثقلت البطاقة وطاشت السجلات"

(4)

، وحديث:"البغي التي سقت الكلب فشكر الله لها ذلك فغفر لها"

(5)

، وحديث: "الذي نحى غصن شوك عن الطريق فشكر الله له ذلك

(1)

البخاري (5641)، ومسلم (2573).

(2)

أي: دعوى من يقول بأنّ الْحَسَنَاتِ إنَّمَا تُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ فَقَطْ، فَأَمَّا الْكَبَائِرُ فَلَا تُغْفَرُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ.

(3)

هذا ظاهرٌ أن شيخ الإسلام رحمه الله يرى أن الْحَسَنَات قد تُكَفِّرُ الْكَبَائِر، والأدلة التي ذكرها قوية ظاهرة.

ومن الأدلة على ذلك أيضًا: ما ثبت في الصحيحين: البخاري (37)، ومسلم (759)، عَن أِبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَن قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ".

قاْل "الحافظ ابن حجر رحمه الله: ظَاهِرُهُ يَتَنَاوَلُ الصَّغَائِرَ وَالْكَبَائِرَ، وَبِهِ جَزَمَ اِبْن الْمُنْذِر، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمَعْرُوفُ أنَّهُ يَخْتَصُّ بِالصَّغَائِرِ. فتح الباري (4/ 319).

(4)

رواه الترمذي (2639)، وابن ماجه (4300)، وأحمد (6994)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي.

(5)

رواه البخاري (3467)، ومسلم (2245).

ص: 590

فغفر له" رواه البخاري

(1)

ومسلم

(2)

من حديث أبي هريرة. [المستدرك 1/ 128]

* * *

(الإمام أَحْمَد لَمْ يُكَفِّر الْمُرْجِئَة، ولا أَعْيَانَ الْجَهْمِيَّة)

566 -

نَصَّ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِن الْأَئِمَّةِ عَلَى عَدَمِ تَكْفِيرِ هَؤُلَاءِ الْمُرْجِئَةِ.

وَمَن نَقَلَ عَن أَحْمَد أَو غَيْرِهِ مِن الْأَئِمَّةِ تَكْفِيرًا لِهَؤُلَاءِ أَو جَعَلَ هَؤُلَاءِ مِن أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُتَنَازَعِ فِي تَكْفِيرِهِمْ فَقَد غَلِطَ غَلَطًا عَظِيمًا.

وَالْمَحْفُوظُ عَن أَحْمَد وَأَمْثَالِهِ مِن الْأَئِمَّةِ إنَّمَا هُوَ تَكْفِيرُ الْجَهْمِيَّة وَالْمُشَبِّهَةِ وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ، وَلَمْ يُكَفِّرْ أَحْمَد الْخَوَارجَ وَلَا الْقَدَرِيَّةَ إذَا أَقَرُّوا بِالْعِلْمِ وَأَنْكَرُوا خَلْقَ الْأَفْعَالِ وَعُمُومَ الْمَشِيئَةِ، لَكِنْ حُكِيَ عَنْهُ فِي تَكْفِيرِهِمْ رِوَايَتَانِ.

مَعَ أَنَّ أَحْمَد لَمْ يُكَفِّرْ أَعْيَانَ الْجَهْمِيَّة، وَلَا كُلُّ مَن قَالَ إنَّهُ جهمي كَفَّرَهُ، وَلَا كُلُّ مَن وَافَقَ الْجَهْمِيَّة فِي بَعْضِ بِدَعِهِمْ؛ بَل صَلَّى خَلْفَ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ دَعَوْا إلَى قَوْلِهِمْ، وَامْتَحَنُوا النَّاسَ وَعَاقَبُوا مَن لَمْ يُوَافِقْهُم بِالْعُقُوبَاتِ الْغَلِيظَةِ، لَمْ يُكَفِّرْهُم أَحْمَد وَأَمْثَالُهُ؛ بَل كَانَ يَعْتَقِدُ إيمَانَهُم وَإِمَامَتَهُمْ، وَيَدْعُو لَهُمْ، وَيَرَى الِائْتِمَامَ بِهِم فِي الصَّلَوَاتِ خَلْفَهُمْ، وَالْحَجَّ وَالْغَزْوَ مَعَهُمْ، وَالْمَنْعَ مِن الْخُرُوجِ عَلَيْهِم مَا يَرَاهُ لِأَمْثَالِهِمْ مِن الْأَئِمَّةِ.

وَيُنْكِرُ مَا أَحْدَثُوا مِن الْقَوْلِ الْبَاطِلِ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ عَظِيمٌ، وَإِن لَمْ يَعْلَمُوا هُم أَنَّهُ كُفْرٌ، وَكَانَ يُنْكِرُهُ وَيُجَاهِدُهُم عَلَى رَدِّهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ:

أ- طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ فِي إظْهَارِ السُّنَّةِ وَالدِّينِ.

ب- وَإِنْكَارِ بِدَعِ الْجَهْمِيَّة الْمُلْحِدِينَ.

ج- وَبَيْنَ رِعَايَةِ حُقُوقِ الْمُؤْمِنِينَ مِن الْأَئِمَّةِ وَالْأُمَّةِ، وَإِن كَانُوا جُهَّالًا

(1)

(652).

(2)

(1914).

ص: 591

مُبْتَدِعِينَ، وَظَلَمَةً فَاسِقِينَ

(1)

.

وَهَؤُلَاءِ الْمَعْرُوفُونَ مِثْلُ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا مِن فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ: كَانُوا يَجْعَلُونَ قَوْلَ اللِّسَانِ وَاعْتِقَادَ الْقَلْبِ مِن الْإِيمَانِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ كُلَّابٍ وَأَمْثَالِهِ، لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُم فِي ذَلِكَ، وَلَا نُقِلَ عَنْهُم أَنَّهُم قَالُوا: الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ، لَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ حَكَوْهُ عَن الْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ.

وَحَدَثَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ قَوْلُ الكَرَّامِيَة: إنَّ الْإِيمَانَ قَوْلُ اللِّسَانِ دُونَ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ، مَعَ قَوْلِهِمْ: إنَّ مِثْل هَذَا يُعَذَّبُ فِي الْآخِرَةِ وَيُخَلَّدُ فِي النَّارِ.

وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ الصالحي: إنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَمَعْرِفَتِهِ، لَكِنْ لَهُ لَوَازِمُ، فَإِذَا ذَهَبَتْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ.

وَإِنَّ كُلَّ قَوْلٍ أَو عَمَلٍ ظَاهِرٍ دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى أَنَّهُ كُفْرٌ: كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَلَيْسَ الْكُفْرُ إلَّا تِلْكَ الْخَصْلَةُ الْوَاحِدَةُ، وَلَيْسَ الْإِيمَانُ إلَّا مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ وَالْمَعْرِفَةِ.

وَهَذَا أَشْهَرُ قَوْلَيْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَعَلَيْهِ أَصْحَابُهُ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي الْمَعَالِي وَأَمْثَالِهِمَا، وَلهَذَا عَدَّهُم أَهْلُ الْمَقَالَاتِ مِن الْمُرْجِئَةِ.

وَالْقَوْلُ الْآخَرُ عَنْهُ: كَقَوْلِ السَّلَفِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ: إنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ. [7/ 507 - 509]

***

(1)

انظر إلى: هذه الأخلاق العظيمة، والمنهج النبوي العظيم، الذي به تُجتَنَبُ الفتن، ويُجمع الشمل، وتتوحد الكلمة، وتُحفظ الدماء والأعراض.

ولْنقارن بين هذا المنهج العظيم وبين منهج الخوارج ومن نحا نحوهم، الذين تسَمَّوا في هذا الزمان بِمُسميات عدة، وكيف فرقوا الأمة بما يُطلقونه من التكفير والسباب واللعن للمسلمين أو علمائهم أو حكامهم.

ص: 592

‌(ما أَصْلُ نِزَاعِ هَذِهِ الْفِرَقِ فِي الْإِيمَانِ

؟)

567 -

أَصْلُ نِزَاعِ هَذِهِ الْفِرَقِ فِي الْإِيمَانِ مِن الْخَوَارجِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَغَيْرِهِمْ: أَنَّهُم جَعَلُوا الْإِيمَانَ شَيْئًا وَاحِدًا إذَا زَالَ بَعْضُهُ زَالَ جَمِيعُهُ، وَإِذَا ثَبَتَ بَعْضُهُ ثَبَتَ جَمِيعُهُ، فَلَمْ يَقُولُوا بِذَهَابِ بَعْضِهِ وَبَقَاءِ بَعْضِهِ. [7/ 510]

568 -

يُرْوَى عَن الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَنَحْوِهِ مِن السَّلَفِ أَنَّهُم سَمَّوْا الْفُسَّاقَ مُنَافِقِينَ، فَجَعَلَ أَهْلُ الْمَقَالَاتِ هَذَا قَوْلًا مُخَالِفًا لِلْجُمْهُورِ إذَا حَكَوْا تَنَازُعَ النَّاسِ فِي الْفَاسِقِ الْمِلِّي.

وَالْحَسَنُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- لَمْ يَقُلْ مَا خَرَجَ بِهِ عَن الْجَمَاعَةِ، لَكِنْ سَمَّاهُ مُنَافِقًا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا.

وَالنِّفَاقُ كَالْكُفْرِ نِفَاقٌ دُونَ نِفَاقٍ، وَلهَذَا كَثِيرًا مَا يُقَالُ: كُفْرٌ يَنْقُلُ عَن الْمِلَّةِ وَكُفْرٌ لَا يَنْقُلُ، وَنِفَاقٌ أَكْبَرُ وَنِفَاقٌ أَصْغَرُ، كَمَا يُقَالُ: الشِّرْكُ شِرْكَانِ: أَصْغَرُ وَأَكْبَرُ. [7/ 524]

***

(الْإِرَادَةُ بلَا عَمَلٍ هَل يَحْصُلُ بِهَا عِقَابٌ؟ وما الفَرْق بَيْنَ الْهَمِّ وَالْإِرَادَةِ؟ والفرق بين علم القلب وعمله)

569 -

الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ إذَا فَعَلَ مَعَهَا الْإِنْسَانُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ كَانَ فِي الشَّرْعِ بِمَنْزِلَةِ الْفَاعِلِ التَّامِّ: لَهُ ثَوَابُ الْفَاعِلِ التَّامِّ وَعِقَابُ الْفَاعِلِ التَّامِّ.

وَذَلِكَ أَنَّ جَمِيع الْخَلَائِقِ أَخَذَ اللّهُ عَلَيْهِم مِيثَاقَ الْإِيمَانِ بِهِ كَمَا أَخَذَ عَلَى كُلُّ نَبِيٍّ أَنْ يُؤْمِنَ بِمَن قَبْلَهُ مِن الْأَنْبِيَاءِ، وَيُصَدِّقَ بِمَن بَعْدَهُ.

قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} الْآيَةَ [آل عمران: 81].

فَافْتَتَحَ الْكَلَامَ بِاللَّامِ الْمُوَطِّئَةِ لِلْقَسَمِ الَّتِي يُؤْتَى بِهَا إذَا اشْتَمَلَ الْكَلَامُ عَلَى قَسَمٍ وَشَرْطٍ، وَأَدْخَلَ اللَّامَ عَلَى مَا الشَّرْطِيَّةِ لِيُبَيِّنَ الْعُمُومَ، وَيَكُونَ الْمَعْنَى:

ص: 593

مَهْمَا آتِيكُمْ مِن كتَابٍ وَحِكْمَةٍ فَعَلَيْكُمْ إذَا جَاءَكُمْ ذَلِكَ النَّبِيُّ الْمُصَدِّقُ الْإِيمَانُ بِهِ وَنَصْرُهُ.

فَمَن آمَنَ بِهِ مِن الْأَوَّلينَ والآخرين أُثِيبَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِن كَانَ ثَوَابُ مَن آمَنَ بِهِ وَأَطَاعَهُ فِي الشَّرَائِعِ الْمُفَصَّلَةِ أَعْظَمَ مِن ثَوَابِ مَن لَمْ يَأْتِ إلَّا بِالْإِيمَانِ الْمُجْمَلِ.

عَلَى أَنَّهُ إمَامٌ مُطْلَقٌ لِجَمِيعِ الذُّرِّيَّةِ، وَأَنَّ لَهُ نَصِيبًا مِن إيمَانِ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِن الْأَوَّلينَ والآخرين، كَمَا أَنَّ كُلَّ ضَلَالٍ وغواية فِي الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لإبليس مِنْهُ نَصِيبٌ.

وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ مِن بَعْضِ الْوُجُوهِ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ: "وُزِنْت بِالْأُمَّةِ فَرَجَحْت، ثُمَّ وُزِنَ أَبُو بَكْرٍ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ، ثُمَّ وُزِنَ عُمَرُ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ ثُمَّ رُفِعَ الْمِيزَانُ"

(1)

.

فَأَمَّا كَوْنُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَاجِحًا بِالْأُمَّةِ فَظَاهِرٌ؛ لِأنَّ لَهُ مِثْل أَجْرِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ مُضَافًا إلَى أَجْرِهِ.

وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ فَلِأَنَّ لَهُمَا مُعَاوَنَةً مَعَ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ فِي إيمَانِ الْأُمَّةِ كُلِّهَا، وَأَبُو بَكرٍ كَانَ فِي ذَلِكَ سَابِقًا لِعُمَرِ وَأَقْوَى إرَادَةً مِنْهُ، فَإِنَّهُمَا هُمَا اللَّذَانِ كَانَا يُعَاوِنَانِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى إيمَانِ الْأُمَّةِ فِي دَقِيقِ الْأُمُورِ وَجَلِيلِهَا فِي مَحْيَاهُ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ.

وَلهَذَا سَأَلَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَ أُحُدٍ: أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُجِيبُوهُ". فَقَالَ: أَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَد كَفَيْتُمُوهُمْ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

فَأَبُو سُفْيَانَ -رَأسُ الْكُفْرِ حِينَئِذٍ- لَمْ يَسْأَلْ إلَّا عَن هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّهُم قَادَةُ الْمُؤْمِنِينَ.

(1)

رواه الترمذي وقال: حسن صحيح (2287)، وأبو داود في سننه (4634).

ص: 594

وَأَمْثَالُ هَذِهِ النُّصُوصِ كَثِيرَةٌ تُبَيِّنُ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهِمَا إنْ كَانَ لَهُمَا مِثْلُ أَعْمَالِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ؛ لِوُجُودِ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِن الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، بِخِلَافِ مَن أَعَانَ عَلَى بَعْضِ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ وَوُجِدَتْ مِنْهُ إرَادَةٌ فِي بَعْضِ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ.

وَأَيْضًا فَالْمُرِيدُ إرَادَةً جَازِمَةً مَعَ فِعْلِ الْمَقْدُورِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِلِ الْكَامِلِ وَإِن لَمْ يَكُن إمَامًا وَدَاعِيًا كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 95، 96].

فَاللهُ تَعَالَى نَفَى الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُجَاهِدِ وَالْقَاعِدِ الَّذِي لَيْسَ بِعَاجِزِ، وَلَمْ يَنْفِ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُجَاهِدِ وَبَيْنَ الْقَاعِدِ الْعَاجِزِ.

بَل يُقَالُ: دَلِيلُ الْخِطَابِ يَقْتَضِي مُسَاوَاتَهُ إيَّاهُ، وَلَفْظُ الْآيَةِ صَرِيحٌ. اسْتَثْنَى أُولُو الضَّرَرِ مِن نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ؛ فَالِاسْتِثْنَاءُ هُنَا هُوَ مِن النَّفْيِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ أُولِي الضَّرَرِ قَد يُسَاوُونَ الْقَاعِدِينَ، وَإِن لَمْ يُسَاوُوهُم فِي الْجَمِيعِ.

وَبِهَذَا تَبَيَّنَ: أَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي بِهَا التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْهَامِّ وَالْعَامِلِ وَأَمْثَالِهَا إنَّمَا هِيَ فِيمَا دُونَ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ الَّتِي لَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا الْفِعْلُ، كَمَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن أَبِي رَجَاءٍ العطاردي عَن ابْنِ عَبَّاسٍ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِي عَن رَبِّهِ تبارك وتعالى أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ اللهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ؛ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ: فَمَن هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً.

فَإنْ هَمَّ بِهَا وَعَمِلَهَا كتبهَا اللهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ.

وَمَن هَمَّ بِسَيَئةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتبَهَا لَهُ اللهُ لَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً.

فَإنْ هَمَّ بِهَا وَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ لَهُ عِنْدَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً".

فَهَذَا التَّقْسِيمُ هُوَ فِي رَجُلٍ يُمْكِنُهُ الْفِعْل؛ وَلهَذَا قَالَ: "فَعَمِلَهَا" "فَلَمْ

ص: 595

يَعْمَلْهَا"، وَمَن أَمْكنَهُ الْفِعْلُ فَلَمْ يَفْعَلْ لَمْ تَكُنْ إرَادَتُهُ جَازِمَةٍ؛ فَإِنَّ الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ مَعَ الْقُدْرَةِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْفِعْلِ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ كَافٍ فِي وُجُودِ الْفِعْلِ وَمُوجِبٌ لَهُ؛ إذ لَو تَوَقَّفَ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ لَمْ تَكُنْ الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ تَامَّةً كَافِيَةً فِي وُجُودِ الْفِعْلِ، وَمِن الْمَعْلُومِ الْمَحْسُوسِ أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَلَا ريبَ أَنَّ "الْهَمَّ" و"الْعَزْمَ" و"الْإِرَادَةَ" وَنَحْو ذَلِكَ قَد يَكُونُ جَازِمًا لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ الْفِعْلُ إلَّا لِلْعَجْزِ، وَقَد لَا يَكُونُ هَذَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِن الْجَزْمِ.

فَهَذَا "الْقِسْمُ الثَّانِي" يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ الْمُرِيدِ وَالْفَاعِلِ؛ بَل يُفَرَّقُ بَيْنَ إرَادَةٍ وَإِرَادَةٍ، إذ الْإِرَادَةُ هِيَ عَمَلُ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ مَلِكُ الْجَسَدِ.

فَإِذَا هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَانَ قَد أَتَى بِحَسَنَةٍ وَهِيَ الْهَمُّ بِالْحَسَنَةِ فَتُكْتَبُ لَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً فَإِنَّ ذَلِكَ طَاعَةٌ وَخَيْرٌ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي عُرْفِ النَّاسِ كَمَا قِيلَ:

لَأَشْكرَنَّكَ مَعْرُوفًا هَمَمْت بِهِ

إنَّ اهْتِمَامَك بِالْمَعْرُوفِ مَعْرُوفُ

فَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ؛ لِمَا مَضَى رَحْمَتَهُ أَنَّ مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إلَى سَبْعمِائَةِ ضعْفٍ.

وَأَمَا الْهَامُّ بِالسَّيِّئَةَ الَّذِي لَمْ يَعْمَلْهَا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا فَإِنَّ اللهَ لَا يَكْتُبُهَا عَلَيْهِ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.

وَسَوَاءٌ سُمِّيَ هَمُّهُ إرَادَةً أَو عَزْمًا أَو لَمْ يُسَمَّ، مَتَى كَانَ قَادِرًا عَلَى الْفِعْلِ وَهَمَّ بِهِ وَعَزَمَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَفْعَلْهُ مَعَ الْقُدْرَةِ فَلَيْسَتْ إرَادَتُهُ جَازِمَةً، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"إنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَكَلَّمْ بِهِ أَو تَعْمَلَ بِهِ"

(1)

، فَإِنَّ مَا هَمَّ بِهِ الْعَبْدُ مِن الْأُمُورِ الَّتِي يَقْدِرُ عَلَيْهَا مِن الْكَلَامِ وَالْعَمَلِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهَا وَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ

(1)

رواه البخاري (6664)، ومسلم (127).

ص: 596

تَكُنْ إرَادَتُهُ لَهَا جَازِمَةً، فَتِلْكَ مِمَّا لَمْ يَكْتُبْهَا اللهُ عَلَيْهِ كَمَا شَهِدَ بِهِ قَوْلُهُ:"مَن هَمَّ بِسَيئةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا".

وَمَن حَكَى الْإِجْمَاعَ كَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فَهُوَ صَحِيحٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.

وَهَذَا الْهَامُّ بِالسَّيِّئَةِ: فَإِمَّا أَنْ يَتْرُكَهَا لِخَشْيَةِ اللهِ وَخَوْفِهِ أَو يَتْرُكَهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ:

فَإِنْ تَرَكَهَا لِخَشْيَةِ اللهِ كَتَبَهَا اللهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةٌ كَامِلَةً.

وَأَمَّا إنْ تَرَكَهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ سَيِّئَةً.

وَبِهَذَا تَتَّفِقُ مَعَانِي الْأَحَادِيثِ.

وَإِن عَمِلَهَا لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ إلا سَيِّئَةً وَاحِدَةً، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُضَعِّفُ السَّيِّئَاتِ بِغَيْرِ عَمَلِ صَاحِبِهَا وَلَا يَجْزِي الْإِنْسَانَ فِي الْآخِرَةِ إلَّا بِمَا عَمِلَتْ نَفْسُهُ.

وَأَمَّا أَئِمَّةُ الضَّلَالِ -الَّذِينَ عَلَيْهِم أَوْزَارُ مَن أَضَلُّوهُ- وَنَحْوَهُم فَقَد بَيَّنَّا أَنَّهُم إنَّمَا عُوقِبُوا لِوُجُودِ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِن الْفِعْلِ؛ بِقَولِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي كَبْشَةَ "فَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ"

(1)

، وَقَوْلُهُ:"مَنْ دَعَا إلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِن الوِزْرِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَن تَبِعَهُ"

(2)

.

فَإِذَا وُجِدَت الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ وَالتَّمَكُّنُ مِن الْفِعْلِ صَارُوا بِمَنْزِلَةِ الْفَاعِلِ التَّامِّ وَالْهَامُّ بِالسَّيِّئَةِ الَّتِي لَمْ يَعْمَلْهَا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا لَمْ تُوجَدْ مِنْهُ إرَادَةٌ جَازِمَةٌ، وَفَاعِلُ السَّيِّئَةِ الَّتِي تَمْضِي لَا يُجْزَى بِهَا إلَّا سَيِّئَةً وَاحِدَةً، كَمَا شَهِدَ بِهِ النَّصُّ وَبِهَذَا يَظْهَرُ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ حَيْثُ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد:"الْهَمُّ" هَمَّانِ: هَمُّ خَطِرَاتٍ وَهَمُّ إصْرَارٍ.

(1)

رواه مسلم (673)، وابن حبان (2127).

(2)

رواه مسلم (2674)، وأبو داود (4609).

ص: 597

فَهَمُّ الْخَطِرَاتِ يَكُونُ مِن الْقَادِرِ، فَإِنَّهُ لَو كَانَ هَمُّهُ إصْرَارًا جَازِمًا وَهُوَ قَادِرٌ: لَوَقَعَ الْفِعْلُ

(1)

.

وَمِن هَذَا الْبَابِ هَمُّ "يُوسُفَ" حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24] الْآيَةُ، وَأَمَّا هَمُّ الْمَرْأَةِ الَّتِي رَاوَدَتْهُ فَقَد قِيلَ: إنَّهُ كَانَ هَمَّ إصْرَارٍ؛ لِأَنَّهَا فَعَلَتْ مَقْدُورَهَا.

وَكَذَلِكَ الْحَرِيصُ عَلَى السَّيِّئَاتِ الْجَازِمُ بِإِرَادَةِ فِعْلِهَا إذَا لَمْ يَمْنَعْهُ إلَّا مُجَوَّدُ الْعَجْزِ، فَهَذَا يُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةَ الْفَاعِلِ لِحَدِيثِ أَبِي كَبْشَةَ وَلمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:"إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ قِيلَ: هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبهِ"

(2)

وَفِي لَفْظٍ: "إنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ"

(3)

.

فَهَذِهِ "الْإِرَادَةُ" هِيَ الْحِرْصُ وَهِيَ الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ، وَقَد وُجِدَ مَعَهَا الْمَقْدُورُ وَهُوَ الْقِتَالُ، لَكِنْ عَجَزَ عَن الْقَتْلِ، وَلَيْسَ هَذَا مِن الْهَمِّ الَّذِي لَا يُكْتَبُ، وَلَا يُقَالُ إنَّهُ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ: لَو أَنَّ لِي مَا لِفُلَانِ لَعَمِلْت مِثْل مَا عَمِلَ، فَإِنَّ تَمَنِّي الْكَبَائِرِ لَيْسَ عُقُوبَتُهُ كَعُقُوبَةِ فَاعِلِهَا بِمُجَرَّدِ التَّكَلُّمِ؛ بَل لَا بُدَّ مِن أَمْرٍ آخَرَ، وَهُوَ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى كَلَامِهِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ أَنَّهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ.

وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: "إنّ الله تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ" لَا يُنَافِي الْعُقُوبَةَ عَلَى الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ الَّتِي لَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا الْفِعْلُ. فَإِنَّ "الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ" هِيَ الَّتِي يَقْتَرِنُ بِهَا الْمَقْدُورُ مِن الْفِعْلِ. وَإِلَّا فَمَتَى لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا الْمَقْدُورُ مِن الْفِعْلِ لَمْ تكنْ جَازِمَةً.

(1)

أي: من همّ بفعل ولم يفعله مع القدرة، فهو ليس بعازم ولا حريصٍ على الفعل، ولو كان عازمًا لفعل ما يهمّ به، إذا هو قادر على ذلك.

(2)

رواه البخاري (31)، ومسلم (2888).

(3)

وهذا اللفظ لمسلم.

ص: 598

فَلَا بُدَّ مَعَ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ مِن شَيْءٍ مِن مُقَدِّمَاتِ الْفِعْلِ الْمَقْدُورِ؛ بَل مُقَدِّمَاتُ الْفِعْلِ تُوجَدُ بِدُونِ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ عَلَيْهِ.

وَحَيْثُ تَرَكَ الْفِعْلَ الْمَقْدُورَ فَلَيْسَتْ جَازِمَةً.

وَمُجَرَّدُ الشَّهْوَةِ وَالتَّمَنِّي لَيْسَ إرَادَةً جَازِمَةً وَلَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْفِعْلِ فَلَا يُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُعَاقَبُ إذَا أَرَادَ إرَادَةً جَازِمَةً مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ.

فَتَفْرِيقُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ: بَيْنَ هَمِّ الْخَطِرَاتِ وَهَمِّ الْإِصْرَارِ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجَوَابُ.

فَمَن لَمْ يَمْنَعْهُ مِن الْفِعْلِ إلَّا الْعَجْزُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِن مُقَدِّمَاتِهِ، وَإِن فَعَلَهُ وَهُوَ عَازِمٌ عَلَى الْعَوْدِ مَتَى قَدَرَ فَهُوَ مُصِرٌّ.

وَبِهَذَا يَظْهَرُ مَا يَذْكُرُ عَن الْحَارِثِ المحاسبي أَنَّهُ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ النَّاوِيَ لِلْفِعْلِ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الْفَاعِلِ لَهُ، فَهَذَا الْإِجْمَاعُ صَحِيحٌ مَعَ الْقُدْرَةِ، فَإِنَّ النَّاوِيَ لِلْفِعْلِ الْقَادِرِ عَلَيْهِ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الْفَاعِلِ، وَأَمَا النَّاوِي الْجَازِمُ الْآتِي بِمَا يُمْكِنُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْفَاعِلِ التَّامِّ.

وَتَنَازَعُوا أَيْضًا هَل يَجِبُ وُجُودُ الْفِعْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ وَالدَّاعِي؟

الْأَظْهَرُ أَنَّ الْقُدْرَةَ مَعَ الدَّاعِي التَّمَامَ تَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمَقْدُورِ، وَالْإِرَادَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ تَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمُرَادِ.

والمتنازعون فِي هَذِهِ أَرَادَ أَحَدُهُم إثْبَاتَ الْعِقَابِ مُطْلَقًا عَلَى كُلِّ عَزْمٍ عَلَى فِعْلٍ مُسْتَقْبَلٍ وَإِن لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ فِعْلٌ.

وَأَرَادَ الْآخَرُ رَفْعَ الْعِقَابِ مُطْلَقًا عَن كُلِّ مَا فِي النَّفْسِ مِن الْإِرَادَاتِ الْجَازِمَةِ وَنَحْوِهَا، مَعَ ظَنِّ الِاثْنَيْنِ أَنَّ ذَلِكَ الْوَاحِدَ لَمْ يَظْهَرْ بِقَوْلِ وَلَا عَمَلٍ.

وَكُلُّ مِن هَذَيْنِ انْحِرَافٌ عَن الْوَسَطِ.

ص: 599

فَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا الْفِعْلُ مَعَ الْقُدْرَةِ إلَّا لِعَجْزٍ يَجْرِي صَاحِبُهَا مَجْرَى الْفَاعِلِ التَّامِّ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.

وَأَمَّا إذَا تَخَلَّفَ عَنْهَا مَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا فَذَلِكَ الْمُتَخَلِّفُ لَا يَكُونُ مُرَادًا إرَادَةً جَازِمَةً؛ بَل هُوَ الْهَمُّ الَّذِي وَقَعَ الْعَفْوُ عَنْهُ.

وَبِهِ ائْتَلَفَتْ النُّصُوصُ وَالْأُصُولُ

(1)

. [10/ 722 - 765]

570 -

مِن الْمَعْلُومِ أَنَّ مَعْرِفَةَ الشَّيْءِ الْمَحْبُوبِ تَقْتَضِي حُبَّهُ

(2)

، وَمَعْرِفَةَ الْمُعَظَّمِ تَقْتَضِي تَعْظِيمَهُ، وَمَعْرِفَةَ الْمُخَوَّفِ تَقْتَضِي خَوْفَهُ، فَنَفْسُ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقُ بِاللهِ وَمَا لَهُ مِن الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلَى يُوجِبُ مَحَبَّةَ الْقَلْبِ لَهُ وَتَعْظِيمَهُ وَخَشْيَتَهُ؛ وَذَلِكَ يُوجِبُ إرَادَةَ طَاعَتِهِ وَكَرَاهِيَةَ مَعْصِيَتِهِ.

وَالْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ: تَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمُرَادِ وَوُجُودَ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ منه.

فَالْعَبْدُ إذَا كَانَ مُرِيدًا لِلصَّلَاةِ إرَادَةً جَازِمَةً مَعَ قُدْرَيهِ عَلَيْهَا: صَلَّى، فَإِذَا لَمْ يُصَلِّ مَعَ الْقُدْرَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى ضَعْفِ الْإِرَادَةِ.

وَبِهَذَا يَزُولُ الِاشْتِبَاهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ.

فَإِنَّ النَّاسَ تَنَازَعُوا فِي الْإِرَادَةِ بِلَا عَمَلٍ: هَل يَحْصُلُ بِهَا عِقَابٌ؟.

وَالْفَصْلُ فِي ذَلِكَ أنْ يُقَالَ: فَرْقٌ بَيْنَ الْهَمِّ وَالْإِرَادَةِ:

فَالْهَمُّ: قَد لَا يَقْتَرِن بِهِ شَيْءٌ مِن الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ: فَهَذَا لَا عُقُوبَةَ فِيهِ بِحَال؛ بَل إنْ تَرَكَهُ للهِ كَمَا تَرَكَ يُوسُفُ هَمَّهُ أُثِيبَ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا أُثِيبَ

(1)

تحقيق بديعٌ لا يكاد يُوجد له نظير، والعجيب أنه حقَّقَ هذه المسألة المهمة، وحشا فيها النصوص الكثيرة، ووفق بين النصوص التي ظاهرها التعارض، وناقش أقوال العلماء واسْتدرك على بعضهم، ومع ذلك فليس عنده كتبٌ يستعين بها! فقد صرح بذلك بعد الانتهاء من بحثها في أكثر من أربعين صفحة: وَحِينَ كَتَبْتُ هَذَا الْجَوَابَ لَمْ يَكُن عِنْدِي مِن الْكُتُبِ مَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى الْجَوَابِ! (10/ 765).

(2)

فإذا ضعف حبُّ العبدَ لله، ولم يُقَدِّم حبه على محبة نفسه وهواه: دل على ضعف علمه بالله.

ص: 600

يُوسُفُ، وَلهَذَا قَالَ أَحْمَد: الْهَمُّ هَمَّانِ: هَمُّ خَطَرَاتٍ، وَهَمُّ إصْرَارٍ.

وَلهَذَا كَانَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَنَّ يُوسُفَ لَمْ يَكُن لَهُ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ ذَنَبٌ أَصْلًا؛ بَل صَرَفَ اللهُ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء.

وَأَمَّا الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ: فَلَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ فِعْلُ الْمَقْدُورِ، وَلَو بِنَظْرَة، أَو حَرَكَةِ رَأْسٍ، أَو لَفْظَةٍ، أَو خُطْوَةٍ، أَو تَحْرِيكِ بَدَنٍ.

وَبِهَذَا يَظْهَرُ مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ"

(1)

؛ فَإِنَّ الْمَقْتُولَ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ، فَعَمِلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِن الْقِتَالِ، وَعَجَزَ عَن حُصُولِ الْمُرَادِ.

وَكَذَلِكَ الَّذِي قَالَ: "لَو أَنَّ لِي مِثْل مَا لِفُلَان لَعَمِلْت فِيهِ مِثْل مَا يَعْمَلُ فُلَانٌ"

(2)

؛ فَإِنَّه أَرَادَ فِعْلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْكَلَامُ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى [غير]

(3)

ذَلِكَ.

وَلهَذَا كَانَ مَن دَعَا إلَى ضَلَالَةٍ: كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَن اتَّبَعَهُ مِن غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِن أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ ضَلَالَهُم فَفَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِن دُعَائِهِمْ؛ إذ لَا يَقْدِرُ إلا عَلَى ذَلِكَ.

وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فِي الْإِرَادَةِ وَالْعَمَلِ: فَالتَّصْدِيقُ الَّذِي فِي الْقَلْبِ وَعِلْمُهُ يَقْتَضِي عَمَلَ الْقَلْبِ.

(1)

رواه البخاري (31)، ومسلم (1680).

(2)

روى الإمام أحمد (18031) والترمذيُّ وصححه (2325) أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ، عَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ فِيهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَو أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْم لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلَا يَعْلَمُ للهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَم يَرْزُقْهُ اللهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَو أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ".

(3)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، ولا يستقيم المعنى إلا به.

ص: 601

فَلَا بُدَّ فِي الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ مِن تَصْدِيقٍ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَحُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ مَعَ الْبُغْضِ للهِ وَلرَسُولِهِ، وَمُعَادَاةِ اللهِ وَرَسُولِهِ لَيْسَ إيمَانًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ وَالْعِلْمِ يَسْتَلْزِمُ الْحُبَّ، إلَّا إذَا كَانَ الْقَلْبُ سَلِيمًا مِن الْمَعَارِضِ؛ كَالْحَسَدِ وَالْكِبْرِ؛ لِأنَّ النَّفْسَ مَفْطُورَةٌ عَلَى حُبِّ الْحَقِّ وَهُوَ الَّذِي يُلَائِمُهَا.

وَلَا شَيْءَ أَحَبُّ إلَى الْقُلُوب السَّلِيمَةِ مِن اللهِ، وَهَذَا هُوَ الْحَنِيفِيَّةُ مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ عليه السلام الَّذِي اتَّخَذَهُ اللهُ خَلِيلًا، وَقَد قَالَ تَعَالَى:{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} [الشعراء: 88، 89].

فَلَيْسَ مُجَرَّدُ الْعِلْمِ مُوجِبًا لِحُبِّ الْمَعْلُومِ، إنْ لَمْ يَكُن فِي النَّفْسِ قُوَّةٌ أُخْرَى تُلَائِمُ الْمَعْلُومَ، وَهَذِهِ الْقُوَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي النَّفْسِ.

وَكُلٌّ مِن الْقُوَّتَيْنِ تَقْوَى بِالْأُخْرَى؛ فَالْعِلْمُ يُقَوِّي الْعَمَلَ، وَالْعَمَلُ يُقَوِّي الْعِلْمَ

(1)

.

فَمَن عَرَفَ اللهَ وَقَلْبُهُ سَلِيمٌ: أَحَبَّهُ.

وَكُلَّمَا ازْدَادَ لَهُ مَعْرِفَةً: ازْدَادَ حُبُّهُ لَهُ.

وَكُلَّمَا ازْدَادَ حُبُّهُ لَهُ: ازْدَادَ ذِكْرُهُ لَهُ، وَمَعْرِفَتُهُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ؛ فَإِنَّ قُوَّةَ الْحُبِّ تُوجِبُ كَثْرَةَ ذِكْرِ الْمَحْبُوبِ؛ كَمَا أَنَّ الْبُغْضَ يُوجِبُ الْإِعْرَاضَ عَن ذِكْرِ الْمُبْغِضِ.

فَمَن عَادَى اللهَ وَرَسُولَهُ وَحَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ: كَانَ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا لِإِعْرَاضِهِ عَن

(1)

فكلما قوي علم العبد بالله وأسمائه وصفاته، وعرف قدرته وعظمته، وتفكر في آياته الكونية والشرعية بصدق وإخلاص: أثمر ذلك -ولا بدّ- قوةً عمليّة في القلب والبدن، فيقوى حبّه لله وتعلقه به، وخوفه منه، ورجاؤُه له، وسعى في البحث عما يُرضيه من الأقوال والأعمال ليقوم بها.

والعكس صحيح، فكلما قوي حبّ العبد لله وتعلقه به، وخوفه منه، ورجاؤه له، وعمل بما يُرضيه من الأقوال والأعمال: قوي علمه بالله وأسمائه وصفاته، ورسخ تصديقه بربه.

ص: 602

ذِكْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ بِالْخَيْرِ، وَعَن ذِكْرِ مَا يُوجِبُ الْمَحَبَّةَ، فَيَضْعُفُ عِلْمُهُ بِهِ حَتَّى قَد يَنْسَاهُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].

وَقَد يَحْصُلُ مَعَ ذَلِكَ تَصْدِيقٌ وَعِلْمٌ مَعَ بُغْضٍ وَمُعَادَاةٍ، لَكنْ تَصْدِيقٌ ضَعِيفٌ وَعِلْمٌ ضَعِيف، وَلَكِنْ لَوْلَا الْبُغْضُ وَالْمُعَادَاةُ لَأَوْجَبَ ذَلِكَ مِن مَحَبَّةِ اللهِ وَرَسُولِهِ مَا يَصِيرُ بِهِ مُؤْمِنًا.

فَمِن شَرْطِ الْإِيمَانِ

(1)

: وُجُودُ الْعِلْمِ التَّامِّ؛ وَلهَذَا كَانَ الصَّوَابُ أَنَّ الْجَهْلَ بِبَعْضِ أَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ لَا يَكُونُ صَاحِبُهُ كَافِرًا إذَا كَانَ مُقِرًّا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَبْلُغْهُ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمَا جَهِلَهُ عَلَى وَجْهٍ يَقْتَضِي كُفْرهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْهُ؛ كَحَدِيثِ الَّذِي أَمَرَ أَهْلَهُ بِتَحْرِيقِهِ ثُمَّ تَذْرِيتَهِ.

بَل الْعُلَمَاءُ بِاللهِ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْعِلْمِ بِهِ. [7/ 526 - 538]

* * *

(اللَّذَّة حَالٌ يَعْقُبُ إدْرَاكَ الْمُلائِمِ)

571 -

قَالَ كَثِيرٌ مِن النَّاسِ مِن الْفَلَاسِفَةِ وَالْأَطِبَّاءِ وَمَن اتَّبَعَهُمْ: إنَّ اللَّذَةَ إدْرَاكُ الْمُلَائِمِ.

وَهَذَا تَقْصِير مِنْهُمْ؛ بَل اللَّذَّةُ حَالٌ يَعْقُبُ إدْرَاكَ الْمُلَائِمِ؛ كَالْإِنْسَانِ الَّذِي يُحِبُّ الْحُلْوَ وَيَشْتَهِيهِ فَيُدْرِكُهُ بالذَّوْقِ وَالْأَكْلِ، فَلَيْسَت اللَّذَّة مُجَرَّدَ ذَوْقِهِ؛ بَل أَمْرٌ يَجِدُهُ مِن نَفْسِهِ يَحْصُلُ مَعَ الذَّوْقِ. [7/ 536]

572 -

مَن قَالَ: إنَّ اللَّذَةَ إدْرَاكُ الملائم كَمَا يَقُولُهُ مَن يَقُولُهُ مِن الْمُتَفَلْسِفَةِ

(1)

أي: الإيمان الكامل، وأما الْعِلْم الناقص فليس صاحبه مؤمنًا إيمانًا تامًّا؛ بل هو مسلم لا مؤمن.

ص: 603

وَالْأَطِبَّاءِ فَقَد غَلِطَ فِي ذَلِكَ غَلَطًا بَيِّنًا؛ فَإِنَّ الْإِدْرَاكَ يَتَوَسَّطُ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَاللَّذَّةِ

(1)

. [10/ 205]

* * *

(مَن لَمْ يَعْعَلْ بِعِلْمِهِ: فهو جاهل، والعامل بالعلم عالم)

573 -

يُوصَفُ مَن لَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ: بِالْجَهْلِ وَعَدَمِ الْعِلْمِ، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء: 17].

وَقَد قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أنَّ كُلَّ مَن خَشِيَ اللهَ فَهُوَ عَالِمٌ، وَهُوَ حَقٌّ.

وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ عَالِمٍ يَخْشَاهُ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْعِلْمُ بِهِ مُوجِبًا لِلْخَشْيَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُعَارِضِ: كَانَ عَدَمُهُ

(2)

دَلِيلًا عَلَى ضَعْفِ الْأَصْلِ، إذ لَو قَوِيَ لَدَفَعَ الْمُعَارِضَ.

وَهَكَذَا لَفْظُ الْعَقْلِ:

- يُرَادُ بِهِ الْغَرِيزَةُ الَّتِي بِهَا يَعْلَمُ.

- وَيُرَاد بِهَا أَنْوَاعٌ مِن الْعِلْمِ.

- وَيُرَادُ بِهِ الْعَمَلُ بِمُوجِبِ ذَلِكَ الْعِلْمِ.

وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْجَهْلِ:

- يُعَبَّرُ بِهِ عَن عَدَمِ الْعِلْمِ.

- وَيُعَبَّرُ بِهِ عَن عَدَمِ الْعَمَلِ بِمُوجِبِ الْعِلْمِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إذَا كَانَ

(1)

قال ابن القيم رحمه الله: أما اللذة ففسرت بأنها إدراك الملائم، كما أن الألم إدراك المنافي، قال شيخنا: والصواب أن يقال: إدراك الملائم سبب اللذة، وإدراك المنافي سبب الألم. اهـ.

روضة المحبين (155).

(2)

أي: عَدَمُ الْعِلْم بِالله.

ص: 604

أَحَدُكُمْ صَائِمًا فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ"

(1)

.

وَالْجَهْلُ هُنَا: هُوَ الْكَلَامُ الْبَاطِلُ، بِمَنْزِلَةِ الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ.

وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا

فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا

وَمِن هَذَا سُمِّيَت الْجَاهِلِيَّةُ جَاهِلِيَّةً، وَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ لِعَدَمِ الْعِلْمِ أَو لِعَدَمِ الْعَمَلِ بِهِ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي ذَرٍّ:"إنَّك امْرُؤٌ فِيك جَاهِلِيَّةٌ"

(2)

لَمَّا سَابَّ رَجُلًا وَعَيَّرَهُ بِأُمِّهِ.

وَقَد قَالَ تَعَالَى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح: 26].

فَإِنَّ الْغَضَبَ وَالْحَمِيَّةَ: تَحْمِلُ الْمَرْءَ عَلَى فِعْلِ مَا يَضُرُّهُ، وَتَرْكِ مَا يَنْفَعُهُ، وَهَذَا مِن الْجَهْلِ الَّذِي هُوَ عَمَل بِخِلَافِ الْعِلْمِ، حَتَّى يُقْدِمَ الْمَرْءُ عَلَى فِعْلِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَضُرُّهُ، وَتَرْكِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَنْفَعُهُ؛ لِمَا فِي نَفْسِهِ مِن الْبُغْضِ وَالْمُعَادَاةِ لِأَشْخَاص وَأَفْعَالٍ.

وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَيْسَ عَدِيمَ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ بِالْكُلِّيَّةِ، لَكِنَّهُ لِمَا فِي نَفْسِهِ مِن بُغْضٍ وَحَسَدٍ: غَلَبَ مُوجِبُ ذَلِكَ لِمُوجِبِ الْعِلْمِ فَدَلَّ عَلَى ضَعْفِ الْعِلْمِ لِعَدَمِ مُوجِبِهِ وَمُقْتَضَاهُ.

فَالْإِيمَانُ: لَا بُدَّ فِيهِ مِن هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ:

أ- التَّصدِيقِ بِالْحَقِّ.

ب- وَالْمَحَبَّةِ لَهُ.

فَهَذَا أَصْلُ الْقَوْلِ، وَهَذَا أَصلُ الْعَمَلِ.

(1)

رواه مسلم (1151).

(2)

رواه البخاري (30)، ومسلم (1661).

ص: 605

ثُمَّ الْحُبُّ التَّامُّ مَعَ الْقُدْرَةِ: يَسْتَلْزِمُ حَرَكَةَ الْبَدَنِ بِالْقَوْلِ الظَّاهِرِ، وَالْعَمَلِ الظَّاهِرِ ضَرُورَةٌ، فَمَن جَعَلَ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ مُوجِبًا لِجَمِيعِ مَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَكُلٍّ مَا سُمِّيَ إيمَانًا: فَقَد غَلِطَ؛ بَل لَا بُدَّ مِن الْعِلْمِ وَالْحُبِّ.

وَإِذَا قَامَ بِالْقَلْب التَّصْدِيقُ بِهِ وَالْمَحَبَّةُ لَهُ: لَزِمَ ضَرُورَةً أَنْ يَتَحَرَّكَ الْبَدَنُ بِمُوجِب ذَلِكَ مِن الْأَقوَالِ الظَّاهِرَةِ، وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ، فَمَا يَظْهَرُ عَلَى الْبَدَنِ مِن الْأَقوَالِ وَالْأَعْمَالِ هُوَ مُوجَبُ مَا فِي الْقَلْبِ وَلَازِمُهُ وَدَلِيلُهُ وَمَعْلُولُهُ، كَمَا أَنَّ مَا يَقُومُ بِالْبَدَنِ مِن الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ لَهُ أَيْضًا تَأْثِيرٌ فِيمَا فِي الْقَلْبِ.

فَكُلٌّ مِنْهُمَا يُؤَثِّرُ فِي الْآخَرِ، لَكِنَّ الْقَلْبَ هُوَ الْأَصْلُ، وَالْبَدَنَ فَرْعٌ لَهُ، وَالْفَرْعُ يُسْتَمَدُّ مِن أَصْلِهِ، وَالْأَصْلُ يَثْبُتُ وَيَقْوَى بِفَرْعِهِ؛ كَمَا فِي الشَّجَرَةِ الَّتِي يُضْرَبُ بِهَا الْمَثَلُ لِكَلِمَةِ الْإِيمَانِ، قَالَ تَعَالَى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 24] وَهِيَ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ، وَالشَّجَرَةُ كُلَّمَا قَوِيَ أَصْلُهَا وَعَرِقَ وَرُوِيَ قَوِيَتْ فَرْعُهَا، وَفُرُوعُهَا أَيْضًا إذَا اغْتَذَتْ بِالْمَطَرِ وَالرِّيحِ أَثَّرَ ذَلِكَ فِي أَصْلِهَا.

وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ، وَالْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ. [7/ 538 - 542]

* * *

(أَبُو طَالِبٍ إنَّمَا كَانَت مَحَبَّتُهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ لَا للهِ)

574 -

أَبُو طَالِب وَإِن كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ مُحَمَّدَا رَسُولُ اللهِ وَهُوَ مُحِبُّ لَهُ فَلَمْ تَكُنْ مَحَبَّتُهُ لَهُ لِمَحَبَّتِهِ للهِ؛ بَل كَانَ يُحِبُّهُ لِأَنَّهُ ابْنُ أَخِيهِ فَيُحِبُّهُ لِلْقَرَابَةِ، وَإِذَا أَحَبَّ ظُهُورَهُ فَلِمَا يَحْصُلُ لَهُ بِذَلِكَ مِن الشَّرَفِ وَالرِّئَاسَةِ، فَأَصْلُ مَحْبُوبِهِ هُوَ الرِّئَاسَةُ؛ فَلِهَذَا لَمَّا عَرَضَ عَلَيْهِ الشَّهَادَتَيْنِ عِنْدَ الْمَوْتِ رَأَى أَنَّ بِالْإِقْرَارِ بِهِمَا زَوَالَ دِينِهِ الَّذِي يُحِبُّهُ، فَكَانَ دِينُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِن ابْنِ أَخِيهِ، فَلَمْ يُقِرَّ بِهِمَا، فَلَو كَانَ يُحِبُّهُ لِأَنَّهُ رَسُولُ اللهِ كَمَا كَانَ يُحِبُّهُ أَبُو بَكْرٍ .. وَكَمَا كَانَ يُحِبُّهُ سَائِرُ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ كَعُمَر وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمْ لَنَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ قَطْعًا، فَكَانَ حُبُّهُ حُبًّا مَعَ اللهِ لَا

ص: 606

حُبًّا للهِ، وَلهَذَا لَمْ يَقْبَل اللهُ مَا فَعَلَهُ مِن نَصْرِ الرَّسُولِ وَمُؤَازَرَتهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْهُ للهِ، وَاللهُ لَا يَقْبَلُ مِن الْعَمَلِ إلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ، بِخِلَافِ الَّذِي فَعَلَ مَا فَعَلَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَّبهِ الْأَعْلَى.

وَهَذَا مِمَّا يُحَقِّق أَنَّ الْإِيمَانَ وَالتَّوْحِيدَ لَا بُدَّ فِيهِمَا مِن عَمَلِ الْقَلْبِ كحُبِّ الْقَلْبِ فَلَا بُدَّ مِن إخْلَاصِ الدِّينِ للهِ وَالدِّينُ لَا يَكُونُ دِينًا إلَّا بِعَمَل.

والْعِبَادَةُ أَصْلُهَا الْقَصْدُ وَالْإِرَادَةُ

(1)

. [10/ 273 - 274]

575 -

أَبُو طَالِبٍ إنَّمَا كَانَت مَحَبَّتُهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ، لَا للهِ، وَإِنَّمَا نَصَرَهُ وَذَبَّ عَنْهُ لِحَمِيَّةِ النَّسَبِ وَالْقَرَابَةِ؛ وَلهَذَا لَمْ يَتَقَبَّل اللهُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَإِلَّا فَلَو كَانَ ذَلِكَ عَن إيمَانٍ فِي الْقَلْبِ لَتَكَلَّمَ بِالشَّهَادَتَيْنِ ضَرُورَةً، وَالسَّبَبُ الَّذِي أَوْجَبَ نَصْرَهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم -وَهُوَ الْحَمِيَّةُ- هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ امْتِنَاعَهُ مِن الشَّهَادَتَيْنِ، بِخِلَافِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَنَحْوِهِ. [7/ 553 - 554]

* * *

(التَّفَاضُل فِي الْإِيمَانِ بِدُخُولِ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ فِيهِ يَكُون مِن وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ)

576 -

التَّفَاضُلُ فِي الْإِيمَانِ بِدُخُولِ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ فِيهِ يَكُونُ مِن وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ:

أَحَدُهَا: الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ؛ فَإِنَّ النَّاسَ يَتَفَاضَلُونَ فِيهَا وَتَزِيدُ وَتَنْقُصُ، وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى دُخُولِ الزِّيَادَةِ فِيهِ وَالنُّقْصَانِ، لَكِنْ نِزَاعُهُم فِي دُخُولِ ذَلِكَ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنَقْصِهِ: وَهُوَ زِيَادَةُ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ

(1)

أي: أن المقصود الأعظم من العبادة تصحيح القصد والإرادة، فالأعمال الظاهرة من صلاة وزكاة وأعمال صالحة إن لم يقترن بها صحة القصد والإرادة من حب لله تعالى، وخوفه والتوكل عليه: فهي عبادة ناقصةٌ، لا تُؤثر في العابد تأثيرًا كبيرًا في سلوكه وأخلاقه ودينه.

ص: 607

وَنَقْصِهَا؛ فَإِنَّهُ مِن الْمَعْلُومِ بِالذَّوْقِ الَّذِي يَجِدُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاضَلُونَ فِي حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَخَشْيَةِ اللهِ، وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالْإِخْلَاصِ لَهُ، وَفِي سَلَامَةِ الْقُلُوبِ مِن الرِّيَاءِ وَالْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالرَّحْمَةِ لِلْخَلْقِ، وَالنُّصْحِ لَهُمْ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِن الْأَخْلَاقِ الْإِيمَانِيَّةِ.

وَقَد قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165].

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ نَفْسَ التَّصْدِيقِ وَالْعِلْمِ فِي الْقَلْبِ يَتَفَاضَلُ بِاعْتِبَارِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ.

فَلَيْسَ تَصْدِيقُ مَن صَدَّقَ الرَّسُولَ مُجْمَلًا مِن غَيْرِ مَعْرِفَةٍ مِنْهُ بِتَفَاصِيلِ أَخْبَارِهِ: كَمَن عَرَفَ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَن اللهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْأُمَمِ وَصَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.

وَلَيْسَ مَن الْتَزَمَ طَاعَتَهُ مُجْمَلًا وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ تَفْصِيلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ

(1)

: كَمَن عَاشَ حَتَّى عَرَفَ ذَلِكَ مُفَصَّلًا وَأَطَاعَهُ فِيهِ.

الْوَجْهُ الرَّابعُ: أَنَّ نَفْسَ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ يَتَفَاضَلُ وَيَتَفَاوَتُ كَمَا يَتَفَاضَلُ سَائِرُ صِفَاتِ الْحَيِّ؛ مِن الْقُدْرَةِ، وَالْإِرَادَةِ، وَالسَّمْعِ، وَالْبَصَرِ، وَالْكَلَامِ.

الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ التَّفَاضلَ يَحْصُلُ مِن هَذِهِ الْأُمُورِ مِن جِهَةِ الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لَهَا، فَمَن كَانَ مُسْتَنَدُ تَصْدِيقُهُ وَمَحَبَّته أَدِلَّةً تُوجِبُ الْيَقِينَ، وَتُبَيِّنُ فَسَادَ الشُّبْهَةِ الْعَارِضَةِ: لَمْ يَكُن بِمَنْزِلَةِ مَن كَانَ تَصْدِيقُهُ لِأَسْبَابٍ دُونِ ذَلِكَ.

الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ التَّفَاضُلَ يَحْصُلُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ مِن جِهَةِ دَوَامِ ذَلِكَ وَثَبَاتِهِ وَذِكْرِهِ وَاسْتِحْضَارِهِ، كَمَا يَحْصُلُ الْبُغْضُ مِن جِهَةِ الْغَفْلَةِ عَنْهُ. [7/ 562 - 566]

* * *

(1)

ولو مات شهيدًا، فإن الذي عاش بعده وازداد إيمانًا وعلمًا وصلاحًا: أفضل وأعلا منزلة؛ فالأول شهيد والثاني صِدِّيق إن شاء الله تعالى.

ص: 608

‌(لماذا اختلفتْ أجوبة النبي عليه الصلاة والسلام في أركان الإسلام

؟)

577 -

أَوَّلُ مَا فِي الْحَدِيثِ

(1)

سُؤَالُهُ عَن الْإِسْلَامِ: فَأَجَابَهُ بِأَنَّ "الْإِسْلَامَ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلهَ إلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ

(2)

".

وَهَذِهِ الْخَمْسُ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: "بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكاةِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ مَن اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا"

(3)

.

وَهَذَا قَالَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أَنْ فَرَضَ اللهُ الْحَجَّ؛ فَلِهَذَا ذَكَرَ الْخَمْسَ.

وَأَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ لَا يُوجَدُ فِيهَا ذِكْرُ الْحَجِّ فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ: "آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ، أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللهِ وَحْدَهُ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصِيَامُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِن الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ"

(4)

.

ووَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ مِن خِيَارِ الْوَفْدِ الَّذِينَ وَفَدُوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقُدُومُهُم عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَبْلَ فَرْضِ الْحَجِّ، وَقَد قِيلَ: قَدِمُوا سَنَةَ الْوُفُودِ سَنَةَ تِسْعٍ.

وَالصَّوَابُ: أَنَّهُم قَدِمُوا قَبْلَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُم قَالُوا إنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَك هَذَا الْحَيّ مِن كُفَّارِ مُضَرَ -يَعْنُونَ أَهْلَ نَجْدٍ- وَإِنَّا لَا نَصِلُ إلَيْك إلَّا فِي شَهْرٍ حَرَامٍ، وَسَنَة تِسْعٍ كَانَت الْعَرَبُ قَد ذَلَّتْ وَتَرَكَت الْحَرْبَ.

وَقَد جَاءَ ذِكْرُ الصَّلَاةِ وَالصّيَام فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ قوقل، رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(5)

عَن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَرَأَيْت إذَا صَلَّيْت الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ وَصُمْت رَمَضَانَ وَأَحْلَلْت الْحَلَالَ وَحَرَّمْت الْحَرَامَ

(1)

أي: حديث عمر.

(2)

رواه مسلم (8).

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

رواه البخاري (7556).

(5)

(15).

ص: 609

وَلَمْ أَزِدْ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا أَدْخلُ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ: وَاللهِ لَا أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا.

فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ ذَكَرَ بَعْضَ الْأَرْكَانِ دُونَ بَعْضٍ أَشْكَلَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ: فَأَجَابَ بَعْضُ النَّاسِ بِأَنَّ سَبَبَ هَذَا أَنَّ الرُّوَاةَ اخْتَصَرَ بَعْضُهُم الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذَا طَعْنٌ فِي الرُّوَاةِ، وَنِسْبَةٌ لَهُم إلَى الْكَذِبِ؛ إذ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ إنَّمَا يَقَعُ فِي الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ؛ مِثْلُ حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ حَيْثُ ذَكَرَ بَعْضُهُم الصِّيَامَ وَبَعْضُهُم لَمْ يَذْكُرْهُ، وَحَدِيث ضِمَامٍ حَيْثُ ذَكَرَ بَعْضُهُم الْخُمسَ وَبَعْضُهُم لَمْ يَذْكُرْهُ، وَحَدِيث النُّعْمَانِ بْنِ قَوقَل حَيْثُ ذَكَرَ بَعْضُهُم فِيهِ الصِّيَامَ وَبَعْضهُم لَمْ يَذْكُرْهُ، فَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ أَحَدَ الرَّاوِيَيْنِ اخْتَصَرَ الْبَعْضَ أَو غَلِطَ فِي الزِّيَادَة.

فَأَمَّا الْحَدِيثَانِ الْمُنْفَصِلَانِ: فَلَيْسَ الْأَمْرُ فِيهِمَا كَذَلِكَ، لَا سِيَّمَا وَالْأَحَادِيثُ قَد تَوَاتَرَتْ بِكَوْنِ الْأَجْوِبَةِ كَانَت مُخْتَلِفَةً.

وَلَكِنْ عَن هَذَا جَوَابَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَجَابَ بِحَسَبِ نُزُولِ الْفَرَائِضِ، وَأَوَّلُ مَا فَرَضَ اللهُ الشَهَادَتَيْنِ، ثُمَّ الصَّلَاةَ؛ فَإِنَّهُ أَمَرَ بِالصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْوَحْيِ.

وَأُمِرُوا بِالزَّكَاةِ وَالْإِحْسَانِ فِي مَكَّةَ، وَلَكِنَّ فَرَائِضَ الزَّكَاةِ وَنُصُبَهَا إنَّمَا شُرِعَتْ بِالْمَدِينَةِ.

وَأَمَّا صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَهُوَ إنَّمَا فُرِضَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِن الْهِجْرَةِ، وَأَدْرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تِسْعَ رمضانات.

وَأَمَّا الْحَجُّ فَقَد تَنَازَعَ النَّاسُ فِي وُجُوبِهِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: فُرِضَ سَنَةَ سِتٍّ مِن الْهِجْرَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ.

وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: إنَّمَا وَجَبَ الْحَجُّ مُتَأَخِّرًا:

قِيلَ: سَنَةَ تِسْعٍ.

ص: 610

وَقِيلَ سَنَةَ عَشْرٍ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.

وَلهَذَا لَمْ يُذْكَرْ وُجُوبُ الْحَجِّ فِي عَامَّةِ الْأَحَادِيثِ، وَإِنَّمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَأَخِّرَةِ.

الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ يَذْكُرُ فِي كُلِّ مَقَامٍ مَا يُنَاسِبُهُ:

- فَيَذْكُرُ تَارَةً الْفَرَائِضَ الظَّاهِرَةَ الَّتِي تُقَاتَلُ عَلَى تَرْكِهَا الطَّائِفَةُ الْمُمْتَنِعَةُ؛ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ.

- ويُذْكَرُ تَارَةً مَا يَجِبُ عَلَى السَّائِلِ، فَمَن أَجَابَهُ بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ: لَمْ يَكُن عَلَيْهِ زَكَاةٌ يُؤَدِّيهَا، وَمَن أَجَابَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ:

- فَإِمَّا أَنْ يَكونَ قَبْلَ فَرْضِ الْحَجِّ، وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي مِثْل حَدِيثِ عَبْدِ الْقَيْسِ وَنَحْوِهِ.

- وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ السَّائِلُ مِمَن لَا حَجَّ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ: فَلَهُمَا شَأْنٌ لَيْسَ لِسَائِرِ الْفَرَائِضِ؛ وَلهَذَا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْقِتَالَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ بَاطِنٌ. [7/ 597 - 608]

* * *

(التَّحْقِيق: أَنَّ الْإِحْسَانَ يَتَنَاوَلُ الْإِخْلَاصَ وَغَيْرَهُ)

578 -

التَّحْقِيقُ: أَنَّ الْإِحْسَانَ يَتَنَاوَلُ الْأِخْلَاصَ وَغَيْرَهُ، وَالْإِحْسَانُ يَجْمَعُ كَمَالَ الْإِخْلَاصِ للهِ، وَيَجْمَعُ الْإِتْيَانَ بِالْفِعْلِ الْحَسَنِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللهُ، قَالَ تَعَالَى:{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)} [البقرة: 112]. [7/ 622]

* * *

ص: 611

‌(أَصْلُ دِينِ الْيَهُودِ الْكِبْر وأَصْلُ دِينِ النَّصَارَى الْإِشْرَاك، وهل كان فرعون موسى ويوسف منكرين لله تعالى

؟)

579 -

لَمَّا كَانَ أَصْلُ دِينِ الْيَهُودِ الْكِبْرَ عَاقَبَهُم بِالذِّلَّةِ {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} [آل عمران: 112]، وَلَمَّا كَانَ أَصْلُ دِينِ النَّصَارَى الْإِشْرَاكَ لِتَعْدِيدِ الطُّرُقِ إلَى اللهِ أَضَلَّهُم عَنْهُ.

فَعُوقِبَ كُلٌّ مِن الْأُمَّتَيْنِ عَلَى مَا اجْتَرَمَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصّلت: 46].

وَقَد وَصَفَ بَعْضَ الْيَهُودِ

(1)

بِالشِّرْكِ فِي قَوْلِهِ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30] .. فَفِي الْيَهُودِ مَن عَبَدَ الْأَصْنَامَ وَعَبَدَ الْبَشَرَ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْتَكْبِرَ عَن الْحَقِّ يُبْتَلَى بِالِانْقِيَادِ لِلْبَاطِلِ

(2)

، فَيَكُونُ الْمُسْتَكْبِرُ مُشْرِكًا، كَمَا ذَكَرَ اللهُ عَن فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ أَنَّهُم كَانُوا مَعَ اسْتِكْبَارِهمْ وَجُحُودِهِمْ مُشْرِكِينَ، فَقَالَ عَن مُؤْمِنِ آلَ فِوْعَوْنَ:{وَيَاقَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42)} [غافر: 41، 42].

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ قَوْمُ فِرْعَوْنَ مُشْرِكِينَ؛ وَقَد أَخْبَرَ اللهُ عَن فِرْعَوْنَ أَنَّهُ جَحَدَ الْخَالِقَ فَقَالَ: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، وَقَالَ:{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24].

وَالْإِشْرَاكُ لَا يَكُونُ إلَّا مِن مُقِرٍّ بِاللهِ، وَإِلَّا فَالْجَاحِدُ لَهُ لَمْ يُشْرِكْ بِهِ.

قِيلَ: لَمْ يَذْكُر اللهُ جُحُودَ الصَّانِعِ إلَّا عَن فِرْعَوْنَ مُوسَى، وَأَمَّا الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ يُوسُفَ فَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُم كَانُوا مُقِرِّينَ بِاللهِ، وَهُم مُشْرِكُونَ بِهِ؛

(1)

وليس كلّهم.

(2)

وهذا أمرٌ لا بُدّ منه، فتمسك بالحق واقْبَلْه واعمل به لئلا تُبتلى بالباطل الذي يصرفك عن الحق الذي فيه نجاتك ورفعتك في الدنيا والآخرة.

ص: 612

وَلهَذَا كَانَ خِطَابٌ يُوسُفَ لِلْمَلِكِ وَللْعَزِيزِ وَلَهُمْ: يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارُ بِوُجُودِ الصَّانِعِ؛ كَقَوْلِهِ: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39] .. وَقَد قَالَ مُؤْمِنُ آلِ -حم- {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} [غافر: 34]، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ بُعِثَ إلَيْهِم يُوسُفُ كَانُوا يُقِرُّونَ بِاللهِ.

وَلهَذَا كَانَ إخْوَةُ يُوسُفَ يُخَاطِبُونَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفُوا أَنَّهُ يُوسُفُ وَيَظُنُّونَهُ مِن آلَ فِرْعَوْنَ بِخِطَابٍ يَقْتَضِي الْإِقْرَارَ بِالصَّانِعِ كَقَوْلِهِمْ: {تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} [يوسف: 73]، وَقَالَ لَهُم:{أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} [يوسف: 77].

فَإِنَّ جُحُودَ الصَّانِعِ لَمْ يَكُن دِينًا غَالِبًا عَلَى أُمَّةٍ مِن الْأُمَمِ قَطُّ، وَإِنَّمَا كَانَ دِينُ الْكُفَّارِ الْخَارِجِينَ عَن الرِّسَالَةِ هُوَ الْإِشْرَاك، وَإِنَّمَا كَانَ يَجْحَدُ الصَّانِعَ بَعْضُ النَّاسِ.

وَلَكِنَّ فِرْعَوْنَ مُوسَى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف: 54] وَهُوَ الَّذِي قَالَ لَهُم -دُونَ الْفَرَاعِنَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ-؛ {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، ثُمَّ قَالَ لَهُم بَعْدَ ذَلِكَ:{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25)} [النازعات: 24، 25] نَكَالَ الْكَلِمَةِ الْأُولَى، وَنَكَالَ الْكلِمَةِ الْأَخِيرَةِ.

وَكَانَ فِرْعَوْنُ فِي الْبَاطِنِ عَارِفًا بِوُجُودِ الصَّانِعِ، وَإِنَّمَا اسْتَكْبَرَ كإبليس وَأَنْكَرَ وُجُودَهُ؛ وَلهَذَا قَالَ لَهُ مُوسَى:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء: 102]، فَلَمَّا أَنْكَرَ الصَّانِعَ وَكَانَت لَهُ آلِهَةٌ يَعْبُدُهَا: بَقِيَ عَلَى عِبَادَتِهَا وَلَمْ يَصِفْهُ اللهُ تَعَالَى بِالشِّرْكِ، وَاِنَّمَا وَصَفَهُ بِجُحُودِ الصَّانِعِ وَعِبَادَةِ آلِهَةٍ أُخْرَى.

فَقَوْمُ فِرْعَوْنَ قَد يَكُونُونَ أَعْرَضُوا عَن اللهِ بِالْكُلِّيَّةِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ بِهِ، وَاسْتَجَابُوا لِفِرْعَوْنَ فِي قَوْلِهِ:{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} و {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ

ص: 613

غَيْرِي}؛ وَلهَذَا لَمَّا خَاطَبَهُم الْمُؤمِنُ ذَكَرَ الْأَمْرَيْنِ فَقَالَ: {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [غافر: 42]، فَذَكَرَ الْكُفْرَ بِهِ الَّذِي قَد يَتَنَاوَلُ جُحُودَهُ، وَذَكَرَ الْإِشْرَاكَ بِهِ أَيْضًا، فَكَانَ كَلَامُهُ مُتَنَاوِلًا لِلْمَقَالَتَيْنِ وَالْحَالَيْنِ جَمِيعًا. [7/ 628 - 633]

* * *

(مَعْلُومٌ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يُحِبُّونَ آلِهَتَهُمْ)

580 -

مَعْلُومٌ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَد يُحِبُّونَ آلِهَتَهُم كَمَا يُحِبُّونَ اللهَ أَو تَزِيدُ مَحَبَّتُهُم لَهُم عَلَى مَحَبَّتِهِمْ للهِ؛ وَلهَذَا يَشْتُمُونَ اللهَ إذَا شُتِمَتْ آلِهَتَهُمْ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]. [7/ 632 - 633]

* * *

(لَفْظُ الْإِسْلَامِ لَهُ مَعْنَيَانِ)

581 -

لَفْظُ الْإسْلَامِ لَهُ مَعْنيَانِ:

أَحَدُهُمَا: الدِّينُ الْمُشْتَرَكُ، وَهُوَ عِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، الَّذِي بُعِثَ بِهِ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ؛ كَمَا دَلَّ عَلَى اتِّحَادِ دِينِهِمْ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

وَالثَّانِي: مَا اخْتَصَّ بِهِ مُحَمَّدٌ مِن الدِّينِ وَالشِّرْعَةِ وَالْمِنْهَاجِ، وَهُوَ الشَّرِيعَةُ وَالطَّرِيقَةُ وَالْحَقِيقَةُ

(1)

. [7/ 636]

* * *

(الإيمان)

582 -

كل حديث فيه عن مؤمن أنه يدخل النار أو أنه لا يدخل الجنة فقد فسره الكتاب والسُّنة أنه عند انتفاء هذه الموانع.

(1)

إلى هنا انتهت الفوائد المنتقاة من كتاب الإيمان الأوسط.

ص: 614

وكذلك "نصوص الوعد" مشروطة بعدم الأسباب المانعة من دخول الجنة، وأعظمها أن يموت كافرًا.

ومنها: أن تكثر ذنوبه وظلمه فيؤخذ من حسناته حتى تذهب، ثم توضع عليه سيئات من ظلمهم.

ومنها: أن يعقب العمل ما يبطله: كالمن، والأذى، وترك صلاة العصر، قيل: تحبط عمل ذلك اليوم، وقيل: العمل كله، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة فبم أن يدع طعامه وشرابه"

(1)

.

فانتفى هذا الدخول المطلق وهو دخول الجنة بلا عذاب، فمن أتى بالكبائر لم يستحق هذا الدخول المطلق الذي لا عذاب قبله.

ومثل هذا قوله عليه الصلاة والسلام: "من غشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا"

(2)

فإنَّ الاسمَ المطلقَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه هو الإيمان الكامل المطلق الذي يستحقون به الثواب، ويدفع الله به عنهم العقاب؛ فمن غشهم لم يكن من هؤلاء؛ بل معه أصل الإيمان الذي يفارق به الكفار، ويخرجه من النار.

وإذا جاء: "من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن شرب الخمر"

(3)

ونحوه فهذا يعطي أن صاحب الإيمان مستحق للجنة، وأن الذنوب لا تمنعه ذلك، لكن قد يحصل له قبل الدخول نوع من العذاب؛ إما في الدنيا وإما في البرزخ وإما في العرصة وإما في النار.

وكذلك "نصوص الوعيد"؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة قاطع رحم". [المستدرك 1/ 124 - 125]

* * *

583 -

كل ذنب فيه حد لله في الدنيا أو وعيد في الآخرة مثل غضب الله

ولعنته والنار فهو من الكبائر. [المستدرك 1/ 126]

(1)

رواه البخاري (1903).

(2)

رواه مسلم (101).

(3)

رواه مسلم (26)، دون زيادة:"وإن زنى وإن شرب الخمر".

ص: 615

584 -

من تاب من ذنب فيما بينه وبين الله تعالى نرجو أن الله يتوب عليه.

وإن كان من مظالم العباد مثل: ظلم أبويه، فعليه أن يفعل معهم الحسنات بقدر ما فعل معهم

من السيئات حتى يقوم هذا بهذا. [المستدرك 1/ 16]

* * *

(لا يحبط جميع الأعمال إلا الكفر)

585 -

الذي يَنفي من الإحباط على أصول أهل السُّنَّة هو حبوط جميع الأعمال: فإنه لا يحبط جميعها إلا بالكفر، وأما الفسق فلا يحبط جميعها؛ سواء فسر بالكبيرة، أو برجحان السيئات؛ لأنه لا بد أن يثاب على إيمانه فلم يحبط.

وأما حبوط بعضها وبطلانه إما بما يفسده بعد فراغه وإما لسيئات يقوم عقابها بثوابه، فهذا حق دل عليه الكتاب والسُّنَّة كقوله:{لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264]؛ فأخبر أن المن والأذى يبطل الصدقة، كما أن الرياء المقترن بها

(1)

يبطلها

(2)

وإن كان كل منهما لا يبطل الإيمان؛ بل يبطله ورود الكفر عليه أو اقتران النفاق به.

وقوله في الحديث الصحيح: "مَن تَرَكَ صلَاةَ العَصْرِ فَقَدْ

(3)

حَبِطَ عَمَلُهُ". [المستدرك 1/ 127]

* * *

(الحذر من ترك العمل خوفًا من الرياء)

586 -

مَن كَانَ لَهُ وِرْدٌ مَشْرُوعٌ مِن صَلَاةِ الضُّحَى، أَو قِيَامِ لَيْلٍ، أَو غَيْرِ ذَلِكَ: فَإِنَّهُ يُصَلِّيهِ حَيْثُ كَانَ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَدَعَ وِرْدَهُ الْمَشْرُوعَ لِأَجْلِ كَوْنِهِ

(1)

أي: بالصدقة.

(2)

أي: يبطل الصدقة.

(3)

في الأصل: فقط، والتصويب من صحيح البخاري (553).

ص: 616

بَيْنَ النَّاسِ إذَا عَلِمَ اللهُ مِن قَلْبِهِ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ سِرًّا للهِ، مَعَ اجْتِهَادِهِ فِي سَلَامَتِهِ مِن الرِّيَاءِ وَمُفْسِدَاتِ الْإِخْلَاصِ؛ وَلهَذَا قَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ: تَرْكُ الْعَمَلِ لِأَجْلِ النَّاسِ رِياءٌ، وَالْعَمَلُ لِأَجْلِ النَّاسِ شِرْكٌ.

وَمَن نَهَى عَن أَمْرٍ مَشْرُوعٍ بِمُجَرَّدِ زَعْمِهِ أَنَّ ذَلِكَ رَياءٌ فَنَهْيُهُ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ مِن وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَعْمَالَ الْمَشْرُوعَةَ لَا يُنْهَى عَنْهَا خَوْفًا مِن الرِّيَاءِ؛ بَل يُؤْمَرُ بِهَا وَبِالْإِخْلَاصِ فِيهَا.

وَنَحْنُ إذَا رَأَيْنَا مَن يَفْعَلُهَا أَقْرَرْنَاهُ وَإِن جَزَمْنَا أَنَّهُ يَفْعَلُهَا رَياءً؛ فَالْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)} [النساء: 142]، فَهَؤُلَاءِ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ يُقِرُّونَهُم عَلَى مَا يُظْهِرُونَهُ مِن الدِّينِ وَإِن كَانُوا مُرَائِينَ وَلَا يَنْهَوْنَهُم عَن الظَّاهِرٍ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ فِي تَرْكِ إظْهَارِ الْمَشْرُوعِ أَعْظَمُ مِن الْفَسَادِ فِي إظْهَارِهِ رِياءً، كَمَا أنَّ فَسَادَ تَرْكِ إظْهَارِ الْإِيمَانِ وَالصَّلَوَاتِ أَعْظَمُ مِن الْفَسَادِ فِي إظْهَارِ ذَلِكَ رَياءً؛ وَلِأَنَّ الْإِنْكَارَ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْفَسَادِ فِي إظْهَارِ ذَلِكَ رِئَاءَ النَّاسِ. [23/ 174 - 176]

* * *

ص: 617

‌تزكية النفس

(حُكْم الْكُنى، والتلقّب بـ"عِزّ الْمِلَّةِ" وَ"الدِّينِ"، ونحوها)

587 -

كَانَت عَادَةُ السَّلَفِ الْأَسْمَاءَ وَالْكُنَى، فَإِذَا كَنَّوْهُ بِأَبِي فُلَانٍ: تَارَةً يُكَنُّونَ الرَّجُلَ بِوَلَدِهِ، كَمَا يُكَنُّونَ مَن لَا وَلَدَ لَهُ: إمَّا بِالْإِضَافَةِ إلَى اسْمِهِ، أَو اسْمِ أَبِيهِ، أَو ابْنِ سَمِيِّهِ، أَو بِأَمْر لَهُ تَعَلُّقٌ بِه.

وَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ.

ثُمَّ بَعْدَ هَذَا أَحْدَثُوا الْإِضَافَةَ إلَى: "الدِّينِ"، وَتَوَسَّعُوا فِي هَذَا، وَلَا ريبَ أَنَّ الَّذِي يَصْلُحُ مَعَ الْإِمْكَانِ: هُوَ مَا كَانَ السَّلَفُ يَعْتَادُونَهُ مِنَ الْمُخَاطِبَاتِ وَالْكِنَايَاتِ، فَمَن أَمْكَنَهُ ذَلِكَ فَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ إنِ اضْطُرَّ إلَى الْمُخَاطَبَةِ، لَا سِيَّمَا وَقَد نُهي عَنِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي فِيهَا تَزْكِيَةٌ، كَمَا غَيَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَرَّةَ فَسَمَّاهَا زيْنَبَ؛ لِئَلَّا تُزَكِّيَ نَفْسَهَا، وَالْكِنَايَةُ عَنْهُ بِهَذِهِ الأَسْمَاءِ الْمُحْدَثَةِ خَوْفًا مِن تَوَلُّدِ شَرٍّ إذَا عَدَلَ عَنْهَا فَلْيَقْتَصِرْ عَلَى مِقْدَارِ الْحَاجَةِ، وَلُقِّبُوا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَلَمٌ مَحْضٌ لَا تُلْمَحُ فِيهِ الصِّفَةُ، بِمَنْزِلَةِ الْأَعْلَامِ الْمَنْقُولَةِ مِثْل أَسَدٍ وَكَلْبٍ وَثَوْرٍ.

وَلَا ريبَ أَنَّ هَذِهِ الْمُحْدَثَاتِ الَّتِي أَحْدَثَهَا الْأَعَاجِمُ وَصَارُوا يَزِيدُونَ فِيهَا فَيَقُولُونَ: "عِزُّ الْمِلَّةِ" وَ"الدِّينِ" وَ"عِزُّ الْمِلَّةِ وَالْحَقِّ وَالدِّينِ لا وَأَكْثَرُ مَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْكَذِبِ الْمُبِينِ، بِحَيْثُ يَكُونُ الْمَنْعُوتُ بِذَلِكَ أَحَقَّ بِضِدِّ ذَلِكَ الْوَصْفِ، وَاَلَّذِينَ يَقْصِدُونَ هَذِهِ الْأُمُورَ فَخْرًا وَخُيَلَاءَ يُعَاقِبُهُم اللهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِمْ فَيُذِلُّهُم وَيُسَلِّطُ عَلَيْهِم عَدُوَّهُمْ. [26/ 311 - 312]

* * *

ص: 618

(كل مؤمن مسلم ولا عكس)

588 -

الذي عليه جمهور سلف المسلمين: أن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنًا.

فالمؤمن أفضل من المسلم قال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14].

ومن كان عالمًا بما أمر الله تعالى به وما نهى عنه فهو عالم بالشريعة، ومن لم يكن عالمًا بذلك فهو جاهل من أجهل الناس. [المستدرك 1/ 128]

589 -

قوله: "لا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان"

(1)

نفى به الدخول المطلق الذي توعد به في القرآن توعدًا مطلقًا، وهو دخول الخلود فيها؛ وأنه لا يخرج منها بشفاعة ولا غيرها، مثل قوله:{لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15)} [الليل: 15]، وقوله:{سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].

فيقال: إن من في قلبه مثقال ذرة من إيمان يمنع من هذا الدخول المعروف، لا أنه لا يصيبه شيء من عذاب النار؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال:"أمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّدِينَ هُم أَهْلُهَا، فَإِنَّهُم لَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يَحْيَوْنَ، وَلَكِنْ نَاسٌ أَصَابَتْهُمُ النَّارُ بِدُنُوبِهِم فَأَمَاتَهُم إِمَاتَةً حَتَّى إِذَا كَانُوا فَحْمًا، أُذِنَ بِالشَّفَاعَةِ، فَجِيءَ بِهِم ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ، فَبُثُّوا عَلَى أَنْهَارِ الْجَنَّةِ"

(2)

.

وكذلك قوله: "لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر"

(3)

نفى الدخول المطلق المعروف وهو دخول المؤمنين الذين أعدت لهم الجنة كقوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} الآية [الزمر: 73]. وقوله: {يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)} [يس: 26، 27] وأمثال ذلك مما يُطلق فيه الدخول، والمراد الدخول

(1)

رواه أحمد (3913).

(2)

رواه مسلم (185).

(3)

رواه مسلم (91).

ص: 619

ابتداء من غير سبق عذاب في النار، بحيث لا يُفهم من ذلك أنهم يعذبون، فهذا الدخول لا يناله من في قلبه مثقال ذرة من كبر.

وأيضا فهذه الأحاديث مُبَيَّنٌ فيها سبب دخول الجنة من العمل الصالح، وسبب دخول النار كالكبر.

فإن وُجد في العبد أحدُ السببين فقط فهو من أهله، وإن وجدا فيه معًا استحق الجنة والنار.

فالذي معه كبر وإيمان: يستحق النار، فيعذب فيها حتى يزول الكبر من قلب.

فقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة"

(1)

حقٌّ، إذا أُريد به الدخول المطلق الكامل: أُريد بـ"المؤمن" الكامل المطلق.

وإذا أريد بالدخول مطلق الدخول: فقد يتناول الدخول بعد العذاب، فإنه يراد به مطلق المؤمن

(2)

، حتى يتناول الفاسق الذي في قلبه مثقال ذرة من إيمان؛ فإن هذا يدخل في مطلق المؤمن كقوله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] ولا يدخل في المؤمن المطلق؛ كقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} الآية [الأنفال: 2].

ومثل هذا كثير في الكتاب والسُّنَّة: ينتفي الاسم عن المسمى؛ تارة لنفي حقيقته وكماله، ويثبت له تارة لوجود أصله وبعضه؛ حتى يقال للعالم القاصر،

(1)

رواه الترمذي (3092)، والنسائي (2958)، والدارمي (1470)، وأحمد (594)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي.

(2)

مطلق الشيء: هو الحد الأدنى من الشيء، الذي يتحقق به وجوده، فلا يتصور وجوده من دونه، وأما الشيء المطلق: فهو وجوده الكامل؛ أي: الحد الأعلى من وجوده.

فمعنى مطلق الإيمان؛ أي: أصل الإيمان الذي ينجو صاحبه من الخلود في النار، ومعنى الإيمان المطلق: الإيمان الكامل، وهو أصل الإيمان، مُضافًا إليه الأعمال الواجبة والمستحبة، واجتناب المحرمات والمكروهات.

ص: 620

والصانع القاصر: هذا عالم وهذا صانع بالنسبة إلى من لا يعلم وإلى من لا يصنع، ويقال: هذا ليس بعالم ولا صانع لوجود نقصه وتقصيره.

ويقال للكامل: هو العالم والصانع، وهذا هو الشجاع، وأمثاله كثيرة من الأسماء والصفات: كالمؤمن، والكافر، والفاسق، والمنافق. [المستدرك 1/ 130 - 131]

* * *

(أَحْسَنُ الْحَسَنَاتِ هُوَ التَّوْحِيدُ)

590 -

تَظَاهَرَت الدَّلَائِلُ عَلَى أَنَّ أحْسَنَ الْحَسَنَاتِ هُوَ التَّوْحِيدُ، كَمَا أَنَّ أَسْوَأَ السَّيِّئَاتِ هُوَ الشِّرْكُ، وَهُوَ الذَّنْبُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللهُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، وَتِلْكَ الْحَسَنَةُ الَّتِي لَا بُدَّ مِن سَعَادَةِ صَاحِبِهَا، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ حَدِيثُ الْمُوجِبَتَيْنِ: مُوجِبَةُ السَّعَادَةِ وَمُوجِبَةُ الشَّقَاوَةِ، فَمَن مَاتَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَأَمَّا مَن مَاتَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ. [6/ 643]

* * *

(إذَا ازْدَحَمَتْ شعَبُ الْإِيمَانِ: قَدَّمَ مَا كَانَ أَزضَى للهِ وَهُوَ عَلَيْهِ أَقْدَرُ)

591 -

الْمَشْرُوعُ لِكلِّ إنْسَانٍ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِن الْخَيْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].

وَإِذَا ازْدَحَمَتْ شعَبُ الْإِيمَانِ: قَدَّمَ:

- مَا كَانَ أَرْضَى للهِ.

- وَهُوَ عَلَيْهِ أَقْدَرُ.

فَقَد يَكُونُ عَلَى الْمَفْضُولِ أقْدَرَ مِنْهُ عَلَى الْفَاضِلِ، وَيَحْصُلُ لَهُ أفْضَلُ مِمَّا يَحْصُلُ مِن الْفَاضِلِ؛ فَالْأفْضَل لِهَذَا أَنْ يَطْلُبَ مَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ، وَهُوَ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ، وَلَا يَطْلُبُ مَا هُوَ أَفْضَل مُطْلَقًا إذَا كَانَ مُتَعَذِّرًا فِي حَقِّهِ أَو مُتَعَسِّرًا يَفُوتُهُ

ص: 621

مَا هُوَ أَفْضَلُ لَهُ وَأَنْفَعُ؛ كَمَن يَقْرا الْقُرْآنَ بِاللَّيْل فَيَتَدَبَّرُهُ وينْتَفِعُ بِتِلَاوَتِهِ، وَالصَّلَاةُ تَثْقُلُ عَلَيْهِ، وَلَا يَنْتَفِعُ مِنْهَا بِعَمَل، أَو يَنْتَفِعُ بِالذَّكْرِ أعْظَمَ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِالْقِرَاءَةِ.

فَأَيُّ عَمَلٍ كَانَ لَهُ أَنْفَعَ وَللهِ أَطْوَعَ: أفْضَلُ فِي حَقِّهِ مِن تَكَلُّفِ عَمَلٍ لَا يَأْتِي بِهِ عَلَى وَجْهِهِ؛ بَل عَلَى وَجْهٍ نَاقِصٍ، وَيَفُوتُهُ بِهِ مَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ

(1)

. [7/ 651 - 652]

* * *

(قواعد مهمة في الزهد، وبيان الأخطاء فيه)

592 -

إِنَّ كَثِيرًا مِن الزُّهَّادِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَعْرَضُوا عَن فُضُولِهَا، وَلَمْ يُقْبِلُوا عَلَى مَا يحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَلَيْسَ مِثْلُ هَذَا الزُّهْدِ يَأْمُرُ اللهُ بِهِ وَرَسولُهُ؛ وَلهَذَا كَانَ فِي الْمُشْرِكِينَ زُهَّادٌ، وَفِي أَهْلِ الْكِتَابِ زُهَّادٌ، وَفِي أَهْلِ الْبِدَعِ زُهَّادٌ.

وَمِن النَّاسِ مَن يَزْهَدُ لِطَلَب الرَّاحَةِ مِن تَعَبِ الدُّنْيَا

(2)

، وَمِنْهُم مَن يَزْهَدُ لِمَسْألَةِ أَهْلِهَا وَالسَّلَامَةِ مِن أَذَاهُمْ

(3)

، وَمِنْهُم مَن يَزْهَدُ فِي الْمَالِ لِطَلَبِ الرَّاحَةِ، إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَنْوَاع الَّتِي لَا يَأْمُرُ اللهُ بِهَا وَلَا رَسُولُهُ، وَإِنَّمَا يَأْمُرُ اللهُ وَرَسُولُهُ أَنْ يَزْهَدَ فِيمَا لَا يُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ

(4)

، وَيَرْغَبَ فِيمَا يُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، فَيَكُونُ زهْدُهُ هُوَ الْإِعْرَاضَ عَمَّا لَا يَأْمُرُ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ أَمْرَ إيجَابٍ وَلَا أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ، سَوَاءٌ كَانَ مُحَرَّمًا أَمَرَ مَكْرُوهًا أَو مُبَاحًا مُسْتَوِيَ الطَّرَفَيْنِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ، وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ مُقْبِلًا عَلَى مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَإِلَّا فَتَرْكُ الْمَكْرُوهِ بِدُونِ فِعْلِ الْمَحْبُوبِ لَيْسَ بِمَطْلُوب

(5)

، وَإِنَّمَا الْمَطْلُوبُ بِالْمَقْصُودِ الْأَوَّلِ فِعْلُ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ.

(1)

قاعدة عظيمة النفع، يجب على المسلم أن يستحضرها في كلّ شؤونِه.

(2)

فليس مقصده الصحيح: الزهد، وإنما تذرع به واحتج به ليترك العمل والجد وطلب الرزق،

كما نسمع كثيرًا من أمثال هؤلاء من يقول حينما يُطالبون بالسعي في طلب الرزق: الدنيا فانية، وبعضهم يقول: ما كُتب لك سيأتيك، إلى غيرها من العبارات.

(3)

أي: يزهد في طلب المال لئلا يتأذى من سؤال المحتاج له، وأذى الفقراء ونحوهم.

(4)

من المكروهات والمحرمات، وأما المال الذي به قوام عيشه فليس هذا مما أُمر المؤمن أن يزهد به.

(5)

فلو ترك فضول المباحات من الأموال والمتاع ونحو ذلك: وجلس فارغًا: لم يكن محمودًا.

ص: 622

وَتَرْكُ الْمَكْرُوهِ مُتَعيِّنٌ كَذَلِكَ: بِهِ تَزْكُو النَّفْسُ؛ فَإِنَّ الْحَسَنَاتِ إذَا انْتَفَتْ عَنْهَا السَّيِّئَاتُ زَكَتْ، فَبِالزَّكَاةِ تَطِيبُ النَّفْسُ مِن الْخَبَائِثِ، وَتَعْظُمُ فِي الطَّاعَاتِ، كَمَا أَنَّ الزَّرْعَ إذَا أُزِيلَ عَنْهُ الدَّغَلُ زَكَا وَظَهَرَ وَعَظُمَ. [7/ 652 - 653]

* * *

(هل الْإِيمَانُ مَخْلُوقٌ أَو غَيْرُ مَخْلُوقٍ)

593 -

أَمَّا الْإِيمَانُ: هَل هُوَ مَخْلُوقٌ أَو غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ فَالْجَوَابُ: أنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ نَشَأَ النِّزَاعُ فِيهَا لَمَّا ظَهَرَتْ مِحْنَةُ الْجَهْمِيَّة فِي الْقُرْآنِ: هَل هُوَ مَخْلُوقٌ أَو غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ وَهِيَ مِحْنَةُ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِن عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَد جَرَتْ فِيهَا أُمُورٌ يَطُولُ وَصْفُهَا هُنَا، لَكِنْ لَمَّا ظَهَرَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَأَطْفَأَ اللهُ نَارَ الْجَهْمِيَّة الْمُعَطِّلَةِ: صَارَتْ طَائِفَة يَقُوُلونَ: إنَّ كَلَامَ اللهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ مَخْلُوقٌ، وَيُعَبِّرُونَ عَن ذَلِكَ بِاللَّفْظِ، فَصَارُوا يَقُولُونَ:

- أَلْفَاظُنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ.

- أَو تِلَاوَتُنَا.

- أَو قِرَاءَتُنَا مَخْلُوقَةٌ.

وَلَيْسَ مَقْصُودُهُم مُجَرَّدَ كَلَامِهِمْ وَحَرَكَاتِهِمْ؛ بَل يُدْخِلُونَ فِي كَلَامِهِمْ نَفْسَ كَلَامِ اللهِ الَّذِي نَقْرَأُ بِأَصْوَاتِنَا وَحَرَكَاتِنَا.

وَعَارَضَهُم طَائِفَةٌ أُخْرَى فَقَالُوا: أَلْفَاظُنَا بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ.

فَرَدَّ الْإِمَامُ أَحْمَد عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ وَقَالَ: مَن قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي، وَمَن قَالَ: غَيْرَ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ.

وَتَكَلَّمَ النَّاسُ حِينَئِذٍ فِي الْإِيمَانِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْإِيمَانُ مَخْلُوقٌ، وَأَدْرَجُوا فِي ذَلِكَ مَا تَكَلَّمَ اللهُ بِهِ مِن الْإِيمَانِ؛ مِثْل قَوْلِ لَا إلهَ إلَّا اللهُ، فَصَارَ مُقْتَضَى قَوْلِهِمْ: أَنَّ نَفْسَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مَخْلُوقَةٌ وَلَمْ يَتَكَلَّم اللهُ بِهَا.

فبَدَّعَ الْإِمَامُ أَحْمَد هَؤُلَاءِ.

ص: 623

وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهُ نَشَأَ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَةِ وَالْحَدِيثِ النِّزَاعُ فِي مَسْأَلَتَي: الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ؛ بِسَبَبِ أَلْفَاظٍ مُجْمَلَةٍ، وَمَعَانِي مُتَشَابِهَةٍ.

وَطَائِفَةٌ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ؛ كَالْبُخَارِيِّ صَاحِبِ الصَّحِيحِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي وَغَيْرِهِمَا قَالُوا:"الْإِيمَانُ مَخْلُوقٌ".

وَلَيْسَ مُرَادُهُم شَيْئًا مِن صِفَاتِ اللهِ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُم بِذَلِكَ أَفْعَالُ الْعِبَادِ، وَقَد اتَّفَقَ أئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ.

وَصَارَ بَعْضُ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ الْبُخَارِيَّ وَهَؤُلَاءِ خَالَفُوا أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ وَغَيْرَهُ مِن أَئِمَّةِ السُّنَّةِ، وَجَرَتْ لِلْبُخَارِيِّ مِحْنَةٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ.

وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ: فَالْوَاجِبُ أَنْ نُثْبِتَ مَا أَثْبَتَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَنَنْفِيَ مَا نَفَى الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.

وَاللَّفْظُ الْمُجْمَلُ الَّذِي لَمْ يَرِدْ فِي الْكتَابِ وَالسُّنَّةِ: لَا يُطْلَقُ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْمُرَادُ بِهِ؛ كَمَا إذَا قَالَ الْقَائِلُ: الرَّبُّ مُتَحَيِّزٌ أَو غَيْرُ مُتَحَيِّزٍ، أَو هُوَ فِي جِهَةِ أَو لَيْسَ فِي جِهَةٍ.

قِيلَ: هَذِهِ الْألْفَاظُ مُجْمَلَةٌ، لَمْ يَرِدْ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لَا نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا، وَلَمْ يَنْطِقْ أَحَدٌ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان بِإِثْبَاتِهَا وَلَا نَفْيِهَا:

- فَإِنْ كَانَ مُرَادُك بِقَوْلِك إنَّهُ يُحِيظ بِهِ شَيْءٌ مِن الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَيْسَ هُوَ بِقُدْرَتِهِ يَحْمِلُ الْعَرْشَ وَحَمَلَتَهُ، وَلَيْسَ هُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى الْكَبِيرُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَكْبَرُ مِن كُلِّ شَيْءٍ: فَلَيْسَ هُوَ مُتَحَيِّزًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.

- وَإِن كَانَ مُرَادُك أَنَّهُ بَائِن عَن مَخْلُوقَاتِهِ، عَالٍ عَلَيْهَا، فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ: فَهُوَ سُبْحَانَهُ بَائِن مِن خَلْقِهِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أئِمَّةُ السُّنَّةِ.

وَإِذَا قَالَ: الْإِيمَانُ مَخْلُوقٌ أَو غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟

قِيلَ لَهُ: مَا تُرِيدُ بِالْإِيمَانِ؟:

ص: 624

- أَتُرِيدُ بِهِ شَيْئًا مِن صِفَاتِ اللهِ وَكَلَامِهِ كَقَوْلِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، وَإيمَانُهُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ اسْمُهُ الْمُؤْمِنُ: فَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ.

- أَو تُرِيدُ شَيْئًا مِن أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَصِفَاتِهِمْ: فَالْعِبَادُ كُلُّهُم مَخْلُوقُونَ، وَجَمِيعُ أَفْعَالِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ مَخْلُوقَةٌ، وَلَا يَكُونُ لِلْعَبْدِ الْمُحْدَثِ الْمَخْلُوقِ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ، وَلَا يَقُولُ هَذَا مَن يَتَصَوَّرُ مَا يَقُولُ.

فَإِذَا حَصَلَ الِاسْتِفْسَارُ وَالتَّفْصِيلُ: ظَهَرَ الْهُدَى، وَبَانَ السَّبِيلُ.

وَقَد قِيلَ: أَكْثَرُ اخْتِلَافِ الْعُقَلَاءِ مِن جِهَةِ اشْتِرَاكِ الْأَسْمَاءِ وَأَمْثَالِهَا مِمَّا كَثُرَ فِيهِ تَنَازُعُ النَّاسِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ إذَا فُصِلَ فِيهَا الْخِطَابُ ظَهَرَ الْخَطَأُ مِن الصَّوَابِ. [7/ 655 - 664]

* * *

(حكم الفاسق)

594 -

النَّاسُ فِي الْفَاسِقِ مِن أَهْلِ الْمِلَّةِ مِثْل الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَالشَّارِبِ وَنَحْوِهِمْ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: طَرَفَيْنِ وَوَسَطٌ:

أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ: أَنَّهُ لَيْسَ بِمُؤمِن بِوَجْه مِن الْوُجُوهِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاسْمِ الْإِيمَانِ.

ثُمَّ مِن هَؤُلَاءِ مَن يَقُولُ: هُوَ كَافِرٌ؛ كَالْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ الْخَوَارجِ.

وَمِنْهُم مَن يَقُولُ: نُنْزِلُهُ مَنْزِلَةً بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ، وَهِيَ مَنْزِلَةُ الْفَاسِقِ، وَلَيْسَ هُوَ بِمُؤْمِن وَلَا كَافِرٍ، وَهُم الْمُعْتَزِلَةُ.

الطَّرَفُ الثَّانِي: قَوْلُ مَن يَقُولُ: إيمَانهُم بَاقٍ كَمَا كَانَ لَمْ يَنْقُصْ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ وَالِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ، وَهُوَ لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَإِنَّمَا نَقَصَتْ شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا قَوْلُ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَمَن سَلَكَ سَبِيلَهُمْ.

وَعِنْدَ هَذَا: فَالْقَوْلُ الْوَسَطُ الَّذِي هُوَ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: أَنَّهُم لَا

ص: 625

يُسْلَبُونَ الِاسْمَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَا يُعْطُونَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَنَقُولُ: هُوَ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ، أَو مُؤْمِنٌ عَاصٍ، أَو مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ، وَيُقَالُ: لَيْسَ بِمُؤْمِن حَقًّا، أَو لَيْسَ بِصَادِقِ الْإِيمَانِ.

وَكُلُّ كَلَامٍ أُطْلِقَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ مَا يُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنْهُ.

وَالْأَحْكَامُ:

- مِنْهَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى أَصْلِ الْإِيمَانِ فَقَطْ؛ كَجَوَازِ الْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ، وَكَالْمُوَالَاةِ، والموارثة، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

- وَمِنْهَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى أَصْلِهِ وَفَرْعِهِ؛ كَاسْتِحْقَاقِ الْحَمْدِ، وَالثَّوَابِ، وَغُفْرَانِ السَّيِّئَاتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

إذَا عَرَفْت هَذِهِ الْقَاعِدَةَ: فَاَلَّذِي فِي "الصَّحِيحِ"

(1)

قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ".

وَالزِّيَادَةُ الَّتِي رَوَاهَا أَبُو دَاوُد

(2)

وَالتِّرْمِذِي

(3)

-"إِذَا زَنَى الرَّجُلُ خَرَجَ مِنْهُ الْإِيْمَانُ كَانَ عَلَيْهِ كَالظُّلَّةِ، فَإِذَا انْقَطَعَ رَجَعَ إِلَيْهِ الْإِيمَانُ"-: صَحِيحَةٌ، وَهِيَ مُفَسِّرَةٌ لِلرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ .. ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ:"خَرَجَ مِنْهُ الْإِيمَانُ فَكَانَ فَوْقَ رَأْسِهِ كَالظُلَّةِ": دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يُفَارِقُهُ بِالْكُلِّيَّةِ؛ فَإِنَّ الظُّلَّةَ تُظَلِّلُ صَاحِبَهَا وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ وَمُرْتَبِطَةٌ بِهِ نَوْعَ ارْتِبَاطٍ.

فَإِنَّ عَامَّةَ عُلَمَاءِ السَّلَفِ يُقِرُّونَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ وَيُمِرُّونَهَا كَمَا جَاءَتْ، وَيَكْرَهُونَ أَنْ تُتَأَوَّلَ تَأْوِيلَاتٍ تُخْرِجُهَا عَن مَقْصُودِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَد نُقِلَ كَرَاهَةُ

(1)

البخاري (2475).

(2)

(4690).

(3)

(2625).

ص: 626

تَأْوِيلِ أَحَادِيثِ الْوَعِيدِ: عَن سُفْيَانَ، وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ رضي الله عنهم وَجَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِن الْعُلَمَاءِ، وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ مِثْل هَذَا الْحَدِيثِ لَا يُتَأَوَّلُ تَأْوِيلًا يُخْرِجُهُ عَن ظَاهِرِهِ الْمَقْصُودِ بِهِ، وَقَد تَأَوَّلَهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْوُهُ تَأْوِيلَاتٍ مُسْتَكْرَهَةً. [7/ 670 - 674]

* * *

(معنى حديث: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَن فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِن كِبْرٍ)

595 -

فِي "الصَّحِيحِ"

(1)

: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَن فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِن كِبْرٍ، وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ مَن فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِن إيمَانٍ" فَالْكِبْرُ الْمُبَايِنُ لِلْإِيمَانِ: لَا يَدْخُلُ صَاحِبُهُ الْجَنَّةَ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]، وَمِن هَذَا كِبْرُ إبْلِيسَ، وَكِبْرُ فِرْعَوْنَ وَغَيْرِهِمَا مِمَن كَانَ كِبْرُهُ فنَافِيًا لِلْإِيمَانِ، وَكَذَلِكَ كِبْرُ الْيَهُودِ وَاَلَّذِينَ أخْبَرَ اللهُ عَنْهُم بِقَوْلِهِ:{أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87].

وَالْكِبْرُ كُلُّهُ مُبَايِن لِلْإِيمَانِ الْوَاجِبِ، فَمَن فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِن كِبْرٍ لَا يَفْعَلُ مَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْهِ، وَيَتْرُكُ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ؛ بَل كِبْرُهُ يُوجِبُ لَهُ جَحْدَ الْحَقِّ وَاحْتِقَارَ الْخَلْقِ.

فَقَوْلُهُ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ": متَضَمِّن لِكَوْنِهِ لَيْسَ مِن أَهْلِهَا، وَلَا مُسْتَحِقًّا لَهَا، لَكِنْ إنْ تَابَ أَو كَانَت لَهُ حَسَنَاتٌ مَاحِيَةٌ لِذَنْبِهِ أَو ابْتَلَاهُ اللهُ بِمَصَائِبَ كَفَّرَ بِهَا خَطَايَاهُ وَنَحْو ذَلِكَ زَالَ ثَمَرَةُ هَذَا الْكِبْرِ الْمَانِعِ لَهُ مِن الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا، أَو غَفَرَ اللهُ لَهُ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ مِن ذَلِكَ الْكِبْرِ مِن نَفْسِهِ، فَلَا يَدْخُلُهَا وَمَعَهُ شَيْءٌ مِن الْكِبْرِ.

وَلهَذَا قَالَ مَن قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ: إنَّ الْمَنْفِيَّ هُوَ الدُّخُولُ

(1)

الشطر الأول رواه مسلم (91)، والشطر الثاني رواه الترمذي (1999)، وابن ماجه (59).

ص: 627

الْمُطْلَقُ الَّذِي لَا يَكُونُ مَعَهُ عَذَابٌ، لَا الدُّخُولُ الْمُقَيَّدُ الَّذِي يَحْصُلُ لِمَن دَخَلَ النَّارَ ثُمَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ؛ فَإِنَّهُ إذَا أُطْلِقَ فِي الْحَدِيثِ فُلَانٌ فِي الْجَنَّةِ أَو فُلَانٌ مِن أَهْلِ الْجَنَّةِ كَانَ الْمَفْهُومُ أَنَّهُ يَدْخلُ الْجَنَّةَ وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ.

فَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا: كَانَ مَعْنَاهُ: أَنَّ مَن كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِن كِبْرٍ لَيْسَ هُوَ مِن أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَلَا يَدْخُلُهَا بِلَا عَذَابٍ؛ بَل هُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعَذَابِ لِكِبْرِهِ، كَمَا يَسْتَحِقُّهَا غَيْرُهُ مِن أَهْلِ الْكَبَائِرِ. [7/ 677 - 678]

* * *

ص: 628

‌كِتَابُ الْقَدَر

‌(هل الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ حتى على الْمُمْتَنِع لِذَاتِهِ

؟)

596 -

أَخْبَرَ اللهُ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، وَالنَّاسُ فِي هَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

طَائِفَةٌ تَقُولُ: هَذَا عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُمْتَنِعُ لِذَاتِهِ مِن الْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، وَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْمَقْدُورِ، كَمَا قَالَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْهُم ابْن حَزْمٍ.

وَطَائِفَةٌ تَقُولُ: هَذَا عَامّ مَخْصُوصٌ يُخصُّ مِنْهُ الْمُمْتَنِعَ لِذَاتِهِ؛ فَإِنَّهُ وَإِن كَانَ شَيْئًا فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْمَقْدُورِ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ.

وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ.

وَالصَّوَابُ هُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ النُّظَّارِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُمْتَنِعَ لِذَاتِهِ لَيْسَ شَيْئًا أَلْبَتَّةَ، وَإِن كَانُوا مُتَنَازِعِينَ فِي الْمَعْدُومِ؛ فَإِنَّ الْمُمْتَنِعَ لِذَاتِهِ لَا يُمْكِنُ تَحَقُّقُهُ فِي الْخَارِجِ، وَلَا يَتَصَوَّرُهُ الذِّهْنُ ثَابِتًا فِي الْخَارجِ. [8/ 8]

* * *

‌(هل الْمَعْدُوم شَيْء

؟)

597 -

إنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءٍ فِي الْخَارجِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ الصَّوَابُ.

وَقَد يُطْلِقُونَ أَنَّ الشَّيْءَ هُوَ الْمَوْجُودُ، فَيُقَالُ عَلَى هَذَا: فَيَلْزَمُ أَلَّا يَكُونَ قَادِرًا إلَّا عَلَى مَوْجُودِ، وَمَا لَمْ لَخْلُقْهُ لَا يَكُونُ قَادِرًا عَلَيْهِ.

وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْبِدَعِ.

وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الشَّيْءَ اسْمٌ:

ص: 629

أ- لِمَا يُوجَدُ فِي الْأَعْيَانِ.

ب- وَلِمَا يُتَصَوَّرُ فِي الْأَذْهَانِ.

فَمَا قَدَّرَهُ اللهُ وَعَلِمَ أَنَّهُ سَيَكُونُ: هُوَ شَيْءٌ فِي التَّقْدِيرِ وَالْعِلْمِ وَالْكِتَابِ، وَإِن لَمْ يَكُن شَيْئًا فِي الْخَارِجِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82].

وَلَفْظُ الشَّيْءِ فِي الْآيَةِ: يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا، فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مَا وُجِدَ، وَكُلِّ مَا تَصَوَّرَهُ الذِّهْنُ مَوْجُودًا إنْ تُصُوِّرَ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا: قَدِيرٌ.

لَا يُسْتَثْنَى مِن ذَلِكَ شَيْءٌ، وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)} [القيامة: 4]. [8/ 9 - 10]

* * *

(مذاهب الناس في عِلَّةِ الْخَلْقِ وَحِكْمَتِهِ، والصواب في ذلك)

598 -

النَّاسُ لَمَّا تَكَلَّمُوا فِي عِلَّةِ الْخَلْقِ وَحِكْمَتِهِ: تَكَلَّمَ كُلُّ قَوْمٍ بِحَسَبِ عِلْمِهِمْ، فَأَصَابُوا وَجْهًا مِن الْحَقِّ، وَخَفِيَ عَلَيْهِم وُجُوهٌ أُخْرَى.

وَلِأَهْلِ الْكَلَامِ هُنَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِثَلَاثِ طَوَائِفَ مَشْهُورَةٍ، وَقَد وَافَقَ كُلَّ طَائِفَةٍ نَاسٌ مِن أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ:

الْقَوْلُ الْأوَّلُ: قَوْلُ مَن نَفَى الْحِكْمَةَ، وَقَالُوا: هَذَا يُفْضِي إلَى الْحَاجَةِ، فَقَالُوا: يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لَا لِحِكْمَة، فَاثْبَتُوا لَهُ الْقُدْرَةَ وَالْمَشِيئَةَ، وَأَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ.

وَهَذَا قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَمَن وَافَقَهُمْ؛ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَابْنِ الزَّاغُونِي والجُوَيْنِي والباجي وَنَحْوِهِمْ، وَهَذَا الْقَوْلُ فِي الْأَصْلِ قَوْلُ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ، وَمَن اتَّبَعَهُ مِن الْمُجْبِرَةِ، وَالْفَلَاسِفَةُ لَهُم قَوْلٌ أَبْعَدُ مِن هَذَا.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّهُ يَخْلُقُ وَيَأْمُرُ لِحِكْمَة تَعُودُ إلَى الْعِبَادِ، وَهُوَ نَفْعُهُم وَالْإِحْسَانُ إلَيْهِمْ، فَلَمْ يَخْلُقْ وَلَمْ يَأْمُرْ إلَّا لِذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ.

ص: 630

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَوْلُ مَن أَثْبَتَ حِكْمَةً تَعُودُ إلَى الرَّبِّ، لَكِنْ بِحَسَبِ عِلْمِهِ، فَقَالُوا: خَلَقَهُم لِيَعْبُدُوهُ وَيحْمَدُوهُ وَيُثْنُوا عَلَيْهِ وَيُمَجِّدُوهُ.

قَالُوا: وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56] هُوَ مَخْصُوصٌ بِمَن وَقَعَتْ مِنْهُ الْعِبَادَةُ.

قَالُوا: وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ مَن وُجِدَتْ مِنْهُ الْعِبَادَةُ، فَهُوَ مَخْلُوقٌ لَهَا، وَمَن لَمْ تُوجَدْ مِنْهُ فَلَيْسَ مَخْلُوقًا لَهَا.

قُلْت: قَوْلُ هَؤُلَاءِ الكَرَّامِيَة وَمَن وَافَقَهُم وَإِن كَانَ أَرْجَحَ مِن قَوْلِ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ فِيمَا أَثْبَتُوهُ مِن حِكْمَةِ اللهِ، وَقَوْلُهُم فِي تَفْسِيرِ الآيَةِ وَإِن وَافَقُوا فِيهِ بَعْضَ السَّلَفِ: فَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ وَلمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ

(1)

.

فَإِنَّ قَصْدَ الْعُمُومِ ظَاهِرٌ فِي الْآيَةِ وَبَيِّنٌ بَيَانًا لَا يَحْتَمِل النَّقِيضَ.

وَأَمَّا نفاة الْحِكْمَةِ؛ كَالْأَشْعَرِيّ وَأَتْبَاعِهِ؛ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ أَصْلُهُم أَنَّ اللهَ لَا يَخْلُقُ شَيْئًا لِشَيْء، فَلَمْ يَخْلُقْ أَحَدًا لَا لِعِبَادَةِ وَلَا لِغَيْرِهَا، وَعِنْدَهُم لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ لَامُ كَيْ، لَكِنْ قَد يَقُولُونَ فِي الْقُرْآنِ لَامُ الْعَاقِبَةِ؛ كَقَوْلِهِ:{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8].

فَهَذَا قَوْلُهُم وَهُوَ ضَعِيفٌ لِوُجُوه:

أَحَدُهَا: أَنَّ لَامَ الْعَاقِبَةِ الَّتِي لَمْ يُقْصَدْ فِيهَا الْفِعْلُ لِأَجْلِ الْعَاقِبَةِ إنَّمَا تَكُونُ مِن جَاهِلٍ أَو عَاجِزٍ.

فَالْجَاهِلُ؛ كَقَوْلِهِ: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} ، لَمْ يَعْلَمْ فِرْعَوْنُ بِهَذِهِ الْعَاقِبَةِ.

(1)

وقد ذكر الشيخ ستة أقوالٍ بين المذاهب والفرق في معناها، ورجح السادس فقال: والْقَوْلُ السَّادِسُ وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ: أَن اللهَ خَلَقَهُم لِعِبَادَتِهِ، وَهُوَ فِعْلُ مَا أُمِرُوا بِهِ. اهـ. (8/ 51)

ص: 631

وَالْعَاجِزُ كَقَوْلِهِمْ: لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ، فَإِنَّهُم يَعْلَمُونَ هَذِهِ الْعَاقِبَةَ، لَكِنَّهُم عَاجِزُونَ عَن دَفْعِهَا.

وَاللهُ تَعَالَى عَلِيمٌ قَدِيرٌ، فَلَا يُقَالُ: إنَّ فِعْلَهُ كَفِعْلِ الْجَاهِلِ الْعَاجِزِ.

الثَّانِي: أَنَّ اللهَ أَرَادَ هَذ الْغَايَةَ بالِاتِّفَاقِ؛ فَالْعِبَادَةُ الَّتِي خُلِقَ الْخَلْقُ لِأَجْلِهَا هِيَ مُرَادَةٌ لَهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَهُم يُسَلِّمُونَ أَنَّ اللهَ أرَادَهَا، وَحَيْثُ تَكُونُ اللَّامُ لِلْعَاقِبَةِ لَا يَكُونُ الْفَاعِلُ أَرَادَ الْعَاقِبَةَ، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: خَلَقَهُم وَأَرَادَ أَفْعَالَهُم وَأَرَادَ عِقَابَهُم عَلَيْهَا.

وَمِن هُنَا يَتَبَيَّنُ مَعْنَى الْآيَةِ: فَإِنَّ قَوْلَهُ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56] يُشْبِهُ قَوْلَهُ: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185]، وَقَوْلَهُ:{كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [الحج: 37].

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64] فَهُوَ لَمْ يُرْسِلْهُ إلا ليُطَاعَ، ثُمَّ قَد يُطَاعُ وَقَد يُعْصَى.

وَكَذَلِكَ مَا خَلَقَهُم إلَّا لِلْعِبَادَةِ، ثُمَّ قَد يَعْبُدُونَ وَقَد لَا يَعْبُدُونَ.

وَمِثْل هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ: يُبَيِّنُ أَنَّهُ فَعَلَ مَا فَعَلَ لِيُكَبِّرُوهُ، وَليَعْدِلُوا وَلَا يَظْلِمُوا، وَليَعْلَمُوا مَا هُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ، وَغَيْرِهِ مِمَّا أَمَرَ اللهُ بِهِ الْعِبَادَ وَأَحَبَّهُ لَهُم وَرَضِيَهُ مِنْهُمْ، وَفِيهِ سَعَادَتُهُم وَكَمَالُهُم وَصَلَاحُهُم وَفَلَاحُهُم إذَا فَعَلُوهُ.

ثُمَّ مِنْهُم مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ وَمِنْهُم مَن لَا يَفْعَلُهُ. [8/ 37 - 57]

* * *

(الإيمان بالقدر وكتابة الله له)

599 -

فِي حَدِيثِ الْحَكَمِ بْنِ سُفْيَانَ عَن ثَابِتٍ عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ قَبَضَ قَبْضَةً فَقَالَ: إلَى الْجَنَّةِ بِرَحْمَتِي، وَقَبَضَ

ص: 632

قَبْضَةً فَقَالَ: إلَى النَّارِ وَلَا أُبَالِي"

(1)

، وَهَذَا الْحَدِيثُ وَنَحْوُهُ فِيهِ فَصْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: الْقَدَرُ السَّابِقُ، وَهُوَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ عَلِمَ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِن أَهْلِ النَّارِ مِن قَبْلِ أَنْ يَعْمَلُوا الْأَعْمَالَ، وَهَذَا حَقٌّ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ؛ بَل قَد نَصَّ الْأئمَّةُ؛ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنَّ مَن جَحَدَ هَذَا فَقَدَ كَفَرَ؛ بَل يَجِبُ الْإِيمَانُ أَنَّ اللهَ عَلِمَ مَا سَيَكُون كُلّهُ قَبْلَ أَنْ يَكونَ، وَيَجِبُ الْإِيمَانُ بمَا أَخْبَرَ بِهِ مِن أَنَّهُ كَتَبَ ذَلِكَ وَأَخْبَرَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ؛ كَمَا فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ"

(2)

عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ اللهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ ألفَ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ".

وَفِي الصَّحِيحِ

(3)

أَنَّه قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَعُلِمَ أَهْل الْجَنَّةِ مَن أَهْلِ النَّارِ؟ فَقَالَ:"نَعَمْ"، فقِيلَ له: فَفِيمَ يَعْمَل الْعَامِلُونَ؟ قَالَ: "كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ".

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ اللهَ عَلِمَ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِن أَهْلِ النَّارِ، وَأَنَّهُ كَتَبَ ذَلِكَ، وَنَهَاهُم أَنْ يَتَّكِلُوا عَلَى هَذَا الْكِتَابِ وَيَدَعُوا الْعَمَلَ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُلْحِدُونَ.

وَقَالَ: "كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَإِنَّ أَهْلَ السَّعَادَةِ مُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَهْلَ الشَّقَاوَةِ مُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ"

(4)

، وَهَذَا مِن أَحْسَنِ مَا يَكُونُ مِن الْبَيَانِ.

وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ سبحانه وتعالى يَعْلَمُ الْأُمُورَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَد جَعَلَ لِلْأَشْيَاءِ أَسْبَابًا تَكُونُ بِهَا، فَيَعْلَمُ أَنَّهَا تَكُونُ بِتِلْكَ الْأَسْبَابِ، كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا يُولَدُ لَهُ، بِأَنْ يَطَأَ امْرَأَةً فَيُحْبِلَهَا، فَلَو قَالَ هَذَا: إذَا عَلِمَ اللهُ أَنَّهُ يُولَدُ لِي فَلَا حَاجَةَ إلَى الْوَطْءِ: كَانَ أَحْمَقَ؛ لِأَنَّ اللهَ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ بِمَا يُقَدِّرُهُ مِن الْوَطْءِ.

(1)

رواه أحمد (22077).

(2)

(2653).

(3)

رواه مسلم (2649).

(4)

رواه البخاري (4949)، ومسلم (2647).

ص: 633

وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ أَنَّ هَذَا ينْبتُ لَهُ الزَّرْع بِمَا يَسْقِيهِ مِن الْمَاءِ وَيَبْذُرُهُ مِن الْحَبِّ، فَلَو قَالَ: إذَا عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْبَذْرِ: كَانَ جَاهِلًا ضَالًّا؛ لِأَنَّ اللهَ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ بِذَلِكَ

(1)

.

وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ اللهُ أَنَّ هَذَا يَشْبَعُ بِالْأَكْلِ، وَهَذَا يُرْوَى بِالشُّرْبِ، وَهَذَا يَمُوتُ بِالْقَتْلِ، فَلَا بُدَّ مِن الْأَسْبَابِ الَّتِي عَلِمَ اللهُ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ تَكُونُ بِهَا.

وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ أَنَّ هَذَا يَكُونُ سَعِيدًا فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا شَقِيًّا فِي الْآخِرَةِ، قُلْنَا: ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ بِعَمَلِ الْأَشْقِيَاءِ؛ فَاللهُ عَلِمَ أَنَّهُ يَشْقَى بِهَذَا الْعَمَلِ.

فَلَو قِيلَ: هُوَ شَقِيٌّ وَإِن لَمْ يَعْمَلْ: كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ اللهَ لَا يُدْخِلُ النَّارَ أَحَدًا إلَّا بذَنْبهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)} [ص: 85]، فَأَقْسَمَ أَنَّهُ يَمْلَؤُهَا مِن إبْلِيسَ وَأَتْبَاعِهِ، وَمَن اتَّبَعَ إبْلِيسَ فَقَد عَصَى اللهَ تَعَالَى، وَلَا يُعَاقِبُ اللهُ الْعَبْدَ عَلَى مَا عَلِمَ أَنَّهُ يَعْمَلُهُ حَتَّى يَعْمَلَهُ.

وَلهَذَا لَمَّا سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَن أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ قَالَ: "اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ"

(2)

.

يَعْنِي: أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يَعْمَلُونَ لَو بَلَغُوا، وَقَد رُوِيَ أَنَّهُم فِي الْقِيَامَةِ يُبْعَثُ إلَيْهِم رَسُولٌ، فَمَن أَطَاعَهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَن عَصَاهُ دَخَلَ النَّارَ، فَيَظْهَرُ مَا عَلِمَهُ فِيهِمْ مِن الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ.

وَكَذَلِكَ الْجَنَةُ خَلَقَهَا اللهُ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ بِهِ وَطَاعَتِهِ، فَمَن قَدَّرَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُم يَسَّرَهُ لِلْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ.

فَمَن قَالَ: أَنَا ادْخُلُ الْجَنَّةَ سَوَاءٌ كُنْت مُؤْمِنًا أَو كَافِرًا إذَا عَلِمَ أَنِّي مِن أَهْلِهَا: كَانَ مُفْتَرِيًا عَلَى اللهِ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ اللهَ إنَّمَا عَلِمَ أَنَّهُ يَدْخُلُهَا بِالْإِيمَانِ، فَإِذَا لَمْ يَكُن مَعَهُ إيمَان لَمْ يَكُن هَذَا هُوَ الَّذِي عَلِمَ اللهُ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ؛ بَل مَن

(1)

أي: بذلك البذر والزرع.

(2)

رواه البخاري (1383)، ومسلم (2658).

ص: 634

لَمْ يَكُن مُؤْمِنًا بَل كَافِرًا فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مِن أَهْلِ النَّارِ لَا مِن أَهْلِ الْجَنَّةِ.

وَلهَذَا أَمَرَ النَّاسَ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِاللهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن الْأَسْبَابِ.

وَمَن قَالَ: أَنَا لَا أَدْعُو وَلَا أَسْأَلُ اتِّكَالًا عَلَى الْقَدَرِ كَانَ مُخْطِئًا أَيْضًا؛ لِأَنَّ اللهَ جَعَلَ الدُّعَاءَ وَالسُّؤَالَ مِن الْأَسْبَابِ الَّتِي يَنَالُ بِهَا مَغْفِرَتَهُ وَرَحْمَتَهُ وَهُدَاهُ وَنَصْرَ وَرِزْقَهُ.

وَإِذَا قَدَّرَ لِلْعَبْدِ خَيْرًا يَنَالُهُ بِالدُّعَاءِ لَمْ يَحْصُلْ بِدُونِ الدُّعَاءِ، وَمَا قَدَّرَة اللهُ وَعَلِمَهُ مِن أَحْوَالِ الْعِبَادِ وَعَوَاقِبِهِم فَإِنَّمَا قَدَّرَهُ اللهُ بِأَسْبَاب يَسُوقُ الْمَقَادِيرَ إلَى الْمَوَاقِيتِ، فَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ شَيْءٌ إلَّا بِسَبَب، وَاللهُ خَالِقُ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ. [8/ 66 - 70]

* * *

(واجب العبد قبل وبعد المقدور والمأمور)

600 -

الْعَبْدُ لَهُ فِي الْمَقْدُورِ: حَالَانِ:

أ- حَالٌ قَبْلَ الْقَدَرِ.

ب- وَحَالٌ بَعْدَهُ.

فَعَلَيْهِ قَبْلَ الْمَقْدُورِ: أَنْ يَسْتَعِينَ بِاللهِ وَيَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَيَدْعُوَهُ.

فَإِذَا قُذرَ الْمَقْدُورُ بِغَيْرِ فِعْلِهِ: فَعَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ عَلَيْهِ، أو يَرْضَا بِهِ.

وَإِن كَانَ بِفِعْلِهِ وَهُوَ نِعْمَةٌ: حَمِدَ اللهَ عَلَى ذَلِكَ.

وَإِن كَانَ ذَنْبًا: اسْتَغْفَرَ إلَيْهِ مِن ذَلِكَ.

وَلَهُ فِي الْمَأْمُورِ حَالَانِ:

أ- حَالٌ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَهُوَ الْعَزْمُ عَلَى الِامْتِثَالِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِاللهِ عَلَى ذَلِكَ.

ب- وَحَالٌ بَعْدَ الْفِعْلِ، وَهُوَ الِاسْتِغْفَارُ مِن التَّقْصِيرِ، وَشُكْرُ اللهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ مِن الْخَيْرِ. [8/ 76 - 77]

* * *

ص: 635

(التعليق على مقولة: لَا يَرْجُوَنَّ عَبْدٌ إلَّا رَبَّهُ، وَلَا يَخَافَنَّ إلَّا دَنْبَهُ)

601 -

هَذَا الْكَلَامُ يُؤْثَرُ عَن أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه (لَا يَرْجُوَنَّ عَبْدٌ إلَّا رَبَّهُ، وَلَا يَخَافَنَّ إلَّا ذَنْبَهُ) -:

هُوَ مِن أَحْسَنِ الْكَلَامِ وَأَبْلَغِهِ وَأَتَمِّهِ؛ فَإِنَّ الرَّجَاءَ يَكُونُ لِلْخَيْرِ، وَالْخَوْفَ يَكُونُ مِن الشَّرِّ، وَالْعَبْدُ إنَّمَا يُصِيبُهُ الشَّرُّ بِذُنُوبِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 78، 79].

فَإِنَّ كَثيرًا مِن النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيئَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي.

وَإِنَّمَا الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَات فِي هَذِهِ الْآيَةِ النِّعَمُ وَالْمَصَائِبُ؛ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168]، وَهَذَا كَثِيرٌ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ ذَمَّ اللهُ بِهَا الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَنْكُلُونَ عَمَّا أَمَرَ اللهُ بِهِ مِن الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ، فَإِذَا نَالَهُم رِزْق وَنَصْرٌ وَعَافِيَةٌ قَالُوا:{هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة: 79] هاِن نَالَهُم فَقْرٌ وَذُلٌّ وَمَرَضٌ قَالُوا: {هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} [النساء: 78]-يَا مُحَمَّدُ- بِسَبَبِ الدِّينِ الَّذِي أَمَرْتَنَا بِهِ؛ كَمَا قَالَ قَوْمُ فِرْعَوْنَ لِمُوسَى: وَذَكَرَ اللهُ ذَلِكَ عَنْهُم بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف: 131].

وَكمَا قَالَ الْكُفَّارُ لِرُسُلِ عِيسَى: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} [يس: 18].

فَالْكفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ إذَا أَصَابَتْهُم الْمَصَائِبُ بِذُنُوبِهِم تَطَيَّرُوا بِالْمُؤْمِنِينَ

(1)

.

(1)

ونحن نرى هجوم المنافقين على أهل الخير والعلم والدعاة ورجال الأمر بالمعروف والنهي =

ص: 636

فَبَيَّنَ اللهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْحَسَنَةَ مِن اللهِ يُنْعِمُ بِهَا عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ السَّيِّئَةَ إنَّمَا تُصِيبُهُم بِذُنُوبِهِمْ؛ وَلهَذَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)} [الأنفال: 33].

فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ مُسْتَغْفِرًا؛ لِأَنَّ الِاسْتِغْفَارَ يَمْحُو الذَّنْبَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْعَذَابِ فَيَنْدَفِعُ الْعَذَابُ.

لِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: لَا يَخَافَنَّ عَبْدٌ إلَّا ذَنْبَهُ.

وَإِن سُلِّطَ عَلَيْهِ مَخْلُوقٌ فَمَا سُلِّطَ عَلَيْهِ إلَّا بِذُنُوبِهِ، فَلْيَخَف اللهَ وَلْيَتُبْ مِن ذُنُوبِهِ الَّتِي نَالَهُ بِهَا مَا نَالَهُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَا يَرْجُوَنَّ عَبْدٌ إلَّا رَبَّهُ؛ فَإِنَّ الرَّاجِيَ يَطْلُبُ حُصُولَ الْخَيْرِ وَدَفْعَ الشَّرِّ، وَلَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إلَّا اللهُ، وَلَا يُذْهِبُ السَّيِّئَاتِ إلَّا اللهُ. [8/ 161 - 164]

* * *

(لا يجوز التعلق بالأسباب، ونسيان مُسببها)

602 -

لَو كَانَ شَيْءٌ مِن الْأَسْبَابِ مُسْتَقِلًّا بِالْمَطْلُوبِ فَإِنَّهُ لَو قُدِّرَ مُسْتَقِلًّا بِالْمَطْلُوبِ -وَإِنَّمَا يَكُونُ بِمَشِيئَةِ اللهِ وَتَيْسِيرِهِ-: لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يُرْجَى إلَّا اللهُ، وَلَا يُتَوَكَّلَ إلا عَلَيْهِ، وَلَا يُسْأَلَ إلَّا هُوَ، وَلَا يُسْتَعَانَ إلَّا بِهِ، وَلَا يُسْتَغَاثَ إلَّا هُوَ، فَلَهُ الْحَمْدُ وَإِلَيْهِ الْمُشْتَكَى، وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ، وَهُوَ الْمُسْتَغَاثُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِهِ.

فَكَيْفَ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِن الْأَسْبَابِ مُسْتَقِلًّا بِمَطْلُوب!

بَل لَا بُدَّ مِن انْضِمَامِ أَسْبَابٍ أُخَرَ إلَيْهِ.

وَلَا بُدَّ أَيْضًا مِن صَرْفِ الْمَوَانِعِ وَالْمُعَارَضَاتِ عَنْهُ حَتَّى يَحْصُلَ الْمَقْصُودُ.

= عن المنكر عندما نُصاب بمصيبةٍ أو يحدث خطأٌ من بعض المتحمسين أو المجتهدين، فينسبون كل شر وضرر وخطأ لأهل الخير والدعاة وحِلق القرآن.

ص: 637

فَكُلُّ سَبَبٍ:

- فَلَهُ شَرِيكٌ.

- وَلَهُ ضِدٌّ.

فَإِنْ لَمْ يُعَاوِنْهُ شَرِيكُهُ وَلَمْ يُصْرَفْ عَنْهُ ضِدُّهُ: لَمْ يَحْصُلْ سَبَبُهُ؛ فَالْمَطَرُ وَحْدَهُ لَا يُنْبِتُ النَّبَاتَ إلَّا بِمَا يَنْضَمُّ إلَيْهِ مِن الْهَوَاءِ وَالتُّرَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ الزَّرْعُ لَا يَتِمُّ حَتَّى تُصْرَفَ عَنْهُ الْآفَاتُ الْمُفْسِدَةُ لَهُ، وَالطَّعَامُ وَالشَّرَابُ لَا يُغَذِّي إلَّا بِمَا جُعِلَ فِي الْبَدَنِ مِن الْأَعْضَاءِ وَالْقُوَى.

وَمَجْمُوعُ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ إنْ لَمْ تُصْرَف الْمُفْسِدَاتُ.

وَالْمَخْلُوقُ الَّذِي يُعْطِيكَ أَو يَنْصُرُكَ فَهُوَ -مَعَ أَنَّ اللهَ يَخْلُقُ فِيهِ الْإِرَادَةَ وَالْقُوَّةَ وَالْفِعْلَ- فَلَا يَتِمُّ مَا يَفْعَلُهُ إلَّا بِأَسْبَابٍ كَثِيرَةٍ خَارِجَةٍ عَن قُدْرَتِهِ، تُعَاوِنُهُ عَلَى مَطْلُوبِهِ، وَلَو كَانَ مَلِكًا مُطَاعًا، وَلَا بُدَّ أَنْ يُصْرَفَ عَن الْأسْبَابِ الْمُعَاوِنَةِ مَا يُعَارِضُهَا وَيُمَانِعُهَا، فَلَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ إلَّا بِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَعَدَمِ الْمَانِعِ.

وَمَن عَرَفَ هَذَا حَقَّ الْمَعْرِفَةِ: انْفَتَحَ لَهُ بَابُ تَوْحِيدِ اللهِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ لِأَنْ يُدْعَى غَيْرُة، فَضْلًا عَن أَنْ يُعْبَدَ غَيْرُهُ، وَلَا يُتَوَكَّلَ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا يُرْجَى غَيْرُهُ.

وَهَذَا مُبَرْهَنٌ بِالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأَسْبَابِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ، وَأفْعَالِ الْمَلَائِكةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَشَفَاعَتِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن الْأَسْبَابِ. [8/ 166 - 168]

* * *

(الفرق بين التوكل والاستعانة)

603 -

التَّوَكُّلُ مَقْرُونٌ بِالْعِبَادَةِ فِي قَوْلِهِ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123].

وَالْعِبَادَةُ: فِعْلُ الْمَأْمُورِ، فَمَن تَرَكَ الْعِبَادَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا وَتَوَكَّلَ: لَمْ يَكُن أَحْسَنَ حَالًا مِمَن عَبَدَهُ وَلَمْ يَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ؛ بَل كِلَاهُمَا عَاصٍ للهِ تَارِكٌ لِبَعْضِ مَا أُمِرَ بِهِ.

ص: 638

وَالتَّوَكُّلُ يَتَنَاوَلُ:

أ- التَّوَكُّلَ عَلَيْهِ لِيُعِينَهُ عَلَى فِعْلِ مَا أَمَرَ

(1)

.

ب- وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ لِيُعْطِيَهُ مَا لَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ.

فَالِاسْتِعَانَةُ: تَكُونُ عَلَى الْأَعْمَالِ.

وَأَمَّا التَّوَكُّل فَأَعَمُّ مِن ذَلِكَ، وَيَكُونُ التَّوَكُّل عَلَيْهِ لِجَلْبِ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ قَالَ تَعَالَى:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)} [آل عمران: 173].

فَمَن لَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ: لَمْ يَكُن مُسْتَعِينًا بِاللهِ عَلَى ذَلِكَ، فَيَكُونُ قَد تَرَكَ الْعِبَادَةَ وَالِاسْتِعَانَةَ عَلَيْهَا بِتَرْكِ التَّوَكُّلِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. [8/ 177]

* * *

(لا يجوز للعبد أن يَرْضَا بِكلِّ مَقْضِيٍّ مُقَدَّرٍ مِن أَفْعَالِ الْعِبَادِ حَسَنِهَا وَسَيِّئِهَا)

604 -

لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ وَلَا فِي سُنَةِ رَسُولِ اللهِ آيَةٌ وَلَا حَدِيثٌ يَأْمُرُ الْعِبَادَ أَنْ يَرْضَوْا بِكُلِّ مَقْضِيٍّ مُقَدَّرٍ مِن أَفْعَالِ الْعِبَادِ حَسَنِهَا وَسَيِّئِهَا، فَهَذَا أَصْلٌ يَجِبُ أَنْ يُعْتَنَى بِهِ، وَلَكِنْ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَرْضوْا بِمَا أَمَرَ اللهُ بِهِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْخَطَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ، قَالَ تَعَالَى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65].

وينْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَرْضَا بما يُقَدِّرُهُ اللهُ عَلَيْهِ مِن الْمَصائِبِ الَّتِي لَيْسَتْ ذُنُوبًا؛ مِثْل أَنْ يَبْتَلِيَهُ بِفَقْر أَو مَرَضٍ أَو ذُلٍّ وَأَذَى الْخَلْقِ لَهُ؛ فَإِنَّ الصَّبْرَ عَلَى الْمَصَائِبِ وَاجِبٌ.

(1)

وهذا يُسمى استعانة، وهو داخل في عموم التوكل.

ص: 639

وَأَمَّا الرضى بِهَا فَهُوَ مَشْرُوعٌ، لَكِنْ هَل هُوَ وَاجِبٌ أَو مُسْتَحَبٌّ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ، أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لَيْسَ بِوَاجِبِ.

وَمِن الْمَعْلُومِ أَنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ: الْحُبُّ فِي اللهِ وَالْبُغْضُ فِي اللهِ، وَقَد أَمَرَنَا اللهُ أَنْ نَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنُحِبَّهُ وَنَرْضَاهُ وَنُحِبَّ أَهْلَهُ، وَنَنْهَى عَن الْمُنْكَرِ وَنُبْغِضَة وَنَسْخَطَهُ وَنُبْغِضَ أَهْلَهُ وَنُجَاهِدَهُم بِأَيْدِينَا وَأَلْسِنَتِنَا وَقُلُوبِنَا، فَكَيْفَ نَتَوَهَّمُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مَا نُبْغِضُهُ وَنَكْرَهُهُ، وَقَد قَالَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَا ذَكَرَ مِن الْمَنْهِيَّاتِ:{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)} [الإسراء: 38]؟. [8/ 190 - 191]

* * *

‌(إذَا جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}

؟)

605 -

قَوْلُهُ [أي: السائل]: إذَا جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]؟ وَإِن كَانَ الدُّعَاءُ أَيْضًا مِمَّا هُوَ كَائِنٌ فَمَا فَائِدَةُ الْأَحْمرِ بِهِ وَلَا بُدَّ مِن وُقُوعِهِ؟

فَيُقَالُ: الدُّعَاءُ فِي اقْتِضَائِهِ الْإِجَابَةَ: كَسَائِرِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي اقْتِضَائِهَا الْإِثَابَةَ، وَكَسَائِرِ الْأَسْبَابِ فِي اقْتِضَائِهَا الْمُسَبَّبَاتِ.

وَمَن قَالَ: إنَّ الدُّعَاءَ عَلَامَةٌ وَدَلَالَةٌ مَحْضَةٌ عَلَى حُصُولِ الْمَطْلُوبِ الْمَسْؤُولِ، لَيْسَ بِسَبَب، أَو هُوَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ لَا أَثَرَ لَهُ فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ وُجُودًا وَلَا عَدَمًا؛ بَل مَا يَحْصُلُ بِالدُّعَاءِ يَحْصُلُ بِدُونِهِ: فَهُمَا قَوْلَانِ ضَعِيفَانِ؛ فَإِنَّ اللهَ عَلَّقَ الْإِجَابَةَ بِهِ تَعْلِيقَ الْمُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ؛ كقَوْلِهِ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} .

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِن كَانَ الدُّعَاءُ مِمَّا هُوَ كَائِنٌ فَمَا فَائِدَةُ الْأَمْرِ بِهِ وَلَا بُدَّ مِن وُقُوعِهِ؟

فَيُقَالُ: الدُّعَاءُ الْمَأْمُورُ بِهِ لَا يَجِبُ كَوْنًا؛ بَل إذَا أَمَرَ اللهُ الْعِبَادَ بِالدُّعَاءِ فَمِنْهُم مَن يُطِيعُهُ فَيُسْتَجَابُ لَهُ دُعَاؤُهُ، وَيَنَالُ طُلْبَتَهُ، وَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَعْلُومَ

ص: 640

الْمَقْدُورَ هُوَ الدُّعَاءُ وَالْإِجَابَةُ، وَمِنْهُم مَن يَعْصِيهِ فَلَا يَدْعُو فَلَا يُحَصِّلُ مَا عُلِّقَ بِالدُّعَاءِ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَعْلُومِ الْمَقْدُورِ الدُّعَاءُ وَلَا الْإِجَابَةُ.

فَالدُّعَاءُ الْكَائِنُ: هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ كَائِنٌ، وَالدُّعَاءُ الَّذِي لَا يَكُونُ هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ.

فَإِنْ قِيلَ: فَمَا فَائِدَةُ الْأَمْرِ فِيمَا عُلِمَ أَنَّهُ يَكُونُ مِن الدُّعَاءِ؟

قِيلَ: الْأَمْرُ هُوَ سَبَبٌ أَيْضًا فِي امْتِثَالِ الْمَأْمُورِ بِهِ كَسَائِرِ الْأَسْبَابِ؛ فَالدُّعَاءُ سَبَبٌ يَدْفَعُ الْبَلَاءَ، فَإِذَا كَانَ أَقْوَى مِنْهُ دَفَعَهُ، وَإِن كَانَ سَبَبُ الْبَلَاءِ أَقْوَى لَمْ يَدْفَعْهُ، لَكِنْ يُخَفِّفُهُ وَيُضْعِفُهُ، وَلهَذَا أُمِرَ عِنْدَ الْكُسُوفِ وَالْآيَاتِ بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ. [8/ 192 - 196]

* * *

(أنواع الإرادة والفرق بينهما)

606 -

إِرَادَته -سُبْحَانَهُ- قِسْمَانِ:

أ- إرَادَةُ أَمْرٍ وَتَشْرِيعٍ.

ب- وَإِرَادَةُ قَضَاءٍ وَتَقْدِيرٍ.

فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالطَّاعَاتِ دُونَ الْمَعَاصِي، سَوَاءٌ وَقَعَتْ أو لَمْ تَقَعْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ:{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 26].

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ إرَادَةُ التَّقْدِيرِ، فَهِيَ شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ، مُحِيطَةٌ بِجَمِيعِ الْحَادِثَاتِ، وَقَد أَرَادَ مِن الْعَالَمِ مَا هُم فَاعِلُوهُ بِهَذَا الْمَعْنَى، لَا بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125]، وَفِي قَوْلِهِ:{وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ} [هود: 34]، وَفِي قَوْلِ الْمُسْلِمِينَ: مَا شَاءَ اللهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ.

ص: 641

وَهَذ الْإِرَادَة تَتَنَاوَلُ مَا حَدَثَ مِن الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي دُونَ مَا لَمْ يَحْدُثْ، كَمَا أَنَّ الْأولَى تتَنَاوَلُ الطَّاعَاتِ، حَدَثَتْ أَو لَمْ تَحْدُثْ.

وَالسَّعِيدُ: مَن أَرَادَ مِنْهُ

(1)

تَقْدِيرًا مَا أَرَادَ بِهِ تَشْرِيعًا.

وَالْعَبْدُ الشَّقِيُّ: مَن أَرَادَ بِهِ تَقْدِيرًا مَا لَمْ يُرِدْ بِهِ تَشْرِيعًا.

وَالْحُكْمُ يَجْرِي عَلَى وَفْقِ هَاتَيْنِ الْإِرَادَتَيْنِ، فَمَن نَظَرَ إلَى الْأَعْمَالِ بِهَاتَيْنِ الْعَيْنَيْنِ كَانَ بَصِيرًا، وَمَن نَظَرَ إلَى الْقَدَرِ دُونَ الشَّرْعِ أَو الشَّرْعِ دُونَ الْقَدَرِ كَانَ أَعْوَرَ؛ مِثْل قُرَيْشٍ الَّذِينَ قَالُوا:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148].

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148].

فَإِنَّ هَؤُلَاءِ اعْتَقَدُوا أَنَّ كُلَّ مَا شَاءَ اللهُ وُجُودَهُ وَكَوْنَهُ وَهِيَ -الْإِرَادَةُ الْقَدَرِيَّةُ- فَقَد أَمَرَ بِهِ وَرَضِيَهُ، دونَ الْإِرَادَةِ الشَّرْعِيَّةِ، ثُمَّ رَأَوْا أَنَّ شِرْكَهُم بِغَيْرِ شَرْعٍ مِمَّا قَد شَاءَ اللهُ وُجُودَهُ.

قَالُوا: فَيَكُونُ قَد رَضِيَهُ وَأَمَرَ بِهِ.

قَالَ اللهُ: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [يونس: 39] بِالشَّرَائِعِ مِن الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ {حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} بِأَنَّ اللهَ شَرَعَ الشِّرْكَ وَتَحْرِيمَ مَا حَرَّمْتُمُوهُ.

{إِنْ تَتَّبِعُونَ} فِي هَذَا {إِلَّا الظَّنَّ} وَهُوَ تَوَهُّمُكُمْ أَنَّ كُلَّ مَا قَدَّرَهُ فَقَد شَرَعَهُ.

{وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} ؛ أَيْ: تُكَذّبُونَ وَتَفْتَرُونَ بِإِبْطَالِ شَرِيعَتِهِ.

(1)

أي: من الله تعالى.

ص: 642

{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149] عَلَى خَلْقِهِ حِينَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ إلَيْهِم فَدَعَوْهُم إلَى تَوْحِيدِهِ وَشَرِيعَتِهِ.

وَمَعَ هَذَا فَلَو شَاءَ هَدَى الْخَلْقَ أَجْمَعِينَ إلَى مُتَابَعَةِ شَرِيعَتِهِ، لَكِنَّهُ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ فَيَهْدِيَهُ فَضْلًا مِنْهُ وَإِحْسَانًا، وَيَحْرِمُ مَن يَشَاءُ؛ لِأَنَّ الْمُتَفَضِّلَ لَهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ وَلَهُ أَنْ لَا يَتَفَضَّلَ، فَتَرْكُ تَفَضُّلِهِ عَلَى مَن حَرَمَهُ عَدْلٌ مِنْهُ وَقِسْطٌ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ.

وَهُوَ يُعَاقِبُ الْخَلْقَ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ وَإِرَادَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ، وَإِن كَانَ ذَلِكَ بِإِرَادَتِهِ الْقَدَرِّيَّةِ؛ فَإِنَّ الْقَدَرَ كَمَا جَرَى بِالْمَعْصِيَةِ جَرَى أَيْضًا بِعِقَابِهَا، كَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَد يُقَدِّرُ عَلَى الْعَبْدِ أَمْرَاضًا تُعْقِبُهُ آلَامًا؛ فَالْمَرَضُ بِقَدَرِهِ وَالْأَلَمُ بِقَدَرِهِ.

فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: قَد تَقَدَّمَت الْأِرَادَةُ بِالذَّنْب فَلَا أعَاقَبُ

(1)

: كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْمَرِيضِ: قَد تَقَدَّمَت الْإرَادَةُ بِالْمَرَضِ فَلَا أَتَأَلَّمُ، وَقَد تَقَدَّمَت الْإرَادَةُ بِأكْلِ الْحَارِّ فَلَا يُحَمُّ مِزَاجِي، أَو قَد تَقَدَّمَتْ بِالضَّرْبِ فَلَا يَتَأَلَّمُ الْمَضْرُوبُ!

وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ جَهْلٌ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ صَاحِبَهُ؛ بَل اعْتِلَالُهُ بِالْقَدَرِ ذَنْبٌ ثَانٍ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ أَيْضًا.

وَإِنَّمَا اعْتَلَّ بِالْقَدَرِ إبْلِيسُ حَيْثُ قَالَ: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} [الحجر: 39].

وَأَمَّا آدَمَ فَقَالَ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].

فَمَن أَرَادَ اللهُ سَعَادَتَه أَلْهَمَهُ أَنْ يَقُولَ كَمَا قَالَ آدَمَ عليه السلام أَو نَحْوَهُ، وَمَن أَرَادَ شَقَاوَتَهُ اعْتَلَّ بِعِلَّةِ إبْلِيسَ أَو نَحْوِهَا، فَيَكونُ كَالْمُسْتَجِيرِ مِن الرَّمْضَاءِ بِالنَّارِ.

وَمَثَلُهُ: مَثَلُ رَجُلٍ طَارَ إلَى دَارِهِ شَرَارَةُ نَارٍ، فَقَالَ لَهُ الْعُقَلَاءُ: أَطْفِئْهَا لِئَلَّا

(1)

أي: أن الله تعالى أراد لي أن أُذنب، فكيف أُعاقب؟

ص: 643

تحرق الْمَنْزِلَ، فَأَخَذَ يَقُولُ: مِن أَيْنَ كَانَتْ؟ هَذِهِ رِيحٌ أَلْقَتْهَا وَأَنَا لَا ذَنْبَ لِي فِي هَذِهِ النَّارِ، فَمَا زَالَ يَتَعَلَّلُ بِهَذِهِ الْعِلَلِ حَتَّى اسْتَعَرَتْ وَانْتَشَرَتْ وَأَحْرَقَت الدَّارَ وَمَا فِيهَا.

هَذِهِ حَالُ مَن شَرَعَ يُحِيلُ الذُّنُوبَ عَلَى الْمَقَادِيرِ، وَلَا يَرُدُّهَا بِالِاسْتِغْفَارِ وَالْمَعَاذِيرِ.

بَل حَالُهُ أَسْوَأُ مِن ذَلِكَ بِالذَّنْبِ الَّذِي فَعَلَهُ، بِخِلَافِ الشَّرَارَةِ فَإِنَّهُ لَا فِعْلَ لَهُ فِيهَا.

وَاللهُ سُبْحَانَهُ يُوَفِّقُنَا وَإِيَّاكُمْ وَسَائِرَ إخْوَانِنَا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ؛ فَإِنَّهَا لَا تُنَالُ طَاعَتُهُ إلَّا بِمَعُونَتِهِ، وَلَا تُتْرَكُ مَعْصِيَتُهُ إلَّا بِعِصْمَتِهِ. [8/ 197 - 200]

* * *

(أَصْلُ السَّيِّئَاتِ الْجَهْلُ وَعَدَمُ الْعِلْمِ)

607 -

قَوْلُهُ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] .. فَإِنَّ الْعِلْمَ بِمَا أَنْذَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ يُوجِبُ الْخَوْفَ.

فَإِذَا كَانَ الْعِلْمُ يُوجِبُ الْخَشْيَةَ الْحَامِلَةَ عَلَى فِعْلِ الْحَسَنَاتِ وَتَرْكِ السَّيِّئَاتِ، وَكُلُّ عَاصٍ فَهُوَ جَاهِلٌ لَيْسَ بِتَامِّ الْعِلْمِ: تَبَيَّنَ مَا ذَكَرْنَا مِن أَنَّ أَصْلَ السَّيِّئَاتِ الْجَهْلُ وَعَدَمُ الْعِلْمِ. [8/ 204]

* * *

(اللهُ سُبْحَانَهُ تَفَضَّلَ عَلَى بَنِي آدَمَ بأَمْرَيْنِ همَا أَصْلُ السَّعَادَةِ)

608 -

اللهُ سُبْحَانَهُ تَفَضَّلَ عَلَى بَنِي آدَمَ بَأَمْرَيْنِ هُمَا أَصْلُ السَّعَادَةِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، كَمَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ"

(1)

وَلِمُسْلِم

(2)

عَن عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ مَرْفُوعًا: "إنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ".

(1)

البخاري (1358)، ومسلم (2658).

(2)

(2865).

ص: 644

فَالنَّفْسُ بِفِطْرَتِهَا إذَا تُرِكَتْ كَانَت مُحِبَّةً للهِ تَعْبُدُهُ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَلَكِنْ يُفْسِدُهَا مَن يُزَيِّنُ لَهَا مِن شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ.

الثَّانِي: أَنَّ اللهَ تَعَالَى هَدَى النَّاسَ هِدَايَةً عَامَّةً، بِمَا جَعَلَ فِيهِمْ مِن الْعَقْلِ، وَبِمَا أَنْزَلَ إلَيْهِم مِن الْكُتُبِ، وَأَرْسَلَ إلَيْهِم مِن الرُّسُلِ، قَالَ تَعَالَى:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)} [العلق: 1]-إلَى قَوْلِهِ-: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5].

فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مَا يَقْتَضِي مَعْرِفَتَهُ بِالْحَقِّ وَمَحَبَّتَهُ لَهُ، وَقَد هَدَاهُ إلَى أَنْوَاعٍ مِن الْعِلْمِ، يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَوَصَّلَ بِهَا إلَى سَعَادَةِ الْآخِرَةِ، وَجَعَلَ فِي فِطْرَتِهِ مَحَبَّةً لِذَلِكَ.

لَكِنْ قَد يُعْرِضُ الْإِنْسَانُ عَن طَلَبِ عِلْمِ مَا يَنْفَعُهُ، وَذَلِكَ الْإِعْرَاضُ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ، لَكِنَّ النَّفْسَ مِن لَوَازِمِهَا الْإِرَادَةُ وَالْحَرَكَةُ، فَإِنَّهَا حَيَّةٌ حَيَاةً طَبِيعِيَّةً، لَكِنَّ سَعَادَتَهَا أَنْ تَحْيَا الْحَيَاةَ النَّافِعَةَ فَتَعْبُدَ اللهَ، وَمَتَى لَمْ تَحْيَا هَذِهِ الْحَيَاةَ كَانَت مَيِّتَةً، وَكَانَ مَا لَهَا مِن الْحَيَاةِ الطَّبِيعِيَّةِ مُوجِبًا لِعَذَابِهَا، فَلَا هِيَ حَيَّةٌ مُتَنَعِّمَةٌ بالْحَيَاةِ، وَلَا مَيِّتَةٌ مُسْتَرِيحَةٌ مِن الْعَذَابِ، قَالَ تَعَالَى:{ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)} [الأعلى: 13]؛ فَالْجَزَاءُ مِن جِنْسِ الْعَمَلِ، لَمَّا كَانَ فِي الدُّنْيَا لَيْسَ بِحَيٍّ الْحَيَاةَ النَّافِعَةَ، وَلَا مَيِّتًا عَدِيمَ الْإِحْسَاسِ: كَانَ فِي الْآخِرَةِ كَذَلِكَ.

وَالنَّفْسُ إنْ عَلِمَت الْحَقَّ وَأَرَادَتْهُ فَذَلِكَ مِن تَمَامِ إنْعَامِ اللهِ عَلَيْهَا، وَإِلَّا فَهِيَ بِطَبْعِهَا لَا بُدَّ لَهَا مِن مُرَادٍ مَعْبُودٍ غَيْرِ اللهِ، وَمُرَادَاتٍ سَيِّئَةٍ. [8/ 205 - 206]

* * *

(مَا خَلَقَة الله فَهُوَ نِعْمَةٌ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الشُّكْرَ)

609 -

قَد بَيَّنَّا بَعْضَ مَا فِي خَلْقِ جَهَنَّمَ، وَإِبْلِيسَ، وَالسَّيِّئَاتِ، مِن الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَمَا لَمْ نَعْلَمْ أَعْظَمُ.

وَاللهُ سبحانه وتعالى يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ وَالْحُبَّ وَالرِّضَا:

أ- لِذَاتِهِ.

ص: 645

ب- وَلِإِحْسَانِهِ.

هَذَا

(1)

حَمْدُ شُكْرٍ، وَذَاكَ

(2)

حَمْدٌ مُطْلَقًا.

وَقَد ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا أَنَّ مَا خَلَقَهُ فَهُوَ نِعْمَةٌ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الشُّكْرَ، وَهُوَ مِن آلَائِهِ؛ وَلهَذَا قَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّجْمِ:{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)} [النجم: 55].

وَفِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ يَذْكُرُ: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)} [الرحمن: 26] وَنَحْو ذَلِكَ، وَيَقُولُ عَقِبَهُ:{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28)} [الرحمن: 28].

قَالَ طَائِفَةٌ -وَاللَّفْظُ للبغوي- ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَهُ: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44)} [الرحمن: 44] قَالَ: كُلَّمَا ذَكَرَ اللهُ عز وجل مِن قَوْلِهِ: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)} فَإِنَّهُ مَوَاعِظُ، وَهُوَ نِعْمَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَزْجُرُ عَن الْمَعَاصِي.

وَقَالَ آخَزونَ -مِنْهُم الزَّجَّاجُ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ-: فَبِاَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ

(3)

؛ لِأَنَّهَا كُلُّهَا نِعَمٌ فِي دِلَالَتِهَا إيَّاكُمْ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَرِزْقِهِ إيَّاكُمْ مَا بِهِ قِوَامُكُمْ.

هَذَا قَالُوهُ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ.

وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)} [النجم: 55]، فَبِأَيِّ نِعَمِ رَبِّكَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ تُشَكِّكُ، وَقِيلَ: تَشُكُّ وَتُجَادِلُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تُكَذِّبُ.

قُلْتُ: ضُمِّنَ تَتَمَارَى مَعْنَى تُكَذِّبُ، وَلهَذَا عَدَّاهُ بِالتَّاءِ؛ فَإِنَّهُ تَفَاعُلٌ مِن الْمِرَاءِ، يُقَالُ: تَمَاريْنَا فِي الْهِلَالِ، وَمِرَاءٌ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ، وَهُوَ يَكُونُ لِتَكْذِيبٍ وَتَشْكِيكٍ.

(1)

أي: الذي لِإِحْسَانِهِ.

(2)

أي: الذي لِذَاتِهِ.

(3)

التي ذكرها تعالى.

ص: 646

فَفِي كُلِّ مَا خَلَقَهُ: إحْسَانٌ إلَى عِبَادِهِ يُشْكَرُ عَلَيْهِ، وَلَهُ فِيهِ حِكْمَةٌ تَعُودُ إلَيْهِ، يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحْمَدَ عَلَيْهَا لِذَاتِهِ، فَجَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ فِيهَا إنْعَامٌ إلَى عِبَادِهِ؛ كَالثَّقَلَيْنِ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ:{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)} مِن جِهَةِ أَنَّهَا آيَاتٌ يَحْصُلُ بِهَا هِدَايَتُهُمْ، وَتَدُلُّ عَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ، وَصِدْقِ أَنْبِيَائِهِ، وَلهَذَا قَالَ عَقِيبَهُ:{هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56)} [النجم: 56].

قِيلَ: مُحَمَّد، وَقِيلَ: الْقُرْآنُ، وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ.

يَقُولُ: هَذَا نَذِيرٌ أَنْذَرَ بِمَا أَنْذَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَالْكُتُبُ الْأُولَى.

وَقَوْلُهُ: مِن النُّذرِ الْأُولَى؛ أَيْ: مِن جِنْسِهَا، فَأَفْضَلُ النِّعَمِ نِعْمَةُ الْإِيمَانِ، وَكُلُّ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مِن الْآيَاتِ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا مَا يَحْصُلُ مِن هَذِهِ النِّعْمَةِ، قَالَ تَعَالَى:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111]، وَقَالَ:{تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)} [ق: 8].

وَمَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ:

- إنْ كَانَ يَسُرُّهُ فَهُوَ نِعْمَةٌ بَيِّنَةٌ.

- وَإِن كَانَ يَسُوءُهُ فَهُوَ نِعْمَةٌ؛ لِأَنَّهُ يُكَفِّرُ خَطَايَاهُ وَيُثَابُ عَلَيْهِ بِالصَّبْرِ، وَمِن جِهَةِ أَنَّ فِيهِ حِكْمَةً وَرَحْمَةً لَا يَعْلَمُهَا الْعَبْدُ.

وَأَمَّا ذُنُوبُ الْإِنْسَانِ فَهِيَ مِن نَفْسِهِ، وَمَعَ هَذَا فَهِيَ مَعَ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ نِعْمَةٌ، وَهِيَ نِعْمَةٌ عَلَى غَيْرِهِ لِمَا يَحْصُلُ لَهُ بِهَا مِن الِاعْتِبَارِ، وَمِن هَذَا قَوْلُهُ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي عِبْرَةً لِغَيْرِي، وَلَا تَجْعَلْ غَيْرِي أَسْعَدَ بِمَا عَلَّمْتَنِي مِنِّي.

وَفِي دُعَاءِ الْقُرْآنِ: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [يونس: 85].

وَكَمَا فِيهِ: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]، وَاجْعَلْنَا أَئِمَّةً لِمَن يَقْتَدِي بِنَا، وَلَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِمَن يَضِلُّ بِنَا. [8/ 207 - 210]

* * *

ص: 647

(كُلُّ عَمَلٍ لَا يُعِينُ اللهُ الْعَبْدَ عَلَيْهِ: فَإِنَّهُ لَا يَكونُ وَلَا يَنْفَعُ)

610 -

لَمَّا كَانَ الْعَبْدُ مُيَسَّرًا لِمَا لَا يَنْفَعُهُ بَل يَضُرُّهُ مِن مَعْصِيَةِ اللهِ وَالْبَطَرِ وَالطُّغْيَانِ، وَقَد يَقْصِدُ عِبَادَةَ اللهِ وَطَاعَتَهُ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ فَلَا يَتَأَتَّى لَهُ ذَلِكَ: أُمِرَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ بِأَنْ يَقُولَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5].

وَكُلُّ عَمَلٍ لَا يُعِينُ اللهُ الْعَبْدَ عَلَيْهِ: فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ وَلَا يَنْفَعُ.

فَمَا لَا يَكُونُ بِهِ: لَا يَكُونُ.

وَمَا لَا يَكُونُ لَهُ: لَا يَنْفَعُ وَلَا يَدُومُ

(1)

.

فَلِذَلِكَ أُمرَ الْعَبْدُ أَنْ يَقُولَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} . [8/ 75 - 76]

* * *

(الْفُلْكُ مَصْنُوعَةٌ لِبَنِي آدَمَ)

611 -

الْفُلْكُ مَصْنُوعَةٌ لِبَنِي آدَمَ، وَقَد أَخْبَرَ اللهُ تبارك وتعالى أَنَّهُ خَلَقَهَا بِقَوْلِهِ:{وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42)} [يس: 42]. [8/ 79]

* * *

‌(أدب الملائكة مع الله عز وجل

612 -

الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ هُم مَلَائِكَتُهُ -سبحانه- كَمَا قَالَ فِيهِمْ: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)} [الأنبياء: 27، 28].

وَالصَّادِرُ عَنْهُمْ: إمَّا قَوْلٌ وَإِمَّا عَمَلٌ؛ فَالْقَوْلُ لَا يَسْبِقُونَهُ بِهِ؛ بَل لَا يَقُولُونَ حَتَّى يَقُولَ، وَلَا يَشْفَغونَ إلَّا لِمَن ارْتَضَى، وَعَلَيْنَا أَنْ نَكُونَ مَعَهُ وَمَعَ رُسُلِهِ

(1)

والمعنى: كلّ عمل لا يكون بعون الله وتوفيقه فإنه لا يكون ولا يتم؛ لأنه لا يكون شيء إلا بمشيئة الله وإرادته وعونِه، وكلّ عمل لا يكون لله ولأجل الله وابتغاء وجه الله فإنه لا ينفع ولا يدوم، وإنْ دام في الدنيا فإنه لا يدوم في الآخرة.

ص: 648

هَكَذَا، فَلَا نَقُولُ فِي الدِّينِ حَتَى يَقُولَ، وَلَا نَتَقَدَّمُ بَيْنَ يَدَي اللهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا نَعْبُدُهُ إلَّا بِمَا أَمَرَ، وَأَعْلَى مِن هَذَا أَنْ لَا نَعْمَلَ إلا بِمَا أَمَرَ، فَلَا تَكُونُ أَعْمالُنَا إلَّا وَاجِبَةً أَو مُسْتَحَبَّةً. [8/ 168 - 169]

* * *

(صَاحِبُ السَّرَّاءِ أَحْوَجُ إلَى الشُّكْرِ، وَصَاحِبُ الضَّرَّاءِ أَحْوَجُ إلَى الصَّبْرِ)

613 -

صَاحِبُ السَّرَّاءِ أَحْوَجُ إلَى الشُّكْرِ، وَصَاحِبُ الضَّرَّاءِ أَحْوَجُ إلَى الصَّبْرِ، فَإِنَّ صَبْرَ هَذَا وَشكْرَ هَذَا وَاجِبٌ.

وَأَمَّا صَبْرُ السَّرَّاءِ فَقَد يَكُونُ مُسْتَحَبًّا، وَصَاحِبُ الضَّرَّاءِ قَد يَكُونُ الشُّكْرُ فِي حَقِّهِ مُسْتَحَبًّا. [8/ 210]

* * *

(التعليق علي قول عَلِيٍّ رضي الله عنه: إنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللهِ)

614 -

حَدِيثُ عَلِيٍّ رضي الله عنه الْمُخْرَجُ فِي الصَّحِيحِ

(1)

لَمَّا طَرَقَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَفَاطِمَةَ -وَهُمَا نَائِمَانِ- فَقَالَ: "أَلَا تُصَلِّيَانِ؟ ".

فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللهِ، إنْ شَاءَ أَنْ يُمْسِكَهَا وَإِن شَاءَ أنْ يُرْسِلَهَا.

فَوَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَضْرِبُ بِيَدِهِ عَلَى فَخِذِهِ وَهُوَ يَقُولُ: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54].

هَذَا الْحَدِيثُ نَصٌّ ذَمِّ مَن عَارَضَ الْأَمْرَ بِالْقَدَرِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ:"إنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللهِ" إلَى آخِرِهِ اسْتِنَادٌ إلَى الْقَدَرِ فِي تَرْكِ امْتِثَالِ الأَمْرِ، وَهِيَ فِي نَفْسِهَا كَلِمَةُ حَقٍّ، لَكِنْ لَا تَصْلُحُ لِمُعَارَضَةِ الْأَمْرِ؛ بَل مُعَارَضَةُ الْأَمْرِ فِيهَا مِن بَابِ

(1)

رواه البخاري (1127).

ص: 649

الْجَدَلِ الْمَذْمُومِ الَّذِي قَالَ اللهُ فِيهِ: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} ، وَهَؤُلَاءِ أَحَدُ أَقْسَامِ "الْقَدَرِيَّةِ"، وَقَد وَصَفَهُم اللهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِالْمُجَادَلَةِ الْبَاطِلَةِ. [8/ 244]

* * *

(سؤال ذمّيّ عَن الْقَدَرِ بقصيدة)

615 -

أَوْرَدَهُ أَحَدُ عُلَمَاءِ الذّمِّيِّينَ فَقَالَ:

أَيَا عُلَمَاءَ الدِّينِ ذِمِّيُّ دِينِكُمْ

تَحَيَّرَ دُلُّوهُ بِأَوْضَحِ حُجَّة

إذَا مَا قَضَى رَبِّي بِكُفْرِي بِزَعْمِكُمْ

وَلَمْ يَرْضَهُ مِنِّي فَمَا وَجْهُ حِيلَتِي

دَعَانِي وَسَدَّ الْبَابَ عَني فَهَل إلَى

دُخُولِيْ سَبِيلٌ بَيِّنُوا لِيْ قَضِيَّتِي

قَضَى بِضَلَالِي ثُمَّ قَالَ ارْضَ بالقضا

فَمَا أَنَا رَاضٍ بِاَلَّذِيْ فِيهِ شِقْوَتِي

فَإِنْ كُنْتُ بِالْمَقْضِيِّ يَا قَوْمُ رَاضِيَا

فَرَبِّيَ لَا يَرْضَا بِشُؤْمِ بَلِيَّتِي

فَهَل لِيْ رضى مَا لَيْسَ يَرْضَاهُ سَيِّدِي

فَقَد حِرْتُ دُلُّونِيْ عَلَى كَشْفِ حَيرَتِي

إذَا شَاءَ رَبِّيْ الْكُفْرَ مِنِّي مَشِيئَةً

فَهَل أنَا عَاصٍ فِي اتِّبَاعِ الْمَشِيئَةِ

وَهَل لِي اخْتِيَارٌ أَنْ أُخَالِفَ حُكْمَهُ

فَبِاَللهِ فَاشْفُوا بِالْبَرَاهِينِ عِلَّتِي

فَأجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة مُرْتَجِلًا

(1)

:

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

سُؤَالُكَ يَا هَذَا سُؤَالُ مُعَانِدٍ

مُخَاصِمِ رَبِّ الْعَرْشِ بَارِي الْبَرِيَّةِ

(1)

انظر للعجب!! يُجيبه دون استعداد مسبق بأكثر من (150) بيتًا، ومن البحر الطويل، وهو من أصعب البحور، وهذه المنظومة ليست في أمور سهلة ونصائح عامة؛ بل في أصعب أبواب الدين، وهو القضاء والقدر، ويحتاج الناظم إلى الكثير من المعلومات.

وبما أنها ارتجالية فقد تسامح الشيخ في وزن بعض الأبيات، وسيأتي التنبيه على بعضها، ومن ذلك قوله:

فهذي دِلَالَاتُ الْعِبَادِ لِحَائِرٍ

وَأَمَّا هُدَاهُ فَهْوَ فِعْلُ الرُّبُوبِيَّةِ

ص: 650

فَهَذَا سُؤَالٌ خَاصَمَ الْمَلَأَ الْعُلَا

قَدِيمًا بهِ إبْلِيسُ أَصْلُ الْبَلِيَّةِ

وَمَن يَكُ خَصْمًا لِلْمُهَيْمِنِ يَرْجِعَن

عَلَى أُمِّ رَأسٍ هَاوِيًا فِي الْحُفيرَةِ

وَيُدْعَى خُصُومُ اللهِ يَوْمَ مُعَادِهِمْ

إلَى النَّارِ طُرًّا مَعْشَرَ الْقَدَرِيَّةِ

سَوَاءٌ نَفَوْهُ أَو سَعَوْا لِيُخَاصِمُوا

بِهِ اللهَ أَو مَارَوْا بِهِ لِلشَّرِيعَةِ

وَأَصْلُ ضَلَالِ الْخَلْقِ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ

هُوَ الْخَوْضُ فِي فِعْلِ الْإِلَهِ بِعِلَّةِ

فإنهمُ لَمْ يَفْهَمُوا حِكْمَةً لَهُ

فَصَارُوا عَلَى نَوْعٍ مِن الْجَاهِلِيَّةِ

فَإِنَّ جَمِيعَ الْكَوْنِ أَوْجَبَ فِعْلَهُ

مَشِيئَةُ رَبِّ الْخَلْقِ بَارِي الْخَلِيقَةِ

وَذَاتُ إلَهِ الْخَلْقِ وَاجِبَةٌ بِمَا

لَهَا مِن صِفَاتٍ وَاجِبَاتٍ قَدِيمَةِ

مَشِيئَتُهُ مَعَ عِلْمِهِ ثُمَّ قُدْرَةٌ

لَوَازِمُ ذَاتِ اللهِ قَاضِي الْقَضِيَّةِ

وَإِبْدَاعُهُ مَا شَاءَ مِن مُبْدِعَاتِهِ

بِهَا حِكْمَةٌ فِيهِ وَأَنْوَاعُ رَحْمَةِ

وَلَسْنَا إذَا قُلْنَا جَرَتْ بمَشِيئَةِ

مِن الْمُنْكِرِيْ آيَاتِهِ الْمُسْتَقِيمَةِ

بَلِ الْحَقُّ أَنَّ الْحُكْمَ لِلهِ وَحْدَهُ

لَهُ الْخَلْقُ وَالْأمْرُ الَّذِي فِي الشَّرِيعَةِ

هُوَ الْمَلِكُ الْمَحْمُودُ فِي كُلِّ حَالَةٍ

لَهُ الْمُلْكُ مِن غَيْرِ انْتِقَاصٍ بِشِرْكَةِ

فَمَا شَاءَ مَوْلَانَا الْإِلَهُ فَإِنَّهُ

يَكُونُ وَمَا لَا لَا يَكُونُ بِحِيلَةِ

وَقُدْرَتُهُ لَا نَقْصَ فِيهَا وَحُكْمُهُ

يَعُمُّ فَلَا تَخْصِيصَ فِي ذِي الْقَضِيَّةِ

أُرِيدَ بِذَا أَنَّ الْحَوَادِثَ كُلَّهَا

بِقُدْرَتِهِ كَانَت وَمَحْضِ الْمَشِيئَةِ

وَمَالِكُنَا فِي كُلِّ مَا قَد أَرَادَهُ

لَهُ الْحَمْدُ حَمْدًا يَعْتَلِي كُلَّ مِدْحَةِ

فَإِنَّ لَهُ فِي الْخَلْقِ رَحْمَتَهُ سَرَتْ

وَمَن حَكَمَ فَوْقَ الْعُقُولِ الْحَكِيمَةِ

(1)

أُمُورًا يَحَارُ الْعَقْلُ فِيهَا إذَا رَأَى

مِن الْحِكَمِ الْعُلْيَا وَكُلَّ عَجِيبَةِ

فَنُؤْمِنُ أَنَّ اللهَ عَزَّ بِقُدْرَةٍ

وَخَلْقٍ وَإِبْرَامٍ لِحُكْمِ الْمَشِيئَةِ

فَنُثْبِتُ هَذَا كُلَّهُ لِإِلَهِنَا

وَنُثْبِتُ مَا فِي ذَاكَ مِن كُلِّ حِكْمَةِ

وَهَذَا مَقَامٌ طَالَمَا عَجَزَ الْأُلَى

نَفَوْهُ وَكَرُّوا رَاجِعِينَ بِحَيرَةِ

وَتَحْقِيقُ مَا فِيهِ بِتَبْيِينِ غَوْرِهِ

وَتَحْرِيرِ حَقِّ الْحَق فِي ذِي الْحَقِيقَةِ

(1)

هذا البيت فيه كسر.

ص: 651

هُوَ الْمَطْلَبُ الْأَقْصَى لِوُرَّادِ بَحْرِهِ

وَذَا عَسِرٌ فِي نَظْمِ هذي الْقَصِيدَةِ

لِحَاجَتِهِ إلَى بَيَانٍ مُحَقِّقٍ

لِأَوْصَافِ مَوْلَانَا الْإِلَهِ الْكَرِيمَةِ

وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَأَحْكَامِ دِينِهِ

وَأَفْعَالِهِ فِي كُلِّ هذي الْخَلِيقَةِ

وَهَذَا بِحَمْدِ اللهِ قَد بَانَ ظَاهِرًا

وَإِلْهَامُهُ لِلْخَلْقِ أَفْضَلُ نِعْمَةِ

وقد قِيلَ فِي هَذَا وَخَطُّ كِتَابِهِ

بَيَانُ شِفَاءٍ لِلنُّفُوسِ السَّقِيمَةِ

فَقَوْلُكَ: لِمْ

(1)

قَد شَاءَ؟ مِثْلُ سُؤَالِ مَن

يَقُولُ: فَلِمْ قَد كَانَ فِي الْأَزَليَّةِ

وَذَاكَ سُؤَالٌ يُبْطِلُ الْعَقْلُ وَجْهَهُ

وَتَحْرِيمُهُ قَد جَاءَ فِي كُلِّ شِرْعَةِ

وَفِي الْكَوْنِ تَخْصِيصٌ كَثِيرٌ يَدُلُّ مَن

لَهُ نَوْعُ عَقْل أَنَّهُ بِإِرَادَةِ.

فَأَنْتَ تَعِيبُ الطَّاعِنِينَ جَمِيعَهُم

عَلَيْكَ وَتَرْمِيهِمْ بِكُلِّ مَذَمَّةِ

وَتَنْحَلُ مَن وَالَاكَ صَفْوَ مَوَدَّةٍ

وَتُبْغِضُ مَن ناواك مِن كُلِّ فِرْقَةِ

وَحَالُهُمُ فِي كُلِّ قَوْلٍ وَفِعْلَةٍ

كَحَالِكَ يَا هَذَا بِأَرْجَحِ حُجَّةِ

وَهَبْكَ كَفَفْتَ اللَّوْمَ عَن كُلِّ كَافِرٍ

وَكُلِّ غَوِيٍّ خَارجٍ عَن مَحَبَّةِ

فَيَلْزَمُكَ الْإِعْرَاضُ عَن كُلِّ ظَالِمٍ

عَلَى النَّاسِ فِي نَفْسٍ وَمَالٍ وَحُرْمَةِ

وَلَا تَغْضَبَنْ يَوْمًا عَلَى سَافِكٍ دَمًا

وَلَا سَارِقٍ مَالًا لِصَاحِبِ فَاقَةِ

وَلَا شَاتِمٍ عِرضًا مَصُونًا وَإِن عَلَا

وَلَا نَاكِحٍ فَرْجًا عَلَى وَجْهِ غِيَّةِ

وَلَا قَاطِع لِلنَّاسِ نَهْجَ سَبِيلِهِمْ

وَلَا مُفْسِدٍ فِي الْأَرْضِ فِي كُلِّ وجهة

وَلَا شَاهِدٍ بِالزُّورِ إفْكًا وَفِرْيَةً

وَلَا قَاذِفٍ لِلْمُحْصَنَاتِ بِزَنْيَةِ

وَلَا مُهْلِكٍ لِلْحَرْثِ وَالنَّسْلِ عَامِدًا

وَلَا حَاكِمٍ لِلْعَالَمِينَ بِرِشْوَةِ

وَكُفَّ لِسَانَ اللَّوْمِ عَن كُلِّ مُفْسِدٍ

وَلَا تَأْخُذَنْ ذَا جرمةٍ بِعُقُوبَةِ

وَسَهِّلْ سَبِيلَ الْكَاذِبِينَ تَعَمُّدًا

عَلَى رَبِهِم مِن كُلِّ جَاءٍ بِفِرْيَةِ

وَإِن قَصَدُوا إضْلَالَ مَن يَسْتَجِيبُهُم

بِرَوْمِ فَسَادِ النَّوْعِ ثُمَّ الرِّيَاسَةِ

وَجَادِلْ عَن الْمَلْعُونِ فِرْعَوْنَ إذ طَغَى

فَأُغْرِقَ فِي الْيَمِّ انْتِقَامًا بِغَضْبَةِ

وَكُلِّ كَفُورٍ مُشْرِكٍ بِإِلَهِهِ

وَآخَرَ طَاغٍ كَافِرٍ بِنُبُوَّةِ

(1)

بسكون الميم في الموضعين، وهذه للضرورة، وقد تكون لغةً.

ص: 652

كَعَادٍ ونمروذٍ وَقَوْمٍ لِصَالِحٍ

وَقَوْمٍ لِنُوحٍ ثُمَّ أَصْحَابِ أَيْكَةِ

وَخَاصِمْ لِمُوسَى ثُمَّ سَائِرِ مَن أَتَى

مِن الْأَنْبِيَاءِ مُحْيِيًا لِلشَّرِيعَةِ

عَلَى كَوْنِهِمْ قَد جَاهَدُوا النَّاسَ إذ بَغَوْا

وَنَالُوا مِن الْعَاصِي

(1)

بَلِيغَ الْعُقُوبَةِ

وَإلَّا فَكُلُّ الْخَلْقِ فِي كُلِّ لَفْظَةٍ .... وَلَحْظَةِ عَيْنٍ أَو تَحَرُّكِ شَعْرَةِ

وَبَطْشَةِ كَفٍّ أَو تَخَطِّي قَدِيمَةٍ

وَكُلِّ حَرَاكٍ بَل وَكُلِّ سَكِينَةِ

همُ تَحْتَ أَقْدَارِ الْإِلَهِ وَحُكْمِهِ

كَمَا أَنْتَ فِيمَا قَد أَتَيْتَ بِحُجَّةِ.

وَيَكْفِيكَ نَقْضًا مَا بِجِسْمِ ابْنِ آدَمٍ

صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ وَكُلِّ بَهِيمَةِ

مِن الْأَلَمِ الْمَقْضِيِّ فِي غَيْرِ حِيلَةٍ

وَفِيمَا يَشَاءُ اللهُ أَكْمَلُ حِكمَةِ

إذَا كَانَ فِي هَذَا لَهُ حِكْمَةٌ فَمَا

يُظَنُّ بِخَلْقِ الْفِعْلِ ثُمَّ الْعُقُوبَةِ؟

وَكَيْفَ وَمنْ هَذَا عَذَابٌ مُوَلَّدٌ

عَن الْفِعْلِ فِعْلِ الْعَبْدِ عِنْدَ الطَّبِيعَةِ؟

كَآكِلِ سُمٍّ أَوْجَبَ الْمَوْتَ أَكْلُهُ

وَكُلٌّ بِتَقْدِيرٍ لِرَبِّ الْبَرِيَّةِ

فَكُفْرُكَ يَا هَذَا كَسُمٍّ أَكَلْتَهُ

وَتَعْذِيبُ نَارٍ مِثْلُ جَرْعَةِ غُصَّةِ

أَلَسْتَ تَرَى فِي هَذِهِ الدَّارِ مَن جَنَى

يُعَاقَبُ إمَّا بالقضا أَو بِشِرْعَةِ؟

وَلَا عُذْرَ لِلْجَانِي بِتَقْدِيرِ خَالِقٍ

كَذَلِكَ فِي الْأُخْرَى بِلَا مَثْنَوِيَّةِ.

وَقَوْلُ حَلِيفِ الشَّرِّ إنِّي مُقَدَّرٌ

عَلَيَّ كَقَوْلِ الذِّئْبِ هذي طَبِيعَتِي

وَتَقْدِيرُهُ لِلْفِعْلِ يَجْلِبُ نِقْمَةً

كَتَقْدِيرِهِ الْأَشْيَاءَ طَرًّا بِعِلَّةِ

فَهَل يَنْفَعَن عُذْرُ الْمَلُومِ بأَنَّهُ

كَذَا طَبْعُهُ أَمْ هَل يُقَالُ لِعَثْرَةِ؟

أَم الذَّمُّ وَالتَّعْذِيبُ أَوْكَدُ لِلًّذِي

طَبِيعَتُهُ فِعْلُ الشُّرُورِ الشَّنِيعَةِ؟

فَإِنْ كُنْتَ تَرْجُو أَنْ تُجَابَ بِمَا عَسَى

يُنَجِّيكَ مِن نَارِ الْإِلَهِ الْعَظِيمَةِ

فَدُونَكَ رَبُّ الْخَلْقِ فَاقْصِدْهُ ضَارِعًا

مُرِيدًا لِأَنْ يَهْدِيَكَ نَحْو الْحَقِيقَةِ

وَذَلِّلْ قِيَادَ النَّفْسِ لِلْحَقِّ وَاسْمَعَن

وَلَا تُعْرِضَنْ عَن فِكرَةٍ مُسْتَقِيمَةِ

وَمَا بَانَ مِن حَقٍّ فَلَا تَتْزكَنَّه

وَلَا تَعْصِ مَن يَدْعُو لِأَقْوَمِ شِرْعَةِ

وَدَعْ دِينَ ذَا الْعَادَاتِ لَا تَتْبَعَنَّهُ

وَعُجْ عَن سَبِيلِ الْأُمَّةِ الْغَضَبِيَّةِ

(1)

في الأصل: الْمَعَاصِي، ولعل الصواب: المثبت، ليستقيم الوزن والمعنى.

ص: 653

وَمَن ضَلَّ عَن حَقٍّ فَلَا تَقْفُوَنَّهُ

وَزِنْ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ بالمعدلية

هُنَالِكَ تَبْدُو طَالِعَاتٌ مِن الْهُدَى

تُبَشِّرُ مَن قَد جَاءَ بِالْحَنِيفِيَّةِ

بِمِلَّةِ إبْرَاهِيمَ ذَاكَ إمَامُنَا

وَدِينِ رَسُولِ اللهِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ

فَلَا يَقْبَلُ الرَّحْمَنُ دِينًا سِوَى الَّذِي

بِهِ جَاءَتِ الرُّسْلُ الْكِرَامُ السَّجِيَّةِ.

وَحُجَّةُ مُحْتَجٍّ بِتَقْدِيرِ رَبِّهِ

تَزِيدُ عَذَابًا كَاحْتِجَاجِ مَرِيضَةِ

وَأَمَّا رِضَانَا بِالْقَضَاءِ فَإِنَّمَا

أُمِرْنَا بِأَنْ نَرْضَى بِمِثْل الْمُصِيبَةِ

كَسُقْم وَفَقْرٍ ثُمَّ ذُلٍّ وَغُرْبَةِ

وَمَا كَانَ مِن مُؤْذٍ بِدُونِ جَرِيمَةِ

فَأمَّا الْأَفَاعِيلُ الَّتِي كُرِهَتْ لَنَا

فَلَا تُرْتَضَى مَسْخُوطَةَ لِمَشِيئَةِ

وقَد قَالَ قَوْمٌ مِن أُولي الْعِلْمِ لَا رضى

بِفِعْلِ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ الْكَبِيرَةِ

وَقَالَ فَرِيقٌ نَرْتَضِي بِقَضَائِهِ

وَلَا نَرْتَضِي الْمَقْضِيَّ أَقْبَحَ خَصْلَةِ

وَقَالَ فَرِيقٌ نَرْتَضِي بِإِضَافَةِ

إلَيْهِ وَمَا فِينَا فَنُلْقِيْ بِسَخْطَةِ

كَمَا أَنَّهَا لِلرَّبِّ خَلْقٌ وَإِنَّهَا

لِمَخْلُوقِهِ لَيْسَتْ كَفِعْلِ الْغَرِيزَةِ

فَنَرْضَى مِن الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ خَلْقُهُ

وَنَسْخَطُ مِن وَجْهِ اكْتِسَابِ الْخَطِيئَةِ

وَأمْرُ إلَهِ الْخَلْقِ بَيّن مَا بِهِ

يَسُوقُ أُولِي التَّنْعِيمِ نَحْو السَّعَادَةِ

فَمَن كَانَ مِن أَهْلِ السَّعَادَةِ أَثَّرَتْ

أَوَامِرُهُ فِيهِ بِتَيْسِيرِ صَنْعَةِ

وَمَن كَانَ مِن أَهْلِ الشَّقَاوَةِ لَمْ يَنَلْ

بِأَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ بِتَقْدِيرِ شِقْوَةِ

وَلَا مَخْرَجٌ لِلْعَبْدِ عَمَّا بِهِ قُضِيْ

وَلَكِنَّهُ مُخْتَارُ حُسْنٍ وَسَوْأَةِ

فَلَيْسَ بِمَجْبُورٍ عَدِيمِ الْإِرَادَةِ

وَلَكِنَّهُ شَاءَ بِخَلْقِ الْإِرَادَةِ

وَمِن أَعْجَبِ الْأَشْيَاءِ خَلْقُ مَشِيئَةٍ

بِهَا صَارَ مُخْتَارَ الْهُدَى بِالضَّلَالَةِ

فَقَوْلُكَ: هَل أخْتَارَ تَرْكًا لِحِكْمَةٍ؟

كَقَوْلِكَ: هَل أخْتَارَ تَرْكَ الْمَشِيئَةِ؟

(1)

(1)

والمعنى: فقولك أيها المعترض: هل أختار ترك حكم الله وقدره مثل قولك: هل أختار ترك مشيئتي؟

يعني: فأنت الذي اخترت أفعال المعاصي، فلو زعمت: أنك لا تختار ولا تحب فعل الضلالة والغي، فأنت بين أمرين:

- إما أن تكون كاذبًا، وهو الواقع على كل من يعترض على المعاصي بالقدر ولكنه يريد بهذا الكلام دفع الشنعة عليه، وقصده معروف، فهو يعرف من نفسه: أنه لا يختار ولا يحب أن =

ص: 654

وَأَخْتَارُ أَنْ لَا أخْتَارَ فِعْلَ ضَلَالَةٍ

وَلَو نِلْتُ هَذَا التَّرْكَ فُزْتُ بِتَوْبَةِ

وَذَا مُعْكِنٌ لَكِنَّهُ مُتَوَقِّفٌ

عَلَى مَا يَشَاءُ اللهُ مِن ذِي الْمَشِيئَةِ

فَدُونَك فَافْهَمْ مَا بِهِ قَد أَجَبْتُ مِن

مَعَانٍ إذَا انْحَلَّتْ بِفَهْمِ غَرِيزَةِ

أَشَارَتْ إلَى أَصْلٍ يُشِيرُ إلَى الْهُدَى

وَللهِ رَبُّ الْخَلْقِ أَكْمَلُ مِدْحَةِ

وَصَلَّى إلَهُ الْخَلْقِ جل جلاله

عَلَى الْمُصْطَفَى الْمُخْتَارِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ [8/ 245 - 255]

* * *

(الرد علي من احتج بالقدر على ارتكاب المعاصي)

616 -

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَن أَقْوَامٍ يَحْتَجُّونَ بِسَابِقِ الْقَدَرِ، وَيَقُولُونَ: إنَّهُ قَد مَضَى الْأَمْرُ، وَالشَّقِيُّ شَقِيٌّ، وَالسَّعِيدُ سَعِيدٌ .. قَائِلِينَ بِأَنَّ اللهَ قَدَّرَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَالزنى مَكْتُوبٌ عَلَيْنَا، وَمَا لنَا فِي الْأَفْعَالِ قُدْرَةٌ؟.

فَأَجَابَ -رَحِمَهُ الله تَعَالَى-: هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ إذَا أَصَرُّوا عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ كَانُوا أَكْفَرَ مِن الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَصَارَى يُؤْمِنُونَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، لَكِنْ حَرَّفُوا وَبَدَّلُوا وَآمَنُوا بِبَعْضِ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ.

= يترك ما باشره من الكفر والإجرام.

- فلو فرض وقدر على وجه الإمكان أنه صادق في قوله: "إني أختار أن لا أختار فعل الضلالة"، وكان ذلك من صميم قلبه صادقًا في ذلك لو كان الأمر كذلك، لكان هذا توبة.

لأن العبد متى كانت له إرادة مصممة على فعل ما يحبه الله، وعلى ثرك ما يكرهه الله: أقبل بهذه الإرادة إلى الخيرات، وانصراف عن السوء والسيئات، وكان توبة له من جميع الموبقات.

ولكن من وفق لهذه الحال، كان أبعد الناس عن الاحتجاج بالقدر. والوصول إلى هذه الدرجة العالية، ممكن في حق كل أحد، ولكنه يتوقف على مشيئة الله وإرادته.

ومن لجأ إلى الله وأناب إليه، هداه الله، وشاء منه أن يفعل ما يحبه ويرضاه.

وأشار الشيخ إلى هذا الفرق اللطيف، بقوله:

"على ما يشاء الله من ذي المشيئة". [يُنظر: الدرة البهية شرح القصيدة التائية في حل المشكلة القدرية، للشيخ عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي (المتوفى 1376 هـ): (76 - 77)].

ص: 655

وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ يَظْهَرُ بُطْلَانُهُ مِن وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ الْوَاحِدَ مِن هَؤُلَاءِ:

-إمَّا انْ يَرَى الْقَدَر حُجَّةً لِلْعَبْدِ.

- وَإِمَّا أنْ لَا يَرَاهُ حُجَّةً لِلْعَبْدِ.

فَإِنْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةَ لِلْعَبْدِ: فَهُوَ حُجَّةٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ؛ فَإِنَّهُم كُلَّهُم مُشْتَرِكونَ فِي الْقَدَرِ، وَحِينَئِذٍ فَيَلْزَمُ أنْ لَا يُنْكِرَ عَلَى مَن يَظْلِمُهُ وَيَشْتُمُهُ، وَيَأْخُذُ مَالَهُ، وَيُفْسِدُ حَرِيمَهُ، وَيَضْرِبُ عُنُقَهُ، وَيُهْلِكُ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، وَهَؤُلَاءِ جَمِيعُهُم كَذَّابُونَ مُتَنَاقِضونَ؛ فَإِنَّ أَحَدَهُم لَا يَزَالُ يَذُمُّ هَذَا، وَيُبْغِضُ هَذَا، وَيُخَالِفُ هَذَا، حَتَّى إنَ الَّذِي يُنْكِرُ عَلَيْهِم يُبْغِضُونَهُ وَيُعَادُونَهُ وَيُنْكِرُونَ عَلَيْهِ.

فَإِنْ كَانَ الْقَدَرُ حجَّةً لِمَن فَعَلَ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَرَكَ الْوَاجِبَاتِ: لَزِمَهُم أَنْ لَا يَذُمُّوا احَدًا، وَلَا يُبْغِضُوا أَحَدًا، وَلَا يَقُولُوا فِي أَحَدٍ: إنَّهُ ظَالِمٌ وَلَو فَعَلَ مَا فَعَلَ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ أَحَدَا فِعْلُهُ، وَلَو فَعَلَ النَّاسُ هَذَا لَهَلَكَ الْعَالَمُ، فَتبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُم فَاسِدٌ فِي الْعَقْلِ، كَمَا أَنَّهُ كُفْرٌ فِي الشَّرْعِ، وَأنَّهُم كَذَّابُونَ مُفْتَرُونَ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ الْقَدَرَ حُجَّةٌ لِلْعَبْدِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّ هَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ إبْلِيسُ وَفِرْعَوْنُ وَقَوْمُ نُوحٍ وَعَادٍ وَكُلُّ مَن أَهْلَكَهُ اللهُ بِذُنُوبِهِ مَعْذُورًا، وَهَذَا مِن الْكُفْرِ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَرْبَابُ الْمِلَلِ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يُفَرّقَ بَيْنَ أَوْليَاءِ اللهِ وَأَعْدَاءِ اللهِ، وَلَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكفَّارِ وَلَا أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ. وَقَد قَالَ تَعَالَى:{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} [ص: 28].

وَذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ جَمِيعَهُم سَبَقَتْ لَهُم عِنْدَ اللهِ السَّوَابِقُ، وَكَتَبَ اللهُ

ص: 656

مَقَادِيرَهُم قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ، وَهُم مَعَ هَذَا قَد انْقَسَمُوا إلَى سَعِيدٍ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَإِلَى شَقِيٍّ بِالْكُفْرِ وَالْفِسْقِ وَالْعِصْيَانِ، فَعُلِمَ بِذلِكَ أَنَّ الْقَضَاءَ وَالْقَدَرَ لَيْسَ بِحُجَّة لِأَحَد عَلَى مَعَاصِي اللهِ.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْقَدَرَ نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نَحْتَجُّ بِهِ، فَمَن احْتَج بِالْقَدَرِ فَحُجَّتُهُ دَاحِضَةٌ، وَمَن اعْتَذَرَ بِالْقَدَرِ فَعُذْرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَلَو كَانَ الِاحْتِجَاجُ مَقْبُولًا لَقُبِلَ مِن إبْلِيسَ وَغَيْرِهِ مِن الْعُصَاةِ، وَلَو كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لِلْعِبَادِ لَمْ يُعَذَّبْ أَحَدٌ مِن الْخَلْقِ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَلَو كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لَمْ تُقْطَعْ يَدُ سَارِقٍ، وَلَا قُتِلَ قَاتِلٌ، وَلَا أُقِيمَ حَدٌّ عَلَى ذِي جَرِيمَةٍ، وَلَا جُوهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَلَا أُمِرَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا نُهِيَ عَن الْمُنْكَرِ.

الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أنَّ النَّبِيَّ سُئِلَ عَن هَذَا، فَإِنَّهُ قَالَ:"مَا مِنْكُمْ مِن أَحَدٍ إلَّا وَقَد كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِن الْجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِن النَّارِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ أفَلَا نَدَعُ الْعَمَلَ، وَنَتَّكلُ عَلَى الْكِتَابِ؟ قَالَ: لَا، اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

(1)

وَمُسْلِمٌ

(2)

.

الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنْ يُقَالَ: إنَّ اللهَ عَلِمَ الْأُمُورَ وَكَتَبَهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ

(3)

، فَهُوَ سُبْحَانَهُ قَد كَتَبَ أَنَّ فُلَانًا يُؤْمِنُ وَيَعْمَلُ صَالِحًا فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَفُلَانًا يَعْصِي وَيَفْسُقُ فَيَدْخُلُ النَّارَ؛ كَمَا عَلِمَ وَكَتَبَ أَنَّ فُلَانًا يَتَزَوَّجُ امْراةً

(1)

(4949).

(2)

(2647).

(3)

فالله تعالى كتب علمه، فمَن يعلم ما كان وما سيكون، يسيرٌ عليه كتابةُ علمه، والذي خلقنا وخلق كلَّ شيءٍ، والذي يعلم السر وأخفى: يعلم ما سوف نعمله من أعمالٍ صالحةٍ أو سيئة، وإذا كان يعلم ذلك: فهو قادرٌ على كتابة علمه، ولذلك قال محمد بن سيرين رحمه الله: ما يُنْكِرُ قومٌ أنَّ الله عز وجل عَلِمَ شيئًا فكتبه؟

فهو سبحانه عَلِمَ ما سيكونُ فكتبه وأملاه في اللوح المحفوظ، وليس معنى كتب: أوجب وألزم؛ بل أملى عِلْمَه.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله خلق الخلق، وعلم ما هم عاملون، ثم قال لعلمه: كن كتابًا، فكان كتابًا.

ص: 657

وَيَطَؤُهَا فَيَأْتِيهِ وَلَدٌ، وَأَنَّ فُلَانًا يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ فَيَشْبَعُ وَيُرْوَى، وَأَنَّ فُلَانًا يَبْذُرُ الْبَذْرَ فَيَنْبُتُ الزَّرْعُ.

فَمَن قَالَ: إنْ كُنْت مِن أَهْلِ الْجَنَّةِ فَأَنَا أَدْخُلُهَا بِلَا عَمَلٍ صَالِحٍ: كَانَ قَوْلُهُ قَوْلًا بَاطِلًا مُتَنَاقِضًا؛ لِأَنَّهُ

(1)

عَلِمَ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ الصَّالِحِ، فَلَو دَخَلَهَا بِلَا عَمَلٍ كَانَ هَذَا مُنَاقِضًا لِمَا عَلِمَهُ اللهُ وَقَدَّرَهُ.

وَمِثَالُ ذَلِكَ مَن يَقُولُ: أَنَا لَا أَطَأُ امْرَأَةً، فَإِنْ كَانَ قَد قَضَى اللهُ لِي بِوَلَد فَهُوَ يُولَدُ: فَهَذَا جَاهِلٌ؛ فَإِنَّ اللهَ إذَا قَضَى بِالْوَلَدِ قَضَى أَنَّ أَبَاهُ يَطَأُ امْرَأَةً فَتَحْبِلُ فَتَلِدُ، وَأَمَّا الْوَلَدُ بِلَا حَبَلٍ وَلَا وَطْءٍ فَإِنَّ اللهَ لَمْ يُقَدِّرْهُ وَلَمْ يَكْتُبْهُ.

كَذَلِكَ الْجَنَّةُ إنَّمَا أَعَدَّهَا اللهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَمَن ظَنَّ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِلَا إيمَانٍ كَانَ ظَنُّهُ بَاطِلًا. [8/ 262 - 266]

* * *

(مَن قَالَ: إنَّ آدَمَ مَا عَصَى فَهُوَ مُكَذِّبٌ لِلْقُرْآنِ)

617 -

مَن قَالَ: إنَّ آدَمَ مَا عَصَى فَهُوَ مُكَذِّبٌ لِلْقُرْآنِ، وَيُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ؛ فَإِنَّ اللهَ قَالَ:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121]، وَالْمَعْصِيَةُ: هِيَ مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ. [8/ 269]

* * *

(جَمِيعُ الْأَسْبَابِ قَد تَقَدَّمَ عِلْمُ اللهِ بِهَا)

618 -

جَمِيعُ الْأَسْبَابِ قَد تَقَدَّمَ عِلْمُ اللهِ بِهَا، وَكِتَابَتُهُ لَهَا، وَتَقْدِيرُهُ إيَّاهَا، وَقَضَاؤُهُ بِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ رَبْطُ ذَلِكَ بِالْمُسَبَّبَاتِ، كَذَلِكَ أَيْضًا الْأَسْبَابُ الَّتِي بِهَا يُخْلَقُ النَّبَاتُ مِن إنْزَالِ الْمَطَرِ وَغَيْرِهِ مِن هَذَا الْبَابِ. [8/ 277]

* * *

(1)

أي: الله تبارك وتعالى.

ص: 658

(يَغْلَطُ الكَثِير فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ)

619 -

يَغْلَطُ كَثِيرٌ مِن النَّاسِ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مَيْسَرَةُ قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ متى كَنْت نَبِيًّا؟ وَفِي رِوَايَةٍ -مَتَى كُتِبْت نَبِيًّا؟ قَالَ: "وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ"

(1)

، فَيَظُنُّونَ أَنَّ ذَاتَه وَنُبُوَّتَهُ وُجِدَتْ حِينَئِذٍ، وَهَذَا جَهْلٌ؛ فَإِنَّ اللهَ إنَّمَا نَبَّأَة عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ مِن عُمُرِهِ وَقَد قَالَ لَهُ:{بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3]، وَقَالَ:{وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 7].

وَمَن قَالَ: إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ نَبِيًّا قَبْلَ أَنْ يُوحَى إلَيْهِ فَهُوَ كَافِرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.

وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: أَنَّ اللهَ كَتَبَ نُبُوَّتَهُ فَأَظْهَرَهَا وَأَعْلَنَهَا بَعْدَ خَلْقِ جَسَدِ آدَمَ، وَقَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ، كَمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ يَكْتُبُ رِزْقَ الْمَوْلُودِ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقَاوَتَهُ وَسَعَادَتَهُ بَعْدَ خَلْقِ جَسَدِهِ وَقَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ. [8/ 282 - 283]

* * *

(معنى قوله تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ})

620 -

قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ (ن): {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)} .

وَقَد قِيلَ فِي مَعْنَاهُ: اصْبِرْ لِمَا يُحْكَمُ بِهِ عَلَيْك.

وَقِيلَ: اصْبِرْ عَلَى أَذَاهُم لِقَضَاءِ رَبّك الَّذِي هُوَ آتٍ.

وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.

قَوْلُهُ: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} فَإِنَّ مَا فَعَلُوهُ مِن الْأَذَى هُوَ مِمَّا حُكِمَ بِهِ عَلَيْك

(1)

رواه أحمد (20596).

ص: 659

قَدَرًا، فَاصْبِرْ لِحُكْمِهِ وَإِن كَانُوا ظَالِمِينَ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا الصَّبْرُ أَعْظَمُ مِن الصَّبْرِ عَلَى مَا جَرَى وَفُعِلَ بِالْأَنْبِيَاءِ.

وَقَالَت الرُّسُلُ لِقَوْمِهِمْ: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)} [إبراهيم: 12]

(1)

.

وَالْمُؤْمِنُ مَأمُورٌ بِأنْ يَصْبِرَ عَلَى الْمَقْدُورِ؛ وَلذَلِكَ قَالَ: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120].

فَالتَّقْوَى: فِعْلُ الْمَأْمُورِ وَتَرْكُ الْمَحْظُورِ.

وَالصَّبْرُ: عَلَى أَذَاهُمْ.

ثُمَّ إنَّهُ حَيْثُ أَبَاحَ الْمُعَاقَبَةَ قَالَ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 126، 127].

فَأَخْبَرَ أَنَّ صَبْرَهُ بِاللهِ، فَاللهُ هُوَ الَّذِي يُعِينُهُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ الصَّبْرَ عَلَى الْمَكَارِهِ بِتَرْكِ الِانْتِقَامِ مِن الظَّالِمِ ثَقِيلٌ عَلَى الْأَنْفُسِ، لَكِنَّ صَبْرَهُ بِاللهِ، كَمَا أَمَرَهُ أَنْ يَكُونَ للهِ فِي قَوْلِهِ:{وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)} .

لَكِنْ هُنَاكَ ذَكَرَهُ فِي الْجُمْلَةِ الطَّلَبِيَّةِ الأَمْرِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ أَنْ يَصْبِرَ للهِ لَا لِغَيْرِهِ، وَهُنَا ذَكَرَهُ فِي الْخَبَرِيَّةِ فَقَالَ:{وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 127] فَإِنَّ الصَّبْرَ وَسَائِرَ الْحَوَادِثِ لَا تَقَعُ إلا بِاللهِ، ثُمَّ قَد يَكُونُ ذَلِكَ وَقَد لَا يَكُونُ.

(1)

فالرسل وهم أعظم الناس إيمانًا وثباتًا وصدعًا بالحق، ومع ذلك قالوا: لنصبرن على أذى قومنا وظلمهم، ولم يُقاتلوهم، ولم يُقابلوا أذاهم بالسباب والشتائم.

وقارن بين الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وبين الذين خرجوا على وليّ الأمر المسلم في بلاد الحرمين، وكيف لم يصبروا على الأذى -بزعمهم- فقاتلوا العسكر، وفجروا وأثاروا الفتن، فأين الصبر الذي أمر الله به؟ أليس لهم في الأنبياء أسوة حسنة، فهم قد صبروا على أذى قومهم، ولم يُقاتلوهم، إلا بعد أن مكن الله لهم، وأمدهم بالقوة والعتاد، وبعد أن أمرهم بذلك.

ص: 660

فَمَا لَا يَكُون بِاللهِ

(1)

: لَا يَكُونُ، وَمَا لَا يَكُونُ للهِ: لَا يَنْفَعُ وَلَا يَدُومُ. [8/ 325 - 329]

* * *

‌(الصحيح في معنى مُحاجة موسى لآدم عليه السلام

621 -

ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ"

(2)

عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ مُوسَى: يَا آدَمَ، أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ، الَّذِي خَلَقَك اللهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيك مِن رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَك مَلَائِكَتَهُ، فَلِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَك مِن الْجَنَّةِ؟

فَقَالَ لَهُ آدَمَ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي كَلَّمَك اللهُ تَكْلِيمًا، وَكَتَبَ لَك التَّوْرَاةَ، فَبِكَمْ تَجِدُ فِيهَا مَكْتُوبًا:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟

قَالَ: بِأَرْبَعِينَ سَنَةً.

قَالَ: فتَلُومُني عَلَى أَمْرٍ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟

فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى".

وَهُوَ مَرْوِيٌّ أَيْضًا مِن طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِإِسْنَاد حَسَنٍ.

وَقَد ظَنَّ كَثِيرٌ مِن النَّاسِ أَنَّ آدَمَ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ السَّابِقِ عَلَى نَفْيِ الْمَلَامِ عَلَى الذَّنْبِ.

إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ: الصَّوَابُ فِي قِصةِ آدَمَ وَمُوسَى أَنَّ مُوسَى لَمْ يَلُمْ آدَمَ إلَّا مِن جِهَةِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي أَصَابَتْهُ وَذُرِّيَّتَهُ بِمَا فَعَلَ، لَا لِأَجْلِ أَنَّ تَارِكَ الْأَمْرِ مُذْنِبٌ عَاصٍ؛ وَلهَذَا قَالَ: لِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَك مِن الْجَنَّةِ؟ لَمْ يَقُلْ: لِمَاذَا خَالَفْت الْأَمْرَ وَلمَاذَا عَصَيْت؟

وَالنَّاسُ مَأْمُورُونَ عِنْدَ الْمَصَائِبِ الَّتِي تُصِيبُهُم بِأَفْعَالِ النَّاسِ أَو بِغَيْرِ

(1)

أي: لا يكون بعون من الله وتيسيره لا يكون ولا يُيسر.

(2)

البخاري (4738)، ومسلم (2652).

ص: 661

أَفْعَالِهِمْ بِالتَّسْلِيمِ لِلْقَدَرِ، وَشُهُودِ الرُّبُوبِيَّةِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11]، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَو غَيْرُهُ: هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِن عِنْدِ اللهِ فَيَرْضَا وَيُسَلِّمُ.

وَفِي "الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ"

(1)

عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ

(2)

خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِن أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُلْ لَو أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَو تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ".

فَأَمَرَهُ بِالْحِرْصِ عَلَى مَا يَنْفَعُهُ وَهُوَ طَاعَةُ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَلَيْسَ لِلْعِبَادِ أَنْفَعُ مِن طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَأَمْرِهِ إذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ مُقَدَّرَةٌ أَنْ لَا يَنْظُرَ إلَى الْقَدَرِ، وَلَا يَتَحَسَّرَ بِتَقْدِيرٍ لَا يُفِيدُ، وَيَقُولَ: قَدَّرَ اللهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، وَلَا يَقُولَ: لَو أَنِّي فَعَلْت لَكَانَ كَذَا، فَيُقَدِّرُ مَا لَمْ يَقَعْ، يَتَمَنَّى أَنْ لَو كَانَ وَقَعَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُورِثُ حَسْرَةً وَحُزنى لَا يُفِيدُ، وَالتَّسْلِيمُ لِلْقَدَرِ هُوَ الَّذِي يَنْفَعُهُ.

كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَمْرُ أَمْرَانِ:

أ- أَمْرٌ فِيهِ حِيلَةٌ فَلَا تَعْجِزُ عَنْهُ.

ب- وَأَمْرٌ لَا حِيلَةَ فِيهِ فَلَا تَجْزَعْ مِنْهُ.

وَمَا زَالَ أَئِمَّةُ الْهُدَى مِن الشُّيُوخِ وَغَيْرِهِمْ يُوصُونَ الْإِنْسَانَ بِأَنْ يَفْعَلَ الْمَأْمُورَ، وَيَتْرُكَ الْمَحْظُورَ، وَيَصْبِرَ عَلَى الْمَقْدُورِ، وَإِن كَانَت تِلْكَ الْمُصِيبَةُ بِسَبَبِ فِعْلِ آدَمِيٍّ

(3)

.

(1)

رواه مسلم (2664).

(2)

يشمل قوة البدن والإيمان والهمة.

(3)

أكثر الناس يرون أنّ النعم التي تستحق الشكر والحمد: ما فيها نفعٌ وخيرٌ عاجل، ويرون كذلك أن المصائبَ التي يُقَدِّرها الله تعالى على العبد مِمَّا ليس لبشرٍ فيها سببٌ هي التي يُصبر عليها، ويُرضى بتفدير الله لها، ولا تَجْزَعُ النفوسُ بها؛ لأنها مما قدره الله تعالى، كما قال تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22]. =

ص: 662

فَلَو أَنَّ رَجُلًا أَنْفَقَ مَالَهُ فِي الْمَعَاصِي حَتَّى مَاتَ، وَلَمْ يُخْلِفْ لِوَلَدِهِ مَالًا، أَو ظَلَمَ النَّاسَ بِظُلْم صَارُوا لِأَجْلِهِ يُبْغِضُونَ أَوْلَادَهُ، وَيَحْرِمُونَهُم مَا يُعْطُونَهُ لِأَمْثَالِهِمْ: لَكَانَ هَذَا مُصِيبَةً فِي حَقِّ الْأَوْلَادِ حَصَلَتْ بِسَبَبِ فِعْلِ الْأَبِ.

فَإِذَا قَالَ أَحَدُهُم لِأَبِيهِ: أَنْتَ فَعَلْت بِنَا هَذَا؟

قِيلَ لِلِابْنِ: هَذَا كَانَ مَقْدُورًا عَلَيْكُمْ، وَأَنْتُمْ مَأمُورُونَ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يُصِيبُكُمْ، وَالْأَبُ عَاصٍ للهِ فِيمَا فَعَلَهُ مِن الظُّلْمِ وَالتَّبْذِيرِ، مَلُومٌ عَلَى ذَلِكَ، لَا يَرْتَفِعُ عَنْهُ ذَمُّ اللهِ وَعِقَابُهُ بِالْقَدَرِ السَّابِقِ.

فَإِنْ كَانَ الْأَبُ قَد تَابَ تَوْبَةً نَصُوحًا وَتَابَ اللهُ عَلَيْهِ وَغَفَرَ لَهُ: لَمْ يَجُزْ ذَمُّهُ وَلَا لَوْمُهُ بحَال، لَا مِن جِهَةِ حَقِّ اللهِ؛ فَإِنَّ اللهَ قَد غَفَرَ لَهُ، وَلَا مِن جِهَةِ الْمُصِيبَةِ الًّتِي حَصَلَتْ لِغَيْرِهِ بِفِعْلِهِ؛ إذ لَمْ يَكُن هُوَ ظَالِمًا لِأُولَئِكَ؛ فَإِنَّ تِلْكَ كَانَت مُقَدَّرَةً عَلَيْهِمْ.

وَهَذَا مِثَالُ قِصَّةِ آدَم: فَإِنَّ آدمَ لَمْ يَظْلِمْ أَوْلَادَهُ؛ بَل إنَّمَا وُلدُوا بَعْدَ هُبُوطِهِ مِن الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا هَبَطَ آدمَ وَحَوَّاءُ، وَلَمْ يَكُن مَعَهُمَا وَلَدٌ حَتَّى يُقَالَ: إنَّ ذَنْبَهُمَا تَعَدَّى إلَى وَلَدِهِمَا، ثُمَّ بَعْدَ هُبُوطِهِمَا إلَى الْأَرْضِ جَاءَت الْأَوْلَادُ، فَلَمْ يَكُن آدَم قَد ظَلَمَ أَوْلَادَهُ ظُلْمًا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ مَلَامَهُ، وَكَوْنُهُم صَارُوا فِي الدُّنْيَا دُونَ الْجَنَّةِ أَمْرٌ كَانَ مُقَدَّرًا عَلَيْهِمْ، لَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ لَوْمَ آدَمَ، وَذَنَبُ آدَمَ كَانَ قَد تَابَ مِنْهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)} [طه: 121، 122]، فَلَمْ يَبْقَ مُسْتَحِقًّا لِذَمّ وَلَا عِقَابٍ.

وَمُوسَى كَانَ أَعْلَمَ مِن أَنْ يَلُومَة لِحَقِّ اللهِ عَلَى ذَنَبٍ قَد عَلِمَ أَنَّهُ تَابَ مِنْهُ،

= ويبقى السؤال الكبير: هل استشعرنا أنّ المصائب والمحن التي تأتينا من الناس؛ كالأقارب والأصدقاء وغيرهم، هي نعمٌ تستحق الشكر، أو هي مثلُ التي يُقدرها الله تعالى علينا، مما ليس لبشر فيه سببٌ؛ كالجوع والمرض ونحوها؟

إنّ المصائب التي يقدرها الله تعالى علينا، قد يُجريها على أيدي الناس، وقد ئجريها على غيرهم، فلماذا لا نصبر على جميع هذه المصائب؟

ص: 663

فَمُوسَى أَيْضًا قَد تَابَ مِن ذَنْبٍ عَمِلَهُ، وَقَد قَالَ مُوسَى:{أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف: 155].

وَآدَمُ أَعْلَمُ مِن أَنْ يَحْتَجَّ بِالْقَدَرِ عَلَى أَنَّ الْمُذْنِبَ لَا مَلَامَ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ وَقَد عَلِمَ أَنَّ إبْلِيسَ لَعَنَهُ اللهُ بِسَبَبِ ذَنْبِهِ.

وَهُوَ أَيْضًا كَانَ مُقَدَّرًا عَلَيْهِ، وَآدَمُ قَد تَابَ مِن الذَّنْبِ وَاسْتَغْفَرَ، فَلَو كَانَ الِاحْتِجَاجُ بِالْقَدَرِ نَافِعًا لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ لَاحْتَجَّ وَلَمْ يَتُبْ وَيَسْتَغْفِرْ.

فَإِنْ قِيلَ: وَهُوَ قَد تَابَ فَلِمَاذَا بَعْدَ التَّوْبَةِ أهْبِطَ إلَى الْأرْضِ؟

قِيلَ: التَّوْبَةُ قَد يَكونُ مِن تَمَامِهَا عَمَلٌ صَالِحٌ يَعْمَلُهُ فَيُبْتَلَى بَعْدَ التَّوْبَةِ لِيَنْظُرَ دَوَامَ طَاعَتِهِ.

وإذَا كَانَ اللهُ تَعَالَى قَد يَبْتَلِي الْعَبْدَ مِن الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ بِمَا يُحصِّلُ مَعَة شُكْرهُ وَصَبْرهُ، أَمْ كفْرهُ وَجَزَعهُ، وَطَاعَتَهُ أمْ مَعْصِيَتَهُ: فَالتَّائِبُ أَحَقُّ بِالِابْتِلَاءِ، فَآدَمُ أُهْبِطَ إلَى الْأَرْضِ ابْتِلَاءً لَهُ، وَوَفَّقَهُ اللهُ فِي هُبُوطِهِ لِطَاعَتِهِ، فَكَانَ حَالُهُ بَعْدَ الْهُبُوطِ خَيْرًا مِن حَالِهِ قَبْلَ الْهُبُوطِ. [8/ 304 - 323]

* * *

(الْإِنْسَانُ مَأْمُورٌ بشهُودِ الْقَدَرِ وَتَوْحِيدِ الرُّبُوبيَّةِ عِنْدَ الْمَصًائِبِ وفِعْلِ الطَّاعَاتِ)

622 -

كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ مَأْمُورٌ بِشهُودِ الْقَدَرِ وَتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ عِنْدَ الْمَصَائِبِ: فَهُوَ مَأمُورٌ بِذَلِكَ عِنْدَمَا يُنْعِمُ الله عَلَيْهِ مِن فِعْلِ الطَّاعَاتِ

(1)

، فَيَشْهَدُ قَبْلَ فِعْلِهَا حَاجَتَهُ وَفَقْرَهُ إلَى إعَانَةِ اللهِ لَهُ، وَتَحَقُّقِ قَوْلِهِ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} .

(1)

فكما أنه ينسب ما يجري له من المصائب إلى قَدَر اله ومشيئته، فيرضى ويُسلم: فكذلك الواجب أن ينسب ما يفعله من الطاعات والأعمال الصالحة لمشيئة الله وفضلِه وقَدَره، حتى لا يُصاب بالغرور والعجب والاتكال على العمل.

ص: 664

وَيَدْعُو بِالْأَدْعِيَةِ الَّتِي فِيهَا طَلَبُ إعَانَةِ اللهِ لَهُ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ؛ كَقَوْلِهِ: "أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتِك".

وَرَأسُ هَذِهِ الْأَدْعِيَةِ وَأَفْضَلُهَا قَوْلُهُ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 6، 7]

(1)

.

فَهَذَا الدُّعَاءُ أَفْضَلُ الْأَدْعِيَةِ وَأَوْجَبُهَا عَلَى الْخَلْقِ فَإِنَّهُ يَجْمَعُ صَلَاحَ الْعَبْدِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَهَذِهِ أَدْعِيَةٌ كَثِيرَةٌ تَتَضَمَّنُ افْتِقَارَ الْعَبْدِ إلَى اللهِ فِي أَنْ يُعْطِيَهُ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ، فَهَذَا افْتِقَارٌ وَاسْتِعَانَةٌ بِاللهِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَطْلُوبِ.

فَإِذَا حَصَلَ بِدُعَاء أَو بِغَيْرِ دُعَاءٍ: شَهِدَ إنْعَامَ اللهِ فِيهِ، وَكَانَ فِي مَقَامِ الشُّكْرِ وَالْعُبُودِيَّةِ للهِ، وَأَنَّ هَذَا حَصَلَ بِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، لَا بِحَوْلِ الْعَبْدِ وَقُوَّتِهِ.

فَشُهُودُ الْقَدَرِ فِي الطَّاعَاتِ مِن أَنْفَعِ الْأُمُورِ لِلْعَبْدِ، وَغَيْبَتُهُ عَن ذَلِكَ مِن أَضَرِّ الْأُمُورِ بِهِ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ قَدَرِيًّا

(2)

مُنْكِرًا لِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.

وَإِن لَمْ يَكُن قَدَرِيَّ الِاعْتِقَادِ: كَانَ قَدَرِيَّ الْحَالِ؛ وَذَلِكَ يُورِثُ:

أ- الْعُجْبَ.

ب- وَالْكِبْرَ.

ج- وَدَعْوَى الْقُوَّةِ وَالْمِنَّةِ بِعَمَلِهِ.

د- وَاعْتِقَادَ اسْتِحْقَاقِ الْجَزَاءِ عَلَى اللهِ بِهِ.

(1)

قال الشيخ في موضع آخر: وَالْمُرَادُ: طَلَبُ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ وَالْعَمَلُ بِهِ جَمِيعًا. اهـ. (7/ 166)

(2)

القدري: هو الذي ينفي أن يكون الله قدر عليه الفعل والترك، ويزعم أن ذلك بمحض إرادته، ولا دخل لمشيئة الله في أعماله.

ص: 665

فَيَكُونُ مَن يَشْهَدُ الْعُبُودِيَّةَ مَعَ الذُّنُوبِ وَالِاعْتِرَافِ بِهَا -لَا مَعَ الِاحْتِجَاجِ بِالْقَدَرِ- عَلَيْهَا: خَيْرًا مِن هَذَا الَّذِي يَشْهَدُ الطَّاعَةَ مِنْهُ لَا مِن إحْسَانِ اللهِ إلَيْهِ، وَيَكُونُ أُولَئِكَ الْمُذْنِبُونَ بِمَا مَعَهُم مِن الْإِيمَانِ أَفْضَلَ مِن طَاعَةٍ بِدُونِ هَذَا الْإِيمَانِ. [8/ 330 - 331]

* * *

‌(متي لا يجب للمسلم العوض والقصاص مما ناله من أذى في مالِه وبدنه

؟)

623 -

قَد يُصِيبُ النَّاسَ مَصَائِبُ بِفِعْلِ أَقْوَامٍ مُذْنِبِينَ تَابُوا؛ مِثْل كَافِرٍ يَقْتُلُ مُسْلِمًا ثُمَّ يُسْلِمُ وَيَتُوبُ الله عَلَيْهِ، أَو يَكُونُ مُتَأَوِّلًا لِبِدْعَة ثُمَّ يَتُوبُ مِن الْبِدْعَةِ، أَو يَكُونُ مُجْتَهِدًا، أَو مُقَلِّدًا مُخْطِئًا، فَهَؤُلَاءِ إذَا أَصَابَ الْعَبْدَ أَذى بِفِعْلِهِمْ: فَهُوَ مِن جِنْسِ الْمَصَائِبِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي لَا يُطْلَبُ فِيهَا قِصَاصٌ مِن آدَمِيٍّ.

وَمِن هَذَا الْبَابِ الْقِتَالُ فِي "الْفِتْنَةِ"، قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَقَعَت الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُتَوَافِرُونَ، فَأَجْمَعُوا أَنَّ كُلَّ دَمٍ أَو مَالٍ أَو فَرْجٍ أُصِيبَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ هَدَرٌ.

وَكَذَلِكَ "قِتَالُ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلينَ"، حَيْث أَمَرَ اللهُ بِقِتَالِهِمْ إذَا قَاتَلَهُم أَهْلُ الْعَدْلِ، فَأَصَابُوا مِن أَهْلِ الْعَدْلِ نُفُوسًا وَأَمْوَالًا: لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد.

وَكَذَلِكَ "الْمُرْتَدُّونَ" إذَا صَارَ لَهُم شَوْكَةٌ فَقَتَلُوا الْمُسْلِمِينَ وَأَصَابُوا مِن دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، كَمَا اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ أَنَّهُم لَا يَضْمَنونَ بَعْدَ إسْلَامِهِمْ مَا أَتْلَفُوهُ مِن النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ؛ فَإِنَّهُم كَانُوا مُتَأَوِّلِينَ، وَإِن كَانَ تَأْوِيلُهُم بَاطِلًا.

كَمَا أَنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمُتَوَاتِرَةَ عَنْهُ مَضَتْ بِأَنَّ الْكُفَّارَ إذَا قَتَلُوا بَعْضَ

ص: 666

الْمُسْلِمِينَ وَأَتْلَفُوا أَمْوَالَهُم ثُمَّ أَسْلَمُوا: لَمْ يَضْمَنُوا مَا أَصَابُوهُ مِن النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ.

وَأَصْحَابُ تِلْكَ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ: كَانُوا يُجَاهِدُونَ، قَد اشْتَرَى اللهُ مِنْهُم أَنْفُسَهُم وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُم الْجَنَّةَ، فَعِوَضُ مَا أُخِذَ مِنْهُم عَلَى اللهِ، لَا عَلَى أُولَئِكَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ قَاتَلَهُم الْمُؤْمِنُونَ.

وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ: فَهُوَ فِي الْأَعْرَاضِ أَوْلَى، فَمَن كَانَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللهِ بِاللِّسَانِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَن الْمُنْكَرِ، وَبَيَانِ الدِّيْنِ، وَتَبْلِيغِ مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِن الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَيْرِ، وَبَيَانِ الْأَقْوَالِ الْمُخَالِفَةِ لِذَلِكَ، وَالرَّدِّ عَلَى مَن خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، أَو بِالْيَدِ كَقِتَالِ الْكُفَّارِ: فَإِذَا أُوذِيَ عَلَى جِهَادِهِ بِيَدِ غَيْرِهِ أَو لِسَانِهِ فَأَجْرُهُ فِي ذَلِكَ عَلَى اللهِ، لَا يَطْلُبُ مِن هَذَا الظَّالِمِ عِوَضَ مَظْلِمَتِهِ؛ بَل هَذَا الظَّالِمُ إنْ تَابَ وَقَبِلَ الْحَقَّ الَّذِي جُوهِدَ عَلَيْهِ فَالتَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38].

وَإن لَمْ يَتُبْ بَل أَصَرَّ عَلَى مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: فَهُوَ مُخَالِفٌ للهِ وَرَسُولِهِ، وَالْحَقُّ فِي ذُنُوبِهِ للهِ وَلرَسُولِهِ، وَإِن كَانَ أَيْضًا لِلْمُؤْمِنِينَ حَقٌّ تَبَعًا لِحَقِّ اللهِ.

وَهَذَا إذَا عُوقِبَ: عُوقِبَ لِحَقِّ اللهِ، وَلتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ، لَا لِأجْلِ الْقِصَاصِ فَقَطْ.

وَالْكُفَّارُ إذَا اعْتَدَوْا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، مِثْل أَنْ يُمَثِّلُوا بِهِمْ: فَلِلْمُسْلِمِينَ أَنْ ئمَثِّلُوا بِهِم كَمَا مَثِّلُوا، وَالصَّبْرُ أَفْضَلُ، وَإِذَا مَثَّلوا كَانَ ذَلِكَ مِن تَمَامِ الْجِهَادِ.

وَالدُّعَاءُ عَلَى جِنْسِ الظَّالِمِينَ الْكُفَّارِ مَشْرُوعٌ مَأْمُورٌ بِهِ، وَشُرِعَ الْقُنُوتُ وَالدُّعَاءُ لِلْمُؤْمِنينَ، وَالدُّعَاءُ عَلَى الْكَافِرِينَ.

وَأَمَّا الدُّعَاءُ عَلَى مُعَيَّنِينَ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَلْعَنُ فُلَانًا وَفُلَانًا: فَهَذَا قَد

ص: 667

رُوِيَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] .. ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُعَيَّنَ لَا يُعْلَمُ إنْ رضي الله عنه أنْ يَهْلِكَ

(1)

؛ بَل قَد يَكُونُ مِمَن يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْجِنْسِ، فَإِنَّهُ إذَا دُعِيَ عَلَيْهِم بِمَا فِيهِ عِزُّ الدِّينِ وَذُلُّ عَدُوِّهِ وَقَمْعُهُم كَانَ هَذَا دُعَاءً بِمَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ؛ فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْإِيمَانَ وَأَهْلَ الْإِيمَانِ وَعُلُوَّ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَذُلَّ الْكُفَّارِ، فَهَذَا دُعَاءٌ بِمَا يُحِبُّ اللّهُ.

وَأَمَّا الدُّعَاءُ عَلَى الْمُعَيَّنِ بِمَا لَا يَعْلَمُ أَنَّ اللهَ يَرْضَاهُ: فَغَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ، وَقَد كَانَ يَفْعَلُ ثُمَّ نَهَى عَنْهُ؛ لِأَنَّ اللهَ قَد يَتُوبُ عَلَيْهِ أَو يُعَذِّبُهُ.

وَدُعَاءُ نُوحٍ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ بِالْهَلَاكِ كَانَ بَعْدَ أَنْ أَعْلَمَهُ اللهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ مِن قَوْمِك إلَّا مَن قَد آمَنَ.

وَهَذَا لَو كَانَ مَأْمُورًا بِهِ: لَكَانَ شَرْعًا لِنُوح، ثُمَّ نَنْظُرُ فِي شَرْعِنَا هَل نَسَخَهُ أَمْ لَا؟

وَكَذَلِكَ دُعَاءُ مُوسَى بِقَوْلِهِ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88] إذَا كَانَ دُعَاءً مَأْمُورًا بِهِ: بَقِيَ النَّظَرُ فِي مُوَافَقَةِ شَرْعِنَا لَهُ.

وَالْقَاعِدَةُ الْكُلِّيَّةُ فِي شَرْعِنَا:

أ- أَنَّ الدُّعَاءَ إنْ كَانَ وَاجِبًا أَو مُسْتَحَبًّا فَهُوَ حَسَنٌ يُثَابُ عَلَيْهِ الدَّاعِي.

ب- وَإِن كَانَ مُحَرَّمًا كَالْعُدْوَانِ فِي الدِّمَاءِ فَهُوَ ذَنْبٌ وَمَعْصِيَةٌ.

ج- وَإِن كَانَ مَكْرُوهًا فَهُوَ يُنْقِصُ مَرْتبَةَ صَاحِبِهِ.

د- وَإِن كَانَ مُبَاحًا مُسْتَوِيَ الطَّرَفَيْنِ فَلَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ فَهَذَا هَذَا. [8/ 333 - 336]

* * *

(1)

لم يتضح لي معنى العبارة، ولعل صوابها: وَذَلِكَ لِأنَّ الْمُعَيَّنَ لَا يُعْلَمُ أرَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَو يَهْلِكَ. والله أعلم.

ص: 668

(تَحْقِيق الشَّهَادَتين يَقْتَضِي عدة أمور)

624 -

إِنَّ تَحْقِيقَ الشَّهَادَةِ بِالتَّوْحِيدِ يَقْتَضِي:

- أَنْ لَا يُحِبَّ إلَّا للهِ.

- وَلَا يُبْغِضَ إلَّا للهِ.

- وَلَا يُوَالِيَ إلَّا للهِ.

- وَلَا يُعَادِيَ إلَّا للهِ.

- وَأَنْ يُحِبَّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ.

- وَيُبْغِضَ مَا أَبْغَضَهُ.

- وَيَأْمُرَ بِمَا أَمَرَ اللهُ بِهِ.

- وَيَنْهَى عَمَّا نَهَى اللهُ عَنْهُ.

- وَأَنَّك لَا تَرْجُو إلَّا اللهَ.

- وَلَا تَخَافُ إلَّا اللهَ.

- وَلَا تَسْأَلُ إلَّا اللهَ.

وَهَذَا مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ، وَهَذَا الْإِسْلَامُ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ جَمِيعَ الْمُرْسَلِينَ

(1)

.

فَيَكُونُ مَعَ الْحَقِّ بِلَا خَلْقٍ، كَمَا قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ: كُنْ مَعَ الْحَقِّ بِلَا خَلْقٍ، وَمَعَ الْخَلْقِ بِلَا نَفْسٍ

(2)

.

(1)

ليسأل كلُّ واحد منا نفسه: هل هذه الصفات الإيمانية متحققة في قلبه؟

(2)

قال العلامة ابن القيم رحمه الله: تَأَمَّلْ. مَا أجَلَّ هَاتَيْنِ الْكلِمَتَيْنِ مَعَ اخْتِصَارِهِمَا، وَمَا أَجْمَعَهُمَا لِقَوَاعِدِ السُّلُوكِ وَلكُل خُلُقِ جَمِيلٍ؟ وَفَسَادُ الْخُلُقِ إِنَّمَا يَنْشَأُ مِنْ:

أ- تَوَسُّطِ الْخَلْقِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى.

ب- وَتَوَسُّطِ النَّفْسِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ خَلْقِهِ.

فَمَتَى عَزَلْتَ الْخَلْقَ -حَالَ كَوْيكَ مَعَ اللهِ تَعَالَى- وَعَزَلْتَ النَّفْسَ -حَالَ كَوْنِكَ مَعَ الْخَلْقِ-: فَقَد فُزْتَ بِكُل مَا أشَارَ إِلَيْهِ الْقَوْمُ، وَشَمَّرُوا إِلَيْهِ، وَحَامُوا حَوْلَهُ. اهـ. مدراج السالكين (2/ 310).

ص: 669

وَتَحْقِيقُ الشَّهَادَةِ بِأَنَّ محَمَّدًا رَسُولُ اللهِ يُوجِبُ:

- أَنْ يَكُونَ طَاعَتُهُ طَاعَةَ اللهِ.

- وَإِرْضَاؤُهُ إرْضَاءَ اللهِ.

- وَدِين اللهِ مَا أَمَرَ بِهِ؛ فَالْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ، وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ.

وَلهَذَا طَالَبَ اللهُ الْمُدَّعِينَ لِمَحَبَّتِهِ بِمُتَابَعَتِهِ فَقَالَ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، وَضَمِنَ لِمَن اتَّبَعَهُ أَنَّ اللهَ يُحِبُّهُ بِقَوْلِهِ:{يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} .

وَصَاحِبُ هَذِهِ الْمُتَابَعَةِ لَا يَبْقَى مُرِيدًا إلَّا مَا أَحَبَّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَلَا كَارِهًا إلَّا لِمَا كَرِهَهُ الله وَرَسُولُهُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُحِبُّهُ الْحَقُّ كَمَا قَالَ:"وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْته كنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ ائَتي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِى يَمْشِي بِهَا، فَبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ، وَبِي يَبْطِشُ، وَبِي يَمْشِي، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنهُ"

(1)

. [8/ 337 - 338]

* * *

(النُّفُوسُ قَد تَدَّعِي مَحَبَّةَ اللهِ)

625 -

النُّفُوسُ قَد تَدَّعِي مَحَبَّةَ اللهِ، وَتَكُونُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَحَبَّةَ شِرْكٍ، تُحِبُّ مَا تَهْوَاهُ، وَقَد أَشْرَكَتْة فِي الْحُبِّ مَعَ اللهِ، وَقَد يَخْفَى الْهَوَى عَلَى النَّفْسِ؛ فَإِنَّ حُبَّك الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ.

وَهَكَذَا الْأَعْمَادَ الَّتِي يَظُنُّ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ يَعْمَلُهَا للهِ، وَفِي نَفْسِهِ شِرْكٌ قَد خَفِيَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَعْمَلُهُ: إمَّا لِحُبِّ رِياسَةٍ، وَإِمَّا لِحُبِّ مَالٍ، وَإِمَّا لِحُبِّ صُورَةٍ؛ وَلهَذَا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَحَمِيَّةً وَرِياءً فَأَيُّ ذَلِكَ فِي

(1)

رواه البخاري (6502).

ص: 670

سَبِيلِ اللهِ؟ فَقَالَ: "مَن قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ"

(1)

[8/ 359 - 360]

* * *

(مَن لَمْ يَسْتَحْسِن الْحَسَنَ الْمَأْمُورَ بِهِ، وَلَمْ يَسْتَقْبِح السَّيِّئَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ: لَمْ يَكُن مَعَهُ مِن الْإِيمَانِ شَيْءٌ)

626 -

مَن لَمْ يَسْتَحْسِن الْحَسَنَ الْمَأْمُورَ بِهِ، وَلَمْ يَسْتَقْبح السَّيِّئَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ: لَمْ يَكُن مَعَهُ مِن الْإِيمَانِ شَيءٌ؛ كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "مَن رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ

(2)

". [8/ 367]

* * *

(اللهُ تَعَالَى قَد أَمَرَنَا أَلَّا نَمُوتَ إلَّا عَلَى الْإِسْلَامِ)

627 -

اللهُ تَعَالَى قَد أَمَرَنَا أَلَّا نَمُوتَ إلَّا عَلَى الْإِسْلَامِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، وَقَالَ الصِّدِّيقُ:{تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101]، وَالصَّحِيحُ مِن الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ لَمْ يَسْأَل الْمَوْتَ وَلَمْ يَتَمَنَّهُ، وَإِنَّمَا سَأَلَ أَنَّهُ إذَا مَاتَ يَمُوتُ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَسَأَلَ الصِّفَةَ لَا الْمَوْصُوفَ كَمَا أَمَرَ اللهُ بِذَلِكَ، وَأَمَرَ بِهِ خَلِيلَهُ إبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ، وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِن الْعُلَمَاءِ؛ مِنْهُم ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ. [8/ 370]

* * *

(اسْتِطَاعَةُ الْعَبْدِ نوعان)

628 -

تَكَلَّمَ النَّاسُ مِن أَصْحَابِنَا وَغَيْوِهِمْ فِي اسْتِطَاعَةِ الْعَبْدِ: هَل هِيَ مَعَ فِعْلِهِ أَمْ قَبْلَهُ؟.

(1)

رواه البخاري (123).

(2)

رواه مسلم (49).

ص: 671

وَالصَّوَابُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ: أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ مُتَقَدِّمَة عَلَى الْفِعْلِ، وَمُقَارِنَة لَهُ أَيْضًا، وَتُقَارِنُهُ أَيْضًا اسْتِطَاعَةٌ أُخْرَى لَا تَصْلُحُ لِغَيْرِهِ.

فَالِاسْتِطَاعَةُ نَوْعَانِ:

أ- مُتَقَدِّمَةٌ صَالِحَةٌ لِلضِّدَّيْنِ.

ب- وَمُقَارِنَةٌ لَا تَكُونُ إلا مَعَ الْفِعْلِ.

فَتِلْكَ: هِيَ الْمُصَحِّحَةُ لِلْفِعْلِ الْمُجَوِّزَةُ لَهُ.

وَهَذِهِ: هِيَ الْمُوجِبَةُ لِلْفِعْلِ الْمُحَقِّقَةُ لَهُ.

قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي الْأُولَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، وَلَو كَانَت هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةُ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ الْفِعْلِ لَمَا وَجَبَ الْحَجُّ إلَّا عَلَى مَن حَجَّ، وَلَمَا عَصَى أَحَدٌ بِتَرْكِ الْحَجِّ، وَلَا كَانَ الْحَجُّ وَاجِبًا عَلَى أَحَدٍ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِهِ؛ بَل قَبْلَ فَرَاغِهِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] فَاَمَرَ بِالتَّقْوَى بِمِقْدَارِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَلَو أَرَادَ الِاسْتِطَاعَةَ الْمُقَارِنَةَ لَمَا وَجَبَ عَلَى أَحَدٍ مِن التَّقْوَى إلَّا مَا فَعَلَ فَقَط؛ إذ هُوَ الَّذِي قَارَنَتْهُ تِلْكَ الِاسْتِطَاعَةُ.

وَأَمَّا الِاسْتِطَاعَةُ الْمُقَارِنَةُ الْمُوجِبَةُ: فَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود: 20]، وَقَوْلِهِ:{الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)} [الكهف: 101] فَهَذِهِ الِاسْتِطَاعَةُ هِيَ الْمُقَارِنَةُ الْمُوجِبَةُ؛ إذ الْأُخْرَى لَا بُدَّ مِنْهَا فِي التَّكْلِيفِ.

فَالْأُولَى: هِيَ الشَّرْعِيَّةُ، الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَعَلَيْهَا يَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ، وَهِيَ الْغَالِبَةُ فِي عُرْفِ النَّاسِ.

وَالثَّانِيَةُ: هِيَ الْكَوْنِيَّةُ، الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَبِهَا يَتَحَقَّقُ وُجُودُ الْفِعْلِ.

ص: 672

فَالْأُولَى: لِلْكلِمَاتِ الْأَمْرِيَّاتِ الشَّرْعِيَّاتِ.

وَالثَّانِيَةُ: لِلْكَلِمَاتِ الْخَلْقِيَّاتِ الْكَوْنِيَّاتِ.

كَمَا قَالَ: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} [التحريم: 12].

وَقَد اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قُدْرَةِ الْعَبْدِ عَلَى خِلَافِ مَعْلُومِ الْحَقِّ أَو مُرَادِهِ؟

وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ قَد يَكُونُ قَادِرًا بِالْقُدْرَةِ الْأُولَى الشَّرْعِيَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الْفِعْلِ، فَإِنَّ اللهَ قَادِرٌ أَيْضًا عَلَى خِلَافِ الْمَعْلُومِ وَالْمُرَادِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُن قَادِرًا إلَّا عَلَى مَا فَعَلَهُ، وَلَيْسَ الْعَبْدُ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ بِالْقُدْرَةِ الْمُقَارِنَةِ لِلْفِعْلِ، فَإنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا مَا عَلِمَ اللهُ كَوْنَة، وَأَرَادَ كَوْنَهُ، فَإِنَّهُ مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. [8/ 371 - 374]

* * *

(كَلَامُ اللهِ وَنَحْو ذَلِكَ مِن صِفَاتِهٍ لَأزِمَةٌ لِذَاتِهِ، وهي مَعَ ذلِكَ صِفَاتٌ فِعْلِيَّةٌ)

629 -

حَدَّثَنِي بَعْضُ ثِقَاتِ أَصْحَابِنَا: أَنَّ شَيْخَنَا أَبَا عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْوَهَّابِ عَادَ شَيْخَنَا أَبَا زَكَرِيَّا بْنَ الصِّرْمَئ وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ فَسَأَلُوهُ الدُّعَاءَ، فَقَالَ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ بِقُدْرَتِك الَّتِي قَدَرْت بِهَا أَنْ تَقُولَ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَو كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ، افْعَلْ كَذَا وَكَذَا.

قَالَ أَبُو عَبْدِ الْوَهَّابِ

(1)

: وَلَمْ أُخَاطِبْهُ فِيهِ بِحَضْرَةِ النَّاسِ حَتَّى خَلَوْت بِهِ، وَقلْت لَهُ: هَذَا لَا يُقَالُ.

لَو قُلْت: قَدَرْت بِهَا عَلَى خَلْقِك: جَازَ.

فَأَمَّا قَدَرْت بهَا أَنْ تَقولَ: فَلَا يَجُوزُ، لِأَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مَقْدُورًا لَهُ مَخْلُوقًا

(2)

.

(1)

لعل الصواب: أبو عبد الله بن عبد الوهاب، كما هو في أول الكلام.

(2)

ذكر الشيخ في موضع آخر أنّ أَبا عَبْدِ اللهِ بْن عَبْدِ الْوَهَّابِ رحمه الله يُوَافِقُ ابْنَ كُلَّابٍ عَلَى قَوْلِهِ: =

ص: 673

قُلْت: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِثْلُ مَسْأْلَةِ الْمَشِيئَةِ، وَهُوَ قَوْلُنَا: يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ، فَإِنَّ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْمَشِيئَةُ تَعَلَّقَتْ بِهِ الْقُدْرَةُ، فَإِنَّ مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ إلَّا بِقُدْرَتِهِ، وَمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْقُدْرَةُ مِن الْمَوْجُودَاتِ تَعَلَّقَتْ بِهِ الْمَشِيئَةُ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ شَيْءٌ إلَّا بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَمَا جَازَ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ الْقُدْرَةُ جَازَ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ الْمَشِيئَةُ، وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ، وَمَا لَا فَلَا.

وَلهَذَا قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 20] وَالشَيْءُ فِي الْأَصْلِ مَصدَرُ شَاءَ يَشَاءُ شَيْئًا، كنال يَنَالُ نَيْلًا، ثُمَّ وَضَعُوا الْمَصْدَرَ مَوْضِعَ الْمَفْعُولِ، فَسَمَّوْا الْمَشِيءَ شَيْئًا، كَمَا يُسَمَّى الْمُنِيلَ نَيْلًا، فَقَالُوا: نَيْلُ الْمَعْدِنِ، وَكَمَا يُسَمَّى الْمَقْدُورَ قُدْرَةً، وَالْمَخْلُوقَ خَلْقًا.

فَقَوْلُهُ: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106]؛ أَيْ: عَلَى كُلِّ مَا يَشَاءُ، فَمِنْهُ مَا قَد شِيءَ فَوُجِدَ، وَمِنْهُ مَا لَمْ يَشَأْ لَكِنَّهُ شِيءَ فِي الْعِلْمِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ قَابِلٌ لِأَنْ يَشَاءَ.

وَقَوْلُة: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} [البقرة: 109] يَتَنَاوَلُ مَا كَانَ شَيْئًا فِي الْخَارِجِ وَالْعِلْمِ، أَو مَا كَانَ شَيْئًا فِي الْعِلْمِ فَقَطْ.

بِخِلَافِ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَنَاوَلَهُ الْمَشِيئَةُ، وَهُوَ الْحَقُّ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ، أَو الْمُمْتَنِعُ لِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْعُمُومِ.

وَلهَذَا اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ الْمُمْتَنِعَ لِنَفْسِهِ لَيْسَ بِشَيء.

وَتَنَازَعُوا فِي الْمَعْدُومِ الْمُمْكِنِ: فَذَهَبَ فَرِيقٌ مِن أَهْلِ الْكَلَامِ: إلَى أَنَّهُ شيءٌ فِي الْخَارجِ؛ لِتَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ بِهِ.

وَهَذَا غَلَطٌ، وَإِنَّمَا هُوَ مَعْلُومٌ للهِ وَمُرَادٌ لَهُ إنْ كَانَ مِمَّا يُوجَدُ.

= إنَّ اللهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتهِ، وَعَلَى قَوْلِهِ: إنَّ الْقُرْآنَ لَازِمٌ لِذَاتِ اللهِ؛ بَل يَظُنُّونَ أَنَّ هَذَا قَوْلُ السَّلَفِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. اهـ. (17/ 55)

ص: 674

إذَا عُرِفَ ذَلِكَ: فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى "مَسْأْلَةِ كَلَامِ اللهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِن صِفَاتِهِ" هَل هِيَ قَدِيمَةٌ لَازِمَةٌ لِذَاتِهِ لَا يَتَعَلَّقُ شَيْءٌ مِنْهَا بِفِعْلِهِ وَبِمَشِيئَتِهِ وَلَا قُدْرَتهِ؟ أَو يُقَالُ: إنَّهُ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ، وَيَسْكُتُ إذَا شَاءَ، وَأَنَّهَا مَعَ ذَلِكَ صِفَاتٌ فِعْلِيَّةٌ.

وَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِاُّصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مِن أَهْلِ السُّنَّةِ.

قُلْت: وَهَذَا الدُّعَاءُ الَّذِي دَعَا بِهِ الشَّيْخُ أَبُو زَكَرِيَّا مَأْثُورٌ عَن الْإِمَامِ أَحْمَد، وَمِن هُنَاكَ حَفِظَهُ الشَّيْخُ وَاللهُ أَعْلَمُ؛ فَإِنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الْمَحَبَّةِ لِأَحْمَدَ وَآثَارِهِ وَالنَّظَرِ فِي مَنَاقِبِهِ وَأَخْبَارِهِ. [8/ 382 - 384]

* * *

(اللهُ تَعَالَي خَلَقَ فِعْلَ الْعَبْدِ سَبَبًا مُقْتَضِيًا لِآثَار مَحْمُودَةٍ أَو مَذْمُومَةٍ)

630 -

اعْلَمْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى جعل

(1)

فِعْلَ الْعَبْدِ سَبَبًا مُفْضِيًا

(2)

إلى آثارِ مَحْمُودَةٍ أَو مَذْمُومَةٍ.

وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ: مِثْلُ صَلَاةِ أَقْبَلَ عَلَيْهَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ، وَأَخْلَصَ فِيهَا وَرَاقَبَ، وَفَقِهَ مَا بُنِيَتْ عَلَيْهِ مِن الْكَلِمَاتِ الطَّيِّبَاتِ، وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، يَعْقُبُهُ فِي عَاجِلِ الْأَمْرِ نُورٌ فِي قَلْبِهِ، وَانْشِرَاحٌ فِي صَدْرِهِ، وَطُمَأْنِينَةٌ فِي نَفْسِهِ، وَمَزِيدٌ فِي عِلْمِهِ، وَتَثْبِيتٌ فِي يَقِينِهِ، وَقُوَّةٌ فِي عَقْلِهِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِن قُوَّةِ بَدَنِهِ، وَبَهَاءِ وَجْهِهِ، وَانْتِهَائِهِ عَن الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَإِلْقَاءِ الْمَحَبَّةِ لَهُ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ، وَدَفْعِ الْبَلَاءِ عَنْهُ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْلَمُهُ -سبحانه- وَلَا نَعْلَمُهُ.

ثُمَّ هَذِهِ الْآثَارُ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ مِن النُّورِ وَالْعِلْم وَالْيَقِينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: أسْبَابٌ مُفْضِيَةٌ إلَى آثَارٍ أُخَرَ مِن جِنْسِهَا وَمِن غَيْرِ جِنْسِهَا أَرْفَعُ مِنْهَا، وَهَلُمَّ جَرَّا.

(1)

في الأصل: خَلَقَ، والتصويب من جامع المسائل 9/ 106.

(2)

في الأصل: مقتضيًا لآثار، والتصويب من جامع المسائل 9/ 106.

ص: 675

وَلهَذَا قِيلَ: إنَّ مِن ثَوَابِ الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةَ بَعْدَهَا، وَإِنَّ مِن عُقُوبَةِ السَّيِّئَةِ السَّيئِّةَ بَعْدَهَا.

وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ السَّيِّئُ مِثْلُ الْكَذِبِ -مَثَلًا-: يُعقب صَاحِبَهُ فِي الْحَالِ ظُلْمَةً فِي الْقَلْبِ

(1)

، وَقَسْوَةً وَضِيقًا فِي صَدْرِهِ، وَنِفَاقًا وَاضْطِرَابًا، وَنِسْيَانَ مَا تَعَلَّمَهُ، وَانْسِدَادَ بَابِ عِلْمٍ كَانَ يَطْلُبُهُ، وَنَقْصًا فِي يَقِينِهِ وَعَقْلِهِ، وَاسْوِدَادَ وَجْهِهِ، وَبُغْضَهُ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ، واجتراءه عَلَى ذَنْبٍ آخَرَ مِن جِنْسِهِ أَو غَيْرِ جِنْسِهِ، وَهَلُمَّ جَرَّا، إلَّا أَنْ يَتَدَارَكَهُ اللهُ بِرَحْمَتِهِ.

فَهَذِهِ الْآثَارُ

(2)

الَّتِي تُورِثُهَا الْأَعْمَالُ، هِيَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، وَإِفْضَاءُ الْعَمَلِ إلَيْهَا وَاقْتِضَاؤُهُ إيَّاهَا كَإِفْضَاءِ جَمِيعِ الْأَسْبَابِ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ سبحانه وتعالى أَسْبَابًا إلَى مُسَبَّباتِهَا.

وَالْإِنْسَانُ إذَا أَكَلَ أَو شَرِبَ حَصَلَ لَهُ الرِّيُّ وَالشِّبَعُ، وَقَد رَبَطَ اللهُ سبحانه وتعالى الرِّيَّ وَالشِّبَعَ بِالشُّرْبِ وَالْأَكْلِ رَبْطًا مُحْكَمًا، وَلَو شَاءَ أَنْ لَا يُشْبِعَهُ وَيَرْوَيهُ مَعَ وُجُودِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَعَلَ: إمَّا أنْ لَا يَجْعَلَ فِي الطَّعَامِ قُوَّةً [مانعة]

(3)

، أَو يَخعَلَ فِي الْمَحَلِّ قُوَّة مَانِعَةً، أَو بِمَا يَشَاءُ سبحانه وتعالى، وَلَو شَاءَ أَنْ يُشْبِعَهُ وَيَرْوِيَهُ بِلَا أَكْلٍ وَلَا شُرْبٍ، أَو بِأَكْلِ شَيْءٍ غَيْرِ مُعْتَادٍ: فَعَلَ.

كَذَلِكَ فِي [اقْتضاء]

(4)

الْأَعْمَالِ الْمَثُوبَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ حَذْوُ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا سُمِّيَ الثَّوَابُ ثَوَابًا؛ لِأَنَّهُ يَثُوبُ إلَى الْعَامِلِ مِن عَمَلِهِ؛ أَيْ: يَرْجِعُ، وَالْعِقَابُ عِقَابًا؛ لِأَنَّهُ يَعْقُبُ الْعَمَلَ؛ أَيْ: يَكُون بَعْدَهُ.

(1)

فى الأصل يُعاقب صاحبُه في الحال بظلمة في القلب، والتصوبب من جامع المسائل 9/ 107.

(2)

في الأصل: هي التي، والتصويب من جامع المسائل 9/ 107.

(3)

ما بين المعقوفتين من جامع المسائل 9/ 108.

(4)

ما بين المعقوفتين من جامع المسائل 9/ 108.

ص: 676

وَلَو شَاءَ اللهُ أَنْ لَا يُثِيبَهُ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ: إمَّا بِأَنْ لَا يَجْعَلَ فِي الْعَمَلِ خَاصَّة تُفْضِي إلَى الثَّوَابِ، او لِوُجُودِ أَسْبَابٍ تَنْفِي ذَلِكَ الثَّوَابَ، أَو غَيْرِ ذَلِكَ: لَفَعَلَ سبحانه وتعالى، وَكَذَلِكَ فِي الْعُقُوبَاتِ.

وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَن نَفْسَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ وَمَشِيئَتِهِ، الَّتِي هِيَ مِن فِعْلِ اللهِ سبحانه وتعالى أَيْضًا، وَحُصُولُ الشِّبَعِ عَقِبَ الْأَكْلِ لَيْسَ لِلْعَبْدِ فِيهِ صُنْعٌ أَلْبَتَّةَ، حَتَّى لَو أَرَادَ دَفْعَ الشِّبَعِ بَعْدَ تَعَاطِي الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لَهُ لَمْ يُطِقْ، وَكَذَلِكَ نَفْسُ الْعَمَلِ هُوَ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، فَلَو شَاءَ أَنْ يَدْفَعَ أَثَرَ ذَلِكَ الْعَمَلِ وَثَوَابَهُ بَعْدَ وُجُودِ مُوجِبِهِ لَمْ يَقْدِرْ. [8/ 396 - 397]

* * *

(خلقُ أفعال العباد)

631 -

أَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ بِاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا، كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ سَائِرُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ: الْإِمَامُ أحْمَد وَمَن قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: مَن قَالَ: إنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَن قَالَ: إنَّ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ.

وَأَنْكَرَ الْأئِمَّةُ مِن أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ مِن عُلَمَاءِ السُّنَّةِ مَن قَالَ: إنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ وَأَفْعَالَهُم غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ، وَصَنَّفَ الْبُخَارِيُّ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفًا، كَمَا أَنَّهُم بَدَّعُوا وَجَهَّمُوا مَن قَالَ: إنَّ اللهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِصَوْت، أَو إنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ، أَو قَالُوا: إنَّ اللَّفْظَ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ، فَرَدَّ الْأَئِمَّةُ هَذِهِ الْبِدْعَةَ.

وَلَفْظُ "الْأَمْرِ" يُرَادُ بِهِ: الْمَصْدَرُ وَالْمَفْعُولُ؛ فَالْمَفْعُولُ مَخْلُوقٌ، كَمَا قَالَ:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1]، وَقَالَ:{وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38]، فَهُنَا الْمُرَادُ بِهِ الْمَأْمُورُ بِهِ، لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَمْرَهُ الَّذِي هُوَ كَلَامُهُ.

فَإِذَا احْتَجَّ الجهمي الَّذِي يَؤولُ أَمْرَهُ إلَى أَنْ يَجْعَلَهُ حَالًّا فِي الْمَخْلُوقَاتِ بِقَوْلِهِ: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38].

ص: 677

قِيلَ لَهُ: الْمُرَادُ بِهِ الْمَأْمُورُ بِهِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} ، وَكَمَا يُقَالُ عَن الْحَوَادِثِ الَّتِي يُحْدِثُهَا اللهُ: هَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ. [8/ 406 - 413]

632 -

فِعْلُ الْعَبْدِ: خُلْقٌ للهِ عز وجل وَكَسْبٌ لِلْعَبْدِ. [8/ 388]

* * *

(مَسْأَلَةُ تَحْسِينِ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحِهِ)

633 -

مَسْأَلَةُ تَحْسِينِ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحِهِ: فِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِن الطَّوَائِفِ الْأرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ:

أ- فَالْحَنَفِيَّةُ وَكَثِيرٌ مِن الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ يَقُولُونَ بِتَحْسِينِ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الكَرَّامِيَة وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الطَّوَائِفِ مِن الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَغَيْرِهِمْ.

ب- وَكَثِيرٌ مِن الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ يَنْفُونَ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ الْأشْعَريَّةِ، لَكِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى إثْبَاتِ الْقَدَرِ، وَأَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مِن أفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِهَا، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.

وَالْمُعْتَزِلَةُ وَغَيْرُهُم مِن الْقَدَرِيَّةِ: يُخَالِفُونَ فِي هَذَا.

فَإْنْكَارُ الْقَدَرِ بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ، وَقَد ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ مَن يَقُولُ: بِتَحْسِينِ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحِهِ يَنْفِي الْقَدَرَ، وَيَدْخُلُ مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي مَسَائِلِ التَّعْدِيلِ وَالتَّجْوِيزِ، وَهَذَا غَلَطٌ؛ بَل جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ لَا يُوَافِقُونَ الْمُعْتَزِلَةَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يُوَافِقُونَ الْأَشْعَرِيَّةَ عَلَى نَفْيِ الْحِكَمِ وَالْأَسْبَابِ.

وَالْمَقْصُود هُنَا: أَنَّ مَسْأَلَةَ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ لَيْسَتْ مُلَازِمَةً لِمَسْأَلَةِ الْقَدَرِ.

وَإِذَا عُرِفَ هَذَا: فَالنَّاسُ فِي مَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: طَرَفَانِ وَوَسَطٌ:

الطَّرَفُ الْوَاحِدُ: قَوْلُ مَن يَقُولُ: بِالْحُسْنِ وَالْقبْحِ، وَيَجْعَلُ ذَلِكَ صِفَاتٍ

ص: 678

ذَاتِيَّةً لِلْفِعْل، لَازِمَةً لَهُ، وَلَا يَجْعَلُ الشَّرْعَ إلَّا كَاشِفًا عَن تِلْكَ الصِّفَاتِ، لَا سَبَبًا لِشَيْء مِن الصِّفَاتِ، فَهَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَهُوَ ضَعِيفٌ.

وَيَقُولُونَ: إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ اللهُ بِالشِّرْكِ بِاللهِ، وَيَنْهَى عَن عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِالظُّلْمِ، وَالْفَوَاحِشِ، وَيَنْهَى عَن الْبِرِّ، وَالتَّقْوَى .. وَلَيْسَ الْمَعْرُوفُ فِي نَفْسِهِ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ، وَلَا الْمُنْكَرُ فِي نَفْسِهِ مُنْكَرًا عِنْدَهُمْ؛ بَل إذَا قَالَ:{يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]، فَحَقِيقَةُ ذَلِكَ عِنْدَهُم أَنَّهُ يَأْمُرُهُم بِمَا يَأْمُرُهُمْ، وَيَنْهَاهُم عَمَّا يَنْهَاهُمْ، وَيُحِلُّ لَهُم مَا يُحِلُّ لَهُمْ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِم مَا يُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ.

فَهَذَا الْقَوْلُ وَلَوَازِمُهُ هُوَ أَيْضًا قَوْلٌ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ، مَعَ مُخَالَفَتِهِ أَيْضًا لِلْمَعْقُولِ الصَّرِيحِ؛ فَإِنَّ اللهَ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَن الْفَحْشَاءِ فَقَالَ:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28].

وَقَد ثَبَتَ بِالْخِطَابِ وَالْحِكمَةِ الْحَاصِلَةِ مِن الشَّرَائِعِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مُشْتَمِلًا عَلَى مَصْلَحَةٍ أَو مَفْسَدَةٍ، وَلَو لَمْ يَرِد الشَّرْعُ بِذَلِكَ؛ كَمَا يُعْلَمُ أَنَّ الْعَدْلَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَصْلَحَةِ الْعَالَمِ، وَالظُّلْمَ يَشْتَمِلُ عَلَى فَسَادِهِمْ، فَهَذَا النَّوْعُ هُوَ حَسَنٌ وَقَبِيحٌ.

وَقَد يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ قُبْحُ ذَلِكَ، لَا أَنَّهُ أَثْبَتَ لِلْفِعْلِ صِفَةً لَمْ تَكُنْ.

لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِن حُصُولِ هَذَا الْقُبْحِ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ مُعَاقَبًا فِي الْآخِرَةِ إذَا لَمْ يَرِدْ شَرْعٌ بِذَلِكَ، وَهَذَا مِمَّا غَلِطَ فِيهِ غُلَاةُ الْقَائِلِينَ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيح؛ فَإِنَّهُم قَالُوا: إنَّ الْعِبَادَ يُعَاقَبُونَ عَلَى أَفْعَالِهِم الْقَبِيحَةِ وَلَو لَمْ يُبْعَثْ إلَيْهِم رَسُولًا، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ قَالَ تَعَالَى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].

الئوْعُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّارعَ إذَا أَمَرَ بِشَيْء صَارَ حَسَنًا، وَإِذَا نَهَى عَن شَيْءٍ صَارَ قَبِيحًا، وَاكْتَسَبَ الْفِعْلُ صِفَةَ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ بِخِطَابِ الشَّارعِ.

ص: 679

وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ: أَنْ يَأْمُرَ الشَّارح بِشَيْء لِيَمْتَحِنَ الْعَبْدَ هَل يُطِيعُهُ أَمْ يَعْصِيهِ؟ وَلَا يَكُونُ الْمُرَادُ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ؛ كَمَا أَمَرَ إبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ ابْنِهِ، فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ، فَفَدَاهُ بِالذَّبْحِ.

فَالْحِكْمَةُ مَنْشَؤُهَا مِن نَفْسِ الْأَمْرِ، لَا مِن نَفْسِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَهَذَا النَّوْعُ

وَاَلَّذِي قَبْلَهُ لَمْ يَفْهَمْهُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَزَعَمَتْ أَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ لَا يَكُون إلَّا لِمَا هُوَ

مُتَّصِفٌ بِذَلِكَ بِدُونِ أَمْرِ الشَّارعِ.

وَالْأَشْعَرِيَّةُ ادَّعَوْا: أَنَّ جَمِيعَ الشَّرِيعَةِ مِن قِسْمِ الِامْتِحَانِ، وَأَنَّ الْأَفْعَالَ لَيْسَتْ لَهَا صِفَةٌ لَا قَبْلَ الشَّرْعِ وَلَا بِالشَّرْعِ.

وَأَمَّا الْحُكَمَاءُ وَالْجُمْهُورُ فَأَثْبَتُوا الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ وَهُوَ الصَّوَابُ

(1)

. [8/ 428 - 436]

* * *

(إضَافَةُ المؤمن السَّيِّئَاتِ إلَى نَفْسِهِ، والْحَسَنَاتِ إلى ربَّه: هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَهُ)

634 -

يَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ عَمَلَهُ مِن الْحَسَنَاتِ هُوَ بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ وَمِن نِعْمَتِهِ؛ كَمَا قَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7].

وَكَذَلِكَ إضَافَةُ السَّيِّئَاتِ إلَى نَفْسِهِ: هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَهُ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ اللهَ خَالِقُ كُلِّ مَوْجُودٍ مِن الْأَعْيَانِ وَالصِّفَاتِ وَالْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ؛ كَمَا قَالَ آدَمَ:{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، وَقَالَ مُوسَى:{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16].

(1)

لم يُذكر الطرف الآخر والوسط، إما لأنه فُقد، وإما لأن الشيخ تركه نسيانًا أو لعارضٍ.

ص: 680

كَذَلِكَ فِي سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

(1)

وَغَيْرُهُ

(2)

عَن شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلا أَنْتَ، خَلَقْتَنِى وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِن شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلا أَنْتَ، مَن قَالَهَا إذَا أَصْبَحَ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِن يَوْمِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَن قَالَهَا إذَا أَمْسَى مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِن لَيْلَتِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ".

قَوْلُهُ: "أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ": يَتَنَاوَلُ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ مِن الْحَسَنَاتِ وَغَيْرِهَا.

وَقَوْلُهُ: "وَأَبُوءُ بِذَنْبِي": اعْتِرَافٌ مِنْهُ بِذَنْبِهِ. [8/ 442 - 444]

وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ هِيَ طَرِيقَةُ الْمُؤْمِنِينَ.

635 -

قوله عليه السلام: "سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللَّهُمَّ أنت ربي لا إله إلّا أنتَ": قد اشتمل هذا الحديثُ من المعارف الجليلة ما استحق لأجلها أن يكون سيد الاستغفار، فإنه صدَّرَه باعترافِ العبدِ بربوبية الله، ثم ثنَّاها بتوحيد الإلهية بقوله:"لا إله إلا أنت"، ثمَّ ذكر اعترافَه بأن الله هو الذي خلقَه وأوجدَه ولم يكن شيئًا، فهو حقيقٌ بان يتولَّى تمامَ الإحسان إليه بمغفرةِ ذنوبه، كما ابتدأ الإحسانَ إليه بخلقه.

ثمَّ قال: "وأنا عبدك"، اعترفَ له بالعبودية، فإنّ الله تعالى خلقَ ابنَ آدم لنفسه ولعبادتِه.

فالعبد إذا خَرَج عما خلقه الله له من طاعتِه ومعرفتِه ومحبتِه والإنابةِ إليه والتوكُلِ عليه: فقد أبقَ من سيِّدِه، فإذا تاب إليه ورَجَع إليه فقد راجعَ ما يُحِبه الله منه، فيفرح الله بهذه المراجعة.

(1)

(6306).

(2)

الترمذي (3393)، والنسائي (5522)، وأحمد (17111).

ص: 681

وقوله: "ما استطعتُ"؛ أي: إنما أقومُ بذلك بحسب استطاعتي، لا بحسب ما ينبغي لك وتستحقه علي.

ثمَّ قال: "أبوء بنعمتك عليَّ؛ أي: أعترفُ بأمر كذا؛ أي: أُقِرُّ به؛ أي: فأنا معترفٌ لك بإنعامك عليَّ، وأنتَ أهلٌ لأن تُحمَد، وأستغفرك لذنوبي.

ومتى شَهِدَ العبدُ هذين الأمرين استقامتْ له العبودية، وتَرقَّى في درجاتِ

المعرفةِ والإيمان، وتصاغرتْ إليه نفسُه، وتواضَعَ لربِّه. [المجموعات العليّة 1/ 54 - 59]

* * *

‌(لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْقُلَ أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَبَا لَهَبٍ أَنْ يُصَدِّقَ بنُزُولِ {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ

(3)})

636 -

أَمَّا تَكلِيفُ أَبِي لَهَبٍ وَغَيْرِهِ بِالْإِيمَانِ: فَهَذَا حَقٌّ وَهُوَ إذَا أُمِرَ أَنْ يُصَدِّقَ الرَّسُولَ فِي كلِّ مَا يَقُولُهُ، وَأَخْبَرَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُصَدِّقُهُ؛ بَل يَمُوتُ كَافِرًا: لَمْ يَكُن هَذَا مُتَنَاقِضًا، وَلَا هُوَ مَأْمُورٌ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَصْدِيقِ الرَّسُولِ فِي كلِّ مَا بَلَّغَ، وَهَذَا التَّصْدِيقُ لَا يَصْدُرُ مِنْهُ.

فَإِذَا قِيلَ لَهُ: أَمَرْنَاكَ بِأَمْر وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّكَ لَا تَفْعَلُهُ: لَمْ يَكُن هَذَا تَكْلِيفًا لِلْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ.

وَهَذَا كُلُّهُ لَو قُدِّرَ أَنَّ أَبَا لَهَبٍ أُسْمِعَ هَذِهِ الْآيَةَ - {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3)} [المسد: 3]- وَأُمِرَ بِالتَّصْدِيقِ بِهَا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.

بَل لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْقُلَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إمَرَ أَبَا لَهَبٍ أَنْ يُصَدِّقَ بِنُزُولِ هَذِهِ. [8/ 472 - 473]

* * *

(مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ السَّبَبَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي مُسَبَّبِهِ، لَيْسَ عَلَامَةً مَحْضَةً)

637 -

مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ السَّبَبَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي مُسَبَّبِهِ، لَيْسَ عَلَامَةً مَحْضَةً، وَإِنَّمَا يَقُولُ: إنَّهُ عَلَامَةٌ مَحْضَةٌ طَائِفَةٌ مِن أَهْلِ الْكَلَامِ الَّذِينَ بَنَوْا عَلَى قَوْلِ جَهْمٍ،

ص: 682

وَقَد يُطْلِقُ مَا يُطْلِقُونَهُ طَائِفَةٌ مِن الْفُقَهَاءِ، وَجُمْهُورُ مَن يُطْلِقُ ذَلِكَ مِن الْفُقَهَاءِ يَتَنَاقَضُونَ: تَارَةً يَقُولُونَ بِقَوْلِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ، وَتَارَةً يَقُولُونَ بِقَوْلِ هَؤُلَاءِ. [8/ 485]

* * *

(معنى قَوْله تَعَالَي: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ})

638 -

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير: 29] لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بفَاعِل لِفِعْلِهِ الِاخْتِيَارِيّ، وَلَا أَنَّهُ لَيْسَ بِقَادِر عَلَيْهِ، وَلَا أَنَّهُ لَيْسَ بِمُرِيدِ؛ بَل يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَشَاؤُهُ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ رَدٌّ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ: الْمُجْبِرَةِ الْجَهْمِيَّة، وَالْمُعْتَزِلَةِ الْقَدَرِّيَةِ؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)} [التكوير: 28] فَأَثْبَتَ لِلْعَبْدِ مَشِيئَةً وَفِعْلًا، ثُمَّ قَالَ:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} فَبَيَّنَ أَنَّ مَشِيئَةَ الْعَبْدِ مُعَلَّقَةٌ بِمَشِيئَةِ اللهِ.

وَالْأُولَى رَدٌّ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ، وَهَذِهِ رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: قَد يَشَاءُ الْعَبْدُ مَا لَا يَشَاؤُهُ اللهُ

(1)

. [8/ 488]

* * *

(1)

فالعبد له مشيئة وإرادة، ولكنها تحت مشيئة الله عز وجل، فلو شاء العبد أمرًا كالسفر، فهو تحت مشيئته وإرادته، فإذا شاءه الرب مكنه منه وهيأ له الأسباب، ونفى عنه الموانع.

وإذا لم يشأ الله له السفر لم يمكنه منه؛ كان لا يهيِّئ له الأسباب، أو يوجد مانعًا يمنعه من السفر ويصرفه عنه.

وهذه المشيئة التي ينتج عنها العمل يُجَازى عليها العبد، إما ثوابًا وإما عقابًا، بحسب نوع العمل.

ومثال ذلك في واقع البشر: لو أن لصًّا أراد أن يسرق بيتًا، فعلمت الشرطة بذلك، فأخذت تراقبه ولم توقفه ولم تقبض عليه؛ بل تركته، فذهب وقفز سور المنزل، ثم عالج الأبواب ففتحها، ثم عالج أبواب الخزنة، وكلُّ هذا تحت نظر وسمع الشرطة وتحت مشيئتها، ولو شاءتْ لمنعته وصرفته عن هذا العمل، ولكنها شاءت أن يسرق حتى تمسك به متلبسًا بالجرم المشهود، ثم توقع عليه أشد العقوبة.

فلما خرج اللِّص من المنزل متلبسًا بفعلته النكراء، ألقت القبض عليه، ثم جازته على سرقته، فهل لهذا اللِّص أن يعترض ويقول: لقد علمتم أني سأسرق، ومكنتموني من ذلك، فأنتم =

ص: 683

‌(معني قوله تعالى: {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} [البقرة:

143])

639 -

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143]، وَقَوْلُهُ:{لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)} [الكهف: 12] وَنَحْوُ ذَلِكَ: هَذَا هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْلُومِ بَعْدَ وُجُودِهِ، وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمَدْحُ وَالذَّمُّ، وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ.

وَالْأَوَّلُ: هوَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ، وَمُجَرَّدُ ذَلِكَ الْعِلْمِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَدْحٌ وَلَا ذَمٌّ، وَلَا ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ، فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُون بَعْدَ وُجُودِ الْأَفْعَالِ.

وَقَد روِيَ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا: لِنَرَى.

وَكَذَلِكَ الْمُفَسِّرُونَ قَالُوا: لِنَعْلَمَهُ مَوْجُودًا بَعْدَ أَنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَكُونُ.

وَهَذَا الْمُتَجَدِّدُ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلنُّظَّارِ:

مِنْهُم مَن يَقُولُ: الْمُتَجَدِّدُ هُوَ نِسْبَةٌ وَإِضَافَةٌ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْمَعْلُومِ فَقَطْ، وَتِلْكَ نِسْبَةٌ عَدَمِيَّةٌ.

= شئتم السرقة؟ لا؛ بل سيُجيبه رجال الشرطة بقولهم: نحن لم نُجْبِرْك على السرقة، وأنت تعرف أن السرقة ممنوعة، وأن السارق يعاقب، فأنت سرقت بإرادتك ومشيئتك.

فإرادةُ السارق تحت إرادة الشرطة، كلُّ واحدٍ منهما له إرادةٌ؛ فالسارق سرق بإرادته، والشرطة مكنته من السرقة بإرادتها، ولو شاءت لمنعته، ولكن لم تفعل ذلك: لتُقيم عليه الحجة، ولتُمسكه مُتلبِّسًا بجريمته.

ومثال آخر: لو أن دولةً منعت رعاياها من السفر إلى دولة معينة، وأن من يسافر إليها سيوقع عليها أشد العقوبة، فقام شخص من الناس من قطع تذكرة والتوجه إلى المطار ثم السفر إلى تلك الدولة، كلُّ هذا ودولته تعلم عنه ولكنها تركته لتعاقبه، فلما عاد ألقي عليه القبض، فلما علم أن دولته تعلم عن سفره ولم تمنعه، اعترض قائلًا: أنتم سمحتم لي ولم تمنعوني من السفر، فقالت له دولته: صحيحٌ أنك سافرت تحت مشيئتنا، ولو أردنا لمنعناك، ولكننا تركناك تفعل ما تشاء لكي نعاقبك، ونُمسكك مُتلبِّسًا بفعلك، ونُقيم الحجة عليك.

ولله المثل الأعلى، فالعبد له إرادة ومشيئة، ولله إرادة ومشيئة، فالعبد يفعل ما يشاء باختياره وإرادته، لكنه تحت مشيئة الله تعالى ونظره وإحاطته، فإن أراد مَنْعَه مَنَعه، وإن أراد هدايته يسَّر له الأسباب، وفتح له الأبواب، وإن أراد خذلانه، تركه ونفسه، ولم يمنع الشياطين من التسلط عليه. والله أعلم.

ص: 684

وَعَامَّةُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْمُتَجَدِّدَ أَمْرٌ ثُبُوتِيٌّ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ، وَهَذَا مِمَّا هَجَرَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ الْحَارِثَ الْمُحَاسِبِيَّ عَلَى نَفْيِهِ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِقَوْلِ ابْنِ كُلَّابٍ .. فَخَالَفَ مِن نُصُوصِ الْكتَابِ وَالسُّنَةِ وَآثَارِ السَّلَفِ مَا أَوْجَبَ ظُهُورَ بِدْعَةٍ اقْتَضَتْ أَنْ يَهْجُرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَيُحَذِّرَ مِنْهُ. [8/ 496 - 497]

* * *

(الْأَجَلُ أَجَلَانِ: مُطْلَقٌ وَمقَيَّدٌ)

640 -

الْأَجَلُ أَجَلَانَ: أَجَلٌ مُطْلَقٌ يَعْلَمُهُ اللهُ، وَأَجَل مقَيَّد، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:"مَن سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ"

(1)

؛ فَإِنَّ اللهَ أمَرَ الْمَلَكَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ أَجَلًا وَقَالَ: "إنْ وَصَلَ رَحِمَهُ زِدْتهُ كَدَا وَكَذَا"، وَالْمَلَكُ لَا يَعْلَمُ أَيَزْدَادُ أَمْ لَا، لَكِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، فَإِذَا جَاءَ ذَلِكَ لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ. [8/ 517]

* * *

(الرِّزْقُ نَوْعَانِ)

641 -

الرِّزْقُ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَا عَلِمَهُ الله أَنَّهُ يَرْزُقُهُ: فَهَذَا لَا يَتَغَيَّرُ.

وَالثَّانِي: مَا كَتَبَهُ وَأَعْلَمَ بِهِ الْمَلَائِكَةَ: فَهَذَا يَزِيدُ وَيَنْقُصُ بِحَسَبِ الْأَسْبَابِ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَأْمُرُ اللهُ الْمَلَائِكَةَ أَنْ تَكْتُبَ لَهُ رِزْقًا، وَإِن وَصَلَ رَحِمَهُ زَادَهُ اللهُ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا ثَبَتَ فِي "الصَّحِيح" عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"مَن سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ في رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ في أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ"

(2)

.

وَمِن هَذَا الْبَابِ قَوْلُ عُمَرَ: "اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي شَقِيًّا فَامْحُنِي وَاكْتُبْنِي سَعِيدًا؛ فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ".

(1)

رواه البخاري (2067)، ومسلم (2557).

(2)

تقدم تخريجه.

ص: 685

وَمِن هَذَا الْبَابِ قَوْله تَعَالَى عَن نُوحٍ: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [نوح: 3، 4].

وَشَوَاهِدُهُ كَثِيرَةٌ.

وَالأَسْبَابُ الَّتِي يَحْصُل بِهَا الرِّزْقُ هِيَ مِن جُمْلَةِ مَا قَدَّرَهُ اللهُ وَكَتَبَهُ:

- فَإِنْ كَانَ قَد تَقَدَّمَ بِأَنَّهُ يَرْزُقُ الْعَبْدَ بِسَعْيِهِ وَاكْتِسَابِهِ: أَلْهَمَهُ السَّعْيَ وَالِاكْتِسَابَ، وَذَلِكَ الَّذِي قَدَّرَهُ لَهُ بِالِاكْتِسَابِ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ الِاكْتِسَابِ.

- وَمَا قَدَّرَهُ لَهُ بِغَيْرِ اكْتِسَابٍ؛ كَمَوْتِ مَوْرُوثهِ يَأْتِيهِ بِهِ بِغَيْرِ اكْتِسَابٍ.

وَالسَّعْيُ سعيان:

أ- سَعْيٌ فِيمَا نُصِبَ لِلرِّزْقِ؛ كَالصِّنَاعَةِ وَالزِّرَاعَةِ وَالتِّجَارَةِ.

ب- وَسَعْيٌ بِالدُّعَاءِ وَالتَّوَكُّلِ وَالْإِحْسَانِ إلَى الْخَلْقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ اللهَ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ. [8/ 540 - 541]

* * *

(الرِّزْقُ يُرَادُ بِهِ شَيْئَانِ)

642 -

الرِّزْقُ يُرَادُ بِهِ شَيْئَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْعَبْدُ.

وَالثَّانِي: مَا يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ، فَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ:{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} [البقرة: 3]، وَقَوْلِهِ:{وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [المنافقون: 10]، وَهَذَا هُوَ الْحَلَالُ الَّذِي مَلَّكَهُ اللهُ إيَّاهُ.

وَأمّا الْأوَّلُ: فَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:"إنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا"

(1)

وَنَحْوِ ذَلِكَ.

(1)

رواه ابن ماجه (2144)، وصحَّحه الألباني في صحيح ابن ماجه (1756).

ص: 686

وَالْعَبْدُ قَد يَأْكُلُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، فَهُوَ رِزْقٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، لَا بِالِاعْتِبَارِ الثَّانِي.

وَمَا اكْتَسَبَهُ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ: هُوَ رِزْقٌ بِالِاعْتِبَارِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ.

فَإِنَّ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ مَالُ وَارِثهِ لَا مَالُهُ. [8/ 541]

* * *

(الردُّ على زعم الغزالي عدم مشروعية طلب الرزق)

643 -

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة -قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ-:

عَمَّا قَالَهُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ -فِي كِتَابِهِ الْمَعْرُوفِ بـ"مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ" فِي زَادِ الْآخِرَةِ مِن الْعَقَبَةِ الرَّابِعَةِ: وَهِيَ الْعَوَارِضُ بَعْدَ كَلَامٍ تَقَدَّمَ فِي التَّوَكُّلِ بِأَنَّ الرِّزْقَ مَضْمُونٌ - قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: هَل يَلْزَمُ الْعَبْدَ طَلَبُ الرِّزْقِ بِحَال؟

فَاعْلَمْ أَنَّ الرِّزْقَ الْمَضْمُونَ هُوَ الْغِذَاءُ وَالْقِوَامُ، فَلَا يُمْكِنُ طَلَبُهُ؛ إذ هُوَ شَيْءٌ مِن فِعْلِ اللهِ بِالْعَبْدِ؛ كَالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، لَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَى تَحْصِيلِهِ وَلَا دَفْعِهِ.

وَأَمَّا الْمَقْسُومُ مِن الْأَسْبَابِ فَلَا يَلْزَمُ الْعَبْدَ طَلَبُهُ؛ إذ لَا حَاجَةَ لِلْعَبْدِ إلَى ذَلِكَ.

فَأَجَابَ رضي الله عنه: هَذَا الَّذِي ذَكَرَة أَبُو حَامِدٍ قَد ذَهَبَ إلَيْهِ طَائِفَةٌ مِن النَّاسِ، وَلَكِنْ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَجُمْهُورُهُم عَلَى خِلَافِ هَذَا، وَأَنَّ الْكَسْبَ يَكُونُ وَاجِبًا تَارَة، وَمُسْتَحَبًّا تَارَةً، وَمَكْرُوهًا تَارَةً، وَمُبَاحًا تَارَةً، وَمُحَرَّمًا تَارَةً.

فَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُن مِنْهُ شَيْءٌ وَاجِبٌ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ مُحَرَّمٌ.

وَالسَّبَبُ الَّذِي أُمِرَ الْعَبْدُ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَو أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ: هُوَ عِبَادَةُ اللهِ وَطَاعَتُهُ لَهُ وَلرَسُولِهِ.

ص: 687

وَاللهُ فَرَضَ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَيَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123].

وَلهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا احْتَاجَ تَقِيٌّ قَطُّ.

يَقولُ: إنَّ اللهَ ضَمِنَ لِلْمُتَّقِينَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُم مَخْرَجًا مِمَّا يَضِيقُ عَلَى النَّاسِ، وَأنْ يَرْزُقَهُم مِن حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُونَ، فَيَدْفَعُ عَنْهُم مَا يَضُرُّهُمْ، وَيَجْلِبُ لَهُم مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ.

فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ: دَلَّ عَلَى أَنَّ فِي التَّقْوَى خَلَلًا، فَلْيَسْتَغْفِرْ اللهَ وَلْيَتُبْ إلَيْهِ.

وَالْمَقْصُودُ: أنَّ اللهَ لَمْ يَأْمُرْ بِالتَّوَكُّلِ فَقَطْ؛ بَل أَمَرَ مَعَ التَّوَكُّلِ بِعِبَادَتِهِ وَتَقْوَاهُ الَّتِي تَتَضَمَّنُ فِعْلَ مَا أَمَرَ، وَتَرْكَ مَا حَذَّرَ، فَمَن ظَنَّ أَنَّهُ يُرْضِي رَبَّهُ بِالتَّوَكُّلِ بِدُونِ فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ كَانَ ضَالًّا، كَمَا أَنَّ مَن ظَنَّ أَنَّهُ يَقُومُ بِمَا يَرْضَا اللهُ عَلَيْهِ دُونَ التَّوَكُّلِ كَانَ ضَالًّا؛ بَل فِعْلُ الْعِبَادَةِ الَّتي أَمَرَ اللهُ بِهَا فَرْضٌ.

وَإِذَا أُطْلِقَ لَفْظُ الْعِبَادَةِ: دَخَلَ فِيهَا التَّوَكُّلُ، وَإِذَا قُرِنَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ: كَانَ لِلتَّوَكُّلِ اسْمٌ يَخُصُّهُ.

وَأَمَّا مَن ظَنَّ أَنَّ التَّوَكُّلَ يُغْنِي عَن الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا: فَهُوَ ضَالٌّ، وَهَذَا كَمَن ظَنَّ أَنَّهُ يَتَوَكَّلُ عَلَى مَا قُدِّرَ عَلَيْهِ مِن السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ بِدُونِ أَنْ يَفْعَلَ مَا أَمَرَهُ اللهُ.

فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ قَلْبُهُ مُعْتَمِدًا عَلَى اللهِ، لَا عَلَى سَبَبٍ مِن الْأَسْبَابِ، وَاللهُ يُيَسِّرُ لَهُ مِن الْأَسْبَابِ مَا يُصْلِحُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

فَإِنْ كَانَت الْأَسْبَابُ مَقْدُورَةً لَهُ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهَا: فَعَلَهَا مَعَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ، كَمَا يُؤَدِّي الْفَرَائِضَ، وَكَمَا يُجَاهِدُ الْعَدُوَّ وَيَحْمِلُ السِّلَاحَ وَيَلْبَسُ جُنَّةَ الْحَرْبِ، وَلَا يَكْتَفِي فِي دَفْعِ الْعَدُوِّ عَلَى مُجَرَّدِ تَوَكُّلِهِ بِدُونِ أَنْ يَفْعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِن الْجِهَادِ.

ص: 688

وَمَن تَرك الْأَسْبَاب الْمَأْمُور بِهَا: فَهُوَ عَاجِزٌ مُفَرِّطٌ مَذْمُومٌ.

وَمَا قَدَّرَهُ اللهُ بِالدُّعَاءِ وَالتَّوَكُّلِ وَالْكَسْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن الْأَسْبَابِ: إذَا قَالَ الْقَائِلُ: فَلَو لَمْ يَكُن السَّبَبُ مَاذَا يَكُونُ؟ بِمَنْزِلَةِ مَن يَقولُ: هَذَا الْمَقْتُولُ لَو لَمْ يُقْتَلْ هَل كَانَ يَعِيشُ؟

وَقَد ظَنَّ بَعْضُ الْقَدَرَيَّةِ أَنَّهُ كَانَ يَعِيشُ.

وَظَنَّ بَعْضُ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ أَنَّهُ كَانَ يَمُوتُ.

وَالصَّوَابُ: أَنَّ هَذَا تَقْدِيرٌ لِأَمْرٍ عَلِمَ اللهُ أَنَّهُ يَكُونُ، فَاللهُ قَدَّرَ مَوْتَهُ بِهَذَا السَّبَبِ، فَلَا يَمُوتُ إلَّا بِهِ، كَمَا قَدَّرَ اللهُ سَعَادَةَ هَذَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِعِبَادَتِهِ وَدُعَائِهِ وَتَوَكُّلِهِ وَعَمَلِهِ الصَّالِحِ وَكَسْبِهِ، فَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِهِ.

وَإِذَا قُدِّرَ عَدَمُ هَذَا السَّبَبِ: لَمْ يُعْلَمْ مَا يَكُونُ الْمُقَدَّرُ.

وَبِتَقْدِيرِ عَدَمِهِ: فَقَد يَكُونُ الْمُقَدَّرُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ يَمُوتُ، وَقَد يَكُونُ الْمُقَدَّرُ أَنَّهُ يَحْيَا

(1)

، وَالْجَزْمُ بِأَحَدِهِمَا خَطَأٌ.

وَلَو قَالَ الْقَائِلُ: أَنَا لَا آكُلُ وَلَا أَشْرَبُ، فَإِنْ كَانَ اللهُ قَدَّرَ حَيَاتِي فَهُوَ يُحْيِينِي بِدُونِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ: كَانَ أَحْمَقَ، كَمَن قَالَ: أَنَا لَا أَطَأُ امْرَأَتِي فَإِنْ كَانَ اللهُ قَدَّرَ لِي وَلَدًا تَحْمِلُ مِن غَيْرِ ذَكَرٍ.

فَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ: فَمِن الْكَسْبِ مَا يَكُونُ وَاجِبًا؛ مِثْل الرَّجُلِ الْمُحْتَاجِ إلَى نَفَقَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ، أَو عِيَالِهِ، أَو قَضَاءِ دَيْنِهِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْكَسْبِ، وَلَيْسَ هُوَ

(1)

في الأصل: (يحيى)، بالياء، والمعروف عند أهل الإملاء أن كل اسمٍ، أو فعل ختم بألف قبلها ياء وهو غير علم: كتبت بالألف؛ كاستحيا، يحيا، الدنايا، تزيا، فإن كان علمًا انقلبت ياء؛ مثاله: يحيى، قال ابن جني رحمه الله: فإن كان قبل آخر المقصور ياء مفتوحة كتبته بالألف لا غير وذلك نحو الحيا وهو الخصب ونحو مستحيا وكذلك مطايا وروايا وزوايا وكتبوا يحيى اسم رجل بالياء فرّقا بينه وبين يحيا في الفعل. اهـ. الألفاظ المهموزة وعقود الهمز (46).

ص: 689

مَشْغُولًا بِأَمْر أَمَرَهُ اللهُ بِهِ هُوَ أَفْضَلُ عِنْدَ اللهِ مِن الْكَسْبِ، فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَسْبُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَإِذَا تَرَكَهُ كَانَ عَاصِيًا آثِمًا.

وَمِنْهُ مَا يَكُونُ مُسْتَحَبًّا: مِثْل هَذَا إذَا اكْتَسَبَ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ.

وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ لَمْ يَطْلُبُوا رِزْقًا.

فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ بَل عَامَّةُ الْأَنْبِيَاءِ كَانُوا يَفْعَلُونَ أَسْبَابًا يَحْصُلُ بِهَا الرِّزْقُ .. وَقَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أفضَلَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِن كسْبِهِ"

(1)

.

وَكَانَ دَاوُد يَأْكُلُ مِن كَسْبِهِ، وَكَانَ يَصْنَعُ الدُّرُوعَ، وَكَانَ زَكَرِيَّا نَجَّارًا، وَكَانَ الْخَلِيلُ لَهُ مَاشِيَةٌ كَثِيرَةٌ، حَتَّى إنَّهُ كَانَ يُقَدِّمُ لِلضَّيْفِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُهُم عِجْلًا سَمِينًا، وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْيَسَارِ.

وَخِيَارُ الْأَوْليَاءِ الْمُتَوَكِّلِينَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ .. وَكَانَ عَامَّتُهُم يَرْزُقهُم اللهُ بِأَسْبَاب يَفْعَلُونَهَا. [8/ 524 - 537]

* * *

(مِعني قَوْلِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِر: نَازَعْت أَقْدَارَ الْحَقِّ بِالْحَقِّ لِلْحَقِّ)

644 -

سُئِلَ الشَّيْخُ رحمه الله: عَن قَوْلِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ: نَازَعْت أَقْدَارَ الْحَقِّ بِالْحَقِّ لِلْحَقِّ.

فَأَجَابَ: جَمِيعُ الْحَوَادِثِ كَائِنَةٌ بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ، وَقَد أَمَرَنَا اللهُ سُبْحَانَهُ أَنْ نُزِيلَ الشَّرَّ بِالْخَيْرِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَنُزِيلَ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ، وَالْبِدْعَةَ بِالسُّنَّةِ،

(1)

رواه أبو داود (3528)، والنسائي (4449)، وابن ماجه (2137)، وأحمد (24032)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.

ص: 690

وَالْمَعْصِيَةَ بِالطَّاعَةِ مِن أَنْفُسِنَا وَمِن عِنْدِنَا، فَكُلُّ مَن كَفَرَ أَو فَسَقَ أَو عَصَى فَعَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ، وَإِن كَانَ ذَلِكَ بِقَدَرِ اللهِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُ عَن الْمُنْكَرِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَيُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِن كَانَ مَا يَعْمَلُهُ مِن الْمُنْكَرِ وَالْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ بِقَدَرِ اللهِ، لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَدَعَ السَّعْيَ فِيمَا يَنْفَعُهُ اللهُ بِهِ مُتَّكِلًا عَلَى الْقَدَرِ.

فَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ رحمه الله هُوَ الَّذِي أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ. [8/ 547 - 548]

* * *

(صحة عبارة: أَبْرَأُ مِن الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إلَّا إلَيْهِ)

645 -

وَسُئِلَ: عَن قَوْلِ الْخَطِيبِ بْنِ نباتة: أَبْرَأُ مِن الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إلَّا إلَيْهِ، فَأَنْكَرَ بَعْضُ النَّاسِ عَلَيْهِ وَقَالَ: مَا يَصِحُّ ذَلِكَ إلَّا بِحَذْفِ الِاسْتِثْنَاءِ، بِأَنْ تَقُولَ: أَبْرَأُ مِن الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إلَيْهِ .. فَهَل أَصَابَ الْمُنْكِرُ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ: مَا ذَكَرَ الْخَطِيبُ صَحِيحٌ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدَهُ، وَمَا ذَكَرَهُ الْآخَرُ مِن حَذْفِ الِاسْتِثْنَاءِ لَهُ مَعْنًى آخَرُ صَحِيحٌ.

فَإِنَّهُ إذَا قَالَ: بَرِئْتُ مِن الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إلَيْهِ: كَانَ الْمَعْنَى: بَرِئْتُ إلَيْهِ مِن حَوْلِي وَقوَّتِي؛ أَيْ: مِن دَعْوَى حَوْلِي وَقُوَّتِي، كَمَا يُقَالُ: بَرِئْتُ إلَى فُلَانٍ مِن الدَّيْنِ، ذَكَرَهُ ثَعْلَبٌ فِي فَصِيحِهِ.

وَالْمَعْنَى: بَرِئْتُ إلَيْهِ مِن هَذَا .. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ إنِّي أَبْرَأُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ"

(1)

.

وَالْخَطِيبُ لَمْ يُرِدْ هَذَا الْمَعْنَى؛ بَل أَرَادَ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِن أَنْ يُلْجِئَ ظَهْرَهُ إلَّا إلَى اللهِ، وَيُفَوِّضَ أَمْرَهُ إلَّا إلَى اللهِ، وَيَتَوَجَّهَ فِي أَمْرِهِ إلَّا إلَى اللهِ، وَيَرْغَبَ فِي أَمْرِهِ إلَّا إلَى اللهِ.

(1)

رواه البخاري (4339).

ص: 691

فَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَأَبْرَأُ مِن الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إلَّا إلَيْهِ: أَبْرَأُ مِن أَنْ أُثْبِتَ لِغَيْرِهِ حَوْلًا وَقُوَّةً ألْتَجِئُ إلَيْهِ لِأَجْلِ ذَلِك.

فَضُمِّنَ مَعْنَى الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ مَعْنَى الِالْتِجَاءِ، فَصَارَ التَّقْدِيرُ: أَبْرَأُ مِن الِالْتِجَاءِ إلَّا إلَيْهِ.

وَعَلَى هَذَا الْحَالِ: فَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِمَعْنَى الِالْتِجَاءِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ، لَا مَعْنَى أَبْرَأَ، وَلَمَّا ظَنَّ الْمُنْكِرُ عَلَى الْخَطِيبِ أنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ مُتَعَلِّقٌ بِلَفْظِ أَبْرَأُ أَنْكَرَ الِاسْتِثْنَاءَ، وَلَو أَرَادَ الْخَطِيبُ هَذَا لَكَانَ حَذْفُ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ هُوَ الْوَاجِبَ، لَكِنْ لَمْ يُرِدْهُ؛ بَل أَرَادَ مَا لَا يَصِحُّ إلَّا مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ.

وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ، فُرًغَ مَا قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ لِمَا بَعْدَهُ، وَالْمُفَرَّغُ يَكُونُ مِن غَيْرِ الْمُوجَبِ لَفْظًا أَو مَعْنَى. [8/ 551 - 553]

* * *

ص: 692

‌كتَابُ الْمَنْطِقِ

(1)

(فوائد من جواب الشيخ لسائلٍ عن المنطق وحُكم تعلمه)

646 -

أَمَّا الْمَنْطِقُ: فَمَن قَالَ: إنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَأنَّ مَن لَيْسَ لَهُ بِهِ خِبْرَةٌ

(1)

المنطق: هو قواعد للتفكير، وقوانين يزعم واضعوها أنها منطقية، وتعصم الذهن من الزلل. فالمقصد منه: وضع القوانين الموافقة للعقل حتى يتميز الخطأ من الصواب.

فهو بهذا لا يختص في باب العقيدة؛ ولهذا أدخله بعضهم كالغزالي في أصول الفقه، وأُدخل في البلاغة، وأُدخل في النحو.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: الْكَلَامُ فِي الْمَنْطِقِ: إنَّمَا وَقَعَ لَمَّا زَعَمُوا أنَّهُ آلَةٌ قَانُونِيَّةٌ تَعْصِمُ مُرَاعَاتُهَا الذِّهْنَ أَنْ يَزَلَّ فِي فِكْرِهِ. اهـ. (9/ 194).

وقال أيضًا: فَإِنَّ مَوْضُوعَ الْمَنْطِقِ: هُوَ الْمَعْقُولَاتُ مِن حَيْثُ يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى عِلْم مَا لَمْ يُعْلَمْ. اهـ. (9/ 171 - 172).

أما الفلسفة: فهي بذل للجهد في سبيل المعرفة الخالصة والحقيقة أيًّا كانت هذه المعرفة سواء كانت طبيعية أو رياضية، أو غير ذلك.

فهو محاولة لمعرفة الطبيعة، أو الرياضيات، أو الأخلاق أو غير ذلك.

وأما علم الكلام: فهو علمٌ للحجاج والجدال عن العقائد الدينية بالأدلة العقلية، وهو بهذا لا يتقيد بقواعد علم المنطق.

فهو يحاول الدفاع عن الحقيقة الدينية فقط، فلا يدخل في الطبيعة، أو الرياضيات، أو الأخلاق.

وأما سبب ضلال من دخل في علمٍ الفلسفة والمنطق وعلم الكلام فهو اعتمادهم على هذه العلوم اعتمادًا كليًّا، وجعلها حاكمةً على غيرِها من العلوم الشرعية وغيرِها.

وقد نص على ذلك شيخ الإسلام رحمه الله فقال: إنَّ فِي الْقُرْآنِ وَالْحِكْمَةِ النَّبَوِيَّةِ عَامَّةَ أصُولِ الدِّينِ مِن الْمَسَائِلِ وَالدَّلَائِلِ، الَّتِي تَسْتَحِقُّ أَنْ تَكُونَ أُصُولَ الدِّينِ.

وَأمَّا مَا يُدْخِلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الْمُسَمَّى مِن الْبَاطِلِ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِن أُصُولِ الدِّين ..

وَهَذَا التَّقْسِيمُ يُنَبِّهُ أَيْضًا عَلَى مُرَادِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ بِذَمِّ الْكَلَامِ وَأَهْلِهِ؛ إذ ذَلِكَ يَتَنَاوَلُ لِمَن اسْتَدَلَّ بِالْأَدِلَّةِ الْفَاسِدَةِ، أو اسْتَدَلَّ عَلَى الْمَقَالَاتِ الْبَاطِلَةِ.

فَأَمَّا مَن قَالَ الْحَقَّ الَّذِي أذِنَ اللهُ فِيهِ حُكمًا وَدَلِيلًا: فَهُوَ مِن أهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. =

ص: 693

فَلَيْسَ لَهُ ثِقَةٌ بِشَيْء مِن عُلُومِهِ: فَهَذَا الْقَوْلُ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ مِن وُجُوهٍ كَثِيرَةِ التَّعْدَادِ، مُشْتَمِل عَلَى أُمُورٍ فَاسِدَةٍ، وَدَعَاوَى بَاطِلَةٍ.

بَل الْوَاقِعُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا: أَنَّك لَا تَجِدُ مَن يُلْزِمُ نَفْسَهُ أَنْ يَنْظُرَ فِي عُلُومِهِ بِهِ

(1)

، وَيُنَاظِرَ بِهِ إلَّا وَهُوَ فَاسِدُ النَّظَرِ وَالْمُنَاظَرَةِ، كَثِيرُ الْعَجْزِ عَن تَحْقِيقِ عِلْمِهِ وَبَيَانِهِ.

فَأَحْسَنُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ كَلَامُ الْمُتَكلِّمِ فِي هَذَا: أَنْ يَكُونَ قَد كَانَ هُوَ وَأَمْثَالُهُ فِي غَايَةِ الْجَهَالَةِ وَالضَّلَالَةِ، وَقَد فَقَدُوا أَسْبَابَ الْهُدَى كُلَّهَا، فَلَمْ يَجِدُوا مَا يَرُدُّهُم عَن تِلْكَ الْجَهَالَاتِ إلَّا بَعْضُ مَا فِي الْمَنْطِقِ مِن الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ صَحِيحَةٌ، فَإِنَّهُ بِسَبَبِ بَعْضِ ذَلِكَ رَجَعَ كَثِيرٌ مِن هَؤُلَاءِ عَن بَعْضِ بَاطِلِهِمْ، وَإِن لَمْ يَحْصُلْ لَهُم حَقٌّ يَنْفَعُهُمْ، وَإِن وَقَعُوا فِي بَاطِلٍ آخَرَ.

وَمَعَ هَذَا فَلَا يَصِحُّ نِسْبَةُ وُجُوبِهِ إلَى شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ بِوَجْهِ مِن الْوُجُوهِ؛ إذ مَن هَذِهِ حَالُهُ فَإِنَّمَا أُتي مِن نَفْسِهِ بِتَرْكِ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ مِن الْحَقِّ حَتَّى احْتَاجَ إلَى الْبَاطِلِ.

وَلهَذَا مَا زَالَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَأَئِمَّةُ الدِّينِ يَذُمُّونَهُ وَيَذُمُّونَ أَهْلَهُ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ وَعَن أَهْلِهِ. [9/ 5 - 6]

647 -

مِن الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأُمُورَ الدَّقِيقَةَ: سَوَاءٌ كَانَت حَقًّا أَو بَاطِلًا، إيمَانًا أَو كُفْرًا: لَا تُعْلَمُ إلَّا بِذَكَاء وَفِطْنَةٍ، فَكَذَلِكَ أَهْلُهُ

(2)

قَد يستجهلون مَن لَمْ يَشْركْهُم فِي عِلْمِهِمْ، وَإِن كَانَ إيمَانُهُ أَحْسَنَ مِن إيمَانِهِمْ إذَا كَانَ فِيهِ قُصُورٌ فِي

= وَأَمَّا مُخَاطَبَةُ أَهْلِ اصْطِلَاحٍ بِاصْطِلَاحِهِمْ وَلُغَتِهِمْ: فَلَيْسَ بمَكْرُوه: إذَا اُحْتِيجَ إلَى ذَلِكَ.

وَكَانَت المَعَانِي صَحِيحَةً.

كَمُخَاطَبَةِ الْعَجَمِ مِن الرُّومِ وَالْفُرْسِ وَالتُّرْكِ بِلُغَتِهِمْ وَعُرْفِهِمْ؛ فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ حَسَنٌ لِلْحَاجَةِ. اهـ. (3/ 303 - 306).

(1)

أي: بعلم المنطق.

(2)

أي: أهل المنطق والفلسفة.

ص: 694

الذَّكَاءِ وَالْبَيَانِ، وَهُم كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)} [المطففين: 29 - 36]. [9/ 7]

648 -

الْقِيَاسُ يَنْعَقِدُ فِي نَفْسِهِ بِدُونِ تَعَلُّمِ هَذ الصِّنَاعَةِ

(1)

، كَمَا يَنْطِقُ الْعَرَبِيُّ بِالْعَرَبِيَّةِ بِدُونِ النَّحْوِ، وَكَمَا يَقْرِضُ الشَّاعِرُ الشِّعْرَ بِدُونِ مَعْرِفَةِ الْعَرُوضِ.

لَكِنَّ اسْتِغْنَاءَ بَعْضِ النَّاسِ عَن هَذِهِ الْمَوَازِينِ لَا يُوجِبُ اسْتِغْنَاءَ الْآخَرِينَ

(2)

؛ فَاسْتِغْنَاءُ كَثِيرٍ مِن النُّفُوسِ عَن هَذِهِ الصِّنَاعَةِ لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ. [9/ 9]

649 -

لَا تَجِدُ أَحَدًا مِن أَهْلِ الْأَرْضِ حَقَّقَ عِلْمًا مِن الْعُلُومِ وَصَارَ إمَامًا فِيهِ مُسْتَعِينًا بِصِنَاعَةِ الْمَنْطِقِ، لَا مِن الْغلُومِ الدِّينِيَّةِ وَلَا غَيْرِهَا؛ فَالْأَطِبَّاءُ والحساب وَالْكُتَّابُ وَنَحْوُهُم يُحَقِّقُونَ مَا يُحَقِّقُونَ مِن عُلُومِهِمْ وَصِنَاعَاتِهِمْ بِغَيْرِ صِنَاعَةِ الْمَنْطِقِ. [9/ 23]

650 -

لَا يُنْكَرُ أَنَّ فِي الْمَنْطِقِ مَا قَد يَسْتَفِيدُ بِبَعْضِهِ مَن كَانَ فِي كُفْرٍ وَضَلَالٍ وَتَقْلِيدٍ مِمَن نَشَأَ بَيْنَهُم مِن الْجُهَّالِ؛ كَعَوَامِّ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ وَالرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ، فَأَوْرَثَهُم الْمَنْطِقُ تَرْكَ مَا عَلَيْهِ أُولَئِكَ مِن تِلْكَ الْعَقَائِدِ.

وَلَكِنْ يَصِيرُ غَالِبُ هَؤُلَاءِ مُدَاهِنِينَ لِعَوَامِّهِمْ، مُضِلِّينَ لَهُم عَن سَبِيلِ اللهِ،

(1)

أي: الْقِيَاس المنطقي.

(2)

وكذلك الحال في تعبير الرؤى، فبعض المعبرين يُعبر بِدُونِ مَعْرِفَةِ أصول التعبير.

لَكِنَّ اسْتِغْنَاءَ غيره -ممن لم تكن عنده موهبةٌ وعلمٌ جبليّ لهذا العلم- عَن هَذِهِ الْأصول لَا يُوجِبُ اسْتِغْنَاءَ الْآخَرِينَ.

فمن الخطأ القول بأن التعبير لا يُمكن تعلّمه.

ص: 695

أَو يَصِيرُونَ مُنَافِقِينَ زَنَادِقَةً، لَا يُقِرُّونَ بِحَقٍّ وَلَا بِبَاطِل؛ بَل يَتْرُكُونَ الْحَقَّ كَمَا تَرَكُوا الْبَاطِلَ

(1)

. [9/ 24]

651 -

مَا يَحْصُلُ بِهِ لِبَعْضِ النَّاسِ مِن شَحْذِ ذِهْنٍ أَو رُجُوعٍ عَن بَاطِلٍ أَو تَعْبِيرٍ عَن حَقٍّ: فَإِنَّمَا هُوَ لِكَوْنِهِ كَانَ فِي أَسْوَأِ حَالٍ لَا لِمَا فِي صِنَاعَةِ الْمَنْطِقِ مِن الْكَمَالِ.

وَمِن الْمَعْلُومِ: أَنَّ الْمُشْرِكَ إذَا تَمَجَّسَ، وَالْمَجُوسِيَّ إذَا تَهَوَّدَ: حَسُنَتْ حَالُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا كَانَ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ، لَكِنْ لَا يَصْلُحُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ عُمْدَةً لِأَهْلِ الْحَقِّ الْمُبِينِ.

وَهَذَا لَيْسَ مُخْتَصًّا بِهِ؛ بَل هَذَا شَأْنُ كُلِّ مَن نَظَرَ فِي الْأمُورِ الَّتِي فِيهَا دِقَّةٌ وَلَهَا نَوْعُ إحَاطَةٍ، كَمَا تَجِدُ ذَلِكَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، فَإِنَّهُ مِن الْمَعْلُومِ أنَّ لِأَهْلِهِ مِن التَّحْقِيقِ وَالتَّدْقِيقِ وَالتَّقْسِيمِ وَالتَّحْدِيدِ مَا لَيْسَ لِأَهْلِ الْمَنْطِقِ، وَأَنَّ أَهْلَهُ يَتَكلَّمُونَ فِي صُورَةِ الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ عَلَى أَكْمَلِ الْقَوَاعِدِ.

فَالْمَعَانِي فِطْرِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ لَا تَحْتَاجُ إلَى وَضْعٍ خَاصٍّ، بِخِلَافِ قَوَالِبِهَا الَّتِي هِيَ الْأَلْفَاظُ فَإِنَّهَا تَتَنَوَّعُ، فَمَتَى تَعَلَّمُوا أَكْمَلَ الصُّوَرِ وَالْقَوَالِبِ لِلْمَعَانِي مَعَ الْفِطْرَةِ الصَّحِيحَةِ: كَانَ ذَلِكَ أَكْمَلَ وَأنْفَعَ وَأَعْوَنَ عَلَى تَحْقِيقِ الْعُلُومِ مِن صِنَاعَةِ اصْطِلَاحِيَّةٍ فِي أُمُورٍ فِطْرِيَّةٍ عَقْلِيَّةٍ لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى اصْطِلَاحٍ خَاصٍّ. [9/ 25]

(1)

كما هو حال الملحدين والمنافقين وغيرهم في هذا الزمان، الذين انبهروا بمنطق الغرب وعلومهم وقوانينهم، فتركوا دينهم واحتقروا أمتهم، ولم يكن سبب ذلك خلو الإسلام مما عند الغرب من الأمور الحسنة، بل لجهلهم وعدم اطلاعهم على المحاسن التي جاء بها الإسلام مما هي أعظم وأفضل مما عند الغرب.

ومَا حصل لِبَعْضِ النَّاسِ من علم وثقافة وقوانين الغرب مِن شَحْذِ ذِهْنٍ، أو رُجُوعٍ عَن بَاطِلٍ، أَو تَعْبِيرِ عَن حَقٍّ وصواب: فَإِنَّمَا هُوَ لِكَوْنِهِ كَانَ فِي أسْوَأِ حَالٍ، لَا لِمَا عند الغرب من الحق والتقدم الثقافي والتقنيّ.

ص: 696

652 -

تَجِدُ الَّذِينَ اتَّصَلَتْ إلَيْهِم عُلُومُ الْأَوَائِلِ فَصَاغُوهَا بِالصِّيغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِعُقُولِ الْمُسْلِمِينَ جَاءَ فِيهَا مِن الْكَمَالِ وَالتَّحْقِيقِ وَالْإِحَاطَةِ وَالِاخْتِصَارِ مَا لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْأَوَائِلِ

(1)

، وَإِن كَانَ فِي هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ مَن فِيهِ نِفَاقٌ وَضَلَالٌ، لَكِنْ عَادَتْ عَلَيْهِم فِي الْجُمْلَةِ بَرَكَةُ مَا بُعِثَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن جَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَمَا أُوتِيَتْهُ أُمَّتُهُ مِن الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ الَّذِي لَمْ يُشْرِكْهَا فِيهِ أَحَدٌ. [9/ 26]

653 -

إِنَّ صِنَاعَةَ الْمَنْطِقِ وَضَعَهَا مُعَلِّمُهُم الْأَوَّلُ: أَرِسْطُو صَاحِبُ التَّعَالِيمِ. [9/ 26]

654 -

كَانَ رُؤُوسُهُم الْمُتَقَدِّمُونَ والمتأخرون يَأْمُرُونَ بِالشِّرْكِ؛ فَالْأَوَّلُونَ يُسَمُّونَ الْكَوَاكِبَ الْآلِهَةَ الصُّغْرَى، وَيَعْبُدُونَهَا بِأَصْنَافِ الْعِبَادَاتِ، كَذَلِكَ كَانُوا فِي مِلَّةِ الْإِسْلَامِ لَا يَنْهَوْنَ عَن الشِّرْكِ وَيُوجِبُونَ التَّوْحِيدَ؛ بَل يُسَوِّغُونَ الشِّرْكَ أَو يَأْمُرُونَ بِهِ أَو لَا يُوجِبُونَ التَّوْحِيدَ.

وَقَد أَضَلُّوا بِشُبُهَاتِهِمْ مِن الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْمِلَلِ مَن لَا يُحْصِي عَدَدَهُ إلَّا اللهُ.

فَإِذَا كَانَ مَا بِهِ تَحْصُلُ السَّعَادَةُ وَالنَّجَاةُ مِن الشَّقَاوَةِ لَيْسَ عِنْدَهُم أَصْلًا: كَانَ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ مِن الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَالسِّيَاسَاتِ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)} [الروم: 7]. [9/ 34 - 36]

655 -

لَا ريبَ أَنَّ كَلَامَهُم كُلَّهُ مُنْحَصِرٌ فِي الْحُدُودِ الَّتِي تُفِيدُ التَّصَوُّرَاتِ، سَوَاءٌ كَانَت الْحُدُودُ حَقِيقِيَّةً أَو رَسْمِيَّةً أَو لَفْظِيَّةً، وَفِي الْأَقْيِسَةِ الَّتِي تُفِيدُ التَّصْدِيقَاتِ، سَوَاءٌ كَانَت أَقْيِسَةَ عُمُومٍ وَشُمُولٍ، أَو شِبْهٍ وَتَمْثِيلٍ، أَو اسْتِقْرَاءٍ وَتتَبُّعٍ.

(1)

وإذا أخذ المسلمون في هذا الزمان علوم الغرب وقوانينه، وصاغوها صياغة إسلامية: جَاءَ فِيهَا مِن الْكَمَالِ وَالتَّحْقِيقِ وَالْإِحَاطَةِ وَالِاخْتِصَارِ مَا لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِهم.

ص: 697

وَكَلَامُهُم غَالِبُهُ لَا يَخْلُو مِن تَكَلُّفٍ: إمَّا فِي الْعِلْمِ، وَإِمَّا فِي الْقَوْلِ. [9/ 42]

* * *

(ذمُّ تكلف الحدود في العلوم)

656 -

إنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ بِالْحُدُودَ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ فِي بَنِي آدَمَ، لَا سِيَّمَا الصِّنَاعَةُ الْمَنْطِقِيَّةُ.

فَإِنَّ وَاضِعَهَا هُوَ أَرِسْطُو، وَسَلَكَ خَلْفَهُ فِيهَا طَائِفَةٌ مِن بَنِي آدَمَ. وَمِن الْمَعْلُومِ أَنَّ عُلُومَ بَنِي آدَمَ -عَامَّتِهِمْ وَخَاصَّتِهِمْ- حَاصِلَةٌ بِدُونِ ذَلِكَ.

فَإِنَّ الْقُرُونَ الثَّلَاثَةَ مِن هَذِهِ الْأُمَّةِ- الَّذِينَ كَانُوا أَعْلَمَ بَنِي آدَمَ عُلُومًا وَمَعَارِفَ- لَمْ يَكُن تَكَلُّفُ هَذِهِ الْحُدُودِ مَن عَادَتِهِمْ؛ فَإِنَّهُم لَمْ يَبْتَدِعُوهَا، وَلَمْ تَكُن الْكُتُبُ الْأَعْجَمِيَّةُ الرُّومِيَّةُ عُرِّبَتْ لَهُمْ.

وَإِنَّمَا حَدَثَتْ بَعْدَهُم مِن مُبْتَدِعَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفَلَاسِفَةِ، وَمِن حِينِ حَدَثَتْ صَارَ بَيْنَهُم مِن الِاخْتِلَافِ وَالْجَهْلِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللهُ.

وَكَذَلِكَ عِلْمُ الطِّبِّ والْحِسَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَا تَجِدُ أَئِمَّةَ هَذِهِ الْعُلُومِ يَتَكَلَّفُونَ هَذِهِ الْحُدُودَ الْمُرَكَّبَةَ مِن الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ إلَّا مَن خَلَطَ ذَلِكَ بِصِنَاعَتِهِمْ مَن أَهْلِ الْمَنْطِقِ.

وَكَذَلِكَ النُّحَاةُ مِثْلُ سِيبَوَيْهِ الَّذِي لَيْسَ فِي الْعَالَمِ مِثْلُ كِتَابِهِ، وَفِيهِ حِكْمَةُ لِسَانِ الْعَرَبِ: لَمْ يَتَكَلَّفْ فِيهِ حَدَّ الِاسْمِ وَالْفَاعِلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ غَيْرُهُ.

وَلَمَّا تَكَلَّفَ النُّحَاةُ حَدَّ الِاسْمِ ذَكَرُوا خدُودا كَثِيرَةً كُلّهَا مَطْعُونٌ فِيهَا عِنْدَهُمْ.

وَكَذَلِكَ مَا تَكَلَّفَ مُتَأَخِّرُوهُم مِن حَدِّ الْفَاعِلِ وَالْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يُدْخلْ فِيهَا عِنْدَهُم مَن هُوَ إمَامٌ فِي الصِّنَاعَةِ وَلَا حَاذِقٌ فِيهَا.

وَكَذَلِكَ الْحُدُودُ الَّتِي يَتَكَلَّفُهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لِلطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن مَعَانِي الْأَسْمَاءِ الْمُتَدَاوَلَةِ بَيْنَهُمْ.

ص: 698

وَكَذَلِكَ الْحُدُودُ الَّتِي يَتَكَلَّفُهَا النَّاظِرُونَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ لِمِثْل الْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ وَالْعِلْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يُدْخلْ فِيهَا إلَّا مَن لَيْسَ بِإِمَامٍ فِي الْفَنِّ

(1)

. [9/ 45 - 46]

* * *

(فوائد من كتاب: الرد على المنطقيين)

(2)

657 -

كُنْت دَائِمًا أَعْلَمُ أَنَّ الْمَنْطِقَ الْيُونَانِيَّ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الذَّكِي وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْبَلِيدُ.

وَلَكِنْ كُنْت أَحْسَبُ أَنَّ قَضَايَاهُ صَادِقَةٌ؛ لِمَا رَأَيْنَا مِن صِدْقِ كَثِيرٍ مِنْهَا، ثُمَّ تبَيَّنَ لِي فِيمَا بَعْدُ خَطَأُ طَائِفَةٍ مِن قَضَايَاهُ، وَكَتَبْت فِي ذَلِكَ شَيْئًا.

وَلَمَّا كُنْت بالإسكندرية اجْتَمَعَ بِي مَن رَأَيْته يُعَظِّمُ الْمُتَفَلْسِفَةَ بِالتَّهْوِيلِ وَالتَّقْلِيدِ، فَذَكَرْت لَهُ بَعْضَ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِن التَّجْهِيلِ وَالتَّضْلِيلِ.

وَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنِّي كَتَبْت فِي قَعْدَةٍ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ مِن الْكَلَامِ عَلَى الْمَنْطِقِ مَا عَلَّقْته تِلْكَ السَّاعَةَ.

وَلَمْ يَكُن ذَلِكَ مِن هِمَّتِي؛ لِأَنَّ هِمَّتِي كَانَت فِيمَا كَتَبْته عَلَيْهِم فِي الْإِلَهِيَّاتِ، وَتَبَيَّنَ لِي أَنَّ كَثِيرًا مِمَّا ذَكَرُوهُ فِي الْمَنْطِقِ هُوَ مِن أَصُوَلِ فَسَادِ قَوْلِهِمْ فِي الْإِلَهِيَّاتِ. [9/ 82]

* * *

(تحقيق القول في القياس العقلي والشمولي)

658 -

مَن قَالَ مِن مُتَأَخِّرِي أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْي كَأَبِي الْمَعَالِي وَأَبِي حَامِدٍ وَالرَّازِي وَأَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي وَغَيْرِهِمْ: مِن أَنًّ الْعَقْلِيَّاتِ لَيْسَ فِيهَا

(1)

إلى هنا انتهى المقصود.

(2)

وليس هو الأصل، بل هو تهذيب السيوطي.

ص: 699

قِيَاسٌ، وَإِنَّمَا الْقِيَاسُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ، وَلَكِنَّ الِاعْتِمَادَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ عَلَى الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى ذَلِكَ مُطْلَقًا: فَقَوْلُهُم مُخَالِفٌ لِقَوْلِ نُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَل وَسَائِرِ الْعُقَلَاءِ؛ فَاِنَّ الْقِيَاسَ يُسْتَدَلُّ بِهِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ كَمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ. [9/ 117]

659 -

تَنَازَعَ النَّاسُ فِي مُسَمَّى الْقِيَاسِ:

فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِن أَهْلِ الْأُصُولِ: هُوَ حَقِيقَةٌ فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ

(1)

مَجَازٌ فِي قِيَاسِ الشُّمُولِ؛ كَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَأَبِي حَامِدٍ المقدسي.

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَل هُوَ بِالْعَكْسِ حَقِيقَةٌ فِي الشُّمُولِ مَجَازٌ فِي التَّمْثِيلِ؛ كَابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ.

وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: بَل هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا، وَالْقِيَاسُ الْعَقْلِيُّ يَتَنَاوَلُهُمَا جَمِيعًا، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ مَن تَكلَّمَ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَأَنْوَاعِ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَهُوَ الصَّوَابُ؛ فَإِنَّ حَقِيقَةَ أَحَدِهِمَا هُوَ حَقِيقَةُ الْآخَرِ وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ صُورَةُ الِاسْتِدْلَالِ.

وَالْقِيَاسُ فِي اللُّغَةِ: تَقْدِيرُ الشَّيْءِ بِغَيْرِهِ، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ تَقْدِيرَ الشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ بِنَظِيرِهِ الْمُعَيَّنِ، وَتَقْدِيرَهُ بِالْأَمْرِ الْكُلِّيِّ الْمُتَنَاوِلِ لَهُ وَلأَمْثَالِهِ؛ فَإِنَّ الْكُلِّيَّ هُوَ مِثَالٌ فِي الذِّهْنِ لِجُزْئِيَّاتِهِ؛ وَلهَذَا كَانَ مُطَابِقًا مُوَافِقًا لَهُ.

وَقِيَاسُ الشُّمُولِ: هُوَ انْتِقَالُ الذِّهْنِ مِن الْمُعَيَّنِ إلَى الْمَعْنَى الْعَامِّ الْمُشْتَرَكِ الْكُلِّيِّ، الْمُتَنَاوِلِ لَهُ وَلغَيْرِهِ، وَالْحُكْمُ عَلَيْهِ بِمَا يَلْزَمُ الْمُشْتَرَكَ الْكُليَّ، بِأَنْ يَنْتَقِلَ مِن ذَلِكَ الْكُلِّيِّ اللَّازِمِ إلَى الْمَلْزُومِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْمُعَيَّنُ.

فَهُوَ انْتِقَالٌ مِن خَاصٍّ إلَى عَامٍّ، ثمَّ انْتِقَالٌ مِن ذَلِكَ الْعَامِّ إلَى الْخَاصِّ،

(1)

قال الشيخ: قيَاسُ التَّمْثِيلِ: هُوَ الْحُكْمُ عَلَى شَيْءٍ بِمَا حُكِمَ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ؛ بِنَاءً عَلَى جَامِعٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا. (9/ 197).

ص: 700

مِن جُزْئِيٍّ إلَى كُلِّيٍّ، ثُمَّ مِن ذَلِكَ الْكُلِّيِّ إلَى الْجُزْئِيِّ الْأَوَّلِ، فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْكُلّيِّ.

وَلهَذَا كَانَ الدَّلِيلُ أَخَصَّ مِن مَدْلُولِهِ الَّذِي هُوَ الْحُكْمُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِن وُجُودِ الدَّلِيلِ وُجُودُ الْحُكْمِ وَاللَّازِمُ لَا يَكُونُ أَخَصَّ مِن مَلْزُومِهِ بَل أَعَمَّ مِنْهُ أَو مُسَاوِيهِ وَهُوَ الْمَعْنَى بِكَوْنِهِ أَعَمَّ.

وَأَمَّا قِيَاسُ التَّمْثِيلِ: فَهُوَ انْتِقَالُ الذِّهْنِ مِن حُكْمٍ مُعَيَّنٍ إلَى حُكْمٍ مُعَيَّنٍ؛ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ الْكُلِّيِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ يَلْزَمُ الْمُشْتَرَكَ الْكُلِّيَّ. [9/ 118 - 120]

660 -

النَّاسُ فِي مُسَمَّى الْقِيَاسِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي التَّمْثِيلِ مَجَازٌ فِي الشُّمُولِ، وَهُوَ قَوْلُ الْغَزَالِيِّ وَأَبِي مُحَمَّدٍ.

وَالثَّانِي: الْعَكْسُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا، وَهُوَ الْأَصَحُّ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ؛ فَإِنَّ الْقِيَاسَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَالْجُمْهُورِ يَنْقَسِمُ إلَى.

أ- عَقْلِيٍّ، وَهُوَ مَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالْعَقْلِ.

ب- وَإِلَى شَرْعِيٍّ، وَهُوَ مَا لَا بُدَّ فِيهِ مِن أَصْلٍ مَعْلُومٍ بِالشَّرْعِ.

وَكُلٌّ مِن الْعَقْلِيِّ وَالشَّرْعِيِّ وَكُلُّ مَا يُسَمَّى قِيَاسًا يَنْقَسِمُ:

أ- إلَى قِيَاسِ تَمْثِيلٍ.

ب- وَقِيَاسِ شُمُولٍ.

فَالْأَوَّلُ: إلْحَاقُ الشَّيْءِ بِنَظِيرِهِ.

وَالثَّانِي: إدْخَالُ الشَّيْءِ تَحْتَ حُكْمِ الْمَعْنَى الْعَامِّ الَّذِي يَشْمَلُهُ. [9/ 259]

* * *

ص: 701

(منافع عِلْم الْحِسَابِ)

661 -

إِنَّ عِلْمَ الْحِسَابِ الَّذِي هُوَ عِلْم بِالْكَمِّ الْمُنْفَصِلِ، والْهَنْدَسَة الَّتِي هِيَ عِلْمٌ بِالْكَمِّ الْمُتَّصِلِ: عِلْمٌ يَقِينِيٌّ لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ أَلْبَتَّةَ؛ مِثْل جَمْعِ الْأَعْدَادِ وَقِسْمَتِهَا وَضَرْبِهَا وَنِسْبَةِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ.

وَهَذَا

(1)

كَانَ مَبْدَأَ فَلْسَفَتِهِمْ الَّتِي وَضَعَهَا فيثاغورس، وَكَانُوا يُسَمُّونَ أَصْحَابَهُ أَصْحَابَ الْعَدَدِ.

لَكِنْ لَا تَكْمُلُ بِذَلِكَ نَفْسٌ، وَلَا تَنْجُو بِهِ مِن عَذَابٍ، وَلَا تَنَالُ بِهِ سَعَادَة، وَلهَذَا قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ فِي عُلُومِ هَؤُلَاءِ: هِيَ بَيْنَ عُلُومٍ صَادِقَةٍ لَا مَنْفَعَةَ فِيهَا وَنَعُوذُ بِاللهِ مِن عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَبَيْنَ ظُنُونٍ كَاذِبَةٍ لَا ثِقَةَ بِهَا وَإِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ.

يُشِيرُونَ بِالْأَوَّلِ إلَى الْعُلُومِ الرِّيَاضِيَّةِ.

وَبِالثَّانِي إلَى مَا يَقُولُونَهُ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَفِي أَحْكَامِ النُّجُومِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

لَكِنْ قَد تَلْتَذُّ النَّفْسُ بِذَلِكَ كَمَا تَلْتَذُّ بِغَيْرِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَلْتَذُّ بِعِلْمِ مَا لَمْ يَكُن عَلِمَهُ، وَسَمَاعِ مَا لَمْ يَكُن سَمِعَهُ، إذَا لَمْ يَكُن مَشْغُولًا عَن ذَلِكَ بِمَا هُوَ أهَمُّ عِنْدَهُ مِنْهُ، كَمَا قَد يَلْتَذُّ بِأَنْوَاعٍ مِن الْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ مِن جِنْسِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ.

وَأَيْضًا: فَفِي الْإِدْمَانِ عَلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ تَعْتَادُ النَّفْسُ الْعِلْمَ الصَّحِيحَ، وَالْقَضَايَا الصَّحِيحَةَ الصَّادِقَةَ، وَالْقِيَاسَ الْمُسْتَقِيمَ، فَيَكونُ فِي ذَلِكَ تَصْحِيحُ الذِّهْنِ وَالْإِدْرَاكِ، وَتُعَوَّدُ النَفْسُ أَنَّهَا تَعْلَمُ الْحَقَّ وَتَقُولُهُ؛ لِتَسْتَعِينَ بِذَلِكَ عَلَى الْمَعْرِفَةِ الَّتِي هِيَ فَوْقَ ذَلِكَ. [9/ 126 - 128]

* * *

(1)

أي: علم المنطق.

ص: 702

(مَبْدَأُ وَضْعِ الْمَنْطِقِ مِن الْهَنْدَسَةِ)

662 -

مَبْدَأُ وَضْعِ الْمَنْطِقِ مِن الْهَنْدَسَةِ، وَسَمَّوْهُ حُدُودًا لِحُدُودِ تِلْكَ الْأَشْكَالِ، لِيَنْتَقِلُوا مِن الشَّكْلِ الْمَحْسُوسِ إلَى الشَّكْلِ الْمَعْقُولِ، وَهَذَا لِضَعْفِ عُقُولِهِمْ، وَتَعَذُّرِ الْمَعْرِفَةِ عَلَيْهِم إلَّا بِالطَّرِيقِ الْبَعِيدَةِ.

وَاللهُ تَعَالَى يَسَّرَ لِلْمُسْلِمِينَ مِن الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْإِيمَانِ مَا بَرَزُوا بِهِ عَلَى كُلِّ نَوْعٍ مِن أَنْوَاعِ جِنْسِ الْإِنْسَانِ. [9/ 130]

663 -

ابْنُ سِينَا تَكَلَّمَ فِي أَشْيَاءَ مِن الْإِلَهِيَّاتِ وَالنُّبُوَّاتِ وَالْمَعَادِ وَالشَّرَائِعِ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهَا سَلَفُهُ، وَلَا وَصَلَتْ إلَيْهَا عُقُولَهُمْ، وَلَا بَلَغَتْهَا عُلُومُهُمْ؛ فَإِنَّهُ اسْتَفَادَهَا مِن الْمُسْلِمِينَ، وَإِن كَانَ إنَّمَا أخذَ عَن الْمَلَاحِدَةِ الْمُنْتَسِبِيَن إلَى الْمُسْلِمِينَ كالْإِسْمَاعِيلِيَّة.

وَكَانَ هُوَ وَأَهْل بَيْتِهِ وَأَتْبَاعُهُم مَعْرُوفِينَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِلْحَادِ، وَأَحْسَنُ مَا يُظْهِرُونَ دِينَ الرَّفْضِ، وَهُم فِي الْبَاطِنِ يُبْطِنُونَ الْكُفْرَ الْمَحْضَ.

وَقَد صنَّفَ الْمُسْلِمُونَ فِي كَشْفِ أَسْرَارِهِمْ وَهَتْكِ أَسْتَارِهِمْ كُتُبًا كِبَارًا وَصِغَارًا، وَجَاهَدُوهُم بِاللِّسَانِ وَالْيَدِ؛ إذ كَانُوا بذَلِكَ أَحَقَّ مِن الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. [9/ 133 - 134]

664 -

اعْلَمْ أَنَّ بَيَانَ مَا فِي كَلَامِهِمْ

(1)

مِن الْبَاطِلِ وَالنَّقْضِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُم أَشْقِيَاءَ فِي الْآخِرَةِ، إلَّا إذَا بَعَثَ اللهُ إلَيْهِم رَسُولًا فَلَمْ يَتَّبِعُوهُ.

بَل يُعْرَفُ بِهِ أَنَّ مَن جَاءَتْهُ الرُّسُلُ بِالْحَقِّ فَعَدَلَ عَن طَرِيقِهِمْ إلَى طَرِيقِ هَؤُلَاءِ كَانَ مِن الْأَشْقِيَاءِ فِي الْآخِرَةِ.

وَالْقَوْمُ لَوْلَا الْأَنْبِيَاءَ لَكَانُوا أَعْقَلَ مِن غَيْرِهِمْ.

لَكِنَّ الْأَنْبِيَاءَ جَاءُوا بِالْحَقِّ وَبَقَايَاهُ فِي الْأُمَمِ وَإِن كَفَرُوا بِبَعْضِهِ.

(1)

أي: الفلاسفة القدامى كأرسطو وغيره.

ص: 703

حَتَّى مُشْرِكو الْعَرَبِ كَانَ عِنْدَهُم بَقَايَا مِن دِينِ إبْرَاهِيمَ، فَكَانُوا خَيْرًا مِن الْفَلَاسِفَةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُوَافِقُونَ أَرسْطُو وَأَمْثَالَهُ عَلَى أُصُولِهِمْ. [9/ 137 - 138]

665 -

إِذَا اتَّسَعَت الْعُقُولُ وَتَصَوُّرَاتُهَا: اتَّسَعَتْ عِبَارَاتُهَا، وَإِذَا ضَاقَت الْعُقُولُ وَالْعِبَارَاتُ وَالتَّصَوُّرَاتُ بَقِيَ صَاحِبُهَا كَأَنَّهُ مَحْبُوسُ الْعَقْلِ وَاللِّسَانِ، كَمَا يُصِيبُ أَهْلَ الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ، تَجِدُهُم مِن أَضْيَقِ النَّاسِ عِلْمًا وَبَيَانًا، وَأَعْجَزِهِمْ تَصَوُّرًا وَتَعْبِيرًا.

وَلهَذَا مَن كَانَ ذَكِيًّا إذَا تَصَرَّفَ فِي الْعُلُومِ وَسَلَكَ مَسْلَكَ أَهْلِ الْمَنْطِقِ: طَوَّلَ وَضَيَّقَ، وَتَكَلَّفَ وَتَعَسَّفَ، وَغَايَتُهُ بَيَانُ الْبَيِّنِ، وَإِيضَاحُ الْوَاضِحِ مِن الْعِيِّ، وَقَد يُوقِعُهُ ذَلِكَ فِي أَنْوَاعٍ مِن السَّفْسَطَهِ الَّتي عَافَى اللهُ مِنْهَا مَن لَمْ يَسْلُكْ طَرِيقَهُمْ.

وَكَذَلِكَ تَكَلُّفَاتُهُم فِي حُدُودِهِمْ: مِثْل حَدِّهِمْ لِلْإِنْسَانِ وَللشَّمْسِ بِأَنَّهَا كَوْكَبٌ يَطْلُعُ نَهَارًا، وَهَل مَن يَحُدُّ

(1)

الشَّمْسَ مِثْل هَذَا الْحَدِّ وَنَحْوَهُ إلَّا مِن أَجْهَلِ النَّاسِ؟

وَهَل عِنْدَ النَّاسِ شَيْءٌ أَظْهَرُ مِن الشَّمْسِ؟ وَمَن لَمْ يَعْرِف الشَّمْسَ فَإِمَّا أَنْ يَجْهَلَ اللَّفْظَ فَيُتَرْجَمَ لَهُ.

وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ رَآهَا لِعَمَاهُ فَهَذَا لَا يَرَى النَّهَارَ وَلَا الْكَوَاكِبَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَسْمَعَ مِن النَّاسِ مَا يعَرفُ ذَلِكَ بِدُونِ طَرِيقِهِمْ. [9/ 158 - 159]

666 -

وَلهَذَا كَانَ تَعَلُّمُ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ فَهْمُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ عَلَيْهَا فَرضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ بِخِلَافِ الْمَنْطِقِ.

فَإِنْ قَالُوا: نَحْنُ لَا نَقُولُ إنَّ النَّاسَ يَحْتَاجُونَ إلَى اصْطِلَاحِ الْمَنْطِقِيّينَ؛ بَل إلَى الْمَعَانِي الَّتِي تُوزَنُ بِهَا الْعُلُومُ.

(1)

في الأصل: (يَجِدُ)، والمثبت من كتاب: الرد على المنطقيين لشيخ الإسلام، وهو أصل هذه المادة التي لخصها السيوطي.

ص: 704

قِيلَ: لَا رَيْبَ أَنَّ الْمَجْهُولَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْمَعْلُومَاتِ، وَالنَّاسُ يَحْتَاجُونَ إلَى أَنْ يَزِنُوا مَا جَهِلُوهُ بمَا عَلِمُوهُ، وَهَذَا مِن الْمَوَازِينِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللهُ حَيْثُ قَالَ:{اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} [الشورى: 17].

وَفَالَ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} [الحديد: 25].

وَهَذَا مَوْجُود عِنْدَ أُمَّتِنَا وَغَيْرِ أُمَّتِنَا، مِمَن لَمْ يَسْمَعْ قَطُّ بِمَنْطِقِ الْيُونَانِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْأُمَمَ غَيْرُ مُحْتَاجَةٍ إلَى الْمَعَانِي الْمَنْطِقِيَّةِ الَّتِي عَبَّرُوا عَنْهَا بِلِسَانِهِمْ، وَهُوَ كَلَامُهُم فِي الْمَعْقُولَاتِ الثَّانِيَةِ.

فَإِنَّ مَوْضُوعَ الْمَنْطِقِ: هُوَ الْمَعْقُولَاتُ مِن حَيْثُ ئتَوَصَّل بِهَا إلَى عِلْمِ مَا لَمْ يُعْلَمْ

(1)

. [9/ 171 - 172]

667 -

كَلَامُنَا هُنَا فِي بَيَانِ ضَلَالِ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةِ الَّذِينَ يَبْنُونَ ضَلَالَهُم بِضَلَالِ غَيْرِهِمْ، فَيَتَعَلَّقُونَ بِالْكَذِبِ فِي الْمَنْقُولَاتِ، وَبِالْجَهْلِ فِي الْمَعْقُولَاتِ؛ كَقَوْلِهِمْ: إنَّ أَرِسْطُو وَزِيرُ ذِي الْقَرْنَيْنِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُم سَمِعُوا أَنَّهُ كَانَ وَزِيرَ الْإِسْكَنْدَرِ، وَذُو الْقَرْنَيْنِ يُقَالُ لَهُ: الْإِسْكَنْدَرُ.

وَهَذَا مِن جَهْلِهِمْ؛ فَإِنَّ الْإِسْكنْدَرَ الَّذِي وُزِرَ لَهُ أَرِسْطُو هُوَ ابْنُ فَيَلْبَس الْمَقْدُونيِّ، الَّذِي يُؤَرَّخُ لَهُ تَارِيخُ الرُّومِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَهُوَ إنَّمَا ذَهَبَ إلَى أَرْضِ الْقُدْسِ، لَمْ يَصِلْ إلَى السَّدِّ عِنْدَ مَن يَعْرِفُ أَخْبَارَهُ، وَكَانَ مُشْرِكًا يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ.

وَكَذَلِكَ أَرِسْطُو وَقَوْمُهُ كَانُوا مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، وَذُو الْقَرْنَيْنِ كَانَ مُوَحِّدًا مُؤْمِنًا بِاللهِ، وَكَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى هَذَا، وَمَن يُسَمِّيهِ الْإِسْكَنْدَرَ يَقُولُ: هُوَ الْإِسْكَنْدَرُ بْنُ دَارا.

وَلهَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ إنَّمَا رَاجُو عَلَى أَبْعَدِ النَّاسِ عَن الْعَقْلِ

(1)

هذا هو موضوع هذا الفن.

ص: 705

وَالدِّينِ؛ كَالْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ الَّذِينَ رَكَّبُوا مَذْهَبَهُم مِن فَلْسَفَةِ الْيُونَانِ وَدِينِ الْمَجُوس، وَأَظْهَرُوا الرَّفْضَ.

وَكَجُهَّالِ الْمُتَصَوِّفَةِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ، وَإنَّمَا يَنْفقون فِي دَوْلَةٍ جَاهِلِيَّةٍ بَعِيدَةٍ عَن الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ: إمَّا كُفَّارًا، وَإِمَّا مُنَافِقِينَ، ثُمَّ نَفقَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ التُّرْكُ.

وَكَذَلِكَ إنَّمَا ينفقون دَائِمًا عَلَى أَعْدَاءِ اللّهِ وَرَسُولِهِ مِن الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ. [9/ 175 - 176]

668 -

مَا زَالَ نُظَّارُ الْمُسْلِمِينَ يَعِيبُونَ طَرِيقَ أَهْلِ الْمَنْطِقِ، وَيُبَيِّنُونَ مَا فِيهَا مِن الْعِيِّ وَاللُّكْنَةِ وَقُصُورِ الْعَقْلِ وَعَجْزِ النُّطْقِ، ويُبَيِّنُونَ أَنَّهَا إلَى إفْسَادِ الْمَنْطِقِ الْعَقْلِيِّ وَاللِّسَانِيِّ أَقْرَبُ مِنْهَا إلَى تَقْوِيمِ ذَلِكَ.

وَلَا يَرْضَوْنَ أَنْ يَسْلُكُوهَا فِي نَظَرِهِمْ وَمُنَاظَرَتِهِمْ لَا مَعَ مَن يُوَالُونَهُ وَلَا مَعَ مَن يُعَادُونَهُ.

وَإِنَّمَا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا مِن زَمَنِ أَبِي حَامِدٍ؛ فَإِنَّهُ أَدْخَلَ مُقَدِّمَةً مِن الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ الْمُسْتَصْفَى، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يَثِقُ بِعِلْمِهِ إلَّا مَن عَرَفَ هَذَا الْمَنْطِقَ.

وَصَنَّفَ فِيهِ "مِعْيَارَ الْعِلْمِ" وَ"مَحَكَّ النَّظَرِ"، وَصَنَّفَ كِتَابًا سَمَّاهُ "الْقِسْطَاسَ الْمُسْتَقِيمَ" ذَكَرَ فِيهِ خَمْسَ مَوَازِينَ: الثَّلَاثَ الْحَمْلِيَّاتِ، وَالشَّرْطِيَّ الْمُتَّصِلَ، وَالشَّرْطِيَّ الْمُنْفَصِلَ.

وَغَيَّرَ عِبَارَاتِهَا إلَى أَمْثِلَةٍ أَخَذَهَا مِن كَلَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ خَاطَبَ بِذَلِكَ بَعْضَ أَهْلِ التَّعْلِيمِ.

وَصنَّفَ كِتَابًا فِي تَهَافُتِهِمْ وَبَيَّنَ كُفْرَهُم بِسَبَبِ مَسْأَلَةِ قِدَمِ الْعَالَمِ، وَإِنْكَارِ الْعِلْمِ بِالْجُزْئِيَّاتِ، وَإِنْكَارِ الْمُعَادِ.

وَبَيَّنَ فِي آخِرِ كُتُبِهِ أَنَّ طَرِيقَهُم فَاسِدَةٌ لَا تُوصِلُ إلَى يَقِينٍ، وَذَمَّهَا أَكْثَرَ مِمَّا ذَمَّ طَرِيقَةَ الْمُتَكَلِّمِينَ.

ص: 706

وَكَانَ أَوَّلًا يَذْكُرُ فِي كُتُبِهِ كَثِيرًا مِن كَلَامِهِمْ: إمَّا بِعِبَارَتِهِمْ، وَإِمَّا بِعِبَارَة أُخْرَى.

ثُمَّ فِي آخِرِ أَمْرِهِ بَالَغَ فِي ذَمِّهِمْ، وَبَيَّنَ أَنَّ طَرِيقَهُم مُتَضَمِّنَةٌ مِن الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ مَا يُوجِبُ ذَمَّهَا وَفَسَادَهَا أَعْظَمَ مِن طَرِيقِ الْمُتَكَلِّمِينَ.

وَمَاتَ وَهُوَ مُشْتَغِلٌ بِالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ.

وَالْمَنْطِقُ الَّذِي كَانَ يَقُولُ فِيهِ مَا يَقُولُ: مَا حَصَلَ لَهُ مَقْصُودُهُ، وَلَا أَزَالَ عَنْهُ مَا كَانَ فِيهِ مِن الشَّكِّ وَالْحِيرَةِ، وَلَمْ يُغْنِ عَنْهُ الْمَنْطِقُ شَيْئًا.

وَلَكِنْ بِسَبَبِ مَا وَقَعَ مِنْهُ فِي أَثْنَاءِ عُمُرِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ صَارَ كَثِيرٌ مِن النُّظَّارِ يُدْخِلُونَ الْمَنْطِقَ الْيُونَانِيَّ فِي عُلُومِهِمْ، حَتَى صَارَ مَن يَسْلُكُ طَرِيقَ هَؤُلَاءِ مِن الْمُتَأَخِّرِينَ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ إلَّا هَذَا، وَإِنَّ مَا ادَّعَوْهُ مِن الْحَدِّ وَالْبُرْهَانِ هُوَ أَمْرٌ صَحِيحٌ مُسَلَّمٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَا زَالَ الْعُقَلَاءُ وَالْفُضَلَاءُ مِن الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ يَعِيبُونَ ذَلِكَ وَيَطْعَنُونَ فِيهِ.

وَجُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ يَعِيبُونَهُ عَيْبًا مُجْمَلًا؛ لِمَا يَرَوْنَهُ مِن آثَارِهِ وَلَوَازِمِهِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا فِي أَهْلِهِ مِمَّا يُنَاقِضُ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ، وَيُفْضِي بِهِم الْحَالُ إلَى أَنْوَاعٍ مِن الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ وَالضَّلَالِ. [9/ 184 - 185]

669 -

الْكَلَامُ فِي الْمَنْطِقِ: إنَّمَا وَقَعَ لَمَّا زَعَمُوا أَنَّهُ آلَةٌ قَانُونِيَّة تَعْصِمُ مُرَاعَاتُهَا الذِّهْنَ أَنْ يَزَلَّ فِي فِكْرِهِ

(1)

.

فَاحْتَجْنَا أَنْ نَنْظُرَ فِي هَذِهِ الْآلَةِ: هَل هِيَ كَمَا قَالُوا أَو لَيْس الْأَمْرُ كَذَلِكَ؟

(2)

. [9/ 194]

(1)

هذا هو تعريف علم المنطق.

(2)

هذا سبب تعلمه للمنطق وقراءته لكتبهم مع قناعته بعدم فائدته بل وجزمه بضلال كثير مما جاء فيه.

فانظر إلى علو همته، ومنهجه السليم في عدم نقد علم إلا بعد النظر فيه.

ص: 707

670 -

قيَاسُ التَّمْثِيلِ: هُوَ الْحُكْمُ عَلَى شَيْءٍ بِمَا حُكِمَ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ؛ بِنَاءً عَلَى جَامِعٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا. [9/ 197]

671 -

قِيَاسُ التَّمْثِيلِ الصَّحِيحِ أَوْلَى بِإِفَادَةِ الْمَطْلُوبِ عِلْمًا كَانَ أَو ظَنُّا مِن مُجَرَّدِ قِيَاسِ الشُّمُولِ، وَلهَذَا كَانَ سَائِرُ الْعُقَلَاءِ يَسْتَدِلُّونَ بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَدِلُّونَ بِقِيَاسِ الشُّمُولِ، بَل لَا يَصِحُّ قِيَاسُ الشُّمُولِ فِي الْأَمْرِ الْعَامِّ إلَّا بِتَوَسُّطِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ، وَكُلُّ مَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ قِيَاسِ الشُّمُولِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ فَإِنَّهُ يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ فِي تِلْكَ.

وَحِينَئِذٍ فَالْقِيَاسُ التَّمْثِيلِيُّ أَصْلٌ لِلْقِيَاسِ الشُّمُولِيِّ. [9/ 203 - 204]

672 -

أَمَّا السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ: فَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى دَعْوَى حَصْرِ أَوْصَافِ الْأَصْلِ فِي جُمْلَةٍ مُعَيَّنةٍ وَإِبْطَالِ كُلِّ مَا عَدَا الْمُسْتَبْقَى. [9/ 198]

673 -

اعْلَمْ أَنَّهُم فِي الْمَنْطِقِ الْإِلَهِيِّ بَل وَالطَّبِيعِيِّ: غَيَّرُوا بَعْضَ مَا ذَكَرَهُ أَرِسْطُو، لَكِنْ مَا زَادُوهُ فِي الْإِلَهِيِّ هُوَ خَيْرٌ مِن كَلَامِ أَرِسْطُو، فَإِنِّي قَد رَأَيْت الْكَلَامَيْنِ

(1)

.

وَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ فِي الْإِلَهِيَّاتِ أَجْهَلُ مِن الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِكَثِير كَثِيرٍ.

وَأَمَّا فِي الطَّبِيعِيَّاتِ فَغَالِبُ كَلَامِهِ جَيِّدٌ

(2)

.

وَأَمَّا الْمَنْطِقُ فَكَلَامُهُ فِيهِ خَيْرٌ مِن كَلَامِهِ فِي الْإِلَهِيِّ. [9/ 205]

674 -

إنَّ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ وَمَعْرِفَتَهَا لَيْسَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى شَيْءٍ يُتَعَلَّمُ مِن غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ أَصْلًا وإِن كَانَ طَرِيقًا صَحِيحًا.

وَهَكَذَا كُلُّ مَا بُعِثَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِثْل الْعِلْمِ بِجِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَالْعِلْمِ بِمَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ، وَالْعِلْمِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ، وَالْعِلْمِ بِالْهِلَالِ، فَكُل هَذَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهِ

(1)

هذا يُؤكد أن الشيخ يقف بنفسه على كتبهم، ويأخذ كلامهم منهم دون من نقله عنهم.

(2)

هذا من إنصاف الشيخ على عادته، وكان رحمه الله يأخذ الحسن والنافع من أيِّ أحد، ومن أي علم وفن، ويدع الشر والخطأ ولو كان من حبيب.

ص: 708

بِالطُّرُقِ الَّتِي كَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُم بِإِحْسَان يَسْلُكُونَهَا، وَلَا يَحْتَاجُونَ مَعَهَا إلَى شَيْءٍ آخَرَ.

وَإِن كَانَ كَثِيرٌ مِن النَّاسِ قَد أَحْدَثُوا طُرُقًا أُخَرَ، وَكَثِيرٌ مِنْهُم يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الشَّرِيعَةِ إلَّا بِهَا، وَهَذَا مِن جَهْلِهِمْ.

كَمَا يَظُنُّ طَائِفَةٌ مِن النَّاسِ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْقِبْلَةِ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِمَعْرِفَةِ أَطْوَالِ الْبِلَادِ وَعُرُوضِهَا.

وَهُوَ وَإِن كَانَ عِلْمًا صَحِيحًا حِسَابِيًّا يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ، لَكِنَّ مَعْرِفَةَ الْمُسْلِمِينَ بِقِبْلَتِهِمْ لَيْسَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى هَذَا.

بَل قَد ثَبَتَتْ عَن صَاحِبِ الشَّرْعِ. [9/ 215]

675 -

لَا نُنْكِرُ أَنَّ الْقِيَاسَ يَحْصُلُ بِهِ عِلْمٌ إذَا كَانَت مَوَادُّهُ يَقِينِيَّةً، لَكِنْ نَقُولُ: إنَّ الْعِلْمَ الْحَاصِلَ بِهِ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ؛ بَل يَحْصُلُ بِدُونِ ذَلِكَ، فَلَا يَكُون شَيْءٌ مِن الْعِلْمِ مُتَوَقِّفًا عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ. [9/ 218]

* * *

(طَرِيقَةُ الْقُرْآنِ فِي بَيَانِ إمْكَانِ الْمَعَادِ)

676 -

طَرِيقَةُ الْقُرْآنِ فِي بَيَانِ إمْكَانِ الْمَعَادِ:

أ - فَتَارَةً يُخْبِرُ عَمَّن أَمَاتَهُم ثُمَّ أَحْيَاهُم كَمَا أَخْبَرَ عَن قَوْمِ مُوسَى الَّذِينَ قَالُوا: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153]، قَالَ:{فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} [البقرة: 55، 56].

وَكَمَا أَخْبَرَ عَن الْمَسِيحِ أَنَهُ كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ، وَعَن أَصْحَابِ الْكَهْفِ أَنَّهُم بُعِثُوا بَعْدَ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وَتِسْعِ سِنِينَ.

ب - وَتَارَةً يَسْتَدِلُّ عَلَى ذَلِكَ بِالنَّشْأَةِ الْأُولَى؛ فَإِنَّ الْإِعَادَةَ أَهْوَنُ مِن الِابْتِدَاءِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} الْآيَةُ [الحج: 5].

ص: 709

ج - وَتَارَةً يَسْتَدِلُّ عَلَى ذَلِكَ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ فَإِنَّ خَلْقَهُمَا أَعْظَمُ مِن إعَادَةِ الْإِنْسَانِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [الأحقاف: 33].

د - وَتَارَةً يَسْتَدِلُّ عَلَى إمْكَانِهِ بِخَلْقِ النَّبَاتِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا} إلَى قَوْلِهِ: {كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى} [الأعراف: 57].

فَقَد تَبَيَّنَ أَنَّ مَا عِنْدَ أَئِمَّةِ النُّظَّارِ أهْلِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ مِن الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى الْمَطَالِبِ الْإِلَهِيَّةِ: فَقَد جَاءَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ بِمَا فِيهَا مِن الْحَقِّ وَمَا هُوَ أَبْلَغُ وَأَكْمَلُ مِنْهَا عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ، مَعَ تَنَزُّهِهِ عَن الْأَغَالِيطِ الْكَثِيرَةِ الْمَوْجُودَةِ عِنْدَ هَؤُلَاء؟ فَإنَّ خَطَأَهُم فِيهَا كَثِيرٌ جِدًّا، وَلَعَلَّ ضَلَالَهُم أَكْثَرُ مِن هُدَاهُمْ، وَجَهْلَهُم أَكْثَرُ مَن عِلْمِهِمْ.

وَلهَذَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ الرَّازِيَّ فِي آخِرِ عُمُرِهِ فِي كِتَابِهِ: "أَقْسَامِ اللذَّاتِ"

(1)

: لَقَد تَأمَّلْت الطُّرُقَ الْكَلَامِيَّةَ وَالْمَنَاهِجَ الْفَلْسَفِيَّةَ، فَمَا رَأَيْتهَا تَشْفِي عَلِيلًا، وَلَا تَرْوِي غَلِيلًا، وَرَاُّيْت اُّقْرَبَ الطُّرُقِ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ، اقْرَأ فِي الْإِثْبَاتِ:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]، وَاقْرَأ فِي النَّفْيِ:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} [طه: 110]، وَمَن جَرَّبَ مِثْل تَجْرِبَتِي عَرَفَ مِثْل مَعْرِفَتِي. [9/ 224 - 225]

(1)

وهو مطبوع.

ومما قاله في كتابه: "إن لكل قوة وحاسة لذة، ولذة العقل العلم، وأشرف العلم: العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله"، ثم قال:"وعلى كل واحدةٍ منها عقدة لم تنحل"؛ أي: أنَّ عنده إشكالًا.

وهذا يبيَّن أنه كان غارقًا في بحار الشبهات، متلوثًا بعلوم الفلاسفة وأهل الكلام، فذلك ندم أشد الندم على تضييع عمره في الانشغال في الطُّرُق الْكَلَامِيَّة وَالْمَنَاهِج الْفَلْسَفِيَّة.

وقال:

نهاية إقدام العقول عقال

وغاية سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا

وحاصل دنيانا أذىً ووبال

ص: 710

677 -

إِنَّ مَبْنَى الْعَقْلِ عَلَى صِحَّةِ الْفِطْرَةِ وَسَلَامَتِهَا، وَمَبْنَى السَّمْعِ عَلَى تَصْدِيقِ الْأنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ

(1)

. [9/ 226]

678 -

الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِم كَمَّلُوا لِلنَّاسِ الْأَمْرَيْنِ:

أ - فَدَلُّوهُم عَلَى الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي بِهَا تُعْلَمُ الْمَطَالِبُ الَّتِي يُمْكِنُهُم عِلْمُهُم بِهَا بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ.

ب - وَأَخْبَرُوهُم مَعَ ذَلِكَ مِن تَفَاصِيلِ الْغَيْبِ بِمَا يَعْجِزُونَ عَن مَعْرِفَتِهِ بِمُجَرَّدِ نَظَرِهِمْ وَاسْتِدْلَالِهِمْ.

وَلَيْسَ تَعْلِيمُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَقْصُورًا عَلَى مُجَرَّدِ الْخَبَر

(2)

كمَا يَظُنُّهُ كَثِيرٌ؛ بَل هُم بَيَّنُوا مِن الْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي بِهَا تُعْلَمُ الْعُلُومُ الْأِلَهِيَّةُ مَا لَا يُوجَدُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ

(3)

أَلْبَتَّةَ.

فَتَعْلِيمُهُم صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِم جَامِعٌ لِلْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ جَمِيعًا، بِخِلَافِ الَّذِينَ خَالَفُوهُمْ؛ فَإِنَّ تَعْلِيمَهُم غَيْرُ مُفِيدٍ لِلْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ، مَعَ مَا فِي نُفُوسِهِمْ مِن الْكِبْرِ الَّذِي مَا هُم بَالِغِيهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)} [غافر: 56]. [9/ 226 - 227]

679 -

اتفق الْعُقَلَاءُ عَلَى أَنَّ ضَرْبَ الْمَثَلِ مِمَّا يُعِينُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْكُلِّيَّاتِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ الْحَالُ إذَا ذُكِرَ مَعَ الْمِثَالِ كَالْحَالِ إذَا ذُكِرَ مُجَرَّدًا عَنْهُ.

وَمَن تَدَبَّرَ جَمِيعَ مَا يَتَكَلَّمُ فِيهِ النَّاسُ مِن الْكُلِّيَّاتِ الْمَعْلُومَةِ بِالْعَقْلِ فِي الطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَالصِّنَاعَاتِ وَالتِّجَارَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَجَدَ الْأمْرَ كَذَلِكَ.

(1)

فلا يستقيم عقل الإنسان إلا إذا سلمت فطرته من المكدرات والشوائب، ولا يستقيم علم الإنسان ومنطقه وكلامه إلا إذا صدّق الأنبياء عليهم السلام وأخذ العلم من الوحي.

(2)

أي: ليس مقصورًا على إخبارهم لقومهم بأخبار المعاد والقبر والجنة والنار، بل أضافوا إلى ذلك الأدلة العقلية.

(3)

أي: أهل المنطق.

ص: 711

وَالْإِنْسَانُ قَد يُنْكِرُ أَمْرًا حَتَّى يَرَى وَاحِدًا مِن جِنْسِهِ فَيُقِرُّ بِالنَّوْعِ وَيَسْتَفِيدُ بِذَلِكَ حُكْمًا كُلِّيُّا؛ وَلهَذَا يَقُولُ سُبْحَانَهُ: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)} [الشعراء: 105]، {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123)} [الشعراء: 123] وَنَحْو ذَلِكَ.

وَكُلٌّ مِن هَؤُلَاءِ إنَّمَا جَاءَهُ رَسُولٌ وَاحِدٌ، وَلَكِنْ كَانُوا مُكَذِّبِينَ بِجِنْسِ الرُّسُلِ لَمْ يَكُنْ تَكْذِيبُهُم بِالْوَاحِدِ بِخُصُوصهِ. [9/ 238]

* * *

(قِيَاس الطَّرْدِ وَقِيَاس الْعَكْسِ)

680 -

مِن أَعْظَمِ صِفَاتِ الْعَقْلِ: مَعْرِفَةُ التَّمَاثُلِ وَالِاخْتِلَافِ، فَإِذَا رَأَى الشَّيْئَيْنِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ عَلِمَ أَنَّ هَذَا مِثْلُ هَذَا، فَجَعَلَ حُكْمَهُمَا وَاحِدًا، كمَا إذَا رَأَى الْمَاءَ وَالْمَاءَ، وَالتُّرَابَ وَالتُّرَابَ، وَالْهَوَاءَ وَالْهَوَاءَ، ثُمَّ حَكَمَ بِالْحُكْمِ الْكُلِّيِّ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ.

وإِذَا حَكَمَ عَلَى بَعْضِ الْأَعْيَانِ وَمَثَّله بِالنَّظِيرِ، وَذَكَرَ الْمُشْتَرَكَ: كَانَ أَحْسَنَ فِي الْبَيَانِ، فَهَذَا قِيَاسُ الطَّرْدِ.

وَإِذَا رَأَى الْمُخْتَلِفَيْنِ كَالْمَاءِ وَالتُّرَابِ: فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا قِيَاسُ الْعَكْسِ.

وَمَا أَمَرَ اللهُ بِهِ مِن الِاعْتِبَارِ فِي كِتَابِهِ يَتَنَاوَلُ قِيَاسَ الطَّرْدِ وَقِيَاسَ الْعَكْسِ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا أَهْلَكَ الْمُكَذبِينَ لِلرُّسُلِ بِتَكْذِيبِهِم كَانَ مِن الِاعْتِبَارِ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مَن فَعَلَ مِثْل مَا فَعَلُوا أَصَابَهُ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ، فَيَتَّقِي تَكْذِيبَ الرُّسُلِ حَذَرًا مِن الْعُقُوبَةِ، وَهَذَا قِيَاسُ الطَّرْدِ.

وَيُعْلَمُ أَنَّ مَن لَمْ يُكَذِّبْ الرُّسُلَ لَا يُصِيبُهُ ذَلِكَ، وَهَذَا قِيَاسُ الْعَكْسِ

(1)

. [9/ 239]

* * *

(1)

إلى هنا انتهت الفوائد المنتقاة من تهذيب السيوطي لكتاب الرد على المنطقيين لشيخ الإسلام ابن تيمية، وقد قال في آخره: هَذَا آخِرُ مَا لَخَّصْته مِن كِتَابِ ابْنِ تَيْمِيَّة، وَقَد أَوْرَدْت عِبَارَتَهُ =

ص: 712

(المنطق مبني على أن مدارك العلم منحصرة في أمور)

681 -

بَنَوْهُ [أي: الْمَنْطِق] عَلَى أَنَّ مَدَارِكَ الْعِلْمِ مُنْحَصِرَةٌ فِي:

أ - الْحَدِّ وَجِنْسِهِ مِن الرَّسْمِ وَنَحْوِهِ.

ب - وَفي الْقِيَاسِ وَنَحْوِهِ مِن الِاسْتِقْرَاءِ وَالتَّمْثِيلِ.

لِأَنَّ الْعِلْمَ:

أ - إمَّا تَصَوُّرٌ، وَهُوَ مَعْرِفَةُ الْمُفْرَدَاتِ.

ب - وَإِمَّا تَصْدِيقٌ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِنِسْبَةِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ بِالنَّفْيِ أَو الْإِثْبَاتِ.

وَكُلٌّ مِن الْعِلْمَيْنِ:

أ - إمَّا بَدِيهِيٌّ لَا يَحْتَاجُ إلَى طَرِيقٍ.

ب - وَإمَّا نَظَرِيٌّ مُفْتَقِرٌ إلَى الطَّرِيقِ.

وَطَرِيقُ التَّصَوُّرِ: هوَ الْحَدُّ.

وَطَرِيقُ التَّصْدِيقِ: هُوَ الْقِيَاسُ الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْبُرْهَانَ إنْ كَانَت مُقَدِّمَاتُهُ يَقِينيَّةً. [9/ 255]

* * *

(كيف انتقلت كتب فلسفة اليونان إلى المسلمين، والموقف الصحيح منها)

682 -

كَتَبْت فِيمَا تَقَدَّمَ مُلَخَّصَ الْمَنْطِقِ الْمُعَرَّبِ الَّذِي بَلَّغَتْة الْعَرَبُ عَن الْيُونَانِيِّينَ وَعَرَّبَتْهُ لَفْظًا وَمَعْنًى؛ فَإِنَّهَا أَحْسَنَتْ أَلْفَاظَهُ وَحَرَّرَتْ مَعَانِيَهُ، وَهُوَ الْمَنْسُوبُ إلَى أَرِسْطُو الْيُونَانِيِّ الَّذِي يُسَمِّيهِ أَتْبَاعُهُ مِن الصَّابِئِينَ الْفَلَاسِفَةِ

= بلَفْظِهِ مِن غَيْرِ تَصَرُّفٍ فِى الْغَالِب، وَحَذَفْت مِن كِتَابِهِ الْكَثِيرَ فَإِنَّهُ فِي عِشْرِينَ كُرَّاسًا، وَلَمْ أَحْذِفْ مِن الْمُهمِّ شَيْئًا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. اهـ.

قلت: وأنا لمْ أحْذِفْ مِن الْمُهِمِّ لطلاب العلم والعامة شَيْئًا إن شاء الله.

ص: 713

الْمُبْتَدِعِينَ "الْمُعَلِّمَ الْأَوَّلَ"؛ لِأَنَّهُ وَضَعَ التَّعَالِيمَ الَّتِي يَتَعَلَّمُونَهَا مِن الْمَنْطِقِ وَالطَّبِيعِيِّ وَمَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ.

فَإِنَّ هَذِهِ التَّعَالِيمَ لَمَّا اتَّصَلَتْ بِالْمُسْلِمِينَ وَعُرِّبَتْ كُتُبُهَا مَعَ مَا عُرِّبَ مِن كُتُبِ الطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَالْهَيْئَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَ انْتِشَارُ تَعْرِيبِهَا فِي دَوْلَةِ الْخَلِيفَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمُلَقَّبِ بِالْمَأمُونِ: أَخَذَهَا الْمُسْلِمُونَ فَحَرَّرُوهَا لَفْظًا وَمَعْنًى.

لَكِنْ فِيهَا مِن الْبَاطِلِ وَالضَّلَالِ شَيْءٌ كَثِيرٌ.

فَمِنْهُمْ

(1)

: مَن اتَّبَعَهَا مَعَ مَا يَنْتَحِلُهُ مِن الْإِسْلَامِ، وَهُم صَابِئَةُ الْمُسْلِمِينَ الْمُسَمَّوْنَ بِالْفَلَاسِفَةِ، فَصَارُوا مُؤمِنِينَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ دُونَ بَعْضٍ، بِمَنْزِلَةِ الْمُبْتَدِعَةِ

(1)

سيذكر الشيخ موقف العرب والمسلمين من كتب الفلاسفة والعجم، وأنهم انقسموا إلى ثلاثة أقسام كلها أخطأت:

الأول: أخذ كل ما عندهم من خير وشر.

الثاني: أخذ منها ما يظنه تتوافق مع الإسلام وتُؤيد ما جاء به، ولكنه أخطأ في ظنه، وعادت هذه العلوم وبالًا عليه.

الثالث: ردّ هذه العلوم كلها، خيرها وشرها، ولَمْ يَتَّبعْ مِن الْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ مَا يُغْنِي عَن كُلِّ حَقَّهَا، وَيدْفَعُ بَاطِلَهَا، وَلَمْ يُجَاهِدْهُم الْجِهَادَ الْمَشْرُوعَ.

الرابع: أخذ منها ما يجزم أنه لا يُخالف الإسلام ولا يتعارض مع ما جاء فيه، وردّ الباطل الذي فيها، واستغل هذه العلوم في مصالح الدين والدنيا، وهذا هو الذي ارتضاه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى قولًا وفعلًا.

وقد انقسم المسلمون في هذا الزمان تجاه أنظمة الغرب وعلومه وصناعاته وقوانينه إلى أقسام أربعة كذلك:

الأول: من أخذ كل ما عندهم من خير وشر، وترتب على ذلك احتقاره للمسلمين، وزعم أنهم متخلِّفون عن ركب الحضارة والتطور، ورأى أن الإسلام يتعارض مع التقدُّم والرقيّ.

الثاني: من أخذ منهم ما يظنه يتوافق مع الإسلام، ولكنه أخطأ في ظنه، وعاد ما أخذه منهم وبالًا عليه.

الثالث: من ردّ ما عندهم كله، خيره وشره، ولَمْ يَتَّبعْ مِن الْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ مَا يُغْنِي عَن الحق الذي عندهم، وَيَدْفَعُ بَاطِلَهم، وَلَمْ يُجَاهِدْهُم الْجِهَادَ الْمَشْرُوعَ.

وهذا حال بعض المتشددين، وقد رأيت من يمتنع عن استخدام صناعات الغرب والاستفادة من الخير والصالح الذي جاء منهم، فهذا من الجهل.

الرابع: من أخذ منهم ما يجزم أنه لا يُخالف الإسلام ولا يتعارض مع ما جاء فيه، وردّ الباطل الذي عندهم، واستغل ما ينفع في مصالح الدين والدنيا، وهذا هو الصواب.

ص: 714

مِن الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَبْلَ النَّسْخِ، لَمَّا بَدَّلُوا بَعْضَ الْكُتُبِ الَّتي بِأَيْدِيهِمْ.

وَمِنْهُمْ: مَن لَمْ يَقْصِد أَتْبَاعَهَا، لَكِنْ تَلَقَّى عَنْهُم أَشْيَاءَ يَظُنُّ أَنَّهَا جَمِيعَهَا تُوَافِقُ الْإِسْلَامَ وَتَنْصُرُهُ، وَكَثِيرٌ مِنْهَا تُخَالِفُهُ وَتَخْذُلُهُ، وَهَذِهِ حَالُ كَثِيرٍ مِن أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُعْتَزِلَةِ.

وَمِنْهُمْ: مَن أَعْرَضَ عَنْهَا إعْرَاضًا مُجْمَلًا، وَلَمْ يَتَّبعْ مِن الْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ مَا يُغْنِي عَن كُلِّ حَقِّهَا، وَيَدْفَعُ بَاطِلَهَا، وَلَمْ يُجَاهِدْهُم الْجِهَادَ الْمَشْرُوعَ، وَهَذِهِ حَالُ كَثِيرٍ مِن أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. [9/ 265 - 266]

* * *

(كُتُبُ الْمَنْطِقِ: لَا تَشْتَمِل عَلَى عِلْمٍ يُؤْمَرُ بِهِ شَرعًا)

683 -

كُتُبُ الْمَنْطِقِ: لَا تَشْتَمِلُ عَلَى عِلْمٍ يُؤمَرُ بِهِ شَرْعًا، وَإِن كَانَ قَد أَدَّى اجْتِهَادُ بَعْضِ النَّاسِ إلَى أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكفَايَةِ.

وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّ الْعُلُومَ لَا تَقُومُ إلَّا بِهِ؛ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو حَامِدٍ، فَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ عَقْلًا وَشَرْعًا:

أمَّا عَقْلًا: فَإِنَّ جَمِيعَ عُقَلَاءِ بَنِي آدَمَ مِن جَمِيعِ أَصْنَافِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْعِلْمِ حَرَّرُوا عُلُومَهُم بِدُونِ الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ.

وَأمَّا شَرْعًا: فَإِنَّهُ مِن الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ مِن دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ اللهَ لَمْ يُوجِبْ تَعَلُّمَ هَذَا الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ.

وَأَمَّا هُوَ فِي نَفْسِهِ: فَبَعْضُهُ حَقٌّ وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ، وَالْحَقُّ الَّذِي فِيهِ كَثِيرٌ مِنْهُ أو أَكْثَرُهُ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ، وَالْقَدْرُ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْهُ فَأكْثَرُ الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ تَسْتَقِلُّ بِهِ، وَالْبَلِيدُ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَالذَّكِيُّ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَمَضَرَّتُهُ عَلَى مَن لَمْ يَكُن خَبِيرًا بِعُلُومِ الْأنْبِيَاءِ أَكْثَرُ مِن نَفْعِهِ.

فَإِنَّ فِيهِ مِن الْقَوَاعِدِ السَّلْبِيَّةِ الْفَاسِدَةِ مَا رَاجَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِن الْفُضَلَاءِ، وَكَانَت سَبَبَ نِفَاقِهِمْ وَفَسَادِ عُلُومِهِمْ. [9/ 269 - 270]

* * *

ص: 715

(معنى العقل)

684 -

الْعَقْلُ فِي كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَكَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ: هُوَ أَمْرٌ يَقُومُ بِالْعَاقِلِ، سَوَاءٌ سُمِّيَ عَرضى أَو صِفَةً، لَيْسَ هُوَ عَيْنًا قَائِمَةً بِنَفْسِهَا، سَوَاءٌ سُمِّيَ جَوْهَرًا أَو جِسْمًا أَو غَيْرَ ذَلِكَ.

وَإِنَّمَا يُوجَدُ التَّعْبِيرُ بِاسْمِ الْعَقْلِ عَن الذَّاتِ الْعَاقِلَةِ الَّتِي هِيَ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ فِي كَلَامِ طَائِفَةٍ مِن الْمُتَفَلْسِفَةِ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْعَقْلِ وَالنَّفْسِ، وَيدَّعُونَ ثُبُوتَ عُقُولٍ عَشَرَةٍ، كَمَا يَذْكُرُ ذَلِكَ مَن يَذْكُرُهُ مِن أَتْبَاعِ أَرِسْطُو أَو غَيْرِهِ مِن الْمُتَفَلْسِفَةِ الْمَشَّائِينَ. [9/ 271]

وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ اسْمَ الْعَقْلِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَجُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ إنَّمَا هُوَ صِفَةٌ، وَهُوَ الَّذِي يسَمَّى عَرضى قَائِمًا بِالْعَاقِلِ.

وَعَلَى هَذَا دَلَّ الْقُرْآنُ فِي قَوْله تَعَالَى: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)} [البقرة: 73]، وَقَوْلِهِ:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46]، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ مَصْدَرُ عَقَلَ يَعْقِلُ عَقْلًا.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَالْعَقْلُ لَا يُسَمَّى بِهِ مُجَرَّدُ الْعِلْمِ الَّذِي لَمْ يَعْمَلْ بِهِ صَاحِبُهُ، وَلَا الْعَمَلُ بِلَا عِلْمٍ؛ بَل إنَّمَا يُسَمَّى بِهِ الْعِلْمُ الَّذِي يُعْمَلُ بِهِ، وَالْعَمَلُ بالْعِلْمِ

(1)

، وَلهَذَا قَالَ أَهْلُ النَّارِ:{لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)} [الملك: 10]، وَقَالَ تَعَالَى:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46]

(2)

.

(1)

فالعقل لَيْسَ هُوَ عَيْنًا قَائِمَةً بِنَفْسِهَا، إنَّمَا هُوَ صِفَةٌ كالحلم والفهم والصبر.

وإذا أردنا تعريف الحلم قلنا مثلًا: هو كظم الغيظ، والشيخ عرف العقل بقوله: الْعِلْمُ الَّذِي يُعْمَلُ بِهِ، وَالْعَمَلُ بِالْعِلْمِ.

(2)

وعلى هذا: فلا يُسمى الكافر عاقلًا؛ لأن العاقل من بحث عن الحق الذي ينجيه بعد مماته ويعمل به.

ص: 716

وَالْعَقْلُ الْمَشْرُوطُ فِى التَّكلِيفِ: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عُلُومًا يُمَيِّزُ بِهَا الْإِنْسَانُ بَيْنَ مَا يَنْفَعُهُ وَمَا يَضُرُّهُ.

فَالْمَجْنُونُ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الدَّرَاهِمِ وَالْفُلُوسِ، وَلَا بَيْنَ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ، وَلَا يَفْقَهُ مَا يُقَالُ لَهُ مِن الْكَلَامِ: لَيْسَ بِعَاقِل.

أَمَّا مَن فَهِمَ الْكَلَامَ وَمَيَّزَ بَيْنَ مَا يَنْفَعُهُ وَمَا يَضُرُّهُ: فَهُوَ عَاقِلٌ.

ثُمَّ مِن النَّاسِ مَن يَقُولُ: الْعَقْلُ هُوَ عُلُومٌ ضَرُورِّيَةٌ، وَمِنْهُم مَن يَقُولُ: الْعَقْلُ هُوَ الْعَمَلُ بِمُوجَبِ تِلْكَ الْعُلُومِ.

وَالصَّحِيحُ أَنَّ اسْمَ الْعَقْلِ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا.

وَقَد يُرَاد بِالْعَقْلِ نَفْسُ الْغَرِيزَةِ الَّتِي فِي الْإِنْسَانِ الَّتِي بِهَا يَعْلَمُ ويُمَيِّزُ وَيقْصِدُ الْمَنَافِعَ دُونَ الْمَضَارِّ، كَمَا قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَالْحَارِثُ المحاسبي وَغَيْرُهُمَا: أَنَّ الْعَقْلَ غَرِيزَةٌ.

وَهَذِهِ الْغَرِيزَةُ ثَابِتَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ، كَمَا أَنَّ فِي الْعَيْنِ قُوَّةً بِهَا يُبْصِرُ، وَفِي اللِّسَانِ قُوَّةً بِهَا يَذُوقُ، وَفِي الْجِلْدِ قُوَّةً بِهَا يَلْمِسُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ. [9/ 286 - 287]

685 -

الْعَقْلُ: قَائِمٌ بِنَفْسِ الْإِنْسَانِ الَّتِي تَعْقِلُ.

وَأَمَّا مِن الْبَدَنِ

(1)

: فَهُوَ مُتَعَلِّق بِقَلْبِهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46].

وَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: بِمَاذَا نِلْت الْعِلْمَ: قَالَ: "بِلِسَان سَؤُولٍ وَقَلْبٍ عَقُولٍ".

لَكِنَّ لَفْظَ "الْقَلْبِ":

- قَد يُرَادُ بهِ الْمُضْغَةُ الصَّنَوْبَرِيَّةُ الشَّكْلِ، الَّتِي فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ مِن الْبَدَنِ، الَّتِي جَوْفُهَا عَلَقَةٌ سَوْدَاءُ، كَمَا فِي "الصَّحِيحَيْن"

(2)

عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ

(1)

أي: موضعه ومكانه في الجسم.

(2)

تقدم تخريجه.

ص: 717

فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ".

- وَقَد يُرَادُ بِالْقَلْبِ بَاطِنُ الْإِنْسَانِ مُطْلَقًا؛ فَإِنَّ قَلْبَ الشَّيْءِ بَاطِنُهُ؛ كقَلْبِ الْحِنْطَةِ، وَاللَّوْزَةِ، وَالْجَوْزَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْقَلِيبُ قَلِيبًا؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ قَلْبَهُ وَهُوَ بَاطِنُهُ.

وَعَلَى هَذَا: فَإِذَا أُرِيدَ بِالْقَلْبِ هَذَا فَالْعَقْلُ مُتَعَلِّق بِدِمَاغِهِ أَيْضًا، وَلهَذَا قِيلَ: إنَّ الْعَقْلَ فِي الدِّمَاغِ؛ كَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِن الْأَطِبَّاءِ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَن الْإِمَامِ أَحْمَد.

وَيقُولُ طَائِفَةٌ مِن أَصْحَابِهِ: إنَّ أَصْلَ الْعَقْلِ فِي الْقَلْبِ، فَإِذَا كَمُلَ انْتَهَى إلَى الدِّمَاغِ.

وَالتَّحْقِيقُ: أنَّ الرُّوحَ الَّتِي هِيَ النَّفْسُ لَهَا تَعَلُّقٌ بِهَذَا وَهَذَا، وَمَا يَتَّصِفُ مِن الْعَقْلِ بِهِ يَتَعَلَّقُ بِهَذَا وَهَذَا، لَكِنَّ مَبْدَأَ الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ فِي الدِّمَاغِ، وَمَبْدَأَ الْإِرَادَةِ فِي الْقَلْبِ.

وَالْعَقْلُ يُرَادُ بِهِ الْعِلْمُ وُيرَادُ بِهِ الْعَمَلُ؛ فَالْعِلْمُ وَالْعَمَلُ الِاخْتِيَارِيُّ أَصْلُهُ الْإِرَادَةُ، وَأَصْلُ الْإِرَادَةِ فِي الْقَلْبِ، وَالْمُرِيدُ لَا يَكُونُ مُرِيدًا إلَّا بَعْدَ تَصَوُّرِ الْمُرَادِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْقَلْبُ مُتَصَوِّرًا فَيَكُونُ مِنْهُ هَذَا وَهَذَا، وَيَبْتَدِئُ ذَلِكَ مِن الدِّمَاغِ، وَآثَارُهُ صَاعِدَةٌ إلَى الدِّمَاغِ، فَمِنْهُ الْمُبْتَدَأُ وَإِلَيْهِ الِانْتِهَاءُ

(1)

.

(1)

خلاصة كلام ابن تيمية وبعض أهل الطب في مسألة: هل العقل في المخ أم في القلب: العقل ليس هو المخ، ومعناه: من عَقَلَ الشيء إذا منعه، فالتفكير والنظر في المخ، والإرادة ومنع النفس مما لا ينبغي من القلب.

فمَبْدَأُ الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ والتصديق والتكذيب فِي الدِّمَاغِ، وَمَبْدَأُ الْإرَادَةِ والعزيمة والعمل بالعلم فِي الْقَلْبِ.

فالنظر والخواطر والأفكار التي تُؤدي إلى تصديق الشيء أو تكذيبه إنما هي من الدماغ والمخ، والقلبُ يُصدِّقها أو يكذِّبها.

والخوف، والفزع، والحب، والحزن، والفرح، والبغض، والحسد، والحقد، والخَور، =

ص: 718

وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ لَهُ وَجْهٌ صَحِيحٌ، وَهَذَا مِقْدَارُ مَا وَسِعَتْهُ هَذِهِ الْأَوْرَاقُ

(1)

.

* * *

(المراد بالروح والنفس، وماهيتها)

686 -

النَّفْسُ الْمُفَارِقَةُ لِلْبَدَنِ بالْمَوْتِ: لَيْسَتْ جُزْءًا مِن أَجْزَاءِ الْبَدَنِ، وَلَا صِفَةً مِن صِفَاتِ الْبَدَنِ عِنْدَ سَلَفِ الْأَمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا. [9/ 272]

= والشجاعة، والحِرص، والشَّرَه، والنّفاق، والخشوع، والخضوع، والغِلظة، واللين، والاطمئنان: من أعمال القلوب.

فقد يكون الرجل مصدقًا؛ لأنّ المخ توصل إلى ذلك، لكنه لا يعمل بتصديقه؛ لأن القلب لم يعزم على ذلك.

ولذلك لو اسْتُبدل القلب بقلب آخر أو بقلبٍ صناعيّ لم يُؤثر ذلك على علمه وتصديقه وتصوراته، ولكن يُؤثر ذلك على عزيمته وهمّته وعمله بعلمِه ومُخالفة هواه.

فهناك ارتباط وثيق بين القلب والمخ، وقد ذكر عبد الدائم كحيل في كتابه أسرار القلب بين العلم والإيمان، أنّ معهد رياضيات القلب أجرى العديد من التجارب أثبت من خلالها أن القلب يبث ترددات كهرطيسية تؤثر على الدماغ وتوجهه في عمله، وأنه من الممكن أن يؤثر القلب على عملية الإدراك والفهم لدى الإنسان. كما وجدوا أن القلب يبث مجالًا كهربائيًّا هو الأقوى بين أعضاء الجسم، لذلك فهو من المحتمل أن يسيطر على عمل الجسم بالكامل.

والعرب تقول عن الرجل الشجاع: حديد القلب، أو ذكيُّ القلب، ونحوه.

قال عنترة يفخر بشجاعته:

لئن تكُ كفّي ما تُطاوعُ باعَها

فلي في وراءِ الكفِّ قلبٌ مُذَرَّبُ

كما أنهم يصفون شدة الذكاء والفطنة في القلب أيضًا، كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:

قلبٌ ذكيٌ وعقلٌ غَرٌ ذي دَخَلٍ

وفي فمي صارمٌ كالسيفِ مأثورُ

فالعَقْل -الذي يمنع صاحبه من ارتكاب الرذائل- في القلب وليس في الدماغ؛ لأن الدماغ مُسْتَودعٌ للحفظ ووِعاءٌ له، وبه يكون التفكير والتأمل والاستنباط، وإرسال الإشارات والتنبيهات عبر الجهاز العصبي إلى سائر الأعضاء، وأما القلب فهو المحرك للعمل.

فإذا كان قلب شخصٍ ما يعتقد شيئًا، ثم نُقِل هذا القلب إلى شخص آخر فلن يحمل هذا المعتقد -والله أعلم- بل سيكون هذا القلب الجديد متعلّقًا بالدماغ الآخر الذي اتّصل به أيًّا كان، فيبُثّ له الإشارات والتنبيهات عبر النظام العصبي، فيشترك معه في الذاكرة ليبدأ عمله كما خلقه الله. ويكون كعضوٍ من أعضاء الجسد مثل اليد والرجل ونحوها.

(1)

فلولا انتهاء الأوراق لكتب أكثر من ذلك! وكثيرًا ما يعتذر عن الإسهاب بانتهاء الأوراق، وهذا يدل على سعة علمه، ومن الجزم أنه لا يحتاجِ وقتًا ليصوغ الفكرة التي يريد صياغتها، بل هي تسيل مع قلمه، وتجري على لسانه، وإلا لمَا استطاع أن يكتب هذه الكمية الكبيرة من البحوث والفتاوى والكتب الضخمة.

ص: 719

وَالرُّوحُ الْمُدَبِّرَةُ لِلْبَدَنِ الَّتِي تُفَارِقُهُ بِالْمَوْتِ هِيَ الرُّوحُ الْمَنْفُوخَةُ فِيهِ، وَهِيَ النَّفْسُ الَّتِي تُفَارِقُهُ بِالْمَوْتِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا نَامَ عَن الصَّلَاةِ:"إنَّ اللهَ قَبَضَ أَرْوَاحَنَا حَيْثُ شَاء وَرَدَّهَا حَيْثُ شَاءَ"

(1)

.

وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42]، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: يَقْبِضُهَا قبضين: قَبْضُ الْمَوْتِ وَقَبْضُ النَّوْم، ثُمَّ فِي النَّوْمِ يَقْبِضُ الَّتِي تَمُوتُ، وُيرْسِلُ الْأُخْرَى إلَى أجَلٍ مُسَمُّى، حَتَّى يأْتِيَ أجَلُهَا وَقْتَ الْمَوْتِ.

لَكِنْ يُسَمَّى نَفْسًا بِاعْتِبَارِ تَدْبِيرِهِ لِلْبَدَنِ، وُيسَمَّى رُوحًا بِاعْتِبَارِ لُطْفِهِ؛ فَإِنَّ لَفْظَ الرُّوحِ يَقْتَضِي اللُّطْفَ؛ وَلهَذَا تُسَمَّى الرِّيحُ روحًا.

وَلَكِنَّ لَفْظَ "الرُّوحِ وَالنَّفْسِ" يُعَبَّرُ بِهِمَا عَن عِدَّةِ مَعَانٍ:

أ - فَيُرَادُ بِالرُّوحِ: الْهَوَاءُ الْخَارجُ مِن الْبَدَنِ، وَالْهَوَاءُ الدَّاخِلُ فِيهِ.

ب - وُيرَادُ بِالرُّوحِ: الْبُخَارُ الْخَارجُ مِن تَجْوِيفِ الْقَلْبِ مِن سويداه السَّارِي فِي الْعُرُوقِ.

ج - وَيُرَادُ بِنَفْسِ الشَّيْءِ: ذَاتُهُ وَعَيْنُهُ، كَمَا يُقَالُ: رَأَيْت زيْدًا نَفْسَهُ وَعَيْنَهُ، وَقَد قَالَ تَعَالَى:{تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116]، وَقَالَ:{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54].

فَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ الْمُرَادُ فِيهَا بِلَفْظِ النَّفْسِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ: اللهُ نَفْسُهُ الَّتِي هِيَ ذَاتُهُ الْمُتَّصِفَةُ بِصِفَاتِهِ.

د - وَقَد يُرَادُ بِلَفْظِ النَّفْسِ الدَّمُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْحَيَوَانِ؛ كَقَوْلِ الْفُقَهَاءِ "مَا لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ"، وَمِنْهُ يُقَالُ: نَفِسَتْ الْمَرْأَةُ إذَا حَاضَتْ.

(1)

رواه مالك (26).

ص: 720

فَهَذَانِ الْمَعْنيَانِ بِالنَّفْسِ لَيْسَا هُمَا مَعْنَى الرُّوحِ.

هـ - ويُرَادُ بِالنَّفْسِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِن الْمُتَأَخِّرِينَ: صِفَاتُهَا الْمَذْمُومَةُ، فَيُقَالُ: فُلَانٌ لَهُ نَفْسٌ، وَيُقَالُ: اُتْرُكْ نَفْسَك. [9/ 289 - 293]

* * *

(تفصيل القول فيما يُضاف إلي الله)

687 -

قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "الرِّيحُ مِن رَوحِ اللهِ"

(1)

؛ أَيْ: مِن الرّوحِ الَّتِي خَلَقَهَا اللهُ؛ فَإِضَافَةُ الرّوحِ إلَى اللهِ إضَافَةُ مِلْكٍ لَا إضَافَةُ وَصْفٍ.

إذ كَلُّ مَا يُضَافُ إلَى اللهِ:

- إنْ كَانَ عَيْنًا قَائِمَةً بِنَفْسِهَا فَهُوَ مِلْكٌ لَهُ.

- وَإِن كَانَ صِفَةً قَائِمَةً بِغَيْرِهَا لَيْسَ لَهَا مَحَلٌّ تَقُومُ بِهِ فَهُوَ صِفَة للهِ.

فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13)} [الشمس: 13]، وَقَوْلِهِ:{فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [مريم: 17]، وَهُوَ جِبْرِيلُ.

وَالثَّاني كَقَوْلِنَا: عِلْمُ اللهِ، وَكَلَامُ اللهِ، وَقُدْرَةُ اللهِ، وَحَيَاةُ اللهِ، وَأمْرُ اللهِ. [9/ 289 - 290]

* * *

(المراد يلفظ: الْجَوْهَر)

688 -

لَفْظُ الْجَوْهَرِ فِيهِ إجْمَالٌ

مَعَ أَنَّهُ قَد قِيلَ: إنَّ لَفْظَ "الْجَوْهَرِ" لَيْسَ مِن لُغَةِ الْعَرَبِ وَإِنَّهُ مُعَرَّبٌ.

وَالْعُقَلَاءُ مُتَنَازِعُونَ فِي إثْبَاتِ هَذَا: وَهُوَ انَّ الْأجْسَامَ هَل هِيَ مُرَكَّبَةٌ مِن الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ؟ أَمْ مِن الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ؟ أَمْ لَيْسَتْ مُرَكَّبَةً لَا مِن هَذَا وَلَا مِن هَذَا؟

(1)

رواه أبو داود (5097)، وأحمد (7631)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.

ص: 721

عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَصَحُّهَا: "الثَّالِثُ": أَنَّهَا لَيْسَتْ مُرَكَبَةً لَا مِن الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ وَلَا مِن الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ؛ بَل هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُقَلَاءِ. [9/ 298 - 299]

* * *

‌(أَيُّمَا أَفْضَلُ: الْعِلْمُ أَو العقل

؟)

689 -

سُئِلَ الشَّيْخُ رحمه الله:

أَيُّمَا أَفْضَلُ: الْعِلْمُ، أَو العقل؟

فَأَجَابَ: إنْ أُرِيدَ بِالْعِلْمِ: عِلْمُ اللهِ تَعَالَى الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى وَهُوَ الْكِتَابُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [آل عمران: 61]: فَهَذَا أَفْضَلُ مِن عَقْلِ الْإِنْسَانِ؛ لِأَنَّ هَذَا صِفَةُ الْخَالِقِ، وَالْعَقْلُ صِفَةُ الْمَخْلُوقِ، وَصِفَةُ الْخَالِقِ أَفْضَلُ مِن صِفَةِ الْمَخْلُوقِ.

وَإِن أُرِيدَ بِالْعَقْلِ أَنْ يَعْقِلَ الْعَبْدُ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ فَيَفْعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَيَتْرُكَ مَا نُهِيَ عَنْهُ: فَهَذَا الْعَقْلُ يَدْخُلُ صَاحِبُهُ بِهِ الْجَنَّةَ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِن الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَدْخُلُ صَاحِبُهُ بِهِ الْجَنَّةَ؛ كَمَن يَعْلَمُ وَلَا يَعْمَلُ.

وَإِن أُرِيدَ بِالْعَقْلِ

(1)

الْغَرِيزَةُ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ فِي الْعَبْدِ الَّتِي يَنَالُ بِهَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ: فَاَلَّذِي يَحْصُلُ بِهِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِهِ وَغَرِيزَةُ الْعَقْلِ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ. وَالْمَقَاصِدُ أَفْضَلُ مِن وَسَائِلِهَا.

690 -

الْعَقْلُ يَتَضَمَّنُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ، فَمَن عَرَفَ الْخَيْر وَالشَّرَّ فَلَمْ يَتَّبعْ الْخَيْرَ وَيَحْذرِ الشَّرَّ لَمْ يَكُن عَاقِلًا؛ وَلهَذَا لَا يُعَدُّ عَاقِلًا إلَّا مَن فَعَلَ مَا يَنْفَعُهُ وَاجْتَنَبَ مَا يَضُرُّهُ. [15/ 108]

(1)

في الأصل: (الْعَقْلُ)، ولعل المثبت أصوب.

ص: 722

691 -

عن إبراهيم الحربي عن أحمد أنه قال: العقل غريزة، والحكمة فطنة، والعلم سماع، والرغبة في الدنيا هوى، والزهد فيها عفاف.

قال القاضي: ومعنى قوله: "غريزة" أنه خلقه الله ابتداء، وليس باكتساب العبد ترتيب جيد، لكن الغرائز في القوى.

وقال ابن فورك: هو العلم الذي يمتنع به من فعل القبيح.

قال: ومعنى ذلك كله متقارب، وما ذكرناه أولى، وهو قول الجمهور من المتكلمين، خلافًا لما حكي عن الفلاسفة أنه اكتساب. [المستدرك 2/ 291]

* * *

(الْعِلْمُ بِاللهِ أَفْضَلُ مِن الْعِلْمِ بِخَلْقِهِ)

692 -

الْعِلْمُ بِاللهِ أَفْضَلُ مِن الْعِلْمِ بِخَلْقِهِ

(1)

؛ وَلهَذَا كَانَت آيَةُ الْكُرْسِيِّ أَفْضَلَ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ؛ لِأنَّهَا صِفَةُ اللهِ تَعَالَى، وَكَانَتْ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ.

لِأَنَّ الْقُرْآنَ "ثَلَاثَةُ أَثْلَاثٍ": ثُلُثٌ تَوْحِيدٌ، وَثُلُثٌ قَصَصٌ، وَثُلُثٌ أَمْرٌ وَنَهْيٌ.

(1)

إنَّ الذي يهتم بعلوم التربية والفن والإلقاء والخطابة والنفس والتعامل ونحوها من العلوم وإن كانت شريفة فاضلة، إلا أنها ليست كشرف وفضيلة العلوم الشرعية؛ لأن الْعِلْم بِاللهِ أَفْضَلُ مِن الْعِلْم بِخَلْقِهِ، فلا مقارنة بين العلم بالله وصفاته وأحكامه، وبين العلم بالناس وأحوالهم وطباعَهم والتعامل المناسب معهم.

مع أن من يتمكن من العلم الشرير بأكمله لن يحتاج إلى كثير من هذه العلوم، فقد جاءت بأكمل الأساليب في التربية والتعامل والإلقاء والأخلاق ونحوها.

إنه لا يستوي العلم بالخالق العظيم الذي بيده الضر والنفع، والجنة والنار، بالعلم بالمخلوق الضعيف الذي لا يملك مثقال ذرة، وهو مخلوق مثلنا ضعيف مربوب.

حتى وإن كان المخلوق من أهل الصلاح والخير والعلم، فصرف الأوقات كلها أو أكثرها في ذلك خسارة كبيرة؛ لأنه تُفوت العلم بما هو أعظم وأكمل وأنفع.

فاصرف همّتك وقلبك ووقتك إلى العلم بالواحد الأحد، الذي كلما ازددت علمًا بأسمائه وصفاته، وشرعه وآياته: عظم قدرك، واستنار قلبك، وانشرح صدرك، وعلت همتك، وزهدت بغيره، وقنعت به وبما جاءك منه.

ص: 723

وَثُلُثُ التَّوْحِيدِ أَفْضَلُ مِن غَيْرِهِ. [9/ 306]

* * *

(صَلَاحُ الْقَلْبِ وَحَقُّهُ وَاَلَّذِي خُلِقَ مِن أَجْلِهِ هُوَ أَنْ يَعْقِلَ الْأَشْيَاءَ، لَا أَنْ يَعْلَمَهَا فَقَطْ)

693 -

إنَّ اللهَ سبحانه وتعالى خَلَقَ الْقَلْبَ. لِلْإِنْسَانِ يَعْلَمُ بِهِ الْأَشْيَاءَ، كَمَا خَلَقَ لَهُ الْعَيْنَ يَرَى بِهَا الْأَشْيَاءَ، وَالْأُذُنَ يَسْمَعُ بِهَا الْأَشْيَاءَ، كَمَا خَلَقَ لَهُ سُبْحَانَهُ كُلَّ عُضْوٍ مِن أَعْضَائِهِ لِأَمْر مِن الْأُمُورِ وَعَمَلٍ مِن الْأَعْمَالِ؛ فَالْيَدُ لِلْبَطْشِ، وَالرِّجْلُ لِلسَّعْيِ، وَاللِّسَانُ لِلنُّطْقِ، وَالْفَمُ لِلذَّوْقِ، وَالْأَنْفُ لِلشَّمِّ، وَالْجِلْدُ لِلَّمْسِ

(1)

.

وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَعْضَاءِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ.

فَإِذَا اسْتَعْمَلَ الْإِنْسَانُ الْعُضْوَ فِيمَا خُلِقَ لَهُ وَأُعِدَّ لِأَجْلِهِ: فَذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ الْقَائِمُ، وَالْعَدْلُ الَّذِي قَامَتْ بِهِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَكَانَ ذَلِكَ خَيْرًا وَصَلَاحًا لِذَلِكَ الْعُضْوِ، وَلرَبِّهِ، وَللشَّيْءِ الَّذِي اُسْتُعْمِلَ فِيهِ، وَذَلِكَ الْإِنْسَانُ الصَّالِحُ هُوَ الَّذِي اسْتَقَامَ حَالُهُ و {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} [البقرة: 5].

وَإِذَا لَمْ يُسْتَعْمَل الْعُضْوُ فِي حَقِّهِ بَل تُرِكَ بَطَّالًا: فَذَلِكَ خُسْرَانٌ، وَصَاحِبُهُ مَغْبُونٌ.

وَإِن اُسْتُعْمِلَ فِي خِلَافِ مَا خُلِقَ لَهُ: فَهُوَ الضَّلَالُ وَالْهَلَاكُ، وَصَاحِبُهُ مِن الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا.

ثُمَّ إنَّ سَيِّدَ الْأَعْضَاءِ وَرَأسَهَا هُوَ الْقَلْبُ.

(1)

فلو استخدم اليد للمشي، والرجل للمس أو الأكل، فإن هذا تغيير في الفطرة، ولن ينتفع بالعضو انتفاعًا تصلح به نفسه وغيره، وكذلك القلب والعقل، فهما خُلقا للتفكير السليم والفهم الصحيح والنظر والعلم النافع، فإذا لم ينشغل العقل والقلب بذلك فسد وأفسد، حيث وُضع في غير مكانه، واسْتُعَمِل فيما لم يُخلق له.

ص: 724

وَإذ قَد خُلِقَ الْقَلْبُ لِأَنْ يُعْلَمَ بِهِ، فَتَوَجُّهُهُ نَحْو الْأَشْيَاءِ ابْتِغَاءَ الْعِلْمِ بِهَا هُوَ الْفِكْرُ وَالنَّظَرُ، كَمَا أَنَّ إقْبَالَ الْأُذُنِ عَلَى الْكَلَامِ ابْتِغَاءَ سَمْعِهِ هُوَ الْإِصْغَاءُ وَالِاسْتِمَاعُ، وَانْصِرَافَ الطَّرْفِ إلَى الْأَشْيَاءِ طَلَبًا لِرُؤْيَتِهَا هُوَ النَّظَرُ.

فَالْفِكْرُ لِلْقَلْبِ كَالْإِصْغَاءِ لِلْأُذُنِ، وَمِثْلُهُ نَظَرُ الْعَيْنَيْنِ.

وَإِذَا عَلِمَ مَا نَظَرَ فِيهِ: فَذَاكَ مَطْلُوبُهُ، كَمَا أَنَّ الْأذُنَ كَذَلِكَ إذَا سَمِعَتْ مَا أَصْغَتْ إلَيْهِ، أَو الْعَيْنُ إذَا أَبْصَرَتْ مَا نَظَرَتْ إلَيْهِ.

وَكَمْ مِن نَاظِرٍ مُفَكِّرٍ لَمْ يُحَصِّل الْعِلْمَ وَلَمْ يَنَلْهُ

(1)

، كَمَا أَنَّهُ كَمْ مِن نَاظِرٍ إلَى الْهِلَالِ لَا يُبْصِرُهُ وَمُسْتَمِعٍ إلَى صَوْتٍ لَا يَسْمَعُهُ.

وَعَكْسُهُ مَن يُؤْتَى عِلْمًا بِشَيْء لَمْ يَنْظُرْ فِيهِ وَلَمْ تَسْبِقْ مِنْهُ إلَيْهِ سَابِقَةُ تَفْكِيرٍ فِيهِ

(2)

، كَمَن فَاجَأَتْهُ رُؤَيةُ الْهِلَالِ مِن غَيْرِ قَصْدٍ إلَيْهِ، أَو سَمِعَ قَوْلًا مِن غَيْرِ أَنْ يُصْغِيَ إلَيْهِ.

وَذَلِكَ كُلُّهُ لَا لِأَنَ الْقَلْبَ بِنَفْسِهِ يَقْبَلُ الْعِلْمَ، وَإِنَّمَا الْأَمْرُ مَوْقُوفٌ عَلَى شَرَائِطَ وَاسْتِعْدَادٍ، قَد يَكُونُ فِعْلًا مِن الْإِنْسَانِ فَيَكُونُ مَطْلُوبًا، وَقَد يَأْتِي فَضْلًا مِن اللهِ فَيَكونُ مَوْهُوبًا.

فَصَلَاحُ الْقَلْبِ وَحَقُّهُ وَاَلَّذِي خُلِقَ مِن أَجْلِهِ هُوَ أَنْ يَعْقِلَ الْأَشْيَاءَ، لَا أَقُولُ أَنْ يَعْلَمَهَا فَقَطْ، فَقَد يَعْلَمُ الشَّيْءَ مَن لَا يَكونُ عَاقِلًا لَهُ؛ بَل غَافِلًا عَنْهُ مُلْغِيًا لَهُ، وَاَلَّذِي يَعْقِلُ الشَّيْءَ هُوَ الَّذِي يُقَيِّدُهُ وَيَضْبُطُهُ وَيَعِيهِ وَيُثْبِتُهُ فِي قَلْبِهِ، فَيَكُونُ وَقْتَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ غَنِيًّا، فَيُطَابِقُ عَمَلُهُ قَوْلَهُ، وَبَاطِنُة ظَاهِرَهُ، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي أُوتِيَ الْحِكْمَةَ، {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269].

(1)

كحال الذين يقرؤون الجرائد والقصص والروايات للتسلية والمتعة، والذين يستمعون لأخبار الناس أو أحاديثهم وغير ذلك لمحبة الاستطلاع، فهؤلاء نَظروا وفَكّروا وأنصتوا، ولكنهم -وللأسف- لَمْ يُحَصِّلوا الْعِلْمَ وَلَمْ يَنَالوهُ، بل ضيّعوا أوقاتهم، وأهدروا عقولهم بلا فائدة، فيا خسارة من هذه حاله.

(2)

كحال المقلدين، الذين يقرؤون ولا يتفكرون، ويستمعون ولا يُمحصون.

ص: 725

فَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ مَشْغُولًا بِاللهِ عَاقِلًا لِلْحَقِّ مُتَفَكِّرًا فِي الْعِلْمِ: فَقَد وُضِعَ فِي مَوْضِعِهِ. [9/ 307 - 313]

* * *

‌(معني قوله تعالى: {لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ

(37)} [ق: 37])

694 -

قَوْله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)} ، فَإِنَّ مَن يُؤتَى الْحِكْمَةَ وَينْتَفِعُ بِالْعِلْمِ عَلَى مَنْزِلَتَيْنِ:

أ - إمَّا رَجُلٌ رَأَى الْحَقَّ بِنَفْسِهِ فَقَبِلَهُ فَاتَّبَعَهُ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى مَن يَدْعُوهُ إلَيْهِ، فَذَلِكَ صَاحِبُ الْقَلْبِ.

ب - أَو رَجُلٌ لَمْ يَعْقِلْهُ بِنَفْسِهِ بَل هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى مَن يُعَلِّمُهُ وَيُبَيِّنُهُ لَهُ وَيَعِظُهُ وُيؤَدِّبُهُ، فَهَذَا أَصْغَى فَـ {أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)}؛ أَيْ: حَاضِرُ الْقَلْبِ لَيْسَ بِغَائِبِهِ. [9/ 311]

* * *

‌المذاهب والفرق

695 -

النِّسْبَةُ فِي "الصُّوفِيَّةِ" إلَى الصُّوفِ؛ لِأَنَّهُ غَالِبُ لِبَاسِ الزُّهَّادِ.

وَقَد تَكَلَّمَ بِهَذَا الِاسْمِ قَوْمٌ مِن الْأَئِمَّةِ: كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلِ وَغَيْرِهِ.

وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَالْمَنْقُولُ عَنْهُ ذَمُّ الصُّوفِيَّةِ، وَكَذَلِكَ مَالِكٌ -فِيمَا أَظُنُّ-.

وَقَد ذَمَّ طَرِيقَهُم طَائِفَةٌ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ وَمِن الْعُبَّادِ أَيْضًا مِن أَصْحَابِ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْعُبَّادِ وَمَدَحَهُ آخَرُونَ.

والتَّحْقِيقُ فِيهِ: أَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْمَمْدُوحِ وَالْمَذْمُومِ؛ كغَيْرِهِ مِن الطَّرِيقِ، وَأَنَّ الْمَذْمُومَ مِنْهُ قَد يَكونُ اجْتِهَادِيًّا وَقَد لَا يَكُونُ، وَأَنَّهُم فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْفُقَهَاءِ فِي "الرَّأيِ" فَإِنَّهُ قَد ذَمَّ الرَّأْيَ مِن الْعُلَمَاءِ وَالْعبَّادِ طَوَائِفُ كَثِيرَةٌ.

ص: 726

والْقَاعِدَةُ الَّتي قَدَّمْتهَا تَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ.

وَفِي الْمُتَسَمِّينَ بِذَلِكَ مِن أَوْليَاءِ اللهِ وَصَفْوَتِهِ وَخِيَارِ عِبَادِهِ مَا لَا يُحْصَى عَدُّهُ.

كَمَا فِي أَهْلِ "الرَّأْيِ" مِن أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مَن لَا يُحْصِي عَدَدَهُ إلَّا اللهُ.

وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ لَك أَنَّ الْبِدْعَةَ فِي الدِّينِ وَإِن كَانَت فِي الْأَصْلِ مَذْمُومَةً كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْبِدَعُ الْقَوْلِيَّةُ وَالْفِعْلِيَّةُ: أَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى عُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ" مُتَعَيِّنٌ وَأَنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِعُمُومِهِ. [10/ 369 - 370]

696 -

مِمَّا يُنَاسِبُ "هَذَا الْبَابَ" قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ يُسَلَّمُ إلَيْهِ حَالُهُ، أَو لَا يُسَلَّمُ إلَيْهِ حَالُهُ؛ فَإِنَّ هَذَا كَثِيرًا مَا يَقَعُ فِيهِ النِّزَاعُ فِيمَا قَد يَصْدُرُ عَن بَعْضِ الْمَشَايخِ وَالْفُقَرَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ مِن أُمُورٍ يُقَالُ: إنَّهَا تُخَالِفُ الشَّرِيعَةَ:

فَمَن يَرَى أَنَّهَا مُنْكَرَةٌ وَأَنَّ إنْكَارَ الْمُنْكَرِ مِن الدِّينِ يُنْكِرُ تِلْكَ الْأُمُورَ، وَيُنْكِرُ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَعَلَى مَن أَحْسَنَ بِهِ الظَّنَّ وَيُبْغِضُهُ وَيَذُمُّهُ وَلُعَاقِبُهُ.

وَمَن رَأَى مَا فِي ذَلِكَ الرَّجُلِ مِن صَلَاحٍ وَعِبَادَةٍ: كزُهْدٍ وَأَحْوَالٍ وَوَرَعٍ وَعِلْمٍ لَا يُنْكِرُهَا؛ بَل يَرَاهَا سَائِغَةً أَو حَسَنَةً، أَو يُعْرِضُ عَن ذَلِكَ.

وَقَد يَغْلُو كُلُّ وَاحِدٍ مِن هَذَيْنِ: حَتَّى يَخْرُجَ بِالْأَوَّلِ إنْكَارُهُ إلَى التَّكْفِيرِ وَالتَّفْسِيقِ فِي مَوَاطِنِ الِاجْتِهَادِ. مُتَّبِعًا لِظَاهِرِ مِن أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ.

وَيخْرُجُ بِالثَّانِي إقْرَارُهُ إلَى الْإِقْرَارِ بِمَا يُخَالِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الرَّسُولَ جَاءَ بِخِلَافِهِ.

وَالْأَوَّلُ: كَثِيرًا مَا يَقَعُ فِي ذَوِي الْعِلْمِ لَكِنْ مَقْرُونًا بِقَسْوَةٍ وَهَوًى.

وَالثَّاني: كَثِيرًا مَا يَقَعُ فِي ذَوِي الرَّحْمَةِ لَكِنْ مَقْرُونًا بِضَلَالٍ وَجَهْلٍ

(1)

.

(1)

كأنه يتكلم عن واقعنا رحمه الله رحمةً واسعة، فكثيرٌ من الناس يختلفون في الجماعات أو الأفراد من الدعاة والمشايخ والسياسيّين وغيرهم، بين قاح ومادح، فالأمة الوسط تنظر بعين العلم والرحمة، فمن غلّب أحدَهما وقع في الخطأ كما قال الشيخ رحمه الله.

ص: 727

فَأَمَّا الْأُمَّةُ الْوَسَطُ: فَلَهُم الْعِلْمُ وَالرَّحْمَةُ، كَمَا أَخْبَرَ عَن نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ:{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]. [10/ 378 - 379]

697 -

مَا مِن الْأَئِمَّةِ إلَّا مَن لَهُ أَقْوَالٌ وَأَفْعَالٌ لَا يُتَّبَعُ عَلَيْهَا مَعَ أَنَّهُ لَا يُذَمُّ عَلَيْهَا. [10/ 383]

698 -

الْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ الَّتِي لَمْ يُعْلَمْ قَطْعًا مُخَالَفَتُهَا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ بَل هِيَ مِن مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، فَهَذِهِ الْأُمُورُ قَد تَكُونُ قَطْعِيَّةً عِنْدَ بَعْضِ مَن بَيَّنَ اللهُ لَهُ الْحَقَّ فِيهَا، لَكِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُلْزِمَ النَّاسَ بِمَا بَانَ لَهُ وَلَمْ يَبِنْ لَهُمْ

(1)

. [10/ 383 - 384]

699 -

مَن عُرِفَ مِن عَادَتِهِ الصِّدْقُ وَالْأَمَانَةُ أُقِرَّ عَلَى مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ كَذِبٌ وَحَرَامٌ.

وَمَن عُرِفَ مِنْهُ الْكَذِبُ أَو الْخِيَانَةُ لَمْ يُقَر عَلَى الْمَجْهُولِ. [10/ 386]

وَأَمَّا الْمَجْهُولُ فَيُتَوَقَّفُ فِيهِ.

700 -

الْعِبَادَاتُ الدِّينِيَّةُ أُصُولُهَا: الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي جَاءَ ذِكْرُهَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ" فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاص لَمَّا أَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: "ألَمْ أُحَدَّثْ أَنَّك قُلْت لَأَصُومَنَّ النَّهَارَ وَلَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ وَلَأَقرَأَنَّ الْقُرْآنَ فِي ثَلَاثٍ؟ " قَالَ: بَلَى، قَالَ:"فَلَا تَفْعَلْ"

(2)

.

وَلَمَّا كَانَت هَذِهِ الْعِبَادَاتُ هِيَ الْمَعْرُوفَةَ قَالَ فِي حَدِيثِ الْخَوَارجِ الَّذِي فِي "الصَّحِيحَيْنِ": "يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاَتَهُ مَعَ صَلَاِتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَقرَاءَتَهُ

(1)

ينطبق هذا على الخوارج في عصرنا، الذين قاتلوا من خالفهم من المسلمين، ولم ينظموا تحت رايتهم التي زعموا أنها راية الخلافة، فقد ألزموا النَّاسَ بِمَا بَانَ لَهُم وَلَمْ يَبِنْ لغيرهمْ.

(2)

رواه البخاري (1975)، ومسلم (1159)، ولم أجد قراءة القرآن فى حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

ص: 728

مَعَ قِرَاءَتِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ"

(1)

.

فَذَكَرَ اجْتِهَادَهُم بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْقِرَاءَةِ، وَأَنَّهُم يَغْلُونَ فِي ذَلِكَ حَتَّى تَحْقِرَ الصَّحَابَةُ عِبَادَتَهُم فِي جَنْبِ عِبَادَةِ هَؤُلَاءِ.

وَهَؤُلَاءِ غَلَوْا فِي الْعِبَادَاتِ بِلَا فِقْهٍ فَآلَ الْأَمْرُ بِهِم إلَى الْبِدْعَة

فَإِنَّهُم قَد اسْتَحَلُّوا دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَكَفَّرُوا مَن خَالَفَهُمْ، وَجَاءَت فِيهِم الْأَحَادِيثُ. [10/ 391 - 392]

701 -

كُنْت فِي أَوَائِلِ عُمْرِي حَضَرْت مَعَ جَمَاعَةٍ مِن أَهْلِ "الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَالْإِرَادَةِ"، فَكَانُوا مِن خِيَارِ أَهْلِ هَذِهِ الطَّبَقَةِ.

فَبِتْنَا بِمَكَان وَأَرَادُوا أَنْ يُقِيمُوا سَمَاعًا وَأَنْ أَحْضُرَ مَعَهُمْ، فَامْتَنَعْت مِن ذَلِكَ، فَجَعَلُوا لِي مَكَانًا مُنْفَرِدًا قَعَدْت فِيهِ، فَلَمَّا سَمِعُوا وَحَصَلَ الْوَجْدُ وَالْحَالُ صَارَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ يَهْتِفُ بِي فِي حَالِ وَجْدِهِ وَيقُولُ: يَا فُلَانُ قَد جَاءَك نَصِيبٌ عَظِيمٌ تَعَالَ خُذْ نَصِيبَك، فَقُلْت فِي نَفْسِي ثُمَّ أَظْهَرْته لَهُم لَمَّا اجْتَمَعْنَا: أَنْتُمْ فِي حِلٍّ مِن هَذَا النَّصِيبِ، فَكُلُّ نَصِيبٍ لَا يَأتِي عَن طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنِّي لَا آكُلُ مِنْهُ شَيْئًا

(2)

.

وَتبَيَّنَ لِبَعْضِ مَن كَانَ فِيهِمْ مِمَن لَهُ مَعْرِفَةٌ وَعِلْمٌ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُم الشَّيَاطِينُ، وَكَانَ فِيهِمْ مَن هُوَ سَكْرَانُ بِالْخَمْرِ.

وَاَلَّذِي قُلْته مَعْنَاهُ: أَنَّ هَذَا النَّصِيبَ وَهَذِهِ الْعَطِيَّةَ وَالْمَوْهِبَةَ وَالْحَالَ سَبَبُهَا غَيْرُ شَرْعِيٍّ، لَيْسَ هُوَ طَاعَةً للهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا شَرَعَهَا الرَّسُولُ، فَهُوَ مِثْلُ مَن يَقُولُ: تَعَالَ اشْرَبْ مَعَنَا الْخَمْرَ وَنَحْنُ نُعْطِيك هَذَا الْمَالَ، أَو عَظِّمْ هَذَا الصَّنَمَ وَنَحْنُ نُوَلِّيك هَذِهِ الْوِلَايَةَ وَنَحْو ذَلِكَ. [10/ 418 - 419]

(1)

رواه البخاري (3610)، ومسلم (1064).

(2)

تأمل إلى ديانته وعقله منذ نعومة أظفاره!

ص: 729

702 -

لَفْظُ "الصُّوفِيَّةِ" لَمْ يَكُن مَشْهُورًا فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ، وَإِنَّمَا اُشْتُهِرَ التَكَلُّمُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ. [11/ 5]

وَتَنَازَعُوا فِي الْمَعْنَى الَّذِي أُضِيفَ إلَيْهِ الصُّوفِيُّ

قِيلَ: -وَهُوَ الْمَعْرُوفُ- إنَّهُ نِسْبَةٌ إلَى لُبْسِ الصُّوفِ. [11/ 6]

703 -

اَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْوَاحِدَ مِن هَؤُلَاءِ [أي: مَن مَاتَ أَو غُشِيَ عَلَيْهِ فِي سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِهِ] إذَا كَانَ مَغْلُوبًا عَلَيْهِ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ وَإِن كَانَ حَالُ الثَّابِتِ أَكْمَلَ مِنْهُ. [11/ 8]

وَلَكِنْ مَن لَمْ يَزُلْ عَقْلُهُ مَعَ أَنَّهُ قَد حَصَلَ لَهُ مِن الْإِيمَانِ مَا حَصَلَ لَهُم أَو مِثْلُهُ أَو أَكْمَلُ مِنْهُ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْهُمْ، وَهَذِهِ حَالُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَهُوَ حَالُ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ إلَى السَّمَاءِ وَأَرَاهُ اللهُ مَا أَرَاهُ وَأَصْبَحَ كَبَائِتٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ عَلَيْهِ حَالُهُ، فَحَالُهُ أَفْضَلُ مِن حَالِ مُوسَى صلى الله عليه وسلم الَّذِي خَرَّ صَعِقًا لَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ، وَحَالُ مُوسَى حَالٌ جَلِيلَةٌ عَلِيَّة فَاضِلَة، لَكِنَّ حَالَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَكْمَلُ وَأَعْلَى وَأَفْضَلُ. [11/ 12 - 13]

704 -

طَائِفَةٌ ذَمَّت الصُّوفِيَّةَ وَالتَّصَوُّفَ

وَقَالُوا: إنَّهُم مُبْتَدِعُونَ خَارِجُونَ عَن السُّنَّةِ.

وَطَائِفَةٌ غَلَتْ فِيهِمْ وَادَّعَوْا أَنَّهُم أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَأَكْمَلُهُم بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ، وَكِلَا طَرَفَي هَذ الْأمُورِ ذَمِيمٌ.

والصَّوَابُ: أَنَّهُم مُجْتَهِدُونَ فِي طَاعَةِ اللهِ كَمَا اجْتَهَدَ غَيْرُهُم مِن أَهْلِ طَاعَةِ اللهِ، فَفِيهِم السَّابِقُ الْمُقَرَّبُ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ، وَفِيهِمْ الْمُقْتَصِدُ الَّذِي هُوَ مِن أَهْلِ الْيَمِينِ، وَفِي كُلٍّ مِن الصِّنْفَيْنِ مَن قَد يَجْتَهِدُ فَيُخْطِئُ، وَفِيهِمْ مَن يُذْنِبُ فَيَتُوبُ أَو لَا يَتُوبُ. [11/ 17 - 18]

705 -

المؤمن الكيّس يُوافق كل قوم فيما وافقوا الكتاب والسُّنَّة، وأطاعوا فيه الله ورسوله، ولا يُوافقهم فيما خالفوا فيه الكتاب والسُّنَّة، أو

ص: 730

عصوا فيه الله ورسوله، وَيقبل من كلّ طائفةٍ ما جاء به الرسول.

ومتى تحرى الإنسان الحق والعدل بعلم ومعرفةٍ كان من أولياء الله المتقين، وحزب الله المفلحين، وجند الله الغالبين. [11/ 29]

706 -

إذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ أَنْ يُنْسَبَ إلَى أَهْلِ السُّنَّةِ مَذْهَبٌ بَاطِلٌ أَو يُنْسَبَ النَّاقِلُ عَنْهُم إلَى تَصَرُّفِهِ فِي النَّقْلِ: كَانَ نِسْبَةُ النَّاقِلِ إلَى التَّصَرُّفِ أَوْلَى مِن نِسْبَةِ الْبَاطِلِ إلَى طَائِفَةِ أَهْلِ الْحَقِّ. [11/ 139]

707 -

قَالَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ لشيخ الإسلام: قَد نَقَلَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ - وَسَمَّاهُ -: أنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: أنَّ الشُّكْرَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالِاعْتِقَادِ.

قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: هَذَا الْمَذْهَبُ الْمَحْكِيُّ عَن أَهْلِ السُّنَّةِ خَطَأٌ وَالنَّقْلُ عَن أَهْلِ السُّنَّةِ خَطَأٌ.

قَالَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ: هَذَا قَد نُقِلَ، وَالنَّقْلُ لَا يُمْنَعُ لَكِنْ يُسْتَشْكَلُ. وَيُقَالُ: هَذَا مَذْهَبٌ مُشْكِلٌ.

قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّة: النَّقْلُ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْقُلَ مَا سَمِعَ أَو رَأَى.

وَالثَّانِي: مَا يُنْقَلُ بِاجْتِهَاد وَاسْتِنْبَاطٍ.

وَقَوْلُ الْقَائِلِ: مَذْهَبُ فُلَانٍ كَذَا أَو مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ كَذَا، قَد يَكُونُ نَسَبَهُ إلَيْهِ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ هَذَا مُقْتَضَى أُصُولِهِ وإِن لَمْ يَكُن فُلَانٌ قَالَ ذَلِكَ.

وَمِثْلُ هَذَا يَدْخُلُهُ الْخَطَأُ كَثِيرًا. أَلَا تَرَى أَن كَثِيرًا مِن الْمُصَنِّفِينَ يَقُولُونَ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيُّ أَو غَيْرِهِ كَذَا وَيكُونُ مَنْصُوصُهُ بِخِلَافِهِ؟ وَعُذْرُهُم فِي ذَلِكَ: أَنَّهُم رَأَوْا أَنَّ أُصُولَهُ تَقْتَضِي ذَلِكَ الْقَوْلَ فَنَسَبُوهُ إلَى مَذْهَبِهِ مِن جِهَةِ الِاسْتِنْبَاطِ لَا مِن جِهَةِ النَّصِّ؟ [11/ 135 - 137]

ص: 731

708 -

مَعْلُومٌ أَنَّ عَلِيًّا وَمَن مَعَهُ مِن الصَّحَابَةِ كَانُوا أَفْضَلَ مِن مُعَاوِيةَ وَمَن مَعَهُ بِالشَّامِ

وَقَد أَخْرَجَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ"

(1)

عَن أَبِي سَعِيدٍ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "تَمْرُقُ مَارِقَةٌ مِن الدِّينِ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِن الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُهُم أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ"، وَهَؤُلَاءِ الْمَارِقُونَ هُم الْخَوَارجُ الحرورية الَّذِينَ مَرَقُوا لَمَّا حَصَلَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ، فَقَتَلَهُم عَلِيَّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابُهُ، فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَلَى أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِن مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ. [11/ 167 - 168]

709 -

السَّلَفُ كَانُوا يُسَمُّونَ كُلَّ مَن نَفَى الصِّفَاتِ، وَقَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ، وَإِنَّ اللهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ جهميُّا، فَإِنَّ جَهْمًا أَوَّلُ مَن ظَهَرَتْ عَنْهُ بِدْعَةُ نَفْيِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَبَالَغَ فِي نَفْيِ ذَلِكَ، فَلَهُ فِي هَذِهِ الْبِدْعَةِ مَزِيَّةُ الْمُبَالَغَةِ فِي النَّفْيِ وَالِابْتِدَاءِ بِكَثْرَةِ إظْهَارِ ذَلِكَ وَالدَّعْوَةِ إلَيْهِ، وَإِن كَانَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ قَد سَبَقَهُ إلَى بَعْضِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْجَعْدَ بْنَ دِرْهَمٍ أَوَّلُ مَن أَحْدَثَ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ.

وَلَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وإِن وَافَقُوا جَهْمًا فِي بَعْضِ ذَلِكَ فَهُم يُخَالِفُونَهُ فِي مَسَائِلَ غَيْرِ ذَلِكَ: كَمَسَائِلِ الْقَدَرِ وَالْإِيمَانِ وَبَعْضِ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ أَيْضًا، وَلَا يُبَالِغُونَ فِي النَّفْيِ مُبَالَغَتَهُ، وَجَهْمٌ يَقُولُ: إنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَتَكَلَّمُ، أَو يَقُولُ: إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ.

وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَيَقُولُونَ: إنَّهُ يَتَكَلَّمُ حَقِيقَةً، لَكِنَّ قَوْلَهُم فِي الْمَعْنَى هُوَ قَوْلُ جَهْمٍ.

وَجَهْمٌ يَنْفِي الْأَسْمَاءَ أَيْضًا كَمَا نَفَتْهَا الْبَاطِنِيَّةُ وَمَن وَافَقَهُم مِن الْفَلَاسِفَةِ، وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ فَلَا يَنْفُونَ الْأَسْمَاءَ. [12/ 119]

(1)

رواه مسلم (1064)، ولم أجده في البخاري.

ص: 732

710 -

كُلٌّ مِن الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ فِي مَسَائِلِ كَلَامِ اللهِ وَأَفْعَالِ اللهِ؛ بَل وَسَائِر صِفَاتِهِ وَافَقُوا السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ مِن وَجْهٍ، وَخَالَفُوهُم مِن وَجْهٍ، وَلَيْسَ قَوْلُ أَحَدِهِمَا هُوَ قَوْلَ السَّلَفِ دُونَ الْآخَرِ، لَكِنِ الْأَشْعَريَّةُ فِي جِنْسِ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ؛ بَل وَسَائِر الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ أَقْرَبُ إلَى قَوْلِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مِن الْمُعْتَزِلَة. [12/ 134 - 135]

711 -

الْأَقْوَالُ الَّتِي قَالَهَا الْمُنْتَسِبُونَ إلَى الْقِبْلَةِ فِي هَذه الْمَسْأَلَةِ [أي: فِي كَلَامِ اللهِ] تَبْلُغُ سَبْعَةً أَو أَكْثَرَ.

الْأوَّلُ: قَوْلُ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَمَن وَافَقَهُم مِن مُتَصَوِّفٍ وَمُتَكَلِّم كَابْنِ سِينَا وَابْنِ عَرَبِيِّ الطَّائِيِّ وَابْنِ سَبْعِينَ وَأَمْثَالِهِمْ مِمَن يَقُولُ بِقَوْلِ الصَّابِئَةِ الذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ كَلَامَ اللهِ لَيْسَ لَهُ وُجُود خَارجٌ عَن نُفُوسِ الْعِبَادِ؛ بَل هُوَ مَا يَفِيضُ عَلَى النُّفُوسِ مِن الْمَعَانِي.

وَهَذَا الْقَوْلُ أَبْعَدُ عَن الْإِسْلَامِ مِمَن يَقُولُ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ.

وَالْقَوْلُ الثَّاني: قَوْلُ الْجَهْمِيَّة مِن الْمُعْتَزِلَة وَغَيْرِهِم الَّذِينَ يَقُولُونَ: كَلَامُ اللهِ مَخْلُوقٌ يَخْلُقُهُ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ، فَمِن ذَلِكَ الْجِسْمِ ابْتَدَأَ، لَا مِن اللهِ، وَلَا يَقُومُ - عِنْدَهُم - بِاللهِ كَلَامٌ وَلَا إرَادَةٌ، وَأَوَّلُ هَؤُلَاءِ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ.

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَوْلُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ الْبَصْرِيِّ وَمَن اتَّبَعَهُ، كالقلانسي وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ كَلَامَ اللهِ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِ اللهِ.

الْقَوْلُ الرَّابِعُ: قَوْلُ طَوَائِفَ مِن أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْحَدِيثِ مِن السالمية وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ: إنَّ كَلَامَ اللهِ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةٌ أَزَليَّةٌ، وَلَهَا مَعَ ذَلِكَ مَعَانٍ تَقُومُ بِذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ.

وَهَؤُلَاءِ يُوَافِقُونَ الْأَشْعَرِيَّةَ والْكُلَّابِيَة فِي أَنَّ تَكْلِيمَ اللهِ لِعِبَادِهِ لَيْسَ إلَّا مُجَرَّدَ خَلْقِ إدْرَاكٍ لِلْمُتَكَلِّمِ، لَيْسَ هُوَ أَمْرًا مُنْفَصِلًا عَن الْمُسْتَمِعِ.

الْقَوْلُ الْخَامِسُ: قَوْلُ الهشامية والكَرَّامِيَة وَمَن وَافَقَهُمْ: أَنَّ كَلَامَ اللهِ

ص: 733

حَادِثٌ قَائِمٌ بِذَاتِ اللهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُن مُتَكَلِّمًا بِكَلَام؛ بَل مَا زَالَ عِنْدَهُم قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ، وَهُوَ عِنْدَهُم لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ، وَإِلَّا فَوُجُودُ الْكَلَامِ عِنْدَهُم فِي الْأَزَلِ مُمْتَنِعٌ كَوُجُودِ الْأَفْعَالِ عِنْدَهُم وَعِنْدَ مَن وَافَقَهُم مَن أَهْلِ الْكَلَامِ؛ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَأَتْبَاعِهِمْ.

وَهُم يَقُولُونَ: إنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ حَادِثَةٌ بِذَاتِ الرَّبِّ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ.

وَلَا يَقُولُونَ: إنَّ الْأَصْوَاتَ الْمَسْمُوعَةَ وَالْمِدَادَ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ قَدِيمٌ؛ بَل يَقُولُونَ: إنَّ ذَلِكَ مُحْدَثٌ.

الْقَوْلُ السَّادِسُ: قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَئِمَّتِهِمْ: إنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ، وَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِصَوْت كَمَا جَاءَت بِهِ الْآثَارُ، وَالْقُرْآنُ وَغَيْرُهُ مِن الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ كَلَامُ اللهِ تَكَلَّمَ اللهُ بِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتهِ، لَيْسَ بِبَائِنٍ عَنْهُ مَخْلُوقًا، وَلَا يَقُولُونَ إنَّهُ صَارَ مُتَكَلِّمًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُن مُتَكَلِّمًا، وَلَا أَنَّ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى مِن حَيْثُ هُوَ هُوَ حَادِثٌ؛ بَل مَا زَالَ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ، وَإِن كَانَ كلَّمَ مُوسَى وَنَادَاهُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَكَلَامُهُ لَا يَنْفَدُ.

والْجَهْمِيَّة يَقُولُونَ: إنَّ اللهَ لَا يَتَكَلَّمُ، وَلَيْسَ لَهُ كَلَامٌ، وَإِنَّمَا خَلَقَ شَيْئًا فَعُبِّرَ عَنْهُ.

وَمِنْهُم قَالَ: إنَهُ يَتَكَلَّمُ بِكَلَام يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ.

وَأَمَّا الكَرَّامِيَة فَتَقُولُ: إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَهُوَ مُتَكَلِّمٌ بِهِ بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ، وَيقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ: إنَّهُ حَادِثٌ قَائِمٌ بِهِ وَهُم لَيْسُوا مِن الْجَهْمِيَّة؛ بَل يَرُدُّونَ عَلَيْهِم أَعْظَمَ الرَّدِّ، وَهُم أَعْظَمُ مُبَايَنَةً لَهُم مِن الْأشْعَرِيَّةِ، وَيَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ: إنَّ الْقُرْآنَ حَادِثٌ فِي ذَاتِ اللهِ.

ثُمَّ مِن هَؤُلَاءِ مَن يَقُولُ: إنَّ كَلَامَ اللهِ كُلَّهُ حَادِثٌ، وَمِنْهُم مَن لَا يَقُولُ ذَلِكَ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَعْرُوفٌ عَن دَاوُد بْنِ عَلِيٍّ الأصبهاني؛ بَل وَالْبُخَارِيُّ صَاحِبُ

ص: 734

الصَّحِيحِ وَغَيْرُهُ، وَطَوَائِفُ كَثِيرَةٌ يُذْكَرُ عَنْهُم هَذَا، فَلَيْسَ كُلُّ مَن قَالَ: إنَّهُ حَادِثٌ كَانَ مِن الْجَهْمِيَّة، وَلَا يَقُولُ إنَّهُ مَخْلُوقٌ. [12/ 163 - 177]

712 -

كُلُّ مَن أَثْبَتَ للهِ مَا نَفَاهُ عَن نَفْسِهِ، أَو نَفَى عَن اللهِ مَا أَثْبَتَه لِنَفْسِهِ مِن الْمُعَطِّلَةِ وَالْمُمَثِّلَةِ، فَإِنَّهُ قَالَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَق، وَذَلِكَ مِمَّا زَجَرَ الله عَنْهُ.

وَأَمَّا تَكْفِيرُ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ لَا بُدَّ مِن التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ بِسَبَبِ عَدَمِ ضَبْطِهِ اضْطَرَبَتِ الْأُمَّةُ اضْطِرَابًا كَثِيرًا فِي تَكْفِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ، كَمَا اضْطَرَبُوا قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي سَلْبِ الْإِيمَانِ عَن أَهْلِ الْفُجُورِ وَالْكَبَائِرِ، وَصَارَ كَثِيرٌ مِن أَهْلِ الْبِدَعِ مِثْلُ: الْخَوَارجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّة وَالْمُمَثِّلَةِ يَعْتَقِدُونَ اعْتِقَادًا هُوَ ضَلَالٌ، يَرَوْنَهُ هُوَ الْحَقَّ، وَيَرَوْنَ كُفْرَ مَن خَالَفَهُم فِي ذَلِكَ، فَيَصِيرُ فِيهِمْ شَوْبٌ قَوِيٌّ مِن أَهْلِ الْكِتَابِ فِي كُفْرِهِمْ بِالْحَقِّ وَظُلْمِهِمْ لِلْخَلْقِ، وَلَعَلَّ أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ الْمُكَفِّرِينَ يُكَفِّرُ بِالْمُقَالَةِ الَّتِي لَا تُفْهَمُ حَقِيقَتُهَا وَلَا تُعْرَفُ حُجَّتُهَا.

وَبِإِزَاءِ هَؤُلَاءِ الْمُكَفّرِينَ بِالْبَاطِلِ أَقْوَامٌ لَا يَعْرِفُونَ اعْتِقَادَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ كَمَا يَجِبُ، أَو يَعْرِفُونَ بَعْضَهُ وَيَجْهَلُونَ بَعْضَهُ، وَمَا عَرَفُوهُ مِنْهُ قَد لَا يُبَيِّنُونَهُ لِلنَّاسِ بَل يَكْتُمُونَهُ، وَلَا يَنْهَوْنَ عَن الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا يَذُمُّونَ أَهْلَ الْبِدَعِ ويُعَاقِبُونَهُم؛ بَل لَعَلَّهُم يَذُمُّونَ الْكَلَامَ فِي السُّنَّةِ وَأُصُولِ الدِّينِ ذَمًّا مُطْلَقًا، لَا يُفَرّقُونَ فِيهِ بَيْنَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، وَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْبِدْعَةِ وَالْفُرْقَةِ، أَو يُقِرُّونَ الْجَمِيعَ عَلَى مَذَاهِبِهِم الْمُخْتَلِفَةِ كَمَا يُقَرُّ الْعُلَمَاءُ فِي مَوَاضِعِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي يَسُوغُ فِيهَا النِّزَاعُ.

وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ قَد تَغْلِبُ عَلَى كَثِيرٍ مِن الْمُرْجِئَةِ وَبَعْضِ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ والمتفلسفة، كَمَا تَغْلِبُ الْأُولَى عَلَى كَثِيرٍ مِن أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْكَلَامِ، وَكِلَا هَاتَيْنِ الطَّرِيقَتَيْنِ مُنْحَرِفَةٌ خَارِجَةٌ عَن الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ بَيَانُ مَا بَعَثَ اللهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ، وَتَبْلِيغُ مَا

ص: 735

جَاءَت بِهِ الرُّسُلُ عَن اللهِ وَالْوَفَاءُ بِمِيِثَاقِ اللهِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ.

فَكَانَ مِن أَوَّلِ الْبِدَعِ وَالتَّفَرُّقِ الَّذِي وَقَعَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ "بِدْعَةُ الْخَوَارِجِ" الْمُكَفَّرَةِ بِالذَّنْبِ، فَإِنَّهُم تَكَلَّمُوا فِي الْفَاسِقِ الْمِلِّي، فَزَعَمَت الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ أَنَّ الذُّنُوبَ الْكَبِيرَةَ -وَمِنْهُم مَن قَالَ: وَالصَّغِيرَةَ - لَا تُجَامِعُ الْإِيمَانَ أَبَدًا بَل تُنَافِيهِ وَتُفْسِدُهُ.

وَقَابَلَتْهُم الْمُرْجِئَةُ وَالْجَهْمِيَّة وَمَن اتَّبَعَهُم مِن الْأَشْعَرِيَّةِ والكَرَّامِيَة، فَقَالُوا: لَيْسَ مِن الْإِيمَانِ فِعْلُ الْأَعْمَالِ الْوَاجِبَةِ، وَلَا تَرْكُ الْمَحْظُورَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، وَالْإِيمَانُ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ؛ بَل هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ يَسْتَوِي فِيهِ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ: مِن الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَالْمُقَرَّبِينَ وَالْمُقْتَصِدِينَ وَالظَّالِمِينَ.

ثُمَّ قَالَ فُقَهَاءُ الْمُرْجِئَةِ: هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ.

وَقَالَ أَكْثَرُ مُتَكَلِّمِيهِمْ: هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ.

وَقَالَ بَعْضُهُم: التَّصْدِيقُ بِاللِّسَانِ.

وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِن الصَّحَابَةِ جَمِيعِهِمْ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَجَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ مِثْل مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَحَمَّادِ بْنِ زيدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ، وَمُحَقِّقِي أَهْلِ الْكَلَامِ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَالدِّينَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، هَذَا لَفْظُ السَّلَفِ مِن الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَإِن كَانَ قَد يَعْنِي بِالْإِيمَانِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مَا يُغَايِرُ الْعَمَلَ، لَكِنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ كُلَّهَا تَدْخُلُ أَيْضًا فِي مُسَمَّى الدِّينِ وَالْإِيمَانِ، ويدْخُلُ فِي الْقَوْلِ قَوْلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَفِي الْعَمَلِ عَمَلُ الْقَلْبِ وَالْجَوَارحِ. [12/ 464 - 472]

713 -

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله: فِي رَجُلٍ قَالَ: إنَّ اللهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا وَإِنَّمَا خَلَقَ الْكَلَامَ وَالصَّوْتَ فِي الشَّجَرَةِ وَمُوسَى عليه السلام سَمِعَ مِن الشَّجَرَةِ لَا مِن اللهِ، وَأَنَّ اللهَ عز وجل لَمْ يُكَلِّمْ جِبْرِيلَ بِالْقُرْآنِ، وإِنَّمَا أَخَذَهُ مِن اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَهَل هُوَ عَلَى الصَّوَابِ أَمْ لَا؟

ص: 736

فَأَجَابَ: الْحَمْدُ للهِ، لَيْسَ هَذَا عَلَى الصَّوَابِ؛ بَل هَذَا ضَالٌّ مُفْتَرٍ كَاذِبٌ بِاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا؛ بَل هُوَ كَافِرٌ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ

(1)

، وَإِذَا قَالَ: لَا أُكَذِّبُ بِلَفْظِ الْقُرْآنِ - وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} [النساء: 164]- بَل أُقِرُّ بِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ حَقٌّ لَكِنْ أَنْفِي مَعْنَاهُ وَحَقِيقَتَهُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ هُم الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّهُم مِن شَرِّ أَهْلِ الْأهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، حَتَّى أَخْرَجَهُم كَثِيرٌ مِن الْأَئِمَّةِ عَن الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً.

وَمَعْنَى كَلَامِ السَّلَفِ رضي الله عنهم: أَنَّ مَن قَالَ: إنَّ كَلَامَ اللهِ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ فِي الشَّجَرَةِ أَو غَيْرِهَا - كَمَا قَالَ هَذَا الجهمي الْمُعْتَزِلِيُّ الْمَسْؤُولُ عَنْهُ - كَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِ: إنَّ الشَّجَرَةَ هِيَ الَّتِي قَالَتْ لِمُوسَى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه: 14] وَمَن قَالَ: هَذَا مَخْلُوقٌ قَالَ ذَلِكَ، فَهَذَا الْمَخْلُوقُ عِنْدَهُ كَفِرْعَوْنَ الَّذِي قَالَ:{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] كِلَاهُمَا مَخْلُوقٌ وَكِلَاهُمَا قَالَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ قَوْلُ فِرْعَوْنَ كُفْرًا فَقَوْلُ هَؤُلَاءِ أَيْضًا كُفْرٌ. [12/ 502 - 509]

714 -

اَلَّذِي اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَد وَطَبَقَتِهِ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ مَن قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي، وَمَن قَالَ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ أَهْلِ السُّنَّةِ، أَنْ لَا يُطْلَقَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا كَمَا عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَد وَجُمْهُورُ السَّلَفِ؛ لِأَنَ كُلَّ وَاحِدٍ مِن الْإِطْلَاقَيْنِ يَقْتَضِي إيهَامًا لِخَطَأٍ؛ فَإِنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ مُحْدَثَةٌ بِلَا شَكٍّ.

(1)

قال رحمه الله في موضع آخر: مَن قَالَ: إنَّ اللهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا فَهَذَا إنْ كَانَ لَمْ يَسْمَعْ الْقُرْآنَ فَإنَّهُ يُعَرَّفُ أَنَّ هَذَا نَصُّ الْقُرْآنِ، فَإِنْ أَنْكَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ اُسْتُتِيبَ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَلَا يُقْبَل مِنْهُ إنْ كَانَ كَلَامُهُ بَعْدَ أَنْ يَجْحَدَ نَصَّ الْقُرْآنِ ..

وَالْأئِمَّةُ الَّذِينَ أَمَرُوا بِقَتْلِ مِثْل هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ رُؤيَةَ اللهِ فِي الْآخِرَةِ وَيقُولُونَ: الْقرْآنُ مَخْلُوقٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ، قِيلَ: إنَّهُم أَمَرُوا بِقَتْلِهِمْ لِكُفْرِهِمْ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُم إذَا دَعَوْا النَّاسَ إلَى بِدْعَتِهِمْ أَضَلُّوا النَّاسَ فَقُتِلُوا لِأَجْلِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَحِفْظًا لِدِينِ النَّاسِ أَنْ يُضِلُّوهُمْ. (12/ 523 - 524).

ص: 737

وَأَمَّا التِّلَاوَةُ فِي نَفْسِهَا الَّتِي هِيَ حُرُوفُ الْقُرْآنِ وَأَلْفَاظُهُ فَهِيَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ.

وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِن آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا: فَمَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِر الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ الْإِقْرَارُ وَالْإِمْرَارُ.

قال أَبُو سُلَيْمَانَ الخطابي وَأَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ: مَذْهَبُ السَّلَفِ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ إجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا مَعَ نَفْيِ الْكَيْفِيَّةِ وَالتَّشْبِيهِ عَنْهَا.

وَقَالَا فِي ذَلِكَ: إنَّ الْكَلَامَ فِي الصِّفَاتِ فَرْعٌ عَلَى الْكَلَامِ فِي الذَّاتِ، يُحْتَذَى فِيهِ حَذْوَهُ، ويُتَّبَعُ فِيهِ مِثَالَهُ، فَإِذَا كَانَ إثْبَاتُ ذَاتِهِ إثْبَاتَ وُجُودٍ لَا إثْبَاتَ كَيْفِيَّةٍ: فَكَذَلِكَ إثْبَاتُ صِفَاتِهِ إثْبَاتُ وُجُودٍ لَا إثْبَاتُ كَيْفِيَّةٍ، فَلَا نَقُولُ: إنَّ مَعْنَى الْيَدِ الْقُدْرَةُ، وَلَا إنَّ مَعْنَى السَّمْعِ الْعِلْمُ، هَذَا كَلَامُهُمَا. [12/ 573 - 575]

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا قَالَ لَك الجهمي: كَيْفَ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا؟ فَقُلْ لَهُ: كَيْفَ هُوَ فِي نَفْسِهِ؟ فَإِنْ قَالَ: نَحْنُ لَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذَاتِهِ، فَقُلْ: وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ صِفَاتِهِ، وَكَيْفَ نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ صِفَةٍ وَلَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ مَوْصُوفِهَا؟

715 -

أَصْلُ بِدْعَتِهِمْ [أي: الشِّيعَةُ] مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَكْذِيبِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ؛ وَلهَذَا لَا يُوجَدُ فِي فِرَقِ الْأُمَّةِ مِن الْكَذِبِ أَكْثَرُ مِمَّا يُوجَدُ فِيهِمْ، بِخِلَافِ الْخَوَارجِ فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ فِيهِمْ مَن يَكْذِبُ.

وَالشِّيعَةُ لَا يَكَادُ يُوثَقُ بِرِوَايَةِ أَحَدٍ مِنْهُم مِن شُيُوخِهِمْ؛ لِكَثْرَةِ الْكَذِبِ فِيهِمْ؛ وَلهَذَا أَعْرَضَ عَنْهُم أَهْلُ الصَّحِيحِ. [13/ 31 - 32]

وَلَكِنَّ الشِّيعَةَ لَمْ يَكُن لَهُم فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ جَمَاعَةٌ وَلَا إمَامٌ وَلَا دَارٌ وَلَا سَيْفٌ يُقَاتِلُونَ بِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا لِلْخَوَارجِ تَمَيَّزُوا بِالْإِمَامِ وَالْجَمَاعَةِ وَالدَّارِ، وَسَمَّوْا دَارَهُم دَارَ الْهِجْرَةِ، وَجَعَلُوا دَارَ الْمُسْلِمِينَ دَارَ كُفْرٍ وَحَرْبٍ.

وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ تَطْعَنُ بَل تُكَفِّرُ وُلَاةَ الْمُسْلِمِينَ، وَجُمْهُورُ الْخَوَارجِ يُكَفِّرُونَ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَمَن تَوَلَّاهُمَا، وَالرَّافِضَةُ يَلْعَنُونَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَمَن

ص: 738

تَوَلَّاهُمْ، وَلَكِنَّ الْفَسَادَ الظَّاهِرَ كَانَ فِي الْخَوَارجِ: مِن سَفْكِ الدِّمَاءِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَالْخُرُوجِ بِالسَّيْفِ؛ فَلِهَذَا جَاءَت الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِقِتَالِهِمْ، وَالْأحَادِيثُ فِي ذَمِّهِمْ وَالْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ كَثِيرَةٌ جِدُّا وَهِيَ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ. [13/ 36]

716 -

تَنَازَعَ النَّاسُ فِي "الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ"؛ أَيْ: فِي أَسْمَاءِ الدِّينِ، مِثْل: مُسْلِمٍ وَمُؤمِنٍ وَكَافِرٍ وَفَاسِقٍ، وَفِي أَحْكَامِ هَؤُلَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

فَالْمُعْتَزِلَةُ وَافَقُوا الْخَوَارجَ عَلَى حُكْمِهِمْ فِي الْآخِرَةِ دُونَ الدُّنْيَا، فَلَمْ يَسْتَحِلُّوا مِن دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ مَا اسْتَحَلُّتْهُ الْخَوَارج

(1)

.

وَفِي الْأَسْمَاءِ أَحْدَثُوا الْمَنْزِلَةَ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ، وَهَذِهِ خَاصَّةُ الْمُعْتَزِلَةِ الَّتِي انْفَرَدُوا بِهَا، وَسَائِرُ أَقْوَالِهِمْ قَد شَارَكَهُم فِيهَا غَيْرُهُمْ.

وَحَدَثَت الْمُرْجِئَةُ وَكَانَ أَكْثَرُهُم مِن أهْلِ الْكُوفَةِ، وَلَمْ يَكن أَصْحَابُ عَبْدِ اللهِ بن مسعود رضي الله عنه مِن الْمُرْجِئَةِ، وَلَا إبْرَاهِيمُ النَّخَعِي وَأمْثَالُهُ، فَصَارُوا نَقِيضَ الْخَوَارجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فَقَالُوا: إنَّ الْأعْمَالَ لَيْسَتْ مِن الْإِيمَانِ، وَكَانَت هَذِهِ الْبِدْعَةُ أَخَفَّ الْبِدَعِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِن النِّزَاعِ فِيهَا نِزَاعٌ فِي الِاسْمِ وَاللَّفْظِ دُونَ الْحُكْمِ. [13/ 38]

717 -

صَارَت الْمُرْجِئَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

فَعُلَمَاؤُهُم وَأَئِمَّتُهُمْ

(2)

احْسَنُهُم قَوْلًا؛ وَهُوَ أَنْ قَالُوا: الْإِيمَانُ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَقَوْلُ اللِّسَانِ.

وَقَالَتْ الْجَهْمِيَّة: هُوَ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ فَقَطْ.

وَقَالَتْ الْكَرَامِيَّةُ: هُوَ الْقَوْلُ فَقَطْ.

(1)

هذا الذي يترتب على عدم تكفيرهم صاحب الكبيرة في الدنيا، بخلاف الحكم عليه في الآخرة، فهم متفقون مع الخوارج في تخليده في النار.

(2)

وهم مرجئة الفقهاء.

ص: 739

فَمَن تَكَلَّمَ بِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ كَامِلُ الْإِيمَانِ، لَكِنْ إنْ كَانَ مُقِرًّا بِقَلْبِهِ كَانَ مِن أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِن كَانَ مُكذِّبًا بِقَلْبِهِ كَانَ مُنَافِقًا مُؤْمِنًا مِن أَهْلِ النَّارِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي اخْتَصَّتْ بِهِ الْكَرَامِيَّةُ وَابْتَدَعَتْهُ.

وَلَمْ يَسْبِقْهَا أَحَدٌ إلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ آخِرُ مَا أُحْدِثَ مِن الْأَقْوَالِ فِي الْإِيمَانِ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَحْكِي عَنْهُم أَنَّ مَن تَكلَّمَ بِهِ بِلِسَانِهِ دُونَ قَلْبِهِ فَهُوَ مِن أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ غَلَطٌ عَلَيْهِمْ؛ بَل يَقُولُونَ: إنَّهُ مُؤْمِنٌ كَامِلُ الْإِيمَانِ وَإِنَّهُ مِن أَهْلِ النَّارِ، فَيَلْزَمُهُم أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ الْإِيمَانِ مُعَذَّبًا فِي النَّارِ؛ بَل يَكُونُ مُخَلَّدًا فِيهَا، وَقَد تَوَاتَرَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ "يَخْرُجُ مِنْهَا مَن كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِن إيمَانٍ"

(1)

.

وَإِن قَالُوا: لَا يُخَلَّدُ وَهُوَ مُنَافِقٌ: لَزِمَهُم أَنْ يَكُونَ الْمُنَافِقُونَ يَخْرُجُونَ مِن النَّارِ، وَالْمُنَافِقُونَ قَد قَالَ اللهُ فِيهِمْ:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)} [النساء: 145]. [13/ 55 - 56]

718 -

ذَهَبَ كَثِيرٌ مِن مُبْتَدِعَةِ الْمُسْلِمِينَ مِن الرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَغَيْرِهِمْ إلَى بِلَادِ الْكفَّارِ، فَأسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَانْتَفَعُوا بِذَلِكَ، وَصَارُوا مُسْلِمِينَ مُبْتَدِعِينَ، وَهُوَ خَيْرٌ مِن أَنْ يَكُونُوا كُفَّارًا

(2)

. [13/ 96]

(1)

البخاري (7510).

(2)

وهذا من فقه الدعوة، ودرءِ المفاسد الكبرى بارتكاب مفاسد أقلّ منها.

وإذا كان شيخ الإسلام رحمه الله يرى أن إسلام الْكُفَارِ على أيدي مُبْتَدِعَةِ الْمسْلِمِينَ مِن الرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَغَيْرِهِمْ، خَيْرٌ مِن أَنْ يبقوا على كفرهم، والرَّافِضَة وَالْجَهْمِيَّة من أضلّ الفرق، فمن باب أولى: الجماعات والدعاة في هذا الزمان، الذين عندهم بعض البدع، فدخولهم فيها خير من بقائهم على الكفر ..

تنبيه: كلام شيخ الإسلام رحمه الله صريح في أنه لا يُكفر عموم الرافضة، ويرى أن مذهبهم يشتمل على كفريات، ولا يعني ذلك تكفيرهم كلّهم.

لكنه يُكفر الغالين منهم في الأئمة، حيث قال رحمه الله تعالى: وَإِنَّمَا يُحْدِثُ مِثْل هَذِهِ الْبِدَعِ أَهْلُ الْغُلُوِّ وَالشِّرْكِ: الْمُشْبِهُونَ لِلنَصَارَى مِن أهْلِ الْبِدَعِ الرَّافِضَةِ الْغَالِيَةِ فِي الْأَئِمَّةِ وَمَن أَشْبَهَهُم مِن الْغُلَاةِ فِي الْمَشَايخِ. اهـ. (27/ 127).

ص: 740

719 -

لَا رَيْبَ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ خَيْرٌ مِن الرَّافِضَةِ وَمِن الْخَوَارجِ؛ فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ تُقِرُّ بِخِلَافَةِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ.

ويُعَظِّمُونَ الذُّنُوبَ، فَهُم يَتَحَرَّوْنَ الصِّدْقَ كَالْخَوَارجِ، لَا يَخْتَلِقُونَ الْكَذِبَ كَالرَّافِضَةِ، وَلَا يَرَوْنَ أَيْضًا اتِّخَاذَ دَارٍ غَيْرَ دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْخَوَارجِ، وَلَهُم كُتُبٌ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَنَصْرِ الرَّسُولِ، وَلَهُم مَحَاسِنُ كَثِيرَةٌ يُتَرَجَّحُونَ عَلَى الْخَوَارجِ وَالرَّوَافِضِ، وَهُم قَصْدُهُم إثْبَاتُ تَوْحِيدِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَصِدْقِهِ وَطَاعَتِهِ، وَأُصُولُهُم الْخَمْسُ عَن هَذِهِ الصِّفَاتِ الْخَمْسِ؛ لَكِنَّهُم غَلِطُوا فِي بَعْضِ مَا قَالُوهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِن أُصُولِهِمْ الْخَمْسِ

(1)

. [13/ 97 - 98]

720 -

الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ مُشْتَرِكُونَ فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ.

وَابْنُ كلَّابٍ وَمَن تَبِعَهُ - كَالْأَشْعَرِيِّ - أَثْبَتُوا الصِّفَاتِ؛ لَكِنْ لَمْ يُثْبِتُوا الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةَ، مِثْل كَوْنِهِ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ، وَمِثْل كَوْنِ فِعْلِهِ الِاخْتِيَارِيِّ يَقُومُ بِذَاتِهِ، وَمِثْل كَوْنِهِ يُحِبُّ ويرْضَا عَن الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ إيمَانِهِمْ، وَيَغْضَبُ وَيُبْغِضُ الْكَافِرِينَ بَعْدَ كُفْرِهِمْ. [13/ 131]

721 -

مَن اعْتَبَرَ مَا عِنْدَ الطَّوَائِفِ الَّذِينَ لَمْ يَعْتَصِمُوا بِتَعْلِيمِ الْأَنْبِيَاءِ وَإِرْشَادِهِمْ وَإِخْبَارِهِمْ: وَجَدَهُم كُلَّهُم حَائِرِينَ ضَالِّينَ شَاكِّينَ، مُرْتَابِينَ أَو جَاهِلِينَ جَهْلًا مُرَكَّبًا. [13/ 141]

722 -

الْمُفْتَرِقَةُ مِن أَهْلِ الضَّلَالِ تَجْعَلُ لَهَا دِينًا وَأُصُولَ دِينٍ قَد ابْتَدَعُوهُ بِرَأيِهِمْ، ثُمَّ يَعْرِضُونَ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ، فَإِنْ وَافَقَهُ احْتَجُّوا بِهِ اعْتِضَادًا لَا اعْتِمَادًا، وَإِن خَالَفَهُ:

(1)

أيُّ إنصافٍ وعدلٍ أعظم من هذا؟ حيث لم يذكر مساوئهم ويسكت عن محاسنهم، كما هو حال كثير من الناس اليوم، حيث يشنعون على المخالف لهم ولو كان منتسبًا للسُّنَّة، ولا يذكرون له حسنةً واحدة، ومحاسنه سارت بها الركبان، أهذه هي أخلاق الإسلام؟

مع أنّ عقيدة المعتزلة لا يختلف أحدٌ من أهل السُّنَّة في ضلالها وانحرافها، وهم الذين تسلطوا على إمام أهل السُّنَّة في زمانه، الأمام أحمد رحمه الله، وكفَّروه وأباحوا دمه.

والله المستعان.

ص: 741

أ - فَتَارَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ، وَيَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، وَهَذَا فِعْلُ أَئِمَّتِهِمْ.

ب - وَتَارَةً يُعْرِضُونَ عَنْهُ ويقُولُونَ: نُفَوِّضُ مَعْنَاهُ إلَى اللهِ وَهَذَا فِعْلُ عَامَّتِهِمْ.

وَعُمْدَةُ الطَّائِفَتَيْنِ فِي الْبَاطِنِ غَيْرُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، يَجْعَلُونَ أَقْوَالَهُم الْبِدْعِيَّةَ مُحْكَمَةً يَجِبُ اتِّبَاعُهَا وَاعْتِقَادُ مُوجَبِهَا، وَالْمُخَالِفُ: إمَّا كَافِرٌ، وَإِمَّا جَاهِلٌ لَا يَعْرِفُ هَذَا الْبَابَ، وَلَيْسَ لَهُ عِلْمٌ بِالْمَعْقُولِ وَلَا بِالْأُصُولِ، وَيَجْعَلُونَ كَلَامَ اللهِ وَرَسُولِهِ الَّذِي يُخَالِفُهَا مِن الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ إلَّا اللهُ، أَو لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ إلَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، وَالرَّاسِخُونَ عِنْدَهُم مَن كَانَ مُوَافِقًا لَهُم عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ

(1)

.

والْمَقْصُودُ هُنَا: أنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يَجْعَلَ مَا قَالَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ هُوَ الْأَصْلَ ويتَدَبَّرَ مَعْنَاهُ، وَيَعْقِلَ وَيعْرِفَ بُرْهَانَهُ وَدَلِيلَهُ، إمَّا الْعَقْلِيَّ وَإِمَّا الْخَبَرِيَّ السَّمْعِيَّ، ويعْرِفَ دَلَالَةَ الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا وَهَذَا، وَتُجْعَلُ أَقْوَالُ النَّاسِ الَّتِي قَد تُوَافِقُهُ وَتُخَالِفُهُ مُتَشَابِهَةً مُجْمَلَةً، فَيُقَالُ لِأَصْحَابِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ: يُحْتَمَلُ كَذَا وَكَذَا، وَيُحْتَمَلُ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ أَرَادُوا بِهَا مَا يُوَافِقُ خَبَرَ الرَّسُولِ قُبِلَ، وَإِن أَرَادُوا بِهَا مَا يُخَالِفُهُ رُدَّ. [13/ 142 - 146]

723 -

صَارَ كَثِيرٌ مِن الْمُتَأخرِينَ - مِن أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ - يَظُنُّونَ أَنَّ خُصُومَهُ

(2)

كَانُوا الْمُعْتَزِلَةَ، وَيَظنُّونَ أَنَّ بِشْرَ بْنَ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيَّ - وإِن كَانَ قَد مَاتَ قَبْلَ مِحْنَةِ أَحْمَد وَابْنِ أبِي دؤاد وَنَحْوِهِمَا - كَانُوا مُعْتَزِلَةَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَل الْمُعْتَزِلَةُ كَانُوا نَوْعًا مِن جُمْلَةِ مَن يَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ. [14/ 352]

(1)

كأنه يتكلم عن حال مبتدعة عصرنا، فلهم ثوابت لا يتنازلون عنها أبدًا، وإذا رُدّ عليهم بصحيح وصريح الكتاب والسُّنَّة أوّلوه، وذلك لأنهم اعتقدوا ثم استدلوا، والمنصف والمؤمن: هو من يستدل ثم يعتقد.

(2)

أي: خصوم الإمام أحمد الذين قاموا عليه، وحرضوا الخليفة على سجنه.

ص: 742

724 -

إِنَّ ابْنَ أَبِي دُؤاد كَانَ قَد جَمَعَ لِلْإِمَامِ أَحْمَد مَن أَمْكَنَهُ مِن مُتَكَلِّمِي الْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ وَغَيْرِهِمْ مِمَن يَقُولُ: إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ لَمْ يَكُن مُخْتَصًّا بِالْمُعْتَزِلَةِ كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِن أُولَئِكَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَو أَكْثَرَهُم لَمْ يَكُونُوا مُعْتَزِلَةً، وَبِشْرٌ المريسي لَمْ يَكُن مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ.

بَل فِيهِمْ نجارية وَمِنْهُم بُرْغُوثٌ.

وَفِيهِمْ ضرارية، وَحَفْصٌ الْفَرْدُ الَّذِي نَاظَرَ الشَّافِعِيَّ كَانَ مِن الضرارية أَتْبَاعِ ضِرَارِ بْنِ عَمْرو.

وَفِيهِمْ مُرْجِئَةٌ وَمِنْهُم بِشْرٌ المريسي.

وَمِنْهُم جهمية مَحْضَةٌ، وَمِنْهُم مُعْتَزِلَةٌ.

وَابْنُ أَبِي دؤاد لَمْ يَكُن مُعْتَزِلِيًّا؛ بَل كَانَ جهميًّا يَنْفِي الصِّفَاتِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ تَنْفِي الصِّفَاتِ، فنفاة الصِّفَاتِ الْجَهْمِيَّة أَعَمُّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ

(1)

. [17/ 299 - 300]

725 -

الْقَدَرِيَّةُ قَصَدُوا تَنْزِيهَ اللهِ عَن السَّفَهِ وَأَحْسَنُوا فِي هَذَا الْقَصْدِ، فَإِنَّه سُبْحَانَهُ مُقَدَّسٌ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ مِن إبْلِيسَ وَجُنُودِهِ عُلُوًّا كَبِيرًا حَكَمٌ عَدْلٌ، لَكِنْ ضَاقَ ذَرْعُهُم وَحَصَلَ عِنْدَهُم نَوْعُ جَهْلٍ اعْتَقَدُوا مَعَهُ أَنَّ هَذَا التَّنْزِيهَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِأَنْ يَسْلُبُوهُ قُدْرَتَهُ عَلَى أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَخَلْقِهِ لَهَا وَشُمُولِ إرَادَتِهِ لِكُلّ شيْءٍ.

وقَالَتِ الوعيدية: كُلُّ فَاسِقٍ خَالِدٌ فِي النَّارِ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا أَبَدًا.

وَقَالَتِ الْخَوَارِجُ: هُوَ كَافِرٌ.

وَغَالِيَةُ الْمُرْجِئَةِ أَنْكَرَتْ عِقَابَ أَحَدٍ مِن أَهْلِ الْقِبْلَةِ.

(1)

فالمحنة التي وقعت للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، والمناظرة التي حدثت لم تكن مع المعتزلة فقط، بل كانت مع جنس الجهميّة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولم تكن المناظرة مع المعتزلة فقط، بل كانت مع جنس الجهمية؛ من المعتزلة، والنجارية، والضرارية، وأنواع المرجئة؛ فكلّ معتزليّ جهميّ، وليس كلّ جهميّ معتزليًّا

" إلخ. منهاج السُّنَة النبوية (2/ 603 - 604).

ص: 743

وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْجَبْرِيَّةُ الْمُرْجِئَةُ أَكْفَرُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مِن الْمُعْتَزِلَةِ الوعيدية الْقَدَرِيَّةِ.

وَأَمَّا مُقْتَصِدَةُ الْمُرْجِئَةِ الْجَبْرِيَّةِ الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَأَنَّ مِن أَهْلِ الْقِبْلَةِ مَن يَدْخُلُ النَّارَ فَهَؤلَاءِ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَى أَهْلِ السُّنَّةِ.

لَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ مِن الْقَدَرِيَّةِ أَصْلَحُ مِن الْجَبْرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَنَحْوِهِمْ فِي الشَّرِيعَةِ عِلْمَهَا وَعَمَلَهَا. فَكَلَامُهُم فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفِي اتِّبَاعِ الْأمْرِ وَالنَّهْيِ خَيْرٌ مِن كَلَامِ الْمُرْجِئَةِ مِن الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ. فَإِنَّ كَلَامَ هَؤُلَاءِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ قَاصِرٌ جِدًّا وَكَذَلِكَ هُم مُقَصِّرُونَ فِي تَعْظِيمِ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي. وَلَكِنْ هُم فِي أُصُولِ الدِّينِ أَصلَحُ مِن أُولَئِكَ فَإِنَّهُم يُؤْمِنُونَ مِن صِفَاتِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ بِمَا لَا يُؤْمِنُ بِهِ أُولَئِكَ. وَهَذَا الصِّنْفُ أَعْلَى. [16/ 241 - 242]

726 -

قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [الشمس: 8] إثْبَاتٌ لِلْقَدَرِ بِقَوْلِهِ: {فَأَلْهَمَهَا} .

وقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس: 9، 10] إثْبَات لِفِعْلِ الْعَبْدِ .. ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَعَلَى الْجَبْرِيَّةِ لِلشَّرْعِ أَو لِفِعْلِ الْعَبْدِ.

وَأَمَّا الْمُظَلِّمُونَ لِلْخَالِقِ فَإِنَّهُ قَد دَلَّ عَلَى عَدْلِهِ بِقَوْلِهِ: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)} [الشمس: 7] وَالتَّسْوِيَةُ: التَّعْدِيلُ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ عَادِلٌ فِي تَسْوِيَةِ النَّفْسِ الَّتِي أَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. [16/ 243 - 244]

727 -

وَقَد ظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمُفْتَرِقِينَ الْمُخْتَلِفِينَ مِن الْأُمَّةِ إنَّمَا ذَلِكَ:

أ - بِتَرْكِهِمْ بَعْضَ الْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ نَبِيَّهُ.

ب - وَأَخْذِهِمْ بَاطِلًا يُخَالِفُهُ.

ج - وَاشْتِرَاكِهِمْ فِي بَاطِلٍ يُخَالِفُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ.

فَإِذَا اشْتَرَكوا فِي بَاطِلٍ خَالَفُوا بِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّبِعِينَ لِلرُّسُلِ: نَسُوا حَظًّا

ص: 744

مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ؛ فَأَلْقَى بَيْنَهُم الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُم فِي حَقٍّ آخَرَ جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، فَآمَنَ هَؤُلَاءِ بِبَعْضِهِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِهِ، وَالْآخَرُونَ يُومِنُونَ بِمَا كَفَرَ بِهِ هَؤُلَاءِ، ويكْفُرُونَ بِمَا يُؤْمِنُ بِهِ هَؤُلَاءِ.

وَهُنَا كِلَا الطَّائِفَتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيْن الْمُفْتَرِقَتَيْن مَذْمُومَةٌ.

وَهَذَا شَأْنُ عَامَّةِ الِافْتِرَاقِ وَالِاخْتِلَافِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَغَيْرِهَا. [16/ 245 - 246]

728 -

المتفلسفة يَقُولُونَ إنَّهُم أَثْبَتُوا وَاجِبَ الْوُجُودِ، وَهُم لَمْ يُثْبِتُوهُ؛ بَل كَلَامُهُم يَقْتَضِي أَنَّهُ مُمْتَنِعُ الْوُجُودِ.

وَالْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُهُم يَقُولُونَ: إنَّهُم أَثْبَتُوا الْقَدِيمَ الْمُحْدِثَ لِلْحَوَادِثِ، وَهُم لَمْ يُثْبِتُوهُ؛ بَل كَلَامُهُم يَقْتَضِي أَنَّهُ مَا ثَمَّ قَدِيمٌ أَصْلًا.

وَكَذَلِكَ الْأَشْعَرِيَّةُ والكَرَّامِيَة وَغَيْرُهُم مِمَن يَقُولُ: إنَّهُ أَثْبَتَ الْعِلْمَ بِالْخَالِقِ، فَهُم لَمْ يُثْبِتُوهُ، لَكِنَّ كَلَامَهُم يَقْتَضِي أَنَّهُ مَا ثَمَّ خَالِقٌ. [16/ 444]

729 -

إنَّ الْمُخَالِفِينَ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم -وَلَو فِي كَلِمَةٍ- لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي قَوْلِهِمْ مِن الْخَطَأِ بِحَسَبِ ذَلِكَ. [16/ 463]

730 -

كَثيرٌ مِن أَهْلِ الْكَلَامِ يَجْعَلُ دَلَالَةَ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ مِن جِهَةِ الْخَبَرِ الْمُجَرَّدِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ، فَلِهَذَا يَضْطَرُّونَ إلَى أَنْ يَجْعَلُوا الْعُلُومَ الْعَقْلِيَّةَ أَصْلًا، كَمَا يَفْعَلُ أَبُو الْمَعَالِي وَأَبُو حَامِد وَالرَّازِي وَغَيْرهمْ. [16/ 470]

731 -

الْأَشْعَرِيُّ وَأَمْثَالُهُ بَرْزَخٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْجَهْمِيَّة، أَخَذُوا مِن هَؤُلَاءِ كَلَامًا صَحِيحًا وَمِن هَؤُلَاءِ أُصُولًا عَقْلِيَّةً ظَنُّوهَا صَحِيحَةً وَهِيَ فَاسِدَةٌ.

فَمِنَ النَّاسِ مَن مَالَ إلَيْهِ مِنَ الْجِهَةِ السَلَفِيَّةِ، وَمِنَ النَّاسِ مَن مَالَ إلَيْهِ مِنَ الْجِهَةِ الْبِدْعِيَّةِ الْجَهْمِيَّة؛ كَأَبِي الْمَعَالِي وَأَتْبَاعِهِ، وَمِنْهُم مَن سَلَكَ مَسْلَكَهُم كَأئِمَّةِ أَصْحَابِهِمْ. [16/ 471]

ص: 745

732 -

قَالَ الشَّافِعِيُّ: حُكْمِي فِي أَهْلِ الْكَلَامِ أَنْ يُضْرَبُوا بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ وَيُطَافُ بِهِم فِي الْأَسْوَاقِ، وَيُقَالُ: هَذَا جَزَاءُ مَن تَرَكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَأَقْبَلَ عَلَى الْكَلَامِ.

وَقَالَ: لَقَد اطَّلَعْت مِن أَهْلِ الْكَلَامِ عَلَى شَيْءٍ مَا كُنْت أَظُنُّهُ، وَلَأَنْ يُبْتَلَى الْعَبْدُ بِكُلِّ ذَنْبٍ مَا خَلَا الشِّرْكَ بِاللهِ خَيْرٌ لَهُ مِن أَنْ يُبْتَلَى بِالْكَلَامِ.

وَقَد بُسِطَ تَفْسِيرُ كَلَامِهِ وَكَلَامِ غَيْرِهِ فِي مَوَاضِعَ، وَبُيّنَ أَنَّ مُرَادَهُم بِالْكَلَامِ هُوَ كَلَامُ الْجَهْمِيَّة الَّذِي نَفَوْا بِهِ الصِّفَاتِ وَزَعَمُوا أَنَّهُم يُثْبِتُونَ بِهِ حُدُوثَ الْعَالَمِ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْأَعْرَاضِ. [16/ 473]

733 -

مَن عَلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِالْحَقِّ، وَأَفْصَحُ الْخَلْقِ فِي الْبَيَانِ، وَأَنْصَحُ الْخَلْقِ لِلْخَلْقِ: عَلِمَ أَنَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ فِي حَقِّهِ:

أ - كَمَالُ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ.

ب - وَكَمَالُ الْقُدْرَةِ عَلَى بَيَانِهِ.

ج - وَكَمَالُ الْإِرَادَةِ لَهُ.

وَمَعَ كَمَالِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ يَجِبُ وُجُودُ الْمَطْلُوبِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ، فَيُعْلَمُ أَنَّ كَلَامَهُ أَبْلَغُ مَا يَكُونُ، وَأَتَمُّ مَا يَكُونُ، وَأَعْظَمُ مَا يَكُونُ بَيَانًا لِمَا بَيَّنَهُ فِي الدِّينِ مِن أُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

فَمَن وقَرَ هَذَا فِي قَلْبِهِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَحْرِيفِ النُّصُوصِ بِمِثْل هَذِهِ التَّأوِيلَاتِ الَّتِي إذَا تُدُبِّرَتْ وُجِدَ مَن أَرَادَهَا بِذَلِكَ الْقَوْل مِن أَبْعَدِ النَّاسِ عَمَّا يَجِبُ اتِّصَافُ الرَّسُولِ بِهِ، وَعَلِمَ أَنَّ مَن سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ فَإِنَّمَا هُوَ لِنَقْصِ مَا أُوتِيَهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، وَقَد قَالَ تَعَالَى:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، فَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا وَإِخْوَانَنَا مِمَن رَفَعَ دَرَجَاتِهِ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ. [17/ 129]

734 -

قَالَ لَهُ [أي: للإمام أحمد] عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إسْحَاقَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ -أَو قَالَ: فِي كَلَامِ اللهِ- يَعْنِي: أَهُوَ اللهُ أَو غَيْرُهُ؟

ص: 746

فَقَالَ لَهُ أَحْمَد: مَا تَقُولُ فِي عِلْمِ اللهِ أَهُوَ اللهُ أَو غَيْرُهُ؟ فَعَارَضَهُ أَحْمَد بِالْعِلْمِ فَسَكتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ.

وَهَذَا مِن حُسْنِ مَعْرِفَةِ أَبِي عَبْدِ اللهِ بِالْمُنَاظَرَةِ رحمه الله، فَإِنَّ الْمُبْتَدِعَ الَّذِي بَنَى مَذْهَبَهُ عَلَى أَصْلٍ فَاسِدٍ مَتَى ذَكَرْت لَهُ الْحَقَّ الَّذِي عِنْدَك ابْتِدَاءً أَخَذَ يُعَارِضُك فِيهِ؛ لِمَا قَامَ فِي نَفْسِهِ مِن الشُّبْهَةِ، فَيَنْبَغِي إذَا كَانَ الْمَنَاظِرُ مُدَّعِيًا أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِهَدْمِ مَا عِنْدَهُ، فَإِذَا انْكَسَرَ وَطَلَبَ الْحَقَّ فَأَعْطِهِ إيَّاهُ، وَإِلَّا فَمَا دَامَ مُعْتَقِدًا نَقِيضَ الْحَقِّ لَمْ يَدْخُلِ الْحَقُّ إلَى قَلْبِهِ؛ كَاللَّوْحِ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ كَلَامٌ بَاطِلٌ، اُمْحُهُ أَوَّلًا ثُمَّ اُكْتُبْ فِيهِ الْحَقَّ، وَهَؤُلَاءِ كَانَ قَصْدُهُم الِاحْتِجَاجَ لِبِدْعَتِهِمْ فَذَكَرَ لَهُم الْإِمَامُ أَحْمَد رحمه الله مِن الْمُعَارَضَةِ وَالنَّقْضِ مَا يُبْطِلُهَا. [17/ 159]

735 -

الصَّوَابُ -عَلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ-: أَنْ لَا يُقَالَ فِي الصِّفَاتِ: إنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى مُسَمَّى اسْمِ اللهِ؛ بَل مَن قَالَ ذَلِكَ فَقَد غَلِطَ عَلَيْهِمْ.

وَإِنَّمَا يُرِيدُ محققو أَهْلِ السُّنَّةِ بِقَوْلِهِمْ: "الصِّفَاتُ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ" أَنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى مَا أَثْبَتَهُ نفاة الصِّفَاتِ مِن الذَّاتِ فَإِنَّهُم أَثْبَتُوا ذَاتًا مُجَرَّدَةً لَا صِفَات لَهَا، فَأثْبَتَ أَهْلُ السُّنَّةِ الصِّفَاتِ زَائِدَةً عَلَى مَا أَثْبَتَهُ هَؤُلَاءِ فَهِيَ زِيَادَةٌ فِي الْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ وَالْخَبَرِ لَا زِيادَةً عَلَى نَفْسِ اللهِ جل جلاله وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ؛ بَل نَفْسُهُ الْمُقَدَّسَةُ متَّصِفَةٌ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُفَارِقَهَا، فَلَا تُوجَدُ الصِّفَاتُ بِدُونِ الذَّاتِ وَلَا الذَّاتُ بِدُونِ الصِّفَاتِ. [17/ 161 - 162]

* * *

(الفرق بين المعتزلة والجهمية)

736 -

النَّاسُ فِي هَذَا الْمَقَامِ -وَهُوَ مَقَامُ حِكْمَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ- عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ:

أ - فَالْمُعْتَزِلَةُ الْقَدَرِيَّةُ يَقُولُونَ: إنَّ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ كَانَ حَسَنًا وَقَبِيحًا قَبْلَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ كَاشِفٌ عَن صِفَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا، لَا يُكْسِبُهُ

ص: 747

حَسَنًا وَلَا قُبْحًا، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُم أَنْ يَأْمُرَ وَيَنْهَى لِحِكْمَةٍ تَنْشَأُ مِن الْأَمْرِ نَفْسِهِ.

ب - وَالْجَهْمِيَّة الْجَبْرِيَّة يَقُوُلونَ: لَيْسَ لِلْأَمْرِ حِكْمَةٌ تَنْشَأُ لَا مِن نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَا مِن نَفْسِ الْمَأمُورِ بِهِ، وَلَا يَخْلُق اللهُ شَيْئًا لِحِكْمَةٍ، وَلَكِنْ نَفْسُ الْمَشِيئَةِ أَوْجَبَتْ وُقُوعَ مَا وَقَعَ، وَتَخْصِيصَ أَحَدِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِلَا مُخَصَّصٍ، وَلَيْسَتِ الْحَسَنَاتُ سَبَبًا لِلثَّوَابِ، وَلَا السَّيِّئَاتُ سَبَبًا لِلْعِقَابِ.

فَجَهْمٌ -رَأسُ الْجَبْرِيَّةِ- وَأَتْبَاعُهُ فِي طَرَفٍ، وَالْقَدَرِيَّةُ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ

(1)

.

ج - وَأَمَّا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُم بِإِحْسَانٍ وَأَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ كَالْفُقَهَاءِ الْمَشْهُورِينَ وَغَيْرِهِمْ وَمَن سَلَكَ سَبِيلَهُم مِن أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالْمُتَكَلِّمِين فِي أُصُولِ الدِّينِ وَأصُولِ الْفِقْهِ فَيُقِرُّونَ بِالْقَدَرِ، وَيُقِرُّونَ بِالشَّرْعِ، وَيُقِرُّونَ بِالْحِكمَةِ للهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ. [17/ 198 - 200]

* * *

737 -

ذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17]، هُم الْيَعْقُوبِيَّةُ، وَفِي قَوْلِهِ: {وَقَالَتِ

(1)

ذكر الشيخ رحمه الله تعالى فرقين من الفروق التي بين المعتزلة والجهمية، وهما:

1 -

في مسألة القدر: فإن الجهمية من غلاة الجبرية - أي: أن العبد مجبور على فعله - والمعتزلة قدرية، يقولون: إن الله لم يخلق أفعال العباد، بل العبد مستقل بفعله.

2 -

في مسألة حِكْمَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْي: فالْجَهْمِيَّة ينفون الحكمة في خلق الله وتقديره.

والْمُعْتَزِلَةُ يَقُولُونَ: إنَّ مَا أمَرَ بَهِ وَنَهَى عَنْهُ كَانَ حَسَنًا وَقَبِيحًا قَبْلَ الْأَمْرِ وَالنَّهْي، وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ كَاشِفٌ عَن صِفَتِهِ الَّتي كَانَ عَلَيْهَا، لَا يُكْسِبُهُ حَسَنًا وَلَا قُبْحًا.

وهناك فروق منها:

3 -

في مسمى الإيمان: الجهم بن صفوان مق المرجئة الغلاة، والمعتزلة وعيدية.

4 -

في مسألة حكم مرتكب الكبيرة: الجهم بن صفوان يرى أن الإيمان هو محض المعرفة، وأنه لا يضر مع الإيمان ذنب، والمعتزلة ترى أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار.

5 -

في مسألة الأسماء والصفات: أَنْكَرَت الْجَهْمِيَّة أَسْمَاءَ الله وصفاتِه، وأنكرت المعتزلة صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى دون الأسماء.

ص: 748

النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30]، هُم الْمَلَكِيَّةُ، وَقَوْلِهِ:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73] هُم النسطورية.

وَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ بَلِ الْفِرَقُ الثَّلَاثُ تَقُولُ الْمَقَالَاتِ الَّتِي حَكَاهَا اللهُ عز وجل عَنِ النَّصَارَى، فَكُلُّهُم يَقُولُونَ: إنَّهُ اللهُ، ويقُولُونَ: إنَّهُ ابْنُ اللهِ، وَكَذَلِكَ فِي أَمَانَتِهِمْ الَّتِي هُم مُتَفِقُونَ عَلَيْهَا يَقُولُونَ: إلَهٌ حَقٌ مِن إلَهٍ حَقٍّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ:{ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة: 116]. [17/ 274]

738 -

الْجَهْمِيَّة مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ يَنْفُونَ الْجِسْمَ حَتَّى يَتَوَهَّمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ قَصْدَهُم التَّنْزِيهُ، وَمَقْصُودُهُم بِذَلِكَ أَنَّ اللهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْقُرْآنِ وَلَا غَيْرِهِ؛ بَل خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ يَقُومُ بِهِ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا حَيَاةٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ. [17/ 300]

739 -

الرُّسُلُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِم تُخْبِرُ بِمَحَارَاتِ الْعُقُولِ لَا تُخْبِرُ بِمُحَالَاتِ الْعُقُولِ.

فَهَذَا سَبِيلُ الْهُدَى وَالسُّنَّةِ وَالْعِلْمِ، وَأَمَّا سَبِيلُ الضَّلَالِ وَالْبِدْعَةِ وَالْجَهْلِ فَعَكْسُ ذَلِكَ: أَنْ يَبْتَدِعَ بِدْعَةً بِرَأيِ رِجَالٍ وَتَأْوِيلَاتِهِمْ، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ تبَعًا لَهَا، ويُحَرِّفُ أَلْفَاظَهُ وَيتَأَوَّلُ عَلَى وَفْقِ مَا أَصَّلُوهُ.

وَكَثِيرٌ مِنْهُم إنَّمَا يَنْظُرُ مِن تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ فِيمَا يَقُولُهُ مُوَافِقُوهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، فَيَتَأَوَّلُ تَأْوِيلَاتِهِمْ؛ فَالنُّصُوصُ الَّتِي تُوَافِقُهُم يَحْتَجُّونَ بِهَا، وَاَلَّتِي تُخَالِفُهُم يَتَأوَّلُونَهَا.

وَكَثِيرٌ مِنْهُم لَمْ يَكُن عُمْدَتُهُم فِي نَفْسِ الْأَمْرِ اتِّبَاعَ نَصٍّ أَصْلًا، وَهَذَا فِي الْبِدَعِ الْكِبَارِ مِثْل الرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّة، فَإِنَّ الَّذِي وَضَعَ الرَّفْضَ كَانَ زِنْدِيقًا ابْتَدَأَ تَعَمُّدَ الْكَذِبِ الصَّرِيحِ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ كَذِبٌ؛ كَاَلَّذِينَ ذَكَرَهُم اللهُ مِن الْيَهُودِ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُم يَعْلَمُونَ، ثُمَّ جَاءَ مَن بَعْدَهُم مَن ظَنَّ صِدْقَ مَا

ص: 749

افْتَرَاهُ أُولَئِكَ وَهُم فِي شَكٍّ مِنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)} [الشورى: 14].

وَهَذَا بِخِلَافِ بدْعَةِ الْخَوَارج؛ فَإِنَّ أَصْلَهَا مَا فَهِمُوهُ مِن الْقُرْآنِ فَغَلِظُوا فِي فَهْمِهِ، وَمَقْصُودُهُم اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا لَيْسُوا زَنَادِقَةً.

وَكَذَلِكَ الْقَدَرِيَّةُ أَصْلُ مَقْصُودِهِمْ تَعْظِيمُ الْأَمْرِ وَالنَّهْي وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ الَّذِي جَاءَت بِهِ الرُّسُلَ، ويتَّبِعُونَ مِنَ الْقُرْآنِ مَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ.

فَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَأَمْثَالُهُ لَمْ يَكُن أَصْلُ مَقْصُودِهِمْ مُعَانَدَةَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم كَاَلَّذِي ابْتَدَعَ الرَّفْضَ.

وَكَذَلِكَ الْإِرْجَاءُ إنَّمَا أَحْدَثَهُ قَوْمٌ قَصْدُهُم جَعْلُ أَهْلِ الْقِبْلَةِ كُلِّهِمْ مُؤمِنِينَ لَيْسُوا كُفَّارًا، قَابَلُوا الْخَوَارجَ وَالْمُعْتَزِلَةَ، فَصَارُوا فِي طَرَفٍ آخَرَ.

وَكَذَلِكَ التَّشَيُّع الْمُتَوَسِّطُ -الَّذِي مَضْمُونُهُ تَفْضِيلُ عَلِيٍّ وَتَقْدِيمُهُ عَلَى غَيْرِهِ وَنَحْو ذَلِكَ- لَمْ يَكُن هَذَا مِن إحْدَاثِ الزَّنَادِقَةِ، بِخِلَافِ دَعْوَى النَّصِّ فِيهِ وَالْعِصْمَةِ، فَإِنَّ الَّذِي ابْتَاَع ذَلِكَ كَانَ مُنَافِقًا زِنْدِيقًا.

وَأَمَّا مَن يَقُولُ بِبَعْضِ التَّجَهُّم كَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ، الَّذِينَ يَتَدَيَّنُونَ بِدِينِ الْإِسْلَامِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، فَهَؤُلَاءِ مِن أمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِلَا رَيْبٍ.

وَكَذَلِكَ مَن هُوَ خَيْرٌ مِنْهُم كَالْكُلَّابِيَة والكَرَّامِيَة. [17/ 444 - 448]

* * *

(دُخُولُ الْجِنِّ فِي بَدَنِ الْمَصْرُوعِ، ومُعَالَجَةُ الْمَصْرُوعِ بالرُّقَي وَالتَّعَوُّذَاتِ)

740 -

أَنْكَرَ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ؛ كالجبائي وَأَبِي بَكرٍ الرازي

(1)

وَغَيْرِهِمَا دُخُولَ الْجِنِّ فِي بَدَنِ الْمَصْرُوعِ، وَلَمْ يُنْكِرُوا وُجُودَ الْجِنِّ.

(1)

محمد بن يحيى بن زكريا الرازي، يكنى بأبي بكر الرازي؛ كان من الأطباء الفارسيين المشهورين، وقد قام بالكتابة في مجال الأديان، وانتقد بعضها في حياته.

ص: 750

وَلهَذَا ذَكَرَ الْأَشْعَرِيُّ فِي مَقَالَاتِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّهُم يَقُولُونَ: إنَّ الْجِنِّيَّ يَدْخلُ فِي بَدَنِ الْمَصْرُوعِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275].

وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ: قُلْت لِأَبِي: إنَّ قَوْمًا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْجِنّيَّ لَا يَدْخُلُ فِي بَدَنِ الْإِنْسِيِّ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ يَكْذِبُونَ، هُوَ ذَا يَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِهِ. [19/ 12]

741 -

ليس الجن كالإنس في الحد والحقيقة؛ لكنهم مشاركوهم في جنس التكليف بالأمر والنهي والتحليل والتحريم بلا نزاع أعلمه بين العلماء. [المستدرك 2/ 24]

742 -

وُجُودُ الْجِنِّ ثَابِتٌ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا، وَكَذَلِكَ دُخولُ الْجِنِّيِّ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ ثَابِتٌ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ قَالَ اللهُ تَعَالَى:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} .

وَقَالَ عَبْدُ اللهِ ابْنِ الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَل: قُلْت لِأَبِي: إنَّ أَقْوَامًا يَقُولُونَ: إنَّ الْجِنِّيَّ لَا يَدْخُل فِي بَدَنِ الْمَصْرُوعِ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ يَكْذِبُونَ، هَذَا يَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِهِ.

وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَمْرٌ مَشْهُورٌ، فَإِنهُ يَصْرَعُ الرَّجُلَ فَيَتَكَلَّمُ بِلِسَانٍ لَا يَعْرِف مَعْنَاهُ، وَيُضْرَبُ عَلَى بَدَنِهِ ضَرْبًا عَظِيمًا لَو ضرِبَ بِهِ جَمَلٌ لَأَثَّرَ بِهِ أَثَرًا عَظِيمًا.

وَالْمَصْرُوعُ مَعَ هَذَا لَا يُحِسُّ بِالضَّرْبِ وَلَا بِالْكَلَامِ الَّذِي يَقُولُهُ

وَيُجْرِي غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ مَن شَاهَدَهَا أَفَادَتْهُ عِلْمًا ضَرُورُّيا بِأَنَّ النَّاطِقَ عَلَى لِسَانِ الْإِنْسِيِّ وَالْمُحَرِّكَ لِهَذِهِ الْأَجْسَامِ جِنْسٌ آخَرُ غَيْرُ الْإِنْسَانِ.

وَلَيْسَ فِي أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَن يُنْكِرُ دُخُولَ الْجِنِّيِّ فِي بَدَنِ الْمَصْرُوعِ وَغَيْرِهِ. [24/ 276 - 277]

ص: 751

743 -

وَأَمَّا مُعَالَجَةُ الْمَصْرُوعِ بِالرُّقَى وَالتَعَوُّذَاتِ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ:

أ - فَإِنْ كَانَتِ الرُّقَى وَالتَّعَاوِيذُ مِمَّا يُعْرَفُ مَعْنَاهَا، وَمِمَّا يَجُوزُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَتَكلَّمَ بِهَا الرَّجُلُ دَاعِيًا اللهَ ذَاكِرًا لَهُ وَمُخَاطِبًا لِخَلْقِهِ وَنَحْو ذَلِكَ: فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرْقَى بِهَا الْمَصْرُوعُ وُيعَوَّذَ، فَإِنَّهُ قَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" عَنِ النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"أَنَّهُ أَذِنَ فِي الرُّقَى مَا لَمْ تَكُنْ شِرْكًا"

(1)

.

ب - وَإِن كَانَ فِي ذَلِكَ كَلِمَاتٌ مُحَرَّمَةٌ؛ مِثْل أنْ يَكُونَ فِيهَا شِرْكٌ، أَو كَانَت مَجْهُولَةَ الْمَعْنَى، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ فِيهَا كُفْرٌ: فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَرْقِيَ بِهَا وَلَا يعزمَ وَلَا يُقْسِمَ، وَإِن كَانَ الْجِنِّيُّ قَد يَنْصَرِفُ عَنِ الْمَصْرُوعِ بِهَا فَإِنَّ مَا

حَرَّمَة اللهُ وَرَسُولُهُ ضَرَرُهُ أَكْثَرُ مِن نَفْعِهِ. [24/ 277 - 278]

744 -

الرُّقْيَةُ أَعْظَمُ الأدْوَيةِ؛ فَإِنَّهَا دَوَاءٌ رُوحَانِيٌّ

(2)

. [4/ 265]

745 -

يُسْتَحَبُّ وَقَد يَجِبُ أَنْ يُذَبَّ عَنِ الْمَظْلُومِ وَأَنْ يُنْصَرَ؛ فَإِنَّ نَصْرَ الْمَظْلُومِ مَأْمُورٌ بِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ.

(1)

صحَّحه الألباني في صحيح أبي داود (3886).

(2)

الرقية لا تحتاج إلى رجال معيّنين، بل ينبغي لكل من ألَمَّ به ألَمٌ أو ضيق صدر أو مرض أن يرقي نفسه.

ولقد عزف الكثير من الناس في الآونة الأخيرة من الرقية بسبب بعض الرقاة الجهلة، الذين اتخذوا مهنة القراءة تجارة وسمعة، على حساب سلامة الناس وصحتهم.

فهم يبيعون لهم الأوهام والأسقام بمبالغ كثيرة.

حيث يأتي المريضُ المسكين، الذي يشك أنه مريضٌ بالمس أو بالسحر، إلى رجل منهم فيشكو إليه حاله، فيبيعُه الوهم، وينفخُ في رُوعه الوَهَن، عن طريق إقناعه بأنه مريض، ثم يطلب منه مبلغًا من المال مباشرة، أو بشراء عُلَب بمبالغ ضخمة.

ومن خلالِ طريقةِ رقيته له، التي يرفع فيها صوته، ويُقطب وجهه، ويُخشن صوته: يُوهمه بانه مريض إلى النخاخ، وأنه مصاب بالمس والعين والسحر وكل الأدواء، ولا سبيل لشفائه إلا عن طريقه، لا يُعلّقونه بالله.

ولا يعلِّمونه الفأل وحسن الظن، ويُنفرون ولا يُبشرون، خلافًا لِمَا أوصاهم به نبينا صلى الله عليه وسلم.

وليتهم يأكلون أموالهم بالباطل أو يسرقونها فحسب، ولكنهم يُوقعونهم في خسارةٍ هي أعظمُ من خسارة أموالهم، وهي خسارةُ عقولِهِم وصِحَّتِهِم وحيَاتِهِم.

ص: 752

لَكِنْ يُنْصَرُ بِالْعَدْلِ كَمَا أَمَرَ اللهُ وَرَسُولُه؛ مِثْل الْأَدْعِيَةِ وَالْأَذْكَارِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمِثْل أَمْرِ الْجِنِّيِّ وَنَهْيِهِ، كَمَا يُؤْمَرُ الْإِنْسِيُّ وَيُنْهَى، وَيجُوزُ مِن ذَلِكَ مَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي حَقِّ الْإِنْسِيِّ؛ مِثْل أَنْ يَحْتَاجَ إلَى انْتِهَارِ الْجِنِّيِّ وَتَهْدِيدِهِ وَلَعْنِهِ وَسَبِّهِ؛ كَمَا ثَبَتَ في "الصَّحِيحَيْنِ" عَن أبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّ الشَّيْطَانَ عَرَض علِي فَشَدَّ عَلَيَّ لِيَقْطَعَ الصَّلَاةَ عَلَيَّ، فَأَمْكَنَنِي اللهُ مِنْهُ، فَذَعَتُّهُ"

(1)

.

وَقَد تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي شَيْطَانِ الْجِنِّ إذَا مَرَّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي هَل يَقْطَعُ؟

عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: يَقْطَعُ لِهَذَا الْحَدِيثِ؛ وَلِقَوْلِهِ لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّ مُرُورَ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ يَقْطَعُ لِلصَّلَاةِ: "الْكلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ"

(2)

فَعَلَّلَ بِأَنَّهُ شَيْطَانٌ، وَهُوَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ الْكَلْبَ الْأَسْوَدَ شَيْطَانُ الْكِلَابِ، وَالْجِنُّ تَتَصَوَّرُ بِصُورَتِهِ كَثِيرًا، وَكَذَلِكَ صُورَةُ الْقِطِّ الْأَسْوَدِ؛ لِأَنَّ السَّوَادَ أَجْمَعُ لِلْقُوَى الشَّيْطَانِيَّةِ مِن غَيْرِهِ، وَفِيهِ قُوَّةُ الْحَرَارَةِ

(3)

. [19/ 49 - 52]

746 -

لَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَدْفَعَ كُلَّ ضَرَرٍ بِمَا شَاءَ، وَلَا يَجْلِبُ كُلَّ نَفْعٍ بِمَا شَاءَ؛ بَل لَا يَجْلِبُ النَّفْعَ إلَّا بِمَا فِيهِ تَقْوَى اللهِ، وَلَا يَدْفَعُ الضَّرَرَ إلَّا بِمَا فِيهِ تَقْوَى اللهِ. [24/ 280]

747 -

أَوَّلُ الْبِدَعِ ظُهُورًا فِي الْإِسْلَامِ وَأَظْهَرُهَا ذَمًّا فِي السُّنَّةِ وَالْآثَارِ: بِدْعَةُ الحرورية الْمَارِقَةِ. [19/ 71]

748 -

الصَّابِئُونَ: مِنْهُم مَن يَعْبُدُهُ سبحانه وتعالى مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، وَمِنْهُم مَن يُشْرِكُ بِهِ، وَالْحُنَفَاءُ كُلُّهُم يُخْلِصُ لَهُ الدِّينَ؛ فَلِهَذَا صَارَ الصَّابِئُونَ فِيهِمْ مَن يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيعْمَلُ صَالِحًا، بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمَجُوس. [20/ 71]

(1)

رواه البخارى (1210).

ومعنى: فَذَعَتُّهُ: أَيْ: خَنَقْتُهُ.

(2)

رواه مسلم (510).

(3)

لم يذكر القول الثاني رحمه الله تعالى.

ص: 753

749 -

مُقْتَصِدَةُ الْمُرْجِئَةِ -مَعَ أَنَّ بِدْعَتَهُم مِن بِدَعِ الْفُقَهَاءِ- لَيْسَ فِيهَا كُفْرٌ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَمَن أَدْخَلَهُم مِن أَصْحَابِنَا فِي الْبِدَعِ الَّتِي حُكي فِيهَا التَّكْفِيرُ وَنَصَرَهُ فَقَد غَلِطَ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُم لَا يَرَوْنَ إدْخَالَ إلْأَعْمَالِ أَو الْأَقْوَالِ فِي الْإِيمَانِ. [20/ 104]

750 -

وَأَهْلُ الْبِدَعِ فِي غَيْرِ الْحَنْبَلِيَّةِ أَكْثَرُ مِنْهُم فِي الْحَنْبَلِيَّةِ بِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ؛ لِأَنَّ نصُوصَ أَحْمَد فِي تَفَاصِيلِ السُّنَّةِ وَنَفْيِ الْبِدَعِ أَكْثَرُ مِن غَيْرِهِ بِكَثِيرِ.

فَالْمُبْتَدِعَةُ الْمُنْتَسِبُونَ إلَى غَيْرِهِ إذَا كَانوا جهمية أَو قَدَرِيَّةً أَو شِيعَةً أَو مُرْجِئَةً: لَمْ يَكُن ذَلِكَ مَذْهَبًا لِلْإِمَامِ إلَّا فِي الْإِرْجَاءِ؛ فَإِنَّهُ قَوْلُ أَبِي فُلَانٍ

(1)

، وَأَمَّا بَعْضُ التَّجَهُّمِ فَاخْتَلَفَ النَّقْلُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ أُصُولَهُ لَا تَنْفِي الْبِدَعَ وَإِن لَمْ تُثْبِتْهَا.

وَفِي الْحَنْبَلِيَّةِ أَيْضًا مُبْتَدِعَةٌ؛ وَإِن كَانَتِ الْبِدْعَةُ فِي غَيْرِهِمْ أَكْثَرَ، وَبِدْعَتُهُم غَالِبًا فِي زِيادَةِ الْإِثْبَاتِ فِي حَقِّ اللهِ، وَفِي زِيَادَةِ الْإِنْكَارِ عَلَى مُخَالِفِهِمْ بِالتَّكْفِيرِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ أَحْمَد كَانَ مُثْبِتًا لِمَا جَاءَت بِهِ السُّنَّةُ؛ مُنْكِرًا عَلَى مَن خَالَفَهَا، مُصِيبًا فِي غَالِبِ الْأُمُورِ، مُخْتَلَفًا عَنْهُ فِي الْبَعْضِ، وَمُخَالَفًا فِي الْبَعْضِ

(2)

. [20/ 186]

751 -

كُلُّ طَائِفَةٍ مُمْتَنِعَةٍ عَن شَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ مِن شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ، أَو الْبَاطِنَةِ الْمَعْلُومَةِ: يَجِبُ قِتَالُهَا.

فَلَو قَالُوا: نَشْهَدُ وَلَا نُصَلِّي: قُوتِلُوا حَتَّى يُصَلُّوا.

وَلَو قَالُوا: نُصَلِّي وَلَا نُزَكِّي: قُوتِلُوا حَتَّى يُزَكُّوا

؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]. [22/ 51]

(1)

لعله يقصد أبا حنيفة رحمه الله، كما ذكر ذلك غير واحد.

(2)

أي: خالفه غيرُه من علماء السُّنَّة، ولم يذكر أمثلةً ذلك، وربما هذا في المسائل الفقهية، أما في المنهج والعقيدة فلم يُخطئ فيها.

ص: 754

752 -

جَمِيعُ أَهْلِ الْبِدَعِ قَد يَتَمَسَّكُونَ بِنُصُوص؛ كَالْخَوَارجِ، وَالشِّيعَةِ، وَالْقَدَرِيَّةِ، وَالرَّافِضَةِ، وَالْمُرْجِئَةِ، وَغَيْرِهِمْ، إلَّا الْجَهْمِيَّة؛ فَإِنَّهُم لَيْسَ مَعَهُم عَن الْأَنْبِيَاءِ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تُوَافِقُ مَا يَقُولُونَهُ مِن النَّفْيِ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وُيوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ: إنَّ الْجَهْمِيَّة خَارِجُونَ عَن الثَّلَاثِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً.

وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ أَحْمَد، ذَكَرَهُمَا أَبُو عَبْدِ اللهِ بْنُ حَامِدٍ وَغَيْرُهُ. [5/ 227 - 228]

753 -

تَجِدُ الْمُعْتَزِلَةَ وَالْمُرْجِئَةَ وَالرَّافِضَةَ وَغَيْرَهُم مِن أَهْلِ الْبِدَعِ: يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِرَأيِهِمْ وَمَعْقُولِهِمْ وَمَا تَأَوَّلُوهُ مِن اللُّغَةِ؛ وَلِهَذَا تَجِدُهُم لَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى أَحَادِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَعْتَمِدُونَ لَا عَلَى السُّنَّةِ وَلَا عَلَى إجْمَاعِ السَّلَفِ وَآثَارِهِمْ، وَإِنَّمَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى الْعَقْلِ وَاللُّغَةِ، وَتَجِدُهُم لَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورَةِ وَالْحَدِيثِ وَآثَارِ السَّلَفِ، وَإِنَّمَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى كُتبِ الْأدَبِ وَكُتُبِ الْكَلَامِ الَّتِي وَضَعَتْهَا رُؤُوسُهُمْ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْمَلَاحِدَةِ.

وَإِذَا تَدَبَّرْتَ حُجَجَهُم وَجَدْت دَعَاوَى لَا يَقُومُ عَلَيْهَا دَليلٌ. [7/ 119]

754 -

وَلِهَذَا يُقَالُ: ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ مَا لَهَا مِن أَصْلٍ: (بَابُ الْنُصَيْرِيَّة) و (مُنْتَظَرُ الرَّافِضَةِ) و (غَوْثُ الْجُهَّالِ)، فَإِنَّ الْنُصَيْرِيَّة تَدَّعِي فِي الْبَابِ الَّذِي لَهُم مَا هُوَ مِن هَذَا الْجِنْسِ أَنَّهُ الَّذِي يُقِيمُ الْعَالَمَ فَذَاكَ شَخْصُهُ مَوْجُودٌ، وَلَكِنَّ دَعْوَى الْنُصَيْرِيَّة فِيهِ بَاطِلَةٌ، وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمُنْتَظَرُ وَالْغَوْثُ الْمُقِيمُ بِمَكَّةَ وَنَحْوُ هَذَا: فَإِنَّهُ بَاطِلٌ لَيْسَ لَهُ وُجُودٌ. [27/ 99]

755 -

هَؤُلَاءِ [أي: الخوارج] أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقِتَالِهِمْ؛ لِأَنَّ مَعَهُم دِينًا فَاسِدًا لَا يَصْلُحُ بِهِ دُنْيَا وَلَا آخِرَةٌ كَثِيرًا

(1)

. [28/ 291]

* * *

(1)

وهذا هو الواقع قديمًا وحديثًا، فلم يتمكنوا في بلدٍ فصلح حاله، وساد العدل فيه، وطاب معاش أهله ودنياهم؛ لأنّ غلوهم في دينهم أفسد عليهم نظرتهم للحياة وللناس، وأفسد عليهم النظر في مقاصد الشريعة، التي لا يقوم الدين إلا به.

ص: 755

(الْقَوْل الَّذِي لَمْ يوَافِق الْخَوَارِجَ وَالْمُعْتَزِلَةَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِن أَهْلِ السُّنَّةِ: هُوَ الْقَوْلُ بِتَخْلِيدِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فِي النَّارِ)

756 -

يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي لَمْ يُوَافِق الْخَوَارِجَ وَالْمُعْتَزِلَةَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِن أَهْلِ السُّنَّةِ: هُوَ الْقَوْلُ بِتَخْلِيدِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فِي النَّارِ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِن الْبِدَعِ الْمَشْهُورَةِ، وَقَد اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُم بِإِحْسَان وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ أَحَدٌ مِمَن فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِن إيمَانٍ.

وَقَد نَقَلَ بَعْضُ النَّاسِ عَن الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ خِلَافًا؛ كَمَا رُوِيَ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْقَاتِلَ لَا تَوْبَةَ لَة، وَهَذَا غَلَطٌ عَلَى الصَّحَابَةِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُم أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا يَشْفَعُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ، وَلَا قَالَ: إنَّهُم يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ.

وَالنِّزَاعُ فِي التَّوْبَةِ غَيْرُ النِّزَاعِ فِي التَّخْلِيدِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَتْلَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ آدَمِيِّ، فَلِهَذَا حَصَلَ فِيهِ النِّزَاعُ. [7/ 222]

* * *

(نسب العبيدية وكفرُهم)

(1)

757 -

كَانَ بَنُو عُبَيْدِ اللهِ .........................................

(1)

قامت الدولةُ العبيدية الرافضية عام ستٍّ وتسعين وَمِائَتَيْنِ، في الشمال الأفريقي، بعد سقوط القيروان في تونسَ في أيديهِم، وقادوا الجيوش لقتال المسلمين أهلِ السُّنَّة.

حتى دَخَلَ أبُو الْحَسَنِ جَوْهَرٌ، فِي جَيْشِ كَثِيفٍ، مِن جِهَةِ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ إِلَى دِيَارِ مِصْرَ، سنة ثمانٍ وخمسين وثلائمائة، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، خُطِبَ لِلْمُعِز الْفَاطِمِيِّ عَلَى مَنَابِرِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَسَائِرِ أعْمَالِهَا، وَأَمَرَ جَوْهَرٌ الْمُؤَذِّنِينَ بِالْجَامِع الْعَتِيقِ، وَبِجَامِعِ ابْنِ طُولُونَ، أنْ يُؤَذِّنُوا بِحَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ.

ثم أَرْسَلَ جَوْهَرٌ هذا الرافضيُّ الخبيث، جَيْشًا كَثِيفًا إِلَى الشامِ، فاحتلها وخُطِبَ لِلْمُعِزِّ بِدِمَشْقَ.

وَاسْتَقَرَّتْ يَدُ الْفَاطِمِيِّينَ عَلَى دِمَشْقَ، فِي سَنَةِ سِتِّينَ وثلاثمائة، وَأُذِّنَ فِيهَا: حَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ، أكْثَرَ مِن سَبْعِينَ سَنَة، وَكُتِبَتْ لَعْنَةُ الشَّيْخَيْنِ أبي بكرٍ وعمرَ رضي الله عنهما، وَلَعْنُ مَن لَعَنَهُمَا-، عَلَى أَبْوَابِ الْجَوَامِعِ بِهَا وَأَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ. يُنظر: البداية النهاية (11/ 134). =

ص: 756

الْقَدَّاحِ

(1)

الْمَلَاحِدَةُ يُسَمَّوْنَ بِهَذَا الِاسْمِ، لَكنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا فِي الْبَاطِنِ مَلَاحِدَةً زَنَادِقَةً مُنَافِقِينَ، وَكَانَ نَسَبُهُم بَاطِلًا كَدِينِهِمْ؛ بِخِلَافِ الْأُمَوِيِّ وَالْعَبَّاسِيِّ، فَإِنَّ كِلَاهُمَا نَسَبُهُ صَحِيحٌ، وَهُم مُسْلِمُونَ كَأَمْثَالِهِمْ مِن خُلَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ.

فَلَمَّا ظَهَرَ النِّفَاقُ وَالْبِدَعُ وَالْفُجُورُ الْمُخَالِفُ لِدِينِ الرَّسُولِ سُلِّطَتْ عَلَيْهِم الْأَعْدَاءُ.

فَكَانَ الْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ وَالْجِهَادُ عَن دِينِهِ سَبَبًا لِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

= واسْتفحل شرّ الرافضة، واحتلوا كثيرًا عن مُدن أهل السُّنَّة والجماعة، وعظم خطرهم، وقويتْ شوكتُهم، حتَّى خُطِبَ لِلْمُعِز الْفَاطِمِيِّ بِالْحَرَمَيْنِ: مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ النَّبوِيَّةِ، وذلك فِي سَنَةِ ثلاثٍ وسِتِّينَ وثلاثمائة.

وفي عهدهم اسْتولى النصارى على القدس، واسْتولوا على كثيرٍ من ديار المسلمين.

ثم اسْتمرّ إجرام الرافضة لعقودٍ طويلة، ذاق المسلمون منهمْ صنوفَ الأذى والويلات، واقْتادوا آلاف الأبرياءِ للمشانقِ والمعتقلات، ونشروا البدعة وقمعوا السُّنَّة.

ثم إنَّ الأمة حينما عظم البلاء عليها، وازدادَ الظلم على أفرادِها، راجعوا أنْفُسَهم ودينهم وربَّهم، وبدؤوا يَلْتَفِتُون يمنةً ويَسرةً، يبحثون عن قائدٍ يُنقذهم من هذا الذل الذي لا يُطاق، فغيروا ما بأنفسهم، فجرتْ سُنَّةُ الله بتغيير حالهم.

فأقام الله الدولة الأيوبية، فجمعوا الأمة على عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة، وقاتلوا الرافضة المحتلين ببسالة، فزحفوا إلى تونس والْمَغرب، فأبادوهم وطردوهم، حتى بقيتْ آخر قلعةٍ لهم، وهي مصرُ السنيَّة، التي جثم الروافضُ على صدور المصريين ما يزيدُ على قرنين من الزمان، فأنهى الله تعالى دولتهم، وأزال مُلكهم على يدِ المجاهد العظيم: صلاحِ الدينِ رحمه الله، وذلك محرم، عام خمسمائةٍ وسبعةٍ وسِتِّين للهجرة، وكان آخرُ خُلفائهم العاضد، قال ابن كثير رحمه الله: وكانت سيرتُه مذمومة، وكان شيعيًّا خبيثًا، لو أمكنه قَتَلَ كل من قَدِرَ عليه من أهل السُّنَّة.

ولقد فرح المسلمون بزوال الدولة الفاطمية فرحًا عظيمًا، عمَّتْ أرجاء الأمَّةِ الإسلامية المكلومة، "وزُيِّنَتْ عاصمةُ الخلافة العباسية بَغْدَاد، وَغُلِّقَتِ الْأسْوَاقُ، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَكَانَتِ الْخُطْبَةُ للخليفة العباسي قَد قُطِعَتْ مِن دِيَارِ مِصْرَ، سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، حِينَ تَغَلَّبَ الْفَاطِمِيُّونَ عَلَيْهَا، أَيَّامَ الْمُعِز الْفَاطِمِيِّ بَانِي الْقَاهِرَةِ، إِلَى هَذَه السنة، وَمُدةُ ذلك مِائَتَان وَثَمَانُ سِنِنَ". اهـ. البداية النهاية (11/ 350).

هذه الْمُدةُ لحكمهم مِصْر فقط، أمَّا منذ بدايةِ حكمهم لبلاد المسلمين الأخرى، فمدته مِائَتَان وسبعون عامًا.

(1)

الذين أعلنوا الخلافة العبيدية الرافضية الباطنية.

ص: 757

وَبِالْعَكْسِ: الْبِدَعُ وَالْإِلْحَادُ وَمُخَالَفَةُ مَا جَاءَ بِهِ سَبَبٌ لِشَرِّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. [13/ 178 - 179]

758 -

هَذَا الْمَشْهَدُ [أي: مشهد عليّ رضي الله عنه] إنَّمَا أُحْدِثَ فِي دَوْلَةِ الْمَلَاحِدَةِ دَوْلَةِ بَنِي عُبَيْدٍ، وَكَانَ فِيهِمْ مِنَ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ وَمُعَاضَدَةِ الْمَلَاحِدَةِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ، وَلِهَذَا كَانَ فِي زَمَنِهِمْ قَد تَضَعْضَعَ الْإِسْلَامُ تَضَعْضُعًا كَثِيرًا، وَدَخَلَت النَّصَارَى إلَى الشَّامِ.

فَإِنَّ بَنِي عُبَيْدٍ مَلَاحِدَةٌ مُنَافِقُونَ، لَيْسَ لَهُم غَرَضٌ فِي الْإِيمَانِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا فِي الْجِهَادِ فِي سَبيلِ اللهِ؛ بَل فِي الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَمُعَادَاةِ الْإِسْلَامِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَأَتْبَاعُهُم كُلُّهُم أَهْلُ بِدَعٍ وَضَلَالٍ، فَاسْتَوْلَتْ النَّصَارَى فِي دَوْلَتِهِمْ عَلَى أَكْثَرِ الشَّام، ثُمَّ قَيَّضَ اللهُ مِن مُلُوكِ السُّنَّةِ مِثْل: نُورِ الدِّينِ وَصَلَاحِ الدِّينِ وَإِخْوَتِهِ وَاتْبَاعِهِمْ فَفَتَحُوا بِلَادَ الْإِسْلَامِ، وَجَاهَدُوا الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ. [17/ 501]

759 -

بَنُو عُبَيْدٍ -الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ القداح- الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّهُم فَاطِمِيُّونَ وَبَنَو الْقَاهِرَةَ وَبَقَوا مُلُوكًا: يَدَّعُونَ أَنَّهُم عَلَوِيُّونَ نَحْو مِائَتَيْ سَنَةٍ، وَغَلَبُوا عَلَى نِصْفِ مَمْلَكَةِ الْإِسْلَامِ، حَتَّى غَلَبُوا فِي بَعْضِ الْأوْقَاتِ عَلَى بَغْدَادَ، وَكَانُوا كَمَا قَالَ فِيهِمْ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ: ظَاهِرُ مَذْهَبِهِم الرَّفْضُ وَبَاطِنُهُ الْكُفْرُ الْمَحْضُ.

وَقَد صَنَّفَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ ابْنُ الطَّيِّبِ كِتَابَهُ الَّذِي سَمَّاهُ "كَشْفُ الْأَسْرَارِ وَهَتْكُ الْأَسْتَارِ" فِي كَشْفِ أَحْوَالِهِمْ.

وَكَذَلِكَ مَا شَاءَ الله مِن عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ؛ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ الشَّهْرَستَانِي.

وَأَهْلُ الْعِلْمِ كُلُّهُم يَعْلَمُونَ أَنَّهُم لَمْ يَكُونُوا مِن وَلَدِ فَاطِمَةَ؛ بَل كَانُوا مِن ذُرِّيَّةِ الْمَجُوسِ، وَقِيلَ: مِن ذُرِّيَّةِ يَهُودِيِّ، وَكَانُوا مِن أَبْعَدِ النَّاسِ عَن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سُنَّتِهِ وَدِينِهِ، بَاطِنُ دِينِهِمْ مُرَكَّبٌ مِن دِينِ الْمَجُوسِ وَالصَّابِئِينَ،

ص: 758

وَمَا يُظْهِرُونَ مِن دِينِ الْمُسْلِمِينَ: هُوَ دِينُ الرَّافِضَةِ، فَخِيَارُ الْمُتَدَيِّنِينَ مِنْهُم هُم الرَّافِضَةُ، وَهُم جُهَّالُهُم وَعَوَامُّهُمْ.

وَكُلُّ مَن دَخَلَ مَعَهُم يَظُنُّ أَنَّهُ مُسْلِمٌ وَيعْتَقِدُ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ حَقٌّ، وَأَمَّا خَوَاصُّهُم مِن مُلُوكِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُم خَارِجُونَ مِن دِينِ الْمِلَلِ كُلّهمْ مِن دِينِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَأَقْرَبُ النَاسِ إلَيْهِم الْفَلَاسِفَةُ، وَإِن لَمْ يَكُونُوا أَيْضًا عَلَى قَاعِدَةِ فَيْلَسُوفٍ مُعَيَّنٍ.

وَلِهَذَا انْتَسَبَ إلَيْهِم طَوَائِفُ الْمُتَفَلْسِفَةِ فَابْنُ سِينَا وَأَهْلُ بَيْتِهِ مِن أَتْبَاعِهِمْ، وَابْنُ الْهَيْثَمِ وَأَمْثَالُهُ مِن أَتْبَاعِهِمْ.

وَمِنْهُم الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَأَهْلُ دَارِ الدَّعْوَةِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ. [27/ 174 - 175]

* * *

(ذم الرافضة وذكرُ ضلالاتهم)

(1)

(ضلال الرافضة وأصل فى دينهم)

760 -

النُّصوصُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْخَوَارجِ قَد أَدْخَلَ فِيهَا

(1)

الشيخ رحمه الله مع شدة نقده لمذهب الرافضة، وبيان ضلالاتهم ومُخالفتهم للكتاب والسُّنَة ولدين المسلمين، إلا أنه لم يُكفرهم، بل صرح بنفي كفرهم حيث قال في حديثه عن الْقَرَامِطَة: فَإِنَّهُم فِي الْبَاطِنِ كَافِرُونَ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ، يُخْفُونَ ذَلِكَ وَيكتُمُونَهُ عَن غَيْرِ مَن يَثقُونَ بِهِ، لَا يُظْهِرُونَهُ كَمَا يُظْهِرُ أَهْلُ الْكِتَابِ دِينَهُمْ؛ لِأنَّهُم لَو أَظْهَرُوهُ لنَفَرَ عَنْهُم جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْأرْضِ مِن الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَهُم يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَقَالَتِهِمْ وَمَقَالَةِ الْجُمْهُورِ، بَل -الرَّافِضَةُ الَّذِينَ لَيْسُوا زَنَادِقَةً كُفَّارًا- يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَقَالَتِهَا وَمَقَالَةِ الْجُمْهُورِ، وَيرَوْنَ كِتْمَانَ مَذْهَبِهِمْ، وَاسْتِعْمَالَ التَّقِيَّةِ، وَقَد لَا يَكونُ مِن الرَّافِضَةِ مَن لَهُ نَسَبٌ صَحِيحٌ مُسْلِمًا فِي الْبَاطِنِ وَلَا يَكُونُ زِنْدِيقًا، لَكِنْ يَكُونُ جَاهِلًا مُبْتَدِعًا.

وَإِذَا كَانَ هَؤلَاءِ مَعَ صِحَّةِ نَسَبِهِم وإِسْلَامِهِمْ يَكتُمُونَ مَا هُم عَلَيْهِ مِن الْبِدْعَةِ وَالْهَوَى لَكِنَّ جُمْهُورَ النَّاسِ يُخَالِفُونَهُمْ: فَكَيْفَ بِالْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ الَّذِينَ يُكَفرُهُم أَهْلُ الْمِلَلِ كُلَّهَا مِن الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؟. اهـ. (35/ 141).

قال العلَّامة محمد رشيد رضى عن الرافضة: إِنَّمَا هُمْ قَوْمٌ بُهْتٌ، يَجْحَدُونَ مَا يَعْتَقدُونَ، =

ص: 759

الْعُلَمَاءُ لَفْظًا أَو مَعْنَى مَن كَانَ فِي مَعْنَاهُم مِن أَهْلِ الْأَهْوَاءِ الْخَارِجِينَ عَن شَرِيعَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَل بَعْضُ هَؤُلَاءِ شَرٌ مِن الْخَوَارِج الحرورية؛ مِثْلُ الخرمية وَالْقَرَامِطَةِ وَالْنُصَيْريَّة وَكُلِّ مِن اعْتَقَدَ فِي بَشَرٍ أَنَّهُ إلَهٌ، أَو فِي غَيْرِ الأنْبِيَاءِ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَقَاتَلَ عَلَى ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ: فَهُوَ شَرٌّ مِن الْخَوَارِج الحرورية.

وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا ذَكَرَ الْخَوَارِج الحرورية؛ لِأَنَّهُم أَوَّلُ صِنْفٍ مِن أَهْلِ الْبِدَعِ خَرَجُوا بَعْدَهُ؛ بَل أَوَّلُهُم خَرَجَ فِي حَيَاتِهِ، فَذَكَرَهُم لِقُرْبِهِم مِن زَمَانِهِ كَمَا خَصَّ اللهُ

= وَيفْتَرُونَ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، وُيحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ كَالْيَهُودِ الْأوَّلينَ الَّذِينَ حَرَّفُوا الْبِشَارَاتِ بمُحَمَدٍ صلى الله عليه وسلم، وَكَدُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَالَّذِينَ وَضَعُوا لَهُمْ قَوَاعِدَ الرَّفْضِ وَخُطَطَ التَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ هُمْ مَلَاحِدَةُ الشِّيعَةِ الْبَاطِنِيَّةِ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ، الَّذِينَ كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِهَا إِلَى هَدْمِ هَذَا الدِّينِ، وَإِزَالَةِ مُلْكِ الْعَرَبِ؛ تَمْهِيدًا لإعَادَةِ الدِّيَانَةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَالسُّلَطَةِ الْكِسْرَوِيَّةِ، وَقَد وَضَعُوا لَهُمْ مِنَ الْأحَادِيثِ وَالْآثَارِ عَنْ أَئِمَّةِ آلِ الْبَيْتِ فِي تَحْرِيفِ الْقُرْآنِ وَالْغُلُوِّ فِيهِمْ، وَمِنْ قَوَاعِدِ الْبِدَع مَا كَانُوا بِهِ شَرَّ فِرَقِ الْمُبْتَدِعَةِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقَد بَرَعُوا فِي تَرْبِيَةِ عَوَامِّهِمْ عَلَى بِدَعِهِمْ بِمَا فِيهَا مِنَ الْغُلُوِّ فِي تَعْظِيمِ عَلِيٍّ وَآلِهِ بمَا هُوَ وَرَاءَ مُحِيطِ الدِّينِ وَالْعَقْلِ وَاللُّغَةِ، وَالْغُلُوِّ فِي بُغْضِ الصِّدِّيقِ وَالْفَارُوقِ وَذِي النُّورَيْنِ وَأَكَابِرِ الْمُهَاجِرِينَ وَجُمْهُورِ الصَّحَابَةِ، وَالطَّعْنِ فِيهِمْ بِمَا هُوَ وَرَاءَ مُحِيطِ الدِّين وَالْعَقْلِ وَاللُّغَةِ أَيْضًا. وَإِنَّمَا خَصُّو الْخَلِيفَتَيْنِ الْأوَّلَيْنَ مِنْهُمْ بِمَزِيدِ الْبُغْضِ وَالذَّمِّ؛ لِأنَّهُمَا هُمَا اللَّذَانِ جَهَّزَا الْجُيُوشَ وَسَيَّرُوهَا إِلَى بِلَادِ فَارِسَ فَفَتَحُوهَا وَأزَالُوا دِينَهَا وَمُلْكَهَا مِنَ الْوُجُودِ.

ألَا إِنَّ هَؤُلَاءِ الرَّوَافِضَ شَرٌّ مُبْتَدِعَةِ هَذِهِ الْمِلَّةِ، وَأَشَدُّهُمْ بَلَاءٌ عَلَيْهَا، وَتَفْرِيقًا لِكَلِمَتِهَا، وَقَد سَكَنَتْ رِيَاحُ التَّفْرِيقِ الَّتِي أَثَارَهَا غَيْرُهُمْ مِنَ الْفِرَقِ فِي الْإِسْلَامِ، وَبَقِيَتْ رِبحُهُمْ عَاصِفَةً وَحْدَهَا، فَهَؤُلَاءِ الْإِبَاضِيَّةُ لَا يَزَالُ فِيهِمْ كَثْرَةٌ وَإِمَارَةٌ، وَلَا نَرَاهُمْ يُثِيرُونَ بِهَا مِثْل هَذِهِ الْعَدَاوَةِ.

وَلَو كَانُوا يَقِفُونَ عِنْدَ حَدِّ تَفْضِيلِ عَلِيٍّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَالْقَوْلِ بِأَنَّهُ كَانَ أَحَقَّ بِالْخِلَافَةِ مِنْهُ لَهَانَ الْأمْرُ، وَأَمْكَنَ أنْ يَتَّحِدُوا مَعَ أهلِ السُّنَّةِ الَّذِينَ يَعْذُرُونَهُمْ بِاعْتِقَادِهِمْ هَذَا إِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ ضَرَرٌ، وَيعْتَصِفوا بِحَبْلِ اللهِ، وَلَا يَتَفَرَّقُوا هَذَا التَفَرُّقَ وَلَا يَتَعَادُّوا هَذَا التَّعَادِيَ اللَّذَيْنِ أَضْعَفَا الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، وَمَزَّقَا مُلْكَهُ كُل مُمَزَّقٍ، حَتَّى اسْتَذَل الْأجَانِبُ أكْثَرَ أَهْلِهِ، وَهُمْ لَا يَزَالُونَ يُشْغِلُونَ الْمُسْلِمِينَ بِالتَّعَادِي عَلَى مَا مَضَى مِنَ التَّنَازُعِ فِي مَسْألَةِ الْخِلَافَةِ، ويؤَلِّفُونَ الْكُتُبَ وَالرَّسَائِلَ فِي الْقَدْحِ فِي الصَّحَابَةِ. تفسير المنار (10/ 409 - 410).

وقال: لَوْلَا مَا أحْدَثَهُ الرَّوَافِضُ الْمُنَافِقُونَ، وَالْخَوَارِجُ الْمَغْرُورُونَ، مِنَ الشِّقَاقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ: لَعَمَّتْ سِيَادَةُ الْإِسْلَامِ جَمِيعَ الْعَالَمِينَ. تفسير المنار (10/ 480).

ص: 760

وَرَسُولُهُ أَشْيَاءَ بِالذِّكْرِ لِوُقُوعِهَا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مِثْل قَوْلِهِ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: 31] .. وَنَحْو ذَلِكَ.

وَمِثْل تَعْيِينِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قبَائِلَ مِن الْأَنْصَارِ وَتَخْصِيصَهُ أَسْلَمَ وَغِفَارَ وَجُهَيْنَةَ وَتَمِيمًا وَأَسَدًا وغطفان وَغَيْرَهُم بِأَحْكَام لِمَعَانٍ قَامَتْ بِهِمْ، وَكُلُّ مَن وُجِدَتْ فِيهِ تِلْكَ الْمَعَانِي أُلْحِقَ بِهِم؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِالذِّكْرِ لَمْ يَكُن لِاخْتِصَاصهِمْ بِالْحُكْمِ؛ بَل لِحَاجَةِ الْمُخَاطَبِينَ إذ ذَاكَ إلَى تَعْيِينِهِنْم.

هَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ أَلْفَاظُهُ شَامِلَةً لَهُمْ، وَهَؤُلَاءِ الرَّافِضَةُ إنْ لَمْ يَكُونُوا شَرًّا مِن الْخَوَارِج المنصوصين فَلَيْسُوا دُونَهُم؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ إنَّمَا كَفَّرُوا عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَأَتْبَاعَ عُثْمَانَ وَعَلِيِّ فَقَطْ، دُونَ مَن قَعَدَ عَن الْقِتَالِ أَو مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ.

وَالرَّافِضَةُ كَفَّرَتْ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَامَّةَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ، وَاَلَّذِينَ اتبعُوهُم بِإِحْسَانٍ الَّذِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم وَرَضُوا عَنْهُ، وَكَفَّرُوا جَمَاهِيرَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين.

وَيسْتَحِلُّونَ دِمَاءَ مَن خَرَجَ عَنْهُمْ، ويُسَمُّونَ مَذْهَبَهُمْ: مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ.

وَقَد اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْأَحْوَالِ: أَنَّ أَعْظَمَ السُّيُوفِ الَّتِي سُلَّتْ عَلَى أَهْلِ الْقِبْلَةِ مِمَن يَنْتَسِبُ إلَيْهَا وَأَعْظَمَ الْفَسَادِ الَّذِي جَرَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِمَن يَنْتَسِبُ إلَى أَهْلِ الْقِبْلَةِ: إنَّمَا هُوَ مِن الطَّوَائِفِ الْمُنْتَسِبَةِ إلَيْهِمْ.

فَهُم أَشَدُّ ضَرَرًا عَلَى الدِّينِ وَأَهْلِهِ وَأَبْعَدُ عَن شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ مِن الْخَوَارِجِ الحرورية

(1)

.

(1)

والواقع يُصدق قوله رحمه الله، فنحن نرى اليوم عيانًا بيانًا عداوتهم للمسلمين قولًا وفعلًا، فقد تفوه العشرات من ساداتهم فضلًا عن عوامهم بكفر المسلمين ووجوب قتالهم، وأما أفعالهم فهي أشهر من أن تُذكر، فقد جَرَت دماء مئات الآلاف وهجر ملايين المسلمين على أيديهم في العراق والشام واليمن ولبنان وإيران وغيرها من بلاد الإسلام.

ولقد عانى أهل السُّنَّة الأذى من الخوارج في هذا العصر، ولكن لا يُقارَن أذاهم بأذى الرافضة.

فرحم الله شيخ الإسلام الخبير بهم وبمذهبهم.

ص: 761

وَلِهَذَا كَانُوا أَكْذَبَ فِرَقِ الْأُمَّةِ، فَلَيْسَ فِي الطَّوَائِفِ الْمُنْتَسِبَةِ إلَى الْقِبْلَةِ أَكْثَرُ كَذِبًا وَلَا أَكْثَرُ تَصْدِيقًا لِلْكَذِبِ وَتَكْذِيبًا لِلصِّدْقِ مِنْهُمْ، وَسِيْمَا

(1)

النِّفَاقِ فِيهِمْ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي سَائِرِ النَّاسِ، وَهِيَ الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ"، وَفِي رِوَايَةٍ:"أَرْبَعٌ مَن كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَن كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَت فِيهِ خَصْلَةٌ مِن النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ".

وَكُلُّ مَن جَرَّبَهُم يَعْرِفُ اشْتِمَالَهُم عَلَى هَذِهِ الْخِصَالِ؛ وَلِهَذَا يَسْتَعْمِلُونَ التَّقِيَّةَ الَّتِي هِيَ سِيمَا الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ ويَسْتَعْمِلونها مَعَ الْمُسْلِمِينَ، {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 11]، وَيَحْلِفُونَ مَا قَالُوا وَقَد قَالُوا، وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لِيُرْضوْا الْمُومِنِينَ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوْهُ.

وَقَد أَشْبَهُوا الْيَهُودَ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ

وَيُشْبِهُونَ النَّصَارَى فِي الْغُلُوِّ فِي الْبَشَرِ وَالْعِبَادَاتِ الْمُبْتَدَعَةِ وَفِي الشِّرْكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَهُم يُوَالُونَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهَذِهِ شِيَمُ الْمُنَافِقِينَ.

وَلَيْسَ لَهُم عَقْلٌ وَلَا نَقْلٌ، وَلَا دِينٌ صَحِيحٌ، وَلَا دُنْيَا مَنْصُورَةٌ، وَهُم لَا يُصَلُّونَ جُمُعَةً وَلَا جَمَاعَةً -وَالْخَوَارِجُ كَانُوا يُصَلُّونَ جُمُعَةً وَجَمَاعَةً- وَهُم لَا يَرَوْنَ جِهَادَ الْكُفَّارِ مَعِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا الصَّلَاةَ خَلْفَهُمْ، وَلَا طَاعَتَهُم فِي طَاعَةِ اللهِ، وَلَا تَنْفِيذ شَيْءٍ مِن أَحْكَامِهِمْ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَسُوغُ إلَّا خَلَفَ إمَامٍ مَعْصُومٍ، وَيرَوْنَ أَنَّ الْمَعْصُومَ قَد دَخَلَ فِي السِّرْدَابِ مِن أَكْثَرَ مِن أَرْبَعِمِائَةٍ وَأرْبَعِينَ سَنَةً.

وَقَد رَأَيْنَا فِي كُتبِهِم مِن الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصَحَابَتِهِ وَقَرَابَتِهِ

(1)

أي: علامات.

ص: 762

أَكْثَرَ مِمَّا رَأَيْنَا مِن الْكَذِبِ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ.

وَوَصْفُ حَالِهِمْ يَطُولُ.

فَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُم شَرٌّ مِن عَامَّةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَأَحَقُّ بِالْقِتَالِ مِن الْخَوَارِجِ، وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِيمَا شَاعَ فِي الْعُرْفِ الْعَامِّ: أَنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ هُم الرَّافِضَةُ؛ فَالْعَامَّةُ شَاعَ عِنْدَهَا أَنَّ ضِدَّ السُّنِّيِّ هُوَ الرافضي فَقَطْ؛ لِأنَّهُم أَظْهَرُ مُعَانَدَةً لِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَشَرَائِعِ دِينِهِ مِن سَائِرِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ.

وَقَد ذَكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ مَبْدَأَ الرَّفْضِ إنَّمَا كَانَ مِن الزِّنْدِيقِ: عَبْدِ اللهِ بْنِ سَبَأٍ؛ فَإِنَّهُ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَأَبْطَنَ الْيَهُودِيَّةَ، وَطَلَبَ أَنْ يُفْسِدَ الْإِسْلَامَ كَمَا فَعَلَ بولص النَّصْرَانِيُّ الَّذِي كَانَ يَهُودِيًّا فِي إفْسَادِ دِينِ النَّصَارَى.

وَأَيْضًا: فَغَالِبُ أَئِمَّتِهِمْ زَنَادِقَةٌ

(1)

، إنَّمَا يُظْهِرُونَ الرَّفْضَ؛ لأنَّهُ طَرِيق إلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ.

وَهَؤُلَاءِ مِن أَعْظَمِ مَن أَعَانَ التَّتَارَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ، بِالْمُؤَازَرَةِ وَالْوِلَايَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِمُبَايَنَةِ قَوْلِهِمْ لِقَوْلِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ وَلِهَذَا كَانَ مَلِكُ الْكُفَّارِ هُولَاكُو يُقَرِّرُ أَصْنَامَهُمْ.

وَأَيْضًا: فَالْخَوَارِج كَانُوا مِن أَصْدَقِ النَّاسِ وَأَوْفَاهُم بِالْعَهْدِ، وَهَؤُلَاءِ مِن أَكْذَبِ النَّاسِ وأنقضهم لِلْعَهْدِ.

وَأَمَّا ذِكْرُ الْمُسْتَفْتِي أَنَّهُم يُومِنُونَ بِكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم: فَهَذَا عَيْنُ الْكَذِبِ؛ بَل كَفَرُوا مِمَّا جَاءَ بِهِ بِمَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللهُ، فَتَارَةً يُكَذِّبُونَ بِالنُّصُوصِ الثَّابِتَةِ عَنْهُ، وَتَارَةً يُكَذِّبُونَ بِمَعَانِي التَّنْزِيلِ.

وَمَا ذَكَرْنَاهُ وَمَا لَمْ نُذْكَرْهُ مِن مَخَازِيهِمْ يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا بَعَثَ اللهُ بِهِ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم.

(1)

والزنديق هو المنافق؛ أي: أنَّ غَالِبَ أَئِمَّتِهِمْ يُظهرون الإسلام ويُبطنون الكفر والإلحاد، وبقيّتهم يقعون في الكفر والشرك في الأولياء والغلو بهم، وكراهة الصحابة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 763

فَإِنَّ اللهَ قَد ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِن الثَّنَاءِ عَلَى الصَّحَابَةِ وَالرِّضْوَانِ عَلَيْهِم وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُم مَا هُم كَافِرُونَ بِحَقِيقَتِهِ.

وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِن الْأَمْرِ بِالْجُمُعَةِ وَالْأَمْرِ بِالْجِهَادِ وَبِطَاعَةِ أُولي الْأَمْرِ مَا هُم خَارِجُونَ عَنْهُ.

وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِن مُوَالَاةِ الْمُؤْمِنِينَ وَمُوَادَّتِهِمْ وَمُؤَاخَاتِهِمْ وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُم مَا هُم عَنْهُ خَارِجُونَ.

وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِن النَّهْيِ عَن مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ وَمُوَادَّتِهِمْ مَا هُم خَارِجُونَ عَنْهُ.

وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِن تَحْرِيمِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ وَتَحْرِيمِ الْغِيبَةِ وَالْهَمْزِ وَاللَّمْزِ مَا هُم أَعْظَمُ النَّاسِ اسْتِحْلَالًا لَهُ.

وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِن الْأَمْرِ بِالْجَمَاعَةِ والائتلاف وَالنَّهْىِ عَن الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ مَا هُم أَبْعَدُ النَّاسِ عَنْهُ.

وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِن طَاعَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَحَبَّتِهِ وَاتِّبَاعِ حُكْمِهِ مَا هُم خَارِجُونَ عَنْهُ.

وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِن حُقُوقِ أَزْوَاجِهِ مَا هُم بَرَاء مِنْهُ.

وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِن تَوْحِيدِهِ وَإِخْلَاصِ الْمُلْكِ لَهُ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ مَا هُم خَارِجُونَ عَنْهُ، فَإِنَهُم مُشْرِكُونَ

(1)

، كَمَا جَاءَ فِيهِم الْحَدِيثُ، لِأَنَّهُم أَشَدُّ النَّاسِ تَعْظِيمًا لِلْمَقَابِرِ الَّتِي اُتُّخِذَتْ أَوْثَانًا مِن دُونِ اللهِ.

وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ وَصْفُهُ.

وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ إيمَانَ الْخَوَارِج بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم أَعْظَمُ مِن إيمَانِهِمْ.

(1)

وهذا يشمل علماءَهم وعامّتهم، فلا يُوجد رافضيٌّ - إلا ما شاء الله - إلا وهو يتوسل بالأئمة ويدعوهم من دون الله، ولكن لا يعني هذا أنهم كلهم كفار؛ لأنه لا بد من إقامة الحجة عليهم.

ص: 764

فَإِذَا كَانَ أَمِيرُ الْمُؤمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِب رضي الله عنه قَد قَتَلَهُم وَنَهَبَ عَسْكَرُهُ مَا فِي عَسْكَرِهِمْ مِن الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَالْأَمْوَالِ: فَهَؤُلَاءِ أَوْلَى أَنْ يُقَاتَلُوا وَتُؤْخَذَ أَمْوَالُهُمْ، كَمَا أَخَذَ أَمِيرُ الْمُؤمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَمْوَالَ الْخَوَارِجِ.

وَمَن اعْتَقَدَ مِن الْمُنْتَسِبِين إلَى الْعِلْمِ أَو غَيْرِهِ أَن قِتَالَ هَؤُلَاءِ بِمَنْزِلَةِ قِتَالِ الْبُغَاةِ الْخَارِجِينَ عَلَى الْإِمَامِ بِتَأوِيلٍ سَائِغٍ؛ كَقِتَالِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِأَهْلِ الْجَمَلِ وصفين: فَهُوَ غالط جَاهِلٌ بِحَقِيقَةِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ وَتَخْصِيصِهِ هَؤُلَاءِ الْخَارِجِينَ عَنْهَا

(1)

.

فَإِنَّ فِي قُلُوبِهِم مِن الْغِلِّ وَالْغَيْظِ عَلَى كِبَارِ الْمُسْلِمِينَ وَصِغَارِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ وَغَيْرِ صَالِحِيهِمْ: مَا لَيْسَ فِي قَلْبِ أحَدٍ.

وَأَعْظَمُ عِبَادَتِهِمْ عِنْدَهُمْ: لَعْنُ الْمُسْلِمِينَ مِن أَوْليَاءِ اللهِ: مُسْتَقْدِمُهُم وَمُسْتَأخِرُهُم، وَأَمْثَلُهُم عِنْدَهُم الَّذِي لَا يَلْعَنُ وَلَا يَسْتَغْفِرُ.

وَالْمَقْصُود هُنَا: أَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفَ الْمُحَارِبِينَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ مِن الرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ هُم شَرٌّ مِن الْخَوَارِج الَّذِينَ نَصَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى قِتَالِهِمْ وَرَغَّبَ فِيهِ، وَهَذَا مُتَّفَق عَلَيْهِ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ الْعَارِفِينَ بِحَقِيقَتِهِ. [28/ 476 - 494]

761 -

ومَذْهَبُ الرَّافِضَةِ شَرٌّ مِن مَذْهَبِ الْخَوَارجِ الْمَارِقِينَ؛ فَإِنَّ الْخَوَارِجَ غَايَتُهُم تَكْفِيرُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَشِيعَتِهِمَا، وَالرَّافِضَةُ تَكْفِيرُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَخمْهُورِ السَّابِقِينَ الْأوَّلِينَ، وَتَجْحَدُ مِن سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَعْظَمَ مِمَّا جَحَدَ بِهِ الْخَوَارِج، وَفِيهِمْ مِن الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ وَالْغُلُوِّ وَالْإِلْحَادِ مَا لَيْسَ فِي الْخَوَارِجِ، وَفِيهِمْ مِن مُعَاوَنَةِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا لَيْسَ فِي الْخَوَارِجِ.

(1)

قال الشيخ في موضع آخر: هَذَا مَوْضِعٌ اشْتَبَهَ عَلَى كَثِيرٍ مِن النَّاسِ مِن الْفُقَهَاءِ؛ فَإِنَّ الْمُصَنَّفِينَ فِي "قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ" جَعَلُوا قِتَالَ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَقِتَالَ الْخَوَارِجِ، وَقِتَالَ عَلِيٍّ لِأَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَقِتَالَهُ لمعاوية وَأتْبَاعِهِ: مِن قِتَالِ أهْلِ الْبَغْي، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَأمُورٌ بِهِ .. وَقَد غَلِطُوا، بَل الصَّوَابُ مَا عَلَيْهِ أئِمَّةُ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ وَأَهْلِ الْمَدِيَنَةِ النَّبَوِيَّةِ؛ كالأوزاعي وَالثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد بْنِ حَنبلٍ وَغَيْرِهِمْ: أَنهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا. (28/ 548 - 549).

ص: 765

وَالرَّافِضَةُ تُحِبُّ التَّتَارَ وَدَوْلَتَهُم؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُم بِهَا مِن الْعِزِّ مَا لَا يَحْصُل بِدَوْلَةِ الْمُسْلِمِينَ.

وَالرَّافِضَةُ هُم مُعَاوِنُونَ لِلْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُم كَانُوا مِن أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي دُخُولِ التَّتَارِ قَبْلَ إسْلَامِهِمْ إلَى أَرْضِ الْمَشْرِقِ بِخُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ، وَكَانُوا مِن أَعْظَمِ النَّاسِ مُعَاوَنَةً لَهُم عَلَى أَخْذِهِمْ لِبِلَادِ الْإِسْلَامِ وَقَتْلِ الْمُسْلِمِينَ وَسَبْيِ حَرِيمِهِمْ.

وَقَضِيَّةُ ابْنِ العلقمي وَأَمْثَالِهِ مَعَ الْخَلِيفَةِ وَقَضِيَّتِهِمْ فِي حَلَبَ مَعَ صَاحِبِ حَلَبَ: مَشْهُورَةٌ يَعْرِفُهَا عُمُومُ النَّاسِ.

وَكَذَلِكَ فِي الْحُرُوبِ الَّتِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ النَّصَارَى بِسَوَاحِلِ الشَّامِ: قَد عَرَفَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ أَنَّ الرَّافِضَةَ تَكُونُ مَعَ النَّصَارَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَنَّهُم عَاوَنُوهُم عَلَى أَخْذِ الْبِلَادِ لَمَّا جَاءَ التَّتَارُ، وَعَزَّ عَلَى الرَّافِضَةِ فَتْحُ عُكَّةَ وَغَيْرِهَا مِن السَّوَاحِلِ، وَإِذَا غَلَبَ الْمُسْلِمُونَ النَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ كَانَ ذَلِكَ غُصَّةً عِنْد الرَّافِضَةِ، وَإِذَا غَلَبَ الْمُشْرِكُونَ وَالنَّصَارَى الْمُسْلِمِينَ كَانَ ذَلِكَ عِيدًا وَمَسَرَّةً عِنْدَ الرَّافِضَةِ.

وَالرَّافِضَةُ جهمية قَدَرِيَّة، وَفِيهِمْ مِن الْكَذِبِ وَالْبِدَعِ وَالِافْتِرَاءِ عَلَى اللهِ وَرَسُولِهِ أَعْظَمُ مِمَّا فِي الْخَوَارِج الْمَارِقِينَ الَّذِينَ قَاتَلَهُم أَمِيرُ الْمُؤمِنِينَ عَلِيٌّ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ بِأَمْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ بَل فِيهِمْ مِن الرِّدَّةِ عَن شَرَائِعِ الدِّينِ أَعْظَمُ مِمَّا فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ الَّذِينَ قَاتَلَهُم أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَالصَّحَابَةُ.

وَمِن أَعْظَمِ مَا ذَمَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْخَوَارِج قَوْلُهُ فِيهِمْ: "يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ"

(1)

.

وَالْخَوَارجُ مَعَ هَذَا لَمْ يَكُونُوا يُعَاوِنُونَ الْكُفَّارَ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ،

(1)

رواه البخاري (3343، 3344)، ومسلم (1064).

ص: 766

وَالرَّافِضَة يُعَاوِنُونَ الْكُفَّارَ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّهُم لَا يُقَاتِلُونَ الْكُفَّارَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى قَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْكُفَّارِ، فَكَانوا أَعْظَمَ مُرُوقًا عَن الدِّينِ مِن أُولَئِكَ الْمَارِقِينَ بِكَثِيرٍ كَثِيرٍ.

وَقَد أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ قِتَالِ الْخَوَارجِ وَالرَّوَافِضِ وَنَحْوِهِمْ إذَا فَارَقُوا جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَاتَلَهُم عَلِيٌّ رضي الله عنه، فَكَيْفَ إذَا ضَمُّوا إلَى ذَلِكَ مِن أَحْكَامِ الْمُشْرِكِينَ

مَا هُوَ مِن أَعْظَمِ الْمُضادَّةِ لِدِينِ الْإِسْلَامِ؟

وَإِذَا كَانَ السَّلَفُ قَد سَمَّوْا مَانِعِي الزَّكَاةِ: مُرْتَدِّينَ -مَعَ كَوْنِهِمْ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَلَمْ يَكُونُوا يُقَاتِلُونَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ- فَكَيْفَ بِمَن صَارَ مَعَ أَعْدَاءِ اللهِ وَرَسُولِهِ قَاتِلًا لِلْمُسْلِمِينَ؟ [28/ 527 - 531]

762 -

الشِّيعَةُ: غَلَوْا فِي الْأَئِمَّةِ وَجَعَلُوهُم مَعْصُومِينَ يَعْلَمُونَ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَوْجَبُوا الرُّجُوعَ إلَيْهِم فِي جَمِيعِ مَا جَاءَت بِهِ الرُّسُلُ، فَلَا يُعَرِّجُونَ لَا عَلَى الْقُرْآنِ وَلَا عَلَى السُّنَّةِ؛ بَل عَلَى قَوْلِ مَن ظَنُّوهُ مَعْصُومًا، وَانْتَهَى الْأَمْرُ إلَى الِائتِمَامِ بِإِمَامٍ مَعْدُومٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، فَكَانُوا أَضَلَّ مِن الْخَوَارِجِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ يَرْجِعُونَ إلَى القُرْآنِ وَهُوَ حَقٌّ، وَإِن غَلِظوا فِيهِ، وَهَؤُلَاءِ لَا يَرْجِعُونَ إلَى شَيْءٍ؛ بَل إلَى مَعْدُومٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، ثُمَّ إنَّمَا يَتَمَسَّكُونَ بِمَا يُنْقَلُ لَهُم عَن بَعْضِ الْمَوْتَى، فَيَتَمَسَّكُونَ بِنَقْلٍ غَيْرِ مُصَدَّقٍ عَن قَائِل غَيْرِ مَعْصُومٍ، وَلِهَذَا كَانُوا أَكْذَبَ الطَّوَائِفِ، وَالْخَوَارجُ صَادِقُونَ، فَحَدِيثُهُم مِن أَصَحِّ الْحَدِيثِ، وَحَدِيثُ الشِّيعَةِ مِن أَكْذَبِ الْحَدِيثِ.

وَلَكِنَّ الْخَوَارِجَ دِينُهُم الْمُعَظَّمُ مُفَارَقَةُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتِحْلَالُ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ

(1)

.

(1)

صدق رحمه الله، وهذا ما رأيناه من خوارج العصر، الذين افترقوا إلى طائفتين، واقتتلوا فيما بينهم، وكفر أو فسق بعضُهم بعضًا، وحالهم ودِينُهُم الْمُعَظَّمُ كما قال الشيخ الخبير بهم أمران: الأول: مُفَارَقَةُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، ومُخالفتهم وعدمُ الرجوع إلى علمائهم وحكامهم، بل فسقوهم وكفروهم. =

ص: 767

وَالشِّيعَةُ اسْتَتْبَعُوا أَعْدَاءَ الْمِلَّةِ مِن الْمَلَاحِدَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ: أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللهِ، فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ، فَخُذُوا بِكِتَاب اللهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِه". فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللهِ وَرَغَّبَ فِيهِ ثُمَّ قَالَ: "وَأَهْلُ بَيْتي أَذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتى، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتي"

(1)

.

فَوَصَّى الْمُسْلِمِينَ بِهِمْ، لَمْ يَجْعَلْهُم أَئِمَّة يَرْجِعُ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِمْ، فَانْتَحَلَت الْخَوَارِجُ كِتَابَ اللهِ، وَانْتَحَلَتْ الشِّيعَةُ أَهْلَ الْبَيْتِ، وَكِلَاهُمَا غَيْرُ مُتَّبعٍ لِمَا انْتَحَلَهُ؛ فَإِنَّ الْخَوَارجَ خَالَفُوا السُّنَّةَ الَّتِي أَمَرَ الْقُرْآنُ بِاتِّبَاعِهَا، وَكَفَّرُوا الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أَمَرَ الْقُرْآن بِمُوَالَاتِهِمْ.

وَصَارُوا يَتَتَبَّعُونَ الْمُتَشَابِهَ مِن الْقُرْآنِ، فَيَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، مِن غَيْرِ مَعْرِفَةٍ مِنْهُم بِمَعْنَاهُ، وَلَا رُسُوخٍ فِي الْعِلْمِ، وَلَا اتِّبَاعٍ لِلسُّنَّةِ، وَلَا مُرَاجَعَةٍ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَفْهَمُونَ الْقُرْآنَ. وَأَمَّا مُخَالَفَةُ الشِّيعَةِ لِأَهْلِ الْبَيْتِ فَكَثِيرَةٌ جِدًّا. [13/ 209 - 210]

763 -

الرَّافِضَةُ هُم أَجْهَلُ الطَّوَائِفِ وَأَكْذَبُهَا وَأَبْعَدُهَا عَن مَعْرِفَةِ الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ، وَهُم يَجْعَلُونَ التَّقِيَّةَ مِن أُصُولِ دِينِهِمْ، وَيكْذِبُونَ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ كَذِبًا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللهُ، حَتَّى يَرْوُوا عَن جَعْفَرٍ الصَّادِقِ أَنَّهُ قَالَ: التَّقِيَّةُ دِينِي وَدِينُ آبَائِي. والتَّقِيَّةُ هِيَ شِعَارُ النِّفَاقِ؛ فَإِنَّ حَقِيقَتَهَا عِنْدَهم أَنْ يَقُولُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَهَذَا حَقِيقَةُ النِّفَاقِ.

= الثاني: استِحْلَالُ دِمَائِهِمْ وَأمْوَالِهِمْ بأدنى شبهةٍ، ولا يتورعون أبدًا عن ذلك.

وقد قال في كتابه منهاج السُّنَّة (5/ 248): لم يكن أحدٌ شرًّا على المسلمين منهم لا اليهود ولا النصارى، فإنهم كانوا مجتهدين في قتل كلِّ مسلمٍ لم يُوافقهم، مستحلين لدماء المسلمين وأموالهم وقتل أولادهم، مكفرين لهم، وكانوا متديِّنين بذلك لِعِظَم جهلهم وبدعتهم المضلة. اهـ.

(1)

رواه مسلم (6378).

ص: 768

ثُمَّ إذَا كَانَ هَذَا مِن أُصُولِ دِينِهِمْ صَارَ كُلُّ مَا يَنْقُلُهُ النَّاقِلُونَ عَن عَلِيٍّ أَو غَيْرِهِ مِن أَهْلِ الْبَيْتِ مِمَّا فِيهِ مُوَافَقَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَقُولُونَ: هَذَا قَالُوهُ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ! [13/ 263]

764 -

الرَّافِضَةِ الْإِمَامِيَّةِ أُمَّةٌ مَخْذُولَةٌ، لَيْسَ لَهُم عَقْلٌ وَلَا نَقْلٌ، وَلَا دِينٌ صَحِيحٌ، وَلَا دُنْيَا مَنْصُورَةٌ. [35/ 129، 27/ 54]

765 -

مِن وَصَايَاهُم [أي: القرامطة والعبيديون] فِي النَّامُوسِ الْأَكْبَرِ وَالْبَلَاغِ الْأَعْظَمِ أَنَّهُم يَدْخُلُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِن "بَابِ التَّشَيُّعِ"؛ وَذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ الشِّيعَةَ مِن أَجْهَلِ الطَّوَائِفِ، وَأَضْعَفِهَا عَقْلًا وَعِلْمًا، وَأَبْعَدِهَا عَن دِينِ الْإِسْلَامِ عِلْمًا وَعَمَلًا، وَلِهَذَا دَخَلَت الزَّنَادِقَةُ عَلَى الْإِسْلَامِ مِن بَابِ الْمتَشَيِّعَةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، كَمَا دَخَلَ الْكُفَّارُ الْمُحَارِبُونَ مَدَائِنَ الْإِسْلَامِ بَغْدَادَ بِمُعَاوَنَةِ الشِّيعَةِ، كَمَا جَرَى لَهُم فِي دَوْلَةِ التُّرْكِ الْكُفَّارِ بِبَغْدَادَ وَحَلَبَ وَغَيْرِهِمَا. [35/ 136]

766 -

وَلِهَذَا كَانَ الرَّفْضُ بَابَ الزَّنْدَقَةِ وَالْإِلْحَادِ؛ فَالصَّابِئَةُ الْمُتَفَلْسِفَةُ وَمَن أَخَذَ بِبَعْضِ أُمُورِهِمْ أَو زَادَ عَلَيْهِم -مِنَ الْقَرَامِطَةِ وَالْنُصَيْرِيَّة والْإِسْمَاعِيلِيَّة وَالْحَاكِمِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ-: إنَّمَا يَدْخُلُونَ إلَى الزَّنْدَقَةِ وَالْكُفْرِ بِالْكِتَابِ وَالرَّسُولِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ مِن بَابِ التَّشَيُّعِ وَالرَّفْضِ. [22/ 367]

767 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَن رَجُلٍ يُفَضِّلُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى عَلَى الرَّافِضَةِ؟

(1)

.

فَأَجَابَ: كُلُّ مَن كَانَ مُؤْمِنًا بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ خَيْرٌ مِن كُلِّ مَن

(1)

نسمع في هذا الزمان من يفضل اليهود والنصارى على الرافضة، والشيخ رحمه الله لا يرى ذلك، والذي يطلع على ضلال وكفر وشرك الرافضة، وحقدهم وغلهم على المسلمين أهل السُّنَّة: ورأى جرائمهم في حقهم، وتفننهم في قتلهم وقتالهم وتشريدهم: لا يشك أنهم أضل من اليهود والنصارى وأخبث وأمكر وأضر.

ص: 769

كَفَرَ بِهِ، وَإِن كَانَ فِي الْمُؤْمِنِ بِذَلِكَ نَوْعٌ مِن الْبِدْعَةِ، سَوَاءٌ كَانَت بِدْعَةَ الْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ أَو غَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى كُفَّارٌ كُفْرًا مَعْلُومًا بِالِاضْطِرَارِ مِن دِينِ الْإِسْلَامِ، وَالْمُبْتَدِعُ إذَا كَانَ يَحْسَبُ أَنَّهُ مُوَافِق لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لَا مُخَالِفٌ لَهُ لَمْ يَكُن كَافِرًا بِهِ.

وَلَو قُدِّرَ أَنَّهُ يَكفُرُ: فَلَيْسَ كُفْرُهُ مِثْل كُفْرِ مَن كَذَّبَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم. [35/ 201]

768 -

إِنَّ الَّذِي ابْتَاَع دِينَ الرَّافِضَةِ كَانَ زِنْدِيقًا يَهُودِيًّا أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَأَبْطَنَ الْكُفْرَ لِيَحْتَالَ فِي إفْسَادِ دِينِ الْمُسْلِمِينَ -كَمَا احْتَالَ بُولص فِي إفْسَادِ دِينِ النَّصَارَى- سَعَى فِي الْفِتْنَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى قُتِلَ عُثْمَانُ، وَفِي الْمُؤْمِنِينَ مَن يَسْتَجِيبُ لِلْمُنَافِقِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47].

ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا تَفَرَّقَت الْأُمَّةُ ابْتَدَعَ مَا ادَّعَاهُ فِي الْإِمَامَةِ مِن النَّصِّ وَالْعِصْمَةِ، وَأَظْهَرَ التَّكَلُّمَ فِي أَبِي بَكرٍ وَعُمَرَ، وَصَادَفَ ذَلِكَ قُلُوبًا فِيهَا جَهْلٌ وَظُلْمٌ وَإِن لَمْ تَكُنْ كَافِرَةً؛ فَظهَرَتْ بِدْعَةُ التَّشَيُّعِ الَّتِي هِيَ مِفْتَاحُ بَابِ الشِّرْكِ، ثمَّ لَمَّا تَمَكَّنَت الزَّنَادِقَةُ أَمَرُوا بِبِنَاءِ الْمَشَاهِدِ وَتَعْطِيلِ الْمَسَاجِدِ، مُحْتَجِّينَ بِأَنَّهُ لَا تُصَلَّى الْجُمْعَةُ وَالْجَمَاعَةُ إلَّا خَلْفَ الْمَعْصُومِ.

وَرَوَوْا فِي إنَارَةِ الْمَشَاهِدِ وَتَعْظِيمِهَا وَالدُّعَاءِ عِنْدَهَا مِن الْأَكَاذِيبِ مَا لَمْ أَجِدْ مِثْلَهُ فِيمَا وَقَفْت عَلَيْهِ مِن أَكَاذِيبِ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ حَتَّى صَنَّفَ كَبِيرُهُم ابْنُ النُّعْمَانِ كِتَابًا فِي "مَنَاسِكَ حَجِّ الْمَشَاهِدِ"، وَكَذَبُوا فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلِ بَيْتِهِ أَكَاذِيبَ بَدَّلُوا بِهَا دِينَهُ وَغَيَّرُوا مِلَّتَهُ، وَابْتَدَعُوا الشِّرْكَ الْمُنَافِيَ لِلتَّوْحِيدِ، فَصَارُوا جَامِعِينَ بَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكَذِبِ، كَمَا قَرَنَ اللهُ بَيْنَهُمَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ؛ كَقَوْلِهِ:{وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج: 30، 31]. [27/ 161 - 162]

ص: 770

769 -

إنَّ الرَّافِضَةَ أَكْذَبُ طَوَائِفِ الْأمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهُم أعْظَمُ الطَّوَائِفِ الْمُدَّعِيَةِ لِلْإِسْلَامِ غُلُوًّا وَشِرْكًا

(1)

. [27/ 175]

770 -

لَيْسَ فِي فِرَقِ الْأمَّةِ أَكْثَرُ كَذِبًا وَاخْتِلَافًا مِن الرَّافِضَةِ مِن حِينِ نَبَغُوا.

فَأَوَّلُ مَن ابْتَاَع الرَّفْضَ كَانَ مُنَافِقًا زِنْدِيقًا يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللهِ بْنُ سَبَأٍ، فَأَرَادَ بِذَلِكَ إفْسَادَ دِينِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا فَعَلَ بولص صَاحِبُ الرَّسَائِلِ الَّتِي بِأَيْدِي النَّصَارَى، حَيْثُ ابْتَدَعَ لَهُم بِدَعًا أَفْسَدَ بِهَا دِينَهُمْ، وَكَانَ يَهُودِيًا فَأَظْهَرَ النَّصْرَانِيَّةَ نِفَاقًا فَقَصَدَ إفْسَادَهَا، وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ سَبَإٍ يَهُودِيًّا فَقَصَدَ ذَلِكَ، وَسَعَى فِي الْفِتْنَةِ لِقَصْدِ إفْسَادِ الْمِلَّةِ، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِن ذَلِكَ، لَكِنْ حَصَلَ بَيْنَ الْمُؤمِنِينَ تَحْرِيشٌ وَفِتْنَةٌ قُتِلَ فِيهَا عُثْمَانُ رضي الله عنه، وَجَرَى مَا جَرَى مِن الْفِتْنَةِ، وَلَمْ يَجْمَع اللهُ -وَللهِ الْحَمْدُ- هَذِهِ الْأُمَّةَ عَلَى ضَلَالَةٍ؛ بَل لَا يَزَالُ فِيهَا طَائِفَةٌ قَائِمَةٌ بِالْحَقِّ لَا يَضُرُّهَا مَن خَالَفَهَا وَلَا مَن خَذَلَهَا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ؛ كَمَا شَهِدَتْ بِذَلِكَ النُّصُوصُ الْمُسْتَفِيضَةُ فِي الصِّحَاحِ عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.

وَلَمَّا أُحْدِثَت الْبِدَعُ الشِّيعِيَّةُ فِي خِلَافَةِ أَمِيرِ الْمُؤمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه رَدَّهَا وَكَانَت ثَلَاثَةَ طَوَائِفَ: غَالِيَةٌ وَسَبَّابَة وَمُفَضِّلَةٌ.

فَأَمَّا الْغَالِيَةُ: فَإِنَّهُ حَرَّقَهُم بِالنَّارِ، فَإِنَّهُ خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ مِن بَابِ كِنْدَةَ فَسَجَدَ لَهُ أَقْوَامٌ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُو!: أَنْتَ هُوَ اللهُ، فَاسْتَتَابَهُم ثَلَاثًا فَلَمْ يَرْجِعُوا، فَأمَرَ فِي الثَّالِثِ بِأَخَادِيدَ فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ فِيهَا النَّارَ ثُمَّ قَذَفَهُم فِيهَا وَقَالَ:

لَمَّا رَأَيْت الْأمْرَ أَمْرًا مُنْكَرًا

أَجَّجْت نَارِي وَدَعَوْت قنبرا

وَفِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ"

(2)

أَنَّ عَلِيًّا أتي بِزَنَادِقَتِهِمْ فَحَرَّقَهُمْ، وَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ

(1)

وتحدث في (27/ 451 - 455)، عن الحسن العسكري الإمام المعصوم بزعمهم، وردّ على هذه الفرية، وأبطل القول بأنه مختفٍ.

(2)

(6922).

ص: 771

عَبَّاسٍ فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَلَو كُنْت لَمْ أُحَرِّقْهُمْ؛ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعَذَّبَ بِعَذَابِ اللهِ وَلَضَرَبْت أَعْنَاقَهُمْ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَن بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ"

(1)

.

وَأَمَّا السَّبَّابَةُ: فَإِنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ مَن سَبَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ طَلَبَ قَتْلَهُ فَهَرَبَ مِنْهُ إلَى قرقيسيا؛ وَكَلَّمَهُ فِيهِ، وَكَانَ عَلِيٌّ يُدَارِي أُمَرَاءَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُن مُتَمَكِّنًا، وَلَمْ يَكُونُوا يُطِيعُونَهُ فِي كُل مَا يَأْمُرُهُم بِهِ.

وَأَمَّا الْمُفَضلَةُ: فَقَالَ: لَا أُوتى بِأَحَد يُفَضِّلُنِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إلَّا جَلَدْته حَدَّ الْمُفْتَرِينَ، وَرُوِيَ عَنْهُ مِن أَكْثَرَ مِن ثَمَانِينَ وَجْهًا أَنَّهُ قَالَ: خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ. [35/ 184 - 185]

771 -

أَشْهَرُ الطَّوَائِفِ بالْبِدْعَةِ: الرَّافِضَة، حَتَّى إنَّ الْعَامَّةَ لَا تَعْرِفُ مِن شَعَائِرِ الْبِدَعِ إلَّا الرَّفْضَ، وَالسُّنِّيُّ فِي اصْطِلَاحِهِمْ: مَن لَا يَكُونُ رافضيًّا.

وَذَلِكَ لِأَنَّهُم أَكْثَرُ مُخَالَفَةً لِلْأَحَادِيثِ النَّبوِيَّةِ، وَلمَعَانِي الْقُرْآنِ، وَأَكْثَرُ قَدْحًا فِي سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا، وَطَعْنًا فِي جُمْهُورِ الْأُمَّةِ مِن جَمِيعِ الطَّوَائِفِ، فَلَمَّا كَانُوا أَبْعَدَ عَن مُتَابَعَةِ السَّلَفِ كَانُوا أَشْهَرَ بِالْبِدْعَةِ. [4/ 155]

772 -

إِنَّ الَّذِي ابْتَاَع الرَّفْضَ كَانَ يَهُودِيًّا أَظْهَر الْإِسْلَامَ نِفَاقًا، وَدَسَّ إلَى الْجُهَّالِ دَسَائِسَ يَقْدَحُ بِهَا فِي أَصْلِ الْإِيمَانِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الرَّفْضُ أَعْظَمَ أَبْوَابِ النِّفَاقِ وَالزَّنْدَقَةِ.

فَإِنَّهُ يَكُونُ الرَّجُلُ وَاقِفًا، ثُمَّ يَصِيرُ مُفَضِّلًا، ثُمَّ يَصِيرُ سَبَّابًا، ثُمَّ يَصِيرُ غَالِيًا، ثُمَّ يَصِيرُ جَاحِدًا مُعَطِّلًا؛ وَلِهَذَا انْضَمَّتْ إلَى الرَّافِضَةِ أَئِمَّةُ الزَّنَادِقَةِ مِن الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَالْنُصَيْرِيَّة وَأَنْوَاعِهِمْ مِن الْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَالدُّرْزِّيَةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِن طَوَائِفِ الزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ.

فَاِنَّ الْقَدْحَ فِي خَيْرِ الْقُرُونِ الَّذِينَ صَحِبُوا الرَّسُولَ: قَدْحٌ فِي الرَّسُولِ عليه السلام

(1)

صحَّحه الألباني في صحيح النسائي (4076).

ص: 772

كَمَا قَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِن أَئِمَّةِ الْعِلْمِ: هَؤُلَاءِ طَعَنُوا فِي أَصحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا طَعَنُوا فِي أَصْحَابِهِ لِيَقُولَ الْقَائِلُ: رَجُلُ سُوْءٍ كَانَ لَهُ أَصْحَابُ سوْءٍ، وَلَو كَانَ رَجُلًا صَالِحًا لَكَانَ أَصْحَابُهُ صَالِحِينَ.

وَأَيْضًا: فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَقَلُوا الْقُرْآنَ وَالْإِسْلَامَ وَشَرَائِعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُم الَّذِينَ نَقَلُوا فَضَائِلَ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ؛ فَالْقَدْحُ فِيهِمْ يُوجِبُ أَنْ لَا يُوثَقَ بِمَا نَقَلُوهُ مِن الدِّينِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا تَثْبُتُ فَضِيلَةٌ: لَا لِعَلِيّ وَلَا لِغَيْرِهِ.

وَالرَّافِضَةُ جُهَّالٌ، لَيْسَ لَهُم عَقْلٌ، وَلَا نَقْلٌ، وَلَا دِينٌ، وَلَا دُنْيَا مَنْصُورَةٌ

وَلَكِنَّ الرَّافِضَةَ جُهَّالٌ مُتَّبِعُونَ الزَّنَادِقَةِ. [4/ 328 - 329]

773 -

إنَّ الرَّافِضَةَ أُمَّةٌ لَيْسَ لَهَا عَقْلٌ صَرِيحٌ، وَلَا نَقْلٌ صَحِيحٌ، وَلَا دِينٌ مَقْبُولٌ، وَلَا دُنْيَا مَنْصُورَةٌ؛ بَل هُم مِن أَعْظَمِ الطَّوَائِفِ كَذِبًا وَجَهْلًا، وَدِينُهُم يُدْخِلُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كُلَّ زِنْدِيقٍ وَمُرْتَدٍّ، كَمَا دَخَلَ فِيهِم الْنُصَيْرِيَّة وَالْإسْماعيليَّةُ وَغَيْرُهُمْ؛ فَإِنَّهُم يَعْمِدُونَ إلَى خِيَارِ الْأُمَّةِ يُعَادُونَهُمْ، وَإِلَى أَعْدَاءِ اللهِ مِن الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ يُوَالُونَهُمْ، وَيعْمِدُونَ إلَى الصِّدْقِ الظَّاهِرِ الْمُتَوَاتِرِ يَدْفَعُونَهُ، وَإِلَى الْكَذِبِ الْمُخْتَلَقِ الَّذِي يُعْلَمُ فَسَادُهُ يُقِيمُونَهُ.

فَهُم كَمَا قَالَ فِيهِمْ الشَّعْبِيُّ -وَكَانَ مِن أَعْلَمِ النَّاسِ بِهِم-: لَو كَانُوا مِن الْبَهَائِمِ لَكَانُوا حُمْرًا، وَلَو كَانُوا مِن الطَّيْرِ لَكَانُوا رَخَمًا.

وَلِهَذَا كَانُوا أَبْهَت النَّاسِ وَأَشَدَّهُم فِرْيَةً، مِثْل مَا يَذْكُرُونَ عَن مُعَاوِيَةَ؛ فَإِنَّ مُعَاوِيةَ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّهُ أَمَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا أَمَّرَ غَيْرَهُ، وَجَاهَدَ مَعَهُ، وَكَانَ أَمِينًا عِنْدَهُ يَكْتُبُ لَهُ الْوَحْيَ، وَمَا اتَّهَمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي كِتَابَةِ الْوَحْيِ، وَوَلَّاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الَّذِي كَانَ مِن أَخْبَرِ النَّاسِ بِالرِّجَالِ. [4/ 471 - 472]

774 -

رَأَيْت كِتَابًا كَبِيرًا قَد صَنَّفَهُ بَعْضُ أَئِمَّةِ الرَّافِضَةِ "مُحَمَّدُ بْنُ النُّعْمَانِ" الْمُلَقَّبُ بِالشَّيْخِ الْمُفِيدِ، شَيْخِ الْمُلَقَّبِ بِالْمُرْتَضَى، وَأَبِي جَعْفَرٍ الطوسي، سَمَّاهُ "الْحَجُّ إلَى زِيارَةِ الْمَشَاهِدِ"، ذَكَرَ فِيهِ مِن الْآثَارِ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَزِيَارَةِ

ص: 773

هَذِهِ الْمَشَاهِدِ وَالْحَجِّ إلَيْهَا مَا لَمْ يَذْكُرْ مِثْلهُ فِي الْحَجِّ إلَى بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ.

وَعَامَّةُ مَا ذَكَرَهُ مِن أَوْضَحِ الْكَذِبِ وَأَبْيَنِ الْبُهْتَانِ، حَتَّى أَنِّي رَأَيْت فِي ذَلِكَ مِن الْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ أَكْثَرَ مِمَّا رَأَيْته مِن الْكَذِبِ فِي كَثِيرٍ مِن كُتبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.

وَهَذَا إنَّمَا ابْتَدَعَهُ وَافْتَرَاهُ فِي الْأَصْلِ قَوْمٌ مِن الْمُنَافِقِينَ وَالزَّنَادِقَةِ؛ لِيَصُدُّوا بِهِ النَّاسَ عَن سَبِيلِ اللهِ، وَيُفْسِدُوا عَلَيْهِم دِينَ الْإِسْلَامِ، وَابْتَدَعُوا لَهُم أَصْلَ الشِّرْكِ الْمُضَادَّ لِإِخْلَاصِ الدِّينِ للهِ.

وَلِهَذَا صَنَّفَ طَائِفَةٌ مِن الْفَلَاسِفَةِ الصَّابِئِينَ الْمُشْرِكِينَ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الشِّرْكِ مَا صَنَّفُوهُ، وَاتَّفَقُوا هُم وَالْقَرَامِطَةُ الْبَاطِنِيَّةُ عَلَى الْمُحَادَّةِ للهِ وَلرَسُولِهِ، حَتَّى فَتَنُوا أُمَمًا كَثِيرَةً، وَصَدُّوهُم عَن دِينِ اللهِ.

وَأَقَلُّ مَا صَارَ شِعَارًا لَهُمْ: تَعْطِيلُ الْمَسَاجِدِ، وَتَعْظِيمُ الْمَشَاهِدِ، فَإِنَّهُم يَأْتُونَ مِن تَعْظِيمِ الْمَشَاهِدِ وَحَجِّهَا وَالْإِشْرَاكِ بِهَا مَا لَمْ يَأْمُر اللهُ بِهِ وَلَا رَسُولُة وَلَا أَحَدٌ مِن أَئِمَّةِ الدِّينِ؛ بَل نَهَى اللهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ.

وَأَمَّا الْمَسَاجِدُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ: فَيُخَرِّبُونَهَا؛ فَتَارَةً لَا يُصَلُّونَ جُمْعَةً وَلَا جَمَاعَةً؛ بِنَاءً عَلَى مَا أصَّلُوهُ مِن شُعَبِ النِّفَاقِ، وَهُوَ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ إلَّا خَلْفَ مَعْصُومٍ، وَنَحْو ذَلِكَ مِن ضَلَالَتِهِمْ.

فَهَؤُلَاءِ الضَّالُّونَ الْمُفْتَرُونَ، أَتْبَاعُ الزَّنَادِقَةِ الْمُنَافِقُونَ: يُعَطِّلُونَ شِعَارَ الْإِسْلَامِ، وَقِيَامَ عَمُودِهِ، وَأَعْظَمهُ سُنَنُ الْهُدَى الَّتِي سَنَّهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْل هَذَا الْإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ، فَلَا يُصَلُّونَ جُمْعَةً وَلَا جَمَاعَةً.

وَمَن يَعْتَقِدُ هَذَا: فَقَدْ يُسَوِّي بَيْنَ الْمَشَاهِدِ وَالْمَسَاجِدِ

(1)

، حَتَّى يَجْعَلَ

(1)

بل هذا هو حالهم كلُّهم أو جلُّهم، فهم يُعظمون المشاهد أكثر من تعظيم المساجد، وخير شاهد على ذلك الواقع، فقد نقلت لنا الصور وشاشات التلفاز ما لا يدع مجالًا للشك في ذلك.

ص: 774

الْعِبَادَةَ؛ كَالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَشْرُوعًا عِنْدَ الْمَقَابِرِ كَمَا هُوَ مَشْرُوعٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرُبَّمَا فَضَّلَ بِحَالِهِ أَو بِقَالِهِ الْعِبَادَة عِنْدَ الْقُبُورِ وَالْمَشَاهِدِ عَلَى الْعِبَادَةِ فِي بُيُوتِ اللهِ الَّتِي هِيَ الْمَسَاجِدُ، حَتى تَجِدَ أَحَدهُم إذَا أَرَادَ الِاجْتِهَادَ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّوْبَةِ وَنَحْو ذَلِكَ قَصَدَ قَبْرَ مَن يُعَظِّمُهُ؛ كَشَيْخِهِ أَو غَيْرِ شَيْخِهِ، فَيَجْتَهِدُ عِنْدَهُ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالْخُشوعِ وَالرِّقَّةِ، مَا لَا يَفْعَلُهُ مِثْلُهُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَلَا فِي الْأَسْحَارِ، وَلَا فِي سُجُودِهِ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ.

وَقَد آلَ الْأَمْرُ بِكَثِيرِ مِن جُهَّالِهِمْ إلَى أَنْ صَارُوا يَدْعُونَ الْمَوْتَى وَيسْتَغِيثُونَ بِهِم كَمَا تَسْتَغِيثُ النَّصَارَي بِالْمَسِيحِ وَأُمِّهِ، فَيَطْلُبُونَ مِن الْأَمْوَاتِ تَفْرِيجَ الْكُرُبَاتِ، وَتَيْسِيرَ الطَّلَبَاتِ، وَالنَّصْرَ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَرَفْعَ الْمَصَائِبِ وَالْبَلَاءِ، وَأَمْثَالَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا رَبُّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ.

حَتَّى أَنَّ أَحَدَهُم إذَا أَرَادَ الْحَجَّ: لَمْ يَكُن أَكْثَرُ هَمِّهِ الْفَرْضَ الَّذِي فَرَضَهُ اللهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ "حَجُّ بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ"، وَهُوَ شِعَارُ الْحَنِيفِيَّةِ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إمَامِ أَهْلِ دِينِ اللهِ؛ بَل يَقْصِدُ الْمَدِينَةَ.

وَلَا يَقْصِدُ مَا رَغِبَ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِن الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهِ

وَلَا يَهْتَمُّ بِمَا أَمَرَ اللهُ بِهِ مِن الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى رَسُولِهِ حَيْثُ كَانَ، وَمِن طَاعَةِ أَمْرِهِ، وَاتباعِ سُنَّتِهِ، وَتَعْزِيرِهِ وَتَوْقِيرِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِن أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ؛ بَل أَنْ يَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِن نَفْسِهِ؛ بَل يَقْصِدُ مِن زِيَارَةِ قَبْرِهِ أَو قَبْرِ غَيْرِهِ مَا لَمْ يَأمُرْ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَلَا فَعَلَهُ أَصْحَابُهُ، وَلَا اسْتَحْسَنَهُ أَئِمَّةُ الدِّينِ

(1)

. [4/ 517 - 520]

* * *

(1)

صدق رحمه الله، وهذا هو واقعهم، ولذلك فهم يسكنون المدينة بكثرة، ويزورونها أكثر بكثير من زيارة مكة، وما ذلك إلا لقصد عبادة القبور.

ص: 775

(ذمُّ الخوارج وذكر أوصافهم وبدعهم)

(1)

775 -

اللهُ تَعَالَى مَا أَمَرَ عِبَادَهُ بِأَمْر إلَّا اعْتَرَضَ الشَّيْطَانُ فِيهِ بِأَمْرَيْنِ لَا يُبَالِي بِأَيِّهِمَا ظَفِرَ:

(1)

الخوارج: هم كلُّ مَن خرج على الإمام المسلم، وعلى الجماعة المسلمة بالسيف، للدعاء إلى معتقده، وكان خروجه نابعًا، مِن مُخالفة الأصولِ الشرعيَّة.

فأما من خرج على الحاكم لأغراضٍ دُنيويَّة، فيُسمَّى قاطعَ طريق.

ومن خرج يدعو إلى مُعتقده، ولم يكن خروجُه نابعًا من مخالفةِ الأصولِ الشرعيَّة، فيُسمَّى باغيًا، كالذين خرجوا على عليٍّ رضي الله عنه، ومنهم صحابة وخيارُ التابعين.

ولقد جاء وصفُ الخوارج في الأحاديث وصفًا دقيقًا، في أخلاقهم وطِباعِهِم، وأشكالِهِم وأفعالِهم.

أما أخلاقُهم وطبائعُهُم:

1 -

جُرأتُهم واحْتقارُهم لمن يُخالفهم، واتهامُهم وطعنُهم للأئمة والعلماء والصالحين.

2 -

الخشونةُ وشدَّةُ الغضب والجفاء، فهم لا يتعاملون مع الناس والْمُخالفين لهم إلا بالحدَّة والقسوة، ويستبيحون دماء المسلمين على أتفه الأسباب.

3 -

أنهم يفتقدون للحكمة والرَّوية، فهم لا ينظرون إلى العواقب، ولا يهتمون بالمصالح العامّة، ومحبتُهم للفرقة تغلبُ محبتَهم للوحدة، واستماتتُهم في تقديم آرائهم والدفاعِ عنها، والقتالِ في سبيلها أمرٌ ظاهرٌ لكلِّ من عرف حالهم؛ لأنهم يرون ذلك هو ما أمر الله به، وَيعُدُّونَهُ مِنَ الولاء للمؤمنين، والبراءةِ من المشركين والكافرين.

ففد خرجوا على خيار الصحابة رضي الله عنهم، وقتلوا أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه.

4 -

أنهم أَحْدَاثُ الأسْنَانِ؛ أي: أنهم صغار السنّ، ليسوا كالكبار في رجاحة العقل، ومعرفةِ الأمور، بل هم أقرب إلى الطيش والعجلة، والحماس المذموم.

5 -

سُفَهَاءُ الأحْلَام؛ أيْ: أنَّ عقولَهم رديئةٌ ضعيفة، لا يملكون رجاحةً في الفهم والعقل، قد جانبوا الرشد واَلصواب والطريقة المرضية.

6 -

يَقُولُونَ مِن قَوْلِ خَيْرِ البَرِيَّةِ؛ أيْ: أنهم يتلون القرآن والسُّنَّة، ويحتجون بما جاء فيهما ممَّا يُوافق أهواءهم، لكنهم كما قال عبد الله بنُ عمر رضي الله عنهما:(إنهم- أي: الخوارج - انطلقوا إلى آياتٍ نزلت في الكفار، فجعلوها على المؤمنين) ولهذا كان رضي الله عنه يراهم شرارَ خلق الله.

فقلوبهم لم تعِ القرآن ولم تفقهه بعد، بل يستدلُّون بالآيات والأحاديث، وهم أجهل الناس بالْمُراد منها، ويلتمسون المعنى الذي يطلبونه ولو كان بعيدًا، ويرغبون عن المعنى الصحيح ولو كان قريبًا.

ولذلك هم عن أجهل الناس في مقاصدِ الشريعةِ، يأخذون بظواهر النصوص، ولا يلتفتون إلى مَن خالفهم ولو كان أعلمَ الناسِ.

7 -

كثرةُ وشدَّةُ عبادتهم، بل إنَّ الصحابة رضي الله عنهم على ما هم عليه من العبادة العظيمة، والطاعةِ الْمُستديمة - يَحْقِرُ أَحَدُهم صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ؛ =

ص: 776

أ - إمَّا إفْرَاطٌ فِيهِ.

ب - وَإِمَّا تَفْرِيطٌ فِيهِ.

وَإِذَا كَانَ الْإِسْلَامُ الَّذِي هُوَ دِينُ اللهِ لَا يَقْبَلُ مِن أَحَدٍ سِوَاهُ: قَد اعْتَرَضَ الشَّيْطَانُ كَثِيرًا مِمَن يَنْتَسِبُ إلَيْهِ، حَتى أَخْرَجَهُ عَن كَثِيرٍ مِن شَرَائِعِهِ؛ بَل أَخْرَجَ طَوَائِفَ مِن أعْبَدِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَوْرَعِهَا عَنْهُ

(1)

، حَتَى مَرَقُوا مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِن الرَّمِيَّةِ، وَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقِتَالِ الْمَارِقِينَ مِنْهُ

وَاتَّفَقَ عَلَى قِتَالِهِمْ جَمِيعُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ.

وَهَكَذَا كُلُّ مَن فَارَقَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَخَرَجَ عَن سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَشَرِيعَتِهِ مِن أهْلِ الْأَهْوَاءِ الْمُضِلَّةِ وَالْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ.

وَلِهَذَا قَاتَلَ الْمُسْلِمُونَ أَيْضًا الرَّافِضَةَ الَّذِينَ هُم شَرٌّ مِن هَؤُلَاءِ، وَهُم الَّذِينَ

= أي: يُدْمِنُون قراءته وتلاوته، ولكن: لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ؛ أي: أنَّ الْإيمَان لَمْ يَرْسَخ فِي قُلُوبهمْ؛ لِأنَّ مَا وَقَفَ عِنْد الْحُلْقُوم فَلَمْ يَتَجَاوَزهُ، لَا يَصِل إِلى الْقَلْب.

وهذا يدلُّ على أنهم يقرؤونه دون فهم، ويتلونه دون تدبُّرِ وتأمُّل، وصدق الله تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 24].

فيُؤخذ من هذا، أنَّه يجبُ الْحَذَرُ من الانخداع بمظاهر الصلاح، والدين والعبادة، وعدم جعلِ ذلك دليلًا على الإخلاص وصحةِ الطريقةِ والمنهج، فالعبرة بالأخلاقِ وحُسْنِ السيرة، والاستقامةِ على ما أمر الله به ورسولُه، فالدين المعاملة.

قال ابن عبد البرِّ رحمه الله: وفي هذا الحديث نصٌّ على أن القرآن قد يقرؤه من لا دين له، ولا خير فيه، ولا يجاوز لسانه. اهـ. الاستذكار (2/ 501).

وأما عن أشكالهم وهيئاتهم، فقد وُصف سيِّدهم في الحديث بصفاتٍ عجيبة، ولذا يقولُ الحافظ ابنُ كثير رحمه الله في صفتهم: وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ النَّاسِ مِن أَغْرَبِ أشْكَالِ بَنِي آدَمَ، فَسُبْحَانَ مَن نَوَّعَ خَلْقَهُ كَمَا أرَادَ، وَسَبَقَ فِي قَدَرِهِ ذَلِكَ. اهـ. البداية والنهاية (10/ 580).

وأما عن أفعالِهم: فإنهم يَقْتُلُونَ أهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أهْلَ الْأوْثَانِ، وهذا ما نراه واقعًا من أتباعهم في هذا الزمان.

ومن أبرز عقائدهمُ الباطلة: أنهم يتساهلون بالتكفير، ويُكفرون بالعموم، فقد كفروا خيار الناس وصالحيهم، كمعاويةَ وعثمانَ وعليٍّ رضي الله عنهم.

فما أشدَّ خطر الخوارج على المسلمين، ولذلك حذّر منهمُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أشدّ التحذير.

(1)

أي: عن شرائع الْإِسْلَام السمحة الصحيحة الوسطية.

ص: 777

يُكَفِّرُونَ جَمَاهِيرَ الْمُسْلِمِينَ؛ مِثْل الْخُلَفَاءِ الثَّلَاثَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَيزْعُمُونَ أَنَّهُم هُم الْمُومِنُونَ وَمَن سِوَاهُم كَافِرٌ، وَيُكَفِّرُونَ مَن يَقُولُ: إنَّ اللهَ يُرَى فِي الْآخِرَةِ، أَو يُؤْمِنُ بِصِفَاتِ اللهِ وَقُدْرَتهِ الْكَامِلَةِ، وَمَشِيئَتِهِ الشَّامِلَةِ، وُيكَفِّرُونَ مَن خَالَفَهُم فِي بِدَعِهِم الَّتِي هُم عَلَيْهَا.

فَإِنَّهُم يَمْسَحُونَ الْقَدَمَيْنِ وَلَا يَمْسَحُونَ عَلَى الْخُفِّ، ويُؤَخِّرُونَ الْفُطُورَ وَالصَّلَاةَ إلَى طُلُوعِ النَّجْمِ، وَيجْمَعُونَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِن غَيْرِ عُذْرٍ، وَيقْنُتُونَ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، ويُحَرِّمُونَ الْفُقَّاعَ وَذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَذَبَائِحَ مَن خَالَفَهُم مِن الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُم عِنْدَهُم كُفَّارٌ، وَيَقُولُونَ عَلَى الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَقْوَالًا عَظِيمَةً، إلَى أَشْيَاءَ أُخَرَ.

فَقَاتَلَهُم الْمُسْلِمُونَ بِأَمْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ.

فَإِذَا كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ قَد انْتَسَبَ إلَى الْإِسْلَامِ مَن مَرَقَ مِنْهُ مَعَ عِبَادَتِهِ الْعَظِيمَةِ، حَتَّى أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقِتَالِهِمْ: فَيُعْلَمُ أَنَّ الْمُنْتَسِبَ إلَى الْإِسْلَامِ أَو السُّنَّةِ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ قَد يَمْرُقُ أَيْضًا مِن الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ، حَتَّى يَدَّعِيَ السُّنَّةَ مَن لَيْسَ مِن أَهْلِهَا بَل قَد مَرَقَ مِنْهَا، وَذَلِكَ بِأَسْبَاب:

أ - مِنْهَا: الْغُلُوُّ الَّذِي ذَمَّهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171]، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إيَّاكُمْ وَالْغُلوَّ فِي الدِّينِ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَن كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ"

(1)

.

وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

ب - وَمِنْهَا: التَّفَرُّقُ وَالِاخْتِلَافُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ.

ج - وَمِنْهَا: أَحَادِيثُ تُرْوَى عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ كَذِبٌ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ

(1)

رواه النسائي (3057)، وابن ماجه (3029)، وأحمد (1851)، وصحَّحه الألباني في صحيح النسائي.

ص: 778

الْمَعْرِفَةِ، يَسْمَعُهَا الْجَاهِلُ بِالْحَدِيثِ فَيُصَدِّقُ بِهَا لِمُوَافَقَةِ ظَنِّهِ وَهَوَاهُ.

د - وَأَضَلُّ الضَّلَالِ: اتبُاعُ الظَّنِّ وَالْهَوَى؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي حَقِّ مَن ذَمَّهُم: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)} [النجم: 23]. [3/ 381 - 384]

776 -

أَقْوَالُ الْخَوَارِج إنَّمَا عَرَفْنَاهَا مِن نَقْلِ النَّاسِ عَنْهُمْ، لَمْ نَقِفْ لَهُم عَلَى كِتَابٍ مُصَنَّفٍ، كَمَا وَقَفْنَا عَلَى كُتُب الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ وَالزَّيْدِيَّةِ وَالْكَرَامِيَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ والسالمية وَأَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ وَمَذَاهِبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَالصُّوفِيَّةِ وَنَحْوِ هَؤُلَاءِ. [13/ 49]

777 -

الْخَوَارِج جَوَّزُوا عَلَى الرَّسُولِ نَفْسِهِ أَنْ يَجُورَ وَيُضِلَّ فِي سُنَّتِهِ، وَلَمْ يُوجِبُوا طَاعَتَهُ وَمُتَابَعَتَهُ، وَإِنَّمَا صَدَّقُوهُ فِيمَا بَلَغَة مِن الْقُرْآنِ دُونَ مَا شَرَعَهُ مِن السُّنَّةِ الَّتِي تُخَالِفُ -بِزَعْمِهِمْ- ظَاهِرَ الْقُرْآنِ، وغَالِبُ أَهْلِ الْبِدَع غَيْرِ الْخَوَارِجِ يُتَابِعُونَهُم فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى هَذَا؛ فَإِنَّهُم يَرَوْنَ أَنَ الرَّسُولَ لَو قَالَ بِخِلَافِ مَقَالَتِهِمْ لَمَا اتَّبَعُوهُ

وَإِنَّمَا يَدْفَعُونَ عَن نفُوسِهِمْ الْحجَّةَ: إمَّا بِرَدِّ النَّقْلِ؛ وَإِمَّا بِتَأْوِيلِ الْمَنْقُولِ، فَيَطْعَنُونَ تَارَةً فِي الْإِسْنَادِ، وَتَارَةً فِي الْمَتْنِ.

وَإِلَّا فَهُم لَيْسُوا مُتَّبِعِينَ وَلَا مُؤْتَمِّينَ بِحَقِيقَةِ السُّنَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ؛ بَل وَلَا بِحَقِيقَةِ الْقُرْآنِ. [19/ 73]

778 -

إِنَّ الْخَوَارِج أَصْلُ بِدْعَتِهِمْ أَنَّهُم لَا يَرَوْنَ طَاعَةَ الرَّسُولِ وَاتِّباعَهُ فِيمَا خَالَفَ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ عِنْدَهُمْ. [20/ 104]

779 -

الْخَوَارجُ إنَّمَا تَأَوَّلُوا آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى مَا اعْتَقَدُوهُ وَجَعَلُوا مَن خَالَفَ ذَلِكَ كَافِرًا؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ خَالَفَ الْقُرْآنَ، فَمَنِ ابْتَدَعَ أَقْوَالًا لَيْسَ لَهَا أصْل فِي الْقُرْآنِ وَجَعَلَ مَن خَالَفَهَا كَافِرًا: كَانَ قَوْلُهُ شَرًّا مِن قَوْلِ الْخَوَارِجِ

(1)

. [20/ 164]

(1)

وهذا ما وقع فيه خوارجُ العصر، فقد كفروا كل من كان من جند حكام المسلمين، =

ص: 779

780 -

فِي "مُسْلِمٍ"

(1)

عَن عُبَيدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ كَاتِبِ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّ الحرورية لَمَّا خَرَجَتْ وَهُوَ مَعَ عَلِيٍّ قَالُوا: لَا حُكْمَ إلَّا للهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: كَلِمَةُ حَقّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ، إنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَصَفَ نَاسًا إنِّي لَأَعْرِفُ صِفَتَهُم فِي هَؤُلَاءِ، يَقُولُونَ الْحَقَّ بِأَلْسِنَتِهِمْ لَا يُجَاوِزُ هَذَا مِنْهُمْ، وَأَشَارَ إلَى حَلْقه، مِن أَبْغَضِ خَلْقِ اللهِ إلَيْهِ، مِنْهُم رَجُلُ أَسْوَدُ إحْدَى يَدَيْهِ طُبْيُ شَاةٍ، أَو حَلَمَةُ ثَدْيٍ.

وَهَذِهِ الْعَلَامَة الَّتِي ذَكَرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هِيَ عَلَامَةُ أَوَّلِ مَن يَخْرُجُ مِنْهُم لَيْسُوا مَخْصُوصِينَ بِأُولَئِكَ الْقَوْمِ، فَإِنَّهُ قَد أَخْبَرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُم لَا يَزَالُونَ يَخْرُجُونَ إلَى زَمَنِ الدَّجَّالِ، وَقَد اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْخَوَارِجَ لَيْسُوا مُخْتَصِّينَ بِذَلِكَ الْعَسْكَرِ.

فَهَؤلَاءِ أَصْلُ ضَلَالِهِمْ:

أ - اعْتِقَادُهُم فِي أَئِمَّةِ الْهُدَى وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُم خَارِجُونَ عَن الْعَدْلِ، وَأَنَّهُم ضَالُّونَ، وَهَذَا مَأْخَذ الْخَارِجِينَ عَن السُّنَّةِ مِن الرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ.

ب - ثُمَّ يَعُدُّونَ مَا يَرَوْنَ أَنَّهُ ظُلْمٌ عِنْدَهُم كُفْرًا.

ج - ثُمَّ يُرَتّبُونَ عَلَى الْكُفْرِ أَحْكامًا ابْتَدَعُوهَا.

فَهَذِهِ ثَلَاثُ مَقَامَاتٍ لِلْمَارِقِينَ مِن الحرورية وَالرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ، فِي كُلِّ مَقَامٍ تَرَكُوا بَعْضَ أُصُولِ دِينِ الْإِسْلَامِ حَتَّى مَرَقُوا مِنْهُ كَمَا مَرَقَ السَّهْمُ مِن الرَّمِيَّةِ.

وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ"

(2)

فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: "يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ؛ لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلُهُم قَتْلَ عَادٍ"، وَهَذَا نَعْتُ سَائِرِ الْخَارِجِينَ

= واستباحوا دماءهم، فقد ابتدعوا هذا القول الذي ليس له أصل في القرآن وكفروا من خالفه.

وأكثر أهل البدع قد وقعوا في هذا الأمر، كالروافض ونحوهم.

(1)

(1066).

(2)

البخاري (3343، 3344)، ومسلم (1064).

ص: 780

كَالرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ؛ فَإِنَّهُم يَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُم مُرْتَدُّونَ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِلُّونَ مِن دِمَاءِ الْكفَّارِ الَّذِينَ لَيْسُوا مُرْتَدِّينَ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ شَرٌّ مَن غَيْرِهِ.

وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ قَوْمًا يَكونونَ فِي أُمَّتِهِ: "يَخْرُجُونَ فِي فِرْقَةٍ مِن النَّاسِ سِيمَاهُم التَّحْلِيقُ"

(1)

: وَهَذِهِ السِّيمَا سِيمَا أَوَّلِهِمْ كَمَا كَانَ ذُو الثدية؛ لا أنَّ

(2)

هَذَا وَصْفٌ لَازِمٌ لَهُمْ.

وَإِنَّمَا قَوْلُنَا: إنَّ عَلِيًّا قَاتَلَ الْخَوَارِجَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِثْل مَا يُقَالُ: إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَاتَلَ الْكفَّارَ؛ أَيْ: قَاتَلَ جِنْسَ الْكُفَّارِ، وَإِن كَانَ الْكُفْرُ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً.

وَكَذَلِكَ الشِّرْكُ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَإِن لَمْ يَكُن الْاَلِهَةُ الَّتِي كَانَت الْعَرَبُ تَعْبُدُهَا هِيَ الَّتِي تَعْبُدُهَا الْهِنْدُ وَالصِّينُ وَالتُّرْكُ، لَكنْ يَجْمَعُهُم لَفْظُ الشِّرْكِ وَمَعْنَاهُ.

وَكَذَلِكَ الْخُرُوجُ وَالْمُرُوقُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَن كَانَ فِي مَعْنَى أُولَئِكَ، وَيجِبُ قِتَالُهُم بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا وَجَبَ قِتَالُ أُولَئِكَ.

وَإِن كَانَ الْخُرُوجُ عَن الدِّينِ وَالْإِسْلَامِ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً، وَقَد بَيَّنَّا إَنَّ خرُوجَ الرَّافِضَةِ وَمُرُوقَهُم أَعْظَمُ بِكَثِيرٍ.

وأمَّا قَتْلُ الْوَاحِدِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِن الْخَوَارِجِ؛ كالحرورية وَالرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ

(3)

: فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَن الْإِمَامِ أَحْمَد، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُ الْوَاحِدِ مِنْهُم؛ كَالدَّاعِيَةِ إلَى مَذْهَبِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَن فِيهِ فَسَادٌ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُم فَاقْتُلُوهُمْ"، وَقَالَ: "لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنَّهُم قَتْلَ

(1)

رواه مسلم (1065).

(2)

في الأصل: (لأنَّ .. )، ولعل الصواب المثبت؛ لاقتضاء السياق له.

(3)

الشيخ يرى أن الروافض من الخوارج، كما قرره سابقًا، وصرح به هنا.

ص: 781

عَادٍ"، وَقَالَ عُمَرُ لِصَبِيغِ بْنِ عِسْلٍ: لَو وَجَدْتُك مَحْلُوقًا لَضَرَبْت الَّذِي فِيهِ عَيْنَاك، وَلِأنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ طَلَبَ أَنْ يَقْتُلَ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَبَأٍ أَوَّلَ الرَّافِضَةِ حَتَّى هَرَبَ مِنْهُ.

وَلِأنَّ هَؤُلَاءِ مِن أعْظَمِ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأرْضِ.

فَإِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ فَسَادُهُم إلَّا بِالْقَتْلِ قُتِلُوا، وَلَا يَجِبُ قَتْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُم إذَا لَمْ يُظْهِرْ هَذَا الْقَوْلُ

(1)

أَو كَانَ فِي قَتْلِهِ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ

(2)

.

وَلِهَذَا تَرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَتْلَ ذَلِكَ الْخَارِجِيُّ ابْتِدَاءً لِئَلَّا يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ، وَلَمْ يَكُن إذ ذَاكَ فِيهِ فَسَادٌ عَامٌّ؛ وَلِهَذَا تَرَكَ عَلِي قَتْلَهُم أَوَّلَ مَا ظَهَرُوا؛ لِأَنَّهُم كَانُوا خَلْقًا كَثِيرًا، وَكَانُوا دَاخِلِينَ فِي الطَّاعَةِ وَالْجَمَاعَةِ ظَاهِرًا، لَمْ يُحَارِبُوا أَهْلَ الْجَمَاعَةِ وَلَمْ يَكُن يَتبَيَّنْ لَهُ أَنَّهُم هُمْ.

وَأَمَّا تَكْفِيرُهُم وَتَخْلِيدُهُم: فَفِيهِ أَيْضًا لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَن أَحْمَد، وَالْقَوْلَانِ فِي الْخَوَارجِ وَالْمَارِقِينَ مِن الحرورية وَالرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ.

وَالصَّحِيحُ: أَنَّ هَذِهِ الْأقْوَالَ الَّتِي يَقُولُونَهَا الَّتِي يُعْلَمُ أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ كُفْرٌ، وَكَذَلِكَ أَفْعَالُهُم الَّتِي هِيَ مِن جِنْسِ أَفْعَالِ الْكُفَّارِ بِالْمُسْلِمِينَ هِيَ كُفْرٌ أَيْضًا.

لَكِنْ تَكْفِيرُ الْوَاحِدِ الْمُعَيَّنِ مِنْهُم وَالْحُكْمُ بِتَخْلِيدِهِ فِي النَّارِ: مَوْقُوفٌ عَلَى ثُبُوتِ شُرُوطِ التَّكْفِيرِ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ، فَإِنَّا نُطْلِقُ الْقَوْلَ بِنُصُوصِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالتَّكْفِيرِ وَالتَّفْسِيقِ، وَلَا نَحْكُمُ لِلْمُعَيَّنِ بِدُخُولِهِ فِي ذَلِكَ الْعَامِّ حَتَّى يَقُومَ فِيهِ

(1)

ونحن علينا الظاهر، ولم نكلف أن نفتش عن نواياهم.

(2)

كان يكون داعية إلى عقيدته الفاسدة، وقتله -لدفع شرّه- يُسبب فسادًا كبيرًا كهذا الزمان، حيث انتشرت وسائل الأعلام الحاقدة على أهل السُّنَّة والمدافعة عن الرافضة غالبًا، وستنقل الحدث بصورة غير صحيحة، وتُذيعُ بأن الدولة تضطهد الأقليّات ونحو ذلك، وربما قام أتباعه بفتن كثيرة واضطرابات خطيرة.

ص: 782

الْمُقْتَضي الَّذِي لَا مَعَارِضَ لَهُ

(1)

.

وَلِهَذَا لَمْ يَحْكُم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكُفْرِ الَّذِي قَالَ: إذَا أَنَا مُتّ فَأحْرِقُونِي ثُمَّ ذروني فِي الْيَمِّ فَوَاللهِ لَأِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبُنِي عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِن الْعَالَمِينَ مَعَ شَكهِ فِي قُدْرَةِ اللهِ وَإِعَادَتِهِ؛ وَلِهَذَا لَا يُكَفِّرُ الْعُلَمَاءُ مِن اسْتَحَلَّ شَيْئًا مِن الْمُحَرَّمَاتِ لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ، أَو لِنَشْأَتِهِ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ؛ فَإِنَّ حُكْمَ الْكُفْرِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ بُلُوغِ الرِّسَالَةِ.

وَكَثِيرٌ مِن هَؤُلَاءِ قَد لَا يَكُونُ قَد بَلَغَتْهُ النُّصُوصُ الْمُخَالِفَةُ لِمَا يَرَاهُ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ الرَّسُولَ بُعثَ بِذَلِكَ، فَيُطْلَقُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كُفْرٌ، وَيُكَفَّرُ مَتَى قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الَّتِي يَكْفُرُ تَارِكُهَا دُونَ غَيْرِهِ. [28/ 495 - 501]

781 -

اسْتَفَاضَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْأَحَادِيثُ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ، وَهِيَ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ.

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد: صَحَّ الْحَدِيثُ فِي الْخَوَارِجِ مِن عَشَرَةِ أَوْجُهٍ.

وَقَد رَوَاهَا مُسْلِم فِي "صَحِيحِهِ"، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْهَا ثَلَاثَةَ أَوْجهٍ: حَدِيثَ عَلِيٍّ، وَأَبِي سَعِيدٍ الخدري، وَسَهْلِ بْنِ حنيف.

وَفِي السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ طُرُقٌ أُخَرُ مُتَعَدِّدَةٌ. [28/ 512]

782 -

الْعُلَمَاءُ لَهُم فِي قِتَالِ مَن يَسْتَحِقُّ الْقِتَالَ مِن أهْلِ الْقِبْلَةِ طَرِيقَانِ:

أ - مِنْهُم مَن يَرَى قِتَال عَليٍّ رضي الله عنه يَوْمِ حَرُورَاءَ وَيوْمِ الْجَمَلِ وصفين كُلُّهُ مِن بَابِ قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَكَذَلِكَ يَجْعَل قِتَالَ أَبِي بَكْرٍ لِمَانِعِي الزَّكَاةِ، وَكَذَلِكَ قِتَالُ سَائِرِ مَن قُوتِلَ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْقِبْلَةِ.

(1)

وهذا رد على الذين يسبون ويغتابون بعض الدعاة والمشايخ بزعم مُخالفتهم لبعض نصوص الشريعة؛ وذلك أنه من المقرر أنه لا يجوز غيبة أحد على وجه الإطلاق إلا إذا كان فاسقًا، فكيف إذا زادوا على ذلك ووصفوهم بأنهم ضلال ومبتدعة؟

فما يفعله هؤلاء مُخالف لمنهج السلف الصالح الذي قرره الشيخ رحمه الله.

ص: 783

وَهُم مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ لَيْسُوا فُسَّاقًا بَل هُم عُدُولٌ.

ب - وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: إنَّ قِتَالَ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَالْخَوَارِجِ وَنَحْوِهِمْ لَيْسَ كَقِتَالِ أَهْلِ الْجَمَلِ وصفين، وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَن جُمْهُورِ الْأئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَهُوَ الَّذِي يَذْكُرُونَهُ فِي اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كمَالِك وَغَيْرِهِ، وَمَذْهَبِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ.

وَبِالْجُمْلَةِ: فَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ هِيَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ، فَإِنَّ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ فَرَّق بَيْنَ هَذَا وَهَذَا. وَسِيرَةُ عَلِيٍّ رضي الله عنه تُفَرّق بَيْنَ هَذَا وَهَذَا، فَإِنَّهُ قَاتَلَ الْخَوَارِجَ بِنَصِّ رَسُولِ اللهِ وَفَرِحَ بِذَلِكَ، وَلَمْ يُنَازِعْهُ فِيهِ أَحَدٌ مِن الصَّحَابَةِ.

وَأمَّا الْقِتَالُ يَوْمَ صفين فَقَد ظَهَرَ مِنْهُ مِن كَرَاهَتِهِ وَالذَّمِّ عَلَيْهِ مَا ظَهَرَ، وَقَالَ فِي أَهْلِ الْجَمَلِ وَغَيْرِهِمْ: إخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا طَهَّرَهُم السَّيْفُ، وَصَلَّى عَلَى قَتْلَى الطَّائِفَتَيْنِ. [28/ 513 - 516]

783 -

إِنَّ الْأمَّةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى ذَمِّ الْخَوَارِجِ وَتَضْلِيلِهِمْ، وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي تَكْفِيرِهِمْ: عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَينِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد، وَفِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا نِزَاعٌ فِي كُفْرِهِمْ.

وَلِهَذَا كَانَ فِيهِمْ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْأولَى:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُم بُغَاةٌ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُم كُفارٌ كالْمُرْتَدِّينَ، يَجُوزُ قَتْلُهُم ابْتِدَاءً، وَقَتْلُ أَسِيرِهِمْ، وَاتِّبُاعُ مُدْبِرِهِمْ، وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ مِنْهُم اُسْتُتِيبَ كَالْمُرْتَدِّ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ.

كَمَا أَنَّ مَذْهَبَهُ فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ إذَا قَاتَلُوا الْإِمَامَ عَلَيْهَا هَل يَكْفُرُونَ مَعَ الْإِقْرَارِ بِوُجُوبِهَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ.

وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ قِتَالَ الصِّدِّيقِ لِمَانِعِي الزَّكَاةِ وَقِتَالَ عَلِيٍّ لِلْخَوَارجِ: لَيْسَ مِثْل الْقِتَالِ يَوْمَ الْجَمَلِ وصفين.

ص: 784

فَكَلَامُ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ فِي الْخَوَارِجِ يَقْتَضِي أَنَّهُم لَيْسُوا كُفَّارًا كَالْمُرْتَدِّينَ عَن أَصْلِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَن الْأَئِمَّةِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ.

وَلَيْسُوا مَعَ ذَلِكَ حُكْمُهُم كَحُكمِ أَهْلِ الْجَمَلِ وصفين؛ بَل هُم نَوْعٌ ثَالِثٌ، وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ الثَّلاثَةِ فِيهِمْ. [28/ 518]

* * *

‌مناظرة أهل الزيغ والباطل

784 -

الْمُنَاظَرَةُ وَالْمُحَاجَّةُ لَا تَنْفَعُ إلَّا مَعَ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ. [4/ 109]

785 -

مِن أَحْسَنِ مُنَاظَرَتِهِمْ [أي: الْجَهْمِيَّة] أنْ يُقَالَ: ائتُونَا بِكِتَابٍ أو سُنَّةٍ حَتَّى نُجِيبَكُمْ إلَى ذَلِكَ، وَإِلا فَلَسْنَا نُجِيبُكُمْ إلَى مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْكتَابُ وَالسُّنَّةُ.

وَهَذَا لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُم النِّزَاعَ إلَّا كِتَابٌ مُنَزَّلٌ مِنَ السَّمَاءِ، وَإِذَا ردُّوا إلَى عُقُولِهِمْ فَلِكلِّ وَاحِدٍ مِنْهُم عَقْلٌ. [20/ 162 - 163]

786 -

يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْأمُورَ الْمَعْلُومَةَ مِن دِينِ الْمُسْلِمِينَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ عَمَّا يُعَارِضُهَا جَوَابًا قَاطِعًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا يَسْلُكُهُ مَن يَسْلُكُهُ مِن أهْلِ الْكَلَامِ، فَكُلُّ مَن لَمْ يُنَاظِرْ أَهْلَ الْإِلْحَادِ وَالْبِدَعِ مُنَاظَرَةً تَقْطَعُ دَابِرَهُمْ: لَمْ يَكُن أَعْطَى الْإِسْلَامَ حَقَّة، وَلَا وَفَّىَ بِمُوجِبِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، وَلَا حَصَلَ بِكَلَامِهِ شِفَاءُ الصُّدُورِ، وَطُمَأْنِينَةُ النُّفُوسِ، وَلَا أفَادَ كَلَامُهُ الْعِلْمَ وَالْيَقِينَ.

[20/ 164 - 165]

* * *

‌البدع والأهواء وأمراض القلوب

787 -

إِنَّ الْبِدْعَةَ الشَرْعِيَّةَ -أَي: الْمَذْمُومَةَ فِي الشَّرْعِ- هِيَ مَا لَمْ يَشْرَعْه اللهُ فِي الدِّينِ؛ أَي: مَا لَمْ يَدْخُلْ فِي أَمْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ.

ص: 785

فَأَمَّا إنْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ مِن الشِّرْعَةِ لَا مِن الْبِدْعَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَإِن كَانَ قَد فُعلَ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَا عُرفَ مِن أَمْرِهِ؛ كَإِخْرَاجِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَعْدَ مَوْتِهِ، وَجَمْعِ الْمُصْحَفِ، وَجَمْعِ النَّاسِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الَّذِي أَمَرَ بِذَلِكَ وَإِن سَمَّاهُ بِدْعَةً، فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ فِي اللُّغَةِ، إذ كُلُّ أَمْرٍ فُعِلَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ مُتَقَدِّمٍ يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ بِدْعَةً، وَلَيْسَ مِمَّا تُسَمِّيه الشَّرِيعَةُ بِدْعَةً، وَيُنْهَى عَنْهُ، فَلَا يَدْخُلُ فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِم مِن "صَحِيحِهِ"

(1)

عَن جَابِرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: "إنَّ أَصْدَقَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأمورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ". [31/ 36]

788 -

قَرَّرْنَا فِي قَاعِدَةِ "السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ": أَنَّ الْبِدْعَةَ فِي الدِّينِ هِيَ مَا لَمْ يَشْرَعْهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَهُوَ مَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ وَلَا اسْتِحْبَابٍ.

فَأَمَّا مَا أَمَرَ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَو اسْتِحْبَابٍ وَعُلِمَ الْأَمْرُ بِهِ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ: فَهُوَ مِن الدِّينِ الَّذِي شَرَعَهُ اللهُ، وَإِن تَنَازَعَ أُولُو الْأَمْرِ فِي بَعْضِ ذَلِكَ.

وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا مَفْعُولًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَو لَمْ يَكنْ، فَمَا فُعِل بَعْدَهُ بِأَمْرِهِ - مِن قِتَالِ الْمُرْتَدِّينَ وَالْخَوَارِج الْمَارِقِينَ وَفَارِسَ وَالرُّومِ وَالتُّرْكِ وَإِخْرَاجِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِن جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَغَير ذَلِكَ - هُوَ مِن سُنَّتِهِ.

فَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ: هِيَ مِمَّا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَعَلَيْهِ أَدِلَّةٌ شَرْعِيَّةٌ مُفَصَّلَةٌ. [4/ 108]

789 -

قال أئمة الإسلام، كسفيان الثوري وغيره: إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن البدعة لا يُتاب منها، والمعصية يُتاب منها.

(1)

(867)، ورواه البخاري من حديث ابن مسعود رضي الله عنه (7277).

ص: 786

ومعنى قولهم: إن البدعة لا يُتاب منها: أن المبتدع الذي يتخذ دينًا لم يشرعه الله ولا رسوله قد زيّن له سوء عمله فرآه حسنًا، فهو لا يتوب ما دام يراه حسنًا؛ لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيئ ليتوب منه، أو بأنه ترك حسنًا مأمورًا به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله، فما دام يرى فعله حسنًا وهو سيّئ في نفس الأمر فإنه لا يتوب، ولكن التوبة منه ممكنة وواقعة بأن يهديه الله ويرشده حتى يتبين له الحق. [10/ 9]

790 -

قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32]، وَمَن فِي قَلْبِهِ مَرَضُ الشَّهْوَةِ وَإِرَادَةُ الصُّورَةِ مَتَى خَضَعَ الْمَطْلُوبُ طَمِعَ الْمَرِيضُ وَالطَّمَعُ الَّذِي يُقَوِّي الْإِرَادَةَ وَالطَّلَبَ وَيُقَوِّي الْمَرَضَ بِذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ آيِسًا مِن الْمَطْلُوبِ فَإِنَّ الْيَأْسَ يُزِيلُ الطَّمَعَ فَتَضْعُفُ الْإِرَادَةُ فَيَضْعُفُ الْحُبُّ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُرِيدُ أَنْ يَطْلُبَ مَا هُوَ آيِسٌ مِنْهُ فَلَا يَكُونُ مَعَ الْإِرَادَةِ عَمَلٌ أَصْلًا بَل يَكُونُ حَدِيثُ نَفْسٍ إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِذَلِكَ كَلَامٌ أَو نَظَرٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَيَأثَمُ بِذَلِكَ

(1)

. [10/ 132]

791 -

مِن سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم وسُنَّة خلفائه: التمييز بين الرجال والنساء، والمتأهِّلين والعزاب، فكان المندوب في الصلاة أن يكون الرجال في مقدّم المسجد والنساء في مؤخره، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا، وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا، وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا"

(2)

، وكان إذا سلَّم

(1)

فالذي في قلبه مرض الشهوة أو النفاق لا يطمع بالزنى والاغتصاب إلا إذا وجد من يُثير طمعه وشهوته.

فمبدأ الزنى وشرارته من النساء اللاتي يخضعن بالقول، ويفتن الرجال، ولا يُمكن منع الفواحش والأمراض الجنسية التي عصفت بالغرب المنحال إلا بمنع النساء من التعري والسفور والخضوع بالقول.

ولا يمكن منع تسلط الرجال على النساء بالتحرش والاغتصاب والخطف إلا إذا أيِسوا مِن الْمَطْلُوبِ؛ فَإِنَّ الْيَأْسَ يُزِيلُ الطَّمَعَ فَتَضْعُفُ الْإِرَادَةُ فَيَضْعُفُ الْحُبُّ.

(2)

رواه مسلم (440).

ص: 787

لبث هنيهة هو والرجال لينصرف النساء أولًا؛ لئلا يختلط الرجال والنساء.

وكذلك لما قدم المهاجرون المدينة كان العزّاب ينزلون دارًا معروفة لهم متميزة عن دور المتأهلين، فلا ينزل العزب بين المتأهلين، وهذا كله؛ لأنَّ اختلاط أحدِ المصنفين بالآخر سببُ الفتنة؛ فالرجال إذا اختلطوا بالنساء كان بمنزلة اختلاط النار والحطب، وكذلك العزب بين الآهلين فيه فتنة لعدم ما يمنعه. [الاستقامة 260]

792 -

كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا صَارَ لَا يَسْمَعُ بِأُذُنِهِ، وَلَا يُبْصِرُ بِعَيْنِهِ، وَلَا يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ: كَانَ ذَلِكَ مَرضًا مُؤلِمًا لَهُ، يَفُوتُهُ مِن الْمَصَالِحِ وَيحْصُلُ لَهُ مِن الْمَضَارِّ، فَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَسْمَعْ وَلَمْ يُبْصِرْ وَلَمْ يَعْلَمْ بِقَلْبِهِ الْحَقَّ مِن الْبَاطِلِ، وَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَرِّ، وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ، كَانَ ذَلِكَ مِن أَعْظَم أَمْرَاضِ قَلْبهِ وَأَلَمِهِ. [10/ 141]

793 -

أَصْلُ ضَلَالِ مَن ضَلَّ: هُوَ بِتَقْدِيمِ قِيَاسِهِ عَلَى النَّصِّ الْمُنَزَّلِ مِن عِنْدِ اللهِ، وَاخْتِيَارِهِ الْهَوَى عَلَى اتّبَاعِ أَمْرِ اللهِ، فَإِنَّ الذَّوْقَ وَالْوَجْدَ وَنَحْو ذَلِكَ هُوَ بِحَسَبِ مَا يُحِبُّهُ الْعَبْدُ، فَكُلُّ مُحِبِّ لَهُ ذَوْقٌ وَوَجْدٌ بِحَسَبِ مَحَبَّتِهِ.

فَأَهْلُ الْإِيمَانِ لَهُم مِن الذَّوْقِ وَالْوَجْدِ مِثْلُ مَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "ثَلَاثٌ مَن كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلا للهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ في الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ في النَّارِ"

(1)

.

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "ذَاقَ طَعْمَ الإيمَانِ مَن رَضِيَ بِاللهِ رَبًا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمحَمَّد نَبِيًّا"

(2)

.

وَأَمَّا أَهْلُ الْكُفْرِ وَالْبِدَع وَالشَّهَوَاتِ فَكُلٌّ بِحَسَبِهِ، قِيلَ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة: مَا

(1)

رواه البخاري (16)، ومسلم (43).

(2)

رواه مسلم (34).

ص: 788

بَالُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ لَهُم مَحَبَّةٌ شَدِيدَةٌ لِأَهْوَائِهِمْ؟ فَقَالَ: أَنَسِيتَ قَوْله تَعَالَى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 93] أو نَحْو هَذَا مِن الْكَلَامِ.

وَلِهَذَا يَمِيلُ هَؤُلَاءِ إلَى سَمَاعِ الشِّعْرِ وَالْأَصْوَاتِ الَّتِي تُهَيِّجُ الْمَحَبَّةَ الْمُطْلَقَةَ

(1)

، الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ؛ بَل يَشْتَرِكُ فِيهَا مُحِبُّ الرَّحْمَنِ، وَمُحِبُّ الأوْثَانِ، وَمُحِبُّ الصُّلْبَانِ، وَمُحِبُّ ا لْأَوْطَانِ، وَمُحِبُّ الْإِخْوَانِ، وَمُحِبُّ المردان، وَمُحِبُّ النِّسْوَانِ.

وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ أَذْوَاقَهُم وَمَوَاجِيدَهُم مِن غَيْرِ اعْتِبَارٍ لِذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ؛ فَالْمُخَالِفُ لِمَا بُعِثَ بِهِ رَسُولُهُ مِن عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ لَا يَكُونُ مُتَّبِعًا لِدِينٍ شَرَعَهُ اللهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)} إلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)} [الجاثية: 18، 19]؛ بَل يَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِن اللهِ. [10/ 170 - 171]

794 -

الرَّجُلُ إذَا تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِامْرَأَةٍ وَلَو كَانَت مُبَاحَةً لَهُ يَبْقَى قَلْبُهُ أَسِيرًا لَهَا، تَحْكُمُ فِيهِ وَتتصَرَّفُ بِمَا تُرِيدُ؛ وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ سَيِّدُهَا؛ لِأَنَهُ زَوْجُهَا، وَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ أَسِيرُهَا وَمَمْلُوكُهَا، لَا سِيَّمَا إذَا دَرَتْ بِفَقْرِهِ إلَيْهَا، وَعِشْقِهِ لَهَا، وَأَنَّهُ لَا يَعْتَاضُ عَنْهَا بغَيْرِهَا؛ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تَحْكُمُ فِيهِ بِحُكْمِ السَّيِّدِ الْقَاهِرِ الظَّالِمِ فِي عَبْدِهِ الْمَقْهُورِ، الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْخَلَاصَ مِنْهُ بَل أَعْظَمُ، فَإِنَّ أَسْرَ الْقَلْبِ أَعْظَمُ مِن أَسْرِ الْبَدَنِ، وَاسْتِعْبَادَ الْقَلْبِ أَعْظَمُ مِن اسْتِعْبَادِ الْبَدَنِ

(2)

. [10/ 185 - 186]

(1)

وهذا مُشاهدٌ في أهل الأهواء والبدع، من الخوارج والرافضة وغيرِهم، فهم لا يجدون اللذة والأنس والنشاط إلا بالألحان والقصص الْمُختَلَقة، أما أهل الإيمان الصحيح، فألذّ شيءٍ عندهم، وأنشط أمرٍ لهم: سماع القرآن، والقيام لله تعالى في صلواتهم، وسماع الذكر والعلم.

(2)

وقد ذكر أهل السير والتاريخ أنّ أحد الخلفاء - وقيل بأنه هارون الرشيد - أحب جاريةً محبّةً شديدة، وقال فيها هذه الأبيات:

أما يكفيكِ أنك تملكيني

وأنَّ الناس كلَّهم عبيد

وأنك لو قطعت يدي ورجلي

لقلت من الرضى أحسنت زيدي

ص: 789

795 -

أَمَّا مَن اسْتَعْبَدَ قَلْبَهُ صُورَةٌ مُحَرَّمَة: امْرَأَةً أَو صَبِيًّا فَهَذَا هُوَ الْعَذَابُ الَّذِي لَا يَدَانِ فِيهِ، وَهَؤُلَاءِ مِن أَعْظَمِ النَّاسِ عَذَابًا وَأَقَلِّهِمْ ثَوَابًا، فَإِنَّ الْعَاشِقَ لِصُورَة إذَا بَقِيَ قَلْبُهُ مُتَعَلِّقًا بِهَا مُسْتَعْبَدًا لَهَا اجْتَمَعَ لَهُ مِن أَنْوَاعِ الشَرِّ وَالْفَسَادِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا رَبُّ الْعِبَادِ، وَلَو سَلِمَ مِن فِعْلِ الْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى، فَدَوَامُ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِهَا بِلَا فِعْلِ الْفَاحِشَةِ أَشَدُّ ضَرَرًا عَلَيْهِ مِمَن يَفْعَلُ ذَنْبًا ثمَّ يَتُوبُ مِنْهُ، وَيزُولُ أَثَرُهُ مِن قَلْبِهِ، وَهَؤُلَاءِ يُشَبَّهُونَ بِالسُّكَارَى وَالْمَجَانِينِ. [10/ 186 - 187]

796 -

كَثِيرًا مَا يُخَالِطُ النُّفُوسَ مِن الشَّهَوَاتِ الْخَفِيَّةِ مَا يُفْسِدُ عَلَيْهَا تَحْقِيقَ وَإِخْلَاصِ دِينهَا لَهُ. [10/ 214 - 215]

797 -

إِذَا كَانَ الْعَبْدُ مُخْلِصًا لَهُ -سبحانه- اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَيُحْيِي قَلْبَة وَاجْتَذَبَهُ إلَيْهِ، فَيَنْصَرِفُ عَنْهُ مَا يُضَادُّ ذَلِكَ مِن السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ، وَيخَافُ مِن حُصُولِ ضِدِّ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْقَلْبِ الَّذِي لَمْ يُخْلِصْ للهِ، فَإِنَّهُ فِي طَلَبٍ وَإِرَادَةٍ وَحُبِّ مُطْلَقٍ، فَيَهْوَى مَا يَسْنَحُ لَهُ، وَيَتَشَبَّثُ بِمَا يَهْوَاهُ؛ كَالْغُصْنِ أَيُّ نَسِيمٍ مَرَّ بِعِطْفِهِ أَمَالَهُ.

فَتَارَةً تَجْتَذِبُهُ الصُّوَرُ الْمُحَرَّمَةُ وَغَيْرُ الْمُحَرَّمَةِ، فَيَبْقَى أَسِيرًا عَبْدًا.

وَتَارَةً يَجْتَذِبُهُ الشَّرَفُ وَالرِّئَاسَةُ فَتُرْضِيهِ الْكَلِمَةُ وَتُغْضِبُهُ الْكَلِمَةُ، وَيسْتَعْبِدُهُ مَن يُثْنِي عَلَيْهِ وَلَو بِالْبَاطِلِ، وَيُعَادِي مَن يَذُمُّهُ وَلَو بِالْحَقِّ.

وَتَارَةً يَسْتَعْبِدُة الدِّرْهَمُ وَالدِّينَارُ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِن الْأُمُورِ الَّتِي تَسْتَعْبِدُ الْقُلُوبَ، وَالْقُلُوبُ تَهْوَاهَا فَيَتَّخِذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَيتَّبعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِن اللهِ. [10/ 216]

798 -

الْبِدَعُ تَكُونُ فِي أَوَّلهَا شِبْرًا، ثُمَّ تَكْثُرُ فِي الأتْبَاعِ حَتَّى تَصِيرَ أَذْزعًا وَأَمْيَالًا وَفَرَاسِخَ. [8/ 425]

799 -

يَحْتَاجُ الْعَبْدُ أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُ شَيْئَيْنِ:

أ - الْآرَاءَ الْفَاسِدَةَ.

ب - وَالْأَهْوَاءَ الْفَاسِدَةَ.

ص: 790

فَيَعْلَمُ أَنَّ الْحِكْمَةَ وَالْعَدْلَ فِيمَا اقْتَضَاهُ عِلْمُهُ وَحِكْمَتُهُ

(1)

لَا فِيمَا اقْتَضَاهُ عِلْمُ الْعَبْدِ وَحِكْمَتُهُ، وَيكُونُ هَوَاهُ تبَعًا لِمَا أَمَرَ اللهُ بِهِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ مَعَ أَمْرِ اللهِ وَحُكْمِهِ هَوًى يُخَالِفُ ذَلِكَ. [10/ 288]

800 -

أَلَا تَرَى أَنَّ الَّذِي يُعَظِّمُ نَفْسَهُ بِالْبَاطِلِ يُرِيدُ أَنْ يَنْصُرَ كُلَّ مَا قَالَهُ وَلَو كَانَ خَطَأً؟ [10/ 292]

801 -

كَوْنُ الْإِنْسَانِ فرِيدًا لِمَا أُمِرَ بِهِ أَو كَارِهًا لَهُ فَهَذَا لَا تَلْتَفِتُ إلَيْهِ الشَّرَائِعُ؛ بَل وَلَا أَمْرُ عَاقِلٍ؛ بَل الْإِنْسَانُ مَأمُورٌ بِمُخَالَفَةِ هَوَاهُ. [10/ 246]

802 -

أَقَامَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَدَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، وَعَامَ الْفَتْحِ أَقَامَ بِهَا قَرِيبًا مِن عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَأَتَاهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَأَقَامَ بِهَا أَرْبَعَ لَيَالٍ وَغَارُ حِرَاءٍ قَرِيبٌ مِنْهُ وَلَمْ يَقْصِدْهُ. [10/ 394]

803 -

اتِّبَاعُ الْهَوَى يُرَادُ بِهِ نَفْسُ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ؛ أَيْ: اتِّبَاعُ إرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، الَّتِي هِيَ هَوَاهُ، وَاتِّبُاعُ الْإِرَادَةِ هُوَ فِعْلُ مَا تَهْوَاهُ النَّفْسُ. [10/ 585]

804 -

يَبْقَى الْإِنْسَانُ عِنْدَ شَهْوَتِهِ وَهَوَاهُ أَسِيرًا لِذَلِكَ، مَقْهُورًا تَحْتَ سُلْطَانِ الْهَوَى، أَعْظَمَ مِن قَهْرِ كُلِّ قَاهِرٍ، فَإِنَّ هَذَا الْقَاهِرَ الْهَوَائِيَّ الْقَاهِرَ لِلْعَبْدِ هُوَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهِ، لَا يُمْكِنُهُ مُفَارَقَتُهُ أَلْبَتَّةَ. [10/ 587]

805 -

اتِّبَاعُ الْهَوَى دَرَجَاتٌ:

فَمِنْهُم الْمُشْرِكُونَ وَاَلَّذِينَ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا يَسْتَحْسِنُونَ بِلَا عِلْمٍ وَلَا بُرْهَانٍ، كَمَا قَالَ:{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان: 43]؛ أَيْ: يَتَّخِذُ إلَهَهُ الَّذِي يَعْبُدُهُ وَهُوَ مَا يَهْوَاهُ مِن آلِهَةٍ، وَلَمْ يَقُلْ إنَّ هَوَاهُ نَفْسُ إلَهِهِ، فَلَيْسَ كُلُّ مَن يَهْوَى شَيْئًا يَعْبُدُهُ، فَإِنَّ الْهَوَى أَقْسَامٌ؛ بَل الْمُرَادُ أَنَّهُ جَعَلَ الْمَعْبُودَ الَّذِي يَعْبُدُهُ هُوَ مَا يَهْوَاهُ، فَكَانَت عِبَادَتُهُ تَابِعَةً لِهَوَى نَفْسِهِ فِي الْعِبَادَة.

(1)

أي: علم الله وحكمته.

ص: 791

وَهَذِهِ حَالُ "أَهْلِ الْبِدَعِ" فَإِنَّهُم عَبَدُوا غَيْرَ اللهِ وَابْتَدَعُوا عِبَادَاتٍ زَعَمُوا أَنَّهُم يَعْبُدُونَ اللهَ بِهَا.

وَالْمُبْتَلُونَ بِالْعِشْقِ لَا يَزَالُ الشَّيْطَانُ يُمَثِّلُ لِأَحَدِهِمْ صُورَةَ الْمَعْشُوقِ، أَو يَتَصَوَّرُ بِصُورَتِهِ، فَلَا يَزَالُ يَرَى صُورَتَهُ مَعَ مَغِيبِهِ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنَّمَا جَلَاهُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَلْبِهِ، وَلِهَذَا إذَا ذَكَرَ الْعَبْدُ اللهَ الذِّكْرَ الَّذِي يَخْنِسُ مِنْهُ الْوَسْوَاسُ الْخَنَّاسُ

(1)

: خَنَسَ هَذَا الْمِثَالُ الشَيْطَانِيُّ

(2)

.

وَصُورَةُ الْمَحْبُوبِ تَسْتَوْلِي عَلَى الْمُحِبِّ أَحْيَانًا حَتَّى لَا يَرَى غَيْرَهَا وَلَا يَسْمَعَ غَيْرَ كَلَامِهَا فَتَبْقَى نَفْسُهُ مُشْتَغِلَةً بِهَا. [10/ 592 - 593]

806 -

الشَّهْوَةُ تَفْتَحُ بَابَ الشَّرِّ وَالسَّهْوِ وَالْخَوْفِ

(3)

، فَيَبْقَى الْقَلْبُ مَغْمُورًا فِيمَا يَهْوَاهُ وَيخْشَاهُ، غَافِلًا عَنِ اللهِ، سَاهِيًا عَن ذِكْرِهِ، قَد اشْتَغَلَ بِغَيْرِ اللهِ، قَد انْفَرَطَ أَمْرُهُ، قَد رَانَ حُبُّ الدُّنْيَا عَلَى قَلْبِهِ. [10/ 597]

807 -

طَالِبُ الرِّئَاسَةِ - وَلَو بِالْبَاطِلِ - تُرْضِيهِ الْكلِمَةُ الَّتِي فِيهَا تَعْظِيمُهُ وَإِن كَانَت بَاطِلًا، وَتُغْضِبُهُ الْكَلِمَةُ الَّتِي فِيهَا ذَمُّهُ وَإِن كَانَت حَقًّا.

وَكَذَلِكَ طَالِبُ الْمَالِ - وَلَو بِالْبَاطِلِ - كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)} [التوبة: 58] وَهَؤُلَاءِ هُم الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: "تَعِسَ عَبْدُ الدَّينَارِ"

(4)

الْحَدِيثَ.

فَكَيْفَ إذَا اسْتَوْلَى عَلَى الْقَلْبِ مَا هُوَ أَعْظَمُ اسْتِعْبَادًا مِن الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ مِن الشَّهَوَاتِ وَالأهْوَاءِ؟! [10/ 599 - 600]

808 -

نَفْسُ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ؛ بَل عَلَى اتِّبَاعِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، فَإِذَا كَانَت النَّفْسُ تَهْوَى وَهُوَ يَنْهَاهَا كَانَ نَهْيُهُ عِبَادَةً للهِ وَعَمَلًا صَالِحًا، وَثَبَتَ

(1)

فليس كلّ ذكر ينفع ويطرد الشيطان من القلب، بل هو الذكر الذي تواطأ عليه القلب واللسان، وقاله صاحبه لإخلاص وصدق وإيمان.

(2)

فالذكر من أعظم أسباب علاج الُمْبتَلِين بالعشق والحب.

(3)

يخاف من فقد ما يشتهيه ويُحبه.

(4)

رواه البخاري.

ص: 792

عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "الْمُجَاهِدُ مَن جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللهِ"

(1)

، فَيُؤْمَرُ بِجِهَادِهَا كَمَا يُؤْمَرُ بِجِهَادِ مَن يَأْمُرُ بِالْمَعَاصِي وَيدْعُو إلَيْهَا وَهُوَ إلَى جِهَادِ نَفْسِهِ أَحْوَجُ. [10/ 635 - 636]

809 -

سَمَاعُ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ: وَهُوَ الِاجْتِمَاعُ لِسَمَاع القصَائِدِ الرَّبَّانِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَ بِكَفِّ أَو بِقَضِيبٍ أَو بِدُفٍّ، أَو كَانَ مَعَ ذَلِكَ شَبَّابًةٌ، فَهَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِن الصَّحَابَةِ لَا مِن أَهْلِ الصُّفَّةِ وَلَا مِن غَيْرِهِمْ؛ بَل وَلَا مِن التَّابِعِينَ بَل الْقُرُونُ الْمُفَضَّلَةُ الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"خَيْرُ الْقُرُونِ الَّذِينَ بُعِثْت فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم ثمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ"

(2)

لَمْ يَكُن فِيهِمْ أَحَدٌ يَجْتَمِعُ عَلَى هَذَا السَّمَاعِ لَا فِي الْحِجَازِ وَلَا فِي الشَّامِ وَلَا فِي الْيَمَنِ وَلَا الْعِرَاقِ وَلَا مِصْرَ وَلَا خُرَاسَانَ وَلَا الْمَغْرِبِ، وَإِنَّمَا كَانَ السَّمَاعُ الَّذِي يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ سَمَاعُ الْقُرْآنِ. [16/ 57 - 58]

810 -

كَانَ السَّلَفُ يُسَمُّونَ أَهْلَ الْبِدَعِ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ

(3)

. [11/ 453]

811 -

فَأَمَّا الِانْتِسَابُ الَّذِي يُفَرِّق بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِيهِ خُرُوجٌ عَن الْجَمَاعَةِ والائتلاف إلَى الْفُرْقَةِ، وَسُلُوكِ طَرِيقِ الِابْتِدَاعِ، وَمُفَارَقَةِ السُّنَّةِ وَالِاتِّبَاعِ، فَهَذَا مِمَّا يُنْهَى عَنْهُ وَيأَثَمُ فَاعِلُهُ، وَيخْرُجُ بِذَلِكَ عَن طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم

(4)

. [11/ 514]

(1)

رواه أبو داود (1451)، والترمذي (1621)، وصحَّحه الألباني.

(2)

رواه مسلم (2535)، وأبو داود (4657).

(3)

وذلك لأنه لا يبتدع الإنسان بدعةً إلا لهوى في قلبه، فمتى سلم الإنسان من اتباع هواه فارق البدع والانحراف العقديّ والمنهجيّ.

(4)

يدل كلام شيخ الإسلام على أنه لا باس بالِانْتِسَابِ الَّذِي لا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وإنما يُنظم عملهم، ويزيد من عطائهم، والحاجةُ إلى تَأْلِيفِ الْجَمْعِياتِ الدِّينيَّةِ وَالْخَيْرِئةِ وَالْعِلْمِيَّةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ في كثير من بلاد المسلمين من أهم الأمور، ولذلك قال العلَّامة محمد رشيد رضى رحمه الله تعالى: كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي الصَّدْرِ الْأوَّلِ جَمَاعَةً وَاحِدَةً، يَتَعَاوَنُونَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى عَنْ غَيْرِ ارْتبَاطٍ بِعَهْدٍ وَنِظَام بَشَرِيٍّ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْجَمْعِيَّاتِ الْيَوْمَ، فَإِنَّ عَهْدَ اللهِ وَمِيثَاقَهُ كَانَ مُغْنِيًا لَهُمْ عَنْ غَيْرِهِ، وَقَد شهِدَ اللهُ - تَعَالَى - لَهُمْ بِقَوْلِهِ:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]. =

ص: 793

812 -

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَن جَمَاعَةٍ يَجْتَمِعُونَ عَلَى قَصْدِ الْكَبَائِرِ مِن الْقَتْلِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ إنَّ شَيْخًا مِن الْمَشَايخ الْمَعْرُوفِينَ بِالْخَيْرِ وَاتِّبَاعِ السُّنَّةِ قَصَدَ مَنْعَ الْمَذْكُورِينَ مِن ذَلِكَ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ إلًّا أَنْ يُقِيمَ لَهُم سَمَاعًا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ بِهَذِهِ النِّيَّةِ وَهُوَ بِدُفٍّ بِلَا صَلَاصِلَ، وَغِنَاءِ الْمُغَنِّي بِشِعْرٍ مُبَاحٍ بِغَيْرِ شَبَّابَةٍ، فَلَمَّا فَعَلَ هَذَا تَابَ مِنْهُم جَمَاعَةٌ، وَأَصْبَحَ مَن لَا يُصَلِّي وَيسْرِقُ وَلَا يُزَكِّي يَتَوَرَّعُ عَن الشُّبُهَاتِ وُيؤَدِّي الْمَفْرُوضَاتِ وَيجْتَنِبُ الْمُحَرَّمَاتِ.

فَهَل يُبَاحُ فِعْلُ هَذَا السَّمَاع لِهَذَا الشَّيْخ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِن الْمَصَالِحِ؟ مَعَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ دَعوَتُهُم إلَّا بِهَذَا؟

فَأَجَابَ: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَصْلُ جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْألَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا: أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا، وَأَنَّهُ أَكْمَلَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ الدِّينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

وَثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا

= وَلَمَّا انْتَثَرَ بِأَيْدِي الْخَلَفِ ذَلِكَ الْعَقْدَ وَنُكِثَ ذَلِكَ الْعَهْدُ، صِرْنَا مُحْتَاجِينَ إِلَى تَأَلِيفِ جَمْعِيَّاتٍ خَاصَّةٍ بِنِظَامٍ خَاصٍّ لِأجْلِ جَمْعِ طَوَائِفَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَحَمْلِهِمْ عَلَى إِقَامَةِ هَذَا الْوَاجِبِ: التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى فِي أَيِّ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهِ أو عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِ، وَقَلَّمَا تَرَى أَحَدًا فِي هَذَا الْعَصْرِيُعِينُكَ عَلَى عَمَلٍ مِنَ الْبِرِّ، مَا لَمْ يَكُن مُرْتَبِطًا مَعَكَ فِي جَمْعِيَّةٍ أُلِّفَتْ لِعَمَلٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ لَا يَفِي لَكَ بِهَذَا كُلُّ مَن يُعَاهِدُكَ عَلَى الْوَفَاءِ، فَهَل تَرْجُو أَنْ يُعِينَكَ عَلَى غَيْرِ مَا عَاهَدَكَ عَلَيْهِ؟

فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ تَأْلِيفَ الْجَمْعِيَّاتِ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ امْتِثَالُ هَذَا الْأَمْرِ، وَإِقَامَةُ هَذَا الْوَاجِبِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ كَمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ، فَلَا بُدَّ لَنَا مِنْ تَأْلِيفِ الْجَمْعِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ وَالْخَيْرِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ، إِذَا كُنَا نُرِيدُ أنْ نَحْيَا حَيَاةً عَزِيزَةً، فَعَلَى أَهْلِ الْغَيْرَةِ وَالنَّجْدَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعْنَوْا بِهَذَا كُلَّ الْعِنَايَةِ، وَإِن رَأوْا كُتُبَ التَّفْسِيرِ لَمْ تُعْنَ بِتَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَمْ تُبَيِّنْ لَهُمْ أَنَّهَا دَاعِيَةٌ لَهُمْ إِلَى أَقْوَمِ الطُّرِقِ وَأَقْصَدِهَا لِأِصْلَاحِ شَأْنِهِمْ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ. اهـ. تفسير المنار (6/ 111 - 112).

ص: 794

بَعْدِي إلَّا هَالِكٌ"

(1)

.

وَشَوَاهِدُ هَذَا "الْأَصْلِ الْعَظِيمِ الْجَامِعِ"، مِن الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرَةٌ، وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْكُتُبِ:"كِتَابُ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ"، كَمَا تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ والبغوي وَغَيْرُهُمَا.

فَمَن اعْتَصَمَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَانَ مِن أَوْليَاءِ اللهِ الْمُتَّقِينَ وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ وَجُنْدِهِ الْغَالِبِينَ.

وَكَانَ السَّلَفُ - كَمَالِك وَغَيْرِهِ -: يَقولُونَ: السُّنَّةُ كَسَفِينَةِ نُوحٍ مَن رَكِبَهَا نَجَا، وَمَن تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ.

وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَ مَن مَضَى مِن عُلَمَائِنَا يَقُولُونَ: الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ نَجَاةٌ.

إذَا عُرِفَ هَذَا فَمَعْلُومٌ أَنَّمَا يَهْدِي اللهُ بِهِ الضَّالِّينَ وُيرْشِدُ بِهِ الْغَاوِينَ وَيتُوبُ بِهِ عَلَى الْعَاصِينَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيمَا بَعَثَ اللهُ بِهِ رَسُولَهُ مِن الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِلَّا فَإِنَّهُ لَو كَانَ مَا بَعَثَ اللهُ بِهِ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم لَا يَكْفِي فِي ذَلِكَ لَكَانَ دِينُ الرَّسُولِ نَاقِصًا مُحْتَاجًا تَتِمَّةً.

وَينْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ أَمَرَ اللهُ بِهَا أَمْرَ إيجَابٍ أَو اسْتِحْبَابٍ، وَالْأعْمَالُ الْفَاسدَةُ نَهَى اللهُ عَنْهَا، وَالْعَمَلُ إذ اشْتَمَلَ عَلَى مَصْلَحَةٍ وَمَفْسَدَةٍ فَإِنَّ الشَّارعَ حَكيمٌ، فَإِنْ غَلَبَتْ مَصْلَحَتُهُ عَلَى مَفْسَدَتِهِ شَرَعَهُ وَإِن غَلَبَتْ مَفْسَدَتُهُ عَلَى مَصْلَحَتِهِ لَمْ يُشَرِّعْهُ بَل نَهَى عَنْهُ.

وَهَكَذَا مَا يَرَاهُ النَّاسُ مِن الْأَعْمَالِ مُقَرِّبًا إلَى اللهِ وَلَمْ يُشَرِّعْهُ اللهُ وَرَسُولُهُ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ضَرَرُهُ أَعْظَمَ مِن نَفْعِهِ، وَإِلَّا فَلَو كَانَ نَفْعُهُ أَعْظَمَ غَالِبًا عَلَى ضَرَرِهِ لَمْ يُهْمِلْة الشَّارعُ؛ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَكِيمٌ لَا يُهْمِلُ مَصَالِحَ الدِّينِ، وَلَا يُفَوِّتُ الْمُؤْمِيينَ مَا يُقَرِّبُهُم إلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ.

(1)

رواه الإمام أحمد (17142).

ص: 795

إذَا تبَيَّنَ هَذَا فَنَقُولُ لِلسَّائِلِ: إنَّ الشَّيْخَ الْمَذْكُورَ قَصَدَ أَنْ يُتَوِّبَ الْمُجْتَمِعِينَ عَلَى الْكَبَائِرِ فَلَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ إلَّا بِمَا ذَكَرَهُ مِن الطَّرِيقِ الْبِدْعِيِّ: يَدُلُّ أَنَّ الشَّيْخَ جَاهِلٌ بِالطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي بِهَا "تَتُوبُ الْعُصَاةُ، أَو عَاجِزٌ عَنْهَا؛ فَإِنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ كَانُوا يَدْعُونَ مَن هُوَ شَرٌّ مِن هَؤُلَاءِ مِن أهْلِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ بِالطُّرُقِ الشَرْعِيَّةِ الَّتِي أَغْنَاهُم اللهُ بِهَا عَن الطُّرُقِ الْبِدْعِيَّةِ.

فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ لَيْسَ فِي الطُّرُقِ الشَرْعِيَّةِ الَّتِي بَعَثَ اللهُ بِهَا نَبِيَّهُ مَا يَتُوبُ بِهِ الْعُصَاةُ، فَإِنَّهُ قَد عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ وَالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ أَنَّهُ قَد تَابَ مِن الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ مَن لَا يُحْصِيه إلَّا اللهُ تَعَالَى مِن الْأُمَمِ بِالطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَا ذُكِرَ مِن الِاجْتِمَاعِ الْبِدْعِيِّ.

فَلَا يَعْدِلُ أَحَدٌ عَن الطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ إلَى الْبِدْعِيَّةِ إلَّا لِجَهْلٍ أَو عَجْزٍ أَو غَرَضٍ فَاسِدٍ.

فَمِن الْمَعْلُومِ أَنَّ سَمَاعَ الْقُرْآنِ هُوَ سَمَاعُ النَّبِيِّينَ وَالْعَارِفِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ.

قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ} [الزمر: 23].

وَبِهَذَا السَّمَاعِ هَدَى اللهُ الْعِبَادَ وَأَصْلَحَ لَهُم أَمْرَ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَبِهِ بُعِثَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَبِهِ أَمَرَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ، وَعَلَيْهِ كَانَ يَجْتَمِعُ السَّلَفُ.

وَقَد مَدَحَ اللهُ أَهْلَ هَذَا السَّمَاعِ الْمُقْبِلِينَ عَلَيْهِ، وَذَمَّ الْمُعْرِضينَ عَنْة، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ سَبَبُ الرَّحْمَةِ، فَقَالَ تَعَالَى:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)} [الأعراف: 204].

وَقَوْلُ السَّائِلِ وَغَيْرِهِ: هَل هُوَ حَلَالٌ أَو حَرَامٌ؟ لَفْظٌ مُجْمَلٌ، فِيهِ تَلْبِيسٌ يَشْتَبِهُ الْحُكْمُ فِيهِ، حَتَّى لَا يُحْسِنَ كَثِيرٌ مِن الْمُفْتِينَ تَحْرِيرَ الْجَوَابِ فِيهِ؛ وَذَلِكَ

ص: 796

أَنَّ الْكلَامَ فِي السَّمَاعِ وَغَيْرِهِ مِن الْأَفْعَالِ عَلَى ضَرْبَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ هَل هُوَ مُحَرَّمٌ أَو غَيْرُ محَرَّمٍ؟ بَل يَفْعَلُ كَمَا يَفْعَلُ سَائِرَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَلْتَذُّ بِهَا النُّفُوسُ، وَإِن كَانَ فِيهَا نَوْعٌ مِن اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ كَسَمَاعِ الْأَعْرَاسِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَفْعَلُهُ النَّاسُ لِقَصْدِ اللَّذَّةِ وَاللَّهْوِ لَا لِقَصْدِ الْعِبَادَةِ وَالتَّقَرُّبِ إلَى اللهِ.

وَالنَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يَفْعَلَ عَلَى وَجْهِ الدِّيَانَةِ وَالْعِبَادَةِ وَصَلَاحِ الْقُلُوبِ.

فَيَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ سَمَاعِ الْمُتَقَرِّبِينَ، وَسَمَاعِ الْمُتَلَعِّبِينَ، وَبَيْنَ السَّمَاعِ الَّذِي يَفْعَلُهُ النَّاسُ فِي الْأَعْرَاسِ وَالْأَفْرَاحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِن الْعَادَاتِ، وَبَيْن السَّمَاعِ الَّذِي يُفْعَلُ لِصَلَاحِ الْقُلُوبِ وَالتَّقَرُّبِ إلَى رَبِّ السَّمَوَاتِ.

فَإِنَّ هَذَا يُسْأَلُ عَنْهُ: هَل هُوَ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ؟ وَهَل هُوَ طَرِيقٌ إلَى اللهِ؟ وَهَل لَهُم بُدٌّ مِن أَنْ يَفْعَلُوهُ لِمَا فِيهِ مِن رِقَّةِ قُلُوبِهِم وَتَحْرِيكِ وَجْدِهِمْ لِمَحْبُوبِهِم وَتَزْكِيَةِ نُفُوسِهِمْ وَإِزَالَةِ الْقَسْوَةِ عَن قُلُوبِهِم وَنَحْوِ ذَلِكَ مِن الْمَقَاصِدِ الَّتِي تُقْصَدُ بِالسَّمَاعِ؟

إذَا عُرِفَ هَذَا فَحَقِيقَةُ السُّؤَالِ: هَل يُبَاحُ لِلشَّيْخِ أَنْ يَجْعَلَ هَذِهِ الْأُمُورَ الَّتِي هِيَ: إمَّا مُحَرَّمَةٌ أَو مَكْرُوهَةٌ أَو مُبَاحَةٌ قُرْبَةً وَعِبَادَةً وَطَاعَةً وَطَرِيقَةً إلَى اللهِ يَدْعُو بِهَا إلَى اللهِ ويُتَوِّبُ الْعَاصِينَ ويُرْشِدُ بِهِ الْغَاوِينَ وَيهْدِي بِهِ الضَّالِّينَ؟

(1)

.

وَمِن الْمَعْلُومِ أَنَّ الدِّينَ لَهُ "أَصْلَانِ" فَلَا دِينَ إلَّا مَا شَرَعَ اللهُ وَلَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللهُ. وَاللهُ تَعَالَى عَابَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُم حَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللهُ وَشَرَعُوا دِينًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ.

وَلَو سُئِلَ الْعَالِمُ عَمَّن يَعْدُو بَيْنَ جَبَلَيْنِ: هَل يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ؟

قَالَ: نَعَمْ.

(1)

رحم الله هذا الإمام الرباني! كيف أصل المسألة تأصيلًا بديعًا، وكيف تسلسل بهذه المقدمات حتى أوصل السائل والقارئ إلى أنْ يُجيب هو بنفسِه.

ص: 797

فَإِذَا قِيلَ: إنَّهُ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ كَمَا يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا والمروة؟

قَالَ: إنَّ فِعْلَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَرَامٌ مُنْكَرٌ.

لِهَذَا مَن حَضَرَ السَّمَاعَ لِلَّعِبِ وَاللَّهْوِ لَا يَعُدُّهُ مِن صَالِحِ عَمَلِهِ وَلَا يَرْجُو بِهِ الثَّوَابَ.

وَأَمَّا مَن فَعَلَهُ عَلَى أَنَّهُ طَرِيق إلَى اللهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَتَّخِذُهُ دِينًا، وَإِذَا نَهَى عَنْهُ كَانَ كَمَن نَهَى عَن دِينِهِ.

فَالسُّؤَالُ عَن مِثْل هَذَا أَنْ يُقَالَ: هَل مَا يَفْعَلُهُ هَؤُلَاءِ طَرِيقٌ وَقُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ للهِ تَعَالَى يُحِبُّهَا اللهُ وَرَسُولُة أَمْ لَا؟ وَهَل يُثَابُونَ عَلَى ذَلِكَ أَمْ لَا؟

وَإِذَا لَمْ يَكُن هَذَا قُرْبَةً وَطَاعَةً وَعِبَادَةً للهِ، فَفَعَلُوهُ عَلَى أَنَّهُ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ وَعِبَادَةٌ لا وَطَرِيقٌ إلَى اللهِ تَعَالَى، هَل يَحِلُّ لَهُم هَذَا الِاعْتِقَادُ؟ وَهَذَا الْعَمَلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ؟

(1)

.

وَإِذَا كَانَ السُّؤَالُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يَكُن لِلْعَالِمِ الْمُتَّبعِ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَ: إنَّ هَذَا مِن الْقُرَبِ وَالطَّاعَاتِ وَأَنَّهُ مِن أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ، وَأَنَّهُ مِن سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى وَطَرِيقِهِ الَّذِي يَدْعُو بِهِ هَؤُلَاءِ إلَيْهِ، وَلَا أَنَّهُ مِمَّا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ عِبَادَهُ، لَا أَمْرَ إيجَابٍ وَلَا أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ.

وَمَا لَمْ يَكُن مِن الْوَاجِبَاتِ والمستحبات فَلَيْسَ هُوَ مَحْمُودًا وَلَا حَسَنَةً وَلَا طَاعَةً وَلَا عِبَادَةً بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.

(1)

هذا الوجه الأول، ولم يذكر الوجه الثاني، وهو إِذَا لَمْ يَكُن هَذَا قُرْبَةً وَطَاعَةً وَعِبَادَةً لِلَّهِ، ولم يفعَلُوهُ عَلَى أَنَّهُ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ، بل وسيلةً محضةً مُباحةً لكسب قلوبهم، ولم يشتمل على محرم: فالذي يظهر أننا لا نقول بالتحريم إلا على القول بتحريم الدف للرجال.

ومثل هذه المسألة: من يدعو العصاة بالأساليب المباحة، كالأناشيد الإسلامية، والمسرحيات المباحة، فإننا لا نقول بأنه قد خالف عمل الصحابة بدعوة الناس بالكتاب والسُّنَّة، ونحن لا نشك بأن ذلك هو السبيل الأمثل، والطريق الأقوم، لكن لا يعني أنّ وسائل الدعوة المباحة توقيفيّة. والله أعلم.

ص: 798

فَمَن فَعَلَ مَا لَيْسَ بِوَاجِب وَلَا مُسْتَحَبٍّ عَلَى أَنَّهُ مِن جِنْسِ الْوَاجِبِ أَو الْمُسْتَحَبِّ فَهُوَ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ، وَفِعْلُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَرَامٌ بِلَا ريبٍ. [11/ 620 - 635]

813 -

مَن اتَّبَعَ الظُّنُونَ وَالْأَهْوَاءَ مُعْتَقِدًا أَنَّهَا عَقْلِيَّاتٌ وَذَوْقِيَّات فَهُوَ مِمَن قَالَ اللهُ فِيهِ: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)} [النجم: 23].

وَإِنَّمَا يَفْصِلُ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا تَنَازَعُوا فِيهِ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ مِن السَّمَاءِ، وَالرَّسُولُ الْمُؤَيَّدُ بِالْأَنْبَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)} [الأحقاف: 4]. [12/ 465]

814 -

إنَّ السَّلَفَ كَانَ اعْتِصَامُهُم بِالْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ، فَلَمَّا حَدَثَ فِي الْأُمَّةِ مَا حَدَثَ مِن التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ صَارَ أَهْلُ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ شِيَعًا، صَارَ هَؤُلَاءِ عُمْدَتُهُم فِي الْبَاطِنِ لَيْسَتْ عَلَى الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ، وَلَكِنْ عَلَى أُصُولٍ ابْتَدَعَهَا شُيُوخُهُمْ، عَلَيْهَا يَعْتَمِدُونَ فِي التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَالْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ مَا ظَنُّوا أَنَّهُ يُوَافِقُهَا مِن الْقُرْآنِ احْتَجُّوا بِهِ، وَمَا خَالَفَهَا تَأَوَّلُوهُ

(1)

؛ فَلِهَذَا تَجِدُهُم إذَا احْتَجُّوا بِالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ لَمْ يَعْتَنُوا بِتَحْرِيرِ دَلَالَتِهِمَا، وَلَمْ يَسْتَقْصُوا مَا فِي الْقُرْآنِ مِن ذَلِكَ الْمَعْنَى

(2)

؛ إذ كَانَ اعْتِمَادهُم فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ

(3)

، وَالْآيَاتُ الَّتِي تُخَالِفُهُم يَشْرَعُونَ فِي تَأْوِيلِهَا شُرُوعَ مَن قَصَدَ رَدَّهَا كَيْفَ أَمْكَنَ؛ لَيْسَ مَقْصُودُهُ أَنْ يُفْهَمَ مُرَادَ الرَّسُولِ؛ بَل أَنْ يَدْفَعَ مُنَازِعَهُ عَن الِاحْتِجَاجِ بِهَا.

وَلِهَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنْهُم - كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَمَن تَبِعَهُ كالرَّازِي والآمدي

(1)

وهذا حال جميع أهل البدع والأهواء، فالحذر من هذا المزلق الخطير، ولْيقدِّم المسلم دلالة الكتاب والسُّنَّة على كلِّ قولٍ يُخالفهما.

(2)

يعني: يستشهدون بالكتاب والسُّنَّة إجمالًا، دون النظر فيهما بدقة، واستنباط الأحكام منهما، بل يُعرجون عليهما بعجلة.

(3)

وهو اعتمادهم على ما يهوونه، أو ما هو مُسلَّمٌ عندهم من كلام شيوخهم.

ص: 799

وَابْنِ الْحَاجِبِ -: إنَّ الْأُمَّةَ إذَا اخْتَلَفَتْ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ جَازَ لِمَن بَعْدَهُم إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفُوا فِي الْأَحْكَامِ عَلَى قَوْلَيْنِ.

فَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ الْأُمَّةُ مُجْتَمِعَةً عَلَى الضَّلَالِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَأَنْ يَكُونَ اللهُ أَنْزَلَ الْآيَةَ وَأَرَادَ بِهَا مَعْنًى لَمْ يَفْهَمْهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ؛ وَلَكِنْ قَالُوا: إنَّ اللهَ أَرَادَ مَعْنًى آخَرَ.

وَهُم لَو تَصَوَّرُوا هَذِهِ "الْمَقَالَةَ" لَمْ يَقُولُوا هَذَا؛ فَإِنَّ أَصْلَهُم أَنَّ الْأمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَلَا يَقُولُونَ قَوْلَيْنِ كِلَاهُمَا خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ قَوْلٌ ثَالِثٌ لَمْ يَقُولُوهُ؛ لَكِنْ قَد اعْتَادُوا أَنْ يَتَأَوَّلُوا مَا خَالَفَهُمْ، وَالتَّأْوِيلُ عِنْدَهُم مَقْصُودُهُ بَيَانُ احْتِمَالٍ فِي لَفْظِ الْآيَةِ بِجَوَازِ أَنْ يُرَادَ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِذَلِكَ اللَّفْظِ، وَلَمْ يَسْتَشْعِرُوا أَنَّ الْمُتَأَوّلَ هُوَ مُبَيِّن لِمُرَادِ الْآيَةِ مُخْبِرٌ عَن اللهِ تَعَالَى أَنَّهُ أَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى إذَا حَمَلَهَا عَلَى مَعْنًى

(1)

.

وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ كَثِيرًا مِن الْمُتَأَخِّرِينَ لَمْ يَصِيرُوا يَعْتَمِدُونَ فِي دِينِهِمْ لَا عَلَى الْقُرْآنِ وَلَا عَلَى الْإِيمَانِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بِخِلَافِ السَّلَفِ؛ فَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ أَكْمَلَ عِلْمًا وَإِيمَانًا، وَخَطَؤُهُم أَخَفَّ، وَصَوَابُهُم أَكْثَرَ.

وَكَانَ الْأَصْلُ الَّذِي أَسَّسُوهُ هُوَ مَا أَمَرَهُم اللهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)} [الحجرات: 1]، فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَا وَصَفَ بِهِ الْمَلَائِكَةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)} [الأنبياء: 27].

فَوَصَفَهُم سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُم لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَأنَّهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ فَلَا يُخْبِرُونَ عَن شَيْءٍ مِن صِفَاتِهِ وَلَا غَيْرِ صِفَاتِهِ إلَّا بَعْدَ أَنْ يُخْبِرَ سُبْحَانَهُ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ؛ فَيَكُونُ خَبَرُهُم وَقَوْلُهُم تبَعًا لِخَبَرِهِ. [13/ 58 - 61]

(1)

وهذا خطير جدًّا، وهو جرأةٌ على الله تعالى، إلا إذا دلّ الدليل الصحيح على التأويل.

ص: 800

815 -

إذَا ظَهَرَتِ الْبِدَعُ الَّتِي تُخَالِفُ دِينَ الرُّسُلِ انْتَقَمَ اللهُ مِمَن خَالَفَ الرُّسُلَ وَانْتَصَرَ لَهُمْ. [13/ 177]

816 -

مَن دَفَعَ نُصُوصًا يَحْتَجُّ بِهَا غَيْرُهُ لَمْ يُؤْمِن بِهَا؛ بَل آمَنَ بِمَا يَحْتَجُّ: صَارَ مِمَن يُؤْمِنُ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَيَكْفُرُ بِبَعْضِ

(1)

.

وَهَذَا حَالُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، هم مُخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ، مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ، مُتَّفِقُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ، وَقَد تَرَكُوا كُلُّهُم بَعْضَ النُّصُوصِ، وَهُوَ مَا يَجْمَعُ تِلْكَ الْأقْوَالَ

(2)

، فَصَارُوا كمَا قَالَ - تعالى - عَن أَهْلِ الْكِتَاب:{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة: 14].

فَإِذَا تَرَكَ النَّاسُ بَعْضَ مَا أَنْزَلَ اللهُ وَقَعَتْ بَيْنَهُم الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ، إذ لَمْ يَبْقَ هُنَا حَقٌّ جَامِعٌ يَشْتَرِكُونَ فِيهِ؛ بَل {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)} [المؤمنون: 53].

وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُم لَيْسَ مَعَهُم مِن الْحَقِّ إلَّا مَا وَافَقُوا فِيهِ الرَّسُولَ، وَهُوَ مَا تَمَسَّكُوا بِهِ مِن شَرْعِهِ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ وَمَا أَمَرَ بِهِ، وَأَمَّا مَا ابْتَدَعُوهُ فَكُلُّهُ ضَلَالَةٌ. [13/ 227]

817 -

اَلَّذِينَ فِي قلُوبِهِم زَيْغٌ يَدَعُونَ الْمُحْكَمَ الَّذِي لَا اشْتِبَاهَ فِيهِ

وَيتَّبِعُونَ الْمُتَشَابِهَ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ لِيَفْتِنُوا بِهِ النَّاسَ إذَا وَضَعُوهُ عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهِ، وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَهُوَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي أَخْبَرَ عَنْهَا

(3)

. [13/ 277]

(1)

كلام في غاية الأهميّة، ومعنى كلامه: أنّ مَن دَفَعَ نُصُوصًا صحيحةً يَحْتَجُّ بِهَا غَيْرُهُ، ولَمْ يُؤمِن بِهَا ويُسلّم ويُذعن لَهَا، بل أوّلها أو ردّها بلا حجة، وآمَنَ بِمَا يَحْتَجُّ به من الأدلة: صَارَ مِمَن يُؤمِنُ بِبَعْضِ الْكِتَاب وَيكْفُرُ بِبَعْضِ؛ لأنه آمن بالنصوص التي يميل إليها، وردّ النصوص التي لا تميل نفسه إليهَا؛ لأنها جاءت مُعارضة لرأيه ومذهبِه.

(2)

أي: النصوص الشرعيّة تجمع بين أقوال المخالفين وتُوافق بينها غالبًا.

(3)

خذ مثالًا على ذلك:

الخوارج المارقون، فهم تركوا المحكم الصريح من الكتاب والسُّنَّة في تحريم قتل المسلم =

ص: 801

818 -

مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِن الْخَارِجِينَ عَن الْكِتَاب وَالسُّنَّةِ مِن جَمِيعِ فُرْسَانِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ إلا وَلَا بُدَّ أَنْ يَتَنَاقَضَ، فَيُحِيلُ مَا أَوْجَبَ نَظِيرَهُ، ويُوجِبُ مَا أَحَالَ نَظِيرَهُ؛ إذ كَلَامُهُم مِن عِنْدِ غَيْرِ اللهِ، وَقَد قَالَ اللهُ تَعَالَى:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء: 82]. [13/ 305]

819 -

لَا رَيْبَ أَنَّ مَحَبَّةَ الْفَوَاحِشِ مَرَضٌ فِي الْقَلْب، فَإِنَّ الشَّهْوَةَ تُوجِبُ السُّكْرَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَن قَوْمِ لُوطٍ:{إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)} [الحجر: 72]. [15/ 288]

820 -

إِنَّ دَوَامَ النَّظَرِ بِالشَّهْوَةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنَ الْعِشْقِ وَالْمُعَاشَرَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ قَد يَكُونُ أَعْظَمَ بِكَثِيرٍ مِن فَسَادِ زنى لَا إصْرَارَ عَلَيْهِ

(1)

. [15/ 293]

= كقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم:"لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أنْ لَا إلَهَ إلا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِى، وَالْمَارقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ الْجَمَاعَةَ". متفق عليه.

فهذه نصوصٌ صريحةٌ في تحريم قتل المسلم سوى ما اسْتُثني، ثم نراهم يُقدمون على قتل المسلمين من العسكر والمجاهدين من الذي اختلفوا معهم في توجهاتهم.

وأيضًا: تركوا النصوص الصريحة التي تحذر من الخروجِ على ولي الأمر المسلم، وعدم نزع يد الطاعة منه، كقوله صلى الله عليه وسلم:"مَن خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً". متفق عليه.

فهم قد فارقوا طاعة ولي أمرنا المسلم في بلاد الحرمين خاصة، وفارقوا جماعة المسلمين بتكفيرهم وقتالهم، وعدم الانصياع لعلمائهم، وتمسكوا بالمتشابه، كقولهم: حكامنا يُوالون الكفار، ويُنكِّلون بالمجاَهدين، ومن كان يُؤيدهم من العسكر فهو منهم، فأباحوا قتل ولاة الأمر والعسكر بهذه الشبهة، وهل تقوى هذه الشبهة السقيمة على تركِ العمل بهذه النصوص الصريحة الصحيحة؟

(1)

فإن إدمان النظر إلى الحرام يؤثر سلبًا على القلب ويعميه ويُقَسِّيه ويذهب عنه الخشية والطمأنينة، فإذا قسا القلب ثقل عن الطاعات والقيام بالواجبات واستسهل الذنوب كبيرها وصغيرها، فالنظر يجرِ إلى ما هو أكبر منه، والمعاصي بعضها يدعو إلى بعض، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور: 21].

وأما الزنى الذي لا يكون معه إصرار فقد يكون أهون وأقل ضررًا من إدمان النظر إلى الحرام والفتن، وربما كان باعثًا إلى التوبة والندم.

ص: 802

821 -

النَّظَرُ دَاعِيَةٌ إلَى فَسَادِ الْقَلْبِ، قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: النَّظَرُ سَهْمُ سُمٍّ إلَى الْقَلْبِ، فَلِهَذَا أمَرَ اللهُ بِحِفْظِ الْفُرُوجِ كَمَا أَمَرَ بِغَضِّ الْأبْصَارِ الَّتِي هِيَ بَوَاعِثُ إلَى ذَلِكَ

(1)

. [15/ 395]

822 -

قَالَ تَعَالَى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)} [مريم: 74] وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ يُمَتِّعُ بِالصُّوَرِ كَمَا يُمَتعُ بِالْأَمْوَالِ، وَكِلَاهُمَا مِنْ زَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَكِلَاهُمَا يَفْتِن أَهْلَهُ وَأَصْحَابَهُ، وَرُبَّمَا أَفْضَى بِهِ إلَى الْهَلَاكِ دُنْيَا وَأخْرَى.

والْهَلْكَى رَجُلَانِ: فَمُسْتَطِيعٌ وَعَاجِزٌ.

فَالْعَاجِزُ: مَفْتُونٌ بِالنَّظَرِ وَمَدِّ الْعَيْنِ إلَيْهِ.

وَالْمُسْتَطِيعُ: مَفْتُونٌ فِيمَا أوتِيَ مِنْهُ، غَارِقٌ قَد أَحَاطَ بِهِ مَا لَا يَسْتَطِيعُ إنْقَاذَ نَفْسِهِ مِنْهُ. [15/ 398]

823 -

الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ الْأصُولَ الْمُوَصِّلَةَ إلَى الْحَقِّ أحْسَنَ بَيَانٍ، وَبَيَّنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ، وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا، وَوَحْدَانِيِّتِهِ عَلَى أَحْسَنِ وَجْهِ.

وَأمَّا أهْلُ الْبِدَع مِن أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ وَنَحْوِهِمْ فَهُم لَمْ يُثْبِتُوا الْحَقَّ؛ بَل أَصَّلُوا أصُولًا تُنَاقِضُ الْحَقَّ، فَلَمْ يَكْفِهِمْ أنَّهُم لَمْ يَهْتَدُوا وَلَمْ يَدُلُّوا عَلَى الْحَقِّ حَتَّى أَصَّلُوا أُصُولًا تُنَاقِضُ الْحَق. [16/ 439 - 440]

824 -

قَالَ مَالِكُ بْنُ أنَسٍ: إذَا قَلَّ الْعِلْمُ ظَهَرَ الْجَفَاءُ، وَإِذَا قَفتِ الْآثَارُ ظَهَرَت الْأَهْوَاءُ.

وَلهَذَا شُبِّهَتْ الْفِتَنُ بِقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ.

(1)

قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30]، ومن أطلق بصره صعب عليه حفظ فرجه، وصلاح قلبه.

ص: 803

فَإِذَا انْقَطَعَ عَن النَّاسِ نُورُ النُّبُوَّةِ: وَقَعُوا فِي ظُلْمَةِ الْفِتَنِ، وَحَدَثَتِ الْبِدَعُ وَالْفُجُورُ، وَوَقَعَ الشَّرُّ بَيْنَهُمْ.

وَهَكَذَا مَسَائِلُ النِّزُاعِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا الْأُمَّةُ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، إذَا لَمْ تُرَدَّ إلَى اللهِ وَالرَّسُولِ لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهَا الْحَقُّ؛ بَل يَصِيرُ فِيهَا الْمُتَنَازِعُونَ عَلَى غَيْرِ بَيِّنَةٍ مِن أَمْرِهِمْ، فَإِنْ رحمهم الله أَقَرَّ بَعْضُهُم بَعْضًا، وَلَمْ يَبْغِ بَعْضُهُم عَلَى بَعْضٍ، كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ يَتَنَازَعُونَ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ فَيُقِرُّ بَعْضُهُم بَعْضًا وَلَا يَعْتَدِي عَلَيْهِ، وَإِن لَمْ يُرْحَمُوا وَقَعَ بَيْنَهُم الِاخْتِلَافُ الْمَذْمُومُ، فَبَغَى بَعْضُهُم عَلَى بَعْضٍ إمَّا بِالْقَوْلِ مِثْل تَكْفِيرِهِ وَتَفْسِيقِهِ، وَإِمَّا بِالْفِعْلِ مِثْل حَبْسِهِ وَضَرْبِهِ وَقَتْلِهِ.

وَهَذِهِ حَالُ أَهْلِ الْبِدَع وَالظُّلْمِ كَالْخَوَارجِ وَأَمْثَالِهِمْ، يَظْلِمُونَ الْأُمَّةَ وَيَعْتَدُونَ عَلَيْهِم إذَا نَازَعُوهُم فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الدِّينِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَهْلِ الأهْوَاءِ فَاِنَّهُم يَبْتَدِعُونَ بِدْعَةً وَيُكَفِّرُونَ مَن خَالَفَهُم فِيهَا، كَمَا تَفْعَلُ الرَّافِضَةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَالْجَهْمِيَّة وَغَيْرُهُمْ، وَاَلَّذِينَ امْتَحَنوا النَّاسَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ كَانُوا مِن هَؤُلَاءِ، ابْتَدَعُوا بِدْعَةً وَكَفَّرُوا مَن خَالَفَهُم فِيهَا وَاسْتَحَلُّوا مَنْعَ حَقِّهِ وَعُقُوبَتَهُ.

فَالنَّاسُ إذَا خَفِيَ عَلَيْهِم بَعْضُ مَا بَعَثَ اللهُ بِهِ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم:

أ- إمَّا عَادِلُونَ.

ب- وَإِمَّا ظَالِمُونَ.

فَالْعَادِلُ فِيهِمْ: الَّذِي يَعْمَلُ بِمَا وَصَلَ إلَيْهِ مِن آثَارِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا يَظْلِمُ غَيْرَهُ.

وَالظَّالِمُ: الَّذِي يَعْتَدِي عَلَى غَيْرِهِ، وَهَؤُلَاءِ ظَالِمُونَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُم يَظْلِمُونَ.

وَإِلَّا فَلَو سَلَكُوا مَا عَلِمُوهُ مِنَ الْعَدْلِ: أَقَرَّ بَعْضُهُم بَعْضًا

(1)

؛ كَالْمُقَلِّدِينَ

(1)

يعني: أقرّ بعضهم بعضًا على اجتهاده، والْتمس لخطئه العذر، وعرف له مكانته وقدره، ولم ينتقصه.

ص: 804

لِأَئِمَّةِ الْفِقْهِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ مِن أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُم عَاجِزُونَ عَن مَعْرِفَةِ حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ، فَجَعَلُوا أَئِمَّتَهُم نُوَّابًا عَن الرَّسُولِ، وَقَالُوا: هَذِهِ غَايَةُ مَا قَدَرْنَا عَلَيْهِ.

فَالْعَادِلُ مِنْهُمْ: لَا يَظْلِمُ الْآخَرَ وَلَا يَعْتَدِي عَلَيْهِ بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ؛ مِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ قَوْلَ مَتْبُوعِهِ هُوَ الصَّحِيحُ بِلَا حُجَّةٍ يُبْدِيهَا، وَيذُمُّ مَن يُخَالِفُهُ مَعَ أَنَّهُ مَعْذُورٌ

(1)

. [17/ 308 - 312]

825 -

إِنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ الَّذِينَ ذَمَّهُم اللهُ وَرَسُولُهُ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: عَالِمٌ بِالْحَقِّ يَتَعَمَّدُ خِلَافَهُ.

وَالثَّاني: جَاهِل مُتَّبعٌ لِغَيْرِهِ.

فَالْأوّلُونَ: يَبْتَدِعُونَ مَا يُخَالِفُ كِتَابَ اللهِ، وَيقُولُونَ هُوَ مِن عِنْدِ اللهِ، إمَّا أَحَادِيثُ مُفْتَرِيَاتٌ، وَإِمَّا تَفْسِيرٌ وَتَأْوِيل لِلنُّصوصِ بَاطِلٌ، وَيعْضدُونَ ذَلِكَ بِمَا يَدَّعُونَهُ مِنَ الرَّأيِ وَالْعَقْلِ، وَقَصْدُهُم بِذَلِكَ الرِّيَاسَةُ وَالْمَأْكَلُ، فَهَؤُلَاءِ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، فَوَيْلٌ لَهُم مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهمْ مِن الْبَاطِلِ، وَويلٌ لَهُم مِمَّا يَكْسِبُونَ مِنَ الْمَالِ عَلَى ذَلِكَ، وَهَؤُلَاءِ إذَا عُورِضُوا بِنُصُوصِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَقِيلَ لَهُم: هَذِهِ تُخَالِفُكُمْ، حَرَّفُوا الْكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ بِالتَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ.

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)} [البقرة: 75].

وَأمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: الْجهَّالُ، فَهَؤُلَاءِ الْأمِّيُّونَ الَّذِينَ {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)} [البقرة: 78]

(2)

، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وقتادة فِي

(1)

وهذا ملموسٌ كثيرًا في العامة خاصَّةً، حيث يتعصّبون لمشايخ يهوونهم، ويقبلون آراءهم، ويذمون من ذموهم، ويُعادون من خالفهم.

(2)

قال العلَّامة مُحَمَّد رَشِيد رحمه الله: إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ وَعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِإِيمَانِ =

ص: 805

قَوْلِهِ: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} [البقرة: 78]؛ أيْ: غَيْرُ عَارِفِينَ بِمَعَانِي الْكِتَابِ يَعْلَمُونَهَا حِفْظًا وَقِرَاءَةً بِلَا فَهْمٍ وَلَا يَدْرُونَ مَا فِيهِ.

وَقَوْلُهُ: {إِلَّا أَمَانِيَّ} ؛ أَيْ: تِلَاوَةً، فَهُم لَا يَعْلَمُونَ فِقْهَ الْكتَابِ، إنَّمَا يَقْتَصِرُونَ عَلَى مَا يَسْمَغونَهُ يُتْلَى عَلَيْهِمْ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ وَالزَّجَّاجُ.

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَيْ: تِلَاوَةً وَقِرَاءَةً عَن ظَهْرِ الْقَلْبِ، وَلَا يَقْرَءُونَهَا فِي الْكُتُبِ.

فَفِي هَذَا الْقَوْلِ جَعْلُ الْأمَانِيِّ الَّتِي هِيَ التِّلَاوَةُ تِلَاوَةَ الْأمِّيِّينَ أَنْفُسِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ جَعْلُهُ مَا يَسْمَعُونَهُ مِن تِلَاوَةِ عُلَمَائِهِمْ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ وَالْآيَةُ تَعُمُّهُمَا، فَإنَّهُ سبحانه وتعالى قَالَ:{لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} ، لَمْ يَقُلْ لَا يَقْرَءُونَ وَلَا يَسْمَعُونَ، ثُمَّ قَالَ:{إِلَّا أَمَانِيَّ} ، وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ

(1)

.

وَالْأمِّيُّونَ نِسْبَةً إلَى الْأمَّة، قَالَ بَعْضُهُمْ: إلَى الْأمَّةِ وَمَا عَلَيْهِ الْعَامَّةُ، فَمَعْنَى الْأمِّيِّ: الْعَامِّيُّ الَّذِي لَا تَمْيِيزَ لَهُ.

وَيُقَالُ: الْأمِّيُّ لِمَن لَا يَقْرَأ وَلَا يَكْتُبُ كِتَابًا، ثُمَّ يُقَالُ لِمَن لَيْسَ لَهُم كِتَابٌ مُنَزَّلٌ مِنَ اللهِ يَقْرَءُونَهُ، وإِن كَانَ قَد يَكْتُبُ وَيقْرَأ مَا لَمْ يُنَزَّلْ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ الْعَرَبُ كُلُّهُم أُمِّيِّينَ، فَإنَّهُ لَمْ يَكُن عِنْدَهُم كِتَابٌ مُنَزَّلٌ مِنَ اللهِ قَالَ اللهُ تَعَالَى:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: 2].

= صاحِبِهِ، وَقَد مَضَى عَلَى هَذَا إِجمَاعُ الصَّدْرِ الأوَّلِ وَأهْلِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ، وإنَّمَا كَانَ الْجَاهِلُ يَأْخُذُ عَنِ الْعَالِمِ العَقِيد بِبُرْهَانِهَا، وَالأحْكَامَ بِرِوَايتهَا، وَلَا يَتَقَلَّدُ رَأيَهُ كَيفَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ بَينةٍ وَلَا بُرهَانٍ. اهـ. تفسير المنار (1/ 349).

(1)

لأنه مستثنى ليس من أول الكلام، وهذا الذي يجيء في معنى "لكن" خارجًا من أول الكلام.

والمعنى: "لكنْ أمانىَّ".

ومنه قوله عز وجل: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20)} [الليل: 19، 20] وقوله عز وجل: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157]، وقوله عز وجل:{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا} [هود: 116].

فما بعد أداة الاستثناء ليس من جنس ما قبلها.

ص: 806

وَقَد كَانَ فِي الْعَرَبِ كَثِيرٌ مِمَن يَكْتُبُ وَيقْرَأُ الْمَكْتُوبَ وَكُلُّهُم أُمِّيُّونَ، فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِم لَمْ يَبْقَوْا أُمِّيِّينَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُم لَا يَقْرَءُونَ كِتَابًا مِن حِفْظِهِمْ؛ بَل هُم يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ مِن حِفْظِهِمْ، وَأَنَاجِيلُهُم فِي صُدُورِهِمْ، لَكِنْ بَقُوا أُمِّيِّينَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُم لَا يَحْتَاجُونَ إلَى كِتَابَةِ دِينِهِمْ؛ بَل قُرْآنهُم مَحْفُوظٌ فِي قُلُوبِهِمْ.

فَأُمَّتُنَا لَيْسَتْ مِثْل أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ لَا يَحْفَظُونَ كُتبهُم فِي قُلُوبِهِمْ؛ بَل لَو عُدِمَت الْمَصَاحِفُ كُلُّهَا كَانَ الْقُرْاَنُ مَحْفُوظًا فِي قُلُوبِ الْأُمَّةِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَالْمُسْلِمُونَ أُمَّةٌ أُمّيَّةٌ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَحِفْظِهِ، كَمَا فِي "الصحِيح" عَن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"إنَّا أمّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَحْسِبُ وَلَا نكْتُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا"

(1)

.

فَلَمْ يَقُلْ إنَّا لَا نَقْرَأُ كِتَابًا وَلَا نَحْفَظُ؛ بَل قَالَ: لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسِبُ، فَدِينُنَا لَا يَحْتَاجُ أَنْ يُكْتَبَ وُيحْسَبَ، كَمَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابِ مِن أَنَّهُم يَعْلَمُونَ مَوَاقِيتَ صوْمِهِمْ وَفِطْرِهِمْ بِكِتَابٍ وَحِسَابٍ، وَدِينُهُم مُعَلَّق بِالْكُتُبِ، لَو عُدِمَتْ لَمْ يَعْرِفُوا دِينَهُمْ، وَلهَذَا يُوجَدُ أَكْثَرُ أَهْلِ السُّنَّةِ يَحْفَظُونَ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ أَكْثَرَ مِن أَهْل الْبِدَع، وَأَهْلُ الْبِدَع فِيهِمْ شَبَهٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ مِن بَعْضِ الْوُجُوهِ.

وَالْأَمِّيُّ فِي اصطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: خِلَافُ الْقَارِئِ، وَلَيْسَ هُوَ خِلَافَ الْكَاتِبِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَيعْنُونَ بِهِ فِي الْغَالِبِ: مَن لَا يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ.

فَإِنْ قِيلَ: فَقَد قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: {إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78] إلَّا مَا يَقُولُونَهُ بأَفْوَاهِهِمْ كَذِبًا وَبَاطِلًا، وَرُوِيَ هَذَا عَن بَعْضِ السَّلَفِ وَاخْتَارَهُ الْفَرَّاءُ.

وَقَالَ بَعْضُهُم: الْأَمَانِيُّ يَتَمَنَّوْنَ عَلَى اللهِ الْبَاطِلَ وَالْكَذِبَ كَقَوْلِهِمْ: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: 80] وَقَوْلِهِمْ: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111].

(1)

رواه البخاري (1913)، ومسلم (1080).

ص: 807

قِيلَ: كِلَا الْقَوْلَيْنِ ضَعِيفٌ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ. [17/ 433 - 440]

826 -

زِيارَةُ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِأَجْلِ طَلَبِ الْحَاجَاتِ مِنْهُم أَو دُعَائِهِمْ وَالْإِقْسَامِ بِهِم عَلَى اللهِ أَو ظَنِّ أَنَ الدُّعَاءَ أَو الصَّلَاةَ عِنْدَ قُبُورِهِمْ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْبُيُوتِ: ضَلَالٌ وَشِرْكٌ

(1)

وَبِدْعَةٌ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُن أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَلَا كَانُوا إذَا سَلَّمُوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَقِفُونَ يَدْعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ.

وَلهَذَا كَرِهَ ذَلِكَ مَالكٌ وَغَيْر مِن الْعُلَمَاءِ وَقَالُوا: إنَّهُ مِن الْبِدَعِ الَّتِي لَمْ يَفْعَلْهَا السَّلَفُ، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ الْأَرْبِعَةُ وَغَيْرُهُم مِن السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَلَا يَسْتَقْبِلُ قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَأَمَّا إذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ فَأَكْثَرُهُم قَالُوا: يَسْتَقْبِلُ الْقَبْرَ، قَالَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: بَل يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ أَيْضًا، وَيَكُونُ الْقَبْرُ عَن يَسَارِهِ، وَقِيلَ: بَل يَسْتَدْبِرُ الْقِبْلَةَ. [17/ 471]

827 -

مَا أُحْدثَ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْمَسَاجِدِ وَالْمَشَاهِدِ عَلَى الْقُبُورِ وَالْآثَارِ فَهُوَ مِن الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ فِي الْإِسْلَامِ، مِن فِعْلِ مَن لَمْ يَعْرِفْ شَرِيعَةَ الْإِسْلَام، وَمَا بَعَثَ اللهُ بِهِ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم كَمَالِ التَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ للهِ، وَسَدّ أبْوَابِ الشِّرْكِ الَّتِي يَفْتَحُهَا الشَّيْطَانُ لِبَنِي آدَمَ.

وَلهَذَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الرَّافِضَةِ أَكْثَرُ مِمَّا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهُم أَجْهَلُ مِن غَيْرِهِمْ، وَأَكْثَرُ شِرْكًا وَبِدَعًا، وَلهَذَا يُعَظِّمُونَ الْمَشَاهِدَ أَعْظَمَ مِن غَيْرِهِمْ، ويُخَرِّبُونَ الْمَسَاجِدَ أَكْثَرَ مِن غَيْرِهِمْ؛ فَالْمَسَاجِدُ لَا يُصَلُّونَ فِيهَا جُمُعَةً وَلَا جَمَاعَةً، وَلَا يُصَلُّونَ فِيهَا -إنْ صَلَّوْا- إلَّا أَفْرَادًا، وَأَمَّا الْمَشَاهِدُ فَيُعَظمُونَهَا أَكْثَرَ مِن الْمَسَاجِدِ، حَتَّى قَد يَرَوْنَ أَنَّ زِيَارَتَهَا أَوْلَى مِن حَجِّ بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ، ويُسَمُّونَهَا الْحَجَّ الْأَكْبَرَ، وَصَنَّفَ ابْنُ الْمُفِيدِ مِنْهُم كِتَابًا سَمَّاهُ "مَنَاسِكَ حَجّ

(1)

أصغر أو أكبر.

ص: 808

الْمَشَاهِدِ" وَذَكَرَ فِيهِ مِنَ الْأَكَاذِيبِ وَالْأَقْوَالِ مَا لَا يُوجَدُ فِي سَائِرِ الطَّوَائِفِ، وَإِن كَانَ فِي غَيْرِهِمْ أيْضًا نَوْغ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكَذِبِ وَالْبِدَعِ، لَكِنْ هُوَ فِيهِمْ أَكْثَرُ.

وَكُلَّمَا كَانَ الرَّجُلُ أَتْبَعَ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: كَانَ أَعْظَمَ تَوحِيدًا للهِ وَإِخْلَاصًا لَهُ فِي الدِّينِ، وَإِذَا بَعُدَ عَن مُتَابَعَتِهِ نَقَصَ مِن دِينِهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ، فَإِذَا كَثُرَ بُعْدُهُ عَنْهُ ظَهَرَ فِيهِ مِن الشِّرْكِ وَالْبِدَعِ مَا لَا يَظْهَرُ فِيمَن هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى اتِّبَاعِ الرَّسُولِ. [17/ 497 - 498]

828 -

مَن خَالَفَ السنَّةَ فِيمَا أَتَتْ بِهِ أَو شَرَعَتْهُ: فَهُوَ مُبْتَدِعٌ خَارجٌ عَنِ السُّنَّةِ.

وَمَن كَفَّرَ الْمُسْلِمِينَ بِمَا رَآهُ ذَنْبًا -سَوَاءٌ كَانَ دِيْنًا أَو لَمْ يَكُن دِيْنًا- وَعَامَلَهُم مُعَامَلَةَ الْكُفَّارِ: فَهُوَ مُفَارِقٌ لِلْجَمَاعَةِ

(1)

.

وَعَامَّةُ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ إنَّمَا تَنْشَأ مِن هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ.

وَدُونَ التَّكْفِيرِ قَد يَقَعُ مِنَ الْبُغْضِ وَالذَّمِّ وَالْعُقُوبَةِ -وَهُوَ الْعُدْوَانُ- أَو مِن تَرْك الْمَحَبَّة وَالدُّعَاء وَالْإحْسَان، وَجِمَاعُ ذَلِكَ ظُلْمٌ فِي حَق اللهِ تَعَالَى أو فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ. [19/ 74 - 75]

829 -

طُلَّابُ الدُّنْيَا لَا يُعَارِضُونَ تَارِكَهَا إلَّا لِأَغْرَاضِهِمْ وَإِن كَانُوا مُبْتَدِعَةً، وَأُولَئِكَ لَا يُعَارِضُونَ أبْنَاءَ الدُّنْيَا إلَّا لِأَغْرَاضِهِمْ، فَتَبْقَى الْمُنَازَعَاتُ لِلدُّنْيَا لَا لِتَكُونَ كلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَلَا لِيَكُونَ الدِّينُ للهِ، بِخِلَافِ طَرِيقَةِ السَّلَفِ رضي الله عنهم. [19/ 278 - 279]

830 -

إنَّ أَهْلَ الْبِدَع شَرٌّ مِن أَهْلِ الْمَعَاصِي الشَّهْوَانِيَّةِ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقِتَالِ الْخَوَارجِ وَنَهَى عَن قِتَالِ أَئِمَّةِ الظُّلْمِ. [20/ 103]

(1)

وهذا واقع خوارج العصر، حيث كفروا الكثير من الحكام -أو كلهم- والعسكر ومن والاهم، بما اعتقدوه هم ذنبًا، وعاملوهم معاملة الكفار باستحلال دمائهم وأموالهم وأعراضهم.

ص: 809

831 -

لَا تَجِدُ قَطّ مُبْتَدِعًا إلَّا وَهُوَ يُحِبّ كِتْمَانَ النُّصُوصِ الَّتِي تُخَالِفُهُ، وَيُبْغِضُهَا ويُبْغِضُ إظْهَارَهَا وَرِوَايَتَهَا وَالتَّحَدُّثَ بِهَا، وَيُبْغِضُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ. [20/ 161]

832 -

مَا خَالَفَ النُّصُوصَ فَهُوَ بِدْعَةٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ خَالَفَهَا فَقَد لَا يسَمَّى بِدْعَةً. [20/ 163]

833 -

فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: "خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللهِ، وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ فحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ

(1)

؛ أَيْ: مَا كَانَ بِدْعَة فِي الشَّرْعِ، وَقَد يَكُونُ مَشْرُوعًا لَكِنَّه إذَا فُعِلَ بَعْدَهُ سُمِّيَ بِدْعَةً؛ كَقَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه فِي قِيَامِ رَمَضَانَ لَمَّا جَمَعَهُم عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ فَقَالَ:"نِعْمَ البِدْعَةُ هَذِهِ، وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أفْضَلُ مِنَ الَّتي يَقُومُونَ" يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ

(2)

.

وَقِيَامُ رَمَضَانَ قَد سَنَّهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "إن اللهَ قَد فَرَضَ عَلَيْكُمْ صِيَامَ رَمَضَانَ وَسَنَنْتُ لَكُمْ قِيَامَهُ"

(3)

.

وَكَانُوا عَلَى عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلُّونَ أَوْزَاعًا مُتَفَرِّقِينَ: يُصَلِّي الرَّجُلُ وَحْدَهُ، وَيُصَلِّي الرَّجُلُ وَمَعَهُ جَمَاعَة جَمَاعَة، وَقَد صَلَّى بِهِم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بجَمَاعَة مَرَّة بَعْدَ مَرَّةٍ، وَقَالَ:"إنَّ الرُّجُلَ إذَا صَلَّى مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ"

(4)

، لَكِنْ لَمْ يُدَاوِمْ عَلَى الْجَمَاعَةِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ خَشْيَةَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا مَاتَ أَمِنُوا زِيادَةَ الْفَرْضِ فَجَمَعَهُم عُمَرُ عَلَى أُبِيّ بْنِ كَعْبٍ. [27/ 319 - 320]

(1)

رواه مسلم (867)، ورواه البخاري من حديث ابن مسعود رضي الله عنه (7277).

(2)

رواه البخاري (2010).

(3)

رواه ابن ماجه (1328)، والنسائي (2210)، وضغفه الألباني في ضعيف النسائي (2209).

(4)

رواه الإمام أحمد (21447)، وابن ماجه (1327)، وأبو داود (1375)، والترمذي وصحَّحه (806)، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع (1615).

ص: 810

834 -

إِنَّ الْبِدَع لَا يُهْجَرُ فِيهَا إلَّا الدَّاعِيَةُ دُونَ السَّاكِتِ. [6/ 503]

835 -

الصَّمْتُ عَن الْكَلَامِ مُطْلَقًا فِي الصَّوْمِ أو الِاعْتِكَافِ أَو غَيْرِهِمَا بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ. [25/ 292]

836 -

مَن رَأى مِن رَجُلٍ مُكَاشَفَةً أو تَأْثِيرًا فَاتَّبَعَهُ فِي خِلَافِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَانَ مِن جِنْسِ أَتْبَاعِ الدَّجَّالِ، فَإِنَّ الدَّجَّالَ يَقُولُ لِلسَّمَاءِ: أَمْطِرِي فَتُمْطِرُ، وَيقُولُ لِلْأَرْضِ: أَنْبِتي فَتُنْبِتُ

وَهُوَ مَعَ هَذَا كَافِرٌ مَلْعُونٌ عَدُوٌّ للهِ. [25/ 314]

837 -

الْهَوَى غَالِبًا يَجْعَلُ صَاحِبَهُ كَأنَّهُ لَا يَعْلَمُ مِن الْحَقِّ شَيْئًا؛ فَإِنَّ حُبَّك لِلشيءِ يُعْمِي وَيُصِمُّ. [27/ 91]

838 -

الْبِدْعَةُ لَا تَكُونُ حَقًّا مَحْضًا؛ إذ لَو كَانَت كَذَلِكَ لَكَانَت مَشْرُوعَةً، وَلَا تَكُونُ مَصْلَحَتُهَا رَاجِحَةً عَلَى مَفْسَدَتِهَا؛ إذ لَو كانَت كَذَلِكَ لَكانَت مَشْرُوعَةً، وَلَا تَكُونُ بَاطِلًا مَحْضًا لَا حَقَّ فِيهِ؛ إذ لَو كَانَت كَذَلِكَ لَمَا اشْتَبَهَتْ عَلَى أحَدٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ فِيهَا بَعْضُ الْحَق وَبَعْضُ الْبَاطِلِ. [27/ 172]

* * *

(أَئِمَّة اهْلِ الْبِدَعِ أَضَرُّ عَلَي الْأُمَّةِ مِن أَهْلِ الذُّنُوبِ)

839 -

أَئِمَّةُ أَهْلِ الْبِدَعِ أَضَرُّ عَلَى الْأمَّةِ مِن أهْلِ الذُّنُوبِ؛ وَلهَذَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ الْخَوَارجِ، وَنَهَى عَن قِتَالِ الْوُلَاةِ الظَّلَمَةِ.

وَأُولَئِكَ لَهُم نَهْمَةٌ فِي الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ، فَصَارَ يَعْرِضُ لَهُم مِن الْوَسَاوِسِ الَّتِي تُضِلُّهُم -وَهُم يَظُنُّونَهَا هُدًى فَيُطِيعُونَهَا- مَا لَا يَعْرِضُ لِغَيْرِهِمْ.

وَمَن سَلِمَ مِن ذَلِكَ مِنْهُم كَانَ مِن أَئِمَّةِ الْمُتَّقِينَ، مَصَابِيحِ الْهُدَى، وَيَنَابِيعِ الْعِلْمِ. [7/ 284 - 285]

* * *

ص: 811

(الْمُسْتَكْبِرُونَ الْمُتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ: مَصْرُوفُونَ عَن آيَاتِ اللِّه)

840 -

الْمُسْتَكْبِرُونَ الْمُتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ: مَصْرُوفُونَ عَن آيَاتِ اللهِ لَا يَعْلَمُونَ وَلَا يَفْهَمُونَ، لَمَّا تَرَكُوا الْعَمَلَ بِمَا عَلِمُوهُ اسْتِكْبَارًا وَاتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ عُوقِبُوا بأَنْ مُنِعُوا الْفَهْمَ وَالْعِلْمَ، فَإِنَّ الْعِلْمَ حَرْبٌ لِلْمُتَعَالِي، كَمَا أَنَّ السَّيْلَ حَرْبٌ لِلْمَكَانِ الْعَالِي

(1)

.

وَاَلَّذِينَ يَرْهَبُونَ رَبَّهُمْ: عَمِلُوا بِمَا عَلِموهُ فَأَتَاهُم اللهُ عِلْمًا وَرَحْمَةً؛ إذ مَن عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ. [7/ 626]

* * *

‌اتباع الهوى والعدول عن الحق

841 -

كُلُّ مَن عَدَلَ عَنِ اتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَطَاعَةِ اللهِ وَالرَّسُولِ إلَى عَادَتِهِ وَعَادَةِ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ فَهُوَ مِن أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْوَعِيدِ.

وَكَذَلِكَ مَن تبَيَّنَ لَهُ فِي مَسْألَةٍ مِنَ الْمَسَائِلِ الْحَقُّ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ رَسُولَهُ ثُمَّ عَدَلَ عَنْهُ إلَى عَادَتِهِ فَهُوَ مِن أَهْلِ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ.

وَأَمَّا مَن كَانَ عَاجِزًا عَن مَعْرِفَةِ حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَقَد اتَّبَعَ فِيهَا مَن هُوَ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّ قَوْلَ غَيْرِهِ أَرْجَحُ مِن قَوْلِهِ فَهُوَ مَحْمُود يُثَابُ لَا يُذَمُّ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُعَاقَبُ.

وَإِن كَانَ قَادِرًا عَلَى الِاسْتِدْلَالِ وَمَعْرِفَةِ مَا هُوَ الرَّاجِحُ، وَتَوَقَّى بَعْضَ

(1)

والمعنى: كما أن الماء سيَّال لا يثبت إلا إذا حصل في موضع له جوانبُ تَدْفعه عن الانصباب، وتمنعه عن الانسياب، فإذا كان في مكان عالٍ لم يحتمل المكث فيه، وكأنه في حرب معه، لا يجتمعان.

وكذلك العلم، فهو عزيزُ القدر، جليل شريف، لا يمكث في نفس من لا يتواضع له، بل هو في حربٍ ضروس مع المتكبر الذي لا يعرف للعلم قدره، ولا يُراعي حقوق العلم.

فقد جعل علة حرمان المتعالي المتكبر من العلم هي العلة التي من أجلها حرم المكان العالي السيل، فكما أن العلو هو السبب في حرمان المكان العالي من الماء، كذلك العلو والكبر هو المانع له من العلم الذي هو كالسيل في حاجة الخلق إليه.

ص: 812

الْمَسَائِلِ فَعَدَلَ عَن ذَلِكَ إلَى التَّقْلِيدِ فَهُوَ قَدِ اخْتُلِفَ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد الْمَنْصُوصِ عَنْهُ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُة أَنَّ هَذَا آثِمٌ أَيْضًا، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ. [20/ 225]

842 -

الْغَفْلَةُ عَن اللهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ تَسُدُّ بَابَ الْخَيْرِ الَّذِي هوَ الذِّكْرُ وَالْيَقَظَةُ. [10/ 597]

* * *

(التحذير من جحد الحق وعدمِ الاعتراف به إذا جاء من مبتدع وغيرِه)

843 -

تَكَلَّمْت فِي دُنُوِّ الرَّبِّ وَقُرْبِهِ وَمَا فِيهِ مِن النزَاعِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ، ثُمَّ بَعْضُ الْمُتَسَنِّنَةِ وَالْجُهَّالِ: إذَا رَأَوْا مَا يُثْبِتُهُ أُولَئِكَ

(1)

مِن الْحَقِّ: قَد يَفِرُّونَ مِن التَّصْدِيقِ بِهِ، وَإِن كَانَ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُنَازِعُونَ أَهْلَ السُّنَّةِ فِي ثُبُوتِهِ؛ بَل الْجَمِيعُ صَحِيحٌ.

وَرُبَّمَا كَانَ الْإِقْرَارُ بِمَا اتُّفِقَ عَلَى إثْبَاتِهِ: أَهَمَّ مِن الْإِقْرَارِ بِمَا حَصَلَ فِيهِ نِزَاعٌ؛ إذ ذَلِكَ أَظْهَر وَأَبْيَنُ، وَهُوَ أَصْلٌ لِلْمُتَنَازَعِ فِيهِ، فَيَحْصُلُ بَعْضُ الْفِتْنَةِ فِي نَوْع تَكْذِيب، وَنَفْيِ حَالٍ، أَو اعْتِقَادٍ، كَحَالِ الْمُبْتَدِعَةِ

(2)

، فَيَبْقَى الْفَرِيقَانِ فِي بِدْعَةٍ وَتكْذِيبٍ بِبَعْضِ مُوجِبِ النُّصُوصِ.

وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّ قُلُوبَ الْمُثْبِتَةِ تَبْقَى مُتَعَلِّقَةً بِإِثْبَاتِ مَا نَفَتْهُ الْمُبْتَدِعَةُ، وَفيهِمْ نُفْرَةٌ عَن قَوْلِ الْمُبْتَدِعَةِ بِسَبَبِ تكْذِيبِهِم بِالْحَقِّ وَنَفْيِهِمْ لَهُ، فَيُعْرِضُونَ عَن مَا يُثْبِتُونَهُ مِن الْحَقِّ، أَو يَنْفِرُونَ مِنْهُ، أَو يُكَذِّبُونَ بِهِ

(3)

؛ كَمَا قَد يَصِيرُ بَعْضُ جُهَّالِ

(1)

المبتدعة.

(2)

الذين يُكذبون الحق ويجحدونه لهوى في أنفسهم، فمن أنكر الحق من أهل السُّنَة لكون الحق جاء من مبتدع ففيه شبه من المبتدعة وأهل الزيغ والضلال.

(3)

كلام يُكتب بماء الذهب، ومن الأمثلة على كلامه: نفرةُ بعض أهل السُّنَّة من بعض العلماء أو الدعاة الذين قد يُخطئون في بعض اجتهاداتهم وآرائهم: يُؤدي بهم إلى تَكْذِيبِهِم بِالْحَقِّ=

ص: 813

الْمُتَسَنِّنَةِ فِي إعْرَاضِهِ عَن بَعْضِ فَضَائِلِ عَلِيٍّ وَأَهْلِ الْبَيْتِ؛ إذَا رَأَى أهْلَ الْبِدْعَةِ يغْلُونَ فِيهَا. [6/ 25 - 26]

* * *

‌المحبة

844 -

أصل المحبة: هو معرفة الله سبحانه وتعالى ولها أصلان:

أحدهما: وهو الذي يقال له: محبة العامة؛ لأجل إحسانه إلى عباده، وهذه المحبة على هذا الأصل لا ينكرها أحد، فإن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها، والله سبحانه هو المنعم المحسن إلى عبده بالحقيقة، فإنه المتفضل بجميع النعم، وإن جرت بواسطة، إذ هو ميسر الوسائط؛ ومسبب الأسباب، ولكن هذه المحبة في الحقيقة إذا لم تجذب القلب إلى محبة الله نفسِه، فما أحب العبد في الحقيقة إلا نفسَه، وكذلك كل من أحب شيئًا لأجل إحسانه إليه فما أحب في الحقيقة إلا نفسه. وهذا ليس بمذموم بل محمود.

والمقتصر على هذه المحبة هو لم يعرف من جهة الله ما يستوجب أنه يحبه إلا إحسانه إليه، وهذا كما قالوا: إن الحمد لله على نوعين:

أ- حمد هو شكر، وذلك لا يكون إلا على نعمته.

ب- وحمد هو مدح وثناء عليه ومحبة له وهو بما يستحقه لنفسه سبحانه فكذلك الحب، فإن الأصل الثاني فيه هو محبته لما هو له أهل، وهذا حب من عرف من الله ما يستحق أن يحب لأجله، وما من وجه من الوجوه التي يعرف الله بها مما دلت عليه أسماؤه وصفاته إلا وهو يستحق المحبة

= الذي يأتي منهم، وَنَفْيِهِمْ لَه، فَيُعْرِضُونَ عَن مَا يُثْبِتُونَهُ مِن الْحَق، أو يَنْفِرُونَ مِنْهُ، أو يُكَذبُونَ بِه، وهذا ما رأيناه في هذا الزمان، ولا يجوز ردّ الحق ولو جاء من بغيض، وهذا من الظلم والحيف وعدم العدل والإنصاف.

ص: 814

الكاملة من ذلك الوجه حتى جميع مفعولاته؛ إذ كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل؛ ولهذا استحق أن يكون محمودًا على كل حال، ويستحق أن يحمد على السراء، والضراء، وهذا أعلى وأكمل، وهذا حب الخاصة.

وهؤلاء هم الذين يطلبون لذة النظر إلى وجهه الكريم، ويتلذذون بذكره ومناجاته، ويكون ذلك لهم أعظم من الماء للسمك، حتى لو انقطعوا عن ذلك لوجدوا من الألم ما لا يطيقون. [10/ 84 - 85]

845 -

من المعلوم أن من أحب الله المحبة الواجبة فلا بد أن يبغض أعداءه، ولا بد أن يحب ما يحبه من جهادهم كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)} [الصف: 4].

والمحبُّ التامُّ لا يُؤَثِّر فيه لومُ اللائم وعذل العاذل؛ بل ذلك يغريه بملازمة المحبة. [10/ 60 - 61]

846 -

الْجُمْهُورُ لَا يُطْلِقُونَ هَذَا اللَّفْظَ (الْعِشْق) فِي حَقِّ اللهِ؛ لِأَنَّ الْعِشْقَ هُوَ الْمَحَبَّةُ الْمُفْرِطَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي يَنْبَغِي، وَاللهُ تَعَالَى مَحَبَّتهُ لَا نِهَايَةَ لَهَا فَلَيْسَتْ تَنْتَهِي إلَى حَدٍّ لَا تَنْبَغِي مُجَاوَزَتهُ.

قَالَ هَؤُلَاء: وَالْعِشْقُ مَذْمُومٌ مُطْلَقًا لَا يُمْدَحُ لَا فِي مَحَبَّةِ الْخَالِقِ وَلَا الْمَخْلُوقِ؛ لِأَنَّهُ الْمَحَبَّةُ الْمُفْرِطَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى الْحَدِّ الْمَحْمُودِ، وَأيْضًا فَإِنَّ لَفْظَ "الْعِشْقِ" إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْعُوْفِ فِي مَحَبَّةِ الْإِنْسَانِ لِامْرَأَةٍ أَو صَبِيٍّ، لَا يُسْتَعْمَلُ فِي مَحَبَّةٍ كَمَحَبَّةِ الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَطَنِ وَالْجَاهِ، وَمَحَبَّةِ الأنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَهُوَ مَقْرُون كَثِيرًا بِالْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ: إمَّا بِمَحَبَّةِ امْرَأَةٍ أجْنَبِيَّةٍ أَو صَبِيٍّ يَقْتَرِنُ بِهِ النَّظَرُ الْمُحَرَّمُ وَاللَّمْسُ الْمُحَرَّمُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِن الْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ. [10/ 131]

847 -

إِذَا كَانَ الْقَلْبُ مُحِبًّا للهِ وَحْدَهُ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ لَمْ يُبْتَلَ بِحُبِّ غَيْرِهِ أَصْلًا، فَضْلًا أَنْ يُبْتَلَى بِالْعِشْقِ، وَحَيْثُ اُبْتُلِيَ بِالْعِشْقِ فَلِنَقْصِ مَحَبَّتِهِ للهِ وَحْدَهُ. [10/ 135]

ص: 815

848 -

إِذَا أَحَبَّ أَنْبِيَاءَ اللهِ وَأَوْليَاءَ اللهِ لِأَجْلِ قِيَامِهِمْ بِمَحْبُوبَاتِ الْحَقِّ لَا لِشَيء آخَرَ فَقَد أحَبَّهُم للهِ لَا لِغَيْرِهِ. [10/ 191]

849 -

حَقِيقَةُ الْمَحَبَّةِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِمُوَالَاةِ الْمَحْبُوبِ، وَهُوَ مُوَافَقَتُهُ فِي حُبّ مَا يُحِبُّ، وَبُغْضِ مَا يُبْغِضُ، وَاللهُ يُحِبُّ الْإِيمَانَ وَالتَّقْوَى، ويُبْغِضُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ. [10/ 192]

850 -

قَوْلُ بَعْضِ النَّاسِ: إنَ مُحَمَّدًا حَبِيبُ اللهِ؛ وَإِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللهِ وَظَنُّهُ أَنَ الْمَحَبَّةَ فَوْقَ الْخُلَّةِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ مُحَمَّدًا أَيْضًا خَلِيلُ اللهِ. [10/ 204]

851 -

الْفَرْقُ ثَابِتٌ بَيْنَ الْحُبِّ للهِ وَالْحَبِّ مَعَ اللهِ، فَأَهْلُ التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ يُحِبُّونَ غَيْرَ اللهِ للهِ، وَالْمُشْرِكونَ يُحِبُّونَ غَيْرَ اللهِ مَعَ اللهِ. [10/ 465]

852 -

النَّاسُ فِي هَذَا الْبَابِ

(1)

أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ:

أَكمَلُهُم: الَّذِينَ يُحِبُّونَ مَا أَحَبَّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، ويُبْغِضُونَ مَا أَبْغَضَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، فَيُرِيدُونَ مَا أَمَرَهُم اللهُ وَرَسُولُهُ بِإِرَادَتِهِ، وَيَكرَهُونَ مَا أَمَرَهُم اللهُ وَرَسُولُهُ بِكَرَاهَتِهِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُم حُبّ وَلَا بُغْضٌ لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَيَأْمُرُونَ بِمَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَلَا يَأْمُرُونَ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَينْهَوْنَ عَمَّا نَهَى اللهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَنْهَوْنَ عَن غَيْرِ ذَلِكَ. [10/ 467]

وَالنَّوْعُ الثَّانِي: عَكسُ هَذَا، وَهُوَ أَنَّهُم يَتْبَعُونَ هَوَاهُم لَا أَمْرَ اللهِ؛ فَهَؤُلَاءِ لَا يَفْعَلُونَ وَلَا يَأْمُرُونَ إلَّا بِمَا يُحِمونَهُ بِهَوَاهُمْ، وَلَا يَتْرُكُونَ وَينْهَوْنَ إلَّا عَن مَا يَكْرَهُونَهُ بِهَوَاهُمْ، وَهَؤُلَاءِ شَرُّ الْخَلْقِ، قَالَ تَعَالَى:{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)} [الفرقان: 43] قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الْمُنَافِقُ لَا يَهْوَى شَيْئًا إلَّا رَكِبَهُ.

وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَا تَكنْ مِمَن يَتَّبعُ الْحَقَّ إذَا وَافَقَ هَوَاهُ،

(1)

أي: باب الحب والبغض.

ص: 816

وَيُخَالِفُهُ إذَا خَالَفَ هَوَاهُ، فَإِذَا أَنْتَ لَا تُثَابُ عَلَى مَا اتَّبَعْته مِن الْحَقِّ، وَتُعَاقَبُ عَلَى مَا خَالَفْته.

وهُوَ كَمَا قَالَ رضي الله عنه؛ لِأَنَّهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إنَّمَا قَصَدَ اتبَاعَ هَوَاهُ لَمْ يَعْمَلْ للهِ.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: الَّذِي يُرِيدُ تَارَةَ إرَادَةً يُحِبُّهَا اللهُ، وَتَارَةً إرَادَةً يُبْغِضُهَا اللهُ، وَهَؤُلَاءِ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُم يُطِيعُونَ اللهَ تَارَةً ويُرِيدُونَ مَا أحَبَّهُ، وَيعْصُونَة تَارَةً ويُرِيدُونَ مَا يَهْوُونَهُ وَإِن كَانَ يَكْرَهُهُ.

وَالْقِسْمُ الرَّابع: أَنْ يَخْلوَ عَن الْإِرَادَتَيْنِ، فَلَا يُرِيدُ للهِ وَلَا لِهَوَاهُ، وَهَذَا يَقَعُ لِكَثِير مِن النَاسِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ.

وَأَمَّا خُلُوُّ الْإِنْسَانِ عَن الْإِرَادَةِ مُطْلَقًا: فَمُمْتَنِعٌ فَإِنَّهُ مَفْطُورٌ عَلَى إرَادَةِ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَعَلَى كَرَاهَةِ مَا يَضُرُّهُ ويُؤذِيهِ. [10/ 467 - 481]

853 -

إذَا أَحْبَبْت الشَّخْصَ للهِ كَانَ اللهُ هُوَ الْمَحْبُوبَ لِذَاتِهِ، فَكُلَّمَا تَصَوَّرْته فِي قَلْبِك تَصَوَّرْت مَحْبُوبَ الْحَق فَأَحْبَبْته، فَازْدَادَ حُبُّك للهِ.

كَمَا إذَا ذَكَرْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَالْأنْبِيَاءَ قَبْلَهُ وَالْمُرْسَلِينَ وَأَصْحَابَهُم الصَّالِحِينَ وَتَصَوَّرْتهمْ فِي قَلْبِك، فَإِنَّ ذَلِكَ يَجْذِبُ قَلْبَك إلَى مَحَبَّةِ اللهِ الْمُنْعِمِ عَلَيْهِم وَبِهِمْ، إذَا كُنْت تُحِبُّهُم للهِ؛ فَالْمَحْبُوبُ للهِ يَجْذِبُ إلَى مَحَبَّةِ اللهِ، وَالْمُحِبُّ للهِ إذَا أَحَبّ شَخْصًا للهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَحْبُوبُهُ، فَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَجْذِبَهُ إلَى اللهِ تَعَالَى، وَكُلٌّ مِن الْمُحِبِّ للهِ وَالْمَحْبُوبِ للهِ يَجْذِبُ إلَى اللهِ، وَهَكَذَا إذَا كَانَ الْحُبُّ لِغَيْرِ اللهِ. [10/ 608 - 609]

854 -

الْمُؤمِنُ الَّذِي يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ يَرَى الرَّسُولَ فِي مَنَامِهِ بِحَسَبِ إيمَانِهِ، وَكَذَلِكَ يَرَى اللهَ تَعَالَى فِي مَنَامِهِ بِحَسَبِ إيمَانِهِ. [10/ 612]

855 -

الْحُبُّ لِغَيْرِ اللهِ؛ كَحُبِّ النَّصَارَى لِلْمَسِيحِ، وَحُبِّ الْيَهُودِ لِمُوسَى، وَحُبِّ الرَّافِضَةِ لِعَلِيِّ، وَحُبِّ الْغُلَاةِ لِشُيُوخِهِمْ وَأَئِمَّتِهِمْ: مِثْلُ مَن يُوَالِي شَيْخًا أَو

ص: 817

إمَامًا وينْفِرُ عَن نَظِيرِهِ، وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ أَو مُتَسَاوِيَانِ فِي الرُّتْبَةِ

(1)

، فَهَذَا مِن جِنْسِ أهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ آمَنُوا بِبَعْضِ الرُّسُلِ وَكَفَرُوا بِبَعْض، وَحَالِ الرَّافِضَةِ الَّذِينَ يُوَالُونَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ وَيُعَادُونَ بَعْضَهُمْ، وَحَالِ أَهْلِ الْعَصَبِيَّةِ مِن الْمُنْتَسِبِينَ إلَى فِقْهٍ وَزُهْدٍ، الَّذِينَ يُوَالُونَ بَعْضَ الشُّيُوخِ وَالْأَئِمَّةِ دُونَ الْبَعْضِ.

وَإِنَّمَا الْمُومِنُ مَن يُوَالِي جَمِيعَ أَهْلِ الْإِيمَانِ

(2)

، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]. [11/ 525]

856 -

أَصْلُ الْحَرَكَاتِ الْحُبُّ

(3)

، وَاَلَّذِي يَسْتَحِقُّ الْمَحَبَّةَ لِذَاتِهِ هُوَ اللهُ، فَكُلُّ مَن أَحَبَّ مَعَ اللهِ شَيْئًا فَهُوَ مُشْرِكٌ وَحُبُّهُ فَسَادٌ؛ وَإِنَّمَا الْحُبُّ الصَّالِحُ النَّافِعُ حُبُّ اللهِ وَالْحَبُّ للهِ، وَالْإِنْسَانُ فَقِيرٌ إلَى اللهِ مِن جِهَةِ عِبَادَتِهِ لَهُ، وَمِن جِهَةِ اسْتِعَانَتِهِ بِهِ لِلِاسْتِسْلَامِ وَالِانْقِيَادِ لِمَن انْتَ إلَيْهِ فَقِيرٌ وَهُوَ رَبُّك وَإِلَهُك. [14/ 31]

* * *

(محبة الناس بعضهم لبعض، وبيان المشروع والْمَحْذور منها)

857 -

لَا تَزُولُ الْفِتْنَةُ عَن الْقَلْبِ إلَّا إذَا كَانَ دِينُ الْعَبْدِ كُلُّهِ للهِ عز وجل، فَيَكُونُ حُبُّهُ للهِ وَلمَا يُحِبُّهُ اللهُ، وَبُغْضُهُ للهِ وَلمَا يُبْغِضُهُ اللهُ، وَكَذَلِكَ مُوَالَاتُهُ وَمُعَادَاتُهُ.

(1)

وهذا مُشاهدُ كثيرًا في هذا الزمان، فنجد كثيرًا من الناس يُوالي بعض المشايخ والعلماء والدعاة، ويُعادي أمثالهم بل وربما كان من عاداهم أفضل علمًا ونفعًا وصلاحًا ممن أحبهم ووالاهم، بسبب هوى في قلبه والعياذ بالله.

(2)

أي: إن المؤمن حقًّا، الذي يُوالي جميع المؤمنين من أهل السُّنَّة والجماعة، ويعذر المخطئ منهم ويردّ خطأه إذا كان من أهل العلم، ويُثني على المصيب ويقبل صوابه.

(3)

فالذي يُسافر إنما كان سفرُه لأجل الحب، إما لذات السفر، وإما للمصلحة المترتبة عليه، من كسب للمال، أو إسعاد للأهل، وهكذا يُقال في كل حركة وعمل.

وكذلك الحال في عبادة الله تعالى وطاعته، فلا يتحرك العبد ويجتهد في العبادة والطاعة وقيام الليل، وطلب العلم، إلا إذا كان في قلبه محبةٌ عظيمةٌ لله تعالى، فمتى رأى الإنسان تقصيرًا في طاعته لربه، فذلك لنقص حبّه له ولا شك، فينبغي للعاقل أنْ يتعرف على أسباب محبة الله لتسهل عليه العبادة والطاعة ويتلذذ بها.

ص: 818

وأَمَّا حُبّ النَّاسِ لَهُ: فَإنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَجْذِبُوهُ هُم بِقُوَّتِهِمْ إلَيْهِم

(1)

، فَإِنْ لَمْ يَكُن فِيهِ قُوَّة يَدْفَعهُم بِهَا عَن نَفْسِهِ مِن مَحَبَّةِ اللهِ وَخَشْيَتِهِ، وَإِلَّا جَذبُوهُ وَأَخَذُوهُ إلَيْهِمْ

(2)

.

وَقَد يُحِبُّونَهُ لِعِلْمِهِ أَو دِينِهِ أَو إحْسَانِهِ أو غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَالْفِتْنَةُ فِي هَذَا أَعْظَمُ

(3)

، إلَّا إذَا كَانَت فِيهِ قُوَّةٌ إيمَانِيَّة وَخَشْيَةٌ وَتَوْحِيدٌ تَامٌّ، فَإِنَّ فِتْنَةَ الْعِلْمِ وَالْجَاهِ وَالصُّوَرِ فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ.

وَهُم مَعَ ذَلِكَ يَطْلبُونَ مِنْهُ مَقَاصِدَهُم إنْ لَمْ يَفْعَلْهَا وَإِلَّا نَقَصَ الْحُبُّ، أَو حَصَلَ نَوْعُ بُغْضٍ، وَرُبَّمَا زَادَ أَو أدَّى إلَى الِانْسِلَاخِ مِن حُبِّهِ فَصَارَ مَبْغُوضًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَحْبُوبًا.

فَأَصْدِقَاءُ الْإِنْسَانِ يُحِبُّونَ اسْتِخْدَامَهُ وَاسْتِعْمَالَهُ فِي أَغْرَاضِهِمْ حَتَّى يَكونَ كَالْعَبْدِ لَهُمْ

(4)

.

وَأَعْدَاؤُهُ يَسْعَوْنَ فِي أَذَاهُ وإضْرَارِهِ.

(1)

كالأصدقاء المقربين، فهم يجذبون صاحبهم إلى مُجالستهم، واللهو معهم، وكم خسر الكثير من طلاب العلم الخير وإلعلم بسببهم، حيث يُكثرون النزهات والاجتماعات، وهذا يُلهي طالب العلم والداعية والمصلح عن خير كثير.

وأشد من ذلك: إذا كانوا فاسدين، فإنهم يجذبونه إلى الحرام والغيبة والنميمة، والوقوع في سفاسف الأمور.

وأما إذا كان الحبُّ حبّ عشقٍ وغرام، فهذا هو الشر كلَّه، ولا يزال المحب في شقاء وعذاب، وهمّ وغمّ، فيصدّه ذلك عن دينه ودنياه.

(2)

فلن يتخلص الإنسان من فتنة الأصدقاء والمحبين إلا بقوة الإيمان، وحب الكريم المنان، الذي عرف قدره فأحبه، فأغناه حبه عن حب كل محب، وانشغل بطاعته عن الانشغال بِهِم، والأنس به عن الأنس معهم.

(3)

صدق رحمه الله، فكم أوقعت محبةُ الناس للعالم والداعية والمصلح من مفاسد، وكم صدتهم عن الصاع بالحق، وكم جرُّوه إلى مُداهنتهم ومُحاباتهم، وكم سكت عن قول حقِّ مخافة سقوطه من أعينهم.

(4)

وهذا هو الواقع غالبًا، فلا ينبغي للعاقل أنْ يُفني عمره معهم وهذه حالهم، ويُقدمهم على مصالحه وما فيه نفعه وهذه حقيقتهم.

ص: 819

وَأُولَئِكَ يَطْلُبُونَ مِنْهُ انْتِفَاعَهُمْ، وإِن كَانَ مُضِرًّا لَهُ مُفْسِدًا لِدِينِهِ، لَا يُفَكِّرُونَ فِي ذَلِكَ، وَقَلِيل مِنْهُم الشَّكُورُ.

فَالطَّائِفَتَانِ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَقْصِدُونَ نَفْعَهُ وَلَا دَفْعَ ضَرَرِهِ، وَإِنَّمَا يَقْصِدُونَ أَغْرَاضَهُم بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُن الْإِنْسَانُ عَابِذا اللهَ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ مُوَالِيًا لَهُ وَمُوَالِيًا فِيهِ وَمُعَادِيًا، وَإِلَّا، أَكَلَتْهُ الطَّائِفَتَانِ، وَأَدَّى ذَلِكَ إلَى هَلَاكِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. [10/ 601 - 603]

858 -

جُبِلَت النُّفُوسُ عَلَى حُبّ مَن أَحْسَنَ إلَيْهَا، لَكِنَّ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ مَحَبَّةُ الْإِحْسَانِ لَا نَفْسُ الْمُحْسِنِ، وَلَو قُطِعَ ذَلِكَ لَاضْمَحَلَّ ذَلِكَ الْحُبُّ، وَرُبَّمَا أَعْقَبَ بُغْضًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ للهِ عز وجل.

فَإِنَّ مَن أَحَبَّ إنْسَانًا لِكَوْنِهِ يُعْطِيه فَمَا أَحَبّ إلَّا الْعَطَاءَ، وَمَن قَالَ: إنَّهُ يُحِبُّ مَن يُعْطِيه للهِ فَهَذَا كَذِبٌ وَمُحَالٌ وَزُوز مِن الْقَوْلِ، وَكَذَلِكَ مَن أَحَبَّ إنْسَانًا لِكَوْنِهِ يَنْصُرُهُ إنَّمَا أَحَبّ النَّصْرَ لَا النَّاصِرَ.

وَهَذَا كُلُّهُ مِن اتّبَاعِ مَا تَهْوَى الْأنْفُسُ، فَإِنَّهُ لَمْ يُحِبّ فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا مَا يَصِلُ إلَيْهِ مِن جَلْبِ مَنْفَعَةٍ أَو دَفْعِ مَضَرَّةٍ، فَهُوَ إنَّمَا أَحَبَّ تِلْكَ الْمَنْفَعَةَ وَدَفْعَ الْمَضَرَّةِ، وَإِنَّمَا أَحَبّ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى مَحْبُوبِهِ وَلَيْسَ هَذَا حُبًّا للهِ وَلَا لِذَاتِ الْمَحْبُوبِ.

وَعَلَى هَذَا تَجْرِي عَامَّةُ مَحَبَّةِ الْخَلْقِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَهَذَا لَا يُثَابُونَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يَنْفَعُهُمْ؛ بَل رُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى النِّفَاقِ وَالْمُدَاهَنَةِ، فَكَانُوا فِي الْآخِرَةِ مِن الْأَخِلَّاءِ الَّذِينَ بَعْضُهُم لِبَعْضِ عَدُوٌّ إلَّا الْمُتَّقِينَ.

وَإِنَّمَا يَنْفَعُهُم فِي الْآخِرَةِ الْحبُّ فِي اللهِ وَللهِ وَحْدَهُ، وَأَمَّا مَن يَرْجُو النَّفْعَ وَالنَّصْرَ مِن شَخْصٍ ثُمَّ يَزْعُمُ أَنَّه يُحِبُّهُ للهِ فَهَذَا مِن دَسَائِسِ النُّفُوسِ وَنفَاقِ الْأَقْوَالِ.

ص: 820

وَقَد قَالَ صلى الله عليه وسلم

(1)

: "مَن أَحَبّ للهِ وَأَبْغَضَ للهِ وَأَعْطَى للهِ وَمَنَعَ للهِ فَقَد اسْتَكْمَلَ الإيمَانَ"

(2)

. [10/ 609 - 611]

859 -

مَا أَكْثَرَ مَن يَدَّعيِ حُبَّ مَشَايخَ للهِ، وَلَو كَانَ يُحِبُّهُم للهِ لَأَطَاعَ اللهَ الَّذِي أَحَبَّهُم لِأَجْلِهِ، فَإِنَّ الْمَحْبُوبَ لِأَجْلِ غَيْرِهِ تَكُونُ مَحَبَّتُهُ تَابِعَةً لِمَحَبَّةِ ذَلِكَ الْغَيْرِ.

وَكَيْفَ يُحِبُّ شَخْصًا للهِ مَن لَا يَكُونُ مُحِبًّا للهِ؟

وَكَيْفَ يَكُون مُحِبًّا للهِ مَن يَكُونُ مُعْرضٌ عَن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَسَبِيلِ اللهِ؟ [10/ 520 - 521]

* * *

‌الرقائق

860 -

ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللهِ ابْنُ الْجَدِّ الْأَعْلَى أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا الْفَرَجِ ابْنَ الْجَوْزِيِّ يُنْشِدُ فِي مَجْلِسِ وَعْظِهِ الْبَيْتَيْنِ الْمَعْرُوفَيْنِ:

هَبِ الْبَعْثَ لَمْ تَأتِنَا رُسُلُهُ

وَجَاحِمَةُ

(3)

النَّارِ لَمْ تُضْرَمْ

ألَيْسَ مِن الْوَاجِبِ الْمُسْتَحَقِّ

حَيَاءُ الْعِبَادِ مِن الْمُنْعِمِ؟ [16/ 253]

(1)

رواه أبو داود (4683)، والحاكم (2694) من حديث أبي أمامة، وصحَّحه، وقال الذهبي: على شرط البخاري ومسلم. وصحَّحه الألباني في السلسلة الصحيحة المختصرة (380).

وبنحو هذا اللفظ روى الترمذي عن معاذ بن أنس (2521).

(2)

وذلك لأنه لا أحد يفعل ذلك إلا وقلبُه مُمتلئ بالإيمان، سالمٌ من الهوى والغل والحسد.

فالمسلم الذي لم يستكمل الإيمان سيُبغض من أساء إليه أو قصر في حقّه ولو كان صالحًا تقيًّا، ويُحب من مدحه وأكرمه، ولو كان فاجرًا شقيًّا، ويُعطي من يرجو نفعه ولو كان غنيًّا، ويمنع من لا يأمل نفعه ولو كان فقيرًا مسكينًا.

أما صاحب الإيمان: فهو ينظر إلى مراد الله في حبّه وبغضه، ومنعه وعطائه، لا ينتصر لنفسه، ولا يُحابي الناس، فهذا هو الذي اسْتكمل الإيمان، جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه.

(3)

جَحَمَ النارَ: أوْقَدها، وجَحِمتْ جَحَمًا وجَحْمًا وجُحومًا: اضْطَرمَتْ وكثُر جَمْرُها ولَهَبُها وتَوقُّدها، وَهِيَ جَحيمٌ وجاحِمةٌ.

ص: 821

861 -

لَيْسَ جَعْلُ الْإِنْسَانِ نَبِيًّا بِأَعْظَمَ مِن جَعْلِهِ الْعَلَقَةَ إنْسَانًا حَيًّا عَالِمًا نَاطِقًا سَمِيعًا بَصِيرًا مُتَكلِّمًا، قَد عَلِمَ أَنْوَاعَ الْمَعَارِفِ

(1)

. [16/ 264]

862 -

قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "لَنْ يَدْخُلَ أحَدٌ مِنْكُم الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ"

(2)

لَا يُنَاقِضُ قَوْله تَعَالَى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)} [الواقعة: 24] فَإِنَّ الْمَنْفِيَّ نُفِيَ بِبَاءِ الْمُقَابَلَةِ وَالْمُعَاوَضَةِ، كَمَا يُقَالُ: بِعْت هَذَا بِهَذَا، وَمَا أُثْبِتَ أُثْبِتَ بِبَاءِ السَّبَبِ؛ فَالْعَمَلُ لَا يُقَابِلُ الْجَزَاءَ، وَإِن كَانَ سَبَبًا لِلْجَزَاءِ، وَلهَذَا مَن ظَنَّ أَنَّهُ قَامَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى مَغْفِرَةِ الرَّبِّ تَعَالَى وَعَفْوِهِ فَهُوَ ضَالٌّ. [1/ 207]

863 -

ذَكَرَ أبُو طَالِب الْمَكِّيُّ عَن سَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللهِ التستري أنَّهُ قَالَ: إذَا عَمِلَ الْعَبْدُ حَسَنَة فَقَالَ: أَيْ رَبِّي، أَنَا فَعَلْت هَذِهِ الْحَسَنَةَ.

قَالَ لَهُ رَبُّهُ: أَنَا يسرتك لَهَا وَأَنَا أَعَنْتُك عَلَيْهَا.

فَاِنْ قَالَ: أيْ رَبِّي، أنْتَ أعَنْتَنِي عَلَيْهَا ويسَّرتني لَهَا.

قَالَ لَهُ رَبُّهُ: أَنْتَ عَمِلْتهَا وَأَجْرُهَا لَك.

(1)

ومن أعظم الأعمال: التفكر في آيات الله الكونية، قال تعالى:{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} ، فالله تعالى يحب منا أن ننظر إلى بديع صنعه، ولو صنع أحدنا شيئًا فإنه يُحب من الناس أن يروه.

واعلم أنّ القلبَ يضخ الدمَ إلى جميع أجهزة الجسد بلا توقف، حيث يربط بين أكثر من مائة ترليون خلية في جسم الإنسان، ويقوم بضخ أكثر من سبعة آلاف لتر من الدم خلال اليوم، ويصل عدد دقات القلب إلى مائة ألف نبضة يوميًّا.

فهل يليق بمن ضخ هذا الدم في قلبك وحركه بانتظام داتقان: أن تملأه بالحب لغيره، والخوف والخشية من غيره؟

ويحتوي رأسك على ما يقارِب (300) ألف شعرةٍ، وكل شعرةٍ تحتوي على شريانٍ لتوصيل الدم المحمّل بالغذاء والأكسجين لهذه الشعرة، كما يحتوي على وريدِ لينقل الفضلات وثاني أكسيد الكربون، وتحتوي على عصبٍ، وعضلةٍ، وغدةٍ دهنيةٍ، وغدةٍ صبغيةٍ لإنتاج المادة المسؤولة عن إعطاء الألوان المختلفة لَلشعرة.

فهل يليق بِمَن مَن عليك بهذه النعم التي لا تشعر بها أنْ تتصرف فيها على غير مراد خالقِها ومُبْدِعِها؟ وهل يليق بك أن تحلق لحيتك وقد أمرك ربك على لسان نبيِّك أن تتركها ولا تحلقها؟

(2)

رواه البخاري (6463)، ومسلم (2817).

ص: 822

وَإِذَا فَعَلَ سَيِّئةً فَقَالَ: أَيْ رَبِّي، أَنْتَ قَدَّرْت عَلَيَّ هَذِهِ السَّيِّئةَ.

قَالَ لَهُ رَبُّهُ: أَنْتَ اكْتَسَبْتهَا وَعَلَيْك وِزْرُهَا.

فَإِنْ قَالَ: أَيْ رَبِّي، إنِّي أَذْنَبْت هَذَا الذَّنْبَ وَأَنَا أَتُوبُ مِنْه.

قَالَ لَهُ رَبُّهُ: أَنَا قَدَّرْته عَلَيْك وَأَنَا أَغْفِرُهُ لَك. [2/ 328]

* * *

‌القلب وتقلباته

864 -

الْقَلْبُ يَغْرَقُ فِيمَا يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ: إمَّا مِن مَحْبُوبٍ، وَإِمَّا مِن مَخُوفٍ، كَمَا يُوجَدُ مِن مَحَبَّةِ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالصُّوَرِ

(1)

، وَالْخَائِفُ مِن غَيْرِهِ يَبْقَى قَلْبُهُ وَعَقْلُهُ مُسْتَغْرِقًا فِيهِ كَمَا يَغْرَقُ الْغَرِيقُ فِي الْمَاءِ. [10/ 595]

865 -

لَا يَحْصُلُ الْمَرَضُ إلَّا لِنَقْصِ أَسْبَابِ الصِّحَّةِ، كَذَلِكَ الْقَلْبُ لَا يَمْرَضُ إلَّا لِنَقْصِ إيمَانِهِ. [10/ 137]

866 -

أَقْوَالُ الْقَلْبِ وَأَفْعَالُهُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:

أَحَدُهَما: مَا هُوَ حَسَنَةٌ وَسَيِّئةٌ بِنَفْسِهِ.

وَثَانِيهَا: مَا لَيْسَ سَيِّئةً بِنَفْسِهِ حَتَّى يُفْعَلَ، وَهُوَ السَّيِّئّةَ الْمَقْدُورَةُ

(2)

.

وَثَالِثُهَا: مَا هُوَ مَعَ الْعَجْزِ كَالْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئةِ الْمُفَعْوِلَةِ، وَلَيْسَ هُوَ مَعَ الْقُدْرَةِ كَالْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئةِ الْمُفَعْوِلَةِ.

فَالْقِسْمُ الْأوَّلُ: هُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِأُصُولِ الْإِيمَانِ مِن التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ

(1)

والعلم، بل محب العلم أعظم شغفًا وتعلُّقًا وأُنسًا به.

وهذه الجملة عظيمة جدًّا، فينبغي لكل عاقلٍ أنْ لا يجعل قلبه يغرق إلا بما فيه نفعُه وصلاحه.

ولا بدّ لكلّ قلبٍ أنْ يغرق بحب شيء أو خوفه، فمن اعتاد شيئًا وداوم عليه، فلا بدّ مع مرور الوقت أنْ يغرق في حبّه، ولا يستطيع الفكاك عنه.

(2)

أي: التي في قدرة العبد فعلها، كمن أراد سماع الغنى وتمكن من ذلك، فلا تكون تلك الإرادة سيئة إلا إذا سمع الغنى.

ص: 823

وَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَتَوَابعِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذ الْأُمُورَ يَحْصُل فِيهَا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَعُلُوُّ الدَّرَجَاتِ وَأَسْفَلُ الدَّرَكَاتِ بِمَا يَكُونُ فِي الْقُلُوبِ مِن هَذِهِ الْأُمُورِ وَإِن لَمْ يَظْهَرْ عَلَى الْجَوَارحِ.

وَأمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي والثالِثُ: فَمَظِنَّةُ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَا تُنَافِي أُصُولَ الْإِيمَانِ مِثْل الْمَعَاصِي الطَّبعِيَّةِ؛ مِثْل الزنى وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ

(1)

. [10/ 759 - 760]

867 -

الْقُلُوبُ يَعْرِضُ لَهَا الْإِيمَانُ وَالنِّفَاقُ، فَتَارَةً يَغْلِبُ هَذَا وَتَارَةً يَغْلِبُ هَذَا. [10/ 768]

868 -

إِنَّ الْقَلْبَ إذَا تَعَوَّدَ سَمَاعَ الْقَصَائِدِ وَالْأبْيَاتِ وَالْتَذَّ بِهَا حَصَلَ لَهُ نُفوزٌ عَن سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَالْآيَاتِ، فَيَسْتَغْنِي بِسَمَاعِ الشَّيْطَانِ عَن سَمَاعِ الرَّحْمَنِ.

وَقَد صَحَّ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَيْسَ مِنَّا مَن لَمْ يَتَعن بِالْقُرْآنِ"

(2)

.

وَقَد فَسَّرَهُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْزهُمَا بِأَنَّهُ مِن الصَّوْتِ، فَيُحَسِّنُة بِصَوْتِهِ وَيتَرَنَّمُ بِهِ بِدُونِ التَّلْحِينِ الْمَكْرُوهِ.

وَفَسَّرَهُ ابْنُ عُيَيْنَة

(3)

وَأَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُمَا بِأَنَّهُ الِاسْتِغْنَاءُ بِهِ، وَهَذَا وَإِن كَانَ لَهُ مَعْنًى صَحِيحٌ فَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ فَإِنَّهُ قَالَ:"لَيْسَ مِنَّا مَن لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ"

(4)

. [11/ 532]

869 -

الْقَلْبُ هَل يَقُومُ بِهِ تَصْدِيقٌ أَو تَكْذِيبٌ وَلَا يَظْهَرُ قَطُّ مِنْهُ شَيءٌ عَلَى اللِّسَانِ وَالْجَوَارح وَإِنَّمَا يَظْهَرُ نَقِيضُهُ مِن غَيْرِ خَوْفٍ؟

(1)

فمن همّ بالزنى أو السرقة أو غيرها من المحرمات وأرادها وهو قادر عليها ومتمكن منها، لكنه تركها طوعًا: فلا إثم عليه. وهذا هو القسم الثاني.

وإنْ ترك الحسنة أو السيئةَ عجزًا عنها وهو حريصٌ عليها، فكأنه فعلها. وهذا هو القسم الثالث.

(2)

رواه البخاري (5023).

(3)

كما في البخاري بعد روايته للحديث (5024)، حيث قال:"تَفْسِيرُهُ يَسْتَغْنِي بِهِ"؛ أي: يُغنيه ويكفيه، ويشغله عن غيره من الكتب وينفعه في إيمانه ودنياه وآخرته.

(4)

رواه البخاري (7527).

ص: 824

اَلَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ وَجُمْهُورُ النَّاسِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِن ظُهُورِ مُوجَبِ ذَلِكَ عَلَى الْجَوَارحِ، فَمَن قَالَ: إنَّهُ يُصَدِّقُ الرَّسُولَ وَيُحِبُّهُ وَيُعَظِّمُة بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ بِالْإِسْلَامِ وَلَا فَعَلَ شَيْئًا مِن وَاجِبَاتِهِ بِلَا خَوْفٍ فَهَذَا لَا يَكُونُ مُؤمِنًا فِي الْبَاطِنِ؛ وَإِنَّمَا هُوَ كَافِرٌ.

وَقَد قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ألَا وَهِيَ الْقَلْبُ"

(1)

فَبَيَّنَ أَنَّ صَلَاحَ الْقَلْبِ مُسْتَلْزِمٌ لِصَلَاحِ الْجَسَدِ، فَإِذَا كَانَ الْجَسَدُ غَيْرَ صَالِحٍ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَلْبَ غَيْرُ صَالِحٍ، وَالْقَلْبُ الْمُومِنُ صَالِحٌ، فَعُلِمَ أَنَّ مَن يَتَكَلَّمُ بِالْإِيمَانِ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ لَا يَكُونُ قَلْبُهُ مُؤمِنًا. [14/ 120 - 121]

870 -

الْقَلْبُ لَا يَكُونُ إلَّا عَامِلًا، فَإِذَا لَمْ يَعْمَل الْحَسَنَةَ اُسْتُعْمِلَ فِي عَمَلِ السَّيِّئةِ، كَمَا قِيلَ: نَفْسُك إنْ لَمْ تَشْغَلْهَا شَغَلَتْك. [14/ 335]

871 -

كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يُغْمِضُ عَيْنَيْهِ فَلَا يَرَى شَيْئًا وَإِن لَمْ يَكُن أَعْمَى، فَكَذَلِكَ الْقَلْبُ بِمَا يَغْشَاهُ مِن رينِ الذُّنُوبِ لَا يُبْصِرُ الْحَقَّ وَإِن لَمْ يَكُن أَعْمَى كَعَمَى الْكَافِرِ. [7/ 32]

* * *

(إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك)

872 -

إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك وانشراحًا فاتهمه فإن الربَّ تعالى شكور

(2)

. [المستدرك 1/ 153]

* * *

(1)

رواه البخاري (52)، ومسلم (1599).

(2)

قال ابن القيِّم رحمه الله يعني: أنه لا بد أن يثيب العامل على عمله في الدنيا من حلاوة يجدها في قلبه، وقوةٍ انشراح، وقرةِ عينٍ، فحيث لم يجد ذلك فعمله مدخول. اهـ. مدارج السالكين (2/ 68).

ص: 825

‌الجنة ونعيمها

873 -

أَطْفَالُ الْمُسْلِمِينَ وَمَجَانِينُهُم يَوْمَ الْقِيَامَةِ تبَعٌ لِآبَائهِمْ. [10/ 437]

874 -

الْفُقَرَاءُ مُتَقَدِّمُونَ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ لِخِفَّةِ الْحِسَابِ عَلَيْهِمْ، وَالْأَغْنِيَاءُ مُؤَخَّرُونَ لِأَجْلِ الْحِسَابِ، ثُمَّ إذَا حُوسِبَ أَحَدُهُم فَإِنْ كَانَت حَسَنَاتُهُ أَعْظَمَ مِن حَسَنَاتِ الْفَقِيرِ كَانَت دَرَجَتُة فِي الْجَنَّةِ فَوْقَهُ، وَإِن تَأَخَّرَ فِي الدُّخُولِ كَمَا أَنَّ السَّبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَمِنْهُم عُكَّاشَةُ بْن مُحْصَنٍ، وَقَد يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِحِسَاب مَن يَكُونُ أَفْضَلَ مِن أَحَدِهِمْ. [11/ 121]

875 -

الْجَنَّةُ لَيْسَ فِيهَا شَمْسٌ، وَلَا قَمَرٌ، وَلَا لَيْل، وَلَا نَهَارٌ، لَكِنْ تُعْرَفُ الْبُكْرَةُ وَالْعَشِيَّةُ بِنُورٍ يَظْهَرُ مِن قِبَلِ الْعَرْشِ. [4/ 312]

* * *

(الْجَنَّةُ الَّتِي أَسْكَنَهَا الله تعالى آدَمَ وَزَوْجَتَهُ هِيَ جَنَّة الْخُلْدِ)

876 -

الْجَنَّةُ الَّتِي أَسْكَنَهَا -تعالى- آدَمَ وَزَوْجَتَهُ عِنْدَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: هِيَ جَنَّةُ الْخُلْدِ.

وَمَن قَالَ: إنَّهَا جَنَّة فِي الْأَرْضِ بِأرْضِ الْهِنْدِ أَو بِأَرْضِ جُدَّةَ أَو غَيْرِ ذَلِكَ: فَهُوَ مِن الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُلْحِدِينَ، أَو مِن إخْوَانِهِم الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُبْتَدِعِينَ؛ فَإِنَّ هَذَا يَقُولُهُ مَن يَقُولُهُ مِن الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يَرُدُّانِ هَذَا الْقَوْلَ، وَسَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا مُتَّفِقُونَ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْقَوْلِ.

قَالَ تَعَالَى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)} [البقرة: 36] فَقَد أَخْبَر

(1)

أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَهُم بِالْهُبُوطِ، وَأَنَّ بَعْضَهُم عَدُوٌّ لِبَعْضٍ، ثُمَّ قَالَ:{وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)} [البقرة: 36]، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَهُم لَمْ يَكُونُوا فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا أهبطوا إلَى الْأَرْضِ. [4/ 347]

* * *

(1)

أي: القرآن الكريم.

ص: 826

‌(شرح حَدِيث: "رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ رَبَّهم فِي الْجَنَّةِ فِي مِثْل يَوْمِ الْجُمُعَةِ مِن أَيَّامِ الدُّنْيَا" وذكر الكلام على رؤية الله عز وجل

877 -

حَدِيثُ: "رُؤيةِ الْمُؤْمِنِينَ رَبَّهُم فِي الْجَنَّةِ فِي مِثْل يَوْمِ الْجُمُعَةِ مِن أَيَّامِ الدُّنْيَا": رَوَاهُ أَبُو الْحَسَنِ الدارقطني فِي كِتَابِهِ فِي الرُّؤْيَةِ، رَوَاهُ مِن حَدِيثِ أَنَسِ مَرْفُوعًا، وَمِن حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا.

وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَه مِن حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا.

وَإِسْنَادُ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَجْوَدُ مِن جَمِيعِ أَسَانِيدِ هَذَا الْبَابِ.

وَرَوَاهُ أَبُو أَحْمَد بْنُ عَدِيٍّ مِن حَدِيثِ صَالِحِ بْن حَيَّانَ عَن ابْنِ بريدة عَن أنَسٍ، وَمَا أعْلَمُ لَفْظَهُ.

وَرَوَاهُ أَبُو عَمْرو الزَّاهِدُ

(1)

بِإِسْنَادٍ آخَرَ لَمْ يَحْضُرْنِي لَفْظُهُ.

وَرَوَاهُ أبُو يَعْلَى الموصلي فِي مُسْنَدِهِ عَن شيبان بْنِ فَرُّوخٍ، عَن الصَّعْقِ بنِ حَزْنٍ، عَن عَلِيٍّ بْنِ الْحَكَمِ البناني، عَن أَنَسٍ نَحْوَهُ، وَلَا أَعْلَمُ لَفْظَهُ

(2)

.

(1)

الذي يظهر: أنه أبو عمر، وليس أبا عمرو، وقد ترجم له الذهبي بقوله: الإمَامُ الأوْحدُ العلَّامة اللُّغَوِيُّ المُحَدِّثُ، أبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ بنِ أبِي هَاشِمٍ البَغْدَادِيُّ الزَّاهِدُ، المَعْرُوف بِغُلَامِ ثَغلَبٍ.

وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّيْنَ وَمائَتَيْنِ.

وَلَازم ثَعْلبًا: في العَرَبيَّة، فَأَكْثَرَ عَنْه إِلَى الغَايَة، وَهُوَ فِي عِدَاد الشُّيُوْخ فِي الحَدِيْثِ لَا الحُفَّاظ، وَإِنَّمَا ذكرتُهُ لِسَعَة حفظه للسان العرب، وصدقه، وعلوّ إسناده ..

قال: كَانَ جَمَاعَة مِن أَهْلِ الأدب لَا بوثِّقون أَبَا عُمَرَ فِي عِلْم اللغة ..

فأمَّا الحَدِيْث فرَأَيْتُ جمِيعَ شُيُوْخِنَا يوثِّقونَه فِيْهِ. اهـ. سير أعلام النبلاء (12/ 87).

(2)

حينما كان الشيخ يسرد أسانيد الحديث ومن رواه من المحدثين: لم يخطر على بالي أن يكون ذلك من حفظِه، ولكن حينما ذكر في بعض الأسانيد التي سرد بعضها، والرواة الذين ذكر بعضهم ولم يذكر ألفاظ الأحاديث التي رووها: لم يعد هناك أدنى شكٍّ في أنّ الشيخ يُملي هذه الأسانيد أو جلها من حفظ، بل ويُملي -كما تقدم- المصنفات الضخمة والفتاوى الطويلة من حفظه!

ويدل قول الشيخ: لا أعلم لفظه ونحوها من العبارات: على ورعه وتحريه للصدق والأمانة في النقل. =

ص: 827

وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ عَامَّتُهَا إذَا جُرِّدَ إسْنَادُ الْوَاحِدِ مِنْهَا: لَمْ يَخْلُ عَن مَقَالٍ قَرِيبٍ أَو شَدِيدٍ، لَكِنَّ تَعَدُّدَهَا وَكَثْرَةَ طُرُقِهَا يُغَلِّبُ عَلَى الظَّنِّ ثبُوتَهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ بَل قَد يَقْتَضِي الْقَطْعَ بِهَا.

وَأَيْضًا فَقَد رُوِيَ عَن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مَا يُوَافِقُ ذَلِكَ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ بِالرَّأيِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ بِالتَّوْقِيفِ.

فَرَوَى الدارقطني بِإِسْنَاد صَحِيحٍ

عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: "سَارِعُوا إلَى الْجُمْعَةِ؛ فَإِنَّ اللهَ يَبْرُزُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ فِي كثِيبٍ مِن كَافُورٍ، فَيَكُونُونَ فِي قُرْبٍ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ تَسَارُعِهِمْ إلَى الْجُمُعَةِ في الدُّنْيَا".

وَهَذَا الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ ابْنُ مَسْعُودٍ أَمْز لَا يَعْرِفُهُ إلَّا نَبِي أَو مَن أَخَذَهُ عَن نَبِيٍّ، فَيُعْلَمُ بِذَلِكَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَخَذَهُ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ عَن أَهْلِ الْكِتَابِ.

وَأمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ -وَهُوَ أَشْهَرُ الْأحَادِيثِ- فِيمَا يَكُونُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْآخِرَةِ مِن زِيارَةِ اللهِ وَرُويَتِهِ وَإِتْيَانِ سُوقِ الْجَنَّةِ: فَأَصَحّ حَدِيثٍ عَنْهُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

فِي "صَحِيحِهِ" عَن حَمَّادِ بْن سَلَمَةَ عَن ثَابِتٍ عَن أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّ فِي الْجَنَّةِ لَسُوقًا يَأْتُونَهَا كُلَّ جُمُعَةٍ فَتَهُبُّ رِيحُ الشَّمَالِ، فتحْثُوا فِي وجُوهِهِمْ وَثيَابِهِمْ، فَيَزْدَادُونَ حُسْنًا وَجَمَالًا، فَيَقُولُ لَهُم أَهْلُوهُم: وَاللهِ لَقَد ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَاًا، فَيَقُولُونَ: وَأنتُمْ وَاللهِ لَقَد ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنا وَجَمَالًا".

فَهَذَا لَيْسَ فِيهِ إلَّا أَنَّهُم يَأْتُونَ السُّوقَ، وَفِيهِ يَزْدَادُونَ حُسْنًا وَجَمَالًا، وَأَنَّ أَهْلِيهِم ازْدَادُوا أَيْضًا فِي غَيْبَتِهِمْ عَنْهُم حُسْنًا وَجَمَالًا، وَإِن كَانُوا لَمْ يَأْتُوا سُوقَ الْجَنَّةِ.

= ولا ريب أنّ الشيخ يستحضر معناه، ولكنه لم يُرد أنْ يذكر المعنى، بل أراد نص العبارة، فأيّ دقة أعظم من هذا؟

(1)

(2833).

ص: 828

وَإِن كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ: مَا فِي تِلْكَ الْأَحَادِيثِ مِن الزِّيَادَاتِ لَا يُنَافِي هَذَا -وَإِن كَانَ هَذَا أَصَحَّ-؛ فَإِنَّ التَّرْجِيحَ إنَّمَا يَكُون عِنْدَ التَّنَافِي، وَأَمَّا إذَا أَخْبَرَ فِي أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ بِشَيءٍ، وَأَخْبَرَ فِي الْآخَرِ بِزِيَادَةٍ أُخْرَى لَا تُنَافِيهَا: كَانَت تِلْكَ الزِّيَادَةُ بِمَنْزِلَةِ خَبَرٍ مُسْتَقِل، فَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ.

وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ مِن الزّيَادَةِ فِي النَّصِّ: هَل هِيَ نَسْخٌ؟ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ فِي الْأَحْكامٍ الَّتِي هِيَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْإِبَاحَةُ وَتَوَابِعُهَا؛ مِثْلُ مَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 12] وَقَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ"

(1)

: فَهُنَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: هَل هَذِهِ الزِّيَادَةُ نَسْخٌ لِقَوْلِهِ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} ؟ مَعَ أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَسْخ، وَهُوَ الصَّحِيحُ.

وَأَمَّا زِيادَةُ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فِي الْأَخْبَارِ الْمَحْضَةِ: فَهَذَا مِمَّا لَمْ يَخْتَلِف الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَسْخٍ، وَأَنَّهُ لَا تُرَدُّ الزِّيَادَةُ إذَا لَمْ تُنَافِ الْمَزِيدَ.

فَإِنَّ رَجلًا لَو قَالَ: رَأَيْت رَجُلًا، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْت رَجُلًا عَاقِلًا، أَو عَالِمًا: لَمْ يَكُن بَيْنَ الْكلَامَيْنِ مُنَافَاةٌ.

فَفَرْقٌ بَيْنَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ، وَالتَّجْرِيدِ وَالزِّيَادَةِ: فِي الْأُمُورِ الطَّلَبِيَّةِ، وَبَيْنَ ذَلِكَ فِي الْأُمُورِ الْخَبَرِيَّةِ.

وَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِن ازْدِيَادِ وُجُوهِهِمْ حُسْنًا وَجَمَالًا: لَا يَقْتَضِي انْحِصَارَ ذَلِكَ فِي الرِّيحِ؛ فَإِنَ أَزْوَاجَهُم قَد ازْدَادُوا حُسْنًا وَجَمَالًا، وَلَمْ يَشْرَكُوهُم فِي الرِّيحِ؛ بَل يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَصَلَ فِي الرِّيحِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا حَصَلَ لَهُم قَبْلَ ذَلِكَ، ويجُوز أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَدِيثُ مُخْتَصَرًا مِن بَقِيَّةِ الْأَحَادِيثِ بِأَنَّ سَبَبَ الِازْدِيَادِ رُؤْيةُ اللهِ تَعَالَى مَعَ مَا اقْتَرَنَ بِهَا.

(1)

رواه البخاري (2649)، ومسلم (1690).

ص: 829

وَعَلَى هَذَا فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نِسَاؤُهُم الْمُومِنَاتُ رَأَيْنَ اللهَ فِي مَنَازِلهِنَّ فِي الْجَنَّةِ رُؤْية اقْتَضَتْ زِيَادَةَ الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ -إذَا كَانَ السَّبَبُ هُوَ الرُّؤْيةَ كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي أَحَادِيثَ أُخَرَ-، كَمَا أَنَّهُم فِي الدُّنْيَا كَانَ الرّجَالُ يَرُوحُونَ إلَى الْمَسَاجِدِ فَيَتَوَجهُونَ إلَى اللهِ هُنَالِكَ، وَالنِّسَاءُ فِي بُيُوتِهِنَّ يَتَوَجَّهْنَ إلَى اللهِ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ، وَالرِّجَالُ يَزْدَادونَ نُورًا فِي الدُّنْيَا بِهَذِهِ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ النِّسَاءُ يَزْدَدْنَ نُورًا بِصَلَاتِهِنَّ كَل بِحَسَبِهِ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ لَا يَشْغَلُهُ شَأنٌ عَن شَأنِ. [6/ 401 - 408]

878 -

مَا عَلِمْنَا أَحَدًا جَمَعَ فِي هَذَا الْبَابِ [أي: باب الرّؤْيَةِ] أكْثَرَ مِن كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ الآجري، وَأَبِي نُعَيْمٍ الْحَافِظِ الأصبهاني. [6/ 401]

879 -

فِي "الصَّحِيحَيْنِ"

(1)

عَن جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ البجلي قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذ نَظَرَ إلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَقَالَ: "إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَدَا الْقَمَرَ، لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيتِهِ، فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلَاةٍ قَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا"، ثُمَّ قَرَأَ:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130].

وَهَذَا الْحَدِيثُ مِن أَصَحِّ الْأَحَادِيثِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ الْمُتَلَقَّاةِ بِالْقَبُولِ، الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِالْحَدِيثِ وَسَائِرِ أهْلِ السُّنَّةِ.

وَمَعْلُومٌ أَن تَعْقِيبَ الْحُكْمِ لِلْوَصْفِ أو الْوَصْفِ لِلْحُكْمِ بِحَرْفِ الْفَاء: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ عِلَّةٌ لِلْحُكْم.

وَالتَّعْقِيبُ الَّذِي يَقُولُهُ النَّحْوِيُّونَ: لَا يَعْنونَ بِهِ أَنَّ اللَّفْظَ بِالثَّانِي يَكونُ بَعْدَ الْأوَّلِ؛ فَإِنَّ هَذَا مَوْجُود بِالْفَاءِ وَبِدُونهَا وَبِسَائِرِ حُرُوفِ الْعَطْفِ، وَإِنَّمَا يَعْنُونَ بِهِ مَعْنَى أَنَّ التَّلَفُّظَ الثَّانِيَ يَكُون عَقِبَ الْأوَّلِ، فَإِذَا قُلْت: قَامَ زيدٌ فَعَمْرٌو أَفَادَ أَنَّ قِيَامَ عَمْرٍو مَوْجُودٌ فِي نَفْسِهِ عَقِبَ قِيَامِ زيدٍ.

(1)

البخاري (554)، ومسلم (633).

ص: 830

إذَا قِيلَ: هَذَا رَجُلٌ صَالِحٌ فَأَكْرِمْهُ: فُهِمَ مِن ذَلِكَ أَنَّ الصَّلَاحَ سَبَبٌ لِلْأَمْرِ بِإِكْرَامِهِ، حَتَّى لَو رَأَيْنَا بَعْدَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا لَقِيلَ كَذَلِكَ.

فَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاَتَيْنِ"

: يَقْتَضِي أَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَيْهَا هُنَا لِأَجْلِ ابْتِغَاءِ هَذِهِ الرُّؤيَةِ، وَيَقْتَضِي أَنَّ الْمُحَافَظَةَ سَبَبٌ لِهَذِهِ الرُّؤَيةِ، وَلَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ الْمُحَافَظَةُ تُوجِبُ ثَوَابًا آخَرَ، ويُؤْمَرُ بِهَا لِأَجْلِهِ، وَأَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَيْهَا سَبَبٌ لِذَلِكَ الثَّوَابِ، وَأَنَّ لِلرُّويَةِ سَبَبًا آخَرَ؛ لِأَنَّ تَعْلِيلَ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَل وَاقْتِضَاءَ الْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ لِأَحْكَامِ: جَائِز.

أَقُولُ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُنَّ

(1)

يَرَيْنَهُ -سبحانه-: أَنَّ النُّصُوصَ الْمُخْبِرَةَ بِالرُّؤْيَةِ فِي الْآخِرَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ تَشْمَلُ النِّسَاءَ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَلَمْ يُعَارِضْ هَذَا الْعُمُومُ مَا يَقْتَضِي إخْرَاجَهُنَّ مِن ذَلِكَ، فَيَجِبَ الْقَوْلُ بِالدَّلِيلِ السَّالِمِ عَن الْمُعَارِضِ الْمُقَاوِمِ. [6/ 421 - 430]

880 -

أَجْمَعَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللهَ بِأَبْصَارِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُم لَا يَرَوْنَهُ فِي الدُّنْيَا بِأَبْصَارِهِمْ، وَلَمْ يَتَنَازَعُوا إلَّا فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَثَبَتَ عَنْهُ فِي "الصَّحِيحِ"

(2)

؛ أنَّه قَالَ: "وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يَرَى رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ. [6/ 512]

* * *

(1)

أي: نساء أهل الجنة.

(2)

لم أجده في الصحيح، وهو عند الترمذي (2235)، بلفظ:"تعلمون أنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت".

ص: 831

‌(هل رَأَى مُحَمَّدٌ عليه الصلاة والسلام رَبَّه

؟)

881 -

ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ"

(1)

عَن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: "رَأَى مُحَمَّد رَبَّه بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ"، وَعَائِشَةُ أَنْكَرَتْ الرُّؤْيَةَ

(2)

.

فَمِن النَّاسِ مَن جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: عَائِشَةُ أَنْكَرَتْ رُؤْيَةَ الْعَيْنِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ أَثْبَتَ رُؤْيَةَ الْفُؤَادِ.

وَلَمْ يَثْبُتْ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ لَفْظٌ صَرِيحٌ بِأَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ.

وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَد تَارَةً يُطْلِقُ الرُّؤْيَةَ، وَتَارَةً يَقُولُ: رَآهُ بِفُؤَادِهِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّه سَمِعَ أَحْمَد يَقُولُ رَآهُ بِعَيْنِهِ، لَكِنَّ طَائِفَة مِن أَصْحَابِهِ سَمِعُوا بَعْضَ كَلَامِهِ الْمُطْلَقِ فَفَهِمُوا مِنْهُ رُؤيَةَ الْعَيْنِ؛ كَمَا سَمِعَ بَعْضُ النَاسِ مُطْلَقَ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَفَهِمَ مِنْهُ رُؤَيَةَ الْعَيْنِ.

وَلَيْسَ فِي الْأَدِلَّةِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ، وَلَا بِعَيْنِهِ ذَلِكَ عَن أَحَدٍ مِن الصَّحَابَةِ، وَلَا فِي الْكتَابِ وَالسنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ بَل النُّصُوصُ الصَّحِيحَهُ عَلَى نَفْيِهِ أَدَلُّ؛ كَمَا فِي "صَحِيح مُسْلِمٍ"

(3)

عَن أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَألْت رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم هَل رَأَيْت رَبَّك؛ فَقَالَ: "نُورٌ أنّى أَرَاهُ".

وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ"

(4)

عَن ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء: 60] قَالَ: هِيَ رُؤَيا عَيْنٍ أُرِيَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ.

(1)

رواه مسلم (176) بلفظ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)} [النجم: 11]{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} [النجم: 13]، قَالَ:"رَآهُ بِفُؤَاده مَرَّتينِ".

(2)

روى مسلم في صحيحه (177) أنّ عائشة رضي الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)} [التكوير: 23]، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} [النجم: 13]؟ فَقَالَ: "إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ، لَمْ أرَهُ عَلَى صُورَتهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ، رَأيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ".

(3)

(178).

(4)

البخاري (3888)، ولم أجده عند مسلم.

ص: 832

وَهَذِهِ "رُؤْيَا الْآيَاتِ"؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ النَّاسَ بِمَا رَآهُ بِعَيْنِهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، فَكَانَ ذَلِكَ فِتْنَةً لَهُمْ، حَيْث صَدَّقَهُ قَوْمٌ وَكَذَّبَهُ قَوْمٌ، وَلَمْ يُخْبِرْهُم بِأَنَّهُ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنِهِ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِن أَحَادِيثِ الْمِعْرَاجِ الثَّابِتَةِ ذِكْرُ ذَلِكَ، وَلَو كَانَ قَد وَقَعَ ذَلِكَ لَذَكَرَهُ كَمَا ذَكَرَ مَا دُونَهُ. [6/ 509 - 510]

* * *

‌(معني لقاء الله، وهَل يَرَى الْكُفَّارُ رَبَّهُم يوم القيامة؟ وهل يكلمهم الله

؟)

882 -

سُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: مَا هُوَ لِقَاءُ اللهِ سُبْحَانَهُ الَّذِي وَصَفَ بِظَنِّهِ الْخَاشِعِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)} [البقرة: 46].

فَأَجَابَ رضي الله عنه وَأَرْضَاهُ-: أَمَّا اللِّقَاءُ فَقَد فَسَّرَهُ طَائِفَة مِن السَّلَفِ وَالْخَلَفِ بِمَا يَتَضَمَّنُ الْمُعَايَنَةَ وَالْمُشَاهَدَةَ، بَعْدَ السُّلُوكِ وَالْمَسِيرِ، وَقَالُوا: إنَّ لِقَاءَ اللهِ يَتَضَمَّنُ رُؤْيتَهُ سبحانه وتعالى، وَاحْتَجُّوا بِآياتِ اللِّقَاءِ عَلَى مَن أَنْكَرَ رُؤَيةَ اللهِ فِي الْآخِرَةِ مِن الْجَهْمِيَّة؛ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ.

وَيُسْتَعْمَلُ اللّقَاءُ فِي لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَلقَاءِ الْوَليِّ، وَلقَاءِ الْمَحْبُوبِ، وَلقَاءِ الْمَكْرُوهِ، وَقَد يُسْتَعْمَلُ فِيمَا يَتَضَمَّنُ مُبَاشَرَةَ الْمُلَاقِي وَمُمَاسَّتَهُ مَعَ اللَّذَّةِ وَالْأَلَمِ، كَمَا قَالَ:"إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَجَبَ الْغُسْلُ"

(1)

. وَمِن نَحْوِ هَذَا قَوْلُهُ: {إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} [الجمعة:8].

لَكِنْ يَلْزَمُ هَؤُلَاءِ مَسْألَة تَكَلَّمَ النَّاسُ فِيهَا، وَهِيَ أَنَّ الْقُرْاَنَ قَد أَخْبَرَ أَنَّهُ يَلْقَاهُ الْكُفَّارُ وَيلْقَاهُ الْمُؤمِنُونَ كَمَا قَالَ: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى

(1)

رواه مسلم (349).

ص: 833

أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)} [الانشقاق: 6 - 12].

وَقَد تَنَازَعَ النَّاسُ فِي الْكُفَّارِ: هَل يَرَوْنَ رَبَّهُم مَرَّةً ثُمَّ يَحْتَجِبُ عَنْهُمْ، أَمْ لَا يَرَوْنَهُ بِحَال تَمَسُّكًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 15]، وَلأنَّ الرُّؤَيةَ أَعْظَمُ الْكَرَامَةِ وَالنَّعِيمِ، وَالْكُفَّارُ لَا حَظَّ لَهُم فِي ذَلِكَ؟

وَقَالَتْ طَوَائِفُ مِن أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ: بَل يَرَوْنَهُ ثُمَّ يَحْتَجِبُ؛ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي فِي "الصَّحِيحِ" وَغَيْرِهِ مِن حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِمَا، مَعَ مُوَافَقَةِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ.

قَالُوا: وَقَوْلُهُ: {لَمَحْجُوبُونَ} يُشْعِرُ بِأَنَّهُم عَايَنُوا ثُمَّ حُجِبُوا، وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ:{إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} فَعُلِمَ أَنَّ الْحَجْبَ كَانَ يَوْمئِذٍ، فَيُشْعِرُ بِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِذَلِكَ الْيَوْمِ، وَذَلِكَ إنَّمَا هُوَ فِي الْحَجْبِ بَعْدَ الرُّؤيَةِ.

قَالُوا: وَرُؤيَةُ الْكُفَّارِ لَيْسَتْ كَرَامَة وَلَا نَعِيمًا؛ إذ اللِّقَاءُ يَنْقَسِمُ إلَى لِقَاءٍ عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَامِ، وَلقَاءٍ عَلَى وَجْهِ الْعَذَاب، فَهَكَذَا الرُّؤيَةُ الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا اللِّقَاءُ.

وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هرَيْرَة أَنَّهُ يَتَجَلَّى لَهُم فِي الْقِيَامَةِ مَرَّةً لِلْمُؤمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ بَعْدَ مَا تَجَلَّى لَهُم أَوَّلَ مَرَّةٍ، ويسْجُدُ الْمُؤْمِنُونَ دُونَ الْمُنَافِقِينَ. [6/ 461 - 469]

883 -

الْأَقْوَالُ الثلَاثَةُ فِي رُؤيَةِ الْكُفَّارِ:

أَحَدُهَا: أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَرَوْنَ رَبَّهُم بِحَال، لَا الْمُظْهِرُ لِلْكُفْرِ وَلَا الْمُسِرُّ لَهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ عُمُومُ كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ.

الثَّاني: أَنَّهُ يَرَاهُ مَن أَظْهَرَ التَّوْحِيدَ مِن مُؤمِنِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَمُنَافِقِيهَا وَغَبَرَاتٍ

ص: 834

مِن أَهْلِ الْكِتَابِ، وَذَلِكَ فِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَحْتَجِبُ عَن الْمُنَافِقِينَ فَلَا يَرَوْنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْير ابْنِ خُزَيْمَة مِن أئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَقَد ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى نَحْوَهُ فِي حَدِيثِ إتْيَانِهِ سبحانه وتعالى لَهُم فِي الْمَوْقِفِ الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ.

الثَّالِثُ: أَنَّ الْكُفَّارَ يَرَوْنَهُ رُؤْيَةَ تَعْرِيف وَتَعْذِيبٍ -كَاللِّصِّ إذَا رَأَى السُّلْطَانَ- ثُمَّ يَحْتَجِبُ عَنْهُم لِيَعْظُمَ عَذَابُهُمْ، ويشْتَدَّ عِقَابُهُمْ.

وَهَذَا مُقْتَضَى قَوْلِ مَن فَسَّرَ اللِّقَاءَ فِي كِتَابِ اللهِ بِالرُّؤْيَةِ؛ إذ طَائِفَة مِن أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْهُم أَبُو عَبْدِ اللهِ ابْنِ بَطَّةَ الْإِمَامُ قَالُوا فِي قَوْلِ اللهِ: {الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ} [الكهف: 105]: إنَ اللِّقَاءَ يَدُلّ عَلَى الرُّؤيَةِ وَالْمُعَايَنَةِ.

قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ: كَانَت الْأُمَّةُ فِي رُؤْيَةِ اللهِ بِالْأَبْصَارِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

- مِنْهُم الْمُحِيلُ لِلرُّؤْيَةِ عَلَيْهِ، وَهُم الْمُعْتَزِلَةُ والنجارية وَغَيْرُهُم مِن الْمُوَافِقِينَ لَهُم عَلَى ذَلِكَ.

- وَالْفَرِيقُ الْآخَرُ أَهْلُ الْحَق وَالسَّلَفِ مِن هَذِهِ الْأُمَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللهَ فِي الْمَعَادِ، وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا يَرَوْنَهُ.

فَثَبَتَ بِهَذَا إجْمَاعُ الْأُمَّةِ -مِمَن يَقُولُ بِجَوَازِ الرُّؤْيَةِ وَمِمَن يُنْكِرُهَا -عَلَى مَنْعِ رُؤْيَةِ الْكَافِرِينَ للهِ، وَكُلُّ قَوْلٍ حَادِثٍ بَعْدَ الْإِجْمَاعِ فَهُوَ بَاطِل مَرْدُودٌ.

وَالْعُمْدَةُ: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 15] فَإِنَّهُ يَعُمُّ حَجْبَهُم عَن رَبِهِم فِي جَمِيعِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَذَلِكَ الْيَوْمُ {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} [المطففين: 6] وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، فَلَو قِيلَ: إنَّهُ يَحْجُبُهُم فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ: لَكانَ تَخْصِيصًا لِلَّفْظِ بِغَيْرِ مُوجِبٍ، وَلَكَانَ فِيهِ تَسْوِيَةٌ بَيْنَهُم وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَ الرُّؤَيةَ لَا تَكُونُ دَائِمَةً لِلْمُومِنِينَ، وَالْكَلَامُ خَرَجَ مَخْرَجَ بَيَانِ عُقُوبَتِهِمْ بِالْحَجْبِ وَجَزَائِهِمْ بِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَاوِيَهُم الْمُؤمِنُونَ فِي عِقَابٍ وَلَا جَزَاءٍ سِوَاهُ؛ فَعُلِمَ أَنَ الْكَافِرَ مَحْجُوبٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِخِلَافِ الْمُؤمِنِ.

ص: 835

وَإِذَا كَانُوا فِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ مَحْجُوبِينَ: فَمَعْلُومٌ أَنَّهُم فِي النَّارِ أَعْظَمُ حَجْبًا، وَقَد قَالَ سبحانه وتعالى:{وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)} [الإسراء: 72]، وَقَالَ:{وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124] وَإِطْلَاقُ وَصْفِهِمْ بِالْعَمَى يُنَافِي الرُّؤْيَةَ الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ أَنْوَاعِ الرُّؤْيةِ. [6/ 487 - 502]

884 -

لَيْسَ لِأَحَدٍ أنْ يُطْلِقَ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْكُفارَ يَرَوْنَ رَبَّهُم مِن غَيْرِ تَقْيِيدٍ؛ لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرُّؤَيةَ الْمُطْلَقَةَ قَد صَارَ يُفْهَمُ مِنْهَا الْكَرَامَةُ وَالثَّوَابُ، فَفِي إطْلَاقِ ذَلِكَ إيهَامٌ وَإِيحَاشٌ، وَلَيْسَ لِأحَد أَنْ يُطْلِقَ لَفْظًا يُوهِمُ خِلَافَ الْحَقِّ، إلَّا أَنْ يَكونَ مَأثُورًا عَن السَّلَفِ، وَهَذَا اللَّفْظُ لَيْسَ مَأْثُورًا.

الثانِي: أَنَّ الْحُكْمَ إذَا كَانَ عَامًّا: ففِي

(1)

تَخْصِيصِ بَعْضِهِ بِاللَّفْظِ خُرُوجٌ عَن الْقَوْلِ الْجَمِيلِ. [6/ 504]

885 -

الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَ اللهَ يُكَلِّمُهُم -أي: الكفار- تَكْلِيمَ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيع وَتَبْكِيتٍ، لَا تَكْلِيمَ تَقْرِيبٍ وَتَكْرِيمٍ وَرَحْمَةٍ، وَإِن كَانَ مِن الْعُلَمَاءِ مَن أَنْكَرَ تكْلِيمَهُم جُمْلَةً. [6/ 487]

* * *

(إن في الجنة مائة درجة أرجح)

886 -

قال ابن القيم رحمه الله: الحديث له لفظان:

أحدهما: "الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض"

(2)

.

والثاني: "إن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء

(1)

في الأصل: (في)، ولعل الصواب هو المثبت؛ ليستقيم المعنى.

(2)

رواه الترمذي (2530)، وصحَّحه الألباني في صحيح الترمذي.

ص: 836

والأرض أعدها الله للمجاهدين في سبيله"

(1)

، وشيخنا يرجح هذا اللفظ، وهو

لا ينفي أن يكون درجة الجنة أكثر من ذلك. [المستدرك 1/ 106]

* * *

(ما لا يفنى من المخلوقات)

887 -

اتَّفَقَ سَلَفُ الْأمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَسَائِرُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ مَا لَا يُعْدَمُ وَلَا يَفْنَى بِالْكُلِّيَّةِ؛ كَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْعَرْشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. [18/ 307]

888 -

قال ابن القيم رحمه الله: وأما أبدية النار ودوامها فقال فيها شيخ الإسلام: فيها قولان معروفان عن السلف والخلف، والنزاع في ذلك معروف عن التابعين. [حادي الأرواح 248]

* * *

(لَيْسَ عَن النَّبِيِّ فِي تَحْدِيدِ وَقْتِ السَّاعَةِ نَصٌّ)

889 -

لَيْسَ عَن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فِي تَحْدِيدِ وَقْتِ السَّاعَةِ نَصٌّ أَصلًا؛ بَل قَد قَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 187]؛ أَيْ: خَفِيَ عَلَى أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ. [4/ 341]

* * *

(الاستقامة)

890 -

قال ابن القيم رحمه الله، بعد ذكره آيات الاستقامة، وتفسير السلف لها: وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: استقاموا على محبته وعبوديته فلم يلتفتوا عنه يمنة ولا يسرة.

(1)

رواه البخاري (2790).

ص: 837

ويقول: أعظم الكرامة لزوم الاستقامة. [المستدرك 1/ 152 - 153]

* * *

‌أولياء الله المتقين

891 -

مَن كَانَ مُؤمِنًا تَقِيًّا كَانَ للهِ وَليًّا. [25/ 316]

892 -

الْوَلِيُّ مُشْتَقٌّ مِن الْوَلَاءِ وَهوَ الْقُرْبُ، كَمَا أَنَّ الْعَدُوَّ مِن الْعَدْوِ وَهُوَ الْبُعْدُ. فَوَلِيُّ اللهِ مَن وَالَاهُ بِالْمُوَافَقَةِ لَهُ فِي مَحْبُوبَاتِهِ وَمَرْضِيَّاتِهِ، وَتَقَرَّبَ إلَيْهِ بِمَا أُمِرَ بِهِ مِن طَاعَاتِهِ.

وَالْوَلِيُّ الْمُطْلَقُ هُوَ مَن مَاتَ عَلَى ذَلِكَ، فَأَمَّا إنْ قَامَ بِهِ الْاِيمَانُ وَالتَّقْوَى وَكَانَ فِي عِلْمِ اللهِ أَنَّهُ يَرْتَد عَن ذَلِكَ فَهَل يَكُونُ فِي حَالِ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ وَليًّا للهِ، أَو يُقَالُ: لَمْ يَكُن وَليًّا لةِ قَطُّ لِعِلْمِ اللهِ بِعَاقِبَتِهِ؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ.

التحْقِيقُ: هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ؛ فَإِنَّ عِلْمَ اللهِ الْقَدِيمَ الْأَزَليَّ وَمَا يَتْبَعُهُ مِن مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَبُغْضِهِ وَسُخْطِهِ وَوِلَايَتِهِ وَعَدَاوَيهِ لَا يَتَغَيَّرُ. فَمَن عَلِمَ اللهُ مِنْهُ أَنَّهُ يُوَافِي حِينَ مَوْتِهِ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى فَقَد تَعَلَّقَ بِهِ مَحَبَّةُ اللهِ وَوِلَايَتُهُ وَرِضَاهُ عَنْهُ أزَلًا وَأَبَدَا، وَكَذَلِكَ مَن عَلِمَ اللهُ مِنْهُ أَنَّهُ يُوَافِي حِينَ مَوْتِهِ بِالْكفْرِ فَقَد تَعَلَّقَ بِهِ بُغْضُ اللهِ وَعَدَاوَتُهُ وَسُخْطُهُ أَزَلًا وَأَبَدًا، لَكِنْ مَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يُبْغِضُ مَا قَامَ بِالْأَوَّلِ مِن كُفْرٍ وَفُسُوقٍ قَبْلَ مَوْتِهِ.

وَقَد يُقَالُ: إنَّهُ يُبْغِضُهُ وَيَمْقُتُهُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا يَنْهَاهُ عَن ذَلِكَ، وَهُوَ سبحانه وتعالى يَأْمُرُ بِمَا فَعَلَهُ الثَّانِي مِن الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، ويُحِبُّ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيرْضَاهُ، وَقَد يُقَالُ: إنَّهُ يُوَالِيه حِينَئِذٍ عَلَى ذَلِكَ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: اتِّفَاقُ الْأئِمَّةِ عَلَى أَنَ مَن كَانَ مُؤمِنًا ثُمَّ ارْتَدَّ فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِأَنَّ إيمَانَهُ الْأوَّلَ كَانَ فَاسِدًا بِمَنْزِلَةِ مَن أفْسَدَ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْحَجَّ قَبْلَ الْإِكْمَالِ؛ وَإِنَّمَا يُقَالُ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة:5]، وَقَالَ:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]، وَقَالَ: {وَلَوْ أَشْرَكُوا

ص: 838

لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88]، وَلَو كَانَ فَاسِدًا فِي نَفْسِهِ لَوَجَبَ الْحُكْمُ بِفَسَادِ أَنْكِحَتِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَتَحْرِيمِ ذَبَائِحِهِ وَبُطْلَانِ إرْثهِ الْمُتَقَدِّمِ وَبُطْلَانِ عِبَادَاتِهِ جَمِيعِهَا حَتَّى لَو كَانَ قَد حَجَّ عَن غَيْرِهِ كَانَ حَجُّهُ بَاطِلًا. [11/ 62 - 64]

893 -

مَن شَاعَ لَهُ لِسَانُ صِدْقٍ فِي الْأُمَّةِ بِحَيْثُ اتَّفَقَتْ الْأُمَّة عَلَى الثَّنَاءِ عَلَيْهِ فَهَل يَشْهَدُ لَهُ بِذَلِكَ؟ [أي: أنه مِن أَهْلِ الْجَنَّةِ]: هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِذَلِكَ، هَذَا فِي الْأَمْرِ الْعَامِّ.

وَأَمَّا خَوَاصُّ النَّاسِ: فَقَد يَعْلَمُونَ عَوَاقِبَ أَقْوَامٍ بِمَا كَشَفَ اللهُ لَهُم، لَكِنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَن يَجِبُ التَّصْدِيقُ الْعَامُّ بِهِ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَن يُظنُّ بِهِ أنَّه حَصَلَ لَهُ هَذَا الْكَشْفُ يَكُونُ ظَانًّا فِي ذَلِكَ ظَنًّا لَا يُغْنِي مِن الْحَقِّ شَيْئًا، وَأَهْلُ الْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُخَاطَبَاتِ يُصِيبُونَ تَارَةً، وَيُخْطِئُونَ أخْرَى؛ كَأَهْلِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فِي مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ؛ وَلهَذَا وَجَبَ عَلَيْهِم جَمِيعُهُم أَنْ يَعْتَصِمُوا بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنْ يَزِنُوا مَوَاجِيدَهُم وَمُشَاهَدَتَهُم وَآرَاءَهُم وَمَعْقُولَاتِهِمْ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَلَا يَكْتَفُوا بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ. [11/ 65]

894 -

ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى أَوْليَاءَهُ الْمُقْتَصِدِينَ وَالسَّابِقِينَ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ فِي قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)} [فاطر: 32].

لَكِنَّ هَذِهِ الْأَصْنَافَ الثَّلَاثَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُم أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً.

وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم هُم الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ بَعْدَ الْأُمَم مَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِحُفَّاظِ الْقُرْآنِ، بَل كُلُّ مَن آمَنَ بِالْقُرْآنِ فَهُوَ مِن هَؤُلَاءِ، وَقَسَّمَهُم إلّى ظَالِم لِنَفْسِهِ وَمُقْتَصِدٍ وَسَابِقٍ؛ بِخِلَافِ الْآيَاتِ الَّتِي فِي الْوَاقِعَةِ وَالْمُطَفِّفِينَ وَالِانْفِطَارِ، فَإِنَّهُ دَخَلَ فِيهَا جَمِيعُ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ كَافِرُهُم وَمُؤْمِنُهُمْ. [11/ 182 - 183]

ص: 839

895 -

مَن لَا يَصِحُّ إيمَانهُ وَعِبَادَاتهُ وَإِن قُدِّرَ أَنَّهُ لَا إثْمَ عَلَيْهِ، مِثْلُ أَطْفَالِ الْكُفَّارِ وَمَن لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ -وَإِن قِيلَ: إنَّهُم لَا يُعَذَّبُونَ حَتَّى يُرْسَلَ إلَيْهِم رَسُولٌ- فَلَا يَكُونُونَ مِن أَوْليَاءِ اللهِ إلَّا إذَا كَانُوا مِن الْمُؤمِنِينَ الْمُتَّقِينَ، فَمَن لَمْ يَتَقَرَّبْ إلَى اللهِ لَا بِفِعْلِ الْحَسَنَاتِ وَلَا بِتَرْكِ السَّيّئَاتِ لَمْ يَكُن مِن أَوْليَاءِ اللهِ. وَكَذَلِكَ الْمَجَانِينُ وَالْأَطْفَالُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"رُفِعَ الْقَلَمُ عَن ثَلَاَثةٍ: عَن الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَن الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَن النَّائِمِ حَتى يَسْتَيْقِظَ"

(1)

، وَهَذَا الْحَدِيثُ قَد رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ مِن حَدِيثِ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهما، وَاتَّفَقَ أَهْل الْمَعْرِفَةِ عَلَى تَلَقِّيهِ بِالْقَبُولِ، لَكِنَّ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ تَصِحُّ عِبَادَاتُهُ وَيُثَابُ عَلَيْهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.

وَأَمَّا الْمَجْنُونُ الَّذِي رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمُ فَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِن عِبَادَاتِهِ بِاتفَاقِ الْعُلَمَاءِ.

وَإِذَا كَانَ الْمَجْنُونُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْإِيمَانُ وَلَا التَّقْوَى وَلَا التَّقَرُّبُ إلَى اللهِ بِالْفَرَائِضِ وَالنَوَافِلِ وَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ وَليًّا فَلَا يَجُوزُ لِأَحَد أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ وَليٌّ للهِ. [11/ 191 - 192]

896 -

لَيْسَ لِأَوْليَاءِ اللهِ شَيْءٌ يَتَمَيَّزُونَ بِهِ عَن النَّاسِ فِي الظَّاهِرِ مِن الْأُمُورِ الْمُبَاحَاتِ، فَلَا يَتَمَيَّزُونَ بِلِبَاس دونَ لِبَاسٍ، إذَا كَانَ كِلَاهُمَا مُبَاحًا، وَلَا بِحَلْقِ شَعْرٍ أَو تَقْصِيرِهِ أَو ظَفْرِهِ إذَا كَانَ مُبَاحًا، كَمَا قِيلَ: كَمْ مِن صِدِّيقٍ فِي قَبَاءٍ وَكَمْ مِن زِنْدِيقٍ فِي عَبَاءٍ؛ بَل يُوجَدُونَ فِي جَمِيعِ أَصْنَافِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، إذَا لَمْ يَكُونُوا مِن أَهْلِ الْبِدَعِ الظَّاهِرَةِ وَالْفُجُورِ، فَيُوجَدُونَ فِي أَهْلِ الْقُرْآنِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ، ويُوجَدُونَ فِي أَهْلِ الْجِهَادِ وَالسَّيْفِ، ويُوجَدُونَ فِي التُّجَّارِ وَالصُّنَّاعِ وَالزُّرَّاع. [11/ 194]

897 -

لَيْسَ مَن شَرْطِ وَليِّ اللهِ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا لَا يَغْلَطُ وَلَا يُخْطِئُ؛ بَل يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ بَعْضُ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ، وَيجُوزُ أَنْ يَشْتَبِهَ عَلَيْهِ بَعْض أُمُورِ

(1)

رواه أبو داود (4403)، وصحَّحه الألباني.

ص: 840

الدِّينِ حَتَّى يَحْسَبَ بَعْضُ الْأمُورِ مِمَّا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَمِمَّا نَهَى اللهُ عَنْهُ، وَيجُوزُ أَنْ يَظنَّ فِي بَعْضِ الْخَوَارِقِ أَنَّهَا مِن كَرَامَاتِ أَوْليَاءِ اللهِ تَعَالَى وَتَكُونُ مِن الشَّيْطَانِ لَبَّسَهَا عَلَيْهِ لِنَقْصِ دَرَجَتِهِ، وَلَا يَعْرِفُ أَنَّهَا مِن الشَّيْطَانِ، وَإِن لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَن وِلَايَةِ اللهِ تَعَالَى. [11/ 201 - 202]

898 -

لَمَّا كَانَ وَليُّ اللهِ يَجُوزُ أَنْ يَغْلَطَ لَمْ يَجِبْ عَلَى النَّاسِ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ مَا يَقُولُهُ مَن هُوَ وَليٌّ للهِ لِئَلَّا يَكونَ نَبِيًّا؛ بَل وَلَا يَجُوزُ لِوَلِي اللهِ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى مَا يُلْقَى إلَيْهِ فِي قَلْبِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ، وَعَلَى مَا يَقَعُ لَهُ مِمَّا يَرَاهُ إلْهَامًا وَمُحَادَثَةً وَخِطَابًا مِن الْحَقِّ؛ بَل يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِضَ ذَلِكَ جَمِيعَهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، فَإِنْ وَافَقَهُ قَبِلَهُ، وإن خَالَفَهُ لَمْ يَقْبَلْهُ، وَإِن لَمْ يَعْلَمْ أَمُوَافِقٌ هُوَ أَمْ مُخَالِفٌ؟ تَوَقَّفَ فِيهِ. [11/ 203]

899 -

كُلُّ مَن خَالَفَ شَيْئًا مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ

(1)

، مُقَلِّدًا فِي ذَلِكَ لِمَن يَظُنُ أَنَّهُ وَليُّ اللهِ: فَإِنَّهُ بَنَى أَمْرَهُ عَلَى أَنَّهُ وَليٌّ للهِ؛ وَأَنَّ وَليَّ اللهِ لَا يُخَالَفُ فِي شَيءٍ

(2)

.

وَلَو كَانَ هَذَا الرَّجُلُ مِن أَكْبَرِ أَوْليَاءِ اللهِ كَأَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَانٍ لَمْ يُقْبَل مِنْهُ مَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ؛ فَكيْفَ إذَا لَمْ يَكُن كَذَلِكَ!

(3)

. [11/ 213]

900 -

اتَّفَقَ أَوْليَاءُ اللهِ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ لَو طَارَ فِي الْهَوَاءِ أَو مَشَى عَلَى الْمَاءِ لَمْ يُغْتَرَّ بِهِ حَتَّى يُنْظَرَ مُتَابَعَتُهُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ومُوَافَقَتُة لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ.

وَكَرَامَاتُ أَوْليَاءِ اللهِ تَعَالَى أَعْظَمُ مِن هَذِهِ الْأُمُورِ، وَهَذِهِ الْأمُورُ الْخَارِقَةُ لِلْعَادَةِ وَإِن كَانَ قَد يَكونُ صَاحِبُهَا وَليًّا للهِ فَقَد يَكُونُ عَدُوُّا للهِ؛ فَإِنَّ هَذ

(1)

من العامّة وغيرهم.

(2)

فهذا لسان حالهم ولو لم يتلفظوا بذلك.

(3)

هذا ردّ على من قبل من شيخه كلّ شيء، دون عرضه على الكتاب والسُّنَّة.

ص: 841

الْخَوَارِقَ تَكُونُ لِكَثِيرٍ مِن الْكفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَاب وَالْمُنَافِقِينَ، وَتَكُونُ لِأهْلِ الْبِدَع وَتَكُونُ مِن الشَّيَاطِينِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَ أَنَّ كُلَّ مَن كَانَ لَهُ شَيْءٌ مِن هَذِهِ الْأمُورِ أَنَّهُ وَليٌّ للهِ؛ بَل يُعْتَبَرُ أَوْليَاءُ اللهِ بِصِفَاتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، ويُعْرَفُونَ بِنُورِ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ، وَبِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ الْبَاطِنَةِ، وَشَرَاح الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ. [11/ 204]

901 -

إِنْ كَانَ الرَّجُلُ خَبِيرًا بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ الْبَاطِنَةِ، فَارِقًا بَيْنَ الْأَحْوَالِ الرَّحْمَانِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ، فَيَكُونُ قَد قَذَفَ اللهُ فِي قَلْبِهِ مِن نُورِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الحديد: 28]. [11/ 217]

902 -

الشَّيَاطِينُ إذَا رَأَتْ مَلَائِكَةَ اللهِ الَّتِي يُؤَيِّدُ بِهَا عِبَادَهُ هَرَبَتْ مِنْهُمْ، وَاللهُ يُؤَيِّدُ عِبَادَهُ الْمُؤمِنِينَ بِمَلَائِكَتِهِ. [11/ 238]

903 -

خِيَارُ أَوْليَاءِ اللهِ كَرَامَاتُهُم لِحُجَّة فِي الدِّينِ أَو لِحَاجَةٍ بِالْمُسْلِمِينَ كَمَا كَانَت مُعْجِزَاتُ نَبِيِّهِمْ صلى الله عليه وسلم كَذَلِكَ. [11/ 274]

904 -

مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم أُرْسَلَ إلَى جَمِيعِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَهَذَا أَعْظَمُ وَقَدْرًا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى مِن كَوْنِ الْجِنِّ سُخِّرُوا لِسُلَيْمَانَ عليه السلام، فَإِنَّهُم سُخّرُوا لَهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ، وَمُحَمَّد صلى الله عليه وسلم أُرْسِلَ إلَيْهِم يَأْمُرُهُم بِمَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ؛ لِأَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَمَنْزِلَةُ الْعَبْدِ الرَّسُولِ فَوْقَ مَنْزِلَةِ النَّبِيِّ الْمَلِكِ. [11/ 206]

905 -

الَّذِي عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ إنَّمَا هُم مَعْصُومُونَ مِن الْإِقْرَارِ عَلَى الذُّنُوبِ، وَأَنَّ اللهَ يَسْتَدْرِكُهُم بِالتوْبَةِ الَّتِي يُحِبُّها اللهُ {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة: 222]. [11/ 415]

906 -

مَن طَلَبَ أَنْ يُحْشَرَ مَعَ شَيْخٍ لَمْ يَعْلَمْ عَاقِبَتَهُ كَانَ ضَالًّا؛ بَل عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذ بِمَا يَعْلَمُ، فَيَطْلُبُ أَنْ يَحْشُرَهُ الله مَعَ نَبِيِّهِ وَالصَّالِحِينَ مِن عِبَادِهِ.

ص: 842

وَعَلَى هَذَا فَمَن أَحَبَّ شَيْخًا مُخَالِفًا لِلشَّرِيعَةِ كَانَ مَعَهُ.

وَأَمَّا مَن كَانَ مِن أَوْليَاءِ اللهِ الْمُتَّقِينَ: كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمْ؛ فَمَحَبَّةُ هَؤُلَاءِ مِن أَوْثَقِ عُرَى الْإِيمَانِ، وَأَعْظَمِ حَسَنَاتِ الْمُتَّقِينَ. [11/ 519 - 520]

907 -

الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِن الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَغَيْرِهَا، وَيُخْلِصُونَ دِينَهُم للهِ، فَلَا يَدْعُونَ إلَّا اللهَ، وَلَا يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ، وَلَا يُنْذِرُونَ إلَّا للهِ، وَيُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ، فَهَؤُلَاءِ جُنْدُ اللهِ الْغَالِبُونَ، وَحِزْبُ اللهِ الْمُفْلِحُونَ، فَإِنَّهُ يُؤَيِّدُهُم وَينْصُرُهُمْ، وَهَؤُلَاءِ يَهْزِمُونَ شَيَاطِينَ أُولَئِكَ الضَّالِّينَ، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ مَعَ شُهُودِ هَؤُلَاءِ وَاسْتِغَاثَتِهِمْ بِاللهِ أَنْ يَفْعَلُوا شَيْئًا مِن تِلْكَ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ؛ بَل تَهْرُبُ مِنْهُم تِلْكَ الشَيَاطِينُ.

وَهَؤُلَاءِ مُعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ، يَقولُونَ: أَحْوَالُنَا مَا تَنْفُذُ قدَّامَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِنَّمَا تَنْفُذُ قُدَّامَ مَن لَا يَكُونُ كَذَلِكَ مِن الْأَعْرَابِ وَالتُّرْكِ وَالْعَامَّةِ وَغَيْرِهِمْ.

وَلَا يَجُوزُ لِلْمؤمِنِ أَنْ يَخَافَهم فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} [آل عمران: 175]. [11/ 668 - 669]

908 -

مَن اعْتَقَدَ أَنَّ فِي أوْليَاءِ اللهِ مَن لَا يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ الْمُرْسَلِينَ وَطَاعَتُهُمْ: فَهُوَ كَافِرٌ، يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ.

وَأَمَّا مَن اعْتَقَدَ أَنَّ مِن الْأَوْليَاءِ مَن يَعْلَمُ أنَّهُ مِن أَهْلِ الْجَنَّةِ؛ كَمَا بُشِّرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِن الصَّحَابَةِ بِالْجَنَّةِ، وَكَمَا قَد يُعَرِّفُ اللهُ بَعْضَ الْأَوْليَاءِ أَنَّهُ مِن أَهْلِ الْجَنَّةِ: فَهَذَا لَا يَكْفُرُ. [4/ 318]

* * *

ص: 843

(أولياء الله علي درجتين)

909 -

أولياء الله: هم المؤمنون المتقون كما قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)} [يونس؛ 62، 63] وهم على درجتين:

إحداهما: درجة المقتصدين أصحاب اليمين، وهم الذين يؤدون الواجبات ويتركون المحرمات.

والثانية: درجة السابقين المقربين، وهم الذين يؤدون الفرائض والنوافل ويتركون المحارم والمكاره. وإن كان لا بدَّ لكلِّ عبدٍ من توبة واستغفار يكمل بذلك مقامه.

فمن كان عالمًا بما أمر الله به وما نهاه عنه، عاملًا بموجب ذلك كان من أولياء الله سواء كانت لبسته في الظاهر لبسة العلماء أو الفقراء أو الجند أو التجار أو الصناع أو الفلاحين، لكن إن كان مع ذلك متقربًا إلى الله بالنوافل كان من المقربين، وإن كان مع ذلك داعيًا غيره إلى الله هاديًا للخلق كان أفضل من غيره من أولياء الله، كما قال تعالى:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11].

إذا تبين ذلك، فمن كان جاهلًا بما أمر الله به وما نهاه عنه لم يكن من أولياء الله وإن كان فيه زهادة وعبادة لم يأمر الله بهما ورسوله كالزهد والعبادة التي كانت في الخوارج والرهبان ونحوهم.

كما أن من كان عالمًا بأمر الله ونهيه ولم يكن عاملًا بذلك لم يكن من أولياء الله؛ بل قد يكون فاسقًا فاجرًا. [المستدرك 1/ 164 - 165]

* * *

‌(أَيّهُمَا أَفْضَلُ: صَالِحو بَنِي آدَمَ أو الْمَلَائِكَة

؟)

910 -

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: عَن صَالِحِي بَنِي آدَمَ وَالْمَلَائِكَةِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟

فَأَجَابَ: بِأَنَّ صَالِحِي الْبَشَرِ أَفْضَلُ بِاعْتِبَارِ كَمَالِ النِّهَايَةِ، وَالْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ

ص: 844

بِاعْتِبَارِ الْبِدَايَةِ؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ الْآنَ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، مُنَزَّهُونَ عَمَّا يُلَابِسُهُ بَنُو آدَمَ، مُسْتَغْرِقُونَ فِي عِبَادَةِ الرَّبِّ، وَلَا ريبَ أَنَّ هَذِهِ الْأحْوَالَ الْآنَ أَكْمَلُ مِن أَحْوَالِ الْبَشَرِ.

وَأَمَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَعْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ: فَيَصِيرُ صَالِحُو الْبَشَرِ أَكْمَلَ مِن حَالِ الْمَلَائِكَةِ. [4/ 344]

911 -

ثَبَتَ عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ: يَا رَبِّ، جَعَلْت بَنِي آدَمَ يَأْكُلُونَ فِي الدُّنْيَا وَيشْرَبُونَ وَيتَمَتَّعُونَ، فَاجْعَلْ لَنَا الْآخِرَةَ كَمَا جَعَلْت لَهُم الدُّنْيَا .. قَالَ: وَعِزَّتِي لَا أَجْعَلُ صَالِحَ ذَرّيَّة مَن خَلَقْت بِيَدَيَّ كَمَن قُلْت لَهُ كنْ فَكانَ". ذَكَرَهُ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدارمي.

وَمَا عَلِمْت عَن أَحَدٍ مِن الصَّحَابَةِ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمْنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ مِن أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأوْلِيَاءَ أَفْضَلُ مِن الْمَلَائِكَةِ.

وَلنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُصَنَّفٌ مُفْرَدٌ ذَكَرْنَا فِيهِ الْأَدِلَّةَ مِن الْجَانِبَيْنِ

(1)

. [4/ 344]

(1)

الذي يظهر أنه يقصد ما جاء في (ص 350 - 392)، حيث أسهب الشيخ إسهابًا طويلًا في تأييد هذا القول، ولكنْ في رسالتِه هذه ملحوظاتٌ كثيرة، تجعل قارئها يُشكك في نسبتها للشيخ، كما مال إلى ذلك صاحب كتاب: صيانة فتاوى شيخ الإسلام، وسرد ما يُدعم كلامه، ووقفتُ أنا على غيرها كذلك؛ مثال ذلك قوله: وَقَد قَالَ بَعْضُ الْأَغْبِيَاءِ (358)، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ هَذَا الْغَبِيُّ (376).

وليس من عادة شيخ الإسلام إطلاق مثل هذه العبارات.

ومن ذلك: استشهاده بآثار فيها نظر في متنها، بل فيها نكارةٌ ظاهرة، مثل: إنَّ مِن عِبَادِ اللهِ مَن لَو أَقْسَمَ عَلَى اللهِ أَنْ يُزِيلَ جَبَلًا أو الْجِبَالَ عَن أَمَاكِنِهَا لَأزَالَهَا، وَأَنْ لَا يُقِيمَ الْقِيَامَةَ لَمَا أقَامَهَا!!

قال في تبرير ذلك: وَهَذَا مُبَالَغَةٌ!!

وهذه الرسالة دخلها الكثير من التصرف، مثال ذلك قوله: ثُمَّ ذَكَرَ مَا رَوَاهُ الْخَلَّالُ (368).

وفيها حذف، كما في (368)، حيث لم يذكر الدليل السادس، ولا التاسع والعاشر.

وفيها عبارات لا يُفهم المراد منها، مثل: وَالدَّلِيلُ الثَّامِنُ: وَهُوَ أَوَّلُ الْأحَادِيثِ مَا رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ (368). =

ص: 845

912 -

الِاعْتِبَارُ بِكَمَالِ النِّهَايَةِ لَا بِمَا جَرَى فِي الْبِدَايَةِ، وَالْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا.

وَمِن هُنَا غَلِطَ مَن غَلِطَ فِي تَفْضِيلِ الْمَلَائِكةِ عنَى الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَإِنَّهُم اعْتَبَرُوا كَمَالَ الْمَلَائِكَةِ مَعَ بِدَايَةِ الصَّالِحِينَ وَنَقْصِهِمْ فَغَلِطُوا، وَلَو اعْتَبَرُوا حَالَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ بَعْدَ دُخُولِ الْجِنَانِ وَرضى الرَّحْمَنِ وَزَوَالِ كُلِّ مَا فِيهِ نَقْصٌ وَمَلَامٌ، وَحُصُولِ كُلِّ مَا فِيهِ رَحْمَةٌ وَسَلَامٌ، حَتَّى اسْتَقَرَّ بِهِم الْقَرَارُ، {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)} [الرعد: 23، 24] فَإِذَا اُعْتُبِرَتْ تِلْكَ الْحَالُ ظَهَرَ فَضْلُهَا عَلَى حَالِ غَيْرِهِمْ مِن الْمَخْلُوقِينَ، وَإِلَّا فَهَل يَجُوزُ لِعَاقِل أَنْ يَعْتَبِرَ حَالَ أَحَدِهِمْ قَبْلَ الْكَمَالِ فِي مَقَامِ الْمَدْحِ وَالتَّفْضِيلِ وَالْبَرَاءَةِ مِن النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ. [10/ 299 - 300]

= ولذلك قال الجامع: هكذا في الأصل!

وفي (ص 356): قَالَ: وَاخْتِلَافُ الْحَقَائِقِ وَالذَّوَاتِ .. !!

إلى غيرها من الملحوظات التي لا يُوجد لها نظير في كتب الشيخ.

والذي يظهر لي: أنَّ أصلها من كلام الشيخ، ولكنه كتبها في شبابه، ويدل على ذلك أمور:

الأول: أن الشيخ نص أن له مصنفات في شبابه.

الثاني: أن أسلوب الرسالة قريب من أسلوب الشيخ العام، وهو قريب من نفَس الشيخ وتقريراته.

الثالث: أن فيه حدة لا تكون غالبًا إلا في الشباب.

الرابع: أن الشيخ كان يقرأ في صغره للصوفية ويُخالطهم كما نص على ذلك، ولذلك جاءت بعض عباراته مقتبسة منهم؛ كقوله: وَأَيْنَ هُم مِن الْأقْطَاب وَالْأوْتَادِ والأغواث وَالْأَبْدَالِ وَالنُّجَبَاءِ؟ (379).

وقد علق الجامع على ذلك بقوله: هكذا في الأصل.

فقد استنكر هذا من شيخ الإسلام، وحق له ذلك، فإن الشيخ لم يُعهد عليه إطلاق مثل هذه المصطلحات الخاصة بالصوفية، بل أنكر ذلك فقال في (11/ 433): أما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة مثل الغوث الذي بمكة، والأوتاد الأربعة والأقطاب السبعة والأبدال الأربعين والنجباء الثلاثمائة: فهذه أسماء ليست موجودة في كتاب الله تعالى؛ ولا هي أيضًا مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح، ولا ضعيف. اهـ.

وقد شكك صاحب كتاب: صيانة فتاوى شيخ الإسلام (ص 38 - 43) بنسبتها له.

ص: 846

913 -

غَلِطَ مَن فَضَّلَ الْمَلَائِكَةَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ؛ حَيْثُ نَظَرَ إلَى أَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُم فِي أَثْنَاءِ الْأَحْوَالِ، قَبْلَ أَنْ يَصِلُوا إلَى مَا وُعِدُوا بِهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ مِن نِهَايَاتِ الْكَمَالِ. [11/ 95]

* * *

(أَسْجَدَ الله لآدَمَ جَمِيعَ الْمَلَائِكَةِ)

914 -

سُئِلَ الشَّيْخُ رحمه الله: عَن آدَمَ لَمَّا خَلَقَهُ اللهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُوحِهِ وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكتَهُ: هَل سَجَدَ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؟

فَأَجَابَ: بَل أَسْجَدَ لَهُ جَمِيعَ الْمَلَائِكَةِ كَمَا نَطَقَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)} [الحجر: 30]

(1)

.

فَهَذِهِ ثَلَاثُ صِيَغٍ مُقَرِّرَةٍ لِلْعُمُومِ وَللِاسْتِغْرَاقِ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: {الْمَلَائِكَةُ} يَقْتَضِي جَمِيعَ الْمَلَائِكَةِ؛ فَإِنَّ اسْمَ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ.

الثَّاني: {كُلُّهُمْ} وَهَذَا مِن أَبْلَغِ الْعُمُومِ.

الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: {أَجْمَعُونَ} وَهَذَا تَوْكِيدٌ لِلْعُمُومِ.

وَلَمْ يَكُن فِي الْمَأْمُورينَ بِالسُّجُودِ أَحَدٌ مِن الشَّيَاطِينِ، لَكِنْ أَبُوهُم إبْلِيسُ هو كانَ مَأْمُورًا فَامْتَنَعَ وَعَصَى.

وَجَعَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِن الْمَلَائِكَةِ؛ لِدُخُولِهِ فِي الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ.

وَبَعْضُهُم مِن الْجِنِّ.

(1)

فأيُّ شرفٍ ومكانة وقدرٍ لك -أيها المؤمن-، حيث يُسجد الله لأبيك جميع ملائكتِه المقربين، وشرف أبيك من شرفك.

أما الكافر فليس له هذا الشرف؛ لأنّ هذا الشرف الذي ناله أبونا آدمُ عليه السلام إنما ناله لعلم الله بأنه سيكون صالحًا مُطيعًا له، فمن لم يكن من أهل الطاعة والصلاح والعقل: فقد تخلى عن الشرف الذي شُرف أبوه لأجلِه.

ص: 847

وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ كَانَ مِنْهُم بِاعْتِبَارِ صُورَتهِ، وَلَيْسَ مِنْهُم بِاعْتِبَارِ أَصْلِهِ، وَلَا بِاعْتِبَارِ مِثَالِهِ.

وَلَمْ يَخْرُجْ مِن السُّجُودِ لِآدَمَ أَحَدٌ مِن الْمَلَائِكَةِ: لَا جبرائيل وَلَا ميكائيل وَلَا غَيْرُهُمَا.

وَهَذَا مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ آدَمَ وَغَيْرَهُ مِن الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْليَاءِ أَفْضَلُ مِن جَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ؛ لِأَنَّ اللهَ أَمَرَ الْمَلَائِكةَ بِالسُّجُودِ لَهُ إكْرَامًا لَهُ؛ وَلهَذَا قَالَ إبْلِيسُ: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} [الإسراء: 62] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ آدَمَ كُرِّمَ عَلَى مَن سَجَدَ لَهُ. [4/ 345 - 347]

* * *

‌اتباع الهدى

915 -

الرُّسُلُ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِم أَعْلَم بِطَرِيقِ سَبِيلِ اللهِ وَأَهْدَى وَأَنْصَحُ، فَمَن خَرَجَ عَن سُنَّتِهِمْ وَسَبِيلِهِمْ كَانَ مَنْقُوصًا مُخْطِئًا مَحْرُومًا، وَإِن لَمْ يَكُن عَاصِيًا أَو فَاسِقًا أَو كَافِرًا

(1)

. [10/ 692]

916 -

جِمَاعُ الْفُرْقَانِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَالرَّشَادِ وَالْغَيِّ، وَطَرِيقِ السَّعَادَةِ وَالنّجَاةِ وَطَرِيقِ الشَّقَاوَةِ وَالْهَلَاكِ: أَنْ يَجْعَلَ مَا بَعَثَ اللهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ هُوَ الْحَقَّ الَّذِي يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، وَبِهِ يَحْصُلُ الْفُرْقَانُ وَالْهُدَى، وَالْعِلْمُ وَالْإِيمَانُ، فَيُصَدِّقُ بِأنَّهُ حَق وَصِدْقٌ.

وَمَا سِوَاهُ مِن كَلَامِ سَائِرِ النَّاسِ يُعْرَضُ عَلَيْهِ، فَإِنْ وَافَقَهُ فَهُوَ حَق، وَإِن خَالَفَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ.

وَإِن لَمْ يَعْلَمْ هَل وَافَقَهُ أَو خَالَفَهُ، لِكَوْنِ ذَلِكَ الْكَلَامِ مُجْمَلًا لَا يُعْرَفُ

(1)

لأنه قد يكون معذورًا بالجهل وعدمِ بلوغه ما جاء عنهم، وهذا من العدل والإنصاف الذي سار عليه الشيخ رحمه الله تعالى.

ص: 848

مُرَادُ صَاحِبِهِ، أَو قَد عُرِفَ مُرَادُهُ وَلَكِنْ لَمْ يُعْرَفْ هَل جَاءَ الرَّسُولُ بِتَصْدِيقِهِ أَو تكذِيبِهِ: فَإِنَّه يُمْسِكُ فَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِعِلْم.

وَالْعِلْمُ مَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَالنَّافِعُ مِنْهُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ.

وَقَد يَكون عِلْمٌ مِن غَيْرِ الرَّسُولِ؛ لَكِنْ فِي أُمُورٍ "دُنْيَوِيَّةٍ" مِثْل الطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَالْفِلَاحَةِ وَالتِّجَارَةِ.

وَأَمَّا الْأُمُورُ "الْإِلَهِيَّة وَالْمَعَارِفُ الدِّينِيَّةُ" فَهَذِهِ الْعِلْمُ فِيهَا مَأْخَذُهُ عَن الرَّسُولِ

(1)

. [13/ 135 - 136]

917 -

النُّورُ الَّذِي يَكُونُ لِلْمُومِنِ فِي الدُّنْيَا عَلَى حُسْنِ عَمَلِهِ وَاعْتِقَاده يَظْهَرُ فِي الآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد: 12]. [15/ 285]

918 -

لَمْ يَكُن جُمْهُورُهُمْ [أي: الصحابة رضي الله عنهم] يَقْصِدُونَ الصَّلَاةَ فِي مَكَانٍ لَمْ يَقْصِدِ الرَّسُولُ الصَّلَاةَ فِيهِ؛ بَل نَزَلَ فِيهِ أَو صَلَّى فِيهِ اتِّفَاقًا؛ بَل كَانَ أَئِمَّتُهُم كَعُمَر بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ يَنْهَى عَن قَصْدِ الصَّلَاةِ فِي مَكَانٍ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم اتِّفَاقًا لَا قَصْدًا.

وَإِنَّمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ خَاصَّةً أَنَّهُ كَانَ يَتَحَرَّى أَنْ يَسِيرَ حَيْثُ سَارَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وينْزِلَ حَيْثُ نَزَلَ وَيُصَلِّيَ حَيْثُ صَلَّى، وَإِن كَانَ النَّبِيِّ-صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْصِدْ تِلْكَ الْبُقْعَةَ لِذَلِكَ الْفِعْلِ بَل حَصَلَ اتّفَاقًا، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما رَجُلًا شَدِيدَ الِاتبُاعِ، فَرَأَى هَذَا مِن الِاتِّباعِ.

وَأَمَّا أَبُوهُ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ مِن الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ: عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَسَائِرِ

(1)

كلامٌ متين عظيم، به يرسم المسلم منهجه في تعامله مع الآراء والأقوال التي كان مقتنعًا بها، والعقائد التي يعتقدها، وبه يتعصب للحق لا لغيره ولو كان مُخالف حبيبًا وعزيزًا على النفس.

ص: 849

الْعَشْرَةِ وَغَيْرِهِمْ مِثْل ابْنِ مَسْعُودٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وأُبيِّ بْنِ كَعْبٍ فَلَمْ يَكونُوا يَفْعَلُونَ مَا فَعَلَ ابْنُ عُمَرَ، وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ أَصَحّ.

وَذَلِكَ أَنَّ الْمُتَابَعَةَ: "أَنْ يَفْعَلَ مِثْل مَا فَعَلَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَ لِأَجْلِ أنَّه فَعَلَ"

(1)

، فَإِذَا قَصَدَ الصَّلَاةَ وَالْعِبَادَةَ فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ كَانَ قَصْدُ الصَّلَاةِ وَالْعِبَادَةِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ مُتَابَعَةً لَهُ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْصِدْ تِلْكَ الْبُقْعَةَ فَإِنَّ قَصْدَهَا يَكُونُ مُخَالَفَةً لَا مُتَابَعَةً لَهُ.

مِثَالُ الْأوَّلِ: لَمَّا قَصَدَ الْوُقُوفَ وَالذّكْرَ وَالدُّعَاءَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَبَيْنَ الْجَمْرَتَيْنِ كَانَ قَصْدُ تِلْكَ الْبِقَاعِ مُتَابَعَةً لَهُ.

وَكَذَلِكَ قَصْدُ إتْيَانِ مَسْجِدِ قُبَاء مُتَابَعَةً لَهُ، فَإِنَّهُ قَد ثَبَتَ عَنْهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي قُبَاء كُلَّ سَبْتٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا.

وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ} [التوبة: 108]، وَكَانَ مَسْجِدُهُ هُوَ الْأَحَقَّ بِهَذَا الْوَصْفِ وَقَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّهُ سُئلَ عَن الْمَسْجِدِ الْمُؤَسَّسِ عَلَى التَّقْوَى فَقَالَ:"هُوَ مَسْجِدِي هَذَا".

يُرِيدُ أَنَّهُ أَكْمَلُ فِي هَذَا الْوَصْفِ مِن مَسْجِدِ قُبَاء، وَمَسْجِدُ قُبَاء أَيْضًا أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَبِسَبَبِهِ نَزَلَتِ الْآيَةُ؛ وَلهَذَا قَالَ:{فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108]، وَكَانَ أَهْلُ قُبَاء مَعَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ، تَعَلَّمُوا ذَلِكَ مِن جِيرَانِهِم الْيَهُودِ، وَلَمْ تَكُنِ الْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ، فَأَرَادَ النَّبِيِّ-صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ ذَاكَ هُوَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى دُونَ مَسْجِدِهِ، فَذَكَرَ أَنَّ مَسْجِدَهُ أَحَقُّ بِأَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُؤَسَّسَ عَلَى التَّقْوَى، فَقَوْلُه:{لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} يَتَنَاوَلُ مَسْجِدَهُ وَمَسْجِدَ قُبَاء ويتَنَاوَلُ كُلَّ مَسْجِدٍ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى بِخِلَافِ مَسَاجِدِ الضِّرَارِ.

(1)

هذا تعريف المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، وهي قاعدة شريفة منضبطة.

ص: 850

وَلهَذَا لَمْ يَسْتَحِبَّ عُلَمَاءُ السَّلَفِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا قَصْدُ شَيْءٍ مِن الْمَسَاجِدِ وَالْمَزَارَاتِ الَّتِي بِالْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا بَعْدَ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا مَسْجِدَ قُبَاء؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْصِدْ مَسْجِدًا بِعَيْنِهِ يَذْهَبُ إلَيْهِ إلَّا هُوَ.

وَكَذَلِكَ أَكْلُهُ مَا كَانَ يَجِذ مِن الطَّعَامِ وَلُبْسُهُ الَّذِي يُوجَدُ بِمَدِينَتِهِ طَيْبَةَ مَخْلُوقًا فِيهَا وَمَجْلُوبًا إلَيْهَا مِنَ الْيَمَنِ وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَسَّرَهُ اللهُ لَهُ، فَأَكْلُهُ التَّمْرُ، وَخُبْزُهُ الشَّعِيرُ، وَفَاكِهَتُهُ الرُّطَبُ وَالْبِطِّيخُ الْأَخْضَرُ وَالْقِثَّاءُ، وَلُبْسُ ثِيَابِ الْيَمَنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ كَانَ أَيْسَرَ فِي بَلَدِهِ مِن الطَّعَامِ وَالثِّيَابِ، لَا لِخُصُوصِ ذَلِكَ، فَمَن كَانَ بِبَلَدٍ آخَرَ وَقُوتُهُم الْبُرُّ وَالذُّرَةُ وَفَاكِهَتُهُم الْعِنَبُ وَالرُّمَّانُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَثِيَابُهُم مِمَّا يُنْسَجُ بِغَيْرِ الْيَمَنِ الْقَزُّ: لَمْ يَكُن إذَا قَصَدَ أَنْ يَتَكَلَّفَ مِن الْقُوتِ وَالْفَاكِهَةِ وَاللِّبَاسِ مَا لَيْسَ فِي بَلَدِهِ -بَل يَتَعَسَّرُ عَلَيْهِم- مُتَبِعًا لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَإِن كَانَ ذَلِكَ الَّذِي يَتَكَلَّفُهُ تَمْرًا أَو رُطَبًا أَو خُبْزًا شَعِيرًا.

فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْمُتَابَعَةِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم-من اعْتِبَارِ الْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ، " فَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى"

(1)

.

فَعُلِمَ أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ جمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَأَكَابِرُهُم هُوَ الصَّحِيحُ، وَمَعَ هَذَا فَابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما لَمْ يَكُن يَقْصِدُ أَنْ يُصَلِّيَ إلَّا فِي مَكانٍ صَلَّى فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، لَمْ يَكُن يَقْصِدُ الصَّلَاةَ فِي مَوْضِعِ نُزُولهِ وَمُقَامِهِ، وَلَا كَانَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ يَذْهَبُ إلَى الْغَارِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ لِلزِّيَارَةِ وَالصَّلَاةِ فِيهِ. [17/ 466 - 475]

919 -

وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ حُكْمُ اللهِ وَرَسُولِهِ فِي أَمْرٍ أَلَّا يَعْدِلَ عَنْهُ، وَلَا يَتَّبِعَ أَحَدًا فِي مُخَالَفَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنّ اللهَ فَرَضَ طَاعَةَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ حَالٍ، قَالَ تَعَالَى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]. [20/ 223]

(1)

البخاري (1)، ومسلم (1907).

ص: 851

920 -

رُوِيَ عَن الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه؛ أَنَّهُ قَالَ: لَو فَكَرَ النَّاسُ كُلُّهُم فِي سُورَةِ (وَالْعَصْرِ) لَكَفَتْهُمْ.

وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ خَاسِرونَ، إلَّا مَن كَانَ فِي نَفْسِهِ مُؤمِنًا صَالِحًا، وَمَعَ غَيْرِهِ مُوصِيًا بِالْحَقِّ مُوصِيًا بِالصَّبْرِ. [28/ 152]

921 -

إِذَا افْتَقَرَ الْعَبْدُ إلَى اللهِ، وَدَعَاهُ، وَأَدْمَنَ النَّظَرَ فِي كَلَامِ اللهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ، وَكَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأْئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ: انْفَتَحَ لَهُ طَرِيقُ الْهُدَى. [5/ 118]

922 -

لَيْسَ تَصْدِيقُ مَن عَرَفَ الْقرْآنَ وَمَعَانِيَهُ، وَالْحَدِيثَ وَمَعَانِيَهُ، وَصَدَّقَ بِذَلِكَ مفَصَّلًا: كَمَن صَدَّقَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَكْثَرُ مَا جَاءَ بِهِ لَا يَعْرِفُهُ أَو لَا يَفْهَمُهُ. [6/ 480]

923 -

الْخَيْرُ كُلُّ الْخَيْرِ فِي:

أ- اتِّبَاعِ السَّلَفِ الصَّالِحِ.

ب- وَالِاسْتِكْثَارِ مِن مَعْرِفَةِ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

ج- وَالتَّفَقُّهِ فِيهِ.

د- وَالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللهِ.

هـ- وَمُلَازَمَةِ مَا يَدْعُو إلَى الْجَمَاعَةِ وَالْأُلْفَةِ.

و- وَمُجَانَبَةِ مَا يَدْعُو إلَى الْخِلَافِ وَالْفُرْقَةِ.

إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرًا بَيِّنًا قَد أَمَرَ اللهُ وَرَسُولُهُ فِيهِ بِأَمْرٍ مِن الْمُجَانَبَةِ: فَعَلَى الرَّأسِ وَالْعَيْنِ. [6/ 505]

924 -

عَلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِكُلِّ مَا جَاءَ مِن عِنْدِ اللهِ، وَنُقِرَّ بِالْحَقّ كُلِّهِ، وَلَا يَكُون لنَا هَوًى، وَلَا نتَكَلَّمَ بِغَيْرِ عِلْمٍ.

بَل نَسْلُكُ سُبُلَ الْعِلْمِ وَالْعَدْلِ، وَذَلِكَ هُوَ اتِّبَاعُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَأَمَّا مَن تَمَسَّكَ بِبَعْضِ الْحَقِّ دُونَ بَعْضٍ فَهَذَا مَنْشَأُ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ. [4/ 450]

ص: 852

925 -

يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُرَاعِيَ الْقَوَاعِدَ الْكُلِّيَّةَ الَّتِي فِيهَا الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، لَا سِيَّمَا فِي مِثْل صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ.

وأَصَحُّ النَّاسِ طَرِيقَة فِي ذَلِكَ هُم عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ الَّذِينَ عَرَفُوا السُّنَّةَ وَاتَّبَعُوهَا؛ إذ مِن أَئِمَّةِ الْفِقْهِ مَن اعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ عَلَى أَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ، وَمِنْهُم مَن كَانَ عُمْدَتُهُ الْعَمَلَ الَّذِي وَجَدَهُ بِبَلَدِهِ وَجَعَلَ ذَلِكَ السُّنَّةَ دُونَ مَا خَالَفَهُ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قد وَسَّعَ فِي ذَلِكَ وَكُل سُنَّةٌ. [22/ 67]

926 -

لَو كَانَ شَيءٌ خَيْرًا مَحْضًا لَمْ يُوجِبْ فُرْقَةً، وَلَو كَانَ شَرًّا مَحْضًا لَمْ يَخْفَ أَمْرُهُ، لَكِنْ لِاجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ فِيهِ أَوْجَبَ الْفِتْنَةَ

(1)

. [22/ 130]

927 -

الْأَحْوَالُ الَّتِي تَحْصُلُ عَن أَعْمَالٍ فِيهَا مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ أَحْوَالٌ غَيْرُ مَحْمُودَةٍ وَإِن كَانَ فِيهَا مُكَاشَفَاتٌ وَفِيهَا تَأْثيرَاتٌ.

وَإِذَا أَصَرَّ عَلَى تَرْكِ مَا أُمِرَ بِهِ مِن السُّنَّةِ وَفِعْلِ مَا نُهِيَ عَنْهُ: فَقَد يُعَاقَبُ بِسَلْبِ فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ، حَتَّى قَد يَصِيرُ فَاسِقًا أَو دَاعِيًا إلَى بِدْعَةٍ.

وَإِن أَصَرَّ عَلَى الْكَبَائِرِ: فَقَد يُخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يُسْلَبَ الْإِيمَانَ؛ فَإِنَّ الْبِدَعَ لَا

(1)

ما أعظم هذا الكلام على اختصاره!

ومعنى كلامه صلى الله عليه وسلم: أنّ الشيْء لَو كَانَ خَيْرًا مَحْضًا لَمْ يُوجِبْ فُرْقَةً، كالصلاة وأداء الزكاة والصدقة، فالقيام بها لا يُسبب أي شر وفتنة وضرر.

وَلَو كَانَ شَرًّا مَحْضًا لَمْ يَخْفَ أَمْرُهُ، كالزنى والسرقة وقتل النفس بلا حق، فهذه لا يخفى أمرها على أحد، ولا يستريب أحد أنها خطا وشرٌّ وحرام، ولا يختلف العقلاء عليها.

وإنما تقع الخلافات والْفِتنَ من اجْتِمَاع الْأمْرَيْنِ فِي الأمر الوحد، وهي غالب ما تنازع الناس بسببها، كالإمارة والجهاد وإنكار المنكَر وغير ذلك.

فالأعمال التي يقوم بها بعض الناس من الدعاة والمشايخ وأهل الخير واجتهدوا بها: لن تكون خيرًا محضًا، بل ربما يشوب بعضَها شرٌّ، فلا يجوز ذمها وذم صاحبها مطلقًا، ويجب أن يُحاسب من طعن فيهم وفي أعمالهم، ويعلم أنّه قد يكون ظالِمًا لهم، حيث ذم كلّ أعمالهم، وفيها خيرٌ ونفعٌ عظيم.

فالفتن الحاصلة بين المسلمين وخاصّةً أهل السُّنَّة: لم تحدث لارتكاب أحدهم شرًّا محضًا؛ لأن الشر المحض كما تقدم لا يجهله أحد، ولا يُقدم عليه عاقل، بل لأنه اجتمع في الشيء الأمرين: الخير والشر.

ص: 853

تَزَالُ تُخْرِجُ الْإِنْسَانَ مِن صَغِيرٍ إلَى كَبِيرٍ حَتَّى تُخْرِجَهُ إلَى الْإِلْحَادِ وَالزَّنْدَقَةِ، كَمَا وَقَعَ هَذَا لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِمَن كَانَ لَهُم أَحْوَالٌ مِن الْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّأْثِيرَاتِ، وَقَد عَرَفْنَا مِن هَذَا مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذِكْرِهِ.

فَالسُّنَّةُ مِثَالُ سَفِينَةِ نُوع: مَن رَكِبَهَا نَجَا وَمَن تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ. [22/ 306 - 307]

928 -

كُلُّ مَن كَانَ لَهُ

(1)

أَطْوَعَ وَأَتْبَعَ كَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. [26/ 156]

929 -

إِن ظَنَّ أَنَّ غَيْرَ هَدْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَكْمَلُ مِن هَدْيِهِ أَو أَنَّ مِن الْأَوْليَاءِ مَن يَسَعُهُ الْخرُوجُ عَن شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم كَمَا وَسِعَ الْخَضِرَ الْخُرُوجُ عَن شَرِيعَةِ مُوسَى عليه السلام فَهَذَا كَافِرٌ يَجِبُ قَتْلُهُ بَعْدَ اسْتِتَابَتِهِ؛ لِأَنَّ مُوسَى عليه السلام لَمْ تَكُنْ دَعْوَتُهُ عَامَّةً وَلَمْ يَكُن يَجِبُ عَلَى الْخَضِرِ اتِّبَاعُ مُوسَى عليه السلام. [27/ 58 - 59]

930 -

الْحَقُّ يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ؛ فَإِنَّ الْحَقَّ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ الرُّسُلَ لَا يَشْتَبِهُ بِغَيْرِهِ عَلَى الْعَارِفِ، كَمَا لَا يَشْتَبِهُ الذَّهَبُ الْخَالِصُ بِالْمَغْشُوشِ عَلَى النَّاقِدِ. [27/ 316]

931 -

فَلْيَتَدَبَّر الْعَاقِلُ وَلْيَعْلَمْ أنَّه مَن خَرَجَ عَن الْقَانُونِ النَّبَوِيِّ الشَّرْعِيِّ الْمُحَمَّدِيِّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا: احْتَاجَ إلَى أَنْ يَضَعَ قَانُونًا آخَرَ مُتَنَاقِضًا يَرُدُّهُ الْعَقْلُ وَالدِّينُ. [29/ 329]

932 -

الناس إذا أُرسل إليهم الرسل بين أمرين: إمّا أن يقول أحدهم: آمنّا، وإما أن لا يقول: آمنّا؛ بل يستمر على عمل السيئات.

فمن قال: "آمنّا" امتحنه الرب عز وجل وابتلاه، وألبسه الابتلاء والاختبار ليبين الصادق من الكاذب.

(1)

أي: للنبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 854

ومن لم يقل: "آمنّا" فلا يحسب أنه يسبق الرب لتجربته، فإنَّ أحدًا لن يُعجز الله تعالى.

هذه سُنَّته تعالى، يُرسل الرسل إلى الخلق، فيكذبهم الناس ويؤذونهم، قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112].

ومن آمن بالرسل وأطاعهم عادوه وأدوه فابتلي بما يؤلمه، وإن لم يؤمن بهم عوقب فحصل ما يؤلمه أعظم وأدوم، فلا بد من حصول الألم لكل نفس سواء آمنت أو كفرت، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، والكافر تحصل له النعمة ابتداء، ثم يصير في الألم.

سأل رجل الشافعي فقال: يا أبا عبد الله أيهما أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلى؟ فقال الشافعي: لا يمكن حتى يبتلى؛ فإن الله ابتلى نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فلما صبروا مكَّنهم.

فلا يظن أحد أنه يخلص من الألم ألبتة، وهذا أصل عظيم، فينبغي للعاقل أن يعرفه، وهذا يحصل لكل أحد؛ فإن الإنسان مدني بالطبع لا بد له أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات وتصورات يطلبون منه أن يوافقهم عليها، وإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه.

وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب: تارة منهم، وتارة من غيرهم. وذلك أن النفس لا تزكو وتصلح حتى تمحص بالبلاء؛ كالذهب الذي لا يخلص جيده من رديئه حتى يفتتن في كير الامتحان؛ إذ كانت النفس جاهلة ظالمة وهي منشأ كل شر يحصل للعبد، فلا يحصل له شر إلا منها، قال الله تعالى:{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]. [المستدرك 1/ 193 - 195]

* * *

ص: 855

‌التقوى وخشية الله

933 -

التَّقْوَى: أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِطَاعَةِ اللهِ

(1)

، عَلَى نُورٍ مِن اللهِ

(2)

، يَرْجُو رَحْمَةَ اللهِ

(3)

، وَأَنْ يَتْرُكَ مَعْصِيَةَ اللهِ، عَلَى نُورٍ مِن اللهِ، يَخَافُ عَذَابَ اللهِ. [10/ 433]

934 -

تَنَازَعَ النَّاسُ أَيُّمَا أَفْضَلُ: الْفَقِيرُ الصَّابِرُ أَو الْغَنِيُّ الشَّاكِرُ؟ وَالصَّحِيحُ: أَنَّ أَفْضَلَهُمَا أَتْقَاهُمَا؛ فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي التَّقْوَى اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَةِ. [11/ 21]

935 -

هُم [أي: الناس] فِي التَّقْوَى -وَهِيَ طَاعَةُ الْأَمْرِ الدِّينِيِّ-، وَالصَّبْرِ عَلَى مَا يُقَدَّرُ عَلَيْهِ مِن الْقَدَرِ الْكَوْنِيِّ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ:

أَحَدُهَا: أَهْلُ التَّقْوَى وَالصَّبْرِ وَهُم الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِن أَهْلِ السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَالثاني: الَّذِينَ لَهم نَوْعٌ مِن التَّقْوَى بِلَا صَبْرٍ مِثْلُ الَّذِينَ يَمْتَثِلُونَ مَا عَلَيْهِم مِن الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا وَيتْرُكُونَ الْمُحَرَّمَاتِ: لَكِنْ إذَا أُصِيبَ أَحَدُهُم فِي بَدَنِهِ بِمَرَضٍ وَنَحْوِهِ أَو فِي مَالِهِ أَو فِي عِرْضِهِ أَو اُبْتُلِيَ بِعَدُوٍّ يُخِيفُهُ عَظُمَ جَزَعُهُ وَظَهَرَ هَلَعُهُ.

وَالثَّالِثُ: قَوْمٌ لَهُم نَوْعٌ مِن الصَّبْرِ بِلَا تَقْوَى مِثْلُ الْفُجَّارِ الَّذِينَ يَصْبِرُونَ عَلَى مَا يُصِيبُهُم فِي مِثْل أَهْوَائِهِمْ كَاللُّصُوصِ وَالْقُطَّاعِ الَّذِينَ يَصْبِرُونَ عَلَى الْآلَامِ فِي مِثْل مَا يَطْلُبُونَهُ مِن الْغَصْبِ وَأَخْذِ الْحَرَامِ؛ وَالْكُتَّابِ وَأَهْلِ الدِّيوَانِ الَّذِينَ يَصْبِرُونَ عَلَى ذَلِكَ فِي طَلَبِ مَا يَحْصُلُ لَهُم مِن الأمْوَالِ بِالْخِيَانَةِ وَغَيْرِهَا.

(1)

أي: بالطاعة التي شرعها الله ورسولُه، أخرج من عمل المعصية والبدعة.

(2)

أي: يعمل بالطاعة وفق مُراد الله بها، أخرج من عملها على خلاف مقصود الشارع بها ولو عملها لله، كمن يُجاهد لله لكنه يحيف ويجور، وكمن يأمر بمعروف وينهى عن منكر، ولكنه يقسو ولا يرفق.

(3)

أي: يعملها بإخلاص، أخرج المرائي.

ص: 856

وَكَذَلِكَ طُلَّابُ الرِّئَاسَةِ وَالْعُلُوِّ عَلَى غَيْرِهِمْ يَصْبِرُونَ مِن ذَلِكَ عَلَى أَنْوَاعٍ مِن الْأذَى الَّتِي لَا يَصْبِرُ عَلَيْهَا أَكْثَرُ النَّاسِ.

وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْمَحَبَّةِ لِلصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ مِن أَهْلِ الْعِشْقِ وَغَيْرِهِمْ يَصْبِرُونَ فِي مِثْل مَا يَهْوُونَهُ مِن الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى أَنْوَاعٍ مِن الْأَذَى وَالْآلَامِ.

وَأمَّا الْقِسْمُ الرَّابعُ فَهُوَ شَرُّ الْأَقْسَامِ: لَا يَتَّقُونَ إذَا قَدَرُوا وَلَا يَصْبِرُونَ إذَا اُبْتُلُوا؛ بَل هُم كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)} [المعارج: 19 - 21]، فَهَؤُلَاءِ تَجِدُهُم مِن أَظْلَمِ النَّاسِ وأجبرهم إذَا قَدَرُوا وَمِن أَذَلِّ النَّاسِ وَأَجْزَعِهِمْ إذَا قُهِرُوا، إنْ قَهَرْتهمْ ذَلُّوا لَك وَنَافَقُوك وَحَابَوْك وَاسْتَرْحَمُوك وَدَخَلُوا فِيمَا يَدْفَعُونَ بِهِ عَن أَنْفُسِهِمْ مِن أَنْوَاعِ الْكَذِب وَالذُّلّ وَتَعْظِيمِ الْمَسْؤُولِ، وَإِن قَهَرُوك كَانُوا مِن أَظْلَمِ النَّاسِ وَأَقْسَاهُم قَلْبًا وَأقَلِّهِمْ رَحْمَةً وَإِحْسَانًا وَعَفْوًا.

وَقَد ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى "الصَّبْرَ وَالتَّقْوَى" جَمِيعًا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِن كِتَابِهِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ يَنْضرُ الْعَبْدَ عَلَى عَدُوّهِ مِن الْكُفَّارِ الْمُحَارِبِينَ الْمُعَانِدِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَعَلَى مَن ظَلَمَهُ مِن الْمُسْلِمِينَ وَلصَاحِبِهِ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ.

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)} [آل عمران: 125]. [11/ 25 - 31]

* * *

‌الدعاء

936 -

السُّنَّةُ فِي الدُّعَاءِ كُلّهِ: الْمُخَافَتَةُ إلا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ سَبَبٌ يُشْرَع لَهُ الْجَهْرُ.

بَلِ السُّنَّةُ فِي الذِّكْرِ كُلّهِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الأعراف: 205].

وَكَذَلِكَ لَو اقْتَصَرَ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم خَارجَ الصَّلَاةِ؛ مِثْل أَنْ يُذْكَرَ

ص: 857

فَيُصَلِّي عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَسْتَحِبَّ أَحَدٌ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ رَفْعَ الصَّوْتِ بِذَلِكَ.

فَقَائِلُ ذَلِكَ مُخْطِئٌ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ.

وَأَمَّا رَفْعُ الصَّوْتِ بِالصَّلَاةِ أَو الرّضَى الَّذِي يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْمُؤَذِّنِينَ قُدَّامَ بَعْضِ الْخُطَبَاءِ فِي الْجَمْعِ فَهَذَا مَكْرُوهٌ أَو مُحَرَّمٌ بِاتّفَاقِ الْأُمَّةِ. [22/ 468 - 470]

937 -

تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ: هَل لِغَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُفْرَدًا؟ إِذَا لَمْ يَكُن عَلَى وَجْهِ الْغُلُوّ وَجُعِلَ ذَلِكَ شِعَارًا لِغَيْرِ الرَّسولِ فَهَذَا نَوْعٌ مِنَ الدُّعَاءِ وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَمْنَعُ مِنْهُ، وَقَد قَالَ تَعَالَى:{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} [الأحزاب؛ 43]. [22/ 473]

938 -

وَسُئِلَ: عَمَّن قَالَ: لَا يَجُوزُ الدّعَاءُ إلَّا بِالتّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ اسْمًا، وَلَا يَقُولُ: يَا حَنَّان يَا مَنَّانُ، وَلَا يَقُولُ: يَا دَلِيلَ الْحَائِرِينَ، فَهَل لَهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ؟

فَأَجَابَ: هَذَا الْقَوْلُ وَإِن كَانَ قَد قَالَهُ طَائِفَة مِنَ الْمُتَأَخرِينَ كَأبِي مُحَمَّدِ ابْنِ حَزْمٍ

(1)

وَغَيْرِهِ؛ فَإِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى خِلَافِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ مَضَى سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتهَا وَهُوَ الصَّوَابُ لِوُجُوهِ:

أَحَدُهَا: أَنَّ التِّسْعَةَ وَالتّسْعِينَ اسْمًا لَمْ يَرِدْ فِي تَعْيِينِهَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَشْهَرُ مَا عِنْدَ النَّاسِ فِيهَا حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ الَّذِي رَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَن شُعَيْبٍ عَن أَبِي حَمْزَةَ، وَحُفَّاظُ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَقُولُونَ: هَذِهِ الزِّيَادَةُ مِمَّا جَمَعَهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَن شُيُوخِهِ مِن أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَفيهَا حَدِيثٌ ثَانٍ أَضْعَفُ مِن هَذَا، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه.

الْوَجْهُ الثاني: أَنَّهُ إذَا قِيلَ تَعْيِينُهَا عَلَى مَا فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ مَثَلًا فَفِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَسْمَاءٌ لَيْسَتْ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ مِثْل اسْمِ "الرَّبِّ " .. وَكَذَلِكَ اسْمُ "الْمَنَّانِ".

(1)

كما في المحلى (1/ 50).

ص: 858

وَقَد قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد رضي الله عنه لِرَجُل وَدَّعَهُ قُلْ: يَا دَلِيلَ الْحَائِرِينَ دُلَّنِي عَلَى طَرِيقِ الصَّادِقِينَ وَاجْعَلْنِي مِن عِبَادِك الصَّالِحِينَ.

وَقَد أَنْكَرَ طَائِفَة مِن أَهْلِ الْكَلَامِ؛ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي الْوَفَاءِ ابْنِ عَقِيلٍ أَنْ يَكُونَ مِن أَسْمَائِهِ الدَّلِيلُ؛ لِأَنَّهُم ظَنُّوا أَنَّ الدَّلِيلَ هُوَ الدَّلَالَةُ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا، وَالصَّوَابُ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ فِي الْأَصْلِ هُوَ الْمُعَرِّفُ لِلْمَدْلُولِ، وَلَو كَانَ الدَّلِيلُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ؛ فَالْعَبْدُ يَسْتَدل بِهِ أَيْضًا، فَهُوَ دَلِيل مِنَ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا. [22/ 481 - 484]

939 -

مَن دَعَا اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ بِدُعَاء جَائِزٍ سَمِعَهُ اللهُ وَأَجَابَ دُعَاءَهُ، سَوَاءٌ كَانَ مُعْرَبًا أَو مَلْحُونًا

(1)

.

بَل يَنْبَغِي لِلدَّاعِي إذَا لَمْ يَكُن عَادَتُهُ الْإِعْرَابَ أَنْ لَا يَتَكَلَّفَ الْإِعْرَابَ، قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إذَا جَاءَ الْإِعْرَابُ ذَهَبَ الْخُشُوعُ.

وَهَذَا كَمَا يُكْرَهُ تَكَلُّفُ السَّجْعِ فِي الدُّعَاءِ فَإِذَا وَقَعَ بِغَيْرِ تَكَلُّيفٍ فَلَا بَأْسَ به.

فَإِنَّ أَصْلَ الدُّعَاءِ مِنَ الْقَلْبِ، وَاللِّسَان تَابعٌ لِلْقَلْبِ.

وَمَن جَعَلَ هِمَّتَهُ فِي الدُّعَاءِ تَقْوِيمَ لِسَانِهِ أَضْعَفَ تَوَجُّهَ قَلْبِهِ، وَلهَذَا يَدْعُو الْمُضْطَرُّ بِقَلْبِهِ دُعَاءً يُفْتَحُ عَلَيْهِ لَا يَحْضُرُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ فِي قَلْبِهِ.

وَالدُّعَاءُ يَجُوزُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَبِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ قَصْدَ الدَّاعِي وَمُرَادَهُ وَإِن لَمْ يُقَوّمْ لِسَانَهُ، فَإِنَّهُ يَعْلَمُ ضَجِيجَ الْأَصْوَاتِ، بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ، عَلَى تَنَوُّعِ الْحَاجَاتِ. [22/ 488 - 489]

940 -

رَفْعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ: جَاءَ فِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ.

(1)

أي: أخْطأ الإعْراب وخَالف وَجْه الصَّواب في النَّحْو.

ص: 859

وَأَمَّا مَسْحُهُ وَجْهَة بِيَدَيْهِ فَلَيْسَ عَنْهُ فِيهِ إلَّا حَدِيثٌ أَو حَدِيثَانِ لَا يَقُومُ بِهِمَا حُجَّةٌ. [22/ 519]

941 -

من سأل غيره الدعاء لنفع ذلك الغير أو نفعهما أثيب، وإن قصد نفع نفسه فقط نُهي عنه؛ كسؤال المال، وإن كان لا يأثم.

وقال شَيْخُنَا أَيْضًا في "الْفَتَاوَى الْمِصْرِيَّةِ": لَا بَأْسَ بِطَلَبِ الدُّعَاءِ بَعْضُهُم من بَعْضٍ، لَكِنَّ أَهْلَ الْفَضْلِ يَنْوُونَ بِذَلِكَ أَنَّ

(1)

الذي يَطْلُبُونَ منه الدُّعَاءَ إذَا دَعَا لهم كان له من الْأَجْرِ على دُعَائِهِ لهم أَعْظَمُ من أَجْرِهِ لو دَعَا لِنَفْسِهِ وَحْدَهَا.

942 -

إنَّ مَطْلُوبَ الْعَبْدِ إنْ كَانَ مِنَ الْأمُورُ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إلَّا اللهُ تَعَالَى؛ مِثْلُ أَنْ يَطْلُبَ شِفَاءَ مَرِيضِهِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِم، أَو وَفَاءَ دَيْنِهِ مِن غَيْرِ جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ، أو عَافِيَةَ أَهْلِهِ وَمَا بهِ مِن بَلَاءِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَانْتِصَارَهُ عَلَى عَدُوِّهِ

وَأَمْثَالَ ذَلِكَ: فَهَذ الأمُورُ كُلُّهَا لَا يَجُوزُ أَنْ تُطْلَبَ إلَّا مِن اللهِ تَعَالَى.

وَمَن سَألَ ذَلِكَ مَخْلُوقًا كَائِنًا مَن كَانَ فَهُوَ مُشْرِكٌ بِرَبِّهِ.

وَأَمَّا مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ: فَيَجُوزُ أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ دُونَ بَعْضٍ، فَإِنَّ "مَسْألَةَ الْمَخْلُوقِ" قَد تَكُونُ جَائِزَةً وَقَد تَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهَا.

ويُشْرَعُ لِلْمُسْلِم أَنْ يَطْلُبَ الدُّعَاءَ مِمَن هُوَ فَوْقَهُ وَمِمَن هُوَ دُونَهُ، فَقَد رُوِيَ طَلَبُ الدُّعَاءِ مِنَ الْأُعْلَى وَالْأَدْنَى؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ رضي الله عنه إلَى الْعُمْرَةِ "لَا تَنْسَنَا مِن دُعَائِك يَا أَخَي"

(2)

.

(1)

في الأصل: (لكن أهل الفضل يفوزون بذلك، إذ الذي يطلبون .. والجامع نسب هذا النقل إلى الاختيارات)، ولم أجده فيه، بل في مختصر الفتاوى (5/ 374)، والمثبت من الاختيارات (ص 157)، والفروع (2/ 457).

(2)

رواه الترمذي وقال: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ"، وأبو داود (1498)، وابن ماجه (2894)، وصعَّفه الألباني في ضعيف أبي داود (264).

ص: 860

وَثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ"

(1)

أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ أُويسًا القرني وَقَالَ لِعُمَر رضي الله عنه: "إن اسْتَطَعْت أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَك فَافْعَلْ"

(2)

. [27/ 67 - 70]

943 -

مِمَّا يُبَيِّنُ فَضْلَ الثَّنَاءِ عَلَى الدُّعَاءِ: أَنَّ الثَّنَاءَ الْمَشْرُوعَ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ بِاللهِ، وَأَمَّا الدُّعَاءُ فَقَد لَا يَسْتَلْزِمُهُ، إذ الْكُفَّارُ يَسْألُونَ اللهَ فَيُعْطِيهِمْ؛ كَمَا أَخْبَرَ اللهُ بِذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، فَإِنَّ سُؤَالَ الرِّزْقِ وَالْعَافِيَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِن الْأَدْعِيَةِ الْمَشْرُوعَةِ: هُوَ مِمَّا يَدْعُو بِهِ الْمُؤمِنُ وَالْكَافِرُ بِخِلَافِ الثَّنَاءِ.

وَالْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى فَضْلِ جِنْسِ الثَّنَاءِ عَلَى جِنْسِ الدُّعَاءِ كَثِيرَةٌ، مِثْل أَمْرِهِ أَنْ يُقَالَ عِنْدَ سَمَاعِ الْمُؤَذِّنِ مِثْل مَا يَقُولُ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يَسْأَلُ لَهُ الْوَسِيلَةَ، ثُمَّ يَسْأَلُ الْعَبْدُ بَعْدَ. ذَلِكَ، فَقَدَّمَ الثَّنَاءَ عَلَى الدُّعَاءِ.

وَهَكَذَا بَعْدَ التَّشَهُّدِ، فَإِنَّهُ قَدَّمَ فِيهِ الثَّنَاءَ عَلَى اللهِ، ثمَّ الدُّعَاءَ لِرَسُولِهِ، ثُمَّ لِلْإِنْسَانِ. [22/ 382 - 384]

944 -

إِذَا دَعَا اللهَ سُبْحَانَهُ فَقَد يَحْصُلُ لَهُ بِالدُّعَاءِ مِن مَعْرِفَةِ اللهِ وَمَحَبَّتِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالْعُبُودِيَّةِ لَهُ وَالِافْتِقَارِ إلَيْهِ مَا هُوَ أَفْضَلُ وَأَنْفَعُ مِن مَطْلُوبِهِ ذَلِكَ؛ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إنَّهُ لَيَكُونُ لِي إلَى اللهِ حَاجَةٌ فَأَدْعُوهُ فَيَفْتَحُ لِي مِن بَابِ

(1)

رواه مسلم (2542).

(2)

قال شيخ الإسلام رحمه الله موضع آخر: وَإِن كَانَ الطَّالِبُ أَفْضَلَ مِن أوَيْسٍ بكَثير. (1/ 327). وقال: طَلَبُ الدُّعَاءِ مَشْرُوعٌ مِن كل مُؤمِنِ لِكُلِّ مُومِنٍ. (1/ 326).

تنبيه؛ كلامه هنا ظاهرٌ في أنه يرى جواز طلب الدعاء من كل مؤمن، ولا يدخل في المسألة المذمومة، لكنه خالف في ذلك في (1/ 193) حيث قال: ومن قال لغيره من الناس: ادع لي -أو لنا- وقصده أن ينتفع ذلك المأمور بالدعاء وينتفع هو أيضًا بأمره وبفعل ذلك المأمور به كما يأمره بسائر فعل الخير فهو مقتد بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤتم به، ليس هذا من السؤال المرجوح.

وأما إن لم يكن مقصوده إلا طلب حاجته لم يقصد نفع ذلك والإحسان إليه، فهذا ليس من المقتدين بالرسول المؤتمين به في ذلك، بل هذا هو من السؤال المرجوح الذي تَرْكه إلى الرغبة إلى الله وسؤاله أفضل من الرغبة إلى المخلوق وسؤاله. اهـ.

ويُنظر كذلك: مجموع الفتاوى (1/ 190).

ولعل له في المسألة قولين.

ص: 861

مَعْرِفَتِهِ مَا أُحِبُّ مَعَهُ أَنْ لَا يُعَجَّلَ لِي قَضَاءَهَا؛ لِئَلَّا يَنْصَرِفَ قَلْبِي عَن الدُّعَاءِ. [22/ 385]

945 -

قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} [الزمر: 8]؛ أَيْ: نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو اللهَ إلَيْهِ، وَهُوَ الْحَاجَةُ الَّتِي طَلَبَهَا، فَإِنَّ دُعَاءَهُ كَانَ إلَيْهَا؛ أَيْ: تَوَجُّهُهُ إلَيْهَا، فَهِيَ الْغَايَةُ الَّتِي كَانَ يَقْصِدُهَا.

وإذَا كَانَت "مَا" مَصْدَرَّيةً: كَانَ تَقْدِيرُهُ: نَسِيَ كَوْنَهُ يَدْعُو اللهَ إلَى حَاجَتِهِ.

لَكِنْ عَلَى هَذَا يَبْقَى الضَّمِيرُ فِي "إلَيْهِ" عَائِدًا عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا جُعِلَتْ بِمَعْنَى الَّذِي، فَإِنَّ التَّقْدِيرَ: نَسِيَ حَاجَتَهُ الَّذِي دَعَانِي إلَيْهَا مِن قَبْلُ، فَنَسِيَ دُعَاءَهُ اللهَ الَّذِي كَانَ سَبَبَ الْحَاجَةِ، وَ"إِلَى" حَرْفِ الْغَايَةِ.

فَالسَّائِلُ مَقْصُودُهُ سُؤَالهُ وَإِن حَصَلَ لَهُ مَا هُوَ مَحْئوبُ الرَّبِّ مِن إنَابَتِهِ إلَيْهِ وَمَحَبَّتِهِ وَتَوْبَتِهِ: فَهَذَا بِالْعَرَضِ وَقَد يَدُومُ.

وَالْأغْلَبُ أَنَّهُ لَا يَدُومُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَحْبُوبُ لِلرَّبِّ هُوَ سُؤَالَهُ؛ مِثْل أَنْ يَسْأَلَ اللهَ التَّوْبَةَ وَالْإِعَانَةَ عَلَى ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ وَحُسْنِ عِبَادَتِهِ، فَهُنَا مَطْلُوبُه مَحْبُوبٌ لِلرَّبِّ؛ وَلهَذَا ذَمَّ اللهُ مَن لَمْ يَطْلُبْ إلَّا الدُّنْيَا فِي قَوْلِهِ:{فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: 200]. [22/ 386 - 387]

* * *

(الدعاء بالبقاء)

946 -

يكره الدعاء بالبقاء لكل أحد؛ لأنه شيء قد فُرغ منه، ونص عليه، وليس لأحدٍ اطلاع على اللوح سوى الله. [المستدرك 1/ 137]

* * *

ص: 862

(التعميم في الدعاء)

947 -

فضل عموم الدعاء على خصوصه كفضل السماء على الأرض

(1)

. [المستدرك 1/ 159]

* * *

‌ذكر الله تعالى

948 -

إن صِفَاتِ الْكَمَالِ إنَّمَا هِيَ فِي الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ، وَالصِّفَاتِ السَلْبِيَّةِ إنَّمَا تَكُونُ كَمَالًا إذَا تَضَمَّنَتْ أُمُورًا وُجُودِيَّةً؛ وَلهَذَا كَانَ تَسْبِيحُ الرَّبِّ يَتَضَمَّنُ تَنْزِيهَهُ وَتَعْظِيمَهُ جَمِيعًا، فَقَوْلُ الْعَبْدِ:"سُبْحَانَ اللهِ" يَتَضَمَّنُ تَنْزِيهَ اللهِ وَبَرَاءَتَهُ مِنَ السُّوءِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَتضَمَّنُ عَظَمَتَهُ فِي نَفْسِهِ، لَيْسَ هُوَ عَدَمًا مَحْضًا لَا يَتَضَمَّنُ وُجُودًا، فَإِنَّ هَذَا لَا مَدْحٌ فِيهِ وَلَا تَعْظِيمٌ

(2)

. [17/ 143 - 144]

(1)

فالدعاء للأمة عامة من أفضل الطاعات، وأجلّ القربات، والتي تدل على محبة الداعي للمؤمنين كما يُحب لنفسه، ويدل على غيرته عليهم، وشفقته بهم، وقد أمر الله نبيهم بأن يدعو للمؤمنين فقال تعالى:{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19].

وكان أنبياء الله ورسُلُه يدعون كثيرًا لعموم المؤمنين، ولا يخصون أنفسهم إلا في بعض الأحيان، قال نوح عليه السلام:{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح: 28]، وقال إبراهيم عليه السلام:{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)} [إبراهيم: 41].

(2)

كلامه يدل على جواز قول: سبحانك أثناء دعاء الأمام

وهو الذي يظهر لدليلين: أثري ولغوي.

أما الأثري: فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)} [القيامة: 40]، قال:"سبحانك قبلى". رواه أبو داود، وصحَّحه الألباني.

فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: "سبحانك" بعد ثناء الله على نفسه.

وأما الدليل اللغوي، فسبحان الله لها معانٍ كثيرة، منها: التعجب، ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"سبحان الله!! المؤمن لا ينجس".

ومنها: تنْزيهُ الله جلَّ ثناؤه من كلِّ سوء.

قال ابن فارس رحمه الله: السين والباء والحاء أصلان: أحدهما جنسٌ من العبادة، والآخر جنسٌ من السَّعي. فَالأوَّل السُّبْحة، وهي الصَّلاة، ويختصّ بذلك ما كان نفلًا غير فَرض. يقول الفقهاء: يجمع المسافرُ بينَ الصَّلاتين ولا يُسبِّح بينهما؛ أي: لا يتنفَّل بينهما بصلاةٍ.

ومن الباب التَّسبيح، وهو تنْزيهُ الله جلَّ ثناؤه من كلِّ سوء.

والأصل الآخر السَّبْح والسِّباحة: العَوم في الماء. والسّابح من الخيل: الحَسَنُ مدِّ اليدين فى الجَرْي .. =

ص: 863

949 -

التَّكْبِيرُ مَشْرُوعٌ فِي الْأَمَاكِنِ الْعَالِيَةِ، وَحَالَ ارْتفَاعِ الْعَبْدِ، وَحَيْثُ يُقْصَدُ الْإِعْلَانُ؛ كَالتَّكْبِيرِ فِي الْأَذَانِ وَالتَّكْبِيرِ فِي الْأعْيَادِ وَالتَّكْبِيرِ إذَا عَلَا شَرَفًا وَالتَّكْبِيرِ إذَا رَقِيَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ وَالتَّكْبِيرِ إذَا رَكِبَ الدَّابَّةَ.

وَالتَّسْبِيحِ فِي الْأَمَاكِنِ الْمُنْخَفِضَةِ وَحَيْثُ مَا نَزَلَ الْعَبْدُ؛ كمَا فِي السُّنَنِ عَن جَابِرٍ قَالَ: "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا وَإِذَا هَبَطْنَا سَبَّحْنَا فَوُضِعَتْ الصَّلَاةُ عَلَى ذَلِكَ"

(1)

.

وَالْحَمْدُ مِفْتَاحُ كُلِّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ

(2)

. مِن مُنَاجَاةِ الرَّبِّ، وَمُخَاطبَةِ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا.

فَإِنَّ اللهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ عليه السلام أَوَّلُ مَا أَنْطَقَهُ بالحمد، فَإِنَّهُ عَطَسَ وَقَالَ: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ اللهُ: يَرْحَمُك رَبُّك، وَكَانَ أَوَّلُ مَا نَطَقَ بِهِ الْحَمْد، وَأَوَّلُ مَا سَمِعَ مِنَ اللهِ الرَّحْمَةَ.

وَبِهِ افْتَتَحَ اللهُ أُمَّ الْقُرْآن. [22/ 397 - 398]

950 -

الِاجْتِمَاعُ لِذِكْرِ اللهِ وَاسْتِمَاعِ كِتَابِهِ وَالدُّعَاءِ: عَمَل صَالِحٌ، وَهُوَ مِن أَفْضَلِ الْقُرُبَاتِ وَالْعِبَادَاتِ فِي الْأَوْقَاتِ.

لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا أَحْيَانًا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَمْكِنَةِ، فَلَا يُجْعَلُ سُنَّةً رَاتِبَةً يُحَافَظُ عَلَيْهَا، إلَّا مَا سَنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ فِي الْجَمَاعَاتِ مِن الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْجَمَاعَاتِ، وَمِن الْجُمُعَاتِ وَالْأَعْيَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

= تأمل قوله: ومن الباب التَّسبيح، وهو تنْزيهُ الله جل ثناؤه من كل سوء. إذن؛ ليس تسبيح الله هو تنزيهه فقط، بل تنزيهه من كلِّ سوء ..

وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله: الْأمْرُ بِتَسْبِيحِهِ يَقْتَضِي أَيْضًا تَنْزِيهَهُ عَن كُل عَيْبٍ وَسُوءٍ، وَإِثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ، فَإِنَّ التَّسْبِيحَ تقْتَضِي التنزِيهَ وَالتعْظِيمَ، وَالتَّعْظِيمُ يَسْتَلْزِمُ إثْبَاتَ الْمَحَامِدِ الَّتي يُحْمَدُ عَلَيْهَا، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ تَنْزِيهَهُ وَتَحْمِيدَهُ وَتَكْبِيرَهُ وَتَوْحِيدَهُ. اهـ. (16/ 125).

(1)

رواه أبو داود (2599).

(2)

ولذلك فإن الشيخ رحمه الله لا يكاد يُفتي إلا وببدأ بالحمد لله.

ص: 864

وَأَمَّا مُحَافَظَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى أَوْرَادٍ لَهُ مِن الصَّلَاةِ أَو الْقِرَاءَةِ أَو الذِّكْرِ أَو الدُّعَاءِ طَرَفَي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِن اللَّيْلِ وَغَيْرُ ذَلِكَ: فَهَذَا سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالصَّالِحِينَ مِن عِبَادِ اللهِ قَدِيمًا وَحَدِيثا.

فَمَا سُنَّ عَمَلُهُ عَلَى وَجْهِ الِاجْتِمَاعِ كَالْمَكْتُوبَاتِ: فُعِلَ كَذَلِكَ.

وَمَا سُنَّ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الِانْفِرَادِ مِن الْأَوْرَادِ: عُمِلَ كَذَلِكَ، كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنه يَجْتَمِعُونَ أَحْيَانًا: يَأْمُرُونَ أَحَدَهُم يَقْرَأُ وَالْبَاقُونَ يَسْتَمِعُونَ.

وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: يَا أَبَا مُوسَى ذَكِّرْنَا رَبَّنَا؛ فَيَقْرَأُ وَهُم يَسْتَمِعُونَ.

وَكَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ مَن يَقُولُ: اجْلِسُوا بِنَا نُؤْمِنُ سَاعَة.

وَصَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَصْحَابِهِ التَّطَوُّعَ فِي جَمَاعَةٍ مَرَّاتٍ.

وَخَرَجَ عَلَى الصَّحَابَةِ مِن أَهْلِ الصُّفَّةِ وَفيهِمْ قَارِئٌ يَقْرأ فَجَلَسَ مَعَهُم يَسْتَمِعُ. [22/ 520 - 521]

951 -

قول الشخص: "اللَّهُمَّ صلِّ على محمَّد في الأولين" ليس هو مأثورًا. والمراد بالأولين من قبل محمد صلى الله عليه وسلم وبالآخرين أمته، قاله الجمهور.

وقيل: الأولين والآخرين أمته، والأول أصح. [المستدرك 1/ 217]

* * *

‌الحمد والشكر على النعم

952 -

الْحَمْدُ نَوْعَانِ:

أ- حَمْدٌ عَلَى إحْسَانِهِ إلَى عِبَادِهِ، وَهُوَ مِن الشُّكْرِ.

ب- وَحَمْدٌ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ هُوَ بِنَفْسِهِ مِن نُعُوتِ كَمَالِهِ، وَهَذَا الْحَمْدُ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى مَا هُوَ فِي نَفْسِهِ مُسْتَحِقٌّ لِلْحَمْدِ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مَن هُوَ مُتَّصِفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ. [6/ 84]

ص: 865

953 -

إِذَا كَانَ الْحَمْدُ لَا يَقَعُ إلَّا عَلَى نِعْمَةٍ، فَقَد ثَبَتَ: أَنَّهُ رَأسُ الشُّكْرِ. فَهُوَ أَوَّلُ الشُّكْرِ، وَالْحَمْدُ -وَإِن كَانَ عَلَى نِعْمَتِهِ وَعَلَى حِكْمَتِهِ- فَالشُّكْرُ بِالْأَعْمَالِ هُوَ عَلَى نِعْمَتِهِ.

وَهُوَ عِبَادَةٌ لَهُ لِإِلَهِيَّتِهِ الَّتِي تتضَمَّنُ حِكْمَتَهُ.

فَقَد صَارَ مَجْمُوعُ الْأُمُورِ دَاخِلًا فِي الشُّكْرِ.

وَلهَذَا عَظَّمَ الْقُرْآنُ أَمْرَ الشُّكْرِ، وَلَمْ يُعَظِّمْ أَمْرَ الْحَمْدِ مُجَرَّدًا، إذ كَانَ نَوْعًا مِن الشُّكْرِ، وَشَرَعَ الْحَمْدَ -الَّذِي هُوَ الشُّكرُ الْمَقُولُ- أَمَامَ كُلّ خِطَابٍ مَعَ التَّوْحِيدِ.

وَفِي "الصَّحِيحِ" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا رَفَعَ رَأسَهُ مِن الرُّكُوعِ يَقُولُ: "رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ. مِلْءَ السَّمَاءِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْت مِن شَيْءٍ بَعْدُ أَهْلَ الثَّناءِ وَالْمَجْدِ، أَحَق مَا قَالَ الْعَبْدُ".

فَفِيهِ بَيَانُ: أَنَّ الْحَمْدَ للهِ أَحَقُّ مَا قَالَهُ الْعِبَادُ، وَلهَذَا أَوْجَبَ قَوْلَه فِي كُلِّ صَلَاةٍ، وَأَنْ تُفْتَتَحَ بِهِ الْفَاتِحَةُ. [14/ 310 - 312]

954 -

مَن أَكَلَ مِنَ الطَّيّبَاتِ وَلَمْ يَشْكُرْ وَلَمْ يَعْمَلْ صَالِحًا: كَانَ مُعَاقَبًا عَلَى مَا تَرَكَهُ مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَلَمْ تَحِلَّ لَهُ الطَّيِّبَاتُ، فَإِنَّهُ إنَّمَا أَحَلَّهَا لِمَن يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى طَاعَتِهِ، لَا لِمَن يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى مَعْصِيَتِهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)} [المائدة: 93]. [22/ 135]

* * *

‌الابتلاء والصبر

955 -

ما يبتلي اللهُ به عبدَه من السَّراء بخرق العادة أو بغيرها، أو بالضرَّاء فليس ذلك لأجل كرامة العبد على ربه ولا هوانه عليه؛ بل قد يسعد بها قومٌ إذا أطاعوه في ذلك، وقد يشقى بها قوم إذا عصوه في ذلك. [10/ 30]

ص: 866

956 -

الرضى والتوكل يكتنفان المقدور؛ فالتوكل قبل وقوعه، والرضى بعد وقوعه.

وأما ما يكون قبل القضاء فهو عزم على الرضى لا حقيقة الرضا؛ ولهذا كان طائفة من المشايخ يعزمون على الرضى قبل وقوع البلاء، فإذا وقع انفسخت عزائمهم.

ولهذا كره للمرء أنْ يتعرض للبلاء، بأن يوجب على نفسه ما لا يوجبه الشارع عليه بالعهد والنذر ونحو ذلك، أو يطلب ولاية، أو يقدم على بلد فيه طاعون. [10/ 37 - 38]

957 -

الْمُؤمِنُ إنْ قَدَرَ عَدَلَ وَأَحْسَنَ، وَإِن قُهِرَ وَغلِبَ صَبَرَ وَاحْتَسَبَ.

وَسُئِلَ بَعْضُ الْعَرَبِ عَن شَيءٍ مِن أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "رَأَيْته يَغْلِبُ فَلَا يَبْطَرُ". [2/ 327]

958 -

ولهذا كان الصبر واجبًا باتفاق المسلمين على أداء الواجبات، وترك المحظورات. ويدخل في ذلك الصبر على المصائب عن أن يجزع فيها، والصبر عن اتباع أهواء النفوس فيما نهى الله عنه.

وقد ذكر الله الصبر في كتابه في أكثر من تسعين موضعًا. [10/ 39]

959 -

الحمد على الضراء يوجبه مشهدان:

أحدهما: علم العبد بأن الله سبحانه مستوجب لذلك، مستحق له لنفسه.

والثاني: علمه بأن اختيار الله لعبده المؤمن، خير من اختياره لنفسه.

ولهذا أجيب من أورد هذا على ما يقضي على المؤمن من المعاصي بجوابين:

أحدهما: أن هذا إنما يتناول ما أصاب العبد لا ما فعله العبد.

والجواب الثاني: أن هذا في حق المؤمن الصبار الشكور، والذنوب

ص: 867

تنقص الإيمان، فإذا تاب العبد أحبه الله، وقد ترتفع درجته بالتوبة، قال بعض السلف: كان داود بعد التوبة خيرًا منه قبل الخطيئة، فمن قضى له بالتوبة كان كما قال سعيد بن جبير: إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار، وإن العبد ليعمل السيئة فيدخل بها الجنة، وذلك أنه يعمل الحسنة فتكون نصب عينه ويعجب بها، ويعمل السيئة فتكون نصب عينه فيستغفر الله ويتوب إليه منها.

[10/ 43 - 45]

960 -

وأما الحزن

(1)

فلم يأمر الله به ولا رسوله؛ بل قد نهى عنه في مواضع وإن تعلق بأمر الدين؛ كقوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} [آل عمران: 139]، وقوله:{وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)} [النحل: 127] وأمثال ذلك كثير؛ وذلك لأنه لا يجلب منفعة ولا يدفع مضرة فلا فائدة فيه، وما لا فائدة فيه لا يأمر الله به، نعم! لا يأثم صاحبه إذا لم يقترن بحزنه محرم، كما يحزن على المصائب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"تَدْمَعُ الْعَيْنُ، وَيحْزَنُ الْقَلْبُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَا رَبَّنَا"

(2)

، ومنه قوله تعالى:{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)} [يوسف: 84].

وقد يقترن بالحزن ما يثاب صاحبه عليه ويحمد عليه، فيكون محمودًا من تلك الجهة لا من جهة الحزن؛ كالحزين على مصيبة في دينه، وعلى مصائب المسلمين عمومًا، فهذا يثاب على ما في قلبه من حب الخير، وبغض الشر، وتوابع ذلك، ولكن الحزن على ذلك إذا أفضى إلى ترك مأمور من الصبر والجهاد وجلب منفعة ودفع مضرة نُهي عنه، وإلا كان حَسْبُ صاحبِه رفعَ الإثم عنه من جهة الحزن، وأما إن أفضى إلى ضعف القلب واشتغاله به عن فعل ما

(1)

قال النبي عليه الصلاة والسلام: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها خطاياه". متفق عليه.

(2)

رواه البخاري (1303)، ومسلم (2315).

ص: 868

أمر الله ورسوله به، كان مذمومًا عليه من تلك الجهة، وإن كان محمودًا من جهة أخرى. [10/ 16 - 17]

961 -

مِن تَمَامِ نِعْمَةِ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤمِنِينَ أَنْ يُنْزِلَ بِهِم الشّدَّةَ وَالضُّرَّ مَا

(1)

يُلْجِئهُم إلَى تَوْحِيدِهِ فَيَدْعُونَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَيرْجُونَهُ لَا يَرْجُونَ أَحَدًا سِوَاهُ، وَتَتَعَلَّقُ قُلُوبُهُم بِهِ لَا بِغَيْرِهِ، فَيَحْصُلُ لَهُم مِن التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ، وَحَلَاوَةِ الْإِيمَانِ وَذَوْقِ طَعْمِهِ، وَالْبَرَاءَةِ مِن الشِّرْكِ مَا هُوَ أَعْظَمُ نِعْمَةً عَلَيْهِم مِن زَوَالِ الْمَرَضِ وَالْخَوْفِ، أَو الْجَدْبِ أَو حُصُولِ الْيُسْرِ وَزَوَالِ الْعُسْرِ فِي الْمَعِيشَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَذَّاتٌ بَدَنِيَّةٌ وَنِعَمٌ دُنْيَوِيَّةٌ، قَد يَحْصُلُ لِلْكَافِرِ مِنْهَا أَعْظَمُ مِمَّا يَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِ.

وَأَمَّا مَا يَحْصُلُ لِأهْلِ التَّوْحِيدِ الْمُخْلِصِينَ للهِ الدِّينَ فَأَعْظَمُ مِن أَنْ يُعَبِّرَ عَن كُنْهِهِ مَقَالٌ، أَو يَسْتَحْضِرَ تَفْصِيلَهُ بَالٌ، وَلكُلِّ مُؤْمِنٍ مِن ذَلِكَ نَصِيبٌ بِقَدْرِ إيمَانِهِ، وَلهَذَا قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: إنَّهُ لَيَكُونُ لِي إلَى اللهِ حَاجَةٌ، فَأَدْعُوهُ فَيَفْتَحُ لِي مِن لَذِيذِ مَعْرِفَتِهِ وَحَلَاوَةِ مُنَاجَاتِهِ مَا لَا أُحِبُّ مَعَهُ أنْ يُعَجِّلَ قَضَاءَ حَاجَتِي خَشْيَةَ أَنْ تَنْصَرِفَ نَفْسِي عَن ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ لَا تُرِيدُ إلَّا حَظَّهَا فَإِذَا قُضِيَ انْصَرَفَتْ. [10/ 333 - 334]

962 -

الْمَصَائِبُ الَّتِي تُصِيبُ الْعِبَادَ يُؤْمَرُونَ فِيهَا بِالصَّبْرِ؛ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَنْفعُهُمْ.

وَأَمَّا لَوْمُهُم لِمَن كَانَ سَبَبًا فِيهَا فَلَا فَائِدَةَ لَهُم فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ مَا فَاتَهُم

مِن الْأُمُورِ الَّتِي تَنْفَعُهُم يُؤْمَرُونَ فِي ذَلِكَ بِالنَّظَرِ إلَى الْقَدَرِ، وَأمَّا التَّأَسُّفُ وَالْحُزْنُ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَمَا جَرَى بِهِ الْقَدَرُ مِن فَوْتِ مَنْفَعَةٍ لَهُم أَو حُصُولِ مَضَرَّةٍ لَهُم فَلْيَنْظُرُوا فِي ذَلِكَ إلَى الْقَدَرِ، وَأَمَّا مَا كَانَ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمْ فَلْيَجْتَهِدُوا فِي

(1)

في الأصل: (وما)، والمثبت من كتاب: المستدرك على فتاوى ابن تيمية (1/ 7)، وهو أصح.

ص: 869

التَّوْبَةِ مِن الْمَعَاصِي وَالْإِصْلَاحِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنَّ هَذَا الْأَمْرَ يَنْفَعُهُم وَهُوَ مَقْدُورٌ لَهُم بِمَعُونَةِ اللهِ لَهُمْ. [10/ 505]

963 -

قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْأَمْرُ أَمْرَانِ: أَمْرٌ فِيهِ حِيلَةٌ، وَأَمْرٌ لَا حِيلَةَ فِيهِ.

فَمَا فِيهِ حِيلَةٌ لَا يَعْجِزُ عَنْهُ، وَمَا لَا حِيلَةَ فِيهِ لَا يَجْزَعُ مِنْهُ. [10/ 507]

وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَذْكُرُهُ أَئِمَّةُ الدِّينِ.

964 -

قَالَ تَعَالَى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا

(1)

وَتَتَّقُوا

(2)

فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)} [آل عمران: 186]، فَأَخْبَرَهُم أَن أَعْدَاءَهُم مِن الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ لَا بُدَّ أَنْ يُؤْذُوهُم بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُم إنْ يَصْبِرُوا وَيتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِن عَزْمِ الْأُمُورِ.

فَالصَّبْرُ وَالتَّقْوَى يَدْفَعُ شَرَّ الْعَدُوِّ الْمُظْهِرِ لِلْعَدَاوَةِ الْمُؤْذِينَ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَالْمُؤْذِينَ بِأَيْدِيهِمْ، وَشَرُّ الْعَدُوِّ الْمُبْطِنُ لِلْعَدَاوة، وَهُم الْمُنَافِقُونَ.

وَهَذَا الَّذِي كَانَ خُلُقُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهَدْيُهُ هُوَ أَكْمَلُ الْأُمُورِ. [10/ 508]

965 -

في الحديث الصَّحِيحِ عَن أَبِي سَعِيدٍ الخدري عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَن يَسْتَعْفِفْ يُعِفّهُ اللهُ، وَمَن يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَن يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِن الصَّبْرِ"

(3)

.

فَالْمُسْتَغْنِي لَا يَسْتَشْرِفُ بِقَلْبِهِ، والْمُسْتَعِفُّ هُوَ الَّذِي لَا يَسْألُ النَّاسَ

(1)

بألَّا تستعجلوا في الرد عليهم وقتالهم، فإنّ ذلك يُحدث من الشرور والآفات أضعاف ما يُحدثه الصبر على أذاهم، والتريث إلى أنْ تجتمع كلمة المسلمين في الموقف الصحيح منهم.

والكفار والفجار قد يستفزون المسلمين، ويستثيرون مشاعرهم، لكي يقوموا بأعمال تضرهم وتُؤلّب الناس عليهم، كما هو مُشاهد وملموس.

(2)

وذلك بالقيام بالعدل والإنصاف، وعدم الظلم والمبالغة في العقوبة والردّ.

(3)

رواه البخاري (1469)، ومسلم (1053).

ص: 870

بِلِسَانِهِ، والْمُتَصَبِّرُ هُوَ الَّذِي (لَا)

(1)

يَتَكَلَّفُ الصَّبْرَ، فَأَخْبَرَ أَنهُ مَن يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَهَذَا كَأَنَّهُ فِي سِيَاقِ الصَّبْرِ عَلَى الْفَاقَةِ، بِأَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَرَارَةِ الْحَاجَةِ، لَا يَجْزَعُ مِمَّا اُبْتُلِيَ بِهِ مِن الْفَقْرِ، وَهُوَ الصَّبْرُ فِي الْبَأسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، قَالَ تَعَالَى:{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة: 177]، و"الضَّرَّاءُ" الْمَرَضُ، وَهُوَ الصَّبْرُ عَلَى مَا اُبْتلِيَ بِهِ مِنْ حَاجةٍ وَمَرَضٍ وَخَوْفٍ.

وَالصَّبْرُ عَلَى مَا اُبْتُلِيَ بِهِ بِاخْتِيَارِهِ كَالْجِهَادِ؛ فَإِنَّ الصَّبْرَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ مِن الصَّبْرِ عَلَى الْمَرَضِ الَّذِي يُبْتَلَى بِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ؛ وَلذَلِكَ إذَا اُبْتُلِيَ بِالْعَنَتِ فِي الْجِهَادِ فَالصَّبْرُ عَلَى ذَلِكَ أَفْضَلُ مِن الصَّبْرِ عَلَيْهِ فِي بَلَدِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الصَّبْرَ مِنْ تَمَامِ الْجِهَادِ.

وَكَذَلِكَ لَو اُبْتُلِيَ فِي الْجِهَادِ بِفَاقَة أَو مَرَضٍ حَصَلَ بِسَبَبِهِ كَانَ الصَّبْرُ عَلَيْهِ أَفْضَلَ، وَكَذَلِكَ مَا يُؤذَى الْإِنْسَانُ بِهِ فِي فِعْلِهِ لِلطَّاعَاتِ -كَالصَّلَاةِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَن الْمُنْكَرِ، وَطَلَبِ الْعِلْمِ- مِن الْمَصَائِبِ، فَصَبْرُهُ عَلَيْهَا أَفْضَلُ مِنْ صَبْرِهِ عَلَى مَا اُبْتُلِيَ بِهِ بِدُونِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إذَا دَعَتْهُ نَفْسُهُ إلَى مُحَرَّمَاتٍ: مِنْ رِئَاسَةٍ، وَأَخْذِ مَالي، وَفِعْلِ فَاحِشَةٍ، كَانَ صَبْرُه عَنْهُ أَفْضَلَ مِنْ صَبْرِهِ عَلَى مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ أَعْمَالَ الْبِرّ كُلَّمَا عَظُمَتْ كَانَ الصَّبْرُ عَلَيْهَا أَعْظَمَ مِمَّا دُونَهَا.

فَإِنَّ فِي الْعِلْمِ وَالْإِمَارَةِ وَالْجِهَادِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَن الْمُنْكَرِ وَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَالزكَاةِ مِن الْفِتَنِ النَّفْسِيَّةِ وَغَيْرِهَا مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهَا، وَيعْرِضُ فِي ذَلِكَ مَيْلُ النَّفْسِ إلَى الرِّئَاسَةِ وَالْمَالِ وَالصُّوَرِ، فَإِذَا كَانَت النَّفْسُ غَيْرَ قَادِرَةٍ عَلَى ذَلِكَ لَمْ تَطْمَعْ فِيهِ كَمَا تَطْمَعُ مَعَ الْقُدْرَةِ؛ فَإِنَّهَا مَعَ الْقُدْرَةِ تَطْلُبُ تِلْكَ الْأُمُورَ الْمُحَرَّمَةَ، بِخِلَافِ حَالِهَا بِدُونِ الْقُدْرَةِ.

(1)

هكذا في الأصل، ولعل الصواب حذفها.

ص: 871

فإِنَّ الصَّبْرَ مَعَ الْقُدْرَةِ جِهَادٌ؛ بَل هُوَ مِن أَفْضَلِ الْجِهَادِ، وَأَكْمَلُ مِن ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:

(أَحَدُهَا): أَنَ الصَّبْرَ عَن الْمُحَرَّمَاتِ أَفْضَلُ مِن الصَّبْرِ عَلَى الْمَصَائِبِ.

(الثانِي): أَنَّ تَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا وَطَلَبَ النَّفْسِ لَهَا أَفْضَلُ مِن تَرْكِهَا بِدُونِ ذَلِكَ.

(الثالِثُ): أَنَ طَلَبَ النَّفْسِ لَهَا إذَا كَانَ بِسَبَبِ أَمْرٍ دِينِيِّ -كَمَنَ خَرَجَ لِصَلَاةٍ أَو طَلَبِ عِلْم أَو جِهَادٍ- فَابْتُلِيَ بِمَا يَمِيلُ إلَيْهِ مِن ذَلِكَ فَإِنَّ صَبْرَهُ عَن ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ فِعْلَ الْمَأْمُورِ وَتَرْكَ الْمَحْظُورِ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَالَتْ نَفْسُهُ إلَى ذَلِكَ بِدُونِ عَمَلٍ صَالِحٍ. [10/ 575 - 577]

966 -

إذَا ابْتَلَى اللهُ الْعَبْدَ وَقَدَّرَ عَلَيْهِ أَعَانَهُ، وإذَا تَعَرَّضَ الْعَبْدُ بِنَفْسِهِ إلَى الْبَلَاءِ وَكَلَهُ اللهُ إلَى نَفْسِهِ.

كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ: "لَا تَسْأَل الإِمَارَةَ، فَإِنَّك إنْ أُعْطِيتهَا عَن مَسْأَلةٍ وُكِلْتَ إلَيْهَا، وَإِن أُعْطِيتهَا عَن غَيْرِ مَسْأَلةٍ أُعِنْت عَلَيْهَا"

(1)

.

فَمَن فَعَلَ مَا أمَرَهُ اللهُ بِهِ فَعَرَضَتْ لَهُ فِتْنَةٌ مِن غَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَإِنَّ اللهَ يُعِينُهُ عَلَيْهَا بِخِلَافِ مَن تَعَرَّضَ لَهَا.

لَكِنَّ بَابَ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ، فَإِنَّ الرَّجُلَ قَد يَسْأَل الْإِمَارَةَ فَيُوكَلُ إلَيْهَا ثُمَّ يَنْدَمُ فَيَتُوبُ مِن سُؤَالِهِ فَيَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِ وَيُعِينُهُ، إمَّا عَلَى إقَامَةِ الْوَاجِبِ وَإِمَّا عَلَى الْخَلَاصِ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْفِتَنِ. [10/ 577 - 578]

967 -

إِنَّ اللهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ بِالْهَجْرِ الْجَمِيلِ، وَالصَّفْحِ الْجَمِيلِ، وَالصَّبْرِ الْجَمِيلِ.

(1)

رواه البخاري (6622)، ومسلم (1652).

ص: 872

فَالْهَجْرُ الْجَمِيلُ: هَجْرٌ بِلَا أَذى، وَالصَّفْح الْجَمِيلُ: صَفْحٌ بِلَا عِتَابٍ، وَالصَّبْرُ الْجَمِيلُ صَبْرٌ بِلَا شَكْوَى. [10/ 666]

968 -

قُرِنَ بَيْنَ "الرَّحْمَةِ وَالصَّبْرِ" فِي مِثْل قَوْله تَعَالَى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد: 17]

إذ مِن النَّاسِ مَن يَصْبِرُ وَلَا يَرْحَمُ كَأَهْلِ الْقُوَّةِ وَالْقَسْوَةِ.

وَمِنْهُمْ: مَن يَرْحَمُ وَلَا يَصْبِرُ كَأَهْلِ الضَّعْفِ وَاللِّينِ: مِثْلُ كَثِيرٍ مِن النِّسَاءِ وَمَن يُشْبِهُهُنَّ.

وَمِنْهُمْ: مَن لَا يَصْبِرُ وَلَا يَرْحَمُ كَأَهْلِ الْقَسْوَةِ وَالْهَلَعِ.

وَالْمَحْمُودُ: هُوَ الَّذِي يَصْبِرُ وَيَرْحَمُ. [11/ 36]

969 -

مَن طَرَأَ عَلَيْهِ الْجُنُونُ بَعْدَ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ؛ فَإِنَّ اللهَ يُثِيبُهُ وَيأْجُرُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِن إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ، وَلَا يُحْبِطُهُ بِالْجُنُونِ الَّذِي اُبْتُلِيَ بِهِ مِن غَيْرِ ذَنْبٍ فَعَلَهُ، وَالْقَلَمُ مَرْفُوعٌ عَنْهُ فِي حَالِ جُنُونِهِ.

وَإِن كَانَ لَهُ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ فِيهِ كُفْرٌ أَو نِفَاقٌ أَو كَانَ كَافِرًا أَو مُنَافِقًا ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ الْجُنُونُ فَهَذَا فِيهِ مِن الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ مَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ، وَجُنُونُهُ لَا يُحْبِط عَنْهُ مَا يَحْصُلُ مِنْهُ حَالَ إفَاقَتِهِ مِن كُفْرٍ أَو نِفَاقٍ. [11/ 193 - 194]

970 -

الْمُؤْمِنُ مَأمُورٌ عِنْدَ الْمَصَائِبِ أَنْ يَصْبِرَ ويُسَلِّمَ، وَعِنْدَ الذنُوبِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ وَيتُوبَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر: 55] فَأَمَرَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى الْمَصَائِبِ وَالِاسْتِغْفَارِ مِن المعائب. [11/ 259]

971 -

الصَّبْرُ: وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَأَعْلَى مِن ذَلِكَ الرضى بِحُكْمِ اللهِ.

والرضى قَد قِيلَ: إنَّهُ وَاجِبٌ، وَقِيلَ: هُوَ مُسْتَحَبٌّ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَأَعْلَى مِن ذَلِكَ أَنْ يَشْكُرَ اللهَ عَلَى الْمُصِيبَةِ؛ لِمَا يَرَى مِن إنْعَامِ اللهِ عَلَيْهِ بِهَا، حَيْثُ جَعَلَهَا سَبَبًا لِتَكْفِيرِ خَطَايَاهُ وَرَفْعِ دَرَجَاتِهِ، وَإِنَابَتِهِ وَتَضَرُّعِهِ إلَيْهِ، وَإِخْلَاصِهِ لَهُ فِي التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَرَجَائِهِ دُونَ الْمَخْلُوقِينَ. [11/ 260]

ص: 873

972 -

الْمَصَائِبُ تُكَفِّرُ سَيئاتِ الْمُؤمِنِينَ، وَبِالصَّبْرِ عَلَيْهَا تَرْتَفِعُ دَرَجَاتُهُمْ. [14/ 255]

973 -

الْمَلِك الظَّالِم: لَا بُدَّ أَنْ يَدْفَعَ اللهُ بِهِ مِن الشَّرِّ أَكْثَرَ مِن ظُلْمِهِ

(1)

.

وَقَد قِيلَ: سِتُّونَ سَنَةً بِإِمَامٍ ظَالِمٍ: خَيْرٌ مِن لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِلَا إمَامٍ.

وَإِذَا قُدِّرَ كَثْرَةُ ظُلْمِهِ: فَذَاكَ ضَرَرٌ فِي الدِّينِ؛ كَالْمَصَائِبِ تَكُونُ كَفَّارَةً لِذُنُوبِهِم وَيُثَابُونَ عَلَيْهَا، وَيَرْجِعُونَ فِيهَا إلَى اللهِ، ويستغفرونه وَيتُوبُونَ إلَيْهِ، وَكَذَلِك مَا يُسَلَّطُ عَلَيْهِم مِن الْعَدُوِّ.

وَلهَذَا أَمَرَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم بقِتَالِ مَن يُقَاتِلُ عَلَى الدِّينِ الْفَاسِدِ مِن أَهْلِ الْبِدَعِ؛ كَالْخَوَارجِ، وَأَمَرَ بِالصَّبْرِ عَلَى جَوْرِ الْأَئِمَّةِ، وَنَهَى عَن قِتَالِهِمْ وَالْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ، وَلهَذَا قَد يُمَكِّنُ اللهُ كَثِيرًا مِن الْمُلُوكِ الظَّالِمِينَ مُدَّةً. [14/ 268 - 269]

974 -

اللهُ تَعَالَى يَبْتَلِي عَبْدَهُ الْمُومِنَ بِمَا يَتُوبُ مِنْهُ؛ لِيَحْصُلَ لَهُ بِذَلِكَ مِن تَكْمِيلِ الْعُبُودِيَّةِ وَالتَّضَرُّعِ وَالْخُشُوعِ للهِ، وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَكَمَالِ الْحَذَرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ مَا لَمْ يَحْصُلْ بِدُونِ التَّوْبَةِ، كَمَن ذَاقَ الْجُوعَ وَالْعَطَشَ وَالْمَرَضَ وَالْفَقْرَ وَالْخَوْفَ، ثُمَّ ذَاقَ الشِّبَعَ وَالرَّيَّ وَالْعَافِيَةَ وَالْغِنَى وَالْأَمْنَ، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ مِن الْمَحَبَّةِ لِذَلِكَ وَحَلَاوَتهِ وَلَذَّتِهِ وَالرَّغْبَةِ فِيهِ وَشُكْرِ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ، وَالْحَذَرِ أَنْ يَقَعَ فِيمَا حَصَلَ أَوَّلًا مَا لَمْ يَحْصُلْ بِدُونِ ذَلِكَ.

وينْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ التَّوْبَةَ لَا بُدَّ مِنْهَا لِكلّ مُؤْمِنٍ، وَلَا يَكْمُلُ أَحَدٌ وَيحْصُلُ لَه كَمَالُ الْقُرْبِ مِن اللهِ وَيزُولُ عَنْه كُلُّ مَا يَكْرَهُ إلَّا بِهَا. [15/ 55]

(1)

فمهما نقم الناس على وليّ أمرهم المسلم: فلن يكون حالهم إذا خرجوا عليه بالقوة أحسن وأفضل من حالهم تحت حكمه، وقد رأينا هذا في زماننا، فقد رأينا الانقلابات العسكرية في بعض بلدان المسلمين، وكيف نتج عنها رؤساء فاسدون ظالمون، وتراجع اقتصاد ونمو بلدانهم عما كانوا عليه من قبل.

ص: 874

975 -

مَن احْتَمَلَ الْهَوَانَ وَالْأَذَى فِي طَاعَةِ اللهِ عَلَى الْكَرَامَةِ وَالْعِزِّ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ: كَانَت الْعَاقِبَةُ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَكَانَ مَا حَصَلَ لَهُ مِن الْأَذَى قَد انْقَلَبَ نَعِيمًا وَسُرُورًا، كَمَا أَنَّ مَا يَحْصُلُ لِأَرْبَابِ الذُّنُوبِ مِن التّنَعُّمِ بِالذُّنُوبِ يَنْقَلِبُ حُزنًا وَثبورًا. [15/ 132]

976 -

الصَّبْرُ ضَابِطُ الْأَخْلَاقِ الْمَأمُورِ بِهَا. [16/ 65]

977 -

إِنَّهُ سُبْحَانَهُ إذَا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدٍ بِبَابٍ مِنَ الْخَيْرِ

(1)

وَأَمَرَهُ بِالْإِنْفَاقِ فِيهِ فَبَخِلَ عَاقَبَهُ بِبَاب مِن الشَّرِّ، يَذْهَبُ فِيهِ أَضْعَافُ مَا بَخِلَ بِهِ، وَعُقُوبَتُهُ فِي الْآخِرَةِ مُدَّخَرَةٌ. [16/ 70]

978 -

الصَّبْرُ عَن الْفَاحِشَةِ مَعَ قُوَّةِ الدَّاعِي إلَيْهَا أَعْظَمُ مِن ذَلِكَ الصَّبْرِ [أي: الصبر على الْمَصَائِبِ]؛ بَل وَأَعْظَمُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى الطَّاعَةِ. [17/ 28]

979 -

كَمَا أَنَّ اللهَ نَهَى نَبِيَّهُ أَنْ يُصِيبَهُ حَزَنٌ أَو ضِيقٌ مِمَن لَمْ يَدْخُلْ فِي الْإِسْلَامِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَكَذَلِكَ فِي آخِرِهِ.

فَالْمُومِنُ مَنْهِيٌّ أَنْ يَحْزَنَ عَلَيْهِم أَو يَكُونَ فِي ضَيْقٍ مِن مَكْرِهِمْ.

وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إذَا رَأَى الْمُنْكَرَ أَو تَغَيُّرَ كَثِيرٍ مِن أَحْوَالِ الْإِسْلَامِ: جَزعَ وَكَلَّ وَنَاحَ كَمَا يَنُوحُ أَهْلُ الْمَصَائِبِ، وَهُوَ مَنْهِي عَن هَذَا؛ بَل هُوَ مَأمُورٌ بِالصَّبْرِ وَالتَّوَكُّلِ وَالثَّبَاتِ عَلَى دِينِ الْإِسْلَام، وَأنْ يُومِنَ بِاللهِ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَاَلَّذِينَ هُم مُحْسِنُونَ، وَأَنَّ الْعَاقِبَةَ لِلتَّقْوَى، وَأنَّ مَا يُصِيبُهُ فَهُوَ بِذُنُوبِهِ فَلْيَصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللهِ حَق وَلْيَسْتَغْفِرْ لِذَنْبِهِ وَلْيُسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّهِ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ

(2)

. [18/ 295]

(1)

كالمال والعلم والجاه؛ فهي أبواب من الخير، يجب على أصحابها زكاتها.

(2)

يا لها من كلمات تُزيل عن القلب الآلام والأحزان التي تُصيبه بسبب مصائب المسلمين، وعن المنكرات التي تُرتكب، والمخالفات الشرعية التي تجرأ عليها أهل الغيّ والفجور.

ولقد أكْثَرَ الله تعالى في كتابه من النهي عن الحزن على إعراض الكفار، وعلى المصائب، فمرة يقول له:{وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [الحجر: 88]، ومرة يقول:{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)} [الكهف: 6]، ومرة يقول: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا =

ص: 875

980 -

بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين

(1)

. [المستدرك 1/ 145]

981 -

إِنَّ سُكْنَى الْجِبَالِ وَالْغِيرَانِ وَالْبَوَادِي لَيْسَ مَشْرُوعًا لِلْمُسْلِمِينَ إلَّا عِنْدَ الْفِتْنَةِ فِي الْأَمْصَارِ الَّتِي تُحوج الرَّجُلَ إلَى تَرْكِ دِينِهِ: مِن فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَيُهَاجِرُ الْمُسْلِمُ حِينَئِذٍ مَن أَرْضٍ يَعْجِزُ عَن إقَامَةِ دِينِهِ إلَى أَرْضٍ يُمْكنُهُ فِيهَا إقَامَةُ دِينهِ؛ فَإِنَّ الْمُهَاجِرَ مَن هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ. [27/ 55]

982 -

دُعَاؤُهُ

(2)

اللهَ وَاسْتِغَاثَتُهُ بِهِ وَاشْتِكاؤُهُ إلَيْهِ لَا يُنَافِي الصَّبْرَ الْمَأْمُورَ

= يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)} [الشعراء: 3، 4]، ومرة يقول:{وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)} [الأنعام: 35].

ولقد امتثل النبي صلى الله عليه وسلم نهي الله عن الحزن، فأصبح عظيم التفائل، قليل الشكاية للخلق، وقد كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا بَعَثَ أحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِى بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ:"بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا وَيسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا". متفق عليه.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحَسَن، فليحذر المسلمُ من مجالسة المتشائمين والْمُحْبَطين، حتى لا تنتقلَ هذه العدوى وتسري إليه، فهي داء قتّال، تصيب المرء بالشلل النفسي، والتخبطِ الذهني، وإنَّ هذا الدِّينَ العظيمَ موعود بنصرٍ من الله، وتمكينٍ في الأرض.

وإن تفاؤل المسلم، ليس مكابرةٌ ولا تسليما للواقع، ولكنه عقيدة راسخة يؤمن بها، ويعمل في إطارها، سندها كتاب الله عز وجل، {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]، {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56] واليأس حيلةُ العاجز الكسول، البطَّالِ الخمول.

ثم تأمل كيف أن الله تعالى جعل بحكمته لكل نبيّ عدوًّا لدودًا من المجرمين، قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} [الأنعام: 112].

أفتظن ألا يجعل لأتباعهم -وهم أقل منهم- أعداءً يتسلطون عليهم؟

وتأمل كيف أمره الله تعالى بترك أذى هؤلاء المجرمين، وعدم الانتقام لنفسه، والانشغال بالردود عليهم، وعدم الألم على قبيح أفعالهم وأقوالهم.

إن كرهك لمن يتهجم على الإسلام والعلماء وأهل الخير، وسعيك في دحر باطلهم، ونصرة الحق وأهله؛ هو الواجب والمحمود، ولكن المذموم أن يكون حزنًا وهمًّا يعتصر قلبك، ويُثبطك عن العمل النافع، ويجعلك كثير التشكي قليل العمل. يُنظر: عِبَاراتٌ تأثَّرْتُ بهِا وَغَيَّرَتْ فِي حَيَاتي، للمؤلف (52).

(1)

الشهادة الزكية (ص 35).

(2)

أي: المبتلى.

ص: 876

بِهِ، وَإِنَّمَا يُنَافِيهِ فِي ذَلِكَ الِاشْتِكاءُ إلَى الْمَخْلُوقِ، وَلَقَد قَالَ يَعْقُوبُ عليه السلام:{فَصَبْرٌ جَمِيل} [يوسف: 18]، وَقَالَ:{قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّه} [يوسف: 86]. [24/ 284]

983 -

فِي الصَّبْرِ: احْتِمَالُ الْأَذَى، وَكَظْمُ الْغَيْظِ، وَالْعَفْوُ عَن النَّاسِ، وَمُخَالَفَةُ الْهَوَى، وَتْرُك الْأَشَرِ وَالْبَطَرِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)} [هود: 9، 10]. [28/ 363]

984 -

إذا اعتبر العبدُ الدينَ كلَّه رآه يَرجِعُ بجملته إلى الصبر والشكر، وذلك لأن الصبر أربعة أقسام:

صبر على الطاعة حتى يفعلَها، فإن العبد لا يكاد يفعل المأمورَ به إلّا بعد صبرٍ ومصابرةٍ، ومجاهدةٍ لعدوّه الظاهر والباطن.

النوع الثاني: صبرٌ عن المنهي حتى لا يفعلَه، فإنّ النفسَ ودواعيها وتزيين الشيطان وقُرَناء السوء تأمرُه بالمعصية.

النوع الثالث: الصبر على ما يُصِيبُه بغير اختيارِه من المصائب، وهي نوعان:

نوع لا اختيارَ للخلقِ فيه؛ كالأمراضِ وغيرِها من المصائب السماوية، فهذه يسهل الصبر فيها؛ لأن العبْدَ يشهدُ فيها قضاءَ اللهِ وقدرَه، وأنه لا مدخلَ للناس فيها، فيصبر إمّا اضطرارًا وإمّا اختيارًا، فإن فتحَ الله على قلبه بابَ الفكرةِ في فوائدِها، وما في حَشوِها من النِّعَم والألطاف، انتقلَ من الصبر عليها إلى الشكر لها والرضا بها، فانقلبت حينئذٍ في حقه نعمةً.

النوع الرابع: ما يحصل له بفعل الناس في ماله أو عِرضِه أو نفسِه، فهذا النوع يَصعُب الصبرُ عليه جدًّا؛ لأنّ النفس تستشعِرُ المُؤذيَ لها، وهي تكره

ص: 877

الغلبة، فتَطلبُ الانتقام، فلا يَصبِر على هذا النوع إلّا الأنبياء والصدّيقون.

وُيعِينُ العبدَ على هذا الصبر عدّةُ أشياءَ:

أحدها: أن يشهدَ أن الله سبحانه وتعالى خالقُ أفعالِ العباد، حركاتِهم وسَكَناتِهم وإراداتِهم، فما شاءَ الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يتحرك في العالم العُلْوِيّ والسّفليّ ذرَّة إلّا بإذنه ومشيئتِه؛ فالعباد آلة، فانظر إلى الذي سَلَّطَهم عليك، ولا تَنظُرْ إلى فِعلِهم بكَ، تَسْتَرِحْ من الهمّ والغَمِّ.

الثاني: أن يَشْهَد ذنُوبَه، وأنّ الله إنما سلَّطهم عليه بذنبه، كما قال تعالى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30]. فإذا شهد العبدُ أن جميع ما يناله من المكروه فسببُه ذنوبُه، اشتغلَ بالتوبة والاستغفار من الذنوب التي سلَّطهم عليه بسببها عن ذَمِّهم ولَومِهم والوقيعةِ فيهم.

وإذا رأيتَ العبدَ يقع في الناس إذا آذَوْه، ولا يَرجع إلى نفسِه باللوم والاستغفار: فاعلمْ أن مصيبتَه مصيبة حقيقية، وإذا تاب واستغفر وقال: هذا بذنوبي، صارتْ في حقّهِ نعمةً.

الثالث: أن يشهد العبدُ حُسْنَ الثواب الذي وعده الله لمن عَفَا وصَبَر، كما قال تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)} [الشورى: 40].

الرابع: أن يشهد أنه إذا عَفا وأحسنَ أورثَه ذلك من سلامةِ القلب لإخوانه، ونَقائِه من الغِشّ والغِلّ وطلبِ الانتقام وإرادةِ الشرّ، وحصَلَ له من حلاوة العفو ما يزيد لذّتَه ومنفعتَه عاجلًا وآجلًا، على المنفعة الحاصلة له بالانتقام أضعافًا مضاعفةً، ويدخل في قوله تعالى:{وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]، فيصير محبوبًا لله، ويصير حالُه حالَ من أُخِذَ منه درهمٌ فعُوضَ عليه ألوفًا من الدنانير، فحينئذٍ يَفرحُ بما منَّ الله عليه أعظمَ فرحًا يكون.

ص: 878

الخامس: أن يعلم أنه ما انتقم أحد قَطُّ لنفسه إلّا أورثَه ذلك ذُلًّا يجده في نفسه، فإذا عَفا أعزَّه الله تعالى.

السادس -وهي من أعظم الفوائد-: أن يَشهدَ أن الجزاء من جنس العمل، وأنه نفسُه ظالمٌ مذنب، وأنّ من عَفا عن الناس عَفَا الله عنه، ومن غَفَر لهم غَفَر الله له.

السابع: أن يَعلم أنه إذا اشتغلتْ نفسُه بالانتقام وطلب المقابلة ضاعَ عليه زمانُه، وتفرَّقَ عليه قلبُه، وفاتَه من مصالحِه ما لا يُمَكِن استدراكُهُ، ولعلّ هذا أعظم عليه من المصيبة التي نالتْه من جهتهم، فإذا عفا وصَفحَ فَرغَ قلبُه وجسمُه لمصالحه التي هي أهمُّ عنده من الانتقام.

الثامن: أن انتقامَه واستيفاءَه وانتصارَه لنفسِه، وانتصارَه لها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انتقمَ لنفسِه قَطُّ، فإذا كان هذا خيرَ خلق الله وأكرمَهم على الله لم يَنتقِمْ لنفسِه، مع أن أَذَاه أَذَى الله، ويتعلّقُ به حقوق الدين، ونفسه أشرف الأنفُس وأزكاها وأبرُّها، وأبعدُها من كلّ خُلُقٍ مذمومٍ، وأحقُّها بكل خُلُقٍ جميل، ومع هذا فلم يكن يَنتقِم لها، فكيف يَنتقِمُ أحدنا لنفسِه التي هو أعلم بها وبما فيها من الشرور والعيوب؛ بل الرجل العارف لا تُساوِي نفسُه عنده أن ينتقم لها، ولا قدرَ لها عنده يُوجِبُ عليه انتصارَه لها. [المجموعة العليّة 1/ 34 - 48]

* * *

‌(كيف تواجه العوارض والمحن

؟)

985 -

العوارض والمحن هي كالحر والبرد؛ فإذا علم العبد أنه لا بد

منهما لم يغب لورودهما، ولم يغتم لذلك، ولم يحزن. [المستدرك 1/ 145]

* * *

‌الدعوة إلى الله

986 -

الدَّعْوَةُ إلَى اللهِ هِيَ الدَّعْوَةُ إلَى الْإيمَانِ بِهِ وَبِمَا جَاءَت بِهِ رُسُلُهُ، بِتَصْدِيقِهِمْ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ، وَطَاعَتِهِمْ فِيمَا أَمَرُوا. [15/ 157]

ص: 879

987 -

قَصَّ اللهُ عَلَيْنَا فِي الْقُرْآنِ أَخْبَارَ الْأَنْبِيَاءِ وَمَا أَصَابَهُم وَمَا أَصَابَ أَتْبَاعَهُم الْمُومِنِينَ مِن الْأَذَى فِي اللهِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعَالَى نَصَرَهُم وَجَعَلَ الْعَاقِبَةَ لَهُمْ، وَقَصَّ عَلَيْنَا ذَلِكَ لِنَعْتَبِرَ بِهِ، قَالَ تَعَالَى:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)} [يوسف: 111]. [35/ 376]

988 -

إنَّهُ سُبْحَانَهُ يَذْكُرُ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالدَّعْوَةِ إلَى اللهِ تَارَةً

(1)

، وَتَارَةً بِالدَّعْوَةِ إلَى سَبِيلِهِ

(2)

؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] وَذَلِكَ أَنَّهُ قَد عُلِمَ أَنَّ الدَّاعِيَ الَّذِي يَدْعُو غَيْرَهُ إلَى أَمْرٍ لَا بُدَّ فِيمَا يَدْعُو إلَيْهِ مِن أَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: الْمَقْصُودُ الْمُرَادُ.

والثَّاني: الْوَسِيلَةُ وَالطَّرِيقُ الْمُوَصّلُ إلَى الْمَقْصُودِ.

فَلِهَذَا يَذْكُرُ الدَّعْوَةَ تَارَةً إلَى اللهِ وَتَارَةً إلَى سَبِيلِهِ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمَعْبُودُ الْمُرَادُ الْمَقْصُودُ بِالدَّعْوَةِ.

قَالَ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71]، وَهَذَا الْوَاجِبُ وَاجِبٌ عَلَى مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْعُلَمَاءُ فَرْضَ كِفَايَةٍ، إذَا قَامَ بِهِ طَائِفَةٌ مِنْهُم سَقَطَ عَن الْبَاقِينَ؛ فَالْأُمَّةُ كُلُّهَا مُخَاطَبَة بِفِعْلِ ذَلِكَ، وَلَكِنْ إذَا قَامَتْ بِهِ طَائِفَةٌ سَقَطَ عَن الْبَاقِينَ.

وَكُلُّ وَاحِدٍ مِن الْأُمَّةِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ مِن الدَّعْوَةِ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُ، فَمَا قَامَ بِهِ غَيْرُهُ سَقَطَ عَنْهُ، وَمَا عَجَزَ لَمْ يُطَالَبْ بِهِ.

(1)

وذلك بدعوتهم إلى توحيده وإخلاص العبادة له، وبيان ما يستحقه، وتذكيرهم بأسمائه وصفاته وعظمته.

(2)

وذلك بتعليم الناس كيفية عبادته، وبيان شرائعه وأحكامه.

وعلى هذا؛ فالذي يتصدر لتعليم الناس دينهم وعبادتهم، هو من الدعاة إلى سبيل الله، ويشمل معلمي الناس الفقه والحديث والتفسير ونحوها.

ص: 880

وَأَمَّا مَا لَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِهِ؛ وَلهَذَا يَجبُ عَلَى هَذَا أَنْ يَقُومَ بِمَا لَا يَجِبُ عَلَى هَذَا، وَقَد تَقَسَّطَتِ الدَّعْوَةُ عَلَى الأمَّةِ بِحَسَبِ ذَلِكَ تَارَةً، وَبِحَسَبِ غَيْرِهِ أُخْرَى؛ فَقَد يَدْعُو هَذَا إلَى اعْتِقَادِ الْوَاجِبِ، وَهَذَا إلَى عَمَلٍ ظَاهِرٍ وَاجِبٍ، وَهَذَا إلَى عَمَلٍ بَاطِنٍ وَاجِبٍ.

فَتَنَوُّعُ الدَّعْوَةِ يَكُونُ فِي الْوُجُوبِ تَارَةً وَفِي الْوُقُوعِ أخْرَى.

وَقَد تَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ الدَّعْوَةَ نَفْسَهَا أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيٌ عَن الْمُنْكَرِ، فَإِنَّ الدَّاعِيَ طَالِبٌ مُسْتَدْعٍ مُقْتَصٍ لِمَا دُعِيَ إلَيْهِ وَذَلِكَ هُوَ الْأَمْرُ بِهِ.

وَالْقِيَامُ بِالْوَاجِبَاتِ مِن الدَّعْوَةِ الْوَاجِبَةِ وَغَيْرِهَا يَحْتَاجُ إلَى شُرُوطٍ يُقَامُ بِهَا، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ:"يَنْبَغِي لِمَن أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَى عَن الْمُنْكَرِ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا فِيمَا يَأَمُرُ بِهِ فَقِيهًا فِيمَا يَنْهَى عَنْهُ رَفِيقًا فِيمَا يَأْمُرُبِهِ رَفِيقًا فِيمَا يَنْهَى عَنْهُ حَلِيمًا فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ حَلِيمًا فِيمَا يَنْهَى عَنْهُ".

فَالْفِقْهُ قَبْلَ الْأَمْرِ؛ لِيَعرفَ الْمَعْرُوفَ وَيُنْكِرَ الْمُنْكَرَ.

وَالرِّفْقُ عِنْدَ الْأَمْرِ؛ ليَسْلُكَ أَقْرَبَ الطُّرُقِ إلَى تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ.

وَالْحِلْمُ بَعْدَ الْأَمْرِ؛ لِيَصْبِرَ عَلَى أَذَى الْمَأمُورِ الْمَنْهِيِّ، فَإِنَّهُ كثِيرًا مَا يَحْصُلُ لَهُ الْأَذَى بِذَلِكَ. [15/ 162 - 167]

989 -

الْفَقِيهُ كُل الْفَقِيهِ هُوَ الَّذِي لَا يُؤَيسُ النَّاسَ مِن رَحْمَةِ اللهِ، وَلَا يُجَرِّئُهُم عَلَى مَعَاصِي اللهِ. [15/ 405]

990 -

الْقَلْبُ لَا يَصْلُحُ إلَّا بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَتَحْقِيقُ هَذَا تَحْقِيقُ الدَّعْوَةِ النَّبَوِيَّةِ.

وَمِنَ الْمَحَبَّةِ: الدَّعْوَةُ إلَى اللهِ

(1)

، وَهِيَ الدَّعْوَةُ إلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَبِمَا جَاءَت

(1)

أي: من المحبة لله تعالى: أنْ تدعو الناس إليه، وتنشر كلامه وما يُحبه بينهم، فمن أحبّ أحدًا أخبر الناس بصفاته وأحواله، ولله المثل الأعلى، فإذا كنت تُحبه فأخبرهم عنه، وبين لهم ما جاء به، وعرّفهم بأسمائه وصفاتِه.

ص: 881

بِهِ رُسُلُهُ بِتَصْدِيقِهِمْ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ، وَطَاعَتِهِمْ بِمَا أَمَرُوا بِهِ.

وَمِن الدَّعْوَةِ إلَى اللهِ: أَنْ يَفْعَلَ الْعَبْدُ مَا أَحَبَّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَيتْرُكَ مَا أَبْغَضَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَاهِرَةِ

(1)

. [20/ 7]

991 -

لَا يَخْلُو أَمْرُ الدَّاعِي مِن أَمْرَيْنِ:

الْأوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا؛ فَالْمُجْتَهِدُ يَنْظُرُ فِي تَصَانِيفِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْقُرُونِ الثَّلاثَةِ، ثُمَّ يُرَجِّحُ مَا يَنْبَغِي تَرْجِيحُهُ.

الثَّانِي: الْمُقَلِّدُ، يُقَلِّدُ السَّلَفَ؛ إذ الْقُرونُ الْمُتَقَدِّمَةُ أَفْضَلُ مِمَّا بَعْدَهَا

(2)

. [20/ 20]

* * *

‌العدل

992 -

كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَخلَفَاؤُهُ يَعْدِلُونَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، غَنِيِّهِمْ وَوفَقِيرِهِمْ فِي أُمُورِهِمْ، وَلَمَّا طَلَبَ بَعْضُ الْأَغْنِيَاءِ مِن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إبْعَادَ الْفُقَرَاءِ نَهَاهُ اللهُ عَن ذَلِكَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِم بِأَنَّهُم يُرِيدُونَ وَجْهَهُ فَقَالَ:{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} الْآيَةَ [الأنعام: 52].

وَكَانُوا يَسْتَوُونَ فِي مَقَاعِدِهِمْ عِنْدَهُ وَفِي الِاصْطِفَافِ خَلْفَهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَمَنِ اخْتَصَّ مِنْهُم بِفَضْلٍ عَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَهُ ذَلِكَ الْفَضْلَ كَمَا قَنَتَ لِلْقُرَّاءِ السَّبْعِينَ، وَكَانَ يَجْلِسُ مَعَ أَهْلِ الصُّفَّةِ، وَكَانَ أَيْضًا لِعُثْمَان وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَلسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وأسيد بْنِ الحضير وَعَبَّادِ بْنِ بِشْرٍ وَنَحْوِهِمْ مِن سَادَاتِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الْأَغْنِيَاءِ مَنْزِلَة لَيْسَتْ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ، وَهَذِهِ سِيرَةُ الْمُعْتَدِلِينَ مِنَ الْأَئِمَّةِ فِي الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ.

(1)

فالدعوة بالأفعال أبلغ من الدعوة بالأقوال.

(2)

فلا يقلد المتأخرين، إلا إذا كانوا متبعين للمتقدمين من الصحابة والسلف الصالح.

ص: 882

وَهَذَا هوَ الْعَدْلُ وَالْقِسْطُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنةُ، وَهِيَ طَرِيقَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدِ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ فِي مُعَامَلَتِهِمْ لِلْأَقْوِيَاءِ وَالضُّعَفَاءِ وَالْأغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ.

وَفِي الْأَئِمَّةِ كَالثَّوْرِيِّ وَنَحْوِهِ مَن كَانَ يَمِيل إلَى الْفُقَرَاءِ وَيَمِيلُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ، مُجْتَهِدَا فِي ذَلِكَ طَالِبًا بِهِ رضى اللهِ، حَتَّى عُتِبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ وَرَجَعَ عَنْهُ. [11/ 125 - 126]

993 -

إنَّمَا تَقَعُ الْفِتَنُ لِعَدَمِ الْمُعَادَلَةِ وَالتَّنَاصُفِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ وَإِلَّا فَمَعَ التَّعَادُلِ وَالتّنَاصُفِ الَّذِي يَرْضَا بِهِ أُولُو الْأَلْبَابِ لَا تَبْقَى فِتْنَةٌ. [14/ 78]

994 -

قَوْلُ مَن يَقُولُ: الْأَصْلُ فِي الْمُسْلِمِينَ الْعَدَالَةُ: بَاطِلٌ؛ بَل الْأصْلُ فِي بَنِي آدَمَ الظُّلْمُ وَالْجَهْلُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]. [15/ 357]

وَمُجَرَّدُ التَّكَلمِ بِالشَّهَادَتَيْنِ لَا يُوجِبُ انْتِقَالَ الْاِنْسَانِ عَن الظُّلْمِ وَالْجَهْلِ إلَى الْعَدْلِ

(1)

.

(1)

ولا يعني ذلك إساءة الظن بالمسلم، بل هناك فرق بين حسن الظن بالمسلم، وبين إثبات عدالته وقبول شهادته، وقد نبَّه على هذا الفرق العلَّامة الشاطبي رحمه الله حيث قال: تَحْسِينُ الظَّنَّ بالْمُسْلِم- وَإِن ظَهَرَتْ مَخَايِلُ احْتِمَال إِسَاءَةِ الظن فِيهِ- مَطْلوبٌ بلَا شَكٍّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} الآيَةَ [الْحُجُرَاتِ:12].

وَقَوْله: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} الآيَةَ [النُّورِ: 12].

بَل أُمِرَ الإنْسَانُ فِي هَذَا المَعنَى أنْ يَقُولَ ما لا يعلم، كما أمر باعتقاد مَا لَا يَعلَمُ فِي قَوْلِهِ:{وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النورِ: 12].

وقولُهُ: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)} [النُّورِ: 16].

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي هَذَا الْمَعنَى.

وَمَعَ ذَلِكَ: فَلَمْ يُبْن عَلَيْهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَلَا اعْتُبِرَ فِي عَدَالَةِ شَداهِدٍ وَلَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ بمجرد هَذَا التَّحْسِينِ؛ حَتى تَدُلُّ الْأدِلَّةُ الظَّاهِرَةُ الْمُحَصِّلَةُ لِلْعِلْم أوِ الظَّنِّ الْغَالِب.

فَإِذَا كَانَ الْمُكَلَّفُ مَأْمُورًا بِتَحْسِينِ الظَّنِّ بِكُل مُسْلِمٍ، ولَمْ يَكن كُل مُسلِم عَدْلًا عِنْدَ المحسِّن بِمُجَرَّدِ هَذَا التَّحْسِينِ حَتَّى تَحْصُلَ الْخِبْرَة أوِ التَّزْكيَةُ؛ دَلَّ عَلَى أنَّ مُجَرَّدَ تَحْسِينِ الظَّنِّ بِأَمْرٍ =

ص: 883

995 -

إذَا عوقِبَ الْمُعْتَدُونَ مِن جَمِيع الطَّوَائِفِ، وَأُكْرِمَ الْمُتَّقُونَ مِن جَمِيعِ الطَّوَائِفِ: كَانَ ذَلِكَ مِن أَعْظَمِ الْأسْبَابِ التِي تُرْضِي اللهَ وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم، وَتُصْلِحُ أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ. [3/ 423]

996 -

قَالَ تَعَالَى حِكايَةً عَن لُقْمَانَ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِهِ: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)} [لقمان: 17]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} [الشورى: 41 - 43].

فَهُنَاكَ فِي قَوْلِ لُقْمَانَ ذَكَرَ الصَّبْرَ عَلَى الْمُصِيبَةِ فَقَالَ: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} ، وَهُنَا ذَكَرَ الصَّبْرَ وَالْعَفْوَ فَقَالَ:{إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} .

وَذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ} [الشورى: 41، 42]، فَذَكَرَ سُبْحَانَه الْأصْنَافَ الثَّلَاثَةَ فِي بَابِ الظُّلْمِ الَّذِي يَكُونُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الْمَظْلُومِ، وَهُم: الْعَادِلُ وَالظَّالِمُ وَالْمُحْسِن.

فَالْعَادِلُ: مَن انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ، وَهَذَا جَزَاؤُهُ أَنَّهُ مَا عَلَيْهِ مِن سَبِيلٍ، فَلَمْ يَكُن بِذَلِكَ مَمْدُوحًا وَلَكِنْ لَمْ يَكن بِذَلِكَ مَذْمُومًا.

= لَا يُثْبتُ ذَلِكَ الْأمْرَ، وَإِذَا لَمْ يُثبتْهُ لَمْ ينبنِ عَلَيْهِ حُكْمٌ، وَتَحْسِينُ الظن بالْأفْعَالِ مِن ذَلِكَ، فَلَا يَنْبَنِيَ عَلَيْهَا حُكْمٌ. اهـ. تهذيب كَتاب الموافقات، للمؤلف (ص 537).

واستثنى العلَّامة ابن القيِّم رحمه الله إحسان الظن بالناس: القاضي، فقال: يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكونَ بَصِيرًا بِمَكْر النَّاسِ وَخِدَاعِهِمْ وَأحْوَالِهِمْ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أنْ يُحْسِنَ الظَّنَّ بِهِم، بَلْ يَكُونُ حَذِرًا فَطِنًا فَقِيهًا بَأَحْوَالِ النَّاسِ وَأمُورِهِمْ، يُوَازِره فِقْهُهُ فِي الشَّرْع، وَإِن لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ زَاغَ وَأزَاغَ، وَكَمْ مِنْ مَسأَلَةٍ ظَاهِرُهَا ظَاهِرٌ جَمِيلٌ، وَبَاطِنُهَا مَكْرٌ وَخِدَاَعٌ وَظُلْمٌ؟ فَالْغِرُّ يَنْظُرُ إلَى ظَاهِرِهَا ويقْضِي بِجَوَازِهِ، وَذُو الْبَصِيرَةِ يَنْقُدُ مَقْصِدَهَا وَبَاطِنَهَا ..

وَكَمْ مِنْ بَاطِلِ يُخْرِجُهُ الرَّجُلُ بِحُسْنِ لَفْظِهِ وَتَنْمِيقِهِ وَإِبْرَازِهِ فِي صُورَةِ حَقٍّ؟ وَكَمْ مِنْ حَقٍّ يُخْرِجُهُ بِتَهْجِينهِ وَسُوءِ تَعْبِيرِهِ فِي صُورر بَاطِلٍ؟. اهـ. أعلام الموقعين (2/ 545).

ص: 884

وَذَكَرَ الظَّالِمَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} ، فَهَؤُلَاءِ عَلَيْهِم السَّبِيلُ لِلْعُقُوبَةِ وَالِاقْتِصَاصِ.

وَذَكَرَ الْمُحْسِينَ فَقَالَ: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} . [20/ 367 - 368]

* * *

ص: 885