الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأخلاق
المحمودة
997 -
العدل المحض في كل شيء متعذر علمًا وعملًا، ولكن الأمثل فالأمثل؛ ولهذا يقال: هذا أمثل، ويقال للطريقة السلفية: الطريقة المثلى. [10/ 99]
998 -
الزهد المشروع هو: ترك الرغبة
(1)
فيما لا ينفع في الدار الآخرة، وهو فضول المباح التي لا يستعان بها على طاعة الله، كما أن الورع المشروع هو: ترك ما قد يضر في الدار الآخرة، وهو ترك المحرمات والشبهات التي لا يستلزم تركها ترك ما فعله أرجح منها؛ كالواجبات.
فأما ما ينفع في الدار الآخرة بنفسه أو يعين على ما ينفع في الدار الآخرة: فالزهد فيه ليس من الدين؛ بل صاحبه داخل في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)} [المائدة: 87]
(2)
، كما أن الاشتغال بفضول المباحات، هو ضد الزهد المشروع، فإن اشتغل بها عن فعل واجب أو فعل محرم كان عاصيًا، وإلا كان منقوصًا عن درجة المقربين إلى درجة المقتصدين. [10/ 21]
(1)
قيد مهم جدًّا، فلو قيل بأن الزهد: ترك ما لا ينفع في الدار الآخرة، لفهم من ذلك ترك ما يستعين به المسلم على أمور دنياه، من المركب والمسكن الحسن، ونحوها مما تسهل عليه أمور دنياه.
ولكن الشيخ رحمه الله بيّن أن الزهد ليس بترك الكماليات والحاجيات، بل بترك تعلق القلب بها، وتطلّبها والرغبة فيها.
(2)
شيخ الإسلام رحمه الله على من فهم أنّ المراد بالزهد ترك التنعم بالطيبات، والتقشّفُ واعتزالُ الناس، وبيّن أنّ كلّ ما يستعين به العبد على طاعة الله ولو كان أصلُه مُباحًا: فليس تركه من الزهد المشروع.
999 -
الحياء مشتق من الحياة، فإنَّ القلب الحيَّ يكون صاحبه حيًّا فيه حياء يمنعه عن القبائح، فإن حياة القلب هي المانعة من القبائح التي تفسد القلب؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"الحياء من الإيمان"
(1)
، فإن الحي يدفع ما يؤذيه، بخلاف الميت الذي لا حياة فيه فإنه يسمى وقحًا، والوقاحة الصلابة وهو اليبس المخالف لرطوبة الحياة، فإذا كان وقحًا يابسًا صليب الوجه لم يكن في قلبه حياة توجب حياءه. [10/ 109]
1000 -
الْقَلْبُ السَّلِيمُ الْمَحْمُودُ هُوَ الَّذِي يُرِيدُ الْخَيْرَ لَا الشَّرَّ، وَكَمَالُ ذَلِكَ بِأَنْ يَعْرِفَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، فَأَمَّا مَن لَا يَعْرِفُ الشَّرَّ فَذَاكَ نَقْصٌّ فِيهِ لَا يُمْدَحُ بِهِ. [10/ 302]
1001 -
الزّهْدُ النَّافِعُ الْمَشْرُوعُ الَّذِي يُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ: هُوَ الزّهْدُ فِيمَا لَا يَنْفَعُ فِي الآخِرَةِ.
وَكَذَلِكَ "الْوَرَعُ" الْمَشْرُوعُ هُوَ الْوَرَعُ عَمَّا قَد تُخَافُ عَاقِبَتُهُ، وَهُوَ مَا يُعْلَمُ تَحْرِيمُهُ وَمَا يَشُكُّ فِي تَحْرِيمِهِ، وَلَيْسَ فِي تَرْكِهِ مَفْسَدَةٌ أَعْظَمُ مِن فِعْلِهِ -مِثْلُ مُحَرَّمٍ مُعَيَّن-، مثْلُ مَن يَتْرُكُ أَخْذَ الشُّبْهَةِ وَرَعًا مَعَ حَاجَتِهِ إلَيْهَا وَيَأْخُذُ بَدَلَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا بَيِّنًا تَحْرِيمُهُ، أَو يَتْرُكُ وَاجِبًا تَرْكُهُ أَعْظَمُ فَسَادًا مِن فِعْلِهِ مَعَ الشُّبْهَةِ، كَمَن يَكُونُ عَلَى أَبِيهِ أَو عَلَيْهِ دُيُونٌ هُوَ مُطَالَبٌ بِهَا وَلَيْسَ لَهُ وَفَاءٌ إلَّا مِن مَالٍ فِيهِ شُبْهَةٌ فَيَتَوَرَّعُ عَنْهَا وَيَدَعُ ذِمَّتَهُ أَو ذِمَّةَ أَبِيهِ مُرْتَهِنَةً.
وَتَمَامُ "الْوَرَعِ" أَنْ يَعُمَّ
(2)
الْإِنْسَانُ خَيْرَ الْخَيْرَيْنِ وَشَرَّ الشَّرَّيْنِ، وَيعْلَمَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا عَلَى تَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَيمْمِيلِهَا، وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا.
وَإِلَّا فَمَن لَمْ يُوَازِنْ مَا فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ مِن الْمَصْلَحَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْمَفْسَدَةِ الشَّرْعِيَّةِ فَقَد يَدَعُ وَاجِبَاتٍ وَيفْعَلُ مُحَرَّمَاتٍ، وَيَرَى ذَلِكَ مِن الْوَرَعِ، كَمَن يَدْعُ الْجِهَادَ مَعَ الْأُمَرَاءِ الظَّلَمَةِ وَيرَى ذَلِكَ وَرَعًا، وَيدَعُ الْجُمْعَةَ وَالْجَمَاعَةَ خَلْفَ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ فِيهِمْ بِدْعَةٌ أَو فُجُورٌ، ويرَى ذَلِكَ مِن الْوَرَعِ، وَيمْتَنِعُ عَن قَبُولِ
(1)
رواه البخاري (6118)، ومسلم (36).
(2)
لعله: يعلم.
شَهَادَةِ الصَّادِقِ وَأَخْذِ عِلْمِ الْعَالِمِ؛ لِمَا فِي صَاحِبِهِ مِن بِدْعَةٍ خَفِيَّةٍ
(1)
، وَيرَى تَرْكَ قَبُولِ سَمَاعِ هَذَا الْحَقِّ الَّذِي يَجِبُ سَمَاعُهُ مِن الْوَرَعِ. [10/ 511 - 512]
1002 -
الزُّهْدَ هُوَ عَمَّا لَا يَنْفَعُ إمَّا لِانْتِفَاءِ نَفْعِهِ أَو لِكَوْنِهِ مَرْجُوحًا؛ لِأَنَّهُ ففَوِّتٌ لِمَا هُوَ أَنْفَعُ مِنْه، أَو مُحَصِّلٌ لِمَا يَرْبُو ضَرَره عَلَى نَفْعِهِ.
وَأَمَّا الْمَنَافِعُ الْخَالِصَةُ أَو الرَّاجِحَةُ: فَالزُّهْدُ فِيهَا حُمْقٌ
(2)
.
(1)
البدع نوعان:
النوع الأول: بدعٌ ظاهرة؛ أي: واضحة صريحة، ثبت الدليل البيّن على ذمها؛ كالقول بخلق القرآن، أو دعاء غير الله، أو الذبح لغير الله، فهذا يبدّع بالبدعة الواحدة، ولا يجوز أخذ العلم عنه، ويجب الإنكار عليه.
النوع الثاني: بدعٌ خفية؛ أي: قد يخفى دليلها، أو يخفى وجه الدلالة على بدعتها، وهي المسائل غير المعلومة من الدين بالضرورة؛ لخفائها وعدم انتشارها؛ كمسائل الأسماء والصفات التي وقع فيها الخلاف بين المسلمين كالاستواء والرؤية، وكالخلاف في مسألة الإيمان، ومسائل القدر والإرجاء، ونحو ذلك مما قاله أهل الأهواء.
فمن وقع فيها مَن يتحرى الحق خطأ منه فهذا لا يبدّع، بل يجب نصحُه برفق، وأن يُبين له خطؤه، مع الرد على بدعته.
قال ابن تيمية رحمه الله كثير من علماء السلف والخلف وقعوا في بدع من حيث لا يشعرون، إما استندوا إلى حديث ضعيف أو أنهم فهموا من النصوص غير مراد الله تبارك وتعالى أو أنهم اجتهدوا. ا هـ. فلا يُحكم على من وقع في بدعة أنه من أهل الأهواء والبدع، ولا يجوز معاداته بسببها، إلا إذا كانت البدعة مشتهرة مغلظة عند أهل العلم بالسُّنَّة.
وإذا كان هذا الواجب تجاه المبتدع بدعة خفية، فكيف بمن سلم من البدع والانحرافات، ولكن صدرت منه اجتهادات أخطأ فيها، فلا يجوز الطعن فيه، ولا صد الناس عن تلقي العلم والخير منه، ولا يجوز اتهامه بأنه مبتدع أو من الحزب الفلاني دون أن يُصرح بذلك، أو تدل الدلائل اليقينية على ذلك.
وعذر المبتدع لا يقتضي إقراره على ما أظهره من بدعة، ولا إباحة اتِّباعه، بل يجب الإنكار عليه فيما يسوغ إنكاره، مع مراعاة الأدب في ذلك.
(2)
مثل: من يترك وسائل الراحة والمنفعة الدنيوية في هذا الزمان بزعم الزهد، كالتكييف واستعمال الكهرباء والمصابيح الكهربائية والسيارات والفرش ونحوها، وهذا كما قال الشيخ: الزُّهْدُ فِيهَا حُمْقٌ، وصدق رحمه الله، فأي حماقةٍ أعظم ممن يترك الأسباب التي تُسهل عليه معاشه وحياته، دون ضرر منها في دينه أو دُنياه!
بل تعينه على استغلال وقته، فمن يقضي حاجته سيرًا على أقدامه، أو ركوبًا على حماره، أو يطبخ طعامه على الحطب، التي يحتاج إشعالها إلى زمن أطول: سيُضيع وقتًا طويلًا، ويُتعب جسمه دون فائدة، ولو اسْتغل هذا التعب في طلب العلم والعبادة لكان أولى.
وَأَمَّا الْوَرَعُ فَإِنَّهُ الْإِمْسَاكُ عَمَّا قَد يَضُرُّ، فَتَدْخُلُ فِيهِ الْمُحَرَّمَاتُ وَالشُّبُهَاتُ؛ لِأَنَّهَا قَد تَضُرُّ.
وَأَمَّا الْوَرَعُ عَمَّا لَا مَضَرَّةَ فِيهِ أَو فِيهِ مَضَرَّةٌ مَرْجُوحَةٌ -لِمَا تَقْتَرِنُ بِهِ مِن جَلْبِ مَنْفَعَةٍ رَاجِحَةٍ أَو دَفْعِ مَضَرَّةٍ أخْرَى رَاجِحَةٍ- فَجَهْلٌ وَظُلْمٌ.
وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ لَا يُتَوَرَّعُ عَنْهَا:
أ- الْمَنَافِعُ الْمُكَافِئَةُ.
ب- وَالرَّاجِحَةُ.
ت- وَالْخَالِصَةُ.
كَالْمُبَاحِ الْمَحْضِ، أَو الْمُسْتَحَبِّ، أَو الْوَاجِبِ، فَإِنَّ الْوَرَعَ عَنْهَا ضَلَالَةٌ. [10/ 615 - 616]
1003 -
الزُّهْدُ مِن بَابِ عَدَمِ الرَّغْبَةِ وَالْإِرَادَةِ فِي الْمَزْهُودِ فِيهِ.
وَالْوَرَعُ مِن بَابِ وُجُودِ النُّفْرَةِ وَالْكَرَاهَةِ لِلْمُتَوَرَّعِ عَنْهُ.
وَانْتِفَاءُ الْإِرَادَةِ إنَّمَا يَصْلُحُ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ خَالِصَة أَو رَاجِحَةٌ.
وَأَمَّا وُجُودُ الْكَرَاهَةِ فَإِنَّمَا يَصْلُحُ فِيمَا فِيهِ مَضَرَّةٌ خَالِصَة أَو رَاجِحَةٌ.
فَأَمَّا إذَا فُرِضَ مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ وَلَا مَضَرَّةَ أَو مَنْفَعَتُهُ وَمَضَرَّتُهُ سَوَاءٌ مِن كُلِّ وَجْهٍ؛ فَهَذَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يُرَادَ وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُكرَهَ فَيَصْلحُ فِيهِ الزُّهْدُ وَلَا يَصلُحُ فِيهِ الْوَرَعُ.
فَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا يَصْلُحُ فِيهِ الْوَرَعُ يَصْلُحُ فِيهِ الزُّهْدُ مِن غَيْرِ عَكْسٍ وَهَذَا بَيِّنٌ.
وَبِهَذَا يَتبيَّنُ: أَنَّ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّات لَا يَصْلُحُ فِيهَا زُهْدٌ وَلَا وَرَعٌ.
وَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ وَالْمَكرُوهَاتُ فَيَصْلُحُ فِيهَا الزُّهْدُ وَالْوَرَعُ.
وَأَمَّا الْمُبَاحَاتُ فَيَصْلُحُ فِيهَا الزُّهْدُ دُونَ الْوَرَعِ. [10/ 618 - 619]
1004 -
الزُّهْدُ الْمَشْرُوعُ: هُوَ تَرْكُ كلِّ شَيءٍ لَا يَنْفَعُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ
(1)
وَثقَة الْقَلْبِ بِمَا عِنْدَ اللهِ.
1005 -
وَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَتَرْكُ الْفُضُولِ الَّتِي لَا يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى طَاعَةِ اللهِ مِن مَطْعَمٍ وَمَلْبَسٍ وَمَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. [10/ 641 - 642، 11/ 27 - 28]
1006 -
جِمَاعُ الْخُلُقِ الْحَسَنِ مَعَ النَّاسِ: أَنْ تَصِلَ مَن قَطَعَك بِالسَّلَامِ وَالْإِكْرَامِ وَالدُّعَاءِ لَهُ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالزِّيَارَةِ لَهُ، وَتُعْطِي مَن حَرَمَك مِن التَّعْلِيمِ وَالْمَنْفَعَةِ وَالْمَالِ، وَتَعْفُوَ عَمَّن ظَلَمَك فِي دَمٍ أَو مَالٍ أَو عِرْضٍ.
وَبَعْضُ هَذَا وَاجِبٌ وَبَعْضُهُ مُسْتَحَبّ.
1007 -
فِي "الصَّحِيحِ" عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أكمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا أَحْسَنُهُم خُلُقًا"
(2)
.
جَعَلَ كَمَالَ الْإِيمَانِ فِي كَمَالِ حُسْنِ الْخُلُقِ.
1008 -
قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ: "لَو وُضِعَ الصِّدْقُ عَلَى جُرْحٍ لَبَرَأَ".
1009 -
الصِّدْق أَصْلُ الْخَيْرِ، كَمَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن ابْنِ مَسْعُودٍ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ
(3)
فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إلَى الْجَنَّةِ، وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إلَى النَّارِ، وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كذَّابًا"
(4)
.
وَلهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ
(1)
وقيده الشيخ في موضع آخر: بترك الرغبة فيما لا ينفع في الدار الآخرة. (10/ 21، 21/ 305)، وهو أدق.
(2)
رواه أبو داود في سننه (4682)، والترمذي (1162).
(3)
الصدق في الأقوال، والصدق في الأعمال، والصدق في الإخلاص، فالصدق يشمل الصدق مع الخلق والخالق، باللسان والقلب والعمل.
(4)
رواه البخاري (6094)، ومسلم (2607) واللفظ له.
أَثِيمٍ (222)} [الشعراء: 221، 222]، وَقَالَ:{وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7)} [الجاثية: 7].
وَلهَذَا يُذْكَرُ أَنَّ بَعْضَ الْمَشَايخِ أَرَادَ أَنْ يُؤَدِّبَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ لَهُم ذُنُوبٌ كَثِيرَةٌ فَقَالَ: يَا بنَيَّ، أَنَا آمُرُك بِخَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ فَاحْفَظْهَا لِي، وَلَا آمُرُك السَّاعَةَ بِغَيْرِهَا، الْتَزِمْ الصّدْقَ، وَإِيَّاكَ وَالْكَذِبَ، فَلَمَّا الْتَزَمَ ذَلِكَ الصِّدْقَ دَعَاهُ إلَى بَقِيَّةِ الْخَيْرِ، وَنَهَاهُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْفَاجِرَ لَا حَدَّ لَهُ فِي الْكَذِبِ
(1)
. [15/ 246 - 247]
1010 -
هُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ ويكْرَهُ سَفْسَافَهَا، وَهُوَ يُحِبُّ الْبَصرَ النَّافِذ عِنْدَ وُزودِ الشُّبُهَاتِ، وَيُحِبُّ الْعَقْلَ الْكَامِلَ عِنْدَ حُلُولِ الشَّهَوَاتِ. [16/ 317]
1011 -
الصِّدْقُ أَسَاسُ الْحَسَنَاتِ وَجِمَاعُهَا، وَالْكَذِبُ أَسَاسُ السَّيّئَاتِ وَنِظَامُهَا، وَيظْهَرُ ذَلِكَ مِن وُجُوهٍ:
أ- أَنَّ الصَّادِقَ تَنْزِلُ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ، وَالْكَاذِبَ تَنْزِلُ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)} [الشعراء: 221، 222].
ب- أَنَّ الْمَشَايِخَ الْعَارِفِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَسَاسَ الطَّرِيقِ إلَى اللهِ هُوَ الصِّدْقُ وَالْإِخْلَاصُ
(2)
. وَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ دَالٌّ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ؛ كقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة: 119]. [20/ 75 - 78]
1012 -
يَقَعُ الْغَلَطُ فِي الْوَرَعِ مِن ثَلَاثِ جِهَاتٍ:
(1)
وهذا من فقه هذا الشيخ، فلو أنه لو أوصاه بالتوبة من جميع ذنوبه، والْتزام جميع الواجبات وشرائع الدين لَمَا وعده بالوفاء، وأجابَ طلبه، وإن وافقه في الظاهر لَعَقَد العزم على مُخالفته في الباطن، ولكن أوصاه بالتمسك بفضيلة واحدة، التي ما إن يتمسك بها حتى تجره إلى بقية الفضائل.
(2)
ومعنى الصدق؛ بذل الوسع في العمل، والجد فيه، والإخلاص: ألا تنوي بعملك غير وجه الله تعالى، قال ابن القيِّم رحمه الله: الفرق بين الصدق والإخلاص: أن للعبد مطلوبًا وطالِبًا، فالإخلاص: توحيد مطلوبه، والصدق: توحيد طلبه. فالصدق بذل الجهد، والإخلاص إفراد المطلوب. مدارج السالكين (1/ 110).
أَحَدُهَا: اعْتِقَادُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ أنَّه مِن بَابِ التَّرْكِ، فَلَا يَرَوْنَ الْوَرَعَ إلَّا فِي تَرْكِ الْحَرَامِ، لَا فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ، وَهَذَا يُبْتَلَى بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَدَيِّنَةِ الْمُتَوَزعَةِ، تَرَى أَحَدَهُم يَتَوَرَّعُ عَنِ الْكَلِمَةِ الْكَاذِبَةِ وَعَنِ الدِّرْهَمِ فِيهِ شُبْهَةٌ؛ لِكَوْنِهِ مَن مَالِ ظَالِمٍ أَو مُعَامَلَةٍ فَاسِدَةٍ، وَيتَوَرَّعُ عَن الرُّكُونِ إلَى الظَّلَمَةِ مِن أَجْلِ الْبِدَعِ فِي الدّينِ وَذَوِي الْفُجُورِ فِي الدُّنْيَا، وَمَعَ هَذَا يَتْرُكُ أُمُورًا وَاجِبَةً عَلَيْهِ؛ إمَّا عَيْنًا وَإِمَّا كِفَايَةً وَقَد تَعَيّنتْ عَلَيْهِ، مِن صِلَةِ رَحِمٍ وَحَقِ جَارٍ وَمِسْكينٍ وَصَاحِبٍ وَيتِيمٍ وَابْنِ سَبِيلٍ وَحَقِّ مُسْلِمٍ وَذِي سُلْطَانٍ وَذِي عِلْمٍ وَعَن أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيٍ عَن مُنْكَرٍ وَعَنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ نَفْغ لِلْخَلْقِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُم مِمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ، أَو يَفْعَلُ ذَلِكَ لَا عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ للهِ تَعَالَى بَل مِن جِهَةِ التكلِيفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَهَذَا الْوَرَعُ قَد يُوقِعُ صَاحِبَهُ فِي الْبِدَعِ الْكِبَارِ؛ فَإِنَّ وَرَعَ الْخَوَارجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ مِن هَذَا الْجِنْسِ، تَوَرَّعُوا عَنِ الظُّلْمِ وَعَن مَا اعْتَقَدُوهُ ظُلْمًا مِن مُخَالَطَةِ الظَّلَمَةِ فِي زَعْمِهِمْ، حَتَّى تَرَكُوا الْوَاجِبَاتِ الْكِبَارَ مِنَ الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَةِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَنَصِيحَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالرَّحْمَةِ لَهُمْ
(1)
.
وَأَهْلُ هَذَا الْوَرَعِ مِمَن أَنْكَرَ عَلَيْهِم الْأَئِمَّةُ كَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَصَارَ حَالُهُم يُذْكَرُ فِي اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ: أَنَّهُ إذَا فَعَلَ الْوَاجِبَ وَالْمُشْتَبِهَ، وَتَرَكَ الْمُحَرَّمَ وَالْمُشْتَبِهَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ اعْتِقَادُ الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ بِأدِلَّةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَبِالْعِلْمِ لَا بِالْهَوَى.
وَلهَذَا يَحْتَاجُ الْمُتَدَيّنُ الْمُتَوَرِّعُ إلَى عِلْمٍ كَثِيرٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْفِقْهِ فِي الدِّينِ، وَإِلَّا فَقَدَ يُفْسِدُ تَوَرُّعُهُ الْفَاسدُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُهُ
(2)
.
(1)
ونحن نرى أن الخوارج هم أبعد الناس عن نصح المسلمين ورحمتهم ومُعاملتهم مُعاملةً حسنة.
(2)
وهذا مُشاهد ملموس، فقد رأينا كثيرًا ممن استقام واهتدى، أو نشأ على ذلك: وعنده ورع =
الثَّالِثَةُ: جِهَةُ الْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ، هَذَا أَصْعَبُ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ؛ فَإِنَّ الشَّيءَ قَد يَكُونُ جِهَةُ فَسَادِهِ يَقْتَضِي تَرْكَهُ فَيَلْحَظُهُ الْمُتَوَرّعُ، وَلَا لَحَظَ مَا يُعَارِضُهُ مِنَ الصَّلَاحِ الرَّاجِحِ، وَبِالْعَكْسِ. [20/ 139 - 140]
1013 -
ثَبَتَ أَنَّ الزُّهْدَ الْوَاجِبَ هُوَ تَرْكُ مَا يَنْفَعُ عَنِ الْوَاجِبِ مِن إرَادَةِ اللهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَالزُّهْدَ الْمُسْتَحَبَّ هُوَ مَا يَشْغَلُ عَنِ الْمُسْتَحَبِّ مِن أَعْمَالِ الْمُقَرَّبِينَ وَالصِّدّيقِينَ.
والْمَحْمُودُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إنَمَا هُوَ إرَادَةُ الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَالْمَذْمُومُ إنَّمَا هُوَ مَن تَرَكَ إرَادَةَ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَاشْتَغَلَ بِإِرَادَةِ الدُّنْيَا عَنْهَا.
فَأَمَّا مُجَرَّدُ مَدْح تَرْكِ الدُّنْيَا فَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَلَا تَنْظُرْ إلَى كَثْرَةِ ذَمِّ النَّاسِ الدُّنْيَا ذَمًّا غَيْرَ دِينيٍّ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْعَامَّةِ إنَّمَا يَذُمُّونَهَا لِعَدَمِ حُصُولِ أَغْرَاضِهِمْ مِنْهَا، فَإِنَّهَا لَمْ تَصْفُ لِأَحَدٍ قَطُّ وَلَو نَالَ مِنْهَا مَا عَسَاهُ أَنْ يَنَالَ.
فَأَكْثَرُ ذَمِّ النَّاسِ لِلدُّنْيَا لَيْسَ مِن جِهَةِ شَغْلِهَا لَهُم عَنِ الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِن جِهَةِ مَا يَلْحَقُهُم مِنَ الضَّرَرِ فِيهَا، وَهِيَ مَذْمُومَةٌ مِن ذَلِكَ الْوَجْهِ
(1)
. [20/ 147 - 149]
1014 -
لَا تَتِمُّ رِعَايَةُ الْخَلْقِ وَسِيَاسَتُهُم إلَّا بالْجُودِ الَّذِي هُوَ الْعَطَاءُ،
وَالنَّجْدَةِ الَّتِي هِيَ الشَّجَاعَةُ؛ بَل لَا يَصْلُحُ الدّينُ وَالدُّنْيَا إلَّا بِذَلِكَ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41].
= وحماس للدين، ولم يطلب العلم ولم يحضر مجالس العلماء: أفسد أكثر مما أصلح، حيث كثرت اجتهاداته الخاطئه، وربما ضيّق على أهله وقتر عليهم، ومنعهم ما أحل الله لهم بحجة الورع والتدين، وقد أذى ذلك بكثير منهم إلى الغلو والتشدد، والتحق بالخوارج المارقين، كفّر عامة المسلمين وعلماءهم وحكامهم، وسلّ السيف عليهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
(1)
صدق رحمه الله، وهذا هو واقع عامة من يذم الدنيا من عامة الناس وخاصّتهم، فهم لا يذمونها لكونها ألهتهم عن العمل للآخرة، والاستعداد لها، بل لكونهم تعبوا في تحصيلها ولم يأتهم منها ما يُريدون، وإلا لو أنّ الدنيا جاءت على مرادهم وهواهم: لَمَا ذموها، ولكرهوا من يذمها.
وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهُوَ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْأَرْضِ، حَتَّى إنَّهُم يَقُولُونَ فِي الْأَمْثَالِ الْعَامِّيَّةِ: "لَا طَعْنَةَ وَلَا جَفْنَةَ
(1)
"، وَيقُولُونَ: "لَا فَارِسَ الْخَيْلِ وَلَا وَجْهَ الْعَرَبِ". [28/ 291 - 293]
1015 -
لَا يَكُونُ الْعَفْوُ عَن الظَّالِمِ وَلَا قَلِيلُهُ مُسْقِطًا لِأَجْرِ الْمَظْلُومِ عِنْدَ اللهِ وَلَا مُنْقِصًا لَهُ؛ بَل الْعَفْوُ عَن الظَّالِمِ يُصَيِّرُ أَجْرَهُ عَلَى اللهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَعْفُ كَانَ حَقُّهُ عَلَى الظالِمِ فَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ، وإِذَا عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ، وَأَجْرُهُ الَّذِي هُوَ عَلَى اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى، قَالَ تَعَالَى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)} [الشورى: 40].
وَكَمَا أَنَّ مَن تَوَهَّمَ أَنَّهُ بِالْعَفْوِ يَسْقُطُ حَقُّهُ أَو يَنْقُصُ: غالط جَاهِلٌ ضَالٌّ؛ بَل بِالْعَفْوِ يَكُونُ أَجْرُهُ أَعْظَمَ: فَكَذَلِكَ مَن تَوَهَّمَ أَنَّهُ بِالْعَفْوِ يَحْصُلُ لَهُ ذُلٌّ، وَيحْصُلُ لِلظَّالِمِ عِزٌّ وَاسْتِطَالَةٌ عَلَيْهِ فَهُوَ غالط فِي ذَلِكَ، كَمَا ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" وَغَيْرِهِ
(2)
عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "ثَلَاثٌ إنْ كُنْت لَحَالِفًا عَلَيْهِنَّ: مَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْو إلَّا عِزًا، وَمَا نَقَصَتْ صَدَقَة مِن مَالٍ
(3)
، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للهِ إلَّا رَفَعَهُ الله".
فَبَيَّنَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوق: أَنَّ اللهَ لَا يَزِيدُ الْعَبْدَ بِالْعَفْوِ إلَّا عِزًّا، وَأَنَّهُ لَا تَنْقُصُ صَدَقَةٌ مِن مَالٍ، وَأَنَّهُ مَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للهِ إلَّا رَفَعَهُ اللهُ.
وَهَذَا رَدٌّ لِمَا يَظنُّهُ مَن يَتَّبعُ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ مِن أَنَّ الْعَفْوَ يُذِلُّهُ، وَالصَّدَقَةَ تُنْقِصُ مَالَهُ، وَالتَّوَاضُعَ يَخْفِضُهُ. [30/ 361 - 368]
1016 -
مَن أَحْسَنَ إلَى النَّاسِ
(4)
: فَإِلَى نَفْسِهِ، كَمَا يُرْوَى عَن بَعْضِ السَّلَفِ
(1)
الجَفْنَة: وعاءٌ للطَّعام، قال ابن الأثير: كَانَتِ الْعَرَبُ تَدْعو السَّيِّدَ المِطعَام جَفْنَةً؛ لِأَنَّهُ يَضَعُهَا ويُطْعم الناسَ فِيهَا فَسُمي بِاسْمِهَا. النهاية، مادة:(جفن).
(2)
مسلم (2588)، ومالك (2855)، والدارمي (1718)، وأحمد (9008).
(3)
قال ابن عبد البر رحمه الله: أيْ: لَا تُنْقِصُ الصَّدَقَةُ الْمَالَ؛ لِأنَّهُ مَالٌ مُبَارَكٌ فِيهِ إِذَا أدَّيَتْ زَكَاتُهُ وَتَطَوَّعَ مِنْهُ صَاحِبُهُ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تُضَاعَفُ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَيجِدُهَا صَاحِبُهَا وَقْتَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا كَجَبَل أحُدٍ مُضَاعَفَةَ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، فَأَيُّ نقْصَانٍ مَعَ هَذَا؟. اهـ. الاستذكار (8/ 612).
(4)
أي: من أَحسن إلى الناس بحسن التعامل معهم، وإكرامهم والبشاشة في وجوههم، وبذل =
أَنَّهُ قَالَ: مَا أَحْسَنْتُ إلَى أَحَدٍ وَمَا أَسَأْتُ إلَى أَحَدٍ، وَإِنَّمَا أَحْسَنْتُ إلَى نَفْسِي، وَأَسَأْتُ إلَى نَفْسِي، قَالَ تَعَالَى:{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7]، وَقَالَ تَعَالَى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت: 46].
وَلَو لَمْ يَكُن الْإِحْسَانُ إلَى الْخَلْقِ إحْسَانًا إلَى الْمُحْسِنِ يَعُود نَفْعُهُ عَلَيْهِ: لَكَانَ فَاعِلًا إثْمًا أَو ضَرَرًا؛ فَإِنَّ الْعَمَلَ الَّذِي لَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى فَاعِلِهِ: إمَّا حَيْثُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ، وَإِمَّا شَرٌّ مِنْ الْعَبَثِ إذَا ضَرَّ فَاعِلَهُ. [30/ 364 - 365]
1017 -
قَالَ تَعَالَى لِنَبِيّهِ صلى الله عليه وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف: 199]، هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا جِمَاعُ الْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَعَ النَّاسِ:
أ- إمَّا أَنْ يَفْعَلُوا مَعَهُ (غَيْرَ)
(1)
مَا يُحِبُّ.
ب- أَو مَا يَكْرَهُ.
فَأَمِرَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُم مَا يُحِبُّ مَا سَمَحُوا بِهِ، وَلَا يُطَالِبَهُم بِزِيَادَةٍ.
وَإِذَا فَعَلُوا مَعَهُ مَا يَكْرَهُ أَعْرَضَ عَنْهُمْ.
وَأَمَّا هُوَ فَيَأمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ. [30/ 370 - 371]
* * *
= المال أو العلم لهم: فإن الإحسان عائد إليه، حيث يجد ثمار إحسانه في الدنيا بالبركة في ماله ووقته وأهله، والسعادة والأنس واللذة، وفي الآخرة بالعاقبة الحسنة، والجنة العالية، والأجور الكبيرة.
فهو من المستفيد من إحسانه للناس، ويُحدث له هذا: عدم الشعور بالْمِنّة، والعجب ورؤية العمل.
فلو أنّ تاجرًا صادقًا قال لك: تصدق بما معك من المال للمحتاجين، وسأُعوضك عشرة أضعاف ما تصدقت، فإنك ستبحث عن المحتاج، وإذا وجدته وقبل صدقتك فإنك سترى أنه مُحسن إليك؛ لأنه لولا وجود المحتاجين وقبولهم لصدقتك: لَمَا حصل لك ما وُعدت من المال الكثير.
(1)
هكذا في الأصل وجميع النسخ، ويظهر أنها زائدة، ويدل عليه قوله: فَأُمِرَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُم مَا يُحبُّ.
(ما يستحب في السلام والقيام والمعانقة والمصافحة وما ينهى عنه)
(تقبيل اليد ومدها للتقبيل والانحناء والمعانقة والمصافحة)
1018 -
فأما تقبيل اليد فلم يكونوا
(1)
يعتادونه إلا قليلًا، ولما قدموا عليه صلى الله عليه وسلم عام مؤتة قبَّلوا يده، وقالوا: نحن الفرارون، قال: "بل أنتم العكارون
(2)
"
(3)
.
وقَبَّلَ أبو عبيدة يد عمر رضي الله عنهما، ورخص أكثر الفقهاء: أحمدُ وغيرُه لمن فعل ذلك على وجه التدين، لا على وجه التعظيم للدنيا.
وأما ابتداء مدُّ اليد للناس ليقبلوها وقصده لذلك: فيُنهى عن ذلك بلا نزاع كائنًا من كان، بخلاف ما إذا كان المقبِّل المبتدئ بذلك، وفي السنن:"قالوا: يا رسول الله يلقى أحدنا أخاه أفينحني له؟ قال: "لا" قالوا: فيلتزمه ويعانقه؟ قال: "لا"، قالوا: فيصافحه؛ قال: "نعم"
(4)
.
قال الشيخ تقي الدين: فأبو بكر والقاضي ومن تبعهما فرَّقوا بين القيام لأهل الدِّين وغيرهم، فاستحبوه لطائفة وكرهوه لأخرى.
والتفريق في مثل هذا بالصفات فيه نظر.
قال: وأما أحمد فمنع منه مطلقًا لغير الوالدين؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم سيد الأئمة ولم يكونوا يقومون له، فاستحباب ذلك للإمام العادل مطلقًا خطأ.
وما أراد أبو عبد الله
(5)
-والله أعلم- إلا لغير القادم مِن سفر
(6)
، فإنه
(1)
يعني: الصحابة.
(2)
الذين يعطفون إلى الحرب. [الحاشية].
(3)
رواه أبو داود (2647)، والترمذي (1716)، وأحمد (5384)، وضعَّفه الألباني في ضعيف أبي داود.
(4)
رواه الترمذي (2728)، وابن ماجه (3752)، وقد استنكر الإمام أحمد هذا الحديث، كما في الجرح والتعديل (3/ 241).
(5)
أي: الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
(6)
أي: منع القيام للرجل يُستثنى منه: القيام للوالدين، وللقادم من السفر.
نصَّ على أن القادم من السفر إذا أتاه إخوانه فقام إليهم وعانقهم فلا بأس به، وحديث سعد يُخرَّج على هذا وسائر الأحاديث؛ فإنَّ القادم يُتلقى، لكن هذا قام فعانقهم، والمعانقة لا تكون إلا بالقيام. [المستدرك 1/ 29 - 30]
* * *
(القيام للقادم من السفر، وللحاضر الذي طالت غيبته والذي يتكرر مجيئه)
1019 -
أما الحاضر في المصر الذي قد طالت غيبته والذي ليس من عادته المجيء إليه فمحل نظر
(1)
.
فأما الحاضر الذي يتكرر مجيئه في الأيام كإمام المسجد أو السلطان في مجلسه أو العالم في مقعده: فاستحباب القيام له خطأ؛ بل المنصوص عن أبي عبد الله هو الصواب.
وقال أيصًا: لا يجوز أن يكون قاعدًا وهم قيام، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من أحب أن يتمثل له الرجال قيامًا فليتبوأ مقعده من النار"
(2)
. [المستدرك 1/ 30]
* * *
(متي ينزع يده إذا سلم)
1020 -
قال الشيخ عبد القادر: ولا ينزع يده حتى ينزع الآخر يده إذا كان هو المبتدي.
قال الشيخ تقي الدين: الضابط أنَّ مَن غلب على ظنه أن الآخر ينزع أمسك؛ وإلا فلو استحب الإمساك لكلّ منهما أفضى إلى دوام المعاقدة، لكن تقييد عبد القادر حسن أن النازع هو المبتدي. [المستدرك 1/ 30 - 31]
* * *
(1)
أي؛ يحتمل القيام إليه، ويحتمل عدم القيام، ولكن العرف المطرد الذي يكاد يكون بإجماع الأعرف: أنه يُقام إليه في هذه الحالة، ولا ينبغي مخالفة العرف إذا كان يُؤدي إلى مفسدة.
(2)
رواه الترمذي (2755)، وقال: حديث حسن.
(معاملة الناس حسب ظواهرهم)
1021 -
من ظهر منه أفعال يحبّها الله ورسوله وجب أن يعامل بما يوجبه ذلك من الموالاة والمحبة والإكرام، ومن ظهر منه بخلاف ذلك عومل بمقتضاه. [المستدرك 1/ 110]
* * *
(يعفى لصاحب المقامات العظيمة ويسامح
…
)
1022 -
قال ابن القيم رحمه الله: فَإِنَّهُ يُعْفَى لِلْمُحِبِّ، وَلصَاحِبِ الْإِحْسَانِ الْعَظِيمِ مَا لَا يُعْفَى لِغَيْرِهِ، وَيُسَامَحُ بِمَا لَا يُسَامَحُ بِهِ غَيْرُهُ.
وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ -قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ- يَقُولُ: انْظُرْ إِلَى مُوسَى -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- رَمَى الْألْوَاحَ الَّتِي فِيهَا كَلَامُ اللهِ الَّذِي كَتَبَهُ بِيَدِهِ فَكَسَرَهَا، وَجَرَّ بِلِحْيَةِ نَبِيٍّ مِثْلِهِ، وَهُوَ هَارُونُ، وَلَطَمَ عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ فَفَقَأَهَا، وَعَاتَبَ رَبَّهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فِي مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَرَفْعِهِ عَلَيْهِ، وَرَبُّهُ تَعَالَى يَحْتَمِلُ لَهُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَيُحِبُّهُ وَيُكْرِمُهُ وَيُدَلّلُهُ؛ لِأَنَّهُ قَامَ للهِ تِلْكَ الْمَقَامَاتِ الْعَظِيمَةَ فِي مُقَابَلَةِ أَعْدَى عَدُوٍّ لَهُ، وَصَدَعَ بِأَمْرِهِ، وَعَالَجَ أُمَّتَيِ الْقِبْطِ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَكانَت هَذِهِ الْأمُورُ كَالشَّعْرَةِ فِي الْبَحْرِ.
وَانْظُرْ إِلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى، حَيْثُ لَمْ يَكُن لَهُ هَذِهِ الْمَقَامَاتُ الَّتِي لِمُوسَى، غَاضَبَ رَبَّهُ مَرَّةً، فَأَخَذَهُ وَسَجَنَهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، وَلَمْ يَحْتَمِلْ لَهُ مَا احْتَمَلَ لِمُوسَى، وَفَرْقٌ بَيْنَ مَن إِذَا أَتَى بِذَنْبٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَكُن لَهُ مِنَ الْإِحْسَانِ وَالْمَحَاسِنِ مَا يَشْفَعُ لَهُ، وَبَيْنَ مَن إِذَا أَتَى بِذَنْبٍ جَاءَت مَحَاسِنُهُ بِكُلّ شَفِيعٍ، كَمَا قِيلَ:
وَإِذَا الْحَبِيبُ أَتَى بِذَنْبٍ وَاحِدٍ
…
جَاءَت مَحَاسِنُهُ بِأَلْفِ شَفِيعِ
(1)
[مدارج السالكين 1/ 337]
* * *
(1)
يُستفاد مما قرره الشيخ رحمه الله تعالى أنه ينبغي لمن عُرف بالخير والصلاح والاستقامة أن تُغفر زلته، وتُقال عثرتُه، وتُحفظ له سابقتُه. =
(ترك بعض المباحات من الزهد)
1023 -
قال ابن القيم: قال لي يومًا شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- في شيء من المباح: هذا ينافي المراتب العالية، وإن لم يكن تركه شرطًا في النجاة. [مدارج السالكين 2/ 28]
* * *
(المال قد يكون مع تاجر أزهد من فقير)
1024 -
إذا سلم فيه
(1)
القلب من الهلع، واليد من العدوان: كان صاحبه محمودًا وإن كان معه مال عظيم؛ بل قد يكون مع هذا زاهدًا أزهد من فقير هلوع. [الآداب الشرعية 2/ 241 - 242]
* * *
= ويُستفاد كذلك: أنه ينبغي للإنسان أن يستكثر من الأعمال الصالحة التي يمحو الله بها ذنوبه، ويعفو بها عن زلاته. فالأعمال تشفع لصاحبها عند الله، وتذكر به إذا وقع في الشدائد.
(1)
أي: في المال.
الأخلاق المذمومة
1025 -
" الْحَسَدَ" مَرَضٌ مِن أَمْرَاضِ النَّفْسِ، وَهُوَ مَرَضٌ غَالِبٌ فَلَا يَخْلُصُ مِنْهُ إلَّا قَلِيلٌ مِن النَّاسِ، وَلهَذَا يُقَالُ: مَا خَلَا جَسَدٌ مِن حَسَدٍ، لَكِنَّ اللَّئِيمَ يُبْدِيهِ وَالْكَرِيمَ يُخْفِيهِ.
وَقَد قِيلَ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَيَحْسُدُ الْمُؤْمِنُ؟ فَقَالَ: مَا أَنْسَاك إخْوَةَ يُوسُفَ، وَلَكِنْ عُمّهُ فِي صَدْرِك، فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّك مَا لَمْ تَعْدُ بِهِ يَدًا وَلسَانًا.
فَمَن وَجَدَ فِي نَفْسِهِ حَسَدًا لِغَيْرِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مَعَهُ التَّقْوَى وَالصَّبْرَ. فَيَكْرَهُ ذَلِكَ مِن نَفْسِهِ.
وَكَثِيرٌ مِن النَّاسِ الَّذِينَ عِنْدَهُم دِين لَا يَعْتَدُونَ عَلَى الْمَحْسُودِ، فَلَا يُعِينونَ مَن ظَلَمَهُ، وَلَكِنَّهُم أَيْضًا لَا يَقُومُونَ بِمَا يَجِبُ مِن حَقِّهِ، بَل إذَا ذَمَّهُ أَحَدٌ لَمْ يُوَافِقُوهُ عَلَى ذَمِّهِ، وَلَا يَذْكُرُونَ مَحَامِدَهُ، وَكَذَلِكَ لَو مَدَحَهُ أَحَدٌ لَسَكَتُوا، وَهَؤُلَاءِ مَدِينُونَ فِي تَرْكِ الْمَأمُورِ فِي حَقِّهِ مُفَرِّطُونَ فِي ذَلِكَ، لَا مُعْتَدُونَ عَلَيْهِ.
وَجَزَاؤُهُمْ: أَنَّهُم يُبْخَسُونَ حُقُوقَهُم فَلَا يُنْصَفُونَ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ، وَلَا يُنْصرُونَ عَلَى مَن ظَلَمَهُم كَمَا لَمْ يَنْصُرُوا هَذَا الْمَحْسُودَ، وَأَمَّا مَن اعْتَدَى بِقَوْلٍ أَو فِعْلٍ فَذَلِكَ يُعَاقَبُ. [10/ 124 - 125]
1026 -
التحقيق أن الحسد هو البغض والكراهة لما يراه من حسن حال المحسود وهو نوعان:
أحدهما: كراهة للنعمة عليه مطلقًا، فهذا هو الحسد المذموم، وإذا أبغض ذلك فإنه يتألم ويتأذى بوجود ما يبغضه، فيكون ذلك مرضٌ في قلبه، ويلتذ بزوال النعمة عنه، وإن لم يحصل له نفع بزوالها.
والنوع الثاني: أن يكره فضل ذلك الشخص عليه، فيحب أن يكون مثله أو أفضل منه، فهذا حسد وهو الذي سموه الغبطة، وقد سماه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم حسدًا في الحديث المتفق عليه من حديث ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما أنه قال:"لا حسد إِلَّا في اثنتين: رجل أتاه اللّه الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها، ورجل آتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق".
فإن قيل: إذًا لم سمي حسدًا وإنما أحب أن ينعم اللّه عليه؟
قيل: مبدأ هذا الحب هو نظره إلى إنعامه على الغير وكراهته أن يتفضل عليه، ولولا وجود ذلك الغير لم يحب ذلك، فلما كان مبدأ ذلك كراهته أن يتفضل عليه الغير كان حسدًا؛ لأنه كراهة تتبعها محبة، وأما من أحب أن ينعم الله عليه مع عدم التفاته إلى أحوال الناس، فهذا ليس عنده من الحسد شيء.
ولهذا يُبْتلى غالب الناس بهذا القسم الثاني، وقد تسمى المنافسة، فيتنافس الاثنان في الأمر المحبوب المطلوب، كلاهما يطلب أن يأخذه، وذلك لكراهية أحدهما أن يتفضل عليه الآخر، كما يكره المستبقان كل منهما أن يسبقه الآخر.
والتنافس ليس مذمومًا مطلقًا، بل هو محمود في الخير، قال تعالى:{عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} [المطففين: 23 - 26].
والنفوس لا تحسد من هو في تعب عظيم؛ فلهذا لم يذكره، وإن
كان المجاهد في سبيل اللّه أفضل من الذي ينفق المال، بخلاف المنفق والمعلم.
وكذلك لم يذكر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم المصلي والصائم والحاج؛ لأن هذه الأعمال لا يحصل منها في العادة من نفع الناس الذي يعظمون به الشخص ويُسَوِّدُونه ما يحصل بالتعليم والإنفاق.
والحسد في الأصل إنما يقع لما يحصل للغير من السؤدد والرياسة، وإلا فالعامل لا يحسد في العادة، ولو كان تنعمه بالأكل والشرب والنكاح أكثر من غيره، بخلاف هذين النوعين فإنهما يحسدان كثيرًا؛ ولهذا يوجد بين أهل العلم الذين لهم أتباع من الحسد ما لا يوجد فيمن ليس كذلك، وكذلك فيمن له أتباع بسبب إنفاق ماله، فهذا ينفع الناس بقوت القلوب وهذا ينفعهم بقوت الأبدان، والناس كلهم محتاجون إلى ما يصلحهم من هذا وهذا.
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه نافس أبا بكر رضي الله عنه الإنفاق، كما ثبت في "الصحيح" عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك مالًا عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا. قال: فجئت بنصف مالي، قال: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أبقيت لأهلك؟ " قلت: مثله، وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكل ما عنده، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"ما أبقيت لأهلك؟ " قال: أبقيت لهم اللّه ورسوله فقلت: لا أسابقك إلى شيء أبدًا
(1)
.
فكان ما فعله عمر من المنافسة والغبطة المباحة، لكن حال الصديق رضي الله عنه أفضل منه وهو أنه خال من المنافسة مطلقًا لا ينظر إلى حال غيره. [10/ 113 - 117]
(1)
رواه أبو داود (1678).
1027 -
الْحَاسِدُ الْمُبْغِضُ لِلنِّعْمَةِ عَلَى مَن أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ بِهَا: ظَالِمٌ مُعْتَدٍ.
وَالْكَارِهُ لِتَفْضِيلِهِ الْمُحِبُّ لِمُمَاثَلَتِهِ: مَنْهِيٌّ عَن ذَلِكَ إلَّا فِيمَا يُقَرِّبُهُ إلَى اللهِ، فَإِذَا أَحَبَّ أَنْ يُعْطَى مِثْل مَا أُعْطِيَ مِمَّا يُقَرِّبُهُ إلَى اللّهِ فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ، وَإِعْرَاضُ قَلْبِهِ عَن هَذَا بِحَيْثُ لَا يَنْظُرُ إلَى حَالِ الْغَيْرِ: أَفْضَلُ.
ثُمَّ هَذَا الْحَسَدُ إنْ عَمِلَ بِمُوجِبِهِ صَاحِبُهُ كَانَ ظَالِمًا مُعْتَدِيًا مُسْتَحِقًّا لِلْعُقُوبَةِ إلَّا أَنْ يَتُوبَ، وَكَانَ الْمَحْسُودُ مَظْلُومًا مَأمُورًا بِالصَّبْرِ وَالتَّقْوَى فَيَصْبِرُ عَلَى أَذَى الْحَاسِدِ وَيَعْفُو وَيَصْفَحُ عَنْهُ. [10/ 120 - 121]
1028 -
ابْتُلِيَ يُوسُفُ بِحَسَدِ إخْوَتِهِ لَهُ
…
ثُمَّ إنَّهُم ظَلَمُوهُ بِتَكَلُّمِهِمْ فِي قَتْلِهِ وَإِلْقَائِهِ فِي الْجُبِّ وَبَيْعِهِ رَقِيقًا لِمَن ذَهَبَ بِهِ إلَى بِلَادِ الْكُفْرِ. فَصَارَ مَمْلُوكًا لِقَوْمِ كُفَّارٍ.
ثُمَّ إنَّ يُوسُفَ اُبْتُلِيَ بَعْدَ أَنْ ظُلِمَ بِمَن يَدْعُوهُ إلَى الْفَاحِشَةِ ويُرَاوِدُ عَلَيْهَا وَيسْتَعِينُ عَلَيْهِ بِمَن يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ فَاسْتَعْصَمَ وَاخْتَارَ السَّجْنَ عَلَى الْفَاحِشَةِ، وَآثَرَ عَذَابَ الدُّنْيَا عَلَى سَخَطِ اللهِ، فَكَانَ مَظْلُومًا مِن جِهَةِ مَن أَحَبَّهُ لِهَوَاهُ وَغَرَضِهِ الْفَاسِدِ.
فَأولَئِكَ أَخْرَجُوهُ مِن إطْلَاقِ الْحُرِّيَّةِ إلَى رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ الْبَاطِلَةِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَهَذِهِ أَلْجَأتْهُ إلَى أَنْ اخْتَارَ أَنْ يَكُونَ مَحْبُوسًا مَسْجُونًا بِاخْتِيَارِهِ.
فَكَانَت هَذِهِ أَعْظَمَ فِي مِحْنَتِهِ. وَكَانَ صَبْرُهُ هُنَا صَبْرًا اخْتِيَارِيًّا اقْتَرَنَ بِهِ التَّقْوَى. بِخِلَافِ صَبْرِهِ عَلَى ظُلْمِهِمْ. فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ مِن بَابِ الْمَصَائِبِ الَّتِي مَن لَمْ يَصْبِرْ عَلَيْهَا صَبْرَ الْكِرَامِ سَلَا سُلُوَّ الْبَهَائِمِ.
وَالصَّبْرُ الثَّانِي أَفْضَلُ الصَّبْرَيْنِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)} [يوسف: 90].
وَقَد أُوذِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَنْوَاع مِن الْأَذَى فَكَانَ يَصْبِرُ عَلَيْهَا صَبْرًا اخْتِيَارِيًّا، فَإِنَّهُ إنَّمَا يُؤْذَى لِئَلَّا يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُهُ بِاخْتِيَارِهِ.
وَكَانَ هَذَا أَعْظَمَ مِن صَبْرِ يُوسُفَ؛ لِأَنَّ يُوسُفَ إنَّمَا طُلِبَ مِنْهُ الْفَاحِشَةُ، وَإِنَّمَا عُوقِبَ إذَا لَمْ يَفْعَلْ بِالْحَبْسِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ طُلِبَ مِنْهُم الْكُفْرُ، وَإِذَا لَمْ يَفْعَلُوا طُلِبَتْ عُقُوبَتُهُم بِالْقَتْلِ فَمَا دُونَهُ، وَأَهْوَنُ مَا عُوقِبَ بِهِ الْحَبْسُ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ حَبَسُوهُ وَبَنِي هَاشِمٍ بِالشِّعْبِ مُدَّةً، ثُمَّ لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِب اشْتَدُّوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا بَايَعَتِ الْأَنْصَارُ وَعَرَفُوا بِذَلِكَ صَارُوا يَقْصِدُونَ مَنْعَهُ مِن الْخُرُوجِ، وَيَحْبِسُونَهُ هوَ وَأَصْحَابُهُ عَن ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُن أَحَدٌ يُهَاجِرُ إلَّا سِرًّا إلَّا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَنَحْوُهُ، فَكَانُوا قَد أَلْجَئُوهُم إلَى الْخُرُوجِ مِن دِيَارِهِمْ، وَمَعَ هَذَا مَنَعُوا مَن مَنَعُوهُ مِنْهُم عَن ذَلِكَ وَحَبَسُوهُ.
فَكَانَ مَا حَصَلَ لِلْمُؤْمِنِينَ مِن الْأَذَى وَالْمَصَائِبِ هُوَ بِاخْتِيَارِهِمْ طَاعَةً للّهِ وَرَسُولِهِ، لَمْ يَكُن مِن الْمَصَائِبِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي تَجْرِي بِدُونِ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ مِن جِنْسِ حَبْسِ يُوسُفَ، لَا مِن جِنْسِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ، وَهَذَا أَشْرَفُ النَّوْعَيْنِ وَأَهْلُهَا أَعْظَمُ دَرَجَةً -وَإِن كَانَ صَاحِبُ الْمَصَائِبِ يُثَابُ عَلَى صَبْرِهِ وَرِضَاهُ وَتُكَفَّرُ عَنْه الذُّنُوبُ بِمَصَائِبِهِ- فَإِنَّ هَذَا أُصِيبَ وَأُوذِيَ بِاخْتِيَارِهِ طَاعَةً للهِ يُثَابُ عَلَى نَفْسِ الْمَصَائِبِ وَيُكْتَبُ لَهُ بِهَا عَمَلٌ صَالِحٌ.
بِخِلَافِ الْمَصَائِبِ الَّتِي تَجْرِي بِلَا اخْتِيَارِ الْعَبْدِ؛ كَالْمَرَضِ وَمَوْتِ الْعَزِيزِ عَلَيْهِ وَأَخْذِ اللُّصُوصِ مَالَهُ، فَإنَّ تِلْكَ إنَّمَا يُثَابُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهَا، لَا عَلَى نَفْسِ مَا يَحْدُثُ مِن الْمُصِيبَةِ.
لَكِنَّ الْمُصِيبَةَ يُكَفَّرُ بِهَا خَطَايَاهُ، فَإِنَّ الثوَابَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَمَا يَتَوَلَّدُ عَنْهَا. [10/ 121 - 124]
1029 -
فِي "الصحِيحَيْنِ"
(1)
عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إيَّاكُمْ وَالشُّحَّ، فَإنَّ
(1)
لم أجده في الصحيحين، وإنما رواه أحمد (6487)، وأبو داود (1698).
الشُّحَّ أَهْلَكَ مَن كَانَ قَبْلَكُمْ، أَمَرَهُم بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا، وَأَمَرَهُم بِالظُّلْمِ فَظَلَمُوا، وَأمَرَهُم بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا".
فَبَيَّنَ أَنَّ الشُّحَّ يَأْمُرُ بِالْبُخْلِ وَالظُّلْمِ وَالْقَطِيعَةِ.
"فَالْبُخْلُ" مَنْعُ مَنْفَعَةِ النَّاسِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ
(1)
.
وَ"الظُّلْمُ" هُوَ الِاعْتِدَاءُ عَلَيْهِم.
فَالْأَوَّلُ هُوَ التَّفْرِيطُ فِيمَا يَجِبُ، فَيَكُونُ قَد فَرَّطَ فِيمَا يَجِبُ، وَاعْتَدَى عَلَيْهِم بِفِعْلِ مَا يُحَرَّمُ.
وَخَصَّ قَطِيعَةَ الرَّحِمِ بِالذِّكْرِ إعْظَامًا لَهَا؛ لِأَنَّهَا تَدْخُلُ فِي الْأَمْرَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ قَبْلَهَا.
وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} [الحشر: 9]: هُوَ أَلَّا يَأْخُذَ شَيْئًا مِمَّا نَهَاهُ اللّهُ عَنْهُ، وَلَا يَمْنَعُ شَيْئًا أَمَرَهُ اللّه بِأَدَائِهِ.
وَمِن النَّاسِ مَن يَقُولُ: "الشُّحُّ وَالْبُخْلُ" سَوَاءٌ، كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الشُّحُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ الْبُخْلُ وَمَنْعُ الْفَضْلِ مِن الْمَالِ.
وَلَيْسَ كَمَا قَالَ؛ بَل مَا قَالَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
(2)
وَابْنُ مَسْعُودٍ
(3)
أَحَقّ أَنْ يُتَّبَعَ، فَإِنَّ الْبَخِيلَ قَد يَبْخَلُ بِالْمَالِ مَحَبَّةً لِمَا يَحْصُلُ لَهُ بِهِ مِن اللَّذَّةِ وَالتَّنَعُّمِ، وَقَد لَا يَكونُ مُتَلَذِّذًا بِهِ وَلَا مُتَنَعِّمًا؛ بَل نَفْسُهُ تَضِيقُ عَن إنْفَاقِهِ وَتَكْرَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ يَكْرَهُ أَنْ يَنْفَعَ نَفْسَهُ مِنْهُ مَعَ كَثْرَةِ مَالِهِ، وَهَذَا قَد يَكُونُ مَعَ الْتِذَاذِهِ بِجَمْعِ الْمَالِ وَمَحَبَّتِهِ لِرُؤَيتِهِ، وَقَد لَا يَكُونُ هُنَاكَ لَذَّةٌ أَصْلًا؛ بَل يَكْرَهُ أَنْ يَفْعَلَ إحْسَانًا إلَى أَحَدٍ حَتَّى لَو أَرَادَ غَيْرُهُ أَنْ يُعْطِيَ كَرِهَ ذَلِكَ مِنْهُ بُغْضًا لِلْخَيْرِ لَا لِلْمُعْطِي وَلَا لِلْمُعْطَى؛ بَل بُغْضًا مِنْهُ لِلْخَيْرِ، وَقَد يَكُونُ بُغْضا وَحَسَدًا لِلْمُعْطَى أَو
(1)
وعلمِه، بل هو من أعظم البخل وأمقته وأضره.
(2)
بقوله: فَإِنَّ الشُّحَّ أهْلَكَ مَن كَانَ قَبْلَكمْ أَمَرَهُم بِالْبُخْلِ.
(3)
بقوله: إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلمًا.
لِلْمُعْطِي
(1)
، وَهَذَا هُوَ "الشُّحُّ"، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَأْمُرُ بِالْبُخْلِ قَطْعًا، وَلَكِنْ كُلُّ بُخْلٍ يَكُونُ عَن شُحٍّ، فَكُلُّ شَحِيحٍ بَخِيلٌ، وَلَيْسَ كُلُّ بَخِيلٍ شَحِيحًا. [10/ 588 - 591]
1030 -
مِن النَّاسِ: مَن يُحْسِن إلَى غَيْرِهِ لِيَمُنَّ عَلَيْهِ
(2)
، أَو يَرُدَّ الْإِحْسَانَ لَهُ بِطَاعَتِهِ إلَيْهِ وَتَعْظِيمِهِ أَو نَفْعٍ آخَرَ.
وَقَد يَمُنُّ عَلَيْهِ فَيَقُولُ: أَنَا فَعَلْت بِك كَذَا، فَهَذَا لَمْ يَعْبُدْ اللهَ وَلَمْ يَسْتَعِنْهُ، وَلَا عَمِلَ للّهِ وَلَا عَمِلَ بِاللّهِ، فَهُوَ الْمُرَائِي، وَقَد أَبْطَلَ اللهُ صَدَقَةَ الْمَنَّانِ وَصَدَقَةَ الْمُرَائِي. [14/ 330]
1031 -
الشُّحُّ: هُوَ شِدَّةُ الْحِرْصِ الَّتِي تُوجِبُ الْبُخْلَ وَالظّلْمَ، وَهُوَ مَنْعُ الْخَيْرِ وَكَرَاهَتُهُ. [14/ 480]
1032 -
عَهِدَ النَّاسُ خَلْقًا مِن النَّاسِ تَغْلِبُهُم نِسَاؤُهُم؛ مِن نِسَاءِ التتر وَغَيْرِهِمْ، يَكُونُ لِامْرَأَتِهِ غَرَضٌ فَاسِدٌ فِي فَتَاهُ أَو فَتَاهَا، وَتَفْعَلُ مَعَهُ مَا ترِيدُ، وَإِن أَرَادَ الزَّوْجُ أنْ يَكْشِفَ أَو يُعَاقِبَ مَنَعَتْهُ وَدَفَعَتْهُ؛ بَل وَأَهَانَتْهُ وَفَتَحَتْ عَلَيْهِ أبْوَابًا مِن الشَّرِّ بِنَفْسِهَا وَأهْلِهَا وَحَشَمِهَا وَالْمطَالَبَةِ بِصَدَاقِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ.
حَتَّى يَتَمَنَّى الرَّجُلُ الْخَلَاصَ مِنْهَا رَأسًا بِرَأسِ، مَعَ كَوْنِ الرَّجُلِ فِيهِ غَيْرَةٌ، فَكَيْفَ مَعَ ضَعْفِ الْغَيْرَةِ؟ [15/ 121]
1033 -
تَحْقِيقُ مَعْنَى الشُّحِّ: أَنَّهُ شِدَّةُ الْمَنْعِ الَّتِي تَقُومٌ فِي النَّفْسِ
…
وَالْبُخْلُ مِن فُرُوعِهِ. [18/ 333]
1034 -
يَقَعُ الْغَلَطُ فِي الزُّهْدِ مِن وُجُوهٍ كَمَا وَقَعَ فِي الْوَرَعِ:
(1)
وهكذا حال من يكره الدعاة والمشايخ الذين لهم نفعٌ وتأثيرٌ في الأمة، فكثيرٌ منهم يَكْرَهُ أنْ يَقوم بالدعوة ونشر العلم للناس، أو يكسل عن ذلك، أو لا يُرزق القبول عند الناس، فإذا رأى غيره من الدعاة والمشايخ قام بالدعوة ورُزق القبول: كرِهَ ذَلِكَ مِنْهُ؛ بُغْضًا مِنْهُ لِلْخَيْر ونشرِهِ، أو حَسَدًا مِنْهُ لمن قام به.
(2)
مثل: من يسعى في خدمة رئيسِه أو صديقه، فإذا أراد منه حاجة ذكَّره بما فعله له.
أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْمًا زَهِدُوا فِيمَا يَنْفَعُهُم بِلَا مَضَرَّةٍ، فَوَقَعُوا بِهِ فِي تَرْكِ وَاجِبَاتٍ أَو مُسْتَحَبَّاتٍ، كَمَن تَرَكَ النِّسَاءَ وَاللَّحْمَ وَنَحْو ذَلِكَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ زُهْدَ هَذَا أَوْقَعَهُ فِي فِعْلِ مَحْظُورَات، كَمَن تَرَكَ تَنَاوُلَ مَا أُبِيحَ لَهُ مِنَ الْمَالِ وَالْمَنْفَعَةِ وَاحْتَاجَ إلَى ذَلِكَ فَأَخَذَة مِن حَرَامٍ، أَو سَأَلَ النَّاسَ الْمَسْأَلَةَ الْمُحَرَّمَةَ، أَو اسْتَشْرَفَ إلَيْهِمْ، وَالِاسْتِشْرَافُ مَكْرُوهٌ.
وَالثَّالِثُ: مَن زَهِدَ زُهْدَ الْكَسَلِ وَالْبَطَالَةِ وَالرَّاحَةِ، لَا لِطَلَبِ الدَّارِ الْآخِرَةِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْعِلْمِ النَّافِعِ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا كَانَ زَاهِدًا بَطَّالًا فَسَدَ أَعْظَمَ فَسَادٍ، فَهَؤُلَاءِ لَا يُعَمِّرُونَ الدُّنْيَا وَلَا الْآخِرَةَ. [20/ 150]
1035 -
قَالَ صلى الله عليه وسلم: "مَن تَعَزَّى بِعَزَاءِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعِضُّوهُ بهن أَبِيهِ وَلَا تَكْنُوا".
فَسَمِعَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ رَجُلًا يَقُولُ: "يَا لِفُلَان" فَقَالَ: "اعْضَضْ أَيْرَ أَبِيك، فَقَالَ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، مَا كُنْت فَاحِشًا، فَقَالَ: بِهَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم". رَوَاهُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ
(1)
.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: "مَن تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ": يَعْنِي: يَعْتَزِي بِعزْوَاتِهِمْ، وَهِيَ الِانْتِسَابُ إلَيْهِم فِي الدَّعْوَةِ، مِثْل قَوْلِهِ: يَا لِقَيْس، يَا ليمن، وَيَا لِهِلَال، وَيَا لِأَسَد، فَمَن تَعَصَّبَ لِأَهْلِ بَلْدَتِهِ أَو مَذْهَبِهِ أَو طَرِيقَتِهِ أَو قَرَابَتِهِ أَو لِأَصْدِقَائِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ: كَانَت فِيهِ شُعْبَةٌ مِن الْجَاهِلِيَّةِ، حَتَّى يَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ كَمَا أَمَرَهُم اللّهُ تَعَالَى مُعْتَصِمِينَ بِحَبْلِهِ وَكِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، فَإِنَّ كِتَابَهُم وَاحِدٌ، وَدِينهُم وَاحِدٌ، وَنَبِيّهُم وَاحِدٌ، وَرَبّهُم إلَهٌ وَاحِدٌ، لَا إلَهَ إلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ، وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. [28/ 422 - 423]
1036 -
قَالَ تعالى فِي وَصْفِهِمْ [أي: المنافقين] بِالشُّحِّ: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ}
(1)
(21236، 21237).
كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)} [التوبة: 54]، فَهَذِهِ حَالُ مَن أَنْفَقَ كَارِهًا، فَكَيْفَ بِمَن تَرَكَ النَّفَقَةَ رَأْسًا؟ [28/ 439]
1037 -
قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مِن حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ"
(1)
، فَإِذَا
خَاضَ فِيمَا لَا يَعْنيهِ نَقَصَ مِن حُسْنِ إسْلَامِهِ. [7/ 50]
1038 -
لِمَاذَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ مِن الْمُطَفِّفِينَ
(2)
: لَا يَحْتَجُّ لِغَيْرِهِ كَمَا يَحْتَجُّ لِنَفْسِهِ؟ وَلَا يَقْبَلُ لِنَفْسِهِ مَا يَقْبَلُهُ لِغَيْرِهِ؟ [24/ 82]
1039 -
كَثِيرًا مَا يَشْتَبِهُ الْوَرَعُ الْفَاسِدُ بِالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ؛ فَإنَّ كِلَاهُمَا فِيهِ تَرْكٌ، فَيَشْتَبِهُ تَرْكُ الْفَسَادِ لِخَشْيَةِ اللهِ تَعَالَى بِتَرْكِ مَا يُؤمَرُ بِهِ مِن الْجِهَادِ وَالنَّفَقَةِ جُبْنًا وَبُخْلًا.
كَذَلِكَ قَد يَتْرُكٌ الْإِنْسَانُ الْعَمَلَ ظَنًّا أَو إظْهَارًا أَنَّهُ وَرَعٌ، وَإِنَّمَا هُوَ كِبْرٌ وَإِرَادَةٌ لِلْعُلُوِّ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ:"إنَّمَا الْأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ"
(3)
: كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ كَامِلَةٌ؛ فَإِنَّ النِّيَّةَ لِلْعَمَلِ كَالرُّوحِ لِلْجَسَدِ
(4)
، وَإِلَّا فَكَلُّ وَاحِدٍ مِن السَّاجِدِ للّهِ وَالسَّاجِدِ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ قَد وَضَعَ جَبْهَتَهُ عَلَى الْأرْضِ، فَصُورَتُهُمَا وَاحِدَةٌ، ثُمَّ هَذَا أَقْرَبُ الْخَلْقِ إلَى اللّهِ تَعَالَى، وَهَذَا أَبْعَدُ الْخَلْقِ عَن اللّهِ. [28/ 291]
1040 -
كُلُّ آدَمِيٍّ قَهَرَ آدمِيًّا بِغَيْرِ حَقٍّ وَمَنَعَهُ عَن التصَرُّفِ: فَالْقَاهِرُ يُشبِهُ الْآسِرَ، وَالْمَقْهُورُ يُشْبِة الْأَسِيرَ، وَكَذَلِكَ الْقَهْرُ بِحَقِّ أَسِيرٍ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْغَرِيمِ
(1)
رواه الترمذي (2317)، وابن ماجه (3976)، ومالك (2628)، وأحمد (1737)، وقال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إِلا من هذا الوجه.
(2)
الْمُطَفِّفِونَ: هم الذين يَنقصون الناس، ويبخسونهم حقوقهم في مكاييلهم إذا كالوهم، أو موازينهم إذا وزنوا لهم عن الواجب لهم من الوفاء، وأصل ذلك من الشيء الطفيف، وهو القليل الحقير، والمطفِّف: المقلِّل حقّ صاحب الحقّ عما له من الوفاء والتمام. يُنظر: تفسير الطبري (24/ 277).
(3)
رواه البخاري (1).
(4)
فكما أنّ الجسد لا يصلح ولا يُنتفع به بلا روح، فكذلك العمل لا يصلح ولا يُنتفع به بلا نيّة.
الَّذِي لَزِمَ غَرِيمَهُ: "مَا فَعَلَ أَسِيرُك؟ "
(1)
. [29/ 1483]
* * *
(التنابز بالألقاب والاستهزاء بالآخرين)
1041 -
قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} الْآيَةَ [الحجرات: 9].
ثُمَّ نَهَاهُم عَن أَنْ يَسْخَرَ بَعْضُهُم بِبَعْضِ وَعَن اللَّمْزِ وَالتَّنَابُزِ بِالْأَلْقَابِ وَقَالَ: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} [الحجرات: 11] وَقَد قِيلَ: مَعْنَاهُ: لَا تُسَمِّيهِ فَاسِقًا وَلَا كَافِرًا بَعْدَ إيمَانِهِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ بَل الْمُرَادُ: بِئْسَ الِاسْمُ أَنْ تَكُونُوا فُسَّاقًا بَعْدَ إيمَانِكُمْ .. وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ"
(2)
عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ".
يَقُولُ: فَإذَا سَابَبْتُم الْمُسْلِمَ وَسَخِرْتُمْ مِنْهُ وَلَمَزْتُمُوهُ: اسْتَحْقَقْتُمْ أَنْ تُسَمَّوا فُسَّاقًا. [7/ 248]
* * *
(الفخر والبغي، والفخر بالإسلام والشريعة)
1042 -
لمسلم وأبي داود وغيرهما
(3)
عن عياض بن حمار عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحدٍ، ولا يبغي أحدٌ على أحدٍ"، جمع النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بين نوعي الاستطالة؛ لأن المستطيل إن استطال بحق فهو المفتخر، وإن استطال بغير حق فهو الباغي؛ فلا يحل لا هذا، ولا هذا. [المستدرك 1/ 155]
* * *
(1)
رواه ابن ماجه (2428)، وضعَّفه الألباني.
(2)
رواه البخاري (48)، ومسلم (64).
(3)
رواه مسلم (2865)، وأبو داود (4895)، وابن ماجه (4179).
(الغضب)
1043 -
قال القاضي: ويستحب لمن غضب إن كان قائمًا جلس، وإذا كان جالسًا اضطجع. وقال ابن عقيل: ويستحب لمن غضب أن يغير حاله فإن كان جالسًا قام أو اضطجع، وإن كان قائمًا مشى. وقول القاضي هو الصواب. قاله الشيخ تقي الدين. [المستدرك 1/ 155]
* * *
(الصمت)
1044 -
التحقيق في الصمت: أنه إذا طال حتى يتضمن ترك الكلام الواجب صار حرامًا، كما قال الصديق، وكذا إن بعد بالصمت عن الكلام المستحب. [المستدرك 1/ 156]
* * *
التنطع والتشدد في الدين
1045 -
إذَا تَبَيَّنَّا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرْخَصَ فِي شَيءٍ، وَقَد كَرِهَ أَنْ نَتَنَزَّهَ عَمَّا تَرَخَّصَ فِيهِ، وَقَالَ لَنَا:"إنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كمَا يَكْرَة أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ"
(1)
: فَإِنْ تَنَزَّهْنَا عَنْهُ عَصَيْنَا رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ نُرْضِيَهُ، وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُغْضِبَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لِشُبْهَةٍ وَقَعَتْ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ كَمَا كَانَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ. [21/ 62]
1046 -
الْإِسْرَافُ فِي الْمُبَاحَاتِ: هُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَهُوَ مِنَ الْعُدْوَانِ الْمُحَرَّمِ.
وَتَرْكُ فُضُولِهَا: هُوَ مِنَ الزُّهْدِ الْمُبَاحِ.
(1)
رواه الإمام أحمد (5866)، وصحَّحه الألباني في الإرواء (564)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4939): رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، وَالْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
وَأَمَّا الِامْتِنَاعُ مِن فِعْلِ الْمُبَاحَاتِ مُطْلَقًا كَالَّذِي يَمْتَنِعُ مِن أَكْلِ اللَّحْمِ، وَأَكْلِ الْخُبْزِ، أَو شُرْبِ الْمَاءِ، أَو لُبْسِ الْكَتَّانِ وَالْقُطْنِ، وَلَا يَلْبَسُ إلَّا الصُّوفَ، وَيَمْتَنِعُ مِن نِكَاحِ النِّسَاءِ وَيَظُنُّ أَنَّ هَذَا مِنَ الزُّهْدِ الْمُسْتَحَبِّ
(1)
: فَهَذَا جَاهِلٌ ضَالٌّ مِن جِنْسِ زُهَّادِ النَّصَارَى. [22/ 134]
* * *
(1)
ومن المعلوم أن الشيخ لم يتزوج، ولا يُظن به -وخاصة مع كلامه هذا- أنه ترك الزواج زهدًا فيه، ولا ترفُّعًا عنه، ولكن قد يكون عنده مانعٌ منعه من الزواج، وأقل ما يُقال: إنه كان مشغولًا بالعلم والجهاد والتصنيف والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
التوبة وما يدفع السيئات
1047 -
المؤمن إذا فعل سيئة فإن عقوبتها تندفع عنه بعشرة أسباب:
أ - أن يتوب فيتوب الله عليه، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
ب - أو يستغفر فيغفر له.
ج - أو يعمل حسنات تمحوها، فإن الحسنات يذهبن السيئات.
د - أو يدعوا له إخوانه المؤمنون ويستغفرون له حيًّا وميتًا.
هـ - أو يهدون له من ثواب أعمالهم ما ينفعه اللّه به.
و - أو يشفع فيه نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم.
ز - أو يبتليه اللّه تعالى في الدنيا بمصائب تكفِّر عنه.
ح - أو يبتليه في البرزخ بالصعقة فيكفَّر بها عنه.
ط - أو يبتليه في عرصات القيامة من أهوالها بما يكفَّر عنه.
ي - أو يرحمه أرحم الراحمين.
فمن أخطأته هذه العشرة، فلا يلومن إِلَّا نفسه، كما قال تعالى فيما يروي عنه رسوله صلى الله عليه وسلم:"يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد اللّه، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إِلَّا نفسه"
(1)
. [10/ 45 - 46]
(1)
رواه مسلم (2577).
1048 -
التَّوْبَة النَّصُوحُ الَّتِي يَقْبَلُهَا اللهُ يَرْفَعُ بِهَا صَاحِبَهَا إلَى أَعْظَمَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كَانَ دَاوُد عليه السلام بَعْدَ التَّوْبَةِ خَيْرًا مِنْهُ قَبْلَ الْخَطِيئَةِ، وَقَالَ آخَرُ: لَو لَمْ تَكُن التَّوْبَةُ أَحَبُّ الْأَشْيَاءِ إلَيْهِ لَمَا ابْتَلَى بِالذَّنْبِ أَكْرَمَ الْخَلْقِ عَلَيْهِ.
وَقَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ": "حَدِيثُ الَّذِي يَعْرِضُ اللهُ صِغَارَ ذُنُوبِهِ ويُخَبِّئُ عَنْهُ كِبَارَهَا وَهُوَ مُشْفِقٌ مِن كِبَارِهَا أنْ تَظْهَرَ، فَيَقُولُ اللّهُ لَهُ: إنِّي قَد غَفَرْتُهَا لَكَ وَأَبْدَلْتُكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً، فَيَفولُ: أَيْ رَبِّ، إنَّ لِي سَيِّئَاتٍ لَمْ أَرَهَا"
(1)
، إذَا رَأَى تَبْدِيلَ السَّيِّئَاتِ بالْحَسَنَاتِ طَلَبَ رُؤْيَةَ الذُّنُوب الْكِبَارِ الَّتِي كَانَ مُشْفِقًا مِنْهَا أَنْ تَظْهَرَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَالَهُ هَذِهِ مَعَ هَذَا التَّبْدِيلِ أَعْظَمُ مِن حَالِهِ لَو لَمْ تَقَعْ السَّيِّئَاتُ وَلَا التَّبْدِيلُ. [10/ 293 - 294]
1049 -
الْأنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِم مَعْصُومُونَ فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَن اللهِ سُبْحَانَهُ، وَفِي تَبْلِيغِ رِسَالَاتِهِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ.
وَالْقُرْآن يَدُلُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)} [الحج: 52، 53] فَقَالُوا: الْآثَارُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَعْرُوفَةٌ ثَابِتَةٌ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ، وَالْقُرْآنُ يُوَافِقُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ نَسْخَ اللهِ لِمَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ وَإِحْكَامَهُ آيَاتِهِ إنَّمَا يَكُونُ لِرَفْعِ مَا وَقَعَ فِي آيَاتِهِ، وَتَمْيِيزِ الْحَق مِن الْبَاطِلِ حَتَّى لَا تَخْتَلِطَ آيَاتُهُ بِغَيْرِهَا.
وَهَذِهِ الْعِصْمَةُ الثَّابِتَةُ لِلْأَنْبِيَاءِ هِيَ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا مَقْصُودُ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ.
وَأَمَّا الْعِصْمَةُ فِي غَيْرِ مَا يَتَعَلَّق بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ فَلِلنَّاسِ فِيهِ نِزَاعٌ.
(1)
رواه مسلم (190).
واللّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ فِي الْقُرْآنِ شَيْئًا مِن ذَلِكَ عَن نَبِيٍّ مِن الْأنْبِيَاءِ إلَّا مَقْرُونًا بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ؛ كَقَوْلِ آدمَ وَزَوْجَتِهِ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].
وَأمَّا يُوسُفُ الصِّدِّيقُ فَلَمْ يَذْكُرِ اللهُ عَنْهُ ذَنْبا فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُر اللّهُ عَنْهُ مَا يُنَالسِبُ الذَّنْبَ مِن الِاسْتِغْفَارِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24] فَالْهَمُّ اسْمُ جِنْسٍ تَحْتَهُ "نَوْعَانِ" كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد: الْهَمُّ هَمَّانِ: هَمُّ خَطَرَاتٍ وَهَمُّ إصْرَارٍ، وَقَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ"
(1)
عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ الْعَبْدَ إذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ وَإِذَا تَرَكَهَا للهِ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ.
ويُوسُفُ صلى الله عليه وسلم هَمَّ هَمًّا تَرَكَهُ للهِ، وَلذَلِكَ صَرَفَ اللّهُ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ لِإِخْلَاصِهِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا قَامَ الْمُقْتَضِي لِلذَّنْبِ وَهُوَ الْهَمُّ، وَعَارَضَهُ الْإِخْلَاصُ الْمُوجِبُ لِانْصِرَافِ الْقَلْبِ عَن الذَّنْبِ للهِ.
فَيُوسُفُ عليه السلام لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ إلَّا حَسَنَةٌ يُثَابُ عَلَيْهَا.
وَأمَّا مَا يُنْقَلُ: مِن أَنَّهُ حَلَّ سَرَاوِيلَهُ وَجَلَسَ مَجْلِسَ الرَّجُلِ مِن الْمَرْأةِ، وَأَنَّهُ رَأَى صُورَةَ يَعْقُوبَ عَاضًّا عَلَى يَدِهِ، وَأَمْثَالَ ذَلِكَ فَكُلُّة مِمَّا لَمْ يُخْبِرِ اللهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ، وَمَا لَمْ يَكُن كَذَلِكَ فَإِنَّمَا هوَ مَأْخُوذٌ عَن الْيَهُودِ الَّذِينَ هُم مِن أَعْظَمِ النَّاسِ كَذِبًا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْحًا فِيهِمْ، وَكُلُّ مَن نَقَلَهُ مِن الْمُسْلِمِينَ فَعَنْهُم نَقَلَهُ، لَمْ يَنْقُلْ مِن ذَلِكَ أَحَدٌ عَن نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم حَرْفًا وَاحِدًا.
وَقَوْلُهُ: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف: 53] فَمِن كَلَامِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ كَمَا يَدُلُّ الْقُرْآنُ عَلَى ذَلِكَ دِلَالَةً بَيِّنَةً لَا يَرْتَابُ فِيهَا مَن تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ. [10/ 289 - 298]
(1)
مسلم (128).
1050 -
إنَّ الْمُوجِبَ لِلْغُفْرَانِ مَعَ التَّوْحِيدِ هُوَ التَّوْبَةُ الْمَأمُورُ بِهَا؛ فَإِنَّ الشِّرْكَ لَا يَغْفِرُهُ اللّهُ إلَّا بتَوْبَة؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] فِي مَوْضِعَيْنِ مِن الْقُرْآنِ، وَمَا دُونَ الشِّرْكِ فَهُوَ مَعَ التَّوْبَةِ مَغْفُورٌ؛ وَبِدُونِ التَّوْبَةِ مُعَلَّقٌ بِالْمَشِيئَةِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53]، فَهَذَا فِي حَقِّ التَّائِبِينَ وَلهَذَا عَمَّمَ وَأَطْلَقَ وَحَتَّمَ أَنَّهُ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا.
وَمِن النَّاسِ مَن يَقُولُ: الْغَفْرُ: السَّتْرُ، وَيَقُولُ: إنَّمَا سُمِّيَ الْمَغْفِرَةَ وَالْغَفَّارَ لِمَا فِيهِ مِن مَعْنَى السَّتْرِ، وَتَفْسِيرُ اسْمِ اللهِ الْغَفَّارِ بِأَنَّهُ السَّتَّارُ، وَهَذَا تَقْصِيرٌ فِي مَعْنَى الْغَفْرِ؛ فَإِنَّ الْمَغْفِرَةَ مَغنَاهَا وِقَايَةُ شَرِّ الذَّنْبِ، بِحَيْثُ لَا يُعَاقَبُ عَلَى الذَّنْبِ، فَمَن غُفِرَ ذَنْبُهُ لَمْ يُعَاقَبْ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا مُجَرَّدُ سَتْرِهِ فَقَد يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ، وَمَن عُوقِبَ عَلَى الذَّنْبِ بَاطِنًا أَو ظَاهِرًا فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ.
وَقَد يَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّهُ تَائِبٌ وَلَا يَكُونُ تَائِبًا بَل يَكُونُ تَارِكًا، وَالتَّارِكُ غَيْرُ التَّائِبِ، فَإِنَّهُ قَد يُعْرِضُ عَن الذَّنْبِ لِعَدَمِ خُطُورِهِ بِبَالِهِ، أَو الْمُقْتَضِي لِعَجْزِهِ عَنْهُ، أَو تَنْتَفِي إرَادَتُهُ لَهُ بِسَبَب غَيْرِ دِينِيٍّ، وَهَذَا لَيْسَ بِتَوْبَة؛ بَل لَا بُدَّ مِن أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ سَيِّئَةٌ، وَيَكْرَهَ فِعْلَهُ لِنَهْيِ اللّهِ عَنْهُ وَيَدَعَهُ للّهِ تَعَالَى. [10/ 316]
1051 -
قَوْلُ مَن قَالَ مِن الْعُلَمَاءِ: الِاسْتِغْفَارُ مَعَ الْإِصْرَارِ تَوْبَةُ الْكَذَّابِينَ، فَهَذَا إذَا كَانَ الْمُسْتَغْفِرُ يَقُولُهُ عَلَى وَجْهِ التَّوْبَةِ، أَو يَدَّعِي أَنَّ اسْتِغْفَارَهُ تَوْبَة؛ وَأَنَّه تَائِبٌ بِهَذَا الِاسْتِغْفَارِ، فَلَا ريبَ أَنَّهُ مَعَ الْإِصْرَارِ لَا يَكُونُ تَائِبًا، فَإِنَّ التَّوْبَةَ وَالْإِصْرَارَ ضِدَّانِ، الْإِصْرَارُ يُضَادّ التَّوْبَةَ، لَكِنْ لَا يُضَادُّ الِاسْتِغْفَارَ بِدُونِ التَّوْبَةِ. [10/ 319]
1052 -
التَّوْبَةَ تَصِحُّ مِن ذَنْبٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى ذَنْبٍ آخَرَ إذَا كَانَ الْمُقْتَضِي
لِلتَّوْبَةِ مِن أَحَدِهِمَا أَقْوَى مِن الْمُقْتَضِي لِلتَّوْبَةِ مِن الْآخَرِ، أَو كَانَ الْمَانِعُ مِن أَحَدِهِمَا أَشَدَّ، وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. [10/ 320]
1053 -
التَّوْبَةُ مِن بَعْضِ الذُّنُوبِ دُونَ بَعْضٍ، كَفِعْلِ بَعْضِ الْحَسَنَاتِ الْمَأمُورِ بِهَا دُونَ بَعْضٍ، إذَا لَمْ يَكُن الْمَتْرُوكُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْمَفْعُولِ؛ كَالْإِيمَانِ الْمَشْرُوطِ فِي غَيْرِهِ مِن الْأَعْمَالِ. [10/ 322 - 323]
1054 -
مَن لَهُ ذُنُوبٌ فَتَابَ مِن بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ فَإِنَّ التَّوْبَةَ إنَّمَا تَقْتَضِي مَغْفِرَةَ مَا تَابَ مِنْهُ، أَمَّا مَا لَمْ يَتُبْ مِنْهُ فَهُوَ بَاقٍ فِيهِ عَلَى حُكْمِ مَن لَمْ يَتُبْ، لَا عَلَى حُكمِ مَن تَابَ.
وَمَا عَلِمْت فِي هَذَا نِزَاعًا إلَّا فِي الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ فَإِنَّ إسْلَامَهُ يَتَضَمَّنُ التَّوْبَةَ مِن الْكُفْرِ فَيُغْفَرُ لَهُ بِالْإِسْلَامِ الْكُفْرُ الَّذِي تَابَ مِنْهُ، وَهَل تُغْفَرُ لَهُ الذُّنُوبُ الَّتِي فَعَلَهَا فِي حَالِ الْكُفْرِ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا فِي الْإِسْلَامِ؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ:
(أَحَدُهُمَا) يُغْفَرُ لَهُ الْجَمِيعُ لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "الإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(وَالْقَوْلُ الثَّانِي) أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ بِالْإِسْلَامِ إلَّا مَا تَابَ مِنْهُ؛ فَإِذَا أَسْلَمَ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى كَبَائِرَ دُونَ الْكُفْرِ فَحُكْمُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمُ أَمْثَالِهِ مِن أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأصُولُ وَالنُّصُوصُ. [10/ 323 - 324]
1055 -
"التَّوْبَةُ الْمُطْلَقَةُ": وَهِيَ أَنْ يَتُوبَ تَوْبَةً مُجْمَلَةً وَلَا تُسْتَلْزَمُ التَّوْبَةُ مِن كُلِّ ذَنْبٍ، فَهَذِهِ لَا تُوجِبُ دُخُولَ كُلِّ فَرْدٍ مِن أَفْرَادِ الذُّنُوبِ فِيهَا وَلَا تَمْنَعُ دُخُولَهُ كَاللَّفْظِ الْمُطْلَقِ، لَكِنَّ هَذِهِ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِغُفْرَانِ الْمُعَيَّنِ، كَمَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِغُفْرَانِ الْجَمِيعِ؛ بِخِلَافِ الْعَامَّةِ فَإِنَّهَا مُقتَضِيَة لِلْغُفْرَانِ الْعَامِّ كَمَا تَنَاوَلَتْ الذُّنُوبَ تَنَاوُلًا عَامًّا.
وَكَثِيرٌ مِن النَّاسِ لَا يَسْتَحْضِرُ عِنْدَ التَّوْبَةِ إلَّا بَعْضَ الْمُتَّصِفَاتِ بِالْفَاحِشَةِ أَو مُقَدِّمَاتِهَا، أَو بَعْضَ الظُّلْمِ بِاللِّسَانِ أَو الْيَدِ، وَقَد يَكُونُ مَا تَرَكَهُ مِن الْمَأْمُورِ
الَّذِي يَجِبُ للهِ عَلَيْهِ فِي بَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ مِن شُعَبِ الْإِيمَانِ وَحَقَائِقِهِ أَعْظَمَ ضَرَرًا عَلَيْهِ مِمَّا فَعَلَهُ مِن بَعْضِ الْفَوَاحِشِ، فَإنَّ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ مِن حَقَائِقِ الْإِيمَانِ الَّتِي بِهَا يَصِيرُ الْعَبْدُ مِن الْمُؤمِنِينَ حَقًّا أَعْظَمُ نَفْعًا مِن نَفْعِ تَرْكِ بَعْضِ الذُّنُوبِ الظَّاهِرَةِ كَحُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ؛ فَإِنَّ هَذَا أَعْظَمُ الْحَسَنَاتِ الْفِعْلِيَّةِ حَتَّى ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّهُ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللّهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَد جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: اللَّهُمَّ العَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"لَا تَلْعَنُوهُ، فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللّهَ وَرَسُولَهُ"
(1)
.
فَنَهَى عَن لَعْنِهِ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى الشُّرْبِ لِكوْنِهِ يُحِبُّ اللّهَ وَرَسُولَهُ مَعَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ فِي الْخَمْرِ عَشَرَةً: "لَعَنَ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا"
(2)
.
وَلَكِنَّ لَعْنَ الْمُطْلَقِ لَا يَسْتَلْزِمُ لَعْنَ الْمُعَيَّنِ الَّذِي قَامَ بِهِ مَا يَمْنَعُ لُحُوقَ اللَّعْنَةِ لَهُ.
وَكَذَلِكَ "التَّكفِيرُ الْمُطْلَقُ" و"الْوَعِيدُ الْمُطْلَقُ"، وَلهَذَا كَانَ الْوَعِيدُ الْمُطْلَقُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَشْرُوطًا بِثُبُوتِ شُرُوطٍ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعَ. [10/ 328 - 330]
1056 -
النَّاسُ فِي غَالِب أَحْوَالِهِمْ لَا يَتُوبُونَ تَوْبَةً عَامَّةً، مَعَ حَاجَتِهِمْ إلَى ذَلِكَ، فَاِنَّ التَّوْبَةَ وَاجِبَة عَلَى كُلِّ عَبْدٍ فِي كُل حَالٍ؛ لِأَنَّهُ دَائِمًا يَظْهَرُ لَهُ مَا فَرَّطَ فِيهِ مِن تَرْكِ مَأْمُورٍ، أَوْ مَا اعْتَدَى فِيهِ مِن فِعْلِ مَحْظُورٍ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ دَائِمًا. [10/ 230]
1057 -
قَالَ طاوس: نِعْمَ صَوْمَعَةُ الرَّجُلِ بَيْتُهُ، يَكُفُّ فِيهِ بَصَرَة وَسَمْعَهُ. [10/ 405]
(1)
رواه البخاري (6780).
(2)
أخرجه أبو داود (3674)، وابن ماجه (3380)، والترمذي (1295).
1058 -
الذُّنُوبُ إنَّمَا تَقَعُ إذَا كَانَت النَّفْسُ غَيْرَ مُمْتَثِلَةٍ لِمَا أُمِرَتْ بِهِ، وَمَعَ امْتِثَالِ الْمَأْمُورِ لَا تَفْعَلُ الْمَحْظُورَ، فَإِنَّهُمَا ضِدَّانِ. قَالَ تَعَالَى:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]
(1)
.
فَعِبَادُ اللّهِ الْمُخْلِصُونَ لَا يُغْوِيهِمْ الشَّيْطَانُ، وَالْغَيُّ خِلَافُ الرُّشْدِ وَهُوَ اتِّبُاعُ الْهَوَى.
فَمَن مَالَتْ نَفْسُهُ إلَى مُحَرَّمٍ فَلْيَأتِ بِعِبَادَةِ اللّهِ كَمَا أَمَرَ اللهُ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَصْرِفُ عَنْة السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ. [10/ 636]
1059 -
إِذَا اجْتَهَدَ الإنسانُ وَالسْتَعَانَ بِاللهِ تَعَالَى وَلَازَمَ الِاسْتِغْفَارَ وَالِاجْتِهَادَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ مِن فَضْلِهِ مَا لَمْ يَخْطُرْ بِبَال، وَإِذَا رَأَى أَنَّهُ لَا يَنْشَرِحُ صَدْرُهُ، وَلَا يَحْصُلُ لَهُ حَلَاوَةُ الْإِيمَانِ وَنُورُ الْهِدَايَةِ، فَلْيُكْثِر التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ، وَلْيُلَازِم الِاجْتِهَادَ بِحَسَبِ الْاِمْكَانِ، فَإِنَّ اللّهَ يَقُولُ:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، وَعَلَيْهِ بِإِقَامَةِ الْفَرَائِضِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَلُزُومِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ مُسْتَعِينًا بِاللّهِ، مُتَبَرِّئًا مِن الْحَوْلِ وَالْمُوَّةِ إِلَّا بِهِ. [11/ 390]
1060 -
يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الشُّيُوخَ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِم فِي الدِّينِ هُم الْمُتَّبِعُونَ لِطَرِيقِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ؛ كَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلينَ مِن الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ
(2)
، وَمَن لَهُ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ
(3)
.
وَطَرِيقَةُ هَؤُلَاءِ دَعْوَةُ الْخَلْقِ إلَى اللّهِ وَإِلَى طَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، وَاتِّبَاعِ كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم
(4)
. [11/ 497]
(1)
فحينما امتلأ قلبه بالإخلاص وهو أعظم الأعمال الصالحة صرف عنه السوء والفحشاء.
(2)
خرج بهذا المبتدعةُ وأهل الأهواء.
(3)
خرج بهذا من ليس له قبول عند الصالحين من أهل السُّنَّة والجماعة.
(4)
خرج بهذا من يدعو الناس لغير هذا، كان يدعوهم إلى البدعة، أو إلى حسن التعامل، أو إلى الأفكار السياسية أو الحزبية، ونحو ذلك، فهؤلاء لا يُقتدى بهم، وإن كان في بعضهم نفعٌ في بعض النواحي، فيُستفاد منه ما ينفع، لكن لا يُتخذ قدوةً للمسلمين.
1061 -
إِذَا تَابَ الْعَبْدُ وَأَخْرَجَ مِن مَالِهِ صَدَقَةً لِلتَّطَهُّرِ مِن ذَنْبِهِ: كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا مَشْرُوعًا.
وَأمَّا أَنْ يَجْعَلَ مِن جُمْلَةِ التَّوْبَةِ صَنْعَةَ طَعَامٍ وَدَعْوَةً فَهَذَا بِدْعَةٌ، فَمَا زَالَ النَّاسُ يَتُوبُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ مِن غَيْرِ هَذِهِ الْبِدْعَةِ. [11/ 552 - 553]
1062 -
التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ يَكونُ مِن تَرْكِ مَأْمُورٍ وَمِن فِعْلِ مَحْظُورٍ، فَإنَّ كِلَاهُمَا مِن السَّيِّئَاتِ وَالْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ.
فَإِنَّ جِنْسَ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ أَعْظَمُ مِن جِنْسِ فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ، إذ قَد يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ تَرْكُ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ، وَمَن أَتَى بِالْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ لَمْ يُخَلَّدْ فِي النَّارِ وَلَو فَعَلَ مَا فَعَلَ، وَمَن لَمْ يَأتِ بِالْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ كَانَ مخَلَّدًا وَلَو كَانَت ذُنُوبُهُ مِن جِهَةِ الْأَفْعَالِ قَلِيلَةً. [11/ 671]
1063 -
تَوْبَةُ الْإِنْسَانِ مِن حَسَنَاتِهِ عَلَى أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَتُوبَ وَيَسْتَغْفِرَ مِن تَقْصِيرِهِ فِيهَا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَتُوبَ مِمَّا كَانَ يَظُنُّهُ حَسَنَاتٍ وَلَمْ يَكُنْ؛ كَحَالِ أَهْلِ الْبِدَعِ.
وَالثَّالِثُ: يَتُوبُ مِن إعْجَابِهِ وَرُؤْيَتِهِ أنَّهُ فَعَلَهَا وَأَنَّهَا حَصَلَتْ بِقُوَّتِهِ وَيَنْسَى فَضْلَ اللهِ وَإِحْسَانَهُ وَأَنَّهُ هُوَ الْمُنْعِمُ بِهَا وَهَذِهِ تَوْبَةٌ مِن فِعْلٍ مَذْمُومٍ وَتَرْكِ مَأْمُورٍ
(1)
.
وَلِهَذَا قِيلَ: تَخْلِيصُ الْأَعْمَالِ مِمَّا يُفْسِدُهَا أَشَدُّ عَلَى الْعَامِلِينَ مِن طُولِ الِاجْتِهَادِ.
(1)
الرياء والعجب داءان عظيمان يجب الحذر والابتعاد عنهما بالدعاء والتضرع إلى الله عز وجل، وبعض الناس قد يقع في العجب وهو لا يشعر، فيقول - بلسان حاله -: أنا أفضل من غيري أو من فلان، أنا أصلي الليل وغيري نائم، أنا أصوم النفل وغيري لا يصوم، إلى غير ذلك من صور الإعجاب بالعمل، وهل ضمن هذا المُعجَبُ المسكينُ أنَّ الله قبل عمله؟
وقد انصرف عن الثناء على الله تعالى ورُؤيةِ مِنَّتِهِ، إلى الثناء على النفس التي لا فضل لها، والعجب يتعارض مع الانكسار والتذلل لله عز وجل.
وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ احْتِيَاجَ النَّاسِ إلَى التَّوْبَةِ دَائِمًا.
وَلهَذَا قِيلَ: هِيَ مَقَامٌ يَسْتَصْحِبُهُ الْعَبْدُ مِن أَوَّلِ مَا يَدْخُلُ فِيهِ إلَى آخِرِ غمُرِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْهُ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ.
فَجَمِيعُ الْخَلْقِ عَلَيْهِم أَنْ يَتُوبُوا وَأَنْ يَسْتَدِيمُوا التَّوْبَةَ.
وَقَد خَتَمَ اللهُ "سُورَةَ الْمُزَّمِّلِ" وَفِيهَا قِيَامُ اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20]، كَمَا خَتَمَ بِذَلِكَ "سُورَةَ الْمُدَّثّرِ" بِقَوْلِهِ:{هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر: 56]، فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَهْلُ التَّقْوَى وَلَمْ يَقُلْ سُبْحَانَهُ أَهْلٌ لِلتَّقْوَى؛ بَل قَالَ:{أَهْلُ التَّقْوَى}
(1)
، فَهُوَ وَحْدَهُ أَهْل أَنْ يُتَّقَى فَيُعْبَدُ دُونَ مَا سِوَاهُ، وَلَا يَسْتَحِقُّ غَيْرُة أَنْ يُتَّقَى كَمَا قَالَ:{وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)} [النحل: 52]. [11/ 686 - 690]
1064 -
الِاسْتِغْفَارُ يُخْرِجُ الْعَبْدَ مِن الْفِعْلِ الْمَكْرُوهِ إلَى الْفِعْلِ الْمَحْبُوبِ، ومِنْ
(2)
الْعَمَلِ النَّاقِصِ إلَى الْعَمَلِ التَّامِّ، وَيَرْفَعُ الْعَبْدَ مِن الْمَقَامِ الْأَدْنَى إلَى الْأَعْلَى مِنْهُ وَالْأَكْمَلِ؛ فَإِنَّ الْعَابِدَ للّهِ وَالْعَارِفَ بِاللّهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ؛ بَل فِي كُلِّ سَاعَةٍ؛ بَل فِي كُلِّ لَحْظَةٍ، يَزْدَادُ عِلْمًا بِاللهِ وَبَصِيرَةً فِي دِينِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ، بِحَيْثُ يَجِدُ ذَلِكَ فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَنَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ وَقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، وَيَرَى تَقْصِيرَهُ فِي حُضُورِ قَلْبِهِ فِي الْمَقَامَاتِ الْعَالِيَةِ، وَإِعْطَائِهَا حَقَّهَا، فَهُوَ يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِغْفَارِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ؛ بَل هُوَ مُضْطَرٌّ إلَيْهِ دَائِمًا فِي الْأَقْوَالِ وَالْأحْوَالِ، فِي الغوائب وَالْمَشَاهِدِ؛ لِمَا فِيهِ مِن الْمَصَالِحِ وَجَلْبِ الْخَيْرَاتِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّاتِ، وَطَلَبِ الزِّيَادَةِ فِي الْقُوَّةِ فِي الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ الْيَقِينِيَّةِ الْإِيمَانِيَّةِ.
فَشَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللّهُ بِصِدْقٍ وَيقِينٍ تُذْهِبُ الشِّرْكَ كُلَّهُ، دِقَّهُ وَجِلَّهُ،
(1)
فإذا قلت: فلان أهلٌ للكرم، فهذا ليس فيه كمال المدح له، وليس هو أكرمهم، ولكن إذا قلت: هو أهل الكرم، فقد بالغت في مدحه، حيث جعلت الكرم مُختصًّا به.
(2)
في الأصل وجميع المصادر: (من)، ولعل المثبت هو الصواب؛ ليستقيم المعنى.
خَطَأَهُ وَعَمْدَهُ، أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، سِرَّهُ وَعَلَانِيَتَهُ، وَتَأْتِي عَلَى جَمِيعِ صِفَاتِهِ وَخَفَايَاهُ وَدَقَائِقِهِ.
وَالِاسْتِغْفَارُ يَمْحُو مَا بَقِيَ مِن عَثَرَاتِهِ، وَيَمْحُو الذَّنْبَ الَّذِي هوَ مِن شُعَبِ الشِّرْكِ، فَإِنَّ الذُّنُوبَ كُلَّهَا مِن شُعَبِ الشِّرْكِ.
فَالتَوْحِيدُ يُذْهِبُ أَصْلَ الشِّرْكِ، وَالِاسْتِغْفَارُ يَمْحُو فُرُوعَهُ، فَأَبْلَغُ الثَّنَاءِ قَوْلُ: لَا إلَهَ إلَّا اللّهُ، وَأَبْلَغُ الدُّعَاءِ قَوْلُ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ. [11/ 696 - 697]
1065 -
التَّائِب مِن الذَّنْبِ كَمَن لَا ذَنْبَ لَهُ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ:"لَا كبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ الإِصْرَارِ"
(1)
.
فَإِذَا أَصَرَّ عَلَى الصَّغِيرَةِ صَارَتْ كَبِيرَةً
(2)
. [11/ 699]
(1)
من حديث ابن عباس، وقد ضعَّفه الألباني رحمه الله في السلسلة الضعيفة (4810).
وقال الذهبي عنه في الميزان: خبر منكر، كما ضعفه العراقي في تخريج الإحياء والسخاوي في المقاصد الحسنة وابن رجب في جامع العلوم والحكم.
(2)
هذا بناءً عليم صحة الحديث، وقد يُستدل لذلك بما ثبت عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:"إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوب، فَإِنَّهُنَ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ".
وقد ذهب بعضَ العلماء إلى أن الإصرار على الصغيرة لا يصيرها كبيرة، واحتجوا بالنصوص الْمُفَرِّقَةِ بين الكبائر والصغائر، كقوله تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)} [النساء: 31]، وكقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم (223) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر".
قال الشوكاني: "وَقَد قِيلَ: إِنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى الصَّغِيرَةِ حُكْمُهُ حُكْمُ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ، وَلَيْسَ عَلَى هَذَا دَلِيلٌ يَصْلُحُ لِلتَّمَسُّكِ بِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ مَقَالَةٌ لِبَعْضِ الصُّوفِيَّةِ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا صَغِيرَةَ مَعَ إِصْرَارٍ. وَقَد رَوَى بَعْضُ مَن لَا يَعْرِفُ عِلْمَ الرِّوَايَةِ هَذَا اللَّفْظَ وَجَعَلَهُ حَدِيثًا وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ، بَلِ الْحَقُّ أَنَّ الْإصْرَارَ حُكْمُهُ حُكْمُ مَا أَصَرَّ عَلَيْهِ فَالْإِصْرَارُ عَلَى الصَّغِيرَةِ صَغِيرَةٌ وَالْإِصْرَارُ عَلَى الْكَبِيرَةِ كَبِيرَةٌ". اهـ. إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول (146).
والذي يظهر لي رجحان هذا القول، وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فهو ضعيف كما تقدَّم، وعلى فرض صحته فهو محمول على أنَّ الاصرار هو استدامة غير المبالي بحرمات الله، ولا المعظم لأمره ونهيه، وهذا لا ريب أنه من كبائر ذنوب القلوب.
وأما حديث: "إياكم ومحقرات الذنوب"؛ فالمقصود بها الذنوب التي يحتقرها صاحبُها، ولا يُبالي بما ارتكبه منها. =
1066 -
إذَا أَسْلَمَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا غُفِرَ لَهُ الْكُفْرُ الَّذِي تَابَ مِنْهُ بِالْإِسْلَامِ بِلَا نِزَاعٍ.
وَأَمَّا الذُّنُوبُ الَّتِي لَمْ يَتُبْ مِنْهَا مِثْلُ: أَنْ يَكُون
(1)
مُصِرًّا عَلَى ذَنْبٍ أَو ظُلْمٍ أَو فَاحِشَةٍ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا بِالْإِسْلَامِ، فَقَد قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّهُ يُغْفَرُ لَهُ بِالإِسْلَامِ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ إنَّمَا يُغْفَرُ لَة مَا تَابَ مِنْهُ. [11/ 701]
1067 -
لَيْسَ شَيْءٌ يُبْطِلُ جَمِيعَ السَّيِّئَاتِ إلَّا التَّوْبَةُ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ شَيءٌ يُبْطِلُ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ إلَّا الرِّدةُ. [12/ 483، 10/ 322]
1068 -
فِي "الصَّحِيحِ"
(2)
أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّهُ ليغان عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ"، وَالْغَيْنُ: حِجَابٌ رَقِيقٌ أَرَقُّ مِن الْغَيْمِ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَسْتَغْفِرُ اللّهَ اسْتِغْفَارًا يُزِيلُ الْغَيْنَ عَن الْقَلْبِ فَلَا يَصِيرُ نُكْتَةً سَوْدَاءَ، كَمَا أَنَّ النكْتَةَ السَّوْدَاءَ إذَا أزِيلَتْ لَا تَصِيرُ رَيْنًا. [15/ 283]
1069 -
تَرْكُ السَّيّئَاتِ مُسْتَلْزِمٌ لِفِعْلِ الْحَسَنَاتِ؛ إذِ الْإِنْسَانُ حَارِثٌ هُمَامٌ، وَلَا يَدَع إرَادَةَ السَّيِّئَاتِ وَفِعْلَهَا إلَّا بِإِرَادَةِ الْحَسَنَاتِ وَفِعْلِهَا؛ إذِ النَّفْسُ لَا تَخْلُو عَنِ الْإِرَادَتَيْنِ جَمِيعًا؛ بَلِ الْإِنْسَانُ بِالطَّبْعِ مُرِيدٌ فَعَّالٌ.
1070 -
التَّوْبَة النَّصُوحُ: هِيَ الْخَالِصَةُ مِن كُلٍّ غِشٍّ، وَإِذَا كَانَت كَذَلِكَ كَائِنَةً فَإِنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا يَعُودُ إلَى الذَّنْبِ لِبَقَايَا فِي نَفْسِهِ، فَمَن خَرَجَ مِن قَلْبِهِ الشُّبْهَةُ وَالشَّهْوَةُ لَمْ يَعُدْ إلَى الذَّنْبِ، فَهَذ التَّوْبَةُ النَّصُوحُ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ بِمَا أَمَرَ اللّهُ تَعَالَى. [16/ 58]
1071 -
إنْ تَابَ [أي: العبدُ] عَن ذُنُوبِهِ تَوْبَةً نَصُوحًا: فَإِنَّ اللهَ يَغْفِرُ لَهُ وَلَا يَحْرِمُهُ مَا كَانَ وَعَدَهُ؛ بَل يُعْطِيه ذَلِكَ.
= وأما الْإِصْرَارُ عَلَى الصَّغِيرَةِ لغلبة الشهوة ونحو ذلك، مع خوف العقوبة، والاعتراف بالذنب: فليس كبيرة، والله أعلم.
(1)
في الأصل: (يَكُن)، ولعل المثبت هو الصواب؛ لعدم وجود الأداة الجازمة للفعل.
(2)
رواه مسلم (2702).
وَإِن لَمْ يَتُبْ: وُزِنَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ:
- فَإِنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ كَانَ مَن أَهْلِ الثَّوَابِ.
- وَإِن رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ كَانَ مَن أَهْلِ الْعَذَابِ.
وَمَا أُعِدَّ لَهُ
(1)
مِن الثَّوَابِ يُحْبَطُ حِينَئِذٍ بِالسَّيِّئَاتِ الَّتِي زَادَتْ عَلَى حَسَنَاتِهِ
(2)
.
كَمَا أَنَّهُ إذَا عَمِلَ سَيئاتٍ اسْتَحَقَّ بِهَا النَّارَ ثُمَّ عَمِلَ بَعْدَهَا حَسَنَاتٍ: تَذْهَبُ السَّيِّئَاتُ
(3)
. [4/ 308]
1072 -
إن "الغلاة" يتوهمون أنَّ الذنب إذا صدر من العبد كان نقصًا في حقه لا ينجبر، حتى يجعلوا من لم يسجد لصنم أفضل منه، وهذا جهل؛ فإن المهاجرين والأنصار الذين هم أفضل هذه الأمة هم أفضل من أولادهم وغير أولادهم ممن ولد على الإسلام، وإن كانوا في أول الأمر كفار يعبدون الأصنام؛ بل المنتقل من الضلال إلى الهدى يضاعف له الثواب كما قال تعالى:{فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70]؛ فاللّه سبحانه أفرح بتوبة عبده من الذي طلب راحلته في الأرض المهلكة ثم وجدها، فإذا كانت التوبة بهذه المثابة كيف لا يكون صاحبها معظمًا؟
وقد وصف الإنسان بالظلم والجهل، وجعل الفرق بين المؤمن والكافر والمنافق أن المؤمن يتوب فيتوب اللّه عليه إذ لم يكن له بد من الجهل فقال تعالى:{وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 73]، و"كُلُّ بَنِي آدَمَ
(1)
أي: الذي رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ.
(2)
دليل ذلك مفهومُ قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} .
(3)
دليل ذلك منطوقُ قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} ، وفي الصحيحين: البخاري (526)، ومسلم (2763)، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنِ امْرَأَةٍ قُبْلَة، فأتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] فَقَالَ الرَّجُلُ: أَلِيَّ هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "لِجَمِيعِ أُمَّتِي كُلِّهِمْ".
خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ"
(1)
. [المستدرك 1/ 209]
1073 -
كلما ازدادت معرفة الإنسان بالنفوس ولوازمها وتقلب القلوب وبما عليها من الحقوق للّه ولعباده، وبما حدَّ لهم من الحدود علم أنه لا يخلو أحد من ترك بعض الحقوق وتعدي بعض الحدود ولهذا أمر الله عباده أن يسألوه أن يهديهم الصراط المستقيم في اليوم والليلة في المكتوبة وحدها سبع عشرة مرة، وهو صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ومن يطع اللّه ورسوله فهو مع هؤلاء. [المستدرك 1/ 211]
1074 -
كان المشايخ يقرنون بين هذه الثلاثة:
أ - الشكر لما مضى من إحسان ربه.
ب - والاستغفار لما تقدم من إساءة العبد إلى نفسه.
ج - والاستعانة لما يستقبله العبد من أموره.
فلا بدَّ لكلِّ عبد من الثلاثة.
فقوله: "الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره" يتناول ذلك، فمن قصر في واحد منها فقد ظلم نفسه بحسب تقصيره. [المستدرك 1/ 212]
1075 -
قول القائل: ما مفهوم قول الصديق رضي الله عنه: "ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا"
(2)
والدعاء بين يدي اللّه لا يحتمل المجاز، والصديق رضي الله عنه من أئمة التابعين
(3)
، والرسول صلى الله عليه وسلم أمره بذلك: هل كان له نازلة شبهة؟ إن قال: كان
(1)
رواه الترمذي (2499)، وابن ماجة (4251)، والدارمي (2769)، وأحمد (13049)، وحسَّنه الألباني في صحيح الترمذي.
ومرجع ذلك إلى الصدق والهمة، فقد تجد من ابتلي بالمعاصي والذنوب، يتوب ويُنيب، ويصدق في توبته، ويطلب العلم ويدعو إلى الله تعالى، ويبذل وسعه في نشر دين الإسلام: فيكون أسبق وأفضل من طالب علم نشأ على الطاعة والفطرة السوية، لكنه أقل نشاطًا وحماسًا وصدقًا من الأول.
(2)
رواه البخاري (834).
(3)
هكذا في مختصر الفتاوى المصرية (1/ 112)، ولم يتعقبها الجامع، وفي جامع المسائل (4/ 53):(السابقين) وهو أصوب.
الصديق رضي الله عنه أجلّ قدرًا من أن يكون له ذنوب تكون ظلمًا كثيرًا فإن ذلك ينافي الصديقية. وهذه الشبهة تزول بوجهين:
أحدهمأ أن الصديق رضي الله عنه؛ بل والنبي صلى الله عليه وسلم إنما كملت مرتبته وانتهت درجته وتم علو منزلته في نهايته لا في بدايته، وإنما نال ذلك بفعل ما أمر اللّه به من الأعمال الصالحة وأفضلها التوبة، وما وجد قبل التوبة فإنه لم ينقص صاحبه، ولا يتصور أن بشرًا يستغني عن التوبة كما في الحديث:"يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إلى الله في اليوم أكثر من سبعين مرة"
(1)
، "وإنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم مائة"
(2)
، وكذلك قوله:"اللَّهُمَّ اغفر لي خطئي وجهلي وعمدي وكل ذلك عندي"
(3)
فيه من الاعتراف أعظم ما في دعاء الصديق رضي الله عنه، والصديقون رضي الله عنهم تجوز عليهم جميع الذنوب باتفاق الأئمة
(4)
. [المستدرك 1/ 213]
1076 -
الأشياء وجهان:
أ - منها: ما جعل بسبب من العبد يوفيه عمله.
ب - ومنه: ما يفعله بدون ذلك السبب فلا حاجة لسؤاله إحسانًا إليه.
واستعمال لفظ: "من عندك"
(5)
في هذا المعنى مناسب دون تخصيص لبعض الناس دون بعض؛ فإن قوله: "من عندك" دلالته على الأول أبين؛ ولهذا يقول الرجل لمن يطلب منه: أعطني من عندك لما يطلبه منه بغير سبب، بخلاف ما يطلبه من الحقوق التي عليه كالدين والنفقة الواجبة فلا يقال فيه:"من عندك". [المستدرك 1/ 216]
(1)
رواه البخاري (6307).
(2)
رواه مسلم (2702).
(3)
رواه البخاري (6398)، ومسلم (2719).
(4)
لم يذكر الوجه الثاني.
(5)
كما في قوله: "فاغفر لي مغفرة من عندك".
1077 -
قال ابن القيم: سألت شيخ الإسلام عن معنى قول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ طهرني من خطاياي بالماء والثلج والبرد"
(1)
: كيف يطهر الخطايا بذلك؟ وما فائدة التخصيص بذلك؟ وقوله في لفظ آخر: "والماء البارد"
(2)
والحار أبلغ في الإنقاء.
فقال: الخطايا توجب للقلب حرارة ونجاسة وضعفًا فيرتخي القلب وتضطرم فيه نار الشهوة وتنجسه؛ فإن الخطايا والذنوب له بمنزلة الحطب الذي يمد النار ويوقدها، ولهذا كلما كثرت الخطايا اشتدت نار القلب وضَعْفُه، والماء يغسل الخبث، ويطفي النار؛ فإن كان باردًا أورث الجسم صلابة وقوة، فإن كان معه ثلج وبرد كان أقوى في التبريد وصلابة الجسم وشدته، فكان أذهب لأثر الخطايا. [المستدرك 1/ 218]
1078 -
"إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إِلَّا اللّه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله"
(3)
الحديث: لما كانت كلمة الشهادة لا يتحملها أحد عن أحد، ولا تقبل النيابة بحال أفرد الشهادة بها. ولما كانت الاستعانة والاستعاذة والاستغفار يقبل ذلك فيستغفر الرجل لغيره ويستعين الله له ويستعيذ بالله له أتى فيها بلفظ الجمع، ولهذا يقول: اللَّهُمَّ أعنا، وأعذنا، واغفر لنا. [المستدرك 1/ 219]
1079 -
في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي قال في آخره عن اللّه تعالى: "قد غفرت لعبدي فليعمل ما يشاء"
(4)
هذا الحديث لم يجعله النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم
(1)
رواه البخاري (744)، بلفظ: "اللَّهُمَّ اغسل خطاياي
…
" الحديث.
(2)
رواه مسلم (476).
(3)
رواه مسلم (868).
(4)
رواه البخاري (7507)، ومسلم (2758) من حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ عَبْدًا أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ فَاغْفِرْ لِي، فَقَالَ رَبُّهُ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاء اللهُ ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ آخَرَ =
عامًّا في كل ذنب من كل من أذنب وتاب وعاد، وإنما ذكره حكاية حال عن عبد كان منه ذلك، فأفاد أن العبد قد يعمل من الحسنات العظيمة ما يوجب غفران ما تأخر من ذنوبه، وإن غفر له بأسباب أخر.
وهذا مثل حديث حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه الذي قال فيه لعمر: "وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم ففد غفرت لكم"
(1)
وما جاء أن غلام حاطب شكاه فقال: والله يا رسول اللّه ليدخلن حاطب النار، فقال:"كذبت، إنه شهد بدرًا والحديبية"
(2)
.
ففي هذه الأحاديث بيان أن المؤمن قد يعمل من الحسنات ما يغفر له بها ما تأخر من ذنبه، وإن غفر بأسباب غيرها، ويدل على أنه يموت مؤمنًا، ويكون من أهل الجنة، وإذا وقع منه ذنب يتوب اللّه عليه كما تاب على بعض البدريين؛ كقدامة بن عبد اللّه رضي الله عنه لما شرب الخمر متأولًا، واستتَابَه عمرُ رضي الله عنه وأصحابه رضي الله عنهم وجلدوه، وطهر بالحد والتوبة، وإن كان ممن قيل لهم:"اعملوا ما شئتم".
ومغفرة اللّه لعبده لا تنافي أن تكون المغفرة بأسبابها، ولا تمنع أن تصدر منه توبة؛ إذ مغفرة الله لعبده مقتضاها ألا يعذبه بعد الموت، وهو سبحانه يعلم الأشياء على ما هي عليه، فإذا علم من العبد أنه سيتوب أو يعمل حسنات ماحية غفر له في نفس الأمر؛ إذ لا فرق بين من يحكم له بالمغفرة أو بدخوله الجنة.
ومعلوم أن بشارته صلى الله عليه وسلم بالجنة إنما هي لعلمة بما يموت عليه الْمُبَشَّر ولا يمنع أن يعمل سببها.
= فَاغْفِرْهُ؟ فَقَالَ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا، قَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ ذَنْبًا آخَرَ، فَاغْفِرْهُ لِي، فَقَالَ: أعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ثَلَاثًا، فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ".
(1)
رواه البخاري (3007)، ومسلم (2494).
(2)
رواه مسلم (2495).
وعلم اللّه بالأشياء وآثارها لا ينافي ما علّقها عليه من الأسباب، كما أخبر أن:"ما منكم من أحد إِلَّا وقد كتب مقعده من الجنة أو النار"
(1)
، ومع ذلك قال:"اعملوا فكل ميسر لما خلق له"
(2)
، ولأن من أخبره أنه ينتصر على عدوه لا يمنع أن يأخذ أسبابه ولا من أخبره أنه يكون له ولد لا يمنع أن يتزوج أو يتسرى. وكذا من أخبره بالمغفرة أو الجنة لا يمنع أن يأخذ بسبب ذلك مريدًا للآخرة وساعيًا لها سعيها.
ومن كرر التوبة مرات واسترسل في الذنوب وتعلق بهذا الحديث كان مخدوعًا مغرورًا من وجهين:
أحدها: ظنه أن الحديث عام في حقِّ كل تائب، وإنما هو حكاية حال، فيدل على أنَّ مِن عباد اللّه من هو كذلك.
والثاني: أن هذا لا يقتضي أن يغفر له بدون أسباب المغفرة كما قدمنا.
ومن كرر التوبة المذكورة والعود للذنب لا يُجزم له أنه قد دخل في معنى هذا الحديث، وأنه قد يعمل بعد ذلك ما شاء، لا يُرجى له أن يكون من أهل الوعد، ولا يُجزم لمعينٍ بهذا الحكم، كما لا يُجزم في حق معين بالوعيد كسائر نصوص الوعد والوعيد؛ فإن هذا كقوله: من فعل كذا دخل الجنة ومن فعل كذا دخل النار، لا يجزم لمعين.
والحسنة الواحدة قد يقترن بها من الصدق واليقين ما يجعلها تكفِّر الكبائر؛ كالحديث الذي في صاحب البطاقة الذي ينشر له تسعة وتسعون سجلًا كل سجل منها مد البصر، ويؤتى ببطاقة فيها كلمة: لا إله إِلَّا الله فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة فثقلت البطاقة وطاشت السجلات، وذلك لعظم ما في قلبه من الإيمان واليقين، وإلا فلو كان كل من نطق بهذه الكلمة تكفَّر خطاياه لم يدخل النار من أهل الكبائر المؤمنين؛ بل والمنافقين أحد، وهذا خلاف ما تواترت به الآيات والسنن.
(1)
رواه البخاري (4945).
(2)
رواه البخاري (4949)، ومسلم (2647).
كما أنه قد يقترن بالسيئة من الاستخفاف والإصرار ما يعظمها، فلهذا وجب التوقف في المعين، فلا يقطع بجنة ولا نار إِلَّا ببياني من اللّه، لكن يرجى للمحسن ويخاف على المسيء.
وليس كل من تكلم بالشهادتين كان بهذه المنزلة؛ لأن هذا العبد صاحب البطاقة كان في قلبه من التوحيد واليقين والإخلاص ما أوجب أن عظم قدره حتى صار راجحًا على هذه السيئات.
ومن أجل ذلك صار المُدُّ من الصحابة رضي الله عنهم أفضل من مثل جبل أحد ذهبًا من غيرهم.
ومن ذلك حديث البغيّ التي سقت كلبًا فغفر لها؛ فلا يقال في كل بغي سقت كلبًا غفر لها؛ لأن هذه البغي قد حصل لها من الصدق والإخلاص والرحمة بخلق الله ما عادل إثم البغي وزاد عليه ما أوجب المغفرة، والمغفرة تحصل بما يحصل في القلب من الإيمان الذي يعلم الله وحده مقداره وصفته.
وهذا يفتح باب العمل، ويجتهد به العبد أن يأتي بهذه الأعمال وأمثالها من موجبات الرحمة وعزائم المغفرة، ويكون مع ذلك بين الخوف والرجاء، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)} [المؤمنون: 60]. [المستدرك 1/ 221 - 225، 1/ 79]
1080 -
الدَّلَائِلُ عَلَى أَنَّ الْمَصَائِبَ كَفَّارَاتٌ كَثِيرَةٌ، إذَا صَبَرَ عَلَيْهَا أُثِيبَ عَلَى صَبْرِهِ؛ فَالثَّوَابُ وَالْجَزَاءُ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْعَمَلِ - وَهُوَ الصَّبْرُ -، وَأَمَّا نَفْسُ الْمُصِيبَةِ فَهِيَ مِن فِعْلِ اللهِ، لَا مِن فِعْلِ الْعَبْدِ، وَهِيَ مِن جَزَاءِ اللّهِ لِلْعَبْدِ عَلَى ذَنْبِهِ وَتَكْفِيرِهِ ذَنْبَهُ بِهَا.
وَفِي الْمُسْنَدِ أَنَّهُم دَخَلُوا عَلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَهُوَ مَرِيضٌ فَذَكَرُوا أَنَّهُ يُؤجَرُ عَلَى مَرَضِهِ فَقَالَ: "مَا لِي مِن الْأَجْرِ وَلَا مِثْلُ هَذِهِ، وَلَكِنَّ الْمَصَائِبَ حِطَّةٌ".
فَبَيَّنَ لَهُم أَبُو عُبَيْدَةَ رضي الله عنه أَنَّ نَفْسَ الْمَرَضِ لَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ؛ بَل يُكَفَّرُ بِهِ عَن خَطَايَاهُ.
وَكَثِيرًا مَا يُفْهَمُ مِن الْأجْرِ غُفْرَانُ الذُّنُوبِ، فَيَكُونُ فِيهِ أَجْرٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. [30/ 363 - 364]
* * *
(التوبة العامة، والتوبة المجملة)
1081 -
من تاب توبة عامّة كانت هذه التوبة مقتضية لغفران الذنوب كلها؛ إِلَّا أن يعارض هذا العام معارض يوجب التخصيص؛ مثل أن يكون بعض الذنوب لو استحضره لم يتب منه لقوة إرادته إياه، أو لاعتقاده أنه حسن، وتصح من بعض ذنوبه في الأصح. [المستدرك 1/ 145]
* * *
(التوبة النصوح)
1082 -
التائب إذا كانت نيته خالصة محضة لم يشبها قصد آخر فإنه لا يعود إلى الذنب؛ فإنه إنما يعود لبقايا غش كانت في نفسه.
والاستقراء يدل على أنه إذا دخلت الإيمان إلى القلب لم يرجع عنه؛ ولكن قد يحصل له اضطراب، ويُلقي الشيطان في قلبه وساوس وخطرات ويوجِدُ فيه همًّا، وأمثال ذلك، كما شكى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فقالوا: إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حممة أو يخر من السماء أحب إليه من أن يتكلم به. فقال: "أوقد وجدتموه"؟ فقالوا: نعم. فقال: "ذلك صريح الايمان"
(1)
. وقال: "الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة" والحديث في مسلم
(2)
. فكراهة هذه الوساوس هي صريح الإيمان.
(1)
رواه مسلم (132)، وقد أثبت لفظه.
(2)
لم أجده عند مسلم، وهو عند أبي داود (5112)، وأحمد (2097)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.
والتائب في نفسه مع الهمِّ والوساوس والميل مع كراهته لذلك، ويقول في قلبه ما لا يخرجه ذلك عن كونه توبة نصوحًا. قال الإمام أحمد: الهمُّ همان: همُّ خطرات، وهمُّ إصرار؛ وكان همُّ يوسف همُّ خطرات، فترك ما همَّ به لله، فكتبه اللّه له حسنة ولم يكتب عليه سيئة، وكان همُّ امرأة العزيز همَّ إصرار فكذبت، وأرادت، وظلمت لأجل مرادها. [المستدرك 1/ 149]
* * *
(العزم الجازم هل يؤخذ به بدون العمل)
1083 -
تنازع الناس في العزم الجازم هل يؤخذ به بدون العمل؟ على قولين.
والصواب: أن العزم الجازم متى اقترن به القدرة والإرادة فلا بد من وجود العمل، فإذا كان العازم قادرًا ولم يفعل ما عزم عليه فليس عزمه جازمًا، فيكون من باب الهمِّ الذي لا يأخذ اللّه به، ولهذا من عزم على معصية فعل مقدماتها ولو أنه يخطو خطوة برجله أو ينظر نظرة بعينه فإذا عجز عن إتمام مقصوده بها يعاقب؛ لأنه فعل ما يقدر عليه وترك ما عجز عنه. [المستدرك 1/ 149 - 150]
* * *
(تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على آخر)
1084 -
تصحُّ التوبة من ذنبٍ مع الإصرار على آخر، إذا كان المقتضي للتوبة منه أقوى من المقتضي للتوبة من الآخر، أو كان المانع من أحدهما أشد. هذا هو المعروف عن السلف والخلف. [المستدرك 1/ 150]
* * *
(معنى حجز التوبة من المبتدع)
1085 -
قال المروذي: سئل أحمد رضي الله عنه عما روي عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "أن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ
احتجز التوبة عن صاحب بدعة"
(1)
وحجز التوبة أي شيء معناه؟ قال أحمد: لا يوفق ولا ييسر صاحب بدعة لتوبة، وقال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآية:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]، فقال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:"هم أهل البدع والأهواء ليست لهم توبة".
قال الشيخ تقي الدين: لأن اعتقاده لذلك يدعوه إلى ألَّا ينظر نظرًا تامًّا إلى دليل خلافه فلا يعرف الحق، ولهذا قال السلف: إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية.
وأيضًا: التوبة من الاعتقاد الذي كثر ملازمة صاحبه له ومعرفته بحججه يحتاج إلى ما يقارب ذلك من المعرفة والعلم والأدلة. [المستدرك 1/ 150 - 151]
* * *
(هل يعود بعد التوبة إلى درجته، أو أرفع
؟)
1086 -
قال ابن القيم رحمه الله: واختلف الناس: هل يعود بعد التوبة إلى درجته التي كان فيها بناء على أن التوبة تمحو أثر الذنب وتجعل وجوده كعدمه فكأنه لم يكن؟ أو لا يعود بناء على أن التوبة تاثيرها في إسقاط العقوبة، وأما الدرجة التي فاتته فإنه لا يصل إليها؟ إلى أن قال: وحكم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بين الطائفتين حكمًا مقبولًا فقال: مثل درجته، ومنهم من لا يصل إلى درجته. [المستدرك 1/ 151]
1087 -
التَّائِبُ عَمَلُهُ أَعْظَمُ مِن عَمَلِ غَيْرِهِ.
وَمَن لَمْ يَكُن لَهُ مِثْلُ تِلْكَ السَّيئَّاتِ:
- فَإِنْ كَانَ قَد عَمِلَ مَكَانَ سَيِّئَاتِ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ: فَهَذَا دَرَجَتُهُ بِحَسَبِ حَسَنَاتِهِ فَقَد يَكُونُ أَرْفَعَ مِن التَّائِبِ إنْ كَانَت حَسَنَاتُهُ أَرْفَعَ.
(1)
صحَّحه الألباني في السلسلة الصحيحة (1620).
- وَإِن كَانَ قَد عَمِلَ سَيِّئَاتٍ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا: فَهَذَا نَاقِصٌ.
- وَإِن كَانَ مَشْغُولًا بِمَا لَا ثَوَابَ فِيهِ وَلَا عِقَابَ فَهَذَا التَّائِبُ الَّذِي اجْتَهَدَ فِي التَّوْبَةِ، وَالتَّبْدِيلُ لَهُ مِن الْعَمَلِ وَالْمُجَاهَدَةِ مَا لَيْسَ لِذَلِكَ الْبَطَّالِ. [المستدرك 1/ 151]
* * *
(غفران الذنوب التي فعلها الكافر حال كفره فيه تفصيل)
1088 -
هل تغفر للكافر الذنوب التي فعلها في حال الكفر ولم يتب منها في الإسلام؟ فيه قولان معروفان.
قال الشيخ تقي الدين:
أحدهما: يغفر له الجميع؛ لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38].
أي: ينتهوا عن كفرهم، ولأنه اندرج في ضمن المحرم الأكبر فسقط بسقوطه. وفيه نظر.
والثاني: لا، نقله البغوي عن أحمد رواه الخلال، وهو ظاهر ما اختاره ابن عقيل.
قال الشيخ تقي الدين: وهذا القول الذي تدل عليه النقول والنصوص.
وقال في موضع آخر: إنه إن تاب من جميع معاصيه غفر له، وإن أصر عليها لم يغفر له، وإن كان ذاهلًا عن الإصرار والإقلاع إما ناسيًا أو ذاكرًا غير مريد للفعل ولا للترك غفر له أيضًا. والحديثان يأتلفان على هذا -يعني: حديث عمرو بن العاص- قول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم له: "يا عمرو أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟ " رواه مسلم وغيره، وحديث ابن مسعود وهو في "الصحيحين"
(1)
: أن ناسًا قالوا لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم:
(1)
البخاري (6921)، ومسلم (120)، واللفظ له.
أنؤخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: "أما من أحسن منكم في الإسلام فلا يؤخذ بها، ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام" - قال الشيخ تقي الدين: فالإسلام لتضمنه التوبة المطلقة يوجب المغفرة المطلقة، إِلَّا أن يقترن به ما ينافي هذا الاقتضاء وهو الإصرار، كما أنه يوجب الإيمان المطلق ما لم يناقضه كفر متصل؛ فالإصرار في الذنوب كالاعتقاد في التصديق. [المستدرك 1/ 151 - 152]
* * *
(إذا زنى بامرأة ثم تاب هل يُعلم الزوج
؟)
1089 -
سئلتُ عن نظير هذه المسألة، وهو رجل تعرض لامرأة غيره فزنى بها، ثم تاب من ذلك، وسأله زوجها عن ذلك فأنكر، فطلب استحلافه، فإن حلف على نفي الفعل كانت يمينه غموسًا، وإن لم يحلف قويت التهمة، وإن أقر جرى عليه وعليها من الشر أمر عظيم.
فأفتيته أنه يضم إلى التوبة فيما بينه وبين الله تعالى الإحسان إلى الزوج بالدعاء والاستغفار والصدقة عنه ونحو ذلك بما يكون بإزاء إيذائه له في أهله، فإن الزنى بها تعلق به حق الله تعالى، وحق زوجها من جنس حقه في عرضه، وليس مما ينجبر بالمثل كالدماء والأموال؛ بل هو من جنس القذف الذي جزاؤه من غير جنسه، فتكون توبة هذا كتوبة القاذف، وتعريضه كتعريضه وحلفه على التعرض كحلفه، وأما لو ظلمه في دم أو مال فإنه لا بد من إيفاء الحق فإن له بدلًا، وقد نص أحمد رحمه الله في الفرق بين توبة القاتل وبين توبة القاذف.
وهذا الباب ونحوه فيه خلاص عظيم وتفريج كربات للنفوس من آثار المعاصي والمظالم، فإن الفقيه كل الفقيه الذي لا يؤيس الناس من رحمة اللّه عز وجل، ولا يُجَرّئُهُمْ
(1)
على معاصي اللّه تعالى، وجميع النفوس لا بد
(1)
في الأصل: (يجرؤهم)، وهو خطأ إملائيًّا، وقد ذكر شيخ الإسلام هذا الكلام في عدة مواضع من كتبه، وكتبها على نبرة كما هو مثبت.
أن تذنب، فتعريف النفوس ما يخلصها من الذنوب من التوبة والحسنات الماحيات كالكفارات، والعقوبات هو مِن أعظم فوائد الشريعة
(1)
. [المستدرك 1/ 165]
1090 -
قال في الإنصاف: لا يشترط لصحة توبةٍ مِن قذفٍ وغيبةٍ ونحوهما إعلامه والتحلل منه على الصحيح، قال الشيخ تقي الدين: والأشبه أنه يختلف، وقيل: إن علم به المظلوم وإلا دعا له واستغفر له ولم يعلمه، وذكره الشيخ تقي الدين عن أكثر العلماء، وعلى الصحيح من الروايتين: لا يجب الاعتراف لو سأل، فيُعَرِّض ولو مع استحلافه؛ لأنه مظلوم؛ لصحة توبته.
ومن جوَّز التصريح في الكذب المباح فهنا فيه نظر.
ومع عدم التوبة والإحسان: تعريضه كذب ويمينه غموس
(2)
.
قال: واختار أصحابنا: لا يُعلمه بل يدعو له في مقابلة مظلمته، وقال الشيخ تقي الدين: وزناه بزوجة غيره كالغيبة. [المستدرك 3/ 209 - 210]
* * *
(1)
هذا هو فقه التيسير وفقه مقاصد الشريعة، وكم نحتاجها في هذا الزمان.
(2)
بل يجب عليه الاعتراف، وفي هذا تحريضٌ وحثٌّ له على التوبة الصادقة.
الشيطان ومَكره للإنسان
1091 -
وَقَد جُرِّبَ أَنَّ مَن سَلَكَ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ الْبِدْعِيَّةَ
(1)
أَتَتْهُ الشَّيَاطِينُ وَحَصَلَ لَهُ تَنَزُّلٌ شَيْطَانِي وَخِطَابٌ شَيْطَانِيٌّ، وَبَعْضُهُم يَطِيرُ بِهِ شَيْطَانُهُ، وَأَعْرِفُ مِن هَؤُلَاءِ عَدَدًا طَلَبُوا أَنْ يَحْصُلَ لَهُم مِن جِنْسِ مَا حَصَلَ لِلْأَنْبِيَاءِ مِن التَّنَزُّلِ، فَنَزَلَتْ عَلَيْهِم الشَّيَاطِينُ؛ لِأَنَّهُم خَرَجُوا عَن شَرِيعَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّتِي أُمِرُوا بِهَا. [10/ 395]
1092 -
إِنَّ الشَّيْطَانَ إنَّمَا يَمْنَعُهُ مِن الدُّخُولِ إلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ مَا فِيهِ مِن ذِكْرِ اللّهِ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ، فَإِذَا خَلَا مِن ذَلِكَ تَوَلَّاهُ الشَّيْطَانُ، قَالَ اللّهُ تَعَالَى:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)} [الزخرف: 36]. [10/ 399]
1093 -
الشَّيَاطِينُ كَثِيرًا مَا يَتَصَوَّرُونَ بِصُورَةِ الْإِنْسِ فِي الْيَقَظَةِ وَالْمَنَامِ، وَقَد تَأْتِي لِمَن لَا يَعْرِفُ فَتَقُولُ: أَنَا الشَّيْخُ فُلَانٌ، أَو الْعَالِمُ فُلَانٌ، وَرُبَّمَا قَالَتْ: أَنَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَرُبَّمَا أَتَى فِي الْيَقَظَةِ دُونَ الْمَنَامِ وَقَالَ: أَنَا الْمَسِيحُ أَنَا مُوسَى أَنَا مُحَمَّد، وَقَد جَرَى مِثْلُ ذَلِكَ أَنْوَاغ أَعْرِفُهَا، وَثَمَّ مَن يُصَدِّقُ بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ يَأْتُونَ فِي الْيَقَظَةِ فِي صُوَرِهِمْ، وَثَمَّ شُيُوخ لَهُم زهْدٌ وَعِلْمٌ وَوَرَعٌ وَدِينٌ يُصَدِّقُونَ بِمِثْل هَذَا. [10/ 406 - 407]
(1)
وهي كل عبادة يتقرب بها العبد على خلاف ما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.
1094 -
الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الشَّيْطَانَ أَكْثَرهُم لَا يَعْرِفونَ أَنَّهُم يَعْبُدُونَ الشَّيْطَانَ؛ بَل قَد يَظُنُّونَ أَنَّهُم يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ أَو الصَّالِحِينَ؛ كَالَّذِينَ يَسْتَغِيثُونَ بِهِم وَيَسْجُدُونَ لَهُم فَهُم فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا عَبَدُوا الشَّيْطَانَ، وَإِنْ ظَنُّوا أَنَّهُم يَتَوَسَّلُونَ وَيَسْتَشْفِعُونَ بِعِبَادِ اللّهِ الصَّالِحِينَ. قَالَ تَعَالَى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)} [سبأ: 40، 41].
وَلهَذَا نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَن الصَّلَاةِ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَوَقْتَ غُرُوبِهَا؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يُقَارِنُهَا حِينَئِذٍ حَتَّى يَكُونَ سُجُودُ عُبَّادِ الشَّمْسِ لَهُ وَهُم يَظُنُّونَ أَنَّهُم يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ وَسُجُودُهُم لِلشَّيْطَانِ. [10/ 450 - 451]
1095 -
فِي أَصْنَافِ الْمُشْرِكِينَ مِن مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَمُشْرِكِي الْهِنْدِ وَالتُّرْكِ وَالْيُونَانِ وَغَيْرِهِمْ مَن لَهُ اجْتِهَاد فِي الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ، وَلَكِنْ لَيْسَ بِمُتَّبع لِلرُّسُلِ، وَلَا يُومِنُ بِمَا جَاءُوا بِهِ وَلَا يُصَدِّقُهُم بِمَا أَخْبَرُوا بِهِ وَلَا يُطِيعُهُم فِيمَا أَمَرُوا، فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا بِمُؤمِنِينَ وَلَا أَوْليَاءَ للّهِ، وَهَؤُلَاءِ تَقْتَرِنُ بِهِم الشَّيَاطِينُ وَتَنْزِلُ عَلَيْهِم فَيُكَاشِفُونَ النَّاسَ بِبَعْضِ الْأُمُورِ، وَلَهُم تَصَرُّفَات خَارِقَة مِن جِنْسِ السِّحْرِ، وَهُم مِن جِنْسِ الْكُهَّانِ وَالسَّحَرَةِ، الَّذِينَ تَنْزِلُ عَلَيْهِم الشَّيَاطِينُ، قَالَ تَعَالَى:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)} [الشعراء: 221 - 223][11/ 172]
1096 -
مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الْكَرَامَاتِ قَد تَكُونُ بِحَسَبِ حَاجَةِ الرَّجُلِ، فَإِذَا احْتَاجَ إلَيْهَا الضَّعِيفُ الْإِيمَانِ أَو الْمُحْتَاجُ أَتَاهُ مِنْهَا مَا يُقَوّي إيمَانَهُ وَيَسُدُّ حَاجَتَهُ، وَيَكُونُ مَن هُوَ أَكْمَلُ وِلَايَةً للهِ مِنْهُ مُسْتَغْنِيًا عَن ذَلِكَ، فَلَا يَأْتِيه مِثْلُ ذَلِكَ لِعُلُوِّ دَرَجَتِهِ وَغِنَاهُ عَنْهَا لَا لِنَقْصِ وِلَايَتِهِ، وَلهَذَا كَانَت هَذِهِ الأُمُورُ فِي
التَّابِعِينَ أَكْثَرَ مِنْهَا فِي الصَّحَابَةِ، بِخِلَافِ مَن يَجْرِي عَلَى يَدَيْهِ الْخَوَارِقُ لِهَدْيِ الْخَلْقِ وَلحَاجَتِهِمْ فَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ دَرَجَةً.
وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ مِثْلُ حَالِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ صَيَّادٍ الَّذِي ظَهَرَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ قَد ظَنَّ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ الدَّجَّالُ وَتَوَقَّفَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي أَمْرِهِ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ فِيمَا بَعْدُ أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الدَّجَّالُ؛ لَكِنَّهُ كَانَ مِن جِنْسِ الْكُهَّانِ.
وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ كَثِيرُونَ مِثْلُ: الْحَارِثِ الدِّمَشْقِيُّ، الَّذِي خَرَجَ بِالشَّامِ زَمَنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَادَّعَى النُّبُوَّةَ، وَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ يُخْرِجُونَ رِجْلَيْهِ مِن الْقَيْدِ وَتَمْنَعُ السِّلَاحَ أنْ يَنْفُذَ فِيهِ، وَتُسَبِّحُ الرَّخَامَةُ إذَا مَسَحَهَا بِيَدِهِ، وَكَانَ يَرَى النَّاسَ رِجَالًا وَرُكْبَانًا عَلَى خَيْلٍ فِي الْهَوَاءِ وَيَقُولُ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ، وَإِنَّمَا كَانُوا جِنًّا، وَلَمَّا أَمْسَكَهُ الْمُسْلِمُونَ لِيَقْتُلُوهُ طَعَنَهُ الطَّاعِنُ بِالرُّمْحِ فَلَمْ يَنْفُذْ فِيهِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِنَّك لَمْ تُسَمِّ اللهَ، فَسَمَّى اللهَ فَطَعَنَهُ فَقَتَلَهُ.
وَهَكَذَا أَهْلُ "الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ" تَنْصَرِفُ عَنْهُم شَيَاطِينُهُم إذَا ذُكِرَ عِنْدَهُم مَا يَطْرُدُهَا مِثْلُ آيَةِ الْكُرْسِيِّ.
وَلهَذَا إذَا قَرَأَهَا الْإِنْسَانُ عِنْدَ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ بِصِدْقِ أَبْطَلَتْهَا، مِثْلُ مَن يَدْخُل النَّارَ بِحَالٍ شَيْطَانِيٍّ، أَو يَحْضُز سَمَاعَ الْمُكاءِ وَالتَّصْدِيَةِ، فَتَنْزِلُ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ وَتَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِهِ كَلَامًا لَا يُعْلَمُ، وَرُبَّمَا لَا يُفْقَهُ، وَرُبَّمَا كَاشَفَ بَعْضَ الْحَاضِرِينَ بِمَا فِي قَلْبِهِ، وَرُبَّمَا تَكَلَّمَ بِأَلْسِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ كَمَا يَتَكَلَّمُ الْجِنِّي عَلَى لِسَانِ الْمَصْرُوعِ.
وَالْإِنْسَانُ الَّذِي حَصَلَ لَهُ الْحَالُ لَا يَدْرِي بِذَلِكَ، بِمَنْزِلَةِ الْمَصْرُوعِ الَّذِي
يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِن الْمَسِّ، وَلَبِسَهُ وَتَكَلَّمَ عَلَى لِسَانِهِ، فَإِذَا أَفَاقَ لَمْ يَشْعُرْ بِشَيْءٍ مِمَّا قَالَ، وَلهَذَا قَد يُضْرَبُ الْمَصْرُوع وَذَلِكَ الضَّرْبُ لَا يُؤثِّرُ فِي الْإِنْسِيٍّ، وَيُخْبِرُ إذَا أَفَاقَ أَنَّهُ لَمْ يَشْعُرْ بِشَيْء؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ كَانَ عَلَى الْجِنِّيِّ الَّذِي لَبِسَهُ.
وَمِن هَؤُلَاءِ مَن يَأْتِيه الشَّيْطَانُ بِأَطْعِمَةٍ وَفَوَاكِهَ وَحَلْوَى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَكُون فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَمِنْهُم مَن يَطِيرُ بِهِم الْجِنِّيُّ إلَى مَكَّةَ أَو بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَو غَيْرِهِمَا، وَمِنْهُم مَن يَحْمِلُهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ ثُمَّ يُعِيدُهُ مِن لَيْلَتِهِ فَلَا يَحُجُّ حَجًّا شَرْعِيًّا؛ بَل يَذْهَبُ بِثِيَابِهِ وَلَا يُحْرِمُ إذَا حَاذَى الْمِيقَاتَ، وَلَا يُلَبِّي وَلَا يَقِفُ بمزدلفة، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَلَا يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلَا يَرْمِي الْجِمَارَ؛ بَل يَقِفُ بِعَرَفَةَ بِثِيَابِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ مِن لَيْلَتِهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِحَجٍّ.
1097 -
لَمَّا كَانَت عِبَادَةُ الْمُسْلِمِينَ الْمَشْرُوعَةُ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي هِيَ بُيُوتُ اللّهِ كَانَ عُمَّارُ الْمَسَاجِدِ أَبْعَدَ عَن الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ، وَكَانَ أَهْلُ الشِّرْكِ وَالْبِدَعِ يُعَظِّمُونَ الْقُبُورَ وَمَشَاهِدَ الْمَوْتَى، فَيَدْعُونَ الْمَيِّتَ أَو يَدْعُونَ بِهِ، أَو يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الدُّعَاءَ عِنْدَهُ مُسْتَجَابٌ: أَقْرَبَ إلَى الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ"
(1)
عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ لَيَالٍ: "إنَّ مِن أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَذَاتِ يَدِهِ أَبُو
(2)
بَكْرٍ، وَلَو كُنْت مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِن أَهْلِ الْأَرْضِ لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللّهِ، لَا يَبْقَيَن فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إلَّا سُدَّتْ إلَّا خَوْخَةُ أَبِي بَكْرٍ، إنَّ مَن كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فَإِنِّي أَنْهَاكمْ عَن ذَلِكَ". [11/ 290]
(1)
(532).
(2)
هكذا في الأصل. والذي في البخاري: (أبا بكر)، بالنصب، وهو أصوب؛ لأن أبا بكر اسم إن مؤخر.
1098 -
مِن أَعْظَمِ مَا يُقَوِّي الْأَحْوَالَ الشَّيْطَانِيَّةَ سَمَاعُ الْغِنَاءِ وَالْمَلَاهِي وَهُوَ سَمَاعُ الْمُشْرِكِينَ. [11/ 295]
1099 -
مَن كَانَ أَبْعَدَ عَن الْمَعْرِفَةِ وَعَن كَمَالِ وِلَايَةِ اللهِ كَانَ نَصِيبُ الشَّيْطَانِ مِنْهُ أَكْثَرَ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخَمْرِ يُؤَثِّرُ فِي النفُوسِ أَعْظَمَ مِن تَأْثِيرِ الْخَمْر؛ وَلهَذَا إذَا قَوِيَتْ سَكْرَةُ أَهْلِهِ نَزَلَتْ عَلَيْهِم الشَّيَاطِينُ وَتَكَلَّمَتْ عَلَى أَلْسِنَةِ بَعْضِهِمْ وَحَمَلَتْ بَعْضَهُم فِي الْهَوَاءِ وَقَد تَحْصُلُ عَدَاوَةٌ بَيْنَهُم كَمَا تَحْصُلُ بَيْنَ شُرَّابِ الْخَمْرِ فَتَكُونُ شَيَاطِينُ أَحَدِهِمْ أَقْوَى مِن شَيَاطِينِ الْآخَرِ فَيَقْتُلُونَهُ وَيَظُنُّ الْجُهَّالُ أَنَّ هَذَا مِن كَرَامَاتِ أَوْليَاءِ اللهِ الْمتَّقِينَ
(1)
. [11/ 298]
1100 -
لَمَّا كَانَت الْخَوَارِقُ كَثِيرًا مَا تَنْقُصُ بِهَا دَرَجَةُ الرَّجُلِ كَانَ كَثِيرٌ مِن الصَّالِحِينَ يَتُوبُ مِن مِثْل ذَلِكَ وَيَسْتَغْفِرُ اللهَ تَعَالَى كَمَا يَتُوبُ مِن الذُّنوبِ؛ كَالزنى وَالسَّرِقَةِ، وَتَعْرِضُ عَلَى بَعْضِهِمْ فَيَسْأَلُ اللهَ زَوَالَهَا، وَكُلُّهُم يَأْمُرُ الْمُرِيدَ السَّالِكَ أَنْ لَا يَقِفَ عِنْدَهَا وَلَا يَجْعَلَهَا هِمَّتَهُ وَلَا يَتَبَجَّحَ بِهَا؛ مَعَ ظَنِّهِمْ أَنَّهَا كَرَامَات، فَكَيْفَ إذَا كَانَت بِالْحَقِيقَةِ مِن الشَّيَاطِينِ تُغْوِيهِمْ بِهَا؟
فَإِنّي أَعْرِفُ مَن تُخَاطِبُهُ النَّبَاتَات بِمَا فِيهَا مِن الْمَنَافِعِ، وَإِنَّمَا يُخَاطِبُهُ الشَّيْطَانُ الَّذِي دَخَلَ فِيهَا.
وَأَعْرِفُ مَن يُخَاطِبُهُم الْحَجَرُ وَالشَّجَرُ وَتَقُولُ: هَنِيئًا لَك يَا وَليَّ اللهِ فَيَقْرَأُ آيةَ الْكُرْسِيِّ فَيَدْهَبُ ذَلِكَ.
وَأَعْرِفُ مَن يَقْصِدُ صَيْدَ الطَّيْرِ فَتُخَاطِبُهُ الْعَصافِيرُ وَغَيْرْهَا وَتَقُولُ: خُذْنِي حَتَّى يَأكُلَنِي الْفُقَرَاءُ وَيَكُونُ الشَّيْطَانُ قَد دَخَلَ فِيهَا كَمَا يَدْخُلُ فِي الإِنْسِ وَيُخَاطِبُهُ بِذَلِكَ.
(1)
ولهذا يكثر فيهم الأمراض النفسية، والوساوس القهرية، والمشاكل والاضطرابات والقلق، بخلاف أهل العلم والمعرفة بالله تعالى، الذين استمدوا العون والتوفيق من الله وحده، وهذبوا أخلاقهم وسلوكهم من مشكاة دينه.
وَأَعْرِفُ مَن يُخَاطِبُهُ مُخَاطِبٌ وَيَقُولُ لَهُ: أَنَا مِن أَمْرِ اللّهِ وَيَعِدُهُ بِأَنَّهُ الْمَهْدِيُّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَيُظْهَرُ لَهُ الْخَوَارِقُ، مِثْلُ أَنْ يَخْطُرَ بِقَلْبِهِ تَصَرُّفٌ فِي الطَّيْرِ وَالْجَرَادِ فِي الْهَوَاءِ، فَإِذَا خَطَرَ بِقَلْبِهِ ذَهَابُ الطَّيْرِ أَو الْجَرَادِ يَمِينًا أَو شَمَالًا ذَهَبَ حَيْثُ أَرَادَ، وَإِذَا خَطَرَ بِقَلْبِهِ قِيَامُ بَعْضِ الْمَوَاشِي أَو نَوْمُهُ أَو ذَهَابُهُ حَصَلَ لَهُ مَا أَرَادَ مِن غَيْرِ حَرَكَةٍ مِنْهُ فِي الظَّاهِرِ، وَتَحْمِلُهُ إلَى مَكَّةَ وَتَأْتِي بِهِ، وَتَأْتِيه بِأَشْخَاص فِي صُورَةٍ جَمِيلَةٍ وَتَقُولُ لَهُ: هَذِهِ الْمَلَائِكَة الكروبيون، أَرَادُوا زِيارَتَك، فَيَقُولُ فِي نَفْسِهِ: كَيْفَ تَصَوَّرُوا بِصُورَةِ المردان، فَيَرْفَعُ رَأسَهُ فَيَجِدُهُم بِلِحَى، وَيَقُولُ لَهُ: عَلَامَةُ أنَّك أَنَتَ الْمَهْدِيُّ أنَّك تَنْبُتُ فِي جَسَدِك شَامَةٌ فَتَنْبُتُ وَيَرَاهَا وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَكُلُّهُ مِن مَكْرِ الشَّيْطَانِ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَو ذَكَرْت مَا أَعْرِفُهُ مِنْهُ لَاحْتَاجَ إلَى مُجَلَّدٌ كَبِيرٍ
(1)
. [11/ 300 - 301]
1101 -
كُفَّارُ الْجِنِّ يَدْخُلُونَ النَّارَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا مُؤْمِنُوهُم فَجُمْهُورُ الْغلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُم يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الرُّسُلَ مِن الْإِنْسِ وَلَمْ يُبْعَثْ مِن الْجِنِّ رَسُولٌ. [11/ 206 - 207]
1102 -
الْجِنّ مَعَ الْإِنْسِ عَلَى أَحْوَالٍ:
أ - فَمَن كَانَ مِن الْإِنْسِ يَأْمُرُ الْجِنَّ بِمَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِن عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَطَاعَةِ نَبِيِّهِ وَيَأْمُرُ الْإِنْسَ بِذَلِكَ فَهَذَا مِن أَفْضَلِ أَوْليَاءِ اللّهِ تَعَالَى وَهُوَ فِي ذَلِكَ مِن خُلَفَاءِ الرَّسُولِ وَنُوَّابِهِ.
(1)
قال رحمه الله في موضع آخرة مِن النَّاسِ مَن رَآهُم وَفِيهِمْ مَن رَأى مَن رَآهُمْ، وَثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَهُ بِالْخَبَرِ وَالْيَقِينِ، وَمِن النَّاسِ مَن كَلَّمَهُم وَكَلَّمُوهُ، وَمِن النَّاسِ مَن يأمُرُهُم وَيَنْهَاهُم وَيَتَصَرَّفُ فِيهِمْ، وَهَذَا يَكُونُ لِصَالِحِينَ وَغَيْرِ صَالِحِينَ.
وَلَو ذَكَرْت مَا جَرَى لِي وَلأصْحَابِي مَعَهُم لَطَالَ الْخِطَابُ، وَكَذَلِكَ مَا جَرَى لِغَيْرِنَا، لَكِنَّ الِاعْتِمَادَ فِي الْأَجْوِبَةِ الْعِلْمِيَّةِ عَلَى مَا يَشْتَرِكُ النَّاسُ فِي عِلْمِهِ، لَا يَكُونُ بِمَا يَخْتَصُّ بِعِلْمِهِ الْمُجِيبُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ لِمَن يُصَدِّقُهُ فِيمَا يُخْبِرُ بهِ. اهـ. (24/ 282 - 283).
قلت: يُستفاد من قوله: "لكن الاعتماد" إلى آخر كلامه أنَّ المفتي وطالب العلم والواعظ لا يذكر للناس ما تعجز العقول عن تصديقه واستيعابه، كاللام في القدر وعالم الجنّ ونحو ذلك.
ب - وَمَن كَانَ يَسْتَعْمِلُ الْجِنَّ فِي أُمُورٍ مُبَاحَةٍ لَة، فَهُوَ كَمَن اسْتَعْمَلَ الْإِنْسَ فِي أُمُورٍ مُبَاحَةٍ لَهُ، وَهَذَا كَأنْ يَأْمُرَهُم بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِم وَيَنْهَاهُم عَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِم وَيَسْتَعْمِلُهُم فِي مُبَاحَاتٍ لَهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْل ذَلِكَ، وَهَذَا إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ مِن أَوْليَاءِ اللّهِ تَعَالَى فَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ فِي عُمُومِ أَوْليَاءِ اللّهِ مِثْل النَّبِيِّ الْمَلِكِ مَعَ الْعَبْدِ الرَّسُولِ: كَسُلَيْمَانَ وَيُوسُفَ مَعَ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِم أجْمَعِينَ.
ج - وَمَن كَانَ يَسْتَعْمِلُ الْجِنَّ فِيمَا يَنْهَى اللّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ، إمَّا فِي الشِّرْكِ، وَإِمَّا فِي قَتْلِ مَعْصُومِ الدَّمِ، أَو فِي الْعُدْوَانِ عَلَيْهِم بِغَيْرِ الْقَتْلِ كَتَمْرِيضِهِ وَإِنْسَائِهِ الْعِلْمَ وَغَيْوَ ذَلِكَ مِن الظُّلْمِ، وَإِمَّا فِي فَاحِشَةٍ كَجَلْبِ مَن يُطْلَبُ مِنْهُ الْفَاحِشَةُ، فَهَذَا قَد اسْتَعَانَ بِهِم عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ.
ثُمَّ إنْ اسْتَعَانَ بِهِم عَلَى الْكُفْرِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِن اسْتَعَانَ بِهِم عَلَى الْمَعَاصِي فَهُوَ عَاصٍ: إمَّا فَاسِقٌ وَإِمَّا مُذْنِبٌ غَيْرُ فَاسِقٍ.
وَإِن لَمْ يَكُن تَامَّ الْعِلْمِ بِالشَّرِيعَةِ فَاسْتَعَانَ بِهِم فِيمَا يُظَنُّ أَنَّهُ مِن الْكَرَامَاتِ: مِثْلُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِهِم عَلَى الْحَجِّ، أَو أَنْ يَطِيرُوا بهِ عِنْدَ السَّمَاعِ الْبِدْعِيِّ، أَو أَنْ يَحْمِلُوهُ إلَى عَرَفَاتٍ وَلَا يَحُجّ الْحَجَّ الشَّرْعِيَّ الَّذِي أَمَرَهُ اللّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَأَنْ يَحْمِلُوهُ مِن مَدِينَةٍ إلَى مَدِينَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا مَغْرُورٌ قَد مَكَرُوا بِهِ.
وَكثِيرٌ مِن هَؤُلَاءِ قَد لَا يَعْرِفُ أَنَّ ذَلِكَ مِن الْجِنِّ؛ بَل قَد سَمِعَ أَنَّ أَوْليَاءَ اللّهِ لَهُم كَرَامَاتٌ وَخَوَارِقُ لِلْعَادَاتِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مِن حَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ الْقُرْآنِ مَا يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْكَرَامَاتِ الرَّحْمَانِيَّةِ وَبَيْنَ التَّلْبِيسَاتِ الشَّيْطَانِيَّةِ فَيَمْكُرُونَ بِهِ بِحَسَبِ اعْتِقَادِهِ. [11/ 307 - 308]
1103 -
كُلُّ مَن تَرَكَ الْاِيمَانَ وَالتَّوْحِيدَ فَلَا يَتْرُكُهُ إِلَّا إلَى كُفْرٍ وَشِرْكٍ؛ فَإِنَّ النَّفْسَ لَا بُدَّ لَهَا مِن إلَهٍ تَعْبُدُهُ، فَمَن لَمْ يَعْبُد الرَّحْمَنَ عَبَدَ الشَّيْطَانَ.
وَالنَّاسُ نَوْعَانِ: طُلَّابُ دِينٍ وَطُلَّابُ دُنْيَا.
فَهُوَ يَأْمُرُ طُلَّابَ الدِّينِ بِالشّرْكِ وَالْبِدْعَةِ؛ كَعُبَّادِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَيَأْمُرُ طُلَّابَ الدُّنْيَا بِالشَّهَوَاتِ الْبَدَنِيَّةِ. [11/ 672]
1104 -
الْوَحْيُ وَحْيَانِ: وَحْيٌ مِن الرَّحْمَن، وَوَحْيٌ مِن الشَّيْطَانِ، قَالَ تَعَالَى:{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121]. [13/ 74]
1105 -
هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَهُم مُكَاشَفَاث وَمُخَاطَبَاتٌ يَرَوْنَ وَيَسْمَعُونَ مَا لَهُ وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ، وَمَا لَا يَكون مَوْجُودًا إلَّا فِي أَنْفُسِهِمْ، كَحَالِ النَّائِمِ، وَهَذَا يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَلَكنْ قَد يَرَوْنَ فِي الْخَارِجِ أَشْخَاصًا يَرَوْنَهَا عِيَانًا، وَمَا فِي خَيَالِ الْإِنْسَانِ لَا يَرَاهُ غَيْرُهُ، وَيُخَاطِبُهُم أُولَئِكَ الْأَشْخَاصُ وَيَحْمِلُونَهُم وَيَذْهَبُونَ بِهِم إلَى عَرَفَاتٍ فَيَقِفُونَ بِهَا، وَإِمَّا إلَى غَيْرِ عَرَفَاتٍ، وَيَأْتُوهُم بِذَهَبٍ وَفِضَّةِ وَطَعَامٍ وَلبَاسٍ وَسِلَاحٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَخْرُجُونَ إلَى النَّاسِ وَيَأْتُونَهُم أَيْضًا بِمَن يَطْلُبُونَهُ، مِثْل مَن يَكُونُ لَهُ إرَادَةٌ فِي امْرَأَةٍ أَو صَبِيٍّ، فَيَأْتُونَهُ بِذَلِكَ إِمَّا مَحْمُولًا فِي الْهَوَاءِ، وَإِمَّا بِسَعْي شَدِيدٍ، وَيُخْبِرُ أَنَّهُ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ مِن الْبَاعِثِ الْقَوِيِّ مَا لَمْ يُمْكِنْهُ الْمُقَامُ مَعَهُ، أو يُخْبِرُ أَنَّهُ سَمِعَ خِطَابًا، وَقَد يَقْتُلُونَ لَهُ مَن يُرِيدُ قَتْلَهُ مِن أَعْدَائِهِ أَو يُمَرِّضُونَهُ.
فَهَذَا كُلُّهُ مَوْجُودٌ كَثِيرًا.
لَكنْ مِنَ النَّاسِ مَن يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا مِن الشَّيْطَانِ وَأَنَّهُ مِن السِّحْرِ، وَأَنَّ ذَلِكَ حَصَلَ بِمَا قَالَهُ وَعَمِلَهُ مِن السِّحْرِ.
وَمِنْهُم مَن يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ مِن الْجِنِّ وَيَقُولُ: هَذَا كَرَامَة أَكْرَمَنَا بِتَسْخِيرِ الْجِنِّ لَنَا
(1)
. [13/ 77]
1106 -
قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ
(1)
وهذا موجود كثيرًا عند بعض المعبرين والرقاة.
لَنَا} [الأنعام: 128]، الِاسْتِمْتَاعُ بِالشَّيْءِ هُوَ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِهِ فَيَنَالَ بِهِ مَا يَطْلُبُهُ وَيُرِيدُهُ وَيَهْوَاهُ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ اسْتِمْتَاعُ الرّجَالِ بالنِّسَاءِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، كَمَا قَالَ:{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24]
وَمِن ذَلِكَ الْفَوَاحِشُ؛ كَاسْتِمْتَاعِ الذُّكُورِ بِالذّكورِ وَالْإِنَاثِ بِالْإِنَاثِ.
وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الِاسْتِمْتَاعُ بِالِاسْتِخْدَامِ وَأَئِمَّةِ الرِّيَاسَةِ، كَمَا يَتَمَتَّعُ الْمُلُوكُ وَالسَّادَةُ بِجُنُودِهِمْ وَمَمَالِيكِهِمْ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الِاسْتِمْتَاعُ بِالْأَمْوَالِ كَاللّبَاسِ.
وَفِي الْجُمْلَةِ: اسْتِمْتَاعُ الْإِنْسِ بِالْجِنّ وَالْجِنِّ بِالْإِنْسِ يُشْبِهُ اسْتِمْتَاعَ الْإِنْسِ بِالْإِنْسِ.
وَتَارَةً يَخْدِمُ هَؤُلَاءِ لِهَؤُلَاءِ فِي أَغْرَاضِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ لِهَؤُلَاءِ فِي أَغْرَاضِهِمْ؛ فَالْجِنُّ تَأْتِيهِ بِمَا يُرِيدُ مِن صُورَةٍ أَو مَالٍ أَو قَتْلِ عَدُوِّهِ.
وَالْإِنْسُ تُطِيعُ الْجِنَّ، فَتَارَةً تَسْجُدُ لَهُ، وَتَارَة تَسْجُدُ لِمَا يَأْمُرُهُ بِالسُّجُودِ لَهُ، وَتَارَةً تُمَكِّنُهُ مِن نَفْسِهِ فَيَفْعَلُ بِهِ الْفَاحِشَةَ.
وَكَذَلِكَ الْجِنّيَّاتُ مِنْهُنَّ مَن يُرِيدُ مِن الْإِنْسِ الَّذِي يَخْدِمْنَهُ مَا يُرِيدُ نِسَاءُ الْإِنْسِ مِن الرِّجَالِ.
وَهَذَا كَثِيرٌ فِي رِجَالِ الْجِنِّ وَنِسَائِهِمْ، فَكَثِيرٌ مِن رِجَالِهِمْ يَنَالُ مِن نِسَاءِ الْإِنْسِ مَا يَنَالُهُ الْإِنْسِيُّ، وَقَد يَفْعَلُ ذَلِكَ بِالذُّكْرَانِ
(1)
.
وَصَرْعُ الْجِنّ لِلْإِنْسِ هُوَ لِأَسْبَابٍ ثَلَاثَةٍ:
أ - تَارَةً يَكُونُ الْجِنِّيُّ يُحِبُّ الْمَصْرُوعَ فَيَصْرَغهُ لِيَتَمَتَّعَ بِهِ، وَهَذَا الصَّرْعُ يَكُونُ أَرْفَقَ مِن غَيْرِهِ وَأَسْهَلَ.
(1)
يرى الشيخ أنّ الاستمتاع بين الجن والإنس قد يكون بالجماع، وقد صرح بذلك في غير هذا الموضع أيضًا، حيث قال (19/ 39 - 40): وَصَرْعُهُم لِلْإِنْسِ قَد يَكُونُ عَن شَهْوَةٍ وَهَوًى وَعِشْقٍ كَمَا يَتَّفِقُ لِلْإِنْسِ مَعَ الْإِنْسِ وَقَد يَتَنَاكَحُ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَيُولَدُ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ وَهَذَا كَثِيرٌ مَعْرُوفٌ وَقَد ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ ذَلِكَ وَتَكَلَّمُوا عَلَيْهِ وَكَرِهَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مُنَاكَحَةَ الْجِنِّ.
ب - وَتَارَةً يَكُونُ الْإِنْسِيُّ آذَاهُم إذَا بَالَ عَلَيْهِمْ، أَو صَبَّ عَلَيْهِم مَاءً حَارًّا، او يَكونُ قَتَلَ بَعْضَهُمْ، أَو غَيْرَ ذَلِكَ مِن أَنْوَاعِ الْأَذَى، وَهَذَا أَشَدُّ الصَّرْعِ، وَكَثيرًا مَا يَقْتُلُونَ الْمَصْرُوعَ.
ج - وَتَارَةً يَكُونُ بِطَرِيقِ الْعَبَثِ بِهِ، كَمَا يَعْبَثُ سُفَهَاءُ الْإِنْسِ بِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ.
وَمِن اسْتِمْتَاعِ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ اسْتِخْدَامُهُم فِي الْإِخْبَارِ بِالْأمُورِ الْغَائِبَةِ
(1)
، كَمَا يُخْبَرُ الْكُهَّانُ، فَإِنَّ فِي الْإِنْسِ مَن لَهُ غَرَضٌ فِي هَذَا؛ لِمَا يَحْصُلُ بِهِ مِن الرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
فَإِنَّهُ لَا يَخْدِمُ الْأِنْسِيَّ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ إلَّا لِمَا يَسْتَمْتِعُ بِهِ مِن الْإِنْسِيِّ، بِأَنْ يُطِيعَهُ الْإِنْسِيُّ فِي بَعْضِ مَا يُرِيدُهُ، إمَّا فِي شرْكٍ، وَإِمَّا فِي فَاحِشَةٍ، وَإِمَّا فِي أَكْلِ حَرَامٍ، وَإِمَّا فِي قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ.
وَمِن اسْتِمْتَاعِ الْإِنْسِ بِالْجنِّ اسْتِخْدَامُهُم فِي إحْضَارِ بَعْضِ مَا يَطْلُبُونَهُ مِن مَالٍ وَطَعَامٍ وَثيَابٍ وَنَفَقَةٍ، فَقَد يَأْتُونَ بِبَعْضِ ذَلِكَ وَقَد يَدُلُّونَهُ عَلَى كَنْزٍ وَغَيْرِهِ.
وَإِذَا سُئِلَ الشَّيْخُ الْمَخْدُومُ عَن أمْرٍ غَائِب: إِمَّا سَرِقَةٍ، وَإِمَّا شَخْصٍ مَاتَ، وَطُلِبَ مِنْهُ أَنْ يُخْبِرَ بِحَالِهِ، أَو عِلَّةٍ فِي النِّسَاءِ، أَو غَيْرِ ذَلِكَ
(2)
، فَإِنَّ الْجِنِّيَّ قَد يُمَثِّلُ ذَلِكَ فَيُرِيهِ صُورَةَ الْمَسْرُوقِ فَيَقُولُ الشَّيْخُ: ذَهَبَ لَكُمْ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ إنْ كَانَ صَاحِبُ الْمَالِ مُعَظَّمًا وَأرَادَ أَنْ يَدُلَّهُ عَلَى سَرِقَتِهِ مَثَّلَ لَهُ الشَّيْخُ الَّذِي أَخَذَهُ أَو الْمَكَانَ الَّذِي فِيهِ الْمَالُ فَيَذْهَبُونَ إلَيْهِ فَيَجِدُونَهُ كَمَا قَالَ، وَالْأَكْثَرُ مِنْهُم أَنَّهُم يُظْهِرُونَ صُورَةَ الْمَالِ وَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي سَرَقَ الْمَالَ مَعَهُ أَيْضًا جِنِّي يَخْدِمُهُ.
(1)
المستقبلية، فأما الأخبار الماضية، والكشف عن أمورٍ وقع بها الإنسان في الماضي، كان يُخبره عن سبب صرعه، ومتى أصابه المرض الفلاني: فهذا غيبٌ نسبيّ، وقد تعلمه الجن، وليس هذا مراد الشيخ والعلم عند الله تعالى.
(2)
هذا يبين أنّ الكهانة هي الإخبار بالأمور المستقبلية، وأما الماضي فلا يُسمى كهانةً.
وَالْجِنُّ يَخَافُ بَعْضُهُم مِن بَعْضٍ كَمَا أَنَّ الْإِنْسَ يَخَافُ بَعْضهُم بَعْضًا، فَإِذَا دَلَّ الْجِنِّيُّ عَلَيْهِ جَاءَ إلَيْهِ أَوْليَاءُ السَّارِقِ فَآذَوْهُ، وَأَحْيَانًا لَا يَدُلُّ لِكَوْنِ السَّارِقِ وَأَعْوَانِهِ يَخْدِمُونَهُ وَيَرْشُونَهُ، كَمَا يُصِيبُ مَن يَعْرِفُ اللُّصُوصَ مِن الْإِنْسِ، تَارَةً يَعْرِفُ السَّارِقَ وَلَا يُعَرّفُ بِهِ، إِمَّا لِرَغْبَةٍ يَنَالُهَا مِنْهُ، وَإِمَّا لِرَهْبَةٍ وَخَوْفٍ مِنْهُ.
وَالْجِنُّ مُكَلَّفُونَ كَتَكْلِيفِ الإِنْسِ، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلٌ إلَى الثَّقَلَيْنِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَكُفَّارِ الْجِنِّ يَدْخُلُونَ النَّارَ بِالنُّصُوصِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا مُؤْمِنُوهُمْ: فَفِيهِمْ قَوْلَانِ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُم يُثَابُونَ أَيْضًا وَيَدْخُلُونَ الْجَنَةَ.
وَاسْتِخْدَامُ الْإِنْسِ لَهُم مِثْلُ اسْتِخْدَامِ الْإِنْسِ لِلْإِنْسِ بِشَيءِ:
أ - مِنْهُم: مَن يَسْتَخْدِمُهُم فِي الْمُحَرَّمَاتِ مِن الْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ وَالشِّرْكِ وَالْقَوْلِ عَلَى اللّهِ بِلَا عِلْمٍ، وَقَد يَظُنُّونَ ذَلِكَ مِن كَرَامَاتِ الصَّالِحِينَ، وَإِنَّمَا هُوَ مِن أَفْعَالِ الشَّيَاطِينِ.
ب - وَمِنْهُم: مَن يَسْتَخْدِمُهُم فِي أُمُورِ مُبَاحَةٍ، إمَّا إحْضَارِ مَالِهِ، أَو دَلَالَةٍ عَلَى مَكَانٍ فِيهِ مَا لَيْسَ لَهُ مَالِكٌ مَعْصُومٌ، أَو دَفْعِ مَن يُؤذِيهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا كَاسْتِعَانَةِ الْإِنْسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضِ فِي ذَلِكَ.
ج - والنَّوْعُ الثَّالِثُ: أنْ يَسْتَعْمِلَهُم فِي طَاعَةِ اللّهِ وَرَسُولِهِ، كَمَا يُسْتَعْمَلُ الْإِنْسُ فِي مِثْل ذَلِكَ، فَيَأْمُرَهُم بِمَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَيَنْهَاهُم عَمَّا نَهَاهُم اللهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ، كَمَا يَأْمُرُ الْإِنْسَ وَيَنْهَاهُمْ، وَهَذِهِ حَالُ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم وَحَالٌ مَن اتَّبَعَهُ وَاقْتَدَى بِهِ مِن أُمَّتِهِ، وَهُم أَفْضَلُ الْخَلْقِ.
وَعُمَرُ رضي الله عنه لَمَّا نَادَى: يَا سَارِيةُ الْجَبَلَ قَالَ: إنَّ للّهِ جُنُودًا يُبَلِّغُونَ صَوْتي.
وَجُنُودُ اللّهِ: هُم مِن الْمَلَائِكةِ وَمِن صَالِحِي الْجِنِّ، فَجُنُودُ اللهِ بَلَّغُوا صَوْتَ عُمَرَ إلَى سَارِيةَ، وَهُوَ أَنَّهُم نَادَوْهُ بِمِثْل صَوْتِ عُمَرَ، وَإِلَّا نَفْسُ صَوْتِ عُمَرَ لَا يَصِلُ نَفْسُهُ فِي هَذِهِ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ، وَهَذَا كَالرَّجُلِ يَدْعُو آخَرَ وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْهُ
فَيَقُولُ: يَا فلَانُ، فَيُعَانُ عَلَى ذَلِكَ، فَيَقُولُ الْوَاسِطَةُ بَيْنَهُمَا: يَا فُلَان.
وَقَد يَأْمُرُ الْمَلِكُ بَعْضَ النَّاسِ بِأَمْرٍ وَيَسْتَكْتِمُهُ إِيَّاهُ، فَيَخْرُجُ فَيَرَى النَّاسَ يَتَحَدَّثُونَ بِهِ، فَإِنَّ الْجِنَّ تَسْمَعُهُ وَتُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ.
وَكَثِيرًا مَا يَسْتَغِيثُ الرَّجُلُ بِشَيْخِهِ الْحَيِّ أَو الْمَيِّتِ، فَيَأتُونَهُ فِي صُورَةِ ذَلِكَ الشَّيْخِ، وَقَد يُخَلِّصُونَهُ مِمَّا يَكْرَهُ، فَلَا يَشُكُّ أَنَّ الشَّيْخَ نَفْسَهُ جَاءَهُ، أَو أَنَّ مَلَكًا تَصَوَّرَ بِصُورَتهِ وَجَاءَهُ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي تَمَثَّلَ إنَّمَا هُوَ الشَّيْطَانُ لَمَّا أَشْرَكَ بِاللهِ أَضَلَّتْهُ الشَّيَاطِينُ، وَالْمَلَائِكَةُ لَا تُجِيبُ مُشْرِكًا.
وَتَارَةً يَأْتُونَ إلَى مَن هُوَ خَالٍ فِي الْبَرِّيَّةِ، وَقَد يَكُونُ مَلِكًا أَو أَمِيرًا كَبِيرًا، وَيَكُونُ كَافِرًا، وَقَد انْقَطَعَ عَن أَصْحَابِهِ وَعَطِشَ وَخَافَ الْمَوْتَ، فَيَأتِيهِ فِي صُورَةِ إنْسِيٍّ وَيَسْقِيهِ وَيَدْعُوهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَيُتَوِّبُه فَيُسْلِمُ عَلَى يَدَيْهِ، وَيُتَوِّبُه وَيُطْعِمُهُ وَيَدُلُّهُ عَلَى الطَّرِيقِ وَيَقُولُ: مَن أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا فُلَانٌ، وَيَكُونُ مِن مُؤْمِنِي الْجِنِّ.
كَمَا جَرَى مِثْلُ هَذَا لِي، كُنْت فِي مِصْرَ فِي قَلْعَتِهَا، وَجَرَى مِثْلُ هَذَا إلَى كَثِيرٍ مِن التُّرْكِ مِن نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ، وَقَالَ لَهُ ذَلِكَ الشَّخْصُ: أَنَا ابْنُ تَيْمِيَّة، فَلَمْ يَشُكَّ ذَلِكَ الْأَمِيرُ أَنِّي أَنَا هُوَ، وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ مَلِكَ مَارِدِينَ، وَأَرْسَلَ بِذَلِكَ مَلِكُ مَارِدِينَ إلَى مَلِكِ مِصْرَ رَسُولًا، وَكُنْت فِي الْحَبْسِ
(1)
؛ فَاسْتَعْظَمُوا ذَلِكَ وَأَنَا لَمْ أَخْرُجْ مِن الْحَبْسِ، وَلَكِنْ كَانَ هَذَا جِنِّيًّا يُحِبُّنَا فَيَصنَعُ بِالتُّرْكِ التتر مِثْل مَا كنْت أَصْنَعُ بِهِم لَمَّا جَاءُوا إلَى دِمَشْقَ: كُنْت أَدْعُوهُم إلَى الْإِسْلَامِ، فَإِذَا نَطَقَ أَحَدُهُم بِالشَّهَادَتَيْنِ أَطْعَمْتهمْ مَا تَيَسَّرَ، فَعَمِلَ مَعَهُم مِثْل مَا كُنْت أَعْمَلُ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ إكْرَامِي لِيَظُنَّ ذَاكَ أَنِّي أَنَا الَّذِي فَعَلْت ذَلِكَ.
قَالَ لِي طَائِفَةٌ مِن الناسِ: فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَلَكًا؟
(1)
العجيب أنك لا تكاد تقف له في موضعٍ يسب وهو في سجنه الحكام الذين سجنوه، ولا يذكرهم ويشنع عليهم، ولا يذكر مساوئهم، بل يُعرض عن هذا كله، ويشتغل بما اشْتغل به الأنبياء، من الدعوة والإفتاء، وبيان الحق، والرد على الباطل، دون التعرض على ذوات الناس.
قُلْت: لَا
(1)
. إنَّ الْمَلَكَ لَا يَكْذِبُ، وَهَذَا قَد قَالَ: أَنَا ابْنُ تَيْمِيَّة، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ.
وَكَثِيرٌ مِن النَّاسِ رَأَى مَن قَالَ: إنِّي أَنَا الْخَضِرُ، وَإِنَّمَا كَانَ جِنِّيًّا.
ثُمَّ صَارَ مِن النَّاسِ مَن يُكَذِّبُ بِهَذِهِ الْحِكَايَاتِ إنْكَارًا لِمَوْتِ الْخَضِرِ، وَالَّذِينَ قَد عَرَفُوا صِدْقَهَا يَقْطَعُونَ بِحَيَاةِ الْخَضِرِ، وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ مُخْطِئٌ، فَإِنَّ الَّذِينَ رَأَوْا مَن قَالَ: إنِّي أَنَا الْخَضِرُ هُم كَثِيرُونَ صَادِقُونَ، وَالْحِكَايَاتُ مُتَوَاتِرَاتٌ؛ لَكِنْ أَخْطَئُوا فِي ظَنِّهِمْ أَنَّهُ الْخَضِرُ، وَإِنَّمَا كَانَ جِنِّيًّا.
وَأَصْحَابُ الْحَلَّاجِ
(2)
لَمَّا قُتِلَ كَانَ يَأْتِيهِمْ مَن يَقُولُ: أَنَا الْحَلَّاجُ، فَيَرَوْنَهُ فِي صُورَتِهِ عِيَانًا.
وَكَذَلِكَ شَيْخٌ بِمِصْر يُقَالُ لَهُ: الدسوقي، بَعْدَ أَنْ مَاتَ كَانَ يَأْتِي أَصْحَابَهُ مِن جِهَتِهِ رَسَائِلُ وَكُتُبٌ مَكْتُوبَةٌ، وَأَرَانِي صَادِقٌ مِن أَصْحَابهِ الْكِتَابَ الَّذِي أَرْسَلَة، فَرَأَيْته بِخَطِّ الْجِنِّ -وَقَد رَأَيْت خَطَّ الْجِنِّ غَيْرَ مَرَّةٍ
(3)
- وَفِيهِ كَلَامٌ مِن كَلَامِ الْجِنِّ وَذَاكَ الْمُعْتَقِدُ يَعْتَقِدُ أَنَّ الشَّيْخَ حَيٌّ.
1107 -
الَّذِينَ يَرَوْنَ الْخَضِرَ أَحْيَانًا هُوَ جِنِّيٌّ رَآه، وَقَد رَآه غَيْرُ وَاحِدٍ مِمَن أَعْرِفُهُ، وَقَالَ: إنَّنِي الْخَضِرُ، وَكَانَ ذَلِكَ جِنِّيًّا لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ رَأَوْهُ، وَإِلَّا فَالْخَضِرُ الَّذِي كَانَ مَعَ مُوسَى عليه السلام مَاتَ.
(1)
كان بالإمكان أنْ يدعي ذلك، وسوف يرتفع شأنه عند العوام والحكام، ولكنه صلى الله عليه وسلم كان صادقًا لا يُجيز الكذب، ولا همّ له إِلَّا نصر الحق، ويريد رفع الدِّين لا رفع نفسِه.
(2)
هو: الحسين بن منصور الحلاج نشأ بواسط، وقيل بتستر، وخالط جماعة من الصوفية منهم سهل التستري والجنيد وأبو الحسن النوري وغيرهم.
رحل إلى بلاد كثيرة، ومنها: الهند، فتعلم السحر بها، وأقام أخيرًا ببغداد، وبها قتل.
وكان صاحب حيل وخداع، فخدع بذلك كثيرًا من جهلة الناس، واستمالهم إليه، حتى ظنوا فيه أنه من أولياء الله الكبار.
قتل ببغداد عام (359 هـ) بسبب ما ثبت عنه من الكفر والزندقة والحلول.
(3)
كلامُه هذا عجيب غريب، ولو كان من غيره لشككتُ في صحته، ولقلت: وما أدراه أنه من الجن؛ ولكن شيخ الإسلام أدرى بما يقول، ولم يُعهد عنه المبالغة أو عدم تحري الصدق والصواب، رحمه الله تعالى.
وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ رَأَى الْخَضِرَ، وَلَا أَنَّهُ أَتَى إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا أَعْلَمَ وَأَجَل قَدْرًا مِن أَنْ يُلَبِّسُ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِم، وَلَكِنْ لَبَّسَ عَلَى كَثِيرٍ مِمَن بَعْدَهُم فَصَارَ يَتَمَثَّلُ لِأَحَدِهِمْ فِي صُورَةِ النَّبِيِّ وَيَقُولُ: أَنَا الْخَضِرُ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَان، كَمَا أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَرَى مَيِّتَهُ خَرَجَ وَجَاءَ إلَيْهِ وَكَلَّمَة فِي أُمُورٍ وَقَضَى حَوَائِجَ فَيَظُنُّهُ الْمَيِّتَ نَفْسَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ تَصَوَّرَ بِصُورَتِهِ. [27/ 18 - 19]
1108 -
كُلُّ مَن عَبَدَ غَيْرَ اللّهِ فَإِنَّمَا يَعْبُدُ الشَّيْطَانَ، وَإِن كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ يَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبيَاءَ، وَقَالَ تَعَالَى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)} [سبأ: 40، 41].
وَلهَذَا تَتَمَثَّلُ الشَّيَاطِينُ لِمَن يَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ وَيُخَاطِبُونَهُمْ، فَيَظُنُّونَ أَنَّ الَّذِي خَاطَبَهُم مَلَكٌ أَو نَبِيٌّ، أَو وَليٌّ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ، جَعَلَ نَفْسَهُ مَلَكًا مِن الْمَلَائِكَةِ. [14/ 283]
1109 -
الَّذِي فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُمْ
(1)
يَرَوْنَ الْإِنْسَ مِن حَيْثُ لَا يَرَاهُم الْإِنْسُ
(2)
، وَهَذَا حَقٌّ يَقْتَضِي أَنَّهُم يَرَوْنَ الْإِنْسَ فِي حَالٍ لَا يَرَاهُم الْإِنْسُ فِيهَا، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُم لَا يَرَاهُم أَحَدٌ مِن الْإِنْسِ بِحَالٍ؛ بَل قَد يَرَاهُم الصَّالِحُونَ وَغَيْرُ الصَّالِحِينَ أَيْضًا، لَكِنْ لَا يَرَوْنَهُم فِي كلِّ حَالٍ، وَالشَّيَاطِينُ هُم مَرَدَةُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَجَمِيعُ الْجِنِّ وَلَدُ إبْلِيسَ. [15/ 7]
1110 -
الشَّيْطَانُ يُرِيدُ مِنَ الْإِنْسَانِ الْإِسْرَافَ فِي أُمُورر كُلِّهَا، فَإِنَّهُ إنْ رَآهُ مَائِلًا إلَى الرَّحْمَةِ زَيَّنَ لَهُ الرَّحْمَةَ، حَتَّى لَا يُبْغِضَ مَا أَبْغَضَهُ اللّهُ، وَلَا يَغَارَ لِمَا يَغَارُ اللّهُ مِنْهُ.
(1)
أي: الْجِن.
(2)
كما في قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27].
وَإِن رَآهُ مَائِلًا إلَى الشِّدَّةِ زَيَّنَ لَهُ الشِّدَّةَ فِي غَيْرِ ذَاتِ اللّهِ، حَتَّى يَتْرُكَ مِنَ الْإِحْسَانِ وَالْبِرِّ وَاللِّينِ وَالصِّلَةِ وَالرَّحْمَةِ مَا يَأْمُرُ بِهِ اللّهُ وَرَسُولُهُ. [15/ 292]
1111 -
كَثِيرٌ مِن أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ وَالشِّوْكِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ يَدْعُو وَيَسْتَغِيثُ بِشَيْخِهِ الَّذِي يُعَظِّمُهُ وَهُوَ مَيِّتٌ، أَو يَسْتَغِيثُ بِهِ عِنْدَ قَبْرِهِ وَيَسْأَلُهُ، وَقَد يَنْذِرُ لَهُ نَذْرًا وَنَحْو ذَلِكَ، وَيَرَى ذَلِكَ الشَّخْصَ قَد أَتَاهُ فِي الْهَوَاءِ وَدَفَعَ عَنْهُ بَعْضَ مَا يَكْرَهُ أَو كَلَّمَهُ بِبَعْضِ مَا سَالَهُ عَنْهُ وَنَحْو ذَلِكَ، فَيَظُنُّهُ الشَّيْخَ نَفْسَهُ أَتَى إنْ كَانَ حَيًّا.
حَتَّى أَنِّي أَعْرِفُ مِن هَؤُلَاءِ جَمَاعَاتٍ يَأْتُونَ إلَى الشَّيْخِ نَفْسِهِ الَّذِي اسْتَغَاثُوا بِهِ وَقَد رَأَوْة أَتَاهُم فِي الْهَوَاءِ فَيَذْكُرُونَ ذَلِكَ لَهُ.
وَلهَذَا أَعْرِفُ غَيْرَ وَاحِدٍ مِن الشُّيُوخِ الْأَكَابِرِ الَّذِينَ فِيهِمْ صِدْقٌ وَزُهْدٌ وَعِبَادَة لَمَّا ظَنُّوا هَذَا مِن كَرَامَاتِ الصَّالِحِينَ صَارَ أَحَدُهُم يُوصِي مُرِيدِيهِ يَقُولُ: إذَا كَانَت لِأحَدِكُمْ حَاجَةٌ فَلْيَسْتَغِثْ بِي وليستنجدني وَلْيَسْتَوْصِنِي وَيَقُولَ: أَنَا أَفْعَلُ بَعْدَ مَوْتِي مَا كُنْت أَفْعَلُ فِي حَيَاتِي، وَهُوَ لَا يَعْرِف أَنَّ تِلْكَ شَيَاطِينُ تَصَوَّرَتْ عَلَى صُورَتِهِ لِتُضِلَّهُ وَتُضِلَّ أَتْبَاعَهُ، فَتُحَسِّنُ لَهُم الْإِشْرَاكَ بِاللّهِ وَدعَاءَ غَيْرِ اللّهِ وَالِاسْتِغَاثَةَ بِغَيْرِ اللّهِ، وَأَنَّهَا قَد تُلْقِي فِي قَلْبِهِ أَنَّا نَفْعَلُ بَعْدَ مَوْتِك بِأَصْحَابِك مَا كُنَّا نَفْعَلُ بِهِم فِي حَيَاتِك، فَيَظُنُّ هَذَا مِن خِطَابٍ إلَهِيٍّ أُلْقِيَ فِي قَلْبِهِ، فَيَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ.
وَأَعْرِفُ مِن هَؤُلَاءِ مَن كَانَ لَهُ شَيَاطِينُ تَخْدِمُهُ فِي حَيَاتِهِ بِأَنْوَاعِ الْخَدَمِ مِثْل خِطَابِ أَصْحَابِهِ الْمُسْتَغِيثِينَ بِهِ وَإِعَانَتِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَمَّا مَاتَ صَارُوا يَأْتُونَ أَحَدَهُم فِي صُورَةِ الشَّيْخِ وَيُشْعِرُونَهُ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ، وَيُرْسِلُونَ إلَى أَصْحَابِهِ رَسَائِلَ بِخِطَابٍ، وَقَد كَانَ يَجْتَمِعُ بِي بَعْضُ أَتْبَاعِ هَذَا الشَّيْخِ وَكَانَ فِيهِ زُهْدٌ وَعِبَادَةٌ، وَكَانَ يُحِبُّنِي وَيُحِبُّ هَذَا الشَّيْخَ، وَيَظُنُّ أَنَّ هَذَا مِن الْكَرَامَاتِ، وَأَنَّ الشَّيْخَ لَمْ يَمُتْ، وَذَكَرَ لِي الْكَلَامَ الَّذِي أَرْسَلَهُ إلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَقَرَأَهُ، فَإِذَا هُوَ كَلَامُ الشَّيَاطِينِ بِعَيْنِهِ.
وَقَد ذَكَرَ لِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِمَن أَعْرِفُهُم أَنَّهُم اسْتَغَاثُوا بِي فَرَأَوْنِي فِي الْهَوَاءِ وَقَد أَتَيْتهمْ وَخَلَّصْتهمْ مِن تِلْكَ الشَّدَائِدِ، مِثْل مَن أَحَاطَ بِهِ النَّصَارَى الْأَرْمَنُ لِيَأخُذُوهُ، وَآخَرُ قَد أَحَاطَ بِهِ الْعَدُوُّ وَمَعَهُ كُتُبٌ مُلَطِّفَاتٌ مِن مُنَاصِحِيْن، لَو اطَّلَعُوا عَلَى مَا مَعَهُ لَقَتَلُوهُ وَنَحْو ذَلِكَ، فَذَكَرْت لَهُم أَنِّي مَا دَرَيْت بِمَا جَرَى أَصْلًا، وَحَلَفْت لَهُم عَلَى ذَلِكَ حَتَّى لَا يَظُنُّوا أَنِّي كَتَمْت ذَلِكَ كَمَا تُكْتَمُ الْكَرَامَاتُ، وَأَنَا قَد عَلِمْت أَنَّ الَّذِي فَعَلُوهُ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ؛ بَل هُوَ شِرْكٌ وَبِدْعَةٌ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لِي فِيمَا بَعْدُ وَبَيَّنْت لَهُم أَنَّ هَذِهِ شَيَاطِين تَتَصَوَّرُ عَلَى صُورَةِ الْمُسْتَغَاثِ بِهِ.
وَحَكَى لِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِن أَصْحَابِ الشُّيُوخِ أَنَّهُ جَرَى لِمَن اسْتَغَاثَ بِهِم مِثْلُ ذَلِكَ، وَحَكَى خَلْقٌ كَثِيرٌ أَنَّهُم اسْتَغَاثُوا بِأَحْيَاء وَأَمْوَاتٍ فَرَأَوْا مِثْل ذَلِكَ، وَاسْتَفَاضَ هَذَا حَتَّى غرِفَ أَنَّ هَذَا مِنَ الشَّيَاطِينِ وَالشَّيَاطِينُ تُغْوِي الْإِنْسَانَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ.
فَإِنْ كَانَ مِمَن لَا يَعْرِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ أَوْقَعَتْهُ فِي الشِّرْكِ الظَّاهِرِ وَالْكُفْرِ الْمَحْضِ فَأمَرَتْهُ أَنْ لَا يَذْكُرَ اللّهَ وَأَنْ يَسْجُدَ لِلشَّيْطَانِ وَيَذْبَحَ لَهُ وَأَمَرَتْهُ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ وَالدَّم وَيَفْعَلَ الْفَوَاحِشَ.
وَإِنْ كَانَ الشَّيْخُ فِيهِ إسْلَامٌ وَدِيَانَةٌ وَلَكِنْ عِنْدَة قِلَّةُ مَعْرِفَةٍ بِحَقِيقَةِ مَا بَعَثَ اللّهُ بِهِ رَسُولَهُ كل وَقَد عَرَفَ مِن حَيْثُ الْجُمْلَةِ أَنَّ لِأَوْليَاءِ اللهِ كَرَامَاتٍ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ كَمَالَ الْوِلَايَةِ، وَأَنَّهَا الْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى وَاتِّباعُ الرُّسُلِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا أَو يَعْرِفُ ذَلِكَ مُجْمَلًا وَلَا يَعْرِفُ مِن حَقَائِقِ الْإِيمَانِ الْبَاطِنِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ مَا يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْأَحْوَالِ الرَّحْمَانِيَّةِ وَبَيْنَ النَّفْسَانِيَّةِ والشَّيطانية: أَمَرَتْهُ الشَّيَاطِينُ بِأَمْرٍ لَا يُنْكِرُهُ، فَتَارَةً يَحْمِلُونَ أَحَدَهُم فِي الْهَوَاءِ وَيَقِفُونَ بِهِ بِعَرَفَات ثُمَّ يُعِيدُونَهُ إلَى بَلَدِهِ وَهُوَ لَابِسٌ ثِيَابَهُ لَمْ يَحْرُمْ حِينَ حَاذَى الْمَوَاقِيتِ وَلَا كَشَفَ رَأْسَهُ وَلَا تَجَرَّدَ عَمَّا يَتَجَرَّدُ عَنْهُ الْمُحْرِمُ.
وَقَد تَحْمِلُ أَحَدَهُم الْجِنُّ فَتُزَوِّرُهُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَغَيْرَهُ وَتَطِيرُ بِهِ فِي الْهَوَاءِ وَتَمْشِي بِهِ فِي الْمَاءِ، وَقَد تُرِيهِ أَنَّهُ قَد ذُهِبَ بِهِ إلَى مَدِينَةِ الْأَوْلِيَاء، وَرُبَّمَا أَرَتْهُ أَنَّهُ يَأْكُلُ مِن ثِمَارِ الْجَنَّةِ وَيَشْرَبُ مِن أَنْهَارِهَا.
وَهَذَا كُلُّهُ وَأَمْثَالُهُ مِمَّا أَعْرِفُهُ قَد وَقَعَ لِمَن أَعْرِفُهُ، لَكِنَّ هَذَا بَابٌ طَوِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهِ. [1/ 456 - 460]
1112 -
ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَا مِنْكُمْ مِن أَحَدٍ إِلَّا وَقَد وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْمَلَائِكةِ وَقَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ، قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللّهِ، قَالَ: وَإِيَّايَ إلَّا أَنَّ اللهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَلَا يَأْمُرُنِي إلَّا بِخَيْر"
(1)
.
أَيْ: اسْتَسْلَمَ وَانْقَادَ، وَكَانَ ابْنُ عُيَيْنَة يَرْوِيه (فَأَسْلَمُ) بِالضَّمِّ، وَيَقُولُ: إنَّ الشَّيْطَانَ لَا يُسْلِمُ.
لَكِنَّ قَوْلَهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: (فَلَا يَأْمُرُنِى إِلَّا بِخَيْرِ) دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ يَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ، وَهَذَا إسْلَامُهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَن خُضُوعِهِ وَذِلَّتِهِ، لَا عَن إيمَانِهِ بِاللّهِ، كَمَا يَقْهَرُ الرَّجُلُ عَدُوَّهُ الظَّاهِرَ وَيَأْسِرُهُ، وَقَد عَرَفَ الْعَدُوُّ الْمَقْهُورُ أَنَّ ذَلِكَ الْقَاهِرَ يَعْرِفُ مَا يُشِيرُ بِهِ عَلَيْهِ مِن الشَّرِّ، فَلَا يَقْبَلُهُ بَل يُعَاقِبُهُ عَلَى ذَلِكَ، فَيَحْتَاجُ لِانْقِهَارِهِ مَعَهُ إلَى أَنَّهُ لَا يُشِيرُ عَلَيْهِ إلَّا بِخَيْرٍ لِذِلَّتِهِ وَعَجْزِهِ، لَا لِصَلَاحِهِ وَدِينِهِ. [17/ 523]
1113 -
كَافِرُهُم [أي: الجنّ] مُعَذَّبٌ فِي الْآخِرَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَأَمَّا مُؤْمِنُهُم فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ.
وَإِذَا كَانَ الْجِنُّ أَحْيَاءَ عُقَلَاءَ مَأْمُورِينَ مَنْهِيّينَ لَهُم ثَوَابٌ وَعِقَابٌ وَقَد أُرْسِلَ إلَيْهِم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِيهِمْ مَا يَسْتَعْمِلُهُ فِي الْإِنْسِ
(1)
مسلم (2814).
مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالدَّعْوَةِ إلَى اللهِ كَمَا شَرَعَ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَكَمَا دَعَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَيُعَامِلُهُم إذَا اعْتَدَوْا بِمَا يُعَامِلُ بِهِ الْمُعْتَدُونَ فَيَدْفَعُ صَوْلَهُم بِمَا يَدْفَعُ صَوْلَ الْإِنْسِ.
وَصَرْعُهُم لِلْإِنْسِ قَد يَكونُ عَن شَهْوَةٍ وَهَوًى وَعِشْقٍ كَمَا يَتَّفِقُ لِلْإِنْسِ مَعَ الْإِنْسِ، وَقَد يَتَنَاكَحُ الْإِنْسُ وَالْجِنّ وَيُولَدُ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ، وَهَذَا كَثِيرٌ مَعْرْوفٌ.
وَقَد تَقْضِي بَعْضَ حَوَائِجِهِمْ؛ إمَّا قَتْلَ بَعْضِ أَعْدَائِهِمْ، أَو إمْرَاضَهُ، وَإِمَّا جَلْبَ بَعْضِ مَن يَهْوُونَهُ، وَإِمَّا إحْضَارَ بَعْضِ الْمَالِ، وَلَكِنَّ الضَّرَرَ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُم بِذَلِكَ أَعْظَمُ مِنَ النَّفْعِ؛ بَل قَد يَكُونُ أَضْعَافَ أَضْعَافِ النَّفْعِ.
وَالَّذِينَ يَسْتَخْدِمُونَ الْجِنَّ بِهَذِهِ الْأمُورِ يَزْعُمُ كَثِيرٌ مِنْهُم أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ يَسْتَخْدِمُ الْجِنَّ بِهَا، فَإِنَّهُ قَد ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِن عُلَمَاءِ السَّلَفِ أنَّ سُلَيْمَانَ عليه السلام لَمَّا مَاتَ كَتَبَت الشَّيَاطِينُ كتُبَ سِحْرٍ وَكُفْرٍ وَجَعَلَتْهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ وَقَالُوا: كَانَ سُلَيْمَانُ يَسْتَخْدِمُ الْجِن بِهَذِهِ، فَطَعَنَ طَائِفَةٌ مِن أَهْلِ الْكِتَابِ فِي سُلَيْمَانَ بِهَذَا، وَآخَرُونَ قَالُوا: لَوْلَا أَنَّ هَذَا حَق جَائِزٌ لَمَا فَعَلَهُ سُلَيْمَانُ، فَضَلَّ الْفَرِيقَانِ: هَؤُلَاءِ بِقَدْحِهِمْ فِي سُلَيْمَانَ، وَهَؤُلَاءِ بِاتِّبَاعِهِمُ السِّحْرَ. [19/ 38 - 42]
1114 -
قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِهَذِهِ الْبُيُوتِ عَوَامِرَ، فَإِذَا رَأْيْتُمْ شَيْئًا مِنْهَا فَحَرِّجُوا عَلَيْهَا ثَلَاثًا، فَإِنْ ذَهَبَ وَإِلَّا فَاقْتُلُوهُ، فَإِنَّهُ كَافِرٌ"
(1)
؛ وَذَلِكَ أَنَّ قَتْلَ الْجِنِّ بِغَيْرِ حَقٍّ لَا يَجُوزُ، كَمَا لَا يَجُوزُ قَتْلُ الْإِنْسِ بِلَا حَقٍّ، وَالظُّلْمُ مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ حَالٍ، فَلَا يَحِل لِأحَدٍ أَنْ يَظْلِمَ أحَدًا وَلَو كَانَ كَافِرًا؛ بَل قَالَ تَعَالَى:{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8].
وَالْجِن يَتَصَوَّرُونَ فِي صُوَرِ الْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ، فَيَتَصَوَّرُونَ فِي صُوَرِ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَغَيْرِهَا، وَفِي صُوَرِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَفِي صُوَرِ الطَّيْرِ، وَفِي صُوَرِ بَنِي آدَمَ. [19/ 44]
(1)
رواه مسلم (2236).
1115 -
كُلُّ مَن عَبَدَ عِبَادَةً لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةً وَظَنَّهَا وَاجِبَةً أَو مُسْتَحَبَّةً: فَإِنَّمَا زَيَّنَ ذَلِكَ لَهُ الشَّيْطَانُ. [19/ 48]
1116 -
إِذَا بَرِئَ الْمُصَابُ بِالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ، وَأَمْرِ الْجِنِّ وَنَهْيِهِمْ وَانْتِهَارِهِمْ وَسَبِّهِم وَلَعْنِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ: حَصَلَ الْمَقْصُودُ.
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ مَرَضَ طَائِفَةٍ مِنَ الْجِنِّ أَو مَوْتَهُم فَهُم الظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ إذَا كَانَ الرَّاقِي الدَّايِر الْمُعَالِجُ لَمْ يَتَعَدَّ عَلَيْهِم.
وَأَمَّا مَن سَلَكَ فِي دَفْعِ عَدَاوَتهِمْ مَسْلَكَ الْعَدْلِ الَّذِي أَمَرَ اللّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ فَإِنَهُ لَمْ يَظْلِمْهُمْ؛ بَل هُوَ مُطِيعٌ للّهِ وَرَسُولِهِ فِي نَصْرِ الْمَظْلُومِ وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ وَالتَّنْفِيسِ عَنِ الْمَكْرُوبِ بِالطَّرِيقِ الشَّرْعِيِّ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شِرْكٌ بِالْخَلْقِ، وَلَا ظُلْمٌ لِلْمَخْلُوقِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا تُؤْذِيهِ الْجِنُّ؛ إمَّا لِمَعْرِفَتِهِمْ بِأَنَّهُ عَادِلٌ، وَإِمَّا لِعَجْزِهِمْ عَنْهُ
(1)
.
وَإِنْ كَانَ الْجِنُّ مِنَ الْعَفَارِيتِ وَهُوَ ضَعِيفٌ فَقَد تُؤْذِيهِ، فَيَنْبَغِي لِمِثْل هَذَا أَنْ يَحْتَرِزَ بِقِرَاءَةِ الْعُوَذِ مِثْل آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَالْمُعَوّذَاتِ وَالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُقَوِّي الْإِيمَانَ وَيُجَنِّبُ الذُّنُوبَ الَّتِي بِهَا يُسَلَّطُونَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مُجَاهِدٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ، وَهَذَا مِن أَعْظَمِ الْجِهَادِ، فَلْيَحْذَرْ أَنْ يَنْصُرَ الْعَدُوَّ عَلَيْهِ بِذُنُوبِهِ، وَإِن كَانَ الْأَمْرُ فَوْقَ قُدْرَتِهِ فَلَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا، فَلَا يَتَعَرَّضُ مِنَ الْبَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ.
وَمِن أَعْظَمِ مَا يَنْتَصِرُ بِهِ عَلَيْهِم آيَةُ الْكُرْسِيِّ .. فَقَدَ جَرَّبَ الْمُجَربُونَ الَّذِينَ لَا يُحْصَونَ كَثْرَةً أَنَّ لَهَا مِنَ التَّأْثِيرِ فِي دَفْعِ الشَّيَاطِينِ وَإِبْطَالِ أَحْوَالِهِمْ مَا لَا يَنْضَبِطُ مِن كَثْرَتِهِ وَقُوَّتِهِ، فَإِنَّ لَهَا تَأْثِيرًا عَظِيمًا فِي دَفْعِ الشَّيْطَانِ عَن نَفْسِ
(1)
ولهذا لا ينبغي لمن رقى أحدًا أن يخاف من الجن ولو هدّده، فإنه لا يتمكن منه بل ويخاف منه، وكلما قوي إيمان الراقي، وعظم يقينه وتوكله على ربه، واستعمل العدل مع الجن ولم يظلمهم: خافوا منه، وهابوا أن يُؤذوه أو يُؤذوا أحدًا من أهلِه.
الْإِنْسَانِ، وَعَنِ الْمَصْرُوع، وَعَن مَن تُعِينُهُ الشَّيَاطِينُ، مِثْل أَهْلِ الظُّلْمِ وَالْغَضَبِ وَأَهْلِ الشَّهْوَةِ وَالطَّرَبِ وَأَرْبَاب السَّمَاعِ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ إذَا قُرِئَتْ عَلَيْهِم بِصِدْقٍ دَفَعَتْ الشَّيَاطِينَ، وَبَطَلَتِ الْأُمُورُ الَّتِي يُخَيِّلُهَا الشَّيْطَانُ، وَيَبْطُلُ مَا عِنْدَ إخْوَانِ الشَّيَاطِينِ مِن مُكَاشَفَةٍ شَيْطَانِيَّةٍ، وَتَصَرُّفٍ شَيْطَانِيٍّ.
وَالصَّائِلُ الْمُعْتَدِي يَسْتَحِقُّ دَفْعُهُ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَو كَافِرًا، وَقَد قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَن قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَن قُتِلَ دونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَن قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ"
(1)
، فَإِذَا كَانَ الْمَظْلُومُ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ عَن مَالِ الْمَظْلُومِ وَلَو بِقَتْلِ الصَّائِلِ الْعَادِي، فَكَيْفَ لَا يَدْفَعُ عَن عَقْلِهِ وَبَدَنِهِ وَحُرْمَتِهِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يُفْسِدُ عَقْلَهُ وَيُعَاقِبُهُ فِي بَدَنِهِ، وَقَد يَفْعَلُ مَعَهُ فَاحِشَةَ إنْسِيٍّ بِإِنْسِيٍّ، وَإِن لَمْ يَنْدَفِعْ إِلَّا بِالْقَتْلِ جَازَ قَتْلُهُ.
وَلهَذَا قَد يَحْتَاجُ فِي إبْرَاءِ الْمَصْرُوعِ وَدَفْع الْجِنِّ عَنْهُ إلَى الضَّرْبِ فَيُضْرَبُ ضَرْبًا كَثِيرًا جِدًّا، وَالضَّرْبُ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْجِنِّيِّ وَلَا يَحُسُّ بِهِ الْمَصْرُوعُ، حَتَّى يَفِيقَ الْمَصْرُوعُ وَيُخْبِرَ أَنَّهُ لَمْ يَحُسَّ بِشَيءٍ مِن ذَلِكَ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي بَدَنِهِ، وَيَكُونُ قَد ضُرِبَ بِعَصَا قَوِيَّةٍ عَلَى رِجْلَيْهِ نَحْو ثَلَاثِمِائَةٍ أَو أَرْبَعِمِائَةِ ضَرْبَةً وَأَكْثَرَ وَأَقَلَّ، بِحَيْثُ لَو كَانَ عَلَى الْإِنْسِيِّ لَقَتَلَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الْجِنِّيِّ، وَالْجِنِّيُّ يَصِيحُ وَيَصْرُخُ وَيُحَدِّثُ الْحَاضِرِينَ بِأُمُورٍ مُتَعَدِّدَةٍ، كَمَا قَد فَعَلْنَا نَحْنُ هَذَا وَجَرَّبْنَاهُ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً يَطُولُ وَصْفُهَا بِحَضْرَةِ خَلْقٍ كَثِيرِينَ.
وَأَمَّا الِاسْتِعَانَةُ عَلَيْهِم بِمَا يُقَالُ وَيُكْتَبُ مِمَّا لَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ: فَلَا يُشْرَعُ، لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ فِيهِ شِرْكٌ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ.
وَعَامَّةُ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْعَزَائِمِ فِيهِ شِرْكٌ، وَقَد يَقْرَؤُونَ مَعَ ذَلِكَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ وَيُظْهِرُونَهُ وَيَكْتُمُونَ مَا يَقُولُونَهُ مِنَ الشِّرْكِ، وَفِي الِاسْتِشْفَاءِ بِمَا شَرَعَهُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مَا يُغْنِي عَنِ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ. وَالْمُسْلِمُونَ وَإِن تَنَازَغوا فِي جَوَازِ التَّدَاوِي
(1)
رواه الترمذي وصحَّحه (1421)، وأبو داود (4772).
بِالْمُحَرَّمَاتِ كَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ، فَلَا يَتَنَازَعُونَ فِي أَنَّ الْكُفْرَ وَالشِّرْكَ لَا يَجُوزُ الئدَاوِي بِهِ بِحَال؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ حَالٍ.
وَلَيْسَ هَذَا كَالتَّكَلُّمِ بِهِ عِنْدَ الْإكْرَاهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا كَانَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ، وَالتَّكَلُّمُ بِهِ إنَّمَا يُؤَثّرُ إذَا كَانَ بِقَلْب صَاحِبِهِ، وَلَو تَكَلَّمَ بِهِ مَعَ طُمَأْنِينَةِ قَلْبِهِ بِالْإِيمَانِ لَمْ يُؤَثِّرْ. وَالشَّيْطَانُ إذَا عَرَفَ أَنَّ صَاحِبَهُ مُسْتَخِفٌّ بِالْعَزَائِمِ لَمْ يُسَاعِدْهُ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْمُكْرَهَ مُضْطَرٌّ إلَى التَكَلُّمِ بِهِ، وَلَا ضرُورَةَ إلَى إبْرَاءِ الْمُصَابِ بِهِ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَد لَا يُؤَثِّرُ أَكْثَرَ مِمَّا يُؤَثِّرُ مَن يُعَالِجُ بِالْعَزَائِمِ فَلَا يُؤَثّرُ بَل يَزِيدُهُ شَرًّا.
وَالثَّانِي: أَنَّ فِي الْحَقّ مَا يُغْنِي عَنِ الْبَاطِلِ. [19/ 53 - 61]
1117 -
سُؤَالُ الْجِنِّ وَسُؤَالُ مَن يَسْأَلُهُمْ
(1)
: إنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّصْدِيقِ لَهُم فِي كُلِّ مَا يُخْبِرُونَ بِهِ وَالتَّعْظِيم لِلْمَسْؤُولِ فَهُوَ كَمَا ثَبَتَ فِي "صَحِيح مُسْلِمٍ" عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَن أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَن شَيْءٍ لَمْ تُقْبَل لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا"
(2)
.
وَأَمَّا إنْ كَانَ يَسْأَلُ الْمَسْؤُولَ لِيَمْتَحِنَ حَالَهُ وَيَخْتَبِرَ بَاطِنَ أَمْرِهِ وَعِنْدَهُ مَا يُمَيِّزُ بِهِ صِدْقَهُ مِن كَذِبِهِ فَهَذَا جَائِزٌ.
(1)
هذا موجود بكثرة في هذا الزمان، وأعرف من اتصل بهم لعلاج مرضهم، وسؤالهم عن ماضي حالهم، وهو يعلم أنهم يتعاملون مع الجن، وهم يزعمون أنهم يتعاملون معهم في حدود الخير والنفع، ويأمرون المريض بالطاعة والعبادة، ويتدرجون به حتى يأمروه بأمور غريبة، كأن يغتسل ببوله، كما حَدَّثَنِي بذلك من تعامل معهم، وبطلبون من المريض أموالًا كثيرةً جدًّا؛ ويزعمون أنه سيُشفى، وبعد فترة من الزمن يشعر بطعم العافية، وما يلبث أن تزول ويرجع إلى ما كان أو أشدّ.
(2)
مسلم (2230).
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ يَسْمَعُ مَا يَقُولُونَهُ وَيُخْبِرُونَ بِهِ عَنِ الْجِنِّ، كَمَا يَسْمَعُ الْمُسْلِمُونَ مَا يَقُولُ الْكُفَّارُ وَالْفُجَّارُ لِيَعْرِفُوا مَا عِنْدَهُم فَيَعْتَبِرُوا بِهِ، وَكَمَا يُسْمَعُ خَبَرَ الْفَاسِقِ وَيُتَبَيَّنُ وَيُتَثَبَّتُ فَلَا يُجْزَمُ بِصِدْقِهِ وَلَا كَذِبِهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6].
وَقَد رُوِيَ عَن أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ أَبْطَأَ عَلَيْهِ خَبَرُ عُمَرَ وَكَانَ هُنَاكَ امْرَأَةٌ لَهَا قَرِينٌ مِنَ الْجِنِّ، فَسَأَلَهُ عَنْهُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَرَكَ عُمَرَ يَسِمُ إبِلَ الصَّدَقَةِ.
وَفِي خَبَرٍ آخَرَ أَنَّ عُمَرَ أَرْسَلَ جَيْشًا فَقَدِمَ شَخْصٌ إلَى الْمَدِينَةِ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُم انْتَصَرُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَشَاعَ الْخَبَرُ، فَسَالَ عُمَرُ عَن ذَلِكَ فَذُكِرَ لَهُ فَقَالَ: هَذَا أَبُو الْهَيْثَمِ، بَرِيدُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْجِنِّ، وَسَيَأْتِي بَرِيدُ الْإِنْسِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَجَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ بِعِدَّةِ أَيَّامٍ.
* * *
(قصص من إضلال الشياطين للمستغيثين بالأولياء وغيرهم)
1118 -
كَثِيرٌ مِمَن يَسْتَغِيث بِالْمَشَايِخِ فَيَقُولُ: يَا سَيِّدِي فُلَان، أَو يَا شَيْخُ فُلَانٌ اقْضِ حَاجَتِي، فَيَرَى صُورَةَ ذَلِكَ الشَّيْخِ تُخَاطِبُهُ وَيَقُولُ: أَنَا أَقْضِي حَاجَتَك وَأُطَيِّبُ قَلْبَك، فَيَقْضِي حَاجَتَهُ أَو يَدْفَعُ عَنْهُ عَدُوَّهُ، وَيَكُون ذَلِكَ شَيْطَانًا قَد تَمَثَّلَ فِي صُورَتِهِ لَمَّا أَشْرَكَ بِاللهِ فَدَعَا غَيْرَهُ.
وَأَنَا أَعْرِفُ مِن هَذَا وَقَائِعُ متَعَدّدَةٌ، حَتَّى إنَّ طَائِفَةً مِن أَصْحَابِي ذَكَرُوا أَنَّهُم اسْتَغَاثُوا بِي فِي شَدَائِدَ أَصَابَتْهُمْ، أَحَدُهُم كَانَ خَائِفًا مِن الْأَرْمَنِ، وَالْآخَرُ كَانَ خَائِفًا مِن التتر، فَذَكَرَ كُلٌّ مِنْهُم أَنَّهُ لَمَّا اسْتَغَاثَ بِي رَآنِي فِي الْهَوَاءِ وَقَد دَفَعْت عَنْهُ عَدُوَّهُ!
فَأَخْبَرْتهمْ أَنِّي لَمْ أَشْعُرْ بِهَذَا، وَلَا دَفَعْت عَنْكُمْ شَيْئًا، وَإِنَّمَا هَذَا الشَّيْطَانُ تَمَثَّلَ لِأَحَدِهِمْ فَأَغْوَاهُ لَمَّا أَشْرَكَ بِاللهِ تَعَالَى.
وَهَكَذَا جَرَى لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِن أَصْحَابِنَا الْمَشَايِخِ مَعَ أَصْحَابِهِمْ، يَسْتَغِيثُ
أَحَدُهُم بِالشَّيْخِ فَيَرَى الشَيْخَ قَد جَاءَ وَقَضَى حَاجَتَهُ، وَيَقُولُ ذَلِكَ الشَّيْخُ: إنِّي لَمْ أَعْلَمْ بِهَذَا، فَيَتَبَيَّنُ أَنَ ذَلِكَ كَانَ شَيْطَانًا.
وَقَد قُلْت لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا لَمَّا ذَكَرَ لِي أَنَّهُ اسْتَغَاثَ بِاثْنَيْنِ كَانَ يَعْتَقِدُهُمَا وَأَنَّهُمَا أَتَيَاهُ فِي الْهَوَاءِ، وَقَالا لَهُ: طَيِّب قَلْبَك نَحْنُ نَدْفَعُ عَنْك هَؤُلَاءِ وَنَفْعَلُ وَنَصْنَعُ، قُلْت لَهُ: فَهَل كَانَ مِن ذَلِكَ شَيْءٌ؟ فَقَالَ: لَا، فَكَانَ هَذَا مِمَّا دَلَّهُ عَلَى أَنَّهُمَا شَيْطَانَانِ؛ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ وَإِن كَانُوا يُخْبِرُونَ الْإِنْسَانَ بِقَضِيَّةٍ أَو قِصَّةٍ فِيهَا صِدْقٌ فَإِنَّهُم يَكْذِبُونَ أَضْعَافَ ذَلِكَ، كَمَا كَانَت الْجِنُّ يُخْبِرُونَ الْكُهَّانَ.
وَلهَذَا مَن اعْتَمَدَ عَلَى مُكَاشَفَتِهِ الَّتِي هِيَ مِن أَخْبَارِ الْجِنِّ كَانَ كَذِبُهُ أَكْثَرَ مِن صِدْقِهِ. [35/ 115 - 116]
* * *
المحرمات والذنوب والمعاصي
1119 -
مَن عُرِفَ مِنْهُ التَّظَاهُرُ بِتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ أَو فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِق أَنْ يُهْجَرَ وَلَا يُسَلَّمَ عَلَيْهِ تَعْزِيزا لَهُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَتُوبَ. [23/ 252]
1120 -
الْمَعَازِفُ: هِيَ خَمْرُ النُّفُوسِ، تَفْعَلُ بِالنُّفُوسِ أَعْظَمَ مِمَّا تَفْعَلُ حُمَيَّا الْكُؤُوسِ، فَإِذَا سَكِرُوا بِالْأَصْوَاتِ حَلَّ فِيهِمْ الشِّرْكُ، وَمَالُوا إلَى الْفَوَاحِشِ هاِلَى الظُّلْمِ، فَيُشْرِكُونَ وَيَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ وَيَزْنُونَ. [10/ 417]
1121 -
ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَن تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا مِن غَيْرِ عُذْرٍ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ"
(1)
فَإِذَا كَانَ طَبَعَ عَلَى قَلْبِ مَن تَرَكَ الْجُمَعَ وَإِن صَلَّى الظُّهْرَ فَكَيْفَ بِمَن لَا يُصَلِّي ظُهْرًا وَلَا جُمعَةً وَلَا فَرِيضَةً وَلَا نَافِلَةً. [10/ 446]
1122 -
الِاسْتِمْنَاءُ لَا يُبَاحُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ سَلَفًا وَخَلَفًا، سَوَاءٌ خُشِيَ الْعَنَتُ أَو لَمْ يُخْشَ ذَلِكَ.
وَكَلَامُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَا رُوِيَ عَن أَحْمَد فِيهِ إنَّمَا هُوَ لِمَن خَشِيَ "الْعَنَتَ"، وَهُوَ الزنى وَاللِّوَاطُ خَشْيَةً شَدِيدَةً خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِن الْوُقُوعِ فِي ذَلِكَ فَأُبِيحَ لَهُ ذَلِكَ لِتَكْسِيرِ شِدَّةِ عَنَتِهِ وَشَهْوَتِهِ.
وَأَمَّا مَن فَعَلَ ذَلِكَ تَلَذُّذًا أَو تَذَكُّرًا أَو عَادَةً؛ بِأَنْ يَتَذَكَّرَ فِى حَالِ اسْتِمْنَائِهِ صُورَةً كَأَنَّهُ يُجَامِعُهَا، فَهَذَا كُلُّهُ مُحَرَّمٌ لَا يَقُولُ بِهِ أَحْمَد وَلَا غَيْرُهُ،
(1)
رواه أبو داود (1052)، والنسائي (1369)، والإمام أحمد (15498).
وَقَد أَوْجَبَ فِيهِ بَعْضُهُم الْحَدَّ، وَالصَّبْرُ عَن هَذَا مِن الْوَاجِبَاتِ لَا مِن الْمُسْتَحَبَّاتِ. [10/ 574]
1123 -
فَأَمَّا مُؤَاخَاةُ الرِّجَالِ النّسَاءَ الْأَجَانِبَ وَخُلُوُّهُم بِهِنَّ وَنَظَرُهُم إلَى الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ مِنْهُنَّ: فَهَذَا حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَن جَعَلَ ذَلِكَ مِن الدِّينِ فَهُوَ مِن إخْوَانِ الشَّيَاطِينِ. [11/ 505]
1124 -
فِي السُّنَنِ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَن وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ".
وَلهَذَا اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَتْلِهِمَا جَمِيعًا، لَكِنْ تَنَوَّعُوا فِي صِفَةِ الْقَتْلِ: فَبَعْضُهم قَالَ: يُرْجَمُ.
وَبَعْضُهُم قَالَ: يُرْمَى مِن أَعْلَى جِدَارٍ فِي الْقَرْيَةِ وَيُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ.
وَبَعْضهُم قَالَ: يُحَرَّقُ بِالنَّارِ.
وَلهَذَا كَانَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ أَنَّهُمَا يُرْجَمَانِ بِكْرَيْنِ كَانَا أَو ثَيِّبَيْنِ حُرَّيْنِ.
وَكَذَلِكَ مُقَدِّمَاتُ الْفَاحِشَةِ عِنْدَ التَّلَذُّذِ بِقُبْلَةِ الْأَمْرَدِ وَلَمْسِهِ وَالنَّظَرِ إلَيْهِ
(1)
هُوَ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا هُوَ كَذَلِكَ فِي الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ.
وَقَد دَخَلَ مِن فِتْنَةِ الصُّوَرِ وَالْأَصْوَاتِ عَلَى النُّسَّاكِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللّهُ حَتَّى اعْتَرَفَ أَكَابِرُ الشُيُوخُ بِذَلِكَ. [11/ 543 - 545]
1125 -
إِنْ كَانَ الشَّخْصَانِ قَد اخْتَصَمَا نُظِرَ أَمْرُهُمَا، فَإِنْ تبَيَّنَ ظُلْمُ أَحَدِهِمَا كَانَ الْمَظْلُومُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الِاسْتِيفَاءِ وَالْعَفْوِ، وَالْعَفْوُ أَفْضَلُ.
(1)
هذا إذا كان لَمْسُه وَالنَّظَرُ إلَيْهِ بلذةٍ أو بشهوة، أما مع عدمها لا سيما مع الحاجة فلا بأس.
فَإِنْ كَانَ ظُلْمُة بِضَرْبٍ أَو لَطْمٍ فَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهُ أَو يَلْطِمَهُ كَمَا فَعَلَ بِهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَكَثِيرٍ مِن الأئِمَّةِ، وَبِذَلِكَ جَاءَت السُّنَّةُ.
وَقَد قِيلَ: إنَّهُ يُؤَدَّبُ وَلَا قِصَاصَ فِي ذَلِكَ.
وَإِن كَانَ قَد سَبَّهُ فَلَهُ أَنْ يَسُبَّهُ مِثْل مَا سَبَّهُ إذَا لَمْ يَكُن فِيهِ عُدْوَانٌ عَلَى حَقٍّ مَحْضٍ للهِ أَو عَلَى غَيْرِ الظَّالِمِ.
فَإِذَا لَعَنَهُ أَو سَمَّاهُ بِاسْمِ كَلْبٍ وَنَحْوِهِ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ مِثْل ذَلِكَ، فَإِذَا لَعَنَ أَبَاهُ لَمْ يَكُن لَة أَنْ يَلْعَنَ أَبَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْلِمْهُ.
وَإِن افْتَرَى عَلَيْهِ كَذِبًا لَمْ يَكن لَهُ أَنْ يَفْتَرِيَ عَلَيْهِ كَذِبًا؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ حَرَامٌ لِحَقِّ اللّهِ. [11/ 547 - 548]
1126 -
أَكْلُ الْخَبَائِثِ وَأَكْلُ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِب حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، فَمَن أَكَلَهَا مُسْتَحِلًّا لِذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلًّا قُتِلَ، وَمَن اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ وَأَكَلَهَا فَإِنَّهُ فَاسِقٌ عَاصٍ للّهِ وَرَسُولِهِ. [11/ 609]
1127 -
الْكَبَائِرُ هِيَ مَا فِيهَا حَدٌّ فِي الدُّنْيَا أَو فِي الْآخِرَةِ؛ كَالزنى وَالسَّرِقَةِ وَالْقَذْفِ الَّتِي فِيهَا حُدُودٌ فِي الدُّنْيَا، وَكَالذُّنُوبِ الَّتِي فِيهَا حُدُود فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْوَعِيدُ الْخَاصُّ، مِثْلُ الذَّنْبِ الَّذِي فِيهِ غَضَبُ اللّهِ وَلَعْنَتُهُ أَو جَهَنَّمُ وَمَنْعُ الْجَنَّةِ. [11/ 659]
وَكَذَلِكَ كُلُّ ذَنْب تُوُعِّدَ صَاحِبُهُ بِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَا يَشُمُّ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَقِيلَ فِيهِ: مَن فَعَلَهُ فَلَيْسَ مِنَّا وَأَنَّ صَاحِبَة آثِمٌ، فَهَذِهِ كُلُّهَا مِن الْكَبَائِرِ. [11/ 652]
1128 -
الزنى أَعْظَمُ مِن شُرْبِ الْخَمْرِ إذَا اسْتَوَيَا فِي الْقَدْرِ، مِثْلُ مَن يَزْنِي مَرَّةً وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ مَرَّةً، فَأَمَّا إذَا قُدِّرَ أَنَّ رَجُلًا زَنَى مَرَّةً وَآخَرَ مُدْمِنٌ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ فَهَذَا قَد يَكُونُ أَعْظَمَ مِن ذَاكَ.
كَمَا أَنَّهُ لَو زَنَى مَرَّةً وَتَابَ كَانَ خَيْرًا مِن الْمُصِرِّ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ.
وَالذَّنْبُ يتغلظ بِتَكْرَارِهِ وَبِالْإِصْرَارِ عَلَيْهِ وَبِمَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِن سَيِّئَاتٍ أُخَرَ.
وَكَذَلِكَ لَو قَدَّرْنَا أَنَّ الزَّانِيَ زَنَى وَهُوَ خَائِفٌ مِن اللّهِ وَجِلٌ مِن عَذَابِهِ، وَالشَّارِبَ يَشْرَبُ لَاهِيًا غَافِلًا لَا يُرَاقِبُ اللّهَ كَانَ ذَنْبُهُ أَعْظَمَ مِن هَذَا الْوَجْهِ.
فَقَد يَقْتَرِنُ بِالذُّنُوبِ مَا يُخَفِّفُهَا وَقَد يَقْتَرِنُ بِهَا مَا يُغَلِّظُهَا. كَمَا أَنَّ الْحَسَنَاتِ قَد يَقْتَرِنُ بِهَا مَا يُعَظِّمُهَا وَقَد يَقْتَرِنُ بِهَا مَا يُصَغِّرُهَا. [11/ 659 - 660]
1129 -
إنّ تَرْكَ الْوَاجِبِ وَفِعْلَ الْمُحَرَّمِ مُتَلَازِمَانِ؛ وَلهَذَا كَانَ مَن فَعَلَ مَا نُهِيَ عَنْهُ يُقَالُ: إنَّهُ عَصَى الْأَمْرَ. [11/ 672]
1130 -
قَرَّرْت فِي قَاعِدَةٍ كَبِيرَةٍ أَنَّ أَصْلَ الذُّنُوبِ هُوَ عَدَمُ الْوَاجِبَاتِ لَا فِعْلَ الْمُحَرَّمَات، وَأَنَّ فِعْلَ الْمُحَرَّمَاتِ إنَّمَا وَقَعَ لِعَدَمِ الْوَاجِبَاتِ، فَصَارَ أَصْلُ الذُّنُوبِ عَدَمَ الْوَاجِبَاتِ. [14/ 27]
1131 -
السَّيِّئَاتُ كُلُّهَا تَرْجِعُ لِلْجَهْلِ، وَإِلَّا فَلَو كَانَ عَالِمًا عِلْمًا نَافِعًا بِأَنَّ فِعْلَ هَذَا يَضُر ضَرَرًا رَاجِحًا لَمْ يَفْعَلْهُ، فَإِنَّ هَذَا خَاصِّيَّةُ الْعَاقِلِ.
وَلهَذَا إذَا كَانَ مِن الْحَسَنَاتِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَضُرُّهُ ضَرَرًا رَاجِحًا؛ كَالسُّقُوطِ مِن مَكَانٍ عَالٍ، أَو فِي نَهَرٍ يُغْرِقُهُ، أَو الْمُرُورِ بِجَنْبِ حَائِطٍ مَائِلٍ، أَو دُخُولِ نَارٍ مُتَأَجِّجَةٍ، أَو رَمْيِ مَالِهِ فِي الْبَحْرِ وَنَحْوِ ذَلِك، لَمْ يَفْعَلْهُ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّ هَذَا ضَرَرٌ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ.
وَمَن لَمْ يَعْلَمْ أَن هَذَا يَضُرُّهُ - كَالصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ، وَالسَّاهِي وَالْغَافِلِ - فَقَد يَفْعَلُ ذَلِك.
وَمَن أَقْدَمَ عَلَى مَا يَضُرُّهُ - مَعَ عِلْمِهِ بِمَا فِيهِ مِن الضَّرَرِ عَلَيْهِ - فَلِظَنِّهِ أَنَّ مَنْفَعَتَهُ رَاجِحَةٌ.
وَالْهَوَى وَحْدَهُ لَا يَسْتَقِلُّ بِفِعْلِ السَّيِّئَاتِ إلَّا مَعَ الْجَهْلِ.
وَإِلَّا فَصَاحِبُ الْهَوَى إذَا عَلِمَ قَطْعًا أَنَّ ذَلِك يَضُرُّهُ ضَرَرًا رَاجِحًا: انْصَرَفَتْ نَفْسُهُ عَنْهُ بِالطَّبْعِ.
فَإِنَّ اللّهَ تَعَالَى جَعَلَ فِي النَّفْسِ حُبًّا لِمَا يَنْفَعُهَا، وَبُغْضًا لِمَا يَضُرُّهَا، فَلَا تَفْعَلُ مَا تَجْزِمُ بِأَنَّهُ يَضُرُّهَا ضَرَرًا رَاجِحًا؛ بَل مَتَى فَعَلَتْهُ كَانَ لِضَعْفِ الْعَقْلِ.
وَلهَذَا يُوصَفُ هَذَا بِأَنَّهُ عَاقِلٌ، وَذُو نُهًى، وَذُو حِجًا.
وَلهَذَا كَانَ الْبَلَاءُ الْعَظِيمُ مِن الشَّيْطَانِ، لَا مِن مُجَرَّدِ النَّفْسِ
(1)
، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يُزَيِّنُ لَهَا السَّيِّئَاتِ، وَيَالمُرُهَا بِهَا، وَيَذْكُرُ لَهَا مَا فِيهَا مِن الْمَحَاسِنِ، الَّتِي هِيَ مَنَافِعُ لَا مَضَارَّ.
فَأَصْلُ مَا يُوقِعُ النَّاسَ فِي السَّيِّئَاتِ: الْجَهْلُ، وَعَدَمُ الْعِلْمِ بِكَوْنِهَا تَضُرُّهُم ضَرَرًا رَاجِحًا، أَو ظَنُّ أَنَّهَا تَنْفَعُهُم نَفْعًا رَاجِحًا.
وَلهَذَا قَالَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم: كُلُّ مَن عَصَى اللهَ فَهُوَ جَاهِلٌ. وَفَسَّرُوا بِذَلِك قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء: 17].
وَعَن قتادة قَالَ: "أَجْمَعَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّ كُلَّ مَن عَصَى رَبَّهُ فَهُوَ فِي جَهَالَةٍ، عَمْدًا كَانَ أَو لَمْ يَكُنْ، وَكُلُّ مَن عَصَى اللّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ".
وَكَذَلِك قَالَ التَّابِعُونَ وَمَن بَعْدَهُمْ
(2)
.
(1)
فمخالفة هوى النفس ليس محمودًا دائمًا، فقد يزين الشيطان للإنسان التشدد والتنطع، أو المبالغة في الزهد وترك الناس، فيفعل ذلك وهو يظن أنه يُخالف هواه، وأن عمله غاية الصلاح! وأساس ذلك الجهل، فلو كان عالمًا بالله وبدينه ما اتبع خطوات الشيطان.
فالعلم هو أساس الهداية والثبات، والجهل أساس الضلال والانحراف.
(2)
وذلك أن كل أحد يعصي الله تعالى، أو يقصر في الطاعة والعمل الصالح والعلم النافع: فإنما هو من نقص علمه بمقام ربه، وحقه عليه، وقلة معرفته بحاجته للعمل الصالح في دينه ودنياه وآخرته.
وَمِمَّا يُبَيّنُ ذَلِك: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، وَكُلُّ مَن خَشِيَهُ، وَأَطَاعَهُ، وَتَرَكَ مَعْصِيَتَهُ: فَهُوَ عَالِمٌ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].
قَوْله تَعَالَى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَن خَشِيَ اللهَ فَهُوَ عَالِمٌ. فَإِنَّهُ لَا يَخْشَاهُ إلَّا عَالِمٌ
(1)
. [14/ 287 - 290]
1132 -
أَمَّا الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ لِظَنِّهِ أَنَّهُ يُعِينُهُ عَلَى طَاعَةِ اللهِ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا مَفْسَدَةً أَو مَفْسَدَتُهُ رَاجِحَةٌ عَلَى مَصْلَحَتِهِ. [14/ 474]
1133 -
ذَكَرَ الْبُخَارِي فِي "صَحِيحِهِ"
(2)
عَن أَبِي رَجَاءٍ العطاردي أَنَّهُ رَأَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرْدًا يَزْنِي بِقِرْدَة فَاجْتَمَعَت الْقُرُودُ عَلَيْهِ حَتَّى رَجَمَتْهُ.
(1)
ليس المقصود المتبادر إلى الذهن: أنَّ من ترك المحرمات الظاهرة من الزنى والسرقة ونحوها، وقام بالعبادات الظاهرة المعتادة كالصلاة والصيام ونحوها فهو عالم!
بل المقصود أنّ من اجتنب المحرمات الظاهرة والخفية كالحسد وسوء الظن، وقام بالأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة، من محبته لأخيه كما يحب لنفسه، والثقة بالله، والتوكل عليه، واجتنب الشبهات، وعرف مواطن الخير والشر، فعمل بما ينفعه ودعا الناس إليه، واجتنب ما يضرُّه وحذر الناس منه، وصبر على الأذى في الله، فهذا هو العالم الذي خشي الله تعالى، ويلزم من هذا أنْ يكون عنده علمٌ يفرق به بين الخير والشر، والحق والباطل، فأما الذي يعمل الطاعات ويجتنب المعاصي مقلدًا غيره دون معرفةٍ للأدلة، كما هو حال صالحي العوام غالبًا، فلا يُوصف بأنه عالم؛ لأن المقلد لا يُوصف بأنه عالم، ولأنَّ صدور الخطأ والضلال من العُبَّاد كثير، والله أعلم.
والخلاصة: العلماء ثلاثة:
الأول: عالم بالله ليس عالمًا بامر الله، وهو الذي يعمل بطاعته، ويجتنب معصيته، آخذًا ذلك من الأدلة والنصوص، لا بالتقليد.
وهذا هو المقصود الأول من الآية.
الثاني: عالم بأمر الله ليس عالمًا بالله، وهو الذي يعلم أمره ونهيه، ويعلم تفاصيل الشريعة بالأدلة، ولكنه قليل العمل بعلمه أو لا يعمل أبدًا.
الثالث: عالم بالله عالم بأمر الله. وهو أفضلهم وأكملهم.
(2)
(3849).
وَقَد حَدَّثَنِي بَعْضُ الشّيُوخِ الصَّادِقِينَ أَنَّهُ رَأَى فِي جَامِعٍ نَوْعًا مِن الطَّيْرِ قَد بَاضَ، فَأَخَذَ النَّاسُ بَيْضَةً وَجَاءَ بِبَيْضِ جِنْسٍ آخَرَ مِن الطَّيْرِ، فَلَمَّا انْفَقَسَ الْبَيْضُ خَرَجَت الْفِرَاخُ مِن غَيْرِ الْجِنْسِ، فَجَعَلَ الذَّكَرُ يَطْلُبُ جِنْسَهُ حَتَّى اجْتَمَعَ مِنْهُنَّ عَدَد، فَمَا زَالُوا بِالْأُنْثَى حَتَّى قَتَلُوهَا.
وَمِثْلُ هَذَا مَعْرُوفٌ فِي عَادَةِ الْبَهَائِمِ.
وَالْفَوَاحِشُ مِمَّا اتَّفَقَ أَهْلُ الْأَرْضِ عَلَى اسْتِقْبَاحِهَا وَكَرَاهَتِهَا. [15/ 147]
1134 -
مَعْلُومٌ أَنَّ أَذَى الرَّسُولِ مِن أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَإِنَّ مَن آذَاهُ فَقَد آذَى اللّهَ، وَقَتْلُ سَابِّهِ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ، سَوَاءٌ قِيلَ إنَّهُ قُتِلَ لِكَوْنِهِ رِدَّةً، أَو لِكَوْنِهِ رِدَّةً مُغَلَّظَةً أَوَجَبَتْ أَنْ صَارَ قَتْلُ السَّابِّ حَدًّا مِن الْحُدُودِ. [15/ 169]
1135 -
الْمَعْصِيَة إذَا كَانَت ظَاهِرَةً كَانَت عُقُوبَتُهَا ظَاهِرَةً.
وَلهَذَا لَمْ يَكُن لِلْمُعْلِنِ بِالْبِدَعِ وَالْفُجُورِ غِيْبَةٌ كَمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَن الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَعْلَنَ ذَلِكَ اسْتَحَق عُقُوبَةَ الْمُسْلِمِينَ لَهُ، وَأَدْنَى ذَلِكَ أَنْ يُذَمَّ عَلَيْهِ لِيَنْزَجِرَ وَيَكُفَّ النَّاسُ عَنْهُ وَعَن مُخَالَطَتِهِ، وَلَو لَمْ يُذَمَّ وَيُذْكَرْ بِمَا فِيهِ مِن الْفُجُورِ وَالْمَعْصِيَةِ أَو الْبِدْعَةِ لَاغْتَرَّ بِهِ النَاسُ، وَرُبَّمَا حَمَلَ بَعْضَهُم عَلَى أَنْ يَرْتَكِبَ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَيَزْدَادَ أَيْضا هُوَ جُرْأَةً وَفُجُورًا وَمَعَاصِيًا، فَإِذَا ذكِرَ بِمَا فِيهِ انْكفَّ وَانْكَفَّ كَيْرُهُ عَن ذَلِكَ وَعَن صُحْبَتِهِ وَمُخَالَطَتِهِ.
والْفُجُورُ: اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مُتَجَاهِرٍ بِمَعْصيَةٍ أَو كَلَامٍ قَبِيحٍ يَدُلُّ السَّامِعَ لَهُ عَلَى فُجُورِ قَلْبِ قَائِلِهِ. [15/ 286]
1136 -
لَا يَظُن الظَّانُّ أَنَّهُ إذَا حَصَلَ لَهُ اسْتِمْتَاعٌ بِمُحَرَّم يَسْكُنُ بَلَاؤُهُ؛ بَل ذَلِكَ يُوجِبُ لَهُ انْزِعَاجًا عَظِيمًا، وَزِيادَةً فِي الْبَلَاءِ، وَالْمَرَضِ فِي الْمَآلِ، فَإِنَّهُ وَإِن سَكَنَ بَلَاؤُهُ، وَهَدَأَ مَا بِهِ عَقِيبَ اسْتِمْتَاعِهِ، أَعْقَبَهُ ذَلِكَ مَرضًا عَظِيمًا عَسِيرًا لَا يَتَخَلَّصُ مِنْهُ؛ بَل الْوَاجِبُ دَفْعُ أَعْظَمِ الضَّرَرينِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا قَبْلَ اسْتِحْكَامِ
الدَّاءِ الَّذِي تَرَامَى بِهِ إلَى الْهَلَاكِ وَالْعَطَبِ، وَمِن الْمَعْلُومِ أَنَّ أَلَمَ الْعِلَاجِ النَّافِعِ أَيْسَرُ وَأَخَفُّ مِن أَلَمِ الْمَرَضِ الْبَاقِي.
وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ لَك أَنَّ الْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةَ كُلَّهَا أَدْوِية نَافِعَةٌ، يُصْلِحُ اللّهُ بِهَا مَرَضَ الْقُلُوبِ، وَهِيَ مِن رَحْمَةِ اللهِ بِعِبَادِهِ وَرَأفَتِهِ بِهِمُ الدَّاخِلَةِ فِي قَوْله تَعَالَى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107].
فَمَن تَرَكَ هَذ الرَّحْمَةَ النَّافِعَةَ لِرَأفَةٍ يَجِدُهَا بِالْمَرِيضِ: فَهُوَ الَّذِي أَعَانَ عَلَى عَذَابِهِ وَهَلَاكِهِ، وَإِن كَانَ لَا يُرِيدُ إلَّا الْخَيْرَ، إذ هُوَ فِي ذَلِكَ جَاهِلٌ أَحْمَق، كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النّسَاءِ وَالرِّجَالِ الْجُهَّالِ بِمَرْضَاهُمْ، وَبِمَن يُرَبُّونَهُ مِن أَوْلَادِهِمْ وَغِلْمَانِهِمْ وَغَيْرِهِمْ فِي تَرْكِ تَأْدِيبِهِم وَعُقُوبَتِهِمْ عَلَى مَا يَأْتُونَهُ مِن الشَّرِّ، وَيَتْرُكُونَهُ مِن الْخَيْرِ؛ رَأفَةً بِهِمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبَ فَسَادِهِمْ وَعَدَاوَتهِمْ وَهَلَاكِهِمْ. [15/ 289 - 290]
1137 -
رَوَى الْجَمَاعَةُ إلَّا مُسْلِمًا أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ الْمُخَنَّثِينَ مِن الرِّجَالِ، والمترجلات مِن النِّسَاءِ وَقَالَ:"أَخْرِجُوهُم مِن بُيُوتِكُمْ"
(1)
.
وَلَمْ يَكُونُوا يُرْمَوْنَ بِالْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى، إنَّمَا كَانَ تَخْنِيثُهُم وَتَأْنِيثُهُم لِينًا فِي الْقَوْلِ، وَخِضَابًا فِي الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ كَخِضَابِ النِّسَاءِ وَلَعِبًا كَلَعِبِهِنَّ.
فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَد أَمَرَ بِإِخْرَاجِ مِثْل هَؤُلَاءِ مِن الْبُيُوتِ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي يُمَكِّنُ الرِّجَالَ مِن نَفْسِهِ، وَالِاسْتِمْتَاعِ بِهِ، وَبِمَا يُشَاهِدُونَهُ مِن مَحَاسِنِهِ، وَفِعْلِ الْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى بِهِ: شَرٌّ مِن هَؤُلَاءِ وَهُوَ أَحَقُّ بِالنَّفْيِ مِن بَيْنِ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ وَإِخْرَاجِهِ عَنْهُمْ.
وَلهَذَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي نَفْيِ الْمُحَارِبِ مِن الْأَرْضِ: هَل هُوَ طَرْدُهُ بِحَيْثُ لَا يَأْوِي فِي بَلَدٍ، أَو حَبْسُهُ، أَو بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ مِن هَذَا وَهَذَا؟
(1)
البخاري (5886) و (6834).
فَفِي مَذْهَبِ أَحْمَد ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ الثَّالِثَةُ أَعْدَلُ وَأَحْسَنُ.
وَهَذَا الَّذِي جَاءَت بِهِ الشَّرِيعَةُ مِن النَّفْيِ هُوَ نَوْعٌ مِن الْهِجْرَةِ؛ أَيْ: هَجْرِهِ.
فَمَن كَانَ بِمُخَالَطَتِهِ لِلنَّاسِ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ عَوْنٌ عَلَى الدِّينِ؛ بَل يُفْسِدُهُم وَيَضُرُّهُم فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ: اسْتَحَقَّ الْإِخْرَاجَ مِن بَيْنِهِمْ
(1)
؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ مَضَرَّةٌ بِلَا مَصْلَحَةٍ؛ فَإِنَّ مُخَالَطَتَة لَهُم فِيهَا فَسَادُهُم وَفَسَادُ أَوْلَادِهِمْ، فَإِنَّ الصَّبِيَّ إذَا رَأَى صَبِيًّا مِثْلَهُ يَفْعَلُ شَيْئًا تَشَبَّهَ بِهِ وَسَارَ بِسِيرَتِهِ مَعَ الْفُسَّاقِ، فَإِنَّ الِاجْتِمَاعَ بِالزُّنَاةِ وَالَلُّوطِيِّينَ فِيهِ أَعْظَمُ الْفَسَادِ وَالضَّرَرِ عَلَى النّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالرِّجَالِ، فَيَجِبُ أَنْ ئعَاقَبَ اللُّوطِيُّ وَالزَّاني بِمَا فِيهِ تَفْرِيقُهُ وَإِبْعَادُهُ.
وَجِمَاعُ الْهِجْرَةِ هِيَ هِجْرَةُ السَّيِّئَاتِ وَاهْلِهَا، وَكَذَلِكَ هِجْرَانُ الدُّعَاةِ إلَى الْبِدَع وَهِجْرَانُ الْفُسَّاقِ، وَهِجْرَانُ مَن يُخَالِطُ هَؤُلَاءِ كُلّهُم أَو يُعَاوِنُهُمْ، وَكَذَلِكَ مَن يَتْرُكُ الْجِهَادَ الَّذِي لَا مَصْلَحَةَ لَهُم بِدُونِهِ
(2)
، فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ بِهَجْرِهِمْ لَهُ؛ لَمَّا لَمْ يُعَاوِنْهُم عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى؛ فَالزُّنَاةُ وَاللُّوطِيَّةُ وَتَارِكُ الْجِهَادِ وَأَهْلُ الْبِدَعِ وشربة الْخَمْرِ هَؤُلَاءِ كُلُّهُم وَمُخَالَطَتُهُم مُضِرَّةٌ عَلَى دِينِ الْإسْلَامِ، وَلَيْسَ فِيهِمْ مُعَاوَنَةٌ لَا عَلَى بِرٍّ وَلَا تَقْوَى، فَمَن لَمْ يَهْجُرْهُم كَانَ تَارِكًا لِلْمَأْمُورِ فَاعِلًا لِلْمَحْظُورِ. [15/ 309 - 312]
1138 -
كَثِيرٌ مِن النَّاسِ بَل أَكْثَرُهُم كَرَاهَتُهُم لِلْجِهَادِ عَلَى الْمُنْكَرَاتِ أَعْظَمُ مِن كَرَاهَتِهِمْ لِلْمُنْكَرَاتِ، لَا سِيَّمَا إذَا كَثُرَتِ الْمُنْكَرَاتُ، وَقَوِيَتْ فِيهَا الشُّبُهَاتُ وَالشَّهَوَاتُ، فَرُبَّمَا مَالُوا إلَيْهَا تَارَةً وَعَنْهَا أخْرَى، فَتَكُونُ نَفْسُ أَحَدِهِمْ لَوَّامَةً بَعْدَ أَنْ كَانَت أَمَّارَةً، ثُمَّ إذَا ارْتَقَى إلَى الْحَالِ الْأَعْلَى فِي هَجْرِ السَّيِّئَاتِ، وَصَارَتْ نَفْسُهُ مُطَمْئِنَةً تَارِكَةً لِلْمُنْكَرَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ، لَا تُحِبّ الْجِهَادَ وَمُصَابَرَةَ الْعَدُوِّ
(1)
وهكذا تفعل الكثير من الدول فيمن يضر أمن بلدانهم، ويحرض على حكامهم، وإخراجُ من يُفْسِدُ أخلاق الناس ودينهم وعقيدتهم أولى من إخراج من يُفسد دُنياهم، ويضرّ بأمنهم.
(2)
قيد مهم، وهذا يتحقق في حالة معينة، كإغارة الكفار على بلاد المسلمين.
عَلَى ذَلِكَ، وَاحْتِمَالَ مَا يُؤْذِيهِ مِن الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ: فَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ آخَرُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} الْآيَاتُ [النساء: 77]. [15/ 341]
1139 -
إِنَّ اللهَ قَد تَوَعَّدَ بِالْعَذَابِ عَلَى مُجَرَّدِ مَحَبَّةِ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ قَد لَا يَقْتَرِنُ بِهَا قَوْلٌ وَلَا فِعْلٌ، فَكَيْفَ إذَا اقْتَرَنَ بِهَا قَوْلٌ أَو فِعْلٌ؟
بَل عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُبْغِضَ مَا أَبْغَضَهُ اللهُ مِن فِعْلِ الْفَاحِشَةِ وَالْقَذْفِ بِهَا، وَإِشَاعَتِهَا فِي الَّذِينَ آمَنُوا.
وَمَن رَضِيَ عَمَلَ قَوْم حُشِرَ مَعَهُمْ، كَمَا حُشِرَتْ امْرَأَةُ لُوطٍ مَعَهُمْ، وَلَمْ تَكُنْ تَعْمَلُ فَاحِشَةَ اللِّوَاطِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقَعُ مِن الْمَرْأَةِ، لَكِنَّهَا لَمَّا رَضِيَتْ فِعْلَهُم عَمَّهَا الْعَذَابُ مَعَهُم. [15/ 344]
1140 -
إنَّ كُلَّ عَدَاوَةٍ أَو بَغْضَاء فَأَصْلُهَا مِن مَعْصِيَةِ اللّهِ، وَالشَّيْطَانُ يَأْمُرُ بِالْمَعْصِيَةِ لِيُوقِعَ فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا، وَلَا يَرْضَا بِغَايَةِ مَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ.
وَأَيْضًا فَالْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ شَرٌّ مَحْضٌ لَا يُحِبُّهَا عَاقِلٌ، بِخِلَافِ الْمَعَاصِي فَإِنَّ فِيهَا لَذَّة كَالْخَمْرِ وَالْفَوَاحِشِ. [15/ 346]
1141 -
من شرب الخمر يومًا ثم لم يشربها إلى شهر ونيته إذا قدر عليها شربها فهو مصرّ ليس بتائب وكذلك جميع الذنوب. [المستدرك 3/ 115]
1142 -
الذُّنُوبُ مِن الشِّرْكِ فَماِنَّهَا طَاعَة لِلشَّيْطَانِ، قَالَ:{إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم: 22].
وَفِي الْحَدِيثِ
(1)
: "وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِه". [15/ 441]
(1)
رواه الترمذيُّ (3392)، وصحَّحه.
1143 -
صَاحِبُ الْأَخْلَاقِ الْفَاسِدَةِ إنَّمَا يُوقِعُهُ فِيهَا أَحَدُ أَمْرَيْنِ:
أ - إمَّا الْجَهْلُ بِمَا فِيهَا وَمَا فِي ضِدِّهَا، فَهَذَا جَاهِلٌ.
ب - وَإِمَّا الْمَيْلُ وَالْعُدْوَان، وَهُوَ الظُّلْمُ.
فَلَا يَفْعَلُ السَّيِّئَاتِ إلَّا جَاهِلٌ بِهَا، أَو مُحْتَاجٌ إلَيْهَا مُتَلَذِّذٌ بِهَا وَهُوَ الظَّالِمُ. [16/ 66]
1144 -
قَالَ الْعُلَمَاءُ: يَحْرُمُ بِنَاءُ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ، وَيَجِبُ هَدْمُ كُلِّ مَسْجِدٍ بُنِيَ عَلَى قَبْرٍ، وإن كَانَ الْمَيِّتُ قَد قُبِرَ فِي مَسْجِدٍ وَقَد طَالَ مُكْثُهُ سُوّي الْقَبْرُ
(1)
حَتَّى لَا تَظْهَرَ صُورَتُهُ، فَإنَّ الشّرْكَ إنَّمَا يَحْصُلُ إذَا ظَهَرَتْ صُورَتُهُ. [17/ 463]
وَلهَذَا كَانَ مَسْجِدُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَوَّلًا مَقْبَرَةً لِلْمُشْرِكِينَ وَفِيهَا نَخْلٌ وَخَرِبٌ، فَأَمَرَ بِالْقُبُورِ فَنُبِشَتْ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، وَبِالْخَرِبِ فَسُوِّيَتْ، فَخَرَجَ عَن أَنْ يَكُونَ مَقْبَرَةً فَصَارَ مَسْجِدًا.
1145 -
إنَّ الظُّلْمَ فِي حَقِّ الْعِبَادِ نَوْعَانِ:
أ - نَوْعٌ يَحْصُلُ بِغَيْرِ رضى صَاحِبِهِ؛ كَقَتْلِ نَفْسِهِ وَأَخْذِ مَالِهِ وَانْتِهَاكِ عِرْضِهِ.
ب - وَنَوْعٌ يَكُونُ بِرضى صَاحِبِهِ، وَهُوَ ظُلْمٌ كَمُعَامَلَةِ الرِّبَا وَالْمَيْسِرِ، فَإِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ؛ لِمَا فِيهِ مِن أَكْلِ مَالِ غَيْرِهِ بِالْبَاطِلِ، وَأَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ ظُلْمٌ، وَلَو رَضِيَ بِهِ صَاحِبُهُ لَمْ يُبَحْ وَلَمْ يَخْرُجْ عَن أَنْ يَكُونَ ظلْمًا، فَلَيْسَ كُلُّ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ صَاحِبِهِ يَخْرُجُ عَنِ الظُّلْمِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا كَرِهَهُ بَاذِلُة يَكُونُ ظُلْمًا. [20/ 79]
1146 -
الْغِنَاءُ يُورِث الْقَلْبَ نِفَاقًا، وَيَدْعُو إلَى الزِّنَى، وَيَصُدُّ الْقَلْبَ عَن مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَيَدْعُو إلَى السَّيِّئَاتِ، وَيَنْهَى عَنِ الْحَسَنَاتِ، مَعَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ
(2)
عَارَضَهُ مَا أَزَالَ
(1)
بعد نبش القبر وإخراج الميّت.
(2)
يقصد الدف.
مَفْسَدَتَهُ كَنَظَائِرِهِ
(1)
. [20/ 195]
1147 -
إنَّ الذُّنُوبَ كُلَّهَا ظُلُمٌ: فَإِمَّا ظُلْمُ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ فَقَطْ، أَو ظُلْمُهُ مَعَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ.
فَمَا كَانَ مِن ظُلْمِ الْغَيْرِ: فَلَا بُدَّ انْ يَشْرَعَ مِن عُقُوبَتِهِ مَا يَدْفَعُ بِهِ ظُلْمَ الظَّالِمِ عَن الدِّينِ وَالدُّنْيَا؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)} [الحج: 39]، فَجَعَلَ السَّبَبَ الْمُبِيحَ لِعُقُوبَةِ الْغَيْرِ الَّتِي هِيَ قِتَالُهُ:{بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} .
وَقَالَ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)} [البقرة: 193][البقرة: 193] فَبَيَّنَ أَنَّ الظَّالِمَ يُعْتَدَى عَلَيْهِ؛ أَيْ: بِتَجَاوُزِ الْحَدِّ الْمُطْلَقِ فِي حَقِّهِ، وَهُوَ الْعُقُوبَةُ، وَهَذَا عُدْوَانٌ جَائِزٌ كَمَا قَالَ:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].
وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: إنَّ هَذَا لَيْسَ بِعُدْوَان فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا سَمَّاهُ عُدْوَانًا عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ كَمَا قَالُوا مِثْل ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]: لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْعُدْوَانَ الْمُطْلَقَ هُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ الْمُطْلَقِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ إلَّا إذَا اعْتَدَى، فَيُتَجَاوَزُ الْحَدِّ فِي حَقِّهِ بِقَدْرِ تَجَاوُزِهِ.
وَالسَّيِّئَةُ: اسْمٌ لِمَا يَسُوءُ الْإِنْسَانَ؛ فَإِنَّ الْمَصَائِبَ وَالْعُقُوبَاتِ تُسَمَّى سَيِّئَةً فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِن كِتَابِ اللهِ تَعَالَى. [28/ 182 - 183]
1148 -
الْكَذِبُ عَلَى الشَّخْصِ حَرَامٌ كُلُّهُ، سَوَاءٌ كَانَ الرَّجُلُ مُسْلِمًا أَو كَافِرًا، بَرًّا أَو فَاجِرًا، لَكِنَّ الِافْتِرَاءَ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَشَدُّ؛ بَل الْكَذِبُ كُلُّهُ حَرَامٌ.
وَلَكِنْ تُبَاحُ عِنْدَ الْحَاجَةِ الشَّرْعِيَّةِ: "الْمَعَارِيضُ"، وَقَد تُسَمَّى كَذِبًا؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ؛ يَعْنِي بِهِ: الْمُتَكَلّمُ مَعْنًى، وَذَلِكَ الْمَعْنَى يُرِيدُ أَنْ يَفْهَمُهُ الْمُخَاطِبُ، فَإِذَا
(1)
كاستثناء تحريم لبس الحرير لمن به حكة، واستثناء بيع العرايا من تحريم الربا.
لَمْ يَكُن عَلَى مَا يَعْنِيهِ فَهُوَ الْكَذِبُ الْمَحْضُ، وَإِن كَانَ عَلَى مَا يَعْنِيهِ وَلَكِنْ لَيْسَ عَلَى مَا يَفْهَمُهُ الْمُخَاطَبُ فَهَذِهِ الْمَعَارِيضُ، وَهِيَ كَذِبٌ بِاعْتِبَارِ الْأفْهَامِ، وَإِن لَمْ تَكُنْ كَذِبًا بِاعْتِبَارِ الْغَايَةِ السَّائِغَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "لَمْ يَكذِبْ إبْرَاهِيمُ إلَّا ثَلَاثَ كِذْبَاتٍ كُلُّهُنَّ فِي ذَاتِ اللّهِ: قَولُهُ لِسَارَّةَ: أُخْتِي وَقَوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، وَقَوْلُهُ:{إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]
(1)
، وَهَذهِ الثَّلَاثَةُ مَعَارِيضُ".
وَبِهَا احْتَجَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّعْرِيضِ لِلْمَظْلُومِ، وَهُوَ أنْ يَعْنِيَ بِكَلَامِهِ: مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ وَإِن لَمْ يَفْهَمْهُ الْمُخَاطَبُ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَن قَالَ مِن الْعُلَمَاءِ: إنَّ مَا رَخَّصَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا هُوَ مِن هَذَا، كَمَا فِي حَدِيثِ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَقُولُ خَيْرًا وَيَنْمِي خَيْرًا".
قالت: "وَلَمْ أَسْمَعْهُ يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: الْحَرْبُ، وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا"
(2)
.
قَالَ: فَهَذَا كُلُّهُ مِن الْمَعَارِيضِ خَاصَّةً.
وَلهَذَا نَفَى عَنْهُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم اسْمَ الْكَذِبِ بِاعْتِبَارِ الْقَصْدِ وَالْغَايَةِ، كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:"الْحَرْبُ خُدْعَةٌ"
(3)
، وَأنَّهُ كَانَ إذَا أَرَادَ غَزْوَةَ وَرَّى بِغَيْرِهَا، وَمِن هَذَا الْبَابِ قَوْلُ الصّدِّيقِ فِي سَفَرِ الْهِجْرَةِ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"هَذَا الرَّجُلُ يَهْدِينِي السَّبِيلَ".
(1)
رواه البخاري (3358)، ومسلم (2371) بلفظ: "لم يكذب إبراهيم النَّبِيّ عليه الصلاة والسلام قط إِلَّا ثلاث كذبات؛ ثنتين في ذات الله
…
" الحديث.
(2)
رواه مسلم (2605).
(3)
رواه البخاري (3029)، ومسلم (1739).
وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَرَّقَ بَيْنَ الِاغْتِيَابِ وَبَيْنَ الْبُهْتَانِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُخْبِرَ بِمَا يَكْرَهُ أَخُوهُ الْمُومِنُ عَنْهُ إذَا كَانَ صَادِقًا فَهُوَ الْمُغْتَابُ، وَفِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:"ذِكْرُك أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ"
(1)
مُوَافَقَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12]، فَجَعَلَ جِهَةَ التَّحْرِيمِ كَوْنَهُ أَخًا أُخُوَّةَ الْإِيمَانِ؛ وَلذَلِكَ تغلظت الْغِيبَةُ بِحَسَبِ حَالِ الْمُؤْمِنِ، فَكُلَّمَا كَانَ أَعْظَمَ إيمَانًا كَانَ اغْتِيَابُهُ أَشَدَّ
(2)
. [28/ 223 - 225]
1149 -
شُهُودُ الْمُنْكَرِ مِن غَيْرِ حَاجَةٍ وَلَا إكْرَاهٍ: مَنْهِيٌّ عَنْهُ
(3)
. [21/ 334]
1150 -
كَشْفُ النِّسَاءِ وُجُوهَهُنَّ بِحَيْثُ يَرَاهُنَّ الْأَجَانِبُ غيْرُ جَائِزٍ، وَعَلَى وَليِّ الْأَمْرِ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَن هَذَا الْمُنْكَرِ وَغَيْرِهِ، وَمَن لَمْ يَرْتَدِعْ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَزْجُرُهُ. [24/ 382]
1151 -
أما الشابة: فلم يُرَخِّصْ أحدٌ مِن الأئمة الأربعة في حضورها مجتمع الرجال الأجانب، لا في الجنازة ولا في العرس. [المستدرك 3/ 146]
1152 -
أَصْلُ الدِّينِ: أَنَّهُ لَا وَاجِبَ إلَّا مَا أَوْجَبَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَلَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَلَا مَكْرُوهَ إلَّا مَا كَرِهَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَلَا حَلَالَ إلَّا مَا أَحَلَّة اللهُ وَرَسُولُهُ، وَلَا مُسْتَحَبَّ إلَّا مَا أحَبَّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ.
فَالْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَالدِّينُ مَا شَرَعَة اللّهُ وَرَسُولُهُ؛ وَلهَذَا أَنْكَرَ اللهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مَا حَلَّلُوهُ أَو حَرَّمُوهُ أَو شَرَعُوهُ مِن الذينِ بِغَيْرِ إذْنٍ مِن اللهُ. [29/ 345]
(1)
رواه مسلم (2589).
(2)
ولهذا كان غيبة علماء ودعاة أهل السُّنَّة والجماعة أشدّ من غيبة عوامِّهم؛ فغيبتهم لا يسري ضررها عليهم فحسب، بل يسري إلى كثير ممن ينتفع بهم، فكم صُرف أُناس عن الانتفاع بهم والاستفادة منهم بسبب قدح فلان وقدح فلان بهم، وكلٌّ سيلاقي عمله يوم القيامة.
(3)
ولم يقل: ضرورة، فالضرورات تبيح المحظورات ولا إشكال في ذلك، ولكن شهود المنكرات يختلف عن فعلها، ففعلها لا يجوز بحال أو يجوز للضرورة، وأما شهودها فهو أخف من فعلها، فلذلك جاز للحاجة، التي هي دون الضرورة.
1153 -
مَن جَعَلَ مَا لَيْسَ مَشْرُوعًا وَلَا هُوَ دِينًا وَلَا طَاعَةً وَلَا قُرْبَةً جَعَلَهُ دِينًا وَطَاعَة وَقُرْبَةً: كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا بِاتفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. [31/ 38]
* * *
(حكم الكذب لإضحاك الناس
؟)
1154 -
الْمُتَحَدِّثُ بِأحَادِيثَ مُفْتَعَلَةٍ لِيُضْحِكَ النَّاسَ أَو لِغَرَضٍ آخَرَ: عَاصٍ للّهِ وَرَسُولِهِ، وَقَد رَوَى بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ عَن أَبِيهِ عَن جَدِّهِ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إنَّ الَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ الْقَوْمَ: وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ ثُمَّ وَيْلٌ لَهُ"
(1)
.
وَقَد قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إنَّ الْكَذِبَ لَا يَصْلُحُ فِي جدٍّ وَلَا هَزْلٍ، وَلَا يَعِدُ أَحَدُكُمْ صَبِيَّهُ شَيْئًا ثُمَّ لَا يُنْجِزُهُ. [32/ 256]
* * *
(حكم الغناء
؟)
1155 -
رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أَنْوَاعٍ مِن اللَّهْوِ فِي الْعُرْسِ وَنَحْوِهِ، كمَا رَخَّصَ لِلنِّسَاءِ أَنْ يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ فِي الْأَعْرَاسِ وَالْأَفْرَاحِ.
وَأَمَّا الرّجَالُ عَلَى عَهْدِهِ فَلَمْ يَكُن أَحَدٌ مِنْهُم يَضْرِبُ بِدُفٍّ وَلَا يُصَفِّقُ بِكَفٍّ، بَل قَد ثَبَتَ عَنْهُ فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّهُ قَالَ:"التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ وَالتَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ"
(2)
. "وَلَعَنَ الْمُتَشَبِّهَاتِ مِن النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ. والمتشبهين مِن الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ"
(3)
.
وَلَمَّا كَانَ الْغِنَاءُ وَالضَّرْبُ بِالدُّفِّ وَالْكَفِّ مِن عَمَلِ النِّسَاءِ كَانَ السَّلَفُ يُسَمُّونَ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِن الرِّجَالِ مُخَنَّثًا، وَيُسَمُّونَ الرِّجَالَ الْمُغَنِّينَ مَخَانِيث، وَهَذَا مَشْهُورٌ فِي كَلَامِهِمْ. [11/ 565 - 566]
(1)
رواه أبود داود (4990)، والدارمي (2744)، وأحمد (20046)، وحسَّنه الألباني في صحيح أبي داود.
(2)
رواه مسلم (422)، وأبو داود (939).
(3)
رواه البخاري (5885).
1156 -
فَأَمَّا الْمُشْتَمِلُ عَلَى الشَّبَّابَاتِ وَالدُّفُوفِ المصلصلة فَمَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأرْبَعَةِ تَحْرِيمُهُ.
وَذَكَرَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ فِيهِ خِلَافٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا حُكِيَ فِي الْيَرَاعِ
(1)
الْمُجَرَّدِ.
مَعَ أَنَّ الْعِرَاقِيِّينَ مِن أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لَمْ يَذْكُرُوا فِي ذَلِكَ نِزَاعًا وَلَا مُتَقَدّمَةُ الْخُرَاسَاييِّين وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ مُتَأَخِّرُو الْخُرَاسَانيِّين.
وَقَد ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ الَّذِينَ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ لَهُم وَأَنَّ اللهُ مُعَاقِبُهُم.
فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَعَازِفِ.
وَالْمَعَازِفُ هِيَ آلَاتُ اللَّهْوِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَهَذَا اسْمٌ يَتَنَاوَلُ هَذ الْآلَاتِ كُلَّهَا. [11/ 537]
1157 -
مَن كَانَ لَهُ خِبْرَةٌ بِحَقَائِقِ الدِّينِ وَأَحْوَالِ الْقُلُوبِ وَمَعَارِفهَا وَأَذْوَاقِهَا وَمَوَاجِيدِهَا عَرَفَ أَنَّ سَمَاعَ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ
(2)
لَا يَجْلِبُ لِلْقُلُوبِ مَنْفَعَةً وَلَا مَصْلَحَة إلَّا وفِي ضِمْنِ ذَلِكَ مِن الضَّرَرِ وَالْمَفْسَدَةِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ، فَهُوَ لِلرُّوحِ كَالْخَمْرِ لِلْجَسَدِ يَفْعَلُ فِي النُّفُوسِ فِعْلَ حُمَّيَا الْكُؤُوسِ، وَلهَذَا يُوَرِّثُ أَصْحَابَهُ سُكْرًا أَعْظَمَ مِن سُكْرِ الْخَمْرِ.
وَالسَّلَفُ يُسَمُّونَهُ تَغْبِيرًا؛ لِأنَّ التَّغْبِيرَ هُوَ الضَّرْبُ بِالْقَضِيبِ عَلَى جِلْدٍ مِن الْجُلُودِ، وَهُوَ مَا يُغَبِّرُ صَوْتَ الْإِنْسَانِ عَلَى التَّلْحِينِ، فَقَد يُضمُّ إلَى صَوْتِ الْإِنْسَانِ، إمَّا التَّصْفِيقُ بِأَحَدِ الْيَدَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، وَإِمَّا الضَّرْبُ بِقَضِيبٍ عَلَى
(1)
اليراع: هو الزمار من القصب. واحدته يراعة.
(2)
نقل الشيخ عن السَّلَف مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أنّ: "الْمُكَاء" كَالصَّفِيرِ وَنَحْوِهِ مِن التَّصْوِيتِ مِثْل الْغِنَاءِ. وَ"التَّصْدِيَة": التَّصْفِيقُ بِالْيَدِ.
فَخِذٍ وَجِلْدٍ، وَإِمَّا الضَرْبُ بِالْيَدِ عَلَى أُخْتِهَا أَو غَيْرِهَا عَلَى دُفٍّ أَو طَبْلٍ؛ كَنَاقُوسِ النَّصَارَى، وَالنَّفْخِ فِي صَفَّارَةٍ كَبُوقِ الْيَهُودِ.
فَمَن فَعَلَ هَذِهِ الْمَلَاهِي عَلَى وَجْهِ الدِّيَانَةِ وَالتَّقَرُّبِ فَلَا رَيْبَ فِي ضَلَالَتِهِ وَجَهَالَتِهِ.
وَامَّا إذَا فَعَلَهَا عَلَى وَجْهِ التَّمَتُّعِ وَالتَّلَغُبِ فَذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ: أَنَّ آلَاتِ اللَّهْوِ كُلَّهَا حَرَامٌ، فَقَد ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ أَنَّهُ سَيَكونُ مِن أُمَّتِهِ مَن يَسْتَحِلُّ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ وَذَكَرَ أَنَّهُم يُمْسَخُونَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ.
والْمَعَازِفُ هِيَ الْمَلَاهِي كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَهْلُ اللُّغَةِ، جَمْعُ مِعْزَفَةٍ وَهِيَ الْآلَةُ الَّتِي يُعْزَفُ بِهَا؛ أَيْ يُصَوَّتُ بِهَا. وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِن أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ فِي آلَاتِ اللَّهْوِ نِزَاعًا. [11/ 573 - 576]
1158 -
مَن اتَّخَذَ الْغِنَاءَ وَالتَّصْفِيقَ عِبَادَةً وَقُرْبَةً فَقَد ضَاهَى الْمُشْرِكِينَ فِي ذَلِكَ، وَشَابَهَهُم فِيمَا لَيْسَ مِن فِعْلِ الْمُؤْمِنِينَ: الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ.
فإِنْ كَانَ يَفْعَلُهُ فِي بُيُوتِ اللهِ فَقَد زَادَ فِي مُشَابَهَتِهِ أَكْبَرَ وَأَكْبَرَ، وَاشْتَغَلَ بِهِ عَن الصَّلَاةِ وَذِكْرِ اللهِ وَدُعَائِهِ، فَقَد عَظُمَتْ مُشَابَهَتُهُ لَهُم، وَصَارَ لَهُ كِفْلٌ عَظِيمٌ مِن الذَّمِّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سبحانه وتعالى:{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35]
(1)
. [11/ 596]
1159 -
فِي السُّنَنِ أَنَّهُ كَانَ
(2)
مَعَ ابْنِ عُمَرَ - فَمَرَّ بِرَاعٍ مَعَهُ زَمَّارَةٌ فَجَعَلَ يَقُولُ: أَتَسْمَعُ يَا نَافِعُ؟ فَلَمَّا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَا يَسْمَعُ رَفَعَ إصْبَعَيْهِ مِن أُذُنَيْهِ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَفَعَلَ مِثْل ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد لَمَّا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ: هَذَا حَدِيث مُنْكَرٌ.
(1)
وهذا ما نراه من حال الرافضة والصوفية في هذا الزمان.
(2)
أي: نافع.
وَقَد رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ مِن وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا
(1)
.
فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَن أَبَاحَ الشبابة
(2)
، لَا سِيَّمَا وَمَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّ الشبابة حَرَامٌ.
وَلَمْ يَتَنَازَعْ فِيهَا مِن أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ إلَّا مُتَاخِّرِي الْخُرَاسَانِيِّين مِن أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ فَإِنَهُم ذَكَرُوا فِيهَا وَجْهَيْنِ.
وَأَمَّا الْعِرَاقِيُّونَ -وَهُم أَعْلَمُ بِمَذْهَبِهِ- فَقَطَعُوا بِالتَّحْرِيمِ كَمَا قَطَعَ بِهِ سَائِر الْمَذَاهِبِ.
وَآلَاتُ الْمَلَاهِي لَا يَجُوزُ اتِّخَاذُهَا وَلَا الاِسْتِئْجَارُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ.
فَهَذَا الْحَدِيث إنْ كَانَ ثَابِتًا فَلَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى إبَاحَةِ الشبابة، بَل هُوَ عَلَى النَّهْيِ عَنْهَا. أَوْلَى مِن وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ الاِسْتِمَاعُ لَا السَّمَاعُ، فَالرَّجُلُ لَو يَسْمَعُ الْكُفْرَ وَالْكَذِبَ وَالْغِيبَةَ وَالْغِنَاءَ والشبابة مِن غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ بَل كَانَ مُجْتَازًا بِطَرِيق فَسَمِعَ ذَلِكَ لَمْ يَأْثَمْ بِذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.
وَلَو جَلَسَ وَاسْتَمَعَ إلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ لَا بِقَلْبِهِ وَلَا بِلِسَانِهِ وَلَا يَدِهِ: كَانَ آثِمًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ إنَّمَا سَدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُذُنَيْهِ مُبَالَغَة فِي التَّحَفُّظِ حَتَّى لَا يَسْمَعَ أَصْلًا، فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ الاِمْتِنَاعَ مِن أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ خَيْرٌ مِن السَّمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُن فِي السَّمَاعِ إثْمٌ.
وَلَو كَانَ الصَّوْتُ مُبَاحًا: لَمَا كَانَ يَسُدُّ أُذُنَيْهِ عَن سَمَاعِ الْمُبَاحِ.
(1)
وبعضهم رواه عن ابن عباس مرفوعًا، لكن قال الشيخ: أَمَّا نَقْلُ هَذَا الْخَبَرِ عَن ابْنِ عَبَّاسِ فَبَاطِلٌ. (30/ 211).
(2)
وهو نوع من المزامير.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَو قُدِّرَ أَن الاِسْتِمَاعَ لَا يَجُوزُ فَلَو سَدَّ هُوَ وَرَفِيقُهُ آذَانَهُمَا لَمْ يَعْرِفَا مَتَى يَنْقَطِعُ الصَّوْتُ فَيَتْرُكُ الْمَتْبُوعُ سَدَّ أُذُنَيْهِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ الرَّفِيقَ كَانَ بَالِغًا أَو كَانَ صَغِيرًا دُونَ الْبُلُوغِ، وَالصِّبْيَانُ يُرَخَّصُ لَهُم فِي اللَّعِبِ مَا لَا يُرَخَّصُ فِيهِ لِلْبَالِغِ.
الْخَامِسُ: أَنَّ زَمَّارَةَ الرَّاعِي لَيْسَتْ مُطْرِبَةً كالشبابة الَّتِي يَصْنَعُ غَيْرُ الرَّاعِي.
السَّادِسُ: أَنَّهُ قَد ذَكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْمَنْعِ مِن إجَارَةِ الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ فَقَالَ: "اجَمَعَ كُلُّ مَن نَحْفَظُ عَنْهُ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى إبْطَالِ النَّائِحَةِ وَالْمُغَنيةِ، كَرِهَ ذَلِكَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخْعِيُّ وَمَالِكٍ.
وَقَالَ أبُو ثَوْرٍ وَالنُّعْمَانُ وَيَعْقُوبُ وَمُحَمَّدٍ: لَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ عَلَى شَيْءٍ مِن الْغِنَاءِ وَالنَّوْحْ، وَبِهِ نَقُولُ".
فَإِذَا كَانَ قَد ذَكَرَ إجْمَاعَ مَن يَحْفَظُ عَنْهُ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى إبْطَالِ إجَارَةِ النَّائِحَةِ وَالْمُغَنِّيَةِ -وَالْغِنَاءُ لِلنِّسَاءِ فِي الْعُرْسِ وَالْفَرَحِ جَائِز، وَهُوَ لِلرَّجُلِ إمَّا مُحَرَّمٌ وَإِمَّا مَكْرُوهٌ، وَقَد رَخَّصَ فِيهِ بَعْضُهُم- فَكَيْفَ بالشبابة الَّتِي لَمْ يُبِحْهَا أَحَدٌ مِن الْعُلَمَاءِ لَا لِلرِّجَالِ وَلَا لِلنِّسَاءِ، لَا فِي الْعُرْسِ وَلَا فِي غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يُبِيحُهَا مَن لَيْسَ مِن الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ الْمَشْهُورِينَ بِالْإِمَامَةِ فِي الدِّينِ؟! [30/ 211 - 215]
* * *
(سماع الأغاني على وجه اللعب)
1160 -
أَمَّا سَمَاعُ الْغِنَاءِ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ: فَهَذَا مِن خُصُوصِيَّةِ الْأفْرَاحِ لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ كَمَا جَاءَت بِهِ الْآثَارُ؛ فَإِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ وَاسِعٌ لَا حَرَجَ فِيهِ. [3/ 427]
* * *
مِن أَقْوَى مَا يُهَيِّجُ الْفَاحِشَةَ
1161 -
مِن أَقْوَى مَا يُهَيِّجُ الْفَاحِشَةَ: إنْشَادُ أشْعَارِ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ مِن الْعِشْقِ وَمَحَبَّةِ الْفَوَاحِشِ، وَمُقَدّمَاتِهَا بِالْأَصْوَاتِ الْمُطْرِبَةِ، فَإِنَّ الْمُغَنِّيَ إذَا
غَنَّى بِذَلِكَ حَرَّكَ الْقُلُوبَ الْمَرِيضَةَ إلَى مَحَبَّةِ الْفَوَاحِشِ، فَعِنْدَهَا يَهِيجُ مَرَضُهُ، وَيَقْوَى بَلَاؤُهُ، وَإِن كَانَ الْقَلْبُ فِي عَافِيَةٍ مِن ذَلِكَ جَعَلَ فِيهِ مَرَضًا، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الْغِنَاءُ رُقْيَةُ الزِّنَا. [15/ 313]
1162 -
كَرِهَ الْعُلَمَاءُ الْغَزَلَ مِن الشِّعْرِ الَّذِي يُرَغِّبُ فِيهَا [أي: بِالْفَاحِشَةِ] وَكَذَلِكَ ذِكْرُهَا غِيبَةٌ مُحَرَّمَةٌ، سَوَاءٌ كَانَ بِنَظْمٍ أَو نَثْرٍ، وَكَذَلِكَ التَّشَبُّهُ بِمَن يَفْعَلُهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ؛ مِثْل الْأمْرِ بِهَا؛ فَإِنَّ الْفِعْلَ يُطْلَبُ بِالْأمْرِ تَارَةً وَبِالْأِخْبَارِ تَارَة. [15/ 332]
* * *
(سبب وقوع الناس في الحيل)
1163 -
تَأَمَّلْت أَغْلَبَ مَا أَوْقَعَ النَّاسَ فِي الْحِيَلِ فَوَجَدْته أَحَدَ شَيْئَيْنِ: إمَّا ذُنوبٌ جوزُوا عَلَيْهَا بِتَضْيِيقٍ فِي أُمُورِهِمْ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا دَفْعَ هَذَا الضِّيقِ إلَّا بِالْحِيَلِ، فَلَمْ تَزِدْهُم الْحِيَلُ إِلَّا بَلَاءً، كَمَا جَرَى لِأَصْحَابِ السَّبْتِ مِن الْيَهُودِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160].
وَهَذَا الذَّنْبُ ذَنْبٌ عَمَلِيٌّ.
وَإِمَّا مُبَالَغَة فِي التَّشْدِيدِ لِمَا اعْتَقَدُوهُ مِن تَحْرِيمِ الشَّارعِ فَاضْطَرَّهُم هَذَا الاِعْتِقَادُ إلَى الاِسْتِحْلَالِ بِالْحِيَلِ.
وَهَذَا مِن خَطَأ الاِجْتِهَادِ.
وَإِلَّا فَمَن اتَّقَى اللّهَ وَأَخَذَ مَا أُحِلَّ لَهُ وَأَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ: فَإِنَّ اللّهَ لَا يحوجه إلَى الْحِيَلِ الْمُبْتَدَعَةِ أَبَدًا، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْعَلْ عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِن حَرَجٍ، وَإِنَّمَا بَعَثَ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ.
فَالسَّبَبُ الْأوَّلُ: هُوَ الظُّلْمُ.
وَالسَّبَبُ الثَّانِي: هُوَ عَدَمُ الْعِلْمِ، وَالظلْمُ وَالْجَهْلُ هُمَا وَصْفٌ لِلْإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ:{وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]. [29/ 45 - 46]
* * *
(الجلوس مع أهل الذنوب والمعاصي)
1164 -
رُفِعَ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَقْوَامٌ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ فَأَمَرَ بِجَلْدِهِم الْحَدَّ، فَقِيلَ: إنَّ فِيهِمْ صَائِمًا؟ فَقَالَ: أَبَدَؤوا بِالصَّائِمِ فَاجْلِدُوهُ: أَلَمْ يَسْمَعْ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء: 140]؟
1165 -
فَنَهَى سُبْحَانَهُ عَن الْقُعُودِ مَعَ الظَّالِمِينَ، فَكَيْفَ بِمُعَاشَرَتِهِمْ؟ أَمْ كَيْفَ بِمُخَادَنتِهِمْ؟ [32/ 254]
* * *
الغيبة
(أنواع الغيبة، ومتى تجوز؟ ومتى لا يجوز ذم الناس بأسمائهم
؟)
1166 -
هَذَانِ النَّوْعَانِ يَجُوزُ فِيهِمَا الْغِيبَةُ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ:
أَحَدُهُمَا أَنْ يَكونَ الرَّجُلُ مُظْهِرًا لِلْفُجُورِ مِثْل الظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَالْبِدَعَ الْمُخَالِفَةِ لِلسُّنَّةِ، فَإِذَا أَظْهَرَ الْمُنْكَرَ وَجَبَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَف الإِيمَانِ". [رَوَاهُ مُسْلِمٌ]
(1)
بِخِلَافِ مَنْ كَانَ مُسْتَتِرًا بِذَنْبِهِ مُسْتَخْفِيًا فَإِنَّ هَذَا يُسْتَرُ عَلَيْهِ، لَكِنْ يُنْصَحُ سِرًّا وَيَهْجُرُهُ مَنْ عَرَفَ حَالَهُ حَتَّى يَتُوبَ، وَيَذْكُرُ أَمْرَهُ عَلَى وَجْهِ النَّصِيحَةِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يُسْتَشَارَ الرَّجُلُ فِي مُنَاكَحَتِهِ وَمُعَامَلَتِهِ أَو اسْتِشْهَادِهِ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ، فَيَنْصَحُهُ مُسْتَشَارُهُ بِبَيَانِ حَالِهِ.
كَمَا ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ لَهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ: قَد خَطَبَنِي أَبُو جَهْمٍ وَمُعَاوِيةُ، فَقَالَ لَهَا:"أمَّا أَبُو جَهْمٍ فَرَجُل ضَرَّاب لِلنِّسَاءِ، وَأمّا مُعَاوَيةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ"
(2)
، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَالَ الْخَاطِبَيْنِ لِلْمَرْأَةِ.
(1)
(49).
(2)
رواه مسلم (1480).
فَإِنَّ النُّصْحَ فِي الدِّينِ أَعْظَمُ مِن النُّصْحِ فِي الدُّنْيَا، فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَصَحَ الْمَرْأَةَ فِي دُنْيَاهَا فَالنَّصِيحَةُ فِي الدِّينِ أَعْظَمُ.
وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ يَتْرُكُ الصَّلَوَاتِ وَيَرْتَكِبُ الْمُنْكَرَاتِ وَقَد عَاشَرَهُ مَن يَخَافُ أَنْ يُفْسِدَ دِينَهُ: بَيَّنَ أَمْرَهُ لَهُ لِتُتَّقَى مُعَاشَرَتُهُ، وَإِذَا كَانَ مُبْتَدِعًا يَدْعُو إلَى عَقَائِدَ تُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، أَو يَسْلُكُ طَرِيقًا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَيخَافُ أَنْ يضِلَّ الرَّجُلُ النَّاسَ بِذَلِكَ: بَيَّنَ أَمْرَهُ لِلنَّاسِ لِيَتَّقُوا ضَلَالَهُ وَيَعْلَمُوا حَالَهُ.
وَهَذَا كُلُّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ النُّصْحِ وَابْتِغَاءِ وَجْهِ اللّهِ تَعَالَى لَا لِهَوَى الشَّخْصِ مَعَ الْإِنْسَانِ. [28/ 219 - 221]
1167 -
سئل شيخ الإسلام عن غيبة تارك الصلاة فقال: إذا قيل عنه: إنه تارك للصلاة وكان تاركها: فهذا جائز، وينبغي أن يُشاع ذلك عنه ويهجر حتى يصلي. [المستدرك 3/ 210]
* * *
(خطرُ الغيبة، وطرقُ إخراجِها)
1168 -
مِن النَّاسِ مَن يَغْتَابُ مُوَافَقَةً لِجُلَسَائِهِ وَأَصْحَابِهِ وَعَشَائِرِهِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ الْمُغْتَابَ بَرِيءٌ مِمَّا يَقُولُونَ، أَو فِيهِ بَعْضُ مَا يَقُولُونَ، لَكِنْ يَرَى أَنَّهُ لَو أَنْكَرَ عَلَيْهِم قَطَعَ الْمَجْلِسَ وَاسْتَثْقَلَهُ أَهْلُ الْمَجْلِسِ وَنَفَرُوا عَنْهُ، فَيَرَى مُوَافَقَتَهُم مِن حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ وَطِيبِ الْمُصَاحَبَةِ، وَقَد يَغْضَبُونَ فَيَغْضَبُ لِغَضَبِهِم فَيَخُوضُ مَعَهُمْ.
وَمِنْهُم مَن يُخْرِجُ الْغِيبَةَ فِي قَوَالِبَ شَتَّى:
أ - تَارَةً فِي قَالِبِ دِيَانَةٍ وَصَلَاحٍ؛ فَيَقُولُ: لَيْسَ لِي عَادَة أَنْ أَذْكُرَ أَحَدًا إلَّا بِخَيْر، وَلَا أُحِبُّ الْغِيبَةَ وَلَا الْكَذِبَ، وَإِنَّمَا أُخْبِرُكُمْ بِأَحْوَالِهِ، وَيَقُولُ: وَاللّهِ إِنَّهُ
مِسْكِينٌ، أَو رَجُلٌ جَيِّدٌ، وَلَكِنْ فِيهِ كَيْت وَكَيْت، وَرُبَّمَا يَقُولُ: دَعُونَا مِنْهُ اللّهُ يَغْفِرُ لَنَا وَلَهُ، وَإِنَّمَا قَصْدُهُ اسْتِنْقَاصَهُ وَهَضْمًا لِجَانِبِهِ، وَيُخْرِجُونَ الْغِيبَةَ فِي قَوَالِبَ صَلَاحٍ وَدِيَانَةٍ، يُخَادِعُونَ اللهَ بِذَلِكَ كَمَا يُخَادِعُونَ مَخْلُوقًا، وَقَد رَأَيْنَا مِنْهُم أَلْوَانًا كَثِيرَةً مِن هَذَا وَأَشْبَاهِهِ.
ب - وَمِنْهُم مَن يَرْفَعُ غَيْرَهُ
(1)
رِيَاءً فَيَرْفَعُ نَفْسَهُ، فَيَقُولُ: لَو دَعَوْت الْبَارِحَةَ فِي صَلَاتِي لِفُلَان؛ لِمَا بَلَغَنِي عَنْهُ كَيْت وَكَيْت لِيَرْفَعَ نَفْسَهُ وَيَضَعَه عِنْدَ مَن يَعْتَقِدُهُ.
أَو يَقُولُ: فُلَانٌ بَلِيدُ الذِّهْنِ قَلِيلُ الْفَهْمِ؛ وَقَصْدُهُ مَدْح نَفْسِهِ وَإِثْبَات مَعْرِفَتِهِ وَأَنَهُ أَفْضَلُ مِنْهُ.
ج - وَمِنْهُم مَن يَحْمِلُهُ الْحَسَدُ عَلَى الْغِيبَةِ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ قَبيحَيْنِ: الْغِيبَةِ وَالْحَسَدِ، وَإِذَا أُثْنِيَ عَلَى شَخْصٍ أَزَالَ ذَلِكَ عَنْهُ بِمَا اسْتَطَاعَ مِن تَنَقُّصِهِ فِي قَالِبِ دِينٍ وَصَلَاحٍ، أَو فِي قَالِبِ حَسَدٍ وَفُجُورٍ وَقَدْحٍ؛ ليُسْقِطَ ذَلِكَ عَنْهُ.
د - وَمِنْهُم مَن يُخْرِجُ الْغِيبَةَ فِي قَالِبِ تمسخر وَلَعِبٍ لَيُضْحِكَ غَيْرَهُ بِاسْتِهْزَائِهِ وَمُحَاكَاتِهِ وَاسْتِصْغَارِ الْمُسْتَهْزَأِ بِهِ.
هـ - وَمِنْهُم مَن يُخْرِجُ الْغِيبَةَ فِي قَالِبِ التَّعَجبِ، فَيَقُولُ: تَعَجَّبْت مِن فُلَانٍ كَيْفَ لَا يَفْعَلُ كَيْت وَكَيْت، وَمِن فُلَانٍ كَيْفَ وَقَعَ مِنْهُ كَيْت وَكَيْت، وَكَيْفَ فَعَلَ كَيْت وَكَيْت، فَيُخْرِجُ اسْمَهُ فِي مَعْرِضِ تَعَجُّبِهِ.
و - وَمِنْهُم مَن يُخْرِجُ الاِغْتِمَامَ فَيَقُولُ: مِسْكينٌ فُلَانٌ غَمَّنِي مَا جَرَى لَهُ وَمَا تَمَّ لَهُ، فَيَظُنُ مَن يَسْمَعُهُ أَنَّهُ يَغْتَمُّ لَهُ وَيَتَأسَّفُ وَقَلْبُهُ مُنْطَوٍ عَلَى التَّشَفِّي بِهِ، وَلَو قَدَرَ لَزَادَ عَلَى مَا بِهِ، وَرُبَّمَا يَذْكُرُهُ عِنْدَ أَعْدَائِهِ لِيَشْتَفُوا بِهِ.
(1)
السياق يقتضي أن يقول: يضُعُ.
وَهَذَا وَغَيْرُهُ مِن أَعْظَمِ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ وَالْمُخَادَعَاتِ للهِ وَلخَلْقِهِ.
ي - وَمِنْهُم مَن يُظْهِرُ الْغِيبَةَ فِي قَالِبِ غَضَبٍ وَإِنْكَارِ مُنْكَرٍ؛ فَيُظْهِرُ فِي هَذَا الْبَابِ أَشْيَاءَ مِن زَخَارِفِ الْقَوْلِ وَقَصْدُهُ غَيْرُ مَا أَظْهَرَ. [28/ 236 - 238]
* * *
(كفارة الغيبة)
1169 -
مَن ظَلَمَ إنْسَانًا فَقَذَفَهُ أَو اغْتَابَهُ أَو شَتَمَهُ ثُمَّ تَابَ: قَبِلَ اللّهُ تَوْبَتَهُ.
لَكِنْ إنْ عَرَفَ الْمَظْلُومَ: مَكَّنَهُ مِن أَخْذِ حَقِّهِ.
وَإِن قَذَفَهُ أَو اغْتَابَهُ وَلَمْ يَبْلُغْهُ: فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَن أَحْمَدَ، أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا يُعْلِمُهُ أَنِّي اغْتَبْتُك
(1)
.
وَقَد قِيلَ: بَل يُحْسِنُ إلَيْهِ فِي غَيْبَتِهِ كَمَا أَسَاءَ إلَيْهِ فِي غَيْبَتِهِ.
كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَفَّارَةُ الْغَيْبَةِ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِمَن اغْتَبْته. [3/ 291]
* * *
مجاهدة الذنوب والمعاصي
1170 -
إِذَا كَانَ الَّذِي قَد يَهْجُرُ السِّيِّئَاتِ يَغُضُّ بَصَرَهُ، وَيَحْفَظُ فَرْجَهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا نَهَى اللّهُ عَنْهُ: يَجْعَلُ اللهُ لَهُ مِن النُّورِ وَالْعِلْمِ وَالْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ وَمَحَبَّةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَمَا ظَنُّكَ بِالَّذِي لَمْ يَحُمْ حَوْلَ السِّيِّئَاتِ، وَلَمْ يُعِرْهَا طَرْفَهُ قَطُّ، وَلَمْ تُحَدِّثْهُ نَفْسُهُ بِهَا، بَل هُوَ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَهْلَهَا لِيَتْرُكُوا السِّيِّئَاتِ؟
فَهَل هَذَا وَذَاكَ سَوَاءٌ؟
بَل هَذَا لَهُ مِن النُّورِ وَالْإِيمَانِ وَالْعِزَّةِ وَالْقُوَّةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالسُّلْطَانِ وَالنَّجَاةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَضْعَافُ أَضْعَافِ ذَاكَ، وَحَالُهُ أَعْظَمُ وَأَعْلَى، وَنُورُهُ أَتَمُّ وَأَقْوَى. [15/ 400]
* * *
(1)
بل يكفيه الاستغفار له وذكره بمحاسن ما فيه في المواطن التي اغتابه فيها. المستدرك (3/ 208).
المباحات
1171 -
وَكَذَلِكَ مُبَاحَاتُ نَفْسِهِ الْمَحْضَةُ الَّتِي لَمْ يَقْصِد الاِسْتِعَانَةَ بِهَا عَلَى طَاعَةٍ وَلَا مَعْصِيَةٍ، مَعَ أَنَّ هَذَا نَقْصٌ مِنْهُ، فَإِنَّ الَّذِي يَنْبَغِي أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ مِن الْمُبَاحَاتِ إلَّا مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ وَيَقْصِدُ الاِسْتِعَانَةَ بِهَا عَلَى الطَّاعَةِ، فَهَذَا سَبِيلُ الْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ.
فَفُضُولُ الْمُبَاحِ الَّتِي لَا تُعِينُ عَلَى الطَّاعَةِ عَدَمُهَا خَيْرٌ مِن وُجُودِهَا، إذَا كَانَ مَعَ عَدَمِهَا يَشْتَغِلُ بِطَاعَةِ اللّهِ، فَإِنَّهَا تَكُونُ شَاغِلَةً لَهُ عَن ذَلِكَ.
وَأَمَّا إذَا قُدِّرَ أَنَّهَا تَشْغَلُهُ عَمَّا دُونَهَا فَهِيَ خَيْرٌ لَهُ مِمَّا دُونَهَا.
وَإِن شَغَلَتْهُ عَن مَعْصِيَةِ اللّهِ كَانَت رَحْمَة فِي حَقِّهِ، وَإِن كَانَ اشْتِغَالُهُ بِطَاعَةِ اللهِ خَيْرًا لَهُ مِن هَذَا وَهَذَا.
وَكَذَلِكَ أَفْعَالُ الْغَفْلَةِ وَالشَّهْوَةِ الَّتِي يُمْكِنُ الاِسْتِعَانَةُ بِهَا عَلَى الطَّاعَةِ، كَالنَّوْمِ الَّذِي يُقْصدُ بِهِ الاِسْتِعَانَةُ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَالنِّكَاحِ الَّذِي يُمْكِنُ الاِسْتِعَانَةُ بِهِ عَلَى الْعِبَادَةِ، إذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ نَقْصًا مِن الْعَبْدِ وَفَوَاتَ حَسَنَةٍ وَخَيْرٍ يُحِبُّهُ اللّهُ. [10/ 460 - 461]
1172 -
النَّاس فِي الْمُبَاحَاتِ مِن الْمُلْكِ وَالْمَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أ - قَوْمٌ لَا يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا إلَّا بِحُكْمِ الْأمْرِ الشَّرْعِيِّ.
وَهُوَ حَالُ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ حَالُ الْعَبْدِ الرَّسُولِ وَمَن اتَّبَعَهُ فِي ذَلِكَ.
ب - وَقَوْمٌ يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا بِحُكْمِ إرَادَتِهِمْ وَالشَّهْوَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً.
وَهَذَا حَالُ النَّبِيِّ الْمَلِكِ، وَهُوَ حَالُ الْأَبْرَارِ أَهْلِ الْيَمِينِ.
ج - وَقَوْمٌ لَا يَتَصَرَّفُونَ بِهَذَا وَلَا بِهَذَا.
أَمَّا "الْأَوَّلُ" فَلِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِهِ.
وَأَمَّا "الثَّانِي" فَلِزُهدِهِمْ فِيهِ. [10/ 469 - 470]
1173 -
هَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ تَجِبُ مَعْرِفَتُهُ وَالاِعْتِنَاءُ بِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُبَاحَاتِ إِنَّمَا تَكُون مُبَاحَةً إذَا جُعِلَتْ مُبَاحَاتٍ، فَأمَّا إذَا اُتخِذَتْ وَاجِبَاتٍ أَو مُسْتَحَبَّاتٍ كَانَ ذَلِكَ دِينًا لَمْ يُشَرِّعْهُ اللّهُ، وَجَعْلُ مَا لَيْسَ مِن الْوَاجِبَاتِ والمستحبات مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ جَعْلِ مَا لَيْسَ مِن الْمُحَرَّمَاتِ مِنْهَا، فَلَا حَرَامَ إِلَّا مَا حَرَّمَهُ اللّهُ، وَلَا دِينَ إلَّا مَا شَرَعَهُ اللهُ؛ وَلهَذَا عَظُمَ ذَمُّ اللّهِ فِي الْقُرْآنِ لِمَن شَرَّعَ دِينًا لَمْ يَأْذَنِ اللهُ بِهِ، وَلمَن حَرَّمَ مَا لَمْ يَأْذَنِ اللهُ بِتَحْرِيمِهِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْمُبَاحَاتِ فَكَيْفَ بِالْمَكْرُوهَاتِ أَو الْمُحَرَّمَاتِ؟
وَلهَذَا كَانَت هَذِهِ الْأُمُورُ لَا تَلْزَمُ بِالنَّذْرِ، فَلَو نَذَرَ الرَّجُلُ فِعْلَ مُبَاحٍ أَو مَكْرُوهٍ أو مُحَرَّمٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِعْلُهُ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا نَذَرَ طَاعَةَ اللّهِ أَنْ يُطِيعَهُ، بَل عَلَيْهِ كَفارَةُ يَمِينٍ إذَا لَمْ يَفْعَلْ عِنْدَ أحْمَد وَغَيْرِهِ، وَعِنْدَ آخَرِينَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَلَا يَصِيرُ بالنَّذْرِ مَا لَيْسَ بِطَاعَةٍ وَلَا عِبَادَةٍ: طَاعَةٌ وَعِبَادَةٌ. [450 - 451]
* * *
(الامتناع من أكل الطيبات
…
)
1174 -
من امتنع من الطيبات بلا سبب شرعي فمبتدع مذموم.
وما نقل عن الإمام أحمد أنه امتنع من أكل البطيخ لعدم علمه بكيفية أكل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فكذب. [1/ 163]
* * *
الواجبات
1175 -
أَمَرَ الله بِطَاعَةِ الرَّسُولِ فِي نَحْوِ أَرْبَعِينَ مَوْضِعًا
(1)
؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران: 32]. [19/ 83]
* * *
(1)
وهذا تأكيدٌ من الله تعالى للمؤمنين بأهمّية الاقتداء به في كل شؤونه وأحواله وجوبًا أو استحبابًا، ولم يفرق تعالى بين أمر وأمر، فلا ينبغي للمؤمن إذا جاءه أمرٌ وسُنَّة من الرسول أن يسأل: هل هو للاستحباب أو للواجب؟ بل يُبادر للعمل.
التداوي
1176 -
إِنَّ النَّاسَ قَد تَنَازَعُوا فِي التَّدَاوِي هَل هُوَ مُبَاحٌ أَو مُسْتَحَبٌّ أَو وَاجِبٌ؟
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ مِنْهُ مَا هُوَ محَرَّمٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ مَكْرُوة وَمِنْهُ مَا هُوَ مُبَاحٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ.
وَقَد يَكُونُ مِنْهُ مَا هُوَ وَاجِبٌ وَهُوَ: مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ بَقَاءُ النَّفْسِ لَا بِغَيْرِهِ كَمَا يَجِبُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عِنْد الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. [18/ 12]
1177 -
قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي "الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ": "شِفَاءُ أُمَّتِي فِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ أَو
شَرْبَةِ عَسَلٍ أَو كَيَّةٍ بِنَارٍ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ"
(1)
كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْحِجَامَةِ إخْرَاجُ الدَّمِ الزَّائِدِ الَّذِي يَضُرُّ الْبَدَنَ، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَخَصَّ الْحِجَامَةَ لِأَنَّ الْبِلَادَ الْحَارَّةَ يَخْرُجُ الدَّمُ فِيهَا إلَى سَطْحِ الْبَدَنِ فَيَخْرُجُ بِالْحِجَامَةِ، فَلِهَذَا كَانَتِ الْحِجَامَةُ فِي الْحِجَازِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْبِلَادِ الْحَارَةِ يَحْصُلُ بِهَا مَقْصُودُ اسْتِفْرَاغِ الدَّمِ، وَأَمَّا الْبِلَادُ الْبَارِدَةُ فَالدَّمُ يَغُورُ فِيهَا إلَى الْعُرُوقِ فَيَحْتَاجُونَ إلَى قَطْعِ الْعُرُوقِ بِالْفِصَادِ، وَهَذَا أَمْر مَعْرُوفٌ بِالْحِسِّ وَالتَّجْرِبَةِ. [17/ 486]
1178 -
هَذَا [أي: رقية الناس] مِن أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ مِن أَعْمَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ؛ فَإِنَّهُ مَا زَالَ الأنْبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ يَدْفَعُونَ الشَّيَاطِينَ عَن بَنِي آدَمَ بِمَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، كَمَا كَانَ الْمَسِيحُ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَكَمَا كَانَ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ ذَلِكَ. [19/ 56 - 57]
1179 -
يَجُوزُ أَنْ يَكْتبَ لِلْمُصَابِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَرْضَى شَيْئًا مِن كِتَابِ اللّهِ وَذِكْرِه بِالْمِدَادِ الْمُبَاحِ، وَيُغْسَلُ وَيُسْقَى، كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ، قَالَ
(1)
البخاري (5683).
عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَحْمَد: قَرَأت عَلَى أَبِي .. عَنِ ابْنِ عَبَّاس قَالَ: إذَا عَسِرَ عَلَى الْمَرْأَةِ وِلَادَتُهَا فَلْيَكْتُبْ: بِسْمِ اللّهِ لَا إلَهَ إلَّا اللّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ سُبْحَانَ اللّهِ رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)} [النازعات: 46]، {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)} [الأحقاف: 35].
قَالَ عَبْدُ اللهِ: رَأَيْت أَبِي يَكْتُبُ لِلْمَرْأَةِ فِي جَامٍ أَو شَيْءٍ نَظِيفٍ. [19/ 64]
1180 -
كُلُّ اسْمٍ مَجْهُولٍ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَرْقِيَ بِهِ، فَضْلًا عَن أَنْ يَدْعُوَ بِهِ، وَلَو عَرَفَ مَعْنَاهَا وَأَنَّهُ صَحِيحٌ: لَكُرِهَ أَنْ يَدْعُوَ اللّهَ بِغَيْرِ الْأَسْمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ. [24/ 283]
* * *
(التداوي بالحرام والنجاسة)
1181 -
إنْ كَانَ الْمَذْبُوحُ مِمَّا يُبَاحُ أَكْلُهُ جَازَ التَّدَاوِي بِمَرَارَتِهِ وَإِلَّا فَلَا.
1182 -
التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ حَرَامٌ بِنَصِّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَى ذَلِكَ جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، ثَبَتَ عَنْهُ فِي "الصَّحِيحِ"
(1)
: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْخَمْرِ تُصْنَعُ لِلدَّوَاءِ فَقَالَ: "إنَّهَا دَاء وَلَيْسَتْ بِدَوَاء".
وَلَيْسَ هَذَا مِثْل أَكْلِ الْمُضْطَرِّ لِلْمَيْتَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ قَطْعًا، وَلَيْسَ لَهُ عَنْهُ عِوَضٌ، وَالْأَكْلُ مِنْهَا وَاجِبٌ، فَمَن اُضْطُرَّ إلَى الْمَيْتَةِ وَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ دَخَلَ النَّارَ
(2)
.
وَهُنَا لَا يُعْلَمُ حُصولُ الشّفَاءِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ هَذَا الدَّوَاءُ، بَلِ اللّهُ تَعَالَى يُعَافِي الْعَبْدَ بِأَسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَالتَّدَاوِي لَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَلَا يُقَاسُ هَذَا بِهَذَا. [24/ 266 - 267]
(1)
رواه مسلم (1984).
(2)
أي: إذا لم يمنع من ذلك مانع، كالتوبة، أو الحسنات الماحية، أو التأويل السائغ، أو الجهل.
1183 -
التَّدَاوِي بِأَكْلِ شَحْمِ الْخِنْزِيرِ: لَا يَجُوزُ.
وَأَمَّا التَّدَاوِي بِالتَّلَطُّخِ بِهِ ثُمَّ يَغْسِلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: فَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى جَوَازِ مُبَاشَرَةِ النَّجَاسَةِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْحَاجَةِ، كَمَا يَجُوزُ اسْتِنْجَاءُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ وَإِزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِيَدِهِ.
وَمَا أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ جَازَ التَّدَاوِي بِهِ، كَمَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِلُبْسِ الْحَرِيرِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ.
وَمَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ كَالْمَطَاعِمِ الْخَبِيثَةِ فَلَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهَا، كَمَا لَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِشُرْبِ الْخَمْرِ لَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ مَن يَقُولُ: إنَّهُم كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِشُحُومِ الْمَيْتَةِ فِي طَلْيِ السُّفُنِ وَدَهْنِ الْجُلُودِ وَالاِسْتِصْبَاحِ بِهِ وَأَقَرَّهُم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا نَهَاهُم عَن ثَمَنِهِ.
وَلهَذَا رَخَّصَ مَن لَمْ يَقُلْ بِطَهَارَةِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغِ فِي الاِنْتِفَاعِ بِهَا فِي الْيَابِسَاتِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَفِي الْمَائِعَاتِ الَّتِي لَا تُنَجِّسُهَا. [24/ 270 - 271]
* * *
الرؤى
1184 -
تَعْبِيرُ الرُّؤْيَا مَدَارُهُ عَلَى الْقِيَاسِ وَالاِعْتِبَارِ وَالْمُشَابَهَةِ الَّتِي بَيْنَ الرُّؤَيا وَتَأْوِيلِهَا
(1)
. [20/ 82 - 83]
(1)
وليس مدارُ تعبير الرؤى على الإلهام الدي لا مُستند له سوى التخمين والتخريص غالبًا. والصواب المقطوعُ به: أنّ مَلَكةَ التعبير لا تأتي إِلَّا مِن طريقين:
الطريق الأول: الموهبةُ والفطنةُ والفراسةُ، كما قال الراغب رحمه اللّه تعالى:"ومن الفراسة علمُ الرؤيا".
وهي التي عبّر عنها القرافي رحمه الله تعالى بقُوَّةِ نَفْسٍ.
وهذا هو الأصل في تحصيل هذه الْمَلَكة، ويجد بعض الناس منذ صغره مَيْلًا إلى التعبير، وفهمًا فطريًّا في ذلك.
لكن لا يُمْكن أنْ تقوى فيه هذه الْمَلَكةُ إِلَّا إذا غذّاها بالعلم والدُّرْبةِ والتقوى والورع.
الطريق الثاني: التّعلم ومُجالسةُ وسؤالُ أهل التعبير المتقنين. =
1185 -
الرُّؤْيَا الْمَحْضَةُ الَّتِي لَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِهَا شَيْءٌ بِالاِتِّفَاقِ. [27/ 458]
* * *
(هل يُرى اللَّه عز وجل فِي الدنيا وفي الْمَنَامِ
؟)
1186 -
كُلُّ حَدِيثٍ فِيهِ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنِهِ فِي الْأَرْضِ: فَهُوَ كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ، هَذَا شَيْءٌ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِن عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا رَوَاهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ.
وَإِنَّمَا كَانَ النِّزَاعُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم هَل رَأَى رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ؟.
وَلَا نُقِلَ فِي ذَلِكَ عَن الصِّدِّيقِ رضي الله عنه، كَمَا يَرْوُونَهُ نَاسٌ مِن الْجُهَّالِ: أَنَّ أَبَاهَا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "نَعَمْ"، وَقَالَ لِعَائِشَةَ:"لَا"
…
وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّهُ قَالَ: "رَأَيْت رَبِّي فِي صُورَةِ كَذَا وَكذَا"
(1)
، يُرْوَى مِن طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِن طَرِيقِ أُمِّ الطُّفَيْلِ وَغَيْرِهِمَا، وَفِيهِ:"أَنَّهُ وَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ حَتَّى وَجَدْت بَرْدَ أَنَامِلِهِ عَلَى صَدْرِي"
(2)
، هَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَكُن لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ:
= فتعبير الرؤيا يُمكن أنْ يُكتسب، ولو لم تنشأ عنده هذه الغريزة والميول للتعبير في الصغر، لكن مع كثرة القراءة في هذا العلم، وطُول الْمُمارسة في تعبير الرؤى تتكوَّن لديه ملكةُ التعبير.
ونستطيع أن نقول:
هو علمٌ يُدرَس، ويَتَقوَّى بالفراسة والفطنة - التي تُكتسب أيضًا مع كثرة المران والخبرة -.
وهو موهبةٌ وفراسةٌ وفطنةٌ، تقوى بالعلم وطولِ الخبرة.
يُنظر: عِلْمُ تَعْبِيرِ الرُّؤَىَ، بَحْثٌ تَأْصيْلِيٌّ عِلْميٌّ، للمؤلف (57 - 80).
(1)
رواه أحمد (2580).
(2)
رواه الترمذي (3235)، والإمام أحمد (22109)، قال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
سَألْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ، عَن هَذَا الحَدِيثِ، فَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وضعَّفه محققو المسند لاضطرابه.
أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم نَامَ عَن صَلَاةِ الصُّبْحِ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْهِم وَقَالَ: رَأَيْت كَذَا وَكَذَا.
وَهُوَ فِي رِوَايَةِ مَن لَمْ يُصَلَّ خَلْفَهُ إلَّا بِالْمَدِينَةِ كَأُمِّ الطُّفَيْلِ وَغَيْرِهَا، وَالْمِعْرَاجُ إنَّمَا كَانَ مِن مَكَّةَ باتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ .. فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ كَانَ رُؤَيا مَنَامٍ بِالْمَدِينَةِ .. مَعَ أَنَّ رُؤَيا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌّ، لَمْ يَكن رُؤَيا يَقَظَةٍ لَيْلَةَ الْمِعْرَاج.
وَقَد يَرَى الْمُؤمِنُ رَبَّهُ فِي الْمَنَامِ فِي صُوَرٍ مُتَنَوِّعَةٍ عَلَى قَدْرِ إيمَانِهِ وَيَقِينِهِ، فَإِذَا كَانَ إيمَانُهُ صَحِيحًا لَمْ يَرَهُ إلَّا فِي صُورَةٍ حَسَنَةٍ، وَإِذَا كَانَ فِي إيمَانِهِ نَقْصٌ رَأَى مَا يُشْبِة إيمَانَهُ، وَرُؤَيا الْمَنَامِ لَهَا حُكْمٌ غَيْرُ رُؤَيا الْحَقِيقَةِ فِي الْيَقَظَةِ، وَلَهَا تَعْبِيرٌ وَتَأْوِيل؛ لِمَا فِيهَا مِن الْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ لِلْحَقَائِقِ.
وَقَد يَحْصُلُ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي الْيَقَظَةِ أَيْضًا مِن الرُّؤْيَا نَظِيرُ مَا يَحْصُلُ لِلنَّائِمِ فِي الْمَنَامِ، فَيَرَى بِقَلْبِهِ مِثْل مَا يَرَى النَّائِمُ، وَقَد يَتَجَلَّى لَهُ مِن الْحَقَائِقِ مَا يَشْهَدُهُ بِقَلْبِهِ، فَهَذَا كلُّة يَقَعُ فِي الدُّنْيَا.
وَرُبَّمَا غَلَبَ أَحَدُهُم مَا يَشْهَدُهُ قَلْبُهُ، وَتَجْمَعُهُ حَوَاسُّهُ، فَيَظُنُّ أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ بِعَيْنَيِّ رَأسِهِ، حَتَّى يَسْتَيْقِظَ فَيَعْلَمَ أَنَّهُ مَنَامٌ.
وَرُبَّمَا عَلِمَ فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ مَنَامٌ.
فَهَكَذَا مِن الْعُبَّادِ مَن يَحْصُلُ لَهُ مُشَاهَدَة قَلْبِيَّةٌ تَغْلِبُ عَلَيْهِ حَتَّى تُفْنِيَهُ عَن الشُّعُورِ بِحَوَاشهِ، فَيَظُنَّهَا رُؤَية بِعَيْنِهِ وَهُوَ غالط فِي ذَلِكَ. [3/ 386 - 390]
1187 -
مَن رَأَى اللهَ عزوجل فِي الْمَنَامِ: فَإِنَّهُ يَرَاهُ فِي صُورَةٍ مِن الصُّوَرِ بِحَسَبِ حَالِ الرَّائِي، إنْ كَانَ صَالِحًا رَآه فِي صُورَةٍ حَسَنَةٍ؛ وَلهَذَا رَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ.
وَالْمُشَاهَدَاتُ الَّتِي قَد تَحْصُلُ لِبَعْضِ الْعَارِفِينَ فِي الْيَقَظَةِ؛ كَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ لَمَّا خَطَبَ إلَيْهِ ابْنَتَهُ فِي الطَّوَافِ: أَتُحَدِّثُنِي فِي النِّسَاءِ وَنَحْنُ نتَرَاءَى اللّهَ عز وجل فِي طَوَافِنَا؟ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ: إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمِثَالِ الْعِلْمِيِّ الْمَشْهُودِ.
وَهَذَا الْمِثَالُ الْعِلْمِيُّ يَتَنَوَّعُ فِي الْقُلُوبِ بِحَسَبِ الْمَعْرِفَةِ بِاللّهِ، وَالْمَحَبَّةِ لَهُ تَنَوُّعًا لَا يَنْحَصِرُ.
بَل الْخَلْقُ فِي إيمَانِهِمْ بِاللّهِ وَكِتَابِهِ ورَسُولِهِ: مُتَنَوِّعُونَ، فَلِكُلٍّ مِنْهُم فِي قَلْبِهِ لِلْكِتَابِ وَالرَّسُولِ مِثَال عِلْمِيٌّ بِحَسَبِ مَعْرِفَتِهِ.
مَعَ اشْتِرَاكِهِمْ فِي الْإِيمَانِ بِاللّهِ وَبِكِتَابِهِ وَبِرَسُولِهِ: فَهُم مُتَنَوِّعُونَ فِي ذَلِكَ مُتَفَاضِلُونَ.
وَكَذَلِكَ إيمَانُهُم بِالْمَعَادِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن أُمُورِ الْغَيْبِ. [5/ 251 - 252]
* * *
(تواطؤ الرؤيا كتواطؤ الشهادات)
1188 -
لا يشهد بالجنة إِلَّا لمن شهد له النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أو اتفقت الأمة على الثناء. عليه، وهو أحد القولين، وتواطؤ الرؤيا كتواطؤ الشهادات. [المستدرك 1/ 110]
* * *
الأنبياء والرسل
1189 -
انْقَسَمَ النَّاسُ فِيهِمْ [أي: في الْأَنْبِيَاءِ والأَوْلياء]:
أ - قَوْمٌ أَنْكَرُوا تَوَسّطَهُم بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، فَكَذَّبُوا بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ: مِثْلُ قَوْمِ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ وَقَوْمِ فِرْعَوْنَ وَغَيْرِهِمْ مِمَن يُخْبِرُ اللّهُ أَنَّهُم كَذَّبُوا الْمُرْسَلِينَ؛ فَإِنَّهُم كَذَّبُوا جِنْسَ الرُّسُلِ، يُؤْمِنُوا بِبَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ.
ب - وَقِسْمٌ ثَالثٌ غَلَوْا فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَفِي الْمَلَائِكَةِ أَيْضًا: فَجَعَلُوهُم وَسَائِطَ فِي الْعِبَادَةِ فَعَبَدُوهُم لِيُقَرِّبُوهُم إلَى اللهِ زُلْفَى، وَصَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ، وَعَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ.
ج - فَأَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالتَّابِعُونَ لَهُم بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَيْسُوا مِن هَؤُلَاءِ وَلَا مِن هَؤُلَاءِ، بَل يُثْبِتُونَ أَنَّهُم وَسَائِطُ فِي التَّبْلِيغِ عَنِ اللّهِ، وَيُؤْمِنُونَ بِهِمْ، وَيُحِبُّونَهُم وَلَا يَحُجُّونَ إلَى قُبُورِهِمْ، وَلَا يَتَّخِذُونَ قُبُورَهُم مَسَاجِدَ؛ وَذَلِكَ تَحْقِيقُ "شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللّهِ"، فَإِظْهَارُ ذِكْرِهِمْ وَمَا جَاوُوا بِهِ هُوَ مِن الْإِيمَانِ بِهِمْ، وَإِخْفَاءُ قُبُورِهِمْ لِئَلَّا يَفْتَتِنَ بِهَا النَّاسُ هُوَ مِن تَمَامِ التَّوْحِيدِ وَعِبَادَةِ اللّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّحَابَة وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ قَامُوا بِهَذَا. [27/ 281 - 284]
1190 -
لَوْلَا الرِّسَالَةُ لَمْ يَهْتَدِ الْعَقْلُ إلَى تَفَاصِيلِ النَّافِعِ وَالضَّارّ فِي الْمَعَاشِ وَالْمُعَادِ، فَمِن أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ وَأَشْرَفِ مِنَّةٍ عَلَيْهِم: أَنْ أَرْسَلَ إلَيْهِم رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِم كُتُبَهُ، وَبَيَّنَ لَهُم الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانُوا
بِمَنْزِلَةِ الْأَنْعَامِ وَالْبَهَائِمِ، بَل أَشَرَّ حَالًا مِنْهَا، فَمَن قَبِلَ رِسَالَةَ اللّهِ وَاسْتَقَامَ عَلَيْهَا فَهُوَ مِن خَيْرِ الْبَرِيَّةِ، وَمَن رَدَّهَا وَخَرَجَ عَنْهَا فَهُوَ مِن شَرِّ الْبَرِيَّةِ، وَأَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ. [19/ 100]
1191 -
لَيْسَتْ حَاجَةُ أَوَّلِ الْأرْضِ إلَى الرَّسُولِ كَحَاجَتِهِمْ إلَى الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَالرّيَاحِ وَالْمَطَرِ، وَلَا كَحَاجَةِ الْإِنْسَانِ إلَى حَيَاتِهِ، وَلَا كَحَاجَةِ الْعَيْنِ إلَى ضَوْئِهَا، وَالْجِسْمِ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، بَل أَعْظَمُ مِن ذَلِكَ، وَأَشَدُّ حَاجَةً مِن كُل مَا يُقَدَّرُ وَيَخْطُرُ بِالْبَالِ، فَالرُّسُلُ وَسَائِطُ بَيْنَ اللّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَهُم السُّفَرَاءُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ، وكان خَاتَمُهُم وَسَيِّدُهُم وَأَكْرَمُهُم عَلَى رَبِّهِ: مُحَمَّدَ بنَ عَبْدِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ"
(1)
، وَقَالَ اللّهُ تَعَالَى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107]. [19/ 101]
1192 -
أَفْضَلُ الْأنْبِيَاءِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ كَمَا ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ"
(2)
عَن أَنَسٍ عَن النَّبِيِّ صلى أَنَّة خَيْرُ الْبَرِيَّةِ. [4/ 317]
1193 -
إِنَّ الرُّسُلَ صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَيْهِم بُعِثُوا بِتَكْمِيلِ الْفِطْرَةِ وَتَقْرِيرِهَا، لَا بِتَبْدِيلِ الْفِطْرَةِ وَتَغْيِيرِهَا. [6/ 575]
* * *
(1)
رواه ابن أبي شيبة (31782)، والدارمي (15)، مرسلًا عَنْ أَبِي صَالِح، ورواه البزار مرفوعًا عن أبي هريرة (9205) وقال: وهذا الحديثُ لا نعلم أحدًا وصله عنْ أَبي صَالِحٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه إِلَّا مالك بن سعير وغيره يرسله فلا يقول، عن أبي هريرة رضي الله عنه، إنما يقول عن أبي صالح عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (490): حسن أو صحيح.
(2)
(2369).
(هل عِيسَى عليه السلام حَيٌّ لم يمت؟ وَما معنى قَوْله تَعَالَي: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ})
1194 -
عِيسَى عليه السلام حَيٌّ فِي السَّمَاءِ لَمْ يَمُتْ بَعْدُ، وَإِذَا نَزَلَ مِن السَّمَاءِ لَمْ
يَحْكُمْ إلَّا بِالْكتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَا بِشَيْء يُخَالِفُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 55] فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْنِ بِذَلِكَ الْمَوْتَ؛ إذ لَو ارَادَ بِذَلِكَ الْمَوْتَ لَكَانَ عِيسَى فِي ذَلِكَ كَسَائِرِ الْمُؤمِنِينَ؛ فَإِنَّ اللّهَ يَقْبِضُ أَرْوَاحَهُم وَيَعْرُجُ بِهَا إلَى السَّمَاءِ، فَعُلِمَ أَنْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ خَاصِّيَّةٌ.
وَلهَذَا قَالَ مَن قَالَ مِن الْعُلَمَاءِ: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} ؛ أَيْ: قَابِضُك؛ أَيْ: قَابِضٌ رُوحَك وَبَدَنك.
يُقَالُ: تَوَفَّيْت الْحِسَابَ وَاسْتَوْفَيْته.
وَلَفْظُ التَّوَفِّي: لَا يَقْتَضِي
(1)
تَوَفِّيَ الرُّوحِ دُونَ الْبَدَنِ، وَلَا تَوَفِّيَهُمَا جَمِيعًا إلَّا بِقَرِينَةٍ مُنْفَضِلَةٍ.
وَقَد يُرَادُ بِهِ تَوَفِّي النَّوْمِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60]. [4/ 306، 322 - 323]
* * *
(الْأَنْبِيَاء مَعْصُومُونَ عَن الْكَبَائِرِ دُونَ الصَّغَائِرِ)
1195 -
الْأَنْبِيَاء صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَيْهِم مَعْصُومُونَ فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَن اللّهِ سُبْحَانَهُ وَفِي تَبْلِيغِ رِسَالَاتِهِ بِاتِّفَاقِ الْأمَّةِ، وَلهَذَا وَجَبَ الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا أُوتُوهُ.
(1)
في الأصل بعد هذه الكلمة: (نَفْسهُ)، ولعلها مقحمة، ولا يستقيم المعنى بوجودها.
بِخِلَافِ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّهُم لَيْسُوا مَعْصُومِينَ كَمَا عُصِمَ الأَنْبِيَاءُ وَلَو كَانُوا أَوْليَاءَ للهِ وَلهَذَا مَن سَبَّ نَبِيًّا مِن الْأَنْبِيَاءِ قُتِلَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ وَمَن سَبَّ غَيْرَهُم لَمْ يُقْتَلْ.
وَأَمَّا الْعِصْمَةُ فِي غَيْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ فَلِلنَّاسِ فِيهِ نِزَاعٌ.
وَالْقَوْلُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ النَّاسِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلْآثَارِ الْمَنْقُولَةِ عَن السَّلَفِ إثْبَاتُ الْعِصْمَةِ مِن الْإِقْرَارِ عَلَى الذُّنُوبِ مُطْلَقًا، وَالرَّدُّ عَلَىْ مَن يَقُولُ إنَّهُ يَجُوزُ إقْرَارُهُم عَلَيْهَا، وَحُجَجُ الْقَائِلِينَ بِالْعِصْمَةِ إذَا حُرِّرَتْ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. [10/ 289 - 293]
1196 -
إِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ عَن الْكَبَائِرِ دُونَ الصَّغَائِرِ: هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ وَجَمِيعِ الطَّوَائِفِ، حَتَّى إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْكَلَامِ، كَمَا ذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الآمدي أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ أكْثَرِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ، بَل هُوَ لَمْ يَنْقُلْ عَن السَّلَفِ وَالْأئِمَّةِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ إلَّا مَا يُوَافِقُ هَذَا الْقَوْلَ.
وَعَامَّةُ مَا يُنْقَلُ عَن جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُم غيْرُ مَعْصُومِينَ عَن الْإِقْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ، وَلَا يُقَرُّونَ عَلَيْهَا، وَلَا يَقُولُونَ إنَّهَا لَا تَقَعُ بِحَال.
وَأَوَّلُ مَن نُقِلَ عَنْهُم مِن طَوَائِفِ الْأُمَّةِ الْقَوْلُ بِالْعِصْمَةِ مُطْلَقًا وَأَعْظَمُهُم قَوْلًا لِذَلِكَ: الرَّافِضَةُ؛ فَإِنَّهُم يَقُولُونَ بِالْعِصْمَةِ، حَتَّى مَا يَقَعُ عَلَى سَبِيلِ النِّسْيَانِ وَالسَّهْوِ وَالتَّأْوِيلِ.
وَيَنْقُلُونَ ذَلِكَ إلَى مَن يَعْتَقِدُونَ إمَامَتَهُ، وَقَالُوا بِعِصْمَةِ عَلِيٍّ، وَالاِثْنَيْ عَشَرَ.
ثُمَّ الْإِسْمَاعِيلِيَّة، الَّذِينَ كَانُوا مُلُوكَ الْقَاهِرَةِ، وَكَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُم خُلَفَاءُ عَلَوِيُّونَ فَاطِمِيُّونَ، وَهُم عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِن ذُرِّيَّةِ عُبَيْدِ اللّهِ الْقَدَّاحِ.
فَالْمُكَفَّرُ بِمِثْل ذَلِكَ: يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا عُوقِبَ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةً تَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ عَن مِثْل هَذَا، إلَّا أنْ يَظْهَرَ مِنْهُ مَا يَقْتَضِي كُفْرَهُ وَزَنْدَقَتَهُ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ أَمْثَالِهِ.
وَكَذَلِكَ الْمُفَسَّقُ بِمِثْل هَذَا الْقَوْلِ: يَجِبُ أَنْ يُعَزَّرَ بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ هَذَا تَفْسِيقٌ لِجُمْهُورِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ. [4/ 319 - 321]
1197 -
اتفق الأئمة على أنه صلى الله عليه وسلم معصوم فيما يبلغه عن ربه، وقد اتفقوا على أنه لا يقر على الخطأ في ذلك، وكذلك لا يقر على الذنوب لا صغائرها ولا كبائرها.
ولكن تنازعوا: هل يقع من الأنبياء بعض الصغائر مع التوبة منها، أو لا يقع بحال؟
فقال بعض متكلمي الحديث وكثير من المتكلمين من الشيعة والمعتزلة: لا تقع منهم الصغيرة بحال، وزاد الشيعة حتى قالوا: لا يقع منهم لا خطأ ولا غير خطأ.
وأما السلف وجمهور أهل الفقه والحديث والتفسير وجمهور متكلمي أهل الحديث من الأشعرية وغيرهم فلم يمنعوا وقوع الصغيرة إذا كان مع التوبة كما دلت عليه النصوص من الكتاب والسُّنَّة؛ فإن الله يحب التوابين. [المستدرك 1/ 208]
* * *
(هل ورد أن مُوسَى عليه السلام يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ؟ وكيف الجمع بين رؤية النَّبِيّ له وَهُوَ يَطوفُ بِالْبَيْتِ، ورؤيته له فِي السَّمَاءِ
؟)
1198 -
سُئِلَ رحمه الله: عَن هَذِهِ الْأَحَادِيثِ: أَنَّ النَّبِيَّ رَأَى مُوسَى عليه السلام وَهُوَ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ، وَرَآهُ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَرَآهُ فِي السَّمَاءِ.
فَأَجَابَ: أَمَّا رُؤْيَا مُوسَى عليه السلام فِي الطَّوَافِ فَهَذَا كَانَ رُؤَيا مَنَامٍ، لَمْ يَكُن لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ؛ كَذَلِكَ جَاءَ مُفَسَّرًا، كَمَا رَأَى الْمَسِيحَ أَيْضًا وَرَأَى الدَّجَّالَ.
وَأَمَّا رُؤَيتُهُ وَرُويَةُ غَيْرِهِ مِن الْأَنْبِيَاءِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ فِي السَّمَاءِ .. فَهَذَا رَأَى أَرْوَاحَهُم مُصَوَّرَة فِي صُوَرِ أَبْدَانِهِمْ.
وَقَد قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَعَلَّهُ رَأَى نَفْسَ الْأَجْسَادِ الْمَدْفُونَةِ فِي الْقُبُورِ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء.
لَكِنَّ عِيسَى صَعِدَ إلَى السَّمَاءِ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ، وَكَذَلِكَ قَد قِيلَ فِي إدْرِيسَ.
وَأَمَّا إبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَغَيْرُهُمَا فَهُم مَدْفُونُونَ فِي الْأَرْضِ.
وَالْمَسِيحُ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى سَائِرِ النَّبِيِّينَ- لَا بُدَّ أَنْ يَنْزِلَ إلَى الْأَرْضِ عَلَى الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيّ دِمَشْقَ، فَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ، وَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ؛ وَلهَذَا كَانَ فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، مَعَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِن يُوسُفَ وَإِدْرِيسَ وَهَارُونَ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ النُّزُولَ إلَى الْأَرْضِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ.
وَآدَمُ كَانَ فِي سمَاءِ الدُّنْيَا لِأَنَّ نَسَمَ بَنِيهِ تُعْرَضُ عَلَيْهِ: أَرْوَاحُ السُّعَدَاءِ، وَالْأَشْقِيَاءُ لَا تُفَتَّحُ لَهُم أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ، فَلَا بُدَّ إذَا عُرضُوا عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا مِنْهُمْ.
وَأَمَّا كَونهُ رَأَى مُوسَى قَائِمًا يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ، وَرَآه فِي السَّمَاءِ أَيْضًا: فَهَذَا لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا؛ فَإِنَّ أَمْرَ الْأَرْوَاحِ مِن جِنْس أَمْرِ الْمَلَائِكَةِ، فِي اللَّحْظَةِ الْوَاحِدَةِ تَصْعَدُ وَتَهْبِطُ كَالْمَلَكِ، لَيْسَتْ فِي ذَلِكَ كَالْبَدَنِ.
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُه إِلا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ"
(1)
يُرِيدُ بِهِ الْعَمَلَ الَّذِي
(1)
رواه مسلم (1631).
يَكُونُ لَهُ ثَوَابٌ، لَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْسَ الْعَمَلِ الَّذِي يَتَنَعَّمُ بِهِ؛ فَإِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَنَعَّمُونَ بِالنَّظَرِ إلَى اللّهِ، وَيَتَنَعَّمُونَ بِذِكْرِهِ وَتَسْبِيحِهِ، وَيَتَنَعَّمُونَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَيُقَالُ لِقَارِئِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْقَ وَرَتِّلْ كَمَا كنْت تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْزِلَك عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا. [4/ 328 - 300]
* * *
(الراجح أن الذَّبيحَ هُوَ إسْمَاعِيلُ)
1199 -
سُئِلَ الشَّيْخُ رحمه الله: عَن الذَّبِيحِ مِن وَلَدِ خَلِيلِ اللهِ إبْرَاهِيمَ عليه السلام: هَل هُوَ إسْمَاعِيلُ أَو إسْحَاقُ؟
فَأَجَابَ: هَذِهِ الْمَسْألَةُ فِيهَا مَذْهَبَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَكُل مِنْهُمَا مَذْكُورٌ عَن طَائِفَةٍ مِن السَّلَفِ.
وَفِي الْجُمْلَةِ: فَالنِّزَاعُ فِيهَا مَشْهُورٌ، لَكِنَ الَّذِي يَجِبُ الْقَطْعُ بِهِ أَنَّهُ إسْمَاعِيلُ، وَهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَالدَّلَائِلُ الْمَشْهُورَةُ، وَهُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ التَّوْرَاة الَّتِي بِأَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ. [4/ 331]
* * *
(هل الْخَضِر وَإِلْيَاس فِي الْأَحْيَاءِ
؟)
1200 -
وَسُئِلَ رحمه الله: عَن الْخَضِرِ وَإلْيَاسَ: هَل هُمَا مُعَمَّرَانِ؟
فَأَجَابَ: إنَّهُمَا لَيْسَا فِي الْأحْيَاءِ وَلَا مُعَمَّرَانِ، وَقَد سَألَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَن تَعْمِيرِ الْخَضِرِ وَإِلْيَاسَ وَأَنَّهُمَا بَاقِيَانِ يَرَيَانِ وَيُرْوَى عَنْهُمَا، فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: مَن أَحَالَ عَلَى غَائِبٍ لَمْ يُنْصِفْ مِنْهُ، وَمَا أَلْقَى هَذَا إلَّا شَيْطَانٌ.
وَسُئِلَ الْبُخَارِيُّ عَن الْخَضِرِ وَإِلْيَاسَ: هَل هُمَا فِي الْأحْيَاءِ؟ فَقَالَ: كَيْفَ يَكُونُ هَذَا وَقَد قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَبْقَى عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ مِمَن هُوَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ"؟ [4/ 337]
1201 -
مُوسَى لَمْ يَكُن يَعْرِفُ الْخَضِرَ، وَالْخَضِرُ لَمْ يَكُن يَعْرِفُ مُوسَى، بَل لَمَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى قَالَ لَهُ الْخَضِرُ: وَأَنَّى بِأَرْضِك السَّلَامُ؟
فَقَالَ لَهُ: أَنَا مُوسَى.
قَالَ: مُوسَى بَنِي إسْرَائِيلَ؟
قَالَ: نَعَمْ.
وَقَد كَانَ بَلَغَهُ اسْمُهُ وَخَبَرُهُ وَلَمْ يَكُن يَعْرِفُ عَيْنَهُ.
وَمَن قَالَ إنَّهُ نَقِيبُ الْأَوْليَاءِ أَو أَنَّهُ يُعَلِّمُهُم كُلَّهُم فَقَد قَالَ الْبَاطِلَ.
وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّهُ مَيِّتٌ، وَأَنَهُ لَمْ يُدْرِك الْإِسْلَامَ، وَلَو كَانَ مَوْجُودًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ لَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ وَيُجَاهِدَ مَعَهُ كَمَا أَوْجَبَ اللهُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ.
ثُمَّ لَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِ وَأَمْثَالِهِ حَاجَةٌ لَا فِي دِينِهِمْ وَلَا فِي دُنْيَاهُم؛ فَإِنَّ دِينَهُم أَخَذُوهُ عَن الرَّسُولِ النَّبِيِّ الْأُمِّي صلى الله عليه وسلم الَّذِي عَلَّمَهُم الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ.
وَإِذَا كَانَ الْخَضِرُ حَيًّا دَائِمًا فَكَيْفَ لَمْ يَذْكُر النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ قَطُّ؟ وَلَا أَخْبَرَ بِهِ أُمَّتَهُ وَلَا خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ؟ [27/ 100 - 101]
1202 -
وسُئِلَ الشَّيْخُ رحمه الله: هَلْ كَانَ الْخَضِرُ عليه السلام نَبيًّا أَوْ وَلِيًّا؟ وَهَلْ هُوَ حَيٌّ إلَى الْآنَ؟ وَإِنْ كَانَ حَيًّا فَمَا تَقُولُونَ فِيمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَوْ كَانَ حَيًّا لَزَارَنِي" هَلْ هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ أَمْ لَا؟
فَأَجَابَ: أَمَّا نُبُوَّتُهُ: فَمِنْ بَعْدِ مَبْعَثِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُوحَ إلَيْهِ وَلَا إلَى غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ وَأَمَّا قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي نُبُوَّتِهِ.
وَأَمَّا حَيَاتُهُ: فَهُوَ حَيٌّ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ لَا أَصْلَ لَهُ، وَلَا يُعْرَفُ لَهُ إسْنَادٌ، بَل الْمَرْوِيُّ فِي مُسْنَدِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ اجْتَمَعَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمَنْ قَالَ إنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعْ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ قَالَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ؛ فَإِنَّهُ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي لَا يُحَاطُ بِهِ.
وَمَنِ احْتَجَّ عَلَى وَفَاتِهِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَرَأَيْتُكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّهُ عَلَى رَأسِ مِائَةِ سَنَةٍ لَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهَا الْيَوْمَ أَحَدٌ"، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْخَضِرُ إذْ ذَاكَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَلِأَنَّ الدَّجَّالَ- وَكَذَلِكَ الْجَسَّاسَةُ- الصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ حَيًّا مَوْجُودًا عَلَى عَهْدِ النَبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بَاقٍ إلَى الْيَوْمِ لَمْ يَخْرُجْ، وَكَانَ فِي جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ.
فَمَا كَانَ مِن الْجَوَابِ عَنْهُ كَانَ هُوَ الْجَوَابَ عَن الْخَضِرِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْأَرْضِ لَمْ يَدْخُلْ فِي هَذَا الْخَبَرِ، أَوْ يَكُونُ أَرَادَ صلى الله عليه وسلم الْآدَمِيّينَ الْمَعْرُوفِينَ، وَأَمَّا مَنْ خَرَجَ عَن الْعَادَةِ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْعُمُومِ، كَمَا لَمْ تَدْخُل الْجِنُّ، وَإِنْ كَانَ لَفْظًا يَنْتَظِمُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ، وَتَخْصِيصُ مِثْلِ هَذَا مِنْ مِثْلِ هَذَا الْعُمُومِ كَثِيرٌ مُعْتَادٌ
(1)
. [4/ 338 - 340]
* * *
(صبر يوسف عن مُطَاوَعَةِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ أعظم من صبره على ما فعله به إخوته)
1203 -
كَانَ صَبْرُ يُوسُفَ عليه السلام عَن مُطَاوَعَةِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ عَلَى شَأنِهَا: أَكْمَلَ مِن صَبْرِهِ عَلَى إِلْقَاءِ إِخْوَتِهِ لَهُ فِي الْجُبّ، وَبَيْعِهِ وَتَفْرِيقِهِمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ أُمُورٌ جَرَتْ عَلَيْهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، لَا كَسْبَ لَهُ فِيهَا، لَيْسَ لِلْعَبْدِ فِيهَا حِيلَةٌ غَيْرَ الصَّبْر، وَأَمَّا صَبْر عَنِ الْمَعْصِيَةِ: فَصَبْرُ اخْتِيَارٍ وَرضا وَمُحَارَبَةٍ لِلنَّفْسِ، وَلَا سِيَّمَا
(1)
قال عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله جامع الفتاوى: "هكذا وجدت هذه الرسالة". اهـ.
وكأنه شكك في صحة نسبة الفتوى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وتشكيكُه في محلّه، فهي تخالف ما قرره الشيخ رحمه الله في مواضع من أن الخضر قد مات كما هو مُوضّح في كلامه السابق لهذه الفتوى، وفي غيرها من المواضع، وقد قال في المنهاج (4/ 93): والذي عليه سائر المحققون أنه مات. اهـ.
ومما يدل على ذلك: أنّ كبار تلاميذه إنما نسبوا عن شيخ الإسلام القول بأنّ الخضر ميّت، منهم ابن القيِّم رحمه الله في المنار المنيف (68)، وابن عبد الهادي رحمه الله كما في العقود الدرية (70).
مَعَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَقْوَى مَعَهَا دَوَاعِي الْمُوَافَقَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ شَابًّا، وَدَاعِيَةُ الشَّبَابِ إِلَيْهَا قَوِيَّة، وَعَزَبًا لَيْسَ لَهُ مَا يُعَوِّضُهُ ويرُدُّ شَهْوَتَهُ، وَغَرِيبًا، وَالْغَرِيبُ لَا يَسْتَحِي فِي بَلَدِ غُرْبَتِهِ مِمَّا يَسْتَحِي مِنْهُ مَن بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَمَعَارِفِهِ وَأَهْلِهِ، وَمَمْلُوكًا، وَالْمَمْلُوكُ أَيْضًا لَيْسَ وَازِعُهُ كَوَارعِ الْحُرِّ، وَالْمَرْأَةُ جَمِيلَةٌ، وَذَاتُ مَنْصِبٍ، وَهِيَ سَيِّدَتُهُ، وَقَد غَابَ الرَّقِيبُ، وَهِيَ الدَّاعِيَةُ لَهُ إِلَى نَفْسِهَا، وَالْحَرِيصَةُ عَلَى ذَلِكَ أَشَدَّ الْحِرْصِ، وَمَعَ ذَلِكَ تَوَعَّدَتْهُ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ بِالسِّجْنِ وَالصَّغَارِ، وَمَعَ هَذِهِ الدَّوَاعِي كُلِّهَا صَبَرَ اخْتِيَارًا، وَإِيثَارًا لِمَا عِنْدَ اللهِ، وَأَيْنَ هَذَا مِن صَبْرِهِ فِي الْجُبِّ عَلَى مَا لَيْسَ مِن كَسْبِهِ؟ [المستدرك 1/ 144 - 145]
* * *
(حكم ساب الأنبياء أو الصحابة خير الأمم وخير هذه الأمة)
1204 -
أجمع المسلمون على أن من سبَّ نبيًّا فقد كفر، ومن سب أحدًا من الأولياء الذي ليسوا بأنبياء فإنه لا يكفر، إلا إذا كان سبه مخالفًا لأصل الإيمان مثل أن يتخذ ذلك السب دينًا وقد علم أنه ليس بدين.
وعلى هذا ينبني النزاع في تكفير الرافضة
(1)
. [المستدرك 1/ 119]
* * *
(عترة النبي صلى الله عليه وسلم واسم الشرف والأشراف)
1205 -
أما "عترة النبي" صلى الله عليه وسلم الأقربين التي قال الله فيها: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214] فقيل: إنها قريش كلها؛ لأنها لما نزلت هذه الآية عم قريش بالنذارة ثم خص الأقرب فالأقرب.
(1)
وعامة الرافضة يتخذون سبّ عموم الصحابة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم دينًا، ويجعلونه ضمن أدعيتهم في صلواتهم، وقد جاهر كثير منهم في ذلك، وهذا موجودٌ في الشبكة العنكبوتية.
فمن فعل ذلك فلا يشك مؤمن عاقلٌ في كفره وضلاله
وأما اسم "الشرف" فليس هو من الأسماء التي علق الشارع بها حكمًا حتى يكون حده متلقى من جهة الشرع.
وأما "الشريف في اللغة" فهو خلاف الوضيع والضعيف، كما قال
النبي صلى الله عليه وسلم:" إنما أهلك من كان قبلكم أثهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد".
ومن رأسه الناس وشرفوه كان شريفهم.
وأما أحكام الشريعة التي علقت فهي مذكورة باسم النبي صلى الله عليه وسلم، وباسم أهل بيته، وذوي القربى، وهذه الأسماء الثلاثة تتناول جميع بني هاشم لا فرق بين ولد العباس وولد أبي طالب وغيرهم، وأعمام النبي صلى الله عليه وسلم الذين بقيت ذريتهم: العباس، [وأبو طالب]
(1)
، والحارث بن عبد المطلب، وأبو لهب.
فمن كان من الثلاثة الأول حرمت عليهم الزكاة، واستحقوا من الخمس باتفاق.
وأما ذرية أبي لهب ففيه خلاف بين الفقهاء، لكن "أبي لهب " خرج عن بني هاشم لما نصروا النبي صلى الله عليه وسلم ومنعوه ممن كان يريد أذاه من قريش، ودخل مع بني هاشم بنو المطلب؛ ولهذا جاء عثمان بن عفان وجبير بن مطعم رضي الله عنهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين أعطى من خمس خيبر لبني هاشم وبني المطلب فقالا: يا رسول الله أما إخواننا بنو هاشم فلا ننكر فضلهم لأنك منهم وأما بنو المطلب فإنما هم ونحن منك بمنزلة واحدة فقال: "إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد"
(2)
. [المستدرك 1/ 115 - 116]
1206 -
من الأحكام ما تشترك فيه قريش كلها نحو الإمامة الكبرى.
(1)
ما بين المعقوفتين ليس الأصل، والصواب إثباته كما في الفتاوى المصرية (565).
(2)
رواه أبو داود (2980)، والنسائي (4137)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.
ومن الأحكام ما يختص بِبَني
(1)
هاشم أو بني هاشم مع بني المطلب دون سائر قريش؛ كالاستحقاق من خمس الغنائم، وتحريم الصدقة، ودخولهم في الصلاة إذا صلي على آل محمد، وثبوت المزية على غيرهم. [المستدرك 1/ 116 - 117]
(لما كَمَّل النبي مرتبة التعبد كملت له المغفرة واستحق التقديم علي الخلائق)
1207 -
قال ابن القيم رحمه الله: ولما كمل سيد ولد آدم هذه المرتبة
(2)
: وصفه الله بها في أشرف مقاماته: مقام الإسراء؛ كقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] ومقام الدعوة كقوله: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن: 19]، ومقام التحدي كقوله:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23] وبذلك استحق التقديم على الخلائق في الدنيا والآخرة.
وكذلك يقول المسيح عليه السلام لهم إذا طلبوا منه الشفاعة بعد الأنبياء عليهم السلام: "اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر"
(3)
.
سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية (قدس الله روحه) يقول: فحصلت له تلك المرتبة بتكميل عبوديته للّه تعالى وكمال مغفرة الله له
(4)
. [المستدرك 1/ 117 - 118]
* * *
(1)
في الأصل: (بني)، والتصويب من الفتاوى المصرية (566).
(2)
أي: مرتبة التعبد.
(3)
رواه البخاري (4712)، ومسلم (194).
(4)
مدارج السالكين (3/ 29).
فينبغي للمؤمن أن يحرص على بلوغ هذه المرتبة العالية الشريفة، وذلك بإسلام الوجه لله تعالى، والخضوع والذلة له، وقبول كل ما جاء من عند الله تعالى دون التوقف إلى حين وجود الرغبة أو معرفة الحكمة والمنافع الدينية أو الدنيوية، ونحو ذلك.
(غاية الخضر)
1208 -
أجمع المسلمون على أن موسى أفضل من الخضر، فمن قال: إن الخضر أفضل فقد كفر، وسواء قيل: إن الخضر نبي، أو ولي.
والجمهور على أنه ليس بنبي، بل أنبياء بني إسرائيل الذين اتبعوا التوراة وذكرهم الله تعالى كداود وسليمان أفضل من الخضر، بل على قول الجمهور: أنه ليس بنبي فأبو بكر وعمر رضي الله عنهما أفضل منه.
وكونه يعلم مسائل لا يعلمها موسى لا يوجب أن يكون أفضل منه مطلقًا، كما أن الهدهد لما قال لسليمان:{أَحَطتُ بِمَا لَم تُحِط بِه} [النمل: 22] لم يكن أفضل من سليمان، وكما أن الذين كانوا يلقحون النخل لما كانوا أعلم بتلقيحه من النبي صلى الله عليه وسلم لم يجب من ذلك أن يكونوا أفضل منه صلى الله عليه وسلم وقد قال لهم:"أنتم أعلم بأمور دنياكم، وأما ما كان من أمر دينكم فإلي"
(1)
. [المستدرك 1/ 113 - 114]
* * *
(ما جاء عن الصحابة والتابعين)
1209 -
إن الصَّحَابَةَ خَيْرُ الْقُرُونِ، وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ، فَمَا ظَهَرَ فِيمَن بَعْدَهُم مِمَّا يُظَنُّ أَنَهَا فَضِيلَة لِلْمُتَأخِّرِينَ وَلَمْ تكُنْ فِيهِمْ: فَإِنَّهَا مِن الشَّيْطَانِ، وَهِيَ نَقِيصَةٌ لَا فَضِيلَة، سَوَاءٌ كَانَت مَن جِنْسِ الْعُلُومِ، أَو مَن جِنْسِ الْعِبَادَاتِ، أَو مِن جِنْسِ الْخَوَارِقِ وَالْآيَاتِ، أَو مِن جِنْسِ السِّيَاسَةِ وَالْمُلْكِ، بَل خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَهُم أَتْبَعُهُم لَهُمْ. [27/ 394]
1210 -
أَمَّا الصَّحَابَةُ فَلَمْ يُعْرَفْ فِيهِمْ -وَللهِ الْحَمْدُ- مَن تَعَمَّدَ الْكَذِبَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَمَا لَمْ يُعْرَفْ فِيهِمْ مَن كَانَ مِن أَهْلِ الْبِدَعِ الْمَعْرُوفَةِ كَبِدَعِ الْخَوَارجِ وَالرَّافِضَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ، فَلَمْ يُعْرَفْ فِيهِمْ أَحَدٌ مِن هَؤُلَاءِ الْفِرَقِ، وَلَا كَانَ
(1)
رواه ابن ماجه (2471)، وأحمد (12544)، وصحَّحه الألباني في صحيح ابن ماجه.
فِيهِمْ مَن قَالَ إنَّهُ أَتَاهُ الْخَضِرُ؛ فَإِنَّ خَضِرَ مُوسَى مَاتَ، وَالْخَضِرُ الَّذِي يَأْتِي كَثِيرًا مِن النَّاسِ إنَّمَا هُوَ جِنِّي تَصَوَّرَ بِصُورَةِ إنْسِيٍّ، أَو إنْسِيٌّ كَذَّابٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَلَكًا مَعَ قَوْلِهِ أَنَا الْخَضِرُ، فَإِنَّ الْمَلَكَ لَا يَكْذِبُ، وَإِنَّمَا يَكْذِبُ الْجِنِّيُّ وَالْإِنْسِيُّ، وَأَنَا أَعْرفُ مِمَن أَتَاهُ الْخَضِرُ وَكَانَ جِنّيًّا. [1/ 249]
1211 -
لَمَّا كَانَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَاب أَهْلِ الْجَنَّةِ، كَانَا قَد وُلدَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ فِي عِزِّ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَنُلْهُمَا مِن الْأَذَى وَالْبَلَاءِ مَا نَالَ سَلَفُهُمَا الطَّيّبُ؛ فَأَكْرَمَهُمَا اللهُ بِمَا أَكْرَمَهُمَا بِهِ مِن الِابْتِلَاءِ لِيَرْفَعَ دَرَجَاتِهِمَا، وَذَلِكَ مِن كَرَامَتِهِمَا عَلَيْهِ لَا مِن هَوَانِهِمَا عِنْدَهُ، كَمَا أَكْرَمَ حَمْزَةَ وَعَلِيًّا وَجَعْفَرًا وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَغَيْرَهُم بِالشَّهَادَةِ. [27/ 473]
1212 -
وَهُوَ [أي: ابْنَ عَبَّاسٍ] أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ فُتْيَا، قِيلَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ: أَيُّ الصَّحَابَةِ أَكْثَرُ فُتْيَا؟ قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَهُوَ أَعْلَمُ وَأَفْقَهُ طَبَقَةً فِي الصَّحَابَةِ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُدْخِلُهُ مَعَ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ -كَعُثْمَان وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَنَحْوِهِمْ- فِي الشُّورَى، وَلَمْ يَكُن عُمَرُ يَفْعَلُ هَذِهِ بِغَيْرِهِ مِن طَبَقَتِهِ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَو أَدْرَكَ ابْنُ عَبَّاسٍ أسناننا لَمَا عَشَّرَهُ مِنَّا أَحَدٌ.
أَيْ: مَا بَلَغَ عُشْرَهُ. [32/ 292]
* * *
(من الأفضل: خَدِيجَة أو عَائِشَة
؟)
1213 -
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَن خَدِيجَةَ وَعَائِشَةَ أُمَّي الْمُؤْمِنِينَ: أَيَّتهُمَا أَفْضَلُ؟
فَأَجَابَ: بِأَنَّ سَبْقَ خَدِيجَةَ وَتَأثِيرَهَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَنَصْرَهَا وَقِيَامَهَا فِي الدِّينِ لَمْ تَشْركْهَا فِيهِ عَائِشَةُ، وَلَا غَيْرُهَا مِن أُمَّهَاتِ الْمُؤمِنِينَ.
وَتَأْثِيرُ عَائِشَةَ فِي آخِرِ الْإِسْلَامِ وَحَمْلِ الدِّينِ وَتَبْلِيغِهِ إلَى الْأُمَّةِ، وإِدْرَاكُهَا مِن
الْعِلْمِ مَا لَمْ تَشْركْهَا فِيهِ خَدِيجَةُ وَلَا غَيْرُهَا مِمَّا تَمَيَّزَتْ بِهِ عَن غَيْرِهَا. [4/ 393]
* * *
(جملة أزواج النبي أفضل من جملة بناته)
1214 -
إِذَا قِيلَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ إنَّ جُمْلَةَ أَزْوَاجِهِ عليه الصلاة والسلام أَفْضَلُ مِن جُمْلَةِ بَنَاتِهِ: كَانَ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ أَزْوَاجَهُ أَكْثَرُ عَدَدًا، وَالْفَاضِلَةُ فِيهِنَّ أَكْثَرُ مِن الْفَاضِلَةِ فِي بَنَاتِهِ. [4/ 395]
* * *
(الْعَشْرَة المبشرون بالجنة أفضل من نِسَاء النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
-)
1215 -
أَمَّا نِسَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَقُلْ: إنَّهُنَّ أَفْضَلُ مِن الْعَشْرَةِ (1) إلَّا أَبُو محَمَّدٍ بْنُ حَزْمٍ، وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌ لَمْ يَسْبِقْهُ إلَيْهِ أَحَدٌ، وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ مَن بَلَغَهُ مِن أَعْيَانِ الْعُلَمَاءِ.
وَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تُبْطِلُ هَذَا الْقَوْلَ.
وَحُجَّتُهُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا فَاسِدَةٌ؛ فَإِنَّه احْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَعَ زَوْجِهَا فِي دَرَجَتِهِ فِي الْجَنَّةِ، وَدَرَجَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، فَيكُونُ أَزْوَاجُهُ فِي دَرَجَتِهِ.
وَهَذَا يُوجِبُ عَلَيْهِ: أَنْ يَكُونَ أَزْوَاجُهُ أَفْضَلَ مِن الْأَنْبِيَاءِ جَمِيعِهِمْ، وَأَنْ تَكُونَ زَوْجَةُ كُلِّ رَجُلٍ مِن أَهْلِ الْجَنَّةِ أَفْضَلَ مِمَن هُوَ مِثْلُهُ، وَأَنْ يَكُونَ مَن يَطُوفُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِن الْوِلْدَانِ وَمَن يُزَوَّجُ بِهِ مِن الْحُورِ الْعِينِ أَفْضَلُ مِن الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَعْلَمُ بُطْلَانَهُ عُمُومُ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ"
(2)
عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ"، فَإِنَّمَا ذَكَرَ فَضْلَهَا عَلَى النِّسَاءِ فَقَطْ.
* * *
1) المبشرين بالجنة.
(2)
البخاري (3411).
(فضائل أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ، والأدلة على أنهما أفضلُ وَأَفْقَهُ من عليّ رضي الله عنهم، والردّ علي من استدل بأدلة تُفضله عليهما)
1216 -
لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِن عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْمُعْتَبِرِينَ: إنَّ عَلِيًّا أَعْلَمُ وَأَفْقَهُ مِن أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، بَل وَلَا مِن أَبِي بَكْرٍ وَحْدَهُ.
وَمُدَّعِي الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ مِن أَجْهَلِ النَّاسِ وَأَكْذَبِهِمْ، بَل ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِن الْعُلَمَاءِ إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْر الصِّدِّيقَ أَعْلَمُ مِن عَلِيٍّ.
وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِن الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ يُنَازعُ فِي ذَلِكَ.
وَكَيْفَ وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ كَانَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُفْتِي، وَيَأْمُرُ، وَينْهى، وَيقْضِي، وَيَخْطُبُ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ إذَا خَرَجَ هوَ وَأَبُو بَكْرٍ يَدْعُو النَّاسَ إلَى الْإِسْلَامِ، وَلَمَّا هَاجَرَا جَمِيعًا وَيوْمَ حنين، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن الْمَشَاهِدِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاكِتٌ يُقِرُّهُ عَلَى ذَلِكَ، ويرْضَى بِمَا يَقُولُ؟ وَلَمْ تكنْ هَذ الْمَرتبةُ لِغَيْرِهِ.
وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مُشَاوَرَتهِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَالرَّأْيِ مِن أَصْحَابِهِ يُقَدِّمُ فِي الشُّورَى أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَهُمَا اللَّذَانِ يَتَقَدَّمَانِ فِي الْكَلَامِ وَالْعِلْمِ بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم عَلَى سَائِرِ أَصْحَابِهِ.
وَفِي "السُّنَنِ" عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِن بَعْدِي: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ"
(1)
.
وَلَمْ يَجْعَلْ هَذَا لِغَيْرِهِمَا.
بَل ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِن بَعْدِي"
(2)
.
(1)
رواه الترمذي (3662)، وابن ماجه (97)، وأحمد (23245)، وصحَّحه الألباني في صحيح الترمذي.
(2)
رواه أبو داود (4607)، وابن ماجه (42)، والدارمي (96)، وأحمد (17144)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.
فَأَمَرَ بِاتباعِ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ.
وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الأئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ، وَخَصَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمَا، وَمَرْتَبَةُ
الْمُقْتَدَى بِهِ فِي أَفْعَالِهِ وَفِيمَا سَنَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ: فَوْقَ سُنَّةِ الْمُتَّبَعِ فِيمَا سَنَّهُ فَقَطْ.
وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ"
(1)
أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانُوا مَعَهُ فِي سَفَرٍ فَقَال: "إنْ يُطِع الْقَوْمُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَرْشُدُوا".
أَمَّا الصِّدِّيق: فَإِنَّهُ مَعَ قِيَامِهِ بِأُمُورٍ مِن الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ عَجَزَ عَنْهَا غَيْرُهُ حَتَّى بَيَّنهَا لَهُمْ: لَمْ يُحْفَظْ لَهُ قَوْلٌ مُخَالِفٌ نَصًّا.
هَذَا يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ الْبَرَاعَةِ.
وَأَمَّا غَيْرُهُ فَحُفِظَتْ لَهُ أَقْوَالٌ كَثِيرَة خَالَفَت النَّصَّ؛ لِكَوْنِ تِلْكَ النُّصُوصِ لَمْ تَبْلُغْهُمْ. وَاَلَّذِي وُجِدَ مِن مُوَافَقَةِ عُمَرَ لِلنُّصُوصِ أكْثَرُ مِن مُوَافَقَةِ عَلِيٍّ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الصِّدّيقَ اسْتَخْلَفَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ عَمُودُ الْإِسْلَامِ، وَعَلَى إقَامَةِ الْمَنَاسِكِ الَّتِي لَيْسَ فِي مَسَائِلِ الْعِبَادَاتِ أَشْكَلُ مِنْهَا
(2)
.
وَأَقَامَ الْمَنَاسِكَ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
وَأَيْضًا: فَالصَّحَابَةُ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ لَمْ يَكُونُوا يَتَنَازَعُونَ فِي مَسْأَلَةٍ إلَّا فَصَلَهَا بَيْنَهُم أَبُو بَكْرٍ، وَارْتَفَعَ النّزَاعُ، فَلَا يُعْرَفُ بَيْنَهُم فِي زَمَانِهِ مَسْألَة وَاحِدَةٌ
(1)
(681).
تنبيه: ظاهر كلام الشيخ أنّ قوله: "فَإِنْ يُطِيعُوا أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ يَرْشُدُوا" من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد صرح بذلك ابن الْمُنْذِرِ فقَالَ: صَحَّ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنْ يُطِعِ النَّاسُ أبَا بَكْرٍ وَعمر يرشدوا. فتح الباري (1/ 309).
والذي جاء في الصحيح أنه من كلام الصحابة، حيث جاء فيه (681): وَقَالَ النَّاسُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أيْدِيكُمْ، فَإِنْ يُطِيعُوا أبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَرْشُدُوا.
وهكذا قال النووي رحمه الله، كما في شرح صحيح مسلم (5/ 188).
(2)
فمسائل الصلاة والحج من أشكل مسائل العبادات.
تَنَازَعُوا فِيهَا إلَّا ارْتَفَعَ النِّزَاعُ بَيْنَهُم بِسَبَبِهِ؛ كَتَنَازُعِهِمْ فِي وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَدْفِنِهِ، وَفِي مِيرَاثِهِ، وَفِي تَجْهِيزِ جَيْشِ أسَامَةَ، وَقِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن الْمَسَائِلِ الْكِبَارِ.
بَل كَانَ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِمْ: يُعَلِّمُهُمْ، وَيُقَوِّمُهُمْ، وَيُبَيِّنُ لَهُم مَا تَزُولُ مَعَهُ الشُّبْهَةُ، فَلَمْ يَكُونُوا مَعَهُ يَخْتَلِفُونَ.
وَبَعْدَهُ: لَمْ يَبْلُغْ عِلْمُ أَحَدٍ وَكَمَالُهُ عِلْمَ أَبِي بَكْرٍ وَكَمَالَهُ، فَصَارُوا يَتَنَازَعُونَ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ؛ كَمَا تَنَازَعُوا فِي الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ، وَفِي الْحَرَامِ، وَفِي الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، وَفي غَيْرِ ذَلِكَ مِن الْمَسَائِلِ الْمَعْرُوفَةِ، مِمَّا لَمْ يَكُونُوا يَتَنَازَعُونَ فِيهِ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ.
وَكَانُوا يُخَالِفُونَ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا فِي كَثِيرٍ مِن أَقْوَالِهِمْ، وَلَمْ يُعْرَفْ أَنَّهُم خَالَفُوا أبَا بَكْرٍ فِي شَيءٍ مِمَّا كَانَ يُفْتِي فِيهِ وَيقْضِي.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ الْعِلْمِ.
وَقَامَ مَقَامَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَقَامَ الْإِسْلَامَ، فَلَمْ يُخِلَّ بِشَيءٍ مِنْهُ، بَل أَدْخَلَ النَّاسَ مِن الْبَابِ الَّذِي خَرَجُوا مِنْهُ، مَعَ كَثْرَةِ الْمُخَالِفِينَ مِن الْمُرْتَدِّينَ وَغَيْرِهِمْ، وَكَثْرَةِ الْخَاذِلِينَ.
فَكَمُلَ بِهِ
(1)
مِن عِلْمِهِمْ وَدِينِهِمْ مَا لَا يُقَاوِمُهُ فِيهِ أَحَدٌ حَتَّى قَامَ الدِّينُ كَمَا كَانَ. [4/ 398 - 406]
1217 -
قَوْلُهُ: "أقضَاكمْ عَلِيٌّ": لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِن أَهْلِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ، وَلَا أَهْلُ الْمَسَانِيدِ الْمَشْهُورَةِ، لَا أَحْمَدُ وَلَا غَيْرُهُ بإِسْنَاد صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ.
وإِنَّمَا يُرْوَى مِن طَرِيقِ مَن هُوَ مَعْرُوفٌ بِالْكَذِبِ.
وَلَكِنْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: "أُبَيٌّ أَقْرَؤُنَا، وَعَلِيٌّ أَقْضَانَا"، وَهَذَا قَالَهُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي بَكْرٍ.
(1)
أي: بأبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وجمعنا به في جنات النعيم.
وَاَلَّذِي فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ
(1)
أَنَّ النَبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَعْلَمُ أُمَّتِي بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَعْلَمُهَا بِالْفَرَائِضِ زيدُ بْنُ ثَابِتٍ "، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ عَلِيٍّ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ عَلِيٍّ مَعَ ضَعْفِهِ: فِيهِ أنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أَعْلَمُ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَزيدَ بْنَ ثَابِتٍ أَعْلَمُ بِالْفَرَائِضِ.
فَلَو قُدِّرَ صِحَّةُ هَذَا الْحَدِيثِ: لَكانَ الْأَعْلَمُ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَام أَوْسَعَ عِلْمًا مِن الْأعْلَمِ بِالْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَخْتَصُّ بِالْقَضَاءِ إنَّمَا هُوَ فَصْل الْخصُومَاتِ فِي الظَّاهِرِ، مَعَ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْبَاطِنُ بِخِلَافِهِ. [4/ 408]
1218 -
وسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَام -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَن رَجُلٍ مُتَمَسِّكٍ بِالسُّنَّةِ وَيحْصُلُ لَهُ رِيبَةٌ فِي تَفْضِيلِ اَلثَّلَاثَةِ عَلَى عَلِيٍّ؛ لِقَوْلِهِ لَهُ: "أَنتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْك "
(2)
، وَقَوْلِهِ:"أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِن مُوسَى"
(3)
، وَقَوْلِهِ:"لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ"
(4)
.. إلَخْ، وَقَوْلِهِ:"مَن كُنْت مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَن وَالَاهُ وَعَادِ مَن عَادَاهُ"
(5)
.. إلَخْ ". وَقَوْلِهِ: "أُذَكِّرُكُمْ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي "
(6)
، وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:{فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} [آل عمران: 61].
فَأَجَابَ: يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَوَّلًا أَنَّ التَّفْضِيلَ: إذَا ثَبَتَ لِلْفَاضِلِ مِن الْخَصَائِصِ مَا لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ لِلْمَفْضُولِ
(7)
.
فَإِذَا اسْتَوَيَا وَانْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِخَصَائِصَ: كَانَ أَفْضَلَ.
وَأَمَّا الْأمُور الْمُشْتَرِكَةُ: فَلَا تُوجِبُ تَفْضِيلَهُ عَلَى غَيْرِهِ
(8)
.
(1)
الترمذي (3790)، وابن ماجه (125)، وأحمد (12904)، وصحَّحه الألباني في صحيح ابن ماجه.
(2)
رواه البخاري (2699).
(3)
رواه البخاري (3706)، ومسلم (2404).
(4)
رواه البخاري (2942)، ومسلم (1807).
(5)
رواه أحمد (950).
(6)
رواه مسلم (2408).
(7)
كالخصائص التي وُجدت في أبي بكر، فإنها لم توجد في أحد من الصحابة، لا عمر ولا عليّ، كما سيبين ذلك الشيخ.
(8)
كالخصائص التي وُجدت في عليّ، فإنها وجدت في غيره من الصحابة، فهم مُشتركون فيها، كما سيبين ذلك الشيخ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَفَضَائِلُ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه الَّتِي تَمَيَّزَ بِهَا: لَمْ يَشْرَكْهُ فِيهَا غَيْرُهُ.
وَفَضَائِلُ عَلِيٍّ: مُشْتَرَكَةٌ.
وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: "لَو كُنْت مُتَّخِدًا مِن أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا"
(1)
، وَقَوْلَهُ:"لَا يَبْقَى فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَة إلَّا سُدَّتْ؛ إلَّا خَوْخَةُ أَبِي بَكْرٍ"
(2)
، وَقَوْلَهُ:" إنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَذَاتِ يَدِهِ أَبُو بَكرٍ"
(3)
، وَهَذَا فِيهِ ثَلَاثُ خَصَائِصَ لَمْ يَشْركْهُ فِيهَا أَحَدٌ:
الأُولَى: أَنَّهُ لَيْسَ لِأحَد مِنْهُم عَلَيْهِ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ مِثْلُ مَا لِأَبِي بَكرٍ.
الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: "لَا يَبْقَى فِي الْمَسْجِدِ
…
" إلَخْ، وَهَذَا تَخْصِيصٌ لَهُ دُونَ سَائِرِهِمْ، وَأَرَادَ بَعْضُ الْكَذَّابِينَ أَنْ يَرْوِيَ لِعَلِيّ مِثْل ذَلِكَ، وَالصَّحِيحُ لَا يُعَارِضُه الْمَوْضُوعُ.
الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: "لَو كنْت مُتَّخِدًا خَلِيلًا"، نَصٌّ فِي أَنَّهُ لَا أَحَدَ مِن الْبَشَرِ اسْتَحَقَّ الْخُلَّةَ لَو أَمْكَنْت إلَّا هُوَ، وَلَو كَانَ غَيْرُهُ أَفْضَلَ مِنْهُ لَكَانَ أحَقَّ بِهَا لَو تَقَعُ.
وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ لَه أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ مُدَّةَ مَرَضِهِ مِن الْخَصَائِصِ.
وَكَذَلِكَ تَأُمِيرُهُ لَهُ فِي الْمَدِينَةِ عَلَى الْحَجِّ لِيُقِيمَ السُّنَّةَ، ويمْحَقَ آثَارَ الْجَاهِلِيَّةِ؛ فَإِنَّه مِن خَصَائِصِهِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيح
(4)
: "اُدْعُ أَبَاك وَأَخَاك حَتَّى كتُبَ لِأَبِي بَكْرٍ كِتَابًا"، وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كَثِيرَةٌ تُبَيَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُن فِي الصَّحَابَةِ مَن يُسَاوِيهِ.
(1)
رواه البخاري (3656)، ومسلم (532).
(2)
رواه البخاري (3904)، ومسلم (2382).
والخوخة: هو موضع المرور كالباب.
(3)
رواه البخاري (466)، ومسلم (2382).
(4)
مسلم (2387).
وَأَمَّا قَوْلُهُ: "أَنْتَ مِنِّي وَأنا مِنْك" فَقَد قَالَهَا لِغَيْرِهِ، وَقَالَهَا لِسَلْمَانَ والأشعريين.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ"
…
إلَخْ "هُوَ أَصَحُّ حَدِيثٍ يُرْوَى فِي فَضْلِهِ، وَزَادَ فِيهِ بَعْضُ الْكَذَّابِينَ أَنَّهُ أَخَذَهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهرَبَا، وَفي "الصَّحِيحِ "
(1)
أَنَّ عُمَرَ قَالَ: مَا أَحْبَبْت الْإِمَارَةَ إلَّا يَوْمئِذٍ، فَهَذَا الْحَدِيثُ رَدٌّ عَلَى النَّاصِبَةِ الْوَاقِعِينَ فِي عَلِيٍّ.
وَلَيْسَ هَذَا مِن خَصَائِصِهِ، بَل كُل مُؤْمِنٍ كَامِلُ الْإِيمَانِ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ ويُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ قَالَ تَعَالَى:{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، وَهُم الَّذِينَ قَاتَلُوا أَهْلَ الرِّدَّةِ، وَإِمَامُهُم أَبُو بَكْرٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: "أَمَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِن مُوسَى"، قَالَهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوك لَمَّا اسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ .. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ اسْتَخْلَفَ غَيْرَهُ قَبْلَهُ وَكَانُوا مِنْهُ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، فَلَمْ يَكُن هَذَا مِن خَصَائِصِهِ، وَلَو كَانَ هَذَا الِاسْتِخْلَافُ أَفْضَلَ مِن غَيْرِهِ لَمْ يَخْف عَلَى عَلِيٍّ وَلَحِقَهُ يَبْكِي.
وَإِنَّمَا شَبَّهَهُ بِهِ فِي الِاسْتِخْلَافِ خَاصَّةً، وَذَلِكَ لَيْسَ مِن خَصَائِصِهِ.
وَقَد شَبَّهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ بِإِبْرَاهِيمَ وَعِيسَى، وَشَبَّهَ عُمَرَ بِنُوح وَمُوسَى- عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَمَّا أَشَارَا فِي الْأَسْرَى، وَهَذَا أَعْظَمُ مِن تَشْبِيهِ عَلِيٍّ بِهَارُونَ، وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَا بِمَنْزِلَةِ أُولَئِكَ الرُّسُلِ، وَتَشْبِيهُ الشَّيءِ بِالشَّيءِ لِمُشَابَهَتِهِ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: "مَن كُنْت مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ اللَّهُمَّ وَالِ مَن وَالَاه
…
" إلَخْ، فَهَذَا لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِن الْأُمَّهَاتِ، إلَّا فِي التّرْمِذِيِّ، وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا: "مَن كُنْت مَوْلَاهُ فَعَلِي مَوْلَاهُ".
(1)
مسلم (2405).
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ: فَلَيْسَتْ فِي الْحَدِيثِ.
وَسُئِلَ عَنْهَا الْإِمَامُ أَحْمَد فَقَالَ: زِيَادَة كُوفِيَّةٌ، وَلَا رَيْبَ أَنَّهَا كَذِبٌ لِوُجُوه:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْحَقَّ لَا يَدُورُ مَعَ مُعَيَّنٍ إلَّا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ لِأنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ اتِّبَاعُهُ فِي كُلِّ مَا قَالَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَلِيًّا يُنَازِغهُ الصَّحَابَةُ وَأَتْبَاعُهُ فِي مَسَائِلَ وُجِدَ فِيهَا النَّصُّ، يُوَافَقُ مَن نَازَعَهُ؛ كَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَهِيَ حَامِلٌ.
وَقَوْلُهُ: "اللَّهُمَّ اُنْصُرْ مَن نَصَرَهُ"
…
إلَخْ: خِلَافُ الْوَاقِعِ، قَاتَلَ مَعَهُ أَقْوَامٌ يَوْمَ صفين، فَمَا انْتَصَرُوا، وَأَقْوَامٌ لَمْ يُقَاتِلُوا فَمَا خُذِلُوا؛ كَسَعْدٍ الَّذِي فَتَحَ الْعِرَاقَ لَمْ يُقَاتِلْ مَعَهُ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ مُعَاوِيَةَ، وَبَنِي أُمَيَّةَ الَّذِينَ قَاتَلُوهُ فَتَحُوا كَثِيرًا مِن بِلَادِ الْكُفارِ وَنَصَرَهُم اللهُ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "اللَّهمَّ وَالِ مَن وَالَاهُ وَعَادِ مَن عَادَاهُ" مُخَالِفٌ لِأَصْلِ الْإسْلَامِ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ قَد بَيَّنَ أَنَّ الْمُؤمِنِينَ إخْوَةٌ مَعَ قِتَالِهِمْ وَبَغْيِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ.
وَقَوْلُهُ: "مَن كُنْت مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ" فَمِن أَهْلِ الْحَدِيثِ مَن طَعَنَ فِيهِ؛ كَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، وَمِنْهُم مَن حَسَّنَهُ، فَإِنْ كَانَ قَالَهُ فَلَمْ يُرِدْ بِهِ وِلَايَةً فخْتَصًّا بِهَا، بَل وِلَايَةً مُشْتَرَكَةً، وَهِيَ وِلَايَةُ الْإِيمَانِ الَّتِي لِلْمُؤمِنِينَ.
وَالْمُوَالَاةُ ضِدُّ الْمُعَادَاةِ، وَلَا ريبَ أَنَّهُ يَجِبُ مُوَالَاةُ الْمُؤمِنِينَ عَلَى سِوَاهُمْ، فَفِيهِ رَدٌ عَلَى النَّوَاصِبِ.
وَحَدِيثُ "التَّصَدُّقِ بِالْخَاتَمِ فِي الصَّلَاة": كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ: "أُذَكَرُكُمْ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي": فَلَيْسَ مِن الْخَصَائِصِ، بَل هُوَ مُسَاوٍ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَأَبْعَدُ النَّاسِ عَن هَذِهِ الْوَصِيَّةِ الرَّافِضَةُ؛ فَإِنَّهُم يُعَادُونَ الْعَبَّاسَ وَذُرِّيَّتَهُ، بَل يُعَادُونَ جُمْهُورَ أَهْلِ الْبَيْتِ، ويُعِينُونَ الْكُفَّارَ عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا آيَةُ "الْمُبَاهَلَةِ": فَلَيْسَتْ مِن الْخَصائِصِ، بَل دَعَا عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ
وَابْنَيْهِمَا، وَلَمْ يَكُن ذَلِكَ لِأَنَّهُم أَفْضَلُ الْأُمَّةِ، بَل لِأَنَّهُم أَخَصُّ أَهْلِ بَيْتِهِ.
وَقَوْلُهُ: "أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْك": لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ مِن ذَاتِهِ، وَلَا ريبَ أَنَّهُ أَعْظَمُ النَّاسِ قَدْرًا مِن الْأَقَارِبِ، فَلَهُ مِن مَزِيَّةِ الْقَرَابَةِ وَالْإِيمَانِ مَا لَا يُوجَدُ لِبَقِيَّةِ الْقَرَابَةِ". [4/ 414 - 419]
1219 -
أَمَّا تَفْضِيلُ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرَ عَلَى عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ: فَهَذَا مُتَّفَق عَلَيْهِ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْمَشْهُورِينَ بِالْإِمَامَةِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ، مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ.
وَلهَذَا لَمْ يَتَنَازَعْ فِي هَذَا أَحَدٌ مِن أَهْلِ الْعِلْم بِسِيرَتِهِ وَسُنَّتِهِ وَأَخْلَاقِهِ، وَإِنَّمَا يَنْفِي هَذَا أَو يَقِفُ فِيهِ مَن لَا يَكُون عَالِمًا بِحَقِيقَةِ أمُورِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَهَذَا كَسَائِرِ الْأُمُورِ الْمَعْلُومَةِ بِالِاضْطِرَارِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم،
وإِن كَانَ غَيْرُهُم يَشُكُّ فِيهَا أَو يَنْفِيهَا: كَالْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ عِنْدَهُم فِي شَفَاعَتِهِ، وَحَوْضِهِ، وَخُرُوجِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِن النَّارِ، وَالْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ عِنْدَهُم فِي الصِّفَاتِ، وَالْقَدَرِ، وَالْعُلُوِّ، وَالرُّؤَيةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن الْأصُولِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا أَهْلُ الْعِلْمِ بِسُنَّتِهِ كَمَا تَوَاتَرَتْ عِنْدَهُم عَنْهُ، وَإِن كَانَ غَيْرُهُم لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ.
كَمَا تَوَاتَرَ عِنْدَ الْخَاصَّةِ -مِن أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْه- الْحُكْمُ بِالشُّفْعَةِ، وَتَحْلِيفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَرَجْمُ الزَّانِي الْمُحْصَنِ، وَاعْتِبَارُ النِّصَابِ فِي السَّرِقَةِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِن الْأَحْكَامِ الَّتِي يُنَازِعُهُم فِيهَا بَعْضُ أَهْلِ الْبِدَعِ.
وَلهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ مُتَّفِقِينَ عَلَى تَبْدِيعِ مَن خَالَفَ فِي مِثْل هَذِهِ الْأُصُولِ، بِخِلَافِ مَن نَازَعَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ هَذَا الْمَبْلَغَ فِي تَوَاترِ السُّنَنِ عَنْهُ؛ كَالتَّنَازُع بَيْنَهُم فِي الْحُكْمِ بِشَاهِدٍ وَيمِينٍ، وَفِي الْقُسَامَةِ، وَالْقرْعَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن الْأمُورِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ هَذَا الْمَبْلَغَ.
وَأَمَّا "عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ": فَهَذِهِ دُونَ تِلْكَ؛ فَإِنَّ هَذِهِ كَانَ قَد حَصَلَ فِيهَا نِزَاعٌ. [4/ 421 - 425]
1220 -
أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم كانوا يتعلمون ممن هو دونهم علمَ الدين الذي هو عندهم. [المستدرك 1/ 114]
1221 -
الْكَذِبُ عَلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه كَثِيرٌ مَشْهُورٌ، أَكْثَرُ مِنْهُ عَلَى غَيْرِهِ. [21/ 373]
* * *
(أَبو بَكْرٍ أَقْوَى إيمَانًا مِن عُمَرَ، وَعُمَرُ أَقْوَى عَمَلًا مِنْهُ)
1222 -
لَا ريبَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَقْوَى إيمَانًا مِن عُمَرَ، وَعُمَرُ أَقْوَى عَمَلًا مِنْهُ
(1)
؛ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا زِلْنَا أَعِزةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ.
وَقُوَّةُ الْإِيمَانِ أَقْوَى وَأَكْمَلُ مِن قُوَّةِ الْعَمَلِ، وَصَاحِبُ الْإِيمَانِ يُكْتَبُ لَهُ أَجْرُ عَمَلِ غَيْرِهِ
(2)
، وَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ فِي سِيرَتِهِ مَكْتُوبٌ مِثْلُهُ لِأَبِي بَكْرٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ. [7/ 342]
* * *
(مَن خصَّ عَلِيًّا أو غيرَه بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ)
1223 -
ليْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخُصَّ أَحَدًا بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ دُونَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لَا أَبَا بَكْرٍ، وَلَا عُمَرَ، وَلَا عُثْمَانَ، وَلَا عَلِيًّا، وَمَن فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ، بَل إمَّا
(1)
والدليل على أن أبَا بَكْرٍ أقْوَى إيمَانًا مِن عُمَرَ: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمَّاه صدّيقًا، وموقفه يَوْمَ الْحُدَيْبيَةِ حينما صدّ الكفار المسلمين من العمرة، ويوم وفاة النبي وغيرها.
والدليَل على أن عُمَرُ أَقْوَى عَمَلَا مِنْ أبي بَكر: ما ثبت في الصحيحين عن عَبْد اللهِ بْن عُمَرَ رضي الله عنهما أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بَيْنَمَا أَنا عَلَى بِئْرٍ أنْزِعُ مِنْهَا، جَاءَنِي أبو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ الدَّلْوَ، فَنَزَعَ ذَنُوبًا أوْ ذَنُوبَيْنِ، وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ، وَاللهُ يَغْفِرُ لَهُ، ثُمَّ أَخَذَها ابْنُ الخَطَّابِ مِنْ يَدِ أَبِي بَكْرٍ، فَاسْتَحَالَتْ في يَدِهِ غَرْبًا، فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًا مِنَ النَّاسِ يَفْرِي فَرِيَّهُ، فَنَزَعَ، حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ".
(2)
لأنه بإيمانه لا يعلم عن عمل صالح إلا بادر إليه، فإن لم يتمكن منه: تمنى أنْ يعمله، وبهذه النية يكتُبُ الله تعالى لَهُ أجْرَ عَمَلِ غَيْرِهِ.
فلقد حاز الصادقون المؤمنون الدرجاتِ العالية وهم على ظهور الفرش نائمون، وتقدموا الرَّكْب بمراحل وهم في سيرهم واقفون:
من لي بمثل سيرك المدلل
…
تمشي رويدًا وتجي في الأول
أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِم كُلِّهِمْ، أَو يَدَعُ الصَّلَاةَ عَلَيْهِم كُلِّهِمْ. [4/ 420]
1224 -
هَل يُصَلَّى عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُنْفَرِدًا؟ مِثْل أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى عُمَرَ، أَو عَلِيٍّ، وَقَد تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ: فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَطَائِفَةٌ مِن الْحَنَابِلَةِ: إلَى أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُنْفَرِدًا.
وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ إلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِب رضي الله عنه قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: صَلَّى اللهُ عَلَيْك.
وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ وَأَوْلَى.
وَلَكِنَّ إفْرَادَ وَاحِدٍ مِن الصَّحَابَةِ وَالْقُرَابَةِ كَعَلِيٍّ أَو غَيْرِهِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ مُضَاهَاةً لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بِحَيْثُ يُجْعَلُ ذَلِكَ شِعَارًا مَعْرُوفًا بِاسْمِهِ: هَذَا هُوَ الْبِدْعَةُ. [4/ 496 - 497]
* * *
(مَن صَحِبَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ مِمَن لَمْ يَصْحَبْهُ مُطْلَقًا، وسِيرَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَعْدَلُ مِن سِيرَةِ مُعَاوِيَةَ)
1225 -
قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِن الْأَئِمَّةِ: إنَّ كُلَّ مَن صَحِبَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ مِمَن لَمْ يَصْحَبْهُ مُطْلَقًا، وَعَيَّنُوا ذَلِكَ فِي مِثْل مُعَاوِيةَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، مَعَ أَنَّهُم مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ سِيرَةَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَعْدَلُ مِن سِيرَةِ مُعَاوَيةَ.
قَالُوا: لَكِنْ مَا حَصَلَ لَهُم بِالصُّحْبَةِ مِن الدَّرَجَةِ أَمْرٌ لَا يُسَاوِيهِ مَا يَحْصُلُ لِغَيْرِهِمْ بِعِلْمِهِ، وَاحْتَجّوا بمَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ"
(1)
أَنَّهُ قَالَ:" لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي؛ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَو أنْفَقَ أَحَدُكمْ مِثْل أُحُدٍ ذَهَبًا لَمَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفهُ".
قَالُوا: فَإِذَا كَانَ جَبَلُ أُحُدٍ ذَهَبًا لَا يَبْلُغُ نِصْفَ مُدّ أَحَدِهِمْ: كَانَ فِي هَذَا
(1)
البخاري (3673)، ومسلم (2540).
مِن التَّفَاضُلِ مَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ أَحَدٌ مِثْل مَنَازِلهِم الَّتِي أَدْرَكُوهَا بِصُحْبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [4/ 527]
* * *
(الردّ على من زعم أنّ أبا هريرة ليس فقيهًا، وردّ حديث الْمُصَرَّاةِ)
1226 -
سُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَن رَجُل يُنَاظِرُ مَعَ آخَرَ فِي مَسْأَلَةِ الْمُصَرَّاةِ وَرَدِّهَا إذَا أَرَادَ الْمُشْتَرِي؛ فَاسْتَدَلَّ مَن ادَّعَى جَوَازَ الرَّدِّ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، فَعَارَضَهُ الْخَصْمُ بِأَنْ قَالَ: أَبُو هُرَيْرَةَ لَمْ يَكُن مِن فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ؟.
فَأَجَابَ: هَذَا الرَّادُّ مُخْطِئٌ مِن وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: إنَّهُ لَمْ يَكُن مِن فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ؛ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَلَّى
أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى الْبَحْرَيْنِ، وَهُم خِيَارُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هَاجَرَ وَفْدُهُم إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُم وَفْدُ عَبْدُ الْقَيْسِ، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ -أَمِيرَهُم-، هُوَ الَّذِي يُفْتِيهِمْ بِدَقِيقِ الْفِقْهِ.
الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ لِهَذَا الْمُعْتَرِضِ: جَمِيعُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ عَمِلَتْ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيمَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ وَالظَّاهِرَ.
الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ: الْمُحَدِّثُ إذَا حَفِظَ اللَّفْظَ الَّذِي سَمِعَهُ لَمْ يَضُرّهُ أَنْ لَا يَكُونُ فَقِيهًا؛ كَالْمُلَقِّنِينَ بِحُرُوفِ الْقُرْآنِ، وَأَلْفَاظِ التشَهُّدِ وَالْأذَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَد قَالَ صلى الله عليه وسلم:"نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ إلَى مَن لَمْ يَسْمَعْهُ، فَرُب حَامِلِ فِقْهٍ غَيْر فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَن هُوَ أفقَهُ مِنْهُ"
(1)
، وَهَذَا بَيِّن فِي أَنَّهُ يُؤخَذُ حَدِيثُهُ الَّذِي فِيهِ الْفِقْهُ مِن حَامِلِهِ الَّذِي لَيْسَ بِفَقِيه، وَيأْخُذُ عَمَّن هُوَ دُونَهُ فِي الْفِقْهِ
(2)
.
(1)
رواه أبو دا ود (3660)، والترمذي (2656)، وابن ماجه (230)، والدارمي (235)، وأحمد (16738)، وقال الترمذي: حديث حسن.
(2)
أي: يأخذ الحافظ للأحاديث عمن دونه في الحفظ فقه الحديث إذا كان أفقه.
وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ فِي الرِّوَايَةِ إلَى الْفِقْهِ: إذَا كَانَ قَد رُوِيَ بِالْمَعْنَى، فَخَافَ أَنَّ غَيْرَ الْفَقِيهِ يُغَيِّرُ الْمَعْنَى وَهُوَ لَا يَدْرِي.
وأَبُو هُرَيْرَةَ: كَانَ مِن أَحْفَظِ الْأُمَّةِ، وَقَد دَعَا لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْحِفْظِ، قَالَ: فَلَمْ أَنْسَ شَيْئًا سَمِعْته بَعْدُ.
الرَّابعُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ كُلَّهُم كَانُوا يَأَخُذُونَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ كَعُمَر، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ، وَمَن تَأَمَّلَ كُتُبَ الْحَدِيثِ عَرَفَ ذَلِكَ.
الْخَامِسُ: أَنَّ أَحَدًا مِن الصَّحَابَةِ لَا يَطْعَنُ فِي شَيْءٍ رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، بِحَيْثُ قَالَ: إنَّهُ أَخْطَأَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ؛ لَا عُمَرُ وَلَا غَيْرُهُ. [4/ 532 - 535]
* * *
(حكم سَابّ الصَّحَابَةِ وتوبته)
1227 -
سَابُّ الصَّحَابَةِ: إذَا كَانَ يَعْتَقِدُ جَوَازَ ذَلِكَ فَهَذَا مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ كَسَائِرِ الضُّلَّالِ، وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ للهِ؛ كَمَن سَبَّ الرَّسُولَ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ سَاحِرٌ أَو كَاذِبٌ، فَإِذَا أَسْلَمَ هَذَا قَبِلَ اللّهُ إسْلَامَة.
كَذَلِكَ الرافضي إذَا تبَيَّنَ لَة الْحَق وَتَابَ قَبِلَ اللهُ مِنْهُ.
وَإِن كَانَ يُقِرُّ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ: فَهَذَا ظَالِمٌ؛ كَمَن قَذَفَ غَيْرَهُ وَاغْتَابَهُ، وَمَظَالِمُ الْعِبَادِ تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْهَا، وَيدْعُو لَهُم ويُثْنِي عَلَيْهِم بِقَدْرِ مَا لَعَنَهُم وَسَبَّهُمْ؛ فَإِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ. [4/ 541]
* * *
(إنزال السكينة على أبي بكر تبع)
1228 -
{فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [التوبة: 40]، قال
(1)
: على أبي بكر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أنزلت عليه السكينة.
(1)
أي: الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
قلت
(1)
: وكان شيخنا أبو العباس ابن تيمية -قدس الله روحه- يذهب إلى خلاف هذا ويقول: الضمير عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم أصلًا وإلى صاحبه تباعًا، فهو الذي أنزلت عليه السكينة، وهو الذي أيده الله بالجنود وسرى ذلك إلى صاحبه
(2)
. [المستدرك 1/ 111]
* * *
(الصِّدِّيق أكمل من المحدث)
1229 -
ثَبَتَ أَنَّ لِأَوْليَاءِ اللّهِ مُخَاطَبَاتٍ وَمُكَاشَفَاتٍ، فَأفْضَلُ هَؤُلَاءِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنهما، فَإِنَّ خَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ. وَقَد ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ تَعْيِينُ عُمَرَ بِأَنَّهُ مُحَدَّث فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ. [11/ 305]
1230 -
إِنَّ مَرْتَبَةَ الصِّدِّيقِ فَوْقَ مَرْتَبَةِ الْمُحَدَّثِ؛ لِأَنَّ الصّدّيقَ يَتَلَقَّى عَن الرَّسُولِ الْمَعْصُومِ كُلَّ مَا يَقُولُهُ وَيَفْعَلُهُ، وَالْمُحَدَّثُ يَأْخُذُ عَن قَلْبِهِ أَشْيَاءَ، وَقَلْبُهُ لَيْسَ بِمَعْصُومِ، فَيَحْتَاجُ أَنْ يَعْرِضَهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَلهَذَا كَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يُشَاوِرُ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم وَيُنَاظِرُهُم وَيرْجِعُ إلَيْهِم فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَيُنَازِعُونَهُ فِي أَشْيَاءَ، فَيَحْتَجُّ عَلَيْهِم وَيَحْتَجُّونَ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وُيقَرِّرُهُم عَلَى مُنَازَعَتِهِ، وَلَا يَقُولُ لَهُمْ: أَنَا مُحَدَّث مُلْهَمٌ مُخَاطَبٌ فَيَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تَقْبَلُوا مِنِّي وَلَا تُعَارِضُونِي. [11/ 207]
1231 -
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّه قَالَ صلى الله عليه وسلم: "قَد كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُن فِي أمّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ"، فَهُوَ رضي الله عنه الْمُحَدَّثُ الْمُلْهَمُ الَّذِي ضَرَبَ اللهُ الْحَق عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ؛ وَلَكِنْ مَزِيَّةُ التَّصْدِيقِ الَّذِي هُوَ أَكْمَلُ مُتَابَعَةً لِلرَّسُولِ وَعِلْمًا وَإِيمَانًا بِمَا جَاءَ بِهِ: دَرَجَتُهُ فَوْقَ دَرَجَتِهِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الصِّدِّيقُ
(1)
أي: ابن القيِّم رحمه الله تعالى في بداع الفوائد (3/ 112).
(2)
خالف شيخ الإسلام رحمه الله تعالى قول الإمام أحمد، وهذا لا يعني أنَّ حبه وميله للإمام أحمد أنْ يتبعه في كل شيء، بل هو متجرد للحق كغيره من أهل العلم.
أَفْضَلَ الْأُمَّةِ، صَاحِبَ الْمُتَابَعَةِ لِلْآثَارِ النَبوِيَّةِ، فَهُوَ مُعَلِّمٌ لِعُمَرَ وَمُؤَدِّبٌ لِلْمُحَدَّثِ مِنْهُمْ، الَّذِي يَكُونُ لَهُ مِن رَبِّهِ إلْهَامٌ وَخِطَابٌ، كَمَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ مُعَلِّمًا لِعُمَرَ وَمُؤَدِّبًا لَهُ. [15/ 185]
1232 -
قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي "الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ": "إنَّهُ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ، فَإِنْ يَكُن فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ". فَعَلَّقَ ذَلِكَ تَعْلِيقًا فِي أُمَّتِهِ، مَعَ جَزْمِهِ بِهِ فِيمَن تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ الْأُمَمَ قَبْلَنَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ إلَى الْمُحَدَّثِينَ كَمَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ إلَى نَبِيٍّ بَعْدَ نَبِيٍّ، وَأَمَّا أُمَةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَأَغْنَاهُم اللهُ بِرَسُولِهِمْ وَكِتَابِهِم عَن كُلِّ مَا سِوَاهُ، حَتَّى أَنَّ الْمُحَدّثَ مِنْهُم كَعُمَر بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه إنَّمَا يُؤخَذ مِنْهُ مَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَإذَا حَدَّثَ شَيْئًا فِي قَلْبِهِ لَمْ يَكُن لَهُ أَنْ يَقْبَلَهُ حَتَّى يَعْرِضَهُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكَذَلِكَ لَا يَقْبَلُهُ إلَّا إنْ وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ. [17/ 46]
1233 -
الصِّدِّيقُ أكمل من المحدَّث؛ لأنه استغنى بكمال صديقيته ومتابعته عن التحديث والإلهام والكشف؛ فإنه سلم قلبه وسره وظاهره وباطنه للرسول صلى الله عليه وسلم فاستغنى به عما منه
(1)
. [المستدرك 1/ 112]
* * *
(فواضل رجال هذه الأمة ونسائها أفضل من فواضل غيرهم حتى آسية ومريم وهل هي من زوجات نبينا
؟)
1234 -
مريم ابنة عمران وآسية زوجة فرعون من أفضل النساء.
والفواضل من هذه الأمة كخديجة وعائشة وفاطمة رضي الله عنهن أفضل منهما.
كما أن المفضلين من رجال هذه الأمة أفضل من فضلاء رجال غيرها.
(1)
أي: أن الصِّدِّيق استغنى بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به عن الله تعالى عن آرائه ونظرِه وعقلِه.
فإن الصواب الذي عليه عامة المسلمين وحكى الإجماع عليه غير واحد أنهما ليستا بنبيتين، وإنما غايتهما الصديقية، كما دل عليه القرآن.
وصديقو هذه الأمة رجالها ونساؤها أفضل من صديقي غيرها.
كما أنَّ خير الناس الأنبياء فشرُّ الناس من تشبَّه بهم يوهم أنه منهم وليس منهم فخير الناس بعدهم: العلماء والشهداء والصديقون، والمخلصون. [المستدرك 1/ 118 - 119]
* * *
(ما جاء عن السلف من أقوال وأفعال)
1235 -
تَوَاتَرَ عَنْهُ [أي: علي رضي الله عنه] أَنَّهُ قَالَ: خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ. [13/ 34]
1236 -
الْكَلَامُ الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ هُوَ الْكَلَامُ الْبَاطِلُ، وَهُوَ الْمُخَالِفُ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ. [13/ 148]
1237 -
النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَخُصَّ أَحَدًا مِن أَصْحَابِهِ بِخِطَاب فِي عِلْمِ الدِّينِ قَصَدَ كِتْمَانَهُ عَن غَيْرِهِ، وَلَكِنْ كَانَ قَد يَسْألُ الرَّجُلُ عَن الْمَسْأَلَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ جَوَابُهَا؛ فَيُجِيبُهُ بِمَا يَنْفَعُهُ.
سُئِلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة عَن غَمٍّ لَا يُعْرَفُ سَبَبُهُ؟ قَالَ: هُوَ ذَنْبٌ هَمَمْت بِهِ فِي سِرِّك وَلَمْ تَفْعَلْهُ فَجُزِيت هَمًّا بِهِ. [13/ 252]
فَالذُّنُوبُ لَهَا عُقُوبَات: السِّرُّ بِالسِّرِّ، وَالْعَلَانِيَةُ بِالْعَلَانِيَةِ
(1)
. [14/ 111]
1238 -
كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُفْتِي بِحَسَبِ مَا سَمِعَهُ وَفَهِمَهُ؛ فَلِهَذَا يُوجَدُ فِي مَسَائِلِهِ أَقْوَالٌ فِيهَا ضِيقٌ لِوَرَعِهِ وَدِيِنِهِ رضي الله عنه وَأَرْضَاهُ، وَكَانَ قَد رَجَعَ عَن كَثيرٍ مِنْهَا. [21/ 200]
* * *
(1)
يعني: أن ذنوب السر كالحسد وسوء الظن: تكون العقوبة عليها من جنسها؛ أي: في القلب والباطن، وأما ذنوب العلانية؛ كالسرقة والغيبة والفاحشة، فتكون عقوبتها علانيةً، إما بالفضيحة، وإما بالأمراض والأوجاع الجسدية، وإما بالفقر وإما بالانتكاسة والعياذ بالله.
(أئمة المذاهب)
1239 -
مَذَاهِبُ الْأَئِمَّةِ تُؤخَذُ مِن أَقْوَالِهِمْ، وَأَمَّا أَفْعَالُهُم فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي فِعْلِ الْإِمَامِ أَحْمَد: هَل يُوخَذُ مِنْهُ مَذْهَبُهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا؛ لِجَوَازِ الذَّنْبِ عَلَيْهِ، أَو أَنْ يَعْمَلَ بِخِلَافِ مُعْتَقَدِهِ أَو يَكُونُ عَمَلُهُ سَهْوًا أَو عَادَةً أَو تَقْلِيدًا.
وَالثَّانِي: بَل يُؤخَذُ مِنْهُ مَذْهَبُهُ؛ لِمَا عُرِفَ مِن تَقْوَى أَبِي عَبْدِ اللهِ وَوَرَعِهِ وَزُهْدِهِ.
ثُمَّ يُقَالُ: فِعْلُ الْأئِمَّةِ وَتَرْكُهُم يَنْقَسِمُ كَمَا تَنْقَسِمُ أَفْعَالُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: تَارَةً يَفْعَلُهُ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ وَالتَّدَيُّنِ فَيَدُلّ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ عِنْدَهُ، وَأَمَّا رُجْحَانُهُ فَفِيهِ نَظَرٌ.
وَأَمَّا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ التَّعَبُّدِ فَفِي دَلَالَتِهِ الْوَجْهَانِ، فَعَلَى هَذَا مَا يُذْكَرُ عَنِ الْأَئِمَّةِ مِن أَنْوَاعِ التَّعَبُّدَاتِ والتزهدات والتورعات يَقِفُ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ:
إحْدَاهَا: هَل يَعْتَقِدُ حُسْنَهَا بِحَيْثُ يَقُولُهُ ويُفْتِي بِهِ، أَو فَعَلَهُ بِلَا اعْتِقَادٍ لِذَلِكَ، بَل تَأَسّيًا بِغَيْرِهِ أَو نَاسِيًا؟
عَلَى الْوَجْهَيْنِ كَالْوَجْهَيْنِ فِي الْمُبَاحِ.
وَالثَّانِيَةُ: هَل فِيهِ إرَادَةٌ لَهَا تُوَافِق اعْتِقَادَهُ؟ فَكَثِيرًا مَا يَكُونُ طَبْعُ الرَّجُلِ يُخَالِفُ اعْتِقَادَهُ.
وَالثَّالِثَةُ: هَل يَرَى ذَلِكَ أَفْضَلَ مِن غَيْرِهِ، أَو يَفْعَلُ الْمَفْضُولَ لِأَغْرَاضٍ أخْرَى مُبَاحَةٍ؟ وَالْأَوَلُ أَرْجَحُ.
وَالرَّابِعَةُ: أَنَّ ذَلِكَ الرُّجْحَانَ هَل هُوَ مُطْلَقٌ، أَو فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ؟ وَاللهُ أَعْلَمُ. [19/ 151 - 152]
1240 -
الْمُنْحَرِفُونَ مِن أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ انْحِرَافُهُم أَنْوَاعٌ: أَحَدُهَا: قَوْلٌ لَمْ يَقُلْهُ الْإِمَامُ وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْمَعْرُوفَيْنِ مِن أَصْحَابِهِ بِالْعِلْمِ.
الثَّانِي: قَوْلٌ قَالَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ أَصْحَابِهِ وَغَلِطَ فِيهِ.
الثَّالِثُ: قَوْلٌ قَالَهُ الْإِمَامُ فَزِيدَ عَلَيْهِ قَدْرًا أَو نَوْعًا كَتَكفِيرِهِ نَوْعًا مِن أَهْلِ الْبِدَع كالْجَهْمِيَّة؛ فَيَجْعَلُ الْبدَع نَوْعًا وَاحِدًا، حَتَّى يَدْخُلَ فِيهِ الْمُرْجِئَةُ وَالْقَدَرِيِّةُ، أَو ذَمَّهُ لِأَصْحَابِ الرَّأيِ بِمُخَالَفَةِ الْحَدِيثِ وَالْإِرْجَاءِ، فَيَخْرُجُ ذَلِكَ إلَى التَّكْفِيرِ وَاللَّعْنِ
(1)
.
الرَّابعُ: أَنْ يَفْهَمَ مِن كَلَامِهِ مَا لَمْ يُرِدْهُ أَو يَنْقُلَ عَنْهُ مَا لَمْ يَقُلْهُ.
الْخَامِسُ: أَنْ يَجْعَلَ كَلَامَة عَامًّا أَو مُطْلَقًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ عَنْهُ فِي الْمَسْألَةِ اخْتِلَافٌ فَيَتَمَسَّكونَ بِالْقَوْلِ الْمَرْجُوحِ
(2)
.
السَّابعُ: أَنْ لَا يَكُونَ قَد قَالَ، أَو نُقِلَ عَنْهُ مَا يُزِيلُ شُبْهَتَهُم مَعَ كَوْنِ لَفْظِهِ مُحْتَمِلًا لَهَا.
الثَّامِنُ: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مُشْتَمِلًا عَلَى خَطَأٍ
(3)
.
فَالْوُجُوهُ الستَّةُ تبيِّنُ مِن مَذْهَبِهِ نَفْسِهِ أَنَّهُم خَالَفُوهُ وَهُوَ الْحَقُّ.
وَالسَّابعُ خَالَفُوا الْحَقَّ وَإِن لَمْ يُعْرفْ مَذْهَبُهُ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا.
وَالثَّامِنُ خَالَفُوا الْحَقَّ وَإِن وَافَقُوا مَذْهَبَهُ. [20/ 184 - 186]
1241 -
[الإمامُ] أَحْمَدُ كَانَ أَعْلَمَ مِن غَيْرِهِ بِالْكِتَاب وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَانٍ؛ وَلهَذَا لَا يَكَادُ يُوجَدُ لَهُ قَوْلٌ يُخَالِفُ نَصًّا كَمَا يُوجَدُ
(1)
ومثل هذا ما وقع به بعض الناس من الطعن واللعن والتفسيق لبعض الجماعات والأحزاب في هذا الزمان، حيث استندوا إلى قول بعض العلماء فيهم، ورأوا أنهم مُخطئون أو عندهم بدعٌ وانحرافٌ عن الصواب في بعض الجوانب، أو أنكروا عليهم تحزبهم، فجاء مَن بعدهم فزادوا وبالغوا في الإنكار عليهم، وسبّهم وتضليلهم، ورموهم بما هم بريئون منه.
(2)
ويزعمون أنّ القول الذي يُوافق هواهم هو القول الأخير له، فيكون ناسخًا للقول الآخر! أو أنه تراجع عنه حينما تبيّن له الحق والصواب.
(3)
فهو ليس معصومًا عن الخطأ.
لِغَيْرِهِ، وَلَا يُوجَدُ لَهُ قَوْلٌ ضَعِيفٌ فِي الْغَالِبِ إلَّا وَفِي مَذْهَبِهِ قَوْلٌ يُوَافِقُ الْقَوْلَ الْأَقْوَى، وَأَكْثَرُ مفاريده الَّتِي لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهَا مَذْهَبُهُ يَكُونُ قَوْلُهُ فِيهَا رَاجِحًا؛ كَقَوْلِهِ بِجَوَازِ فَسْخِ الْإِفْرَادِ وَالْقِرَانِ إلَى التَّمَتّعِ، وَقَبُولِهِ شَهَادَةَ أَهْلِ الذمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْحَاجَةِ.
وَأَمَّا مَا يُسَمِّيهِ بَعْضُ النَّاسِ مُفْرَدَة لِكَوْنِهِ انْفَرَدَ بِهَا عَن أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، مَعَ أَنَّ قَوْلَ مَالِكٍ فِيهَا مُوَافِق لِقَوْلِ أَحْمَد أَو قَرِيبٌ مِنْهُ .. فَهَذِهِ غَالِبُهَا يَكُونُ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَد أَرْجَحَ مِنَ الْقَوْلِ الْآخَرِ، وَمَا يَتَرَجَّحُ فِيهَا الْقَوْلُ الْآخَرُ يَكُونُ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ أَحْمَد، وَهَذَا كَإِبْطَالِ الْحِيَلِ الْمُسْقِطَهِ لِلزَّكَاةِ وَالشُّفْعَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ الْحِيَلُ الْمُبِيحَةُ لِلرِّبَا وَالْفَوَاحِشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَاعْتِبَارِ الْمَقَاصِدِ وَالنِّيَّاتِ فِي الْعُقُودِ، وَالرُّجُوعِ فِي الْأَيْمَانِ إلَى سَبَبِ الْيَمِينِ وَمَا هَيَّجَهَا مَعَ نِيَّةِ الْحَالِفِ. [20/ 229 - 230]
* * *
(هل لَازِمُ مَذْهَبِ الْإِنْسَانِ مَذْهَبٌ لَهُ
؟)
1242 -
الصَّوَابُ: أَنَّ لَازِمَ مَذْهَبِ الْإِنْسَانِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ لَهُ إذَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ قَد أَنْكَرَهُ وَنَفَاهُ كَانَت إضَافَتُهُ إلَيْهِ كَذِبًا عَلَيْهِ، بَل ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِ وَتَنَاقُضِهِ فِي الْمَقَالِ، غَيْرِ الْتِزَامِهِ اللَّوَازِمَ الَّتِي يَظْهَرُ أَنَّهَا مِن قِبَلِ الْكفْرِ وَالْمِحَالِ مِمَّا هُوَ أَكْثَرُ. [20/ 217]
1243 -
لَازِمُ قَوْلِ الْإِنْسَانِ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَازِمُ قَوْلِهِ الْحَقّ، فَهَذَا مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَزِمَهُ؛ فَإِنَّ لَازِمَ الْحَقِّ حَقٌّ، وَيَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ إذَا عُلِمَ مِن حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ مِن الْتِزَامِهِ بَعْدَ ظُهُورِهِ، وَكَثِيرٌ مِمَّا يُضِيفُهُ النَّاسُ إلَى مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ مِن هَذَا الْبَابِ.
وَالثَّائِي: لَازِمُ قَوْلِهِ الَّذِي لَيْسَ بِحَق، فَهَذَا لَا يَجِبُ الْتِزَامُهُ؛ إذ أَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ قَد تَنَاقَضَ، وَقَد ثَبَتَ أَنَّ التَّنَاقُضَ وَاقِعٌ مِن كُلّ عَالِمٍ غَيْرِ النَّبِيِّينَ.
ثُمَّ إنْ عُرِفَ مِن حَالِهِ أَنَّهُ يَلْتَزِمُهُ بَعْدَ ظُهُورِهِ لَهُ: فَقَد يُضَافُ إلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ قَوْلٌ لَو ظَهَرَ لَهُ فَسَادُهُ لَمْ يَلْتَزِمْهُ؛ لِكَوْنِهِ قَد قَالَ مَا يَلْزَمُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِفَسَادِ ذَلِكَ الْقَوْلِ وَلَا يَلْزَمُهُ.
وَهَذَا التَّفْصِيلُ فِي اخْتِلَافِ النَاسِ فِي لَازِمِ الْمَذْهَبِ: هَل هُوَ مَذْهَبٌ أَو لَيْسَ بِمَذْهَبٍ؟ هُوَ أَجْوَدُ مِن إطْلَاقِ أَحَدِهِمَا، فَمَا كَانَ مِن اللَّوَازِمِ يَرْضَاهُ الْقَائِلُ بَعْدَ وُضُوحِهِ لَهُ فَهُوَ قَوْلُهُ، وَمَا لَا يَرْضَاهُ فَلَيْسَ قَوْلُهُ وَإِن كَانَ مُتَنَاقِضًا. [29/ 41 - 42]
* * *
(رفع الملام عن الأئمة الأعلام)
1244 -
يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ مُوَالَاةِ اللهِ وَرَسُولِهِ مُوَالَاةُ الْمُؤمِنِينَ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ، خُصُوصًا الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ هُم وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، الَّذِين جَعَلَهُم اللهُ بِمَنْزِلَةِ النُّجُومِ يُهْتَدَى بِهِم فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَقَد أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَدِرَايَتِهِمْ، إذ كَلُّ أُمَّةٍ قَبْلَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَعُلَمَاؤُهَا شِرَارُهَا، إلَّا الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ عُلَمَاءَهُم خِيَارُهُم؛ فَإِنَّهُم خُلَفَاءُ الرَّسُولِ فِي أُمَّتِهِ، والمحيون لِمَا مَاتَ مِن سُنَّتِهِ، بِهِم قَامَ الْكِتَابُ وَبِهِ قَامُوا، وَبِهِم نَطَقَ الْكِتَابُ وَبِهِ نَطَقُوا.
وَليُعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمَقْبُولِينَ عِنْدَ الْأمَّةِ قَبُولًا عَامًّا يَتَعَمَّدُ مُخَالَفَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي شَيءٍ مِن سُنَتِهِ؛ دَقِيقٍ وَلَا جَلِيلٍ؛ فَإِنَّهُم مُتَّفِقُونَ اتِّفَاقًا يَقِينِيًّا عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ، وَعَلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ يُؤخَذُ مِن قَوْلِهِ ويُتْرَكُ إلَّا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَكنْ إذَا وُجِدَ لِوَاحِدٍ مِنْهُم قَوْلٌ قَد جَاءَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ بِخِلَافِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِن عُذْرٍ فِي تَرْكِهِ.
وَجَمِيعُ الْأَعْذَارِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ:
أَحَدُهَا: عَدَمُ اعْتِقَادِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ.
وَالثَّانِي: عَدَمُ اعْتِقَادِهِ إرَادَةَ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِذَلِكَ الْقَوْلِ.
وَالثَّالِثُ: اعْتِقَادُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْحكمَ مَنْسُوخ.
وَهَذِهِ الْأَصْنَافُ الثَّلَاثَةُ تتفَرَّعُ إلَى أَسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ:
السَّبَبُ الْأوّلُ: أَلَّا يَكُونَ الْحَدِيثُ قَد بَلَغَهُ.
وَهَذَا السَّبَبُ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أَكْثَرِ مَا يُوجَدُ مِن أَقْوَالِ السَّلَفِ مُخَالِفًا لِبَعْضِ الْأَحَادِيثِ؛ فَإِنَّ الْإِحَاطَةَ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ تَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَّةِ.
وَلَا يَقُولَن قَائِل: الْأَحَادِيثُ قَد دُوِّنَتْ وَجُمِعَتْ، فَخَفَاؤُهَا وَالْحَالُ هَذِهِ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الدَّوَاوِينَ الْمَشْهُورَةَ فِي السُّنَنِ إنَّمَا جُمِعَتْ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ، وَمَعَ هَذَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَ انْحِصَارَ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي دَوَاوِينَ مُعَيَّنةٍ.
ثُمَّ لَو فُرِضَ انْحِصَارُ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلَيْسَ كُلُّ مَا فِي الْكُتُبِ يَعْلَمُهُ الْعَالِمُ وَلَا يَكَادُ ذَلِكَ يَحْصُلُ لِأَحَدٍ.
بَل قَد يَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ الدَّوَاوِينُ الْكَثِيرَةُ وَهُوَ لَا يُحِيطُ بِمَا فِيهَا، بَل الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ جَمْعِ هَذِهِ الدَّوَاوِينِ أَعْلَمُ بِالسُّنَّةِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ بِكَثِيرٍ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِمَّا بَلَغَهُم وَصَحَّ عِنْدَهُم قَد لَا يَبْلُغُنَا إلَّا عَن مَجْهُولٍ، أَو بِإِسْنَادٍ مُنْقَطِعٍ، أَو لَا يَبْلُغُنَا بِالْكُلِّيَّةِ، فَكَانَت دَوَاوِينُهُم صُدُورَهُم الَّتِي تَحْوِي أَضْعَافَ مَا فِي الدَّوَاوِينِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَشُكُّ فِيهِ مَن عَلِمَ الْقَضِيَّةَ.
وَلَا يَقُولَنَّ قَائِل: مَن لَمْ يَعْرِفِ الْأحَادِيثَ كُلَّهَا لَمْ يَكُن مُجْتَهِدًا؛ لِأنَّهُ إن اُشْتُرِطَ فِي الْمُجْتَهِدِ عِلْمُهُ بِجَمِيعِ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَفِعْلُهُ فِيمَا يَتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ: فَلَيْسَ فِي الْأُمَّةِ مُجْتَهِدٌ، وَإِنَّمَا غَايَةُ الْعَالِمِ أَنْ يَعْلَمَ جُمْهُورَ ذَلِكَ وَمُعْظَمَهُ بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ إلَّا الْقَلِيلُ مِنَ التَّفْصِيلِ، ثُمَّ إنَّهُ قَد يُخَالِفُ ذَلِكَ الْقَلِيلَ مِنَ التَّفْصِيلِ الَّذِي يَبْلُغُهُ.
السَبَبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ قَد بَلَغَهُ لَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ.
السَّبَبُ الثَّالِثُ: اعْتِقَادُ ضَعْفِ الْحَدِيثِ بِاجْتِهَادٍ قَد خَالَفَهُ فِيهِ غَيْرُهُ، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَن طَرِيقٍ آخَرَ سَوَاءٌ كَانَ الصَّوَابُ مَعَهُ أَو مَعَ غَيْرِهِ أَو مَعَهُمَا عِنْدَ مَن يَقُولُ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ.
السَّبَبُ الرَّابعُ: اشْتِرَاطُهُ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ الْحَافِظِ شُرُوطًا يُخَالِفُهُ فِيهَا غَيْرُهُ؛ مِثْل اشْتِرَاطِ بَعْضِهِمْ عَرْضَ الْحَدِيثِ عَلَى الْكِتَابِ.
السَبَبُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ قَد بَلَغَهُ وَثَبَتَ عِنْدَهُ لَكِنْ نَسِيَه، وَهَذَا يَرِدُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
السَّبَبُ السَّادِسُ: عَدَمُ مَعْرِفَتِهِ بِدَلَالَةِ الْحَدِيثِ:
أ- تَارَة لِكَوْنِ اللَّفْظِ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ غَرِيبًا عِنْدَهُ.
ب- وَتَارَةً لِكَوْنِ مَعْنَاهُ فِي لُغَتِهِ وَعُرْفِهِ غَيْرَ مَعْنَاهُ فِي لُغَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَحْمِلُة عَلَى مَا يَفْهَمُهُ فِي لُغَتِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ اللُّغَةِ.
ج- وَتَارَة لِكَوْنِ اللَّفْظِ مُشْتَرَكًا أَو مُجْمَلًا، أَو مُتَرَدِّدًا بَيْنَ حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ، فَيَحْمِلُهُ عَلَى الْأَقْرَب عِنْدَهُ، وإِن كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الْآخَرَ كَمَا حَمَلَ جَمَاعَة مِنَ الصَّحَابَةِ فِي أَوَّلِ الأمرِ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الْأَسْوَدَ عَلَى الْحَبْلِ.
د- وَتَارَةً لِكَوْنِ الدَّلَالَةِ مِنَ النَّصّ خَفِيَّةً.
هـ- وَقَد يَغْلَطُ الرَّجُل فَيَفْهَمُ مِنَ الْكَلَامِ مَا لَا تَحْتَمِلُهُ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ الَّتِي بُعِثَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بِهَا.
السَّبَبُ السَّابعُ: اعْتِقَادُهُ أَنْ لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الَّذِي قَبْلَهُ: أَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَعْرِفْ جِهَةَ الدَّلَالَةِ، وَالثَّانِي عَرَفَ جِهَةَ الدَّلَالَةِ لَكِنِ اعْتَقَدَ أَنَّهَا لَيْسَتْ دَلَالَةً صَحِيحَةً؛ بِأَنْ يَكُونَ لَهُ مِنَ الْأُصُولِ مَا يَرُدُّ تِلْكَ الدَّلَالَةَ، سَوَاءٌ كَانَت فِي نَفْسِ الْأمْرِ صَوَابًا أَو خَطأً؛ مِثْل: أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَأَنَّ الْمَفْهُومَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ .. إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَّسِعُ الْقَوْلُ فِيهِ.
فَإِنَّ شَطْرَ أُصُولِ الْفِقْهِ تَدْخُلُ مَسَائِلُ الْخِلَافِ مِنْهُ فِي هَذَا الْقِسْمِ.
السَّبَبُ الثَّامِنُ: اعْتِقَادُهُ أَنَّ تِلْكَ الدَّلَالَهً قَد عَارَضَهَا مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مُرَادَةً، مِثْل مُعَارَضَةِ الْعَامِّ بِخَاصٍّ، أَو الْمُطْلَقِ بِمُقَيَّدٍ.
السَّبَبُ التَّاسِعُ: اعْتِقَادُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ، أَو نَسْخِهِ، أَو تَأَوِيلِهِ إنْ كَانَ قَابِلًا لِلتَّأْوِيلِ بِمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَارضًا بِالِاتِّفَاقِ؛ مِثْل أيَةٍ، أَو حَدِيثٍ آخَرَ، أَو مِثْل إجْمَاعٍ.
وَقَد وَجَدْنَا مِن أَعْيَانِ الْعُلَمَاءِ مَن صَارُوا إلَى الْقَوْلِ بِأَشْيَاءَ مُتَمَسَّكُهُم فِيهَا عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْمُخَالِفِ، مَعَ أَنَ ظَاهِرَ الْأدِلَّةِ عِنْدَهُم يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ، لَكِنْ لَا يُمْكِنُ الْعَالِمُ أَنْ يَبْتَدِئَ قَوْلًا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ قَائِلًا، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ النَّاسَ قَد قَالُوا خِلَافَهُ
(1)
، حَتَّى إنَّ مِنْهُم مَن يُعَلِّقُ الْقَوْلَ فَيَقُولُ: إنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ إجْمَاعٌ فَهُوَ أَحَقُّ مَا يُتْبَعُ وَإِلَّا فَالْقَوْلُ عِنْدِي كَذَا وَكَذَا.
السَّبَبُ الْعَاشِرُ: مُعَارَضَتُهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ أَو نَسْخِهِ أَو تَأَوِيلِهِ مِمَّا لَا يَعْتَقِدُهُ غَيْرُهُ أَو جِنْسُهُ مُعَارِضٌ، أَو لَا يَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ مُعَارضًا رَاجِحًا؛ كَمُعَارَضَةِ كَثِيرٍ مِنَ الْكُوفِيِّينَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ مِنَ الْعُمُومِ وَنَحْوِه مُقَدَّمٌ عَلَى نَصِّ الْحَدِيثِ، ثُمَّ قَد يَعْتَقِدُ مَا لَيْسَ بِظَاهِرٍ ظَاهِرًا لِمَا فِي دَلَالَاتِ الْقَوْلِ مِنَ الْوُجُوهِ الْكثِيرَةِ.
فَهَذِهِ الْأَسْبَابُ الْعَشَرَةُ ظَاهِرَة، وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَالِمِ حُجَّةٌ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ لَمْ نَطَّلِعْ نَحْنُ عَلَيْهَا .. لَكِنْ نَحْنُ وَإِن جَوَّزنا هَذَا فَلَا يَجُوزُ لَنَا أنْ نَعْدِلَ عَن قَوْلٍ ظَهَرَتْ حُجَّتُهُ بِحَدِيثٍ صَحِيحٍ وَافَقَهُ طَائِفَةٌ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَى قَوْلٍ آخَرَ قَالَهُ عَالِمٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مَا يَدْفَعُ بِهِ هَذِهِ الْحُجَّةَ وَإِن كَانَ أَعْلَم؛ إذ تَطَرُّقُ الْخَطَأِ إلَى آرَاءِ الْعُلَمَاءِ أَكْثَرُ مِن تَطَرُّقِهِ إلَى
(1)
وقد رأينا في هذا الزمان من أفتى في مسائل الأحكام بأقوال لم يُسبق لها أبدًا، والأمثلة في هذا كثيرة لا يُمكن حصرُها.
الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ حُجَّةُ اللهِ عَلَى جَمِيعِ عِبَادِهِ بِخِلَافِ رَاي الْعَالِمِ.
فَإِذَا جَاءَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ فِيهِ تَحْلِيل أَو تَحْرِيمٌ أَو حُكْمٌ: فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ التَّارِكَ لَهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ ألَّذِينَ وَصَفْنَا أَسْبَابَ تَرْكِهِمْ يُعَاقَبُ
(1)
؛ لِكَوْنِهِ حَلَّلَ الْحَرَامَ أَو حَرَّمَ الْحَلَالَ؛ أَو حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ.
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي الْحَدِيثِ وَعِيدٌ عَلَى فِعْلٍ: مِن لَعْنَةٍ أَو غَضَبٍ أَو عَذَابٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا يَجُوز أَنْ يُقَالَ: إنَّ ذَلِكَ الْعَالِمَ الَّذِي أَبَاحَ هَذَا أَو فَعَلَهُ دَاخِل فِي هَذَا الْوَعِيدِ. وَهَذَا مِمَّا لَا نَعْلَمُ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِيهِ خِلَافًا.
وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ"
(2)
عَن عَمْرِو بْنِ العاص رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَة أَجْرٌ" فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ مَعَ خَطَئِهِ لَهُ أَجْرٌ؛ وَذَلِكَ لِأَجْلِ اجْتِهَادِهِ وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ لَهُ.
بِخِلَافِ الَّذِينَ أَفْتَوْا الْمَشْجُوجَ فِي الْبَرْدِ بِوُجُوبِ الْغَسْلِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: "قَتَلُوهُ قَتَلَهُم اللهُ، هَلَّا سَأَلوا إذَا لَمْ يَعْلَمُوا؟ إنَّمَا شِفَاءُ الْعَيِّ السُّؤَالُ"
(3)
، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَخْطَؤوا بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ؛ إذ لَمْ يَكُونُوا مِن أَهْلِ الْعِلْمِ
(4)
.
وَكَذَلِكَ لَمْ يُوجِبْ عَلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَوَدًا وَلَا دِيَةً وَلَا كَفارَةً لَمَّا قَتَلَ الَّذِي قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ فِي غَزْوَةِ الْحُرَقَاتِ، فَإِنَّهُ كَانَ مُعْتَقِدًا جَوَازَ قَتْلِهِ بِنَاءً عَلَى أنَّ هَذَا الْإِسْلَامَ لَيْسَ بِصَحِيح، مَعَ أَنَّ قَتْلَهُ حَرَامٌ.
وَعَمِلَ بِذَلِكَ السَّلَفُ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي أَن مَا اسْتَبَاحَهُ أَهْلُ الْبَغْيِ مِن
(1)
ولا يجوز أنْ يُقدح به، ولا أن يُغتاب ويُتّهمَ في نيّتِه والعياذ بالله تعالى.
(2)
البخاري (7352)، ومسلم (1716).
(3)
رواه الإمام أحمد (3056)، وابن ماجه (572)، وأبو داود (337)، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع (4362).
(4)
فمن اجتهد في الدين بغير علم مع قدرته تحصيل العلم فهو آثم وإن أصاب، كما قرره شيخ الإسلام رحمه الله وغيرُه.
دِمَاءِ أَهْلِ الْعَدْلِ بِتَأوِيل سَائِغٍ لَمْ يُضْمَن بِقَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ وَلَا كَفَّارَةٍ، وَإِن كَانَ قَتْلُهُم وَقِتَالُهُم مُحَرَّمًا.
ثُمَّ إنَّهُم مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ التَّارِكَ الْمَوْصُوفَ مَعْذُورٌ بَل مَأْجُورٌ: لَا يَمْنَعُنَا أَنْ نَتَّبعَ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الَّتِي لَا نَعْلَمُ لَهَا مُعَارضًا يَدْفَعُهَا، وَأَنْ نَعْتَقِدَ وُجُوبَ الْعَمَلِ عَلَى الْأُمَّةِ وَوُجُوبَ تَبْلِيغِهَا، وَهَذَا مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِيهِ.
وَإِنَّمَا رَدَدْنَا الْكَلَامَ؛ لِأَنَّ لِلنَاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا -وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ-: أَنَّ حُكْمَ اللهِ وَاحِدٌ، وَأَنَّ مَن خَالَفَهُ بِاجْتِهَادٍ سَائِغٍ مُخْطِئٌ مَعْذُورٌ مَأْجُورٌ.
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ذَلِكَ الْفِعْلُ الَّذِي فَعَلَهُ الْمُتَأَوِّلُ بِعَيْنِهِ حَرَامًا، لَكِنْ لَا يَتَرَتَّبُ أَثَرُ التَّحْرِيمِ عَلَيْهِ لِعَفْوِ اللهِ عَنْهُ، فإِنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا.
وَالثَّانِي: فِي حَقِّهِ لَيْسَ بِحَرَامٍ؛ لِعَدَمِ بُلُوغِ دَلِيلِ التَّحْرِيمِ لَهُ، وَإِن كَانَ حَرَامًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَتَكونُ نَفْسُ حَرَكَةِ ذَلِكَ الشَّخْصِ لَيْسَتْ حَرَامًا.
وَالْخِلَافُ مُتَقَارِبٌ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِالِاخْتِلَافِ فِي الْعِبَارَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَنِ الْمُعَاقَبُ؟ فَإِنَّ فَاعِلَ هَذَا الْحَرَامِ: إمَّا مُجْتَهِدٌ أَو مُقَلِّدٌ لَهُ، وَكِلَاهُمَا خَارج عَنِ الْعُقُوبَةِ؟
قُلْنَا: قَد يَكُونُ فِي النَّاسِ مَن يَفْعَلُهُ غَيْرَ مُجْتَهِدٍ اجْتِهَادًا يُبِيحُهُ، وَلَا مُقَلِّدًا تَقْلِيدًا يُبِيحُهُ، فَهَذَا الضَّرْبُ قَد قَامَ فِيهِ سَبَبُ الْوَعِيدِ مِن غَيْرِ هَذَا الْمَانِعِ الْخَاصِّ، فَيَتَعرَّضُ لِلْوَعِيدِ ويلْحَقُهُ، إلَّا أَنْ يَقُومَ فِيهِ مَانِعٌ آخَرُ مِن تَوْبَةٍ أَو حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ أَو غَيْرِ ذَلِكَ.
ثُمَّ هَذَا مُضْطَرِبٌ؛ قَد يَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنَّ اجْتِهَادَهُ أَو تَقْلِيدَهُ مُبِيحٌ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ، ويكُونُ مُصِيبًا فِي ذَلِكَ تَارَةً، وَمُخْطِئًا أُخْرَى، لَكِنْ مَتَى تَحَرَّى الْحَقَّ وَلَمْ يَصُدَّهُ عَنْهُ اتِّبَاعُ الْهَوَى فَلَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا. [20/ 231 - 280]
1245 -
إِنَّمَا يَتَفَاضَلُ الْعُلَمَاءُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَن بَعْدَهُم بِكَثْرَةِ الْعِلْمِ أَو جَوْدَتِهِ. [20/ 233]
1246 -
تَرْجِيحُ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ وَالْمَشَايِخِ عَلَى بَعْضٍ؛ مِثْل مَن يُرَجِّحُ إمَامَهُ الَّذِي تَفَقَّهَ عَلَى مَذْهَبِهِ، أَو يُرَجحُ شَيْخَهُ الَّذِي اقْتَدَى بِهِ عَلَى غَيْرِهِ .. : فَهَذَا الْبَابُ أَكْثَرُ النَّاسِ يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ بِالظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ
(1)
؛ فَإِنَّهُم لَا يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ مَرَاتِبِ الأئِمَّةِ وَالْمَشَايِخِ، وَلَا يَقْصِدُونَ اتِّبَاعَ الْحَقّ الْمُطْلَقِ، بَل كُلُّ إنْسَانٍ تَهْوَى نَفْسُهُ أَنْ يُرَجِّحَ مَتْبُوعَهُ فَيُرَجِّحَهُ بِظَنٍّ يَظُنُّهُ، وَإِن لَمْ يَكُن مَعَهُ بُرْهَانٌ عَلَى ذَلِكَ، وَقَد يُفْضِي ذَلِكَ إلَى تَحَاجِّهِمْ وَقِتَالِهِمْ وَتَفَرُّقِهِمْ، وَهَذَا مِمَّا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ.
وَأَمَّا مَن تَرَجَّحَ عِنْدَهُ فَضْلُ إمَامٍ عَلَى إمَامٍ، أَو شَيْخٍ عَلَى شَيْخِ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ كَمَا تَنَازَع الْمُسْلِمُونَ: أَيُّهُمَا أَفْضَلُ التَّرْجِيعُ فِي الْأذَانِ أَو تَرْكُهُ؟ أَوَ إفْرَادُ الْإِقَامَةِ أَو تَثْنِيَتُهَا؟ .. وَنَحْوُ ذَلِكَ: فَهَذِهِ مَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا السَّلَفُ وَالْأئِمَّةُ، فَكُل مِنْهُم أَقَرَّ الْآخَرَ عَلَى اجْتِهَادِهِ، مَن كَانَ فِيهَا أَصَابَ الْحَقَّ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَمَن كَانَ قَدِ اجْتَهَدَ فَأخْطَأَ فَلَة أَجْرٌ، وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ لَهُ، فَمَن تَرَجَّحَ عِنْدَهُ تَقْلِيدُ الشَافِعِيِّ لَمْ يُنْكِرْ عَلَى مَن تَرَجَّحَ عِنْدَهُ تَقْلِيدُ مَالِكٍ، وَمَن تَرَجَّحَ عِنْدَهُ تَقْلِيدُ أَحْمَد لَمْ يُنْكِرْ عَلَى مَن تَرَجَّحَ عِنْدَهُ تَقْلِيدُ الشَّافِعِيِّ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَلَا أحَدَ فِي الْإِسْلَامِ يُجِيبُ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُم بِجَوَابٍ عَامّ: أَنَّ فُلَانًا أَفْضَلُ مِن فُلَانٍ فَيُقْبَلُ مِنْهُ هَذَا الْجَوَابَ، لأنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ تُرَجِّحُ مَتْبُوعَهَا فَلَا تَقْبَلُ جَوَابَ مَن يُجِيبُ بِمَا يُخَالِفُهَا فِيهِ.
وَمَا مِن إمَامٍ إلَّا لَهُ مَسَائِلُ يَتَرَجَّحُ فِيهَا قَوْلُهُ عَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ، وَلَا يَعْرِفُ هَذَا التَّفَاضُلَ إلَّا مَن خَاضَ فِي تَفَاصِيلِ الْعِلْمِ. [20/ 291 - 293]
(1)
ويُؤدّي إلى مفاسد كبيرة، منها التعلق به، والتعصب لآرائه، وعدم قبول الحق والدليل إذا خالفه.
1247 -
مَن ظَنَّ بِأَبِي حَنِيفَةَ أَو غَيْرِهِ مِن أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُم يَتَعَمَّدُونَ مُخَالَفَةَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِقِيَاسٍ أَو غَيْرِهِ فَقَد أَخْطَأَ عَلَيْهِمْ، وَتَكَلَّمَ إمَّا بِظَنّ وإِمَّا بِهَوَى، فَهَذَا أَبُو حَنِيفَةَ يَعْمَلُ بِحَدِيثِ التوضي بِالنَّبِيذِ فِي السَّفَرِ مُخَالَفَةً لِلْقِيَاسِ، وَبِحَدِيثِ الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْقِيَاسِ؛ لِاعْتِقَادِهِ صِحَّتَهُمَا، وَإِن كَانَ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ لَمْ يُصَحِّحُوهُمَا. [20/ 304 - 305]
1248 -
إِنَّ الْمُوَطَّأَ لِمَن تَدَبَّرَهُ وَتَدَبَّرَ تَرَاجِمَهُ وَمَا فِيهِ مِنَ الْآثَارِ وَتَرْتِيبَهُ: عَلِمَ قَوْلَ مَن خَالَفَهَا مِن أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَقَصَدَ بِذَلِكَ التَّرْتِيبِ وَالآثَارِ بَيَانَ السُّنَّةِ وَالرَّدَّ عَلَى مَن خَالَفَهَا، وَمَن كَانَ بِمَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْعِرَاقِ أَعْلَمَ كَانَ أَعْلَمَ بِمِقْدَارِ الْمُوَطَّأِ؛ وَلهَذَا كَانَ يَقُولُ: كِتَابٌ جَمَعْته فِي كَذَا وَكَذَا سَنَةٍ تَأْخُذُونَهُ فِي كَذَا وَكَذَا يَوْمًا كَيْفَ تَفْقَهُونَ مَا فِيهِ؟ أَو كَلَامًا يُشْبِهُ هَذَا.
1249 -
مَتَى اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعُ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ مِن هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ دُونَ الْإِمَامِ الْآخَرِ: فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ.
بَل غَايَةُ مَا يُقَالُ: إنَّهُ يَسُوغُ أَو يَنْبَغِي أَو يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ أَنْ يُقَلِّدَ وَاحِدًا لَا بِعَيْنِهِ مِن غَيْرِ تَعْيِينِ زيدٍ وَلَا عَمْرٍو.
وَأَمَّا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: إنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَامَّةِ تَقْلِيدُ فُلَانٍ أَو فُلَانٍ فَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِم. [22/ 249]
1250 -
أَصْحَاب مَالِكٍ: السُّنَّةُ عِنْدَهُم قَد تَكُونُ وَاجِبَةً إذَا تَرَكَهَا أَعَادَ، فَيَظُنُّ مَن يَظُنُّ أَنَّ السُّنَّةَ عِنْدَهُم لَا تكُونُ إلَّا لِمَا يَجُوزُ تَرْكُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. [22/ 381]
* * *
(وحي الملائكة للبشر)
1251 -
أَخْبَرَ اللهُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُوحِي إلَى الْبَشَرِ مَا تُوحِيهِ، وَإِن كَانَ الْبَشَرُ لَا يَشْعُرُ بِأَنَّهُ مِنَ الْمَلَكِ، كَمَا لَا يَشْعُرُ بِالشَّيْطَانِ الْمُوَسْوِسِ، لَكِنَّ اللهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ
يُكَلِّمُ الْبَشَرَ وَحْيًا، وَيُكَلِّمُهُ بِمَلَكٍ يُوحِي بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ، وَالثَّالِثُ: التَّكْلِيمُ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ
(1)
.
وَقَد قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ بِالْوَحْيِ هُنَا الْوَحْيُ فِي الْمَنَامِ، وَلَمْ يَذْكرْ أَبُو الْفَرَجِ غَيْرَه، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْمَنَامَ:
أ- تَارَة يَكُونُ مِنَ اللهِ.
ب- وَتَارَةً يَكُونُ مِنَ النَّفْسِ.
ج- وَتَارَة يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ.
وَهَكَذَا مَا يُلْقَى فِي الْيَقَظَةِ.
وَالْأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ فِي الْيَقَظَةِ وَالْمَنَامِ، وَلهَذَا كَانَت رُؤَيا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيًا، كَمَا قَالَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَقَرَأَ قَوْلَهُ:{إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102].
فَإِذَا جَازَ أَنْ يُوحَى إلَيْهِ فِي حَالِ النَّوْمِ، فَلِمَاذَا لَا يُوحَى إلَيْهِ فِي حَالِ الْيَقَظَةِ؟ كَمَا أَوْحَى إلَى أُمّ مُوسَى وَالْحَوَارِيّينَ وَإِلَى النَّحْلِ، لَكِنْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُطْلِقَ الْقَوْلَ عَلَى مَا يَقَعُ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ وَحْيٌ لَا فِي يَقَظَةٍ وَلَا فِي الْمَنَامِ إلَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَ الْوَسْوَاسَ غَالِبٌ عَلَى النَّاسِ. [17/ 531 - 532]
* * *
(1)
وذلك في قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)} [الشورى: 51].
الكرامات والمعجزات
1252 -
بَيْنَ كَرَامَاتِ الْأَوْليَاءِ وَمَا يُشْبِهُهَا مِن الْأحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ فُرُوقٌ مُتَعَدِّدَةٌ: مِنْهَا: أَنَّ "كَرَامَاتِ الْأَوْليَاءِ" سَبَبُهَا الْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى وَ"الْأَحْوَالُ الشَّيْطَانِيَّةُ" سَبَبُهَا مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ. [11/ 287]
1253 -
النَّاسُ فِي خَوَارِقِ الْعَادَاتِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
"قِسْمٌ " يُكَذِّبُ بِوُجُودِ ذَلِكَ لِغَيْرِ الأنْبِيَاءِ وَرُبَّمَا صَدَّقَ بِهِ مُجْمَلًا وَكَذَّبَ مَا يُذْكَرُ لَهُ عَن كَثيرٍ مِن النَاسِ لِكَوْنِهِ عِنْدَهُ لَيْسَ مِن الْأَوْليَاءِ.
وَمِنْهُم مَن يَظُنُّ أَنَّ كُلَّ مَن كَانَ لَهُ نَوْغ مِن خَرْقِ الْعَادَةِ كَانَ وَليًّا للهِ.
وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ خَطَأٌ، وَلهَذَا تَجِدُ أَنَّ هَؤُلَاءِ يَذْكرُونَ أَنَّ لِلْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ نُصَرَاءَ يُعِينُونَهُم عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَّهُم مِن أَوْليَاءِ اللهِ.
وَأُولَئِكَ يُكَذِّبُونَ أنْ يَكُونَ مَعَهُم مَن لَهُ خَرْقُ عَادَةٍ.
وَالصَّوَابُ الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ مَعَهُم مَن يَنْصُرُهُم مِن جِنْسِهِمْ لَا مِن أَوْليَاءِ اللهِ عز وجل، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]. [11/ 294 - 295]
1254 -
إِنَّمَا غَايَةُ الْكَرَامَةِ لُزُومُ الِاسْتِقَامَةِ، فَلَمْ يُكْرِمِ اللّهُ عَبْدًا بِمِثْل أَنْ يُعِينَهُ عَلَى مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَيزِيدُهُ مِمَّا يُقَرِّبُهُ إلَيْهِ ويرْفَعُ بِهِ دَرَجَتَهُ. [11/ 298]
1255 -
جُمِعَ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْمُعْجِزَاتِ وَالْخَوَارِقِ. [11/ 315]
1256 -
الْخَارِقُ -كَشْفًا كَانَ أَو تَأْثِيرًا-:
إنْ حَصَلَ بِهِ فَائِدَةٌ مَطْلُوبَة فِي الدِّينِ كَانَ مِن الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا دِينًا وَشَرْعًا إمَّا وَاجِبٌ وإِمَّا مُسْتَحَبٌّ.
وَإِن حَصَلَ بِهِ أَمْرٌ مُبَاحٌ كَانَ مِن نِعَمِ اللهِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي تَقْتَضِي شُكْرًا.
وَإِن كَانَ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَمَّنُ مَا هُوَ مَنْهِي عَنْهُ نَهْيَ تَحْرِيمٍ أَو نَهْيَ تَنْزِيهٍ كَانَ سَبَبًا لِلْعَذَابِ أَو الْبُغْضِ كَقِصَّةِ الَّذِي أُوتِيَ الْآيَاتِ فَانْسَلَخَ مِنْهَا: بلعام بْنُ باعوراء. [11/ 319]
1257 -
مَن كُوشِفَ بِصِدْقِ الْيَقِينِ أُغْنِيَ بِذَلِكَ عَن رُؤيَةِ خَرْقِ الْعَادَاتِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا كَانَ حُصُولُ الْيَقِينِ وَقَد حَصَلَ الْيَقِينُ، فَلَو كُوشِفَ هَذَا الْمَرْزُوقُ صِدْقَ الْيَقِينِ بِشَيءٍ مِن ذَلِكَ لَازْدَادَ يَقِينًا، فَلَا تَقْتَضِي الْحِكْمَةُ كَشْفَ الْقُدْرَةِ بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ لِهَذَا الْمَوْضِعِ؛ اسْتِغْنَاءً بِهِ، وَتَقْتَضِي الْحِكْمَةُ كَشْفَ ذَلِكَ الْآخَرِ لِمَوْضِعِ حَاجَتِهِ، وَكَانَ هَذَا الثَّانِي يَكُونُ أَتَمَّ اسْتِعْدَادًا وَأَهْلِيَّةً مِن الْأَوَّلِ.
فَسَبِيلُ الصَّادِقِ مُطَالَبَةُ النَّفْسِ بِالِاسْتِقَامَةِ فَهِيَ كُلُّ الْكَرَامَةِ.
ثُمَّ إذَا وَقَعَ فِي طَرِيقِهِ شَيءٌ خَارِقٌ كَانَ كَاَنْ لَمْ يَقَعْ فَمَا يُبَالِي، وَلَا يَنْقُصُ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَنْقُصُ بِالْإِخْلَالِ بِوَاجِبِ حَقِّ الِاْسْتِقَامَةِ. [11/ 321]
1258 -
اعْلَمْ أَنَّ عَدَمَ الْخَوَارِقِ عِلْمًا وَقُدْرَةً لَا تَضُرُّ الْمُسْلِمَ فِي دِينِهِ، فَمَن لَمْ يَنْكَشِفْ لَهُ شَيءٌ مِن الْمُغَيَّبَاتِ وَلَمْ يُسَخَّرْ لَهُ شَيْءٌ مِن الْكَوْنِيَّاتِ لَا يَنْقُصُهُ ذَلِكَ فِي مَرْتبَتِهِ عِنْدَ اللهِ، بَل قَد يَكُونُ عَدَمُ ذَلِكَ أَنْفَعَ لَهُ فِي دِينِهِ. [11/ 323]
1259 -
إنَّ لِلدِّينِ عِلْمًا وَعَمَلًا إذَا صَحَّ فَلَا بُدَّ أَنْ يُوجِبَ خَرْقَ الْعَادَةِ إذَا احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ صَاحِبُهُ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3].
1260 -
مَا يُلْقِيهِ اللهُ فِي قُلُوبِ الْمُؤمِنِينَ مِن الْإِلْهَامَاتِ الصَّادِقَةِ الْعَادِلَةِ هِيَ مِن وَحْيِ اللّهِ، وَكَذَلِكَ مَا يُرِيهِمْ إيَّاة فِي الْمَنَامِ، قَالَ عبادة بْنُ الصَّامِتِ: رُؤْيَا الْمُومِنِ كَلَامٌ يُكَلّمُ بِهِ الرَّبُّ عَبْدَهُ فِي مَنَامِهِ. [15/ 98]
* * *
(فضائل الشام وأهلِه)
1261 -
ثَبَتَ لِلشَّامِ وَأَهْلِهِ مَنَاقِبُ: بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ الْعُلَمَاءِ، وَهِيَ أَحَدُ مَا اعْتَمَدْته فِي تَحْضِيضِي الْمُسْلِمِينَ عَلَى غَزْوِ التَّتَارِ وَأَمْرِي لَهُم بِلُزُومِ دِمَشْقَ، وَنَهْيِي لَهُم عَن الْفِرَارِ إلَى مِصْرَ، وَاسْتِدْعَائِي الْعَسْكَرَ الْمِصْرِيَّ إلَى الشَّامِ وَتَثْبِيتِ الشَّامِيِّ فِيهِ، وَقَد جَرَتْ فِي ذَلِكَ فُصُولٌ مُتَعَدِّدَةٌ.
وَهَذِهِ الْمَنَاقِبُ أُمُورٌ:
أَحَدُهَا: الْبَرَكَةُ فِيهِ، ثَبَتَ ذَلِكَ بِخَمْسِ آياتٍ مِن كتَابِ اللهِ تَعَالَى
(1)
.
وَأَيْضًا: فَفِيهَا الطُّورُ الَّذِي كَلَّمَ اللهُ عَلَيْهِ مُوسَى، وَاَلَّذِي أَقْسَمَ اللهُ بِهِ فِي "سُورَةِ الطُّورِ" وفِي {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2)} [التين: 1 - 2].
وَفِيهَا الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى.
وَفِيهَا مَبْعَثُ أَنْبِيَاءَ بَنِي إسْرَائِيلَ، وَإِلَيْهَا هِجْرَةُ إبْرَاهِيمَ، وَإِلَيْهَا مَسْرَى نَبِيَّنَا، وَمِنْهَا مِعْرَاجُهُ، وَبِهَا مُلْكُهُ وَعَمُودُ دِينِهِ وَكِتَابِهِ وَطَائِفَة مَنْصُورَةٌ مِن أُمَّتِهِ، وَإِلَيْهَا الْمَحْشَرُ وَالْمَعَادُ، كَمَا أَنَ مِن مَكَّةَ الْمَبْدَأُ، فَمَكَّةُ أُمُّ الْقُرَى مِن تَحْتِهَا دُحِيَت الْأَرْضُ، وَالشَّامُ إلَيْهَا يُحْشَرُ النَّاسُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ:{لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر: 2] نَبَّهَ عَلَى الْحَشْرِ الثَّانِي، فَمَكَّةُ مَبْدَأٌ، وإيليا مَعَادٌ فِي الْخَلْقِ، وَكَذَلِكَ فِي الْأمْرِ فَإِنَّهُ أسْرِيَ بِالرَّسُولِ مِن مَكَّةَ إلَى إيليا، وَمَبْعَثُهُ وَمَخْرَجُ دِينِهِ مِن مَكَّةَ، وَكَمَالُ دِينِهِ وَظُهُوور وَتَمَامُهُ حَتَّى مَمْلَكَةِ الْمَهْدِيِّ بِالشَّامِ، فَمَكَّةُ هِيَ الْأَوَّلُ، وَالشَّامُ هِيَ الْآخِرُ: فِي الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، فِي الْكَلِمَاتِ الْكَوْنِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ.
وَمِن ذَلِكَ: أَنَّ بِهَا طَائِفَةً مَنْصُورَةً إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَهِيَ الَّتِي ثَبَتَ فِيهَا الْحَدِيثُ فِي الصِّحَاحِ مِن حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ وَغَيْرِهِ:"لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِن أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُم مَن خَالَفَهُم وَلَا مَن خَدَلَهُم حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ"
(2)
.
وَفِيهِمَا عَن مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: "وَهُم فِي الشَّامِ".
(1)
سيأتي بيانها.
(2)
رواه البخاري (6881)، ومسلم (1920).
وَفِي "تَارِيخِ الْبُخَارِيِّ" مَرْفُوعًا قَالَ: "وَهُم بِدِمَشْقَ".
وَفِي "صِحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَزَالُ أَهْلُ الْمَغْرِبِ ظَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُم مَن خَالَفَهُم حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ" قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ: أَهْلُ الْمَغْرِبِ هُم أَهْلُ الشَّامِ.
وَهُم كَمَا قَالَ.
وَمِن ذَلِكَ: أَنَّهَا خِيرَةُ اللهِ مِن الْأَرْضِ، وأَنَّ
(1)
أَهْلَهَا خِيرَةُ اللهِ وَخِيَارُ أَهْلِ الْأرْضِ.
وَمِن ذَلِكَ أَمْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَا فِي حَدِيثٍ التِّرْمِذِيِّ.
وَمِن ذَلِكَ أَنَّ اللهَ قَد تَكَفَّلَ بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ كمَا فِي حَدِيثِ الْخَوَالِي.
وَمِن ذَلِكَ: "أَنَّ مَلَاِئكةَ الرَّحْمَنِ بَاسِطَةٌ أَجْنِحَتَهَا عَلَى الشَّامِ"، كَمَا فِي الصَّحِيحِ مِن حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ.
وَمِن ذَلِكَ أَنَّ عَمُودَ الْكِتَابِ وَالْإِسْلَامِ بِالشَّامِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"رَأَيْت كَاَنَّ عَمُودَ الْكِتَابِ أُخِذَ مِن تَحْتِ رَأْسِي فَأَتْبَعْته بَصَرِي فَذُهِبَ بِهِ إلَى الشَّامِ"
(2)
.
وَمِن ذَلِكَ: أَنَّهَا عُقْرُ دَارِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" وَعُقْرُ دَارِ الْمُؤْمِنِينَ الشَّامُ "
(3)
.
وَمِن ذَلِكَ: أَنَّ مُنَافِقِيهَا لَا يَغْلِبُوا أَمْرَ مُؤْمِنِيهَا، كَمَا رَوَاهُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ فِي حَدِيثِ.
وَبِهَذَا اسْتَدْلَلْت لِقَوْم مِن قُضَاةِ الْقُضَاةِ وَغَيْرِهِمْ فِي فِتَنٍ قَامَ فِيهَا عَلَيْنَا قَوْمٌ مِن أَهْلِ الْفُجُورِ وَالْبِدَعِ الْمَوْصُوفِينَ بِخِصَالِ الْمُنَافِقِينَ لَمَّا خَوَّفُونَا مِنْهُمْ؛ فَأَخْبَرْتهمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَأَنَّ مُنَافِقِينَا لَا يَغْلِبُوا مُؤْمِنِينَا، وَقَد ظَهَرَ مِصْدَاقُ هَذِهِ النُّصُوصِ النَّبَوِيَّةِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ فِي جِهَادِنَا لِلتَّتَارِ، وَأَظْهَرَ اللهُ لِلْمُسْلِمِينَ صِدْقَ مَا وَعَدْنَاهُم بِهِ، وَبَرَكَةَ مَا أَمَرْنَاهُم بِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ فَتْحًا عَظِيمًا مَا رَأَى
(1)
في الأصل: (إنَّ)، وفي النسخة التي حققها: أنور الباز وعامر الجزار: (أوْ)، ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
صحَّحه الألباني في صحيح الترغيب (3092).
(3)
صحَّحه الألباني في صحيح النسائي (3563).
الْمُسْلِمُونَ مِثْلَهُ مُنْذُ خَرَجَتْ مَمْلَكَةُ التَّتَارِ الَّتِي أَذَلَّتْ أَهْلَ الْإِسْلَام؛ فَإِنَّهُم لَمْ يُهْزَمُوا وَيُغْلَبُوا كَمَا غُلِبُوا عَلَى "بَابِ دِمَشْقَ" فِي الْغَزْور الْكُبْرَى، الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْنَا فِيهَا مِن النِّعَمِ بِمَا لَا نُحْصِيهِ: خُصُوصًا وَعُمُومًا. [27/ 505 - 511]
1262 -
النُصُوصُ الَّتِي فِي كِتَابِ اللهِ وَسُنَةِ رَسُولِهِ وَأَصْحَابِهِ فِي فَضْلِ الشَّامِ وَأَهْلِ الْغَرْبِ عَلَى نَجْدٍ وَالْعِرَاقِ وَسَائِرِ أَهْلِ الْمَشْرِقِ: أَكْثَرُ مِن أَنْ تُذْكَرَ، بَل عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِن النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ فِي ذَمِّ الْمَشْرِقِ وَأَخْبَارِهِ بِأَنَّ الْفِتْنَة وَرَأسَ الْكُفْرِ مِنْهُ مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ.
وَإِنَّمَا كَانَ فَضْلُ الْمَشْرِقِ عَلَيْهِمْ: بِوُجُودِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ، وَذَاكَ كَانَ أَمْرًا عَارِضًا؛ وَلهَذَا لَمَّا ذَهَبَ عَلِيٌّ ظَهَرَ مِنْهُم مَن الْفِتَنِ وَالنفَاقِ وَالرِّدَّةِ وَالْبِدَعِ مَا يُعْلَمُ بِهِ أَنَّ أُولَئِكَ كَانُوا أَرْجَحَ.
وَالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَيَّزَ أَهْلَ الشَّامِ بِالْقِيَامِ بِأَمْرِ اللهِ دَائِمًا إلَى آخِرِ الدَّهْرِ، وَبِأَنَّ الطَّائِفَةَ الْمَنْصُورَةَ فِيهِمْ إلَى آخِرِ الدَّهْرِ، فَهُوَ إخْبَارٌ عَن أَمْرٍ دَائِمٍ مُسْتَمِرٍّ فِيهِمْ، مَعَ الْكَثْرَةِ وَالْقوَّةِ، وَهَذَا الْوَصْفُ لَيْسَ لِغَيْرِ الشَّامِ مِن أَرْضِ الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّ الْحِجَازَ الَّتِي هِيَ أَصْلُ الْإِيمَانِ نَقَصَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ مِنْهَا الْعِلْمُ، وَالْإِيمَانُ، وَالنَّصْرُ، وَالْجِهَادُ، وَكَذَلِكَ الْيَمَنُ وَالْعِرَاقُ وَالْمَشْرِقُ.
وَأَمَّا الشَّامُ: فَلَمْ يَزَلْ فِيهَا الْعِلْمُ وَالْإِيمَانُ، وَمَن يُقَاتِلُ عَلَيْهِ مَنْصُورًا مُؤَيَّدًا فِي كُلّ وَقْتٍ
(1)
. [4/ 448 - 449]
1263 -
فِي مُسْلِمٍ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَزَالُ أَهْلُ الْمَغْرِبِ ظَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُم مَن خَالَفَهُم وَلَا مَن خَذَلَهُم حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ"
(2)
قَالَ الْإِمَام أَحْمَد: أَهْلُ الْمَغْرِبِ هُم أَهْلُ الشَّامِ.
(1)
وهكذا الحال إلى يومنا هذا، فلا زال أهل الشام في فلسطين وسوريا يُقاتلون أعتى وأقسى وأكفر أهل الأرض، وهم اليهود والرافضة والروسُ والصليبيون، فقد اجتمعوا عن بكرة أبيهم على أهل الشام، فقاتلوهم قتالًا عظيمًا قل في التاريخ نظيرُه، واسْتبسلوا في الدفاع عن أعراضهم ودينهم وأرضهم، ولا زالت الحرب سجالًا، تُعقد هدنة بين الفينة والأخرى، وتستعر الحرب كثيرًا، ونسأل الله تعالى أن ينصرهم نصرًا مُؤزَّرًا.
(2)
تقدم تخريجه.
وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ فَإِنَّ هَذِهِ لُغَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ النَّبوِيَّةِ فِي ذَاكَ الزَّمَانِ، كَانُوا يُسَمُّونَ أَهْلَ نَجْدٍ وَالْعِرَاقِ أَهْلَ الْمَشْرِقِ، وُيسَمُّونَ أَهْلَ الشَام أَهْلَ الْمَغْرِبِ؛ لِأنَّ التَّغْرِيبَ وَالتَّشْرِيقَ مِن الْأمُورِ النِّسْبِيَّةِ؛ فَكُلُّ مَكَانٍ لَهُ غَرْث وَشَرقٌ، فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَكَلَّمَ بِذَلِكَ فِي الْمَدِينَةِ النَّبوَيَّةِ، فَمَا تَغَرَّبَ عَنْهَا فَهُوَ غَرْبُه، وَمَا تَشَرَّقَ عَنْهَا فَهُوَ شَرْقُة. [27/ 41 - 42]
1264 -
دَلَّ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ عَلَى بَرَكَةِ الشَّامِ فِي خَمْسِ آيَاتٍ:
أ- قَوْلُهُ: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف: 137]، وَاللهُ تَعَالَى إنَّمَا أَوْرَثَ بَنِي إسْرَائِيلَ أَرْضَ الشَّامِ.
ب- وَقَوْلُهُ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1].
ج- وَقَوْلُهُ: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا} [الأنبياء: 71].
د- وَقَوْلُهُ: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأنبياء: 81].
هـ- وقَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً} [سبأ: 18].
والْبَرَكَةُ: تَتَنَاوَلُ الْبَرَكَةَ فِي الدِّينِ وَالْبَرَكَةَ فِي الدُّنْيَا، وَكِلَاهُمَا مَعْلُومٌ لَا ريبَ فِيهِ.
فَهَذَا مِن حَيْثُ الْجُمْلَةِ وَالْغَالِبِ، وَأَمَّا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَقَد يَكُونُ مُقَامُهُ فِي غَيْرِ الشَّامِ أَفْضَلَ لَهُ، وَكَثِيرٌ مِن أَهْلِ الشَّامِ لَو خَرَجُوا عَنْهَا إلَى مَكَانٍ يَكُونُونَ فِيهِ أَطْوَعَ للهِ وَلرَسُولِهِ لَكَانَ أَفْضَلَ لَهُم، وَقَد كَتَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إلَى سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رضي الله عنهما يَقُولُ لَهُ: هَلُمَّ إلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَكَتَبَ إلَيْهِ سَلْمَانُ: إنَّ الْأَرْضَ لَا تُقَدِّسُ أَحَدًا، وَإِنَّمَا يُقَدِّسُ الرَّجُلَ عَمَلهُ.
وَهُوَ كَمَا قَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ؛ فَإِنَّ مَكَّةَ -حَرَسَهَا اللهُ تَعَالَى- أَشْرَفُ الْبِقَاعِ، وَقَد كَانَت فِي غُرْبَةِ الْإِسْلَامِ دَارَ كُفْرٍ وَحَرْبٍ يَحْرُمُ الْمُقَامُ بِهَا. [27/ 44 - 45]
فوائد لغوية ونحوية
1265 -
اعلم أنَّ اعتياد
اللغة
يؤثر في العقل والخُلق والدين تأثيرًا قويًا بيِّنًا، ويؤثر أيضًا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق.
وأيضًا: فإن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب؛ فإن فهم الكتاب والسُّنَّة فرض، ولا يُفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ثم منها ما هو واجب على الأعيان، ومنها ما هو واجب على الكفاية.
1266 -
مَن لَمْ يَعْرِفْ لُغَةَ الصَّحَابَةِ الَّتِي كَانُوا يَتَخَاطَبُونَ بِهَا وَيُخَاطِبُهُم بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَعَادَتَهُم فِي الْكَلَامِ: وإِلَّا حَرَّفَ الْكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِن النَّاسِ يَنْشَأُ عَلَى اصْطِلَاحِ قَوْمِهِ وَعَادَتِهِمْ فِي الْأَلْفَاظِ، ثمَّ يَجِدُ تِلْكَ الْأَلْفَاظَ فِي كَلَامِ اللهِ أَو رَسُولِهِ أَو الصحَابَةِ؛ فَيَظُنّ أَن مُرَادَ اللهِ أَو رَسُولِهِ أَو الصَّحَابَةِ بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ مَا يُرِيدُهُ بِذَلِكَ أَهْلُ عَادَتِهِ وَاصْطِلَاحِهِ، وَيَكُونُ مُرَادُ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالصَّحَابَةِ خِلَافَ ذَلِكَ، وَهَذَا وَاقِعٌ لِطَوَائِفَ مِن النَّاسِ مِن أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفِقْهِ وَالنَّحْوِ وَالْعَامَّةِ وَغَيْرِهِمْ. [1/ 243]
1267 -
وَالْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ مَن يَقَعُ ذَلِكَ مِنْهُ مِن غَيْرِ تَدَبُّرٍ مِنْهُ لِلُغَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم كَلَفْظِ الْقَدِيمِ؛ فَإِنَّهُ فِي لُغَةِ الرَّسُولِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ خِلَافُ الْحَدِيثِ، وإِن كَانَ مَسْبُوقًا بِغَيْرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)} [يس: 39]، وَقَالَ تَعَالَى عَن إخْوَةِ يُوسُفَ:{قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)} [يوسف: 95].
وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْكَلَامِ عِبَارَةٌ عَمَّا لَمْ يَزَلْ، أَو عَمَّا لَمْ يَسْبِقْهُ وُجُودُ غَيْرِهِ إنْ لَمْ يَكُن مَسْبُوقًا بِعَدَمِ نَفْسِهِ، وَيَجْعَلُونَهُ -إذَا أُرِيدَ بِهِ هَذَا- مِن بَابِ الْمَجَازِ.
وَلَفْظُ "الْمُحْدَثِ" فِي لُغَةِ الْقُرْآنِ يُقَابِلُ لِلَفْظِ "الْقَدِيمِ" فِي الْقُرْآنِ.
وَكَذَلِكَ لَفْظُ "الْكَلِمَةِ" فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَسَائِرِ لُغَةِ الْعَرَبِ إنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْجُمْلَةُ التَّامَّةُ.
وَكَذَلِكَ لَفْظُ "ذَوِي الْأَرْحَامِ" فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُرَادُ بِهِ الْأَقَارِبُ مِن جِهَةِ الْأَبَوَيْنِ، فَيَدْخُلُ فِيهِم الْعَصَبَةُ وَذَوُو الْفُرُوضِ، وَإِن شَمِلَ ذَلِكَ مَن لَا يَرِثُ بِفَرْضٍ وَلَا تَعْصِيبٍ، ثُمَّ صَارَ ذَلِكَ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ اسْمًا لِهَؤُلَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ؛ فَيَظنُّ مَن لَا يَعْرِفُ إلَّا ذَلِكَ أنَّ هَذَا هُوَ الْفرَادُ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي كَلَامِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَكَلَامِ الصَّحَابَةِ، وَنَظَائِرُ هَذَا كَثيرَةٌ.
وَلَفْظُ "التَّوَسُّلِ" و"الِاسْتِشْفَاعِ" ونَحْوِهِمَا دَخَلَ فِيهَا مِن تَغْيِيرِ لُغَةِ الرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ مَا أَوْجَبَ غَلَطَ مَن غَلِطَ عَلَيْهِم فِي دِينِهِمْ وَلُغَتِهِمْ.
وَالْعِلْمُ: يَحْتَاجُ إلَى نَقْلٍ مُصَدَّقٍ، وَنَظَرٍ مَحْقُوقٍ
(1)
.
وَالْمَنْقُولُ عَن السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةٍ بِثُبُوتِ لَفْظِهِ وَمَعْرِفَةِ دَلَالَتِهِ، كَمَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ الْمَنْقُولِ عَن اللهِ وَرَسُولِهِ. [1/ 245 - 246]
1268 -
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ: إنَّ الْجَسَدَ هُوَ الْبَدَنُ .. وَالْجَسَدُ أَيْضًا الزَّعْفَرَانُ وَنحْوُهُ مِن الصَّبْغِ وَهُوَ الدَّمُ أَيْضًا.
فَلَيْسَ الْمُرَاد بِالْجَسَدِ فِي الْقُرْآنِ لَا هَذَا وَلَا هَذَا، فَلَيْسَ الْمُرَاد مِن الْعِجْلِ
(2)
أَنَّ لَهُ بَدَنًا مِثْلُ بَدَنِ الْآدَمِيِّينَ، وَلَا بَدَنًا كَأَبْدَانِ الْبَقَرِ؛ فَإِنَّ الْعِجْلَ لَمْ يَكُن كَذَلِكَ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: جَسدَ بِهِ الدَّمُ، يَجْسَدُ جَسَدًا إذَا لَصِقَ بِهِ، فَهُوَ جَاسِدٌ وَجَسِدٌ.
(1)
لعل الصواب: (محقق).
(2)
في قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} [الأعراف: 148].
فَاللَّفْظُ فِيهِ مَعْنَى التَّكَاثُفِ وَالتَّلَاصُقِ؛ وَلهَذَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ: نَجَاسَةٌ مُتَجَسِّدَةٌ وَغَيْرُ مُتَجَسِّدَةٍ، وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ يُرَادُ بِهِ الْجَسَدُ الْمُصْمَتُ الْمُتَلَاصِقُ الْمُتَكَاثِفُ، أَو الَّذِي لَا حَيَاةَ فِيهِ، وَقَد ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى لَفْظَةَ الْجَسَدِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ. [5/ 218]
1269 -
مِن الْأصُولِيِّينَ مَن يَقُولُ: إنَّ "إنَّ" لِلْإِثْبَاتِ، وَ"مَا" لِلنَّفْيِ؛ فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا دَلَّتْ عَلَى النَّفْيِ وَالْإثْبَاتِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ وَمَن يَتَكَلَّمُ فِي ذَلِكَ بِعِلْمٍ؛ فَإِنَّ "مَا" هَذِهِ هِيَ الْكَافَّةُ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى إنَّ وَأَخَوَاتِهَا فَتَكُفُّهَا عَن الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَعْمَلُ إذَا اخْتَصَّتْ بِالْجُمَلِ الِاسْمِيَّةِ، فَلَمَّا كُفَّتْ بَطَلَ عَمَلُهَا وَاخْتِصَاصُهَا، فَصَارَ يَلِيهَا الْجُمَلُ الْفِعْلِيَّةُ وَالِاسْمِيَّةُ، فَتَغَيَّرَ مَعْنَاهَا وَعَمَلُهَا جَمِيعًا بِانْضِمَامِ "مَا" إلَيْهَا، وَكَذَلِكَ "كَأنَّمَا" وغَيْرُهَا. [7/ 18]
1270 -
مِن الْأصُولِ الْكُلِّيَّةِ أنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْألْفَاظَ نَوْعَانِ:
نَوْعٌ جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤمِنٍ أَنْ يُقِرَّ بِمُوجَبِ ذَلِكَ، فَيُثْبِتُ مَا أَثْبَتَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَينْفِي مَا نَفَاهُ اللهُ وَرَسُوُلهُ.
فَاللَّفْظُ الَّذِي أَثْبَتَهُ اللهُ أَو نَفَاهُ حَقٌّ؛ فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ، وَالْأَلْفَاظُ الشَّرْعِيَّةُ لَهَا حُرْمَة.
وَمِن تَمَامِ الْعِلْمِ أَنْ يَبْحَثَ عَن مُرَادِ رَسُولِهِ بِهَا لِيُثْبتَ مَا أَثْبَتَهُ وَينْفِيَ مَا نَفَاهُ مِن الْمَعَانِي، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُصَدِّقَهُ فِي كلِّ مَا أخبَرَ، وَنُطِيعَهُ فِي كُلِّ مَا أَوْجَبَ وَأَمَرَ، ثُمَّ إذَا عَرَفْنَا تَفْصِيلَ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ مِن زَيادَةِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، وَقَد قَالَ تَعَالَى:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11].
وَأَمَّا الْأَلْفَاظُ الَّتِي لَيْسَتْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى نَفْيِهَا أو إثْبَاتِهَا فَهَذِهِ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يُوَافِقَ مَن نَفَاهَا أَو أَثْبَتَهَا حَتَّى يَسْتَفْسِرَ عَن مُرَادِهِ، فَإِنْ أَرَادَ بِهَا مَعْنًى يُوَافِقُ خَبَرَ الرَّسُولِ أَقَرَّ بِهِ، وَإِن أَرَادَ بِهَا مَعْنًى يُخَالِفُ خَبَرَ الرَّسُولِ أَنْكَرَهُ.
ثُمَّ التَّعْبِيرُ عَن تِلْكَ الْمَعَانِي إنْ كَانَ فِي أَلْفَاظِهِ اشْتِبَاهٌ أَو إجْمَالٌ عَبَّرَ بِغَيْرِهَا، أَو بَيَّنَ مُرَادَهُ بِهَا، بِحَيْثُ يَحْصُلُ تَعْرِيفُ الْحَقِّ بِالْوَجْهِ الشَّرْعِي.
فَإِنَّ كَثِيرًا مِن نِزَاعِ النَّاسِ سَبَبُهُ أَلْفَاظٌ مُجْمَلَة مُبْتَدَعَةٌ وَمَعَانٍ مُشْتَبِهَةٌ، حَتَّى تَجِدَ الرَّجُلَيْنِ يَتَخَاصَمَانِ ويتَعَادَيَانِ عَلَى إطْلَاقِ أَلْفَاظٍ وَنَفْيِهَا، وَلَو سُئِلَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَن مَعْنَى مَا قَالَهُ لَمْ يَتَصَوَّرْهُ فَضْلًا عَن أَنْ يَعْرِفَ دَلِيلَهُ، وَلَو عَرَفَ دَلِيلَهُ لَمْ يَلْزَمْ أَنَّ مَن خَالَفَهُ يَكُونُ مُخْطِئًا، بَل يَكُونُ فِي قَوْلِهِ نَوْعٌ مِن الصَّوَابِ، وَقَد يَكُونُ هَذَا مُصِيبًا مَن وَجْهٍ وَهَذَا مُصِيبًا مِن وَجْهٍ، وَقَد يَكُونُ الصَّوَابُ فِي قَوْلٍ ثَالِثٍ. [12/ 113 - 114]
1271 -
مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ إذَا عُرِفَ تَفْسِيرُهُ مِن جِهَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُحْتَجْ فِي ذَلِكَ إلَى أَقْوَالِ أَهْلِ اللُّغَةِ. [13/ 27]
1272 -
الْقُرْآن نَزَلَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ الْمَوْجُودَةِ فِي الْقُرْآنِ؛ فَإِنَّهَا تُفَسَّرُ بِلُغَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ فِيهِ إذَا وُجِدَتْ، لَا يُعْدَلُ عَن لُغَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ مَعَ وُجُودِهَا، وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى غَيْرِ لُغَتِهِ فِي لَفْظٍ لَمْ يُوجَدْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْقُرْآنِ؛ كَقَوْلِهِ:{وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} [القصص: 82]، {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)} [ص: 3]، {وَكَأْسًا دِهَاقًا (34)} [النبأ: 34]، {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31)} [عبس: 31]، و {قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)} [النجم: 22]، وَنَحْو ذَلِكَ مِن الْأَلْفَاظِ الْغَرِيبَةِ فِي الْقُرْآنِ. [15/ 88]
1273 -
قَوْلُهُ تعالى: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18] هُوَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: قِيلَ: هُوَ حَالٌ مِن (شَهِدَ)؛ أَيْ: شَهِدَ قَائِمًا بِالْقِسْطِ.
وَقِيلَ: مِن (هُوَ)؛ أَيْ: لَا إلَهَ إلَّا هُوَ قَائِمًا بِالْقِسْطِ، كَمَا يُقَالُ: لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَحْدَهُ.
وَكِلَا الْمَعْنيَيْنِ صَحِيحٌ.
وَقَوْلُهُ: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ كِلَا الْعَامِلَيْنِ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ فِي أَنَّ الْمَعْمُولَ الْوَاحِدَ يَعْمَلُ فِيهِ عَامِلَانِ، كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ: {هَآؤُمُ
اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19)} [الحاقة: 19]، {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)} [الكهف: 96]، و {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17)} [ق: 17] وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَسِيبَوَيْهِ وَأَصْحَابُهِ يَجْعَلُونَ لِكلِّ عَامِلٍ مَعْمُولًا، وَيَقُولُونَ: حُذِفَ مَعْمُولُ أَحَدِهِمَا لِدَلَالَةِ الْآخَرِ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُ الْكوفِيّينَ أَرْجَحُ. [14/ 175]
1274 -
الصَّلَاة بِالْمَعْنَى الْعَامِّ تتضَمَّنُ كُلَّ مَا كَانَ ذِكْرًا للّهِ أَو دُعَاءً لَهُ، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَا دُمْت تَذْكُرُ اللّهَ فَأَنْتَ فِي صَلَاةٍ وَلَو كُنْت فِي السُّوقِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى -وَهُوَ دُعَاءُ اللهِ؛ أَيْ: قَصْدُهُ وَالتَّوَجُّهُ إلَيْهِ الْمُتَضَمِّنُ ذِكْرَهُ عَلَى وَجْهِ الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ- هُوَ حَقِيقَةُ الصَّلَاةِ الْمَوْجُودَةِ فِي جَمِيعِ مَوَارِدِ اسْمِ الصَّلَاةِ؛ كَصَلَاةِ الْقَائِمِ وَالْقَاعِدِ وَالْمُضْطَجِعِ، وَالْقَارِئِ وَالْأُمّيِّ وَالنَّاطِقِ وَالْأَخْرَسِ، وَإِن تَنَوَّعَتْ حَرَكَاتُهَا وَأَلْفَاظُهَا؛ فَإِنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الصَّلَاةِ عَلَى مَوَارِدِهَا هُوَ بِالتَّوَاطُؤِ الْمُنَافِي لِلِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ.
إذ مِن النَّاسِ مَن ادَّعَى فِيهَا الِاشْتِرَاكَ وَمِنْهُم مَن ادَّعَى الْمَجَازَ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهَا مَنْقُولَةً مِن الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، أَو مَزِيدَةً أَو عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَل اسْمُ الْجِنْسِ الْعَامِّ الْمُتَوَاطِئِ الْمُطْلَقِ إذَا دَلَّ عَلَى نَوْعٍ أَو عَيْنٍ كَقَوْلِك: هَذَا الْإِنْسَانُ وَهَذَا الْحَيَوَانُ أَو قَوْلِك: هَاتِ الْحَيَوَانَ الَّذِي عِنْدَك وَهِيَ غَنَمٌ، فَهُنَا اللَّفْظُ قَد دَلَّ عَلَى شَيْئَيْنِ:
أ- عَلَى الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ الْمَوْجُودِ فِي جَمِيعِ الْمَوَارِدِ.
ب- وَعَلَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ هَذَا النَوْعُ أَو الْعَيْنُ.
فَاللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ الْمَوْجُودُ فِي جَمِيعِ التَّصَارِيفِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَمَا قُرِنَ بِاللَّفْظِ مِن لَام التَّعْرِيفِ مَثَلًا، أَو غَيْرِهَا دَلَّ عَلَى الْخُصُوصِ وَالتَّعْيِينِ، وَكَمَا أَنَّ الْمَعْنَى الْكُلِّيَّ الْمُطْلَقَ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ، فَكَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الِاسْتِعْمَالِ لَفْظٌ مُطْلَقٌ مُجَرَّدٌ عَن جَمِيعِ الْأُمُورِ الْمُعَيَّنَةِ.
فَإِنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا يُفِيدُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَالتَّرْكِيبِ، وَذَلِكَ تَقْيِيدٌ وَتَخْصِيصٌ؛ كَقَوْلِك: أَكْرِمْ الْإِنْسَانَ، أَو الْإِنْسَانُ خَيْرٌ مِن الْفَرَسِ.
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {أَقِمِ الصَّلَاةَ} [الإسراء: 78] وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَمِن هُنَا غَلِطَ كَثِيرٌ مِن النَّاسِ فِي الْمَعَانِي الْكُلِّيَّةِ حَيْثُ ظَنُّوا وُجُودَهَا فِي الْخَارجِ مُجَرَّدَةً عَن الْقُيُودِ، وَفِي اللَّفْظِ الْمُتَوَاطِئِ حَيْثُ ظَنُّوا تَجَرُّدَهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ عَن الْقُيُودِ.
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ لَا يُوجَدُ الْمَعْنَى الْكليُّ الْمُطْلَقُ فِي الْخَارجِ إلَّا مُعَيَّنًا مُقَيَّدًا، وَلَا يُوجَدُ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَيْهِ فِي الِاسْتِعْمَالِ إلَّا مُقَيَّدًا مُخَصَّصًا، وَإِذَا قُدِّرَ الْمَعْنَى مُجَرَّدًا كَانَ مَحَلُّهُ الذِّهْنَ، وَحِينَئِذٍ يُقَدَّرُ لَهُ لَفْظٌ مُجَرَّدٌ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الِاسْتِعْمَالِ مُجَرَّدًا. [14/ 215 - 216]
1275 -
قَوْله تَعَالَى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه: 63]؛ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا أَشْكَلَ عَلَى كَثِيرٍ مِن النَّاسِ، فَإِنَّ الَّذِي فِي مَصاحِفِ الْمُسْلِمِينَ {إِنْ هَذَانِ} بِالْأَلْفِ، وَبِهَذَا قَرَأَ جَمَاهِيرُ الْقُرَّاءِ، وَأَكْثَرُهُم يَقْرَأُ (إنَّ) مُشَدَّدَة، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ عَن عَاصِمٍ (إنْ) مُخَفَّفَةً، لَكِن ابْنُ كَثيرٍ يُشَدِّدُ نُونَ (هَذَانِ) دُونَ حَفْصٍ.
وَالْإِشْكَالُ مِن جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ عَن عَاصِمٍ، وَجُمْهُورُ الْقُرَّاءِ عَلَيْهَا، وَهِيَ أَصَحُّ الْقِرَاءَاتِ لَفْظًا وَمَعْنَى.
فَإِنَّ مَنْشَأ الْإِشْكَالِ: أَنَّ الِاسْمَ الْمُثَنَّى يُعْرَبُ فِي حَالِ النَّصْبِ وَالْخَفْضِ بِالْيَاءِ، وَفِي حَالِ الرَّفْعِ بِالْأَلْفِ، وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ مِن لُغَةِ الْعَرَب لُغَةِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهَا فِي الْأَسْمَاءِ الْمَبْنِيَّةِ.
وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ الْمُوَافِقَةُ لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ فَاحْتَجَّ لَهَا كَثِيرٌ مِن النُّحَاةِ بِأَنَّ هَذِهِ لُغَةَ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، وَقَد حَكَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِن أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ .. يَجْعَلُونَ أَلِفَ الِاثْنَيْنِ فِي الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْخَفْضِ عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ.
قُلْت: بَنُو الْحَارِثِ بْنِ كَعْب هُم أَهْلُ نَجْرَانَ، وَلَا ريبَ أَنَ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ بِهَذِهِ اللُّغَةِ، بَل الْمُثَنَّى مِن الْأَسْمَاءِ الْمَبْنِيَّةِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ هُوَ بِالْيَاءِ فِي النَّصْبِ وَالْجَرِّ.
وَقَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" عَن عُثْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ، وَقَالَ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الَّذِينَ كَتَبُوا الْمُصْحَفَ هُم وَزيدٌ: إذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي شَيْءٍ فَاكْتُبُوهُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا إلَّا فِي حَرْفٍ وَهُوَ (التَّابُوتُ) فَرَفَعُوهُ إلَى عُثْمَانَ فَأَمَرَ أَنْ يُكْتَبَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ".
وهذِهِ الصَّحِيفَةُ الَّتِي أَخَذَهَا مِن عِنْدِ حَفْصَةَ هِيَ الَّتِي أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ فِيهَا لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَحَدِيثُهُ مَعْرُوفٌ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" وَغَيْرِهِمَا وَكَانَت بِخَطِّهِ؛ فَلِهَذَا أَمَرَ عُثْمَانُ أَنْ يَكُونَ هُوَ أَحَدَ مَن يَنْسَخُ الْمَصَاحِفَ مِن تِلْكَ الصُّحُفِ، وَلَكِنْ جَعَلَ مَعَهُ ثَلَاثَةً مِن قُرَيْشٍ لِيُكْتَبَ بِلِسَانِهِمْ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ لِسَانُ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ إلَّا فِي لَفْظِ (التابوه) و (التَّابُوتِ)، فَكَتَبُوهُ (التَّابُوتَ) بِلُغَةِ قُرَيْشٍ.
وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمَصَاحِفَ الَّتِي نُسِخَتْ كَانَت مَصَاحِفَ مُتَعَدِّدَةً، وَهَذَا مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ.
وَالْمُسْلِمُونَ كَانُوا يَقْرَؤونَ (سُورَةَ طَه) عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَهِيَ مِن أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِن الْقُرْآنِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: بَنُو إسْرَائِيلَ وَالْكَهْفُ وَمَرْيَمُ وَطَه وَالْأَنْبِيَاءُ مِن الْعِتَاقِ الْأُوَلِ وَهُنَّ مِن تلادى. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ.
وَهِيَ مَكِّيَّة بِاتِّفَاقِ النَّاسِ.
فَالصَّحَابَة لَا بُدَّ أَنْ قَد قَرَؤُوا هَذَا الْحَرْفَ، وَمِن الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونُوا كُلُّهُم قَرَؤُوهُ بِالْيَاءِ كَأَبِي عَمْرٍو.
وَحِينَئِذٍ فَقَد عُلِمَ أَنَّ الصَّحَابَةَ إنَّمَا قَرَؤُوا كَمَا عَلَّمَهُم الرَّسُولُ، وَكَمَا هُوَ لُغَة لِلْعَرَبِ، ثُمَّ لُغَةُ قُرَيْشٍ، فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ اللُّغَةَ الْفَصِيحَةَ الْمَعْرُوفَةَ عِنْدَهُم فِي الْأَسْمَاءِ الْمُبْهَمَةِ تَقُولُ: إنْ هَذَانِ، وَمَرَرْت بِهَذَانِ، تَقُولُهَا فِي الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْخَفْضِ بِالْأَلِفِ، وَمَن قَالَ: إنَّ لُغَتَهُم أَنَّهَا تَكُونُ فِي الرَّفْعِ بِالْأَلِفِ طُولِبَ بِالشَاهِدِ عَلَى ذَلِكَ، وَالنَّقْلِ عَن لُغَتِهِم الْمَسْمُوعَةِ مِنْهُم نَثْرًا وَنَظْمًا، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَشْهَدُ لَهُ، وَلَكِنْ عُمْدَتُهُ الْقِيَاسُ.
وَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ: قِيَاسُ هَذَا بِغَيْرِهَا مِن الْأَسْمَاءِ غَلَطٌ، فَإنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا ثَابِتٌ عَقْلًا وَسَمَاعًا، أَمَّا النَّقْلُ وَالسَّمَاعُ فَكَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَمَّا الْعَقْلُ وَالْقِيَاسُ فَقَد تَفَطَّنَ لِلْفَرْقِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِن حُذَّاقِ النُّحَاةِ، فَحَكَى ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَغَيْرُهُ عَن الْفَرَّاءِ قَالَ: أَلِفُ التَّثْنِيَةِ فِي "هَذَانِ" هِيَ أَلِفُ هَذَا وَالنُّونُ فَرَّقَتْ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ كَمَا فَرَّقَتْ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ نُونُ الَّذِينَ.
لَكِنَّ أَسْمَاءَ الْإِشَارَةِ لَمْ تُفَرِّقْ لَا فِي وَاحِدِهِ وَلَا فِي جَمْعِهِ بَيْنَ حَالِ الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْخَفْضِ فَكَذَلِكَ فِي تَثْنِيَتِهِ؛ بَل قَالُوا: قَامَ هَذَا وَأَكْرَمْت هَذَا وَمَرَرْت بِهَذَا وَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ فِي الْجَمْعِ فَكَذَلِكَ الْمُثَنَّى قَالَ: هَذَانِ وَأَكْرَمْت هَذَانِ وَمَرَرْت بِهَذَانِ فَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِيهِ أَنْ يُلْحَقَ مُثَنَّاهُ بِمُفْرَدِهِ وَبِمَجْمُوعِهِ، لَا يُلْحَقَ بِمُثَنَّى غَيْرِهِ الَّذِي هُوَ أَيْضًا مُعْتَبَرٌ بِمُفْرَدِهِ وَمَجْمُوعِهِ.
فَتَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا: إنَّ مُقْتَضَى الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يُقَالَ: إنَ هَذَيْنِ لَيْسَ مَعَهُم بِذَلِكَ نَقْل عَن اللُّغَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْقُرْآنِ الَّتي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ.
ثُمَّ يُقَالُ: قَد يَكُونُ الْمَوْصُولُ كَذَلِكَ؛ كَقَوْلِهِ: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} [النساء: 16]؛ فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ لُغَةَ قُرَيْشٍ أَنَّهُم يَقُولُونَ: رَأَيْت الْذَيْنِ فَعَلَا، وَمَرَرْت بِاَللَّذَيْنِ فَعَلَا، وَإِلَّا فَقَد يُقَالُ: هُوَ بِالْأَلِفِ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ مَبْنِيٌّ، وَالْأَلِفُ فِيهِ بَدَلُ الْيَاءِ فِي الَّذِينَ، وَمَا ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ وَابْنُ كيسان وَغَيْرُهُمَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا؛ فَإِنَّ الْفَرَّاءَ شَبَّهَ هَذَا بالذين، وَتَشْبِيهُ اللَّذَانِ بِهِ أَوْلَى، وَابْنُ كيسان
عَلَّلَ بِأَنَّ الْمُبْهَمَ مَبْنِي لَا يَظْهَرُ فِيهِ الْإِعْرَابُ، فَجَعَلَ مُثَنَّاهُ كَمُفْرَدِهِ وَمَجْمُوعِهِ، وَهَذَا الْعِلْمُ يَأَتِي فِي الْمَوْصُولِ.
وَقَد يُعْتَرَضُ عَلَى مَا كَتَبْنَاهُ أَوَّلًا بِأَنَّهُ جَاءَ أَيْضًا فِي غَيْرِ الرَّفْعِ بِالْيَاءِ كَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ، قَالَ تَعَالَى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [فصلت: 29]، وَلَمْ يَقُل:"اللَّذَانِ أَضَلَّانَا"، كَمَا قِيلَ فِي الَّذِينَ إنَّهُ بِالْيَاءِ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ مُوسَى:{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص: 27] وَلَمْ يَقُلْ "هَاتَانِ".
أَمَّا قَوْلُهُ: {أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا} [فصلت: 29] .. فهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي التَّثْنِيَةِ هِيَ الْأَلِفُ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ فِي إعْرَابِهِ لُغَتَانِ جَاءَ بِهِمَا الْقُرْآنُ: تَارَةً يُجْعَلُ كَاَللَّذَانِ، وَتَارَةً يُجْعَلُ كَاَللَّذَيْنِ.
وَلَكِنْ فِي قَوْلِهِ: {إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} كَانَ هَذَا أَحْسَنَ مِن قَوْلِهِ "هَاتَانِ" لِمَا فِيهِ مِن اتِّباعِ لَفْظِ الْمُثَنَّى بِالْيَاءِ فِيهِمَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه: 63] فَجَاءَ اسْمًا مُبْتَدَأ: اسْمُ (إنَّ) وَكَانَ مَجِيئُهُ بِالْأَلِفِ أَحْسَنَ فِي اللَّفْظِ مِن قَوْلِنَا: "إنَّ هَذَيْنِ لَسَاحِرَانِ"؛ لِأَنَّ الْأَلِفَ أَخَفُّ مِن الْيَاءِ؛ وَلِأنَّ الْخَبَرَ بِالْأَلِفِ، فَإِذَا كَانَ كُل مِن الِاسْمِ وَالْخَبَرِ بِالْأَلْفِ كَانَ أَتَمَّ مُنَاسِبَةً، وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُشْبِهُ هَذَا مِن كُلِّ وَجْهٍ وَهُوَ بِالْيَاءِ.
فَتَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْمَسْمُوعَ وَالْمُتَوَاتِرَ لَيْسَ فِي الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ مَا يُنَاقِضُهُ، لَكِنْ بَيْنَهُمَا فُرُوق دَقِيقَةٌ، وَاَلَّذِينَ استشكلوا هَذَا إنَّمَا استشكلوه مِن جِهَةِ الْقِيَاسِ لَا مِن جِهَةِ السَّمَاعِ
(1)
، وَمَعَ ظُهُورِ الْفَرْقِ يُعْرَفُ ضَعْفُ الْقِيَاسِ. [15/ 248 - 264]
(1)
يعني: أنهم لم يشُكُّوا في ثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن اسْتشكلوا تخريجها على قواعد النحو.
1276 -
أَخْبَارُ الْمُبْتَدَأِ قَد تَجِيءُ بِعَطْف وَبِغَيْرِ عَطْفٍ، وَإِذَا ذُكِرَ بِالْعَطْفِ كَانَ كُلُّ اسْمٍ مُسْتَقِلًّا بِالذِّكْرِ، وَبِلَا عَطْفٍ يَكُونُ الثَّانِي مِن تَمَامِ الْأوَّلِ بِمَعْنَى، وَمَعَ الْعَطْفِ لَا تَكُونُ الصِّفَاتُ إلَّا لِلْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ أَو لِلْمَدْحِ، وَأَمَّا بِلَا عَطْفٍ فَهُوَ فِي النَّكِرَاتِ لِلتَّمْيِيزِ، وَفِي الْمَعَارِفِ قَد يَكُونُ لِلتَّوْضِيحِ. [16/ 128]
1277 -
قَوْلُهُ: {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)} [القلم: 6] حَارَ فِيهَا كَثِيرٌ، وَالصَّوَابُ الْمَأْثُورُ عَن السَّلَفِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: الشَّيْطَانُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: هُم أَوْلَى بِالشَّيْطَانِ مِن نَبِيِّ اللهِ.
فَبَيَّنَ الْمُرَادَ، فَإِنَّهُ يَتَكَلَّمُ عَلَى اللَّفْظِ كَعَادَةِ السَّلَفِ فِي الِاخْتِصَارِ مَعَ الْبَلَاغَةِ وَفَهْمِ الْمَعْنَى.
وَاَلَّذِينَ لَمْ يَفْهَمُوا هَذَا قَالُوا الْبَاءُ زَائِدَةٌ قَالَهُ ابْنُ قتَيْبَةَ وَغَيْرُه. [16/ 72 - 73]
1278 -
قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)} [الأعلى: 9]، قيل: إنْ قَبِلْت الذِّكْرَى.
وَقِيلَ: ذَكِّرْ إنْ نَفَعَت الذِّكْرَى وإِن لَمْ تَنْفَعْ. قَالَهُ طَائِفَةٌ، أَوَّلُهُم الْفَرَّاءُ، وَاتَّبعَهُ جَمَاعَةٌ.
قَالُوا: وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ الْحَالَ الثَّانِيَةَ كَقَوْلِهِ: سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ، وَأَرَادَ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ.
وَإِنَّمَا قَالُوا هَذَا لِأَنَّهُم قَد عَلِمُوا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَبْلِيغُ جَمِيعِ الْخَلْقِ وَتَذْكِيرُهُم سَوَاءٌ آمَنُوا أَو كَفَرُوا.
وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ لَهُ مَعْنى صَحِيحٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَأَمْثَالِهِ، لَكِنْ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِن مُفَسِّرِي السَّلَفِ، وَلهَذَا كَانَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ يُنْكِرُ عَلَى الْفَرَّاءِ وَأَمْثَالِهِ مَا يُنْكِرُهُ وَيقُولُ: كُنْت أَحْسَبُ الْفَرَّاءَ رَجُلًا صَالِحًا حَتَّى رَأَيْت كِتَابَهُ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي قَالُوهُ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ بِآيَاتِ أُخَرٍ
(1)
، وَهُوَ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِن أمْرِ الرَّسُولِ، فَإِنَّ اللّهَ بَعَثَهُ مُبَلِّغَا وَمُذَكِّرًا لِجَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، لَكِنْ لَيْسَ هُوَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ، بَل مَعْنَى هَذ يُشْبِهُ قَوْلَهُ:{فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)} [ق: 45]، وَقَوْلَهُ:{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45)} [النازعات: 45].
وقَوْله: {تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]، عَلَى بَابِهِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ الْبَرْدِ، وإِنَّمَا يَقُولُ:"إنَّ الْمَعْطُوفَ مَحْذُوفٌ" هُوَ الْفَرَّاءُ وَأَمْثَالُهُ، مِمَن أَنْكَرَ عَلَيْهِم الْأَئِمَّةُ، حَيْثُ يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِمُجَرَّدِ ظَنِّهِمْ وَفَهْمِهِمْ لِنَوْعٍ مِن عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ عِنْدَهُمْ. وَكَثِيرًا لَا يَكُونُ مَا فَسَّرُوا بِهِ مُطَابِقًا، وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذِكْرِ الْبَرْدِ. [16/ 154 - 164]
1279 -
التَّقْدِيمُ وَالتَّأخِيرُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ؛ فَالْأَصْلُ إقْرَارُ الْكَلَامِ عَلَى نَظْمِهِ وَتَرْتيبِهِ، لا تَغْيِيرُ تَرْتِيبِهِ.
ثُمَّ إنَّمَا يَجُوزُ فِيهِ التَّقْدِيمُ وَالتَّأخِيرُ مَعَ الْقَرِينَةِ أَمَّا مَعَ اللَّبْسِ فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَلْتَبِسُ عَلَى الْمُخَاطَبِ. [16/ 218]
1280 -
إِنَّ حَرْفَ الِاسْتِفْهَامِ إذَا دَخَلَ عَلَى حَرْفِ النَّفْيِ كَانَ تَقْرِيرًا؛ كَقَوْلِهِ: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)} [الشرح: 1]. [16/ 340]
1281 -
الِاسْمُ "الصَّمَدُ" فِيهِ لِلسَّلَفِ أَقْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ قَد يُظَنُّ أَنَّهَا مُخْتَلِفَة؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَل كُلُّهَا صَوَابٌ، وَالْمَشْهُورُ مِنْهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّمَدَ هُوَ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ السَّيّدُ الَّذِي يُصْمَدُ إلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ.
قَالَ الشَّعْبِيُّ: هُوَ الَّذِي لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ، وَعَن مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القرظي وَعِكْرِمَةَ: هُوَ الَّذِي لَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيءٌ، وَعَن مَيْسَرَةَ قَالَ: هُوَ الْمُصْمَتُ.
(1)
فالآيات الأخرى صريحة بوجوب التبليغ، ودعوة جميع الناس، من ينتفع بالذكرى ومن لا ينتفع.
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: كَأَنَّ الدَّالَ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ مُبْدَلَةٌ مِن تَاءٍ، والصمت مِن هَذَا.
قُلْت: لَا إبْدَالَ فِي هَذَا وَلَكِنَّ هَذَا مِن جِهَةِ الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ. اهـ.
وقال: وَلَيْسَت الدَّالُ مُنْقَلِبَة عَن التَّاءِ، بَل الدَّالُ أَقْوَى، وَالْمُصْمَدُ أَكْمَلُ فِي مَعْنَاهُ مِن الْمُصْمَتِ، وَكُلَّمَا قَوِيَ الْحِرَفُ كَانَ مَعْنَاهُ أَقْوَى؛ فَإِنَّ لُغَةَ الرَّبِّ فِي غَايَةِ الْإِحْكَامِ وَالتَّنَاسُبِ، وَلهَذَا كَانَ الصَّمْتُ إمْسَاكٌ عَن الْكَلَامِ مَعَ إمْكَانِهِ وَالْإِنْسَانُ أَجْوَفُ يُخْرِجُ الْكَلَامَ مِن فِيهِ لَكِنَّهُ قَد يَصْمُتُ بِخِلَافِ الصَّمَدِ فَإِنَّهُ إنَّمَا اُسْتُعْمِلَ فِيمَا لَا تَفَرُّقَ فِيهِ كَالصَّمَدِ وَالسَّيِّدِ وَالصَّمَدُ مِن الْأَرْضِ وَصِمَادُ الْقَارُورَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْمُتَنَاسِبَةِ أَكْمَلُ مِن أَلْفَاظِ الصَّمَدِ. [17/ 215 - 233]
1282 -
قال رحمه الله في تفسير الآيات المتشابهات في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)} [آل عمران: 7]: وَأَمَّا اللُّغَوِيُّونَ الَّذِينَ يَقُولُونَ إن الرَّاسِخِينَ لَا يَعْلَمُونَ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ فَهم مُتَنَاقِضُونَ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهمْ يَتَكلَّمونَ فِي تَفْسِيرِ كُلِّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ، وَيتَوَسَّعُونَ فِي الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ، حَتَّى مَا مِنْهُم أَحَدٌ إلَّا وَقَد قَالَ فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا لَمْ يُسْبَقْ إلَيْهَا وَهِيَ خَطَأٌ.
وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ الَّذِي بَالَغَ فِي نَصْرِ ذَلِكَ الْقَوْلِ هُوَ مِن أَكْثَرِ النَّاسِ كَلَامًا فِي مَعَانِي الْاَيِ الْمُتَشَابِهَاتِ، يَذْكُرُ فِيهَا مِن الْأَقْوَالِ مَا لَمْ يُنْقَلْ عَن أَحَدٍ مِن السَّلَفِ، ويحْتَجُّ لِمَا يَقُولُهُ فِي الْقُرْآنِ بِالشَّاذِّ مِن اللُّغَةِ، وَقَصْدُهُ بِذَلِكَ الْإِنْكَارُ عَلَى ابْنِ قُتَيْبَةَ، وَلَيْسَ هُوَ أَعْلَمَ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَأَتْبَعَ لِلسُّنَّةِ مِن ابْنِ قتَيْبَةَ وَلَا أَفْقَهَ فِي ذَلِكَ، وَإِن كَانَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ مِن أَحْفَظِ النَّاسِ لِلُّغَةِ؛ لَكِنَّ بَابَ فِقْهِ النُّصُوصِ غَيْرُ بَابِ حِفْظِ أَلْفَاظِ اللُّغَةِ. [17/ 410 - 411]
1283 -
قَوْلُهُ تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)} [الأعلى: 2، 3] الْعَطْفُ يَقْتَضِي اشْتِرَاكَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِيمَا ذُكرَ، وَأَنَّ بَيْنَهُمَا
مُغَايِرَةٌ إمَّا فِي الذَّاتِ وَإِمَّا فِي الصِّفَاتِ، وَهُوَ فِي الذَّاتِ كَثِيرٌ كَقَوْلِهِ:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [الحج: 17]، وَأَمَّا فِي الصّفَاتِ فَمِثْل هَذِهِ الْآيَةِ؛ فَإِنَّ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى هُوَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى، لَكِنَّ هَذَا الِاسْمَ وَالصِّفَةَ لَيْسَ هُوَ ذَاكَ الِاسْمُ وَالصِّفَةُ.
وَكَثِيرًا مَا تَأْتِي الصِّفَاتُ بِلَا عَطْفٍ؛ كَقَوْلِهِ: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} [الحشر: 23]، وَقَوْلُهُ:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3)} [الناس: 1 - 3]، وَقَد تَجِيءُ خَبَرًا بَعْدَ خَبرٍ؛ كَقَوْلِهِ:{وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)} [البروج: 14 - 16]، وَلَوْ كَانَ "فَعَّالٌ" صِفَة لَكَانَ مُعَرَّفًا، بَلْ هُوَ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، وَقَوْلُهُ:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [الحديد: 3] خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، لَكِنْ بِالْعَطْفِ بِكُلِّ مِنْ الصِّفَاتِ.
وأَخْبَارُ الْمُبْتَدَأِ قَد تَجِيءُ بِعَطْفٍ وَبِغَيْرِ عَطْفٍ، وَإذَا ذُكِرَ بِالْعَطْفِ كَانَ كُلُّ اسْمٍ مُسْتَقِلًّا بِالذِّكْرِ، وَبِلَا عِطْفٍ يَكُونُ الثَّانِي مِن تَمَامِ الْأَوَّلِ بِمَعْنَى، وَمَعَ الْعَطْفِ لَا تَكُونُ الصِّفَاتُ إلَّا لِلْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ أَو لِلْمَدْحِ، وَأَمَّا بِلَا عَطْفٍ فَهُوَ فِي النَكِرَاتِ لِلتَّمْيِيزِ، وَفِي الْمَعَارِفِ قَد يَكُونُ لِلتَّوْضِيحِ. [16/ 127 - 128]
1284 -
قَوْلُه تعالى: {إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78]؛ أَيْ: تِلَاوَةً، فَهُم لَا يَعْلَمونَ فِقْهَ الْكِتَابِ، إنَّمَا يَقْتَصِرُونَ عَلَى مَا يَسْمَعُونَهُ يُتْلَى عَلَيْهِمْ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ وَالزَّجَّاجُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَد قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: {إِلَّا أَمَانِيَّ} إلَّا مَا يَقولُونَهُ بِأَفْوَاهِهِمْ كَذِبًا وَبَاطِلًا، وَرُوِيَ هَذَا عَن بَعْضِ السَّلَفِ وَاخْتَارَهُ الْفَرَّاءُ.
وَقَالَ بَعْضُهُم: الْأمَانِيُّ يَتَمَنَّوْنَ عَلَى اللّهِ الْبَاطِلَ وَالْكَذِبَ كَقَوْلِهِمْ: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: 80]، وَقَوْلِهِمْ:{لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111].
قِيلَ: كِلَا الْقَوْلَيْنِ ضَعِيفٌ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78] وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا أَو مُنْقَطِعًا
(1)
.
فَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا: لَمْ يَجُزْ اسْتِثْنَاءُ الْكَذِبِ وَلَا أَمَانِيِّ الْقَلْبِ مِن الْكِتَابِ.
وَإِن كَانَ مُنْقَطِعًا: فَالِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ
(2)
: إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا كَانَ نَظِيرَ الْمَذْكُورِ وَشَبِيهًا لَهُ مِن بَعْضِ الْوُجُوهِ، فَهُوَ مِن جِنْسِهِ الَّذِي لَمْ يُذْكَرْ فِي اللَّفْظِ، لَيْسَ مِن جِنْسِ الْمَذْكُورِ، وَلهَذَا [لَا]
(3)
يَصْلُحُ الْمُنْقَطِعُ حَيْثُ يَصْلُحُ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُفَرَّغُ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ:{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ} [الدخان: 56] ثُمَّ قَالَ: {إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56] فَهَذَا مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّهُ يَحْسُنُ أنْ يُقَالَ: (لَا يَذُوفونَ إلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى)، وَكَذَلِكَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29]؛ لأنَّهُ يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: لَا
(1)
الاستثناء: هو إخراج اسم ما بعد أداة الاستثناء من حكم ما قبلها؛ أي: إخراج المستثنى من حكم المستثنى منه.
وينقسم إلى قسمين: استثناء التام، واستثناء المفرغ.
1 -
الاستثناء التام: هو الاستثناء الذي يكون فيه المستثنى منه مذكورًا في الجملة، ويقسم إلى:
أ- التام المتصل: وهو الذي يكون فيه المستثنى من جنس المستثنى منه.
مثال: قام التلاميذ إلا زيدًا.
ب- التام المنقطع: هو الذي يكون فيه المستثنى غير المستثنى منه؛ أي: ليس من جنسه، مثاله: قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ} [الحجر: 30، 31]، وإبليس: ليس من جنس الملائكة.
2 -
الاستثناء المفرغ: ويكون فيه الاستثناء ناقصًا منفيًا أو شبه منفي (نهي، استفهام)، وذلك أن المستثنى منه يكون محذوفًا، وفي هذه الحالة تعرب (إلّا) أداة حصر، ويعرب الاسم الواقع بعدها حسب موقعه من الجملة وكأن (إلّا) غير موجودة. وسمي مفرغًا لأنه مفرغ من المستثنى منه وما قبل الأداة متفرعٌ ليعمل في ما بعدها. مثاله: ما جاء إلا أحمدُ.
(2)
هو الجملة الاستثنائية المنفية والتي لم يذكر فيها المستثنى منه.
(3)
هكذا في الأصل، ولعل الصواب حذفها؛ والمعنى والأمثلة القادمة تدل على أن الصواب حذفها.
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً، وَقَوْلُهُ:{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)} [النساء: 157]، يَصْلُحُ أَنْ يُقَالَ: وَمَا لَهُم إلَّا اتبُاعَ الظَنِّ.
فَهُنَا لَمَّا قَالَ: {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ (78)} يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَعْلَمُونَهُ إلَّا أَمَانِيَّ، فَإِنَّهُم يَعْلَمُونَهُ تِلَاوَةً يَقْرَءُونَهَا وَيَسْمَعُونَهَا، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَعْلَمُونَ إلَّا مَا تَتَمَنَّاهُ قُلُوبُهُمْ، أَو لَا يَعْلَمُونَ إلَّا الْكَذِبَ، فَإِنَّهُم قَد كَانُوا يَعْلَمُونَ مَا هُوَ صِدْقٌ أَيْضًا، فَلَيْسَ كُلُّ مَا عَلِمُوهُ مِن عُلَمَائِهِمْ كَانَ كَذِبًا بِخِلَافِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ مَعْنَى الْكتَابِ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ إلَّا تِلَاوَةً. [17/ 440 - 441]
1285 -
رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِي عَن عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَظَرَ إلَى الْقَمَرِ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ تَعَوَّذِي بِاللهِ مِن شَرِّهِ فَإِنَّهُ الْغَاسِقُ إذَا وَقَبَ
(1)
.
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَيُقَالُ الْغَاسِق الْقَمَرُ إذَا كَسَفَ وَاسْوَدَّ، وَمَعْنَى وَقَبَ دَخَلَ فِي الْكُسُوفِ.
وَهَذَا ضَعِيفٌ، فَإِنَّ مَا قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُعَارَضُ بِقَوْلِ غَيْرِهِ، وَهُوَ لَا يَقُولُ إلَّا الْحَقَّ، وَهُوَ لَمْ يَأْمُرْ عَائِشَةَ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ عِنْدَ كُسُوفِهِ بَل مَعَ ظُهُورِهِ. [17/ 505 - 506]
1286 -
وَأَمَّا قَوْلُ الْفَرَّاءِ: إنَّ الْمُرَادَ مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ: الطَّائِفَتَيْنِ مِن الْجِنّ وَالْإِنْسِ، وَأَنَّهُ سَمَّى الْجِنَّ نَاسًا كَمَا سَمَّاهُم رِجَالًا وَسَمَّاهُم نَفَرًا فَهَذَا ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ لَفْظَ النَّاسِ أَشْهَرُ وَأَظْهَرُ وَأَعْرَفُ مِن أَنْ يُحْتَاجَ إلَى تَنْوِيعِهِ إلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ: أَنَّ الْمَعْنَى {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ} الَّذِي هُوَ الْجِنَّةُ وَمِن شَرِّ النَّاسِ فِيهِ ضَعْفٌ وَإِن كَانَ أَرْجَحَ مِن الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ شَرَّ الْجِن أَعْظَمُ مِن شرِّ الْإِنْسِ فَكَيْفَ يُطْلِقُ الِاسْتِعَاذَةَ مِن جَمِيعِ النَّاسِ وَلَا يَسْتَعِيذُ إلَّا مِن بَعْضِ
(1)
صحَّحه الترمذي (3366)، والألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (372).
الْجِنِّ. وَأَيْضًا فَالْوَسْوَاسُ الْخَنَّاسُ إنْ لَمْ يَكُن إلَّا مِن الْجِنَّةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى قَوْلِهِ {مِنَ الْجَنَّةِ} وَمِن {النَّاسِ (8)} فَلِمَاذَا يَخُصُّ الِاسْتِعَاذَةَ مِن وَسْوَاسِ الْجِنَّةِ دُونَ وَسْوَاسِ الناسِ.
ويكْفِي أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهم يَقْرَءُونَ هَذِهِ السُّورَةَ مِن زَمَنِ نَبِيِّهِمْ وَلَمْ يُنْقَلْ هَذَانِ الْقَوْلَانِ إلَّا عَن بَعْضِ النُّحَاةِ، وَالْأقْوَالُ الْمَأثورَةُ عَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَانٍ لَيْسَ فِيهَا شَيءٌ مِن هَذَا. [17/ 511 - 513]
1287 -
اتَّفَقَ النُّحَاةُ عَلَى أَنَّ "إنَّ" الْمَكْسُورَة تَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْجُمَلِ، وَالْمَفْتُوحَة فِي مَوْضِعِ الْمُفْرَدَاتِ، فَقَوْلُهُ:{فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ} [آل عمران: 39]-عَلَى قِرَاءَةِ الْفَتْحِ- فِي تَقْدِيرِ قَوْلِهِ: "فَنَادَتْهُ بِبِشَارَتِهِ" وهُوَ ذِكْرٌ لِمَعْنَى مَا نَادَتْهُ بِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ اللَّفْظِ.
وَمَن قَرَأَ (إنَّ اللهَ) فَقَد حَكَى لَفْظَهُ. [18/ 32]
1288 -
لَفْظَةُ "إنَّمَا" لِلْحَصْرِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ .. وقد احْتَجَّ طَائِفَةٌ مِن الْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّهَا لِلْحَصْرِ بِأَنَّ حَرْفَ "إنْ" لِلْإِثْبَاتِ، وَحَرْفَ "مَا" لِلنَّفْيِ، فَإِذَا اجْتَمَعَا حَصَلَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَات جَمِيعًا.
وَهَذَا خَطَأٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِالْعَرَبِيَّةِ؛ فَإِنَّ "مَا" هُنَا هِيَ "مَا" الْكَافَّةُ، لَيْسَتْ مَا النَّافِيَةُ، وَهَذِهِ الْكَافَّةُ تَدْخُلُ عَلَى إنَّ وَأَخَوَاتِهَا فَتَكُفُّهَا عَن الْعَمَلِ، وَذَلِكَ لأنَّ الْحُرُوفَ الْعَامِلَةَ أَصْلُهَا أَنْ تَكُونَ لِلِاخْتِصَاصِ، فَإِذَا اخْتَصَّتْ بِالِاسْمِ أَو بِالْفِعْلِ وَلَمْ تَكُنْ كَالْجُزْءِ مِنْهُ عَمِلَتْ فِيهِ، فَـ "إنَّ" وأَخَوَاتُهَا اخْتَصَّتْ بِالِاسْمِ فَعَمِلَتْ فِيهِ، وَتُسَمَى الْحُرُوفُ الْمُشْبِهَةُ لِلْأَفْعَالِ؛ لِأَنَّهَا عَمِلَتْ نَصْبًا وَرَفْعًا، وَكَثُرَتْ حُرُوفُهَا.
وَحُرُوفُ الْجَرِّ اخْتَصَّتْ بِالِاسْمِ فَعَمِلَتْ فِيهِ.
وَحُرُوفُ الشَّرْطِ اخْتَصَّتْ بِالْفِعْلِ فَعَمِلَتْ فِيهِ.
بِخِلَافِ أَدَوَاتِ الِاسْتِفْهَامِ؛ فَإِنَّهَا تَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَتَيْنِ وَلَمْ تَعْمَلْ، وَكَذَلِكَ مَا الْمَصْدَرِيَّةُ.
وَلهَذَا: الْقِيَاسُ فِي "مَا" النَّافِيَةُ أَنْ لَا تَعْمَلَ أَيْضًا عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ، وَلَكِنْ تَعْمَلُ عَلَى اللُّغَةِ الْحِجَازَّيةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ فِي مِثْل قَوْله تَعَالَى:{مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2]، {مَا هَذَا بَشَرًا} [يوسف: 31]، اسْتِحْسَانًا لِمُشَابَهَتِهَا "لَيْسَ" هُنَا، لَمَّا دَخَلَتْ "مَا" الْكَافَّةُ عَلَى "إنَّ" أَزَالَتْ اخْتِصَاصَهَا، فَصَارَتْ تَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وَالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ فَبَطَلَ عَمَلُهَا؛ كَقَوْلِهِ:{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 7]، وَقَوْلِهِ:{إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 16].
وَقَد تَكُون "مَا" الَّتِي بَعْدَ "إنَّ" اسْمًا لَا حَرْفًا، كَقَوْلِهِ:{إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} [طه: 69] بِالرَّفْع؛ أَيْ: إنَّ الَّذِي صَنَعُوهُ كَيْدُ سَاحِرٍ، خِلَاف قَوْلِهِ:{إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)} [طه: 72]؛ فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ بِالنَّصْبِ لَا تَسْتَقِيمُ إذَا كَانَت "مَا" بِمَعْنَى الَّذِي، وَفِي كُل الْمَعْنيَيْنِ الْحَصْرُ مَوْجُود، لَكِنْ إذَا كَانَت "مَا" بِمَعْنَى الَّذِي: فَالْحَصْرُ جَاءَ مِن جِهَةِ أَنَ الْمَعَارِفَ هِيَ مِن صِيَغِ الْعُمُومِ، فَإِنَّ الْأَسْمَاءَ:
أ- إمَّا مَعَارِفُ.
ب- وَإِمَّا نَكِرَاتٌ.
وَالْمَعَارِفُ مِن صِيَغِ الْعُمُومِ، وَالنَّكِرَةُ فِي غَيْرِ الْمُوجِبِ كَالنَّفْيِ وَغَيْرِهِ مِن صِيَغِ الْعُمُومِ، فَقَوْلُهُ:{إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} تَقْدِيرُهُ: إنَّ الَّذِي صَنَعُوهُ كَيْدُ سَاحِرٍ.
وَأَمَّا الْحَصْرُ فِي "إنَّمَا" فَهُوَ مِن جِنْسِ الْحَصْرِ بِالنَّفْي وَالِاسْتِثْنَاءِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [الشعراء: 154]، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} [آل عمران: 144].
وَالْحَصْرُ قَد يعَبَّرُ عَنْهُ بِأنَّ الْأَوَّلَ مَحْصُور فِي الثَّانِي، وَقَد يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْعَكْسِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ الثَّانِيَ أَثْبَتَهُ الْأَوَّلُ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ غَيْرُهُ مِمَّا يُتَوَهَّمُ أَنَّه ثَابِتٌ لَهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أنَّك تَنْفِي عَن الْأَوَّلِ كُلَّ مَا سِوَى الثَّانِي، فَقَوْلُهُ:{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ} [النازعات: 45]؛ أَيْ: إنَّك لَسْت رَبًّا لَهُم وَلَا مُحَاسِبًا وَلَا مُجَازِيًا وَلَا
وَكِيلًا عَلَيْهِم؛ كَمَا قَالَ: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 22]، وَكَمَا قَالَ:{فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} [آل عمران: 20]، {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة: 75]، لَيْسَ هُوَ إلَهًا وَلَا أُمُّهُ إلَهَة، بَل غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا، كَمَا غَايَةُ مُحَمَّدٍ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا، وَغَايَةُ مَرْيَمَ أَنْ تكونَ صِديقَةً.
وَهَذَا مِمَّا اسْتُدِلَّ بهِ عَلَى بطْلَانِ قَوْلِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ: أَنَّهَا نَبِيَّة، وَقَد حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ نبوَّةِ أَحَدٍ مِن النِّسَاءِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ.
1289 -
لَفْظُ "الْجِزْيَةِ" و"الدِّيَةِ": فِعْلَة مِن جَزَى يَجْزِي إذَا قَضَى وَأَدَّى .. فِي الْأَصْلِ جَزَى جِزْيَة، كَمَا يُقَالُ: وَعَدَ عِدَةً، وَوَزَنَ زِنَة، وَكَذَلِكَ لَفْظُ "الدِّيَةِ" هُوَ مِن وَدَى يَدِي دِيَة، كَمَا يُقَالُ: وَعَدَ يَعِدُ عِدَةً، وَالْمَفْعولُ يُسَمَّى بِاسْمِ الْمَصْدَرِ كَثِيرًا، فَيُسَمَّى الْمُؤَدَّى دِيَةً، وَالْمَجْزِيَّ الْمَقْضِيَّ جِزْيَةً، كَمَا يُسَمى الْمَوْعُودُ وَعْدا فِي قَوْلِهِ:{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)} [يونس: 48] وَإِنَّمَا رَأَوْا مَا وعدُوة مِن الْعَذَابِ.
1290 -
إِذَا قِيلَ: الْفِعْلُ مُشْتَقٌّ مِن الْمَصْدَرِ، أَو الْمَصْدَرُ مُشْتَق مِن الْفِعْلِ: فَكِلَا الْقَوْلَيْنِ: قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ وَالْكُوفِيّينَ صَحِيح.
1291 -
اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِلُغَةِ الْعَرَب وَسَائِر اللُّغَاتِ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ وَحْدَهُ لَا يَحْسُنُ السّكوتُ عَلَيْهِ؛ وَلَا هُوَ جُمْلَةَ تَامَّة؛ وَلَا كَلَامًا مفِيدًا، وَلهَذَا سَمِعَ بَعْضُ الْعَرَبِ مُؤَذّنًا يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ قَالَ: فَعَلَ مَاذَا؟
فَإِنَّهُ لَمَّا نَصَبَ الِاسْمَ صَارَ صِفَةً وَالصّفَةُ مِن تَمَامِ الِاسْمِ الْمَوْصُوفِ، فَطَلَبَ بِصِحَّةِ طَبْعِهِ الْخَبَرَ الْمُفِيدَ، وَلَكِنَّ الْمُؤَذِّنَ قَصَدَ الْخَبَرَ وَلَحَنَ.
فَإِنَّ الْكُفَّارَ مِن جَمِيعِ الْأُمَمِ يَذْكُرُونَ الِاسْمَ مُفْرَدًا سَوَاء أَقَرُّوا بِهِ وَبِوَحْدَانِيَّتِه أَمْ لَا؛ حَتَّى إنَّهُ لَمَّا أَمَرَنَا بِذِكْرِ اسْمِهِ كَقَوْلِهِ: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4] .. وَنَحْوِ ذَلِكَ: كَانَ ذِكْرُ اسْمِهِ بِكَلَام تَام؛ مِثْل أَنْ يَقُولَ: بِسْمِ اللهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالذَّاكِرُ أَو السَّامِعُ لِلِاسْمِ الْمُجَرَّدِ قَد يَحْصُلُ لَهُ وَجْدُ مُحِبةٍ وَتَعْظِيم للهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
قُلْت: نَعَمْ وَيُثَابُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْدِ الْمَشْرُوعِ وَالْحَالِ الْإِيمَانِي، لَا لِأَنَّ مُجَرَّدَ الِاسْمِ مُسْتَحَبٌّ، وإذَا سمِعَ ذَلِكَ حَرَّكَ سَاكِنَ الْقَلْبِ، وَقَد يَتَحَرَّكُ السَّاكِنُ بِسَمَاعِ ذِكْرٍ مُحَرَّمٍ أَو مَكْرُوهٍ، حَتَّى قَد يَسْمَعُ الْمُسْلِمُ مَن يُشْرِكُ بِاللّهِ أَو يَسُبّهُ فَيَثُورُ فِي قَلْبِهِ حَالُ وَجْدٍ وَمَحَبةٍ للّهِ بِقُوَّةِ نَفْرَتِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يَكُن هَذَا الذكْرُ مَشْرُوعًا. فَهَل هُوَ مَكْروهٌ؟
قُلْت: أَمَّا فِي حَقِّ الْمَغْلُوبِ فَلَا يُوصَفُ بِكَرَاهَة؛ فَإنَّهُ قَد يَعْرِضُ لِلْقَلْبِ أَحْوَال يَتَعَسَّرُ عَلَيْهِ فِيهَا نُطْقُ اللسَانِ مَعَ امْتِلَاءِ الْقَلْبِ بِأحْوَالِ الْإِيمَانِ، وَرُبَّمَا تيَسَّرَ عَلَيْهِ ذِكْرُ الِاسْمِ الْمُجَرَّدِ دُونَ الْكَلِمَةِ التَّامَّةِ.
وَأَمَّا مع تَيَسُّرِ الْكَلِمَةِ التَّامَّةِ فَالِاقْتِصَارُ عَلَى مُجَرَّدِ الِاسْمِ مُكرَّرًا بِدْعَة، وَالْأَصْلُ فِي الْبِدَعِ الْكَرَاهَةُ. [10/ 561 - 567]
1292 -
لَفْظُ "الْفَتَى": مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ الْحَدَثُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)} [الكهف: 13]، وقَوْله تَعَالَى:{قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)} [الأنبياء: 60]، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} [الكهف: 60]، لَكِنْ لَمَّا كَانَت أَخْلَاقُ الْأَحْدَاثِ اللِّينَ صَارَ كَثِير مِن الشُّيُوخِ يُعَبّرُونَ بِلَفْظِ "الْفُتُوَّةِ" عَن مَكارِمِ الْأَخْلَاقِ. [11/ 91]
1293 -
إِنَّ كِتَابَ سِيبَوَيْهِ فِي الْعَرَبِيَّةِ لَمْ يُصَنَّفْ بَعْدَهُ مِثْلُهُ، بَل وَكِتَابُ بَطْلَيْمُوس، بَل نُصُوصُ بقراط لَمْ يُصَنَّفْ بَعْدَهَا أَكمَلُ مِنْهَا
(1)
. [11/ 370]
1294 -
تَنَازَعَ النَّاسُ فِي أَبْجَد هوز حُطي .. وَالصَّوَابُ: أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ
(1)
يثني على كتابَي بطْلَيْمُوس، وبقراط! مع أنهما من الفلاسفة، فأين هذا ممن لا يمدح أخاه المسلم إذا اختلف معه، أو رأى منه بعض الأخطاء، وقد يكون هذا المسلم من الدعاة الثاصحين، أو الخطباء الموفقين، أو العلماء الصالحين؟
أَسْمَاءً لِمُسَمَّيَاتِ، وَإنَّمَا ألِّفَتْ لِيُعْرَفَ تَألِيفُ الْأسْمَاءِ مِن حُروفِ الْمُعْجَمِ.
1295 -
تَنَازَعَ النَّاسُ فِي مُسَمَّى "الْكَلَامِ" فَقِيلَ: هُوَ اسْمُ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْمَعْنَى، وَقِيلَ: الْمَعْنَى الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ. [12/ 62]
وَقِيلَ: بَل هُوَ اسْمٌ عَامٌّ لَهُمَا جَمِيعًا يَتَنَاوَلُهُمَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَإِن كَانَ مَعَ التَّقْيِيدِ يُرَادُ بِهِ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً، هَذَا قَوْلُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَإِن كَانَ هَذَا الْقَوْلُ لَا يُعْرَفُ فِي كَثِير مِن الْكُتُبِ. [12/ 67]
1296 -
تَنَازَعَ النَّاسُ فِي مُسَمى "الإنْسَانِ" هَل هُوَ الرُّوحُ فَقَطْ أَو الْجَسَدُ فَقَطْ؛ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ اسْمٌ لِلرُّوحِ وَالْجَسَدِ جَمِيعًا. [12/ 67]
1297 -
قَوْلُ الْقَائِلِ: إن الْحُرُوفَ قَدِيمَة أَو حُرُوفَ الْمُعْجَمِ قَدِيمَة: إِنْ أَرَادَ جِنْسَهَا فَهَذَا صَحِيحٌ، وَإِن أَرَادَ الْحَرْفَ الْمُعَيَّنَ فَقَد أَخْطَأ، فَإنَّ لَهُ مَبْدَأَ وَمُنْتَهًى. [12/ 69]
1298 -
لَفْظُ "الْحَرْفِ" يُرَادُ بِهِ حُرُوفُ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ قَسِيمَةُ الْأسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ؛ مِثْل حُرُوفِ الْجَر وَالْجَزْمِ، وَحَرْفَي التَّنْفِيسِ، وَالْحُرُوفِ الْمُشْبِهَةِ لِلْأَفْعَالِ؛ مِثْلُ "إنَّ وَأَخَوَاتِهَا"، وَهَذ الْحُرُوفُ لَهَا أَقْسَام مَعْرُوفَةٌ فِي كُتُبِ الْعَرَبِيَّةِ.
فاسْمُ الْحَرْفِ هُنَا مَنْقُول عَن اللُّغَةِ إلَى عُرْفِ النُّحَاةِ بِالتَّخْصِيصِ، وَإِلَّا فَلَفْظُ الْحَرْفِ فِي اللُّغَةِ يَتَنَاوَل الْأَسْمَاءَ وَالْحُرُوفَ وَالْأَفْعَالَ.
وَحرُوفَ الْهِجَاءِ تُسَمَّى حُرُوفًا وَهِيَ أَسْمَاء
(1)
؛ كَالْحُرُوفِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَائِل السُّوَرِ لِأَنَّ مُسَمَّاهَا هُوَ الْحَرْفُ الَّذِي هُوَ حَرْفُ الْكَلِمَةِ. [12/ 109 - 110]
(1)
وَلهَذَا سَألَ الْخَلِيلُ أصْحَابَهُ: كَيْفَ تَنْطِقُونَ بِالزَّايِ مِن زيد؟ فَقَالُوا: زَاي، فَقَالَ: نَطَقْتُمْ بِالِاسْم، وَإِنمَا الْحَرْفُ (زه).
فَبَيَّنَ الخَلِيلُ أَنَّ هَذِهِ الَّتِي تُسَمى حُرُوفَ الْهِجَاءِ هِيَ أَسْمَاء. مجموع الفتاوى (12/ 107).
1299 -
الْعَرَبِيَّةُ إنَّمَا احْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهَا لِأَجْلِ خِطَابِ الرَّسُولِ بِهَا، فَإِذَا أَعْرَضَ عَن الْأَصْلِ كَانَ أهْلُ الْعَرَبِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ شُعَرَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ أَصْحَابِ الْمُعَلَّقَاتِ السَّبْعِ وَنَحْوِهِمْ مِن حَطَبِ النَّارِ. [13/ 207]
1300 -
الْكَلَام نَوْعَانِ: إنْشَاءٌ فِيهِ الْأمْرُ، وَإِخْبَار.
فَتَأوِيلُ الْأَمْرِ: هوَ نَفْسُ الْفِعْلِ الْمَأمُورِ بِهِ، كَمَا قَالَ مَن قَالَ مِن السَّلَفِ: إن السُّنَّةَ هِيَ تَأوِيلُ الْأَمْرِ. قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَك اللهُمَّ وَبِحَمْدِك اللهم اغفِرْ لِي يتأوَّلُ الْقُرْآنَ"
(1)
تَعْنِي قَوْلَهُ: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر: 3].
وَأما الْإِخْبَارُ: فَتَأوِيلُهُ عَيْنُ الْأمْرِ الْمُخْبَرِ بِهِ إذَا وَقَعَ، لَيْسَ تَأوِيلُهُ فَهْمَ مَعْنَاهُ. [13/ 277]
1301 -
الْعَرَبُ تُضَمِّنُ الْفِعْلَ مَعْنَى الْفِعْلِ وَتُعَدِّيهِ تَعْدِيَتَهُ، وَمِن هُنَا غَلِطَ مَن جَعَلَ بَعْضَ الْحُرُوفِ تَقُومُ مَقَامَ بَعْضٍ، كَمَا يَقُولُونَ فِي قَوْلِهِ: " {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص: 24]؛ أيْ: مَعَ نِعَاجِهِ، و {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [الصف: 14]؛ أَيْ: مَعَ اللهِ، وَنَحْو ذَلِكَ.
وَالتَّحْقِيقُ مَا قَالَهُ نُحَاةُ الْبَصْرَةِ مِن التَّضْمِينِ، فَسُؤَالُ النعْجَةِ يَتَضَمنُ جَمْعَهَا وَضَمهَا إلَى نِعَاجِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 73] ضُمن مَعْنَى يُزِيغُونَك وَيَصُدُّونَك، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:{وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأنبياء: 77] ضُمنَ مَعْنَى نَجَّيْنَاهُ وَخَلصْنَاهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:{يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] ضُمنَ يُرْوَى بِهَا، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَة
(2)
.
(1)
رواه البخاري (817)، ومسلم (484).
(2)
قال اللغوي ابن جني رحمه الله تعالى في "باب في استعمال الحروف بعضها مكان بعض": هذا باب يتلقاه الناس مغسولا ساذجا من الصنعة، وما أبعد الصواب عنه وأوقفه دونه. =
وَمَن قَالَ: لَا ريبَ: لَا شَكَّ، فَهَذَا تَقْرِيب، وَإِلَّا فَالرَّيْبُ فِيهِ اضْطِرَاب وَحَرَكَة. [13/ 342]
1302 -
قَوْله تَعَالى: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)} [المؤمنون: 35] طَالَ الْفَصْلُ بَيْنَ (أَنَّ وَاسْمِهَا وَخَبَرِهَا)، فَأعَادَ (أَنَّ) لِتَقَعَ عَلَى الْخَبَرِ لِتَأكِيدِهِ بِهَا.
وَنَظِيرُ هَذَا قَوْله تَعَالَى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [التوبة: 63]، لَمَّا طَالَ الْكَلَامُ أَعَادَ (أَنَّ)، هَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَطَائِفَةٍ.
وَأَحْسَنُ مِن هَذَا أَنْ يُقَالَ: كُل وَاحِدَةٍ مِن هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ جُمْلَة شَرْطِيَّة مُرَكَبَةٌ مِن جُمْلَتَيْنِ جَزَائِيّتَيْنِ، فَأُكِّدَتِ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ "بِأنَّ" عَلَى حَد تَأكِيدِهَا.
= وذلك أنهم يقولون: إن (إلى) تكون بمعنى مع، ويحتجون لذلك بقول الله سبحانه:{مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52]؛ أي: مع الله، ويقولون: إنَّ (في) تكون بمعنى (على)، ويحتجون بقوله عزَّ اسمه:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]؛ أي: عليها، ويقولون: تكون الباء بمعنى عن وعلى، ويحتجون بقولهم: رميت بالقوس؛ أي: عنها وعليها.
وغير ذلك مما يوردونه.
ولسنا ندفع أن يكون ذلك كما قالوا، لكنا نقول: إنه يكون بمعناه في موضع دون موضع على حسب الأحوال الداعية إليه، والمسوغة له، فأما في كل موضع وعلى كل حال فلا.
ألا ترى أنك إن أخذت بظاهر هذا القول غُفْلًا هكذا، لا مقيدًا لزمك عليه أن تقول: سرت إلى زيد، وأنت تريد: معه، وأن تقول: زيد في الفرس، وأنت تريد: عليه، وزيد في عمرو، وأنت تريد: عليه في العداوة، وأن تقول: رويت الحديث بزيد، وأنت تريد: عنه، ونحو ذلك مما يطول ويتفاحش.
ولكن سنضع في ذلك رسمًا يُعْمل عليه، ويُؤمن التزام الشناعة لمكانه:
اعلم أن الفعل إذا كان بمعنى فعل آخر، وكان أحدهما يتعدَّى بحرفٍ والآخر بآخر، فإن العرب قد تتسع فتُوقع أحد الحرفين موقع صاحبه؛ إيذانًا بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر، فلذلك جيء معه بالحرف المعتاد مع ما هو في معناه، وذلك كقول الله -عز اسمه-:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] وأنت لا تقول: رفثت إلى المرأة، وإنما تقول: رفثت بها أو معها، لكنه لما كان الرفث هنا في معنى الإفضاء، وكنت تُعَدي أفضيت بـ (إلى) كقولك: أفضيت إلى المرأة، جئت بـ (إلى) مع الرفث؛ إيذانًا وإشعارًا أنه بمعناه.
قال: ووجدت في اللغة من هذا الفن شيئًا كثيرًا لا يكاد يُحاط به، ولعله لو جمع أكثره "لا جميعه" لجاء كتابًا ضخمًا، وقد عرفت طريقه. فإذا مرَّ بك شيء منه فتقبله وأَنْس به، فإنه فصل من العربية لطيف حسن، يدعو إلى الأنس بها والفقاهة فيها. الخصائص (2/ 309 - 312).
ثُمَّ أُكِّدَتِ الْجُمْلَةُ الْجَزَائِيَّةُ بـ"أَنَّ" إذ هِيَ الْمَقْصُودَةُ عَلَى حَدِّ تَأكِيدِهَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)} [الأعراف: 170].
وَنَظِيره: {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)} [الأنعام: 54]، فَهُمَا تَأكِيدَانِ مَقْصُودَانِ لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، أَلَا تَرَى تَأْكِيدَ قَوْلِهِ:{غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)} [الأنعام: 54] بـ "إنَّ" غَيْرَ تَأكِيد {مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)} لَهُ بـ "أنَّ".
وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ بِهِ، وَهُوَ كَثِير فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} [آل عمران: 147] فَهَذَا لَيْسَ مِن التَّكْرَارِ فِي شَيءٍ.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ} [الروم: 49]
(1)
فَلَيْسَ مِن التَّكْرَارِ، بَل تَحْتَهُ مَعْنًى دَقِيق، وَالْمَعْنَى فِيهِ: وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِم الْوَدْقُ مِن قَبْلِ هَذَا النُّزُولِ لَمُبْلِسِينَ، فَهُنَا قَبْلِيتَانِ: قَبْلِيَّةٌ لِنُزُولهِ مُطْلَقا، وقَبْلِيَّةٌ لِذَلِكَ النُّزُولِ الْمُعَيَّنِ أَنْ لَا يَكُونُ مُتَقَدِّمًا عَلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَيَئِسُوا قَبْلَ نُزُوله يَاسَيْنَ: يَأسًا لِعَدَمِهِ مَرْئِيًّا، ويأسًا لِتَأخُّرِهِ عَن وَقْتِهِ؛ فَقَبْلَ الْأُولَى ظَرْفُ الْيَأسِ، وَقَبْلَ الثَّانِيَةِ ظَرْفُ الْمَجِيءِ وَالْإِنْزَالِ. [15/ 276 - 279]
1303 -
الْجَيْبُ هُوَ الطَّوْقُ الَّذِي فِي الْعُنُقِ، لَيْسَ هُوَ مَا يُسَمِّيهِ بَعْضُ الْعَامَّةِ جَيْبًا، وَهُوَ مَا يَكُونُ فِي مُقَدَّمِ الثَّوْبِ لِوَضْعِ الدَّرَاهِمِ وَنَحْوِهَا. [17/ 262]
1304 -
الْأَلْفَاظُ الْعِبُرِيَّةُ تُقَارِبُ الْعَرَبِيَّةَ بَعْضَ الْمُقَارَبَةِ، كَمَا تتقَارَبُ الْأَسْمَاءُ فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ.
وَقَد سَمِعْت أَلْفَاظَ التَّوْرَاةِ بِالْعِبْرِيَّةِ مِن مُسْلِمَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَوَجَدْت
(1)
وقد قال عنها الشيخ: هِيَ مِن أشْكَلِ مَا أورِدَ، وَمِما أعْضَلَ عَلَى النَّاسِ فَهْمُهَا، فَقَالَ كَثيرٌ مِن أهْلِ الْإعْرَابِ وَالتَّفْسِيرِ: إنَّهُ عَلَى التَّكْرِيرِ الْمَحْضِ وَالتأكِيدِ.
اللُّغَتَيْنِ مُتَقَارِبَتَيْنِ غَايَةَ التَّقَارُبِ، حَتَّى صِرْت أَفْهَمُ كَثِيرًا مِن كَلَامِهِم الْعِبْرِيِّ بِمُجَرَّدِ الْمَعْرِفَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ.
وَالْمَعَانِي الصَّحِيحَةُ: إمَّا مُقَارِبَةٌ لِمَعَانِي الْقُرْآنِ أَو مِثْلُهَا أَو بِعَيْنِهَا، وَإِن كَانَ فِي الْقُرْآنِ مِن الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي خَصَائِصُ عَظِيمَةٌ. [4/ 109 - 110]
1305 -
إِنَّمَا "الْأُمِّيُّ" هُوَ فِي الْأصْلِ مَنْسُوبٌ إلَى الْأمَّةِ الَّتِي هِيَ جِنْسُ الْأُمّيِّينَ، وَهُوَ مَن لَمْ يَتَمَيَّزْ عَن الْجِنْسِ بِالْعِلْمِ الْمُخْتَصِّ مِن قِرَاءَةٍ أَو كِتَابَة، كَمَا يُقَالُ: عَامِّيٌ لِمَن كَانَ مِن الْعَامَّةِ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ عَنْهُم بِمَا يَخْتَصُّ بِهِ غَيْرُهُم مِن عُلُومٍ، وَقَد قِيلَ: إنَّهُ نِسْبَةٌ إلَى الْأمِّ؛ أَيْ هُوَ الْبَاقِي عَلَى مَا عَوَّدَتْهُ أُمُّهُ مِن الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَصَارَتْ هَذ الْأُمِّيَّةُ:
أ- مِنْهَا مَا هُوَ محَرَّمٌ.
ب- وَمِنْهَا مَا هُوَ مَكْرُوهٌ.
ج- وَمِنْهَا مَا هُوَ نَقْصٌ وَتَرْكُ الْأفْضَلِ.
فَمَن لَمْ يَقْرَأ الْفَاتِحَةَ أَو لَمْ يَقْرَأ شَيْئًا مِن الْقُرْآنِ تُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ الصَّلَاةِ أُمِّيًّا.
فَهَذِهِ الْأمِّيَّةُ مِنْهَا مَا هُوَ تَرْكُ وَاجِبٍ يُعَاقَبُ الرَّجُلُ عَلَيْهِ إذَا قَدَرَ عَلَى التَّعَلُّمِ فَتَرَكَهُ.
وَمِنْهَا مَا هُوَ مَذْمُومٌ كَاَلَّذِي وَصَفَهُ اللهُ عز وجل عَن أَهْلِ الْكِتَابِ حَيْثُ قَالَ: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)} [البقرة: 78]، فَهَذه صِفَة مَن لَا يَفْقَهُ كَلَامَ اللهِ وَيعْمَلُ بِهِ، وَإِنَّمَا يَقْتَصِرُ عَلَى مُجَرَّدِ تِلَاوَتهِ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: نَزَلَ الْقُرْآنُ لِيُعْمَلَ بِهِ، فَاِتَّخَذُوا تِلَاوَتَهُ عَمَلًا، فَالْأمِّيُّ هُنَا قَد يَقْرَأُ حُرُوفَ الْقُرْآنِ أَو غَيْرَهَا وَلَا يَفْقَهُ، بَل يَتَكلَّمُ فِي الْعِلْمِ بِظَاهِرٍ مِن الْقَوْلِ ظَنًّا.
وَمِنْهَا مَا هُوَ الْأَفْضَلُ الْأَكْمَلُ؛ كَاَلَّذِي لَا يَقْرَأُ مِن الْقُرْآنِ إلَّا بَعْضَه، وَلَا يَفْهَمُ مِنْهُ إلَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَلَا يَفْهَمُ مِن الشَّرِيعَةِ إلَّا مِقْدَارَ الْوَاجِبِ عليه.
وَإِن أَمْكَنَ أَنْ يُسْتَغْنَى عَنْهَا -أي: الْكِتَاب الَّذِي هُوَ الْخَطُّ وَالْحِسَابُ- بِالْكُلِّيَّةِ بِحَيْثُ يَنَالُ كَمَالَ الْعُلُومِ مِن غَيْرِهَا، وَينَالُ كَمَالَ التَّعْلِيمِ بِدُونهَا: كَانَ هَذَا أَفْضَلَ لَهُ وَأَكْمَلَ، وَهَذِهِ حَالُ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم الَّذِي قَالَ اللّهُ فِيهِ:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157]؛ فَإِنَّ أُمِّيَّتَهُ لَمْ تَكُنْ مِن جِهَةِ فَقْدِ الْعِلْمِ وَالْقِرَاءَةِ عَن ظَهْرِ قَلْبٍ، فَإِنَّهُ إمَامُ الْأَئِمَّةِ فِي هَذَا، وَإِنَّمَا كَانَ مِن جِهَةِ أَنَّهُ لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ مَكْتُوبًا، كَمَا قَالَ اللهُ فِيهِ:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48]. [25/ 167 - 172]
مسائل اللغات
(هَل فِي اللُّغَةِ أَسْمَاءٌ شَرْعِيَّةٌ نَقَلَهَا الشَّارِعُ عَن مُسَمَّاهَا فِي اللُّغَةِ
؟)
1306 -
بِسَبَبِ الْكَلَامِ فِي مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ: تَنَازَعَ النَّاسُ: هَل فِي اللُّغَةِ أَسْمَاءٌ شَرْعِيَّة نَقَلَهَا الشَّارعُ عَن مُسَمَّاهَا فِي اللُّغَةِ، أَو أَنَّهَا بَاقِيَةٌ فِي الشَّرْعِ عَلَى مَا كَانَت عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ، لَكِنَّ الشَّارعَ زَادَ فِي أَحْكَامِهَا لَا فِي مَعْنَى الْأَسْمَاءِ؟
وَهَكَذَا قَالُوا فِي اسْم الصَّلَاةِ، وَالزكَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ إنَّهَا بَاقِيَةٌ فِي كَلَامِ الشَّارعِ عَلَى مَعْنَاهَا اللغَوِيِّ، لَكِنْ زَادَ فِي أَحْكَامِهَا.
وَمَقْصُودُهُمْ: أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ.
وَذَهَبَتْ طَائِفَة ثَالِثَة إلَى أَنَّ الشَّارعَ تَصَرَّفَ فِيهَا تَصَرُّفَ أَهْلِ الْعُرْفِ، فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللُّغَةِ مَجَازٌ، وَبِالنّسْبَةِ إلَى عُرْفِ الشَّارعِ حَقِيقَة.
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الشَّارعَ لَمْ يَنْقُلْهَا وَلَمْ يُغَيِّرْهَا، وَلَكِن اسْتَعْمَلَهَا مُقَيَّدَةً لَا مُطْلَقَةً، كَمَا يَسْتَعْمِلُ نَظَائِرَهَا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97]، فَذَكَرَ حَجًّا خَاصًّا، وَهُوَ حَجُّ الْبَيْتِ.
فَلَمْ يَكُن لَفْظُ الْحَجِّ مُتَنَاوِلًا لِكُلِّ قَصْدٍ، بَل لِقَصْدٍ مَخْصُوصٍ دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ نَفْسُهُ، مِن غَيْرِ تَغْيِيرِ اللُّغَةِ.
وَالشَّاعِرُ إذَا قَالَ:
وَأشْهَدُ مِن عَوْفٍ حُلُولًا كَثِيرَةً
…
يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَا
كَانَ مُتَكَلّمًا بِاللُّغَةِ، وَقَد قَيَّدَ لَفْظَهُ بِحَجِّ سبِّ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ الْحَجَّ الْمَخْصُوصَ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْإِضَافَةُ.
فَكَذَلِكَ الْحَجُّ الْمَخْصُوصُ الَّذِي أَمَرَ اللهُ بِهِ: دَلَّتْ عَلَيْهِ الْإِضَافَةُ، أَو التَعْرِيفُ بِاللَّامِ، فَإِذَا قِيلَ: الْحَخ فَرْضٌ عَلَيْك: كَانَت لَامُ الْعَهْدِ تُبَيّنُ أَنَّهُ حِجُّ الْبَيْتِ.
وَكَذَلِكَ "الزَّكَاةُ": هِيَ اسْمٌ لِمَا تَزْكُو بِهِ النَّفْسُ، وَزَكَاةُ النَّفْسِ زِيَادَةُ خَيْرِهَا وَذَهَابُ شَرِّهَا، وَالْإِحْسَان إلَى النَّاسِ مِن أَعْظَمِ مَا تَزْكُو بِهِ النَّفْسُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْفَوَاحِشِ مِمَّا تَزْكُو بِهِ، قَالَ تَعَالَى:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور: 21].
وَأَصْلُ زَكَاتِهَا: بِالتَّوحِيدِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ للهِ، قَالَ تَعَالَى:{وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6، 7] وَهِيَ عِنْدُ الْمُفَسِّرِينَ التَّوْحِيدُ.
وَقَد بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِقْدَارَ الْوَاجِبِ وَسَمَّاهَا الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، فَصَارَ لَفْظُ الزَّكَاةِ إذَا عُرِّفَ بِاللَّامِ يَنْصَرِفُ إلَيْهَا لِأَجْلِ الْعَهْدِ.
وَمِن الأسْمَاءِ مَا يَكُونُ أَهْلُ الْعُرْفِ نَقَلُوهُ وَينْسُبونَ ذَلِكَ إلَى الشَّارعِ؛ مِثْل لَفْظِ "التَّيَمُّمِ"؛ فَإِنَّ اللّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6]، فَلَفْظُ التَيّمَّمِ اُسْتُعْمِلَ فِي مَعْنَاهُ الْمَعْرُوفِ فِي اللغَةِ، فَإِنَّهُ أَمَرَ بِتَيَمُّمِ الصَّعِيدِ
(1)
، ثُمَّ أَمَرَ بِمَسْحِ الْوُجُوهِ وَالْأَيْدِي مِنْهُ، فَصَارَ لَفْظُ
(1)
أي: قصد الصعيد، وهو كلّ ما تصعّد على وجه الأرض.
التَّيَمَّمِ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ يَدْخُلُ فِيهِ هَذَا الْمَسْحُ، وَلَيْسَ هُوَ لُغَة الشَّارعِ
(1)
.
وَلَفْظُ "الْإِيمَانِ" أَمَرَ بِهِ مُقَيَّدًا بِالْإِيمَانِ بِاللّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ.
وَكَذَلِكَ لَفْظُ "الْإِسْلَامِ" بِالِاسْتِسْلَامِ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَكَذَلِكَ لَفْظُ "الْكُفْرِ" مُقَيَّدًا.
وَلَكِنْ لَفْظُ "النِّفَاقِ" قَد قِيلَ: إنَّهُ لَمْ تَكُن الْعَرَبُ تَكَلَّمَتْ بِهِ، لَكِنَّهُ مَأُخُوذٌ مِن كَلَامِهِمْ؛ فَإِنَّ نَفَقَ يُشْبِهُ خَرَجَ، وَمِنْهُ نَفَقَت الدَّابَّةُ إذَا مَاتَتْ، وَمِنْهُ نَافِقَاءُ الْيَرْبُوعِ، وَالنَّفَقُ فِي الْأَرْضِ، قَالَ تَعَالَى:{فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 35]، فَالْمُنَافِقُ هُوَ الَّذِي خَرَجَ مِن الْإِيمَانِ بَاطِنًا، بَعْدَ دُخُولِهِ فِيهِ ظَاهِرًا.
وَقَيَّدَ النِّفَاقَ بِأَنَّهُ نِفَاقٌ مِن الْإِيمَانِ.
فَخِطَابُ اللّهِ وَرَسُولِهِ لِلنَّاسِ بِهَذِهِ الأسْمَاءِ كَخِطَابِ النَّاسِ بِغَيْرِهَا، وَهُوَ خِطَابٌ مُقَيَّد خَاصٌ مُطْلَقٌ يَحْتَمِلُ أَنْوَاعًا.
وَقَد بَيَّنَ الرَّسُولُ تِلْكَ الْخَصَائِصَ، وَالِاسْمُ دَلَّ عَلَيْهَا، فَلَا يُقَالُ: إنَّهَا مَنْقُولَةٌ، وَلَا أنَّهُ زِيدَ فِي الْحُكْمِ دونَ الِاسْمِ، بَل الِاسْمُ إنَّمَا اُسْتُعْمِلَ عَلَى وَجْهٍ يَخْتَصُّ بِمُرَادِ الشَّارعِ، لَمْ يُسْتَعْمَلْ مُطْلَقًا، وَهُوَ إنَّمَا قَالَ:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [يونس: 87] بَعْدَ أَنْ عَرَّفَهُم الصَّلَاةَ الْمَأمُورَ بِهَا، فَكَانَ التَّعْرِيفُ مُنْصَرِفًا إلَى
(1)
أي: أن الشارع لم يسمّ قصد التراب لمَسْحِ الْوُجُوهِ وَالْأيْدِي مِنْهُ، بل هذه تسمية الفقهاء.
قال الخليل رحمه الله "العين"(8/ 430): أمَّ فلانٌ أمرًا؛ أي: قصد. والتيمّم: يجري مجرى التوخّي، يقال: تيَمَّمْ أمرًا حَسَنَا، وتيَمَّمْ أطيبَ ما عندك فأطعِمناه، وقال تعالى:{وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ} [البقرة: 267]؛ أي: لا تَتَوَخَّوْا أَرْدَأَ ما عندَكم فتتصدّقوا به. والتَّيَمُّمُ بالصّعيد من ذلك. والمعنى: أن تتوخَّوْا أطيب الصّعيد، فصار التَّيَمُّمُ في أفواه العامّة فِعلًا للمَسْحِ بالصّعيد، حتّى إنّهم يقولون: تيَمَّمْ بالتّراب. اهـ.
فتأمل قوله: فصار التَّيَمُّمُ في أفواه العامّة فِعلًا للمَسْح بالصّعيد، وهذا يُؤكد كلام شيخ الإسلام بأن التيمم في لسان اللغة والشرع: القصد وَالتوخي، لا مَسْح الْوَجْهِ وَاليَدَيْنِ بِالتُّرَابِ.
الصَّلَاةِ الَّتي يَعْرِفُونَهَا، لَمْ يَرِدْ لَفْظُ الصَّلَاةِ وَهُم لَا يَعْرِفُونَ مَعْنَاهُ. [7/ 298 - 300]
* * *
(الألفاظ دالة على المعاني بالوضع)
1307 -
ذهب الجمهور إلى أن الألفاظ دالة على المعاني بالوضع لا لذواتها. [المستدرك 2/ 287]
* * *
(فصل في الأسماء المتواطئة العامة، والمشتركة، والمجازية)
1308 -
زعم قوم من القدرية أن الاسمين إذا جريا على المسميين حقيقة كان كل ما استحقه أحدهما من الصفات استحقه الآخر. وهذا غلط. [المستدرك 2/ 287]
* * *
(معنى الوجه والوجهة)
1309 -
قَوْله تَعَالَى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} بَعْدَ قَوْلِهِ: {فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)} [القصص: 86 - 88] فَإِنَّ ذِكْرَهُ ذَلِكَ بَعْدَ نَهْيِهِ عَن الْإِشْرَاكِ، وَأَنْ يَدْعُوَ مَعَهُ إلَهًا آخَرَ، وَقَوْلِهِ:{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} : يَقْتَضِي أَظْهَرَ الْوَجْهَيْنِ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا مَا كَانَ لِوَجْهِهِ مِن الْأعْيَانِ وَالْأَعْمَالِ وَغَيْرِهِمَا.
رُوِيَ عَن أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: "إلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ"، وَعَن جَعْفَرٍ الصَّادِقِ:"إلَّا دِينَهُ"، وَمَعْنَاهُمَا واحِدٌ.
وَذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ "الْوَجْهِ" يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَصْلِ مِثْل الْجِهَةِ؛ كَالْوَعْدِ وَالْعِدَةِ، وَالْوَزْنِ وَالزِّنَةِ، وَالْوَصْلِ وَالصّلَةِ، وَالْوَسْمِ وَالسِّمَةِ، لَكِنْ فِعْلُهُ حُذِفَتْ
فَاؤُهَا وَهِيَ أَخَصُّ مِن الْفِعْلِ كَالْأَكْلِ وَالْأكْلَةِ، فَيَكُونُ مَصْدَرًا بِمَعْنَى التَّوَجُّهِ وَالْقَصْدِ؛ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْبًا لَسْت مُحْصِيهِ
…
رَبّ الْعِبَادِ إلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ
ثُمَّ إنَّهُ يُسَمَّى بِهِ الْمَفْعُولُ، وَهُوَ الْمَقْصُود الْمُتَوَجَّهُ إلَيْهِ، كَمَا فِي اسْمِ الْخَلْقِ
(1)
، وَدِرْهَمِ ضَرْبِ الْأَمِيرِ
(2)
، وَنَظَائِرِهِ.
ويُسَمَّى بِهِ الْفَاعِلُ الْمُتَوَجَّهُ؛ كَوَجْهِ الْحَيَوَانِ، يُقَالُ: أَرَدْت هَذَا الْوَجْهَ؛ أَيْ: هَذِهِ الْجِهَةِ وَالنَّاحِيَةِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]؛ أَيْ: قِبْلَةُ اللّهِ وَوُجْهَةُ اللهِ، هَكَذَا قَالَ جُمْهُورُ السَّلَفِ، وَإِن عَدَّهَا بَعْضُهُم فِي الصِّفَاتِ
(3)
، وَقَد يَدُلُّ عَلَى الصِّفَةِ بِوَجْهٍ فِيهِ نَظَرٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ:{فَأَيْنَمَا}
(1)
فإذا أُطلق لفظ الخلق فإنما المقصود به المخلوق، لا ذات الخلق.
(2)
أي: مَضْرُوبُ الْأمِيرِ.
(3)
قال الشيخ في موضع آخر: وَمَن عَدَّهَا فِي الصِّفَاتِ فَقَد غَلِطَ. اهـ. (3/ 193).
وممن عدها من الصفات العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله حيث قال في قوله تعالى: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} : اختلف فيه المفسرون من السلف، والخلف، فقال بعضهم: المراد به وجه الله الحقيقي؛ وقال بعضهم: المراد به الجهة: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} ؛ يعني: في المكان الذي اتجهتم إليه جهة الله عز وجل؛ وذلك؛ لأن الله محيط بكل شيء؛ ولكن الراجح أن المراد به الوجه الحقيقي؛ لأن ذلك هو الأصل؛ وليس هناك ما يمنعه؛ وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قِبَل وجه المصلي؛ والمصلُّون حسب مكانهم يتجهون؛ فأهل اليمن يتجهون إلى الشمال؛ وأهل الشام إلى الجنوب؛ وأهل المشرق إلى المغرب؛ وأهل المغرب إلى الشرق؛ وكل يتجه جهة؛ لكن الاتجاه الذي يجمعهم الكعبة؛ وكل يتجه إلى وجه الله؛ وعلى هذا يكون معنى الآية: أنكم مهما توجهتم في صلاتكم فإنكم تتجهون إلى الله سواء إلى المشرق، أو إلى المغرب، أو إلى الشمال، أو إلى الجنوب. اهـ. تفسير القرآن (4/ 8).
وقال في موضع آخر: فالآية محتملة لهذا ولهذا، ومعناها صحيح على كِلا القولين. [لقاءات الباب المفتوح].
ولعل الأقرب أنها ليست من آيات الصفات؛ لِمَا قرره الشيخ، ولأمر آخر مهم جدًّا، وهو أنّ البيهقي فِي كِتَاب "الْأسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ" ذَكَرَ عَن مُجَاهِدٍ وَالشَّافِعِيِّ أن الْمُرَادَ قِبْلَةُ اللهِ، فيلزم من جعلنا هَذه الآية من آيات الصفات أن يكون مُجَاهِد وَالشَّافِعِيّ قد أوّلا هذه الصفة، فيكون حجة لِلْمُؤَوِّلة بأنّ السلف قد أوّلوا آيات الصفات، وأما إذا لم نجعلها =
تُوَلُّواْ}؛ أَيْ: تتوَلَّوْا؛ أَيْ: تتوَجَّهُوا وَتَسْتَقْبِلوا، يَتَعَدَّى إلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، بِمَعْنَى يَتَوَلَّاهَا.
وَأَمَّا لَفْظُ "وجهة" مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148]؛ فَقَد يُظَنُّ أَيْضًا أَنَّهُ مَصْدَرٌ كَالْوَجْهِ؛ كالوعدة مَعَ الْوَعْدِ، وَأَنَّهَا تُرِكَتْ صَحِيحَةً فَلَمْ تُحْذَفْ فَاؤُهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
لِأَنَّهُ لَو كَانَ مَصْدَرًا لَخذِفَتْ وَاوُة وَهُوَ الْجِهَةُ، وَكَانَ يُقَالُ: وَلِكُلٍّ جِهَةٌ أَو وَجْةٌ، وَإِنَّمَا الْفِعْلَةُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ؛ كَالْقِبْلَةِ، وَالْبِدْعَةِ، وَالذِّبْحَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَالْقِبْلَةُ: مَا اُسْتُقْبِلَ، والوجهة: مَا تُوُجِّهَ إلَيْهِ، وَالْبِدْعَةُ: مَا اُبْتُدِع، وَالذِّبْحَةُ: مَا ذُبِحَ؛ وَلهَذَا صَحَّ وَلَمْ تُحْذَفْ فَاؤُهُ؛ لِأَنَّ الْحَذْفَ إنَّمَا هُوَ مِن الْمَصْدَرِ، لَا مِن بَقِيَّةِ الْأَسْمَاءِ كَالصِّفَاتِ وَمَا يُشْبِهُهَا، مِثْلُ أَسْمَاءِ الْأمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْآلَاتِ وَالْمَفَاعِيلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ: إنَّ الْوَجْهَ مُشْتَقٌّ مِن الْمُوَاجَهَةِ
(1)
: فَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ.
وَمِن هَذَا الْبَابِ:
أ- قَوْله تَعَالَى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [البقرة: 112].
ب- وَقَوْلُ الْخَلِيلِ وَنَبِيِّنَا وَالْمُومِنِينَ فِي الصَّلَاةِ: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)} [الأنعام: 79].
ج- وقَوْله تَعَالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30].
= من آيات الصفات فلا يكون ذلك حُجةً لهم.
(1)
قال أبو يعلى الفراء: الوجه ما يقع به المواجهة. المسائل الفقهية (1/ 6). ونص على ذلك صاحب المغني (1/ 130)، والزركشي في شرحه لمختصر الخرقي (1/ 38)، وغيرهم.
فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَلْفَاظِ: أَسْلَمَ وَجْهَهُ، وَوَجَّهَ وَجْهَهُ، وَأَقَامَ وَجْهَهُ.
قَالَ قُدَمَاءُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ} [البقرة: 112]؛ أَيْ: أَخْلَصَ فِي دِينِهِ وَعَمَلِهِ للهِ
(1)
.
وَقَالَ بَعْضُهُم: فَوَّضَ أَمْرَهُ إلَى اللّهِ.
وَقَد قِيلَ: خَضَعَ وَتَوَاضَعَ للّهِ.
وَهَذَا الثالِثُ: يَلِيقُ بِالْإِسْلَام اللَّازِمِ؛ فَإِنَّ وَجْهَهُ هُوَ قَصْدُهُ وَتَوَجُّهُهُ الَّذِي هُوَ أَصْلُ عَمَلِهِ، وَهُوَ عَمَلُ قَلْبِهِ الَّذِي هُوَ مِلْكُ بَدَنِهِ، فَإِذَا تَوَجَّهَ قَلْبُهُ تَبِعَهُ أَيْضًا تَوَجُّهُ وَجْهِه .. فَيَكُونُ قَد أسْلَمَ عَمَلَهُ الْبَاطِنَ وَالظَّاهِرَ، وَأَعْضَاءَهُ الْبَاطِنَةَ وَالظَّاهِرَةَ للّهِ؛ أَيْ: سَلَّمَهُ لَهُ وَأَخْلَصَهُ للّهِ؛ كَمَا فِي الْإِسْلَامِ اللَّازِمِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)} [البقرة: 131]، وَقَوْلُهُ عَن إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ:{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128]؛ أَيْ: مُنْقَادَةً مُخْلِصَةً.
وَكَذَلِكَ تَوْجِيهُ الْوَجْهِ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ: تَوْجِيه قَصْدِهِ وَإِرَادَتِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَذَلِكَ يَسْتَتْبعُ الْوَجْهَ وَغَيْرَهُ، وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ تَوْجِيهِ الْعُضْوِ مِن غَيْرِ عَمَلِ الْقَلْبِ لَا يُفِيدُ شَيْئًا.
وَعَلَى هَذَا: فَإِقَامَةُ الْوَجْهِ: اسْتِقْبَالُ الْكَعْبَةِ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ
(2)
مَكِّيَّةٌ، وَالْكَعْبَةُ إنَّمَا فُرِضَتْ فِي الْمَدِينَةِ، إلَّا أَنْ يُرَادَ بِإِقَامَةِ الْوَجْهِ الِاستِقْبَالُ الْمَأمُورُ بِهِ.
وَإِنَّمَا وَقَعَ النِّزَاعُ هُنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}
(1)
قال ابن كثير رحمه الله: قَالَ تَعَالَى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ} ؛ أَيْ: مَن أخْلَصَ الْعَمَلَ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وَقَالَ أَبُو الْعَاليَةِ وَالرَّبِيعُ: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} يَقُولُ: مَن أخْلَصَ لِلَّهِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ} أخْلَصَ، {وَجْهَهُ} قَالَ: دِينَهُ. اهـ. تفسير ابن كثير (1/ 385).
(2)
وهي قَوْله تَعَالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} .
[الأعراف: 29]، بِخِلَافِ قَوْله تَعَالَى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} [الروم: 30].
فَقَوْلُهُ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]؛ أَيْ: دِينَهُ وَإِرَادَتَهُ وَعِبَادَتَهُ، وَالْمَصْدَرُ يُضَافُ إلَى الْفَاعِلِ تَارَةً، وَإِلَى الْمَفْعُولِ أُخْرَى، وَهُوَ قَوْلُهُم: مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْههُ.
وَفِي هَذَا قَوْل آخَرُ يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ: أنَّ الْوَجْهَ فِي مِثْل قَوْلِهِ: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ} [البقرة: 112]، و {أَقِمْ وَجْهَكَ} [يونس: 105]، و {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} [الأنعام: 79]: هُوَ الْوَجْهُ الظَّاهِرُ، كَمَا أَنَّهُ كَذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ فِي قَوْلِهِ:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] وَفِي قَوْلِهِ: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150].
قَالُوا: لَكِنَّ الْوَجْهَ إذَا وُجِّهَ: تَبِعَهُ سَائِرُ الْإِنْسَانِ، وَإِذَا أُسْلِمَ: فَقَد أُسْلِمَ سَائِرُ الْإِنْسَانِ، وَإِذَا أُقِيمَ فَقَد أُقِيمَ سَائِرُهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَوَجِّهُ أَوَّلًا مِن الْأعْضَاء الظَّاهِرَةِ لِلْقَاصِدِ الطَّالِبِ.
لَكِنْ هَل هَذَا مِن بَابِ الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ الَّتِي تَقْلِبُ الِاسْمَ مِن الْخُصُوصِ إلَى الْعُمُومِ، أَو الْحَقِيقَةُ اللُّغَوِيَّةُ بَاقِيَةٌ وَهُوَ مِن بَابِ الدَّلَالَةِ اللُّزُومِيَّةِ؟
(1)
فِيهِ قَوْلَانِ.
(1)
الْحَقِيقَة ثَلَاَثة أنوَاع:
أحدهَا: اللْغَوَيَّة؛ وهي: اللفظ المستعمل فيما وضع له في اللغة.
وَهِي الأَصْل، كالأسد على الْحَيَوَان المفترس.
الثانِي: الْحَقِيقَة الْعُرْفِيَّة، وَحدُّهَا: مَا خَصَّ عرفًا بِبَعْض مسمياته؛ يَعْنِي: أن أهل الْعرف خصوا أَشْيَاء كَثيرَة بِبَعْض مسمياتها، وإن كَانَ وَضعهَا للْجَمِيع حَقِيقَة.
وَهِي قِسْمَانِ: عَامَّة، وخاصة.
فالعامة: مَا انْتَقَلت من مسماها اللّغَوِيّ إِلَى غَيره للاستعمال الْعَام، بحَيثُ هُجر الأول، كالدابة بالنسْبَةِ إِلَى ذَات الْحَافِر، فَإِنَّ الدَّابَّة وُضعت فِى أصل اللُّغَةَ لكل مَا يدب على الأرْض، فخَصَّصها أهلُ الْعرف بذَات الْحَافِر من الْخَيل وَالبغَال وَالْحمير.
والخاصة: مَا لكل طَائِفةٍ من الْعَلمَاء من الاصطلاحات التِي تخصهم، كاصطلاح النُّحَاة، والأصوليين، وَغَيرهم على أَسمَاء خصوها بِشَيء من مصطلحاتهم؛ كالمبتدأ، وَالْخَبَر، وَالْفَا عِل، وَالْمَفْعُول.=
وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَعْضَاءِ، حَتَّى لَو قَالَ لِعَبْدِهِ: يَدُك أَو رِجْلُك حُرٌّ، فَمَن قَالَ: إنَّ اللَّفْظَ عِبَارَة عَن الْجَمِيعِ، أَوْقَعَ الْعِتْقَ.
وَمَن قَالَ: إنَّ الِاسْمَ لِلْعُضْوِ فَقَطْ لَمْ يَسْرِ الْعِتْقُ عِنْدَة إلَى سَائِرِ الْجُمْلَةِ؛ لِعَدَمِ تَبْعِيضِهِ.
وَإِلَى هَذَا الْأَصْلِ يَعُودُ مَعْنَى قَوْلِ مَن قَالَ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، كَمَا قَد قِيلَ فِي قَوْلِهِ:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} [الرحمن: 26، 27]؛ فَإِنَّ بَقَاءَ وَجْهِهِ: هُوَ بَقَاءُ ذَاتِهِ. [2/ 427 - 434]
* * *
(تأتي في بمعنى على)
1310 -
قَالَ سُبْحَانَة: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]، وَقَالَ:{فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [آل عمران: 137] بِمَعْنَى (عَلَى)، وَهُوَ كَلَامٌ عَرَبِيٌّ حَقِيقَةً لَا
= الثَّالِثُ: حَقِيقَةٌ شَرْعِيَةٌ؛ وَهِيَ مَا اسْتَعْمَلَهُ الشَّرْعُ كَصَلاةٍ، لِلأَقْوَالِ وَالأفْعَالِ، وَاسْتِعْمَالُ إيمَانٍ لِعَقْدِ بِالْجَنَانِ، وَنُطْقٍ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٍ بِالأرْكَانِ، فَدَخَلَ كُل الطَّاعَاتِ.
والصَّلاةُ فِي اللُّغَةِ: الدُّعَاءُ، وَالإِيمَانُ فِي اللغَةِ: التَّصْدِيقُ.
وفائدة معرفة تقسيم الحقيقة إلى ثلاثة أقسام: أن نحمل كل لفظ على معناه الحقيقي في موضع استعماله، فيحمل في استعمال أهل اللغة على الحقيقة اللغوية، وفي استعمال الشرع على الحقيقة الشرعية، وفي استعمال أهل العرف على الحقيقة العرفية.
يُنظر: التحبير شرح التحرير في أصول الفقه، للمرداوي الحنبلي، المتوفى (885 هـ).
تحقيق: د. عبد الرحمن الجبرين، د. عوض القرني، د. أحمد السراح (1/ 389 - 390)، الأصول من علم الأصول للعلامة محمد العثيمين، المتوفى (1421 هـ)(20).
ومعنى كلام الشيخ رحمه الله: هَل كلمة (وجه) مِن بَابِ الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ الَّتِي تَقْلِبُ الِاسْمَ مِن الْخُصُوصِ إلَى الْعُمُوم؛ أي: تقلبه من خصوص حقيقتها الأصلية، وهو عضو الوجه، إلى العموم، فيشمل سائر اَلبدن، ويشمل الوجه المعنوي، وهو التوجه بالقلب.
أو أنَ الْحَقِيقَةَ اللُّغَوِيَّةَ بَاقِيَة، وَهُوَ مِن بَابِ الدَّلَالَةِ اللزُوميَّةِ؛ أي: أنّ الوجه معناه وجه الإنسان، ولكنّ المقصود بالآية لازم الوجه، وهو التوجه بالبدن والقلب إلى الله تعالى؟
مَجَازًا، وَهَذَا يَعْلَمُهُ مَن عَرَفَ حَقَائِقَ مَعَانِي الْحُرُوفِ، وَأَنَّهَا مُتَوَاطِئَة فِي الْغَالِبِ لَا مُشْتَرَكَةٌ. [5/ 106]
* * *
(لَفْظُ الْحَرْفِ وَالْكَلِمَةِ والفعل له فِي لُغَةِ الْعَرَب مَعْنًى، وَلَهُ فِي اصْطِلَاحِ النُّحَاةِ مَعْنًى)
1311 -
لَفْظُ الْحَرْفِ وَالْكَلِمَةِ لَهُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَكَلَّمُ
بِهَا مَعْنًى، وَلَهُ فِي اصْطِلَاحِ النُّحَاةِ مَعْنًى.
فَالْكَلِمَةُ فِي لُغَتِهِمْ: هِيَ الْجُمْلَةُ التَّامَّةُ، الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ أو الْفِعْلِيَّةُ.
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)} [الكهف: 5].
وَلَا يُوجَدُ قَطُّ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ لَفْظُ الْكَلِمَةِ إلا وَالْمُرَادُ بِهِ الْجُمْلَةُ التَّامَّةُ.
فَكَثِيرٌ مِن النُّحَاةِ أَو أَكْثَرُهُم لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ، بَل يَظُنُّونَ أَنَّ اصْطِلَاحَهُم فِي مُسَمَّى الْكَلِمَةِ يَنْقَسِمُ إلَى اسْمٍ وَفِعْل وَحَرْفٍ هُوَ لُغَةُ الْعَرَبِ.
وَالْفَاضِلُ مِنْهُم يَقُولُ
(1)
:
وَكِلْمَة بِهَا كَلَامٌ قَد يُؤَمُّ
(2)
.
ويقُولُونَ: الْعَرَبُ قَد تَسْتَعْمِل الْكَلِمَةَ فِي الْجُمْلَةِ التَّامَّةِ وَتَسْتَعْمِلُهَا فِي الْمُفْرَدِ، وَهَذَا غَلَطٌ، لَا يُوجَدُ قَطُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لَفْظ الْكَلِمَةِ إلَّا لِلْجُمْلَةِ التَّامَّةِ.
(1)
ألفية ابن مالك رقم (8).
(2)
قال الأشمونى في شرحه على ألفية ابن مالك: (قد) في قوله: (قد يؤم) للتقليل، ومراده التقليل النسبي؛ أي: استعمالٌ الكلمة في الجمل قليل بالنسبة إلى استعمالها في المفرد، لا قليل في نفسه فإنه كثير. اهـ.
وَنَظِيرُ هَذَا لَفْظُ "الْقَضَاء" فَإِنَّهُ فِي كَلَامِ اللهِ وَكَلَامِ الرَّسُولِ الْمُرَادُ بِهِ إتْمَامُ الْعِبَادَةِ، وَإِن كَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] وَقَوْلِهِ: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 200].
ثُمَّ اصْطَلَحَ طَائِفَةٌ مِن الْفُقَهَاءِ فَجَعَلُوا لَفْظَ "الْقَضَاءِ" مُخْتَصًّا بِفِعْلِهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا، وَلَفْظَ "الْأَدَاءِ" مُخْتَصًّا بِمَا يُفْعَلُ فِي الْوَقْتِ، وَهَذَا التَّفْرِيقُ لَا يُعْرَفُ قَطُّ فِي كَلَامِ الرَّسُولِ
(1)
، ثُمَّ يَقُولُونَ: قَد يُسْتَعْمَلُ لَفْظُ الْقَضَاءِ فِي الْأَدَاءِ، فَيَجْعَلُونَ اللُّغَةَ الَّتِي نَزَلَ الْقُرْآنُ بِهَا مِن النَّادِرِ!
وَلهَذَا يَتَنَازَعُونَ فِي مُرَادِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا"
(2)
وَفِي لَفْظٍ: "فَأَتِمُّوا"
(3)
فَيَظُنُونَ أَنَّ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ خِلَافًا وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَل قَوْلُهُ:"فَاقْضُوا" كَقَوْلِهِ: "فَأَتِمُّوا" لَمْ يُرِدْ بِأَحَدِهِمَا الْفِعْلَ بَعْدَ الْوَقْتِ.
ومِن أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْغَلَطِ فِي فَهْمِ كَلَامٍ اللهِ وَرَسُولِهِ: أَنْ يَنْشَأَ الرَّجُلُ عَلَى اصْطِلَاحٍ حَادِثٍ، فَيُرِيدُ أَنْ يُفَسِّرَ كَلَامَ اللّهِ بِذلِكَ الِاصْطِلَاحِ، وَيَحْمِلَهُ عَلَى تِلْكَ اللُّغَةِ الَّتِي اعْتَادَهَا. [12/ 103 - 107]
(1)
وقال الشيخ في موضع آخر: الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ هُوَ فَرْقٌ اصطِلَاحِيٌّ، لَا أصْلَ لَهُ فِي كَلَامِ اللهِ وَرَسُولهِ؛ فَإِنَ اللهَ تَعَالَى سَمَّى فِعْلَ الْعِبَادَةِ فِي وَقْتِهَا قَضَاءً، كَمَا قَالَ فِي الْجُمُعَةِ:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} ، وَقَالَ تَعَالَى:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} مَعَ أَنَّ هَذَيْنِ يَفْعَلَانِ فِي الْوَقْتِ.
والْقَضَاءُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: هُوَ إكْمَالُ الشَّيءِ وَإِتْمَامُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت: 12]؛ أَيْ: أَكْمَلَهُنَ وَأَتَمَّهُنَّ. (22/ 37).
(2)
أخرجه بهذا اللفظ ابن حبان في صحيحه (2415)، وصحَّحه الألباني في صحيح النسائي (860).
وعند مسلم (602): "صَلِّ مَا أَدْرَكْتَ، وَاقْضِ مَا سَبَقَكَ".
(3)
لفظ البخاري (636)، ومسلم (602).
1312 -
لَفْظُ "الْكَلَامِ" و"الْكَلِمَةِ" فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، بَل وَفِي لُغَةِ غَيْرِهِمْ لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الْمُقَيَّدِ، وَهُوَ الْجُمْلَةُ التَّامَّةُ، اسْمِيَّةً كَانَت أَو فِعْلِيَّةً أَو نِدَائِيَّةً إنْ قِيلَ إنَّهَا قِسْمٌ ثَالِثٌ.
فَأَمَّا مُجَرَّدُ الِاسْمِ أَو الْفِعْلِ أَو الْحَرْفِ الَّذِي جَاءَ لِمَعْنَى لَيْسَ بِاسْم وَلَا فِعْلٍ: فَهَذَا لَا يُسَمَّى فِي كَلَامِ الْعَرَب قَطُّ كَلِمَةً، وَإِنَّمَا تَسْمِيَةُ هَذَا كَلِمَةً اصْطِلَاحٌ نَحْوِيٌّ، كَمَا سَمَّوْا بَعْضَ الأَلْفَاظِ فِعْلًا، وَقَسَّمُوهُ إلَى فِعْلٍ مَاضٍ وَمُضَارعٍ وَأَمْرٍ، وَالْعَرَبُ لَمْ تُسَمِّ قَطُّ اللَّفْظَ فِعْلًا، بَل النُّحَاةُ اصْطَلَحُوا عَلَى هَذَا فَسَمَّوْا اللَّفْظَ بِاسْمِ مَدْلُولِهِ، فَاللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى حُدُوثِ فِعْلٍ فِي زَمَنٍ مَاضٍ سَمَّوْهُ فِعْلًا مَاضِيًا، وَكَذَلِكَ سَائِرُهَا.
وَكَذَلِكَ حَيثُ وُجِدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَل وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ نَظْمِهِ وَنَثْرِهِ لَفْظُ كَلِمَةٍ؛ فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْمُفِيدُ الَّتِي تُسَمّيهَا النُّحَاةُ جُمْلَةً تَامَّةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)} [الكهف: 4، 5]. [7/ 101]
* * *
(الرد على من قسم الكلام إلى حقيقة ومجاز)
مَعْلُومٌ أَنَّ أَوَّلَ مَن عُرِفَ أَنَّهُ جَرَّدَ الْكَلَامَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ هُوَ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ لَمْ يُقَسِّم الْكَلَامَ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ، بَل لَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِهِ -مَعَ كَثْرَةِ استِدْلَالِهِ وَتَوَسُّعِهِ وَمَعْرِفَتِهِ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ- أَنَّهُ سَمَّى شَيْئًا مِنْهُ مَجَازًا، وَلَا ذَكَرَ فِي شَيءٍ مِن كُتُبِهِ ذَلِكَ، لَا فِي الرِّسَالَةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا.
وَحِينَئِذٍ فَمَن اعْتَقَدَ أَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ الْمَشْهُورِينَ وَغَيْرَهُم مِن أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَعُلَمَاءِ السَّلَفِ قَسَّمُوا الْكَلَامَ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ كَمَا فَعَلَهُ طَائِفَة مِن الْمُتَأَخِّرِينَ: كَانَ ذَلِكَ مِن جَهْلِهِ وَقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِ بِكَلَامِ أَئِمَّةِ الذينِ وَسَلَفِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا قَد يَظُنُّ طَائِفَة أُخْرَى أَنَّ هَذَا مِمَّا أُخِذَ مِن الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ تَوْقِيفًا، وَأَنَّهُم قَالُوا: هَذَا
حَقِيقَةٌ وَهَذَا مَجَازٌ، كَمَا ظَنَّ ذَلِكَ طَائِفَة مِن الْمُتَكلِّمِينَ فِى أُصُولِ الْفِقْهِ وَكَانَ هَذَا مِن جَهْلِهِمْ بِكلَامِ الْعَرَبِ.
ولَا ريبَ أَنَّ أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ قَسَّمُوا هَذَا التَّقْسِيمَ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِمْ إمَامٌ فِي فَنٍّ مِن فُنُونِ الْإِسْلَامِ، لَا التَّفْسِيرِ، وَلَا الْحَدِيثِ، وَلَا الْفِقْهِ، وَلَا اللُّغَةِ، وَلَا النَّحْوِ، بَل أَئِمَّةُ النُّحَاةِ أَهْلُ اللُّغَةِ كَالْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَالْكِسَائِيّ وَالْفَرَّاءِ وَأَمْثَالِهِمْ وَأَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ وَأَبِي زيدٍ الْأنْصَارِيّ وَالْأَصْمَعِيِّ وَأَبِي عَمْرٍو الشيباني وَغَيْرِهِمْ: لَمْ يُقَسِّمُوا تَقْسِيمَ هَؤُلَاءِ.
قَالَ الآمدي: حُجَّةُ الْمُثْبِتِينَ أَنَّهُ قَد ثَبَتَ إطْلَاقُ أَهْلِ اللُّغَةِ اسْمَ الْأَسَدِ عَلَى الْأِنْسَانِ الشُّجَاعِ، وَالْحِمَارِ عَلَى الْإِنْسَانِ الْبَلِيدِ، وَقَوْلُهُم: ظَهْرُ الطَّرِيقُ وَمَتْنُهَا، وَفُلَانٌ عَلَى جَنَاحِ السَّفَرِ، وَشَابَتْ لمَّةُ اللَّيْلِ، وَقَامَت الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ، وَكَبِدُ السَّمَاءِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَإِطْلَاقُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لُغَة مِمَّا لَا يُنْكَرُ إلَّا عَن عِنَادٍ.
وَعِنْدَ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْأَسْمَاءُ حَقِيقَة فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَو مَجَازِيَّةٌ؛ لِاسْتِحَالَةِ خُلُوِّ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ اللُّغَوِيَّةِ عَنْهَا مَا سِوَى الْوَضْعِ الْأَوَّلِ.
وَالْجَوَابُ عَن هَذِهِ الْحُجَّةِ أَنْ يُقَالَ: مَا ذَكَرْتَه مِن الِاسْتِعْمَالِ غَيْرُ مَمْنُوعٍ، لَكِنْ قَوْلُك: إنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ إمَّا أَنْ تَكُونَ حَقِيقِيَّةً أَو مَجَازِيَّةً: إنَّمَا يَصِحُّ إذَا ثَبَتَ انْقِسَامُ الْكَلَامِ إلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ.
ومِن النَّاسِ مَن يَقُولُ: مَا مِن لَفْظٍ عَلَى مَعْنَيَيْنِ فِي اللُّغَةِ الْوَاحِدَةِ إلَّا وَبَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ، بَل وَيلْتَزِمُ ذَلِكَ فِي الْحُرُوفِ، فَيَجْعَلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَعَانِي مُنَاسَبَةً تَكُونُ بَاعِثَةً لِلْمُتَكَلّمِ عَلَى تَخْصِيصِ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِذَلِكَ اللَّفْظِ.
وقد تَكلَّمُوا؛ [أي: العرب] بِأَفْعَالٍ لَا مَصَادِرَ لَهَا مِثْل "بُدٍّ" وبِمَصَادِرَ لَا أَفْعَالَ لَهَا مِثْل "وَيْحٍ" و"ويْلٍ".
وَقَد يَغْلِبُ عَلَيْهِم اسْتِعْمَالُ فِعْلٍ وَمَصْدَرِ فِعْلٍ آخَرَ كَمَا فِي الْحُبِّ؛ فَإِنَّ
فِعْلَهُ الْمَشْهُورَ هُوَ الرُّبَاعِي يُقَالُ: أَحَبَّ يُحِبُّ، وَمَصْدَرُهُ الْمَشْهُورُ هُوَ الْحُبُّ دُونَ الْإِحْبَابِ، وَفَى اسْمِ الْفَاعِلِ قَالُوا: مُحِبٌّ وَلَمْ يَقُولُوا: حَابٍّ، وَفِي الْمَفْعُولِ قَالُوا: مَحْبُوبٌ وَلَمْ يَقُولُوا: مُحَبٌّ، إلَّا فِي الْفَاعِلِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُقَالَ: أَحَبَّهُ إحْبَابًا كَمَا يُقَالُ: أَعْلَمَهُ إعْلَامًا.
وَهَذَا أَيْضًا لَهُ أَسْبَابٌ يَعْرِفُهَا النُّحَاةُ وَأَهْلُ التَّصْرِيفِ: إمَّا كَثْرَةُ الِاسْتِعْمَالِ، وَإِمَّا نَقْلُ بَعْضِ الْأَلْفَاظِ، وَإِمَّا غَيْرُ ذَلِكَ كَمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ أَهْلُ النَّحْوِ وَالتَّصْرِيفِ؛ إذ كَانَت أَقْوَى الْحَرَكَاتِ هِيَ الضَّمَّةَ؛ وَأَخَفُّهَا الْفَتْحَةَ؛ وَالْكَسْرَةُ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَهُمَا
(1)
؛ فَجَاءَت اللُّغَةُ عَلَى ذَلِكَ مِن الْأَلْفَاظِ الْمُعْرَبَةِ وَالْمَبْنِيَّةِ:
أ- فَمَا كَانَ مِن الْمُعْرَبَاتِ عُمْدَةٌ فِي الْكَلَامِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ: كَانَ لَه الْمَرْفُوعُ؛ كَالْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ وَالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ الْقَائِمِ مَقَامَهُ.
ب- وَمَا كَانَ فَضْلَةً: كَانَ لَهُ النَّصْبُ؛ كَالْمَفْعُولِ وَالْحَالِ وَالتَّمْيِيز.
ج- وَمَا كَانَ مُتَوَسّطًا بَيْنَهُمَا لِكَوْنِهِ يُضَافُ إلَيْهِ الْعُمْدَةُ تَارَةً وَالْفَضْلَةُ تَارَةً: كَانَ لَهُ الْجَرُّ وَهُوَ الْمُضَافُ إلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ فِي الْمَبْنِيَّاتِ؛ مِثْل مَا يَقُولُونَ فِي "أَيْنَ وَكَيْفَ": بُنِيَتْ عَلَى الْفَتْحِ طَلَبُا لِلتَّخْفِيفِ لِأَجْلِ الْيَاءِ.
وَكَذَلِكَ فِي حَرَكَاتِ الْأَلْفَاظِ الْمَبْنِيَّةِ الْأَقْوَى لَهُ الضَّمُّ، وَمَا دُونَهُ لَهُ الْفَتْحُ، فَيَقُولُونَ: كَرِهَ الشَّيءَ، وَالْكرَاهِيَةُ يَقُولُونَ فِيهَا: كَرْهًا بِالْفَتْحِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83]؛ وَقَالَ: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فصلت: 11].
وَكَذَلِكَ الْكَسْرُ مَعَ الْفَتْحِ فَيَقُولُونَ فِي الشَّيْءِ الْمَذْبُوحِ وَالْمَنْهُوبِ: ذِبْحٌ ونِهب بِالْكَسْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} [الصافات: 107]،
(1)
هذا عند النحاة، أما عند أهل الإملاء فأقواها الكسرة ثم الضمة ثم الفتحة.
وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ: "أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بنِهْب إبِلٍ"
(1)
وفِي الْمَثَلِ السَّائِرِ: "أَسْمَعُ جَعْجَعَةً وَلَا أَرَى طِحْنًا" بِالْكَسْرِ؛ أيْ: وَلَا أَرَى طَحِينًا.
وَمَن قَالَ بِالْفَتْحِ أَرَادَ الْفِعْلَ، كَمَا أنَّ الذَّبْحَ وَالنَّهْبَ هُوَ الْفِعْلُ، وَمِن النَّاسِ مَن يُغَلِّطُ هَذَا الْقَائِلَ.
وَهَذِهِ الْأمُورُ وَأَمْثَالُهَا هِيَ مَعْرُوفَة مِن لُغَةِ الْعَرَبِ لِمَن عَرَفَهَا، مَعْرُوفَةٌ بِالِاسْتِقْرَاءِ وَالتجْرِبَةِ تَارَةً، وَبِالْقِيَاسِ أُخْرَى، كَمَا تَفْعَلُ الْأَطِبَّاءُ فِي طَبَائِعِ الْأَجْسَامِ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أنَّه إذَا كَانَ مِن الْأسْمَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَلْفَاظِ مَا يَكُونُ مَعْنَاهُ وَاحِدًا كَالْجُلُوسِ وَالْقُعُودِ -وَهِيَ الْمُتَرَادِفَةُ-.
وَمِنْهَا: مَا تَتَبَايَنُ مَعَانِيهَا كَلَفْظِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
وَمِنْهَا: مَا يَتَّفِقُ مِن وَجْهٍ وَيَخْتَلِفُ مِن وَجْهٍ كَلَفْظِ الصَّارِمِ وَالْمُهَنَّدِ، وَهَذَا قِسْمٌ ثَالِثٌ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مَعْنَى هَذَا مُبَايِنًا لِمَعْنَى ذَاكَ كَمُبَايَنَةِ السَّمَاءِ لِلْأَرْض، وَلَا هُوَ مُمَاثِلًا لَهَا كَمُمَاثَلَةِ لَفْظِ الْجلوسِ لِلْقُعُودِ، فَكَذَلِكَ الْأَسْمَاءُ الْمُتَّفِقَةُ اللًّفْظِ قَد يَكُونُ مَعْنَاهَا مُتَّفِقًا وَهِيَ الْمُتَوَاطِئَةُ، وَقَد يَكُونُ مَعْنَاهَا مُتَبَايِنًا وَهِيَ الْمُشْتَرِكَةُ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا؛ كَلَفْظِ سُهَيْلٍ الْمَقُولِ عَلَى الْكَوْكَبِ، وَعَلَى الرَّجُلِ.
وَقَد يَكُونُ مَعْنَاهَا مُتَّفِقًا مِن وَجْهٍ مُخْتَلِفًا مَن وَجْهٍ، فَهَذَا قِسْمٌ ثَالِثٌ، لَيْسَ هُوَ كَالْمُشْتَرَكِ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا، وَلَا هُوَ كَالْمُتَّفِقَةِ الْمُتَوَاطِئَةِ، فَيَكُونُ بَيْنَهَا اتِّفَاقٌ هُوَ اشْتِرَاكٌ مَعْنَوِيٌّ؛ مِن وَجْهٍ، وَافْتِرَاقٌ هُوَ اخْتِلَافٌ مَعْنَوِيٌّ مِن وَجْهٍ، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا إذَا خُصَّ كُلُّ لَفْظٍ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْمُخْتَصّ.
وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كَثِيرَةٌ فِي الْكَلَامِ الْمُؤَلَّفِ، أَو هِيَ أَكْثَرُ الْأَلْفَاظِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْكَلَامِ الْمُؤَلَّفِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ كُلُّ مُتَكَلِّمٍ؛ فَإِنَّ الْألْفَاظَ الَّتِي يُقَالُ: إنَّهَا
(1)
رواه البخاري (3133)، ومسلم (1649).
مُتَوَاطِئَة كَأَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ؛ مِثْل لَفْظِ الرَّسُولِ وَالْوَالِي وَالْقَاضِي وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالْإِمَامِ وَالْبَيْتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: قَد يُرَادُ بِهَا الْمَعْنَى الْعَامُّ، وَقَد يُرَادُ بِهَا مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْهُ مِمَّا يَقْتَرِنُ بِهَا تَعْرِيفُ الْإِضَافَةِ أَو اللَّام؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ:{إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} .
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]؛ فَلَفْظُ الرَّسُولِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَفْظٌ وَاحِذ مَقْرُونٌ بِاللَّامِ، لَكِنْ يَنْصَرِفُ فِي كُلِّ مَوْضِعِ إلَى الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَلَمَّا قَالَ هُنَا:{كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 15، 16] كَانَ اللَّامُ لِتَعْرِيفِ رَسُولِ فِرْعَوْنَ، وَهُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ عليه السلام.
وَلَمَّا قَالَ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]، كَانَ اللَّامُ لِتَعْرِيفِ الرَّسُولِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ الْمَأمُورِينَ بِأَمْرِهِ الْمُنْتَهِينَ بِنَهْيِهِ، وَهُم أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
وَمَعْلُومٌ أَنَ مِثْل هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مَجَازٌ فِي أَحَدِهِمَا بِاتِّفَاقِ النَّاسِ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مُشْتَرَكٌ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا مَحْضًا؛ كَلَفْظِ الْمُشْتَرِي لِلْمُبْتَاعِ وَالْكَوْكَبِ، وَسُهَيْلٍ لِلْكَوْكَبِ وَالرَّجُلِ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مُتَوَاطِئٌ دَلَّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ فَقَطْ، فَإِنَّهُ قَد عُلِمَ أَنَّهُ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ هُوَ مُحَمَّدٌ، وَفِي الْآخَرِ مُوسَى، مَعَ أَنَّ لَفْظَ الرَّسُولِ وَاحِدٌ.
إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَيُقَالُ لَهُ
(1)
: هَذِهِ الْأَسْمَاءُ الَّتِي ذَكَرْتهَا مِثْل لَفْظِ الظَّهْرِ وَالْمَتْنِ وَالسَّاقِ وَالْكَبِدِ لَا يَجُوزُ أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِي اللُّغَةِ إلَّا مَقْرُونَةً بِمَا يُبَيِّنُ الْمُضَافَ إلَيْهِ، وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ الْمُرَادُ.
(1)
أي: للآمدي، الذي ردّ عليه في تقريره للحقيقة والمجاز.
فَقَوْلُك: ظَهْرُ الطَّرِيقِ وَمَتْنُهَا: لَيْسَ هُوَ كَقَوْلِك: ظَهْرُ الْإِنْسَانِ وَمَتْنُه، بَل وَلَا كَقَوْلِك: ظَهْرُ الْفَرَسِ وَمَتْنُهُ، وَلَا كَقَوْلِك: ظَهْرُ الْجَبَلِ.
وَكَذَلِكَ لَفْظُ السَّيْفِ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إن خَالِدًا سَيْفٌ سَلَّهُ اللهُ عَلَى الْمُشْرِكينَ"
(1)
لَيْسَ مِثْل لَفْظِ السَّيْفِ فِي قَوْلِهِ: "مَن جَاءكُمْ وَأَمْرُكُمْ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ بِالسَّيْفِ كائِنًا مَن كانَ"
(2)
، فَكُلٌّ مِن لَفْظِ السَّيْفِ هَاهُنَا وَهَاهُنَا مَقْرُون بِمَا يُبَيِّنُ مَعْنَاهُ.
فَقَد تَبَيَّنَ أنَّهُ لَيْسَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى ظَهْرِ الْإنْسَانِ هُوَ اللَّفْظ الدَّالّ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَلْزَمُ مِن اخْتِلَافِ مَعْنَى اللَّفْظَيْنِ أنْ يَكونَ مُشْتَرِكًا؛ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ [لَا]
(3)
يَكُونُ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ اخْتَلَفَ مَعْنَاهُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَمْنَعُونَ ثُبُوتَ الِاشْتِرَاكِ وَقَد قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِهِ؟
قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَهُ قَامَ دَليل عَلَى وُجُودِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ادَّعَوْهُ.
وإذَا قِيلَ: الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْكَلَامُ وَالِاسْتِوَاءُ وَالنُّزُولُ وَنَحْوُ ذَلِكَ: تَارَةً يُذْكَرُ مُطْلَقًا عَامًّا، وَتَارَة يُقَالُ: عِلْمُ اللّهِ وَقُدْرَتُهُ، وَكَلَامُهُ، وَنُزُولُهُ، وَاسْتِوَاؤُهُ: فَهَذَا يَخْتَصُّ بِالْخَالِقِ، لَا يَشْرَكُهُ فِيهِ الْمَخْلُوقُ، كَمَا إذَا قِيلَ: عِلْمُ الْمَخْلُوقِ وَقُدْرَتُهُ، وَكَلَامُهُ، وَنُزُولُهُ، وَاسْتِوَاؤُهُ: فَهَذَا يَخْتَصُّ بِالْمَخْلُوقِ وَلَا يَشْرَكُهُ فِيهِ الْخَالِقُ.
فَالْإِضَافَةُ أَو التَّعْرِيفُ خَصَّصَ وَمَيَّزَ وَقَطَعَ الِاشْتِرَاكَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ.
(1)
رواه الإمام أحمد (43)، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع (3207).
(2)
رواه مسلم (1852)، بلفظ:"من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم، فاقتلوه".
(3)
هكذا في الأصل، ولعل الصواب حذفها؛ ومن المعلوم أنّ اللفظ المشترك هو: ما اتحد لفظه، واختلف معناه؛ مثل:(عين الماء) و (عين المال) و (عين السحاب).
ويُقَالُ: إطْلَاقُ لَفْظِ الْأَسَدِ وَالْحِمَارِ الْمُعَرَّفِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَعْرِفُهُ الْمُتَكَلِّمُ أَو الْمُخَاطَبُ، وَإِذَا كَانَ الْمُعَرَّفُ هُوَ الْبَهِيمَةَ انْصَرَفَ إلَيْهَا، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَكْثَرِ النَّاسِ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ، وَلَا يَلْزَمُ مِن ذَلِكَ إذَا كَانَ مُعَرَّفًا يُوجِبُ انْصِرَافَهُ إلَى الْبَلِيدِ وَالشُّجَاعِ، وَلَا يَكُونُ حَقِيقَةً أَيْضًا؛ كَقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ: لَاهَا اللّهَ إذًا لَا يَعْمِدُ إلَى أَسَدٍ مِن أُسْدِ اللهِ يُقَاتِلُ عَن اللّهِ وَرَسُولِهِ يُعْطِيَك سَلْبَهُ.
وَكَمَا أُشِيرَ إلَى شَخْصِ وَقِيلَ: هَذَا الْأسَدُ، أَو إلَى بَلِيدٍ وَقِيلَ: هَذَا الْحِمَارُ؛ فَالتَّعْرِيفُ هُنَا عَيَّنَهُ وَقَطَعَ إرَادَةَ غَيْرِهِ، كَمَا أنَّ لَفْظَ الرُّؤُوسِ وَالْبَيْضِ وَالْبُيُوتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَنْصَرِفُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَى الرُّؤُوسِ وَالْبَيْضِ الَّذِي يُؤكَلُ فِي الْعَادَةِ، وَالْبُيُوتِ إلَى مَسَاكِنِ النَّاسِ، ثُمَّ إذَا قِيلَ: بَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ وَبَيْضُ النَّمْلِ وَرُؤُوسُ الْجَرَادِ كَانَ أَيْضًا حَقِيقَةً بِاتِّفَاقِ النَّاسِ.
ولَمْ يَنْقلْ أَحَدٌ قَطُّ عَن أَهْلِ الْوَضْعِ أنَّهُم قَالُوا: هَذَا حَقِيقَة وَهَذَا مَجَازٌ، وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ هَذَا لَمْ يَقَعْ مِن أَهْلِ الْوَضْعِ، وَلَا نَقَلَهُ عَنْهُم أَحَدٌ مِمَن نَقَلَ لُغَتَهُمْ، بَل وَلَا ذَكَرَ هَذَا أَحَدٌ عَن الصَّحَابَةِ الَّذِينَ فَسَّرُوا الْقُرْآنَ وَبَيّنوا مَعَانِيَهُ، وَمَا يَدُلّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، فَلَيْسَ مِنْهُم أَحَدٌ قَالَ: هَذَا اللَّفْظُ حَقِيقَةٌ وَهَذَا مَجَازٌ وَلَا مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ، لَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابُهُ، وَلَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابُهُ، وَلَا زيدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَصْحَابُهُ، وَلَا مَن بَعْدَهُمْ، وَلَا مُجَاهِدٌ وَلَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَلَا عِكْرِمَةُ وَلَا الضَّحَّاكُ وَلَا طاووس وَلَا السدي وَلَا قتادة وَلَا غَيْرُ هَؤُلَاءِ، وَلَا أَحَدٌ مِن أَئِمَّةِ الْفِقْهِ كَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَا الثَّوْرِيُّ وَلَا الأوزاعي وَلَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَلَا غَيْرُهُ.
وَإِنَّمَا وُجِدَ فِي كَلَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَل لَكِنْ بِمَعْنَى آخَرَ، كَمَا أَنَّهُ وُجِدَ فِي كَلَامِ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى بِمَعْنَى آخَرَ.
وَلَمْ يُوجَدْ أَيْضًا تَقْسِيمُ الْكلَامِ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ فِي كَلَامِ أَئِمَّةِ النَّحْوِ
وَاللُّغَةِ؛ كَأَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ وَأَبِي عَمْرٍ و الشيباني وَأَبِي زيدٍ وَالْأَصْمَعِيِّ وَالْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَالْكِسَائِي وَالْفَرَّاءِ، وَلَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِن هَؤُلَاءِ عَن الْعَرَبِ.
وَهَذَا يَعْلَمُهُ بِالِاضْطِرَارِ مَن طَلَبَ عِلْمَ ذَلِكَ.
ومِن مَفَاسِدِ هَذَا: جَعْلُ عَامَّةِ الْقُرْآنِ مَجَازًا، كَمَا صَنَّفَ بَعْضُهُم مَجَازَاتِ الْقِرَاءَاتِ! وَكَمَا يُكْثِرونَ مِن تَسْمِيَةِ آياتِ الْقُرْآنِ مَجَازًا، وَذَلِكَ يُفْهِمُ ويُوهِمُ الْمَعَانِيَ الْفَاسِدَةَ، هَذَا إذَا كَانَ مَا ذَكَرُوهُ مِن الْمَعَانِي صَحِيحًا، فَكَيْفَ وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ مَا لَيْسَ بِمَجَازٍ مَجَازًا؟ وينْفُونَ مَا أَثْبَتَهُ اللهُ مِن الْمَعَانِي الثَّابِتَةِ ويُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اللّهِ وَآيَاتِهِ كَمَا وُجِدَ ذَلِكَ لِلْمُتَوَسِّعِينَ فِي الْمَجَازِ مِن الْمَلَاحِدَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ؟.
وَمَن ظَنَّ أَنَّ الْحَقِيقَةَ فِي مِثْل قَوْلِهِ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، هُوَ سُؤَالُ الْجُدْرَانِ فَهُوَ جَاهِلٌ.
وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَرْيَةِ نَفْسُ النَاسِ الْمُشْتَرِكِينَ السَّاكِنِينَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَلَفْظ الْقَرْيَةِ هُنَا أُرِيدَ بِهِ هَؤُلَاءِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)} [محمد: 13].
وَتَمَامُ هَذَا بِالْكَلَامِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِن الْمَجَازِ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ قَالَ: يُعْتَذَرُ عَن قَوْلِهِ: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [الفتح: 5]، وَالْأَنْهَارُ غَيْرُ جَارِيَةٍ.
فَيُقَالُ: النَّهْرُ كَالْقَرْيَةِ وَالْمِيزَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يُرَادُ بِهِ الْحَالُّ ويُرَادُ بِهِ الْمَحَلُّ، فَإِذَا قِيلَ: حَفَرَ النَّهْرَ: أُرِيدَ بِهِ الْمَحَلُّ، وَإِذَا قِيلَ: جَرَى النَّهْرُ: أُرِيدَ بِهِ الْحَالُّ.
وَعَن قَوْلِهِ: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4] وَهُوَ غَيْرُ مُشْتَعِلٍ كَاشْتِعَالِ النَارِ.
فَهَذَا مُسَلَّمٌ، لَكِنْ يُقَالُ: لَفْظُ الِاشْتِعَالِ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي هَذَا الْمَعْنَى، إنَّمَا اُسْتُعْمِلَ فِي الْبَيَاضِ الَّذِي سَرَى مِن السَّوَادِ سَرَيَانَ الشُّعْلَةِ مِن النَّارِ، وَهَذَا تَشْبِيهٌ
وَاسْتِعَارَةٌ، لَكنَّ قَوْلَهُ:{وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ} اُسْتُعْمِلَ فِيهِ لَفْظُ الِاشْتِعَالِ مُقَيَّدًا بِالرَّأسِ لَمْ يَحْتَمِل اللَّفْظ فِي اشْتِعَالِ الْحَطَبِ.
قَالَ: وَعَن قَوْلِهِ: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} [الإسراء: 24]، وَالذُّلُّ لَا جَنَاحَ لَهُ؟
فَيُقَالُ لَهُ: لَا رَيْبَ أَنَّ الذُّلَّ لَيْسَ لَهُ جَنَاحٌ مِثْل جَنَاحِ الطَّائِرِ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلطَّائِرِ جَنَاحٌ مِثْل أَجْنِحَةِ الْمَلَائِكةِ، وَلَا جَنَاحُ الذُّلِّ مِثْل جَنَاحِ السَّفَرِ، لَكِنَّ جَنَاحَ الْإِنْسَانِ جَانِبُهُ، كَمَا أَن جَنَاحَ الطَّيْرِ جَانِبُهُ، وَالْوَلَدُ مَأمُورٌ بِأَنْ يَخْفِضَ جَانِبَهُ لأبَوَيْهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الذُّلِّ لَهُمَا.
قَالَ: وَقَوْلُهُ: {أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، وَالْأشْهُرُ لَيْسَتْ هِيَ الْحَجَّ؟
فَيُقَالُ: مِن عَادَةِ الْعَرَبِ الْحَسَنَةِ فِي خِطَابِهَا أَنَّهُم يَحْذِفُونَ مِن الْكَلَامِ مَا يَكُونُ الْمَذْكورُ دَلِيلًا عَلَيْهِ اخْتِصَارًا، كَمَا أَنَّهُم يُورِدُونَ الْكَلَامَ بِزِيَادَةٍ تَكُونُ مُبَالَغَةً فِي تَحْقِيقِ الْمَعْنَى.
فَالْأوَّلُ: كَقَوْلِهِ: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء: 63]، فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ:"فَضَرَبَ فَانْفَلَقَ" لَكِنْ لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِ ذَلِكَ فِي اللَّفْظِ إذ كَانَ قَوْلُهُ: قُلْنَا: (أَنِ اضْرِبْ فَانْفَلَقَ): دَليلًا عَلَى أنه ضَرَبَ فَانْفَلَقَ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} [البقرة: 177]، تَقْدِيرُهُ:"بِرُّ مَن آمَنَ" أَو "صَاحِبُ مَن آمَنَ".
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ} ؛ أَيْ: أَوْقَاتُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ؛ فَالْمَعْنَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي تَسْمِيَةِ هَذَا مَجَازًا.
قَالَ: وَقَوْلُهُ: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، قَالَ: وَالْقِصَاصُ لَيْسَ بِعُدْوَانِ؟
فَيُقَالُ: الْعُدْوَانُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، لَكِنْ إنْ كَانَ بِطَرِيقِ الظُّلْمِ كَانَ مُحَرَّمًا،
وَإِن كَانَ بِطَرِيقِ الْقِصَاصِ كَانَ عَدْلًا مُبَاحًا، فَلَفْظُ الْعُدْوَانِ فِي مِثْل هَذَا هُوَ تَعَدِّي الْحَدِّ الْفَاصِلِ، لَكِنْ لَمَّا اعْتَدَى صَاحِبُهُ جَازَ الِاعْتِدَاءُ عَلَيْهِ، وَالِاعْتِدَاءُ الْأَوَّلُ ظُلْمٌ، وَالثَّانِي مُبَاحٌ.
وَلَفْظ الِاعْتِدَاءِ هُنَا مُقَيَّد بِمَا يُبَيّنُ أَنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى وَجْهِ الْقِصَاصِ، بِخِلَافِ الْعُدْوَانِ ابْتِدَاءً فَإِنَّهُ ظُلْمٌ، فَإِذَا لَمْ يُقَيَّدْ بِالْجَزَاءِ فُهِمَ مِنْة الِابْتِدَاءُ، إذ الْأَصْلُ عَدَمُ مَا يُقَابِلُهُ. [20/ 403 - 458]
1313 -
تَقْسِيمُ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعَانِيهَا إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ .. : اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ، لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ أَحَدٌ مِن الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان، وَلَا أَحَدٌ مِن الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ فِي الْعِلْمِ؛ كَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، بَل وَلَا تَكَلَّمَ بِهِ أَئِمَّةُ اللغَةِ وَالنَّحْوِ؛ كَالْخَلِيلِ، وَسِيبَوَيْهِ، وَأَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ وَنَحْوِهِمْ.
وَأَوَّلُ مَن عُرِفَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِلَفْظِ الْمَجَازِ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى فِي كِتَابِهِ
(1)
.
وَلَكِنْ لَمْ يَعْنِ بِالْمَجَازِ مَا هُوَ قَسِيمُ الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا عَنَى بِمَجَازِ الْآيَةِ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَن الْآيَةِ.
وَلهَذَا قَالَ مَن قَالَ مِن الْأصُولِيِّينَ -كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَأَمْثَالِهِ-: إنَّمَا تُعْرَفُ الْحَقِيقَةُ مِن الْمَجَازِ بِطُرُقِ مِنْهَا نَصُّ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى ذَلِكَ؛ بِأَنْ يَقُولُوا: هَذَا حَقِيقَةٌ وَهَذَا مَجَازٌ: فَقَد تَكَلَّمَ بِلَا عِلْمٍ؛ فَإِنَّهُ ظَنَّ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا هَذَا، وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِن أَهْلِ اللُّغَةِ، وَلَا مِن سَلَفِ الْأُمَّةِ وَعُلَمَائِهَا، وَإِنَّمَا هَذَا اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ، وَالْغَالِبُ أَنَّهُ كَانَ مِن جِهَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ مِن الْمُتَكَلِّمِينَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ هَذَا فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِن أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَنَحْوِهِمْ مِن السَّلَفِ.
(1)
مجاز القرآن.
وَهَذَا الشَّافِعِيُّ هُوَ أَوَّلُ مَن جَرَّدَ الْكَلَامَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ: لَمْ يُقَسِّمْ هَذَا التَّقْسِيمَ، وَلَا تَكَلَّمَ بِلَفْظِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ.
وَكَذَلِكَ مُحَمَّد بْنُ الْحَسَنِ لَهُ فِي الْمَسَائِلِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ كَلَامٌ مَعْرُوفٌ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَغَيْرِهِ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِلَفْظِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ.
وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَئِمَّةِ لَمْ يُوجَدْ لَفْظُ الْمَجَازِ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْهُمْ، إلَّا فِي كَلَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَل؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة فِي قَوْلِهِ:(إنَّا، وَنَحْنُ) وَنَحْؤ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ: هَذَا مِن مَجَازِ اللُّغَةِ، يَقُولُ الرَّجُلُ: إنَا سَنُعْطِيك، إنَّا سَنَفْعَلُ.
وَأَمَّا سَائِرُ الْأَئِمَّةِ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُم وَلَا مِن قُدَمَاءِ أَصْحَابِ أَحْمَد: إنَّ فِي الْقُرْآنِ مَجَازًا، لَا مَالِكٌ، وَلَا الشَّافِعِي، وَلَا أَبُو حَنِيفَةَ؛ فَإِنَّ تَقْسِيمَ الْأَلْفَاظِ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ إنَّمَا اُشْتُهِرَ فِي الْمِائَةِ الرَّابعَةِ، وَظَهَرَتْ أَوَائِلُهُ فِي الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ، وَمَا عَلِمْته مَوْجُودًا فِي الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي أَوَاخِرِهَا.
وَاَلَّذِينَ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ نَطَقُوا بِهَذَا التَّقْسِيمِ قَالُوا: إنَّ مَعْنَى قَوْلِ أَحْمَد: مِن مَجَازِ اللُّغَةِ؛ أَيْ: مِمَّا يَجُوزُ فِي اللّغَةِ أَنْ يَقُولَ الْوَاحِدُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَهُ أَعْوَانٌ: نَحْنُ فَعَلْنَا كَذَا، وَنَفْعَلُ كَذَا، وَنَحْو ذَلِكَ، قَالُوا: وَلَمْ يُرِدْ أَحْمَد بِذَلِكَ أَنَّ اللَّفْظَ اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ.
ثُمَّ يُقَالُ ثَانِيًا: هَذَا التَّقْسِيمُ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَلَيْسَ لِمَن فَرَّقَ بَيْنَهُمَا حَدٌّ صَحِيحٌ يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا، فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ بَاطِلٌ، وَهُوَ تَقْسِيمُ مَن لَمْ يَتَصَوَّرْ مَا يَقُولُ، بَل يَتَكَلَّمُ بِلَا عِلْمٍ، فَهُم مُبْتَدِعَةٌ فِي الشَّرْعِ، مُخَالِفُونَ لِلْعَقْلِ.
وَذَلِكَ أَنَّهُم قَالُوا: الْحَقِيقَةُ: اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ، وَالْمَجَازُ: هُوَ الْمُسْتَعْمَل فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ، فَاحْتَاجُوا إلَى إثْبَاتِ الْوَضْعِ السَّابِقِ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ، وَهَذَا يَتَعَذَّرُ.
وَإِن قَالُوا: نَعْنِي بِمَا وُضِعَ لَهُ مَا اُسْتُعْمِلَتْ فِيهِ أَوَّلًا.
فَيُقَالُ: مِن أيْنَ يُعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الَّتِي كَانَت الْعَرَبُ تتخَاطَبُ بِهَا عِنْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَقَبْلَهُ لَمْ تُسْتَعْمَلْ قَبْلَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى شَيءٍ آخَرَ؟ وَإِذَا لَمْ يَعْلَمُوا هَذَا النَّفْيَ: فَلَا يُعْلَمُ أَنَّهَا حَقِيقَة، وَهَذَا خِلَافُ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ.
فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ لِمَن فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فَرْقٌ مَعْقُولٌ يُمْكِنُ بِهِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ نَوْعَيْنِ، فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ بَاطِلٌ.
وَحِينَئِذٍ: فَكُلُّ لَفْظٍ مَوْجُودٍ فِي كِتَابِ اللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا يُبَيِّنُ مَعْنَاه، فَلَيْسَ فِي شَيءٍ مِن ذَلِكَ مَجَازٌ، بَل كُلهُ حَقِيقَةٌ.
وَلهَذَا لَمَّا ادَّعَى كَثِيرٌ مِن الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَجَازًا وَذَكَرُوا مَا يَشْهَدُ لَهُمْ: رَدَّ عَلَيْهِم الْمُنَازِعُونَ جَمِيعَ مَا ذَكَرُوهُ.
فَمِن أَشْهَرِ مَا ذَكَرُوهُ قَوْله تَعَالَى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77]، قَالُوا: وَالْجِدَارُ لَيْسَ بِحَيَوَان، وَالْإِرَادَةُ إنَّمَا تَكُونُ لِلْحَيَوَانِ؛ فَاسْتِعْمَالُهَا فِي مَيْلِ الْجِدَارِ مَجَازٌ.
فَقِيلَ لَهُمْ: لَفْظ الْإِرَادَةِ قَد اُسْتُعْمِلَ فِي الْمَيْلِ الَّذِي يَكُونُ مَعَهُ شُعُورٌ وَهُوَ مَيْلُ الْحَيِّ، وَفِي الْمَيْلِ الَّذِي لَا شُعُورَ فِيهِ وَهُوَ مَيْلُ الْجَمَادِ، وَهُوَ مِن مَشْهُورِ اللُّغَةِ، يُقَالُ: هَذَا السَّقْفُ يُرِيدُ أَنْ يَقَعَ. وَهَذَا الثوْبُ يُرِيدُ أَنْ يُغْسَلَ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ.
واللَّفْظُ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي مَعْنيَيْنِ فَصَاعِدًا:
- فَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ حَقِيقَةً فِي أَحَدِهِمَا مَجَازًا فِي الْآخَرِ.
- أَو حَقِيقَةً فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمَا فَيَكُون مُشْتَرَكًا اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا.
- أَو حَقِيقَةً فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا، وَهِيَ الْأَسمَاءُ الْمُتَوَاطِئَةُ، وَهِيَ الْعَامَّةُ كُلُّهَا
(1)
.
(1)
اللفظ المشترك هو: ما اتحد لفظه، واختلف معناه؛ مثل:(عين الماء) و (عين المال) و (عين السحاب). =
وَعَلَى الْأَوَّلِ: يَلْزَمُ الْمَجَازُ.
وَعَلَى الثَّانِي: يَلْزَمُ الِاشْتِرَاكُ.
وَكِلَاهُمَا خِلَافُ الْأَصْلِ، فَوَجَبَ أَنْ يُجْعَلَ مِن الْمُتَوَاطِئَةِ.
وَبِهَذَا يُعْرَفُ عُمُومُ الْأَسْمَاءِ الْعَامَّةِ كُلّهَا.
وَإِلَّا فَلَو قَالَ قَائِلٌ: هُوَ فِي مَيْلِ الْجَمَادِ حَقِيقَةٌ، وَفِي مَيْلِ الْحَيَوَانِ مَجَازٌ: لَمْ يَكُن بَيْنَ الدعويين فَرْق إلَّا كَثْرَةُ الِاسْتِعْمَالِ فِي مَيْلِ الْحَيَوَانِ، لَكِنْ يُسْتَعْمَلُ مُقَيَّدًا بِمَا يُبَيِّنُ أنَّهُ أرِيدَ بِهِ مَيْلُ الْحَيَوَانِ، وَهُنَا اُسْتُعْمِلَ مُقَيَّدًا بِمَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مَيْلُ الْجَمَادِ.
وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ مُسَمَّيَاتِ الْأَسْمَاءِ الْمُتَوَاطِئَةِ: أَمْرٌ كُلِّيٌّ عَامٌّ، لَا يُوجَدُ كُلِّيُّا عَامًّا إلَّا فِي الذِّهْنِ، وَهُوَ مَوْرِدُ التَّقْسِيمِ بَيْنَ الْأَنْوَاعِ، لَكِنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْعَامَّ الْكُلّيَّ كَانَ أَهْلُ اللُّغَةِ لَا يَحْتَاجُونَ إلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُم إنَّمَا يَحْتَاجُونَ إلَى مَا يُوجَدُ فِي الْخَارجِ، وَإِلَى مَا يُوجَدُ فِي الْقُلُوبِ فِي الْعَادَةِ.
وَمَا لَا يَكُونُ فِي الْخَارجِ إلَّا مُضَافًا إلَى غَيْرِهِ: لَا يُوجَدُ فِي الذِّهْنِ مُجَرَّدًا، بِخِلَافِ لَفْظِ الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ يُوجَدُ فِي الْخَارجِ غَيْرَ مُضَافٍ تَعَوَّدَت الْأذْهَانُ تَصَوُّرَ مُسَمَّى الْإنْسَانِ، وَمُسَمَّى الْفَرَسِ، بِخِلَافِ تَصَوُّرِ مُسَمَّى الْإرَادَةِ، وَمُسَمَّى الْعِلْمِ، وَمُسَمَّى الْقُدْرَةِ، وَمُسَمَّى الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ الْعَامِّ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يُوجَدُ لَهُ فِي اللُّغَةِ لَفْظٌ مُطْلَقٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ، بَل لَا يُوجَدُ لَفْظُ الْإِرَادَةِ
= والمتواطئ هو ما اتحد لفظه ومعناه، ولكنه يختلف باختلاف السياق والإضافة.
فالفرق بين المتواطئ والمشترك: أن الأسماء المتواطئة تشترك في اللفظ والمعنى.
أما المشتركة فإنها متفقة اللفظ مختلفة المعنى.
وبالمثال يتضح الفرق الجلي بينهما: كلمة (عين) تطلق على عدة معان مختلفة كما تقدم، وكلمة (وجود) تطلق على وجود الخالق وعلى وجود المخلوق، فمعنى الوجود -بمفهومه العام- واحد، وهو ضد العدم، ولكنه يختلف حسب ما أُضيف إليه.
وشيخ الإسلام رحمه الله رجح -كما يظهر- أنّ اللَّفْظَ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي مَعْنيَيْنِ فَصَاعِدًا: أنّه حَقِيقَةٌ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا، وَهِيَ الْأَسْمَاءُ الْمُتَوَاطِئَةُ، وَهِيَ الْأسْمَاءُ الْعَامَّةُ كُلُّهَا.
إلَّا مُقَيَّدًا بِالْمُرِيدِ، وَلَا لَفْظُ الْعِلْمِ إلا مُقَيَّدًا بِالْعَالِمِ، وَلَا لَفْظُ الْقُدْرَةِ إلَّا مُقَيَّدًا بِالْقَادِرِ.
بَل وَهَكذَا سَائِرُ الْأَعْرَاضِ لَمَّا لَمْ تُوجَدْ إلَّا فِي مَحَالِّهَا مُقَيَّدَةً بِهَا لَمْ يَكُن لَهَا فِي اللُّغَةِ لَفْظ إلَّا كَذَلِكَ.
فَلَا يُوجَدُ فِي اللُّغَةِ لَفْظُ السَّوَادِ، وَالْبَيَاضِ، وَالطُّولِ، وَالْقِصَرِ، إلَّا مُقَيَّدًا بِالْأَسْوَدِ، وَالْأَبْيَضِ، وَالطَّوِيلِ، وَالْقَصِيرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَا مُجَرَّدًا عَن كُلّ قَيْدٍ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ مُجَرَّدًا فِي كَلَامِ الْمُصَنّفِينَ فِي اللُّغَةِ؛ لِأَنَّهُم فَهِمُوا مِن كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ مَا يُرِيدُونَ بِهِ مِن الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى:{فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل: 112]؛ فَإِنَّ مِن النَّاسِ مَن يَقُولُ: الذَّوْقُ حَقِيقَةٌ فِي الذَّوْقِ بِالْفَمِ، وَاللِّبَاسُ بِمَا يُلْبَسُ عَلَى الْبَدَنِ، وَإِنَّمَا اُسْتُعِيرَ هَذَا وَهَذَا.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَل قَالَ الْخَلِيلُ: الذوْقُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ هُوَ وُجُودُ طَعْمِ الشَيءِ، وَالِاسْتِعْمَالُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى:{فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} [الطلاق: 9].
فَلَفْظُ الذَّوْقِ يُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ مَا يُحِسُّ بِهِ، ويجِدُ أَلَمَهُ أَو لَذَّتَهُ، فَدَعْوَى الْمُدَّعِي اخْتِصَاصَ لَفْظِ الذَّوْقِ بِمَا يَكُون بِالْفَمِ تَحَكُّمٌ مِنْهُ.
لَكِنَّ ذَاكَ مُقَيَّدٌ فَيُقَالُ: ذُقْت الطَّعَامَ، وَذُقْت هَذَا الشَّرَابَ، فَيَكُونُ مَعَهُ مِن الْقُيُودِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ذَوْقٌ بِالْفَمِ.
وَأَمَّا لَفْظُ اللِّبَاسِ: فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي كُلِّ مَا يَغْشَى الْإِنْسَانَ وَيلْتَبِسُ بِهِ، قَالَ تَعَالَى:{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10)} [النبأ: 10]، وَقَالَ:{وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26][الأعراف: 26]، وَقالَ:{هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187].
وَمِنْهُ يُقَالُ: لَبَسَ الْحَق بِالْبَاطِلِ إذَا خَلَطَهُ بِهِ حَتَّى غَشِيَهُ فَلَمْ يَتَمَيَّزْ.
فَالْجُوعُ الَّذِي يَشْمَلُ أَلَمُهُ جَمِيعَ الْجَائِعِ: نَفْسَهُ وَبَدَنَهُ، وَكَذَلِكَ الْخَوْفُ الَّذِي يَلْبَسُ الْبَدَنَ.
فَلَو قِيلَ: فَأَذَاقَهَا اللهُ الْجُوعَ وَالْخَوْفَ: لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ شَامِلٌ
لِجَمِيعِ أَجْزَاءِ الْجَائِعِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ: لِبَاسَ الْخوعِ وَالْخَوْفِ.
وَلَو قَالَ: فَأَلْبَسَهُم لَمْ يَكن فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُم ذَاقُوا مَا يُؤْلِمُهُم إلَّا بِالْعَقْلِ مِن حَيْثُ إَّنهُ يَعْرِفُ أَنَّ الْجَائِعَ الْخَائِفَ يَأْلَمُ، بِخِلَافِ لَفْظِ ذَوْقِ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ؛ فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى الْإِحْسَاسِ بِالْمُؤْلِمِ، وَإِذَا أُضِيفَ إلَى الملذ: دَلَّ عَلَى الْإِحْسَاسِ بِهِ.
وَكَذَلِكَ مَا ادَّعَوْا أَنَهُ مَجَازٌ فِي الْقُرْآنِ؛ كَلَفْظِ الْمَكْرِ، وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَالسُّخْرِيَةِ الْمُضَافِ إلَى اللهِ، وَزَعَمُوا أَنَّه مُسَمًّى بِاسْمِ مَا يُقَابِلُهُ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَل مُسَمَّيَاتُ هَذه الْأَسْمَاءِ إذَا فُعِلَتْ بِمَن لَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ كَانَت ظُلْمًا لَهُ، وَأَمَّا إذَا فعِلَتْ بِمَن فَعَلَهَا بِالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عُقُوبَةً لَهُ بِمِثْل فِعْلِهِ كَانَت عَدْلًا.
وَمِن الْأَمْثِلَةِ الْمَشْهُورَةِ لِمَن يُثْبِتُ الْمَجَازَ فِي الْقُرْآنِ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، قَالُوا: الْمُرَادُ بِهِ أَهْلُهَا، فَحُذِفَ الْمُضَافُ، وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إلَيْهِ مَقَامَهُ.
فَقِيلَ لَهُم: لفظُ الْقَرْيَةِ وَالْمَدِينَةِ وَالنَّهْرِ وَالْمِيزَابِ؛ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتي فِيهَا الْحَالُّ وَالْمَحَالُّ كِلَاهُمَا دَاخِلٌ فِي الِاسْمِ، ثُمَّ قَد يَعُودُ الْحُكْمُ عَلَى الْحَالِّ وَهُوَ السُّكَّانُ، وَتَارَةً عَلَى الْمَحَلِّ وَهُوَ الْمَكَانُ.
وَكَذَلِكَ فِي النَّهْرِ يُقَالُ: حَفَرْت النَّهْرَ وَهُوَ الْمَحَلُّ، وَجَرَى النَّهْرُ وَهُوَ الْمَاءُ.
وَكَذَلِكَ الْقَرْيَةُ، قَالَ تَعَالَى:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} [النحل: 112] وَقَوْلُهُ: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4)} [الأعراف: 4] .. فَجَعَلَ الْقُرَى هُم السُّكَّانُ.
وَقَالَ تَعَالَى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة: 259]؛ فَهَذَا الْمَكَانُ لَا السُّكَّانُ.
لَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يُلْحَظَ أَنَّهُ كَانَ مَسْكُونًا، فَلَا يُسَمَّى قَرْيَةً إلَّا إذَا كَانَ قَد عُمِّرَ لِلسُّكْنَى، مَأخُوذٌ مِن الْقرْي وَهُوَ الْجَمْعُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُم: قَرَيْت الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ، إذَا جَمَعْته فِيهِ.
وَنَظِير ذَلِكَ لَفْظُ الْإِنْسَانِ، يَتَنَاوَلُ الْجَسَدَ وَالروُّحَ، ثُمَّ الْأَحْكَامُ تَتَنَاوَلُ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً لِتَلَازُمِهِمَا، فَكَذَلِكَ الْقَرْيَةُ إذَا عُذبَ أَهْلُهَا خَرِبَتْ، وَإِذَا خَرِبَتْ كَانَ عَذَابًا لِأَهْلِهَا، فَمَا يُصِيبُ أَحَدَهُمَا مِن الشَّرِّ يَنَالُ الْآخَرَ؛ كَمَا يَنَالُ الْبَدَنَ وَالرُّوحَ مَا يُصِيبُ أَحَدَهُمَا.
فَقَوْلُهُ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} ، مِثْلُ قَوْلِهِ:{قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} .
فَاللَّفْظُ هُنَا يُرَادُ بِهِ السُّكَّانُ مِن غَيْرِ إضْمَارٍ وَلَا حَذْفٍ، فَهَذَا بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ فِي اللُّغَةِ مَجَازٌ، فَلَا مَجَازَ فِي الْقُرْآنِ.
بَل وَتَقْسِيمُ اللُّغَةِ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ تَقْسِيمٌ مُبْتَدَعٌ مُحْدَثٌ، لَمْ يَنْطِقْ بِهِ السَّلَفُ.
وَالْخَلَفُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِيهِ لَفْظِيًّا، بَل يُقَالُ: نَفْسُ هَذَا التَّقْسِيمِ بَاطِلٌ، لَا يَتَمَيَّزُ هَذَا عَن هَذَا، وَلهَذَا كَانَ كُلُّ مَا يَذْكُرُونَهُ مِن الْفُرُوقِ تبَيَّنَ أَنَّهَا فُرُوقٌ بَاطِلَةٌ.
وَأَشْهَرُ أَمْثِلَةِ الْمَجَازِ لَفْظُ الْأَسَدِ، وَالْحِمَارِ، وَالْبَحْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقُولُونَ: إنَّهُ اُسْتُعِيرَ لِلشُّجَاعِ، وَالْبَلِيدِ، وَالْجَوَادِ.
وَهَذِهِ لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا مُؤَلَّفَةً مُرَكَّبَةً مُقَيَّدَةً بِقُيُود لَفْظِيَّةٍ، كَمَا تُسْتَعْمَلُ الْحَقِيقَةُ؛ كَقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ عَن أَبِي قتادة لَمَّا طَلَبَ غَيْرُهُ سَلَبَ الْقَتِيلِ: لَاهَا اللهُ، إذًا يَعْمِدُ إلَى أَسَدٍ مِن أُسْدِ اللهِ يُقَاتِلُ عَن اللهِ وَرَسُولِهِ فَيُعْطِيك سَلَبَهُ.
فَقَوْلُهُ: يَعْمِدُ إلَى أَسَدٍ مِن أُسْدِ اللهِ يُقَاتِلُ عَن اللهِ وَرَسُولِهِ: وَصْلى لَهُ بِالْقُوَّةِ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَقَد عَيّنهُ تَعْيِينًا أَزَالَ اللَّبْسَ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ خَالِدًا سَيْفٌ مِن سُيُوفِ اللهِ سَلَّهُ اللهُ عَلَى الْمُشْرِكينَ"
(1)
، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. [7/ 87 - 114]
1314 -
اسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ فِي اللُّغَهِ وَإِن جَازَ فِي الِاسْتِعْمَالِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الِاسْتِدْلَالِ؛ فَإِنَّهُ قَد يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ هُوَ اللَّفْظَ فِي نَظِيرِ الْمَعْنَى الَّذِي اسْتَعْمَلُوهُ فِيهِ، مَعَ بَيَانِ ذَلِكَ عَلَى مَا فِيهِ مِن النِّزَاعِ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمِدَ إلَى أَلْفَاظٍ قَد عُرِفَ اسْتِعْمَالُهَا فِي مَعَانٍ، فَيَحْمِلُهَا عَلَى غَيْرِ تِلْكَ الْمَعَانِي ويقُولُ: إنَّهُم أَرَادُوا تِلْكَ بِالْقِيَاسِ عَلَى تِلْكَ، بَل هَذَا تَبْدِيلٌ وَتَحْرِيفٌ. [7/ 115]
1315 -
لَا بُدَّ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مِن أَنْ يُعْرَفَ مَا يَدُلّ عَلَى مُرَادِ اللهِ وَرَسُولِهِ مِن الْأَلْفَاظِ وَكَيْفَ يُفْهَمُ كَلَامُهُ، فَمَعْرِفَةُ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي خُوطِبْنَا بِهَا مِمَّا يُعِينُ عَلَى أَنْ نَفْقَهَ مُرَادَ اللهِ وَرَسُولِهِ بِكَلَامِهِ، وَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ دَلَالَةِ الْألْفَاظِ عَلَى الْمَعَانِي؛ فَإِنَّ عَامَّةَ ضَلَالِ أَهْلِ الْبِدَع كَانَ بِهَذَا السَّبَبِ؛ فَإِنَّهُم صَارُوا يَحْمِلُونَ كَلَامَ اللهِ وَرَسُولِهِ عَلَى مَا يَدَّعُونَ أنَّهُ دَالٌّ عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، ويجْعَلُونَ هَذِهِ الدَّلَالَةَ حَقِيقَةً وَهَذ مَجَازًا، كَمَا أَخْطَأَ الْمُرْجِئَةُ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ، جَعَلُوا لَفْظَ الْإِيمَانِ حَقِيقَةً فِي مُجَرَّدِ التَّصْدِيقِ، وَتَنَاوُلَهُ لِلْأَعْمَالِ مَجَازًا. [7/ 116]
1316 -
الْقَرْيَةُ وَالنَهْرُ وَنَحْوُ ذَلِكَ اسْمٌ لِلْحَالِّ وَالْمَحَل، فَهُوَ اسْمٌ يَتَنَاوَلُ الْمَسَاكِنَ وَسُكَانَهَا.
وَأَمَّا الِاشْتِقَاقُ فَهَذَا الْمَوْضِعُ غَلِطَ فِيهِ طَائِفَة مِن الْعُلَمَاءِ، لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ قَرَأ بِالْهَمْزَةِ، وَقَرَى يَقْرِي بِالْيَاءِ؛ فَإِنَّ الَّذِي بِمَعْنَى الْجَمْعِ هُوَ (قَرَى يَقْرِي) بِلَا هَمْزَةٍ، وَمِنْهُ الْقَرْيَةُ وَالْقِرَاءَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَمِنْهُ قَرَيْت الضَّيْفَ أَقْرِيهِ؛ أيْ: جَمَعْته وَضَمَمْته إلَيْك، وَقَرَيْت الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ جَمَعْته، وتقريت الْمِيَاهَ: تَتَبَّعْتهَا، وقروت الْبِلَادَ وَقَرَيْتهَا وَاسْتَقْرَيْتهَا إذَا تَتَبَّعْتهَا تَخْرُجُ مِن بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ، وَمِنْهُ الِاسْتِقْرَاءُ؛ وَهُوَ: تتَبُّعُ الشَّيءِ أَجْمَعَهُ.
(1)
تقدم تخريجه.
وَهَذَا غَيْرُ قَوْلِك: استَقْرَأته الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّ ذَاكَ مِن الْمَهْمُوزِ؛ فَالْقَرْيَةُ هِيَ الْمَكَانُ الَّذِي يَجْتَمِع فِيهِ النَّاسُ.
وَأَمَّا (قَرَأَ) بِالْهَمْزِ فَمَعْنَاهُ الْإِظْهَارُ وَالْبَيَانُ، وَالْقُرْءُ وَالْقِرَاءَةُ مِن هَذَا الْبَابِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُم: مَا قَرأت النَّاقَةُ سَلَا جَزُورٍ قَطُّ؛ أَيْ: مَا أَظْهَرَتْهُ وَأَخْرَجَتْهُ مِن رَحِمِهَا، وَالْقَارِي: هُوَ الَّذِي يُظْهِرُ الْقُرْآنَ ويُخْرِجُهُ، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)} [القيامة: 17]
(1)
، فَفَرَّقَ بَيْنَ الْجَمْعِ وَالْقُرْآنِ.
وَالْقُرْءُ: هُوَ الدَّمُ؛ لِظُهُورِهِ وَخُرُوجِهِ، وَكَذَلِكَ الْوَقْتُ؛ فَإِنَّ التَّوْقِيتَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْأَمْرِ الظَّاهِرِ.
ثُمَّ الطُّهْرُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْقُرْءِ تبَعًا، كمَا يَدْخُلُ اللَّيْلُ فِي اسْمِ الْيَوْمِ، قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لِلْمُسْتَحَاضَةِ:"دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أقرَائِك"
(2)
.
وَالطُّهْرُ الَّذِي يَتَعَقَّبُهُ حَيْضٌ هُوَ قُرْءٌ؛ فَالْقُرْءُ اسْمٌ لِلْجَمِيعِ.
وَأَمَّا الطُّهْرُ الْمُجَرَّدُ فَلَا يُسَمَّى قُرْءًا؛ وَلهَذَا إذَا طَلُقَتْ فِي أَثْنَاءِ حَيْضَةٍ لَمْ تَعْتَدَّ بِذَلِكَ قُرْءًا؛ لِأَنَّ عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، وَإِذَا طَلُقَتْ فِي أَثْنَاءِ طُهْرٍ كَانَ الْقُرْءُ الْحَيْضَةَ مَعَ مَا تَقَدَّمَهَا مِن الطُّهْرِ؛ وَلهَذَا كَانَ أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّ الْأَقْرَاءَ الْحَيْضُ كَعُمَرِ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَأَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهَا مَأْمُورَة بِتَرَبُّصِ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ؛ فَلَو كَانَ الْقُرْءُ هُوَ الطُّهْرُ لَكَانَت الْعِدَّةُ قُرْأَيْنِ وَبَعْضَ الثَّالِثِ، فَإِنَّ النِّزَاعَ مِن الطَّائِفَتَيْنِ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ؛ فَإِنَّ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ وَمَن وَافَقَهُم يَقُوُلونَ: هُوَ أَحَقُّ بِهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ مِن الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، وَصِغَارَ الصَّحَابَةِ: إذَا طَعَنَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ فَقَد حَلَّتْ.
فَقَد ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرًا مِن غَيْرِ جِمَاعٍ وَقَد
(1)
أي: علينا جمعه في صدرك، وإظهاره وبيانه.
(2)
رواه الإمام أحمد (25681)، وقال البيهقي في السنن الصغير (3/ 151): مرفوع لم يثبت إسناده.
مَضَى بَعْضُ الطُّهْرِ، وَاللهُ أَمَرَ أَنْ يُطَلِّقَ لِاسْتِقْبَالِ الْعِدَّةِ لَا فِي أَثْنَاءِ الْعِدَّةِ. [20/ 478 - 479]
1317 -
مِن كَلَامِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُم يَنْفُونَ الشَّيءَ فِي صِيَغِ الْحَصْرِ أَو غَيْرِهَا تَارَةً لِانْتِفَاءِ ذَاتِهِ، وَتَارَةً لِانْتِفَاءِ فَائِدَتِهِ وَمَقْصُودِهِ، ويحْصُرُونَ الشَّيءَ فِي غَيْرِهِ: تَارَةً لِانْحِصَارِ جَمِيعِ الْجِنْسِ مِنْهُ، وَتَارَةً لِانْحِصَارِ الْمُفِيدِ أَو الْكَامِلِ فِيهِ.
ثُمَّ إنَّهُم تَارَةً يُعِيدُونَ النَّفْيَ إلَى الْمُسَمَّى، وَتَارَةً يُعِيدُونَ النَّفْيَ إلَى الِاسْمِ وَإِن كَانَ ثَابِتًا فِي اللُّغَةِ إذَا كَانَ الْمَقْصُود الْحَقِيقِيُّ بِالِاسْمِ مُنْتَفِيًا عَنْه ثَابِتًا لِغَيْرِهِ كَقَوْلِهِ:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [المائدة: 68]، فَنَفَى عَنْهُم مُسَمَّى الشَيءِ مَعَ أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ شَامِلٌ لِكُلِّ مَوْجُودٍ مِن حَقٍّ وَبَاطِلٍ؛ لَمَّا كَانَ مَا لَا يُفِيدُ وَلَا مَنْفَعَةَ فِيهِ يَؤُولُ إلَى الْبَاطِلِ الَّذِي هُوَ الْعَدَمُ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْدُومِ، بَل مَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ إذَا لَمْ يَحْصُلْ مَقْصودُهُ كَانَ أَوْلَى بِأنْ يَكونَ مَعْدُومًا مِن الْمَعْدُومِ الْمُسْتَمِرِّ عَدَمُهُ؛ لِأَنَّهُ قَد يَكُونُ فِيهِ ضَرَرٌ.
فَمَن قَالَ الْكَذِبَ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا.
وَمَن لَمْ يَعْمَلْ بِمَا يَنْفَعُهُ فَلَمْ يَعْمَلْ شَيْئًا.
وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا سُئِلَ عَن الْكُهَّانِ قَالَ: "لَيْسُوا بِشَيْءِ"
(1)
.
ويقُولُ أَهْلُ الْحَدِيثِ عَن بَعْضِ الْمُحَدّثِينَ: لَيْسَ بِشَيءِ، أَو عَن بَعْضِ الْأَحَادِيثِ لَيْسَ بِشَيءٍ إذَا لَمْ يَكُن مِمَن يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ؛ لِظُهُورِ كَذِبِهِ عَمْدًا أَو خَطأً.
وَيُقَالُ أَيْضًا لِمَن خَرَجَ عَن مُوجِب الْإِنْسَانِيَّةِ فِي الْأَخْلَاقِ وَنَحْوِهَا: هَذَا لَيْسَ بِآدَمِيّ وَلَا إنْسَانٍ، مَا فِيهِ إنْسَانِيَّةٌ وَلَا مُرُوءَةٌ، هَذَا حِمَارٌ أَو كلْبٌ، كَمَا
(1)
رواه البخاري (6213).
يُقَالُ ذَلِكَ لِمَن اتَّصَفَ بِمَا هُوَ فَوْقَهُ مِن حُدُودِ الْإِنْسَانِيَّةِ، كَمَا قُلْنَ لِيُوسُفَ:{مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31].
وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ"، أَو:"إنَّمَا الرّبَا فِي النَّسِيئَةِ"؛ فَإِنَّمَا الرِّبَا الْعَامّ الشَامِلُ لِلْجِنْسَيْنِ وَللْجِنْسِ الْوَاحِدِ الْمُتَّفِقَةِ صِفَاتُهُ إنَّمَا يَكُونُ فِي النَّسِيئَةِ، وَأَمَّا رِبَا الْفَضْلِ فَلَا يَكُون إلَّا فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، وَلَا يَفْعَلُهُ أَحَدٌ إلَّا إذَا اخْتَلَفَت الصِّفَاتُ؛ كَالْمَضْرُوبِ بِالتِّبْرِ وَالْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ.
فَأمَّا إذَا اسْتَوَت الصِّفَاتُ فَلَيْسَ أَحَدٌ يَبِيعُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ، وَلهذَا شُرعَ الْقَرْضُ هُنَا؛ لِأَنَّهُ مِن نَوْعِ التَبّرُّعِ.
فَلَمَّا كَانَ غَالِبُ الرِّبَا وَهُوَ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ الْقُرآنُ أَوَّلًا وَهُوَ مَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ وَهُوَ رِبَا النَّسَاءِ: قِيلَ إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ.
وَأَيْضا رِبَا الْفَضْلِ إنَّمَا حُرِّمَ لِأنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى رِبَا النَّسِيئَةِ، فَالرِّبَا الْمَقْصُودُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ هُوَ رِبَا النَّسِيئَةِ فَلَا رِبَا إلَّا فِيهِ.
فَإِنَّ الْكَلَامَ الْخَبَرِيّ: إمَّا إثْبَات وَإِمَّا نَفْيٌ، فَكَمَا أَنَّهُم فِي الْإِثْبَاتِ يُثْبِتُونَ لِلشَّيءِ اسْمَ الْمُسَمَّى إذَا حَصَلَ فِيهِ مَقْصُودُ الِاسْمِ، وَإِن انْتَفَتْ صُورَةُ الْمُسَمَّى، فَكَذَلِكَ فِي النَّفْي، فَإِنَّ أَدَوَاتِ النَّفْيِ تَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الِاسْمِ بِانْتِفَاءِ مُسَمَّاهُ
(1)
، فَكَذَلِكَ تَارَة؛ لِأنَّهُ لَمْ يُوجَدْ أَصْلًا، وَتَارَةً لِأنَّهُ لَمْ تُوجَد الْحَقِيقَةُ الْمَقْصُودَةُ بِالْمُسَمَّى، وَتَارَةً لِأَنَّهُ لَمْ تَكْمُلْ تِلْكَ الْحَقِيقَةُ، وَتَارَةً لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُسَمَّى مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا، بَل الْمَقْصُودُ غَيْرُهُ، وَتَارَةَ لِأسْبَاب أُخَرَ.
وَهَذَا كُلُّهُ إنَّمَا يَظْهَرُ مِن سِيَاقِ الْكلَامِ وَمَا اقْتَرَنَ بِهِ مِن الْقَرَائِنِ اللَّفْظِيَّةِ الَّتِي لَا تُخْرِجُهَا عَن كَوْنِهَا حَقِيقَةً عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلكَوْنِ الْمُرَكَّبِ قَد صَارَ مَوْضُوعًا لِذَلِكَ الْمَعْنَى أَو مِن الْقَرَائِنِ الْحَاليَّةِ الَّتِي تَجْعَلُهَا مَجَازًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
(1)
فإذا كان الآدمي لا يحمل معاني الإنسانية من الرحمة والشفقة ونفع الناس، فيجوز نفي الاسم عنه، لانتفاء المسمى عنه.
وَأَمَّا إذَا أُطْلِقَ الْكَلَامُ مُجَرَّدًا عَن الْقَرِينَتَيْنِ فَمَعْنَاهُ السَّلْبُ الْمُطْلَقُ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:"إنَّما الشَّهر تِسْعٌ وعِشْرُون" وَقَوْلُة: "الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُون" حَيْثُ قَصَدَ بِهِ الْحَصْرَ فِي النَّوْعِ لَمَّا كَانَ اللهُ تَعَالَى قَد عَلَّقَ بِالشَّهْرِ أَحْكَامًا كَقَوْلِهِ: {شَهْرُ رَمَضَانَ} [البقرة: 185]، وَقَوْلِهِ:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، وَقَوْلِهِ:{شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَانَ مِن الْأَفْهَامِ مَا يَسْبِقُ إلَى أَنَّ مُطْلَقَ الشَّهْرِ ثَلَاثُونَ يَوْمًا، وَلَعَلَّ بَعْضَ مَن لَمْ يَعُدَّ أَيَّامَ الشَّهْرِ يَتَوَهَّمُ أَنَّ السَّنَةَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ يَوْمًا، وَأَنَّ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثونَ يَوْمًا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:"الشَّهْرُ الثَّابِث اللَّازِمُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ"، وَزِيادَةُ الْيَوْمِ قَد تَدْخُلُ فِيهِ وَقَد تَخْرُجُ مِنْهُ، كَمَا يَقُولُ:"الْإِسلَامُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَأَنْ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ"، فَهَذَا هُوَ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَقَد يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ وَقَد يَمُوتُ قَبْلَ الْكَلَامِ، فَلَا يَكُونُ الْإِسْلَامُ فِي حَقِّهِ إلَّا مَا تَكَلَّمَ بِهِ. [25/ 155 - 160]
1318 -
قَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)} [الإسراء: 56، 57]، قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْحَق بْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ: أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَعْبُودِينَ يَطْلُبُونَ التَّقَرّبَ إلَيْهِ وَالتَّزَلُّفَ إلَيْهِ، وَأَنَّ هَذِهِ حَقِيقَةُ حَالِهِمْ.
وَالضَّمِيرُ فِي (رَبِّهِمْ) لِلْمُبْتَغِينَ أَو لِلْجَمِيعِ، و (الْوَسِيلَةُ) هِيَ الْقُرْبَةُ وَسَبَبُ الْوصُولِ إلَى الْبُغْيَةِ، وَتَوَسَّلَ الرَّجُلُ إذَا طَلَبَ الدُّنُوَّ وَالنَّيْلَ لِأَمْرٍ مَا، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"مَن سَأَل اللهَ لِي الْوَسِيلَةَ"
(1)
الْحَدِيثُ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ: ذَكَرَ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ نَحْوَهُ، إلَّا أَنَّهُ بَرَزَ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ فَقَالَ: و {أَيُّهُمْ} ابْتِدَاءٌ، وَخَبَرُهُ {أَقْرَبُ} ، و {أُولَئِكَ} يُرَادُ بِهِم الْمَعْبُودُونَ، وَهُوَ
(1)
رواه مسلم (384).
ابْتِدَاءٌ، وَخَبَرُهُ {يَبْتَغُونَ} ، وَالضَّمِيرُ فِي {يَدْعُونَ} لِلْكُفَّارِ، وَفِي {يَبْتَغُونَ} لِلْمَعْبُودِينَ، وَالتَّقْدِيرُ: نَظَرُهُم وَذِكْرُهُم {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} .
قَالَ رحمه الله: وَطَفَّفَ الزَّجَّاجُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَتَأَمَّلْهُ.
وَلَقَد صَدَقَ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الزَّجَّاجَ ذَكَرَ فِي قَوْلِهِ: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} وَجْهَيْنِ كِلَاهُمَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، وَقَد ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ، وَتَابَعَهُ المهدوي والبغوي وَغَيْرُهُمَا.
وَلَكِنَّ ابْنَ عَطِيَّةَ كَانَ أَقْعَدَ بِالْعَرَبِيَّةِ وَالْمَعَانِي مِن هَؤُلَاءِ وَأَخْبَرَ بِمَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ وَالْبَصْرِيِّينَ، فَعَرَفَ تَطْفِيفَ الزَّجَّاجِ مَعَ عِلْمِهِ رحمه الله بِالْعَرَبِيَّةِ وَسَبْقِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِمَا يَعْرِفُهُ مِن الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ.
وَأُولَئِكَ لَهُم بَرَاعَةٌ وَفَضِيلَةٌ فِي أُمُورٍ يَبْرُزُونَ فِيهَا عَلَى ابْنِ عَطِيَّةَ، لَكِنَّ دِلَالَةَ الْأَلْفَاظِ مِن جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ هُوَ بِهَا أَخْبَرُ، وَإِن كَانُوا هُم أَخْبَرَ بِشَيءٍ آخَرَ مِن الْمَنْقُولَاتِ أَو غَيْرِهَا. [27/ 430 - 431]
1319 -
مَعْلُومٌ أَنَ تَعَلُّمَ الْعَرَبِيَّةِ وَتَعْلِيمَ الْعَرَبِيَّةِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَكَانَ السَّلَفُ يُؤَدِّبُونَ أَوْلَادَهُم عَلَى اللَّحْنِ، فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ أَمْرَ إيجَابٍ أَو أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ أَنْ نَحْفَظَ الْقَانُونَ الْعَرَبِيَّ، وَنُصْلِحَ الْأَلْسُنَ الْمَائِلَةَ عَنْهُ، فَيَحْفَظُ لَنَا طَرِيقَةَ فَهْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالِاقْتِدَاءِ بِالْعَرَبِ فِي خِطَابِهَا.
فَلَو تُرِكَ النَاسُ عَلَى لَحْنِهِمْ كَانَ نَقْصًا وَعَيْبًا. [32/ 252]
1320 -
مَا زَالَ السَّلَفُ يَكْرَهُونَ تَغْيِيرَ شَعَائِرِ الْعَرَبِ حَتَّى فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَهُوَ التَّكَلُّم بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، إلَّا لِحَاجَة، كمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مَالِك وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد، بَل قَالَ مَالِك: مَن تَكَلَّمَ فِي مَسْجِدِنَا بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ أُخْرِجَ مِنْهُ
(1)
.
(1)
وقد وُجد في هذا الزمان مِن بعض الدعاة إلى الله والمشايخ -جزاهم الله خيرًا- من يعظ أو يُدرّس باللغة العاميّة! وهذا لا ينبغي كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله.
مَعَ أَنَّ سَائِرَ الْألْسُنِ يَجُوزُ النُّطْق بِهَا لِأَصْحَابِهَا، وَلَكِنْ سَوَّغُوهَا لِلْحَاجَةِ، وَكَرِهُوهَا لِغَيْرِ الْحَاجَةِ وَلحِفْظِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّ اللّهَ أَنْزَلَ كِتَابَهُ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، وَبَعَثَ بِهِ نَبِيَّهُ الْعَرَبِيَّ، وَجَعَلَ الْأُمَّةَ الْعَرَبِيَّةَ خَيْرَ الْأُمَمِ، فَصَارَ حِفْظُ شِعَارِهِمْ مِن تَمَامِ حِفْظِ الْإِسْلَامِ، فَكَيْفَ بِمَن تَقَدَّمَ عَلَى الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ -مُفْرَدِهِ وَمَنْظُومِهِ- فَيُغَيِّرُهُ وَيُبَدِّلُهُ ويُخْرِجُهُ عَن قَانُونِهِ، وَيُكَلِّفُ الِانْتِقَالَ عَنْهُ؟!.
فَإِنَّ صَلَاحَ الْعَقْلِ وَاللِّسَانِ مِمَّا يُؤمَرُ بِهِ الْإنْسَانُ، ويُعِينُ ذَلِكَ عَلَى تَمَامِ الْإِيمَانِ، وَضِدُّ ذَلِكَ يُوجِبُ الشِّقَاقَ وَالضَّلَالَ وَالْخُسْرَانَ. [32/ 255]
1321 -
اعْلَمْ أَنَّ مَن لَمْ يُحْكم دَلَالَاتِ اللَّفْظِ ويَعْلَمْ أَنَّ ظُهُورَ الْمَعْنَى مِن اللَّفْظِ:
أ- تَارَةَ يَكُونُ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ أَو الْعُرْفِيِّ أَو الشَّرْعِيِّ؛ إمَّا فِي الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ، وَإمَّا فِي الْمُرَكَّبَةِ.
ب- وَتَارَةً بِمَا اقْتَرَنَ بِاللَّفْظِ الْمُفْرَدِ مِن التَّرْكِيبِ الَّذِي تتغَيَّرُ بِهِ دَلَالَتُهُ فِي نَفْسِهِ.
ج- وَتَارَةً بِمَا اقْتَرَنَ بِهِ مِن الْقَرَائِنِ اللَّفْظِيَّةِ الَّتِي تَجْعَلُهُ مَجَازًا.
د- وَتَارَةَ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَالُ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخَاطَبِ وَالْمُتَكلَّمِ فِيهِ.
إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِن الْأَسْبَابِ الَّتِي تُعْطِي اللَّفْظَ صِفَةَ الظُّهُورِ.
وَإِلَّا فَقَد يُتَخَبَّطُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ.
نَعَمْ، إذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِاللَّفْظِ قَطُ شَيءٌ مِن الْقَرَائِنِ الْمُتَّصِلَةِ الَّتِي تُبَيِّنُ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ، بَل عُلِمَ مُرَادُهُ بِدَلِيل آخَرَ لَفْظِيٍّ مُنْفَصِلٍ: فَهُنَا أُرِيدَ بِهِ خِلَافُ الظَّاهِرِ؛ كَالْعُمُومِ الْمَخْصُوصِ بِدَلِيل مُنْفَصِلٍ.
وَإِن كَانَ الصَّارِفُ عَقْلِيًّا ظَاهِرًا: فَفِي تَسْمِيَةِ الْمُرَادِ خِلَافُ الظَّاهِرِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
وَبِالْجُمْلَةِ: فَإِذَا عُرِفَ الْمَقْصُودُ فَقَوْلُنَا: هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ أَو لَيْسَ هُوَ الظَّاهِرَ: خِلَافٌ لَفْظِيٌّ. [33/ 181 - 182]
* * *
العرب
(تفضيل جنس العرب على غيرهم لا يعني تفضيل جنس العربي على غيره إلا بالتقوى)
1322 -
لَمْ يَخُصَّ صلى الله عليه وسلم الْعَرَبَ بِنَوْعٍ مِن أَنْوَاعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ؛ إذ كَانَت دَعْوَتُهُ لِجَمِيعِ الْبَرِيَّةِ؛ لَكِنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِمْ بَل نَزَلَ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ كَمَا ثَبَتَ عَن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: أَقْرِئْ النَّاسَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ. وَهَذَا لِأَجْلِ التَّبْلِيغِ؛ لِأَنَّهُ بَلَّغَ قَوْمَهُ أَوَّلًا ثُمَّ بِوَاسِطَتِهِمْ بَلَّغَ سَائِرُ الْأُمَمِ، وَأَمَرَهُ اللهُ بِتَبْلِيغِ قَوْمِهِ أَوَّلًا ثمَّ بِتَبْلِيغِ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ إلَيْهِ، كَمَا أَمَرَ بِجِهَادِ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ.
وَمَا ذَكَرَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِن أَنَّ غَيْرَ الْعَرَبِ لَيْسُوا أَكْفَاءً لِلْعَرَبِ فِي النّكَاحِ فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. وَلَيْسَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ.
وَقَد ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إن اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِن بَني إسْمَاعِيلَ".
جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ جِنْسَ الْعَرَبِ خَيْرٌ مِن غَيْرِهِمْ، كَمَا أَنَّ جِنْسَ قُرَيْشٍ خَيْرٌ مِن غَيْرِهِمْ، وَجِنْسَ بَنِي هَاشِمٍ خَيْرٌ مِن غَيْرِهِم.
لَكِنَّ تَفْضِيلَ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ فَرْدٍ أَفْضَلَ مِن كُلِّ فَرْدٍ فَإِنَّ فِي غَيْرِ الْعَرَبِ خَلْقًا كَثِيرًا خَيْرٌ مِن أَكْثَرِ الْعَرَبِ، وَفِي غَيْرِ قُرَيْشٍ مِن الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مَن هُوَ خَيْرٌ مِن أَكْثَرِ قُرَيْشٍ، وَفِي غَيْرِ بَنِي هَاشِمٍ مِن قُرَيْشٍ وَغَيْرِ قُرَيْشٍ مَن هوَ خَيْرٌ مِن أَكْثَرِ بَنِي هَاشِمٍ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ خَيْرَ
الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِينَ بُعِثْت فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم ثم الَّذِينَ يَلُونَهُمْ". [19/ 27 - 30]
1323 -
إِذَا فُضّلَتْ جُمْلَة عَلَى جُمْلةٍ لَمْ يَسْتَلْزِمْ ذَلِكَ تَفْضِيلَ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ؛ كَتَفْضِيلِ الْقَرْنِ الثَّانِي عَلَى الثَّالِثِ، وَتَفْضِيلِ الْعَرَبِ عَلَى مَا سِوَاهُمْ، وَتَفْضِيلِ قرَيْشٍ عَلَى مَا سِوَاهُمْ. [27/ 47]
1324 -
لَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ جِنْسَ النُسَّاكِ الزُّهَّادِ السَّاكِنِينَ فِي الْأَمْصَارِ أَفْضَلُ مِن جِنْسِ سَاكِنِي الْبَوَادِي وَالْجِبَالِ؛ كَفَضِيلَةِ الْقَرَوِيِّ عَلَى الْبَدَوِيِّ وَالْمُهَاجِرِ عَلَى الْأَعْرَابِيِّ. [27/ 56]
* * *
القرآن وعلومه
(الِاخْتِلَافُ نَوْعَانِ: اخْتِلَافٌ فِي تَنْزِيلِهِ وَاخْتِلَافٌ فِي تَأْوِيلِهِ)
1325 -
قَاعِدَة فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ اللهِ:
الِاخْتِلَافُ نَوْعَانِ: اخْتِلَافٌ فِي تَنْزِيلِهِ وَاخْتِلَاف فِي تَأوِيلِهِ.
الِاخْتِلَافُ فِي تَنْزِيلِهِ: هُوَ بَيْنَ الْمُؤمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، فَإِنَّ الْمُؤمِنِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أنْزِلَ، وَالْكَافِرُونَ كَفَروا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلَ اللهُ بِهِ رُسُلَهُ.
وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ إلَى النَّاسِ لِتُبلّغَهُم كَلَامَ اللهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ إلَيْهِمْ، فَمَن آمنَ بِالرُّسُلِ آمَنَ بِمَا بَلَّغُوهُ عَن اللهِ، وَمَن كَذَّبَ بِالرُّسُلِ كَذَّبَ بِذَلِكَ.
فَالْإِيمَانُ بِكَلَامِ اللهِ دَاخِل فِي الْإِيمَانِ بِرِسَالَةِ اللهِ إلَى عِبَادِهِ، وَالْكُفْرُ بِذَلِكَ هُوَ الْكُفْرُ بِهَذَا، فَتَدَبَّرْ هَذَا الْأَصْلَ فَإِنَّهُ فُرْقَان هَذَا الِاشْتِبَاهِ.
وَالْإِيمَان بِالرُّسُلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ جَامِعًا عَامًّا مُؤْتَلِفًا لَا تَفْرِيقَ فِيهِ وَلَا تَبْعِيضَ وَلَا اخْتِلَافَ، بِأنْ يُؤمِنَ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ وَبِجَمِيعِ مَا انْزِلَ إلَيْهِمْ.
فَمَن آمَنَ بِبَعْضِ الرُّسُلِ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ أَو آمنَ بِبَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ فَهُوَ كَافِر.
فَصْل
التَّفْرِيقُ وَالتَّبْعِيض قَد يَكُونُ فِي الْقَدْرِ تَارَةً، وَقَد يَكُونُ فِي الْوَصْفِ، إمَّا فِي الْكَمّ وَإِمَّا فِي الْكَيْفِ، كَمَا قَد يَكُونُ فِي التّنزِيلِ تَارَةً، وَفِي التَّأوِيلِ أُخْرَى.
فَمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رُسُلِهِ قَد يَقَعُ التَّفْرِيقُ وَالتَّبْعِيضُ فِي قَدْرِهِ، وَقَد يَقَعُ فِي وَصْفِهِ.
فَالْأَوَّلُ مِثْلُ قَوْلِ الْيَهُودِ: نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى دُونَ مَا أُنْزِلَ عَلَى عِيسَى وَمُحَمَّدٍ.
وَهَكذَا النَّصَارَى فِي إيمَانِهِمْ بِالْمَسِيحِ دُونَ مُحَمَّدٍ.
فَمَن آمَنَ بِبَعْضِ الرّسُلِ وَالْكُتُبِ دُونَ بَعْضٍ فَقَد دَخَلَ فِي هَذَا، فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْمِن بِجَمِيعِ الْمُنَزَّلِ.
وَكَذَلِكَ مَن كَانَ مِن الْمُنْتَسِبِينَ إلَى هَذِهِ الأمَّةِ يُؤمِنُ بِبَعْضِ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دُونَ بَعْضٍ؛ فَإِنَّ الْبِدع مُشْتَقَّة مِن الْكُفْرِ.
وَأَمَّا الْوَصْفُ فَمِثْلُ اخْتِلَافِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ: هَؤلَاءِ قَالُوا إنَّهُ عَبْدٌ مَخْلُوق، لَكِنْ جَحَدوا نُبوَّتَه وَقَدَحُوا فِي نَسَبِهِ، وَهَؤلَاءِ أَقَرُّوا بِنُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ، وَلَكِنْ قَالُوا هُوَ اللهُ. [12/ 6 - 14]
* * *
(حكم قراءة الإدارة
؟)
1326 -
قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَتِهِ أَفْضَل مِن (قِرَاءَةِ)
(1)
مُجْتَمِعِينَ بِصَوْت وَاحِدٍ؛ فَإِنَّ هَذِهِ تُسَمَّى "قِرَاءَةَ الْإِرَادَةِ"
(2)
وَقَد كَرِهَهَا طَوَائِفُ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ؛ كَمَالِكٍ وَطَائِفَةٍ مِن أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ، وَمَن رَخَّصَ فِيهَا -كَبَعْضِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد- لَمْ يَقُلْ إنَّهَا أَفْضَل مِن قِرَاءَةِ الِانْفِرَادِ، يَقْرَأُ كُل مِنْهُم جَمِيعَ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا هَذِهِ الْقِرَاءَةُ فَلَا يَحْصُلُ لِوَاحِد جَمِيعُ الْقُرْآنِ، بَل هَذَا يُتِمُّ مَا قَرَأَهُ هَذَا، وَهَذَا يُتِمُّ مَا قَرَأَهُ هَذَا، وَمَن كَانَ لَا يَحْفَظُ الْقُرْآنَ يَتْرُكُ قِرَاءَةَ مَا لَمْ يَحْفَظْهُ. [31/ 50]
* * *
(1)
هكذا في الأصل، وفي مختصر الفتاوى (393):(قراءته)، وهو أصوب.
(2)
لعل الصواب: (الإدارة)، كما في مختصر الفتاوى المصرية (393)، والفتاوى الكبرى (5/ 342) ومما جاء فيها: وقراءة الإدارة حسنة عند أكثر العلماء، ومِن قراءة الإدارة: قراءتهم مجتمعين بصوت واحد، وللمالكية وجهان في كراهتها، وكرهها مالك، وأما قراءة واحد والباقون يتسمعون له فلا يكره بغير خلاف، وهي مستحبة، وهي التي كان الصحابة يفعلونها؛ كأبي موسى وغيره. اهـ.
(مَذْهب السَّلَفِ في الْقُرْآن)
1327 -
مَذْهَبُ سَلَفِ الْأمةِ وَأَئِمتِهَا مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان وَسَائِرِ أَئِمةِ الْمُسْلِمِينَ كَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَهوَ الَّذِي يُوَافِقُ الْأدِلَّةَ الْعَقْلِيةَ الصَّرِيحَةَ: أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللهِ مُنَزل غَيْرُ مَخْلوقٍ، مِنْهُ بَدَأَ وإلَيْهِ يَعُودُ، فَهُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن كَلَامِهِ، لَيْسَ ذَلِكَ مَخْلُوقًا منْفَصِلا عَنْهُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتهِ، فَكَلَامُهُ قَائِم بِذَاتِهِ، لَيْسَ مَخْلُوقًا بَائِنًا عَنْهُ، وَهُوَ يَتَكَلمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتهِ.
فَكلَامُهُ قَدِيم بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ.
وَاللهُ سُبْحَانَه تكلمَ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ وَبِالتوْرَاةِ الْعِبْرِيَّةِ.
قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ رحمه الله: مِنْهُ بَدَأَ؛ أَيْ: هُوَ الْمُتَكَلّمُ بِهِ، فَإِنَّ الَّذِينَ قَالُوا: إنَّهُ مَخْلُوق، قَالُوا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ فَبَدَأ مِن ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ.
وإنمَا يَتَّصِفُ الرَّبُّ تَعَالَى بِمَا يَقُومُ بِهِ مِن الصِّفَاتِ لَا بِمَا يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ مِن الْمَخْلُوقَاتِ.
وَمَن جَعَلَ كَلَامَهُ مَخْلُوقا لَزِمَهُ أَنْ يَقُولَ الْمَخْلُوقُ هُوَ الْقَائِلُ لِمُوسَى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} [طه: 14]، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كَلَامًا إلَّا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. [12/ 37 - 41]
* * *
(السَّمَاع الَّذِي شَرَعَه اللّه تَعَالَى لِعِبادِهِ)
1328 -
السَّمَاعُ الَّذِي شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى لِعِبَاده وَكانَ سَلَفُ الأمَّةِ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ يَجْتَمِعونَ عَلَيْهِ لِصَلَاحِ قُلُوبِهِم وَزَكَاةِ نُفُوسِهِمْ: هُوَ سَمَاعُ آياتِ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ سَمَاعُ النَّبِيّينَ وَالْمُؤمِنِينَ وَأهْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ.
وَبِهَذَا السَّمَاعِ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ
وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)} [الأعراف: 204]، وَعَلَى أَهْلِهِ أَثْنَى كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:{فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 17، 18]، وَقَالَ فِي الآيَةِ الأخْرَى:{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)} [المؤمنون: 68]، فَالْقَوْل الَّذِي أُمِرُوا بِتَدَبرِهِ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي أُمِرُوا بِاسْتِمَاعِهِ. [11/ 557 - 558]
* * *
(مَن قَالَ: اللَّفْظ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهوَ جهمي، وَمَن قَالَ: إنَّه غَيْرُ مَخْلوقٍ فَهوَ مُبْتَدِعٌ)
1329 -
هَذَا الْقُرْآنُ هُوَ كَلَامُ اللهِ، وَهُوَ مُثْبَت فِي الْمَصَاحِفِ، وَهُوَ كَلَامُ اللهِ مُبَلَّغا عَنْهُ مَسْمُوعًا مِن الْقُرَّاءِ، لَيْسَ هُوَ مَسْمُوعًا مِنْهُ.
فَمَن عَرَفَ مَا بَيْنَ الْحَالَيْنِ مِن الِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ، وَالِاخْتِلَافِ وَالِاتِّفَاقِ: زَالَتْ عَنْهُ الشُّبْهَةُ الَّتِي تُصِيبُ كَثِيرًا مِن النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ.
فَإِنَّ طَائِفَةً قَالَتْ: هَذَا الْمَسْمُوعُ كَلَامُ اللهِ، وَالْمَسْمُوعُ صَوْتُ الْعَبْدِ، وَصَوْتُهُ مَخْلُوقٌ، فَكَلَامُ اللهِ مَخْلُوق، وَهَذَا جَهْل، فَإِنَّهُ مَسْمُوع مِن الْمُبَلّغ، وَلَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ صَوْتُ الْمُبَلِّغِ مَخْلُوقًا أَنْ يَكُونَ نَفْسُ الْكَلَامِ مَخْلُوقا.
وَقَالَتْ طَائِفَة: هَذَا الْمَسْمُوعُ صَوْتُ الْعَبْدِ وَهُوَ مَخْلُوق، وَالْقُرْآنُ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ، فَلَا يَكُونُ هَذَا الْمَسْمُوعُ كَلَامَ اللهِ وَهَذَا جَهْل، فَإِنَّ الْمَخْلُوقَ هُوَ الصَّوْتُ لَا نَفْسُ الْكَلَامِ الَّذِي يُسْمَعُ مِن الْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَمِن الْمُبَلّغِ عَنْهُ.
وَطَائِفَة قَالَتْ: هذا كَلَامُ اللهِ، وَكَلَامُ اللهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ فَيَكُون هَذَا الصَّوْتُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ، وَهَذَا جَهْل، فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ: هَذَا كَلَامُ اللهِ؛ فَالْمُشَارُ إلَيْهِ هُوَ الْكَلَامُ مِن حَيْثُ هُوَ هُوَ، وَهُوَ الثَّابِتُ إذَا سُمِعَ مِن الله، وَإِذَا سُمِعَ مِن الْمُبَلَّغِ عَنْهُ، وَإِذَا قِيلَ لِلْمَسْمُوعِ: إنَّهُ كَلَامُ اللهِ، فَهُوَ كَلَامُ اللهِ مَسْمُوعًا مِن الْمُبَلِّغِ عَنْهُ، لَا مَسْمُوعًا مِنْهُ، فَهُوَ مَسْمُوعٌ بِوَاسِطَةِ صَوْتِ الْعَبْدِ، وَصَوْتُ الْعَبْدِ مَخْلُوق، وَأَمَّا كَلَامُ اللهِ نَفْسُهُ فَهُوَ غَيْرُ مَخْلوقٍ حَيْثُ مَا تَصَرَّفَ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا مَنْشَأُ هَذَا النِّزَاعِ وَالِاشْتِبَاهِ وَالتَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ؟
قِيلَ: مُنْشَؤه هُوَ الْكَلَامُ الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَف وَعَابُوهُ. [12/ 138 - 140]
1330 -
كَانَ الْإِمَامُ أحْمَد بْن حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِن أَئِمَّةِ السنَّةِ يَقُولُونَ: مَن قَالَ اللَّفْظُ بِالْقُرْآنِ أَو لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق فَهُوَ جهمي، وَمَن قَالَ: إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ، وَفي بَعْضِ الرّوَايَاتِ عَنْهُ: مَن قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق، يَعْنِي بِهِ الْقُرْآنَ فَهُوَ جهمي.
لِأَنَّ اللفْظَ يُرَادُ بِهِ مَصْدَرُ لَفَظَ يَلْفِظُ لَفْظًا، وَمُسَمَّى هَذَا فِعْلُ الْعَبْدِ، وَفِعْلُ الْعَبْدِ مَخْلُوق.
ويُرَاد بِاللَّفْظِ الْقَوْلُ الَّذِي يَلْفِظُ بِهِ اللَّافِظُ، وَذَلِكَ كَلَامُ اللهِ لَا كَلَامُ الْقَارِئِ.
فَمَن قَالَ: إنَّهُ مَخْلُوق، فَقَد قَالَ إنَّ اللّهَ لَمْ يَتَكَلمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ، وإنَّ هَذَا الَّذِي يَقْرَؤهُ الْمُسْلِمونَ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللهِ، وَمَعْلُوم أنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِن دِينِ الرَّسُولِ.
وَأمَّا صَوْتُ الْعَبْدِ فَهُوَ مَخْلُوق وَقَد صَرَّحَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ بِأنَّ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ صَوْتُ الْعَبْدِ، وَلَمْ يَقلْ أحْمَد قَطُّ: مَن قَالَ: إنَّ صَوْتِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي، وَإِنَّمَا قَالَ: مَن قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ لَفْظِ الْكلَامِ وَصَوْتِ الْمُبَلغِ لَهُ فَرْقٌ وَاضِح، فَكلُّ مَن بَلَّغَ كَلَامَ غَيْرِهِ بِلَفْظِ ذَلِكَ الرَّجُلِ فَإِنَّمَا بَلَّغَ لَفْظَ ذَلِكَ الْغَيْرِ لَا لَفْظَ نَفْسِهِ، وَهُوَ إنَّمَا بَلَّغَهُ بِصَوْتِ نَفْسِهِ لَا بِصَوْتِ ذَلِكَ الْغَيْرِ.
وَنَفْسُ اللَّفْظِ وَالتِّلَاوَةِ وَالْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ يُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ حَرَكَاتُ الْعِبَادِ، وَمَا يَحْدُثُ عَنْهَا مِن أَصْوَاتِهِمْ وَشَكلِ الْمِدَادِ، ويرَادُ بِهِ نَفْسُ الْكَلَامِ الَّذِي يَقْرَؤُهُ التَّالِي ويتْلُوهُ ويلْفِظُ بِهِ وَيَكْتُبُهُ: مَنَعَ أَحْمَد وَغَيْرهُ مِن إطْلَاقِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ الَّذِي يَقْتَضِي جَعْلَ صِفَاتِ اللهِ مَخْلُوقَةً، أَو جَعْلَ صِفَاتِ الْعِبَادِ وَمِدَادَهُم غَيْرَ مَخْلُوقٍ. [12/ 74]
* * *
(الْقُرْآن مَنقُول بِالتَّوَاتُرِ مَحْفُوظ فِي الصُّدُورِ)
1331 -
الصَّحَابَةُ لَمَّا كَتَبُوا الْمَصَاحِفَ كَتَبُوهَا غَيْرَ مَشْكُولَةٍ وَلَا مَنْقُوطَةٍ؛ لِأَنَّهُم إنَّمَا كَانُوا يَعْتَمِدُونَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى حِفْظِهِ فِي صُدُورِهِمْ لَا عَلَى الْمَصَاحِفِ، وَهُوَ مَنْقُول بِالتَّوَاتُرِ مَحْفُوظ فِي الصدُورِ، لَو عُدِمَتْ الْمَصَاحِفُ لَمْ يَكُن لِلْمُسْلِمِينَ بِهَا حَاجَة، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَيْسُوا كَأهْلِ الْكِتَاب الَّذِينَ يَعْتَمِدُونَ عَلَى الْكُتُبِ الَّتِي تَقْبَلُ التَّغَيُّرَ، وَاللهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَلَى مُحَمَّدٍ فَتَلَقًّاهُ تَلَقيَا، وَحَفِظَهُ فِي قَلْبِهِ، لَمْ يُنَزِّلْهُ مَكْتُوبًا كَالتَّوْرَاةِ، وَأنْزَلَة مُنَجَّمًا مُفَرَّقًا لِيُحْفَظَ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى كِتَاب.
ثُمَّ إنَّهُ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ لَمَّا حَدَثَ اللَّحْنُ صَارَ بَعْض التَّابِعِينَ يُشَكِّلُ الْمَصَاحِفَ وَيُنَقطُهَا، وَكَانُوا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ بِالْحُمْرَةِ، ويعْمَلُونَ الْفَتْحَ بِنُقْطَةٍ حَمْرَاءَ فَوْقَ الْحَرْفِ، وَالْكَسْرَةَ بِنُقْطَةٍ حَمْرَاءَ تَحْتَهُ، وَالضَّمَّةَ بِنُقْطَةٍ حَمْرَاءَ أمَامَهُ.
ثُمَّ مَدُّوا النُّقْطَةَ، وَصَارُوا يَعْمَلُونَ الشَّدَّة بِقَوْلِك:"شَدَّ"، ويعْمَلُونَ الْمَدَّةَ بِقَوْلِك:"مَدَّ"، وَجَعَلُوا عَلَامَةَ الْهَمْزَةِ تُشْبِهُ الْعَيْنَ؛ لِأنَّ الْهَمْزَةَ أخْتُ الْعَيْنِ، ثُمَّ خَفَّفُوا ذَلِكَ حَتَّى صَارَتْ عَلَامَةُ الشَّدةِ مِثْل رَأسِ السِّينِ، وَعَلَامَةُ الْمَدَّةِ مُخْتَصَرَةً كَمَا يَخْتَصِرُ أَهْلُ الدِّيوَانِ ألْفَاظَ الْعَدَدِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَكَمَا يَخْتَصِرُ الْمُحَدِّثُونَ أَخْبَرَنَا وَحَدَّثَنَا فَيَكْتبونَ أَوَّلَ اللَّفْظِ وَآخِرَهُ عَلَى شَكْل "أَنَا" وعَلَى شَكْلِ "ثنا". [12/ 100 - 102]
* * *
(النُّزول في كِتَابِ الله عز وجل على أَنْوَاع)
1332 -
النُّزُولُ فِي كِتَابِ اللهِ عز وجل ثلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: نُزُولٌ مُقَيد بِأنَّهُ مِنْهُ، وَنُزُول مُقَيَّد بِأنَّهُ مِن السَّمَاءِ، وَنُزُولٌ غَيْرُ مُقَيَّدٍ لَا بِهَذَا وَلَا بِهَذَا.
فَالْأوّلُ: لَمْ يَرِدْ إلَّا فِي الْقُرْآنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 114].
وَأَمَّا النُّزُولُ "الْمُقَيَّدُ" بِالسَّمَاءِ فَقَوْلُهُ: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ} [المؤمنون: 18]، وَالسَّمَاءُ اسْمُ جِنْسٍ لِكُلِّ مَا عَلَا، فَإِذَا قُيّدَ بِشَيءٍ مُعَيَّنٍ تَقَيَّدَ بِهِ، فَقَوْلُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ:{مِنَ السَّمَاءِ} مُطْلَقٌ؛ أَيْ: فِي الْعُلُوِّ، ثُمَّ قَد بَيَّنَهُ فِي مَوضِعٍ آخَرَ بِقَولِهِ:{أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ} وَقَوْلُهُ: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} [النور: 43]؛ أيْ: أَنَّهُ مُنَزَّل مِن السَّحَابِ.
وَمِمَّا يُشْبِهُ نُزُولَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل: 2]، فَنُزُولُ الْمَلَائِكَةِ هُوَ نُزُولُهُم بِالْوَحْيِ مَن أَمْرِهِ الَّذِي هوَ كَلَامُهُ.
وَأَمَّا "الْمُطْلَقُ" فَفِي مَوَاضِعَ، مِنْهَا: مَا ذَكَرَهُ مِن إنْزَالِ السَّكِينَةِ بِقَوْلِهِ: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 26]، وَمِن ذَلِكَ إنْزَالُ الْمِيزَانِ.
والْمَلَائِكَةُ قَد تَنْزِلُ عَلَى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ؛ كَقَوْلِهِ: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12]، فَذَلِكَ الثَّبَاتُ نَزَلَ فِي الْقُلُوبِ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ السِّكِّينَةُ.
فَاَللّهُ يُنَزِّلُ عَلَيْهِ مَلَكا وَذَلِكَ الْمَلَكُ يُلْهِمُهُ السَّدَادَ، وَهُوَ يَنْزِلُ فِي قَلْبِهِ.
وَقَد ذَكَرَ سُبْحَانَهُ إنْزَالَ الْحَدِيدِ وَالْحَدِيدُ يُخْلَقُ فِي الْمَعَادِنِ.
ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْحَدِيدَ
(1)
، فَكَانَ الْمَقْصُودُ الْأَكْبَرُ بِذِكْرِ الْحَدِيدِ هُوَ اتّخَاذُ آلَاتِ الْجِهَادِ مِنْهُ؛ كَالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ وَالنَّصْلِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، الَّذِي بِهِ يُنْصَرُ اللهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم، وَهَذِهِ لَمْ تَنْزِلْ مِن السَّمَاءِ.
لَكِنَّ لَفْظَ النُّزُولِ أَشْكَلَ عَلَى كَثِير مِن النَّاسِ، حَتَّى قَالَ قُطْرُبُ رحمه الله:
(1)
قال رحمه الله في موضع آخر: لِأنَّ الْحَدِيدَ ينزلُ مِن رُءُوسِ الْجِبَالِ لَا يَنْزِلُ مِن السَّمَاءِ وَكَذَلِكَ الْحَيَوَانُ؛ فَإِنَّ الذَّكَرَ يُنْزِلُ الْمَاءَ فِي الْإِنَاثِ. (12/ 520).
مَعْنَاهُ جَعَلَهُ نُزُلًا، كَمَا يُقَالُ: أَنْزَلَ الْأَمْرَ عَلَى فُلَانٍ نُزُلًا حَسَنًا؛ أَيْ: جَعَلَهُ نُزُلًا، قَالَ: وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6] وَهَذَا ضَعِيف؛ فَإِنَّ النُّزُلَ إنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى مَا يُؤْكَلُ لَا عَلَى مَا يُقَاتَلُ بِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى {فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93)} [الواقعة: 93] وَالضّيَافَةُ سُميَتْ نُزُلا؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَ الضَّيْفَ يَكونُ رَاكِبًا فَيَنْزِلُ فِي مَكان يُؤتَى إلَيْهِ بِضِيَافَتِهِ فِيهِ، فَسُمِّيَتْ نُزُلًا لِأَجْلِ نُزُولهِ.
وَجَعَلَ بَعْضُهم نزُولَ الْحَدِيدِ بِمَعْنَى الْخَلْقِ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ مِن الْمَعَادِنِ وَعَلَّمَهُم صَنْعَتَهُ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6]، وَهَذَا مِمَّا أَشْكَلَ أَيْضًا، فَمِنْهُم مَن قَالَ: جَعَلَ، وَمِنْهُم مَن قَالَ: خَلَقَ.
وَلَا حَاجَةَ إلَى إخْرَاجِ اللَّفْظِ عَن مَعْنَاه الْمَعْرُوفِ لُغَةً، فَإِنَّ الْأَنْعَامَ تَنْزِلُ مِن بُطُونِ أُمَّهَاتِهَا وَمِن أَصْلَابِ آبَائِهَا تَأْتِي بُطُونَ أُمَّهَاتِهَا.
وَمِمَّا يُبَيّنُ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَسْتَعْمِل النُّزُولَ فِيمَا خَلَقَ مِن السُّفْليَّاتِ، فَلَمْ يَقُلْ: أَنَزَلَ النَّبَاتَ، وَلَا أَنْزَلَ الْمَرْعَى، وإنَّمَا اسْتَعْمَلَ فِيمَا يُخْلَقُ فِي مَحَل عَالٍ، وَأَنْزَلَهُ اللهُ مِن ذَلِكَ الْمَحَلِّ كَالْحَدِيدِ وَالْأَنْعَامِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف: 26]، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الرِّيشَ هُوَ الْأَثَاثُ وَالْمَتَاعُ.
وَالْقُرْآنُ مَقْصُودُه جِنْسُ اللِّبَاسِ الَّذِي يُلْبَسُ عَلَى الْبَدَنِ وَفِي الْبُيُوتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} [النحل: 80] الْآيَةَ، فَامْتَنَّ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِم بِمَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ مِن الْأَنْعَامِ فِي اللِّبَاسِ وَالْأَثَاثِ، وَهَذَا -وَاللّهُ أَعْلَمُ- مَعْنَى إنْزَالِهِ؛ فَإنَّهُ يُنَزلُهُ مِن ظُهُورِ الْأَنْعَامِ وَهُوَ كُسْوَةُ الْأَنْعَامِ مِن الْأَصْوَافِ وَالْأَوْبَارِ وَالْأَشْعَارِ وينْتَفِعُ بِهِ بَنُو آدمَ مِن اللّبَاسِ وَالرِّيَاشِ، فَقَد أَنْزَلَهَا عَلَيْهِم وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْأَرْضِ كِسْوَتُهُم مِن جُلُودِ الدَّوَابِّ، فَهِيَ لِدَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَأَعْظَمُ مِمَّا يُصْنَعُ مِن الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ.
فَقَد تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ لَفْظُ نُزُولٍ إلَّا وَفيهِ مَعْنَى النُّزُولِ الْمَعْرُوفِ، وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِالْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَلَا تَعْرِفُ الْعَرَبُ نُزُولًا إلَّا بِهذَا الْمَعْنَى، وَلَو أُرِيدُ غَيْرُ هَذَا الْمَعْنَى لَكَانَ خِطَابًا بِغَيْرِ لُغَتِهَا، ثُمَّ هُوَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْمَعْرُوفِ لَهُ مَعْنًى فِي مَعْنًى آخَرَ بِلَا بَيَانٍ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِمَا ذَكَرْنَا، وَبِهَذَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ الْقُرْآنِ وَاللُّغَةِ الَّذِي أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ بَيّنهُ وَجَعَلَة هُدًى لِلنَّاسِ. [12/ 247 - 257]
* * *
1333 -
الْقُرْآنُ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ كَلَامُ الْبَارِي، وَالصَّوْتُ الَّذِي يَقْرَأُ بِهِ الْعَبْدُ صَوْتُ الْقَارِئِ. [12/ 303]
* * *
(إذا كَانَ الْمَجْرور بِـ (مِن) عَيْنًا يَقومُ بنَفْسِهِ لَمْ يَكُن صِفَةً لله، وإذَا كَانَ صِفَةً وَلَمْ يذْكَر لَهَا مَحلّ كَانَ صِفَةً للِّه)
1334 -
قَوْلهُ تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة: 13] أَخْبَرَ أَنَّ الْقَوْلَ مِنْهُ لَا مِن غيْرِهِ مِن الْمَخْلُوقَاتِ.
وَمِن هِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، فَإنْ كَانَ الْمَجْرُورُ بِهَا عَيْنًا يَقُومُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُن صِفَةً للّهِ كَقَوْلِهِ:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13]، وَقَوْلِهِ فِي الْمَسِيح:{وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] وَكَذَلِكَ مَا يَقُومُ بِالْأَعْيَانِ؛ كَقَوْلِهِ: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53].
وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَجْرُورُ بِهَا صِفَةً وَلَمْ يُذْكَرْ لَهَا مَحَلّ كَانَ صِفَةً للّهِ؛ كَقَوْلِهِ: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة: 13].
وإن احْتَجَّ مُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)} [التكوير: 19، 20] قِيلَ لَهُ: فَقَد قَالَ فِي الآيَةِ الْأُخْرَى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41)} [الحاقة: 40، 41].
فَالرَّسُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُحَمد صلى الله عليه وسلم، وَالرَّسُولُ فِي الْأخْرَى جِبْرِيلُ، فَلَو أرِيدَ بِهِ أَنَّ الرَّسُولَ أَحْدَثَ عِبَارَتَهُ لَتَنَاقَضَ الْخَبَرَانِ.
فَعُلِمَ أَنَهُ أَضَافَهُ إلَيْهِ إضَافَةَ تَبْلِيغ لَا إضَافَةَ إحْدَاثٍ، وَلهَذَا قَالَ:{لَقَوْلُ رَسُولٍ} وَلَمْ يَقُلْ مَلك وَلَا نَبِي، وَلَا ريبَ أَنَّ الرَّسُولَ بَلَّغَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67].
وَإِن احْتَجَّ بِقَوْلِهِ {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2]، قِيلَ لَهُ: هَذ الآيَةُ حُجَّة عَلَيْك، فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ:{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} عُلِمَ أَنَّ الذِّكْرَ مِنْهُ مُحْدَث وَمِنْهُ مَا لَيْسَ بِمُحْدَثٍ؛ لِأَنَّ النَّكِرَةَ إذَا وُصِفَتْ مُيِّزَ بِهَا بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَغَيْرِهِ، كَمَا لَو قَالَ: مَا يَأتِينِي مِن رَجُلٍ مُسْلِمٍ إلا أَكْرَمْتُهُ، وَمَا آكُلُ إلَّا طَعَامًا حَلَالا وَنَحْو ذَلِكَ.
وَيُعْلَمُ أَنَّ الْمُحْدَثَ فِي الْآيَةِ لَيْسَ هُوَ الْمَخْلُوقَ الَّذِي يَقُولُهُ الجهمي، وَلَكِنَّهُ الَّذِي أُنْزِلَ جَدِيدًا، فَإِنَّ اللّهَ كَانَ يُنَزِّلُ الْقُرْآنَ شَيْئًا بَعْدَ شَيء، فَالْمُنَزَّلُ أَوَّلًا هُوَ قَدِيم بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمنَزَّلِ آخِرًا، وَكُلُّ مَا تَقَدَّمَ عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ قَدِيم فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، كَمَا قَالَ:{كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39]. [12/ 518 - 522]
* * *
1335 -
الْمَصَاحِفُ الَّتِي كَتَبَهَا الصَّحَابَةُ لَمْ يُشَكِّلُوا حرُوفًا وَلَمْ يُنَقِّطُوهَا؛ فَإِنَّهُم كَانُوا عَربًا لَا يَلْحَنُونَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ لَمَّا نَشأَ اللَّحْنُ صَارُوا يُنَقِّطُونَ الْمَصَاحِفَ وَيُشَكِّلُونَهَا، وَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمَد، وَكَرِهَهُ بَعْضُهُمْ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ؛ لِأَنَّ الْحَأجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى ذَلِكَ، وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ حُكْمَ الشَّكْلِ وَالنَّقْطِ حُكْمُ الْحُرُوفِ الْمَكْتُوبَةِ، فَإِنَّ النُّقَطَ تُمَيِّزُ بَيْنَ الْحُرُوفِ، وَالشَّكْلَ يُبَيِّنُ الْإِعْرَابَ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ مِن تَمَامِ الْكَلَامِ. [12/ 576]
1336 -
الْمُصْحَفُ الْعَتِيقُ وَاَلَّذِي تَخَرَّقَ وَصَارَ بِحَيْثُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ بِالْقِرَاءَةِ
فِيهِ فَإِنَّه يُدْفَنُ فِي مَكَانٍ يُصَانُ فِيهِ، كَمَا أَنَّ كَرَامَةَ بَدَنِ الْمُؤْمِنِ دَفْنُهُ فِي مَوْضِع يُصَانُ فِيهِ.
وَإِذَا كُتِبَ شَيء مِن الْقُرْآنِ أَو الذِّكْرِ فِي إنَاءٍ أَو لَوْحٍ وَمُحِيَ بِالْمَاءِ وَغَيْرِهِ وَشُرِبَ ذَلِكَ فَلَا بَأسَ بِهِ، نَص عَلَيْهِ أَحْمَد وَغيْرُهُ.
وَقَد كَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَقُولُ فِي مَاءِ زَمْزَمَ: لَا أُحِلُّهُ لِمُغْتَسِلٍ، وَلَكِنْ لِشَارِبٍ حِلّ وبل.
وَالصَّحِيحُ: أَنَّ النَّهْيَ مِن الْعَبَّاسِ إنَمَا جَاءَ عَن الْغُسْلِ فَقَطْ، لَا عَن الْوُضُوءِ، وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ هُوَ لِهَذَا الْوَجْهِ، فَإِنَّ الْغُسْلَ يُشْبِهُ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ. [12/ 599 - 600]
* * *
(الكلام عن الأحرف السبعة)
1337 -
الْقُرْآنُ الَّذِي بَيْنَ لَوْحَي الْمُصْحَفِ مُتَوَاتِر، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَصَاحِفَ الْمَكْتُوبَةَ اتفَقَ عَلَيْهَا الصَّحَابَةُ، وَنَقَلُوهَا قُرآنا عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهِيَ مُتَوَاتِرَة مِن عَهْدِ الصَّحَابَةِ، نَعْلَمُ عِلْما ضَرُوريا أَنَّهَا مَا غُيِّرَتْ.
وَالْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ عَن السَّلَفِ الْمُوَافِقَةُ لِلْمُصْحَفِ تَجوزُ الْقِرَاءَةُ بِهَا بِلَا نزاع بَيْنَ الْأَئِمَّةِ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ بَيْنَ قِرَاءَةِ أَبِي جَعْفَرٍ وَيعْقُوبَ وَخَلفٍ، وَبَيْنَ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِي وَأبِي عَمْرٍو وَنعَيْمٍ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَد مِن سَلَفِ الأمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا إنَّ الْقِرَاءَةَ مُخْتَصَّة بِالْقُراءِ السَّبْعَةِ.
فَإِنَّ هَؤُلَاءِ: إنَّمَا جَمَعَ قِرَاءَاتِهِمْ أَبُو بَكْرٍ بنُ مُجَاهِدٍ، بَعْدَ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ مِن الْهِجْرَةِ، وَاتَّبَعَهُ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَصَدَ أَنْ يَنْتَخِبَ قِرَاءَةَ سَبْعَةٍ مِن قُرَّاءِ الْأمْصَارِ، وَلَمْ يَقُلْ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِن الْأَئِمةِ: إنَّ مَا خَرَجَ عَن هَذِهِ السَّبْعَةِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَلَا إنَّ قَوْلَ النَبِي صلى الله عليه وسلم:"أنزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ"
(1)
أُرِيدَ بِهِ قِرَاءَةُ
(1)
رواه البخاري (2419)، ومسلم (818).
هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ، وَلَكنَّ هَذِهِ السَّبْعَةَ اشْتُهِرَتْ فِي أَمْصَارٍ لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَهَا كَأَرْضِ الْمَغْرِب، فَأُولَئِكَ لَا يَقْرَؤُونَ بِغَيْرِهَا؛ لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِمْ بِاشْتِهَارِ غَيْرِهَا.
فَأَمَّا مَن اشْتَهرَتْ عِنْدَهُم هَذِهِ
(1)
كَمَا اشْتَهَرَ غَيْرُهَا
(2)
، مِثْلُ أَرْضِ الْعِرَاقِ وَغَيْرِهَا، فَلَهُم أَنْ يَقْرَؤُوا بِهَذَا وَهَذَا.
وَالْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ مِثْلُ مَا خَرَجَ عَن مُصْحَفِ عُثْمَانَ؛ كَقِرَاءَةِ مَن قَرَأَ: {الْحَيُّ الْقَيَّامُ} وَ {صِرَاطَ مَن أَنْعَمْت عَلَيْهِمْ} وَ {إنْ كَانَت إلا زقية وَاحِدَةً} {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.
فَهَذِهِ إذَا قُرِئَ بِهَا فِى الصَّلَاةِ فَفِيهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَن الْإِمَامِ أَحْمَد:
أَحَدُهُمَا: تَصِحُّ الصَّلَاة بِهَا؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ قَرَؤوا بِهَا كَانُوا يَقْرَؤُونَهَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِمْ.
وَالثاني: لَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَتَوَاتَرْ إلَيْنَا
(3)
.
وَأَمَّا مَن قَرَأَ بِقِرَاءَةِ أَبِي جَعْفَرٍ وَيعْقوبَ وَنَحْوِهِمَا: فَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. [12/ 567 - 570]
1338 -
لَا نِزَاعَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ أَنَّ الْأَحْرُفَ السَّبْعَةَ الَّتِي ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَيْهَا لَيْسَتْ هِيَ قِرَاءَاتِ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ الْمَشْهُورَةَ، بَل أَوَّلُ مَن جَمَعَ قِرَاءَاتِ هَؤُلَاءِ هُوَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُجَاهِدٍ، وَكَانَ عَلَى رَأسِ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ بِبَغْدَادَ، فَإِنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَجْمَعَ الْمَشْهُورَ مِن قِرَاءَاتِ الْحَرَمَيْنِ وَالْعِرَاقَيْنِ وَالشَّامِ، إذ هَذِهِ الْأَمْصَارُ الْخَمْسَةُ هِيَ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا عِلْمُ النُّبُوَّةِ مِن الْقُرْآنِ وَتَفْسِيرِهِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ مِن الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ وَسَائِرِ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ، فَلَمَّا أَرَادَ ذَلِكَ جَمَعَ قِرَاءَاتِ سَبْعَةِ مَشَاهِيرَ مِن أَئِمَّةِ قُرَّاءِ هَذِهِ الْأَمْصَارِ؛
(1)
أي: هَذهِ السَّبْعَةَ.
(2)
كالقراءات الثلاث وغيرِها.
(3)
وهذا هو الذي رجحه كثير من المحققين.
لِيَكُونَ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِعَدَدِ الْحُرُوفِ الَّتِي أُنْزِلَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ لَا لِاعْتِقَادِهِ أو اعْتِقَادِ غَيْرِهِ مِن الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَةَ هِيَ الْحُرُوفُ السَّبْعَة، أَو أَنَ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةَ الْمُعَيَّنِينَ هُم الَّذِينَ لَا يَجُوزُ أَنْ يقرَأَ بِغَيْرِ قِرَاءَتِهِمْ.
وَلهَذَا قَالَ مَن قَالَ مِن أئِمَّةِ الْقُرَّاءِ: لَوْلَا أَنَّ ابْنَ مُجَاهِدٍ سَبَقَنِي إلَى حَمْزَةَ لَجَعَلْت مَكانَهُ يَعْقُوبَ الْحَضْرَمي إمَامَ جَامِعِ الْبَصْرَةِ وإمَامَ قُرَّاءِ الْبَصْرَةِ فِي زَمَانِهِ فِي رَأسِ الْمِائَتَيْنِ.
وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أنَّ الْحُرُوفَ السَّبْعَةَ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا لَا تتَضَمَّنُ تَنَاقُضَ الْمَعْنَى وَتَضَادَّهُ، بَلْ:
أ - قَد يَكُونُ مَعْنَاهَا مُتَّفِقًا أو مُتَقَارِبًا، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُود: إنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ أَحَدِكُمْ أَقْبِلْ وَهَلُمَّ وَتَعَالَ.
ب - وَقَد يَكونُ مَعْنَى أحَدِهِمَا لَيْسَ هُوَ مَعْنَى الْآخَرِ؛ لَكِنْ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ حَقُّ، وَهَذَا اخْتِلَافُ تَنَوُّعٍ وَتَغَايُرٍ، لَا اخْتِلَافُ تَضَاد وَتَنَاقُضٍ، وَهَذَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ عَن النَبِي صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا حَدِيثِ:"أنزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ إنْ قُلْت: غفُورًا رَحِيمًا أَو قُلْت: عَزِيزًا حَكِيمًا فَاللهُ كَذلِكَ مَا لَمْ تَخْتِمْ آيةَ رَحْمَةٍ بِآيةِ عَذَاب، أَو آيَةَ عَذَاب بِآيَةِ رَحْمَةٍ"
(1)
.
وَهَذَا كَمَا فِي الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ (رَبُّنا بَاعَدَ)
(2)
و (رَبّنا بَاعِدْ).
{إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا} [البقرة: 229]، و (إلَّا أَنْ يُخَافَا أَلَّا يُقِيمَا)
(3)
.
(وَإِن كَانَ مَكْرُهُم لِتَزُولَ) و (لَتَزُولُ مِنْهُ الْجِبَالُ)
(4)
.
(1)
رواه أبو داود (871)، وصححه الألباني.
وهذا كان في بداية الأمر، لتعسر الضبط عند بعض الصحابة؛ لعدم كتابة المصحف كاملًا، فلما أكمل الله الدين، وأتم الشريعة، وكتب كتاب الوحي القرآن كلّه: نُسخ ذلك.
(2)
برفع الباء، وباعَدَ بالألف وفتح العين والدال، وهي قراءةُ يعقوب.
(3)
"يُخافا" بضم الياء للمفعول، فحذف الفاعل وناب عنه ضمير الزوجين، وهي قراءةُ حمزة وأبي جعفر ويعقوب.
(4)
بفتح اللام الأولى ورفع الأخيرة، وهي قراءةُ الكسائي.
تنبيه: في الأصل: لَيَزول، بالياء، والصواب المثبت.
(بَل عَجِبْتَ) و (بَل عَجِبْتُ)
(1)
وَنَحْوِ ذَلِكَ.
ج - وَمِن الْقِرَاءَاتِ مَا يَكُونُ الْمَعْنَى فِيهَا مُتَّفِقًا مِن وَجْهٍ مُتَبَايِنًا مِن وَجْهٍ؛ كَقَوْلِهِ: (يَخْدَعُونَ وَيُخَادِعُونَ)(ويكْذِبُونَ وَيُكَذِّبُونَ)(وَلَمَسْتُمْ وَلَامَسْتُمْ) و (حَتَّى يَطْهُرْنَ ويطَّهَّرْنَ) وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذِهِ الْقِرَاءَاتُ الَّتِي يَتَغَايَرُ فِيهَا الْمَعْنَى كلُّهَا حَق، وَكُلُّ قِرَاءَةٍ مِنْهَا مَعَ الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى بِمَنْزِلَةِ الآيَةِ مَعَ الآيَةِ، يَجِب الْإِيمَانُ بِهَا كُلِّهَا، وَاتِّبَاعُ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِن الْمَعْنَى عِلْمًا وَعَمَلًا، لَا يَجوزُ تَرْكُ مُوجِبِ إحْدَاهُمَا لِأَجْلِ الْأخْرَى ظَنًّا أَنَ ذَلِكَ تَعَارُض، بَل كَمَا قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: مَن كَفَرَ بِحَرْف مِنْهُ فَقَد كَفَرَ بِهِ كُلهِ.
وَلذَلِكَ لَمْ يَتَنَازَعْ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ الْمَتْبُوعِينَ مِن السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَقْرَأَ بِهَذِهِ الْقِرَاءَاتِ الْمُعَينَةِ فِي جَمِيعِ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَل مَن ثَبَتَ عِنْدَهُ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ شَيْخِ حَمْزَةَ، أَو قِرَاءَةُ يَعْقُوبَ بْنِ إسْحَاقَ الْحَضْرَمِي وَنَحْوِهِمَا كَمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِي، فَلَهُ أَنْ يَقْرأ بِهَا بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتبرِينَ الْمَعْدُودِينَ مِن أَهْلِ الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ.
بَل أَكْثَر الْعُلَمَاءِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ أَدْرَكُوا قِرَاءَةَ حَمْزَةَ؛ كَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلِ وَبِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَغَيْرِهِمْ يَخْتَارُونَ قِرَاءَةَ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الْقَعْقَاعِ
(2)
وَشَيْبَةَ بْنِ نِصَاح
(3)
الْمَدَنِيَّيْنِ وَقِرَاءَةَ الْبَصْرِيِّينَ كَشُيُوخِ يَعْقُوبَ بْنِ إسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ عَلَى قُرَّاءِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِي.
(1)
بضم التاء، وهي قراءةُ حمزة الكسائي.
(2)
أحد أئمة التابعين، وعَلَم من علماء القراءات، الثقة من المشهورين شيخ القراءات بالمسجد النبوي الشريف.
أحد القراء العشرة المشهورين، وقراءة أبي جعفر من القراءات المتواترة التي لا زال الناس يتلقونها بالقبول.
توفي سنة ثمان وعشرين ومائة من الهجرة.
يُنظر: معجم حفاظ القرآن عبر التاريخ، لمحمد سالم محيسن (1/ 158).
(3)
هو أحد أئمة التابعين، الإمام الثقة، شيخ القراء، ومقرئ المدينة المنورة، وأحد شيوخ =
وَلهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْعِرَاقِ الَّذِينَ ثَبَتَتْ عِنْدَهُم قِرَاءَاتُ الْعَشَرَةِ أَو الْأَحَدَ عَشَرَ كَثُبُوتِ هَذِهِ السَّبْعَةِ يَجْمَعُونَ ذَلِكَ فِي الْكُتُبِ، وَيَقْرَؤُونَهُ فِي الصَّلَاةِ وَخَارجَ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، لَمْ يُنْكرْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ.
وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِن الْعُلَمَاءِ قِرَاءَةَ الْعَشَرَةِ، وَلَكنْ مَن لَمْ يَكُن عَالِمًا بِهَا، أَو لَمْ تَثْبُتْ عِنْدَهُ؛ كَمَن يَكونُ فِي بَلَد مِن بِلَادِ الْإِسْلَامِ بِالْمَغْرِبِ أَو غَيْرِهِ، وَلَمْ يَتَّصِلْ بِهِ بَعْضُ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ: فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ، فَإِنَّ الْقِراءَةَ كَمَا قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: سُنَّةٌ يَأخُذُهَا الْآخِرُ عَنِ الْأَوَّلِ، كَمَا أَنَّ مَا ثَبَتَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِن أَنْوَاعِ الِاسْتِفْتَاحَاتِ فِي الصَّلَاةِ، وَمِن أَنْوَاعِ صِفَةِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَصِفَةِ صَلَاةِ الْخَوْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كُلُّهُ حَسَنٌ يُشْرَعُ الْعَمَلُ بِهِ لِمَن عَلِمَه، وَأَمَّا مَن عَلِمَ نَوْعًا وَلَمْ يَعْلَمْ غَيْرَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ عَمَّا عَلِمَهُ إلَى مَا لَمْ يَعْلَمْهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى مَن عَلِمَ مَا لَمْ يَعْلَمْه مِن ذَلِكَ
(1)
، وَلَا أَنْ يُخَالِفَهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"لَا تَخْتَلِفُوا فَإنَّ مَن كَانَ قَبْلَكُمْ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا"
(2)
.
وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الشَاذَّةُ الْخَارِجَةُ عَن رَسْمِ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِي .. فَهَذِهِ إذَا ثَبَتَتْ عَن بَعْضِ الصَّحَابَةِ فَهَل يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ بِهَا فِي الصَّلَاةِ؟
= "نافع بن أبي نعيم" أحد القراء السبعة المشهورين، ولا زال المسلمون يتلقون قراءة "نافع" بالرضى والقبول.
أدرك شيبة أم المؤمنين عائشة وأم سلمة رضي الله عنها.
وقرأ القرآن على عبد الله بن عياش.
وقرأ عبد اللّه بن عياش على أبيّ بن كعب رضي الله عنه، وقرأ أبيّ على النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن هذا يتبيّن أن قراءة شيبة صحيحة ومتصلة السند بالنبي عليه الصلاة والسلام.
وقال قالون: كان نافع أكثر اتِّباعًا لشيبة منه لأبي جعفر.
توفي سنة ثلاثين ومائة.
يُنظر: معجم حفاظ القرآن عبر التاريخ، لمحمد سالم محيسن (1/ 307).
(1)
كمن يُنكر على بعض الأئمة قراءته في الصلاة بقراءة أحد القراء العشرة؛ بحجة عدم التشويش على الناس.
(2)
رواه البخاري (2410).
عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ مَشْهُورَتَانِ عَن الْإِمَامِ أَحْمَد وَرِوَايَتَانِ عَن مَالِكٍ:
إحْدَاهُمَا: يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ كَانُوا يَقْرَؤُونَ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ فِي الصَّلَاةِ.
وَالثانِيَةُ: لَا يَجُوز ذَلِكَ وَهُوَ قَوْل أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ؛ لِأن هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ لَمْ تَثْبُتْ مُتَوَاتِرَةً عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِن ثَبَتَتْ فَإِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بالعرضة الآخِرَةِ.
وَهَذَا النّزَاعُ لَابُدَّ أَنْ يُبْنَى عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي سَألَ عَنْهُ السَّائِلُ، وَهُوَ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَةَ هَل هِيَ حَرْف مِن الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ أَمْ لَا؟
فَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِن السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ أَنَهَا حَرْفٌ مِن الْحُرُوفِ السبْعَةِ؛ بَل يَقُولُونَ: إنَّ مُصْحَفَ عُثْمَانَ هُوَ أحَد الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ، وَهُوَ متَضَمِّن للعرضة الْآخِرَةِ الَّتِي عَرَضَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى جِبْرِيلَ، وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ الْمَشْهُورَةُ الْمُسْتَفِيضَةُ تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ.
وَذَهَبَ طَوَائِفُ مِن الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ إلَى أَنَّ هَذَا الْمُصْحَفَ مُشْتَمِل عَلَى الْأَحْرُفِ السبْعَةِ، وَقَرَّرَ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِن أَهْلِ الْكَلَامِ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَانِي وَغَيْرِهِ
(1)
؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ تُهْمِلَ نَقْلَ شَيءٍ مِن الأحْرُفِ السَّبْعَةِ
(2)
.
ثُمَّ مَن جَوَّزَ الْقِرَاءَةَ بِمَا يَخْرُجُ عَن الْمُصْحَفِ مِمَّا ثَبَتَ عَن الصَّحَابَةِ قَالَ: يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِن الْحُرُوفِ السبْعَةِ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا.
وَلهَذَا كَانَ فِي الْمَسْألَةِ قَوْل ثَالِث وَهُوَ اخْتِيَارُ جَدّي أَبِي الْبَرَكَاتِ أَنَّهُ إنْ
(1)
كابن حزم رحمه الله.
(2)
كتبت في هذا الموضوع كتابًا سميتُه: تحقيقُ الْمَسَائِلِ الْمُهِمةِ فِي الْقِراءَاتِ والْأحْرُفِ السبْعةِ، وذكرت أن الراجح أنَّها باقية، وأنّ كيفية النطق بكلمات القرآن ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليست من اجتهاد القُرّاء.
قَرَأَ بِهَذِهِ الْقِرَاءَاتِ فِي الْقِرَاءَةِ الْوَاجِبَةِ -وَهِيَ الْفَاتِحَةُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا- لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَتَيَقَّنْ أَنَهُ أَدَّى الْوَاجِبَ مِن الْقِرَاءَةِ لِعَدَمِ ثُبُوتِ الْقُرْآنِ بِذَلِكَ.
وإن قَرَأَ بِهَا فِيمَا لَا يَجِبُ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَيَقنْ أَنَّهُ أَتَى فِي الصَّلَاةِ بِمُبْطِلِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِن الْحُروفِ السَّبْعَةِ الَّتِي أُنْزِلَ عَلَيْهَا.
وَهَذَا الْقَوْلُ يَنْبَنِي عَلَى أَصْل، وَهُوَ أَنَّ مَا لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ مِن الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ فَهَل يَجِب الْقَطْعُ بِكَوْنِهِ لَيْسَ مِنْهَا؟
فَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهورُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِذَلِكَ.
وَذَهَبَ فَرِيق مِن أَهْلِ الْكَلَامِ إلَى وُجُوبِ الْقَطْعِ بِنَفْيِهِ، حَتَّى قَطَعَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ -كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ- بِخَطَأ الشَّافِعِي وَغَيْرِهِ مِمَن أَثْبَتَ الْبَسْمَلَةَ آيةً مِن الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ سُورَةِ النَّمْلِ؛ لِزَعْمِهِمْ أَنَّ مَا كَانَ مِن مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِنَفْيِهِ.
وَالصَّوَابُ الْقَطْعُ بِخَطَأ هَؤُلَاءِ، وَأَنَّ الْبَسْمَلَةَ آية مِن كِتَابِ اللهِ حَيْثُ كَتَبَهَا الصَّحَابَةُ فِي الْمُصْحَفِ، إذ لَمْ يَكْتبُوا فِيهِ إلَّا الْقُرْآنَ وَجَرَّدُوهُ عَمَّا لَيْسَ مِنْهُ كَالتَخْمِيسِ وَالتَّعْشِيرِ وَأَسْمَاءِ السُّوَرِ؛ وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ لَا يُقَالُ هِيَ مِن السورَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، كَمَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِن السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا؛ بَل هِيَ كَمَا كُتِبَت آية أنْزَلَهَا اللهُ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، وَإِن لَمْ تكنْ مِن السُّورَةِ.
وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْألَةِ.
وَسَوَاء قِيلَ بِالْقَطْعِ فِي النَّفْيِ أَو الْإِثْبَاتِ، فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ كَوْنَهَا مِن مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي لَا تكفِيرَ وَلَا تَفْسِيقَ فِيهَا لِلنَّافِي وَلَا لِلْمُثْبِتِ؛ بَل قَد يُقَالُ مَا قَالَهُ طَائِفَة مِن الْعُلَمَاءِ: إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِن الْقَوْلَيْنِ حَق، وإنَّهَا آيةٌ مِن الْقُرْآنِ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الَّذِينَ يَفْصِلُونَ بِهَا بَيْنَ السورَتَيْنِ
(1)
، وَلَيْسَتْ آيَةً فِي بَعْضِ
(1)
كقالون والكسائي وعاصم وابن كثير، فهم يُثبتونها للفصل بين السور، فتكون آيةً عندهم.
الْقِرَاءَاتِ؛ وَهِيَ قِرَاءَةُ الَّذِينَ يَصِلُونَ وَلَا يَفْصِلُونَ بِهَا بَيْنَ السُّورَتَيْنِ
(1)
.
وَأَما قَوْلُ السَّائِلِ: مَا السَّبَبُ الَّذِي أَوْجَبَ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْقُرَّاءِ فِيمَا احْتَمَلَهُ خَطُّ الْمُصْحَفِ؟ فَهَذَا مَرْجِعهُ إلَى النَّقْلِ وَاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ؛ لِتَسْوِيغِ الشَّارعِ لَهُمُ الْقِرَاءَةَ بِذَلِكَ كُلِّهِ؛ إذ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْرَأَ قِرَاءَة بِمُجَرَّدِ رَأيِهِ، بَل الْقِرَاءَةُ سُنَّةٌ مُتَبعةٌ.
وَالِاعْتِمَادُ فِي نَقْلِ الْقُرْآنِ عَلَى حِفْظِ الْقُلُوبِ لَا عَلَى الْمَصَاحِفِ
(2)
. [13/ 389 - 400]
(1)
كحمزة، فهو لا يُثبتها، بل يصل السورة بالتي تليها بلا بسملة، فليست آيةً عنده على هذا القول.
(2)
يُستفاد من كلام شيخ الإسلام عدة فوائد:
الأولى: أنه لا خلاف بَيْنَ الْأئِمةِ في أَنَهُ لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَقْرَأَ المسلم بِهَذِهِ الْقِرَاءَاتِ الْمُعَيّنةِ فِي جَمِيعِ أمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ، وهي القراءات العشر المتواترة.
الثانية: أنه يجوز القراءة بالشاذة الْموَافِقَةِ لِلْمُصْحَفِ لِمَنْ ثَبَتتَ وصحتْ عِنْدَهُ، ومثل لذلك بقرَاءَةِ الْأعْمَشِ شَيْخِ حَمْزَةَ.
وقال: فَلَهُ أَنْ يقْرَأَ بِهَا بِلَا نِزَاع بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتبَرِينَ الْمَعْدُودِينَ مِنْ أهْلِ الإجْمَاعِ وَالْخِلَافِ.
وأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ الْأَئِمَّةِ الذِينَ أدْركُوا قِرَاءَةَ حَمْزَةَ؛ كَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلِ وَبِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَغَيْرِهِمْ يَخْتَارُونَ قِرَاءَةَ أبِي جَعْفَرِ بْنِ الْقَعْقَاعِ وَشَيْبَةَ بْنِ نِصَاحٍ -وهو ليس من العشرة -وَقرَاءَةَ الْبَصْريِّينَ -وبعضهم ليس من العشرة- كَشُيُوخِ يَعْقُوبَ بْنِ إسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ عَلَى قُرَّاءِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائي.
قال: وَلهَذَا كَانَ أئِمةُ أهْلِ الْعِرَاقِ الَّذِينَ ثَبَتَتْ عِنْدَهُمْ قِرَاءَاتُ الْعَشَرَةِ أوْ الْأحَدَ عَشَرَ كَثُبُوتِ هَذِهِ السبْعَةِ: يَجْمَعُونَ ذَلِكَ فِي الْكُتُبِ، ويقْرَؤونَهُ فِي الصَّلَاةِ وَخَارج الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ مُتفَق عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، لَمْ يُنْكِرْهُ أحَد مِنْهُمْ.
فالشيخ حكى إجماع الْعُلَمَاءِ على جواز الْقِرَاءَة بالشَّاذَّة الصحيحة التي لم تخرج عَنْ رَسْم الْمُصْحَفِ الْعُثْمَاني فِي الصلَاةِ وَخَارج الصلَاةِ.
وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ الثابتة عن الصحابة، لكنها خارِجَة عَنْ رَسْمِ الْمُصْحَفِ الْعثْمَانِي: فقد حكى فيها خلافًا في جواز القراءة بِهَا فِي الصَّلَاةِ.
وهذا يُناقض قول ابن عبد البر رحمه الله تعالى في حكم القراءة بالقراءات الشاذّة في الصلاة بأنه مِمَّا اجتمع علماء الأمصار على عدم جوازه، فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الخلاف في ذلك كما ترى. =
1339 -
ما خالف المصحف، وصح سنده، صحت الصلاة به، وهذا أنص الروايتين عن أحمد. [الاختيارات 80]
1340 -
تَنَازَعَ النَّاسُ مِن الْخَلَفِ فِي الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِي الْإِمَامِ الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَالتَّابِعُونَ لَهُم بِإحْسَانٍ، وَالْأُمَّةُ بَعْدَهُمْ: هَل هُوَ بِمَا فِيهِ مِن الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَةِ وَتَمَامِ الْعَشَرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ هَل هُوَ حَرْف مِن الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الَّتِي أنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا؟ أَو هُوَ مَجْمُوعُ الْأَحْرُفِ السبْعَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورينِ.
وَالْأوّلُ: قَوْلُ أَئِمَّةِ السلَفِ وَالْعُلَمَاءِ.
وَالثاني: قَوْلُ طَوَائِفَ مِن أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْقُراءِ وَغَيْرِهِمْ
(1)
.
= وهناك قراءات صحت عن الصحابة رضي الله عنهم، وقرؤوا بها، لكنها خارجة عن رسم المصاحف العثمانية، فلذلك اعْتُبرت شاذة؛ لأنها من الأحرف التي اتفق الصحابة أو جمهورُهم في عهد عثمان على تركها؛ لمصلحة تآلف القلوب، وعدم التفرق والخلاف المذموم.
فعلى هذا: القراءة التي صح سندها ووافقت اللغة العربية ولو بوجه ولم تُخالف المصحف ولو لم يقرأ بها أحدُ القراء العشرة: لا تُسمى شاذة كما قرره ابن الجزري ومكي وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتجوز الصلاة بها. فهو يُفرقون في القراءة الشاذة بين ما خالفت المصحف وما وافقته.
فيمكن تعريف القراءة الشاذة على رأيهم: بأنها ما صح سنده، ووافقت العربية ولو بوجه وخالفت رسم المصحف.
لكن يكاد يتفق القراء وعلماء القرآن على "أن ما وراء القراءات العشر مما صحت روايته آحادًا ولم يستفض ولم تتلقه الأمة بالقبول: شاذ وإنْ وافق رسم المصحف وقواعد العربية".
يُنظر: الْمَسَائِلُ الْمُهِمةُ فِي التَجْويدِ والْأحْرُفِ السبْعةِ، للمؤلف (65 - 79).
(1)
من المعلوم أنّ عثمان ومن معه من الصحابة رضي الله عنهم وحدُوا الرسم، ولم ينقطوه، وجعلوه يحتمل بقية الأحرف.
وقد حرصوا أشد الحرص على جعل الرسمِ يحتمل أكثر من قراءة، فكتبوا قوله تعالى:{وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا} في سورة هود والذاريات، ولم يكتبوا ألفًا بعد اللام، لتحتمل القراءة الأخرى، وهي:(سِلْمًا).
ومثل: "فتثبتوا""فتبينوا"، و"يُسَيرُكُمْ" و"ينشركم".
ومن المعلوم أن الصحابة لم يُنقطوا ويُشكلوا القرآن، فرسموا القراءتين بدون النقط والشكل واحد، فاحتمل الرسم القراءتين. =
وَهُم مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْأَحْرُفَ السَّبْعَةَ لَا يُخَالِفُ بَعْضُهَا بَعْضًا خِلَافًا يتضاد فِيهِ الْمَعْنَى وَيَتَنَاقَضُ، بَل يُصَدّقُ بَعْضُهَا بَعْضا، كَمَا تُصَدِّقُ الآيَاتُ بَعْضُهَا بَعْضًا. [13/ 401]
* * *
= ومن شدةِ حرص الصحابة على كتابة المصاحف بجميع حروفه؛ أنهم اضطروا إلى المخالفة بين المصاحف في بعض الأمور، فزادوا أحرفًا في مصاحف، ونقصوا في أخرى، مثل:{تَجْرِي تَحْتَهَا} في سورة التوبة، وفي مصاحف أخرى:{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا} ، والأمثلة على ذلك كثيرة.
أما إذا لم يتمكنوا من ذلك بسبب اختلاف الكلمة: فاضطروا إلى اختيار إحداها لِيُثبتوها في المصحف، واتفقوا على أن يجعلوها على لغة قريش ما أمكن؛ مثل:
1 -
"فامضوا"{فَاسْعَوْا} .
2 -
"الْحَي الْقَيامُ"{الْحَيُّ الْقَيُّومُ} .
3 -
"صِرَاطَ مَنْ أَنْعَمْت عَلَيْهِمْ"{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} .
4 -
"إنْ كَانَتْ إلا زقية وَاحِدَةً"{إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} .
5 -
"وَالليْل إذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إذَا تَجَلَّى وَالذكَرِ وَالْأنْثَى"{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)} . وَأمْثَال ذَلِكَ.
وحينما لم يكتبوا كلمة فامضوا وغيرها لم يقولوا: بأننا ألغيناها وتركناها، بل لم يمنعوا أحدا: لا ابن مسعود ولا غيره من القراءة بها وبغيرِها.
وقول من قال بأن المصاحفَ العثمانيةَ مشتملةٌ على الأحرف السبعة كلّها: يُخالفه الواقع وإجماع الأمة؛ فقد ثبتت قراءات لا يستريب عالم بالقراءات في صحتها وثبوتها عن الصحابة رضي الله عنهم، وهي تتجاوز المئات.
ولا يمكن تخريج ذلك إلا على ما ذكرته آنفًا، بانها من القراءات التي اتفق الصحابة على عدم كتابتها في المصحف، وتركوا الناس يقرؤون بها فيما بينهم، ولم يمنعوهم منها.
فأقرب ما يقال: بأن ما خرح عن دفتي المصحف مما صحت القراءة به لغة وسندًا: فهي من الأحرف السبعة التي أجمع الصحابة على عدم كتابتها في المصحف؛ جمعًا للكلمة.
قال مُصْعَب بْن سَعْدٍ: "أدْرَكْتُ النَاسَ مُتَوَافِرِينَ حِينَ حَرَّقَ عُثْمَانُ الْمَصَاحِفَ، فَأعْجَبَهُمْ ذَلِكَ، وَقَالَ: لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَحَدٌ".
ولا ينفي ذلك حفظ الله للقرآن؛ لأنها محفوظةٌ كلّها، ويُحتج بها في اللغة وفي تفسير القرآن.
فلا يعني عدم كتابتها في المصاحف أنها أُهملت وتُركت وضُيّعت.
والقول بأنها نُسخت وتُركت: يفتح الباب على مصراعيه أمام طعن الأعداء في القرآن، حيث سيقولون: ألستم تقولون بأن القراءة تُعتبر آية؟ =
(حكم الجهر بالبسملة، وهل هي آية من كلّ سورة
؟)
1341 -
وَأَمَّا الْبَسْمَلَةُ: فَلَا ريبَ أَنَّهُ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ مَن يَجْهَرُ بِهَا، وَفِيهِمْ مَن كَانَ لَا يَجْهَرُ بِهَا بَل يَقْرَؤُهَا سِرًّا أَو لَا يَقْرَؤُهَا، وَاَلَّذِينَ كَانُوا يَجْهَرُونَ بِهَا أَكْثَرهم كَانَ يَجْهَرُ بِهَا تَارَة ويُخَافِتُ بِهَا أُخْرَى؛ وَهَذَا لِأَنَّ الذكْرَ قَد يَكُون السُّنَّةُ الْمُخَافَتَةَ بِهِ وَيُجْهَرُ بِهِ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَة؛ مِثْل تَعْلِيمِ الْمَأمُومِينَ، فَإِنَهُ قَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّ ابْنَ عَباسٍ قَد جَهَرَ بِالْفَاتِحَةِ عَلَى الْجِنَازَةِ لِيُعَلِّمَهُم أَنَّهَا سُّنة
(1)
.
وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الْجِنَازَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
قِيلَ: لَا تُسْتَحَبُّ بِحَالٍ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِك.
وَقِيلَ: بَل يَجِبُ فِيهَا الْقِرَاءَةُ بِالْفَاتِحَةِ.
وَقِيلَ: بَل قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِيهَا سنَّة، وَإِن لَمْ يَقْرَأ بَل دَعَا بِلَا قِرَاءَة جَازَ.
وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ.
وَثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَقُولُ: "اللهُ أَكْبَرُ، سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك وَتَبَارَكَ اسْمُك وَتَعَالَى جَدُّك وَلَا إلَهَ غَيْرُك"، يَجْهَرُ بِذَلِكَ مَراتٍ كَثِيرَةً
(2)
.
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْجَهْرَ بِذَلِكَ لَيْسَ بِسُنَّة رَاتِبَةٍ، لَكِنْ جَهَرَ بِهِ لِلتَّعْلِيمِ.
= فإن قلنا -ولابد- بلى.
فسيقولون: فإنّ سلفكم طرحوا أكثرها، حيثُ ألغوا ستة أحرف كانت تُقرأ -بإقراركم- في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وعمر.
ونحن إذا قلنا بما سلف لم يبق إشكال أبدا بحول الله تعالى. يُنظر: الْمَسَائِلُ الْمُهِمةُ فِي التجْويدِ والْأحْرُفِ السبْعةِ، للمؤلف (28 - 32).
(1)
روى البخاري (1335)، عَن طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: صَليْتُ خَلْفَ ابْن عَباس رضي الله عنهما عَلَى جَنَازَةٍ فَقَرَأ بِفَاتِحَةِ الكِتَاب قَالَ: "ليَعْلَمُوا أَنهَا سُنّة".
(2)
رواه مسلم (399).
لَكِنْ لَا نِزَاعَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَجْهَرْ بِالِاسْتِفْتَاحِ وَلَا بِالِاسْتِعَاذَةِ.
وَالْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ أقْوَى مِن الْجَهْرِ بِالِاسْتِعَاذَةِ؛ لِأَنَّهَا آية مِن كِتَابِ اللهِ تَعَالَى
(1)
.
وَلَيْسَ فِي "الصِّحَاحِ" وَلَا "السُّنَن" حَدِيث صَحِيح صَرِيح بِالْجَهْرِ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّرِيحَةُ بِالْجَهْرِ كُلُّهَا ضَعِيفَة بَل مَوْضُوعَةٌ.
وَقَد تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ: هَل هِيَ آيةٌ أَو بَعْضُ آيَةٍ مِن كُلِّ سُورَةٍ
(2)
، أَو لَيْسَتْ مِن الْقُرْآنِ إلَّا فِي سُورَةِ النَّمْلِ
(3)
، أَو هِيَ آية مِن كِتَابِ اللهِ حَيْثُ كُتِبَتْ فِي الْمَصَاحِفِ وَلَيْسَتْ مِن السُّورِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: هُوَ أَوْسَطُ الْأَقْوَالِ، وَبِهِ تَجْتَمِعُ الْأَدِلَّةُ؛ فَإِنَّ كِتَابَةَ الصَّحَابَةِ لَهَا فِي الْمَصَاحِفِ دَلِيل عَلَى أَنَّهَا مِن كِتَابِ اللهِ، وَكَوْنُهُم فَصَلُوهَا عَن السُّورَةِ الَّتِي بَعْدَهَا دَلِيل عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهَا.
وَثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم "الصَّحِيحِ"
(4)
أَنَّهُ قَالَ: "يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10]، قَالَ اللهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي" .. فَهَذَا الْحَدِيثُ صَحِيح صَرِيح فِي أَنَّهَا لَيْسَتْ مِن الْفَاتِحَةِ.
لَكِنْ مَن قَرَأَ بِهَا كَانَ قَد أَتَى بِالْأَفْضَلِ، وَكَذَلِكَ مَن كَرَّرَ قِرَاءَتَهَا فِي أَوَّلِ كُل
(1)
قال الشيخ في جواب مَن سَأله عَن رَجُلٍ يَؤُمُّ النَاسَ وَبَعْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ يَجْهَرُ بِالتَّعَوذِ ثُم يُسَمي ويقْرَأ: إذَا فَعَلَ ذَلِكَ أَحْيَانًا لِلتَّعْلِيمِ وَنَحْوِهِ فَلَا بَأسَ بِذَلِكَ؛ كَمَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب يَجْهَرُ بِدُعَاءِ الِاسْتِفْتَاح مُدَّةً، وَكَمَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأبُو هُرَيْرَةَ يَجْهَرَانِ بِالِاسْتِعَاذَةِ أَحْيَانًا، وَأَما الْمدَاوَمَةُ عَلَى الْجَهْرِ بِذلِكَ فَبِدْعَة. (22/ 405).
(2)
كما هو رأي الإمام الشافعي، ويرى الجهر بها.
(3)
كما هو رأي الإمام مالك، ولا يرى الجهر بها.
(4)
مسلم (395).
سُورَةٍ كَانَ أَحْسَنَ مِمَن تَرَكَ قِرَاءَتَهَا؛ لِأنَّهُ قَرَأَ مَا كَتَبَتْهُ الصَّحَابَةُ فِي الْمَصَاحِفِ، فَلَو قُدرَ أنَّهُم كَتَبُوهَا عَلَى وَجْهِ التبرُّكِ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُقْرأ عَلَى وَجْهِ التَّبّرُّكِ.
وإلا فَكَيْفَ يَكْتُبُونَ فِي الْمُصْحَفِ مَا لَا يُشْرَعُ قِرَاءَتُهُ؟ وَهُم قَد جَرَّدُوا الْمُصْحَفَ عَمَّا لَيْسَ مِن الْقُرْآنِ، حَتَّى أَنَّهُم لَمْ يَكْتموا التَّأمِينَ وَلَا أَسْمَاءَ السُّورِ، وَلَا التَّخْمِيسَ وَالتعْشِيرَ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّ السنَّةَ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَقُولَ عَقِبَ الْفَاتِحَةِ: آمِينَ، فَكَيْفَ يَكْتُبُونَ مَا لَا يُشْرَعُ أَنْ يَقُولَهُ وَهُم لَمْ يَكْتُبُوا مَا يُشْرَعُ أَنْ يَقُولَهُ الْمُصَلِّي مِن غَيْرِ الْقُرْآنِ؟
فَإِذَا جُمِعَ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ دَلَّتْ عَلَى أنَّهَا مِن كِتَابِ اللهِ وَلَيْسَتْ مِن السُّورَةِ. [22/ 274 - 278، 406]
1342 -
قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ فِي الْبَسْمَلَةِ أَنَّهَا آيةٌ مِن الْقُرْآنِ مُفْرَدَة، وَلَيْسَتْ مِن السُّورَةِ، وَأَّنهُ يُقْرَأ بِهَا في الصَّلَاةِ سرًّا، فَلَا تُخْرَجُ مِن الْقُرْآنِ وَتُهْجَرُ، وَلَا تُشَبَّهْ بِالْقُرْآنِ الْمَقْصُودِ فَتُجْهَر، وَهِيَ تُشْبِهُ الِاسْتِعَاذَةَ مِن بَعْضِ الْوُجُوهِ لَكِنَّ الِاسْتِعَاذَةَ لَيْسَتْ بِقُرْآن، وَلَمْ تكتَبْ فِي الْمَصَاحِفِ، وإنَّمَا فِيهِ الْأَمْرُ بِالِاسْتِعَاذَةِ وَهَذَا قُرْآن.
وَقَد كَانَ كَثِيرٌ مِن السَّلَفِ يَقُولُ: الْبَسْمَلَةُ آيَةٌ مِنْهَا ويقْرَؤُهَا، وَكَثِير مِن السَّلَفِ لَا يَجْعَلُهَا مِنْهَا، ويجْعَلُ الْآيَةَ السَّابِعَةَ:{أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الصَّحِيحُ.
وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ حَق، فَهِيَ مِنْهَا مِن وَجْه، وَلَيْسَتْ مِنْهَا مِن وَجْه.
وَالْمَقْصودُ أَنْ يُبْتَدَأَ الْقُرْآنُ بِذِكْرِ اسْمِ اللهِ، فَهِيَ أنْزِلَتْ فِي أَولِ السُّورَةِ تَبَعًا، لَمْ تَنْزِلْ فِي أَوَاخِرِ السُّورِ، وَكُتِبَتْ فِي الْمَصَاحِفِ مُفْرَدَة، لَكِنْ تَبَعًا لِمَا بَعْدَهَا لَا لِمَا قَبْلَهَا.
فَمِن جِهَةِ كَوْنِهَا تَابِعَةً لِلسورَةِ تُجْعَلُ مِنْهَا، وَمِن جِهَةِ كَوْنِ الْمَقْصُودِ أَنْ يَقْرَأَ بِسْمِ اللهِ .. لَمْ تكُنْ آيَةً مِن السُّورَةِ.
والقراء مِنْهُم مَن يَفْصِلُ بِهَا بَيْنَ السُّورَتَيْنِ، وَمِنْهُم مَن لَا يَفْصِلُ؛ لِكَوْنِ الْقُرْآنِ كُلِّهِ كَلَامَ اللهِ فَلَا يَفْصِلُونَ بِهَا بَيْنَ السُّورَتَيْنِ، كَمَن سَمَّى إذَا أَكَلَ ثُمَّ أَكَلَ أَنْوَاعًا مِن الطَّعَامِ.
وَمِنْهُم مَن يُسَمِّي فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، وَهَذَا أَحْسَنُ؛ لِمُتَابَعَتِهِ لِخَطِّ الْمُصْحَفِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ رَفْعِ طَعَامٍ وَوَضْعِ طَعَامٍ فَالتَّسْمِيَةُ عِنْدَهُ أَفْضَلُ.
وَكَذَلِكَ مَن ذَبَحَ شَاةً بَعْدَ شَاةٍ فَالتَّسْمِيَةُ عَلَى كُلِّ شَاة أَفْضَلُ، وَأَمَّا تِلَاوَتُهَا فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ فَهُوَ ابْتِدَاء بِهَا لِلْقُرْآنِ.
وَحِينَئِذٍ: فَيَكُونُ الَّذِينَ لَا يَقْرَؤُونَهَا قَد أَقْرَأهُم الرَّسُولُ وَلَمْ يُبَسْمِلْ، وَأُولَئِكَ أَقْرَأهُم وَبَسْمَلَ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ.
وَإِن كَانَ أَحَدُهُمَا أَفْضَلَ: لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا فِي أَحَدِ الْحَرْفَيْنِ لَيْسَتْ مِن الْقُرْآنِ. بَل هَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ؛ كَالْحُرُوفِ الَّتِي ثَبَتَتْ فِي قِرَاءَةٍ دونَ قِرَاءَة، مِثْل:{مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة: 25]
(1)
، وَمِثْلُ:{فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ} [الحديد: 24]
(2)
؛ فَالزسُولُ يُجَوِّزُ إثْبَاتَ ذَلِكَ وَيُجَوِّزُ حَذْفَهُ، كِلَاهُمَا جَائِز فِي شَرْعِهِ
(3)
.
وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مَن قَالَ مِن الْفُقَهَاءِ: إنَّهَا وَاجِبَة عَلَى قِرَاءَةِ مَن أَثْبَتَهَا، أَو مَكْرُوهَة عَلَى قِرَاءَةِ مَن لَمْ يُثْبِتْهَا: فَقَد غَلِطَ، بَل الْقُرآنُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ.
وَمَن قَرا بِإِحْدَى الْقِرَاءَاتِ لَا يُقَالُ: إنَّهُ كُلَّمَا قَرأَ يَجِبُ أَنْ يَقْرَأَ بِهَا.
(1)
قرأ ابن كثير وحده: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ عَدْنٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ} [التوبة: 100] بزيادة: {مِنْ} .
وقرأ الباقون {تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ} بغير {مِنْ} .
(2)
قرأ أبو جعفر ونافع وابن عامر {فَإِنَّ اللَّهَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الحديد: 24] بغير {هُوَ} .
وقرأ الباقون {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} بزيادة {هُوَ} .
(3)
وكذلك يُقال في البسملة، قرأها النبي صلى الله عليه وسلم في بداية السور وجعلها آية منها، ومرةً قرأ دون البسملة.
وَمَن تَرَكَ مَا قَرَأَ بِهِ غَيْرُهُ لَا يَقُولُ: إنَّ قِرَاءَةَ أُولَئِكَ مَكْرُوهَة.
بَل كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَإن رَجَّحَ كُلُّ قَوْمٍ شَيْئًا.
وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مَن أَنْكرَ كَوْنَهَا مِن الْقُرْآنِ بِالْكُليَّةِ إلَّا فِي سُورَةِ النَّمْلِ وَقَطَعَ بِخَطَأِ مَن أَثْبَتَهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقرْآنِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلا بِالْقَطْعِ: فَهُوَ مُخْطِئ فِي ذَلِكَ، وَيُقَالُ لَهُ: وَلَا تُنْفَى إلَّا بِالْقَطْعِ أَيْضًا. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: مَن أَثْبَتَهَا يَقْطَعُ بِأَنَّهَا ثَابِتَة ويقْطَعُ بِخَطَأِ مَن نَفَاهَا
(1)
. [22/ 351 - 354]
1343 -
الْجَهْرُ بِهَا مَعَ كَوْنِهَا لَيْسَتْ مِن الْفَاتِحَةِ: قَوْلٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِن الْأَئِمَّةِ الْأرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِن الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ، وَلَا أَعْلَمُ بِهِ قَائِلًا.
لَكِنْ هِيَ مِن الْفَاتِحَةِ، وإيجَابُ قِرَاءَتِهَا مَعَ الْمُخَافَتَةِ بِهَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِن أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ إحْدَى الروَايَتَيْنِ عَن أَحْمَد. [22/ 424]
* * *
1344 -
لَفْظُ الِاخْتِلَافِ فِي الْقُرْاَنِ يُرَادُ بِهِ التَّضَادُّ وَالتَّعَارُضُ، لَا يُرَادُ بِهِ
(1)
تحقيقه البديع هذا يُزيل إشكالًا كبيرًا أشكل على كثير من طلاب العلم، وهو أن كثيرا من العلماء رجح أن البسملة ليست آية من الفاتحة، كما هو رأي الشيِخ نفسه حيث قال: مَن تَدَبَّرَ عَافةَ الآثَارِ الثَّابتَةِ فِي هَذَا الْبَاب عَلِمَ أنَّهَا آيَةٌ مِن كِتَاب اللهِ، وَأنهُم قَرَءُوهَا لِبَيَانِ ذَلِكَ، لَا لِبَيَانِ كَوْنِهَا مِن الْفاتِحَةِ وَأَنَّ الْجَهْرَ بِهَا سُنةٌ. المجموع (22/ 420).
وقال -بعد أن رجح أَنَّهَا مِن الْقُرْآنِ حَيْثُ كُتِبَتْ آيةً مِن كِتَاب اللهِ مِن أولِ كُلِّ سُورَةٍ، وَلَيْسَتْ مِن السورَةِ-: لَكِنَّ هَؤُلَاءِ تَنَازَعُوا فِي الْفَاتِحَةِ: هَل هِيَ آيةْ مَنْهَا دُونَ غَيْرِهَا؟ على قولين:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مِن الْفَاتِحَةِ دونَ غَيْرِهَا.
وَالثَّانِي: أنَّهَا لَيْسَتْ مِن الْفَاتِحَةِ، كَمَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِن غَيْرِهَا، وَهَذَا أَظْهَرُ. المجموع (22/ 439 - 440).
وهو رأي العلامة ابن عثيمين رحمه الله الشرح الممتع (3/ 57) وغيرهما.
والإشكال: هو أنَّ البسملة معدودة آية في مصحفنا، كما هو الحال في مصاحف الكوفيين كلهم، وخلف العاشر، بخلاف المصاحف الأخرى.
فعلى رأي هؤلاء كيف يُضاف إلى القرآن ما ليس منه؟ فهم لا يرونها آية؟ وهل يقولون بأن كتابتها خطأ؟
والصواب ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أنّ كلا القولين صحيح، فهي آية في بعض الأحرف السبعة، وليست آية في حرفِ آخر، كحال القراءات الأخرى المتواترة.
مُجَرَّدُ عَدَمِ التَّمَاثُلِ -كَمَا هُوَ اصْطِلَاحُ كَثِيرٍ مِن النُّظَّارِ- وَمِنْه قَوْلُهُ: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82][13/ 19]
* * *
(المقصود بالنسخ عند السلف)
1345 -
اللهُ جَعَلَ الْمُحْكَمَ مُقَابِلَ الْمُتَشَابِهِ تَارَة، وَمُقَابِلَ الْمَنْسُوخِ أُخْرَى.
وَالْمَنْسُوخُ يَدْخُلُ فِيهِ فِي اصْطِلَاحِ السَّلَفِ -الْعَامِّ- كُلّ ظَاهِرٍ تُرِكَ ظَاهِرُهُ لِمعَارِض رَاجِحٍ؛ كَتَخْصِيصِ الْعَامِّ، وَتَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ، فَإِنَّ هَذَا مُتَشَابِه لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ، ويدْخُلُ فِيهِ الْمُجْمَلُ؛ فَإِنَّهُ مُتَشَابِه، وَإِحْكَامُه رَفْعُ مَا يُتَوَهَّمُ فِيهِ مِن الْمَعْنَى الَّذِي لَيْسَ بِمُرَاد، وَكَذَلِكَ مَا رُفِعَ حُكْمُهُ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ جَمِيعِهِ نَسْخًا لِمَا يُلْقِيهِ الشَّيْطَانُ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ
(1)
.
(1)
ومن الأمثلة على ذلك: ما ثبت في صحيح مسلم (125)، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)} [البقرة: 284]، قَالَ: فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أصْحَابِ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأتَوْا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ، فَقَالُوا: أيْ: رَسُولَ اللهِ، كُلفْنَا مِنَ الْأعْمَالِ مَا نُطِيقُ، الصَّلَاةَ وَالصيَامَ وَالْجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ، وَقَدِ أنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَة وَلَا نُطِيقُهَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أترِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ سَمِعْنَا وَعَصَينَا؟ بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأطَعْنَا غفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ"، قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وإلَيْكَ الْمَصِيرُ، فَلَمَّا اقْتَرأهَا الْقومُ، ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ، فَأنْزَلَ اللهُ فِي إِثْرِهَا:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)} [البقرة: 285]، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسخَهَا الله تَعَالَى، فَأنْزَلَ اللهُ عز وجل:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} إلى آخر الآية. [البقرة: 286].
فالآية الأولى عامة، وما بعدها مُخصِّصٌ لها، قال العلَّامة محمد رشيد رضى -بعد أن ردَّ على من قال بأنّ الآية منسوخة حسب مفهوم المتأخرين للنسخ-: وَأمَّا تَسْمِيَةُ بَعْضهِمْ ذَلِكَ نَسْخًا فَقَد أَجَابَ عَنْهُ بَعْضُ الْمُفَسرِينَ: بِأنهُ عَبرَ بِالنسْخِ عَنِ الْبَيَانِ وَالإيضَاحِ تَجَوزًا. وَذَلِكَ أَنْ تَقُولَ: إِن الْمُرَادَ بِهِ النسْخُ اللغوِيُ وَهُوَ الإزالَةُ وَالتحْوِيلُ لَا الِاصْطِلَاحِي؛ أيْ: إِن الآيةَ =
وَعَلَى هَذَا فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: الْمُحْكَمُ وَالْمَنْسُوخُ، كَمَا يُقَالُ الْمُحْكَم وَالْمُتَشَابِهُ.
وَتَارَة يُقَابَلُ بِمَا نَسَخَهُ اللهُ مِمَّا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ. [13/ 272 - 273]
* * *
1346 -
هُوَ سبْحَانَهُ يُقْسِمُ بِأمُورٍ عَلَى أُمُورٍ، وإنَّمَا يُقْسِمُ بِنَفْسِهِ الْمُقَدسَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِصِفَاتِهِ، أَو بِآياتِهِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَإِقْسَامُهُ بِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ دَلِيل عَلَى أنَّهُ مِن عَظِيمِ آيَاتِهِ.
وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَذْكُرُ جَوَابَ الْقَسَمِ تَارَةً وَهُوَ الْغَالِبُ وَتَارَةً يَحْذِفُهُ، كَمَا يَحْذِفُ جَوَابَ (لَوْ) كَثِيرًا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 5]، وَقَوْلِهِ:{وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} [الرعد: 31] .. {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام: 30].
وَمِثْل هَذَا حَذْفُهُ مِن أَحْسَنِ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّك لَو رَأَيْته لَرَأَيْت هَوْلًا عَظِيما. [13/ 314 - 315]
1347 -
يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ لِأَصْحَابِهِ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ كَمَا بَيَّنَ
= الثانِيَةَ كانَتْ مُزيلَة لِمَا أخَافَهُمْ مِنَ الْأُولَى أَوْ مُحَولَةً لَهُ إِلَى وَجْه آخَرَ، وَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الصحَابِي لَمْ يَنْطِقْ بِلَفْظِ النسْخِ، وَإِنمَا فَهِمَهُ الراوِي مِنَ الْقصةِ فَذَكَرَهُ. تفسير المنار (3/ 117).
قلت: وقد جاء عن الصحابة القول بنسخ كثير من الآيات، وإذا علمنا أنّ مفهوم النسخ عندهم يختلف عن مفهوم النسخ عند المتأخرين: علمنا أنهم لم يقصدوا من النسخ - في الغالب الأعم: رفع الحكم أو بعضه جملة.
والفرق بينه وبين الاستثناء والتخصيص: أن الجملة الواردة التي جاء التخصيص أو الاستثناء منها لم يُرد الله تعالى قط إلزامها لها على عمومها وقتًا من الدهر كما في تحريم المشركات، فإنه لم يرد قط بذلك نكاح نساء الكتابيين بالزواج، وكذلك القول في العرايا، وأما النسخ فإننا مكلفون بالجملة الأولى على عمومها مدة ما لم يأت أمر بإبطالها أو إبطال بعضها.
يُنظر: الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم المتوفى (456 هـ)، المحقق: الشيخ أحمد محمد شاكر (1/ 80).
لَهُم أَلْفَاظَهُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا. [13/ 331]
1348 -
مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ إذَا عُرِفَ تَفْسِيرُهُ مِن جِهَةِ النَّبِى صلى الله عليه وسلم لَمْ يُحْتَجْ فِي ذَلِكَ إلَى أَقْوَالِ أَهْلِ اللُّغَةِ. [13/ 27]
1349 -
مِن الْأُصُولِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا بَيْنَ الصحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِن أَحَدٍ قَطُّ أَنْ يُعَارِضَ الْقُرآنَ لَا بِرَأيِهِ وَلَا ذَوْقِهِ وَلَا مَعْقُولِهِ وَلَا قِيَاسِهِ وَلَا وَجْدِهِ.
وَلهَذَا لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَحَد مِن السَّلَفِ أَنَّهُ عَارَضَ الْقُرْآنَ بِعَقْل وَرَايٍ وَقِيَاسٍ، وَلَا بِذَوْقٍ وَوَجْدٍ وَمُكَاشَفَة، وَلَا قَالَ قَطُّ: قَد تَعَارَضَ فِي هَذَا الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ، فَضْلًا عَن أَنْ يَقُولَ: فَيَجِبُ تَقْدِيمُ الْعَقْلِ.
وَالنَّقْلُ -يَعْنِي الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ وَأَقْوَالَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ-: إمَّا أَنْ يُفَوَّضَ وَإِمَّا أَنْ يُؤَوَّلَ.
وَلَمْ يَكُنِ السَّلَفُ يَقْبَلُونَ مُعَارَضَةَ الآيَةِ إلَّا بِآيةٍ أُخْرَى تُفَسّرُهَا وَتَنْسَخُهَا؛ أَو بِسُنَّةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم تُفَسرهَا.
فَإِنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تبيّنُ الْقُرْآنَ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ وَتُعَبِّرُ عَنْهُ، وَكَانُوا يُسَمُّونَ مَا عَارَضَ الْآيَةَ نَاسِخًا لَهَا، فَالنَّسْخُ عِنْدَهُم اسْمٌ عَام لِكُلِّ مَا يَرْفَعُ دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى مَعْنًى بَاطِل، وَإِن كَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَمْ يُرَدْ بِهَا، وَإِن كَانَ لَا يَدُلّ عَلَيْهِ ظَاهِر الْآيَةِ، بَل قَد لَا يُفْهَمُ مِنْهَا وَقَد فَهِمَهُ مِنْهَا قَوْمٌ؛ فَيُسَمُّونَ مَا رَفَعَ ذَلِكَ الْإِبْهَامَ وَالْإِفْهَامَ نَسْخًا، وَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ لَا تُؤْخَذُ عَن كُلِّ وَاحِد مِنْهمْ.
وَكَانَتِ الْبِدَعُ الْأُولَى مِثْلُ بِدْعَة الْخَوَارج إنَّمَا هِيَ مِن سُوءِ فَهْمِهِمْ لِلْقُرْآنِ، لَمْ يَقْصِدُوا مُعَارَضتَهُ، لَكِنْ فَهِمُوا مِنْهُ مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ
(1)
. [13/ 28 - 30]
* * *
(1)
فلذا يجب الرجوع لفهم سلف الأمة للقرآن، ولا يجوز لمن بعدهم تفسيره بحسب ما ظهر لهم =
(المراد بالْوُجوهِ وَالنَّظَائِرِ)
1350 -
الْأَسْمَاءُ الْمُشْتَرَكَةُ فِي اللَّفْظِ هِيَ مِن الْمُتَشَابِهِ، وَبَعْضُ الْمُتَوَاطِئَةِ أَيْضًا مِن الْمُتَشَابِهِ، وَيُسَمّيهَا أَهْلُ التَّفْسِيرِ: الْوُجُوهُ وَالنَّظَائِرُ، وَصَنَّفُوا كُتُبَ الْوُجُوهِ وَالنَّظَائِرِ؛ فَالْوُجوهُ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَالنَظَائِرِ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُتَوَاطِئَةِ.
وَقَد ظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْمُصَنِّفِينَ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْوُجُوهَ وَالنَّظَائِرَ جَمِيعًا فِي الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ، فَهِيَ نَظَائِرُ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ، وَوُجُوهٌ باعْتِبَارِ الْمَعْنَى، وَلَيْسَ الْأَمْر عَلَى مَا قَالَهُ، بَل كَلَامُهُم صَرِيحٌ فِيمَا قُلْنَاهُ لِمَن تَأمَّلَهُ
(1)
. [13/ 276 - 277]
1351 -
صَنَّفَ النَّاسُ "كُتُبَ الْوُجُوهِ وَالنَظَائِرِ"؛ فَالنَّظَائِرُ: اللَّفْظُ الَّذِي اتَّفَقَ مَعْنَاهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَأَكْثَرُ، وَالْوُجُوهِ: الَّذِي اخْتَلَفَ مَعْنَاهُ؛ كَمَا يُقَال: الْأَسْمَاءُ الْمُتَوَاطِئَةُ وَالْمُشْتَرِكَةُ، وَإِن كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْق.
وَقَد قِيلَ: هِيَ نَظَائِرُ فِى اللَّفْظِ وَمَعَانِيهَا مُخْتَلِفَةٌ، فَتَكُون كَالْمُشْتَرِكَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الصَّوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوُجُوهِ وَالنَّظَائِرِ هُوَ الْأَوَّل. [17/ 433]
* * *
1352 -
مَعْرِفَةُ سَبَبِ النُّزُولِ يُعِينُ عَلَى فَهْمِ الْآيَةِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ بِالسَّبَبِ يُورِث الْعِلْمَ بِالْمُسَبَّبِ؛ وَلهَذَا كَانَ أَصَحُّ قَوْلي الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْرَفْ مَا نَوَاهُ الْحَالِفُ رُجِعَ إلَى سَبَبِ يَمِينِهِ وَمَا هَيَّجَهَا وَأَثَارَهَا.
وَقَوْلُهُمْ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي كَذَا:
أ - يُرَاد بِهِ تَارَةً أَنَّهُ سَبَبُ النُّزُولِ.
= منه، فقد يكون ما ظهر لهم في موضع يُخصصه أو يبيِّنه في موضع آخر، أو يبين ذلك رسولُه الأعلم بالقرآن من غيرِه.
(1)
قال ابن القيم رحمه الله: الْوُجُوهُ: الْآلفَاظُ الْمُشْتَرَكَةُ، وَالنظَائِرُ: الألفَاظُ الْمُتَوَاطِئَةُ.
الْأولُ: فِيمَا اتَّفَقَ لَفْظُهُ وَاخْتَلَفَ مَعْنَاهُ.
وَالثاني: فِيمَا اتَّفَقَ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ. انتهى. مختصر الصواعق المرسلة (1/ 533).
ب - ويُرَادُ بِهِ تَارَة أَنَّ ذَلِكَ دَاخِل فِي الْآيَةِ، وإن لَمْ يَكُنِ السبَبُ، كَمَا تَقُولُ: عَنَى بِهَذِهِ الْآيَةِ كَذَا. [13/ 339]
1353 -
تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِ الصَّاحِبِ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَذَا، هَل يَجْرِي مَجْرَى الْمُسْنَدِ، كَمَا يَذْكُرُ السَّبَبَ الَّذِي أُنْزِلَتْ لِأَجْلِهِ، أَو يَجْرِي مَجْرَى التَّفْسِيرِ مِنْهُ الَّذِي لَيْسَ بِمُسْنَد؟
فَالْبُخَارِيُّ يُدْخِلُهُ فِي الْمُسْنَدِ، وَغَيْرُهُ لَا يُدْخِلُهُ فِي الْمُسْنَدِ، وَأَكْثَرُ الْمَسَانِدِ عَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ؛ كَمُسْنَدِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا ذَكَرَ سَبَبًا نَزَلَتْ عَقِبَه، فَإِنَّهُم كُلُّهُم يُدْخِلُونَ مِثْل هَذَا فِي الْمُسْنَدِ.
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَقَوْلُ أَحَدِهِمْ: نَزَلَتْ فِي كَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَ الآخَرِ: نَزَلَتْ فِي كَذَا، إذَا كَانَ اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُهُمَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي التَّفْسِيرِ بِالْمِثَالِ، وإِذَا ذَكَرَ أحَدُهُم لَهَا سَبَبًا نَزَلَتْ لِأجْلِهِ وَذَكَرَ الآخَرُ سَبَبًا: فَقَد يُمْكِنُ صِدْقُهُمَا؛ بِأنْ تكونَ نَزَلَتْ عَقِبَ تِلْكَ الْأَسْبَابِ، أَو تَكُونَ نَزَلَتْ مَرتَيْنِ مَرَّة لِهَذَا السَّبَبِ وَمَرَّةً لِهَذَا السَّبَبِ. [13/ 340]
1354 -
الْمُقَدمُ فِي الْقُرْآنِ وَالْمُؤَخَّرُ: بَابٌ مِن الْعِلْمِ، وَقَد صَنَّفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ، مِنْهُم الْإِمَامِ أَحْمَد وَغيْرُهُ.
ثُمَّ التَّقْدِيمُ وَالتَّأخِيرُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَالْفَصْلُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِجُمْلَةٍ مُعْتَرِضَةٍ وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا: لَا يُنْكِرُهُ إلَّا مَن لَمْ يَعْرِف اللُّغَةَ، وَقَد قَالَ سُبْحَانَهُ:{وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} [آل عمران: 72، 73]، فَقَوْلُهُ:{أَنْ يُؤْتَى} [آل عمران: 73] مِن تَمَامِ قَوْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ أيْ: كَرَاهَةَ أَنْ يُؤْتى، فَهُوَ مَفْعُولُ {تُؤْمِنُوا} [الإسراء: 107]، وَقَد فَصَلَ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ:{قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} ، وَهِيَ جُمْلَة أَجْنَبِيَّة، لَيْسَتْ مِن كَلَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ. [31/ 162 - 163]
1355 -
مِن أَسْبَابِ تَرْكِهِمْ
(1)
الْمَصَاحِفَ أَوَّلَ مَا كُتِبَتْ غَيْرَ مَشْكُولَةٍ وَلَا مَنْقُوطَة: لِتَكُونَ صُورَةُ الرَّسْمِ مُحْتَمِلَة لِلْأَمْرَيْنِ
(2)
كَالتَّاءِ وَالْيَاءِ، وَالْفَتْحِ وَالضَّمِّ، وَهُم يَضْبِطُونَ بِاللَّفْظِ كِلَا الْأَمْرَيْنِ
(3)
، وَيَكُونُ دَلَالَةُ الْخَطِّ الْوَاحِدِ عَلَى كِلَا اللَّفْظَيْنِ الْمَنْقُولَيْنِ الْمَسْمُوعَيْنِ الْمَتْلُوَّيْنِ شَبِيها بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ عَلَى كِلَا الْمَعْنييْنِ الْمَنْقُولَيْنِ الْمَعْقُولَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ؛ فَإِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَلَقَّوْا عَنْهُ مَا أَمَرَهُ اللهُ بِتَبْلِيغِهِ إلَيْهِم مِن الْقُرْآنِ لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ جَمِيعًا. [13/ 402]
1356 -
دَخَلَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "خَيْركُمْ مَن تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ"
(4)
: تَعْلِيمُ حُرُوفهِ وَمَعَانِيهِ جَمِيعًا؛ بَل تَعَلُّم مَعَانِيهِ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ بِتَعْلِيمِ حُرُوفهِ، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَزِيدُ الْإِيمَانَ
(5)
. [13/ 403]
1357 -
بَلَّغَنَا أَصْحَابُهُ رضي الله عنهم عَنْهُ صلى الله عليه وسلم الْإِيمَانَ وَالْقُرْآنَ، حُرُوفَهُ وَمَعَانِيَهُ، وَذَلِكَ مِمَّا أَوْحَاهُ اللهُ إلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]
(6)
. [13/ 403]
1358 -
نَفْسُ مَعْرِفَةِ الْقِرَاءَةِ وَحِفْظِهَا: سُنَّةٌ مُتَّبَعَة، يَأخُذُهَا الآخِرُ عَن الْأَوَّلِ؛ فَمَعْرِفَةُ الْقِرَاءَةِ الَّتِي كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بِهَا أَو يُقِرُّهُم عَلَى الْقِرَاءَةِ بِهَا أَو يَأذَنُ لَهُم وَقَد أَقَرُّوا بِهَا سُنَّةٌ.
وَالْعَارِفُ فِي الْقِرَاءَاتِ الْحَافِظُ لَهَا لَهُ مَزِيَّة عَلَى مَن لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ وَلَا يَعْرِفْ إلَّا قِرَاءَةً وَاحِدة.
(1)
أي: الصحابة رضي الله عنهم.
(2)
أي: للقراءتين.
(3)
أي: أنَّ عمدتهم في الضبط: الإقراء، لا المصاحف.
(4)
رواه البخاري (5027).
(5)
فالخيرية في تعليم القرآن: ليست قاصرةً على تعلم وتعليم حروفه، وتحفيظِه للناس، بل تشمل تعلُّم وتعليم معانيه، واسْتنباط الفوائد منه، وتفهيمه لهم.
وهذا هو الذي يزيد الإيمان، ويبعث على العمل، ويُنور القلب ويُصلحه.
(6)
فكما أن معاني القرآن محفوظةٌ في كتب المفسرين، فكذلك حروفه وطريقة النطق بها محفوظة في كتب القراء، ومحفوظة في صدورهم إلى يومنا هذا.
وَأَمَّا جَمْعهَا فِي الصَّلَاةِ أَو فِي التِّلَاوَةِ فَهُوَ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ
(1)
.
وَأَمَّا جَمْعُهَا لِأَجْلِ الْحِفْظِ وَالدَّرْسِ فَهُوَ مِن الِاجْتِهَادِ الَّذِي فَعَلَهُ طَوَائِفُ فِي الْقِرَاءَةِ.
وَأَمَّا الصَّحَابَةُ
(2)
. [13/ 404]
* * *
(التَّحْزِيبُ الْمسْتَحَبُّ والْمُحْدَث)
1359 -
عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو رضي الله عنه قَالَ: أَنْكَحَنِي أَبِي امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ؛ فَكَانَ يَتَعَاهَدُ كَنَّتَهُ
(3)
؛ فَيَسْأَلُهَا عَن بَعْلِهَا، فَتَقُولُ: نِعْمَ الرَّجُلُ مِن رَجُل لَمْ يَطَأ لَنَا فِرَاشًا، وَلَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا مُنْذُ أَتَيْنَاهُ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ذَكَرَ لِلنَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"القَنِي به"، فَلَقِيتُهُ بَعْدُ، فَقَالَ:"كَيْفَ تَصُومُ؟ " قَالَ: كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ:"وَكَيْفَ تَخْتِمُ؟ "، قَالَ: كُلَّ لَيْلَةٍ، قَالَ:"صُمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاَثةً، وَاقْرَأ القُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْر"، قَالَ: قُلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ، قَالَ:"صُمْ ثَلَاَثةَ أيامٍ فِي الجُمُعَةِ"، قُلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ، قَالَ:"أفطِرْ يَوْمَيْنِ وَصُمْ يَوْمًا" قَالَ: قُلْت: أطِيقُ أَكْثَر مِن ذَلِكَ، قَالَ:"صمْ أفضَلَ الصَّوْمِ صَوْمَ دَاودَ صيَامَ يَوْمٍ وَإِفْطَارَ يَوْمٍ، وَاقْرَأْ فِي كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً"
(4)
.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ
(5)
: "وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي ثَلَاثٍ، وَفي خَمْسٍ، وَأَكْثَرُهُم عَلَى سَبْعٍ". اهـ.
وَعَن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اقْرَأ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ ثَلَاثٍ" رَوَاه أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد.
(1)
كما يفعله كثير من القراء في هذا الزمان، حيث يجمعون القراءات فِي التلَاوَةِ أمام الناس.
(2)
بياض في الأصل، ويظهر أن تمام العبارة: وأما الصحابة فلم يكونوا يفعلون ذلك، بل كل يقرأ حسب ما تيسر له.
(3)
في الأصل: ابنته! وهو خطأ، والتعديل من صحيح البخاري، ومعنى كنته: امرأة ابنه.
(4)
رواه البخاري (5052).
(5)
أي: البخاري.
قُلْت: هَذِهِ الرِّوَايَةُ نبَّهَ عَلَيْهَا الْبخَارِيُّ: وَقَالَ بَعْضُهُم: فِي ثَلَاثٍ.
فَالصَّحِيحُ عِنْدَهُم فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ انْتَهَى بِهِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَى سَبْع
(1)
، كَمَا أَنَّهُ أَمَرَهُ ابْتِدَاءً بِقِرَاءَتِهِ فِي الشَّهْرِ، فَجَعَلَ الْحَدَّ مَا بَيْنَ الشَّهْرِ إلَى الْأسْبُوعِ.
وَأَمَّا رِوَايَةُ مَن رَوَى: "مَن قَرَأَ الْقرْآنَ فِي أَقَلَّ مِن ثَلَاثٍ لَمْ يَفْقَهْ"
(2)
فَلَا تُنَافِي رِوَايَةَ التَّسْبِيعِ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ أَمْرًا لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، وَلَا فِيهِ أَنَّهُ جَعَلَ قِرَاءَتَهُ فِي ثَلَاث دَائِمًا سنَّةً مَشْرُوعَةً، وَإِنَّمَا فِيهِ الْإِخْبَارُ بِأنَّ مَن قَرَأَهُ فِي أَقَلَّ مِن ثَلَاث لَمْ يَفْقَهْ، وَمَفْهُومُه مَفْهُومُ الْعَدَدِ، وَهُوَ مَفْهُومٌ صَحِيح أَنَّ مَن قَرَأَهُ فِي ثَلَاثٍ فَصَاعِدًا فَحُكْمُهُ نَقِيضُ ذَلِكَ، وَالتَّنَاقُضُ يَكُونُ بِالْمُخَالَفَةِ وَلَو مِن بَعْضِ الْوُجُوهِ.
فَإِذَا كَانَ مَن يَقْرَؤُهُ فِي ثَلَاثٍ أَحْيَانًا قَد يَفْقَهُهُ حَصَلَ مَقْصُودُ الْحَدِيثِ، وَلَا يَلْزَمُ إذَا شُرعَ فِعْلُ ذَلِكَ أَحْيَانًا لِبَعْضِ النَّاسِ أَنْ يَكُونَ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى ذَلِكَ مُسْتَحَبَّةً؛ وَلهَذَا لَمْ يعْلَمْ فِي الصَّحَابَةِ عَلَى عَهْدِهِ مَن دَاوَمَ عَلَى ذَلِكَ، أَعْنِي عَلَى قِرَاءَتِهِ دَائِمًا فِيمَا دُونَ السَّبْعِ، وَلهَذَا كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَد رحمه الله يَقْرَؤُهُ فِي كُلِّ سَبْعٍ.
وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا الْفَصْلِ أَنَّهُ إذَا كَانَ التَّحْزِيبُ الْمُسْتَحَبُّ مَا بَيْنَ أُسْبُوع إلَى شَهْرٍ .. فَالصَّحَابَةُ إنَّمَا كَانُوا يحزبونه سُوَرًا تَامَّةً، لَا يحزبون السُّورَةَ الْوَاحِدة كَمَا رَوَى أَوْسُ بْن حُذَيْفَةَ قَالَ: سَأَلْت أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كيْفَ تحزبون الْقُرْآنَ؟ قَالُوا: ثَلَاثٌ وَخَمْسس وَسَبْع وتسعٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ وَثَلَاثَ عَشْرَةَ وَحِزْبُ الْمُفَصلِ وَاحِد. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَهَذَا لَفْظُهُ وَأَحْمَد وَابْنُ مَاجَه.
وَهَذَا الْحَدِيثُ يُوَافِقُ مَعْنَى حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو فِي أَنَّ الْمَسْنُونَ كَانَ
(1)
لكن ثبت عند البخاري (1978) عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"اقْرَأ القُرْآنَ فِي كُل شَهْرٍ"، قَالَ: إِني أطِيقُ أكْثَرَ، فَمَا زَالَ حَتَّى قَالَ:"في ثَلَاثٍ".
(2)
رواه الترمذي (2949) بلفظ: "لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث"، وصححه الألباني.
عِنْدَهُم قِرَاءَتَهُ فِي سَبْع؛ وَلهَذَا جَعَلُوه سَبْعَةَ أَحْزَابٍ، وَلَمْ يَجْعَلُوهُ ثَلَاثَةً وَلَا خَمْسَةً، وَفيهِ أَنَّهُم حزبوه بِالسُّورِ وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالتَّوَاتُرِ؛ فَإِنَّهُ قَد عُلِمَ أَنَّ أَوَّلَ مَا جُزِّئَ الْقرْآنُ بِالْحُرُوفِ تَجْزِئَةُ ثَمَانِيَة وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِينَ وَسِتِّينَ هَذِهِ الَّتِي تَكُونُ رُؤُوسُ الْأَجْزَاءِ وَالْأَحْزَابِ فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ وَأَثْنَاءِ الْقِصَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَانَ فِي زَمَنِ الْحَجَّاجِ وَمَا بَعْدَهُ.
وَهَذَا الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ هُوَ الْأَحْسَنُ؛ لِوُجُوهِ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ التحزيبات الْمُحْدَثَةَ تَتَضَمَّنُ دَائمًا الْوُقُوفَ عَلَى بَعْضِ الْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ بِمَا بَعْدَهُ، حَتَى يَتَضَمَّنَ الْوَقْفَ عَلَى الْمَعْطُوفِ دُونَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَيَحْصُلَ الْقَارِئ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مُبْتَدِئًا بِمَعْطُوف؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]
(1)
، وَقَوْلُهُ:{وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [الأحزاب: 31]
(2)
، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.
وَيتَضَمَّنُ الْوَقْفَ عَلَى بَعْضِ الْقِصَّةِ دُونَ بَعْضٍ -حَتَّى كَلَامُ الْمُتَخَاطِبَيْنِ- حَتَّى يَحْصُلَ الِابْتِدَاءُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي بِكَلَامِ الْمُجِيب؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75)} [الكهف: 75]
(3)
.
وَمِثْلُ هَذِهِ الْوُقُوفِ لَا يَسُوغُ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ إذَا طَالَ الْفَصلُ بَيْنَهُمَا بِاَجْنَبِي؛ وَلهَذَا لَو أُلْحِقَ بالْكَلَامِ عَطْف أَو اسْتِثْنَاءٌ أَو شَرْط وَنَحْوُ ذَلِكَ بَعْدَ طُولِ الْفَصْلِ بِأَجْنَبِي لَمْ يَسُغْ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.
الثَّالي: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَت عَادَتُهُ الْغَالِبَةُ وَعَادَةُ أَصْحَابِهِ أَنْ يَقْرَأَ فِي الصَّلَاةِ بِسُورَةٍ؛ كـ (ق) وَنَحْوِهَا، وَكَمَا كَانَ عمَرُ رضي الله عنه يَقْرَأُ "بِيُونُسَ" و"يُوسُفَ" و"النَّحْلِ"، وَلَمَّا قَرَأَ صلى الله عليه وسلم بِسُورَةِ الْمُؤمِنِينَ فِي الْفَجْرِ أَدْرَكَتْهُ سَعْلَةٌ فَرَكَعَ فِي
(1)
هذه الآية بدايةُ الحزب التاسع، مع أنها مرتبطة بما قبلها.
(2)
هذه الآية بدايةُ الحزب الثالث والأربعين، وهي مرتبطةٌ بما قبلها كذلك.
(3)
هذه الآية بدايةُ الحزب الحادي والثلاثين، وهي مرتبطة بما قبلها كذلك.
أثْنَائِهَا، وَقَالَ: إنِّي لَأَدْخلُ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطِيلَهَا فَاسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِي فَأخَفِّف لِمَا أَعْلَمُ مِن وَجْدِ أمِّهِ بِهِ.
وَأَمَّا "الْقِرَاءَةُ بِأوَاخِرِ السُّوَرِ وَأَوْسَاطِهَا" فَلَمْ يَكُن غَالِبًا عَلَيْهِم؛ وَلهَذَا يُتَوَرَّعُ فِي كَرَاهَةِ ذَلِكَ، وَفيهِ النّزَاعُ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ، وَمِن أَعْدَلِ الأقْوَالِ: قَوْلُ مَن قَالَ: يُكْرَهُ اعْتِيَادُ ذَلِكَ دُونَ فِعْلِهِ أَحْيَانًا؛ لِئَلَّا يَخْرُجَ عَمَّا مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَعَادَةُ السَّلَفِ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا التَّحْزِيبَ وَالتَّجْزِئَةَ فِيهِ مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ أَعْظَمُ مِمَّا فِي قِرَاءَةِ آخِرِ السُّورَةِ وَوَسَطِهَا فِي الصَّلَاةِ.
وَبِكُلِّ حَالٍ فَلَا ريبَ أَنَّ التَّجْزِئَةَ وَالتَّحْزِيبَ الْمُوَافِقَ لِمِا كَانَ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى تِلَاوتهِمْ أَحْسَنَ.
والْمَقْصُودُ أَنَّ التَّحْزِيبَ بِالسُّورَةِ التَّامَّةِ أَوْلَى مِن التَّحْزِيبِ بِالتَّجْزِئَةِ. [13/ 405 - 412]
* * *
1360 -
وَسُئِلَ رحمه الله: عَن جَمَاعَةٍ اجْتَمَعُوا فِي خَتْمَةٍ وَهُم يَقْرَؤُونَ لِعَاصِمِ وَأَبِي عَمْرٍو فَإِذَا وَصَلُوا إلَى سُورَةِ الضُّحَى لَمْ يُهَلِّلُوا وَلَمْ يُكَبِّرُوا إلَى آخِرِ الْخَتْمَةِ، فَفِعْلُهُم ذَلِكَ هُوَ الْأَفْضَلُ أَمْ لَا؟
فَأجَابَ: إذَا قَرَؤُوا بِغَيْرِ حَرْفِ ابْنِ كَثِيرٍ كَانَ تَرْكُهُم لِذَلِكَ هُوَ الْأَفْضَلَ، بَل الْمَشْرُوعَ الْمَسْنُونَ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْأئِمَّةَ مِن الْقُراءِ لَمْ يَكُونُوا يُكَبرُونَ لَا فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ وَلَا فِي أَوَاخِرِهَا.
فَإِنْ جَازَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّ ابْنَ كَثِيرٍ نَقَلَ التَّكْبِيرَ
(1)
عَن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(1)
المراد به أن يقول القارئ: (الله أكبر) ثم يبسمل عقب كلّ سورة من قصار المفصل، ابتداء بسورة الضّحى إلى أن يختم القرآن.
قال ابن الجزريّ: اعْلَمْ أَنَّ التُّكْبِيرَ صَحَّ عِنْدَ أهْلِ مَكَّةَ قُرَّائِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ وَأئِمتِهِمْ، وَمَن رَوَى =
جَازَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقُولَ: إنَّ هَؤُلَاءِ نَقَلُوا تَرْكَهُ عَن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إذ مِن الْمُمْتَنِعِ أَنْ تَكُونَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ الَّتِي نَقَلَهَا أَكْثَر مِن قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ قَد أَضَاعُوا فِيهَا مَا أَمَرَهُم بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ أَهْلَ التَّوَاتُرِ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِم كِتْمَانُ مَا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي إلَى نَقْلِهِ، فَمَن جَوَّزَ عَلَى جَمَاهِيرِ الْقُرَّاءِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَقْرأهُم بِتَكْبِيرٍ زَائِدٍ فَعَصَوْا لِأَمْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَرَكوا مَا أَمَرَهُم بِهِ: اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ الْبَلِيغَةَ الَّتِي تَرْدَعُهُ وَأمْثَالَهُ عَن مِثْل ذَلِكَ.
ولَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ مِن أَئِمَّةِ الذينِ أَنَّ التَّكْبِيرَ وَاجِب، وَإِنَّمَا غَايَةُ مَن يَقْرَأ بِحَرْفِ ابْنِ كثِيرٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، وَهَذَا خِلَافُ الْبَسْمَلَةِ؛ فَإِنَّ قِرَاءَتَهَا وَاجِبَة عِنْدَ مَن يَجْعَلُهَا مِن الْقُرْآنِ، وَمَعَ هَذَا فَالْقُرَّاءُ يُسَوِّغُونَ تَرْكَ قِرَاءَتِهَا لِمَن لَمْ يَرَ الْفَصْلَ بِهَا، فَكَيْفَ لَا يَسُوغُ تَرْكُ التَّكْبِيرِ لِمَن لَيْسَ دَاخِلًا فِي قِرَاءَتِهِ؟
وَأَمَّا مَا يَدَّعِيهِ بَعْضُ الْقُرَّاءِ مِن التَّوَاتُرِ فِي جُزْئِيَّاتِ الْأمُورِ فَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ تَفْصِيلِهِ
(1)
. [13/ 417 - 419]
1361 -
اتّبَاعُ رَسْم الْخَطِّ بِحَيْثُ يَكْتُبُهُ بِالْكُوفِيِّ: لَا يَجِبُ عِنْدَ أَحَدِ مِن الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ اتِّبَاعُهُ فِيمَا كَتَبَهُ بِالْوَاوِ وَالْأَلِفِ هُوَ حُسْنُ لَفْظِ رَسْمِ خَطِّ الصَحَابَةِ.
= عَنْهُم -صِحَّةَ اسْتَفَاضَتْ وَاشْتَهَرَتْ وَذَاعَتْ وَانْتَشَرَتْ حَتَّى بَلَغَتْ حَدَّ التوَاتُرِ وَصَحَّتْ أيْضًا عَن أبِي عَمْرو مِن رِوَايَةِ السُّوسِي، وَعَن أبِي جَعْفَرٍ مِن رِوَايَةِ الْعُمَرِيِّ وَوَرَدَتْ أيْضًا عَن سَائِرِ الْقُراءِ، وَبِهِ كَانَ يَأخُذُ ابْنُ حَبَشٍ وَأَبُو الْحُسَيْن الْخَبَّازِيُّ عَنِ الْجَمِيع، وَحَكَى ذَلِكَ الإمَامُ أبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ وَأبُو الْقَاسِمِ الْهُذَليُّ، وَالْحَافِظُ أَبُو الْعَلَاء وقَد صَار عَلَى هَذَا الْعَمَلُ عِنْدَ أهْلِ الْأمْصَارِ فِي سَائِرِ الأقْطَارِ عِنْدَ خَتْمِهِمْ فِي الْمَحَافِلِ وَاجْتِمَاعِهِمْ فِي الْمَجَالِسِ لَدَى الْأمَاثِلِ، وَكَثِير مِنْهُم يَقُومُ بِهِ فِي صَلَاةِ رَمَضَانَ، وَلَا يَتْرُكُهُ عِنْدَ الْخَتْمِ عَلَى أَي حَالٍ كَانَ. اهـ. النشر (2/ 410).
(1)
يُشعر كلامُه بأنّ هذه الدعوى غير صحيحة، ولا ريب في صحة ما قرأ به القراء العشرة، وإن كانت بعض الجزئيات -وهي قليلة- قد تكون من اختلافهم في الأداء، كوقف حمزة وهشام في بعض المواضع على الهمز.
وَأَمَّا تَكْفِيرُ مَن كَتَبَ أَلْفَاظَ الْمُصْحَفِ بِالْخَطِّ الَّذِي اعْتَادَهُ فَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِتَكْفِيرِ مَن فَعَلَ ذَلِكَ؛ لَكِنَّ مُتَابَعَةَ خَطِّهِمْ أَحْسَنُ، هَكَذَا نُقِلَ عَن مَالِكٍ وَغَيْرِه. [13/ 421]
1362 -
أَسْمَاءُ الْقُرْآنِ: الْفُرْقَانُ، الْكِتَابُ، الْهُدَى، النُّورُ، الشِّفَاءُ، الْبَيَانُ، الْمَوْعِظَةُ، الرَّحْمَةُ، بَصَائِرُ، الْبَلَاغ، الْكَرِيمُ، الْمَجِيدُ، الْعَزِيزُ، الْمُبَارَكُ، التَّنْزِيلُ، الْمنَزلُ، الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، حَبْلُ اللهِ، الذكْرُ، الذكْرَى، تَذْكِرَة، الْمُهَيْمِنُ عَلَيْهِ، {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} [يوسف: 111]، {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، الْمُتَشَابِهُ، الْمَثَانِي، الْحَكِيمُ:{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2)} [لقمان: 2]. [14/ 1 - 2]
1363 -
جَاءَ مَأثُورَا عَن الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه وَغَيْرُهُ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِائَةَ كِتَابٍ وَأرْبَعَةَ كُتُبٍ، جَمَعَ عِلْمَهَا فِي الْأَرْبَعَةِ، وَجَمَعَ عِلْمَ الْأَرْبَعَةِ فِي الْقُرْآنِ، وَجَمَعَ عِلْمَ الْقُرْآنِ فِي الْمُفَصَّلِ، وَجَمَعَ عِلْمَ الْمُفَصَّلِ فِي امِّ الْقُرْآنِ، وَجَمَعَ عِلْمَ أُم الْقُرْآنِ فِي هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ الْجَامِعَتَيْنِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]، وَإِنَّ عِلْمَ الْكُتُبِ الْمُنَزلَةِ مِن السَّمَاءِ اجْتَمَعَ فِي هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ الْجَامِعَتَيْنِ.
وإلَى هَذَيْن الْأصْلَيْنِ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْصِدُ فِي عِبَادَاتِهِ وَأَذْكَارِهِ وَمُنَاجَاتِهِ، مِثْلُ قَوْلِهِ فِي الْأَضْحِيَّةِ:"اللهُم هَذَا مِنْك وَلَك"
(1)
فَإِنَّ قَوْلَهُ: "مِنْك" هُوَ مَعْنَى التَوَكُّلِ وَالِاسْتِعَانَةِ، وَقَوْلَهُ:"لَك" هُوَ مَعْنَى الْعِبَادَةِ.
وَمِثْلُ قَوْلِهِ فِي قِيَامِهِ مِن اللَّيْلِ: "لَك أَسْلَمْت وَبِك آمنْت وَعَلَيْك تَوَكَلْت".
إذَا تَقَرَّرَ هَذَا الْأصْلُ، فَالْإِنْسَانُ فِي هَذَيْنِ الْوَاجِبَيْنِ لَا يَخْلُو مِن أَحْوَالٍ أَرْبَعَةٍ، هِيَ الْقِسْمَةُ الْمُمْكِنَةُ:
(1)
رواه الإمام أحمد (15022)، وأبو داود (2795)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (1152).
إمَا أَنْ يَأتِيَ بِهِمَا.
وَإِمَّا أَنْ يَأتيَ بِالْعِبَادَةِ فَقَطْ.
وَإِمَّا أَنْ يَأتِيَ بِالِاسْتِعَانَةِ فَقَطْ.
وإمَّا أَنْ يَتْرُكَهُمَا جَمِيعًا.
وَلهَذَا كَانَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ؛ بَل أَهْلُ الدِّيَانَاتِ هُم أهْلُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ وَهُم الْمَقْصُودُونَ هُنَا بِالْكَلَامِ:
قِسْم يَغْلِبُ عَلَيْهِ قَصْدُ التَّألُّهِ للّهِ وَمُتَابَعَةُ الأمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِخْلَاصِ للّهِ تَعَالَى وَاتِّبَاعُ الشَّرِيعَةِ فِي الْخُضُوعِ لِأَوَامِرِهِ وَزَوَاجِرِهِ وَكَلِمَاتِهِ الْكَوْنِيَّاتِ، لَكِنْ يَكُون مَنْقُوصًا مِن جَانِبِ الِاسْتِعَانَةِ وَالتَّوَكُّلِ فَيَكُونُ إمَّا عَاجِزًا وَإِما مُفَرِّطًا.
وَقِسم يَغْلِبُ عَلَيْهِ قَصْدُ الِاسْتِعَانَةِ بِاللهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَإِظْهَارِ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالْخُضُوعِ لِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَكَلِمَاتِهِ الْكَوْنِيَّاتِ، لَكِنْ يَكُونُ مَنْقُوصًا مِن جَانِبِ الْعِبَادَةِ وإخْلَاصِ الدِّينِ للّهِ، فَلَا يَكُونُ مَقْصُودُهُ أنْ يَكُونَ الدينُ كُلُّهُ للّهِ، وَإِن كَانَ مَقْصُودُهُ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ مُتَّبِعًا لِشَرِيعَةِ اللهِ عز وجل وَمِنْهاجِهِ، بَل قَصْدُهُ نَوْعُ سُلْطَانٍ فِي الْعَالَمِ: إمَّا سُلْطَانُ قُدْرَة وَتَأثِيرٍ، وإمَّا سُلْطَانُ كَشْفٍ وَإِخْبَار، أَو قَصْدُهُ طَلَبُ مَا يُرِيدُهُ وَدَفْعُ مَا يَكْرَهُهُ بِأيِّ طَرِيق كَانَ، أَو مَقْصُودُهُ نَوْعُ عِبَادَةٍ وَتَاَّلُهٍ بِأيِّ وَجْهٍ كَانَ هِمَّتُهُ فِي الِاسْتِعَانَةِ وَالتَّوَكُّلِ الْمُعِينَةُ لَهُ عَلَى مَقْصُودِهِ، فَيَكُونُ إمَّا جَاهِلا وَاِمَّا ظَالِمًا تَارِكًا لِبَعْضِ مَا أَمَرَهُ الله بِهِ، رَاكِبًا لِبَعْضِ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ.
وَهَذِهِ حَالُ كَثِير مِمَن يَتَألَّهُ وَيَتَصَوَّفُ ويتَفَقَّرُ ويشْهَدُ قَدَرَ اللهِ وَقَضَاءَهُ، وَلَا يَشْهَدُ أَمْرَ اللهِ وَنَهْيَهُ.
وَلهَذَا يَكثُرُ فِي هَؤُلَاءِ مَن لَهُ كَشْف وَتَأثِير وَخَرْقُ عَادَةٍ مَعَ انْحِلَالٍ عَن بَعْضِ الشَّرِيعَةِ وَمُخَالَفَةٍ لِبَعْضِ الْأَمْرِ، وإذَا أَوْغَلَ الرَّجُلُ مِنْهُم دَخَلَ فِي الْإِبَاحِيَّةِ وَالِانْحِلَالِ وَرُبمَا صَعِدَ إلَى فَسَادِ التَّوْحِيدِ فَيَخْرُجُ إلَى الِاتحَادِ وَالْحُلُولِ الْمُقَيَّدِ،
كَمَا قَد وَقَعَ لِكَثِيرِ مِن الشُّيُوخِ، ويُوجَدُ فِي كَلَامِ صَاحِبِ "مَنَازِلِ السَّائِرِينَ"
(1)
وَغَيْرِهِ مَا يُفْضِي إلَى ذَلِكَ.
وَقِسْم ثَالِث مُعْرِضونَ عَن عِبَادَةِ اللهِ وَعَن الِاسْتِعَانَةِ بِهِ جَمِيعا.
وَهُم فَرِيقَانِ: أَهْلُ دنْيَا وَأَهْلُ دِينٍ.
فَأَهْلُ الدّينِ مِنْهُم هُم أَهْلُ الدِّينِ الْفَاسِدِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللهِ ويسْتَعِينُونَ غيْرَ اللهِ بِظَنِّهِمْ وَهَوَاهُم {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23].
وَأَهْلُ الدُّنْيَا مِنْهُم الَّذِينَ يَطْلُبُونَ مَا يَشْتَهُونَهُ مِن الْعَاجِلَةِ بِمَا يَعْتَقِدُونَهُ مِن الْأَسْبَابِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ مَن قَد يُعْرِضُ عَن عِبَادَةِ اللهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ وَبَيْنَ مَن يَعْبُدُ غَيْرَهُ ويسْتَعِينُ بِسِوَاهُ. [14/ 7 - 12]
1364 -
مَن أَنْكَرَ شَيْئا مِن الْقُرْآنِ بَعْدَ تَوَاتُرِهِ اُسْتُتِيبَ، فَإِنْ تَابَ وإلَّا قُتِلَ، وَأَمَّا قَبْلُ تَوَاتُرِهِ عِنْدَه فَلَا يُسْتَتَابُ؛ لَكِنْ يُبَيَّن لَهُ، وَكَذَلِكَ الْأَقْوَالُ الَّتِي جَاءَت الْأَحَادِيثُ بِخِلَافِهَا: فِقْها وَتَصَوُّفًا وَاعْتِقَادا وَغَيْرَ ذَلِكَ. [14/ 48]
1365 -
الْمِثْل فِي الْأَصْلِ هُوَ الشَّبِيهُ .. وَهَذَا يُسَمَّى قِيَاسًا فِي لُغَةِ السَّلَفِ وَاصْطِلَاحِ الْمَنْطِقِيِّينَ، وَتَمْثِيلُ الشَّيءِ الْمُعَيَّنِ بِشَيءٍ مُعَيَّنٍ هُوَ أَيْضًا يُسَمَّى قِيَاسًا فِي لُغَةِ السَّلَفِ وَاصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى قِيَاسَ التَّمْثِيلِ.
وَالْقِيَاسُ هُوَ ضَرْبُ الْمِثْل، وَأَصْلُهُ -وَاللهُ أَعْلَمُ-: تَقْدِيرُهُ، فَضَرْبُ الْمِثْل
(1)
لأَبِي إسْمَاعِيلَ الهروي رحمه الله، وقد شرح كتابه العلَّامة ابن القيم، وتعقبه في كثير منها، واعتذر له في كثير من المواضع التي ظاهر كلامه يُفضي إلى ما قال الشيخ رحمه الله.
والعجيب أن ابن تيمية وابن القيم مع ما صدر من الهروي إلا أنهما يُثنيان عليه، ويُسميانه بشيخ الإسلام، ولا يقدحان فيه ولا في موضع واحد!
فأين هذا ممن يتكلم في أعراض الدعاة إلى اللّه والمشايخ والخطباء، بزعم أنهم من الحزب الفلاني، والجماعة الفلانية! والله المستعان.
لِلشَّيءِ تَقْدِيرُهُ لَهُ، كَمَا أَنَّ الْقِيَاسَ أَصْلُهُ تَقْدِيرُ الشَّيءِ بِالشَّيءِ، وَمِنْهُ ضَرْبُ الدِّرْهَمِ وَهُوَ تَقْدِيرُهُ، وَضَرْبُ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ وَهُوَ تَقْدِيرُهمَا، وَالضَّرِيبَةُ الْمَقدَّرَةُ، وَالضرْبُ فِي الْأَرْضِ لِأَنَّهُ يُقَدَّرُ أَثَرُ الْمَاشِي بِقَدْرِهِ، وَكَذَلِكَ الضَّرْبُ بِالْعَصَا لِأَنَّهُ تَقْدِير الْأَلَمِ بِالآلَةِ وَهُوَ جَمْعُهُ وَتَألِيفُهُ وَتَقْدِيرُهُ، كَمَا أَنَّ الضَّرِيبَةَ هِيَ الْمَالُ الْمَجْمُوعُ.
وَضَرْبُ الْمِثْل لَمَّا كَانَ جَمْعًا بَيْنَ عِلْمَيْنِ يُطْلَبُ مِنْهُمَا عِلْم ثَالِث كَانَ بِمَنْزِلَةِ ضِرَابِ الْفَحْلِ الَّذِي يَتَوَلَّدُ عَنْهُ الْوَلَدُ.
وَضَرْبُ الْأَمْثَالِ فِي الْمَعَانِي نَوْعَانِ هُمَا نَوْعَا الْقِيَاسِ:
أَحَدُهُمَا: الْأَمْثَالُ الْمُعَينَةُ الَّتِي يُقَاسُ فِيهَا الْفَرْع بِأصْلٍ مُعَيَّنٍ مَوْجُودٍ أَو مُقَدَّر، وَهِيَ فِي الْقُرْآنِ بِضْع وَأَرْبَعُونَ مَثَلًا كَقَوْلِهِ:{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] إلَى آخِرِهِ.
وَالِاعْتِبَارُ هُوَ الْقِيَاسُ بِعَيْنِهِ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [آل عمران: 13].
النَّوْعُ الثانِي: الْأَمْثَالُ الْكُلِّيَّةُ، وَهَذِهِ الَّتِي أَشْكَلَ تَسْمِيَتُهَا أَمْثَالا، كَمَا أَشْكَلَ تَسْمِيَتُهَا قِيَاسًا، حَتَّى اعْتَرَضَ بَعْضُهُم قَوْلَهُ:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الحج: 73] فَقَالَ: أَيْنَ الْمَثَل الْمَضْرُوبُ؟. وَهَذِهِ الْأَمْثَالُ تَارَةً تكونُ صِفَاتٍ، وَتَارَة تكونُ أَقْيِسَةً.
فَإِذَا كَانَت أَقْيِسَةً: فَلَابُدَّ فِيهَا مِن خَبَرَيْنِ هُمَا قَضِيتَانِ وَحُكْمَانِ، وَأَنَّه لَابُدَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا كُلِّيًّا.
وَأَيْضًا مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ: أَنَّ غَالِبَ الْأَمْثَالِ الْمَضرُوبَةِ وَالْأَقْيِسَةِ إنَّمَا يَكُونُ الْخَفِيُّ فِيهَا إحْدَى الْقَضِيّتَيْنِ، وَأَمَّا الأخْرَى فَجَلِيَّةٌ مَعْلُومَة، فَضَارِبُ الْمَثَلِ وَنَاصِبُ الْقِيَاسِ إنَّمَا يَحْتَاجُ أَنْ يُبَين تِلْكَ الْقَضِيَّةَ الْخَفِيَّةَ.
فَلِهَذَا كَانَتِ الْأَمْثَالُ الْمَضْرُوبَةُ فِي الْقُرْآنِ تُحْذَفُ مِنْهَا الْقَضِيَّةُ الْجَلِيَّةُ؛ لِأَنَّ
فِي ذِكرِهَا تَطْوِيلًا وَعِيًّا، وَكَذَلِكَ ذِكْرُ النَّتِيجَةِ الْمَقْصُودَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الْمُقَدّمَتَيْنِ يُعَدُّ تَطْوِيلًا.
وَاعْتبِرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] مَا أَحْسَنَ هَذَا الْبُرْهَانَ! فَلَو قِيلَ بَعْدَهُ: وَمَا فَسَدَتَا، فَلَيْسَ فِيهِمَا آلِهَة إلَّا اللهُ، لَكَانَ هَذَا مِن الْكَلَامِ الْغَث الَّذِي لَا يُنَاسِبُ بَلَاغَةَ التَّنْزِيلِ.
وأَيْضًا: فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ مَدَارَ ضَرْبِ الْمَثَلِ وَنَصْبَ الْقِيَاسِ عَلَى الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، وَالسَّلْبِ وَالْإِيجَابِ؛ فَإِّنهُ مَا مِن خَبَر إلَّا وَهُوَ إمَّا عَامّ أَو خَاصّ: سَالِبٌ أَو مُوجَب، فَالْمُعَيَّنُ خَاصّ مَحْصُورٌ، وَالْجُزْئيُ أيْضًا خَاصّ غَيْرُ مَحْصُورٍ، وَالْمُطْلَقُ إمَّا عَام وَإما فِي مَعْنَى الْخَاصِّ.
فَيَنْبَغِي لِمَن أَرَادَ مَعْرِفَةَ هَذَا الْبَابِ أَنْ يَعْرِفَ صِيَغَ النَّفْي وَالْعُمُومِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَجِيءُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَبْلَغِ نِظَام. [14/ 54 - 62]
1366 -
مَن تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ: تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 23] يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، ويُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، لَيْسَ بِمُخْتَلِفٍ وَلَا بِمُتَنَاقِضٍ {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
وَهُوَ مَثَانِيَ، يُثَنّي اللهُ فِيهِ الْأَقْسَامَ ويسْتَوْفِيهَا.
وَالْحَقَائِقُ: إمَّا مُتَمَاثِلَة، وَهِيَ الْمُتَشَابِهُ، وَإِمَّا مُمَاثِلَة، وَهِيَ: الْأَصْنَافُ وَالْأَقْسَامُ وَالْأَنْوَاعُ، وَهِيَ الْمَثَانِي.
والتَّثْنِيَةُ يُرَادُ بِهَا: جِنْسُ التَّعْدِيدِ مِن غَيْرِ اقْتِصَارٍ عَلَى اثْنَيْنِ فَقَطْ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:{ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] يُرَادُ بِهِ: مُطْلَقُ الْعَدَدِ، كَمَا تَقُولُ: قُلْت لَهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّة، تُرِيدُ: جِنْسَ الْعَدَدِ.
وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ تكْرَارٌ مَحْضٌ، بَل لَابُدَّ مِن فَوَائِدَ فِي كُلِّ خِطَابٍ.
فالْمُتَشَابِهُ فِي النَّظَائِرِ الْمُتَمَاثِلَةِ، والْمَثَانِي فِي الْأَنْوَاعِ.
وَتَكُونُ التَّثْنِيَةُ فِي الْمُتَشَابِهِ؛ أَيْ: هَذَا الْمَعْنَى قَد ثُنّيَ فِي الْقُرْآنِ لِفَوَائِدَ أُخَرَ.
فالْمَثَانِي تَعُمُّ هَذَا وَهَذَا، وَفَاتِحَةُ الْكِتَابِ: هِيَ السبْعُ الْمَثَانِي؛ لِتَضَمُّنِهَا هَذَا وَهَذَا. [14/ 407 - 409]
1367 -
الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ: مَجْمُوعَة فِي قَوْله تَعَالَى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]، وَهِيَ مَعْنَى "لَا إلَهَ إلَّا اللهُ".
ولَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ هِيَ مِن مَعْنَى لَا إلَهَ إلا اللهُ.
والْحَمْدُ للّهِ فِي مَعْنَاهَا.
وسُبْحَانَ اللهِ وَاللّهُ أَكْبَرُ مِن مَعْنَاهَا.
لَكِنْ فِيهَا تَفْصِيل بَعْدَ إجْمَالٍ. [14/ 421]
1368 -
سُورَةُ الْمَائدَةِ أَجْمَعُ سُورَة فِي الْقُرْآنِ لِفُرُوعِ الشَّرَائعِ مِن التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. [14/ 448]
1369 -
الْقُرْآنُ نَزَلَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ الْمَوْجُودَةِ فِي الْقُرْآنِ، فَإِنَّهَا تُفَسَّرُ بِلُغَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ فِيهِ إذَا وُجِدَتْ، لَا يُعْدَلُ عَن لُغَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ مَعَ وُجُودِهَا، وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى غَيْرِ لُغَتِهِ فِي لَفْظٍ لَمْ يُوجَدْ لَهُ نَظِير فِي الْقُرْآنِ؛ كَقَوْلِهِ:{وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} [القصص: 82]، {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص: 3]، {وَكَأْسًا دِهَاقًا (34)} [النبأ: 34]، {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31)} [عبس: 31] و {قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم: 22]، وَنَحْو ذَلِكَ مِن الْأَلْفَاظِ الْغَرِيبَةِ فِي الْقُرْآنِ. [15/ 88]
1370 -
إِنَّ السُّوَرَ الْمَكّيَّةَ تَضَمَّنَت الْأُصُولَ الَّتِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهَا رُسُلُ اللهِ؛ إذ كَانَ الْخِطَابُ فِيهَا يَتَضَمَّنُ الدَّعْوَةَ لِمَن لَا يُقِرُّ بِأَصْلِ الرِّسَالَةِ.
وَأمَّا السُّوَرُ الْمَدَنِيَّةُ فَفِيهَا الْخِطَابُ لِمَن يُقِرُّ بأصْلِ الرِّسَالَةِ؛ كَأهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ آمنُوا بِبَعْضِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِ، وَكَالْمُؤمِنِينَ الًّذِينَ آمنُوا بِكُتُبِ اللهِ وَرُسلِهِ؛ وَلهَذَا قَررَ فِيهَا الشَّرَائِعَ الَّتِي أَكْمَلَ اللهُ بِهَا الدّينَ: كَالْقِبْلَةِ وَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ
وَالِاعْتِكَافِ وَالْجِهَادِ وَأَحْكَامِ المناكح وَنَحْوِهَا؛ وَأَحْكَامِ الْأَمْوَالِ بِالْعَدْلِ كَالْبَيْعِ وَالْإِحْسَانِ كَالصَّدَقَةِ وَالظُّلْمِ كَالرِّبَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِن تَمَامِ الدِّينِ.
وَلهَذَا كَانَ الْخِطَابُ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} [النساء: 1] لِعُمُومِ الدَّعْوَةِ إلَى الأصُولِ؛ إذ لَا يُدْعَى إلَى الْفَرْعِ مَن لَا يُقِرُّ بِالْأَصْلِ، فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى الْمَدِينَةِ وَعَزَّ بِهَا أَهْلُ الْإِيمَانِ، وَكَانَ بِهَا أَهْل الْكِتَابِ خُوطِبَ هَؤلَاء وَهَؤُلَاءِ؛ فَهَؤُلَاءِ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [النساء: 19]، وَهَؤُلَاءِ:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ} [النساء: 171]، أَو:{يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة: 72]، وَلَمْ يَنْزِلْ بِمَكَّةَ شَيء مِن هَذَا، وَلَكِنْ فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ خِطَابُ:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ} [النساء: 1] كَمَا فِي سورَةِ النّسَاءِ وَسُورَةِ الْحَجِّ وَهمَا مَدَنِيّتَانِ وَكَذَا فِي الْبَقَرَةِ.
وَهَذَا يُعَكِّرُ عَلَى قَوْلِ الْحَبْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ لِأنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ يَشْمَلُ جِنْسَ النَّاسِ وَالدعْوَةُ بِالِاسْمِ الْخَاصِّ لَا تُنَافِي الدَّعْوَةَ بِالِاسْمِ الْعَامِّ. [15/ 160]
1371 -
اسْتِمَاعُ آياتِ اللهِ وَالتَّزَكِّي بِهَا أَمْرٌ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ؛ فَإِنَّهُ لَابُدَّ لِكُلّ عَبْد مِن سَمَاعِ رِسَالَةِ سَيِّده الَّتِي أَرْسَلَ بِهَا رَسُولَهُ إلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ السَّمَاعُ الْوَاجِبُ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ، وَلَا بُد مِن التَّزَكيِّ بِفِعْلِ الْمَأمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ، فَهَذَانِ لَابُدَّ مِنْهمَا.
وَأَمَّا الْعِلْمُ بِالْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ: فَهُوَ فَرْض عَلَى الْكِفَايَةِ، لَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بِعَيْنِهِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْكِتَابِ لَفْظِه وَمَعْنَاهُ، عَالِمًا بِالْحِكْمَةِ جَمِيعِهَا، بَلِ الْمُؤمِنُونَ كُلهُم مُخَاطَبُونَ بِذَلِكَ، وَهُوَ وَاجِب عَلَيْهِم كَمَا هُم مُخَاطَبُونَ بِالْجِهَادِ، بَل وُجُوبُ ذَلِكَ أَسْبَقُ وَأَوْكَدُ مِن وُجُوبِ الْجِهَادِ؛ فَإِنَّه أَصْلُ الْجِهَادِ، وَلَوْلَاهُ لَمْ يَعْرِفُوا عَلَامَ يُقَاتِلُونَ
(1)
، وَلهَذَا كَانَ قِيَامُ الرَّسُولِ وَالْمُؤمِنِينَ بِذَلِكَ قَبْلَ
(1)
تأمل هذا الكلام الحكيم الرزين، لتعرف خطأ وضلال الذين نفروا للجهاد قبل العلم، وكيف جنوا على أنفسهم وأمتهم والجهاد أيضًا، فقاتلوا بلا علم بآداب الجهاد وشروطِه وأحكامه، فضلوا وأضلوا، وسفكوا الدماء، وزعزعوا الأمن.
قِيَامِهِمْ بِالْجِهَادِ؛ فَالْجِهَادُ سَنَامُ الدِّينِ وَفَرْعُهُ وَتَمَامُهُ، وَهَذَا أَصْلُهُ وَأَسَاسُهُ وَعَمُودُهُ وَرَأسُهُ. [15/ 390]
1372 -
لَا يبَ أَنَّ اسْتِمَاعَ كِتَابِ اللهِ وَالْإِيمَانَ بِهِ، وَتَحْرِيمَ حَرَامِهِ وَتَحْلِيلَ حَلَالِهِ، وَالْعَمَلَ بِمُحْكَمِهِ وَالْإِيمَانَ بِمُتَشَابِهِهِ: وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَهَذَا هُوَ التِّلَاوَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة: 121]، فَأَخْبَرَ عَن الَّذِينَ يَتْلُونَهُ حَق تِلَاوَتهِ أَنَّهُم يُومِنُونَ بِهِ، وَبِهِ قَالَ سَلَفُ الأمَّةِ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ.
وَأَمَّا حِفْظُ جَمِيعِ الْقُرْآنِ وَفَهْمُ جَمِيعِ مَعَانِيهِ وَمَعْرفَةُ جَمِيعِ السُّنَّةِ فَلَا يَجِبُ عَلَى كُل أَحَدٍ، لَكِنْ يَجِب عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَحْفَظَ مِن الْقُرْآنِ ويعْلَمَ مَعَانِيَهُ ويعْرِفَ مِن السُّنَّةِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ. [15/ 390 - 391]
1373 -
الْقُرْآنُ قَد أَخْبَرَ بِثَلَاثِ نَفَخَاتٍ:
أ- نَفْخَةِ الْفَزَعِ، ذَكَرَهَا فِي سُورَةِ النَّمْلِ فِي قَوْلِهِ:{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87].
ب - وَنَفْخَةِ الصَّعْقِ.
ج- وَالْقِيَامِ ذَكَرَهُمَا فِي قَوْلِهِ: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)} [الزمر: 68].
وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ: فَهُوَ مُتَنَاوِل لِمَن فِي الْجَنَّةِ مِن الْحُورِ الْعِينِ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ لَيْسَ فِيهَا مَوْت، وَمُتَنَاوِل لِغَيْرِهِمْ، وَلَا يُمْكِنُ الْجَزْمُ بِكُلِّ مَن اسْتَثْنَاهُ اللهُ، فَإِنَّ اللّهَ أَطْلَقَ فِي كِتَابِهِ. [16/ 35 - 36]
* * *
(التحذير من صرف هِمَّة قارئ القرآن فِيمَا حُجبَ بهِ أكثَر النَّاسِ مِن الْعُلومِ عَن حَقَائِقِ الْقرآنِ)
1374 -
إِذَا اسْتَقَرَّ فِي الْقَلْبِ وَتَمَكَّنَ فِيهِ الْعِلْمُ بِكِفَايَتهِ سُبْحَانَه لِعَبْدِهِ وَرَحْمَتِهِ لَهُ وَحِلْمِهِ عِنْدَهُ وَبِرهِ بِهِ وإحْسَانِهِ إلَيْهِ عَلَى الدَّوَامِ أوْجَبَ لَهُ الْفَرَحَ وَالسُّرُورَ أَعْظَمَ مِن فَرَحِ كُل مُحِب بِكُل مَحْبُوب سِوَاهُ.
هَذَا فِي بَابِ مَعْرِفَةِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَأَمَّا فِي بَابِ فَهْمِ الْقُرْآنِ فَهُوَ دَائِمُ التَّفَكُّرِ فِي مَعَانِيهِ وَالتَّدَّبُّرِ لِألْفَاظِهِ وَاسْتِغْنَائِهِ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ وَحُكْمِهِ عَن غيْرِهِ مِن كَلَامِ النَّاسِ، وَإِذَا سَمِعَ شَيْئًا مِن كَلَامِ النَّاسِ وَعُلومِهِمْ عَرَضَهُ عَلَى الْقُرْآنِ فَإِنْ شَهِدَ لَهُ بِالتَّزْكِيَةِ قَبِلَهُ وإلا رَدَّهُ، وَإِن لَمْ يَشْهَدْ لَهُ بِقَبُول وَلَا رَد وَقَفَهُ وَهِمَّتُهُ عَاكِفَة عَلَى مُرَادِ رَّبهِ مِن كَلَامِهِ.
وَلَا يَجْعَلُ هِمَّتَهُ فِيمَا حُجِبَ بِهِ أكْثَرُ النَّاسِ مِن الْعُلُومِ عَن حَقَائِقِ الْقُرْآنِ: إمَّا بِالْوَسْوَسَةِ فِي خُرُوجِ حُرُوفهِ وَتَرْقِيقِهَا وَتَفْخِيمِهَا وإمَالَتِهَا وَالنطْقِ بِالْمَدِّ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ وَالْمُتَوَسِّطِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
فَإِنَّ هَذَا حَائِلٌ لِلْقُلوبِ قَاطِع لَهَا عَن فَهْمِ مُرَادِ الرَّب مِن كَلَامِهِ.
وَكَذَلِكَ شَغْل النُّطْقِ بـ {أَأَنْذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6]
(1)
، وَضَمُّ الْمِيمِ مِنْ (عَلَيْهِمْ) وَوَصْلُهَا بِالْوَاوِ
(2)
، وَكسْرُ الْهَاءِ أَوْ ضَمّهَا
(3)
، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
(1)
يقصد الفتحتين من: {أَأَنْذَرْتَهُمْ} وما شابهها، مثل:{أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ} و {أَأَسْلَمْتُمْ} : فقد قرأها النبي صلى الله عليه وسلم بعدة أوجه، منها: تحقيق الهمزتين.
ومنها: تسهيل الهمزة الثانية.
ومنها: إبدال الهمزة الثانية ألفًا.
وهناك أوجه أخرى.
(2)
يقصد ضم ميم: عَلَيْهِمْ، فتُقرأ: عَلَيْهِمو.
(3)
يقصد كسر الْهَاءِ أَوْ ضَمهَا في: عَلَيْهِمْ، فقد قرأها النبي صلى الله عليه وسلم بعدة أوجه، منها: ضمها على كل حال.
منها: ضمها إذا كان بعدها همزة وصل.
منها: كسرها إذا كان بعدها همزة وصل.
وَكَذَلِكَ مُرَاعَاةُ النَّغَمِ وَتَحْسِينُ الصَّوْتِ.
وَكَذَلِكَ تَتَبُّعُ وُجُوهِ الْإِعْرَابِ وَاسْتِخْرَاجُ التأوِيلَاتِ الْمُسْتَكْرَهَةِ الَّتِي هِيَ بِالْألْغَازِ وَالْأَحَاجِي أَشْبَهُ مِنْهَا بِالْبَيَانِ.
وَكَذَلِكَ صَرْفُ الذِّهْنِ إلَى حِكَايَةِ أَقْوَالِ النَّاسِ وَنتَائِجِ أَفْكَارِهِمْ
(1)
.
وَكَذَلِكَ تَأوِيلُ الْقُرْآنِ عَلَى قَوْلِ مَن قَلَّدَ دِينَة أَو مَذْهَبَه فَهُوَ يَتَعَسَّفُ بِكُلّ طَرِيقٍ حَتَّى يَجْعَلَ الْقُرْآنَ تبَعًا لِمَذْهَبِهِ وَتَقْوِيَةً لِقَوْلِ إمَامِهِ
(2)
. [16/ 49 - 51]
* * *
1375 -
كُلُّ مَن اشْتَبَهَ عَلَيْهِ آيَة مِن الْقُرْآنِ وَلَمْ يَعْرِفْ مَعْنَاهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِهَا، وَأَنْ يَكِلَ عِلْمَهَا إلَى اللهِ فَيَقُولُ:"اللهُ أَعْلَمُ"، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، فَمَا زَالَ كَثِير مِنَ الصَّحَابَةِ يَمرُّ بِآيَةٍ وَلَفْظٍ لَا يَفْهَمُهُ فَيُؤْمِنُ بِهِ وَإِن لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَاهُ. [16/ 410]
1376 -
فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لأبيّ: إنَّ اللّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْك الْقُرْآنَ .. أَيْ: قِرَاءَةَ تَبْلِيغٍ وَإِسْمَاعٍ وَتَلْقِينٍ، لَيْسَ هِيَ قِرَاءَةَ تَلْقِينٍ وتَصْحِيحٍ، كَمَا يَقْرَأُ الْمُتَعَلّم عَلَى الْمُعَلّمِ، فَإِنَّ هَذَا قَد ظَنَّهُ
(1)
فالانشغال بحكاية أقوال العلماء في تفسير القرآن عن تدبّره وتأمله، واستخلاص العبر منه: من أعظم الحجب التي حجبت كثيرًا من طلاب العلم عن المقصد الذي لأجله أُنزل القرآن.
وليس هذا خاصا بالقرآن، بل يشمل العلوم الأخرى؛ كالحديث والفقه والأصول، فمن المجرب أنّ الانشغال بشروح العلماء وأقوالهم تحجب طالب العلم والمعلم عن إعمال فكرِه في النظر والتأمل، الذي يؤدي به إلى روائع الاستنباطات، ودقائق الفهم، وعدم التقليد، وسيخرج بفتوحات عظيمة لم تكن تخطر على باله.
(2)
قال العلامة محمد رشيد رضا رحمه الله: إِنَّ التَّعَصُّبَ لِلْمَذَاهِبِ هُوَ الَّذِي صَرَفَ كَثِيرا مِنَ الْعُلَمَاء الْأذْكِيَاءِ عَنْ إِفَادَةِ أَنْفُسِهِمْ وَأمَّتِهِمْ بِفِطْنَتِهِمْ، وَجَعَلَ كُتُبَهُمْ فِتْنَةً لِلْمُسْلِمِينَ اشْتَغَلُوا بِالْجَدَلِ فِيهَا عَنْ حَقِيقَةِ الدينِ.
وقال رحمه الله: يَا لَيْتَ الزَّمَخْشَرِيَّ لَمْ يَنْتَحِلْ مَذْهَبًا، وَلَمْ يَنْظُرْ فِي خِلَافِ الْمَذَاهِبِ، وإذًا لَكَانَ كَشافُهُ حُجَّةً عَلَى أَصْحَابِهَا وَمَرْجِعا لَهُمْ فِي تَحْرِيرِ مَعَانِي نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ؛ إذ كَانَ مِنْ أَدَقِّ عُلَمَاءِ هَذِهِ اللُّغَةِ فَهْما وَأحسَنهمْ بَيَانًا وَلَمَا فَهِمَ. تفسير المنار (5/ 43، 9/ 194).
بَعْضُهُمْ، وَجَعَلُوا هَذَا مِن بَابِ التَّوَاضُعِ، وَجَعَلَ أَبُو حَامِدٍ هَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى تَوَاضُعِ الْمُتَعَلِّمِ! وَلَيْسَ هَذَا بِشَيء؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ كَانَ يَقْرَؤُهَا عَلَى جِبْرِيلَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ كُلَّ عَام، فَإِنَّه هُوَ الَّذِي نَزَّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، وَأَمَّا النَّاسُ فَمِنْهُ تَعَلَّمُوهُ، فَكَيْفَ يُصَحّحُ قِرَاءَتَهُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ أَوْ يَقْرَأ كَمَا يَقْرَأُ الْمُتَعَلِّم؟ وَلَكِنَّ قِرَاءَتَهُ عَلَى أُبيّ بْنِ كَعبٍ كَمَا كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ عَلَى الْإِنْس وَالْجِنِّ، فَقَد قَرَأَ عَلَى الْجِن الْقُرْآنَ، وَكَانَ إذَا خَرَجَ إلَى النَّاسِ يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ ويقْرَأ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ، وَيَقْرَؤُهُ عَلَى النَّاسِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِ الصلَاةِ. [16/ 481]
1377 -
خُصَّ الْقُرْآنُ بِأَنَّهُ لَا يمَسُّ مُصْحَفُهُ إلَّا طَاهِر، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنِ الصَّحَابَةِ -مِثْل سَعْدٍ وَسَلْمَانَ وَابْنِ عُمَرَ- وَجَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ الْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَمَضَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي كِتَابِهِ الَّذِي كَتَبَهُ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الَّذِي لَا رَيْبَ فِي أَنَّهُ كَتبهُ لَهُ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ كِتَابُ اللهِ.
وَكَذَلِكَ لَا يَقْرَأُ الْجُنُبُ الْقُرْآنَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ الْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ السُّنَّةُ. [17/ 12]
1378 -
الْقَوْل بِأنَّ كَلَامَ اللهِ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِن بَعْضٍ هُوَ الْقَوْلُ الْمَأثُور عَن السَّلَفِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ مِن الطَّوَائِفِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَلَامُ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ كَثِيرٌ مُنْتَشِر فِي كُتبٍ كَثِيرَةٍ. [17/ 13]
وَفِي الْجُمْلَةِ: فَدَلَالَةُ النُّصُوصِ النَّبَوِيَّةِ وَالْآثَارِ السَّلَفِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْحِجَجِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللهِ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِن بَعْضٍ هُوَ مِن الدَّلَالَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمَشْهُورَةِ. [17/ 57]
1379 -
مَن تَأَمَّلَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الْأَوَّلُونَ والآخرون فِي أُصُولِ الدّينِ وَالْعُلومِ الْإِلَهِيَّةِ، وَأُمُورِ الْمَعَادِ وَالنُّبُوَّاتِ، وَالْأَخْلَاقِ وَالسِّيَاسَاتِ وَالْعِبَادَاتِ، وَسَائِرِ مَا فِيهِ كَمَالُ النُّفُوسِ وَصَلَاحُهَا وَسَعَادَتُهَا وَنَجَاتُهَا: لَمْ يَجِدْ عِنْدَ الْأَوَّلينَ والآخرين مِن أَهْلِ النبوَّاتِ وَمِن أَهْلِ الرَّأيِ كالمتفلسفة وَغَيْرِهِمْ إلَّا بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ. [17/ 45]
1380 -
إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ كلَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَهَا [أي: سُورَةَ الْإِخْلَاصِ] كَمَا فِي الْمُصْحَفِ مَرَّةً وَاحِدَةً، هَكَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ؛ لِئَلَّا يُزَادَ عَلَى مَا فِي الْمُصْحَفِ، وَأَمَّا إذَا قَرَأَهَا وَحْدَهَا أَو مَعَ بَعْضِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ إذَا قَرَأَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عَدَلَت الْقُرْآنَ. [17/ 213]
1381 -
قَد عُرِفَ أَنَّ التَّأوِيلَ فِي الْقُرْآنِ: هُوَ الْمَوْجُودُ الَّذِي يَؤُولُ إلَيْهِ الْكَلَامُ، وَإِن كَانَ ذَلِكَ مُوَافِقا لِلْمَعْنَى الَّذِي يَظْهَرُ مِن اللَّفْظِ، بَل لَا يُعْرَفُ فِي الْقُرْآنِ لَفْظ التَّأوِيلِ مُخَالِفًا لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ، خِلَافَ اصطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِينَ.
وَالْكَلَامُ نَوْعَانِ: إنْشَاء وَإِخْبَار.
فَالْإنْشَاءُ: الْأمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْإِبَاحَة، وَتَأوِيلُ الْأَمْرِ وَالنَّهْي: نَفْسُ فِعْلِ الْمَأمُورِ وَنَفْسُ تَرْكِ الْمَحْظُورِ، كَمَا فِي "الصَّحِيحِ" عَن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُوده: "سُبْحَانَك اللهُم رَبَّنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغفِرْ لي، يَتَأولُ الْقُرْآنَ"
(1)
.
فَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ تَأوِيلَ قَوْلِهِ: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3].
وَتَفْسِيرُ كَلَامِهِ
(2)
: لَيْسَ هُوَ نَفْسَ مَا يُوجَدُ فِي الْخَارج؛ بَل هُوَ بَيَانُهُ وَشَرْحُهُ وَكَشْفُ مَعْنَاهُ.
فَالتَّفْسِيرُ مِن جِنْسِ الْكَلَامِ: يُفَسِّرُ الْكلَامَ بِكَلَامٍ يُوَضِّحُهُ.
وَأَمَّا التَّأوِيلُ: فَهُوَ فِعْلُ الْمَأمُورِ بِهِ وَتَرْكُ الْمَنْهِي عَنْهُ، لَيْسَ هُوَ مِن جِنْسِ الْكَلَامِ
(3)
.
وَالنوْعُ الثانِي: الْخَبَرُ؛ كَإِخْبَارِ الرَّبِّ عَن نَفْسِهِ تَعَالَى بأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَإِخْبَارِهِ عَمَّا ذكره لِعِبَاده مِن الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَهَذَا هُوَ التَّأوِيلُ الْمَذْكُورُ فِي
(1)
رواه البخاري (817)، ومسلم (484).
(2)
أي: كلام الله.
(3)
هذا هو الفرق بين التفسير والتأويل.
وَإِذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ: فَالْمتَشَابِهُ مِنَ الْأَمْرِ لَابُدَّ مِن مَعْرِفَةِ تَأوِيلِهِ؛ لِأَّنهُ لَا بُدَّ مِن فِعْلِ الْمَأمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ؛ لَكِنْ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ فِي الْأَمْرِ مُتَشَابِهًا، فَإِنَّ قَوْلَهُ:{وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] قَد يُرَادُ بِهِ مِنَ الْخَبَرِ، فَالْمُتَشَابِهُ مِن الْخَبَرِ مِثْل مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي الْجَنَّةِ مِن اللَّحْمِ وَاللَّبَنِ وَالْعَسَلِ وَالْمَاءِ وَالْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ، فَإِنَّ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا فِي الدُّنْيَا تَشَابُهٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَمَعَ هَذَا فَحَقِيقَةُ ذَلِكَ مُخَالِفَة لِحَقِيقَةِ هَذَا، وَتلْكَ الْحَقِيقَةُ لَا نَعْلَمُهَا نَحْنُ فِي الدُّنْيَا وَقَد قَالَ اللهُ تَعَالَى:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17]. فَهَذَا الَّذِي وَعَدَ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ المؤمنين لَا تَعْلَمُهُ نَفْس هُوَ مِنَ التَّأوِيلِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللهُ. [17/ 368 - 373]
وَكَذَلِكَ وَقْتُ السَّاعَةِ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا الله وَأَشْرَاطهَا، وَكَذَلِكَ كَيْفِيَّاتُ مَا يَكُونُ فِيهَا مِن الْحِسَابِ وَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ وَالْحَوْضِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، لَا يَعْلَمُ كَيْفِيّتَهُ إلا اللهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ حَتَّى تَعْلَمَهُ الْمَلَائِكَةُ، وَلَا لَهُ نَظِيرٌ مُطَابِقٌ مِن كُلِّ وَجْهٍ حَتَّى يُعْلَمَ بِهِ، فَهُوَ مِن تَأوِيلِ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللهُ.
وَكَذَلِكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّبُّ عَن نَفْسِهِ مِثْل اسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَكَلَامِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ كَيْفِيَّاتِ ذَلِكَ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا اللهُ.
1382 -
يُشْكِلُ عَلَى كَثِيرٍ مِن النَّاسِ آيات لَا يَفْهَمُونَ مَعْنَاهَا، وَغَيْرُهُم مِن النَّاسِ يَعْرِفُ مَعْنَاهَا، وَعَلَى هَذَا فَقَد يُجَابُ بِجَوَابَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي الْآيَةِ قِرَاءَتَانِ، قِرَاءَةُ مَن يَقِفُ عَلَى قَوْلِهِ:{إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7]. وَقِرَاءَةُ مَن يَقِف عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] وَكِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ حَقٌّ، ويُرَادُ بِالْأُولَى الْمُتَشَابِهُ فِي نَفْسِهِ الَّذِي اسْتَأثَرَ اللهُ بِعِلْمِ
تَأْوِيلِهِ، وَيُرَادُ بِالثَّانِيَةِ الْمُتَشَابِهُ الْإِضَافِيُّ الَّذِي يَعْرِفُ الرَّاسِخُونَ تَفْسِيرَهُ، وَهُوَ تَأْوِيلُهُ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمُتَشَابِهَ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ هُوَ تَشَابُهُهَا فِي نَفْسِهَا اللَّازِمِ لَهَا، وَذَاكَ الَّذِي لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللّهُ، وَأَمَّا الْإِضَافِيُّ الْمَوْجُودُ فِي كَلَامِ مَن أَرَادَ بِهِ التَّشَابُهَ الْإِضَافِيَّ: فَمُرَادُهُم أَنَّهُم تَكلَّفوا فِيمَا اشْتَبَهَ مَعْنَاهُ وَأَشْكَلَ مَعْنَاهُ عَلَى بَعْضِ. النَّاسِ، وَأَنَّ الْجَهْمِيَّة اسْتَدَلُّوا بِمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِم وَأَشْكَلَ، وَإِن لَمْ يَكُن هُوَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللهُ، وَكَثِيرًا مَا يَشْتَبِهُ عَلَى الرَّجُلِ مَا لَا يَشْتَبِهُ عَلَى غَيْرِهِ.
فَإِنَّ قَوْلَ اللّهِ تَعَالَى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]، لَمْ يُرِدْ بِهِ هُنَا الْإِحْكَامَ الْعَامَّ وَالتَّشَابُهَ الْعَامَّ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ آيَاتِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1]، وَفِي قَوْلِهِ:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر: 23] فَوَصَفَهُ هُنَا كُلَّهُ بِأنَّهُ مُتَشَابِة؛ أَيْ: مُتَّفِقٌ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ، يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَهُوَ عَكسُ الْمُتَضَادِّ الْمُخْتَلِفِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] .. فَإِنَّ هَذَا التَّشَابُهَ يَعُمُّ الْقُرْآنَ، كَمَا أَنَّ إحْكَامَ آيَاتِهِ تَعُمُّهُ كُلَّهُ، وَهُنَا قَد قَالَ:{مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} فَجَعَلَ بَعْضَهُ مُحْكَمًا وَبَعْضَهُ مُتَشَابِهًا.
فَصَارَ التَّشَابُهُ لَهُ مَعْنيانِ، وَلَهُ مَعْنًى ثَالِثٌ، وَهُوَ الْإِضَافِيُّ، يُقَالُ: قَد اشْتَبَهَ عَلَيْنَا هَذَا؛ كَقَوْلِ بَنِي إسْرَائِيلَ: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة: 70]، وَإِن كَانَ فِي نَفْسِهِ مُتَمَيِّزًا مُنْفَصِلًا بَعْضهُ عَن بَعْضٍ.
وَهَذَا مِن بَابِ اشْتِبَاهِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ؛ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ: "الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُتَشَابِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كثِيرٌ مِن النَّاسِ"
(1)
فَدَلَّ
(1)
رواه البخاري (52)، ومسلم (1599).
ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَن يَعْرِفُهَا، فَلَيْسَتْ مُشْتَبِهَةً عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ، بَل عَلَى بَعْضِهِمْ، بِخِلَافِ مَا لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللهُ، فَإِنَّ النَّاسَ كُلَّهُم مُشْتَرِكُونَ فِي عَدَمِ الْعِلْمِ بِتَأْوِيلِهِ
(1)
. [17/ 381 - 385]
1383 -
لَفْظُ "آلِ فُلَانٍ" إذَا أُطْلِقَ فِي الْكِتَاب وَالسُّنَّةِ دَخَلَ فِيهِ "فُلَان" كَمَا فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر: 34]
(2)
.
وَكَذَلِكَ لَفْظُ: "أَهْلِ الْبَيْتِ" كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ دَاخِلٌ فِيهِمْ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ "الْآلِ" أَصْلُهُ (أَوَل) تَحَرَّكَتِ الْوَاوُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا فَقُلِبَتْ أَلِفًا، فَقِيلَ: آلُ، وَمِثْلُهُ: بَابٌ وَنَابٌ، وَفِي الْأَفْعَالِ: قَالَ وَعَادَ، وَنَحْو ذَلِكَ.
وَمَن قَالَ: أَصْلُهُ (أَهْلُ) فَقُلِبَتِ الْهَاءُ أَلِفًا فَقَد غَلِطَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَادَّعَى الْقَلْبَ الشَّاذَّ بِغَيْرِ حُجَّةٍ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْأَصْلِ.
فَفِي ذَلِكَ بَيَانُ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى سَائِرِ الْآلِ إنَّمَا طُلِبَتْ تَبَعًا لَهُ، وَأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي بِسَبَبِهِ طُلِبَتِ الصَّلَاةُ عَلَى آلِهِ.
وَهَذَا يَتِمُّ بِجَوَابِ السُّؤَالِ الْمَشْهُورِ: وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: "كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ" يُشْعِرُ بِفَضِيلَةِ إبْرَاهِيمَ، لِأَنَّ الْمُشَبَّهَ دُونَ الْمُشَبَّهِ بِهِ.
(1)
الخلاصة: أنّ التشابه له ثلاث معانٍ:
الأول: التشابه العام، وهو أن القرآن متفق غير مختلف، يُصدق بعضه بعضًا.
الثاني: التشابه الخاص، وهو ما استاثر الله بعلمه، كوقت الساعة، والعلم بكيفية صفات الله ونحو ذلك، ويراد به كذلك أن يكون معنى الآية مشتبهًا خفيًّا بحيث يتوهم منه الواهم ما لا يليق بالله تعالى، أو كتابه أو رسوله، ويفهم منه العالم الراسخ في العلم خلاف ذلك.
الثالث: التشابه الإِضَافِيُّ، (وهو الذي اشتبه على بعض الناس دون بعض) وَاِن كَانَ فِي نَفْسِهِ مُتَمَيِّزًا مُنْفَصِلًا بَعْضُهُ عَن بَعْضٍ.
(2)
فلوط داخل في الآل.
وَقَد أَجَابَ النَّاسُ عَن ذَلِكَ بِأَجْوِبَةِ ضَعِيفَةٍ.
فَقِيلَ: آلُ إبْرَاهِيمَ فِيهِمُ الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ لَيْسَ مِثْلُهُم فِي آلِ مُحَمَّدٍ، فَإِذَا طَلَبَ مِنَ الصَّلَاةِ مِثْلَمَا صَلَّى عَلَى هَؤُلَاءِ حَصَلَ لِأَهْلِ بَيْتِهِ مِن ذَلِكَ مَا يَلِيقُ بِهِمْ، فَإِنَّهُم دُونَ الْأَنْبِيَاءِ، وَبَقِيَتِ الزِّيَادَةُ لِمُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، فَحَصَلَ لَهُ بِذَلِكَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ مَزِيَّة لَيْسَتْ لِإِبْرَاهِيمَ وَلَا لِغَيْرِهِ.
وَأَحْسَنُ مِنْهُ أَنْ يُقَالَ: مُحَمَّدٌ هُوَ مِن آلِ إبْرَاهِيمَ .. فَإِنَّهُ إذَا دَخَلَ غَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي آلِ إبْرَاهِيمَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالدُّخُولِ فِيهِمْ، فَيَكُونُ قَوْلُنَا: كَمَا صَلَّيْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ فتَنَاوِلًا لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آلِ إبْرَاهِيمَ، وَقَد قَالَ تَعَالَى:{وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت: 27]، ثمَّ أَمَرَنَا أَنْ نُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ خُصُوصًا بِقَدْرِ مَا صَلَّيْنَا عَلَيْهِ مَعَ سَائِرِ آلِ إبْرَاهِيمَ عُمُومًا، ثُمَّ لِأهْلِ بَيْتِهِ مِن ذَلِكَ مَا يَلِيقُ بِهِمْ، وَالْبَاقِي لَهُ، فَيَطْلُبُ لَهُ مِنَ الصَّلَاةِ هَذَا الْأمْرَ الْعَظِيمَ. [22/ 462 - 466]
1384 -
وَلهَذَا كَانَت طَرِيقَةُ الْقُرْآنِ تَذْكِيرَ الْعِبَادِ بِآلَاءِ اللّهِ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي شكْرهُم لَهُ، وَهُوَ أَدَاءُ الْوَاجِبَات الشَّرْعِيَّةِ. [28/ 649]
1385 -
لَفْظُ الْعَبْدِ فِي الْقُرْآنِ: يَتَنَاوَلُ مَن عَبَدَ اللهِ، فَأَمَّا عَبْدٌ لَا يَعْبُدُهُ فَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ عَبْدِهِ، كَمَا قَالَ:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]، وَأَمَّا قَوْلُهُ:{إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42]، فَالاِسْتِثْنَاءُ فِيهِ مُنْقَطِعٌ، كَمَا قَالَة أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْعُلَمَاءِ. [1/ 43]
1386 -
إِن اللّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، فَالْكَلِمُ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ جَامِعَةٌ مُحِيطَةٌ كلِّيَّة عَامَّةٌ لِمَا كَانَ مُتَفَرِّقًا مُنْتَشِرًا فِي كَلَامِ غَيْرِهِ. [4/ 133]
* * *
(بَاب العناية بالقرآن فهمًا وحفظًا)
1387 -
الْعِلْمُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ عَيْنًا كَعِلْمِ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ وَمَا نَهَى اللّهُ عَنْهُ: مُقَدَّمٌ عَلَى حِفْظِ مَا لَا يَجِبُ مِن الْقُرْآنِ.
وَأَمَّا طَلَبُ حِفْظِ الْقُرْآنِ: فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى كثِيرٍ مِمَّا تُسَمِّيهِ النَّاسُ عِلْمًا، وَهُوَ إمَّا بَاطِل أَو قَلِيلُ النَّفْعِ.
وَهُوَ أَيْضا مُقَدَّمٌ فِي التَّعَلُّمِ فِي حَقِّ مَن يُرِيدُ أَنْ يَتَعَلَّمَ عِلْمَ الدِّينِ مِنَ الْأصُولِ وَالْفُرُوع، فَإِنَّ الْمَشْرُوعَ فِي حَقِّ مِثْل هَذَا فِي هَذه الْأَوْقَاتِ أَنْ يَبْدَأَ بِحِفْظِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ أَصْل عُلُومِ الدّينِ، بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِن أَهْلِ الْبِدَعِ مِنَ الْأَعَاجِم وَغَيْرِهِمْ حَيْثُ يَشْتَغِلُ أَحَدُهُم بِشَيءٍ مِن فُضُولِ الْعِلْمِ .. وَيَتْرُكُ حِفْظَ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ أَهَمُّ مِن ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَالْمَطْلُوبُ مِنَ الْقُرْآنِ هُوَ فَهْمُ مَعَانِيهِ وَالْعَمَلُ بِهِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذ هِمَّةَ حَافِظِهِ لَمْ يَكُن مِن أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ
(1)
. [23/ 54 - 55]
1388 -
كَلَامُ اللّهِ لَا يُقَاسُ بِهِ كَلَامُ الْخَلْقِ؛ فَإِنَّ فَضْلَ الْقُرْآنِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللّهِ عَلَى خَلْقِهِ.
وَأَمَّا الْأَفْضَلُ فِي حَقّ الشَّخْصِ: فَهُوَ بحَسَبِ حَاجَتِهِ وَمَنْفَعَتِهِ: فَإِنْ كَانَ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى تَعَلُّمِ غَيْرِهِ فَتَعَلُّمُهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَفْضَلُ مِن تَكْرَارِ التِّلَاوَةِ الَّتي لَا يَحْتَاجُ إلَى تَكْرَارِهَا.
(1)
فالحافظ لكتاب اللّه دون فهم أحكامه، وتدبّر معانيه: لا يُعَدّ من أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ!
ولم يقل هذا شيخ الإسلام وحده، بل قال ذلك النووي رحمه الله تعالى حيث قال في الكلام عن الوصية: "المَسْألَةُ الرَّابِعَةُ: أَوْصَى لِلْعُلَمَاء أَو لِأهْلِ الْعِلْمِ، صُرِفَ إِلَى الْعُلَمَاءِ بِعُلُومِ الشَّرْعِ، وَهِيَ: التَّفْسِيرُ، وَالْفِقْهُ، وَالْحَدِيثُ.
وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْحَدِيثَ وَلَا عِلْمَ لَهُم بِطُرُقِهِ، وَلَا بِأَسْمَاءِ الرُّوَاةِ وَلَا بِالْمُتُونِ، فَإِنَّ السَّمَاعَ الْمُجَرَّدَ لَيْسَ بِعِلْمٍ.
وَلَا يَدْخُلُ أيْضًا الْمُقْرئُونَ، وَعَابِرُو الرُّؤْيَا، وَلَا الْأُدَبَاءُ، وَالْأَطِبَّاءُ، وَالْمُنَجِّمُونَ، وَالْحُسَّابُ، وَالْمُهَنْدِسُونَ". ا هـ. روضة الطالبين (6/ 169).
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ حَفِظَ مِن الْقُرْآنِ مَا يَكْفِيهِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى عِلْمٍ آخَرَ.
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ قَد حَفِظَ الْقُرْآنَ أَو بَعْضَهُ وَهُوَ لَا يَفْهَمُ مَعَانِيَهُ فَتَعَلُّمُهُ لِمَا يَفْهَمُهُ مِن مَعَاني الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِن تِلَاوَةِ مَا لَا يَفْهَمُ مَعَانِيَهُ. [23/ 55 - 56]
* * *
(الصواب في تفضيل العبادات بعضِها على بعض)
1389 -
إنَّ جِنْسَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الأذْكَارِ، كَمَا أَنَّ جِنْسَ الذِّكْرِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الدُّعَاءِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ
(1)
عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ: سُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ للّهِ وَلَا إلَهَ إِلَّا اللّهُ وَاللهُ أَكْبَرُ".
وَقَد حُكِيَ إجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ أَفْضَل، لَكِنَّ طَائِفَةً مِن الشُّيُوخِ رَجَّحُوا الذِّكْرَ.
وَمِنْهُم مَن زَعَمَ أَنَّهُ أَرْجَحْ فِي حَقِّ الْمُنْتَهي الْمُجْتَهِدِ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو حَامِدٍ فِي كُتُبِهِ.
وَمِنْهُم مَن قَالَ: هُوَ أَرْجَحُ فِي حَقِّ الْمُبْتَدِئِ السَّالِكِ، وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ.
وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ يُذْكَرُ فِي الْأَصْلِ الثَّانِي وَهُوَ: أَنَّ الْعَمَلَ الْمَفْضُولَ قَد يَقْتَرِنُ بِهِ مَا يُصَيِّرُهُ أَفْضَلَ مِن ذَلِكَ وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا هُوَ مَشْرُوعٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ.
وَالثَّانِي: مَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ.
أمّا الْأوَّلُ: فَمِثْلُ أَنْ يَقْتَرِنَ إمَّا بِزَمَانٍ أو بِمَكَانٍ أَو عَمَل يَكُونُ أَفْضَلَ؛ مِثْل مَا بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ وَنَحْوِهِمَا مِن أَوْقَاتِ النَّهْيِ عَن الصَّلَاةِ؛ فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ وَالذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ أَفْضَلُ فِي هَذَا الزَّمَانِ.
(1)
(2137).
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ عَاجِزًا عَن الْعَمَلِ الْأَفْضَلِ: إمَّا عَاجِزًا عَن أَصْلِهِ؛ كَمَن لَا يَحْفَظُ الْقُرْآنَ وَلَا يَسْتَطِيعُ حِفْظَهُ.
أَو عَاجِزًا عَن فِعْلِهِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ مَعَ قُدْرَتهِ عَلَى فِعْلِ الْمَفْضُولِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ.
وَمِن هُنَا قَالَ مَن قَالَ: إنَّ الذّكْرَ أَفْضَلُ مِن الْقُرْآنِ؛ فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِن هَؤُلَاءِ قَد يُخْبِرُ عَن حَالِهِ.
وَأَكْثَرُ السَّالِكِينَ بَل الْعَارِفِينَ مِنْهُم إنَّمَا يُخْبِرُ أَحَدُهُم عَمَّا ذَاقَهُ وَوَجَدَهُ، لَا يَذْكُرُ أَمْرًا عَامُّا لِلْخَلْقِ
(1)
؛ إذ الْمَعْرِفَةُ تَقْتَضِي أُمُورًا مُعَيَّنَةً جُزْئِيَّةً، وَالْعِلْمُ يَتَنَاوَلُ أَمْرًا عَامًّا كُلِّيًّا؛ فَالْوَاحِدُ مِن هَؤُلَاءِ يَجِدُ فِي الذِّكْرِ مِن اجْتِمَاعِ قَلْبِهِ وَقُوَّةِ إيمَانِهِ وَانْدِفَاعِ الْوَسْوَاسِ عَنْهُ، وَمَزِيدِ السَّكِينَةِ وَالنُّورِ وَالْهُدَى: مَا لَا يَجِدُهُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ.
بَل إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَا يَفْهَمُهُ، أَو لَا يَحْضُرُ قَلْبُهُ وَفَهْمُهُ، وَيَلْعَبُ عَلَيْهِ الْوَسْوَاسُ وَالْفِكْرُ.
كَمَا أَنَّ مِن النَّاسِ مَن يَجْتَمِعُ قَلْبُهُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَفَهْمِهِ وَتَدَبُّرِهِ مَا لَا يَجْتَمِعُ فِي الصَّلَاةِ؛ بَل يَكُونُ فِي الصَّلَاةِ بِخِلَافِ ذَلِكَ.
وَلَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ أَفْضَلَ يُشْرَعُ لِكُلِّ أَحَدٍ، بَل كُلُّ وَاحِدٍ يُشْرَعُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا هُوَ أَفْضَلُ لَهُ.
(1)
وهذا يحصل كثيرًا، فبعض الناس يكون رفيقًا في تعامله مع أبنائه، فينصح الناس باللين وعدم الحزم، وأخذهم باللطف، وبعضهم يكون عنيفًا معهم، فينصح الناس بالعنف والشدة، ويسوق الحجج والتجارب في ذلك.
وبعض أهل العلم والصلاح يُحبب إليه العلم فينصح غيره بالعلم ولو على حساب العمل، وربما زهّد في نوافل الطاعات، معلِّلًا ذلك بأنّ العلم نفعه متعدٍّ، وانشغال طالب العلم بالعلم أنفع له وللأمة، وبعضهم يُحبب إليه العمل، فينصح بالعمل والانشغال بالعبادات ونفع الناس، ويقول: وهل يُراد من العلم إِلَّا للعمل؟
والأمثلة على ذلك كثيرة.
فَمِن النَّاسِ مَن تَكُونُ الصَّدَقَةُ أَفْضَلَ لَهُ مِن الصِّيَامِ وَبِالْعَكْسِ، وَإِن كَانَ جِنْسُ الصَّدَقَةِ أَفْضَلَ.
وَمِن النَّاسِ مَن يَكُونُ الْحَجُّ أَفْضَلَ لَهُ مِن الْجِهَادِ كَالنِّسَاءِ.
وَكَمَن يَعْجِزُ عَن الْجِهَادِ وَإِن كَانَ جِنْسُ الْجِهَادِ أَفْضَلَ.
إذَا عُرِفَ هَذَا فَيُقَالُ: الْأَذْكَارُ الْمَشْرُوعَةُ فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ مِثْل مَا يُقَالُ عِنْدَ جَوَابِ الْمُؤَذنِ هُوَ أَفْضَلُ مِن الْقِرَاءَةِ فِي تِلْكَ الْحَالِ.
وَكَذَلِكَ مَا سَنَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يُقَالُ عِنْدَ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ وَإِتْيَانِ الْمَضْجَعِ: هُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِهِ.
وَأَمَّا إذَا قَامَ مِن اللَّيْلِ فَالْقِرَاءَةُ لَهُ أَفْضَلُ إنْ أَطَاقَهَا، وَإِلَّا فَلْيَعْمَلْ مَا يُطِيقُ، وَالصَّلَاةُ أَفْضَلُ مِنْهُمَا؛ وَلهَذَا نَقَلَهُم عِنْدَ نَسْخِ وُجوبِ قِيَامِ اللَّيْلِ إلَى الْقِرَاءَةِ فَقَالَ:{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20].
1390 -
الصَّلَاةُ أفْضَلُ مِن الْقِرَاءَةِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْعُلَمَاءِ.
لَكِنْ مَن حَصَلَ لَهُ نَشَاطٌ وَتَدَبُّر وَفَهْمٌ لِلْقِرَاءَةِ دُونَ الصَّلَاةِ فَالْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ مَا كَانَ أَنْفَع لَهُ. [23/ 62]
* * *
(حكم الجهرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الْمَسْجِدِ)
1391 -
لَيْسَ لِأَحَد أَنْ يَجْهَرَ بِالْقِرَاءَةِ لَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ إذَا كَانَ غَيْرُهُ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ يُؤْذِيهِمْ بِجَهْرِهِ؛ بَل قَد خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى النَّاسِ وَهُم يُصَلُّونَ فِي رَمَضَانَ وَيَجْهَرُونَ بِالْقِرَاءَة فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ كُلُّكُمْ
يُنَاجِي رَبَّهُ فَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ
(1)
. [23/ 64]
* * *
(حكم الْقِيَام لِلْمُصْحَفِ وَتَقْبِيله)
1392 -
الْقِيَامُ لِلْمُصْحَفِ وَتَقْبِيلُهُ: لَا نَعْلَمُ فِيهِ شَيْئًا مَأثُورًا عَن السَّلَفِ، وَقَد سئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَد عَن تَقْبِيلِ الْمُصْحَفِ فَقَالَ: مَا سَمِعْت فِيهِ شَيْئًا
(2)
.
(1)
أخرجه الإمام أحمد (4928)، وصخحه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1203).
وقد ثبت النهي عن رفع الصوت في المساجد، لا بقراءة القرآن ولا بغيره، ففي مسندِ الإمام أحمد (11896) بإسنادٍ صحيح، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يرفعن بعضكم على بعض بالقراءةِ".
فإذا كان رفع الصوت بالقرآن منهيًا عنه، وهو عبادة عظيمة، فكيف إذا كان رفع الصوت بغير القرآن، بل وكيف إذا كان الذي يرفع صوته يعبث وبضحك، فهذا من أعظم المنكرات، وأشد المنهيات، والسكوتُ عن إنكارِ ذلك يُوجب سخط الله ومقتَه.
قال ابن عبد البر رحمه الله: حَرَامٌ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَتَحَدَّثُوا فِي الْمَسْجِدِ بِمَا يُشْغِلُ الْمُصَلِّي عَنْ صَلَاتِهِ، وَيُحَفطُ عَلَيْهِ قِرَاءَتَهُ.
وَوَاجِبٌ لَازِمٌ عَلَى كُل مَنْ يُطَاعُ أَنْ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ؛ لِأنَّ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَجُزْ لِلْمُصَلِّي التَّالِي لِلْقُرْآنِ، فَأَيْنَ الْحَدِيث بِأَحَادِيثِ النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ. اهـ. الاستذكار (1/ 435).
وقال رحمه الله: وَإِذَا لَمْ يَجُزْ لِلتَّالِي الْمُصَلِّي رَفْعُ صَوْتِهِ لِئَلَّا يُغَلِّطَ وَيُخَلِّطَ عَلَى مُصَلٍّ إِلَى جَنْبِهِ، فَالْحَدِيثُ فِي الْمَسْجِدِ مِمَّا يُخَلِّظ عَلَى الْمُصَلِّي أَوْلَى بذَلِكَ وَأَلْزَمُ وَأَمْنَعُ وَأَحْرَمُ.
وَإِذَا نُهِيَ الْمُسْلِمُ عَنْ أَذَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فِي عَمَلِ الْبِرِّ وَتلَاوَةِ الْكِتَابِ، فَأَذَاهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ أَشَدُّ تَحْرِيمًا. ا هـ. التمهيد (32/ 319).
ومن الأمور الْمُنكرة الْمُحدثة: جهرُ بعض المأمومين في القراءة السرية، ورفعُ أصواتهم بالتكبير والأذكار والدعاء.
قلَّ أنْ تصليَ بجوار أحدٍ إِلَّا سمعتَ قراءته للفاتحة، وسمعتَ تحميده بعد الركوع، وسمعتَ تسبيحه في سجوده، وسمعتَ دعاءه بين السجدتين، كان الصلاةَ أصبحت جهرية، هذا من بدع الصلاة، أن تكون الأذكارُ سريةَ فيجهر بها.
وفعلُه هذا سَيُشَوِّشُ به على مَن بجواره، فلا يكاد مَن يُصلي بجواره أنْ يخشعَ في صلاته، بل ربَّما لا يتمكن من قراءةِ ما يجب عليه في صلاته.
وهكذا في تكبيرة الإحرام، وتكبيرات الانتقال، إذا كبَّر الإمام تكبيرة الإحرام، رفع بعضُ الناس صوته بالتكبير، وإذا رفع من الركوع، قال بصوتٍ يسمعه مَن بجواره: ربنا ولك الحمد.
وكلُّ هذا من الخطأ الذي يجب الكفّ عنه.
(2)
والإمام رحمه الله الألباني يرى أن تقبيل المصحف بدعة، والأظهر أنه إذا كان على سبيل الدوام =
وَلَكِن السَّلَفُ وَإِن لَمْ يَكُن مِن عَادَتِهِمْ الْقِيَامُ لَهُ
(1)
، فَلَمْ يَكُن مِن عَادَتِهِمْ قِيَامُ بَعْضِهِمْ لِبَعْض، اللَّهُمَّ إلَّا لِمِثْل الْقَادِمِ مِن مَغِيبِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلهَذَا قَالَ أَنَسٌ:"لَمْ يَكُن شَخْصٌ أَحَبَّ إلَيْهِم مِن رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانُوا إذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا لِمَا يَعْلَمُونَ مِن كَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ"
(2)
.
وَالْأَفْضَلُ لِلنَّاسِ أَنْ يَتَّبِعُوا طَرِيقَ السَّلَفِ فِي كُل شَيْءٍ، فَلَا يَقُومُونَ إلَّا حَيْثُ كَانُوا يَقُومُونَ.
فَأَمَّا إذَا اعْتَادَ النَّاسُ قِيَامَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، فَقَد يُقَالُ: لَو تَرَكُوا الْقِيَامَ لِلْمُصْحَفِ مَعَ هَذ الْعَادَةِ لَمْ يَكُونُوا مُحْسِنِينَ فِي ذَلِكَ وَلَا مَحْمُودِينَ، بَل هُم إلَى الذَّمِّ أَقْرَبُ، حَيْثُ يَقُومُ بَعْضُهُم لِبَعْض وَلَا يَقُومُونَ لِلْمُصْحَفِ الَّذِي هُوَ أَحَقُّ بِالْقِيَامِ، حَيْثُ يَجِبُ مِن احْتِرَامِهِ وَتَعْظِيمِهِ مَا لَا يَجِبُ لِغَيْرِهِ. [23/ 65 - 66]
* * *
(حكم ترْجَمَةِ القرآن)
1393 -
مَعْلُومٌ أَنَّ الْأُمَّةَ مَأمُورَةٌ بِتَبْلِيغِ الْقُرْآنِ لَفْظه وَمَعْناهُ كَمَا أُمِرَ بِذَلِكَ الرَّسُولُ
(3)
، وَلَا يَكُونُ تَبْلِيغُ رِسَالَةِ اللّهِ إلَّا كَذَلِكَ، وَأَنَّ تَبْلِيغَهُ إلَى الْعَجَمِ قَد يَحْتَاجُ إلَى تَرْجَمَةٍ لَهُمْ، فَيُتَرْجِمُ لَهُم بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ.
= فهو بدعة؛ لأن السلف الصالح رحمهم الله لم يفعلوا ذلك -فيما أعلم-، وهم أحرص منا على تعظيم المصحف.
(1)
قال النووي رحمه الله في التبيان في آداب حملة القرآن (ص 98): "ويستحب أن يقوم للمصحف إذا قُدِمَ به عليه؛ لأن القيام مستحب للفضلاء من العلماء والأخيار فالمصحف أولى، وروينا في مسند الدارمي بإسنادِ صحيح عن ابن أبي مليكة أنَّ عكرمة بن أبي جهل كان يضع المصحف على وجهه ويقول: كتاب ربي كتاب ربي". اهـ.
(2)
رواه الترمذي (2754)، والبخاري في الأدب المفرد (946)، وصحَّحه الألباني في مختصر الشمائل (289).
(3)
في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67]، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى مخاطبًا عبده ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم باسم الرسالة، وآمرًا له بإبلاع جميع ما أرسله الله به، وقد امتثل عليه أفضل الصلاة والسلام ذلك، وقام به أتم القيام. تفسير ابن كثير (2/ 96).
وَالتَّرْجَمَةُ قَد تَحْتَاجُ إلَى ضَرْبِ أَمْثَالٍ لِتَصْوِيرِ الْمَعَانِي، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِن تَمَامِ التَّرْجَمَةِ. [4/ 116 - 117]
* * *
(من حفظ القرآن غير معرب)
1394 -
من حفظ القرآن غير مُعَرَّب فلم يمكنه أن يقرأه إِلَّا بلسان العجم أو عجز عن حفظ إعرابه ونحوه: فليقرأ كما يمكنه فهو أولى من تركه {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}
(1)
. [المستدرك 1/ 171]
* * *
(قراءة القرآن في الطرقات وكتابته بحيث يهان)
1395 -
قراءة القرآن في الطرقات وفي الأسواق منهي عنها؛ لأنها للتأكل بالقرآن، وفيه ابتذال القرآن، ولا يصغي إليه أحد
(2)
.
ولا يجوز كتابة القرآن بحيث يُهَان، كما لو كتب على نصيبة قبر تبول عليه الكلاب ويدوسه الناس، كما لا يجوز أن يسافر به إلى أرض العدو، فتجب إزالته وإزالة ما كتب فيه من موضع الإهانة بالاتفاق. [المستدرك 1/ 171]
* * *
(المزاح حال قراءة القرآن)
1396 -
ما كان مباحًا في غير حال القراءة مثل المزاح الذي جاءت به الآثار - وهو أن يمزح ولا يقول إِلَّا صدقًا لا يكون في مزاحه كذب ولا عدوان - فهذا لا يفعل في حال قراءة القرآن؛ بل ينزه عنه مجلس القرآن. فليس كل ما يباح في حال غير القراءة يباح فيها، كما أنه ليس كل ما يباح خارج الصلاة يباح فيها، لا سيما ما يشغل القارئ والمستمع عن التدبر والفهم، مثل كونه يخايل ويضحك، فكيف واللغو والضحك حال القراءة من أعمال
(1)
هذا من التيسير على الكثير من العامة وكبار السن والعجم.
(2)
أما إذا كان يقرؤه لنفسه فلا بأس.
المشركين، كما قال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)} [فصلت: 26]، وقال:{أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60)} [النجم: 59، 60].
ووصَف المؤمنين بأنهم يبكون ويخشعون حال القراءة.
فمن كان يضحك حال القراءة فقد تشبه بالمشركين لا بالمؤمنين. [1/ 171 - 172]
* * *
(استعمال القرآن لغير ما أُنزل له)
1397 -
ليس لأحد استعمال القرآن لغير ما أنزله اللّه له؛ وبذلك فسر العلماء الحديث المأثور: "لا يناظر بكتاب الله"؛ أي: لا يجعل له نظير يذكر معه، كقول القائل لمن قدم لحاجة: لقد {جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى} [طه: 40]، وقوله عند الخصومة:{مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [النمل: 71]، أو:{وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)} [التوبة: 107].
ثم إن خرجه مخرج الاستخفاف بالقرآن والاستهزاء به كفر صاحبه. وأما إن تلا الآية عند الحكم الذي أنزلت له أو كان ما يناسبه من الأحكام فحسن؛ كقوله لمن دعاه إلى ذنب تاب منه: {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} [النور: 16]، وقوله عند ما أهمه:{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86]. [المستدرك 1/ 171]
* * *
(مسائل تتعلق بالمصحف)
1398 -
أما جعل المصحف عند القبر فهو منهي عنه. [المستدرك 1/ 172]
1399 -
أما كتابة القرآن على الدراهم والدنانير فمكروه. [المستدرك 1/ 172]
1400 -
أما القيام للمصحف وتقبيله فلا نعلم فيه شيئًا عن السلف. [المستدرك 1/ 173]
1401 -
فتح الفأل فيه لم ينقل عن السلف؛ وليس من الفأل الذي يحبه الرسول. [المستدرك 1/ 173]
أصول التفسير
(أقوال التابعين في التفسير)
1402 -
قول أحمد في الرجوع إلى قول التابعين عام في التفسير وغيره. [المستدرك 1/ 169]
1403 -
والسلف رضي الله عنهم في تفسيرهم يَذْكُرُونَ
(1)
جِنْسَ الْمُرَادِ مِن الْآيَةِ عَلَى التَّمْثِيلِ، كَمَا يَقولُ التُّرْجُمَانُ لِمَن سَأَلَهُ عَن الْخُبْزِ فَيُرِيهِ رَغِيفًا. [15/ 226]
1404 -
كَلَامُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ مِن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ شَامِل لِجَمِيعِ الْقُرْآنِ، إلَّا مَا قَد يُشْكِل عَلَى بَعْضِهِمْ، فَيَقِفُ فِيهِ، لَا لِأَنَّ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُهُ، لَكِنْ لِأَنَّهُ هُوَ لَمْ يَعْلَمْهُ. [17/ 397]
1405 -
اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُم بِإِحْسَانٍ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الدِّينِ أَنَّ السُّنَّةَ تُفَسِّرُ الْقُرْآنَ وَتُبَيِّنُهُ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ وَتُعَبِّرُ عَن مُجْمَلِهِ، وَأَنَّهَا تُفَسّرُ مُجْمَلَ الْقُرْآنِ مِن الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ. [17/ 432]
* * *
(الاختلاف في التفسير)
1406 -
الاِخْتِلَافُ الثَّابِتُ عَن الصَّحَابَةِ، بَل وَعَن أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ فِي الْقُرْآنِ أكْثَرُهُ لَا يَخْرُجُ عَن وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: انْ يُعَبِّرَ كُلٌّ مِنْهُم عَن مَعْنَى الاِسْمِ بِعِبَارَة غَيْرِ عِبَارَةِ صَاحِبِهِ،
(1)
في الأصل: لَفْظُ السَّلَفِ يَذْكُرُونَ .. والمثبت من تلخيص كتاب الاستغاثة، الرد على البكري (2/ 538)، وما في الأصل مأخذوذ منه.
فَالْمُسَمَّى وَاحِدٌ، وَكُلُّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الاِسْمُ الْآخَرُ، مَعَ أَنَّ كِلَاهُمَا حَقٌّ؛ بِمَنْزِلَةِ تَسْمِيَةِ اللّهِ تَعَالَى بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَتَسْمِيَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بِأَسْمَائِهِ، وَتَسْمِيَةِ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ بِأَسْمَائِهِ.
وَمِثَالُ هَذَا التَّفْسِيرِ: كَلَامُ الْعُلَمَاءِ فِي تَفْسِير {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الصافات: 118]: فَهَذَا يَقُولُ: هُوَ الْإِسْلَامُ، وَهَذَا يَقُولُ: هُوَ الْقُرْآنُ؛ أَي: اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ، وَهَذَا يَقُولُ: السنَّةُ وَالْجَمَاعَةُ، وَهَذَا يَقُولُ: طَرِيقُ الْعُبُودِيَّةِ، وَهَذَا يَقُولُ: طَاعَةُ اللّهِ وَرَسُولِهِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصِّرَاطَ يُوصَفُ بِهَذ الصِّفَاتِ كُلِّهَا، وَيُسَمَّى بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ كُلِّهَا، وَلَكنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُم دَلَّ الْمُخَاطَبَ عَلَى النَّعْتِ الَّذِي بِهِ يُعْرَفُ الصِّرَاطُ وَيَنْتَفِعُ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ النَّعْتِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَذْكُرَ كُلّ مِنْهُم مَن تَفْسِيرِ الاِسْمِ بَعْضَ أَنْوَاعِهِ أَو أَعْيَانِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لِلْمُخَاطَبِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ وَالْإِحَاطَةِ، كَمَا لَو سَأَلَ أَعْجَمِيٌّ عَن مَعْنَى لَفْظِ "الْخُبْزِ"، فَأُريَ رَغِيفًا، وَقِيلَ: هَذَا هُوَ، فَذَاكَ مِثَالٌ لِلْخُبْزِ، وَإِشَارَة إلَى جِنْسِهِ، لَا إلَى ذَلِكَ الرَّغِيفِ خَاصَّةً.
وَمِن هَذَا مَا جَاءَ عَنْهُم فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32]، فَالْقَوْلُ الْجَامِعُ أَنَّ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ هُوَ الْمُفَرِّطُ بِتَرْكِ مَأْمُورٍ أَو فِعْلِ مَحْظُورٍ، وَالْمُقْتَصِدُ: الْقَائِمُ بِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَالسَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ: بِمَنْزِلَةِ الْمُقَرَّبِ الَّذِي يَتَقَرَّبُ إلَى اللهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ حَتَّى يُحِبَّهُ الْحَقُّ.
ثُمَّ إنَّ كُلًّا مِنْهُم يَذْكُرُ نَوْعًا مِن هَذَا، فَإذَا قَالَ الْقَائِلُ:"الظَّالِمُ" الْمُؤَخِّرُ لِلصَّلَاةِ عَن وَقْتِهَا، وَ"الْمُقْتَصِدُ" الْمُصَلِّي لَهَا فِي وَقْتِهَا، وَ "السَّابِقُ" الْمُصَلِّي لَهَا فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، حَيْثُ يَكُونُ التَّقْدِيمُ أَفْضَلَ.
وَقَالَ آخَرُ: "الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ" هُوَ الْبَخِيلُ الَّذِي لَا يَصِلُ رَحِمَهُ وَلَا يُؤَدِّي
زَكَاةَ مَالِهِ، وَ"الْمُقْتَصِدُ" الْقَائِمُ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِن الزَّكَاةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَقِرَى الضَّيْفِ وَالْإِعْطَاءِ فِي النَّائِبَةِ، وَ"السَّابِقُ" الْفَاعِلُ الْمُسْتَحَبَّ بَعْدَ الْوَاجِبِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَذْكُرَ أَحَدُهُم لِنُزُولِ الْآيَةِ سَبَبًا، وَيَذْكُرَ الْآخَرُ سَبَبًا آخَرَ لَا يُنَافِي الأوَّلَ، وَمِن الْمُمْكِنِ نُزُولُهَا لِأَجْلِ السَّبَبَيْنِ جَمِيعًا، أَو نُزُولُهَا مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً لِهَذَا وَمَرَّةً لِهَذَا.
وَأَمَّا مَا صَحَّ عَن السَّلَفِ أَنَّهُم اخْتَلَفُوا فِيهِ اخْتِلَافَ تَنَاقُضٍ: فَهَذَا قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا لَمْ يَخْتَلِفوا فِيهِ.
كَمَا أَنَّ تَنَازُعَهُم فِي بَعْضِ مَسَائِلِ السُّنَّةِ؛ كَبَعْضِ مَسَائِلِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَام وَالْحَجِّ وَالْفَرَائِضِ وَالطَّلَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكونَ أَصْلُ هَذِهِ السُّنَنِ مَأْخوذًا عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَجُمَلُهَا مَنْقُولَةٌ عَنْهُ بِالتَّوَاتُرِ. [5/ 160 - 162]
1407 -
الْخِلَافُ بَيْنَ السَّلَفِ فِي التَّفْسِيرِ قَلِيل، وَخِلَافُهُم فِي الْأَحْكَامِ أَكْثَرُ مِن خِلَافِهِمْ فِي التَّفْسِيرِ، وَغَالِبُ مَا يَصِحُّ عَنْهُم مِن الْخِلَافِ يَرْجِعُ إلَى اخْتِلَافِ تَنَوُّعٍ لَا اخْتِلَافِ تَضَادٍّ، وَذَلِكَ صِنْفَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعَبِّرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُم عَنِ الْمُرَادِ بِعِبَارَةٍ غَيْرِ عِبَارَةِ صَاحِبِهِ تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى فِي الْمُسَمَّى غَيْرِ الْمَعْنَى الْآخَرِ مَعَ اتِّحَادِ الْمُسَمَّى. كَمَا قِيلَ فِي اسْمِ السَّيْفِ الصَّارِمُ وَالْمُهَنَّدُ.
الصِّنْفُ الثانِي: أَنْ يَذْكُرَ كُل مِنْهُم مِن الاِسْمِ الْعَامّ بَعْضَ أَنْوَاعِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَتَنْبِيهِ الْمُسْتَمِعِ عَلَى النَّوْعِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْحَدِّ الْمُطَابِقِ لِلْمَحْدُودِ فِي عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ، مِثْل سَائِلٍ أَعْجَمِيٌّ سَألَ عَن مُسَمَّى "لَفْظِ الْخبْزِ" فَأُرِيَ رَغِيفًا وَقِيلَ لَهُ: هَذَا، فَالْإِشَارَةُ إلَى نَوْعِ هَذَا لَا إلَى هَذَا الرَّغِيفِ وَحْدَهُ. [13/ 333 - 337]
1408 -
مِن الْأَقْوَالِ الْمَوْجُودَةِ عَنْهُمْ
(1)
وَيَجْعَلُهَا بَعْضُ النَّاسِ اخْتِلَافًا: أَنْ
(1)
أي: عن السلف في التفسير.
يُعَبّرُوا عَن الْمَعَانِي بِأَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ لَا مُتَرَادِفَةٍ، فَإِنَّ التَّرَادُفَ فِي اللُّغَةِ قَلِيل، وَأَمَّا فِي أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ فَإِمَّا نَادِرٌ وَإِمَّا مَعْدُومٌ
(1)
، وَقَلَّ أَنْ يُعَبَّرَ عَن لَفْظٍ وَاحِدٍ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ يُؤَدِّي جَمِيعَ مَعْنَاهُ، بَل يَكُونُ فِيهِ تَقْرِيبٌ لِمَعْنَاهُ، وَهَذَا مِن أَسْبَابِ إعْجَازِ الْقُرْآنِ. [13/ 342]
1409 -
الاِخْتِلَافُ فِى التَّفْسِيرِ عَلَى نَوْعَيْنِ:
أ - مِنْهُ مَا مُسْتَنَدُهُ النَّقْلُ فَقَطْ.
ب - وَمِنْهُ مَا يُعْلَمُ بِغَيْرِ ذَلِكَ.
إذ الْعِلْمُ:
أ - إمَّا نَقْلٌ مُصَدَّقٌ.
ب - وَإِمَّا اسْتِدْلَالٌ مُحَقَّقٌ.
وَالْمَنْقُولُ:
أ - إمَّا عَن الْمَعْصُومِ.
ب - وَإِمَّا عَن غَيْرِ الْمَعْصُومِ.
وَالْمَقْصُودُ بِأَنَّ جِنْسَ الْمَنْقُولِ -سَوَاءٌ كَانَ عَن الْمَعْصُومِ أَو غَيْرِ الْمَعْصُومِ، وَهَذَا هُوَ النَّوْعُ الْأوَّلُ- فَمِنْهُ مَا يُمْكِنُ مَعْرِفَة الصَّحِيحِ مِنْهُ وَالضَّعِيفِ.
وَمِنْهُ مَا لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ فِيه.
(1)
وقد انتصر الإمام اللغوي ابن جني رحمه الله تعالى لمن قال بوجود الترادف في اللغة، قال رحمه الله في حديثه عن التضمين في الأفعال: فيه أيضًا موضع يشهد على من أنكر أن يكون في اللغة لفظان بمعنى واحد، حتى تكلَّف لذلك أنْ يوجِد فرقًا بين قعد وجلس، وبين دِراع وساعد، ألا ترى أنه لمَّا كان رفث بالمرأة في معنى أفضى إليها جاز أن يتبع الرفث الحرف الذي بابه الإفضاء وهو "إلى"، وكذلك لمَّا كان "هل لك في كذا" بمعنى: أدعوك إليه، جاز أن يقال:"هل لك إلى أن تزكّى"، كما يقال:"أدعوك إلى أن تزكّى". الخصائص (2/ 312 - 313).
وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي مِن الْمَنْقُولِ، وَهُوَ مَا لَا طرِيقَ لَنَا إلَى الْجَزْمِ بِالصِّدْقِ مِنْهُ
(1)
؛ عَامَّتُهُ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَالْكَلَامُ فِيهِ مِن فُضولِ الْكَلَامِ.
وَأَمَّا مَا يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَى مَعْرِفَتِهِ فَإِنَّ اللّهَ تعالى نَصَبَ عَلَى الْحَقِّ فِيهِ دَلِيلًا.
فَمِثَالُ مَا لَا يُفِيدُ وَلَا دَلِيلَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْهُ: اخْتِلَافُهُم فِي لَوْنِ كَلْبِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ. [344 - 345]
1410 -
مَتَى اخْتَلَفَ التَّابِعُونَ: لَمْ يَكُن بَعْضُ أَقْوَالِهِمْ حُجَّة عَلَى بَعْضٍ.
وَمَا نُقِلَ فِي ذَلِكَ عَن بَعْضِ الصَّحَابَةِ نَقْلًا صَحِيحًا فَالنَّفْسُ إلَيْهِ أَسْكَنُ مِمَّا نقِلَ عَن بَعْضِ التَّابِعِينَ
(2)
؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَو مِن بَعْضِ مَن سَمِعَهُ مِنْهُ أَقْوَى؛ وَلأَنَّ نَقْلَ الصَّحَابَةِ عَن أَهْلِ الْكِتَابِ أَقَلُّ مِن نَقْلِ التَّابِعِينَ، وَمَعَ جَزْمِ الصَّاحِبِ فِيمَا يَقُولُهُ، فَكيْفَ يُقَالُ إنَّهُ أَخَذَهُ عَن أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَد نُهُوا عَن تَصْدِيقِهِمْ؟
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مِثْل هَذَا الاِخْتِلَافِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ صَحِيحُهُ، وَلَا تُفِيدُ حِكَايَةُ الْأَقْوَالِ فِيهِ هُوَ كَالْمَعْرِفَةِ لِمَا يُرْوَى مِن الْحَدِيثِ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا "الْقِسْمُ الْأَوَّلُ" الَّذِي يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ مِنْهُ فَهَذَا مَوْجُودٌ فِيمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ وَللهِ الْحَمْدُ، فَكَثِيرًا مَا يُوجَدُ فِي التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْمَغَازِي أُمُورٌ مَنْقُولَةٌ عَن نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِ مِن الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَيْهِم وَسَلَامُهُ، وَالنَّقْلُ
(1)
الَّذِي لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ صَحِيحِهِ مِن ضَعِيفِهِ.
(2)
قال العلَّامة محمد رشيد رضا رحمه الله، معلِّقًا على كلامه: فأَنْتَ تَرَى أَيْضًا أَنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِمَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مِن ذَلِكَ، وَإَنَّمَا قَالَ: إِنَّ النَّفْسَ إِلَيْهِ أَسْكَنُ مِمَّا يُنْقَلُ عَنِ التَّابِعَيْنِ، وَهَذَا يَنْقُضُ قَوْلَ مَن أطْلَقَ الْحُكْمَ بِأَنَّ مَا قَالَهُ الصَّحَابِي الثِّقَةُ مِمَّا لَا يُعْرَفُ بِالاِسْتِدْلَالِ بَل بِالنَّقْلِ لَهُ حُكُمُ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ. اهـ. تفسير المنار (1/ 10).
الصَّحِيحُ يَدْفَعُ ذَلِكَ؛ بَل هَذَا مَوْجُودٌ فِيمَا مُسْتَنَدُة النَّقْلُ، وَفِيمَا قَد يُعْرَفُ بِأُمُورٍ أُخْرَى غَيْرِ النَّقْلِ.
فَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمَنْقُولَاتِ الَّتِي يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الدِّينِ قَد نَصَبَ اللهُ الأدِلَّةَ عَلَى بَيَانِ مَا فِيهَا مِن صَحِيحٍ وَغَيْرِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَنْقُولَ فِي التَّفْسِيرِ أَكْثَرُهُ كَالْمَنْقُولِ فِي الْمَغَازِي وَالْمَلَاحِمِ؛ وَلهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد: ثَلَاثَةُ أُمُورٍ لَيْسَ لَهَا إسْنَاد: التَّفْسِيرُ وَالْمَلَاحِمُ وَالْمَغَازِي، وَيُرْوَى: لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ؛ أَيْ: إسْنَادٌ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهَا الْمَرَاسِيلُ.
والْمَرَاسِيلُ إذَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهَا وَخَلَتْ عَن الْمُوَاطَأَةِ قَصْدًا، أَو الاِتِّفَاقِ بِغَيْرِ قَصْدٍ: كَانَت صَحِيحَةً قَطْعًا، فَإِنَّ النَّقْلَ إمَّا أَنْ يَكُونَ صِدْقًا مُطَابِقًا لِلْخَبَرِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَذِبًا تَعَمَّدَ صَاحِبُهُ الْكَذِبَ، أَو أَخْطَأَ فِيهِ؛ فَمَتَى سَلِمَ مِن الْكَذِبِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ كَانَ صِدْقًا بِلَا ريبٍ.
فَإِذَا كَانَ الْحَدِيث جَاءَ مِن جِهَتَيْنِ أَو جِهَاتٍ، وَقَد عُلِمَ أَنَّ الْمُخْبِرَيْنِ لَمْ يَتَوَاطَآ عَلَى اخْتِلَافِهِ، وَعُلِمَ أَنَّ مِثْل ذَلِكَ لَا تَقَعُ الْمُوَافَقَةُ فِيهِ اتِّفَاقًا بِلَا قَصْدٍ: عُلِمَ أَنَّهُ صَحِيحٌ.
وَبِهَذِهِ الطَّرِيقِ يُعْلَمُ صِدْقُ عَامَّةِ مَا تَتَعَدَّدُ جِهَاتُهُ الْمخْتَلِفَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِن الْمَنْقُولَاتِ، وَإِن لَمْ يَكُن أَحَدُهَا كَافِيًا؛ إمَّا لِإِرْسَالِهِ، وَإِمَّا لِضَعْفِ نَاقِلِهِ.
وَلهَذَا ثَبَتَتْ بِالتَّوَاتُرِ غَزْوَةُ بَدْرٍ وَأَنَّهَا قَبْلَ أُحُدٍ، بَل يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ حَمْزَةَ وَعَلِيًّا وَعُبَيْدَةَ بَرَزُوا إلَى عتبة وَشَيْبَةَ وَالْوَلِيدِ، وَأَنَّ عَلِيًّا قَتَلَ الْوَلِيدَ، وَأَنَّ حَمْزَةَ قَتَلَ قِرْنَهُ، ثُمَّ يُشَكُّ فِي قَرْنِهِ هَل هُوَ عتبة أَو شَيْبَةُ.
وَهَذَا الْأَصْلُ يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ، فَإِنَّهُ أَصْل نَافِعٌ فِي الْجَزْمِ بِكَثِيرٍ مِن الْمَنْقُولَاتِ فِي الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْمَغَازِي وَمَا يُنْقَلُ مِن أَقْوَالِ النَّاسِ وَأَفْعَالِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
والْمَقْصُودُ أَنَّ الْحَدِيثَ الطَّوِيلَ إذَا رُوِيَ مَثَلًا مِن وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مِن غَيْرِ
مُوَاطَأَةٍ امْتَنَعَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ غَلَطًا، كَمَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا؛ فَإِنَّ الْغَلَطَ لَا يَكُونُ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ مُتَنَوِّعَةٍ، وَإِنَّمَا يَكُون فِي بَعْضِهَا.
فَإِذَا رَوَى هَذَا قِصَّةً طَوِيلَةً مُتَنَوِّعَةً، وَرَوَاهَا الْآخَرُ مِثْلَمَا رَوَاهَا الْأَوَّلُ مِن غَيْرِ مُوَاطَأةٍ: امْتَنَعَ الْغَلَطُ فِي جَمِيعِهَا، كَمَا امْتَنَعَ الْكَذِبُ فِي جَمِيعِهَا مِن غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ.
وَلهَذَا إنَّمَا يَقَعُ فِي مِثْل ذَلِكَ غَلَطٌ فِي بَعْضِ مَا جَرَى فِي الْقِصَّةِ مِثْل حَدِيثِ اشْتِرَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْبَعِيرَ مِن جَابِرٍ؛ فَإِنَّ مَن تَأَمَّلَ طُرُقَهُ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ، وَإِن كَانُوا قَد اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ.
وَقَد بَيَّنَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ" فَإِنَّ جُمْهُورَ مَا فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِمَّا يُقْطَعُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ؛ لِأَنَّ غَالِبَهُ مِن هَذَا النَّحْوِ؛ وَلِأَنَّهُ قَد تَلَقَّاهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ، وَالْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى خَطَاٍ؛ فَلَو كَانَ الْحَدِيثُ كَذِبًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ وَالْأُمَّةُ مُصَدِّقَةٌ لَهُ قَابِلَةٌ لَهُ لَكَانُوا قَد أَجْمَعُوا عَلَى تَصْدِيقِ مَا هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَذِبٌ، وَهَذَا إجْمَاعٌ عَلَى الْخَطَإِ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ.
وَلهَذَا كَانَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِن جَمِيعِ الطَّوَائِفِ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا تَلَقَّتْة الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ تَصْدِيقًا لَهُ أَو عَمَلًا بِهِ أَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ.
وَفِي التَّفْسِيرِ مِن هَذِهِ الْمَوْضُوعَاتِ قِطْعَةٌ كَبِيرَةٌ.
فَصْلٌ
وَأمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِن مُسْتَنَدَي الاِخْتِلَافِ: وَهُوَ مَا يُعْلَمُ بِالاِسْتِدْلَالِ لَا بِالنَّقْلِ، وهَذَا أَكْثَرُ مَا فِيهِ الْخَطَأُ مِن جِهَتَيْنِ -حَدَثَتَا بَعْدَ تَفْسِيرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانٍ-:
إحْدَاهُمَا: قَوْمٌ اعْتَقَدُوا مَعَانِيَ ثُمَّ أَرَادُوا حَمْلَ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَيْهَا.
والثَّانِيَةُ: قَوْمٌ فَسَّرُوا الْقُرْآنَ بِمُجَرَّدِ مَا يُسَوِّغُ أَنْ يُرِيدَهُ بِكَلَامِهِ مَن كَانَ مِن
النَّاطِقِينَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، مِن غَيْرِ نَظَرٍ إلَى الْمُتَكَلِّمِ بِالْقُرْآنِ وَالْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ وَالْمُخَاطَبِ بِهِ.
فالْأَوَّلُونَ: رَاعَوْا الْمَعْنَى الَّذِي رَأَوْهُ مِن غَيْرِ نَظَرٍ إلَى مَا تَسْتَحِقُّهُ أَلْفَاظُ الْقُرْآنِ مِن الدَّلَالَةِ وَالْبَيَانِ.
والْآخَرُونَ: رَاعَوْا مُجَرَّدَ اللَّفْظِ وَمَا يَجُوزُ عِنْدَهُم أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْعَرَبِيُّ، مِن غَيْرِ نَظَرٍ إلَى مَا يَصْلُحُ لِلْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَلسِيَاقِ الْكَلَامِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مِثْل هَؤُلَاءِ اعْتَقَدُوا رَأْيًا ثُمَّ حَمَلُوا أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُم سَلَفٌ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَانٍ وَلَا مِن أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَمِن هَؤُلَاءِ مَن يَكُونُ حَسَنَ الْعِبَارَةِ فَصِيحًا، وَيَدُسُّ الْبِدَعَ فِي كَلَامِهِ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ؛ كَصَاحِبِ الْكَشَّافِ وَنَحْوِهِ، حَتَّى إنَّهُ يُرَوِّجُ عَلَى خَلْقٍ كَثِيرٍ مِمَن لَا يَعْتَقِدُ الْبَاطِلَ مِن تَفَاسِيرِهِمْ الْبَاطِلَةِ مَا شَاءَ اللّهُ.
وتَفْسِيرُ ابْنِ عَطِيَّةَ وَأَمْثَالِهِ أَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَسْلَمُ مِن الْبِدْعَةِ مِن تَفْسِيرِ الزمخشري، وَلَو ذَكرَ كَلَامَ السَّلَفِ الْمَوْجُودَ فِي التَّفَاسِيرِ الْمَأْثُورَةِ عَنْهُم عَلَى وَجْهِهِ لَكَانَ أَحْسَنَ وَأَجْمَلَ، فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَنْقُلُ مِن "تَفْسِيرِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطبري" وهُوَ مِن أَجَلِّ التَّفَاسِيرِ وَأَعْظَمِهَا قَدْرًا، ثُمَّ إنَّهُ يَدَعُ مَا نَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَن السَّلَفِ لَا يَحْكِيهِ بِحَال، وَيَذْكُرُ مَا يَزْعمُ أَنَّهُ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ، وَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِم طَائِفَةً مِن أَهْلِ الْكَلَامِ الَّذِينَ قَرَّرُوا أُصُولَهُم بِطُرُقٍ مِن جِنْسِ مَا قَرَّرَتْ بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ أُصُولَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا أَقْرَبَ إلَى السُّنَّةِ مِن الْمُعْتَزِلَةِ؛ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْطَى كُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ.
فَإِنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةَ إذَا كَانَ لَهُم فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَوْلٌ، وَجَاءَ قَوْمٌ فَسَّرُوا الْآيَةَ بِقَوْل آخَرَ لِأَجْلِ مَذْهَبٍ اعْتَقَدُوهُ، وَذَلِكَ الْمَذْهَبُ لَيْسَ مِن مَذَاهِبِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَانٍ: صَارُوا مُشَارِكِينَ لِلْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِن أَهْلِ الْبِدَعِ فِي مِثْل هَذَا.
فَإِنْ قَالَ قَائِل: فَمَا أَحْسَنُ طُرُقِ التَّفْسِيرِ؟
فَالْجَوَابُ: أَنَّ أَصَحَّ الطُّرُقِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُفَسَّرَ الْقُرْآنُ بِالْقُرْآنِ؛ فَمَا أُجْمِلَ فِي مَكَانٍ فَإِنَّه قَد فُسِّرَ فِي مَوْضِغ آخَرَ، وَمَا اُخْتُصِرَ مِن مَكَانٍ فَقَد بُسِطَ فِي مَوْضِع آخَرَ.
فَإِنْ أَعْيَاك ذَلِكَ فَعَلَيْك بِالسُّنَّةِ فَإِنَّهَا شَارِحَةٌ لِلْقُرْآنِ وَمُوَضِّحَةٌ لَهُ .. كَمَا قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذِ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ: "بِمَ تَحْكُمُ؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأيِي، قَالَ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَدْرِهِ وَقَالَ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللهِ"
(1)
.
وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الْمَسَانِدِ وَالسُّنَنِ بِإِسْنَاد جَيِّدٍ.
وَحِينَئِذٍ إذَا لَمْ نَجِدْ التَّفْسِيرَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ رَجَعْنَا فِي ذَلِكَ إلَى أقْوَالِ الصَّحَابَةِ؛ فإِنَّهُم أَدْرَى بِذَلِكَ؛ لِمَا شَاهَدُوة مِن الْقُرْآنِ، وَالْأحْوَالِ الَّتِي اخْتَصُّوا بِهَا، وَلمَا لَهُم مِن الْفَهْمِ التَّامِّ وَالْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
لكنّ الْأَحَادِيثَ الإسرائيلية تُذْكَرُ لِلِاسْتِشْهَادِ لَا لِلِاعْتِقَادِ؛ فَإِنَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا عَلِمْنَا صِحَّتَهُ مِمَّا بِأَيْدِينَا مِمَّا يَشْهَدُ لَهُ بِالصِّدْقِ فَذَاكَ صَحِيحٌ. والثَّانِي: مَا عَلِمْنَا كَذِبَهُ بِمَا عِنْدَنَا مِمَّا يُخَالِفُهُ.
والثَّالِثُ: مَا هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ لَا مِن هَذَا الْقَبِيلِ وَلَا مِن هَذَا الْقَبِيلِ، فَلَا نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نُكَذِّبُهُ وَتَجُوزُ حِكَايَتُهُ.
(1)
رواه أبو داود (3594)، والترمذي (1327) وقال: لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِن هَذَا الوَجْهِ وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ عِنْدِي بِمُتَّصِلٍ وَأبُو عَوْنٍ الثَّقَفِيُّ اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ.
وقال الألباني: منكر. السلسلة الضعيفة (881).
فَصْلٌ
إذَا لَمْ تَجِدِ التَّفْسِيرَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَلَا وَجَدْته عَن الصَّحَابَةِ فَقَد رَجَعَ كَثيرٌ مِن الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ إلَى أقْوَالِ التَّابِعِينَ.
وَقَالَ شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ وَغَيْرُهُ: أَقْوَالُ التَّابِعِينَ فِي الْفُرُوعِ لَيْسَتْ حُجَّةَ، فَكَيْفَ يَكُونُ حُجَّةٌ فِي التَّفْسِيرِ؟
يَعْنِي أَنَّهَا لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِمْ مِمَن خَالَفَهُمْ، وَهَذَا صَحِيحٌ.
أَمَّا إذَا أَجْمَعُوا عَلَى الشَيْءِ فَلَا يُرْتَابُ فِي كَوْنِهِ حُجَّةَ، فَإِنْ اخْتَلَفُوا فَلَا يَكُونُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ، وَلَا عَلَى مَن بَعْدَهُمْ.
وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى لُغَةِ الْقُرْآنِ أَو السُّنَّةِ، أو عُمُومِ لُغَةِ الْعَرَبِ، أَو أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ.
فَأمَّا تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِمُجَرَّدِ الرَّأيِ فَحَرَامٌ.
وَهَكَذَا رَوَى بَعْضُ أهْلِ الْعِلْمِ مِن أَصْحَابِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُم شَدَّدُوا فِي أَنْ يُفَسَّرَ الْقُرْآنُ بِغَيْرِ عِلْمِ.
فَمَن قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأيِهِ فَقَد تَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بهِ، وَسَلَكَ غَيْرَ مَا أمِرَ بِهِ، فَلَو أَنَّهُ أصَابَ الْمَعْنَى فِي نَفْسِ الأمْرِ لَكَانَ قَد أَخْطأَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ الْأمْرَ مِن بَابِهِ؛ كَمَن حَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ وَإِن وَافَقَ حُكْمُهُ الصَّوَابَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
لَكِنْ يَكُونُ أَخَفَّ جُرْمًا مِمَن أَخْطَأَ وَاللّهُ أَعْلَمُ.
وَهَكَذَا سَمَّى الله تَعَالَى الْقَذَفَةَ كَاذِبِينَ فَقَالَ: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13]، فَالْقَاذِفُ كَاذِبٌ وَلَو كَانَ قَد قَذَفَ مَن زَنَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ لأنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا لَا يَحِلُّ لَهُ الْإِخْبَارُ بِهِ، وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ. [13/ 345 - 371]
1411 -
مَا قَالَهُ النَّاسُ مِنَ الْأَقْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَتَأْوِيلِهِ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَدّقَ بِقَوْلٍ دُونَ قَوْلٍ بِلَا عِلْمٍ، وَلَا يُكَذِّبَ بِشَيءٍ مِنْهَا إلَّا أَنْ يُحِيطَ بِعِلْمِهِ، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ إلَّا إذَا عَرَفَ الْحَقَّ الَّذِي أُرِيدَ بِالْآيَةِ، فَيَعْلَمُ أَنَّ مَا سِوَاهُ بَاطِلٌ؛ فَيُكَذِّبُ بِالْبَاطِلِ الَّذِي أَحَاطَ بِعِلْمِهِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْرِفْ مَعْنَاهَا وَلَمْ يُحِطْ بِشَيْءٍ مِنْهَا عِلْمًا فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّكْذِيبُ بِشَيْءٍ مِنْهَا. [17/ 404]
* * *
(من الغلط تفسير القرآن بمجرد ما يحتمله اللفظ المجرد عن سائر ما يبين معناه)
1412 -
أَمَّا تَفْسِيرُهُ
(1)
بِمُجَرَّدِ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ الْمُجَرَّدُ عَن سَائِرِ مَا يُبَيِّنُ مَعْنَاهُ: فَهَذَا مَنْشَأُ الْغَلَطِ مِن الغالطين، لَا سِيَّمَا كَثِيرٌ مِمَن يَتَكَلَّمُ فِيهِ بِالاِحْتِمَالَاتِ اللُّغَوِيَّةِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ غَلَطًا مِن الْمُفَسِّرِينَ الْمَشْهُورِينَ؛ فَإِنَّهُم لَا يَقْصِدُونَ مَعْرِفَةَ مَعْنَاهُ كَمَا يَقْصِدُ ذَلِكَ الْمُفَسّرُونَ.
وَأَعْظَمُ غَلَطًا مِن هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مَن لَا يَكُونُ قَصْدُهُ مَعْرِفَةَ مُرَادِ اللّهِ؛ بَل قَصْدُهُ تَأْوِيلُ الْآيَةِ بِمَا يَدْفَعُ خَصْمَهُ عَن الاِحْتِجَاجِ بِهَا، وَهَؤُلَاءِ يَقَعُونَ فِي أَنْوَاعٍ مِن التَّحْرِيفِ، وَلهَذَا جَوَّزَ مِن جَوَّزَ مِنْهُم أَنْ يَتَأَوَّلُ الْآيَةُ بِخِلَافِ تَأْوِيلِ السَّلَفِ، وَقَالُوا: إذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ جَازَ لِمَن بَعْدِهِمْ إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفُوا فِي الْأَحْكَامِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ فَإِنَّهُم إذَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ إمَّا هَذَا وَإِمَّا هَذَا، كَانَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ خِلَافًا لِإِجْمَاعِهِمْ، وَلَكِنَّ هَذِهِ طَرِيقُ مَن يَقْصِدُ الدَّفْعَ لَا يَقْصِدُ مَعْرِفَةَ الْمُرَادِ. [15/ 94]
* * *
(1)
أي: القرآن.
(بطلان قول من يقول: إنَّ فِي الْقُرْآنِ آيَاتٍ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهَا الرَّسُولُ وَلَا غَيْرُهُ
.. )
1413 -
الدَّلَائِلُ الْكَثِيرَةُ تُوجِبُ الْقَطْعَ بِبُطْلَانِ قَوْلِ مَن يَقُولُ: إنَّ فِي الْقُرْآنِ آياتٍ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهَا الرَّسُولُ وَلَا غَيْرُهُ.
فَيَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7]، أَنَّ الصَّوَابَ قَوْلُ مَن يَجْعَلُهُ مَعْطُوفًا، وَيَجْعَلُ الْوَاوَ لِعَطْفِ مُفْرَدٍ عَلَى مُفْرَدٍ، أَو يَكُون كِلَا الْقَوْلَيْنِ حَقًّا وَهِيَ قِرَاءَتَانِ، وَالتَّأْوِيلُ الْمَنْفِيُّ غَيْرُ التَّأْوِيلِ الْمُثْبَتِ، وَإِنْ كَانَ الصَّوَابُ هُوَ قَوْلُ مَن يَجْعَلُهَا وَاوَ اسْتِئْنَافٍ؛ فَيَكُونُ التَّأْوِيلُ الْمَنْفِيُّ عِلْمَهُ عَن غَيْرِ اللّهِ هُوَ الْكَيْفِيَّاتُ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا غَيْرُهُ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ.
وَابْنُ عَبَّاسٍ جَاءَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: التَّفْسِيرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
أ - تَفْسِيرُ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِن كَلَامِهَا.
ب - وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ.
ج - وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ.
د - وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللّهُ، مَن ادَّعَى عِلْمَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ.
وَهَذَا الْقَوْلُ يَجْمَعُ الْقَوْلَيْنِ، وَيُبَيِّنُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ يَعْلَمُونَ مِن تَفْسِيرِهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُمْ، وَأَنَّ فِيهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللّهُ.
فَأمَّا مَن جَعَلَ الصَّوَابَ قَوْلَ مَن جَعَلَ الْوَقْفَ عِنْدَ قَوْلِهِ: {إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] وَجَعَلَ التَّأْوِيلَ بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ: فَهَذَا خَطَأٌ قَطْعًا.
وَأَمَّا التَّأْوِيلُ بِالْمَعْنَى الثَّالِثِ: وَهُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَن الاِحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إلَى الاِحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ، فَهَذَا الاِصْطِلَاحُ لَمْ يَكُن بَعْدُ عُرِفَ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ، بَل وَلَا التَّابِعِينَ، بَل وَلَا الْأَئِمَّةِ الْأَرْبِعَةِ، وَلَا كَانَ التَّكَلُّمُ بِهَذَا الاِصْطِلَاحِ مَعْرُوفًا فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ، بَل وَلَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْهُم خَصَّ لَفْظَ التَّأْوِيلِ بِهَذَا.
وَالَّذِي اقْتَضَى شهْرَةَ الْقَوْلِ عَن أَهْلِ السُّنَّةِ بِأَنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَعْلَمُ تَأِويلَهُ إلَّا اللهُ: ظُهُورُ التَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةِ مِن أَهْلِ الْبِدَعِ كالْجَهْمِيَّة وَالْقَدَرِّيَةِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، فَصَارَ أُولَئِكَ يَتَكَلَّمُونَ فِي تَأْوِيل الْقُرْآنِ بِرَأيِهِمُ الْفَاسِدِ، وَهَذَا أَصْلٌ مَعْرُوفٌ لِأَهْلِ الْبِدَع أَنَّهُم يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِرَأَيِهِمُ الْعَقْلِيِّ وَتَأْوِيلِهِمُ اللُّغَوِيِّ. [17/ 399 - 412]
* * *
(إشارة الآية، ومثالان)
1414 -
قال ابن القيِّم رحمه الله: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس اللّه روحه يقول: الصحيح منها
(1)
ما يدل عليه اللفظ بإشارته من باب قياس الأولى.
والصحيح في الآية: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} [الواقعة: 79] أن المراد به الصحف التي بأيدي الملائكة لوجوه عديدة:
منها: أنه وصفه بأنه (مكنون) والمكنون هو المستور عن العيون وهذا إنما هو في الصحف التي بأيدي الملائكة.
ومنها: أنه قال: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} وهم الملائكة، ولو أراد المتوضئين لقال:(المتطهرين) فالملائكة مطهرون، والمؤمنون متطهرون.
ومنها: أن هذا نظير الآية التي في سورة عبس: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)} [عبس: 12 - 16] قال مالك في موطئه: أحسن ما سمعت في تفسير قوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} أنها مثل هذه الآية التي في سورة عبس.
ومنها: أن الآية مكية من سورة مكية تتضمن تقرير التوحيد والنبوة
(1)
من الإشارات. (الجامع).
والمعاد وإثبات الصانع والرد على الكفار، وهذا المعنى أليق بالمقصود من فرع عملي، وهو حكم مس المحدث المصحف.
فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدَّس الله روحه- يقول: لكن تدل الآية بإشارتها على أنه لا يمس المصحف إِلَّا طاهر؛ لأنه إذا كانت تلك الصحف لا يمسها إِلَّا المطهرون لكرامتها على اللّه؛ فهذه الصحف أولى أن لا يمسها إِلَّا طاهر.
وسمعته يقول في قول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة ولا كلب"
(1)
إذا كانت الملائكة المخلوقون يمنعها الكلب والصورة عن دخول البيت فكيف تلج معرفة اللّه عز وجل ومحبته وحلاوة ذكره والأنس بقربه في قلب ممتلئ بكلاب الشهوات وصورها؛ فهذا من إشارة اللفظ الصحيحة. [المستدرك 1/ 169 - 171]
* * *
(آيَاتُه سُبْحَانَهُ تُوجِبُ شَيْئَيْنِ
.. )
1415 -
آيَاتُهُ سُبْحَانَهُ تُوجِبُ شَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فَهْمَهَا وَتَدَبُّرَهَا لِيُعْلَمَ مَا تَضَمَّنَتْهُ.
وَالثَّانِي: عِبَادَتَهُ وَالْخُضُوعَ لَهُ إذَا سُمِعَتْ.
فَتِلَاوَتُهُ إيَّاهَا وَسَمَاعُهَا يُوجِبُ هَذَا وَهَذَا، فَلَو سَمِعَهَا السَّامِعُ وَلَمْ يَفْهَمْهَا كَانَ مَذْمُومًا، وَلَو فَهِمَهَا وَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا فِيهَا كَانَ مَذْمُومًا، بَل لَا بُدَّ لِكُلِّ أَحَدٍ عِنْدَ سَمَاعِهَا مِن فَهْمِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا
(2)
. [23/ 147]
* * *
(1)
رواه البخاري (3225)، ومسلم (2106).
(2)
إن القرآن لم يُنزل لأجل التلاوة المجردة، بل أنزل لحكم عظيمة، ومقاصد نبيلة، وكثير من الناس يتطلب ختم القرآن دون فهمه وتدبره والعمل به، وليس هذا من فعل السلف الصالح، =
(الكلام عن التفاسير، وتسمية الجيد منها والرديء)
1416 -
فِي التَّفْسِيرِ مِن هَذِهِ الْمَوْضُوعَاتِ قِطْعَةٌ كَبِيرَةٌ، مِثْلُ الْحَدِيثِ الَّذِي يَرْوِيهِ الثَّعْلَبِيُّ وَالْوَاحِدِيُّ والزمخشري فِي فَضَائِلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ سُورَةً سُورَةً، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
والثَّعْلَبِيُّ هُوَ فِي نَفْسِهِ كَانَ فِيهِ خَيْرٌ وَدِين، وَكَانَ حَاطِبَ لَيْلٍ يَنْقُلُ مَا وُجِدَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ مِن صَحِيحٍ وَضَعِيفٍ وَمَوْضُوعٍ.
والْوَاحِدِيُّ صَاحِبُهُ كَانَ أَبْصَرَ مِنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ؛ لَكِنْ هُوَ أَبْعَدُ عَن السَّلَامَةِ وَاتِّبَاعِ السَّلَفِ.
والبغوي تَفْسِيرُهُ مُخْتَصَرٌ مِن الثَّعْلَبِيِّ لَكِنَّهُ صَانَ تَفْسِيرَهُ مِن الْأحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ وَالْآرَاءِ الْمُبْتَدَعَةِ.
وَالْمَوْضُوعَاتُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ كَثِيرَةٌ مِثْلُ الْأَحَادِيثِ الْكثِيرَةِ الصَّرِيحَةِ فِي الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ وَحَدِيثِ عَلِيٍّ الطَّوِيلِ فِي تَصَدُّقِهِ بِخَاتَمِهِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ. [13/ 354]
1417 -
هَذِهِ الْكُتُبُ الَّتِي يُسَمِّيهَا كَثِيرٌ مِن النَّاسِ كُتُبَ التَّفْسِيرِ فِيهَا كَثِيرٌ مِن التَّفْسِيرِ مَنْقُولَاتٌ عَن السَّلَفِ مَكْذُوبَةٌ عَلَيْهِمْ، وَقَوْلٌ عَلَى اللهِ وَرَسُولِهِ بِالرَّأيِ الْمُجَرَّدِ، بَل بِمُجَرَّدِ شُبْهَةٍ قِيَاسِيَّةٍ، أَو شُبْهَةٍ أَدَبِيَّةٍ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ مِن النَّقْلِ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ مِن الْكَذِبِ شَيْئًا كَثِيرًا مِن رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ عَن أَبِي صَالِحٍ وَغَيْرِهِ، فَلَا بُدَّ مِن تَصْحِيحِ النَّقْلِ لِتَقُومَ الْحُجَّةُ، فَلْيُرَاجِعْ كُتُبَ التَّفْسِيرِ الَّتِي يُحَرَّرُ فِيهَا النَّقْلُ مِثْلُ؛ تَفْسِيرِ مُحَمَّدِ بْنِ
= الذين كان همُّهم فهمَ كلام ربهم، والعمل به.
وقد قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء: 82].
قال القرطبي رحمه اللّه تعالى: "دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 24]، عَلَى وُجُوبِ التَّدَبُّرِ فِي الْقُرْآنِ ليُعْرَفَ مَعْنَاهُ". تفسير القرطبي (5/ 290).
جَرِيرٍ الطبري الَّذِي يَنْقُلُ فِيهِ كَلَامَ السَّلَفِ بِالْإِسْنَادِ، وَلْيُعْرضْ عَن تَفْسِيرِ مُقَاتِلٍ، وَالْكَلْبِيِّ، وَقَبْلَهُ تَفْسِيرُ بقي بْنِ مخلد الْأَنْدَلُسِيِّ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إبْرَاهِيمَ دحيم الشَّامِيِّ، وَعَبْدِ بْنِ حميد الكشي وَغَيْرِهِمْ، إنْ لَمْ يَصْعَدْ إلَى تَفْسِيرِ الْإِمَامِ إسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه، وَتَفْسِيرِ الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ، وَغَيْرِهِمَا مِن الْأَئِمَّةِ، الَّذِينَ هُم أَعْلَمُ أَهْلِ الْأَرْضِ بِالتَّفَاسِيرِ الصَّحِيحَةِ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَآثَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، كَمَا هُم أَعْلَمُ النَّاسِ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَآثَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن الْعُلُومِ. [6/ 389]
1418 -
[تفسير] البغوي مُخْتَصَرٌ مِن "تَفْسِيرِ الثَّعْلَبِيِّ" وحَذَفَ مِنْهُ الْأَحَادِيثَ الْمَوْضُوعَةَ وَالْبِدَع الَّتِي فِيهِ، وَحَذَفَ أَشْيَاءَ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَأَمَّا "الْوَاحِدِيُّ" فَإِنَّهُ تِلْمِيذُ الثَّعْلَبِيِّ، وَهُوَ أَخْبَرُ مِنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ؛ لَكِنَّ الثَّعْلَبِيَّ فِيهِ سَلَامَةٌ مِن الْبِدَعِ، وَإِنْ ذِكْرَهَا تَقْلِيدًا لِغَيْرِهِ.
وَتَفْسِيرُهُ وتَفْسِيرُ الْوَاحِدِيّ الْبَسِيطُ وَالْوَسِيطُ وَالْوَجِيزُ فِيهَا فَوَائِدُ جَلِيلَةٌ، وَفِيهَا غَثٌّ كَثِيرٌ مِن الْمَنْقُولَاتِ الْبَاطِلَةِ وَغَيْرِهَا.
وَأَمَّا الزمخشري فَتَفْسِيرُهُ مَحْشُوٌّ بِالْبِدْعَةِ، وَعَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ مِن إنْكَارِ الصِّفَاتِ وَالرُّؤيَةِ، وَالْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَأَنْكَرَ أَنَّ اللّهَ مُرِيدٌ لِلْكَائِنَاتِ، وَخَالِقٌ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ.
وتَفْسِيرُ الْقُرْطُبِيِّ خَيْرٌ مِنْهُ بِكَثِير وَأَقْرَبُ إلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَبْعَدُ مِن الْبِدَعِ، وَإِن كَانَ كُلٌّ مِن هَذِهِ الْكُتُب لَا بُدَّ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى مَا يُنْقَدُ؛ لَكِنْ يَجِبُ الْعَدْلُ بَيْنَهَا وَإِعْطَاءُ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ.
وتَفْسِيرُ ابْنِ عَطِيَّةَ خَيْرٌ مِن تَفْسِيرِ الزمخشري وَأَصَحُّ نَقْلًا وَبَحْثًا، وَأَبْعَدُ عَن الْبِدَعِ وَإِن اشْتَمَلَ عَلَى بَعْضِهَا، بَل هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ بِكَثِير؛ بَل لَعَلَّهُ أَرْجَحُ هَذِهِ التَّفَاسِيرِ؛ لَكِنَّ تَفْسِيرَ ابْنِ جَرِيرٍ أَصَحُّ مِن هَذِهِ كُلِّهَا. [13/ 386 - 388]
1419 -
تَفْسِيرُ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَن مُجَاهِدٍ مِن أَصَحِّ التَّفَاسِيرِ، بَل لَيْسَ
بِأَيْدِي أَهْلِ التَّفْسِيرِ كِتَابٌ فِي التَّفْسِيرِ أَصَحّ مِن تَفْسِيرِ ابْن أبِي نَجِيحٍ عَن مُجَاهِدٍ، إلَّا أَنْ يَكُونَ نَظِيرَهُ فِي الصِّحَّةِ.
ثُمَّ مَعَهُ مَا يُصَدِّقُهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْألُهُ عَنْهَا. [17/ 409]
* * *
(القرآن يفسر بعضه بعضًا)
1420 -
مَن تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ وَجَدَ بَعْضَهُ يُفَسِّرُ بَعْضًا، فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ الوالبي: مُشْتَمِل عَلَى الْأَقْسَامِ وَالْأَمْثَالِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ:{مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 23].
وَلهَذَا جَاءَ كِتَابُ اللّهِ جَامِعًا، كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:"أُعْطِيت جَوَامِعَ الْكَلِمِ"
(1)
.
وَقَالَ تَعَالَى: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} فَالتَّشَابُهُ يَكُونُ فِي الْأَمْثَالِ، وَالْمَثَانِي فِي الْأَقْسَامِ. [16/ 522 - 523]
* * *
(1)
رواه مسلم (523).
التفسير
سورة الفاتحة
1421 -
قال ابن القيم رحمه الله: قال شيخ الإسلام ابن تيمية - قدَّس اللّه روحه -: تأملت أنفع الدعاء فإذا هو سؤال العون على مرضاته ثم رأيته في الفاتحة في: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5].
وكثيرًا ما سمعت شيخ الإسلامِ - قدَّس الله روحه - يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} تدفع الرياء، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} تدفع الكبرياء.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: في بعض الآثار الإلهية يقول اللّه تعالى: "إني لا أنظر إلى كلام الحكيم، وإنما أنظر إلى همته". [المستدرك 1/ 176]
1422 -
أَمَرَنَا اللّهُ تَعَالَى: أَنْ نَقُولَ [في]
(1)
كُلَّ صَلَاةٍ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 6، 7].
والْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ: هُم الَّذِينَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ وَيَعْمَلُونَ بِخِلَافِهِ.
والضَّالُّونَ: الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللهَ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
فَمَن اتَّبَعَ هَوَاهُ وَذَوْقَهُ وَوَجْدَهُ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسّنَّةِ فَهُوَ مِن "الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم".
وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ فَهُوَ مِن "الضَّالِّينَ". [10/ 453]
(1)
ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، والمثبت من الفتاوى الكبرى (1/ 180)، وإقامة الدليل على إبطال التحليل (2/ 238).
1423 -
يقول بعضهم في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة: 6]: المؤمن قد هُدِيَ إلى الصراط المستقيم؛ فأيّ فائدة في طلب الهدى؟! ثم يجيب بعضهم بأن المراد ثبتنا على الهدى كما تقول العرب للنائم: نم حتى آتيك، أو يقول بعضهم: ألزم قلوبنا الهدى، فحذف الملزوم، ويقول بعضهم: زدني هدى، وإنما يوردون هذا السؤال؛ لعدم تصورهم الصراط المستقيم الذي يطلب العبد الهداية إليه؛ فإن المراد به العمل بما أمر الله به، وترك ما نهى اللّه عنه في جميع الأمور.
فإن العمل في المستقبل بالعلم لم يحصل بعد، ولا يكون مهتديًا حتى يعمل في المستقبل بالعلم، وقد لا يحصل العلم في المستقبل بل يزول عن القلب، وإن حصل فقد لا يحصل العمل، فالناس كلهم مضطرون إلى هذا الدعاء؛ ولهذا فرضه اللّه عليهم في كل صلاة، فليسوا إلى شيء من الدعاء أحوج منهم إليه، وإذا حصل الهدى إلى الصراط المستقيم حصل النصر والرزق وسائر ما تطلب النفوس من السعادة. [10/ 106 - 109]
1424 -
قَوْلُهُ تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 4] مَعَ أَنَّهُ مَلِكُ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ يَوْمَ الدِّينِ لَا يَدَّعِي أَحَدٌ فِيهِ مُنَازَعَةً، وَهُوَ الْيَوْمُ الْأَعْظَمُ، فَمَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إلَّا كَمَا يَضَعُ أَحَدُكُمْ إصْبَعَهُ فِي الْيَمّ فَلْيَنْظرْ بِمَ يَرْجِعُ، والدِّينُ: عَاقِبَةُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ. [6/ 266]
* * *
سورة البقرة
1425 -
قَوْله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)} [البقرة: 6] فَإِنَّ لِلنَّاسِ فِي هَذ الْآيَةِ قَوْلَيْنِ:
أَحَدَهُمَا: أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِمَن يَمُوتُ كَافِرًا .. وَطَائِفَةٌ مِن الْمُفَسّرِينَ لَمْ يَذْكُرُوا غَيْرَ هَذَا الْقَوْلِ كَالثَّعْلَبِيِّ والبغوي وَابْنِ الْجَوْزِيِّ.
وَالْقَوْلُ الثانِي: أَنَّ الْآيَةَ عَلَى مُقْتَضَاهَا، وَالْمُرَادُ بِهَا أَنَّ الْإِنْذَارَ وَعَدَمَهُ سَوَاءٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكَافِرِ مَا دَامَ كَافِرًا لَا يَنْفَعُهُ الْإِنْذَارُ وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ كَمَا قِيلَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْآيَاتِ أَنَّهَا غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِلْإِيمَانِ.
وَقَد جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101] فالآيَاتُ لِمَن إذَا عَرَفَ الْحَق عَمِلَ بِهِ، فَهَذَا تَنْفَعُهُ الْحِكْمَةُ.
وَالْإِنْذَارُ لِمَن يَعْرِفُ الْحَقَّ وَلَهُ هَوً ى يَصُدُّهُ، فَيُنْذَرُ بِالْعَذَابِ الَّذِي يَدْعُوهُ إلَى مُخَالَفَةِ هَوَاهُ، وَهُوَ خَوْفُ الْعَذَابِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَآخَرُ لَا يَقْبَلُ الْحَقَّ فَيَحْتَاجُ إلَى الْجَدَلِ فَيُجَادَلُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.
وَالدُّعَاءُ وَالتَّعْلِيمُ وَالْإِرْشَادُ، وَكُلُّ مَا كَانَ مِن هَذَا الْجِنْسِ: لَهُ فَاعِل وَهُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْعِلْمِ وَالْهُدَى وَالنِّذَارَةِ، وَلَهُ قَابِلٌ وَهُوَ الْمُسْتَمِعُ، فَإِذَا كَانَ الْمُسْتَمِعُ قَابِلًا حَصَلَ الْإِنْذَارُ التَّامُّ وَالتَّعْلِيمُ التَامُّ وَالْهُدَى التَّامُّ، وَإِنْ لَمْ يَكُن قَابِلًا قِيلَ: عَلَّمْته فَلَمْ يَتَعَلَّمْ، وَهَدَيْته فَلَمْ يَهْتَدِ، وَخَاطَبْته فَلَمْ يُصْغِ وَنَحْو ذَلِكَ.
فَقَوْلُهُ فِي الْقُرْآنِ: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] هُوَ مِن هَذَا، إنَّمَا يَهْتَدِي مَن يَقْبَلُ الاِهْتِدَاءَ وَهُم الْمتَّقُونَ، لَا كُلُّ أَحَدٍ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُم كَانُوا مُتَّقِينَ قَبْلَ اهْتِدَائِهِمْ، بَل قَد يَكُونُوا كُفَّارًا، لَكِنْ إنَّمَا يَهْتَدِي بِهِ مِن كَانَ مُتَّقِيًا.
فَمَنِ اتَّقَى اللّهَ اهْتَدَى بِالْقُرْآنِ.
وَهَكَذَا قَوْلُهُ: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} [يس: 70] الْإِنْذَارَ التَّامَّ، فَإِنَّ الْحَيَّ يَقْبَلُهُ؛ وَلهَذَا قَالَ:{وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس: 70] فَهُم لَمْ يَقْبَلُوا الْإِنْذَارَ.
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45)} [النازعات: 45]، وَعَكْسُهُ قَوْلُهُ:{وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26]؛ أَيْ: كُلُّ مَن ضَلَّ بِهِ فَهُوَ فَاسِقٌ، فَهُوَ ذَمّ لِمَن يَضِلُّ بِهِ فَإِنَّهُ فَاسِقٌ، لَيْسَ أَنَّهُ كَانَ فَاسِقًا قَبْلَ ذَلِكَ.
فَقَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 161]، مِن هَذَا الْبَاب، وَالتَّقْدِيرُ: مَن خَتَمَ عَلَى قَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ غِشَاوَةً فَسَوَاءٌ عَلَيْك أَنْذَرْته أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُ هُوَ لَا يُؤْمِنُ، أَيْ: مَا دَامَ كَذَلِكَ.
وَأَمَّا إذَا أَطْلَقَ الْقَوْلَ عَلَى الْكفَّارِ مِن غَيْرِ تَقْيِيدٍ: فَإِنَّهُ لَا يُرِيدُ مَن لَا يُؤْمِنُ مِنْهُمْ، فَإِنَّ اللَّفْظَ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ. [16/ 583 - 594]
1426 -
قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)} [البقرة: 11، 12]. وَقَوْلُهُم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} فُسِّرَ بِإِنْكَارِ مَا أَقَرُّوا بِهِ؛ أَيْ: إنَّا إنَّمَا نَفْعَلُ مَا أَمَرَنَا بِهِ الرَّسُولُ.
وَفُسِّرَ بِأَنَّ الَّذِي نَفْعَلُهُ صَلَاحٌ وَنَقْصدُ بِهِ الصَّلَاحَ.
وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ يُرْوَى عَن ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكِلَاهُمَا حَقٌّ، فَإِنَّهُم يَقُولُونَ هَذَا وَهَذَا.
يَقُولُونَ الْأَوَّلَ: لِمَن لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى بَوَاطِنِهِمْ.
وَيَقُولُونَ الثَّانِيَ: لِأَنْفسِهِمْ وَلمَن اطَّلَعَ عَلَى بَوَاطِنِهِمْ.
لَكِنَ الثَّانِيَ يَتَنَاوَلُ الْأَوَّلَ؛ فَإِنَّ مِن جُمْلَةِ أَفْعَالِهِمْ إسْرَارَ خِلَافِ مَا يُظْهِرُونَ، وَهُم يَرَوْنَ هَذَا صَلَاحًا.
وَلِأَجْلِ الْقَوْلَيْنِ قِيلَ فِي قَوْلِهِ: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)} ؛ أَيْ: لَا يَشْعُرُونَ أَنَّ مَا فَعَلُوهُ فَسَادٌ لَا صَلَاحٌ.
وَقِيلَ: لَا يَشْعُرُونَ أَنَّ اللهَ يُطْلِعُ نَبِيَّهُ عَلَى فَسَادِهِمْ.
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ يَتَنَاوَلُ الثَّانِيَ فَهُوَ الْمُرَادُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْآيَةِ. [7/ 83 - 84]
1427 -
الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)} [البقرة: 8]، وَهَذَا مُطْلَقٌ يَتَنَاوَلُ مَن كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَن سَيَكُونُ بَعْدَهُمْ. [7/ 83]
1428 -
قوله
(1)
: في قوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150]: منقطع قد قاله أكثر الناس، ووجهه أن الظالم لا حجة له، فاستثناؤه مما ذكر قبله منقطع.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: ليس الاستثناء بمنقطع، بل هو متصل على بابه، وإنما أوجب لهم أن حكموا بانقطاعه حيث ظنوا أن الحجة ههنا المراد بها الحجة الصحيحة الحق.
والحجة في كلام اللّه نوعان:
أ - أحدهما: الحجة الحق الصحيحة؛ كقوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام: 83]، وقوله:{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149].
ب - ويراد بها مطلق الاحتجاج بحق أو بباطل؛ كقوله: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} [آل عمران: 20].
وإذا كانت الحجة اسمًا لما يحتج به من حق وباطل (تبين) صحة استثناء حجة الظالمين من قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} [البقرة: 150]، وهذا في غاية التحقيق.
والمعنى: أن الظالمين يحتجون عليك بالحجة الباطلة الداحضة {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [البقرة: 150]. [المستدرك 1/ 176 - 177]
1429 -
{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]، قال ابن القيم: وقال لي شيخنا يومًا: لهذين الإسمين وهما: الحي القيوم تأثير عظيم في حياة القلب وكان يشير إلى أنهما الاسم الأعظم. [المستدرك 1/ 177]
(1)
أبو القاسم السهيلي. (الجامع).
1430 -
لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَة وَاحِدَة تَضَمَّنَتْ مَا تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ الْكُرْسِيِّ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللّهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَدِيدِ وَآخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ عِدَّةُ آيَاتٍ لَا آيَةٌ وَاحِدَة. [17/ 130]
1431 -
قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 284]، هَذ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَ قَد قَالَ طَائِفٌ مِن السَّلَفِ إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ .. فَالنَّسْخُ فِي لِسَانِ السَّلَفِ أَعَمُّ مِمَّا هُوَ فِي لِسَانِ الْمُتَأَخِّرِينَ، يُرِيدُونَ بِهِ رَفْعَ الدَّلَالَةِ مُطْلَقًا وَإِن كَانَ تَخْصِيصًا لِلْعَامّ أَو تَقْيِيدًا لِلْمُطْلَقِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي عُرْفِهِمْ.
وَالْقَائِلُونَ بِنَسْخِهَا يَجْعَلُونَ النَّاسِخَ لَهَا الْآيَةَ الَّتِي بَعْدَهَا وَهِيَ قَوْلُهُ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
وحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} [البقرة: 284]، لَمْ يَدُلّ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِذَلِكَ؛، بَل دَلَّ عَلَى الْمُحَاسَبَةِ بِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِن كَوْنِهِ يُحَاسَبُ أَنْ يُعَاقَبَ. [10/ 762 - 763]
1432 -
قَوْلُهُ: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} الْآيَةَ [البقرة: 81].
قَالَ مُجَاهِد: هِيَ الذُّنُوبُ تُحِيطُ بِالْقَلْبِ.
وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ صَحِيحٌ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:"إِذَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ"
(1)
…
إلَخْ وَالَّذِي يَغْشَى الْقَلْبَ يُسَمَّى: رَيْنًا وطَبْعًا وخَتْمًا وقَفْلًا وَنَحْو ذَلِكَ، فَهَذَا مَا أَصَرَّ عَلَيْهِ.
وإحَاطَةُ الْخَطيئَةِ إحْدَاقُهَا بِهِ، فَلَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ، وَهَذَا هُوَ الْبَسْلُ بِمَا كَسَبَتْ نَفْسُهُ
(2)
؛ أَيْ: تُحْبَسُ عَمَّا فِيهِ نَجَاتُهَا فِي الدَّارينِ؛ فَإِنَّ الْمَعَاصِيَ قَيْدٌ
وَحَبْسٌ لِصَاحِبِهَا عَن الْجَوَلَانِ فِي فَضَاءِ التَّوْحِيدِ، وَعَن جَنْي ثِمَارِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
وَمِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ مَن يَقُولُ: إنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ يُعَذَّبُ مُطْلَقًا، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى خِلَافِهِ، وَأَنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ يَزِنُ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَعَلَى هَذَا دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَهُوَ مَعْنَى الْوَزْنِ.
لَكِنَّ تَفْسِيرَ السَّيِّئَةِ بِالشِّرْكِ هُوَ الْأَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ غَايَرَ بَيْنَ الْمَكْسُوبِ وَالْمُحِيطِ، فَلَو كَانَ وَاحِدًا لَمْ يُغَايِرْ، وَالْمُشْرِكُ لَهُ خَطَايَا غَيْرُ الشِّرْكِ أَحَاطَتْ بِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتبْ مِنْهَا. [14/ 48 - 49]
1433 -
قَوْلُهُ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)} [البقرة: 62]، وَصَفَ سُبْحَانَهُ أَهْلَ السَّعَادَةِ مِن الْأَوَّلينَ والآخرين، وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَيُعْرَفُ بِهِ مَعْنَاهُ مِن غَيْرِ تَنَاقُضٍ، وَمُنَاسِبَةٍ لِمَا قَبْلهَا وَلمَا بَعْدَهَا، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ السَّلَفِ.
وَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ: أَنَّ الْآيَةَ فِيمَن بُعِثَ إلَيْهِم مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً، فَغَلِطُوا ثُمَّ افْتَرَقُوا عَلَى أَقْوَالٍ مُتَنَاقِضَةٍ. [14/ 68 - 69]
1434 -
قَسَّمَ اللّهُ مَن ذَمَّهُ مِن أَهْل الْكِتَابِ إلَى مُحَرِّفِينَ وَأُمِّيِّينَ حَيْث يَقُولُ: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)} [البقرة: 75 - 79]. وَفِي هَذَا عِبْرَةٌ لِمَن رَكِبَ سَنَنَهُم مِن
أُمَّتِنَا؛ فَإِنَّ الْمُنْحَرِفِينَ فِي نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَالصِّفَاتِ وَنَحْوِهَا مِن الْأَخْبَارِ وَالأَوَامِر:
أ - قَوْمٌ يُحَرِّفُونَهُ إِمَّا لَفْظًا وَإِمَّا مَعْنى، وَهُم النَّافُونَ لِمَا أَثْبَتَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم جُحُودًا وَتَعْطِيلًا، وَيَدَّعُونَ أَنَّ هَذَا مُوجَبُ الْعَقْلِ الصَّرِيحِ الْقَاضِي عَلَى السَّمْعِ.
ب - وقَوْمٌ لَا يَزِيدُونَ عَلَى تِلَاوَةِ النُّصُوصِ، لَا يَفْقَهُونَ مَعْنَاهَا .. فَهُم {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ}؛ أَيْ: تِلَاوَةً {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} .
ج - ثُمَّ يُصَنِّفُ أَقْوَامٌ عُلُومًا يَقُولُونَ: إنَّهَا دِينِيَّةٌ، وَأَنَّ النُّصُوصَ دَلَّتْ عَلَيْهَا وَالْعَقْلَ وَهِيَ دِينُ اللّهِ؛ مَعَ مُخَالَفَتِهَا لِكِتَابِ اللّهِ، فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَكْتبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هُوَ مِن عِنْدِ اللّهِ بِوَجْهٍ مِن الْوُجُوهِ.
فَتَدَبَّرْ كَيْفَ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ.
وَقَوْلُهُ فِي صِفَةِ أُولَئِكَ: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} حَالُ مَن يَكْتُمُ النُّصُوصَ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا مُنَازِعُهُ، حَتَّى إنَّ مِنْهُم مَن يَمْنَعُ مِن رِوَايَةِ الْأَحَادِيثِ الْمَأْثُورَةِ عَن الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَلَو أَمْكَنَهُم كِتْمَانُ الْقُرْآنِ لَكَتَمُوهُ، لَكِنَّهُم يَكْتُمُونَ مِنْهُ وُجُوهَ دَلَالَتِهِ مِن الْعُلُومِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْهُ، وَيُعَوِّضُونَ النَّاسَ عَن ذَلِكَ بِمَا يَكْتبونَهُ بِأَيْدِيهِمْ، وَيُضِيفُونَهُ إلَى أَنَّهُ مِن عِنْدِ اللّهِ. [14/ 70 - 71]
1435 -
فِي قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} الْآيَةَ [البقرة:
178]، قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقِصَاصَ فِي الْقَتْلَى يَكُونُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ الْمُقْتَتِلَتَيْن قِتَالَ عَصَبِيَّةٍ وَجَاهِلِيَّةٍ؛ فَيُقْتَلُ مِن هَؤُلَاءِ وَمِن هَؤلَاءِ، أَحْرَارٌ وَعَبِيدٌ وَنِسَاءٌ، فَأَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِالْعَدْلِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ، بِأَنْ يُقَاصَّ دِيَةُ حُرٍّ بِدِيَةِ حُرٍّ، وَدِيَةُ امْرَأَةٍ بِدِيَةِ امْرَأَةٍ، وَعَبْدٍ بِعَبْدٍ، فَإِنْ فَضَلَ لِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ شَيْءٌ بَعْدَ الْمُقَاصَّةِ فَلْتَتْبَعِ الْأُخْرَى بِمَعْرُوفِ، وَلْتؤَدِّ الْأُخْرَى إلَيْهَا بِإِحْسَانٍ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْقِصَاصَ هُوَ الْقَوَدُ، وَهُوَ أَخْذُ الدِّيَةِ بَدَلَ الْقَتْلِ.
وَالْمُرَادُ عَلَى هَذَا الْقَوْل أَنْ يُقْتَلَ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى.
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَقَد ذَكَرَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ
(1)
.
وَيَحْتَجُّ بِهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد عَلَى أَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ؛ لِقَوْلِهِ: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] فَيَنْقُض ذَلِكَ عَلَيْهِ بِالْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ قَالَ: {وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [البقرة: 178]، وَطَائِفَةٌ مِن الْمُفَسِّرِينَ لَمْ يَذْكُرُوا إلَّا هَذَا الْقَوْلَ
(2)
.
وعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَإِنَّهُ إذَا جُعِلَ ظَاهِرُ الْآيَةِ لَزِمَتْهُ إشْكَالَاتٌ؛ لَكِنَّ الْمَعْنَى الثَّانِي هُوَ مَدْلُولُ الْآيَةِ وَمُقْتَضَاهُ وَلَا إشْكَالَ عَلَيْهِ؛ [بِخِلَافِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يُسْتَفَادُ مِن دَلَالَةِ الْآيَةِ،
(3)
، كَمَا سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى، وَمَا ذَكَرْنَاهُ يَظْهَرُ مِن وُجُوهٍ:
(1)
ذكر هذين القولين ابن جرير الطبري رحمه الله حيث قال: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: تأويله: فمن تُرك له من القتل ظلمًا، من الواجب كان لأخيه عليه من القصَاص -وهو الشيء الذي قال الله:"فمن عُفي له من أخيه شيء"- فاتباعٌ من العافي للقاتل بالواجب له قبَله من الدية، وأداءٌ من المعفوِّ عنه ذلك إليه بإحسان.
وقال آخرون معنى قوله: "فمن عُفي"، فمن فَضَل له فضل، وبقيتْ له بقية. وقالوا: معنى قوله: "من أخيه شيء": من دية أخيه شيء، أو من أرْش جراحته، فاتباع منه القاتلَ أو الجارحَ الذي بَقي ذلك قبله بمعروف، وأداء من القاتل أو الجارح إليه ما بقي قبله له من ذلك بإحسان.
وهذا قول من زعم أن الآية نزلت - أعني: قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} - في الذين تحاربوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمِر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُصلح بينهم، فيقاصَّ ديات بعضهم من بعض، ويُردّ بعضُهم على بعض بفضل إن بَقي لهم قبل الآخرين.
وأحسب أن قائلي هذا القول وَجَّهوا تأويل "العفو" -في هذا الموضع- إلى: الكثرة من قول الله تعالى ذكره: {حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف: 95]، فكانّ معنى الكلام عندهم: فمن كثر له قِبَل أخيه القاتل. تفسير الطبري (3/ 366 - 370).
(2)
في الأصل خطأ يُخلّ بالمعنى إخلالًا كبيرًا، وهو أنّه جعل القول الأول هو القول الثاني والعكس، ولم أر أحدًا نبَّه على هذا.
(3)
الذي يظهر لي أنّ هذه العبارة مقحمة، ولا معنى لها. والله أعلم.
أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَالَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} والْقِصَاصُ: مَصْدَرُ قَاصَّهُ يُقَاصُّة مُقَاصَّةً وَقِصَاصًا، وَمِنْهُ مُقَاصَّةُ الدَّيْنَيْنِ أَحَدُهُمَا بِالْآخِرِ، وَالْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ الْجَمِيعُ قَتْلَى كَمَا ذَكَرَ الشَّعْبِيُّ فَيُقَاصُّ هَؤُلَاءِ الْقَتْلَى بِهَؤلَاءِ الْقَتْلَى، أَمَّا إذَا قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا فَالْمَقْتُولُ مَيِّتٌ، فَهُنَا الْمَقْتُولُ لَا مُقَاصَّةَ فِيهِ، وَلَكِنَّ الْقِصَاصَ أَنْ يُمَكَّنَ مِن قَتْلِ الْقَاتِلِ لَا غَيْرِهِ.
وأَيْضًا: فَنَفْسُ انْقِيَادِ الْقَاتِلِ لِلْوَلِيِّ لَيْسَ هُوَ قِصَاصًا؛ بَل الْوَلِيُّ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ، وَلَهُ أَنْ لَا يَقْتَصَّ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا قَوْدًا لِأَنَّ الْوَلِيَّ يَقُودُهُ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ تَسْلِيمِ السِّلْعَةِ إلَى الْمُشْتَرِي.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178]، لَفْظُ (عُفِيَ) هُنَا قَد اُسْتُعْمِلَ مُتَعَدِّيًا؛ فَإِنَّهُ قَالَ:(عُفِيَ)(شَيْءٌ) وَلَمْ يَقُلْ: (عَفَا)(شَيْئًا) وَهَذَا إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْفِعْلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة ة 219]، وَأَمَّا الْعَفْوُ عَن الْقَتْلِ فَذَاكَ يُقَالُ فِيهِ: عَفَوْت عَن الْقَاتِلِ، فَوَلِيُّ الْمَقْتُولِ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ: بَيْنَ أَنْ يَعْفُوَ عَن الْقَتْلِ وَيَأْخُذَ الدِّيَةَ، فَلَمْ يُعْفَ لَهُ شَيْءٌ؛ بَل هُوَ عَفَا عَن الْقَتْلِ.
وَقَد قَالَ بَعْضُهُمْ: {مِنْ أَخِيهِ} [البقرة: 178]؛ أَيْ: مِن دَمِ أَخِيهِ؛ أَيْ: تَرَكَ لَهُ الْقَتْلَ وَرَضِيَ بِالدِّيَةِ؛ وَالْمُرَادُ الْقَاتِلُ؛ يَعْنِي: أَنَّ الْقَاتِلَ عُفِيَ لَهُ مِن دَمِ أَخِيهِ الْمَقْتُولِ؛ أَيْ: تَرَكَ لَهُ الْقَتْلَ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: أَنَّ الْوَلِيَّ عَفَا لِلْقَاتِلِ مِن دَمِ الْمَقْتُولِ شَيْئًا، وَهَذَا كَلَامٌ لَا يُعْرَفُ، لَا يُقَالُ: عَفَوْت لَك شَيْئًا، وَلَا يُقَالُ: عَفَوْت مِن دَمِ الْقَاتِلِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُقَالُ: إنَّهُ عَفَا عَن الْقَاتِلِ، فَأيْنَ هَذَا مِن هَذَا؟
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ
(1)
، فَالْمُتَقَاصَّانِ إذَا تَعَادَّا الْقَتْلَى فَمَن غفِيَ لَهُ؛
(1)
أي: أَنَ الْقِصَاصَ فِي الْقَتْلَى يَكُونُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ الْمُقْتَتِلَتَيْن قِتَالَ عَصَبِيَّةٍ وَجَاهِلِيَّةٍ.
وهذا يُؤكد ما ذكرتُه أنّ ما جاء في القول الثاني صوابه أن يكون هو القول الأول كما أثبتُه.
أَيْ: فَضَلَ لَهُ مِن مُقَاصَّةِ أَخِيهِ مُقَاصَّةٌ أُخْرَى؛ أَيْ: هَذَا الَّذِي فَضَلَ لَهُ فَضْلٌ، {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178] فَهَذَا الْمُسْتَحِقّ لِلْفَضْلِ يَتَّبع الْمُقَاصَّ الْآخَرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى هَذَا بِإِحْسَانٍ {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178]؛ أَيْ: مِن أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ تُودِي
(1)
قَتْلَى الْأُخْرَى، فَإِنَّ فِي هَذَا تَثْقِيلًا عَظِيمًا لَهُ، {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]، فَإِنَّهُم إذَا تَعَادُّوا الْقَتْلَى وَتَقَاصُّوا وَتَعَادَلُوا لَمْ يَبْقَ وَاحِدَةٌ تَطْلُبُ الْأُخْرَى بِشَيْءٍ، فَحَيِيَ هَؤُلَاءِ وَحَيِيَ هَؤُلَاءِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَتَقَاصُّوا، فَإِنَّهُم يَتَقَاتَلُونَ وَتَقُومُ بَيْنَهُم الْفِتَنُ الَّتِي يَمُوت فِيهَا خَلَائِقُ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي فِتَنِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، إنَّمَا تَقَعُ الْفِتَنُ لِعَدَمِ الْمُعَادَلَةِ وَالتَّنَاصُفِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ، وَإِلَّا فَمَعَ التَّعَادُلِ وَالتَّنَاصُفِ الَّذِي يَرْضَا بِهِ أُولُو الْأَلْبَابِ لَا تَبْقَى فِتْنَةٌ.
وَقَوْلُ مَن قَالَ: إنَّ قَوْلَهُ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} مَعْنَاهُ: أَنَّ الْقَاتِلَ إذَا عَرَفَ أَنَّهُ يُقْتَلُ كَفَّ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ حَيَاةٌ لَهُ وَللْمَقْتُولِ.
يُقَالُ لَهُ: هَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ؛ وَلَكِنَّ هَذَا مِمَّا يَعْرِفُهُ جَمِيعُ النَّاسِ، وَهُوَ مَغْرُوزٌ فِي جِبِلَّتِهِمْ.
وَإِذَا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى مِن أَوَائِلِ مَا يَعْرِفُهُ الْآدَمِيّونَ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُم لَا يَعِيشُونَ بِدُونِهِ صَارَ هَذَا مِثْلُ حَاجَتِهِمْ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَاب وَالسُّكْنَى؛ فَالْقُرْآنُ أَجَلُّ مِن أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ التَّعْرِيفَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الْبَدِيهِيَّةِ
(2)
؛ بَل هَذَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي مَعْنَاهُ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَتَبَ عَلَيْهِم الْقِصَاصَ فِي الْمَقْتُولِينَ أَنَّهُ يَسْقُطُ حُرٌّ بِحُرٍّ
(1)
أي: يفدي.
تنبيه: في الأصل: (تُؤَدِّي)، ولعل المثبت هو الصواب؛ والمعنى يقتضيه.
(2)
فيه استخدام هذه الكلمة، خلافًا لمن منعها، وصوّب: بدهيّ، ومثله: طبيعي، فقد استخدمها الشيخ وغيرُه.
وفيه أن القرآن يُنزّه عن أنْ يقرر الأمور البديهية التي لا نفع من معرفتها، وكثيرًا ما يغلط بعض الناس في تنزيل معنى آية على ما هو معلوم بديهةً، مثل من يقول: معنى قوله تعالى: {النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} نسبة إلى أم القرى، ولا فائدة من هذه النسبة للنبي.
وَعَبْدٌ بِعَبْدٍ وَأُنْثَى بأُنْثَى، فَجَعَلَ دِيَةَ هَذَا كَدِيَةِ هَذَا، وَدَمَ هَذَا كَدَمِ هَذَا، مُتَضَمِّنٌ لِمُسَاوَاتِهِمْ فِي الدِّمَاءِ وَالدِّيَاتِ، وَكَانَ بِهَذِهِ الْمُقَاصَّةِ لَهُم حَيَاةٌ مِن الْفِتَنِ الَّتِي تُوجِبُ هَلَاكَهُم كَمَا هُوَ مَعْرْوفٌ.
وَأَمَّا قَتْلُ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ وَالذَّكَرِ بِالْأُنْثَى فَالْآيَةُ لَمْ تَتَعَرَّضْ لَهُ لَا بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ، وَلَا لَهَا مَفْهُومٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ، لَا مَفْهُومَ مُوَافَقَةٍ وَلَا مُخَالَفَةٍ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ فِي الْمُقَاصَّةِ يُقَاسُ الْحرُّ بِالْحُرِّ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ، وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى، لِتَسَاوِي الدِّيَاتِ: دَلَّ ذَلِكَ عَلَى قَتْلِ النَّظِيرِ بِالنَّظِيرِ، وَالْأدْنَى بِالْأَعْلَى.
يَبْقَى قَتْل الْأَعْلَى الْكَثِيرِ الدِّيَةِ بِالْأَدْنَى الْقَلِيلِ الدِّيَةِ، لَيْسَ فِي الْآيَةِ تَعَرُّضٌ لَهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا ابْتِدَاءَ الْقَوَدِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ الْمُقَاصَّةَ فِي الْقَتْلَى لِتَسَاوِي دِيَاتِهِمْ.
وَدَلَّت الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَى يُؤْخَذُ لَهُم دِيَات، فَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الدّيَةِ عَلَى الْقَاتِلِ، وَأَنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلَافِ الْمَقْتُولِينَ، وَهَذَا مِمَّا مَنَّ اللَّه بِهِ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ أَثْبَتَ الْقِصَاصَ وَالدِّيَةَ.
وَأمَّا كَوْنُ الْعَفْوِ هُوَ قَبُولُ الدِّيَةِ فِي الْعَمْدِ، وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهَا الْعَافِي بِمُجَرَّدِ عَفْوِهِ فَالْآيَةُ لَمْ تتعَرَّضْ لِهَذَا.
وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الطَّوَائِفَ الْمُمْتَنِعَةَ تضَمِّنُ كُل مِنْهُمَا مَا أَتْلَفَتْهُ الْأُخْرَى مِن دَمٍ وَمَالٍ بِطَرِيقِ الظُّلْمِ؛ لِقَوْلِهِ: {مِنْ أَخِيهِ} [البقرة: 178]، بِخِلَافِ مَا أَتْلَفَهُ الْمُسْلِمُونَ لِلْكُفَّارِ وَالْكفَّارُ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا الْقِتَالُ بِتَأوِيلٍ كَقِتَالِ أَهْلِ الْجَمَلِ وصفين، فَلَا ضَمَانَ فِيهِ أَيْضًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْكُفَارُ الْمُتَأَوِّلُونَ لَا يَضْمَنُونَ فَالْمُسْلِمُونَ الْمُتَأَوّلُونَ أَوْلَى أَنْ لَا يَضْمَنُوا.
وَدَلَّت الْآيَةُ عَلَى أَنَّ هَذَا الضَّمَانَ عَلَى مَجْمُوعِ الطَّائِفَةِ يَسْتَوِي فِيهِ الرِّدْءُ وَالْمُبَاشِرُ، لَا يُقَالُ: اُنْظُرُوا مَن قَتَلَ صَاحِبَكُمْ هَذَا فَطَالِبُوهُ بِدِيَتِهِ، بَل يُقَالُ: دِيَتُهُ
عَلَيْكُمْ كُلُّكُمْ، فَإِنَّكُمْ جَمِيعًا قَتَلْتُمُوهُ؛ لِأَنَّ الْمُبَاشِرَ إنَّمَا تَمَكَّنَ بِمُعَاوَنَةِ الرَّدْءِ لَهُ.
وَلَيْسَ فِي الْعَبْدِ نُصُوصٌ صَرِيحَةٌ صَحِيحَة كَمَا فِي الذِّمِّي؛ بَل مَا رُوِيَ "من قتل عبده قتلناه به"
(1)
وَهَذَا لِأَنَّهُ إذَا قَتَلَهُ ظَالِمًا كَانَ الْإِمَامُ وَليَّ دَمِهِ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ كَمَا لَا يَرِثُ الْمَقْتُولَ إذَا كَانَ حُرًّا، فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ وَليَّ دَمِهِ إذَا كَانَ عَبْدًا؛ بَل هَذَا أوْلَى، كَيْفَ يَكُونُ وَليَّ دَمِهِ وَهُوَ الْقَاتِلُ؟ بَل لَا يَكُونُ وَليَّ دَمِهِ؛ بَل وَرَثَةُ الْقَاتِلِ السَّيِّدُ؛ لِأَنَّهُم وَرَثَتُهُ وَهُوَ بِالْحَيَاةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ وِلَايَة حَتَّى تَنْتَقِلَ إلَيْهِمْ، فَيَكُونُ وَليَّهُ الْإِمَامُ، وَحِينَئِذٍ فَلِلْإِمَامِ قَتْلُهُ، فَكُلُّ مَن قَتَلَ عَبْدَهُ كَانَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ. [14/ 73 - 87]
1436 -
قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217] مِن بَابِ بَدَلِ الاِشْتِمَالِ
(2)
وَالسُّؤَالُ إنَّمَا وَقَعَ عَن الْقِتَالِ فِيهِ، فَلِمَ قُدِّمَ الشَّهْرُ وَقَد قُلْتُمْ: إنَّهُم يُقَدّمُونَ مَا بَيَانُهُ أَهَمُّ وَهُم بِهِ أَعْنَى؟
قِيلَ: السُّؤَالُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُم إلَّا بَعْدَ وُقُوعِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ، وَتَشْنِيعِ أَعْدَائِهِمْ عَلَيْهِم انْتِهَاكَهُ وَانْتِهَاكَ حُرْمَتِهِ، وَكَانَ اهْتِمَامُهُم بِالشَّهْرِ فَوْقَ اهْتِمَامِهِمْ بِالْقِتَالِ؛ فَالسُّؤَالُ إنَّمَا وَقَعَ مِن أَجْلِ حُرْمَةِ الشَهْرِ؛ فَلِذَلِكَ قُدّمَ فِي الذِّكْرِ، وَكَانَ تَقْدِيمُهُ مُطَابِقًا لِمَا ذَكَرْنَا مِن الْقَاعِدَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْفَائِدَةُ فِي إعَادَةِ ذِكْرِ الْقِتَالِ بِلَفْظِ الظَّاهِرِ وَهَلَّا اكْتَفَى بِضَمِيرِهِ فَقَالَ: هُوَ كَبِيرٌ؟
(1)
رواه الترمذي (1414)، وأبو داود (4515)، وضعَّفه الألباني.
(2)
بدل اشتمال: هو أَن يكون المبدل منه مشتملًا على البدل، مثل أعجبني أخوك فهمُه.
وللتوضيح: إذا قلت: أعجبني الكتاب، جاز للسامع أن ينسب الإعجاب إلى محتواه أو شكله، أو لونه أو جودة طباعته؛ لأن الإعجاب يحتمل هذه المعاني مفردة ومجتمعة، وبشتمل عليها ضمنًا.
فإذا قلت: أعجبني الكتاب علمُه: تعين معنى واحد من تلك المعاني التي يتضمنها العامل (أعجب).
قِيلَ: فِي إعَادَتِهِ بِلَفْظِ الظَاهِرِ بَلَاغَةٌ بَدِيعَةٌ، وَهُوَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ الْخَبَرِيِّ بِاسْمِ الْقِتَال فِيهِ عُمُومًا، وَلَو أَتَى بِالْمُضْمَرِ فَقَالَ: هُوَ كَبِيرٌ لَتُوِهِّمَ اخْتِصَاصُ الْحُكْمِ بِذَلِكَ الْقِتَالِ الْمَسْؤُولِ عَنْهُ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ قِتَالٍ وَقَعَ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ.
وَقَرِيبٌ مِن هَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)} [الأعراف: 175]، وَلَمْ يَقُلْ:{أَجْرَهُمْ} [النحل: 96] تَعْلِيقًا لِهَذَا الْحُكْمِ بِالْوَصْفِ، وَهُوَ كَوْنُهُم مُصْلِحِينَ، وَلَيْسَ فِي الضَّمِيرِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ.
وَقَرِيبٌ مِنْهُ -وَهُوَ أَلْطَفُ مَعْنَى- قَوْله تَعَالَى: [البقرة: 222]، وَلَمْ يَقُلْ:{فِيهِ} [البقرة: 248] تَعْلِيقًا بِحُكْمِ الاِعْتِزَالِ بِنَفْسِ الْحَيْضِ، وَأَنَّهُ هُوَ سَبَبُ الاِعْتِزَالِ
(1)
. [14/ 88 - 90]
1437 -
قَوْلُهُ: {مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164]؛ أَيْ: لَيْسَ الْمُقَوِّي لَهُ
(2)
مِن خَارجٍ؛ كَالَّذِي يَثْبُتُ وَقْتَ الْحَرْبِ لِإِمْسَاكِ أَصْحَابِهِ لَهُ، وَهَذَا كقَوْلِهِ:{وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)} [الشورى: 37] بَل تَثَبُّتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ مِن جِهَةِ نَفْسِهِ
(3)
. [14/ 95]
1438 -
فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)} [البقرة: 284]،
(1)
فمتى وُجد الحيض وجب اعتزال النساء في الجماع، وحرم عليهن الصلاة والصيام، ولم يُقيد ذلك بزمن، ومتى فُقد الحيض جاز الجماع، ووجبت الصلاة والصوم.
والحيض يُخرج الاستحاضة والدم الفاسد، فهذا الدم لا اعتبار له.
(2)
على الإنفاق والصدقة والبذل والكرم.
(3)
أي: من إيمانه وقناعته وحبه للبذل وتفريج الكرب.
قَد ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ"
(1)
عَن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَوْا رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ، وَقَالُوا: أَيْ رَسُولَ اللّهِ، كُلِّفْنَا مِن الْعَمَلِ مَا نُطِيقُ: الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ؛ وَقَد نَزَلَتْ عَلَيْك هَذِهِ الْآيَةُ وَلَا نُطِيقهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِن قَبْلِكمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَك رَبَّنَا وَإِلَيْك الْمَصِيرُ"، فَلَمَّا قَرَأَهَا الْقَوْمُ وَذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُم أَنْزَلَ اللهُ فِي أَثَرِهَا:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)} [البقرة: 285] فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللّهُ فَأَنْزَلَ اللّهُ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، قَالَ: نَعَمْ {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286] قَالَ: نَعَمْ {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286، قَالَ: نَعَمْ. {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286] قَالَ: نَعَمْ".
وَلهَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِن السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: إنَّهَا مَنْسُوخَة بِقَوْلِهِ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} .
وَنُقِلَ عَن آخَرِينَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً، بَل هِيَ ثَابِتَةٌ فِي الْمُحَاسَبَةِ عَلَى الْعُمُومِ فَيَأْخُذُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ.
وفَصْلُ الْخِطَابِ: أَنَّ لَفْظَ "النَّسْخِ" مُجْمَلٌ، فَالسَّلَفُ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَهُ فِيمَا يُظَنُّ دَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَيْهِ مِن عُمُومٍ، أَو إطْلَاقٍ، أَو غَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ مَن قَالَ: إنَّ قَوْلَهُ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102]، {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ
(1)
(125).
جِهَادِهِ} [الحج: 78] نُسِخَ بِقَوْلِهِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وَلَيْسَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ تَنَاقُضٌ، لَكِنْ قَد يَفْهَمُ بَعْضَ النَّاسِ مِن قَوْلِهِ:{حَقَّ تُقَاتِهِ} و {حَقَّ جِهَادِهِ} الْأمْرَ بِمَا لَا يَسْتَطِيعُهُ الْعَبْدُ، فَيَنْسَخُ مَا فَهِمَهُ هَذَا، كَمَا يَنْسَخُ اللّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ وَيُحْكِمُ اللّهُ آيَاتِهِ، وَإِن لَمْ يَكُن نسْخُ ذَلِكَ نَسْخَ مَا أَنْزَلَهُ، بَل نَسْخُ مَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ: إمَّا مِن الْأَنْفُسِ، أَو مِن الْأَسْمَاعِ، أَو مِن اللِّسَانِ.
وَكَذَلِكَ يَنْسَخُ اللّهُ مَا يَقَعُ فِي النُّفُوسِ مِن فَهْمِ مَعْنًى، وَإِن كَانَت الْآيَةُ لَمْ تَدُلَّ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ مُحْتَمَلٌ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مِن هَذَا الْبَابِ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ:{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} الْآيَةَ [البقرة: 284]، إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللّهَ يُحَاسِبُ بِمَا فِي النُّفُوسِ لَا عَلَى أَنَّهُ يُعَاقِبُ عَلَى كُلِّ مَا فِي النُّفوسِ، وَقَوْلَهُ:{لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 284] يَقْتَضِي أَنَّ الْأمْرَ إلَيْهِ فِي الْمَغْفِرَةِ وَالْعَذَابِ لَا إلَى غَيْرِهِ. وَلَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَغْفِرُ وَيُعَذِّبُ بِلَا حِكْمَةٍ وَلَا عَدْلٍ.
قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ؛ أَيْ: لَا تُحَمِّلْنَا مَا يَثْقُلُ عَلَيْنَا أَدَاؤُهُ، وَإِن كُنَّا مُطِيقِينَ لَهُ عَلَى تَجَشُّمٍ وَتَحَمُّلِ مَكْرُوهٍ.
قَالَ: فَخَاطَبَ الْعَرَبَ عَلَى حَسَب مَا تَعْقِلُ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُم يَقُولُ لِلرَّجُلِ: مَا أُطِيقُ النَّظَرَ إلَيْك وَهُوَ مُطِيقٌ لِذَلِكَ؛ لَكِنَّهُ ثَقِيلٌ عَلَيْهِ النَّظَرُ إلَيْهِ، قَالَ: وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} [هود: 20].
قُلْت لَيْسَتْ هَذِهِ لُغَةُ الْعَرَبِ وَحْدَهُمْ؛ بَل هَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُقَلَاءُ.
والاِسْتِطَاعَةُ فِي الشَّرْعِ: هِيَ مَا لَا يَحْصُلُ مَعَهُ لِلْمُكَلَّفِ ضَرَرٌ رَاجِحٌ كَاسْتِطَاعَةِ الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ، فَمَتَى كَانَ يَزِيدُ فِي الْمَرَضِ أَو يُؤَخّرُ الْبُرْءَ لَمْ يَكُن مُسْتَطِيعًا؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَضَرَّةً رَاجِحَةً؛ بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُم كَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ، لِبُغْضِ الْحَقِّ وَثقَلِهِ عَلَيْهِمْ: إمَّا حَسَدًا لِقَائِلِهِ، وَإِمَّا اتّبَاعًا لِلْهَوَى وَرَيْنِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي عَلَى الْقُلُوبِ، وَلَيْسَ هَذَا عُذْرًا، فَلَو لَمْ يَأْمُرِ الْعِبَادَ إلَّا بِمَا يَهْوُونَهُ لَفَسَدَت السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ.
وَالْوُسْعُ: فِعْلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ؛ أَيْ: مَا يَسَعُهُ، لَا يُكَلِّفُهَا مَا تضِيقُ عَنْهُ فَلَا تَسَعُهُ، وَهُوَ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ الْمُسْتَطَاعُ.
1439 -
قَالَ اللّه تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] تَأمَّلْ قَوْلَهُ عز وجل: {وُسْعَهَا} [البقرة: 286] كَيْفَ تَجِدُ تَحْتَهُ أَنَّهُم فِي سَعَةٍ وَمِنْحَةٍ مِن تَكَالِيفِهِ، لَا فِي ضِيقٍ وَحَرَجٍ وَمَشَقَّةٍ، فَإِنَّ الْوُسْعَ يَقْتَضِي ذَلِكَ فَاقْتَضَتْ الْآيَةُ أَنَّ مَا كَلَّفَهُم بِهِ مَقْدُورٌ لَهُم مِن غَيْرِ عُسْرٍ لَهُم وَلَا ضِيقٍ وَلَا حَرِجٍ. [14/ 138]
1440 -
فصل: فِي الدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ فِي آخِرِ (سُورَةِ الْبَقَرَةِ) وَهُوَ قَوْلُهُ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} إلَى آخِرِهَا، قَد ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ:"أَنَّهُ قَالَ: قَد فَعَلْت".
قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إذَا كَانَ هَذَا الدُّعَاءُ قَد أُجِيبَ فَطَلَبُ مَا فِيهِ مِن بَابِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وَهَذَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَيَكُونُ هَذَا الدُّعَاءُ عِبَادَة مَحْضَةً لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهِ السُّؤَالَ.
وَقَد بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَؤُلَاءِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .. وَذَكَرْنَا أَنَّ الْقَوْلَ الثَّالِثَ هُوَ الصَّوَابُ، وَهُوَ أَنَّ الدُّعَاءَ وَالتَّوَكُّلَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ سَبَبٌ فِي حُصُولِ الْمَدْعُوِّ بِهِ مِن خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْمَعَاصِي سَبَبٌ، وَأَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّقَ بِالسَّبَبِ قَد يَحْتَاجُ إلَى وُجُودِ الشَّرْطِ وَانْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ، فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ حَصَلَ الْمُسَبَّب بِلَا رَيْبٍ.
وَقَد أُجِيبَ بِجَوَابٍ آخَرَ: وَهُوَ أَنَّ اللّهَ تَعَالَى إذَا قَدَّرَ أَمْرًا فَإِنَّهُ يُقَدِّرُ أَسْبَابَهُ، وَالدُّعَاءُ مِن جُمْلَةِ أَسْبَابِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا قَدَّرَ النَّصْرَ يَوْمَ بَدْرٍ وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ وُقُوعِهِ أَصْحَابَهُ بِالنَّصْرِ وَبِمَصَارعِ الْقَوْمِ كَانَ مِن أَسْبَابِ ذَلِكَ اسْتِغَاثَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَدُعَاؤُهُ، وَكَذَلِكَ مَا وَعَدَهُ بِهِ رَبُّهُ مِن الْوَسِيلَةِ وَقَد قَضَى بِهَا لَهُ وَقَد أَمَرَ أُمَّتَهُ بِطَلَبِهَا لَهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدَّرَهَا بِأَسْبَاب مِنْهَا مَا سَيَكُونُ مِن الدُّعَاءِ.
وَقَوْلُ اللهِ: "قَد فَعَلْت" يُقَالُ فِيهِ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَما: أَنَّهُ قَد فَعَلَ ذَلِكَ بِالْمُؤمِنِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ، وَالْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ يَتَضَمَّنُ طَاعَةَ اللّهِ وَرَسُولِهِ، فَمَن لَمْ يَكن كَذَلِكَ نَقَصَ إيمَانُهُ الْوَاجِبُ؛ فَيَسْتَحِقُّ مِن سَلْبِ هَذِهِ النِّعَمِ بِقَدْرِ النَّقْصِ، وَيُعَوِّقُ اللّهُ عَلَيْهِ مَلَاذَّ ذَلِكَ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ مِن الْجَزَاءِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مَن قَامَ بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ.
الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: هَذَا الدُّعَاءُ اُسْتُجِيبَ لَهُ فِي جُمْلَةِ الْأَمَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِن ذَلِكَ ثُبُوتُهُ لِكُلِّ فَرْدٍ.
وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ صَحِيحٌ.
وَأَمَّا دَفْعُ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَدَفْعُ الْآصَارِ: فَإِنَّ هَذَا قَد يُشْكِلُ؛ لِأَنَّهُ مِن بَابِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ؛ -أَحْكَامِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ-. فَيُقَالُ: الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ الْمَرْفُوعُ عَن الْأُمَّةِ مَرْفُوعٌ عَن عُصَاةِ الْأُمَّةِ؛ فَإِنَّ الْعَاصِيَ لَا يَأْثَمُ بِالْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ؛ فَإِنَّهُ إذَا أَكَلَ نَاسِيًا أَتَمَّ صَوْمَهُ، سَوَاءٌ كَانَ مُطِيعًا فِي غَيْرِ ذَلِكَ أَو عَاصِيًا، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُشْكِلُ وَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الذُّنُوبَ وَالْمَعَاصِيَ قَد تَكُونُ سَبَبًا لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَد يَفْعَلُ شَيْئًا نَاسِيًا أَو مُخْطِئًا وَيَكُونُ لِتَقْصِيرِهِ فِي طَاعَةِ اللّهِ عِلْمًا وَعَمَلًا لَا يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ مَرْفُوعٌ عَنْهُ؛ إمَّا لِجَهْلِهِ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ لَيْسَ هُنَاكَ مَن يُفْتِيهِ بِالرُّخْصَةِ فِي الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ.
وَالْعُلَمَاءُ قَد تَنَازَعُوا فِي كَثِيرٍ مِن مَسَائِلِ الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ، وَاعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنْهُم بُطْلَانَ الْعِبَادَاتِ أَو بَعْضِهَا بِهِ؛ كَمَن يُبْطِلُ الصَّوْمَ بِالنِّسْيَانِ، وَآخَرُونَ بِالْخَطَإِ، وَكَذَلِكَ الْإِحْرَامُ، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَ الْمَخْلُوفَ عَلَيْهِ نَاسِيًا أَو مُخْطِئًا، فَإِذَا كَانَ اللّهُ سُبْحَانَهُ قَد نَفَى الْمُؤَاخَذَةَ بِالْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، وَخَفِيَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ عَلَى كَثِيرٍ مِن عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، كَانَ هَذَا عُقُوبَةً لِمَن لَمْ يَجِدْ فِي نَفْسِهِ ثِقَةً إلَّا هَؤُلَاءِ فَيُفْتُونَهُ بِمَا يَقْتَضِي مُؤَاخَذَتَهُ بِالْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ، فَلَا يَكُونُ مُقْتَضَى هَذَا الدُّعَاءِ حَاصِلًا فِي حَقِّهِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ لَا لِنَسْخِ الشَّرِيعَةِ.
وَاللهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ مِمَّا يُعَاقِبُ بِهِ النَّاسَ عَلَى الذُّنُوبِ سَلْبَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ النَّافِعِ كَقَوْلِهِ: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155].
وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ؛ لِأَجْلِ ظُلْمِهِمْ وَبَغْيِهِمْ، فَشَرِيعَةُ مُحَمَّدٍ لَا تُنْسَخُ، وَلَا تعَاقَبُ أُمَّتُهُ كلُّهَا بِهَذَا، وَلَكِنْ قَد تُعَاقَبُ ظَلَمَتُهُم بِهَذَا، بِأَنْ يُحْرَمُوا الطَّيِّبَاتِ أَو بِتَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ: إمَّا تَحْرِيمًا كَوْنِيًّا بِأَنْ لَا يُوجَدَ غَيْثُهُم وَتَهْلَكَ ثِمَارُهُم وَتُقْطَعَ الْمِيرَةُ عَنْهُمْ، أَو أَنَّهُم لَا يَجِدُونَ لَذَّةَ مأْكَل وَلَا مَشْرَبٍ وَلَا منكح وَلَا مَلْبَسٍ وَنَحْوِهِ، كَمَا كَانُوا يَجِدُونَهَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَتُسَلَّطَ عَلَيْهِم الْغُصَصُ وَمَا يُنَغِّصُ ذَلِكَ وَيُعَوِّقُهُ، وَيَجْرَعُونَ غُصَصَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ وَالْأَهْلِ.
فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُقَصِّرِينَ فِي طَاعَتِهِ مِن الْأُمَّةِ قَد يُؤَاخَذونَ بِالْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، وَمِن غَيْرِ نَسْخٍ بَعْدَ الرَّسُولِ؛ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِن التَّيْسِيرِ، وَلعَدَمِ عِلْمِ مَن عِنْدَهُم مِن الْعُلَمَاءِ بِذَلِكَ
(1)
.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} فَعَلَى قَوْلَيْنِ:
قِيلَ: هُوَ مِن بَابِ التَّحْمِيلِ الْقَدَرِيِّ، لَا مِن بَابِ التَّكْلِيفِ الشَّرْعِي؛ أَيْ: لَا تَبْتَلِينَا بِمَصَائِبَ لَا نُطِيقُ حَمْلَهَا، كَمَا يُبْتَلَى الْإِنْسَانُ بِفَقْرٍ لَا يُطِيقُهُ أَو مَرَضٍ لَا يُطِيقُهُ أَو حَدَث أَو خَوْفٍ أَو حُبٍّ أَو عِشْقٍ لَا يُطِيقُهُ، وَيَكُونُ سَبَبُ ذَلِكَ ذُنُوبَهُ.
وَهَذَا مِمَّا يُبَيّنُ أَنَّ الذُّنُوبَ عَوَاقِبُهَا مَذْمُومَةٌ مُطْلَقًا
(2)
. [14/ 142 - 156]
1441 -
الصَّحِيحُ فِي قَوْلِهِ -تعالى-: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة: 4] أَنَهُ وَالَّذِي قَبْلَهُ
(3)
صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِن الْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِهِ، وَالْعَطْفُ لِتَغَايُرِ الصِّفَاتِ؛ كَقَوْلِهِ: {هُوَ
(1)
لم يذكر الجواب الثاني.
(2)
لم يذكر القول الثاني.
(3)
أي: قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} .
الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3]، وَقَوْلِهِ:{الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4)} [الأعلى: 2 - 4].
وَمَن قَالَ: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3]، أَرَادَ بِهِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَقَوْلِهِ:{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة: 4]، أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَهْل الْكِتَابِ: فَقَد غَلِطَ، فَإِنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لَمْ يُؤْمِنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِهِ فَلَمْ يَكُونُوا مُفْلِحِينَ، وَأَهْلُ الْكتَابِ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالْغَيْب وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُم يُنْفِقُونَ لَمْ يَكُونُوا مُفْلِحِينَ؛ وَلهَذَا قَالَ تَعَالَى:{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} [البقرة: 5]، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُم صِنْفٌ وَاحِدٌ. [27/ 275]
1442 -
ذَمَّ سُبْحَانَهُ مَن كَتَمَ الْعِلْمَ الَّذِي أَنْزَلَهُ وَمَا فِيهِ مِن الشَّهَادَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 140]؛ أَيْ: عِنْدَهُ شَهَادَةٌ مِن اللّهِ وَكَتَمَهَا، وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي بَيَّنَهُ اللّهُ، فَإِنَّهُ خَبَرٌ مِن اللهِ وَشَهَادَة مِنْهُ بِمَا فِيهِ
(1)
. [14/ 186]
1443 -
قَالَ اللّهُ تَعَالَى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]، قَوْلُهُ:{فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: {عَاكِفُونَ} [البقرة: 187] لَا بِقَوْلِهِ: {تُبَاشِرُوهُنَّ} ، فَإِنَّ الْمُبَاشَرَةَ فِي الْمَسْجِدِ لَا تَجُوز لِلْمُعْتَكِفِ وَلَا لِغَيْرِهِ، بَل الْمُعْتَكِفُ فِي الْمَسْجِدِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُبَاشِرَ إذَا خَرَجَ مِنْهُ لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ. [26/ 216]
1444 -
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] لَيْسَ فِيهِ أَنَّ بَعْضَ اللهِ
(1)
قال القاسمي رحمه الله في محاسن التأويل في معنى الآية: وَمَن أَظْلَمُ مِمَن كَتَمَ شَهادَةً موجودة ومودعة عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وهو كتمان العلم الذي هو الإخبار بما أنزل الله. اهـ.
فالآية فيها أعظم الوعيد للذين يكتمون العلم بحجة التواضع أو الحياء، ويعظم الوعيد إذا كان كتمان العلم نابعًا عن الكسل والخمول، فهؤلاءِ ظلمة، وعَمَلُهم هذا من أعظم الظلم، وأشد الإثم، وقبح اللّه الجهل كيف يُزين لصاحبه القبيح، ويُقبح له الحسن.
صَارَ فِي عِيسَى، بَل (مِنْ) (5) لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ؛ كَمَا قَالَ:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13][الجاثية: 13]، وَقَالَ:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53].
وَمَا أُضِيفَ إلَى اللهِ أَو قِيلَ هوَ مِنْهُ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أ - إنْ كَانَ عَيْنا قَائِمَةً بِنَفْسِهَا فَهُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ، وَ (مِنْ)(5) لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ.
ب - وَمَا كَانَ صِفَةً لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ؛ كَالْعِلْمِ وَالْكَلَامِ فَهُوَ صِفَةٌ لَهُ، كَمَا يُقَالُ: كَلَامُ اللّهِ وَعِلْمُ اللّهِ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى:{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102]. [17/ 282 - 283]
1445 -
الصَّوَابُ قَوْلُ مَن فَسَّرَ {أو ننسأها} ؛ أَيْ: نُؤَخّرُهَا عِنْدَنَا فَلَا ننزِلُهَا.
وَالْمَعْنَى: أَنَ مَا نَنْسَخُهُ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أَنْزَلْنَاهَا أَو نُؤَخِّرُ نُزُولَهُ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي لَمْ نُنَزلْهَا بَعْدَ {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، فَكَمَا أَنَّهُ يُعَوِّضُهُم مِنَ الْمَرْفُوعِ يُعَوِّضُهُم مِنَ الْمُنْتَظَرِ الَّذِي لَمْ يُنَزلْهُ بَعْدُ إلَى أَنْ يُنَزلَهُ، فَإِنَّ الْحِكمَةَ اقْتَضَتْ تَأْخِيرَ نُزُولِهِ فَيُعَوِّضُهُم بِمِثْلِهِ أَو خَيْرٍ مِنْهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إلَى أَنْ يَجِيءَ وَقْتُ نُزُولهِ، فَيُنْزِلُهُ أَيْضًا مَعَ مَا تَقَدَّمَ، وَيَكُونُ مَا عَوَّضَهُ مِثْلَهُ أَو خَيْرًا مِنْهُ قَبْلَ نزُولهِ.
وَأَمَّا مَا أَنْزَلَهُ إلَيْهِم وَلَمْ يَنْسَخْهُ فَهَذَا لَا يَحْتَاجُ إلَى بَدَلٍ، وَلَو كَانَ كُلُّ مَا لَمْ يَنْسَخْهُ اللّهُ يَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهُ أَو مِثْلِهِ لَزِمَ إنْزَالُ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ. [17/ 188 - 189]
1446 -
لَا يُقَالُ: إنَّ آدَمَ وَلَدَ حَوَّاءَ، وَلَا يُقَالُ إنَّهُ أَبُو حَوَّاءَ، بَل خَلَقَ اللّهُ حَوَّاءَ مِن آدَمَ كَمَا خَلَقَ آدمَ مِنَ الطِّينِ. [17/ 266]
1447 -
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)} [البقرة: 171]، وَقَالَ عَن الْمُنَافِقِينَ:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)} [البقرة: 18].
وَمِن النَّاسِ مَن يَقُولُ: لَمَّا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالنُّطْقِ: جُعِلُوا صُمًّا بُكْمًا عُمْيًا، أَو لَمَّا أعْرَضُوا عَن السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالنُّطْقِ صَارُوا كَالصُّمِّ الْعُمْيِ الْبُكْمِ.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَل نَفْسُ قلُوبِهِم عَمِيَتْ وَصَمَّتْ وَبَكِمَتْ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].
وَالْقَلْبُ: هُوَ الْمَلِكُ، وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ، وَإِذَا صَلَحَ صَلَحَ سَائِرُ الْجَسَدِ، وَإِذَا فَسَدَ فَسَدَ سَائِرُ الْجَسَدِ، فَيَبْقَى يَسْمَعُ بِالْأُذُنِ الصَّوْتَ كَمَا تَسْمَعُ الْبَهَائِمُ، وَالْمَعْنَى لَا يَفْقَهُهُ، وَإِن فَقِهَ بَعْضَ الْفِقْهِ لَمْ يَفْقَهْ فِقْهًا تَامًّا؛ فَإِنَّ الْفِقْهَ التَّامَّ يَسْتَلْزِمُ تَأْثِيرُهُ فِي الْقَلْبِ مَحَبَّةَ الْمَحْبُوبِ، وَبُغْضَ الْمَكْرُوهِ، فَمَتَى لَمْ يَحْصُلْ هَذَا لَمْ يَكُن التَّصَوُّرُ التَّامُّ حَاصِلًا فَجَازَ نَفْيُهُ.
لِأَنَّ مَا لَمْ يَتِمَّ: يُنْفَى؛ كَقَوْلِهِ لِلَّذِي أَسَاءَ فِي صَلَاتِهِ: "صَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ"، فَنَفْيُ الْإِيمَانِ حَيْثُ نُفِيَ مِنْ هَذَا الْبَابِ. [7/ 27]
1448 -
قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208]، الْجُمْهُورُ يَقُولُونَ:{فِي السِّلْمِ} ؛ أَيْ: فِي الْإِسْلَامِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ الطَّاعَة، وَكِلَاهُمَا مَأْثُورٌ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكِلَاهُمَا حَقٌّ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {كَافَّةً} فَقَد قِيلَ: الْمُرَادُ اُدْخُلُوا كُلُّكُمْ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ اُدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ جَمِيعِهِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُؤْمَرُ بِعَمَلِ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يُؤمَرُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ.
وقَوْله تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} ؛ أَيْ: قَاتِلُوهُم كُلَّهُمْ، لَا تَدَعُوا مُشْرِكًا حَتَّى تُقَاتِلُوهُ؛ فَإِنَّهَا أُنْزِلَتْ بَعْدَ نَبْذِ الْعُهُودِ، لَيْسَ الْمُرَادُ: قَاتِلُوهُم مُجْتَمِعِينَ أَو جَمِيعُكُمْ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَجِبُ، بَل يُقَاتَلُونَ بحَسَب الْمَصْلَحَةِ، وَالْجِهَادُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَإِذَا كَانَت فَرَائِضُ الْأَعْيَانِ لَمْ يُؤَكِّد الْمَأْمُورِينَ فِيهَا بِـ {كَافَّةً} [التوبة: 36]، فَكَيْفَ يُؤَكِّدُ بِذَلِكَ فِي فُرُوضِ الْكِفَايَةِ؟ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَعْمِيمُ الْمُقَاتِلِينَ.
وَقَوْلُهُ: {كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} فِيهِ احْتِمَالَانِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللهَ أَمَرَ بِالدُّخُولِ فِي جَمِيعِ الْإِسْلَامِ، فَكلُّ مَا كَانَ مِن الْإِسْلَامِ وَجَبَ الدُّخُولُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْأَعْيَان لَزِمَهُ فِعْلُهُ، وَإِن كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْكِفَايَةِ اعْتَقدَ وُجُوبهُ، وَعَزَمَ عَلَيْهِ إذَا تَعَيَّنَ، أَو أَخَذَ بِالْفَضْلِ فَفَعَلَهُ، وَإِن كَانَ مُسْتَحَبًّا اعْتَقَدَ حُسْنَهُ وَأَحَبَّ فِعْلَهُ. [7/ 266 - 267]
1449 -
قوله: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} : هذه القراءة العامة التي في المصحف الإمام، وقد كان ابن عباس يقرأ:"بما آمنتم به"، ويقول: إن الله لا مثل له.
وتلك قراءة صحيحة المعنى، لكن قراءة العامة أحسن وأجمع، فإنه لو قيل: بما آمنتم به، وقيل: إنه أريد به الله، لقالوا: قد آمنا بالله؛ فمانهم لا يكفرون بأصل وجود الخالق، وإنما يكفرون ببعض كتبه ورسله وأسمائه وصفاته ودينه، ولذلك استحقوا اسم الكفر.
وأيضًا: فلو آمنوا بما آمنَّا به من غير أن يؤمنوا بمثل ما آمنَّا به، لم يكونوا مهتدين وإن آمنوا بجميع الأشياء، وذلك أنه سبحانه قال في المائدة لما أباح نساء أهل الكتاب وطعامهم، قال:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} ، والإيمان هو: الإيمان الذي هو الدين، الذي هو الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، فإن الإيمان الذي يجب على العباد اتباعُه يجب الإيمانُ به، فمن كفر بما يفعله المؤمنون من الإيمان، فقد كفر بالله.
وهذا الإيمان الذي في القلوب هو مثلٌ مطابقٌ للحقيقة الخارجة، وما في القلوب من الإيمان متماثل أيضًا، فنحن آمنا بالله، وما أنزل إلينا، وما أنزل إلى إبراهيم، وما أوتي النبيون من ربهم، فإذا آمنوا هم بمثل ما آمنا به -وهو ما في القلوب- فقد اهتدوا، كما أنهم لو كفروا بالإيمان الذي في القلوب لحَبِطَ عملُهم. [المجموعات العليّة 2/ 79 - 80]
* * *
سورة آل عمران
1450 -
قَوْلُهُ تعالى: {اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} [آل عمران: 147] قِيلَ: إنَّ الذنُوبَ هِيَ الصَّغَائِرُ، وَالْإِسْرَافُ هُوَ الْكَبَائِرُ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الذُّنُوبَ اسْمُ جِنْسٍ، وَالْإِسْرَافَ تَعَدِّي الْحَدِّ وَمُجَاوَزَةُ الْقَصْدِ، كَمَا فِي لَفْظِ الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ فَالذُّنُوبُ كَالْإِثْمِ وَالْإِسْرَافُ كَالْعُدْوَانِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ:{غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} [الأنعام: 145] وَمُجَاوَزَةُ قَدْرِ الْحَاجَةِ.
فَالذُّنُوبُ مِثْلُ اتبَاعِ الْهَوَى بِغَيْرِ هُدًى مِن اللهِ، فَهَذَا كُلُّة ذَنْبٌ؛ كَاَلَّذِي يَرْضَا لِنَفْسِهِ ويغْضَبُ لِنَفْسِهِ، فَهُوَ مُتَّبع لِهَوَاهُ.
وَالْإِسْرَافُ كَاَلَّذِي يَغْضَبُ للهِ فَيُعَاقِبُ بِأَكْثَرَ مِمَّا أَمَرَ اللهُ. [11/ 693 - 694]
1451 -
قَالَ تَعَالَى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران: 3، 4]، قَالَ جَمَاهِيرُ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ الْقُرْآنُ. [13/ 7]
1452 -
قَوْله تَعَالَى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] فِي الْمُتَشَابِهَاتِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا آيَات بِعَيْنِهَا تتشَابَهُ عَلَى كُلِّ النَّاسِ.
والثَّانِي: -وَهُوَ الصَّحِيحُ- أَنَّ التَّشَابُهَ أَمْرٌ نِسْبِي، فَقَد يَتَشَابَهُ عِنْدَ هَذَا مَا لَا يَتَشَابَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَلَكِنْ ثَمَّ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ لَا تَشَابُهَ فِيهَا عَلَى أَحَدٍ، وَتلْكَ الْمُتَشَابِهَاتُ إذَا عُرِفَ مَعْنَاهَا صَارَتْ غَيْرَ مُتَشَابِهَةٍ؛ بَل الْقَوْلُ كُلُّهُ مُحْكَمٌ، كَمَا قَالَ:{أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1]. [13/ 144]
1453 -
قَوْله تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)} [آل عمران: 18] الشَّهَادَة تتضَمَّنُ كَلَامَ الشَّاهِدِ وَقَوْلَهُ وَخَبَرَهُ عَمَّا شَهِدَ بِهِ، وَهَذَا قَد يَكونُ مَعَ أَنَّ الشَّاهِدَ نَفْسَهُ يَتَكَلَّمُ بِذَلِكَ وَيَقُولُهُ وَيذْكُرُهُ وَإِن لَمْ يَكُن مُعْلِمًا بِهِ لِغَيْرِهِ وَلَا مُخْبِرًا بِهِ لِسِوَاهُ.
فَهَذِهِ أَوَّلُ مَرَاتِبِ الشَّهَادَة.
ثُمَّ قَد يُخْبِر ويُعْلِمُهُ بِذَلَكَ فَتَكونُ الشَّهَادَةُ إعْلَامًا لِغَيْرِهِ وَإِخْبَارًا لَهُ، وَمَن أَخْبَرَ غَيْرَهُ بِشَيْءٍ فَقَد شَهِدَ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ أو لَمْ يَكُنْ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)} [الزخرف: 19]، وقَوْله تَعَالَى:{وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} الْآيَةَ [يوسف: 81].
فَفِي كِلَا الْمَوْضِعَيْنِ إنَّمَا أَخْبَرُوا خَبَرًا مُجَرَّدًا.
وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا شَهِدَ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَقَد أَخْبَرَ وَبَيَّنَ وَأَعْلَمَ أَنَّ مَا سِوَاهُ لَيْسَ بِإِلَهٍ فَلَا يُعْبَدُ، وَأَنَّهُ وَحْدَهُ الْإِلَهُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ الْأمْرَ بِعِبَادَتِهِ وَالنَّهْيَ عَن عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ.
وَالْعَابِدُونَ إنَّمَا مَقْصُودُهُم أَنْ يَعْبُدُوا مَن هُوَ إلَهٌ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ، فَإِذَا قِيلَ لَهُم كُل مَا سِوَى اللهِ لَيْسَ بِإِلَهِ، إنَّمَا الْإِلَهُ فوَ اللهُ وَحْدَه: كَانَ هَذَا نَهْيًا لَهُم عَن عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ وَأَمْرًا بِعِبَادَتِهِ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا بِالْإِلَهِ مَن عَبَدَهُ عَابِدٌ بِلَا اسْتِحْقَاقٍ. فَالْآلِهَةُ الَّتِي جَعَلَهَا عَابِدُوهَا آلِهَةً يَعْبُذونَهَا كَثِيرَةٌ؛ لَكنْ هِيَ لَا تَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ، فَلَيْسَتْ بِآلِهَةٍ كَمَن جَعَلَ غَيْرَهُ شَاهِدًا أَو حَاكِمًا أَو مُفْتِيًا او أمِيرًا وَهُوَ لَا يُحْسِنُ شَيْئًا مِن ذَلِكَ.
وَشَهَادَةُ الرَّبِّ وَبَيَانُهُ وَإِعْلَامُهُ يَكونُ بِقَوْلِهِ تَارَة وَبِفِعْلِهِ تَارَةً.
فَالْقَوْلُ: هُوَ مَا أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ وَأَوْحَاهُ إلَى عِبَادِهِ.
وَأَمَّا شَهَادَتُهُ بِفِعْلِهِ: فَهُوَ مَا نَصَبَهُ مِن الْأدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ الَّتِي تُعْلَمُ دَلَالَتُهَا بِالْعَقْلِ، وَإِن لَمْ يَكُن هُنَاكَ خَبَرٌ عَن اللهِ. [14/ 168 - 174]
1454 -
قَالَ تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران: 146] الْآيَاتِ، وَالْأَكْثَرُونَ يَقْرَؤُونَ:{قَاتَلَ} ، وَالرِّبِّيُّونَ الْكثِيرُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: هُم الْجَمَاعَاتُ الْكَثيرَةُ.
فَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَالرِّبِّيُّونَ الَّذِينَ قَاتَلُوا مَعَهُ: الَّذِينَ مَا وَهَنُوا وَمَا ضَعُفُوا.
وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو وَغَيْرِهِ
(1)
فَفِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُوَافِقُ الْأَوَّلَ؛ أَي: الرِّبِّيُّونَ يُقْتَلُونَ فَمَا وَهَنُوا؛ أَيْ: مَا وَهَنَ مَن بَقِيَ مِنْهُم لِقَتْلِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ؛ أَيْ: مَا ضَعُفُوا لِذَلِكَ وَلَا دَخَلَهُم خَوَرٌ وَلَا ذَلُّوا لِعَدُوِّهِمْ، بَل قَامُوا بِأَمْرِ اللهِ فِي الْقِتَالِ حَتَّى أَدَالَهُم اللهُ عَلَيْهِم وَصَارَتْ كلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا.
وَالثانِي: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ، فَمَا وَهَنَ مَن بَقِيَ مِنْهُم لِقَتْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا يُنَاسِبُ صرح الشَّيْطَانِ أَنَّ مُحَمَّدًا قَد قُتِلَ.
لَكِنَّ هَذَا لَا يُنَاسِبُ لَفْظَ الْآيَةِ؛ فَالْمُنَاسِبُ أَنَّهُم مَعَ كَثْرَةِ الْمُصِيبَةِ مَا وَهَنُوا.
وَأَيْضًا: فَقَوْلُهُ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ} يَقْتَضِي كَثْرَةَ ذَلِكَ، وَهَذَا لَا يُعْرَفُ أَنَّ أَنْبِيَاءَ كَثِيرِينَ قُتِلُوا فِي الْجِهَادِ.
وَأَيْضًا: فَيَقْتَضِي أَنَّ الْمَقْتُولِينَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُم رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ، وَهَذَا لَمْ يُوجَدْ؛ فَإِنَّ مَن قَبْلَ مُوسَى مِن الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَكُونُوا يُقَاتِلُونَ، وَمُوسَى وَأَنْبِيَاءُ بَنِي إسْرَائِيلَ لَمْ يُقْتَلُوا فِي الْغَزْوِ، بَل وَلَا يُعْرَفُ نَبِيٌّ قُتِلَ فِي جِهَادٍ، فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا كَثيرًا؟ وَيَكُونُ جَيْشُهُ كَثِيرًا؟.
وَقَد قِيلَ فِي: {رِبِّيُّونَ} هُنَا: إنَّهُم الْعُلَمَاءُ، [وهؤلاء جعلوا لفظ "الرِّبِّي" كلفظ "الربَّاني"]
(2)
، وَعَن ابْنِ زَيْدٍ: هُم الْأَتْبَاعُ؛ كَأَنَّهُ جَعَلَهُم المربوبين.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
قِيلَ: إنَّ الرَّبَّانِيَّ مَنْسُوبٌ إلَى الرَّبِّ، فَزِيَادَةُ الْأَلِفِ وَالنُّونِ كَاللّحْيَانِيِّ
(3)
،
(1)
وهم: نافع وابن كثير ويعقوب، حيث قرؤوا:{قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ} بضم القاف وكسر التاء.
(2)
ما بين المعقوفتين من جامع المسائل (3/ 62)، وفي الأصل:"فَلَمَّا جَعَلَ هَؤُلَاءِ هَذَا كَلَفْظِ الرَّبَّانيِّ"، ويظهر أنَّ المثبت هو الصواب.
(3)
اختار هذا القول العلَّامة محمد رشيد رضا. تفسير المنار (4/ 141).
وَقِيلَ: إلَى تَرْبِيَتِهِ النَّاسَ، وَقِيلَ: إلَى رُبَّانِ السَّفِينَةِ، وَهَذَا أَصَحُّ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ عَدَم الزِّيَادَةِ فِي النِّسْبَةِ لِأَنَّهُم مَنْسُوبُونَ إلَى التَّرْبِيَةِ، وَهَذِهِ تَخْتَصُّ بِهِمْ، وَأَمَّا نِسْبَتُهُم إلَى الرَّبِّ فَلَا اخْتِصَاصَ لَهُم بِذَلِكَ، بَل كُلُّ عَبْدٍ لَهُ فَهوَ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ إمَّا نِسْبَةَ عُمُومٍ أَو خُصُوصٍ.
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَأَحَدُهُم رَبَّانِيٌّ وَهُم الْعُلَمَاءُ الْمُعَلّمُونَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَحْسَبُ الْكَلِمَةَ عِبْرَانِيَّةً أَو سِرْيَانِيَّةً؛ وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا عُبَيْدٍ زَعَمَ أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَعْرِفُ الرَّبَّانِيِّينَ.
قُلْتُ: اللَّفْظَةُ عَرَبِيَّةٌ مَنْسُوبَةٌ إلَى رَبَّانِ السَّفِينَةِ الَّذِي يَنْزِلُهَا وَيقُومُ لِمَصْلَحَتِهَا، وَلَكِنَّ الْعَرَبَ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ لَمْ يَكُن لَهُم رَبَّانِيُّونَ؛ لِأَنَّهُم لَمْ يَكُونُوا عَلَى شَرِيعَةٍ مُنَزَّلَةٍ مِن اللهِ عز وجل
(1)
. [1/ 58 - 63]
1455 -
قَالَ تَعَالَى عَن الْمُؤمِنِينَ الَّذِينَ قُتِلَ نَبِيُّهُمْ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} ؛ أَيْ: النَّبِيُّ
(2)
قُتِلَ، هَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ. [14/ 352]
وَقَوْلُهُ: {مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِير} جُمْلَة فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ صِفَةٌ لِلنَّبِيِّ -صِفَةٌ بَعْدَ صِفَةٍ- أَيْ: كَمْ مِن نَبِيٍّ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ قُتِلَ وَلَمْ يُقْتَلُوا مَعَهُ. فَإِنَّهُ كَانَ يَكونُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ قُتِلَ وَهُم مَعَهُ.
(1)
قال أبو جعفر الطبري؛ وأولى الأقوال عندي بالصواب في "الربانيين" أنهم جمع "رباني"، وأن "الرباني" المنسوب إلى "الرَّبَّان"، الذي يرب الناسَ، وهو الذي يُصْلح أمورهم، و"يربّها"، ويقوم بها ..
فالربانيون إذًا، هم عمادُ الناس في الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا. ولذلك قال مجاهد:"وهم فوق الأحبار"؛ لأن "الأحبارَ" هم العلماء، و"الرباني" الجامعُ إلى العلم والفقه: البصرَ بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية، وما يصلحهم في دُنياهم ودينهم. تفسير الطبري (6/ 543).
علق على هذا الشيخ أحمد شاكر بقولِه: هذا التفسير قلَّ أن تجده في كتاب من كتب اللغة، وهو من أجود ما قرأت في معنى "الرباني"، وهو من أحسن التوجيه في فهم معاني العربية، والبصر بمعاني كتاب الله. فرحم الله أبا جعفر رحمة ترفعه درجات عند ربه. اهـ.
(2)
قال رحمه الله قِيلَ عَلَى الصَّحِيحِ الْمُرَادُ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَإِنْ لَمْ يُقْتَلْ فِي مَعْرَكَةٍ فَقَد قُتِلَ أَنْبِيَاءُ كَثيرُونَ. (11/ 694).
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ رِوبِّيُّونَ كَثيرٌ وَقُتِلَ فِي الْجُمْلَةِ، وَأُولَئِكَ الرِّبِّيُّونَ {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا} [آل عمران: 146]
(1)
. [14/ 373]
1456 -
أَخْبَرَ اللهُ فِي الْقرْآنِ أَنَ عِيسَى قَالَ لَهُمْ: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50]، فَعُلِمَ أَنَّهُ أَحَلَّ الْبَعْضَ دُونَ الْجَمِيعِ، وَأَخْبَرَ عَن الْمَسِيح أَنَّهُ عَلَّمَهُ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ بِقَوْلِهِ:{وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)} [آل عمران: 48]، وَمِن الْمَعْلُوم أَنَّهُ لَوْلَا أَنَّهُ مُتَّبعٌ لِبَعْضِ مَا فِي التَّوْرَاةِ لَمْ يَكُن تَعَلُّمُهَا لَهُ مِنَّةً، أَلَا تَرَىَ أَنَّا نَحْن لَمْ نُؤْمَرْ بِحِفْظِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَإِن كَانَ كَثِيرٌ مِن شَرَائِعِ الْكِتَابَيْنِ يُوَافِق شَرِيعَةَ الْقرْآنِ، فَهَذَا وَغَيْرُهُ يُبَيِّنُ مَا ذَكَرَهُ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ مِن أَنَّ الْإِنْجِيلَ لَيْسَ فِيهِ إلَّا أَحْكَامٌ قَلِيلَة، وَأَكْثَرُ الْأحْكَامِ يَتْبَعُ فِيهَا مَا فِي التَّوْرَاةِ؛ وَبِهَذَا يَحْصُلُ التَّغَايُرُ بَيْنَ الشرعتين.
وَلهَذَا كَانَ النَّصَارَى مُتَّفِقِينَ عَلَى حِفْظِ التَّوْرَاةِ وَتلَاوَتهَا كَمَا يَحْفَظُونَ الْإِنْجِيلَ؛ وَلهَذَا لَمَّا سَمِعَ النَّجَاشِيُّ الْقُرْآنَ قَالَ: إنَّ هَذَا وَاَلَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِن مِشْكَاةٍ وَاحِدَة. [16/ 43 - 44]
1457 -
قَوْله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164]، الْمِنَّةُ عَلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ عَرَبِهِم وَعَجَمِهِمْ سَابِقِهِمْ
(1)
قال العلَّامة ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: قِيلَ: مَعْنَاهُ: كَمْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِل وَقُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ مِنْ أصْحَابهِ كَثيرٌ.
وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ ..
وَقِيلَ: وَكَمْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ أَصْحَابهِ رِبِّيُّونَ كَثيرٌ.
وَكَلَامُ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ يَقْتَضِي قَوْلًا آَخَرَ، فَإِنَّهُ قَالَ: أيْ: وَكَأَيْنٍ مِنْ نَبِيٍّ أَصَابَهُ الْقَتْلُ، وَمَعَهُ رِبِّيُّونَ؛ أَيْ: جَمَاعَاتٌ فَمَا وَهَنُوا بَعْدَ نَبِيِّهِمْ، وَمَا ضَعُفُوا عَنْ عَدُوِّهِمْ، وَمَا اسْتَكَانُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي الْجِهَادِ عَنِ اللهِ وَعَنْ دِينِهِم، وَذَلِكَ الصَّبْرُ، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} .
فَجَعَلَ قَوْلَهُ: {مَعَهُ رِبِّيُّونَ} حَالًا وَقَد نَصَرَ هَذَا الْقَوْلَ السُّهَيْلِيُّ وَبَالَغَ فِيهِ، وَلَهُ اتِّجَاهٌ لِقَوْلِهِ:{فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ} الْآيَةَ. اهـ. تفسير ابن كثير (2/ 130).
قلت: وهذا القول هو الذي نصره شيخ الإسلام.
وَلَاحِقِهِمْ، وَالرَّسُولُ مِنْهُم لِأَنَّهُ إنْسِيٌّ مُؤْمِنٌ، وَهُوَ مِنَ الْعَرَب أَخَصُّ لِكَوْنِهِ عَرَبِيًّا جَاءَ بِلِسَانِهِمْ، وَهُوَ مِن قُرَيْشٍ أَخَصّ.
والْخُصُوصُ يُوجِبُ قِيَامَ الْحُجَّةِ، لَا يُوجِبُ الْفَضْلَ إلَّا بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى؛ لِقَوْلِهِ:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وَلهَذَا كَانَ الْأَنْصَارُ أَفْضَلَ مِن الطُّلَقَاءِ مِن قُرَيْشٍ، وَهُم لَيْسُوا مِن رَبِيعَةَ وَلَا مُضَرَ بَل مِن قَحْطَانَ.
فَقَوْلُهُ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ} [التوبة: 128] يَخُصُّ قُرَيْشًا وَالْعَرَبَ، ثُمَّ يَعُمُّ سَائِرَ الْبَشَرِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ خِطَابٌ لَهُمْ، وَالرَّسُولُ مِن أَنْفُسِهِمْ، وَالْمَعْنَى: لَيْسَ بِمَلَك لَا يُطِيقُونَ الْأَخْذَ مِنْهُ وَلَا جِنِّيٍّ.
ثُمَّ يَعُمُّ الْجِنَّ؛ لِأنَّ الرَّسُولَ أُرْسِلَ إلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَالْقُرْآنُ خِطَاب لِلثَّقَلَيْنِ، وَالرَّسُولُ مِنْهُم جَمِيعًا، كَمَا قَالَ:{يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام؛ 130] فَجَعَلَ الرُّسُلَ الَّتِي أَرْسَلَهَا مِن النَّوْعَيْنِ، مَعَ أَنَّهُم مِن الْإِنْسِ، فَإِنَّ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ مُشْتَرِكُونَ مَعَ كَوْنِهِمْ أَحْيَاءً نَاطِقِينَ مَأَمُورِينَ مَنْهِيِّينَ، فَإِنَّهُم يَأكُلُونَ وَيشْرَبُونَ وَيَنْكحُونَ وَينْسِلُونَ وَيَغْتَذُونَ وينْمُونَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمْ، وَهُم يَتَمَيَّزُونَ بِهَا عَنِ الْمَلَائِكَةِ؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَأْكُلُ وَلَا تَشْرَبُ وَلَا تَنْكِحُ وَلَا تَنْسِل، فَصَارَ الرَّسُولُ مِن أَنْفُسِ الثَّقَلَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْقَدْر الْمُشْتَرِك بَيْنَهُم الَّذِي تَمَيَّزُوا بِهِ عَنِ الْمَلَائِكَةِ، حَتَّى كَانَ الرَّسُولُ مَبْعُوثًا إلَى الثَّقَلَيْنِ دُونَ الْمَلَائِكَةِ. [16/ 191 - 192]
1458 -
قوْله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7]، مَن قالَ: لا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللهُ فَأَرَادَ بِهِ مَا يَؤَولُ إلَيْهِ الْكَلَامُ مِن الْحَقَائِقِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إلَّا اللهُ.
وَمَن قَالَ: إنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ التَّأْوِيلَ فَالْمُرَادُ بِهِ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ الَّذِي بَيّنهُ الرَّسُولُ وَالصَّحَابَةُ.
وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي لَفْظِ "التَّأْوِيلِ" عَلَى الْمَعْنَى الْمَرْجُوحِ، وَأَنَّهُ حَمْلُ اللَّفْظِ
عَلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ دُونَ الرَّاجِحِ لدَلِيل يَقْتَرِنُ بِهِ: فَهَذَا اصْطِلَاحُ مُتَأَخِّرٌ، وَهُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي أَنْكرَهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ. [16/ 408]
1459 -
قال اللهُ تَعَالَى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عمران: 25] وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْجِدَالِ، وَلَو شَاءَ لَأَنْزَلَ حُجَجًا وَقَالَ لَهُ: قُلْ كَذَا وَكَذَا. [16/ 476]
* * *
سورة النساء
1460 -
قال الله تعالى في سورة النساء بعد الآية التي أمر فيها بقواعد الشريعة: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]، {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 37]، وقال في سورة الحديد:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} إلى قوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [الحديدة 23، 24].
ففي كلا الموضعين وصف المختال الفخور بأنه يبخل ويأمر الناس بالبخل، وهذا -والله أعلم- موافق لِمَا
(1)
رواه أبو داود وغيره
(2)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من الخيلاء ما يحبها الله، ومن الخيلاء ما يبغضها الله؛ فأما الخيلاء التي يحبها الله فاختيال الرجل نفسه في الحرب، واختياله نفسه عند الصدقة"، أو كما قال:"وأما الخيلاء التي يبغضها الله فالخيلاء في البغي والفخر" فإنه أخبر أن من الخيلاء ما يحبها الله، وهي الخيلاء في السماحة والشجاعة،
(1)
في الأصل: (ما)، ولعل الصواب المثبت.
(2)
رواه أبو داود (2659)، والنسائي (2558)، وأحمد (23748)، وحسَّنه الألباني في صحيح أبي داود.
ولذلك قال لأبي دجانة يوم أحد لما اختال بين الصفين فقال: "إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن"، ولهذا جوَّزنا في أحد القولين ما رويناه عن عمر من لبس الحرير في الحرب؛ لأن الخيلاء التي فيه محبوبة في الحرب كما دل عليه الحديثان؛ وذلك -والله أعلم- لأن الاختيال من التخيل، والتخيل من باب التصور الذي قد يكون تصورًا للموجود، وقد يكون تصورًا للمفقود، فإن كان مطابقًا للموجود ومحمودًا في القصد فهو تخيل حق نافع، وإن كان مخالفًا للموجود مذمومًا في القصد فهو الباطل الضار. [المستدرك 1/ 178]
1461 -
قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ -وَهُوَ يُرْوى عَن الضَّحَّاكِ-: لَا تَقْرَبُوهَا وَأَنْتُمْ سُكَارَى مِن النَّوْمِ.
وَهَذَا إذَا قِيلَ إنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ أَو شُمُولِ مَعْنَى اللَّفْظِ الْعَامِّ، وَإِلَّا فَلَا ريبَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ كَانَ السُّكْرَ مِن الْخَمْرِ، وَاللَّفْظُ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى الْآخَرُ صَحِيحٌ أَيْضًا. [10/ 438]
1462 -
قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)} [النساء: 26]، ذَكَرَ ثَلَاثَةَ أمُورٍ: التَّبْيِينَ وَالْهُدَى وَالتَّوْبَةَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ أَوَّلًا يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَمَا أُمِرَ بِهِ وَمَا نُهِيَ عَنْهُ.
ثمَّ يَحْتَاجُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى أَنْ يُهْدَى فَيَقْصِدُ الْحَقَّ ويعْمَلُ بِهِ دُونَ الْبَاطِلِ، وَهُوَ سُنَنُ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ.
ثُمَّ لَا بُدَّ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِن الذُّنُوبِ فَيُرِيدُ أَنْ يَتَطَهَّرَ مِنْهَا بِالتَّوْبَةِ.
فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَإِلَى التَّوْبَةِ مَعَ ذَلِكَ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِن التَّقْصِيرِ أَو الْغَفْلَةِ فِي سُلُوكِ تِلْكَ السُّنَنِ الَّتِي هَدَاهُ اللهُ إلَيْهَا فَيَتُوبُ مِنْهَا بِمَا وَقَعَ مِن تَفْرِيطٍ فِي كُلِّ سُنَّةٍ مِن تِلْكَ السُّنَنِ. [10/ 579 - 580]
1463 -
قَوْلُهُ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79] بَعْدَ قَوْلِهِ: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78]: لَو اقْتَصَرَ عَلَى الْجَمْعِ
(1)
: أَعْرَضَ الْعَاصِي عَن ذَمِّ نَفْسِهِ، وَالتَّوْبَةِ مِن الذَّنْبِ، وَالِاسْتِعَاذَةِ مِن شَرِّهِ، وَقَامَ بِقَلْبِهِ حُجَّةُ إبْلِيسَ، فَلَمْ تَزِدْهُ إلَّا طَرْدًا، كَمَا زَادَت الْمُشْرِكِينَ ضَلَالًا حِينَ قَالُوا:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام: 148].
وَلَو اقْتَصَرَ عَلَى الْفَرْقِ: لَغَابُوا عَن التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ وَاللَّجَأِ إلَى اللهِ فِي الْهِدَايَةِ. [14/ 222]
واَلَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ الْحَسَنَةَ والسَّيِّئَةَ يُرَادُ بِهِمَا النِّعَمَ وَالْمَصَائِبَ، لَيْسَ الْمُرَادُ: مُجَرَّدَ مَا يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ بِاخْتِيَارِهِ بِاعْتِبَارِهِ مِن الْحَسَنَاتِ أَو السَّيِّئّاَتِ.
وَلَفْظُ الْحَسَنَاتِ والسَّيِّئَاتِ فِي كِتَابِ اللهِ: يُتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا، قَالَ اللهُ تَعَالَى عَن الْمُنَافِقِينَ:{إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} [آل عمران: 120].
وَامَّا الْأعْمَالُ الْمَأمُورُ بِهَا وَالْمَنْهِي عَنْهَا: فَفِي مِثْل قَوْله تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)} [القصص: 84]، وقَوْله تَعَالَى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114].
وَإِذَا كَانَت السَّيِّئَاتُ الَّتِي يَعْمَلُهَا الْإِنْسَانُ قَد تَكُونُ مِن جَزَاءِ سَيِّئَاتٍ تَقَدَّمَتْ
(2)
-وَهِيَ مُضِرَّةٌ- جَازَ أنْ يُقَالَ: هِيَ مِمَّا أَصَابَهُ مِن السَّيِّئَاتِ وَهِيَ بِذُنُوبِ تَقَدَّمَتْ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ: فَالذُّنُوبُ الَّتِي يَعْمَلُهَا؛ هِيَ مِن نَفْسِهِ. وَإِن كَانَت مُقَدَّرَةً عَلَيْهِ.
(1)
أي: في قوله تعالى: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ الله} .
(2)
قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} .
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ قَوْلَهُ: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ، فإِنَّهُم جَعَلوا مَا يُصِيبهم مِن الْمَصَائِبِ بِسَبَبِ مَا جَاءَهُم بِهِ الرَّسُولُ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: النِّعْمَةُ الَّتِي تُصِيبُنَا هِيَ مِن عِنْدِ اللهِ، وَالْمُصِيبَةُ مِن عِنْدِ مُحَمَّدٍ؛ أيْ: بِسَبَبِ دِينِهِ وَمَا أَمَرَ بِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: قُلْ هَذَا وَهَذَا مِن عِنْدِ اللهِ، لَا مِن عِنْدِ مُحَمَّدٍ. مُحَمَّدٌ لَا يَأْتِي لَا بِنِعْمَة وَلَا بِمُصِيبَة. [14/ 234 - 245]
فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَت الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي مُقَدَّرَةً، وَالنِّعَمُ وَالْمَصَائِبُ مُقَدَّرَةً. فَلِمَ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ، الَّتِي هِيَ النّعَمُ، وَالسَّيِّئَاتِ، الَّتِي هِيَ الْمَصَائِبُ؟ فَجَعَلَ هَذِهِ مِن اللهِ، وَهَذِهِ مِن نَفْسِ الْإِنْسَانِ؟
قِيلَ: لِفَرُوقِ بَيْنَهُمَا:
الْفَرْقُ الْأوّلُ: أَنَّ نِعَمَ اللهِ وَإِحْسَانَهُ إلَى عِبَادِهِ يَقَعُ ابْتِدَاءً بِلَا سَبَبٍ مِنْهُم أَصْلًا، فَهُوَ يُنْعِمُ بِالْعَافِيَةِ وَالرِّزْقِ وَالنَّصْرِ، وَغَيْرِ ذَلِك عَلَى مَن لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ.
الْفَرْقُ الثانِي: أَنَّ الَّذِي يَعْمَلُ الْحَسَنَاتِ إذَا عَمِلَهَا، فَنَفْسُ عَمَلِهِ الْحَسَنَاتِ: هو من إحْسَانِ اللهِ، وَبِفَضْلِهِ عَلَيْهِ بِالْهِدَايَةِ وَالْإِيمَانِ.
وَأَمَّا السَّيّئَةُ: فَلَا تَكُونُ إلَّا بِذَنْبِ الْعَبْدِ، وَذَنْبُهُ مِن نَفْسِهِ، وَهُوَ لَمْ يَقُلْ: إنِّي لَمْ أقَدِّرْ ذَلِك وَلَمْ أَخْلُقْهُ، بَل ذَكَرَ لِلنَّاسِ مَا يَنْفَعُهُمْ.
فَإِذَا تَدَبَّرَ الْعَبْدُ عَلِمَ أَنَّ مَا هُوَ فِيهِ مِن الْحَسَنَاتِ مِن فَضْلِ اللهِ، فَشَكَرَ اللهَ، فَزَادَهُ اللهُ مِن فَضْلِهِ عَمَلًا صَالِحًا، وَنِعَمًا يُفِيضُهَا عَلَيْهِ.
وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ الشَّرَّ لَا يَحْصُلُ لَهُ إلَّا مِن نَفْسِهِ بِذُنُوبِهِ: اسْتَغْفَرَ وَتَابَ. فَزَالَ عَنْهُ سَبَبُ الشَّرِّ. فَيَكُونُ الْعَبْدُ دَائِمًا شَاكِرًا مُسْتَغْفِرًا. فَلَا يَزَالُ الْخَيْرُ يَتَضَاعَفُ لَهُ، وَالشَّرُّ يَنْدَفِعُ عَنْهُ. [14/ 259 - 262]
وَفِي قَوْله تَعَالَى: {فَمِنْ نَفْسِكَ} مِن الْفَوَائِدِ: أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَرْكَنُ إلَى نَفْسِهِ وَلَا يَسْكُنُ إلَيْهَا
(1)
. فَإِنَّ الشَّرَّ لَا يَجِيءُ إلَّا مِنْهَا.
وَلَا يَشْتَغِلُ بِمَلَامِ النَّاسِ وَلَا ذَمِّهِمْ إذَا أَسَاؤُوا إلَيْهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِن السَّيِّئاتِ الَّتِي أَصَابَتْهُ، وَهِيَ إنَّمَا أَصَابَتْهُ بِذُنُوبِهِ، فَيَرْجِعُ إلَى الذُّنُوبِ فَيَسْتَغْفِرُ مِنْهَا، ويستَعِيذُ بِاللهِ 0 مِن شَرِّ نَفْسِهِ وَسَيِّئَاتِ عَمَلِهِ، وَيَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُعِينَهُ عَلَى طَاعَتِهِ، فَبِذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُ كُلُّ خَيْرٍ، وَيَنْدَفِعُ عَنْهُ كلُّ شَرٍّ.
وَلهَذَا كَانَ أَنْفَعُ الدُّعَاءِ وَأَعْظَمُهُ وَأَحْكَمُهُ: دُعَاءَ الْفَاتِحَةِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة: 6]، فَإِنَّهُ إذَا هَدَاهُ هَذَا الصّرَاطَ: أَعَانَهُ عَلَى طَاعَتِهِ وَتَرْكِ مَعْصِيَتِهِ، فَلَمْ يُصِبْهُ شَرٌّ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ.
لَكِنَّ الذُّنُوبَ هِيَ مِن لَوَازِمِ نَفْسِ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْهُدَى فِي كُلّ لَحْظَةٍ، وَهُوَ إلَى الْهُدَى أَحْوَجُ مِنْهُ إلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ.
لَيْسَ كَمَا يَقُولُهُ طَائِفَة مِن الْمُفَسِّرِينَ: إنَّهُ قَد هَدَاهُ. فَلِمَاذَا يَسْأَلُ الْهُدَى؟
وَأَنَّ الْمُرَادَ بِسُؤَالِ الْهُدَى: الثَّبَاتُ أَو مَزِيدُ الْهِدَايَةِ.
بَلِ الْعَبْدُ مُحْتَاجٌ إلَى أَنْ يُعَلِّمَهُ رَبُّهُ مَا يَفْعَلُهُ مِن تَفَاصِيلِ أَحْوَالِهِ، وَإِلَى مَا يَتَوَلَّدُ مِن تَفَاصِيلِ الْأُمُورِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَإِلَى أَنْ يُلْهَمَ أَنْ يَعْمَلَ ذَلِكَ.
فَإِنَّهُ لَا يَكْفِي مُجَرَّدُ عِلْمِهِ إنْ لَمْ يَجْعَلْهُ اللهُ مُرِيدًا لِلْعَمَلِ بِعِلْمِهِ، وَإِلَّا كَانَ الْعِلْمُ حُجَّةً عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُن مُهْتَدِيًا.
وَالْعَبْدُ مُحْتَاجٌ إلَى أَنْ يَجْعَلَهُ اللهُ قَادِرًا عَلَى الْعَمَلِ بِتِلْكَ الْإِرَادَةِ الصَّالِحَةِ.
فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُهْتَدِيًا إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ -صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِن النَّبِيّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ- إلَّا بِهَذِهِ الْعُلُومِ وَالْإِرَادَاتِ
(1)
بل يطمئن ويستند إلى الله تعالى، ويتمسك بالكتاب والسُّنَّة، التي فيهما العصمة والنجاة والصراط المستقيم، وأكثر البدع والأهواء والفتن إنما جاءت من ركون أصحابها إلى أنفسهم، واسْتحسانهم ما تُسَوِّلُه لهم أنفسهم، مع بعدهم عن الكتاب والسُّنَّة، وأهل العلم.
وَالْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ
(1)
. [14/ 319 - 321]
1464 -
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)} [النساء: 107]، فَقَوْلُهُ:{يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} مِثْلُ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة؛ 187]، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَطَائِفَةٌ مِن الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ: تَخُونُونَ أَنْفُسَكُمْ، زَادَ بَعْضُهُمْ: تَظْلِمُونَهَا.
وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّ كُلَّ ذَنْبٍ يُذْنِبُهُ الْإِنْسَان فَقَد ظَلَمَ فِيهِ نَفْسَهُ، سَوَاءٌ فَعَلَهُ سِرًّا أَو عَلَانِيَةً.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ إِنَّمَا اُسْتُعْمِلَ فِي خَاص مِن الذُّنوبِ مِمَّا يُفْعَلُ سِرًّا.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَالْإِنْسَانُ كَيْفَ يَخُونُ نَفْسَهُ، وَهُوَ لَا يَكْتُمُهَا مَا يَقُولُهُ وَيَفْعَلُهُ سِرًّا عَنْهَا؛. فَالْأَشْبَهُ -وَاللهُ أَعْلَمُ- أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ:{تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} مِثْل قَوْلِهِ: {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130].
وَالْبَصْرِيُّونَ يَقُولُونَ فِي مِثْل هَذَا: إنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، ويُخْرِجُونِ قَوْلَهُ:{سَفِهَ} عَن مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ، فَإِنَّهُ فِعْلٌ لَازِمٌ؛ فَيَحْتَاجُونَ أَنْ يَنْقُلُوهُ مِن اللُّزُومِ إلَى التَّعْدِيَةِ بِلَا حُجَّةٍ.
وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ -كَالْفَرَّاءِ وَغَيْرِهِ وَمَن تَبِعَهُم- فَعِنْدَهُم أَنَّ هَذَا مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَعِنْدَهُم أَنَّ الْمُمَيَّزَ قَد يَكُونُ مَعْرِفَةً كَمَا يَكُون نَكِرَةً، وَذَكَرُوا لِذَلِكَ شَوَاهِدَ كَثِيرَةً مِن كَلَامِ الْعَرَبِ مِثْل قَوْلِهِمْ: أَلِمَ فُلَانٌ رَأسَهُ، وَوَجِعَ بَطْنَهُ، وَرَشَدَ أَمْرَهُ.
(1)
وكم من إنسان يعلم أن هذا الأمر نافع ومفيد، ويريد فعله، ولكنه لا يستطيع ذلك، إما لانشغاله، واما لعجزه أو كسله وضعف همته، فهذه الأمور الثلاثة التي ذكرها الشيخ هي أساس التوفيق والهداية وعلو الهمة.
وَكَانَ الْأَصْلُ سَفِهَتْ نَفْسُهُ وَرَشَدَ أَمْرُهُ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: غَبِنَ رَأيُهُ، وَبَطِرَتْ نَفْسُهُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى:{بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص: 58] مِن هَذَا الْبَابِ، فَالْمَعِيشَةُ نَفْسُهَا بَطِرَتْ.
فَقَوْلُهُ: {سَفِهَ نَفْسَهُ} مَعْنَاهُ: إلَّا مَن سَفِهَتْ نَفْسُهُ؛ أَيْ: كَانَت سَفِيهَة، فَلَمَّا أَضَافَ الْفِعْلَ إلَيْهِ نَصَبَهَا عَلَى التَّمْيِيزِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ:{وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4] وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ قُتَيْبَةَ وَغَيْرِهِ؛ لَكِنَّ ذَاكَ نَكِرَةٌ وَهَذَا مَعْرِفَةٌ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَه الْكُوفِيُّونَ أَصَحُّ فِي اللُّغَةِ وَالْمَعْنَى؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ السَّفِيهُ نَفْسُهُ: كَمَا قَالَ تَعَالَى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} [البقرة: 142].
فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} ؛ أَيْ: تَخْتَانُ أَنْفُسُكُمْ؛ فَالْأَنْفُسُ هِيَ الَّتِي اخْتَانَتْ كَمَا أَنَّهَا هِيَ السَّفِيهَةُ.
وَقَالَ: اخْتَانَتْ وَلَمْ يَقلْ خَانَتْ؛ لِأَنَّ الِافْتِعَالَ فِيهِ زِيَادَةُ فِعْلٍ عَلَى مَا فِي مُجَرَّدِ الْخِيَانَةِ.
أَو يَكُونُ قَوْلُهُ: {تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} ؛ أَيْ: يَخُونُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا كَقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54].
وَالْأوَّلُ أَشْبَهُ.
وَخَانَ وَاخْتَانَ مِثْلُ كَسَبَ وَاكْتَسَبَ. [14/ 438 - 443]
1465 -
دَلَّ قَوْلُهُ تعالى: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} [النساء: 107]، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجِدَالُ عَن الْخَائِنِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُجَادِلَ عَن نَفْسِهِ إذَا كَانَت خَائِنَةً: لَهَا فِي السِّرِّ أَهْوَاءٌ وَأَفْعَالٌ بَاطِنَةٌ تَخْفَى عَلَى النَّاسِ.
فَالِاعْتِذَارُ عَن النَّفْسِ بِالْبَاطِلِ وَالْجِدَالُ عَنْهَا لَا يَجُوز
(1)
. [14/ 444 - 447]
(1)
وكثير من الناس إذا ارتكب خطأ حاجج عن نفسه واعتذر لها بما يعلم أنه كذب، وهذا لا يجوز.
1466 -
وَهُوَ سُبْحَانَه ذَكَرَ فِي سُورَةِ النسَاءِ مَا يُخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ مِنَ الْعُقُوبَةِ بِالْإِمْسَاكِ فِي الْبُيُوتِ إلَى الْمَمَاتِ أَو إلَى جَعْلِ السَّبِيلِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَعُمُّ الصِّنْفَيْنِ فَقَالَ:{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء: 16] فَإِنَّ الْأَذَى يَتَنَاوَلُ الصِّنْفَيْنِ، وَأَمَّا الْإمْسَاكُ فَيُخْتَصُّ بِالنسَاءِ، فَالنّسَاءُ يُؤْذَيْنَ، وُيحْبَسْنَ بِخِلَافِ الرِّجَالِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ فِيهِمْ بِالْحَبْسِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ يَجِبُ أَنْ تُصَانَ وَتحْفَظَ بِمَا لَا يَجِبُ مِثْلُهُ فِي الرَّجُلِ. [15/ 297]
1467 -
قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء: 16]، أَمْرٌ بِالْأذَى مُطْلَقًا، وَلَمْ يَذْكُرْ كَيْفِيَّتَهُ وَصِفَتَهُ وَلَا قَدْرَهُ، بَل ذَكَرَ أَنَّهُ يَجِبُ إيذَاؤهُمَا، وَلَفْظُ "الْأَذَى" يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَقْوَالِ كَثِيرًا كَقَوْلِهِ:{لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} [آل عمران: 111].
وَقَالَ: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} وَالْإِعْرَاضُ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَن الْإِيذَاءِ.
فَالْمُذْنِبُ لَا يَزَالُ يُؤْذَى وَيُنْهَى ويُوعَظُ ويوَبَّخُ وَيُغَلَّظُ لَهُ فِي الْكَلَامِ إلَى أَنْ يَتُوبَ ويُطِيعَ اللهَ، وَأَدْنَى ذَلِكَ هَجْرُهُ فَلَا يُكَلَّمُ بِالْكَلَامِ الطَّيِّبِ.
فَمَن أَتَى الْفَاحِشَةَ مِن الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَإِنَّهُ يَجِبُ إيذَاؤُهُ بِالْكَلَامِ الزَّاجِرِ لَهُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ إلَى أنْ يَتُوبَ.
وَقَوْلُهُ: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} فَأَمَرَ بِإِيذَائِهِمَا وَلَمْ يُعَلِّقْ ذَلِكَ عَلَى اسْتِشْهَادِ أَرْبَعَةٍ، كَمَا عَلَّقَ ذَلِكَ فِي حَقّ النِّسَاءِ وَإِمْسَاكِهِنَّ فِي الْبُيُوتِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ هُنَا كَمَا أَمَرَ بِهِ هُنَاكَ، وَلَيْسَ هَذَا مِن بَابِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ وَاحِدًا.
وَذَكَرَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ ثَلَاثَةَ أَحْكَامٍ: جَلْدُ ثَمَانِينَ، وَتَرْكُ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ أَبَدًا، وَإِنَّهُم فَاسِقُونَ {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)} [النور: 5]، وَأَنَّ التَوْبَةَ لَا تَرْفَعُ الْجَلْدَ إذَا طَلَبَهُ الْمَقْذُوفُ، وَتَرْفَعُ الْفِسْقَ بِلَا
تَرَدُّدٍ، وَهَل تَرْفَعُ الْمَنْعَ مِن قَبُولِ الشَّهَادَةِ؟ فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ قَالُوا تَرْفَعُهُ.
وَإِذَا اُشْتُهِرَ عَن شَخْصٍ الْفَاحِشَةُ بَيْنَ النَّاسِ لَمْ يُرْجَمْ؛ لِمَا ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ"
(1)
عَن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ حَدِيثَ الْمُلَاعَنَةِ وَقَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنْ جَاءَت بِهِ يُشْبِهُ الزَّوْجَ فَقَد كَذَبَ عَلَيْهَا، وَإِن جَاءَت بِهِ يُشْبِهُ الرَّجُلَ الَّذِي رَمَاهَا بِهِ فَقَد صَدَقَ عَلَيْهَا"، فَجَاءَت بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ"، فَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَهَذِهِ الَّتِي قَالَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَو كنْت رَاجِمًا أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتهَا؟ " فَقَالَ: لَا، تِلْكَ امْرَأَة كَانَت تُعْلِنُ السُّوءَ فِي الْإِسْلَامِ
(2)
.
فَقَد أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَرْجْمُ أَحَدًا إلَّا بِبَيّنَةٍ وَلَو ظَهَرَ عَن الشَّخْصِ السُّوءُ.
وَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الشَّبَهَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي ذَلِكَ وَإِن لَمْ يَكُن بَيِّنةً.
وَكَذَلِكَ ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ لَمَّا مُرَّ عَلَيْهِ بِجَنَازَةٍ فَأثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:"وَجَبَتْ" ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ:"وَجَبَتْ" فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه: مَا وَجَبَتْ؟ قَالَ: "هَذَا أثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا، فَوَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا، فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الأَرْضِ"
(3)
.
وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "يُوشِكُ أَنْ تَعْلَمُوا أَهْلَ الْجَنَّةِ مِن أَهْلِ النَّارِ" قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَبِمَ ذَلِكَ؟ قَالَ: "بِالثناءِ الْحَسَنِ وَالثَّناءِ السَّيِّئِ"
(4)
.
فَقَد جَعَلَ الِاسْتِفَاضَةَ حُجَّةً وَبَيِّنَةً فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ، وَلَمْ يَجْعَلْهَا حُجَّةً فِي الرَّجْمِ
(5)
.
(1)
البخاري (4747).
(2)
تأمل كيف لم يأخذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالظاهر من أمرها، مع أنه ظهر ظهورًا جليًّا أنها زنت، ومع ذلك ترك الظاهر لعدم اعترافها أو عدمِ وجود الشهود، وهذا هو العدل الذي قامت به السموات والأرض.
(3)
رواه البخاري (1367)، ومسلم (949)، وقد أثبت لفظ الحديث وسقتُه كاملًا.
(4)
رواه الإمام أحمد (64)، وابن ماجه (4221)، وحسَّنه الألباني، وصحَّحه محققو المسند.
(5)
لأن الرجم من الأحكام الغليظة التي يجب الاحتياط بها، وكذلك الشأن في القتل والردة.
وَكَذَلِكَ تقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ عِنْدَ أَحْمَد، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ فِي الْجِرَاحِ إذَا أَدَّوْهَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، هاِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ أَنَّهُ رَأَى الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ وَالصَّبِيَّ فِي لِحَافٍ، أَو فِي بَيْتِ مِرْحَاضٍ، أَو رَآهُمَا مُجَرَّدَيْنِ أَو مَحْلُوليْ السَّرَاوِيلِ، ويُوجَدُ مَعَ ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، مِن وُجُودِ اللِّحَافِ قَد خَرَجَ عَن الْعَادَةِ إلَى مَكَانِهِمَا، أَو يَكُونُ مَعَ أَحَدِهِمَا أَو مَعَهُمَا ضَوْءٌ قَد أَظْهَرَهُ فَرَآه فَأَطْفَأَهُ، فَإِنَّ إطْفَاءَهُ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِخْفَائِهِ بِمَا يَفْعَلُ، فَإِذَا لَمْ يَكُن مَا يُسْتَخْفَى بِهِ إلَّا مَا شَهِدَ بِهِ الشَّاهِدُ كَانَ ذَلِكَ مِن أَعْظَمِ الْبَيَانِ عَلَى مَا شَهِدَ بِهِ.
فَهَذَا الْبَابُ بَابٌ عَظِيمُ النَّفْعِ فِي الدِّينِ، وَهُوَ مِمَّا جَاءَت بهِ الشَّرِيعَةُ الَّتِي أَهْمَلَهَا كَثِيرٌ مِنَ الْقُضَاةِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ، زَاعِمِينَ أَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ أَحَدٌ إلَّا بِشُهُودٍ عَايَنُوا أَو إقْرَارٍ مَسْمُوعٍ، وَهَذَا خِلَافُ مَا تَوَاتَرَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَسُنَّةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَخِلَافُ مَا فُطِرَتْ عَلَيْهِ الْقُلُوبُ الَّتِي تَعْرِفُ الْمَعْرُوفَ وَتُنْكِرُ الْمُنْكَرَ، وَيعْلَمُ الْعُقَلَاءُ أَنَّ مِثْل هَذَا لَا تَأْبَاهُ سِيَاسَةٌ عَادِلَةٌ، فَضْلًا عَن الشَّرِيعَةِ الْكَامِلَةِ.
وَيدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6] فَفِي الْآيَةِ دَلَالَاتٌ:
أَحَدُهَا قَوْلُهُ: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} فَأَمَرَ بِالتَّبَيُّنِ عِنْدَ مَجِيءِ كُل فَاسِقٍ بِكُلِّ نَبَأٍ.
بَل هَذِهِ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِصَابَةَ بِنَبَأِ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ لَا يُنْهَى عَنْهَا مُطْلَقًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ فِي جِنْسِ الْعُقُوبَاتِ
(1)
، فَإِنَّ
(1)
وغيرها؛ كالطلاق والرجعة ونحوها.
واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيِّم رحمهما الله أن الشاهد الواحد إذا ظهر صدقه حكم بشهادته وحده، فِي غَيْرِ الْحُدُودِ، وذلك في الطلاق والرجعة وغيرها.
قال ابن القيِّم: الحق أن الشاهد الواحد إذا ظهر صدقه حكم بشهادته وحده، وقد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم شهادة الشاهد الواحد لأبي قتادة بقتل المشرك ودفع إليه سلبه بشهادته وحده ولم يحلف أبا قتادة فجعله بيِّنة تامة. =
سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي إخْبَارِ وَاحِدٍ بِأَنَّ قَوْمًا قَد حَارَبُوا بِالرِّدَّةِ أَو نَقْضِ الْعَهْدِ.
وَفيهِ أَيْضًا أَنَّهُ مَتَى اقْتَرَنَ بِخَبَرِ الْفَاسِقِ دَلِيلٌ آخَرُ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ فَقَدِ اسْتَبَانَ الْأَمْرُ وَزَالَ الْأَمْرُ بِالتَّثَبُّتِ
(1)
؛ فَتَجُوزُ إصَابَةُ الْقَوْمِ وَعُقُوبَتُهُم بِخَبَرِ الْفَاسِقِ مَعَ قَرِينَةٍ إذَا تَبَيَّنَ بِهِمَا الْأمُورُ، فَكَيْفَ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ مَعَ دَلَالَةٍ؟.
= وقال: والمقصود أن الشارع لم يقف الحكم في حفظ الحقوق البتة على شهادة ذكرين، لا في الدماء ولا في الأموال ولا في الفروج ولا في الحدود، بل قد حد الخلفاء الراشدون والصحابة رضي الله عنهم في الزنى بالحبَل، وفي الخمر بالرائحة والقيء، وكذلك إذا وجد المسروق عند السارق كان أولى بالحد من ظهور الحبَل والرائحة في الخمر، وكلُّ ما يمكن أنْ يُقال في ظهور المسروق أمكن أن يقال في الحبَل والرائحة بل أولى، فإنَّ الشبهة التي تعرض في الحبل من الإكراه ووطء الشبهة وفي الرائحة لا يعرض مثلها في ظهور العين المسروقة، والخلفاء الراشدون والصحابة رضي الله عنه لم يلتفتوا إلى هذه الشبهة التي تجيز غلط الشاهد ووهمه وكذبه أظهر منها بكثير، فلو عطل الحد بها لكان تعطيله بالشبهة التي تمكن في شهادة الشاهدين أولى، فهذا محض الفقه والاعتبار ومصالح العباد.
والمقصود: أن الشارع صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله لم يَرُدّ خبر العدل قط لا في رواية ولا في شهادة، بل قَبِل خبر العدل الواحد في كل موضع أخبر به كما قبل شهادته لأبي قتادة بالقتيل، وقَبِل شهادة خزيمة وحده، وقَبِل شهادة الأعرابي وحده على رؤية هلال رمضان، وقَبِل شهادة الأمة السوداء وحدها على الرضاعة، وقَبِل خبر تميم وحده وهو خبر عن أمر حسي شاهده ورآه فقبله ورواه عنه ولا فرق بينه وبين الشهادة.
قال: وسرُّ المسألة أنه لا يلزم من الأمر بالتعدد في جانب التحمل وحفظ الحقوق الأمر بالتعدد في جانب الحكم والثبوت، فالخبر الصادق لا تأتي الشريعة بردّه أبدًا. يُنظر: أعلام الموقعين (1/ 86 - 105)، الطرق الحكمية (1/ 167).
وقال في الإنصاف (12/ 81): قال الْقَاضِي: النِّكَاحُ وَحُقُوقُهُ من الطَّلَاقِ وَالْخُلْعِ وَالرَّجْعَةِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ رِوَايَة وَاحِدَة، وَالْوَصِيَّةُ وَالْكِتَابَةُ وَنحْوُهُمَا يُخرَّجُ على رِوَايَتَيْنِ.
وَعَنْهُ: يقبل في ذلك كُلِّهِ رَجُلٌ وَامْرَأتَانِ.
وَعَنْهُ: يُقْبَلُ فيه رَجُلٌ وَيمِينٌ.
ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ.
واختارها الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رحمه الله. اهـ.
(1)
مثاله: أنْ يدعي رجلٌ فاسقٌ على آخر بأنه سرق، وقد وثّق السرقة بالفيديو.
وَقَوْلُهُ: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} فَجَعَلَ الْمَحْذُورَ هُوَ الْإِصَابَةَ لِقَوْمٍ بِلَا عِلْمٍ، فَمَتَى أصِيبُوا بِعِلْمٍ زَالَ الْمَحْذُورُ، وَهَذَا هُوَ الْمَنَاطُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، كَمَا قَالَ:{إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]، وَقَالَ:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36].
وقَوْله تَعَالَى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)} [النور: 3]، لَمَّا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِعُقُوبَةِ الزَّانِيَيْنِ: حَرَّمَ مُنَاكَحَتَهُمَا عَلَى الْمُؤمِنِينَ؛ هَجْرًا لَهُمَا وَلمَا مَعَهُمَا مِن الذُّنُوبِ وَالسَّيِّئاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} [المدثر: 5].
وَالْمَقْصُودُ قَوْلُهُ: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَ الزَّانِيَ لَا يَتَزَوَّجُ إلَّا زَانِيَةً أَو مُشْرِكَة، وَإِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ عَلَى الْمُؤمِنِينَ، وَلَيْسَ هَذَا لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ فَاجِرًا، بَل لِخُصُوصِ كَوْنِهِ زَانِيًا.
وَكَذَلِكَ فِي الْمَرْأَةِ لَيْسَ لِمُجَرَّدِ فُجُورِهَا، بَل لِخُصُوصِ زِنَاهَا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ جَعَلَ الْمَرْأَةَ زَانِيَة إذَا تَزَوَّجَتْ زَانِيًا، كَمَا جَعَلَ الزَّوْجَ زَانِيًا إذَا تَزَوَّجَ زَانيَةً، هَذَا إذَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ يَعْتَقِدَانِ تَحْرِيمَ الزِّنَا
(1)
.
فَإِذَا رَضِيَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تَنْكِحَ زَانِيًا فَقَد رَضِيَتْ عَمَلَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ رَضِيَ الرَّجُلُ أَنْ يَنْكِحَ زَانِيَةً فَقَد رَضِيَ عَمَلَهَا، وَمَن رَضِيَ الزنى كَانَ بِمَنْزِلَةِ الزَّانِي.
وَمَن تَزَوَّجَ غَيْرَ تَائِبَةٍ فَقَد رَضِيَ أَنْ تَزْنِيَ؛ إذ لَا يُمْكِنُهُ مَنْعُهَا مِن ذَلِكَ، فَإِنَّ كَيْدَ النِّسَاءِ عَظِيمٌ.
وَلهَذَا جَازَ لِلرَّجُلِ إذَا أَتَتْ امْرَأَتُهُ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ أَنْ يَعْضُلَهَا لِتَفْتَدِي نَفْسَهَا مِنْهُ، وَهُوَ نَصُّ أَحْمَد وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهَا بِزِنَاهَا طَلَبَتْ الِاخْتِلَاع مِنْهُ وَتَعَرَّضَتْ لِإِفْسَادِ نِكَاحِهِ.
(1)
فإن استحلا الزنى فهما مشركان.
وقَوْله تَعَالَى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور: 26] .. جَاءَ الْحَصْرُ مِن الْجَانِبَيْن مُوَافِقًا لِقَوْلِهِ: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} .
وَقَد مَضَتْ سُنَّةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ سَوَاءٌ حَصَلَتِ الْفُرْقَة بِتَلَاعُنِهِمَا أَو احْتَاجَتْ إلَى تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ أَو حَصَلَتْ عِنْدَ انْقِضَاءِ لِعَانِ الزَّوْجِ؛ لِأنَّ أحَدَهُمَا مَلْعُون أو خَبِيث، فَاقْتِرَانُهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ يَقْتَضِي مُقَارَنَةَ الْخَبِيثِ الْمَلْعُونِ لِلطَّيِّبِ.
وَفي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ"
(1)
عَن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْن حَدِيثُ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَعَنَتْ نَاقَةً لَهَا فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ مَا عَلَيْهَا وَأُرْسِلَتْ وَقَالَ: "لَا تَصْحَبُنَا نَاقَةٌ مَلْعُونَةٌ".
وَهَكَذَا السُّنَّةُ فِي مُقَارِنَةِ الظَّالِمِينَ وَالزُّنَاةِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ وَسَائِرِ الْمَعَاصِي: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يُقَارِنَهُم وَلَا يُخَالِطَهُم إلَّا عَلَى وَجْهٍ يَسْلَمُ بِهِ مِن عَذَابِ اللهِ عز وجل، وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُنْكِرًا لِظُلْمِهِمْ، مَاقِتًا لَهُم شَانِئًا مَا هُم فِيهِ بِحَسَبِ الْإمْكَانِ.
وَذَلِكَ أَنَّ مُقَارَنَةَ الْفُجَّارِ إنَّمَا يَفْعَلُهَا الْمُؤمِنُ فِي مَوْضِعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُكْرَهًا عَلَيْهَا.
وَالثانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ رَاجِحَةٍ عَلَى مَفْسَدَةِ الْمُقَارَنَةِ أَو أَنْ يَكُونَ فِي تَرْكِهَا مَفْسَدَةٌ رَاجِحَة فِي دِينِهِ فَيَدْفَعُ أَعْظَمَ الْمَفْسَدَتَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا.
فَالْمُصَاحَبَة وَالْمُصَاهَرَةُ وَالْمُؤَاخَاةُ لَا تَجُوزُ إلَّا مَعَ أَهْلِ طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى
(1)
(2595).
عَلَى مُرَادِ اللهِ، وَيدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي "السُّنَنِ"
(1)
: "لَا تُصَاحِبْ إلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأكلْ طَعَامَك إلَّا تَقِيٌّ".
الْمُؤْمِنُ مُحْتَاجٌ إلَى امْتِحَانِ مَن يُرِيدُ أَنْ يُصَاحِبَهُ وَيُقَارِنَهُ بِنِكَاحٍ وَغَيْرِهِ، قَالَ تَعَالَى:{إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} [الممتحنة: 10].
وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الَّتِي زَنَى بِهَا الرَّجُلُ فَإِنَّهُ لَا يَتَزَوَّجُ بِهَا إلَّا بَعْدَ التَّوْبَةِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسّنَّةُ وَالْآثَارُ.
لَكِنْ إذَا أَرَادَ أَنْ يَمْتَحِنَهَا هَل هِيَ صَحِيحَةُ التَّوْبَةِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَن أَحْمَد: أَنَّهُ يُرَاوِدُهَا عَن نَفْسِها، فَإِنْ أَجَابَتْهُ لَمْ تَصِحَّ تَوْبَتُهَا، وَإِن لَمْ تُجِبْهُ فَقَد تَابَتْ.
ثُمَّ إنَّهُ سُبْحَانَهُ نَهَى الْمَظْلُومَ بِالْقَذْفِ أَنْ يَمْنَعَ مَا يَنْبَغِي لَهُ فِعْلُهُ مِن الْإِحْسَانِ إلَى ذَوِي قَرَابَتِهِ وَالْمَسَاكِينِ وَأَهْلِ التَّوْبَةِ، وَأَمَرَهُ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ
(2)
؛ فَإِنَّهُم كَمَا يُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُم فَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا وَلْيَغْفِرُوا، وَلَا ريبَ أَنَّ صِلَةَ الْأَرْحَامِ وَاجِبَةٌ، وَإِيتَاءَ الْمَسَاكِينِ وَاجِبٌ، وَإِعَانَةَ الْمُهَاجِرِينَ وَاجِبٌ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ مَا يَجِبُ مِن الْإِحْسَانِ لِلْإِنْسَانِ بِمُجَرَّدِ ظُلْمِهِ وَإِسَاءَتِهِ فِي عِرْضِهِ
(3)
، كَمَا لَا يَمْنَعُ الرَّجُلُ مِيرَاثَهُ وَحَقَّهُ مِن الصَّدَقَاتِ وَالْفَيءِ بِمُجَرَّدِ ذَنْبٍ مِن الذُّنُوبِ، وَقَد يُمْنَعُ مِن ذَلِكَ لِبَعْضِ الذُّنُوبِ.
(1)
رواه أبو داود (4832)، والترمذي (2395)، والإمام أحمد (11337)، وحسَّنه الترمذي والألباني ومحققو المسند وغيرهم.
(2)
في قوله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)} [النور: 22].
(3)
ليت كلام هذا يصل إلى كثير من الأقارب المتقاطعين لأجل تفاهات وسوء تفاهم، أو لأجل حُطام الدنيا.
وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الصِّلَةِ وَالنَّفَقَةِ وَغَيْرِهَا لِذَوِي الْأَرْحَامِ -الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ بِفَرْضٍ وَلَا تَعْصِيبٍ
(1)
- فَإِنَّهُ قَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" عَن عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدّيقَ حَلَفَ أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ، وَكَانَ أَحَدَ الْخَائِضِينَ فِي الْإِفْكِ فِي شَأنِ عَائِشَةَ، وَكَانَت أُمُّ مِسْطَحٍ بِنْتَ خَالَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَقَد جَعَلَهُ اللهُ مِن ذَوِي الْقُرْبَى الَّذِينَ نَهَى عَن تَرْكِ إيتَائِهِمْ، وَالنَّهْيُ
(1)
اختلف العلماء في الأرحام الذين تجب صلتهم:
فقيل: هم المحارم الذين تكون بينهم قرابة بحيث لو كان أحدهما ذكرًا والآخر أنثى لم يحل له نكاح الآخر، وعلى هذا القول فالأرحام هم الوالدان ووالديهم وإن علو، والأولاد وأولادهم وان نزلوا، والإخوة وأولادهم والأخوات وأولادهن، والأعمام والعمات والأخوال والخالات.
ويخرج على هذا القول أولاد الأعمام وأولاد العمات وأولاد الأخوال وأولاد الخالات فليسوا من الأرحام.
القول الثاني: الأرحام هم القرابة الذين يتوارثون، وعلى هذا يخرج الأخوال والخالات، فلا تجب صلتهم ولا يحرم قطعهم.
القول الثالث: أن الأرحام عام في كل ما يشمله الرحم، فكل قريب للإنسان هم من الأرحام الذين تجب صلتهم.
وهو الأرجح، وهو اختيار ابن تيمية والقرطبي رحمهما الله، قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله:"الأرحام هم الأقارب من النسب من جهة أمك وأبيك، وهم المعنيون بقول الله سبحانه وتعالي في سورة الأنفال والأحزاب: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75، والأحزاب: 6] ".
وأقربهم: الآباء والأمهات والأجداد والأولاد وأولادهم ما تناسلوا، ثم الأقرب فالأقرب من الإخوة وأولادهم، والأعمام والعمات وأولادهم، والأخوال والخالات وأولادهم. فتاوى إسلامية (4/ 195).
وقال القرطبي: الصَّوَابُ أنَّ كُلَّ مَا يَشْمَلُهُ وَيعُمُّهُ الرَّحِمُ تَجِبُ صِلَتُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ. تفسير القرطبي (16/ 248).
وعلى هذا القول فأولاد العم وأولاد العمة وأولاد الخال وأولاد الخالة وأولادهم كل هؤلاء يدخلون تحت مسمى الأرحام.
وكيفية وصلهم يختلف باختلاف قربهم وبعدهم.
كذلك يتنوع الموصول به، فهذا يوصل بالمال، وهذا يوصل بالسلام، وهذا يوصل بالمكالمة وهكذا.
يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، فَإِذَا لَمْ يَجُز الْحَلِفُ عَلَى تَرْكِ الْفِعْلِ كَانَ الْفِعْلُ وَاجِبًا؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ عَلَى تَرْكِ الْجَائِزِ جَائِزٌ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النورة 4]، وَقَالَ فِيهَا: والذين يرمون أزواجهم ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة، فَذَكَرَ عَدَدَ الشُّهَدَاءِ وَأَطْلَقَ صِفَتَهُم وَلَمْ يُقَيِّدْهُم بِكَوْنِهِمْ مِنَّا وَلَا مِمَن نَرْضَى وَلَا مِن ذَوِي الْعَدْلِ، كَمَا قَيَّدَ صِفَةَ الشُّهَدَاءِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَلهَذَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ: هَل شَهَادَةُ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْحَدُّ عَلَى الزَّانِي مِثْلُ شَهَادَةِ أَهْلِ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ وَغَيْرِهِمْ، هَل تَدْرَأُ الْحَدَّ عَن الْقَاذِفِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَدْرَأُ الْحَدَّ عَن الْقَاذِفِ وَإِن لَمْ تُوجِبْ حَدَّ الزنى عَلَى الْمَقْذُوفِ؛ كَشَهَادَةِ الزَّوْجِ عَلَى امْرَأَتِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْرَأُ حَدَّ الْقَذْفِ وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى امْرَأَتِهِ لِمُجَرَّدِ ذَلِكَ.
فَلَا يَلْزَمُ مِن دَرْءِ الْحَدِّ عَن الْقَاذِفِ وُجُوبُ حَدِّ الزنى عَلَى الْمَقْذُوفِ؛ فَإِن كِلَاهُمَا حَدٌّ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَات.
وَلَو كَانَ الْمَقْذُوفُ غَيْرَ مُحْصَنٍ -مِثْل أَنْ يَكُونَ مَشْهُورًا بِالْفَاحِشَةِ- لَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهُ حَدَّ الْقَذْفِ، وَلَمْ يُحَدَّ هُوَ حَدَّ الزنى لِمُجَرَّدِ الِاسْتِفَاضَةِ، وَإِن كَانَ يُعَاقَبُ كُلٌّ مِنْهُمَا دُونَ الْحَدِّ، وَقَد اُعْتُبِرَ نِصَابُ حَدِّ الزنى بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ.
وَكَذَلِكَ تُعْتَبَرُ صِفَاتُفمْ، فَلَا يُقَامُ حَدُّ الزنى عَلَى مُسْلِمٍ إلَّا بِشَهَادَةِ مُسْلِمِينَ، لَكِنْ يُقَالُ: لَمْ يُقَيّدْهُم بِأَنْ يَكُونُوا عُدُولًا مَرْضِيِّينَ كَمَا قَيَّدَهُم فِي آيةِ الدَّيْنِ لِقَوْلِهِ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [المقرة: 282]، وَقَالَ فِي آيَةِ الْوَصِيَّةِ:{اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106]، وَقَالَ فِي آيةِ الرَّجْعَةِ:
{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] فَقَد أَمَرَنَا اللهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ نَحْمِلَ الشَّهَادَةَ الْمُحْتَاجَ إلَيْهَا لِأَهْلِ الْعَدْلِ وَالرضى وَهَؤُلَاءِ هُم الْمُمْتَثِلُونَ مَا أَمَرَهُم اللهُ بِهِ بِقَوْلِهِ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء: 135] الْآيَةُ. وَفِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152]، وَقَوْلِهِ:{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283]، وَقَوْلُهُ:{وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282]، وَقَوْلِهِ:{وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33)} [المعارج: 33]، فَهُم يَقُومُونَ بِالشَّهَادَةِ بِالْقِسْطِ للهِ فَيَحْصُلُ مَقْصُودُ الَّذِي اسْتَشْهَدَهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ كَوْنَ شَهَادَتِهِمْ مَقْبُولَةً مَسْمُوعَة لِأَنَّهُم أَهْلُ الْعَدْلِ وَالزضَا، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ فِي الْقَبُولِ وَالْأَدَاءِ، وَقَد نَهَى سُبْحَانَهُ عَن قَبُولِ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ بِقَوْلِهِ:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجراتْ 6] .. وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالتَّثَبُّتِ عِنْدَ خَبَرِ الْفَاسِقِ الْوَاحِدِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ عِنْدَ خَبَرِ الْفَاسِقِينَ، فَإِنَّ خَبَرَ الِاثْنَيْنِ يُوجِئما مِنَ الِاعْتِقَادِ مَا لَا يُوجِبُهُ خَبَرُ الْوَاحِدِ.
وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَذَفَةِ لَا تُقْبَلُ لَهُم شَهَادَةٌ أَبَدًا وَاحِدًا كَانوا أَو عَدَدًا.
وَدَلَّت الآيةُ عَلَى أَنَّ شَهَادَتَهُم بَعْدَ التَّوْبَةِ مَقْبُولَةٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجمْهُورِ. [15/ 300 - 354]
1468 -
قَوْلُهُ تعالى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] دَلَّ عَلَى شَيْئَيْنِ:
أ- عَلَى أَنَّ نِصَابَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْفَاحِشَةِ أَرْبَعَةٌ.
ب- وَعَلَى أَنَّ الشُّهَدَاءَ بِهَا عَلَى نِسَائِنَا يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا مِنَّا، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ.
وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ الْكُفَّارِ بَعْضِهم عَلَى بَعْضٍ، وَفِيهِ قَوْلَانِ عِنْدَ أَحْمَدَ: أَشْهَرُهُمَا عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَصْحَابِهِ أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهَا تُقْبَلُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. [15/ 297]
1469 -
قَالَ تَعَالَى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]؛ أَيْ: ضَعِيفًا عَن النِّسَاءِ لَا يَصْبِرُ عَنْهُنَّ
(1)
. [15/ 400]
1470 -
قَالَ تَعَالَى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)} [النساء: 166] .. قَوْلُهُ: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} ، قَالَ الزَّجَّاجُ: أَنْزَلَهُ وَفِيهِ عِلْمُهُ .. وَهَذَا الْمَعْنَى مَأْثُورٌ عَن السَّلَفِ كَمَا رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَن عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: أَقْرَأَنِي أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرْآنَ، وَكَانَ إذَا أَقْرَأَ أَحَدَنَا الْقُرْآنَ قَالَ: قَد أَخَذْت عِلْمَ اللهِ فَلَيْسَ أَحَدٌ الْيَوْمَ أَفْضَلَ مِنْك إلَّا بِعَمَلِ ثمَّ يَقْرَأُ: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} .
قُلْت: الْبَاءُ قَد يَكُونُ لِلْمُصَاحَبَةِ، كَمَا تَقُولُ: جَاءَ بِأَسْيَاد وَأَوْلَادِهِ، فَقَد أَنْزَلَهُ مُتَضَمِّنًا لِعِلْمِهِ مُسْتَصْحِبًا لِعِلْمِهِ، فَمَا فِيهِ مِنَ الْخَبَرِ هُوَ خَبَرٌ بِعِلْمِ اللهِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْأَمْرِ فَهُوَ أَمْرٌ بِعِلْمِ اللهِ، بِخِلَافِ الْكَلَامِ الْمُنَزَّلِ مِن عِنْدِ غَيْرِ اللهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ قَد يَكُونُ كَذِبًا وَظُلْمًا كَقُرْآنِ مُسَيْلِمَةَ، وَقَد يَكُونُ صِدْقًا لَكِنْ إنَّمَا فِيهِ عِلْمُ الْمَخْلُوقِ الَّذِي قَالَهُ فَقَطْ، لَمْ يَدُلَّ عَلَى عِلْمِ الله تَعَالَى إلَّا مِن جِهَةِ اللُّزومِ، وَهُوَ أَنَّ الْحَقَّ يَعْلَمُهُ اللهُ. [16/ 464 - 465]
(1)
وقد جاء قبل هذه الآية: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25].
قال الطبري رحمه الله: يقول: يسَّر ذلك عليكم إذا كنتم غيرَ مستطيعي الطوْل للحرائر؛ لأنكم خُلِقتم ضعفاء عجزةً عن ترك جماع النساء، قليلي الصبر عنه، فأذن لكم في نكاح فتياتكم المؤمنات عند خوفكم العَنَت على أنفسكم، ولم تجدُوا طولًا لحرة، لئلا تزنوا، لقلة صبركم على ترك جماع النساء. اهـ. تفسير الطبري (8/ 215).
ونقل هذا التفسير عن السلف، ولم يذكر قولًا غيره.
1471 -
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَأُولي الْأَمْرِ مِنَّا، وَأَمَرَ إنْ تَنَازَعْنَا فِي شَيءٍ أَنْ نَرُدَّهُ إلَى اللهِ وَالرَّسُولِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ كُل مَا تَنَازَعَ الْمُؤمِنُونَ فِيهِ مِن شَيءٍ فَعَلَيْهِم أَنْ يَرُدُّوهُ إلَى اللهِ وَالرَّسُولِ، وَالْمُعَلَّقُ بِالشَرْطِ يُعْدَمُ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُم إذَا لَمْ يَتَنَازَعُوا لَمْ يَكُن هَذَا الْأَمْر ثَابِتًا، وَكَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ لأنَهُم إذَا لَمْ يَتَنَازَعُوا كَانُوا عَلَى هُدًى وَطَاعَة للهِ وَرَسُولِهِ، فَلَا يَحْتَاجُوا حِينَئِذٍ أَنْ يَأْمُرُوا
(1)
بِمَا هُم فَاعِلُونَ مِن طَاعَةِ اللهِ وَالرَّسُولِ.
وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُم إذَا لَمْ يَتَنَازَعُوا بَلِ اجْتَمَعُوا فَإِنَّهُم لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَلَو كَانُوا قَد يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ لَكَانُوا حِينَئِذٍ أَوْلَى بِوُجُوبِ الرَّدِّ إلَى اللهِ وَالرَّسُولِ مِنْهُم إذَا تَنَازَعُوا، فَقَد يَكُونُ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ مُطِيعًا للهِ وَالرَّسُولِ.
فَإِذَا كَانُوا مَأْمُورِينَ فِي هَذَا الْحَالِ بِالرَّدِّ إلَى اللهِ وَالرَّسُولِ لِيَرْجِعَ إلَى ذَلِكَ فَرِيقٌ مِنْهُم -خَرَجَ عَن ذَلِكَ- فَلَأَنْ يُؤْمَرُوا بِذَلِكَ إذَا قُدِّرَ خُرُوجُهُم كُلُّهُم عَنْهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى. [19/ 91 - 92]
1472 -
قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، هُوَ الرَّدُّ إلَى كِتَابِ اللهِ أَو إلَى سُنَّةِ الرَّسُولِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَقَوْلُهُ:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ} شَرْطٌ، وَالْفِعْلُ نَكِرَة فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ، فَأَيُّ شَيءٍ تَنَازَعُوا فِيهِ رَدُّوهُ إلَى اللهِ وَالرَّسُولِ، وَلَو لَمْ يَكُن بَيَانُ اللهِ وَالرَّسُولِ فَاصِلًا لِلنِّزَاعِ لَمْ يُؤْمَرُوا بِالرَّدِّ إلَيْهِ. [19/ 174 - 175]
1473 -
قَوْلُهُ تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء: 92] .. قِيلَ: إذَا كَانَ مِن أَهْلِ الْحَرْبِ لَمْ يَكُن لَهُ وَارِثٌ، فَلَا يُعْطَى أَهْلُ
(1)
لعله: يُؤمَرُوا؛ لأنهم هم المأمورون بطاعة الله ورسوله لا الآمرون.
الْحَرْبِ دِيَتُهُ بَل تَجِبُ الْكَفَّارَة فَقَطْ، وَسَوَاءٌ عُرِفَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ وَقُتِلَ خَطُا أَو ظُنَّ أَنَّهُ كَافِرٌ، وَهَذَا ظَاهِرُ الْآيَةِ.
وقد قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ كَمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ جريج وَمُقَاتِل وَابْنِ زيدٍ؛ يَعْنِي: قَوْلَهُ: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء: 159]، وَبَعْضُهُم قَالَ: إنَّهَا فِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، فَهُوَ كَالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَإِن أَرَادَ الْعُمُومَ فَهُوَ كَالثَّانِي، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَرَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَوْلُ مَن أَدْخَلَ فِيهَا
(1)
ابْنَ سَلَامٍ وَأَمْثَالَهُ ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مِن الْمُؤمِنِينَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مِن كُلِّ وَجْهٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِيهِمْ: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)} [آل عمران: 199].
أَمَّا أوَّلًا: فَإِنَّ ابْنَ سَلَامٍ أَسْلَمَ فِي أَوَّلِ مَا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَقَالَ: فَلَمَّا رَأَيْت وَجْهَهُ عَرَفْت أنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، وَسُورَةُ آلِ عِمْرَانَ إنَّمَا نَزَلَ ذِكْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيهَا لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ سَنَةَ تِسْعٍ أَو عَشْرٍ.
وَثَانِيًا: أَنَّ ابْنَ سَلَام وَأَمْثَالَهُ هُوَ وَاحِدٌ مِن جُمْلَةِ الصَّحَابَةِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ مِن أَفْضَلِهِمْ وَكَذَلِكَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، فَلَا يُقَالُ فِيهِ: إنَّهُ مِن أَهْلِ الْكِتَابِ.
وَيُشْبِهُ هَذِهِ الْآيَةَ أَنَّة لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أهْلَ الْكتَابِ فَقَالَ: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110] .. وَهَذِهِ الْآيَةُ قِيلَ: إنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ، وَقِيلَ: إن قَوْلَهُ: {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُون} هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ وَأَصْحَابُهُ.
وَهَذَا -وَاللهُ أَعْلَمُ- مِن نَمَطِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مَا بَقُوا مِن أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مَن هُوَ مِنْهُم فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ؛ لَكِنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمُومِنُونَ الْمُهَاجِرُونَ الْمُجَاهِدُونَ؛ كَمُؤمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ، هُوَ مِن
(1)
أي: في قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} .
آلِ فِرْعَوْنَ وَهوَ مُؤمِنٌ؛ وَلهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر: 28]، فَهُوَ مِن آلِ فِرْعَوْنَ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ مِنْفم الْمُؤْمِنُونَ، وَلهَذَا قَالَ:{وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110]. [19/ 221 - 224]
1474 -
قَالَ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساءة 59] لَمْ يَأْمُرْ بِالرَّدِّ إلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إلَّا إذَا كَانَ نِزَاعٌ.
فَدَلَّ مِن وَجْهَيْنِ: مِن جِهَةِ وجُوبِ طَاعَتِهِمْ، وَمِن جِهَةِ أَنَّ الرَّدَّ إلَى الْكِتَاب وَالسُّنَّةِ إنَّمَا وَجَبَ عِنْدَ النّزَاعِ؛ فَعُلِمَ أَنَّهُ عِنْدَ عَدَمِ النِّزَاعِ لَا يَجِبُ وَإِن جَازَ، لِأَنَّ اتِّفَاقَهُم دَلِيل عَلَى مُوَافَقَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. [20/ 499]
* * *
سورة المائدة
1475 -
قَوْلُهُ تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} [المائدة: 41] الصَّوَابُ أَنَّهَا
(1)
لَامُ التَّعْدِيَةِ مِثْل قَوْلِهِ: "سمع الله لمن حمده"؛ فَالسَّمَاعُ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الْقَبُولِ؛ أَيْ: قَابِلُونَ لِلْكَذِبِ، ويسْمَعُونَ مِن قَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوك، وَيُطِيعُونَهُم فَيَكُونُ ذَمًّا لَهُم عَلَى قَبُولِ الْخَبَرِ الْكَاذِبِ وَعَلَى طَاعَةِ غَيْرِهِ مِن الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ.
ثُمَّ قَالَ: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42] فَذَكَرَ أَنَّهُم فِي غذاءي الْجَسَدِ وَالْقَلْبِ يَغْتَذُونَ الْحَرَامَ، بِخِلَافِ مَن يَأْكُلُ الْحَلَالَ، وَلَا يَقْبَلُ إلَّا الصِّدْقَ.
وَفيهِ ذَمّ لِمَن يَروجُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ وَيقْبَلُهُ، أَو يُؤْثِرُهُ لِمُوَافَقَتِهِ هَوَاهُ، وَيدْخُلُ فِيهِ قَبُولُ الْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ. [14/ 452 - 453]
(1)
أي: اللَّامُ.
1476 -
قَوْلُهُ تعالى: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة: 60] الصَّوَابُ عَطْفُهُ عَلَى قَوْلِهِ: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} [المائدة: 60]
(1)
فِعْل مَاضٍ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِن الْأَفْعَالِ الْمَاضِيَةِ؛ لَكِنَ الْمُتَقَدِّمَةَ الْفَاعِلُ (اللهُ) مُظْهَرًا أَو مُضْمَرًا، وَهَذَا الْفِعْلُ اسْمُ مَن عَبَدَ الطَّاغُوتَ، وَهُوَ الضَّمِيرُ فِي عَبَدَ، وَلَمْ يُعَدِّ حَرْفَ (مَنْ) لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لِصِنْفٍ وَاحِدٍ وَهُم الْيَهُودُ. [14/ 455]
1477 -
قَالَ تعالى: {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] إِنَّمَا يَتمُّ الِاهْتِدَاءُ إذَا أُطِيعَ الله وَأُدّيَ الْوَاجِبُ مِن الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَغَيْرِهِمَا. [14/ 480]
1478 -
الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي سُورة الْمَائِدَةِ فِي آيَةِ الشَّهَادَةِ فِي قَوْلِهِ: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا} [المائدة: 106]؛ أَيْ: بِقَوْلِنَا: وَلَو كَانَ ذَا قُرْبَى، حُذِفَ ضَمِيرُ (كَانَ) لِظُهُوره؛ أَيْ: وَلَو كَانَ الْمَشْهُودُ لَهُ.
فَيْحْلِفَانِ لَا نَشْتَرِي بقَوْلِنَا ثَمَنًا: أَيْ: لَا نَكْذِبُ وَلَا نَكتُمُ شَهَادَةَ اللهِ، أَو لَا نَشْتَرِي بِعَهْدِ اللهِ ثَمَنًا؛ لِأنَّهُمَا كَانَا مؤتَمَنَيْنِ فَعَلَيْهِمَا عَهْدٌ بِتَسْلِيمِ الْمَالِ إلَى مُسْتَحِقِّهِ؛ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ عَهْدٌ مِن الْعُهُودِ.
وَقَوْلُهُ: {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ} [المائدة: 107] يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُضَمَّنًا مَعْنى بَغَى عَلَيْهِمْ.
وَلهَذَا قِيلَ: {لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا} [المائدة: 107]؛ أَيْ: كَمَا اعْتَدَوْا.
ثُمَّ قَوْلُهُ: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} [المائدة: 108] وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْبُخَارِيِّ
(2)
صَرِيحٌ فِي أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
(1)
والتقدير: قُلْ هَل أنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ: مَن لَعَنَهُ اللهُ، وَغَضِبَ عَلَيْهِ، وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ.
ويرى ابن جرير أنه معطوف على جعل، قال رحمه الله: وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت. وهو اختيار ابن كثير.
(2)
عن ابْن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِن بَنِي سَهْمٍ مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ، فَمَاتَ =
حَكَمَ بِمَعْنَى مَا فِي الْقُرْآنِ فَرَدَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِيَيْنِ، بَعْدَ أَنْ اسْتَحْلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، لَمَّا عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إثْمًا
(1)
، وَهُوَ إخْبَارُ الْمُشْتَرِينَ أَنَّهُم اشْتَرَوْا "الْجَامَ" مِنْهُمَا، بَعْدَ قَوْلِهِمَا: مَا رَأَيْنَاهُ، فَحلَّفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اثْنَيْنِ مِن الْمُدَّعِينَ الْأَولَيَانِ، وَأَخَذَ "الْجَامَ" مِن الْمُشْتَرِي، وَسُلِّمَ إلَى الْمُدَّعِي، وَبَطَلَ الْبَيْعُ، وَهَذَا لَا يَكُونُ مَعَ إقْرَارِهِمَا بِأَنَّهُمَا بَاعًا الْجَامَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُن يَحْتَاجُ إلَى يَمِينِ الْمُدَّعِيينَ لَو اعْتَرَفَا بِأَنَّهُ جَامُ الْمُوصِي، وَأَنَّهُمَا غَصَبَاهُ وَبَاعَاهُ، بَل بَقُوا عَلَى إنْكَارِ قَبْضِهِ مَعَ بَيْعِهِ، أَو ادَّعَوْا مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ أَوْصَى لَهُمَا بِهِ، وَهَذَا بَعِيدٌ.
فَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمُتَّهَمَ بِخِيَانَةٍ وَنَحْوِهَا -كَمَا اتُّهمَ هَؤُلَاءِ- إذَا ظَهَرَ كَذِبُهُ وَخِيَانتهُ كَانَ ذَلِكَ لَوْثًا
(2)
يُوجِبُ رُجْحَانَ جَانِبِ الْمُدَّعِي؛ فَيَحْلِفُ وَيأْخُذُ كَمَا قُلْنَا فِي الدِّمَاءِ سَوَاءٌ.
= السَّهْمِيُّ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ، فَلمَّا قَدِمَا بِتَرِكَتِهِ، فَقَدُوا جَامًا مِن فِضَّةٍ مُخَوَّصًا مِن ذَهَبٍ، "فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم" ثُمَّ وُجِدَ الجَامُ بِمَكَّةَ، فَقَالُوا: ابْتَعْنَاهُ مِن تَمِيمِ وَعَدِيِّ، فَقَامَ رَجُلَانِ مِن أَوْليَائِهِ، فَحَلَفَا لَشَهَادَتُنَا أَحَق مِن شَهَادَتِهِمَا، وإِنَّ الجَامَ لِصَاحِبِهِمْ، قَالَ: وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذ الآيَةُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} .
وتميم وعدي كانا نصرانيين عندما حدثت القصة المذكورة في الحديث، وتميم أسلم بعد ذلك رضي الله عنه، وأما عدي فلم يسلم.
قوله: (جامًا)؛ أي: كأسًا.
قوله: (مخوصًا)؛ أي: منقوشًا فيه خطوط دقيقة طويلة كالخوص وهو ورق النخل.
قوله: (أوليائه)؛ أي: من أولياء السهمي.
والرجلان هما عمرو بن العاص والآخر قيل هو المطلب بن أبي وداعة رضي الله عنهما.
(1)
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ ابنُ جَرِيرٍ كَوْنَهُمَا شَاهِدَيْنَ، قَالَ: لِأنَّا لَا نَعْلَمُ حُكْمًا يَحْلِفُ فِيهِ الشَّاهِدُ. وَهَذَا لَا يَمْنَعُ الْحُكْمَ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، وَهُوَ حُكْمٌ مُسْتَقِلٌّ بنَفْسِهِ، لَا يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ جَارِيًا عَلَى قِيَاسِ جَمِيع الْأحْكَامِ، عَلَى أَنَّ هَذَا حُكْمٌ خَاصٌّ بِشَهَادَةٍ خَاصَّةٍ فِي مَحَلٍّ خَاصٍّ، وَقَدِ اغْتُفِرَ فِيهِ مِنَ الْأمورِ مَا لَم يُغْتَفَرْ فِي غَيْرِهِ، فَإِذا قَامَتْ قَرَائِنُ الرِّيبَةِ حَلِفَ هَذا الشَّاهِدُ بِمُقْتَضَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ. تفسير ابن كثير (3/ 217).
(2)
اللوث: قرينَة تقوي جَانب الْمُدَّعِي، وتغلب على الظَّن صِدْقَه، مَأْخُوذ من اللوث وَهُوَ الْقُوَّة. واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن اللوث لا يختص بالعداوة، بل يتناول كل ما يغلب على الظن صحة الدعوى.
واختار أن اللوث يثبت بشهادة النساء والصبيان والفسقة والعدل الواحد ونحو ذلك.
وَالْحِكْمَةُ فِيهِمَا وَاحِدَةٌ، وَذَلِكَ أنَّه لَمَّا كَانَت الْعَادَةُ أَنَّ الْقَتْلَ لَا يُفْعَلُ عَلَانِيَةً بَل سِرًّا، فَيَتَعَذَّرُ إقَامَة الْبَيّنَةِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤخَذَ بِقَوْلِ الْمُدَّعِي مُطْلَقًا، أُخِذَ بِقَوْلِ مَن يَتَرَجَّحُ جَانِبُهُ، فَمَعَ عَدَمِ اللَّوْثِ جَانِبُ الْمُنْكِرِ رَاجِحٌ، أَمَّا إذَا كَانَ قَتْلٌ وَلَوْثٌ قَوِيَ جَانِبُ الْمُدَّعِي فَيَحْلِفُ.
وَكَذَلِكَ الْخِيَانَةُ وَالسَّرِقَةُ يَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِمَا فِي الْعَادَةِ، وَمَن يَسْتَحِلُّ أَنْ يَسْرِقَ فَقَد لَا يَتَوَرَّعُ عَن الْكَذِبِ.
فَإِذَا لَمْ يَكُن لَوْثٌ فَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، أَمَّا إذَا ظَهَرَ لَوْثٌ، بأَنْ يُوجَدَ بَعْضُ الْمَسْرُوقِ عِنْدَهُ
(1)
: فَيَحْلِفُ الْمُدَّعِي وَيأْخُذُ.
وَكَذَلِكَ لَو حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ابْتِدَاءً ثُمَّ ظَهَرَ بَعْضُ الْمَسْرُوقِ عِنْدَ مَن اشْتَرَاهُ أَو اتَّهَبَهُ أَو أَخَذَهُ مِنْهُ، فَإِنَّ هَذَا اللَّوْثَ فِي تَغْلِيبِ الظَّنِّ أَقْوَى؛ لَكِنْ فِي الدَّمِ قَد يَتيقَّنُ الْقَتْلُ وَيشُكُّ فِي عَيْنِ الْقَاتِلِ؛ فَالدَّعْوَى إنَّمَا هِيَ بِالتَّعْيِينِ.
وَأَمَّا فِي دَعْوَى الْخِيَانَةِ: فَلَا تُعْلَمُ الْخِيَانَةُ، فَإِذَا ظَهَرَ بَعْضُ الْمَالِ الْمُتَّهَمِ بِهِ عِنْدَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَو مَن قَبَضه مِنْهُ: ظَهَرَ اللَّوْثُ بِتَرْجِيحِ جَانِبِ الْمُدَّعِي، فَإِنَّ تَحْلِيفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حِينَئِذٍ بَعِيدٌ.
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لَو يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُم لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ"
(2)
، جَمَعَ فِيهِ الدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ، فَكَمَا أَنَّ الدِّمَاءَ إذَا كَانَ مَعَ الْمُدَّعِي لَوْثٌ حَلَفَ، فَكَذَلِكَ الْأَمْوَالُ، كَمَا حَلَّفْنَاهُ مَعَ شَاهِدِهِ.
فَكُلُّ مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ شَاهِدِهِ. [14/ 484 - 487]
1479 -
قَالَ تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] أَمَرَهُ -تعالى- أَنْ
(1)
أي: عند المدَّعى عليه.
(2)
رواه البخاري (4552)، ومسلم (1711).
يَحْكُمَ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى مَن قَبْلَهُ، لِكُل جَعَلْنَا مِنَ الرَّسُولَيْنِ وَالْكِتَابَيْنِ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا؛ أَيْ: سُنَّةً وَسَبِيلًا، فَالشِّرْعَةُ الشَّرِيعَةُ وَهِيَ السُّنَّةُ، وَالْمِنْهَاجُ الطَّرِيقُ وَالسَّبِيلُ. [19/ 113]
1480 -
قَوْله تَعَالَى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)} [المائدة: 80، 81]، فَذَكَرَ جُمْلَةً شَرْطِيَّةً تَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ وُجِدَ الْمَشْرُوطُ بِحَرْفِ "لَو" الَّتِي تَقْتَضِي مَعَ الشَّرْطِ انْتِفَاءَ الْمَشْرُوطِ فَقَالَ:{وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 81]، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الْمَذْكُورَ يَنْفِي اتّخَاذَهُم أَوْليَاءَ وَيُضَادُّهُ، وَلَا يَجْتَمِعُ الْإِيمَانُ وَاتّخَاذُهُم أَوْليَاءَ فِي الْقَلْبِ.
وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَن اتَّخَذَهُم أَوْليَاءَ مَا فَعَلَ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ مِن الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ. [7/ 18]
1481 -
قَالَ اللهُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فَمَا أَفْضَى إلَى نَقْصِ كَمَالِ دِينِهَا وَلَو بِتَرْكِ مُسْتَحَبٍّ يُفْضِي إلَى تَرْكِهِ مُطْلَقًا كَانَ تَحْصِيلُهُ وَاجِبًا عَلَى الْكفَايَةِ: إمَّا عَلَى الْأَئِمَّةِ وَإِمَّا عَلَى غَيْرِهِمْ. [25/ 176]
* * *
سورة الأنعام
1482 -
قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53]، هم الذين يعرفون قدر نعمة الإيمان ويشكرون الله عليها. [المستدرك 1/ 180]
1483 -
قَوْلُهُ تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 19]، فَقَوْلُهُ:{قُلِ اللَّهُ} [الأنعام: 19] فِيهَا وَجْهَانِ:
قِيلَ: هُوَ جَوَابُ السَّائِلِ، وَقَوْلُهُ {شَهِيدٌ} [الأنعام: 19] خَبَرُ مُبْتَدَأِ: أَيْ هُوَ شَهِيدٌ.
وَقِيلَ: هُوَ مُبْتَدَأٌ، وَقَوْلُهُ:{شَهِيدٌ} [الأنعام: 19] خَبَرُهُ؛ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَن جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ.
والْأوَّلُ: عَلَى قِرَاءَةِ مَن يَقِفُ عَلَى قَوْله: {قُلِ اللَّهُ} [الأنعام: 19].
والثَّانِي: عَلَى قِرَاءَةِ مَن لَا يَقِفُ، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ؛ لَكِنَّ الثَّانِيَ أَحْسَنُ وَهُوَ أَتَمُّ.
وَذَلِكَ أَنَّ كَوْنَ اللهِ أكْبَرُ شَهَادَةَ هُوَ مَعْلُومٌ، وَلَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ:{أَكْبَرُ شَهَادَةً} بِخِلَافِ كَوْنِهِ شَهِيدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ؛ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالنَّصِّ وَالِاسْتِدْلَالِ. [14/ 193 - 194]
1484 -
قَالَ تَعَالَى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151]، فَهَذَا مُحَرَّمٌ مُطْلَقًا لَا يَجُوزُ مِنْهُ شَيْءٌ {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام: 151] فَهَذَا فِيهِ تَقْيِيد، فَإِنَّ الْوَالِدَ إذَا دَعَا الْوَلَدَ إلَى الشِّرْكِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطِيعَهُ، بَل لَهُ أَنْ يَأْمُرَهُ وينْهَاهُ، وَهَذَا الأمْرُ وَالنَّهْيُ لِلْوَالِدِ هُوَ مِن الْإحْسَانِ إلَيْهِ.
وَإِذَا كَانَ مُشْرِكًا: جَاز لِلْوَلَدِ قَتْلُهُ، وَفِي كَرَاهَتِهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ
(1)
. [14/ 477 - 478]
(1)
جواز قتل الولد والده إذا كان مشركًا لا يكون إلا في حال الحرب والقتال.
ولا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ولا غيره من أهل العلم بجواز قتل الأبناء للآباء إذا كانوا مشركين من غير عدوان وبغي، فهذا لا يقوله، كيف وقد أمر الله تعالى بالإحسان إلى الآباء المشيركين، بل وإلى الذين جاهدوا على دعوة أبنائهم للشرك فقال تعالى:{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15].
قال شيخ الإسلام: فوصاه سبحانه بوالديه، ثم نهاه عن طاعتهما إذا جاهداه على الشرك، فكان في هذا بيان أنهما لا يطاعان في ذلك وإن جاهداه، وأمر مع ذلك {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} اهـ. جامع المسائل (4/ 275).
فبيَّن الشيخ أن المأمور به شركا صحبتهما في الدنيا بالمعروف ولم يقل القتل. =
1485 -
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} [الأنعام: 2]، الْأجَلُ الْأَوَّلُ هُوَ أَجَلُ كُلِّ عَبْدٍ؛ الَّذِي يَنْقَضِي بِهِ عُمُره، وَالْأجَلُ الْمُسَمَّى عِنْدَهُ هُوَ: أَجَلُ الْقِيَامَةِ الْعَامَّةِ.
وَلهَذَا قَالَ: {مُسَمًّى عِنْدَهُ} فَإِنَّ وَقْتَ السَّاعَةِ لَا يَعْلَمُهُ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَل. [14/ 489]
1486 -
قَوْلُهُ تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)} [الأنعام: 109]، وَالْآيَةُ بَعْدَهَا:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110]: أَشْكلَتْ قِرَاءَةُ الْفَتْحِ
(1)
عَلَى كَثِيرٍ بِسَبَب أنَّهُم ظَنُّوا أَنَّ الْآيَةَ بَعْدَهَا جُمْلَة مُبْتَدَأَةٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لَكنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي خَبَرِ أنَّ.
وَالْمَعْنَى: إذَا كُنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ أَنَّهَا إذَا جَاءَت لَا يُومِنُونَ وَأنَا أَفْعَلُ بِهِم هَذَا: لَمْ يَكُن قَسَمَهُم صِدْقًا؛ بَل قَد يَكُونُ كَذِبًا، وَهُوَ ظَاهِرُ الْكَلَامِ الْمَعْرُوفِ أَنَّهَا "أَنَّ" الْمَصْدَرِّيَةَ، وَلَو كَانَ (وَنُقَلِّبُ) إلَخْ كَلَامًا مُبْتَدُا لَزِمَ أنَّ كُلَّ مَن جَاءَتْهُ آيَةٌ قُلِّبَ فُؤَاهُ، وَليْسَ كَذلِكَ، بَل قد يُؤمِنُ كثرٌ مِنْهُمْ
(2)
. [14/ 495]
= بل إن الشيخ يرى تحريم قتل الكفار المعاهدين الأباعد، فيكف يُجيز قتل الكفار الأقارب؟ فقد قال رحمه الله في قَوْل النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"أمِرْت أنْ أقاتِلَ النَّاسَ حَتَى يَشْهَدُوا أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ": مُرَادُهُ قِتَالُ الْمُحَارِبِينَ الَّذينَ أَذِنَ اللهُ فِي قِتَالِهِمْ، لَمْ يُرِدْ قِتَالَ الْمُعَاهَدِينَ الَّذِينَ أَمَرَ اللهُ بِوَفَاءِ عَهْدِهِمْ. مجموع الفتاوى (19/ 20).
فمراد الشيخ من كلامه السابق: أنّ عموم قول الله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} مخصوص، ومن صور الخصوص إذا كان الوالد مشركًا مُحاربًا باغيًا، فإنه لا يجب الإحسان إليه، بل يجوز للولد مُباشرةُ قتلِه.
(1)
في قوله تعالى: {أَنَّهَا} .
(2)
قال في موضع آخر: أَيْ: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إذَا جَاءَت لَا يُؤمِنُونَ بِهَا وَنُقَلِّبُ أفْئِدَتَهُم؛ أَيْ: يَتْرُكُونَ الْإِيمَانَ وَنَحْنُ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُم لِكَوْنِهِمْ لَمْ يُؤْمِنُوا أوَّلَ مَرَّةٍ؛ أيْ: مَا يُدْرِيكُمْ أنَّهُ لَا يَكُونُ هَذَا وَهَذَا حِينَئِذٍ. وَمَن فَهِمَ مَعْنَى الْآيَةِ عَرَفَ خَطَأَ مَن قَالَ: أنَّ بِمَعْنَى لَعَلَّ وَاسْتَشْكَلَ قِرَاءَةَ الْفَتْحِ؛ بَل يَعْلَمُ حِينئذٍ أنَّهَا أَحْسَنُ مِن قِرَاءَةِ الْكَسْرِ. (13/ 246).
1487 -
قَوْلُهُ تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، الْإِدْرَاكُ عِنْدَ السَّلَفِ وَالْأكْثَرِينَ هُوَ الْإِحَاطَةُ، وَقَالَ طَائِفَةٌ: هُوَ الرُّؤْيةُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ نَفْيَ الرُّويَةِ عَنْهُ لَا مَدْحَ فِيهِ؛ فَإِنَّ الْعَدَمَ لَا يُرَى، وَكُلُّ وَصْفٍ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْوُجُودُ وَالْعَدَمُ لَا يَسْتَلْزِمُ أَمْرًا ثُبُوتِيًّا فَلَا يَكونُ فِيهِ مَدْحٌ، إذ هُوَ عَدَمٌ مَحْضٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ: لَا يُحَاطُ بِهِ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ الرَّبِّ جل جلاله، وَإِنَّ الْعِبَادَ مَعَ رُؤْيتِهِمْ لَهُ لَا يُحِيطُونَ بِهِ رُؤَيةً، كَمَا أَنَّهُم مَعَ مَعْرِفَتِهِ لَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا، وَكَمَا أَنَّهُم مَعَ مَدْحِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ لَا يُحِيطُونَ ثَنَاءً عَلَيْهِ، بَل هُوَ كمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ. [17/ 111]
1488 -
قَالَ تَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام: 122]، فَالْإِيمَانُ الَّذِي يَهَبُهُ اللهُ لِعَبْدِهِ سَمَّاهُ نُورًا، وَسمّى الْوَحْي النَّازِل مِن السَّمَاءِ الَّذِي بِهِ يَحْصُلُ الْإِيمَانُ {نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52].
وَلَا ريبَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَق وَالْبَاطِلِ، بَل يُفَرِّقُ بَيْنَ أعْظَمِ الْحَقِّ.
لَكِنْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: بأَنَّ كُلَّ مَن لَهُ إيمَانٌ: يُفَرِّقُ بِمُجَرَّدِ مَا أُعْطِيَهُ مِن الْإِيمَانِ بَيْنَ كُلِّ حَقٍّ وَكُلِّ بَاطِل
(1)
. [7/ 650]
* * *
سورة الأعراف
1489 -
قال اللهُ عز وجل: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف: 55، 56]: هَاتَانِ الْآيَتَانِ مُشْتَمِلَتَانِ عَلَى آدَابِ نَوْعَي الدُّعَاءِ: دُعَاءِ الْعِبَادَةِ وَدُعَاءِ الْمَسْأَلَةِ؛ فَإِنَّ الدُّعَاءَ فِي الْقرْآنِ يُرَادُ بِهِ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً، ويُرَادُ بِهِ مَجْموعُهُمَا؛ وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ.
(1)
بل لا بدّ من العلم.
فَعُلِمَ أَنَّ النَّوْعَيْنِ مُتَلَازِمَانِ، فَكُلُّ دُعَاءِ عِبَادَةٍ مُسْتَلْزِمٌ لِدُعَاءِ الْمَسْأَلَةِ، وَكُلُّ دُعَاءِ مَسْألَةٍ مُتَضَمِّن لِدُعَاءِ الْعِبَادَةِ.
وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] يَتَنَاوَلُ نَوْعَي الدُّعَاءِ، وَبِكُل مِنْهُمَا فُسّرَتْ الْآيَةُ، قِيلَ: أُعْطِيهِ إذَا سَأَلَني، وَقِيلَ: أُثِيبُهُ إذَا عَبَدَنِي.
وَالْقَوْلَانِ مُتَلَازِمَانِ، وَلَيْسَ هَذَا مِن اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ كِلَيْهِمَا
(1)
، أَو اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ
(2)
، بَل هَذَا اسْتِعْمَالُهُ فِي حَقِيقَتِهِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا
(3)
، فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ عَظِيمُ النَّفْعِ وَقَل مَا يُفْطَنُ لَهُ.
وَأَكْثَرُ آياتِ الْقُرْآنِ دَالَّة عَلَى مَعْنيَيْنِ فَصَاعِدًا: فَهِيَ مِن هَذَا الْقَبِيلِ.
مِثَالُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] فُسِّرَ "الدُّلُوكُ " بِالزَّوَالِ، وَفُسِّرَ بِالْغُرُوبِ، وَلَيْسَ بِقَوْلَيْنِ؛ بَل اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُهُمَا مَعًا؛ فَإِنَّ الدُّلُوكَ هُوَ الْمَيْلُ، وَدُلُوكُ الشَّمْسِ مَيْلُهَا، وَلهَذَا الْمَيْلِ مُبْتَدَأٌ وَمُنْتَهًى، فَمبْتَدَؤُهُ الزَّوَالُ وَمُنْتَهَاهُ الْغُرُوبُ، وَاللَّفْظُ متَنَاوِلٌ لَهُمَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.
وَمِثَالُهُ أَيْضًا تَفْسِيرُ "الْغَاسِقِ" بِاللَّيْلِ وَتَفْسِير بِالْقَمَرِ، فَإِنَّ ذَلِكَ ليْسَ بِاخْتِلَافِ؛ بَل يَتَنَاوَلُهُمَا لِتَلَازُمِهِمَا، فَإِنَّ الْقَمَرَ آيَةُ اللَّيْلِ، وَنَظَائِرُه كَثِيرَةٌ.
وَمِن ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77]؛ أَيْ: دُعَاؤُكمْ إيَّاهُ، وَقِيلَ: دُعَاؤُهُ إيَّاكُمْ إلَى عِبَادَتِهِ، فَيَكُونُ الْمَصْدَرُ مُضَافًا إلَى الْمَفْعُولِ، وَمَحَلُّ الْأَوَّلِ مُضَافًا إلَى الْفَاعِلِ وَهُوَ الْأَرْجَحُ مِن الْقَوْلَيْنِ.
(1)
اللفظ المشترك: هو ما وُضع لمعنيين فأكثر، كالقرء للطُّهْر والحيض، والعين: الباصرة والجاسوس ومجرى الماء.
(2)
كقولهم: فلان أسد، فهذا من المجاز، عند من يرى المجاز في اللغة، والشيخ لا يرى ذلك رحمه الله.
(3)
أي: أن لفظ الدعاء يتضمن معنى دعاء المسألة والعبادة، ليس من باب المجاز أو الاشتراك اللفظي، بل هو حقيقةٌ فيهما.
وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِهِ نَوْعَي الدُّعَاءِ، وَهُوَ فِي دُعَاءِ الْعِبَادَةِ أَظْهَرُ؛ أَيْ: مَا يَعْبَأُ بِكُمْ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَرْجُونَهُ، وَعِبَادَتُهُ تَسْتَلْزِمُ مَسْأَلَتَهُ. فَالنَّوْعَانِ دَاخِلَانِ فِيهِ.
وَمِن ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، فَالدُّعَاءُ يَتَضَمَّنُ النَّوْعَيْنِ وَهُوَ فِي دُعَاءِ الْعِبَادَةِ أَظْهَرُ.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73] الْآيَةُ .. وَكُلُّ مَوْضِعٍ ذَكَرَ فِيهِ دُعَاءَ الْمُشْرِكِينَ لِأَوْثَانِهِمْ فَالْمُرَادُ بِهِ دُعَاءُ الْعِبَادَةِ الْمُتَضَمِّنُ دُعَاءَ الْمَسْألَةِ فَهُوَ فِي دُعَاءِ الْعِبَادَةِ أَظْهَرُ.
إذَا عُرِفَ هَذَا: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} يَتَنَاوَلُ نَوْعَي الدُّعَاءِ؛ لَكِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي دُعَاءِ الْمَسْأَلَةِ، مُتَضَمّنٌ دُعَاءَ الْعِبَادَةِ، وَلهَذَا أَمَرَ بِإِخْفَائِهِ وَإِسْرَارِهِ.
وَفِي إخْفَاءِ الدُّعَاءِ فَوَائِدُ عَدِيدَة:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَعْظَمُ إيمَانًا؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَعْلَمُ أَنَّ اللهَ يَسْمَعُ الدُّعَاءَ الْخَفِيَّ.
وثَانِيهَا: أَنَّهُ أَعْظَمُ فِي الْأَدَبِ وَالتَّعْظِيمِ؛ لِأَنَّ الْمُلُوكَ لَا تُرْفَعُ الْأَصْوَاتُ عِنْدَهُمْ، وَمَن رَفَعَ صَوْتَه لَدَيْهِمْ مَقَتُوهُ، وَللَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى، فَإِذَا كَانَ يَسْمَعُ الدُّعَاءَ الْخَفِيَّ فَلَا يَلِيقُ بِالْأَدَبِ بَيْنَ يَدَيْهِ إلَّا خَفْضُ الصَّوْتِ بِهِ.
وثَالِثُهَا: أَنَّه أَبْلَغُ فِي التَّضَرُّعِ وَالْخُشُوعِ الَّذِي هُوَ رُوحُ الدُّعَاءِ وَلُبُّهُ وَمَقْصُودُهُ، فَإِنَّ الْخَاشِعَ الذَّلِيلَ إنَّمَا يَسْأَلُ مَسْأَلَةَ مِسْكِينٍ ذَلِيلٍ قَد انْكسَرَ قَلْبُهُ، وَذَلَّتْ جَوَارِحُهُ، وَخَشَعَ صَوْتُهُ، حَتَّى إنَّهُ لَيَكَادُ تَبْلُغُ ذِلَّتُهُ وَسَكِينَتُهُ وَضَرَاعَتُهُ إلَى أَنْ يَنْكَسِرَ لِسَانُهُ، فَلَا يُطَاوِعُهُ بِالنُّطْقِ، وَقَلْبُهُ يَسْأَلُ طَالِبًا مُبْتَهِلًا، وَلسَانُهُ لِشِدَّةِ ذِلَّتِهِ سَاكِتًا، وَهَذِهِ الْحَالُ لَا تَأتِي مَعَ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالدُّعَاءِ أَصْلًا.
ورَابِعُهَا: أَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِخْلَاصِ.
وخَامِسُهَا: أَنَّهُ أَبْلَغُ فِي جَمْعِيَّةِ الْقَلْبِ عَلَى الذّلَّةِ فِي الدُّعَاءِ، فَإِن رَفْعَ الصَّوْتِ يُفَرِّقُهُ، فَكُلَّمَا خَفَضَ صَوْتَهُ كَانَ أَبْلَغَ فِي تَجْرِيدِ هِمَّتِهِ وَقَصْدِهِ لِلْمَدْعُوِّ سُبْحَانَهُ.
وسَادِسُهَا -وَهُوَ مِن النُّكَتِ الْبَدِيعَةِ جِدًّا-: أَنَّهُ دَالٌّ عَلَى قُرْبِ صَاحِبِهِ [مِن الله، وأنه لاقترابِه منه وشدَّةِ حضورِه يسألُه مَسْأَلةَ أقربِ شَيءٍ إليه، فيسألُه مَسْألةَ مُنَاجاةِ الْقَرِيبِ]
(1)
لِلْقَرِيبِ، لَا مَسْأَلَةَ نِدَاءِ الْبَعِيدِ لِلْبَعِيدِ؛ وَلهَذَا أَثْنَى اللهُ عَلَى عَبْدِهِ زَكَرِيَّا بِقَوْلِهِ عز وجل:{إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)} [مريم: 3].
فَلَمَّا اسْتَحْضَرَ الْقَلْبُ قُرْبَ اللهِ عز وجل، وَأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِن كُل قَرِيبٍ أَخْفَى دُعَاءَ مَا أَمْكَنَهُ.
وَتَأَمَّلْ كَيْفَ قَالَ فِي آيَةِ الذّكْرِ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [الأعراف: 205]
(2)
الْآيَةُ، وَفِي آيَةِ الدُّعَاءِ:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} فَذِكَرَ التَّضَرُّعَ فِيهِمَا مَعًا، وَهُوَ التَّذَلُّلُ وَالتَّمَسْكُنُ وَالِانْكِسَارُ
(3)
.
وَخَصَّ الدُّعَاءَ بِالْخُفْيَةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِن الْحِكَمِ وَغَيْرِهَا، وَخَصَّ الذِّكْرَ بِالْخِيفَةِ
(4)
؛ لِحَاجَةِ الذَّاكِرِ إلَى الْخَوْفِ، فَإِنَّ الذكْرَ يَسْتَلْزِمُ الْمَحَبَّةَ ويُثْمِرُهَا؛
(1)
ما بين المعقوفتين من بدائع الفوائد لابن القيِّم (3/ 844)، ولا يتم ويصح المعنى إلا به، وقد نقل ابن القيِّم كلام شيخ الاسلام بنصّه مع هذه الزيادة، وهذا يدل على أنّ ما في الفتاوى فيه سقط.
(2)
في الأصل: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ تضرّعًا} .
(3)
ومما يُلاحظ على كثير من الناس في ذكرهم أنهم لا يستشعرون التضرع والتذلل لله، بل يذكرون الله وهم في غفلة عن التفكر في الذكر الذي يقولونه، وبعضهم يتثاءب، وبعضهم ربما حدثه آخر وهو منصتٌ له حال ذكره. وبعضهم يلتفت يمنةً ويسرةً وينشغل بالناس وبما حوله.
وهذا خلاف التضرع والتذلل الذي أمر الله به، بل الذي ينبغي أنْ ينشغل تمامًا بالذكر، ويتفكر به، ويتأمل في معناه.
(4)
في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)} .
وتأمل كيف ذكر في الدعاء: أنه خفية، وفي الذكر: أنه دون الجهر، وذلك يُفيد أنّ الذكر لا ينبغي إخفاؤه كإخفاء الدعاء؛ لِمَا في رفع الصوت به الذي هو دون الجهر من الفوائد عليه وعلى غيره، أما عليه: فلأنه أدعى لحضور قلبه وعدم شرود ذهنِه، وأما على غيره: فلأنه يُذكر غيره بالذكر، وينشر هذه السُّنَّة، ولذلك ورد النص برفع الصوت في الذكر، كالأذكار أدبار الصلوات، وتكبير العيدين وغيرها، ولم يرد في الدعاء -إلا إذا كان يُدخل غيره فيه، كالدعاء في الجمعة والوتر وغيرها-.
وَلَا بُدَّ لِمَن أَكثَرَ مِن ذِكْرِ اللهِ أَنْ يُثْمِرَ لَه ذَلِكَ مَحَبَّتَهُ، وَالْمَحَبَّةُ مَا لَمْ تَقْتَرِنْ بِالْخَوْفِ فَإِنَّهَا لَا تَنْفَعُ صَاحِبَهَا بَل تَضُرُّهُ؛ لِأنَّهَا تُوجِبُ التواني وَالِانْبِسَاطَ، وَرُبَّمَا آلَتْ بِكَثِيرٍ مِن الْجُهَّالِ الْمَغْرُورِينَ إلَى أَن اسْتَغْنَوْا بِهَا عَن الْوَاجِبَاتِ.
وَلَقَد حَدَّثَنِي رَجُلٌ أنَّه أَنْكَرَ عَلَى بَعْضِ هَؤُلَاءِ خَلْوَةً لَهُ تَرَكَ فِيهَا الْجُمُعَةَ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: أَلَيْسَ الْفُقَهَاءُ يَقُولُونَ: إذَا خَافَ عَلَى شَيءٍ مِن مَالِهِ فَإِنَّ الْجُمُعَةَ تَسْقُطُ؟
فَقَالَ لَهُ: بَلَى.
فَقَالَ لَهُ: فَقَلْبُ الْمُرِيدِ أَعَزُّ عَلَيْهِ مِن عَشَرَةِ دَرَاهِمَ -أَو كَمَا قَالَ-؟ وَهُوَ إذَا خَرَجَ ضَاعَ قَلْبُهُ، فَحِفْظُهُ لِقَلْبِهِ عُذْرٌ مُسْقِطٌ لِلْجُمُعَةِ فِي حَقِّهِ! فَقَالَ لَهُ: هَذَا غُرُورٌ، بل
(1)
الْوَاجِبُ الْخُرُوجُ إلَى أَمْرِ اللهِ عز وجل.
فَتَأَمَّلْ هَذَا الْغُرُورَ الْعَظِيمَ كَيْفَ أَدَّى إلَى الِانْسِلَاخِ عَن الْإسْلَامِ جُمْلَةً، فَإِنَّ مَن سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ انْسَلَخَ عَن الْإِسْلَامِ الْعَامِّ كَانْسِلَاخِ الْحَيَّةِ مِن قِشْرِهَا، وَهُوَ يَظنُّ أَنَّهُ مِن خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ.
وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} .. الِاعْتِدَاءُ فِي الدُّعَاءِ:
أ- تَارَةً بِأَنْ يَسْأَلَ مَا لَا يَجُوزُ لَهُ سُؤَالُهُ مِن الْمَعُونَةِ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ
(2)
.
ب- وَتَارَةً: يَسْأَلُ مَا لَا يَفْعَلُة اللهُ، مِثْل أَنْ يَسْأَلَ تَخْلِيدَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
ج- وَفُسِّرَ الِاعْتِدَاءُ بِرَفْعِ الصَّوْتِ أَيْضًا فِي الدُّعَاءِ.
د- وَمِن الْعُدْوَانِ أَنْ يَدْعُوَهُ غَيْرَ مُتَضَرِّعٍ؛ بَل دُعَاءُ هَذَا كَالْمُسْتَغْنِي الْمُدَلِّي عَلَى رَبِّهِ، وَهَذَا مِن أَعْظَمِ الِاعْتِدَاءِ لِمُنَافَاتِهِ لِدُعَاءِ الذَّلِيلِ، فَمَن لَمْ يَسْأَلْ مَسْألَةَ
(1)
في الأصل: (بِك)، والتصويب من بدائع الفوائد (3/ 851).
(2)
والدعاء على غيره بغير حق.
مِسْكِينٍ مُتَضَرِّعٍ خَائِفٍ فَهُوَ مُعْتَدٍ
(1)
.
هـ- وَمِن الِاعْتِدَاءِ أَنْ يَعْبُدَهُ بِمَا لَمْ يَشْرَعْ، ويُثْنِيَ عَلَيْهِ بِمَا لَمْ يُثْنِ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا أَذِنَ فِيهِ
(2)
.
وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} ، عَقِيبَ قَوْلِهِ:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَن لَمْ يَدْعُهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً فَهُوَ مِن الْمُعْتَدِينَ الَّذِينَ لَا يُحِبُّهُمْ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]، فِيهِ تَنْبِيهٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّ فِعْلَ هَذَا الْمَأمُورِ هُوَ الْإِحْسَانُ الْمَطْلُوبُ مِنْكُمْ، وَمَطْلُوبُكُمْ أَنْتُمْ مِن اللهِ رَحْمَتُهُ وَرَحْمَتُه قَرِيبٌ مِن الْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ فَعَلُوا مَا أمِرُوا بِهِ مِن دُعَائِهِ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً وَخَوْفًا وَطَمَعًا، فَقَرَّرَ مَطْلُوبَكُمْ مِنْهُ وَهُوَ الرَّحْمَةُ بِحَسَبِ أَدَائِكُمْ لِمَطْلُوبِهِ وَإِن أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ. [15/ 10 - 27]
1490 -
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} [الأعراف: 88، 89]، ظَاهِرُهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ شعَيْبًا وَاَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ كَانُوا عَلَى مِلَّةِ قَوْمِهِمْ؛ لِقَوْلِهِمْ:{أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم: 13]، وَلقَوْلِ شُعَيْبٍ:{قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُم كَانُوا فِيهَا.
وَلقَوْلِهِ: {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اللهَ أَنْجَاهُم مِنْهَا بَعْدَ التَّلَوُّثِ بِهَا
(3)
. [15/ 29]
(1)
ومن صُوَر عدم التضرع في الدعاء، الذي هو أقرب للهزل منه إلى الجد: من يدعو بصوت مرتفع أن يرزقه الله ملايين الريالات، وخاصةً حينما يرده اتصال، ومَثل هذا: كمثل رجل وقف مع الناس في طريق الْمَلِك، وحينما مرّ عليه ناداه أمام الناس بصوت مرتفع: أيها الملك أعطني مالًا قدره كذا وكذا! فهذا مُخالف للأدب والمروءة، وربما يُعاقبه على سوء أدبه.
(2)
ومن الاعتداء أيضًا: أنْ يستعجل ربه في الإجابة، ويترك الدعاء إذا لم يُستجب له.
(3)
لكن لا يلزم أنّه كان معهم في شركهم وضلالهم بعد بلوغه زمن الرشد، فقد كان على مِلّةِ =
1491 -
قَوْله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]، الْآصَارُ فِي الْإِيجَابِ وَالأغْلَالُ فِي التَّحْرِيمِ. [20/ 199]
* * *
سورة الأنفال
1492 -
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)} [الأنفال: 45]، وفي أثر إلهي يقول الله تعالى:"إن عبدي كل عبدي الدي يذكرني وهو ملاق قرنه"
(1)
، قال ابن القيم: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدَّس الله روحه- يستشهد به.
وسمعته يقول: المحبون يفتخرون بذكر من يحبونه في هذه الحال، كما قال عنترة:
ولقد ذكرتك والرماح كأنها
…
أشطان بئر في لبان الأدهم
وقال الآخر:
ولقد ذكرتك والرماح شواجر
…
نحوي وبيض الهند تقطر من دمي
وهذا كثير في أشعارهم، وهو مما يدل على قوة المحبة، فإن ذكر المحب محبوبه في تلك الحال التي لا يهم المرء فيها غير نفسه، يدل على أنه عنده بمنزلة نفسه أو أعز منها. وهذا دليل على صدق المحبة. [المستدرك 1/ 181 - 182]
1493 -
في قَوْله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ الْمُتَوَلِّدَ لَيْسَ مِن فِعْلِ الْآدَمِيِّ؛ بَل مِن فِعْلِ اللهِ، وَالْقَتْلُ فوَ الْإِزْهَاقُ وَذَاكَ مُتَوَلِّدٌ.
= قومِه في صغرِه، ولَمَّا كبر ورشد اعتزل ضلالهم حتى أُوحي إليه. والله أعلم.
(1)
رواه الترمذي (2580)، وضعَّفه الألباني.
الثاني: أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى خَلْقِ الْأَفْعَالِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ خَرَقَ الْعَادَةَ فِي ذَلِكَ، فَصَارَتْ رُؤُوسُ الْمُشْرِكِينَ تَطِيرُ قَبْلَ وُصُولِ السِّلَاحِ إلَيْهَا بِالْإِشَارَةِ، وَصَارَتْ الْجَرِيدَةُ تَصِيرُ سَيْفًا يُقْتَلُ بِهِ.
وَكَذَلِكَ رَمْيَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَصَابَتْ مَن لَمْ يَكُن فِي قُدْرَتهِ أَنْ يُصِيبَهُ.
وَهَذَا أَصَحُّ، وَبِهِ يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّفْي وَالْإِثْبَاتِ {وَمَا رَمَيْتَ}؛ أَيْ: مَا أَصَبْت {إِذْ رَمَيْتَ} ؛ إذ طَرَحْت، {وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}: أَصَابَ.
وَهَكَذَا كُلُّ مَا فَعَلَهُ اللهُ مِن الْأَفْعَالِ الْخَارِجَةِ عَن الْقُدْرَةِ الْمعْتَادَةِ بِسَبَبٍ ضَعِيفٍ؛ كَإِنْبَاعِ الْمَاءِ وَغَيْرِهِ مِن خَوَارِقِ الْعَادَاتِ أَو الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ عَن قُدْرَةِ الْفَاعِلِ. [15/ 39 - 40]
1494 -
قَوْلُهُ تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23]، لَمْ يُرِدْ بِهِ مُجَرَّدَ إسْمَاعِ الصَّوْتِ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدِهِمَا: أَنَّ هَذَا السَّمَاعَ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَا تَقُومُ الْحُجَّةُ عَلَى الْمَدْعُوِّينَ إلَّا بِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَحْدَهُ لَا يَنْفَعُ؛ فَإِنَّهُ قَد حَصَلَ لِجَمِيع الْكُفَّارِ الَّذِينَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ وَكَفَرُوا بِهِ بخلاف إسْمَاعِ الْفِقْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُعْطِيهِ اللهُ لِمَن فِيهِ خَيْرٌ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"مَن يُرِد اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ"
(1)
وَهَذِهِ الْآيَةُ وَالْحَدِيثُ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ مَن لَمْ يَحْصُلْ لَهُ السَّمَاعُ الَّذِي يَفْقَهُ مَعَهُ الْقَوْلَ فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَعْلَمْ فِيهِ خَيْرًا، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ خَيْرًا، وَأَنَّ مَن عَلِمَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا أَو أَرَادَ بِهِ خَيْرًا فَلَا بُدَّ أَنْ يُسْمِعَهُ ويُفَقِّهَهُ.
قَوْلُهُ: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] .. دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِكُلِّ مَن سَمِعَ وَفَقِهَ يَكونُ فِيهِ خَيْرٌ؛ بَل قَد يَفْقَهُ وَلَا يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ فَلَا
(1)
البخاري (7312).
يَنْتَفِعُ بِهِ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ خَيْرًا
(1)
.
وَدَلَّتْ أَيْضًا عَلَى أَنَّ إسْمَاعَ التَّفْهِيمِ إنَّمَا يُطْلَبُ لِمَن فِيهِ خَيْرٌ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ، فَأَمَّا مَن لَيْسَ يَنْتَفِعُ بِهِ فَلَا يُطْلَبُ تَفْهِيمُهُ. [16/ 10 - 12]
* * *
سورة التوبة
1495 -
قال ابن القيم رحمه الله في قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]، وليست هذه الحرم هي الحرم المذكورة في قوله:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36].
قال شيخنا: من قال هذه هي تلك فقوله خطأ؛ وذلك أن هذه قد بيَّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح بأنها "ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان"
(2)
، وهذه ليست متوالية فلا يقال فيها:"فإذا انسلخت" فإن الثلاثة إذا انسلخت بقي رجب، فإذا انسلخ رجب بقي ثلاثة أشهر ثم يأتي الحرم، فليس جعل هذا انسلاخًا بأولى من ذلك. ولا يقال لمثل هذا انسلخ، إنما يستعمل هذا في الزمن المتصل.
ثم إن جمهور الفقهاء على أن القتال في تلك الحرم مباح، فكيف يقول: فإذا انسلخ ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب فاقتلوا المشركين وهو قد أباح فيها قتال المشركين. [المستدرك 1/ 182]
1496 -
قال ابن القيم رحمه الله: ذكر الله سبحانه "السكينة" في كتابه في ستة مواضع:
(1)
لعل الصواب: (خَيْرٌ)، بالرفع؛ لأنها اسم كان مرفوع.
(2)
صحيح البخاري (3197)، ومسلم (1679).
الأول: قوله: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 248].
الثاني: قوله: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 26].
الثالث: قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 40].
الرابع: قوله تعالى {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)} [الفتح: 4].
الخامس: قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)} [الفتح: 18].
السادس: قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 26] الآية.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذا اشتدت عليه الأمور قرأ آيات السكينة، وسمعته يقول في وقعة عظيمة جرت له في مرضه تعجز العقول عن حملها- من محاربة أرواح شيطانية ظهرت له إذ ذاك في حال ضعف القوة- قال: فلما اشتد عليَّ الأمر قلت لأقاربي ومن حولي: اقرؤوا آيات السكينة قال: ثم أقلع عني ذلك الحال، وجلست وما بي قلبة. [المستدرك 1/ 182 - 183]
1497 -
قَالَ تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100]؛ فَجَعَلَ التَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَانٍ مُشَارِكِينَ لَهُم فِيمَا ذُكِرَ مِن الرّضْوَانِ وَالْجَنَّةِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)} [الجمعة: 3]؛ فَمَن اتَّبَعَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلينَ كَانَ مِنْهُمْ، وَهُم خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وَأُولَئِكَ خَيْرُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ.
وَلهَذَا كَانَ مَعْرِفَةُ أَقْوَالِهِمْ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَأَعْمَالِهِمْ خَيْرًا وَأَنْفَعَ مِن مَعْرِفَةِ أَقْوَالِ الْمُتَأَخرِينَ وَأَعْمَالِهِمْ فِي جَمِيعِ عُلُومِ الدِّينِ وَأَعْمَالِهِ؛ كَالتَّفْسِيرِ، وَأُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ، وَالزُّهْدِ، وَالْعِبَادَةِ، وَالْأَخْلَاقِ، وَالْجِهَادِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهم أَفْضَلُ مِمَن بَعْدَهُم كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَالِاقْتِدَاءُ بِهِم خَيْرٌ مِن الِاقْتِدَاءِ بِمَن بَعْدَهُمْ، وَمَعْرِفَةُ إجْمَاعِهِمْ وَنزَاعِهِمْ فِي الْعِلْمِ وَالدّينِ خَيْرٌ وَأَنْفَعُ مِن مَعْرِفَةِ مَا يُذْكَرُ مِن إجْمَاعِ غَيْرِهِمْ وَنزَاعِهِمْ
(1)
.
وَذَلِكَ أَنَّ إجْمَاعَهُم لَا يَكُونُ إلَّا مَعْصُومًا، وَإِذَا تَنَازَعُوا فَالْحَقُّ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمْ، فَيُمْكِنُ طَلَبُ الْحَقِّ فِي بَعْضِ أَقَاوِيلِهِمْ، وَلَا يُحْكَمُ بِخَطَأِ قَوْلٍ مِن أَقْوَالِهِمْ حَتَّى يُعْرَفَ دَلَالَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى خِلَافِهِ. [13/ 23 - 24]
1498 -
قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30]، الْمُرَادُ بِالْيَهودِ جِنْسُ الْيَهُودِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173]، لَمْ يَقُلْ جَمِيعَ النَّاسِ، وَلَا قَالَ: إنَّ جَمِيعَ النَّاسِ قَد جَمَعُوا لَكُمْ؛ بَل الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ. [15/ 47]
1499 -
قوله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} : تَدلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِاللهِ كُفْرٌ وَبِالرَّسُولِ كُفْرٌ مِن جِهَةِ الِاسْتِهْزَاءِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ كُفْرٌ بِالضَّرُورَةِ، فَلَمْ يَكُن ذِكْرُ الْآيَاتِ وَالرَّسُولِ شَرْطًا، فَعُلِمَ أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِالرَّسُولِ كُفْرٌ، وَإِلَّا لَمْ يَكُن لِذِكْرِهِ فَائِدَةٌ وَكَذَلِكَ الْآيَات. [15/ 49 - 50]
1500 -
قَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)} ، إِنَّ الْمُرَادَ بِعِمَارَتهَا: عِمَارَتُهَا بالْعِبَادَةِ فِيهَا كَالصَّلَاةِ وَالِاعْتِكَافِ، يُقَالُ: مَدِينَة عَامِرَةٌ إذَا كَانَت مَسْكُونَةً وَمَدِينَة خَرَابٌ إذَا لَمْ يَكُن فِيهَا ساكِنٌ.
(1)
ولهذا؛ فالذي يبنغي لطالب العلم أن ينظر في كتب المتقدمين وسيرهم وعلومهم، فهي أنفع وأصوب.
وَأَمَّا نَفْسُ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فَيَجُوزُ أَنْ يَبْنِيَهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ وَالْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ، وَذَلِكَ يُسَمَّى بِنَاءً. [17/ 499]
1501 -
قَالَ تَعَالَى: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)} [التوبة: 39]، هَذَا خِطَابٌ لِكُلِّ قَرْنٍ، وَقَد أَخْبَرَ فِيهِ أَنَّهُ مَن نَكَلَ عَنِ الْجِهَادِ الْمَأمُورِ بِهِ عَذَّبَهُ وَاسْتَبْدَلَ بِهِ مَن يَقُومُ بِالْجِهَادِ، وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ. [18/ 301]
1502 -
فِي الْمُؤْمِنِينَ مَن قَد يَكُونُ سَمَّاعًا لِلْمُنَافِقِينَ كَمَا قَالَ: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47]، وَبَعْضُ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ الْمَعْنَى: سَمَّاعُونَ لِأَجْلِهِمْ، بِمَنْزِلَةِ الْجَاسُوسِ؛ أَيْ: يَسْمَعُونَ مَا يَقُولُ وينْقُلُونَهُ إلَيْهِمْ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة: 41] " أَيْ: لِيَكْذِبُوا: أَنَّ اللَّامَ لَامُ التَّعْدِيَةِ لَا لَامُ التَّبَعَيَّةِ.
وَلَيْسَ هَذَا مَعْنَى الْآيَتَيْنِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: فِيكُمْ مَن يَسْمَعُ لَهُم؛ أَيْ: يَسْتَجِيبُ لَهُم ويتْبَعُهُم، كَمَا فِي قَوْلِهِ:"سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَهُ" اسْتَجَابَ اللهُ لِمَن حَمِدَهُ؛ أَيْ: قَبِلَ مِنْهُ، يُقَالُ: فُلَانٌ يَسْمَعُ لِفُلَانٍ؛ أَيْ: يَسْتَجِيبُ لَهُ وَيُطِيعُهُ.
مِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أنَّه قَالَ: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة؛ 42]، فَذَكَرَ مَا يَدْخُلُ فِي آذَانِهِمْ وَقُلُوبِهِم مِن الْكَلَامِ، وَمَا يَدْخلُ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَبُطُونِهِمْ مِن الطَّعَامِ: غِذَاءِ الْجُسُومِ وَكِذَاءِ الْقُلُوبِ، فَإِنَّهُمَا غِذَاءَانِ خَبِيثَانِ: الْكَذِبُ وَالسُّحْتُ، وَهَكَذَا مَن يَأْكلُ السُّحْتَ مِن الْبِرْطِيلِ
(1)
وَنَحْوِهِ: يَسْمَعُ الْكَذِبَ كَشَهَادَةِ الزُّورِ.
فَلَمَّا كَانَ هَؤُلَاءِ: يَسْتَجِيبُونَ لِغَيْرِ الرَّسُولِ، كَمَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُ إذَا وَافَقَ آرَاءَهُم وَأَهْوَاءَهُمْ: لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ؛ فَإِنَّهُم مُتَخَيّرُونَ بَيْنَ الْقَبُولِ مِنْهُ
(1)
أي: الرِّشْوَة.
وَالْقَبُولِ مِمَن يُخَالِفُهُ، فَكانَ هُوَ مُتَخَيِّرًا فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُم وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُم، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بَيْنَ مَن لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ مِن الْمُؤْمِنِينَ.
وَإِذَا ظَهَرَ الْمَعْنَى تَبَيَّنَ فَصْلُ الْخِطَابِ فِي وُجُوب الْحُكْمِ بَيْنَ الْمُعَاهِدِينَ مِن أَهْلِ الْحَرْبِ: كَالْمُسْتَأْمِنِ وَالْمُهَادِنِ وَالذِّمِّيِّ، فَإِنَّ فِيهِ نِزَاعًا مَشْهُورًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ:
قِيلَ: لَيْسَ بِوَاجِبِ؛ لِلتَّخَيُّرِ.
وَقِيلَ: بَل هُوَ وَاجِبٌ وَالتَّخْيِيرُ مَنْسُوخ بِقَوْلِهِ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49].
قَالَ الْأَوَّلُونَ: أَمَّا الْأَمْرُ هُنَا أَنْ يَحْكُمَ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ إذَا حَكَمَ: فَهُوَ أَمْرٌ بِصِفَةِ الْحُكْمِ لَا بِأَصْلِهِ كَقَوْلِهِ: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42]، وَقَوْلِهِ:{وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]. وَهَذَا أَصْوَبُ؛ فَإِنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ بِمُحْتَمَلٍ، فَكَيْفَ بِمَرْجُوحٍ؟.
وَحَقِيقَةُ الْآيَةِ: إنْ كَانَ مُسْتَجيبًا لِقَوْم آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوهُ: لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ؛ كَالْمُعَاهِدِ مِن الْمُسْتَأَمَنِ وَغَيْرِهِ، الَّذِي يَرْجِعُ إلَى أُمَرَائِهِ وَعُلَمَائِهِ فِي دَارهِمَ، وَكَالذِّمِّيِّ الَّذِي إنْ حَكَمَ لَهُ بِمَا يُوَافِقُ غَرَضَهُ وَإِلَّا رَجَعَ إلَى أَكَابِرِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ فَيَكُون مُتَخَيَّرًا بَيْنَ الطَّاعَةِ لِحُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَبَيْنَ الْإِعْرَاضِ عَنْهُ.
وَأَمَّا مَن لَمْ يَكُن إلَّا مُطِيعًا لِحُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ لَيْسَ عَنْهُ مَنْدُوحَةٌ؛ كَالْمَظْلُومِ الَّذِي يَطْلُبُ نَصْرَهُ مِن ظَالِمِهِ وَلَيْسَ لَهُ مَن يَنْضرُهُ مِن أَهْلِ دِينهِ: فَهَذَا: لَيْسَ فِي الْآيَةِ تَخْيِيرٌ.
وَكَذَلِكَ لَو كَانَ الْمُتَحَاكِمُ إلَى الْحَاكِمِ وَالْعَالِمِ مِن الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَتَخَيَّرُونَ بَيْنَ الْقَبُولِ مِن الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبَيْنَ تَرْكِ ذَلِكَ: لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ.
وَهَذَا مِن حُجَّةِ كَثِيرٍ مِن السَّلَفِ الَّذِينَ كَانُوا لَا يُحَدِّثُونَ الْمُعْلِنِينَ بِالْبِدَع بِأَحَادِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَمِن هَذَا الْبَابِ: مَن لَا يَكُون قَصْدُهُ فِي اسْتِفْتَائِهِ وَحُكُومَتِهِ الْحَقَّ بَل غَرَضُهُ مَن يُوَافِقُهُ عَلَى هَوَاهُ كَائِنًا مَن كَانَ سَوَاءٌ كَانَ صَحِيحًا أَو بَاطِلًا: فَهَذَا سَمَاعٌ لِغَيْرِ مَا بَعَثَ اللهُ بِهِ رَسُولَهُ؛ فَإِنَّ اللهَ إنَّمَا بَعَثَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، فَلَيْسَ عَلَى خُلَفَاءِ رَسُولِ اللهِ أَنْ يُفْتُوهُ وَيحْكُمُوا لَهُ، كَمَا لَيْسَ عَلَيْهِم أَنْ يَحْكُمُوا بَيْنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ الْمُسْتَجِيبِينَ لِقَوْم آخَرِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا للهِ وَرَسُولِهِ. [28/ 194 - 199]
* * *
سورة يونس
1503 -
قَالَ تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس: 39]؛ أَيْ: كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ الَّذِي لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ.
فَفَرَّقَ بَيْنَ الْإِحَاطَةِ بِعِلْمِهِ وَبَيْنَ إتْيَانِ تَأْوِيلِهِ.
فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُحِيطَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ، وَأَنَّ الْإِحَاطَةَ بِعِلْمِ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ إتْيَانَ تَأْوِيلِهِ، فَإِنَّ الْإِحَاطَةَ بِعِلْمِهِ مَعْرِفَةُ مَعَانِي الْكَلَامِ عَلَى التَّمَامِ، وَإِتْيَانُ التَّأوِيلِ نَفْسُ وُقُوعِ الْمُخْبَرِ بِهِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ مَعْرِفَةِ الْخَبَرِ وَبَيْنَ الْمُخْبَرِ بِهِ، فَمَعْرِفَةُ الْخَبَرِ هِيَ مَعْرِفَةُ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، وَمَعْرِفَةُ الْمُخْبَرِ بِهِ هِىَ مَعْرِفَةُ تَأْوِيلِهِ. [13/ 283]
1504 -
قَوْلُهُ تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ} [يونس:: 66]، ظَنَّ طَائِفَةٌ أَنَّ (مَا) نَافِيَةٌ وَهُوَ خَطَأٌ، بَل هِيَ اسْتِفْهَامٌ، فَإِنَّهُم يَدْعُونَ مَعَهُ شُرَكَاءَ كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُم فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. [15/ 61]
* * *
سورة هود
1505 -
قَوْله تَعَالَى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} [هود: 17] وَهَذَا يَعُمُّ جَمِيعَ مَن هُوَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ ويتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ.
فَالْبَيِّنَةُ: الْعِلْمُ النَّافِعُ، وَالشَّاهِدُ الَّذِي يَتْلُوهُ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الرَّسُولَ وَمَن اتَّبَعَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّ الرَّسُولَ عَلَى بَيّنَةٍ مِن رَبِّهِ، وَمُتَّبِعِيهِ عَلَى بَينةٍ مِن رَبِّهِ.
ثُمَّ قَالَ: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} وَالضمِيرُ فِي (مِنْهُ) عَائِدٌ إلَى اللهِ تَعَالَى؛ أَيْ: وَيَتْلُو هَذَا الَّذِي هُوَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِن ربِّهِ شَاهِد مِن اللهِ.
ويتْلُوهُ: مَعْنَاهُ يَتَّبِعهُ، كَمَا قَالَ:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} [البقرة: 121]؛ أَيْ: يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ، وَقَالَ:{وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2)} [الشمس: 2]؛ أَيْ: تَبِعَهَا.
فَهَذَا الشَّاهِدُ يَتْبَعِ الَّذِي عَلَى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ فَيُصَدِّقُهُ ويُزَكِّيهِ ويُؤِّيدُهُ وَيُثْبِتُهُ، كَمَا قَالَ:{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} [النحل: 102].
وَقَد سَمَّى اللهُ الْقُرْآنَ سُلْطَانًا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، فَإِذَا كَانَ السُّلْطَانُ الْمُنَزَّلُ مِن اللهِ يَتْبَعُ هَذَا الْمُؤْمِنَ: كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ قُوَّتَهُ وَتَسَلُّطَهُ عِلْمًا وَعَمَلًا.
وَقَالَ جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: تَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَازْدَدْنَا إيمَانًا.
فَهُم كَانُوا يَتَعَلَّمُونَ الْإِيمَانَ ثُمَّ يَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ.
فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} [هود: 17]؛ يَعْنِي: هُدَى الْإِيمَانِ {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} ؛ أَيْ: مِن اللهِ، يَعْنِي: الْقُرْآنَ شَاهِدٌ مِن اللهِ، يُوَافِقُ الْإِيمَانَ ويتْبَعُهُ.
وَقَالَ: {وَيَتْلُوهُ} لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْمَقْصُودُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُرَادُ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ الْإِيمَانُ وَزِيَادَتُهُ
(1)
.
(1)
فيكون المعنى: يَتْلُو الشَّاهدُ على منْ كانَ على بَيِّنَةٍ مِن رَبِّه؛ أَيْ: يَتْبَعُهُ، شاهدًا لهُ بِما هُو عليْه مِن البَيِّنةِ. =
وَلهَذَا كَانَ الْإِيمَانُ بِدُونِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ يَنْفَعُ صَاحِبَهُ وَيدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ، وَالْقُرْآنُ بِلَا إيمَانٍ لَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ، بَل صَاحِبُهُ مُنَافِقٌ.
ثُمَّ قَالَ: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} [الأحقاف: 12]، فَقَوْلُهُ:{وَمِنْ قَبْلِهِ} [الأحقاف: 12] الضَّمِيرُ يَعُودُ إلَى الْقُرْآنِ؛ أَيْ: مِن قَبْلِ الْقُرْآنِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ زيدٍ، وَقِيلَ: يَعُودُ إلَى الرَّسُولِ كَمَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ.
وقَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِه} [هود: 17] أَيْ: كُلُّ مَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ فَإِنَّهُ يُؤْمِن بِالشَّاهِدِ مِن اللهِ، وَالْإِيمَانُ بِهِ إيمَان بِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى، قَالَ:{أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِه} وَهُم الْمُتَّبِعُونَ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِن أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ.
ثُمَّ قَالَ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} ، وَالْأَحْزَابُ هُم أَصْنَافُ الْأُمَمِ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا وَصَارُوا أَحْزَابًا.
وَقَوْلُه: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} [هود: 17] كَمَن لَمْ يَكنْ؟.
وَأَمَّا مَن قَالَ: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} [هود: 17] إنَّهُ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم كَمَا قَالَهُ طَائِفَة مِن السَّلَفِ، فَقَد يُرِيدُونَ بِذَلِكَ التَّمْثِيلَ لَا التَّخْصِيصَ، فَإِنَّ الْمُفَسِّرِينَ كَثِيرًا مَا يُرِيدُونَ ذَلِكَ، وَمُحَمَّد هُوَ أَوَّلُ مَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ وَتَلَاهُ شَاهِدٌ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الْأنْبِيَاءُ، وَهُوَ أَفْضَلُهُم وَإِمَامُهُمْ، وَالْمُؤمِنُونَ تَبَعٌ لَهُ، وَبِهِ صَارُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِمْ.
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهَا
(1)
تَرْجِعُ إلَى "مِنْ"، أَو تَرْجِعُ إلَى الْبَيِّنَةِ، وَالْبَيِّنَةُ يُرَادُ بِهَا الْقُرْآنُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ الشَّاهِدَ مِن الْقُرْآنِ. [15/ 62 - 90]
= وقد ردّ الشيخ على من فسر التلاوة بمعنى القراءة وقال: وَاَلَّذِينَ قَالُوا هَذ الْأقْوَالَ إنَّمَا أتَوْا مِن جِهَةِ قَوْلِهِ: {وَيَتْلُوهُ} فَظَنوا أنَّ تِلَاوَتَهُ هِيَ قِرَاءَتُهُ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لِلْقُرْآنِ ذِكْرٌ، ثُمَّ جَعَلَ هَذَا يَقُولُ جِبْرِيلُ تَلَاهُ، وَهَذَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ، وَهَذَا تقُولُ لِسَانُهُ!
وَالتِّلَاوَةُ قَد وُجِدَتْ فِي الْقُرْآنِ وَاللغَةُ الْمَشْهُورَة بِمَعْنَى الِاتِّبَاعِ، وَكَثِيرٌ مِن الْمُفَسِّرِينَ لَا يَذْكُرُ فِي هَذ الْآيَةِ الْقَوْلَ الصَّحِيحَ، فَيَبْقَى النَّاظِرُ الْفَطِنُ حَائِرًا. اهـ. (15/ 88).
(1)
أي: "هـ" يَتْلُوهُ.
1506 -
قَالَ طَوَائِفُ مِن الْعُلَمَاءِ: إنَّ قَوْلَهُ: {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [هود: 107] أَرَادَ بِهَا سَمَاءَ الْجَنَّةِ وَأرْضَ الْجَنَّةِ.
وَعَلَى هَذَا فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ انْطِوَاءِ هَذِهِ السَّمَاءِ وَبَقَاءِ السَّمَاءِ الَّتِي هِيَ سَقْفُ الْجَنَّةِ؛ إذ كُلُّ مَا عَلَا فَإِنَّهُ يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ سَمَاءً، كَمَا يُسَمَّى السَّحَابُ سَمَاءً وَالسَّقْفُ سَمَاءً.
وأَيْضًا: فَإِنَّ السَّمَوَاتِ وَإِن طُوِيَتْ وَكَانَت كَالْمُهْلِ وَاسْتَحَالَتْ عَن صُورَتهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ عَدَمَهَا وَفَسَادَهَا بَل أَصْلُهَا بَاقٍ بِتَحْوِيلِهَا مِن حَالٍ إلَى حَالٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48]، وَإِذَا بُدِّلَتْ فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ سَمَاءٌ دَائِمَةً وَأَرْضٌ دَائِمَةً. [15/ 109 - 110]
* * *
سورة يوسف
1507 -
قال ابن القيم رحمه الله: احتج بعض الفقهاء بقصة يوسف على أنه جائز للإنسان التوصل إلى أخذ حقه من الغير بما يمكنه الوصول إليه بغير رضا من عليه الحق.
قال شيخنا رضي الله عنه: وهذه الحجة ضعيفة؛ فإن يوسف لم يكن يملك حبس أخيه عنده بغير رضاه، ولم يكن هذا الأخ ممن ظلم يوسف حتى يقال: إنه اقتص منه، وإنما سائر الإخوة هم الذين كانوا قد فعلوا ذلك، نعم تخلفه عنده كان يؤذيهم من أجل تأذي أبيهم والميثاق الذي أخذه عليهم، وقد استثنى في الميثاق بقوله:{أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66]، وقد أحيط بهم، ولم يكن قصد يوسف باحتباس أخيه الانتقام من إخوته؛ فإنه كان أكرم من هذا، وكان في ذلك من الإيذاء لأبيه أعظم مما فيه من إيذاء إخوته، وإنما هو أمر أمره الله به ليبلغ الكتاب أجله، ويتم البلاء الذي استحق به يعقوب ويوسف كمال الجزاء، وتبلغ حكمة الله التي قضاها لهم نهايتها.
ولو كان يوسف قصد القصاص منهم بذلك فليس هذا موضع الخلاف بين العلماء؛ فإن الرجل له أن يعاقب بمثل ما عوقب به، وإنما موضع الخلاف: هل يجوز له أن يسرق أو يخون من سرقه أو خانه مثل ما سرق منه أو خانه إياه؟ وقصة يوسف لم تكن من هذا الضرب، نعم لو كان يوسف أخذ أخاه بغير أمره لكان لهذا المحتج شبهة، مع أنه لا دلالة في ذلك على هذا التقدير أيضًا؛ فإن مثل هذا لا يجوز في شرعنا بالاتفاق، وهو أن يحبس رجل بريء ويعتقل للانتقام من غيره من غير أن يكون له جرم. [المستدرك 1/ 184]
1508 -
قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ يُوسُفَ: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]، فَاللهُ يَصْرِفُ عَن عَبْدِهِ مَا يَسُوءُهُ مِن الْمَيْلِ إلَى الصُّوَرِ
(1)
وَالتَّعَلُّقِ بِهَا، وَيَضرِفُ عَنْهُ الْفَحْشَاءَ بِإِخْلَاصِهِ للهِ.
وَلهَذَا يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَذُوقَ حَلَاوَةَ الْعُبُودِيَّةِ للهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ تَغْلِبهُ نَفْسُهُ عَلَى اتّبَاعِ هَوَاهَا، فَإذَا ذَاقَ طَعْمَ الْإِخْلَاصِ وَقَوِيَ فِي قَلْبِهِ انْقَهَرَ لَهُ هَوَاهُ بِلَا عِلَاجٍ. [10/ 188]
1509 -
قَوْلُ يُوسُفَ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَالَتْ لَهُ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ: {هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)} [يوسف 23]، الْمُرَادُ بِرَبِّهِ فِي {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف: 21].
وَالضَّمِيرُ فِي: {إِنَّهُ} مَعْلُومٌ بَيْنَهُمَا وَهُوَ سَيِّدُهَا
(2)
.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24] فَهَذَا خَبَرٌ مِن اللهِ تَعَالَى أَنَّهُ رَأَى بُرْهَانَ رَبّهِ، وَرَبُّهُ هُوَ اللهُ.
(1)
المقصود بالصور في كلام شيخ الإسلام وابن القيِّم رحمهما الله تعالى سورة الآدمي الحي، كالنسوان والمردان، ولا يقصدان الصور المرسومة أو المجسّمة.
(2)
والتقدير: إنّ سيدي أكرم مثواي؛ أي: إقامتي في مصر، فكيف أخونه في أهلِه؟
قَالَ تَعَالَى: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} [يوسف: 42]، قِيلَ: أُنْسِيَ يُوسُفُ ذِكْرَ رَبِّهِ لَمَّا قَالَ: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّك} [يوسف: 42].
وَقِيلَ: بَل الشَّيْطَانُ أنْسَى الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا ذِكْرَ رَبِّهِ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، فَإنَّهُ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ:{اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} ، قَالَ تَعَالَى:{فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} وَالضَّمِيرُ يَعُودُ إلَى الْقَرِيبِ إذَا لَمْ يَكن هُنَاكَ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ يُوسُفَ لَمْ يَنْسَ ذِكْرَ رَبِّهِ، بَل كَانَ ذَاكِرًا لِرَبِّهِ.
وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الَّذِي نَسِيَ رَبَّهُ هُوَ الْفَتَى لَا يُوسُفُ: قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)} [يوسف: 45]، وَقَوْلُهُ:{وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَد نَسِيَ فَادَّكَرَ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)} [يوسف: 35]، وَلُبْثُهُ فِي السِّجْنِ كَانَ كَرَامَةً مِن اللهِ فِي حَقِّهِ؛ لِيَتِمَّ بِذَلِكَ صَبْرُهُ وَتَقْوَاهُ، فَإِنَّهُ بِالصَّبْرِ وَالتَّقْوَى نالَ مَا نالَ؛ وَلهَذَا قَالَ:{أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90]، وَلَو لَمْ يَصْبِرْ ويتَّقِ بَل أَطَاعَهُم فِيمَا طَلَبُوا مِنْهُ جَزَعًا مِن السِّجْنِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذَا الصَّبْرُ وَالتَّقْوَى، وَفَاتَهُ الْأَفْضَلُ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ.
ولَمَّا كَانَ الزنى بِالْمَرْأَةِ الْمُزَوَّجَةِ لَهُ عِلَّتَانِ، كُل مِنْهُمَا تَسْتَقِلُّ بِالتَّحْرِيمِ، مِثْل لَحْمِ الْخِنْزِيرِ الْمَيِّتِ: عَلَّلَ يُوسُفُ ذَلِكَ بِحَق الزَّوْجِ، وَإِن كَانَ كُلٌّ مِن الْأَمْرَيْنِ
(1)
مَانِعًا لَهُ.
وَكَانَ فِي تَعْلِيلِهِ بِحَقِّ الزَّوْجِ فَوَائِدُ:
مِنْهَا: أَنَّ هَذَا مَانِعٌ تَعْرِفُهُ الْمَرْأَةُ وَتَعْذُرُهُ بِهِ، بِخِلَافِ حَقِّ اللهِ تَعَالَى فَإنَّهَا لَا تَعْرِفُ عُقُوبَةَ اللهِ فِي ذَلِكَ.
(1)
وهو حق الزوج وحق الله تعالى.
ومِنْهَا: أَنَّ الْمَرْأَةَ قَد تَرْتَدِعُ بِذَلِكَ فَتَرْعَى حَقَّ زَوْجِهَا، إمَّا خَوْفًا وَإِمَّا رِعَايَةً لِحَقِّهِ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْمَمْلُوكُ يَمْتَنِعُ عَن هَذَا رِعَايَةً لِحَقِّ سَيِّدِهِ فَالْمَرْأَةُ أَوْلَى بِذَلِكَ.
وَفِي قَوْلِ يُوسُفَ: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)} [يوسف: 33] عِبْرَتَانِ:
إحْدَاهُمَا: اخْتِيَارُ السَّجْنِ وَالْبَلَاءِ عَلَى الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي.
والثَّانِيَةُ: طَلَبُ سُؤَالِ اللهِ وَدُعَائِهِ أَنْ يُثَبِّتَ الْقَلْبَ عَلَى دِينِهِ ويصْرِفَة إلَى طَاعَتِهِ، وإِلَّا فَإِذَا لَمْ يُثَبِّتِ الْقَلْبَ صَبَا إلَى الْآمِرِينَ بِالذُّنُوبِ وَصَارَ مِن الْجَاهِلِينَ.
وَقَوْلُهُ: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: 50]: دَلَّ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ كَيْدًا مِنْهُنَّ، وَقَد قَالَ لَهُنَّ الْمَلِكُ:{مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف: 51] فَهُنَّ لَمْ يُرَاوِدْنَهُ لِأَنْفسِهِنَّ؛ إذ كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ مُمْكِنٍ وَهُوَ عِنْدَ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا وَتَحْتَ حِجْرِهَا؛ لَكِنْ قَد يَكُنَّ أَعَنَّ الْمَرْأَةَ عَلَى مَطْلُوبِهَا.
وَاخْتِيَارُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ وَلأَهْلِهِ الِاحْتبَاسَ فِي شِعْبِ بَنِي هَاشِمٍ بِضْعَ سِنِينَ لَا يُبَايَعُونَ وَلَا يُشَارُونَ، وَصِبْيَانُهُم يَتَضَاغَوْنَ مِن الْجُوعِ، قَد هَجَرَهُم وَقَلَاهُم قَوْمُهُم وَغَيْرُ قَوْمِهِمْ، هَذَا أَكْمَلُ مِن حَالِ يُوسُفَ عليه السلام.
وَكَانَ كَذِبُ هَؤُلَاءِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَعْظَمَ مِن الْكَذِبِ عَلَى يُوسُفَ؛ فَإِنَّهُم قَالوا: إنَّهُ سَاحِرٌ وَإِنَّهُ كَاهِنٌ وَإِنَّهُ مَجْنُونٌ. [15/ 111 - 135]
1510 -
فِي قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف: 110]: قِرَاءَتَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ؛ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّثْقِيلِ، وَكَانَت عَائِشَةُ رضي الله عنها تَقْرَأُ بِالتّثقِيلِ وَتُنْكِرُ التَّخْفِيفَ.
وَالظَّنُّ لَا يُرَادُ بِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الِاعْتِقَادُ الرَّاجِحُ كَمَا هُوَ فِي
اصْطِلَاحِ طَائِفَةٍ مِن أَهْلِ الْكَلَامِ فِي الْعِلْمِ، ويُسَمُّونَ الِاعْتِقَادَ الْمَرْجُوحَ وَهْمًا، بَل قَد قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَنَّ كذَبُ الْحَدِيثِ"
(1)
، وَقَد قَالَ تَعَالَى:{وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28].
فَالِاعْتِقَادُ الْمَرْجُوحُ هُوَ ظَنٌّ، وَهُوَ وَهْمٌ، وَهَذَا الْبَابُ قَد يَكُونُ مِن حَدِيثِ النَّفْسِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ.
وَقَد يَكونُ مِن بَابِ الْوَسْوَسَةِ الَتِي هِيَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ.
وَأَمَّا الرُّسُلُ فَلَمْ يَذْكُرْ مَا اسْتَيْأسُوا مِنْهُ، بَل أَطْلَقَ وَصْفَهُم بِالِاسْتِيئَاسِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَيِّدَة بِأَنَّهُم اسْتَيْأسُوا مِمَّا وُعِدُوا بِهِ، وَاخْبِرُوا بِكَوْنِهِ، وَلَا ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ ذَلِكَ.
وَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} لَا يَدُلُّ عَلَى ظَاهِرِهِ فَضْلًا عَن بَاطِنِهِ: أَنَّهُ حَصَلَ فِي قُلُوبِهِم مِثْلُ تَسَاوِي الطَّرَفَيْنِ فِيمَا أُخْبِرُوا بِهِ، فَإِنَّ لَفْظَ الظَّنِّ فِي اللُّغَةِ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ؛ بَل يُسَمَّى ظَنُّا مَا هُوَ مِن أَكْذَبِ الْحَدِيثِ عَنِ الظَّانِّ؛ لِكَوْنِهِ أَمْرًا مَرْجُوحًا فِي نَفْسِهِ. [15/ 175 - 183]
1511 -
قَالَ تَعَالَى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3]، وَأَحْسَنُ الْقَصَصِ: قِيلَ: إَّنهُ مَصْدَرٌ، وَقِيلَ: إنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ.
وَالْقَوْلَانِ مُتَلَازِمَانِ فِي الْمَعْنَى.
وَمَن رَجَّحَ الْأَوَّلَ مِن النُّحَاةِ -كَالزَّجَّاجِ وَغَيْرِهِ- قَالُوا: الْقَصَصُ مَصْدَرٌ، يُقَالُ: قَصَّ أَثَرَة يَقُصُّهُ قَصَصًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف: 64]، وَكَذَلِكَ اقْتَصَّ أَثَرَهُ وَتَقَصَّصَ وَقَد اقْتَصَصْت الْحَدِيثَ: رَويته عَلَى وَجْهِهِ، وَقَد اقْتَصَّ عَلَيْهِ الْخَبَرَ قَصَصًا.
وَلَيْسَ الْقَصَصُ بِالْفَتْحِ جَمْعُ قِصَّةٍ كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ الْعَامَّةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُقَالُ
(1)
رواه البخاري (5143)، ومسلم (2563).
فِي قِصَصٍ بِالْكَسْرِ، وَاحِدُهُ قِصَّة، وَالْقِصَّةُ هِيَ الأمْرُ وَالْحَدِيثُ الَّذِي يُقَصُّ، فِعْلَةُ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَجَمْعُهُ قِصَصٌ بِالْكَسْرِ، وَقَوْلُهُ:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} بِالْفَتْحِ لَمْ يَقُلْ أَحْسَنَ الْقِصَصِ بِالْكَسْرِ وَلَكِنْ بَعْضُ النَّاسِ ظَنُّوا أَنَّ الْمُرَادَ أَحْسَنُ الْقِصَصِ بِالْكَسْرِ، وَأَنَّ تِلْكَ الْقِصَّةَ قِصَّةُ يُوسُفَ، وَذَكَرَ هَذَا طَائِفَةٌ مِن الْمُفَسِّرِينَ، ثُمَّ ذَكَرُوا: لِمَ سُمِّيَتْ أَحْسَنَ الْقَصَصِ؟.
وَاَلَّذِينَ يَجْعَلُونَ قِصَّةَ يُوسُفَ أحْسَنَ الْقَصَصِ:
أ - مِنْهُم مَن يَعْلَمُ أنَّ "الْقَصَصَ" بِالْفَتْحِ هُوَ النَّبَأُ وَالْخَبَرُ، ويقُولُونَ: هِيَ أَحْسَنُ الْأَخْبَارِ وَالْأنْبَاءِ.
ب- وَكَثِيرٌ مِنْهُم يَظُنُّ أَنَّ الْمُرَادَ أَحْسَنُ الْقِصَصِ بِالْكَسْرِ، وَهَؤُلَاءِ جُهَّالٌ بِالْعَرَبِيَّةِ.
وَكلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:(أَحْسَنَ الْقَصَصِ) قصَّةَ يُوسُفَ وَحْدَهَا، بَل هِيَ مِمَّا قَصَّهُ اللهُ، وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي أَحْسَنِ الْقَصَصِ.
وَمِن الْمَعْلُومِ أَنَّ قِصَّةَ مُوسَى وَمَا جَرَى لَهُ مَعَ فِرْعَوْنَ وَغَيْرِهِ أَعْظَمُ وَأشرَفُ مِن قِصَّةِ يُوسُفَ بِكَثِيرِ كثِيرٍ، وَلهَذَا هِيَ أَعْظَمُ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي تُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ، ثَنَّاهَا اللهُ أَكْثَرَ مِن غَيْرِهَا وَبَسَطَهَا وَطَوَّلَهَا أَكْثَرَ مِن غَيْرِهَا، بَل قَصَصُ سَائِرِ الْأنْبِيَاءِ -كَنُوحِ وَهُودِ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ وَغَيْرِهِمْ مِن الْمُرْسَلِينَ- أَعْظَمُ مِن قِصَّةِ يُوسُفَ. وَلهَذَا ثَنَّى اللهُ تِلْكَ الْقَصَصَ فِي الْقُرْآنِ وَلَمْ يُثَنّ قِصَّةَ يُوسُفَ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَن قَوْلَهُ: {أَحْسَنَ الْقَصَصِ} قَد قِيلَ إنَّهُ مَصْدَرٌ، وَقِيلَ إنَّه مَفْعُولٌ بِهِ، وَالْقَوْلَانِ مُتَلَازِمَانِ، لَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الْقَصَصَ مَفْعُولٌ بِهِ، وَإِن كَانَ أَصْلُهُ مَصْدَرًا، فَقَد غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَقْصُوصِ، كَمَا فِي لَفْظِ الْخَبَرِ وَالنَّبَأِ، وَالِاسْتِعْمَالُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
فَلَيْسَ هُوَ قِيَاس مَصْدَرِ الْمُضَعَّفِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا عَلَى كَوْنِهِ مَصْدَرًا إلَّا
قَوْلُه: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، بَل قَد يَكُونُ اسْمَ مَصْدَرٍ أُقِيمَ مَقَامَهُ؛ كَقَوْلِهِ:{وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17)} [نوح: 17]، وإن جُعِلَ مَصْدَرَ (قَصَّ الْأَثَرَ) لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرَ (قَصَّ الْحَدِيثَ)؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ خَبَرٌ وَنَبأٌ، فَكَانَ لَفْظُ قَصَصٍ كَلَفْظِ خَبَرٍ وَنبأٍ وَكَلَامٍ.
وَأَسْمَاءُ الْمَصَادِرِ فِي بَابِ الْكَلَامِ تَتَضَمَّنُ الْقَوْلَ نَفْسَهُ، وَتَدُلُّ عَلَى فِعْل الْقَائِلِ بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ وَاللُّزُومِ، فَإنَّك إذَا قُلْت: الْكَلَامُ وَالْخَبَرُ وَالْحَدِيثُ وَالنَّبَأَ وَالْقَصَصُ، لَمْ يَكُن مِثْل قَوْلِك: التَّكلِيمُ وَالْإِنْبَاءُ وَالْإِخْبَارُ وَالتَّحْدِيثُ، وَلهَذَا يُقَالُ إنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، وَاسْمُ الْمَصْدَرِ يَنْتَصِبُ عَلَى الْمَصْدَرِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ:{وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17)} فَإِذَا قَالَ: كَلَّمْته كَلَامًا حَسَنًا، وَحَدَّثْته حَدِيثًا طَيِّبًا، وَأَخْبَرْته أَخْبَارًا سَارَّةً، وَقَصَصْت عَلَيْهِ قِصَصًا صَادِقَةَ وَنَحْو ذَلِكَ، كَانَ هَذَا مَنْصوبًا عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، لَمْ يَكُن هَذَا كَقَوْلِك: كَلَّمْته تَكْلِيمًا وَأَنْبَأته إنْبَاءً، فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ:{أَحْسَنَ الْقَصَصِ} مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ، وَكُلُّ مَا قَصَّهُ اللهُ فَهُوَ أَحْسَنُ الْقَصَصِ.
وهُمْ
(1)
كُلُّهُم مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ الْمَتْلُوَّ هُوَ الْقُرْآنُ الْعَرَبِي الَّذِي نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن اللهِ بِالْحَقّ، وَهُوَ كَلَامُ اللهِ الَّذِي تَكلَّمَ بِهِ.
وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي تِلَاوَةِ الْعِبَادِ لَهُ
(2)
: هَل هِيَ الْقُرْآنُ نَفْسُهُ، أَمْ هِيَ الْفِعْلُ الَّذِي يَقْرأُ بِهِ الْقُرْآنَ؟
وَالتَّحْقِيقُ أنَّ لَفْظَ "التِّلَاوَةِ" يُرَادُ بِهِ هَذَا وَهَذَا
(3)
.
وَلَفْظُ "الْقُرْآنِ" يُرَادُ بِهِ الْمَصدَرُ
(4)
، ويُرَادُ بِهِ الْكَلَامُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)} [القيامة: 17، 18]، وَفِي
(1)
أي: أَهْل السُّنَّة.
(2)
أي: نطقهم للقرآن.
(3)
أي: يراد به كلام الله، ويراد به حركة اللسان في القراءة.
(4)
أي: مصدر قرأ، بمعنى تلا وهو حركة اللسان، ويراد به الكلام نفسُه، وهو كلام الله تعالى.
"الصَّحِيحَيْنِ" عَن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَجْمَعَهُ فِي قَلْبِك وَتَقْرَأَهُ بِلِسَانِك.
وَقَد قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)} [النحل: 98] .. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]، وَهْم إنَّمَا يَسْتَمِعُونَ الْكَلَامَ نَفْسَهُ، وَلَا يَسْتَمِعُونَ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ، الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ
(1)
، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُسْمَعُ.
فَقَوْلُهُ: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} مِن هَذَا الْبَابِ مِن بَابِ: نَقْرَأُ عَلَيْك أَحْسَنَ الْقَصَصِ، وَنَتْلُو عَلَيْك أَحْسَنَ الْقَصَصِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ} [القصص: 3].
وَالْمَشْهُورُ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} [الإسراء: 45] أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ؛ فَكَذَلِكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ، لَكِنْ في كِلَيْهِمَا مَعْنَى الْمَصْدَرِ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ، فَفِيهِ مَعْنَى الْمَفْعُولِ بِهِ، وَمَعْنَى الْمَصْدَرِ جَمِيعًا.
وَغَالِبُ مَا يُذْكرُ لَفْظُ "الْقُرْآنِ" إنَّمَا يُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْكَلَامِ، لَا يُرَادُ بِهِ التَّكَلُّمُ بِالْكَلَامِ الَّذِي هُوَ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ.
وَمِثْل هَذَا كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ يَكُونُ أَمْرَانِ مُتَلَازِمَانِ إمَّا دَائِمًا وَإِمَّا غَالِبًا فَيُطْلَقُ الِاسْمُ عَلَيْهِمَا وَيَغْلِبُ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً، وَقَد يَقَع عَلَى أَحَدِهِمَا مُفْرَدًا كَلَفْظِ "النَّهْرِ" و"الْقَرْيَةِ" و"الْمِيزَابِ" ونَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ حَالٌ وَمَحَلُّ، فَالِاسْمِ يَتَنَاوَلُ مَجْرَى الْمَاءِ وَالْمَاءُ الْجَارِي، وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْقَرْيَةِ يَتَنَاوَلُ الْمَسَاكِنَ وَالسُّكَّانَ، ثمَّ تَفولُ: حَفَرَ النَّهْرَ فَالْمُرَادُ بِهِ الْمَجْرَى، وَتَقُولُ جَرَى النَّهْرُ فَالْمُرَادُ بِهِ الْمَاءُ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ} [النحل: 112]، وَالْمُرَادُ السُّكَّانُ فِي الْمَكَانِ.
(1)
وهو حركة اللسان.
وَقَالَ تَعَالَى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)} [الحج: 45]، وَالْخَاوِي عَلَى عُرُوشِهِ الْمَكَانُ لَا السُّكان. [17/ 17 - 38]
* * *
سورة الرعد
1512 -
قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ} [الرعد: 33] .. حَامَ حَوْلَ مَعْنَاهَا كَثِيرٌ مِن الْمُفَسِّرِينَ، فَمَا شَفَوْا عَلِيلًا وَلَا أَرْوَوْا غَلِيلًا، وَإِن كَانَ مَا قَالُو صَحِيحًا.
فَتَأَمُّلُ مَا قَبْلَ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا يُطْلِعُك عَلَى حَقِيقَةِ الْمَعْنَى، فَإنّهُ سُبْحَانَهُ يَقولُ:{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33] وَهَذَا اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ يَتَضَمَّنُ إقَامَةَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِم وَنَفْيَ كُلِّ مَعْبُودٍ مَعَ اللهِ الَّذِي هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتهِ وَجَزَائِهِ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
فَهُوَ رَقِيبٌ عَلَيْهَا حَافِظٌ لِأعْمَالِهَا، مُجَازِ لَهَا بِمَا كَسَبَتْ مِن خَيْرٍ وَشَرٍّ.
فَإِذَا جَعَلْتُمْ أُولَئِكَ شُرَكَاءَ فَسَمُّوهُم إذًا بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي يُسَمَّى بِهَا الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُسَمَّى بِالْحَيِّ الْقَيُّومِ الْمُحْيِي الْمُمِيتِ السَّمِيعِ الْبَصِيرِ الْغَنِيِ عَمَّا سِوَاهُ، وَكُل شَيءٍ فَقِيرٌ إلَيْهِ، وَوُجُود كُلِّ شَيءٍ بِهِ.
فَهَل تَسْتَحِقُّ آلِهَتُكُمْ اسْمًا مِن تِلْكَ الْأَسْمَاءِ؟
فَإِنْ كَانَت آلِهَةً حَقًّا فَسَمُّوهَا بِاسْمٍ مِن هَذِهِ الْأسْمَاءِ؛ وَذَلِكَ بن بَيِّنٌ؛ فَإِذَا انْتَفَى عَنْهَا ذَلِكَ عُلِمَ بُطْلَانُهَا كَمَا عُلِمَ بُطْلَانُ مسَمَّاهَا.
وَأَمَّا إنْ سَمَّوْهَا بِأسْمَائِهَا الصَّادِقَةِ عَلَيْهَا كَالْحِجَارَةِ وَغَيْرِهَا مِن مُسَمَّى الْجَمَادَاتِ وَأَسْمَاءِ الْحَيَوَانِ الَّتِي عَبَدُوهَا مِن دُونِ اللهِ كَالْبَقْرِ وَغَيْرِهَا، وَبِأسْمَاءِ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ أَشْرَكُوهُم مَعَ اللهِ جَلَّ وَعَلَا، وَبِأسْمَاءِ الْكَوَاكِبِ الْمُسَخَّرَاتِ تَحْتَ أَوَامِرَ الرَّبِّ، وَالْأَسْمَاءُ الشَّامِلَةُ لِجَمِيعِهَا أَسْمَاءُ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُحْتَاجَاتُ
الْمُدَبَّرَاتُ الْمَقْهُورَاتُ، وَكَذَلِكَ بَنُو آدَمَ عِبَادَةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَهَذِهِ أَسْمَاؤُهَا الْحَقُّ وَهِيَ تُبْطِلُ إلَهِيَّتَهَا؛ لأنَّ الْأسمَاءَ الَّتِىِ مِن لَوَازِمِ الْإِلَهِيَّةِ مُسْتَحِيلَةٌ عَلَيْهَا؛ فَظَهَرَ أَنَّ تَسْمِيَتَهَا آلِهَةً مِن أَكْبَرِ الْأدِلَّةِ عَلَى بُطْلَانِ إلَهِيَّتِهَا وَامْتِنَاعِ كَوْنِهَا شُرَكَاءَ لله عز وجل. [15/ 196 - 197]
* * *
سورة الحجر
1513 -
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)} [الحجر: 75].
قال ابن القيم رحمه الله: وَلَقَد شَاهَدْتُ مِنْ فِرَاسَةِ شَيْخِ الْإسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ رحمه الله أُمُورًا عَجِيبَةً، وَمَا لَمْ أُشَاهِدْهُ مِنْهَا أَعْظَمُ وَأَعْظَمُ، وَوَقَائِعُ فِرَاسَتِهِ تَسْتَدْعِي سِفْرًا ضَخْمًا.
أَخْبَرَ أصْحَابَهُ بِدُخولِ التّتَارِ الشَّامَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَأَنَّ جُيُوشَ الْمُسْلِمِينَ تُكْسَرُ، وَأَنَّ دِمَشْقَ لَا يَكُونُ بِهَا قَتْلٌ عَام وَلَا سَبْيٌ عَامٌّ، وَأَنَّ كَلَبَ الْجَيْشِ وَحِدَّتَهُ فِي الْأَمْوَالِ. وَهَذَا قَبْلَ انْ يَهُمَّ التتارُ بِالْحَرَكَةِ.
ثُمَّ أَخْبَرَ النَّاسَ وَالْأُمَرَاءَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِمِائَةٍ لَمَّا تَحَرَّكَ التَّتَارُ وَقَصَدُوا الشَّامَ: أَنَّ الدَّائِرَةَ وَالْهَزِيمَةَ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ الظَّفَرَ وَالنَّصْرَ لِلْمُسْلِمِينَ. وَأَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ يَمِينًا. فَيُقَالُ لَهُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللهُ. فَيَقُولُ: إِنْ شَاءَ اللهُ تَحْقِيقَا لَا تَعْلِيقًا، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ ذَلِكَ.
قَالَ: فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيَّ، قُلْتُ: لَا تُكْثِرُوا، كَتَبَ اللهُ تَعَالَى فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أنَّهُمْ مَهْزُومُونَ فِي هَذِهِ الْكَرَّةِ، وَأَنَّ النَّصْرَ لِجُيُوشِ الْإِسْلَامِ.
قَالَ: وَأَطْمَعَتْ بَعْضَ الْأمَرَاءِ وَالْعَسْكَرِ حَلَاوَةُ النَّصْرِ قَبْلَ خُرُوجِهِمْ إِلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ.
وَكَانَتْ فِرَاسَتُهُ الْجَرِيْئَةُ
(1)
فِي خِلَالِ هَاتَيْنِ الْوَاقِعَتَيْنِ مِثْلَ الْمَطَرِ.
(1)
في الأصل: (الجزئية) وهو غلط. (الجامع).
وَلَمَّا طُلِبَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَأُرِيدَ قَتْلُهُ -بَعْدَمَا أُنْضِجَتْ لَهُ الْقُدُورُ، وَقُلِّبَتْ لَهُ الْأُمُورُ- اجْتَمَعَ أَصْحَابُهُ لِوَدَاعِهِ، وَقَالُوا: قَد تَوَاتَرَتِ الْكُتُبُ بِأنَّ الْقَوْمَ عَامِلُونَ عَلَى قَتْلِكَ.
فَقَالَ: وَاللهِ لَا يَصِلُونَ إِلَى ذَلِكَ أبَدًا، قَالُوا: أفَتُحْبَسُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَيَطُول حَبْسِي، ثُمَّ أَخْرُجُ وَأَتَكَلَّمُ بِالسُّنَّةِ عَلَى رُؤُوسِ النَّاسِ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ ذَلِكَ.
وَلَمَّا تَوَلَّى عَدُوُّهُ الْمُلَقَّبُ بِالْجَاشِنْكيرِ
(1)
الْمُلْكَ أَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ، وَقَالُوا: الْآنَ بَلَغَ مُرَادَة مِنْكَ، فَسَجَدَ للهِ شُكْرًا وَأطَالَ، فَقِيلَ لَهُ: مَا سَبَبُ هَذِهِ السَّجْدَةُ؟ فَقَالَ: هَذَا بِدَايَةُ ذُلِّهِ وَمُفَارَقَةُ عِزِّهِ مِنَ الْآنِ، وَقُرْبُ زَوَالِ أمْرِهِ، فَقِيلَ: مَتَى هَذَا؟ فَقَالَ: لَا تُرْبَطُ خُيُولُ الْجُنْدِ عَلَى الْقُرْطِ حَتَّى تُغْلَبَ دَوْلَتُهُ، فَوَقَعَ الْأمْرُ مِثْلَ مَا أخْبَرَ بِهِ، سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنْهُ.
وَقَالَ مَرَّةً: يَدْخُلُ عَلَيَّ أَصْحَابِي وَغيْرُهُمْ، فَأرَى فِي وُجُوهِهِمْ وَأعْيُنِهِمْ أمُورًا لَا أَذْكُرُهَا لَهُمْ.
فَقُلْتُ لَهُ -أَوَ غَيْرِي-: لَوْ أخْبَرْتَهُمْ؟ فَقَالَ: أَتُرِيدُونَ انْ أَكُونَ مُعَرِّفًا كَمُعَرِّفِ الْوُلَاةِ؟
وَقُلْتُ لَهُ يَوْمًا: لَوْ عَامَلْتَنَا بِذَلِكَ لَكَانَ أَدْعَى إِلَى الِاسْتِقَامَةِ وَالصَّلَاحِ.
فَقَالَ: لَا تَصْبِرُونَ مَعِي عَلَى ذَلِكَ جُمُعَةً، أوْ قَالَ: شَهْرًا.
وَأَخْبَرَنِي غَيْرَ مَنْ مَرَّةٍ بَاطِنَةٍ تَخْتَصُّ بِي مِمَّا عَزَمْتُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَنْطِقْ بِهِ لِسَانِي.
(1)
هو: المظفر الجاشنكير بيبرس، وكان يُدني المبتدعة من الاتحادية والحلولية والصوفية.
وكان الشيخ تقي الدين يَنَالُ مِنَ الْجَاشْنكِيرِ، وَمِن شَيْخِهِ نَصْر الْمَنْبِجيِّ، ويقُولُ: زَالَتْ أَيَّامُهُ، وَانْتَهَتْ رِياسَتُهُ، وَقَرُبَ انْقِضَاءُ أجْلِهِ، وَيَتكَلَّمُ فِيهِمَا وَفي ابْنِ عَرَبِيٍّ وأتْبَاعِهِ.
ولم يُخيب الله تعالى ظن الشيخ، فعاد الملك المنصور قلاوون إلى الملك سَنَة تِسْعٍ وَسَبْعِمِائَةٍ، وزالت دولة الْجَاشْنكِيرِ، وخُذل هو وشيخه نصر المنبجي الاتحادي الحلولي.
وَأَخْبَرَنِي بِبَعْضِ حَوَادِثَ كِبَارٍ تَجْرِي فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَمْ يُعَيِّنْ أَوْقَاتَهَا. وَقَد رَأَيْتُ بَعْضَهَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ بَقِيّتَهَا.
وَمَا شَاهَدَهُ كِبَارُ أَصْحَابِهِ مِنْ ذَلِكَ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا شَاهَدَتْهُ. [المستدرك 1/ 186 - 188]
* * *
سورة النحل
1514 -
قَوْله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل: 81]، فَأَمَّا قَوْلُهُ:{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} وَلَمْ يَذْكرِ الْبَرْدَ، فَقَد قِيلَ: لِأَنَّ التَّنْزِيلَ كَانَ بِالْأَرْضِ الْحَارَّةِ فَهُم يَتَخَوَّفُونَهُ.
وَقيلَ: حُذِفَ الْآخَرُ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَيُقَالُ: هَذَا مِن بَابِ التَّنْبِيهِ؛ فَإِنَّهُ إذَا امْتَنَّ عَلَيْهِم بِمَا يَقِي الْحَرَّ فَالِامْتِنَانُ بِمَا يَقِي الْبَرْدَ أَعْظَمُ.
وَأَحْسَنُ مِن هَذَا أَنَّهُ قَد تَقَدَّمَ ذِكْرُ وِقَايَةِ الْبَرْدِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)} [النحل: 5].
فَيُقَالُ: لِمَ فَرَّقَ هَذَا؟
فَيُقَالُ -وَاللهُ أَعْلَمُ-: الْمَذْكُورُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ النِّعَمُ الضَّرُورِيَّةُ الَّتِي لَا يَقُومُونَ بِدُونهَا، مِن الْأَكْلِ وَشُرْبِ الْمَاءِ الْقَرَاحِ وَدَفْعِ الْبَرْدِ وَالرُّكُوبِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ فِي النُّقْلَةِ، وَفِي آخِرِهَا ذَكَرَ كَمَالَ النِّعَمِ، مِن الْأشْرِبَةِ الطَّيِّبَةِ وَالسُّكُونِ فِي الْبُيُوتِ وَبُيُوتِ الْأُذمِ وَالِاسْتِظْلَالِ بِالظِّلَالِ وَدَفْعِ الْحَرّ وَالْبَأسِ بِالسَّرَابِيلِ، فَإِنَّ هَذَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ، فَفِي الْأَوَّلِ الْأصولُ، وَفِي الْآخَرِ الْكَمَالُ؛ وَلهَذَا قَالَ:{كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} . [15/ 218 - 219]
1515 -
قَالَ تعالى فِي سُورَةِ النَّحْلِ: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} [النحل: 118]، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ حَرَّمَ ذَلِكَ بِبَغْيِهِمْ فَقَالَ: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا
حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] .. وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ وَهُوَ: أَنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ بَاقٍ عَلَيْهِم بَعْدَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ لَا يَزُولُ إلَّا بِمُتَابَعَتِهِ؛ لِأَنّهُ تَحْرِيمُ عُقُوبَةٍ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَبَغْيِهِمْ؛ وَهَذَا لَمْ يَزُلْ، بَل زَادَ وتغلظ فَكَانُوا أَحَقَّ بِالْعُقُوبَةِ.
وَقَوْلهُ: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} لَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]، لَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا حُرِّمَ عَلَيْنَا مِمَّا يَسْتَحِلُّونَهُ هُمْ؛ كَصَيْدِ الْحَرَمِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ. [19/ 264 - 265]
1516 -
أَمَرَ الله رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بسِؤَالِ أَهلِ الْكِتَابِ عَمَّا تَوَاتَرَ عِنْدَهم كَقَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)} [النحل: 43]، فَإِنَّ مِنَ الْكُفَّارِ مَن أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ للهِ رَسُولٌ بَشَرٌ فَأَخْبَرَ اللهُ أَنَّ الَّذِينَ أَرْسَلَهُم قَبْلَ مُحَمَّدٍ كَانُوا بَشَرًا، وَأَمَرَ بِسُؤَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَن ذَلِكَ لِمَن لَا يَعْلَمُ
(1)
. [19/ 11]
* * *
سورة الإسراء
1517 -
{قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)} [الإسراء: 42].
قال شيخنا رضي الله عنه: والصحيح أن المعنى: لابتغوا
(2)
إليه سبيلًا بالتقرب إليه وطاعته، فكيف تعبدونهم من دونه؟ وهم لو كانوا آلهة كما يقولون لكانوا عبيدًا له.
(1)
كلام شيخ الإسلام رحمه الله ظاهر في أنّ المقصود بأهل الذكر أهل الكتاب، وسياق الآية يدل على ذلك، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وَقَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ: الذِّكْرُ: الْقُرْآنُ، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِهِ:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]: صَحِيحٌ، وَلَكِنْ لَيْسَ هُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا؛ لِأن الْمُخَالِفَ لَا يَرْجِعُ فِي إِثْبَاتِهِ بَعْدَ إِنْكارِهِ إِلَيْهِ.
وَكَذَا قَوْلُ أبي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ: "نَحْنُ أَهْلُ الذكْرِ" -وَمُرَادُ أنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ أهْلُ الذكْرِ- صَحِيحٌ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ أعْلَمُ مِنْ جَمِيعِ الْأمَمِ السَّالِفَةِ. اهـ. تفسير ابن كثير (4/ 573).
(2)
أي: الآلهة.
قال: ويدل على هذا وجوه:
منها: قَولُهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57].
أَي: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُوني هُمْ عِبَادِي كَمَا أَنْتُمْ عِبَادِي، وَيَرْجُونَ رَحْمَتِي ويخَافُونَ عَذَابِي، فَلِمَاذَا تَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُوني؟
الثاني: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَقُلْ: "لَابْتَغَوْا عَلَيْهِ سَبِيلًا"، بَلْ قَالَ:"لَابْتَغَوْا إِلَيْهِ سَبِيلًا"
(1)
، وَهَذَا اللَّفْظُ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي التَّقَرُّبِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35].
وَأَمَّا فِي الْمُغَالَبَةِ فَإنَّمَا يُسْتَعْمَلُ بِعَلَى؛ كَقَوْلِهِ: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} [النساء: 34]
(2)
. [المستدرك 1/ 188]
1518 -
قَولُهُ: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)} [الإسراء: 32]، عَلَّلَ النَّهْيَ عَنْهُ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِن أَنَّهُ فَاحِشَةٌ وَأَنَّهُ سَاءَ سَبِيلًا، فَلَو كَانَ إنَّمَا صَارَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا بِالنَّهْيِ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ تَسْبِقُ الْمَعْلُولَ لَا تَتْبَعُهُ
(3)
. [15/ 8 - 9]
1519 -
قال تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)} [الإسراء: 109]، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أَوَّلُ مَا يَلْقَى الْأَرْضَ مِن الَّذِي يَخِرُّ قَبْلَ أَنْ يُصَوِّبَ جَبْهَتَهُ ذَقَنُهُ فَلِذَلِكَ قَالَ: {لِلْأَذْقَانِ} [الإسراء: 109]؛ أَيْ: عَلَى الْأَذْقَانِ، كَمَا قَالَ:{وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] أَيْ: عَلَى الْجَبِينِ.
وَقَوْلُهُ: {لِلْأَذْقَانِ} [الإسراء: 107] يَدُلُّ عَلَى تَمَامِ السُّجُودِ، وَأَنَّهُم سَجَدُوا
(1)
في الأصل: (لم يقل: {لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} بل قال: (لابتغوا إليه سبيلًا)، والتصويب من الجواب الكافي.
(2)
الجواب الكافي (ص 242)، هذه الوجوه غير موجودة في المجموع. (الجامع).
(3)
في هذا ردٌّ على مَن لا يُثْبِتُ لِلْأَفْعَالِ فِي نَفْسِهَا صِفَاتِ الْحُسْنِ وَالسُّوءِ.
عَلَى الْأَنْفِ مَعَ الْجَبْهَةِ حَتَّى الْتَصَقَت الْأَذْقَانُ بِالْأَرْضِ، لَيْسُوا كَمَن سَجَدَ عَلَى الْجَبْهَةِ فَقَطْ، وَالسَّاجِدُ عَلَى الْأَنْفِ قَد لَا يُلْصِقُ الذَّقَنَ بِالْأَرْضِ إلَّا إذَا زَادَ انْخِفَاضُهُ.
فَالسَّاجِدُ يَخِرُّ عَلَى ذَقَنِهِ ويسْجُدُ عَلَى جَبْهَتِهِ، فَهَذَا خُرُورُ السُّجُودِ. [23/ 143، 157]
* * *
سورة الكهف
1520 -
قوله سبحانه: {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [الكهف: 86] العين في الأرض، ومعنى {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ}؛ أي: في رأي الناظر باتفاق المفسرين، وليس المراد أنها تسقط من الفلك فتغرب في تلك العين؛ فإنها لا تنزل من السماء إلى الأرض، ولا تفارق فلكها، والفلك فوق الأرض من جميع أقطارها لا يكون تحت الأرض. [المستدرك 1/ 189]
1521 -
قَالَ الْمُؤْمِنُ لِصَاحِبِهِ: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: 39]، وَلهَذَا يُؤمَرُ بِهَذَا مَن يَخَافُ الْعَيْنَ عَلَى شَيءٍ، فَقَوْلُهُ: مَا شَاءَ اللهُ تَقْدِيرُهُ: مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، فَلَا يَأْمَن
(1)
، بَل يُومِنُ بِالْقَدَرِ، ويقُولُ: لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ. [13/ 321]
1522 -
قِصَّةُ الْخَضِرِ مَعَ مُوسَى لَمْ تَكُنْ مُخَالِفَةً لِشَرْعِ اللهِ وَأَمْرِهِ، وَلَا فَعَلَ الْخَضِرُ مَا فَعَلَهُ لِكَوْنِهِ مُقَدَّرًا كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ؛ بَل مَا فَعَلَهُ الْخَضِرُ هُوَ مَأمُورٌ بِهِ فِي الشَّرْعِ، بِشَرْطِ أَنْ يَعْلَمَ مِن مَصْلَحَتِهِ مَا عَلِمَهُ الْخَضِرُ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ مُحَرَّمًا مُطْلَقًا؛ وَلَكِنْ خَرَقَ السَّفِينَةَ وَقَتَلَ الْغُلَامَ وَأَقَامَ الْجِدَارَ، فَإِنَّ إتْلَافَ بَعْضِ الْمَالِ لِصلَاحِ أَكْثَرِهِ هُوَ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ دَائِمًا، وَكَذَلِكَ قَتْلُ الْإِنْسَانِ الصَّائِلِ
(1)
أي: لا ينبغي أنْ يكون آمنًا من العين ونحوها، بل يُؤمن بأنها حقٌّ ويفعل الأسباب التي تحفظُه منها، ومِن أعظم الأسباب قراءة الأوراد والأذكار.
لِحِفْظِ دِينِ غَيْرِهِ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ، وَصَبْرُ الْإِنْسَانِ عَلَى الْجُوعِ مَعَ إحْسَانِهِ إلَى غَيْرِهِ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ.
فَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ مِن الْأُمُورِ مَا ظَاهِرُهُ فَسَاد، فَيُحَرِّمُهُ مَن لَمْ يَعْرِفِ الْحِكْمَةَ الَّتِي لِأجْلِهَا فُعِلَ، وَهُوَ مُبَاحٌ فِي الشَّرْعِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا لِمَن عَلِمَ مَا فِيهِ مِن الْحِكْمَةِ الَّتِي تُوجِبُ حُسْنَهُ وَإِبَاحَتَهُ
(1)
. [14/ 475 - 456]
* * *
سورة مريم
1523 -
سُورَةُ مَرْيَمَ: سُورَةُ الْمَوَاهِبِ، وَهِيَ مَا وَهَبَهُ اللهُ لِأَنْبِيَائِهِ مِن الذُّرِّيَّةِ الطَّيِّبةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْعِلْمِ النَّافِعِ. [15/ 231]
1524 -
قَوْله عز وجل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)} [مريم: 59]، وقَوْله تَعَالَى:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)} [الماعون:4، 5] الْمُرَادُ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ: مَن أَضَاعَ الْوَاجِبَ فِي الصَّلَاةِ لَا مُجَرَّدَ تَرْكِهَا، هَكَذَا فَسَّرَهَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْكَلَامِ فَاِنَّهُ قَالَ:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)} فأثْبَتَ لَهُم صَلَاةً وَجَعَلَهُم سَاهِينَ عَنْهَا، فَعُلِمَ أَنَّهُم كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَ السَّهْوِ عَنْهَا، وَقَد قَالَ طَائِفَةٌ مِن السَّلَفِ: بَل هُوَ السَّهْوُ عَمَّا يَجِبُ فِيهَا، مِثْل تَرْكِ الطُّمَأنينَةِ، وَكِلَا الْمَعْنيَيْنِ حَقٌّ، وَالْآيَةُ تتنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا.
وَقَد تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَن غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَسْوَاسُ فِي صِلَاتِهِ هَل عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
(1)
كما في صلح الحديبية، فإنّ ظاهره فساد وغضاضةٌ على المسلمين، ومصلحة وعزة للمشركين، ولذلك اعترض عليه بعض الصحابة، ولكنّ النبي صلى الله عليه وسلم علم ما يترتب عليه من المصالح والحِكَم العظيمة، التي تربوا على ما يُظن أنه مفسدة، وهذا ما حصل، فقد أتاح هذا الصلح الحوار بين الكفار والمسلمين، واستمع الكفار لحجج المسلمين ولنبيهم وكتاب ربّهم، فأسلم الكثير منهم.
لَكِنَّ الْأَئِمَّةَ كَأحْمَدَ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ.
والثَّاني: عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ.
وَالتَّحْقِيقُ أنَّهُ لَا أَجْرَ لَهُ إلَّا بِقَدْرِ الْحُضورِ، لَكِن ارْتَفَعَتْ عَنْة الْعُقُوبَةُ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا تَارِكُ الصَّلَاةِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: تَبْرَأ ذِمَّتُهُ بِهَا؛ أيْ: لَا يُعَاقَبُ عَلَى التَّرْكِ، لَكِنَّ الثَّوَابَ عَلَى قَدْرِ الْحُضُورِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسِ: لَيْسَ لَك مِن صَلَاتِك إلَّا مَا عَقَلْت مِنْهَا، فَلِهَذَا شُرِعَتِ السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ جَبْرًا لِمَا يَحْصُلُ مِن النَّقْصِ فِي الْفَرَائِضِ وَاللهُ أَعْلَمُ. [15/ 235 - 236]
* * *
سورة طه
1525 -
قَالَ تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} [طه: 110]، الرَّاجِحُ مِن الْقَوْلَيْنِ أَنَّ الضَّمِيرَ
(1)
عَائِدٌ إلَى: {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [الأنبياء: 28]، وَإِذَا لَمْ يُحِيطُوا بِهَذَا عِلْمًا وَهُوَ بَعْضُ مَخْلُوقَاتِ الرَّبِّ، فَأنْ لَا يُحِيطُوا عِلْمًا بِالْخَالِقِ أوْلَى وَأَحْرَى. [16/ 88]
1526 -
قوله فِي قِصَّةِ فِرْعَوْنَ: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]، جَعَلَ ذَلِكَ نوْعَيْنِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ: أَنَّهُ إذَا تَذَكَّرَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ وَأَنَّ اللهَ خَالِقُهُ وَلَيْسَ هُوَ إلَهًا وَرَبًّا كَمَا ذَكَرَ، وَذَكَرَ إحْسَانَ الله إلَيْهِ، فَهَذَا التَّذَكُّرُ يَدْعُوهُ إلَى اعْتِرَافِهِ بِرُبُوبِيَّةِ اللهِ وَتَوْحِيدِهِ وَإِنْعَامِهِ عَلَيْهِ، فَيَقْتَضِي الْإِيمَانَ وَالشُّكرَ وَإِن قَدَّرَ أَنَّ اللهَ لَا يُعَذِّبُهُ .. وَإِن لَمْ يَخَفْ عَذَابًا.
{أَوْ يَخْشَى} ، وَنَفْسُ الْخَشْيَةِ إذَا ذَكَرَ لَهُ مُوسَى مَا تَوَعَّدَهُ الله بِهِ مِن عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّ هَذَا الْخَوْفَ قَد يَحْمِلُهُ عَلَى الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ وَلَو لَمْ يَتَذَكَرْ.
(1)
في قوله تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ} .
قال البغوي رحمه الله: قِيلَ: الْكِنَايَةُ تَرْجِعُ إِلَى مَا؛ أيْ: هُوَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ، وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَهُ، وَقيلَ: الْكنَايَةُ رَاجِعَة إِلَى اللهِ لِأنَّ عِبَادَهُ لَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا. اهـ.
وَقَد يَحْصُلُ تَذَكُّرٌ بِلَا خَشْيَةٍ، وَقَد يَحْصُلُ خَشْيَةٌ بِلَا تَذَكُّرٍ، وَقَد يَحْصُلَانِ جَمِيعًا وَهُوَ الْأَغْلَبُ.
وَأَيْضًا: فَذِكْرُ الْإِنْسَانِ يَحْصُلُ بِمَا عَرَفَهُ مِنَ الْعُلُومِ قَبْلَ هَذَا فَيَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ عَقْلِهِ، وَخَشْيَتُهُ تكُونُ بِمَا سَمِعَهُ مِنَ الْوَعِيدِ.
فَبِالْأوَّلِ: يَكُونُ مِمَن لَهُ قَلْبٌ يَعْقِلُ بِهِ.
وَالثَّاني: يَكُونُ مِمَن لَهُ أُذُنٌ يَسْمَعُ بِهَا
(1)
. [16/ 179 - 180]
1527 -
ذَكَرَ اللهُ هَذِهِ الْقِصَّةَ؛ [أي: قصة موسى عليه السلام مع فرعون وقومه] فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ، يُبَيّنُ فِي كلِّ مَوْضِعٍ مِنْهَا مِنَ الِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِدْلَالِ نَوْعًا غَيْرَ النَّوْعِ الْآخَرِ؛ كَمَا يُسَمَّى اللهُ وَرَسُولُهُ وَكِتَابُهُ بِأَسْمَاءٍ مُتَعَدِّدَةٍ، كُلُّ اسْم يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الِاسْمُ الْآخَرُ، وَلَيْسَ فِي هَذَا تَكْرَارٌ، بَل فِيهِ تَنْوِيعُ الْآيَاتِ؛ مِثْل: أَسْمَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إذَا قِيلَ: مُحَمَّد وَأَحْمَد وَالْحَاشِرُ وَالْعَاقِبُ وَالْمُقَفَّى وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ، فِي كُلِّ اسْمٍ دَلَالَةٌ عَلَى مَعْنًى لَيْسَ فِي الِاسْمِ الْآخَرِ، وَإِن كَانَتِ الذَّاتُ وَاحِدَة فَالصِّفَات مُتَنَوِّعَةٌ.
فَهَذَا فِي الْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ.
وَكَذَلِكَ فِي الْجُمَلِ التَّامَّةِ يُعَبّرُ عَنِ الْقِصَّةِ بِجُمَلٍ تَدُلُّ عَلَى مَعَانٍ فِيهَا ثُمَّ
(1)
وعلى هذا: فإنّ (أو) على بابها على الراجح، وليست للعطف كما هو قول كثير من المفسرين والنحويين.
قال ابن القيِّم: اعْلَمْ أن الرَّجُلَ قَد يَكُونُ لَهُ قَلْبٌ وَقَّادٌ، مَلِيءٌ كل بِاستِخْرَاجِ الْعِبَرِ، وَاسْتِنْبَاطِ الْحِكَمِ، فَهَذَا قَلْبُهُ يُوقِعُهُ عَلَى التَّذَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ، فَإذَا سَمِعَ الآيَاتِ كَانَت لَهُ نُورًا عَلَى نُورٍ، وَهَؤُلَاءِ أكْمَلُ خَلْقِ اللهِ، وَأَعْظَمُهُم إِيمَانًا وَبَصِيرَةً ..
فَصَاحِبُ هَذَا الْقَلْبِ إِذَا سَمِعَ الْآيَاتِ وَفي قَلْبِهِ نُورٌ مِنَ الْبَصِيرَةِ ازْدَادَ بِهَا نُورًا إِلَى نُورِهِ. فَإنْ لَمْ يَكُن لِلْعَبْدِ مِثْلُ هَذَا الْقَلْب فَألْقَى السَّمْعَ وَشَهِدَ قَلْبُهُ وَلَمْ يَغِبْ حَصَلَ لَهُ التَّذكرُ أَيْضًا.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)} [سبأ: 6] فَكلُّ مُؤْمِنٍ يَرَى هَذَا، وَلَكِنَّ رُويَةَ أَهْلِ الْعِلْمِ لَهُ لَوْنٌ، وَرُؤيَةَ غَيْرِهِمْ لَهُ لَوْنٌ آخَرُ. اهـ. مدارج السالكين (1/ 442).
يُعَبِّرُ عَنْهَا بِجُمَلٍ أخْرَى تَدُلُّ عَلَى مَعَانٍ أُخَرَ وَإِن كَانَتِ الْقِصَّةُ الْمَذْكُورَةُ ذَاتُهَا وَاحِدةً فَصِفَاتُهَا مُتَعَدِّدَةٌ، فَفِي كُلِّ جُمْلَةٍ مِنَ الْجُمَلِ مَعْنًى لَيْسَ فِي الْجُمَلِ الأُخَرِ.
وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ تكْرَارٌ أَصْلًا. [19/ 167 - 168]
* * *
سورة الأنبياء
1528 -
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ سُورَةُ الذِّكْرِ، وَسُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ عَلَيهِم نَزَلَ الذِّكْرُ افْتَتَحَهَا بِقَوْلِهِ:{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء:2]. [15/ 265]
1529 -
قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء: 112]؛ يَعْنِي وَاللهُ أَعْلَمُ: اُنْصُرْ أَهْلَ الْحَقِّ، أَو اُنْصُرْ الْحَقَّ. [15/ 265]
1530 -
قَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء: 42]؛ أَيْ: بَدَلًا عَن الرَّحْمَنِ، هَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)} [الزخرف: 60]؛ أَيْ: لَجَعَلْنَا بَدَلًا مِنْكُمْ، كَمَا قَالَهُ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَلَيْتَ لَنَا مِن مَاءِ زَمْزَمَ شَرْبَةً
…
مُبَرَّدَةً بَاتَتْ عَلَى الطَّهَيَانِ
أَيْ: بَدَلًا مِن مَاءِ زَمْزَمَ.
فَلَا يَكْلَأُ الْخَلْقَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَيَحْفَظُهُم وَيَدْفَعُ عَنْهُم الْمَكَارِهَ إلَّا اللهُ. [27/ 441]
* * *
سورة الحج
1531 -
قَوْله تَعَالَى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 53، 54].
جَعَلَ اللهُ الْقُلُوبَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قَاسِيَةً، وَذَاتَ مَرَضٍ، وَمُؤمِنَةً مُخْبِتَةً.
وَذَلِكَ لِأَنَّهَا إمَّا أَنْ تَكُونَ يَابِسَةً جَامِدَة لَا تَلِينُ لِلْحَقِّ اعْتِرَافًا وإذْعَانًا، أَو لَا تكونُ يَابِسَةً جَامِدَةً.
فالْأوّلُ: هُوَ الْقَاسِي، وَهُوَ الْجَامِدُ الْيَابِسُ بِمَنْزِلَةِ الْحَجَرِ لَا يَنْطَبعُ وَلَا يُكْتَبُ فِيهِ الْإِيمَانُ، وَلَا يَرْتَسِمُ فِيهِ الْعِلْمُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَدْعِي مَحَلًّا لَيّنًا قَابِلًا.
والثَّانيْ: لَا يَخْلو:
أ - إمَّا أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ ثَابِتًا فِيهِ لَا يَزولُ عَنْهُ؛ لِقُوَّتِهِ مَعَ لِينِهِ.
ب- أَو يَكُونَ لِينُهُ مَعَ ضَعْفٍ وَانْحِلَالٍ.
فَالثَّاني: هُوَ الَّذِي فِيهِ مَرَضٌ، وَالْأوَّلُ هُوَ الْقَوِيُّ اللَّيِّنُ.
وَفي قَولهِ: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ يَذلُّ عَلَى الْإِيمَانِ. [13/ 270 - 271]
1532 -
قَوْله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)} لِلنَّاسِ فِيهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ؛ بَعْدَ اتفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ التَّمَنّيَ هُوَ التّلَاوَةُ وَالْقُرْآنُ كَمَا عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ مِن السَّلَفِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)} [البقرة: 78]:
الْاوّلُ: أَنَّ الْإِلْقَاءَ هُوَ فِي سَمْعِ الْمُسْتَمِعِينَ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ الرَّسُولُ، وَهَذَا قَوْلُ مَن تَأوَّلَ الْآيَةَ بِمَنْعِ جَوَازِ الْإِلْقَاءِ فِي كَلَامِهِ.
والثَّانِي: -وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ السَّلَفِ وَمَنِ اتبعَهُم- أَنَّ الْإِلْقَاءَ فِي نَفْسِ التِّلَاوَةِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَسِيَاقُهَا مِن غَيْرِ وَجْهٍ، كَمَا وَرَدَتْ بِهِ الْآثَارُ
الْمُتَعَدِّدَةُ، وَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ، إلَّا إذَا أُقِرَّ عَلَيْهِ، فَأَمَّا إذَا نَسَخَ اللهُ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ وَأَحْكَمَ آيَاتِهِ فَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ هُوَ خَطَأٌ وَغَلَطٌ فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ إلَّا إذَا أُقِرَّ عَلَيْهِ.
وَلَا ريبَ أَنَّه مَعْصومٌ فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَنْ يقَرَّ عَلَى خَطَأٍ. [15/ 190 - 191]
1533 -
قَوْلُهُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ} [الحج: 3، 4] فِي أَثْنَاءِ آياتِ الْمَعَادِ، وَعَقَّبَهَا بآيةِ الْمَعَادِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج: 8، 9].
قَوْلُهُ: (يجادل في الله بلا علم) ذَمٌّ لِكُلِّ مَن جَادَلَ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْم، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ بِالْعِلْمِ كَمَا فَعَلَ إبْرَاهِيمُ بِقَوْمِهِ
(1)
، وَفي الْأولَى ذمَّ الْمُجَادِلَ بِغَيْرِ عِلْم، وَفِي الثَّانِيَةِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابِ مُنِير.
وَهَذَا -وَاللهُ أَعْلَمُ- مِن بَابِ عَطْفِ الْخَاصّ عَلَى الْعَامّ، أَو الِانْتِقَالِ مِن الْأَدْنَى إلَى الأعْلَى
(2)
. [15/ 268]
1534 -
(1)
وكما فعل شيخ الاسلام رحمه الله مع المخالفين من المسلمين والمبتدعة والكفار، حيث أكثر من جدالهم وردّ شبههم.
وأما ما ورد من ذم الجدال: فقد بين الشيخ أنّ الجدال المذموم هو الذي يكون بغير علم، ولا يكون الهدف منه الوصول للحق.
(2)
وقيل بأنّ الآية الأولى بيَّنت حَالَ الضلَّالِ الْجُهَّالِ الْمُقَلَّدِينَ، والآية الثانية بيّنت حَالَ الدُّعَاةِ إِلَى الضَّلَالِ مِنْ رُءُوسِ الْكُفْرِ وَالْبِدَع. وهذا اختيار الحافظ ابن كثير رحمه الله. تفسير ابن كثير (5/ 399).
فَإِنَّ آخِرَ هَذِهِ الْآيَةِ قَد أَشْكَلَ عَلَى كَثِيرٍ مِن النَّاسِ، كَمَا قَالَ طَائِفَةٌ مِن الْمُفَسِّرِينَ؛ كَالثَّعْلَبِيِّ والبغوي وَاللَّفْظُ للبغوي قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ مِن مُشْكِلَاتِ الْقُرْآنِ، وَفيهَا أَسْئِلَةٌ أَوَّلُهَا: قَالُوا: قَد قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ} ؛ أَيْ: لَا يَضُرُّهُ تَرْكُ عِبَادَتِهِ، وَقَوْلُهُ:{لَمَنْ ضَرُّهُ} ؛ أَيْ: ضَرُّ عِبَادَتِهِ.
قُلْت: هَذَا جَوَابٌ، وَذَكَرَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ جَوَابًا غَيْرَ هَذَا.
فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: {مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ} هُوَ نَفْيٌ لِكوْنِ الْمَدْعُوِّ الْمَعْبُودِ مِن دُونِ اللهِ يَمْلِكُ نَفْعًا أَو ضُرًّا.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَقُولُ: الْمَنْفِيُّ قُدْرَةُ مَن سِوَاهُ عَلَى الضُّرِّ وَالنَّفْعِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} فَنَقُولُ أَوَّلًا: الْمَنْفِيُّ هُوَ فِعْلُهُم بِقَوْلِهِ: {مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ} ، وَالْمُثْبَتُ اسْمٌ مُضَافٌ إلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ: يَضُرُّ أَعْظَمَ مِمَّا يَنْفَعُ؛ بَل قَالَ: {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} وَالشَّيءُ يُضَافُ إلَى الشَّيءِ بِأدْنَى مُلَابَسَةٍ، فَلَا يَجِبُ أنْ يَكُونَ الضُّرُّ وَالنَّفْعُ الْمُضَافَيْنِ مِن بَابِ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَى الْفَاعِلِ
(1)
، بَل قَد يُضَافُ الْمَصْدَرُ مِن جِهَةِ كَوْنِهِ اسْمًا كَمَا تُضَافُ سَائِرُ الْأسْمَاءِ، وَقَد يُضَافُ إلَى مَحَلِّهِ وَزَمَانِهِ وَمَكَانِهِ وَسَبَبِ حُدُوثهِ وَإِن لَمْ يَكُن فَاعِلًا؛ كَقَوْلِهِ:{بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سبأ: 33]، وَلَا رَيْبَ أَنَّ بَيْنَ الْمَعْبُودِ مِن دُونِ اللهِ وَبَيْنَ ضَرَرِ عَابِدِيهِ تَعَلُّقٌ يَقْتَضِي الْإِضَافَةَ؛ كَأَنَّهُ قِيلَ: لَمَن شَرُّهُ أَقْرَبُ مِن خَيْرِهِ وَخَسَارَتُهُ أَقْرَبُ مِن رِبْحِهِ، فَتَدَبَّرْ هَذَا.
وَلَو جُعِلَ هُوَ فَاعِلَ الضُّرِّ بِهَذَا لِأنَّهُ سَبَبٌ فِيهِ، لَا لأنَّهُ هُوَ الَّذِي فَعَلَ الضَّرَرَ وَهَذَا كَقَوْلِ الْخَلِيلِ عَنِ الْأَصْنَامِ:{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 36]، فَنُسِبَ الْإِضْلَال إلَيْهِنَّ وَالْإِضْلَالُ هُوَ ضَرَرٌ لِمَن أَضْلَلْنَهُ. [15/ 269 - 274]
(1)
فالأصنام لا تضر بنفسِها.
1535 -
قَوْلُهُ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2]، مِن أَحْوَالِ الْقَلْبِ وَأَعْمَالِهِ مَا يَكُونُ مِن لَوَازِمِ الْإِيمَانِ الثَّابِتَةِ فِيهِ؛ بِحَيْثُ إذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مُومِنًا لَزِمَ ذَلِكَ بِغَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ وَلَا تَعَمُّدِ لَهُ، وإِذَا لَمْ يُوجَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ لَمْ يَحْصُلْ فِي الْقَلْبِ.
وَقَد فَسَّرُوا (وَجِلَتْ) بفرقت .. وَهَذَا صَحِيحٌ؛ فَإنَّ الْوَجَلَ فِي اللُّغَةِ هوَ الْخَوْفُ.
وَإِذَا كَانَ وَجَلُ الْقَلْبِ مِن ذِكْرِهِ يَتَضَمَّنُ خَشْيَتَهُ وَمَخَافَتَهُ: فَذَلِكَ يَدْعُو صَاحِبَهُ إلَى فِعْلِ الْمَأمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ.
قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: لَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ أَغْلَظَ مِن الدَّعْوَى
(1)
، وَلَا طَرِيقٌ إلَيْهِ أَقْرَبَ مِن الِافْتِقَارِ
(2)
، وَأَصْلُ كُلِّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الْخَوْفُ مِن اللهِ.
ويدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)} [الأعراف: 154]، فَأخْبَرَ أَنَّ الْهُدَى وَالرَّحْمَةَ لِلَّذِينَ يَرْهَبُونَ اللهَ. [7/ 17 - 20]
* * *
سورة النور
1536 -
عَن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ} [النور: 23]، نَزَلَتْ فِي عَائِشَةَ خَاصَّةً وَاللَّعْنَةُ فِي الْمُنَافِقِينَ عَامَّةٌ.
فَقَد بَيَّنَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إنَّمَا نَزَلَتْ فِيمَن يَقْذِفُ عَائِشَةَ وَأُمَّهَاتِ الْمُؤمنينَ؛ لِمَا فِي قَذْفِهِنَّ مِن الطَّعْنِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَعَيْبِهِ.
(1)
أي: الدعوى بأنه على صلاح، وأن على هدى وبرّ.
(2)
أي: الحاجة إلى الله في كل شيء.
وَيَقُولُ آخَرُونَ: يَعْنِي أَزْوَاجَ الْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً.
وَوَجْهُهُ: ظَاهِرُ الْخِطَابِ، فَإِنَّهُ عَام فَيَجِبُ إجْرَاؤُهُ عَلَى عُمُومِهِ؛ إذ لَا مُوجِبَ لِخُصُوصِهِ، وَلَيْسَ هُوَ مُخْتَصًّا بِنَفْسِ السَّبَبِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأنَّ حُكْمَ غَيْرِ عَائِشَةَ مِن أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دَاخِلٌ فِي الْعُمُومِ، وَلَيْسَ هُوَ مِن السَّبَبِ.
وَلِأنَّهُ لَفْظُ جَمْعٍ، وَالسَّبَبُ فِي وَاحِدَةٍ هُنَا.
وَلأَنَّ قَصْرَ عمومات الْقُرْآنِ عَلَى أَسْبَابِ نُزُولهَا بَاطِلٌ، فَإنَّ عَامَّةَ الْآيَاتِ نَزَلَتْ بِأَسْبَابٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ، وَقَد عُلِمَ أَنَّ شَيْئًا مِنْهَا لَمْ يُقْصَرْ عَلَى سَبَبِهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ
(1)
: أَنَّهُ فِي أَوَّلِ السّورَةِ ذَكَرَ الْعُقُوبَاتِ الْمَشْرُوعَةَ عَلَى أَيْدِي الْمُكَلَّفِينَ مِن الْجَلْدِ وَرَدِّ الشَّهَادَةِ وَالتَّفْسِيقِ، وَهُنَا ذَكَرَ الْعُقُوبَةَ الْوَاقِعَةَ مِن اللهِ سُبْحَانَهُ، وَهِيَ اللَّعْنَةُ فِي الدَّارينِ وَالْعَذَابُ الْعَظِيمُ. [15/ 360 - 364]
1537 -
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27]، إلَى قَوْلِهِ:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]، وَقَد ثَبَتَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"إنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَان مِن أَجْلِ النظَرِ"
(2)
.
والنَّظَرُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ:
أ- نَظَرُ الْعَوْرَاتِ.
ب- وَنَظَرُ الشَّهَوَاتِ وَإِن لَمْ تكُنْ مِن الْعَوْرَاتِ.
وَاللهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الِاسْتِئْذَانَ عَلَى نَوْعَيْنِ: ذَكَرَ فِي هَذ الْآيَةِ أحَدَهُمَا،
(1)
(2)
البخاري (6241).
وَفِي الْآيَتَيْنِ فِي آخِرِ السُّورَةِ النَّوْعَ الثَّانِيَ وَهُوَ اسْتِئْذَانُ الصِّغَارِ وَالْمَمَالِيكِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} [النور: 58].
فَأَمَرَ بِاسْتِئْذَانِ الصِّغَارِ وَالْمَمَالِيكِ حِينَ الِاسْتِيقَاظِ مِن النَّوْمِ وَحِينَ إرَادَةِ النَّوْمِ وَحِينَ الْقَائِلَةِ؛ فَإِنَّ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ تَبْدُو الْعَوْرَاتُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} .
وَفي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَمْلُوكَ الْمُمَيًزَ وَالْمُمَيِّزَ مِن الصِّبْيَانِ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى عَوْرة الرَّجُلِ
(1)
، كَمَا لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى عَوْرَةِ الصَّبِيِّ وَالْمَمْلُوكِ وَغَيْرِهِمَا
(2)
.
وَأَمَّا دُخُولُ هَؤُلَاءِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ فَهُوَ مَأخُوذ مِن قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} .
وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الطَّوَّافِينَ يُرَخَّصُ فِيهِمْ مَا لَا يُرَخَّصُ فِي غَيْرِ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ، وَالطَّوَّافُ مَن يَدْخُلُ بِغَيْرِ إذْنٍ، كَمَا تَدْخُلُ الْهِرَّةُ، وَكَمَا يَدْخُلُ الصَّبِيُّ وَالْمَمْلُوكُ، وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فَغَيْرُ الْمُمَيِّزِ أَوْلَى، ويُرَخَّصُ فِي طَهَارَتهِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور: 30] الْآيَةُ، إلَى قَوْلِهِ:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 30، 31] .. مَا ظَهَرَ مِن الزِّينَةِ هُوَ الثّيَابُ الظَّاهِرَةُ، فَهَذَا لَا جُنَاحَ عَلَيْهَا فِي
(1)
والمرأة من باب أولى، فلا يجوز للصبيان المميزين النظر إلى عورات النساء، وكثيرًا ما تتساهل بعض الأمهات في لباسهن عند أولادهن الذكور والإناث، والذي يجوز كشفه للأولاد هو: ما جرت العادة بكشفه؛ كالوجه والرأس والكفين والذراعين والقدمين ونحو ذلك.
(2)
والصبية المميزة من باب أولى، وقد يتساهل بعض الآباء في النظر إلى عورة بناته المميزات، وخاصةً حينما يدخل عليهن وهن نائمات، فربما تنكشف عوراتهن أثناء النوم.
إبْدَائِهَا إذَا لَمْ يَكُن فِي ذَلِكَ مَحْذُورٌ آخَر
(1)
؛ فَإنَّ هَذِهِ لَا بُدَّ مِن إبْدَائِهَا، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَن أَحْمَد.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْوَجْهُ وَالْيَدَانِ مِن الزّينَةِ الظَاهِرَةِ، وَهِيَ الرِّوَايَة الثَّانِيَةُ عَن أَحْمَد، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِن الْعُلَمَاءِ كَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ.
وَأَمَرَ سُبْحَانَهُ النِّسَاءَ بِإِرْخَاءِ الْجَلَابِيبِ لِئَلَّا يُعْرَفْنَ وَلَا يُؤْذَيْنَ، وَهَذَا دَلِيل عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ.
وَثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ": أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُحْرِمَةَ تُنْهَى عَن الِانْتِقَابِ وَالْقُفَّازَيْنِ.
وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّقَابَ وَالْقُفَّازينِ كَانَا مَعْرُوفَيْنِ فِي النّسَاءِ اللَّاتِي لَمْ يُحْرِمْنَ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي سَتْرَ وُجُوهِهِنَّ وَأَيْدِيهِنَّ.
وَالْحِجَابُ مُخْتَصّ بِالْحَرَائِرِ دُونَ الْإِمَاءِ، كَمَا كَانَت سُنَّةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ أَنَّ الْحُرَّةَ تَحْتَجِبُ وَالْأَمَةُ تَبْرُزُ، وَكَانَ عُمَرُ رحمه الله إذَا رَأَى أَمَةً مُخْتَمِرَةً ضَرَبَهَا وَقَالَ: أَتتشَبَّهِينَ بِالْحَرَائِرِ؟
فَيَظْهَرُ مِن الْأَمَةِ رَأسُهَا ويدَاهَا وَوَجْهُهَا.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)} [النور: 60]، فَرَخَّصَ لِلْعَجُوزِ الَّتِي لَا تَطْمَعُ فِي النِّكَاحِ أَنْ تَضَعَ ثِيَابَهَا فَلَا تُلْقِي عَلَيْهَا جِلْبَابَهَا وَلَا تَحْتَجِبُ، وإن كَانَت مُسْتَثْنَاة مِن الْحَرَائِرِ
(2)
؛ لِزَوَالِ الْمَفْسَدَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي غَيْرِهَا، كَمَا اسْتَثْنَى التَّابِعِينَ غَيْرَ أُولي الْإِرْبَةِ مِن الرِّجَالِ فِي إظْهَارِ الزِّينَةِ لَهُمْ؛ لِعَدَمِ الشَّهْوَةِ الَّتِي تَتَوَلَّدُ مِنْهَا الْفِتْنَةُ، وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ إذَا كَانَ يُخَافُ بِهَا الْفِتْنَةُ كَانَ عَلَيْهَا أَنْ تُرْخِيَ مِن جِلْبَابِهَا وَتَحْتَجِبَ وَوَجَبَ غَضُّ الْبَصَرِ عَنْهَا وَمِنْهَا.
(1)
كان يكون الثوب مُعطّرًا، أو ضيقًا أو شفافًا، أو فتنة.
(2)
أي: القواعد.
وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسنَّةِ إبَاحَةُ النَّظَرِ إلَى عَامَّةِ الْإِمَاءِ وَلَا تَرْكُ احْتِجَابِهِنَّ وَإِبْدَاءُ زِينَتِهِنَّ.
فَإذَا كَانَ فِي ظُهُورِ الْأَمَةِ وَالنَّظَرِ إلَيْهَا فِتْنَة وَجَبَ الْمَنْعُ مِن ذَلِكَ .. وَهَكَذَا الرَّجُلُ مَع الرِّجَالِ وَالْمَرْأَةُ مَعَ النِّسَاءِ: لَو كَانَ فِي الْمَرْأَةِ فِتْنَةٌ لِلنِّسَاءِ، وَفِي الرَّجُلِ فِتْنَة لِلرِّجَالِ لَكَانَ الْأَمْرُ بِالْغَضّ لِلنَاظِرِ مِن بَصَرِهِ مُتَوَجِّهًا، كَمَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ الْأَمْرُ بِحِفْظِ فَرْجِهِ، فَالْإِمَاءُ وَالصّبْيَانُ إذَا كُنَّ حِسَانًا تُختشى الْفِتْنَةُ بِالنَّظَرِ إلَيْهِم كَانَ حُكْمُهُم كَذَلِكَ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ.
وَكَمَا يَتَنَاوَلُ غَضَّ الْبَصَرِ عَن عَوْرَةِ الْغَيْرِ وَمَا أَشْبَهَهَا مِن النَّظَرِ إلَى الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْغَضَّ عَن بُيُوتِ النَّاسِ، فَبَيْتُ الرَّجُلِ يَسْتُرُ بَدَنَهُ كَمَا تَسْتُرُهُ ثِيَابُهُ.
وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ"
(1)
عَن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ فِي حُجْرَةٍ فِي بَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِدْرَى يَحُكُّ بِهَا رَأسَة، فَقَالَ:"لَو أَعْلَمُ أنَّك تَنْظُرُ إلَيَّ لَطَعَنْت بِهِ في عَيْنِك؛ إنَّمَا جُعِلَ الِاسْتئذَانُ مِن أَجْلِ الْبَصَرِ".
وَقَد ظَنَّ طَائِفَةٌ مِن الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا مِن بَابِ دَفْعِ الصَّائِلِ؛ لِأَنَّ النَّاظِرَ مُعْتَدٍ بِنَظَرِهِ، فَيُدْفَعُ كَمَا يُدْفَعُ سَائِرُ الْبُغَاةِ، وَلَو كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوا لَدُفِعَ بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ، وَلَمْ يَجُزْ قَلْعُ عَيْنِهِ ابْتِدَاءً إذَا لَمْ يَذْهَبْ إلَّا بِذَلِكَ، وَالنُّصُوصُ تُخَالِفُ ذَلِكَ؛ فَإنَّهُ أَبَاحَ أَنْ تَخْذِفَهُ حَتَّى تَفْقَأ عَيْنَهُ قَبْلَ أَمْرِهِ بِالِانْصِرَافِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:"لَو أَعْلَمُ أنك تُنْظِرُنِي لَطَعَنْت به فِي عَيْنِك" فَجَعَلَ نَفْسَ النَّظَرِ مُبِيحًا لِلطَّعْنِ فِي الْعَيْنِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَمْرَ لَهُ بِالِانْصِرَافِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِن بَابِ الْمُعَاقَبَةِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، حَيْثُ جَنَى هَذِهِ الْجِنَايَةَ عَلَى حُرْمَةِ صَاحِبِ الْبَيْتِ فَلَهُ أَنْ يَفْقَأَ عَيْنَهُ بِالْحَصَى وَالْمِدْرَى.
وفي قَوْلِهِ فِي آخِرِ الْآيَةِ: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فَوَائِدُ جَلِيلَةٌ:
(1)
البخاري (6241)، ومسلم (2156).
أ - مِنْهَا: أَنَّ أَمْرَهُ لِجَمِيع الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّوْبَةِ فِي هَذَا السِّيَاقِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو مُؤْمِنٌ مِن بَعْضِ هَذِهِ الذُّنُوبِ الَّتِي هِيَ: تَرْكُ غَضِّ الْبَصَرِ وَحِفْظِ الْفَرْجِ وَتَرْكُ إبْدَاءِ الزّينَةِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ فَمُسْتَقِلٌّ وَمُسْتَكْثِرٌ.
ب- وَمِنْهَا: أنَّ أَهْلَ الْفَوَاحِشِ الَّذِينَ لَمْ يَغضُّوا أَبْصَارَهُم وَلَمْ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُم مَأمُورُونَ بِالتَّوْبَةِ، وَإِنَّمَا أُمِرُوا بِهَا لِتُقْبَلَ مِنْهُمْ، فَالتَّوْبَةُ مَقْبُولَةٌ مِنْهُم وَمِن سَائِرِ الْمُذْنِبِينَ [15/ 369 - 404]
* * *
سورة الفرقان
1538 -
قال تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُم} [الفرقان: 77]. قِيلَ: لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ إيَّاهُ وَقِيلَ: لَوْلَا دُعَاؤُهُ إيَّاكُمْ. فَإِنَّ الْمَصْدَرَ يُضَافُ إلَى الْفَاعِلِ تَارَةً وإِلَى الْمَفْعُولِ تَارَةً، وَلَكِنَّ إضَافَتَهُ إلَى الْفَاعِلِ أَقْوَى؛ لِأَنهُ لَا بُدَّ لَهُ مِن فَاعِل، فَلِهَذَا كَانَ هَذَا أَقْوَى الْقَوْلَيْنِ؛ أَيْ: مَا يَعْبَأُ بِكُمْ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَدْعُونَهُ فَتَعْبُدُونَهُ وَتَسْأَلُونَهُ: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان: 77]؛ أَيْ: عَذَابٌ لَازِم لِلْمُكَذِّبِينَ. [10/ 238]
1539 -
قَوْلُهُ تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]، فَإِنَّ الشَّاكِرَ قَد يَشْكُر اللهَ عَلَى نِعَمِهِ وإن لَمْ يَخَفْ، وَالتَّذَكّرُ قَد يَقْتَضِي الْخَشْيَةَ.
وَأَيْضًا فَالتَّذَكُّرُ قَد يَكُونُ لِفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي يَدْفَعُ بِهَا الْعِقَابَ، وَالشَّكُورُ يَكُونُ لِلْمَزِيدِ مِن فَضْلِهِ.
وَقَد جَعَلَ اللهُ {اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} فَيَتُوبَ، ويسْتَغْفِرَ مِن ذُنُوبِهِ، {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} لِرَبِّهِ عَلَى نِعَمِهِ، وَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ اللهُ بِالْعَبْدِ مِن نِعْمَةٍ وَكُلُّ ما يُخْلِفُهُ الله فَهُوَ نِعْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ، فَكُلَّمَا نَظَرَ إلَى مَا فَعَلَهُ ربهُ شَكَرَ، وَإِذَا نَظَرَ إلَى نَفْسِهِ اسْتَغْفَرَ.
وَالتَّذَكُّرُ: اسْمٌ جَامِعٌ لِكُل مَا أَمَرَ اللهُ بِتَذَكُّرِهِ. [16/ 186 - 188]
* * *
سورة الشعراء
1540 -
ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ سوَّالَ فِرْعَوْنَ: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] هُوَ سُؤَالٌ عَن مَاهِيَّةِ الرَّبِّ؛ كَاَلَّذِي يَسْألُ عَن حُدُودِ الْأَشْيَاءِ فَيَقُولُ: "مَا الْإنْسَانُ؟ مَا الْمَلَكُ؟ مَا الْجِنِّيُّ؟ " ونَحْو ذَلِكَ .. وَهَذَا قَوْلٌ قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأخِّرِينَ وَهُوَ بَاطِلٌ.
فَإنَّ فِرْعَوْنَ إنَّمَا اسْتَفْهَمَ اسْتِفْهَامَ إنْكَارٍ وَجَحْدٍ، لَمْ يَسْأَلْ عَن مَاهِيَّةِ رَبٍّ أَقَرَّ بِثُبُوتِهِ، بَل كَانَ مُنْكِرًا لَهُ جَاحِدًا، وَلهَذَا قَالَ فِي تَمَامِ الْكَلَام:{لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29]، وَقَالَ:{وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 37].
فَاسْتِفْهَامُهُ كَانَ إنْكَارًا وَجَحْدًا، يَقُولُ: لَيْسَ لِلْعَالِمِينَ رَبٌّ يُرْسِلُك فَمَن هُوَ هَذَا؟ إنْكَارًا لَهُ. [16/ 334]
* * *
سورة النمل
1541 -
قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]، هَذَا هُوَ الْغَيْبُ الْمُطْلَقُ عَن جَمِيعِ الْمَخْلُوقِينَ الَّذِي قَالَ فِيهِ:{فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: 26].
وَالْغَيْبُ الْمُقَيَّدُ مَا عَلِمَهُ بَعْضُ الْمَخْلُوقَاتِ مِن الْمَلَائِكَةِ أَو الْجِن أَو الْإِنْسِ وَشَهِدُوهُ: فَإِنَّمَا هُوَ غَيْبٌ عَمَّن غَابَ عَنْهُ، لَيْسَ هُوَ غَيْبًا عَمَّن شَهِدَه، وَالنَّاسُ كُلُّهُم قَد يَغِيبُ عَن هَذَا مَا يَشْهَدُهُ هَذَا، فَيَكُونُ غَيْبًا مُقَيَّدًا؛ أَيْ: غَيْبًا عَمَّن غَابَ عَنْهُ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، لَا عَمَّن شَهِدَهُ، لَيْسَ غَيْبًا مُطْلَقًا غَابَ عَن الْمَخْلُوقِينَ قَاطِبَةً. [16/ 111]
1542 -
قَالَ تَعَالَى: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل: 61]؛ أَيْ: أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ
فَعَلَ هَذَا؟ وَهَذَا اسْتِفْهَام إنْكَارٍ، وَهُم مُقِرُّونَ بِأنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ هَذَا إلَهٌ آخَرُ مَعَ اللهِ.
وَمَن قَالَ مِن الْمُفَسِّرِينَ إنَّ الْمُرَادَ: هَل مَعَ اللهِ إلَهٌ آخَرُ؟: فَقَد غَلِطَ؛ فَإِنَّهُم كَانُوا يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ ألِهَةً أُخْرَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى} [الأنعام: 19]. [7/ 76]
* * *
سورة القصص
1543 -
قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)} [القصص: 83].
فَإِنَّ النَّاسَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الْأوَّلُ: يُرِيدُونَ الْعُلُوَّ عَلَى النَّاسِ وَالْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ مَعْصِيَةُ اللهِ، وَهَؤُلَاءِ الْمُلُوكُ وَالرُّؤَسَاءُ الْمُفْسِدُونَ كَفِرْعَوْنَ وَحِزْبِهِ، وَهَؤُلَاءِ هُم شِرَارُ الْخَلْقِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْفَسَادَ بِلَا عُلُوٍّ؛ كَالسُّرَّاقِ وَالْمُجْرِمِينَ مِن سَفَلَةِ النَّاسِ.
وَالْقِسْمُ الثالِثُ: يُرِيدُونَ الْعُلُوَّ بِلَا فَسَادٍ؛ كَاَلَّذِينَ عِنْدَهُم دِينٌ يُرِيدُونَ أَنْ يَعْلُوا بِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِن النَّاسِ.
وَأمَّا الْقِسْمُ الرَّابعُ: فَهُم أَهْلُ الْجَنَّةِ الَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا، مَعَ أَنَّهُم قَد يَكُونُونَ أَعْلَى مِن غَيْرِهِمْ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى:{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} [آل عمران: 139].
فَكَمْ مِمَن يُرِيدُ الْعُلُوَّ وَلَا يَزِيدُهُ ذَلِكَ إلَّا سُفُولًا، وَكَمْ مِمَن جُعِلَ مِن الْأَعْلَيْنَ وَهُوَ لَا يُرِيدُ الْعُلُوَّ وَلَا الْفَسَادَ. [28/ 392 - 393]
* * *
سورة العنكبوت
1544 -
قَوْلُهُ: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49]
(1)
، سَوَاءٌ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ بَيِّنٌ فِي صُدُورِهِمْ، أَو أَنَّهُ مَحْفُوظ فِي صُدُورِهِمْ أَو أُرِيدَ بِهِ الْأَمْرَانِ، وَهُوَ الصَّوَابُ؛ فَإِنَّهُ مَحْفُوظ فِي صُدُورِ الْعُلَمَاءِ بَيِّن فِي صُدُورِهِمْ، يَعْلَمُونَ أَنَّهُ حَقٌّ كَمَا قَالَ:{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6]، وقال:{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [الحج: 54]. [14/ 190]
1545 -
قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45]؛ أَيْ: ذِكْرُ اللهِ الَّذِي فِي الصَّلَاةِ أَكْبَرُ مِن كَونِهَا تَنْهَى عَن الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ
(2)
، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ ذِكْرَ اللهِ خَارج الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِن الصَّلَاةِ وَمَا فِيهَا مِن ذِكْرِ اللهِ، فَإِنَّ هَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. [32/ 232]
* * *
سورة الروم
1546 -
قَالَ تَعَالَى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [الروم: 28]، يَقُولُ تَعَالَى: إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ لَا يَرْضَا أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكُهُ شَرِيكًا لَهُ مِثْل نَفْسِهِ، فَكَيْفَ تَجْعَلُونَ مَمْلُوكِي شَرِيكَا لِي؟ وَكُلُّ مَا سِوَى اللهِ مِن الْمَلَائِكَةِ
(1)
في الآية دلالة واضحةٌ في أنّ بيان القرآن ودلائله واستنباط الأحكام منه لا يكون إلا عن طريق العلماء، وإنما ضلّت أكثر الفرق والطوائف حينما ترك أصحابُها الرجوع إلى بيان العلماء للقرآن، وأخذوه من الجهلة وأنصاف العلماء.
وفي الآية تزكيةٌ للعلماء، حيث حصر تعالى بيان القرآن فيهم، وأنه بيّنٌ عندهم لا عند غيرهم من العُبَّاد والمجاهدين والْحُكَّام، وأنهم هم الحفاظ له دون غيرهم، ولو لم يحفظوا نصّه كلّه، فإن حفظ فهمه والعمل به أعظم من حفظ حروفه.
(2)
فالصلاة لها مقصودان: النهي عَن الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وذِكْرُ اللهِ الَّذِي فِي الصَّلَاةِ، وذكر الله أكبر مقاصدها.
وَالنَّبِيِّينَ وَالصَّالِحِينَ وَسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ هُوَ مَمْلُوكٌ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُل شَيءٍ قَدِير. [27/ 354]
1547 -
قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)} [الروم: 60]، فإن الخفيف لا يثبت بل يطيش، وصاحب اليقين ثابت. يقال: أيقن. إذا كان مستقرًّا، واليقين: استقرار الإيمان في القلب علمًا وعملًا فقد يكون علم العبد جيّدًا، لكن نفسه لا تصبر على المصائب بل تطيش. [المستدرك 1/ 197]
* * *
سورة السجدة
1548 -
قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة: 24]، فَمَن أُعْطِيَ الصَّبْرَ وَالْيَقِينَ: جَعَلَهُ اللهُ إمَامًا فِي الدِّينِ. [6/ 215]
فبالصبر تُترك الشهوات، وباليقين تُدفع الشبهات. [اقتضاء الصراط المستقيم 53]
1549 -
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [السجدة: 15]، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّذْكِيرَ بِهَا كَقِرَاءَتِهَا فِي الصَّلَاةِ مُوجِبٌ لِلسُّجُودِ وَالتَّسْبِيحِ، وَأنَّهُ مَن لَمْ يَكُن إذَا ذُكِّرَ بِهَا يَخِرُّ سَاجِدًا ويسَبِّحُ بِحَمْدِ رَبِّهِ فَلَيْسَ بِمُؤْمِن، وَهَذَا فتَنَاوِلٌ للْآيَاتِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا سُجُود، وَهِيَ جُمْهُورُ آيَاتِ الْقُرْآنِ، فَفِي الْقُرْآنِ أَكْثَرُ مِن سِتَّةِ آلَافِ آيةٍ، وَأَمَّا آياتُ السَّجْدَةِ فَبِضْعَ عَشْرَةَ آيةً.
وَقَوْلُهُ: {ذُكِّرُوا بِهَا} يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْآيَاتِ، فَالتَّذْكِيرُ بِهَا جَمِيعِهَا مُوجِبٌ لِلتَّسْبِيحِ وَالسُّجُودِ، وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى وُجُوب التَّسْبِيحِ وَالسُّجُودِ، وَعَلَى هَذَا تَدُلُّ عَامَّةُ أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ مِن الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ جِنْسِ
التَّسْبِيحِ، فَمَن لَمْ يُسَبِّحْ فِي السُّجُودِ فَقَد عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ، وإِذَا أَتَى بِنَوْع مِن أَنْوَاعِ التَّسْبِيحِ الْمَشْرُوعِ أَجْزَأَهُ
(1)
. [32/ 149]
* * *
سورة الأحزاب
1550 -
{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6].
في كتاب "الزهد" للإمام أحمد: أن المسيح عليه السلام قال للحواريين: "إنكم لن تلجوا ملكوت السموات حتى تولدوا مرتين".
قال ابن القيم رحمه الله: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية: رحمه الله يقول: "هي ولادة الأرواح والقلوب من الأبدان وخروجها من عالم الطبيعة، كما ولدت الأبدان من البدن وخرجت منه"، والولادة الأخرى هي الولادة المعروفة.
وقال رحمه الله بعد النقل عن شيخ الإسلام ما ذكره عن المسيح في المجلد الثالث من المدارج: سمعت شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله يذكر ذلك، ويفسره بأنَّ الولادة نوعان:
أحدهما: هذه المعروفة.
والثاني: ولادة القلب والروح وخروجهما من مشيمة النفس وظلمة الطبع.
قال: وهذه الولادة لما كانت بسبب الرسول كان كالأب للمؤمنين.
قال: فالشيخ والمعلم والمؤدب: أبو الروح، والوالد: أبو الجسم
(2)
.
(1)
شيخ الإسلام رحمه الله لا يرى وجوب صيغة معينة لتسبيح الركوع والسجود، بل يرى وجوب تسبيح الله تعالى بأي صيغة من صيغ التسبيح، وسيأتي مزيد تفصيل لذلك بحول الله تعالى في باب الصلاة.
(2)
والروح أشرف من البدن، فشرف الشيخ والمعلم المخلص الناصح عظيم وكبير، فالواجب معرفة مكانته، والقيام بحقه، والدعاء له.
وليس للأب إلا ما يدعو به الولد له، فظهر معنى قوله تعالى:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ، فهو الأب الروحاني، والوالد الأب الجثماني.
وهو صلى الله عليه وسلم سبب السعادة الأبدية للمؤمن في الدنيا والآخرة، والأب سبب لوجوده في الدنيا، ومعلوم أن الإنسان يجب عليه أن يطيع معلمه الذي يدعوه إلى الخير ويأمره بطاعة الله، ولا يجوز له أن يطيع أباه في مخالفة هذا الداعي؛ لأنه يدله على ما ينفعه ويقربه إلى ربه، ويحصل له باتباعه السعادة الأبدية.
فظهر فضل الأب الروحاني على الأب الجثماني، فهذا أبوه في الدين، وذاك أبوه في الطين، وأين هذا من هذا؟!
وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين في الحرمة، لا في المحرمية، ولهن من الاحترام ما ليس للأم الوالدة. [المستدرك 1/ 198 - 199]
1551 -
قَالَ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57)} [الأحزاب: 57]، لَمْ يَجِئْ إعْدَادُ الْعَذَابِ الْمُهِينِ فِي الْقُرْآنِ إلَّا فِي حَقّ الْكُفَّارِ.
وَقَد قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج: 18]، وَذَلِكَ لِأَنَ الْإِهَانَةَ إذْلَالٌ وَتَحْقِيرٌ وَخِزْيٌ، وَذَلِكَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى أَلَمِ الْعَذَاب، فَقَد يُعَذَّبُ الرَّجُلُ الْكَرِيمُ وَلَا يُهَانُ، فَلَمَّا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ:{وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} عُلِمَ أَنَّهُ مِن جِنْسِ الْعَذَابِ الَّذِي تَوَعَّدَ بِهِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ. [15/ 366 - 367]
1552 -
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} الآية [الأحزاب: 59]: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحِجَابَ إنَّمَا أَمَرَ بِهِ الْحَرَائِرَ دُونَ الْإِمَاءِ؛ لِأَنَّهُ خَصَّ أَزْوَاجَهُ وَبَنَاتَهُ، وَلَمْ يَقُلْ: وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُك وَإِمَائِك وَإِمَاءِ أَزْوَاجِك وَبَنَاتِك، ثُمَّ قَالَ:{وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} وَالْإِمَاء لَمْ يَدْخُلْنَ فِي نِسَاءِ الْمُؤمِنينَ. [15/ 448]
* * *
سورة سبأ
1553 -
قَالَ سُبْحَانَهُ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22].
أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أنَّ مَا يُدْعَى مِن دُونهِ:
- لَيْسَ لَهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأرْضِ.
- وَلَا شِرْكٌ فِي مِلْكٍ.
- وَلَا إعَانَةٌ عَلَى شَيءٍ.
وَهَذِهِ الْوُجُوهُ الثلَاثَةُ: هِيَ الَّتِي ثَبَتَ بِهَا حَقُّ الْغَيْرِ؛ فَإنّهُ:
- إمَّا أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِلشَّيءِ مُسْتَقِلًّا بِمِلْكِهِ.
- أَو يَكُونُ مُشَارِكًا لَهُ فِيهِ نَظِيرٌ.
- أَو لَا ذَا وَلَا ذَاكَ؛ فَيَكُونُ مُعِينًا لِصَاحِبِهِ؛ كَالْوَزِيرِ وَالْمُشِيرِ وَالْمُعَلِّمِ وَالْمُنْجِدِ وَالنَّاصِرِ.
فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَيْس لِغَيْرِهِ مِلْكٌ لِمِثْقَالِ ذَرَّةِ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ، وَلَا لِغَيْرِهِ شِرْكٌ فِي ذَلِكَ لَا قَلِيل وَلَا كَثِيرٌ، فَلَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا، وَلَا لَهُم شِرْكٌ فِي شَيءٍ، وَلَا لَهُ سُبْحَانَهُ ظَهِيرٌ، وَهُوَ الْمُظَاهِرُ الْمُعَاوِنُ. [8/ 519]
* * *
سورة فاطر
1554 -
{وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر: 11].
أما الدعاء بطول العمر فقد كرهه الأئمة، وكان أحمد إذا دعا له أحد بطول العمر يكره ذلك ويقول: هذا أمر قد فرغ منه.
وحديث أم حبيبة رضي الله عنها لما طلبت إمتاعها بزوجها وأبيها وأخيها فقال لها
النبي صلى الله عليه وسلم: "سألت الله لآجال مضروبة وآثار مبلوغة، وأرزاق مقسومة"
(1)
ففيه أن العمر لا يطول بهذا السبب الذي هو الدعاء فقط. [المستدرك 1/ 199 - 200]
1555 -
قَوْلُهُ تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} قِيلَ: إنَّ الْمُرَادَ الْجِنْسُ؛ أَيْ: مَا يُعَمَّرُ مِن عُمُرِ إنْسَانٍ وَلَا يُنْقَصُ مِن عُمُرِ إنْسَانٍ.
وَقَد يُرَاد بِالنَّقْصِ النَّقْصُ مِن الْعُمُرِ الْمَكْتُوبِ، كَمَا يُرَاد بِالزِّيَادَةِ الزِيَادَةُ فِي الْعُمُرِ الْمَكْتُوبِ.
وَالْجَوَابُ الْمُحَقَّقُ: أَنَّ اللهَ يَكْتُبُ لِلْعَبْدِ أَجَلًا فِي صُحُفِ الْمَلَائِكَةِ، فَإِذَا وَصَلَ رَحِمَهُ زَادَ فِي ذَلِكَ الْمَكْتُوبِ.
وَإِن عَمِلَ مَا يُوجِبُ النَّقْصَ نَقَصَ مِن ذَلِكَ الْمَكْتُوبِ.
وَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَن عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ إنْ كُنْت كتَبَتْنِي شَقِيًّا فَامْحُنِي وَاكْتُبْني سَعِيدًا فَإِنَّك تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ.
فَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: إنَّ الْمَحْوَ وَالْإِثْبَاتَ فِي صُحُفِ الْمَلَائِكَةِ.
وَأَمَّا عِلْمُ اللهِ سُبْحَانَهُ فَلَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَبْدُو لَهُ مَا لَمْ يَكُن عَالِمًا بِهِ، فَلَا مَحْوَ فِيهِ وَلَا إثْبَاتَ.
وَأَمَّا اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ فَهَل فِيهِ مَحْوٌ وإِثْبَاتٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. [14/ 490 - 492]
1556 -
أَمَّا نَقْصُ الْعُمُرِ وَزَيادَتُهُ فَمِن النَاسِ مَن يَقُولُ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ، وَيُحْمَلُ مَا وَرَدَ عَلَى زَيادَةِ الْبَرَكَةِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَحْصلُ نَقْصٌ وَزِيادَة عَمَّا كُتِبَ فِي صُحُفِ الْمَلَائِكَةِ، وَأَمَّا عِلْمُ اللهِ الْقَدِيمُ فَلَا يَتَغَيَّرُ، وَأَمَّا اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ: فَهَل يُغَيَّرُ مَا فِيهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَعَلَى هَذَا يَتَّفِقُ مَا وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ مِن النُّصُوصِ. [24/ 381]
1557 -
قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، فَلَا يَخْشَاهُ إلَّا عَالِمٌ، فَكُلُّ خَاشٍ للهِ فَهُوَ عَالِمٌ.
(1)
رواه مسلم (2663).
هَذَا مَنْطُوقُ الْآيَةِ.
وَقَالَ السَّلَفُ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: إنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ عَالِمٍ فَإِنَّهُ يَخْشَى اللهَ، كَمَا دَلَّ غَيْرُهَا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَن عَصَى اللهَ فَهُوَ جَاهِلٌ.
كَمَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: سَألْت أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ عَن قَوْلِهِ: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء: 17]، فَقَالُوا لِي:"كُلُّ مَن عَصَى اللهَ فَهُوَ جَاهِلٌ".
وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِد وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُم مِن الْعُلَمَاءِ التَّابِعِينَ وَمَن بَعْدَهُمْ.
وَذَلِكَ أَنَّ الْحَصْرَ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ إثْبَاتٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، فَنَفَى الْخَشْيَةَ عَمَّن لَيْسَ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَهُم الْعُلَمَاءُ بِهِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا جَاءَت بِهِ الرُّسُلُ يَخَافُونَهُ، قَالَ تَعَالَى:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9] وَأَثْبَتَهَا لِلْعُلَمَاءِ.
فَكلُّ عَالِمٍ يَخْشَاهُ، فَمَن لَمْ يَخْشَ اللهَ فَلَيْسَ مِن الْعُلَمَاءِ بَل مِن الْجُهَّالِ. [16/ 177 - 178]
* * *
سورة الصافات
1558 -
قَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36)} [الصافات: 35، 36]، فَهَؤُلَاءِ مُسْتَكْبِرُونَ مُشْرِكُونَ، وإنَّمَا اسْتِكْبَارُهُم عَن إخْلَاصِ الدِّينِ للهِ، فَالْمُسْتَكْبِرُ الَّذِي لَا يُقِرُّ بِاللهِ فِي الظَّاهِرِ كَفِرْعَوْنَ أَعْظَمُ كَفْرًا مِنْهُمْ، وَإِبْلِيسُ الَّذِي يَأْمُرُ بِهَذَا كُلِّهِ وَيُحِبُّه ويسْتَكْبِرُ عَن عِبَادَةِ رَبِّهِ وَطَاعَتِهِ أَعْظَمُ كُفْرًا مِن هَؤُلَاء، وَإِن كَانَ عَالِمًا بِوُجُودِ اللهِ وَعَظَمَتِهِ، كَمَا أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ أَيْضًا عَالِمًا بِوُجُودِ اللهِ. [7/ 633]
1559 -
قَالَ تَعَالَى: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95، 96] فَـ "مَا" بِمَعْنَى "الَّذِي"، وَمَن جَعَلَهَا مَصْدَرِيَّةَ فَقَد غَلِطَ. [8/ 79]
* * *
سورة ص
1560 -
حجَّةُ إبْلِيسَ فِي قَوْلِهِ: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص: 76]: بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ عَارَضَ النَّصَّ بِالْقِيَاسِ، وَلهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: أَوَّلُ مَن قَاسَ إبْلِيسُ، وَمَا عُبِدَت الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إلَّا بِالْمَقَايِيسِ.
ويظْهَرُ فَسَادُهَا بِالْعَقْلِ مِن وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ ادَّعَى أَنَّ النَّارَ خَيْرٌ مِن الطِّينِ، وَهَذَا قَد يُمْنَعُ، فَإنَّ الطِّينَ فِيهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ وَالِاسْتِقْرَارُ وَالثَّبَاتُ وَالْإِمْسَاكُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَفي النَّارِ الْخِفَّةُ وَالْحِدَّةُ وَالطَّيْشُ وَالطِّينُ فِيهِ الْمَاءُ وَالتُّرَابُ.
الثانِي: أَنهُ وَإِن كَانَت النَّارُ خَيْرًا مِن الطِّينِ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَخْلُوقُ مِن الْأفْضَلِ أَفْضَلَ، فَإنَّ الْفَرْعَ قَد يُخْتَصُّ بِمَا لَا يَكُونُ فِي أَصْلِهِ، وَهَذَا التُّرَابُ يُخْلَقُ مِنْهُ مِن الْحَيَوَانِ وَالْمَعَادِنِ وَالنَّبَاتِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، والِاحْتِجَاجُ عَلَى فَضْلِ الْإنْسَانِ عَلَى غَيْرِهِ بِفَضْلِ أَصْلِهِ عَلَى أَصْلِهِ: حُجَّة فَاسِدَة، احْتَجَّ بِهَا إبْلِيسُ، وَهِيَ حُجَّةُ الَّذِينَ يَفْخَرُونَ بِأنْسَابِهِمْ، وَقَد قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَن قَصَّرَ به عَمَلُهُ لَمْ يَبْلُغْ بِهِ نَسَبُهُ"
(1)
.
الثالِثُ: أنَّه وإِن كَانَ مَخْلُوقًا مِن طِينٍ فَقَد حَصَلَ لَهُ بِنَفْخِ الرُّوحِ الْمُقَدَّسَةِ فِيهِ مَا شُرِّفَ بِهِ فَلِهَذَا قَالَ: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 72].
(1)
رواه مسلم (2699) بلفظ: "وَمَن بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرعْ بِهِ نَسَبُهُ".
الرَّابع: أَنَّهُ مَخْلُوق بِيَدَي اللهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]. [15/ 5 - 6]
* * *
سورة الزمر
1561 -
قَالَ تَعَالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] الْمُرَادُ بِالْقَوْلِ الْقُرْآنُ، كَمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ سَلَفُ الْأمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)} [المؤمنون: 68] وَاللَّامُ لِتَعْرِيفِ الْقَوْلِ الْمَعْهُودِ؛ فَإنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا إنَّمَا تَضَمَّنَتْ مَدْحَ الْقُرْآنِ وَاسْتِمَاعَهُ.
وَهُنَا سُؤَالٌ مَشْهُورٌ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} ، فَقَد قَسَّمَ الْقَوْلَ إلَى حَسَنٍ وَأَحْسَنَ، وَالْقُرْآنُ كلُّهُ مُتَّبَع، وَهَذَا حُجَّتُهُمْ، فَيُقَالُ: الْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: الْقُرْآنُ تَضَمَّنَ خَبَرًا وَأَمْرًا، فَالْخَبَرُ عَن الْأبْرَارِ وَالْمُقَرَّبِينَ، وَعَن الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ، فَلَا ريبَ أَنَّ اتِّباعَ الصِّنْفَيْنِ حَسَن، وَاتِّباعَ الْمُقَرَّبِينَ أَحْسَنُ، وَالْأَمْرُ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِالْوَاجِبَاتِ والمستحبات، وَلَا ريبَ أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ حَسَن، وَفِعْلُ الْمُسْتَحَبَّاتِ مَعَهَا أَحْسَنُ، وَمَن اتَّبَعَ الْأَحْسَنَ فَاقْتَدَى بِالْمُقَرَّبِينَ وَتَقَرَّبَ إلَى اللهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ كَانَ أَحَقَّ بِالْبُشْرَى. [16/ 5 - 7]
1562 -
قوله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر: 53] ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي حَقِّ التَّائِبِينَ، وَأَمَّا آيتَا النِّسَاءِ قَوْلُهُ:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي حَقِّ التَّائِبِينَ.
والْقُنُوطُ يَكُونُ بِأنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ لَهُ:
أ - إمَّا لِكوْنِهِ إذَا تَابَ لَا يَقْبَلُ اللهُ تَوْبَتَهُ وَيَغْفِرُ ذُنُوبَهُ.
ب- وَإِمَّا بِأنْ يَقُولَ: نَفْسُهُ لَا تُطَاوِعُهُ عَلَى التَّوبَةِ؛ بَل هُوَ مَغْلُوبٌ مَعَهَا،
وَالشَّيْطَانُ قَد اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ، فَهُوَ يَيْأسُ مِن تَوْبَةِ نَفْسِهِ، وَإِن كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ إذَا تَابَ غَفَرَ اللهُ لَهُ، وَهَذَا يَعْتَرِي كَثِيرًا مِن النَّاسِ.
وقد تَنَازَعَ النَّاسُ فِي الْعَبْدِ هَل يَصِيرُ فِي حَالٍ تَمْتَنِعُ مِنْهُ التَّوْبَةُ إذَا أَرَادَهَا؟ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجُمْهُورُ: أَنَّ التَّوْبَةَ مُمْكِنَة مِن كُلِّ ذَنْبٍ، وَمُمْكِنٌ أَنَّ اللهَ يَغْفِرُهُ.
وَهَذِهِ آيةٌ عَظِيمَةٌ جَامِعَةٌ مِن أَعْظَمِ الْآيَاتِ نَفْعًا، وَفِيهَا رَدٌّ عَلَى طَوَائِفَ: رَدٌّ عَلَى مَن يَقُولُ إنَّ الدَّاعِيَ إلَى الْبِدْعَةِ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ.
وَمِن ذَلِكَ: تَوْبَةُ قَاتِلِ النَّفْسِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا مَقْبُولَةٌ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَآيةُ النِّسَاءِ
(1)
إنَّمَا فِيهَا وَعِيدٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} [النساء: 10]، وَمَعَ هَذَا فَهَذَا إذَا لَمْ يَتُبْ.
وَكُلُّ وَعِيدٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ التَّوْبَةِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ، فَبِأيِّ وَجْهٍ يَكُونُ وَعِيدُ الْقَاتِلِ لَاحِقًا بِهِ وَإِن تَابَ؟ هَذَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ؟ وَلَكِنْ قَد يُقَالُ: لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ بِمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَسْقُط حَقُّ الْمَظْلُومِ بِالْقَتْلِ؛ بَل التَّوْبَةُ تُسْقِطُ حَقَّ اللهِ، وَالْمَقْتُولُ مُطَالِبُهُ بِحَقِّهِ، وَهَذَا صَحِيحٌ فِي جَمِيعِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ حَتَّى الدَّيْنِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَد قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)} [آل عمران: 90]؟
قِيلَ: إنَّ الْقُرْآنَ قَد بَيَّنَ تَوْبَةَ الْكَافِرِ وَإِن كَانَ قَدِ ارْتَدَّ ثُمَّ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ
(1)
وهي قَوْله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء: 93].
جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)} [آل عمران: 86 - 89].
وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتهُم قَد ذَكَرُوا فِيهِمْ أَقْوَالًا:
قِيلَ: لِنِفَاقِهِمْ.
وَقِيلَ: لِأَنَّهُم تَابُوا مِمَّا دُونَ الشِّرْكِ وَلَمْ يَتُوبُوا مِنْهُ.
وَقِيلَ: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُم بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ -كَالْحَسَنِ وقتادة وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ والسدي-: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُم حِينَ يَحْضُرُهُم الْمَوْتُ، فَيَكُونُ هَذَا كَقَوْلِهِ:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء: 18].
فَقَوْلُهُ: {ثُمَّ ازْدَادُوا} بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْقَائِلِ: ثُمَّ أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ وَاسْتَمَرُّوا عَلَى الْكفْرِ وَدَامُوا عَلَى الْكُفْرِ، فَهُم كَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ، ثُمَّ زَادَ كُفْرُهُم مَا نَقَصَ، فَهَؤُلَاءِ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ، وَهِيَ التوْبَةُ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ مَن تَابَ قَبْلَ حُضُورِ الْمَوْتِ فَقَد تَابَ مِن قَرِيبٍ وَرَجَعَ عَن كُفْرِهِ، فَلَمْ يَزْدَدْ بَل نَقَصَ
(1)
؛ بِخِلَافِ الْمُصِرِّ إلَى حِينِ الْمُعَايَنَةِ، فَمَا بَقِيَ لَهُ زَمَانٌ يَقَعُ لِنَقْصِ كُفْرِهِ، فَضْلًا عَن هَدْمِهِ.
وَفي الْآيَةِ الْأخْرَى قَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} [النساء: 137] قِيلَ: لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا تَابَ غُفِرَ لَهُ كُفْرُهُ، فَإِذَا كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَاتَ كَافِرًا حَبِطَ إيمَانُهُ، فَعُوقِبَ بِالْكُفْرِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي.
(1)
والله تعالى قال: ثم ازدادوا كفرًا، فمن تاب قبل الاحتضار فقد نقص كفره بل انمحى وزال، فليس هناك توبة لا ينقص معها الكفر إلا توبة المحتضر، الذي عاين الموت ويئس من الحياة.
فَلَو قَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} ، {ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} [النساء: 137]: كَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ
(1)
ذَكَرَهُم فِي آلِ عِمْرَانَ فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} [آل عمران: 90]
(2)
؛ بَل ذَكَرَ أنَّهُم آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمنُوا بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ الْمُرْتَدُّ التَّائِبُ؛ فَهَذَا إذَا كَفَرَ وَازْدَادَ كُفْرًا لَمْ يُغْفَرْ لَهُ كُفْرُهُ السَّابِقُ أَيْضًا، فَلَو آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمنُوا لَمْ يَكُونُوا قَد ازْدَادُوا كُفْرًا
(3)
، فَلَا يَدْخُلُونَ فِي الْآيَةِ.
وَالْعُقُوبَاتُ الَّتِي تُقَامُ مِن حَدٍّ أو تَعْزِيرٍ:
أ - إمَّا أَنْ يَثْبُتَ سَبَبُهَا بِالْبَيِّنَةِ، مِثْل قِيَامِ الْبَيِّنَةِ بِأنَّهُ زَنَى أو سَرَقَ أَو شَرِبَ، فَهَذَا إذَا أَظْهَرَ التُّوْبَةَ لَمْ يُوثَقْ بِهَا، وَلَو دُرِئَ الْحَدُّ بِإظْهَارِ هَذَا: لَمْ يُقمْ حَدٌّ؛ فَإنَّهُ كُلُّ مَن تُقَامُ عَلَيْهِ الْبَيِّنةُ يَقُولُ: قَد تُبْت.
وإِن كَانَ تَائِبًا فِي الْبَاطِنِ: كَانَ الْحَدُّ مُكَفِّرًا، وَكَانَ مَأْجُورًا عَلَى صَبْرِهِ.
ب- وَأمَّا إذَا جَاءَ هُوَ بِنَفْسِهِ فَاعْتَرَفَ وَجَاءَ تَائِبًا: فَهَذَا لَا يَجِبُ أنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَد، نَصَّ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَهِيَ مِن مَسَائِلِ التَّعْلِيقِ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهَا الْقَاضِي بِعِدَّةِ أَحَادِيثَ، وَحَدِيثُ الَّذِي قَالَ:"أصَبْت حَدًّا فَأقِمْهُ عَلَى فَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ": يَدْخُلُ فِي هَذَا؛ لِأنَّهُ جَاءَ تَائِبًا، وَإِن شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا شَهِدَ بِهِ مَاعِزٌ والغامدية وَاخْتَارَ إقَامَةَ الْحَدِّ: أقِيمَ عَلَيْهِ، وإِلَّا فَلَا.
(1)
أي: لكان هؤلاء هم نفسهم المذكورين في سورة آل عمران.
(2)
يعني: لو أنهم ارتدوا مرةً واحدة وازدادوا كفرًا: لقيل فيهم ما قيل في الآية الأولى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} .
لكنهم ارتدوا مرتين ثم ازدادوا كفرًا، فالحال هناك مُختلف، فيكون معنى قوله:{لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} ؛ أي: لم يكن ليغفر لهم توبتهم السابقة.
وهو تعالى لم يذكر أنه لن يقبل توبتهم، بل ذكر أنه لم يكن ليغفر لهم.
(3)
بل نقص وزال كفرهم.
الْإِمَامُ وَالنَّاسُ لَيْسَ عَلَيْهِم إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى مِثْل هَذَا، وَلَكِنْ هُوَ إذَا طَلَبَ ذَلِكَ أُقِيمَ عَلَيْهِ؛ كَاَلَّذِي يُذْنِبُ سِرًّا.
وَلَيْسَ عَلَى أحَدٍ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ حَدًّا
(1)
. [16/ 18 - 32]
* * *
سورة غافر
1563 -
فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر: 56]: بَيَانٌ أنَّهُ لَا يَجُوزُ أنْ يُعَارَضَ كتاب اللهِ بِغَيْرِ كِتَابِ اللهِ، لَا بِفِعْلِ أحَدٍ وَلَا أمْرِهِ، لَا دَوْلَةً وَلَا سِيَاسَةَ، فَإنَّهُ حَالُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ.
وَلَكِنْ يَجُوزُ أنْ يَكونَ فِي آياتِ اللهِ نَاسِخ وَمَنْسُوخٌ، فَيُعَارَضُ مَنْسُوخُه بِنَاسِخِهِ. [19/ 78 - 79]
* * *
سورة الشورى
1564 -
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]. [52/ 42]
قال ابن القيم رحمه الله: وقد اختلفوا في مفسِّر المضمر من قوله تعالى: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا} فقيل: هو الإيمان لكونه أقرب المذكورين، وقيل: هو الكتاب فإنه النور الذي هدى الله به عباده.
قال شيخنا: والصواب أنه عائد على الروح المذكور في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} الآية، فسمَّى وحيَه روحًا لما يحصل به من
(1)
فإقامة الحدود موكولةٌ لولي الأمر، ولا يجوز لأحد أن يفتات عليه، وبهذا يتبين ضلال الخوارج في هذا الزمان الذين قتلوا العساكر وغيرهم زعمًا منهم أنهم يُقيمون عليهم حد الردة!
حياة القلوب، والأرواح التي هي الحياة في الحقيقة، ومن عدمها فهو ميت لا حي. [المستدرك 1/ 200]
1565 -
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)} [الشورى: 39] إلَى قَوْلِهِ: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43] فَمَدَحَهُم عَلَى الِانْتِصَارِ تَارَةً وَعَلَى الصَّبْرِ أُخْرَى.
وَضِدُّ الِانْتِصَارِ الْعَجْزُ، وَضِدُّ الصَّبْرِ الْجَزَعُ؛ فَلَا خَيْرَ فِي الْعَجْزِ وَلَا فِي الْجَزَعِ، كَمَا نَجِدُهُ فِي حَالِ كَثِيرٍ مِن النَّاسِ حَتَّى بَعْضُ الْمُتَدَيِّنِينَ إذَا ظُلِمُوا أَو رأوا مُنْكَرًا فَلَا هُم يَنْتَصِرُونَ وَلَا يَصْبِرُونَ؛ بَل يَعْجِزُونَ ويجْزَعُونَ. [16/ 37 - 38]
1566 -
قَوْله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} هَذَا تَفْسِيرُ الْوَصِيَّةِ، {أَنْ}: الْمُفَسِّرَةُ الَّتِي تَأتِي بَعْدَ فِعْلٍ مِن مَعْنَى الْقَوْلِ لَا مِن لَفْظِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131] وَالْمَعْنَى: قُلْنَا لَهُم: اتَّقُوا اللهَ.
فـ {أَقِيمُوا الدِّينَ} : مُفَسِّرٌ لِلْمَشْرُوعِ لَنَا الْمُوصَى بِهِ الرُّسُلُ، وَالْمُوحَى إلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
فَقَد يُقَالُ: الضَّمِيرُ فِي (أَقِيمُوا) عَائِدٌ إلَيْنَا، ويُقَالُ: هُوَ عَائِدٌ إلَى الْمُرْسَلِ، وَيُقَالُ: هُوَ عَائِدٌ إلَى الْجَمِيعِ، وَهَذَا أَحْسَنُ، وَنَظِيرُهُ: أَمَرْتُكَ بِمَا أَمَرْتُ بِهِ زيدًا أَنْ أَطِع اللهَ، وَوَصَّيْتُكُمْ بِمَا وَصَّيْتُ بَنِي فلَانٍ أَن افْعَلُوا.
وَالْمَعْنَى عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ يَرْجِعُ إلَى هَذَا، فَإِنَّ الَّذِي شُرعَ لَنَا: هُوَ الَّذِي وَصَّى بِهِ الرُّسُلَ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِإِقَامَةِ الدِّينِ وَالنَّهْيُ عَن التَّفَرُّقِ فِيهِ. [1/ 12 - 13]
* * *
سورة الزخرف
1567 -
قَوْله تعالى: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)} [الزخرف: 86]. التَّحْقِيق فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ، وَلَا يَمْلِكُ أَحَد مِن دُونِ اللهِ الشَّفَاعَةَ مُطْلَقًا، لَا يُسْتَثْنَى مِن ذَلِكَ أَحَدٌ عِنْدَ اللهِ.
فَإنَّهُ لَمْ يَقُلْ: وَلَا يَشْفَعُ أَحَدٌ، وَلَا قَالَ: لَا يَشْفَعُ لِأَحَدٍ؛ بَل قَالَ: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} ، وَكُلُّ مَن دُعِيَ مِن دُونِ اللهِ لَا يَمْلِكُ الشَّفَاعَةَ أَلْبَتَّةَ، وَالشَّفَاعَةُ بِإِذْنٍ لَيْسَتْ مُخْتَصَّةً بِمَن عُبِدَ مِن دُونِ اللهِ، وَسَيِّدُ الشُّفَعَاءِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُعْبَدْ كَمَا عُبِدَ الْمَسِيحُ، وَهُوَ -مَعَ هَذَا- لَهُ شَفَاعَةٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ، فَلَا يَحْسُنُ أَنْ تَثْبُتَ الشَّفَاعَةُ لِمَن دُعِيَ مِن دُونِ اللهِ دُونَ مَن لَمْ يُدْعَ.
وَالْمَقْصودُ: أَنَّ قَوْلَهُ: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} قَد تَمَّ الْكَلَامُ هنَا، فَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِن الْمَعْبُودِينَ مِن دُونِ اللهِ الشَّفَاعَةَ أَلْبَتَّةَ، ثُمَّ اسْتَثْنَى:{إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)} فَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَالْمُنْقَطِعُ يَكُونُ فِي الْمَعْنَى الْمُشْتَرِكِ بَيْنَ الْمَذْكُورِينَ.
فَلَمَّا نَفَى مُلْكَهُم الشَّفَاعَةَ بَقِيَت الشَّفَاعَةُ بِلَا مَالِكٍ لَهَا.
كَأنَّهُ قَد قِيلَ: فَإِذَا لَمْ يَمْلِكُوهَا هَل يَشْفَعُونَ فِي أَحَدٍ؟
فَقَالَ: نَعَمْ {مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)} .
وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الشَّافِعَ وَالْمَشْفُوعَ لَهُ، فَلَا يَشْفَعُ إلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُم يَعْلَمُونَ.
فَالْمَلَائِكَةُ وَالْأنْبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ -وَإِن كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ- لَكِنْ إذَا أَذِنَ الرَّبُّ لَهُم شَفَعُوا، وَهُم لَا يُؤْذَنُ لَهُم إلَّا فِي الشَّفَاعَةِ لِلْمُؤمِنِينَ الَّذِينَ يَشْهَدونَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، فَيَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ وَهُم يَعْلَمُونَ، لَا يَشْفَعُونَ لِمَن قَالَ
هَذِهِ الْكَلِمَةَ تَقْلِيدًا لِلْآبَاءِ وَالشُّيُوخِ
(1)
.
فَاَلَّذِي تُنَالُ بهِ الشفَاعَةُ: هِيَ الشَّهَادَةُ بِالْحَقِّ، وَهِيَ شَهَادَةُ أنْ لَا إلَهَ إلا اللهُ، لَا تُنَالُ بِتَولِّي غَيْرِ اللهِ، لَا الْمَلَائِكَةِ وَلَا الْأَنْبِيَاءِ وَلَا الصَّالِحِينَ.
فَمَن وَالَى أَحَدًا مِن هَؤُلَاءِ وَدَعَاهُ وَحَجَّ إلَى قَبْرِهِ أَو مَوْضِعِهِ، وَنَذَرَ لَهُ وَحَلَفَ بِهِ، وَقَرَّبَ لَهُ الْقَرَابِينَ لِيَشْفَعَ لَهُ: لَمْ يُغْنِ ذَلِكَ عَنْهُ مِن اللهِ شَيْئًا، وَكَانَ مِن أَبْعَدِ النَّاسِ عَن شَفَاعَتِهِ وَشَفَاعَةِ غَيْرِهِ، فَإنَّ الشَّفَاعَةَ إنَّمَا تَكُونُ: لِأَهْلِ تَوحِيدِ اللهِ وإِخْلَاصِ الْقَلْبِ وَالدِّينِ له. [14/ 402 - 412، 27/ 280 - 281]
1568 -
قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} [الزخرف: 15]، قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ:{جُزْءًا} [الزخرف: 15]؛ أيْ: نَصِيبًا، وَبَعْضًا، وَقَالَ بَعْضُهُم: جَعَفوا للهِ نَصِيبًا مِنَ الْوَلَدِ، وَعَن قتادة وَمُقَاتِلٍ: عِدْلًا.
وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحٌ؛ فَإنَّهُم يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَالْوَلَدُ يُشْبِهُ أَبَاهُ. [17/ 271]
* * *
سورة الأحقاف
1569 -
قَوْلُهُ: {كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأحقاف: 8] لَمْ يَقُلْ: شَاهِدٌ عَلَيْنَا، وَلَا شَاهِدٌ لِي؛ لِأَنَّهُ ضَمَّنَ الشَّهَادَةَ الْحُكمَ، فَهُوَ شَهِيدٌ يَحْكُمُ بِشَهَادَتِهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَالْحُكْمُ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ الشَّهادَةِ؛ فَإِنَّ الشَّاهِدَ قَد يُؤَدِّي الشَّهَادَةَ. وَأَمَّا الْحَاكِمُ فَإنَّهُ يَحْكُمُ بِالْحَقِّ لِلْمُحِقَّ عَلَى الْمُبْطِلِ، وَيَأخُذُ حَقَّهُ مِنْهُ، وَيُعَامِلُ الْمُحِقَّ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ وَالْمُبْطِلَ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ. [14/ 194]
* * *
(1)
لأنّ شهادتهم ليست عن علم، وإنما تقليدًا لآبائهم وأجدادهم، ولو وجدوهم على غير هذا لاتبعوهم.
فهذا يدلّ على أهمية العلم، وأنه هو المنجي لصاحبه في الدنيا والآخرة.
سورة ق
1570 -
قَالَ تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)} [ق: 6]، وَأمْثَالُ ذَلِكَ مِن النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ السَّمَاءَ مُشَاهَدَةٌ، وَالْمُشَاهَدُ هُوَ الْفَلَكُ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَحَدَهمَا هوَ الْآخَرُ. [6/ 593]
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [ق: 18].
وَقَد اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: هَل يُكْتَبُ جَمِيعُ أَقْوَالِهِ؟. وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا يَكْتُبَانِ الْجَمِيعَ؛ فَإنَّهُ قَالَ: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} نَكِرَةٌ فِي الشَّرْطِ مُؤَكَّدَةٌ بِحَرْفِ مِنْ؛ فَهَذَا يَعُمُّ كُلَّ قَوْلِهِ. [7/ 49]
* * *
سورة الذاريات
1571 -
قَالَ تَعَالَى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11)} [الذاريات: 10، 11] الْآيَاتِ؛ أَيْ: سَاهُونَ عَن أَمْرِ الْآخِرَةِ
(1)
، فَهُم فِي غَمْرَةٍ عَنْهَا؛ أَيْ: فِيمَا يَغْمُرُ قُلُوبَهُم مِن حُبّ الدُّنْيَا وَمَتَاعِهَا، سَاهُونَ عَن أَمْرِ الْآخِرَةِ وَمَا خُلِقُوا لَهُ. [10/ 596]
1572 -
قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ قَوْم لُوطٍ: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)} [الذاريات: 35، 36] ظَنَّ طَائِفَةٌ مِن النَّاسِ أَنَّ هَذ الْآيَةَ تَقْتَضِي أَنَّ مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَاحِدٌ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ امْرَأَةَ لُوطٍ كانت فِي أَهْلِ الْبَيْتِ الْمَوْجُودِينَ، وَلَمْ تَكُنْ مِن الْمُخْرَجِينَ الَّذِينَ نَجَوْا؛ بَل كَانَت مِن الْغَابِرِينَ الْبَاقِينَ فِي الْعَذَابِ، وَكَانَت فِي
(1)
فهم ساهون وغافلون عن حفظ واسْتثمار أوقات فراغهم بما ينجيهم يوم القيامة.
والخرص: الظن والتخمين والتقدير الجزاف، الذي لا يقوم على ميزان دقيق.
الظَّاهِرِ مَعَ زَوْجِهَا عَلَى دِينِهِ، وَفي الْبَاطِنِ مَعَ قَوْمِهَا عَلَى دِينِهِمْ، خَائِنَةً لِزَوْجِهَا تَدُلُّ قَوْمَهَا عَلَى أَضْيَافِهِ؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهَا:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم: 10]، وَكَانَت خِيَانَتُهُمَا لَهُمَا فِي الدِّينِ لَا فِي الْفِرَاشِ؛ فَإنَّهُ مَا بَغت امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ؛ إذ نِكَاحُ الْكَافِرَةِ قَد يَجُوزُ فِي بَعْضِ الشَّرَائِعِ، ويجُوزُ فِي شَرِيعَتِنَا نِكَاحُ بَعْضِ الْأنْوَاعِ وَهُنَّ الْكِتَابِيَّات، وَأمَّا نِكَاحُ الْبَغِيِّ فَهُوَ: دِيَاثَةٌ، وَقَد صَانَ اللهُ النَّبِيَّ عَن أَنْ يَكُونَ دَيُّوثا؛ وَلهَذَا كَانَ الصَّوَابُ قَوْلَ مَن قَالَ مِن الْفُقَهَاءِ: بِتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْبَغِيِّ حَتَّى تتُوبَ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ امْرأةَ لوطٍ لَمْ تَكُنْ مُؤمِنَةً، وَلَمْ تَكُنْ مِن النَّاجِينَ الْمُخْرَجِينَ، فَلَمْ تَدْخُلْ فِي قَوْلِهِ:{فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35)} ، وَكَانَت مِن أهْلِ الْبَيْتِ الْمُسْلِمِينَ، وَمِمَن وُجِدَ فِيهِ؛ وَلهَذَا قَالَ تَعَالَى:{فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)} . [7/ 473 - 474]
* * *
سورة الطور
1573 -
قَوْلُهُ تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)} [الطور: 35] فِيهَا قَوْلَانِ:
فَالْأكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ: أَمْ خُلِقُوا مِن غَيْرِ خَالِقٍ بَل مِن الْعَدَمِ الْمَحْضِ؟.
وَقِيلَ: أَمْ خُلِقُوا مِن غَيْرِ مَادَّةٍ؟ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى انَّ التَّقْسِيمَ: أَمْ خُلِقُوا مِن غَيْرِ خَالِقٍ أَمْ هُم الْخَالِقُونَ؟ [18/ 236]
* * *
سورة النجم
1574 -
جرت عادة القوم أن يذكروا في هذا المقام
(1)
قوله تعالى عن نبيِّه صلى الله عليه وسلم حين أراه ما أراه: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)} [النجم: 17] وأبو القاسم القشيري صدَّر "باب الآداب" بهذه الآية، وكذلك غيره.
وكأنهم نظروا إلى قول من قال من أهل التفسير: إن هذا وصف لأدبه صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام إذ لم يلتفت جانبًا ولا تجاوز ما رآه، وهذا كمال الأدب، والإخلالُ به أن يلتفت الناظر عن يمينه وعن شماله أو يتطلع أمام المنظور، فالالتفات زيغ، والتَّطَلُّعُ إلى ما أمام المنظور طغيان ومجاوزة، فكمال إقبال الناظر على المنظور ألا ينصرف بصره عنه يمنة ولا يسرة ولا يتجاوزه. [المستدرك 1/ 200 - 201]
1575 -
قَالَ تَعَالَى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [النجم: 29، 30] أَخْبَرَ أَنَّهُم لَمْ يَحْصُلْ لَهم عِلْمٌ فَوْقَ مَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا، فَهِيَ أكْبَرُ هَمِّهِمْ وَمَبْلَغُ عِلْمِهِمْ، وَأَمَّا الْمُؤمِنُ فَأكْبَرُ هَمِّهِ هُوَ اللهُ، وَإِلَيْهِ انْتَهَى عِلْمُهُ وَذِكْرُهُ. [18/ 164 - 165]
* * *
سورة الرحمن
1576 -
قَوْلُهُ تعالى: {ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} [الرحمن: 27] فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
قِيلَ: أَهْلٌ أَنْ يُجَلَّ وَأَنْ يُكْرَمَ، كَمَا يُقَالُ: إنَّهُ {أَهْلُ التَّقْوَى} [المدثر: 56]؛ أَيْ: الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يُتَّقَى.
وَقِيلَ: أهْل أنْ يُجَلَّ فِي نَفْسِهِ وَأَنْ يُكْرِمَ أَهْلَ وِلَايَتهِ وَطَاعَتِهِ.
(1)
مقام الأدب مع الله. انظر: (ص 376) من المدارج (ج 2) فصل: والآداب ثلاثة أنواع. (الجامع).
وَقيلَ: أهْلٌ أَنْ يُجَلَّ فِي نَفْسِهِ، وَأَهْلٌ أَنْ يُكْرِمَ.
قُلْت: الْقَوْلُ الْأوَّلُ هُوَ أَقْرَبُهَا إلَى الْمُرَادِ، مَعَ أَنَّ الْجَلَالَ هُنَا لَيْسَ مَصْدَرَ جَلَّ جَلَالًا؛ بَل هُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ أَجَلَّ إجْلَالًا. [16/ 317 - 319]
* * *
سورة الحديد
1577 -
قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} [الحديد: 25] أَخْبَرَ أَنَّهُ أرْسَلَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِأَجْلِ قِيَامِ النَّاسِ بِالْقِسْطِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْحَدِيدَ الَّذِي بِهِ يَنْصُرُ هَذَا الْحَقَّ، فَالْكِتَابُ يَهْدِي، وَالسَّيْفُ يَنْصُرُ، وَكَفَى بِرَبّك هَادِيًا وَنَصِيرًا. وَلهَذَا كَانَ قِوَامُ النَّاسِ بِأهْلِ الْكِتَابِ وَأَهْلِ الْحَدِيدِ. [18/ 158]
* * *
سورة الحشر
1578 -
قَوْلُهُ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19] يَقْتَضي أَنَّ نِسْيَانَ اللهِ كَانَ سَبَبًا لِنِسْيَانِهِمْ أَنْفسَهُم وإِنَّهُم لَمَّا نَسُوا اللهَ عَاقَبَهُم بِأَنْ أَنْسَاهُم أنْفُسَهُمْ.
وَنسْيَانُهُم أَنْفُسَهم يَتَضَمَّنُ إعْرَاضَهُم وَغَفْلَتَهُم وَعَدَمَ مَعْرِفَتِهِمْ بِمَا كَانوا عَارِفِينَ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ مِن حَالِ أَنْفُسِهِمْ، كَمَا أَنَّهُ يَقْتَضِي تَرْكَهُم لِمَصَالِحِ أَنْفُسِهِمْ.
فَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُم لَا يَذْكُرُونَ أَنْفُسَهُم ذِكْرًا يَنْفَعُهَا وَيُصْلِحُهَا، وَأَنَّهُم لَو ذَكَرُوا اللهَ لَذَكَرُوا أَنْفُسَهُمْ.
وَهَذَا عَكسُ مَا يُقَالُ: "مَن عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ"، وَبَعْضُ النَّاسِ يَرْوِي هَذَا عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَيْسَ هَذَا مِن كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا هُوَ فِي شَيْءٍ مِن كُتُبِ
الْحَدِيثِ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ إسْنَادٌ
(1)
. [16/ 348 - 349]
* * *
سورة الجمعة
1579 -
قَوْله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} وَالْأمِّيُّونَ يَتَنَاوَلُ الْعَرَبَ قَاطِبَةً دُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ، ثُمَّ قَالَ:{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3] فَهَذَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَن دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ دُخُولِ الْعَرَبِ فِيهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإنَّ قَوْلَهُ:{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} ؛ أَيْ: فِي الدِّينِ دُونَ النَّسَبِ، إذ لَو كَانُوا مِنْهُم فِي النَّسَبِ لَكَانُوا مِن الْأمِّيِّينَ. [16/ 190]
* * *
سورة التغابن
1580 -
قوله تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} [التغابن: 14](من) للتبعيض بالاتفاق. [المستدرك 1/ 201]
* * *
سورة التحريم
1581 -
الْمَسِيحُ خلِقَ مِن مَرْيَمَ وَنَفْخَةِ جِبْرِيلَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} [التحريم: 12].
وَالْمَقْصُودُ: إنَّمَا هُوَ النَّفْخُ فِي الْفَرْجِ كَمَا أَخْبَرَ الله بِهِ فِي آيتَيْنِ، وَاِلَّا فَالنَّفْخُ فِي الثَّوْبِ فَقَطْ مِن غَيْرِ وصُولِ النَّفْخِ إلَى الْفَرَجِ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ، مَعَ أَنَّهُ
(1)
وهذا عام إن دق أو جل، ولهذا فكل من انشغل بعيوب الآخرين عن إصلاح نفسه وعيوبها، لا سيما من انشغل بتتبع عيوب الدعاة والمصلحين، فإنما هو بسبب أن الله أنساه نفسه ومصالحها والقيام عليها، والانشغال بها؛ عقوبةً من الله له لعدم قيامه بما أوجبه الله عليه من الاستقامة الظاهرة والباطنة، وحفظ اللسان، وإحسان الظن.
فانظر إلى مشايخ السوء، وبعض الكتاب الذين أفنوا أعمارهم، وضيعوا أوقاتهم في تتبع زلات الدعاة والعلماء، لتعرف أن الله نسيهم لنسيانهم أنفسهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
لَا تَأثِيرَ لَهُ فِي حُصُولِ الْوَلَدِ، وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِن أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا نَقَلَه أَحَدٌ عَن عَالِمٍ مَعْرُوفٍ مِنَ السَّلَفِ. [17/ 262 - 263]
* * *
سورة الملك
1582 -
قَالَ تَعَالَى عَن أَهْلِ النَّارِ: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا} [الملك: 8، 9] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِي النَّارِ فَوْجٌ أَقَرُّوا بِأَنَّهُم جَاءَهُم النَّذِيرُ فَكَذَّبُوهُ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُلْقَى فِيهَا فَوْجٌ إلَّا مَن كَذَّبَ النَّذِيرَ. [11/ 187]
* * *
سورة القلم
1583 -
{ن} [القلم: 1] أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ؛ فَإِنَّ الْقَلَمَ بِهِ يَكُونُ الْكِتَابُ السَّاطِرُ لِلْكَلَامِ، الْمُتَضمِّنِ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعِلْمِ الْمُحِيطِ بِكُلِّ شَيءٍ.
وَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ ثَلَاثُ جُمَلٍ: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)} [القلم: 2]، {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)} [القلم: 3]، {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} ، سَلَبَ عَنْهُ النَّقْصَ الَّذِي يَقْدَحُ فِيهِ، وَأَثْبَتَ لَهُ الْكَمَالَ الْمَطْلُوبَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
1584 -
الْهَمَّازُ الْمَشَّاءُ بِنَمِيم: الْهَمْزُ أَقْوَى مِن اللَّمْزِ وَأَشَدُّ -سَوَاءٌ كَانَ هَمْزَ الصَّوْتِ أَو هَمْزَ حَرَكَة- وَمِنْهُ "الْهَمْزَةُ" وَهِيَ نَبْرَةٌ مِن الْحَلْقِ مِثْلُ التَّهَوُّعِ، وَمِنْهُ الْهَمْزُ بِالْعَقِبِ كَمَا فِي حَدِيثِ زَمْزَمَ:"أنَهُ هَمْزُ جِبْرِيلَ بِعَقِبِهِ" وَالْفَعَّالُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْفَاعِلِ؛ فَالْهَمَّازُ الْمُبَالِغُ فِي الْعَيْبِ نَوْعًا وَقَدْرًا.
وَالْمَشَّاءُ بِنَمِيم هُوَ مِن الْعَيْبِ، وَلَكِنَّهُ عَيْبٌ فِي الْقَفَا، فَهُوَ عَيْبُ الضَّعِيفِ الْعَاجِزِ، فَذَكَرَ الْعَيَّابَ بِالْقُوَّةِ وَالْعَيَّابَ بِالضَّعْفِ، وَالْعَيَّابَ فِي مَشْهَدٍ وَالْعَيَّابَ فِي مَغِيبٍ. [16/ 67]
1585 -
قَوْلُهُ: {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)} [القلم: 6] حَارَ فِيهَا كثِيرٌ، وَالصَّوَابُ الْمَأثُورُ عَن السَّلَفِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: الشَّيْطَانُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: هُم أَوْلَى بِالشَّيْطَانِ مِن نَبِيِّ اللهِ.
فَبَيَّنَ الْمُرَادَ، فَإِنَّهُ يَتَكلَّمُ عَلَى اللَّفْظِ كَعَادَةِ السَّلَفِ فِي الِاخْتِصَارِ مَعَ الْبَلَاغَةِ وَفَهْمِ الْمَعْنَى. [16/ 72]
1586 -
قَوْلُهُ: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25)} الآيةْ [القلم: 25]، وَصَفَتْهُم بِأنَّهُم غَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ؛ فَالْحَرْدُ يَرْجِعُ إلَى الْقَصْدِ، فَغَدَوْا بِإِرَادَة جَازِمَةٍ وَقُدْرَةٍ، وَلَكِنَّ اللهَ أَعْجَزَهُمْ.
قَالَ البغوي: الْحَرْدُ فِي اللُّغَةِ يَكُونُ بِمَعْنَى الْقَصْدِ وَالْمَنْعِ وَالْغَضَبِ.
قُلْت: الْحَرْدُ فِيهِ مَعْنَى الْعَزْمِ الشَّدِيدِ؛ فَإنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَقْتَضِي هَذَا. وَكَذَلِكَ الْحَنَقُ وَالْغَضَبُ فِيهِ شِدَّةٌ، فَكَانَ لَهُم عَزْمٌ شَدِيدٌ عَلَى أَخْذِهَا وَعَلَى حِرْمَانِ الْمَسَاكِينِ، وَغَدَوْا بِهَذَا الْعَزْمِ قَادِرِينَ، لَيْسَ هُنَاكَ مَا يُعْجِزُهُم وَمَا يَمْنَعُهُمْ، لَكِنْ جَاءَهَا أَمْرٌ مِن السمَاءِ فَأبْطَلَ ذَلِكَ كُلَّه. [7/ 13 - 14]
* * *
سورة المدثر
1587 -
قَوْلُهُ: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)} [المدثر: 1، 2] هَذَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَوَاجِبٌ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ يُبَلِّغُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْهِ، وَيُنْذِرُوا كَمَا أَنْذَرَ. وَالْجِنُّ لَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)} [الأحقاف: 29]
(1)
. [16/ 327 - 328]
* * *
(1)
ولم ينتظروا حتى يتمكنوا من العلم ويصبحوا علماء.
سورة النبأ
1588 -
قَالَ مُجَاهِدٌ: {لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)} قَالَ: كَلَامًا.
هَذَا مِن تَفْسِيرِهِ الثَّابِتِ عَنْهُ، وَهُوَ مِن أَعْلَمِ -أَو أَعْلَمُ- التَّابِعِينَ بِالتَّفْسِيرِ.
وَهَذَا يَتَنَاوَلُ "الشَّفَاعَةَ" أَيْضًا.
وَفي قَوْلِهِ: {لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)} لَمْ يَذْكُرِ اسْتِثْنَاءً، فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَمْلِكُ مِن اللهِ خِطَابًا مُطْلَقًا، إذ الْمَخْلُوق لَا يَمْلِكُ شَيْئًا يُشَارِكُ فِيهِ الْخَالِقُ.
فَإِنَ أَحَدًا -مِمَن يُدْعَى مِن دُونهِ- لَا يَمْلِكُ الشَّفَاعَةَ بِحَالٍ، وَلَكنَ اللهَ إذَا أَذِنَ لَهُم شَفَعُوا مِن غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَمْلُوكًا لَهُمْ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)} هَذَا قَوْلُ السَّلَفِ وَجُمْهورِ الْمُفَسِّرِينَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَؤلَاءِ هُم الْكُفَارُ لَا يَمْلِكُونَ مُخَاطَبَةَ اللهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَهُوَ خَطَأٌ مَحْضٌ، وَالصَّحِيحُ: قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَالسَّلَفِ: أنَّ هَذَا عَامٌّ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه: 108]، وَفِي حَدِيثِ التَّجَلِّي الَّذِي فِي الصَّحِيحِ -لَمَّا ذَكَرَ مُرُورَهُم عَلَى الصِّرَاطِ- قَالَ صلى الله عليه وسلم:"وَلَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إلَّا الرُّسُلُ وَدَعْوَى الرُّسُلِ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ"
(1)
، فَهَذَا فِي وَقْتِ الْمُرُورِ عَلَى الصِّرَاطِ، وَهُوَ بَعْدَ الْحِسَابِ وَالْمِيزَانِ، فَكيْفَ بِمَا قَبْلَ ذَلِكَ؟
وَالْعَرَبُ تَقُولُ: مَا أَمْلِكُ مِن أمْرِ فُلَانٍ أَو مِن فُلَانِ شَيْئًا؛ أَيْ: لَا أقْدِرُ مِن أَمْرِهِ عَلَى شَيءٍ، وَغَايَةُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِن أمْرِ غَيْرِهِ: خِطَابُهُ وَلَو بِالسُّؤَالِ.
فَهُم فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ لَا يَمْلِكُونَ مِن اللهِ شَيْئًا وَلَا الْخِطَابَ، فَإنَّهُ لَا
(1)
رواه البخاري (806)، ومسلم (182).
يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا يَتَكَلَّمُ {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38]. [14/ 396 - 398]
* * *
سورة عبس
1589 -
عَن إبْرَاهِيمَ التيمي، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ سُئِلَ عَن قَوْلِهِ:{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31)} [عبس: 31] فَقَالَ: أيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، وَأيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي، إنْ أَنَا قُلْت فِي كِتَابِ اللهِ مَا لَا أَعْلَمُ؟ -مُنْقَطِعٌ-
(1)
.
وعَن أَنَسٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَفِي ظَهْرِ قَمِيصِهِ أرْبَعُ رِقَاعٍ فَقَرَأَ: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31)} فَقَالَ: مَا الْأبُّ؟ ثُمَّ قَالَ: إنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكَلُّفُ، فَمَا عَلَيْك أنْ لَا تَدْرِيهِ.
وَهَذَا كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمَا رضي الله عنهما إنَّمَا أرَادَا اسْتِكْشَافَ عِلْمِ كَيْفِيَّةِ الْأبِّ، وَإِلَّا فَكَوْنهُ نَبْتًا مِن الْأرْضِ ظَاهِرٌ لَا يُجْهَلُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30)} [عبس: 27 - 30].
فَأمَّا مَن تَكَلَّمَ بمَا يَعْلَمُ مِن ذَلِكَ لُغَةً وَشَرْعًا فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ؛ وَلهَذَا رُوِيَ عَن هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ أَقوَالٌ فِي التَّفْسِيرِ وَلَا مُنَافَاةَ؛ لِأنَّهُم تَكَلَّمُوا فِيمَا عَلِمُوهُ وَسَكَتُوا عَمَّا جَهِلُوه وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدِ فَإنَّهُ كَمَا يَجِبُ السُّكُوتُ عَمَّا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ؛ فَكَذَلِكَ يَجِبُ الْقَوْلُ فِيمَا سُئِلَ عَنْهُ مِمَّا يَعْلَمُهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187]. [13/ 329 - 375]
1590 -
قَوْله تَعَالَى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35)} [عبس: 34، 35] إنَّ الِابْتِدَاءَ يَكُونُ فِي كُلِّ مَقَامِ بِمَا يُنَاسِبُهُ، فَتَارَة يَقْتَضِي الِابْتِدَاءَ بِالْأَعْلَى، وَتَارَةً بِالْأدْنَى، وَهُنَا الْمُنَاسَبَةُ تَقْتَضِي الِابْتِدَاءَ بِالْأدْنَى؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ فِرَارِهِ
(1)
إبْرَاهِيم التيمي لم يسمع من أبي بَكْرٍ.
عَن أَقَارِبِهِ مُفَصَّلًا شَيْئًا بَعْدَ شَيءٍ، فَلَو ذَكَرَ الْأَقْرَبَ أَوَّلًا لَمْ يَكُن فِي ذِكْرِ الْأَبْعَدِ فَائِدَةٌ طَائِلَةٌ، فَإِنَّهُ يُعْلَمُ أنَّهُ إذَا فَرَّ مِن الْأقْرَب فَرَّ مِن الْأبْعَدِ، وَلَما حَصَلَ لِلْمُسْتَمِعِ اسْتِشْعَارُ الشِّدَّةِ مُفَصَّلَةً فَابْتُدِئَ بِنَفْيِ إلَّا بْعَدِ مُنْتَقِلًا مِنْهُ إلَى الْأَقْرَب فَقِيلَ أَوَّلًا:{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} فَعُلِمَ أَنَّ ثَمَّ شِدَّةً تُوجِبُ ذَلِكَ، وَقَد يَجُوزُ أَنْ يَفِرَّ مِن غَيْرِهِ وَيجُوزُ أَنْ لَا يَفِرَّ، فَقِيلَ:{وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35)} فَعُلِمَ أَنَّ الشدَّةَ أَكْبَرُ مِن ذَلِكَ بِحَيْثُ تُوجِبُ الْفِرَارَ مِنَ الْأبَوَيْنِ، ثُمَّ قِيلَ {وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)} [عبس: 36] فَعُلِمَ انَّهَا طَامَّةٌ بِحَيْثُ تُوجِبُ الْفِرَارَ مِمَّا لَا يَفِرُّ مِنْهُم إلَّا فِي غَايَةِ الشّدَّةِ، وَهِيَ الزَّوْجَةُ وَالْبَنُونَ، وَلَفْظُ صَاحِبَتِهِ أَحْسَنُ مِن زَوْجَتِهِ. [16/ 74 - 75]
1591 -
قَالَ تعالى فِي حَقِّ الْأَعمَى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3)} [عبس: 3] عَطَفَ عَلَيْهِ {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4)} [عبس: 4] لِوُجُوه:
أَحَدُهَا: أَنْ التَّزَكِّيَ يَحْصُلُ بِامْتِثَالِ أَمْرِ الرَّسُولِ وإن كَانَ صَاحِبُهُ لَا يَتَذَكَّرُ عُلُومًا عَنْهُ
(1)
، كَمَا قَالَ:{يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} [آل عمران: 164]، ثُمَّ قَالَ:{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران: 164]، فَالتِّلَاوَةُ عَلَيْهِم وَالتَّزْكِيَةُ عَامُّ لِجَمِيعِ الْمُؤمِنِينَ، وَتَعْلِيمُ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ خَاصٌّ بِبَعْضِهِمْ.
وَكَذَلِكَ التَّزَكِّي عَام لِكُلِّ مَن آمَنَ بِالرَّسُولِ.
وَأَمَّا التَّذَكُّرُ: فَهُوَ مُخْتَصٌّ لِمَن لَهُ عُلُومٌ يَذكرُهَا فَعَرَفَ بِتَذَكُّرِهِ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ غَيْرُهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِهِ. [16/ 185]
* * *
سورة التكوير
1592 -
قَوْلُهُ تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)} [التكوير: 8، 9] دَلِيل عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُ النَّفْسِ إلَّا بِذَنْبٍ مِنْهَا، فَلَا يَجُوزُ قَتْلُ الصَّبِيِّ
(1)
أي: لم يسمع منه قبل تذكيره.
وَالْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّ الْقَلَمَ مَرْفُوعٌ عَنْهُمَا فَلَا ذَنْبَ لَهُمَا، وَهَذ الْعِلَّةُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُشَكَّ فِيهَا فِي النَّهْيِ عَن قَتْلِ صِبْيَانِ أَهْلِ الْحَرْبِ.
وَالْآيَةُ تَقْتَضِي ذَمَّ قَتْلِ كُلِّ مَن لَا ذَنْبَ لَهُ مِن صَغِيير وَكبِيرٍ، وَسُؤَالَهَا تَوْبِيخَ قَاتِلِهَا.
وَقَوْلُهُ فِي السُّورَةِ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)} [التكوبر: 19] إلَى قَوْلِهِ: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25)} [التكوير: 25] هُوَ جِبْرِيل. [16/ 80]
1593 -
قَالَ تَعَالَى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [التكوير: 15، 16] وَالْخُنُوسُ: الِاخْتِفَاءُ، وَذَلِكَ قَبْلَ ظُهُورِهَا مِن الْمَشْرِقِ، وَالْكُنُوسُ رُجُوعُهَا مِن جِهَةِ الْمَغْرِبِ، فَمَا خَنَسَ قَبْلَ ظُهُورِهَا كَنَسَ بَعْدَ مَغِيبِهَا، جَوَارٍ حَالَ ظُهُورِهَا، تَجْرِي مِن الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ. [6/ 594]
* * *
سورة المطففين
1594 -
قال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)} [المطففين: 22 - 28]. وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَغَيْرِهِ مِن السَّلَفِ قَالُوا: يُمْزَجُ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ مَزْجًا ويشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا، وَهوَ كَمَا قَالُوا، فَإنَّهُ تَعَالَى قَالَ:{يَشْرَبُ بِهَا} [المطففين: 28] وَلَمْ يَقُلْ: يَشْرَبُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ ضَمَّنَ ذَلِكَ قَوْلَهُ: {يَشْرَبُ} [المطففين: 28] يَعْنِي: يُرْوَى بِهَا، فَإِنَّ الشَّارِبَ قَد يَشْرَبُ وَلَا يُرْوَى، فَإِذَا قِيلَ: يَشْرَبُونَ مِنْهَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى الرِّيِّ، فَإِذَا قِيلَ: يَشْرَبُونَ بِهَا كَانَ الْمَعْنَى: يَرْوُونَ بِهَا، فَالْمُقَرَّبُونَ يَرْوُونَ بِهَا فَلَا يَحْتَاجُونَ مَعَهَا إلَى مَا دُونَهَا؛ فَلِهَذَا يَشْرَبُونَ مِنْهَا صِرْفًا بِخِلَافِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، فَإنَّهَا مُزِجَتْ لَهُم مَزْجًا، وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ {مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 5، 6].
فَعِبَادُ اللهِ هُم الْمُقَرَّبُونَ الْمَذْكُورُونَ فِي تِلْكَ السُّورَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِن جِنْسِ الْعَمَلِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ.
وَأَوْليَاءُ اللهِ تَعَالَى عَلَى نَوْعَيْنِ: مُقَرَّبُونَ وَأَصْحَابُ يَمِينِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَد ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَمَلَ الْقِسْمَيْنِ فِي حَدِيثِ الْأَوْليَاءِ فَقَالَ: "يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَليًّا فَقَد آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، ويدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلنِي لَأعْطِيَنُّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ"
(1)
، فَالْأَبْرَارُ أَصْحَابُ الْيَمِينِ هُم الْمُتَقَرِّبُونَ إلَيْهِ بالْفَرَائِضِ، يَفْعَلُونَ مَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْهِم ويتْرُكُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَلَا يُكَلِّفُونَ أَنْفُسَهُم بِالْمَنْدُوبَاتِ؛ وَلَا الْكَفِّ عَن فُضولِ الْمُبَاحَاتِ.
وَأَمَّا السَّابِقُونَ الْمُقَرَّبُونَ فَتَقَرَّبُوا إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ، فَفَعَلُوا الْوَاجِبَاتِ والمستحبات وَتَرَكُوا الْمحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ، فَلَمَّا تَقَرَّبُوا إلَيْهِ بِجَمِيعِ مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِن مَحْبُوبَاتِهِمْ أَحَبَّهم الرَّبُّ حُبًّا تَامًّا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:"وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ"؛ يَعْنِي: الْحُبَّ الْمُطْلَقَ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 6، 7]؛ أَي: أَنْعَمَ عَلَيْهِم الْإِنْعَامَ الْمُطْلَقَ التَّامَّ الْمَذْكُورَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)} [النساء: 69]؛ فَهَؤُلَاءِ الْمُقَرَّبُونَ صَارَتْ الْمُبَاحَاتُ فِي حَقِّهِمْ طَاعَاتٍ يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إلَى اللهِ عزوجل، فَكَانَت أَعْمَالُهُم كُلُّهَا عِبَادَاتٍ للهِ، فَشَرِبُوا صِرْفًا كَمَا عَمِلُوا لَهُ صِرْفا، وَالْمُقْتَصِدُونَ كَانَ فِي أَعْمَالِهِمْ مَا فَعَلُوهُ لِنُفُوسِهِمْ فَلَا يُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ وَلَا
(1)
رواه البخاري (6502)، وقد أثبت لفظه.
يُثَابُونَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَشْرَبُوا صِرْفًا؛ بَل مُزِجَ لَهُم مِن شَرَابِ الْمُقَرَّبِينَ بِحَسَبِ مَا مَزَجُوهُ فِي الدُّنْيَا. [11/ 177 - 180]
* * *
سورة الأعلى
1595 -
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلهُ: {فَهَدَى (3)} [الأعلى: 3] عَامٌّ لِوُجُوهِ الْهِدَايَاتِ فِي الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ. وَقَد خَصَّصَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَشْيَاءَ مِنَ الْهِدَايَاتِ. قَالَ: "وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مثالات، وَالْعُمُومُ فِي الْآيَةِ أَصْوَبُ فِي كُلِّ تَقْدِيرٍ وفي كُلِّ هِدَايَةٍ".
وَقَد ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِي هَذِهِ الْأقْوَالَ وَغَيْرَهَا فَذَكَرَ سَبْعَةَ أَقْوَالٍ. قِيلَ: "قَدَّرَ فَهَدَى وَأَضَلَّ، فَحَذَفَ "وأَضَلَّ" لِأنَّ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَكَاهُ الزَّجَّاجُ".
قُلْت: الْقَوْلُ الَّذِي حَكاهُ الزَّجَّاجُ هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، وَهُوَ مِن جِنْسِ قَوْلِهِ:"إنْ نَفَعَتْ وَإِن لَمْ تَنْفَعْ"، وَمِن جِنْسِ قَوْلِهِ:"سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ". وَقَد تَقَدَّمَ ضَعْفُ مِثْل هَذَا، وَلهَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِن الْمُفَسِّرِينَ.
وَالْأقْوَالُ الصَّحِيحَةُ هِيَ مِن بَابِ المثالات، كَمَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ.
وَهَكَذَا كَثِيرٌ مِن تَفْسِيرِ السَّلَفِ يَذْكُرُونَ مِن النَّوْعِ مِثَالًا لِيُنَبِّهُوا بِهِ عَلَى غَيْرِهِ، أَو لِحَاجَةِ الْمُسْتَمِعِ إلَى مَعْرِفَتِهِ، أَو لِكَوْنِهِ هُوَ الَّذِي يَعْرِفُهُ.
وَمِن ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: إنَّ "هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي فُلَانٍ وَفُلَانٍ" فَبِهَذَا يُمَثّلُ بِمَن نَزَلَتْ فِيهِ -نَزَلَتْ فِيهِ أَوَّلًا وَكَانَ سَبَبَ نُزولهَا- لَا يُرِيدُونَ بِهِ أَنَّهَا أردةٌ مُخْتَصَّة بِهِ؛ كَآيةِ اللِّعَانِ وَآيَةِ الْقَذْفِ وَآيَةِ الْمُحَارَبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَا يَقُولُ مُسْلِمٌ إنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِمَن كَانَ نُزُولُهَا بِسَبَبِهِ.
وَاللَّفْظُ الْعَامُّ وَإِن قَالَ طَائِفَةٌ: إنَّهُ يُقْصَرُ عَلَى سَبَبِهِ فَمُرَادُهُم عَلَى النَّوْعِ الَّذِي هُوَ سَبَبُهُ، لَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ أَنَّهُ يَقْتَصِرُ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ مِن ذَلِكَ النَّوْعِ. [16/ 146 - 148]
1596 -
قوْلَه تعالى: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5)} [الأعلى: 4، 5] ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْمَرْعَى عَقِبَ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْخَلْقِ وَالْهُدَى لِيُبَيّنَ مَآلَ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَنَّ الدُّنْيَا هَذَا مَثَلُهَا.
وَقَد ذَكَرَ اللهُ ذَلِكَ فِي الْكَهْفِ ويُونُسَ وَالْحَدِيدِ. قَالَ تَعَالَى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)} [الكهف: 45].
وَقَد جَعَلَ إهْلَاكَ الْمُهْلَكِينَ حَصَادًا لَهُم فَقَالَ: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)} [هود: 100]. [16/ 152 - 153]
1597 -
قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)} [الأعلى: 9]: قيل: إنْ قُبِلَتِ الذِّكْرَى.
وَقيلَ: ذَكِّرْ إنْ نَفَعَتِ الذكْرَى وَإن لَمْ تَنْفَعْ. قَالَهُ طَائِفَةٌ، أَوَّلُهُم الْفَرَّاءُ، وَاتَّبَعَهُ جَمَاعَة.
قَالُوا: وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرِ الْحَالَ الثَّانِيَةَ كَقَوْلِهِ: سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ، وَأَرَادَ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ
(1)
.
وَإِنَّمَا قَالُوا هَذَا لِأَنَّهُم قَد عَلِمُوا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَبْلِيغُ جَمِيعِ الْخَلْقِ وَتَذْكِيرُهُم سَوَاءٌ آمنُوا أَو كَفَرُوا.
وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ لَهُ مَعْنًى صَحِيحٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَأَمْثَالِهِ، لَكنْ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِن مُفَسِّرِي السَّلَفِ، وَلهَذَا كَانَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَل يُنْكِرُ عَلَى الْفَرَّاءِ وَأَمْثَالِهِ مَا
(1)
وقد ردّ أمثال هذا التقدير ابن تيمية رحمه الله في غير موضع.
وقال: قَوْله: {تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] عَلَى بَابِهِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ الْبَرْدِ، وَإِنَّمَا يَقُولُ:"إنَّ الْمَعْطُوفَ مَحْذُوفٌ" هُوَ الْفَرَّاءُ وَأَمْثَالُهُ، مِمَن أنْكَرَ عَلَيْهِم الْأئِمَّةُ، حَيْث يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِمُجَرَّدِ ظَنِّهِمْ وَفَهْمِهِمْ لِنَوْعِ مِن عِلْم الْعَرَبِيَّةِ عِنْدَهُمْ .. وَكَثِيرًا لَا يَكُونُ مَا فَسَّرُوا بِهِ مُطَابِقًا، وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلى ذِكْرِ البَرْدِ. (16/ 159)
يُنْكِرُهُ وَيَقُولُ: كُنْت أَحْسَبُ الْفَرَّاءَ رَجُلًا صَالِحًا حَتَّى رَأَيْت كِتَابَهُ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي قَالُوهُ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ بِآياتٍ أُخَر
(1)
، وَهُوَ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِن أَمْرِ الرَّسولِ، فَإِنَّ اللهَ بَعَثَهُ مُبَلِّغًا وَمُذَكِّرًا لِجَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، لَكِنْ لَيْسَ هُوَ مَعْنَى هَذ الْآيَةِ؛ بَل مَعْنَى هَذِهِ يُشْبِهُ قَوْلَهُ:{فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)} [ق: 45] وَقَوْلَهُ: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45)} [النازعات: 45].
فَالْقُرْآنُ جَاءَ بِالْعَامِّ وَالْخَاصِّ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)} [البقرة: 2] وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَحَيْثُ خُصَّ بِالتَّذْكِيرِ وَالْإِنْذَارِ وَنَحْوِهِ الْمُؤمِنُونَ فَهُم مَخْصُوصُونَ بِالتَّامِّ النَّافِعِ الَّذِي سَعِدُوا بِهِ، وَحَيْثُ عَمّمَ فَالْجَمِيعُ مُشْتَرِكُونَ فِي الْإِنْذَارِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى الْخَلْقِ، سَوَاءٌ قَبِلُوا أَو لَمْ يَقْبَلُوا
(2)
.
فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا كُلُّ تَذْكِيرٍ قَد حَصَلَ بِهِ نَفْعٌ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي التَّقْيِيدِ؟
قِيلَ: بَل مِنْهُ مَا لَمْ يَنْفَعْ أَصْلًا وَهُوَ مَا لَمْ يُؤمَرْ بِهِ، وَذَلِكَ كَمَن أَخْبَرَ اللهُ
(1)
فالآيات الأخرى صريحة بوجوب التبليغ، ودعوة جميع الناس، من ينتفع بالذكرى ومن لا ينتفع.
(2)
والمعنى: أنّ التذكير التام، الذي فيه التفصيل والاستطراد، إنما يكون لمن ينتفع ويتقبل.
وعلى هذا؛ فالذي ينبغي للعالم والداعية أنْ ينظر في حال من يتكلم عندهم، فإن كانوا مؤمنين يفرحون بالتذكير، فينبغي الإكثار من تذكيرهم وإرشادهم وتعليمهم، ولكن لا يصل إلى إملالهم، وإذا كانوا غير ذلك فلْيقتصر على ما تقوم به الحجة عليهم، باختصار وعدم إطالة وإكثار.
قال الشيخ: وَهَذَا التَّامُّ النَّافِعُ يَخُصُّ بِهِ الْمُؤمِنِينَ الْمُنْتَفِعِينَ، فَهُم إذَا آمَنُوا ذَكَّرَهُم بِمَا أَنْزَلَ، وَكُلَّمَا أُنْزِلَ شَيءٌ مِن الْقُرْآنِ ذَكَّرَهُم لهِ وَيُذَكِّرُهُم بمَعَانِيهِ ويذَكِّرُهُم بِمَا نَزَلَ قَبْلَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ:{فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)} [المدثر: 49] فَإنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُذَكِّرُهُم كَمَا يُذَكِّرُ الْمُؤمِنينَ إذَا كَانَتِ الْحُجَّةُ قَد قَامَتْ عَلَيْهِم وَهُم مُعْرِضُونَ عَن التَّذْكِرَةِ لَا يَسْمَعُونَ .. اهـ. (16/ 163 - 164)
أَنَّهُ لَا يُؤمِنُ كَأبِي لَهَبٍ، فَإنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَنْزَلَ اللهُ قَوْلَهُ:{سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3)} [المسد: 3] فَإنَّهُ لَا يُخَصُّ بِتَذْكِيرٍ بَل يُعْرَضُ عَنْهُ.
وَكَذَلِكَ كُلُّ مَن لَمْ يُصْغ إلَيْهِ وَلَمْ يَسْتَمِعْ لِقَوْلِهِ فَإِنَّهُ يُعْرَضُ عَنْهُ، كَمَا قَالَ:{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54)} [الذاريات: 54] ثُمَّ قَالَ: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)} [الذاريات: 55]، فَهُوَ إذَا بَلَّغَ قَوْمًا الرّسَالَةَ فَقَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِم، ثُمَّ امْتَنَعُوا مِن سَمَاعِ كَلَامِهِ أَعْرَضَ عَنْهُمْ، فَإِنَ الذِّكْرَى حِينئِذٍ لَا تَنْفَعُ أَحَدًا.
وَكَذَلِكَ مَن أَظْهَرَ أنَّ الْحُجَّةَ قَامَتْ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا يَهْتَدِي فَإنَّهُ لَا يُكَرَّرُ التَّبْلِيغَ عَلَيْهِ.
فَيَكُونُ مَأمُورًا أَنْ يُذَكِّرَ الْمُنْتَفِعِينَ بِالذِّكْرَى تَذْكِيرًا يَخُصُّهُم بِهِ، غَيْرَ التَّبْلِيغِ الْعَامِّ الَّذِي تَقُوم بِهِ الْحُجَّةُ. [16/ 154 - 164]
1598 -
قَوْلُهُ تعالى: {وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12)} [الأعلى:11، 12] فِيهَا الرَّدُّ عَلَى طَائِفَتَيْنِ:
أ - عَلَى الْخَوَارجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ أَهْلَ التَّوْحِيدِ يُخَلَّدُونَ فِيهَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ حُجَّة عَلَيْهِمْ.
ب- وَعَلَى مَن حُكِيَ عَنْهُ مِن غُلَاةِ الْمُرْجِئَةِ أَنَّهُ لَا يَدْخلُ النَّارَ مِن أَهْلِ التَّوْحِيدِ أَحَدٌ.
وَقَد أُجِيبُوا بِجَوَابَيْنِ:
أَحَدِهِمَا: جَوَابُ طَائِفَةٍ -مِنْهُم الزجَّاجُ- قَالُوا: هَذِهِ نَارٌ مَخْصُوصَةٌ.
لَكِنَّ قَوْلَهُ بَعْدَهَا: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17)} [الليل: 17] لَا يَبْقَى فِيهِ كَبِيرُ وَعْدٍ، فَإِنَّهُ إذَا جُنِّبَ تِلْكَ النَّارَ جَازَ أَنْ يَدْخُلَ غَيْرَهَا.
وَجَوَابُ آخَرِينَ قَالُوا: لَا يَصْلَوْنَهَا صَلْيَ خُلُودٍ.
وَهَذَا أَقْرَبُ.
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الصَّلْيَ هُنَا هُوَ الصَّلْيُ الْمُطْلَقُ، وَهُوَ الْمُكْثُ فِيهَا وَالْخُلُودُ عَلَى وَجْهٍ يَصِلُ الْعَذَابُ إلَيْهِم دَائِمًا.
فَأَمَّا مَن دَخَلَ وَخَرَجَ فَإِنَّهُ نَوْعٌ مِن الصَّلْي لَيْس هُوَ الصَّلْيُ الْمُطْلَقُ، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ قَد مَاتَ فِيهَا، وَالنَّارُ لَمْ تَأكُلْهُ كُلَّهُ، فَإِنَّهُ قَد ثَبَتَ أَنَّهَا لَا تَأكُلُ مَوَاضِعَ السُّجُودِ وَالله أَعْلَمُ. [16/ 196 - 197]
* * *
سورة الغاشية
1599 -
قَوْلُهُ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5)} [الغاشية: 1 - 5] فِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَعْنَى: وُجُوهٌ فِي الدُّنْيَا خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَارًا حَامِيَةً.
والْقَوْل الثانِي: أَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَخْشَعُ؛ أَيْ: تَذِلُّ وَتَعْمَلُ وَتَنْصَبُ.
قُلْت: هَذَا هُوَ الْحَقُّ لِوُجُوهِ
(1)
:
أَحَذهَما: أَنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: يَتَعَلَّقُ الظَّرْفُ
(2)
بِمَا يَلِيهِ، أَيْ: وُجُوهٌ يَوْمَ الْغَاشِيَةِ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ صَالِيَةٌ.
وَعَلَى الْأوَّلِ: لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِقَوْلِهِ: {تَصْلَى} ، ويكُونُ قَوْلُهُ:{خَاشِعَةٌ} صِفَةً لِلْوُجُوهِ قَد فُصِلَ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ بِأَجْنَبِيِّ مُتَعَلّقٍ بِصِفَةٍ أُخْرَى مُتَأَخِّرَةٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وُجُوهٌ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ يَوْمَئِذٍ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً.
وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأخِيرُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ؛ فَالْأَصْلُ إقْرَارُ الْكَلَامِ عَلَى نَظْمِهِ وَتَرْتِيبِهِ لا تَغْيِيرُ تَرْتِيبِهِ.
(1)
قال الشيخ في موضع آخر: وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ مِن الْقَوْلَيْنِ بِلَا ريبٍ. اهـ. (22/ 558)
(2)
أي: يومئذ.
ثُمَّ إنَّمَا يَجُوزُ فِيهِ التَّقْدِيمُ وَالتَّأخِيرُ مَعَ الْقَرِينَةِ، أَمَّا مَع اللَّبْسِ فَلَا يَجُوزُ؛ لِأنَّهُ يَلْتَبِسُ عَلَى الْمُخَاطَبِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَا قَرِينَة تَدُلُّ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأخِيرِ؛ بَلِ الْقَرِينَة تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، فَإِرَادَةُ التَّقْدِيمِ وَالتَّأخِيرِ بِمِثْل هَذَا الْخِطَابِ خِلَافُ الْبَيَانِ، وَأَمْرُ الْمُخَاطَبِ بِفَهْمِهِ تَكْلِيفٌ لِمَا لَا يُطَاقُ
(1)
.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اللهَ قَد ذَكَرَ وُجُوهَ الْأَشْقِيَاءِ وَوُجُوهَ السُّعَدَاءِ فِي السُّورَةِ فَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10)} [الغاشية: 8 - 10] وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا وَصَفَهَا بِالنِّعْمَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا فِي الدُّنْيَا؛ إذ هَذَا لَيْسَ بِمَدْحٍ، فَالْوَاجِبُ تَشَابُهُ الْكَلَامِ وَتَنَاظُز الْقِسْمَيْنِ، لَا اخْتِلَافُهُمَا، وَحِينئِذٍ فَيَكونُ الأشْقِيَاءُ وُصِفَتْ وُجُوهُهُم بِحَالِهَا فِي الْآخِرَةِ. [16/ 217 - 218]
* * *
سورة الشمس
1600 -
قَوْله تَعَالَى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4)} [الشمس: 1 - 4] ضَمِيرُ التَّأنِيثِ فِي {جَلَّاهَا (3)} و {يَغْشَاهَا (4)} لَمْ يَتَقَدَّمْ مَا يَعُودُ عَلَيْهِ إلَّا الشَّمْسُ، فَيَقْتَضِي أَنَّ النَّهَارَ يُجَلِّي الشَّمْسَ، وَأَنَّ اللَّيْلَ يَغْشَاهَا، والتَّجْلِيَةُ الْكَشْفُ وَالْإِظْهَارُ، والْغَشَيَانُ التَّغْطِيَةُ وَاللَّبْسُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ظَرْفَا الزَّمَانِ، وَالْفِعْلُ إذَا أُضِيفَ إلَى الزَّمَانِ فَقِيلَ: هَذَا الزَّمَان أَو هَذَا الْيَوْمُ يُبْرِدُ، أَو يُبَرِّدُ، أَو يُنْبِتُ الْأَرْضَ وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ فَالْمَقْصُودُ: أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِيهِ، كَمَا يُوصَفُ الزَّمَانُ بِأَنَّهُ عَصِيبٌ وَشَدِيدٌ وَنَحْسٌ وَبَارِدٌ وَحَارٌّ وَطَيِّبٌ وَمَكْرُوهٌ، وَالْمُرَادُ وَصْفُ مَا فِيهِ.
فَكَوْنُ الشَّيءِ فَاعِلًا وَمَوْصُوفًا هُوَ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ، كُلُّ شَيءٍ بِحَسَبِهِ.
قِيلَ: إنَّ "مَا" مَصْدَرَّيةٌ، وَالتَّقْدِير: وَالسَّمَاءِ وَبِنَاءِ اللهِ إيَّاهَا، وَالْأَرْضِ
(1)
كلام في غاية الصواب والحق، والواجب على المسلم أنْ يستصحب هذه القاعدة في جميع النصوص الشرعية وغيرها.
وَطَحْوِ اللهِ إيَّاهَا، وَنَفْسٍ وَتَسْوِيَةِ اللهِ إيَّاهَا، لَا بُدَّ مِن ذِكْرِ الْفَاعِلِ فِي الْجُمْلَةِ، لَا يَصْلُحُ أنْ يُقَدَّرَ الْمَصْدَرُ هُنَا مُضَافًا إلَى الْفِعْلِ فَقَطْ فَيُقَالُ:"وَبِنَائِهَا".
وَالْقَوْلُ الثَّاني: أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: الَّذِي بَنَاهَا، وَاَلَّذِي طَحَاهَا.
و"مَا" فِيهَا عُمومٌ وَإِجْمَالٌ، يَصْلُحُ لِمَا لَا يُعْلَمُ، وَلصِفَاتِ مَن يَعْلَمُ
(1)
؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)} [الكافرون: 2، 3] وَقَولِهِ {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3].
وَهَذَا الْمَعْنَى كَمَا أَنَّهُ ظَاهِرُ الْكَلَامِ وَأَصْلُة هُوَ أَكْمَلُ فِي الْمَعْنَى أَيْضًا، فَإِنَّ الْقَسَمَ بِالْفَاعِلِ يَتَضَمَّنُ الْإِقْسَامَ بِفِعْلِهِ، بِخِلَافِ الْإِقْسَامِ بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ.
فَأَقْسَمَ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَآثَارِهَا وَأَفْعَالِهَا.
ثُمَّ أَقْسَمَ بِالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَبِالنَّفْسِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَهَا فِعْلًا، فَذَكَرَ فَاعِلَهَا فَقَالَ:{وَمَا بَنَاهَا (5)} {وَمَا طَحَاهَا (6)} {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} ، فَلَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُقْسِمَ بِفِعْلِ النَّفْسِ؛ لِأَنَهَا تَفْعَلُ الْبِرَّ وَالْفُجُورَ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يُقْسِمُ إلَّا بِمَا هُوَ مُعَظَّمٌ مِن مَخْلُوقَاتِهِ.
وَأَمَّا السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ فَلَيْسَ لَهُمَا فِعْلٌ ظَاهِرٌ يُعَظَّمُ فِي النُّفُوسِ حَتَّى يُقْسِمَ بِهَا إلا مَا يَظْهَرُ مِن الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
وَقَد قِيلَ فِي قَوْلِهِ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس: 9، 10] إنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إلَى اللهِ؛ أَيْ: "قَد أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا اللهُ وَقَد خَابَ مَن دَسَّاهَا الله" وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ، بَعِيدٌ عَن نَهْجِ الْبَيَانِ الَّذِي أُلِفَ عَلَيْهِ الْقُرْآن. [16/ 226 - 231]
1601 -
قَالَ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)} وقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)} [الأعلى: 14] قَالَ قتادة وَابْنُ عُيَيْنَة وَغَيْرُهُمَا: قَد أَفْلَحَ مَن زَكَّى نَفْسَهُ بِطَاعَةِ اللهِ وَصَالِحِ الْأَعْمَالِ.
(1)
يعني: أنَّ "ما" تدخل على العاقل وعلى غير العاقل.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاج: قَد أَفْلَحَتْ نَفْسٌ زَكَّاهَا اللهُ وَقَد خَابَتْ نَفْسٌ دَسَّاهَا اللهُ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ الوالبي عَن ابْنِ عَبَّاس وَهُوَ مُنْقَطِعٌ، وَلَيْسَ هُوَ مُرَادَ الْآيَةِ؛ بَل الْمُوَادُ بِهَا الْأَوَّلُ قَطْعًا لَفْظًا وَمَعْنًى. [10/ 625]
* * *
سورة التين
1602 -
فِي قَوْلِهِ: {أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)} [التين: 5] قَوْلَانِ: قِيلَ: الْهَرَمُ، وَقيلَ: الْعَذَابُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ قَطْعًا، فَإِنَّهُ جَعَلَهُ فِي أَسْفَلِ سَافِلِينَ إلَّا الْمُؤمِنِينَ.
ولهذا قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِع عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ، فَإنَّ الْمُنْقَطِعَ لَا يَكُونُ فِي الْمُوجَبِ
(1)
، وَلَو جَازَ هَذَا لَجَازَ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَدَّعيَ فِي أَيِّ اسْتِثْنَاءٍ شَاءَ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ.
وَأَيْضًا: فَالْمُنْقَطِعُ لَا يَكونُ الثَّانِيَ مِنْهُ بَعْضَ الْأَوَّلِ، وَالْمُؤمِنُونَ بَعْضُ نَوْعِ الْإِنْسَانِ.
وَأيْضًا: فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ بِأقْسَامٍ عَظِيمَةٍ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأمِينِ، وَهِيَ الْمَوَاضِعُ الَّتِي جَاءَ مِنْهَا مُحَمَّد وَالْمَسِيحُ وَمُوسَى، وَأَرْسَلَ اللهُ بِهَا هَؤُلَاءِ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَهَذَا الْإِقْسَامُ لَا
(1)
الاستثناء: هو إخراج اسم ما بعد أداة الاستثناء من حكم ما قبلها؛ أي: إخراج المستثنى من حكم المستثنى منه.
وينقسم إلى قسمين: الاستثناء التام، والاستثناء المفرغ.
1 -
الاستثناء التام: هو الاستثناء الذي يكون فيه المستثنى منه مذكورًا في الجملة، ويقسم إلى:
أ- التام المتصل: وهو الذي يكون فيه المستثنى من جنس المستثنى منه.
مثال: قام التلاميذ إلا زيدًا.
ب- التام المنقطع: هو الذي يكون فيه المستثنى ليس من جنس المستثنى منه، مثاله: قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ} [الحجر: 30، 31]، وإبليس: ليس من جنس الملائكة.
2 -
الاستثناء المفرغ: ويكون فيه الاستثناء ناقصًا منفيًا أو شبه منفي (نهي، استفهام).
يَكُونُ عَلَى مُجَرَّدِ الْهَرَمِ الَّذِي يَعْرِفُهُ كُل أحَدٍ؛ بَل عَلَى الْأمُورِ الْغَائِبَةِ الَّتِي تُؤَكَّدُ بِالْأقْسَامِ، فَإنَّ إقْسَامَ اللهِ هُوَ عَلَى أَنْبَاءِ الْغَيْبِ.
فَتَضَمَّنَت السُّورَةُ بَيَانَ مَا بُعِثَ بِهِ هَؤُلَاءِ الرُّسُلُ الَّذِينَ أَقْسَمَ بأمَاكِنِهِمْ، وَالْأِقْسَامُ بِمَوَاضِعِ مِحَنِهِمْ تَعْظِيمٌ لَهُمْ، فَإن مَوْضِعَ الْإِنْسَانِ إذَا عَظُمَ لِأجْلِهِ كَانَ هُوَ أحَقَّ بِالتَّعْظِيمِ، وَلهَذَا يُقَالُ فِي الْمُكَاتبَاتِ: إلَى الْمَجْلِسِ وَالْمَقَرِّ وَنَحْو ذَلِكَ السَّامِي وَالْعَالِي.
وَفي قَوْلِهِ: {يُكَذِّبُكَ} [التين: 7] قَوْلَانِ. قيلَ:
هُوَ خِطَابٌ لِلإنْسَانِ.
وَالثَّاني: أنَّهُ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ وَهَذَا أَظْهَرُ.
قَوْلَهُ: {يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)} [التين: 7]؛ أيْ: يَجْعَلُك كَاذِبًا هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِن لُغَةِ الْعَرَبِ، فَإنَّ اسْتِعْمَالَ "كَذَّبَ غَيْرَهُ؛ أيْ: نَسَبَهُ إلَى الْكَذِبِ وَجَعَلَهُ كَاذِبًا" مَشْهُورٌ
(1)
.
وَعِبَارَةُ آخَرِينَ: فَمَا يَجْعَلُك كَذابًا.
وغَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي لغَةِ الْعَرَبِ أَنْ يَقُول: "كَذَّبَك؛ أيْ: جَعَلَك مُكَذَّبًا" بَل "كَذَّبَك": "جَعَلَك كَذَّابًا".
وَلهَذَا كَانَ عُلَمَاءُ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى الْقَوْلِ الْأوَّلِ.
وَالصَّوَابُ: مَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالْأخْفَشُ وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ أبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطبري وَغَيْرُهُ مِن الْعُلَمَاءِ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ أبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَن الْفَرَّاءِ فَقَالَ: إَّنهُ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالْمَعْنَى: فَمَن يَقْدِرُ عَلَى تَكْذِيبِك بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ بَعْدَ مَا تبَيَّنَ لَهُ أَنَّا خَلَقْنَا الْإنْسَانَ عَلَى مَا وَصفْنَا، قَالَهُ الْفَرَّاءُ.
(1)
والمعنى: فلا يحق لأحدٍ أن ينسبك إلى الكذب بعد هذا البيان.
وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: {فَمَا} [التين: 7] وَصْفٌ لِلْأَشْخَاصِ، وَلَمْ يَقُلْ "فَمَنْ" لِأَنَّ "مَا" يُرَادُ بِهِ الصِّفَاتُ دُونَ الْأَعْيَانِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ.
وَقَد يُقَالُ: إنَّ هَذَا تَحْقِيرٌ لِشَأنِهِ وَتَصْغِيرٌ لِقَدْرِهِ لِجَهْلِهِ وَظُلْمِهِ، كَمَا يُقَالُ:"مَن فُلَانٌ؟ ".
لَكِنَّهُ ذَكَرَهُ بِصِيغَةِ "مَا" فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى صِفَتِهِ وَهِيَ الْمَقْصُودَةُ إذ لَا غَرَضَ فِي عَيْنِهِ؛ كَأنَّهُ قِيلَ: "فَأَيُّ صِنْفٍ وَأَيُّ جَاهِلٍ يُكَذِّبُك بَعْدُ بِالدِّينِ؟ فَإِنَّهُ مِن الَّذِينَ يردون إلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ".
وَقَوْلُهُ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)} [التين: 8] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْحَاكِمُ بَيْنَ الْمُكَذِّبِ بِالدِّينِ وَالْمُؤمِنِ بِهِ، وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ لَهُ سبحانه وتعالى. [16/ 279 - 290]
* * *
سورة العلق
1603 -
إِنَّ أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ مِن الْقُرْآنِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَد قِيلَ: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} [المدثر: 1] رُوِيَ ذَلِكَ عَن جَابِرٍ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. فَإِنَّ قَوْلَهُ:{اقْرَأْ} أَمْرٌ بِالْقِرَاءَةِ لَا بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، وَبِذَلِكَ صَارَ نَبِيًّا، وَقَوْلُهُ:{قُمْ فَأَنْذِرْ (2)} [المدثر: 2] أَمْرٌ بِالْإِنْذَارِ، وَبِذَلِكَ صَارَ رَسُولًا مُنْذِرًا. [16/ 254 - 255]
1604 -
قَوْلُهُ تعالى: {اقْرَأْ} وَإِن كَانَ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوَّلًا، فَهُوَ خِطَابٌ لِكُلِّ أَحَدٍ.
وَبِهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس: 94] يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ هُوَ مُخَاطَبًا وَمُرَادًا بِالْخِطَابِ؛ بَل هَذَا
صَرِيحُ اللَّفْظِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْخِطَابَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ، وَلِأَنَّه لَيْسَ فِي الْخِطَابِ أنَّهُ أمِرَ بالسُّؤَال مُطْلَقًا؛ بَل أُمِرَ بِهِ إنْ كَانَ عِنْدَهُ شَكٌّ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ شَكٌّ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ النَّظَرُ أَوَّلَ وَاجِبٍ؛ بَل أَوَّلُ مَا أوْجَبَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ، لَمْ يَقُلْ: انْظُرْ وَاسْتَدِلَّ حَتَّى تَعْرِفَ الْخَالِقَ، وَكَذَلِكَ هُوَ أَوَّلُ مَا بَلَّغَ هَذِهِ السُّورَةَ، فَكَانَ الْمُبَلَّغُونَ مُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَبْلَ كُلِّ شَيءٍ، وَلَمْ يُؤْمَرُوا فِيهَا بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. [16/ 324 - 328]
1605 -
أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أنَّهُ الْأَكْرَمُ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ وَالتَّعْرِيفِ لَهَا {وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)} [العلق: 3]، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْأَكْرَمُ وَحْدَهُ، بِخِلَافِ مَا لَو قَالَ:"ورَبُّك أَكْرَمُ"، فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ. [16/ 295]
وَقَوْلُهُ: {الْأَكْرَمُ} يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ، وَلَمْ يَقُلْ "الْأَكْرَمُ مِن كَذَا" بَل أَطْلَقَ الِاسْمَ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ الْأَكْرَمُ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِغَايَةِ الْكَرَمِ الَّذِي لَا شَيءَ فَوْقَهُ وَلَا نَقْصَ فِيهِ.
1606 -
قَوْلُهُ تعالى: {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)} [العلق: 4] يَدْخُلُ فِيهِ تَعْلِيمُ الْمَلَائِكَةِ الْكَاتِبِينَ، ويدْخُلُ فِيهِ تَعْلِيمُ كَتْبِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ.
فَعَلَّمَ بِالْقَلَمِ أَنْ يُكْتبَ كَلَامُهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ كَالتَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ؛ بَل هُوَ كَتَبَ التَّوْرَاةَ لِمُوسَى.
وَكَوْنُ مُحَمَّدٍ كَانَ نَبِيًّا أُمِّيًّا هُوَ مِن تَمَام كَوْنِ مَا أَتَى بِهِ مُعْجِزًا خَارِقًا لِلْعَادَةِ، وَمِن تَمَامِ بَيَانِ أَنَّ تَعْلِيمَهُ أَعْظَمُ مِن كُلَّ تَعْلِيمٍ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)} [العنكبوت: 48]؛ فَغَيْرُهُ يُعَلِّمُ مَا كَتَبَهُ غَيْرُهُ، وَهُوَ عَلَّمَ النَّاس مَا يَكْتبونَهُ، وَعَلَّمَهُ الله ذَلِكَ بِمَا أَوْحَاهُ إلَيْهِ.
وَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ هُوَ آيةٌ وَبُرْهَانٌ عَلَى نبُوَّتِهِ؛ فَإنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ
(1)
. [16/ 266]
* * *
سورة البينة
1607 -
قَوْلُه تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} [البينة: 1]؛ أَيْ: لَمْ يَكُونُوا مَتْرُوكِينَ بِاخْتِيَارِ أَنْفُسِهِمْ، يَفْعَلُونَ مَا يَهْوَوْنَهُ، لَا حَجْرَ عَلَيْهِمْ، كَمَا أَنَّ الْمُنْفَكَّ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ، وَهُوَ لَمْ يَقُلْ "مَفْكُوكِينَ"؛ بَل قَالَ:{مُنْفَكِّينَ}
(2)
، وَهَذَا أَحْسَنُ؛ فَإنَّهُ نَفْيٌ لِفِعْلِهِمْ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُم لَمْ يَكُونُوا مَتْرُوكِينَ لَا يُؤْمَرُونَ وَلَا يُنْهَوْنَ وَلَا تُرْسَلُ إلَيْهِم رُسُلٌ؛ بَل يَفْعَلُونَ مَا شَاءُوا مِمَّا تَهْوَاهُ الْأَنْفُسُ.
وَالْمَعْنَى: أنَّ اللهَ مَا يُخَلِّيهِمْ وَلَا يَتْرُكُهُمْ، فَهُوَ لَا يَفُكُّهُم حَتَّى يَبْعَثَ إلَيْهِم رَسُولًا
(3)
، وَهَذَا كَقَوْلِهِ:{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)} [القيامة: 36] لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى؛ أَيْ: أَيَظُنُّ انَّ هَذَا يَكُونُ؟ هَذَا مَا لَا يَكُونُ أَلْبَتَّةَ؛ بَل لَا بُدَّ أَنْ يُؤْمَرَ وَيُنْهَى.
وَقَرِيبٌ مِن ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5)} [الزخرف: 5]، وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ؛ أَيْ: لِأَجْلِ إسْرَافِكُمْ نَتْرُكُ إنْزَالَ الذّكْرِ وَنُعْرِضُ عَن إرْسَالِ الرُّسُلِ.
(1)
وقد تحدى به العرب قاطبة فلم يستطيعوا أن يأتوا بسورة مثله، ومع ذلك فهو لا يقرأ ولا يكتب، وهذا أعظم البراهين على أن الذي تحداهم به ليس من عنده ولا من عند مخلوق.
(2)
قال الشيخ: هَذَا اللفْظ مُسْتَعْمَل فِيمَا يُلْزَمُ بِهِ الإنْسَانُ -يَعْني: اخْتِيَارهُ- ويُقْهَرُ عَلَيْهِ إذَا تَخَلَّصَ مِنْهُ .. فَفَكُّهُ: فَصْلُهُ عَمَّن يَقْهَرُهُ ويَسْتَوْلِي عَلَيْهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ. وَيُقَالُ: فُلَانٌ مَا يَفُكُّ فُلَانًا حَتَى يُوقِعَهُ فِي كَذَا وَكَذَا. (16/ 494)
(3)
هذا هو الذي رجحه الشيخ وقال: هو أصح الأقوال، وقد اختلف المفسرون في معناها على أقوال. اهـ.
ولا يخفى أن تفسير الشيخ هو الظاهر من الآية.
وَإِذَا قِيلَ: إنَّ الْآيَةَ تَتَضَمَّن بَعْدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْآخَرِ، وَهُوَ أَنَّهُم لَمْ يَكُونُوا لِيَهْتَدُوا ويعْرِفُوا الْحَقَّ ويُؤْمِنُوا حَتَّى تَأْتِيَهُم الْبَيِّنَةُ، إذ لَا طَرِيقَ لَهُم إلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ إلَّا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنَ اللهِ أَيْضًا، أَو لَمْ يَكُونُوا مُنْتَهِينَ مُتَّعِظِينَ وَاِن عَرَفُوا الْحَقَّ حَتَّى يَأتِيَهُم مِنَ اللهِ مَن يُذَكرُهُمْ.
فَهَذَا الْمَعْنَى. لَا يُنَاقِضُ ذَاكَ.
بِخِلَافِ قَوْلِ مَن قَالَ: لَمْ يَكُنِ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْل الْكِتَابِ تَارِكِينَ لِمَعْرِفَةِ محَمَّدٍ وَلذِكْرِهِ، وَلَمْ يَكُونُوا مُتَفَرِّقِينَ فِيهِ؛ بَل مُتَّفِقِينَ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ حَتَّى جَاءَتْهُم الْبَيِّنةُ فَتَرَكُوا الْإِيمَانَ بِهِ وَتَفَرَّقُوا: فَإِنَّ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ قَطْعًا. [16/ 495 - 505]
* * *
سورة التكاثر
1608 -
سُورَةُ التَّكَاثُرِ: قِيلَ فِيهَا: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)} [التكاثر: 2]: تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الزَّائِرَ لَا بُدَّ أَنْ يَنْتَقِلَ عَن مَزَارِهِ، فَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى الْبَعْثِ.
ثُمَّ قَالَ: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)} [التكاثر: 3، 4] فَهَذَا خَبَرٌ عَن عِلْمِهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
ثُمَّ قَالَ: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5)} [التكاثر: 5] فَهَذَا إشَارَةٌ إلَى عِلْمِهِمْ فِي الْحَالِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ؛ أَيْ: لَكَانَ الْأَمْرُ فَوْقَ الْوَصْفِ، وَلَعَلِمْتُمْ أَمْرًا عَظِيمًا، وَلَأَلْهَاكُمْ عَمَّا أَلْهَاكُمْ، فَإنَّ الِالْتِهَاءَ بِالتَّكَاثُرِ إنَّمَا وَقَعَ مِن الْغَفْلَةِ وَعَدَمِ الْيَقِينِ. وَحَذْفُ جَوَابِ (لَوْ) كثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ؛ تَعْظِيمًا لَهُ وَتَفْخِيمًا، فَإِنَّهُ أَعْظَم مِن أَنْ يُوصَفَ أَو يُتَصوَّرَ بِسَمَاعِ لَفْظٍ، إذ الْمُخْبرُ لَيْسَ كَالْمُعَايِنِ، وَلهَذَا أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْقَسَمِ عَلَى الرُّؤْيَةِ الَّتِي هِيَ عَيْنُ الْيَقِينِ، الَّتِي هِيَ فَوْقَ الْخَبَرِ الَّذِي هُوَ عِلْمُ الْيَقِينِ، فَقَالَ:{لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)} [التكاثر: 6، 7] وَهَذَا الْكَلَام جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذوفٍ مُسْتَقْبَلٍ، مَعَ كَوْنِ جَوَابِ (لَوْ) مَحْذُوفًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَفِي الْآخَرِ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِلَوْ.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ الْمَعْنَى: وَاللهِ لَو تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِين لترون الْجَحِيمَ بِقُلُوبِكُمْ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ، وَمِن الْمُفَسِّرِينَ مَن لَمْ يَذْكُرْ سِوَاهُ، وَهُوَ الَّذِي أَثَرُوهُ عَن مُتَقَدِّمِيهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ وَأَنَّهُ الْحَقُّ أَنَّ قَوْلَهُ:{ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا} {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ} [التكاثر: 8] مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلُة، فَيَكُونُ دَاخِلًا فِي حَيِّزِهِ، فَلَو كَانَ الْأوَّلُ مُعَلَّقًا بِالشَّرْطِ لَكَانَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ كَذَلِكَ وَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ رُؤْيتَهَا عَيْنُ الْيَقِينِ وَالْمَسْأَلَة عَن النَّعِيمِ لَيْسَ مُعَلَّقًا بِأنْ يَعْلَمُوهَا فِي الدُّنْيَا عِلْمَ الْيَقِينِ.
وَأَيْضًا: فَتَفْسِيرُ الرُّؤْيةِ الْمُطْلَقَةِ بِرُؤيةِ الْقَلْبِ لَيْسَ هُوَ الْمَعْرُوفُ مِن كَلَامِ الْعَرَبِ. [16/ 517 - 519]
* * *
سورة الهمزة
1609 -
قَوْلُهُ تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)} [الهمزة: 1] هُوَ الطَّعَّانُ الْعَيَّابُ، كَمَا قَالَ:{هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)} [القلم: 11] وَقَالَ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 58] وَالْهَمْزُ: أَشَدُّ؛ لِأَنَّ الْهَمْزَ الدَّفْعُ بِشِدَّة.
فَالْهَمْزُ مِثْلُ الطَّعْنِ لَفْظًا وَمَعْنًى.
وَاللَّمْزُ كَالذَّمِّ وَالْعَيْبِ، وَإِنَّمَا ذَمَّ مَن يُكْثِرُ الْهَمْزَ وَاللَّمْزَ، فَإِنَّ الْهُمَزَةَ وَاللُّمَزَةَ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ ذَلِكَ كَثِيرًا.
وَقَوْلُهُ: {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2)} [الهمزة: 2] وَصَفَهُ بِالطَّعْنِ فِي النَّاسِ وَالْعَيْبِ لَهُمْ، وَبِجَمْعِ الْمَالِ وَتَعْدِيدِهِ، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ:{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} [23، 24] فِي "الْحَدِيدِ" وَنَظِيرُهَا فِي الْمَعْنَى فِي "النِّسَاءِ" فَإِنَّ الْهُمَزَةَ اللُّمَزَةَ يُشْبِهُ الْمُخْتَالَ الْفَخُورَ، وَالْجَمَّاع الْمُحْصِي نَظِيرُ الْبَخِيلِ. وَكَذَلِكَ نَظِيرُهُمَا قَوْلُهُ:{هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)} [القلم: 11، 12]، وَصَفَهُ بِالْكِبْرِ وَالْبُخْلِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8)} [الليل: 8] فَهَذِهِ خَمْسُ مَوَاضِعَ، وَذَلِكَ نَاشِئٌ عَن حُبِّ الشَّرَفِ وَالْمَالِ، فَإنَّ مَحَبَّةَ الشَّرَفِ تُحْمَلُ عَلَى انْتِقَاصِ غَيْرِهِ بِالْهَمْزِ وَاللَّمْزِ وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ
(1)
، وَمَحَبَّةُ الْمَالِ تحْمَلُ عَلَى الْبُخْلِ
(2)
.
وَضِدُّ ذَلِكَ: مَن أَعْطَى فَلَمْ يَبْخَلْ، وَاتَّقَى فَلَمْ يَهْمِزْ وَلَمْ يَلْمِزْ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُعْطِيَ نَفَعَ النَاسَ، وَالْمُتَّقِيَ لَمْ يَضُرَّهُمْ، فَنَفَعَ وَلَمْ يَضُرَّ، وَأَمَّا الْمُخْتَالُ الْفَخُورُ الْبَخِيلُ فَإنَّهُ بِبُخْلِهِ مَنَعَهُم الْخَيْرَ، وَبِفَخْرِهِ سَامَهُم الضُّرَّ، فَضَرَّهُم وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ. [16/ 521 - 522]
* * *
سورة الكوثر
1610 -
سُورَةُ الْكَوْثَرِ: مَا أَجَلَّهَا مِن سُورَةٍ وَأَغْزَرُ فَوَائِدِهَا عَلَى اخْتِصَارِهَا، وَحَقِيقَةُ مَعْنَاهَا تُعْلَمُ مِن آخِرِهَا، فَإنَّهُ سبحانه وتعالى بَتَرَ شَانِئَ رَسُولِهِ مِن كُلِّ خَيْرٍ، فَيَبْتُرُ ذِكْرَهُ وَأَهْلَهُ وَمَالَهُ، فَيَخْسَرُ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، وَيبْتُرُ حَيَاتَهُ فَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا وَلَا يَتَزَوَّدُ فِيهَا صَالِحًا لِمَعَادِهِ، ويبْتُرُ قَلْبَهُ فَلَا يَعِي الْخَيْرَ وَلَا يُؤَهِّلُهُ لِمَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَالْإِيمَانِ بِرُسلِهِ، ويبْتُرُ أعْمَالَهُ فَلَا يَسْتَعْمِلُهُا
(3)
فِي طَاعَةٍ، وَيبْتُرُهُ مِنَ الْأنْصَارِ فَلَا يَجِدُ لَهُ نَاصِرًا وَلَا عَوْنًا، وَيبْتُرُهُ مِن جَمِيعِ الْقُرَبِ وَالْأعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَلَا يَذُوقُ لَهَا طَعْمًا وَلَا يَجِدُ لَهَا حَلَاوَةً، وَإِن بَاشَرَهَا بِظَاهِرِهِ فَقَلْبُهُ شَارِدٌ عَنْهَا.
وَهَذَا جَزَاءُ مَن شَنَأَ بَعْضَ مَا جَاءَ بهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَرَدَّهُ لِأَجْلِ هَوَاهُ أَو مَتْبُوعِهِ أَو شَيْخِهِ أو أمِيرِهِ أَو كَبِيرِهِ؛ كَمَن شَنَأ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَتَأوَّلَهَا عَلَى غَيْرِ مُرَادِ اللهِ وَرَسُولِهِ مِنْهَا، أَو حَمَلَهَا عَلَى مَا يُوَافِقُ مَذْهَبَهُ وَمَذْهَبَ طَائِفَتِهِ.
(1)
وعلاج هذا المرض بإدراك خطر هذه الأفعال وأن الله يمقتها.
(2)
وعلاج هذا المرض بإدراك أن المال وديعة من الله عند الإنسان ليختبره.
(3)
في الأصل: (يَسْتَعْمِلُهُ)، ولعل المثبت هو الصواب.
ومن أَقْوَى عَلَامَاتِ شَنَاءَتِهِ لَهَا وَكَرَاهَتِهِ لَهَا: أَنّهُ إذَا سَمِعَهَا حِينَ يَسْتَدِلُّ بِهَا أهْلُ السُّنَّةِ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِن الْحَقِّ اشْمَأزَّ مِن ذَلِكَ وَحَادَ وَنَفَرَ عَن ذَلِكَ لِمَا فِي قَلْبِهِ مِنَ الْبُغْضِ لَهَا وَالنُّفْرَةِ عَنْهَا، فَأَيُّ شَانِئٍ لِلرَّسُولِ أَعْظَمُ مِن هَذَا؟
وَكَذَا مِن آثَرَ كَلَامَ النَّاسِ وَعُلُومَهُم عَلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، فَلَوْلَا أَنَّه شَانِئٌ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مَا فَعَلَ ذَلِكَ، حَتَّى إنَّ بَعْضَهُم لِيَنْسَى الْقُرْآنَ بَعْدَ أَنْ حَفِظَهُ ويشْتَغِلَ بِقَوْلِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ.
فَهَؤلَاءِ لَمَّا شَنَئُوهُ وَعَادُوهُ جَازَاهُم اللهُ بِأَنْ جَعَلَ الْخَيْرَ كُلَّهُ مُعَادِيًا لَهُم فَبَتَرَهُم مِنْهُ.
وَخَصَّ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم بِضِدِّ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّهُ أَعْطَاهُ الْكَوْثَرَ، وَهُوَ مِنَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ الَّذِي آتاهُ الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَمِمَّا أَعْطَاهُ فِي الدُّنْيَا: الْهُدَى وَالنَّصْرَ وَالتَّأيِيدَ، وَقُرَّةَ الْعَيْنِ وَالنَّفْسِ وَشَرْحَ الصَّدْرِ، وَنعْمَ قَلْبِهِ بِذِكْرِهِ وَحُبِّهِ، بِحَيْثُ لَا يُشْبِهُ نَعِيمَهُ نَعِيمٌ فِي الدُّنْيَا أَلْبَتَّةَ، وَأَعْطَاهُ فِي الْآخِرَةِ: الْوَسِيلَةَ وَالْمَقَامَ الْمَحْمُودَ، وَجَعَلَهُ أَوَّلَ مَن يُفْتَحُ لَهُ ولِأُمَّتِهِ بَابُ الْجَنَّةِ، وَأَعْطَاهُ فِي الْآخِرَةِ لِوَاءَ الْحَمْدِ وَالْحَوْضَ الْعَظِيمَ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَجَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ كُلَّهُم أَوْلَادَهُ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ، وَهَذَا ضِدُّ حَالِ الْأَبْتَرِ الَّذِي يَشْنَؤُهُ ويشْنَأُ مَا جَاءَ بِهِ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ شَانِئَكَ} [الكوثر: 3]؛ أَيْ: مُبْغِضك، وَالْأَبْتَرُ الْمَقْطُوعُ النَّسْلِ الَّذِي لَا يُولَدُ لَهُ خَيْرٌ وَلَا عَمَلٌ صَالِحٌ، فَلَا يَتَوَلَّدُ عَنْهُ خَيْرٌ وَلَا عَمَل صَالِحٌ.
قِيلَ لِأبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ: إنَّ بِالْمَسْجِدِ قَوْمًا يَجْلِسُونَ ويجْلَسُ إلَيْهِمْ، فَقَالَ: مَن جَلَسَ لِلنَّاسِ جَلَسَ النَّاسُ إلَيْهِ
(1)
، وَلَكِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَمُوتُونَ وَيَحْيَى ذِكْرُهُمْ، وَأَهْلَ الْبِدْعَةِ يَمُوتُونَ ويَمُوتُ ذِكْرُهُمْ؛ لِأَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ أَحْيَوْا مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ لَهُم نَصِيبٌ مِن قَوْلِهِ:{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)} [الشرح: 4]،
(1)
أي: هذا ليس دليلًا على حمد صاحبه ولا ذمه.
وَأَهْلَ الْبِدْعَةِ شَنَئُوا مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ لَهُم نَصِيبٌ مِن قَولِهِ: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)} [الكوثر: 3].
فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ أيُّهَا الرَّجُلُ مِن أَنْ تَكْرَهَ شَيْئًا مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم، أَو تَرُدَّهُ لِأَجْلِ هَوَاك، أَو انْتِصَارًا لِمَذْهَبِك أَو لِشَيْخِك، أَو لأجْلِ اشْتِغَالِك بِالشَّهَوَاتِ أَو بِالدُّنْيَا
(1)
. فَاعْلَمْ ذَلِكَ وَاسْمَعْ وَأَطِعْ، وَاتَّبعْ وَلَا تَبْتَدِعْ تَكُنْ أبْتَرَ مَرْدُودًا عَلَيْك عَمَلُك.
وَالْكَوْثَرُ الْمَعْرُوفُ إنَّمَا هُوَ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، كَمَا قَد وَرَدَتْ بِهِ الْأحَادِيثُ الصَّحِيحَهُ الصَّرِيحَةُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْكَوْثَرُ إنَّمَا هُوَ مِنَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللهُ إيَّاهُ، وَإِذَا كَانَ أَقَل أَهْلِ الْجَنَّةِ مَن لَهُ فِيهَا مِثْلُ الدُّنْيَا عَشْرُ مَرَّاتٍ، فَمَا الظَّنُّ بِمَا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا أَعَدَّهُ اللهُ لَهُ فِيهَا؟
وَقَوْلُهُ: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)} [الكوثر:2] أَمَرَه اللهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْعِبَادَتَيْنِ الْعَظِيمَتَيْنِ وَهمَا الصَّلَاةُ وَالنُّسُكُ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الصَّلَاةَ وَالنُّسُك هُمَا أَجَلُّ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللهِ؛ فَإنَّهُ أتَى فِيهِمَا بِالْفَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى السَّبَبِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ وَهُوَ الصَّلَاةُ وَالنَّحْرُ سَبَبٌ لِلْقِيَامِ بِشُكْرِ مَا أَعْطَاهُ اللهُ إيَّاهُ مِنَ الْكَوْثَرِ وَالْخَيْرِ الْكَثِيرِ.
وَأَجَلُّ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ النَّحْرُ، وَأَجَلُّ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الصَّلَاةُ، وَمَا يَجْتَمِعُ لِلْعَبْدِ فِي الصَّلَاةِ لَا يَجْتَمِعُ لَهُ فِي غَيْرِهَا مِن سَائِرِ الْعِبَادَاتِ، كَمَا عَرَفَهُ أرْبَابُ الْقُلُوبِ الْحَيَّةِ، وَأَصْحَابُ الْهِمَمِ الْعَاليَةِ
(2)
.
(1)
حذر الشيخ من ثلاثٍ مُهلكات ضادّات عن الحق والدين:
1 -
اتّباع الهَوَى.
2 -
الانْتِصَار لِمَذْهَبٍ أوْ شَيْخ أو جماعة.
3 -
الاشْتِغَال بِالشَّهَوَاتِ أوْ بِالدُّنْيَا.
(2)
إنَّ مبدأ وكمال صلاح المؤمن من الصلاة، فمتى حرص على القيام بأركانها وواجباتها، =
وَمَا يَجْتَمِعُ لَهُ فِي نَحْرِهِ مِن إيثَارِ اللهِ وَحُسْنِ الظَّنِّ بِهِ وَقُوَّةِ الْيَقِينِ وَالْوُثُوقِ بِمَا فِي يَدِ اللهِ أَمْرٌ عَجِيبٌ، إذَا قَارَنَ ذَلِكَ الْإِيمَانُ وَالْإِخْلَاصُ.
وَقَد امْتَثَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَمْرَ رِبِّهِ فَكَانَ كَثِيرَ الصَّلَاةِ لِرِبِّهِ كَثِيرَ النَّحْرِ حَتَّى نَحَرَ بِيَدِهِ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً وَكَانَ يَنْحَرُ فِي الْأَعْيَادِ وَغَيْرِهَا. [16/ 526 - 533]
* * *
سورة الكافرون
1611 -
فِي سُورَةِ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} لِلنَّاسِ فِي وَجْهِ تَكْرِيرِ الْبَرَاءَةِ مِن الْجَانِبَيْنِ طُرُقٌ حَيْثُ قَالَ: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)} {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)} ثُمَّ قَالَ: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4)} {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)} مِنْهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهمَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: هَل كَرَّرَ الْكَلَامَ لِلتَّوْكِيدِ، أَو لِنَفْيِ الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ؟
قُلْت: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ تَكْرَارٌ لِلَفْظٍ بِعَيْنِهِ عَقِبَ الْأَوَّلِ قَطُّ، وَإِنَّمَا فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ خِطَابُهُ بِذَلِكَ بَعْدَ كُلِّ آيَةٍ لَمْ يَذْكُرْ مُتَوَالِيًا، وَهَذَا النَّمَط أَرْفَعُ مِنَ الْأَوَّلِ.
وَكَذَلِكَ قَصَصُ الْقرْآنِ لَيْسَ فِيهَا تَكْرَارٌ كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُهُمْ، و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} لَيْسَ فِيهَا لَفْظُ تَكْرَارٍ إلَّا قَوْلُة:{وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)} ، وَهُوَ مَعَ الْفَصْلِ بَيْنَهمَا بِجُمْلَةٍ، وَقَد شَبَّهُوا مَا فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ بِقَوْلِ الْقَائِلِ لِمَن أَحْسَن إلَيْهِ وَتَابَعَ عَلَيْهِ بِالْأَيَادِي وَهُوَ يُنْكِرُهَا وَيكفُرُهَا: أَلَمْ تَكُ فَقِيرًا فَأَغْنَيْتُك؟ أفَتُنْكِرُ هَذَا؟ أَلَمْ تَكُ عريانا فَكَسَوْتُك؟ أَفَتُنْكِرُ هَذَا؟ أَلَمْ تَكُ خَامِلًا فَعَرَّفْتُك؟ وَنَحْؤ ذَلِكَ.
وَهَذَا أَقْرَبُ مِن التَّكْرَارِ الْمُتَوَالِي كَمَا فِي الْيَمِينِ الْمُكَرَّرَةِ.
= وخشوعها وصدق التوجه فيها إلى الله تعالى: استقام حالُه، وانفرجت كُربُه، وعلت همّتُه، وتحقق ما يطمح إليه.
وَكَذَلِكَ مَا يَقُولُهُ بَعْضُهُم: إنَّهُ قَد يَعْطِفُ الشيءَ لِمجَرَّدِ تَغَايُرِ اللَّفْظِ؛ كَقَوْلِهِ:
فَألقَى قَوْلَهَا كَذِبًا وَمَيْنَا.
فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مِن هَذَا شَيٌ، وَلَا يَذْكُرُ فِيهِ لَفْظًا زَائِدًا إلَّا لِمَعْنَى زَائِدٍ، وَإِن كَانَ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ التَّوْكِيدِ.
فَزِيَادَةُ اللَّفْظِ لِزِيَادَةِ الْمَعْنَى، وَقُوَّةُ اللَّفْظِ لِقُوَّةِ الْمَعْنَى، وَالضَّمُّ أَقْوَى مِنَ الْكَسْرِ، وَالْكَسْرُ أَقْوَى مِن الْفَتْحِ، وَلهَذَا يُقْطَعُ عَلَى الضَّمِّ لِمَا هُوَ أَقْوَى؛ مِثْلُ "الْكُرْهِ" و"الْكَرْهِ"؛ فَالْكُرْهُ هُوَ الشَّيءُ الْمَكْرُوهُ؛ كَقَوْلِهِ:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] وَالْكرْهُ الْمَصْدَرُ؛ كَقَوْلِهِ: {طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [التوبة: 53]، وَالشَّيءُ الَّذِي فِي نَفْسِهِ مَكْرُوهٌ أَقْوَى مِن نَفْسِ كَرَاهَةِ الْكَارِهِ.
وَكَذَلِكَ "الذِّبْحُ" و"الذَّبْحُ" فَالذِّبْحُ: الْمَذْبُوحُ؛ كَقَوْلِهِ: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} [الصافات: 107] وَالذَّبْحُ: الْفِعْلُ، وَالذِّبْحُ: مَذْبُوحٌ، وَهُوَ جَسَدٌ يُذْبَحُ، فَهُوَ أَكمَلُ مِن نَفْسِ الْفِعْلِ.
فصْلٌ
{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)} جَاءَ الْخِطَابُ فِيهَا بـ "مَا" ولَمْ يَجِئْ بـ "مَن"، فَقِيلَ:{لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)} لَمْ يَقُلْ: "لَا أَعْبُدُ مَن تَعْبُدُونَ"؛ لِأَنَّ "مَن" لِمَن يَعْلَمُ، وَالْأَصْنَامُ لَا تَعْلَمُ.
وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ جِدًّا، فَإنَّ مَعْبُودَ الْمُشْرِكِينَ يَدْخُلُ فِيهِ مَن يَعْلَمُ كَالْمَلَائِكَهِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَمَن لَمْ يَعْلَمْ.
وَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ تَغْلِبُ صِيغَةُ أُولي الْعِلْمِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} [النور: 45].
فـ "مَا" هِيَ:
أ- لِمَا لَا يَعْلَمُ.
ب- وَلصِفَاتِ مَن يَعْلَمُ
(1)
.
وَلهَذَا تَكُونُ لِلْجِنْسِ الْعَامِّ؛ لِأنَّ شُمُولَ الْجِنْس لِمَا تَحْتَهُ هوَ بِاعْتِبَارِ صِفَاتِهِ؛ كَمَا قَالَ: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]؛ أَيْ: الَّذِي طَابَ، وَالطَّيِّبُ مِن النِّسَاءِ، فَلَمَّا قَصَدَ الْإخْبَارَ عَن الْمَوْصُوفِ بِالطَّيِّبِ وَقَصَدَ هَذِهِ الصِّفَةَ دُونَ مُجَرَّدِ الْعَيْنِ عَبَّرَ بـ "مَا".
وَلَو عَبَّرَ بـ "مَن" كَانَ الْمَقْصُودُ مُجَرَّدَ الْعَيْنِ، وَالصِّفَةُ لِلتَّعْرِيفِ.
فَقَوْلُهُ: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)} يَقْتَضِي تَنْزِيهَهُ عَن كُل مَوْصُوفِ بِأنَّهُ مَعْبُودُهُمْ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا عَبَدَهُ الْكَافِرُ وَجَبَتِ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ؛ لِأنَّ كُلَّ مَن كَانَ كَافِرًا لَا يَكُونُ مَعْبُودُهُ الْإلَهَ الذِي يَعْبُدُهُ الْمُؤمِنُ.
وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِ الْخَلِيلِ {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف: 26، 27]، وَقَوْلُهُ {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75 - 77] بِأنْ يُقَالَ: الْخَلِيلُ تَبَرَّأَ مِن جَمِيعِ الْمَعْبُودِينَ مِنَ الْجَمِيعِ فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَثْنَى رَبُّ الْعَالَمِينَ.
وَأَمَّا هَذِهِ السُّورَةُ فَإنَّ فِيهَا التَّبَرِّي مِن عِبَادَةِ مَا يَعْبُدُونَ، لَا مِن نَفْسِ مَا يَعْبُدُونَ، وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْهُم وَمِن عِبَادَتِهِمْ وَمِمَّا يَعْبُدُونَ، فَإنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ بَاطِلٌ.
فَعِبَادَةُ الْمُشْرِكِ كلُّهَا بَاطِلَةٌ لَا يُقَالُ: نَصِيبُ اللهِ مِنْهَا حَقٌّ وَالْبَاقِي بَاطِلٌ بِخِلَافِ مَعْبُودِهِمْ؛ فَإنَّ اللهَ إلَهٌ حَقٌّ وَمَا سِوَاهُ آلِهَةٌ بَاطِلَةٌ. [16/ 534 - 599]
* * *
(1)
أي: إنّ "ما" الموصولة تأتي في حالتين:
الأولى. في حالة الإشارة لغير العاقل.
الثانية: لأوصاف العاقل وليس لذاتِه.
سورة المسد
1612 -
" سُورَةُ تَبَّتْ" نَزَلَتْ فِي هَذَا
(1)
وَامْرَأَتِهِ، وَهُمَا مِن أشْرَفِ بَطْنَيْنِ فِي قُرَيْشٍ.
وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ذَمُّ مَن كَفَرَ بِهِ صلى الله عليه وسلم بِاسْمِهِ إلّا هَذَا وَامْرَأَتَهُ، فَفِيهِ أَنَّ الْأَنْسَابَ لَا عِبْرَةَ بِهَا؛ بَل صَاحِبُ الشَّرَفِ يَكُونُ ذَمُّهُ عَلَى تَخَلُّفِهِ عَنِ الْوَاجِبِ أَعْظَمَ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ} [الأحزاب: 30]. [16/ 602]
* * *
سورة الإخلاص
1613 -
قَالَ تَعَالَى فِي السُورَةِ الَّتِي تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ - الَّتِي هِيَ صِفَةُ الرَّحْمَنِ، وَلَمْ يَصِحَّ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي فَضْلِ سُورَةٍ مِن الْقُرْآنِ مَا صَحَّ فِي فَضْلِهَا، حَتَّى أَفْرَدَ الْحُفَّاظُ مُصَنَّفَاتٍ فِي فَضْلِهَا؛ كَالدَّارَقُطْني، وَأَبِي نُعَيْمِ، وَأبِي مُحَمَّدٍ الْخَلَّالِ، وَأخْرَجَ أَصْحَابُ الصَّحِيح فِيهَا أَحَادِيثَ مُتَعَدِّدَةٌ -قَالَ فِيهَا:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} .
وَعَلَى هَذِهِ السُّورَةِ اعْتِمَادُ الْأَئِمَّةِ فِي التَّوْحِيدِ؛ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ، والْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ، وَغَيْرِهِمَا مِن الْأَئِمَّةِ قَبْلَهُم وَبَعْدَهُمْ.
فَنَفَى عَن نَفْسِهِ الْأصُولَ وَالْفُرُوعَ وَالنُّظَرَاءَ، وَهِيَ جِمَاعُ مَا يُنْسَبُ إلَيْهِ الْمَخْلُوقُ مِن الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ؛ بَل وَالنَّباتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَإنَّهُ مَا مِن شَيءٍ مِن الْمَخْلُوقَاتِ إلَّا وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَيءٌ يُنَاسبُهُ: إمَّا أَصْلٌ، وَإِمَّا فَرْعٌ، وَإِمَّا نَظِيرٌ، أَو اثْنَانِ مِن ذَلِكَ، أَو ثَلَاثَةٌ.
(1)
هكذا في الأصل، ويعني بهذا: عمّه أبا لهب.
وَهَذَا فِي الْآدَمِيِّينَ وَالْجِنِّ وَالْبَهَائِمِ ظَاهِرٌ.
وَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ: فَإِنَّهُم وَإِن لَمْ يَتَوَالَدُوا بِالتَّنَاسُلِ، فَلَهُم الْأَمْثَالُ وَالأشْبَاهُ، وَلهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ:{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات: 49، 50] قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَعَلَّكُمْ تَتَذَكَّرُونَ فَتَعْلَمُونَ أَنَّ خَالِقَ الْأَزْوَاج وَاحِدٌ.
وَلهَذَا كَانَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الرَّدُّ عَلَى مَن كَفَرَ مِن الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئينَ وَالْمَجُوسِ وَالْمُشْرِكِينَ.
فَإِنَّ قَوْلَهُ: {لَمْ يَلِدْ} [الإخلاص: 3] رَدٌّ لِقَوْلِ مَن يَقُولُ: إنَّ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ مِن الْمَلَائِكَةِ أَو الْبَشَرِ؛ مِثْلُ مَن يَقُولُ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللهِ، أَو يَقُولُ: الْمَسِيحُ أَو عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ.
وَاَلَّذِينَ قَالُوا: الْمَسِيح ابْنُ اللهِ وَعُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ: لَمْ يُرِدْ عُقَلَاؤُهُم وِلَادَةً حِسِّيَّةً مِن جِنْسِ وِلَادَةِ الْجَيَوَانِ بِانْفِصَالِ جُزْءٍ مِن ذَكَرِهِ فِي أُنْثَاهُ يَكُونُ مِنْهُ الْوَلَدُ؛ فَإِنَّ النَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ، مَا أَظُنُّ عُقَلَاؤُهُمْ
(1)
كَانُوا يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا وَصَفُوا الْوِلَادَةَ الْعَقْلِيَّةَ الرُّوحَانِيَّةَ، مِثْل مَا يَقُولُهُ النَّصَارَى: إنَّ الْجَوْهَرَ الَّذِي هُوَ اللهُ مِن وَجْهٍ، وَهُوَ الْكَلِمَةُ مِن وَجْهٍ، تَدَرَّعَتْ بِإِنْسَان مَخْلُوقٍ مِن مَرْيَمَ، فَيَقُولُونَ: تَدَرَّعَ اللَّاهُوتُ بِالنَّاسُوتِ، فَظَاهِرُهُ -وَهُوَ الدِّرْعُ وَالْقَمِيصُ- بَشَرٌ، وَبَاطِنُهُ -وَهُوَ الْمُتَدَرِّعُ- لَاهُوتٌ، هُوَ الِابْنُ، الَّذِي هُوَ الْكَلِمَةُ، لِتَوَلُّدِ هَذَا مِن الْأبِ الَّذِي هُوَ جَوْهَرُ الْوُجُودِ.
فَهَذِهِ الْبُنُوَّةُ مُرَكَّبَةٌ عِنْدَهُم مِن أَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجَوْهَرَ الَّذِي هُوَ الْكَلِمَةُ تُولَّدَ مِن الْجَوْهَرِ الَّذِي هُوَ الْأَبُ؛ كَتَوَلُّدِ الْعِلْمِ وَالْقَوْلِ مِن الْعَالِمِ الْقَائِلِ.
(1)
هكذا في جميع النسخ التي وقفتُ عليها، ولعل الصواب بالنضب: عُقَلَاءَهُمْ؛ لأنها مفعول ظن، والهمزة المفتوحة إذا سُبقت بألف تُكتب على السطر.
وَالثانِي: أنَ هَذَا الْجَوْهَرَ اتَّحَدَ بِالْمَسِيحِ وَتَدَرَّعَ بِهِ، وَذَلِكَ الْجَوْهَرُ هُوَ الْأبُ مِن وَجْهٍ، وَهُوَ الِابْنُ مِن وَجْهٍ.
فَلِهَذَا حَكَى اللهُ عَنْهُم تَارَةً أَنَّهُم يَقُولُونَ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ، وَتَارَةً أَنَّهُم يَقُولُونَ: إنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ
(1)
.
وَأَمَّا حِكَايَتُهُ عَنْهُم أَنَّهُم قَالُوا: إنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، فَالْمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ: اللهُ وَالْمَسِيحُ وَأُمُّهُ كَمَا قَالَ: {يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116].
فَهَذَا حُجَّةُ هَذَا، وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَمِن النَّاسِ مَن يَزْعُم أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ: الْأقَانِيمُ الثلَاثَةُ، وَهِيَ الْأَبُ وَالِابْنُ وَرُوحُ الْقُدُسِ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ.
فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِن الرَّدِّ لِمَقَالَاتِ الْمُتَقَدِّمِينَ قَبْلَ هَذِهِ الْأمَّةِ وَالْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِيهَا مِن إثْبَاتِ الْوِلَادَةِ للهِ.
وَإِن كَانَ كَثِيرٌ مِن النَّاسِ لَا يَفْهَمُ دَلَالَةَ الْقُرْآنِ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَاتِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى شَيْئَيْنِ:
أ- إلَى تَصَوُّرِ مَقَالَتِهِمْ بِالْمَعْنَى لَا بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ.
ب- وإِلَى تَصَوُّرِ مَعْنَى الْقُرآنِ وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا.
فَتَجِدُ الْمَعْنَى الَّذِي عَنَوْهُ قَد دَلَّ الْقُرآنُ عَلَى ذِكْرِهِ وَإِبْطَالِهِ.
(1)
والمشهور في تفسير ذلك: أن النصارى افترقوا إلى فرق، فمنها من يدعي أن المسيح ابن الله، ومنهم من يدَّعي أنه الله، تعالى الله عما يقولون عُلُوًّا كبيرًا.
وانظر إلى حسن توجيه الشيخ لعقيدتهم وكلامهم، فرحمه الله، ما أعظم فهمه، وأشد ذكاءَه، وأوسَع اطّلاعَه.
فَصْلٌ
فَهَذَا نَفْيُ كَوْنِهِ -سُبْحَانَهُ- وَالِدًا لِشَيء، أَو مُتَّخِذًا لِشَيء وَلَدًا بِأيّ وَجْهٍ مِن وُجُوهِ الْوِلَادَةِ، أَو اتِّخَاذِ الْوَلَدِ أَيًّا كَانَ.
وَأَمَّا نَفْيُ كَوْنِهِ مَوْلُودًا: فَيَتَضَمَّنُ نَفْيَ كَوْنِهِ مُتَوَلِّدًا بِأَيّ نَوْعٍ مِن التَّوَالُدِ مِن أَحَدٍ مِن الْبَشَرِ وَسَائِر مَا تَوَلَّدَ مِن غَيْرِهِ، فَهُوَ رَدٌّ عَلَى مَن قَالَ: الْمَسِيحُ هُوَ اللهُ، وَرَدٌّ عَلَى الدَّجَّالِ الَّذِي يَقُولُ: إنَّهُ اللهُ.
فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَلَمْ يُولَدْ (3)} [الإخلاص: 3] نَفْيٌ لِهَذَا كُلِّهِ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُم مَوْلُودُونَ، وَاللهُ لَمْ يُولَدْ.
وَلهَذَا لَمَّا ذَكَرَ اللهُ الْمَسِيحَ فِي الْقُرْآنِ قَالَ: ابْنُ مَرْيَمَ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَفي ذَلِكَ فَائِدَتَانِ:
إحْدَاهُمَا: بَيَانٌ أَنَّهُ مَوْلُودٌ وَاللهُ لَمْ يُولَدْ.
وَالثَّانيَةُ: نِسْبَتُهُ إلَى مَرْيَمَ بِأنَّهُ ابْنُهَا لَيْسَ هُوَ ابْنَ اللهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} نَفْيٌ لِلشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ، يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَن جَعَلَ شَيْئًا كُفُوًا للهِ فِي شَيءٍ مِن خَوَاصِّ الرُّبُوبِيَّةِ؛ مِثْلُ خَلْقِ الْخَلْقِ وَالْإِلَهِيَّةِ كَالْعِبَادَةِ لَهُ وَدُعَائِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. [2/ 438 - 449]
1614 -
إِذَا عُلِمَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ مَعَ الْعَقْلِ وَاتِّفَاقِ السَّلَفِ مِن أَنَّ بَعْضَ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِن بَعْضٍ، وَكَذَلِكَ بَعْضُ صِفَاتِهِ أَفْضَلُ مِن بَعْضٍ، بَقِيَ الْكَلَامُ فِي كَوْنِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ مَا وَجْهُ ذَلِكَ؟
قِيلَ: فِيهِ وُجُوهٌ أَحْسَنُهَا -وَاللهُ أَعْلَمُ- الْجَوَابُ الْمَنْقُولُ عَن الْإِمَامِ أَبِي الْعَبَّاسِ ابْنِ سُرَيْج. قَالَ: مَعْنَاهُ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: ثُلُثٌ مِنْهَا الْأَحْكَامُ، وَثُلُثٌ مِنْهَا وَعْدٌ وَوَعِيدٌ، وَثُلُثٌ مِنْهَا الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ، وَهَذِهِ
السُّورَةُ جَمَعَتْ الْأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ
(1)
. [17/ 103]
فَإنَّ تَقْسِيمَ الْقُرْآنِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ تَقْسِيمٌ بِالدَّلِيلِ، فَإنَّ الْقُرْآنَ كَلَامٌ، وَالْكَلَامُ:
أ- إمَا إخبَارٌ.
ب- إِمَّا إنْشَاءٌ.
وَالْإِخبَارُ:
أ- إمَّا عَن الْخَالِقِ.
ب- وَإِمَّا عَن الْمَخْلُوقِ.
فَهَذَا تَقْسِيمٌ بَيِّنٌ. [17/ 121]
فاسْمُهُ الْأَحَدُ دَلَّ عَلَى نَفْيِ الْمُشَارَكَةِ وَالْمُمَاثَلَةِ، وَاسْمُهُ الصَّمَدُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحِقٌ لِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ.
فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ إثْبَاتَ جَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَنَفْيَ جَمِيعِ صِفَاتِ النَّقْصِ، فَالسُّورَةُ تَضَمَّنَتْ كُلَّ مَا يَجِبُ نَفْيُهُ عَنِ اللهِ، وَتَضَمَّنَتْ أَيْضًا كُل مَا يَجِبُ إثْبَاتُهُ.
وإذَا كَانَت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ لَمْ يَلْزَمْ مِن ذَلِكَ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِن الْفَاتِحَةِ، وَلَا أَنَّهَا يُكْتَفى بِتِلَاوَيهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عَن تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ؛ بَل قَد كَرِهَ السَّلَفُ أَنْ تُقْرَأَ إذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً كَمَا كُتِبَتْ فِي الْمصْحَفِ، فَإنَّ الْقُرْآنَ يُقْرَأُ كَمَا كُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ لَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ.
وَالتَّكْبِيرُ الْمَأثُورُ عَن ابْنِ كَثِيرٍ لَيْسَ هُوَ مُسْنَدًا عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ولَمْ يُسْنِدْهُ أَحَدٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا البزي، وَخَالَفَ بِذَلِكَ سَائِرَ مَن نَقَلَهُ، فَإِنَّهُم إنَّمَا نَقَلُوة اخْتِيَارًا مِمَن هُوَ دُونَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَانْفَرَدَ هُوَ بِرَفْعِهِ، وَضَعَّفه نَقَلَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ
(1)
قال في موضع آخر عن هذا القول: هُوَ الصَّوَابُ بِلَا ريبٍ. (17/ 121)
بِالْحَدِيثِ وَالرِّجَالِ مِن عُلَمَاءِ الْقِرَاءَةِ وَعُلَمَاءِ الْحَدِيثِ
(1)
.
فَالْمَقْصُودُ: أَنَّ مِنَ السُّنَّةِ فِي الْقُرْآنِ أَنْ يُقْرَأَ كَمَا فِي الْمَصَاحِفِ، وَلَكِنْ إذَا قُرِئَتْ مُفْرَدَةً تُقْرَأُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَأَكْثَرَ مِن ذَلِكَ، وَمَن قَرَأَهَا فَلَهُ مِنَ الْأَجْرِ مَا يَعْدِلُ ثُلُثَ أَجْرِ الْقُرْآنِ، لَكِنَّ عَدْلَ الشَّيءِ -بِالْفَتْحِ- يَكُونُ مِن غَيْرِ جِنْسِهِ.
وَإِذَا كَانَ الشَّيءُ يَعْدِلُ غَيْرَهُ فَعَدْلُ الشَّيءِ -بِالْفَتْحِ- هُوَ مُسَاوِيهِ وَإِن كَانَ مِن غَيْرِ جِنْسِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] وَالصِّيَامُ لَيْسَ مِن جِنْسِ الطَّعَامِ وَالْجَزَاءِ، وَلَكِنَّهُ يُعَادِلُهُ فِي الْقَدْرِ، {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)} [الأنعام: 1]؛ أيْ: يَجْعَلُونَ لَهُ عَدْلًا؛ أَيْ: نِدًّا فِي الْإِلَهِيَّةِ وإِن كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ مِن جِنْسِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ.
وَلَو كَانَ لِرَجُلٍ أَمْوَالٌ مِن أَصْنَافٍ مُتَنَوِّعَةٍ، وَلآخَرَ ذَهَبٌ بِقَدْرِ ذَلِكَ، لَكَانَ مَالُ هَذَا يَعْدِلُ مَالَ هَذَا وَإِن لَمْ يَكُن مِن جِنْسِهِ.
فَإِذَا قَرَأَ الْإنْسَانُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} حَصَلَ لَهُ ثَوَابٌ بِقَدْرِ ثَوَابِ ثُلُثِ الْقُرْآنِ، لَكِنْ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الثَّوَابُ مِن جِنْسِ الثَّوَابِ الْحَاصِلِ بِبَقِيَّةِ الْقُرْآنِ؛ بَل قَد يَحْتَاجُ إلَى جِنْسِ الثَّوَابِ الْحَاصِلِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْقَصَصِ، فَلَا تَسُدُّ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} مَسَدَّ ذَلِكَ وَلَا تَقُومُ مَقَامَهُ. [17/ 137 - 138]
وَالْفَاتِحَةُ فِيهَا مِن الْمَنَافِعِ -ثنَاءٌ وَدُعَاءٌ مِمَّا يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهِ- مَا لَا تَقُومُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ، وَإِن كَانَ أَجْرُهَا عَظِيمًا، فَذَلِكَ الْأَجْرُ الْعَظِيمُ إنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهِ صَاحِبُهُ مَعَ أَجْرِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَلهَذَا لَو صَلَّى بِهَا
(1)
قال ابن الجزري المتوفى (833 هـ): اعلم أن التكبير صح عن أهل مكة قاطبة من القراء والعلماء وعمَّن روي عنهم -صحة استفاضت واشتهرت حتى بلغت حد التواتر، وصحت أيضًا عن أبي عمرو من رواية السوسي، وعن أبي جعفر من رواية العمري، وعن سائر القرّاء.
وقد صار عليه العمل في سائر الأمصار عند ختمهم في المحافل، واجتماعهم في المجالس لدى الأماثل، وكثير منهم يقوم به في صلاة رمضان، ولا يتركه عند الختم على أي حال كان. اهـ. النشر في القراءات العشر (2/ 410).
وَحْدَهَا بِدُونِ الْفَاتِحَةِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَلَو قُدِّرَ أَنَّهُ قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ إلَّا الْفَاتِحَةَ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ مَعَانِيَ الْفَاتِحَةِ فِيهَا الْحَوَائِجُ الْأصْلِيَّةُ الَّتِي لَا بُدَّ لِلْعِبَادِ مِنْهَا.
وَقَد بُسِطَ الْكلَامُ عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَبُيِّنَ أَنَّ مَا فِي الْفَاتِحَةِ مِن الثَّنَاءِ وَالدُّعَاءِ وَهُوَ قَوْلُ:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 6، 7] هُوَ أَفْضَل دُعَاءٍ دَعَا بِهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ، وَهُوَ أَوْجَبُ دُعَاءٍ دَعَا بِهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ، وَأَنْفَعُ دُعَاء دَعَا بِهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ، فَإِنَّهُ يَجْمَعُ مَصَالِحَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْعَبْدُ دَائِمًا مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ. [17/ 130 - 132]
وَقَد بَيَّنَّا أَنَّ أَحْسَنَ الْوُجُوهِ أَنَّ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: تَوْحِيدٌ وَقَصَصٌ وَأَحْكَامٌ.
وَهَذِهِ السُّورَةُ صِفَة الرَّحْمَنِ فِيهَا التَّوْحِيدُ وَحْدَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللهِ، وَالْكَلَام نَوْعَانِ: إمَّا إنْشَاءٌ وَإِمَّا إخْبَارٌ، وَالْإِخْبَارٌ إمَّا خَبَرٌ عَن الْخَالِقِ، وإِمَّا خَبَرٌ عَن الْمَخْلُوقِ، فَالْإِنْشَاءُ هُوَ الأحْكَامُ كَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْخَبَرُ عَن الْمَخْلُوقِ هُوَ الْقَصَصُ، وَالْخَبَرُ عَن الْخَالِقِ هُوَ ذِكْرُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ.
وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ سُورَةٌ هِيَ وَصْفُ الرَّحْمَنِ مَحْضًا إلَّا هَذ السُّورَةَ. [17/ 134]
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ فَضْلَ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَد يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الرَّجُلِ، فَالْقِرَاءَةُ بِتَدَبُّر أَفْضَلُ مِن الْقِرَاءَةِ بِلَا تَدَبُّرٍ، وَالصَّلَاةُ بِخُشُوع وَحضُورِ قَلْبٍ أَفْضَلُ مِن الصَّلَاةِ بِدُونِ ذَلِكَ.
وَكَانَ بَعْضُ الشُّيُوخِ يَرْقَى بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} وَكَانَ لَهَا بَرَكَةٌ عَظِيمَة، فَيَرْقَى بِهَا غَيْر فَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: لَيْسَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} مِن كُلِّ أَحَدٍ تَنْفَعُ كلَّ أَحَدٍ.
وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَقَد يَكُونُ تَسْبِيحُ بَعْضِ النَّاسِ أَفْضَلَ مِن قِرَاءَةِ غَيْرِهِ، ويكُونُ قِرَاءَة بَعْضِ السُّوَرِ مِن بَعْضِ النَّاسِ أفْضَلَ مِن قِرَاءَةِ غَيْرِهِ لـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} وَغَيْرِهَا.
وَالْإِنْسَانُ الْوَاحِدُ يَخْتَلِفُ أَيْضًا حَالُهُ، فَقَد يَفْعَلُ الْعَمَلَ الْمَفْضُولَ عَلَى وَجْهٍ كَامِلٍ فَيَكُونُ بِهِ أَفْضَلَ مِن سَائِرِ أَعْمَالِهِ الْفَاضِلَةِ، وَقَد غَفَرَ اللهُ لِبَغِيٍّ لِسَقْيِهَا الْكَلْبَ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَهَذَا لِمَا حَصَلَ لَهَا فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ مِن الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ وَغَيْرِهَا.
فَإِذَا قِيلَ: إنَّ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} يَعْدِلُ ثَوَابُهَا ثَوَابَ ثُلُثِ الْقُرْآنِ فَلَا بُدَّ مِن اعْتِبَارِ التَمَاثُلِ فِي سَائِرِ الصّفَاتِ، وَإِلَّا فَإِذَا اعْتَبَرَ قِرَاءَةَ غَيْرِهَا مَعَ التَّدَبُّرِ وَالْخُشُوعِ بِقِرَاءَتِهَا مَعَ الْغَفْلَةِ وَالْجَهْلِ لَمْ يَكُن الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ بَل قَد يَكونُ قَوْلُ الْعَبْدِ:"سُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ للهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ" مَعَ حُضُورِ الْقَلْبِ وَاتِّصَافِهِ بِمَعَانِيهَا أَفْضَلَ مِن قِرَاءَةِ هَذِهِ السُّورَةِ مَعَ الْجَهْلِ وَالْغَفْلَةِ.
وَالنَّاسُ مُتَفَاضِلُونَ فِي فَهْمِ هَذ السُّورَةِ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ، كَمَا أنَّهُم متَفَاضِلُونَ فِي فَهْمِ سَائِرِ الْقُرْآنِ. [17/ 139 - 140]
1615 -
سُورَةُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} أَفْضَلُ مِن {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} ، وَيلْكَ أَمْرٌ بِأنْ يُقَالَ: مَا هُوَ صِفَةُ الرَّبِّ، وَهَذِهِ أَمْرٌ بِأنْ يُقَالَ: مَا هُوَ إنْشَاءُ خَبَرٍ عَن تَوْحِيدِ الْعَبْدِ.
وَلهَذَا فُضِّلَتْ سُورَةُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} وَجُعِلَتْ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ وَذِكْرُهُ مَحْضًا لَمْ تُشَبْ بِذِكْرِ غَيْرِهِ. [22/ 389 - 390]
* * *
سورة الفلق
1616 -
قَالَ كَثِيرٌ مِن الْمُفَسّرِينَ: الْفَلَقُ الصُّبْحُ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: هَذَا أَبْيَنُ مِن فَلَقِ الصُّبْحِ، وَفَرَقِ الصُّبْحِ.
فَإِنَّ الْغَاسِقَ قَد فُسِّرَ بِاللَّيْلِ؛ كَقَوْلَةِ: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسّرِينَ وَأَهْلِ اللُّغَةِ.
قَالُوا: وَمَعْنَى {وَقَبَ (3)} دَخَلَ فِي كلِّ شَيءٍ.
وَقَد رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِي عَن عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَظَرَ إلَى الْقَمَرِ فَقَالَ:"يَا عَائِشَةُ تَعَوَّذِي بِاللهِ مِن شَرِّهِ فَإِنَّهُ الْغَاسِقُ إذَا وَقَبَ"
(1)
.
قَالَ ابْنُ قتَيْبَةَ: ويُقَالُ: الْغَاسِقُ الْقَمَرُ إذَا كَسَفَ وَاسْوَدَّ، وَمَعْنَى وَقَبَ: دَخَلَ فِي الْكُسُوفِ.
وَهَذَا ضَعِيفٌ، فَإِنَّ مَا قَالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لا يُعَارَضُ بِقَوْلِ غَيْرِهِ، وَهُوَ لَا يَقُولُ إلَّا الْحَقَّ، وَهُوَ لَمْ يَأمُرْ عَائِشَةَ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ عِنْدَ كُسُوفِهِ بَل مَعَ ظُهُورِهِ. [17/ 505 - 506]
* * *
سورة الناس
1617 -
قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)} فِيهَا أَقْوَالٌ، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ إلَّا قَوْلَيْنِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الثَّالِثَ وَهوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ:{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)} لِبَيَانِ الْوَسْوَاسِ؛ أَيْ: الَّذِي يُوَسْوِسُ مِنَ الْجِنَّةِ وَمِنَ النَّاسِ، فِي صُدُورِ النَّاسِ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَد أَخْبَرَ أَنَّهُ جَعَلَ لِكُلّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُم إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا، وَإِيحَاؤُهُم هُوَ وَسوَسَتُهُمْ.
وَقَد قِيلَ: إنَّمَا خَصَّ النَّاسَ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُم مُسْتَعِيذُونَ، أَو لِأَنَّهم الْمُسْتَعَاذُ مِن شَرِّهِمْ، ذَكَرَهُمَا أَبُو الْفَرَجِ، وَلَيْسَ لَهُمَا وَجْهٌ، فَإِنَّ وَسْوَاسَ الْجِنّ أَعْظَمُ وَلَمْ
(1)
صحَّحه الترمذي (3366)، والألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (372).
يَذْكُرْهُ؛ بَل ذَكَرَ النَّاس؛ لِأَنَّهُم الْمُسْتَعِيذُونَ، فَيَسْتَعِيذُونَ بِرَبِهِم الَّذِي يَصُونُهُمْ، وَبِمَلِكِهِمْ الَّذِي أَمَرَهُم وَنَهَاهُمْ، وَبِإِلَاهِهِمْ الَّذِي يَعْبُدُونَهُ مِن شَرّ الَّذِي يَحُولُ بَيْنَهُم وَبَيْنَ عِبَادَتِهِ، ويسْتَعِيذُونَ أَيْضًا مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الَّذِي يَحْصُلُ فِي نُفُوسِ النَّاسِ مِنْهُم وَمِنَ الْجِنَّةِ، فَإِنَّهُ أَصْلُ الشَّرِّ الَّذِي يَصْدُرُ مِنْهُم وَاَلَّذِي يَرُدُّ عَلَيْهِمْ. [17/ 509 - 518]
* * *
(فصلٌ فِي آيَاتٍ ثَلَاثٍ مُتَنَاسِبَةٍ مُتَشَابِهَةِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى)
1618 -
فصلٌ فِي آياتٍ ثَلَاثٍ مُتَنَاسِبَةٍ مُتَشَابِهَةِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، يَخْفَى مَعْنَاهَا عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ:
أ - قَوْله تَعَالَى: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)} [الحجر: 41].
ب- وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ} [النحل: 9].
ج- وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12)} [الليل: 12].
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)} . الْقَوْلُ الصَّوَابُ هُوَ قَوْلُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَنَحْوِهِ
(1)
: "الْحَقُّ يَرْجِعُ إلَيَّ وَعَلَيْهِ طَرِيقُهُ لَا يُعَرِّجُ عَلَى شَيءٍ".
وَمَا ذَكَرُوهُ عَن مُجَاهِدٍ ثَابِتٌ عَنْهُ.
وعَن ابْنِ أَبِي نَجِيح عَن مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} قَالَ: طَرِيقُ الْحَقِّ عَلَى اللهِ.
(1)
قال الشيخ: فَإنَّهُم أعْلَمُ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ -لَا سِيَّمَا مُجَاهِدٌ- فَإِنَّهُ قَالَ: عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِن فَاتِحَتِهِ إلَى خَاتِمَتِهِ أقِفُهُ عِنْدَ كُل آيَةِ وَأسْألُهُ عَنْهَا.
وَقَالَ الثوْرِيُّ: إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَن مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ.
وَالْأئِمَّةُ كَالشافِعِيِّ وَأحْمَد وَالْبُخَارِيِّ وَنَحْوِهِمْ يَعْتَمِدُونَ عَلَى تَفْسِيرِهِ، وَالْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ أكْثَرُ مَا يَنْقُلُهُ مِن التَّفْسِيرِ يَنْقلُهُ عَنْهُ. اهـ. (201)
وَإِذَا كَانَت الْعَرَبُ تَقُولُ: طَرِيقُك فِي هَذَا الْأَمْرِ عَلَى فُلَانٍ؛ أَيْ: إلَيْهِ يَصِيرُ أَمْرُك، فَهَذَا يُطَابِقُ تَفْسِيرَ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ مِن السَّلَفِ، كَمَا قَالَ مُجَاهِد: الْحَقُّ يَرْجِعُ إلَى اللهِ، وَعَلَيْهِ طَرِيقُهُ لَا يُعَرِّجُ عَلَى شَيءٍ.
فَطَرِيقُ الْحَق عَلَى اللهِ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي قَالَ اللهُ فِيهِ: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)} .
وَالصَّحِيحُ: أَنَّ "السَّبِيلَ" اسْمُ جِنْسٍ، وَلَكِنَّ الَّذِي عَلَى اللهِ هُوَ الْقَصْدُ مِنْهَا، وَهِيَ سَبِيلٌ وَاحِدٌ، وَلَمَّا كَانَ جِنْسًا قَالَ:{وَمِنْهَا جَائِرٌ} .
وَأَمَّا آيَةُ اللَّيْلِ -قَوْلُهُ: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12)} -. قَالَ الزَّجَّاجُ: إنَّ عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَ طَرِيقَ الْهُدَى مِن طَرِيقِ الضَّلَالِ.
وَهَذَا التَّفْسِيرُ ثَابِتٌ عَن قتادة.
فَقَد تبَيَّنَ أَنَّ جُمْهُورَ الْمُتَقَدّمِينَ فَسَّرُوا الْآيَاتِ الثَّلَاثَ بِأَنَّ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى اللهِ.
وَمِنْهُم مَن فَسَّرَهَا بِأَنَّ عَلَيْهِ بَيَانَ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ.
وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَقَد يَقُولُ طَائِفَةٌ: لَيْسَ عَلَى اللهِ شَيٌ - لَا بَيَانُ هَذَا وَلَا هَذَا، فَإِنَّهُم مُتَنَازِعُونَ هَل أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ.
وَدَلَالَةُ الْآيَاتِ عَلَى هَذَا فِيهَا نَظَرٌ.
وَأَمَّا الْمَعْنَى الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فَهُوَ مُرَاد مِنَ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ قَطْعًا، وَأَنَّهُ أَرْشَدَ بِهَا إلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهِيَ الطَّرِيقُ الْقَصْدُ، وَهِيَ الْهُدَى. [15/ 198 - 213]
* * *
(أفضلية بعض السور على بعض)
1619 -
وَلهَذَا كَانَت سورَةُ "الْأَنْعَامِ" أَفْضَل مِن غَيْرِهَا، وَكَذَلِكَ سُورَةُ "يس" وَنحْوُهَا مِنَ السُّوَرِ الَّتِي فِيهَا أُصُولُ الدّينِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا الرُّسُلُ كُلُّهُم صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِم.
وَلهَذَا كَانَت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} مَعَ قِلَّةِ حُرُوفهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ فِيهَا التَّوْحِيدَ، فَعُلِمَ أَنَّ آيَاتِ التَّوْحِيدِ أَفْضَلُ مِن غَيْرِهَا، وَفَاتِحَةُ الْكِتَابِ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ بِلَا رَيْبٍ.
و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} مَكِّيَّة بِلَا ريبٍ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
وَسُورَةُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} أَكْثَرُهُم عَلَى أَنَّهَا مَكِّيَّة، وَقَد ذُكِرَ فِي أَسْبَابِ نُزُولهَا سُؤَالُ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ، وَسُؤَالُ الْكُفَّارِ مِن أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُود بِالْمَدِينَةِ، وَلَا مُنَافَاةَ؛ فَإِنَّ اللهَ أَنْزَلَهَا بِمَكَّةَ أَوَّلًا ثمَّ لَمَّا سُئِلَ نَحْو ذَلِكَ أَنْزَلَهَا مَرَة أُخْرَى.
وَهَذَا مِمَّا ذَكَرَهُ طَائِفَةٌ مِن الْعُلَمَاءِ وَقَالُوا: إنَّ الْآيَةَ أَو السُّورَةَ قَد تَنْزِلُ مَرَّتَيْنِ وَأَكْثَرَ مِن ذَلِكَ، فَمَا يُذْكَرُ مِن أَسْبَابِ النُّزُولِ الْمُتَعَدِّدَةِ قَد يَكُونُ جَمِيعُهُ حَقًّا.
وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ: أَنَّهُ إذَا حَدَثَ سَبَبٌ يُنَاسِبُهَا نَزَلَ جِبْرِيلُ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِ لِيُعَلِّمَهُ أَنَّهَا تتضَمَّنُ جَوَابَ ذَلِكَ السَّبَبِ، وإن كَانَ الرَّسُولُ يَحْفَظُهَا قَبْلَ ذَلِكَ. [17/ 190 - 198]
* * *
(أصلان هما جماع الدين العام)
1620 -
جماع الأمر المحمود يرجع إلى الأصلين، كما روى [الترمذي]
(1)
حديثًا صححه عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِل: ما أكثر ما يُدخِلُ الناس
(1)
ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، والسياق يقتضيه.
الجنة؟ فقال: "تقوى الله وحُسن الخُلُق"
(1)
.
فتقوى الله وحُسن الخُلُق يجمع كل خير، وقد قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} [النحل: 128]. [المجموعات العليّة 1/ 117 - 118]
1621 -
قَالَ تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5)} [الليل: 5] وَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} [النحل: 128] وَهَذَانِ الْأَصْلَانِ هُمَا جِمَاعُ الذينِ الْعَامّ، كَمَا يُقَالُ: التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللهِ، وَالرَّحْمَةُ لِعِبَادِ اللهِ.
فَالتَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللهِ يَكُونُ بِالْخُشُوعِ وَالتَّوَاضُعِ وَذَلِكَ أَصْلُ التَّقْوَى، وَالرَّحْمَةُ لِعِبَادِ اللهِ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ، وَهَذَانِ هُمَا حَقِيقَةُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإنَّ الصَّلَاةَ مُتَضَمِّنَة لِلْخُشُوعِ للهِ وَالْعُبُودِيَّةِ لَهُ وَالتَّوَاضُعِ لَهُ وَالذُّلّ لَهُ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مُضَادٌّ لِلْخُيَلَاءِ وَالْفَخْرِ وَالْكِبْرِ.
وَالزَّكَاةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِنَفْعِ الْخَلْقِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِم وَذَلِكَ مُضَادٌّ لِلْبُخْلِ.
وَلهَذَا وَغَيْرِهِ كَثُرَ الْقِرَانُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فِي كِتَابِ اللهِ. [14/ 214 - 215]
* * *
(1)
رواه الإمام أحمد (9696)، والترمذي (2004)، وصحَّحه.
الحديث
1622 -
الْحَدِيثُ الَّذِي يَرْوِيه بَعْضُهُم أَنَّهُ قَالَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ: "رَجَعْنَا مِن الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ": لَا أَصْلَ لَهُ. [11/ 197]
1623 -
قَولُهُ: "أُمَّتِي كَالْغَيْثِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخرهُ"
(1)
خلافُ السُّنَنِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِن حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْن وَمِمَّا هوَ فِي "الصحِيحَيْنِ" أَو أَحَدِهِمَا مِن قَوْلِهِ: خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْن الَّذِي بُعِثْت فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ"
(2)
وَقَوْلُهُ: "وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَو أنفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا: مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ"
(3)
، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن الْأَحَادِيثِ. وَخِلَافُ إجْمَاعِ السَّلَف. [11/ 367]
1624 -
صَنَّفَ بَعْضُهُمْ فِي فَضَائِلِ رَجَبٍ، وَغَيْرُهمْ فِي فَضَائِلِ صَلَوَاتِ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي، وَصَلَاةِ يَوْمِ الْأَحَدِ، وَصَلَاةِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ، وَصَلَاةِ يَوْمِ الثُّلَاثَاءَ، وَصَلَاةِ أَوَّلِ جُمُعَةٍ فِي رَجَبٍ، وَأَلْفِيَّةِ رَجَبٍ، وَأَوَّلِ رَجَب، وَأَلْفِيَّةِ نِصْفِ شَعْبَانَ، وَإِحْيَاءِ لَيْلَتَيْ الْعِيدَيْنِ، وَصَلَاةِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ.
وأَجْوَدُ مَا يُرْوَى مِن هَذ الصَّلَوَاتِ حَدِيثُ صلَاةِ التَّسْبِيحِ، وَقَد رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي، وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يَقُلْ بِهِ أحَدٌ مِن الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، بَل أَحْمَدُ ضَعَّفَ الْحَدِيثَ وَلَمْ يَسْتَحِبَّ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ.
وَمَن تَدَبَّرَ الْأُصُولَ عَلِمَ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ. [11/ 579]
(1)
قال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه (2869)، وقال الألباني في صحيح الترمذي: حسن صحيح (2869).
(2)
رواه مسلم (2532).
(3)
رواه مسلم (2540).
1625 -
ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِم" وَغَيْرِهِ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"صِنْفَانِ مِن أَهْلِ النَّارِ مِن أُمّتي لَمْ أَرَهُمَا بَعْدُ: نِسَاءٌ كاسِيَاتٌ عَارِياتٌ" وَمَن زَعَمَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَيْسَ بِصَحِيح بِمَا فِيهِ مِن الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فَإِنَّهُ جَاهِلٌ ضَالٌّ عَن الشَّرْعِ، يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ الَّتِي تَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ مِن الْجُهَّالِ الَّذِينَ يَعْتَرِضُونَ عَلَى الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَهِ عَن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. [11/ 646]
1626 -
قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "وَأمَا الْخُيَلَاء الَّتي يحِبُّهَا اللهُ فَاخْتِيَالُ الرَّجُلِ بِنَفْسِهِ عِنْدَ الْحَرْب وَاخْتِيَالُة بِنَفْسِهِ عِنْدَ الصَّدَقَةِ"
(1)
؛ لِأَنَّهُ مَقَامُ ثَبَاتِ وَقُوَّةٍ، فَالْخُيَلَاءُ تُنَاسِبُهُ، وإنَّمَا الَّذِي لَا يُحِبُّهُ اللهُ الْمُخْتَالُ الْفَخُورُ الْبَخِيلُ الْآمِرُ بِالْبُخْلِ، فَأَمَّا الْمُخْتَالُ مَعَ الْعَطَاءِ أَو الْقِتَالِ فَيُحِبُّهُ. [14/ 95]
1627 -
فِي "الصَّحِيحِ"
(2)
عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم:، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ"، وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأثْنِيَ عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ"، قَالَ عُمَرُ: فِدًى لَكَ أَبِي وَأُمِّي، مُرَّ بِجَنَازَةٍ، فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرٌ، فَفلْتَ: "وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ"، وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ، فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرٌّ، فَقُلْتَ: "وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ"؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَن أثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَمَن أثنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ، أنتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ: في الْأَرْضِ"
(3)
فَقَوْلُهُ: "شُهَدَاءُ اللهِ" أَضَافَهُم إلَى اللهِ تَعَالَى.
وَالشَّهَادَةُ تُضَافُ تَارَةً إلَى مَن يَشْهَدُ لَهُ، وإِلَى مَن يَشْهَدُ عِنْدَهُ فَتُقْبَلُ
(1)
رواه الإمام أحمد (23747)، وأبو داود (2659)، وحسّنه الألباني ومحققو المسند.
(2)
البخاري (1367)، ومسلم (949).
(3)
إضافة تشريف وتكليف، أما التشريف فواضح، حيث أضافهم إليه، وأما التكليف، فهذا يُوجب عليهم ألا يشهدوا إلا بحق، وألا يُجرحوا أحدًا الناس -وخاصةً أهل العلم والصلاح- إلا بدليل وبرهان قاطع، وألا يُثنوا بالخير على أهل الفساد والشر إلا بعد توبتهم وصلاحهم.
شَهَادَتُهُ، كَمَا يُقَالُ: شُهُودُ الْقَاضِي وَشُهُودُ السُّلْطَانِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِن الَّذِينَ تُقْبَلُ شَهَادَتَهُمْ. [14/ 199]
1628 -
فِي حَدِيتِ أَبِي يَحْيَى الْقَتَّاتِ عَن مُجَاهِدِ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: "مَن عَشِقَ فَعَفَّ وَكَتَمَ وَصَبَرَ ثُمَّ مَاتَ فَهُوَ شَهِيدٌ"
(1)
.
وَأَبُو يَحْيَى فِي حَدِيثِهِ نَظَرٌ؛ لَكِنَّ الْمَعْنَى الذِي ذكِرَ فِيهِ دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ؛ فَإِنَّ اللهَ أَمَرَهُ بِالتَّقْوَى وَالصَّبْرِ، فَمِن التَّقْوَى أَنْ يَعِفَّ عَن كُلِّ مَا حَزمَ اللهُ مِن نَظَرٍ بِعَيْنٍ، وَمِن لَفْظٍ بِلِسَانٍ، وَمِن حَرَكَةٍ بِيَدٍ وَرِجْلٍ.
وَالصَّبْرُ أَنْ يَصْبِرَ عَن شَكْوَى بِهِ إلَى غَيْرِ اللهِ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الصَّبْرُ الْجَمِيلُ. وَأَمَّا الْكِتْمَانُ فَيُرَادُ بِهِ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكْتُمَ بَثَّهُ وَأَلَمَهُ وَلَا يَشْكُوَ إلَى غَيْرِ اللهِ، فَمَتَى شَكَا إلَى غَيْرِ اللهِ نَقَصَ صَبْرُهُ، وَهَذَا أَعْلَى الكتمانين؛ لَكِنَّ هَذَا لَا يَصْبِرُ عَلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ؛ بَل كَثِيرٌ مِن النَّاسِ يَشْكُو مَا بِهِ، وَهَذَا عَلَى وَجْهَيْن
(2)
:
أ - فَإِنْ شَكَا ذَلِكَ إلَى طَبِيبٍ يَعْرِفُ طِبَّ النُّفُوسِ لِيُعَالِجَ نَفْسَهُ بِعِلَاجِ الْإِيمَانِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَفْتي، وَهَذَا حَسَنٌ.
ب- وَإِن شَكَا إلَى مَن يُعِينُهُ عَلَى الْمُحَرَّمِ فَهَذَا حَرَامٌ.
ج- وَإِن شَكَا إلَى غَيْرِهِ لِمَا فِي الشَّكْوَى مِن الرَّاحَةِ، كَمَا أنَّ الْمُصَابَ يَشْتَكِي مُصِيبَتَهُ إلَى النَّاسِ مِن غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَ تَعَلُّمَ مَا يَنْفَعُهُ، وَلَا الِاسْتِعَانَةَ عَلَى مَعْصِيَةٍ، فَهَذَا يَنْقُصُ صَبْرُهُ؛ لَكِنْ لَا يَأْثَمُ مُطْلَقًا إلا إذَا اقْتَرَنَ بِهِ مَا يحرُمُ؛ كَالْمُصَابِ الَّذِي يَتَسَخَّطُ
(3)
.
والثَّانِي: أَنْ يَكْتُمَ ذَلِكَ فَلَا يَتَحَدَّثُ بِهِ مَعَ الناسِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِن إظْهَارِ السُّوءِ وَالْفَاحِشَةِ، فَإِنَّ النُّفُوسَ إذَا سَمِعَتْ مِثْل هَذَا تَحَرَّكْت وَتَشَهَّتْ وَتَمَنَّتْ.
(1)
قال الألباني في السلسلة الضعيفة (409): موضوع.
(2)
بل ثلاثة.
(3)
وكمن يشكي إلى صديقه أو قريبه ما يلقاه من التعب في العمل، أو سوء المعاملة من أحد.
وَالْإِنْسَانُ مَتَى رَأَى أَو سَمِعَ أَو تَخَيَّلَ مَن يَفْعَلُ مَا يَشْتَهِيهِ كَانَ ذَلِكَ دَاعِيًا لَهُ إلَى الْفِعْلِ.
وَالنِّسَاءُ مَتَى رَأَيْنَ الْبَهَائِمَ تَنْزُو
(1)
الذُّكُورَ مِنْهَا عَلَى الْإِنَاثِ مِلْنَ إلَى الْبَاءَةِ وَالْمُجَامَعَةِ.
وَالرَّجُلُ إذَا سَمِعَ مَن يَفْعَلُ مَعَ المردان وَالنِّسَاءِ أَو رَأَى ذَلِكَ أَو تَخَيَّلَهُ فِي نَفْسِهِ دَعَاهُ ذَلِكَ إلَى الْفِعْلِ
(2)
.
وَإِذَا ذَكَرَ الْإِنْسَانُ طَعَامًا اشْتَهَاهُ وَمَالَ إلَيْهِ، وَإِن وُصِفَ لَهُ مَا يَشْتَهِيهِ مِن لِبَاسٍ أَو امْرَأَةٍ أَو مَسْكَنٍ أَو غَيْرِ ذَلِكَ مَالَتْ نَفْسُهُ إلَيْهِ.
وَالْغَرِيبُ عَن وَطَنِهِ مَتَى ذُكِّرَ بِالْوَطَنِ حَنَّ إلَيْهِ.
فَكُلَّمَا كَانَ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ مَحَبَّتُهُ: إذَا تَصَوَّرَهُ تَحَرَّكَتْ الْمَحَبَّةُ وَالطَّلَبُ إلَى ذَلِكَ الْمَحْبُوبِ الْمَطْلُوبِ
(3)
.
فَالْمُبْتَلَى بِالْفَاحِشَةِ وَالْعِشْقِ إذَا ذَكَرَ مَا بِهِ لِغَيْرِهِ تَحَرَّكَتْ النُّفُوسُ إلَى جِنْسِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ الصُّوَرِ الْجَمِيلَةِ، فَإِذَا تَصَوَّرَتْ جِنْسَ ذَلِكَ تَحَرَّكَتْ إلَى الْمَحْبُوبِ؛ وَلهَذَا نَهَى اللهُ عَن إشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ. [14/ 207 - 210]
1629 -
مَا تَسْألُهُ طَائِفَةٌ مِن النَّاسِ، وَهُوَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا يَقْضِي اللهُ لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إلَّا كانَ خَيْرًا لَه"
(4)
، وَقَد قَضَى عَلَيْهِ بِالسَّيِّئاتِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِقَابِ، فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ خَيْرًا؟
(1)
أي: تثب وتعلو.
(2)
فما بالك بمن يُشاهد أفلامًا إباحية من الشباب والفتيات والأطفال؟ كم ستحرقهم الشهوة، وتذهب بعقولهم وقلوبهم، ومثل هذه الأفلام مُتاحةٌ لكثير منهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي والشبكة العنكبويتة، فالواجب على الآباء العناية بأبنائهم، وحمايتهم منها.
(3)
فأعظم وسيلة لصيانة الإنسان من الفتن والشهوات المحرمة: قطع ذكرها وتخيلها ومشاهدتها، ومن ظن أنه مع كثرة المشاهدة والتخيل تخف وطأة الشهوة، فهو كمن ظن أنه كلما شرب من ماء البحر روي وانقطع عطشُه.
(4)
صحَّحه الألباني في السلسلة الصحيحة (148).
وَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْحَدِيثِ، إنَّمَا دَخَلَ فِيهِ مَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ مِن النِّعَمِ وَالْمَصَائِبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ:{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79].
الْوَجْهُ الثانِي: أَنَّهُ إذَا قُدِّرَ أَنَّ الْأعْمَالَ دَخَلَتْ فِي هَذَا، فَقَد قَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"مَن سَرَّتْة حَسَنتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيئتُهُ فَهُوَ مُؤْمِن"
(1)
.
فَإِذَا قَضَى له بِأنْ يُحْسِنَ فَهَذَا مِمَّا يَسُرُّهُ، فَيَشْكُرُ اللهَ عَلَيْهِ.
وَإِذَا قَضَى عَلَيْهِ بِسَيِّئَةِ: فَهِيَ إنَّمَا تَكُونُ سَيِّئَةً يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ عَلَيْهَا إذَا لَمْ يَتُبْ مِنْهَا، فَإِنْ تَابَ أُبْدِلَتْ بِحَسَنَةِ، فَيَشْكرُ الله عَلَيْهَا.
وَإِن لَمْ يَتُبْ اُبْتُلِيَ بِمَصَائِبَ تُكَفِّرُهَا فَصَبَرَ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُ.
وَالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَقْضِي اللهُ لِلْمُؤْمِنِ، وَالْمُؤْمِنُ هُوَ الَّذِي لَا يُصِرُّ عَلَى ذَنْبٍ بَل يَتوبُ مِنْهُ، فَيَكُونُ حَسَنَةً. [14/ 317 - 318]
1630 -
قوله: "وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الجَد" ضَمَّنَ "يَنْفَعُ" مَعْنَى "يُنْجِي وَيُخَلِّصُ" فَبَيَّنَ أَنْ جَدَّهُ لَا يُنْجِيهِ مِن الْعَذَاب؛ بَل يَسْتَحِقُّ بِذُنُوبِهِ مَا يَسْتَحِقُّهُ أَمْثَالُهُ وَلَا يَنْفَعُهُ جَدُّهُ مِنْك، فَلَا يُنَجّيهِ وَلَا يُخَلِّصُهُ. [14/ 377]
1631 -
سَوَّغَ الْعُلَمَاءُ أَنْ يُرْوَى فِي بَابِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مِنَ الْأَحَادِيثِ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ كَذِبٌ وَإِن كَانَ ضَعِيفَ الْإِسْنَادِ.
بِخِلَافِ بَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَإِنَّهُ لَا يُؤخَذُ فِيهِ إلَّا بِمَا يَثْبُتُ أَنَّهُ صِدْقٌ. [15/ 193]
1632 -
الْحَدِيثُ النَّبَوِيُّ هُوَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا حُدِّثَ بِهِ عَنْهُ بَعْدَ النبوَّةِ: مِن قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَإِقْرَارِهِ؛ فَإِنَّ سُنَّتهُ ثَبَتَتْ مِن هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ. [18/ 6 - 7]
(1)
صحَّحه الألباني في شرح الطحاوية (395).
1633 -
ثَبَتَ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَكُن أَحَدٌ مِن أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحْفَظُ مِنِّي إلَّا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو؛ فَإنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ بِيَدِهِ ويَعِي بِقَلْبِهِ، وَكُنْت أَعِي بِقَلْبِي وَلَا أَكْتُبُ بِيَدِي.
وَكَانَ عِنْدَ آلِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاص نُسْخَةٌ كَتَبَهَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَبِهَذَا طَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَن أَبِيهِ شُعَيْبٍ عَن جَدِّهِ وَقَالُوا: هِيَ نُسْخَةٌ.
وَشُعَيْبٌ هُوَ: شُعَيْبُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاص، وَقَالُوا: عَن جَدِّهِ الْأَدْنَى محَمَّدٍ: فَهُوَ مُرْسَلٌ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُدْرِك النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَإِن عَنَى جَدَّهُ الْأَعْلَى فَهُوَ مُنْقَطِعٌ؛ فَإِنَّ شُعَيْبًا لَمْ يُدْرِكْهُ.
وَأَمَّا أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ وَجُمْهورُ الْعُلَمَاءِ فَيَحْتَجُّونَ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَن أَبِيهِ عَن جَدِّهِ إذَا صَحَّ النَّقْلُ إلَيْهِ؛ مِثْل مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة وَنَحْوِهِمَا، وَمِثْل الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وإسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَغَيْرِهِمْ قَالُوا: الْجَدُّ هُوَ عَبْدُ اللهِ؛ فَإِنَّهُ يَجِيءُ مُسَمَّى، وَمُحَمَّد أَدْرَكَهُ، قَالُوا: وَإِذَا كَانَت نُسْخَةٌ مَكْتُوبَةٌ مِن عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ هَذَا أوكَدَ لَهَا وَأَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهَا؛ وَلهَذَا كَانَ فِي نُسْخَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْفِقْهِيَّةِ الَّتِي فِيهَا مُقَدَّرَاتُ مَا احْتَاجَ إلَيْهِ عَامَّةُ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ.
وَقَدْ يَدْخُلُ فِيهَا بَعْض أَخْبَارِهِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْضُ سِيرَتِهِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، مِثْل: تَحَنُّثِهِ بِغَارِ حِرَاءٍ.
وَكُتُبُ الْحَدِيثِ هِيَ مَا كَانَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ أَخَصُّ، وإن كَانَ فِيهَا أُمُورٌ جَرَتْ قَبْلَ النّبوَّةِ؛ فَإِنَ تِلْكَ لَا تُذْكَرُ لِتُؤْخَذَ وَتَشْرَعَ فِعْلَهُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ؛ بَل قَد أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَى عِبَادِهِ الْإِيمَانَ بِهِ وَالْعَمَلَ هُوَ مَا جَاءَ بِهِ بَعْدَ النبوَّةِ.
فَكُلُّ مَا قَالَهُ بَعْدَ النُّبُوَّةِ وَأَقَرَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُنْسَخْ: فَهوَ تَشْرِيعٌ. [18/ 8 - 12]
1634 -
الْحَدِيثُ الْوَاحِدُ يُرَادُ بِهِ مَا رَوَاهُ الصَّاحِبُ مِنَ الْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَلَو كَانَ جُمَلًا كَثِيرَةً؛ مِثْل حَدِيثِ تَوْبَةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ.
وَأَمَّا إذَا رَوَى الصَّاحِبُ كَلَامًا فَرَغَ مِنْهُ ثُمَّ رَوَى كَلَامًا آخَرَ وَفَصَلَ بَيْنَهُمَا، بِأنْ قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَو بِأنْ طَالَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا فَهَذَانِ حَدِيثَانِ. [18/ 13 - 15]
1635 -
مِنَ "الصَّحِيحِ" مَا تَوَاتَرَ لَفْظُهُ كَقَوْلِهِ: "مَن كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتبوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ"
(1)
.
وَمِنْهُ مَا تَوَاتَرَ مَعْنَاهُ: كَأحَادِيثِ الشَفَاعَةِ وَأَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ وَأَحَادِيثِ الْحَوْضِ وَأَحَادِيثِ نَبْعِ الْمَاءِ مِن بَيْنِ أَصَابِعِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَهَذَا يُفِيدُ الْعِلْمَ وُيجْزَمُ بِأنَّهُ صِدْقٌ؛ لِأنَّهُ مُتَوَاتِرٌ إمَّا لَفْظًا وإِمَّا مَعْنًى.
وَمِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَا تَلَقَّاهُ الْمُسْلِمُونَ بِالْقَبُولِ فَعَمِلُوا بِهِ، كَمَا عَمِلُوا بِحَدِيثِ الْغُرَّةِ فِي الْجَنِينِ، وَكَمَا عَمِلُوا بِأحَادِيثِ الشُّفْعَةِ، وَأَحَادِيثِ سُجُودِ السَّهْوِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا يُفِيدُ الْعِلْمَ ويُجْزَمُ بِاَنَّهُ صِدْقٌ؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ تَصْدِيقًا وَعَمَلًا بِمُوجِبِهِ، وَالْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ؛ فَلَو كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَذِبًا لَكَانَتِ الْأُمَّةُ قَد اتَّفَقَتْ عَلَى تَصْدِيقِ الْكَذِبِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهَا.
وَمِنَ الصَّحِيحِ مَا تَلَقَّاهُ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ؛ كَجُمْهُورِ أَحَادِيثِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ يَجْزِمُونَ بِصِحَّةِ جُمْهُورِ أَحَادِيثِ الْكِتَابَيْنِ، وَسَائِرُ النَّاسِ تَبَعٌ لَهُم فِي مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ؛ فَإِجْمَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ صِدْقٌ كَإجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ حَلَالٌ أَو حَرَامٌ أَو وَاجِبٌ.
(1)
البخارى (1291).
وَإِذَا أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى شَيءٍ فَسَائِرُ الْأُمَّةِ تبَعٌ لَهُم؛ فَإجْمَاعُهُم مَعْصُومٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى خَطَأٍ
(1)
.
وَمِمَّا قَد يُسَمَّى صَحِيحًا مَا يُصَحِّحُهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ وَآخَرُونَ يُخَالِفُونَهُم فِي تَصْحِيحِهِ فَيَقُولونَ: هُوَ ضَعِيفٌ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، مِثْل أَلْفَاظٍ رَوَاهَا مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ" وَنَازَعَهُ فِي صِحَّتِهَا غَيْرُهُ مَن أَهْلِ الْعِلْمِ، إمَّا مِثْلَة أَو دُونَه أَو فَوْقَهُ، فَهَذَا لَا يُجْزَمُ بِصِدْقِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ.
وَالْبُخَارِيُّ أَحْذَقُ وَأَخْبَرُ بِهَذَا الْفَنِّ مِن مُسْلِمٍ؛ وَلهَذَا لَا يَتَّفِقَانِ عَلَى حَدِيثٍ إلَّا يَكُونُ صَحِيحًا لَا ريبَ فِيهِ، قَد اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى صِحَّتِهِ.
ثُمَّ يَنْفَرِدُ مُسْلِمٌ فِيهِ بِألْفَاظٍ يُعْرِضُ عَنْهَا الْبُخَارِيُّ، ويقُولُ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ: إنَّهَا ضَعِيفَةٌ، ثُمَّ قَد يَكُونُ الصَّوَابُ مَعَ مَن ضَعَّفَهَا؛ كَمِثْل صَلَاةِ الْكُسُوفِ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعٍ، وَقَد يَكونُ الصَّوَابُ مَعَ مُسْلِمٍ، وَهَذَا أَكْثَرُ، مِثْل قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى:"إنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَرَأَ فَأنصِتُوا"، فَإِنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ صَحَّحَهَا مُسْلِمٌ، وَقَبْلَهُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ، وَضَعَّفَهَا الْبُخَارِيُّ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ مُطَابِقَةٌ لِلْقُرْآنِ، فَلَو لَمْ يُرَدْ بِهَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَوَجَبَ الْعَمَلُ بالْقُرْآنِ، فَإِنَّ فِي قَوْلِهِ:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)} [الأعراف: 204] أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الصَّلَاةِ، وَأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ مُرَادَةٌ مِن هَذَا النَّصّ.
وَلهَذَا كَانَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ فِي الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ: أَنَّ الْمَأمُومَ إذَا سَمِعَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ يَسْتَمِعُ لَهَا وَيُنْصِتُ، لَا يَقْرَأُ بِالْفَاتِحَةِ وَلَا غَيْرِهَا، وإِذَا لَمْ يَسْمَعْ
(1)
هذه قاعدةٌ عامَّة، وهي حجةٌ على الخوارج الذين خرجوا عن إجماع المسلمين المنكرين لأفعالهم، والرافضين لجرائمهم، وكذلك حجةٌ على الذين تسلطوا على دعاة المسلمين ومشايخهم والمصلحين، وجرَّحوهم واغتابوهم وأسقطوهم من أعين الكثير من العامة، فمنهجهم هذا مُخالف لكلمة المسلمين عامّتهم وعلمائهم.
قِرَاءَتَهُ بِهَا يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ وَمَا زَادَ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ.
وَعَلَى هَذَا فَاسْتِمَاعُهُ لِقِرَاءَةِ إمَامِهِ بِالْفَاتِحَةِ يَحْصُلُ لَهُ بِهِ مَقْصُودُ الْقِرَاءَةِ وَزَيادَةٌ تُغْنِي عَن الْقِرَاءَةِ مَعَهُ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا. [18/ 16 - 21]
1636 -
قِسْمَةُ الْحَدِيثِ إلَى صَحِيحٍ وَحَسَنٍ وَضَعِيفٍ، أَوَّلُ مَن عُرِفَ أَنَّهُ قَسَّمَهُ هَذِهِ الْقِسْمَةَ: أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، وَلَمْ تُعْرَفْ هَذِهِ الْقِسْمَةُ عَن أَحَدٍ قَبْلَهُ، وَقَد بَيَّنَ أَبُو عِيسَى مُرَادَهُ بِذَلِكَ، فَذَكَرَ أَنَّ الْحَسَنَ مَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ، وَلَمْ يَكُن فِيهِمْ مُتَّهَمٌ بِالْكَذِبِ، وَلَمْ يَكُن شَاذًّا، وَهُوَ دُونَ الصَّحِيحِ الَّذِي عُرِفَتْ عَدَالَةُ نَاقِلِيهِ وَضَبْطُهُمْ.
وَقَالَ: الضَّعِيفُ الَّذِي عُرِفَ أَنَّ نَاقِلَهُ مُتَّهَم بِالْكَذِبِ رَدِيءُ الْحِفْظِ؛ فَإِنَّهُ إذَا رَوَاهُ الْمَجْهُولُ خِيفَ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا أو سَيِّئَ الْحِفْظِ، فَإِذَا وَافَقَهُ آخَرُ لَمْ يَأخُذْ عَنْهُ عُرِفَ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَمَّدْ كَذِبَهُ، وَاتِّفَاقُ الِاثْنَيْنِ عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ طَوِيلٍ قَد يَكُونُ مُمْتَنِعًا وَقَد يَكُونُ بَعِيدًا، وَلَمَّا كَانَ تَجْوِيزُ اتِّفَاقِهِمَا فِي ذَلِكَ مُمْكِنًا نَزَلَ مِن دَرَجَةِ الصَّحِيحِ.
وَقَد أَنْكَرَ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى التِّرْمِذِيِّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ وَقَالُوا: إنَّهُ يَقُولُ: حَسَن غَرِيبٌ، وَالْغَرِيبُ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ الْوَاحِدُ، وَالْحَدِيثُ قَد يَكُونُ صَحِيحًا غَرِيبًا كَحَدِيثِ:"إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ"، وَحَدِيثِ:"نَهَى عَن بَيْعِ الْوَلَاءِ وَهِبَتِهِ"، وَحَدِيثِ:"دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَى رَأسِهِ الْمِغْفَرُ"، فَإِنَّ هَذِهِ صَحِيحَةٌ مُتَلَقَّاةٌ بِالْقَبُولِ.
وَالْأوّلُ: لَا يُعْرَفُ ثَابِتًا عَن غَيْرِ عُمَرَ.
وَالثَّاني: لَا يُعْرَفُ عَن غَيْرَ ابْنِهِ عَبْدِ اللهِ.
وَالثَّالِث: لَا يُعْرَفُ إلَّا مِن حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَن أَنَسٍ.
وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ طَعَنُوا عَلَى التِّرْمِذِيِّ لَمْ يَفْهَمُوا مُرَادَهُ فِي كَثِيرٍ مِمَّا قَالَهُ؛ فَإِنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ قَد يَقُولُونَ: هَذَا الْحَدِيثُ غَرِيبٌ؛ أَيْ: مِن هَذَا الْوَجْهِ،
وَقَد يُصَرِّحُونَ بِذَلِكَ فَيَقُولُونَ: غَرِيبٌ مِن هَذَا الْوَجْهِ، فَيَكُونُ الْحَدِيثُ عِنْدَهُم صَحِيحًا مَعْرُوفًا مِن طَرِيقٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا رُوِيَ مِن طَرِيقٍ آخَرَ كَانَ غَرِيبًا مِن ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَإِن كَانَ الْمَتْنُ صَحِيحًا مَعْرُوفًا، فَالتِّرْمِذِيُّ إذَا قَالَ: حَسَن غَرِيبٌ قَد يَعْنِي بِهِ: أَنَّهُ غَرِيبًا مِن ذَلِكَ الطَّرِيقِ، وَلَكِنَ الْمَتْنَ لَهُ شَوَاهِدُ صَارَ بِهَا مِن جُمْلَةِ الْحُسْنِ.
وَأَمَّا مَن قبلَ التِّرْمِذِيِّ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَمَا عُرِفَ عَنْهُم هَذَا التَّقْسِيمُ الثُّلَاثِي، لَكِنْ كَانُوا يُقَسِّمُونَهُ إلَى صَحِيحٍ وَضَعِيفٍ، وَالضَّعِيفُ عِنْدَهُم نَوْعَانِ:
أ- ضَعِيفٌ ضَعْفًا لَا يَمْتَنِعُ الْعَمَلُ بِهِ، وَهُوَ يُشْبِهُ الْحَسَنَ فِي اصْطِلَاحِ التِّرْمِذِيِّ.
ب- وَضَعِيفٌ ضَعْفًا يُوجِبُ تَرْكَهُ، وَهُوَ الْوَاهِي. [18/ 23 - 25]
1637 -
بَعْضُ مَا يُصَحِّحُهُ التِّرْمِذِيُّ يُنَازِعُهُ غَيْرُهُ فِيهِ، كَمَا قَد يُنَازِعُونَهُ فِي بَعْضِ مَا يُضَعِّفُهُ وَيُحَسِّنُهُ، فَقَد يُضَغفُ حَدِيثًا وَيُصَحِّحُهُ الْبُخَارِيِّ. [18/ 24]
1638 -
إِنَّ تَعَدُّدَ الطُّرُقِ وَكَثْرَتَهَا يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا حَتَّى قَد يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِهَا، وَلَو كَانَ النَّاقِلُونَ فُجَّارًا فُسَّاقًا، فَكَيْفَ إذَا كَانُوا عُلَمَاءَ عُدُولًا، وَلَكِنْ كَثُرَ فِي حَدِيثهِم الْغَلَطُ!
وَمِثْلُ هَذَا عَبْدُ اللهِ بْنُ لَهِيعَةَ، فَإِنَّهُ مِن أَكَابِرِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ قَاضِيًا بِمِصْر كَثِيرَ الْحَدِيثِ، لَكِنِ احْتَرَقَتْ كُتُبُهُ فَصَارَ يُحَدِّثُ مِن حفْظه فَوَقَعَ فِي حَدِيثهِ غَلَطٌ كَثِيرٌ، مَعَ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى حَدِيثهِ الصّحَّةُ.
وَأَمَّا مَن عُرِفَ مِنْهُ أَنَّهُ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ: فَمِنْهُم مَن لَا يَرْوِي عَن هَذَا شَيْئًا، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَل وَغَيْرِهِ، لَمْ يَرْوِ فِي مُسْنَدِهِ عَمَّن يَعْرِفُ أَنَّهُ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ، لَكِنْ يَرْوِي عَمَّن عُرِفَ مِنْهُ الْغَلَط لِلِاعْتِبَارِ بِهِ وَالِاعْتِضَادِ. [18/ 26]
1639 -
فَصْلٌ: فِي أَنْوَاعِ الرِّوَايَةِ وَأَسْمَاءِ الْأَنْوَاعِ، مِثْل: حَدَّثَنَا، وَأَخْبَرَنَا، وَأَ نْبَأَنَا، وَسَمِعْت، وَقَرَأت، وَالْمُشَافَهَةِ، وَالْمُنَاوَلَةِ، وَالْمُكَاتَبَةِ، وَالْإِجَازَةِ، وَالْوِجَادَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَنَقُولُ: الْكَلَامُ فِي شَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مِمَّا تَصِحُّ الرِّوَايَةُ بِهِ ويثْبُتُ بِهِ الِاتصَالُ.
وَالثاني: فِي التَّعْبِيرِ عَن ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنْوَاعٌ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَسْمَعَ مِن لَفْظِ الْمُحَدِّثِ، سَوَاءٌ رَآهُ أَو لَمْ يَرَة، كَمَا سَمِعَ الصَّحَابَةُ الْقُرْآنَ مِن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالْحَدِيثَ أَيْضًا، وَكَمَا كَانَ يَقْرَؤهُ عَلَيْهِم، وَقَرَأَ عَلَى أُبَيّ (سُورَةَ لَمْ يَكُن)، فَإِنَّ هَذَا لَمْ يُفَرِّق النَّاسُ بَيْنَهُمَا.
وَالئوْعُ الثانِي: أَنْ يَقْرَأَ عَلَى الْمُحَدِّثِ فَيُقِرُّ بِهِ، كَمَا يَقْرأ الْمُتَعَلِّمُ الْقُرْآنَ عَلَى الْمُعَلِّمِ، وَيُسَمِّيه الْحِجَازُّيونَ الْعَرْضَ؛ لِأَنَّ الْمُتَحَمِّلَ يَعْرِضُ الْحَدِيثَ عَلَى الْمُحَمِّلِ. فَيَقُولُ: نَعَمْ، وَهَذَا عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَجُمْهُورِ السَّلَفِ كَاللَّفْظِ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: الْمنَاوَلَةُ وَالْمُكَاتَبَةُ: وَكِلَاهُمَا إنَّمَا أَعْطَاهُ كِتَابًا لَا خِطَابًا، لَكِنِ الْمُنَاوَلَةُ مُبَاشِرَة وَالْمُكَاتبَةُ بِوَاسِطَةِ.
الرَّابعُ: الْإِجَازَةُ، فَإِذَا كَانَت لِشَيء مُعَيَّنٍ قَد عَرَفَهُ الْمُجِيزُ فَهِيَ كَالْمُنَاوَلَةِ، وَهِيَ: عَرْضُ الْعَرْضِ؛ فَإِنَّ الْعَارِضَ تَكَلَّم بِالْمَعْرُوضِ مُفَصَّلًا فَقَالَ الشَّيْخُ: نَعَمْ، وَالْمُسْتَجِيزُ
(1)
قَالَ: أَجَزْتَ لِي أَنْ أحَدِّثَ بِمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ؟ فَقَالَ الْمُجِيزُ: نَعَمْ. [18/ 28 - 35]
1640 -
الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّ الْمُتَوَاتِرَ لَيْسَ لَهُ عَدَدٌ مَحْصُورٌ بَل إذَا حَصَلَ الْعِلْمُ عَن إخْبَارِ الْمُخْبِرِينَ كَانَ الْخَبَرُ مُتَوَاتِرًا، وَكَذَلِكَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْعِلْمَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُخْبِرِينَ بِهِ، فَرُبَّ عَدَدٍ قَلِيلٍ أَفَادَ خَبَرُهُم الْعِلْمَ بِمَا يُوجِبُ صِدْقَهُمْ، وَأَضْعَافُهُم لَا يُفِيدُ خَبَرُهُم الْعِلْمَ؛ وَلهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ قَد يُفِيدُ الْعِلْمَ إذَا احْتَفتْ بِهِ قَرَائِنُ تُفِيدُ الْعِلْمَ.
وَعَلَى هَذَا فَكَثِيرٌ مِن مُتُونِ الصَّحِيحَيْنِ مُتَوَاتِرُ اللَّفْظِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، وإن لَمْ يَعْرِفْ غَيْرُهُم أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ؛ وَلهَذَا كَانَ أَكْثَرُ مُتُونِ الصَّحِيحَيْنِ
(1)
أي: طالب الإجازة.
مِمَّا يَعْلَمُ عُلَمَاءُ الْحَدِيث عِلْمًا قَطْعِيًّا أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ، تَارَةً لِتَوَاتُرِهِ عِنْدَهُمْ، وَتَارَةً لِتَلَقِّي الْأُمَّةِ لَهُ بِالْقَبُولِ.
وَخَبَرُ الْوَاحِدِ الْمُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ يُوجبُ الْعِلْمَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. [18/ 40 - 41]
1641 -
وَأَمَّا عِدَّةُ الْأحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ الَّتِي فِي الصَّحِيحَيْنِ: فلَفْظُ الْمُتَوَاتِرِ يُرَاد بِهِ مَعَانٍ، إذ الْمَقْصُودُ مِن الْمُتَوَاتِرِ مَا يُفِيدُ الْعِلْمَ، لَكِنْ مِنَ النَّاسِ مَن لَا يُسَمِّي مُتَوَاتِرًا إلَّا مَا رَوَاهُ عَدَد كَثِيرٌ يَكُونُ الْعِلْمُ حَاصِلًا بِكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ فَقَطْ. وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ، وَالصَّحِيحُ مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرونَ: أَنَّ الْعِلْمَ يَحْصُلُ:
أ - بِكَثْرَةِ الْمُخْبِرِينَ تَارَةً.
ب- وَقَد يَحْصُلُ بِصفَاتِهِمْ لِدِينهِمْ وَضَبْطِهِمْ.
ج- وَقَد يَحْصُلُ بِقَرَائِنَ تَحْتَفُّ بِالْخَبَرِ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِمَجْمُوعِ ذَلِكَ.
د- وَقَد يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِطَائِفَةٍ دُونَ طَائِفَةٍ.
هـ- وَأَيْضًا فَالْخَبَرُ الَّذِي تَلَقَّاهُ الْأَئِمَّةُ بِالْقَبُولِ تَصْدِيقًا لَهُ أَو عَمَلًا بِمُوجَبِهِ يُفِيدُ الْعِلْمَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْخَلَفِ وَالسَّلَفِ، وَهَذَا فِي مَعْنَى الْمُتَوَاتِرِ، لَكِنْ مِنَ النَّاسِ مَن يُسَمِّيه الْمَشْهُورَ وَالْمُسْتَفِيضَ. [18/ 48]
1642 -
مَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْإِمَامِ أَحْمَد: ضَعِيفُ الْحَدِيثِ خَيْرٌ مِن الرَّأي
(1)
. [18/ 52]
1643 -
كِتَابُ الْبُخَارِيِّ: مَا فِيهِ مَتْن يُعْرَفُ أَنَّهُ غَلَطٌ عَلَى الصَّاحِبِ، لَكِنْ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ مَا هُوَ غَلَطٌ.
وَأَمَّا مُسْلِمٌ فَفِيهِ أَلْفَاظ عُرِفَ أَنَّهَا غَلَظ، كَمَا فِيهِ:"خَلَقَ الله التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ"، وَقَد بَيَّنَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ هَذَا غَلَطٌ، وَأَنَّ هَذَا مِن كَلَامِ كَعْبٍ.
(1)
فكيف إذا كان الحديث صحيحًا وقُدّم عليه الرأي؟
وَفِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الْكُسُوفَ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ فِي كُل رَكْعَةٍ، وَالصَّوَابُ: أَنَّهُ لَمْ يُصَلّ الْكُسُوفَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَة.
وَفِيهِ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ سَألَهُ التَّزَوُّجَ بِأُمِّ حَبِيبَةَ وَهَذَا غَلَطٌ.
وَهَذَا مِن أَجَلِّ فُنُونِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، يُسَمَّى: عِلْمَ "عِلَلِ الْحَدِيثِ". [18/ 73]
1644 -
لَيْسَ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ كِتَابٌ أَصَحُّ مِنَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ بَعْدَ الْقُرْآنِ، وَمَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا، مِثْل الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ لِلْحَمِيدِيِّ وَلعَبْدِ الْحَقِّ الإشبيلي. [18/ 74]
1645 -
عَن أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَن أَبِي ذَرٍّ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تبارك وتعالى أَنَّهُ قَالَ:"يَا عِبَادِي إِنّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي كُلُّكُم ضَالّ إِلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاستَهْدُوني أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي كلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فَاستطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَن كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُوني أكسُكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأنا أَغْفِرُ الدُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُوني أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغوا ضَرِّي فَتَضُرُّوني وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُوني، يَا عِبَادِي لَو أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كانُوا عَلَى أتقَى قَلْبِ رَجُل وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ في مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَو أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكَمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أفجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِن مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَو أَن أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألونِي فَأَعْطَيْتُ كل إِنْسَانٍ مَسْأَلتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَن وَجَدَ خَيْرًا، فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَن وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ"
(1)
.
(1)
رواه مسلم (2577).
قالَ سَعِيدٌ: كَانَ أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِي، إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ.
هَذَا الْحَدِيث شَرِيفُ الْقَدْرِ عَظِيمُ الْمَنْزِلَةِ، وَلهَذَا كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَد يَقُولُ: هُوَ أَشْرَفُ حَدِيثٍ لِأهْلِ الشامِ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ قَد تَضَمَّنَ مِن قَوَاعِدِ الدِّينِ الْعَظِيمَةِ فِي الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، فَإِنَّ تِلْكَ الْجُمْلَةَ الْأُولَى وَهِيَ قَوْلُهُ:"حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي" يَتَضَمَّنُ جُلَّ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ.
وَأَمَّا هَذ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: "وَجَعَلْته بَيْنَكُم مُحَرَّمًا فَلَا تظالموا" فَإِنَّهَا تَجْمَعُ الدِّينَ كُلَّهُ؛ فَإِنَّ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ رَاجِع إلَى الظُّلْمِ، وَكُلُّ مَا أَمَرَ بِهِ رَاجِعٌ إلَى الْعَدْلِ.
وَلهَذَا كَانَ الْعَدْلُ أَمْرًا وَاجِبًا فِي كُلِّ شَيءٍ، وَعَلَى كُل أَحَدٍ، وَالظُّلْمُ مُحَرَّمًا فِي كُلِّ شَيءٍ، وَلكُلِّ أحَدٍ، فَلَا يَحِلُّ ظُلْمُ أَحَدٍ أَصْلًا، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَو كَافِرًا أَو كَانَ ظَالِمًا.
وَلهَذَا كَانَ الْقِصَاصُ مَشْرُوعًا إذَا أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهُ مِن غَيْرِ جَنَفٍ؛ كَالِاقْتِصَاصِ فِي الْجُرُوحِ الَّتِي تَنْتَهِي إلَى عَظْمٍ، وَفي الْأعْضَاءِ الَّتِي تَنْتَهِي إلَى مَفْصِلٍ، فَإِذَا كَانَ الْجَنَفُ وَاقِعًا فِي الِاسْتِيفَاءِ عُدِلَ إلَى بَدَلِهِ وَهُوَ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالْعَدْلِ مِن إتْلَافِ زِيَادَةٍ فِي الْمُقْتَصِّ مِنْهُ، وَهَذِهِ حُجَّةُ مَن رَأَى مِنَ الْفُقَهَاءِ أَنَهُ لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ فِي الْعُنقِ. لَكِنِ الَّذِينَ قَالُوا: يُفْعَلُ بِهِ مِثْلُ مَا فَعَلَ: قَوْلُهُم أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ؛ فَإنَّهُ مَعَ تَحَرِّي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ يَكُونُ الْعَبْدُ قَد فَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الْعَدْلِ، وَمَا حَصَلَ مِن تَفَاوُتِ الْأَلَمِ خَارجٌ عَن قُدْرَتهِ.
وَامَّا إذَا قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ ثُمَّ وَسَطَهُ فَقُوبِلَ ذَلِكَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ بِالسَّيْفِ، أَو رَضَّ رَأسَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ فَضرِبَ بِالسَّيْفِ، فَهُنَا قَد تيَقَّنَّا عَدَمَ الْمُعَادَلَةِ وَالْمُمَاثَلَةِ، وَكُنَّا قَد فَعَلْنَا مَا تَيَقَّنَّا انْتِفَاءَ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ، وَأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ وُجُودُهَا بِخِلَافِ
الْأَوَّلِ؛ فَإنَّ الْمُمَاثَلَةَ قَد تَقَعُ؛ إذِ التَّفَاوُتُ فِيهِ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ، وَكَذَلِكَ الْقِصَاصُ فِي الضَّرْبَةِ وَاللَّطْمَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، عَدَلَ عَنْهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ إلَى التَّعْزِيرِ؛ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ.
وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَغَيْرُهُم مِنَ الصَّحَابَةِ وَهُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَد: مَا جَاءَت بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن ثُبُوتِ الْقِصَاصِ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ وَالْمُمَاثَلَةِ.
قولُه: "يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْته فَاسْتَهْدُوني أَهْدِكُمْ" أَمَرَ الْعِبَادَ بأنْ يَسْألُوهُ الْهِدَايَةَ كَمَا أمَرَهُم بِذَلِكَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} .
وَلهَذَا قِيلَ: الْهُدَى أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: الْهِدَايَةُ إلَى مَصَالِحِ الدُّنْيَا، فَهَذَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْحَيَوَانِ النَّاطِقِ وَالْأَعْجَمِ، وَبَيْنَ الْمُؤمِنِ وَالْكَافِرِ.
وَالثانِي: الْهُدَى بِمَعْنَى دُعَاءِ الْخَلْقِ إلَى مَا يَنْفَعُهُمْ، وَأَمْرِهِمْ بِذَلِكَ، وَهُوَ نَصْبُ الْأَدِلَّةِ، وَإرْسَالُ الرُّسُلِ، وَإِنْزَالُ الْكُتُبِ، فَهَذَا أَيْضًا يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيغ الْمُكَلَّفِينَ، سَوَاءٌ آمنُوا أَو كَفَرُوا كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)} [الرعد: 7].
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْهُدَى الَّذِي هُوَ جَعْلُ الْهُدَى فِي الْقُلُوبِ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ بَعْضُهُم بِالْإِلْهَامِ وَالْإِرْشَادِ.
وَالْقِسْمُ الرَّابعُ: الْهُدَى فِي الْآخِرَةِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)} [الحج: 24].
وَهَذَا الْهُدَى ثَوَابُ الِاهْتِدَاءِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا أَنَّ ضَلَالَ الْآخِرَةِ جَزَاءُ ضَلَالِ الدُّنْيَا، وَكَمَا أَنَ قَصْدَ الشَّرِّ فِي الدُّنْيَا جَزَاؤُهُ الْهُدَى إلَى طَرِيقِ النَّارِ، كَمَا
قَالَ تَعَالَى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)} [الصافات: 22، 23].
وَأَمَّا قَوْلُهُ: "يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَن أَطْعَمْته فَاسْتَطْعِمُوني أُطْعِمْكُمْ وَكُلّكُمْ عَارٍ إلا مَن كسَوْته فَاسْتكْسُوني أكسُكُمْ" فَيَقْتَضِي أَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ التَوَكُّلِ عَلَى اللهِ فِي الرِّزْقِ الْمُتَضَمِّنِ جَلْبَ الْمَنْفَعَةِ كَالطَّعَامِ، وَدَفْعَ الْمَضَرَّةِ كَاللِّبَاسِ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ غَيْرُ اللهِ عَلَى الْإِطْعَامِ وَالْكُسْوَةِ قُدْرَةً مُطْلَقَةً، وإنَّمَا الْقُدْرَةُ الَّتِي تَحْصُلُ لِبَعْضِ الْعِبَادِ تَكُونُ عَلَى بَعْضِ أَسْبَابِ ذَلك
(1)
.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: "يَا عِبَادِي إئكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَيْلِ وَالنَّهَارِ وَأنا أَغْفِرُ الذنُوبَ جَمِيعًا" وَفي رِوَايَةٍ: "وَأنا أَغْفِرُ الذُنُوبَ وَلَا أُبالِي فَاسْتَغْفِرُوني أَغْفِرْ لَكُمْ"؛ فَالْمَغْفِرَةُ الْعَامَّةُ لِجَمِيعِ الذُّنُوبِ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْمَغْفِرَةُ لِمَن تَابَ.
النُّوْعُ الثانِي: الْمَغْفِرَةُ بِمَعْنَى: تَخْفِيفِ الْعَذَابِ، أَو بِمَعْنَى: تَأخِيرِهِ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَهَذَا عَامٌّ مُطْلَقًا؛ وَلهَذَا شَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أَبِي طَالِبٍ مَعَ مَوْتِهِ عَلَى الشِّرْكِ، فَنُقِلَ مِن غَمْرَةٍ مِن نَارٍ حَتَّى جُعِلَ فِي ضَحْضَاحٍ مِن نَارٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ عزوجل: "يَا عِبَادِي إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّوني وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي" فَإِنَّهُ هُوَ بَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ فِيمَا يُحْسِنُ بِهِ إلَيْهِم مِن إجَابَةِ الذعَوَاتِ، وَغُفْرَانِ الزَّلَّاتِ، بِالْمُسْتَعِيضِ بِذَلِكَ مِنْهُم جَلْبَ مَنْفَعَةٍ، أَو دَفْعَ مَضَرَّةٍ، كَمَا هِيَ عَادَةُ الْمَخْلُوقِ الَّذِي يُعْطِي غَيْرَهُ نَفْعًا لِيُكَافِئَهُ عَلَيْهِ بِنَفْعٍ، أَو يَدْفَعَ عَنْهُ ضَرَرًا ليَتَّقِيَ بِذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: "لَمْ يَنْقُصْ مِمَّا عِنْدِي". الْمُرَادُ مَا أَخَذَ عِلْمِي وَعِلْمُك مِن
(1)
لم يذكر الأصل الثاني.
عِلْمِ اللهِ، وَمَا قالَ عِلْمِي وَعِلْمُك مِن عِلْمِ اللهِ، وَمَا أَحَاطَ عِلْمِي وَعِلْمَك مِن عِلْمِ اللهِ. إلَّا كمَا نَقَصَ أَو أَخَذَ أَو قالَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِن هَذَا الْبَحْرِ؛ أيْ: نِسْبَةُ هَذَا إلَى هَذَا كَنِسْبَةِ هَذَا إلَى هَذَا.
وَقَوْلَهُ: "مِن مُلْكِي" هُوَ مِن هَذَا الْبَابِ. [18/ 136 - 209]
1646 -
عَن عبادةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ:"أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ: اُكْتُبْ، قَالَ: وَمَا أكْتُبُ؟ قَالَ: مَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"، فَهَذَا الْقَلَمُ خَلَقَهُ لِمَا أَمَرَهُ بِالتَّقْدِيرِ الْمَكْتُوبِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَكَانَ مَخْلُوقًا قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَا خُلِقَ مِن هَذَا الْعَالَمِ، وَخَلَقَهُ بَعْدَ الْعَرْشِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ. [18/ 213]
1647 -
فِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ"
(1)
وَغَيْرِهِ مِن حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"يَا بَني تَمِيمٍ اقْبَلُوا الْبُشْرَى، قَائوا: قَد بَشَّرْتنَا فَأَعْطِنَا! فَأقْبَلَ عَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْيَمَنِ اقْبَلُوا الْبُشْرَى إذ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ، فَقَالُوا: قَد قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالُوا: جِئْنَاك لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ وَلنَسْأَلَك عَن أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ، فَقَالَ: كانَ اللهُ وَلَمْ يَكن شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَفي لَفْظٍ: "مَعَهُ" وَفي لَفْظٍ: "غَيْرُهُ"
(2)
، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَكتَبَ فِي الذِّكْرِ كلَّ شَيْءٍ وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ"، وَفي لَفْظٍ: "ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ".
قَوْلُهُ:: "كَتَبَ فِي الذِّكْرِ" يَعْنِي: اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ، كَمَا قَالَ: {وَلَقَدْ
(1)
(7418).
(2)
قال الشيخ: الْألْفَاظُ الثَّلَاثَةُ فِي الْبُخَارِيِّ، واَلَّذِي ثَبَتَ عَنْهُ لَفْظُ "الْقَبْلِ"؛ فَإنَّهُ قَد ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمِ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ كَانَ يَقُول فِي دُعَائِهِ:"أَنْتَ الْأوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَك شَيْءٌ" وَهَذَا مُوَافِقٌ وَمُفَسِّرٌ لِقَوْلهِ تَعَالَى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} .
وإذَا ثَبَتَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَفْظُ الْقَبْلِ، فَقَد ثَبَتَ أنَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ، وَاللَّفْظَانِ الْآخَرَانِ لَمْ يَثْبُتْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَبَدًا، وَكَانَ أَكْثَرُ أهْلِ الْحَدِيثِ إنَّمَا يَرْوُونَهُ بِلَفْظِ الْقَبْلِ.
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء: 105]؛ أَيْ: مِن بَعْد اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، يُسَمَّى مَا يُكْتَبُ فِي الذِّكْرِ ذِكْرًا، كَمَا يُسَمَّى مَا يُكْتَبُ فِيهِ كِتَابًا.
وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أ- مِنْهُم مَن قَالَ: إنَّ مَقْصُودَ الْحَدِيثِ: إخْبَارُهُ بِأنَّ اللهَ كَانَ مَوْجُودًا وَحْدَهُ ثُمَّ إنَّهُ ابْتَدَأَ إحْدَاثَ جَمِيعِ الْحَوَادِثِ.
ب- وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ: إنَّهُ لَيْسَ مُرَادُ الرَّسُولِ هَذَا؛ بَل إنَّ الْحَدِيثَ يُنَاقِضُ هَذَا، وَلَكِنَّ مُرَادَهُ: إخْبَارُهُ عَن خَلْقِ هَذَا الْعَالَمِ الْمَشْهُودِ الَّذِي خَلَقَهُ اللهُ فِي ستَةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، كَمَا أَخْبَرَ الْقُرْآن الْعَظِيمُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِع، فَقَالَ تَعَالَى:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7].
فَلَيْسَ مَعَ اللهِ شَيْءٌ مِن مَفْعُولَاتِهِ قَدِيمٌ مَعَهُ، لَا؛ بَل هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ، وَكُلُّ مَا سِوَاه مَخْلُوقٌ لَهُ، وَكُلُّ مَخْلُوقٍ مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَإِن قُدِّرَ إنَّهُ لَمْ يَزَلْ خَالِقًا فَعَّالًا.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَجَابَهُم عَمَّا سَألُوهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ إلَّا ابْتِدَاءَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُم:"جِئْنَا لِنَسْأَلَك عَن أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ" كَانَ مُرَادُهُم خَلْقَ هَذَا الْعَالَمِ. [18/ 210 - 215]
1648 -
عَن يَحْيىَ بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَن مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ التيمي، عَن عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ الليثي، عَن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ؛ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى؛ فَمَن كَانَت هِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولهِ وَمَن كانَت هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَو امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ"
(1)
. هذا حَدِيث صَحِيحٌ مُتَّفَق عَلَى
(1)
رواه البخاري (1)، ومسلم (1907).
صِحَّتِهِ، تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَولِ وَالتَّصْدِيقِ، مَعَ أَنَّهُ مِن غَرَائِبِ الصَّحِيحِ، فَإِنَّهُ وَإِن كَانَ قَد رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِن طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ، كَمَا جَمَعَهَا ابْنُ منده وَغَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ، فَأَهْلُ الْحَدِيثِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهَا إلَّا مِن طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه هَذِهِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَمْ يَرْوِهِ عَنْهُ إلَّا عَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ الليثي، وَلَا عَن عَلْقَمَةَ إلَّا مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، وَلَا عَن مُحَمَّدٍ إلَّا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ قَاضِي الْمَدِينَةِ، وَرَوَاهُ عَن يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ.
لَفْظُ "النِّيَّةِ" فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِن جِنْسِ لَفْظِ الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ.
وَقَد تَنَازَعَ النَّاسُ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ": هَل فِيهِ إضْمَارٌ أَو تَخْصِيصٌ؟ أو هوَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَعُمُومِهِ؟
فَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُتَأخِّرِينَ إلَى الْأَوَّلِ.
وَقَالَ الْجُمْهُورُ: بَلِ الْحَدِيثُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَعُمُومِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالنياتِ فِيهِ الْأعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَحْدَهَا؛ بَل أَرَادَ النِّيَّةَ الْمَحْمُودَةَ وَالْمَذْمُومَةَ، وَالْعَمَلَ الْمَحْمُودَ وَالْمَذْمُومَ.
وَلَفْظُ النِّيَّةِ يُرَادُ بِهَا النَّوْعُ مِنَ الْمَصْدَرِ، ويُرَادُ بِهَا الْمَنْوِيُّ، وَاسْتِعْمَالُهَا فِي هَذَا لَعَلَّهُ أَغْلَبُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ: إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِحَسَبِ مَا نَوَاهُ الْعَامِلُ؛ أَيْ: بِحَسَبِ مَنْوِيِّهِ.
وَلَفْظُ النِّيَّةِ يَجْرِي فِي كَلَامِ الْعُلَمَاءِ عَلَى نَوْعَيْنِ:
أ- فَتَارَةً يُرِيدُونَ بِهَا تَمْيِيزَ عَمَلٍ مِن عَمَلٍ، وَعِبَادَةٍ مِن عِبَادَةٍ
(1)
.
ب- وَتَارَةً يُرِيدُونَ بِهَا تَمْيِيزَ مَعْبُودٍ عَن مَعْبُودٍ، وَمَعْمُولٍ لَهُ عَن مَعْمُولٍ لَهُ
(2)
.
(1)
وهذا يتكلم عنه الفقهاء.
(2)
وهذا يتكلم عنه العلماء في كتب العقيدة.
فَالْأَوَّلُ كَلَامُهُم فِي النِّيَّةِ: هَل هِيَ شَرْطٌ فِي طَهَارَةِ الْأَحْدَاثِ؟ وَهَل تُشْتَرَطُ نِيَّةُ التَّعْيِينِ وَالتَّبْيِيتِ فِي الصِّيَامِ؟ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَالثاني: كَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ إخْلَاصِ الْعَمَلِ للهِ وَبَيْنَ أَهْلِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ.
وَإِن كَانَ قَد يُقَالُ: أَنَّ عُمُومَهُ يَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ.
وَالنِّيَّةُ مَحَلُّهَا الْقَلْبُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، فَإنْ نَوَى بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِلِسَانِهِ أَجْزَأَتْهُ النِّيَّةُ بِاتِّفَاقِهِمْ.
وَالنِّيَّةُ تَتْبَعُ الْعِلْمَ، فَمَن عَلِمَ مَا يُرِيدُ فِعْلَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْوِيَهُ ضَرُورَةً؛ كَمَن قَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ طَعَامًا لِيَأْكُلَهُ، فَإِذَا عَلِمَ أَنهُ يُرِيدُ الْأَكْلَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْوِيَهُ، وَكَذَلِكَ الرُّكُوبُ وَغَيْرُهُ.
بَل لَو كُلِّفَ الْعِبَادُ أنْ يَعْمَلُوا عَمَلًا بِغَيْرِ نِيَّةٍ كُلِّفُوا مَا لَا يُطِيقُونَ.
وإنَّمَا يَتَصَوَّرُ عَدَم النِّيَّةِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ مَا يُرِيدُ، مِثْل مَن نَسِيَ الْجَنَابَةَ وَاغْتَسَلَ لِلنَّظَافَةِ أَو لِلتبرُّدِ، أَو مَن يُرِيدُ أَنْ يُعَلِّمَ غَيْرَهُ الْوُضُوءَ وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ لِنَفْسِهِ، أَو مَن لَا يَعْلَمُ أَنَّ غَدًا مِن رَمَضَانَ فَيُصْبحُ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ.
وَمَن عَرَفَ هَذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ النِّيَّةَ مَعَ الْعِلْمِ فِي غَايَةِ الْيُسْرِ، لَا تَحْتَاجُ إلَى وَسْوَسَةٍ وَآصَارٍ وَأَغْلَالٍ، وَلهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْوَسْوَسَةُ إنَّمَا تَحْصُلُ لِعَبْدِ مِن جَهْل بِالشَّرْعِ، أَو خَبَلٍ فِي الْعَقْلِ.
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسُوغُ الْجَهْرُ بِالنِّيَّةِ، لَا لِإِمَام وَلَا لِمَأمُومٍ وَلَا لِمُنْفَرِدٍ، وَلَا يُسْتَحَبُّ تَكْرِيرُهَا، وإِنَّمَا النِّزَاعُ بَيْنَهُم فِي التَّكَلُّمِ بِهَا سِرًّا: هَل يُكْرَهُ أَو يُسْتَحَبُ؟
فصلٌ
لَفْظَةُ "إنَّمَا" لِلْحَصْرِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، وَهَذَا مِمَّا يُعْرَفُ بِالِاضْطِرَارِ مِن لُغَةِ الْعَرَبِ، كمَا تَعْرِفُ مَعَانِيَ حُرُوفِ النَّفْيِ وَالِاسْتِفْهَامِ وَالشَّرْطِ وَغيْرِ ذَلِكَ،
لَكِنْ تَنَازَعَ النَّاسُ: هَل دَلَالَتهَا عَلَى الْحَصْرِ بِطَرِيقِ الْمَنْطُوقِ أَو الْمَفْهُومِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ بِطَرِيقِ الْمَنْطُوقِ.
قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "فَمَن كانَت هِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولهِ": لَيْسَ هوَ تَحْصِيلٌ لِلْحَاصِلِ، لَكِنَّهُ إخْبَارٌ بِأنَّ مَن نَوَى بِعَمَلِهِ شَيْئًا فَقَد حَصَلَ لَهُ مَا نَوَاهُ؛ أَيْ: مَن قَصَدَ بِهِجْرَتِهِ اللهَ وَرَسُولَهُ حَصَلَ لَهُ مَا قَصَدَهُ، وَمَن كَانَ قَصْدُهُ الْهِجْرَةَ إلَى دُنْيَا أَو امْرَأَةٍ فَلَيْسَ لَهُ إلَّا ذَلِكَ، فَهَذَا تَفْصِيل لِقَوْلِهِ:"إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ". [18/ 247 - 279]
1649 -
قَالَ صلى الله عليه وسلم: "لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكنْ جِهَادٌ وَنيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا"
(1)
، وَقَالَ:"لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا قُوتلَ الْعَدُوُّ"
(2)
، وَكِلَاهُمَا حَقٌّ؛ فَالْأَوَّلُ أَرَادَ بِهِ الْهِجْرَةَ الْمَعْهُودَةَ فِي زَمَانِهِ، وَهِيَ الْهِجْرَة إلَى الْمَدِينَةِ مِن مَكَّةَ وَغَيْرِهَا مِن أَرْضِ الْعَرَبِ، فَإِنَّ هَذ الْهِجْرَةَ كَانَت مَشْرُوعَةً لَمَّا كَانَت مَكَّةُ وَغَيْرُهَا دَارَ كُفْرٍ وَحَرْبٍ، وَكَانَ الْإِيمَانُ بِالْمَدِينَةِ، فَكَانَت الْهِجْرَةُ مِن دَارِ الْكُفْرِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَاجِبَةً لِمَن قَدَرَ عَلَيْهَا فَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ وَصَارَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ وَدَخَلَت الْعَرَبُ فِي الْإِسْلَامِ صَارَت هَذِهِ الْأرْضُ كُلهَا دَارَ الْإِسْلَامِ. [18/ 281]
1650 -
كَانَ مَعْمَرٌ يَغْلَطُ إذَا حَدَّثَ مِن حَفِظَهُ. [32/ 318]
1651 -
قَوْلُهُ: "وَنَعُوذُ بِاللهِ مِن شُرُورِ أنفُسِنَا، وَمِن سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا"
(3)
السَّيِّئات: هِيَ عُقُوبَاتُ الْأَعْمَالِ؛ كَقَوْلِهِ: {سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غافر: 45] فَإِنَّ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ يُرَادُ بِهَا: النِّعَمُ وَالنِّقَمُ كَثِيرًا، كَمَا يُرَادُ بِهَا الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي، وَإِن حُمِلَتْ عَلَى السَّيئاتِ الَّتِي هِيَ الْمَعَاصِي فَيَكُونُ قَد اسْتَعَاذَ أنْ يَعْمَلَ السَّيِّئَاتِ أَو أَنْ تَضُرَّهُ، وَعَلَى الْأوَّلِ -وَهُوَ أَشْبَهُ- فَقَد اسْتَعَاذَ مِن عُقُوبَةِ أَعْمَالِهِ أَنْ تُصِيبَهُ، وَهَذَا أَشْبَهُ. [18/ 289]
(1)
البخاري (2783)، ومسلم (1864).
(2)
صحَّحه الألباني في صحيح النسائي (4183).
(3)
رواه النسائي (1403)، وصحَّحه الألباني.
1652 -
قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "بَدَأَ الاسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأ فَطوبى لِلْغُرَبَاءِ"
(1)
: يَحْتَمِلُ شَيْئَيْنِ:
أحدُهُمَا: أَنَّهُ فِي أَمْكِنَةٍ وَأَزْمِنَةٍ يَعُودُ غَرِيبًا بَيْنَهُمْ، ثُمَّ يَظْهَرُ، كَمَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ غَرِيبًا ثُمَّ ظَهَرَ.
ويحْتَمِلُ أَنَّهُ فِي آخِرِ الدُّنْيَا لَا يَبْقَى مُسْلِمًا إلَّا قَلِيلٌ، وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الدَّجَّالِ ويأجُوجَ وَمَأجُوجَ عِنْدَ قُرْبِ السَّاعَةِ، وَحِينَئِذٍ يَبْعَثُ اللهُ رِيحًا تَقْبِضُ رُوحَ كُل مُؤمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ ثُمَّ تَقُومُ الْقِيَامَةُ.
وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَقَد قَالَ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِن أُمَّتي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَق لَا يَضُرُّهُم مَن خَالَفَهُم وَلَا مَن خَذَلَهُم حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ"
(2)
.
وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" وَمِثْلُهُ مِن عِدَّةِ أَوْجُهٍ.
فَقَد أَخْبَرَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ أَنَّهُ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مُمْتَنِعَةٌ مِن أمَّتِهِ عَلَى الْحَقّ، اعِزَّاءٌ لَا يَضُرُّهُم الْمُخَالِفُ وَلَا خِلَافُ الْخَاذِلِ.
فَأَمَّا بَقَاءُ الْإِسْلَام غَرِيبًا ذَلِيلًا فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا قَبْلَ السَّاعَةِ فَلَا يَكونُ هَذَا
(3)
.
وَهَذَا الْحَدِيثُ يُفِيدُ الْمُسْلِمَ أَنَّهُ لَا يَغْتَمُّ بِقِلَّةِ مَن يَعْرِفُ حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَضِيقُ صَدْرُهُ بِذَلِكَ، وَلَا يَكُونُ فِي شَكٍّ مِن دِينِ الْإِسْلَامِ، كَمَا كَانَ الْأمْرُ حِينَ بَدَأَ.
وَكَذَلِكَ إذَا تَغَرَّبَ يَحْتَاجُ صَاحِبُهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ إلَى نَظِيرِ مَا احْتَاجَ
(1)
رواه مسلم (145).
(2)
رواه مسلم (1920).
(3)
وفي هذا أكبر ردّ على الغلاة والمتشددين في هذا الزمان، ممن يرى أن الإسلام غريب في جميع بقاع الأرض، وأنهم هم الذين سيُزيلون غُرْبتَه، ويُعيدون عزته، فأدى بهم ذلك إلى أنْ خرجوا على جماعة المسلمين بالسيف واللسان، وقاتلوا كل من وقف في طريقهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إلَيهِ فِي أَوَلِ الْأَمْرِ
(1)
.
وَقَد تَكُونُ الْغُرْبَة فِي بَعْضِ شَرَائِعِهِ، وَقَد يَكُونُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَمْكِنَةِ، فَفِي كَثِيرٍ مِن الْأمْكِنَةِ يَخْفَى عَلَيْهِم مِن شَرَائِعِهِ مَا يَصِيرُ بِهِ غَرِيبًا بَيْنَهُمْ، لَا يَعْرِفُهُ مِنْهُم إلَّا الْوَاحِدُ بَعْدَ الْوَاحِدِ.
وَمَعَ هَذَا فَطُوبَى لِمَن تَمَسَّكَ بِتِلْكَ الشَّرِيعَةِ كمَا أَمَرَ اللهُ وَرَسُولُهُ، فَإنَّ إظْهَارَهُ وَالْأَمْرَ بِهِ وَالْإِنْكَارَ عَلَى مَن خَالَفَهُ هُوَ بِحَسَبِ الْقُوَّةِ وَالْأَعْوَانِ
(2)
.
وَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ فِي النَّاسِ مَن حَصَلَ لَهُ سُوءٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِخِلَافِ مَا وَعَدَ اللهُ بِهِ رَسُولَهُ وَأَتْبَاعَهُ فَهَذَا مِن ذُنوبِهِ وَنَقْصِ إسْلَامِهِ؛ كَالْهَزِيمَةِ الَّتِي أَصَابَتْهُم يَوْمَ أُحُدٍ. [18/ 291 - 299]
1653 -
هَذَا الْحَدِيثُ -اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ- قَد رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَد ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ فِي الْمَوْضُوعَاتِ، وَسَوَاءٌ صَحَّ لَفْظُهُ أَو لَمْ يَصِحَّ، فَالْمِسْكِينُ الْمَحْمُودُ هُوَ الْمُتَوَاضِعُ الْخَاشِعُ للهِ، لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمَسْكَنَةِ عَدَمَ الْمَالِ؛ بَل قَد يَكُونُ الرَّجُلُ فَقِيرًا مِنَ الْمَالِ وَهُوَ جَبَّارٌ. [18/ 326]
1654 -
فِي "الصَّحِيحَيْنِ"
(3)
عَن أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ"، فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، فَمَن لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ:"يَعْمَلُ بِيَدِهِ، فَيَنْفعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدُّقُ" قَالُوا: فَإنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: "يُعِينُ ذَا الحَاجَةِ المَلْهُوفَ" قَالوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: "فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ
(4)
، وَلْيُمْسِكْ عَنِ الشَرِّ، فَإنَّهَا لَهُ صَدَقَةٌ".
(1)
وذلك لأنّ فتن الشهوات والشبهات كثيرة منتشرة، ولن ينجو منها إلا بالعلم بدين الله.
(2)
هذان شرطان مهمّان لمن يريد تغيير المنكر باليد والقوة:
1 -
أنْ يكون قويًّا في دينه وعلمه وعزيمته.
2 -
أنْ يكون له أعوان يقفون معه، ويأمن بهم من بطش الفجار والفساق والكفرة.
(3)
رواه البخاري (1445)، ومسلم (1008).
(4)
وفي لفظ: "فَيَأْمُرُ بِالخَيْرِ بِالْمَعْرُوفِ".
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَوْجَبَ الصَّدَقَةَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَجَعَلَهَا خَمْسَ مَرَاتِبَ عَلَى الْبَدَلِ: الْأُولَى الصَّدَقَة بِمَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ: اكْتَسَبَ الْمَالَ فَنَفَعَ وَتَصَدَّقَ.
وَفيهِ دَلِيلُ وُجُوبِ الْكسْبِ.
فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ: فَيُعِينُ الْمُحْتَاجَ بِبَدَنِهِ.
فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ: فَبِلِسَانِهِ.
فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ: فَيَكُفُّ عَنِ الشَّرِّ.
فَالْأُولَيَانِ تَقَعُ بِمَالٍ، إمَّا بِمَوْجُود أَو بِمَكْسُوب، وَالْأُخْرَيَانِ تَقَعُ بِبَدَن إمَّا بِيَد وَإِمَّا بِلِسَان. [18/ 372 - 373]
1655 -
قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْت أَنْ أقاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ ويُؤْتُوا الزَّكاةَ"
(1)
: مُرَادُهُ: قِتَالُ الْمُحَارِبِينَ الَّذِينَ أَذِنَ اللهُ فِي قِتَالِهِمْ، لَمْ يُرِدْ قِتَالَ الْمُعَاهَدِينَ الَّذِينَ أَمَرَ اللهُ بِوَفَاءِ عَهْدِهِمْ. [19/ 20]
1656 -
قَالَ صلى الله عليه وسلم: "مَن أَطَاعَنِي فَقَد أَطَاعَ اللهَ، وَمَن أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَد أَطَاعَني، وَمَن عَصَاني فَقَد عَصَى اللهَ، وَمَن عَصَى أَمِيرِي فَقَد عَصَاني"
(2)
، وقال:"إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ"
(3)
؛ يَعْنِي: إذَا أَمَرَ أَمِيرِي بِالْمَعْروفِ فَطَاعَتُهُ مِن طَاعَتِي، وَكُلُّ مَن عَصَى اللهَ فَقَد عَصَى الرَّسُولَ. [19/ 179]
1657 -
الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد: إِمَامَانِ فِي الْفِقْهِ مِن أَهْلِ الِاجْتِهَادِ.
وَأَمَّا مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِي وَالنَّسَائِي وَابْنُ مَاجَه وَابْنُ خُزَيْمَة وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّارُ وَنَحْوُهُمْ: فَهُم عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، لَيْسُوا مُقَلِّدِينَ لِوَاحِدٍ بِعَيْنِهِ مِنَ
(1)
رواه البخاري (25)، ومسلم (22).
(2)
البخاري (7137)، ومسلم (1835).
(3)
البخاري (7257)، ومسلم (1840).
الْعُلَمَاءِ، وَلَا هُم مِنَ الْأئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ بَل هُمْ
(1)
يَمِيلُونَ إلَى قَوْلِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ؛ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَمْثَالِهِمْ.
وَمِنْهُم مَن لَهُ اخْتِصَاصٌ بِبَعْضِ الْأئِمَّةِ كَاخْتِصَاصِ أَبِي دَاوُد وَنَحْوِهِ بِأحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.
وَمِنْهُم مَن يَمِيلُ إلَى مَذْهَبِ الْعِرَاقِيِّينَ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَنَحْوِهِمَا؛ كَوَكِيعِ ويحْيَى بْنِ سَعِيدٍ.
وَمِنْهُم مَن يَمِيلُ إلَى مَذْهَبِ الْمَدَنِيِّينَ: مَالِكٌ وَنَحْوُهُ؛ كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ.
وَأَمَّا البيهقي فَكَانَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ مُنْتَصِرًا لَهُ فِي عَامَّةِ أَقْوَالِهِ.
وَالدَّارَقُطْنِي هُوَ أَيْضًا يَمِيلُ إلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَئِمَّةِ السَّنَدِ وَالْحَدِيثِ، لَكِنْ لَيْسَ هُوَ فِي تَقْلِيدِ الشَّافِعِيِّ كالبيهقي، مَعَ أَنَّ البيهقي لَهُ اجْتِهَادٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ، وَاجْتِهَادُ الدارقطني أَقْوَى مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ كَانَ أَعْلَمَ وَأَفْقَهَ مِنْهُ. [20/ 40 - 41]
1658 -
إِنَّ الواقدي لَا يُحْتَجُّ بِهِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ. [21/ 41]
1659 -
قوله في حديث أبي بكر رضي الله عنه: "اللَّهُمَّ إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم"
(2)
.
ليعلم أن الدعاء الذي فيه اعتراف العبد بظلمه لنفسه ليس من خصائص الصديقين ومن دونهم؛ بل هو من الأدعية التي يدعوا بها الأنبياء وهم أفضل الخلق، قال الله تعالى عن آدم وحواء:{قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23]. [23/ 7]
وقال موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} [القصص: 16].
(1)
في الأصل: (لا يميلون)، ويظهر بأن (لا) مقحمة.
(2)
صحيح البخاري (834)، ومسلم (2705).
والخليل عليه السلام: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [إبراهيم: 41]، {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)} [الشعراء: 82].
وقال هو وإسماعيل عليه السلام: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)} [البقرة: 127] إلى قوله: {وَتُبْ عَلَيْنَا} [البقرة: 128].
وقال يونس عليه السلام: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} [الأنبياء: 87].
وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقول في دعائه:"ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي"
(1)
(2)
. [المستدرك 1/ 203 - 204]
* * *
(فوائد ولطائف حديثية)
1660 -
كَانَ -أي: الإمام أَحْمَد رحمه الله يَأخُذُ بِحَدِيث ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ ضَعْفُهُ فَيَتْرُكُ الْأَخْذَ بِهِ، وَقَد يَتْرُكُ الْأَخْذَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَتَبَيَّنَ صِحَّتُهُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ صِحَّتُهُ أَخَذَ بِهِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ رضي الله عنهم. [21/ 497]
1661 -
عِلْمُ الْإِسْنَادِ وَالرِّوَايَةِ مِمَّا خَصَّ اللهُ بِهِ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَجَعَلَهُ سُلَّمًا إلَى الدِّرَايَةِ، فَأهْلُ الْكِتَابِ لَا إسْنَادَ لَهُم يَأثُرُونَ بِهِ الْمَنْقُولَاتِ، وَهَكَذَا الْمُبْتَدِعُونَ مِن هَذِهِ الْأُمَّةِ أَهْلُ الضَّلَالَاتِ. [1/ 9]
1662 -
إِذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ الفِقْهِ عَلَى الْقَوْلِ بِحُكم: لَمْ يَكُن إلَّا حَقًّا، وإِذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ الْحَدِيثِ عَلَى تَصْحِيحِ حَدِيثٍ: لَمْ يَكُن إلَّا صِدْقًا. [1/ 9 - 10]
1663 -
لَمْ يَزَلْ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ يُعَظِّمُونَ نَقَلَةَ الْحَدِيثِ،
(1)
رواه مسلم (771).
(2)
هؤلاء أنبياء الله وأصفياؤه يدعون ربهم من قلب صادق مخلص أن يغفر لهم، وتجد كثيرًا من الناس لا يدعون الله بصدق وإخلاص مغفرة الذنوب، ولا يتوبون إليه توبة نصوحًا صادقة.
حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: إذَا رَأَيْت رَجُلًا مِن أَهْلِ الْحَدِيثِ فَكَأَنِّي رَأَيْتُ رَجُلًا مِن أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَإِنَّمَا قَالَ الشَّافِعِي هَذَا؛ لِأَنَّهُم فِي مَقَامِ الصَّحَابَةِ مِن تَبْلِيغِ حَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [1/ 11]
1664 -
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في حديث أبي هريرة: "لا تزال جهنم يلقى فيها وهي تقول: هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط، وأما الجنة فينشئ الله خلقًا آخر"
(1)
فانقلب على بعض الرواة فقال: "وأما النار فينشئ الله لها خلقًا آخرين". [المستدرك 1/ 226]
1665 -
حَدِيثُ الْإِدْلَاءِ الَّذِي رُوِيَ مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي ذَرٍّ رضي الله عنهما: قَد رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْر مِن حَدِيثِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ؛ فَإِنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَسْمَعْ مِن أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَكِنْ يُقَوِّيه حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ الْمَرْفُوعُ. فَإِنَّ قَوْلَهُ:"لَو أدْلى أَحَدُكُمْ بِحَبْل لَهَبَطَ عَلَى اللهِ"
(2)
: إنَّمَا هُوَ تَقْدِيرٌ مَفْرُوضٌ؛ أَيْ: لَو وَقَعَ الْإِدْلَاءُ لَوَقَعَ عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُدْلِيَ أَحَدٌ عَلَى اللهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ عَالٍ بِالذَّاتِ، وَإِذَا أُهْبِطَ شَيءٌ إلَى جِهَةِ الْأَرْضِ وَقَفَ فِي الْمَرْكَزِ، وَلَمْ يَصْعَدْ إلَى الْجِهَةِ الْأخْرَى، لَكِنْ بِتَقْدِيرِ فَرْضِ الْإِدْلَاءِ يَكُونُ مَا ذَكَرَ مِن الْجَزَاءِ. [6/ 571]
1666 -
تَنَازَعَ الْحَافِظُ أَبُو الْعَلَاءِ الهمداني وَالشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: هَل فِي الْمُسْنَدِ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ؟
فَأَنْكرَ الْحَافِظُ أَبُو الْعَلَاءِ أَنْ يَكُونَ فِي الْمُسْنَدِ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ، وَأَثْبَتَ ذَلِكَ أَبُو الْفَرَجِ، وَبَيَّنَ أنَّ فِيهِ أَحَادِيثَ قَد عُلِمَ أنَّهَا بَاطِلَةٌ.
وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ؛ فَإِنَ الْمَوْضُوعَ فِي اصْطِلَاحِ أَبِي الْفَرَجِ هُوَ الَّذِي
(1)
رواه البخاري (7449).
(2)
ضعَّفه الألباني في ظلال الجنة (578)، وضعيف الجامع الصغير (6094)، والمشكاة (5735).
قَامَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَإِن كَانَ الْمُحَدِّثُ بِهِ لَمْ يَتَعَمَّد الْكَذِبَ بَل غَلِطَ فِيهِ، وَلهَذَا رَوَى فِي كِتَابِهِ فِي الْمَوْضُوعَاتِ أَحَادِيثَ كثِيرَةً مِن هَذَا النَّوْعِ، وَقَد نَازَعَهُ طَائِفَةٌ مِن الْعُلَمَاءِ فِي كَثِيرٍ مِمَّا ذَكَرَهُ وَقَالُوا: إنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَقُومُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ بَاطلٌ؛ بَل بَيَّنُوا ثُبُوتَ بَعْضِ ذَلِكَ، لَكِنَّ الْغَالِبَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَوْضُوعَاتِ أَنَّهُ بَاطِل بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.
وَأَمَّا الْحَافِظُ أَبُو الْعَلَاءِ وَأَمْثَالُهُ فَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِالْمَوْضُوعِ الْمُخْتَلَقَ الْمَصْنُوعَ الَّذِي تَعَمَّدَ صَاحِبُهُ الْكَذِبَ وَالْكَذِبُ كَانَ قَلِيلًا فِي السَّلَفِ. [1/ 248 - 249]
1667 -
شَرْطُ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ أَجْوَدُ مِن شَرْطِ أَبِي دَاوُد فِي سُنَنِهِ. [1/ 250]
1668 -
لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَمَدَ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ الَّتِي لَيْسَتْ صَحِيحَة وَلَا حَسَنَةً، لَكِنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَغَيْرَهُ مِن الْعُلَمَاءِ جَوَّزُوا أَنْ يُرْوَى فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَال مَا لَمْ يُعْلَمْ أنَّهُ ثَابِت إذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ كَذِبٌ.
وَذَلِكَ أَنَّ الْعَمَلَ إذَا عُلِمَ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ بِدَلِيل شَرْعِيٍّ، وَرُوِيَ فِي فَضْلِهِ حَدِيث لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ كَذِبٌ: جَازَ أَنْ يَكُونَ الثَّوَابُ حَقًّا.
وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِن الْأَئِمَّةِ إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الشَّيءُ وَاجِبًا أَو مُسْتَحَبًّا بِحَدِيث ضَعِيفٍ، وَمَن قَالَ هَذَا فَقَدَ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ.
وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحَرَّمَ شَيءٌ إلَّا بِدَلِيل شَرْعِيٍّ، لَكِنْ إذَا عُلِمَ تَحْرِيمُهُ وَرُوِيَ حَدِيث فِي وَعِيدِ الْفَاعِلِ لَهُ وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّه كَذِبٌ جَازَ أَنْ يَرْوِيهُ.
فَيَجُوزُ أَنْ يَرْوِيَ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ كَذِبٌ، لَكِنْ فِيمَا عُلِمَ أَنَّ اللهَ رَغَّبَ فِيهِ أَو رَهَّبَ مِنْهُ بِدَلِيل آخَرَ غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ الْمَجْهُولِ حَالُهُ، وَهَذَا كالإسرائيليات: يَجُوزُ أَنْ يُرْوَى مِنْهَا مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ كَذِبٌ لِلتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ فِيما عُلِمَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ بِهِ فِي شَرْعِنَا وَنَهَى عَنْهُ فِي شَرْعِنَا.
فَأَمَّا أَنْ يُثْبِتَ شَرْعًا لنا بِمُجَرَّدِ الإسرائيليات الَّتِي لَمْ تَثْبُتْ: فَهَذَا لَا يَقُولُهُ
عَالِمٌ، وَلَا كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَلَا أَمْثَالُهُ مِن الْأئِمَّةِ يَعْتَمِدُونَ عَلَى مِثْل هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي الشَّرِيعَةِ.
وَمَن نَقَلَ عَن أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ يَحْتَجُّ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ الَّذِي لَيْسَ بِصَحِيح وَلَا حَسَنٍ فَقَد غَلِطَ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ كَانَ فِي عُرْفِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَمَن قَبْلَهُ مِن الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْحَدِيثَ يَنْقَسِمُ إلَى نَوْعَيْنِ: صَحِيحٍ وَضَعِيفٍ.
وَالضَّعِيفُ عِنْدَهُم يَنْقَسِمُ إلَى ضَعِيفٍ مَتْرُوكٍ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَإِلَى ضَعِيفٍ حَسَنٍ، كَمَا أنَّ ضَعْفَ الْإِنْسَانِ بِالْمَرَضِ يَنْقَسِمُ إلَى مَرَضٍ مَخُوفٍ يَمْنَعُ التَّبَرُّعَ مِن رَأسِ الْمَالِ، وَإِلَى ضعِيفٍ خَفِيفٍ لَا يَمْنَعُ مِن ذَلِكَ.
وَأَوَّلُ مَن عُرِفَ أَنَّهُ قَسَّمَ الْحَدِيثَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ -صَحِيحٌ وَحَسَنٌ وَضَعِيفٌ- هوَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِي فِي جَامِعِهِ، وَالْحَسَنُ عِنْدَهُ مَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ وَلَمْ يَكُن فِي رُوَاتِهِ مُتَّهَمٌ وَلَيْسَ بِشَاذّ.
فَهَذَا الْحَدِيثُ وَأَمْثَالُهُ يُسَمِّيهِ أَحْمَدُ ضَعِيفًا ويَحْتَجُّ بِهِ؛ وَلهَذَا مَثَّلَ أَحْمَدُ الْحَدِيثَ الضعِيفَ الَّذِي يحْتَجُّ بِهِ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَحَدِيثِ إبْرَاهِيمَ الهجري وَنَحْوِهِمَا. [1/ 250 - 252]
1669 -
الْأَحَادِيثُ الَّتِي تُرْوَى فِي هَذَا الْبَابِ -وَهُوَ السُّؤَالُ بِنَفْسِ الْمَخْلُوقِينَ- هِيَ مِن الْأحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ الْوَاهِيَةِ بَل الْمَوْضُوعَةِ، وَلَا يُوجَدُ فِي أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ مَن احْتَجَّ بِهَا وَلَا اعْتَمَدَ عَلَيْهَا. [1/ 252]
1670 -
إِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ فِيهِ مِن التَّسَاهُلِ وَالتَّسَامُحِ فِي بَابِ التَّصْحِيحِ، حَتَّى إنَّ تَصْحِيحَهُ دُونَ تَصْحِيحِ التّرْمِذِيِّ وَالدَّارَقُطْنِي وَأَمْثَالِهِمَا بِلَا نِزَاعٍ، فَكَيْفَ بِتَصْحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ؟
بَل تَصْحِيحُهُ دُونَ تَصْحِيحِ أَبِي بَكْرِ ابْنِ خُزَيْمَة، وَأَبِي حَاتِمِ ابْنِ حِبَّانَ البستي وَأَمْثَالِهِمَا؛ بَل تَصْحِيحُ الْحَافِظِ أَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ المقدسي فِي مُخْتَارِهِ خَيْرٌ مِن تَصْحِيحِ الْحَاكِمِ، فَكِتَابُهُ فِي هَذَا الْبَابِ خَيْرٌ مِن كِتَابِ الْحَاكِمِ بِلَا ريبٍ عِنْدَ مَن يَعْرِفُ الْحَدِيثَ.
وَتَحْسِينُ التِّرْمِذِيِّ أَحْيَانًا يَكُونُ مِثْل تَصْحِيحِهِ أَو أَرْجَحَ، وَكَثِيرًا مَا يُصَحِّحُ الْحَاكِمُ أَحَادِيثَ يُجْزَمُ بِأَنَّهَا مَوْضُوعَة لَا أَصْلَ لَهَا. [22/ 426]
1671 -
أهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ لَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى مُجَرَّدِ تَصْحِيحِ الْحَاكِمِ، وإن كَانَ غَالِبُ مَا يُصَحِّحُهُ فَهُوَ صَحِيحٌ، لَكِنْ هُوَ فِي الْمُصَحِّحِينَ بِمَنْزِلَةِ الثِّقَةِ الَّذِي يَكْثُرُ غَلَطُهُ، وَإِن كَانَ الصَّوَابُ أَغْلَبَ عَلَيْهِ.
وَلَيْسَ فِيمَن يُصَحِّحُ الْحَدِيثَ أَضْعَفُ مِن تَصْحِيحِهِ، بِخِلَافِ أَبِي حَاتِمِ ابْنِ حِبَّانَ البستي، فَإنَّ تَصْحِيحَهُ فَوْقَ تَصْحِيحِ الْحَاكِمِ وَأَجَلُّ قَدْرًا، وَكَذَلِكَ تَصْحِيحُ التِّرْمِذِيِّ وَالدَّارَقُطْنِي وَابْنِ خُزَيْمَة وَابْنِ منده وَأَمْثَالِهِمْ فِيمَن يُصَحِّحُ الْحَدِيثَ.
فَإِنَّ هَؤُلَاءِ وَإِن كَانَ فِي بَعْضِ مَا يَنْقُلُونَهُ نِزَاعٌ: فَهُم أتقن فِي هَذَا الْبَابِ مِن الْحَاكِمِ، وَلَا يَبْلُغُ تَصْحِيحُ الْوَاحِدِ مِن هَؤُلَاءِ مَبْلَغَ تَصْحِيحِ مُسْلِمٍ، وَلَا يَبْلُغُ تَصْحِيحُ مُسْلِمٍ مَبْلَغَ تَصْحِيحِ الْبُخَارِيِّ؛ بَل كِتَابُ الْبُخَارِيِّ أَجَلُّ مَا صُنِّفَ فِي هَذَا الْبَابِ، وَالْبُخَارِيُّ مِن أَعْرَفِ خَلْقِ اللهِ بِالْحَدِيثِ وَعِلَلِهِ مَعَ فِقْهِهِ فِيهِ، وَقَد ذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ أَنَّهُ لَمْ يَرَ أَحَدًا أَعْلَم بِالْعِلَلِ مِنْهُ، وَلهَذَا كَانَ مِن عَادَةِ الْبُخَارِيِّ إذَا رَوَى حَدِيثًا اُخْتُلِفَ فِي إسْنَادِهِ أَو فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ أَنْ يَذْكُرَ الِاخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِذِكْرِهِ لَهُ بِأَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَهُ مَقْرُونًا بِالِاخْتِلَافِ فِيهِ.
وَلهَذَا كَانَ جُمْهُورُ مَا انْكِرَ عَلَى الْبُخَارِيِّ مِمَّا صَحَّحَهُ يَكُونُ قَوْلُهُ فِيهِ رَاجِحًا عَلَى قَوْلِ مَن نَازَعَهُ، بِخِلَافِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ فَإِنَّهُ نُوزعَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ مِمَّا خَرَّجَهَا، وَكَانَ الصَّوَابُ فِيهَا مَعَ مَن نَازَعَهُ، كَمَا رَوَى فِي حَدِيثِ الْكسُوفِ أَنَّ النَبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِثَلَاثِ ركوعات وَبِأَرْبَعِ ركوعات، كَمَا رَوَى أَنَّهُ صَلَّى بِرُكُوعَيْنِ، وَالصَّوَابُ: أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ إلَّا بِرُكُوعَيْنِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ الْكُسُوفَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً يَوْمَ مَاتَ إبْرَاهِيمُ.
وَلَكِنَّ جُمْهُورَ مُتُونِ "الصَّحِيحَيْنِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، تَلَقَّوْهَا بِالْقَبُولِ، وَأَجْمَعُوا عَلَيْهَا، وَهُم يَعْلَمُونَ عِلْمًا قَطْعِيًّا أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَهَا. [1/ 255 - 257]
1672 -
الِاعْتِبَارُ بِمَا رَوَاهُ الصَّحَابِيُّ لَا بِمَا فَهِمَهُ، إذَا كَانَ اللَّفْظُ الَّذِي رَوَاهُ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا فَهِمَهُ بَل عَلَى خِلَافِهِ
(1)
. [1/ 278]
1673 -
مَن قَالَ مِن الْعُلَمَاءِ: "إنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيّ حُجَّةٌ" فَإنَّمَا قَالَهُ إذَا لَمْ يُخَالِفْهُ غَيْرُهُ مِن الصَّحَابَةِ، وَلَا عُرِفَ نَصٌّ يُخَالِفُهُ، ثُمَّ إذَا اشْتَهَرَ وَلَمْ يُنْكِرُوهُ كَانَ إقْرَارًا عَلَى الْقَوْلِ، فَقَد يُقَالُ:"هَذَا إجْمَاغ إقراري" إذَا عُرِفَ أَنَّهُم أَقَرُّوهُ وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَهُم لَا يُقِرُّونَ عَلَى بَاطِل.
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَشْتَهِرْ:
1 -
فَهَذَا إنْ عُرِفَ أَنَّ غَيْرَهُ لَمْ يُخَالِفْهُ فَقَد يُقَالُ: "هُوَ حُجَّةٌ".
2 -
وَأَمَّا إذَا عُرِفَ أَنَهُ خَالَفَهُ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ بِالِاتّفَاقِ.
3 -
وَأَمَّا إذَا لَمْ يُعْرَفْ هَل وَافَقَهُ غَيْرُهُ أَو خَالَفَهُ: لَمْ يَجْزِمْ بِأَحَدِهِمَا، وَمَتَى كانت السُّنَّةُ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ كَانَت الْحُجَّةُ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لَا فِيمَا يُخَالِفُهَا بِلَا ريبٍ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ. [1/ 283 - 284]
1674 -
يُقَالُ: إنَّ أَبَا عُبَيْد لَمْ يَسْمَعْ مِن أَبِيهِ
(2)
، لَكِنْ هُوَ عَالِمٌ بِحَالِ أَبِيهِ، مُتَلَقٍّ لِآثَارِهِ مَن أَكَابِرِ أَصْحَابِ أَبِيهِ.
وَلَمْ يَكُن فِي أَصْحَابِ عَبْدِ اللهِ مَن يُتَّهَمُ عَلَيْهِ، حَتَّى يُخَافَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْوَاسِطَةَ؛ فَلِهَذَا صَارَ النَّاسُ يَحْتَجُّونَ بِرِوَايَةِ ابْنِهِ عَنْهُ، وَإِن قِيلَ: إنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِن أَبِيهِ. [6/ 404]
1675 -
قَوْلُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ: إذَا جَاءَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ شَدَّدْنَا فِي الْأَسَانِيدِ، وَإِذَا جَاءَ التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ تَسَاهَلْنَا فِي الْأَسَانِيدِ، وَكَذَلِكَ مَا عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ مِن الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ: لَيْسَ مَعْنَاهُ إثْبَاتُ
(1)
هذا قيد مهم جدَّا، فليست هذه القاعدة المشهورة على إطلاقها.
(2)
يعني: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
الِاسْتِحْبَابِ بِالْحَدِيثِ الَّذِي لَا يُحْتَجُّ بِهِ
(1)
؛ فَإنَّ الِاسْتِحْبَابَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيل شَرْعِي، وَمَن أَخْبَرَ عَن اللهِ أَنَّهُ يُحِبُّ عَمَلًا مِن الْأَعْمَالِ مِن غَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِي فَقَد شَرَعَ مِن الدِّينِ مَا لَمْ يَأذَنْ بِهِ اللهُ، كَمَا لَو أَثْبَتَ الْإِيجَابَ أَو التَّحْرِيمَ، وَلهَذَا يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِي الِاسْتِحْبَابِ كَمَا يَخْتَلِفُونَ فِي غَيْرِهِ؛ بَل هُوَ أَصْلُ الدِّينِ الْمَشْرُوعِ.
وَإِنَّمَا مُرَادُهُم بِذَلِكَ: أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مِمَّا قَد ثَبَتَ أَنَهُ مِمَّا يُحِبُّهُ اللهُ أَو مِمَّا يَكْرَهُهُ اللهُ بِنَصٍّ أَو إجْمَاعٍ؛ كَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَالتَّسْبِيحِ، وَالدُّعَاءِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْعِتْقِ، وَالْإِحْسَانِ إلَى النَّاسِ، وَكَرَاهَةِ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإذَا رُوِيَ حَدِيثٌ فِي فَضْلِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ الْمُسْتَحَبَّةِ وَثَوَابِهَا وَكَرَاهَةِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ وَعِقَابِهَا: فَمَقَادِيرُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَأَنْوَاعُهُ إذَا رُوِيَ فِيهَا حَدِيث لَا نَعْلَمُ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ جَازَتْ رِوَايَتُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ بِمَعْنَى: أَنَّ النَفْسَ تَرْجُو ذَلِكَ الثَّوَابَ أَو تَخَافُ ذَلِكَ الْعِقَابَ كَرَجُلِ يَعْلَمُ أَنَّ التّجَارَةَ تَرْبَحُ لَكِنْ بَلَغَهُ أَنَّهَا تَرْبَحُ رِبْحًا كَثِيرًا فَهَذَا إنْ صَدَقَ نَفَعَهُ وإن كَذَبَ لَمْ يَضرَّهُ؛ وَمِثَالُ ذَلِكَ التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ بالإسرائيليات؛ وَالْمَنَامَاتِ وَكَلِمَاتِ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ؛ وَوَقَائِعِ الْعُلَمَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ بِمُجَرَّدِهِ إثْبَاتُ حُكْمِ شَرْعِيٍّ؛ لَا اسْتِحْبَاب وَلَا غَيْرِهِ وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ؛ وَالتَّرْجِيَةِ وَالتَّخْوِيفِ.
فَمَا عُلِمَ حُسْنُهُ أَو قُبْحُهُ بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ وَسَوَاءٌ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَقًّا أَو بَاطِلًا فَمَا عُلِمَ أَنَّهُ بَاطِل مَوْضُوعٌ لَمْ يُجَزْ الِالْتِفَاتُ إلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ لَا يُفِيدُ شَيْئًا وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ صَحِيحٌ أُثْبِتَتْ بِهِ الْأَحْكَامُ وَإِذَا احْتَمَلَ الأمْرَيْنِ رُوِيَ لِإِمْكَانِ صِدْقِهِ وَلعَدَمٍ الْمَضَرَّةِ فِي كَذِبِهِ وَأَحْمَد إنَّمَا قَالَ: إذَا جَاءَ التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ تَسَاهَلْنَا فِي الْأسَانِيدِ. وَمَعْنَاهُ: أَنَّا نَرْوِي في ذَلِكَ بِالْأَسانِيدِ وَإِن لَمْ يَكُن محْدِثُوهَا مِن الثِّقَاتِ الَّذِينَ يُحْتَجُّ بِهِمْ.
(1)
وكأن الشيخ يُشير إلى قول ابن قدامة في المغني (1/ 799): فإن النوافل والفضائل لا يشترط صحة الحديث فيها. اهـ.
فِي ذَلِكَ قَوْلُ مَن قَالَ: يُعْمَلُ بِهَا فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ إنَّمَا الْعَمَلُ بِهَا الْعَمَلُ بِمَا فِيهَا مِن الْأعْمَالِ الصَّالِحَةِ مِثْل التِّلَاوَةِ وَالذِّكْرِ وَالِاجْتِنَابِ لِمَا كُرِهَ فِيهَا مِن الْأَعْمَالِ السَّيِّئةِ.
وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
(1)
عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو: "بَلِّغُوا عَنِّي وَلَو آيةً، وَحَدِّثُوا عَن بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَن كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِن النَّارِ" مَعَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "إذَا حَدَّثَكُم أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدَّقُوهُم وَلَا تُكَذِّبُوهُم"
(2)
؛ فَإِنَّهُ رَخَّصَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُم وَمَعَ هَذَا نَهَى عَن تَصْدِيقِهِمْ وَتَكْذِيبِهِم فَلَو لَمْ يَكُن فِي التَّحْدِيثِ الْمُطْلَقِ عَنْهُم فَائِدَةٌ لِمَا رَخَّصَ فِيهِ وَأَمَرَ بِهِ وَلَو جَازَ تَصْدِيقُهُم بِمُجَرَّدِ الْإِخْبَارِ لَمَا نَهَى عَن تَصْدِيقِهِمْ؛ فَالنُفُوسُ تَنْتَفِعُ بِمَا تَظُنُّ صِدْقَهُ فِي مَوَاضِعَ.
فَإذَا تَضَمَّنَتْ أَحَادِيثُ الْفَضَائِلِ الضَّعِيفَةِ تَقْدِيرًا وَتَحْدِيدًا مِثْل صَلَاةٍ فِي وَقْتٍ مُعَيَّن بِقِرَاءَةِ مُعَيَّنَة أَو عَلَى صِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اسْتِحْبَابَ هَذَا الْوَصْفِ الْمُعَيَّنَ لَمْ يَثْبُتْ بِدَلِيل شَرْعِيٍّ بِخِلَافِ مَا لَو رُوِيَ فِيهِ: مَن دَخَلَ السُّوقَ فَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ كَانَ لَهُ كَذَا وَكَذَا فَإنَّ ذِكْرَ اللهِ فِي السُّوقِ مُسْتَحَبٌ لِمَا فِيهِ مِن ذِكْرِ اللهِ بَيْنَ الْغَافِلِينَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ: "ذَاكِرُ اللهِ فِي الْغَافِلِينَ كَالشَّجَرَةِ الْخَضْرَاءِ بَيْنَ الشَّجَرِ الْيَابِسِ"
(3)
؛ فَأمَّا تَقْدِيرُ الثَّوَاب الْمَرْوِيِّ فِيهِ فَلَا يَضُرُّ ثُبُوتُهُ وَلَا عَدَمُ ثُبُوتِهِ وَفي مِثْلِهِ جَاءَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الَتِّرْمِذِيُّ: "مَن بَلَغَهُ عَن اللهِ شَيْءٌ فِيهِ فَضْلٌ فَعَمِلَ بِهِ رَجَاءَ ذَلِكَ الْفَضْلِ أَعْطَاهُ اللهُ ذَلِكَ وإن لَمْ يَكُن ذَلِكَ كَذَلِكَ"
(4)
.
فَالْحَاصِلُ: أَنَّ هَذَا الْبَابَ يُرْوَى وَيُعْمَلُ بِهِ فِي "التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ" لَا فِي
(1)
(3461).
(2)
رواه أبو داود (3644)، وضعَّفه الألباني.
(3)
ضعَّفه الألباني في ضعيف الترغيب (1051).
(4)
قال ابن الجوزي في الموضوعات (3/ 402): موضوع، وقال الذهبي في ترتيب الموضوعات (273): فيه إسماعيل بن يحيى -ساقط وعطية- هالك.
الِاسْتِحْبَابِ، ثُمَّ اعْتِقَادُ مُوجِبِهِ
(1)
، وَهُو مَقَادِيرُ الثَّوابِ وَالعِقَابِ يَتَوقَّف عَلَى الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ. [18/ 65 - 68]
* * *
(الأحاديث والآثار التي حكم عليها شيخ الإسلام)
1676 -
رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِن حَدِيثِ حيوة بْنِ شريح الْمِصْرِيّ، حَدَّثَنَا أَبُو صَخْرٍ، عَن يَزِيدَ بْن قسيط، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ:"مَا مِن أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَى إلَّا رَدَّ اللهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عليه السلام". [1/ 233]
1677 -
ثَبَتَ بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيحِ مِن حَدِيثِ شُعْبَةَ عَن سُلَيْمَانَ التيمي عَن الْمَعْرُور بْنِ سويد قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب فِي سَفَرٍ، فَصَلَّى الْغَدَاةَ ثُمَّ أَتَى عَلَى مَكَانٍ فَجَعَلَ النَّاسُ يَأْتُونَهُ فَيَقُولُونَ: صَلَّى فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عُمْرُ: إنَّمَا هَلَكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُم اتَّبَعُوا آثَارَ أَنْبِيَائِهِمْ فَاِتَّخَذُوهَا كَنَائِسَ وَبِيَعًا، فَمَن عَرَضَتْ لَهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَل وَإِلَّا فَلْيَمْضِ. [1/ 281]
1678 -
رَوَى بَعْضُ الْجُهَّالِ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إذَا سَأَلْتُمْ الله فَاسْأَلُوهُ بِجَاهِي؛ فَإِنَّ جَاهِي عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ"، وَهَذَا الْحَدِيثُ كَذِبٌ لَيْسَ فِي شَيءٍ مِن كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا أَهْلُ الْحَدِيثِ، وَلَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ. [319]
1679 -
مِن أَعْظَمِ الْأُصُولِ الَّتِي يَعْتَمِدُهَا هَؤُلَاءِ الِاتّحَادِيَّةُ الْمَلَاحِدَةُ الْمُدَّعُونَ لِلتَّحْقِيقِ وَالْعِرْفَانِ: مَا يَأثُرُونَهُ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كَانَ اللهُ وَلَا شَيءَ مَعَهُ وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ"، عِنْدَ الِاتّحَادِيَّةِ الْمَلَاحِدَةِ، وَهَذ الزِّيَادَةُ وَهُوَ قَوْلُهُ:"وَهوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ": كَذِبٌ مُفْتَرًى عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ مَوْضُوعٌ مُخْتَلَقٌ. [2/ 272]
(1)
ذكر في المصباح المنير أن موجِب الشيء (بالكسر) هو سببه، وموجَبه (بالفتح) هو مسببه.
1680 -
الْحَدِيثُ صَحِيحٌ مَشْهُورٌ فِي السُّنَنِ وَالْمَسَانِدِ؛ كَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَالنِّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَلَفْظُهُ: "افْتَرَقَت الْيَهُودُ عَلَى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النّارِ إلَّا وَاحِدَة، وَافْتَرَقَت النَّصَارَى عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَة كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً، وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً". [3/ 345]
1681 -
كُلُّ حَدِيثٍ فِيهِ أَنَّ محَمَّدًا صلى الله عليه وسلم رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنِهِ فِي الْأَرْضِ: فَهُوَ كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ، هَذَا شَيْءٌ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِن عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا رَوَاهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ. [3/ 386]
1682 -
فِي "سُنَنِ أَبِي دَاوُد" وَغَيْرِهِ عَن الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي جِنَازَةِ رَجُل مِن الْأَنْصَارِ. فَانْتَهَيْنَا إلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ فَجَلَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُؤوسِنَا الطَّيْرُ وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ الْأَرْضَ
…
: هُوَ حَدِيث حَسَنٌ ثَابِت. [4/ 290]
1683 -
الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِي قَبْضِ رُوحِ الْمُؤْمِنِ وَأَنَّهُ يَصْعَدُ بِهَا إلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللهُ: حَدِيثٌ مَعْروفٌ جَيِّدُ الْإِسْنَادِ. [4/ 271]
1684 -
ثَبَتَ عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَهُ قَالَ: "إنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ: يَا رَبِّ، جَعَلْت بَنِي آدمَ يَأكُلُونَ فِي الدُّنْيَا ويشْرَبُونَ ويتَمَتَّعُونَ، فَاجْعَلْ لَنَا الْآخِرَةَ كَمَا جَعَلْت لَهُم الدُّنْيَا. قَالَ: وَعِزَّتِي لَا أَجْعَلُ صَالِحَ ذَرّيَّةِ مَن خَلَقْت بِيَدَيَّ كَمَن قُلْت لَه كُنْ فَكانَ". ذَكَرَهُ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدارمي. [4/ 344]
1685 -
قَوْلُهُ: "أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ": لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِن أَهْلِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ، وَلَا أَهْلُ الْمَسَانِيدِ الْمَشْهُورَةِ، لَا أَحْمَدُ وَلَا غَيْرُهُ بِإِسْنَاد صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ.
وَإِنَّمَا يُرْوَى مِن طَرِيقِ مَن هُوَ مَعْرُوفٌ بِالْكَذِبِ.
وَلَكِنْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: "أُبَيٌّ أَقْرَؤُنَا، وَعَلِيٌّ أَقْضَانَا"، وَهَذَا قَالَهُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي بَكْرٍ. [4/ 408]
1686 -
أَمَّا حَدِيثُ "أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ": فَأَضْعَفُ وَأَوْهَى، وَلهَذَا إنَّمَا يُعَدُّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ الْمَكْذوبَاتِ، وَإِن كَانَ التّرْمِذِيُّ قَد رَوَاهُ، وَلهَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ مِن سَائِرِ طُرُقِهِ. [4/ 410]
1687 -
الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَةَ: الْمُسْلِمُ مَن سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِن لِسَانِهِ وَيَدِهِ.
وَالْمُؤمِنُ مَن أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ.
وَالْمُهَاجِرُ مَن هَجَرَ السَّيِّئاتِ.
وَالْمُجَاهِدُ مَن جَاهَدَ نَفْسَهُ للهِ.
وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم من حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو وفضالة بْنِ عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمَا بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ. [7/ 7]
1688 -
ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَن سَمِعَ النِّدَاءَ ثُمَّ لَمْ يُجِبْ مِن غَيْرِ عُذْرٍ؛ فَلَا صَلَاةَ لَهُ". [7/ 35]
1689 -
عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ". رَوَاهُ أَحْمَد وَابْنُ خُزَيْمَة فِي "صَحِيحِهِ" وَغَيْرُهُمَا. وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَرْوِيهِ: "كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُوتَى عَزَائِمُهُ"، وَلَيْسَ هَذَا لَفْظَ الْحَدِيثِ. [7/ 48]
1690 -
فِي حَدِيثِ عَدِيّ بْنِ حَاتِمٍ -وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ طَوِيل رَوَاهُ أَحْمَد وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا- وَكَانَ قَد قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وهُوَ نَصْرَانِيٌّ، فَسَمِعَهُ يَقْرَأُ هَذ الْآيَةَ:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} ، قَالَ: فَقُلْت لَهُ: إنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُم، قَالَ: ألَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللهُ فَتحَرِّمُونَهُ وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَتُحِلُّونَهُ؟ قَالَ: فَقُلْت: بَلَى، قَالَ: فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ". [6/ 67]
1691 -
رُوِيَ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا زَنَى الْعَبْدُ خَرَجَ مِنْهُ
الإيمَانُ كَانَ فَوْقَ رَأْسِهِ كالظُّلَّةِ، فَإِذَا خَرَجَ مِن ذَلِكَ الْعَمَلِ عَادَ إِلَيْهِ الإيمَانُ"
(1)
.
وَالزِّيَادَةُ الَّتِي رَوَاهَا أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي صَحِيحَةٌ، وَهِيَ مُفَسِّرَةٌ لِلرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ. [7/ 673]
1692 -
رَوَى ابْنُ مَاجَه وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ حَسَني: "إنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتيِ الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتكْرِهُوا عَلَيْهِ". [10/ 762]
1693 -
مَا يُذْكَرُ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما "أَنَّ آدمَ عليه السلام نَزَلَ مِن الْجَنَّةِ وَمَعَهُ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ مِن حَدِيدٍ السِّنْدَانُ وَالْكَلْبَتَانِ وَالْمِنْقَعَةُ وَالْمِطْرَقَةُ وَالْإِبْرَةُ" فَهُوَ كَذِبٌ لَا يَثْبُتُ مِثْلُهُ.
وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الثَّعْلَبِي عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ أَرْبَعَ بَرَكَاتٍ مِن السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ فَأَنْزَلَ الْحَدِيدَ وَالْمَاءَ وَالنَّارَ وَالْمِلْحَ": حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ مَكْذُوبٌ. [12/ 251 - 252]
1694 -
عَن سَعِيدٍ عَن الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَفِيهِمْ غُلَامٌ أَمْرَدٌ ظَاهِرُ الْوَضَاءَةِ، فَأَجْلَسَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَقَالَ:"كَانَت خَطِيئَةُ دَاوُد فِي النَّظَرِ". هَذَا حَدِيث مُنْكَرٌ. [15/ 377]
1695 -
قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "رَأْسُ الْأَمْرِ الإسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ"، وَهُوَ حَدِيث صَحِيحٌ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَالتّرْمِذِي وَصَحَّحَهُ. [17/ 26]
1696 -
رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مَرْفُوعًا عَن مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَن سَعْدٍ قَالَ: نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنُ فَتَلَاهُ عَليهِم زَمَانًا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ لَو قَصَصْت عَلَيْنَا، فَأنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا
(1)
رواه الترمذي (2625)، وأبو داود (4690).
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)} [يوسف: 1 - 3] فَتَلَاهُ عَلَيْهِم زَمَانًا. [17/ 40 - 41]
1697 -
صَحَّ مِن حَدِيثِ الزُّهْرِيّ قال: حَدَّثَنِي أَبُو أمامة بْنُ سَهْلِ بْنِ حنيف فِي مَجْلِسِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ أَنَّ رَجُلًا كَانَ مَعَهُ سُورَة فَقَامَ يَقْرَؤهَا مِن اللَّيْلِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا، وَقَامَ آخَرُ يَقْرَؤُهَا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا، وَقَامَ آخَرُ يَقْرَؤُهَا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا، فَأصْبَحُوا فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ بَعْضُهُم: ذَهَبْت الْبَارِحَةَ لِأَقْرَأَ سُورَةَ كَذَا وَكَذَا فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهَا، وَقَالَ الْآخَرُ: مَا جِئْت إلَّا لِذَلِكَ، وَقَالَ الْآخَرُ: مَا جِئْت إلَّا لِذَلِكَ، وَقَالَ الْآخَرُ: وَأَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إنَّهَا نُسِخَت الْبَارِحَةَ". [17/ 186]
1698 -
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِم فِي قَوْلِهِ: "خَلَقَ اللهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ": فَهوَ حَدِيثٌ مَعْلُولٌ قَدَحَ فِيهِ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ كَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: الصَّحِيحُ انَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى كَعْب، وَقَد ذَكَرَ تَعْلِيلَهُ البيهقي أَيْضًا، وَبَيَّنُوا أَنَّه غَلَطٌ لَيْسَ مِمَّا رَوَاة أَبُو هُرَيْرَةَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مِمَّا أَنْكَرَ الْحُذَّاقُ عَلَى مُسْلِم إخْرَاجَهُ إيَّاهُ، كَمَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ إخْرَاجَ أَشْيَاءَ يَسِيرَةٍ.
وَلَكِنْ هَذَا لَهُ نَظَائِرُ، رَوَى مُسْلِمٌ أَحَادِيثَ قَد عُرِفَ أَنَّهَا غَلَطٌ، مِثْل قَوْلِ أَبِي سُفْيَانَ لَمَّا أَسْلَمَ: أُرِيدَ أَنْ أُزَوِّجَك أمَّ حَبِيبَةَ، وَلَا خِلَافَ بَيْنِ النَّاسِ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ إسْلَامِ أَبِي سُفْيَانَ، وَلَكِنَّ هَذَا قَلِيلٌ جِدًّا.
وَمِثْل مَا رَوَى فِي بَعْضِ طَرْقِ حَدِيثِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ أَنَّهُ صَلَّاهَا بِثَلَاثِ ركوعات وَأَرْبَع، وَالصَّوَابُ: أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّهَا إلَّا مَرَّة وَاحِدَةً بِرُكُوعَيْنِ، وَلهَذَا لَمْ يُخَرِّجْ الْبُخَارِيُّ إلَّا هَذَا، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَغَيْرِهِمَا.
وَالْبُخَارِيُّ سَلِمَ مِن مِثْل هَذَا؛ فَإِنَّهُ إذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ غَلَطٌ ذَكَرَ
الرِّوَايَاتِ الْمَحْفُوظَةَ الَّتِي تُبَيّنُ غَلَطَ الغالط، فَإنَّهُ كَانَ أَعْرَفَ بِالْحَدِيثِ وَعِلَلِهِ، وَأَفْقَهَ فِي مَعَانِيهِ مِن مُسْلِمٍ وَنَحْوِهِ. [17/ 235 - 237]
1699 -
مِن الْمُتَوَاتِرِ أَنَّ نَصَارَى نَجْرَانَ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَدَعَاهُم إلَى الْمُبَاهَلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، فَأقَرُّوا بِالْجِزْيَةِ وَلمَ يُبَاهِلُوهُ، وَصَدْرُ آلِ عِمْرَانَ نَزَلَ بِسَبَبِ مَا جَرَى؛ وَلهَذَا عَامَّتُهَا فِي أَمْرِ الْمَسِيحِ. [17/ 377]
1700 -
هَذَا الْحَدِيثِ: "مَن عَلَّمَك آيةً مِن كِتَابِ اللهِ فَكَأَنَّمَا مَلَكَ رِقَّك إنْ شَاءَ بَاعَك وَإِن شَاءَ أَعْتَقَك" لَيْسَ هَذَا فِي شَيْءٍ مِن كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ، لَا فِي السِّتَّةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا؛ بَل مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ مَن عَلَّمَ غَيْرَهُ لَا يَصِيرُ بِهِ مَالِكًا إنْ شَاءَ بَاعَهُ وَإِن شَاءَ أَعْتَقَهُ وَمَن اعْتَقَدَ هَذَا فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وإلَّا قُتِلَ. [18/ 345]
1701 -
لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم حَدِيثٌ فِي زِيَارَةِ قَبْرِهِ. [18/ 342]
1702 -
حديث: "أَدَّبَنِي رَبّي فَأحْسَنَ تَأدِيبِي": الْمَعْنَى صَحِيحٌ، لَكِنْ لَا يُعْرَفُ لَهُ إسْنَادٌ ثَابِتٌ. [18/ 375]
1703 -
حديث: "أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا": ضَعِيفٌ بَل مَوْضُوعٌ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ، لَكِنْ قَد رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَمَعَ هَذَا فَهُوَ كَذِبٌ. [18/ 377]
1704 -
حديث: "اللَّهُمَّ إنَّك أَخْرَجَتْنِي مِن أَحَبِّ الْبِقَاعِ إلَيَّ فَأَسْكِنِّي فِي أَحَبِّ الْبِقَاعِ إلَيْك": بَاطِلٌ؛ بَل ثَبَتَ فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ أَنهُ قَالَ لِمَكَّةَ: "وَالله إنَّك لَأَحَدث بِلَادِ اللهِ إلَى اللهِ"، وَقَالَ:"إنَّك لَأَحَبُّ الْبِلَادِ إلَيَّ"، فَأَخْبَرَ أَنَّهَا أَحَبُّ الْبِلَادِ إلَى اللهِ وَإِلَيْهِ. [18/ 378]
1705 -
حديث: "كُنْت نَبِيًّا وَآدمُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ وَكُنْت نَبِيًّا وَآدمُ لَا مَاءَ وَلَا طِينَ": كَذِبٌ بَاطِلٌ، وَلَكِنَّ اللَّفْظَ الْمَأثُورَ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ متى كَنْت نَبِيًّا؟ قَالَ:: وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ" وَفي
"السُّنَنِ" عَن العرباض بْنِ سَارِيةَ أَنَّهُ قَالَ: "إنِّي عِنْدَ اللهِ لَمَكْتُوبٌ خَاتَم النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدَلٌ في طينَتِهِ". [18/ 379 - 380]
1706 -
حديث: "اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زمْرَةِ الْمَسَاكينِ": هَذَا يُرْوَى لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ لَا يَثْبُتُ، وَمَعْنَاهُ: أَحْيِنِي خَاشِعًا مُتَوَاضِعًا، لَكِن اللَّفْظُ لَمْ يَثْبُتْ. [18/ 382]
1707 -
حديث: "إذَا وَصَلْتُمْ إلَى مَا شَجَرَ بَيْنَ أَصْحَابِي فَأمْسِكُوا، وَإِذَا وَصَلْتُمْ إلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ فَأمْسِكُوا": مَأثُورٌ بِإِسْنَادٍ مُنْقَطِعٍ وَمَا لَهُ إسْنَاد ثَابِتٌ. [18/ 384]
1708 -
قَالَ صلى الله عليه وسلم: "لَعَنَ اللهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ". وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. [20/ 266]
1709 -
صَحَّ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "الْمَاءُ لَا يَنْجُسُ". [20/ 519]
1710 -
حَدِيث الْقُلَّتَيْنِ أَنَهُ سُئِلَ صلى الله عليه وسلم عَن الْمَاءِ يَكُونُ بِأَرْضِ الْفَلَاةِ وَمَا يَنوبُهُ مِن السّبَاعِ وَالدَّوَابّ فَقَالَ: "إذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِل الْخَبَثَ"، وَفي لَفْظٍ:"لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيءٌ": مِن كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ لَا مِن كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [21/ 35]
1711 -
عَن سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبَّقِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي رَجُلٍ وَقَعَ عَلَى جَارِيةِ امْرَأَتِهِ: "إنْ كَانَ اسْتَكْرَهَهَا فَهِيَ حُرُّةٌ، وَعَلَيْهِ لِسَيِّدَتِهَا مِثْلُهَا، وَإِن كانَت طَاوَعَتْهُ فَهِيَ لَهُ، وَعَلَيْهِ لِسَيِّدَتِهَا مِثْلُهَا". حَدِيث حَسَنٌ. [20/ 561 - 562]
1712 -
ثَبَتَ عَن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ أَفْطَرَ ثُمَّ تبَيَّنَ النَّهَارُ فَقَالَ: لَا نَقْضِي فَإِنَّا لَمْ نتَجَانَفْ لِإِثْمِ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: نَقْضِي.
وَلَكِنَّ إسْنَادَ الْأَوَّلِ أَثْبَتُ.
وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْخَطْبُ يَسِيرٌ.
فَتَأَوَّلَ ذَلِكَ مَن تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ خِفَّةَ أَمْرِ الْقَضَاءِ، لَكِنَّ اللَّفْظَ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. [20/ 572 - 573]
1713 -
قَالَ صلى الله عليه وسلم: "لَا أُلْفِينَّ أَحَدَكمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكتِهِ يَأتِيهِ الْأَمْرُ مِن أَمْرِي مِمَّا أَمَرْت بِهِ أَو نَهيْت عَنْهُ فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ هَذَا الْقُرْآنُ فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِن حَلَالٍ أَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِن حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ، ألَا وَإِنِّي أُوتيت الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، وإنَّ مَما حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا حَرَّمَ الله تَعَالَى". وَهَذَا الْمَعْنَى مَحْفُوظٌ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِن غَيْرِ وَجْهٍ. [21/ 8]
مَا يُرْوَى عَنْهُ [أي: عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ] مَرْفُوعًا: "مَنْ شَرِبَ فِي إِنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ إِنَاء فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَإنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ"
(1)
: فَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. [21/ 85]
1714 -
رُوِيَ فِي الْعَاجِ حَدِيثٌ مَعْرُوفٌ لَكِنْ فِيهِ نَظَرٌ. [21/ 101]
1715 -
لَمْ يَصِحَّ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى عُنُقِهِ فِي الْوُضُوءِ. [21/ 127]
1716 -
حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ لَمَّا خَرَجَ مِن دِمَشْقَ إلَى الْمَدِينَةِ يُبَشِّرُ النَّاس بِفَتْحِ دِمَشْقَ وَمَسَحَ أُسْبُوعًا بِلَا خَلْعٍ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَصَبْت السُّنَّةَ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. [21/ 178]
1717 -
الْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى: "الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ إلَّا أَنَّ اللهَ أَبَاحَ فِيهِ الْكَلَامَ فَمَن تَكَلَّمَ فَلَا يَتَكَلَّمْ إلَّا بِخَيْرِ" قَد رَوَاهُ النَّسَائِي، وَهُوَ يُرْوَى مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا، وَأَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ لَا يُصَحِّحُونَهُ إلَّا مَوْقُوفًا، ويجْعَلُونَهُ مِن كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لَا يُثْبِتُونَ رَفْعَهُ. [21/ 274]
1718 -
عن ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ النَّجْمَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ. وَهذَا السُّجُودُ مُتَوَاتِرٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ. [21/ 281]
(1)
رواه البيهقي في السنن الصغرى (219).
1719 -
صَحَّ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى النَاسَ عَن الْحَمامِ. [21/ 336]
1720 -
عَن إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَن مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَن نَافِعٍ عَن ابْنِ عُمَرَ: "لَا تَقْرَأ الْحَائِضُ وَلَا الْجُنُبُ مِن الْقُرْآنِ شَيْئًا". رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ، وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيف بِاتّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ.
وإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ مَا يَرْوِيهِ عَن الْحِجَازِيِّينَ أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ، بِخِلَافِ رِوَايَتهِ عَن الشَّامِيِّينَ، وَلَمْ يَرْوِ هَذَا عَن نَافِعٍ أَحَدٌ مِن الثّقَاتِ. [21/ 460]
1721 -
ثَبَتَ عَن النَّبِيِّ صلى أَنَّهُ سُئِلَ عَن خَمْرٍ لِيَتَامَى فَأمَرَ بِإِرَاقَتِهَا، فَقِيلَ لَهُ: إنَّهم فُقَرَاء؟ فَقَالَ: "سَيُغْنِيهِم اللهُ مِن فَضْلِهِ". [21/ 483]
1722 -
وَأَمَّا مَا يُرْوَى: "خَيْرُ خَلِّكُمْ خَلُّ خَمْرِكُمْ" فَهَذَا الْكَلَامُ لَمْ يَقُلْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَن نَقَلَهُ عَنْهُ فَقَد أَخْطَأَ وَلَكِنْ هُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ. [21/ 485]
1723 -
اتَّفَقَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ مَعْمَرًا كَثِيرُ الْغَلَطِ عَلَى الزُّهْرِي. [21/ 495]
1724 -
رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي "مَسْنَدِهِ" بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَن عَائِشَةَ قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْلِتُ الْمَنِيَّ مِن ثَوْبِهِ بِعِرْقِ الْإِذْخِرِ ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ وَيَحُتُّهُ مِن ثَوْبِهِ يَابِسًا ثُمَّ يُصَلّي فِيهِ". [21/ 589]
1725 -
رَوَى إسْحَاقُ الْأزْرَقُ عَن شَرِيكٍ عَن مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَن عَطَاءٍ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "سئِلَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَن الْمَنِيِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ فَقَالَ: إنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ، وَإِنَّمَا يَكْفِيك أَنْ تَمْسَحَهُ بِخِرْقَةِ أَو بإذخرة".
قَالَ الدارقطني: لَمْ يَرْفَعْهُ غَيْرُ إسْحَاقَ الْأَزْرَقِ عَن شَرِيكٍ.
قَالُوا: وَهَذَا لَا يَقْدَحُ؛ لِأنَّ إسْحَاقَ بْنَ يُوسُفَ الْأَزْرَقَ أحَدُ الْأئِمَّةِ، وَرَوَى عَن سُفْيَانَ وَشَرِيكٌ وَغَيْرِهِمَا وَحَدَّثَ عَنْهُ أَحْمَدُ وَمِن فِي طَبَقَتِهِ، وَقَد أَخْرَجَ لَهُ صَاحِبَا الصَّحِيحِ، فَيُقْبَلُ رَفْعُهُ وَمَا يَنْفَرِدُ بِهِ.
وَأَنَا أَقُولُ: أَمَّا هَذِهِ الْفُتْيَا فَهِيَ ثَابِتَةٌ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَبْلَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْهُمَا الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ فِي كتُبِهِم.
وَأَمَّا رَفْعُهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَمُنْكَرٌ بَاطِلٌ لَا أَصْل لَهُ؛ لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُم رَوَوْهُ عَن شَرِيكٍ مَوْقُوفًا، ثُمَّ شَرِيكٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ -وَهُوَ ابْن أَبِي لَيْلَى- لَيْسَا فِي الْحِفْظِ بِذَاكَ، وَاَلَّذِينَ هُم أَعْلَمُ مِنْهُم بِعَطَاءِ مَثَلُ ابْنِ جريج الَّذِي هُوَ أَثْبَتُ فِيهِ مِن الْقُطْبِ وَغَيْرِهِ مِن الْمَكّيِّينَ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ إلَّا مَوْقُوفًا، وَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى وَهْمِ تِلْكَ الرُّوَاةِ.
فَإِنْ قُلْت: أَلَيْس مِن الْأصُولِ الْمُسْتَقِرَّةِ أَنَّ زِيَادَةَ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ، وَأَنَّ الْحُكْمَ لِمَن رَفَعَ لَا لِمَن وَقَفَ لِأَنَّهُ زَائِدٌ؟
قُلْت: هَذَا عِنْدَنَا حَقٌّ مَعَ تَكَافُؤِ الْمُحَدِّثِينَ الْمُخْبِرِينَ وَتَعَادُلِهِمْ، وَأَمَّا مَعَ زَيادَةِ عَدَدِ مَن لَمْ يَزِدْ فَقَد اخْتَلَفَ فِيهِ أَوَّلُونَا، وَفيهِ نَظَرٌ.
وَأَيْضًا: فَإنَّمَا ذَاكَ إذَا لَمْ تَتَصَادَم الرّوَايَتَانِ وَتَتَعَارَضَا، وَأَمَّا مَتَى تَعَارَضَتَا يَسْقُطُ رِوَايَةُ الْأَقَلِّ بِلَا ريبٍ، وَهَاهُنَا الْمَرْوِيُّ لَيْسَ هُوَ مُقَابَلًا بِكَوْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَد قَالَهَا ثُمَّ قَالَهَا صَاحِبُهُ تَارَةً، تَارَةً ذَاكِرًا، وَتَارَةً آثِرًا، وَإِنَّمَا هُوَ حِكَايَةُ حَالٍ وَقَضِيَّةُ عَيْنٍ فِي رَجُلٍ اسْتَفْتَى عَلَى صُورَةٍ وَحُرُوفٍ مَأثُورَةٍ، فَالنَّاسُ ذَكَرُوا أَنَّ الْمُسْتَفْتِيَ ابْنُ عَبَّابر، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَرْفَعُهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَت الْقَضِيَّةُ إلَّا وَاحِدَةً، إذ لَو تَعَدَّدَت الْقَضِيَّةُ لَمَا أَهْمَلَ الثّقَاتُ الأثبات ذَلِكَ عَلَى مَا يُعْرَفُ مِن اهْتِمَامِهِمْ بِمِثْل ذَلِكَ.
وَأَيْضًا فَأَهْلُ نَقْدِ الْحَدِيثِ وَالْمَعْرِفَةِ بِهِ أَقْعَدُ بِذَلِكَ، وَلَيْسُوا يَشُكُّونَ فِي أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَهْمٌ. [21/ 590 - 591]
1726 -
ما رُوِيَ عَن عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِن الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْمَنِيِّ وَالْقَيءِ". رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ: لَا أَصْلَ لَهُ.
فِي إسْنَادِهِ ثَابِتُ بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ الدارقطني: ضَعِيفٌ جِدًّا، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَهُ مَنَاكِيرُ. [21/ 594]
1727 -
هَذَا الْحَدِيثُ: "كُلُّ صَلَاةٍ لَمْ تَنْهَ عَن الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ صَاحِبُهَا مِن اللهِ إلَّا بُعْدًا"
(1)
: لَيْسَ بِثَابِتٍ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [22/ 5]
1728 -
الْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى عَن عَائِشَةَ: "أَنَّهَا اعْتَمَرَتْ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ حَتَّى إذَا قَدِمَتْ مَكَّةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي قَصَرْت وَأَتْمَمْت وَأَفْطَرْت وَصُمْت. قَالَ: أَحْسَنْت يَا عَائِشَةُ وَمَا عَابَ عَلَيَّ" رَوَاهُ النَّسَائِي.
وَرَوَى الدارقطني: خَرَجْت مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي عُمْرَةِ رَمَضانَ فَأفْطَرَ وَصُمْت وَقَصَرَ وَأَتْمَمْت. وَقَالَ: إسْنَابٌ حَسَنٌ: هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَيْسَ بِصَحِيح؛ بَل هُوَ خَطَأٌ. [22/ 80]
1729 -
قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ فَإنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ": حَدِيث صَحِيحٌ. [22/ 97]
1730 -
ثَبَتَ عَن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه "أَنَّهُ مَرَّ هُوَ وَصَاحِبٌ لَهُ بِمَكَانٍ فَسَقَطَ عَلَى صَاحِبِهِ مَاءٌ مِن مِيزَابٍ فَنَادَى صَاحِبُهُ: يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ أَمَاؤُك طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ؟
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ لَا تُخْبِرْهُ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ عَلَيْهِ". [22/ 184]
1731 -
حَدِيث مُعَاوِيَةَ الَّذِي فِيهِ أَنَّهُ صَلَّى بِالصَّحَابَةِ بِالْمَدِينَةِ فَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ تَرْكَ قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ وَأَوَّلِ السُّورَةِ حَتَّى عَادَ يَعْمَلُ ذَلِكَ: فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَإِن كَانَ الدارقطني قَالَ: إسْنَادُهُ ثِقَاتٌ، وَقَالَ الْخَطِيبُ: هُوَ أَجْوَدُ مَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْألَةِ، كَمَا نَقَلَ ذَلِكَ عَنْهُ نَصْرٌ المقدسي، فَهَذَا الْحَدِيثُ يُعْلَمُ ضَعْفُهُ مِن وجوه. [22/ 430]
(1)
قال ابن كثير رحمه الله -بعد أن ساق الحديث-: وَالْأصَحُّ فِي هَذَا كُلّهِ الْمَوْقُوفَاتُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ وقَتَادَةَ، وَالْأَعْمَشِ وَغَيْرِهِمْ. تفسير ابن كثير (6/ 281).
1732 -
عَن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِب عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه كَانَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، ويصْنَعُ مِثْل ذَلِكَ إذَا قَضَى قِرَاءَتَهُ، وَإِذَا أَرَادَ
(1)
أَنْ يَرْكَعَ، ويصْنَعُهُ إذَا رَفَعَ مِن الرُّكُوعِ، وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيءٍ مِن صَلَاتِهِ وَهُوَ قَاعِدٌ، وَإِذَا قَامَ مِن الرَّكْعَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ كَذَلِكَ وَكَبَّرَ. رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَهَذَا لَفْظُهُ وَابْنُ مَاجَه وَالتِّرْمِذِي وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيح.
وَعَن أَبِي حميد الساعدي أَنَّهُ ذَكَرَ صِفَةَ صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفيهِ: إذَا قَامَ مِن السَّجْدَتَيْنِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ كَمَا صَنَعَ حِينَ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالنَسَائِي وَالتِّرْمِذِي وَصَحَّحَهُ.
فَهَذِهِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ ثَابِتَةٌ. [22/ 453]
1733 -
رُوِيَ فِي قِرَاءَةِ آيةِ الْكرْسِيِّ عَقِيبَ الصَّلَاةِ حَدِيثٌ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ
(2)
. [22/ 508]
1734 -
رَفْعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ: جَاءَ فِيهِ أَحَادِيثُ كَثيرَةٌ صَحِيحَةٌ.
وَأَمَّا مَسْحُهُ وَجْهَهُ بِيَدَيْهِ فَلَيْسَ عَنْهُ فِيهِ إلَّا حَدِيثٌ أَو حَدِيثَانِ لَا يَقُومُ بِهمَا حُجَّةٌ. [22/ 519]
1735 -
الْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى "إنَّك إمَامُنَا فَلَو سَجَدْت لَسَجَدْنَا": مِن مَرَاسِيلِ عَطَاءٍ وَهُوَ مِن أَضْعَفِ الْمَرَاسِيلِ قَالَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ. [23/ 48]
1736 -
رُوِيَ مِن حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِم فَسَهَا فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ تَشَهَّدَ، ثُمَّ سَلَّم. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَقَالَ: حَدِيث حَسَنٌ غَرِيبٌ.
(1)
الصواب: وأراد، كما في سنن الترمذي وغيره.
(2)
وقال في (2/ 516): وأما قراءة آية الكرسي فقد رويت بإسناد لا يمكن أن يثبت به سُنَّة. اهـ.
قال ابن القيِّم خمَلهُ في زاد المعاد (1/ 294): بلغني عن شيخنا أبي العباس ابن تيمية قدّس الله روحه أنه قال: ما تركتها عقيب كل صلاة.
قُلْت: كَوْنُهُ غَرِيبًا يَقْتَضِي أَنَّة لَا مُتَابعَ لِمَن رَوَاهُ بَل قَد انْفَرَدَ بِهِ. [23/ 49]
1737 -
صَلَاةُ الرَّغَائِبِ: بِدْعَةٌ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الدّينِ لَمْ يَسُنَّهَا رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَحَدٌ مِن خُلَفَائِهِ.
وَالْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِيهَا كَذِبٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ الَّتِي تُذْكَرُ أَوَّلَ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِن رَجَب، وَفِي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ، وَأَلْفِيَّةِ نِصْفِ شَعْبَانَ، وَالصَّلَاةِ يَوْمَ الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ وَغَيْرِ هَذَا مِن أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ وَإِن كَانَ قَد ذَكَرَهَا طَائِفَة مِن الْمُصَنِّفِينَ فِي الرَّقَائِقِ فَلَا نِزَاعَ بَيْنَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيث أَنَّ أحَادِيثَهُ كُلَّهَا مَوْضُوعَةٌ.
وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي تذْكَرُ فِي صِيَامِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةِ الْعِيدَيْنِ كَذِبٌ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [23/ 134 - 135]
1738 -
فِي السُّنَنِ عَن ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثنى مَثْنَى" فَإنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِي الصِّحَاحِ الَّذِي رَوَاهُ الثقاة قَوْلُهُ:"صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى"، وَأَمَّا قَوْلُهُ: و"النَهَارِ" فَزِيَادَةٌ انْفَرَدَ بِهَا البارقي، وَقَد ضَعَّفَهَا أحْمَد وَغَيْرُهُ. [23/ 169]
1739 -
الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ تَوَضَّأ مَرَّةً مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ وَثَلَاثًا ثَلَاثًا وَقَالَ: "هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي": حَدِيثٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِمِثْلِهِ. [23/ 169]
1740 -
فِي السُّنَنِ حَدِيثُ عَلِيٍّ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ". وَهَذَا مَحْفُوظ عَن ابْنِ مَسْعُودٍ مِن قَوْلِهِ. [23/ 170]
1741 -
ثَبَتَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَرَأَ فِي الْفَجْرِ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قِيلَ لَهُ: كَادَت الشَّمْسُ تَطْلُعُ! فَقَالَ: لَو طَلَعَتْ لَمْ تَجِدْنَا غَافِلِينَ
(1)
. [23/ 179]
(1)
رواه البيهقي (4015).
1742 -
رَوَى الزُّهْرِيُّ عَن ابْنِ أكيمة الليثي عَن أَبِي هُرَيرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ مِن صَلَاةٍ جَهَرَ فِيهَا فَقَالَ:"هَل قَرَأَ معي أَحَدٌ مِنْكُمْ آنِفًا؟ " فَقَالَ رَجُلٌ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: "إنِّي أقولُ مَا لي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ".
قَالَ: فَانْتَهَى النَّاسُ عَن الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا جَهَرَ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَوَاتِ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَالنَّسَائِي وَالتِّرْمِذِي وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
قَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى بْنِ فَارِسٍ يَقُولُ: قَوْلُهُ: "فَانْتَهَى النَّاسُ" مِن كَلَامِ الزُّهْرِيِّ.
وَقَالَ بَعْضُهُم: فوَ قَوْلُ ابْنِ أكيمة، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ.
فَإِنْ قِيلَ: قَالَ البيهقي: ابْنُ أكيمة رَجُلٌ مَجْهُولٌ لَمْ يُحَدِّثْ إلَّا بِهَذَا الْحَدِيثِ وَحْدَهُ وَلَمْ يُحَدَّثْ عَنْهُ غَيْرُ الزُّهْرِيّ.
قِيلَ: لَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَل قَد قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِي فِيهِ: صَحِيحُ الْحَدِيثِ حَدِيثُهُ مَقْبُولٌ. وَحُكِيَ عَن أَبِي حَاتِمٍ البستي أَنَّهُ قَالَ: رَوَى عَنْهُ الزُّهْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ وَابْنُ أَبِيهِ عُمَرُ وَسَالِمُ بْنُ عَمَّارٍ ابْنُ أكيمة بْنِ عُمَرَ. [23/ 273 - 275]
1743 -
فِي "السُّنَنِ" عَن عبادة، أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إذَا كُنْتُمْ وَرَائِي فَلَا تَقْرَءُوا إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَن لَمْ يَقْرَأ بِهَا". وَهَذَا الْحَدِيثُ مُعَلَّلٌ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ بِأُمُورِ كَثيرَةٍ ضَعَّفَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِن الْأَئِمَّةِ.
وَقَد بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ضَعْفِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَبُيِّنَ أَنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"لَا صَلَاةَ إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ": فَهَذَا هُوَ الَّذِي أَخْرَجَاهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ"، وَرَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَن مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ عَن عبادة.
وَأَمَّا هَذَا الْحَدِيثُ فَغَلِطَ فِيهِ بَعْضُ الشَّامِيِّينَ، وَأَصْلُهُ أَنَ عبادة كَانَ يَؤمُّ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ هَذَا فَاشْتبَهَ عَلَيْهِم الْمَرْفُوعُ بِالْمَوْقُوفِ عَلَى عبادة. [23/ 286 - 287]
1744 -
قَوْله: "تَجُوزُ الصَّلَاة خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ" هَذَا الْحَدِيثَ لَمْ يَثْبُتْ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ بَل فِي "سُنَنِ ابْنِ مَاجَه" عَنْهُ: "لَا يَؤُمَّنَّ فَاجِرٌ مُؤمِنًا إلَّا أَنْ يَقْهَرَهُ بِسَوْطِ أَو عَصًا". وَفي إسْنَادِ الْآخَرِ مَقَالٌ أَيْضًا. [23/ 358]
1745 -
عَن عَطَاءٍ عَن عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ وَيُتمُّ.
وَرَوَى حَدِيثَ طَلْحَةَ بْنِ عُمَرَ عَن عَطَاءٍ عَن عَائِشَةَ قَالَتْ: كُلُّ ذَلِكَ قَد فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَد أَتَمَّ وَقَصَرَ، وَصَامَ فِي السَّفَرِ وَأَفْطَرَ. ولَا ريبَ أَنَّ هَذَا حَدِيثٌ مَكْذُوبٌ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
مَعَ أَنَّ مِن النَّاسِ مَن يَقُولُ: لَفْظُهُ: "كَانَ يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ وَتُتِمُّ وَيُفْطِرُ وَتَصُومُ" بِمَعْنَى أَنَّهَا هِيَ الَّتِي كَانَت تُتِمُّ وَتَصُومُ. وَهَذَا أَشْبَهُ بِمَا رُوِيَ عَنْهَا مِن غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، مَعَ أَنَّهُ كَذِبٌ عَلَيْهَا أَيْضًا. [24/ 144 - 145]
1746 -
رَوي عَنْهُ صلى الله عليه وسلم "أَنَهُ صَلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا" أَو أنَّهُ قَضَى سُنَّةَ الْعَصْرِ" أَو "أَنَّهُ صَلَّى قَبْلَ الظُّهْرِ سِتًّا" أَو "بَعْدَهَا أَرْبَعًا" أَو "أَنَّهُ كَانَ يُحَافِظُ عَلَى الضُّحَى"، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِن الأحَادِيثِ الْمَكْذُوبَةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. اهـ. [24/ 201]
1747 -
جَاءَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِن طَرِيقَيْنِ: أَنَّهُ لَعَنَ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ، فَعَن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه:"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ" رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَابْنُ مَاجَه وَالتّرْمِذِي وَصَحَّحَهُ.
وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ" رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد؛ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي وَالتِّرْمِذِي وَحَسَّنَهُ، وَفِي نُسَخٍ تَصْحِيحُهُ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَه مِن ذِكْرِ الزِّيَارَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَقَد قَالَ فِيهِ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: تَرَكَهُ شُعْبَة وَلَيْسَ بِذَاكَ، وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: كَانَ كَثِيرَ الْحَدِيثِ وَلَيْسَ يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ، وَقَالَ السَّعْدِيُّ وَالنَّسَائِي: لَيْسَ بِقَوِيِّ الْحَدِيثِ، وَالثَّانِي فِيهِ أَبُو صَالِحٍ باذام مَوْلَى أُمّ هَانِئٍ وَقَد ضَعَّفُوهُ قَالَ أَحْمَد: كَانَ ابْنُ مَهْدِيِّ تَرَكَ حَدِيثَ
أَبِي صَالِحٍ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: يَكْتُبُ حَدِيثَهُ وَلَا يَحْتَجُّ بِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: عَامَّةُ مَا يَرْوِيهِ تَفْسِيرٌ وَمَا أَقَلَّ مَا لَهُ فِي الْمُسْنَدِ، وَلَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا مِن الْمُتَقَدِّمِينَ رَضِيَهُ.
قُلْت: الْجَوَابُ عَلَى هَذَا مِن وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ: كُلٌّ مِن الرَّجُلَيْنِ قَد عَدَّلَهُ طَائِفَةٌ مِن الْعُلَمَاءِ كَمَا جَرَّحَهُ آخَرُونَ، أَمَّا عُمَرُ فَقَد قَالَ فِيهِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ اللهِ العجلي: لَيْسَ بِهِ بَأسٌ، وَكَذَلِكَ قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ بِهِ بَأسٌ، وَابْنُ مَعِينن وَأَبُو حَاتِمٍ مِن أَصْعَبِ النَّاسِ تَزْكِيَة.
وَأَمَّا قَوْلُ مَن قَالَ: تَرَكَهُ شُعْبَة، فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ، كَمَا قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَل: لَمْ يَسْمَعْ شُعْبَةُ مِن عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ شَيْئًا، وَشُعْبَةُ ويحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيِّ وَمَالِكٌ وَنَحْوُهُم قَد كَانُوا يَتْرُكُونَ الْحَدِيثَ عَن أُنَاسٍ لِنَوْعِ شُبْهَةٍ بَلَغَتْهُم لَا تُوجِبُ رَدَّ أَخْبَارِهِمْ، فَهُم إذَا رَوَوْا عَن شَخْصٍ كَانَت رِوَايَتُهُم تَعْدِيلًا لَهُ.
وَأَمَّا تَرْكُ الرِّوَايَةِ فَقَد يَكُونُ لِشُبْهَةٍ لَا تُوجِبُ الْجَرْحَ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي غَيْر وَاحِدٍ قَد خُرِّجَ لَهُ فِي الصَّحِيحِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَن قَالَ: "لَيْسَ بِقَوِيٍّ فِي الْحَدِيثِ" عِبَارَةٌ لَيِّنَةٌ تَقْتَضِي أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ فِي حِفْظِهِ بَعْضُ التَّغَيُّرِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ لَا تَقْتَضِي عِنْدَهُم تَعَمُّدَ الْكذِبِ وَلَا مُبَالَغَةً فِي الْغَلَطِ.
وَأَمَّا أَبُو صَالِحٍ: فَقَد قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ: لَمْ أَرَ أَحَدًا مِن أَصْحَابِنَا تَرَكَ أَبَا صَالِحٍ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ، وَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا مِن النَّاسِ يَقُولُ فِيهِ شَيْئًا، وَلَمْ يَتْرُكْهُ شُعْبَةُ وَلَا زَائِدَةُ، فَهَذِهِ رِوَايَةُ شُعْبَةَ عَنْهُ تَعْدِيلٌ لَهُ كَمَا عُرِفَ مِن عَادَةِ شعْبَةَ، وَتَرْكُ ابْنُ مَهْدِيٍّ لَهُ لَا يُعَارِضُ ذَلِكَ، فَإنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ أَعْلَمُ بِالْعِلَلِ وَالرِّجَالِ مِن ابْنِ مَهْدِيٍّ، فَإِنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ شُعْبَةَ ويحْيَى بْنَ سَعِيدٍ أَعْلَمُ بِالرِّجَالِ مِن ابْنِ مَهْدِيٍّ وَأَمْثَالِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَاتِمٍ: يُكْتَبُ حَدِيثُهُ وَلَا يحْتَجُّ بِهِ، فَأبُو حَاتِمٍ يَقُولُ مِثْل هَذَا فِي كَثِير مِن رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ، وَذَلِكَ أنَّ شَرْطَهُ فِي التَّعْدِيلِ صَعْبٌ، وَالْحُجَّةُ فِي اصْطِلَاحِهِ لَيْسَ هُوَ الْحُجَّةَ فِي جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَهَذَا كَقَوْلِ مَن قَالَ: لَا أَعْلَمُ أَنَّهُم رَضُوهُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُم مِن الطَّبَقَةِ الْعَالِيَةِ، وَلهَذَا لَمْ يُخَرِّج الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِم لَه وَلِأمْثَالِهِ، لَكِنَّ مُجَرَّدَ عَدَمِ تَخْرِيجِهِمَا لِلشَّخْصِ لَا يُوجِبُ رَدَّ حَدِيثهِ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيُقَالُ: إذَا كَانَ الْجَارحُ وَالْمُعَدِّلُ مِن الْأَئِمَّةِ لَمْ يُقْبَل الْجَرْحُ إلَّا مُفَسَّرًا فَيَكُون التَّعْدِيلُ مُقَدَّمًا عَلَى الْجَرْحِ الْمُطْلَقِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ حَدِيثَ مِثْل هَؤُلَاءِ يَدْخُلُ فِي الْحَسَنِ الَّذِي يَحْتَجُّ بِهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، فَإِذَا صَحَّحَهُ مَن صَحَّحَهُ كَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ وَلَمْ يَكُن فِيهِ مِن الْجَرْحِ إلَّا مَا ذُكِرَ كَانَ أَقَلَّ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ مِن الْحَسَنِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ: قَد رُوِيَ مِن وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عَن ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالْآخَرُ: عَن أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَرِجَالُ هَذَا لَيْسَ رِجَالَ هَذَا، فَلَمْ يَأْخُذْهُ أَحَدُهُمَا عَن الْآخَرِ، وَلَيْسَ فِي الْإِسْنَادَيْنِ مَن يُتَّهَمُ بِالْكَذِبِ، وَإِنَّمَا التَّضْعِيفُ مِن جِهَةِ سُوءِ الْحِفْظِ وَمِثْلُ هَذَا حُجَّةٌ بِلَا ريبٍ، وَهَذَا مِن أَجْوَدِ الْحَسَنِ الَّذِي شَرَطَة التِّرْمِذِيُّ فَإِنَّة جَعَلَ الْحَسَنَ مَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ وَلَمْ يَكُن فِيهَا مُتَّهَمٌ وَلَمْ يَكُن شَاذًّا؛ أَيْ: مُخَالِفًا لِمَا ثَبَتَ بِنَقْلِ الثقات.
وَهَذَا الْحَدِيثُ تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ وَلَيْسَ فِيهِ مُتَّهَمٌ وَلَا خَالَفَهُ أَحَدٌ مِن الثقات، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَدِيثَ إنَّمَا يُخَافُ فِيهِ مِن شَيْئَيْنِ: إمَّا تَعَمُّدُ الْكَذِبِ، وَإِمَّا خَطَأُ الرَّاوِي، فَإِذَا كَانَ مِن وَجْهَيْنِ لَمْ يَأخُذْهُ أحَدُهمَا عَن الْآخَرِ وَلَيْسَ مِمَّا جَرَت الْعَادَةُ بِأنْ يَتَّفِقَ تَسَاوِي الْكَذِبِ فِيهِ: عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَذِبِ؛ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الرُّوَاةُ لَيْسُوا مِن أَهْلِ الْكَذِبِ.
وَأَمَّا الْخَطَأ فَإنَّهُ مَعَ التَّعَدُّدِ يَضْعُفُ، وَلهَذَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما يَطْلُبَانِ مَعَ الْمُحَدِّثِ الْوَاحِدِ مَن يُوَافِقُهُ خَشْيَةَ الْغَلَطِ، وَلهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي الْمَرْأَتَيْنِ:{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] هَذَا لَو كَانَا عَن صَاحِبٍ وَاحِدٍ، فَكَيْفَ وَهَذَا قَد رَوَاهُ عَن صَاحِبٍ، وَذَلِكَ عَن آخَرَ، وَفِي لَفْظِ أَحَدِهِمَا زِيَادَةٌ عَلَى لَفْظِ الْآخَرِ، فَهَذَا كُلُّهُ وَنَحْوُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْحَدِيثَ فِي الْأصْلِ مَعْرُوفٌ. [24/ 348 - 352]
1748 -
صَحَّ عَن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "لَعَنَ اللهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ". [24/ 360]
1749 -
لَيْسَ فِي زَيارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
(1)
حَدِيثٌ حَسَنٌ وَلَا صَحِيحٌ. [24/ 356]
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى "ثَلَاثٌ لَا تُفَطِّرُ: الْقَيْءُ وَالْحِجَامَةُ وَالِاحْتِلَامُ"، وَفي لَفْظٍ "لَا يُفْطِرُ مَنْ قَاءَ، وَلَا مَن احْتَلَمَ، وَلَا مَن احْتَجَمَ"
(2)
: فَهَذَا إسْنَادُهُ الثَّابِتُ مَا رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ عَن زيدِ بْنِ أَسْلَمَ عَن رَجُل مِن أَصْحَابِهِ عَن رَجُلٍ مِن أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَهَذَا الرَّجُلُ لَا يُعْرَفُ. [25/ 223]
1750 -
وَأَمَّا صَوْمُ رَجَب بِخُصُوصِهِ فَأحَادِيثُهُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ بَل مَوْضُوعَةٌ لَا يَعْتَمِدُ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى شَيءٍ مِنْهَا، وَلَيْسَتْ مِن الضَّعِيفِ الَّذِي يُرْوَى فِي الْفَضَائِلِ؛ بَل عَامَّتُهَا مِن الْمَوْضُوعَاتِ الْمَكْذُوبَاتِ، وَأَكْثَرُ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا دَخَلَ رَجَبٌ يَقُولُ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي رَجَبٍ وَشَعْبَانَ وَبَلِّغْنَا رَمَضَانَ.
(1)
أي: في زيارة قبْرِه.
(2)
رواه أبو داود (2376).
تنبيه: في الأصل: "لَا يُفْطِرْنَ لَا مَن قَاءَ وَلَا مَن احْتَلَمَ وَلَا مَن احْتَجَمَ"، والتصويب من سنن أبي داود.
وَقَد رَوَى ابْنُ مَاجَه فِي "سُنَنِهِ" عَن ابْنِ عَبَّاسٍ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَن صَوْمِ رَجَبٍ، وَفِي إسْنَادِهِ نَظَرٌ، لَكِنْ صَحَّ أَنَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَانَ يَضْرِبُ أَيْدِيَ النَّاسِ؛ لِيَضَعُوا أَيْدِيَهُم فِي الطَّعَامِ فِي رَجَبٍ وَيقُولُ: لَا تُشَبِّهُوهُ بِرَمَضَانَ. [25/ 290 - 291]
1751 -
رَوَى البيهقي بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ فِي بَابِ: (كَرَاهِيَةِ الدُّخُولِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ عِيدِهِمْ فِي كَنَائِسِهِمْ وَالتَّشَبُّهِ بِهِم يَوْمَ نيروزهم وَمَهْرَجَانِهِمْ) عَن سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَن ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَن عَطَاءِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: قَالَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: "لَا تَعَلَّمُوا رَطَانَةَ الْأعَاجِمِ وَلَا تَدْخُلُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي كنَائِسِهِمْ يَوْمَ عِيدِهِمْ فَإنَّ السُّخْطَ يَنْزِلُ عَلَيْهِم". [25/ 325]
1752 -
رُوِيَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي "الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ" أَنَّهُ قَالَ: لامَن تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ"، وَفِي لَفْظٍ: "لَيْسَ مِنَّا مَن تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا" وَهُوَ حَدِيث جَيِّدٌ. [25/ 331]
1753 -
قَوْلهُ: "لَا تَقْرَأُ الْحَائِضُ وَلَا الْجُنبُ شَيْئًا مِن الْقُرْآنِ": حَدِيث ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ. [26/ 191]
1754 -
ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه كَانَ فِي بَعْضِ الْأسْفَارِ: فَرَأَى قَوْمًا يَتَنَاوَبُونَ مَكانًا يُصَلُّونَ فِيهِ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: مَكَان صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَتَّخِذُوا أَثَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَكُمْ مَسَاجِدَ؟ إنَّمَا هَلَكَ مَن كَانَ قَبْلكُمْ بِهَذَا، مَن أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَإِلَّا فَلْيَمْضِ. [27/ 33]
1755 -
قَوْلُهُ: "مَن حَجَّ وَلَمْ يَزُرْني فَقَد جَفَانِي": كَذِبٌ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ حَدِيث فِي زِيارَةِ قَبْرِهِ؛ بَل هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي تُرْوَى:"مَن زَارَني وَزَارَ أَبِي فِي عَامٍ وَاحِدٍ ضَمِنْت لَهُ عَلَى اللهِ الْجَنَّةَ" وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَذِبٍ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. [27/ 35]
1756 -
مَا يَرْوِيهِ بَعْضُ الْعَامَّةِ مِن أَنَّهُ قَالَ: "إذَا سَألْتُمْ اللهَ فَاسْألُوهُ بِجَاهِي؛ فَإنَّ جَاهِي عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ": فَهُوَ حَدِيث كَذِبٌ مَوْضُوعٌ. [27/ 126]
1757 -
اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْعَزْوِ إلَيْهِ [أي الدارقطني]: لَا يُبِيحُ الِاعْتِمَادَ عَلَيْهِ. [27/ 166]
1758 -
حَدِيث: "مَن صَلَّى عَلَيَّ عِنْدَ قَبْرِي سَمِعْته وَمَن صَلَّى عَلَيَّ نَائِيًا بُلِّغْته" إنَّمَا يَرْوِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ السدي عَن الأعْمَشِ، وَهُوَ كَذَّابٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مَوْضُوعٌ عَلَى الْأَعْمَشِ بِإِجْمَاعِهِمْ. [27/ 241]
1759 -
جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَفْضَلُ الْمَسَاجِدِ وَالصَّلَاةَ فِيهِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ هَكَذَا رَوَى أَحْمَد وَالنَّسَائِي وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ. [27/ 325 - 326]
1760 -
مَا يُرْوَى عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "أَنَّهُ نَهَى عَن قَفِيزِ الطَحَّانِ": فَحَدِيثٌ ضَعِيفٌ بَل بَاطِلٌ. [28/ 88]
1761 -
فِي الْحَدِيثِ الثابِتِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه خَطَبَ النَّاسَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ إنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَضَعُونَهَا فِي غَيْرِ مَوْضعِهَا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] وَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَهُم اللهُ بِعِقَاب مِن عِنْدِهِ". [28/ 307]
1762 -
قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "شَرُّ مَا فِي الْمَرْءِ: شُحٌّ هَالِعٌ، وَجُبْن خَالِعٌ": حَدِيثٌ صَحِيحٌ. [28/ 437]
1763 -
رُوِيَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِن وُجُوهٍ حِسَانٍ أَنَّهُ قَالَ عَن أَهْلِ بَيْتِهِ: "وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يُحِبُّوكُمْ مِن أَجْلي". [28/ 492]
1764 -
قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "عَلَيْكمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِن بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ": وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ فِي السُّنَنِ. [28/ 493]
1765 -
قَالَ صلى الله عليه وسلم: "إنِّي تَارِكٌ فِيكُم الثَّقَلَيْنِ: كِتَابُ اللهِ وَعِتْرَتِي، وَأنَّهُمَا لَنْ
يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَى الْحَوْضِ": رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَفيهِ نَظَرٌ. [28/ 493]
1766 -
فِي "سُنَنِ أَبِي دَاوُد" بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّة قَالَ: "لَا تَصْلُحُ قِبْلَتَانِ بِأَرْضِ وَلَا جِزْيَةٌ عَلَى مُسْلِمٍ". [28/ 635]
1767 -
رَوَى ابْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَن أَبِي هرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَت الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ". [29/ 29]
1768 -
رَوَى أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد بِإِسْنَادَيْنِ جَيِّدَيْنِ عَن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَاتَّبَعْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَتَرَكْتُم الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ: أَرْسَلَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَرْفَعُهُ عَنْكمْ حَتَّى تُرَاجِعُوا دِينكمْ". [29/ 29]
1769 -
عَن أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَشَرِيكٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَن بَيْعٍ وَشَرْطٍ. وَقَد ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِن الْمُصَنِّفِينَ فِي الْفِقْهِ، وَلَا يُوجَدُ فِي شَيءٍ مِن دَوَاوِينِ الْحَدِيثِ، وَقَد أَنْكَرَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِن الْعُلَمَاءِ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ، وَأَنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ تُعَارِضُهُ. [29/ 132]
1770 -
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: "وَلُّوهُم بَيْعَهَا وَخُذُوا أَثْمَانَهَا". وَهَذَا ثَابِتٌ عَن عُمَرَ. [29/ 265]
1771 -
الْحَدِيثُ الَّذِي يَرْوِيه بَعْضُهُم أَنَّهُ قَالَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ: "رَجَعْنَا مِن الْجِهَادِ الْأصْغَرِ إلَى الْجِهَادِ الْأكْبَرِ": لَا أَصْلَ لَهُ. [11/ 197]
1772 -
صَحَّ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْع، وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يَضْمَنْ، وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَك". [11/ 334]
1773 -
وَأَمَّا احْتِجَاجُ مَن مَنَعَ بَيْعَ دَيْنِ السَّلَمِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "مَن أَسْلَفَ فِي شَيءٍ فَلَا يَصْرِفْهُ إلَى غَيْرِهِ": فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ. [29/ 517]
1774 -
فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن أنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَن
بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ قِيلَ: وَمَا تُزْهِيَ؟ قَالَ: "حَتَّى تَحْمَرَّ"، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَرَأَيْت إذَا مَنَعَ اللهُ الثَّمَرَةَ بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكمْ مَالَ أَخِيهِ؟ ".
قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ: جَعَلَ مَالِك والدراوردي قَوْلَ أَنَسٍ: أَرَأَيْت إنْ مَنَعَ الله الثَّمَرَةَ- مِن حَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَدْرَجَاهُ فِيهِ وَيرَوْنَ أَنَّهُ غَلِطَ.
وَفِيمَا قَالَهُ أَبُو مَسْعُودٍ نَظَرٌ. [30/ 265 - 266]
1775 -
قَوْله: "أَفْرَضُكُمْ زيد": حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا أَصْلَ لَهُ.
وَلَمْ يَكُن زيد عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعْرُوفًا بِالْفَرَائِضِ.
حَتَّى أَبُو عُبَيْدَةَ لَمْ يَصِحَّ فِيهِ إلَّا قَوْلُهُ: "لِكُلِّ أُمّةٍ أَمِينٌ وَأمِينُ هَذِهِ الْأمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ"
(1)
". [31/ 342]
1776 -
فِي "مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَد" بِإِسْنَاد جَيِدّ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ركانة بْنَ عَبْدِ يَزِيدَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"هِيَ وَاحِدَةٌ".
وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بإسْنَاد ثَابِتٍ أَنَّهُ أَلْزَمَ بِالثَّلَاثِ لِمَن طَلَّقَهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً.
وَحَدِيثُ ركانة الَّذِي يَرْوِي فِيهِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَألَهُ وَقَالَ:"مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً": ضَعِيفٌ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ. [33/ 67]
1777 -
الْمُرْسَلُ: فِي أَحَدِ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ حُجَّةٌ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.
وَفِي الْآخَرِ: هُوَ حُجَّة إذَا عَضدَهُ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ، أَو أُرْسِلَ مِن وَجْهٍ آخَرَ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
فَمِثْلُ هَذَا الْمُرْسَلِ حُجَّةٌ بِاتّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. [33/ 189]
(1)
وعلى هذا فما يُروى: أعلم بالحلال والحرام أبو عبيدة: ضعيف عند الشيخ رحمه الله.
1778 -
لَمْ يُرَغِّب النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أَكْلِ الْبِطِّيخِ، وَجَمِيعُ مَا يُرْوَى مِن هَذَا الْجِنْسِ فَهُوَ كَذِبٌ. [32/ 213]
1779 -
فِي "السُّنَنِ": أَنَّ فَيْرُوزَ الديلمي أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: طَلِّقْ أَيَّتَهمَا شِئْت"، قَالَ: فَعَمَدْت إلَى أَسْبَقِهِمَا صُحْبَةً فَفَارَقْتهَا. وَهُوَ حَدِيث حَسَنٌ. [32/ 301]
1780 -
الْحَدِيثُ الْوَارِدُ فِي تَخْيِيرِ الْجَارِيةِ ضَعِيفٌ. [34/ 116]
1781 -
الْحَدِيثُ النَّبَوِيُّ: لا السُّلْطَانُ ظِلُّ اللهِ فِي الْأَرْضِ يَأوي إلَيْهِ كُل ضَعِيفٍ وَمَلْهُوفٍ": صَحِيحٌ. [35/ 45]
1782 -
عَن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَمَّا خَلَقَ اللهُ آدمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ، فَسَقَطَ مِن ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِن ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُم وَبِيصًا مِن نُورٍ، ثُمَّ عَرَضَهُم عَلَى آدَمَ فَقَالَ: أيْ رَبِّ، مَن هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُكَ، فَرَأَى رَجُلًا مِنْهُم فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَن هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا رَجُلٌ مِن آخِرِ الأُمَمِ مِن ذُرَّيتِكَ يُقَالُ لَهُ: دَاوُدُ، فَقَالَ: رَبِّ كمْ جَعَلْتَ عُمْرَهُ؟ قَالَ: سِتِّينَ سَنَةً، قَالَ: أَيْ رَبِّ، زِدْهُ مِن عُمْرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً": وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْر وَصَحَّحَهُ. [35/ 42]
1783 -
ما يروى: "لا مهدي إلا عيسى" حديث ضعيف رواه ابن ماجه.
[المستدرك 1/ 102]
1784 -
عن ثوبان رضي الله عنه قال: "كنت قائمًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء حبرٌ من أحبار اليهود، فقال: السلام عليك" الحديث بطوله، إلى أن قال: جئت أسألك عن الولد؟ فقال: "ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرجل أنثا بإذن الله"
(1)
: في صحة هذا اللفظ نظر. [المستدرك: 1/ 138]
(1)
رواه مسلم (315).
1785 -
ذكر الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا صلى أحدكم الركعتين قبل صلاة الصبح فليضطجع على جنبه الأيمن" قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب، قال ابن تيمية: هذا باطل وليس بصحيح، وإنما الصحيح عنه الفعل لا الأمر بها.
أما الأربع قبل العصر فلم يصح عنه عليه السلام في فعلها شيء، إلا حديث عاصم بن ضمرة عن علي الحديث الطويل، أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي في النهار ست عشرة ركعة، يصلي إذا كانت الشمس من ههنا كهيئتها من ههنا لصلاة الظهر أربع ركعات، وكان يصلي قبل الظهر أربع ركعات وبعد الظهر ركعتين، وقبل العصر أربعًا، ويفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين ومن تبعهم من المؤمنين والمرسلين، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية ينكر هذا الحديث، ويدفعه جدًّا ويقول: إنه موضوع. [المستدرك 3/ 111 - 112]
1786 -
الخبر "ثلاث هي علي فرائض"
(1)
موضوع. [المستدرك 3/ 113]
1787 -
"رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر": لا يصح، وإنما يذكره بعض من صنف في الرقاق، وذكره البغوي مرفوعًا في قوله:{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] ولابن ماجه من رواية إبراهيم بن أبي يحيى وهو ضعيف عن موسى بن وردان عن أبي هريرة مرفوعًا: "من مات مريضًا مات شهيدًا". [المستدرك: 1/ 221]
1788 -
"صارع ركانة على شاة فصرعه" إسناده جيد. [المستدرك 1/ 221]
1789 -
صحَّ عن عمر رضي الله عنه أنه قال حين أراد تقبيل الحجر الأسود: "إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك"، وزاد بعضهم، أن أبا بكر رضي الله عنه قال: بل يشفع وينفع، وهذا كذب
(1)
رواه الإمام أحمد (2050) بلفظ: "ثَلاثٌ هُنَّ عَلَيَّ فَرَائِضُ، وَهُنَّ لَكُمْ تَطَوُّعٌ: الْوَتْرُ، وَالنَّحْرُ، وَصلاةُ الضُّحَى".
واضح، وروى الأوزاعي عن علي رضي الله عنه في ذلك أثرًا لكن إسناده ضعيف واه. [المستدرك 3/ 192]
1790 -
قال ابن القيم رحمه الله: ومن حديثه أيضًا ما رواه الإمام أحمد وأبو داود، قال أحمد: حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا حيوة، حدثنا أبو صخر، أن يزيد بن عبد الله بن قسيط أخبره، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله إلي روحي حتى أرد إليه السلام" أبو صخر اسمه حميد بن زياد، ورواه أبو داود عن محمد بن عوف، عن عبد الله بن يزيد المقري، وقد صحح إسناد هذا الحديث، وسألت شيخنا عن سماع يزيد بن عبد الله من أبي هريرة فقال: ما كان أدركه، وهو ضعيف ففي سماعه منه نظر. [المستدرك 3/ 197 - 198]
1791 -
روى أبو جعفر عن ابن عباس مرفوعًا: "إني لأرى لرد جواب الكتاب علي حقًّا كما أرى ردَّ جواب السلام"، قال الشيخ تقي الدين: وهو المحفوظ عن ابن عباس؛ يعني: موقوفًا
(1)
. [المستدرك 3/ 212]
1792 -
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تكون قبلتان ببلد واحد" رواه أحمد وأبو داود بإسناد جيد. [المستدرك 3/ 250]
1793 -
"ومن أدخل فرسًا بين فرسين" الحديث. وسمعت شيخ الإسلام يقول: رفع هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم خطأ، وإنما هو من كلام سعيد بن المسيب نفسه. وهكذا رواه الثقات الأثبات من أصحاب الزهري عنه، عن سعيد بن المسيب مثل الليث بن سعد وعقيل ويونس ومالك بن أنس، وذكره في الموطأ عن سعيد بن المسيب نفسه.
(1)
ابن عباس رضي الله عنهما يرى أنّ الردّ على السائل وغيره كتابةً حقٌّ عليه كردّ السلام لفظًا، ويشمل ذلك الرد على رسائل الجوال ومواقع التواصل الاجتماعي المعروفة بين الناس، إذا كان السائل يبتغي العلم النافع.
وكثيرًا ما تُرسل لبعض الناس -وخاصة طلاب العلم- بسلام يتلوه طلبٌ أو سؤال فيتجاهلك! فقد ترك حقين من حقوق المسلم على أخيه: رد السلام، وإجابة السائل.
ورفعه سفيان بن حسين الواسطي وهو ضعيف لا يحتج بمجرد روايته عن الزهري لغلطه في ذلك. [المستدرك 4/ 60]
1794 -
"الدُّنْيَا خُطْوَةُ رَجُل مُؤمِنٍ" هَذَا لَا يُعْرَفُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا غَيْرِهِ مِن سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا أَئِمَّتِهَا. [18/ 123]
1795 -
"مَن بُورِكَ لَهُ فِي شَيْءٍ فَلْيَلْزَمْهُ وَمَن أَلْزَمَ نَفْسَهُ شَيْئًا لَزِمَه" الْأَوَّلُ يُؤْثَرُ عَن بَعْضِ السَّلَفِ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ، فَإنَّ مَن أَلْزَمَ نَفْسَهُ شَيْئًا قَد يَلْزَمُهُ وَقَد لَا يَلْزَمُهُ بِحَسَبِ مَا يَأْمُرُ بِهِ اللهُ وَرَسُولُهُ. [18/ 123]
1796 -
"اتَّخِذُوا مَعَ الْفُقَرَاءِ أَيَادِي فَإِنَّ لَهُم فِي غَد دَوْلَةً وَأَيُّ دَوْلَةٍ"، "الْفَقْرُ فَخْرِي وَبِهِ افْتَخَرَ" كِلَاهُمَا كَذِبٌ لَا يُعْرَفُ فِي شَيءٍ مِن كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ الْمَعْرُوفَةِ. [18/ 123]
1797 -
"أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا" هَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ بَل مَوْضُوعٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ. [18/ 377]
1798 -
"لَمَّا قَدِمَ صلى الله عليه وسلم إلَى الْمَدِينَةِ خَرَجْنَ بَنَاتُ النَّجَّارِ بِالدُّفُوفِ وَهُنَّ يَقُلْنَ:
طَلَعَ الْبَدْرُ عَلَيْنَا
…
مِن ثَنِيَّاتٍ الْوَدَاعِ
إلَى آخِرِ الشعْرِ، فَقَالَ لَهُنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"هُزُّوا غَرَابِيلَكُمْ بَارَكَ اللهُ فِيكُمْ": هَذَا لَا يُعْرَفُ عَنْهُ. [18/ 377]
1799 -
"اللَّهُمَّ إنَّك أَخْرَجْتَنِي مِن أَحبِّ الْبِقَاعِ إلَيَّ فَأَسْكِنِّي فِي أَحَبِّ الْبِقَاعِ إلَيْك" هَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ؛ بَل ثَبَتَ فِي التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، أنَّهُ قَالَ لِمَكَّةَ: إنَّك أَحَبُّ بِلَادِ اللهِ إلَيَّ. [18/ 378]
1800 -
"مَن عَلَّمَ أَخَاهُ آيةً مِن كِتَابِ اللهِ مَلَكَ رِقَّهُ" هَذَا كَذِبٌ لَيْسَ فِي شَيءٍ مِن كُتُبِ أَهْلِ الْعِلْمِ. [18/ 381]
1801 -
مَا يَرْوُونَهُ: "أَنَّ آيةً مِن الْقُرْآنِ خَيْرٌ مِن مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَلَا يشَبَّهُ بِغَيْرِهِ" اللَّفْظُ الْمَذْكُورُ غَيْرُ مَأثُورٍ. [18/ 126]
1802 -
"إذَا وَصَلْتُمْ إلَى مَا شَجَرَ بَيْنَ أَصْحَابِي فَأَمْسِكُوا وَإِذَا وَصَلْتُمْ إلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ فَأَمْسِكُوا" هَذَا مَأثُورٌ بِأَسَانِيدَ مُنْقَطِعَةٍ. [18/ 127]
1803 -
"أَحَقُّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أُجْرَةً كِتَابُ اللهِ" نَعَمْ، ثَبَتَ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ:"أَحَقُّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أُجْرَةً كِتَابُ اللهِ" لَكِنَّهُ فِي حَدِيثِ الرُّقْيَةِ، وَكَانَ الْجُعْلُ عَلَى عَافِيَةِ مَرِيضِ الْقَوْمِ لَا عَلَى التِّلَاوَةِ.
وَهَل يَحْرُمُ اتّخَاذُ أَبْرَاجِ الْحَمَامِ إذَا طَارَتْ مِنَ الْأبْرَاجِ تَحُطُّ عَلَى زِرَاعَاتِ النَّاسِ وَتَأكُلُ الْحَبَّ، فَهَل يَحْرُمُ اتِّخَاذُ أَبْرَاجِ الْحَمَامِ فِي الْقُرَى وَالْبُلْدَانِ لِهَذَا السَّبَب؟ نَعَمْ، إذَا كَانَ يَضرُّ بِالنَّاسِ مُنِعَ مِنْهُ. [18/ 128]
1804 -
"مَن ظَلَمَ ذِمَيًّا كانَ الله خَصْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَو كنْت خَصْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" هَذَا ضَعِيفٌ، لَكِنْ الْمَعْرُوفُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:"مَن قَتَلَ مُعَاهَدًا بِغَيْرِ حَقٍّ لَمْ يُرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ". [18/ 128]
1805 -
وَسُئِلَ رحمه الله: عَن حَدِيثٍ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ كَفَّ لَامِسٍ؟
فَأجَابَ: هَذَا الْحَدِيثُ قَد ضعَّفَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ، وَقَد تَأَوَّلَهُ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَرُدُّ طَالِبَ مَالٍ، لَكِنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ وَسِيَاقَهُ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ.
وَمِن النَّاسِ مَن اعْتَقَدَ ثُبُوتَهُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يُمْسِكَهَا مَعَ كَوْنِهَا لَا تَمْنَعُ الرِّجَالَ، وَهَذَا مِمَّا أَنْكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِن الْأَئِمَّةِ، فَإِنَّ اللهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ:{الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)} [النور: 3]. [32/ 143 - 144]
1806 -
حديث ابن ماجه: "مَنْ تَوَضأَ ثَلَاثًا فَذَلِكَ وُضُوئِي، وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي " ضعيف عند أهل العلم بالحديث لا يجوز الاحتجاج بمثله. [المستدرك 3/ 29]
1807 -
قَوْلُهُ: "مَن زَارَ قَبْرِي فَقَد وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي" وَأَمْثَالُ هَذَا الْحَدِيثِ مِمَّا رُوِيَ فِي زَيارَةِ قَبْرِهِ صلى الله عليه وسلم فَلَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ صَحِيحٌ، وَلَمْ يَرْوِ أَحَدٌ مِن أَهْلِ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ مِنْهَا شَيْئًا. [27/ 29]
كتاب الأخبار
1808 -
مسألة: اختلف الناس في الكذب: هل قبحه لنفسه أو بحسب المكان؟. قال شيخنا: وهذه المسألة تبنى على القول بالقبح العقلي، فمن نفاه وقال:"لا حكم إلا للهِ" جعله بحسب موضعه ومن أثبته وجعل الأحكام لذوات المحل قبحه لذاته. [المستدرك 2/ 65 - 66]
* * *
(لا ترد الأخبار بالاستدلال)
1809 -
قال ابن عقيل: المحققون من العلماء يمنعون رد الأخبار بالاستدلال ومثله برد خبر القهقهة استدلالًا بفضل الصحابة المانع من الضحك، وكذلك لو شهدت بينة عادلة على معروف بالخير بإتلاف أو غصب لم ترد شهادتهم بالاستبعاد ومثله برد عائشة قول ابن عباس في حديث الرؤية بقولها: لقد قفَّ شعري. قال: فردت خبره بالاستدلال فلم يعول أهل التحقيق على ردها. [المستدرك 2/ 67]
* * *
(العمل بخبر الواحد بدون سؤاله)
1810 -
قال أبو الخطاب: الحكم بخبر الواحد عن الرسول لمن يمكنه سؤاله؛ مثل الحكم باجتهاده، واختياره أنه لا يجوز.
والذي ذكره بقية أصحابنا: القاضي وابن عقيل جواز العمل بخبر الواحد لمن أمكنه سؤاله، أو أمكنه الرجوع إلى التواتر؛ محتجين به في المسألة بمقتضى أنه إجماع.
وهذا مثل قول بعض أصحابنا: إنه لا يعمل بقول المؤذن مع إمكان العلم بالوقت! وهذا القول خلاف مذهب أحمد وسائر العلماء المعتبرين، وخلاف ما شهدت به النصوص.
وذكر في مسألة منع التقليد أن المتمكن من العلم لا يجوز له العدول إلى الظن، وجعله محل وفاق، واحتج به في المسألة. [المستدرك 2/ 67]
1811 -
مسألة: خبر الواحد يوجب العمل وغلبة الظن دون القطع في قول الجمهور.
قال القاضي: وقد نقل أبو بكر المروذي قال: قلت لأبي عبد الله: ههنا إنسان يقول: إن الخبر يوجب عملًا ولا يوجب علمًا، فعابه، وقال: ما أدري ما هذا.
وظاهر أنه سوّى فيه بين العمل والعلم.
قال القاضي: وقال في رواية حنبل في أحاديث الرؤية: نؤمن بها ونعلم أنها حق نقطع على العلم بها.
قال: وذهب إلى ظاهر هذا الكلام جماعة من أصحابنا، وقالوا: خبر الواحد إن كان شرعيًّا أوجب العلم.
قال: وهذا عندي محمول على وجه صحيح من كلام أحمد، وأنه يوجب العلم من طريق الاستدلال، لا من جههَ الضرورة، والاستدلال يوجب العلم من أربعة أوجه:
أحدها: أن تتلقاه الأمة بالقبول؛ فيدل ذلك على أنه حق؛ لأن الأمة لا تجتمع على الخطأ.
والثاني: خبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو واحد فنقطع بصدقه؛ لأن الدليل قد دلَّ على عصمته وصدق لهجته.
الثالث: أن يخبر الواحد ويدعي على النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمعه منه فلا ينكره فيدل على أنه حق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقر على الكذب.
الرابع: أن يخبر الواحد ويدعي على عدد كثير أنهم سمعوه معه فلا ينكر منهم أحد، فيدل على أنه صدق؛ لأنه لو كان كذبًا لم تتفق دواعيهم على السكوت عن تكذيبه، والعلم الواقع عن ذلك كله مكتسب؛ لأنه واقع عن نظر واستدلال.
وقال إبراهيم النظام: خبر الواحد يجوز أن يوجب العلم الضروري إذا قارنته أمارة.
قال شيخنا: حصره لأخبار الآحاد الموجبة للعلم في أربعة أقسام ليس بجامع؛ لأن مما يوجب العلم أيضًا:
- ما تلقاه الرسول صلى الله عليه وسلم بالقبول كإخباره عن تميم الداري بما أخبر به.
- ومنه إخبار شخصين عن قضية يعلم أنهما لم يتواطآ عليها ويتعذر في العادة الاتفاق على الكذب فيها أو الخطأ، ومنه غير ذلك. [المستدرك 2/ 68 - 72]
* * *
(أخبار الآحاد تصلح لإثبات الديانات)
1812 -
مذهب أصحابنا: أن أخبار الآحاد المتلقاة بالقبول تصلح لإثبات أصول الديانات. [2/ 73]
* * *
(المرسل ومتى يكون حجة)
1813 -
الْمُرْسَلُ: فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ: حُجَّةٌ؛ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.
وَفِي الْآخَرِ: هُوَ حُجَّة إذَا عَضَّدَهُ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ، أَو ارْسِلَ مِن وَجْهٍ آخَرَ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
فَمِثْلُ هَذَا الْمُرْسَلِ حُجَّة بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. [32/ 189]
1814 -
قال شيخنا: ذكر القاضي عن الشافعي أنه قال: إن كان الظاهر من حال المرسِل الثقة من التابعين أن ما يرسله مسند عند غيره: قُبل منه.
وقال أيضًا: المرسل مقبول ممن وجد لأكثر مراسيله أصول في المسانيد.
وقال: المرسل يقبل إذا عمل به بعض الصحابة.
وقال مرة: المرسل يعمل به إذا أفتى به عوام العلماء.
وقال: مراسيل ابن المسيب مقبولة لأنه وجد مراسيله مسانيد، فقيل: إن الشافعي أراد به قوته من الترجيح لا إثبات حكم به.
وقيل: إن الترجيح لا يجوز بما لا يثبت به، حكم ذكره القاضي.
قال شيخنا: وليس بجيد.
وذكر الباجي أن المرسل عندهم إنما يكون حجة إذا كان عادته أنه لا يرسل إلا عن ثقة؛ لأنه قال: وربما كان المنقطع أقوى إسنادًا من المتصل ولم يفرق. [المستدرك 2/ 75]
* * *
(إذا أريد بالمرسل ما بعد عصر التابعين)
1815 -
قال شيخنا: ما ذكره القاضي وابن عقيل أن مرسل أهل عصرنا مقبول كغيره ليس مذهب أحمد، فإنا نجزم أنه لم يكن يحتج بمراسيل محدثي وقته وعلمائهم؛ بل يطالبهم بالإسناد. نعم، المجتهدون في الحديث الذين يعرفون صحيحه وضعيفه إذا قال أحدهم: ثبت هذا أو صح هذا، أو قال أحدهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا واحتج بذلك فهذا نعم؛ كتعليق البخاري المجزوم به.
وبحثُ القاضي يدل على أنه أراد بالمرسل من أهل عصرنا ما أرسله عن واحد، فهذا قريب، بخلاف ما أرسله عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن سقوط واحد أو اثنين ليس كسقوط عشرة، وحجته لا تتناول إلا ما سقط منه واحد؛ فإنه قال: المرسل إذا كان ثقة.
فظاهره: أن الذي أرسل عنه عدل، وهذا المعنى موجود في أهل الأعصار. [المستدرك 2/ 75 - 76]
* * *
(إذا كان في الإسناد رجل مجهول وإذا روى عنه العدل أو كان يأخذ عن الثقات)
1816 -
مسألة: وإذا كان في الإسناد رجل مجهول الحال، فهو على الخلاف المذكور في المرسل، كذا ذكر القاضي وابن عقيل في ضمن مسألة الإرسال، وذكرا في موضع آخر المسألة مستقلة أنه لا يقبل خبر مستور الحال، وذكر القاضي أنه ظاهر كلام أحمد، وذكر الخلال في الفتن من العلل: منها: قلت لأحمد: حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا أبو عقيل يحيى بن المتوكل عن عمر بن هارون الأنصاري عن أبيه عن أيي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشراط الساعة سوء الجوار وقطيعة الأرحام وأن يعطل السير عن الجهاد وأن تختل الدنيا بالدين "، فقال: ليس بصحيح.
قلت: لم؟
قال: مَن عمر بن هارون؟
قلت: لا يعرف.
قال القاضي: هذه الرواية تدل على أن رواية العدل عن غيره ليس بتعديل، وتدل على أن الجهالة بعين الراوي تمنع من صحة الحديث.
والد شيخنا: الصحيح في هذه المسألة الذي يوجبه كلام الإمام أن من
عرف من حاله الأخذ من الثقات؛ كمالك وعبد الرحمن بن مهدي كان تعديلًا دون غيره، ويمكن تثبيت رواية المستور في وسط الإسناد على هذا القول، بأنه إذا سُمِّي المحدث فقد أزال العذر، بخلاف ما إذا قال:"رجل من بني فلان" فإنه لولا اعتقاده عدالته كانت روايته ضياعًا.
قال شيخنا: وأما إذا قال: حدثني الثقة ففي كونه مرسلًا وجهان: أصحهما أنه ليس بمرسل.
ولو قال: حدثني فلان وهو ثقة لم يكن مرسلًا بالاتفاق.
قال
(1)
: خبر الأعرابي الشاهد بالهلال يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم عرف من حال الشاهد أنه عدل ثقة فلذلك حكم بشهادته.
قال: وليس من شرطه معرفة العدالة الباطنة؛ لأن اعتبارها يشق، ويفارق الشهادة لأن اعتبارها لا يشق لأن لها معتبرًا وهو الحاكم، والاعتبار إليه، وليس كل من سمع الحديث حاكمًا.
قال شيخنا: فقد رتبهم أربع مراتب:
أ- مسلم.
ب- وعدل الظاهر.
ج- وباطن.
د- وفاسق.
وكأنه يعني بالعدالة الباطنة: ما يثبت عند الحاكم، وبالظاهرة: ما ثبت عند الناس بلا حاكم.
واعتبار هذا في شهادة النكاح: قول حسن. [المستدرك 2/ 76 - 80]
* * *
(1)
أي: القاضي.
(مرسل الصحابي مقبول، وما يراد به وبمرسل التابعي)
1817 -
مسألة: ولا تختلف الرواية في قبول مرسل الصحابة ورواية المجهول منهم وهو قول الجمهور، وذكره أبو الطيب، ولم يحك خلافًا لهم.
وقال بعض الشافعية: لا يقبل، وإن قبلنا مرسل سعيد بن المسيب؛ لأن ذلك قد علم كونه مسندًا بالتتبع، كما قال الشافعي.
وكل معنى منع من قبول مرسل التابعين فهو موجود في الصحابة، وقد ثبت أن الصحابي أو التابعي لو قال: أخبرني بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال كذا كان بمنزلة المسند؛ كذلك إذا قال التابعي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عيهم يجب أن يكون مثله.
وقد قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: إذا قال رجل من التابعين: حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فالحديث صحيح؟ قال: نعم.
وقال أيضًا: لو قال نفسان من التابعين: أشهدنا نفسان من الصحابة على شهادتهما لم تجز حتى يعيناهما، وفي الخبر يجوز عند الجميع.
قال شيخنا: كأن مرسل الصاحب عنده ما أرسله الصاحب، أو روى عن صاحب مجهول، كما أن مرسل التابعين عنده يشمل ما أرسل التابع وروى عن تابعي مجهول.
قال: فإن قيل: الصحابي معلوم العدالة بأن الله عدله وزكاه وأخبر عن إيمانه ورضي عنه وأرضاه وجعل الجنة مأواه.
قيل: قد شهد النبي صلى الله عليه وسلم للتابعين كما شهد للصحابة فقال: "خير القرون قرني الدين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"
(1)
، وليس من شرط قبول الخبر أن يكون ممن يقطع على عدالته، وإنما نعتبر عدالته في
(1)
رواه البخاري (2651)، ومسلم (2533).
الظاهر، وهذا المعنى موجود في التابعين ومن بعدهم، فيجب أن يتساووا في النقل. [المستدرك 2/ 80 - 81]
* * *
(المعنعن فيه تفصيل)
1818 -
مسألة: المسند بلفظ العنعنة إذا لم يتحقق فيه إرسال صحيح محتج به، نص عليه، وبه قالت الشافعية وعامة المحدثين. [المستدرك 2/ 82]
* * *
(رواية المبتدع)
1819 -
ذكر القاضي أنه لا تقبل رواية المبتدع الداعي إلى بدعته، قال: لأنه إذا دعا لا يؤمن أن يضع لما يدعو إليه حديثًا يوافقه، وكذلك أبو الخطاب لم يذكر في الداعي خلافًا، وذكر في غيره ثلاث روايات. [المستدرك 2/ 83]
* * *
(من فعل محرمًا بتأويل)
1820 -
فأما من فعل محرمًا بتأويل فلا ترد روايته في ظاهر المذهب، قال أبو حاتم: حادثت أحمد بن حنبل فيمن شرب النبيذ من محدثي أهل الكوفة وسميت له عددًا منهم. فقال: هذه زلّات لهم لا تسقط بزلاتهم عدالتهم. [المستدرك 2/ 83]
* * *
(الرواية عن الجندي، ولبس السواد)
1821 -
قال في رواية المروذي: وقد سأله: يكتب عن الرجل إذا كان جنديًّا؟ فقال: أما نحن فلا نكتب عنهم، وكذلك قال في رواية إبراهيم بن الحارث: إذا كان الرجل في الجند لم أكتب عنه.
قال القاضي: وهذا محمول على طريق الورع؛ لأن الجندي لا يتجنب المحرمات في الغالب.
قال شيخنا: خصَّ نفسه بالامتناع؛ لأنه مظنة الظلم والاعتداء، ولهذا كره لبس السواد لما فيه من التشبه بهم، ويدل عليه قوله:"خذ العطاء ما كان عطاء، فإذا كان عوضًا عن دين أحدكم فلا يأخذه"، والملوك المتأخرون إنما يرزقون على طاعتهم وإن كانت معصية، لا على طاعة الله ورسوله. [المستدرك 2/ 85 - 86]
* * *
(إذا عمل العدل بخبر غيره)
1822 -
إن عمل العدل بخبر غيره كان تعديلًا له، كما لو عدله بقوله. ذكره القاضي في ضمن مسألة من غير خلاف، أي: في مسألة العدل عن غيره. [المستدرك 2/ 86]
* * *
(الجرح والتعديل والتفصيل فيه)
1823 -
مسألة: لا يقبل الجرح إلا مفسرًا مبين السبب، وبه قال الشافعي.
وعنه أنه يقبل كالتعديل، وذهب إليه جماعة.
وقال ابن الباقلاني: يقبل الجرح المطلق ولا يقبل التعديل المطلق، فصارت المذاهب في المسألتين أربعة.
وقال الجويني: هذا يختلف بالمعدل والجارح، فإن كان إمامًا في ذلك من أهل صناعته قبل منه إطلاقه وإلا فلا، وكذلك قال المقدسي في الجرح.
قال القاضي: ولا يقبل الجرح إلا مفسرًا، وليس قول أصحاب الحديث:"فلان ضعيف، وفلان ليس بشيء" مما يوجب جرحه ورد خبره.
قال شيخنا: هذا الباب يفرق فيه بين جرح الرجل وتزكيته، وبين جرح الحديث وتثبيته.
ويفرق فيه بين الأئمة الذين هم في الحديث بمنزلة القضاة في الشهود وبين من هو شاهد محض، فإن جرح المحدث يكون بزيادة علم، وأما جرح الحديث فتارة يكون لطلاع له على علة، وتارة لعدم علمه بالطريق الأخرى، أو بحال المحدث به. [المستدرك 2/ 86 - 87]
* * *
(هل يقبل جرح الواحد وتعديله)
1824 -
مسألة: يقبل جرح الواحد وتعديله عندنا، وبه قال المحققون.
قال شيخنا: مذهبه
(1)
التفصيل بين بعض الأشخاص وبعض. وقوله في صالح مولى التوأمة يقتضي أن الكثرة معتبرة، ونقل إسماعيل بن سعيد قلت لأحمد: تعديل الرجل الواحد إذا كان مشهورًا بالصلاح؟ قال: يقبل ذلك.
قال القاضي: وظاهر هذا أن تعديل الواحد للشاهد مقبول. [المستدرك 2/ 87 - 88]
* * *
(خبر الواحد إذا طعن فيه السلف)
1825 -
خبر الواحد إذا طعن فيه السلف لم يجز الاحتجاج به عند الحنفية، وقد روي ما يشبه قولهم عن علقمة في إنكاره على الشعبي حديث فاطمة لما طعن فيه عمر وغيره. [المستدرك 2/ 89]
* * *
(1)
أي: الإمام أحمد.
(الأخذ بالحديث الضعيف والمرسل إذا لم يخالفه ما هو أثبت منه أو للاعتبار به الضعيف في اصطلاحهم)
1826 -
ذكر القاضي كلام أحمد في الحديث الضعيف والأخذ به، ونقل الأثرم قال: رأيت أبا عبد الله إن كان الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في إسناده شيء يأخذ به إذا لم يجئ خلافه أثبت منه، مثل حديث عمرو بن شعيب وإبراهيم الهجري، وربما أخذ بالمرسل إذا لم يجئ خلافه، وتكلم عليه ابن عقيل.
وقال النوفلي: سمعت أحمد يقول: إذا روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام والسنن والأحكام شددنا في الأسانيد، وإذا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل الأعمال وما لا يرفع حكمًا فلا نصعب.
قال القاضي: قد أطلق أحمد القول بالأخذ بالحديث الضعيف.
فقال مهنا: قال أحمد: الناس كلهم أكفاء إلا الحائك والحجام والكساح. فقيل له: تأخذ بحديث: "كل الناس أكفاء إلا حائكًا أو حجامًا" وأنت تضعفه؟! فقال: إنما نضعف إسناده، ولكن العمل عليه.
قال
(1)
: وقد ذكر أحمد جماعة ممن يروي عنه مع ضعفه، فقال في رواية إسحاق بن إبراهيم: قد يحتاج أن يحدث الرجل عن الضعيف مثل عمرو بن مرزوق وعمرو بن حكام ومحمد بن معاوية وعلي بن الجعد وإسحاق بن أبي إسرائيل ولا يعجبني أن يحدث عن بعضهم. وقال في رواية ابن القاسم في ابن لهيعة: ما كان حديثه بذاك، وما أكتب حديثه إلا للاعتبار والاستدلال، أنا قد أكتب حديث الرجل كأني استدل به مع حديث كيره يشده، لا أنه حجة إذا انفرد.
وقال في رواية المروذي: كنت لا أكتب حديثه -يعني: جابرًا الجعفي- ثم كتبته أعتبر به.
(1)
أي: القاضي.
قال شيخنا: قوله: "كأني أستدل به مع حديث غيره، لا أنه حجة إذا انفرد" يفيد شيئين:
أحدهما: أنه جزء حجة، لا حجة
(1)
، فإذا انضم إليه الحديث الآخر صار حجة، وإن لم يكن واحد منهما حجةً: فضعيفان قد يقومان مقام قوي.
الثاني: أنه لا يحتج بمثل هذا منفردًا، وهذا يقتضي أنه لا يحتج بالضعيف المنفرد، فإما أن يريد به نفي الاحتجاج مطلقًا، أو إذا لو يوجد أثبت منه.
قال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي: ما تقول في حديث ربعي بن خراش؟ قال: الذي يرويه عبد العزيز بن أبي رواد؟ قلت: نعم. قال: لا، الأحاديث بخلافه، وقد رواه الحفاظ عن ربعي عن رجل لم يسموه. قال: قلت: فقد ذكرته في المسند؟ قال: قصدت في المسند المشهور وتركت الناس تحت ستر الله ولو أردت أن أفصل ما صح عندي، لم أرو من هذا المسند إلا الشيء بعد الشيء ولكنك يا بني تعرف طريقتي في الحديث، لست أخالف ما ضعف من الحديث إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه.
قال شيخنا: مراده بالحديث الذي رواه ربعي عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قدم أعرابيان فشهدا"
(2)
أو حديث: "لا تقدموا الشهر"
(3)
أو غيرهما.
قال شيخنا: وعلى هذه الطريقة التي ذكرها أحمد بنى عليه أبو داود "كتاب السنن" لمن تأمله، ولعله أخذ ذلك عن أحمد، فقد بيَّن أن مثل عبد العزيز بن أبي رواد ومثل الذي فيه رجل لم يسم: يعمل به إذا لم يخالفه ما هو أثبت منه.
(1)
على الإطلاق.
(2)
رواه أبو داود (2339)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.
(3)
رواه أبو داود (2326)، والترمذي (684)، والنسائي (2126)، وأحمد (9654)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.
قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يقول:
- إذا كان في المسألة عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث لم نأخذ فيها بقول أحد من الصحابة ولا من بعدهم خلافه.
- وإذا كان في المسألة
(1)
عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قول مختلف نختار من أقاويلهم ولم نخرج عن أقاويلهم إلى قول من بعدهم.
- وإذا لم يكن فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة قول نختار من أقوال التابعين، وربما كان الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في إسناده شيء فنأخذ به إذا لم يجئ خلافه أثبت منه، وربما أخذنا بالحديث المرسل إذا لم يجئ خلافه أثبت منه. [المستدرك 2/ 89 - 92]
* * *
(التدليس يكره ولا يوجب رد الخبر)
1827 -
قال القاضي: فأما التدليس فإنه يكره، ولكن لا يمنع من قبول الخبر. وصورته أن ينقل عمن لم يسمع منه لكنه سمع عن رجل عنه فأتى بلفظ يوهم أنه قد سمع منه؛ مثل: أن يكون قد عاصر الزهري ولم يسمع منه، لكن سمع عن رجل عنه، فأتى بلفظ يوهم أنه قد سمعه من الزهري بلا واسطة، فيقول: روى الزهري، أو قال الزهري، أو عن الزهري، فكل من سمع هذا يذهب إلى أنه سمع من الزهري بلا واسطة، وكذلك إذا سمع الخبر من رجل معروف بعلامة مشهورة فعدل عنها إلى غيرها من أسمائه مثل: إن كان مشهورًا بكنيته فروى عنه باسمه، أو كان مشهورًا باسمه فروى عنه بكنيته، حتى لا يعرف من الرجل، فكل هذا مكروه، نص عليه في رواية حرب، فقال: أكره التدليس، وأقل شيء فيه أنه يتزين للناس.
(1)
التي لا نصّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال شيخنا: هذه الكراهة تنزيه أو تحريم؟ يخرج على القولين في معاريض من ليس بظالم ولا مظلوم، والأشبه أنه محرم، فإن تدليس الرواية والحديث أعظم من تدليس المبيع، لكن من فعله متأول فيه، فلم يفسق. قال القاضي: إذا ثبت أنه مكروه فإنه لا يمنع من قبول الخبر، نص عليه في رواية مهنا، وقيل له: كان شعبة يقول: التدليس كذب، فقال أحمد: لا، قد دلَّس قوم ونحن نروي عنهم.
وذهب قوم من أهل الحديث إلى أنه لا يُقبل خبره؛ لأنه روى عمن لم يسمع منه.
قال القاضي: وهذا غلط لأنه ما كذب فيما نقل؛ بل كان ما قاله صدقًا في الباطن، إلا أنه أوهم في خبره، ومن أوهم في خبره لم يرد خبره بذلك؛ كمن قيل له: حججت؟ فقال: لا مرة ولا مرتين، يوهم أنه حج أكثر، وحقيقته أنه ما حج أصلًا.
قال شيخنا: لكن ما هو صادق في الحقيقة العرفية، ولا مُبَيِّنٌ لِمَا ينبغي بيانه. [المستدرك 2/ 92 - 93]
* * *
(إذا روى العدل عن العدل خبرًا ثم أنكره المروي عنه أو نسيه)
1828 -
مسألة: إذا روى العدد عن العدد خبرًا، ثم نسيه المروي عنه فأنكره لم يقدح ذلك فيه، في إحدى الروايتين. [المستدرك 2/ 93]
* * *
(إذا أبدل كلمة الرسول بالنبي أو بالعكس)
1829 -
إذا سمع من الراوي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" أو: "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" أو: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم" جاز أن يبدل مكان الرسول النبي، نص عليه. [المستدرك 2/ 95]
(إذا قرئ علي المحدث وسكت هل هو إقرار ومتي يجوز أن يقول حدثني أو أخبرني)
1830 -
مسألة: إذا قرئ على المحدث وهو يسمع فسكت؛ فالظاهر أنه إقرار، قاله القاضي أبو يعلى وأبو الطيب، قالا: والأحوط أن يستنطقه الإقرار به.
وقيد هذه المسألة القاضي في كتاب القولين بما إذا لم يقر به الشيخ لفظًا، فقال: مسألة: إذا قرئ عليه وهو ساكت يسمع، ولم يقل له: هو كما قرأت عليك، فيقول: نعم، أو يقول له ابتداء: أقرأ عليك؟ فيقول: أقرأ، فإذا لم يقل له شيئًا من هذا فهل يجوز أن يقول حدثني فلان، أو أخبرني؟ على روايتين؟
إحداهما: لا يجوز؛ لأنه ما حدثه ولا أخبره؛ بل يسوغ له إذا كان ثقة أن يعمل بما قرأ عليه ويرويه، فيقول: قرأت على فلان فلم ينكره؛ لأن سكوته على ذلك رضى به.
والرواية الثانية: يجوز أن يقول: حدثني وأخبرني؛ لأن سكوته مع سماع القراءة عليه رضى بما قرأه وإمضاء له، فجاز أن يقول: حدثني وأخبرني، كما لو قال له: اروه عني.
فإن كان في سماعه "عن فلان" فهل يجوز أن يقال: "قال فلان" أم لا؟ نقل الحسن بن محمد بن الحارث السجستاني عن أحمد: إذا كان "عن فلان" في الكتاب، قال: فلا يغيره.
قال شيخنا: فعلى هذه الطريقة فما أقر به يقول: "أخبرني" قولًا واحدًا، وفي "حدثني" روايتان، وفيما لم يقر به لفظًا بل حالًا: هل يقول أخبرني وحدثني؟ على روايتين.
وكذلك قوله في رواية سلمة بن شبيب: "حدثنا وأخبرنا واحد" قاله غير
مرة، فيقتضي استواءهما
(1)
في المنع والإذن. ثم قال في العدة: إذا قرئ عليه وهو ساكت لم يقر به فالظاهر أنه إقرار.
قال شيخنا: وهنا طريقة ثالثة أن يكون في المسألة ثلاث روايات، الثالثة: الفرق بين أخبرنا وحدثنا، فإنه في رواية أبي داود قد جعل التحديث أسهل من الإخبار، وكذلك قوله:"حدثنا وأخبرنا واحد فيما كان سماعًا من الشيخ " يقتضي الفرق بينهما فيما لم يكن سماعًا.
ويتلخص في المسألتين مع اللفظين عدة أقوال: جوازهما فيهما، ومنعهما فيهما، الثالث جواز الإخبار دون التحديث فيهما، والرابع جوازهما فيما أقر به لفظًا دون ما أقر به حالًا، الخامس جواز الإخبار فيما أقر به دون التحديث فيما لم يقر به. [المستدرك 2/ 95 - 97]
* * *
(العرض علي مراتب)
1831 -
الكلام في العرض على مراتب:
إحداها: هل تجوز الرواية والعمل به، أم لا؟ فيه خلاف قديم عن بعض العراقيين، ومذهب أهل الحجاز وأهل الحديث كأحمد وغيره جوازه كعرض الحاكم والشاهد على المقر.
الثانية: أنه قد يكون بصيغة الاستفهام، وقد يكون بصيغة الخبر وهو الغالب، وكلاهما جائز في الشهادة والرواية.
الثالثة: أنه قد يتكلم بالجواب بالموافقة كقولهم: نعم، وهو ظاهر، وقد يقول: أرويه عنك؟ فيقول: نعم، فهذا إذن، والأول خبر.
الرابعة: السكوت، قال القاضي: فإن قرئ عليه وهو ساكت لم يقر به
(1)
في الأصل: (استواؤهما)، بالرفع، والتصويب من المسودة (285).
فالظاهر أنه إقرار؛ لأن سكوته مع سماع القراءة عليه رضاء منه بما قرأه وإمضاء له، فجاز أن يقول: أخبرني، وحدثني، كما لو أقر به، والأحوط أن يقول له: هو كما قرأته أو قرئ عليك، فإذا قال:"نعم" حدث به عنه.
قال شيخنا: الجواب بنعم عندنا صريح، ولهذا ينعقد به النكاح، فصح أن يقول: حدثني. [المستدرك 2/ 97]
* * *
(إذا روى بالإجازة)
1832 -
إذا روى بالإجازة أن يقول: أجاز لي، أو حدثني أو أخبرني إجازة، ولا يجوز أن يقول: حدثني أو أخبرني، مطلقًا. ذكره ابن عقيل.
ويقول في الإجازة: حدثني أو أخبرني إجازة، فإن لم يقل:"إجازة" لم يجز، وجوَّزه قوم.
قال شيخنا: كان يفعله أبو نعيم الأصبهاني. [المستدرك 2/ 98]
* * *
(إذا كان يدغم الحرف أو لا يعرف بعض حروف كتابه)
1833 -
في رواية صالح: قلت: الشيخ يدغم الحرف يعرف أنه كذا أو كذا ولا يفهم عنه، ترى أن يروي ذلك عنه؟ قال: أرجو أن لا يضيق هذا.
قلت: الكتاب قد طال على الإنسان عهده لا يعرف بعض حروفه فيخبره به بعض أصحابه، ما ترى في ذلك؟ قال: إن كان يعلم أنه كما في الكتاب فليس به بأس.
أبو داود: سأل رجل أحمد بن حنبل فقال: أجد في كتابي "جُريج" وأنا أعلم أنه "عن ابن جريج" فقال: أصلحه ورووه
(1)
على الصحة.
(1)
هكذا في الأصل، وفي المسودة:(وأروه)، ولعل الصواب:(وارْوِه).
عبد الله بن أحمد: كان أبي إذا تم الحديث وكان بجانبه من يبصر النحو يقول له: كذا فيصلحه، أو نحو هذا الكلام. [المستدرك 2/ 98 - 99]
* * *
(إذا لم يحفظ ما قرأه المحدث أو قرئ عليه)
1834 -
إذا لم يحفظ ما قرأه المحدث أو قرئ عليه فينبغي أن يكون ناظرًا في كتاب فيه ما يقرأه المحدث من حفظه أو من كتاب ليضبط ما قرأه المحدث، نص عليه في مواضع، وإن كان المحدث يقرأ في كتاب فيجوز أن يرفع بصره، هاذا حدث من حفظه فهو أبعد من ضبطهم إذا لم يحفظوه ولم يكتبوه. [المستدرك 2/ 99]
* * *
(معارضة الكتاب)
1835 -
يجوز أن يعارض الكتاب الذي سمعه بنسخة أخرى مع غيره، نص عليه، وبه قال الجمهور. [المستدرك 2/ 99]
* * *
(سماع الصبي والضرير)
1836 -
قال عبد الله: سألت أبي: متى يجوز سماع الصبي في الحديث؟ قال: إذا عقل وضبط. [المستدرك 2/ 100]
* * *
(من المحدثين من لا يكون حجة إذا انفرد وكذلك الحديث)
1837 -
من المحدثين من لا يكون حجة إذا انفرد، فإذا وافقه مثله صار حجة، وكذلك الحديث يروى من وجهين فيصير بذلك حجة. وهذا باب واسع يجب اعتباره. [المستدرك 2/ 100]
(إذا قال الصحابي أو التابعي: من السُّنَّة كذا أو أمرنا بكذا ونهينا عن كذا)
1838 -
مسألة: إذا قال الصحابي: "من السُّنَّة كذا وكذا" اقتضى سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم عند أصحابنا وعامة الشافعية وجماعة من الحنفية منهم أبو عبد الله البصري.
وقال أبو بكر الرازي والكرخي والصيرفي: لا يقتضي ذلك، واختاره الجويني.
قال القاضي: إذا قال الصحابي: "من السُّنَّة كذا" كقول علي: "من السُّنَّة ألا يقتل حر بعبد" اقتضى سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك إذا قال التابعي:"من السُّنَّة كذا" كان بمنزلة المرسل، فيكون حجة على الصحيح من الروايتين، كما قال سعيد بن المسيب:"من السُّنَّة إذا أعسر الرجل بنفقة امرأته أن يفرق بينهما الحاكم " وكذا إذا قال الصحابي: "أمرنا بكذا ونهينا عن كذا" فإنه يرجع إلى أمر النبي صلى الله عليه وسلم ونهيه، وكذلك إذا قال:"رخص لنا في كذا".
قال القاضي: وقد رأيت هذا لبعض أصحابنا
(1)
.
ويغلب على ظني
(2)
أنه أبو حفص البرمكي ذكره في مسائل البرزاطي لما روى الحديث عن ابن عمر أنه قال: "مضت السُّنَّة أن ما أدركت الصفقة حبًّا مجموعًا فهو من مال المبتاع" فقال بعد هذا: صار هذا الحديث مرفوعًا بقوله: "مضت السُّنَّة" ويدخل في المسند.
(1)
قال رحمه الله: واحتج المخالف: بان الأمر والنهي والسنَّة لا يختص بالنبي دون غيره، قال تعالى:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] فأمر باتباع أمر الولاة، كما أمر باتباع أمره عز وجل وَأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين من بعدي".
وقال صلى الله عليه وسلم: (من سَنَّ سُنَّة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة). اهـ. العدة في أصول الفقه (3/ 996).
(2)
الكلام لجد شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله.
حرر ابنه عبد الله أن هذا القائل هو ابن بطة.
قال شيخنا رضي الله عنه: ويغلب على ظني أن هذا الضرب لم يذكره أحمد في الحديث المسند، فلا يكون عنده مرفوعًا.
مسألة: فإن قال التابعي ذلك فكذلك، إلا أنه يكون بمنزلة المرسل، وقد أومأ أحمد إلى ذلك.
والد شيخنا: قال المقدسي: وقول التابعي والصحابي في ذلك سواء، إلا أن الاحتمال في قول الصحابي أظهر وذكر قول التابعي في هذه وفي التي بعدها. قال أبو الخطاب: في ذلك وجهان، بناء على المرسل.
قال شيخنا رضي الله عنه: الخلاف في "أُمرنا" و"نُهينا" إنما يتوجه عند الإطلاق، وأما عند الاقتران- بأن الأمر كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو زمنه- فلا يتوجه؛ كقول عائشة:"كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة". [المستدرك 2/ 101 - 102]
* * *
(كنا نفعل كذا على عهد الرسول حجة من وجهين)
1839 -
قول الصحابي: "كنا نفعل كذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يحتج به من وجهين:
من جهة: أن فعلهم حجة كقولهم.
ومن جهة: إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالأول
(1)
: كقول أبي سعيد: "كنا نعزل والقرآن ينزل فلو كان شيء ينهى عنه لنهانا عنه القرآن" فهذا لا يحتاج إلى أن يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم لكن هذا المأخذ قد ذكره أبو سعيد، ولم أر الأصوليين تعرضوا له.
(1)
وهو: أن فعلهم حجة كقولهم.
وأما الثاني
(1)
: فيحتاج إلى بلوغ النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه الأقوال الثلاثة:
أحدها: قول أبي الخطاب وأبي محمد أنه حجة مطلقًا؛ لأن ذكره ذلك في معرض الحجة يدل على أنه أراد ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم فسكت عنه ليكون دليلًا.
والثاني: ليس بحجة كالوجه الذي ذكره القاضي، وهو قول الحنفية.
وأما إذا كانت العادة تقتضي أنه بلغه فذاك دليل على البلوغ.
وأصل هذا أن الأصل قول اللّه تعالى وفعله، وتركه القول وتركه الفعل، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله، وتركه القول وتركه العمل.
وإن كانت قد جرت عادة عامة الأصوليين أنهم لا يذكرون من جهة الله إلا قوله الذي هو كتابه، ومن جهة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد يقولون بما يقول أصحابنا: قوله وفعله وإقراره.
وقد يقولون: "وإمساكه" وهذا أجود؛ فإن إقراره: تركُ النهي؛ فإنه يدل على العفو عن تحريم.
وأما الإمساك: فإنه يعم ترك الأمر أيضًا الذي يفيد العفو عن الإيجاب؛ كترك الأمر بصدقة خضروات المدينة؛ فإن ترك الأمر مع الحاجة إلى البيان يدل على عدم الإيجاب؛ كترك النهي، وأما ترك الفعل فإنه يدل على عدم الاستحباب وعدم الإيجاب كثيرًا؛ فإن ترك الفعل مع قيام المقتضي له يدل على عدم كونه مشروعًا كترك النهي مع الحاجة إلى البيان.
وأما "فعل الله" كعذابه للمنذَرين فإنه دليل على تحريم ما فعلوه ووجوب ما أُمروا به.
وكما استدل أصحابنا وغيرهم من السلف بفعل الله تعالى ورجم قوم لوط على رجمهم.
(1)
وهو إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأما ترك القول: فكما يستدل بعدم أمره على عدم الإيجاب، وبعدمِ نهيه على عدم التحريم؛ كقوله:"وما سكت عنه فهو مما عفا عنه ".
وهو الدليل الثاني للاستدلال على عدم الحكم بعدم الدليل، وكما استدل أبو سعيد بعدم النهي عن الفعل على عدم تحريمه. وأما ترك الفعل: فكإنجائه للمؤمنين دون المنذرين. [المستدرك 2/ 103 - 104]
* * *
(قول الصحابي: نزلت في كذا)
1840 -
قول الصاحب: "نزلت هذه الآية في كذا" هل هو من باب الرواية أو الاجتهاد؟ طريقة البخاري في "صحيحه" تقتضي أنه من باب المرفوع وأحمد في المسند لم يذكر مثل هذا. [المستدرك 2/ 104]
* * *
(إذا تفرد العدل بزيادة لا تنافي المزيد عليه)
1841 -
مسألة: إذا انفرد العدل عن سائر الثقات بزيادة لا تنافي المزيد عليه قبلت، نص عليه، وهو قول جماعة الفقهاء والمتكلمين وقول الشافعي.
وقال جماعة من أهل الحديث: لا تقبل.
وعن المالكية وجهان.
وعن أحمد قول كقولهم فيما إذا خالف ظاهر المزيد عليه، وعنه: ترد مطلقًا إذا تركها الجمهور.
قال [شيخنا]: هذه المسألة ذات شعب واشتباه بغيرها، وذلك أن الكلام في ثبوتها أوردها غير اتباعها عملًا؛ فإنه قد يروى حديثان منفصلان في قصة، وفي أحدهما زيادة، فهنا لا ريب في قبولها إذا رواها ثقة، كما لو روى حديثًا مفردًا متضمنًا حكمًا آخر، لكن قد يوجب ذلك تقييد الرواية الأخرى أو تخصيصها فتبقى من باب الخطابين المطلق والمقيد، وهنا قد خالفت إطلاق الرواية الأخرى.
فزيادة بعض الرواة بعض الحديث يستمد من قاعدة، وهي: أن التفرد
بالرواية قد يقدح تارة ولا يقدح أخرى، فإذا كان المقتضي للاشتراك قائمًا ولم يقدح قدح وإلا فلا، ومنه رواية ما تعم به البلوى وغير ذلك، وذلك لأنها إذا كانت ثابتة فالمحدث إما أن يكون قد ذكرها للبقية أو لم يذكرها. وإذا ذكرها فإما أنهم لم يسمعوها، أو سمعوها وما حفظوها، أو حفظوها وما حدثوا بها، ليس هنا سبب رابع.
فإن كان المقتضي لذكرها وسمعها وحفظها والتحديث بها موجودًا صارت مثل المثبت والنافي سواء. وأما الاختلاف في الإسناد والإرسال والرفع والوقف ففيه تفصيل أيضًا.
وكلام أحمد وغيره في هذه الأبواب مبني على التفصيل، وأهل الحديث أعلم من غيرهم. [المستدرك 2/ 104 - 107]
* * *
(التعارض الحقيقي لا يوجد في الأخبار)
1842 -
لا يجوز أن يوجد في الشرع خبران متعارضان من جميع الوجوه وليس مع أحدهما ترجيح يقدم به. [المستدرك 2/ 108]
* * *
(المضطرب)
1843 -
يقدم حديث من دم يضطرب دفظه عدى ما اضطرب لفظه قاله القاضي. [المستدرك 2/ 108]
* * *
(إذا تعارض المرسل وحديث عن الصحابة)
1844 -
إذا تعارض خبر مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم وحديث عن الصحابة أو التابعين فالذي عن الصحابة أولى من المرسل نصَّ عليه. [المستدرك 2/ 109]
* * *
(تقديم رواية المثبت على النافي)
1845 -
في تقديم رواية المثبت على النافي، نصَّ عليه أحمد، قال إسماعيل: إذا كان النفي مستندًا إلى علم بالعدم -بأن كانت جهات الإثبات معلومة- لا إلى عدم علم بأن النفي والإثبات في جهة هذه الصورة يتقابلان من غير ترجيح. [المستدرك 2/ 109]
* * *
(هل تقدم رواية من تقدم إسلامه وهجرته)
1846 -
مسألة: رواية من تقدم إسلامه ومن تأخر سواء، قاله القاضي وغيره. [المستدرك 2/ 109]
* * *
(أخبار الآحاد يدل على صحتها طرق)
1847 -
قال المخالف: هذه أخبار آحاد فلا يجوز الاحتجاج بها في مثل هذه المسألة، فقال القاضي: هذه مسألة شرعية طريقها مثل مسائل الفروع ليس للمخالف فيها طريق يمكنه أن يقول: إنه يوجب القطع. وجواب آخر، وهو أنه تواتو في المعنى من وجهين:
أحدهما: أن الألفاظ الكثيرة إذا وردت من طرق مختلفة ورواة شتى لم يجز أن يكون جميعها كذبًا، ولم يكن بد أن يكون بعضها صحيحًا، كما لو أخبرنا الجمع الكثير بإسلامهم وجب أن يكون فيهم صادق، ولهذا أثبتنا كثيرًا من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وأثبتنا وجوب العمل بخبر الواحد بما روي عن الصحابة من العمل به في قضايا مختلفة.
والثاني: أن هذا الخبر تلقته الأمة بالقبول، ولم ينقل عن أحد أنه رده؛ ولهذا نقول: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا
صدقة"
(1)
لما اتفقوا على العمل به دلَّ على أنه صحيح عندهم.
قال شيخنا رضي الله عنه: وثَمَّ طريق ثالث، وهو ثبوت القدر المشترك من المعنى، وهذا غير القطع بصحة واحد من الألفاظ.
قال في أدلة المسألة: وأيضًا: فلا خلاف أن نصب الزكاة والمقادير الواجبة فيها وأركان الصلاة مقطوع بها، ومعلوم أنه ما ثبت بها خبر متواتر، هانما نقل فيها أخبار آحاد: ابن عمر وأنس وغيرهما، عدد معروف، فلما اتفقوا عليها وقطعوا على ثبوتها علمنا أن قبولها قطعي من حيث الإجماع، لا من حيث أخبار الآحاد؛ من ناحية أن الأمة تلقتها بالقبول فصارت الأخبار فيها كالمتواتر. [المستدرك 2/ 115 - 116]
* * *
(1)
رواه أحمد (9972).
أصول الفقه
(1)
1848 -
" أصول الفقه" فرض كفاية، وقيل: فرض عين على من أراد الاجتهاد والحكم والفتوى.
وتقديم معرفته أولى عند ابن عقيل وغيره لبناء الفروع عليها، وعند القاضي تقديم الفروع أولى؛ لأنها الثمرة المرادة من الأصول.
فالفقيه حقيقة من له أهلية تامة يعرف بها الحكم إذا شاء بدليله مع معرفة جملة كثيرة من الأحكام الفرعية وحضورها عنده بأدلتها الخاصة والعامة. [المستدرك 2/ 5]
1849 -
الْمَقْصُودُ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ: أَنْ نفْقَهَ مُرَادُ اللهِ وَرَسُولِهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. [20/ 497]
1850 -
كان شيخ الإسلام يقول: من فارق الدليل ضلَّ السبيل، ولا دليل إلا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. [المستدرك 2/ 6]
1851 -
الْفِقْهُ مِن أَجَل الْعُلُومِ. [13/ 124]
1852 -
طُرُقُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي نَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا فِي أصُولِ الْفِقْهِ
فَهِيَ - بِإجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ-:
أ- "الْكِتَابُ
" لَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ مِن الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ كَمَا خَالَفَ بَعْضُ أَهْلِ الضلَالِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى بَعْضِ الْمَسَائِلِ الِاعْتِقَادِيَّةِ.
(1)
الكلام لشيخ الإسلام في جميع المسائل، إلا إذا قلت في بداية المسألة: مسألة، أو نسبت الكلام لغيره، كان قلت: قال القاضي، أو جاء في الكلام: قال شيخنا، فيكون ما قبله ليس من كلامه.
تنبيه: هذا خاص بما هو في تهذيب المستدرك.
ب- وَالثانِي: "السّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ" الَّتِي لَا تُخَالِفُ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ
بَل تُفَسِّرُهُ، مِثْلُ أَعْدَادِ الصَّلَاةِ وَأَعْدَادِ رَكَعَاتِهَا وَنُصُبِ الزَّكَاةِ وَفَرَائِضِهَا وَصِفَةِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن الْأَحْكَامِ الَّتِي لَمْ تعْلَمْ إلَّا بِتَفْسِيرِ السُّنَّةِ.
وَأَمَّا السّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ الَّتِي لَا تُفَسِّرُ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ أَو يُقَالُ تُخَالِفُ ظَاهِرَهُ كَالسُّنَّةِ فِي تَقْدِيرِ نِصَابِ السَّرِقَةِ وَرَجْمِ الزَّانِي وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَمَذْهَبُ جَمِيعِ السَّلَفِ الْعَمَلُ بِهَا أَيْضًا إلَّا الْخَوَارجُ.
ج- الطَّرِيقُ الثالِثُ: "السُّنَنُ الْمُتَوَاتِرَةُ" عَن رَسُولِ اللهِ
صلى الله عليه وسلم إمَّا مُتَلَقَّاةٌ بِالْقَبُولِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَا؛ أَو بِرِوَايَةِ الثّقَاتِ لَهَا.
وَهَذِهِ أَيْضًا مِمَّا اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى اتِّبَاعِهَا مِن أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ.
د- الطَّرِيقُ الرَّابعُ: الْإِجْمَاعُ
، وَهُوَ مُتَّفَق عَلَيْهِ بَيْنَ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِن الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ.
لَكِنَّ الْمَعْلُومَ مِنْهُ هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، وَأَمَّا مَا بَعْدَ ذَلِكَ فَتَعَذَّرَ الْعِلْمُ بِهِ غَالِبًا.
هـ- الطَّرِيقُ الْخَامِسُ: "الْقِيَاسُ عَلَى النَّصّ وَالْإِجْمَاعِ
". وَهُوَ حُجَّة أَيْضًا عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفقَهَاءِ، لَكِنَّ كَثِيرًا مِن أَهْلِ الرَّأيِ أَسْرَفَ فِيهِ حَتَّى اسْتَعْمَلَهُ قَبْلَ الْبَحْثِ عَن النَّصِّ، وَحَتَّى رَدَّ بِهِ النُّصُوصَ، وَحَتَّى اسْتَعْمَلَ مِنْهُ الْفَاسِدَ، وَمِن أَهْلِ الْكَلَامِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الْقِيَاسِ مَن يُنْكِرُهُ رَأْسًا، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ كَبِيرَةٌ، وَالْحَقُّ فِيهَا مُتَوَسّطٌ بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالنَّقْصِ.
و- الطَرِيقُ السَّادِسُ: "الِاسْتِصْحَابُ
"، وَهُوَ الْبَقَاءُ عَلَى الْأَصْلِ فِيمَا لَمْ يُعْلَمْ ثُبُوتُهُ وَانْتِفَاؤُهُ بِالشَّرْعِ، وَهُوَ حُجَّة عَلَى عَدَمِ الِاعْتِقَادِ بِالِاتِّفَاقِ.
وَهَل هُوَ حُجَّةٌ فِي اعْتِقَادِ الْعَدَمِ؟ فِيهِ خِلَافٌ.
وَمِمَّا يُشْبِهُهُ الِاسْتِدْلَالُ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ الشَرْعِيِّ،
مِثْل أَنْ يُقَالَ: لَو كَانَت الْأُضْحِيَّةُ أَو الْوِتْرُ وَاجِبًا لَنَصَبَ الشَّرْعُ عَلَيْهِ دَلِيلًا شَرْعِيًّا، إذ وُجُوبُ هَذَا لَا يُعْلَمُ بِدُونِ الشَّرْعِ، وَلَا دَلِيلَ فَلَا وُجُوبَ.
فَالْأَوَّلُ يَبْقَى عَلَى نَفْيِ الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ الْمَعْلُومِ بِالْعَقْلِ حَتَّى يَثْبُتَ الْمُغَيِّرُ لَهُ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِعَدَم الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ الْمُثْبِتِ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ، إذ يَلْزَمُ مِن ثُبُوتِ مِثْل هَذَا الْحُكْمِ ثبُوتُ دَلِيلِهِ السَّمْعِيِّ.
كَمَا يُسْتَدَلُّ بِعَدَمِ النَّقْلِ لَمَّا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ وَمَا تُوجِبُ الشَّرِيعَةُ نَقْلَهُ، وَمَا يُعْلَمُ مِن دِينِ أَهْلِهَا وَعَادَتِهِمْ أَنَّهُم يَنْقُلُونَهُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ.
ز- الطَّرِيقُ السَّابعُ: "الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ
" وهُوَ أَنْ يَرَى الْمُجْتَهِدُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ يَجْلِبُ مَنْفَعَة رَاجِحَةً؛ وَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ مَا يَنْفِيه؛ فَهَذِهِ الطَّرِيقُ فِيهَا خِلَافٌ مَشْهُورٌ فَالْفُقَهَاءُ يُسَمُّونَهَا "الْمَصَالِحَ الْمُرْسَلَةَ" ومِنْهُم مَن يُسَمِّيهَا الرَّأيَ وَبَعْضُهُم يُقَرِّبُ إلَيْهَا الِاسْتِحْسَانَ وَقَرِيبٌ مِنْهَا ذَوْقُ الصُّوفِيَّةِ وَوَجْدُهُم وَإِلْهَامَاتُهُمْ.
وَالْقَوْلُ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ يُشَرّعُ مِن الدّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ غَالِبًا.
وَهِيَ تُشْبِهُ مِن بَعْضِ الْوُجُوهِ مَسْأَلَةَ الِاسْتِحْسَانِ وَالتَّحْسِينِ الْعَقْلِيِّ وَالرَّأْيِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَإِنَّ الِاسْتِحْسَانَ طَلَبُ الْحُسْنِ وَالْأَحْسَنِ؛ كَالِاسْتِخْرَاجِ، وَهُوَ رُؤية الشَّيْءِ حُسْنًا، كَمَا أَنَّ الِاسْتِقْبَاحَ رُويَتُهُ قَبِيحًا، وَالْحُسْنُ هُوَ الْمَصْلَحَةُ، فَالِاسْتِحْسَانُ وَالِاسْتِصْلَاحُ مُتَقَارِبَانِ، وَالتَّحْسِينُ الْعَقْلِيُّ قَوْلٌ بِأَنَّ الْعَقْلَ يُدْرِكُ الْحَسَنَ، لَكِنْ بَيْنَ هَذِهِ فُرُوقٌ، وَالْقَوْلُ الْجَامِعُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ لَا تُهْمِلُ مَصْلَحَة قَطُّ؛ بَل اللهُ تَعَالَى قَد أَكْمَلَ لَنَا الدّينَ، وَأَتَمَّ النِّعْمَةَ، فَمَا مِن شَيءٍ يُقَرِّبُ إلَى الْجَنَّةِ إلَّا وَقَد حَدَّثنَا بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَتَرَكَنَا عَلَى الْبَيْضَاءِ، لَيْلِهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدَهُ إلَّا هَالِكٌ.
لَكِنْ مَا اعْتَقَدَهُ الْعَقْلُ مَصْلَحَةً وإِن كَانَ الشَّرْعُ لَمْ يَرِدْ بِهِ فَأَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لَازِمٌ لَهُ:
أ- إمَّا أَنَّ الشَّرْعَ دَلَّ عَلَيْهِ مِن حَيْثُ لَمْ يَعْلَمْ هَذَا النَّاظِرُ.
ب- أَو أَنَّهُ لَيْسَ بِمَصْلَحَةٍ وَإِن اعْتَقَدَهُ مَصْلَحَةً؛ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ هِيَ الْمَنْفَعَةُ الْحَاصِلَةُ أَو الْغَالِبَةُ.
وَكَثِيرًا مَا يَتَوَهَّمُ النَّاسُ أَنَّ الشَّيْءَ يَنْفَعُ فِي الدّينِ وَالدُّنْيَا، وَيَكُونُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ مَرْجُوحَةٌ بِالْمَضرَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ:{قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219].
وَكَثِيرٌ مِمَّا ابْتَدَعَهُ النَّاسُ مِن الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ مِن بِدَعِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَأَهْلِ التَّصَوُّفِ وَأَهْلِ الرَّأيِ وَأَهْلِ الْمُلْكِ حَسِبُوهُ مَنْفَعَةً أَو مَصْلَحَةً نَافِعًا وَحَقًّا وَصَوَابًا وَلَمْ يَكُن كَذَلِكَ. [11/ 339 - 345]
1853 -
إِنَّ كَثِيرًا مِن نِزَاعِ الْعُقَلَاءِ لِكوْنِهِمْ لَا يَتَصَوَّرُونَ مَوْرِدَ النِّزَاعِ تَصَوُّرًا بَيِّنًا، وَكَثِيرٌ مِن النِّزَاعِ قَد يَكُونُ الصَّوَابُ فِيهِ فِي قَوْلٍ آخَرَ غَيْرِ الْقَوْلَيْنِ الَّلَذِينَ قَالَاهُمَا، وَكَثِيرٌ مِن النِّزَاعِ قَد يَكُونُ مَبْنِيًّا عَلَى أَصْلٍ ضَعِيفٍ إذَا بُيِّنَ فَسَادُهُ ارْتَفَعَ النِّزَاعُ. [12/ 57]
1854 -
الْعُلُومُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
أ- مِنْهَا مَا لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَأَحْسَنُ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي بَيَّنَهَا الْقُرْآنُ، وَأَرْشَدَ إلَيْهَا الرَّسُولُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ أَجَلَّ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَأَكْمَلَهَا وَأَفْضَلَهَا مَأخُوذٌ عَن الرَّسُولِ.
فَإِنَّ مِن النَّاسِ مَن يُذْهَلُ عَن هَذَا، فَمِنْهُم مَن يَقْدَحُ فِي الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ قَد صَارَ فِي ذِهْنِهِ أَنَّهَا هِيَ الْكَلَامُ الْمُبْتَدَعُ الَّذِي أَحْدَثَهُ مَن أَحْدَثَهُ مِن الْمُتَكَلِّمِينَ.
ب- وَمِنْهَا مَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ إلَّا بِخَبَرِ الْأنْبِيَاءِ، وَخَبَرُهُم الْمُجَرَّدُ هُوَ دَلِيل سَمْعِيٌّ، مِثْل تَفَاصِيلِ مَا أَخْبَرُوا بِهِ مِن الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْعَرْشِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَتَفَاصِيلِ مَا يُؤْمَرُ بِهِ وَيُنْهَى عَنْهُ.
فَأَمَّا نَفْسُ إثْبَاتِ الصَّانِعِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتهِ وَمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا لَا يُعْلَمُ بالأدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَإِن كَانَت الْأَدِلَّةُ وَالْآيَاتُ الَّتِي يَاُتِي بِهَا الْأَنْبِيَاءُ هِيَ أَكْمَلُ الْأَدِلًّةِ الْعَقْلِيَّةِ. [13/ 137 - 138]
1855 -
التَّأْوِيلُ فِي عُرْفِ الْمُتَأَخّرِينَ: هُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَن الْمَعْنَى الرَّاجِحِ إلَى الْمَعْنَى الْمَرْجُوحِ لِدَلِيلٍ يَقْتَرِنُ بِهِ، وَهَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي يَتَكَلَّمُونَ عَلَيْهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ.
وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فِي لَفْظِ السَّلَفِ فَلَهُ مَعْنيَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَفْسِيرُ الْكَلَامِ وَبَيَانُ مَعْنَاهُ، سَوَاءٌ وَافَقَ ظَاهِرَهُ أَو خَالَفَهُ؛ فَيَكُونُ التَّأْوِيلُ وَالتَّفْسِيرُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ مُتَقَارِبًا أَو مُتَرَادِفًا.
والْمَعْنَى الثانِي فِي لَفْظِ السَّلَفِ- وَهُوَ الثَّالِثُ مِن مُسَمَّى التَّاوِيلِ مُطْلَقًا-: هُوَ نَفْسُ الْمُرَادِ بِالْكَلَامِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ إنْ كَانَ طَلَبًا كَانَ تَأْوِيلُة نَفْسَ الْفِعْلِ الْمَطْلُوبِ، وَإِن كَانَ خَبَرًا كَانَ تَأْوِيلُهُ نَفْسَ الشَّيْءِ الْمُخْبَرِ بِهِ.
وَمِمَّا يُوَافِقُهُ فِي اشْتِقَاقِهِ الْأَصْغَرِ: (الْآلُ) فَإِنَّ آلَ الشَّخْصِ مَن يَئُولُ إلَيْهِ؛ وَلهَذَا لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي عَظِيمٍ، بِحَيْثُ يَكُونُ الْمُضَافُ إلَيْهِ أَعْظَمَ مِن الْمُضَافِ، يَصْلُحُ أَنْ يَئُولَ إلَيْهِ الْآلُ؛ كَآلِ إبْرَاهِيمَ وَآلِ لُوطٍ وَاَلِ فِرْعَوْنَ، بِخِلَافِ الْأَهْلِ.
وَأَمَّا إدْخَالُ أَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ أَو بَعْضِ ذَلِكَ فِي الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللهُ، أَو اعْتِقَادُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُتَشَابِهُ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللّهُ بِعِلْمِ تَأْوِيلِهِ، كَمَا يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِن الْقَوْلَيْنِ طَوَائِفُ مِن أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّهُم وإن أَصَابُوا فِي كَثِيرٍ مِمَّا يَقُولُونَهُ وَنَجَوْا مِن بِدَعٍ وَقَعَ فِيهَا غَيْرُهُمْ، فَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا مِن وَجْهَيْنِ:
الْأوَّلُ: مَن قَالَ: إنَ هَذَا مِن الْمُتَشَابِهِ وَأَنَّهُ لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ، فَنَقُولُ: أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ فَإِنِّي مَا أَعْلَمُ عَن أَحَدٍ مِن سَلَفِ الْأمَّةِ وَلَا مِن الْأَئِمَّةِ لَا أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَلَا غَيْرِهِ أَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ مِن الْمُتَشَابِهِ الدَّاخِلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ،
وَنَفَى أَنْ يَعْلَمَ أَحَدٌ مَعْنَاهُ، وَجَعَلوا أَسْمَاءَ اللّهِ وَصفَاتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ الْأَعْجَمِيِّ الَّذِي لَا يُفْهَمُ.
فَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ مَنْعُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ مِن الْمُتَشَابِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا قِيلَ: هَذِهِ مِن الْمُتَشَابِهِ أَو كَانَ فِيهَا مَا هُوَ مِن الْمُتَشَابِهِ كَمَا نُقِلَ عَن بَعْضِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ سَمَّى بَعْضَ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْجَهْمِيَّة مُتَشَابِهًا فَيُقَالُ: الَّذِي فِي الْقرْآنِ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللهُ: إمَّا الْمُتَشَابِهُ وَإِمَّا الْكِتَابُ كُلُّهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَنَفْيُ عِلْمِ تَأْوِيلِهِ لَيْسَ نَفْيَ عِلْمِ مَعْنَاهُ. [13/ 137 - 138]
1856 -
الْفِعْل لَا يَدُلُّ بِنَفْسِهِ عَلَى الْوُجُوبِ. [17/ 494]
1857 -
تَنْقِيح الْمَنَاطِ: هُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم حَكَمَ فِي مُعَيَّنٍ، وَقَد عُلِمَ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَصُّ، فَيُرِيدُ
(1)
أَنْ يُنَقِّحَ مَنَاطَ الْحُكْمِ لِيَعْلَمَ النَّوْعَ الَّذِي حَكَمَ فِيهِ، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ الْأَعْرَابِيَّ الَّذِي وَاقَعَ امْرَأَتَهُ فِي رَمَضَانَ بِالْكَفَّارَةِ، وَقَد عُلِمَ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَصُّ بِهِ، وَعُلِمَ أَنَّ كَوْنَهُ أَعْرَابِيًّا أَو عَرَبِيًّا أَو الْمَوْطُوءَةِ زَوْجَتَهُ لَا أَثَرَ لَهُ، فَلَو وَطِئَ الْمُسْلِمُ الْعَجَمِيُّ سُرِّيّتهُ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ.
وَلَكِنْ هَلِ الْمُؤَثِّرُ فِي الْكَفَّارَةِ كَوْنُهُ مُجَامِعًا فِي رَمَضَانَ أَو كَوْنُهُ مُفْطِرًا؟
فَالْأوَّلُ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ.
وَالثَّانِي: مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ مَنْصُوصَةٌ عَن أَحْمَد فِي الْحِجَامَةِ؛ فَغَيْرُهَا أَوْلَى.
ثُمَّ مَالِكٌ يَجْعَلُ الْمُؤَثِّرَ جِنْسَ الْمُفَطِّرِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَجْعَلُهَا الْمُفَطّرِ كَتَنَوُّعِ جِنْسِهِ فَلَا يُوجِبُهُ فِي ابْتِلَاع الْحَصَاةِ وَالنَّوَاةِ.
وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ، وَهَذَا لَا بُدَّ مِنْة فِي الشَّرَائِعِ، وَلَا يُسَمَّى قِيَاسًا عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ؛ كَأَبِي حَنِيفَةَ ونفاة الْقِيَاسِ؛ لِاتِّفَاقِ النَّاسِ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، كَمَا
(1)
أي: المجتهد والعالم.
اتَّفَقُوا عَلَى تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، وَهُوَ: أَنْ يُعَلِّقَ الشَّارعُ الْحُكْمَ بِمَعْنى كُلِّيٍّ، فَيَنْظُر فِي ثُبُوتِهِ فِي بَعْضِ الْأَنْوَاعِ أَو بَعْضِ الْأَعْيَانِ، كَأَمْرِهِ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، وَكَأَمْرِهِ بِاسْتِشْهَادِ شَهِيدَيْنِ مِن رِجَالِنَا مِمَن نَرْضَى مِنَ الشُّهَدَاءِ، وَكَتَحْرِيمِهِ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ، وَكَفَرْضِهِ تَحْلِيلَ الْيَمِينِ بِالْكَفَّارَةِ، وَكَتَفْرِيقِهِ بَيْنَ الْفِدْيَةِ وَالطَّلَاقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
فَيَبْقَى النَّظَرُ فِي بَعْضِ الْأَنْوَاعِ: هَل هِيَ خَمْرٌ، وَيَمِين، وَمَيْسِرٌ، وَفِدْيَةٌ، أَو طَلَاقٌ؟
وَفِي بَعْضِ الْأَعْيَانِ: هَل هِيَ مِن هَذَا النَّوْعِ؟
وَهَل هَذَا الْمُصَلِّي مُسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةِ؟
وَهَذَا الشَّخْصُ عَدْلٌ مَرْضِيٌّ؟ وَنَحْو ذَلِكَ.
فَإِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الِاجْتِهَادِ مُتَّفَق عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ بَل بَيْنَ الْعُقَلَاءِ فِيمَا يَتْبَعُونَهُ مِن شَرَائِعِ دِينِهِمْ وَطَاعَةِ وُلَاةِ أُمُورِهِمْ وَمَصَالِحِ دُنْيَاهُم وَآخِرَتِهِمْ.
وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى تَمْثِيلِ الشَّيْءِ بِنَظِيرِهِ، وَإِدْرَاجِ الْجُزْئِي تَحْتَ الْكُلِّيِّ، وَذَاكَ
(1)
يُسَمَّى قِيَاسَ التَّمْثِيلِ؛ وَهَذَا يُسَمَّى قِيَاسَ الشُّمُولِ، وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ؛ فَإِنَّ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْأفْرَادِ فِي قِيَاسِ الشُّمُولِ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْمَنْطِقِيُّونَ الْحَدَّ الْأَوْسَطَ: هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْأُصُولِيُّونَ الْجَامِعَ، وَالْمَنَاطَ، وَالْعِلَّةَ، وَالْأَمَارَةَ، وَالدَّاعِي، وَالْبَاعِثَ، وَالْمُقْتَضِيَ، وَالْمُوجِبَ، وَالْمُشْتَرَكَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ.
وَأَمَّا تَخْرِيجُ الْمَنَاطِ وَهُوَ: الْقِيَاسُ الْمَحْضُ وَهُوَ: أَنْ يَنُصَّ عَلَى حُكْمٍ فِي أُمُورٍ قَد يُظَنُّ أَنَّهُ يَخْتَصُّ الْحُكْمُ بِهَا، فَيَسْتَدِلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهَا مِثْلُهَا، إمَّا لِانْتِفَاءِ الْفَارِقِ، أَو لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْوَصْفِ الَّذِي قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الشَّارعَ عَلَّقَ الْحُكْمَ
(1)
أي: تنقيح المناط.
بِهِ فِي الْأَصْلِ، فَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الَّذِي تُقِرُّ بِهِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ وَيُنْكِرُهُ نفاة الْقِيَاسِ.
وَإِنَّمَا يَكْثُرُ الْغَلَطُ فِيهِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْجَامِعِ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي عَلَّقَ الشَّارعُ الْحُكْمَ بِهِ.
فَأَكْثَرُ غَلَطِ الْقَائِسِينَ مِن ظَنّهِمْ عِلَّةً فِي الْأَصْلِ مَا لَيْسَ بِعِلَّةٍ، وَلهَذَا كَثُرَتْ شَنَاعَاتُهُم عَلَى أَهْلِ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ.
فَأَمَّا إذَا قَامَ دَلِيل عَلَى إلْغَاءِ الْفَارِقِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فَرْقٌ يُفَرِّقُ الشَّارعُ لِأَجْلِهِ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ، أَو قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى الْفُلَانِيَّ هُوَ الَّذِي لِأَجْلِهِ حَكَمَ الشَّارعُ بِهَذَا الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ مَوْجُود فِي صُورَةٍ أُخْرَى: فَهَذَا الْقِيَاسُ لَا يُنَازعُ فِيهِ إلَّا مَن لَمْ يَعْرِفْ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ. [9/ 14 - 18]
1858 -
مَن قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إنَّهُ حَرَّمَ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ مَا تَسْتَخْبِثُهُ الْعَرَبُ وَأَحَلَّ لَهُم مَا تَسْتَطِيبُهُ: فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ؛ كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَقُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ، وَلَكِنِ الخرقي وَطَائِفَة مِنْهُم وَافَقُوا الشَّافِعِيَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَأَمَّا أَحْمَد نَفْسُهُ فَعَامَّةُ نُصُوصِهِ مُوَافِقَةٌ لِقَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَابِعُونَ أَنَ التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ لَا يَتَعَلَّقُ بِاسْتِطَابَةِ الْعَرَبِ وَلَا بِاسْتِخْبَاثِهِمْ. [19/ 24]
1859 -
الْأُصُولُ الثَّابِتَةُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ هِيَ بِمَنْزِلَةِ الدِّينِ الْمُشْتَرِكِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ، لَيْسَ لِأَحَدٍ خُرُوجٌ عَنْهَا، وَمَن دَخَلَ فِيهَا كَانَ مِن أَهْلِ الْإِسْلَامِ الْمَحْضِ، وَهُم أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
وَمَا تَنَوَّعُوا فِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ الْمَشْرُوعَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا تَنَوَّعَتْ فِيهِ الْأَنْبِيَاء. [19/ 117]
1860 -
إنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي نُصِبَتْ عَلَيْهَا أَدِلَّة قَطْعِيَّةٌ مَعْلُومَة مِثْل الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْإِجْمَاعِ الظَّاهِرِ؛ كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ
وَالصِّيَامِ وَتَحْرِيمِ الزنى وَالْخَمْرِ وَالرِّبَا: إذَا بَلَغَتْ هَذِهِ الْأَدِلَّةُ لِلْمُكَلَّفِ بَلَاغًا يُمَكِّنُهُ مِنَ اتّبَاعِهَا فَخَالَفَهَا تَفْرِيطًا فِي جَنْبِ اللهِ، وَتَعَدِّيًا لِحُدُودِ اللهِ: فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مُخْطِئٌ آثِمٌ، وَأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ سَببٌ لِعُقُوبَةِ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّ اللهَ أَقَامَ حُجَّتَهُ عَلَى خَلْقِهِ بِالرُّسُلِ الَّذِينَ بَعَثَهُم إلَيْهِم مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165].
وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي الْفِعْلِ وَالْحَادِثَةِ وَالْمَسْأَلَةِ الْعَمَلِيَّةِ نَصٌّ لَا يَتَمَكَّنُ الْمُكَلَّفُ مِن مَعْرِفَتِهِ وَمَعْرِفَةِ دَلَالَتِهِ؛ مِثْل أَنْ يَكُونَ الْحَدِيث النَّبَوِيُّ الْوَارِدُ فِيهَا عِنْدَ شَخْصٍ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُجْتَهِدُ وَلَمْ يَشْعُرْ بِمَا يَدُلُّهُ عَلَيْهِ، أَو تَكُونُ دَلَالَتُهُ خَفِيَّةً لَا يَقْدِرُ الْمُجْتَهِدُ عَلَى فَهْمِهَا، أَو لَمْ يَكُن فِيهَا بِحَالٍ: فَهَذَا مَوْرِدُ نِزَاعٍ، فَذَهَبَ فَرِيقٌ مِن أَهْلِ الْكَلَامِ، مِثْل أَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي هَاشِمٍ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَالْغَزَالِيِّ إلَى قَوْلٍ مُبْتَدَعٍ يُشْبِهُ فِي الْمُجْتَهِدَاتِ قَوْلَ الزَّنَادِقَةِ الْإِبَاحِيَّةِ فِي الْمَنْصُوصَاتِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ لِهَذِهِ الْحَادِثَةِ حُكْمٌ عِنْدَ اللهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا حُكْمُهُ فِي حَقِّ كُل مُكَلَّفٍ يَتْبَعُ اجْتِهَادَهُ وَاعْتِقَادَهُ، فَمَنِ اعْتَقَدَ وُجُوبَ الْفِعْلِ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَمَنِ اعْتَقَدَ تَحْرِيمَهُ فَهُوَ حَرَامٌ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا السَّلَفُ وَالْفُقَهَاءُ وَالصُّوفِيَّةُ وَالْعَامَّةُ وَجُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ فَعَلَى إنْكَارِ هَذَا الْقَوْلِ، وَأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وإِجْمَاعِ السَّلَفِ؛ بَل هُوَ مُخَالِفٌ لِلْعَقْلِ الصرِيحِ.
وَأَمَّا الْأَحْكَامُ وَالِاعْتِقَادَاتُ وَالْأَقْوَالُ الْعَمَلِيَّةُ الَّتِي يَتْبَعُهَا الْمَحْكُومُ: فَهِيَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَالتَّحْسِينُ وَالتَّقْبِيحُ، وَاعْتِقَادُ الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ، وَيُسَمِّيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ: الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ، وَتُسَمَّى الْفُرُوعُ وَالْفِقْهُ وَنَحْو ذَلِكَ.
وَهَذِهِ تَكونُ فِي جَمِيعِ الْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ، وَتَكُونُ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنَ السِّيَاسَاتِ وَالصِّنَاعَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهِيَ الَّتِي قَصَدْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ حَيْثُ قُلْنَا: إنَّ الِاعْتِقَادَاتِ قَد تُؤَثّرُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَهَذِهِ أَيْضًا النَّاسُ فِيهَا طَرَفَانِ وَوَسَطٌ:
الطَّرَفُ الْأوَّلُ: طَرَفُ الزَّنَادِقَةِ الْإِبَاحِيَّةِ الْكَافِرَةِ بِالشَّرَائِعِ وَالْوَعِيدِ وَالْعِقَابِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ تَتْبَعُ الِاعْتِقَادَ مُطْلَقًا، وَالِاعْتِقَادُ فوَ الْمُؤَثّرُ فِيهَا.
الطَّرَفُ الثَّانِي: طَرَفُ الْغَالِيَةِ الْمُتَشَدِّدِينَ، الَّذِينَ لَا يَرَوْن لِلِاعْتِقَادِ أَثَرًا فِي الْأَفْعَالِ؛ بَل يَقُولُ غَالِيَتُهُم كَقَوْمٍ مِن مُتَكَلِّمَةِ الْمُعْتَزِلَةِ: إنَّ للهِ حُكْمًا فِي كُلّ فِعْل مَن أَخْطَأَهُ كَانَ آثِمًا مُعَاقَبًا.
وَأَمَّا الْأُمَّةُ الْوَسَطُ فَعَلَى أَنَّ الِاعْتِقَادَ قَد يُؤَثِّرُ فِي الْأَحْكَامِ، وَقَد لَا يُؤَثِّرُ بِحَسَبِ الْأَدِلَّةِ وَالْأَسْبَابِ. [19/ 142 - 151]
1861 -
إجْمَاعُ الْأُمَّةِ فِي نَفْسِهِ حَقٌّ، لَا تَجْتَمِعُ الْأُمَّةُ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ حَقٌّ.
وَبِذَلِكَ وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71] فَلَو قَالَت الْأُمَّةُ فِي الدِّينِ بِمَا هُوَ ضَلَالٌ لَكَانَت لَمْ تَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ فِي ذَلِكَ وَلَمْ تَنْهَ عَن الْمُنْكَرِ فِيهِ.
وقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} [النساء: 115]. وَالشَّافِعِيُّ رضي الله عنه لَمَّا جَرَّدَ الْكَلَامَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْإِجْمَاعِ، كَمَا كَانَ هُوَ وَغَيْرُهُ وَمَالِكٌ ذَكَرَ عَن عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ مُتَّبعَ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مُسْتَحِقٌّ لِلْوَعِيدِ، كَمَا أَنَّ مُشَاقَّ الرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى مُسْتَحِقّ لِلْوَعِيدِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ يُوجِبُ الْوَعِيدَ بِمُجَرَّدِهِ، فَلَو لَمْ يَكُنِ الْوَصْفُ الْآخَرُ يَدْخُل فِي ذَلِكَ لَكَانَ لَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِ. [19/ 177 - 179]
1862 -
الْأَسْمَاءُ الَّتِي عَلَّقَ اللهُ بِهَا الْأَحْكَامَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ:
أ- مِنْهَا مَا يُعْرَفُ حَدُّهُ وَمُسَمَّاهُ بِالشَّرْعِ، فَقَد بَيَّنَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ؛ كَاسْمِ
الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصيَامِ وَالْحَجِّ وَالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ.
ب- وَمِنْهُ مَا يُعْرَفُ حَدُّهُ بِاللُّغَةِ؛ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالسَّمَاءِ وَالْأرْضِ وَالْبَرِّ.
ج- وَمِنْهُ مَا يَرْجِعُ حَدّهُ إلَى عَادَةِ النَّاسِ وَعُرْفِهِمْ، فَيَتَنَوَّعُ بِحَسَبِ عَادَتِهِمْ؛ كَاسمِ الْبَيْعِ وَالنِّكَاح وَالْقَبْضِ وَالدّرْهَمِ وَالدِّينَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسمَاءِ الَّتِي لَمْ يَحُدَّهَا الشَّارعُ بِحَدٍّ وَلَا لَهَا حَدٌّ وَاحِدٌ يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ أَهْلِ اللُّغَةِ؛ بَل يَخْتَلِفُ قَدْرُهُ وَصِفَتُهُ بِاخْتِلَافِ عَادَاتِ النَّاسِ.
فَمَا كَانَ مِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ فَقَد بَيّنهُ اللهُ وَرَسُولُهُ.
وَمَا كَانَ مِنَ الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ الْمُخَاطَبُونَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَد عَرَفوا الْمُرَادَ بِهِ؛ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِمُسَمَّاهُ الْمَحْدُودِ فِي اللُّغَةِ، أَو الْمُطْلَقِ فِي عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَتِهِمْ مِن غَيْرِ حَدٍّ شَرْعِيٍّ وَلَا لُغَوِيٍّ، وَبِهَذَا يَحْصُل التَّفَقُّهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَالِاسْمُ إذَا بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حدَّ مُسَمَّاهُ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ قَد نَقَلَهُ عَنِ اللُّغَةِ أَو زَادَ فِيهِ.
وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَمَا أَطْلَقَهُ اللهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَعَلَّقَ بِهِ الْأَحْكَامَ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ لَمْ يَكُن لِأَحَدٍ أَنْ يُقَيِّدَهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ
(1)
.
(1)
قال الشاطبي رحمه الله: "كُلُّ دَلِيلٍ شَرْعِيِّ ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ -قلت: ومثله السُّنَّة- مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ، وَلَمْ يُجْعَلْ لَهُ قَانُون وَلَا ضَابِطٌ مَخْصُوصٌ: فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنى مَعْقُولٍ وُكِّلَ إِلَى نَظَرِ الْمُكَلَّفِ، وَهَذَا الْقِسْمُ أَكْثَرُ مَا تَجِدُهُ فِي الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى؛ كَالْعَدْلِ، وَالْإِحْسَانِ، وَالْعَفْوِ، وَالصَّبْرِ، وَالشُّكْرِ فِي الْمَأمُورَاتِ، وَالظُّلْمِ، وَالْفَحْشَاءِ، وَالْمُنْكِرِ، وَالْبَغْيِ، وَنَقْضِ الْعَهْدِ فِي الْمَنْهِيَّاتِ.
وَكُل دَلِيل ثَبَتَ فِيهَ مُقَيَّدًا غَيْرَ مُطْلَقٍ، وَجُعِلَ لَة قَانُون وَضَابِطٌ؛ فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنًى تَعَبُّدِيٍّ لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ نَظَرُ الْمُكَلَّفِ لَو وُكِّلَ إِلَى نَظَرِهِ؛ إِذِ الْعِبَادَاتُ لَا مَجَالَ لِلْعُقُولِ فِي أَصْلِهَا فَضْلًا عَن كَيْفِيَّاتِهَا .. =
فَمِن ذَلِكَ اسْمُ الْمَاءِ مُطْلَق فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَمْ يُقَسِّمْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى قِسْمَيْنِ: طَهُورٌ وَغَيْرُ طَهُورٍ، فَهَذَا التَّقْسِيِمُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَمِن ذَلِكَ اسْمُ الْحَيْضِ، عَلَّقَ اللهُ بِهِ أَحْكَامًا مُتَعَدِّدَةً فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَمْ يُقَدَّرْ لَا أَقَفُهُ وَلَا أَكْثَرُهُ وَلَا الطُّهْرُ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ مَعَ عُمُومِ بَلْوَى الْأمَّةِ بِذَلِكَ، وَاحْتِيَاجِهِمْ إلَيْهِ، وَاللُّغَةُ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ قَدْرٍ وَقَدْرٍ، فَمَن قَدَّرَ فِي ذَلِكَ حَدًّا فَقَد خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ.
وَكَذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُق صَدَقَة؛ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ أَوَاقٍ صَدَقَة وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَة"
(1)
وَقَالَ: "لَا شَيْءَ فِي الرِّقَّةِ حَتَّى تَبْلُغَ مَائَتَيْ دِرْهَمٍ لا، وَقَالَ فِي السَّارِقِ: "يُقْطَعُ إِذَا سَرَقَ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَ الْمِجَنِّ "
(2)
وَقَالَ: "تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ"
(3)
، وَالْأُوقِيَّةُ فِي لُغَتِهِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَلَمْ يَذْكُرْ لِلدِّرْهَمِ وَلَا لِلدِّينَارِ حَدًّا، وَلَا ضَرَبَ هُوَ دِرْهَمًا، وَلَا كَانَتِ الدَّرَاهِمُ تُضْرَبُ فِي أَرْضِهِ؛ بَل تُجْلَبُ مَضْرُوبَةً مِن ضَرْبِ الْكُفَّارِ
(4)
، وَفِيهَا كِبَارٌ وَصِغَارٌ، وَكَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِهَا تَارَةً عَدَدًا وَتَارَةً وَزْنًا، كَمَا قَالَ:"زِنْ وَأَرْجِحْ فَإِنَّ خَيْرَ النَّاسِ أَحْسَنُهُم قَضَاءً"، وَكَانَ هُنَاكَ وَزَّان يَزِنُ بِالْأَجْرِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُم إذَا وَزَنُوهَا فَلَا بُدَّ لَهُم مِن صَنْجَةٍ يَعْرِفُونَ بِهَا مِقْدَارَ الدَّرَاهِمِ، لَكِنَّ هَذَا لَمْ يَحُدَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
= وَأكْثَرُ مَا يُوجَدُ فِي الْأُمُورِ الْعِبَادِيَّةِ، وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي كَثِيرٌ فِي الْأصُولِ الْمَدَنِيَّةِ؛ لِأنَّهَا فِي الْغَالِبِ تَقْيِيدَاتٌ لِبَعْضِ مَا تَقَدَّمَ إِطْلَاقُهُ، أَو إِنْشَاءُ أَحْكَامٍ وَارِدَاتٍ عَلَى أَسْبَابٍ جُزْئِيَّة". اهـ.
تهذيب كتاب الموافقات، للشاطبي، للمؤلف (313).
(1)
البخاري (1447)، ومسلم (979).
(2)
حسَّنه الألباني في الإرواء.
(3)
البخاري (6789)، ومسلم (1684).
(4)
ومن المعلوم أنّ الدراهم التي تُجلب من الكفار تُوضع عليها صورهم، ولم يتحرج النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابُه منها، فهذا يدل على جواز الصلاة بها وهي في الجيب، ولا تمتنع الملائكة من دخول البيت التي فيها دراهم فيها صور، وذلك لاحتمالين أو أحدهما:
الأول: أنها من باب الضرورات.
ثانيًا: أنها غالبًا ما تكون مقطوعة، فتُرسم صورة الرأس فقط، أو مع الصدر، وهذه لا تقوم الحياة بها، فتكون كالتي لا روح فيها.
وَلَو قَالَ قَائِلٌ: إنَّ الصَّاعَ وَالْمُدَّ يُرْجَعُ فِيهِ إلَى عَادَاتِ النَّاسِ؛ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ صَاعَ عُمَرَ كَانَ أَكْبَرَ، وَبِهِ كَانَ يَأْخُذُ الْخَرَاجَ. لَكِنْ لَمْ أَعْلَمْ بِهَذَا قَائِلًا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إلَّا مَا قَالَهُ السَّلَفُ قَبْلَنَا؛ لِأَنَّهُم عَلِمُوا مُرَادَ الرَّسُولِ قَطْعًا، فَإِنْ كَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَو التَابِعِينَ مَن جَعَلَ الصَّاعَ كَيْرَ مُقَدَّرٍ بِالشَّرْعِ صَارَتْ مَسْأَلَةَ اجْتِهَادٍ
(1)
.
وَأَمَّا الدِّرْهَمُ وَالدّينَارُ فَقَد عَرَفْتَ تَنَازُعَ النَّاسِ فِيهِ وَاضْطِرَابَ أَكْثَرِهِمْ؛ حَيْثُ لَمْ يَعْتَمِدُوا عَلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ؛ بَل جَعَلُوا مِقْدَارَ مَا أَرَادَة الرَّسُولُ هُوَ مِقْدَار الدَّرَاهِمِ الَّتِي ضَرَبَهَا عَبْدُ الْمَلِكِ؛ لِكَوْنِهِ جَمَعَ الدَّرَاهِمَ الْكِبَارَ وَالصِّغَارَ وَالْمُتَوَسِّطَةَ، وَجَعَلَ مُعَدَّلَهَا سِتَّةَ دَوَانِيقَ.
فَيُقَالُ لَهُم: هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ؛ لَكِنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم لَمَّا خَاطَبَ أَصْحَابَهُ وَأُمَّتَهُ بِلَفْظِ الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ وَعِنْدَهُم أَوْزَان مُخْتَلِفَة الْمَقَادِيرِ كَمَا ذَكَرْتُمْ لَمْ يَحُدَّ لَهُم الدِّرْهَمَ بِالْقَدْرِ الْوَسَطِ كَمَا فَعَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ، بَل أَطْلَقَ لَفْظَ الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ، كَمَا أَطْلَقَ لَفْظَ الْقَمِيصِ وَالسَّرَاوِيل؛ وَالْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ وَالدَّارِ وَالْقَرْيَةِ وَالْمَدِينَةِ وَالْبَيْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن مَصْنوعَاتِ الْآدَمِيِّينَ، فَلَو كَانَ لِلْمُسَمَّى عِنْدَة حَدٌّ لَحَدَّه، مَعَ عِلْمِهِ بِاخْتِلَافِ الْمَقَادِيرِ، فَاصْطِلَاحُ النَّاسِ عَلَى مِقْدَارِ دِرْهَمٍ وَدِينَارٍ أَمْرٌ عَادِيٌّ.
وَكَذَلِكَ لَفْظُ "الْجِزْيَةِ" و"الدِّيَةِ". وَكَذَلِكَ لَفْظُ الضَّرِيبَةِ لِمَا يُضْرَبُ عَلَى النَّاسِ، فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كُلُّهَا لَيْسَ لَهَا حَدٌّ فِي اللُّغَةِ، وَلَكِنْ يَرْجِعُ إلَى عَادَاتِ النَّاسِ، فَإِنْ كَانَ الشَّرْعُ قَد حَدَّ لِبَعْضٍ حَدًّا كَانَ اتِّبَاعُهُ وَاجِبًا.
وَلهَذَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجِزْيَةِ: هَل هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِالشَّرْعِ أَو يُرْجَعُ فِيهَا إلَى اجْتِهَادِ الْأَئِمَّةِ؟
(1)
هذا هو منهج شيخ الإسلام وغيرِه من أهل العلم، لا يخرجون عن فهم السلف الصالح لنصوص الكتاب والسُّنَّة، ولا يُحدثون قولًا لم يقله السلف الصالح.
وَكَذَلِكَ الْخَرَاجُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مُقَدَّرَة بِالشَّرْع، وَأَمْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذٍ رضي الله عنه: أَنْ يَأْخُذَ مِن كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَو عِدْلَهُ معافريًّا
(1)
: قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ، لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ شَرْعًا عَامًّا لِكُلِّ مَن تُؤخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَأَمَّا الدِّيَةُ فَفِي الْعَمْدِ يُرْجَعُ فِيهَا إلَى رِضَى الْخَصْمَيْنِ، وَأَمَّا فِي الْخَطَأِ فَوَجَبَتْ عَيْنًا بِالشَّرْعِ فَلَا يُمْكِنُ الرّجُوعُ فِيهَا إلَى تَرَاضِيهِمْ؛ بَل قَد يُقَالُ: هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِالشَّرْعِ تَقْدِيرًا عَامًّا لِلأُمَّةِ كَتَقْدِيرِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَقَد تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَقْوَالِ النَّاسِ فِي جِنْسِهَا وَقَدْرِهَا، وَهَذَا أَقْرَبُ الْقَوْلَيْنِ، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ الْآثَارُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا جَعَلَهَا مِائَةً لِأَقْوَامٍ كَانَت أَمْوَالُهُم الْإِبِلَ؛ وَلهَذَا جَعَلَهَا عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ ذَهَبًا، وَعَلَى أَهْلِ الْفِضَّةِ فِضَّةً، وَعَلَى أَهْلِ الشَّاءِ شَاءً، وَعَلَى أَهْلِ الثيابِ ثِيَابًا، وَبِذَلِكَ مَضَتْ سِيرَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ. [19/ 235 - 259]
1863 -
لَفْظُ "الْأَمْرِ" إذَا أُطْلِقَ: يَتَنَاوَلُ النَّهْيَ، وَإِذَا قُيِّدَ بِالنَّهْي: كَانَ النَّهْيُ نَظِيرَ مَا تَقَدَّمَ؛ فَإِذَا قَالَ تَعَالَى عَن الْمَلَائِكَةِ: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم: 6] دَخَلَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا نَهَاهُم عَن شَيْءٍ اجْتَنبوهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ:{وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)} [النحل: 50] فَقَد قِيلَ: لَا يَتَعَدَّوْنَ مَا أُمِرُوا بِهِ. [7/ 174]
1864 -
إِذَا تَعَارَضَ عمومان أَحَدُهُمَا مَحْفُوظٌ وَالْاَخَرُ مَخْصُوصٌ وَجَبَ تَقْدِيمُ الْمَحْفُوظِ. [23/ 291]
1865 -
التَّرْكُ الرَّاتِبُ: سُنَّةٌ، كَمَا أَنَّ الْفِعْلَ الرَّاتِبَ: سُنَّةٌ، بِخِلَافِ مَا كَانَ تَرْكُهُ لِعَدَمِ مُقْتَضٍ، أَو فَوَاتِ شَرْطٍ، أَو وُجُودِ مَانِعٍ، وَحَدَثَ بَعْدَهُ مِنَ الْمُقْتَضَيَاتِ وَالشُّرُوطِ وَزَوَالِ الْمَانِعِ مَا دَلَّتِ الشَّرِيعَةُ عَلَى فِعْلِهِ حِينَئِذٍ؛ كَجَمْعِ الْقُرْآنِ فِي الْمُصْحَفِ، وَجَمْعِ النَّاسِ فِي التَّرَاوِيحِ عَلَى إمَامٍ وَاحِدٍ، وَتَعَلمِ الْعَرَبِيَّةِ، وَأَسْمَاءِ النَّقَلَةِ لِلْعِلْمِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الدِّينِ، بِحَيْثُ لَا
(1)
المِعافِري: هي ثياب يمنية منسوبة إلى قبيلة مَعافِر ببلاد اليمن. ينظر: النهاية، لابن الأثير، مادة:(برد).
تَتِمُّ الْوَاجِبَاتُ أَو الْمُسْتَحَبَّاتُ الشَّرْعِيَّةُ إلَّا بِهِ، وَإِنَّمَا تَرَكَهُ صلى الله عليه وسلم لِفَوَاتِ شَرْطِهِ أَو وُجُودِ مَانِعٍ.
فَأَمَّا مَا تَرَكَهُ مِن جِنْسِ الْعِبَادَاتِ مَعَ أَنَّهُ لَو كَانَ مَشْرُوعًا لَفَعَلَهُ أَو أَذِنَ فِيهِ وَلَفَعَلَهُ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ وَالصَّحَابَةُ: فَيَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّ فِعْلَهُ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ، وَيَمْتَنِعُ الْقِيَاسُ فِي مَثَلِهِ وَإِن جَازَ الْقِيَاسُ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مِثْلُ قِيَاسِ "صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالْكُسُوفِ" عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي أَنْ يُجْعَلَ لَهَا أَذَانًا وإِقَامَةً كَمَا فَعَلَهُ بَعْضُ المراونية فِي الْعِيدَيْنِ، وَقِيَاسِ حُجْرَتِهِ وَنَحْوِهَا مِن مَقَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى بَيْتِ اللهِ فِي الِاسْتِلَامِ وَالتَّقْبِيلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْيِسَةِ الَّتِي تُشْبِهُ قِيَاسَ الَّذِينَ حَكَى اللهُ عَنْهُم أَنَّهُم قَالُوا:{إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275]. [26/ 172]
1866 -
الْعُمُومُ الْمَخْصُوصُ بِالنَّصّ أَو الْإِجْمَاعِ: يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ مِنْهُ صُوَرٌ فِي مَعْنَاهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِن سَائِرِ الطَّوَائِفِ، ويجُوزُ أَيْضًا تَخْصِيصُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَبِالْقِيَاسِ الْقَوِيِّ. [29/ 86]
1867 -
كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَتَكَلَّمُ بِفُرُوقٍ لَا حَقِيقَةَ لَهَا وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ، أَو يُمْنَعُ تَأْثِيرُهُ فِي الْأَصْلِ.
وَذَلِكَ أَنَّهُ قَد يَذْكُرُ وَصْفًا يَجْمَغ بِهِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الْوَصْفُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا؛ بَل قَد يَكُونُ مَنْفِيًّا عَنْهُمَا أَو عَن أَحَدِهِمَا.
وَكَذَلِكَ الْمُفَرّقُ قَد يُفَرِّقُ بِوَصْفٍ يَدَّعِي انْتِقَاضَهُ بِإِحْدَى الصُّورَتَيْنِ، وَلَيْسَ هُوَ مُخْتَصَّا بِهَا؛ بَل هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُخْرَى؛ كَقَوْلِهِمْ: النَّهْيُ لِمَعْنًى فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَذَلِكَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ، أَو ذَاكَ لِمَعْنًى فِي وَصْفِهِ دُونَ أَصْلِهِ. [29/ 289 - 290]
1868 -
فَصْلٌ: فِي تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَّتَيْنِ، وَمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ مِن وُجُودِ مُقَدَّرٍ وَاحِدٍ بَيْنَ قَادِرينِ وَوُجُودِ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ مِن فَاعِلَيْنِ، فَنَقُولُ: النّزَاعُ وَإِن
كَانَ مَشْهُورًا فِي ذَلِكَ فَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ مِن أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ يُجَوِّزُ تَعْلِيلَ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِين يَمْنَعُ ذَلِكَ.
فَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ يَعُودُ إلَى نِزَاعٍ تَنَوُّعِيٍّ، وَنِزَاعٍ فِي الْعِبَارَةِ، وَلَيْسَ بِنِزَاعِ تَنَاقُضٍ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ النّزَاعُ فِي تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ. [20/ 167]
1869 -
الْمُتَكلِّمُ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِقَلْبِهِ مَعْنًى عَامٌّ؛ فَإِنَّ اللَّفْظَ لَا بُدَّ لَهُ مِن مَعْنًى.
وَمَن قَالَ: الْعُمُومُ مِن عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ دُونَ الْمَعَانِي: فَمَا أَرَادَ- وَاللهُ أَعْلَم- إلَّا الْمَعَانِيَ الْخَارِجَةَ عَنِ الذِّهْنِ؛ كَالْعَطَاءِ وَالْمَطَرِ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ مَرْجُوحٌ.
ثُمَّ إنَ ذَلِكَ الْحُكْمَ يَتَخَلَّفُ عَن بَعْضِ تِلْكَ الْاَحَادِ لِمُعَارِض؛ مِثْل أَنْ يَقُولَ: أَعْطِ لِكُلِّ فَقِيرٍ دِرْهَمًا، فَإِذَا قِيلَ لَهُ: فَإِنْ كَانَ كَافِرًا أَو عَدُوًّا؟ فَقَدَ يَنْهَى عَنِ الْإِعْطَاءِ. [20/ 188 - 189]
1870 -
مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ النبوِيَّةِ- دَارِ السُّنَّةِ وَدَارِ الْهِجْرَةِ وَدَارِ النُّصْرَةِ إذ فِيهَا سَنَّ اللهُ لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم سُنَنَ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعَهُ وَإِلَيْهَا هَاجَرَ الْمُهَاجِرُونَ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ وَبِهَا كَانَ الْأَنْصَارُ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ- مَذْهَبُهُم فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ أَصَحُّ مَذَاهِبِ أَهْلِ الْمَدَائِنِ الْإِسْلَامِيَّةِ شَرْقًا وَغَرْبًا؛ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ.
وَهَذِهِ الْأَعْصَارُ الثَّلَاثَة هِيَ أَعْصَارُ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْمُفَضَّلَةِ الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ خَيْرَكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُم قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، ويخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيُنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ، وَيظْهَرُ فِيهِم السِّمَنُ"
(1)
.
(1)
رواه مسلم (2535).
قَوْلُهُ: "يَشْهَدُونَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدُوا". الصَّحِيحُ أَنَّ الذَّمَّ لِمَن يَشْهَدُ بِالْبَاطِلِ، كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ ألْفَاظِ الْحَدِيثِ:"ثُمَّ يَفْشُو فِيهِمْ الْكذِبُ، حَتَّى يَشْهَدَ الرَّجُلُ ولَا يُسْتَشْهَدُ"؛ وَلهَذَا قَرَنَ ذَلِكَ بِالْخِيَانَةِ وَبِتَرْكِ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ، وَهَذِهِ الْخِصَالُ الثَّلَاثَة هِيَ آيةُ الْمُنَافِقِ.
وَفِي الْقُرُونِ الَّتِي أَثْنَى عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَصَحَّ مَذَاهِبِ أَهْلِ الْمَدَائِنِ.
وَلهَذَا لَمْ يَذْهَبْ أَحَدٌ مِن عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ إلَى أَنَّ إجْمَاعَ أَهْلِ مَدِينَةٍ مِنَ الْمَدَائِنِ حُجَّةٌ يَجِبُ اتَّبَاعُهَا غَيْرُ الْمَدِينَةِ لَا فِي تِلْكَ الْأَعْصَارِ وَلَا فِيمَا بَعْدَهَا.
وَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِي إجْمَاعِهِمْ فِي تِلْكَ الْأَعْصَارِ الْمُفَضَّلَةِ، وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَقَد اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَ إجْمَاعَ أَهْلِهَا لَيْسَ بِحُجَّة؛ إذ كَانَ حِينَئِذٍ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْعُلَمَاءِ مَا لَمْ يَكُن فِيهَا.
فَأَمَّا الأعْصَارُ الثَّلَاثَةُ الْمُفَضَّلَةُ فَلَمْ يَكُن فِيهَا بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ بِدْعَة ظَاهِرَةٌ أَلْبَتَّةَ، وَلَا خَرَجَ مِنْهَا بِدْعَةٌ فِي أُصُولِ الذينِ أَلْبَتَّةَ كَمَا خَرَجَ مِن سَائِرِ الْأَمْصَارِ.
وَلَمْ يَزَلِ الْعِلْمُ وَالْإِيمَانُ بِهَا ظَاهِرًا إلَى زَمَنِ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَهُم أَهْلُ الْقَرْنِ الرَّابِعِ؛ حَيْثُ أَخَذَ ذَلِكَ الْقَرْنُ عَن مَالِكٍ وَأَهْلِ طَبَقَتِهِ كَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِي، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَحَمَّادِ بْنِ زيدٍ، وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة، وَأَمْثَالِهِمْ.
وَهَؤُلَاءِ أَخَذُوا عَن طَوَائِفَ مِنَ التَّابِعِينَ، وَأُولَئِكَ أَخَذُوا عَمَّن أَدْرَكُوا مِنَ الصَّحَابَةِ.
وَالْكَلَامُ فِي إجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي تِلْكَ الْأَعْصَارِ.
وَالتَّحْقِيق فِي "مَسْأَلَةِ إجْمَاعِ أَهْلِ "الْمَدِينَةِ" أَنَّ مِنْهُ مَا هوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْهُ مَا هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْهُ مَا لَا يَقُولُ بِهِ إلَّا بَعْضُهُمْ.
وَذَلِكَ أَنَّ إجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاتِبَ:
الْأُولَى: مَا يَجْرِي مَجْرَى النَّقْلِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ مِثْلُ نَقْلِهِمْ لِمِقْدَارِ الصَّاعِ وَالْمُدّ، وَكَتَرْكِ صَدَقَةِ الْخَضْرَاوَاتِ وَالْأَحْبَاسِ: فَهَذَا مِمَّا هُوَ حُجَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.
الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَة: الْعَمَلُ الْقَدِيمُ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ بْنِ عفان، فَهَذَا حُجَّة فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَكَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد: أَنَّ مَا سَنَّهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ فَهُوَ حُجَّة يَجِبُ اتِّبَاعُهَا، وَقَالَ أَحْمَد: كُلُّ بَيْعَةٍ كَانَت فِي الْمَدِينَةِ فَهِيَ خِلَافَةُ نُبُوَّةٍ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَيْعَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَانَت بِالْمَدِينَةِ، وَكَذَلِكَ بَيْعَةُ عَلِيٍّ كانت بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا وَبَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُعْقَد بِالْمَدِينَةِ بَيْعَةٌ.
وَقَد ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَدِيثِ العرباض بْنِ سَارِيةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِن بَعْدِي"
(1)
.
الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: إذَا تَعَارَضَ فِي الْمَسْأَلَةِ دَلِيلَانِ؛ كَحَدِيثَيْنِ وَقِيَاسَيْنِ جُهِلَ أَيُّهُمَا أَرْجَحُ، وَأَحَدُهُمَا يَعْمَلُ بِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، فَفِيهِ نِزَاعٌ:
أ- فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُرَجَّحُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
ب- وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُرَجَّحُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
وَلأَصْحَابِ أَحْمَد وَجْهَانِ.
ومَذَاهِبُ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ تُوَافِقُ مَذْهَبَ مَالِكٍ فِي التَّرْجِيحِ لِأَقْوَالِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: الْعَمَلُ الْمُتَأخّرُ بِالْمَدِينَةِ، فَهَذَا هَل هُوَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّة يَجِبُ اتِّبَاعُهُ أَمْ لَا؟
(1)
رواه الإمام أحمد (17142)، وابن ماجه (42)، والترمذي (2676 بم وأبو داود (4607)، وصحَّحه الترمذي والألباني في صفة الفتوى (55).
فَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ النَّاسِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ مِن أَصْحَابِ مَالِكٍ.
قُلْت: وَلَمْ أَرَ فِي كَلَامِ مَالِكٍ مَا يُوجِبُ جَعْلَ هَذَا حُجَّةً وَهُوَ فِي الْمُوَطَّأِ إنَّمَا يَذْكُرُ الْأَصْلَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ.
وَلَو كَانَ مَالِكٌ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْعَمَلَ الْمُتَأَخِّرَ حُجَّة يَجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ اتِّبَاعُهَا وَإِن خَالَفَتْ النُّصُوصَ: لَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُلْزِمَ النَّاسَ بذَلِكَ حَدَّ الْإِمْكَانِ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُلْزِمَهُم اتِّبَاعَ الْحَدِيثِ وَالسّنَّةِ الثَّابِتَةِ الَّتِي لَا تَعَارُضَ فِيهَا وَبِالْإِجْمَاعِ.
وَقَد عَرَضَ عَلَيْهِ الرَّشِيدُ أَو غَيْرُهُ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى مُوَطَّئِهِ فَامْتَنَعَ مِن ذَلِكَ وَقَالَ: إنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفَرَّقُوا فِي الْأَمْصَارِ، وَإِنَّمَا جَمَعْت عِلْمَ أَهْلِ بَلَدِي، أَو كَمَا قَالَ.
وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ أَصَحُّ أَهْلِ الْمُدُنِ رِوَايَةً وَرَأْيًا، وَأَمَّا حَدِيثُهُم فَأَصَحُّ الْأَحَادِيثِ، وَقَد اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بالحديثِ عَلَى أَنَّ أَصَحَّ الْأَحَادِيثِ أَحَادِيثُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ أَحَادِيثُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَأَمَّا أَحَادِيثُ أَهْلِ الشَّامِ فَهِيَ دُونَ ذَلِكَ.
وَأَمَّا أَهْلُ الْكُوفَةِ فَلَمْ يَكُنِ الْكذِبُ فِي أَهْلِ بَلَدٍ أَكْثَرَ مِنْهُ فِيهِمْ، فَفِي زَمَنِ التَّابِعِينَ كَانَ بِهَا خَلْق كَثِيرُونَ مِنْهُم مَعْرُوفُونَ بِالْكَذِبِ، لَا سِيَّمَا الشِّيعَةَ؛ فَإِنَّهُم أَكْثَرُ الطَّوَائِفِ كَذِبًا بِاتفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
أَمَّا أَحْوَالُ الْحِجَازِ فَلَمْ يَكُن بَعْدَ عَصْرِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ مِن عُلَمَاءِ الْحِجَازِ مَن يُفَضَّلُ عَلَى عُلَمَاءِ الْمَشْرِقِ وَالْعِرَاقِ وَالْمَغْرِبِ.
وَلَسْنَا نُنْكِرُ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَن أَنْكَرَ عَلَى مَالِكٍ مُخَالَفَتَهُ أَوَّلًا لِأَحَادِيثِهِمْ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، كَمَا يُذْكَر عَن عَبْدِ الْعَزِيزِ الدراوردي أَنَّهُ قَالَ لَهُ فِي مَسْأَلَةِ تَقْدِيرِ الْمَهْرِ بِنِصَابِ السَّرِقَةِ: تعَرَّقْتَ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ؟ أَيْ: صِرْت فِيهَا إلَى قَوْلِ أَهْلِ
الْعِرَاقِ الَّذِينَ يُقَدِّرُونَ أَقَلَّ الْمَهْرِ بِنِصَابِ السَّرِقَةِ، لَكِنَّ النِّصَابَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَأَمَّا مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فَالنِّصَابُ عِنْدَهُم ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، أَو رُبُعُ دِينَارٍ، كَمَا جَاءَت بذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ.
فَيُقَالُ: أَوَّلًا: إنَّ مِثْل هَذِهِ الْحِكَايَةِ تَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ أَقَاوِيلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَإِنَهُم كَانُوا يَكْرَهُونَ لِلرَّجُلِ أَنْ يُوَافِقَهُم وَهَذَا مَشْهُورٌ عِنْدَهُمْ، يَعِيبُونَ الرَّجُلَ بِذَلِكَ.
وَأَمَّا ثَانِيًا: فَمِثْلُ هَذَا فِي قَوْلِ مَالِكٍ قَلِيل جِدًا، وَمَا مِن عَالِمٍ إلَّا وَلَهُ مَا يُرَدُّ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَأَكْثَرُهُ نَجِدُ مَالِكًا قَد قَالَ بِهِ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ، وَإِنَّمَا تَرَكَهُ طَائِفَةٌ مِن أَصْحَابِهِ كَمَسْألَةِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ.
وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ رَوَوْا عَن مَالِكٍ الرَّفْعَ مُوَافِقًا لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ، لَكِنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ وَنَحْوَهُ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ هَمُ الَّذِينَ قَالُوا بالرّوَايَةِ الْأُولَى، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُدَوَّنَةَ ابْنِ الْقَاسِمِ أَصْلُهَا مَسَائِلُ أَسَدِ بْنِ الْفُرَاتِ الَّتِي فَرَّعَهَا أَهْلُ الْعِرَاقِ، ثُمَّ سَأَلَ عَنْهَا أَسَدٌ ابْنَ الْقَاسِمِ، فَأَجَابَة بِالنَّقْلِ عَن مَالِكٍ، وَتَارَةً بِالْقِيَاسِ عَلَى قَوْلِهِ، ثُمَّ أَصْلُهَا فِي رِوَايَةِ سحنون، فَلِهَذَا يَقَعُ فِي كَلَامِ ابْنِ الْقَاسِمِ طَائِفَةٌ مِنَ الْمَيْلِ إلَى أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِرَاقِ وإِن لَمْ يَكُن ذَلِكَ من أُصُولِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
وَيُمْكِنُ الْمُتَّبعُ لِمَذْهَبِهِ أَنْ يًتْبَعَ السّنَّةَ فِي عَامَّةِ الْأُمُورِ؛ إذ قَلَّ مِن سُنَّةٍ إلَّا وَلَهُ قَوْلٌ يُوَافِقُهَا، بِخِلَافِ كَثِيرٍ مِن مَذْهَبِ أَهْلِ الْكُوفَةِ؛ فَإِنَّهُم كَثِيرًا مَا يُخَالِفُونَ السُّنَّةَ وإِن لَمْ يَتَعَمَّدُوا ذَلِكَ.
ثُمَّ مَن تَدَبَّرَ أُصُولَ الْإِسْلَامِ وَقَوَاعِدَ الشَرِيعَةِ وَجَدَ أصُولَ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ أَصَحَّ الْأصُولِ وَالْقَوَاعِدِ.
لَكِنَّ جُمْلَةَ مَذَاهِبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ رَاجِحَةٌ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى مَذَاهِبِ أَهْلِ الْمَغْرِبِ وَالْمَشْرِقِ وَذَلِكَ يَظْهَرُ بِقَوَاعِدَ جَامِعَةٍ، مِنْهَا:
قَاعِدَةُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّجَاسَاتِ فِي الْمِيَاهِ فَإِنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللّهُ تَعَالَى أَحَلَّ صلنا الطَّيباتِ وَحَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ، وَالْخَبَائِثُ نَوْعَانِ:
أ- مَا خُبْثُهُ لِعَيْنِهِ لِمَعْنًى قَامَ بِهِ؛ كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ.
ب- وَمَا خبْثُهُ لِكسْبِهِ؛ كَالْمَأْخُوذِ ظُلْمًا، أَو بِعَقْدٍ مُحَرَّمٍ كَالرِّبَا وَالْمَيْسِرِ.
فَأَمّا الْأوَّلُ: فَكُلّ مَا حَرُمَ مُلَابَسَتُهُ كَالنَّجَاسَاتِ حَرُمَ أَكْلُهُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا حَرُمَ أَكْلُهُ حَرُمَتْ مُلَابَسَتُهُ كَالسُّمُومِ، وَاللهُ قَد حَرَّمَ عَلَيْنَا أَشْيَاءَ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ مِنَ الْمَلَابِسِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي الْأَشْرِبَةِ أَشَدُّ مِن مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ؛ فَإِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ وَسَائِرَ الْأَمْصَارِ وَفُقَهَاءَ الْحَدِيثِ يُحَرِّمُونَ كُلَّ مُسْكِرٍ، وَإِنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَحَرَامٌ، وَإِنَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَائم. وَالْكُوفِيُّونَ لَا خَمْرَ عِنْدَهُم إلَّا مَا اشْتَدَّ مِن عَصِيرِ الْعِنَبِ، فَإِنْ طُبخَ قَبْلَ الِاشْتِدَادِ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ حَلَّ، وَنَبِيذُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ مُحَرَّمٌ إذَا كَانَ مُسْكِرًا نَيِّئًا، فَإِنْ طُبِخَ أَدْنَى طَبْخٍ حَلَّ وَإِن أَسْكَرَ، وَسَائِرُ الْأَنْبِذَةِ تَحِلُّ وَإِن أَسْكَرَتْ، لَكِنْ يُحَرِّمُونَ الْمُسْكِرَ مِنْهَا.
وَأَمَّا الْأَطْعِمَةُ فَأَهْلُ الْكُوفَةِ أَشَدُّ فِيهَا مِن أَهْلِ الْمَدِينَةِ؛ فَإِنَّهُم مَعَ تَحْرِيمِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ، وَتَحْرِيمِ اللَّحْم حَتَّى يُحَرِّمُونَ الضَّبَّ وَالضَّبُعَ، وَالْخَيْلُ تَحْرُمُ عِنْدَهُم فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَمَالِكٌ يُحَرِّمُ تَحْرِيمًا جَازِمًا مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ، فَذَوَاتُ الأنْيَابِ إمَّا أَنْ يُحَرِّمَهَا تَحْرِيمًا دُونَ ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ يَكْرَهَهَا فِي الْمَشْهُورِ، وَرُوِيَ عَنْهُ كَرَاهَةُ ذَوَاتِ الْمَخَالِبِ، وَالطَّيْرُ لَا يُحَرِّمُ مِنْهَا شَيْئًا وَلَا يَكْرَهُهُ، وَإِن كَانَ التَّحْرِيمُ عَلَى مَرَاتِبَ، وَالْخَيْلُ يَكْرَهُهَا، وَرُوَيتِ الْإِبَاحَةُ وَالتَّحْرِيمُ أَيْضًا.
وَمَن تَدَبَّرَ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ فِي هَذَا الْبَاب عَلِمَ أَنَّ أهْلَ الْمَدِينَةِ أَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ، فَإِنَّ بَابَ الْأَشْرِبَةِ قَد ثَبَتَ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلَّمَ مِنَ الْأَحَادِيثِ مَا يَعْلَمُ مَن عَلِمَهَا أَنَّهَا مِن أَبْلَغِ الْمُتَوَاتِرَاتِ. وَأَمَّا الْأَطْعِمَةُ فَإِنَّهُ وإِن
قِيلَ: إنَّ مَالِكًا خَالَفَ أَحَادِيثَ صَحِيحَةً فِي التَّحْرِيمِ. فَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ.
ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الْأحَادِيثَ قَلِيلَةٌ جِدُّا بِالنِّسْبَةِ إلَى أَحَادِيثِ الْأشرِبَةِ.
ثُمَّ إنَّ مِن أَعْظَمِ الْمَسَائِلِ مَسْأَلَةَ اخْتِلَاطِ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ لِعَيْنِهِ؛ كَاخْتِلَاطِ النًجَاسَاتِ بِالْمَاءِ وَسَائِرِ الْمَائِعَاتِ، فَأَهْلُ الْكُوفَةِ يُحَرِّمُونَ كُلَّ مَاءٍ أَو مَائِعٍ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ قَلِيلًا كَانَ أَو كَثِيرًا.
وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ بِعَكْسِ ذَلِكَ، فَلَا يَنْجُسُ الْمَاءُ عِنْدَهُمْ إلَّا إذَا تَغَيَّرَ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا أَشْبَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَإِنَّ اسْمَ الْمَاءِ بَاقٍ. وَالِاسْمُ الَّذِي بِهِ أُبِيحَ قَبْلَ الْوُقُوعِ بَاقٍ. وَقَد دَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بِئْرِ بضاعة
(1)
وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَنَجَّسُ، وَلَمْ يُعَارِضْ ذَلِكَ إلا حَدِيثٌ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ فِيهِ، وَهُوَ حَدِيثُ النَّهْيِ عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ؛ فَإِنَّهُ قَد يَخُصُّ الْبَوْلَ بِالْحُكْمِ.
وَخَصَّ بَعْضُهُم أَنْ يُبَالَ فِيهِ دُونَ انْ يَجْرِيَ إلَيْهِ الْبَوْلُ.
وَقَد يَخُصُّ ذَلِكَ بِالْمَاءِ الْقَلِيلِ.
وَقَد يُقَالُ: النَّهْيُ عَنِ الْبَوْلِ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّنْجِيسَ؛ بَل قَد يُنْهَى عَنْهُ لِأنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى التَّنْجِيسِ إذَا كَثُرَ.
يُقَرِّرُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا تَنَازُعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ
(1)
وهو ما رواه أبو داود، عَن أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُقَالُ لَهُ: إِنَّهُ يُسْتَقَى لَكَ مِن بِئْرِ بُضَاعَةَ، وَهِيَ بِئْرْ يُلْقَى فِيهَا لُحُومُ الْكِلَابِ، وَالْمَحَايِضُ وَعَذِرُ النَّاسِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ الْمَاء طَهُورٌ لَا يُنَجّسُهُ شَيْءٌ".
قَالَ أبُو دَاوُدَ: وسَمِعت قُتَيْبَةَ بْنَ سَعِيدٍ، قَالَ: سَأَلْتُ قَيِّمَ بِئْرِ بُضاعَةَ عَن عُمْقِهَا؟ قَالَ: أَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِيهَا الْمَاءُ إِلَى الْعَانَةِ، قُلْتُ: فَإِذَا نَقَصَ، قَالَ: دُونَ الْعَوْرَةِ.
قَالَ أبُو دَاوُدَ: "وَقَدَّرْتُ أنَا بِئْرَ بُضَاعَةَ بِرِدَائِي مَدَدْتُهُ عَلَيْهَا، ثُمَّ ذَرَعْتُهُ فَإِذَا عَرْضُهَا سِتَّةُ أَذْرُعٍ، وَسَأَلْتُ الَّذِي فَتَحَ لِي بَابَ الْبُسْتَانِ فَأَدْخَلَنِي إِلَيْهِ: هَل غُيِّرَ بِنَاؤُهَا عَمَّا كَانَت عَلَيْهِ؟ قَالَ: لَا، وَرَأَيْتُ فِيهَا مَاءً مُتَغَيِّرَ اللَّوْنِ".
لَا يَعُمُّ جَمِيعَ الْمِيَاهِ؛ بَل مَاءُ الْبَحْرِ مُسْتَثْنًى بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاع، وَكَذَلِكَ الْمَصَانِعُ الْكِبَارُ الَّتِي لَا يُمْكِنُ نَزْحُهَا وَلَا يَتَحَرَّكُ أَحَدُ طَرَفَيْهَا بِتَحَرُّكِ الطَّرَفِ الْآخَرِ لَا يُنَجِّسُهُ الْبَوْلُ بِالِاتِّفَاقِ.
وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الصَّرِيحُ لَا يُعَارِضُهُ حَدِيث فِي هَذَا الإِجْمَالِ وَالِاحْتِمَالِ
(1)
.
وَأمّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ وَهُوَ الْمُحَرَّمُ لِكَسْبِهِ؛ كَالْمَأْخُوذِ ظُلْمًا بِاُّنْوَاعِ الْغَصْبِ مِنَ السَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ وَالْقَهْرِ، وَكَالْمَأْخوذِ بِالرِّبَا وَالْمَيْسِرِ، وَكالْمَأخُوذِ عِوَضًا عَن عَيْنٍ أَو نَفْعٍ مُحَرَّمٍ؛ كَثَمَنِ الْخَمْرِ وَالدَّمِ، وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ وَمَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ: فَمَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي ذَلِكَ مِن أَعْدَلِ الْمَذَاهِبِ، فَإِنَّ تَحْرِيمَ الظُّلْمِ وَمَا يَسْتَلْزِمُ الظُّلْمَ أَشَدُّ مِن تَحْرِيمِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ.
وَحُرِّمَ الرِّبَا لأنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِلظُّلْمِ، فَإِنَّهُ أَخْذُ فَضْلٍ بِلَا مُقَابِلٍ لَهُ، وَتَحْرِيمُ الرِّبَا أَشَدُّ مِن تَحْرِيمِ الْمَيْسِرِ الَّذِي هُوَ الْقِمَارُ؛ لِأنَّ الْمُرَابِيَ قَد أَخَذَ فَضْلًا مُحَقَّقًا مِن مُحْتَاجٍ، وَأَمَّا الْمُقَامِرُ فَقَد يَحْصُلُ لَهُ فَضْل وَقَد لَا يَحْصُلُ لَهُ، وَقَد يَقْمُرُ هَذَا هَذَا، وَقَد يَكُونُ بِالْعَكْسِ.
وأَهْلُ الْمَدِينَةِ جَعَلُوا الْمَرْجِعَ فِي الْعُقُودِ إلَى عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَتِهِمْ، فَمَا عَدَّهُ النَّاسُ بَيْعًا فَهُوَ بَيْعٌ، وَمَا عَدُّوهُ إجَارَةً فَهُوَ إجَارَةٌ، وَمَا عَدُّوهُ هِبَةً فَهُوَ هِبَةٌ، وَهَذَا أَشْبَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَعْدَلُ.
فَإِنَّ الْأسْمَاءَ:
أ- مِنْهَا مَا لَهُ حَدٌّ فِي اللُّغَةِ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ.
ب- وَمِنْهَا مَا لَهُ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ.
(1)
وهذا قاعدةٌ عظيمة كبيرة، يجب استصحابُها في جميع أصول الدين وفروعِه.
ج- وَمِنْهَا مَا لَيْسَ لَهُ حَدٌّ لَا فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الشَّرْعِ؛ بَل يَرْجِعُ إلَى الْعُرْفِ كَالْقَبْضِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ اسْمَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ فِي هَذَا الْبَابِ لَمْ يَحُدَّهَا الشَّارعُ وَلَا لَهَا حَدّ فِي اللُّغَةِ؛ بَل يَتَنَوَّعُ ذَلِكَ بِحَسَبِ عَادَاتِ النَّاسِ وَعُرْفِهِمْ، فَمَا عَدُّوهُ بَيْعًا فَهُوَ بَيْعٌ وَمَا عَدّوهُ هِبَةً فَهوَ هِبَةٌ وَمَا عَدُّوهُ إجَارَةً فَهوَ إجَارَةٌ.
وَقَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّهُ أَمَرَ بِوَضْع الْجَوَائِحِ وَقَالَ: "إنْ بِعْت مِن أَخِيك ثَمَرَةً فَأَصَابَتْهَا جَائِحَة فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَأْخُذَ مِن مَالِ أَخِيك شَيئًا بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ؟ "
(1)
.
وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي هَذَا الْبَابِ أَشْبَهُ بِالسُّنَّةِ وَالْعَدْلِ مِن مَذْهَبِ مَن خَالَفَهُم مِن أَهْلِ الْكُوفَةِ وَغَيْرِهِمْ.
فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: الْعَقْدُ مُوجِبٌ الْقَبْضَ عَقِبَهُ، يُقَالُ لَهُ: مُوجَبُ الْعَقْدِ:
أ- إمَّا أَنْ يُتَلَقَّى مِنَ الشَّارعِ.
ب- أَو مِن قَصْدِ الْعَاقِدِ.
وَالشَّارعُ لَيْسَ فِي كَلَامِهِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا يُوجِبُ مُوجَبَ الْعَقْدِ مُطْلَقًا، وَأَمَّا الْمُتَعَاقِدَانِ فَهُمَا تَحْتَ مَا تَرَاضَيَا بِهِ ويعْقِدَانِ الْعَقْدَ عَلَيْهِ:
أ- فَتَارَة يَعْمِدَانِ عَلَى أَنْ يَتَقَابَضَا عَقِبَهُ.
ب- وَتَارَةً عَلَى أَنْ يَتَأَخَّرَ الْقَبْضُ كَمَا فِى الثَّمَرِ؛ فَإِنَّ الْعَقْدَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي الْحُلُولَ.
ج- وَلَهُمَا تَأْجِيلُهُ إذَا كَانَ لَهُمَا فِي التَّأْجِيلِ مَصْلَحَةٌ، فَكَذَلِكَ الأعْيَانُ.
فَإِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ الْمَبِيعَةُ فِيهَا مَنْفَعَةٌ لِلْبَائِعِ أَو غَيْرِهِ كَالشَّجَرِ الَّذِي ثَمَرُهُ ظَاهِرٌ، وَكَالْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ، وَكَالْعَيْنِ الَّتِي اسْتَثْنَى الْبَائِعُ نَفْعَهَا مُدَّةً لَمْ يَكُن مُوجَبُ
(1)
مسلم (1553).
هَذَا الْعَقْدِ أَنْ يَقْبض
(1)
الْمُشْتَرِي مَا لَيْسَ لَهُ، وَمَا لَمْ يَمْلِكْهُ إذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ بَعْضَ الْعَيْنِ دُونَ بَعْضٍ: كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا دُونَ مَنْفَعَتِهَا.
ثُمَّ سَوَاءٌ قِيلَ: إنَّ الْمُشْتَرِيَ يَقْبِضُ الْعَيْنَ أَو قِيلَ: لَا يَقْبِضُهَا بِحَالٍ: لَا يَضرُّ ذَلِكَ؛ فإِنَّ الْقَبْضَ فِي الْبَيْعِ لَيْسَ هُوَ مِن تَمَامِ الْعَقْدِ كَمَا هُوَ فِي الرَّهْنِ؛ بَل الْمِلْكُ يَحْصُلُ قَبْلَ الْقَبْضِ لِلْمُشْتَرى تَابِعًا، وَيَكُونُ نَمَاءُ الْمَبِيعِ لَهُ بِلَا نِزَاعٍ، وَإِن كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَلَكِنَّ أَثَرَ الْقَبْضِ إمَّا فِي الضَّمَانِ وَإِمَّا فِي جَوَازِ التَّصَرُّفِ.
وَمَن جَعَلَ التَّصَرُّفَ تَابِعًا لِلضَّمَانِ فَقَد غَلِطَ؛ فَإِنَّهُم مُتَّفِقونَ عَلَى أَنَّ مَنَافِعَ الْإِجَارَةِ إذَا تَلِفَتْ قَبْلَ تَمَكُّنِ الْمُسْتَأجِرِ مِنَ اسْتِيفَائِهَا كَانَت مِن ضَمَانِ الْمُؤَجِّرِ، وَمَعَ هَذَا لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ ئؤَجِّرَهَا بِمِثْل الْأُجْرَةِ، وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي إيجَارِهَا بِأَكْثَرَ مِنَ الْأُجْرَةِ لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ رِبْحًا فِيمَا لَا يُضْمَنُ، وَالصَّحِيحُ جَوَازُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، فَإِنَّهَا إذَا تَلِفَتْ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنَ الِاسْتِيفَاءِ كَانَت مِن ضَمَانِهِ، وَلَكِنْ إذَا تَلِفَتْ قَبْلَ تَمَكُّنِهِ مِنَ الِاسْتِيفَاءِ لَمْ يَكُن مِن ضمَانِهِ.
وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ؛ فَقَد ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نَبْتَاعُ الطَّعَامَ جُزَافًا
(2)
عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَنَهَى أَنْ نَبِيعَهُ حَتَّى نَنْقُلَهُ إلَى رِحَالِنَا.
(1)
في الأصل: (يَقْتَضِيَ)، وهي كذلك في بحثه المفرد باسم: رِسَالَةٌ فِي صِحَّةِ مَذْهَبِ أهْلِ الْمَدِينَةِ، ولعل الصواب المثبت، وهو الذي يصح معه المعنى.
(2)
بيْعُ الْجُزافِ اصْطِلاحًا: هُو بَيْعُ ما يُكال، أو يُوزنُ، أو يُعَدُّ، جُمْلة بلا كَيْلٍ ولا وَزْنِ، ولا عَدٍّ.
والْأصْل أَنَّ مِن شَرْطِ صِحَّةِ عَقْدِ الْبَيْعِ أنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَعْلُومًا، وَلَكِنْ لَا يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِهِ مِن كُل وَجْهٍ، بَل يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِعَيْنِ الْمَبِيعِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ، وَفِي بَيْعِ الْجُزَافِ يَحْصُل الْعِلْمُ بِالْقَدْرِ، كَبَيْعِ صُبْرَةِ طَعَامٍ، دُونَ مَعْرِفَةِ كَيْلِهَا أَو وَزْنِهَا، وَبَيْعِ قَطِيعِ الْمَاشِيَةِ دُونَ مَعْرِفَةِ عَدَدِهَا، وَبَيْعِ الْأرْضِ دُونَ مَعْرِفَةِ مِسَاحَتِهَا، وَبَيْعِ الثوْبِ دُونَ مَعْرِفَةِ طُولِهِ.
وَبَيْعُ الْجُزَافِ اسْتُثْنِيَ مِنَ الْأصْل لِحَاجَةٍ النَاسِ وَاضْطِرَارِهِمْ إِلَيْهِ، بمَا يَقْتَضِي التَّسْهِيل فِي التَّعَامُل.
والدليل على جوازه حديث ابن عمر هذا.
وَابْنُ عُمَرَ هُوَ الْقَائِلُ: "مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ مَا أدْرَكَتْهُ الصَّفْقَةُ حَيًّا مَجْمُوعًا فَهُوَ مِن ضَمَانِ الْمُشْتَرِي".
فَتَبَيَّنَ أَنَّ مِثْل هَذَا الطَّعَامِ مَضْمُون عَلَى الْمُشْتَرِي، وَلَا يَبِيعُهُ حَتَّى يَنْقلَهُ، وَغَلَّةُ الثِّمَارِ وَالْمَنَافِعُ لَهُ أَنْ يَتَصَرُّفَ فِيهَا، وَلَو تَلِفَتْ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِن قَبْضِهَا كَانَت مِن ضَمَانِ الْمُؤَجِّرِ وَالْبَائِعِ، وَالْمَنَافِعُ لَا يُمْكِنُ التَّصَرُّفُ فِيهَا إلَّا بَعْدَ اسْتِيفَائِهَا.
وَكَذَلِكَ الثِّمَارُ لَا تُبَاعُ عَلَى الْأشْجَارِ بَعْدَ الْجِذَاذِ، بِخِلَافِ الطَّعَامِ الْمَنْقُولِ.
وَالسُّنَّةُ فِي هَذَا الْبَابِ فَرَّقَتْ بَيْنَ الْقَادِرِ عَلَى الْقَبْضِ وَغَيْرِ الْقَادِرِ فِي الضَّمَانِ وَالتَّصَرفِ
(1)
، فَأَهْلُ الْمَدِينَةِ أَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ فِي هَذَا الْحُكْمِ كُلِّهِ، وَقَوْلُهُم أعْدَلُ مِن قَوْلِ مَن يُخَالِفُ السُّنَّةَ.
ثم إنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ، وَهُوَ: اشْتِرَاءُ الثَّمَرِ وَالْحَبِّ بِخَرْص.
وَكَمَا نَهَى عَن بَيْعِ الصُّبْرَةِ مِنَ الطَّعَامِ لَا يُعْلَمُ كَيْلُهَا بِالطَّعَامِ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالتَّسَاوِي فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّسَاوِي كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ، وَالْخَرْصُ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُ المكال، إنَّمَا هُوَ حَزْز وَحَدْسٌ، وَهَذَا مُتَّفَق عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ.
ثُمَّ إنَّهُ قَد ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ أَرْخَصَ فِي الْعَرَايَا يَبْتَاعُهَا أَهْلُهَا بِخَرْصِهَا تَمْرًا، فَيَجُوزُ ابْتِيَاعُ الرِّبَوِيِّ هُنَا بِخَرْصِهِ، وَأَقَامَ الْخَرْصَ عِنْدَ الْحَاجَةِ مَقَامَ الْكَيْلِ،
(1)
قال ابن عثيمين رحمه الله: أما عند شيخ الإسلام رحمه الله فكل مبيع لا يجوز التصرف فيه قبل قبضه إلا إذا باعه تولية أو باعه على البائع، كما أنه يخص التصرف بالبيع، ونحن نقول: نلحق بالبيع ما كان بمعناه، وأما بالنسبة للضمان فيقول: إن المدار في الضمان على التمكن من القبض، فإن تمكن المشتري من القبض فالضمان عليه، وإن لم يتمكن فالضمان على البائع، ويوافق المذهب فيما إذا منعه البائع فإن الضمان على البائع، ويوافق المذهب أيضًا فيما إذا بذل البائع التسليم فأبى المشتري -فيما يضمنه البائع- فالضمان على المشتري. الشرح الممتع (8/ 385).
وَهَذَا مِن تَمَامِ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ، كَمَا أَنَّهُ فِي الْعِلْم بِالزَّكَاةِ وَفِي الْمُقَاسَمَةِ أَقَامَ الْخَرْصَ مَقَامَ الْكَيْلِ، فَكَانَ يَخْرُصُ الثِّمَارَ عَلَى أَهْلِهَا يُحْصِي الزَّكَاةَ، وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ يُقَاسِمُ أَهْلَ خَيْبَرَ خَرْصًا بِأَمْرِ النبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَمَعْلُومٌ أنَّهُ إذَا أَمْكَنَ التَّقْدِيرُ بِالْكَيْلِ فُعِلَ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ كَانَ الْخَرْصُ قَائِمًا مَقَامَهُ لِلْحَاجَةِ؛ كَسَائِرِ الْأَبْدَالِ فِي الْمَعْلُومِ وَالْعَلَامَةِ؛ فَإِن الْقِيَاسَ يَقُومُ مَقَامَ النَّصِّ عِنْدَ عَدَمِهِ، وَالتَّقْوِيمَ يَقُومُ مَقَامَ الْمِثْل وَعَدَمِ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمِثْل وَالثَّمَنِ الْمُسَمَّى.
وَمِن هَذَا الْبَابِ: الْقَافَةُ، الَّتِي هِيَ اسْتِدْلَالٌ بِالشَّبَهِ عَلَى النسَبِ إذَا تَعَذَّرَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْقَرَائِنِ؛ إذِ الْوَلَدُ يُشْبِهُ وَالِدَهُ فِي الْخَرْصِ، وَالْقَافَةُ وَالتَّقْوِيمُ أَبْدَالٌ فِي الْعِلْمِ؛ كَالْقِيَاسِ مَعَ النَّصِّ.
وَإِذَا أَتْلَفَ لَهُ مَالًا؛ كَمَا لَو تَلِفَتْ تَحْتَ يَدِهِ الْعَارِيةُ: فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ إنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ، وَإِن تَعَذَّرَ الْمِثْلُ كَانَتِ الْقِيمَةُ -وَهِيَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ- بَدَلًا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمِثْلِ، وَلهَذَا كَانَ مَن أَوْجَبَ الْمِثْل فِي كُلِّ شَيءٍ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ مَعَ مُرَاعَاةِ الْقِيمَةِ أَقْرَبَ إلَى الْعَدْلِ مِمَن أَوْجَبَ الْقِيمَةَ مِن غَيْرِ الْمِثْلِ، وَفِي هَذَا كَانَت قِصَّةُ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ.
وَحِينَئِذٍ فَتَجْوِيزُ الْعَرَايَا أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ بَيعِهَا بِالْكَيْلِ مُوَافِقٌ لِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ، مَعَ ثُبُوتِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ، وَمَالِكٌ جَوَّزَ الْخَرْصَ فِي نَظِيرِ ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ، وَهَذَا عَيْنُ الْفِقْهِ الصَّحِيحِ.
وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَن وَافَقَهُم كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ: أَنَّة يُضْمَنُ بِالْمِثْل فِي الصُّورَةِ كَمَا مَضَتْ بِذَلِكَ السُّنَّةُ وَأَقْضِيَةُ الصَّحَابَةِ.
وَلَمَّا كَانَ الْمُحَرَّمُ نَوْعَيْنِ:
أ- نَوْعٌ لِعَيْنِهِ.
ب- وَنَوْعٌ لِكَسْبِهِ.
فَالْكَسْبُ الَّذِي هُوَ مُعَامَلَةُ النَّاسِ نَوْعَانِ:
أ- مُعَاوَضَة.
ب- وَمُشَارَكَةٌ.
فَالْمُبَايَعَةُ وَالْمُؤَاجَرَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ هِيَ الْمُعَاوَضَةُ.
وَأَمَّا الْمُشَارَكَةُ فَمِثْلُ مُشَارَكَةِ الْعَنَانِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمُشَارَكَاتِ.
وَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي الْمُشَارَكَاتِ مِن أَصَحِّ الْمَذَاهِبِ وَأَعْدَلِهَا؛ فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ شَرِكَةَ الْعَنَانِ وَالْأَبْدَانِ وَغَيْرَهُمَا، وَيُجَوِّزُ الْمُضَارَبَةَ وَالْمُزَارَعَةَ وَالْمُسَاقَاةَ.
وَالشُّبْهَةُ الَّتِي مَنَعَتْ أُولَئِكَ الْمُعَامَلَةَ: أَنَّهُم ظَنُّوا أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ إجَارَةٌ، وَالْإِجَارَةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الْعِلْمِ بِقَدْرِ الْأُجْرَةِ، ثُمَّ اسْتَثْنَوْا مِن ذَلِكَ الْمُضَارَبَةَ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ؛ إذِ الدَّرَاهِمُ لَا تؤَجَّرُ.
وَالصَّوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ مِن نَفْسِ الْمُشَارَكَاتِ لَا مِن جِنْسِ الْمُعَاوَضَاتِ؛ فَإِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَقْصِدُ اسْتِيفَاءَ الْعَمَلِ كَمَا يَقْصِدُ اسْتِيفَاءَ عَمَلِ الْخَيَّاطِ وَالْخَبَّازِ وَالطَّبَّاخِ وَنَحْوِهِمْ، وَأَمَّا فِي هَذَا الْبَابِ فَلَيْسَ الْعَمَلُ هُوَ الْمَقْصُودَ؛ بَل هَذَا يَبْذُلُ نَفْعَ بَدَنِهِ، وَهَذَا يَبْذُلُ نَفْعَ مَالِهِ لِيَشْتَرِكَا فِيمَا رَزَقَ اللهُ مِن رِبْحٍ، فَإِمَّا يَغْنَمَانِ جَمِيعًا أَو يَغْرَمَانِ جَمِيعًا.
وَاَلَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِن كِرَاءِ الْمُزَارَعَةِ فِي حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَغَيْرِهِ
(1)
مُتَّفَق عَلَيْهِ، كَمَا ذَكَرَهُ اللَّيْث وَغَيْرُهُ؛ فَإِنَّهُ نَهَى أَنْ يُكْرَى بِمَا تُنْبِتُ
(1)
وهو ما ثبت في الصحيحين عنه " أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَن كِرَاءِ المَزَارعِ".
وقال: "كُنَّا أَكْثَرَ أهْلِ المَدِينَةِ مُزْدَرَعًا، كُنَّا نُكْرِي الأرْضَ بِالنَّاحِيَةِ مِنْهَا مُسَمَّى لِسَيِّدِ الأرْضِ"، قَالَ:"فَمِمَّا يُصَابُ ذَلِكَ وَتَسْلَمُ الأرْضُ، وَمِمَّا يُصَابُ الأرْضُ وَيسْلَمُ ذَلِكَ، فَنُهِينَا، وَأمَّا الذَّهَبُ وَالوَرِقُ فَلَمْ يَكُن يَوْمَئِذٍ".
الماذيانات
(1)
وَالْجَدَاوِلُ وَشَيْءٌ مِنَ التِّبْنِ، فَرُبَّمَا غَلَّ هَذَا وَلَمْ يَغُلَّ هَذَا، فَنَهَى أَنْ يُعَيّنَ الْمَالِكُ زَرْعَ بُقْعَةٍ بِعَيْنِهَا، كَمَا نَهَى فِي الْمُضَارَبَةِ أَنْ يُعَيِّنَ الْعَامِلُ مِقْدَارًا مِنَ الرِّبْحِ وَرِبْحَ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ الْعَدْلَ فِي الْمُشَارَكَةِ.
وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ فَإِنَّ أَصْلَ الدِّينِ أَنَّه لَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللهُ وَلَا دِينَ إلَّا مَا شَرَعَهُ اللهُ.
إذَا عُرِفَ هَذَا فَأَهْلُ الْمَدِينَةِ أَعْظَمُ النَّاسِ اعْتِصَامًا بِهَذَا الْأَصْلِ؛ فَإِنَّهُم أَشَدُّ أَهْلِ الْمَدَائِنِ الْإِسْلَامِيَّةِ كَرَاهِيَةً لِلْبِدَعِ.
وَأَمَّا الدِّينُ فَهُم أَشَدُّ أَهْلِ الْمَدَائِنِ اتِّبَاعًا لِلْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَبْعَدُهُم عَنِ الْعِبَادَاتِ الْبِدْعِيَّةِ.
وَأَمَّا الْمُنَاكَحُ فَلَا رَيْبَ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي بُطْلَانِ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَنكاحِ الشِّغَارِ أَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ مِمَن لَمْ يُبْطِلْ ذَلِكَ مِن أَهْلِ الْعِرَاقِ.
فَإِنَّ مِن أُصُولِهِمْ: أَنَّ القُصُودَ فِي الْعُقُودِ مُعْتَبَرَةٌ، كَمَا يَجْعَلُونَ الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ كَالشَّرْطِ الْمُقَارَنِ، وَيَجْعَلُونَ الشَّرْطَ الْعُرْفِيَّ كَالشَّرْطِ اللَّفْظِيِّ.
وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْأصُولِ أَبْطَلُوا نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ، وَخُلْعَ الْيَمِينِ الَّذِي يُفْعَلُ حِيلَةً لِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَأَبْطَلُوا الْحِيَلَ الَّتِي يُسْتَحَلَّ بِهَا الرِّبَا وَأَمْثَالَ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ نِكَاحُ الْحَامِلِ أَو الْمُعْتَدَّةِ مِنَ الزنى بَاطِلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِالْآثَارِ وَالْقِيَاسِ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ الْمَاءُ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ.
وَمَسْألَةُ الرَّجْعَةِ بِالْفِعْلِ كَمَا إذَا طَلَّقَهَا: فَهَل يَكُونُ الْوَطْءُ رَجْعَةً؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَاْ يَكُونُ رَجْعَة كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَالثَّانِي: لَا يَكُونُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ.
(1)
جَمْعُ الْمَاذِيَانِ، وَهُوَ أَصْغَرُ مِنَ النَّهْرِ وَأعْظَمُ مِنَ الْجَدْوَلِ.
وَالثَّالِثُ: يَكُونُ رَجْعَةً مَعَ النِّيَّةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ مَالِكٍ، وَهُوَ أَعْدَلُ الْأقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد.
وَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ وَالْأَحْكَامُ فَمَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَرْجَحُ مِن مَذْهَبِ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِن وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُم يُوجِبُونَ الْقَوَدَ فِي الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ كَمَا جَاءَت بِذَلِكَ السُّنَّةُ وَكَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأُصُولُ.
وَمِن ذَلِكَ: مَسْأَلَةُ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ، وَالذّميِّ وَالْحُرِّ بِالْعَبْدِ: لِلنَّاسِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: يُقْتَلُ بِهِ بِكُلِّ حَالٍ؛ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ.
وَالثَّانِي: لَا يُقْتَلُ بِهِ بِحَالٍ؛ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.
وَالثَّالِثُ: لَا يُقْتَلُ بِهِ إلَّا فِي الْمُحَارَبَةِ
(1)
، فَإِنَّ الْقَتْلَ فِيهَا حَدٌّ؛ لِعُمُومِ الْمَصْلَحَةِ، فَلَا تَتَعَيَّنُ فِيهِ الْمُكَافَأَةُ؛ بَل يُقْتَلُ فِيهِ الْحُرُّ وَإِن كَانَ الْمَقْتُولُ عَبْدًا، وَالْمُسْلِمُ وَإِن كَانَ الْمَقْتُولُ ذِمِّيًّا.
وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِأَحْمَدَ وَهُوَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ، وَفِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْآثَارِ الْمَنْقُولَةِ فِي هَذَا الْبَابِ أَيْضًا.
وَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي الْمُحَارِبِينَ وَغَيْرِهِمْ إجْرَاءُ الْحُكْمِ عَلَى الرِّدْءِ وَالْمُبَاشِرِ، كَمَا اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى مِثْل ذَلِكَ فِي الْجِهَادِ.
وَمِن ذَلِكَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَتَّبِعُونَ مَا خَطَبَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قَالَ: "الرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللهِ حَقٌّ عَلَى كُل مَن زَنَى مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إذَا أُحْصِنَّ وَقَامَتِ الْبَيِّنَةُ، أَو كَانَ الْحَبَلُ، أَو الِاعْتِرَافُ "
(2)
.
كَذَلِكَ يَحُدُّونَ فِي الْخَمْرِ بِمَا إذَا وُجِدَ سكرانًا، أَو تَقَيَّأَ، أَو وُجِدَتْ مِنْهُ
(1)
أي: إذا كان القاتل مُحاربًا، وهو بمعنى قاطع الطريق.
(2)
البخاري (6830)، ومسلم (1691).
الرَّائِحَةُ، وَلَمْ يَكُن هُنَاكَ شُبْهَةٌ، وَهَذَا هُوَ الْمَأثُورُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ كَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ.
وَمَذْهَبُهُم فِي الْأَحْكَامِ أَنَّهُم يُرَجّحُونَ جَانِبَ أَقْوَى الْمُتَدَاعِيَيْنِ، وَيَجْعَلُونَ الْيَمِينَ فِي جَانِبِهِ، فَيَقْضُونَ بِالشَّاهِدِ وَيمِينِ الطَّالِبِ فِي الْحُقُوقِ، وَفِي الْقَسَامَةِ يَبْدَءُونَ بِتَحْلِيفِ الْمُدَّعِينَ، فَإِنْ حَلَفُوا خَمْسِينَ يَمِينًا اسْتَحَقُّوا الدَّمَ.
وَالْكُوفِيُّونَ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ إلَّا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَلَا يُحَلِّفُونَ الْمُدَّعِي لَا فِي قَسَامَةٍ وَلَا فِي غَيْرِهَا، وَلَا يَقْضُونَ بِشَاهِدٍ وَيمِينٍ، وَلَا يَرَوْنَ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ سُنَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الصَّحِيحَةَ تُوَافِقُ مَذْهَبَ الْمَدَنِيِّينَ.
وَكَذَلِكَ "مَسْأَلَةُ الْحُكْمِ بِشَاهِدٍ وَيمِين" فِيهَا أَحَادِيثُ فِي الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ.
وَلَيْسَ مَعَ الْكُوفِيِّينَ إلَّا مَا يَرْوُونَهُ مِن قَوْلِهِ: "الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَن أَنْكَرَ"، وَهَذَا اللَّفْظُ لَيْسَ فِي السُّنَنِ
(1)
.
وَلَكِنْ فِي الصَّحِيحِ
(2)
حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: "لَو يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُم لَادَّعَى قَوْئم دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِن الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ"
(3)
.
وَهَذَا اللَّفْظُ إمَّا أَنْ يُقَالَ: لَا عُمُومَ فِيهِ؛ بَل اللَّامُ لِتَعْرِيفِ الْمَعْهُودِ، وَهُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، إذ لَيْسَ مَعَ الْمُدَّعِي إلَّا مُجَرَّدُ الدَّعْوَى كَمَا قَالَ:"لَو يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ" وَمَن يُحَلِّفُ الْمُدَّعِيَ لَا يُحَلِّفُهُ مَعَ مُجَرَّدِ الدَّعْوَى؛ بَل إنَّمَا يُحَلّفُهُ إذَا قَامَتْ حُجَّةٌ يَرْجَحُ بِهَا جَانِبُة؛ كَالشَّاهِدِ فِي الْحُقُوقِ.
(1)
ولكن رواه الترمذي بلفظ: "البَيَّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَاليَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ"، وقال: هَذَا حَدِيثٌ فِي إِسْنَاد مَقَالٌ.
(2)
البخاري (4552)، ومسلم (1711).
(3)
قال الترمذي: العَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ مِن أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَغَيْرِهِمْ: أَنَّ البَيَّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي، وَاليَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
وَمِن ذَلِكَ أَنَّ الْقِتَالَ فِي الْفِتْنَةِ الْكُبْرَى كَانَ الصَّحَابَةُ فِيهَا ثَلَاثَ فِرَقٍ:
أ- فِرْقَة قَاتَلَتْ مِن هَذِهِ النَّاحِيَةِ.
ب- وَرْقَةٌ قَاتَلَتْ مِن هَذِهِ النَّاحِيَةِ.
ج- وَفِرْقَةٌ قَعَدَتْ.
وَالْفقَهَاءُ الْيَوْمَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أ- مِنْهُم مَن يَرَى الْقِتَالَ مِن نَاحِيَةِ عَلِيٍّ؛ مِثْل أَكْثَرِ الْمُصَنِّفِينَ لِقِتَالِ الْبُغَاةِ.
ب- وَمِنْهُم مَن يَرَى الْإِمْسَاكَ
(1)
، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِن قَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ، وَالْأَحَادِيثُ الثَّابِتَةُ الصَّحِيحَةُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أَمْرِ هَذِهِ الْفِتْنَةِ تُوَافِقُ قَوْلَ هَؤُلَاءِ، وَلهَذَا كَانَ الْمُصَنِّفُونَ لِعَقَائِدِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَذْكُرُونَ فِيهِ تَرْكَ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ، وَالْإِمْسَاكَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ.
ثُمَّ إنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ يَرَوْنَ قِتَالَ مَن خَرَجَ عَنِ الشَّرِيعَةِ كالحرورية وَغَيْرِهِمْ، ويُفَرِّقونَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ، وَهَذَا هُوَ الْمُوَافِقُ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، فَإِنَّهُ قَد ثَبَتَ عَنْهُ الْحَدِيثُ فِي الْخَوَارجِ مِن عَشْرَةِ أَوْجُهٍ خَرَّجَهَا مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ" وَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ بَعْضَهَا.
وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالسُّنَةِ فَرَّقُوا بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللهُ بَيْنَهُ، وَاتَّبَعُوا النَّصَّ الصَّحِيحَ وَالْقِيَاسَ الْمُسْتَقِيمَ الْعَادِلَ؛ فَإِنَّ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ مِنَ الْعَدْلِ وَهُوَ: التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُتَخَالِفَيْنِ.
وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ أَحَقُّ النَّاسِ بِاتِّبَاعِ النَّصِّ الصَّحِيحِ وَالْقِيَاسِ الْعَادِلِ.
وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهُ؛ وَقَد ذَكَرْنَا مِن ذَلِكَ مَا شَاءَ اللهُ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْكِبَارِ فِي الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
(1)
وأما مَن يَرَى الْقِتَالَ مِن نَاحِيَةِ معاوية فلا قائل به.
وَإِنَّمَا هَذَا جَوَابُ فُتْيَا نَبَّهْنَا فِيهِ تَنْبِيهًا عَلَى جُمَل يُعْرَفُ بِهَا بَعْضُ فَضَائِلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ؛ فَإِنَّ مَعْرِفَةَ هَذَا مِنَ الدِّينِ، لَا سِيَّمَا إذَا جَهِلَ النَّاسُ مِقْدَارَ عِلْمِهِمْ وَدِينِهِمْ، فَبَيَانُ هَذَا يُشْبِهُ بَيَانَ عِلْمِ الصَّحَابَةِ وَدِينِهِمْ إذَا جَهِلَ ذَلِكَ مَن جَهِلَهُ، فَكَمَا أَنَ بَيَانَ السُّنَّةِ وَفَضَائِلِ الصَّحَابَةِ وَتَقْدِيمِهِم الصِّدِّيقَ وَالْفَارُوقَ مِن أَعْظَمِ أُمُورِ الدّينِ عِنْدَ ظُهُورِ بِدَعِ الرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ فَكَذَلِكَ بَيَانُ السُّنَّةِ؛ وَمَذَاهِبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَتَرْجِيحُ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهَا مِن مَذَاهِبِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ: أَعْظَمُ أُمُورٍ الدِّينِ عِنْدَ ظُهُورِ بِدَعِ الْجُهَّالِ الْمُتَّبِعِينَ لِلظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ. [20/ 294 - 396]
1871 -
مَعْلُومٌ أَنَّ أَوَّلَ مَن عُرِفَ أَنَهُ جَرَّدَ الْكَلَامَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ هُوَ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ لَمْ يُقَسّم الْكَلَامَ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ؛ بَل لَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِهِ- مَعَ كَثْرَةِ اسْتِدْلَالِهِ وَتَوَسُّعِهِ وَمَعْرِفَتِهِ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ- أَنَّهُ سَمَّى شَيْئًا مِنْهُ مَجَازًا، وَلَا ذَكَرَ فِي شَيءٍ مِن كُتُبِهِ ذَلِكَ، لَا فِي الرِّسَالَةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا.
وَحِينَئِذٍ فَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ الْمَشْهُورِينَ وَغَيْرَهُم مِن أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَعُلَمَاءِ السَّلَفِ قَسَّمُوا الْكَلَامَ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ كَمَا فَعَلَهُ طَائِفَة مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ: كَانَ ذَلِكَ مِن جَهْلِهِ وَقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِ بِكَلَامِ أَئِمَّةِ الدِّينِ وَسَلَفِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا قَد يَظُنُّ طَائِفَة أُخْرَى أَنَّ هَذَا مِمَّا أُخِذَ مِنَ الْكَلَامِ الْعَرَبِى تَوْقِيفًا، وَأَنَّهُم قَالُوا: هَذَا حَقِيقَةٌ وَهَذَا مَجَازٌ، كَمَا ظَنَّ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَكَانَ هَذَا مِن جَهْلِهِمْ بِكَلَامِ الْعَرَبِ.
ولَا رَيْبَ أَنَّ أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ قَسَّمُوا هَذَا التَّقْسِيمَ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِمْ إمَامٌ فِي فَنٍّ مِن فُنُونِ الْإسْلَامِ، لَا التَّفْسِيرِ، وَلَا الْحَدِيثِ، وَلَا الْفِقْهِ، وَلَا اللُّغَةِ، وَلَا النَّحْوِ؛ بَل أَئِمَّةُ النُّحَاةِ أَهْلُ اللُّغَةِ كَالْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَالْكِسَائِيّ وَالْفَرَّاءِ وَأَمْثَالِهِمْ وَأَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ وَأَبِي زيدٍ الْأَنْصَارِيِّ وَالْأَصْمَعِيِّ وَأَبِي عَمْرٍو الشيباني وَغَيْرِهِمْ: لَمْ يُقَسِّمُوا تَقْسِيمَ هَؤُلَاءِ
(1)
. [20/ 403 - 405]
(1)
أطال في الرد على القائلين بالمجاز، وخاصة الآمدي وابن عقيل، في (98) صفحة. (400 - 497)
1872 -
أُصُولَ الْفِقْهِ: هِيَ أَدِلَّةُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى طَرِيقِ الْإِجْمَالِ؛ بِحَيْثُ يُمَيِّزُ بَيْنَ الدَّلِيلِ الشَرْعِيِّ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، ويعْرِفُ مَرَاتِبَ الْأَدِلَّةِ، فَيُقَدِّمُ الرَّاجِحَ مِنْهَا، وَهَذَا هُوَ مَوْضُوعُ أُصُولِ الْفِقْهِ؛ فَإِنَّ مَوْضُوعَهُ: مَعْرِفَةُ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ وَمَرْتبَتِهِ. [20/ 401]
1873 -
عَن سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبَّقِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي رَجُلٍ وَقَعَ عَلَى جَارِيةِ امْرَأَتِهِ: "إنْ كانَ اسْتَكْرَهَهَا فَهِيَ حُرَّةٌ، وَعَلَيْهِ لِسَيِّدَتِهَا مِثْلُهَا، وَإِن كَانَت طَاوَعَتْهُ فَهِيَ لَهُ، وَعَلَيْهِ لِسَيِّدَتِهَا مِثْلُهَا"
(1)
. حَدِيث حَسَنٌ.
هَذَا الْحَدِيثُ يَسْتَقِيمُ عَلَى الْقِيَاسِ مَعَ ثَلَاثَةِ أُصُولٍ هِيَ صَحِيحَة كُلٌّ مِنْهَا قَوْلُ طَائِفَة مِنَ الْفُقَهَاءِ:
أَحَدُهَا: أَنَّ مَن غَيَّرَ مَالَ غَيْرِهِ بِحَيْثُ يُفَوِّتُ مَقْصُودَهُ عَلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ إيَّاهُ بِمِثْلِهِ، وَهَذَا كَمَا إذَا تَصَرَّفَ فِي الْمَغْصُوبِ بِمَا أَزَالَ اسْمَهُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ:
أَحَدُهَا: أنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ وَعَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ النَّقْصِ وَلَا شَيءَ لَهُ فِي الزِّيَادَةِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ.
وَالثَّانِي: يَمْلِكُهُ الْغَاصِبُ بِذَلِكَ وَيَضْمَنُهُ لِصَاحِبِهِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَالثَّالِثُ: يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ أَخْذِهِ وَتَضْمِينِ النَّقْصِ وَبَيْنَ الْمُطَالَبَةِ بِالْبَدَلِ، وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ وَأَقْوَاهَا.
الْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ جَمِيعَ الْمُتْلَفَاتِ تُضْمَنُ بِالْجِنْسِ بِحَسَب الْإِمْكَانِ مَعَ
مُرَاعَاةِ الْقِيمَةِ، حَتَّى الْحَيَوَانِ، كَمَا أَنَّهُ فِي الْقَرْضِ يَجِبُ فِيهِ رَدَّ الْمِثْلِ، وَإِذَا اقْتَرَضَ حَيَوَانًا رَدَّ مِثْلَهُ كَمَا اقْتَرَضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكْرًا وَرَدَّ خَيْرًا مِنْهُ.
(1)
رواه أبو داود (4460)، والنسائي (3363)، وقال الألباني في ضعيف أبي داود (4460): ضعيف.
فَإِنَّ الْوَاجِبَ ضَمَانُ الْمُتْلَفِ بِالْمِثْل بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126].
فَالْأَمْرُ دَائِرٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ:
أ- إمَّا أَنْ يَضْمَنَهُ بِالْقِيمَةِ، وَهِيَ دَرَاهِمُ مُخَالِفَةٌ لِلْمُتْلَفِ فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ، لَكِنَّهَا تسَاوِيهِ فِي الْمَالِيَّةِ.
ب- وإِمَّا أَنْ يَضْمَنَهُ بِثِيَابٍ مِن جِنْسِ ثِيَابِ الْمِثْلِ، أَو آنِيَةٍ مِن جِنْسِ آنِيَتِهِ، أَو حَيَوَانٍ مِن جِنْسِ حَيَوَانِهِ، مَعَ مُرَاعَاةِ الْقِيمَةِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَمَعَ كَوْنِ قِيمَتِهِ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ، فَهُنَا الْمَالِيَّةُ مُسَاوَيةٌ كَمَا فِي النَّقْدِ، وَامْتَازَ هَذَا بِالْمُشَارَكَةِ فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَمْثَلَ مِن هَذَا، وَمَا كَانَ أَمْثَلَ فَهُوَ أَعْدَلُ، فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِهِ إذَا تَعَذَّرَ الْمِثْلُ مِن كُلِّ وَجْهٍ.
الْأَصْلُ الثَّالِثُ: مَن مَثَّلَ بِعَبْدِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا، وَقَد جَاءَت بِذَلِكَ آثَارٌ مَرْفُوعَة عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ.
فَهَذَا الْحَدِيثُ مُوَافِق لِهَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ الثَّابِتَةِ بِالْأَدِلَّةِ الْمُوَافِقَةِ لِلْقِيَاسِ الْعَادِلِ. [20/ 562 - 566]
1874 -
اَلَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ أَنُّهُ حُجَّةٌ مَا كَانَ مِن سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الَّذِي سَنُّوهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ خَالَفَهُم فِيهِ، فَهَذَا لَا ريبَ أَنَّهُ حُجَّةٌ بَل إجْمَاعٌ.
وَقَد دَل عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِن بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِدِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ"
(1)
.
مِثَالُ ذَلِكَ: حَبْسُ عُمْرَ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهما للأرضين الْمَفْتُوحَةِ وَتَرْكُ قِسْمَتِهَا عَلَى الْغَانِمِينَ.
(1)
رواه ابن ماجه (42).
وَفِي الْجُمْلَةِ: مَن تَدَبَّرَ الْآثَارَ الْمَنْقُولَةَ عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَة، وَمَعَ هَذَا فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُقَسِّمْ أَرْضَهَا، كَمَا لَمْ يَسْتَرِقّ رِجَالَهَا، فَفَتَحَ خَيْبَرَ عَنْوَةً وَقَسَمَهَا، وَفَتَحَ مَكَّةَ عَنْوَةً وَلَمْ يَقْسِمْهَا، فَعُلِمَ جَوَازُ الْأَمْرَيْنِ. [20/ 573 - 575]
1875 -
تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ مِن أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ فِي إجْمَاعِ الْخُلَفَاءِ، وَفِي إجْمَاعِ الْعِتْرَةِ: هَل هُوَ حُجَّةٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهَا؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّ كِلَيْهِمَا حُجَّة. [28/ 493]
وَكَذَلِكَ إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ فِي زَمَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ هُوَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ.
1876 -
إنَّ ترك الإيجاب والتحريم مع الحاجة إلى بيانه أو مع المقتضي له: يدل على انتفائه. [المستدرك 2/ 175]
1877 -
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْعُمُومِ الَّذِي لَمْ يُعْلَمْ تَخْصِيصُهُ، أَو عُلِمَ تَخْصِيصُ صُوَرٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْهُ: هَل يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ قَبْلَ الْبَحْثِ عَن الْمخَصّصِ الْمُعَارِضِ لَهُ؟
اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا، وَذَكَرُوا عَن أَحْمَد فِيهِ رِوَايَتَيْنِ، وَأَكْثَرُ نُصُوصِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَهْلِ زَمَانِهِ وَنَحْوِهِم اسْتِعْمَالُ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ قَبْلَ الْبَحْثِ عَمَّا يُفَسِّرُهَا مِن السُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ؛ فَإِنَّ الظَّاهِرَ الَّذِي لَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّن انْتِفَاءُ مَا يُعَارِضُهُ: لَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ مُقْتَضَاهُ.
فَإِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ انْتِفَاءُ مُعَارِضِهِ: غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ مُقْتَضَاه.
وَهَذِهِ الْغَلَبَةُ لَا تَحْصُلُ لِلْمُتَأَخِّرِينَ فِي أَكْثَرِ العمومات إلا بَعْدَ الْبَحْثِ عَن الْمُعَارِضِ.
نَعَمْ، مَن غَلَبَ عَلَى ظَنّهِ مِن الْفُقَهَاءِ انْتِفَاءُ الْمُعَارِضِ فِي مَسْأَلَةٍ خِلَافِيَّةٍ أَو حَادِثَةٍ: انْتَفَعَ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ. [29/ 166 - 167]
1878 -
الْأُصُولُ الَّتِي لَا تَنَافضَ فِيهَا: مَا أُثْبتَ بِنَصٍّ أَو إجْمَاعٍ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَالتّنَاقُضُ مَوْجُود فِيهِ وَلَيْسَ هوَ حُجَّةً عَلَى أَحَدٍ.
وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ ائَذِي لَا يَتَنَاقَضُ هُوَ مُوَافِقٌ لِلنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ؛ بَل وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ النَصُّ قَد دَلَّ عَلَى الْحُكْمِ، وَهَذَا مَعْنَى الْعِصْمَةِ؛ فَإِنَّ كَلَامَ الْمَعْصُومِ لَا يَتَنَاقَضُ.
وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم مَعْصُومٌ فِيمَا بَلَّغَهُ عَن اللهِ تَعَالَى، فَهُوَ مَعْصُومٌ فِيمَا شَرَعَهُ لِلْأُمَّةِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.
وَكَذَلِكَ الْأمَّةُ أَيْضًا مَعْصُومَة أَنْ تَجْتَمِعَ عَلَى ضَلَالَةٍ، بِخِلَافِ مَا سِوَى ذَلِكَ؛ وَلهَذَا كَانَ مَذْهَبُ أَئِمَّةِ الدِّينِ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِن النَّاسِ يُؤْخَذُ مِن قَوْلِهِ ويُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُ الَّذِي فَرَضَ اللهُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلَائِقِ الْإِيمَانَ بِهِ وَطَاعَتَهُ وَتَحْلِيلَ مَا حَلَّلَهُ وَتَحْرِيمَ مَا حَرَّمَهُ، وَهُوَ الَّذِي فَرَّقَ اللهُ بِهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكافِرِ، وَأَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ.
وَمَن آمَنَ بهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَاجْتَهَدَ فِي مُتَابَعَتِهِ: فَهُوَ مِن الْمُؤْمِنِينَ السُّعَدَاءِ، وَإِن كَانَ قَد أَخْطَأَ وَغَلِطَ فِي بَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ فَلَمْ يَبْلُغْهُ أَو لَمْ يَفْهَمْهُ. [23/ 28 - 29]
* * *
الأحكام الخمسة
1879 -
ذكر الشيخ تقي الدين: أن السلف لم يطلقوا الحرام إلا على ما علم تحريمه قطعًا. [المستدرك 2/ 6]
1880 -
المباح: قال القاضي: هو كل فعل مأذون فيه بلا ثواب ولا عقاب.
وفيه احتراز من فعل الصبيان والمجانين والبهائم
(1)
. [المستدرك 2/ 6 - 7]
1881 -
الجائز: ما وافق الشريعة، وقد يريد به الفقهاء ما ليس بلازم.
1882 -
إِجْمَاعُ أَئِمَّةِ الدِّينِ أَنَّهُ لَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَلَا دِينَ إلَّا مَا شَرَعَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَمَن خَرَجَ عَن هَذَا وَهَذَا فَقَد دَخَلَ فِي حَرْبٍ مِنَ اللهِ.
فَمَن شَرَعَ مِن الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَحَرَّمَ مَا لَمْ يُحَرِّم اللهُ وَرَسُولُهُ: فَهُوَ مِن دِينِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ الْمُخَالِفِينَ لِرَسُولِهِ، الَّذِينَ ذَمَّهُم اللهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ وَغَيْرِهِمَا مِن السُّورِ، حَيْثُ شَرَعُوا مِن الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، فَحَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللهُ وَأَحَلُّوا مَا حَرَّمَهُ اللهُ فَذَمَّهُم اللهُ وَعَابَهُم عَلَى ذَلِكَ.
فَلِهَذَا كَانَ دِينُ الْمُؤمِنِينَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْخَمْسَةَ:
أ- الْإِيجَابُ.
ب- وَالِاسْتِحْبَابُ.
ج- وَالتَّحْلِيلُ.
(1)
ففعلهم لا ثواب فيه ولا عقاب، لكنه ليس مأذونًا لهم فيه.
د- وَالْكَرَاهِيَةُ.
هـ- وَالتَّحْرِيمُ.
لَا يُؤْخَذُ إلَّا عَن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَا وَاجِبَ إلَّا مَا أَوْجَبَهُ الله وَرَسُولُهُ، وَلَا حَلَالَ إلَّا مَا أَحَلَّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ
(1)
. [22/ 226 - 227]
* * *
(من الأدلة علي أن الأمر يقتضي الوجوب)
1883 -
قَوْله تعالى: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)} [الفتح: 16] وَذَمُّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِع مِن الْقُرْآنِ مَن تَوَلَّى دَلِيل عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَأَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي وُجُوبَ الطَّاعَةِ وَذَمَّ الْمُتَوَلِّي عَن الطَّاعَةِ. [7/ 60]
* * *
(متى يقتدى بالنبي ومتي لا يُقتدى به؟ والعمل بمقاصد الشريعة)
1884 -
مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى وَجْهِ التَّعَبُّدِ فَهُوَ عِبَادَةٌ يُشْرَعُ التَّأَسِّي وَبِه فِيهِ، فَإِذَا خَصَّصَ زَمَانًا أَو مَكَانًا بِعِبَادَةٍ كَانَ تَخْصِيصُهُ بِتِلْكَ الْعِبَادَةِ سُنَّةً: كَتَخْصِيصِهِ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ بِالِاعْتِكَافِ فِيهَا وَكَتَخْصِيصِهِ مَقَامَ إبْرَاهِيمَ بِالصَّلَاةِ فِيهِ، فَالتَّأَسِّي بِهِ.
1 -
أَنْ يَفْعَلَ مِثْل مَا فَعَلَ.
2 -
عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَ.
3 -
لِأَنَّهُ فَعَلَ.
(1)
فلا يجوز للفقيه أن يحرم أمرًا أو يُوجبه، أو يكرهه أو يستحبه إلا بدليل صريح صحيح من الكتاب أو السُّنَّة أو الإجماع أو القياس، فأما التوسع في سدِّ الذرائع والاحتياط أو تقليد فقهاء المذاهب فلا حقّ له في ذلك، ويُخشى عليه من الأثم.
وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِأَنْ يَقْصِدَ مِثْلَمَا قَصَدَ، فَإِذَا سَافَرَ لِحَجٍّ أَو عُمْرَةٍ أَو جِهَادٍ وَسَافَرْنَا كَذَلِكَ كُنَّا مُتَّبِعِينَ لَهُ، وَكَذَلِكَ إذَا ضَرَبَ لِإِقَامَةِ حَدٍّ.
بِخِلَافِ مَن شَارَكَهُ فِي السَّفَرِ وَكَانَ قَصْدُهُ غَيْرَ قَصْدِهِ أَو شَارَكَهُ فِي الضَّرْبِ، وَكَانَ قَصْدُهُ غَيْرَ قَصْدِهِ، فَهَذَا لَيْسَ بِمُتَابعٍ لَهُ
(1)
، وَلَو فَعَلَ فِعْلًا بِحُكْمِ الِاتِّفَاقِ مِثْل نُزُولهِ فِي السَّفَرِ بِمَكَان، أَو أَنْ يَفْضُلَ فِي إدَاوَتهِ مَاءٌ فَيَصُبَّهُ فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ، أَو أَنْ تَمْشِيَ رَاحِلَتُهُ فِي أَحَدِ جَانِبَيْ الطَّرِيقِ وَنَحْو ذَلِكَ، فَهَل يُسْتَحَبُّ قَصْدُ مُتَابَعَتِهِ فِي ذَلِكَ؟
كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُحِبُّ أَنْ يَفْعَلَ مِثْل ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَجُمْهُورُ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يَسْتَحِبُّوا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُتَابَعَة لَة، إذ الْمُتَابَعَةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِن الْقَصْدِ، فَإِذَا لَمْ يَقْصِدْ هُوَ ذَلِكَ الْفِعْلَ بَل حَصَلَ لَهُ بِحُكْمِ الِاتِّفَاقِ كَانَ فِي قَصْدِهِ غَيْرَ مُتَابعٍ لَهُ.
وَهَكَذَا لِلنَّاسِ قَوْلَانِ فِيمَا فَعَلَهُ مِن الْمُبَاحَاتِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْقَصْدِ، هَل مُتَابَعَتُهُ فِيهِ مُبَاحَةٌ فَقَطْ أَو مُسْتَحَبَّةٌ؟
عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ.
وَلَمْ يَكن ابْنُ عُمَرَ وَلَا غَيْرُهُ مِن الصَّحَابَةِ يَقْصِدُونَ الْأَمَاكِنَ الَّتِي كَانَ يَنْزِلُ فِيهَا وَيبِيت فِيهَا مِثْل بُيُوتِ أَزْوَاجِهِ، وَمِثْل مَوَاضِعِ نُزُولهِ فِي مَغَازِيهِ، وإِنَّمَا كَانَ الْكَلَامُ فِي مُشَابَهَتِهِ فِي صُورَةِ الْفِعْلِ فَقَطْ، وَإِن كَانَ هُوَ لَمْ يَقْصِد التَّعَبُّدَ بِهِ، فَأَمَّا الْأَمْكِنَةُ نَفْسُهَا فَالصَّحَابَةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعَظَّمُ مِنْهَا إلَّا
(1)
هذه قاعدة عظيمة لطيفة، فمن يُجاهد في سبيل الله، ويُقاتل أعداء الله لا يلزم أنْ يكون متبعًا للنبي صلى الله عليه وسلم إلا إذا قصد ما قصده، فقد كان صلى الله عليه وسلم قصدُه الدفاع عن الإسلام، ومحاربة الكفار الذين يقفون عائقًا عن تبليغ رسالته، ولم يُقاتل المسلمين ولا المعاهدين، ما لم ينقضوا العهد.
وكذلك يُقال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن أمر أو نهى بعنف، أو بلا رحمة ورفق، فقد خالف قصد النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.
مَا عَظَّمَهُ الشَّارعُ
(1)
. [10/ 409 - 411]
1885 -
مِن خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وسلم: مَا كَانَ مِن خَصَائِص نُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ: فَهَذَا لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ.
وَهَذَا مِثْلُ كَوْنِهِ يُطَاعُ فِي كُلّ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَينْهَى عَنْهُ وَإِن لَمْ يُعْلَمْ جِهَة أَمْرِهِ، حَتَّى يُقْتَلَ كُلُّ مَن أَمَرَ بِقَتْلِهِ، وَلَيْسَ هَذَا لِأَحَد بَعْدَهُ، فَوُلَاةُ الْأمُورِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ يُطَاعُونَ إذَا لَمْ يَأْمُرُوا بِخِلَافِ أَمْرِهِ؛ وَلهَذَا جَعَلَ اللهُ طَاعَتَهُم فِي ضِمْنِ طَاعَتِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، فَقَالَ:{وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ} ؛ لِأَنَّ أُولي الْأَمْرِ يُطَاعُونَ طَاعَةً تَابِعَةً لِطَاعَتِهِ، فَلَا يُطَاعُونَ اسْتِقْلَالًا وَلَا طَاعَةً مُطْلَقَةً، وَأَمَّا الرَّسُولُ فَيُطَاعُ طَاعَةً
(1)
الخلاصة: أفعال النبي صلى الله عليه وسلم لا تخلو من سبع حالات:
الحالة الأولى: مَا كَانَ مِن خَصَائِص نُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ: فَهَذَا لَيْسَ لِأحَدٍ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ.
الحالة الثانية: ما فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ التَّعَبُدِ فَهُوَ عِبَادَة يُشْرَعُ التَّأَسِّي بهِ فِيهِ.
الحالة الثالثة: ما فَعَلَهُ بِحُكْمِ الِاتِّفَاقِ؛ مِثْل نُزُولهِ فِي السَّفَرِ بِمَكَان، وَمِثْل مَوَاضِعِ نُزُولِهِ فِي مَغَازِيهِ: فهل يُشرع مُشَابَهَته فِي صُورر الْفِعْلِ؟ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلَ ذَلِكَ.
وَأمَّا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَجُمْهُورُ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يَسْتَحِبُّوا ذَلِكَ؛ لِأنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُتَابَعَة لَهُ، إذ الْمُتَابَعَةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِن الْقَصْدِ.
الحالة الرابعة: ما فَعَلَهُ بِحُكْمِ الِاتِّفَاقِ؛ مِثْل نُزُولهِ فِي السَّفَرِ بمَكَان، وَمِثْل مَوَاضِعِ نُزُولهِ فِي مَغَازِيهِ، ومِثْل بُيُوتِ أزْوَاجِهِ: فهل يُشرع قصدُ هذه الْأمَاكِنَ الَّتَي كَانَ يَنْزِلُ فِيهَا وَيبِيت فِيهَا؟ اتفق الصَّحَابَةِ كلهم أنه لا يُشرع ذلك، فَالصَّحَابَةُ مُتَّفِقُونَ عَلى أنَّهُ لَا يُعَظمُ مِن الْأمْكِنَةُ إلَّا مَا عَظَّمَهُ الشَّارعُ.
الحالة الخامسة: مَا فَعَلَهُ مِن الْمُبَاحَاتِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْقَصْدِ، هَل مُتَابَعَتُهُ فِيهِ مُبَاحَةٌ فَقَطْ أَو مُسْتَحَبَّةٌ؟
عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَب أحْمَد وَغَيْرِهِ.
الحالة السادسة: إِذَاَ فَعَلَ فِعْلًا لِسَبَب وَقَد عَلِمْنَا ذَلِكَ السَّبَبَ أَمْكَنَنَا أَنْ نَقْتَدِيَ بِهِ فِيهِ، كَدُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ إمَامًا بَعْدَ أنْ صَلَّى بِالنَاسِ غَيْرُهُ، وَكَتَرْكِهِ الصَّلَاةَ عَلَى الْغَالِّ وَالْقَاتِل.
فَأَمَّا إذَا لَمْ نَعْلَم السَّبَبَ، أَو كَانَ السَّبَبُ أَمْرًا اتِّفَاقِيًّا: لمْ يُشْرع لنَا أنْ نَقْصِد ما لمْ يَقْصدْهُ.
الحالة السابعة: أن يَفْعَل الْفِعْلَ لِمَعْنَى يَعُمُّ ذَلِكَ النَوْعَ وَغَيْرَهُ، لَا لِمَعْنَى يَخُصُّهُ، فَيَكُونُ الْمَشْرُوعُ هُوَ الْأَمْر الْعَامّ.
مُطْلَقَة مُسْتَقِلَّةً فَإِنَّه: فَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] فَقَالَ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النور: 54].
فَإِذَا أَمَرَنَا الرَّسُولُ كَانَ عَلَيْنَا أَنْ نُطِيعَهُ وإِن لَمْ نَعْلَمْ جِهَةَ أَمْرِهِ، وَطَاعَتُهُ طَاعَةُ اللهِ، لَا تَكُونُ طَاعَتُهُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ قَطُّ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ.
وَقَد تَنَازَعَ النَّاسُ فِي أُمُورٍ فَعَلَهَا: هَل هِيَ مِن خَصَائِصِهِ أَمْ لِلْأُمَّةِ فِعْلُهَا؟
كَدُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ إمَامًا بَعْدَ أَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ غَيْرُهُ، وَكَتَرْكِهِ الصَّلَاةَ عَلَى الْغَالِّ وَالْقَاتِل
(1)
.
وَأَيْضًا: فَإِذَا فَعَلَ فِعْلًا لِسَبَب وَقَد عَلِمْنَا ذَلِكَ السَّبَبَ أَمْكَنَنَا أَنْ نَقْتَدِيَ بِهِ فِيهِ.
فَاَمَّا إذَا لَمْ نَعْلَم السَّبَبَ، أَو كانَ السَّبَبُ أَمْرًا اتِّفَاقِيًّا: فَهَذَا مِمَّا يَتَنَازَعُ فِيهِ النَّاسُ: مِثْل نُزُولهِ فِي مَكَانٍ فِي سَفَرِهِ
(2)
.
وَأيْضًا: فَالِاقْتِدَاءُ بِهِ يَكُونُ:
أ- تَارَةً فِي نَوْعِ الْفِعْلِ.
ب- وَتَارَةً فِي جِنْسِهِ.
فَإِنَّهُ قَد يَفْعَلُ الْفِعْلَ لِمَعْنَى يَعُمُّ ذَلِكَ النَّوْعَ وَغَيْرَهُ، لَا لِمَعْنَى يَخُصُّهُ، فَيَكُونُ الْمَشْرُوعُ هُوَ الْأَمْر الْعَامّ
(3)
.
مِثَالُ ذَلِكَ: احْتِجَامُهُ صلى الله عليه وسلم؛ فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ لِحَاجَتِهِ إلَى إخْرَاجِ الدَّمِ الْفَاسِدِ، ثُمَّ التَّأَسّي هَل مَخْصُوصٌ بِالْحِجَامَةِ، أَو الْمَقْصُودُ إخْرَاجُ الدَّمِ عَلَى الْوَجْهِ النَّافِعِ؟
(4)
.
(1)
الراجح أنها للأمة، لمعرفتنا بالسبب.
(2)
ذهب شيخ الإسلام إلى أنه إذَا فَعلَ صلى الله عليه وسلم الشّيءَ اتِّفاقًا لمْ يُشْرع لنَا أنْ نَقْصِد ما لمْ يَقْصدْهُ.
(3)
وهذا الباب يدخل في مقاصد الشريعة، والشيخ رحمه الله رجح في هذا الباب ألا يُنظر إلى خصوص النوع، بل الْمَشروعُ هُو الْأمرُ العالم.
(4)
الثاني هو الذي رجحه الشيخ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّأَسِّي هُوَ الْمَشْرُوعُ، فَإِذَا كَانَ الْبَلَدُ حَارًّا يَخْرُجُ فِيهِ الدَّمُ إلَى الْجِلْدِ كَانَتِ الْحِجَامَةُ هِيَ الْمَصْلَحَةَ، هاِن كَانَ الْبَلَدُ بَارِدًا يَغُورُ فِيهِ الدَّمُ إلَى الْعُرُوقِ كَانَ إخْرَاجُهُ بِالْفَصْدِ هُوَ الْمَصْلَحَةَ
(1)
.
وَكَذَلِكَ ادِّهَانُهُ صلى الله عليه وسلم: هَل الْمَقْصُودُ خُصُوصُ الدَّهْنِ أَو الْمَقْصُودُ تَرْجِيلُ الشَّعْرِ؟
فَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ رَطْبًا وَأَهْلُهُ يَغْتَسِلُونَ بِالْمَاءِ الْحَارِّ الَّذِي يُغْنِيهِمْ عَنِ الدَّهْنِ، وَالدَّهْنُ يُؤْذِي شُعُورَهُم وَجُلُودَهُمْ: يَكُونُ الْمَشْرُوعُ فِي حَقِّهِمْ تَرْجِيلَ الشَّعْرِ بِمَا هُوَ أَصْلَحُ لَهُمْ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الثَّانِيَ هُوَ الْأشْبَهُ.
وَكَذَلِكَ لَمَّا كَانَ يَأْكُلُ الرُّطَبَ وَالتَّمْرَ وَخُبْزَ الشَّعِيرِ وَنَحْو ذَلِكَ مِن قُوتِ بَلَده، فَهَل التَّأَسِّي بِهِ أَنْ يُقْصَدَ خصُوصُ الرُّطَبِ وَالتَّمْرِ وَالشَّعِيرِ حَتَّى يَفْعَلَ ذَلِكَ مَن يَكُونُ فِي بِلَادٍ لَا يَنْبُتُ فِيهَا التَّمْرُ، وَلَا يَقْتَاتُونَ الشَّعِيرَ؛ بَل يَقْتَاتُونَ الْبُرَّ أَو الرُّزَّ أَو غَيْرَ ذَلِكَ؟
وَمَعْلُوئم أنَّ الثَّانِيَ هُوَ الْمَشْرُوعُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا فَتَحُوا الْأَمْصَارَ كَانَ كُلٌّ مِنْهُم يَأْكُلُ مَن قُوتِ بَلَدِهِ، وَيلْبَسُ مِن لِبَاسِ بَلَدِهِ، مِن غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَ أَقْوَاتَ الْمَدِينَةِ وَلبَاسَهَا.
وَلَو كَانَ هَذَا الثَّانِي هُوَ الْأَفْضَلَ فِي حَقِّهِمْ لَكَانُوا أَوْلَى بِاخْتِيَارِ الْأَفْضَلِ.
وَعَلَى هَذَا يُبْنَى نِزَاغ الْعُلَمَاءِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ إذَا لَمْ يَكُن أَهْلُ الْبَلَدِ يَقْتَاتُونَ التَّمْرَ وَالشَّعِيرَ: فَهَل يُخْرِجُونَ مِن قُوتِهِمْ كَالْبُرِّ وَالرُّزِّ، أَو يُخْرِجُونَ مِنَ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ؟
(1)
فلا بد من مُراعاة مقاصد الشريعة، وعدم التمسك بظواهر النصوص دون النظر إلى المقصود منها، والحكمة من تشريعها.
وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُخْرِجُ مِن قُوتِ بَلَدِهِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ كَمَا ذَكَرَ اللهُ ذَلِكَ فِي الْكَفَّارَةِ بِقَوْلِهِ:{مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89].
وَمِن هَذَا الْبَابِ: أَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ أَنَّهُم كَانُوا يأتزرون وَيرْتَدُونَ؛ فَهَلِ الْأَفْضَلُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَرْتَدِيَ ويأتزر وَلَو مَعَ الْقَمِيصِ، أَو الْأَفْضَلُ أنْ يَلْبَسَ مَعَ الْقَمِيصِ السَّرَاوِيلَ مِن غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى الْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ؟
هَذَا أَيْضًا مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ، وَالثَّانِي أَظْهَرُ، وَهَذَا بَابُ وَاسِعٌ.
وَهَذَا سَمَّتْهُ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ: "تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ" وهُوَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ قَد ثَبَتَ فِي عَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ وَلَيْسَ مَخْصُوصًا بِهَا بَلِ الْحُكْمُ ثَابِتٌ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا، فَيُحْتَاجُ أَنْ يُعْرَفَ "مَنَاطُ الْحُكْمِ".
مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّهُ قَد ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَن فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِىِ سَمْنٍ فَقَالَ: "اُلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنكُمْ"
(1)
، فَإِنَّهُ مُتَّفَق عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِتِلْكَ الْفَأَرَةِ وَذَلِكَ السَّمْنِ؛ بَل الْحُكْمُ ثَابِت فِيمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُمَا فَبَقِيَ الْمَنَاطُ الَّذِي عُلِّقَ بِهِ الْحُكْمُ مَا هُوَ؟.
وَلَيْسَ هَذَا مَبْنِيًّا عَلَى كَوْنِ الْقِيَاسِ حُجَّةً، فَإِنَّ الْقِيَاسَ الَّذِي يَكُونُ النِّزَاعُ فِيهِ هُوَ تَخْرِيجُ الْمَنَاطِ، وَهُوَ أَنْ يَجُوزَ اخْتِصَاصُ مَوْرِدِ النَّصِّ بِالْحُكْمِ، فَإِذَا جَازَ اخْتِصَاصُهُ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ مَوْرِدِ النَّصِّ وَغَيْرِهِ: احْتَاجَ مُعْتَبِرُ الْقِيَاسِ إلَى أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ هُوَ مَنَاطُ الْحُكْمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: "لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ وَلَا تَبِيعُوا الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ وَلَا تَبِيعُوا الشَّعِيرَ بِالشَّعِيرِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ وَلَا تَبِيعُوا الْمِلْحَ بِالْمِلْحِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ" فَلَمَّا نَهَى عَنِ التَّفَاضُلِ فِي مِثْل هَذِهِ الْأَصْنَافِ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ لِمَعْنَى مُشْتَرَكٍ وَلمَعْنَى مُخْتَصٍّ.
(1)
رواه البخاري (235) بلفظ: "وما حولها فاطرحوه".
وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ، وَهُوَ مُتَنَاوِلٌ لِكُلِّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِعَيْن مُعَيّنةٍ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِهَا، فَيُحْتَاجُ أَنْ يُعْرَفَ الْمَنَاطُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ.
وَالصَّوَابُ: أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْقِيَاسِ الَّذِي يُمْكِنُ فِيهِ النِّزَاعُ، كَمَا أَنَ تَحْقِيقَ الْمَنَاطِ لَيْسَ مِمَّا يَقْبَلُ النِّزَاعَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.
وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ الثَّلَاثَةُ:
أ- تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ.
ب- وتَنْقِيحُ الْمَنَاطِ.
ج- وتَخْرِيجُ الْمَنَاطِ.
هِيَ جِمَاعُ الِاجْتِهَادِ.
فَالْأوَّلُ: أَنْ يَعْمَلَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ؛ فَإِنَّ الْحُكمَ مُعَلَّقٌ بِوَصْفٍ يَحْتَاجُ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْمُعَيَّنِ إلَى أَنْ يَعْلَمَ ثُبُوتَ ذَلِكَ الْوَصْفِ فِيهِ، كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ اللهَ أَمَرَنَا بِإِشْهَادِ ذَوِي عَدْلٍ مِنَّا وَمِمَن نَرْضَى مِنَ الشُّهَدَاءِ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ تَعْيِينُ كُلِّ شَاهِدٍ، فَيَحْتَاجُ أَنْ يَعْلَمَ فِي الشُّهُودِ الْمُعَيَّنِينَ: هَل هُم مِن ذَوِي الْعَدْلِ الْمَرْضِيِّينَ أَمْ لَا؟
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] يَبْقَى هَذَا الشَخْصُ الْمُعَيَّنُ هَل هُوَ مِنَ الْفُقَرَاءِ الْمَسَاكِينِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْقُرْآنِ أَمْ لَا؟
وَهَذَا النَّوْعُ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بَلِ الْعُقَلَاءُ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنُصَّ الشَّارعُ عَلَى حُكْمِ كلِّ شَخْصٍ، إنَّمَا يَتَكَلَّمُ بِكَلَام عَامٍّ، وَكَانَ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم -قَد أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ.
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي الَّذِي يُسَمُّونَهُ "تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ": بِأَنْ يَنُصَّ عَلَى حُكْمِ أَعْيَانٍ مُعَيَّنَةٍ، لَكِنْ قَد عَلِمْنَا أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَصُّ بِهَا، فَالصَّوَابُ فِي مِثْل هَذَا أَنَّهُ لَيْسَ مِن بَابِ الْقِيَاسِ.
وَمَسْأَلَةُ الْفَأْرَةِ فِي السَّمْنِ مِن هَذَا الْبَابِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِتِلْكَ الْفَأْرَةِ وَذَلِكَ السَّمْنِ، وَلَا بِفَأْرِ الْمَدِينَةِ وَسَمْنِهَا، وَلَكِنَّ السَّائِلَ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَن فَأَرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَأَجَابَهُ، لَا أنَّ الْجَوَابَ يَخْتَصُّ بِهِ وَلَا بِسُؤَالِهِ كَمَا أَجَابَ غَيْرُهُ.
فَالصَّوَابُ فِي هَذَا مَا عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْمَشْهُورُونَ: أَنَّ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ مُعَلَّقٌ بِالْخَبِيثِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللهُ إذَا وَقَعَ فِي السَّمْنِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْمَائِعَاتِ، لِأَنَّ اللهَ أَبَاحَ لَنَا الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ، فَإِذَا عَلَّقْنَا الْحُكْمَ بِهَذَا الْمَعْنَى كُنَّا قَد اتَّبَعْنَا كِتَابَ اللهِ، فَإِذَا وَقَعَ الْخَبِيثُ فِي الطَّيِّبِ أُلْقي الْخَبِيثُ وَمَا حَوْلَهُ وَأُكِلَ الطَّيِّبُ، كَمَا أَمَرَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم.
وَأَحَقُّ النَّاسِ بِالْحَقِّ مَن عَلَّقَ الْأَحْكَامَ بِالْمَعَانِي الَّتِي عَلَّقَهَا بِهَا الشَّارعُ.
وَهَذَا مَوْضِعٌ تَفَاوَتَ فِيهِ النَّاسُ وَتَنَازَعُوا: هَل يُسْتَفَادُ ذَلِكَ مِن خِطَابِ الشَّارعِ؟ أَو مِنَ الْمَعَانِي الْقِيَاسِيَّةِ؟
فَقَوْمٌ زَعَمُوا أَنَّ أَكْثَرَ أَحْكَامِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ لَا يَتَنَاوَلُهَا خِطَابُ الشَّارعِ بَل تَحْتَاجُ إلَى الْقِيَاسِ.
وَقَوْمٌ زَعَمُوا أَنَّ جَمِيعَ أَحْكَامِهَا ثَابِتَةٌ بِالنَّصّ، وَأَسْرَفُوا فِي تَعَلُّقِهِمْ بِالظَّاهِرِ حَتَّى أَنْكَرُوا فَحْوَى الْخِطَابِ وَتَنْبِيهَهُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] وَقَالُوا: إنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى النَّهْيِ عَنِ التَّأْفِيفِ، لَا يُفْهَمُ مِنْهُ النَّهْيُ عَنِ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ.
وَأَنْكَرُوا "تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ" وَادَّعَوْا فِي الْأَلْفَاظِ مِنَ الظُّهُورِ مَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ.
وَنَحْنُ قَد بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْأَدِلَّةَ الصَّحِيحَةَ لَا تَتَنَاقَضُ، فَلَا تَتَنَاقَضُ الْأَدِلَّةُ الصَّحِيحَةُ الْعَقْلِيَّةُ وَالشَّرْعِيَّةُ، وَلَا تتنَاقَضُ دَلَالَةُ الْقِيَاسِ إذَا كَانَت صَحِيحَةً، وَدَلَالَةُ الْخِطَابِ إذَا كَانَت صَحِيحَةً.
فَإِنَّ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ حَقِيقَتُهُ
(1)
التَّسْوِيَة بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، وَهَذَا هُوَ الْعَدْلُ الَّذِي أَنْزَلَ اللّهُ بِهِ الْكِتَابَ، وَأَرْسَلَ بِهِ الرُّسُلَ.
وَالرَّسُولُ لَا يَأْمُرُ بِخِلَافِ الْعَدْلِ، وَلَا يَحْكُمُ فِي شَيْئَيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ بِحُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَلَا يُحرِّمُ الشَّيْء ويُحِلُّ نَظِيرُهُ.
وَقَد تَأَمَّلْنَا عَامَّةَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي قِيلَ: إنَّ الْقِيَاسَ فِيهَا عَارَضَ النَّصَّ وَأَنَّ حُكْمَ النَّصَّ فِيهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ: فَوَجَدْنَا مَا خَصَّهُ الشَّارعُ بِحُكْمٍ عَن نَظَائِرِهِ فَإِنَّمَا خَصَّهُ بِهِ لِاخْتِصَاصِهِ بِوَصْف أَوْجَبَ اخْتِصَاصَهُ بِالْحُكْمِ، كَمَا خَصَّ الْعَرَايَا بِجَوَازِ بَيْعِهَا بِمِثْلِهَا خَرْصًا لِتَعَذُّرِ الْكَيْلِ مَعَ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيْعِ، وَالْحَاجَةُ تُوجِبُ الِانْتِقَالَ إلَى الْبَدَلِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْأَصْلِ.
فَالْخَرْصُ عِنْدَ الْحَاجَةِ قَامَ مَقَامَ الْكَيْلِ، كَمَا يَقُومُ التُّرَابُ مَقَامَ الْمَاءِ، وَالْمَيْتَةُ مَقَامَ الْمُذَكَّى عِنْدَ الْحَاجَةِ.
وَلَعَلَّ مَن رَزَقَهُ اللهُ فَهْمًا وَآتَاهُ مِن لَدُنْه عِلْمًا: يَجِدُ عَامَّةَ الْأَحْكَامِ الَّتِي تُعْلَمُ بِقِيَاس شَرْعِيٍّ صَحِيحٍ يَدُلُّ عَلَيْهَا الْخِطَابُ الشَّرْعِيُّ، كَمَا أَنَّ غَايَةَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْخِطَابُ الشَّرْعِيُّ هُوَ مُوَافِقٌ لِلْعَدْلِ الَّذِي هُوَ مَطْلُوبُ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ. [19/ 323 - 324]
* * *
(الشرع لا يَمنعُ ما كان في العقل واجبًا، ولا يُبيح ما كان في العقل ممنوعًا إلا على شرط المنفعة)
1886 -
لا يجوز أن يرد السمع بحظر ما كان في العقل واجبًا؛ نحو شكر المنعم والعدل والإنصاف ونحوه، وكذلك لا يجوز أن يرد بإباحة ما كان في العقل محظورًا نحو الكذب والظلم وكفر نعمة المنعم ونحوه، وإنما يرد بإباحة
(1)
في الأصل: (حَقِيقَةُ التَّسْوِيَةِ)، ولعل المثبت هو الصواب.
ما كان في العقل محظورًا على شرط المنفعة نحو إيلام بعض الحيوان -يعني بالذبح- لما فيه من المنفعة كما جاز إدخال الآلام علينا بالفصد والحجامة وشرب الأدوية الكريهة للمنفعة وإن لم يجز ذلك لغير منفعة. [المستدرك 2/ 12]
* * *
(استصحاب براءة الذمة من الواجبات فيه نظر)
1887 -
قال القاضي: استصحاب براءة الذمة من الواجب حتى يدل دليل شرعي عليه هو صحيح بإجماع أهل العلم كما في الوتر.
قال شيخنا: قوله: "استصحاب في نفي الواجب" احتراز من استصحاب في نفي التحريم أو الإباحة، فإن فيه خلافًا مبنيًّا على مسألة الأعيان قبل الشرع.
وأما دعوى الإجماع على نفي الواجبات بالاستصحاب ففيه نظر؛ فإن من يقول بالإيجاب العقلي من أصحابنا وغيرهم لا يقف الوجوب على دليل شرعي، اللَّهُمَّ إلا أن يراد به في الأحكام التي لا مجال للعقل فيها بالاتفاق كوجوب الصلاة والأضحية ونحو ذلك.
قال شيخنا: جعل القاضي استصحاب الحال الذي طريقه العقل مثل أن يقال: أجمعنا على براءة الذمة فمن زعم اشتغالها بزكاة الحلي فعليه الدليل. [المستدرك 2/ 18 - 19]
* * *
(الباطل في عرف الفقهاء وفي الآية)
1888 -
الباطل في عُرف الفقهاء ضِدُّ الصحيح في عُرفهم، وهو ما أبرأ الذمة.
فقولهم: بطلت صلاته وصومه لمن ترك ركنًا بمعنى وجب القضاء، لا بمعنى أنه لا يثاب عليه بشيء في الآخرة، وقال تعالى:{وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)}
[محمد: 33] الإبطال هو إبطال الثواب ولا يُسَلَّم بطلانه جميعه؛ بل قد يثاب على ما فعله فلا يكون مبطلًا لعمله. [المستدرك 2/ 25، 3/ 101 - 102]
* * *
(إذا استدل مبطل بآية أو حديث صحيح ففي ذلك ما يدل على نقيض قوله)
1889 -
أنا ألتزم أن لا يحتج مبطل بآية أو حديث صحيح على باطله إلا وفي ذلك الدليل ما يدل على نقيض قوله، فمنها هذه الآية:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] هي على جواز الرؤية أدل منها على امتناعها. [المستدرك 2/ 25]
* * *
(هل دَلَالَةُ الْمَفْهُومِ حُجَّةٌ؟ وَإذَا كَانَت حُجَّةً فَهَل يَخصُّ بِهَا الْعَامَّ
؟)
1890 -
هَذَا الَّذِي تَكلَّمَ النَّاسُ فِيهِ مِن دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ هَل هِيَ حُجَّةٌ أَمْ لَا؟ وإذَا كَانت حُجَّةً فَهَل يَخُصُّ بِهَا الْعَامَّ أَمْ لَا؟
إنَّمَا هُوَ فِي كَلَامَيْنِ مُنْفَصِلَيْنِ مِن مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ، أَو فِي حُكْم الْوَاحِدِ لَيْسَ ذَلِكَ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ مُتَّصِلٍ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَلَا فِي كَلَامِ مُتَكَلِّمِينَ لَا يَجِبُ اَتحَادُ مَقْصُودِهِمَا.
فَهُنَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: كَلَامَانِ مِن مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ، أَو فِي حُكْمِ الْوَاحِدِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِيَدْخُلَ فِيهِ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا كَلَامَ اللهِ وَالْآخَرُ كَلَامَ رَسُولِهِ؛ فَإنَّ حُكْمَ ذَلِكَ حُكْمُ مَا لَو كَانَا جَمِيعًا مِن كَلَامِ اللهِ أَو كَلَامِ رَسُولِهِ؛ مِثْل قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:"الْمَاءُ طَهُور لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ"
(1)
، مَعَ قَوْلِهِ:"إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَث"
(2)
، فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهِمَا وَاحِدٌ صلى الله عليه وسلم، وَهُمَا كَلَامَانِ.
(1)
رواه الترمذي (66).
(2)
رواه أهل السنن وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع (416).
فَمَن قَالَ: إنَّ الْمَفْهُومَ حُجَّة يَخصُّ بِهِ الْعُمُومَ خَصَّ عُمُومَ قَوْلِهِ: "الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ" بِمَفْهُومِ: "إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِل الْخَبَثَ"، مَعَ أَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ أَضْعَفُ مِن مَفْهُومِ الصِّفَةِ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الشافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَغَيْرِهِمَا.
وَمَنِ امْتَنَعَ مِن ذَلِكَ قَالَ: قَوْلُهُ: "الْمَاءُ طَهُورٌ" عَامٌّ، وَقَوْلُهُ:"إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجَّسْ" هُوَ بَعْضُ ذَلِكَ الْعَامِّ، وَهُوَ مُوَافِق لَهُ فِي حُكْمِهِ، فَلَا تُتْرَكُ دَلَالَةُ الْعُمومِ لِهَذَا.
وَقَد اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَاتَيْنِ الدَّلَالَتَيْنِ
(1)
إذَا تَعَارَضَتَا: فَذَهَبَ أهْلُ الرَّأْيِ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ وَكَثِير مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَطَائِفَةٌ فِيَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ إلَى تَرْجِيحِ الْعُمُومِ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَطَائِفَة مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ: إلَى تَقْدِيمِ الْمَفْهُومِ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ صَرِيحًا عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا.
وَالْمَسْأَلَةُ مُحْتَمَلَةٌ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ تَفْصِيلِهَا؛ فَإِنَّهَا ذَاتُ شُعَب كَثِيرَةٍ، وَهِيَ مُتَّصِلَةٌ بمَسْأَلَةِ "الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ"، وَهِيَ غَمْرَة مِن غَمَرَاتِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَقَد اشْتَبهَتْ أنْوَاعُهَا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ السَّابِحِينَ فِيهِ.
"فَالصَّوَابُ: أَنَّ مِثْل هَذَا الْمَفْهُومِ يُقَدَّمُ عَلَى الْعُمُومِ، كَمَا هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيُّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ، وَقَد حَكَاهُ بَعْضُ النَّاسِ إجْمَاعًا مِنَ الْقَائِلِينَ بِالْمَفْهُومِ؛ لِأنَّ الْمَفْهُومَ دَلِيلٌ خَاصٌّ، وَالدَّلِيلُ الْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ.
وَلَا عِبْرَةَ بِالْخِلَافِ فِي الْمَفْهُومِ؛ فَإِنَّ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ مُقَدَّمٌّ عَلَى الْمَفْهُومِ، مَعَ أَنَّ الْمُخَالِفِينَ فِي الْقِيَاسِ قَرِيبُونَ مِنَ الْمُخَالِفِينَ فِي الْمَفْهُومِ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ يَخُصُّ بِهِ عُمُومَ الْكِتَابِ، مَعَ أَنَّ الْمُخَالِفِينَ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ أَكْثَرُ مِنَ الْمُخَالِفِينَ
(1)
أي: الْمَفهُوم والْعُمُوم.
عُمُومَ الْكِتَابِ"
(1)
.
الْقِسْم الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كَلَامٌ وَاحِد مُتَّصِلٌ بَعْضُهُ ببَعْض آخِرُهُ مُقَيِّدٌ لِأَوَّلِهِ؛ مِثْل مَا لَو قَالَ: "الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ"، أَو يَقُولُ:"الْمَاءُ طَهُورٌ إذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ".
كَمَا قَالَ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ كم} [النساء: 25]، فَأَطْلَقَ وَعَمَّمَ ثمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ:{ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25].
فَإنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يُؤخَذُ بِعُمُومِ أَوَّلِهِ.
الْقِسْمُ الثالِثُ: أَنْ يَكُونَ فِي كَلَامِ مُتَكَلِّمَينِ لَا يَجِبُ اتِّحَادُ مَقْصُودِهِمَا؛ مِثْل شَاهِدَيْنِ شَهِدَا أَنَّ جَمِيعَ الدَّارِ لِزَيْد، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّ الْمَوْضِعَ الْفُلَانِيَّ مِنْهَا لِعَمْرِو، فَإِنَّ هَاتَيْنِ الْبَيِّنَتَيْنِ يَتَعَارَضَانِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ: أَّنَّهُ يُبْنى الْعَامّ على الْخَاصِّ هُنَا. [31/ 106 - 110]
* * *
(شرع من قبلنا)
1891 -
الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّه [أي: شَرْع مَن قَبْلَنَا] شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَرِدْ شَرْعُنَا بِخِلَافِهِ، وَهَذَا إنَّمَا هُوَ فِيمَا ثَبَتَ أَنَّهُ شَرْعٌ لِمَن قَبْلَنَا مِن نَقْلٍ ئَابِتٍ عَن نَبِيِّنا صلى الله عليه وسلم أَو بِمَا تَوَاتَرَ عَنْهُمْ. [1/ 258]
* * *
(الأخذ بأقل ما قيل فيه خلاف)
1892 -
يجوز الأخذ بأقل ما قيل ونفي ما زاد؛ لأنه يرجع حاصله إلى استصحاب دليل العقل على براءة الذمة فيما لم يثبت شغلها به. وأما إن يكون
(1)
(31/ 141).
الأخذ بأقل ما قيل أخذًا وتمسكًا بالإجماع فلا؛ لأن النزاع في الاقتصار عليه ولا إجماع فيه.
قال بعضهم: هذا نوع من أنواع الإجماع صحيح لا شك فيه. وقال قوم: بل يؤخذ بأكثر ما قيل، ذكرهما ابن حزم.
وقال بعضهم: ليس بدليل صحيح.
قال شيخنا: إذا اختلف البينتان في قيمة المتلَف فهل يوجب الأقل، أو بقسطهما؟ فيه روايتان، وكذلك لو اختلف شاهدان، فهذا يبين أن في إيجاب الأقل بهذا المسلك اختلافًا، وهو متوجه؛ فإن إيجاب الثلث أو الربع ونحو ذلك لا بد أن يكون له مستند، ولا مستند على هذا التقدير.
وإجماعهم على وجوب الثلث نوع من الإجماعات المركبة؛ فإن وجوبه من لوازم القول بوجوب النصف والجميع فالقائل بوجوب النصف يقول: إنما أوجبت النصف لدليل، فإن كان صحيحًا وجب القول به، وإن كان ضعيفًا فلست موافقًا على وجوب الثلث. [المستدرك 2/ 20 - 21]
* * *
(لا تلزم الشرائع إلا بعد العلم)
1893 -
لا تلزم الشرائع إلا بعد العلم، وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد.
فعلى هذا لا تلزم الصلاة حربيًّا أسلم في دار الحرب ولا يعلم وجوبها.
والوجهان في كل من ترك واجبًا قبل بلوغ الشرع؛ كمن لم يتيمم لعدم الماء لظنه عدم الصحة
(1)
، أو لم يزك
(2)
، أو أكل حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود لظنه ذلك، أو لم تصل مستحاضة.
(1)
أي: ترك الصلاة حتى خرج وقتها لانعدام الماء، لعدم علمِه أن التيمم يُجزئ، فلا يأثم ولا يقضي.
(2)
أي: ترك إخراج زكاة أمواله لسنة أو أكثر لعدم علمِه بوجوبها مطلقًا، أو في مالِه، فلا يأثم، ولكنه يقضي هنا لتعلّق حق الفقراء بماله.
والأصح أن لا قضاء ولا إثم إذا لم تقصد اتفاقًا؛ للعفو عن الخطأ والنسيان.
ومن عقد عقدًا فاسدًا مختلفًا فيه باجتهاد أو تقليد واتصل به القبض لم يؤمر برده وإن كان مخالفًا للنص.
وكذلك النكاح إذا بان له خطأ الاجتهاد أو التقليد وقد انقضى المفسد لم يفارق وإن كان المفسد قائمًا فارقها. [المستدرك 2/ 23]
1894 -
الأحكام لا تثبت في حق العبد إلا بعد بلوغها إليه. [المستدرك 2/ 24]
* * *
(من عيوب بعض الأصوليين إعراضُهم عَمَّا فِي الْعِبَادَاتِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ مِن أَنْوَاعِ الْمَعَارِفِ باللِّه تَعَالَي وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبهِ وَرُسُلِهِ وَأَحْوَالِ الْقُلُوبِ وَأَعْمَالِهَا)
1895 -
وَقَوْمٌ مِنَ الْخَائِضِينَ فِي أصُولِ الْفِقْهِ وَتَعْلِيل الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْأَوْصَافِ الْمُنَاسِبَةِ إذَا تَكَلَّمُوا فِي الْمُنَاسَبَةِ وَأَنَّ تَرْتِيبَ الشَّارعِ لِلْأَحْكَامِ عَلَى الْأَوْصَافِ الْمُنَاسِبَةِ يَتَضَمَّنُ تَحْصِيلَ مَصَالِحِ الْعِبَادِ وَدَفْعَ مَضَارِّهِمْ، وَرَأَوْا أَنَّ الْمَصْلَحَةَ نَوْعَانِ أُخْرَوِيَّةٌ وَدُنْيَوِيَّة: جَعَلُوا الْأُخْرَوِيَّةَ مَا فِي سِيَاسَةِ النَّفْسِ وَتَهْذِيبِ الأخْلَاقِ مِنَ الْحِكَمِ، وَجَعَلُوا الدُّنْيَوِيَّةَ مَا تَضْمَنُ حِفْظَ الدّمَاءِ وَالْأمْوَالِ وَالْفُرُوجِ وَالْعُقُولِ وَالدِّينِ الظَّاهِرِ، وَأَعْرَضُوا عَمَّا فِي الْعِبَادَاتِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ مِن أَنْوَاعِ الْمَعَارِفِ بِاللهِ تَعَالَى وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَأَحْوَالِ الْقُلُوبِ وَأَعْمَالِهَا؛ كَمَحَبَّةِ اللهِ وَخَشْيَتِهِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَة وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالرَّجَا لِرَحْمَتِهِ وَدُعَائِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن أَنْوَاعِ الْمَصَالِحِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَكَذَلِكَ فِيمَا شَرَعَهُ الشَّارعُ مِنَ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَحُقُوقِ الْمَمَالِيكِ وَالْجِيرَانِ وَحُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن أَنْوَاعِ
مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ حِفْظًا لِلْأَحْوَالِ السّنيَّةِ وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ، وَيتَبَيَّنُ أَنَّ هَذَا جُزْءٌ مِن أَجْزَاءِ مَا جَاءَت بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنَ الْمَصَالِحِ.
[32/ 234]
* * *
(حكم الأخذ بأقوال الصحابة)
1896 -
أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ:
أ- إِنْ انْتَشَرَتْ وَلَمْ تُنْكَرْ فِي زَمَانِهِمْ فَهِيَ حُجَّةٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ.
ب- وَإِن تَنَازَعُوا رُدَّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللهِ وَالرَّسُولِ، وَلَمْ يَكُن قَوْلُ بَعْضِهِمْ حُجَّةً مَعَ مُخَالَفَةِ بَعْضِهِمْ لَهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ،
ج- وإِن قَالَ بَعْضُهُم قَوْلًا وَلَمْ يَقُلْ بَعْضُهُم بِخِلَافِهِ وَلَمْ يَنْتَشِرْ: فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ يَحْتَجُّونَ بِهِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. [20/ 14]
* * *
(المغمى عليه)
1897 -
النائم والناسي غير مُكلَّفَين.
قال شيخنا: وكذلك المغمى عليه. [المستدرك 2/ 24]
* * *
(والمكره)
1898 -
اختلف الفقهاء والأصوليون في المكره: هل يسمى مختارًا أم لا؟
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: التحقيق أنه محمول على الاختيار، فله اختيار في الفعل، وبه صح وقوعُه؛ فإنه لولا إرادته واختياره لما وقع الفعل، ولكنه محمول على أنَّ هذه الإرادة والاختيار ليست من قِبَله، فهو مختار باعتبار أن غيره حَمَله على الاختيار ولم يكن مختارًا من نفسه. [المستدرك 2/ 24]
(النبي لا يفعل المكروه ليبين الجواز)
1899 -
قال القاضي: النبي صلى الله عليه وسلم لا يفعل المكروه ليبين الجواز؛ لأنه يحصل فيه التأسي؛ لأن الفعل يدل على الجواز، فإذا فعله استدل به على جوازه، وانتفت الكراهية. [المستدرك 2/ 50]
* * *
(السهو في البلاغ ولا يقر عليه)
1900 -
يجوز النسيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحكام الشرع عند جمهور العلماء، كما في حديث ذي اليدين وغيره، وكما دلَّ عليه القرآن واتفقوا على أنه لا يقر عليه؛ بل يعلمه الله به.
ومنعت طائفة السهو عليه في الأفعال البلاغية
(1)
والعبادات، كما أجمعوا على منعه واستحالته عليه في الأقوال البلاغية.
قال شيخنا: ودعوى الإجماع في الأقوال البلاغية لا يصح، وإنما المجمع عليه عدم الإقرار فقط. [المستدرك 2/ 50 - 51]
* * *
(المعاريض)
1901 -
الذي قيست عليه الحيل الربوية وليست مثله نوعان:
أحدهما: المعاريض، وهي أن يتكلم الرجل بكلام جائز يقصد به معنى صحيحًا ويوهم غيره أنه يقصد به معنى آخر، فيكون سبب ذلك الوهم كون اللفظ مشتركًا بين:
أ- حقيقتين لغويتين.
ب- أو عرفيتين.
(1)
أي: التي فيها بلاغ الدين.
ج- أو شرعيتين.
د- أو لغوية مع إحداهما.
هـ- أو عرفية مع إحداهما.
و- أو شرعية مع إحداهما.
فيعني أحد معنييه ويوهم السامع له أنه إنما عنى الآخر. فهذا كله إذا كان المقصود به رفع ضرر غير مستحق فهو جائز كقول الخليل: "هذه أختي"، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:"نحن من ماء" وقول الصديق رضي الله عنه: هاد يهديني السبيل.
وقد يكون واجبًا إذا تضمن دفع ضرر يجب دفعه ولا يندفع إلا بذلك.
والضابط: أن كل ما وجب بيانه فالتعريض فيه حرام؛ لأنه كتمان وتدليس. [المستدرك 2/ 167 - 168]
* * *
(الحقيقة والمجاز)
1902 -
مسألة: في القرآن مجاز
(1)
، نصَّ عليه بما خرّجه في متشابه القرآن في قوله:"إنا" و"نعلم" و"منتقمون" هذا من مجاز اللغة، يقول الرجل: إنا سنجري عليك رزقك، إنا سنفعل بك خيرًا.
قال شيخنا: قد يكون مقصوده يجوز في اللغة. [المستدرك 2/ 168]
1903 -
الْحَقِيقَةُ: هوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ.
وَقَد يُرَادُ بِهَا الْمَعْنَى الْمَوْضُوعُ لِلَّفْظِ الَّذِي يُسْتَعْمَل اللَّفْظُ فِيهِ.
فَالْحَقِيقَةُ أَو الْمَجَازُ: هِيَ مِن عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْأُصُولِ، وَقَد يَجْعَلُونَهُ مِن عَوَارِضِ الْمَعَانِي، لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَشْهَرُ. [5/ 200]
* * *
(1)
وقد أنكر ذلك شيخ الإسلام وأطال في ذلك.
(العموم والفحوى)
1904 -
إذا قال: "لا تعط زيدًا حبة": فهذا عند ابن عقيل وغيره في اقتضائه النهي عن إعطاء قيراط من باب فحوى الكلام.
قال شيخنا: والصواب: أن هذا نكرة فيعم جميع الحبات كسائر النكرات، ولكن اقتضاؤه لما لم يندرج في لفظ "حبة" من باب الفحوى
(1)
، إلا أن يقال: مثل هذه الكلمة قد صارت بحكم العرف حقيقة في العموم، فيكون هذا أيضًا من باب الحقيقة العرفية، لا من باب الفحوى.
فهذا الباب يجب أن يميز فيه ما عم بطريق الوضع اللغوي، وما عم بطريق الوضع العرفي، وما عم بطريق الفحوى الخطابي، وما عم بطريق المعنى القياسي.
ويظهر الفرق بين العموم العرفي والفحوى: أنا في الفحوى نقول: فهم المنطوق ثم المسكوت؛ إذ اللازم تابع.
وفي العموم نقول: فهم الجميع من اللفظ كأفراد العام.
فعلى هذا يكون من باب نقل الخاص إلى العام.
وعلى الأول يكون من باب استعمال الخاص وإرادة العام. [المستدرك 2/ 174 - 175]
* * *
(فحوى الخطاب)
1905 -
فصل في فحوى الخطاب:
منه: ما يكون المتكلم قَصَد التنبيه بالأدنى على الأعلى؛ كآية البر، فهذا معلوم أنه قَصَد المتكلم بهذا الخطاب، وليس قياسًا، وجعْله قياسًا غلط فإنه هو المراد بهذا الخطاب.
(1)
فحوى القَوْل مضمونه ومرماه الَّذِي يتَّجه إِلَيْهِ الْقَائِل. المعجم الوسيط (2/ 676).
ومنه: ما لم يكن قصْد المتكلم إلا القسم الأدنى؛ لكن يعلم أنه يثبت مثل ذلك الحكم في الأعلى.
وهذا ينقسم إلى مقطوع، ومظنون.
ومثالهما: ما احتج به أحمد رضي الله عنه وقد سئل عن رهن المصحف عند أهل الذمة، فقال: لا "نهى النبي صلى الله عليه وسلم يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو"
(1)
فهذا قاطع؛ لأنه إذا نهى عما قد يكون وسيلة إلى نيلهم إياه فهو عن إنالتهم إياه أنهى وأنهى.
واحتج أن لا شفعة
(2)
لذمي بقوله: "إذا لقيتموهم في طريق فالجئوهم إلى أضيقه"
(3)
فإذا كان ليس لهم في الطريق حق فالشفعة أحرى ألا يكون لهم فيها حق، وهذا مظنون. [2/ 199]
* * *
(المجمل)
1906 -
مسألة: الأمر بالصلاة والزكاة والحج ونحو ذلك مجمل. هذا ظاهر كلام أحمد؛ بل نصُّه. ذكره ابن عقيل والقاضي أيضًا في العدة.
[شيخنا]: وذكر القاضي في مسألة الأمر بعد الحظر، ومسألة تأخير البيان إنما يحمل على عرف الشرع.
وبه قالت الحنفية.
وقال بعض الشافعية: يتناول ما يفهم مته في اللغة إلى أن يوجد البيان الشرعي.
وقال أبو الخطاب: ويقوى عندي أن تقدم الحقيقة الشرعية؛ لأن الآية
(1)
رواه البخاري (2990)، ومسلم (1869).
(2)
في الأصل: (شفقة)، وهو خطأ، والتصويب من المسودة (347).
(3)
رواه مسلم (2167).
غير مجملة؛ بل تحمل على الصلاة الشرعية؛ بناء على أن هذه الأسماء منقولة من اللغة إلى الشرع، وأنها في الشرع حقيقة لهذه الأفعال المخصوصة؛ فينصرف أمر الشرع إليها.
قال والد شيخنا: والمقدسي اختار مثل أبي الخطاب.
شيخنا: وهذا ليس بصحيح؛ لأنه قبل أنْ يعرف الحقيقة الشرعية أو الزيادات الشرعية: كيف يصرف الكلام إليها؟ وبعدما عرف ذلك صار ذلك بيانًا، فما أخرجه عن كونه مجملًا في نفسه أو غير مفهوم منه المراد الشرعي.
والصحيح: أنه إذا كان ذلك بعدما تقررت الزيادة الشرعية، أو المغيرة: أنه ينصرف إليها؛ لكونه هو أصل الوضع مع الزيادة، فصرفه إلى زيادة أخرى يخالف الأصل. [المستدرك 2/ 177 - 178]
* * *
فصل في حد البيان
1907 -
قال القاضي: هو إظهار المعنى وإيضاحه للمخاطب مفصلًا مما يلتبس به ويشتبه به.
وقال الصيرفي وأبو بكر عبد العزيز: هو إخراج الشيء من الإشكال إلى التجلي. [المستدرك 2/ 178 - 179]
* * *
(تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة)
1908 -
مسألة: تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة فيه روايتان:
إحداهما: الجواز، وهذا ظاهر كلامه في رواية صالح وعبد الله وأكثر أصحابه.
ولا فرق بين بيان المجمل أو العموم وغيره مما أريد به خلاف ظاهره.
والرواية الأخرى: لا يجوز.
[شيخنا]: قولهم: "تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز" ونقل الإجماع على ذلك: ينبغي أن يُفهم على وجهه، فإن الحاجة قد تدعو إلى بيان الواجبات والمحرمات من العقائد والأعمال، لكن قد يحصل التأخير للحاجة أيضًا:
أ- إما من جهة المبلِّغ.
ب- أو المبلَّغ.
أما المبلِّغ: فإنه لا يمكنه أن يخاطب الناس جميعًا ابتداء، ولا يخاطبهم بجميع الواجبات جملة؛ بل يبلغ بحسب الطاقة والإمكان.
وأما المبلَّغ: فلا يمكنه سمع الخطاب وفهمه جميعًا؛ بل على سبيل التدريج.
وأيضًا: فإنما يجب البيان على الوجه الذي يحصل المقصود فإذا كان في الإمهال والاستثناء من مصلحة البيان ما ليس في المبادرة كان ذلك هو البيان مأمور به، وكان هو الواجب أو هو المستحب؛ مثل تأخير البيان للأعرابي المسيء في صلاته إلى ثالث مرة.
وأيضًا: فإنما يجب التعجيل إذا خيف الفوت بأن يترك الواجب المؤقت حتى يخرج وقته، ونحو ذلك. [المستدرك 2/ 179 - 182]
* * *
(المحكم والمتشابه)
1909 -
مسألة: في "المحكم والمتشابه": ظاهر كلام أحمد أن المحكم ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان.
والمتشابه: ما احتاج إلى بيان.
قال شيخنا أبو العباس: التشابه الذي هو الاختلاف يعود:
أ- إلى اللفظ تارة كالمشترك مثلًا.
ب- وإلى المعنى أخرى؛ بأن يكون قد أثبت تارة ونفي أخرى، كما في قوله:{هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35)} [المرسلات: 35] مع قوله: {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)} [النساء: 42] ونحو ذلك من المتشابه الذي تكلم عليه ابن عباس في مسائل نافع بن الأزرق وتكلم عليه أحمد وغيره. [المستدرك 2/ 182 - 184]
* * *
(الاستثناء)
1910 -
الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله لغة، قاله أصحابنا والأكثرون.
[شيخنا]: يجوز تقديم الاستئناء على المستثنى منه.
[شيخنا]: يجوز الاستثناء من الاستثناء. [المستدرك 2/ 190]
1911 -
الاستثناء من النفي ومن الإثبات نفي، عندنا وعند الجمهور، وقالت الحنفية: ليس كذلك. وقيل: هو من الإثبات نفي، وأما من النفي فليس بإثبات. [المستدرك 2/ 194]
1912 -
"ثم" للترتيب مع المهلة والتراخي.
قال القاضي: "ثم" للفصل مع الترتيب، فإذا قال:"رأيت غلامًا ثم فلانًا" اقتضى أن يكون الثاني متأخرًا عن الأول في الرؤية؛ ولهذا يحتج أصحابنا بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] أن ذلك للمهلة فيقتضي أن يكون العود العزم على الوطء. [المستدرك 2/ 195]
1913 -
لا يصح الاستثناء من النكرات كما يصح من المعارف ذكره ابن
عقيل محل وفاق، محتجًّا به على أن الاستثناء يخرج ما دخل لا ما صح دخوله. [المستدرك 2/ 195]
* * *
(الحكم العام أو المطلق إذا ادُّعِيَ اختصاصه)
1914 -
فصل كثير المنفعة، متعلق بالنسخ والعموم وغيرهما: وهو أن الحكم العام أو المطلق، هل يجوز تعليله بما يوجب تخصيصه أو تقييده، سواء كان ثابتًا بخطاب أو بفعل؟ هذا فيه أقسام:
القسم الأول: ما كان عامًّا للمكلفين فيُدَّعَى تخصيصه بنفي التعليل، فمنه ما علم بالاضطرار عمومه فمخصصه كافر؛ كمدعي تخصيص تحريم الخمر بمن قد سبقه، أو بغير الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وسقوط الصلاة عمن دام حضور قلبه.
القسم الثاني: ما كان عامًّا في الأزمنة لفظًا أو حكمًا؛ فيُدَّعَى اختصاصه بزمانه فقط.
القسم الثالث: أن يُدَّعَى اختصاصه بحال من الأحوال الموجودة في زمان الشرع مما قد يجوز عودها.
القسم الرابع: أن يُدَّعَى اختصاصه بمكان الشارع كدعوى اختصاص فرضه للأصناف الخمسة في صدقة الفطر بالمدينة لكونها قوتهم الغالب، وكذلك في الدية والمصراة وغير ذلك. وهذا من جنس الذي قبله، فإنه لا يوجب انقطاع الحكم؛ بل اختصاصه بحال دون حال.
القسم الخامس: الأفعال التي فعلها في العبادات والعادات إذا ادّعي اختصاصها بزمان أو مكان أو حال. [المستدرك 2/ 196 - 197]
* * *
(الخاص)
1915 -
فصل في حد الخاص: وهو اللفظ الدال على واحد بعينه، بخلاف العام والمطلق. [المستدرك 2/ 197]
* * *
(إذا علق الحكم على صفة في جنس دل على نفيه فيما عداها)
1916 -
إذا علق الحكم على صفة في جنس كقوله: "في سائمة الغنم الزكاة": دلَّ على نفيه عما عداها في ذلك الجنس دون بقية الحيوان، في قول بعض أصحابنا وبه قال بعض الشافعية. وفيه وجه آخر: أنه يدل على نفيه عما عدا السائمة في سائر الحيوان، وهو قول بعض الشافعية. [المستدرك 2/ 197 - 198]
* * *
(المفهوم)
1917 -
المفهوم: لا عموم له عند المصنف، والشيخِ تقي الدين وغيرهم من الأصوليين، وأنه يكفي فيه صورة واحدة. [المستدرك 2/ 199]
* * *
(تعليق الحكم على مظنة
…
أو إقامة السبب مقام العلة وهو أقسام) فصل في تعليق الحكم على مظنة الحكمة دون حقيقتها
1918 -
يسميه بعضهم: إقامة السبب مقام العلة، وهذا منتشر في كلام الفقهاء غير منضبط، فإنهم يذكرون هذا في مسألة الإيلاج بلا إنزال، ومسألة النوم، ومسألة السفر، ومسألة البلوغ، ومنهم من يذكره في مسألة مس النساء.
وهو أقسام:
الأول: أن تكون الحكمة التي هي العلة خفية: فهنا لا سبيل إلى تعليق الحكم بها، فإنما يعلق بسببها وهو نوعان:
أحدهما: أن يكون دليلًا عليها؛ كالعدالة مع الصدق، والأبوة في التملك، فهنا يعمل بدليل العلة ما لم يعارضه أقوى منه.
الثاني: أن يكون حصولها معه ممكنًا؛ كالحدث مع النوم، والكذب أو الخطأ مع تهمة القرابة أو العداوة أو الصداقة، وإقرار المريض.
القسم الثاني: أن تكون ظاهرة في الجملة، لكن الحكم لا يتعلق بنوعها، وإنما يتعلق بمقدار مخصوص منه، وهو غير منضبط، فقدرها غير ظاهر، ويمثلون في هذا بالمشقة مع السفر، والعقل مع البلوغ؛ فإن العقل الذي يحصل به التكليف غير منضبط لنا، وكذلك المشقة التي يحصل معها الضرر.
القسم الثالث: أن تكون ظاهرة منضبطة، لكن قد تخفى؛ مثل الإيلاج مع الإنزال، واللمس مع اللذة، وهذا فيه نظر، وقد اختلف فيه قبولًا وردًّا. [المستدرك 2/ 222 - 223]
* * *
(لا يجوز لأحد أن يلزم خصمه ما لا يقول به، إلا النقض)
1919 -
مسألة: قال القاضي وأبو الطيب: لا يجوز لأحد أن يلزم خصمه ما لا يقول به، إلا النقض.
فأما غيره كدليل الخطاب أو القياس أو المرسل ونحو ذلك فلا، ولم يذكر خلافًا. [المستدرك 2/ 225]
* * *
(لا بد أن يتم دليل المستدل أولًا)
1920 -
لا يجوز للسائل أن يعارض المستدل بما ليس دليلًا عند السائل، مثل علة منتقضة على أصل السائل، بخلاف نقض علة المعلل بما لا يراه المعترض فإنه يجوز.
قال شيخنا: إن كان المعارض قصده إثبات مذهبه لم يجز ذلك، وإن كان قصده إبطال دليل المستدل جاز ذلك؛ لأن المستدل إنما يتم دليله إذا سلم عن المعارضة، كما لا يتم حتى يسلم من المناقضة، فإذا كان المستدل لم يتم الدليل له كيف يلزم به غيره. [المستدرك 2/ 229]
* * *
(لا تتكافأ الأدلة القطعية وفي الظنية خلاف)
1921 -
اتفقوا على أنه لا يجوز تعادل الأدلة القطعية لوجوب وجود مدلولاتها وهو محال، وكذلك الأدلة الظنية عندنا، ذكره القاضي وأبو الخطاب. [المستدرك 2/ 232 - 233]
* * *
النسخ
1922 -
لَا تُتْرَكُ سُنَّة ثَابِتَة إلَّا بِسُنَّةٍ ثَابِتَةٍ، ويمْتَنِعُ انْعِقَاد الْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِ سُنَّةٍ إلَّا وَمَعَ الْإِجْمَاعِ سُنَّة مَعْلُومَة نَعْلَمُ أَنَّهَا نَاسِخَة لِلْأُولَى. [19/ 257]
1923 -
لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ نُسِخَ بِسُنَّةٍ بِلَا قُرْآنٍ. [20/ 398]
(هل هذه الآية: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} منسوخة؟)
1924 -
قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام: 145] نَفَى التَّحْرِيمَ عَن غَيْرِ الْمَذْكُورِ، فَيَكُونُ الْبَاقِي مَسْكُوتا عَن تَحْرِيمِهِ عَفْوًا، وَالتَّحْلِيلُ إنَّمَا يَكُونُ بِخِطَاب
(1)
؛ وَلهَذَا قَالَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ الَّتِي أُنْزِلَتْ بَعْدَ هَذَا: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} إلَى قَوْلِهِ: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [4، 5] فَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أُحِلَّ لَهُم الطَّيباتُ، وَقَبْلَ هَذَا لَمْ يَكن مُحَرَّمًا عَلَيْهِم إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ.
وَقَد حَرَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم "كُلَّ ذِي نَابٍ مِن السّبَاعِ وَكُلَّ ذِي مِخْلَبٍ مِن الطيْرِ"
(2)
، وَلَمْ يَكُن هَذَا نَسْخًا لِلْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الْكتَابَ لَمْ يُحِلَّ ذَلِكَ، وَلَكِنْ سَكَتَ عَن تَحْرِيمِهِ فَكَانَ تَحْرِيمُهُ ابْتِدَاءَ شَرْعٍ. [7/ 46]
* * *
(1)
أي: بخطاب شرعيّ في إباحة أمر من الأمور.
(2)
رواه مسلم (1934).
(ما يجوز نسخه وما لا يجوز)
1925 -
قال شيخنا: قال القاضي في "العدة" في الخبر: هل يصح نسخه أم لا؟ فإن كان خبرًا لا يصح أن يقع إلا على الوجه المخبر به فلا يصح نسخه؛ كالخبر عن الله تعالى بأنه واحد ذو صفات، والخبر بموسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء أنهم كانوا أنبياء موجودين والخبر بخروج الدجال في آخر الزمان، ونحو ذلك فهذا لا يصح نسخه؛ لأنه يفضي إلى الكذب.
قال شيخنا: قلت: إلا أن النسخ اللغوي كما في قوله تعالى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [الحج: 52] على قول من قال: إنه ألقي في التلاوة "تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى"، وإن كان مما يصح أن يتغير ويقع على غير الوجه المخبر عنه فإنه يصح نسخه؛ كالخبر عن زيد بانه مؤمن أو كافر أو عدل أو فاسق فهذا يجوز نسخه، فإذا أخبر عن زيد بأنه مؤمن جاز أن يقول بعد ذلك هو كافر، وكذلك يجوز أن يقول: الصلاة على المكلف في المستقبل، ثم يقول بعده: ليس على المكلف فعل صلاة؛ لأنه يجوز أن تتغير صفته من حال إلى حال.
قال رضي الله عنه: وعلى هذا يخرج نسخ قوله {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] كما قد جاء عن الصحابة والتابعين خلافًا لمن أنكره من أصحابنا وغيرهم كابن الجوزي.
فضابط القاضي: أن الخبر إن قبل التغيير جاز النسخ وإلا فلا. [المستدرك 2/ 26 - 27]
* * *
(فضيلة الناسخ على المنسوخ)
1926 -
لما قال المخالف القرآن كله متساو في الخبر فقوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: 106] يدل على أنه لا ينسخ بالأثقل، فقال: ومعلوم أنه
لم يرد بقوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} فضيلة الناسخ على المنسوخ؛ لأن القرآن كله متساو في الفضيلة، فعلم أنه أراد الأخف، فلم يمنع القاضي ذلك؛ بل قال: الخير ما كان أنفع: إما بزيادة الثواب مع المشقة، وإما بكثرة انتفاع المغير به، فإنه سبب لزيادة الثواب.
قال شيخنا: قلت: بقي القول الثالث -وهو الحق- التفاضل الحقيقي كما نطقت به النصوص الصحيحة الصريحة. [المستدرك 2/ 27 - 28]
* * *
(نسخ التلاوة ونسخ الحكم)
1927 -
ذكر القاضي في ضمن مسألة نسخ القرآن بالسُّنَّة أن الخلاف في نسخ تلاوته بأن يقول النبي: لا تقرؤوا هذه الآية فتصير تلاوتها منسوخة بالسُّنَّة، وفي نسخ حكمه مع بقاء تلاوته، وأن المجيز يجيزهما جميعًا، وجعل نسخ التلاوة أعظم من نسخ الحكم؛ فإنه منعهما جميعًا.
قال شيخنا: قلت: إذا قال الرسول: "هذه الآية قد رفعها الله " فهو تبليغ منه لارتفاعها كإخباره بنزولها، فلا ينبغي أن يمنع من هذا وإن منع من نسخ الحكم، فيكون الأمر على ضد ما يتوهم فيما ذكره القاضي. [المستدرك 2/ 28]
* * *
(هل السُّنَّة تنسخ القرآن
؟)
1928 -
قال شيخنا: قال ابن أبي موسى: والسُّنَّة لا تنسخ القرآن عندنا، ولكنها تخص وتبين.
وقد روي عنه رواية أخرى: أن القرآن ينسخ بالمتواتر من السُّنَّة.
قال شيخنا: حكى محمد بن بركات النحوي في كتاب الناسخ والمنسوخ أن بعضهم جوَّز نسخ القرآن بالإجماع، وبعضهم جوَّزه بالقياس قال: وهذا يجوز أنْ يكون مناقضًا.
قال: واختلف في نسخ الإجماع بالإجماع، والقياس بالقياس، والمشهور عن مالك وأصحابه نسخ القرآن بالاجماع ومنع نسخ الإجماع بالإجماع والقياس بالقياس، فقال: وهذا ذكره البغداديون في أصولهم.
1929 -
اختلف من قال بجواز نسخ القرآن بالسُّنَّة: هل وجد ذلك أم لا؟ فقال بعضهم: وجد ذلك. وقال بعضهم: لم يوجد، قال أبو الخطاب: وهو الأقوى عندي. [المستدرك 2/ 29 - 30]
1930 -
قَوْلُهُ تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّة تَضَمَّنَتْ وَعْدَهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ بِذَلِكَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمِيعَادُ، فَمَا نَسَخَهُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ أَوْ أَنْسَأَ نُزولَهُ مِمَّا يُرِيدُ إنْزَالَهُ يَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ، وَأَمَّا مَا نَسَخَهُ قَبْلَ هَذِهِ أَوْ أَنْسَاَهُ فَلَمْ يَكُنْ قَد وَعَدَ حِينَئِذٍ أَنَّهُ يَأْتِي بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ.
وَعَلَى مَا ذُكِرَ فَيَتَوَجَّهُ الِاحْتِجَاجُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْسَخُ الْقُرْآنَ إلَّا قُرْآن، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَافِعِيِّ وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَد؛ بَل هِيَ الْمَنْصُوصَةُ عَنْهُ صَرِيحًا أَنْ لَا يَنْسَخُ الْقُرْآنَ إلَّا قُرْآنٌ يَجِيءُ بَعْدَهُ، وَعَلَيْهَا عَامَّةُ أَصْحَابِهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللهَ قَد وَعَدَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمَنْسُوخِ مِن بَدَلٍ مُمَاثِلٍ أو خَيْرٍ. فَلَو كَانَتِ السُّنَّةُ نَاسِخَةً لِلْكِتَابِ: لَزِمَ أَنْ تَكُونَ مِثْلَهُ أَو أَفْضَلَ مِنْهُ.
وَأَيْضًا فَلَا يُعْرَفُ فِي شَيءٍ مِن آياتِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ نَسَخَهُ إلَّا قُرْآنٌ. [17/ 194 - 198]
* * *
(نسخ القرآن بالسُّنَّة المتواترة)
1931 -
أما نسخ القرآن بالسُّنَّة المتواترة فيجوز عقلًا قاله القاضي وبعض الشافعية. [المستدرك 2/ 30]
(نسخ السُّنَّة بقرآن)
1932 -
يجوز نسخ السُّنَّة بالقرآن وبه قالت الحنفية.
قال شيخنا: الذي منع نسخ السُّنَّة بقرآن يقول: إذا نزل القرآن فلا بد أن يسن النبي صلى الله عليه وسلم سُنَّة تنسخ السُّنَّة الأولى، وهذا حاصل، وأما بدون ذلك فلم يقع. [المستدرك 2/ 31]
* * *
(الزيادة على النص هل تكون نسخًا
؟)
1933 -
الزيادة على النص ليست نسخًا عند أصحابنا والمالكية والشافعية.
وقالت الحنفية: هي نسخ.
قال شيخنا: التحقيق في مسألة الزيادة على النص -زيادة إيجاب أو تحريم أو إباحة-: أنَّ الزيادة ليست نسخًا إذا رفعت موجب الاستصحاب أو المفهوم الذي لم يثبت حكمه، إلا بمعنى النسخ العام الذي يدخل فيه التخصيص ومخالفة الاستصحاب ونحوهما، وذلك يجوز بخبر الواحد والقياس.
وأما إن رفعت موجب الخطاب فهو نسخ بمعنى النسخ المشهور في عرف المتأخرين إن كان ذلك الموجب قد ثبت أنه مراد بالخطاب. وأما إذا لم يثبت أنه مراد إما مع تأخر المفسر عند من يجوز تأخره، أو مع جواز تأخره عند من يوجب الاقتران فإنه كتخصيص العموم.
وقد أجاب أبو محمد عن هذا بأن النسخ رفع جميع موجب الخطاب لا رفع بعضه، إذ رفع بعضه كتخصيص العموم وترك المفهوم.
ثم الخطاب إذا دل على عدم الإيجاب وعدم التحريم فهو مثل النصوص الواردة في الخمر قبل التحريم: هل هو نسخ؟ فيه خلاف، قال أبو محمد: هو نسخ.
والأشبه أنه ليس بنسخ؛ لأنه لم ينف الحرج ولم يؤذن في الفعل، وإذا سكت عن التحريم أقروا على الفعل إلى حين النسخ، والإقرار المستقر حجة.
وأما غير المستقر فبمنزلة الاستصحاب المرفوع.
فلو فعل المسلمون شيئًا مدة فلم ينهوا عنه ثم نهوا عنه لم يكن هذا نسخًا، وإن كان الإقرار على الشيء حجة شرعية؛ لأن الإقرار إنما يكون حجة إذا لم ينهوا عنه بحال، فمتى نهوا عنه فيما بعد: زال شرط كونه حجة، وقد يقال: هو نسخ. [المستدرك 2/ 31 - 35]
1934 -
تحقيق الأمر في نسخ القياس: أنه إن استقر حكم ثم جاء بعده نص يعارضه كان نسخًا للقياس فقط، سواء كانت العلة منصوصة أو مستنبطة، وإن لم يستقر حكمها كان مجيء النص دليلًا على فساد القياس.
وهكذا القول في نسخ العموم والمفهوم، وكل دليل ظني بقطعي أو بظني أرجح منه؛ فإنه عند التعارض:
إما أن يرفع الحكم.
أو دلالة الدليل عليه.
فالأول: هو النسخ الخاص.
والثاني: من باب فوات الشرط أو وجود المانع. [المستدرك 2/ 40]
* * *
(قاعدة أحمد فيما إذا تعارض حديثان في قضيتين
.. )
1935 -
قاعدة أحمد التي ذكرها في كلامه ودلت عليها تصرفاته: أنه إذا تعارض حديثان في قضيتين متشابهتين داخلتين تحت جنس واحد لم يدفع أحد النصين بقياس النص الآخر؛ بل يستعمل كل واحد من النصَّين في موضعه، ويجعل النوعين حكمين مختلفين، والمسكوت عنه يلحقه بأحدهما، مثل ما عمل في السجود قبل السلام وبعده، ومثل ما عمل في صلاة الفذ خلف رجلًا
كان أو امرأة، ومثل ما عمل فيمن باع عبدًا وله مال مع حديث القلادة الخيبرية، وفي مسألة مد عجوة، ومثل ما عمل في حديث هند:"خذي ما يكفيك وولدك"
(1)
مع قوله: "أد الأمانة إلى من ائتمنك"
(2)
وهذا على ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يظهر بين النوعين المنصوصين فرق، فهذا ظاهر.
والثاني: أن يعلم انتفاء الفرق، فهذا ظاهر أيضًا.
وأحمد وغيره يقولون بالتعارض، مثل أن يكون أحد النصَّين في حق زيد والآخر في حق عمرو، ونحو ذلك.
والثالث: أن تكون التسوية ممكنة، والفرق ممكنًا، فهنا هو مضطرب الفقهاء، فمن غلب على رأيه التسوية قال بالتعارض والنسخ، مثلًا، ومن جوَّز أن يكون هناك فرق لم يقدم على رفع أحد النصين بقياس النص الآخر، وقد يعم كلام أحمد هذا القسم فينظر ويقول: هذا من جنس خبر الواحد المخالف لقياس الأصول. وأهل الرأي كثيرًا ما يعارضون النصوص الخاصة بقياس نصوص أخرى، أو بعمومها، وفي كلام أحمد إنكار على من يفعل ذلك. [المستدرك 2/ 44 - 45]
* * *
(النسخ بالعموم والقياس)
1936 -
الحنفية يقولون بهذا كثيرًا، وأصحابنا والشافعية وغيرهم يدفعونه كثيرًا.
والحاجة إلى معرفته ماسة، فإنه كثيرًا ما وقعت أحكام الأفعال في وقت
(1)
رواه البخاري (5364).
(2)
رواه أبو داود (3534)، والترمذي (1264)، والدارمي (2639)، وأحمد (15424)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.
لم يكن نظائر تلك الأفعال محرمةً، ثم حرمت تلك الأفعال بلفظ يخصها، أو بلفظ يعمها والفعل الآخر؛ فالواجب فيه أن ينظر: فإن كان ذلك العموم مما قد عرف دخول تلك الصورة فيه كان نسخًا، وكذلك إذا لم يكن بين الصورتين فرق، وهذا مثل ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يعامل المشركين والمنافقين من العفو والصفح، قبل نزول براءة، وكانت المساجد ينتابها المشركون قبل نزول براءة، وكان المسلمون يلون أقاربهم المشركين في الغسل وغيره؛ كولاية علي أباه، قبل أن يقطع الله الموالاة بينهم.
وبالجملة: متى كان الحكم الأول قد عرفت علَّته وزالت بمجيء النص الناسخ، أو كان معنى النص الناسخ متناولًا لتلك الصورة: فلا ريب في النسخ.
وتختلف بعض آراء المجتهدين في بعض هذه التفاصيل، وهذه القاعدة يُحتاج إليها في الفقه كثيرًا. [المستدرك 2/ 45 - 46]
* * *
(النسخ بالتعليل نسخ للشريعة وما له إلى الانحلال
…
)
1937 -
ما حكم به الشارع مطلقًا أو في أعيان: فهل يجوز تعليله بعلة مختصة بذلك الوقت بحيث يزول ذلك الحكم زوالًا مطلقًا: قد ذهب الحنفية والمالكية إلى جواز ذلك، ذكروه في مسألة التحليل، وذكره المالكية في حكمه بتضعيف الغرم على سارق الثمر المعلق والضالة المكتومة ومانع الزكاة وتحريق متاع الغال، وهو يشبه قول من يقول: إن حكم المؤلفة قد انقطع.
قال شيخنا: وهذا عندي اصطلام للدين، ونسخ للشريعة بالرأي، ومآله إلى انحلال من بعد الرسول عن شرعه بالرأي؛ فإنه لا معنى للنسخ إلا اختصاص كل زمان بشريعة، فإذا جوز هذا بالرأي نسخ بالرأي.
وأما أصحابنا وأصحاب الشافعي فيمنعون ذلك، ولا يرفعون الحكمَ المشروعَ بخطابٍ إلا بخطاب.
ثم منهم من يقول: قد تزول العلة ويبقى الحكم كالرمل والاضطباع.
ومنهم من يقول: النطق حَكَم مطلق، وإن كان سببه خاصًّا، فقد ثبتت العلة بها مطلقًا.
وهذان جوابان لا يحتاج إليهما، واستمساك الصحابة بنهيه عن الادخار في العام القابل يبطل هذه الطريقة.
وهذا أصل عظيم. [المستدرك 2/ 46]
* * *
(إذا قال الصحابي: هذه الآية منسوخة)
1938 -
مسألة: إذا قال الصحابي: هذه الآية منسوخة: فإنا لا نصير إلى قوله حتى يخبر بماذا نسخت، قال القاضي: أومأ إليه أحمد، وبه قالت الحنفية والشافعية.
وفيه رواية أخرى: يقبل قوله ذكرها ابن عقيل وغيره.
وعندي
(1)
أنه إن كان هناك نص آخر يخالفها
(2)
فإنه يقبل قوله في ذلك؛ لأن الظاهر أن ذلك النص هو النسخ، ويكون حاصل قول الصحابي الإعلام بالتقدم والتأخر، وقوله يقبل في ذلك. [المستدرك 2/ 47]
* * *
(إذا قال الراوي: كان كذا ونسخ)
1939 -
مسألة: إذا قال الراوي: كان كذا ونسخ. قال شيخنا: يجب الفرق بين أن يقول: "كان كذا، ونسخ" وبين أن يقول لخبر معلوم بنقل غيره: "هذا منسوخ" فإن هذا بمنزلة قوله عن الآية: "هي منسوخة". [المستدرك 2/ 48]
* * *
(1)
هذا من قول الجد.
(2)
أي: يُخالف الآية.
(كُلُّ نَصٍّ مَنْسُوخٍ بِإِجْمَاعِ الْأمَّةِ فَمَعَ الْأمَّةِ النَّصُّ النَّاسِخُ لَه)
1940 -
لَا يُوجَدُ قَطُّ مَسْأَلَة مُجْمَعٌ عَلَيْهَا إلَّا وَفِيهَا بَيَانٌ مِنَ الرَّسُولِ، وَلَكِنْ قَد يَخْفَى ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ ويعْلَمُ الْإِجْمَاعَ؛ فَيَسْتَدِلُّ بِهِ.
فَإِنَّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ فَقَد دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فَعَن الرَّسُولِ أُخِذَ، فَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كِلَاهُمَا مَأخُوذٌ عَنْهُ.
وَلَا يُوجَدُ مَسْاَلَةٌ يَتَّفِقُ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهَا إلَّا وَفِيهَا نَصٌّ.
وَقَد كَانَ بَعْضُ النَّاسُ يَذْكُرُ مَسَائِلَ فِيهَا إجْمَاعٌ بِلَا نَصّ كَالْمُضَارَبَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَل الْمُضَارَبَةُ كَانَت مَشْهُورَةً بَيْنَهُم فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا سِيَّمَا قُرَيْشٌ؛ فَإِنَّ الْأَغْلَبَ كَانَ عَلَيْهِم التِّجَارَةُ، وَكَانَ أَصْحَابُ الْأَمْوَالِ يَدْفَعُونَهَا إلَى الْعُمَّالِ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَد سَافَرَ بِمَالِ غَيْرِهِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، كَمَا سَافَرَ بِمَالِ خَدِيجَةَ، وَالْعِيرُ الَّتِي كَانَ فِيهَا أَبُو سُفْيَانَ كَانَ أَكْثَرُهَا مُضَارَبَةً مَعَ أَبِي سُفْيَانَ وَغَيْرِهِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَقَرَّهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يُسَافِرُونَ بِمَالِ غَيْرِهِمْ مُضَارَبَةً، وَلَمْ يَنْهَ عَن ذَلِكَ، وَالسُّنَّةُ: قَوْلُهُ وَفِعْلُهُ وَإِقْرَارُهُ، فَلَمَّا أَقَرَّهَا كَانَت ثَابِتَةً بِالسُّنَّةِ.
وَأَمَّا مَسْأَلَةٌ مُجَرَّدَةٌ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَدَلُّ فِيهَا بِنَصٍّ جَلِيٍّ وَلَا خَفِيٍّ: فَهَذَا مَا لَا أَعْرِفُهُ.
وَقَد رُوِيَ عَن عَلِيٍّ وَزيدٍ رضي الله عنهما أَنَّهُمَا احْتَجَّا بِقِيَاسٍ، فَمَن ادَّعَى إجْمَاعَهُم عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِالرَّأيِ وَالْقِيَاسِ مُطْلَقًا فَقَد غَلِطَ، وَمَنِ ادَّعَى أَنَّ مِنَ الْمَسَائِلِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهَا أَحَدٌ مِنْهُم إلَّا بِالرَّأيِ وَالْقِيَاسِ فَقَد غَلِطَ؛ بَل كَانَ كُلٌّ مِنْهُم يَتَكَلَّمُ بِحَسَبِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ، فَمَن رَأَى دَلَالَةَ الْكِتَابِ ذَكَرَهَا، وَمَن رَأَى دَلَالَةَ الْمِيزَانِ ذَكَرَهَا، وَالدَّلَائِلُ الصَّحِيحَةُ لَا تَتَنَاقَضُ، لَكِنْ قَد يَخْفَى وَجْهُ اتِّفَاقِهَا، أَو ضَعْفُ أَحَدِهَا عَلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ.
وَللصَّحَابَةِ فَهْمٌ فِي الْقُرْآنِ يَخْفَى عَلَى أَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ، كَمَا أَنَّ لَهُم مَعْرِفَةً بِأَمُورٍ مِنَ السُّنَّةِ وَأَحْوَالِ الرَّسُولِ لَا يَعْرِفُهَا أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَإِنَّهُم شَهِدُوا
الرَّسُولَ وَالتَّنْزِيلَ، وَعَايَنُوا الرَّسُولَ وَعَرَفُوا مِن أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ مِمَّا يَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى مُرَادِهِمْ مَا لَمْ يَعْرِفْهُ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ، فَطَلَبُوا الْحُكْمَ مَا اعْتَقَدُوا مِن إجْمَاع أَو قِيَاسٍ. [19/ 195 - 200]
1941 -
أمَّا عَلَى قَوْلِ مَن يَرَى مِن هَؤُلَاءِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ يَنْسَخُ النُصُوصَ، كَمَا يُذْكَرُ ذَلِكَ عَن عِيسَى بْنِ أَبَانَ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، مَضْمُونُهُ أَنَّ الْأمَّةَ يَجُوزُ لَهَا تَبْدِيلُ دِينِهَا بَعْدَ نَبِيّهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُمْ، كَمَا تَقُولُ النَّصَارَى: أُبِيحَ لِعُلَمَائِهِمْ أَنْ يَنْسَخُوا مِن شَرِيعَةِ الْمَسِيحِ مَا يَرَوْنَهُ، وَلَيْسَ هَذَا مِن أَقْوَالِ الْمُسْلِمِينَ.
وَمِمَن يَظُنُّ الْإِجْمَاعَ مَن يَقُولُ: الْإِجْمَاعُ دَلَّ عَلَى نَصِّ نَاسِخٍ لَمْ يَبْلُغْنَا.
وَكُلُّ مَن عَارَضَ نَصُّا بِإِجْمَاع، وَادَّعَى نَسْخَهُ مِن غَيْرِ نَصِّ يُعَارِضُ ذَلِكَ النَّصَّ: فَإِنَهُ مُخْطِئٌ فِي ذَلِكَ، كَمَا قَد بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي مَوْضِع آخَرَ، وَبُيِّنَ أَنَّ النُّصُوصَ لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا شَيْءٌ إلَّا بِنَصّ بَاقٍ مَحْفُوظٍ عِنْدَ الْأُمَّةِ، وَعِلْمُهَا بِالنَّاسِخِ الَّذِي الْعَمَلُ بِهِ أَهَمُّ عِنْدَهَا مَن عِلْمِهَا بِالْمَنْسُوخِ الَّذِي لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ، وَحِفْظُ اللّهِ النُّصُوصَ النَّاسِخَةَ أَوْلَى مِن حِفْظِهِ الْمَنْسُوخَةَ.
1942 -
لَا يَجُوزُ لِأحَدٍ أَنْ يَظُنَّ بِالصَّحَابَةِ أَنَّهُم بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِ شَرِيعَتِهِ؛ بَل هَذَا مِن أَقْوَالِ أَهْلِ الْإِلْحَادِ، وَلَا يَجُوزُ دَعْوَى نَسْخِ مَا شَرَعَهُ الرَّسُولُ بِإِجْمَاعِ أَحَدٍ بَعْدَهُ كَمَا يَظُنُّ طَائِفَةٌ مِن الغالطين؛ بَل كُلُّ مَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ فَلَا يَكونُ إلَّا مُوَافِقًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، لَا مُخَالِفًا لَهُ؛ بَل كُلُّ نَصٍّ مَنْسُوخٍ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ فَمَعَ الْأُمَّةِ النَّصُّ النَّاسِخُ لَهُ؛ تَحْفَظُ الْأُمَّةُ النَّصَّ النَّاسِخَ كَمَا تَحْفَظُ النَّصَّ الْمَنْسُوخَ، وَحِفْظُ النَّاسِخِ أَهَمُّ عِنْدَهَا وَأَوْجَبُ عَلَيْهَا مِن حِفْظِ الْمَنْسُوخِ، ويُمْنَعُ أَنْ يَكُونَ عُمَرُ وَالصَّحَابَةُ مَعَهُ أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِ نَصِّ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنْ قَد يَجْتَهِدُ الْوَاحِدُ وَيُنَازِعُهُ غَيْرُهُ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ. [33/ 32]
الإجماع
(معنى الإجماع)
1943 -
مَعْنَى الْإِجْمَاعِ: أَنْ تَجْتَمِعَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَإِذَا ثَبَتَ إجْمَاعُ الْأمَّةِ عَلَى حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ لَمْ يَكُن لِأَحدٍ أَنْ يَخْرُجَ عَن إجْمَاعِهِمْ؛ فَإِنَّ الْأمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنَ الْمَسَائِلِ يَظنُّ بَعْضُ النَّاسِ فِيهَا إجْمَاعًا وَلَا يَكونُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ بَل يَكُونُ الْقَوْلُ الْآخَرُ أَرْجَحَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَأمَّا أَقْوَالُ بَعْضِ الْأئِمَّةِ كَالْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ؛ فَلَيْسَ حُجَّةً لَازِمَةً وَلَا إجْمَاعًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. [20/ 10]
* * *
(هل الإجماع حجة
؟)
1944 -
قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115]: فَإِنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ، فَكُلُّ مَن شَاقَّ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى فَقَد اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤمِنِينَ، وَكُلّ مَن اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤمِنِينَ فَقَد شَاقَّ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى.
وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ إجْمَاعَ الْمُؤْمِنِينَ حُجَّة؛ مِن جِهَةِ أَنَّ مُخَالَفَتَهُم مُسْتَلْزِمَةٌ لِمُخَالَفَةِ الرَّسُولِ، وَأَنَّ كُلَّ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُوْنَ فِيهِ نَصٌّ عَن الرَّسُولِ.
فَكُلُّ مَسْألَةٍ يُقْطَعُ فِيهَا بِالْإِجْمَاعِ وَبِانْتِفَاءِ الْمُنَارعِ مِن الْمُؤمِنِينَ: فَإِنَّهَا مِمَّا
بَيَّنَ اللهُ فِيهِ الْهُدَى، وَمُخَالِفُ مِثْل هَذَا الْإِجْمَاعِ يَكْفُرُ، كَمَا يَكْفُرُ مُخَالِفُ النَّصِّ الْبَيِّنِ.
وَأَمَّا إذَاكَانَ يُظَنُّ الْإِجْمَاعُ وَلَا يُقْطَعُ بِهِ: فَهُنَا قَد لَا يُقْطَعُ أَيْضًا بِأَنَّهَا مِمَّا تَبَيَّنَ فِيهِ الْهُدَى مِن جِهَةِ الرَّسُولِ، وَمُخَالِفُ مِثْل هَذَا الْإِجْمَاعِ قَد لَا يَكْفُرُ؛ بَل قَد يَكُونُ ظَنُّ الْإِجْمَاعِ خَطَأً، وَالصَّوَابُ فِي خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ، وَهَذَا هُوَ فَصْلُ الْخِطَابِ فِيمَا يَكْفُرُ بِهِ مِن مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ وَمَا لَا يَكفُرُ.
وَالْإِجْمَاعُ هَل هُوَ قَطْعِيُّ الدَّلَالَةِ أَو ظَنِّيُّ الدَّلَالَةِ؟ .. الصَّوَابُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا يُقْطَعُ بِهِ مِن الْإِجْمَاعِ وَيُعْلَمُ يَقِينًا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مُنَارعٌ مِن الْمُؤمِنِينَ أَصْلًا، فَهَذَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ حَقٌ، وَهَذَا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِمَّا بَيَّنَ فِيهِ الرَّسُولُ الْهُدَى. [7/ 38 - 39]
* * *
(دلالة كون الإجماع حجة)
1945 -
دلالة كون الإجماع حجة هو الشرع.
وقيل: العقل أيضًا نثبته حجة: إما بالسمع، وإما بالعقل.
والسمع: إما بالكتاب، وإما بالسُّنَّة.
ونثبت السُّنَّة بالتواتر المعنوي. [المستدرك 2/ 115]
* * *
(الإجماع حجة، وإذا اختلف الصحابة لم يخرج عن أقاويلهم وينظر إلى أقرب القولين إلى الكتاب والسُّنَّة)
1946 -
مسألة: لا يجوز أن تجمع الأمة على الخطأ، نصَّ عليه، وهو قول جماعة الفقهاء والمتكلمين. وأول من استدل بالآية
(1)
الشافعي رضي الله عنه.
قال القاضي: الإجماع حجة مقطوع عليها، يجب المصير إليها، وتحرم
(1)
وهي قوله تَعَالَى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} .
مخالفته، ولا يجوز أن تجمع الأمة على الخطأ، وقد نص أحمد على هذا في رواية عبد الله وأبي الحارث في الصحابة إذا اختلفوا لم يخرج عن أقاويلهم: أرأيت إن أجمعوا له أن يخرج من أقاويلهم؛ هذا قول خبيث، قول أهل البدع، لا ينبغي لأحد أن يخرج من أقاويل الصحابة إذا اختلفوا. [المستدرك 2/ 113]
قال شيخنا رضي الله عنه: قال في رواية عبد الله: من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس قد اختلفوا، وهذه دعوى بشر المريسي والأصم، ولكن يقول:"لا نعلم الناس اختلفوا" إذا لم يبلغه، وكذلك نقل المروذي عنه أنه قال: كيف يجوز للرجل أن يقول: "أجمعوا"؟ إذا سمعتهم يقولون أجمعوا فاتهمهم، لو قال:"إني لم أعلم مخالفًا" كان ذلك، ونقل أبو طالب عنه أنه قال: هذا كذب، ما أعلمه أنَّ الناس مجمعون، ولكن يقول:"لا أعلم فيه اختلافًا" فهو أحسن من قوله: "إجماع الناس" وكذلك نقل أبو الحارث: لا ينبغي لأحد أن يدعي الإجماع، لعل الناس اختلفوا.
* * *
(هل يَبْدَأُ الْمُجْتَهِدُ بِأَنْ يَنْطرَ أَوَّلًا فِي الْإِجْمَاعِ)
1947 -
عُمَرُ رضي الله عنه قَدَّمَ الْكِتَابَ ثُمَّ السُّنَّةَ، وَكَذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ مِثْل مَا قَالَ عُمَرُ، قَدَّمَ الْكِتَابَ ثُمَّ السُّنَّةُ ثُمَّ الْإِجْمَاعُ، وَكَذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ يُفْتِي بِمَا فِي الْكِتَابِ، ثُمَّ بِمَا فِي السُّنَّةِ، ثُمَّ بِسُنَّةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، لِقَوْلِهِ:"اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِن بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ"
(1)
، وَهَذِهِ الْاَثَارُ ثَابِتَةٌ عَن عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُم مِن أَشْهَرِ الصَّحَابَةِ بِالْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ.
وَلَكِنْ طَائِفَةٌ مِن الْمُتَأخّرِينَ قَالُوا: يَبْدَأُ الْمُجْتَهِدُ بِأَنْ يَنْظرَ أَوَّلًا فِي الْإِجْمَاعِ، فَإِنْ وَجَدَهُ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى غَيْرِهِ، وَإِن وَجَدَ نَصًّا خَالَفَهُ اعْتَقَدَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِنَصٍّ لَمْ يَبْلُغْهُ، وَقَالَ بَعْضُهُم؛ الْإِجْمَاعُ نَسَخَهُ!
(1)
حسَّنه الترمذي (3662).
وَالصَّوَابُ: طَرِيقَةُ السَّلَفِ.
وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إذَا خَالَفَهُ نَصٌّ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْإِجْمَاعِ نَصٌّ مَعْرُوفٌ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخ، فَأمَّا أَنْ يَكُونَ النَّصُّ الْمُحْكَمُ قَد ضَيَّعَتْهُ الْأمَّةُ وَحَفِظَتْ النَصَّ الْمَنْسُوخَ فَهَذَا لَا يُوجَدُ قَطُّ، وَهُوَ نِسْبَةُ الْأمَّةِ إلَى حِفْظِ مَا نُهِيَتْ عَنِ اتِّبَاعِهِ، وَإِضَاعَةِ مَا أُمِرَتْ بِاتِّبَاعِهِ، وَهِيَ مَعْصُومَةٌ عَن ذَلِكَ.
وَمَعْرِفَةُ الْإِجْمَاعِ قَد تَتَعَذَّرُ كَثِيرًا أَو غَالِبًا، فَمَن ذَا الَّذِي يُحِيطُ بِأَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ؟
بِخِلَافِ النُّصُوصِ فَإِنَّ مَعْرِفَتَهَا ممْكِنَةٌ مُتَيَسّرَةٌ.
وَهُم إنَّمَا كَانُوا يَقْضُونَ بِالْكِتَابِ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ لَا تَنْسَخُ الْكِتَابَ، فَلَا يَكونُ فِي الْقُرْآنِ شَيءٌ مَنْسُوخٌ بِالسُّنَّةِ؛ بَل إنْ كَانَ فِيهِ مَنْسُوخ كَانَ فِي الْقُرْآنِ نَاسِخُهُ، فَلَا يُقَدّمُ غَيْرَ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ، ثمَّ إذَا لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ طَلَبَهُ فِي السُّنَّةِ، وَلَا يَكُونُ فِي السُّنَّةِ شَيءٌ مَنْسُوخ إلَّا وَالسُّنَّةُ نَسَخَتْهُ، لَا يَنْسَخُ السُّنَّةَ إجْمَاعٌ وَلَا غَيْرُهُ. [19/ 201 - 202]
* * *
(الإجماع نوعان)
1948 -
الْإِجْمَاعُ نَوْعَانِ:
أ- قَطْعِيٌّ، فَهَذَا لَا سَبِيلَ إلَى أَنْ يُعْلَمَ إجْمَاعٌ قَطْعِيٌّ عَلَى خِلَافِ النَّصِّ.
ب- وَأَمَّا الظَّنيُّ فَهُوَ الْإِجْمَاعُ الإقراري والاستقرائي، بِأنْ يَسْتَقْرِئَ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فَلَا يَجِدُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا، أَو يَشْتَهِرُ الْقَوْلُ فِي الْقُرْآنِ وَلَا يَعْلَمُ أَحَدًا أَنْكَرَه، فَهَذَا الْإِجْمَاعُ وَإِن جَازَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُدْفَعَ النُّصُوصُ الْمَعْلُومَةُ بِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا حُجَّة ظَنِّيَّة لَا يَجْزِمُ الْإِنْسَانُ بِصِحَّتِهَا؛ فَإِنَّهُ لَا يَجْزِمُ بِانْتِفَاءِ الْمُخَالِفِ، وَحَيْثُ قَطَعَ بِانْتِفَاءِ الْمُخَالِفِ فَالْإِجْمَاعُ قَطْعِيٌّ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ يَظُنُّ عَدَمَهُ وَلَا يَقْطَعُ بِهِ فَهُوَ حُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ، وَالظَّنِّيُّ لَا يُدْفَعُ بِهِ
النَّصُّ الْمَعْلُومُ، لَكِنْ يُحْتَجُّ بِهِ ويُقَدَّمُ عَلَى مَا هُوَ دُونَهُ بِالظَّنِّ، وَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ الظَّنُّ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، فَمَتَى كَانَ ظَنُّهُ لِدَلَالَةِ النَّصِّ أَقْوَى مِن ظَنِّهِ بِثُبُوتِ الْإِجْمَاعِ قَدَّمَ دَلَالَةَ النَّصِّ، وَمَتَى كَانَ ظَنُّهُ لِلْإِجْمَاعِ أَقْوَى قَدَّمَ هَذَا، وَالْمُصِيبُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَاحِدٌ.
فَلَا يَكُونُ قَطُّ إجْمَاعٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ مَعَ مُعَارَضَتِهِ لِنَصٍّ آخَرَ لَا مُخَالِفَ لَهُ، وَلَا يَكُونُ قَطُّ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَلَيْسَ فِي الْأُمَّةِ قَائِلٌ بِهِ؛ بَل قَد يَخْفَى الْقَائِلُ بِهِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: كُلُّ حَدِيثٍ فِي كِتَابِي قَد عَمِلَ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَّا حَدِيثَيْنِ: حَدِيثَ الْجَمْعِ
(1)
، وَقَتْلَ الشَّارِبِ
(2)
.
وَمَعَ هَذَا فَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ قَد عَمِلَ بِهِ طَائِفَةٌ، وَحَدِيثُ الْجَمْعِ قَد عَمِلَ بِهِ أَحْمَد وَغَيْرُهُ.
وَلَكنْ مَن ثَبَتَ عِنْدَهُ نَصٌّ يَعْلَمْ قَائِلًا بِهِ وَهُوَ لَا يَدْرِي: أُجْمِعَ عَلَى نَقِيضِهِ أَمْ لَا؟ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَن رَأَى دَلِيلًا عَارَضَهُ آخَرُ وَهُوَ بَعْدُ لَمْ يَعْلَمْ رُجْحَانَ أَحَدِهِمَا، فَهَذَا يَقِفُ إلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ رُجْحَانُ هَذَا أَو هَذَا، فَلَا يَقُولُ قَوْلًا بِلَا عِلْمٍ.
وَأكْثَرُ مَسَائِلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّتِي يَحْتَجُّونَ فِيهَا بِالْعَمَلِ يَكُونُ مَعَهُم فِيهَا نَصٌّ؛ فَالنَّصُّ الَّذِي مَعَهُ الْعَمَلُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْآخَرِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ.
(1)
وهو ما ثبت عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ رضي الله عنهما أنه قَالَ: جَمَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الظُّهْرِ وَالعَصْرِ، وَبَيْنَ الْمَغْرِب وَالعِشَاءِ بِالمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ، قَالَ: فَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاس: مَا أرَادَ بِذَلِكَ؟ قَالَ: أَرَادَ أنْ لَا يُحْرجَ أمَّتَهُ.
(2)
وهو ما روي عَنْ مُعَاوَيةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فِي الرَابِعَةِ فَاقْتُلُوهُ".
وَأَمَّا رَدُّ النَّصِّ بِمُجَرَّدِ الْعَمَلِ فَهَذَا بَاطِلٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، وَقَد تَنَازَعَ النَّاسُ فِي مُخَالِفِ الْإِجْمَاعِ: هَل يَكْفُرُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْمَعْلُومَ يَكْفُرُ مُخَالِفُهُ كَمَا يَكْفُرُ مُخَالِفُ النَّصِّ بِتَرْكِهِ، لَكِنَّ هَذَا
(1)
لَا يَكُونُ إلَّا فِيمَا عُلِمَ ثُبُوتُ النَّصِّ بِهِ.
وَأَمَّا الْعِلْمُ بِثُبُوتِ الْإِجْمَاعِ فِي مَسْأَلَةٍ لَا نَصَّ فَهَذَا لَا يَقَعُ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمَعْلُومِ فَيَمْتَنِعُ تَكْفِيرُهُ.
وَحِينَئِذٍ فَالْإِجْمَاعُ مَعَ النَّصِّ دَلِيلَانِ كَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَتَنَازَعُوا فِي الْإِجْمَاعِ: هَل هُوَ حُجَّة قَطْعِيَّة أَو ظَنِّيَّةٌ؟
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ قَطْعِيَّهُ قَطْعِيٌّ وَظَنِّيَّةُ ظَنِّيٌّ وَاللهُ أَعْلَمُ.
وإِذَا نَقَلَ عَالِمٌ الْإجْمَاعَ وَنَقَلَ آخَرُ النِّزَاعَ؛ إمَّا نَقْلًا سُمِّيَ قَائِلُهُ؛ وَإِمَّا نَقْلًا بِخِلَافٍ مُطْلَقًا وَلَمْ يُسَمَّ قَائِلُهُ: فَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ نَقْلًا لِخِلَافٍ لَمْ يَثْبُتْ؛ فَإِنَّهُ مُقَابَلٌ بِأَنْ يُقَالَ: وَلَا يَثْبُتُ نَقْلُ الْإِجْمَاعِ؛ بَل نَاقِلُ الْإِجْمَاعِ نَافٍ لِلْخِلَافِ، وَهَذَا مُثْبِتٌ لَهُ، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي.
وَإِذَا قِيلَ: يَجُوزُ فِي نَاقِلِ النّزَاعِ أَنْ يَكُونَ قَد غَلِطَ فِيمَا أَثْبَتَهُ مِنَ الْخِلَافِ.
قِيلَ لَهُ: وَنَافِي النِّزَاعِ غَلَطُهُ أجوز؛ فَإِنَّهُ قَد يَكُونُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ لَمْ تَبْلُغْهُ، أَو بَلَغَتْهُ وَظَنَّ ضَعْفَ إسْنَادِهَا وَكَانَت صَحِيحَةً عِنْدَ غَيْرِهِ، أَو ظَنَّ عَدَمَ الدَّلَالَةِ وَكَانَت دَالًةً.
فَإِنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ لَيْسَ عِلْمًا بِالْعَدَمِ، لَا سِيَّمَا فِي أَقْوَالِ عُلَمَاءِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الَّتِي لَا يُحْصِيهَا إلَّا رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ وَلهَذَا قَالَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ: مَنِ ادَّعَى الْإجْمَاعَ فَقَد كَذَبَ، هَذِهِ دَعْوَى الْمَرِيسِيِّ وَالْأَصَمِّ، وَلَكِنْ يَقُولُ: لَا أَعْلَمُ نِزَاعًا.
(1)
أي: كفرُ مَنْ خالف النص.
وَاَلَّذِينَ كَانُوا يَذْكُرُونَ الْإِجْمَاعَ كَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَغَيْرِهِمَا يُفَسِّرُونَ مُرَادَهُم: بِأَنَّا لَا نَعْلَمُ نِزَاعًا وَيَقُولُونَ هَذَا هُوَ الْإجْمَاعُ الَّذِي نَدَّعِيه.
وَإِذَا تَضَافَرَ عَلَى نَقْلِ النزَاعِ اثْنَانِ لَمْ يَأْخُذْ أَحَدُهُمَا عَن صَاحِبِهِ فَهَذَا يَثْبُتُ بِهِ النِّزَاعُ، بِخِلَافِ دَعْوَى الْإجْمَاعِ؛ فَإِنَّهُ لَو تَضَافَرَ عَلَيْهِ عَدَدٌ لَمْ يُسْتَفَدْ بِذَلِكَ إلَّا عَدَمُ عِلْمِهِمْ بِالنِّزَاعِ. [19/ 267 - 270]
* * *
(دعوى الإجماع التي أنكرها أحمد والإجماع الذي يعتبره)
1949 -
قال شيخنا: الذي أنكره أحمد دعوى إجماع المخالفين بعد الصحابة أو بعدهم وبعد التابعين، أو بعد القرون الثلاثة المحمودة، ولا يكاد يوجد في كلامه احتجاج بإجماع بعد عصر التابعين أو بعد القرون الثلاثة، مع أن صغار التابعين أدركوا القرن الثالث، وكلامه في إجماع كل عصر إنما هو في التابعين.
ثم هذا منه نهي عن دعوى الإجماع العام النطقي، وهو كالإجماع السكوتي، أو إجماع الجمهور من غير علم بالمخالف؛ فإنه قال في القراءة خلف الإمام: ادُّعي الإجماع في نزول الآية وفي عدم الوجوب في صلاة الجهر، وإنما فقهاء المتكلمين كالمريسي والأصم يدعون الإجماع ولا يعرفون إلا قول أبي حنيفة ومالك ونحوهما، ولا يعلمون أقوال الصحابة والتابعين، وقد ادَّعى الإجماع في مسائل الفقه غير واحد من مالك ومحمد بن الحسن والشافعي وأبي عبيد في مسائل وفيها خلاف لم يطلعوه، وقد جاء الاعتماد على الكتاب والسُّنَّة والإجماع في كلام عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وغيرهما حيث يقول كل منهما: اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن فبما في سُنَّة رسول الله، فإن لم يكن فبما أجمع عليه الصالحون.
لكن يقتضي تأخير هذا عن الأصلين، وما ذاك إلا لأن هؤلاء لا يخالفون الأصلين. [المستدرك 1/ 113 - 115]
(اعتبار انقراض العصر في صحة الإجماع، واللاحقون إذا صاروا مجتهدين قبل انقضاء العصر)
1950 -
مسألة: يعتبر انقراض العصر عند القاضي والمقدسي والحلواني وابن عقيل. وذكر القاضي أنه ظاهر كلام أحمد، وذكر ابن برهان أنه مذهبهم.
[قال شيخنا]: فإن كان الذين صاروا مجتهدين موجودين في حال إجماع الأولين فلا أثر لذلك؛ إذ وجودهم غير مجتهدين بمنزلة عدمهم أو وجودهم كفارًا أو صبيانًا، وإن صاروا مجتهدين قبل انقراض عصر الأولين لكن لم يخالفوهم حتى انقرض عصرهم فهذا الخلاف مسبوق بالإجماع المتقدم؛ لأن المجتهد اللاحق لا يعتبر انقراض عصره في صحة الإجماع الأول بلا تردد إذا وافق أو سكت:
- أما إذا وافق فلا ريب، إذ لو اعتبر ذلك لما استمر إجماع.
- وأما إذا سكت فكذلك أيضًا إذا منعناه أن يخالف.
وإن سوغ له أن يخالف ولم يخالف: فالإجماع قد تم بشروطه؛ فإن المجمعين انقرض عصرهم من غير خلاف.
والضابط: أن اللاحق:
أ- إما أن يتأهل قبل الانقراض.
ب- أو بعده.
وعلى الأول: فإما أن يوافق أو يخالف، أو يسكت.
[قال شيخنا]: سر المسألة: أن المدرِك لا يعتبر وفاته
(1)
؛ بل يعتبر عدم خلافه إذا قلنا به.
قال القاضي: انقراض العصر معتبر في صحة الإجماع واستقراره، فإذا
(1)
هكذا في الأصل، وفي المسودة:(وفاقه)، وهو الصواب.
أجمعت الصحابة على حكم من الأحكام ثم رجع بعضهم أو جميعهم: انحل الإجماع.
وإن أدرك بعض التابعين عصرهم وهو من أهل الاجتهاد: اعتد بخلافه إذا قلنا: إنه يعتد بخلافه معهم، وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية عبد الله، قال: الحجة على من زعم أنه إذا كان أمرًا مجمعًا عليه ثم افترقوا أنا نقف على ما أجمعوا عليه حتى يكون إجماعًا، إنَّ أم الولد كان حكمها حكم الأَمَة بإجماع، ثم أعتقهن عمر، وخالفه علي بعد موته، فرأى أن تسترق، فكان الإجماع في الأصل أنها أَمَة.
وحد الخمر ضرب أبو بكر أربعين ثم ضرب عمر ثمانين وضرب علي في خلافة عثمان أربعين، وقال: ضرب أبو بكر أربعين وكملها عمر ثمانين، وكلٌّ سُنَّة، فالحجة عليه في الإجماع في الضرب أربعين ثم عمر خالفه فزاد أربعين ثم ضرب علي أربعين، قال: وظاهر هذا اعتبار انقراض العصر؛ لأنه اعتد بخلاف علي بعد عمر في أم الولد، وكذا اعتد بخلاف عمر بعد أبي بكر في حد الخمر. [المستدرك 2/ 116 - 120]
* * *
(إذا اختلف الصحابة على قولين، ثم أجمع التابعون على أحدهما: هل يرتفع الخلاف
؟)
1951 -
قال القاضي: إذا اختلف الصحابة على قولين ثم أجمع التابعون على أحدهما: لم يرتفع الخلاف، وجاز الرجوع إلى القول الآخر والأخذ به، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية يوسف بن موسى، قال: ما اختلف فيه علي وزيد: يُنظر أشبهه بالكتاب والسُّنَّة.
شيخنا: وكذلك نقل المروذي عنه: إذا اختلف الصحابة ينظر إلى أقرب القولين إلى الكتاب والسُّنَّة.
قال: وظاهر هذا أنه رجع في ذلك إلى موافقة الدليل، ولم يرجع إلى إجماع التابعين على أحدِ القولين. [المستدرك 2/ 121]
* * *
(إذا قيل: إن قول الصحابي حجة، فهل يجوز أن يجمع التابعون على خلافه
؟)
1952 -
إذا قلنا: "هو حجة" فهل يجوز أن يجمع التابعون على خلافه؟ قال عبد الوهاب المالكي: يجوز، ويتبين بذلك أنه كان هناك قول صحابي آخر بخلافه، كما يجوز الإجماع على مخالفة خبر، ويدل الإجماع على أنه منسوخ بخبر، أو بآية، أو أن المراد خلاف ظاهره، وحينئذٍ فيجب العمل بالإجماع.
وظاهر كلام أحمد أن ذلك لا يجوز، أو أنه لو وقع لم يمنع كون قول الصحابي حجة، وهذا مبني على أن إجماع التابعين على أحد قولي الصحابة لا يوجب أن يكون هو الصواب؛ لأنهم بعض من تكلم في تلك المسألة من الأَمَة. [المستدرك 2/ 124]
* * *
(إذا قال بعض الصحابة وانتشر وسكتوا عن مخالفته حتى انقضى العصر)
1953 -
مسألة: إذا قال بعض الصحابة، وانتشر في الباقي، وسكتوا ولم يظهر خلافه فهو إجماع، يجب العمل به عندنا.
قال شيخنا: إذا سكتوا عن مخالفته حتى انقرض العصر، هكذا قيَّده القاضي، قال في المجرد: هو حجة ودليل مقطوع عليه يجب اتباعه وتحرم مخالفته، وهو إجماع. [المستدرك 2/ 125]
* * *
(إذا قال صحابي قولًا ولم ينقل عن صحابي خلافه وهو مما يجري بمثله القياس والاجتهاد فهو حجة. طريقة أحمد في جواباته وأعماله)
1954 -
مسألة: إذا قال الصحابي قولًا ولم ينقل عن صحابي خلافه، وهو مما يجري بمثله القياس والاجتهاد: فهو حجة، نصَّ عليه أحمد في مواضع، وقدَّمه على القياس، واختاره أبو بكر في التنبيه.
قال شيخنا: قال أبو داود: قال أحمد بن حنبل: ما أجبت في مسألة إلا بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجدت في ذلك السبيل إليه، أو عن الصحابة أو عن التابعين، فإذا وجدت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أعدل إلى غيره، فإذا لم أجد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن الخلفاء الأربعة الراشدين المهديين، فإذا لم أجد عن الخلفاء فعن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأكابر فالأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا لم أجد فعن التابعين وعن تابعي التابعين.
وما بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث يعمل له ثواب إلا عملت به رجاء ذلك الثواب ولو مرة واحدة.
وقال الشافعي في "الرسالة العتيقة" بعد أن ذكر فصلًا في اتباع الصحابة للسُّنَّة: ومن أدركنا ممن يُرضى، أو حكي لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا لرسول صلى الله عليه وسلم فيه سُنَّة: إلى قولهم إنْ أجمعوا، وقولِ بعضهم إن تفرقوا، بهذا نقول، ولم نخرج من أقاويلهم.
وإن قال واحد منهم ولم يخالفه غيره: أخذنا بقوله؛ فإنهم فوقنا في كل علم
(1)
واجتهاد.
وقال في رواية يونس: لا يقال للأصل: لم ولا كيف؟ [المستدرك 2/ 125 - 126]
* * *
(1)
في الأصل: عام، والتصويب من المسودة (336).
(إذا قال الصحابي قولًا لا يهتدي إليه قياس فهل يعمل به وإن خالفه صحابي آخر
؟)
1955 -
مسألة: فإذا قال الصحابي قولًا لا يهتدي إليه قياس: فإنه يجب العمل به، ويجعل في حكم التوقيف المرفوع، بحيث يعمل به وإن خالفه قول صحابي آخر، نصَّ عليه في مواضع، وبه قالت الحنفية.
وقالت الشافعية: لا يحمل على التوقيف؛ بل حكمه حكم مجتهد فيه.
قال شيخنا: وقد يقال: الأمر محتمل. [المستدرك 2/ 126 - 127]
* * *
(ما يعتبر مذهبًا للإمام أحمد)
1956 -
قال ابن حمدان: إذا نقل عن الإمام أحمد في مسألة قولان صريحان مختلفان في وقتين وتعذر الجمع بينهما، فإن علم التاريخ فالثاني مذهبه.
وقيل: والأول إن جهل رجوعه عنه.
وقيل: أو علم. [المستدرك 2/ 241]
1957 -
إن جهل التأريخ: فمذهبه أقربهما من كتاب أو سُنَّة أو إجماع أو أثر أو قواعد الإمام أو عوائده أو مقاصده أو أدلته. [المستدرك 2/ 242]
1958 -
ما انفرد به بعض الرواة عن الإمام وقوي دليله: فهو مذهبه.
ويخص كلامه بخاصة في مسألة واحدة.
وما أجاب عنه بكتاب أو سُنَّة أو إجماع أو قول بعض الصحابة: فهو مذهبه؛ لأن قول أحدهم عنده حجة على الأصح.
وما رواه من سُنَّة أو أثر وصححه أو حسَّنه أو رضي بسنده أو دونه في كتبه ولم يردَّه ولم يفت بخلافه: فهو مذهبه.
فإن أفتى بحكم فاعترض عليه فسكت: فليس رجوعًا.
وإن ذكر عن الصحابة في مسألة قولين: فمذهبه أقربهما من كتاب أو سُنَّة أو إجماع، سواء عللهما أو لا، إذا لم يرجح أحدهما ولم يختره أو يحسنه.
وإن ذكر اختلاف الناس وحسن بعضه: فهو مذهبه إن سكت عن غيره.
وإن سئل مرة فذكر الاختلاف ثم سئل مرة ثانية فتوقف ثم ثالثة فأفتى فيها: فالذي أفتى به مذهبه.
وإن أجاب بقوله: "قال فلان كذا" يعني بعض العلماء: فوجهان.
وإن قال: "يفعل السائل كذا احتياطًا": فهو واجب وقيل: بل مندوب.
وإن نصَّ على حكم مسألة ثم قال: "ولو قال قائل أو ذهب ذاهب إلى كذا -يعني: حكمًا بخلاف ما نص عليه- كان مذهبًا" لم يكن مذهبًا للإمام أيضًا.
وهل يجعل فعله أو مفهوم كلامه مذهبًا له؛ على وجهين، فإن جعلنا المفهوم مذهبًا له فنص في مسألة على خلافه بطل المفهوم.
فصل
الروايات المطلقة نصوص للإمام أحمد، وكذا قولنا:"وعنه"،
وأما التنبيهات بلفظه فقولنا: "أومأ إليه أحمد" أو أشار إليه أو دل كلامه عليه أو توقف فيه".
وأما الأوجه: فاقوال الأصحاب وتخريجهم إن كانت مأخوذة من قواعد الإمام أحمد، أو إيمائه، أو دليله، أو تعليله، أو سياق كلامه وقوته.
وإن كانت مأخوذة من نصوص الإمام أو مخرجة منها: فهي روايات مخرجة له، أو منقولة من نصوصه إلى ما يشبهها من المسائل إن قلنا:"ما قيس على كلامه مذهبًا له".
وإن قلنا لا: فهي أوجه لمن خرجها وقاسها.
فمن قال من الأصحاب هنا: "هذه المسألة رواية واحدة" أراد نصه.
ومن قال: "فيها روايتان" فإحداهما بنص والأخرى بإيماء أو تخريج من نص آخر له أو بنص جهله منكره.
ومن قال: "فيها وجهان" أراد عدم نصه عليهما، سواء جهل مستنده أم لا، ولم يجعله مذهبًا لأحمد، فلا يعمل إلا بأصح الوجهين وأرجحهما.
وأما "القولان هنا" فقد يكون الإمام نصَّ عليهما. أو نص على أحدهما وأومأ إلى الآخر، وقد يكون مع أحدهما وجه أو تخريج أو احتمال بخلافه.
وأما "الاحتمال" فقد يكون لدليل مرجوح بالنسبة إلى ما خالفه، أو لدليل مساو له.
وأما "التخريج" فهو نقل حكم مسألة إلى ما يشبهها والتسوية بينهما فيه.
وأما "الوقف" فهو ترك الأخذ بالأول والثاني، والنفي والإثبات إن لم يكن فيها قول لتعارض الأدلة وتعادلها عنده، فله حكم ما قبل الشرع من حظر أو إباحة أو وقف. [المستدرك 2/ 243 - 246]
1959 -
مذهبه: ما قاله بدليل ومات قائلًا به.
وفيما قاله قبله بدليل يخالفه ثلاثة أوجه: النفي، والإثبات، والثالث: إن رجع عنه وإلا فهو مذهبه. [المستدرك 2/ 247]
1960 -
قوله: "لا يصلح" أو "لا ينبغي": للتحريم.
و"لا بأس" و"أرجو أن لا بأس": للإباحة.
و"أخشى" أو "أخاف أن يكون" أو "لا يكون": ظاهر في المنع، وقيل: بالوقف.
وقوله: "أحب كذا" أو "استحبه" أو "استحسنه" أو "هو أحسن" أو "حسن" أو "يعجبني" أو "هو أعجب إلي": للندب، وقيل: للوجوب.
وقوله: "أكره كذا" أو "لا يعجبني" اْو "لا أحبه" أو "لا أستحسنه": للتنزيه والكراهة، وقيل: للتحريم.
وإن قال: "أستقبحه" أو "هو قبيح" أو قال: "لا أراه": فهو حرام.
وإن قال: "هذا حرام" ثم قال: "أكرهه" أو "لا يعجبني" فحرام، وقيل: بل مكروه. [المستدرك 2/ 247 - 248]
* * *
(ما يعتبر مذهبًا للشافعي)
1961 -
في قول الشافعي رضي الله عنه: إذا وجدتم في كتابي خلاف سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلته.
قال أبو عمرو ابن الصلاح: عمل بذلك كثير من أئمة أصحابنا، فكان من ظفر منهم بمسألة فيها حديث ومذهب الشافعي خلافه عمل بالحديث، وأفتى به قائلًا: مذهب الشافعي ما وافق الحديث، ولم يتفق ذلك إلا نادرًا، ومنه ما نقل عنه قول موافق. [المستدرك 2/ 248]
* * *
(إذا عقد بعض الخلفاء الأربعة عقدًا)
1962 -
مسألة: إذا عقد بعض الخلفاء الأربعة عقدًا لم يجز لمن بعده من الخلفاء فسخه ولا نقضه، نحو ما عقد عمر من صلح بني تغلب، ومن خراج السواد والجزية وما جرى مجراه.
وقال ابن عقيل: يجوز القول بأن لمن بعده من الخلفاء أن يغيره ويعمل فيه باجتهاده؛ لأن المصالح تختلف باختلاف الأزمنة.
قال شيخنا: هذا مثل تغيير ما ضربه من الجزية والخراج، وفيه خلاف مشهور في المذهب. [المستدرك 2/ 127 - 128]
* * *
(إذا اختلف الصحابة بعد موت النبي وكان أحدهما أقرب من رسول الله)
1963 -
إذا اختلف الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وكان أحدهما أقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أميرًا له على سرية أو قاضيًا أو رسولًا له لم يوجب ذلك رجحان قوله، ذكره ابن عقيل محل وفاق. [المستدرك 2/ 128]
* * *
(هل يجوز إثبات الإجماع بخبر الواحد)
1964 -
مسألة: يجوز إثبات الإجماع بخبر الواحد، قال ابن عقيل: وهو قول أكثر الفقهاء، ذكرها في أواخر كتابه، قال أبو سفيان: وهو مذهب شيوخنا.
قال: وقال بعض شيوخنا: لا يجوز.
قال شيخنا: تكلم على ذلك ابن عقيل بكلام ذكره، فقال: هذا على ما يقع لي خلاف في عبارة وتحتها اتفاق؛ فإن خبر الواحد لا يعطي علمًا، ولكن يفيد ظنًّا، ونحن إذا قلنا: إنه يثبت به الإجماع فلسنا قاطعين بالإجماع، ولا بحصوله بخبر الواحد؛ بل هو بمنزلة ثبوت قول النبي صلى الله عليه وسلم، والمنازع قال:"الإجماع دليل قطعي" وخبر الواحد دليل ظني، فلا يثبت قطعيًّا. [المستدرك 2/ 128 - 129]
* * *
(نبينا لم يكن على دين قومه؛ لكن هل كان متعبّدًا بشيء من الشرائع قبله
؟)
1965 -
مسألة: نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن على دين قومه نص عليه؛ بل كان متعبدًا بما صح عنده من شريعة إبراهيم، ذكره ابن عقيل، قال: وبه قال أصحاب الشافعي.
وقال قوم بالوقف، وأنه يجوز ذلك، ويجوز أنه لم يكن متعبّدًا بشيء أصلًا.
ورأينا اختاره الجويني وابن الباقلاني وأبو الخطاب، وبه قال الحنفية فيما حكاه السرخسي: أنه لم يكن متعبّدًا بشيء من الشرائع، وإنما صار بعد البعثة شرعُ مَن قبله شرعٌ له.
قال شيخنا: قلت: وهذا مأخذ جيد. [المستدرك 2/ 129]
* * *
الاستحسان
(الاستحسان وتخصيص العلة، وموضع الاستحسان هل يقاس عليه، وما يقال إنه مخالف للقياس وليس كذلك)
1966 -
مسألة: "الاستحسان" كان أبو حنيفة وأصحابه يقولون به، وأنكره الشافعي عليهم.
قال القاضي عبد الوهاب المالكي: ليس بمنصوص عن مالك، إلا أن كتب أصحابنا مملوءة من ذكره والقول به، ونص عليه أبو القاسم وأشهب وغيرهما، وفسره الحلواني بأوجه.
ويحتمل عندي أن يكون الاستحسان:
أ- ترك القياس الجلي وغيره لدليلِ نصٍّ من خبرِ واحدٍ أو غيره.
ب- أو ترك القياس لقول الصحابي فيما لا يجري فيه القياس كما تقدم.
فإن الحنفية وافقونا في أن الصحابي إذا قال قولًا لا يهتدي إلى القياس حُمل على أنه قاله توقيفًا، والشافعية خالفونا في ذلك، وكذا الحنفية وافقونا في الاستحسان، والشافعية خالفونا، وهذا وجه حسن إن شاء الله.
[قال شيخنا]: وقد أطلق أحمد القول بالاستحسان في مواضع، قال في رواية الميموني: أستحسن أن يتيمم لكل صلاة، والقياس أنه بمنزلة الماء يصلي به حتى يحدث أو يجد الماء.
وقال في رواية بكر بن محمد فيمن غصب أرضى فزرعها: الزرع لربِّ
الأرض، وعليه
(1)
النفقة، وهذا شيء لا يوافق القياس، لكن أستحسن أن يدفع إليه النفقة.
وبه قال أصحاب أبي حنيفة، وكتب مالك مشحونة بالاستحسان، وكذلك قال الشافعي: أستحسن في المتعة قدر ثلاثين درهمًا.
وقد أنكر الشافعي وأصحابه القول بالاستحسان.
قال أبو الخطاب: والذي يقتضيه كلام أصحابنا أن يكون "حد الاستحسان": العدول عن موجب القياس إلى دليل هو أقوى منه.
قال: وحَدَّه شيخنا بأنه ترك الحكم إلى حكم هو أولى منه. قال: وليس بشيء؛ لأن الأحكام لا يقال بعضها أولى من بعض ولا بعضها أقوى من بعض وإنما القوة للأدلة.
وحَدَّه بعضهم بأنه ترك القياس إلى قياس أقوى منه، قال: وهذا باطل فإنهم إذا تركوا القياس لنصِّ أو تنبيه كان استحسانًا.
وحَدَّه بعضهم بأنه ترك طريقة الحكم على طريقة أخرى أولى منها لولاها لوجب البنيان على الأولى.
وحَدَّه الكرخي بأنه العدول عن أن يحكم في المسألة بمثل ما حكم في نظائرها لوجه هو أقوى من الأول.
قال: وهذا معنى الذي قبله، ويلزم عليه أن يكون العدول عن العموم إلى التخصيص استحسانًا، والعدول عن العموم إلى الخصوص استحسانًا. [المستدرك 2/ 134 - 136]
* * *
(1)
أي: على رب الأرض.
(رسالة في الاستحسان)
1967 -
أما الاستحسان فالمشهور من معانيه أنه مخالفة القياس لدليل، وقد يراد به غير ذلك.
والعلماء في لفظه ومعناه المذكور على ثلاثة أقوال:
منهم: من ينكر هذا اللفظ مطلقًا، وهم نفاة القياس كداود وأصحابه وكثير من أهل الكلام من المعتزلة والشيعة وغيرهم، فليس عندهم في أدلة الشرع لا قياس ولا استحسان.
ومنهم: من يقر به بهذا المعنى ويُجَوِّز مخالفة القياس للاستحسان ويعمل بالقياس فيما عدا صورة الاستحسان، وهذا هو الصواب عن أبي حنفية وأصحابه.
ومنهم: من ذم الاستحسان تارة وقال به تارة كالشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم.
وفي كتب مالك وأصحابه ذكر لفظ الاستحسان في مواضع.
والشافعي قال: من استحسن فقد شرع، وتكلم في إبطال الاستحسان وبسط القول في ذلك، وكان من أعظم الأئمة إنكارًا له، وهو الذي عليه أصحابه في أصول الفقه، ومع هذا فقد قال بلفظ الاستحسان، كما قال: أستحسن أن تكون المتعة ثلاثين درهمًا، ولهذا يُحكى للشافعي من الاستحسان قولهم: قديم، وجديد.
وكذلك أحمد بن حنبل نقل عنه أبو طالب أنه قال: أصحاب أبي حنيفة إذا قالوا شيئًا خلاف القياس قالوا: نستحسن هذا وندع القياس، فيدعون الذي
(1)
يزعمون أنه الحق بالاستحسان، قال: وأنا أذهب إلى كل حديث جاء ولا أقيس عليه.
(1)
في الأصل: (الذين)، والمثبت هو الصواب.
قلت: مراد أحمد أني أستعمل النصوص كلها ولا أقيس على أحد النصين قياسًا يعارض النص الآخر كما يفعل من ذكره حيث قاسوا على أحد النصين، ثم يثبتون الاستحسان إما بالنص أو غيره، والقياس عندهم من جنس العلة الصحيحة، فينقضون العلة التي يدَّعون صحتها بمجمل أو قياس معارض.
وهذا من أحمد يبين أنه يوجب طرد العلة الصحيحة، وأن انتقاضها بمساويها من مخالف يوجب فسادها؛ ولهذا قال: لا أقيس على أحد النصين قياسًا ينقضه النص الآخر، فإن ذلك يدل على فساد القياس. وهو يستعمل مثل هذا في مواضع مثل حديث أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا أراد أحدكم أن يضحي ودخل العشر فلا يأخذ من شعره ولا من بشرته شيئا"
(1)
مع حديث عائشة: "كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يبعث به وهو مقيم لا يحرم عليه شيء مما يحرم على المحرم"
(2)
. والناس في هذا على ثلاثة أقوال:
منهم: من سوَّى بين الهدي والأضحية في المنع ويقول: إذا أرسل المحرم هديًا لم يحل حتى ينحر كما يروى عن ابن عباس وغيره.
ومنهم: من سوَّى بينهما في الإذن ويقول: بل المضحي لا يمنع عن شيء كما لا يمنع المهدي؛ فيقيسون على أحد النصين ما يعارض الآخر
(3)
.
(1)
رواه مسلم (1977).
(2)
رواه البخاري (1702)، ومسلم (1321).
(3)
ثم إن الحنفية يفرقون بينهما من جهة النص استحسانًا، فهذا هو الفرق بينهم وبين أئمة الحديث، فعلماء الحديث يفرقون ويعملون بالنصوص كلها، والحنفية يقيسون، ثم يمنعون العمل بالقياس استحسانًا، لوجود النص.
وقد أنكر شيخ الإسلام وتلميذه أن يكون في الشريعة حكمٌ على خلاف القياس.
قال ابن القيِّم: فصلٌ: فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ شَيءٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاس وَأنَّ مَا يُظَنُّ مُخَالَفَتُهُ لِلْقِيَاسِ فَأَحَدُ الْأمْرَيْنِ لَازِمٌ فِيهِ وَلَا بُدَّ: إمَّا أنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ فَاسِدًا، أَو يَكُونَ ذَلِكَ الْحُكْمُ لَمْ يَثْبُتْ بِالنَّصِّ كَوْنُهُ مِن الشَّرْع.
وَسَألْتُ شَيْخَنَا -قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ- عَمَّا يَقَعُ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِن الْفُقَهَاءِ مِن قَوْلهِمْ: "هَذَا خِلَافُ الْقِيَاسِ" لِمَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَو قَوْلِ الصَّحَابَةِ أَو بَعْضِهِمْ، وَرُبَّمَا كَانَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِمْ: طَهَارَةُ الْمَاءِ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَتَطْهِيرُ النَّجَاسَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، =
وفقهاء الحديث: كيحيى بن سعيد والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم عملوا بالنصين ولم يقيسوا أحدهما على الآخر، كما أن الله لما أحل البيع وحرم الربا لم يقس المسلمون أحدهما على الآخر، وإنما هذا قياس المشركين، وكذلك لما أحل الله الذكي وحرم الميتة لم يقيسوا أحدهما على الآخر؛ بل هذا قياس المشركين.
وقد قال أحمد بالاستحسان في مواضع.
وقد جعل القاضي أبو يعلى المسألة على روايتين، ونصر هو وأتباعه كأبي الخطاب وابن عقيل القول بالاستحسان كقول أصحاب أبي حنيفة.
وفسّر
(1)
هؤلاء الاستحسان الذي يقولون به: بأنه ترك الحكم إلى حكم هو أولى
(2)
منه.
وقيل: هو أولى القياسين.
قالوا -وهذا لفظ القاضي-: وأما الحجة التي يرجع إليها في الاستحسان فهي الكتاب تارة، والسُّنَّة أخرى، والإجماع ثالثة.
قال: ومما قلنا فيه بالاستحسان للسُّنَّة: فيمن غصب أرضي وزرعها فالزرع لذي الأرض وعلى صاحب الأرض النفقة لصاحب الزرع، لحديث رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم:"من زرع في أرض قوم فالزرع لربِّ الأرض وله نفقته"
(3)
وقال: كان القياس أن يكون الزرع لزارعه.
= وَالْوُضُوءُ مِن لُحُومِ الْإِبِلِ، وَالْفِطْرُ بِالْحِجَامَةِ، وَالسَّلَمُ، وَالْإجَارَةُ، وَالْحَوَالَةُ، وَالْكِتَابَةُ، وَالْمُضَارَبَةُ، وَالْمُزَارَعَة، وَالْمُسَاقَاةُ، وَالْقَرْضُ، وَصِحَّةُ صَوْمِ الْآكِلِ النَّاسِي، وَالْمُضِيُّ فِي الْحَجِّ الْفَاسِدِ، كُلُّ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، فَهَل ذَلِكَ صَوَابٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَ: لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ. اهـ. أعلام الموقعين (1/ 289).
(1)
في الأصل: ونصر! والمثبت من جامع المسائل: (2/ 155).
(2)
في الأصل: أقل! والمثبت من جامع المسائل: (2/ 155).
(3)
رواه أبو داود (3403)، والترمذي (1366)، وابن ماجه (2466)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود والترمذي وابن ماجه.
قال: ومما قلنا فيه بذلك للإجماع: جواز سلم الدراهم والدنانير في الموزونات
(1)
، وكان القياس ألا يجوز ذلك لوجود العلة وهي الوزن إلا أنهم استحسنوا فيه للإجماع.
ولهذا؛ فسر غير واحد الاستحسان بتخصيص العلة، كما ذكر ذلك أبو الحسن البصري والرازي وغيرهما، وكذلك هو؛ فإن عامة الاستحسان الذي يقال فيه: إنه يخالف القياس حقيقته تخصيص العلة.
والمشهور عن أصحاب الشافعي منع تخصيص العلة، وعن أصحاب أبي حنيفة القول بتخصيصها كالمشهور عنهما في منع الاستحسان وإجازته.
ولكن في مذهب الشافعي خلاف في جواز تخصيص العلة، كما في مذهب مالك وأحمد.
ومن الناس من يحكي ذلك روايتين عن أحمد.
والتحقيق في هذا الباب: أن العلة تقال على "العلة التامة" وهي المستلزمة لمعلولها، فهذه متى انتقضت بطلت بالاتفاق، وتقال على "العلة البعضية" وتسمى السبب، ودليل العلة، ونحو ذلك، فهذه إذا انتقضت لفرق مؤثر يفرق فيه بين صورة النقض وغيرها من الصور: لم تفسد.
ثم إذا كانت صورة الفرع التي هي صورة النزاع في معنى صورة النقض ألحقت بها، وإن كانت في معنى صورة الأصل ألحقت بها.
وأما من جوَّز تخصيص العلة بمجرد دليل لا يبين الفرق بين صورة التخصيص وغيرها: فهذا مورد النزاع في الاستحسان المخالف للقياس وغيره.
ثم هذه العلة إن كانت مستنبطة وخصت بنصٍّ ولم يتبين الفرق المعنوي بين صورة التخصيص وغيرها: فهذا أضعف ما يكون.
(1)
على المذهب، وهو أن الربا يجري في الموزونات.
وهذا هو الذي كان ينكره كثيرًا الشافعي وأحمد وغيرهما على من يفعله من أصحاب أبي حنيفة وغيرهم.
وكلام أحمد فيما تقدم أراد به هذا؛ فإن العلة السببية لم تعلم صحتها إلا بالرأي، فإذا عارضها النص كان مبطلًا لها.
والنص إذا عارض العلة دلَّ على فسادها، كما أنه إذا عارض الحكم الثابت بالقياس دل على فساده بالإجماع.
وأما إذا كانت العلة منصوصة، وقد جاء نص بتخصيص بعض صور العلة: فهذا مما لا ينكره أحمد بل ولا الشافعي ولا غيرهما
(1)
، كما إذا جاء نص في صورة وجاء نص يخالفه في صورة أخرى لكن بينهما شبه لم يقم دليل على أنه مناط الحكم: فهؤلاء يقرون النصوص ولا يقيسون منصوصًا على منصوص خالف حكمه؛ بل هذا من جنس الذين قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275] وهذا هو الذي قال أحمد فيه: أنا أذهب إلى كل حديث كما جاء ولا أقيس عليه؛ أي: لا أقيس عليه صورة الحديث الآخر فأجعل الأحاديث متناقضة وأدفع بعضها ببعض بل أستعملها كلها.
والذين يدفعون بعض النصوص ببعض يقولون: الصورتان سواء لا فرق بينهما فيكون أحد النصين ناسخًا للآخر.
ومثل هذا كثيرًا ما يتنازع فيه فقهاء الحديث ومن ينازعهم ممن يقيس منصوصًا على منصوص ويجعل أحد النصين منسوخًا لمخالفته قياس النص الآخر، فيمضي هذا القياس ويبقى الأمر دائرًا: هل دلَّ الشرع على التسوية بين الصورتين حتى يجعل حكمهما سواء ويجعل الحكم الوارد في إحداهما منسوخًا بالحكم المضاد له الوارد في الأخرى؟
(1)
مثاله: علة القصر: السفر، وقد جاء نص بتخصيص بعض صور العلة، وهو ما إذا صلى المسافر خلف مقيم فإنه يُتم.
- كما يقوله مَن يجعل القرعة منسوخةً بآية الميسر.
- وأمْرَ المأمومين بأن يتبعوا الإمام فإذا كبَّر كبروا وإذا ركع ركعوا وإذا صلى جالسًا صلوا جلوسًا أجمعين: [منسوخًا بدوام قيامهم في]
(1)
الصلاة التي صَلَّوا بعضَها خلفَ إمام قائمِ، وباقِيهَا خلفَ إمامٍ قاعدِ.
- ويجعل حديث الأضحية والهدي أحدهما منسوخًا بالآخر.
- ويجعلون قطع جاحد العارية منسوخًا بقوله: "ليس على المختلس ولا المنتهب ولا الخائن قطع".
- ويجعلون العقوبة المالية منسوخة بالنهي عن إضاعة المال.
- ويجعلون تضعيف الغرم على من درئ عنه القطع منسوخًا بقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40].
- ويجعل بعضهم ما شرطه النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين المشركين من الهدنة منسوخًا بقوله: "من اثشرط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل"
(2)
.
وكثيرًا مما يدَّعونه من الناسخ: لا يعلمون أنه بعد المنسوخ.
فهذا ونحوه من دفع النصوص الصحيحة الصريحة بلفظ مجمل أو قياس هو مما ينكره أحمد وغيره.
وكان أحمد يقول: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس.
وقال: ينبغي للمتكلم في الفقه أن يجتنب هذين الأصلين: المجمل والقياس.
(1)
في الأصل: (قياسهم على الصلاة).
والتصويب من جامع المسائل (2/ 188).
(2)
رواه البخاري (2155).
ومراده: أنه لا يعارض بهما ما يثبت بنصٍّ خاص، ولا يعمل بمجردهما قبل النظر في النصوص والأدلة الخاصة المفسرة.
وكلامه وكلام غيره من الأئمة كالشافعي وغيره من المجمل لا يريدون بالمجمل:
- ما لا يُفهم معناه كما يظنه بعض الناس.
- ولا ما لا يستقل بالدلالة.
فإن هذا لا يجوز الاحتجاج به.
قال: وأما إذا جاء نصَّان بحكمين مختلفين في صورتين وثم صور مسكوت عنها فهل يقال القياس هو مقتضى أحد النصين فما سكت عنه يلحق به وإن لم يعلم المعنى الفارق بينه وبين الآخر؟: فهذا هو الاستحسان الذي تنوزع فيه. فكثير من الفقهاء يقول به كأصحاب أبي حنيفة وكثير من أصحاب أحمد وغيره.
وهذا نظير أخذ أحمد بالنصوص الواردة في سجود السهو، فما كان منها قبل السلام أخذ به، وما كان بعد السلام أخذ به، وما لم يجئ فيه نص ألحقه بما قبل السلام؛ لأنه القياس عنده.
وتحقيق هذا كما مر أنه:
أ- إما أن يعلم استواء الصورتين في الصفات المؤثرة في الشرع.
ب- وإما أن يعلم افتراقهما.
ت- وإما أن لا يعلم واحد منهما.
فالأول: متى ثبت الحكم في بعض الصور دون بعض علم أن العلة باطلة.
وهذا مثل دعوى من يدعي أن الواجب النفقة بين الإيلاد أو بين الرحم
المحرمة، أو مطلق الإرث بفرض أو تعصيب؛ ويقول: إذا اجتمع الجد والجدة كانت النفقة عليهما؛ فإنه لما ثبت بالنص والإجماع أنه إذا اجتمع الأبوان كانت النفقة على الأب علم أن العصبة في ذلك يقدم على غيره إذا كان وارثًا بفرض، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، وعلم أن قوله:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] هو الوارث المطلق، وهو العاصب إن كان موجودًا؛ لأن عمر جبر بني عم مَنْفُوسِ
(1)
على نفقته
(2)
.
وهذه الآية صريحة في إلحاق نفقة الصغير على الوارث العاصب، وقال بها جمهور السلف، وليس فيما خالفها حجة أصلًا، ولكن ادعى بعضهم أنها منسوخة، ونقل ذلك عن مالك.
وبعضهم قال: عليه أن لا يضار، فتركها بدون نسخ أو تأويل هو من نوع تحريف الكلم عن مواضعه لغير معارض لها أصلًا مما يعلم بطلانه كل من تدبر ذلك.
وإذا كانت الأم أقرب الناس إليه لا نفقة عليها مع الأب وهي تحوز الثلث معه: فأن لا يجب على الجدة مع الجد وهي تحوز السدس أولى وأحرى.
والقائلون بذلك يقولون: القياس يقتضي وجوب ثلثها على الأم؛ لكن ترك ذلك للنص.
فيقال: أي قياس معكم؟ إنما يكون قياسًا لو كان معهم نص يتناول هذه
(1)
في الأصل: (منغوس)، والتصويب من كتب الآثار.
والمنفوس: هو الْوَلَدُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
كَمَا سَقَطَ الْمَنْفُوسُ بَيْنَ الْقَوَابِلِ
(2)
روى عبد الرزاق (12181)، وابن أبي شيبة (19159) أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَظَابِ وَقَفَ بَنِي عَمِّ مَنْفُوس ابْن عَمٍّ كَلَالَةٍ، بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ مِثْل الْعَاقِلَةِ.
والمعنَى: أَيْ: ألزَمَهُم إرضاعَه وتَرْبِيَتَه. يُنظر: النهاية لغريب الحديث لابن الأثير (5/ 95).
الصورة بلفظه أو معناه، وليس معهم ذلك، ولو كان ذلك لكان مجيء هذا النص بهذا يوجب إلحاق نظائره به فيقاس على الأب مع الأم.
فانتقاض العلة يوجب بطلانها إذا لم تختص صورة النقض بفرق معنوي قطعًا؛ فإن الشارع حكيم عادل لا يفرق بين المتماثلين، فلا تكون الصورتان متماثلتين ثم يخالف بين حكميهما؛ بل اختلاف الحكمين دليل على اختلاف الصورتين في نفس الأمر، فإن علم أنه فرق بينهما كان ذلك دليلًا على عدم استوائهما في نفس الأمر، وإن لم يعلم مجيء الفرق لم يجز أن يجمع ويسوى إلا بدليل يقتضي ذلك.
وهذا معنى قول إياس بن معاوية: قيسوا ما صلح الناس فإذا فسدوا فاستحسنوا.
فأقر مخالفة القياس إذا تغير الأمر بحصول معاند يمنع القياس.
وأحمد قال بالاستحسان لأجل الفارق بين صورة الاستحسان وغيرها، وهذا من باب تخصيص العلة للفارق المؤثر، وهذا حق، وأنكر الاستحسان إذا خصت العلة من غير فارق مؤثر؛ ولهذا قال: يدعون القياس الذي هو حق عندهم للاستحسان.
وهذا أيضًا هو الاستحسان الذي أنكره الشافعي وغيره، وهو منكر كما أنكروه؛ فإن هذا الاستحسان وما عدل عنه من القياس المخالف له يقتضي فرقًا وجمعًا بين الصورتين بلا دليل شرعي؛ بل بالرأي الذي لا يستند إلى بيان الله ورسوله وأمر الله ورسوله، فهو عندهم وضع شرع ابتداء، وقد قال الله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] وذلك أنه إذا كان القياس لم ينص الشارع على علته ولا دل لفظ الشارع على عموم المعنى فيه، ولكن رأى الرائي ذلك لمناسبة أو لمشابهة ظنها مناط الحكم، ئم خص من ذلك المعنى صورًا بنص يعارضه كان معذورًا في عمله بالنص، لكن
مجيء النص بخلاف تلك العلة في بعض الصور دليل على أنها ليست علة تامة قطعًا؛ فإن العلة التامة لا تقبل الانتقاض.
وإن كان مورد الاستحسان هو أيضًا معنى ظنه مناسبًا أو مشابهًا فإنه محتاج حينئذٍ إلى أن يثبت ذلك بالأدلة الدالة على تأثير ذلك الوصف، فلا يكون قد ترك القياس إلا لقياس أقوى منه لاختصاص صورة الاستحسان بما يوجب الفرق بينها وبين غيرها، فلا يكون لنا حينئذٍ استحسانًا يخرج عن نص أو قياس.
وهذا هو الذي أنكره الشافعي وأحمد وغيرهما من الاستحسان.
وما قال به فإنما هو: عدول عن قياس لاختصاص تلك الصورة بما يوجب الفرق.
وحينئذٍ فلا يكون الاستحسان الصحيح عدولًا عن قياس صحيح، والقياس الصحيح لا يجوز العدول عنه بحال.
وهذا هو الصواب كما بسطناه في مصنف مفرد، وبيّنّا فيه أنه ليس من الشرع شيء بخلاف القياس الصحيح أصلًا.
وكلامهم في هذه المسألة يقتضي أن ما قيل فيه: إنه خالف القياس من صور الاستحسان فلا بد أن يكون قياسه فاسدًا، أو أن يكون تخصيصه بالاستحسان فاسدًا، إذا لم يكن هناك فرق مؤثر.
وهذا هو الصواب في هذا الباب.
وحقيقة هذا كله: أنه هل يثبت الحكم على خلاف القياس الصحيح في نفس الأمر؟
فمن يقول بالاستحسان من غير فارق مؤثر وتخصيص العلة من غير فارق مؤثر ويمنع القياس على المخصوص: يثبت أحكامًا على خلاف القياس الصحيح في نفس الأمر، وهذا هو الاستحسان الذي أنكره الأئمة كالشافعي وأحمد وغيرهما.
فصل
وقد تدبرت عامة هذه المواضع التي يدعي من يدعي فيها من الناس أنها تثبت على خلاف القياس الصحيح، أو أن العلة الشرعية الصحيحة خصت بلا فرق شرعي من فوات شرط أو وجود مانع، أو أن الاستحسان الصحيح يكون على خلاف القياس الصحيح من غير فرق شرعي: فوجدت الأمر بخلاف ذلك كما قاله أكثر الأئمة كالشافعي وأحمد وغيرهما.
وإن كان الواحد من هؤلاء قد يتناقض أيضًا فيخص ما يجعله علة بلا فارق مؤثر، كما أنه قد يقيس بلا علة مؤثرة.
فالمقصود: ضبط أصول الفقه الكلية المطردة المنعكسة، وبيان أن الشريعة ليس فيها تناقض
(1)
أصلًا، والقياس الصحيح لا يكون خلافه إلا تناقضًا
(2)
؛ فإن القياس الصحيح هو التسوية بين المتماثلين، والتفريق بين المختلفين، والجمع بين الأشياء التي جمع الله ورسوله بينها فيه والتفريق بينها فيما فرق الله ورسوله بينها فيه.
والقياس: هو اعتبار المعنى الجامع المشترك الذي اعتبره الشارع وجعله مناطًا للحكم، وذلك المعنى يكون لفظًا شرعيًّا عامًّا
(3)
أيضًا، فيكون الحكم ثابتًا بعموم لفظ الشارع ومعناه.
وقد بيّنّا في غير هذه الموضع
(4)
أنَّ الأحكام كلها ثابتة بلفظ الشارع
(1)
في الأصل: (ما نص)، والمثبت من جامع المسائل (2/ 206).
(2)
في الأصل: (مانعًا)، والمثبت من جامع المسائل (2/ 206).
(3)
هكذا في النسخة المصورة، وفي المطبوع: برفع الكلمات الثلاث.
(4)
ومن ذلك قوله في مجموع الفتاوى (19/ 280 - 285): الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أنَّ النُّصُوصَ وَافِيَةٌ بِجُمْهُورِ أَحْكَامِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ.
وَذَلِكَ أَنَّ اللّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِجَوَامِع الْكَلِمِ، فَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ الْجَامِعَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي هِيَ قَضِيَّةٌ
كُليَّة وَقَاعِدَةٌ عَامَّةٌ تَتَنَاوَلُ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً، وَتِلْكَ الْأَنْوَاعُ تَتَنَاوَلُ أَعْيَانًا لَا تُحْصَى، فَبِهَذَا الْوَجْهِ تكونُ النُّصُوصُ مُحِيطَةً بِأَحْكَامِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ. =
ومعناه؛ فألفاظه تناولت جميع الأحكام، والأحكام كلها معللة بالمعاني المؤثرة، فمعانيه أيضًا متناولة لجميع الأحكام.
وإنا نبيِّن ما يذكره العلماء أنه استحسان على خلاف القياس.
فمن ذلك: ما يذكره أحمد في إحدى الروايتين عنه إذا اعتبر الاستحسان؛ فإنه ذُكر عنه روايتين
(1)
كما تقدم.
والقول الثالث -وهو الذي يدل عليه أكثر نصوصه-: أن الاستحسان المخالف للقياس صحيح إذا كان بينهما فرق مؤثر قد اعتبره الشارع، وليس بصحيح إذا جمع بغير دليل شرعي دعوى بغير دليل شرعي وأنه لا يجوز ترك القياس الصحيح.
أما قوله: "أستحسن أن يتيمم لكل صلاة؛ لكن القياس أنه بمنزلة الماء حتى يجد الماء أو يحدث" فهذا القياس هو الرواية الأخرى عنه، وهو مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر وغيرهم، وهو الصواب كما دل عليه الكتاب والسُّنَّة.
= ثم مثل ذلك بلفظ: "الخمر" و"الميسر" و"الربا" و"الأيمان" وغيرها، فقال: إنَّ الْخَمْرَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْقُرْآنِ تَنَاوَلَتْ كُل مُسْكِرٍ، فَصَارَ تَحْرِيمُ كُل مُسْكِرٍ بِالنَّصِّ الْعَامِّ وَالْكَلِمَةُ الْجَامِعَة لَا بِالْقِيَاسِ وَحْدَهُ ..
وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْمَيْسِرِ هُوَ عِنْدَ أكْثَرِ الْعُلَمَاءِ يَتَنَاوَلُ اللَّعِبَ بِالنَّرْدِ وَالشّطْرَنْجِ، وَيَتَنَاوَلُ بُيُوعَ الْغَرَرِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ فِيهَا مَعْنَى الْقِمَارِ الَّذِي هُوَ مَيْسِرٌ، إذ الْقِمَارُ مَعْنَاهُ أَنْ يُؤْخَذَ مَالُ الْإنْسَانِ وَهُوَ عَلَى مُخَاطَرَةٍ: هَل يَحْصُلُ لَهُ عِوَضُهُ أو لَا يَحْصُلُ؟ كَاَلَّذِي يَشْتَرِي الْعَبْدَ الْآبِقَ وَالْبَعِيرَ الشارِدَ وَحَبَلَ الْحَبَلَةِ وَنَحْو ذَلِكَ مِمَّا قَد يَحْصُلُ لَهُ وَقَد لَا يَحْصُلُ لَهُ، وَعَلَى هَذَا فَلَفْظُ الْمَيْسِرِ فِي كِتَابِ اللّهِ تَعَالَى يَتَنَاوَلُ هَذَا كُلَّهُ.
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] و {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] هُوَ مُتَنَاوِلٌ لِكلِّ يَمِينٍ مِن أيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ، فَمِن الْعُلَمَاءِ مَن قَالَ: كُل يَمِينٍ مِن أيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَفِيهَا كَفَّارَةٌ، كَمَا دَل عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.
وَمِنْهُم مَن قَالَ: لَا يَتَنَاوَلُ النَّصُّ إلا الْحَلِفَ بِاسْمِ اللهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَا تَنْعَقِدُ وَلَا شيءَ فِيهَا .. وَلَا ريبَ أَنَّ النَّصَّ يَدُلُّ عَلَى الْقَوْلِ الْأوَّلِ. اهـ.
(1)
كذا في الأصل منصوبًا، والأصوب لغة: الرفع، ولكن قد يكون لذلك وجهٌ.
وقوله: "القياس" هو قياس الشرع لفظًا ومعنى؛ فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين"
(1)
، وقوله:"جعلت لي الأرض مسجدًا أو طهورًا"
(2)
ونحو ذلك ألفاظ دالة على أن التراب طهور كما جعل الماء طهورًا.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص: "أصليت بأصحابك وأنت جنب؟ "
(3)
: استفهام، سأله أكان ذلك أو لم يكن، وليس خبرًا أنه صلى وهو جنب، فلما أخبره أنه تيمم تبيَّن أنه لم يكن جنبا، [فأقَره]
(4)
النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فلو كان المراد الخبر وهو قد صلى مع الجنابة صلاة جائز لم يسأله، وإن كانت الجنابة مانعة من الصلاة مطلقًا لم يقبل عذره.
ونحن إذا قلنا: لا يجوز تخصيص بدون فارق مؤثر أفاد شيئين:
أحدهما: أنه إذا ثبت أنها علة صحيحة لم يجز تخصيصها مثل هذا الموضع.
والثاني: أنه إذا ثبت تخصيصها علم بطلانها، وهذا معنى قولنا: لا
يجتمع قياس صحيح واستحسان صحيح إلا مع الفارق المؤثر من الشرع.
وأما قوله في المضارب: إذا خالف فاشترى غير ما أمر به صاحب المال فالربح لصاحب المال ولهذا أجرة مثله إلا أن يكون الربح يحيط بأجرة مثله فيذهب، قال: وكنت أذهب إلى أن الربح لصاحب المال، ثم استحسنت.
فهذا استحسان منه رآه بفرق مؤثر، أو القياس مستنبط والاستحسان مستنبط، وهو تخصيص لعلة مستنبطة بفرق مستنبط. وأحمد لا يرد مثل هذا الاستحسان.
(1)
رواه الترمذي (124)، والنسائي (322)، وأحمد (21371)، وصحَّحه الألباني في صحيح الترمذي والنسائي.
(2)
رواه البخاري (335)، ومسلم (521).
(3)
رواه أبو داود (334)، وأحمد (17812)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.
(4)
في الأصل: (يأمره)، والمثبت من جامع المسائل (2/ 212).
والفرق: أن المضارِب مأمور بجعل؛ بل هو شريك في الربح وعمله له ولصاحب المال جميعًا؛ ولهذا كان للعلماء فيما يستحقه في المضاربة الفاسدة ونحو ذلك قولان: هل يستحق ربح مثله -قسط مثله من الربح- أو أجرة تكون أجرة مثله؟
والقول الأول هو الصواب قطعًا.
وهذا ينافي مذهب أحمد؛ فإن من أصله أن هذه المعاملات مشاركة لا مؤاجرة بأجرة معلومة.
والقياس عنده صحتها.
وإنما يقول أجرة المثل من يجعلها من باب الإجارة ويقول القياس يقتضي فسادها، وإنما جوز منها ما جوز للحاجة.
وقولُ أحمد: "كنتُ أذهبُ إلى أن الربحَ لصاحبِ المال، ثم استحسنتُ": رجوعٌ منه إلى هذا، وجَعْلُه الربحَ في جميع الصُّوَرِ للمالك يَقتضي أنه يُصَحح تصرف الفضولي إذا أُجيْزَ
(1)
، وإلّا كان البيعُ باطلًا.
والآثار المأثورة عن الصحابة والتابعين في باب البيع والنكاح والطلاق وغير ذلك تدل على أنهم كانوا يقولون بوقف العقود، لا سيما حين يتعذر استئذان المالك؛ ولهذا أحمد يقول بوقفها هنا كما في مسألة المفقود اتباعًا للصحابة في ذلك.
ولهذا ظهر ما استحسنه أحمد ورجع إليه أخيرًا؛ لأنه إذا صار
(2)
بالإجازة
(3)
فالمأذون له وهو لم يعمل إلا بجعل برضى المالك فلا يجوز منعه حقه، [وهذا بناء]
(4)
على أنَّه إذا تصرَّف ابتداءً فالربح كله للمالك، وهو إحدى الروايتين في المسألة.
(1)
في الأصل: (أخبر)، والمثبت من جامع المسائل (2/ 217).
(2)
في الأصل: (جاز)، والمثبت من جامع المسائل (2/ 217).
(3)
في الأصل: (بالإجارة)، والمثبت من جامع المسائل (2/ 217).
(4)
في الأصل: (وهو إما على)، والمثبت من جامع المسائل (2/ 216).
وقيل: يتصدقان به، وهو رواية عن أحمد.
وقيل: هو للعامل كله كقول الشافعي.
وقيل: هما شريكان فيه، وهو أصح الأقوال، وهو المأثور عن عمر.
ومن قال: يتصدقان به: جعله كغير الماذون فيه، فيكون خبيثًا، وهو متعد؛ لأن الحق لهما لا يعدوهما، فإذا أجاز المالك التصرف جاز، وكذلك في جميع تصرفات الغاصب، لا سيما من لم يعلم أنه غاصب إذا تصرف في المغصوب فأزال اسمه كطحن الحب ونسج الثوب ونحو ذلك ففيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره:
قيل: كل ذلك للمالك دون الغاصب، وعليه ضمان النقص كقول الشافعي.
وقيل: ملكه الغاصب وعليه بدله كقول أبي حنيفة.
وقيل: يخير المالك بينهما كقول مالك، وهو أصح
(1)
، بناء على وقفِ التصرُّفاتِ
(2)
، فإن شاءَ المالك أجازَ تصرُّفَه، وطَالبَه بالنقصِ، كما في العاملِ المخالف، وإن شاءَ طالَبَه بالبَدَلِ لإفسادِه عليه، وبأجرة ذلك.
وهذا الباب -بابُ تدبر العموم والخصوص من ألفاظِ الشرع ومعانيه التي هي عِلَلُ الأحكام- هو
(3)
الأصل الذي تُعْرَف منه
(4)
شرائع الإسلام. [المستدرك 2/ 137 - 167]
* * *
(1)
ذكر المؤلف هذه الأقوال وصحح ما صحَّحه هنا في مجموع الفتاوى (20/ 562).
(2)
في الأصل: (ذلك النص)، والتصويب من جامع المسائل (2/ 219).
(3)
في الأصل: (هي)، والتصويب من جامع المسائل (2/ 229).
(4)
في الأصل: (الذي تقرر فيه)، والمثبت من جامع المسائل (2/ 229).
القياس
1968 -
الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ لَا فَارِقَ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ إلَّا فَرْقٌ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي الشَّرْع؛ كَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصحيح أَنَّهُ سُئِلَ عَن فَأرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ: "ألقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنَكُمْ"، وَقَد أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِتِلْكَ الْفَأرَةِ وَذَلِكَ السَّمْنِ؛ فَلِهَذَا قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ: إنَّهُ أَيُّ نَجَاسَةٍ وَقَعَتْ فِي دُهْنٍ مِنَ الْأَدْهَانِ كَالْفَأرَةِ الَّتِي تَقَعُ فِي الزَّيْتِ وَكَالْهِرِّ الَّذِي يَقَعُ فِي السَّمْنِ فَحُكْمُهَا حُكْمُ تِلْكَ الْفَأرَةِ الَّتِىِ وَقَعَتْ فِي السَّمْنِ.
وَالنّوْعُ الثَّانِي مِنَ الْقِيَاسِ: أَنْ يَنُصَّ عَلَى حُكْمٍ لِمَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي، وَيَكُونُ ذَلِكَ الْمَعْنَى مَوْجُودًا فِي غَيْرِهِ، فَإِذَا قَامَ دَلِيلٌ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلّق بِالْمَعْنَى الْمُشْتَرِكِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ سُوّيَ بَيْنَهُمَا، وَكَانَ هَذَا قِيَاسًا صَحِيحًا.
فَهَذَانِ النَّوْعَانِ كَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُم بِإِحْسَانٍ يستعملونهما، وَهُمَا مِن بَابِ فَهْمِ مُرَادِ الشَّارعِ.
وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ مِن بَابِ الْعَدْلِ؛ فَإِنَّهُ تَسْوِيَة بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَتَفْرِيقٌ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ، وَدَلَالَةُ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ تُوَافِقُ دَلَالَةَ النَّصِّ، فَكُلُّ قِيَاسٍ خَالَفَ دَلَالَةَ النَّصّ فَهُوَ قِيَاسٌ فَاسِدٌ، وَلَا يُوجَدُ نَصّ يُخَالِفُ قِيَاسًا صَحِيحًا، كَمَا لَا يُوجَدُ مَعْقُولٌ صَرِيحٌ يُخَالِفُ الْمَنْقُولَ الصَّحِيحَ. [19/ 285 - 289]
1969 -
مَا عَرَفْت حَدِيثًا صَحِيحًا إلَّا وَيُمْكِنُ تَخَرُّجُهُ عَلَى الْأُصُولِ الثَّابِتَةِ، وَقَد تَدَبَّرْت مَا أَمْكَنَنِي مِن أَدِلَّةِ الشَّرْعِ فَمَا رَأَيْت قِيَاسًا صَحِيحًا يُخَالِفُ حَدِيثًا
صَحِيحًا، كَمَا أَنَّ الْمَعْقُولَ الصَّرِيحَ لَا يُخَالِفُ الْمَنْقُولَ الصَّحِيحَ؛ بَل مَتَى رَأَيْت قِيَاسًا يُخَالِفُ أَثَرًا فَلَا بُدَّ مِن ضَعْفِ أَحَدِهِمَا، لَكِنَّ التَّمْيِيزَ بَيْنَ صَحِيحِ الْقِيَاسِ وَفَاسِدِهِ مِمَّا يَخْفَى كَثِيرٌ مِنْهُ عَلَى أَفَاضِلِ الْعُلَمَاءِ، فَضْلًا عَمَّن هُوَ دونَهُمْ.
فَإِنَّ إدْرَاكَ الصِّفَاتِ الْمُؤَثرَةِ فِي الْأَحْكَامِ عَلَى وَجْهِهَا وَمَعْرِفَةَ الْحِكَمِ وَالْمَعَانِي الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الشَّرِيعَةُ: مِن أَشْرَفِ الْعُلُومِ، فَمِنْهُ الْجَلِيُّ الَّذِي يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَمِنْهُ الدَّقِيقُ الَّذِي لَا يَعْرِفُهُ إلَّا خَوَّاصُهُمْ. [20/ 567 - 568]
1970 -
إن الكلام في كون الشيء يفيد الاعتقاد علمًا أو ظنًّا غير الكلام في الاستدلال به واعتقاد موجبه. [المستدرك 2/ 200]
1971 -
القول في القياس الشرعي كالقول في القياس العقلي، وحصول الاعتقاد به لا يتوقف على ما يدل من جهة الشرع على صحة القياس. [المستدرك 2/ 201]
وأما وجوب النظر فيه أو الاعتقاد به فبالشرع.
1972 -
قال القاضي في كتاب القولين: القياس الشرعي قد نص أحمد في مواضع على أنه حجة تعلق الأحكام عليه، فقال في رواية محمد بن الحكم: لا يستغني أحد عن القياس، وعلى الإمام والحاكم يرد عليه الأمر أن يجمع له الناس ويقيس.
قال: وحكى شيخنا أبو عبد الله أن من أصحابنا من قال:
ليس بحجة قال: لأن أحمد قال في رواية الميموني: يجتنب المتكلم في الفقه هاتين الخصلتين: المجمل والقياس.
وكذلك نقل أبو الحارث عنه وقد ذكر أهل الرأي وردهم للحديث، فقال: ما تصنع بالرأي والقياس وفي الأثر ما يغنيك عنه؟
وهذا لا يدل على أنه ليس بحجة، وإنما يدل على أنه لا يجوز استعماله مع النص ولا يعارض الأخبار إذا كانت خاصة أو منصوصة، وليس هذا بمذهب فيشتغل بتوجيهه. [المستدرك 2/ 201 - 202]
1973 -
لَفْظ الْقِيَاسِ لَفْظ مُجْمَلٌ يَدْخُلُ فِيهِ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ وَالْقِيَاسُ الْفَاسِدُ.
فَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ هُوَ الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ الشَّرِيعَة، وَهُوَ:
أ- الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ.
ب- وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ.
الْأوَّلُ: قِيَاسُ الطَّرْدِ.
وَالثَّانِي: قِيَاسُ الْعَكْسِ.
وَهُوَ مِنَ الْعَدْلِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ رَسُولَهُ.
فَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ مِثْل أَنْ تَكُونَ
(1)
الْعِلَّةُ الَّتِي عُلِّقَ بِهَا الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ مَوْجُودَةً فِي الْفَرْعِ مِن غَيْرِ مُعَارِضٍ فِي الْفَرْعِ يَمْنَعُ حُكْمَهَا، وَمِثْلُ هَذَا الْقِيَاسِ لَا تَأتِي الشَّرِيعَةُ بِخِلَافِهِ قَطُّ.
وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ وَهُوَ: أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ فَرْقٌ مُؤَثِّرٌ فِي الشَّرْعِ، فَمِثْلُ هَذَا الْقِيَاسِ لَا تَأتِي الشَّرِيعَةُ بِخِلَافِهِ.
وَحَيْثُ جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ بِاخْتِصَاصِ بَعْضِ الْأَنْوَاعِ بِحُكْمٍ يُفَارِقُ بِهِ نَظَائِرَة فَلَا بُدَّ أَنْ يَخْتَصَّ ذَلِكَ النَّوْعُ بِوَصْفٍ يُوجِبُ اخْتِصَاصَهُ بِالْحُكْمِ، ويمْنَعُ مُسَاوَاتَهُ لِغَيْرِهِ لَكِنَّ الْوَصْفَ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ، قَد يَظْهَرُ لِبَعْضِ النَّاسِ وَقَد لَا يَظْهَرُ، وَلَيْسَ مِن شَرْطِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ الْمُعْتَدِلِ أَنْ يَعْلَمَ صِحَّتَهُ كُلُّ أَحَدٍ، فَمَن رَأَى شَيْئًا مِنَ الشَّرِيعَةِ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ فَإِنَّمَا هُوَ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ الَّذِي انْعَقَدَ فِي نَفْسِهِ، لَيْسَ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ الصَّحِيحِ الثَّابِتِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
وَحَيْثُ عَلِمْنَا أَنَّ النَّصَّ جَاءَ بِخِلَافِ قِيَاسٍ: عَلِمْنَا قَطْعًا أَنَّهُ قِيَاسٌ فَاسِدٌ.
(1)
في الأصل: (يَكُونَ)، والمثبت من كتب ورسائل وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (20/ 505)، وهو أصوب.
فَلَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يُخَالِفُ قِيَاسَا صَحِيحًا، لَكِنْ فِيهَا مَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ الْفَاسِدَ وَإِن كَانَ مِنَ النَّاسِ مَن لَا يَعْلَمُ فَسَادَهُ.
فَاَلَّذِينَ قَالُوا: الْمُضَارَبَةُ وَالْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ: ظَنُّوا أَنَّ هَذ الْعُقُودَ مِن جِنْسِ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا عَمَلٌ بِعِوَض، وَالْإِجَارَةُ يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعِلْمُ بِالْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ، فَلَمَّا رَأَوْا الْعَمَلَ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ غَيْرَ مَعْلُومٍ وَالرِّبْحُ فِيهَا غَيْرُ مَعْلُومِ قَالُوا: تُخَالِفُ الْقِيَاسَ، وَهَذَا مِن غَلَطِهِمْ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ مِن جِنْسِ الْمُشَارَكَاتِ لَا مِن جِنْسِ الْمُعَاوَضَاتِ الْخَاصَّةِ، الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعِلْمُ بِالْعِوَضَيْنِ، وَالْمُشَارَكَاتُ جِنْسٌ غَيْرُ جِنْسِ الْمُعَاوَضَةِ، وَإِن قِيلَ: إنَّ فِيهَا شَوْبَ الْمُعَاوَضَةِ.
وَإِيضَاحُ هَذَا: أَنَّ الْعَمَلَ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْمَالُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاع:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَقْصُودًا مَعْلُومًا مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ: فَهَذه الْإِجَارَةُ اللَّازِمَةُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَقْصُودًا لَكِنَّهُ مَجْهُولٌ أَو غَرَرٌ: فَهَذِهِ الْجَعَالَة، وَهِيَ: عَقْدٌ جَائِز لَيْسَ بِلَازِمِ، فَإِذَا قَالَ: مَن رَدَّ عَبْدِي الْآبِقَ فَلَهُ مِائَةٌ فَقَد يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ وَقَد لَا يَقْدِرُ، وَقَد يَرُدُّهُ مِن مَكَانٍ قَرِيبٍ وَقَد يَرُدُّهُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ، فَلِهَذَا لَمْ تَكُنْ لَازِمَةً لَكِنْ هِيَ جَائِزَةٌ فَإِنْ عَمِلَ هَذَا الْعَمَلَ اسْتَحَقَّ الْجُعْلَ وَإِلَّا فَلَا، ويجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجُعْلُ فِيهَا إذَا حَصَلَ بِالْعَمَلِ جُزْءًا شَائِعًا وَمَجْهُولًا جَهَالَةً لَا تَمْنَعُ التَّسْلِيمَ؛ مِثْل أَنْ يَقُولَ أَمِيرُ الْغَزْوِ: مَن دَلَّ عَلَى حِصْنٍ فَلَهُ ثُلُثُ مَا فِيهِ.
وَمِن هَذَا الْبَابِ إذَا جَعَلَ لِلطَّبِيبِ جُعْلًا عَلَى شِفَاءِ الْمَرِيضِ جَازَ، كَمَا أَخَذَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِينَ جُعِلَ لَهُم قَطِيعٌ عَلَى شِفَاءِ سَيِّدِ الْحَيِّ، فَرَقَاهُ بَعْضُهُم حَتَّى بَرِئَ فَأَخَذُوا الْقَطِيعَ؛ فَإِنَّ الْجُعْلَ كَانَ عَلَي الشِّفَاءِ لَا عَلَى الْقِرَاءَةِ.
وَلَو اسْتَأجَرَ طَبِيبًا إجَارَةً لَازِمَةً عَلَى الشِّفَاءِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الشّفَاءَ غَيْرُ مَقْدُورٍ لَهُ، فَقَد يَشْفِيهِ اللهُ وَقَد لَا يَشْفِيهِ، فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا تَجُوزُ فِيهِ الْجَعَالَةُ دُونَ الْإِجَارَةِ اللَّازمَةِ.
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِث: فَهُوَ مَا لَا يُقْصَدُ فِيهِ الْعَمَلُ؛ بَل الْمَقْصُودُ الْمَالُ، وَهُوَ الْمُضَارَبَةُ، فَإِنَّ رَبَّ الْمَالِ لَيْسَ لَهُ قَصْدٌ فِي نَفْسِ عَمَلِ الْعَامِلِ، كَمَا لِلْجَاعِلِ وَالْمُسْتَأجِرِ قَصدٌ فِي عَمَلِ الْعَامِلِ.
وَلهَذَا لَو عَمِلَ مَا عَمِلَ وَلَمْ يَرْبَحْ شَيْئًا لَمْ يَكُن لَهُ شَيءٌ، وَإِن سُمِّيَ هَذَا جَعَالَةً بِجُزْءٍ مِمَّا يَحْصُلُ بِالْعَمَلِ: كَانَ نِزَاعًا لَفْظِيًّا؛ بَل هَذِهِ مُشَارَكَةٌ: هَذَا بِنَفْعِ بَدَنِهِ وَهَذَا بِنَفْعِ مَالِهِ، وَمَا قَسَمَ اللهُ مِنَ الرِّبْحِ كَانَ بَيْنَهُمَا عَلَى الْإِشَاعَةِ؛ وَلهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَخُصَّ أَحَدَهُمَا بِرِبْحٍ مُقَدَّرٍ؛ لِأَنَّ هَذَا يُخْرِجُهُمَا عَنِ الْعَدْلِ الْوَاجِبِ فِي الشَّرِكَةِ.
وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمُزَارَعَةِ، فَإِنَّهُم كَانُوا يَشْرُطُونَ لِرَبِّ الْمَالِ زَرْعَ بُقْعَةِ بِعَيْنِهَا.
وَلهَذَا كَانَ الصَّوَابُ أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ رِبْحُ الْمِثْل لَا أُجْرَةُ الْمِثْلِ، فَيُعْطَى الْعَامِلُ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ أَنْ يُعْطَاهُ مِثْلُهُ مِنَ الرِّبْحِ: إمَّا نِصْفُهُ وَإِمَّا ثُلُثُهُ وَإِمَّا ثُلُثَاهُ.
فَأمَّا أَنْ يُعْطَى شَيْئًا مُقَدَّرًا مَضْمُونًا فِي ذِمَّةِ الْمَالِكِ كَمَا يُعْطَى فِي الْإِجَارَةِ وَالْجَعَالَةِ: فَهَذَا غَلَطٌ مِمَن قَالَهُ.
وَسَبَبُ الْغَلَطِ ظَنُّهُ أَنَّ هَذَا إجَارَةٌ.
وَكَذَلِكَ الَّذِينَ أَبْطَلُوا الْمُزَارَعَةَ وَالْمُسَاقَاةَ ظَنُّوا أَنَّهَا إجَارَةٌ بِعِوَضٍ مَجْهُولٍ فَأَبْطَلُوهَا.
وَالْأَصْلُ فِي الْعُقُودِ جَمِيعِهَا هُوَ الْعَدْلُ.
وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ الْمُزَارَعَةَ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْبَذْرُ مِنَ الْعَامِلِ أَحَقُّ بِالْجَوَازِ مِنَ الْمُزَارَعَةِ الَّتِي يَكُون فِيهَا مِن رَبِّ الْأَرْضِ، وَلهَذَا كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُزَارِعُونَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَكَذَلِكَ عَامَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِن ثَمَرٍ وَزَرْعٍ عَلَى أَنْ يَعْمُرُوهَا مِن أَمْوَالِهِمْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُم: السَّلَمُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ. وَذَلِكَ أَنَّهُم قَالُوا: السَّلَمُ بَيْعُ الْإِنْسَانِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، فَيَكونُ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ!
وَنَهْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ عَن بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ:
أ- إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ بَيْعُ عَيْنٍ مُعَيَّنّةٍ، فَيَكُونُ قَد بَاعَ مَالَ الْغَيْرِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ.
ب- وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ بَيْعُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَإِن كَانَ فِي الذِّمَّةِ، وَهَذَا أشْبَهُ، فَيَكُونُ قَد ضَمِنَ لَهُ شَيْئًا لَا يَدْرِي هَل يَحْصُلُ أَو لَا يَحْصُلُ؟ وَهَذَا فِي السَّلَمِ الْحَالِّ
(1)
إذَا لَمْ يَكن عِنْدَهُ مَا يُوَفِّيهِ، وَالْمُنَاسَبَةُ فِيهِ ظَاهِرَةٌ.
فَأمَّا السَّلَمُ الْمُؤَجَّلُ فَإِنَّهُ دَيْنٌ مِن الدُّيُونِ، وَهُوَ كَالِابْتِيَاعِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ كَوْنِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ مُؤَجَّلًا فِي الذِّمَّةِ وَكَوْنِ الْعِوَضِ الْآخَرِ مُؤَجَّلًا فِي الذِّمَّةِ؟
وَمَن كَانَ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِكَلَامِ النَّاسِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ رَأَى عَامَّةَ ضَلَالِ مَن ضَلَّ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين بِمِثْل هَذِهِ الْأَقْيِسَةِ الْفَاسِدَةِ، الَّتِي يُسَوَّى فِيهَا بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، مَعَ أَنَّ بَيْنَهُمَا مِنَ الْفَرْقِ مَا يُوجِبُ أَعْظَمَ الْمُخَالَفَةِ، وَاعْتَبِرْ هَذَا بِكَلَامِهِمْ فِي وُجُودِ الرَّبِّ وَوجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ، فَإِنَّ فِيهِ مِنَ الِاضْطِرَابِ مَا قَد بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
(1)
اختار شيخ الإسلام ابن تيمية صحة السلم حالًا إن كان في ملكه وإلا فلا، خلافًا للمشهور من مذهب الحنابلة.
وَالْأَحْكَامُ الَّتِي يُقَالُ: إنَّهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ نَوْعَانِ: نَؤعٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَنَوْعٌ فتَنَازَعٌ فِيهِ.
فَمَا لَا نِزَاعَ فِي حُكْمِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ وينْبَنِي عَلَى هَذَا أَنَّ مِثْل هَذَا هَل يُقَاسُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ مَا ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ.
وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ يُقَاسُ عَلَيْهِ وَقَالُوا: إنَّمَا يُنْظَرُ إلَى شُرُوطِ الْقِيَاسِ فَمَا عُلِمَتْ عِلَّتُهُ ألْحَقْنَا بِهِ مَا شَارَكَهُ فِي الْعِلَّةِ.
وَأَمَّا الْمُتَنَازَعُ فِيهِ فَمِثْلُ مَا يَأْتِي حَدِيث بِخِلَافِ أَمْرٍ فَيَقُولُ الْقَائِلُونَ: هَذَا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، أَو بِخِلَافِ قِيَاسِ الْأُصُولِ، وَهَذَا لَهُ أَمْثِلَةٌ مِن أَشْهَرِهَا الْمُصَرَّاةُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا تُصِرُّوا الإِبِلَ وَلَا الْغَنَمَ، فَمَن ابْتَاعَ مُصَرَّاةً فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِبَهَا إنْ رَضِيَهَا أَمْسَكهَا وَإِن سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِن تَمْرٍ"
(1)
وَهوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، فَقَالَ قَائِلُونَ: هَذَا يُخَالِفُ قِيَاسَ الْأُصُولِ.
فَقَالَ الْمُتَّبِعُونَ لِلْحَدِيثِ: بَل مَا ذَكَرْتُمُوهُ خَطَأٌ، وَالْحَدِيثُ مُوَافِقٌ لِلْأُصُولِ، وَلَو خَالَفَهَا لَكَانَ هُوَ أَصْلًا، كَمَا أَنَّ غَيْرَهُ أَصْلٌ، فَلَا تُضْرَبُ الْأُصُولُ بَعْضُهَا بِبَعْض؛ بَل يَجِبُ اتّبِاعُهَا كُلُّهَا فَإِنَّهَا كُلُّهَا مِن عِنْدِ اللّهِ.
أَمَّا قَوْلُهُم: رَدٌّ بِلَا عَيْبٍ وَلَا فَوَاتِ صِفَةٍ: فَلَيْسَ فِي الْأُصُولِ مَا يُوجِبُ انْحِصَارَ الرَّدِّ فِي هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ؛ بَل التَّدْلِيسُ نَوْعٌ ثَبَتَ بِهِ الرَّدُّ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: "الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ" فَأَوَّلًا: حَدِيثُ الْمصَرَّاةِ أَصَحّ مِنْهُ بِاتّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مَعَ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ الْخَرَاجَ مَا يَحْدُثُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، وَلَفْظُ الْخَرَاجِ اسْمٌ لِلْغَلَّةِ؛ مِثْل كَسْبِ الْعَبْدِ، وَأَمَّا اللَّبَنُ وَنَحْوُهُ فَمُلْحَقٌ بِذَلِكَ،
(1)
البخاري (2150)، ومسلم (1515).
وَهُنَا كَانَ اللَّبَنُ مَوْجُودًا فِي الضَّرْعِ، فَصَارَ جُزْءًا مِنَ الْمَبِيعِ، وَلَمْ يُجْعَلِ الصَّاعُ عِوَضًا عَمَّا حَدَثَ بَعْدَ الْعَقْدِ؛ بَل عِوَضًا عَنِ اللَّبَنِ الْمَوْجُودِ فِي الضَّرْعِ وَقْتَ الْعَقْدِ.
وَأَمَّا تَضْمِينُ اللَّبَنِ بِغَيْرِهِ وَتَقْدِيرِهِ بِالشَّرْعِ: فَلِأَنَّ اللَّبَنَ الْمَضْمُونَ اخْتَلَطَ بِاللَّبَنِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْعَقْدِ، فَتَعَذَّرَتْ مَعْرِفَةُ قَدْرِهِ، فَلِهَذَا قَدَّرَ الشَّارعُ الْبَدَلَ قَطْعًا لِلنِّزَاعِ، وَقَدَّرَ بِغَيْرِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْجِنْسِ قَد يَكُونُ أَكْثَرَ مِنَ الْأَوَّلِ أَو أَقَلَّ فَيُفْضِي إلَى الرِّبَا، بِخِلَافِ غَيْرِ الْجِنْسِ فَإِنَّهُ كَأنَّهُ ابْتَاعَ لِذَلِكَ اللَّبَنِ الَّذِي تَعَذَّرَتْ مَعْرِفَةُ قَدْرِهِ بِالصَّاعِ مِنَ التَّمْرِ، وَالتَّمْرُ كَانَ طَعَامَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ مَكِيلٌ مَطْعُومٌ يُقْتَاتُ بِهِ، كَمَا أَنَّ اللَّبَنَ مَكِيلٌ مُقْتَاتٌ وَهُوَ أَيْضًا يُقْتَاتُ بِهِ بِلَا صَنْعَةٍ، بِخِلَافِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَاتُ بِهِ إلَّا بِصَنْعَة، فَهُوَ أَقْرَبُ الْأَجْنَاسِ الَّتِي كَانُوا يَقْتَاتُونَ بِهَا إلَى اللَّبَنِ.
وَلهَذَا كَانَ مِن مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ أَنَّ جَمِيعَ الْأمْصَارِ يَضْمَنُونَ ذَلِكَ بِصَاعٍ مِن تَمْرٍ، أَو يَكُونُ ذَلِكَ لِمَن يَقْتَاتُ التَّمْرَ، فَهَذَا مِن مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ؛ كَأَمْرِهِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ بِصَاعٍ مِن شَعِيرٍ أَو تَمْرٍ. [20/ 504 - 558]
1974 -
القياس إذا خالف النص كان فاسدًا، أمّا فسادُ الحكمِ المخالفِ للنص فبالاتّفاق. [المستدرك 2/ 162]
* * *
(من نزلت به حادثة وضاق عليه الوقت)
1975 -
قال أبو الخطاب: من نزلت به حادثة، وكان فيها قاضيًا أو مفتيًا أو مجتهدًا لنفسه، وضاق عليه الوقت، وجب عليه أن يقيس وينظر.
وإذا لم يضق عليه الوقت استُحِب له ذلك، والواجب والمستحب من الدين. [المستدرك 2/ 203]
* * *
(المتردد بين أصلين، وقياس علة الشبه)
1976 -
قال القاضي: المتردد بين الأصلين: يجب إلحاقه بأحد الأصلين وهو أشبههما به وأقربهما إليه
(1)
.
[شيخنا] قلت: من قال: قياس علة الشبه -كما فسره القاضي-: حجة: فلا كلام، لكن يرد عليه التسوية بين الشيئين في الحكم مع العلم بافتراقهما في بعض الصفات المؤثرة، وإنما فعلوه لضرورة إلحاق الفرع بأحد الأصلين؛ فألحقوه بالأشبه به كما تفعل القافة بالولد. ومن قال:"ليس بحجة" فقد يحكم فيه بحكم ثالث مأخوذ من الأصلين وهو طريقة الشبهيين، فيعطيه بعض حكم هذا وبعض حكم هذا، كما فعله أحمد في ملك العبد، وكذلك مالك، وهذا كثير في مذهب مالك وأحمد؛ مثل تعلق الزكاة بالعين أو بالذمة، والوقف هل هو ملك للّه تعالى أو للموقوف عليه، ونحو ذلك.
وطريقة الشبهيين ينكرها كثير من أصحاب الشافعي وأحمد، وهو مقتضى من يقول بغلبة الاشتباه ويعتبر للحادثة أصلًا معينا، ومن لم يقل به فقد يقول بها.
(1)
وهذا هو قياس الشبه: وهُو أنْ يَتَرَدَّدَ فَرْعٌ بَيْنَ أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الْحُكْمِ، وَفِيهِ شَبَهٌ بِكُل مِنْهُمَا، فَيُلْحَقُ بِأَكثَرِهِمَا شَبَهًا به.
ينظر: رسالة في أصولَ الفقه للعكبري (71)، وشرح الأصول، لابن عثيمين (361).
قال الطُّوفِيُّ رحمه الله: "وَمِن أَمْثِلَتِهِ: تَرَدُّدُ الْعَبْدِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْبَهِيمَةِ، فِي التَّمْلِيكِ، فَمَن قَالَ: يَمْلِكُ بِالتَّمْلِيكِ؛ قَالَ: هُوَ إِنْسَان يُثَابُ ويُعَاقَبُ وينْكِخ وَيُطَلِّقُ، وَيُكَلَّفُ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ، ويفْهَمُ ويعْقِلُ، وَهُوَ ذُو نَفْسٍ نَاطِقَةِ، فَأشْبَهَ الْحُرَّ.
وَمَن قَالَ: لَا يَمْلِكُ؛ قَالَ: هُوَ حَيَوَان يَجُوزُ بَيْعُهُ وَرَهْنُهُ وَهِبَتُهُ وَإِجَارَتُهُ وَإِرْثُهُ؛ أشْبَهَ الدَّاَّبةَ.
وَعَلَى هَذَا خَرَجَ الْخِلَافُ فِي ضَمَانِهِ إِذَا تَلِفَ بِقِيمَتِهِ، وَإِن جَاوَزَتْ دِيَةَ الْحُرِّ إِلْحَاقًا لَهُ بِالْبَهِيمَةِ وَالْمَتَاع فِي ذَلِكَ، وَبِمَا دُونَ دِيَةِ الْحُرِّ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ تَشْبِيهًا لَهُ بِهِ، وَتَقَاعُدًا -بِهِ عَن دَرَجَةِ الْحُرِّ. وَكَذَا المَذْيُ تَرَدَّدَ بَيْنَ الْبَوْلِ وَالْمَنِيِّ، فَمَن حَكَمَ بِنَجَاسَتِهِ، قَالَ: هُوَ خَارجٌ مِنَ الْفَرْج لَا يُخْلَقُ مِنْهُ الْوَلَدُ، وَلَا يَجِبُ بِهِ الْغُسْلُ، أشْبَهَ الْبَوْلَ، وَمَن حَكَمَ بِطَهَارَتهِ، قَالَ: هُوَ خَاَرجٌ تُحَلِّلُهُ الشَّهْوَةُ، ويخْرُجُ أمَامَهَا، فَأَشْبَهَ الْمَنِيِّ". شرح مختصر الروضة (3/ 425)، ط. الرسالة.
والأشبه: أنه إن أمكن استعمال الشبهين وإلا ألحق بأشبههما به؛ فإن القائلين بالأشبه كالقاضي سلموا أن العلة لم توجد في الفرع وأنه حكم بغير قياس؛ بل بأنه أشبه بهذا الأصل من سائر الأصول كما أن في طريقة الشبهيين ليس أحدهما هو الأصل. [المستدرك 2/ 203 - 204]
* * *
(العلة المناسبة والمطردة)
1977 -
العلة المناسبة مقدمة على غير المناسبة
(1)
، والمطردة مقدمة على المنقوضة
(2)
إذا قبلت، وكذلك تقدم المنعكسة على غير المنعكسة. هذا كلام إسماعيل بن المني. [المستدرك 2/ 204]
* * *
(إذا كانت أكثر أوصافًا)
1978 -
إذا كانت إحدى العلتين أكثر أوصافًا فالقليلة الأوصاف أولى. [المستدرك 2/ 205]
* * *
(1)
المناسبة: هي أن تكون العلة وصفًا مناسبًا للحكم، والمناسبة في اللغة: الملاءمة والمقاربة.
واصطلاحًا: حصول مصلحة من جلب نفع أو دفع ضر، يغلب على ظن المجتهد أن الشرع قصد بتشريع هذا الحكم تحقيق هذه المصلحة وتحصيلها.
فالإسكار -مثلًا- مناسب لتحريم الخمر؛ لأن في بناء التحريم عليه حفظَ العقولِ، والسرقة مناسبة لقطع يد السارق؛ لأن في ذلك حفظَ أموال الناس، والسفر مناسب لقصر الصلاة؛ لأنه مظنة المشقة والحرج، والحاجة مناسبة لإباحة البيع. وهكذا. الشرح الميسر لقواعد الأصول ومعاقد الفصول، أحمد بن عمر بن مساعد الحازمي (25).
(2)
الْعلَّة المطردة تقدم على الْعلَّة المنقوضة؛ لِأن شَرط الْعلَّة اطرادها، وَلأن المطردة أغلب على الظَّن، وأضعف المنقوضة بِالْخِلَافِ فِيهَا. التحبير شرح التحرير في أصول الفقه، للمرداوي الحنبلي المتوفى (885 هـ)(4239).
تنبيه: في الأصل والمسودة: المخصوصة، والمثبت من التحبير.
(وإذا كان أصلها أقوى)
1979 -
ترجح إحدى العلتين: بكون أصلها أقوى، مثل أن يكون أصلها مجمعًا عليه والأخرى أصلها مختلف فيه. [المستدرك 2/ 205]
* * *
(العلة المستنبطة لا بد لها من دليل)
1980 -
العلة المستنبطة لا بد من دليل يدل على صحتها، وذلك الدليل هو كونها مؤثرة في الحكم، وسلامتها على الأصول من نقض أو معارضة، ويجوز أن يجعل وصف العلة الدال على الحكم وصفًا نافيًا. ويحوز أن يجعل وصفًا مثبتًا، سواء في ذلك الأوصاف الذاتية والحكمية كما في قوله:"إنها ليست بنجس"
(1)
تعليلًا لطهارة الماء. [المستدرك 2/ 206 - 207]
* * *
(هل الأصول كلها معللة)
1981 -
الأصول التي ثبت حكمها بنصِّ أو إجماعٍ ذكر أبو الخطاب أنها كلها معللة، وإنما تخفى علينا العلة في النادر منها.
ولفظ القاضي: الأصل هو تعليل الأصول، وإنما ترك تعليلها نادرًا، فصار الأصل هو العام الظاهر دون غيره، ومن الناس من قال: الأصول منقسمة إلى معلل وغير معلل.
ثم قال بعد هذا
(2)
: مسألة في العلة المستنبطة كعلة الربا ونحوها، الشيء الدال على صحتها يخرج على وجهين:
(1)
رواه أبو داود (75)، والترمذي (92)، والنسائي (68)، وابن ماجه (367)، وصحَّحه الألباني في صحيح الترمذي.
(2)
كأنه يشير إلى قوله القاضي: والعلة المستنبطة لا بد من دليل يدل على صحتها
…
إلخ. (الجامع).
أحدهما: أن يوجد الحكم بوجودها ويزول بزوالها، وقد أومأ أحمد إلى هذا في رواية أحمد بن الحسين بن حسان، فقال: القياس: أن يقاس الشيء على الشيء إذا كان مثله في كل أحواله، وأقبل له وأدبر، فأما إذا أشبهه في حال وخالفه في حال فهذا خطأ. قال أبو بكر: يعني في كل أحواله في نفس الحكم، لا في عينه؛ لأنه لا بد من المخالفة بينهما.
والوجه الثاني: يفتقر إلى شيئين: دلالة عليها ودلالة على صحتها، وهو أن يكون الوصف مؤثرًا في الحكم المعلل، فإذا عرف افتقر إلى سلامته على الأصول، وهو أن يسلم من نقض أو معارضة. فإن عارضها قياس مثلها أو أقوى منها وقفت ولم تكن علة. [المستدرك 2/ 207 - 208]
* * *
(الخلاف في العلة المستنبطة هل يقاس عليها
؟)
1982 -
ذكر القاضي في كتاب الروايتين والوجهين اختلافًا في المذهب في صحة العلة المستنبطة فقال: إذا ثبت معنى الحكم مقطوعًا عليه بنص كتاب أو سُنَّة أو إجماع رد غيره إليه إذا كان معناه فيه، وهذا لا إشكال فيه.
فأما إن كان معنى الأصل عرف بالاستنباط مثل علة الربا [في الزائد] بكيل أو مطعوم، فهل يجب رد غيره إليه، أم لا؟ فقال شيخنا أبو عبد الله: لا يجب رد غيره إليه.
فعلى قوله يكون القول ببعض القياس دون بعض، وقد أومأ أحمد إليه في رواية مهنا، وقد سأله: هل نقيس بالرأي؟ فقال: لا، وهو أن يسمع الرجل الحديث فيقيس عليه.
قال: معنى قوله: "لا يقيس بالرأي"؛ يعني: ما ثبت أصله بالرأي لا نقيس عليه. [المستدرك 2/ 208 - 209]
* * *
(عكس العلل وعدم التأثير)
1983 -
الحكم إذا ثبت بعلة يزول بزوالها، فإن بقي مع زوالها من غير أن يخلفها علة أخرى كانت عديمة التأثير، فلا تكون علة، وأما إذا خلفها علة أخرى فإنها لا يبطل كونها علة.
وهذا هو التحقيق في "مسألة عكس العلل، وعدم التأثير فيها".
فقوله في الهر: "إنها من الطوافين"
(1)
: دليل على أن الطواف سبب الطهارة، فإذا انتفى ما هو سبب فيه زالت طهارته، وقد تثبت الطهارة لغيره، وهو الحل كطهارة الصيد والأنعام فإنها طيبة من الطيبات التي أباحها الله تعالى، فلا يحتاج إلى تعليل طهارتها بالطواف؛ فإن الطواف يدل على أن ذلك لدفع الحرج في نجاستها. [المستدرك 2/ 210 - 211]
* * *
(تخصيص العلة المستنبطة وتخصيص المانع والمنصوصة)
1984 -
مسألة: لا يجوز تخصيص العلة المستنبطة، وتخصيصها نقض لها، نص عليه.
واختلف فيه أصحابنا على وجهين.
[قال شيخنا]: الذي يظهر في تخصيص العلة أن تخصيصها يدل على فسادها، إلا أن يكون لعلة مانعة، فإنه إذا كان لعلة مانعة فهذا في الحقيقة ليس تخصيصًا، وإنما عدم المانع شرط في حكمها.
فإن كان التخصيص بدليل ولم يظهر بين صورة التخصيص وبين غيره فرق مؤثر:
فإن كانت العلة مستنبطة: بطلت، وكان قيام الدليل على انتفاء الحكم عنها دليلًا على فسادها.
(1)
تقدم تخريجه.
- وإن كانت العلة منصوصة: وجب العمل بمقتضى عمومها، إلا في كل موضع يعلم أنه مستثنى بمعنى النص الآخر.
وحاصله: أن التخصيص بغير علة: مانع مبطل لكونها علة.
وإذا تعارض نص الأصل المعلل ونص النقض وهو معلل: فلا كلام، وإن لم يكن معللًا بقي التردد في الفرع: هل هو في معنى الأصل أو هو في معنى النقض؟ وقد علم تبعه للأصل دون النقض.
وأخصر منه: أن العلة المستنبطة: لا يجوز تخصيصها إلا لعلة مانعة.
وأما المنصوصة: فيجوز تخصيصها لعلة مانعة أو دليل مخصص.
وهذا في الحقيقة قول المتقدمين الذي منعوا تخصيص العلة. [المستدرك 2/ 213 - 216]
* * *
(تعليل الحكم العدمي أو الثبوتي بالعدم)
1985 -
أما تعليل الحكم العدمي بالعدم: فذكر بعضهم أنه لا خلاف فيه، وكذلك ينبغي أن يكون؛ فإن الحكم ينتفي لانتفاء مقتضيه أكثر مما ينتفي لوجود منافيه.
وأما تعليل الحكم الثبوتي به
(1)
: فالعلل ثلاثة أقسام:
أحدها: المعرف وهو: ما يعتبر فيه أن يكون دليلًا على الحكم فقط، فهذا لا ريب أنه يكون عدمًا؛ فإن العدم يدل على الوجود كثيرًا، وعلى هذا فيجوز في قياس الدلالة والشبه أن يكون العدم علة
(2)
.
(1)
أي: بالعدم.
(2)
فيقال: هذا يُقاس على هذا لعدم الفارق بينهما.
واعلم أنَّ القياس ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
1 -
قياس العلة: وهو ما كانت العلة فيه موجبة للحكم، بحيث لا يحسن عقلًا تخلفه عنها كقياس الضرب على التأفيف للوالدين في التحريم بعلة الإيذاء. =
والثاني: الموجد، فهذا لا يقول أحد إن العدم يوجد وجودًا.
والثالث: الداعي، فهذا محل الاختلاف، وهي العلل الشرعية ونحوها.
والصواب أن العدم المخصوص يجوز أن يكون داعيًا إلى أمر وجودي، كما أنَّ عدم فعل الواجبات داع إلى العقوبة؛ فإن عدم الإيمان سبب لعذاب عظيم.
أما العدم المطلق فلا.
وحينئذٍ فقد صح قول أصحابنا: إن العلة يصح في الجملة أن تكون وصفًا عدميًّا؛ لأن هذا يصح في بعض المواضع. [المستدرك 2/ 218 - 219]
* * *
(عدم التأثير في قياس الدلالة)
1986 -
عدم التأثير في قياس الدلالة يجب أن لا يؤثر؛ لأنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول. ذكره أبو الخطاب. [المستدرك 2/ 220]
* * *
(الاختلاف والاجتهاد والترجيح، والموقف الصحيح من المخطئين والمجتهدين)
1987 -
مَن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله، أو أوجبه بقوله أو بفعله من غير أن يشرعه الله: فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، ومن اتَّبعه في ذلك فقد اتخذه شريكًا لله شَرَع له من الدين ما لم يأذن به الله.
= 2 - قياس الدلالة: وهو الاستدلال بأحد النظيرين على الآخر، وهو أن تكون العلة دالة على الحكم، ولا تكون موجبة للحكم، كقياس مال الصبي على مال البالغ في وجوب الزكاة فيه بجامع أنه مال نام.
ويجوز أن يقال: لا تجب في مال الصبي كما قال به أبو حنيفة.
3 -
قياس الشبه: وهو الفرع المتردد بين أصلين، فيلحق بأكثرهما شبهًا، كما في العبد إذا أتلف فإنه متردد في الضمان بين الإنسان الحر من حيث أنه آدمي، وبين البهيمة من حيث أنه مال، وهو بالمال أكثر شبهًا من الحر، بدليل أنه يباع ويورث ويوقف وتضمن أجزاؤه بما نقص من قيمته.
نعم، قد يكون متَأوِّلًا في هذا الشرع فيُغفر له لأجل تأويله، إذا كان مجتهدًا الاجتهاد الذي يُعفى فيه عن المخطئ ويثاب أيضًا على اجتهاده، لكن لا يجوز اتباعه في ذلك، كما لا يجوز اتباع سائر من قال أو عمل قولًا أو عملًا قد عُلم الصواب في خلافه، وإن كان القائل أو الفاعل مأجورًا أو معذورًا. اقتضاء الصراط المستقيم: 371
1988 -
ذِكْرُ النَّاسِ بِمَا يَكْرَهُونَ هُوَ فِي الْأَصْلِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: ذِكْرُ النَّوْعِ.
وَالثَّانِي: ذِكْرُ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ الْحَيِّ أَو الْمَيِّتِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَكُلُّ صِنْفٍ ذَمَّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ يَجِبُ ذَمُّهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِن الْغِيبَةِ.
وَأَمَّا الشَّخْصُ الْمُعَيَّنُ: فَيُذْكَرُ مَا فِيهِ مِن الشَّرِّ فِي مَوَاضِعَ:
أ- مِنْهَا: الْمَظْلُومُ لَهُ أَنْ يَذْكُرَ ظَالِمَة بِمَا فِيهِ:
- إمَّا عَلَى وَجْهِ دَفْعِ ظُلْمِهِ وَاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ؛ كَمَا قَالَتْ هِنْدُ: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ يُعْطِينِي مِن النَّفَقَةِ مَا يَكفِينِي وَوَلَدِي، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ"
(1)
.
وَقَالَ تَعَالَى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148]
(2)
وَقَد رُوِيَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ نَزَلَ بِقَوْم فَلَمْ يَقْرُوهُ.
(1)
رواه البخاري (5364).
(2)
قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله: يعني: فله أن يجهر بالسوء من القول لإزالة مظلمته.
ولكن هل يجوز مثل هذا إذا كان قصد الإنسان أن يخفف عليه وطأة الحزن والألم الذي في قلبه بحيث يحكي الحال التي حصلت على صديق له، وصديقه لا يمكن أن يزيل هذه المظلمة لكنه يفرج عنه أو لا؟
الظاهر: أنه يجوز؛ لعموم قوله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} وهذا يقع كثيرًا، كثيرًا ما يؤذي الإنسان، ويجني عليه بجحد مال أو أخذ مال، أو ما أشبه ذلك فيأتي الرجل إلى صديقه ويقول: فلان قال في كذا، يريد أن يخفف ما في قلبه من =
فَإِذَا كَانَ هَذَا فِيمَن ظُلِمَ بِتَرْكِ قِرَاهُ الَّذِي تَنَازَعَ النَّاسُ فِي وُجُوبِهِ وَإِن كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ وَاجِبٌ: فَكَيْفَ بِمَن ظُلِمَ بِمَنْعِ حَقِّهِ الَّذِي اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ إيَّاهُ.
- أَو يَذْكُرُ ظَالِمَهُ عَلَى وَجْهِ الْقِصَاصِ مِن غَيْرِ عُدْوَانٍ، وَلَا دُخُولٍ فِي كَذِبٍ وَلَا ظلْمِ الْغَيْرِ، وَتَرْكُ ذَلِكَ أَفْضَلُ.
ب- وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ النَّصِيحَةِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ. وَإِذَا كَانَ النُّصْحُ وَاجِبًا فِي الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ؛ مِثْل نَقَلَةِ الْحَدِيثِ الَّذِينَ يَغْلَطُونَ أو يَكْذِبُون. وَمِثْلُ أَئِمَّةِ الْبِدَع مِن أَهْلِ الْمَقَالَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَو الْعِبَادَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَإِنَّ بَيَانَ حَالِهِمْ وَتَحْذِيرَ الْأُمَّةِ مِنْهُم وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى قِيلَ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي ويعْتَكِفُ أَحَبُّ إلَيْك أَو يَتَكَلَّمُ فِي أَهْلِ الْبِدَع؟ فَقَالَ: إذَا قَامَ وَصَلَّى وَاعْتَكَفَ فَإِنَّمَا هُوَ لِنَفْسِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ فِي أَهْلِ الْبِدَع فَإِنَّمَا هُوَ لِلْمُسْلِمِينَ، هَذَا أَفْضَلُ.
فَبَيَّنَ أَنَّ نَفْعَ هَذَا عَامٌّ لِلْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ مِن جِنْسِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ إذ تَطْهِيرُ سَبِيلِ اللهِ وَدِينِهِ وَمِنْهَاجِهِ وَشِرْعَتِهِ وَدَفْعِ بَغْيِ هَؤُلَاءِ وَعُدْوَانِهِمْ عَلَى ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ بِاتفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْلَا مَن يُقِيمُهُ اللهُ لِدَفْعِ ضَرَرِ هَؤُلَاءِ لَفَسَدَ الدِّينُ، وَكَانَ فَسَادُهُ أَعْظَمَ مِن فَسَادِ اسْتِيلَاءِ الْعَدُوِّ مِن أَهْلِ الْحَرْبِ، فَإِنَّ هَؤلَاءِ إذَا اسْتَوْلَوْا لَمْ يُفْسِدُوا الْقُلُوبَ وَمَا فِيهَا مِن الدِّينِ إلا تَبَعًا، وَأَمَّا أُولَئِكَ فَهم يُفْسِدُونَ الْقُلُوبَ ابْتِدَاءً
(1)
.
= الألم والحسرة، أو يتكلم في ذلك مع أولاده، أو مع أهله، أو مع زوجته أو ما أشبه ذلك، هذا لا بأس به؛ لأن الظالم ليس له حرمة بالنسبة للمظلوم. اهـ. تفسير العلَّامة محمد العثيمين (7/ 36 - 37).
قلت: هذا بشرط أن يتحقق الإنسان أنه مظلوم، فكثير من الناس يغتاب بعض الناس بزعم أنه ظلمه، ولا يكون كذلك في الواقع.
(1)
فإذا كان هذا خطرهم وضررهم، فلا يجوز أنْ يُمكن هؤلاء في الإعلام والقنوات والصحف.
وإذَا كَانَ أَقْوَامٌ لَيْسُوا مُنَافِقِينَ لَكِنَّهُم سَمَّاعُونَ لِلْمُنَافِقِينَ، قَد الْتَبَسَ عَلَيْهِم أَمْرُهُم حَتى ظَنُّوا قَوْلَهُم حَقًّا؛ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَاب وَصَارُوا دُعَاةً إلَى بِدَع الْمُنَافِقِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47]: فَلَا بُدَّ أَيْضًا مِن بَيَانِ حَالِ هَؤُلَاءِ؛ بَل الْفِتْنَةُ بِحَالِ هَؤُلَاءِ أَعْظَمُ؛ فَإِنَّ فِيهِمْ إيمَانًا يُوجِبُ مُوَالَاتَهُمْ، وَقَد دَخَلُوا فِي بِدَعٍ مِن بِدَعِ الْمُنَافِقِينَ الَّتِي تُفْسِدُ الدِّينَ، فَلَا بُدَّ مِن التَّحْذِيرِ مِن تِلْكَ الْبِدَعِ وَإِن اقْتَضَى ذَلِكَ ذِكْرَهُم وَتَعْيِينَهُمْ
(1)
.
بَل وَلَو لَمْ يَكُن قَد تَلَقَّوْا تِلْكَ الْبِدْعَةَ عَن مُنَافِقٍ، لَكِنْ قَالُوهَا ظَانِّينَ أَنَّهَا هُدًى وَأنَّهَا خَيْرٌ وَأَنَّهَا دِينٌ، وَلَمْ تكُنْ كَذَلِكَ لَوَجَبَ بَيَانُ حَالِهَا.
وَلهَذَا وَجَبَ بَيَانُ حَالِ مَن يَغْلَطُ فِي الْحَدِيثِ وَالرِّوَايَةِ، وَمَن يَغْلَطُ فِي الرّأْيِ وَالْفُتْيَا، وَمَن يَغْلَطُ فِي الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ، وَإِن كَانَ الْمُخْطِئُ الْمُجْتَهِدُ مَغْفُورًا لَهُ خَطَؤُهُ، وَهُوَ مَأْجُورٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ.
فَبَيَانُ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاجِبٌ، وَإِن كَانَ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لِقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ.
وَمَن عُلِمَ مِنْهُ الِاجْتِهَادُ السَّائِغُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرُ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ وَالتَّأْثِيمِ لَهُ؛ فَإِنَّ اللهَ غَفَرَ لَهُ خَطَأَهُ؛ بَل يَجِبُ لِمَا فِيهِ مِن الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى: مُوَالَاتُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَالْقِيَامُ بِمَا أَوْجَبَ اللهُ مِن حُقُوقِهِ مِن ثنَاءٍ وَدُعَاءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَإِن عُلِمَ مِنْهُ النِّفَاقُ، كَمَا عُرِفَ نِفَاقُ جَمَاعَةٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبي وَذَوِيهِ، وَكَمَا عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ نِفَاقَ سَائِرِ الرَّافِضَةِ: عَبْدِ اللهِ بْنِ سَبَأٍ وَأَمْثَالِهِ؛ مِثْل عَبْدِ الْقُدُّوسِ بْنِ الْحَجَّاجِ وَمُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْمَصْلُوبِ: فَهَذَا يُذْكَرُ بِالنِّفَاقِ.
(1)
بأسمائهم، ولكن لا يعني ذلك أن نذكرهم على وجه الذم لذواتهم، إلا إذا كثر ذلك منهم، وعُرف عنهم مُحاربة السُّنَّة ونصرة البدعة.
وَإِن أَعْلَنَ بِالْبِدْعَةِ وَلَمْ يُعْلَمْ هَل كَانَ مُنَافِقًا أَو مُؤْمِنًا مُخْطِئًا: ذُكِرَ بِمَا يُعْلَمُ مِنْهُ.
فَلَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْفُوَ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي هَذَا الْبَابِ إلَّا قَاصِدًا بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ تَعَالَى، وَأَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَأَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ.
ثُمَّ الْقَائِلُ فِي ذَلِكَ بِعِلْم لَا بُدَّ لَهُ مِن حُسْنِ النِّيَّةِ، فَلَو تَكَلَّمَ بِحَقّ لقَصد الْعلُوّ فِي الْأَرْضِ أَو الْفَسَاد: كَانَ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَرِياءً، وَإِن تَكَلَّمَ لِأَجْلِ اللهِ تَعَالَى مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ: كَانَ مِن الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ مِن وَرَثَةِ الْأَنْبيَاءِ خُلَفَاءِ الرُّسُلِ. [28/ 225 - 235]
1989 -
لَا رَيْبَ أَنَّ الْخَطَأ فِي دَقِيقِ الْعِلْمِ مَغْفُورٌ لِلْأُمَّةِ، وَإِن كَانَ ذَلِكَ فِي الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَهَلَكَ أَكْثَرُ فُضَلَاءِ الْأمَّةِ، وَإِذَا كَانَ اللهُ يَغْفِرُ لِمَن جَهِلَ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ لِكَوْنِهِ نَشَأَ بِأَرْضِ جَهْلٍ، مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَطْلُب الْعِلْمَ: فَالْفَاضِلُ الْمُجْتَهِدُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ بِحَسَبِ مَا أَدْرَكَهُ فِي زَمَانِهِ وَمَكَانِهِ إذَا كَانَ مَقْصودُهُ مُتَابَعَةَ الرَّسُولِ بِحَسَبِ إمْكَانِهِ هُوَ أَحَقُّ بِأَنْ يَتَقَبَّلَ اللهُ حَسَنَاتِهِ، وَيُثِيبَهُ عَلَى اجْتِهَادَاتِهِ، وَلَا يُؤَاخِذَهُ بِمَا أَخْطَأَ؛ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]. [20/ 165]
1990 -
لَيْسَ مِن شَرْطِ وَليِّ اللهِ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا مِن الْخَطَأ وَالْغَلَطِ؛ بَل وَلَا مِن الذنُوبِ. [10/ 693]
1991 -
مَن جَعَلَ طَرِيقَ أَحَدٍ مِن الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ أو طَرِيقَ أَحَدٍ مِن الْعبَّادِ وَالنُّسَّاكِ أَفْضَلَ مِن طَرِيقِ الصَّحَابَةِ فَهُوَ مُخْطِئٌ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ.
وَمَن جَعَلَ كُل مُجْتَهِدٍ فِي طَاعَةٍ أَخْطَأَ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ مَذْمُومًا مَعِيبًا مَمْقُوتًا فَهُوَ مُخْطِئٌ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ
(1)
.
(1)
وفي هذا رد على من يقدح فيمن اجتهد فأخطأ من علمائنا ودعاتنا، ويذكر مساوئهم، وينسى محاسنهم!
ثُمَّ النَّاسُ فِي الْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَالْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ هُم أيْضًا مُجْتَهِدُونَ يُصِيبُونَ تَارَةً وَيُخْطِئُونَ تَارَةً، وَكَثِيرٌ مِن النَّاسِ إذَا عَلِمَ مِن الرَّجُلِ مَا يُحِبُّهُ أَحَبَّ الرَّجُلَ مُطْلَقًا وَأَعْرَضَ عَن سَيِّئَاتِهِ، وَإِذَا عَلِمَ مِنْهُ مَا يُبْغِضُهُ أَبْغَضَهُ مُطْلَقًا وَأَعْرَضَ عَن حَسَنَاتِهِ.
وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَقُولُونَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَسْتَحِقُّ وَعْدَ اللهِ وَفَضْلَهُ: الثَّوَابُ عَلَى حَسَنَاتِهِ، وَيَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ عَلَى سَيِّئَاتِهِ، وَإِنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ يَجْتَمِعُ فِيهِ مَا يُثَابُ عَلَيْهِ وَمَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ، وَمَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ وَمَا يُذَمُّ عَلَيْهِ، وَمَا يُحَبُّ مِنْهُ وَمَا يُبْغَضُ مِنْهُ، فَهَذَا هَذَا. [11/ 15 - 16]
1992 -
مَن لَهُ فِي الْأُمَّةِ لِسَان صِدْقٍ عَامٍّ بِحَيْثُ يُثْنَى عَلَيْهِ وَيُحْمَدُ فِي جَمَاهِيرِ أَجْنَاسِ الْأُمَّهِ فَهَؤُلَاءِ هُم أَئِمَّةُ الْهُدَى، وَمَصَابِيحُ الدُّجَى، وَغَلَطُهُم قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى صَوَابِهِمْ، وَعَامَّتُه مِن مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي يُعْذَرُونَ فِيهَا، وَهُم الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الْعِلْمَ وَالْعَدْلَ، فَهُم بُعَدَاءُ عَن الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ، وَعَن اتِّبَاعِ الظَّنِّ، وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُس. [11/ 43]
1993 -
لَيْسَ مِن شَرْطِ أَوْليَاءِ اللهِ الْمُتَّقِينَ أَلَّا يَكُونُوا مُخْطِئِينَ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ خَطَأً مَغْفُورًا لَهُمْ؛ بَل وَلَا مِن شَرْطَهُم تَرْكُ الصَّغَائِرِ مُطْلَقًا؛ بَل وَلَا مِن شَرْطِهِمْ تَرْكُ الْكَبَائِرِ أَو الْكَفْرُ الَّذِي تَعْقُبُهُ التَّوْبَة. [11/ 66 - 67]
1994 -
أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ، وَيتَّبِعُونَ سُنَّةَ الرَّسُولِ، وَيَرْحَمُونَ الْخَلْقَ، وَيَعْدِلُونَ فِيهِمْ، وَيَعْذُرُونَ مَن اجْتَهَدَ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ فَعَجَزَ عَن مَعْرِفَتِهِ.
إنَّمَا يَذُمُّونَ مَن ذَمَّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَهُوَ الْمُفَرِّطُ فِي طَلَبِ الْحَقِّ لِتَرْكِهِ الْوَاجِبَ، وَالْمُعْتَدِي الْمُتَّبعُ لِهَوَاهُ بِلَا عِلْمٍ لِفِعْلِهِ الْمُحَرَّمَ.
فَيَذمُّونَ مَن تَرَكَ الْوَاجِبَ أَو فَعَلَ الْمُحَرَّمَ، وَلَا يُعَاقِبُونَهُ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ
الْحُجَّةِ عَلَيْهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء: 15].
لَا سِيَّمَا فِي مَسَائِلَ تَنَازَعَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ وَخَفِيَ الْعِلْمُ فِيهَا عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ. [27/ 238]
1995 -
لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُكَفِّرَ أَحَدًا مِن الْمُسْلِمِينَ وَإِن أَخْطَأَ وَغَلِطَ حَتَّى تُقَامَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَتُبَيَّنَ لَهُ الْمَحَجَّةُ، وَمَن ثَبَتَ إسْلَامُهُ بِيَقِينِ لَمْ يَزُلْ ذَلِكَ عَنْهُ بِالشَّكِّ؛ بَل لَا يَزُولُ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ. [12/ 466]
1996 -
الْمَشْهُورُ مِن مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَعَامَّةِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ تَكْفِيرُ الْجَهْمِيَّة، وَهُم الْمُعَطِّلَةُ لِصِفَاتِ الرَّحْمَنِ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُم صَرِيحٌ فِي مُنَاقَضةِ مَا جَاءَت بِهِ الرُّسُلُ مِن الْكِتَابِ، وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ جُحُودُ الصَّانِعِ، فَفِيهِ جُحُودُ الرَّبِّ، وَجُحُودُ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَن نَفْسِهِ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ.
وَأَمَّا الْمُرْجِئَةُ: فَلَا تَخْتَلِفُ نُصُوصُه أَنَّهُ لَا يُكَفِّرُهُم؛ فَإِنَّ بِدْعَتَهُم مِن جِنْسِ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي الْفُرُوعِ، وَكَثِيرٌ مِن كَلَامِهِمْ يَعُودُ النِّزَاعُ فِيهِ إلَى نِزَاعٍ فِي الْأَلْفَاظِ وَالْأَسْمَاءِ، وَلهَذَا يُسَمَّى الْكَلَامُ فِي مَسَائِلِهِمْ:"بَابُ الْأَسْمَاءِ"، وَهَذَا مِن نِزَاعِ الْفُقَهَاءِ لَكنْ يَتَعَلَّقُ بِأَصْلِ الدِّينِ، فَكَانَ الْمُنَازعُ فِيهِ مُبْتَدِعًا.
وَكَذَلِكَ "الشيعَةُ" الْمُفَضِّلُونَ لِعَلِيِّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُهُ أنَّهُم لَا يُكَفَّرُونَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِن الْفُقَهَاءِ أَيْضًا وَإِن كَانُوا يُبَدَّعُونَ.
وَأَمَّا "الْقَدَرِيَّةُ" الْمُقِرُّونَ بِالْعِلْمِ، و"الرَّوَافِضُ" الَّذِينَ لَيْسُوا مِن الْغَالِيَةِ، وَالْجَهْمِيَّة، وَالْخَوَارجُ: فَيُذْكَرُ عَنْهُ فِي تَكْفِيرِهِمْ رِوَايَتَانِ، هَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِهِ الْمُطْلَقِ، مَعَ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ التَّوَقُّفُ عَن تَكْفِيرِ الْقَدَرَّيةِ الْمُقِرِّينَ بِالْعِلْمِ وَالْخَوَارجِ، مَعَ قَوْلِهِ: مَا أَعْلَمُ قَوْمًا شَرًّا مِن الْخَوَارجِ.
ثُمَّ طَائِفَةٌ مِن أَصْحَابِهِ يَحْكُونَ عَنْهُ فِي تَكْفِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ مُطْلَقًا رِوَايَتَيْنِ، حَتَّى يَجْعَلُوا الْمُرْجِئَةَ دَاخِلِينَ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.
وَعَنْهُ فِي تَكْفِيرِ مَن لَا يُكَفِّرُ رِوَايَتَانِ أَصَحُّهُمَا لَا يَكْفُرُ.
وَرُبَّمَا جَعَلَ بَعْضُهُم الْخِلَافَ فِي تَكْفِيرِ مَن لَا يُكَفِّرُ مُطْلَقًا وَهُوَ خَطَأٌ مَحْضٌ.
وَالْجَهْمِيَّة -عِنْدَ كَثِيرٍ مِن السَّلَفِ: مِثْل عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَيُوسُفَ بْنِ أَسْبَاطَ وَطَائِفَةٍ مِن أَصْحَابِ الْإمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ- لَيْسُوا مِن الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً الَّتِي افْتَرَقَتْ عَلَيْهَا هَذِهِ الأُمَّةُ؛ بَل أُصُولُ هَذِهِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ: هُم الْخَوَارجُ، وَالشِّيعَةُ، وَالْمُرْجِئَةُ، وَالْقَدَرِيَّةُ.
وَهَذَا الْمَأْثُورُ عَن أَحْمَد، وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَن عَامَّةِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ، أَنَّهُم كَانُوا يَقُولُونَ: مَن قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَن قَالَ: إنَّ اللهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ كَافِرٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ.
ثُمَّ حَكَى أَبُو نَصْرٍ السِّجْزيُّ عَنْهُم فِي هَذَا قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كُفْرٌ يَنْقُلُ عَن الْمِلَّةِ، قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ.
وَالثَّافي: أَنَّهُ كُفْرٌ لَا يَنْقُل.
وَسَبَبُ هَذَا التَّنَازُعِ تَعَارُضُ الْأدِلَّةِ
(1)
، فَإِنَّهُم يَرَوْنَ أَدِلَّةً تُوجِبُ إلْحَاقَ أَحْكَامِ الْكُفْرِ بِهِمْ، ثُمَّ إنَّهُم يَرَوْنَ مِن الْأَعْيَانِ الَّذِينَ قَالُوا تِلْكَ الْمَقَالَاتِ مَن قَامَ بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ مَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا، فَيَتَعَارَضُ عِنْدَهُم الدَّليلَانِ.
وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُم أَصَابَهُم فِي أَلْفَاظِ الْعُمُومِ فِي كَلَامِ الْأَئِمَّةِ مَا أَصَابَ الْأَوَّلينَ فِي أَلْفَاظِ الْعُمُومِ فِي نُصُوصِ الشَّارعِ، كُلَّمَا رَأَوْهُم قَالُوا: مَن قَالَ كَذَا فَهُوَ كَافِرٌ اعْتَقَدَ الْمُسْتَمِعُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ شَامِل لِكُلِّ مَن قَالَهُ، وَلَمْ يَتَدَبَّرُوا أَنَّ التَّكْفِيرَ لَهُ شُرُوطٌ وَمَوَانِعُ قَد تَنْتَفي فِي حَقِّ الْمُعَيَّنِ، وَأَنَّ تَكْفِيرَ الْمُطْلَقِ لَا يَسْتَلْزِمُ تَكْفِيرَ الْمُعَيَّنِ، إلَّا إذَا وُجِدَتِ الشُّرُوطُ وَانْتَفَتِ الْمَوَانِعُ.
(1)
في الظاهر كما لا يخفى.
يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد وَعَامَّةَ الْأَئِمَّةِ -الَّذِينَ أَطْلَقُوا هَذِهِ العمومات: لَمْ يُكفِّرُوا أَكْثَرَ مَن تَكَلَّمَ بِهَذَا الْكَلَامِ بِعَيْنِهِ.
فَإِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد -مَثَلًا- قَد بَاشَرَ "الْجَهْمِيَّة" الَّذِينَ دَعَوْهُ إلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ وَنَفْيِ الصِّفَاتِ، وَامْتَحَنوهُ وَسَائِر عُلَمَاءِ وَقْتِهِ وَفَتَنُوا الْمُؤمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الَّذِينَ لَمْ يُوَافِقُوهُم عَلَى التَّجَهُّمِ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ وَالْقَتْلِ وَالْعَزْلِ عَن الْوِلَايَاتِ، وَقَطْعِ الْأَرْزَاقِ
(1)
، وَرَدِّ الشَّهَادَةِ، وَتَرْكِ تَخْلِيصِهِمْ مِن أَيْدِي الْعَدُوِّ، بِحَيْثُ كَانَ كَثِيرٌ مِن أولي الْأَمْرِ إذ ذَاكَ مِن الْجَهْمِيَّة مِن الْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ وَغَيْرِهِمْ: يُكَفِّرُونَ كُلَّ مَن لَمْ يَكُن جهميًّا مُوَافِقًا لَهُم عَلَى نَفْي الصِّفَاتِ، مِثْل الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَيَحْكُمُونَ فِيهِ بِحُكْمِهِمْ فِي الْكَافِرِ، فَلَا يُوَلُّونَهُ وِلَايَةً، وَلَا يُعْطُونَهُ شَيْئًا مِن بَيْتِ الْمَالِ، وَلَا يَقْبَلُونَ لَهُ شَهَادَةً وَلَا فُتْيَا وَلَا رِوَايَةً، وَيَمْتَحِنُونَ النَّاسَ عِنْدَ الْوِلَايَةِ وَالشَّهَادَةِ وَالِافْتِكَاكِ مِن الْأسْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
فَمَن أَقَرَّ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ حَكَمُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ، وَمَن لَمْ يُقِرَّ بِهِ لَمْ يَحْكُمُوا لَهُ بِحُكْمِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَمَن كَانَ دَاعِيًا إلَى غَيْرِ التَّجَهُّمِ قَتَلُوهُ أَو ضَرَبُوهُ وَحَبَسُوهُ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِن أَغْلَظِ التَّجَهُّم، فَإِنَّ الدُّعَاءَ إلَى الْمَقَالَةِ اعْظَمُ مِن قَوْلِهَا، وَإِثَابَةُ قَائِلِهَا وَعُقُوبَةُ تَارِكِهَا أَعْظَمُ مِن مُجَرَّدِ الدُّعَاءِ إلَيْهَا، وَالْعُقُوبَةُ بِالْقَتْلِ لِقَائِلِهَا أَعْظَمُ مِن الْعُقُوبَةِ بِالضَّرْبِ.
(1)
فيه أنّه لا بأس بإطلاق هذه العبارة، وبعض الناس ينكر أنْ يُقال: فلان قطع رزقي، فيمن سعى بعزله ونحو ذلك. وإسناد الرزق إلى المخلوق جائز بشرط أن يعتقد أنه سبب، قال العلَّامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله تعالى:{أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)} [المؤمنون: 72]، وَصِيغَةُ التَّفْضِيلِ فِي قَوْلِهِ:{وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} نَظَرًا إِلَى أَن بَعْضَ الْمَخْلُوقِينَ يَرْزُقُ بَعْضَهُمْ؛ كَقَؤلِهِ تَعَالَى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5]، وَقَوْلهِ تَعَالَى:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} الآية [البقرة: 233]، وَلَا شَكَّ أَن فَضْلَ رِزْقِ اللهِ خَلْقَهُ، عَلَى رِزْقِ بَعْضِ خَلْقِهِ بَعْضِهِمْ كَفَضْلِ ذَاتِهِ، وَسَائِرِ صِفَاتِهِ عَلَى ذَوَاتِ خَلْقِهِ، وَصِفَاتِهِمْ. أضواء البيان (5/ 343).
ثُمَّ إنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد دَعَا لِلْخَلِيفَةِ وَغَيْرِهِ مِمَن ضَرَبَهُ وَحَبَسَة وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وحلَّلهم مِمَّا فَعَلُوهُ بِهِ مِن الظُلْمِ وَالدُّعَاءِ إلَى الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ
(1)
، وَلَو كَانُوا مُرْتَدِّينَ عَن الْإِسْلَامِ لَمْ يَجُزِ الِاسْتِغْفَارُ لَهُم؛ فَإِنَّ الِاسْتِغْفَارَ لِلْكَفَّارِ لَا يَجُوزُ بِالْكِتَاب وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ وَالْأَعْمَالُ مِنْهُ وَمِن غَيْرِهِ مِن الْأَئِمَّةِ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُم لَمْ يُكَفرُوا الْمُعَيَّنِينَ مِن الْجَهْمِيَّة، الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ، وَإِنَّ اللهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ.
وَقَد نُقِلَ عَن أَحْمَد مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَفَّرَ بِهِ قَوْمًا مُعَيَّنِينَ، فَأَمَّا أَنْ يُذْكَرَ عَنْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ فَفِيهِ نَظَرٌ، أَو يُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى التَّفْصِيلِ، فَيُقَالُ: مَن كَفَّرَهُ بِعَيْنِهِ فَلِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى أنَّهُ وُجِدَتْ فِيهِ شُرُوطُ التَّكْفِيرِ وَانْتَفَتْ مَوَانِعُهُ، وَمَن لَمْ يُكَفِّرْهُ بِعَيْنِهِ فَلِانْتِفَاءِ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ.
هَذا مَعَ إطْلَاقِ قَوْلِهِ بِالتَّكْفِيرِ عَلَى سبِيلِ الْعُمُومِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالِاعْتِبَارُ.
أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ سبحانه وتعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5]، وقَوْله تَعَالَى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286].
(1)
قارن بين فعل هذا الإمام الجليل مع خصومه في العقيدة، الذين لم يكتفوا بمخالفته في عقيدته ومذهبه، بل تعدّوا عليه بالضرب والسبّ والحبس، ومنعوه من الدروس ونشر العلم، وبين طائفةٍ من الناس، لم يحتملوا أذى إخوانهم في العقيدة والدين، فقاطعوهم، أو انتقموا منهم الذين أكثروا من الطعن والسب المقذع والنيل من أناسٍ صالحين نحسبهم والله حسيبهم، وليس لنا إلا ما ظهر منهم، بل إنهم من الدعاة والمشايخ الذين لهم قبول عند الخاصة والعامة، والعجيب أن من رحمة الله بهؤلاء الدعاة والمصلحين أنهم لم يتكلموا في أولئك الطاعنين، ولا وصل إليهم منهم أذى!! فلماذا يطعنون في إخوانهم؟ وأين هم من الاقتداء بهذا الإمام؟ والله المستعان.
وَقَد ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَن أَبِي هُرَيْرَةَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّ اللهَ تَعَالَى فَالَ: قَد فَعَلْت".
وَأَيْضًا: فَقَد ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ يُخْرِجُ مِن النَّارِ مَن كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ دِينَارٍ مِن إيمَانٍ"
(1)
.
وَأَيْضًا فَإِنَّ السَّلَفَ أَخْطَأَ كَثِيرٌ مِنْهُم فِي كَثِيرٍ مِن هَذِهِ الْمَسَائِلِ
(2)
، وَاتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ التَّكْفِيرِ بِذَلِكَ، مِثْلُ مَا أَنْكَرَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ يَسْمَعُ نِدَاءَ الْحَيِّ
(3)
، وَأَنْكَرَ بَعْضُهُم أَنْ يَكُونَ الْمِعْرَاجُ يَقَظَةً، وَأَنْكَرَ بَعْضُهُم رُؤَيةَ مُحَمَّدٍ رَبَّهُ.
وَلبَعْضهِمْ فِي الْخِلَافَةِ وَالتَّفْضِيلِ كَلَامٌ مَعْرُوفٌ.
وَكَذَلِكَ لِبَعْضِهِمْ فِي قِتَالِ بَعْضٍ، وَلَعْنِ بَعْضٍ، وَإِطْلَاقِ تَكْفِيرِ بَعْضِ أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ.
وَكَانَ الْقَاضِي شريح يُنْكِرُ قِرَاءَةَ مَن قَرَأَ: {بَلْ عَجِبْتَ}
(4)
ويقُولُ: إنَّ اللهَ لَا يَعْجَبُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِي فَقَالَ: إنَّمَا شريحٌ شَاعِر يُعْجِبُهُ عِلْمُهُ، كَانَ عَبْد الله أَفْقَه مِنْهُ فَكَانَ يَقُولُ:{بَلْ عَجِبْتَ} .
فَهَذَا قَد أَنْكَرَ قِرَاءَةً ثَابِتَةً، وَأَنْكَرَ صِفَةً دَلَّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَاتَّفَقَت الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ إمَامٌ مِن الْأَئِمَّةِ.
وَكَذَلِكَ بَعْضُ السَّلَفِ أَنْكَرَ بَعْضُهُم حُرُوفَ الْقُرْآنِ مِثْل إنْكَارِ بَعْضِهِمْ
(1)
البخاري (7439).
(2)
أي: المسائل العلمية الخبرية.
(3)
يقصد عائشة رضي الله عنها وغيرها، فقد روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:"وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قَليب بدرٍ فقال: "هل وَجدتم ما وَعد ربُّكم حقًّا؟ " ثم قال: "إنهم الآن يَسمعون ما أقولُ"، فذُكِر لعائشة فقالت: إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنهم الآن يعلمون أن الذي كنتُ أقول لهم هو الحق" ثم قرأت: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80] حتى قرأت الآية".
(4)
الصافات: 12، وعجبت، بالضم والفتح كلاهما قراءتان صحيحتان، وبالضم قرأ حمزة والكسائي.
قَوْلَهُ: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} وَقَالَ: إنَّمَا هِيَ: أو لَمْ يَتَبَيَّنِ الَّذِينَ آمَنُوا.
وإِنْكَارِ الْآخَرِ قِرَاءَةَ قَوْلِهِ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] وَقَالَ: إنَّمَا هِيَ: وَوَصَّى رَبُّك.
وَبَعْضُهُم كَانَ حَذَفَ الْمُعَوِّذَتَيْنِ.
وَآخَرُ يَكْتُبُ سُورَةَ الْقُنُوتِ.
وَهَذَا خَطَأٌ مَعْلُومٌ بِالْإِجْمَاعِ وَالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ.
وَمَعَ هَذَا فَلَمَّا لَمْ يَكُن قَد تَوَاتَرَ النَّقْلُ عِنْدَهُم بِذَلِكَ لَمْ يُكَفَّرُوا، وَإِن كَانَ يَكْفُرُ بِذَلِكَ مَن قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ قَد دَلَّ عَلَى أَنَّ اللهَ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إلَّا بَعْدَ إبْلَاع الرّسَالَةِ، فَمَن لَمْ تَبْلُغْهُ جُمْلَةً لَمْ يُعَذبْهُ رَأسًا، وَمَن بَلَغَتْهُ جُمْلَةً دُونَ بَعْضِ التَّفْصِيلِ لَمْ يُعَذِّبْهُ إلَّا عَلَى إنْكَارِ مَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الرسالية، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165].
وَنَحْوُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ.
فَمَن كَانَ قَد آمَنَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَلَمْ يَعْلَمْ بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، فَلَمْ يُؤْمِن بِهِ تَفْصِيلًا:
أ- إمَّا أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ
(1)
.
ب- أَو سَمِعَهُ مِن طَرِيقٍ لَا يَجِبُ التَّصْدِيقُ بِهَا
(2)
.
(1)
أي: لم يبلغه الخبر الصحيح في ذلك.
(2)
بأنْ يكون السندُ الواصل إليه ضعيفًا، وهذا كان في الزمن السابق، وكذلك الحال اليوم، فمن حدّث عن الرسول وهو من أهل البدع والعقائد الفاسدة فلا يجب على العامة تصديقُه، بل لا يجوز لهم الاستماع إليه.
ج- أَو اعْتَقَدَ مَعْنًى آخَرَ لِنَوْعٍ مِنَ التَّأْوِيلِ الَّذِي يُعْذَرُ بِهِ
(1)
.
فَهَذَا قَد جُعِلَ فِيهِ مِن الْإِيمَانِ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ مَا يُوجِبُ أَنْ يُثِيبَهُ اللهُ عَلَيْهِ وَمَا لَمْ يُؤْمِن بِهِ فَلَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ بِهِ الْحُجَّةُ الَّتِي يَكْفُرُ مُخَالِفُهَا.
وَأَيْضًا: فَقَد ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ مِن الْخَطَأِ فِي الدِّينِ مَا لَا يَكْفُرُ مُخَالِفُهُ؛ بَل وَلَا يَفْسُقُ؛ بَل وَلَا يَأْثَمُ، مِثْلُ الْخَطَأِ فِي الْفُرُوعِ الْعَمَلِيَّةِ.
وَإِن كَانَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْمُخْطِئَ فِيهَا آثِمٌ، وَبَعْضُ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ يَعْتَقِدُ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِيهَا مُصِيبٌ، فَهَذَانِ الْقَوْلَانِ شَاذَّانِ.
وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِتَكْفِيرِ الْمُجْتَهِدِينَ الْمُتَنَازِعِينَ فِيهَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَبَعْضُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ قَد ثَبَتَ خَطَأُ الْمُنَازعِ فِيهَا بِالنُّصُوصِ وَالْإِجْمَاعِ الْقَدِيمِ، مِثْلُ اسْتِحْلَالِ بَعْضِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ لِبَعْضِ أَنْوَاعِ الرِّبَا، وَاسْتِحْلَالِ آخَرِينَ لِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْخَمْرِ، وَاسْتِحْلَالِ آخَرِينَ لِلْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ.
وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمَعْرُوفِينَ بِالْخَيْرِ؛ كَالصَّحَابَةِ الْمَعْرُوفِينَ وَغَيْرِهِمْ مِن أَهْلِ الْجَمَلِ وصفين مِنَ الْجَانِبَيْنِ، لَا يُفَسَّقُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَضْلًا عَن أَنْ يُكَفَّرَ، حَتَّى عَدَّى ذَلِكَ مَن عَدَّاهُ مِن الْفُقَهَاءِ إلَى سَائِر أَهْلِ الْبَغْيِ، فَإِنَّهُم مَعَ إيجَابِهِم لِقِتَالِهِمْ مَنَعُوا أَنْ يُحْكَمَ بِفِسْقِهِمْ لِأَجْلِ التَّأْوِيلِ، كَمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ: إنَّ شَارِبَ النَّبِيذِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ مُتَأَوِّلًا لَا يُجْلَدُ وَلَا يَفْسُقُ.
وَقَد ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ مِن حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ العاص وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ"
(2)
.
(1)
كمن فهم من القرآن والسُّنَّة مُرادًا غير ما أراده الله ورسوله، وغير ما فهم الصحابةُ وسلف الأمة: فإنه لا يُؤاخذ إذا كان هذا مبلغ علمه وجهدِه.
فهذه ثلاثةُ أعذارِ تُسقط عقوبَتَه في الدنيا والآخرة، وتمنع القدح فيه.
(2)
رواه البخاري (7352)، ومسلم (4584).
وَقَد ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ مَن بَلَغَتْهُ رِسَالَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُؤْمِن بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ الِاعْتِذَارُ بِالِاجْتِهَادِ؛ لِظُهُورِ أَدِلَّةِ الرِّسَالَةِ وَأَعْلَامِ النُّبُوَّةِ. [12/ 485 - 496]
1997 -
السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ كَفَّرُوا الْجَهْمِيَّة لَمَّا قَالُوا إنَّهُ: سبحانه وتعالى فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَكَانَ مِمَّا أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِمْ: أَنَّهُ كَيْفَ يَكونُ فِي الْبُطُونِ وَالْحُشُوشِ والأخلية؟ تَعَالَى اللهُ عَن ذَلِكَ. [2/ 126]
1998 -
التَّكْفِير الْعَامّ -كَالْوَعِيدِ الْعَامِّ- يَجِبُ الْقَوْلُ بِإِطْلَاقِهِ وَعُمُومِهِ.
وَأَمَّا الْحُكْمُ عَلَى الْمُعَيَّنِ بِأَنَّهُ كَافِرٌ أَو مَشْهُودٌ لَهُ بِالنَّارِ: فَهَذَا يَقِفُ عَلَى الدَّلِيلِ الْمُعَيَّنِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ يَقِفُ عَلَى ثُبُوتِ شُرُوطِهِ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ.
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَتَكفِيرُ الْمُعَيَّنِ مِن هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ وَأَمْثَالِهِمْ -بِحَيْثُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مِن الْكُفَّارِ- لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ أَنْ تَقُومَ عَلَى أَحَدِهِم الْحُجَّةُ الرسالية الَّتِي يَتَبَيَّنُ بِهَا أَنَّهُم مُخَالِفُونَ لِلرُّسُلِ، وَإِن كَانَت هَذِهِ الْمَقَالَةُ لَا ريبَ أَنَّهَا كُفْرٌ
(1)
.
وَهَكَذَا الْكَلَامُ فِي تَكْفِيرِ جَمِيعِ الْمُعَيَّنِينَ، مَعَ أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْبِدْعَةِ أَشَدُّ مِن بَعْضٍ، وَبَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْإِيمَانِ مَا لَيْسَ فِي بَعْضٍ.
فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُكَفِّرَ أَحَدًا مِن الْمُسْلِمِينَ وَإِن أَخْطَأَ وَغَلِطَ حَتَّى تُقَامَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ وَتُبَيَّنَ لَهُ الْمَحَجَّةُ.
وَمَن ثَبَتَ إيمَانُهُ بِيَقِينٍ لَمْ يَزُلْ ذَلِكَ عَنْهُ بِالشَّكِّ
(2)
؛ بَل لَا يَزُولُ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ. [12/ 498]
(1)
أي: لو فعل مكفرًا ظاهرًا صريحًا، فلا يجوز الإقدام على تكفيره إلا بعد قيام الحجة عليه.
(2)
هذه قاعدةٌ مُتفق عليها بين أهل العلم، ومع وضوحها وإجماع العلماء عليها إلا أنك ترى العجب من خوارج العصر، الذين يُكفرون حكام المسلمين وجنودهم وعلماءهم، وكثيرًا من رموزهم وقادتهم، بل أباحوا قتلهم وسفك دمائهم، ولقد رأينا كيف يتقرب الرجل بقتل ابن عمّه وأقاربه! فقبح الله الجهل كيف يقتل صاحبه، ويُورده المهالك.
1999 -
يَجِبُ الِاحْتِرَازُ مِن تَكْفِيرِ الْمُسْلِمِينَ بِالذُّنُوب وَالْخَطَايَا، فَإِنَّهُ أَوَّلُ بِدْعَةٍ ظَهَرَتْ فِي الْإِسْلَامِ، فَكَفَّرَ أَهْلُهَا الْمُسْلِمِينَ، وَاسْتَحلُّوا دِمَاءَهُم وَأَمْوَالَهُمْ، وَقَد ثَبَتَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أحَادِيثُ صَحِيحَةٌ فِي ذَمِّهِمْ وَالْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ رضي الله عنه: صَحَّ فِيهِمُ الْحَدِيثُ مِن عَشَرَةِ أَوْجُهٍ، وَلهَذَا قَد أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ"، وَأَفْرَدَ الْبُخَارِيُّ قِطْعَةً مِنْهَا، وَهُم مَعَ هَذَا الذَّمِّ إنَّمَا قَصَدُوا اتِّبَاعَ الْقُرْآنِ! [13/ 31]
2000 -
التَّرْجِيحُ بِمُجَرَّدِ الِاخْتِيَارِ، بِحَيْثُ إذَا تَكَافَأَتْ عِنْدَه الْأَدِلَّةُ يُرَجِّحُ بِمُجَرَّدِ إرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ
(1)
، لَيْسَ قَوْلَ أَحَدٍ مِن أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ.
وَلَكِنْ قَالَهُ طَائِفَة مِن الْفُقَهَاءِ فِي الْعَامِّيِّ الْمُسْتَفْتِي: إنَّهُ يُخَيَّر بَيْنَ الْمُفْتِينَ الْمُخْتَلِفِينَ.
وَهَذَا كَمَا أَنَّ طَائِفَةً مِن السَّالِكِينَ إذَا اسْتَوَى عِنْدَهُ الْأَمْرَانِ فِي الشَّرِيعَةِ رَجَّحَ بِمُجَرَّدِ ذَوْقِهِ وَإِرَادَتِهِ.
فَالتَّرْجِيحُ بِمُجَرَّدِ الْإِرَادَةِ الَّتِي لَا تَسْتَنِدُ إلَى أَمْرٍ عِلْمِيٍّ بَاطِنٍ وَلَا ظَاهِرٍ لَا يَقولُ بِهِ أَحَدٌ مِن أَئِمَّةِ الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ.
لَكِنْ قَد يُقَالُ: الْقَلْبُ الْمَعْفورُ بِالتَّقْوَى إذَا رَجَّحَ بِإِرَادَتِهِ فَهُوَ تَرْجِيحٌ شَرْعِيٌّ.
وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَيْسَ مِن هَذَا، فَمَن غَلَبَ عَلَى قَلْبِهِ إرَادَةُ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَبُغْضُ مَا يَكْرَهُهُ اللهُ إذَا لَمْ يَدْرِ فِي الْأَمْرِ الْمُعَيَّنِ هَل هُوَ مَحْبُوبٌ للهِ أَو مَكْرُوهٌ وَرَأَى قَلْبَهُ يُحِبُّهُ أَو يَكْرَهُهُ كَانَ هَذَا تَرْجِيحًا عِنْدَهُ.
كَمَا لَو أَخْبَرَهُ مَن صِدْقُهُ أَغْلَبُ مِن كَذِبِهِ، فَإِنَّ التَّرْجِيحَ بِخَبَرِ هَذَا عِنْدَ انْسِدَادِ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ تَرْجِيحٌ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ.
(1)
وهذا يكثر عند العامة، حيث إذا سمعوا أنّ المسألة فيها قولان، أخذوا ما يُناسبهم ويُوافق أهواءهم، وهذا لا يجوز، بل يجب عليهم الرجوع لقول عالم يثقون به.
فَفِي "الْجُمْلَةِ" مَتَى حَصَلَ مَا يَظُنُّ مَعَهُ أَنَ أَحَدَ الأمْرَيْنِ أَحَبّ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ كَانَ هَذَا تَرْجِيحًا بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ.
وَاَلَّذِينَ أَنْكَرُوا كَوْنَ الْإِلْهَامِ طَرِيقًا عَلَى الْإِطْلَاقِ أَخْطَئُوا، كَمَا أَخْطَأَ الَّذِينَ جَعَلُوهُ طَرِيقًا شَرْعِيًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ.
وَلَكِنْ إذَا اجْتَهَدَ السَّالِكُ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الظَّاهِرَةِ فَلَمْ يَرَ فِيهَا تَرْجِيحًا وَأُلْهِمَ حِينَئِذٍ رُجْحَانَ أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ مَعَ حُسْنِ قَصْدِهِ وَعِمَارَتِهِ بِالتَّقْوَى فَإِلْهَامُ مِثْل هَذَا دَلِيلٌ فِي حَقهِ؛ قَد يَكُونُ أَقْوَى مِن كَثِيرٍ مِن الْأَقْيِسَةِ الضَّعِيفَةِ، وَالْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ وَالظَوَاهِرِ الضَّعِيفَةِ وَالِاسْتِصْحَابات الضَّعِيفَةِ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا كَثِيرٌ مِن الْخَائِضِينَ فِي الْمَذْهَبِ وَالْخِلَافِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ.
وَأَيْضًا: فَإِذَا كَانَت الْأُمُورُ الْكَوْنِيَّةُ قَد تَنْكَشِفُ لِلْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ يَقِينًا أَو ظَنًّا، فَالْأمُورُ الدِّينيَّةُ كَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، فَإِنَّهُ إلَى كَشْفِهَا أَحْوَجُ.
لَكِنَّ هَذَا فِي الْغَالِبِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ كَشْفًا بِدَلِيل، وَقَد يَكُونُ بِدَلِيل يَنْقَدِحُ فِي قَلْبِ الْمُؤمِنِ وَلَا يُمْكِنُهُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ، وَهَذَا أَحَدُ مَا فُسِّرَ بِهِ مَعْنَى "الِاسْتِحْسَانِ".
وَقَد قَالَ مَن طَعَنَ فِي ذَلِكَ -كَأَبِي حَامِدٍ وَأَبِي مُحَمَّدٍ-: مَا لَا يُعَبِّرُ عَنْهُ فَهُوَ هَوَسٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ كُل أَحَدٍ يُمْكنُهُ إبَانَةَ الْمَعَانِي الْقَائِمَةِ بِقَلْبِهِ. [10/ 472 - 477]
2001 -
الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْجُمْهُورُ: أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ مِن دَلِيل شَرْعِيٍّ، فَلَا يَجُوزُ تَكَافُؤُ الْأَدِلَّةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لَكِنْ قَد تَتَكَافَأُ عِنْدَ النَّاظِرِ لِعَدَمِ ظُهُورِ التَرْجِيحِ لَهُ. [10/ 477]
2002 -
الْمُجْتَهِدُ إذَا أدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى جِهَةٍ سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ بِالصَّلَاةِ إلَيْهَا؛ كَالْمُجْتَهِدِ إذَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى قَوْلٍ فَعَمِلَ بِمُوجِبِهِ، كِلَاهُمَا مُطِيعٌ للهِ، وَهُوَ مُصِيبٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُطِيعٌ للهِ، وَلَهُ أَجْرٌ عَلَى ذَلِكَ، وَلَيْسَ مُصِيبًا بِمَعْنَى أَنَّهُ
عَلِمَ الْحَقَّ الْمُعَيَّنَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا وَاحِدًا، وَمُصِيبُهُ لَهُ أَجْرَانِ. [10/ 478]
2003 -
إِنَّ أَقْوَامًا يَقُولُونَ وَيَفْعَلُونَ أُمُورًا هُم مُجْتَهِدُونَ فِيهَا وَقَد أَخْطَئُوا، فَتَبْلُغُ أَقْوَامًا يَظُنُّونَ أَنَّهُم تَعَمَّدُوا فِيهَا الذَّنْبَ، أَو يَظُنُّونَ أَنَّهُم لَا يُعْذَرُونَ بِالْخَطَأِ.
وَهُم أَيْضًا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُونَ، فَيَكُونُ هَذَا مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا فِي فِعْلِهِ، وَهَذَا مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا فِي إنْكَارِهِ، وَالْكُلُّ مَغْفُورٌ لَهُمْ.
وَقَد يَكُونُ أَحَدُهُمَا مُذْنِبًا، كَمَا قَد يَكُونَانِ جَمِيعًا مُذْنِبِينَ. [10/ 546 - 547]
2004 -
لَيْسَ كُلُّ مَا اعْتَقَدَ فَقِيهٌ مُعَيَّنٌ أنَّهُ حَرَامٌ كَانَ حَرَامًا، إنَّمَا الْحَرَامُ مَا ثَبَتَ تَحْرِيمُهُ بِالْكِتَابِ أَو السُّنَّةِ أَو الْإِجْمَاعِ أَو قِيَاسٍ مُرَجِّحٍ لِذَلِكَ، وَمَا تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ رُدَّ إلَى هَذِهِ الْأُصُولِ.
وَمِن النَّاسِ مَن يَكُون نَشَأَ عَلَى مَذْهَبِ إمَامٍ مُعَيَّنٍ، أَو اسْتَفْتَى فَقِيهًا مُعَيَّنًا، أَو سَمِعَ حِكَايَةً عَن بَعْضِ الشُّيُوخِ: فَيُرِيدُ أَنْ يَحْمِلَ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُم عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا غَلَظ. [19/ 315 - 316]
2005 -
التَّعَصُّبُ لِأَمْرِ مِن الْأُمُورِ بِلَا هُدًى مِن اللهِ: هُوَ مِن عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ. {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50]
(1)
. [11/ 27]
2006 -
الْوَاجِبُ عَلَى النَّاسِ اتَّبَاعُ مَا بَعَثَ الله بِهِ رَسُولَهُ، وَأَمَّا إذَا خَالَفَ قَوْلَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ وَوَافَقَ قَوْلَ آخَرِينَ لَمْ يَكُن لِأَحَدٍ أَنْ يُلْزِمَهُ بِقَوْلِ الْمُخَالِفِ وَيَقُول: هَذَا خَالَفَ الشَّرْع. [11/ 204]
2007 -
كُلُّ أَحَدٍ يُؤخَذُ مِن قَوْلِهِ ويُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَا ثَمَّ مَعْصُومٌ
(1)
بعضُ مَن يقدح في الدعاة إلى الله والعلماء بسبب بعض الاجتهادات التي يرونها خاطئةً: يكون الدافع لقدح كثير منهم: التعصب لآرائهم بلا برهانٍ تبرأ به الذمة.
مِن الْخَطَأِ غَيْر الرَّسُولِ، لَكِنَّ الشُّيُوخَ الَّذِينَ عُرِفَ صِحَّةُ طَرِيقَتِهِمْ عُلِمَ أَنَّهُم لَا يَقْصِدُونَ مَا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالضَّرُورَةِ مِن الْعَقْلِ وَالدِّينِ
(1)
. [11/ 393]
2008 -
كَثِيرٌ مِن الْمُتَفَقِّهَةِ
(2)
إذَا رَأَى بَعْضَ النَّاسِ مِن الْمَشَايخِ الصَّالِحِينَ يَرَى أَنَّهُ يَكُونُ الصَّوَابُ مَعَ ذَلِكَ وَغَيْره قَد خَالَفَ الشَّرْعَ وَإِنَّمَا خَالَفَ مَا يَظُنُّهُ هُوَ الشَّرْعُ وَقَد يَكُونُ ظَنُّهُ خَطَأً فَيُثَابُ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ لَهُ وَقَد يَكُونُ الْآخَرُ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا. [11/ 430 - 431]
2009 -
الْمَسَائِلُ إذَا تَصَوَّرَهَا النَّاسُ عَلَى وَجْهِهَا تَصَوُّرًا تَامًّا ظَهَرَ لَهُم الصَّوَابُ، وَقَلَّتْ الْأَهْوَاءُ وَالْعَصَبِيَّاتُ، وَعَرَفُوا مَوَارِدَ النِّزَاعِ
(3)
.
فَمَن تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ فِي شَيْءٍ مِن ذَلِكَ اتَّبَعَهُ، وَمَن خَفِيَ عَلَيْهِ تَوَقَّفَ حَتَّى يُبَيِّنَه اللهُ لَهُ، وَيَنْبَغِيَ لَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ عَلَى ذَلِكَ بِدُعَاءِ اللهِ، وَمِن أَحْسَنِ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ" عَن عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا قَامَ مِن اللَّيْلِ يُصَلِّي يَقُولُ:"اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِن الْحَقِّ بِإِذْنِك، إنَّك تَهْدِي مَن تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"
(4)
. [11/ 103]
2010 -
الصَّوَابُ: أَنَّهُ مَن اجْتَهَدَ مِن أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَقَصَدَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَ: لَمْ يُكَفَّرْ؛ بَل يُغْفَرُ لَه خَطَؤُهُ.
وَمَن تَبَيَّنَ لَهُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَشَاقَّ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ: فَهُوَ كَافِرٌ.
(1)
قاعدة عظيمة، مفادها: أنه يجب على المسلم أنْ يحمل ما يصدر من أحد المشايخ من الدعاة إلى الله وغيرهم من أخطاء وعبارات ظاهرها الفساد على أنهم لا يقصدون ما يُعلم فساده.
(2)
من طلاب العلم وغيرهم.
(3)
وقال رحمه الله بعد نقاشٍ طويل لإحدى المسائل: وَمَن تَدَبَّرَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ وَأَمْثَالَهَا تبَيَّنَ لَهُ أنَّ أَكْثَرَ اخْتِلَافِ الْعُقَلَاءِ مِن جِهَةِ اشتِرَاكِ الْأسْمَاءِ. المجموع (12/ 113).
(4)
رواه مسلم (770).
وَمَن اتَّبَعَ هَوَاهُ وَقَصَّرَ فِي طَلَبِ الْحَقِّ وَتَكَلَّمَ بِلَا عَلَمٍ: فَهُوَ عَاصٍ مُذْنِبٌ.
ثُمَّ قَد يَكُونُ فَاسِقًا، وَقَد تَكُونُ لَهُ حَسَنَاتٌ تَرْجَحُ عَلَى سَيِّئاتِهِ.
فَالتَّكْفِيرُ يَخْتَلِفُ بِحَسَب اخْتِلَافِ حَالِ الشَّخْصِ، فَلَيْسَ كُلُّ مُخْطِئٍ، وَلَا مُبْتَدعٍ، وَلَا جَاهِلٍ، وَلَا ضَالٍّ: يَكُونُ كَافِرًا؛ بَل وَلَا فَاسِقَا؛ بَل وَلَا عاصِيًا. [12/ 180]
2011 -
يُسْتَفَادُ مِن قَوْلِ كُلِّ طَائِفَةٍ
(1)
بَيَانُ فَسَادِ قَوْلِ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى، فَيَعْرِفُ الطَّالِبُ فَسَادَ تِلْكَ الْأَقْوَالِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ دَاعِيًا لَهُ إلَى طَلَبِ الْحَقِّ، وَلَا تَجِدُ الْحَقَّ إلَّا مُوَافِقًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم، وَلَا تَجِدُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ إلَّا مُوَافِقًا لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ، فَيَكُونُ مِمَن لَهُ قَلْبٌ أَو أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ، وَمِمَن لَهُ قَلْبٌ يَعْقِلُ بِهِ، وَأُذُن يَسْمَعُ بِهَا، بِخِلَافِ الَّذِينَ قَالُوا:{لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)} [الملك: 10]. [12/ 314]
2012 -
كَثُرَ مِن الْمُتَأَخِّرِينَ مُخَالَفَةُ الْكتَابِ وَالسّنَّةِ مَا لَمْ يَكُن مِثْلُ هَذَا فِي السَّلَفِ.
وَإِن كَانُوا مَعَ هَذَا مُجْتَهِدِينَ مَعْذُورِينَ، يَغْفِرُ اللهُ لَهُم خَطَايَاهُمْ، وَيُثِيبُهُم عَلَى اجْتِهَادِهِمْ.
وَقَد يَكُونُ لَهُم مِن الْحَسَنَاتِ مَا يَكُونُ لِلْعَامِلِ مِنْهُم أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُهَا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ؛ لِأَنَّهُم كَانُوا يَجِدُونَ مَن يُعِينُهُم عَلَى ذَلِكَ وَهَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرُونَ لَمْ يَجِدُوا مَن يُعِينُهُم عَلَى ذَلِكَ.
لَكِنَّ تَضْعِيفَ الْأَجْرِ لَهُم فِي أُمُورٍ لَمْ يُضَعَّفْ لِلصَّحَابَةِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونُوا أَفْضَلَ مِن الصَّحَابَةِ، وَلَا يَكُون فَاضِلُهُم كَفَاضِلِ الصَّحَابَةِ. [13/ 65]
2013 -
قَوْله تَعَالَى فِي هَذِهِ: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157] هُوَ ذَمٌّ لَهُم عَلَى اتِّبَاعِ الظَّنِّ بِلَا عِلْمٍ.
(1)
الَّذِينَ أقْوَالُهُمْ بَاطِلَةٌ.
كَذَلِكَ قَولهُ: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)} [الأنعام: 148]، مُطَالَبَةٌ بِالْعِلْمِ وَذَمٌّ لِمَن يَتَّبعُ الظَنَّ وَمَا عِنْدَهُ عِلْمٌ.
وَالِاجْتِهَادُ فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ مِمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ وَلَا بُدَّ مِنْهُ.
وَلَا يُوجَدُ مَن يَسْتَغْنِي عَن الظَوَاهِرِ وَالْأَخْبَارِ وَالْأَقْيِسَةِ؛ بَل لَا بُدَّ أَنْ يَعْمَلَ بِبَعْضِ ذَلِكَ مَعَ تَجْوِيزِ نَقِيضِهِ
(1)
، وَهَذَا عَمَلٌ بِالظَّنِّ، وَالْقُرْآنُ قَد حَرَّمَ اتِّبَاعَ الظَّنِّ.
وَقَد تَنَوَّعَتْ طُرُقُ النَّاسِ فِي جَوَازِ هَذَا، فَطَائِفَةٌ قَالَتْ
(2)
: لَا يُتَّبَعُ قَطُّ إلَّا الْعِلْمُ وَلَا يُعْمَلُ بِالظَّنِّ أَصْلًا.
وَهُنَا السُّؤَالُ الْمَشْهُورُ فِي حَدِّ الْفِقْهِ: أَنَّهُ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ.
وَقَالَ الرَّازِي: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الْمُسْتَدَلِّ عَلَى أَعْيَانِهَا، بِحَيْثُ لَا يُعْلَمُ كَوْنُهَا مِن الدِّينِ ضَرُورَةً.
قَالَ: فَإِنْ قُلْت: الْفِقْهُ مِن بَابِ الظُّنُونِ فَكَيْفَ جَعَلْته عِلْمًا؟
قُلْت: الْمُجْتَهِدُ إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ مُشَارَكَةُ صُورَةٍ لِصُورَةٍ فِي مَنَاطِ الْحُكمِ قَطَعَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ ظَنُّهُ، فَالْعِلْمُ حَاصِلٌ قَطْعًا، وَالظَّنِّ وَاقِعٌ فِي طَرِيقِهِ. اهـ.
وَحَقِيقَةُ هَذَا الْجَوَابِ أنَّ هُنَا مُقَدِّمَتَيْنِ:
إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ قَد حَصَلَ عِنْدِي ظَنٌّ.
وَالثَّانِيَةُ: قَد قَامَ الدَّلِيلُ الْقَطْعِيُّ عَلَى وُجُوبِ اتِّباعِ هَذَا الظَّنِّ.
(1)
أي: قد يعمل بقولِ، وهو يُجوّز أنْ يكون الراجح في القول الآخر المخالف لقوله.
(2)
هذا القول الأول.
لَكِنْ يُقَالُ: الْعَمَلُ بِهَذَا الظَّنِّ هُوَ حُكْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ لَيْسَ هُوَ الْفِقْهَ؛ بَل الْفِقْهُ هُوَ ذَاكَ الظَّنُّ الْحَاصِل بِالظَّاهِرِ؛ وَخَبَر الْوَاحِدِ، وَالْقِيَاسُ، وَالْأصُولُ: تُفِيدُ أَنَّ الْعَمَلَ بهَذَا الظَّنِّ وَاجِبٌ
(1)
، وَإِلَّا فَالْفُقَهَاءُ لَا يَتَعَرَّضُونَ لِهَذَا، فَهَذَا الْحُكْمُ الْعَمَلِيُّ الْأُصُولِيُّ لَيْسَ هُوَ الْفِقْهَ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ مِمَن نَصَرَ قَوْله
(2)
: قَد يَكُونُ بِحَسَبِ مَيْلِ النَّفْسِ إلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، كَمَيْلِ ذِي الشِّدَّةِ إلَى قَوْلٍ، وَذِي اللِّينِ إلَى قَوْلٍ.
وَحِينَئِذٍ فَعِنْدَهُم مَتَى وَجَدَ الْمُجْتَهِدُ ظَنًّا فِي نَفْسِهِ فَحُكْمُ اللهِ فِي حَقّهِ اتِّبَاعُ هَذَا الظَّنِّ، وَقَد أَنْكَرَ أَبُو الْمَعَالِي وَغَيْرُهُ عَلَيْهِ هَذَا الْقَوْلَ إنْكَارًا بَلِيغًا، وَهُم مَعْذُورُونَ فِي إنْكَارِهِ.
وَالْكلَامُ فِي شَيْئَيْنِ:
1 -
فِي اتِّبَاعِ الظَّنِّ
(3)
.
2 -
وَفِي الْفِقْهِ هَل هُوَ مِن الظُّنُونِ؟
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ هُوَ الْجَوَابُ الثَّالِثُ
(4)
: وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ فَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْعِلْمِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ فِي الْمَسَائِلِ الْخَفِيَّةِ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْأَدِلَّةِ وَيَعْمَلَ بِالرَّاجِحِ.
وَكَوْنُ هَذَا هُوَ الرَّاجِح: أَمْرٌ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَمْرٍ مَقْطُوعٍ بِهِ.
وَإِن قُدِّرَ أَنَّ تَرْجِيحَ هَذَا عَلَى هَذَا فِيهِ شَكٌّ عِنْدَهُ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ.
(1)
مثالُه: أنْ يجتهد الفقيه في حكم قراءة الجنب للقرآن، فيجد في النصوص ما يمنع من ذلك، فيطمئنّ قلبُه للمنع، فهذا من اختصاص الفقيه، ثم تأتي مرحلةٌ أخرى، وهي: أنّ النهي يقتضي التحريم، فيحرم على الجنب قراءة القرآن، وهذا من اختصاص الأصولي، ولكن الفقه لا يستغني عن الأصول أبدًا.
(2)
هذا القول الثاني.
(3)
أي: هل يجوز ذلك، والنصوص كما سبق ذمت من اتبع الظن.
(4)
وهو لم يُذكر من قبل، لكنه ذكره الآن.
وَإِذَا ظَنَّ الرُّجْحَانَ فَإِنَّمَا ظَنُّهُ لِقِيَامِ دَلِيلٍ عِنْدَهُ عَلَى أَنَّ هَذَا رَاجِحٌ.
فَيَكُونُ مُتَّبِعًا لِمَا عَلِمَ أَنَّهُ أَرْجَحُ، وَهَذَا اتِّبَاعٌ لِلْعِلْمِ لَا لِلظَّنِّ، وَهُوَ اتِّبَاعُ الْأَحْسَنِ كَمَا قَالَ {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف: 145]، وَقَالَ:{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18].
فَإذَا كَانَ أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ هُوَ الْأَرْجَحَ فَاتِّبَاعُهُ هُوَ الْأَحْسَنُ وَهَذَا مَعْلُومٌ. فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ أَرْجَحُ مِن غَيْرِهِ، وَهُوَ الْعَمَلُ بِأَرْجَحِ الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ.
وَحِينَئِذٍ فَمَا عَمِلَ إلَّا بِالْعِلْمِ.
وَالْقُرْآنُ ذَمَّ مَن لَا يَتَّبعُ إلَّا الظَّنَّ فَلَمْ يَسْتَنِدْ ظَنُّهُ إلَى عِلْمٍ بِأَنَّ هَذَا أَرْجَحُ مِن غَيْرِهِ؛ كَمَا قَالَ: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157]، وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِع يَذُمُّ الَّذِينَ إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ فَعِنْدَهُم ظَنّ مُجَرَّد لَا عِلْمَ مَعَهُ وَهُم يَتَّبِعُونَهُ، وَاَلذِي جَاءَت بِهِ الشَّرِيعَةُ وَعَلَيْهِ عُقَلَاءُ النَّاسِ أَنَّهُم لَا يَعْمَلُونَ إلَّا بِعِلْمٍ بِأَنَّ هَذَا أَرْجَحُ مِن هَذَا، فَيَعْتَقِدُونَ الرُّجْحَانَ اعْتِقَادًا عَمَلِيًّا، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ أَرْجَحَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَرْجُوحُ هُوَ الثَّابِتَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَن قَوْلِهِمْ: (الْفِقْهُ مِن بَابِ الظُّنُونِ): فالتَّحْقِيقُ أَنَّ عَنْهُ جَوَابَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: جُمْهُورُ مَسَائِلِ الْفِقْهِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا النَّاسُ وَيُفْتُونَ بِهَا هِيَ ثَابِتَةٌ بِالنَّصِّ أَو الْإِجْمَاعِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الظَّنُّ وَالنِّزَاعُ فِي قَلِيلٍ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاسُ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي سَائِرِ الْعُلُومِ، وَكَثِيرُ مَسَائِلِ الْخِلَافِ هِيَ فِي أُمُورٍ قَلِيلَةِ الْوُقُوعِ وَمُقَدَّرَةٍ، وَأَمَّا مَا لَا بُدَّ لِلنَاسِ مِنْهُ مِن الْعِلْمِ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِم وَيَحْرُمُ وَيُبَاحُ فَهُوَ مَعْلُومٌ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَمَا يُعْلَمُ مِن الدِّينِ ضَرُورَة جُزْءٌ مِن الْفِقْهِ، وَإِخْرَاجُهُ مِن الْفِقْهِ قَوْلٌ لَمْ يُعْلَمْ أَحَدٌ مِن الْمُتَقَدِّمِينَ قَالَهُ.
الْجَوَابُ الثَّاني: أَنْ يُقَالَ: الْفِقْهُ لَا يَكُونُ فِقْهًا إلَّا مِن الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَدِلِّ،
وَهُوَ قَد عَلِمَ أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ أَرْجَحُ، وَهَذَا الظَّنَّ أَرْجَحُ، فَالْفِقْهُ هُوَ عِلْمُهُ بِرُجْحَانِ هَذَا الدَّلِيلِ وَهَذَا الظَّنِّ.
لَيْسَ الْفِقْهُ قَطْعَهُ بِوُجُوبِ الْعَمَل؛ أَيْ: بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ؛ بَل هَذَا الْقَطْعُ مِن أُصُولِ الْفِقْهِ، وَالْأصُولِيُّ يَتَكَلّمُ فِي جِنْسِ الْأدِلَّةِ، ويتَكَلَّمُ كَلَامَا كُلِيًّا، فَيَقُولُ: يَجِبُ إذَا تَعَارَضَ دَلِيلَانِ أَنْ يُحْكَمَ بِأَرْجَحِهِمَا، وَيَقُولُ أَيْضًا: إذَا تَعَارَضَ الْعَامُّ وَالْخَاصُّ فَالْخَاصُّ أرْجَحُ، وَإِذَا تَعَارَضَ الْمُسْنَدُ وَالْمُرْسَلُ فَالْمُسْنَدُ أَرْجَحُ، وَيَقُولُ أَيْضًا: الْعَامُّ الْمُجَرَّدُ عَن قَرَائِنِ التَّخْصِيصِ شُمُولُهُ الْأفْرَادَ أَرْجَحُ مِن عَدَمِ شُمُولِهِ، ويجِبُ الْعَمَلُ بِذَلِكَ. فَأَمَّا الْفَقِيهُ: فَيَتَكَلَّمُ فِي دَليلِ مُعَيَّنِ فِي حُكْمٍ مُعَيَّنٍ.
فَقَد تَبَيَّنَ أَنَّ الظَّنَّ لَهُ أَدِلَّةٌ تَقْتَضِيهِ وَأنَّ الْعَالِمَ إنَّمَا يَعْلَمُ بِمَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِالرُّجْحَانِ لَا بِنَفْسِ الظَّنِّ إلَّا إذَا عَلِمَ رُجْحَانَهُ وَأَمَّا الظَّنُّ الَّذِي لَا يُعْلَمُ رُجْحَانُهُ فَلَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي ذَمَّ اللهُ بِهِ مَن قَالَ فِيهِ: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [الأنعام: 116] فَهُم لَا يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنّ لَيْسَ عِنْدَهُم عِلْمٌ. وَلَو كَانُوا عَالِمِينَ بِأَنَّهُ ظَنٌّ رَاجِحٌ لَكانُوا قَد اتَّبَعُوا عِلْمًا لَمْ يَكُونُوا مِمَن يَتَّبعُ إلَّا الظَّنَّ وَاللهُ أعْلَمُ. [13/ 110 - 120]
2014 -
من المعلوم لمن تدبر الشريعة أنَّ أحكام عامة أفعال العباد معلومة لا مظنونة، وأن الظن فيها إنما هو قليل جدًّا في بعض الحوادث لبعض المجتهدين، فأما كالب الأفعال مفادها وأحداثها فغالب أحكامها معلومة ولله الحمد. [الاستقامة 67]
2015 -
إِذَا أُرِيدَ بِالْخَطَأِ الْإثْمُ: فَلَيْسَ الْمُجْتَهِدُ بِمُخْطِئٍ؛ بل كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ مُطِيعٌ للهِ فَاعِلٌ مَا أَمَرَهُ اللهُ بِهِ:
وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ: فَالْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَلَهُ أَجْرَانِ.
وَهَذِهِ حَالُ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَلَمْ يُفَرِّق أَحَدٌ مِن السَّلَفِ وَالْأئِمَّةِ بَيْنَ أُصُولٍ وَفُرُوعٍ.
بَل جَعْلُ الدِّينِ قِسْمَيْنِ: أُصُولًا وَفُرُوعًا لَمْ يَكُن مَعْرُوفًا فِي الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَلَمْ يَقُلْ أحَدٌ مِن السَّلَفِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إنَّ الْمُجْتَهِدَ الَّذِي اسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي طَلَبِ الْحَقِّ يَأْثَمُ، لَا فِي الْأُصُولِ وَلَا فِي الْفُرُوعِ، وَلَكنَّ هَذَا التَّفْرِيقَ ظَهَرَ مِن جِهَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَدْخَلَهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مَن نَقَلَ ذَلِكَ عَنْهُمْ.
وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْأَئِمَّةِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا. [13/ 124 - 125]
2016 -
إِذَا تَدَبَّرَ الْإِنْسَانُ تَنَازُعَ النَّاسِ وَجَدَ عِنْدَ كُلِّ طَائِفَةٍ مِن الْعِلْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْأُخْرَى، كَمَا فِي مَسَائِلِ الْأَحْكَامِ
(1)
. [13/ 127]
2017 -
عَلَى الْمُسْلِمِ الِاعْتِصَامُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَنْ يَعْرِفَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَأَمَرَ بِهِ عِلْمًا يَقِينِيًّا؛ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَدَعُ الْمُحْكَمَ الْمَعْلُومَ لِلْمُشْتَبِهِ الْمَجْهُولِ، فَإِنَّ مِثَالَ ذَلِكَ: مِثْلُ مَن كَانَ سَائِرًا إلَى مَكَّةَ فِي طَرِيقٍ مَعْرُوفَةٍ لَا شَكَّ أَنَّهَا تُوَصِّلُهُ إلَى مَكَّةَ إذَا سَلَكَهَا، فَعَدَلَ عَنْهَا إلَى طَرِيقٍ مَجْهُولَةٍ لَا يَعْرِفُهَا وَلَا يَعْرِفُ مُنْتَهَاهَا، وَهَذَا مِثَالُ مَن عَدَلَ عَن الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إلَى كَلَامِ مَن لَا يَدْرِي هَل يُوَافِقُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ أَو يُخَالِفُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا مَن عَارَضَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ بِمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَن كَانَ يَسِيرُ عَلَى الطَّرِيقِ الْمَعْرُوفَةِ إلَى مَكَّةَ، فَذَهَبَ إلَى طَرِيقِ قُبْرُصَ يَطْلُبُ الْوُصُولَ مِنْهَا إلَى مَكَّةَ، فَإِنَّ هَذَا حَالُ مَن تَرَكَ الْمَعْلُومَ مِن الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إلَى مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ مِن كَلَامِ زيدٍ وَعَمْرٍو كَائِنًا مَن كَانَ. [13/ 258 - 259]
(1)
فالواجب على المسلم أن يستفيد من غيره الحق والصواب، فقد يجد عنده ما يستفيد منه في الدين أو الدنيا، وقد يكون عنده نظرٌ سياسيّ ثاقب، أو مشاريع تنموية أو صناعية ونحو ذلك.
وكذلك قد يكون عنده من الوسائل الدعوية ما يستفيد منه.
2018 -
مَن حَكَى خِلَافًا فِي مَسْأَلَةٍ وَلَمْ يَسْتَوْعِبْ أَقْوَالَ النَّاسِ فِيهَا فَهُوَ نَاقِصٌ؛ إذ قَد يَكُونُ الصَّوَابُ فِي الَّذِي تَرَكَهُ.
أَو يَحْكِي الْخِلَافَ وَيُطْلِقُهُ وَلَا يُنَبِّهُ عَلَى الصَّحِيحِ مِن الْأَقْوَالِ فَهُوَ نَاقِصٌ أَيْضًا، فَإِنْ صَحَّحَ غَيْرَ الصَّحِيحِ عَامِدًا فَقَد تَعَمَّدَ الْكَذِبَ، أَو جَاهِلًا فَقَد أَخْطَأ.
كَذَلِكَ مَن نَصَبَ الْخِلَافَ فِيمَا لَا فَائِدَةَ تَحْتَهُ، أَو حَكى أَقْوَالًا مُتَعَدِّدَةً لَفْظًا ويَرْجِعُ حَاصِلُهَا إلَى قَوْلٍ أَو قَوْلَيْنِ مَعْنى فَقَد ضَيَّعَ الزَّمَانَ، وَتَكَثَّرَ بِمَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَهُوَ كَلَابِسِ ثَوْبَي زُورٍ. [13/ 368]
2019 -
مَن لَمْ يَعْدِلْ فِي خُصُومِهِ وَمُنَازَعِيهِ، وَيَعْذُرْهُم بِالْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ؛ بَل ابْتَدَعَ بِدْعَةً وَعَادَى مَن خَالَفَهُ فِيهَا أَو كَفَّرَهُ: فَإِنَّهُ هُوَ ظَلَمَ نَفْسَهُ.
وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ وَيَرْحَمُونَ الْخَلْقَ، يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ فَلَا يَبْتَدِعُونَ.
وَمَن اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ خَطَأً يَعْذُرُهُ فِيهِ الرَّسُولُ: عَذَرُوهُ. وَأَهْلُ البِدَعِ مِثْلُ الْخَوَارجِ يَبْتَدِعُونَ بِدْعَةً وَيُكَفِّرُونَ مَن خَالَفَهُم وَيَسْتَحِلُّونَ دَمَهُ.
وَاللهُ يُحِبُّ الْكَلَامَ بِعِلْمٍ وَعَدْلٍ، وَيكْرَهُ الْكَلَامَ بِجَهْلٍ وَظُلْمٍ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"الْقُضَاةُ ثَلَاَثةٌ: قَاضِيَانِ في النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ: رَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِخِلَافِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِهِ فَهُوَ في الْجَنَّةِ"
(1)
.
وَقَد حَرَّمَ سُبْحَانَهُ الْكلَامَ بِلَا عِلْمٍ مُطْلَقًا، وَخَصَّ الْقَوْلَ عَلَيْهِ بِلَا عِلْم بِالنَّهْي فَقَالَ تَعَالَى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء: 36].
(1)
رواه أبو داود (35739)، والترمذي (1322)، وابن ماجه (2315)، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع (4446).
وَأمَرَ بِالْعَدْلِ عَلَى أَعْدَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]. [16/ 96 - 97]
2020 -
إِنَّ كَثِيرًا مِن النَّاسِ يَقْرَأُ كُتُبًا مُصَنَّفَةً فِي أُصُولِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ؛ بَل فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَلَا يَجِدُ فِيهَا الْقَوْلَ الْمُوَافِقَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّذِي عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِصَحِيحِ الْمَنْقُولِ وَصَرِيحِ الْمَعْقُولِ؛ بَل يَجِدُ أَقْوَالًا كُلٌّ مِنْهَا فِيهِ نَوْعٌ مِن الْفَسَادِ وَالتَّنَاقُضِ، فَيَحَارُ مَا الَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَمَا الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَمَا هُوَ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ، إذ لَمْ يَجِدْ فِي تِلْكَ الْأَقْوَالِ مَا يَحْصُلُ بِهِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْهُدَى فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ الَّذِي قَالَ اللهُ فِيهِ:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)} [الشورى: 52، 53]. [17/ 102]
2021 -
يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ مِثْل هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ مِن أَعْظَمِ مَسَائِلِ الدِّينِ لَمْ يَكُنِ السَّلَفُ جَاهِلِينَ بِهَا وَلَا مُعْرِضِينَ عَنْهَا؛ بَل مَن لَمْ يَعْرِفْ مَا قَالُوهُ فَهُوَ الْجَاهِلُ بِالْحَقِّ فِيهَا، وَبِأقْوَالِ السَّلَفِ، وَبِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.
وَالصَّوَابُ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ النّزَاعِ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَانٍ، وَقَوْلُهُم هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْعَقْلُ الصَّرِيحُ. [17/ 205]
2022 -
إِذَا جَاءَت نُصُوصٌ بَيِّنَةٌ مُحْكَمَةٌ بِأَمْرٍ، وجَاءَ نَصٌّ آخَرُ يُظَنُّ أَنَّ ظَاهِرَهُ يُخَالِفُ ذَلِكَ: يُقَالُ فِي هَذَا: إنَّهُ يُرَدُّ الْمُتَشَابِهُ إلَى الْمُحْكَمِ.
أَمَّا إذَا نَطَقَ الْكِتَابُ أَو السُّنَّةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ: لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ مَا يُضَادُّ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْأَصْلُ، وَيُجْعَلَ مَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مُشْكِلًا مُتَشَابِهًا، فَلَا يُقْبَلُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ. [17/ 307]
2023 -
اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ فِي مَسَائِلَ تَنَازَعُوا فِيهَا: عَلَى إقْرَارِ كُلِّ فَرِيقٍ لِلْفَرِيقِ الْآخَرِ عَلَى الْعَمَلِ بِاجْتِهَادِهِمْ؛ كَمَسَائِلَ فِي الْعِبَادَاتِ والمناكح وَالْمَوَارِيثِ وَالْعَطَاءِ وَالسّيَاسَةِ
(1)
وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهُم الْأَئِمَّةُ الَّذِينَ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ أَنَّهُم لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى بَاطِلٍ وَلَا ضَلَالَةٍ، وَدَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى وُجُوبِ مُتَابَعَتِهِمْ.
وَتَنَازَعُوا فِي مَسَائِلَ عِلْمِيَّةٍ اعْتِقَادِيَّةٍ؛ كَسَمَاعِ الْمَيِّتِ صَوْتَ الْحَيِّ، وَتَعْذِيبِ الْمَيِّتِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ، وَرُؤيةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ربَّهُ قَبْلَ الْمَوْتِ، مَعَ بَقَاءِ الْجَمَاعَةِ وَالْأُلْفَةِ، وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مِنْهَا مَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ قَطْعًا. [19/ 122 - 123]
2024 -
يَسُوغُ بَل يَجِبُ أَنْ نُبَيِّنَ الْحَقَّ الَّذِي يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَإِن كَانَ فِيهِ بَيَانُ خَطَأِ مَن أَخْطَأَ مِن الْعُلَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ. [19/ 123]
2025 -
تَنَازَعَ أَصْحَابُنَا فِيمَن لَمْ يُصِبِ الْحُكْمَ الْبَاطِنَ: هَل يُقَالُ: إنَّهُ مُصِيبٌ فِي الظَّاهِرِ؟ التَّحْقِيقُ: أَنَّهُ اجْتَهَدَ الِاجْتِهَادَ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ فَهُوَ مُصِيبٌ مِن هَذَا الْوَجْهِ مِن جِهَةِ الْمَأْمُورِ الْمَقْدُورِ، وَإِن لَمْ يَكُن مُصِيبًا مِن جِهَةِ إدْرَاكِ الْمَطْلُوبِ وَفِعْل الْمَأْمُورِ الْمُطْلَقِ. [19/ 125]
2026 -
الْمُجْتَهِدُ الْمُسْتَدِلُّ مِن إمَامٍ وَحَاكِمٍ وَعَالِمٍ وَنَاظِرٍ وَمُفْتٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ: إذَا اجْتَهَدَ وَاسْتَدَلَّ فَاتَّقَى اللهَ مَا اسْتَطَاعَ كَانَ هَذَا هُوَ الَّذِي كَلَّفَهُ اللهُ إيَّاهُ، وَهُوَ مُطِيعٌ للهِ مُسْتَحِقٌّ لِلثَّوَابِ إذَا اتَّقَاهُ مَا اسْتَطَاعَ، وَلَا يُعَاقِبُهُ اللهُ أَلْبَتَّةَ، وَهُوَ
(1)
تأمل قوله: والسياسة؛ أي: أنّ الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا فيما بينهم في أمورٍ سياسية، ووجهاتِ نظرٍ حول بعض الحكام أو الوزراء، فبعضهم رفض بيعة الأمير، وآخر يخرج عليه بالسيف كما فعل الحسين رضي الله عنه، وكما فعل الذين خرجوا على الحجاج وفيهم أفاضل التابعين، ومع ذلك لم يُجرحهم علماء ومشايخ ذلك الزمان، ولم يستبيحوا أعراضهم، بل دامت بينهم الألفة، واعتذروا لأفعالهم، واستغفر بعضهم لبعض.
مُصِيبٌ؛ بِمَعْنَى: أَنَّهُ مُطِيعٌ للهِ، لَكِنْ قَد يَعْلَمُ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَقَد لَا يَعْلَمُهُ.
وَكَذَلِكَ الْكُفَّارُ: مَن بَلَغَهُ دَعْوَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي دَارِ الْكُفْرِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ فَآمَنَ بِهِ وَآمَنَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ، وَاتَّقَى اللهَ مَا اسْتَطَاعَ؛ كَمَا فَعَلَ النَّجَاشِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلَمْ تُمْكِنْهُ الْهِجْرَةُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَا الْتِزَامُ جَمِيعِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ؛ لِكَوْنِهِ مَمْنُوعًا مِنَ الْهِجْرَةِ وَمَمْنُوعًا مِن إظْهَارِ دِينِهِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَن يُعَلِّمُهُ جَمِيعَ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ: فَهَذَا مُؤْمِنٌ مِن أَهْلِ الْجَنَّةِ، كَمَا كَانَ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ مَعَ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، وَكَمَا كَانَت امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ؛ بَل وَكَمَا كَانَ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ عليه السلام مَعَ أَهْلِ مِصْرَ؛ فَإِنَّهُم كَانُوا كُفَّارًا، وَلَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَفْعَلَ مَعَهُم كُلَّ مَا يَعْرِفُهُ مِن دِينِ الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّهُ دَعَاهُم إلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ فَلَمْ يُجِيبُوهُ.
وَكَذَلِكَ النَّجَاشِيُّ، هُوَ وَإِن كَانَ مَلِكَ النَّصَارَى فَلَم يُطِعْهُ قَوْمُهُ فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ؛ بَل إنَّمَا دَخَلَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْهُم؛ وَلهَذَا لَمَّا مَاتَ لَمْ يَكُن هُنَاكَ أَحَدٌ يُصَلِّي عَلَيْهِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ.
وَكَثِيرٌ مِن شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ أَو أَكْثَرِهَا لَمْ يَكُن دَخَلَ فِيهَا لِعَجْزِهِ عَن ذَلِكَ، فَلَمْ يُهَاجِرْ وَلَمْ يُجَاهِدْ وَلَا حَجَّ الْبَيْتَ؛ بَل قَد رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يُصَل الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَلَا يَصُومُ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَلَا يُؤَدِّ الزَّكَاةَ الشَّرْعِيَّةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَظْهَرُ عِنْدَ قَوْمِهِ فَيُنْكِرُونَهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ لَا يُمْكِنُهُ مُخَالَفَتَهُم، وَنَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَمْ يَكُن يُمْكِنْهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُم بِحُكْمِ الْقُرْآنِ، وَاللهُ قَد فَرَضَ عَلَى نَبِيِّهِ بِالْمَدِينَةِ أَنَّهُ إذَا جَاءَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ لَمْ يَحْكمْ بَيْنَهُم إلَّا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ إلَيْهِ، وَحَذَّرَهُ أَنْ يَفْتِنُوهُ عَن بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إلَيْهِ.
وَالنَّجَاشِيُّ مَا كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْكُمَ بِحُكْمِ الْقُرْآنِ؛ فَإِنَّ قَوْمَهُ لَا يُقِرُّونَهُ عَلَى ذَلِكَ.
وَكَثيرًا مَا يَتَوَلَّى الرَّجُلُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالتَّتَارِ قَاضِيًا بَل وَإِمَامًا، وَفِي نَفْسِهِ أُمُورٌ مِنَ الْعَدْلِ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا فَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ؛ بَل هُنَاكَ مَن يَمْنَعُهُ ذَلِكَ، وَلَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا
(1)
. [19/ 216 - 218]
2027 -
الصَّوَابُ: أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ إلَّا مَعَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْعِلْمِ، وَأَنَّهُ لَا يَقْضِي مَا لَمْ يَعْلَمْ وُجُوبَهُ، فَقَد ثَبَتَ فِي الصحِيح أَنَّ مِنَ الصَّحَابَةِ مَن أَكَلَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فِي رَمَضَانَ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأسْوَدِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْقَضَاءِ، وَمِنْهُم مَن كَانَ يَمْكُثُ جُنُبًا مُدَّةً لَا يُصَلِّي وَلَمْ يَكُن يَعْلَمُ جَوَازَ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ؛ كَأَبِي ذَرٍّ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَمَّارٍ لَمَّا أَجْنَبَ، وَلَمْ يَأْمُر النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحَدًا مِنْهُم بِالْقَضَاءِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ خَلْقًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِمَكَّةَ وَالْبَوَادِي صَارُوا يُصَلُّونَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى بَلَغَهُم النَّسْخَ وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِالْإِعَادَة، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ. [19/ 226 - 227]
2028 -
اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ حُكمَ الْحَاكِمِ الْعَادِلِ إذَا خَالَفَ نَصًّا أَو إجْمَاعًا لَمْ يَعْلَمْهُ فَهُوَ مَنْقُوضٌ. [31/ 39]
2029 -
الْخَطَأُ الْمَغْفُورُ فِي الِاجْتِهَادِ هُوَ فِي نَوْعَيْ الْمَسَائِلِ الْخَبَرِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ؛ كَمَنِ اعْتَقَدَ ثُبُوتَ شَيْءٍ لِدَلَالَةِ آيَةٍ أَو حَدِيثٍ وَكَانَ لِذَلِكَ مَا يُعَارِضُهُ وَيُبَيِّنُ الْمُرَادَ وَلَمْ يَعْرِفْة: مِثْل:
أ- مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ اللهَ لَا يُرَى؛ لِقَوْلِهِ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، وَلقَوْلِهِ:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51]، كَمَا احْتَجَّتْ عَائِشَةُ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عَلَى انْتِفَاءِ الرُّؤَيةِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ وَإِنَّمَا يَدُلَّانِ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ.
(1)
والشَّرِيعَةُ مَبْنَاهَا عَلَى تَحْصِيلِ الْمَصَالِح وَتَكْمِيلِهَا، وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا، وَالْعاقل الحكيم من يُرجح خَيْر الْخَيْرَينِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا، وَيدْفع شَرّ الشَّرَّيْنِ وَإِن حَصَلَ أدْنَاهُمَا.
ورحم الله شيخ الإسلام، فقد أوقفنا على سماحة الدين، وغيَّر أخلاق وطِباع كثيرٍ ممن قرأ له، ونفَّرهم من التشدد الفقهي والأخلاقي، وأخذ بيدهم إلى الرفق بالناس، وتحبيب الدين لهم.
ب- أَو مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ ذَلِكَ يُقَدَّمُ عَلَى رِوَايَةِ الرَّاوِي؛ لِأَنَّ السَّمْعَ يَغْلَطُ كَمَا اعْتَقَدَ ذَلِكَ طَائِفَة مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.
ج- أَو اعْتَقَدَ أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَسْمَعُ خِطَابَ الْحَيِّ؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [الروم: 52] يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
د- أَو اعْتَقَدَ أَنَّ اللهَ لَا يَعْجَبُ كَمَا اعْتَقَدَ ذَلِكَ شريح؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الْعَجَبَ إنَّمَا يَكُونُ مِن جَهْلِ السَّبَبِ، وَاللهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجَهْلِ.
هـ- أَو اعْتَقَدَ أَنَّ عَلِيًّا أَفْضَلُ الصَّحَابَةِ؛ لِاعْتِقَادِهِ صِحَّةَ حَدِيثِ الطَّيْرِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اللَّهُمَّ ائْتِنِي بِأَحَبِّ الْخَلْقِ إلَيْك يَأْكُلُ مَعِي مِن هَذَا الطَّائِرِ.
و- أَو اعْتَقَدَ أَنَّ مَن جَسَّ لِلْعَدُوِّ وَأَعْلَمَهُم بِغَزْوِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ مُنَافِقٌ، كَمَا اعْتَقَدَ ذَلِكَ عُمَرُ فِي حَاطِبٍ.
ز- أَو اعْتَقَدَ أَنَّ مَن غَضِبَ لِبَعْضِ الْمُنَافِقِينَ غَضْبَةً فَهُوَ مُنَافِقٌ؛ كَمَا اعْتَقَدَ ذَلِكَ أسيد بْنُ حضير فِي سَعْدِ بْنِ عبادة.
ح- أَو اعْتَقَدَ أَنَّ بَعْضَ الْكَلِمَاتِ أَو الْآيَاتِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ بِالنَّقْلِ الثَّابِتِ، كَمَا نُقِلَ عَن غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ أنَّهُم أَنْكَرُوا أَلْفَاظًا مِنَ الْقُرْآنِ؛ كَإِنْكَارِ بَعْضِهِمْ:{وَقَضَى رَبُّكَ} [الإسراء: 23] وَقَالَ: إنَّمَا هِيَ وَوَصَّى رَبُّك.
ط- وَكَمَا أَنْكَرَ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّ اللهَ يُرِيدُ الْمَعَاصِيَ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّ اللهَ يُحِبُّ ذَلِكَ وَيَرْضَاهُ وَيأمُرُ بِهِ، وَأَنْكَرَ طَائِفَة مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّ اللهَ يُرِيدُ الْمَعَاصِيَ؛ لِكَوْنِهِمْ ظَنُّوا أَنَّ الْإِرَادَةَ لَا تَكُونُ إلَّا بِمَعْنَى الْمَشِيئَةِ لِخَلْقِهَا، وَقَد عَلِمُوا أَنَّ اللهَ خَالِقُ كُلّ شَيءٍ، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَالْقُرْآنُ قَد جَاءَ بِلَفْظِ الْإِرَادَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى وَبِهَذَا الْمَعْنَى، لَكِنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ عَرَفَتْ أَحَدَ الْمَعْنييْنِ وَأَنْكَرَت الْآخَرَ. [20/ 33 - 36]
2030 -
الْقَلْبُ الْمَعْمُورُ بِالتَّقْوَى إذَا رَجَّحَ بِمُجَرَّدِ رَأيِهِ فَهُوَ تَرْجِيحٌ شَرْعِيٌّ.
فَإِذَا كَانَتِ الْفِطْرَةُ مُسْتَقِيمَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ مُنَوَّرَةً بِنُورِ الْقرْآنِ: تَجَلَّتْ لَهَا الْأَشْيَاءُ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْمَزَايَا، وَانْتَفَتْ عَنْهَا ظُلُمَات الْجَهَالَاتِ، فَرَأَتِ الْأُمُورَ عِيَانًا مَعَ غَيْبِهَا عَن غَيْرِهَا.
وَكُلَّمَا قَوِيَ الْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ قَوِيَ انْكِشَافُ الْأمُورِ لَهُ، وَعَرَفَ حَقَائِقَهَا مِن بَوَاطِلِهَا
(1)
، وَكُلَّمَا ضَعُفَ الْإِيمَانُ ضَعُفَ الْكَشْفُ، وَذَلِكَ مَثَل السِّرَاجِ الْقَوِيِّ وَالسِّرَاجِ الضَّعِيفِ فِي الْبَيْتِ الْمُظْلِمِ.
وَكَثِيرٌ مِن أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْكَشْفِ يُلْقِي اللهُ فِي قَلْبِهِ أَنَّ هَذَا الطَّعَامَ حَرَامٌ، وَأَنَّ هَذَا الرَّجُلَ كَافِرٌ، أَو فَاسِقٌ، او دَيُّوثٌ، أَو كَاذِبٌ مِن غَيْرِ دَلِيلٍ ظَاهِرٍ؛ بَل بِمَا يُلْقِي اللهُ فِي قَلْبِهِ.
وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ، يُلْقِي فِي قَلْبِهِ مَحَبَّةً لِشَخْصٍ وَأَنَّهُ مِن أَوْليَاءِ اللهِ، وَأَنَّ هَذَا الرَّجُلَ صَالِحٌ، وَهَذَا الطَّعَامَ حَلَالٌ، وَهَذَا الْقَوْلَ صِدْق، فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَبْعَدَ فِي حَقِّ أَوْليَاءِ اللهِ الْمُؤمِنِينَ الْمُتَّقِينَ.
وَقِصَّةُ الْخَضرِ مَعَ مُوسَى هِيَ مِن هَذَا الْبَابِ
(2)
، وَانَّ الْخَضِرَ عَلِمَ هَذِهِ الْأحْوَالَ الْمُعَيَّنَةَ بِمَا أَطْلَعَة اللهُ عَلَيْهِ. [20/ 42 - 47]
(3)
2031 -
إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحَسَنَاتِ لَهَا مَنَافِعُ -وَإِن كَانَت وَاجِبَةً-: كَانَ فِي تَرْكِهَا مَضَارُّ، وَالسَّيِّئَات فِيهَا مَضَارُّ، وَفِي الْمَكْرُوهِ بَعْضُ حَسَنَاتٍ، فَالتَّعَارُضُ:
(1)
فيعرف حقيقة الدنيا وأنها فانيةٌ لا تسوى من تعب لأجلها، ويعرف حقيقة المناصب والرئاسة وأنها لا تُحمد لذاتها، ويعرف حقيقة العلم وشرفه، وأنه من لذائذ الدنيا ومُتعها، وعزّ الإنسان وشرفه ورفعته، ويعرف الشر وأسبابه فيجتنبه، ويعرف الخير وأسبابه فيعمل به.
(2)
أي: من باب الفراسة، وكأن الشيخ رحمه الله يُشير أن الخضر ليس نبيًّا؛ لأنه لو كان نبيًّا لاستغنى بالوحي عن الفراسة ونحوها.
(3)
تحدث عن هذه المسألة في المجلد العاشر (ص 472 - 477).
أ- إمَّا بَيْنَ حَسَنَتَيْنِ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؛ فَتُقَدَّمُ أَحْسَنُهُمَا بِتَفْوِيتِ الْمَرْجُوحِ.
ب- وَإِمَّا بَيْنَ سَيِّئَتَيْنِ لَا يُمْكِنُ الْخُلُوُّ مِنْهُمَا؛ فَيَدْفَعُ أَسْوَأَهُمَا بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا.
ج- وَإِمَّا بَيْنَ حَسَنَةٍ وَسَيِّئَةٍ لَا يُمْكِنُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا؛ بَل فِعْلُ الْحَسَنَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِوُقُوعِ السَّيِّئَةِ، وَتَرْكُ السَّيِّئَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِتَرْكِ الْحَسَنَةِ، فَيُرَجَّحُ الْأَرْجَحُ مِن مَنْفَعَةِ الْحَسَنَةِ وَمَضَرَّةِ السَّيِّئةِ.
فَالْأَوَّلُ: كَالْوَاجِبِ وَالْمُسْتَحَبِّ؛ وَكَفَرْضِ الْعَيْنِ وَفَرْضِ الْكِفَايَةِ؛ مِثْل تَقْدِيمِ قَضَاءِ الدَّيْنِ الْمُطَالَبِ بِهِ عَلَى صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ.
وكَتَقْدِيمِ نَفَقَةِ الْأَهْلِ عَلَى نَفَقَةِ الْجِهَادِ الَّذِي لَمْ يَتَعَيَّنْ؛ وَتَقْدِيمِ نَفَقَةِ الْوَالِدَيْنِ عَلَيْهِ.
وَالثانِي: كَتَقْدِيمِ الْمَرْأَةِ الْمُهَاجِرَةِ لِسَفَرِ الْهِجْرَة بِلَا مَحْرَمٍ عَلَى بَقَائِهَا بِدَارِ الْحَرْبِ، كَمَا فَعَلَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ الَّتِي أَنْزَلَ اللهُ فِيهَا آيَةَ الِامْتِحَانِ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] وَكَتَقْدِيمِ قَتْلِ النَّفْسِ عَلَى الْكُفْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217] فَتُقْتَلُ النُّفُوسُ الَّتِي تَحْصُلُ بِهَا الْفِتْنَةُ عَنِ الْإِيمَانِ؛ لأنَّ ضَرَرَ الْكُفْرِ أعْظَمُ مِن ضَرَرِ قَتْلِ النَّفْسِ.
وَكَذَلِكَ فِي "بَابِ الْجِهَادِ" وإِن كَانَ قَتْلُ مَن لَمْ يُقَاتِلْ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَغَيْرِهِمْ حَرَامًا، فَمَتَى اُحْتِيجَ إلَى قِتَالٍ قَد يَعُمُّهُمْ، مِثْلُ: الرَّمْيُ بِالْمَنْجَنِيقِ، وَالتَّبْيِيتُ بِاللَّيْلِ، جَازَ ذَلِكَ كَمَا جَاءَت فِيهَا السُّنَّةُ فِي حِصَارِ الطَّائِفِ وَرَمْيِهِمْ بِالْمَنْجَنِيقِ وَفِي أَهْلِ الدَّارِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَبِيتُونَ، وَهُوَ دَفْعٌ لِفَسَادِ الْفِتْنَةِ أَيْضًا بِقَتْلِ مَن لَا يَجُوزُ قَصْدُ قَتْلِهِ.
وَكَذَلِكَ "مَسْأَلَةُ التَّتَرُّسِ" الَّتِي ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ؛ فَإِنَّ الْجِهَادَ هُوَ دَفْعُ فِتْنَةِ الْكُفْرِ فَيَحْصُلُ فِيهَا مِنَ الْمَضَرَّةِ مَا هُوَ دُونَهَا؛ وَلهَذَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ مَتَى
لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا بِمَا يُفْضِي إلَى قَتْلِ أُولَئِكَ الْمُتَتَرَّسِ بِهِم جَازَ ذَلِكَ
(1)
.
وَإِن لَمْ يَخَفِ الضَّرَرَ، لَكِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجِهَادُ إلَّا بِمَا يُفْضِي إلَى قَتْلِهِمْ: فَفِيهِ قَوْلَانِ.
وَأمّا الثالث: فَمِثْلُ أَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ؛ فَإِنَّ الْأَكْلَ حَسَنَةٌ وَاجِبَةٌ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِهَذِهِ السَّيِّئةِ، وَمَصْلَحَتُهَا رَاجِحَةٌ.
وَعَكْسُهُ الدَّوَاءُ الْخَبِيث؛ فَإِنَّ مَضَرَّتَهُ رَاجِحَة عَلَى مَصْلَحَتِهِ مِن مَنْفَعَةِ الْعِلَاجِ؛ لِقِيَامِ غَيْرِهِ مَقَامَهُ، وَلأَنَّ الْبُرْءَ لَا يُتيَقَّنُ بِهِ، وَكَذَلِكَ شُرْبُ الْخَمْرِ لِلدَّوَاءِ.
فَتبيَّنَ أَنَّ السَّيِّئَةَ تُحْتَمَلُ فِي مَوْضِعَيْنِ:
أ- دَفْعِ مَا هُوَ أَسْوَأُ مِنْهَا إذَا لَمْ تُدْفَعْ إلَّا بِهَا.
ب- وَتَحْصُلُ بِمَا هُوَ أَنْفَعُ مِن تَرْكِهَا إذَا لَمْ تَحْصُلْ إلَّا بِهَا.
(1)
فهم خوارج العصر كلام الشيخ فهمًا خاطئًا، واستباحوا به دماء المسلمين والمعاهدين، وروَّعوا الآمنين، وفهموا منه وجوب تفجير وقتل الكفار ولو كانوا مُستأمنين، ولو كان قتلهم يُفضي إلى قتل بعض المسلمين! وهذا ضلال لا يقول به عاقل، فضلًا عن هذا الإمام العَلَم الكبير.
ومعنى التترس: التستر بالتُرس، والمراد به عند العلماء: أن يتستر الكفار في الحرب بمن لا يحل قتلهم؛ كالصبيان والنساء والأسرى.
وقد قرر أهل العلم أن قتل المسلمين المتترس بهم لا يجوز إلا بشرط أن يُخاف على المسلمين الآخرين الضرر بترك قتال الكفار، بأن كان في الكفّ عن قتالهم انهزامٌ للمسلمين، واسْتباحةٌ لحرماتهم، وسقوط بُلدانهم بأيديهم. فإذا لم يحصل ضرر بترك قتال الكفار في حال التترس بقي حكم قتل المتترس بهم على الأصل وهو التحريم.
فجوازه لأجل الضرورة وليس مطلقًا.
أما لو قتل المسلمون المُتترس بهم دون خوفٍ مُحقق من الكفار، فإننا نكون قد ارتكبنا ضررًا عظيمًا وهو قتل مسلم، لا لدفع ضرر عام، بل لمجرد قتل كفار! والأصل في دماء المسلمين الحرمة، فكيف نستبيح دمه لأجل قتل كفار؟
ويُقال في الرد على هؤلاء: إن مسألة التترس خاصة بحال الحرب، وهي الخال التي تكون فيها المصافة والمواجهة العسكرية - وهؤلاء الكفار المستهدفون بالتفجير لسنا في حال حرب معهم، بل هم معاهدون مسالَمون.
وَالْحَسَنَةُ تُتْرَكُ فِي مَوْضِعَيْنِ:
أ- إذَا كَانَت مُفَوِّتَة لِمَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهَا.
ب- أو مُسْتَلْزِمَةً لِسَيِّئَةٍ تَزِيدُ مَضَرَّتُهَا عَلَى مَنْفَعَةِ الْحَسَنَةِ.
هَذَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُوَازَنَاتِ الدِّينيَّةِ.
وَأَمَّا سُقُوط الْوَاجِبِ لِمَضَرَّةٍ فِي الدُّنْيَا، وَإِبَاحَةُ الْمُحَرَّم لِحَاجَةِ فِي الدُّنْيَا؛ كَسُقُوطِ الصِّيَامِ لِأجْلِ السَّفَرِ، وَسُقُوطِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ وَأرْكَانِ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ الْمَرَضِ: فَهَذَا بَابٌ آخَرُ يَدْخُلُ فِي سِعَةِ الدِّينِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ الَّذِي قَد تَخْتَلِفُ فِيهِ الشَّرَائِعُ، بِخِلَافِ الْبَابِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ جِنْسَهُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ اخْتِلَافُ الشَّرَائِعِ فِيهِ وَإِن اخْتَلَفَتْ فِي أَعْيَانِهِ؛ بَل ذَلِكَ ثَابِتٌ فِي الْعَقْلِ، كَمَا يُقَالُ: لَيْسَ الْعَاقِلُ الَّذِي يَعْلَمُ الْخَيْرَ مِنَ الشَرِّ، وَإِنَّمَا الْعَاقِلُ الَّذِي يَعْلَمُ خَيْرَ الْخَيْرَيْنِ وَشَرَّ الشَّرَّيْنِ.
لَكِنْ أَقُولُ هُنَا: إذَا كَانَ الْمُتَوَلِّي لِلسُّلْطَانِ الْعَامّ أَو بَعْض فُرُوعِهِ كَالْإِمَارَةِ وَالْوِلَايَةِ وَالْقَضَاءِ وَنَحْو ذَلِكَ لَا يُمْكِنُهُ أَدَاءُ وَاجِبَاتِهِ وَتَرْكُ مُحَرَّمَاتِهِ، وَلَكِنْ يَتَعَمَّدُ ذَلِكَ
(1)
مَا لَا يَفْعَلُهُ غَيْرُهُ
(2)
قَصْدًا وَقُدْرَةً: جَازَتْ لَهُ الْوِلَايَةُ، وَرُبَّمَا وَجَبَتْ.
بَل لَو كَانَتِ الْوِلَايَةُ غَيْرَ وَاجِبَةٍ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى ظُلْمٍ، وَمَن تَوَلَّاهَا أَقَامَ الظُّلْمَ حَتَّى تَوَلَّاهَا شَخْصٌ قَصدُهُ بِذَلِكَ تَخْفِيفُ الظُّلْمِ فِيهَا، وَدَفْعُ أَكْثَرِهِ بِاحْتِمَالِ أَيْسَرِهِ: كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا مَعَ هَذِهِ النِّيَّةِ، وَكَانَ فِعْلُهُ لِمَا يَفْعَلُهُ مِنَ السَّيِّئَةِ بِنيَّةِ دَفْعِ مَا هُوَ أشَدُّ مِنْهَا جَيِّدًا
(3)
.
وَهَذَا بَابٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النِّيَّاتِ وَالْمَقَاصِدِ، فَمَن طَلَبَ مِنْهُ ظَالِمٌ قَادِرٌ وَأَلْزَمَهُ مَالًا، فَتَوَسَّطَ رَجُل بَيْنَهُمَا لِيَدْفَعَ عَنِ الْمَظْلُومِ كَثْرَةَ الظُّلْمِ، وَأَخَذَ مِنْهُ
(1)
أي: يتعمّد أدَاء وَاجِبَاتِهِ وَتَرْك مُحَرَّمَاتِهِ، ويسعى لتقليص الشر، وزيادة الخير بقدر طاقته.
(2)
أي: ليس هناك من يقوم بتولي الولاية وهو قادرٌ على تخفيف الشر غيره، فقد تعيّنت عليه.
(3)
ما أعظم فقه هذا الإمام الربانيّ، وأخبره بروح الشريعة، ومصالح الناس، ولا يُمكن أنْ تستقيم أمور الناس إلا بالأخذ بما قرره رحمه الله.
وَأَعْطَى الظَّالِمَ، مَعَ اخْتِيَارِهِ أَنْ لَا يَظْلِمَ وَدَفْعَهُ ذَلِكَ لَو أَمْكَنَ
(1)
: كَانَ مُحْسِنًا، وَلَو تَوَسَّطَ إعَانَةً لِلظَّالِمِ كَانَ مُسِيئًا.
ثُمَّ الْوِلَايَةُ -وَإِن كَانَت جَائِزَةً أَو مُسْتَحَبَّةً أَو وَاجِبَةً- فَقَد يَكُونُ فِي حَقِّ الرَّجُلِ الْمُعيَّنِ غَيْرُهَا
(2)
أَوْجَبَ أَو أَحَبَّ، فَيُقَدِّمُ حِينَئِذٍ خَيْرَ الْخَيْرَيْنِ وُجُوبًا تَارَةً وَاسْتِحْبَابًا أُخْرَى.
وَمِن هَذَا الْبَابِ تَوَلِّي يُوسُفَ الصِّدِّيق عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ لِمَلِكِ مِصْرَ؛ بَل وَمَسْأَلَتُهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ، وَكَانَ هُوَ وَقَوْمُهُ كُفَّارًا كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ} [غافر: 34].
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَعَ كُفْرِهِمْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُم عَادَةٌ وَسُنَّةٌ فِي قَبْضِ الْأَمْوَالِ وَصَرْفِهَا عَلَى حَاشِيَةِ الْمَلِكِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَجُنْدِهِ وَرَعِيَّتِهِ، وَلَا تَكُونُ تِلْكَ جَارِيةً عَلَى سُنَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَعَدْلِهِمْ، وَلَمْ يَكُن يُوسُفُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَ كُلَّ مَا يُرِيدُ وَهُوَ مَا يَرَاهُ مِن دِينِ اللهِ، فَإِنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ، لَكِنْ فَعَلَ الْمُمْكِنَ مِنَ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَنَالَ بِالسُّلْطَانِ مِن إكْرَامِ الْمُؤْمِنِينَ مِن أَهْلِ بَيْتِهِ مَا لَمْ يَكُن يُمْكِنُ أنْ يَنَالَهُ بِدُونِ ذَلِكَ، وَهَذَا كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].
فإذا ازْدَحَمَ وَاجِبَانِ لَا يُمْكِنُ جَمْعُهُمَا فَقُدِّمَ أَوْكَدُهُمَا: لَمْ يَكُنِ الْآخَرُ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَاجِبًا، وَلَمْ يَكُن تَارِكُهُ لِأَجْلِ فِعْلِ الْأَوْكَدِ تَارِكَ وَاجِبٍ فِي الْحَقِيقَةِ.
وَكَذَلِكَ إذَا اجْتَمَعَ محَرَّمَانِ لَا يُمْكِنُ تَرْكُ أَعْظَمِهِمَا إلَّا بِفِعْلِ أَدْنَاهُمَا لَمْ يَكُن فِعْلُ الْأَدْنَى فِي هَذِهِ الْحَالِ مُحَرَّمًا فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِن سُمِّيَ ذَلِكَ تَرْكُ وَاجِبٍ، وَسُمِّيَ هَذَا فِعْلُ مُحَرَّمٍ بِاعْتِبَارِ الْإِطْلَاقِ لَمْ يَضُرَّ.
(1)
أي: هو في قرارة نفسِه يُحب ويختار ألا يقع الظلم أصلًا، ولكن لا يُمكن ذلك، فقصد تخفيف الظلم عن الرجل بقدر استطاعتِه.
(2)
أي: غير الولاية، من دعوة أو علم أو نحو ذلك.
فَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَتَدَبَّرَ أَنْوَاعَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَقَد يَكُونُ الْوَاجِبُ فِي بَعْضِهَا: الْعَفْوَ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي بَعْضِ الْأشْيَاءِ، لَا التَّحْلِيلَ وَالْإِسْقَاطَ.
مِثْل أَنْ يَكُونَ فِي أَمْرِهِ بِطَاعَةٍ فِعْلًا لِمَعْصِيَةٍ أَكْبَرَ مِنْهَا فَيَتْرُكُ الْأَمْرَ بِهَا دَفْعًا لِوُقُوعِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ؛ مِثْل أَنْ تَرْفَعَ مُذْنِبًا إلَى ذِي سُلْطَانٍ ظَالِمٍ، فَيَعْتَدِي عَلَيْهِ فِي الْعُقُوبَةِ مَا يَكُون أَعْظَمَ ضَرَرًا مِن ذَنْبِهِ.
وَمِثْل أَنْ يَكُونَ فِي نَهْيِهِ عَن بَعْضِ الْمُنْكَرَاتِ تَرْكًا لِمَعْرُوفٍ هُوَ أَعْظَمُ مَنْفَعَةً مِن تَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ، فَيَسْكُتُ عَنِ النَّهْيِ خَوْفًا أَنْ يَسْتَلْزِمَ تَرْكَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِمَّا هُوَ عِنْدَهُ أعْظَمُ مِن مُجَرَّدِ تَرْكِ ذَلِكَ الْمُنْكَرِ.
فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَأْمُورُ وَالْمَنْهِيُّ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْمُمْكِنِ؛ إمَّا لِجَهْلِهِ وَإِمَّا لِظُلْمِهِ -وَلَا يُمْكِنُ إزَالَةُ جَهْلِهِ وَظُلْمِهِ-
(1)
: فَرُبَّمَا كَانَ الْأَصْلَحُ الْكَفَّ وَالْإِمْسَاكَ عَن امْرِهِ وَنَهْيِهِ
(2)
؛ كَمَا قِيلَ: إنَّ مِنَ الْمَسَائِلِ مَسَائِلَ جَوَابُهَا السُّكُوتُ، كَمَا سَكَتَ الشَّارعُ فِي أَوَّلِ الْأمْرِ عَنِ الْأمْرِ بِأَشْيَاءَ وَالنَّهْي عَن أشْيَاءَ حَتَّى عَلَا الْإِسْلَامُ وَظَهَرَ.
فَالْعَالِمُ فِي الْبَيَانِ وَالْبَلَاغِ كَذَلِكَ
(3)
؛ قَد يُؤَخِّرُ الْبَيَانَ وَالْبَلَاغَ لِأَشْيَاءَ إلَى وَقْتِ التَّمَكُّنِ، كمَا أَخَّرَ اللهُ سُبْحَانَهُ إنْزَالَ آيَاتٍ وَبَيَانَ أَحْكَامٍ إلَى وَقْتِ تَمَكُّنِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَسْلِيمًا إلَى بَيَانِهَا.
(1)
هذا قيدٌ مُهم، حتى لا يُترك أمرُ الناس بالمعروف ونهيُهم عن المنكر بحجة جهل أو ظلم الظالم أو الفاجر.
(2)
هذا يُؤكد خطأ الأخذ بمبدأ الصدع بالحق مهما كان، ولو ترتب على الصدع من مفاسد وأضرار كبيرة.
(3)
والحاكم في تطبيق الشريعة كذلك، قد يُؤخر تحكيم الشريعة إذا كان لا يتَمَكَّن من ذلك في الحال، وهنا لا بد من القيد الذي ذكره الشيخ:"وَقَد يَكُونُ الْوَاجِبُ فِي بَعْضِهَا: الْعَفْوَ عِنْدَ الْأمْرِ وَالنهْي فِي بَعْضِ الْأشْيَاءِ، لَا التحْلِيلَ وَالْإِسْقَاطَ".
فالحاكم والعالم لا يجوز لهما ولا لغيرهما أنْ ينووا بالسكوت التحليل أو الإسقاط، بل يعزموا على فعل الواجب متى تمكنوا من ذلك.
وَالْحُجَّةُ عَلَى الْعِبَادِ إنَّمَا تَقُومُ بِشَيْئَيْنِ:
أ- بِشَرْطِ التَّمَكُّنِ مِنَ الْعِلْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ.
ب- وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ.
وَلَمْ تَأْتِ الشَّرِيعَةُ جُمْلَةً، كَمَا يُقَالُ: إذَا أَرَدْت أَنْ تُطَاعَ فَأْمُرْ بِمَا يُسْتَطَاعُ.
فَكَذَلِكَ الْمُجَدِّدُ لِدِينِهِ وَالْمُحْيِي لِسُنَّتِهِ لَا يُبَلِّغُ إلَّا مَا أَمْكَنَ عِلْمُهُ وَالْعَمَل بِهِ، كَمَا أَنَّ الدَّاخِلَ فِي الْإِسْلَامِ لَا يُمْكِنُ حِينَ دُخُولِهِ أنْ يُلَقَّنَ جَمِيعَ شَرَائِعِهِ ويُؤْمَرَ بِهَا كُلِّهَا.
وَكَذَلِكَ التَّائِبُ مِنَ الذُّنُوب، وَالْمُتَعَلِّمُ وَالْمُسْتَرْشِدُ لَا يُمْكِنُ فِي أَوَّلِ الْأمْرِ أَنْ يُؤْمَرَ بِجَمِيعِ الدِّينِ، وَيُذْكَرَ لَهُ جَمِيعُ الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ لَا يُطِيقُ ذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يُطِقْهُ لَمْ يَكُن وَاجِبًا عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَإِذَا لَمْ يَكُن وَاجِبًا لَمْ يَكن لِلْعَالِمِ وَالْأَمِيرِ أنْ يُوجِبَهُ جَمِيعَهُ ابْتِدَاءً؛ بَل يَعْفُو عَنِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِمَا لَا يُمْكِنُ عِلْمُهُ وَعَمَلُهُ إلَى وَقْتِ الْإِمْكانِ، كَمَا عَفَا الرَّسُولُ عَمَّا عَفَا عَنْهُ إلَى وَقْتِ بَيَانِهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِن بَابِ إقْرَارِ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَرْكِ الْأمْرِ بِالْوَاجِبَاتِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ وَالتَّحْرِيمَ مَشْرُوطٌ بِإِمْكَانِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَقَد فَرَضْنَا انْتِفَاءَ هَذَا الشَّرْطِ.
فَتَدَبَّرْ هَذَا الْأَصْلَ فَإِنَّهُ نَافِعٌ.
وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الِاجْتِهَادِيَّةِ عِلْمًا وَعَمَلًا: أَنَّ مَا قَالَهُ الْعَالِمُ أَو الْأمِيرُ، أو فَعَلَهُ بِاجْتِهَادٍ أَو تَقْلِيدٍ
(1)
، فَإِذَا لَمْ يَرَ الْعَالِمُ الْآخَرُ وَالْأَمِيرُ الْآخَرُ مِثْل رَأيِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِهِ، أو لَا يَأْمُرُ إلَّا بِمَا يَرَاهُ مَصْلَحَةً وَلَا يَنْهَى عَنْهُ، إذ لَيْسَ لَهُ أنْ يَنْهَى غَيْرَهُ عَنِ اتّبَاعِ اجْتِهَادِهِ، وَلَا أَنْ يُوجِبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعَهُ، فَهَذِهِ
(1)
أي: تقليد عالمٍ مُعتبرٍ، لا تقليدِ الجهال أو علماء السوء، أو الآباء والأجداد، فهذا التقليد لا اعتبار له.
الْأُمُورُ فِي حَقِّهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمَعْفُوَّةِ، لَا يَأْمُرُ بِهَا وَلَا يَنْهَى عَنْهَا؛ بَل هِيَ بَيْنَ الْإِبَاحَهِ وَالْعَفْوِ. [20/ 50 - 61]
2032 -
مَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ مَن عَمِلَ فِيهَا بِقَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ وَلَمْ يُهْجَرْ، وَمَن عَمِلَ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ: فَإِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ يَظْهَرُ لَهُ رُجْحَانُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَمِلَ بِهِ، وَإِلَّا قَلَّدَ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِم فِي بَيَانِ أَرْجَحِ الْقَوْلَيْنِ. [20/ 207]
2033 -
اجْتِهَادُ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَحْكَامِ كَاجْتِهَادِ الْمُسْتَدِلِّينَ عَلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ، فَإِذَا صَلَّى أَرْبَعَةُ أَنْفُسٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُم بِطَائِفَةٍ إلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْقِبْلَةَ هُنَاكَ: فَإِنَّ صَلَاةَ الْأَرْبَعَةِ صَحِيحَة، وَاَلَّذِي صَلَّى إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْمُصِيبُ الَّذِي لَهُ أَجْرَانِ
(1)
، كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِن اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ"
(2)
. [20/ 224]
2034 -
مِن أَشكَلِ مَا أَشْكَلَ عَلَى الْفقَهَاءِ مِن أَحْكَامِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ: امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ، فَإِنَّهُ قَد ثَبَتَ عَن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ لَمَّا أَجَّلَ امْرَأَتَهُ
(3)
أَرْبَعَ سِنِينَ وَأَمَرَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَدِمَ الْمَفْقُودُ خَيَّرَهُ عُمَرُ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَبَيْنَ مَهْرِهَا، وَهَذَا مِمَّا اتَّبَعَهُ فِيهِ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ.
فَإنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْل: وَهُوَ وَقْفُ الْعُقُودِ إذَا تَصَرَّفَ الرَّجُلُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ: هَل يَقَعُ تَصَرُّفُهُ مَرْدُودًا أَو مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتهِ؟
عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورينِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَن أَحْمَد:
(1)
هذا إذا كان الاجتهاد نابعًا عن طلب الصواب، وتحري الحق، فأما لو أنّ أحد المستدلين على جهة الكعبة قصدَ العناد، وصلى إلى جهةٍ كبرًا وأنفةً أنْ يتبع أحد المجتهدين ولو كان أعلم منه، فإنه يأثم ولو أصاب جهة القبلة، فكذلك المجتهدون من العلماء وطلاب العلم في الأحكام.
(2)
رواه أبو داود (3574)، وابن ماجه (2314)، والترمذي (1326)، والنسائي (5381)، وصحَّحه الألباني في صحيح النسائي (5396).
(3)
أي: امْرَأة الْمَفْقُودِ.
أَحَدُهُمَا: الرَّدُّ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى تَفْصِيل عَنْهُ، وَالرَّدُّ مُطْلَقًا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَهَذَا فِي النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد أَنَّ الْمُتَصَرِّفَ إذَا كَانَ مَعْذُورًا لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنَ الِاسْتِئْذَانِ وَحَاجَتِهِ إلَى التَّصَرُّفِ وُقِفَ عَلَى الْإِجَازَةِ بِلَا نِزَاعٍ، وَإِن أَمْكَنَهُ الِاسْتِئْذَانُ أَو لَمْ يَكُن بِهِ حَاجَةٌ إلَى التَّصَرُّفِ فَفِيهِ النِّزَاعُ.
فَيَكُونُ الْقَادِمُ مُخَيَّرًا بَيْنَ إجَازَةِ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ وَرَدِّهِ، وَإِذَا أَجَازَهُ فَقَد أَخْرَجَ الْبُضْعَ عَن مِلْكِهِ.
وَخُرُوجُ الْبُضْعِ مِن مِلْكِ الزَّوْجِ مُتَقَوَّمٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي أَنَصِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْمُسَمَّى كَمَا يَقُولُهُ مَالِكٌ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ: هُوَ مَضْمُونٌ بِمَهْرِ الْمِثْلِ.
وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ دَلَّا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَفِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى:{وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] وَقَوْلِهِ: {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 11].
وَهَذَا الْمسَمَّى دُونَ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَكَذَلِكَ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَوْجَ الْمُخْتَلعَةِ أَنْ يَأْخُذَ مَا أَعْطَاهَا، وَلَمْ يَأْمُرْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَهُوَ إنَّمَا يَأْمُرُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمُطْلَقَةِ بِالْعَدْلِ.
فَقِصَّةُ عُمَرَ تَنْبَنِي عَلَى هَذَا.
وَالْقَوْلُ بِوَقْفِ الْعُقُودِ عِنْدَ الْحَاجَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ.
وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إضْرَارًا أَصْلًا؛ بَل صَلَاحٌ بِلَا فَسَادٍ، فَإِنَّ الرَّجُلَ قَد يَرَى أَنْ يَشْتَرِيَ لِغَيْرِهِ أَو يَبِيعَ لَهُ أَو يَسْتَأْجِرَ لَهُ أَو يُوجِبَ لَهُ ثُمَّ يُشَاوِرَهُ، فَإِنْ رَضِيَ وَإِلَّا فَلَمْ يُصِبْهُ مَا يَضُرُّهُ، وَكَذَلِكَ فِي تَزْوِيجِ مُوَلِّيَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا مَعَ الْحَاجَةِ فَالْقَوْلُ بِهِ لَا بُدَّ مِنْهُ.
فَمَسْأَلَةُ الْمَفْقُودِ هِيَ مِمَّا يَقِفُ فِيهَا تَعْرِيفُ الْإِمَامِ عَلَى إذْنِ الزَّوْجِ إذَا جَاءَ، كَمَا يَقِفُ تَصَرُّفُ الْمُلْتَقِطِ عَلَى إذْنِ الْمَالِكِ إذَا جَاءَ، وَالْقَوْلُ بِرَدِّ الْمَهْرِ إلَيْهِ لِخُرُوجِ امْرَأَتِهِ مِن مِلْكِهِ
(1)
، وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي الْمَهْرِ الَّذِي يَرْجِعُ بِهِ: هَل هُوَ مَا أَعْطَاهَا هُوَ، أَو مَا أَعْطَاهَا الثَّاني؟
الصَّوَابُ: أَنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ بِمَهْرِهِ هُوَ؛ فَإِنَّهُ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ، وَأَمَّا الْمَهْرُ الَّذِي أَصْدَقَهَا الثَّانِي فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ.
وَإِذَا ضَمِنَ الْأَوَّلُ لِلثَّانِيَ الْمَهْرَ فَهَل يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهَا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ:
إحْدَاهُمَا: يَرْجعُ؛ لِأَنَّهَا الَّتِي أَخَذَتْهُ.
وَالثانِيَةُ؛ لَا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَسْتَحِقُّ الْمَهْرَ بِمَا اسْتَحَلَّ مِن فَرْجِهَا، وَالْأَوَّلُ يَسْتَحِقُّ الْمَهْرَ لِخُرُوجِ الْبُضْعِ مِن مِلْكِهِ، فَكَانَ عَلَى الثَّانِي مَهْرَانِ.
وَهَذَا الْمَأْثُورُ عَن عُمَرَ فِي "مَسْأَلَةِ الْمَفْقُودِ": هُوَ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِن أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ مِن أَبْعَدِ الْأَقْوَالِ عَنِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ مَعَ هَذَا أَصَحُّ الْأقْوَالِ وَأَجْرَاهَا عَلَى الْقِيَاسِ، وَكُلُّ قَوْلٍ قِيلَ سِوَاهُ فَهُوَ خَطَأٌ.
فَالصَّوَابُ: مَا قَضَى بِهِ أَمِيرُ الْمُؤمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ.
وَقَد تَأَمَّلْت مِن هَذَا الْبَابِ مَا شَاءَ اللهُ فَرَأَيْت الصَّحَابَةَ أَفْقَهَ الْأُمَّةِ وَأَعْلَمَهَا، وَاعْتبِرْ هَذَا بِمَسَائِلِ الْأَيْمَانِ بِالنَّذْرِ وَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ. وَمَا شَاءَ اللهُ مِنَ الْمَسَائِلِ لَمْ أَجِدْ أَجْوَدَ الْأَقْوَالِ فِيهَا إلا الْأَقْوَالَ الْمَنْقُولَةَ عَنِ الصَّحَابَةِ.
وَإِلَى سَاعَتِي هَذِهِ مَا عَلِمْت قَوْلًا قَالَهُ الصَّحَابَةُ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ إلَّا وَكَانَ الْقِيَاسُ مَعَهُم، لَكِنَّ الْعِلْمَ بِصَحِيحِ الْقِيَاسِ وَفَاسِدِهِ مِن أَجَلِّ الْعُلُومِ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ مَن كَانَ خَبِيرًا بِأَسْرَارِ الشَّرْعِ وَمَقَاصِدِهِ، وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ مِنَ الْمَحَاسِنِ الَّتِي تَفُوقُ التَّعْدَادَ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِن مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي
(1)
هو الصواب.
الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالرَّحْمَةِ السَّابِغَةِ، وَالْعَدْلِ التَّامِّ. [20/ 561 - 583]
2035 -
تَأَمَّلْت مَا شَاءَ اللهُ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَتَبَايَنُ فِيهَا النِّزَاعُ نَفْيًا وإِثْبَاتًا حَتَّى تَصِيرَ مُشَابِهَةً لِمَسَائِلِ الْأَهْوَاءِ، وَمَا يَتَعَصَّبُ لَهُ الطَّوَائِفُ مِنَ الْأَقْوَالِ؛ كَمَسَائِلِ الطَّرَائِقِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْخِلَافِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَبَيْنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ: فَوَجَدْت كَثِيرًا مِنْهَا يَعُودُ الصَّوَابُ فِيهِ إلَى الْوَسَطِ
(1)
.
وَكَذَلِكَ هُوَ الْأصْلُ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَسَائِلِ الْخَبَرِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي تُسَمَّى مَسَائِلَ الْأُصُولِ، أَو أُصُولَ الدِّينِ، أَو أُصُولَ الْكَلَامِ، يَقَعُ فِيهَا اتِّبَاعُ الظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأنْفُسُ. [21/ 141 - 142]
2036 -
مَن لَمْ يَلْحَظِ الْمَعَانِيَ مِن خِطَابِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَلَا يَفْهَمُ تَنْبِيهَ الْخِطَابِ وَفَحْوَاهُ مِن أَهْلِ الظَّاهِرِ؛ كَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ قَوْلَهُ: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] لَا يُفِيدُ النَّهْيَ عَنِ الضَّرْبِ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن دَاوُد، وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَزْمٍ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ.
بَل وَكَذَلِكَ قِيَاسُ الْأَوْلَى وَإِن لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْخِطَابُ، لَكِنْ عُرِفَ أَنَّهُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنَ الْمَنْطُوقِ بِهَذَا، فَإِنْكَارُهُ مِن بِاَع الظَّاهِرِيَّةِ الَّتِي لَمْ يَسْبِقْهُم بِهَا أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ، فَمَا زَالَ السَّلَفُ يَحْتَجُّونَ بِمِثْل هَذَا وَهَذَا. [21/ 207]
2037 -
كُلُّ قَوْلٍ يَنْفَرِدُ بِهِ الْمُتَأَخِّرُ عَن الْمُتَقَدِّمِينَ، وَلَمْ يَسْبِقْهُ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ: فَإِنَّهُ يَكُونُ خَطَأً؛ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: إيَّاكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةٍ لَيْسَ لَك فِيهَا إمَامٌ. [21/ 291]
2038 -
إذَا اشْتَبَهَ الْأَمْرُ: هَل هَذَا الْقَوْلُ أَو الْفِعْلُ مِمَّا يُعَاقَبُ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ أَو
(1)
ومَنْ تأمل كلام شيخ الإسلام وترجيحاته رأى أنه يأخذ بالقول الوسط في الفقه والسلوك ونحو ذلك غالبًا.
مَا لَا يُعَاقَبُ؟ فَالْوَاجِبُ تَرْكُ الْعُقُوبَةِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ؛ فَإِنَّك إنْ تُخْطئْ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِن أَنْ تُخْطئَ في الْعُقُوبَةِ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
(1)
.
وَلَا سِيَّمَا إذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى شَرٍّ طَوِيل، وَافْتِرَاقِ أهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّ الْفَسَادَ النَّاشِئَ فِي هَذِهِ الْفُرْقَةِ أَضْعَافُ الشَّرِّ النَّاشِئِ مِن خَطَأِ نَفَرٍ قَلِيلٍ فِي مَسْأَلَةٍ فَرْعِيَّةٍ. [6/ 505]
2039 -
إِذَا اشْتَبَهَ عَلَى الْإِنْسَانِ أَمْرٌ: فَلْيَدْعُ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(2)
فِي "صَحِيحِهِ" عَن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ رَبَّ جبرائيل وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِن الْحَقِّ بِإِذْنِك، إنَّك تَهْدِي مَن تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ". [6/ 505 - 506]
2040 -
لَيْسَ لِأحَدٍ أَنْ يَحْمِلَ كَلَامَ اللهِ وَرَسُولِهِ عَلَى وَفْقِ مَذْهَبِهِ
(3)
، إنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ مِن كَلَامِ اللهِ وَرَسُولِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى مُرَادِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَإِلَّا فَأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ تَابِعَةٌ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، لَيْسَ قَوْلُ اللهِ وَرَسُولِهِ تَابِعًا لِأقْوَالِهِمْ. [7/ 35]
2041 -
يجوز ترجيح أحد الدليلين الظنيين على الآخر عند عامة العلماء. [المستدرك 2/ 108]
2042 -
لا ترجيح في المذاهب الخالية عن دليل، وحكى عبد الجبار بن أحمد عن أصحابه جواز ذلك. [المستدرك 2/ 108]
(1)
لم أجده بهذا اللفظ عند أبي داود، وهو عند الترمذي بلفظ:"ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة".
وليت القضاة ومحققي الإدعاء العام والمسؤولين وغيرهم يأخذون بهذه القاعدة الشرعيّة، فإنها وقايةٌ من الإثم في الآخرة، ومن الحقد والفرقة والفساد في الدنيا.
(2)
(770).
(3)
بل الواجب أن يعرض أقوال مذهبه وغيره على الكتاب والسُّنَّة، فما وافقهما أخذ به، وما خالفهما عمل بما يدل عليه الكتاب- والسُّنَّة وترك غيره.
2043 -
الْمَسَائِلُ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا النِّزَاعُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِصِفَاتِ الْعِبَادَاتِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ:
مِنْهَا: مَا ثَبَتَ عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِن الْأَمْرَيْنِ، وَاتَّفَقَت الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ مَن فَعَلَ أَحَدَهُمَا لَمْ يَأْثَمْ بِذَلِكَ، لَكِنْ قَد يَتَنَازَعُونَ فِي الْأَفْضَلِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقِرَاءَاتِ الثَّابِتَةِ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّتِي اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِأَيِّ قِرَاءَةٍ شَاءَ مِنْهَا؛ كَالْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَهَذِهِ يَقْرَأُ الْمُسْلِمُ بِمَا شَاءَ مِنْهَا وَإِن اخْتَارَ بَعْضَهَا لِسَبَبٍ مِن الْأَسْبَابِ.
وَمِن هَذَا الْبَابِ الِاسْتِفْتَاحَاتُ الْمَنْقُولَةُ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
الْقِسْمُ الثانِي: مَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إذَا فَعَلَ كُلًّا مِن الْأَمْرَيْنِ كَانَت عِبَادَتُهُ صَحِيحَة وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ، لَكِنْ يَتَنَازَعُونَ فِي الْأَفْضَلِ وَفِيمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ، وَمَسْأَلَةُ الْقُنُوتِ فِي الْفَجْرِ وَالْوِتْرِ وَالْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ وَصِفَةُ الِاسْتِعَاذَةِ وَنَحْوُهَا مِن هَذَا الْبَابِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا قَد ثَبَتَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ أَنَّهُ سَنَّ الْأَمْرَيْنِ، لَكِنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ حَرَّمَ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ أَو كَرِهَهُ لِكَوْنِهِ لَمْ يَبْلُغْهُ أَو تَأَوَّلَ الْحَدِيثَ تَأْوِيلًا ضَعِيفًا.
وَالصَّوَابُ فِي مِثْل هَذَا: أَنَّ كُلَّ مَا سَنَّهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِأمَّتِهِ فَهُوَ مَسْنُونٌ، لَا يُنْهَى عَن شَيْءٍ مِنْهُ وَإِن كَانَ بَعْضُهُ أَفْضَلَ مِن ذَلِكَ، فَمِن ذَلِكَ أَنْوَاعُ التَّشَهُّدَاتِ.
وَأمّا الْقِسْمُ الرَّابعُ: فَهُوَ مِمَّا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ: فَأَوْجَبَ أَحَدُهُم شَيْئًا أَو اسْتَحَبَّهُ وَحَرَّمَهُ الْآخَرُ، وَالسُّنَّةُ لَا تَدُلُّ إلَّا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، لَمْ تُسَوِّغْهُمَا جَمِيعًا، فَهَذَا هُوَ أَشْكَل الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ.
وَأمَّا الثَّلَاثَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فَالسُّنَّةُ قَد سَوَّغَت الْأَمْرَيْنِ.
وَهَذَا مِثْلُ تَنَازُعِهِمْ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ حَالَ الْجَهْرِ. [22/ 265 - 294]
2044 -
مَعَ أَنَّ تَعْلِيلَ الْأَحْكَام بِالْخِلَافِ: عِلَّةٌ بَاطِلَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ فَإِنَّ الْخِلَافَ لَيْسَ مِن الصِّفَاتِ الَّتِي يُعَلِّقُ الشَّارعُ بِهَا الْأَحْكَامَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَإِنَّ ذَلِكَ وَصْفٌ حَادِثٌ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنْ يَسْلُكُهُ مَن لَمْ يَكُن عَالِمًا بِالْأدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي نَفْسِ الْأمْرِ لِطَلَبِ الِاحْتيَاطِ. [23/ 281 - 282]
2045 -
إِنَّ الِاحْتِيَاطَ إنَّمَا يُشْرَعُ إذَا لَمْ تَتَبَيَّنْ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا تبَيَّنَت السُّنَّةُ فَاتباعُهَا أَوْلَى. [26/ 54]
2046 -
أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ لَا يَتَكَلَّمُونَ فِي الدِّينِ بِأَنَّ هَذَا وَاجِبٌ أَو مُسْتَحَبٌّ أَو حَرَامٌ أَو مُبَاحٌ إلَّا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مِن الْكِتَابِ أَو السُّنَّةِ وَمَا دَلَّا عَلَيْهِ.
وَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَهُوَ حَقُّ جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ؛ فَإِنَّ أُمتَهُ وَللهِ الْحَمْدُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ. [27/ 373]
2047 -
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مُسْتَحَبٌّ أَو مَنْهِيٌّ عَنْهُ أَو مُبَاحٌ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيل شَرْعِيٍّ، فَالْوُجُوبُ وَالنَّدْبُ وَالْإِبَاحَةُ وَالِاسْتِحْبَابُ وَالْكَرَاهَةُ وَالتَّحْرِيمُ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْهَا إلَّا بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ مَرْجِعُهَا كُلُّهَا إلَيْهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، فَالْقُرْآنُ هُوَ الَّذِي بَلَّغَهُ، وَالسُّنَّةُ هُوَ الَّذِي عَلَّمَهَا، وَالْإِجْمَاعُ بِقَوْلِهِ عُرِفَ أَنَّهُ مَعْصُومٌ، وَالْقِيَاسُ إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً إذَا عَلِمْنَا أَنَّ الْفَرْعَ مِثْل الْأَصْلِ، وَأَنَّ عِلَّةَ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ.
وَقَد عَلَّمَنَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَا يَتَنَاقَضُ، فَلَا يَحْكُمُ فِي الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِحُكْمَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ، وَلَا يَحْكُمُ بِالْحُكمِ لِعِلَّةٍ تَارَةً، وَيَمْنَعُهُ أُخْرَى مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ، إلَّا لِاخْتِصَاصِ إحْدَى الصُّورَتَيْنِ بِمَا يُوجِبُ التَّخْصِيصَ.
فَشَرْعُهُ هُوَ مَا شَرَعَهُ هُوَ صلى الله عليه وسلم وَسُنَّتُهُ مَا سَنَّهَا هُوَ، لَا يُضَافُ إلَيْهِ
(1)
قَوْلُ غَيْرِهِ وَفِعْلُهُ -وَإن كَانَ مِن أَفْضَلِ النَّاسِ- إذَا وَرَدَتْ سُنَّتُهُ؛ بَل وَلَا يُضَافُ إلَيْهِ إلَّا بِدَليل يَدُلُّ عَلَى الْإِضَافَةِ. [27/ 396 - 397]
(1)
أي: إلى شرعِه.
2048 -
الْفِعْلُ الَّذِي لَمْ يَشْرَعْهُ هُوَ صلى الله عليه وسلم لنَا وَلَا أَمَرَنَا بِهِ، وَلَا فَعَلَهُ فِعْلًا سَنَّ لَنَا أَنَّ نَتَأسَّى بِهِ فِيهِ: لَيْسَ مِن الْعِبَادَاتِ وَالْقُرَبِ، فَاتِّخَاذُ هَذَا قُرْبَة مُخَالَفَةٌ لَهُ صلى الله عليه وسلم.
وَمَا فَعَلَهُ مِن الْمُبَاحَاتِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ التَّعَبُّدِ: يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَفْعَلَهُ مُبَاحًا كَمَا فَعَلَهُ مُبَاحًا، وَلَكِنْ هَل يُشْرَعُ لَنَا أَنْ نَجْعَلَهُ عِبَادَةً وَقُرْبَةً؟ فِيهِ قَوْلَانِ، وَأَكْثَرُ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّا لَا نَجْعَلُهُ عِبَادَة وَقُرْبَةً؛ بَل نَتَّبِعُهُ فِيهِ: فَإِنْ فَعَلَهُ مُبَاحًا فَعَلْنَاهُ مُبَاحًا، وَإِن فَعَلَهُ قُرْبَةً فَعَلْنَاهُ قُرْبَةً.
وَمَن جَعَلَهُ عِبَادَةً: رَأَى أَنَّ ذَلِكَ مِن تَمَامِ التَّأَسِّي بِهِ وَالتَّشَبُّهِ بِهِ، وَرَأَى أَنَّ فِي ذَلِكَ بَرَكَةً لِكَوْنِهِ مُخْتَصًّا بِهِ نَوْعَ اخْتِصَاصٍ. [27/ 504]
2049 -
وَأَمَّا أَهْلُ التَّأوِيلِ الْمَحْضِ الَّذِينَ يَسُوغُ تَأْوِيلُهُم: فَأُولَئِكَ مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُونَ، خَطَؤُهُم مَغْفُورٌ لَهُمْ، وَهُم مُثَابُونَ عَلَى مَا أَحْسَنُوا فِيهِ مِن حُسْنِ قَصْدِهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ فِي طَلَبِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ.
وَلهَذَا كَانَ الْكَلَامُ فِي السَّابِقِينَ الْأَوَّلينَ وَمَن شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْجَنَّةِ كَعُثْمَانِ وَعَلِيٍّ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَنَحْوِهِمْ: لَهُ هَذَا الْحُكْمُ.
فَنَقُولُ فِي هَؤُلَاءِ وَنَحْوِهِمْ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُم: إمَّا أَنْ يَكُونَ عَمَلُ أَحَدِهِمْ سَعْيًا مَشْكُورًا، أَو ذَنْبًا مَغْفُورًا، أَو اجْتِهَادًا قَد عُفِيَ لِصَاحِبِهِ عَن الْخَطَأِ فِيهِ.
فَلِهَذَا كَانَ مِن أُصُولِ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ أَحَدٌ مِن الْكَلَامِ فِي هَؤُلَاءِ بِكَلَام يَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِمْ وَدِيَانَتِهِمْ؛ بَل يُعْلَمُ أَنَّهُم عُدُولٌ مَرْضِيُّونَ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ رضي الله عنهم، لَا سِيَّمَا وَالْمَنْقُولُ عَنْهُم مِن الْعَظَائِمِ كَذِبٌ مُفْتَرًى. [27/ 476 - 477]
2050 -
عُقُوبَةُ الْإِمَامِ لِلْكَذَّابِ الْمُفْتَرِي عَلَى النَاسِ وَالْمُتَكَلِّمِ فِيهِمْ وَفِي اسْتِحْقَاقِهِمْ لِمَا يُخَالِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ: لَا يَحْتَاجُ إلَى دَعْوَاهُمْ؛ بَل الْعُقُوبَةُ فِي ذَلِكَ جَائِزَةٌ بِدُونِ دَعْوَى أَحَدٍ؛ كَعُقُوبَتِهِ لِمَن يَتَكَلَّمُ فِي الدِّينِ بِلَا عِلْمٍ، فَيُحدِّثُ بِلَا عِلْمٍ، وَيُفْتِي بِلَا عِلْمٍ، وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ يُعَاقَبُونَ.
فَعقُوبَةُ كُلِّ هَؤُلَاءِ جَائِزَةٌ بِدُونِ دَعْوَى، فَإِنَّ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَالتَّكَلُّمَ فِي الدِّينِ وَفِي النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ: كَثِيرٌ فِي كَثيرٍ مِن النَّاسِ. [28/ 575]
2051 -
الْفُقَهَاءُ الَّذِينَ قَالُوا بِرأيٍ يُخَالِفُ النُّصُوصَ بَعْدَ اجْتِهَادِهِمْ وَاسْتِفْرَاغِ وُسْعِهِمْ رضي الله عنهم: قَد فَعَلُوا مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِن طَلَبِ الْعِلْمِ، وَاجْتَهَدُوا، وَاللهُ يُثيبُهُمْ، وَهُم مُطِيعُونَ للهِ سُبْحَانَهُ فِي ذَلِكَ، وَاللهُ يُثيبُهُم عَلَى اجْتِهَادِهِمْ، فَآجَرَهُم اللهُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِن كَانَ الَّذِينَ عَلِمُوا مَا جَاءَت بِهِ النُّصُوصُ أَفْضَلَ مِمَن خَفِيَتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ، وَهَؤُلَاءِ لَهُم أَجْرَانِ، وَأُولَئِكَ لَهُم أَجْرٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78، 79]. [32/ 132 - 133]
2052 -
الْقَوْلُ الْمُوَافِقُ لِسُنَّتِهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ الْقَوْلِ الْآخَرِ بِمَنْزِلَةِ طَرِيقٍ سَهْلٍ مُخْصِبٍ يُوْصِلُ إلَى الْمَقْصُودِ، وَتِلْكَ الْأَقْوَالُ فِيهَا بُعْذ، وَفِيهَا وُعُورَةٌ، وَفِيهَا حدوثة، فَصَاحِبُهَا يَحْصُلُ لَهُ مِن التَّعَبِ وَالْجُهْدِ أَكْثَرُ مِمَّا فِي الطَّرِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ. [33/ 149]
2053 -
الْأُمَّة إذَا اخْتَلَفَتْ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ: لَمْ يَكُن لِمَن بَعْدَهُم إحْدَاثُ قَوْلٍ يُنَاقِضُ الْقَوْلَيْنِ، وَيتَضَمَّنُ إجْمَاعَ السَّلَفِ عَلَى الْخَطَأِ وَالْعُدُولِ عَن الصَّوَابِ. [34/ 125]
* * *
الاختلاف
2054 -
الِاخْتِلَافُ إنَّمَا يُورِثُ شُبْهَةً إذَا لَمْ تتبيَّنْ سُنَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. [21/ 62]
2055 -
نَجِدُ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ-مِمَن يُخَالِفُ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ مِن أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَو غَيْرِهِمْ- يَقُولُ: هَذَا مَنْسُوخٌ وَقَد اتَّخَذُوا هَذَا مَجْنَةً
(1)
؛ كُلُّ حَدِيثٍ لَا يُوَافِقُ مَذْهَبَهُم يَقُولُونَ: هُوَ مَنْسُوخٌ مِن غَيْرِ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْسُوخٌ وَلَا يُثْبِتُوا مَا الَّذِي نَسَخَهُ. [21/ 150]
2056 -
اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم -وَالنَّاسُ بَعْدَهُم- فِي رُؤَيةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَبَّهُ فِي الدُّنْيَا، وَقَالُوا فِيهَا كَلِمَاتٍ غَلِيظَةً؛ كَقَوْلِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رضي الله عنها:"مَن زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَد أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ"، وَمَعَ هَذَا فَمَا أَوْجَبَ هَذَا النِّزَاعُ تَهَاجُرًا وَلَا تَقَاطُعًا.
وَكَذَلِكَ نَاظَرَ الْإِمَامُ أَحْمَد أَقْوَامًا مِن أَهْلِ السُّنَّةِ فِي مَسْألَةِ الشَّهَادَةِ لِلْعَشَرَةِ بِالْجَنَّةِ، حَتَّى آلَت الْمُنَاظَرَةُ إلَى ارْتِفَاعِ الْأَصْوَاتِ، وَكَانَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ يَرَوْنَ الشَّهَادَةَ، وَلَمْ يَهْجُرُوا مَن امْتَنَعَ مِن الشَّهَادَةِ، إلَى مَسَائِلَ نَظِيرِ هَذِهِ كَثِيرَةٍ. [6/ 502]
* * *
(1)
في المطبوعة: (محنة)، والصواب ما أثبتناه. قاله في حاشية الفتاوى.
ومعنى مَجْنَةً: تُرس؛ أي: يتترسون بهذه الحجة ويصدون بها الكثير من الأحاديث والآيات.
(إذا تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي عَمَلٍ هَل هُوَ مُحَرَّمٌ أَو مُبَاحٌ: لا يجوز جَعلهُ قُرْبَةً)
2057 -
مَعْلُومٌ فِي كُلِّ عَمَلٍ تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ: هَل هُوَ مُحَرَّمٌ أَو مُبَاحٌ لَيْسَ بِقُرْبَة أَنَّ مَن جَعَلَهُ قُرْبَةً فَقَد خَالَفَ الْإِجْمَاعَ، وَإِذَا فَعَلَهُ مُتَقَرِّبًا بِهِ كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا بِالْإِجْمَاعِ، كَمَا لَو تَقَرَّبَ بِلَعِبِ النَّرْدِ وَالشَّطْرَنْجِ، وَبَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ، وَإِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي الْحُشُوشِ، وَاسْتِمَاعِ الْغِنَاءِ وَالْمَعَازِفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لِلنَّاسِ فِيهِ قَوْلَانِ: التَّحْرِيمُ وَالْإِبَاحَةُ، لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهَا قُرْبَةٌ، فَاَلَّذِي يَجْعَلُهُ عِبَادَةً يَتَقَرَّبُ بِهِ كَمَا يَتَقَرَّبُ بِالْعِبَادَاتِ: قَد فَعَلَ مُحَرَّمًا بِالْإِجْمَاعِ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ هَل هُوَ حَرَامٌ أَو مُبَاحٌ كَانَ مَن جَعَلَهُ قُرْبَةً مُخَالِفًا لِإِجْمَاعِهِمْ، كَمَا إذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ فَمَن أَحْدَثَ قَوْلًا ثَالِثًا فَقَد خَالَفَ إجْمَاعَهُمْ. [27/ 229]
* * *
(متى يُثاب المخطئ ومتى يستحق العقاب
؟)
2058 -
سَبَبُ الْفَرْقِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ -مَعَ وُجُودِ الِاخْتِلَافِ فِي قَوْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا-: أَنَّ الْعَالِمَ قَد فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِن حُسْنِ الْقَصْدِ وَالِاجْتِهَادِ، وَفوَ مَأْمُورٌ فِي الظَّاهِرِ بِاعْتِقَادِ مَا قَامَ عِنْدَهُ دَلِيلُهُ، وَإِن لَمْ يَكُن مُطَابِقًا.
فَإِذَا اعْتَقَدَ الْعَالِمُ اعْتِقَادَيْنِ متَنَاقِضَيْنِ فِي قَضِيَّةٍ أَو قَضِيّتَيْنِ مَعَ قَصْدِهِ لِلْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ لِمَا أُمِرَ بِاتِّبَاعِهِ مِن الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ: عُذِرَ بِمَا لَمْ يَعْلَمْهُ وَهُوَ الْخَطَأُ الْمَرْفُوعُ عَنَّا، بِخِلَافِ أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ فَإِنَّهُم {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم: 23]، وَيجْزِمُونَ بِمَا يَقُولُونَهُ بِالظَّن وَالْهَوَى جَزْمًا لَا يَقْبَلُ النَّقِيضَ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِجَزْمِهِ، فَيَعْتَقِدُونَ مَا لَمْ يُؤْمَرُوا بِاعْتِقَادِهِ لَا بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا، وَيقْصِدُونَ مَا لَمْ يُؤْمَرُوا بِقَصْدِهِ، وَيَجْتَهِدُونَ اجْتِهَادًا لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ.
فَلَمْ يَصْدُرْ عَنْهُم مِن الِاجْتِهَادِ وَالْقَصْدِ مَا يَقْتَضِي مَغْفِرَةَ مَا لَمْ يَعْلَمُوهُ فَكَانُوا ظَالِمِينَ شَبِيهًا بِالْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، أو جَاهِلِينَ شَبِيهًا بِالضَّالِّينَ.
فَالْمُجْتَهِدُ الِاجْتِهَادَ الْعِلْمِيَّ الْمَحْضَ: لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ سِوَى الْحَقِّ، وَقَد سَلَكَ طَرِيقَهُ، وَأَمَّا مُتَّبعُ الْهَوَى الْمَحْضِ: فَهُوَ مَن يَعْلَمُ الْحَقَّ وَيُعَانِدُ عَنْهُ.
وَثَمَّ قِسْمٌ آخَرُ -وَهُوَ غَالِبُ النَّاسِ-: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ هَوًى فِيهِ شُبْهَةٌ، فَتَجْتَمِعُ الشَّهْوَةُ وَالشُبْهَةُ.
فَالْمُجْتَهِدُ الْمَحْضُ مَغْفُورٌ لَهُ وَمَأجُورٌ.
وَصَاحِبُ الْهَوَى الْمَحْضِ مُسْتَوْجِبٌ لِلْعَذَابِ.
وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ الِاجْتِهَادَ الْمُرَكَّبَ مِن شُبْهَةٍ وَهَوًى: فَهُوَ مُسِيءٌ، وَهُم فِي ذَلِكَ عَلَى دَرَجَاتٍ حَسَبَ مَا يَغْلِبُ، وَبِحَسَبِ الْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ. [29/ 43 - 44]
2059 -
من أصل الإمام أحمد الذي لا خلاف عنه فيه: أنه لا يجوز الخروج عن أقوال الصحابة، ولا يجوز ترك الحديث الصحيح من غير معارض له من جنسه، وكان رحمه الله شديد الإنكار على من يخالف ذلك. [المستدرك 4/ 203]
* * *
(ضوابط الإنكار في مسائل الاجتهاد)
2060 -
لَيْسَ لِمَن رَجَّحَ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى صَاحِبِ الْقَوْلِ الْآخَرِ إلَّا بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ.
فَمَن صَارَ إلَى قَوْلٍ مُقَلِّدًا لِقَائِلِهِ: لَمْ يَكُن لَهُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى مَن صَارَ إلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ مُقَلِّدًا لِقَائِلِهِ، لَكِنْ إنْ كَانَ مَعَ أَحَدِهِمَا حجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ وَجَبَ الِانْقِيَادُ لِلْحُجَجِ الشَّرْعِيَّةِ إذَا ظَهَرَتْ.
وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُرجِّح قَوْلًا عَلَى قَوْلٍ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَلَا يَتَعَصَّبُ لِقَوْلٍ عَلَى قَوْلٍ، وَلَا لقَائِلٍ عَلَى قَائِلٍ بِغَيْرِ حُجَّةٍ؛ بَل مَن كَانَ مُقَلِّدًا لَزِمَ حُكْمَ
التَّقْلِيدِ، فَلَمْ يُرَجِّحْ وَلَمْ يُزَيِّفْ وَلَمْ يُصَوِّبْ وَلَمْ يُخَطِّئْ
(1)
.
وَمَن كَانَ عِنْدَهُ مِن الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ مَا يَقُولُهُ سُمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَقُبِلَ مَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ حَقٌّ، وَرُدَّ مَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَوُقِفَ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ، وَاللهُ تَعَالَى قَد فَاوَتَ بَيْنَ النَّاسِ فِي قُوَى الْأَذْهَانِ، كَمَا فَاوَتَ بَيْنَهُم فِي قُوَى الْأَبْدَانِ.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ
(2)
وَنَحْوُهَا فِيهَا مِن أَغْوَارِ الْفِقْهِ وَحَقَائِقِهِ مَا لَا يَعْرِفُهُ إلَّا مَن عَرَفَ أَقَاوِيلَ الْعُلَمَاءِ وَمَآخِذَهُمْ.
فَأمَّا مَن لَمْ يَعْرِفْ إلَّا قَوْلَ عَالِمٍ وَاحِدٍ وَحُجَّتَهُ دُونَ قَوْلِ الْعَالِمِ الْآخَرِ وَحُجَّتِهِ: فَإِنَّهُ مِن الْعَوَامِّ الْمُقَلِّدِينَ، لَا مِن الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُرَجِّحُونَ وَيُزَيِّفُونَ. [35/ 233]
* * *
(التحذير من امتحان الناس بمسألة اجتهادية)
2061 -
لَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يَجْعَلُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ: [رؤية الكفار ربّهم]: مِحْنَةً وَشِعَارًا يُفَضِّلُونَ بِهَا بَيْنَ إخْوَانِهِمْ وَأَضْدَادِهِمْ؛ فَإنَّ مِثْل هَذَا مِمَّا يَكْرَهُهُ اللهُ وَرَسُولُهُ.
وَكَذَلِكَ لَا يُفَاتِحُوا فِيهَا عَوَامَّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُم فِي عَافِيَةٍ وَسَلَامٍ عَن الْفِتَنِ
(3)
، وَلَكِنْ إذَا سُئِلَ الرَّجُلُ عَنْهَا أَو رَأَى مَن هُوَ أَهْلٌ لِتَعْرِيفِهِ ذَلِكَ أَلْقَى إلَيْهِ
(1)
وعامة التعصب للأقوال أو للأشخاص، وعامة الردود على الأقوال والأشخاص: إنما يكون من العوام أو من أنصاف طلاب العلم، وهؤلاء كما قال الشيخ: لا يجوز لهم أن يصوبوا قولًا على قول، أو شخصًا على شخص، أو يُخطئوا ويردوا على من اجتهد من العلماء أو الدعاة أو المصلحين، بل يلزموا عتبة التقليد لمن يثقون به، ويكفوا ألسنتهم وأقلامهم عن الوقوع في أعراض المجتهدين والمصلحين ولو أخطؤوا خطأ أداه إليه اجتهادهم.
(2)
وهي: مَن هم أهل الكتاب الذين تحل ذبائحهم ونساؤهم.
(3)
فلا يجوز امتحان الناس بالجماعة الفلانية، أو بالشيخ الفلاني، كمن يمتحن أحدًا بمحبة =
مِمَّا عِنْدَهُ مِن الْعِلْمِ مَا يَرْجُو النَّفْعَ بِهِ، بِخِلَافِ الْإِيمَانِ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُم فِي الْآخِرَةِ؛ فَإنَّ الْإِيمَانَ بِذَلِكَ فَرْضٌ وَاجِبٌ، لِمَا قَد تَوَاتَرَ فِيهَا عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصَحَابَتِهِ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ. [6/ 504]
* * *
(الحكم فيما لو حكم القاضي بقول يُخالف مذاهب الأئمة الأربعة)
2062 -
لَو قَضَى أَو أَفْتَى بِقَوْلٍ سَائِغٍ يَخْرُجُ عَن أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فِي مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ وَالطَّلَاقِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا ثَبَتَ فِيهِ النِّزَاعُ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُخَالِفْ كِتَابًا وَلَا سُنَّةً وَلَا مَعْنَى ذَلِكَ؛ بَل كَانَ الْقَاضِي بِهِ وَالْمُفْتِي بِهِ يَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ -كَالِالسْتِدْلَالِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ-: فَإِنَّ هَذَا يَسُوغُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ وَيُفْتِيَ بِهِ.
وَلَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ نَقْضُ حُكْمِهِ إذَا حَكَمَ، وَلَا مَنْعُهُ مِنَ الْحُكْمِ بِهِ، وَلَا مِنَ الْفُتْيَا بِهِ، وَلَا مَنْعِ أَحَدٍ مِن تَقْلِيدِهِ.
وَمَن قَالَ: إنَّهُ يَسُوغُ الْمَنْعُ مِن ذَلِكَ: فَقَد خَالَفَ إجْمَاعَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ؛ بَل خَالَفَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ مُخَالَفَتِهِ للهِ وَرَسُولِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} [النساء: 59].
= أو بغضِ فلان من العلماء أو المصلحين أو الدعاة، فهذا كما قال الشيخ: مِن الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
وقد حذر الشيخ من هذا المنهج والسلوك السقيم في مواضع كثيرة، منها قوله: الْوَاجِبُ الِاقْتِصَارُ فِي ذَلِكَ، وَالْإِعْرَاضُ عَن ذِكْرِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِبَةَ وَامْتِحَانِ الْمُسْلِمِينَ بِهِ؛ فَإِنَّ هَذَا مِن الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِأهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. (3/ 414)
ومن ذلك قوله في مسألة التسمي بأسماء لم يُسمّ الله بها: فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أنْ يَمْتَحِنَ النَّاسَ بِهَا، وَلَا يُوَالِيَ بِهَذِهِ الْأسْمَاءِ وَلَا يُعَادِيَ عَلَيْهَا. اهـ. (3/ 416)
فَأَمَرَ اللهُ الْمُؤمِنِينَ بِالرَّدِّ فِيمَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللهِ وَالرَّسُولِ، وَهُوَ الرَّدُّ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
فَمَن قَالَ: إنَّهُ لَيْسَ لأحَدٍ أَنْ يَردَّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى الْكتَابِ وَالسُّنَّةِ، بَل عَلَى الْمُسْلِمِينَ اتِّبَاعُ قَوْلِنَا دُونَ الْقَوْلِ الْآخَرِ مِن غَيْرِ أنْ يُقِيمَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا- كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْكتَابِ وَالسُّنَّةِ- عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ: فَقَد خَالَفَ الْكتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَجِبُ اسْتِتَابَةُ مِثْل هَذَا وَعُقُوبَتُهُ كَمَا يُعَاقَبُ أَمْثَالُهُ.
فَإِذَا كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَتَمَسَّكَ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، ويَحْتَجُّ
(1)
عَلَى قَوْلِهِ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ -كَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ- وَلَيْسَ مَعَ صَاحِبِ الْقَوْلِ الْآخَرِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يُبْطِلُ بِهِ قَوْلهُ: لَمْ يَكُن لِهَذَا الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ حُجَّةٌ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ أَنْ يَمْنَعَ ذَلِكَ الَّذِي يَحْتَجُّ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَل [مَنْ]
(2)
جَوَّزَ أَنْ يُمْنَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْقَوْلِ الْمُوَافِقِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَوْجَبَ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعَ الْقَوْلِ الَّذِي يُنَاقِضُه بِلَا حجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ تُوجِبُ عَلَيْهِم اتِّبَاعَ هَذَا الْقَوْلِ وَتُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اتِّبَاعَ ذَلِكَ الْقَوْلِ: فَإِنَّهُ قَد انْسَلَخَ مِنَ الدِّينِ، تَجب اسْتِتَابَتُهُ وَعُقُوبَتُهُ كَأَمْثَالِهِ، وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا فَيُعْذَرُ بِالْجَهْلِ أَوَّلًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ أَقْوَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَدَلَائِلُ الْكِتَاب وَالسُّنَّةِ، فَإِنْ أَصَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ: فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. [33/ 134 - 135]
* * *
(الاجتهاد والتقليد وهل المصيب واحد)
2063 -
قال القاضي في كتاب الروايتين: الحق عند الله واحد، وقد نصب عليه دليلًا، وكلف المجتهد طلبه، فإن أصابه فقد أصاب الحق عند الله وفي الحكم وإن أخطأه فقد أخطأ عند الله.
(1)
في الأصل وجميع المراجع: لَمْ يُحتجّ! والعل الصواب المثبت، والله أعلم؛ ليستقيم المعنى.
(2)
ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، والمعنى لا يستقيم إلا به.
وهل أخطأ في الحكم أيضًا؟ على روايتين:
إحداهما: أنه مخطئ في الحكم إلا أن الخطأ موضوع عنه.
والثانية: هو مصيب في الحكم.
قال القاضي: وقد أومأ أحمد إلى هذا في رواية بكر بن محمد، عن أبيه عنه، فقال: الحق عند الله في واحد، وعلى الرجل أن يجتهد، ولا يقول لمخالفه: إنه مخطئ.
وقال بعده كلامًا: وإذا اختلف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في شيء، فأخذ رجل بقول بعضهم وأخذ رجل آخر عن رجل آخر منهم فالحق واحد، وعلى الرجل أن يجتهد ولا يدري أصاب الحق أم أخطأ.
قال: فظاهر كلامه في أول المسألة أنه مصيب في الحكم؛ لأنه منع من إطلاق الخطأ عليه في الحكم، وآخر كلامه يقتضي إطلاق ذلك عليه؛ لأنه قال: عليه أن يجتهد ولا يدري أصاب الحق أم لا، فأطلق الخطأ عليه.
قال شيخنا: أحمد فرق لأن الأولين كل منهما استدل بنص، والآخرين لا نص مع واحد منهما، فعلى هذا: من استمسك بنص لا يطلق عليه الخطأ في الحكم؛ كالمصلي إلى القبلة المنسوخة قبل عِلْمه بالناسخ.
ومن لا نص معه يقال: هو مخطئ في الحكم، بمنزلة الذي ليس هو على شريعة، ولم تبلغه شريعة فصارت الأقوال ثلاثة، والفرق هو المنصوص. [المستدرك 2/ 234 - 235]
* * *
(المسائل تنقسم إلي ما يقطع فيه بالإصابة وإلى ما لا ندري)
2064 -
إذا ثبت أن المصيب من المختلفين واحد، فهل نقطع بصحة قولنا وخطأ المخالف، أم يجوز أن يكون الحق في غير ما قلنا؟ قد نقل عن أبي الطيب الطبري أنه يقطع بخطأ مخالفه، وينقض حكمه.
والصحيح أن المسائل تنقسم إلى قسمين:
أ- إلى ما يقطع فيه بالإصابة.
ب- وإلى ما لا ندري أصاب الحق أم أخطأ، بحسب الأدلة وظهور الحكم للناظر.
ولا أظن يخالف في هذا من فهمه وعلى هذا ينبني حكم الحاكم وغيره.
ومن ذلك قول أبي بكر في الكلالة، وقول عمر وغيره، وعليه ينبني حلف الإمام أحمد في مسائل منها العينة، وجبنه عن الحلف في آخر كالشفعة للجار وغير ذلك. [المستدرك 2/ 237]
* * *
(الاجتهاد بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وفي غيبته)
2065 -
مسألة: يجوز لمن كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أن يجتهد سواء كان غائبًا عنه أو حاضرًا معه، وبه قال أكثر الشافعية، ومنع قوم منه لمن بحضرته أو قريبًا منه. [المستدرك 2/ 240]
* * *
(الاجتهاد والمجتهدون)
2066 -
ذكر ابن عقيل: أن العامي لا يجوز له التقليد إلا لمجتهد، وكذلك التزم أنه لا بد في كل عصر من مجتهد يجوز للعامي تقليده. [المستدرك 2/ 263]
2067 -
مسألة: لا يجوز للمجتهد تقليد مجتهد آخر، سواء في ذلك ضيق الزمان وسعته، نص عليه في رواية الفضل بن زياد، ذكرها ابن بطة أن أحمد قال له: يا أبا العباس لا تقلد دينك الرجال؛ فإنهم لم يسلموا من أن يغلطوا.
وقال في رواية أبي الحارث: لا تقلد أمرك أحدًا منهم وعليك بالأثر.
قال القاضي: فقد منع من التقليد وندب إلى الأخذ بالأثر، وإنما يكون هذا فيمن له معرفة بالأثر والاجتهاد.
قال أبو الخطاب: وعن أبي حنيفة روايتان إحداهما: جوازه، والثانية: المنع منه، وبه قال الشافعي.
قال شيخنا: هذا في تقليد الصحابة عند من جعله من صور المسألة ليس بصحيح، فإن العلماء صرحوا بجواز ذلك، وإن خالف رأينا، وفي كلام بعضهم ما يدل على أنهم كانوا يقلدون في مخالفة رأيهم، وأما وقوع هذا بالفعل من اتباع الأئمة فكثير لا يحصر.
وذكر أيضًا أبو الخطاب أنه لا خلاف في أنه يجوز ترك قول الأعلم لاجتهاده، ثم ذكر بعد هذا أن قول الصحابي ليس من صور هذه المسألة، فإنه يجب عليه ترك اجتهاده لقول الصحابي عند من جعله حجة، ولا يجب عليه تقليد غيره.
وحكى أبو المعالي في كتاب الاجتهاد عن الإمام أحمد قال: فأما تقليد الصحابة، قال أحمد: العالم قبل اجتهاده يقلد الصحابي ويتخير في تقليده من شاء منهم.
ولم يجوز تقليد التابعين.
قال: وقال الشافعي في القديم: قول الصحابي حجة، ويجب على المجتهدين التمسك به.
ثم قال: يقدم على القياس الجلي والخفي، وفي رواية: على الخفي دون الجلي.
وظاهر مذهبه في القديم: أنه حجة إذا لم يظهر خلاف في الصحابة، ونقل عنه في القديم: إذا اختلفوا فالتمسك بقول الخلفاء أولى.
وقال في الجديد: لا حجة في قول الصحابي، والاختيار عنده إذا انطبق
على القياس لم يكن حجة، وإذا خالف القياس الجلي فلا يخالفه إلا عن توقيف. [المستدرك 2/ 264 - 266]
* * *
(يجوز خلو عصر من الأعصار من مجتهد)
2068 -
مسألة: لا يجوز خلو عصر من الأعصار من مجتهد يجوز للعامي تقليده، ويجوز أن يولى القضاء، خلافا لبعض المحدثين في قولهم: لم يبق في عصرنا مجتهد. هذا نقل ابن عقيل. [المستدرك 2/ 267]
* * *
(إذا وقعت الحادثة مرة ثانية فهل يجدد النظر
؟)
2069 -
قال أبو الخطاب: أجمع الناس على أن المجتهد إذا حكم في حادثة بحكم ثم جاءته مثلها أنه لا يقنع بذلك الاجتهاد؛ بل يجتهد ثانيًا، وما عليه دليل قطعي لا يحتاج إلى ذلك؛ كمن عرف التوحيد والنبوة.
قال: وفيه نظر
(1)
.
وقال أيضًا: إذا سئل المفتي عن مسألة فإن كان قد تقدم له فيها اجتهاد وقول وهو ذاكر لطريق الاجتهاد والحكم جاز له أن يفتي بذلك، وإلا فلا.
فإن ذكر الحكم دون طريق الاجتهاد لزمه أن يذكر طريق الاجتهاد، ويعيد النظر في ذلك، فإن أدَّاه اجتهاده إلى ذلك الحكم أفتى به، وإن أداه إلى غيره أفتى به أيضًا.
وكذلك ذكر ابن عقيل.
وذكر أبو عمرو ابن الصلاح: أنه إذا وقعت الحادثة مرة ثانية:
- فإن كان ذكر الفتيا الأولى ومستندها بالنسبة إلى أصل الشرع إن كان
(1)
ولا شك بأن إيجاب الاجتهاد في كل حادثة فيه حرج لا تأتي به الشريعة.
مستَقِلًّا، أو بالنسبة إلى مذهبه إن كان منتسبًا إلى مذهب ذي مذهب: أفتى بذلك.
- وإن تذكرها دون مستندها، ولم يظهر ما يوجب رجوعه عنها: فقد قيل: له أن يُفتي بذلك.
والأصح: أنه لا يفتي حتى يجدد النظر.
ومن لم تكن فتياه حكاية عن غيره: لم يكن له بد من استصحاب الدليل فيها
(1)
. [المستدرك 2/ 267 - 268]
* * *
(إذا حدثت مسألة ليس فيها قول لأحد من العلماء، وإذا سئل عن مسألة لم تقع)
2070 -
إذا حدثت مسألة ليس فيها قول لأحد من العلماء: جاز الاجتهاد فيها: الحكم والفتوى، لمن هو أهل لذلك للحاجة.
وقد أومأ أحمد إلى المنع منه؛ كقوله للميموني: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام.
وقيل: يجوز ذلك في الفروع دون الأصول، وهو أولى. [المستدرك 2/ 268]
* * *
(الإفتاء والمفتون)
2071 -
قال أبو الخطاب: وإن أفتى باجتهاده:
- فإن كان المستفتي قد عمل بما أفتاه: لم يلزم المفتي أن يعرفه بتغير اجتهاده، ولم يلزم المستفتي نقضُ ما عمله.
- وإن كان لم يعمل بها: لزمه ذلك إن أمكنه. [المستدرك 2/ 268]
* * *
(1)
وإذا كانت فتواه عبارة عن نقلٍ لأحد العلماء فلا يلزمه أن يستحضر دليله ومستنده.
في كيفية الفتوى
2072 -
إذا سئل المجتهد عن الحكم: لم يجز له أن يفتي بمذهب غيره
(1)
، لأنه إنما سئل عما عنده، فإن سئل عن مذهب غيره جاز له أن يحكيه؛ لأن العامي يجوز له حكاية قول غيره، ولا يجوز له أن يفتي بما يجده في كتب الفقهاء، ولا بما يفتيه به فقيه، وهذا قول أبي الخطاب.
وقال الحليمي والروياني: لا يجوز للمقلد
(2)
أن يفتي بما هو مقلد فيه.
وقال أبو محمد الجويني عن القفال والمروذي: أنه يجوز لمن حفظ مذهب صاحب مذهب ونصوصه أن يفتي به وإن لم يكن عارفًا بغوامضه وحقائقه.
وقال أبو محمد: لا يجوز أن يفتي بمذهب غيره إذا لم يكن متبحرًا فيه عالمًا بغوامضه وحقائقه، كما لا يجوز للعامي الذي جمع فتاوى المفتين أن يفتي بها، وإذا كان متبحرًا فيه جاز أن يفتي به.
قال أبو عمرو: وقول من قال: لا يجوز: معناه: أنه لا يذكره في صورة ما يقوله من عند نفسه؛ بل يضيفه إلى إمامه الذي يحكيه عنه
(3)
. [المستدرك 2/ 269]
2073 -
ذكر الماوردي في الحاوي في العامي إذا عرف حكم حادثة بنى على دليلها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يجوز أن يفتي به، ويجوز تقليده فيه.
والثاني: يجوز ذلك إن كان دليلُها من الكتاب أو السُّنَّة.
(1)
فيه نظر، بل الواجب أن يفتيه بما في شرع الله، سواء. وافق مذهب المفتي أو خالفه.
(2)
كحال العامة وكثير من طلاب العلم.
(3)
وهذا هو الحق. فإذا سئل العامي أو المقلد فلا يجوز أن يُفتي ويسند الفتوى إليه، بل يقول: قال فلان يجوز أو لا يجوز.
والثالث -وهو الأصح-: أنه لا يجوز ذلك مطلقًا
(1)
. [المستدرك 2/ 270]
2074 -
لا يشترط في المفتي الحرية والذكورية كالراوي.
وذكر عن الماوردي أن المفتي إذا نابذ في فتاواه شخصًا معينًا صار خصمًا معاندًا: ترد فتواه على من عاداه، كما ترد شهادته.
ولا بأس أن يكون المفتي أعمى، أو أخرس مفهوم الإشارة أو كاتبًا، ولا تصح فتيا فاسق، غير أنه يعمل فيما يقع له باجتهاد نفسه، وتقبل فتوى المستور في الأظهر، ولا فرق بين القاضي وغيره في الفتيا. [المستدرك 2/ 270]
2075 -
كَثِيرٌ مِن أَجْوِبَةِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِن الْأَئِمَّةِ خَرَجَ عَلَى سُؤَالِ سَائِلٍ، قَد عَلِمَ الْمَسْؤُولُ حَالَهُ، أَو خَرَجَ خِطَابًا لِمُعَيَّن قَد عَلِمَ حَالَهُ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ قَضَايَا الْأَعْيَانِ الصَّادِرَةِ عَن الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُهَا فِي نَظِيرِهَا. [28/ 213]
* * *
فصل: شيخنا: في ترجيح المقلد أحد الأقوال لكثرة عدد قائليه من المفتين حال الفتوى:
2076 -
قال الوزير أبو المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة: الصحيح في هذه المسألة أن قول من قال: "لا يجوز تولية قاض حتى يكون من أهل الاجتهاد" فإنه إنما عنى به هنا ما كانت الحالة عليه قبل استقرار ما استقر في هذه المذاهب التي أجمعت الأئمة على أن كلًّا منها يجوز العمل به؛ لأنه مستند إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو على سبيل معه.
(1)
قال شيخ الإسلام: الْعَاميُّ إذَا أمْكَنَهُ الِاجْتِهَادُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ جَازَ لَهُ الِاجْتهَادُ، فَإِنَّ الِاجْتِهَادَ مَنْصِبٌ يَقْبَلُ التجزي وَالِانْقِسَامَ، فَالْعِبْرَةُ بِالْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ، وَقَد يَكُونُ الرَّجُلُ قَادِرًا فِي بَعْضٍ عَاجِزًا فِي بَعْضٍ.
لَكِنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الِاجْتِهَادِ لَا تَكُونُ إلَّا بِحُصُولِ عُلُومٍ تفِيدُ مَعْرِفَةَ الْمَطْلُوبِ، فَأمَّا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ مِن فَنِّ: فَيَبْعُدُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا. اهـ. مجموع الفتاوى (20/ 204).
فالقاضي في هذا الوقت وإن لم يكن قد سعى في طلب الأحاديث وانتِقَاء طرقها وعرف من لغة الناطق بالشريعة صلى الله عليه وسلم ما لا يعوزه معه معرفة ما يحتاج إليه فيه، وغير ذلك من شروط الاجتهاد؛ فإن ذلك قد فُرغ [له]
(1)
منه، ودَأَب فيه سواه، وانتهى الأمر من هؤلاء الأئمة المجتهدين إلى ما أراحوا به من بعدهم، وانحصر الحق في أقاويلهم
(2)
، وتدونت العلوم وانتهت إلى ما اتضح فيه الحق.
وعلى ذلك فإنه إذا خرج من خلافهم متوخيًا مواطن الاتفاق ما أمكنه: كان آخذًا بالحزم، عاملًا بالأَولى، وكذلك إذا قصد في مواطن الخلاف توخي ما عليه الأكثر منهم، والعمل بما قاله الجمهور دون الواحد منهم: فإنه قد أخذ بالحزم والأحوط والأولى مع جواز أن يعمل بقول الواحد.
إلا أنني أكره له أن يكون ذلك من حيث أنه قد قرأ مذهب واحد منهم أو نشأ في بلدة لم يعرف فيها إلا مذهب إمام واحد منهم، أو كان شيخه ومعلمه على مذهب فقيه من الفقهاء خاصة يقصر نفسه على اتباع ذلك المذهب.
وبمقتضى هذا: فإن ولايات الحكام في وقتنا هذا ولايات صحيحة، وإنهم قد سدوا من ثغر الإسلام ما سدُّه فرض كفاية.
ومتى أهملنا هذا القول ولم نذكره ومشينا على طريق التغافل التي يمشي فيها من يمشي من الفقهاء: أنه لا يصح أن يكون أحد قاضيًا حتى يكون من أهل الاجتهاد، ثم يذكر في شروط الاجتهاد أشياء ليست موجودة في الحكام: فإن هذا كالإحالة وكالتناقض، وكأنه تعطيل للأحكام وسد لباب الحكم وألا ينفذ لأحد حق، ولا يكاتب به، ولا تقام بينة، ولا يثبت لأحد ملك، إلى غير ذلك من القواعد الشرعية، فكان هذا الأصل غير صحيح، وبَانَ أن الحكام
(1)
هكذا في الأصل، ولعلها مقحمة.
(2)
في الأعم الأغلب، لا على سبيل الحصر.
اليوم حكوماتهم صحيحة نافذة، وولاياتهم جائزة شرعًا، فقد تضمن هذا الكلام أن تولية المقلد تجوز إذا تعذر تولية المجتهد.
فأما تعيين المدارس بأسماء فقهاء معينين: فإنه لا أرى به بأسًا، حيث إن اشتغال الفقهاء بمذهب واحد من غير أن يختلط بهم فقيه في مذهب آخر يثير الخلاف معهم ويوقع النزاع فيه؛ فإنه حكى لى الشيخ محمد بن يحيى، عن القاضي أبي يعلى أنه قصده فقيه ليقرأ عليه مذهب أحمد، فسأله عن بلده فأخبره، فقال له: إن أهل بلدك كلهم يقرؤون مذهب الشافعي فلماذا عدلت أنت عنه إلى مذهبنا؟ فقال له: إنما عدلت عن المذهب رغبة فيك أنت، فقال له: إن هذا لا يصلح فإنك إذا كنت في بلدك على مذهب أحمد وباقي أهل البلد على مذهب الشافعي لم تجد أحدًا يعبد
(1)
معك، ولا يدارسك، وكنتَ خليقًا أن تثير خصومة وتوقع نزاعًا؛ بل كونك على مذهب الشافعي حيث أهل بلدك على مذهبه أولى، ودله على الشيخ أبي إسحاق وذهب به إليه، فقال: سمعًا وطاعة، أقدمه على الفقهاء
(2)
. [المستدرك 2/ 271 - 277]
* * *
(متى تلزمه الفتوى
؟)
2077 -
للمفتي أن يرد الفتوى إذا كان في البلد من يقوم مقامه، وإلا لزمه النظر إليها.
فإن كان في البلد من هو معروف عند العوام بالفتيا وهو في الباطن جاهل: تعين على هذا الجواب. [المستدرك 2/ 278]
* * *
(1)
وفي نسخة أخرى: (يعيد معك).
(2)
تصرف حكيم من هذا الفقيه الكبير رحمه الله.
(الأدب مع المفتي)
2078 -
لا ينبغي للعامي أن يطالب المفتي بالحجة فيما أفتاه ولا يقول له: لم؟ ولا كيف؟ فإن أحب أن تسكن نفسه بسماع الحجة في ذلك سأل عنه في مجلس آخر، أو فيه بعد قبوله الفتوى مجردة عن الحجة.
وذكر السمعاني: أنه لا يمنع من أن يطالب المفتي بالدليل لأجل احتياطه لنفسه
(1)
، وأنه يلزمه أن يذكر له الدليل إن كان مقطوعًا به، وإلا فلا؛ لافتقاره حينئذ إلى اجتهاد يقصر العامي عنه.
وينبغي له أن يحفظ الأدب مع المفتي، ويجله في خطابه وسؤاله ونحو ذلك، ولا يومئ بيده في وجهه، ولا يقول له: ما تحفظ في كذا؟ ولا ما مذهب إمامك في كذا؟
ولا يقول له إذا أجابه: هكذا قلتُ أنا، ولا: هكذا وقع لى، ولا يقول له: أفتاني فلان، أو أفتاني غيرك بكذا وكذا، ولا يسأله وهو قائم، أو مستوفز، أو على حال ضجر أو همِّ، أو غير ذلك مما يشغل قلبه، ويبدأ بالأسن الأعلم من المفتين، وبالأَولى فالأولى.
وقال أبو القاسم الصيمري: إذا أراد جمع الجوابات في رقعة قدم الأسن الأعلم وإن أراد إفرادها فلا يبالي بأيهم بدأ. [المستدرك 2/ 279]
* * *
(العامي من يستفتي)
2079 -
ليس للمسلم أن يستفتي إلا من يعلم أنه من أهل العلم والدين، وأن لا يقتدي إلا بمن يصلح الاقتداء به. [المستدرك 2/ 280]
2080 -
لا يجوز استفتاء إلا من يفتي بعلم وعدل.
(1)
وهو الأرجح؛ لأن العامي من حقه أن يعرف حكم الشرع، لا رأي المفتي مجردًّا.
ولا يجوز أن يُقْدم العامي على فعل لا يعلم جوازه، ويفسق إن كان مما يفسق به. ذكره القاضي.
قال ابن عقيل: لا يجوز للعامي أن يستفتي في الأحكام الشرعية من شاء؛ بل يجب أن يبحث عن حال من يريد سؤاله وتقليده فإذا أخبره أهل الثقة والخبرة أنه أهل لذلك علمًا وديانة حينئذ استفتاه وإلا فلا.
وقال أبو الخطاب: لا يجوز للمستفتي أن يستفتي إلا من يغلب على ظنه أنه من أهل الاجتهاد بما يراه من انتصابه للفتوى بمشهد من أعيان العلماء، وأخذ الناس عنه وإجماعهم على سؤاله، وما يبدو منه من سمات الدين والخير، فأما من لا يراه مشتغلًا بالعلم ويرى عليه سيما الدين فلا يجوز له استفتاؤه بمجرد ذلك.
وقال أبو المعالي: إذا تقرر عنده بقول الأثبات: إن هذا الرجل بالغ مبلغ الاجتهاد فحينئذ يستفتيه.
ثم قال القاضي: له أن يُعَوِّل على قول عدلين، وقال: لا يستفتي إلا من استفاضت الأخبار ببلوغه منصب الاجتهاد، والأمر هنا مظنون. [المستدرك 2/ 280]
* * *
(أدب العالم والمتعلم)
2081 -
ويل للعالم إذا سكت عن تعليم الجاهل، ووبل للجاهل إذا لم يقبل. [المستدرك 2/ 281]
* * *
(ضوابط الاجتهاد والتقليد وحكم ذلك)
2082 -
نَقَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْعَالِمِ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ إذَا كَانَ قَد اجْتَهَدَ وَاسْتَدَلَّ وَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، فَهُنَا لَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ مَن قَالَ خِلَافَ ذَلِكَ بِلَا نِزَاعٍ.
وَلَكِنْ هَل يَجُوزُ مَعَ قُدْرَتهِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ يُقَلِّدُ؟
هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ: فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا لَا يَجُوزُ. وَحُكِيَ عَن مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ جَوَازهُ. [19/ 261]
2083 -
الْعَادِلُ عَنْهَا [أي: النصوص] إلَى خِلَافِهَا يَدْخُلُ فِيهِ مَن قَلَّدَ أَحَدًا مِنَ الْأَوَّلينَ والآخرين فِيمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ خِلَافُ قَوْلِ الرَّسُولِ، سَوَاءٌ كَانَ صَاحِبًا أَو تَابِعًا أَو أَحَدَ الْفُقَهَاءِ الْمَشْهُورِينَ الْأَرْبَعَةِ أَو غَيْرِهِمْ.
وَأَمَّا مَن ظَنَّ أَنَّ الَّذِينَ قَلَّدَهُم مُوَافِقُونَ لِلرَّسُولِ فِيما قَالُوهُ:
- فَإِنْ كَانَ قَد سَلَكَ فِي ذَلِكَ طَرِيقًا عِلْمِيًّا فَهُوَ مُجْتَهِدٌ لَهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ.
- وَإِن كَانَ مُتَكَلِّمًا بِلَا عِلْمٍ فَهُوَ مِن الْمَذْمُومِينَ
(1)
. [19/ 266]
2084 -
الْوَاجِبُ فِي الِاعْتِقَادِ أَنْ يَتَّبعَ أَحْسَنَ الْقَوْلَيْنِ، لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَقِدَ قَوْلًا وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْقَوْلَ الْمُخَالِفَ لَهُ أَحْسَنُ مِنْهُ.
وَإِن جَازَ لَهُ فِعْلُ الْمَفْضُولِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَ ذَلِكَ أَفْضَلُ، وَيكُونُ ذَاكَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِن هَذَا. [19/ 270]
2085 -
لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَنْ يُقَلِّدَ رَجُلًا بِعَيْنِهِ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ
(1)
أي: من قلّد أحدًا في قول مُخالفٍ لنصٍّ شرعيّ فلا يخلو المقلد من حالين:
الأولى: إنْ كان طالب علم، واجتهد ورأى صواب قول هذا المفتي فلا حرج عليه؛ لأنه قد بذل ما في وسعه.
الثانية: إنْ كان عاميًّا، فهو آثمٌ لأنه لم يتحرّ الأعلم والأتقى، ولم يبذل الوسع في البحث والتحري، وهو لو مرض له ابنٌ بمرض خطير لبحث عن أفضل طبيب، وابنه ليس أغلى من دينه.
ويدخل في ذمّ هؤلاء: جميع عوام أهل البدع من الخوارج والروافض والصوفية ونحو هم.
ويدخل فيهم كذلك: عوام أهل السُّنَّة الذين خاضوا في أعراض الدعاة والمشايخ تقليدًا لبعض من ينتسب للعلم، الذين حملوا راية الحرب على المصلحين والناصحين والدعاة من أهل السُّنَّة.
وَينْهَى عَنْهُ وَيَسْتَحِبُّهُ، إلَّا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يَسْتَفْتُونَ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ فَيُقَلِّدُونَ تَارَةً هَذَا وَتَارَةً هَذَا.
فَإذَا كَانَ الْمُقَلِّدُ يُقَلِّدُ فِي مَسْألَةٍ يَرَاهَا أَصْلَحَ فِي دِينِهِ، أَو الْقَوْلُ بِهَا أَرْجَحُ، أَو نَحْوِ ذَلِكَ: جَازَ هَذَا بِاتِّفَاقِ جَمَاهِيرِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ.
لَمْ يُحَرِّمْ ذَلِكَ لَا أَبُو حَنِيفَةَ وَلَا مَالِكٌ وَلَا الشَّافِعِيُّ وَلَا أَحْمَد. [23/ 381]
2086 -
لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْتَجَّ بِقَوْلِ أَحَدٍ فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ، وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ:
أ- النَّصُّ.
ب- وَالْإِجْمَاعُ.
ج- وَدَلِيل مُسْتَنْبَطٌ مِن ذَلِكَ تُقَرَّرُ مُقَدِّمَاتُهُ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ.
لَا بِأَقْوَالِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ؛ فَإِنَّ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ يُحْتَجُّ لَهَا بِالْأدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ لَا يُحْتَجُّ بِهَا عَلَى الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَمَن تَرَبَّى عَلَى مَذْهَبٍ قَد تَعَوَّدَهُ وَاعْتَقَدَ مَا فِيهِ وَهُوَ لَا يُحْسِنُ الْأَدِلَّةَ الشَرْعِيَّةَ وَتَنَازُع الْعُلَمَاءِ: لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا جَاءَ عَنِ الرَّسُولِ وَتَلَقَّتْهُ الْأمَّةُ بِالْقَبُولِ، بِحَيْثُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ وَبَيْنَ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَيتَعَسَّرُ أَو يَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَمَن كَانَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا: لَمْ يُحْسِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْمُقَلِّدَةِ النَّاقِلِينَ لِأَقْوَالِ غَيْرِهِمْ مِثْل الْمُحَدِّثِ عَن غَيْرِهِ، وَالشَّاهِدُ عَلَى غَيْرِهِ لَا يَكُونُ حَاكِمًا، وَالنَّاقِلُ الْمُجَرَّدُ يَكُونُ حَاكِيًا لَا مُفْتِيًا. [26/ 202 - 203]
2087 -
انْظُرْ فِي عُمُومِ كَلَامِ اللهِ عز وجل وَرَسُولِهِ لَفْظًا وَمَعْنًى حَتَّى تُعْطِيَهُ حَقَّهُ، وَأَحْسَنُ مَا تَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى مَعْنَاهُ: آثَارُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ كَانُوا أَعْلَمَ بِمَقَاصِدِهِ؛ فَإِنَّ ضَبْطَ ذَلِكَ يُوجِبُ تَوَافُقَ أصُولِ الشَّرِيعَةِ وَجَرْيِهَا عَلَى الْأُصُولِ الثَّابِتَةِ الْمَذْكورَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]. [29/ 86 - 87]
2088 -
التَّقْلِيدُ الْبَاطِلُ الْمَذْمُومُ: فوَ قَبُولُ قَوْلِ الْغَيْرِ بِلَا حُجَّةٍ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)} [البقرة: 170]. [20/ 15]
2089 -
تَقْلِيدُ الْعَالِمِ -حَيْثُ يَجُوز- هوَ بِمَنْزِلَةِ اتِّبَاعِ الْأدِلَّةِ الْمُتَغَلِّبَةِ عَلَى الظَّنِّ؛ كخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْمُقَلِّدَ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ إصَابَةُ الْعَالِمِ الْمُجْتَهِدِ، كَمَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُ الْمُخْبِرِ، لَكِنْ بَيْنَ اتِّبَاعِ الرَّاوِي وَالرَّأْيِ فَرْقٌ، فَإِنَّ اتِّبَاعَ الرَّاوِي وَاجِبٌ؛ لِأَنَّه انْفَرَدَ بِعِلْمِ مَا أَخْبَرَ بِهِ، بِخِلَافِ الرَّأْيِ؛ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُعْلَمَ مِن حَيْثُ عَلِمَ. [20/ 17]
2090 -
النَّاسُ فِي الِاسْتِدْلَالِ وَالتَّقْلِيدِ عَلَى طَرَفَيْ نَقِيضٍ:
أ- مِنْهُم مَن يُوجِبُ الِاسْتِدْلَالَ حَتَّى فِي الْمَسَائِلِ الدَّقِيقَةِ: أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ.
ب- وَمِنْهُم مَن يُحَرِّمُ الِاسْتِدْلَالَ فِي الدَّقِيقِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَهَذَا فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ.
ج- وَخِيَارُ الْأمُورِ أَوْسَاطُهَا. [20/ 18]
2091 -
الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْأرْبَعَةُ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ وَلَا شُرع لَهُ الْتِزَامُ قَوْلِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ فِي كُلِّ مَا يُوجِبُهُ وَيُحَرِّمُهُ وَيُبِيحُهُ إلَّا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
لَكِنَّ مِنْهُم مَن يَقُولُ: عَلَى الْمُسْتَفْتِي أَنْ يُقَلِّدَ الْأعْلَمَ الْأَرْوَعَ مِمَن يُمْكِنُهُ اسْتِفْتَاؤُهُ.
وَمِنْهُم مَن يَقُولُ: بَل يُخَيَّر بَيْنَ الْمُفْتِينَ.
وَإذَا كَانَ لَهُ نَوْعُ تَمْيِيزٍ: فَقَد قِيلَ: يَتَّبعُ أَيَّ الْقَوْلَيْنِ أَرْجَحُ عِنْدَه بِحَسَبِ تَمْيِيزِهِ، فَإِنَّ هَذَا أَوْلَى مِنَ التَّخْيِيرِ الْمُطْلَقِ.
وَقِيلَ: لَا يَجْتَهِدُ إلَّا إذَا صَارَ مِن أَهْلِ الِاجْتِهَادِ.
وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ، فَإِذَا تَرَجَّحَ عِنْدَ الْمُسْتَفْتِي أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: إمَّا لِرُجْحَانِ دَلِيلِهِ بِحَسَبِ تَمْيِيزِهِ، وَإِمَّا لِكَوْنِ قَائِلِهِ أَعْلَمَ وَأَرْوَعَ: فَلَهُ ذَلِكَ وَإِن خَالَفَ قَوْلُهُ الْمَذْهَبَ. [33/ 168]
2092 -
لَفْظُ الْخَطَأِ يُسْتَعْمَلُ فِي الْعَمْدِ وَفِي غَيْرِ الْعَمْدِ، قَالَ تَعَالَى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)} [الإسراء: 31] وَالْأَكْثَرُونَ يَقْرَءُونَ (خِطْئًا) عَلَى وَزْنِ رِدْءًا وَعِلْمًا، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ (خَطَأً) عَلَى وَزْنِ عَمَلًا؛ كَلَفْظِ الْخَطَأِ فِي قَوْلِهِ:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} [النساء: 92].
وَأَمَّا اسْمُ الْخَاطِئِ فَلَمْ يَجِئْ فِي الْقُرْآنِ إلَّا لِلْإِثْمِ بِمَعْنَى الْخَطِيئَةِ كَقَوْلِهِ: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)} [يوسف: 29].
وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا: فَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ غَيْرُ خَاطِئٍ، وَغَيْرُ مُخْطِئٍ أَيْضًا إذَا أُرِيدَ بِالْخَطَأِ الْإِثْمُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ، وَلَا يَكُونُ مِن مُجْتَهِدٍ خَطَأٌ
(1)
، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ مَن قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ.
وَلَكِنَّ الصَّحَابَةَ وَالْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ رضي الله عنهم وَجُمْهُورَ السَّلَفِ يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْخَطَأِ عَلَى غَيْرِ الْعَمْدِ وَإِن لَمْ يَكُن إثْمًا، كَمَا نَطَقَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:"إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ"
(2)
.
وَأَحْمَد يُفَرِّقُ فِي هَذَا الْبَابِ:
أ- فَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَا مُعَارِضَ لَهُ كَانَ مَن أَخَذَ بِحَدِيث ضَعِيفٍ أَو قَوْلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مُخْطِئًا.
(1)
وعلى هذا؛ فلا يجوز تثريب وذمّ من اجتهد من العلماء والدعاة إلى الله ولو أخطؤوا؛ لأنهم لم يُخطئوا خطأ يأثمون عليه، وخطؤهم مغفورٌ ومعفوٌّ عنه، ولا يجوز ذمّ من غفر الله له، كما لا يجوز عتاب وذمّ من أذنب ثم تاب من ذنبه.
(2)
رواه البخاري (7352)، ومسلم (1716).
ب- وَإِذَا كَانَ فِيهَا حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ نَظَرَ فِي الرَّاجِحِ فَأخَذَ بِهِ، وَلَا يَقُولُ لِمَن أخَذَ بِالْآخَرِ إنَّهُ مُخْطِئٌ.
ج- وَإِذَا لَمْ يَكُن فِيهَا نَصٌّ اجْتَهَدَ فِيهَا بِرَأْيِهِ، قَالَ: وَلَا أَدْرِي أَصَبْت
الْحَقَّ أمْ أَخْطَأْته.
فَفَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَكونَ فِيهَا نَصٌّ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، وَبَيْنَ انْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ، وَإِذَا عَمِلَ الرَّجُلُ بِنَصٍّ وَفِيهَا نَصّ آخَرُ خَفِيَ عَلَيْهِ لَمْ يُسَمِّهِ مُخْطِئا، لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ.
لَكِنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ فِي تَعْيِينِ الْخَطَأِ، فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ: لَا أَقْطَعُ بِخَطَأِ مُنَازِعِي فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، وَمِنْهُم مَن يَقُولُ: أَقْطَعُ بِخَطَئِهِ، وَأحْمَد فَصَّلَ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَهُوَ إذَا قَطَعَ بِخَطَئِهِ بِمَعْنَى عَدَمِ الْعِلْمِ لَمْ يَقْطَعْ بِإِثْمِهِ، هَذَا لَا يَكُونُ إلا فِي مَن عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَجْتَهِدْ.
وَحَقِيقَةُ الْأمْرِ: أَنَّهُ إذَا كَانَ فِيهَا نَصٌّ خَفِيَ عَلَى بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ عِلْمُهُ، وَلَو عَلِمَ بِهِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ، لَكِنَهُ لَمَّا خَفِيَ عَلَيْهِ اتَّبَعَ النَّصَّ الْآخَرَ وَهُوَ مَنْسُوخٌ أَو مَخْصُوصٌ: فَقَد فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِحَسَبِ قُدْرَتهِ؛ كَاَلَّذِينَ صَلَّوْا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ أَنْ نُسِخَتْ وَقَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِالنَّسْخِ، وَهَذَا لِأَنَّ حُكْمَ الْخِطَابِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُكلَّفِينَ إلَّا بَعْدَ تَمَكُنِهِمْ مِن مَعْرِفَتِهِ فِي أَصَحِّ الأقْوَالِ.
وَالْمُجْتَهِدُ الْمُخْطِئُ لَهُ أَجْرٌ؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ الْحَقُّ، وَطَلَبَهُ بِحَسَبِ وُسْعِهِ، وَهُوَ لَا يَحْكُمُ إلَّا بِدَلِيل
(1)
.
فَفِي الْجُمْلَةِ: الْأَجْرُ هُوَ عَلَى اتِّبُاعِهِ الْحَقَّ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ.
وَلَو كَانَ فِي الْبَاطِنِ حَقٌّ يُنَاقِضُهُ: هُوَ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ لَو قَدَرَ عَلَى مَعْرِفَتِهِ،
(1)
ظهر له، وبحث عنه قاصدًا الحقّ، وأما من لم يحكم بدليل، بل بتقليد، أو بَحَثَ عن أدلة تُوافق هواه وميله فليس له أجر، بل قد يحمل من الأوزار بحسب نوع اجتهاده.
لَكِنْ لَمْ يَقْدِرْ، فَهَذَا كَالْمُجْتَهِدِينَ فِي جِهَاتِ الْكَعْبَةِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَن عَبَدَ عِبَادَةً نُهِيَ عَنْهَا وَلَمْ يَعْلَمْ بِالنَّهْي؛ مِثْل مَن صَلَّى فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ وَبَلَغَهُ الْأمْرُ الْعَامُّ بِالصَّلَاةِ وَلَمْ يَبْلُغْهُ النَّهْيُ، أَو تَمَسَّكَ بِدَلِيلِ خَاصٍّ مَرْجُوحٍ مِثْل صَلَاةِ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّاهُمَا، وَمِثْل صَلَاةٍ رُوِيتْ فِيهَا أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ أَو مَوْضوعَة كَألْفِيَّةِ نِصْفِ شَعْبَانَ، وَأَوَّلِ رَجَبَ، وَصَلَاةِ التَّسْبِيحِ، كَمَا جَوَّزَهَا ابْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
فَإِنَّهَا إذَا دَخَلَتْ فِي عُمُومِ اسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَبْلُغْهُ مَا يُوجِبُ النَّهْيَ: أُثِيبَ عَلَى ذَلِكَ.
بِخِلَافِ مَا لَمْ يُشْرَعْ جِنْسُهُ؛ مِثْل الشِّرْكِ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا ثَوَابَ فِيهِ، وَإِن كَانَ اللهُ لَا يُعَاقِبُ صَاحِبَهُ إلَّا بَعْدَ بُلُوغِ الرِّسَالَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء: 15] لَكِنَّهُ وَإِن كَانَ لَا يُعَذِّبُ فَإِنَّ هَذَا لَا يُثَابُ
(1)
.
ثُمَّ إنْ عَلِمَ أَنَّهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا وَفَعَلَهَا اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْعِقَابَ.
وَهَذَا لَا يَكُونُ مُجْتَهِدًا؛ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا بُدَّ أَنْ يَتَّبعَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا، وَهَذِهِ لَا يَكُونُ عَلَيْهَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ
(2)
.
(1)
فالخلاصة: أن كُل مَن عَبَدَ الله بعِبَادَةٍ ثبت النَّهْيُ عَنْهَا وَلَمْ يَعْلَمْ بِالنَّهْي فلا يخلو من حالين: الحال الأولى: أنْ يكون جنسُها مشروعًا؛ كصَلَاةِ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ رَكْعَتَيْن بَعْدَ الْعَصْرِ، وَمِثْل صَلَاةٍ رُوِيتْ فِيهَا أَحَادِيثُ ضَعِيفَة أَو مَوضُوعَةٌ كَألْفِيَّةِ نِصْفِ شَعْبَانَ، وَأوَّلِ رَجَبَ، وَصَلَاةِ التَّسْبِيحِ: فهذا إنْ كان مُقلدًا فلا يُثاب، وإن كان مُجتهدًا طالبًا للحق أُثيب على اجتهاده.
الحال الثانية: ألا يكون جنسُها مشروعًا؛ كالشرك، فهذا لا يُثاب مطلقًا، ثُمَّ إنْ عَلِمَ أَنَّهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا وَفَعَلَهَا اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْعِقَابَ.
(2)
وذلك مثل عبادة الرافضة للقبور، وحجهم لها، وإحداثهم لبدعة يوم عاشوراء وما يُصاحبها من اللطم والضرب والنياحة، فعملهم لا يُسمّى اجتهادًا؛ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا بُدَّ أنْ يَتَّبعَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا، وَهَذ لَا يَكُونُ عَلَيْهَا دَليلٌ شَرْعِيٌّ.
فَهَؤُلَاءِ إذَا لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِم الْحُجَّة بِالنَّهْيِ لَا يُعَذَّبُونَ. وَأَمَّا الثَّوَابُ بِالتَّقَرُّبِ إلَى اللهِ فَلَا يَكُونُ بِمِثْل هَذِهِ الْأَعْمَالِ. [20/ 20 - 33]
2093 -
أَمَّا فِي الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ فَكَثِيرٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْفُقَهَاءِ مِن أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مَن يُوجِبُ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ حَتَّى عَلَى الْعَامَّةِ وَالنِّسَاءِ، حَتَّى يُوجِبُوهُ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا فُضَلَاءُ الْأُمَّةِ، قَالُوا: لِأَنَّ الْعِلْمَ بِهَا وَاجِبٌ وَلَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ إلَّا بِالنَّظَرِ الْخَاصِّ.
وَأَمَّا جُمْهُورُ الْأُمَّةِ فَعَلَى خِلَافِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ مَا وَجَبَ عِلْمُهُ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى مَن يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِ الْعِلْمِ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عَاجِزٌ عَنِ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الدَّقَائِقِ، فَكَيْفَ يُكلَّفُ الْعِلْمَ بِهَا؟
وَبِإِزَاءِ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مِنَ الْمُحَدِّثَةِ وَالْفُقَهَاءِ وَالْعَامَّةِ قَد يُحَرِّمُونَ النَّظَرَ فِي دَقِيقِ الْعِلْمِ، وَالِاسْتِدْلَالَ وَالْكَلَامَ فِيهِ حَتَّى ذَوِي الْمَعْرِفَةِ بِهِ، وَأَهْلِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ مِن أَهْلِهِ، وَيُوجِبُونَ التَّقْلِيدَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، أَو الْإِعْرَاضَ عَن تَفْصِيلِهَا.
وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّد أَيْضًا. فَلَا إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِالْوُجُوب صَحِيحًا، وَلَا إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِالتَّحْرِيمِ صَحِيحًا.
وَكَذَلِكَ الْمَسَائِلُ الفروعية: مِن غَالِيَةِ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ مَن يُوجِبُ النَّظَرَ وَالِاجْتِهَادَ فِيهَا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ حَتَّى عَلَى الْعَامَّةِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ لَو كَانَ طَلَبُ عِلْمِهَا وَاجِبًا عَلَى الْأَعْيَانِ فَإِنَّمَا يَجِبُ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى مَعْرِفَتِهَا مِنَ الْأَدِلَّةِ الْمُفَصَّلَةِ تتعَذَّرُ أَو تتعَسَّرُ عَلَى أَكْثَرِ الْعَامَّةِ.
وَبِإِزَائِهِمْ مِن أَتْبَاعِ الْمَذَاهِبِ مَن يُوجِبُ التَّقْلِيدَ فِيهَا عَلَى جَمِيعِ مَن بَعْدَ الْأَئِمَّةِ؛ عُلَمَائِهِمْ وَعَوَامِّهِمْ.
وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأُمَّةِ أَنَّ الِاجْتِهَادَ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَالتَّقْلِيدَ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ، لَا يُوجِبُونَ الِاجْتِهَادَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَيُحَرِّمُونَ التَّقْلِيدَ، وَلَا يُوجِبُونَ
التَّقْلِيدَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَيُحَرِّمُونَ الِاجْتِهَادَ، وَأَنَّ الِاجْتِهَادَ جَائِزٌ لِلْقَادِرِ عَلَى الِاجْتِهَادِ، وَالتَّقْلِيدَ جَائِز لِلْعَاجِزِ عَنِ الِاجْتِهَادِ.
فَأَمَّا الْقَادِرُ عَلَى الِاجْتِهَادِ فَهَل يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ؟
هَذَا فِيهِ خِلَافٌ، وَالصَّحِيح: أَنَّهُ يَجُوزُ حَيْثُ عَجَزَ عَنِ الِاجْتِهَادِ:
أ- إمَا لِتَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ.
ب- وَإِمَّا لِضِيقِ الْوَقْتِ عَنِ الِاجْتِهَادِ.
ج- وَإِمَّا لِعَدَمِ ظُهُورِ دَلِيل لَهُ
(1)
.
فَإِنَّهُ حَيْثُ عَجَزَ: سَقَطَ عَنْهُ وُجُوبُ مَا عَجَزَ عَنْهُ وَانْتَقَلَ إلَى بَدَلِهِ وَهُوَ التَّقْلِيدُ، كَمَا لَو عَجَزَ عَنِ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ.
وَكَذَلِكَ الْعَامِّيُّ إذَا أَمْكَنَهُ الِاجْتِهَادُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ جَازَ لَهُ الِاجْتِهَادُ، فَإِنَّ الِاجْتِهَادَ مُنْصِبٌ يَقْبَلُ التجزي وَالِانْقِسَامَ
(2)
، فَالْعِبْرَةُ بِالْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ، وَقَد يَكُونُ الرَّجُلُ قَادِرًا فِي بَعْضٍ عَاجِزًا فِي بَعْضٍ.
(1)
وأما ما عدا ذلك فلا يجوز له تقليد مذهبه أو شيخه، وقد نصّ على ذلك في مواضع أخرى منها قوله:"وَأَمَّا الْقَادِرُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ فَقِيلَ: يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّقْلِيدُ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: يَجُوزُ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: يَجُوزُ عِنْدَ الْحَاجَةِ؛ كَمَا إذَا ضَاقَ الْوَقْتُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَعْدَلُ الأقْوَالِ". (20/ 212)
وقال كذلك: مَتَى أَمْكَنَ فِي الْحَوَادِثِ الْمُشْكِلَةِ مُعَرَّفَةُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَانَ هُوَ الْوَاجِب، وَإِن لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ لِضِيقِ الْوَقْتِ أَو عَجْزِ الطَّالِبِ أَو تَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ عِنْدَهُ أَو غَيْرِ ذَلِكَ: فَلَهُ أنْ يُقَلِّدَ مَن يَرْتَضِي عِلْمَهُ وَدِينَهُ، هَذَا أقْوَى الْأقْوَالِ، وَقَد قِيلَ: لَيْسَ لَهُ التَّقْلِيدُ بِكُلِّ حَالٍ، وَقِيلَ: لَهُ التَّقْلِيدُ بِكُلِّ حَالٍ. (28/ 388)
وينبغي أنْ يتنبه لهذا طلاب العلم الذين أمضوا سنوات وهم يدرسون العلم عند المشايخ في المساجد والجامعات ونحوها، فكثيرٌ منهم يكتفي بترجيحات وتقريرات شيخه، فهو لا زال مُقلّدًا، وقد علمتَ أن شيخ الإسلام رحمه الله يرى حرمة التقليد على القادر على الاجتهاد إلا عند الضرورة.
والواجب على المشايخ أنْ يحثّوا طلابهم على البحث والترجيح والاعتماد بعد الله تعالى على اجتهادهم وبحثهم.
(2)
قال العلَّامة ابن القيِّم رحمه الله: الِاجْتِهَادُ حَالَة تَقْبَلُ التَّجَزُّؤَ وَالِانْقِسَامَ، فَيَكُونُ الرَّجُلُ مُجْتَهِدًا =
لَكِنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الِاجْتِهَادِ لَا تَكُونُ إلَّا بِحُصُولِ عُلُومٍ تُفِيدُ مَعْرِفَةَ الْمَطْلُوبِ، فَأمَّا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ مِن فَنٍّ: فَيَبْعُدُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا. [20/ 202 - 204]
2094 -
إِذَا نَزَلَتْ بِالْمُسْلِمِ نَازِلَةٌ فَإِنَّهُ يَسْتَفْتِي مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ يُفْتِيهِ بِشَرْعِ اللهِ وَرَسُولِهِ مِن أَيِّ مَذْهَبٍ كَانَ، وَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَقْلِيدُ شَخْصٍ بِعَيْنِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي كُلِّ مَا يَقُولُ، وَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْتِزَامُ مَذْهَبِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ غَيْرِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي كُلِّ مَا يُوجِبُهُ وَيُخْبِرُ بِهِ؛ بَل كُلُّ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ يُؤخَذُ مِن قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. [20/ 208 - 209]
2095 -
الِاجْتِهَادُ لَيْسَ هُوَ أَمْرًا وَاحِدًا لَا يَقْبَلُ التجزي وَالِانْقِسَامَ؛ بَل قَد يَكُونُ الرَّجُلُ مُجْتَهِدًا فِي فَنٍّ أَو بَاب أَو مَسْأَلَةٍ دُونَ فَنٍّ وَبَابٍ وَمَسْأَلَةٍ، وَكُلُّ أَحَدٍ فَاجْتِهَادُهُ بِحَسَبِ وُسْعِهِ.
فَمَن نَظَرَ فِي مَسْأَلَةٍ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا وَرَأَى مَعَ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ نُصُوصًا لَمْ يَعْلَمْ لَهَا مُعَارضًا بَعْدَ نَظَرِ مِثْلِهِ فَهُوَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ:
أ- إمَّا أَنْ يَتَّبعَ قَوْلَ الْقَائِلِ الْآخَرِ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ الْإِمَامَ الَّذِي اشْتَغَلَ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَمِثْل هَذَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ؛ بَل مُجَرَّدُ عَادَةٍ يُعَارِضُهَا عَادَة غَيْرِهِ، وَاشْتِغَالٌ عَلَى مَذْهَبِ إمَامٍ آخَرَ.
ب- وَإِمَّا أَنْ يَتَّبعَ الْقَوْلَ الَّذِي تَرَجَّحَ فِي نَظَرِهِ بِالنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ،
= فِي نَوْعِ مِنَ الْعِلْمِ مُقَلِّدًا فِي غَيْرِهِ، أو فِي بَابٍ مِن أبْوَابِهِ، كَمَن اسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي نَوْعِ الْعِلْمِ بالْفَرَائِضِ وَأَدِلَّتِهَا وَاسْتِنْبَاطِهَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْعُلُوم، أو فِي بَابِ الْجِهَادِ أَو الْحَجِّ، أَو غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَهَذَا لَيْسَ لَهُ الْفَتْوَى فِيمَا لَمْ يَجْتَهِدْ فِيهِ، وَلَا تَكُونُ مَعْرِفَتُهُ بِمَا اجْتَهَدَ فِيهِ مُسَوِّغَةً لَهُ الْإِفْتَاءَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي غَيْرِهِ، وَهَل لَهُ أنْ يُفْتِيَ فِي النَّوْعِ الَّذِي اجْتَهَدَ فِيهِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أصَحُّهَا الْجَوَازُ، بَل هُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ فِيمَن بَذَلَ جَهْدَهُ فِي مَعْرِفَةِ مَسْأَلَةٍ أَو مَسْألَتَيْنِ، هَل لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِهِمَا؟ قِيلَ: نَعَمْ يَجُوزُ فِي أَصَحّ الْقَوْلَيْنِ .. وَهَل هَذَا إلا مِنَ التَّبْلِيغ عَنِ اللهِ وَعَن رَسُولهِ، وَجَزَى اللهُ مِن أعَانَ الْإِسْلَامَ وَلَو بِشَطْرِ كلِمَةٍ خَيْرًا، وَمَنْعُ هَذَا مِنَ الْإِفتَاءِ بِمَا عَلِمَ خَطَأٌ مَحْضٌ. إعلام الموقعين (2/ 533).
وَحِينَئِذٍ فَتَكُونُ مُوَافَقَتُهُ لإِمَامٍ يُقَاوِمُ ذَلِكَ الْإِمَامَ، وَتَبْقَى النُّصُوصُ سَالِمَةً فِي حَقِّهِ عَنِ الْمُعَارِضِ بِالْعَمَلِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَصْلُحُ
(1)
.
وَإِنَّمَا تَنَزَّلْنَا هَذَا التَّنَزُّلَ
(2)
لِأَنَهُ قَد يُقَالُ: إنَّ نَظَرَ هَذَا قَاصِرٌ
(3)
، وَلَيْسَ اجْتِهَادُهُ قَائِمًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِضَعْفِ آلَةِ الِاجْتِهَادِ فِي حَقِّهِ.
أَمَّا إذَا قَدَرَ عَلَى الِاجْتِهَادِ التَّامِّ الَّذِي يَعْتَقِدُ مَعَهُ أَنَّ الْقَوْلَ الْآخَرَ لَيْسَ مَعَهُ مَا يَدْفَعُ بِهِ النَّصَّ: فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ النُّصُوصِ، وَإِن لَمْ يَفْعَلْ كَانَ مُتَّبِعًا لِلظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ، وَكَانَ مَن أَكْبَرِ الْعُصَاةِ للهِ وَلرَسُولِهِ.
بِخِلَافِ مَن يَقُولُ
(4)
: قَد يَكُونُ لِلْقَوْلِ الْآخَرِ حُجَّة رَاجِحَة عَلَى هَذَا النَّصِّ وَأَنَا لَا أَعْلَمُهَا
(5)
، فَهَذَا يُقَالُ لَهُ: قَد قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وَاَلَّذِي تَسْتَطِيعُهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَد دَلَّكَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الرَّاجِحُ، فَعَلَيْك أَنْ تَتَّبعَ ذَلِكَ، ثُمَّ إنْ تَبَيَّنَ لَك فِيمَا بَعْدُ أَنَّ لِلنَّصِّ مُعَارضًا رَاجِحًا كَانَ حُكْمُك فِي ذَلِكَ حُكْمَ الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَقِلِّ إذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ.
وَانْتِقَالُ الْإِنْسَانِ مِن قَوْلٍ إلَى قَوْلٍ لِأَجْلِ مَا تبَيَّنَ لَهُ مِنَ الْحَقِّ: هُوَ مَحْمُودٌ فِيهِ، بِخِلَافِ إصْرَارِهِ عَلَى قَوْلٍ لَا حُجَّةَ مَعَهُ عَلَيْهِ.
وَتَرْكُ الْقَوْلِ الَّذِي وَضَحَتْ حُجَّتُهُ، أَو الِانْتِقَالُ عَن قَوْلٍ إلَى قَوْلٍ لِمُجَرَّدِ عَادَةٍ وَاتِّبَاعِ هَوًى: فَهَذَا مَذْمُومٌ.
وَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ الْمُقَلَّدُ قَد سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَرَكَهُ -لَا سيَّمَا إذَا كَانَ قَد رَوَاهُ أَيْضًا- فَمِثْلُ هَذَا وَحْدَهُ لَا يَكُونُ عُذْرًا فِي تَرْكِ النَّصِّ
(6)
.
(1)
أي: هذا الذي ينبغي للعامي العمل به.
(2)
أي: لم نُوجبه ونُؤثم من خالفه.
(3)
لأنه عاميّ وليس طالب علم، فلا يملك آلة الاجتهاد.
(4)
مِن العامَّة وطلاب العلم المبتدئين.
(5)
كم صدّت هذه المقولة الكثير من الناس عن الحق، وأودعتهم سجون الهوى والشبهات والبدع.
(6)
فلا تقل: الشيخ عنده علمٌ في الحديث ومع ذلك تركه؛ لعلمه بضعفه، أو بما يُعارضه! =
فَمَن تَرَكَ الْحَدِيثَ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ، أَو أَنَّ رَاوِيهُ مَجْهُولٌ وَنَحْو ذَلِكَ، وَيكُونُ غَيْرُهُ قَد عَلِمَ صِحَّتَهُ وَثِقَةَ رَاوِيهِ: فَقَد زَالَ عُذْرُ ذَلِكَ فِي حَقِّ هَذَا.
وَمَن تَرَكَ الْحَدِيثَ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يُخَالِفُهُ، أَو الْقِيَاسِ، أَو عَمَلٍ لِبَعْضِ الْأَمْصَارِ
(1)
؛ وَقَد تَبَيَّنَ لِلْآخَرِ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ لَا يُخَالِفُهُ، وَأَنَّ نَصَّ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مُقَدَّمٌ عَلَى الظَّوَاهِرِ، وَمُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ وَالْعَمَلِ: لَمْ يَكُن عُذْرُ ذَلِكَ الرَّجُلِ عُذْرًا فِي حَقِّهِ؛ فَإِنَّ ظهُورَ الْمَدَارِكِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْأَذْهَانِ وَخَفَاءَهَا عَنْهَا أَمْرٌ لَا يَنْضَبِطُ طَرَفَاهُ.
وَإِذَا قِيلَ لِهَذَا الْمُسْتَهْدِي الْمُسْتَرْشِدِ: أَنْتَ أَعْلَمُ أَم الْإِمَامُ الْفُلَانِيُّ؟: كَانَت هَذِهِ مُعَارَضَةً فَاسِدَةً؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ الْفُلَانِيَّ قَد خَالَفَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَن هُوَ نَظِيرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَلَسْتُ أَعْلَمُ مِن هَذَا وَلَا هَذَا.
وَلَو فُتِحَ هَذَا الْبَابُ: لَوَجَبَ أَنْ يُعْرِضَ عَن أَمْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَيَبْقَى كُلُّ إمَامٍ فِي أَتْبَاعِهِ بِمَنْزِلَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أُمَّتِهِ، وَهَذَا تَبْدِيلٌ لِلدِّينِ، يُشْبِهُ مَا عَابَ اللهُ بِهِ النَّصَارَى فِي قَوْلِهِ:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: 31]. [20/ 212 - 216]
2096 -
بَابُ الِاجْتِهَاد وَالتَّأْوِيل بَابٌ وَاسِعٌ، يَؤولُ بِصَاحِبِهِ إلَى أَنْ يَعْتَقِدَ الْحَرَامَ حَلَالًا. . وَإِلَى أَنْ يَعْتَقِدَ الْحَلَالَ حَرَامًا. . بَل يَعْتَقِدُ وُجُوبَ قَتْلِ الْمَعْصُومِ
(2)
أَو بِالْعَكْسِ
(3)
.
= بل يجب عليك العمل به إذا علمتَ صحتَه، ولا تتركه حتى تتحقق من سلامته عن المعارض الراجح.
(1)
أي: ترك العمل بالحديث لأن القياس يُخالفه، أو عمل بعض الأمصار -كأهل المدينة- على خلافه.
(2)
كفعل الخوارج وخاصة في هذا الزمان، الذي تجرؤوا فيه على سفك دماء المعصومين، بل والمسلمين، بل والمجاهدين والصالحين!
(3)
أي: يعتقد تحريم قتل غير معصوم الدم، كما يرى ذلك بعض المبتدعة والمنافقين والمتأثرين بالغرب المنحل.
فَأَصْحَابُ الِاجْتِهَادِ وَإِن عُذِرُوا وَعُرِفَتْ مَرَاتِبُهُم مِنَ الْعِلْمِ وَالدّينِ: فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ مَا تبَيَّنَ مِنَ السُّنَّةِ وَالْهَدْيِ لِأَجْلِ تَأْوِيلِهِمْ. [21/ 64]
* * *
(التمذهب والتقليد)
2097 -
أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ نَهَى عَن تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ مِن الْعُلَمَاءِ فِي الْفُرُوعِ وَقَالَ: لَا تُقَلِّدْ دِينَك الرِّجَالَ؛ فَإِنَّهُم لَنْ يَسْلَمُوا أَنْ يَغْلَطُوا، وَقَالَ: لَا تُقَلِّدْنِي وَلَا مَالِكًا وَلَا الثَّوْرِيَّ وَلَا الشَّافِعِيَّ.
وَقَد جَرَى فِي ذَلِكَ عَلَى سَنَنِ غَيْرِهِ مِن الْأَئِمَّةِ، فَكلُّهُم نَهَوْا عَن تَقْلِيدِهِمْ، كَمَا نَهَى الشَّافِعِيُّ عَن تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ مِن الْعُلَمَاءِ، فَكَيْفَ يُقَلَّدُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ؟
(1)
. [6/ 215 - 216]
2098 -
أما قول القائل: لا أتقيد بأحد هؤلاء الأئمة الأربعة:
- إن أراد أنه لا يتقيد بواحد بعينه دون الباقين فقد أحسن؛ بل هو الصواب من القولين.
- وإن أراد: أني لا أتقيد بها كلها؛ بل أخالفها فهو مخطئ في الغالب قطعًا؛ إذ الحق لا يخرج عن هذه الأربعة في عامة الشريعة.
ولكن تنازع الناس: هل يخرج عنها في بعض المسائل؟ على قولين
(2)
.
وكثيرًا ما يترجح قول من الأقوال يظن الظَّانّ أنه خارج عنها ويكون داخلًا فيها.
لكن لا ريب أن الله لم يأمر الأمة باتباع أربعة أشخاص دون غيرهم.
هذا لا يقوله عالم، وإنما هذا كما يقال: أحاديث البخاري ومسلم؛ فإن
(1)
كلام الشيخ ظاهر في أنه لا يرى بأسًا في تقسيم الدين إلى أصول وفروع.
(2)
أصوبها: أنه يجوز الخروج عنها، كما هو قول شيخ الإسلام وغيره من الأئمة المحققين عليهم رحمةُ الله.
الأحاديث التي رواها الشيخان فصححاها قد صححها من الأئمة ما شاء الله؛ فالأخذ بها؛ لأنها قد صحت، لا لأنها قول شخص بعينه.
وأما من عرض عليه حديث فقال: لو كان صحيحًا لما أهمله أهل مذهبنا: فينبغي أن يعزر هذا على فرط جهله وكلامه في الدين بلا علم.
ولا يجب تقليد واحد بعينه غير النبي صلى الله عليه وسلم، لكن إن كان معتقدًا في مسألة باجتهاد أو تقليد فانفصاله عنه لا بد له من سبب شرعي يرجح عنده قول غير إمامه، فإذا ترجح عند الشافعي مثلًا قول مالك قلده، وكذلك غيره. [المستدرك 2/ 250 - 251]
2099 -
لا يجب على المالكي ولا غيره تقليد أحد من الأئمة بعينه في جميع الدين باتفاق الأئمة الكبار. [المستدرك 2/ 251]
2100 -
من ادعى العصمة لأحد في كل ما يقوله بعد الرسول صلى الله عليه وسلم فهو ضال، وفي تكفيره نزاع وتفصيل. [المستدرك 2/ 252]
2101 -
من قلد من يسوغ له تقليده فليس له أن يجعل قول متبوعه أصح من غيره بالهوى بغير هدى من الله، ولا يجعل متبوعه محنة للناس، فمن وافقه والاه ومن خالفه عاداه؛ فإن هذا حرمه الله ورسوله باتفاق المؤمنين؛ بل يجب على المؤمنين أن يكونوا كما قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} إلى قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 102 - 106]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: تبيض وجوه أهل السُّنَّة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة. [المستدرك 2/ 252]
2102 -
في جواز تقليد الميت قولان في مذهب أحمد وغيره. [المستدرك 2/ 252]
2103 -
"التقليد" قبول القول بغير دليل، فليس المصير إلى الإجماع تقليد؛ لأن الإجماع دليل، وكذلك يقبل قول الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يقال له: تقليد، بخلاف فتوى الفقيه.
وذكر في ضمن مسألة التقليد أن الرجوع إلى قول الصحابي ليس بتقليد؛ لأنه حجة، قال فيها: لما جاز له تقليد الصحابة لزمه ذلك ولم يجز له أن يخالفه، بخلاف الأعلم. [المستدرك 2/ 252]
* * *
(ما لا يجوز فيه التقليد)
2104 -
قال والد شيخنا: الذي ذكره القاضي أنه لا يجوز التقليد في معرفة الله ووحدانيته والرسالة، ولا في السمعيات المتواترة الظاهرة؛ كالصلوات ووجوب الزكاة وصيام شهر رمضان وحج البيت؛ لاستواء الناس في طرق علم ذلك.
وهذا مطابق لما ذكره ابن عقيل.
فأما الفروع التي ليست متواترة ظاهرة: فيسوغ التقليد فيها، وإن كان فيها ما لا يسوغ فيه الاجتهاد؛ لإجماعٍ غير مشهور، أو نصٍّ يعرفه الخاصة؛ -مثل وجوب الشفعة، وحملِ العاقلةَ ديةَ الخطأ، وكونِ الطواف والوقوف ركنين في الحج، وتفاصيلِ نُصُب الزكاة وفرائضها، وقطع اليمنى من يد السارق، وتنجس الدهن بموت الفأرة، إلى غير ذلك مِن أحكامٍ لا تُعَدُّ ولا تحصى مجمعٍ عليها، لا يسوغ فيها الاجتهاد والاختلاف، ومع هذا فهي غير ظاهرة ظهور أصول الشرائع- فيسوغ فيها التقليد؛ لأنَّ تكليف العامي معرفةَ الفرق بين مسائل الإجماع والاختلاف: يضاهي تكليفه دَرْك حكم حوادثه بالدليل، ولهذا يكفر
جاحد الأحكام الظاهرة المجمع عليها وإن كان عاميًّا، دون الخفية، فما فرق بينهما في التكفير فرق في التقليد.
وكذلك أيضًا منع التقليد في جميع مسائل الأصول فيه نظر؛ بل الحق ما ذكره القاضي وابن عقيل أن المنع في التوحيد والرسالة فإنهما ركنا الإسلام، وفاتحة الدعوة وعاصمة الدم، ومناط النجاة والفوز.
فأما تكليف عموم الناس دَرْك دقائق المسائل الأصولية بالدليل: فهو قريب من تكليفهم ذلك في الفروع.
قال شيخنا: وكذلك قال أبو الخطاب: الذي لا يسوغ التقليد فيها هو معرفة الله ووحدانيته، ومعرفة صحة الرسالة، وذكر أن الأدلة على هذه الأصول الثلاثة يعرفه كل أحد بعقله وعلمه، وإن لم يقدر العامي على أن يعبر عنه
(1)
. [المستدرك 2/ 254 - 255]
* * *
(هل يخير المقلد في المجتهدين
؟)
2105 -
مسألة: للعامي أن يقدد في الفروع أي المجتهدين شاء، ولا يلزمه أن يجتهد في أعيان المجتهدين في قول القاضي وأبي الخطاب وجماعة من الفقهاء.
وقال ابن عقيل: لا يتخير؛ بل يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين الأدين والأورع، ومن يُشار إليه أنه أعلم، وقال: ذكره أحمد، ولم يحك في المذهب فيه خلافًا
(2)
. [المستدرك 2/ 255]
* * *
(1)
أي: أن العامي لا يستطيع ذكر الأدلة التفصيلية على المسائل العقدية والتوحيد، ولكنه مُوقن بأنه أخذها من الكتاب والسُّنَّة، ولا يُسلم بأنه يقلد أحدًا في ذلك.
(2)
وهذا هو الأقرب.
(هل يجتهد في أعيان المسائل التي يقلد فيها
؟)
2106 -
الذي ليس بمجتهد: له أن يجتهد في أعيان المفتين بلا ريب
(1)
، وهل يجتهد في أعيان المسائل التي يقلِّد فيها، بحيث إذا غلب على ظنه أن بعض المسائل على مذهبِ فقيهٍ أقوى فعليه أن يقلِّده فيها ويُفتي؛ إخبارًا عن قوله: قال ذلك أبو الحسن القدوري.
وقال أبو الطيب الطبري: ليمس للعامي استحسان الأحكام فيما اختلف فيه الفقهاء، ولا أن يقول قول فلان أقوى من قول فلان، ولا حكم لما يغلب على ظنه، ولا اعتبار به، ولا طريق له إلى الاستحسان، كما لا طريق له إلى الصحة. [المستدرك 2/ 257 - 258]
* * *
(تتبع الرخص لا يجوز)
2107 -
إذا جُوِّز للعامي أن يقلد من يشاء: فالذي يدل عليه كلام أصحابنا وغيرهم أنه لا يجوز له يتتبع الرخص مطلقًا؛ فإن أحمد أثَر مثل ذلك عن السلف وأخبر به.
وقال سليمان التيمي: لو أخذت برخصة كل عالم -أو قال بزلة كل عالم- اجتمع فيك الشر كله.
وفي المعنى آثار عن علي وابن مسعود ومعاذ وسلمان، وفيه مرفوعًا عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عمر. [المستدرك 2/ 258]
* * *
(1)
وهذا من الحالات التي يسوغ فيها للعامي أن يجتهد، فمن أطلق القول بمنع العامي من الاجتهاد: ففيه نظر ظاهر.
(إذا أفتى أحد المجتهدين بالحظر والآخر بالإباحة)
2108 -
إذا أفتى أحد المجتهدين بالحظر والآخر بالإباحة وتساوت فتواهما عند العامي: فإنه يكون مخيرًا في الأخذ بأيهما شاء.
فإذا اختار أحدهما
(1)
: تعين القول الذي اختاره حظرًا أو إباحة، ذكره القاضي في أسئلة المخالف بما يقتضي أنه محل وفاق، ولم يمنعه. [المستدرك 2/ 259]
* * *
(ما يجب على العامي
(2)
)
2109 -
يجب على العامي قطعًا: البحثُ الذي به يعرف صلاح المفتي للاستفتاء إذا لم تكن تقدمت معرفته بذلك، ولا يجوز له استفتاء من اعتزى إلى العلم، وإن انتصب في منصب التدريس أو غيره.
ويجوز استفتاء من تواتر بين الناس أو استفاض فيهم كونه أهلًا للفتوى.
قال أبو عمرو: ولا ينبغي أن يكفي في هذه الأزمان مجرد تصدّيه
(3)
للفتوى واشتهاره بمباشرتها، لا بأهليته لها.
فإذا اجتمع اثنان أو أكثر ممن يجوز له استفتاؤهم: فهل يجب عليه الاجتهاد في أعيانهم، والبحث عن الأعلم الأورع الأوثق ليقلده دون غيره؟
فهذا فيه وجهان:
"أحدهما": أنه لا يجب ذلك، وله استفتاء من شاء منهم؛ لأن الجميع أهل، وقد أسقطنا الاجتهاد عن العامي.
(1)
ليس اختيار تشهٍ وهوى، وإنما اختياره جاء بناءً على الأورع أو الأعلم أو الأدين ونحوها من الصفات التي ترجح عنده العالم على غيره.
يُوضح ذلك المسألة التالية.
(2)
هذه المسألة أخذها شيخ الإسلام بنصها من كتاب: أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح المتوفى عام (643 هـ)، المحقق: د. موفق عبد الله عبد القادر (158).
(3)
في الأصل: (تصديقه)، والتصويب من أدب المفتي والمستفتي، والمسودة (464).
"والثاني": يجب عليه ذلك، وهو قول ابن سريج، واختيار القفال المروزي؛ لأنه يمكنه هذا القدر من الاجتهاد بالبحث والسؤال وشواهد الأحوال، فلم يسقط عنه.
والأول أصح.
ولكن متى ما اطلع على الأوثق منهما: فالأظهر أنه يلزمه تقليده دون الآخر، كما وجب تقديم أرجح الدليلين، فعلى هذا: يلزمه تقليد الأورع من العالِمَين، والأعلم من الورعين، فإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع: قلد الأعلم على الأصح
(1)
.
2110 -
قال أبو عمرو ابن الصلاح: ليس له
(2)
أن يتبع في ذلك مجرد التشهي، والميل إلى ما وجد عليه أباه، وليس له التمذهب بمذهب أحد أئمة الصحابة وإن كانوا أعلم؛ لأنهم لم يتفرغوا لتدوين العلم وضبط أصوله وفروعه، فليس لأحد منهم مذهب، وإنما قال بذلك من جاء بعدهم. [المستدرك 2/ 260]
2111 -
إن اختلف عليه
(3)
فتوى مفتيين ففيه أوجه:
أحدها: الأغلظ.
والثاني: الأخف.
الثالث: يجتهد في الأوفق فيأخذ بفتوى الأعلم الأورع، واختاره السمعاني الكبير، ونص الشافعي على مثله في القبلة.
والرابع: يسأل مفتيًا آخر فيعمل بفتوى من وافقه.
والخامس: يتخير فيأخذ بقول أيهما شاء.
قال أبو عمرو: والمختار أن عليه الاجتهاد في الأرجح فيعمل به.
(1)
أدب المفتي والمستفتي (159 - 160).
وقد نقلت النص منه، وفيه بعض الاختلاف اليسير.
(2)
أي: للعامي.
(3)
أي: على العامي.
فإن لم يترجح عنده أحدهما: استفتى آخر فيعمل بفتوى مَن وافقه الآخر.
فإن تعذر ذلك وكان اختلافهما في الحظر والإباحة وقبل العمل بذلك اختار الحظر، وإن تساويا من كل وجه خيرناه بينهما، وإن بينا التخيير في غيره، لأنه ضرورة، وإنما يخاطب هذا المفتون، وأما العامي الذي وقع له ذلك فحكمه أن يسأل عن ذلك ذينك المفتيين أو غيرهما. [المستدرك 2/ 260 - 261]
2112 -
يجوز تقليد المجتهدين الموتى، ولا يبطل قولهم بموتهم كإجماعهم، وكالشاهد إذا أدى شهادته ومات قبل الحكم بها فإنها لا تبطل؛ بل يحكم بها الحاكم الذي سمعها منه. [المستدرك 2/ 261]
* * *
(متى يلزم السائل العمل بالفتوى
؟)
2113 -
لا يلزم السائل العمل بالفتوى إلا أن يلتزم بها ويظنها حقًّا، وقيل: وَيشْرَعَ في العمل بها.
فإن لم يجد مفتيًا آخر يخالفه: لزمه العمل بها مطلقًا، كما لو حكم عليه بها حاكم.
وذكر ابن الصلاح عن أبي المظفر السمعاني: إذا سمع المستفتي الجواب من المفتي لم يلزمه العمل به إلا بالتزامه.
وقيل: إنه يلزمه إذا وقع في نفسه صحته، وهو أولى الأوجه.
قال: ولم أجده لغيره
(1)
.
والذي تقتضيه القواعد: أنه إنما يلزمه الأخذ بفتياه إذا لم يجد غيره، سواء التزم أو لم يلتزم، أو برجحان أحدهما، أو بحكم حاكم. [المستدرك 2/ 263]
(1)
ورجح ابن القيِّم رحمه الله تعالى أنه يجب عليه أن يتحرى ويبحث عن الراجح بحسبه.
فيعمل كما يعمل عند اختلاف الطريقين أو الطبيبين أو المشيرين. إعلام الموقعين (4/ 203).
الحث على الاجتماع وذم التفرق
(التحذير من الفرقة والنزاعات الْمُخالفة للاجتماع)
2114 -
قَاعِدَةٌ فِي صِفَاتِ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي حَصَلَ فِيهَا تَنَازُعٌ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي الرِّوَايَةِ وَالرَّأْيِ؛ مِثْلُ الْأَذَانِ، وَالْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ، وَالْقُنُوتِ فِي الْفَجْرِ، وَالتَّسْلِيمِ فِي الصَّلَاةِ، وَرَفْعِ الْأَيْدِي فِيهَا، وَوَضْعِ الْأَكُفِّ فَوْقَ الْأَكُفِّ، وَمِثْلُ التَّمَتُّعِ وَالْإِفْرَادِ وَالْقِرَانِ فِي الْحَجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَإِنَّ التَّنَازُعَ فِي هَذ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالشَّعَائِرِ أَوْجَبَ أَنْوَاعًا مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي يَكْرَهُهُ الله وَرَسُولُهُ وَعِبَادُهُ الْمُؤْمِنُونَ:
أَحَدُهَا: جَهْلُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ أَو أَكْثَرِهم بِالْأَمْرِ الْمَشْرُوعِ الْمَسْنُونِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَاَلَّذِي سَنَّهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأمَّتِهِ وَاَلَّذِي أَمَرَهُم بِاتِّبَاعِهِ.
الثَّانِي: ظُلْمُ كثِيرٍ مِنَ الْأُمَّةِ أَو أَكْثَرِهِمْ بَعْضَهُم لِبَعْضٍ وَبَغْيُهُم عَلَيْهِمْ.
الثَّالِثُ: اتِّبَاعُ الظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ، حَتَّى يَصِيرَ كَثِيرٌ مِنْهُم مَدِينًا بِاتِّبَاعِ الْأَهْوَاءِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الْمَشْرُوعَةِ، وَحَتَّى يَصِيرَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَعَبِّدَةِ مِنَ الْأَهْوَاءِ مِن جِنْسِ مَا فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ الْخَارِجِينَ عَنِ السّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ
(1)
؛ كَالْخَوَارجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ، وَقَد قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ:{وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26].
(1)
إما بالانتقام للنفس، أو بالبغي على الخصم، أو بالانتصار للمُعْتَقد والرأي ولو قُوبل بحجة صحيحة قوية.
فلْيحذر طالب العلم أن يكون فيه من الهوى ما يُلحقه بأهل الأهواء الخالصين الضالين، وقد يتدرج به الهوى إلى أن يصير مثلهم أو أضل سبيلًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الرَّابعُ: التَّفَرُّقُ وَالِاخْتِلَافُ الْمُخَالِفُ لِلِاجْتِمَاعِ والائتلاف، حَتَّى يَصِيرَ بَعْضُهُم يُبْغِضُ بَعْضًا وَيُعَادِيهِ، وَيُحِبُّ بَعْضًا وَيُوَالِيهِ عَلَى غَيْرِ ذَاتِ اللهِ، وَحَتَّى يُفْضِيَ الْأَمْرُ بِبَعْضِهِمْ إلَى الطَّعْنِ وَاللَّعْنِ وَالْهَمْزِ وَاللَّمْزِ
(1)
، وَبِبَعْضِهِمْ إلَى الِاقْتِتَالِ بِالْأَيْدِي وَالسِّلَاحِ
(2)
، وَبِبَعْضِهِمْ إلَى الْمُهَاجَرَةِ وَالْمُقَاطَعَةِ حَتَّى لَا يُصَلِّيَ بَعْضُهُم خَلْفَ بَعْضٍ.
وَهَذَا كُلُّهُ مِن أَعْظَمِ الْأمُورِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللهُ وَرَسُولُهُ
(3)
.
وَالِاجْتِمَاعُ والائتلاف مِن أَعْظَمِ الْأُمُورِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللهُ وَرَسُولُهُ.
وَكَثِيرٌ مِن هَؤُلَاءِ
(4)
يَصِيرُ مِن أَهْلِ الْبِدْعَةِ بِخُرُوجِهِ مِنَ السُّنَّةِ الَّتِي شَرَعَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِأمَّتِهِ، وَمِن أَهْلِ الْفُرْقَةِ بِالْفُرْقَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلْجَمَاعَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا وَرَسُولُهُ
(5)
، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159].
(1)
كما هو حال كثير من العوام المنتصرين لبعض المشايخ، وحال كثير من المدعين للعلم والذين بغوا على المخالفين لهم، وحال بعض طلاب العلم الذين فيهم غلظة وجفاء تجاه المخالفين لهم من طلاب العلم وغيرهم.
(2)
كما هو حال الخوارج.
(3)
والعجب أنها مع عظم فسادِها، وصريح الأدلة الدالة على تحريمها، إلا أنّ كثيرًا من الناس لا يُبالون بها، ويتساهلون في ارتكابها؛ بمسميات عدة، إما باسم الغيرة على الدين، أو باسم الردِّ على المخالفين، أو باسم التحذير من الدعاة أو المشايخ المنحرفين -بزعمهم-. والله المستعان.
(4)
أي؛ من الْمُتَفَقهَةِ وَالْمُتَعَبِّدَةِ! الذين هم من أهل السُّنَة والجماعة!.
(5)
كلام عظيم! من هذا الإمام الحبر العارف العالم.
فاحذر أن تكون من أهل البدع بخروجك عن السُّنَّة التي أَمرت بالائتلاف والمحبة والمودة، واحذر أن تكون من أهل الفرقة ببثّ الفرقة، والخلافات وسبِّ الدعاة والمشايخ والمصلحين، واعلم أن السلامة لا يعدلها شيء.
قال الشيخ في موضع آخر: الْوَاجِبُ أمْرُ الْعَامَّةِ بِالْجُمَلِ الثَّابِتَةِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَمَنْعُهُم مِنَ الْخَوْضِ فِي التَّفْصِيلِ الَّذِي يُوقِعُ بَيْنَهُم الْفُرْقَةَ وَالِاخْتِلَافَ، فَإنَّ الْفُرْقَةَ وَالِاخْتِلَافَ مِن أَعْظَمِ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ. اهـ. (12/ 237)
واعلم أنّ اتباع السُّنَّة ومنهج السلف الصالح يكون بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف=
وَهَذَا الْأَصْلُ الْعَظِيمُ: وَهُوَ الِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا، وَأَنْ لَا نَتَفَرَّقَ
(1)
: هُوَ مِن أَعْظَمِ أصُولِ الْإِسْلَامِ، وَمِمَّا عَظُمَتْ وَصِيَّةُ اللهِ تَعَالَى بِهِ فِي كِتَابِهِ، وَمِمَّا عَظُمَ ذَمُّهُ لِمَن تَرَكَهُ مِن أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ، وَمِمَّا عَظُمَتْ بِهِ وَصِيَّةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَوَاطِن عَامَّةٍ وَخَاصَّةٍ؛ مِثْل قَوْلِهِ:"عَلَيْكمْ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّ يَدَ اللهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ".
وَبَابُ الْفَسَادِ الَّذِي وَقَعَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بَل وَفِي غَيْرِهَا: هُوَ التَّفَرُّقُ وَالِاختِلَافُ. [22/ 356 - 360]
وعَامَّةُ هَذه التَّنَازُعَاتِ إنَّمَا هِيَ فِي أُمُورٍ مُسْتَحَبَّاتٍ وَمَكْرُوهَاتٍ لَا فِي وَاجِبَاتٍ وَمُحَرَّمَاتٍ. [22/ 368]
2115 -
إِنَّ الِاعْتِصَامَ بِالْجَمَاعَةِ والائتلاف مِن أُصُولِ الدِّينِ، وَالْفَرْعُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ مِن الْفُرُوعِ الْخَفِيَّةِ، فَكَيْفَ يُقْدَحُ فِي الْأَصْلِ بِحِفْظِ الْفَرْعِ؟!
وَجمْهُورُ الْمُتَعَصِّبِينَ لَا يَعْرِفُونَ مِن الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إلَّا مَا شَاءَ اللهُ؛ بَل يَتَمَسَّكُونَ بِأَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ، أَو آرَاءٍ فَاسِدَةٍ، أَو حِكَايَاتٍ عَن بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَالشُيُوخِ قَد تَكُونُ صِدْقًا وَقَد تَكُونُ كَذِبًا، وَإِن كَانَت صِدْقًا فَلَيْسَ صَاحِبُهَا مَعْصُومًا. [22/ 254 - 255]
2116 -
إِنَّ التَّفَرُّقَ وَالِاخْتِلَافَ يَقُومُ فِيهِ مِن أَسْبَابِ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ وَتَعْطِيلِ الْأَحْكَامِ مَا يَعْلَمُهُ مَن يَكُونُ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ الْعَارِفِينَ بِمَا جَاءَ مِن النُّصُوصِ فِي فَضْلِ الْجَمَاعَةِ وَالْإِسْلَامِ. [27/ 477]
= الصالح في العقيدة وفهم الكتاب والسُّنَّة والأخلاق والتعامل، فمن ساءت أخلاقه وقسا على خصمه من أهل السُّنَّة فقد خرج عن منهج السلف الصالح في باب الأخلاق والتعامل، ولو زعم أنّه يذود عن السُّنَّة ومنهج السلف، فالذود عن السُّنَّة لا يكون بمخالفة السُّنَّة، والنصوص التي جاءت بالحث على الرفق واللين والأدب وحسن الخلق وطيب الكلام بلغت مبلغ التواتر، فبأي حجةٍ تُترك هذه النصوص؟
(1)
في الأصل: (يَتَفَرَّقَ)، ولعل المثبت أصوب.
الشريعة
2117 -
إِنَّ الشَّرِيعَةَ جَاءَت بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا، وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا؛ فَالْقَلِيلُ مِن الْخَيْرِ خَيْرٌ مِن تَرْكِهِ، وَدَفْعُ بَعْضِ الشَّرِّ خَيْرٌ مِن تَرْكِهِ كلِّهِ. [15/ 312 - 313]
2118 -
الشَّرِيعَةُ إنَّمَا هِيَ كِتَابُ اللهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأمَّةِ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَحْوَالِ، وَالْعِبَادَاتِ وَالْأعْمَالِ، وَالسِّيَاسَاتِ وَالْأحْكَامِ، وَالْوِلَايَاتِ وَالْعَطِيَّاتِ.
ثُمَّ هِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي كَلَامِ الناسِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ:
أ- شَرْعٌ مُنَزَّلٌ وَهُوَ: مَا شَرَعَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ.
ب- وَشَرْعٌ مُتَأوَّلٌ وَهُوَ: مَا سَاغَ فِيهِ الِاجْتِهَادُ.
ج- وَشَرْعٌ مُبَدَّلٌ وَهُوَ: مَا كَانَ مِنَ الْكَذِبِ وَالْفُجُورِ الَّذِي يَفْعَلُهُ الْمُبْطِلُونَ بِظَاهِرٍ مِنَ الشَّرْعِ، أَو الْبِدَعِ، أَو الضَّلَالِ الَّذِي يُضِيفُهُ الضَّالُّونَ إلَى الشَّرْعِ. [19/ 308 - 309]
2119 -
ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إنَّا مَعَاشِرَ الأنبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ، وَالشَّرَائِعُ مُخْتَلِفَةٌ" فَجَمِيعُ الرُّسُلِ مُتَّفِقُونَ فِي الدِّينِ الْجَامِعِ فِي الْأُصُولِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ؛ كَالْإِيمَانِ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْعَمَلِيَّةِ كَالْأَعْمَالِ الْعَامَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ وَبَنِي إسْرَائِيلَ، وَهُوَ: قَوْله تَعَالَى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151] الْآيَاتِ الثَّلَاثَ، وَقَوْلُهُ:{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} الْآيَةَ [الأعراف: 29]، وَقَوْلُهُ: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا
بَطَنَ} الْآيَةَ [الأعراف: 33]، وَقَوْلُهُ:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] إلَى آخِرِ الْوَصَايَا. [20/ 6]
2120 -
لَيْسَ مُجَرَّدُ كَوْنِ الدُّعَاءِ حَصَلَ بِهِ الْمَقْصُودُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَائِغٌ فِي الشَّرِيعَةِ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِن النَّاسِ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ مِن الْكَوَاكِبِ وَالْمَخْلُوقِينَ وَيحْصُلُ مَا يَحْصُلُ مِن غَرَضِهِمْ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَقْصِدُونَ الدُّعَاءَ عِنْدَ الْأَوْثَانِ وَالْكَنَائِسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيدْعُو التَّمَاثِيلَ الَّتِي فِي الْكَنَائِسِ، وَيحْصُلُ مَا يَحْصُلُ مِن غَرَضِهِ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَدْعُو بِأَدْعِيَة مُحَرَّمَةٍ بِاتّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَيحْصُلُ مَا يَحْصُلُ مِن غَرَضِهِمْ.
فَحُصُولُ الْغَرَضِ بِبَعْضِ الْأُمُورِ لَا يَسْتَلْزِمُ إبَاحَتَهُ وَإِن كَانَ الْغَرَضُ مُبَاحًا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ قَد يَكونُ فِيهِ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَة عَلَى مَصْلَحَتِهِ، وَالشَّرِيعَةُ جَاءَت بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا، وَإِلَّا فَجَمِيعُ الْمُحَرَّمَاتِ مِن الشِّرْكِ وَالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ قَد يَحْصُلُ لِصَاحِبِهِ بِهِ مَنَافِعُ وَمَقَاصِدُ، لَكِنْ لَمَّا كَانَت مَفَاسِدُهَا رَاجِحَةً عَلَى مَصَالِحِهَا نَهَى اللهُ وَرَسُولُهُ عَنْهَا، كَمَا أَنَّ كَثِيرًا مِن الْأُمُورِ كَالْعِبَادَاتِ وَالْجِهَادِ وَإِنْفَاقِ الْأمْوَالِ قَد تَكُونُ مُضِرَّةً، لَكِنْ لَمَّا كَانَت مَصْلَحَتُهُ رَاجِحَة عَلَى مَفْسَدَتِهِ أَمَرَ بِهِ الشَّارعُ. [1/ 264 - 265]
2121 -
الشَّارعُ لَا يَحْظُرُ عَلَى الْإِنْسَانِ إلَّا مَا فِيهِ فَسَاد رَاجِحٌ أَو مَحْضٌ، فَإِذَا لَمْ يَكُن فِيهِ فَسَادٌ، أَو كَانَ فَسَادُهُ مَغْمُورًا بِالْمَصْلَحَةِ لَمْ يَحْظُرْهُ أَبَدًا. [29/ 180]
2122 -
لَيْسَ الْفَقِيهُ مَن عَمَدَ إلَى مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دَفْعًا لِفَسَادٍ يَحْصُلُ لَهُمْ، فَعَدَلَ عَنْهُ إلَى فَسَادٍ أَشَدَّ مِنْهُ؛ فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَجِيرِ مِن الرَّمْضَاءِ بِالنَّارِ. [30/ 223]
2123 -
مَا بَعَثَ اللهُ بِهِ نَبِيَّه مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم مِن الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَجْمَعُ مَصَالِحَ
الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ؛ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَلَا نَبِيَّ
بَعْدَهُ، وَقَد جَمَعَ اللهُ فِي شَرِيعَتِهِ مَا فَرَّقَهُ في شَرَائِع مَن قَبْلَهُ مِن الْكَمَالِ؛ إذ لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ، فَكَمُلَ بِهِ الْأمْرُ كَمَا كَمُلَ بِهِ الدِّينُ.
فَكِتَابُهُ أَفْضَل الْكُتبِ، وَشَرْعُهُ أَفْضَلُ الشَّرَائِعِ، وَمِنْهَاجُهُ أَفْضَلُ الْمَنَاهِجِ، وَأُمَّتُهُ خَيْرُ الْأُمَمِ، وَقَد عَصَمَهَا الله عَلَى لِسَانِهِ فَلَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَلَكِنْ يَكُونُ عِنْدَ بَعْضِهَا مِن الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَ بَعْضٍ، وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَقَد قَالَ تَعَالَى:{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78، 79].
فَهَذَانِ نَبِيَّانِ كَرِيمَانِ حَكَمَا فِي قِصَّهٍ فَخَصَّ اللهُ أَحَدَهُمَا بِالْفَهْمِ، وَلَمْ يَعِب الْآخَرَ؛ بَل أَثْنَى عَلَيْهِمَا جَمِيعًا بِالْحُكْمِ وَالْعِلْمِ.
وَهَذَا حُكْمُ الْعُلَمَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ وَرَثَة الْأَنْبِيَاءِ، وَخُلَفَاء الرُّسُلِ الْعَامِلِينَ بِالْكِتَابِ.
وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ الَّتِي قَضَى فِيهَا دَاودُ وَسُلَيْمَانُ لِعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا وَمَا يُشْبِهُهَا أَيْضًا قَوْلَانِ:
أ- مِنْهُم مَن يَقْضِي بِقَضَاءِ دَاوُد.
ب- وَمِنْهُم مَن يَقْضِي بِقَضَاءِ سُلَيْمَانَ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَكَثِيرٌ مِن الْعُلَمَاءِ أَو أَكْثَرُهُم لَا يَقُولُ بِهِ؛ بَل قَد لَا يَعْرِفُهُ! [33/ 159]
* * *
(لَفْظُ الشَّرْعِ له ثَلَاثَة مَعَانٍ)
2124 -
لَفْظُ الشَّرْعِ يُقَالُ فِي عُرْفِ النَّاسِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ:
الشَّرْعُ الْمُنَزَّلُ، وَهُوَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَهَذَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، وَمَن خَالَفَهُ وَجَبَتْ عُقوبَتُهُ.
وَالثَّانِي: الشَّرْعُ الْمُؤَوَّلُ، وَهُوَ آرَاءُ الْعُلَمَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهَا؛ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَنَحْوِهِ، فَهَذَا يَسُوغُ اتِّبَاعُهُ وَلَا يَجِبُ وَلَا يَحْرُمُ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُلْزِمَ عُمُومَ النَّاسِ بِهِ، وَلَا يَمْنَعَ عُمُومَ النَّاسِ مِنْهُ.
وَالثَّالِثُ: الشَّرْعُ الْمُبَدَّلُ، وَهُوَ الْكَذِبُ عَلَى اللهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَو عَلَى النَّاسِ بِشَهَادَاتِ الزُّورِ وَنَحْوهَا، وَالظُّلْمِ الْبَيِّنِ.
فَمَن قَالَ: إنَّ هَذَا مِن شَرْعِ اللهِ فَقَد كَفَرَ بِلَا نِزَاعٍ، كَمَن قَالَ: إنَّ الدَّمَ وَالْمَيْتَةَ حَلَالٌ، وَلَو قَالَ هَذَا مَذْهَبِي وَنَحْوُ ذَلِكَ. [3/ 268]
* * *
(الشَّرِيعَة تَأْمُرُ بالْمَصَالِحِ الْخَالِصَةِ وَالرَّاجِحَةِ، وَتنهَي عَن الْمفَاسِدِ الْخَالِصَةِ وَالرَّاجِحَةِ)
2125 -
الشَّرِيعَةُ تَأْمُرُ بِالْمَصَالِحِ الْخَالِصَةِ وَالرَّاجِحَةِ كَالْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ مَصْلَحَةٌ مَحْضَةٌ، وَالْجِهَادُ وَإِن كَانَ فِيهِ قَتْلُ النُّفُوسِ فَمَصلَحَتُهُ رَاجِحَةٌ، وَفِتْنَةُ الْكُفْرِ أَعْظَمُ فَسَادًا مِن الْقَتْلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217].
وَنَهَى عَن الْمَفَاسِدِ الْخَالِصَةِ وَالرَّاجِحَةِ، كَمَا نَهَى عَن الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَعَن الْإِثْم وَالْبَغْي بِغَيْرِ الْحَقّ، وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا يُبِيحُهَا قَطُّ فِي حَالٍ مِن الْأَحْوَالِ، وَلَا فِي شِرْعَةٍ مِن الشَّرَائِعِ، وَتَحْرِيمُ الدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا مَفْسَدَتُهُ رَاجِحَةٌ، وَهَذَا الضرْبُ تُبِيحُهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ مَفْسَدَةَ فَوَاتِ النَّفْسِ أَعْظَمُ مِن مَفْسَدَةِ الِاغْتِذَاءِ بِهِ. [27/ 230]
* * *
القواعد الشرعية
2126 -
قَاعِدَة شَرْعِيَّةٌ: شَرْعُ اللهِ وَرَسُولِهِ لِلْعَمَلِ بِوَصْفِ الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا بِوَصْفِ الْخُصُوصِ وَالتَّقْيِيدِ؛ فَإِنَّ الْعَامَّ وَالْمُطْلَقَ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا يَخْتَصُّ بَعْضُ أَفْرَادِهِ وَيُقَيِّدُ بَعْضَهَا، فَلَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْخُصُوصُ وَالتَّقْيِيدُ مَشْرُوعًا وَلَا مَأْمُورًا بِهِ.
- فَإِنْ كَانَ فِي الْأَدِلَّةِ مَا يَكْرَهُ ذَلِكَ الْخُصُوصَ وَالتَّقْيِيدَ كُرِهَ.
- وَإِن كَانَ فِيهَا مَا يَقْتَضِي اسْتِحْبَابَهُ اُسْتحِبَّ.
- وَإِلَّا بَقِيَ غَيْرَ مُسْتَحَبٍّ وَلَا مَكْرُوهٍ.
مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ اللهَ شَرَعَ دُعَاءَة وَذِكْرَهُ شَرْعًا مُطْلَقًا عَامًّا فَقَالَ: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41)} [الأحزاب: 41] وَقَالَ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] وَنَحْو ذَلِكَ مِنَ النُّصُوصِ؛ فَالِاجْتِمَاعُ لِلدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ أَو زَمَانٍ مُعَيَّنٍ، أَو الِاجْتِمَاعِ لِذَلِكَ: تَقْيِيدٌ لِلذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الدَّلَالَةُ الْعَامَّةُ الْمُطْلَقَةُ بِخُصُوصِهِ وَتَقْيِيدِهِ، لَكنْ تَتَنَاوَلُهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ:
أ- فَإِنْ دَلَّتْ أَدِلَّةُ الشَّرْعِ عَلَى اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ؛ كَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ، أَو الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ الْمَشْرُوعَيْنِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. . وَنَحْوِ ذَلِكَ: صَارَ ذَلِكَ الْوَصْفُ الْخَاصُّ مُسْتَحَبًّا مَشْرُوعًا اسْتِحْبَابًا زَائِدًا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ الْعَامِّ الْمُطْلَقِ.
ب- وَإِن دَلَّتْ أَدِلَّةُ الشَّرْعِ عَلَى كَرَاهَةِ ذَلِكَ كَانَ مَكْرُوهًا؛ مِثْل اتِّخَاذِ مَا لَيْسَ بِمَسْنُونٍ سُنَّةً دَائِمَةً؛ فَإِنَّ الْمُدَاوَمَةَ فِي الْجَمَاعَاتِ عَلَى غَيْرِ السُّنَنِ الْمَشْرُوعَةِ بِدْعَةٌ؛ كَالْأَذَانِ فِي الْعِيدَيْنِ، وَالْقُنُوتِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَالدُّعَاءِ الْمُجْتَمَعِ عَلَيْهِ أَدْبَارَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، أَو الْبَرْدَيْنِ مِنْهَا، وَالتَّعْرِيفِ الْمُدَاوَمِ عَلَيْهِ فِي
الْأَمْصَارِ
(1)
، وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى الِاجْتِمَاعِ لِصَلَاةِ تَطَوُّعٍ، أَو قِرَاءَةٍ أَو ذِكْرٍ كُلَّ لَيْلَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ مُضَاهَاةَ غَيْرِ الْمَسْنُونِ بِالْمَسْنُونِ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسّنَّة وَالْآثَارُ وَالْقِيَاسُ.
ج- وَإِن لَمْ يَكُن فِي الْخُصُوصِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ: بَقِيَ عَلَى وَصْفِ الْإِطْلَاقِ؛ كَفِعْلِهَا أَحْيَانًا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْمُدَاوَمَةِ مِثْل التَّعْرِيفِ أَحْيَانًا كَمَا فَعَلَتِ الصَّحَابَةُ، وَالِاجْتِمَاعِ أَحْيَانًا لِمَن يَقْرَأُ لَهُمْ، أَو عَلَى ذِكْرٍ أَو دُعَاءٍ، وَالْجَهْرِ بِبَعْضِ الْأَذْكَارِ فِي الصَّلَاةِ كَمَا جَهَرَ عُمَرُ بِالِاسْتِفْتَاحِ وَابْنُ عَبَّاسٍ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَكَذَلِكَ الْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ أَحْيَانًا. [20/ 196 - 198]
* * *
(النُّصُوص وَافِيَةٌ بِجُمْهُورِ أَحْكَامِ أفعَالِ الْعِبَادِ
.. )
2127 -
الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ: أَنَّ النُّصُوصَ وَافِيَةٌ بِجُمْهُورِ أَحْكَامِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ. وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، فَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ الْجَامِعَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي هِيَ قَضِيَّة كُلِّيَّة وَقَاعِدَةٌ عَامَّةٌ تَتَنَاوَلُ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً، وَتلْكَ الْأَنْوَاعُ تَتَنَاوَلُ أَعْيَانا لَا تُحْصَى، فَبِهَذَا الْوَجْهِ تَكُونُ النُّصُوصُ مُحِيطَةً بِأَحْكَامِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ.
(1)
المراد بالتعريف: اجتماع غير الحاج في المساجد عشية يوم عرفة في غير عرفة، يفعلون ما يفعله الحاج يوم عرفة من الدعاء والثناء.
روي أنّ أول من جمع الناس يوم عرفة في المساجد: ابن عباس رضي الله عنهما، وذلك في مسجد البصرة. قال ابن كثير رحمه الله في ترجمة ابن عباس رضي الله عنهما:"وهو أول من عرف بالناس في البصرة، فكان يصعد المنبر ليلة عرفة ويجتمع أهل البصرة حوله، فيفسر شيئًا من القرآن، ويذكر الناس، من بعد العصر إلى الغروب، ثم ينزل فيصلي بهم المغرب". اهـ. البداية والنهاية (8/ 330).
وقال أبو شامة رحمه الله: فإن ابن عباس رضي الله عنهما حضرته نية فقعد فدعا، وكذلك الحسن من غير قصد الجمعية، ومضاهاة لأهل عرفة، وإيهام العوام أن هذا شعار من شعائر الدين المنكر، إنَّما هو ما اتَّصف بذلك -والله أعلم- أن تعريف ابن عباس قد صار على صورة أخرى غير مستنكر. اهـ. الباعث على إنكار البدع والحوادث (32 - 33).
مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ اللهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ فَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ لَفْظَ الْخَمْرِ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا عَصِيرَ الْعِنَبِ خَاصَّةً.
وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَن حَرَّمَ كُلَّ مُسْكِرٍ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ.
وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْكِبَارُ: أَنَّ الْخَمْرَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْقُرْآنِ تَنَاوَلَتْ كُلَّ مُسْكِرٍ، فَصَارَ تَحْرِيمُ كُلِّ مُسْكِرٍ بِالنَّصِّ الْعَامِّ وَالْكَلِمَةِ الْجَامِعَةِ لَا بِالْقِيَاسِ وَحْدَهُ.
وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْمَيْسِرِ هُوَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ يَتَنَاوَلُ اللَّعِبَ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ، وَيتَنَاوَلُ بُيُوعَ الْغَرَرِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ فِيهَا مَعْنَى الْقِمَارِ الَّذِي هُوَ مَيْسِرٌ، إذ الْقِمَارُ مَعْنَاهُ: أَنْ يُؤْخَذَ مَالُ الْإِنْسَانِ وَهُوَ عَلَى مُخَاطَرَةٍ: هَل يَحْصُلُ لَهُ عِوَضُهُ أَو لَا يَحْصُلُ؟ كَاَلَّذِي يَشْتَرِي الْعَبْدَ الْآبِقَ وَالْبَعِيرَ الشَّارِدَ وَحَبَلَ الْحَبَلَةِ وَنَحْو ذَلِكَ مِمَّا قَد يَحْصُلُ لَهُ وَقَد لَا يَحْصُلُ لَهُ، وَعَلَى هَذَا فَلَفْظُ الْمَيْسِرِ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى يَتَنَاوَلُ هَذَا كُلَّهُ، وَمَا ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِم" عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَن بَيْعِ الْغَرَرِ يَتَنَاوَلُ كُل مَا فِيهِ مُخَاطَرَةٌ؛ كَبَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، وَبَيْعِ الْأَجِنَّةِ فِي الْبُطُونِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]، و {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] هُوَ مُتَنَاوِلٌ لِكُلِّ يَمِينٍ مِن أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ، فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَن قَالَ: كُلُّ يَمِينٍ مِن أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَفِيهَا كَفَّارَةٌ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.
وَمِنْهُم مَن قَالَ: لَا يَتَنَاوَلُ النَّصُّ إلَّا الْحَلِفَ بِاسْمِ اللهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَا تَنْعَقِدُ وَلَا شَيْءَ فِيهَا.
وَلَا ريبَ أَنَّ النَّصَّ يَدُلُّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. [19/ 280 - 285]
* * *
يُسر الشريعة ورحمة الله بالعباد
2128 -
قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح فيما يروي عن ربه: "وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته، ولا بد له منه" فبيَّن سبحانه أنه يتردد؛ لأن التردد تعارض إرادتين، وهو سبحانه يحب ما يحب عبده ويكره ما يكرهه، وهو يكره الموت فهو يكرهه، كما قال:"وأنا أكره مساءته"، وهو سبحانه قد قضى بالموت فهو يريد أن يموت، فسمَّى ذلك ترددًا، ثم بيَّن أنه لا بد من وقوع ذلك
(1)
. [10/ 58 - 59]
2129 -
عُدُولُ الْمُؤْمِنِ عَنِ الرَّهْبَانِيَّةِ وَالتَّشْدِيدِ وَتَعْذِيبِ النَّفْسِ الَّذِي لَا يُحِبُّهُ اللهُ إلَى مَا يُحِبُّهُ اللهُ مِنَ الرُّخْصَةِ: هُوَ مِنَ الْحَسَنَاتِ الَّتِي يُثِيبُهُ اللهُ عَلَيْهَا. [10/ 462]
2130 -
مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ مِن السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَصْلَحَتُهُ رَاجِحَةً وَمَنْفَعَتُهُ رَاجِحَةٌ، وَأَمَّا مَا كَانَت مُضَرَّتُهُ رَاجِحَةً فَإِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِهِ. [16/ 165]
2131 -
مَن أَسْرَفَ فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ؛ كَسَرْدِ الصَّوْمِ، وَمُدَاوَمَةِ قِيَامِ اللَّيْلِ، حَتَّى يُضْعِفَهُ ذَلِكَ عَن بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ: كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْعِقَابِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو: "إن لِنَفْسِك عَلَيْك حَقًّا، وَلِأَهْلِك عَلَيْك حَقًّا، وَلِزَوْجِك عَلَيْك حَقًّا، فَآتِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ". [22/ 136]
(1)
قال الشيخ في موضع آخر: هَذَا حَدِيثٌ شَرِيفٌ قَد رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ أشْرَفُ حَدِيثِ رُوِيَ فِي صِفَةِ الْأَوْلِيَاء ..
وَالتَّحْقِيقُ: أنَّ كَلَامَ رَسُولهِ حَقٌّ وَلَيْسَ أحَدٌ أعْلَمَ بِاللهِ مِن رَسُولِهِ وَلَا أنْصَحَ لِلْأُمَّةِ مِنْهُ وَلَا أفْصَحَ وَلَا أَحْسَنَ بَيَانًا مِنْهُ. اهـ. (18/ 129)
2132 -
مَنِ امْتَنَعَ عَن نَوْعِ مِنِ الأنْوَاعِ الَّتِي أَبَاحَهَا اللهُ عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ بِتَرْكِهَا: فَهُوَ مُخْطِئٌ ضَالٌّ.
وَمَن تَنَاوَلَ مَا أَبَاحَهُ اللهُ مِنَ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ مُظْهِرًا لِنِعْمَةِ اللهِ مُسْتَعِينًا عَلَى طَاعَةِ اللهِ: كَانَ مُثَابًا عَلَى ذَلِكَ. [22/ 137]
2133 -
يَكْفِي الْمُؤْمِنَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ فَهُوَ لِمَصْلَحَة مَحْضَةٍ أَو غَالِبَةٍ، وَمَا نَهَى اللهُ عَنْهُ فَهُوَ مَفْسَدَةٌ مَحْضَةٌ أَو غَالِبَةٌ، وَأَنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ الْعِبَادَ بِمَا أَمَرَهُم بِهِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِمْ، وَلَا نَهَاهُم عَمَّا نَهَاهُم بخلًا بهِ عَلَيْهِمْ؛ بَل أَمَرَهُم بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ، وَنَهَاهُم عَمَّا فِيهِ فَسَادُهُمْ، وَلهَذَا وَصَفَ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]. [27/ 91]
2134 -
مِن الْمُحَالِ أَنْ يُحَرِّمُ الشَّارعُ عَلَيْنَا أَمْرًا نَحْنُ مُحْتَاجُونَ إلَيْهِ ثُمَّ لَا يُبِيحُهُ إلَّا بِحِيلَةٍ لَا فَائِدة فِيهَا، وَإِنَّمَا هِيَ مِن جِنْسِ اللَّعِبِ. [29/ 45]
2135 -
الْمَغْفِرَةُ إزَالَةُ السَّيِّئَاتِ، وَالرَّحْمَةُ إنْزَالُ الْخَيْرَاتِ. [29/ 277 - 278]
2136 -
للهِ وَلرَسُولِهِ فِي الشَّرِيعَةِ مِن الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ، وَالنِّعْمَةِ التَّامَّةِ، وَالرَّحْمَةِ الْعَامَّةِ، مَا قَد يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِن الْعُلَمَاءِ. [29/ 470]
* * *
العبادة والعبودية
2137 -
" الْعِبَادَةُ": هِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيرْضَاهُ: مِن الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ. [10/ 149]
2138 -
"الْعِبَادَةُ" أَصْلُ مَعْنَاهَا: الذُّلُّ، يُقَالُ: طَرِيق مُعَبدٌ إذَا كَانَ مُذَلَّلًا قَد وَطِئَتْهُ الأقْدَامُ.
لَكِنَّ الْعِبَادَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا تَتَضَمَّنُ مَعْنَى الذُّلِّ وَمَعْنَى الْحُبِّ، فَهِيَ تَتَضَمَّنُ غَايَةَ الذُّلِّ للهِ بغَايَةِ الْمَحَبَّةِ لَهُ، فَإِنَّ آخِرَ مَرَاتِبِ الْحُبِّ هُوَ التَّتْمِيمُ، وَأَوَّلُهُ "الْعَلَاقَةُ"، لِتَعَلُّقِ الْقَلْب بِالْمَحْبُوبِ، ثُمَّ "الصَّبَابَةُ" لِانْصِبَابِ الْقَلْبِ إلَيْهِ، ثُمَّ "الْغَرَامُ" وَهُوَ الْحُبُّ اللَّازِمُ لِلْقَلْبِ، ثُمَّ "الْعِشْقُ"، وَآخِرُهَا "التَّتْمِيمُ"، يُقَالُ: تَيْمُ اللهِ؛ أَيْ: عَبْدُ اللهِ؛ فَالْمُتَيَّمُ الْمُعَبَّدُ لِمَحْبُوبِهِ
(1)
.
وَمَن خَضَعَ لإِنْسَان مَعَ بُغْضِهِ لَهُ لَا يَكُونُ عَابِدًا لَهُ، وَلَو أَحَبَّ شَيْئًا وَلَمْ يَخْضَعْ لَهُ لَمْ يَكُن عَابِدًا لَهُ، كَمَا قَد يُحِبُّ وَلَدَهُ وَصَدِيقَهُ، وَلهَذَا لَا يَكْفِي أَحَدُهُمَا فِي عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى؛ بَل يَجِبُ أَنْ يَكُونَ اللهُ أَحَبَّ إلَى الْعَبْدِ مِن كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنْ يَكُونَ اللهُ أَعْظَمَ عِنْدَهُ مَن كُلِّ شَيْءٍ؛ بَل لَا يَسْتَحِقُّ الْمَحَبَّةَ وَالذُّلَّ التَّامَّ إلَّا اللهُ. وَكُلُّ مَا أُحِبَّ لِغَيْرِ اللهِ فَمَحَبَّتُهُ فَاسِدَةٌ، وَمَا عُظِّمَ بِغَيْرِ أَمْرِ اللهِ كَانَ تَعْظِيمُهُ بَاطِلًا.
وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ: أَنَّ الْعَبْدَ يُرَادُ بِهِ "الْمُعَبَّدُ" الَّذِي عَبَّدَهُ اللهُ فَذَلَّلَهُ وَدَبَّرَهُ
(1)
فالذي يقوم بالعبادة من صلاة وصيام وغيرهما من دون أنْ يكون في قلبه محبّةٌ لله تعالى، ودون أنْ يشعر بغاية الذل والخضوع له، تكون عبادتُه ناقصةً بحسب نقص الحب والذل.
وَصَرَّفَهُ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ الْمَخْلُوقُونَ كُلُّهُم عِبَادُ اللهِ مِن الْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْكفَّارِ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ؛ إذ هُوَ رَبُّهُم كُلُّهُم وَمَلِيكُهُم لَا يَخْرُجُونَ عَن مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَكَلِمَاتِهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ، فَمَا شَاءَ كَانَ وَإِن لَمْ يَشَاؤُوا. [10/ 153 - 155]
2139 -
الْعِبَادَةُ وَالطَّاعَةُ وَالِاسْتِقَامَةُ وَلُزُومُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِن الْأسْمَاءِ مَقْصُودُهَا وَاحِدٌ وَلَهَا أَصْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: ألَّا يُعْبَدَ إلَّا اللهُ.
وَالثَّانِيْ: أَنْ يُعْبَدَ بِمَا أَمَرَ وَشَرَعَ لَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِن الْبِدَع.
قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110].
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ جَمِيعُ مَا يُحِبُّهُ اللهُ دَاخِلًا فِي اسْم الْعِبَادَةِ، فَلِمَاذَا عَطَفَ عَلَيْهَا غَيْرَهَا؛ كَقَوْلِهِ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5] وَقَوْلِهِ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123].
قِيلَ: هَذَا لَهُ نَظَائِرُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] وَالْفَحْشَاءُ مِن الْمُنْكَر.
وَكَذَلِكَ قَوْلُه: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} [الأعراف: 170] وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ مِن أَعْظَمِ التَّمَسُّكِ بِالْكِتَابِ.
وَهَذَا الْبَابُ يَكُونُ تَارَةً مَعَ كَوْنِ أَحَدِهِمَا بَعْضَ الْآخَرِ، فَيُعْطَفُ عَلَيْهِ تَخْصِيصًا لَهُ بِالذِّكْرِ؛ لِكَوْنِهِ مَطْلُوبًا بِالْمَعْنَى الْعَامِّ وَالْمَعْنَى الْخَاصِّ.
وَتَارَة تَكُونُ دِلَالَةُ الِاسْمِ تَتَنَوَّعُ بِحَالِ الِانْفِرَادِ وَالِاقْتِرَانِ، فَإِذَا أُفْرِدَ عَمَّ، وَإِذَا قُرِنَ بِغَيْرِهِ خَصَّ؛ كَاسْمِ "الْفَقِيرِ" و"الْمِسْكينِ" لَمَّا أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا فِي مِثْل قَوْلِهِ:{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 273] وَقَوْلِهِ: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] دَخَلَ فِيهِ الْآخَرُ.
وَلَمَّا قُرِنَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] صَارَا نَوْعَيْنِ.
وَذِكْرُ الْخَاصِّ مَعَ الْعَامِّ يَكُونُ لِأَسْبَاب مُتَنَوِّعَةٍ:
تَارَةً: لِكَوْنِهِ لَهُ خَاصِّيَّةٌ لَيْسَتْ لِسَائِرِ أَفْرَادِ الْعَامِّ؛ كَمَا فِي نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى.
وَتَارَةً: لِكَوْنِ الْعَامِّ فِيهِ إطْلَاقٌ قَد لَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْعُمُومُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة: 2 - 4]، فَقَوْلُهُ:{يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} ؛ يَتَنَاوَلُ الْغَيْبَ الَّذِي يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ؛ لَكِنْ فِيهِ إجْمَالٌ فَلَيْسَ فِيهِ دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مِن الْغَيْبِ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ.
وَمِن هَذَا الْبَابِ: قَوْله تَعَالَى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} [العنكبوت: 45] .. فَاتِّبَاعُ الْكِتَابِ يَتَنَاوَلُ الصَّلَاةَ وَغَيْرَهَا، لَكِنْ خَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِمَزِيَّتِهَا.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] فَإِنَّ التَّوَكُّلَ وَالِاسْتِعَانَةَ هِيَ مِن عِبَادَةِ اللهِ؛ لَكِنْ خُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِيَقْصِدَهَا الْمُتَعَبِّدُ بِخُصُوصِهَا؛ فَإِنَّهَا هِيَ الْعَوْنُ عَلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ، إذ هُوَ سُبْحَانَهُ لَا يُعْبَدُ إلَّا بِمَعُونَتِهِ. [10/ 172 - 176]
2140 -
الْعَبْدُ لَا بُدَّ لَهُ مِن رِزْقٍ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ، فَإِذَا طَلَبَ رِزْقَهُ مِن اللهِ صَارَ عَبْدًا للهِ فَقِيرًا إلَيْهِ، وَإِن طَلَبَهُ مِن مَخْلُوقٍ صَارَ عَبْدًا لِذَلِكَ الْمَخْلُوقِ فَقِيرًا إلَيْهِ.
وَلهَذَا كَانَت "مَسْأَلَةُ الْمَخْلُوقِ" مُحَرَّمَةً فِي الْأَصْلِ وَإِنَّمَا أُبِيحَتْ لِلضَّرُورَةِ، وَفِي النَّهْيِ عَنْهَا أَحَادِيثُ كَثيرَةٌ فِي "الصِّحَاحِ" وَ"السُّنَنِ" وَ"الْمَسَانِيدِ".
وَقَد دَلَّت النُّصُوصُ عَلَى الْأَمْرِ بِمَسْأَلَةِ الْخَالِقِ وَالنَّهْيِ عَن مَسْأَلَةِ الْمَخْلُوقِ
فِي غَيْرِ مَوْضِع .. وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَلِيلِ: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت: 17] وَلَمْ يَقُلْ فَابْتَغوا الرِّزْقَ عِنْدَ اللهِ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الظَّرْفِ يُشْعِرُ بِالِاخْتِصَاصِ وَالْحَصْرِ؛ كَأَنَّهُ قَالَ لَا تَبْتَغُوا الرِّزْقَ إلَّا عِنْدَ اللهِ. [10/ 182 - 183]
2141 -
كُلَّمَا قَوِيَ طَمَعُ الْعَبْدِ فِي فَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ وَرَجَائِهِ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ وَدَفْعِ ضَرُورَتهِ: قَوِيَتْ عُبُودِيَّتُهُ لَهُ وَحُرِّيَّتُهُ مِمَّا سِوَاهُ، فَكَمَا أَنَّ طَمَعَهُ فِي الْمَخْلُوقِ يُوجِبُ عُبُودِيَّتَهُ لَهُ: فَيَأْسُهُ مِنْهُ يُوجِبُ غِنَى قَلْبِهِ عَنْهُ. [10/ 184 - 185]
2142 -
إِنَّ الْقَلْبَ إذَا ذَاقَ طَعْمَ عِبَادَةِ اللهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ: لَمْ يَكُن عِنْدَهُ شَيْءٌ قَطُّ أَحْلَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَلَذَّ وَلَا أَطْيَبَ. [10/ 188]
2143 -
الْجِهَادُ: هُوَ بَذْلُ الْوُسْعِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ فِي حُصُولِ مَحْبُوبِ الْحَقِّ وَدَفْعُ مَا يَكْرَهُهُ الْحَقُّ، فَإِذَا تَرَكَ الْعَبْدُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِن الْجِهَادِ كَانَ دَلِيلًا عَلَى ضَعْفِ مَحَبَّةِ اللهِ وَرَسُولِهِ فِي قَلْبِهِ. [10/ 192 - 193]
2144 -
الْقَلْبُ لَا يَصْلُحُ وَلَا يُفْلِحُ وَلَا يَلْتَذُّ وَلَا يُسَرُّ وَلَا يَطِيبُ وَلَا يَسْكُنُ وَلَا يَطْمَئِنُّ إلَّا بِعِبَادَةِ رَبِّهِ، وَحُبِّهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ.
وَلَو حَصَلَ لَهُ كُلُّ مَا يَلْتَذُّ بِهِ مِن الْمَخْلُوقَاتِ لَمْ يَطْمَئِنَّ وَلَمْ يَسْكُنْ، إذ فِيهِ فَقْرٌ ذَاتِيٌّ إلَى رَبِّهِ، وَمِن حَيْثُ هُوَ مَعْبُودُهُ وَمَحْبُوبُهُ وَمَطْلُوبُهُ، وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُ الْفَرَحُ وَالسُّرُورُ وَاللَّذَّةُ وَالنِّعْمَةُ وَالسُّكُونُ وَالطُّمَأْنِينَةُ.
وَهَذَا لَا يَحْصُلُ لَهُ إلَّا بِإِعَانَةِ اللهِ لَهُ، لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ لَهُ إلَّا اللهُ، فَهُوَ دَائِمًا مُفْتَقِرٌ إلَى حَقِيقَةِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]. [10/ 194]
2145 -
كُلُّ مَن اسْتَكْبَرَ عَن عِبَادَةِ اللهِ لَا بُدَّ أَنْ يَعْبُدَ غَيْرَهُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ حَسَّاسٌ يَتَحَرَّكُ بِالْإِرَادَةِ.
فالْإِنْسَانُ لَهُ إرَادَةٌ دَائِمًا، وَكُلُّ إرَادَةٍ فَلَا بُدَّ لَهَا مِن مُرَادٍ تَنْتَهِي إلَيْهِ، فَلَا بُدَّ لِكُلِّ عَبْدٍ مِن مُرَادٍ مَحْبُوبٍ هُوَ مُنْتَهَى حُبِّهِ وَإِرَادَتِهِ، فَمَن لَمْ يَكُن اللهُ مَعْبُودَهُ
وَمُنْتَهَى حُبّهِ وَإِرَادَتِهِ بَل اسْتَكْبَرَ عَن ذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ مُرَاد مَحْبُوبٌ يَسْتَعْبِدُهُ غَيْرُ اللهِ، فَيَكُونُ عَبْدًا لِذَلِكَ الْمُرَادِ الْمَحْبُوبِ: إمَّا الْمَالُ، وَإِمَّا الْجَاهُ، وَإِمَّا الصُّوَرُ، وَإِمَّا مَا يَتَّخِذُهُ إلهًا مِن دُونِ اللهِ. [10/ 196 - 197]
2146 -
الْمَشْرُوع فِي ذِكْرِ اللهِ سُبْحَانَهُ هُوَ ذِكْرُهُ "بِجُمْلَةٍ تَامَّةٍ" وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْكَلَامِ، وَالْوَاحِدُ مِنْهُ بِالْكَلِمَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَنْفَعُ الْقُلُوبَ، وَيحْصُلُ بِهِ الثَّوَابُ وَالْأَجْرُ، وَالْقُرْبُ إلَى اللهِ وَمَعْرِفَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَخَشْيَتُهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِن الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ وَالْمَقَاصِدِ السَّامِيَةِ.
وَأَمَّا الِاقْتِصَارُ عَلَى "الِاسْمِ الْمُفْرَدِ" مُظْهَرًا أَو مُضْمَرًا فَلَا أَصْلَ لَهُ، فَضْلًا عَن أَنْ يَكُونَ مِن ذِكْرِ الْخَاصَّةِ وَالْعَارِفِينَ؛ بَل هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى أَنْوَاع مِن الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ، وَذَرِيعَةٌ إلَى تَصَوُّرَاتِ أَحْوَالٍ فَاسِدَةٍ مِن أَحْوَالِ أَهْلِ الْإِلحَادِ وَأَهْلِ الِاتِّحَادِ. [10/ 233]
2147 -
لَفْظُ "الصَّلَاةِ فِي اللُّغَةِ" أَصْلُهُ: الدُّعَاءُ وَسُمِّيَتْ الصَّلَاةُ دُعَاءً لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى الدُّعَاءِ وَهُوَ الْعِبَادَةُ وَالْمَسْأَلَةُ. [10/ 238]
2148 -
كُلُّ عَابِدٍ سَائِلٌ وَكُلُّ سَائِلٍ عَابِدٌ. فَأَحَدُ الِاسْمَيْنِ يَتَنَاوَلُ الْآخَرَ عِنْدَ تَجَرُّدِهِ عَنْهُ، وَلَكِنْ إذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا: فَإِنَّهُ يُرَادُ بِالسَّائِلِ الَّذِي يَطْلُبُ جَلْبَ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعَ الْمَضَرَّةِ بِصِيَغِ السُّؤَالِ وَالطَّلَبِ. وَيُرَادُ بِالْعَابِدِ مَن يَطْلُبُ ذَلِكَ بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ وَإِن لَمْ يَكُن فِي ذَلِكَ صِيَغُ سُؤَالٍ. [10/ 240]
2149 -
إِنَّ الطَّالِبَ السَّائِلَ تَارَةً يَسْأَلُ بِصِيغَةِ الطَّلَبِ، وَتَارَةً يَسْأَلُ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ، إمَّا بِوَصْفِ حَالِهِ، وَإِمَّا بِوَصْفِ حَالِ الْمَسْؤُولِ، وَإِمَّا بِوَصْفِ الْحَالَيْنِ، كَقَوْلِ نُوحٍ عليه السلام:{رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)} [هود: 47] فَهَذَا لَيْسَ صِيغَةَ طَلَبٍ، وَإِنَّمَا هُوَ إخْبَارٌ عَن اللهِ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَغْفِرْ لَهُ وَيرْحَمْهُ خَسِرَ.
وَمِن هَذَا الْبَابِ قَوْلُ أَيُّوبَ عليه السلام: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)}
[الأنبياء: 83] فَوَصَفَ نَفْسَهُ وَوَصَفَ رَبَّهُ بِوَصْف يَتَضَمَّنُ سُؤَالَ رَحْمَتِهِ بِكَشْفِ ضُرِّهِ، وَهِيَ صِيغَةُ خَبَرٍ تَضَمَّنَت السُّؤَالَ.
وَهَذَا مِن بَابِ حُسْنِ الْأَدَبِ فِي السُّؤَالِ وَالدُّعَاءِ، فَقَوْلُ الْقَائِلِ لِمَن يُعَظِّمُهُ وَيرْغَبُ إلَيْهِ: أَنَا جَائِعٌ أَنَا مَرِيضٌ، حُسْنُ أَدَبٍ فِي السُّؤَالِ.
وَإِن كَانَ فِي قَوْلِهِ: أَطْعِمْنِي وَدَاوِنِي وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ بِصيغَةِ الطَّلَبِ: طَلَبٌ جَازِمٌ مِن الْمَسْؤُولِ، فَذَاكَ: فِيهِ إظْهَارُ حَالِهِ وَإِخْبَارُهُ عَلَى وَجْهِ الذُّلِّ وَالِافْتِقَارِ الْمُتَضَمِّنِ لِسُؤَالِ الْحَالِ، وَهَذَا: فِيهِ الرَّغْبَةُ التَّامَّةُ وَالسُّؤَالُ الْمَحْضُ بِصِيغَةِ الطَّلَبِ.
وَهَذ الصِّيغَةُ "صِيغَةُ الطَّلَبِ وَالِاسْتِدْعَاءِ" إذَا كَانَت لِمَن يَحْتَاجُ إلَيْهِ الطَّالِبُ، أَو مِمَن يَقْدِرُ عَلَى قَهْرِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهَا تُقَالُ عَلَى وَجْهِ الْأمْرِ: إمَّا لِمَا فِي ذَلِكَ مِن حَاجَةِ الطَّالِبِ، وَإِمَّا لِمَا فِيهِ مَن نَفْعِ الْمَطْلُوبِ.
فَأَمَّا إذَا كَانَت مِن الْفَقِيرِ مِن كُلِّ وَجْهٍ لِلْغَنِيِّ مِن كُلِّ وَجْهٍ فَإِنَّهَا سُؤَالٌ مَحْضٌ بِتَذَلُّلٍ وَافْتِقَارٍ وَإِظْهَارِ الْحَالِ.
وَوَصْفُ الْحَاجَةِ وَالِافْتِقَارِ هُوَ سُؤَالٌ بِالْحَالِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِن جِهَةِ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ، وَذَلِكَ أَظْهَرُ مِن جِهَةِ الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ، فَلِهَذَا كَانَ غَالِبُ الدُّعَاءِ مِن الْقِسْمِ الثَّانِي. [10/ 245 - 246]
2150 -
لفظ الدعاء والدعوة في القرآن يتناول معنيين: دعاء العبادة، ودعاء المسألة.
قال الله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)} [يونس: 10]، وفي الحديث:"أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله" رواه ابن ماجه وابن أبي الدنيا.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره: "دعوة أخي ذي النون {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} [الأنبياء: 87]،
ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربته"، سماها دعوة؛ لأنها تتضمن نوعي الدعاء.
فقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ} : اعتراف بتوحيد الإلهية.
وتوحيد الإلهية يتضمن أحد نوعي الدعاء، فإن الإله هو المستحق لأن يدعى دعاء عبادة، ودعاء مسألة، وهو الله لا إله إلا هو.
وقوله: {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} : اعتراف بالذنب، وهو يتضمن طلب المغفرة، فإن الطالب السائل تارة يسأل بصيغة الطلب، وتارة يسأل بصيغة الخبر، إما بوصف حاله، وإما بوصف حال المسؤول، وإما بوصف الحالين.
كقول نوح عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)} [هود: 47]: فهذا ليس صيغة طلب، وإنما هو إخبار عن الله أنه إن لم يغفر له ويرحمه خسر.
ومن هذا الباب قول أيوب عليه السلام: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)} [الأنبياء: 83]: فوصف نفسه، ووصف ربه بوصف يتضمن سؤال رحمته بكشف ضره، وهي صيغة خبر تضمنت السؤال.
وهذا من باب حسن الأدب في السؤال والدعاء، فقول القائل لمن يعظمه، ويرغب إليه: أنا جائع، أنا مريض، حسن أدب في السؤال.
وإن كان في قوله: أطعمني، وداوني، ونحو ذلك، مما هو بصيغة الطلب، طلب جازم من المسؤول، فذاك فيه إظهار حاله وإخباره على وجه الذل والافتقار المتضمن لسؤال الحال، وهذا فيه الرغبة التامة والسؤال المحض بصيغة الطلب. [10/ 237 - 246]
2151 -
إِنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا أَو عَبْدًا رَسُولًا، فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ الرَّسُولَ هُوَ الَّذِي لَا يَفْعَلُ إلَّا مَا أُمِرَ بِهِ، فَفِعْلُهُ كُلُّهُ عِبَادَةٌ للهِ، فَهُوَ عَبْدٌ مَحْضٌ مُنَفِّذٌ أَمْرَ مُرْسِلِهِ، كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي
"صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" أَنَّهُ قَالَ: "إنِّي وَاللهِ لَا أُعْطِي أَحَدًا وَلَا أَمْنَعُ أَحَدًا وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ"
(1)
، وَهُوَ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ:"لَا أُعْطِي أَحَدًا وَلَا أَمْنَعُ" إفْرَادَ اللهِ بِذلِكَ قَدَرًا وَكَوْنًا، فَإِنَّ جَمِيعَ الْمَخْلُوقِينَ يُشَارِكُونَهُ فِي هَذَا، فَلَا يُعْطِي أَحَدًا وَلَا يَمْنَعُ إلَّا بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ إفْرَادَ اللهِ بِذَلِكَ شَرْعًا وَدِينًا؛ أَيْ: لَا أُعْطِي إلَّا مَن أُمِرْتُ بِإِعْطَائِهِ، وَلَا أَمْنَعُ إلَّا مَن أُمِرْتُ بِمَنْعِهِ، فَأَنَا مُطِيعٌ للهِ فِي إعْطَائِي وَمَنْعِي، فَهُوَ يُقَسِّمُ الصَّدَقَةَ وَالْفَيءَ وَالْغَنَائِمَ كَمَا يُقَسِّمُ الْمَوَارِيثَ بَيْنَ أَهْلِهَا؛ لِأَنَّ اللهَ أَمَرَهُ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ. وَلهَذَا كَانَ الْمَالُ حَيْثُ أُضِيفَ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَالْمُرَادُ بِهِ مَا يَجِبُ أَنْ يُصْرَفَ فِي طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ مِلْكٌ لِلرَّسُولِ، كَمَا ظَنَّهُ طَائِفَةٌ مِن الْفُقَهَاءِ، وَلَا الْمُرَادُ بِهِ كَوْنَهُ مَمْلُوكًا للهِ خَلْقًا وَقَدَرًا؛ فَإِنَّ جَمِيعَ الْأمْوَالِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ.
وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1].
وَقَوْلِهِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} الْآيَةَ [الأنفال: 41].
وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6] إلَى قَوْلِهِ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} الْآيَةَ [الحشر: 7].
فَذَكَرَ فِي الْفَيءِ مَا ذَكَرَ فِي الْخُمُسِ، فَظَنَّ طَائِفَةٌ مِن الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الرَّسُولِ تَقْتَضِي أَنَّهُ يَمْلِكُهُ كَمَا يَمْلِكُ النَّاسُ أَمْلَاكَهُمْ.
ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ غَنَائِمَ بَدْرٍ كَانَت مِلْكًا لِلرَّسُولِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الْفَيءَ وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ كَانَ مِلْكًا لِلرَّسُولِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الرَّسُولَ إنَّمَا كَانَ يَسْتَحِقُّ مِن الْخُمُسِ خُمُسَهُ.
وَقَالَ بَعْضُ هَؤلَاءِ: وَكَذَلِكَ كَانَ يَسْتَحِقُّ مِن خُمُسِ الْفَيءِ خُمُسَهُ. وَهَذَا غَلَطٌ. [10/ 279 - 288]
(1)
رواه البخاري (3117)، ومسلم (2133).
2152 -
الْإِرَادَةُ: هِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ
(1)
، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} [القصص: 83]. [10/ 346]
2153 -
مَن يَسْمَعُ الْقُرْآنَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ فَهَاجَ لَهُ وَجْدٌ يُحِبُّهُ، أَو مَخَافَةٌ أَو رَجَاءٌ، فَضَعُفَ عَن حَمْلِهِ حَتَّى مَاتَ أَو صُعِقَ أَو صَاحَ صِيَاحًا عَظِيمًا، أَو اضْطَرَبَ اضْطِرَابًا كَثِيرًا، فَتَوَلَّدَ عَن ذَلِكَ تَرْكُ صَلَاةٍ وَاجِبَةٍ، أَو تَعَدَّى عَلَى بَعْضِ النَّاسِ، فَإِنَّ هَذَا مَعْذُورٌ فِي ذَلِكَ. [10/ 349]
2154 -
أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ: الصَّلَاةُ، ثُمَّ الْقِرَاءَة، ثُمَّ الذِّكْرُ، ثُمَّ الدُّعَاءُ، وَالْمَفْضُولُ فِي وَقْتِهِ الَّذِي شُرِعَ فِيهِ أَفْضَلُ مِن الْفَاضِلِ؛ كَالتَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَإِنَّهُ أَفْضَلُ مِن الْقِرَاءَةِ، وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِن الْقِرَاءَةِ، ثُمَّ قَد يُفْتَحُ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي الْعَمَلِ الْمَفْضُولِ مَا لَا يُفْتَحُ عَلَيْهِ فِي الْعَمَلِ الْفَاضِلِ. وَقَد يُيَسَّرُ عَلَيْهِ هَذَا دُونَ هَذَا، فَيَكونُ هَذَا أَفْضَلَ فِي حَقِّهِ لِعَجْزِهِ عَن الْأَفْضَلِ. [10/ 401 - 402]
2155 -
الْمَرْأَةُ الْمُتَزَوِّجَةُ طَاعَتُهَا لِزَوْجِهَا أَفْضَلُ مِن طَاعَتِهَا لِأَبَوَيْهَا، بِخِلَافِ الْأَيِّمَةِ فَإِنَّهَا مَأمُورَةٌ بِطَاعَةِ أَبَوَيْهَا. [10/ 428]
2156 -
مِن النَّاسِ مَن يَرَى أَنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ أَفْضَلَ فِي حَقِّهِ لِمُنَاسَبَتِه
(2)
لَهُ، وَلكَوْنِهِ أَنْفَع لِقَلْبِهِ، وَأَطْوَع لِرَبِّهِ، يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَهُ أَفْضَلَ لِجَمِيعِ النَّاسِ ويأْمُرَهُم بِمِثْل ذَلِكَ
(3)
.
(1)
وهي الفارق بين الناجح والمخفق، وبين الموفق والمخذول، وبين الصالح والطالح، فالواجب على العاقل أنْ يعتني في إرادتِه وعزيمته، وأنْ يسوق نفسه للمعالي، لا أنْ ينساق وراء هوى نفسِه ورغباتِها فتُوقعه في المهاوي والرَّدى.
(2)
في الأصل: (لِمُنَاسَبَةِ)، ولعل الصواب المثبت.
(3)
وهذا مُشاهد محسوس، فالذي يميل إلى الدعوة إلى الله يرى أنّ هذا العمل هو الأفضل للناس، بل إنّ بعضهم يُفضله على جميع العبادات المتعدية، كالجهاد وكشف الكربات ونحوها. =
وَاللهُ بَعَثَ مُحَمَّدًا بالْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، وَجَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْعِبَادِ وهِدايةً لَهُمْ
(1)
، يَأْمُرُ كُلَّ إنْسَانٍ بِمَا هُوَ أَصْلَحُ لَهُ، فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَكونَ نَاصِحًا لِلْمُسْلِمِينَ، يَقْصِدُ لِكُلِّ إنْسَانٍ مَا هُوَ أَصْلَحُ لَهُ.
وَبِهَذَا تَبَيَّنَ لَك أَنَّ مِن النَّاسِ مَن يَكُونُ تَطَوُّعُهُ بِالْعِلْمِ أَفْضَلَ لَهُ، وَمِنْهُم مَن يَكُونُ تَطَوُّعُهُ بِالْجِهَادِ أَفْضَلَ، وَمِنْهُم مَن يَكونُ تَطَوُّعُهُ بِالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ -كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ- أَفْضَلَ لَهُ.
وَالْأَفْضَلُ الْمُطْلَقُ: مَا كَانَ أَشْبَهَ بِحَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَاطِنًا وَظَاهِرًا. [10/ 428 - 429]
2157 -
قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "فِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ"
(2)
فَإِنَّ الْمُبَاضَعَةَ مَأْمُورٌ
= ومن يُلائمه العلم يرى أنه الأفضل لجميع الناس، ومن تُلائمه العبادة وقيام الليل يرى أن هذا هو الأفضل.
قال ابن القيِّم رحمه الله في كلامه عن أفضل العبادة وأنفعها وأحقها بالإيثار والتخصيص -: الصنف الرابع: قالوا: إن أفضل العبادة: العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته، فأفضل العبادات في وقت الجهاد: الجهاد، والأفضل في وقت الوقوف بعرفة: الاجتهاد في الدعاء، والأفضل في أيام عشر ذي الحجة: الإكثار من التعبد، والأفضل في العشر الأخير من رمضان: لزوم المسجد والخلوة والاعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس.
والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاة الناس لك: أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم دون الهرب منهم؛ فإن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه.
وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق، والأصناف قبلهم أهل التعبد المقيد.
وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبده بعينه يؤثره على غيره، بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت، فمدار تعبده عليها. فهو لا يزال متثقلًا في منازل العبودية، كلما رُفعت له منزلة عمل على سيره إليها واشتغل لها حتى تلوح له منزلة أخرى. فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره، فإن رأيت العلماء رأيته معهم، وإن رأيت العباد رأيته معهم، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم. مدارج السالكين (2/ 370).
(1)
في الأصل: (وَهَدْيًا لَهُمْ)، والمثبت من الفتاوى الكبرى (2/ 163).
(2)
رواه مسلم (1006).
بِهَا لِحَاجَتِهِ وَلحَاجَةِ الْمَرْأَةِ إلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ قَضَاءَ حَاجَتِهَا الَّتِي لَا تَنْقَضِي إلَّا بِهِ بِالْوَجْهِ الْمُبَاحِ صَدَقَةٌ. [10/ 463]
2158 -
الرُّشْدُ الْعَمَلُ الَّذِي يَنْفَعُ صَاحِبَهُ، وَالْغَيُّ الْعَمَلُ الَّذِي يَضُرُّ صَاحِبَهُ، فَعَمَلُ الْخَيْرِ رُشْدٌ، وَعَمَلُ الشَّرِّ غَيٌّ. [10/ 569]
2159 -
الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ فِي كِتَابِ اللهِ يُرَادُ بِهَا أَعْمَالُ الْخَيْرِ وَأَعْمَالُ الشَّرِّ، كَمَا يُرَادُ بِهَا النِّعَمُ وَالْمَصَائِبُ. [10/ 570]
2160 -
قَالَ الْجُنَيْد: لَا يَكُونُ الْعَبْدُ عَبْدًا حَتَّى يَكُونَ مِمَّا سِوَى اللهِ تَعَالَى حُرًّا. [10/ 598]
2161 -
لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَن لَمْ يُتِمّ الْعِبَادَةَ يَبْطُلُ جَمِيعُ ثَوَابِهِ؛ بَل يُقَالُ: إنَّهُ يُثَابُ عَلَى مَا فَعَلَ مِن ذَلِكَ
(1)
. [10/ 640]
2162 -
مِمَّا هُوَ كَالْإِجْمَاعِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ بِاللهِ وَأَمْرِهِ: أَنَّ مُلَازَمَةَ ذِكْرِ اللهِ دَائِمًا هُوَ أَفْضَلُ مَا شَغَلَ الْعَبْدُ بِهِ نَفْسَهُ فِي الْجُمْلَةِ. [10/ 660]
2163 -
إِنَّ دُعَاءَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ وَمَسْأَلَتَهُ إيَّاهُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:
"نَوْعٌ" أُمِر الْعَبْدُ بِهِ إمَّا أَمْر إيجَابٍ وَإِمَّا أَمْر اسْتِحْبَابٍ مِثْل: قَوْلِهِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة: 6] وَمِثْل دُعَائِهِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ.
وَنَوْعٌ مِن الدُّعَاء يُنْهَى عَنْهُ: كَالِاعْتِدَاءِ، مِثْل: أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ مَا لَا يَصْلُحُ مِن خَصَائِصِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَيْسَ هُوَ بِنَبِيٍّ، وَرُبَّمَا هُوَ مِن خَصَائِصِ الرَّبِّ سبحانه وتعالى.
وَمِن الدُّعَاءِ مَا هُوَ مُبَاحٌ كَطَلَبِ الْفُضُولِ الَّتِي لَا مَعْصِيَةَ فِيهَا. [10/ 712 - 714]
(1)
هذا إذا كان لعذر، مثل من صلى تحية المسجد، ثم أُقيمت الصلاة فقطعها، فإنه يُؤجر على القدر الذي صلاه.
2164 -
مِن النَّاسِ مَن يَسْأَلُ اللهَ جَلْبَ الْمَنْفَعَةِ لَهُ وَدَفْعَ الْمَضَرَّةِ عَنْهُ طَبْعًا وَعَادَةً، لَا شَرْعًا وَعِبَادَةً، فَلَيْسَ مِن الْمَشْرُوعِ أَنْ أَدَعَ الدُّعَاءَ مُطْلَقًا لِتَقْصِيرِ هَذَا وَتَفْرِيطِهِ؛ بَل أَفْعَلُهُ أَنَا شَرْعًا وَعِبَادَةً.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يَفْعَلُهُ شَرْعًا وَعِبَادَةً إنَّمَا يَسْعَى فِي مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ وَطَلَبِ حُظُوظِهِ الْمَحْمُودَةِ، فَهُوَ يَطْلُبُ مَصْلَحَةَ دنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ، بِخِلَافِ الَّذِي يَفْعَلُهُ طَبْعًا فَإِنَّهُ إنَّمَا يَطْلُبُ مَصْلَحَةَ دُنْيَاهُ فَقَطْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)} [البقرة: 200 - 202]. [10/ 716 - 717]
2165 -
الصَّلَاةُ تَضَمَّنَتْ شَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: نَهْيُهَا عَن الذُّنُوبِ.
الثَّانِي: تَضَمُّنُهَا ذِكْرِ اللهِ، وَهُوَ أَكْبَرُ الْأَمْرَيْنِ، فَمَا فِيهَا مِن ذِكْرِ اللهِ أَكْبَرُ مِن كَوْنِهَا نَاهِيَةً عَن الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكِرِ. [10/ 753]
2166 -
دِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ دِينُ الْأَوَّلينَ والآخرين مِن النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، وقَوْله تَعَالَى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] عَامٌّ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ.
فَنُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ ويعْقُوبُ وَالْأَسْبَاطُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَالْحَوَارِيُّونَ كُلُّهُم دِينُهُم الْإِسْلَامُ، الَّذِي هُوَ عِبَادَة اللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. [11/ 219]
2167 -
وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "لَهُم أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكمْ؛ لِأَنَّكُمْ تَجِدُونَ عَلَى الْخَيْرِ أَعْوَانًا وَلَا يَجِدُونَ عَلَى الْخَيْرِ أَعْوَانًا"
(1)
فَهَذَا صَحِيحٌ إذَا عَمِلَ الْوَاحِدُ مِن الْمُتَأَخِّرِينَ مِثْل عَمَلٍ عَمِلَهُ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ كَانَ لَهُ أَجْرُ خَمْسِينَ، لَكِنْ لَا يُتَصَوَّرُ
(1)
رواه الترمذي (3058)، وابن ماجه (4014)، وأبو داود (4341).
أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخّرِينَ يَعْمَلُ مِثْل عَمَلِ بَعْضِ أَكَابِرِ السَّابِقِينَ؛ كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَإِنَّهُ مَا بَقِيَ يُبْعَثُ نَبِيٌّ مِثْلُ مُحَمَّدٍ يَعْمَلُ مَعَهُ مِثْلَمَا عَمِلُوا مَعَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. [11/ 371]
2168 -
تَفْضِيل الْعَمَلِ عَلَى الْعَمَلِ قَد يَكُونُ مُطْلَقًا، مِثْلُ تَفْضِيلِ أَصْلِ الدِّينِ عَلَى فَرْعِهِ، وَقَد يَكُونُ مُقَيَّدًا.
فَقَد يَكُونُ أَحَدُ الْعَمَلَيْنِ فِي حَقِّ زيدٍ أَفْضَلَ مِن الْآخَرِ، وَالْآخَرُ فِي حَقِّ عَمْرٍو أَفْضَلَ، وَقَد يَكُونَانِ مُتَمَاثِلَيْنِ فِي حَقِّ الشَّخْصِ، وَقَد يَكُونُ الْمَفْضُولُ فِي وَقْتٍ أَفْضَلَ مِن الْفَاضِلِ، وَقَد يَكُونُ الْمَفْضُولُ فِي حَقِّ مَن يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ أَفْضَلَ مِن الْفَاضِلِ فِي حَقِّ مَن لَيْسَ كَذَلِكَ. [11/ 399]
2169 -
كَثِيرٌ مِن الْعُبَّادِ يُفَضِّلُ نَوَافِلَهُ عَلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَهَذَا كَثِيرٌ
(1)
. [12/ 229]
2170 -
وَقَد عَلِم الْمُسْلِمُونَ أَنَّ اللهَ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا مَا إلَّا لِحِكْمَةٍ، فَتِلْكَ الْحِكْمَةُ وَجْة حُسْنِهِ وَخَيْرِهِ، وَلَا يَكُونُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ شَرٌّ مَحْضٌ لَا خَيْرَ فِيهِ وَلَا فَائِدة فِيهِ بِوَجْهٍ مِن الْوُجُوهِ؛ وَبِهَذَا يَظْهَرُ مَعْنَى قَوْلِهِ:"وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْك"
(2)
وَكَوْنُ الشَّرِّ لَمْ يُضَفْ إلَى اللهِ وَحْدَهُ؛ بَل إمَّا بِطْرِيقِ الْعُمُوم، أَو يُضَافُ إلَى السَّبَبِ، أَو يُحْذَفُ فَاعِلُهُ. [14/ 21]
2171 -
اسْمُ الْعَبْدِ يَتَنَاوَلُ مَعْنَيَيْنِ:
أَحَدَهُمَا: بِمَعْنَى الْعَابِدِ كَرْهًا، كَمَا قَالَ:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} [مريم: 93].
والثَّانِي: بِمَعْنَى الْعَابِدِ طَوْعًا، وَهُوَ الَّذِي يَعْبُدُهُ ويسْتَعِينُهُ، وَهَذَا هُوَ
(1)
ولذا تجدهم يعتنون بالنوافل أكثر من اعتنائهم بالفرائض، وهذا من مداخل الشيطان.
(2)
رواه مسلم (771).
الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] .. وَقَوْلِهِ: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30)} [ص: 30] وَقَوْلِهِ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1].
وَهَذِهِ الْعُبُودِيَّةُ قَد يَخْلُو الْإِنْسَانُ مِنْهَا تَارَةً، وَأَمَّا الْأُولَى فَوَصْفٌ لَازِمٌ إذَا أُرِيدَ بِهَا جَرَيَانُ الْقَدَرِ عَلَيْهِ وَتَصْرِيفُ الْخَالِقِ لَهُ قَالَ تَعَالَى:{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)} [آل عمران: 83].
وَعَامَّةُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِسْلَامِ: اسْتِسْلَامُهُم لَهُ بِالْخُضُوعِ وَالذُّلِ، لَا مُجَرَّدَ تَصْرِيفِ الرَّبِّ لَهُمْ. [14/ 29 - 30]
2172 -
إِنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا خُلِقَ لِعِبَادَةِ رَبِّهِ، فَصَلَاحُهُ وَكَمَالُهُ وَلَذَّتُهُ وَفَرَحُهُ وَسُرُورُهُ فِي أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ ويُنِيبَ إلَيْهِ، وَذَلِكَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَسْألَتِهِ وَالِافْتِقَارِ إلَيْهِ. [14/ 32]
2173 -
الْعَبْدُ مضْطَرٌّ دَائِمًا إلَى أَنْ يَهْدِيَهُ اللهُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، فَهُوَ مُضْطَرٌّ إلَى مَقْصُودِ هَذَا الدُّعَاءِ؛ فَإِنَّهُ لَا نَجَاةَ مِن الْعَذَابِ وَلَا وُصُولَ إلَى السَّعَادَةِ إلَّا بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ، فَمَن فَاتَهُ فَهُوَ إمَّا مِن الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَإِمَّا مِن الضَّالِّينَ.
وَأَمَّا سُؤَالُ مَن يَقُولُ: فَقَد هَدَاهُم فَلَا حَاجَةَ بِهِم إلَى السُّؤَالِ، وَجَوَابُ مَن أَجَابَهُ بِأَنَّ الْمَطْلُوبَ دَوَامُهَا: كَلَامُ مَن لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ الْأَسْبَابِ وَمَا أَمَرَ اللهُ بِهِ؛ فَإِنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ أَنْ يَفْعَلَ الْعَبْدُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَا أُمِرَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِن عِلْمٍ وَعَمَلٍ، وَلَا يَفْعَلُ مَا نُهِيَ عَنْهُ، وَهَذَا يَحْتَاجُ فِي كُلِّ وَقْتٍ إلَى أَنْ يَعْلَمَ وَيَعْمَلَ مَا أُمِرَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَمَا نُهِيَ عَنْهُ، وَإِلَى أَنْ يَحْصُلَ لَهُ إرَادَةٌ جَازِمَةٌ لِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَكَرَاهَةٌ جَازِمَةٌ لِتَرْكِ الْمَحْظُورِ، فَهَذَا الْعِلْمُ الْمُفَصَّلُ وَالْإِرَادَةُ الْمُفَصَّلَةُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَحْصُلَ لِلْعَبْدِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ؛ بَل كُلُّ وَقْتٍ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَجْعَلَ اللهُ فِي قَلْبِهِ مِن الْعُلُومِ وَالْإِرَادَاتِ مَا يَهْتَدِي بِهِ فِي ذَلِكَ
الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ
(1)
.
نَعَمْ! حَصَلَ لَهُ هُدًى مُجْمَلٌ بِأَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ، وَالرَّسُولَ حَقٌّ، وَدِينَ الْإِسْلَامِ حَقٌّ، وَذَلِكَ حَقٌّ؛ وَلَكِنَّ هَذَا الْمُجْمَلَ لَا يُغْنِيهِ إنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هُدًى مُفَصَّلٌ فِي كُلِّ مَا يَأْتِيهِ وَيَذْرُهُ مِن الْجُزْئِيَّاتِ الَّتِي يَحَارُ فِيهَا أَكْثَرُ عُقُولِ الْخَلْقِ.
وَالْإِنْسَانُ خُلِقَ ظَلُومًا جَهُولًا؛ فَالْأَصْلُ فِيهِ عَدَمُ الْعِلْمِ وَمَيْلُهُ إلَى مَا يَهْوَاهُ مِن الشَّرِّ، فَيَحْتَاجُ دَائِمًا إلَى عِلْمٍ مُفَصَّلٍ يَزُولُ بِهِ جَهْلُهُ، وَعَدْلٍ فِي مَحَبَّتِهِ وَبُغْضِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَفِعْلِهِ وَتَرْكِهِ وَإِعْطَائِهِ وَمَنْعِهِ وَأَكْلِهِ وَشُرْبِهِ وَنَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ
(2)
.
فَكُلُّ مَا يَقُولُهُ وَيعْمَلُهُ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى عِلْمٍ يُنَافِي جَهْلَهُ، وَعَدْلٍ يُنَافِي ظُلْمَهُ، فَإِنْ لَمْ يَمُنَّ اللهُ عَلَيْهِ بِالْعِلْمِ الْمُفَصَّلِ، وَالْعَدْلِ الْمُفَصَّلِ: كَانَ فِيهِ مِن الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ مَا يَخْرُجُ بِهِ عَن الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
فَحَاجَةُ الْعَبْدِ إلَى سُؤَالِ هَذِهِ الْهِدَايَةِ ضَرُورِيَّةٌ فِي سَعَادَتِهِ وَنَجَاتِهِ وَفَلَاحِهِ، بِخِلَافِ حَاجَتِهِ إلَى الرِّزْقِ وَالنَّصْرِ، فَإِنَّ اللهَ يَرْزُقُهُ، فَإِذَا انْقَطَعَ رِزْقُهُ مَاتَ، وَالْمَوْتُ لَا بُدَّ مِنْهُ، فَإِذَا كَانَ مِن أَهْلِ الْهُدَى بِهِ كَانَ سَعِيدًا قَبْلَ الْمَوْتِ وَبَعْدَهُ، وَكَانَ الْمَوْتُ مُوَصِّلًا إلَى السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ.
وَكَذَلِكَ النَّصْرُ، إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ غُلِبَ حَتَّى قُتِلَ فَإِنَّهُ يَمُوتُ شَهِيدًا، وَكَانَ الْقَتْلُ مِن تَمَامِ النِّعْمَةِ.
(1)
فاكتساب الإيمان والتقوى والحب واللذة في العبادة كالعلم، لا يحصل جملة واحدة، بل مع كثرة القراءة والبحث، فالسبيل الوحيد للحصول على هذه الأعمال القلبية الإيمانية هو بكثرة العبادات القلبية والبدنية، وتدبر القرآن، والتفكر في خلق الله تعالى، والتدرج في العبادات من صلاة وصيام وقراءة قرآن بتدبّر وفهم.
فالذي يستمر على حاله في عبادته وعلمه دون تغيير للأفضل، وإكراه النفس في طلب المعالي: كيف سيزداد إيمانه؟ ويعظم توكله؟ ويتلذذ بعبادته؟ ويرسخ علمه؟
(2)
فالعدل مطلوب في كلّ شيء، حتى في الأكل والشرب والنوم! وانظر إلى حال بعض طلاب العلم فضلًا عن عامة الناس في أكلهم وشربهم، وكيف يشتكون من التخمة، وآلام البطن والقولون؟ وكيف هم متذبذبون في نومهم؟ فإذا لم يستطع الإنسان التغلب على هواه في أكله وشربه ونومه، فكيف سيتغلب على هواه فيما هو أعظم من ذلك؟
فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْهُدَى أَعْظَمُ مِن الْحَاجَةِ إلَى النَّصْرِ وَالرِّزْقِ؛ بَل لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا
(1)
؛ لِأَنَّهُ إذَا هُدِيَ كَانَ مِن الْمُتَّقِينَ {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3] وَكَانَ مِمَن يَنْصُرُ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَمَن نَصَرَ اللهَ نَصَرَهُ اللهُ وَكَانَ مِن جُنْدِ اللهِ وَهُم الْغَالِبُونَ.
فَتَبَيَّنَ أَنَّ حَاجَةَ الْعِبَادِ إلَى الْهُدَى أَعْظَمُ مِن حَاجَتِهِمْ إلَى الرِّزْقِ وَالنَّصْرِ بَل لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا؛ وَلهَذَا كَانَ هَذَا الدُّعَاءُ هُوَ الْمَفْرُوضَ عليهم. [14/ 37 - 39]
2174 -
إِنَّ نَفْسَ السُّجُودِ: خُضُوعٌ للهِ، وَلَو فَعَلَهُ الْإِنْسَانُ للهِ مَعَ عَدَمِ عِلْمِهِ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ: انْتَفَعَ؛ كَالسَّحَرَةِ الَّذِينَ سَجَدُوا قَبْلَ الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ. [14/ 147]
2175 -
كَمْ مِمَن يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي الْيَوْمِ مَرَّةً أَو مَرَّتَيْنِ، وَآخَرُ لَا يَنَامُ اللَّيْلَ، وَآخَرُ لَا يُفْطِرُ، وَغَيْرُهُم أَقَلُّ عِبَادَةً مِنْهُمْ، وَأَرْفَعُ قَدْرًا فِي قُلُوبِ الْأُمَّةِ؟
وَمَا ذَاكَ إلَّا لِقُوَّةِ الْمُعَامَلَةِ الْبَاطِنَةِ وَصَفَائِهَا، وَخُلُوصِهَا مِن شَهَوَاتِ النُّفُوسِ وَأَكْدَارِ الْبَشَرِيَّةِ، وَطَهَارَتِهَا مِن الْقُلُوبِ الَّتِي تُكَدِّرُ مُعَامَلَةَ أُولَئِكَ، وَإِنَّمَا نَالُوا ذَلِكَ بِقُوَّةِ يَقِينِهِمْ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَكَمَالِ تَصْدِيقِهِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَوُدِّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَأَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ. [16/ 48 - 49]
2176 -
النَّاسُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَا لَا يَكُونُ إلَّا عِبَادَةً لَا يَصِحُّ إلَّا بِنِيَّةٍ، بِخِلَافِ مَا يَقَعُ عِبَادَةً وَغَيْرَ عِبَادَةٍ؛ كَأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ وَقَضَاءِ الدُّيُونِ. [18/ 259]
2177 -
إذَا تَرَكَ الْإِنْسَانُ بَعْضَ وَاجِبَاتِ الْعِبَادَةِ هَل يُقَالُ: بَطَلَتْ كُلُّهَا فَلَا ثَوَابَ لَهُ عَلَيْهَا؟ أَمْ يُقَالُ: يُثَابُ عَلَى مَا فَعَلَهُ وَيُعَاقَبُ عَلَى مَا تَرَكَهُ؟ وَهَل عَلَيْهِ إعَادَهُ ذَلِكَ؟
(1)
وبهذا يتبين خطأ كثير من الغيورين على الدين وأهله، حيث يهتمون بأخبار المسلمين، ويحزنون إذا انتصر الكفار عليهم، وهذا محمود، ولكن أن يشتغلوا بذلك عن العلم والعبادة ونفع المسلمين فهذا مذموم، وهو من طرق الشيطان التي يصد بها أهل الخير والصلاح، فإنه لم يستطع أنْ يُوقعهم في المعاصي الظاهرة، فأشغلهم بمتابعة أخبار الناس، والحزن على مصابهم، ولوم حكامهم، وقد يؤول ذلك إلى الخروج على الحكام، والوقوع في التكفير.
هَذَا يَكُونُ بِحَسَبِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ: فَمِنَ الْوَاجِبَاتِ فِي الْعِبَادَةِ مَا لَا تَبْطُلُ الْعِبَادَةُ بِتَرْكِهِ، وَلَا إعَادَةَ عَلَى تَارِكِهِ؛ بَل يُجْبَرُ الْمَتْرُوكُ؛ كَالْوَاجِبَاتِ فِي الْحَجِّ الَّتِي لَيْسَتْ أَرْكَانًا، مِثْل رَمْيِ الْجِمَارِ، وَأَنْ يُحْرِمَ مِن غَيْرِ الْمِيقَاتِ وَنَحْو ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ -كَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ- فِيهَا وَاجِبٌ لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ عِنْدَهُمْ: كَمَا يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْفَاتِحَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، وَكَمَا يَقُولُ مَالِكٌ وَأَحْمَد فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ.
لَكِنْ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ يَقُولَانِ: مَا تَرَكَهُ مِن هَذَا سَهْوًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ لِلسَّهْوِ، وَأَمَّا إذَا تَرَكَهُ عَمْدًا فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ، كَمَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بتَرْكِ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ عَمْدًا فِي الْمَشْهُورِ مِن مَذْهَبَيْهِمَا، لَكِنْ أَصْحَابُ مَالِكٍ يُسَمُّوْنَ هَذَا سُنَّةً مُؤَكَّدَةً، وَمَعْنَاهُ مَعْنَى الْوَاجِبِ عِنْدَهُمْ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيَقُولُ: مَن تَرَكَ الْوَاجِبَ الَّذِي لَيْسَ بِفَرْض عَمْدًا أَسَاءَ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ، وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ: لَا نَعْهَدُ فِي الْعِبَادَةِ وَاجِبًا فِيمَا يَتْرُكُهُ الْإِنْسَانُ إلَى غَيْرِ بَدَلٍ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ، فَلَا بُدَّ مِن وُجُوبِ الْبَدَلِ لِلْإِعَادَةِ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا اتَّفَقَتْ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ مَن تَرَكَ وَاجِبًا فِي الْحَجِّ لَيْسَ بِرُكْنٍ وَلَمْ يَجْبُرْهُ بِالدَّمِ الَّذِي عَلَيْهِ لَمْ يَبْطُلْ حَجُّهُ، وَلَا تَجِبُ إعَادَتُهُ.
فَهَكَذَا يَقُولُ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ: أَنَّ مَن تَرَكَ وَاجِبًا مِن وَاجِبَاتِ الْإِيمَانِ الَّذِي لَا يُنَاقِضُ أُصُولَ الْإِيمَانِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْبُرَ إيمَانَهُ إمَّا بِالتَّوْبَةِ، وَإِمَّا بِالْحَسَنَاتِ الْمُكَفِّرَةِ.
فَالْكَبَائِرُ يَتُوبُ مِنْهَا، وَالصَّغَائِرُ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَحْبَطْ إيمَانُهُ جُمْلَةً.
وَأَصْلُهُم أَنَّ الْإِيمَانَ يَتَبَعَّضُ، فَيَذْهَبُ بَعْضُهُ وَيَبْقَى بَعْضُهُ. [18/ 269 - 170]
2178 -
أَفْضَلُ الْأَرْضِ فِي حَقِّ كُلِّ إنْسَانٍ أَرْضٌ يَكُونُ فِيهَا أَطْوَعَ للهِ وَرَسُولِهِ، وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ؛ فَإِنَّ الْأَعْمَالَ لَا تَتَفَاضَلُ بِالْكَثْرَةِ، وَإِنَّمَا تَتَفَاضَلُ بِمَا يَحْصُلُ فِي الْقُلُوبِ حَالَ الْعَمَلِ. [18/ 282 - 283]
2179 -
إنْ كَانَ الْعَابِدُ يَعْبُدُ بِغَيْرِ عِلْمٍ: فَقَد يَكُونُ شَرًّا مِن الْعَالِمِ الْفَاسِقِ، وَقَد يَكُونُ الْعَالِمُ الْفَاسِقُ شَرًّا مِنْهُ.
وَإِن كَانَ يَعْبُدُ اللهَ بِعِلْم فَيُؤَدِّي الْوَاجِبَاتِ وَيَتْرُكُ الْمُحَرَّمَاتِ: فَهُوَ خَيْرٌ مِن الْفَاسِقِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْعَالِمِ الْفَاسِقِ حَسَنَاتٌ تَفْضُلُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ، بِحَيْثُ يَفْضُلُ لَهُ مِنْهَا أَكْثَرُ مِن حَسَنَاتِ ذَلِكَ الْعَابِدِ
(1)
. [23/ 61]
2180 -
أَصْلُ الْعَمَلِ: عَمَلُ الْقَلْبِ، وَهُوَ الْحُبُّ وَالتَّعْظِيم الْمُنَافِي لِلْبُغْضِ وَالِاسْتِكْبَارِ. [28/ 178]
2181 -
كَانَ السَّلَفُ يَرَوْنَ أَنَّ مَن انْحَرَفَ مِن الْعُلَمَاءِ عَن الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فَفِيهِ شَبَةٌ مِن الْيَهُودِ، وَمَن انْحَرَفَ مِن الْعُبَّادِ فَفِيهِ شَبَهٌ مِن النَّصَارَى. [1/ 65]
2182 -
الْإِلَهَ: هُوَ الْمَأْلُوهُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُؤَلَّهَ فَيُعْبَدَ
(2)
، وَالْعِبَادَةُ تَجْمَعُ غَايَةَ الذُّلِّ وَغَايَةَ الْحُبِّ، وَهَذَا لَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا هُوَ.
وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَحْمَدُ نَفْسَهُ، ويُثْنِي عَلَى نَفْسِهِ، وَيُمَجِّدُ نَفْسَة، وَيَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِينَ، وَيَرْضَا عَن عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَالْحَمْدُ: هُوَ الْإِخْبَارُ بِمَحَاسِنِ الْمَحْمُودِ مَعَ الْمَحَبَّةِ لَهَا.
فَلَو أَخْبَرَ فخْبِرٌ بِمَحَاسِنِ غَيْرِهِ مِن غَيْرِ مَحَبَّةٍ لَهَا: لَمْ يَكُن حَامِدًا.
وَلَو أَحَبَّهَا وَلَمْ يُخْبِرْ بِهَا: لَمْ يَكُن حَامِدًا.
وَالرَّبُّ سبحانه وتعالى إذَا حَمِدَ نَفْسَهُ فَذَكَرَ أَسْمَاءَهُ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى وَأَفْعَالَهُ الْجَمِيلَةَ، وَأَحَبَّ نَفْسَهُ الْمُقَدَّسَةَ، فَكَانَ هُوَ الْحَامِدَ وَالْمَحْمُودَ، وَالْمُثْنِي وَالْمُثْنَى
(1)
اتزان عجيب في التفضيل والحكم، بين العابد والعالم.
(2)
الْمَأْلُوهُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ مَألوهًا؛ أي: معبودًا.
قال في مختار الصحاح في مادة: (أله): أَلَهَ يَأُلَهُ -بِالْفَتْح فِيهِمَا- إِلَاهَةً؛ أيْ: عَبَدَ، وَمِنْهُ قَوْلُنَا:(اللهُ) وَأَصْلُهُ: (إِلَاهٌ) عَلَى فِعَالٍ، بِمَعْنَى مَفْعُولٍ؛ لِأَنَّهُ مَأْلُوهٌ؛ أَيْ: مَعْبُودٌ، كَقَوْلِنَا: إِمَامٌ بِمَعْنَى مُؤْتَمٌّ بِهِ، فَلَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ تَخْفِيفًا لِكَثْرَتِهِ فِي الْكَلَامِ. اهـ.
عَلَيْهِ، وَالْمُمَجِّدَ وَالْمُمَجَّدَ، وَالْمُحِبَّ وَالْمَحْبُوبَ: كَانَ هَذَا غَايَةَ الْكَمَالِ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُ، وَلَا يُوصَفُ بِهِ إلَّا هُوَ. [8/ 378 - 379]
2183 -
إنَّ الْأَحْكَامَ الَّتِي تَحْتَاجُ الْأُمَّةُ إلَى مَعْرِفَتِهَا لَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَهَا الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بَيَانًا عَامًّا، وَلَا بُدَّ أَنْ تَنْقُلَهَا الْأُمَّةُ، فَإِذَا انْتَفَى هَذَا: عُلِمَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِن دِينِهِ، وَهَذَا كَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَفْرِضْ صِيَامَ شَهْرٍ غَيْرِ رَمَضَانَ، وَلَا حَجَّ بَيْتٍ غَيْرِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَلَا صَلَاةً مَكْتُوبَةً غَيْرَ الْخَمْسِ، وَلَمْ يُوجِب الْغُسْل فِي مُبَاشَرَةِ الْمَرْأَةِ بِلَا إنْزَالٍ، وَلَا أَوْجَبَ الْوُضُوءَ مِن الْفَزَعِ الْعَظِيمِ وَإِن كَانَ فِي مَظِنَّةِ خُرُوجِ الْخَارجِ. [25/ 236 - 237]
2184 -
الْأَحْكَامُ الَّتِي تَعُمُّ بِهَا الْبَلْوَى لَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَهَا الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بَيَانًا عَامًّا وَلَا بُدَّ أَنْ تَنْقُلَ الْأُمَّةُ ذَلِكَ. [25/ 241]
2185 -
إِنَّ الْمَشْرُوعَ الْمَأْمُورَ بِهِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم هُوَ الِاقْتِصَادُ فِي الْعِبَادَةِ.
قَالَ أُبي بْنُ كَعْبٍ: "اقْتِصَادٌ فِي سُنَّةٍ خَيْرٌ مِن اجْتِهَادٍ فِي بِدْعَةٍ".
فَمَتَى كانت الْعِبَادَةُ تُوجِبُ لَهُ ضَرَرًا يَمْنَعُهُ عَن فِعْلِ وَاجِبٍ أَنْفَعَ لَهُ مِنْهَا كَانَت مُحَرَّمَةً، مِثْلُ أَنْ يَصُومَ صَوْمًا يُضْعِفُهُ عَن الْكَسْبِ الْوَاجِبِ، أَو يَمْنَعُهُ عَن الْعَقْلِ أَو الْفَهْمِ الْوَاجِبِ، أَو يَمْنَعُهُ عَن الْجِهَادِ الْوَاجِب، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَت تُوقِعُهُ فِي مَحَلٍّ مُحَرَّمٍ لَا يُقَاوِمُ مَفْسَدَتَهُ مَصْلَحَتُهَا، مِثْلُ أَنْ يُخْرِجَ مَالَهُ كُلَّهُ ثُمَّ يَسْتَشْرِفُ إلَى أَمْوَالِ النَّاسِ وَيَسْأَلُهُمْ.
وَأَمَّا إنْ أَضْعَفَتْهُ عَمَّا هُوَ أَصْلَحُ مِنْهَا وَأَوْقَعَتْهُ فِي مَكْرُوهَاتٍ فَإِنَّهَا مَكْرُوهَةٌ.
وَقَد أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ قَوْلَهُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)} [المائدة: 87] فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَقْوَامٍ مِن الصَّحَابَةِ كَانُوا قَد اجْتَمَعُوا وَعَزَمُوا عَلَى التَّبَتُّلِ لِلْعِبَادَةِ: هَذَا يَسْرُدُ الصَّوْمَ، وَهَذَا يَقُومُ اللَّيْلَ كُلَّهُ، وَهَذَا يَجْتَنِبُ أَكْلَ اللَّحْمِ، وَهَذَا يَجْتَنِبُ النِّسَاءَ،
فَنَهَاهُم اللهُ سبحانه وتعالى عَن تَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ مَن أَكْلِ اللَّحْمِ وَالنِّسَاءِ، وَعَن الِاعْتِدَاءِ وَهُوَ الزِّيَادَةُ عَلَى الدِّينِ الْمَشْرُوعِ فِي الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالزِّيَادَةُ فِي التَّحْرِيمِ عَلَى مَا حُرِّمَ، وَالزِّيَادَةُ فِي الْمُبَاحِ عَلَى مَا أُبِيحُ.
ثمَّ إنَّهُ أَمَرَهُم بَعْدَ هَذَا بِكَفَّارَةِ مَا عَقَدُوهُ مِن الْيَمِينِ عَلَى هَذَا التَّحْرِيمِ وَالْعُدْوَانِ. [25/ 272 - 273]
2186 -
مَن أَذَلَّ نَفْسَهُ للهِ فَقَد أَعَزَّهَا، وَمَن بَذَلَ الْحَقَّ مِن نَفْسِهِ فَقَد أَكْرَمَ نَفْسَهُ؛ فَإِنَّ أَكْرَمَ الْخَلْقِ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاهُمْ، وَمَن اعْتَزَّ بِالظُّلْمِ مِن مَنْعِ الْحَقِّ وَفِعْلِ الْإِثْم فَقَد أَذَلَّ نَفْسَهُ وَأَهَانَهَا، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10]. [28/ 237]
2187 -
الْمُؤْمِنُ إذَا كَانَت لَهُ نِيَّةٌ أَتَتْ عَلَى عَامَّةِ أَفْعَالِهِ، وَكَانَت الْمُبَاحَاتُ مِن صَالِحِ أَعْمَالِهِ؛ لِصَلَاحِ قَلْبِهِ وَنِيَّتِهِ، وَالْمُنَافِقُ -لِفَسَادِ قَلْبِهِ وَنِيَّتِهِ- يُعَاقَبُ عَلَى مَا يُظْهِرُ مِن الْعِبَادَاتِ رَياءً. [28/ 369]
* * *
(النَّاسُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ يَكُونُ فِي قُلُوبِهِم التَّوَجُّه وَالتَّقَرُّب وَالرِّقَّة)
2188 -
النَّاسُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ يَكُونُ فِي قُلُوبِهِم مِن التَّوَجُّهِ وَالتَّقَرُّبِ وَالرِّقَّةِ مَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِنُزُولِهِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَقَوْلِهِ:"هَل مِن دَاعٍ؟ هَل مِن سَائِلٍ؟ هَل مِن تَائِبٍ"؟. [5/ 241]
* * *
(فضائل الأعمال)
2189 -
خَيْرُ الْأَعْمَالِ مَا كَانَ للهِ أَطْوَعَ، وَلصاحِبِهِ أَنْفَعَ، وَقَد يَكُونُ ذَلِكَ أَيْسَرَ الْعَمَلَيْنِ، وَقَد يَكُونُ أَشَدَّهُمَا، فَلَيْسَ كُلُّ شَدِيدٍ فَاضِلًا وَلَا كُلُّ يَسِيرٍ مَفْضُولًا؛ بَل الشَّرْعُ إذَا أَمَرَنَا بِأَمْرٍ شَدِيدٍ فَإِنَّمَا يَأْمُرُ بِهِ لِمَا فِيهِ مِن الْمَنْفَعَةِ، لَا لِمُجَرَّدِ تَعْذِيبِ النَّفْسِ.
وَأَمَّا مُجَرَّدُ تَعْذِيبِ النَّفْسِ وَالْبَدَنِ مِن غَيْرِ مَنْفَعَةٍ رَاجِحَةٍ فَلَيْسَ هَذَا مَشْرُوعًا لنا؛ بَل أَمَرَنَا اللهُ بِمَا يَنْفَعُنَا وَنَهَانَا عَمَّا يَضُّرنَا. [22/ 313 - 314]
2190 -
مَعْلُومٌ أَنَّ الصَّلَاةَ "أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ" كَمَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: قُلْت لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إلَى اللهِ؟ قَالَ: "الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا".
وَثَبَتَ أَيْضًا فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ إيمَانٌ بِاللهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ ثُمَّ الْحَجُّ الْمَبْرُورُ.
وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ بِاللهِ، كَمَا دَخَلَتْ فِي قَوْله تَعَالَى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَغَيْرُهُ مِن السَّلَفِ: أَيْ: صَلَاتُكُمْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
وَلهَذَا كَانَت الصَّلَاةُ كَالْإِيمَانِ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ بِحَال، فَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَن أَحَدٍ الْفَرْضَ لَا لِعُذْر وَلَا لِغَيْرِ عُذْرٍ، كَمَا لَا يُؤْمِنُ أَحَدٌ عَنْهُ وَلَا تَسْقُطُ بِحَال كَمَا لَا يَسْقُطُ الْإِيمَان؛ بَل عَلَيْهِ الصَّلَاةُ مَا دَامَ عَقْلُهُ حَاضِرًا وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِن فِعْل بَعْضِ أَفْعَالِهَا، فَإِذَا عَجَزَ عَن جَمِيعِ الْأَفْعَالِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْأَقْوَالِ فَهَل يُصَلِّي بِتَحْرِيكِ طَرْفِهِ وَيَسْتَحْضِرُ الْأَفْعَالَ بِقَلْبِهِ؟
فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وإِن كَانَ الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ. [10/ 439 - 440]
2191 -
الْأَفْضَلُ يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ أَحْوَالِ النَّاسِ، فَمِن الْأَعْمَالِ مَا يَكُونُ جِنْسُهُ أَفْضلَ، ثُمَّ يَكُونُ تَارَةً مَرْجُوحًا أَو مَنْهِيًّا عَنْهُ؛ كَالصَّلَاةِ، فَإِنَّهَا أَفْضَلُ مِن قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِن الذِّكْرِ، وَالذِّكْرُ أَفْضَلُ مِن الدُّعَاءِ، ثُمَّ الصَّلَاةُ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ -كَمَا بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ وَوَقْتِ الْخُطْبَةِ- مَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَالِاشْتِغَالُ حِينَئِذٍ إمَّا بِقِرَاءَةٍ أَو ذِكْرٍ أَو دُعَاءٍ أَو اسْتِمَاعٍ أَفْضَلُ مِن ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِن الذِّكْرِ، ثُمَّ الذِّكْرُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ هُوَ الْمَشْرُوعُ دُونَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. [22/ 308 - 309]
2192 -
تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ أَيُّمَا أَفْضَلُ: كَثْرَةُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَو طُولُ الْقِيَامِ أَو هُمَا سَوَاءٌ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ عَن أَحْمَد وَغَيْرِهِ: الصَّحِيحُ: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ، الْقِيَامُ فِيهِ أَفْضَلُ الْأَذْكَارِ، وَالسُّجُودُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ فَاعْتَدَلَا؛ وَلهَذَا كَانَت صَلَاةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُعْتَدِلَةً يَجْعَلُ الْأَرْكَانَ قَرِيبًا مِن السِّوَاءِ. [14/ 6]
2193 -
الْأَفْضَلُ لَهُ [أي: للمسلم] مِنَ الْأَعْمَالِ مَا كَانَ أَنْفَعَ لَهُ، وَهَذَا يَتَنَوَّعُ تَنَوُّعًا عَظِيمًا، فَأَكْثَرُ الْخَلْقِ يَكُونُ الْمُسْتَحَبُّ لَهُم مَا لَيْسَ هُوَ الْأَفْضَلَ مُطْلَقًا؛ إذ أَكْثَرُهُم لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْأَفْضَلِ وَلَا يَصْبِرُونَ عَلَيْهِ إذَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، وَقَد لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ؛ بَل قَد يَتَضَرَّرُونَ إذَا طَلَبُوهُ، مِثْلُ مَن لَا يُمْكِنُهُ فَهْمُ الْعِلْمِ الدَّقِيقِ إذَا طَلَبَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَد يُفْسِدُ عَقْلَهُ وَدِينَهُ، أَو مَن لَا يُمْكنُهُ الصَّبْرُ عَلَى مَرَارَةِ الْفَقْرِ، وَلَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَلَى حَلَاوَةِ الْغِنَى، أَو لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ فِتْنَةِ الْوِلَايةِ عَن نَفْسِهِ وَالصَّبْرِ عَلَى حُقُوقِهَا
(1)
. [19/ 119]
2194 -
فَضَائِلُ الْأَعْمَالِ إنَّمَا هِيَ بِنَتَائِجِهَا وَعَوَاقِبِهَا لَا بِصُوَرِهَا
(2)
. [4/ 434]
2195 -
أَفْضَلُ الْجِهَادِ وَالْعَمَلِ الصَّالِح: مَا كَانَ أَطْوَعَ لِلرَّبِّ وَأَنْفَعَ لِلْعَبْدِ، فَإِذَا كَانَ يَضُرُّهُ ويمْنَعُهُ مِمَّا هُوَ أَنْفَع مِنْهُ لَمْ يَكُن ذَلِكَ صَالِحًا. [22/ 300]
2196 -
إِنَّ جِنْسَ الدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ ثَنَاءٌ وَعِبَادَةٌ أَفْضَلُ مِن جِنْسِ الدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ سُؤَالٌ وَطَلَبٌ، وَإِن كَانَ الْمَفْضُولُ قَد يُفَضَّلُ عَلَى الْفَاضِلِ فِي مَوْضِعِهِ الْخَاصِّ بِسَبَبِ وَبِأَشْيَاءَ أُخَرَ، كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ مِن الْقِرَاءَةِ، وَالْقِرَاءَةَ أَفْضَلُ مِن الذِّكْرِ الَّذِي هُوَ ثَنَاءٌ، وَالذِّكْرَ أَفْضَلُ مِن الدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ سُؤَالٌ، وَمَعَ هَذَا
(1)
هذه قاعدةٌ عظيمة قلّ من يتنبه لها، ومن فهمها وعمل بها انتفع انتفاعًا كبيرًا.
(2)
فالجهاد من أفضل الأعمال، لكن إذا أدى بصاحبه إلى تفريق كلمة المسلمين، وسفك الدماء المعصومة: لم يكن الجهاد في حقه فاضلًا، والعلمُ من أفضل الأعمال، لكن إذا أدى بصاحبه إلى العلو والترفع على غيره، والتكبر على الناس، أو التسلط عليهم، والقدح فيهم: لم يكن العلم في حقه فاضلًا.
فَالْمَفْضُولُ لَهُ أَمْكنَةٌ وَأَزْمِنَةٌ وَأَحْوَالٌ يَكُونُ فِيهَا أَفْضَلَ مِن الْفَاضِلِ.
2197 -
لَكِنَّ أَوَّلَ الدِّينِ وَآخِرَهُ وَظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ هُوَ التَّوْحِيدُ، وَإِخْلَاصُ الدِّينِ كُلِّهِ للهِ هُوَ تَحْقِيقُ قَوْلِ: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ. [10/ 263 - 264]
2198 -
السُّكُوتُ بِلَا قِرَاءَةٍ وَلَا ذِكْرٍ وَلَا دُعَاءٍ لَيْسَ عِبَادَةً وَلَا مَأْمُورًا بِهِ؛ بَل يَفْتَحُ بَابَ الْوَسْوَسَةِ؛ فَالِاشْتِغَالُ بِذِكْرِ اللهِ أَفْضَلُ مِن السُّكوتِ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ مِن أَفْضَلِ الْخَيْرِ. [23/ 285 - 286]
* * *
(مسألة تفضيل بعض الأعمال على بعض)
2199 -
قَد يَكُونُ الْعَمَلُ الْمَفْضُولُ أَفْضَلَ بِحَسَبِ حَالِ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ؛ لِكَوْنِهِ عَاجِزًا عَن الْأَفْضَلِ، أَو لِكَوْنِ مَحَبَّتِهِ وَرَغْبَتِهِ وَاهْتِمَامِهِ وَانْتِفَاعِهِ بِالْمَفْضُولِ أَكْثَرَ، فَيَكُونُ أَفْضَلَ فِي حَقِّهِ لِمَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِن مَزِيدِ عَمَلِهِ وَحُبِّهِ وَإِرَادَتِهِ وَانْتِفَاعِهِ، كَمَا أَنَّ الْمَرِيضَ يَنْتَفِعُ بِالدَّوَاءِ الَّذِي يَشْتَهِيهِ مَا لَا يَنْتَفِعُ بِمَا لَا يَشْتَهِيهِ وَإِن كَانَ جِنْسُ ذَلِكَ أَفْضَلَ.
وَمِن هَذَا الْبَابِ صَارَ الذِّكْرُ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ خَيْرًا مِن الْقِرَاءَةِ، وَالْقِرَاءَةُ لِبَعْضِهِمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ خَيْرًا مِن الصَّلَاةِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ؛ لِكَمَالِ انْتِفَاعِهِ بِهِ لَا لِأَنَّهُ فِي جِنْسِهِ أَفْضَلُ.
وَهَذَا الْبَابُ: "بَابُ تَفْضِيلِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ عَلَى بَعْضٍ" إنْ لَمْ يُعْرَفْ فِيهِ التَّفْضِيلُ
(1)
، وَأَنَّ ذَلِكَ قَد يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ الْأَحْوَالِ فِي كَثِيرٍ مِن الْأَعْمَالِ وَإِلَّا وَقَعَ فِيهَا اضْطِرَابٌ كَثِيرٌ.
فَإِنَّ فِي النَّاسِ مَن إذَا اعْتَقَدَ اسْتِحْبَابَ فِعْلٍ وَرُجْحَانَهُ يُحَافِظُ عَلَيْهِ مَا لَا يُحَافِظُ عَلَى الْوَاجِبَاتِ، حَتَّى يَخْرُجَ بِهِ الْأَمْرُ إلَى الْهَوَى وَالتَّعَصُّبِ وَالْحَمِيَّةِ
(1)
هكذا في الأصل وفي جميع المصادر التي وقفت عليها، ولعل الصواب:(التَّفْصيلُ)، بالصاد المهملة؛ وسياق الكلام يقتضيه. والله أعلم.
الْجَاهِلِيَّةِ، كَمَا تَجِدُهُ فِيمَن يَخْتَارُ بَعْضَ هَذِهِ الْأُمُورِ فَيَرَاهَا شِعَارًا لِمَذْهَبِهِ. [24/ 198 - 199]
2200 -
هُنَا أَصْلٌ يَنْبَغِي أَنْ نَعْرِفَة: وَهُوَ أَنَّ الشَّيءَ إذَا كَانَ أَفْضَلَ مِن حَيْثُ الْجُمْلَة لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ فِي كُلِّ حَالٍ وَلَا لِكُلِّ أَحَدٍ؛ بَل الْمَفْضُولُ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي شُرعَ فِيهِ أَفْضَلُ مِن الْفَاضِلِ الْمُطْلَقِ، كَمَا أَنَّ التَّسْبِيحَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَفْضَلُ مِن قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَمِن التَّهْلِيلِ وَالتَّكبِيرِ، وَالتَّشَهُّدِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءُ بَعْدَهُ أَفْضَلُ مِن قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. [24/ 236]
وَكَذَلِكَ أَيْضًا: أَكْثَز النَّاسِ يَعْجِزُونَ عَن أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ، فَلَو أُمِرُوا بِهَا لَفَعَلُوهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، أَو يَنْتَفِعُونَ انْتِفَاعًا مَرْجُوحًا، فَيَكُونُ فِي حَقِّ أَحَدِ هَؤُلَاءِ الْعَمَلُ الَّذِي يُنَاسِبُهُ وينْتَفِعُ بِهِ أَفْضَلُ لَهُ مِمَّا لَيْسَ كَذَلِكَ.
* * *
(القاعدة في صفات العبادات وفوائد العمل بها)
2201 -
قَاعِدَتُنَا فِي هَذَا الْبَاب أَصَحُّ الْقَوَاعِدِ: أَنَّ جَمِيعَ صِفَاتِ الْعِبَادَاتِ مِن الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ إذَا كَانَت مَأْثُورَةً أَثَرًا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهِ لَمْ يُكرَهْ شَيءٌ مِن ذَلِكَ؛ بَل يُشْرَعُ ذَلِكَ كُلُّهُ، كَمَا قُلْنَا فِي أَنْوَاعِ صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَفِي نَوْعَي الْأَذَانِ: التَّرْجِيعِ وَتَرْكِهِ، وَنَوْعَي الْإِقَامَةِ شَفْعِهَا وَإِفْرَادِهَا، وَكَمَا قُلْنَا فِي أَنْوَاعِ التَّشَهُّدَاتِ، وَأَنْوَاعِ الِاسْتِفْتَاحَاتِ، وَأَنْوَاعِ الِاسْتِعَاذَاتِ، وَأَنْوَاعِ الْقِرَاءَاتِ، وَأَنْوَاعِ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ الزَّوَائِدِ، وَأَنْوَاعِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَسُجُودِ السَّهْوِ، وَالْقُنُوتِ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَبَعْدَهُ، وَالتَّحْمِيدِ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ وَحَذْفِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ.
لَكِنْ قَد يُسْتَحَبُّ بَعْضُ هَذ الْمَأْثُورَاتِ وَيُفَضَّلُ عَلَى بَعْضٍ إذَا قَامَ دَلِيلٌ يُوجِبُ التَّفْضِيلَ وَلَا يُكْرَهُ الْآخَرُ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْمُكَلَّفُ أَنْ يَجْمَعَ فِي الْعِبَادَةِ الْمُتَنَوِّعَةِ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ، لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِتَشَهُّدَيْنِ مَعًا، وَلَا بِقِرَاءَتَيْنِ مَعًا، وَلَا
بِصَلَاتَيْ خَوْفٍ مَعًا، وَإِن فَعَلَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ كَانَ ذَلِكَ مَنْهِيًّا عَنْهُ؛ فَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مُحَرَّمٌ تَارَةً، وَمَكْرُوةٌ أُخْرَى، وَلَا تَنْظُرْ إلَى مَن قَد يَسْتَحِبُّ الْجَمْعَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ، مِثْلُ مَا رَأَيْت بَعْضَهُم قَد لَفَّقَ أَلْفَاظَ الصَّلَوَاتِ عَلَى النَّبِيِّ الْمَأْثُورَةِ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاسْتَحَبَّ فِعْلَ ذَلِكَ الدُّعَاءِ الْمُلَفَّقِ.
فَإِنَّ هَذَا أَوَّلًا: لَيْسَ سُنَّةً؛ بَل خِلَافُ الْمَسْنُونِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ جَمِيعَهُ جَمِيعًا، وَإِنَّمَا كَانَ يَقُولُ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً، إنْ كَانَ الْأَمْرَانِ ثَابِتَيْنِ عَنْهُ؛ فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لَيْسَ سُنَّةً؛ بَل بِدْعَةٌ وَإِن كَانَ جَائِزًا
(1)
.
الثَّانِي: أَنَّ جَمْعَ أَلْفَاظِ الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ الْوَاحِدِ عَلَى وَجْهِ التَّعَبُّدِ، مِثْلُ جَمْعِ حُرُوفِ الْقُرَّاءِ كُلِّهِمْ لَا عَلَى سَبِيلِ الدَّرْسِ وَالْحِفْظِ، لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ التِّلَاوَةِ وَالتَّدَبُّرِ مَعَ تَنَوُّعِ الْمَعَانِي؛ مِثْل أَنْ يَقْرَأَ فِي الصَّلَاةِ:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10]. {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} .
{رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} [سبأ: 19]{بَعِّدْ بَيْنِ أَسْفَارِنَا} .
{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} [الأعراف: 157]{آصَارَهُم} .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ قَبِيحَةٌ
(2)
.
وَإِذَا كَانَت هَذِهِ الْعِبَادَاتُ الْقَوْلِيَّةُ أَو الْفِعْلِيَّةُ لَا بُدَّ مِن فِعْلِهَا عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ كَمَا لَا بُدَّ مِن قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ: لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكونَ كُلُّ مَن فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ إنَّمَا يَفْعَلُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَفْضَلِ عِنْدَهُ، أَو قَد لَا يَكُونُ فِيهَا أَفْضَلَ.
وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الطُّرُقِ إلَى مَكَّةَ
(3)
، فَكُلُّ أَهْلِ نَاحِيَةٍ يَحُجُّونَ مِن
(1)
هذا يدل على أن هناك بدعٌ لا تكون محرمةً.
(2)
وكما قرأ أحدهم في زماننا هذا: مالك يوم الدين، ملك يوم الدين، حيث جمع بينهما في وقت واحد في الصلاة!
(3)
هذه العبارة مستعملة من القدم، ولا يصح أن يُقال: إنها محرفة من قول النصارى: كل الطرق تؤدي إلى روما.
طَرِيقِهِمْ، وَلَيْسَ اخْتِيَارُهُم لِطَرِيقِهِمْ لِأَنَّهَا أَفْضَلُ، بِحَيْثُ يَكُونُ حَجُّهُم أَفْضَلَ مِن حَجِّ غَيْرِهِمْ؛ بَل لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِن طَرِيقٍ يَسْلُكُونَهَا فَسَلَكُوا هَذِهِ إمَّا لِيُسْرِهَا عَلَيْهِمْ، وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِن كَانَ الْجَمِيعُ سَوَاءً.
فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ اخْتِيَارِ بَعْضِ الْوُجُوهِ الْمَشْرُوعَةِ لِفَضْلِهِ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ مُخْتَارِهِ، وَبَيْنَ كَوْنِ اخْتِيَارِ وَاحِدٍ مِنْهَا ضَرُورِيًّا.
وَالْمُرَجَّحُ لَهُ عِنْدَهُ: سُهُولَتُهُ عَلَيْهِ أَو غَيْرُ ذَلِكَ.
وَالسَّلَفُ كَانَ كُلّ مِنْهُم يَقْرَأُ وَيُصَلِّي ويدْعُو ويذْكُرُ عَلَى وَجْهٍ مَشْرُوعٍ، وَأَخَذَ ذَلِكَ الْوَجْهَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ وَأَهْلُ بُقْعَتِهِ، وَقَد تَكُونُ تِلْكَ الْوُجُوهُ سَوَاءً، وَقَد يَكُونُ بَعْضُهَا أَفْضَلَ، فَجَاءَ فِي الْخَلَفِ مَن يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَ اخْتِيَارَهُ لِمَا اخْتَارَهُ لِفَضْلِهِ، فَجَاءَ الْآخَرُ فَعَارَضَهُ فِي ذَلِكَ، وَنَشَأَ مِن ذَلِكَ أَهْوَاءٌ مُرْدِيَةٌ مُضِلَّةٌ، فَقَد يَكُونُ النَّوْعَانِ سَوَاءً عِنْدَ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَتَرَى كُلُّ طَائِفَةٍ طَرِيقَهَا أَفْضَلَ، وَتُحِبُّ مَن يُوَافِقُهَا عَلَى ذَلِكَ، وَتُعْرِضُ عَمَّن يَفْعَلُ ذَلِكَ الْآخَرَ، فَيُفَضِّلُونَ مَا سَوَّى اللهُ بَيْنَهُ، ويسَوُّونَ مَا فَضَّلَ اللهُ بَيْنَهُ، وَهَذَا بَابٌ مِن أَبْوَابِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي دَخَلَ عَلَى الْأُمَّةِ، وَقَد نَهَى عَنْهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.
فَالْوَاجِبُ أَنَّ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ لَا يُفَضَّلُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ إلا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، لَا يُجْعَلُ نَفْسُ تَعْيِينٍ وَاحِدٍ مِنْهَا لِضَرُورَةِ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ مُوجِبًا لِرُجْحَانِهِ.
لَكِنْ هُنَا مَسْأَلَةٌ تَابِعَةٌ: وَهُوَ أَنَّهُ مَعَ التَّسَاوِي أَو الْفَضْلِ أَيُّمَا أَفْضَلُ لِلْإِنْسَانِ: الْمُدَاوَمَةُ عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ مِن ذَلِكَ، أَو أَنْ يَفْعَلَ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ؟
فَمِن النَّاسِ مَن يُدَاوِمُ عَلَى نَوْعٍ مِن ذَلِكَ مُخْتَارًا لَهُ أَو مُعْتَقِدًا أَنَّهُ أَفْضَلُ، وَيَرَى أَنَّ مُدَاوَمَتَهُ عَلَى ذَلِكَ النَّوْعِ أَفْضَلُ.
وَأَمَّا أَكْثَرُهُم فَمُدَاوَمَتُهُ عَادَةٌ وَمُرَاعَاةٌ لِعَادَةِ أَصْحَابِهِ وَأَهْلِ طَرِيقَتِهِ لَا
لِاعْتِقَادِ الْفَضْلِ
(1)
.
وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: التَّنَوُّعُ فِي ذَلِكَ مُتَابَعَةٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ فِي هَذَا اتِّباعًا لِلسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَإِحْيَاءً لِسُنَّتِهِ، وَجَمْعًا بَيْنَ قُلُوبِ الْأُمَّةِ، وَأَخْذًا بِمَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِن الْخَاصَّةِ -: أَفْضَلُ مِن الْمُدَاوَمَةِ عَلَى نَوْعٍ مُعَيَّنٍ لَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِوُجُوهِ:
أَحَدُهَا: أنَّ هَذَا هُوَ اتِّبُاعُ السُّنَّةِ.
الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ اجْتِمَاعَ قُلُوبِ الْأُمَّةِ وَائتِلَافَهَا وَزَوَالَ كَثْرَةِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ وَالْأَهْوَاءِ بَيْنَهَا.
الثَّالِثُ: أَنَّ ذَلِكَ يُخْرِجُ الْجَائِزَ الْمَسْنُونَ عَن أَنْ يُشَبَّهَ بِالْوَاجِبِ، فَإِنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى الْمُسْتَحَبِّ أَو الْجَائِزِ مُشَبَّهَةٌ بِالْوَاجِبِ.
وَلهَذَا أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الْمُدَاوِمِينَ عَلَى بَعْضِ الْأَنْوَاعِ الْجَائِزَةِ أَو الْمُسْتَحَبَّةِ لَو انْتَقَلَ عَنْهُ لنُفَرَ عَنْهُ قَلْبُهُ وَقَلْبُ غَيْرِهِ: أَكْثَرُ مِمَّا يَنْفِرُ عَن تَرْكِ كَثِيرٍ مِن الْوَاجِبَاتِ؛ لِأَجْلِ الْعَادَةِ الَّتِي جَعَلَتْ الْجَائِزَ كَالْوَاجِبِ.
الرَّابعُ: أَنَّ فِي ذَلِكَ تَحْصِيلَ مَصْلَحَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِن تِلْكَ الْأَنْوَاعِ، فَإِنَّ كُلَّ نَوْعٍ لَا بُدَّ لَهُ مِن خَاصَّةٍ وَإِن كَانَ مَرْجُوحًا.
الْخَامِسُ: أَنَّ فِي ذَلِكَ وَضْعًا لِكَثِيرٍ مِن الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي وَضَعَهَا الشَّيْطَانُ عَلَى الْأُمَّةِ بِلَا كِتَاب مِن اللهِ وَلَا أَثَارَةٍ مِن عِلْمٍ؛ فَإِنَّ مُدَاوَمَةَ الْإِنْسَانِ عَلَى أَمْرٍ جَائِزٍ مُرَجِّحًا لَهُ عَلَى غَيْرِهِ تَرْجِيحًا يُحِبُّ مَن يُوَافِقُهُ عَلَيْهِ وَلَا يُحِبُّ مَن لَمْ يُوَافِقْهُ عَلَيْهِ؛ بَل رُبَّمَا أَبْغَضَهُ بِحَيْثُ يُنْكِرُ عَلَيْهِ تَرْكَهُ لَهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَرْكِ حُقُوقٍ لَهُ وَعَلَيْهِ: يُوجِبُ أَنَّ ذَلِكَ يَصِيرُ إصْرًا عَلَيْهِ لَا يُمْكِنُهُ تَرْكُهُ، وَغلًّا فِي عُنُقِهِ يَمْنَعُهُ أَنْ يَفْعَلَ بَعْضَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَقَد يُوقِعُهُ فِي بَعْضِ مَا نهِيَ عَنْهُ.
(1)
وهذا ما عليه الكثير من الناس وخاصة عوامهم، فهم على ما اعتادوا عليه وألفوه، لا على ما رأوه موافقًا لِمَا عليه نبيهم عليه الصلاة والسلام وأصحابُه.
وَهَذَا الْقَدْرُ الَّذِي قَد ذَكَرْتُه وَاقِعٌ كَثِيرًا، فَإِنَّ مَبْدَأَ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى ذَلِكَ يُورِثُ اعْتِقَادًا وَمَحَبًةً غَيْرَ مَشْرُوعَيْنِ، ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِغَيْرِ حَقٍّ، ثُمَّ يَخْرُجُ ذَلِكَ إلَى نَوْعٍ مِن الْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ غَيْرِ الْمَشْرُوعَيْنِ مِن جِنْسِ أَخْلَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ.
السَّادِسُ: أَنَّ فِي الْمُدَاوَمَةِ عَلَى نَوْعٍ دُونَ غَيْرِهِ: هِجْرَانًا لِبَعْضِ الْمَشْرُوعِ، وَذَلِكَ سَبَبٌ لِنِسْيَانِهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ، حَتَّى ئعْتَقَدَ أَنَّهُ لَيْسَ مِن الدِّينِ، بِحَيْثُ يَصِيرُ فِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِن الْعَامَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ مِن الدِّينِ.
وَهجْرَانُ بَعْضِ الْمَشْرُوعِ سَبَبٌ لِوُقُوعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة: 14].
فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ نِسْيَانَهُم حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ سَبَبٌ لِإِغْرَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَهُمْ.
فَإِذَا اتَّبَعَ الرَّجُلُ جَمِيعَ الْمَشْرُوعِ الْمَسْنُونِ، وَاسْتَعْمَلَ الْأَنْوَاعَ الْمَشْرُوعَةَ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً: كَانَ قَد حُفِظَت السُّنَّةُ عِلْمًا وَعَمَلًا، وَزَالَتْ الْمَفْسَدَةُ الْمَخُوفَةُ مِن تَرْكِ ذَلِكَ.
السَّابِعُ: أَنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَالْعَدْلُ: التَّسْوِيةُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، وَحَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ وَجَعَلَهُ محَرَّمًا بَيْنَ عِبَادِهِ، وَمِن أَعْظَمِ الْعَدْلِ: الْعَدْلُ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، فَإِنَّ الْعَدْلَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا مِن الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ كَالْقِصَاصِ وَالْمَوَارِيثِ وَإِن كَانَ وَاجِبًا وَتَرْكُهُ ظُلْمٌ فَالْعَدْلُ فِي أَمْرِ الدِّينِ أَعْظَمُ مِنْهُ، وَهُوَ الْعَدْلُ بَيْنَ شَرَائِعِ الدِّينِ وَبَيْنَ أَهْلِهِ.
فَإِذَا كَانَ الشَّارعُ قَد سَوَّى بَيْنَ عَمَلَيْنِ أَو عَامِلَيْنِ: كَانَ تَفْضِيلُ أَحَدِهِمَا مِن الظُّلْمِ الْعَظِيمِ، وَإِذَا فَضَّلَ بَيْنَهُمَا كَانَت التَّسْوِيَةُ كَذَلِكَ.
وَالتَّفْضِيلُ أَو التَّسْوِيَةُ بِالظَّنِّ وَهَوَى النُّفُوسِ مِن جِنْسِ دِينِ الْكُفَّارِ، فَإِنَّ جَمِيعَ أَهْلِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ يُفَضِّلُ أَحَدُهُم دِينَهُ إمًا ظَنًّا وَإِمَّا هَوًى، إمَّا اعْتِقَادًا وَإِمَّا اقْتِصَادًا، وَهُوَ سَبَبُ التَّمَسُّكِ بِهِ وَذَمُّ غَيْرِهِ.
فَإِذَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَد شَرَعَ تِلْكَ الْأَنْوَاعَ إمَّا بِقَوْلِهِ وَإِمَّا بِعَمَلِهِ، وَكَثِيرٌ مِنْهَا لَمْ يُفَضِّلْ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ: كَانَت التَّسْوِيَةُ بَيْنَهَا مِن الْعَدْلِ وَالتَّفْضِيلُ مِن الظُّلْمِ.
وَكَثِيرٌ مِمَّا تتنَازَعُ الطَّوَائِفُ مِن الْأُمَّةِ فِي تَفَاضُلِ أَنْوَاعِهِ: لَا يَكُونُ بَيْنَهَا تَفَاضُلٌ بَل هِيَ مُتَسَاوَيةٌ .. ثُمَّ تَجِدُ أَحَدَهُم يَسْأَلُ: أَيُّمَا أَفْضَلُ هَذَا أَو هَذَا؟!
وَهِيَ مَسْأَلَةٌ فَاسِدَةٌ، فَإِنَّ السُّؤَالَ عَن التَّعْيِينِ فَرْعُ ثُبُوتِ الْأَصْلِ، فَمَن قَالَ: إنَّ بَيْنَهُمَا تَفَاضُلًا حَتَّى نَطْلُبَ عَيْنَ الْفَاضِلِ؟
وَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ: هَذَانِ مُتَمَاثِلَانِ أَو مُتَفَاضِلَانِ، وَإِن كَانَا مُتَفَاضِلَيْنِ: فَهَل التَّفَاضُلُ مُطْلَقًا أَو فِيهِ تَفْصِيلٌ، بِحَيْثُ يَكُونُ هَذَا أَفْضَلَ فِي وَقْتٍ وَهَذَا أَفْضَلَ فِي وَقْتٍ؟
ثُمَّ إذَا كَانَت الْمَسْأَلَةُ كَمَا تَرَى فَغَالِبُ الْأَجْوِبَةِ صَادِرَةٌ عَن هَوًى وَظُنُونٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ.
وَمِن أَكْبَرِ أَسْبَابِ ذَلِكَ: الْمُدَاوَمَةُ عَلَى مَا لَمْ تُشْرَع الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ
(1)
. [24/ 242 - 252]
* * *
(1)
فالواجب على طلاب العلم أنْ يحرصوا على تطبيق السُّنن الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا تُهجر، ويُعلِّموا الناس قولًا وعملًا أنواع العبادات والطاعات.
قواعد في العبادات
2202 -
الْأَصْلُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ: أَنَّ مَن فَعَلَ مَحْظُورًا نَاسِيًا لَمْ يَكُن قَد فَعَلَ مَنْهِيًّا عَنْهُ، فَلَا يَبْطُلُ بِذَلِكَ شَيْءٌ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَطْءِ وَغَيْرِهِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي إحْرَامٍ أَو صِيَامٍ. [20/ 573]
2203 -
الصَّحِيح: أَنَّ كلَّ مَن فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ بِحَسَبِ قُدْرَتهِ مِن غَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ وَلَا عُدْوَانٍ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ، لَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا فِي الصِّيَامِ وَلَا الْحَجِّ، وَلَمْ يُوجِبِ اللهُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ مَرَّتَيْنِ، وَلَا يَصُومَ شَهْرَيْنِ فِي عَامٍ، وَلَا يَحُجَّ حجين، إلَّا أَنْ يَكونَ مِنْهُ تَفْرِيطٌ أَو عُدْوَان
(1)
. [21/ 440 - 441]
* * *
طاعة الله عز وجل
2204 -
الْإِنْسَانُ إذَا كَانَ مُقِيمًا عَلَى طَاعَةِ اللهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا كَانَ فِي نَعِيمِ الْإِيمَانِ، وَالْعِلْمُ وَارِدٌ عَلَيْهِ مِن جِهَاتِهِ، وَهُوَ فِي جَنَّةِ الدُّنْيَا.
وَكُلَّمَا كَانَ قَلْبُهُ فِي مَحَبَّةِ اللهِ وَذِكْرِهِ وَطَاعَتِهِ كَانَ مُعَلَّقًا بِالْمَحَلِّ الْأَعْلَى، فَلَا يَزَالُ فِي عُلُوٍّ مَا دَامَ كَذَلِكَ، فَإِذَا أَذْنَبَ هَبَطَ قَلْبُهُ إلَى أَسْفَلَ، فَلَا يَزَالُ فِي هُبُوطٍ مَا دَامَ كَذَلِكَ، وَوَقَعَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَمْثَالِهِ عَدَاوَةٌ؛ فَإنْ أَرَادَ اللهُ بِهِ خَيْرًا ثَابَ وَعَمِلَ فِي حَالِ هُبُوطِ قَلْبِهِ إلَى أَنْ يَسْتَقِيمَ فَيَصْعَدُ قَلْبُهُ. [14/ 160 - 161]
2205 -
إِنَّ جَمْعَ الْأَمْوَالِ مِنْ غَيْرِ إنْفَاقِهَا فِي مَوَاضِعِهَا الْمَأْمُورِ بِهَا، وَأَخْذَهَا مِنْ غَيْرِ وَجْهِهَا: هُوَ مِنْ نَوْعِ الْفَسَادِ.
وَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ إذَا اخْتَارَ السُّلْطَانَ لِنَفْسِهِ بِغَيْرِ الْعَدْلِ وَالْحَقِّ: لَا يَحْصُلُ إلَّا بِفَسَادٍ وَظُلْمٍ.
(1)
كرر الشيخ هذه القاعدة وأعادها في كثير من المواضع، منها -غير ما تقدّم- (21/ 632، 22/ 34، 22/ 106).
وَأَمَّا نَفْسُ وُجُودِ السُّلْطَانِ وَالْمَالِ الَّذِي يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ، وَالْقِيَامُ بِالْحَقِّ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَيُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ، وَلَا يَفْتُرُ الْقَلْبُ عَن مَحَبَّةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَلَا يَصُدُّهُ عَن ذِكْرِ اللهِ: فَهَذَا مِن أَكْبَرِ نِعَمِ اللهِ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ إذَا كَانَ كَذَلِكَ.
وَلَكِنْ قَلَّ أَنْ تَجِدَ ذَا سُلْطَانٍ أَو مَالٍ إلَّا وَهُوَ مُبْطِئٌ مُثْبِطٌ عَن طَاعَةِ اللهِ وَمَحَبَّتِهِ، مُتَّبعٌ هَوَاهُ فِيمَا آتاهُ اللهُ. [20/ 143 - 144]
* * *
(إذا بادرت النفس إلى الطاعة طواعية
…
)
2206 -
إذا ارتاضت نفس العبد على الطاعة وانشرحت بها وتنعمت بها وبادرت إليها طواعية ومحبة كان أفضل ممن يجاهد نفسه على الطاعات ويكرهها عليها، وهو قول الجنيد وجماعة من أهل البصرة. [المستدرك 1/ 153]
* * *
بَاب النِّيَّة
2207 -
مَحل النِّيَّة الْقلب بانفاق الْأَئِمَّة الْأرْبَعَة وَغَيرهم، إِلَّا بعض الْمُتَأَخِّرين أوجب التَّلَفُّظ بهَا وَهُوَ مَسْبُوق بِالْإِجْمَاع، وَلَكِن تنازعوا هَل يسْتَحبّ التَّلَفُّظ بهَا، مَعَ انفاقهم على أَنه لَا يشرع الْجَهْر بهَا وَلَا تكرارها:
فاستحب التَّلَفُّظ بهَا طَائِفَة من أَصْحَاب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد، وَلم يستحبه آخَرُونَ وَغَيرهمَا، وَهَذَا أقوى؛ فَإِن ذَلِك بِدعَة لم يَفْعَلهَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَلَا أحد من الصَّحَابَة.
وَأما مُقَارنَة النِّيَّة للتكبير فَفِيهَا قَولَانِ مشهوران
أَحدهمَا: لَا يجب كَمَا هُوَ مَذْهَب أَحْمد وَغَيره.
وَالثَّانِي: يجب كَمَا هُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي وَغَيره.
والمقارنة الْمَشْرُوطَة قد تفسر بِوُقُوع التَّكْبِير عقيب النِّيَّة، وَهَذَا مُمكن لَا صعوبة فِيهِ؛ بَل عَامَّة النَّاس هَكَذَا يصلونَ بل هَذَا أَمر ضَرُورِيّ، وَلَو كلفوا تَركه لعجزوا عَنهُ.
وَقد تفسر بانبساط أَجزَاء النِّيَّة على أَجزَاء التَّكْبِير بِحَيْثُ يكون أَولهَا مَعَ أوله وَآخِرهَا مَعَ آخِره، وَهَذَا لَا يَصح؛ لِأنَّهُ يَقْتَضِي عزوب النِّيَّة فِي أول الصَّلَاة وخلو أَولهَا عَن النِّيَّة الْوَاجِبَة.
وَقد تفسر بِحُضُور جَمِيع النِّيَّة مَعَ جَمِيع أجزَاء التَّكْبِير، وَهَذَا قد نوزع فِي إِمْكَانه، فَمنهمْ من قَالَ: إِنَّه غير مُمكن وَلَا مَقْدُور للبشر فضلًا عَن وُجُوبه، وَلَو قيل بإمكانه فَهُوَ متعسر جدًّا فَيسْقط بالحرج.
وَمِمَّا يبطل هَذَا وَالَّذِي قبله: أن المكبر يَنْبَغِي لَهُ أَن يتدبر التَّكْبِير ويتصوره فَيكون قلبه مَشْغُولًا بِمَعْنى التَّكْبِير لَا يشْغلهُ بِغَيْر ذَلِك من استحضار الْمَنوِي.
والجهر بهَا وتكريرها منهيٌّ عَنهُ، وفاعله مسيء، وَإِن اعتقده دينًا فقد خرج عَن إِجْمَاع الْمُسلمين، يُعَرَّف ذَلِك، فَإِن أصر قتل، وَيجب تَعْرِيفه ذَلِك.
وَلَو قَالَ: كل يعْمل فِي دينه مَا يَشْتَهِي فَهِيَ كلمة عَظِيمَة يجب أَن يُسْتَتَاب مِنْهَا أَيْضًا.
فَإِن أصر على الْجَهْر بِالنِّيَّةِ عزّر، وَإِن عزل عَن الْإِمَامَة إِذا لم ينْتَه كَانَ لعزله وَجه، فقد عزل النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِمَامًا لأجل بزاقه فِي الْقبْلَة، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
فَإِن الإِمَام عَلَيْهِ أَن يُصَلِّي كَمَا كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم، لَيْسَ لَهُ أن يقْتَصر على مَا يقْتَصر عَلَيْهِ الْمُنْفَرد؛ بَل ينْهَى عَن التَّطْوِيل وَالتَّقْصِير، فَكيف إِذا أصر على مَا ينْهَى عَنهُ الإِمَام وَالْمَأْمُوم وَالْمُنْفَرد. [مختصر الفتاوى المصريّة 9 - 10]
2208 -
نِيَّة الْمُؤمن خير من عمله: هَذَا قَالَه غير وَاحِد بَعضهم يرفعهُ، وَبَيَانه من وُجُوه:
أَحدهَا: أَن النِّيَّة الْمُجَرَّدَة عَن الْعَمَل يُثَاب عَلَيْهَا، وَالْعَمَل بِلَا نِيَّة لَا يُثَاب عَلَيْهِ.
الثانِي: أَن من رأى الْخَيْر وَعمل مقدوره مِنْهُ وَعجز عَن إكماله كَانَ لَهُ أجر عَامله؛ لقَوْله عليه الصلاة والسلام: "إِن بِالْمَدِينَةِ رجَالًا مَا سِرْثُمْ مسيرًا وَلَا قطعْتُمْ وَاديًا إِلَّا كَانُوا مَعكُمْ".
الثَّالِث: أَن الْقلب ملك الْبدن، والأعضاء جُنُوده، فَإِذا طَاب الْملك طابت جُنوده، وَإِذا خبث خبثت، وَالنِّيَّة عمل الْملك.
الرَّابِع: أَن تَوْبَة الْعَاجِز عَن الْمعْصِيَة تصح عِنْد أهل السُّنَّة؛ كتوبة الْمَجْبُوب من الزِّنَا وكتوبة الْأَخْرَس عَن الْقَذْف، وأصل التَّوْبَة عزم الْقلب.
الْخَامِس: أَن النِّيَّة لَا يدخلهَا فَسَاد؛ فَإِن أَصْلهَا حب الله وَرَسُوله وَاِرَادَة وَجه الله، وَهَذَا بِنَفسِهِ مَحْبُوب لله وَرَسُوله، مرضيٌّ لله وَرَسُوله، والأعمال الظَّاهِرِيَّة يدخلهَا آفات كَثِيرَة، وَلهَذَا كَانَت أَعمال الْقُلُوب الْمُجَرَّدَة أفضل من أَعمال الْبدن الْمُجَرَّدَة، كَمَا قيل: قُوَّة الْمُؤمن فِي قلبه، وَضَعفه فِي جِسْمه، وَالْمُنَافِق عَكسه. [مختصر الفتاوى المصريّة 11]
* * *