الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الطهارة
2209 -
التحقيق أن الطهارة لها معنيان:
أحدهما: الطهارة من الذنوب؛ كقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)} [الأحزاب: 33]، وقوله:{إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)} [الأعراف: 82].
والمعنى الثاني: الطهارة الحسية بالماء والتراب، وإنما أُمر بهذه لتتحقق تلك؛ فالفاعل للمنهي عنه خرج عن مقصود الطهارة، فيستحب له إعادة الوضوء، وأما أنه ينقض كالنقض بقضاء الحاجة فلا. [المستدرك 3/ 39]
باب المياه
2210 -
أَظْهَرُ الْأقْوَالِ فِي الْمِيَاهِ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ: أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَد، صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"الْمَاءُ لَا يَنْجُسُ"، وَنَهْيُهُ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ أَو عَنِ الِاغْتِسَالِ فِيهِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَصِيرُ نَجِسًا بِذَلِكَ؛ بَل قَد نَهَى عَنْهُ لِمَا يُفْضِي إلَيْهِ الْبَوْلُ بَعْدَ الْبَوْلِ مِن إفْسَادِهِ. [20/ 518 - 519]
2211 -
إنَّ الِاحْتِيَاطَ بِمُجَرَّدِ الشَّكِّ فِي أُمُورِ الْمِيَاهِ لَيْسَ مُسْتَحَبًّا وَلَا مَشْرُوعًا؛ بَل وَلَا يُسْتَحَبُّ السُّؤَالُ عَن ذَلِكَ، بَلِ الْمَشْرُوعُ أَنْ يُبْنَى الْأَمْرُ عَلَى الِاسْتِصْحَابِ، فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى النَّجَاسَةِ نَجَّسْنَاهُ، وَإِلَّا فَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُجْتَنَبَ اسْتِعْمَالُهُ بِمُجَرَّدِ احْتِمَالِ النَّجَاسَةِ، وَأَمَّا إذَا قَامَتْ أَمَارَةٌ ظَاهِرَةٌ فَذَاكَ مَقَامٌ آخَرُ. [21/ 56]
2212 -
اختلف العلماء في "الطهور" هل هو بمعنى "الطاهر" أم لا؟
وهذا النزاع معروف بين المتأخرين من أتباع الأئمة الأربعة.
قال كثير من أصحاب مالك وأحمد والشافعي: "الطهور" متعدٍّ، و "الطاهر" لازم.
وقال كثير من أصحاب أبي حنيفة: بل "الطاهر" هو "الطهور" وهو قول الخرقي.
وفصل الخطاب في المسألة: أن صيغة اللزوم والتعدي لفظ مجمل، يراد به اللزوم [الظاهر] والتعدي النحوي اللفظي، ويراد به التَّعدّي الفقهي.
فالأولُ أنْ يُرَادَ باللازم ما لم ينصب المفعول به، ويراد بالمتعدي ما نصب المفعول به
(1)
، فهذا لا تفرق العرب فيه [بين]"فاعل" و "فعول" في اللزوم [والتعدّي].
وأما التعدي [الحكمي] الفقهي: فيراد به أنَّ الماء [هو] الذي يُتطهر به في رفع الحدث، بخلاف ما كان [طاهرًا ولم يُتطهّر به] كالأدهان والألبان
(2)
.
وعلى هذا: فلفظ "طاهر" في الشرع أعمّ من لفظ "طهور"، فكلّ طهور طاهر، وليس كل طاهر طهورًا.
وقد غلط الفريقان في ظنهم أن "طهورًا" معدولٌ عن "طاهر"، وإنما هو اسم لما يُتطهر به؛ فإن العرب تقول: طَهور، ووَجور لما يُتطهر به، ويُوجَر به.
وبالضم
(3)
: للفعل الذي هو مسمى المصدر، فطُهور صيغة مبينة لما يُفعل
(1)
مثال الفعل اللازم: نام، قام، شبع، وهو لا ينصب مفعولًا به، وإذا أردت معرفة اللازم من المتعدي فضعه في سياق جملةٍ مفيدة، فإن احتاجت إلى مفعول به فالفعل متعد، وإن لم يحتج إلى مفعول به فهو لازم.
فإذا قلت: نام الرجل: تمت الجملة، وأما إذا قلت: ضَربَ محمدٌ: لم تتم الجملة حتى تأتي بالمفعول به.
(2)
ما بين المعقوفات من الاختيارات (6).
(3)
أي: طُهور، بضم الطاء.
به، وليس معدولًا عن طاهر، ولهذا قال تعالى في إحدى الآيتين:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)} [الفرقان: 48]، وقال في الآية الأخرى:{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11].
إذا عرفت هذا: فالطاهر يتناول الماء وغيره، وكذلك الطهور؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم "جعل التراب طهورًا".
ولكن لفظ "طاهر" يقع على جامدات كثيرة؛ كالثياب والأطعمة، وعلى مائعات كثيرة كالأدهان والألبان، وتلك لا يمكن أن يتطهر بها فهي طاهرة ليست بطهور.
قال بعض الناس: لا فائدة في النزاع في المسألة.
قال القاضي أبو يعلى: فائدته: أنه عندنا لا تجوز إزالة النجاسة بغير الماء؛ لاختصاصه بالتطهير، وعندهم يجوز ذلك لمشاركةِ غير الماء له في الطهارة
(1)
.
قال أبو العباس: وله فائدة أخرى: وهي أنَّ الماء يدفع النجاسة عن نفسه بكونه مطهِّرًا، كما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:"الماء طهور لا ينجسه شيء"
(2)
وغيره ليس بطهور فلا يدفع، وعندهم الجميع سواء.
وتجوز طهارة الحدث بكل ما يسمى ماء، وبمعتصر الشجر
(3)
، قاله ابن أبي ليلى والأوزاعي والأصم وابن شعبان، وبالمتغير بطاهر، وهو رواية عن أحمد رحمه الله، وهو مذهب أبي حنيفة، وبما خلت به امرأة لطهارة، وهو رواية عن أحمد رحمه الله تعالى وهو مذهب الأئمة الثلاثة.
(1)
في الأصل: (تجوز لمشاركته غير الماء فى الطهارة)، والتصوب من الاختيارات (7).
(2)
رواه أبو داود (66)، والترمذي (66)، والنسائي (326)، وأحمد (11257)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.
(3)
واختار في موضع آخر أن المياه المعتصرة طاهرة لا يجوز بها رفع الحدث. المستدرك (3/ 8).
وهذا أرجح.
وإن انفصل غير متغير بعد زوالها
(1)
: فهو طاهر، وإن كان على غير الأرض فهو طاهر، وهل يكون طهورًا؟ على وجهين والوجه الثاني: أنه طهور، قال المجد: وهو الصحيح، قال الشيخ تقي الدين: هذا أقوى. [المستدرك 3/ 5 - 10]
2213 -
لو سبَّل ماءً للشرب: هل يجوز الوضوء منه مع الكراهة، أم يحرم؟ على وجهين: وقيل: يكره الغسل لا الوضوء، واختاره شيخنا. [المستدرك 3/ 10]
2214 -
تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَاءِ الْجَارِي عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ومَالِكٍ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: أَنَّهُ كَالدَّائِمِ فَتُعْتَبَرُ الْجَرْيَةُ.
وَالصَّوَابُ الْأَوَلُ.
وَقَوْلُهُ: "إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ"
(2)
إنَّمَا دَلَّ عَلَى مَا دُونَهُمَا بِالْمَفْهُومِ، وَالْمَفْهُومُ لَا عُمُومَ لَهُ، فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ يَحْمِلُ الْخَبَثَ.
وَإِذَا كَانَ حَوْضُ الْحَمَّامِ الْفَائِضِ: قَلِيلًا وَوَقَعَ فِيهِ بَوْلٌ أَو دَمٌ أَو عَذِرَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْهُ: لِمَ يُنَجِّسْهُ عَلَى الصَّحِيحِ، فَكَيْفَ بِالْمَاءِ الَّذِي جَمِيعُهُ يَجْرِي عَلَى أَرْضِ الْحَمَّامِ؟ فَإِنَّهُ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ وَلَمْ تغَيِّرْهُ لَمْ يَنْجُسْ. [21/ 72 - 73]
2215 -
إذَا شَكَّ فِي نَجَاسَةِ الْمَاءِ، هَل يُسْتَحَبُّ الْبَحْثُ عَن نَجَاسَتِهِ؟
وَجْهَانِ: أَظْهَرُهُمَا لَا يُسْتَحَبُّ الْبَحْثُ؛ لِحَدِيثِ عُمَرَ. [21/ 325]
2216 -
الْمَاءُ الْجَارِي إذَا خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ بِالنَّجَاسَةِ، وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ.
(1)
أي: إن انفصل ماءٌ غير متغير بعد زوال النجاسة.
(2)
صحَّحه الألباني في الإرواء (172).
وَلَيْسَ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يُوجِبُ تَنْجِيسَهُ، فَإِنَ الَّذِينَ يَقُوُلونَ: إنَّ الْمَاءَ الْجَارِيَ كَالدَّائِمِ تُعْتَبَرُ فِيهِ الْقُلَّتَانِ، فَإِذَا كَانَت الْجَرْيَةُ أَقَلَّ مِن قُلَّتَيْنِ نَجَّسَتْهُ .. فَإِنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُم فِي هَذَا، وَلَا أَثَرَ عَن أَحَدٍ مِن السَّلَفِ، إلَّا التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:"إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ"
(1)
، وَقِيَاسُ الْجَارِي عَلَى الدَّائِمِ، وَكِلَاهُمَا لَا حُجَّةَ فِيهِ.
أَمَّا الْحَدِيثُ فَمَنْطُوُقهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ
(2)
.
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْجَارِيَ لَهُ قُوَّةُ دَفْعِ النَّجَاسَةِ عَن غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ إذَا صُبَّ عَلَى الْأَرْضِ النَّجِسَةِ طَهَّرَهَا وَلَمْ يَتَنَجَّسْ، فَكَيْفَ لَا يَدْفَعُهَا عَن نَفْسِهِ؟ وَلِأَنَّ الْمَاءَ الْجَارِيَ يُحِيلُ النَّجَاسَةَ بِجَرَيَانِهِ. [21/ 326 - 327]
2217 -
الْمَاءُ إذَا تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَاتِ فَإِنَّهُ يَنْجُسُ بِالِاتِّفَاقِ.
وَأَمَّا مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ فَفِيهِ أَقْوَالٌ مَعْرُوفَةٌ:
أَحَدُهَا: لَا يَنْجُسُ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
وَهو الصَّوَابُ، وَأَنَّهُ متى عُلِمَ أَنَّ النَّجَاسَةَ قَدِ اسْتَحَالَتْ فَالْمَاءُ طَاهِرٌ، سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَو كَثِيرًا، وَكَذَلِكَ فِي الْمَائِعَاتِ كُلِّهَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَبَاحَ الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ الْخَبَائِثِ، وَالْخَبِيثُ مُتَمَيِّزٌ عَنِ الطَّيِّبِ بِصِفَاتِهِ، فَإِذَا كَانَت صِفَاتُ الْمَاءِ وَغَيْرِهِ صِفَاتِ الطَّيِّبِ دُونَ الْخَبِيثِ: وَجَبَ دُخُولُهُ فِي الْحَلَالِ دُونَ الْحَرَامِ.
وَأَمَّا إذَا تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ فَإِنَّمَا حُرِّمَ اسْتِعْمَالُهُ؛ لِأَنَّ جِرْمَ النَّجَاسَةِ بَاقٍ، فَفِي اسْتِعْمَالِهِ اسْتِعْمَالُهَا بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَحَالَتِ النَّجَاسَةُ فَإِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ، وَلَيْسَ هُنَاكَ نَجَاسَةٌ قَائِمَةٌ.
(1)
صحَّحه الألباني في الإرواء (172).
(2)
لأن العلماء اتفقوا على أن الماء إذا تغير بنجاسة فهو نجس ولو بلغ قلتين وأكثر.
وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ: أَنَّهُ لَو وَقَعَ خَمْرٌ فِي مَاءٍ وَاسْتَحَالَتْ ثُمَّ شَرِبَهَا شَارِبٌ لَمْ يَكُن شَارِبًا لِلْخَمْرِ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حَدُّ الْخَمْرِ؛ إذ لَمْ يَبْقَ شَيءٌ مِن طَعْمِهَا وَلَوْنِهَا وَرِيحِهَا، وَلَو صُبَّ لَبَنُ امْرَأَةٍ فِي مَاءٍ وَاسْتَحَالَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُ أَثَرٌ وَشَرِبَ طِفْلٌ ذَلِكَ الْمَاءَ: لَمْ يَصِر ابْنَهَا مِنَ الرِّضَاعَةِ بِذَلِكَ. [21/ 30 - 33]
2218 -
النَّهْرُ الْجَارِي: إِنْ عُلِمَ أَنَّهُ مُتَغَيِّرٌ بِنَجَاسَةٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ نَجِسًا، فَإِنْ خَالَطَهُ مَا يُغَيِّرُهُ مِن طَاهِرٍ وَنَجِسٍ وَشَكَّ فِي التَّغَيُّرِ: هَل هُوَ بِطَاهِرٍ أَو نَجِسٍ؟ لَمْ يُحْكَمْ بِنَجَاسَتِهِ بِمُجَرَّدِ الشَّكِّ. [21/ 36]
2219 -
ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إنَّك تَتَوَضَّأُ مِن بِئْرِ بُضاعة، وَهِيَ بِئْرٌ تُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ، وَلُحُومُ الْكِلَاب، وَعُذَرُ النَّاسِ؟ فَقَالَ:"الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ" وَبِئْرُ بضاعة وَاقِعَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي شَرْقِيِّ الْمَدِينَةِ، بَاقِيَةٌ إلَى الْيَوْمِ.
وَمَن قَالَ: إنَّهَا كَانَت جَارَيةً فَقَد أَخْطَأَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُن عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ عَيْنٌ جَارِيَةٌ. [21/ 37 - 38]
2220 -
أَيُّ بِئْرٍ وَقَعَ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ -كَلْبٌ أَو خِنْزِيرٌ أَو جَمَلٌ- أَو غَيْرُهُ: إنْ كَانَ الْمَاءُ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِالنَّجَاسَةِ فَهُوَ طَاهِرٌ.
فَإِنْ كانت عَيْنُ النَّجَاسَةِ بَاقِيَةً نُزِحَتْ مِنْهُ وَأُلْقِيَتْ، وَسَائِرُ الْمَاءِ طَاهِرٌ.
وَشَعْرُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ إذَا بَقِيَ فِي الْمَاءِ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّهُ طَاهِرٌ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِمْ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ أَحْمَد، وَهَذَا الْقَوْلُ أَظْهَرُ فِي الدَّلِيلِ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ الشَّعْرِ وَالرِّيشِ وَالْوَبَرِ وَالصُّوفِ طَاهِرٌ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَى جِلْدِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَو جِلْدِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ عَلَى حَيٍّ أَو مَيِّتٍ. [21/ 38]
وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ مِن تِلْكَ الْبِئْرِ الَّتِي يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ وَلُحُومُ الْكِلَابِ وَالنَّتْنُ: فَكَيْفَ يُشْرَعُ لَنَا أَنْ نتَنَزَّهَ عَن أَمْرٍ فَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟
وَقَد ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى مَن يَتَنَزَّهُ عَمَّا يَفْعَلُهُ وَقَالَ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ
يَتَنَزَّهُونَ عَن أَشْيَاءَ أَترَخَّصُ فِيهَا؟ وَاللهِ إنِّي لِأَخْشَاكُمْ للهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِهِ". [21/ 61]
2221 -
تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا أَكَلَتْ [أي: الهرةُ] فَأْرَةً وَنَحْوَهَا ثُمَّ وَلَغَتْ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ .. قِيلَ: إنْ طَالَ الْفَصْلُ كَانَ طَاهِرًا؛ جَعْلًا لِرِيقِهَا مُطَهِّرًا لِفَمِهَا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ، وَهَذَا قَولُ طَائِفَةٍ مِن أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد، وَهُوَ أَقْوَى الْأَقْوَالِ. [21/ 43]
2222 -
مَا يَطِيرُ مِن بَدَنِ الْمُغْتَسِلِ أَو الْمُتَوَضِّئِ مِنَ الرَّشَاشِ فِي إنَاءِ الطَّهَارَةِ لَا يَجْعَلُهُ مُسْتَعْمَلًا.
وَكَذَلِكَ غَمْسُ الْجُنُبِ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ النَّاقِصِ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا. [21/ 47]
2223 -
نَصَّ الْأَئِمَّةُ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّهُ إذَا سَقَطَ عَلَيْهِ مَاءٌ مِن مِيزَابٍ وَنَحْوِهِ وَلَا أَمَارَةَ تَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ لَمْ يَلْزَمِ السُّؤَالُ عَنْهُ بَل يُكْرَهُ .. وَقَد اسْتَحَبَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِن أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ السُّؤَالَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. [21/ 57]
2224 -
مَسْأَلَةُ تَغَيُّرِ الْمَاءِ الْيَسِيرِ أَو الْكَثِيرِ بِالطَّاهِرَاتِ؛ كَالْأُشْنَانِ وَالصَّابُونِ وَالسِّدْرِ والخطمي وَالتُّرَابِ وَالْعَجِينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَد يُغَيِّرُ الْمَاءَ، مِثْل الْإِنَاءِ إذَا كَانَ فِيهِ أَثَرُ سِدْرٍ أَو خطمي وَوُضِعَ فِيهِ مَاءٌ فَتَغَيَّرَ بِهِ مَعَ بَقَاءِ اسْمِ الْمَاءِ: فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِلْعُلَمَاءِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّطْهِيرُ بِهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُتَغَيِّرِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ وَغَيْرِهِ، وَلَا بِمَا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَلَا بِمَا لَا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، فَمَا دَامَ يُسَمَّى مَاءً وَلَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ أَجْزَاءُ غَيْرِهِ كَانَ طَهُورًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ، وَهِيَ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا فِي أَكْثَرِ أَجْوِبَتِهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّ اللهَ عز وجل قَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ
لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] وَقَوْلُهُ: {سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: 6] نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَيَعُمُّ كُلَّ مَا هُوَ مَاءٌ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ نَوْعٍ وَنَوْعٍ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الْمُتَغَيِّرَ لَا يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْمَاءِ؟
قِيلَ: تَنَاوُلُ الِاسْمِ لِمُسَمَّاهُ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ التَّغَيُّرِ الْأَصْلِيِّ وَالطَّارِئِ، وَلَا بَيْنَ التَّغَيُّرِ الَّذِي يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ وَاَلَّذِي لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ. [21/ 24 - 26]
* * *
(التخصيصُ إذا كان له سببٌ غيرُ اختصاص الحكم: لم يبق حجة)
2225 -
التخصيص إذا كان له سبب غير اختصاص الحكم لم يبق حجة بالاتفاق؛ كقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} [الأنعام: 151]، فإنه خص هذه الصورة بالنهي؛ لأنها هي الواقعة، لا لأن التحريم يختص بها.
وكذلك قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] فذكر الرهن في هذه الصورة للحاجة لا للكثرة، مع أنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة
(1)
، فهذا رهن في الحضر، فكذلك قوله:"إذا بلغ الماء قلتين"
(2)
في جواب سؤال معين، هو بيان لما احتاج السائل إلى بيانه، فلما كان ذلك المسؤول عنه كثيرًا قد بلغ قلتين، ومن شأن الكثير أن لا يحمل الخبث فلا يبقى الخبث فيه محمولًا؛ بل يستحيل فيه الخبث لكثرته بيَّن لهم أن ما سألتم عنه لا خبث فيه فلا ينجس.
* * *
(1)
رواه البخاري (2916).
(2)
رواه ابن ماجه (517)، والدارمي (758)، وصحَّحه الألباني في صحيح ابن ماجه.
(معنى حديث القلتين)
2226 -
في حديث القلتين: أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الماء يكون بأرض الفلاة وما ينوبه من السباع والدواب؟ فقال: "إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث"
(1)
وفي لفظ: "لم ينجسه شيء"
(2)
.
إذا صح: فمنطوقه موافق لغيره، وهو أن الماء إذا بلغ قلتين لم ينجسه شيء.
وأما مفهومه: إذا قلنا بدلالة مفهوم العدد فإنما يدل على أن الحكم في المسكوت عنه مخالف للحكم في المنطوق بوجه من الوجوه؛ لتظهر فائدة التخصيص بالقدر المعين، ولا يشترط أن يكون الحكم في كل صورة من صور المسكوت عنه مناقضة للحكم في كل صورة من صور المنطوق، وهذا مفهوم قولهم: المفهوم لا عموم له، فلا يلزم أن يكون كل ما لم يبلغ القلتين ينجس؛ بل إذا قيل بالمخالفة في بعض الصور حصل المقصود، والمقدار الكثير لا يغيره ورود ما ورد عليه في العادة، بخلاف القليل فإنه قد يغيره.
ونكتة الجواب: أن كونه يحمل الخبث أو لا يحمله أمر حسي يعرف بالحس، فإذا كان الخبث موجودًا فيه كان محمولًا، وإن كان مستهلكًا لم يكن محمولًا، فإذا علم كثرة الماء وضعف الملاقي علم أنه لا يحمل الخبث.
والدليل على هذا اتفاقهم على أن الكثير إذا تغير ريحه حمل الخبث، فصار قوله:"إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث" و "لم ينجسه شيء"
(3)
؛ كقوله: "الماء طهور لا ينجسه شيء"
(4)
وهو إنما أراد إذا لم يتغير في الموضعين، وأما إذا كان قليلًا فقد يحمل الخبث لضعفه.
(1)
رواه أبو داود (63)، والترمذي (67)، والنسائي (52)، والدارمي (579)، وأحمد (4605)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.
(2)
رواه الترمذي (67)، وابن ماجه (517)، وصحَّحه الألباني في صحيح الترمذي.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
تقدم تخريجه.
وعلى هذا يُخَرَّج أمرُه بتطهير الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبعًا إحداهن بالتراب والأمر بإراقته، فإن قوله:"إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه"
(1)
، أو "فليغسله سبعًا أولاهن بالتراب"
(2)
؛ كقوله: "إذا قام أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاًثا فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده"
(3)
.
فإذا كان النهي عن غمس اليد في الإناء هو في الإناء المعتاد للغمس وهو الواحد من آنية المياه فكذلك تلك الآنية هي الآنية المعتادة للولوغ وهي آنية الماء، وذلك أنَّ الكلب يَلَغُ بلسانه شيئًا بعد شيء، فلا بد أن يبقى في الماء من ريقه ولعابه ما يبقى وهو لزج فلا يحيله الماء القليل بل يبقى، فيكون ذلك الخبث محمولًا في ماء يسير في ذلك الإناء، فيراق ذلك الماء لأجل كون الخبث محمولًا فيه لما يروى:"ويغسل الإناء الذي لاقاه ذلك الخبث".
وهذا بخلاف الخبث المستهلك المستحيل كاستحالة الخمر، فإن الخمر إذا انقلبت في الدَّنِّ بإذن الله تعالى كانت طاهرة باتفاق العلماء، وكذلك جوانب الدَّنِّ، فهناك يغسل الإناء وهنا لا يغسل؛ لأن الاستحالة حصلت في أحد الموضعين دون الآخر. [المستدرك 3/ 14 - 16]
2227 -
"حديث القلتين":
وأما علته فمن ثلاثة أوجه:
أحدها: وقف مجاهد له على ابن عمر، واختلف فيه عليه واختلف فيه على عبيد الله أيضًا رفعًا ووقفًا، ورجح شيخا الإسلام أبو الحجاج المزي وأبو العباس ابن تيمية وقفه، ورجع البيهقي في سننه وقفه وجعله هو الصواب.
قال شيخنا أبو العباس: وهذا كله يدل على أن ابن عمر لم يكن يحدث به عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن سئل عن ذلك فأجاب بحضرة ابنه فنقل ذلك ابنه عنه
(4)
. [المستدرك 3/ 17]
(1)
رواه مسلم (279).
(2)
رواه مسلم (279).
(3)
رواه مسلم (278).
(4)
الفروع لابن مفلح (1/ 72).
2228 -
مِسَاحَةُ الْقُلَّتَيْنِ ذِرَاعٌ وَرُبْعٌ، فِي ذِرَاعٍ وَرُبْعٍ، طُولًا وَعَرضًا وَعُمْقًا. [21/ 52]
* * *
(النجاسة)
2229 -
الطَّهَارَةُ وَالنَّجَاسَة نَوْعَانِ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامٍ فِي اللِّبَاسِ وَنَحْوِهِ، تَابِعَانِ لِلْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فِي الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ، وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ الْجَامِعِ: وَسَطٌ بَيْنَ مَذْهَب الْعِرَاقِيِّينَ وَالْحِجَازِيِّينَ؛ فَإِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ -مَالِكًا وَغَيْرَهُ- يُحَرِّمُونَ مِنَ الْأًشْرِبَةِ كُلَّ مُسْكِرٍ كَمَا صَحَّتْ بِذَلِكَ النُّصُوصُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِن وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَلَيْسُوا فِي الْأَطْعِمَةِ كَذَلِكَ؛ بَلِ الْغَالِبُ عَلَيْهِم فِيهَا عَدَمُ التَّحْرِيمِ، فَيُبِيحُونَ الطُّيُورَ مُطْلَقًا، وَإِن كَانَت مِن ذَاتِ الْمَخَالِبِ، وَيَكْرَهُونَ كُلَّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَفِي تَحْرِيمِهَا عَن مَالِكٍ رِوَايَتَانِ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَشَرَاتِ عَنْهُ: هَل هِيَ مُحَرَّمَةٌ أَو مَكْرُوهَةٌ؟ رِوَايَتَان.
وَأَهْلُ الْكُوفَةِ فِي بَاب الْأَشْرِبَةِ مُخَالِفُونَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلسَائِرِ النَّاسِ لَيْسَتِ الْخَمْرُ عِنْدَهُم إلَّا مِنَ الْعِنَبِ، وَلَا يُحَرِّمُونَ الْقَلِيلَ مِنَ الْمُسْكِرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ خَمْرًا مِنَ الْعِنَبِ، أَو أَنْ يَكُونَ مِن نَبِيذِ التَّمْرِ أَو الزَّبِيبِ النِّيءِ، أَو يَكُونَ مِن مَطْبُوخِ عَصِيرِ الْعِنَبِ إذَا لَمْ يَذْهَبْ ثُلْثَاهُ.
وَهُم فِي الْأَطْعِمَةِ فِي غَايَةِ التَّحْرِيمِ حَتَّى حَرَّمُوا الْخَيْلَ وَالضِّبَابَ.
فَأَخَذَ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي الْأَشْرِبَةِ بِقَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَسَائِرِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ مُوَافَقَةً لِلسُّنَّةِ الْمُسْتَفِيضَةِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ فِي التَّحْرِيمِ وَزَادُوا عَلَيْهِم فِي مُتَابَعَةِ السُّنَّةِ.
وَأَخَذُوا فِي الْأَطْعِمَةِ بِقَوْلِ أَهْلِ الْكُوفَةِ.
وَعَلِمُوا أَنَّ مَا حَرَّمَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا هُوَ زِيَادَةُ تَحْرِيمٍ لَيْسَ نَسْخًا لِلْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ إنَّمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ اللهَ لَمْ يُحَرِّمْ إلَّا الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ
الْخِنْزِيرِ، وَعَدَمُ التَّحْرِيمِ لَيْسَ تَحْلِيلًا، وَإِنَّمَا هُوَ بَقَاءٌ لِلْأَمْرِ عَلَى مَا كَانَ، وَهَذَا قَد ذَكَرَهُ اللهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي هِيَ مَكِّيَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، لَيْسَ كَمَا ظَنَّهُ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهَا مِن آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا، وَإِنَّمَا سُورَةُ الْمَائِدَةِ هِيَ الْمُتَأَخِّرَةُ، وَقَد قَالَ اللهُ فِيهَا:{أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] فَعُلِمَ أَنَّ عَدَمَ التَّحْرِيمِ الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ لَيْسَ تَحْلِيلًا، وَإِنَّمَا هُوَ عَفْوٌ.
فَتَحْرِيمُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَافِعٌ لِلْعَفْوِ لَيْسَ نَسْخًا لِلْقُرْآنِ.
لَكِنْ لَمْ يُوَافِقْ أَهْلُ الْحَدِيثِ الْكُوفِيِّينَ عَلَى جَمِيعِ مَا حَرَّمُوهُ؛ بَل أَحَلُّوا الْخَيْلَ لِصِحَّةِ السُّنَنِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بتَحْلِيلِهَا يَوْمَ خَيْبَرَ.
وَأَحَلُّوا الضَّبَّ لِصِحَّةِ السُّنَنِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ قَالَ: "لَا أُحَرِّمُهُ"
(1)
.
فَهَذَا أَصْلٌ فِي الْخَبَائِثِ الْجسْمَانِيَّةِ وَالرُّوحَانِيَّةِ.
وَأَصْلٌ آخَرُ وَهُوَ: أَنَّ الْكُوفِيِّينَ قَد عُرِفَ تَخْفِيفُهُم فِي الْعَفْوِ عَنِ النَّجَاسَةِ، فَيَعْفُونَ مِنَ الْمُغَلَّظَةِ عَن قَدْرِ الدِّرْهَمِ البغلي، وَمِنَ الْمُخَفَّفَةِ: عَن رُبُعِ الْمَحَلِّ الْمُتَنَجِّسِ.
وَالشَّافِعِيُّ بِإِزَائِهِمْ فِي ذَلِكَ، فَلَا يَعْفُو عَنِ النَّجَاسَاتِ إلَّا عَن أَثَرِ الِاسْتِنْجَاءِ، وَوَنِيمِ الذُّبَابِ وَنَحْوِهِ، وَلَا يَعْفُو عَن دَمٍ وَلَا عَن غَيْرِهِ إلَّا عَن دَمِ الْبَرَاغِيثِ وَنَحْوِهِ، مَعَ أَنَّهُ يُنَجِّسُ أَرْوَاثَ الْبَهَائِمِ وَأَبْوَالَهَا وَغَيْرَ ذَلِكَ، فَقَوْلُهُ فِي النَّجَاسَاتِ نَوْعًا وَقَدْرًا أَشَدُّ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ.
وَمَالِكٌ مُتَوَسِّطٌ فِي نَوْعِ النَّجَاسَةِ وَفِي قَدْرِهَا؛ فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ بِنَجَاسَةِ الْأَرْوَاثِ وَالْأَبْوَالِ مِمَّا يُوكَلُ لَحْمُهُ، ويعْفُو عَن يَسِيرِ الدَّمِ وَغَيْرِهِ.
وَأَحْمَد كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ مُتَوَسِّطٌ فِي النَّجَاسَاتِ، فَلَا يُنَجِّسُ الْأَرْوَاثَ وَالْأَبْوَالَ، ويعْفُو عَنِ الْيَسِيرِ مِنَ النَّجَاسَاتِ الَّتِي يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا.
(1)
البخاري (5536)، ومسلم (1943).
وَأَصْلٌ آخَرُ فِي إزَالَتِهَا: فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: تُزَالُ بِكُلِّ مُزِيلٍ مِنَ الْمَائِعَاتِ وَالْجَامِدَاتِ.
وَالشَّافِعِيُّ لَا يَرَى إزَالَتَهَا إلَّا بِالْمَاءِ، حَتَّى مَا يُصِيبُ أَسْفَلَ الْخُفِّ وَالْحِذَاءِ وَالذَّيْلِ: لَا يُجْزِئُ فِيهِ إلَّا الْغَسْلُ بِالْمَاءِ، وَحَتَّى نَجَاسَةَ الْأَرْضِ.
وَمَذْهَبُ أَحْمَد فِيهِ مُتَوَسِّطٌ، فَكُلُّ مَا جَاءَت بِهِ السُّنَّةُ قَالَ بِهِ ذَلِكَ .. فَإِنَّ التَّشْدِيدَ فِي النَّجَاسَاتِ جِنْسًا وَقَدَرًا هُوَ دِينُ الْيَهُودِ، وَالتَّسَاهُلُ هُوَ دِينُ النَّصَارَى، وَدِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ الْوَسَطُ.
فَكُلُّ قَوْلٍ يَكُونُ فِيهِ شَيْءٌ مِن هَذَا الْبَابِ يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى دِينِ الْإِسْلَامِ.
وَأَصْلٌ آخَرُ: وَهُوَ اخْتِلَاطُ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ كَاخْتِلَاطِ الْمَائِعِ الطَّاهِرِ بِالنَّجِسِ، فَقَوْلُ الْكُوفِيِّينَ فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ مَا لَا خَفَاءَ بِهِ.
وَبِإِزَائِهِمْ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِن أَهْلِ الْمَدِينَةِ؛ فَإِنَّهُم -فِي الْمَشْهُورِ- لَا يُنَجِّسُونَ الْمَاءَ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ، وَلَا يَمْنَعُونَ مِنَ الْمُسْتَعْمَلِ وَلَا غَيْرِهِ مُبَالَغَةً فِي طَهُورِيَّةِ الْمَاءِ، مَعَ فَرْقِهِمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ الْمَائِعَاتِ.
وَلأَحْمَدَ قَوْلٌ كَمَذْهَبِهِمْ، لَكِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْهُ التَّوَسُّطُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ؛ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ.
وَفِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ مِنَ التَّوَسُّطِ -أَثَرًا وَنَظَرًا- مَا لَا خَفَاءَ بِهِ، مَعَ أَنَّ قَوْلَ أَحْمَد الْمُوَافِقَ لِقَوْلِ مَالِكٍ رَاجِحٌ فِي الدَّلِيلِ.
وَأَصْل آخَرُ: وَهُوَ طَهَارَةُ الْأَحْدَاثِ الَّتِي هِيَ الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ، فَإِنَّ مَذْهَبَ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ اسْتَعْمَلُوا فِيهَا مِنَ السُّنَنِ مَا لَا يُوجَدُ لِغَيْرِهِمْ، وَيَكْفِي الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ اللِّبَاسِ وَالْحَوَائِلِ.
فَقَد صَنَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَد "كِتَابَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ" وَذَكَرَ فِيهِ مِنَ النُّصُوصِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ فِي الْمَسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْجَوْرَبَيْنِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ بَل عَلَى خُمُرِ النِّسَاءِ - كَمَا كَانَت أُمُّ سَلَمَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرُهَا
تَفْعَلُهُ، وَعَلَى الْقَلَانِسِ - كَمَا كَانَ أَبُو مُوسَى وَأَنَسٌ يَفْعَلَانِهِ - مَا إذَا تَأَمَّلَهُ الْعَالِمُ عَلِمَ فَضْلَ عِلْمِ أَهْلِ الْحَدِيثِ عَلَى غَيْرِهِمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَن تَأَوَّلَ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ تَأْوِيلًا -مِثْلُ كَوْنِ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ مَعَ بَعْضِ الرَّأْسِ هُوَ الْمُجْزِئَ وَنَحْوِ ذَلِكَ- لَمْ يَقِفْ عَلَى مَجْمُوعِ الْأَخْبَارِ، وَإِلَّا فَمَن وَقَفَ عَلَى مَجْموعِهَا أَفَادَتْهُ عِلْمًا يَقِينًا بِخِلَافِ ذَلِكَ.
وَأَصْل آخَرُ: فِي الْحَيْضِ وَالِاسْتِحَاضَةِ، فَإِنَّ مَسَائِلَ الِاسْتِحَاضَةِ مِن أَشْكَلِ أَبْوَابِ الطَّهَارَةِ.
وَفِي الْبَابِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثُ سُنَنٍ:
أ - سُنَّةٌ فِي الْمُعْتَادَةِ: أَنَّهَا تَرْجِعُ إلَى عَادَتِهَا.
ب - وَسُنَّةٌ فِي الْمُمَيِّزَةِ: أَنَّهَا تَعْمَلُ بِالتَّمْيِيزِ.
ج - وَسُنَّةٌ فِي الْمُتَحَيِّرَةِ الَّتِي لَيْسَتْ لَهَا عَادَةٌ وَلَا تُمَيِّزُ: بِأَنَّهَا تَتَحَيَّضُ غَالِبَ عَادَاتِ النِّسَاءِ: سِتًّا أَو سَبْعًا، وَأَنْ تَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ إنْ شَاءَتْ.
فَأَمَّا السُّنَّتَانِ الأولتان فَفِي "الصَّحِيحِ"، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ: فَحَدِيثُ حمنة بِنْتِ جَحْشٍ، رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَقَد اسْتَعْمَلَ أَحْمَد هَذِهِ السُّنَنَ الثَّلَاثَ فِي الْمُعْتَادَةِ الْمُمَيِّزَةِ وَالْمُتَحَيِّرَةِ.
فَإِنِ اجْتَمَعَتِ الْعَادَةُ وَالتَّمْيِيزُ قُدِّمَ الْعَادَةُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ كَمَا جَاءَ فِي أَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ. [21/ 6 - 22]
2230 -
الْمُسَخَّنُ بِالنَّجَاسَةِ لَيْسَ بِنَجِسٍ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ إذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَا يُنَجِّسُهُ، وَأَمَّا كَرَاهَتُهُ فَفِيهَا نِزَاعٌ.
وَأَمَّا دُخَانُ النَّجَاسَةِ: فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِ: وَهُوَ أَنَّ الْعَيْنَ النَّجِسَةَ الْخَبِيثَةَ إذَا اسْتَحَالَتْ حَتَّى صَارَتْ طَيِّبَةً كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَعْيَانِ الطَّيِّبَةِ؛ مِثْل أَنْ يَصِيرَ مَا يَقَعُ فِي الْمَلَّاحَةِ مِن دَمٍ وَمَيْتَةٍ وَخِنْزِيرٍ مِلْحًا طَيِّبًا كَغَيْرِهَا مِنَ الْمِلْحِ، أَو
يَصِيرُ الْوَقُودُ رَمَادًا وَنَحْو ذَلِكَ، فَفِيهِ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ: أَحَدُهمَا: لَا يَطْهُرُ.
وَمَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَغَيْرِهِمْ: أَنَّهَا تَطْهُرُ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ.
فَإِذَا عُرِفَ هَذَا: فَعَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ فَالدُّخَانُ وَالْبُخَارُ الْمُسْتَحِيلُ عَنِ النَّجَاسَةِ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ أَجْزَاءٌ هَوَائِيَّةٌ وَنَارِيَّةٌ وَمَائِيَّةٌ، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِن وَصْفِ الْخَبَثِ. [21/ 69 - 71]
2231 -
أَرْوَاثُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْخَيْلِ: طَاهِرَةٌ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. [21/ 72]
2232 -
إذَا شَكَّ فِي الرَّوْثَةِ: هَل هِيَ مِن رَوْثِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَو مِن رَوْثِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ؟ فَفِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد:
أَحَدُهُمَا: يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَرْوَاثِ النَّجَاسَةُ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ: يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَعْيَانِ الطَّهَارَةُ، وَدَعْوَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَرْوَاثِ النَّجَاسَةُ مَمْنُوعٌ. [21/ 74 - 75]
2233 -
إذَا تيَقَّنَ الرَّجُلَانِ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَحْدَثَ، أَو أَنَّ أَحَدَهُمَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَهَارَةٌ وَلَا طَلَاقٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ .. فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ أَنْ يَسْتَصْحِبَ حُكْمَ الْأَصْلِ فِي نَفْسِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ أَقْوَى؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِيجَابِ أَو التَّحْرِيمِ يَثْبُتُ قَطْعًا فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا فَلَا وَجْهَ لِرَفْعِهِ عَنْهُمَا جَمِيعًا.
وَسِرُّ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ إذَا اشْتَبَهَ الطَّاهِرُ بِالنَّجِسِ:
أ - فَاجْتِنَابُهُمَا جَمِيعًا وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ لِفِعْلِ الْمُحَرَّمِ.
ب - وَاجْتِنَابُ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ تَحْلِيلَهُ دُونَ الْآخَرِ تَحَكُّمٌ؛ وَلهَذَا لَمَّا
رَخَّصَ مَن رَخَّصَ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ عَضَّدَهُ بِالتَّحَرِّي. [21/ 78 - 79]
2234 -
التَّوَضُّؤُ بِمَاءِ الْوُلُوغِ
(1)
لَا يَجُوزُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ؛ بَل يَعْدِلُ عَنْهُ إلَى التَّيَمُّمِ.
وَيجِبُ عَلَى الْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُلَ وَيشْرَبَ مَا يُقِيمُ بِهِ نَفْسَهُ، فَمَن اُضْطُرَّ إلَى الْمَيْتَةِ أَو الْمَاءِ النَّجِسِ فَلَمْ يَشْرَبْ وَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ: دَخَلَ النَّارَ.
وَلَو وَجَدَ غَيْرَهُ مُضْطَرًّا إلَى مَا مَعَهُ مِنَ الْمَاءِ الطَّيِّبِ أَو النَّجِسِ: فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْقِيَهُ إيَّاهُ، وَيَعْدِلَ إلَى التَّيَمُّمِ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ جَنَابَةٌ أَو حَدَثٌ صَغِيرٌ.
وَمَنِ اغْتَسَلَ وَتَوَضَّأَ وَهُنَاكَ مُضْطَرٌّ مِن أَهْلِ الْمِلَّةِ أَو الذِّمَّةِ أَو دَوَابِّهِم الْمَعْصُومَةِ فَلَمْ يَسْقِهِ: كَانَ آثِمًا عَاصِيًا. [21/ 80]
2235 -
عَظْمُ الْمَيْتَةِ وَقَرْنُهَا وَظُفْرُهَا، وَمَا هُوَ مِن جِنْسِ ذَلِكَ كَالْحَافِرِ وَنَحْوِهِ وَشَعْرِهَا وَرِيشِهَا وَوَبَرِهَا: فِي هَذَيْنَ النَّوْعَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ أَقْوَالٌ:
أَحَدُهَا: نَجَاسَةُ الْجَمِيعِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْعِظَامَ وَنَحْوَهَا نَجِسَةٌ وَالشُّعُورَ وَنَحْوَهَا طَاهِرَةٌ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْجَمِيعَ طَاهِرٌ .. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الطَّهَارَةُ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى النَّجَاسَةِ
(2)
.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: عُلِمَ أَنَّ عِلَّةَ نَجَاسَةِ الْمَيْتَةِ إنَّمَا هُوَ احْتِبَاسُ الدَّمِ فِيهَا، فَمَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ لَيْسَ فِيهِ دَمٌ سَائِلٌ، فَإِذَا مَاتَ لَمْ يَحْتَبِسْ فِيهِ الدَّمُ فَلَا يَنْجُسُ؛ فَالْعَظْمُ وَنَحْوُهُ أَوْلَى بِعَدَمِ التَّنْجِيسِ مِن هَذَا.
(1)
للمضطر.
(2)
قال الإمام البخاري في صحيحه: قَالَ حَمَّادٌ: "لَا بَأْسَ بِرِيشِ المَيْتَةِ".
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: "فِي عِظَامِ المَوْتَى، نَحْو الفِيلِ وَغَيْرِهِ: أَدْرَكْتُ نَاسًا مِن سَلَفِ العُلَمَاءِ، يَمْتَشِطُونَ بِهَا، وَيَدَّهِنُونَ فِيهَا، لَا يَرَوْنَ بِهِ بَأْسًا".
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمُ: "وَلَا بَأْسَ بِتِجَارَةِ العَاجِ".
وَمِمَّا يُبَيِّنُ صِحَّةَ قَوْلِ الْجُمْهُورِ: أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْنَا الدَّمَ الْمَسْفُوحَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] فَإِذَا عُفِيَ عَنِ الدَّمِ غَيْرِ الْمَسْفُوحِ -مَعَ أَنَّهُ مِن جِنْسِ الدَّمِ-: عُلِمَ أَنَّهُ -سُبْحَانَهُ- فَرَّقَ بَيْنَ الدَّمِ الَّذِي يَسِيلُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ. [21/ 96 - 100]
2236 -
لَبَنُ الْمَيْتَةِ وَإِنْفَحَتُهَا
(1)
فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ طَاهِرٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَجِسٌ.
وَعَلَى هَذَا النِّزَاعِ انْبَنَى نِزَاعُهُم فِي جُبْنِ الْمَجُوسِ، فَإِنَّ ذَبَائِحَ الْمَجُوسِ حَرَامٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، فَإِذَا صَنَعُوا جُبْنًا -وَالْجُبْنُ يُصْنَعُ بِالْإِنْفَحَةِ- كَانَ فِيهِ هَذَانِ الْقَوْلَانِ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ جُبْنَهُم حَلَالٌ، وَأَنَّ إنْفَحَةَ الْمَيْتَةِ وَلَبَنَهَا طَاهِرٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا فَتَحُوا بِلَادَ الْعِرَاقِ أَكَلُوا جُبْنَ الْمَجُوسِ، وَكَانَ هَذَا ظَاهِرًا شَائِعًا بَيْنَهُمْ.
وَأَيْضًا: فَاللَّبَنُ وَالْإِنْفَحَةُ لَمْ يَمُوتَا، وَإِنَّمَا نَجَّسَهُمَا مَن نَجَّسَهُمَا لِكَوْنِهِمَا فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ، فَيَكُونُ مَائِعًا فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ؛ فَالتَّنْجِيسُ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ:
أ - عَلَى أَنَّ الْمَائِعَ لَاقَى وِعَاءً نَجِسًا.
ب - وَعَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ نَجِسًا.
فَيُقَالُ أَوَّلًا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَائِعَ يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ، وَقَد تَقَدَّمَ أَنَّ السُّنَّةَ دَلَّتْ عَلَى طَهَارَتِهِ لَا عَلَى نَجَاسَتِهِ.
(1)
هي مادّة خاصّة تُستخرج من الجزء الباطنيّ من معِدَة الرَّضيع من العُجول أو الجِداء أو نحوهما من الحيوانات المجترّة، بها خميرة تجبِّن اللّبنَ.
وَيُقَالُ ثَانِيًا: إنَّ الْمُلَاقَاةَ فِي الْبَاطِنِ لَا حُكْمَ لَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)} [النحل: 66]، وَلهَذَا يَجُوزُ حَمْلُ الصَّبِيِّ الصَّغِيرِ فِي الصَّلَاةِ مَعَ مَا فِي بَطْنِهِ. [21/ 102 - 104]
2237 -
ثَبَتَ بِسُنَّتِهِ صلى الله عليه وسلم أنَّ احْتِمَالَ نَجَاسَةِ الْأَرْضِ لَا يُوجِبُ كَرَاهَةَ الصَّلَاةِ فِيهَا؛ بَل ثَبَتَ بِسُنَّتِهِ أَنَّ الْأَرْضَ تَطْهُرُ بِمَا يُصِيبُهَا مِن الشَّمْسِ وَالرِّيحِ وَالِاسْتِحَالَةِ. [21/ 322]
2238 -
الْجُمْهُور عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحِيلَ مِن النَّجَاسَاتِ طَاهِرٌ، كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَن الْحَنَفِيَّةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد، وَوَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. [21/ 510]
2239 -
السِّرْقِينُ
(1)
النَّجِسُ وَنَحْوُهُ فِي الْوَقُودِ لِيُسَخِّنَ الْمَاءَ أَو الطَّعَامَ وَنَحْو ذَلِكَ، وَمِمَّا يُشْبِهُ ذَلِكَ الِاسْتِصْبَاحُ بِالدُّهْنِ النَّجِسِ، فَإِنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لَهُ بِالْإِتْلَافِ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ شَيءٌ مِن ذَلِكَ. [21/ 608]
* * *
(المائعات)
2240 -
لِلْعُلَمَاءِ فِي الْمَائِعَاتِ ثَلَاَثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا كَالْمَاءِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا أَوْلَى بِعَدَمِ التَّنَجُّسِ مِن الْمَاءِ؛ لِأَنَّهَا طَعَامٌ وَإِدَامٌ فَإِتْلَافُهَا فِيهِ فَسَادٌ، وَلِأَنَّهَا أَشَدُّ إحَالَةً لِلنَّجَاسَةِ مِن الْمَاءِ أَو مُبَايِنَة لَهَا مِن الْمَاءِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَاءَ أَوْلَى بِعَدَمِ التَّنَجُّسِ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ طَهُورٌ.
وَقَد بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَذَكَرْنَا حُجَّةَ مَن قَالَ: بِالتَّنْجِيسِ، وَأَنَّهُم احْتَجُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا
(1)
هو فضلات البهائم، ويُسمى السَّمَاد.
حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنَكُمْ وَإِن كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ، وَبَيَّنَّا ضَعْفَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَطَعَنَ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِي وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيَّ وَالدَّارَقُطْنِي وَغَيْرُهُم فِيهِ.
وَعُمْدَةُ مَن يُنَجِّسُهُ: يَظُنُّ أَنَّ النَّجَاسَةَ إذَا وَقَعَتْ فِي مَاءٍ أَو مَائِعٍ سَرَتْ فِيهِ كُلِّهِ فَنَجَّسَتْهُ، وَقَد عُرِفَ فَسَادُ هَذَا، وَأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِن الْمُسْلِمِينَ بِطَرْدِهِ، فَإِنَّ طَرْدَهُ يُوجِبُ نَجَاسَةَ الْبَحْرِ!.
وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ: وَهُوَ أَنَّ الْمَاءَ الْكَثِيرَ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ، فَهَل مُقْتَضَى الْقِيَاسِ تَنَجُّسُهُ لِاخْتِلَاطِ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ إلَى حَيْثُ يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَى تَطْهِيرِهِ، أَو مُقْتَضَى الْقِيَاسِ طَهَارَتُهُ إلَى أَنْ تَظْهَرَ فِيهِ النَّجَاسَةُ الْخَبِيثَةُ الَّتِي يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا؟
لِلْفُقَهَاءِ مِن أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ فِي هَذَا الْأَصْلِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَوْلُ مَن يَقُولُ: الْأَصْل النَّجَاسَةُ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: فَهُوَ قَوْلُ مَن يَقُولُ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يُنَجَّسَ الْمَاءُ حَتَّى يتغيّر.
وهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ.
وَهَذِهِ الْأَدْهَانُ وَالْأَلْبَانُ وَالْأَشْرِبَةُ الْحُلْوَةُ وَالْحَامِضَةُ وَغَيْرُهَا مِن الطَّيِّبَاتِ وَالْخَبِيثَةِ: قَد اسْتُهْلِكَتْ وَاسْتَحَالَتْ فِيهَا، فَكَيْفَ يَحْرُمُ الطَّيِّبُ الَّذِي أَبَاحَهُ اللهُ تَعَالَى؟
وَمَن الَّذِي قَالَ: إنَّهُ إذَا خَالَطَهُ الْخَبِيثُ وَاسْتُهْلِكَ فِيهِ وَاسْتَحَالَ قَد حَرُمَ
(1)
؟ وَلَيْسَ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ لَا مِن كِتَابٍ وَلَا مِن سُنَّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ وَلَا قِيَاسٍ؛
(1)
قد يدخل في هذا الأطعمة والأشربة التي أضيف إليها شيءٌ يسير من شحوم الخنازير ونحوها، فإنّ هذه الخبائث قد استحالت في هذه الطيبات ولم يبق لطعمها ولا لرائحتها ولا للونها أثر. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ومن قرارات "المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية"، وقد بحثت موضوع "المواد المحرمة والنجسة في الغذاء والدواء": الاستحالة تعني انقلاب العين إلى عين أخرى تغايرها في صفاتها، تحوَّل المواد النجسة أو المتنجسة إلى مواد طاهرة، وتحوِّل المواد المحرمة إلى مواد مباحة شرعًا.
وبناءً على ذلك:
الصابون الذي يُنتج من استحالة شحم الخنزير أو الميتة يصير طاهرًا بتلك الاستحالة ويجوز استعماله.
الجبن المنعقد بفعل إنفحة ميتة الحيوان المأكول اللحم طاهر ويجوز تناوله.
المراهم والكريمات ومواد التجميل التي يدخل في تركيبها شحم الخنزير لا يجوز استعمالها إلا إذا تحققت فيها استحالة الشحم وانقلاب عينه. أما إذا لم يتحقق ذلك فهي نجسة. انتهى.
والجيلاتين الحيواني "وهو مادة لينة لزجة، تُستخرج من عظام الحيوان وأنسجته بإغلائه الطويل في الماء" المعجم الوسيط (1/ 150).
وهي مادة تدخل في كثير من الصناعات الغذائية كالمعجنات وأغذية الأطفال، وفي صناعة اللبن الرائب والأجبان والمثلجات والفطائر والمشروبات والعصائر.
ولا حرج في استخلاص الجيلاتين من جلود وأعصاب وعظام الحيوانات المباحة والمذكاة ذكاةٌ شرعية، أو من نبات غير ضار ولا سام.
وهذا النوع من الجيلاتين مباح، ولا حرج في استعماله وتناوله في الغذاء والدواء.
ينظر: موسوعة الفقه الإسلامي، للتويجري (4/ 329).
ولا يجوز استخراج الجيلاتين من لحوم وعظام وجلود الخنزير أو الحيوانات المباحة التي لم تذكَ ذكاة شرعية.
ومع القول بتحريم استخراج الجيلاتين من هذه المواد المحرمة إلا أن حكم تناوله بعد دخوله في صناعة الغذاء والدواء يتوقف على تحقق الاستحالة في الجيلاتين بعد دخول الصنعة عليه.
فإذا كان الجيلاتين بعد صنعه ومعالجته قد تحوَّل لمادة أخرى تختلف عن العين النجسة التي تم استخراجه منها في الصفات والخصائص، فلا حرج في أكله وتناوله.
وأما إذا لم يتحول تحولًا كاملًا، بل بقي محافظًا على شيءٍ من صفات وخصائص العين النجسة التي أُخذ منها، فلا يجوز تناوله أبدًا؛ لأنه جزء من الخنزير أو العين النجسة. يُنظر: سؤال رقم (219137)، من موقع: الإسلام سؤال وجواب.
وقد سئل الشيخ الألباني رحمه الله: ما حكم الأجبان المصنوعة من مواد مستخرجة من حيوان لم يذبح ذبحًا شرعيًّا؟
فأجاب: فهذه المادة التي تُصنع منها الأجبان لها حالة من حالتين:
1 -
إما أن يتغير عينُها بسبب التفاعل الكيماوي بينها وبين مادة الحليب الذي يتحول إلى جُبن. =
وَلهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ بِئْرِ بضاعة لَمَّا ذُكِرَ لَه أَنَّهَا يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ وَلُحُومُ الْكِلَابِ وَالنَّتْنُ فَقَالَ: "الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيءٌ"
(1)
.
وَقَالَ فِي حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ: "إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِل الْخَبَثَ"
(2)
؛ فَقَوْلُهُ: "لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ" بَيَّنَ أَنَّ تَنْجِيسَهُ بِأَنْ يَحْمِلَ الْخَبَثَ؛ أَيْ: بِأَنْ يَكُونَ الْخَبَثُ فِيهِ مَحْمُولًا، وَذَلِكَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ مَعَ اسْتِحَالَةِ الْخَبَثِ لَا يَنْجُسُ الْمَاءُ.
وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِن أَنَّ الْمَائِعَاتِ كَالْمَاءِ أَوْلَى بِعَدَمِ التَّنْجِيسِ مِن الْمَاءِ هُوَ الْأَظْهَرُ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ؛ بَل لَو نُجِّسَ الْقَلِيلُ مِن الْمَاءِ لَمْ يَلْزَمْ تَنْجِيسُ الْأَشْرِبَةِ وَالْأَطْعِمَةِ، وَلهَذَا أَمَرَ مَالِكٌ بِإِرَاقَةِ مَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ مِن الْمَاءِ الْقَلِيلِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِإِرَاقَةِ مَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ مِن الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ، وَاسْتَعْظَمَ إرَاقَةَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ بِمِثْل ذَلِكَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا ثَمَنَ لَهُ فِي الْعَادَةِ، بِخِلَافِ أَشْرِبَةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَطْعِمَتِهِمْ، فَإِنَّ فِي نَجَاسَتِهَا مِن الْمَشَقَّةِ وَالْحَرَجِ وَالضِّيقِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى النَّاسِ.
وَقَد تَقَدَّمَ أَنَّ جَمِيعَ الْفُقَهَاءِ يَعْتَبِرُونَ رَفْعَ الْحَرَجِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَإِذَا لَمْ
= 2 - وإما أن تبقى محتفظة بشخصيتها وعينيتها.
فإن كانت الحالة هي الصورة الأولى؛ أي: إنها تحولت فالتحول من المطهرات شرعًا، ومن الدليل على ذلك تحول الخمر إلى خل، فالخل يصبح طاهرًا حلال مع أن أصله كان حرامًا، وكذلك ..
أمّا إذا افترضنا أن هذه المادة لا تزال محتفظة بشخصيتها وعينيتها وهي النجاسة والحُرمة فحينئذ يُنظر إلى المسألة على التفصيل الآتي:
إن كانت هذه النجاسة التي احتفظت بشخصيتها وعينيتها في ذاك المركب الذي هو الحليب مثلًا أو الدواء، فحينئذ ننظر إلى نسبة هذه النجاسة مع الحليب أو مع أي سائل آخر كالدواء، فإن كانت هذه النجاسة تغلبت على طهارة الذي دخل فيه أو دخلت فيه هذه النجاسة فقد تنجس كل ذلك.
وإلا فهو طاهر وإن كان فيه نجاسة؛ لأن الحكم الشرعي المقطوع به أنه ليسَ كل سائل وقعت فيه نجاسة تنجس وحرُم استعماله.
(1)
رواه الترمذي (66).
(2)
رواه أهل السنن وصحَّحه الألباني في الإرواء (172).
يُنَجِّسُوا الْمَاءَ الْكَثِيرَ رَفْعًا لِلْحَرَجِ فَكَيْفَ يُنَجِّسُونَ نَظِيرَهُ مِن الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ؟
وَالْحَرَجُ فِي هَذَا أَشَقُّ، وَلَعَلَّ أَكْثَرَ الْمَائِعَاتِ الْكَثِيرَةِ لَا تَكَادُ تَخْلُو مِن نَجَاسَةٍ. [21/ 490 - 506]
2241 -
الْقَوْلُ بِأنَّ الْمَائِعَاتِ لَا تُنَجَّسُ كَمَا لَا يُنَجَّسُ الْمَاءُ هُوَ الْقَوْلُ الرَّاجِحُ؛ بَل هِيَ أَوْلَى بِعَدَمِ التَّنْجِيسِ مِن الْمَاءِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللهَ أَحَلَّ لَنَا الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ.
وَالْأَطْعِمَةُ وَالْأَشْرِبَةُ -مِن الْأَدْهَانِ وَالْأَلْبَانِ وَالزَّيْتِ وَالْخُلُولِ وَالْأَطْعِمَةِ الْمَائِعَةِ- هِيَ مِن الطَّيِّبَاتِ الَّتِي أَحَلَّهَا اللهُ لنَا، فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ فِيهَا صِفَةُ الْخَبَثِ لَا طَعْمُهُ وَلَا لَوْنُهُ وَلَا رِيحُهُ وَلَا شَيءٌ مِن أَجْزَائِهِ: كَانَت عَلَى حَالِهَا فِي الطَّيِّبِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ مِن الْخَبِيثِ الْمُحَرَّمَةِ، مَعَ أَنَّ صِفَاتِهَا صِفَاتُ الطَّيِّبِ لَا صِفَاتُ الْخَبَائِثِ، فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الطَّيِّبَاتِ وَالْخَبَائِثِ بِالصِّفَاتِ الْمُمَيِّزَةِ بَيْنَهُمَا.
وَلِأَجْلِ تِلْكَ الصِّفَاتِ حُرِّمَ هَذَا وَأُحِلَّ هَذَا، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْحَبُّ وَقَعَ فِيهِ قَطْرَةُ دَمٍ، أَو قَطْرَةُ خَمْرٍ، وَقَد اسْتَحَالَتْ، وَاللَّبَنُ بَاقٍ عَلَى صِفَتِهِ، وَالزَّيْتُ بَاقٍ عَلَى صِفَتِهِ: لَمْ يَكُن لِتَحْرِيمِ ذَلِكَ وَجْهٌ؛ فَإِنَّ تِلْكَ قَد اُسْتُهْلِكَتْ وَاسْتَحَالَتْ، وَلَمْ يَبْقَ لَهَا حَقِيقَةٌ مِن الْأَحْكَامِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِن أَحْكَامِ الدَّمِ وَالْخَمْرِ
(1)
.
وَإِنَّمَا كَانَت أَوْلَى بِالطَّهَارَةِ مِن الْمَاءِ؛ لِأَنَّ الشَّارعَ رَخَّصَ فِي إرَاقَةِ الْمَاءِ وَإِتْلَافِهِ، حَيْثُ لَمْ يُرَخِّصْ فِي إتْلَافِ الْمَائِعَاتِ كَالِاسْتِنْجَاءِ، فَإِنَّهُ يُسْتَنْجَى بِالْمَاءِ دُونَ هَذِهِ، وَكَذَلِكَ إزَالَةُ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ بِالْمَاءِ.
وَأَيْضًا: فَقَد ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" وَغَيْرِهِ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سُئِلَ عَن فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ: "أَلقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنكُمْ"
(2)
.
(1)
يُستثنى من ذلك إذا ولغ الكلب في الإناء الصغير، فإنه يجب إراقة الماء وغسل الإناء ولو لم يتغير طعمه أو لونه أو رائحته، وذلك للنص الصحيح، ولأن علّةَ تنجيسِه قد تكون خفيَّةً علينا.
(2)
البخاري (235).
فَأَجَابَهُم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَوَابًا عَامًّا مُطْلَقًا بِأَنْ يُلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَأَنْ يَأْكُلُوا سَمْنَهُمْ، وَلَمْ يستفصلهم: هَل كَانَ مَائِعًا أَو جَامِدًا؟
وَتَرْكُ الاستفصال فِي حِكَايَةِ الْحَالِ مَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ
(1)
.
مَعَ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى سَمْنِ الْحِجَازِ أَنْ يَكُونَ ذَائِبًا، وَقَد قِيلَ: إنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا ذَائِبًا.
وَالْغَالِبُ عَلَى السَّمْنِ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ الْقُلَّتَيْنِ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَفْصِلْ: هَل كَانَ قَلِيلًا أَو كَثِيرًا.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَد رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: "إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنكُمْ وَإِن كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ"؟
قيل: نَحْنُ جَازِمُونَ بِأَنَّ هَذ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ مِن كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلِذَلِكَ رَجَعْنَا عَن الْإِفْتَاءِ بِهَا بَعْدَ أَنْ كُنَّا نُفْتِي بِهَا أَوَّلًا، فَإِنَّ الرُّجُوعَ إلَى الْحَقِّ خَيْرٌ مِن التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ
(2)
. [21/ 514 - 515]
* * *
(الْوُضُوءُ مِن خَصَائِصِ أمَّةِ محَمَّدٍ)
2242 -
أَخْبَرَ اللهُ عَن الْأَنْبِيَاءِ بِالسُّجُودِ الْمُجَرَّدِ فِي مِثْل قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)} [مريم: 58] وَلَمْ يَكُونُوا مَأْمُورِينَ بِالْوُضُوءِ؛ فَإِنَّ الْوُضُوءَ مِن خَصَائِصِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ؛ كَمَا جَاءَت الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ أَنَّهُم يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَة غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِن آثَارِ الْوُضُوءِ،
(1)
هذه قاعدةٌ أُصوليةٌّ كبيرة عظيمة النفع.
(2)
هذا شأن أهل العلم الصادقين الطالبين للحق، الذين لا يترددون أبدًا في التراجع عن أقوالهم وآرائهم إذا تبين لهم أنّ الحق على خلافها.
وَأَنَّ الرَّسُولَ يَعْرِفُهُم بِهَذِهِ السِّيمَاءِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَشْرَكُهُم فِيهَا غَيْرُهُمْ.
وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَغَيْرُهُ أَنَّه تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ وَثَلَاثًا ثَلَاثًا وَقَالَ: "هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي": حَدِيثٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِمِثْلِهِ، وَلَيْسَ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ خَبَرٌ عَن أَحَدٍ مِن الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُ كَانَ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَ الْمُسْلِمِينَ، بِخِلَافِ الِاغْتِسَالِ مِن الْجَنَابَةِ فَإِنَّهُ كَانَ مَشْرُوعًا. [23/ 167 - 168]
* * *
(الأمر بالوضوء مما مست النار)
2243 -
أَمَرَ- النبي صلى الله عليه وسلم بِالْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ
(1)
، وَقَد ثَبَتَ فِي أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ أَنَّهُ أَكَلَ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ
(2)
.
فَقِيلَ: إنَّ الْأَوَّلَ مَنْسُوخٌ، لَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ ذَلِكَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى هَذَا؛ بَل رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَإِسْلَامُهُ مُتَأَخِّرٌ عَن تَارِيخِ بَعْضِ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ، كَحَدِيثِ السَّوِيقِ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَر، فَإِنَّهُ كَانَ قَبْلَ إسْلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَقيلَ: بَلِ الْأَمْرُ بِالتَّوَضُّؤِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ اسْتِحْبَابٌ؛ كَالْأَمْرِ بِالتَّوَضُّؤِ مِنَ الْغَضَبِ، وَهَذَا أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ، وَهُمَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد.
فَإِنَّ النَّسْخَ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ التَّنَافِي وَالتَّارِيخِ، وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ، بِخِلَافِ حَمْلِ الْأَمْرِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ فَإِنَّ لَهُ نَظَائِرَ كَثيرَةً.
وَكَذَلِكَ التَّوَضُّؤُ مِن مَسِّ الذَّكَرِ وَمَسّ النِّسَاءِ هُوَ مِن هَذَا الْبَابِ؛ لِمَا فِيهِ
(1)
رواه مسلم (351).
(2)
قال البخاري: بَابُ مَن لَمْ يَتَوَضَّأْ مِن لَحْمِ الشَّاةِ وَالسَّوِيقِ، وَأكَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ رضي الله عنهم فَلَمْ يَتَوَضَّئُوا.
ثم روى عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم "أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ".
مِن تَحْرِيكِ الشَّهْوَةِ؛ فَالتَّوَضُّؤُ مِمَّا يُحَرِّكُ الشَّهْوَةَ؛ كَالتَّوَضُّؤِ مِنَ الْغَضَبِ وَمَا مَسَّتْهُ النَّارُ: هُوَ مِن هَذَا الْبَابِ، فَإِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ وَالشَّيْطَانُ مِنَ النَّارِ.
وَأَمَّا لَحْمُ الْإِبِلِ فَقَد قِيلَ: التَّوَضُّؤُ مِنْهُ مُسْتَحَبٌّ، لَكِنَّ تَفْرِيقَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُ وَبَيْنَ لَحْمِ الْغَنَمِ - مَعَ أَنَّ ذَلِكَ مَسَّتْهُ النَّارُ وَالْوُضُوءُ مِنْهُ مُسْتَحَبٌّ - دَلِيلٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَمَا فَوْقْ الِاسْتِحْبَابِ إلَّا الْإِيجَابُ، وَلِأَنَّ الشَّيْطَنَةَ فِي الْإِبِلِ لَازِمَةٌ وَفِيمَا مَسَّتْه النَّارُ عَارِضَةٌ، وَلهَذَا نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِهَا لِلُزومِ الشَّيْطَانِ لَهَا، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فِي مَبَارِكِهَا فِي السَّفَرِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ عَارِضٌ.
وَالْحُشُوشُ مُحْتَضَرَةٌ
(1)
، فَهِيَ أَوْلَى بِالنَّهْيِ مِن أَعْطَانِ الْإِبِلِ.
وَكَذَلِكَ الْحَمَّامُ بَيْتُ الشَّيْطَانِ.
وَالْخَبَائِثُ الَّتِي أُبِيحَتْ لِلضَّرُورَةِ كَلُحُومِ السِّبَاعِ أَبْلَغُ فِي الشَّيْطَنَةِ مِن لُحُومِ الْإِبِلِ فَالْوُضُوءُ مِنْهَا أَوْلَى.
وَكَذَلِكَ مَسُّ النِّسَاءِ لِشَهْوَةِ إذَا قِيلَ بِاسْتِحْبَابِهِ فَهَذَا يَتَوَجَّهُ، وَأَمَّا وُجُوبُ ذَلِكَ فَلَا يَقُومُ الدَّلِيلُ إلَّا عَلَى خِلَافِهِ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ قَطُّ أَنْ يَنْقُلَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَأمُرُ أَصْحَابَهُ بِالْوُضُوءِ مِن مَسِّ النِّسَاءِ، وَلَا مِنَ النَّجَاسَاتِ الْخَارِجَةِ
(2)
؛ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِذَلِكَ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْوُضُوءُ مِن مَسِّ الذَّكَرِ، وَلَا النِّسَاءِ، وَلَا خُرُوجِ النَّجَاسَاتِ مِن غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ
(3)
، وَلَا الْقَهْقَهَةِ، وَلَا غُسْلِ الْمَيِّتِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مَعَ
(1)
أي: يحضرها الشياطين.
عَنْ زَيْدِ بْن أَرْقَمَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ هَذِهِ الْحُشُوشَ مُحْتَضَرَةٌ، فَإِذَا دَخَلَ أحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ". رواه ابن ماجه (296)، وأبو داود (6)، وصحَّحه الألباني.
(2)
أي: لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ قَطُّ أَنْ يَنْقُلَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِالْوُضُوءِ من النجاسات الخارجة من غير المخرج؛ كالدم والقيء وغيرهما.
(3)
قال الشيخ في موضع آخر: فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم بِإسْنَادٍ يَثْبُتُ مِثْلُهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ، مَعَ =
الْمُوجِبِينَ دَلِيلٌ صَحِيحٌ؛ بَلِ الْأَدِلَّةُ الرَّاجِحَةُ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، لَكِنَّ الِاسْتِحْبَابَ مُتَوَجِّةٌ ظَاهِرٌ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَوَضَّأَ، مِن مَسِّ النِّسَاءِ لِشَهْوَة، ويُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنَ الْحِجَامَةِ وَالْقَيءِ وَنَحْوِهِمَا.
وَكَذَلِكَ الْقَهْقَهَةُ فِي الصَّلَاةِ ذَنْبٌ، ويُشْرَعُ لِكلِّ مَن أَذْنَبَ أَنْ يَتَوَضَّأَ.
وَأَمَّا الْوُضُوءُ مِنَ الْحَدَثِ الدَّائِمِ لِكُلِّ صَلَاةٍ: فَفِيهِ أَحَادِيثُ مُتَعَدِّدَةٌ عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَدْ صَحَّحَ بَعْضَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، فَقَوْلُ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يُوجِبُونَ الْوُضُوءَ لِكُلِّ صَلَاةٍ أَظْهَرُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد
(1)
. [20/ 524 - 527]
2244 -
تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي الْوُضوءِ مِن خُرُوجِ الدَّمِ بِالْفِصَادِ وَالْحِجَامَةِ وَالْجَرْحِ وَالرُّعَافِ وَفِي الْقَيْءِ، وَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ، وَقَد نُقِلَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ تَوَضَّأَ مِن ذَلِكَ، وَعَن كَثِيرٍ مِن الصَّحَابَةِ، لَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ قَطُّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَوْجَبَ الْوُضُوءَ مِن ذَلِكَ؛ بَل كَانَ أَصْحَابُهُ يَخْرُجُونَ فِي الْمَغَازِي فَيُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّؤونَ؛ وَلهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِن الْعُلَمَاءِ: إنَّ الْوُضُوءَ مِن ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ
= الْعِلْمِ بِأنَّ النَّاسَ كَانُوا لَا يَزَالُونَ يَحْتَجِمُونَ ويتَقَيَّئُونَ ويُجْرَحُونَ فِي الْجِهَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ قطعَ عِرْق بَعْضِ أَصْحَابِهِ لِيَخْرُجَ مِنْهُ الدَّمُ وَهُوَ الْفِصَادُ، وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ مُسْلِمٌ أَنَّهُ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّوَضُّؤِ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ النَّاسُ لَا يَزَالُ أَحَدُهُمْ يَلْمِسُ امْرَأَتَهُ بِشَهْوَةٍ وَبِغَيْرِ شَهْوَةٍ، وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ مُسْلِمٌ أَنَّهُ أَمَرَ النَّاسَ بِالتَّوَضُّؤِ مِنْ ذَلِكَ، وَالْقُرْآنُ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، بَل الْمُرَادُ بِالْمُلَامَسَةِ الْجِمَاعُ.
وَأَمْرُهُ بالْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ إنَّمَا هُوَ اسْتِحْبَابٌ، إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا إذَا حَرَّكَ الشَّهْوَةَ، وَكَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ لَمَسَ النِّسَاءَ فَتَحَرَّكَتْ شَهْوَتُهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَفَكَّرَ فَتَحَرَّكَتْ شَهْوَتُهُ فَانْتَشَرَ، وَكَذَلِكَ مَنْ مَسَّ الْأَمْرَدَ أَوْ غَيْرَهُ فَانْتَشَرَ، فَالتَّوَضُّؤُ عِنْدَ تَحَرُّكِ الشَّهْوَةِ مِنْ جِنْسِ التَّوَضُّؤِ عِنْدَ الْغَضَبِ وَهَذَا مُسْتَحَبٌّ؛ لِمَا فِي السُّنَنِ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"إنَّ الْغَضَبَ مِن الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ مِن النَّارِ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ"، وَكَذَلِكَ الشَّهْوَةُ الْغَالِبَةُ هِيَ مِن الشَّيْطَانِ وَالنَّارِ، وَالْوُضُوءُ يُطْفِئُهَا، فَهُوَ يُطْفِئُ حَرَارَةَ الْغَضَبِ. اهـ. (25/ 238 - 239).
(1)
جاء في الاختيارات (27)، والفتاوى الكبرى (2/ 306): الأحداث اللازمة كدم الاستحاضة وسلس البول لا تنقض الوضوء ما لم يوجد المعتاد وهو مذهب مالك.
فهذا يُخالف ما جاء في المجموع، ولعل للشيخ قولين في المسألة.
وَاجِبٍ، وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْوُضُوءِ مِن مَسِّ الذَّكَرِ، ومَسِّ الْمَرْأَةِ لِشَهْوَةِ إنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ مِن ذَلِكَ وَلَا يَجِبُ، وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الْوُضُوءِ مِن الْقَهْقَهَةِ، ومِمَّا مَسَّت النَّارُ إنَّ الْوضُوءَ مِن ذَلِكَ يُسْتَحَبُّ وَلَا يَجِبُ، فَمَن تَوَضَّأَ فَقَد أَحْسَنَ، وَمَن لَمْ يَتَوَضَّأْ فَلَا شَيءَ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ. [25/ 358]
* * *
باب الآنية
2245 -
الْمُضَبَّبُ بِالْفِضَّةِ مِنَ الْآنِيَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا مِنَ الْآلَاتِ -سَوَاءٌ سُمِّيَ الْوَاحِدُ مِن ذَلِكَ إنَاءً أَو لَمْ يُسَمَّ- وَمَا يَجْرِي مَجْرَى الْمُضَبَّبِ: إِنْ كَانَتِ الضَّبَّةُ يَسِيرَةً لِحَاجَةِ مِثْل تَشْعِيبِ الْقَدَحِ وَشُعَيْرَةِ السِّكِّينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُبَاشَرُ بِالِاسْتِعْمَالِ: فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ.
وَمُرَادُ الْفُقَهَاءِ بِالْحَاجَةِ هنا: أَنْ يَحْتَاجَ إلَى تِلْكَ الصُّورَةِ كَمَا يَحْتَاجُ إلَى التَّشْعِيبِ وَالشُّعَيْرَةِ، سَوَاءٌ كَانَ مِن فِضَّةٍ أَو نُحَاسٍ أَو حَدِيدٍ أَو غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ مُرَادُهُم أَنْ يَحْتَاجَ إلَى كَوْنِهَا مِن فِضَّةٍ؛ بَل هَذَا يُسَمُّونَهُ فِي مِثْل هَذَا ضَرُورَةً، وَالضَّرُورَةُ تُبِيحُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مُفْرَدًا وَتبَعًا.
وَأَمَّا إنْ كَانَ الْيَسِيرُ لِلزِّينَةِ فَفِيهِ أَقْوَالٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ: التَّحْرِيمُ وَالْإِبَاحَةُ وَالْكَرَاهَةُ.
وَلهَذَا كَرِهَ [أي: الإمام أحمد] حَلْقَة الذَّهَبِ فِي الْإِنَاءِ اتِّبَاعًا لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ، وَهُوَ أَوْلَى مَا اُتُّبعَ فِي ذَلِكَ.
وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْهُ مَرْفُوعًا: "مِن شُرْبٍ فِي إنَاءِ ذَهَبٍ أَو فِضَّةٍ أَو إنَاءٍ فِيهِ شَيءٌ مِن ذَلِكَ"
(1)
: فَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَلهَذَا كَانَ الْمُبَاحُ مِنَ الضَّبَّةِ إنَّمَا يُبَاحُ لَنَا اسْتِعْمَالُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ.
(1)
قال الذهبي في ميزان الاعتدال (4/ 406): منكر. وقال الألباني في تخريج مشكاة المصابيح (4215): إسناده ضعيف وأصل الحديث صحيح.
فَأَمَّا بِدُونِ ذَلِكَ؟ قِيلَ: يُكْرَهُ، وَقِيلَ: يَحْرُمُ؛ وَلذَلِكَ كَرِهَ أَحْمَد الْحَلْقَةَ فِي الْإِنَاءِ اتبَاعًا لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، وَالْكَرَاهَةُ مِنْهُ: هَل تُحْمَلُ عَلَى التَّنْزِيهِ أَو التَّحْرِيمِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَصْحَابِهِ، وَهَذَا الْمَنْعُ هُوَ مُقْتَضَى النَّصِّ وَالْقِيَاسِ؛ فَإِنَّ تَحْرِيمَ الشَّيءِ مُطْلَقًا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ، كَمَا أَنَّ تَحْوِيمَ الْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ اقْتَضَى ذَلِكَ. [21/ 81 - 85]
2246 -
يحرم استعمال آنية الذهب والفضة واتخاذها.
ويحرم استعمال إناء مُفَضَّض
(1)
إذا كان كثيرًا، ولا يكره يسيره لحاجة ويكره لغيرها.
وكلام أحمد رحمه الله لمن تدبره لم يتعرض للحاجة وعدمها، وإنما فرّق بين ما يستعمل وبين ما لا يستعمل؛ فإنه قال: رأس المكحلة والميل وحلقة المرآة إذا كانا من الفضة فهو من الآنية، وما لا يستعمل فهو أهون مثل الضبة في السكين والقدح.
فقد نصَّ على أنه إذا كان الفرق في الاستعمال كالحلقة يمسك بها الإناء وكذلك رأس المكحلة فليس كذلك، بخلاف قبضة السكين فإنها لا تستعمل، ثم أطلق: لا بأس بالضبة وأكره الحلقة، ولم يعتبر الحاجة.
وهذا بيِّن في أن الفضة تباح على سبيل التبع كالحرير، ومقتضى هذه الرواية أن يباح الكثير إذا كان أقل مما هو فيه ولم يستعمل، وهذا هو الصواب.
وحيث أبيحت الضبة فإنما يراد من إباحتها أن تحتاج إلى تلك الصورة، لا إلى كونها من ذهب أو فضة؛ فإن هذه ضرورة وهي تبيح المتعذر. [المستدرك 3/ 18 - 20]
(1)
أي: مَطْلِيّ بِالفِضّة.
2247 -
خَاتَمُ الْفِضَّةِ: يُبَاحُ بِاتِّفَاقِ الْأئِمَّةِ، فَإِنَّهُ قَد صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ اتَّخَذَ خَاتَمًا مِن فِضَّةٍ وَأَنَّ أصْحَابَهُ اتَّخَذُوا خَوَاتِيمَ.
بِخِلَافِ خَاتَمِ الذَّهَبِ فَإِنَّهَا حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأرْبَعَةِ، فَإِنَّهُ قَد صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَن ذَلِكَ.
وبَابُ اللِّبَاسِ أَوْسَعُ مِن بَابِ الْآنِيَةِ، فَإنَّ آنِيَةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ تَحْرُمُ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَأَمَّا بَابُ اللِّبَاسِ: فَإِنَّ لِبَاسَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ يُبَاحُ لِلنِّسَاءِ بِالِاتِّفَاقِ، وَيُبَاحُ لِلزجُلِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِن ذَلِكَ، وَيُبَاحُ يَسِيرُ الْفِضَّةِ لِلزِّينَةِ، وَكَذَلِكَ يَسِيرُ الذَّهَب التَّابعُ لِغَيْرِهِ كَالطُّرُزِ وَنَحْوِهِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الذَّهَبِ إلَّا مُقَطَّعًا.
فَأمَّا لبْسُ الْفِضَّةِ: إذَا لَمْ يَكُن فِيهِ لَفْظٌ عَامٌّ بِالتَّحْرِيمِ لَمْ يَكُن لِأَحَدٍ أَنْ يُحَرِّمَ مِنْهُ إلَّا مَا قَامَ الدَّليلُ الشَّرْعِيُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ، فَإِذَا جَاءَتِ السُّنَّةُ بِإِبَاحَةِ خَاتَمِ الْفِضَّةِ كَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى إبَاحَةِ ذَلِكَ، وَمَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ وَمَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ بِالْإِبَاحَةِ، وَمَا لَمْ يَكُن كَذَلِكَ فَيَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ فِي تَحْلِيلِهِ وَتَحْرِيمِهِ
(1)
. [25/ 63 - 65]
2248 -
حِيَاصَةُ
(2)
الذَّهَبِ: مُحَرَّمَةٌ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ هَذَانِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِى حِلٌّ لإِنَاثِهَا"
(3)
.
وَأَمَّا حِيَاصَةُ الْفِضَّةِ، فَفِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ: وَقَد أَبَاحَهَا الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.
(1)
قال أبن عثيمين رحمه الله: أمَّا الأكل والشُّرب فيهما - أي: في الذهب والفضة - فهو حرام بالنَّص، وحكى بعضهم الإجماع عليه.
والصَّحيح: أن الاتِّخاذ والاستعمال في غير الأكل والشُّرب ليس بحرام؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن شيء مخصوص وهو الأكل والشُّرب. الشرح الممتع (1/ 75).
(2)
الحِياصَةُ: هي السير من الجلد، تُجْعل في الوسط.
(3)
رواه أبو داود (4057)، والترمذي (1720)، وابن ماجه (3595)، والنسائي، (1720)، وصحَّحه الألباني في صفة الفتوى (90).
وَأَمَّا كِتَابَة الْقُرْآنِ عَلَيْهَا
(1)
: فَيُشْبِهُ كِتَابَة الْقُرْآنِ عَلَى الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ، وَلَكِنْ يَمْتَازُ هَذَا بِأَنَّهَا تعَاد إلَى النَارِ بَعْدَ الْكِتَابَةِ وَهَذَا كُلُّهُ مَكْرُوهٌ، فَإِنَّهُ يُفْضِي إلَى ابْتِذَالِ الْقُرْآنِ وَامْتِهَانِهِ وَوُقُوعِهِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُنَزَّهُ الْقُرْآنُ عَنْهَا، فَإِنَّ الْحِيَاصَةَ وَالدِّرْهَمَ وَالدِّينَارَ وَنَحْو ذَلِكَ هُوَ فِي مَعْرِضِ الِابْتِذَالِ وَالِامْتِهَانِ
(2)
. [25/ 66 - 67]
2249 -
يُبَاحُ إطْفَاءُ الْحَرِيقِ بِالْخَمْرِ، وَإِطْعَامُ الْمَيْتَةِ لِلْبُزَاةِ وَالصُّقُورِ، وَإِلْبَاسُ الدَّابَّةِ الثَّوْبَ النَّجِسَ، وَكَذَلِكَ الِاسْتِصْبَاحُ بِالدُّهْنِ النَّجِسِ فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمَد؛ وَهَذَا لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْخَبَائِثِ فِيهَا يَجْرِي مَجْرَى الْإِتْلَافِ لَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ، وَكَذَلِكَ فِي الْأُمُورِ الْمُنْفَصِلَةِ، بِخِلَافِ اسْتِعْمَالِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ، فَإِنَّ هَذَا غَايَةُ السَّرَفِ وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ.
وَبِهَذَا يَظْهَرُ غَلَطُ مَن رَخَّصَ مِنَ الْفُقَهَاءِ مِن أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ فِي إلْبَاسِ دَابَّتِهِ الثَّوْبَ الْحَرِيرَ؛ قِيَاسًا عَلَى إلْبَاسِ الثَّوْبِ النَّجِسِ؛ فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَن يُجَوِّزُ افْتِرَاشَ الْحَرِيرِ وَوَطْأَهُ قِيَاسًا عَلَى الْمُصَوَّرَاتِ. [21/ 83 - 84]
2250 -
التَّوَضُّؤُ وَالِاغْتِسَالُ مِن آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ فِي مَذْهَب أَحْمَد لَكِنَّهُ مُرَكَّبٌ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ بَل أَشْهُرُهُمَا عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ فِي الَدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ وَاللِّبَاسِ الْمُحَرَّمِ كَالْحَرِيرِ وَالْمَغْصُوبِ وَالْحَجِّ بِالْمَالِ الْحَرَامِ وَذَبْحِ الشَّاةِ بِالسّكِّينِ الْمُحَرَّمَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ أَدَاءُ وَاجِبٍ وَاسْتِحْلَالُ مَحْظُورٍ.
فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الَّتِي يُصَحِّحُ فِيهَا الصَّلَاةَ وَالْحَجَّ ويُبِيحَ الذَّبْحَ: فَإِنَّهُ يُصَحِّحُ الطَّهَارَةَ مِن آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
(1)
أي: على الحزام الذي عُمل من فضة.
(2)
لم يُحرم شيخ الإسلام رحمه الله كِتَابَة الْقُرْآنِ على الحزام، ولم يقل بأن ذلك امتهان له، بل قال: يُفْضِي إلَى ابْتِذَالِ الْقُرْآنِ وَامْتِهَانِهِ، وهذا من ورعه، وعدم تحريم شيء إلا بدليل ظاهر، فكيف بمن حرَّم أقلّ من ذلك بزعم أنه امثهان للقرآن!
أمَّا عَلَى الْمَنْعِ فَلِأَصْحَابِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: الصِّحَّةُ، كَمَا هُوَ قَوْلُ الخرقي وَغَيْرِهِ.
وَالثاني: الْبُطْلَانُ.
وَاَلَّذِينَ نَصَرُوا قَوْلَ الخرقي أَكْثَرُ أَصْحَابِ أَحْمَد: فَرَّقُوا بِفَرْقَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُحَرَّمَ هُنَا مُنْفَصِلٌ عَن الْعِبَادَةِ.
وَالْفَرْقُ الثَّانِي - وَهُوَ أَفْقَهُ - قَالُوا: التَّحْرِيمُ إذَا كَانَ فِي رُكْنِ الْعِبَادَةِ وَشَرْطِهَا أَثَّرَ فِيهَا، كَمَا إذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ فِي اللِّبَاسِ أَو الْبُقْعَةِ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي أَجْنَبِيِّ عَنْهَا لَمْ يُؤَثِّرْ، وَالْإِنَاءُ فِي الطَّهَارَةِ أَجْنَبِيٌّ عَنْهَا فَلِهَذَا لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهَا
(1)
. [21/ 89 - 90]
2251 -
لِلنَّاسِ فِيمَا يُطَهِّرُهُ الدِّبَاغُ أَقْوَالٌ .. وَمَأْخَذُ التَّرَدُّدِ: أَنَّ الدِّبَاغَ هَل هُوَ كَالْحَيَاةِ فَيُطَهِّرُ مَا كَانَ طَاهِرًا فِى الْحَيَاةِ
(2)
، أَو هُوَ كَالذَّكَاةِ فَيُطَهِّرُ مَا طَهُرَ بِالذَّكَاةِ؟
(3)
، وَالثَّانِي أَرْجَحُ.
وَدَلِيلُ ذَلِكَ: نَهْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَن جُلُودِ السِّبَاعِ. [21/ 95 - 96]
* * *
(1)
هذا على القول بحرمة اتِّخاذ واستعمال آنِيَةِ الذَّهَب وَالْفِضَّةِ، والشيخ رجح في موضع آخر جواز لبس الفضة دون الذهب للرجال -إلا ماَ استُثني- ومن باب أولى الاستعمال والاتخاذ. ينظر كلامه في (25/ 63 - 65).
وقد اختار العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله جواز ذلك فقال: أمَّا الأكل والشُّرب فيهما - أي: في الذهب والفضة - فهو حرام بالنَّص، وحكى بعضهم الإجماع عليه.
والصَّحيح: أن الاتِّخاذ والاستعمال في غير الأكل والشُّرب ليس بحرام؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن شيء مخصوص وهو الأكل والشُّرب. الشرح الممتع (1/ 75).
(2)
فعلى هذا يطهر جلد الهر ونحوه.
(3)
وعلى هذا لا يطهر إلا ما كان مأكول اللحم.
جلد الميتة
2252 -
قال الشيخ تقي الدين في "شرح العمدة": ويباح استعماله
(1)
في اليابسات مع القول بالنجاسة في إحدى الروايتين
(2)
، وفي الأخرى: لا تباح وهو الأظهر، للنهي عن ذلك.
فأما قبل الدبغ فلا ينتفع به
(3)
قولًا واحدًا.
والوجه الثاني: أنَّ الحكمَ قبل الدبغ وبعده سواء، قال في الفائق: ويباح الانتفاع بها في اليابسات اختاره الشيخ تقي الدين. اهـ
(4)
.
الثاني: مفهوم كلامه أنه لا يجوز استعمالها في غير اليابسات كالمائعات ونحوها.
وقال الشيخ تقي الدين في فتاويه: يجوز الانتفاع بها في ذلك إن لم ينجس العين.
ولا يطهر جلد غير المأكول في الذكاة؛ بل لا يجوز ذبحه، وقال الشيخ تقي الدين: ولو كان في النزع.
ويجوز الانتفاع بالنجاسات في رواية .. وعنه: وشحم ميتة، أومأ إليه، ومال إليه شيخنا. [المستدرك 3/ 21]
* * *
(1)
أى: جلد الميتة.
(2)
عن الإمام أحمد.
(3)
أي: بجلد الميتة، لا باليابسات ولا بالمائعات.
(4)
لشيخ الإسلام قولان في استعمال الْجِلْد النَّجِس على القول بأنه لَا يَطْهُرُ بِالدَّبْغ:
الأول: أنه لا يجوز، وهو الذي رجحه في شرح العمدة.
الثاني: أنه يجوز.
ولذلك قال في الفروع (1/ 73) بعد أن ساق كلام صاحب الفائق: فخَالَفَ هُنَا ظاهر ما قَالَهُ في شَرْحِ الْعُمدَةِ. اهـ.
(فأرة المسك)
2253 -
فأرة المسك طاهرة عند جماهير العلماء، وليس ذلك فيما يبان من البهيمة وهي حية؛ بل هو بمنزلة البيض والولد واللَّبن والصوف. [المستدرك 3/ 22]
* * *
باب الاستنجاء
2254 -
التَّنَحْنُحُ بَعْدَ الْبَوْلِ وَالْمَشْيُ وَالطَّفْرُ
(1)
إلَى فَوْقٍ وَالصُّعُودُ فِي السُّلَّمِ وَالتَّعَلُّقُ فِي الْحَبْلِ وَتَفْتِيشُ الذَّكَرِ بِإِسَالَتِهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ: كُلُّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا مُسْتَحَبِّ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَل وَكَذَلِكَ نَتْرُ الذَّكَرِ بِدْعَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ، لَمْ يُشَرِّعْ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
وَكَذَلِكَ سَلْتُ الْبَوْلِ بِدْعَةٌ لَمْ يُشَرِّعْ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
وَالْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ ضَعِيفٌ لَا أَصْلَ لَهُ وَالْبَوْلُ يَخْرُجُ بِطَبْعِهِ، وَإِذَا فَرَغَ انْقَطَعَ بِطَبْعِهِ، وَهُوَ كَمَا قِيلَ: كَالضَّرْعِ إنْ تَرَكْته قَرَّ وَإِن حَلَبْته دَرَّ.
وَكُلَّمَا فَتَحَ الْإِنْسَانُ ذَكَرَهُ فَقَد يَخْرُجُ مِنْهُ، وَلَو تَرَكَهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ.
وَقَد يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ وَهُوَ وَسْوَاسٌ، وَقَد يُحِسُّ مَن يَجِدُهُ بَرْدًا لِمُلَاقَاةِ رَأْسِ الذَّكَرِ فَيَظُنُّ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَمْ يَخْرُجْ.
وَالْبَوْلُ يَكُونُ وَاقِفًا مَحْبُوسًا فِي رَأسِ الْإِحْلِيلِ لَا يَقْطُرُ، فَإِذَا عَصَرَ الذَّكَرَ أَو الْفَرْجَ أَو الثُّقْبَ بِحَجَرٍ أو أُصْبُعٍ أَو غَيْرِ ذَلِكَ خَرَجَت الرُّطُوبَةُ فَهَذَا أَيْضًا بدْعَةٌ، وَذَلِكَ الْبَوْلُ الْوَاقِفُ لَا يَحْتَاجُ إلَى إخْرَاجٍ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ لَا بِحَجَرٍ وَلَا أُصْبُعٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ، بَل كُلَّمَا أَخْرَجَهُ جَاءَ غَيْرُهُ فَإِنَّهُ يَرْشَحُ دَائِمًا.
وَالِاسْتِجْمَارُ بِالْحَجَرِ كَافٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى غَسْلِ الذَّكَرِ بِالْمَاءِ.
(1)
أي: القفز.
ويُسْتَحَبُّ لِمَنِ اسْتَنْجَى أَنْ يَنْضَحَ عَلَى فَرْجِهِ مَاءً، فَإِذَا أَحَسَّ بِرُطُوبَتِهِ قَالَ: هَذَا مِن ذَلِكَ الْمَاءِ.
وَأَمَّا مَن بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ -وَهُوَ أَنْ يَجْرِيَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ لَا يَنْقَطِعُ- فَهَذَا يَتَّخِذُ حِفَاظًا يَمْنَعُهُ.
فَإِنْ كَانَ الْبَوْلُ يَنْقَطِعُ مِقْدَارَ مَا يَتَطَهَّرُ وَيُصَلِّي
(1)
، وَإِلَّا صَلَّى، وَإِن جَرَى الْبَوْلُ - كَالْمُسْتَحَاضَةِ - تتوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ. [21/ 106 - 107]
2255 -
تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا اسْتَجْمَرَ بِأَقَلَّ مِن ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، أَو اسْتَجْمَرَ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ؛ كَالرَّوْثِ وَالرُّمَّةِ وَبِالْيَمِينِ: هَل يُجْزِئُهُ ذَلِكَ؟
(1)
فلْيصبر حتى ينقطع، وهذا يُسمى سلس البول المؤقت، وهو يستمر من ربع ساعة إلى ساعة أحيانًا بحسب قوة المرض.
فإن كان يسيرًا كقطرة أو قطرتين فهو مما يُعفَى عنه.
ومن تأمل يُسر الشريعة الإسلامية، وأنها ما جاءت إلا لرفع الحرج والأذى عن الناس، وتأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه، أيقن أنّ يسير النَّجاسات معفوٌّ عنها، كقطرات البول اليسيرة التي قد تخرج بعد الانتهاء من البول، بعد التحفظ والاحتياط.
ولا يلزم غسل الملابس منه للمشقة الناشئة منه، ولأنه يُؤدي إلى الوسواس والقلق وكثرة النظر إلى السروال، والتحسس منه.
قال العلَّامة خالد المشيقح حفظه الله - في جوابه لمن سأله عن خروج قطرات من البول بعد كل وضوء -: هذه القطرات التي تخرج منك بعد الوضوء معفو عنها، فإذا توضأت أو استجمرت ثم بعد ذلك خرج منك شيء من ذلك فامض إلى صلاتك ولا تلتفت إلى مثل هذه الأمور، ومن قواعد الشريعة المقررة المشقة تجلب التيسير والله عز وجل يقول:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ويقول صلى الله عليه وسلم: "إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غبه". اهـ. موقع الشيخ، فتوى رقم (40930).
وإذا كان يُعفى عن أثر الاستجمار بعد الإنقاء واستيفاء العدد -ومعلومٌ أنَّ الاستجمار لا يزيل النجاسة وأثرها تمامًا، بل يبقى أثرٌ لا يزيله إلا الماء-: فكيف لا يقال مع هذا إنه لا يعفى عن يسير نجاسة البول.
وأفضل طريقة في ذلك: أنْ يرش ماءً على السروال، في المكان القريب من مخرج البول، بحيث لو نزلت بعض القطرات زال أثر النجاسة بملاقاتها للماء الكثير، وحتى لا يُشغل باله: هل نزلت القطرات أم لا، فلو شك في خروج شيء من البول باحساس بلل فإنه سيقول هذا من الماء ولا يلتفت إليه.
وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ إذَا اسْتَجْمَرَ بِأَقَلَّ مِن ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ فَعَلَيْهِ تَكْمِيلُ الْمَأْمُورِ بِهِ.
وَأَمَّا إذَا اسْتَجْمَرَ بِالْعَظْمِ وَالْيَمِينِ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ؛ فَإِنَّهُ قَد حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ وَإِن كَانَ عَاصِيًا، وَالْإِعَادَةُ لَا فَائِدَةَ فِيهَا، وَلَكِنْ قَد يُؤْمَرُ بِتَنْظِيفِ الْعَظْمِ مِمَّا لَوَّثَهُ بِهِ. [21/ 211 - 212]
2256 -
أما حمد العاطس وإجابة المؤذن
(1)
فيحمد ويجيب بقلبه، ويكره بلفظه، وعنه لا يكره.
قال الشيخ تقي الدين: يجيب المؤذن في الخلاء.
قال أبو العباس: أما مسألة الصلاة فتقارب مسألة الخلاء، فإن الحمد لله ذكر لله، ونص أحمد على أنه يقوله في الصلاة بمنزلة أذكار المخافتة، لكن لا يجهر به كما يجهر به خارج الصلاة، ليس أنه لا يُسمع نفسه. [المستدرك 3/ 22]
2257 -
ينبغي أنْ نقول بوجوب الاستنجاء باليسرى ومسِّ
(2)
الفرج بها؛ لأن النهي
(3)
في كليهما
(4)
. [المستدرك 3/ 23]
2258 -
يحرم استقبال القبلة واستدبارها عند التخلي مطلقًا، سواء الفضاء والبنيان، ولا يكفي انحرافه عن الجهة. [المستدرك 3/ 23]
2259 -
يستحب أن يمكث بعد البول قليلًا. [المستدرك 3/ 23]
2260 -
نص أحمد: لا يستجمر في غير المخرج، وقيل: يستجمر في
(1)
في الخلاء.
(2)
في الأصل: (ومسح)، والتصحيح من الإنصاف (8/ 326).
ونقل عنه قوله: لو زَادَ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ عِنْدَ الْأكْلِ لَكَانَ حَسَنًا فإنه أكمل، بِخِلَافِ الذَّبْحِ فإنه قد قِيلَ: لَا يُنَاسِبُ ذلك.
(3)
أي: النهي عن مس الفرج باليمين والاستنجاء بها.
(4)
ثبت في الصحيحين عن أَبِي قَتَادَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: "إِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَأْخُذَنَّ ذَكرَهُ بِيَمِينهِ، وَلَا يَسْتَنْجِي بِيَمِينهِ، وَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءِ".
الصفحتين والحشفة، واختار شيخنا وغيره ذلك؛ لعموم الأدلة بجواز الاستجمار ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم في ذلك تقدير.
وحدد الشيخ تقي الدين في "شرح العمدة" ما يتجاوز موضع العادة بأن ينتشر الغائط إلى نصف باطن الألية فأكثر، والبول إلى نصف الحشفة فأكثر فحينئذ يتعين الماء. [المستدرك 3/ 23]
2261 -
قوله: وفي وجوب غسل ما أمكن من داخل فرج ثيب في نجاسة وجنابة وجهان: أحدهما: لا يجب وهو الصحيح نص عليه، واختاره المجد وحفيدُه وغيرهما. [المستدرك 3/ 23 - 24]
2262 -
إذا كان في المسجد بركة يغلق عليها بابه ويمشي حولها دون أن يصلي حولها فهل يبال فيها؟
هذا يشبه البول في المسجد في القارورة، ومن الفقهاء من نهى عنه لأن هواء المسجد كقرارهِ في الحرمة، ومنهم من يرخص للحاجة، والأشبه أن هذا إذا فعل للحاجة فقريب، وأما إذا اتخذ مبالًا أو متنجى فلا. [المستدرك 3/ 24]
2263 -
لا يغسل في المسجد ميت. [المستدرك 3/ 24]
2264 -
يجوز عمل مكان فيه للوضوء للمصلين وفي نسخة للمصلحة بلا محذور
(1)
. [المستدرك 3/ 24]
(1)
ويجوز إدخال دورات المياه داخل المسجد إذا أحيطت بجدار كما هو الواقع في كثير من المساجد، فيما عدا قبلة المسجد، إذا لم يحصل على المساجد وأهلها أذى منها؛ لعدم وجود دليل شرعي يمنع من ذلك.
فأما إذا كانت دورات المياه في جهة القبلة فلا تخلو من ثلاث حالات:
الحالة الأولى: إذا لم يَكُن حَائِلٌ بين الْمُصَلِّي وَبَيْنَها، فلا تَصِحُّ الصَّلَاةُ.
قال في الإنصاف: لا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إلَى الْمَقْبَرَةِ فَقَطْ، وَعَنْهُ: لَا تَصِحُّ إلَى الْمَقْبَرَةِ وَالْحُشِّ اخْتَارَهُ بن حَامِدِ وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ.
الحالة الثانية: إذَا كان بين الْمُصَلِّي وَبَيْنَها حَائِلٌ منفصلٌ عن جدار المسجد - قال في الإنصاف: وَلَو كَمُؤَخِّرَةِ الرَّحْلِ -: صَحَّت الصَّلَاةُ. =
2265 -
"إلا الروث والعظام" واختار الشيخ تقي الدين الإجزاء بهما، قال في الفروع: وظاهر كلام الشيخ تقي الدين وبما نُهي عنه، قال: لأنه لم ينه عنه لكونه لا يُنَقِّي بل لإفساده.
فإن قيل: يزول بطعامنا مع التحريم فهذا أولى، واختار الشيخ تقي الدين في قواعده الاجزاء بالمطعوم ونحوه، ذكره الزركشي أيضًا.
وإن توضأ قبله
(1)
فهل يصح وضوءه؟ على روايتين: إحداهما: يصح، قال الشيخ تقي الدين في "شرح العمدة": هذا أشهر. [المستدرك 3/ 24 - 25]
* * *
باب السواك وسنن الوضوء
2266 -
السواك يطلق على الفعل، وعلى ما يتسوك به.
وهو في جميع الأوقات مستحب، والأصح ولو لصائم بعد الزوال وهو رواية عن أحمد.
وعنه: يستحب للصائم كل وقت اختاره شيخنا. [المستدرك 3/ 25]
2267 -
أَمَّا السِّوَاكُ فِي الْمَسْجِدِ فَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِن الْعُلَمَاءِ كَرِهَهُ؛ بَل الْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَسْتَاكُونَ فِي الْمَسْجِدِ، ويجُوزُ أَنْ يَبْصُقَ الرَّجُلُ فِي ثيَابِهِ فِي الْمَسْجِدِ وَيَمْتَخِطَ فِي ثِيَابِهِ بِاتِّفَاقِ الْأئِمَّةِ وَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الثَّابِتَةِ عَنْهُ؛ بَل يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ فِي الْمَسْجِدِ بِلَا كَرَاهَةٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، فَإِذَا
= فإذا كانت مفصولة عن المسجد بجدارٍ مستقل بها، منفصل عن جداره القبلي: فلا محظور فيه، ولا بأْس بالصلاة.
الحالة الثالثة: أَن تكون متصلة بالمسجد، ليس بينها وبينه إِلا حائطه القبلي، فهذا مما ذكر العلماء كراهة الصلاة إِليه؛ لكراهة السلف رحمهم الله الصلاة في مسجد في قبلته حُش.
وعلى هذا فينبغي فصل هذه الحمامات عن جدار المسجد بحائط مستقل بها، منفصل عن حائط المسجد.
يُنظر: فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (2/ 139).
(1)
يعني: إن توضأ تبل الاستنجاء.
جَازَ الْوُضوءُ فِيهِ مَعَ أَنَّ الْوُضُوءَ يَكُونُ فِيهِ السِّوَاكُ وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ وَالصَّلَاةُ يُسْتَاكُ عِنْدَهَا فَكَيْفَ يُكْرَهُ السِّوَاكُ؟ وَإِذَا جَازَ الْبُصَاقُ وَالِامْتِخَاطُ فِيهِ فَكَيْفَ يُكْرَهُ السِّوَاكُ؟
(1)
. [22/ 201]
2268 -
الْأَفْضَلُ أَنْ يَسْتَاكَ بِالْيُسْرَى .. وَمَا عَلِمْنَا أَحَدًا مِنَ الْأَئِمَّةِ خَالَفَ فِي ذَلِكَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِيَاكَ مِن بَاب إمَاطَةِ الْأَذَى، فَهُوَ كَالِاسْتِنْثَارِ وَالِامْتِخَاطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ إزَالَةُ الْأَذَى، وَذَلِكَ بِالْيُسْرَى، كَمَا أَنَّ إزَالَةَ النَّجَاسَاتِ كَالِاسْتِجْمَارِ وَنَحْوِهِ بِالْيُسْرَى، وَإِزَالَةُ الْأَذَى وَاجِبُهَا وَمسْتَحَبُّهَا بِالْيُسْرَى. [21/ 108]
2269 -
أَمَّا الْخِتَانُ فَمَتَى شَاءَ اخْتَتَنَ، لَكنْ إذَا رَاهَقَ الْبُلُوغَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَتِنَ، كَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُ لِئَلَّا يَبْلُغَ إلَّا وَهُوَ مَخْتُونٌ. [21/ 113]
(1)
قولُه صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا السِّوَاكُ فِي الْمَسْجِدِ فَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِن الْعُلَمَاءِ كَرِهَهُ": فيه نظر، فالخلاف في هذه المسألة ثابت.
قال في منح الجليل (8/ 89): "يكره السواك في المسجد". اهـ.
وقال ابن رجب رحمه الله في فتح الباري (8/ 123 - 124): وقد أنكر طائفة من العلماء السواك عند إرادة الصلاة المفروضة في المسجد، وقالوا: ليس فيه نص عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل للتهجد في بيته.
وحكي عن مالكٍ أنه يكره السواك في المساجد. اهـ.
وجزم ابن الملقن بنسبته للإمام مالك فقال: مذهب مالك كراهية الاستياك في المسجد. الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (1/ 564).
وقال القرطبي في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر": حجة لمالك في منع إدخال الميت المسجد، وتنزيهِها عن الأقذار جملة، فلا يقص فيها شعر، ولا ظفر، ولا يُتَسوَّك فيها؛ لأنه من باب إزالة القذر، ولا يتوضأ فيها، ولا يوكل فيها طعامٌ منتن الرائحة، إلى غير ذلك مما في هذا المعنى. اهـ. المفهم (1/ 544).
وقوله رحمه الله: وَإِذَا جَازَ الْبُصَاقُ وَالِامْتِخَاطُ فِيهِ فَكَيْفَ يُكْرَهُ السِّوَاكُ؟
قيل: يجوز ذلك عند الحاجة، أما مع عدم الحاجة فلا ينبغي؛ لأنه يُؤذي مَن حوله، وفيه انشغال عن الصلاة والذكر، وكذلك لا ينبغي التّسوك في المسجد إذا لم يكن هناك حاجة، وكان قد استاك قبل دخوله للمسجد، ورائحة فمه طيبة.
والذي يظهر أنّ التسوك في المسجد لا يُكره، ولكنْ ينبغي للمسلم أنّ يستاك قبل دخول المسجد، وإذا دخل المسجد فينشغل بالصلاة والدعاء وقراءة القرآن.
وقد بسطت القول في هذه المسألة في كتابي: بَوَّابَةُ الْخُشُوعِ فِي الصَّلَاةِ (ص 95).
2270 -
وَسُئِلَ عَن الْمَرْأَةِ: هَل تَخْتَتِنُ أَمْ لَا؟
فَأَجَابَ: نَعَمْ تَخْتَتِنُ، وَخِتَانُهَا أَنْ تَقْطَعَ أَعْلَى الْجِلْدَةِ الَّتِي كَعُرْفِ الدِّيكِ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِلْخَافِضَةِ -وَهِيَ الْخَاتِنَةُ-:"أَشِمِّي وَلَا تُنْهِكِي فَإِنَّهُ أَبْهَى لِلْوَجْهِ وَأَحْظَى لَهَا عِنْدَ الزَّوْجِ"
(1)
؛ يَعْنِي: لَا تُبَالِغِي فِي الْقَطْعِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِخِتَانِ الرَّجُلِ تَطْهِيرُهُ مِنَ النَّجَاسَةِ الْمُحْتَقِنَةِ فِي الْقُلْفَةِ، وَالْمَقْصُودُ مِن خِتَانِ الْمَرْأَةِ تَعْدِيلُ شَهْوَتِهَا، فَإِنَّهَا إذَا كَانَت قلفاء كَانَت مُغْتَلِمَةً شَدِيدَةَ الشَّهْوَةِ؛ فَإِنَ القلفاء تَتَطَلَّعُ إلَى الرِّجَالِ أَكْثَرَ .. وَإِذَا حَصَلَت الْمُبَالَغَةُ فِي الْخِتَانِ ضَعُفَت الشَّهْوَةُ فَلَا يَكمُلُ مَقْصُودُ الرَّجُلِ، فَإِذَا قُطِعَ مِن غَيْرِ مُبَالِغَةٍ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِاعْتِدَالِ. [21/ 114]
2271 -
لَا يُخْتَنُ أَحَدٌ بَعْدَ الْمَوْتِ. [21/ 115]
2272 -
يجب الختان إذا وجبت الطهارة والصلاة.
وينبغي إذا راهق البلوغ أن يختتن، كما كانت العرب تفعل لئلا يبلغ إلا وهو مختون.
زمن صغر أفضل إلى التمييز، وقال الشيخ تقي الدين: هذا المشهور. [المستدرك 3/ 27]
2273 -
الترجل تسريح الشعر ودهنه.
واختار شيخنا فعل الأصلح بالبلد؛ كالغسل بماء حار ببلد رطب؛ لأن المقصود ترجيل الشعر، ولأنه فعل الصحابة رضي الله عنهم، وأنَّ مثله نوع اللبس والمأكل، وأنهم لمَّا فتحوا الأمصار كان كلٌّ منهم يأكل من قوت بلده ويلبس من لباس بلده مِن غير أن يقصدوا قوت المدينة ولباسها
(2)
.
(1)
رواه أبو داود وضعَّفه (5271)، ولكن صحَّحه الألباني.
(2)
فالسُّنَة للمسلم موافقة الناس الذين يعيش فيهم في لباسهم، ويُستثنى من ذلك ثلاث حالات:
الحالة الأولى: إذا كان لباسًا ممنوعًا شرعًا، فإنه يجب اجتنابه عليه وعليهم. =
قال: ومن هذا أن الغالب على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الإزار والرداء فهل هما أفضل لكل أحد ولو مع القميص؟ أو الأفضل مع القميص السراويل فقط؟ هذا مما تنازع فيه العلماء. والثاني أظهر.
فالاقتداء به تارة يكون في نوع الفعل، وتارة في جنسه، فإنه قد يفعل الفعل لمعنى يعم ذلك النوع وغيره لا لمعنى يخصه فيكون المشروع هو المعنى العام.
وهذا ليس مخصوصًا بفعله وفعل أصحابه؛ بل وبكثير مما أمرهم به ونهاهم عنه. [المستدرك 3/ 26]
2274 -
يحرم حلق اللحية. [المستدرك 3/ 26]
2275 -
حَلْقُ الرَّأْسِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ:
أَحَدُهُمَا: حَلْقُهُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَهَذَا مِمَّا أمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَهُوَ مَشْرُوعٌ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ.
= الحالة الثانية: إذا لم يكن يعيش معهم، بل جاء لزيارة عابرة قصيرة؛ كعلاج ونحوه، حيث بكون غريبًا بينهم، فلا حرج عليه أن يبقى على لباسِ أهل بلده؛ لأنه لا يعد ذلك شهرة.
الحالة الثالثة: إذا كان من أهل العلم، فينبغي أنْ يلبس لباسَ أهل العلم؛ ليُعرف ويُسأل ويُقبلَ قوله، قال العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى: لَا بَأْسَ بِلُبْسِ شِعَارِ الْعُلَمَاءِ من أَهْلِ الدِّينِ لِيُعْرَفُوا بذَلِكَ فَيُسْأَلُوا، فَإِنِّي كُنْت مُحْرِمًا فَأَنْكَرْتُ على جَمَاعَةٍ من الْمُحْرِمِينَ لَا يَعْرِفُونَنِي ما أَخَلُّوا بِهِ من آدَابِ الْمَطَافِ فلم يَقْبَلُوا، فلما لَبِسْتُ ثِيَابَ الْفُقَهَاءِ وَأَنْكَرْتُ على الطَّائِفِينَ ما أَخلُّوا بهِ من آدَابِ الطَّوَافِ سَمِعُوا وَأَطَاعُوا، فإذا لَبِسَ شِعَارَ الْفُقَهَاءِ لِهَذَا الْغَرَضِ كان له فيه أَجْرٌ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ إلَى امْتِثَالِ أَمْرِ اللهِ وَالِانْتِهَاءِ عَمَّا نهى اللهُ عنه. اهـ.
وقد ورد النهي عن لباس الشهرة، والمعتبر في الشهرة هو القصد والنية والرغبة في الاشتهار والكبر والفخر والتميز على الأقران، أما من لبس ثوبًا فاشتُهر به من غير قصد فلا يشمله النهي -إن شاء الله تعالى- ما لم يَعلم أن ذلك من لباس الشهرة، فيُصر عليه ولا يغيره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى".
وهذا اختيار العلَّامة الألباني رحمه الله.
يُنظر: فتاوى نور على الدرب (2/ 287)، سلسلة الهدى والنور، الفتاوى الكبرى الفقهية ابن حجر الهيتمي (1/ 269)، لباس الرجل أحكامه وضوابطه للدكتور ناصر بن محمد الغامدي.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: حَلْقُ الرَّأْسِ لِلْحَاجَةِ مِثْلُ أَنْ يَحْلِقَهُ لِلتَّدَاوِي، فَهَذَا أَيْضًا جَائِزٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: حَلْقُهُ عَلَى وَجْهِ التَّعَبُّدِ وَالتَّدَيُّنِ وَالزُّهْدِ مِن غَيْرِ حَجِّ وَلَا عُمْرَةٍ؛ مِثْل مَا يَأْمُرُ بَعْضُ النَّاسِ التَّائِبَ إذَا تَابَ بِحَلْقِ رَأْسِهِ، وَمِثْل أَنْ يُجْعَلَ حَلْقُ الرَّأسِ شِعَارَ أَهْلِ النُّسُكِ وَالدِّينِ.
فَهَذَا بِدْعَة لَمْ يَامُرِ اللّهُ بِهَا وَلَا رَسُولُهُ، وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةً عِنْدَ أَحَدٍ مِن أئِمَّةِ الدِّينِ.
وَالنَّوْعُ الرَّابعُ: أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ فِي غَيْرِ النُّسُكِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَلَا عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ وَالتَّدَيُّنِ، فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَن أَحْمَد: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَكرُوهٌ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُبَاحٌ. [21/ 116 - 119]
2276 -
ليس حلق الرأس في غير نسك بسُنَّة ولا قربة باتفاق المسلمين.
وتنازعوا في كراهته، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يعزر بحلق الرأس فإنه كان عند السلف مُثْلهٌ. [المستدرك 3/ 27]
2277 -
قال ابن القيم رحمه الله: ويتعلق بالحلق مسألة القزع، وهي حلق بعض رأس الصبي وترك بعضه، وقال: أخرجاه في "الصحيحين"
(1)
من حديث عبد الله بن عمر عن عمر بن نافع عن أبيه، عن ابن عمر قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القَزَعِ، والقَزَعُ أن يحلق بعض رأس الصبي ويدع بعضه".
قال شيخنا: وهذا من كمال محبة الله ورسوله للعدل فإنه أمر به حتى في شأن الإنسان مع نفسه، فنهاه أن يحلق بعض رأسه ويترك بعضه؛ لأنه ظلم للرأس حيث ترك بعضه كاسيًا وبعضه عاريًا، ونظير هذا أنه نهى عن الجلوس بين الشمس والظل فإنه ظلم لبعض بدنه، ونظيره: نَهَى أن يمشي الرجل في نعل واحدة؛ بل إما أن ينعلهما أو يحفيهما. [المستدرك 3/ 27 - 28]
(1)
البخاري (5920)، ومسلم (2120).
2278 -
نَتْفُ الشَّيْبِ مَكْرُوهٌ. [21/ 120]
2279 -
هل أحاديث الأمر بغسل اليدين من القيام من الليل واجب؟ فيه روايتان: إحداهما واجب، والرواية الثانية: لا تنهض لذلك، اختارها الخرقي والشيخان.
هل يستحب أخذ ماء جديد لهما
(1)
؟ فيه روايتان: إحداهما: يستحب مسحهما بماء جديد، والثائية: لا يستحب؛ بل يمسحان بماء الرأس اختاره القاضي .. والشيخ تقي الدين. [المستدرك 3/ 28]
* * *
باب فروض الوضوء وصفته
2280 -
لم يرد الوضوء بمعنى غسل اليد والفم إلا في لغة اليهود.
وهو من خصائص هذه الأمة كما جاءت الأحاديث الصحيحة: "أنهم يبعثون يوم القيامة غرًّا"
(2)
الحديث.
وحديث ابن ماجه: "وضوء الأنبياء قبلي"
(3)
ضعيف عند أهل العلم بالحديث لا يجوز الاحتجاج بمثله، وليس عند أهل الكتاب خبرٌ عن أحد من الأنبياء أنه كان يتوضأ وضوء المسلمين
(4)
، بخلاف الاغتسال من الجنابة فإنه كان مشروعًا، ولم يكن لهم تيمم إذا عدموا الماء. [المستدرك 3/ 29]
(1)
أي: للأذنين.
(2)
رواه البخاري (136)، ومسلم (246).
(3)
رواه الإمام أحمد (5735) بلفظ: "مَن تَوَضَّأَ وَاحِدةً فَتِلْكَ وَظِيفَةُ الْوُضُوءِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا، وَمَن تَوَضَّأَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُ كِفْلَيْنِ، وَمَن تَوَضَّأَ ثَلَاَثًا فَذَلِكَ وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنبِيَاءِ قَبْلِي".
(4)
وقد ثبت أصلُ الوضوء فيمن قبلنا، ففي صحيح البخاري أنّ إِبْرَاهِيم عليه السلام حينما هاجر بِسَارَةَ، ودَخَلَ بِهَا قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ مِنَ المُلُوكِ، فطلبها منه، فأَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ فَقَامَ إِلَيْهَا، فَقَامَتْ تَوَضَّأُ وَتُصَلِّي.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: فِيهِ أَنَّ الْوُضُوءَ كَانَ مَشْرُوعًا لِلْأُمَمِ قَبْلَنَا وَلَيْسَ مُخْتَصًّا بِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَا بِالْأَنْبِيَاءِ لِثُبُوتِ ذَلِكَ عَنْ سَارَةَ. اهـ. فتح الباري (6/ 394).
2281 -
يجب الوضوء بالحدث، وقيل: يجب بإرادة الصلاة بعده. قال الشيخ تقي الدين: والخلاف لفظي. [المستدرك 3/ 29]
2282 -
الوضوء عبادة لأنه لا يعلم إلا من الشارع، وكل فعل لا يعلم إلا من الشارع فهو عبادة كالصلاة والصوم، ولأنه مستلزم للثواب كما وعد عليه النبي صلى الله عليه وسلم المتوضئ بتكفير خطاياه، فلا بد فيه من النية، ومن لم يوجب النية رأى ذلك من شرائط الصلاة فهو كالسترة. [المستدرك 3/ 29]
2283 -
وإن نوى الحدثين - وقال شيخنا: أو الأكبر -: ارتفعا
(1)
. [المستدرك 3/ 30]
2284 -
اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ كُلُّهُم عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ مَسْحُ جَمِيعِ الرَّأْسِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالْحَسَنَةِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَمَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ: إنَّمَا هُوَ بَعْضُ الْحَدِيثِ الَّذِي فِي "الصَّحِيحِ" مِن حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شعْبَةَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ عَامَ تبُوكَ وَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ".
وَلهَذَا ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إلَى جَوَازِ مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد، وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى وُجُوبِ مَسْحِ جَمِيعِهِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِن مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ؛ فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] نَظِيرُ قَوْلِهِ: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43].
وَمَن ظَنَّ أَنَّ مَن قَالَ بِإِجْزَاءِ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلتَّبْعِيضِ أَو دَالَّةٌ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ: فَهُوَ خَطَأٌ أَخْطَأَهُ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَعَلَى اللُّغَةِ وَعَلَى دَلَالَةِ الْقُرْآنِ.
(1)
أي: لو نوى الجنبُ بالغسل رفع الحدث الأصغر والأكبر، أو نوى رفع الحدَث الأكبر فقط: ارتفعا جميعًا.
وَالْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ، وَهِيَ لَا تَدْخُلُ إلَّا لِفَائِدَةٍ: فَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى فِعْلٍ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ أَفَادَتْ قَدْرًا زَائِدًا كَمَا فِي قَوْلِهِ: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] فَإِنَّهُ لَو قِيلَ: يَشْرَبُ مِنْهَا لَمْ تَدُلَّ عَلَى الرِّيِّ، فَضُمِّنَ
(1)
يَشْرَبُ مَعْنَى يُرْوَى فَقِيلَ: {يَشْرَبُ بِهَا} [الانسان: 6] فَأَفَادَ ذَلِكَ أَنَّهُ شُرْبٌ يَحْصُلُ مَعَهُ الرِّيُّ.
وَهُوَ يُغْنِي عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ مِنَ النُّحَاةِ عَمَّا يَتَكَلَّفُهُ الْكُوفيُّونَ مِن دَعْوَى الِاشْتِرَاكِ فِي الْحُرُوفِ. [21/ 122 - 124]
2285 -
مَن فَعَلَ مَا جَاءَت بِهِ السُّنَّةُ مِنَ الْمَسْحِ بِنَاصِيَتِهِ وَعِمَامَتِهِ أَجْزَأَهُ مَعَ الْعُذْرِ بِلَا نِزَاعٍ، وَأَجْزَأَهُ بِدُونِ الْعُذْرِ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ.
وَتَنَازَعُوا فِي مَسْحِهِ ثَلَاثًا: هَل يُسْتَحَبُّ؟ فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: يُسْتَحَبُّ .. وَالْأَوَّلُ أصَحُّ .. فَإِنَّ هَذَا مَسْحٌ، وَالْمَسْحُ لَا يُسَنُّ فِيهِ التَّكرَارُ كَمَسْحِ الْخُفِّ وَالْمَسْحِ فِي التَّيَمُّمِ وَمَسْحِ الْجَبِيرَةِ، وَإِلْحَاقُ الْمَسْحِ بِالْمَسْحِ أَوْلَى مِن إلْحَاقِهِ بِالْغَسْلِ. [21/ 125 - 126]
2286 -
اختار الشيخ تقي الدين أنه يمسح معه
(2)
العمامة للعذر كالنزلة ونحوها، ويكون كالجبيرة فلا توقيت. [المستدرك 3/ 30]
2287 -
لَمْ يَصِحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى عُنُقِهِ فِي الْوُضُوءِ. [21/ 127]
2288 -
تَوَاتَرَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَنُقِلَ عَنْهُ الْمَسْحُ عَلَى
(1)
يطلق التضمين على معنى إعطاء الشيء معنى الشيء، وهو يكون في الأسماء بأن يضمن اسم معنى اسم آخر، ليفيد معنى الاسمين جميعًا، بهما ضمن لفظّ حقيق معنى: حريص في قوله تعالى: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف: 105] ويكون في الأفعال أيضًا، كما ضمن لفظ يشرب معنى: يروى ..
وأما التضمين في الحروف ففيه خلاف ذكره الثح، ورجح أنه لا تضمين فيها.
(2)
أي: مع الرأس.
الْقَدَمَيْنِ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ فِي قَدَمَيْهِ نَعْلَانِ يَشُقُّ نَزْعُهُمَا، وَأَمَّا مَسْحُ الْقَدَمَيْنِ مَعَ ظُهُورِهِمَا جَمِيعًا فَلَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. [21/ 128]
2289 -
الْمُوَالَاةُ فِي الْوُضُوءِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: الْوُجُوبُ مُطْلَقًا.
وَالثَّانِي: عَدَمُ الْوُجُوبِ مُطْلَقًا.
وَالثَّالِثُ: الْوُجُوبُ إلَّا إذَا تَرَكهَا لِعُذْرٍ مِثْلُ عَدَم تَمَامِ الْمَاءِ.
قُلْت: هَذَا الْقَوْلُ الثَّالِث هُوَ الْأَظْهَرُ وَالْأَشْبَهُ بَأُصُولِ الشَّرِيعَةِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ أَدِلَّةَ الْوُجُوبِ لَا تتَنَاوَلُ إلَّا الْمُفَرِّطَ لَا تتنَاوَلُ الْعَاجِزَ عَنِ الْمُوَالَاةِ.
وَمَذْهَبُ أَحْمَد فِي هَذَا أَوْسَعُ مِن مَذْهَبِ غَيْرِهِ، فَعِنْدَهُ إذَا قَطَعَ التَّتَابُعَ لِغذْرٍ شَرْعِيِّ لَا يُمْكِنُ مَعَ إمْكَانِ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ -مِثْلُ أَنْ يَتَخَلَّلَ الشَّهْرَيْنِ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ، أَو يَوْمِ الْفِطْرِ، أَو يَوْمِ النَّحْرِ، أَو أَيَّامِ مِنًى، أو مَرَضٌ أَو نِفَاسٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ- فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ التَّتَابُعَ الْوَاجِبَ، وَلَو أَفْطَرَ لِعُذْرٍ مُبِيحٍ كَالسَّفَرِ فَعَلَى وِجْهَيْنِ؛ فَالْوُضُوءُ أَوْلَى إذَا تَرَكَ التَّتَابُعَ فِيهِ لِعُذْرٍ شَرْعِيِّ وَإِن أمْكنَ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ.
وَعَلَى هَذَا فَلَو تَوَضَّأَ ثُمَّ عَرَضَ أَمْرٌ وَاجِبٌ يَمْنَعُهُ عَنِ الْإِتْمَامِ -كَإِنْقَاذِ غَرِيقٍ، أَو أَمْرٍ بِمَعْرُوفِ وَنَهْيٍ عَن مُنْكَرٍ-: فَعَلَهُ، ثُمَّ أَتَمَّ وُضُوءَهُ؛ كَالطَّوَافِ وَأَوْلَى، وَكلذَلِكَ لَو قُدِّرَ أَنَّهُ عَرَضَ لَهُ مَرَضٌ مَنَعَهُ مِن إتْمَامِ الْوُضُوءِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ تُفَرِّقُ فِي جَمِيعِ مَوَارِدِهَا بَيْنَ الْقَادِرِ وَالْعَاجِزِ، وَالْمُفَرِّطِ وَالْمُعْتَدِي، وَمَن لَيْسَ بِمُفَرِّطٍ وَلَا مُعْتَدٍ.
وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا أصْلٌ عَظِيمٌ مُعْتَمَدٌ، وَهُوَ الْوَسَطُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأُمَّةُ الْوَسَطُ، وَبِهِ يَظْهَرُ الْعَدْلُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَبَايِنَيْنِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ فِي الْغُسْلِ؟
قِيلَ: الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِ أَحْمَد: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا. [21/ 136 - 167]
ولَو قِيلَ بِسُقُوطِ التَّرْتِيبِ بِالْعُذْرِ لَتَوَجَّهَ.
2290 -
وَإِن مَنَعَ يَسِيرُ وَسَخِ ظُفْرٍ وَنَحْوِهِ وُصُولَ الْمَاءِ فَفِي صِحَّةِ طَهَارَتِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا تَصِحُّ طَهَارَتُهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تَصِحُّ، وهو الصَّحِيحُ، قال في مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ: وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ.
ومثله كل يسيرٍ منع وصول الماء حيث كان كدم وعجين
(1)
. [المستدرك 3/ 31]
2291 -
مَن سَبَقَهُ الْحَدَثُ: فَإِنَّهُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ -كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ- يَتَوَضَّأُ وَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى إذَا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ بِكَلَامٍ عَمْدٍ وَنَحْوِهِ، وَهَذَا مَأْثُورٌ عَن أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ
(2)
. [21/ 143]
(1)
هذا مُطّرد على أصل الشيخ رحمه الله، وهو العفو عن اليسير؛ كالنجاسات.
وإذا كان الشيء اليسير إذا منع وصول الماء كدم وعجين لا يمنع صحة الوضوء، فلا يبعد أن يكون خروج القطرة أو القطرتان من البول لمن ابتْلي بذلك لا تنقض الطهارة، ولا يُحكم بنجاستها.
ولا يُلحق بهذه القاعدة: الطلاء الذي تضعه النساء على أظافرهن، وهو ما يُسمى بالمناكير، وعلى هذا فلو اغتسلت المرأة ونسيت المناكير على أظافرها فالواجب أن تُزيلها ليصل الماء إلى أظافرها.
وهل يجب أن تُعيد الغسل، أم يكفيها غسل الأظافر؟
هذا ينبني على حكم الموالاة في الغسل، وقد رجح شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أنَّ الموالاة لا تجب في الغسل، وهذا قول جمهور الفقهاء.
أما الموالاة في الوضوء فلا شك بأنها واجبة؛ لما روى مسلم في صحيحه عن عمر رضي الله عنه أن رجلًا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه، فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"ارجع فأحسِن وضوءك"، فرجع ثم صلى.
(2)
وقد يكون هذا هو مأخذ من أفتى في هذا الزمان من أحدث أثناء الوضوء بإكمال وضوئه وعدم وجوب إعادته، ومع أنه نُوقش في ذلك ولم يستدل على فتواه بهذه المسألة. =
2292 -
قَوْل النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّكُمْ تَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِن آثَارِ الْوُضُوءِ"
(1)
: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَعْرِفُ مَن كَانَ أَغَرَّ مُحَجَّلًا، وَهُم الَّذِينَ يَتَوَضَّؤُونَ لِلصَّلَاةِ.
وَأَمَّا الْأَطْفَالُ فَهُم تبَعٌ لِلرَّجُلِ.
وَأَمَّا مَن لَمْ يَتَوَضَّأْ قَطُّ وَلَمْ يُصَلِّ: فَإِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أنَّهُ لَا يُعْرَفُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. [21/ 171]
2293 -
لَفْظُ الْوُضُوءِ لَمْ يَجِئْ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ إلَّا وَالْمُرَادُ بِهِ الْوُضُوءُ الشَّرْعِيُّ، وَلَمْ يَرِدْ لَفْظُ الْوُضُوءِ بِمَعْنَى غَسْلِ الْيَدِ وَالْفَمِ إلَّا فِي لُغَةِ الْيَهُودِ. [21/ 227]
2294 -
قال في الفائق: ولا يستحب الزيادة على محل الفرض في أنصِّ الروايتين اختاره شيخنا. [المستدرك 3/ 30]
2295 -
يَجِبُ على الصَّبِيِّ الْوُضُوءُ بِمُوجِبَاتِهِ، وَجَعَلَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ مِثْلَ مَسْأَلَةِ الْغُسْلِ إلْزَامهُ بِاسْتِجْمَارٍ وَنَحْوِهِ. [المستدرك 3/ 32]
2296 -
يستحب للذي يتشهد بعد الوضوء أن يرفع بصره إلى السماء. [المستدرك 3/ 32]
2297 -
مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّهُ لَا يَمَسُّ الْمُصْحَفَ إلَّا طَاهِرًا، كَمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ:"أَنْ لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إلَّا طَاهِرًا". قَالَ الْإِمَامُ أحْمَد: لَا شَكَّ انَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتبَهُ لَهُ.
وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا، وَلَا يُعْلَمُ لَهُمَا مَن الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ. [21/ 266، 26/ 200]
= تنبيه: قال الشيخ في موضع آخر: إذَا أَحْدَثَ الْمُصَلِّي قَبْلَ السَّلَامِ بَطَلَتْ مَكْتُوبَةً كَانَت أَو غَيْرَ مَكْتُوبَةٍ. (22/ 613)
وعلى هذا: فالشيخ له قولان في المسألة.
(1)
البخاري (136)، ومسلم (246).
2298 -
الصَّحِيحُ فِي هَذَا الْبَابِ: مَا ثَبَتَ عَن الصَّحَابَة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِم - وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَهُوَ أنَّ مَسَّ الْمُصْحَفِ لَا يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ صَلَاةُ جِنَازَةٍ، وَيجُوزُ لَهُ سُجُودُ التِّلَاوَةِ، فَهَذِهِ الثَّلَاثَة ثَابِتَةٌ عَن الصَّحَابَةِ.
وَأَمَّا الطَّوَافُ فَلَا أَعْرِفُ السَّاعَةَ فِيهِ نَقْلًا خَاصًّا عَن الصَّحَابَةِ، لَكِنْ إذَا جَازَ سُجُودُ التِّلَاوَةِ مَعَ الْحَدَثِ؛ فَالطَّوَافُ أَوْلَى كَمَا قَالَهُ مَن قَالَهُ مِن التَّابِعِينَ.
وَالْمَأْثُورُ عَن الصَّحَابَةِ وَهُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ النُّصُوصُ وَالْقِيَاسُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْجِنَازَةِ وَالسُّجُودِ الْمُجَرَّدِ: سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَد ثَبَتَ بِالنَّصِّ لَا صَلَاةَ إلَّا بِطُهُورٍ.
وَاَلَّذِينَ أَوْجَبُوا الْوُضُوءَ لِلطَّوَافِ لَيْسَ مَعَهُم حُجَّةٌ أَصْلًا، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ أَنَّهُ أَمَرَ بِالْوُضُوءِ لِلطَّوَافِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ قَد حَجَّ مَعَهُ خَلَائِقُ عَظِيمَةٌ، وَقَد اعْتَمَرَ عُمَرًا مُتَعَدِّدَةً، وَالنَّاسُ يَعْتَمِرُونَ مَعَهُ، فَلَو كَانَ الْوُضُوءُ فَرض لِلطَّوَافِ لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيَانًا عَامًّا، وَلَو بَيَّنَهُ لنقَلَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ عَنْهُ وَلَمْ يُهْمِلُوهُ.
وَقَد ثَبَتَ عَنْه فِي "الصَّحِيحِ"
(1)
أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ مِن الْخَلَاءِ وَأَكَلَ وَهُوَ مُحْدِثٌ قِيلَ لَهُ: أَلَا تَتَوَضَّأُ؟ قَالَ: "مَا أَرَدْت صَلَاةً فَأَتَوَضَّأَ"
(2)
. يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ إلَّا إذَا أَرَادَ صَلَاةً، وَأَنَّ وُضوءَهُ لِمَا سِوَى ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ لَيْسَ بِوَاجِب
(3)
. [21/ 270 - 274]
(1)
رواه مسلم (374).
(2)
وفي رواية: "لِمَ؟ أَلِلصَّلاةِ؟ ".
(3)
وقد يُقال: بأن ذلك يشمل حتى مسّ المصحف؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يذكر إلا الصلاة، وقد أُعطي جوامع الكلم، فلو كان غيرها يُوجب الوضوء لذكره.
ولا يُقال: إنه لا يحتاج إلى مسّ المصحف لاستغنائه بحفظه عن مسّه، وهو أيضًا لا يَقرأ ولا يكتب.
فيُقال: إنّ مسّ المصحف لا يعني أنه سيقرأ منه، ولكن قد يحتاج إلى مناولته ونحو ذلك.
ويُقال أيضًا: إنّه يعلم أنّ السائل والسامع والمنقول إليه سيعتقد أنّ تحتم الوضوءِ خاصٌّ =
2299 -
عَن عَلِيٍّ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ"
(1)
، فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَتَانِ:
إحْدَاهُمَا: أَنَّ الصَّلَاةَ تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ، فَمَا لَمْ يَكن تَحْرِيمُهُ التَّكْبِيرَ وَتَحْلِيلُهُ التَّسْلِيمَ لَمْ يَكُن مِن الصَّلَاةِ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ هَذِهِ هِيَ الصَّلَاةُ الَّتِي مِفْتَاحُهَا الطُّهُورُ، فَكُلُّ صَلَاةٍ مِفْتَاحُهَا الطُّهُورُ فَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ، فَمَا لَمْ يَكن تَحْرِيمُهُ التَّكْبِيرَ وَتَحْلِيلُهُ التَّسْلِيمَ فَلَيْسَ مِفْتَاحُهُ الطَّهُورَ، فَدَخَلَتْ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ فِي هَذَا، فَإِنَّ مِفْتَاحَهَا الطُّهُورُ، وَتَحْرِيمَهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلَهَا التَّسْلِيمُ.
وَأَمَّا سُجُودُ التِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ: فَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَن أَصْحَابِهِ أَنَّ فِيهِ تَسْلِيمًا وَلَا أَنَّهُم كَانُوا يُسَلِّمُونَ مِنْهُ. [21/ 276 - 279]
وَمَا ذُكِرَ أَيْضًا يَدُلُّ: عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ لَيْسَ مِن الصَّلَاةِ.
2300 -
وَأَمَّا مَسُّ الْمُصْحَفِ: فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِبُ لَهُ الْوُضُوءُ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَن الصَّحَابَةِ: سَعْدٍ وَسَلْمَانَ وَابْنِ عُمَرَ.
وَأَمَّا كَلَامُهُ فَلَهُ حُرْمَةٌ عَظِيمَةٌ؛ وَلهَذَا يُنْهَى أَنْ يُقْرَأَ الْقُرْآنُ فِي حَال الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.
وَحُرْمَةُ الْمُصْحَفِ أَعْظَمُ مِن حُرْمَةِ الْمَسْجِدِ، وَالْمَسْجِدُ يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَهُ الْمُحْدِثُ ويدْخُلَهُ الْكَافِرُ لِلْحَاجَةِ، وَقَد كَانَ الْكُفَّارُ يَدْخُلُونَهُ. [21/ 288]
وَأَمَّا سُجُودُ السَّهْوِ: فَقَد جَوَّزَهُ ابْنُ حَزْمٍ أَيْضًا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ كَسُجُودِ التِّلَاوَةِ؛ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ الضَّعِيفِ.
وَلهَذَا لَا يُعْرَفُ عَن أَحَدٍ مِن السَّلَفِ، وَلَيْسَ هُوَ مِثْل سُجُودِ التِّلَاوَةِ
= بالصلاة دون ما سواها، فلو كان غيرها يجب له الوضوء لذكره لئلا يلتبس على الناس. والله تعالى أعلم.
(1)
رواه الإمام أحمد (1006)، وأبو داود (61)، والترمذي (61)، وصحَّحه الألباني.
وَالشُّكرِ؛ لِأَنَّ هَذَا سَجْدَتَانِ يَقُومَانِ مَقَامَ رَكْعَةِ مِن الصَّلَاةِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَدِيثِ الشَّكِّ: "إذَا شَكَّ أَحَدُكمْ فَلَمْ يَدْرِ ثَلاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَطْرَحِ الشَّكَ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، ثُمَّ لِيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، فَإِنْ صَلَّى خَمْسًا شَفَعَتَا لَهُ صَلَاَتَهُ، وَإِلَّا كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ"
(1)
. وَفِي لَفْظٍ: "وَاِن كَانَت صَلَاُتهُ تَمَامًا كَانَتَا تَرْغِيمًا".
فَجَعَلَهُمَا كَالرَّكْعَةِ السَّادِسَةِ الَّتِي تَشْفَعُ الْخَامِسَةَ الْمَزِيدَةَ سَهْوًا.
وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يُؤْجَرُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّهَا مِن تَمَامِ الْمَكْتُوبَةِ وَفَعَلَهَا تَقَرُّبًا إلَى اللهِ وَإِن كَانَ مُخْطِئًا فِي هَذَا الِاعْتِقَادِ.
وَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أنَّ مَن فَعَلَ مَا يَعْتَقِدُهُ قُرْبَةً بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ إنْ كَانَ مُخْطِئًا فِي ذَلِكَ: أَنَّهُ يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِن كَانَ لَهُ عِلْمٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ
(2)
. [21/ 291 - 292]
2301 -
{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} [الواقعة: 79] قال ابن القيم رحمه الله: وسمعت شيخ الإسلام يقرر الاستدلال بالآية على أن المصحف لا يمسه المحدث بوجهٍ آخر، فقال: هذا من باب التنبيه والإشارة، إذا كانت الصحف التي في السماء لا يمسها إلا المطهرون، فكذلك الصحف التي بأيدينا من القرآن لا ينبغي أن يمسها إلا طاهر.
والدراهم المكتوب عليها: لا إله إلا الله محمد رسول الله يجوز للمحدث لمسها، وإذا كانت معه في منديل أو خرقة وشق إمساكها جاز أن يدخل بها الخلاء. [المستدرك 3/ 40]
2302 -
قَوْلُ اللهِ عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ
(1)
مسلم (571).
(2)
استنباط لطيفٌ جدًّا.
كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)} [المائدة: 6]: هَذَا الْخِطَابُ يَقْتَضِي: أَنَّ كُلَّ قَائِمٍ إلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مَأمُورٌ بِمَا ذُكِرَ مِن الْغُسْلِ وَالْمَسْحِ، وَهُوَ الْوُضُوءُ.
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ: إلَى أَنَّ هَذَا عَامٌّ مَخْصُوصٌ.
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ: إلَى أَنَّهُ يُوجِبُ الْوُضُوءَ عَلَى كُلِّ مَن كَانَ مُتَوَضِّئًا.
وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ ضَعِيفٌ.
وَهَل يُسْتَحَبُّ التَّجْدِيدُ لِكُلِّ صَلَاةٍ مِن الْخَمْسِ؟ فِيهِ نِزَاعٌ.
ولَمَّا قَدِمَ صلى الله عليه وسلم مُزْدَلِفَةَ: صَلَّى بِهِم الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمْعًا مِن غَيْرِ تَجْدِيدِ وُضُوءٍ لِلْعِشَاءِ، وَهُوَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ قَد قَامَ هُوَ وَهُم إلَى صَلَاةٍ بَعْدَ صَلَاةٍ، وَأَقَامَ لِكُلِّ صَلَاةٍ إقَامَةً.
وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَحَادِيثِ الْجَمْعِ الثَّابِتَةِ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" مِن حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ رضي الله عنهم، كُلُّهَا تَقْتَضِي أَنَّهُ هُوَ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ خَلْفَهُ - صَلَّوْا الثَّانِيَةَ مِن الْمَجْمُوعَتَيْنِ بِطِهَارَةِ الْأُولَى لَمْ يُحْدِثُوا لَهَا وُضُوءًا.
وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِهِ يَتَوَضَّؤُونَ ثُمَّ يُصَلُّونَ مَا لَمْ يُحْدِثُوا، كَمَا جَاءَت بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ - لَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ -: أَنَّهُ أَمَرَهُم بِالْوُضُوءِ لِكلِّ صَلَاةٍ.
فَالْقَوْلُ بِاسْتِحْبَابِ هَذَا يَحْتَاجُ إلَى دَليلٍ
(1)
.
(1)
لكن صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يتوضأ عند كل صلاة، وأنه ترك التجديد في بعض الحالات وصلى الصلوات بوضوء واحد، ففي صحيح مسلم من حديث بريدة رضي الله عنه قوله: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح توضأ، ومسح على خفيه، وصلى الصلوات بوضوء واحد، فقال له عمرة يا رسول الله! إنك فعلت شيئًا لم تكن تفعله، فقال: عمدًا فعلته يا عمر.
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِوُجُوبِهِ: فَمُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَن الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَلِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ.
وَالْقرْآنُ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُتَوَضِّئِ أَنْ يَتَوَضَّأَ مَرَّةً ثَانِيَةً مِن وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] فَقَد أَمَرَ مَن جَاءَ مِن الْغَائِطِ وَلَمْ يَجِدِ الْمَاءَ أَنْ يَتَيَمَّمَ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَجِيءَ مِن الْغَائِطِ يُوجِبُ التَّيَمُّمَ، فَلَو كَانَ الْوُضُوءُ وَاجِبًا عَلَى مَن جَاءَ مِن الْغَائِطِ وَمَن لَمْ يَجِئْ، فَإِنَّ التَّيَمِّمَ أَوْلَى بِالْوُجُوبِ.
وَمَا أَعْرِفُ فِي هَذَا خِلَافًا ثَابِتًا عَن الصَّحَابَةِ: أَنَّ مَن تَوَضَّأَ قَبْلَ الْوَقْتِ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، وَلَا يُسْتَحَبُّ أَيْضًا لِمِثْل هَذَا تَجْدِيدُ وُضُوءٍ.
وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِيمَن صَلَّى بِالْوُضُوءِ الْأَوَّلِ: هَل يُسْتَحَبُّ لَهُ التَّجْدِيدُ؟
وَأَمَّا مَن لَمْ يُصَلِّ بهِ: فَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ إعَادَةُ الْوُضُوءِ؛ بَل تَجْدِيدُ الْوُضُوءِ فِي مِثْل هَذَا بِدْعَةٌ مُخَالِفًةٌ لِسُنَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلمَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَهُ إلَى هَذَا الْوَقْتِ
(1)
.
فَقَد تَبَيَّنَ أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَ فِيهَا إضْمَارٌ وَلَا تَخْصِيصٌ، وَلَا تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ
(1)
قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله: تجديد الوُضُوء يكون مسنونًا إِذا صَلَّى بالوُضُوء الذي قبله، فإذا صلَّى بالوُضُوء الذي قبله فإِنه يُستحبُّ أن يتوضَّأ للصَّلاة الجديدة.
مثاله: توضَّأ لصلاة الظُّهر وصلَّى الظُّهر، ثم حَضَر وقتُ العصر وهو على طهارته، فحينئذٍ يُسَنُّ له أن يتوضَّأ تجديدًا للوُضُوء؛ لأنَّه صلَّى بالوُضُوء السَّابق، فكان تجديدُ الوُضُوء للعصر مشروعًا، فإن لم يُصلِّ به؛ بأنْ توضَّأ للعصر قبل دخول وقتها؛ ولم يُصَلِّ بهذا الوُضُوء، ثم لما أذَّن العصرُ جدَّد هذا الوُضُوء، فهذا ليس بمشروع؛ لأنَّه لم يُصلِّ بالوُضُوء الأوَّل، فلا يرتفع حدثُه لو كان أحدث بين الوُضُوء الأول والثَّاني. اهـ. الشرح الممتع (1/ 199).
الْوُضُوءِ مَرَّتَيْنِ؛ بَل دَلَّتْ عَلَى الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالسُّنَنِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ وجُوبُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمُصَلِّي.
وَمَن كَانَ عَلَى وُضُوءٍ فَهُوَ عَلَى طُهُورٍ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى الْوُضُوءِ مَن كَانَ مُحْدِثًا.
قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} الآيَةَ [المائدة: 6]: هَذَا مِمَّا أَشْكَلَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ.
فَقَالَ طَائِفَةٌ مِن النَّاسِ: "أَو" بِمَعْنَى الْوَاوِ وَجَعَلُوا التَّقْدِيرَ: وَجَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِن الْغَائِطِ. وَلَامَسْتُمْ النِّسَاءَ .. وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَعْنَى الْآيَةِ؛ فَإِنَّ "أَو" ضِدُّ الْوَاوِ، وَالْوَاوُ: لِلْجَمْعِ وَالتَّشْرِيكِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ.
فَالْمَعْنَى: يَا أَيُّهَا الْقَائِمُ إلَى الصَّلَاةِ تَوَضَّأْ، وَإِن كُنْت جُنُبًا فَاغْتَسِلْ، وَإِن كُنْت مَرِيضًا أَو مُسَافِرًا تَيَمَّمْ، أَو كُنْت مَعَ هَذَا وَهَذَا مَعَ قِيَامِك إلَى الصَّلَاةِ وَأَنْتَ مُحْدِثٌ أَو جُنُبٌ، وَمَعَ مَرَضِك وَسَفَرِك قَد جِئْت مِن الْغَائِطِ أَو لَامَسْت النِّسَاءَ: فَتَيَمَّمْ إنْ كُنْت مَعْذُورًا.
وَإِيضَاحُ هَذَا: أَنَّهُ مِن بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ الَّذِي يُخَصُّ بِالذِّكْرِ لِامْتِيَازِهِ، وَتَخْصِيصُهُ يَقْتَضِي ذَلِكَ.
قَالَ تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْمُحْدِثِينَ.
ثُمَّ قَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} .
ثُمَّ قَالَ: {وَإِن كُنتُم} -مَعَ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ- {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ}
…
{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} وَهَذَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ مُحْدِثٍ، سَوَاءٌ كَانَ قَد جَاءَ مِن الْغَائِطِ أَو لَمْ يَجِئْ؛ كَالْمُسْتَيْقِظِ مَن نَوْمِهِ، وَالْمُسْتَيْقِظِ إذَا خَرَجَتْ مِنْهُ الرِّيحُ، وَيتَنَاوَلُ كُلَّ جُنُبٍ؛ سَوَاءٌ كَانَت جَنَابَتُهُ بِاحْتِلَامٍ أَو جِمَاعٍ.
فَقَالَ: وَإِن كُنْتُمْ مُحْدِثُونَ -جُنُبٌ مَرْضَى أَو عَلَى سَفَرٍ- {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ
مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} وَهَذَا نَوْعٌ خَاصٌّ مِن الْحَدَثِ. {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] وَهَذَا نَوْعٌ خَاصٌّ مِن الْجَنَابَةِ.
وَكَذَلِكَ "الْقَائِمُ إلَى الصَّلَاةِ" يَتَنَاوَلُ مَن جَاءَ مِن الْغَائِطِ وَمَن أَحْدَثَ بِدُونِ ذَلِكَ، لَكِنْ خُصَّ الْجَائِي بِالذِّكْرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ:{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} [البقرة: 182] فَالْآثِمُ هُوَ الْمُتَعَمِّدُ، وَتَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ -وَإِن كَانَ دَخَلَ- لِيُبَيِّنَ حُكْمَهُ بِخُصُوصِهِ، وَلئَلَّا يُظَنَّ خُرُوجُهُ عَن اللَّفْظِ الْعَامِّ، وَإِن كَانَ لَمْ يَدْخُلْ فَهُوَ نَوْعٌ آخَرُ.
وَالتَّقْدِيرُ: إنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَو عَلَى سَفَرٍ فَتَيَمَّمُوا، وَهَذَا مَعْنَى الْآيَةِ.
وَقَوْلُهُ: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} ذَكَرَ الْحَدَثَ الْأَصْغَرَ؛ فَالْمَجِيءُ مِن الْغَائِطِ هُوَ مَجِيءٌ مِن الْمَوْضِعِ الَّذِي يَقْضِي فِيهِ الْحَاجَةَ.
وَكَانُوا يَنْتَابُونَ الْأَمَاكِنَ الْمُنْخَفِضَةَ وَهِيَ الْغَائِطُ، وَهُوَ كَقَوْلِك: جَاءَ مِن الْمِرْحَاضِ، وَجَاءَ مِن الْكَنِيفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، هَذَا كُفُة عِبَارَةٌ عَمَّن جَاءَ وَقَد قَضَى حَاجَتَهُ بِالْبَوْلِ أَو الْغَائِطِ، وَالرِّيحُ يَخْرُجُ مَعَهُمَا.
وَنَقْضُهَا متَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم شُغِلَ عَن الْعِشَاءِ لَيْلَةً، فَأَخَّرَهَا حَتَّى رَقَدْنَا فِي الْمَسْجِدِ ثمَّ اسْتَيْقَظْنَا، ثُمَّ رَقَدْنَا ثُمَّ اسْتَيْقَظْنَا، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
وَلمُسْلِم عَن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: اعْتم رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى ذَهَبَ عَامَّةُ اللَّيْلِ وَحَتَّى نَامَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى، فَقَالَ: إنَّهُ لَوَقْتُهَا، لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي.
فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ: أَنَّهُم نَامُوا، وَقَالَ فِي بَعْضِهَا:"إنَّهُم رَقَدُوا ثُمَّ اسْتَيْقَظُوا ثُمَّ رَقَدُوا ثُمَّ اسْتَيْقَظُوا"، وَكَانَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ خَلْفَهُ جَمَاعَة كَثِيرَة، وَقَد طَالَ انْتِظَارُهُم وَنَامُوا.
وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ أَحَدًا لَا سُئِلَ وَلَا سأَلَ النَّاسُ: هَل رَأَيْتُمْ رُؤْوَيا؟ أَو هَل مَكَّنَ أَحَدُكُمْ مَقْعَدَتَهُ؟ أَو هَل كَانَ أَحَدُكُمْ مُسْتَنِدًا؟ وَهَل سَقَطَ شَيْءٌ مِن أَعْضَائِهِ عَلَى الْأَرْضِ؟ فَلَو كَانَ الْحُكْمُ يَخْتَلِفُ لَسَأَلَهُمْ.
وَقَد عُلِمَ أَنَّهُ فِي مِثْل هَذَا الِانْتِظَارِ بِاللَّيْلِ -مَعَ كَثْرَةِ الْجَمْعِ- يَقَعُ هَذَا كُلُّهُ.
وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُنْتَظِرِينَ لِلصَّلَاةِ كَاَلَّذِي يَنْتَظِرُ الْجُمُعَةَ إذَا نَامَ أَيَّ نَوْمٍ كَانَ: لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ؛ فَإِنَّ النَّوْمَ لَيْسَ بِنَاقِضِ، وَإِنَّمَا النَّاقِضُ الْحَدَثُ، فَإِذَا نَامَ النَّوْمَ الْمُعْتَادَ الَّذِي يَخْتَارُهُ النَّاسُ فِي الْعَادَةِ -كَنَوْمِ اللَّيْلِ وَالْقَائِلَةِ- فَهَذَا يَخْرُجُ مِنْهُ الرِّيحُ فِي الْعَادَةِ وَهُوَ لَا يَدْرِي إذَا خَرَجَتْ، فَلَمَّا كَانَت الْحِكْمَةُ خَفِيَّةً لَا نَعْلَمُ بِهَا: قَامَ دَليلُهَا مَقَامَهَا.
وَهَذَا هُوَ النَّوْمُ الَّذِي يَحْصُل هَذَا فِيهِ فِي الْعَادَةِ.
وَأَمَّا النَّوْمُ الَّذِي يَشُكُّ فِيهِ: هَل حَصَلَ مَعَهُ رِيحٌ أَمْ لَا: فَلَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ ثَابِتَةٌ بِيَقِين فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ.
وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْجُنُبِ إلَّا الِاغْتِسَالُ، وَأَنَّهُ إذَا اغْتَسَلَ جَازَ لَهُ أَنْ يَقْرَبَ الصَّلَاةَ، وَالْمُغْتَسِلُ مِن الْجَنَابَةِ لَيْسَ عَلَيْهِ نِيَّةُ رَفْعِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ كَمَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ.
قَالَ اللهُ عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء: 43] .. ذَكَرَ الْمُسَافِرَ الَّذِي لَا يَجِدُ الْمَاءَ وَلَمْ يَذْكُر الْحَاضِرَ، فَإِنَّ عَدَمَهُ فِي الْحَضَرِ نَادِرٌ.
وَقَوْلُهُ: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} ذَكَرَ أَعْظَمَ مَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ وَهُوَ قَضَاءُ الْحَاجَةِ، وَأَغْلَظَ مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ وَهُوَ مُلَامَسَةُ النِّسَاءِ، وَأَمَرَ كُلًّا مِنْهُمَا إذَا كَانَ مَرِيضًا أَو مُسَافِرًا لَا يَجِدُ الْمَاءَ أَنْ يَتيمَّمَ.
قَوْله: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] الْمُرَادُ بِهِ: الْجِمَاعُ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَغَيْرُهُ مِن الْعَرَبِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي مَعْنَى الْآيَة.
وَلَيْسَ فِي نَقْضِ الْوُضوءِ مِن مَسِّ النسَاءِ لَا كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ
(1)
.
وَقَوْلُهُ: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} دَليلٌ عَلَى أَنْ التَّيَمُّمَ مُطَهِّرٌ كَالْمَاءِ سَوَاءٌ. [21/ 367 - 403]
2303 -
الصَّحِيحُ: أَنَّ النَّزْعَتَيْنِ
(2)
مِن الرَّأْسِ، وَالتَّحْذِيفُ
(3)
مِن الْوَجْهِ، فَلَو نسِيَ ذَلِكَ فَهُوَ كمَا لَو نَسِيَ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ. [21/ 408]
2304 -
الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُتَعَمِّدِ لِتَنْكِيسِ الْوُضُوءِ وَبَيْنَ الْمَعْذُورِ بِنِسْيَانٍ أَو جَهْلٍ: هُوَ أَرْجَحُ الْأَقْوَالِ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.
وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَن أَحْمَد .. فَمِن ذَلِكَ .. : إذَا نَسِيَ بَعْضَ آيَاتِ السُّورَةِ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ لَا يُعِيدُهَا، وَلَا يُعِيدُ مَا بَعْدَهَا، مَعَ أَنَّهُ لَو تَعَمَّدَ تَنْكِيسَ آيَاتِ السُّورَةِ، وَقِرَاءَةَ الْمُؤَخَرِ قَبْلَ الْمُقَدَمِ لَمْ يَجُزْ بِالْاتِفَاقِ، وَإِنَّمَا الْنِزَاعُ فِي تَرْتِيبِ السُّوَرِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد، وَحَكَاهُ عَن أهْلِ مَكَّةَ.
سُئِلَ عَن الْإِمَامِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ يَدَعُ الْآيَاتِ مِنَ الْسُورَةِ: تَرَى لِمَن خَلْفَهُ أَنْ يَقْرَأَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَ، قَد كَانُوا بِمَكَّةَ يُوكِلُونَ رَجُلًا يَكْتُبُ مَا تَرَكَ الْإمَامُ مِنَ الْحُرُوفِ وَغَيْرِهَا فَإِذَا كَانَ لَيْلَةَ الْخَتْمَةِ أَعَادَهُ.
قَالَ الْأَصْحَابُ -كَأَبِي مُحَمَدٍ
(4)
-: "وَإِنَّمَا اسْتَحَبَ ذَلِكَ لِتَتِمَ الْخَتْمَةُ
(1)
لكن يُستحب ولا يجب إذا كان بشهوة عند الشيخ حيث قال رحمه الله: يُسْتَحَبُّ لِمَن لَمَسَ النِّسَاءَ فتَحَرَّكَتْ شَهْوَتُهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ، وَكَذَلِكَ مَن تَفَكَّرَ فَتَحَرَّكتْ شَهْوَتُهُ فَانْتَشَرَ، وَكذَلِكَ مَن مَسَّ الْأَمْرَدَ أَو غَيرَهُ فَانْتَشَرَ، فَالتَّوَضُّؤُ عِنْدَ تَحَرُّكِ الشَّهْوَةِ مِن جِنْسِ التَّوَضُّؤِ عِنْدَ الْغَضَب وَهَذَا مُسْتَحَبٌّ. اهـ. (25/ 238)
(2)
هما ما بين الأذنين وما انحدر من شعر الرأس، اللذان لا ينبت فيهما الشعر.
(3)
هو ما ينبت عليه الشعر الخفيف بين ابتداء العذار والنزعة.
وضابطه: أن تضع طرف خيط على طرف الأذن، والطرف الثاني على أعلى الجبهة وتفرض هذا الخيط مستقيمًا فما نزل عنه إلى جانب الوجه فهو موضع التحذيف. [الموسوعة الفقهية الكويتية].
(4)
يعني: ابن قدامة رحمه الله تعالى.
وَيَكْمُلَ الْثَّوَابُ"
(1)
.
فَقَد جَعَلَ أَهْلُ مَكَّةَ وَأَحْمَد وَأَصْحَابُة إِعَادَةَ الْمَنْسِي مِنَ الْآيَاتِ وَحْدَهُ يُكْمِل الْخَتْمَةَ وَالثَّوَابَ، وَإِن كَانَ قَد أَخَلَّ بِالْتَرْتِيبِ هُنَا، فَإِنَّهُ لَمْ يَقْرَأ تَمَامَ الْسُورَةِ.
فَهَكَذَا مَن تَرَكَ غَسْلَ عُضْوٍ أَو بَعْضَهُ نِسْيَانًا: يَغْسِلُهُ وَحْدَهُ، وَلَا يُعِيدُ غَسْلَ مَا بَعْدَهُ، فَيَكُونُ قَد غَسَلَهُ مَرَّتَيْنِ، فَإِنَّ هَذَا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ.
وَهَذَا الْتَفْصِيلُ يُوَافِقُ مَا نُقِلَ عَن الْصَحَابَةِ وَالْأَكْثَرِينَ، فَإِنَّ الْأَصْحَابَ وَغَيْرهمْ فَعَلُوا كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِر عَن عَليٍ وَمَكحُولٍ وَالْنَخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي فِيمَن نَسِيَ مَسْحَ رَأْسِهِ فَرَأَى فِي لِحْيَتِهِ بَلَلًا فَمَسَحَ بِهِ رَأْسَهُ فَلَمْ يَأْمُرُوهُ بِإِعَادَةِ غَسْلِ رِجْلَيْهِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ
(2)
.
وَنَقَلُوا فِي الْوُجُوبِ عَن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ، وَهَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ التَّابِعِينَ.
وَصُورَةُ النِّسْيَانِ مُرَادَةٌ قَطْعًا.
فَتبَيَّنَ أَنَّهَا قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ أَو جَمِيعِهِمْ.
وَالْأَمْرُ الْمُنْكَرُ: أَنْ تتَعَمَّدَ تَنْكِيسَ الْوُضُوءِ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا: سُقُوطُ التَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ بِالنِّسْيَانِ، وَكَذَلِكَ سُقُوطُ الْمُوَالَاةِ كمَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَكَذَلِكَ بِغَيْرِ النِّسْيَانِ مِن الْأَعْذَارِ؛ مِثْلُ بُعْدِ الْمَاءِ، كَمَا نُقِلَ عَن ابْنِ عُمَرَ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ نَفْسَهَا إذَا جَازَ فِيهَا عَدَمُ الْمُوَالَاةِ لِلْعُذْرِ؛
(1)
المغني (2/ 127).
(2)
وَأَمَّا مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ لِمَنْ نَسِيَ مَسْحَ رَأْسِهِ وَوَجَدَ فِي لِحْيَتِهِ بَلَلًا أَنْ يَمْسَحَ رَأْسَهُ بِذَلِكَ الْبَلَلِ، وَلَوْ فَعَلَ لَمْ يُجْزِهِ عِنْدَهُمْ وَكَانَ كَمَنْ لَمْ يَمْسَحْ. الاستذكار (1/ 202).
فَالْوُضُوءُ أَوْلَى، بِدَلِيلِ صَلَاةِ الْخَوْفِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَحَادِيثِ سُجُودِ السَّهْوِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ صَاحِبِ اللُّمْعَةِ الَّتِي كَانَت فِي ظَهْرِ قَدَمِهِ: فَمِثْلُ هَذَا لَا يُنْسَى، فَدَلَّ أَنَّهُ تَرَكَهَا تَفْرِيطًا.
وَالْمُوَالَاةُ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ لَا تَجِبُ؛ لِلْحَدِيثِ ائَذِي فِيهِ أَنَّهُ رَأَى فِي بَدَنِهِ مَوْضِعًا لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ فَعَصَرَ عَلَيْهِ شَعْرَهُ
(1)
.
وَقَد يَكُونُ التَّرْتِيبُ شَرْطًا لَا يَسْقُطُ بِجَهْلٍ وَلَا نِسْيَانٍ؛ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "مَن ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا هُوَ شَاةُ لَحْمٍ"
(2)
.
فَالذَّبْحُ لِلْأُضْحِيَّةِ مَشْرُوطٌ بِالصَّلَاةِ قَبْلَهُ، وَأَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ رضي الله عنه كَانَ جَاهِلًا، فَلَمْ يَعْذُرْهُ بِالْجَهْلِ؛ بَل أَمَرَهُ بِإِعَادَةِ الذَّبْحِ.
بِخِلَافِ الَّذِينَ قَدَّمُوا فِي الْحَجّ الذَّبْحَ عَلَى الرَّمْيِ، أَو الْحَلْقَ عَلَى مَا قَبْلَهُ، فَإِنَّهُ قَالَ:"افْعَلْ وَلَا حَرَجَ" فَهَاتَانِ سُنَّتَانِ:
(1)
اختلف أهل العلم في حكم الموالاة في الغسل، على قولين:
القول الأول: لا تجب الموالاة في الغُسل، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية، والشافعية، والحنابلة.
واستدلوا بأدلة كثيرة منها قول إبراهيم النخعي: "كان أحدهم يغسل رأسه من الجنابة بالسدر، ثم يمكث ساعة، ثم يغسل سائر جسده".
وإبراهيم تابعيٌّ أدرك صغار الصحابة رضي الله عنهم، وأدرك أكابر التابعين من أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه، وقد حكاه عمن أدركهم.
القول الثاني: تجب الموالاة في الغُسل، وهذا مذهب المالكيَّة، واختاره العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله.
واستدلوا بأنَّ الغُسل عبادة واحدة؛ فلزم أن ينبني بعضُه على بعض بالموالاة.
وهذا في حال الاختيار، لكن في حال الجهل أو النسيان فتسقط الموالاة على ما قرره الشيخ رحمه الله.
(2)
البخاري (5545)، ومسلم (1961).
أ - سُنَّةٌ فِي ألْأُضْحِيَّةِ إذا ذُبِحَتْ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَنَّهَا لَا تُجْزِئُ.
ب - وَسُنَّةٌ فِي الْهَدْيِ إذَا ذَبَحَ قَبْلَ الرَّمْيِ جَهْلًا أَجْزَأَ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا -وَاللهُ أَعْلَمُ-: أَنَّ الْهَدْيَ صَارَ نُسُكًا بِسَوْقِهِ إلَى الْحَرَمِ وَتَقْلِيدِهِ وَإِشْعَارِهِ، فَقَد بَلَغَ مَحَلَّهُ فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، فَإِذَا قُدِّمَ جَهْلًا: لَمْ يَخْرُجْ عَن كَوْنِهِ هَدْيًا.
وَأَمَّا الْأُضْحِيَّةُ: فَإِنَّهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ لَا تَتَمَيَّزُ عَن شَاةِ اللَّحْمِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَن ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا هِيَ شَاةُ لَحْمٍ قَدَّمَهَا لِأَهْلِهِ"، وَإِنَّمَا هِيَ نُسُكٌ بَعْدَ الصَّلَاةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)} [الكوثر: 2] وَقَالَ: {إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام: 162] فَصَارَ فِعْلُهُ قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ كَالصَّلَاةِ قَبْلَ وَقْتِهَا.
ولَو لَمْ يَغْسِلْ كَفَّيْهِ بَعْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ
(1)
فَهُوَ مَحَلُّ نَظَرٍ، فَإِنَّهُ يَغْرِفُ بِهِمَا الْمَاءَ .. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا وَإِن نَوَى غَسْلَهُمَا فِيهِ؛ لِمَجِيءِ السُّنَّةِ بِذَلِكَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ غَسْلَهُمَا بِنِيَّةِ الِاغْتِرَافِ لَا تَحْصُلُ بِهِ طَهَارَتُهُمَا؛ بَل لَا بُدَّ مِن غَسْلٍ آخَرَ.
وَالْأَقْوَى: أَنَّ هَذَا لَا يَجِبُ؛ بَل غَسْلُهُمَا بِنِيَّةِ الِاغْتِرَافِ يُجْزِئُ عَن تَكْرَارِ غَسْلِهِمَا كَمَا فِي التَّيَمُّمِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يَغْسِلُ ذِرَاعَيْهِ بِيَدَيْهِ؛ فَيَكُونُ هَذَا غَسْلًا لِبَاطِنِ الْيَدِ. [21/ 409 - 425]
* * *
(1)
في الوضوء.
(بَابٌ: الْمَسْحُ عَلَى الْخفَّيْنِ)
(1)
2305 -
قالت طائفة: المسح على الخفين ناسخ للآية
(2)
قاله الخطابي.
قال: وفيه دلالة على أنهم كانوا يرون نسخ القرآن بالسُّنَة، قال الطبري: مخصص.
وقالت طائفة: هو أمر زائد على ما في الكتاب.
ومال إليه أبو العباس، وجميع ما يدعى من السُّنَّة أنه ناسخ للقرآن غلط.
وطائفة قالت كالشافعي وابن القصار ومال إليه أبو العباس أيضًا: أنَّ الآية قُرئت
(3)
بالخفض والنصب، فيحمل النصب على غسل الرجلين والخفض على مسح الخفين فيكون القرآن كآيتين.
2306 -
مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهِمْ: أَنَّهُ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى مَا فِيهِ خَرْقٌ يَسِيرٌ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ إلَّا عَلَى مَا يَسْتُرُ جَمِيعَ مَحَلِّ الْغَسْلِ.
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَهُوَ قِيَاسُ أَصْلِ أَحْمَد وَنُصُوصِهِ فِي الْعَفْوِ عَن يَسِيرِ الْعَوْرَةِ وَعَن يَسِيرِ النَّجَاسَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
(1)
الخف هو: حذاء من جلد، لا نعل له، بحيث تستطيع أن تمشي به.
وأما الجورب: فهو ما يُنسج من الصوف أو من القطن المتين أو من الكتان ونحو ذلك، ويفصل على قدر القدم، ويعرف في هذه الأزمنة بالشراب، هذا فيه خلاف هل يمسح عليه أو لا يمسح؟ فذهب إلى جواز المسح عليه الإمام أحمد، وخالف في ذلك الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي فقالوا: لا يمسح عليه؛ وذلك لأنه يخرقه الماء، فلا يكون ساترًا للقدم، ولأنه يبين صورة القدم؛ أي: تعرف منه الأصابع والعقب والأخمص وظهر القدم، فكأنه لم يلبس عليه شيء يستره. يُنظر: شرح عمدة الأحكام للعلامة عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين (3/ 7).
(2)
يعني: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6].
(3)
في الأصل: (قرأت)، والتصويب من الاختيارات (13).
وَالْعَادَةُ فِي الْفَتْقِ الْيَسِيرِ فِي الثَّوْبِ وَالْخُفِّ أَنَّهُ لَا يُرَقَّعُ وَإِنَّمَا يُرَقَّعُ الْكَثِير .. فَلَمَّا أطْلَقَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم الْأمْرَ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخِفَافِ مَعَ عِلْمِهِ بِمَا هِيَ عَلَيْهِ فِي الْعَادَةِ، وَلَمْ يَشْتَرطْ أَنْ تَكُونَ سَلِيمَةً مِنَ الْعُيُوبِ: وَجَبَ حَمْلُ أَمْرِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يقَيَّدَ كَلَامُهُ إلَّا بِدَليلٍ شَرْعِيِّ.
وَكَانَ مُقْتَضَى لَفْظِهِ أَنَّ كُلَّ خُفٍّ يَلْبَسُهُ النَّاسُ ويمْشُونَ فِيهِ: فَلَهُم أَنْ يَمْسَحُوا عَلَيْهِ وَإِن كانَ مَفْتُوقًا أو مَخْرُوقًا مِن غَيْرِ تَحْدِيدٍ لِمِقْدَارِ ذَلِكَ، فَإِنَّ التَّحْدِيدَ لَا بُدَّ لَهُ مِن دَليلٍ. [21/ 172 - 174]
2307 -
يجوز المسح على الخف المخرق ما دام اسمه باقيًا والمشي فيه ممكن.
وقال: يجوز المسح على الخف المخرق إلا المخرق أكثره فكالنعل، فإن كان فيه خرق يبدو منه بعض القدم لم يجز المسح عليه، وقيل: يجوز المسح عليه، اختاره الشيخ تقي الدين. [المستدرك 3/ 34]
2308 -
فَارَقَ مَسْحُ الْجَبِيرَةِ الْخُفَّ مِن خَمْسَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا وَاجِبٌ وَذَلِكَ جَائِزٌ.
الثَّانِي: أَنَّ هَذَا يَجُوزُ فِي الطَّهَارَتَيْنِ: الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إلَّا ذَلِكَ، وَمَسْحُ الْخُفَّيْنِ لَا يَكُونُ فِي الْكُبْرَى.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْجَبِيرَةَ يُمْسَحَ عَلَيْهَا إلَى أَنْ يَحِلَّهَا، لَيْسَ فِيهَا تَوْقِيتٌ؛ فَإِنَّ مَسْحَهَا لِلضَّرُورَةِ، بِخِلَافِ الْخُفِّ فَإِنَّ مَسْحَهُ مُوَقَّتٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
لَكِنْ لَو كَانَ فِي خَلْعِهِ بَعْدَ مُضِيِّ الْوَقْتِ ضَرَرٌ -مِثْلُ: أَنْ يَكونَ هُنَاكَ بَرْدٌ شَدِيدٌ مَتَى خَلَعَ خُفَّيْهِ تَضَرَّرَ .. وَنَحْوُ ذَلِكَ- فَهُنَا قِيلَ: إنَّهُ يَتَيَمَّمُ، وَقِيلَ: إنَّهُ يَمْسَحُ عَلَيْهِمَا لِلضَّرُورَةِ، وَهَذَا أَقْوَى؛ لِأَنَّ لُبْسَهُمَا هُنَا صَارَ كَلُبْسِ الْجَبِيرَةِ مِن بَعْضِ الْوُجُوهِ.
وَعَلَى هَذَا يُحْمَل حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ لَمَّا خَرَجَ مِن دِمَشْقَ إلَى الْمَدِينَةِ
يُبَشِّرُ النَّاس بِفَتْحِ دِمَشْقَ وَمَسَحَ أُسْبُوعًا بِلَا خَلْعٍ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَصَبْت السُّنَةَ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَلهَذَا لَو كَانَ جَرِيحًا وَأَمْكَنَهُ مَسْحُ جِرَاحِهِ بِالْمَاءِ دُونَ الْغَسْلِ: فَهَل يَمْسَحُ بِالْمَاءِ أَو يَتَيَمَّمُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، وَمَسْحُهُمَا بِالْمَاءِ أَصَحُّ.
الرَّابعُ: أَنَّ الْجَبِيرَةَ يَسْتَوْعِبُهَا بِالْمَسْحِ كَمَا يَسْتَوْعِبُ الْجِلْد.
الْخَامِسُ: أَنَّ الْجَبِيرَةَ يَمْسَحُ عَلَيْهَا وَإِن شَدَّهَا عَلَى حَدَثٍ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الصَّوَابُ.
وَمَن قَالَ: لَا يَمْسَحُ عَلَيْهَا إلَّا إذَا لَبِسَهَا عَلَى طَهَارَةٍ: لَيْسَ مَعَهُ إلَّا قِيَاسُهَا عَلَى الْخُفَّيْنِ وَهُوَ قِيَاسٌ فَاسِدٌ؛ فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا ثَابِتٌ مِن هَذ الْوُجُوهِ وَمَسْحُهَا كمَسْحِ الْجِلْدَةِ وَمَسْح الشَّعْرِ، لَيْسَ كَمَسْحِ الْخُفَّيْنِ، وَفِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَد مَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ، وَأَنَّهَا مُلْحَقَةٌ عِنْدَهُ بِجِلْدَةِ الْإِنْسَانِ لَا بِالْخُفَّيْنِ وَفِي ذَلِكَ نِزَاعٌ؛ لِأَنَّ مِن أَصْحَابِهِ مَن يَجْعَلُهَا كَالْخُفَّيْنِ وَيَجْعَلُ الْبُرْءَ كَانْقِضاءِ مُدَّةِ الْمَسْحِ، فَيَقُولُ بِبُطْلَانِ طَهَارَةِ الْمَحَلِّ كَمَا قَالُوا فِي الْخُفِّ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَهُوَ: أَنَّهَا إذَا سَقَطَتْ سُقُوطَ بُرْءٍ كَانَ بِمَنْزِلَةِ حَلْقِ شَعْرِ الرَّأْسِ وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَبِمَنْزِلَةِ كَشْطِ الْجِلْدِ لَا يُوجِبُ إعَادَةَ غُسْلِ الْجَنَابَةِ عَلَيْهَا إذَا كَانَ قَد مَسَحَ عَلَيْهَا مِنَ الْجَنَابَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ لَا يَجِبُ غَسْلُ الْمَحَلِّ وَلَا إعَادَةُ الْوُضُوءِ.
وَإِن قِيلَ: إنَّهُ لَا يَمْسَحُ عَلَيْهَا مِنَ الْجَنَابَةِ حَتَّى يَشُدَّهَا عَلَى الطَّهَارَةِ: كَانَ هَذَا قَوْلًا بِلَا أَصْلٍ يُقَاسُ عَلَيْهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا. [21/ 176 - 182]
2309 -
[قَوْلُهُ: وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَلْبَسَ الْجَمِيعَ
(1)
بَعْدَ كَمَالِ الطَّهَارَةِ إلَّا الْجَبِيرَةَ على إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ] إن كان الممسوح عليه غير جبيرة فالصحيح من المذهب: أنه يشترط لجواز المسح عليه كمال الطهارة قبل لبسه، وعليه
(1)
أي: خُمُرُ النِّسَاءِ الْمُدَارَةُ تَحْتَ حُلُوقِهِنَّ، والْقَلَانِسُ،
الأصحاب، وعنه: لا يشترط كمالها اختاره الشيخ تقي الدين وصاحب الفائق، وقال: وعنه لا يشترط الطهارة لمسح العمامة ذكره ابن هبيرة، وحكى أبو الفرج رواية بعدم اشتراط تقدم الطهارة رأسًا، فإنْ لبس محدثًا ثم توضأ وغسل رجليه في الخف جاز له المسح، قال الزركشي: وهو غريب بعيد، قلت: اختاره الشيخ تقي الدين
(1)
.
وقال أيضًا: ويتوجه أن العمامة لا يشترط لها ابتداء اللبس على طهارة، ويكفيه فيهما الطهارة المتقدمة.
لو غسل الرجلين في الخفين بعد أن لبسهما محدثًا جاز المسح
(2)
، وهو مذهب أبي حنيفة وقول مخرج في مذهب أحمد. [المستدرك 3/ 36]
2310 -
لا يجوز المسح على غير المحنكة، إلا أن تكون ذات ذؤابة في أحد الوجهين: أحدهما يجوز المسح عليها، وهو مقتضى اختيار الشيخ تقي الدين بطريق الأولى، فإنه اختار جواز المسح على العمامة الصماء فذات الدؤابة أولى بالجواز، وقال عن العمامة الصماء: هي القلانس.
ويمسح على اللفائف في أحد الوجهين حكاه ابن تميم وغيره.
وعلى القدم ونعلها الذي يشق نزعها إلا بيد أو رِجْل كما جاءت به الآثار، والاكتفاء بأكثر القدم هنا، والظاهر منها غسلًا أو مسحًا أولى من مسح بعض الخف ولهذا لا يتوقت.
(1)
الإنصاف (1/ 171).
فائدة: ذهب عامةُ أهل العلم إلى أنه لا يصح المسح على الخف إلا إذا لبس على طهارة، قال ابن قدامة في المغني: لَا نَعْلَمُ فِي اشْتِرَاطِ تَقَدُّم الطَّهَارَةِ لِجَوَازِ الْمَسْحِ خِلَافًا، وَوَجْهُهُ: مَا رَوَى الْمُغِيرَةُ، قَالَ: كُنْت مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَأَهْوَيْت لِأَنْزِعَ خُفَّيْهِ، فَقَالَ: دَعْهُمَا فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْن فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. اهـ.
(2)
مثال ذلك: رجلٌ لبس شرابًا، أو كنادر وهو محدث، ثم توضأ وغمس رجليه بالماء: صح وضوؤه، وجاز له المسح على الشراب أو الكنادر.
وذكر في موضع آخر: أن الرجل لها ثلاث أحوال:
أ - الكشف: له الغسل وهو أعلى المراتب.
ب - والستر: له المسح.
ج - وحالة متوسطة، وهي إذا كانت في النعل، فلا هي مما يجوز المسح ولا هي بارزة فيجب الغسل، فأُعطيت حالة متوسطة وهي الرش، وحيث أُطلق عليها المسحُ في هذه الحال فالمراد به الرش، وقد ورد الرش على النعلين، والمسح عليهما في المسند من حديث أوس بن أوس ورواه ابن حبان والبيهقي من حديث ابن عباس
(1)
. [المستدرك 3/ 34 - 35]
2311 -
تقدم أنَّ الشيخ تقي الدين اختار أن العمامة لا يشترط لها ابتداء اللبس على طهارة ويكفي فيها الطهارة المستدامة، وقال أيضًا: يتوجه أنه لا يخلعهما بعد وضوئه ثم يلبسها بخلاف الخف. [المستدرك 3/ 36]
(1)
وهو ما رواه أبو داود (160)، عن أَوْس بْن أَبِي أَوْسٍ الثَّقَفِيّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى نَغلَيْهِ وَقَدَمَيْهِ. وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.
تنبيه: ظاهر الحديث أنه مرسل؛ لأنه من رواية تابعي، وقد روي من حديث أبي أوس.
قال العلَّامة الألباني: على أن الحديث من (مسند أبي أوس) ليس من (مسند ابنه أوس)؛ خلافًا لرواية هشيم وشعبة، وهي عندي أصح وأولى. اهـ. يُنظر تعليقه على حديث رقم (150)، من صحيح أبي داود.
وقد عمل أبو أَوْس رضي الله عنه بما رواه، فقد رواه ابن حبان (1339)، عن أوس بن أبي أوس قال: رأيت أبي توضأ فمسح على نعليه فأنكرت ذلك عليه فقلت: أتمسح على النعلين؟ فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عليهما.
قال شعيب الأرنؤوط: رجاله ثقات رجال مسلم.
وروى الإمام أحمد في مسنده (970)، عَن عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ تَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا، وَمَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا وُضُوءُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لِلطَّاهِرِ مَا لَمْ يُحْدِثْ. وحسَّنه محققو المسند، وصحَّحه البيهقي في معرفة السنن والآثار (76).
قال العلَّامة الألباني رحمه الله: ثبت المسح على النعلين مرفوعًا في غير حديث؛ كما صح المسح على الخفين، فهما في الحكم سواءٌ؛ والتفريق بينهما بدون دليل لا يجوز. اهـ. يُنظر: صحيح أبي داود (1/ 293).
2312 -
لا ينتقض وضوء الماسح على الخف والعمامة بنزعهما، ولا بانقضاء المدة، ولا يجب عليه مسح رأسه ولا غسل قدميه، وهو مذهب الحسن البصري؛ كإزالة الشعر الممسوح على الصحيح من مذهب أحمد، وقول الجمهور. [المستدرك 3/ 37]
2313 -
اختار الشيخ تقي الدين أيضًا جواز المسح على الملبوس ولو كان دون الكعب
(1)
. [المستدرك 3/ 34]
(1)
هذا ظاهر في أنَّ شيخ الإسلام رحمه الله تعالى لا يرى أن من شروط المسح على الخفين أن يكونا ساترين لمحل الفرض.
وقد نسب ابن عثيمين رحمه الله هذا القول للشيخ.
ولكن يُشكل عليه قوله في مجموع الفتاوى (21/ 185 - 192): وَالْخِفَافُ قَد اُعْتِيدَ فِيهَا أَنْ تُلْبَسَ مَعَ الْفَتْقِ وَالْخَرْقِ وَظُهُورِ بَعْضِ الرِّجْلِ.
وَأمَّا مَا تَحْتَ الْكعْبَيْنِ فَذَاكَ لَيْسَ بِخُف أَصْلًا، وَلهَذَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ لُبْسُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّعْلَيْن فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ ..
فَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْقَطْعِ أَوَّلًا لِأَنَّ رُخْصَةَ الْبَدَلِ لَمْ تَكُنْ شُرِعَتْ، فَأَمَرَهُم بِالْقَطْعِ حِينَئِذٍ لِأَنَّ الْمَقْطُوعَ يَصِيرُ كَالنَّعْلَيْنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِخُفِّ، وَلهَذَا لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي إذْنِهِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. اهـ.
وقد ذهب جماهير العلماء إلى أن من شروط المسح على الخفين: أن يكون ساترًا لمحل فرض الغسل -الكعبان مع القدم- فإن لم يستر الكعبين لم يصح المسح عليهما، قياسًا على الوضوء؛ ولأن ما ظهر فرضه الغسل، وما ستر فرضه المسح، ولا يمكن أن يجمع بين البدل والمبدل منه في عضو واحد.
واختار ابن حزم والأوزاعي فيما روي عنه وابن عثيمين والألباني رحمهم الله جواز المسح على الخف الذي لا يستر الكعبين؛ لأنه خف يمكن متابعة المشي فيه، فأشبه الساتر.
قال ابن حزم رحمه الله: "فإن كان الخفان مقطوعين تحت الكعبين فالمسح جائز عليهما، وهو قول الأوزاعي، روي عنه أنه قال: يمسح المحرم على الخفين المقطوعين تحت الكعبين، وقال غيره لا يمسح عليها إلا أن يكونا فوق الكعبين.
قال: قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر بالمسح على الخفين، وأنه مسح على الجوربين، ولو كان ههنا حد محدود لما أهمله عليه السلام ولا أغفله فوجب أن كل ما يقع عليه اسم خف أو جورب أو لبس على الرجلين فالمسح عليه جائز .. ". اهـ.
يُنظر: المحلى (1/ 336)، الموسوعة الفقهية (37/ 264)، مجموع فتاوى ابن عثيمين (11/ 165)، اللقاء الشهري.
2314 -
الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ قَد اشْتَرَطَ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ شَرْطيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ سَاتِرًا لِمَحَلِّ الْفَرْضِ، وَقَد تَبَيَّنَ ضَعْفُ هَذَا الشَّرْطِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْخُفُّ يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ.
وَهَذَا الشَّرْطُ لَا أَصْلَ لَهُ فِي كَلَامِ أَحْمَد؛ بَلِ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَإِن لَمْ يَثْبُتَا بِأَنْفُسِهِمَا؛ بَل بِنَعْلَيْنِ تَحْتَهُمَا، وَأَنَّهُ يَمْسَحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ مَا لَمْ يَخْلَعِ النَّعْلَيْنِ. [21/ 183 - 184]
2315 -
الصَّوَابُ: أَنَّهُ يَمْسَحُ عَلَى اللَّفَائِفِ
(1)
، وَهِيَ بِالْمَسْحِ أَوْلَى مِنَ الْخُفِّ وَالْجَوْرَبِ، فَإِنَّ تِلْكَ اللَّفَائِفَ إنَّمَا تُسْتَعْمَلُ لِلْحَاجَةِ فِي الْعَادَةِ.
ومَن تَدَبَّرَ أَلْفَاظَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَأَعْطَى الْقِيَاسَ حَقَّهُ: عَلِمَ أَنَّ الرُّخْصَةَ مِنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ وَاسِعَةٌ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِن مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَمِنَ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا.
فَعُلِمَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي اللِّبَاسِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ، سَوَاءٌ سَتَرَ جَمِيعَ مَحَلِّ الْفَرْضِ أَو لَمْ يَسْتُرْهُ.
وَالْخِفَافُ قَد اُعْتِيدَ فِيهَا أَنْ تُلْبَسَ مَعَ الْفَتْقِ وَالْخَرْقِ وَظُهُورِ بَعْضِ الرِّجْلِ.
وَأَمَّا مَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ فَذَاكَ لَيْسَ بِخُفٍّ أَصْلًا، وَلهَذَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ لُبْسُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّعْلَيْنِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ.
فَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْقَطْعِ أَوَّلًا لِأَنَّ رُخْصَةَ الْبَدَلِ لَمْ تَكُنْ شُرِعَتْ، فَأَمَرَهُم بِالْقَطْعِ حِينَئِذٍ لِأَنَّ الْمَقْطُوعَ يَصِيرُ كَالنَّعْلَيْنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِخُفِّ، وَلهَذَا لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي إذْنِهِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. [21/ 185 - 192]
(1)
هي أن يُلَفَّ على الرَّجْل لفَائِفُ مِنَ الْبرْد أوْ خَوفَ الْحفَاءِ أو منْ جِراحٍ بِهما ونحْوَ ذلك.
2316 -
يشترط للمسح اللبس على طهارة، ويعتبر كمالها
(1)
، وعنه: لا، اختاره شيخنا. [المستدرك 3/ 35]
2317 -
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَن تَوَضَّأَ وُضُوءًا كَامِلًا ثُمَّ لَبِسَ الْخُفَّيْن جَازَ لَهُ الْمَسْحُ بِلَا نِزَاعٍ، وَلَو غَسَلَ إحْدَى رِجْلَيْهِ وَأَدْخَلَهَا الْخُفَّ ثُمَّ فَعَلَ بِالْأُخْرَى مِثْل ذَلِكَ فَفِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَن أَحْمَد:
إحْدَاهُمَا: يَجُوزُ الْمَسْحُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَالثَّانِيَةُ: لَا يَجُوزُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ.
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ بِلَا شَكٍّ. [21/ 209 - 210]
2318 -
يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ
(2)
إذَا كَانَ يَمْشِي فِيهِمَا، سَوَاءٌ كَانَت مُجَلَّدَةَ أَو لَمْ تَكُنْ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. [21/ 214]
2319 -
هل المسح أفضل، أم غسل الرجلين، أم هما سواء؟ ثلاث روايات عن أحمد.
وفصل الخطاب أنَّ الأفضل في حق كل واحد ما هو الموافق لحال قدمه؛ فالأفضل لمن قدماه مكشوفتان غسلهما ولا يتحرى لبس الخف ليمسح عليه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يغسل قدميه إذا كانتا مكشوفتين، ويمسح قدميه إذا كان لابسًا للخف. [المستدرك 3/ 33]
2320 -
والمسافر ثلاثة أيام بلياليهن، وقيل: يمسح كالجبيرة واختاره الشيخ تقي الدين، قاله
(3)
في الفروع.
وقال في الاختيارات: ولا تتوقف مدة المسح في حق المسافر الذي
(1)
بحيث يغسل كلتا الرجلين.
(2)
الجورب: هو ما يلبس على الرجل من أنواع الشرابات (من صوف وكتان ونحوهما).
والخف: هو ما يلبس على الرجل من الجلود.
(3)
في الأصل: (قال)، والتصويب من الإنصاف (1/ 176).
يشق اشتغاله بالخلع واللبس كالبريد المجهز في مصلحة المسلمين. [المستدرك 3/ 33]
2321 -
لَمَّا ذَهَبْت عَلَى الْبَرِيدِ وَجَدَّ بِنَا السَّيْرُ وَقَدِ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْمَسْحِ فَلَمْ يُمْكِن النَّزْعُ وَالْوُضُوءُ إلَّا بِانْقِطَاعٍ عَنِ الرُّفْقَةِ، أَو حَبْسِهِمْ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَرَّرُونَ بِالْوُقُوفِ، فَغَلَبَ عَلَى ظَنِّي عَدَم التَّوْقِيتِ عِنْدَ الْحَاجَةِ -كَمَا قُلْنَا فِي الْجَبِيرَةِ- وَنَزَّلْت حَدِيثَ عُمَرَ وَقَوْلَهُ لعقبة بْنِ عَامِرٍ:"أَصَبْت السُّنَّةَ" عَلَيَّ؛ تَوْفِيقًا بَيْنَ الآَثَارِ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ مُصَرَّحًا بِهِ فِي مَغَازِي ابْنِ عَائِدٍ أَنَّهُ كَانَ قَد ذَهَبَ عَلَى الْبَرِيدِ كَمَا ذَهَبْتُ لَمَّا فُتِحَتْ دِمَشْقُ ذَهَبَ بَشِيرًا بِالْفَتْحِ مِن يَوْمِ الْجُمْعَةِ إلى يَوْمِ الْجُمْعَةِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مُنْذ كَمْ لَمْ تَنْزعْ خُفَّيْك؟ فَقَالَ: مُنْذُ يَوْمِ الْجُمْعَةِ قَالَ: أَصَبْت.
فَحَمِدْت اللهَ عَلَى الْمُوَافَقَةِ.
وَهَذَا أَظُنُّهُ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ لِأَصْحَابِنَا وَهُوَ: أَنَّهُ إذَا كَانَ يَتَضَرَّرُ بِنَزْعِ الْخُفِّ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْجَبِيرَةِ.
وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ: أَنَّهُ إِذَا خَافَ الضَّرَرَ بِالنَّزْعِ تيَمَّمَ وَلَمْ يَمْسَحْ.
وَهَذَا كَالرِّوَايَتَيْنِ لَنَا إذَا كَانَ جُرْحُه بَارِزًا يُمْكِنُهُ مَسْحُهُ بِالْمَاءِ دُونَ غَسْلِهِ، فَهَل يَمْسَحُهُ أَو يَتَيَمَّمُ لَهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَالصَّحِيحُ: الْمَسْحُ؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْمَسْحِ بِالْمَاءِ أَوْلَى مِن طَهَارَةِ الْمَسْحِ بِالتُّرَابِ.
وَيُلْحَقُ بِذَلِكَ إذَا كَانَ عَادِمًا لِلْمَاءِ وَمَعَهُ قَلِيلٌ يَكْفِي لِطَهَارَةِ الْمَسْحِ لَا لِطِهَارَةِ الْغَسْلِ، فَإِنْ نَزَعَهُمَا تيَمَّمَ؛ فَالْمَسْحُ عَلَيْهِمَا خَيْرٌ مِنَ التَّيَمُّمِ.
وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: "يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلَاَثةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ"
(1)
.
(1)
رواه النسائي (129)، وغيره، وقال الترمذي في جامعه: وَقَد رُوِيَ عَن بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ أَنَّهُم لَمْ يُوَقِّتُوا فِي الْمَسْحِ عَلَى الخُفَّيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ.
وَالتَّوْقِيتُ أَصَحُّ. اهـ.
مَنْطُوقُهُ: إبَاحَةُ الْمَسْحِ هَذِهِ الْمُدَّةَ، وَالْمَفْهُومُ لَا عُمُومَ لَهُ؛ بَل يَكْفِي أَنْ لَا يَكُونَ الْمَسْكُوتُ كَالْمَنْطُوقِ، فَإِذَا خَالَفَهُ فِي صُورَةٍ حَصَلَتِ الْمُخَالَفَةُ، فَإِذَا كَانَ فِيمَا سِوَى هَذ الْمُدَّةِ لَا يُبَاحُ مُطْلَقًا بَل يُحْظَرُ تَارَةً وَيُبَاحُ أُخْرَى حَصَلَ الْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ، وَهَذَا وَاضِحٌ، وَهِيَ مَسْأَلَة نَافِعَةٌ جِدًّا.
فَإِنَّهُ مَن بَاشَرَ الْأَسْفَارَ فِي الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالتِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا: رَأَى أَنَّهُ فِي أَوْقَاتٍ كَثِيرَةٍ لَا يُمْكِنُ نَزْعُ الْخُفَّيْنِ وَالْوُضُوءُ إلَّا بِضَرَرٍ يُبَاحُ التَّيَمُّمُ بِدُونهِ
(1)
. [21/ 215 - 217]
2322 -
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: [وسألوه
(2)
عن الجرح يكون بالإنسان يخاف عليه كيف يمسح عليه؟ قال: -ينزع الخرقة ثم يمسح على الجرح نفسه.
قلت
(3)
: هذا النص خلاف المشهور عند الأصحاب، فإنهم يقولون: إذا كان مكشوفًا لم يمسح عليه حتى يستره، فمان لم يكن مستورًا تيمم له]
(4)
، ونص أحمد صريح في أنه يكشف الخرقة ثم يباشر الجرح بالمسح، وهذا يدل على أنَّ مسح الجرح البارز أولى من مسح الجبيرة، وأنه خيرٌ من التيمم.
وهذا هو الصواب الذي لا ينبغي العدول عنه، وهو المحفوظ عن السلف من الصحابة والتابعين، ولا ريب أنه بمقتضى القياس؛ فإن مباشرة العضو بالمسح الذي هو بعض الغسل المأمور به أولى من مباشرة غير ذلك العضو بالتراب.
(1)
هذا يدل على أنّ المفتي الذي يُخالط الناس ويُباشر الكثير من الأمور قد تتغير فتواه، وقد لا تتضح له أمورٌ وأحكامٌ شرعية إلا بذلك، فلذلك كان شيخ الإسلام من أقوى العلماء إفتاءً وعلمًا، ومن أكثرهم قبولًا عند العامة والخاصة، فقد باشر بنفسه الجهاد والحج وخَالط الحكام وناصحهم، وخالط وناظر الكثير من أصحاب الفرق والمذاهب والأديان، فهو من أخبر الناس بهم، وأعلمهم بأقوالهم.
(2)
أي: الإمام أحمد.
(3)
أي: ابن القيم.
(4)
ما بين المعقوفتين من بدائع الفوائد لابن القيّم (4/ 868)، وليس موجودًا في الأصل، وبه يتضح المراد.
وكان شيخنا أبو العباس ابن تيمية رحمه اللّه تعالى يذهب إلى هذا، ويضعف القول بالتيمم بدل المسح. [المستدرك 3/ 37]
2323 -
إنْ خَافَتِ الْمَرْأَةُ مِنَ الْبَرْدِ وَنَحْوِهِ مَسَحَتْ عَلَى خِمَارِهَا؛ فَإِنَّ أُمَّ سَلَمَةَ كَانَت تَمْسَحُ خِمَارَهَا، وَيَنْبَغِي أَنْ تَمْسَحَ مَعَ هَذَا بَعْضَ شَعْرِهَا، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُن بِهَا حَاجَةٌ إلَى ذَلِكَ فَفِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. [21/ 218]
2324 -
لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا لَبِسَ الْخُفَّيْنِ عَلَى طَهَارَةٍ ثُمَّ أَحْدَثَ أَنَّهُ يَنْزِعُهُمَا وَيَغْسِلُ رِجْلَيْهِ؛ بَل كَانَ يَمْسَحُ عَلَيْهِمَا، وَهَذَا مَوْرِدُ النِّزَاعِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُن عَلَيْهِ خُفَّانِ فَفَرْضُهُ الْغَسْلُ وَلَا يُشْرَعُ لَهُ أَنْ يَلْبَسَ الْخُفَّيْنِ لِأَجْلِ الْمَسْحِ؛ بَل صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ: إذَا لَبِسَهُمَا لِحَاجَتِهِ فَهَل الْأَفْضَلُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا أَو يَخْلَعَهُمَا أَو كِلَاهُمَا عَلَى السَّوَاءِ؟
عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، وَالصَّوَابُ: أَنَّ الْمَسْحَ أَفْضَلُ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ. [26/ 94]
* * *
(بَابٌ: نَوَاقِضُ الْوُضُوءِ)
2325 -
تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي خُرُوجِ النَّجَاسَةِ مِن غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ - كَالْجُرْحِ وَالْفِصَادِ وَالْحِجَامَةِ وَالرُّعَافِ
(1)
وَالْقَيْءِ.
وَتَنَازَعُوا فِي مَسِّ النِّسَاءِ وَمَسِّ الذَّكَرِ.
وَاخْتَلَفَ السَّلَف فِي الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ.
(1)
الشيخ يرى أن دم الآدمي -الخارج من غير من السبيلين- نجس، وهو قول جماهير العلماء، واختار بعض المتأخرين أنه طاهر، وهو الذي رجحه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، فقد قال رحمه الله تعالى: ولهذا كان القول الراجح أن دم الإنسان الذي لا يخرج من القبل أو الدبر طاهر، لا يجب غسله ولا التنزه منه إلا على سبيل النظافة. اهـ. من شرح كتاب الحج من صحيح البخاري.
وَالْأَظْهَرُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأنْوَاعِ: أَنَهَا لَا تَنْقضُ الْوُضُوءَ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ مِنْهَا. [21/ 222]
2326 -
إن كانت (النجاسات) من غير السبيلين لم ينقض إلا كثيرها، واختار الشيخ تقي الدين وصاحب الفائق لا ينقض الكثير مطلقًا
(1)
. [المستدرك 3/ 38]
2327 -
إذَا تَوَضَّأَ مِنْهُ [أي: الرُّعَاف] فَهُوَ أَفْضَلُ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ
(2)
. [21/ 228]
2328 -
النَّوْمُ الْيَسِيرُ مِن الْمُتَمَكِّنِ بِمَقْعَدَتِهِ: لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِن الأئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّ النَّوْمَ عِنْدَهُم لَيْسَ بِحَدَث فِي نَفْسِهِ لَكنَّهُ مَظِنَّةُ الْحَدَثِ.
ثُمَّ بَعْدَ هَذَا لِلْعُلَمَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أ - قِيلَ: يَنْقُضُ مَا سِوَى نَوْمِ الْقَاعِدِ مُطْلَقًا؛ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَأحْمَد فِي رِوَايَةٍ.
ب - وَقِيلَ: لَا يَنْقُضُ نَوْمُ الْقَائِمِ وَالْقَاعِدِ، وَينْقُضُ نَوْمُ الرَّاكِعِ وَالسَّاجِدِ؛ لِأَنَّ الْقَائِمَ وَالْقَاعِدَ لَا يَنْفَرِجُ فِيهِمَا مَخْرَجُ الْحَدَثِ كمَا يَنْفَرِجُ مِن الرَّاكِعِ وَالسَّاجِدِ.
ج - وَقِيلَ: لَا يَنْقُضُ نَوْمُ الْقَائِمِ وَالْقَاعِدِ وَالرَّاكِعِ وَالسَّاجِدِ بِخِلَافِ الْمُضْطَجِعِ وَغَيْرِهِ، كقَوْلِ أبِي حَنِيفَةَ.
وَالْأظْهَرُ فِي هَذَا الْبَابِ: أَنَّهُ إذَا شَكَّ الْمُتَوَضِّئُ: هَل نَوْمُهُ مِمَّا يَنْقُضُ أو لَيْسَ مِمَّا يَنْقُضُ؟ فَإِنَّهُ لَا يَحْكُمُ بِنَقْضِ الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ ثَابِتَةٌ بِيَقِين فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ. [21/ 228 - 230]
(1)
كما لو فتح أنبوب في البدن فخرجت منه النجاسات.
(2)
مع أنه يرى أنه نجس، وعدم الوضوء منه هو رأي ابن عثيمين رحمه الله تعالى.
2329 -
نقل الميموني: لا ينقض النوم بحال، واختار الشيخ تقي الدين إن ظن بقاء طهره. [المستدرك 3/ 38]
2330 -
لمْسُ فَرْجِ الْحَيَوَانِ غَيْرُ الْإِنْسَانِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ
(1)
.
وَبَطْنُ الْكَفِّ يَتَنَاوَلُ الْبَاطِنَ كلَّهُ بَطْنَ الرَّاحَةِ وَالْأَصَابعِ. [21/ 231]
2331 -
نَقْضُ الْوُضُوءِ بِلَمْسِ النِّسَاءِ فَلِلْفُقَهَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: طَرَفَانِ وَوَسَطٌ، أضْعفُهَا: أَنَّهُ يَنْقُضُ اللَّمْسُ وَإِن لَمْ يَكُن لِشَهْوَةِ إذَا كَانَ الْمَلْمُوسُ مَظِنَّةً لِلشَّهْوَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّمْسَ لَا يَنْقُضُ بِحَالٍ وَإِن كَانَ لِشَهْوَةٍ؛ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ يَذْكُرُ رِوَايَةً عَن أَحْمَد، لَكِنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِهِ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَالْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ: أَنَّ اللَّمْسَ إنْ كَانَ لِشَهْوَةٍ نَقَضَ وَإِلَّا فَلَا.
وَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ مُتَوَجِّهٌ إلَّا هَذَا الْقَوْلُ أو الَّذِي قَبْلَهُ.
فَأَمَّا تَعْلِيقُ النَّقْضِ بِمُجَرَّدِ اللَّمْسِ فَهَذَا خِلَافُ الْأُصُولِ وَخِلَافُ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَخِلَافُ الْآثَارِ.
ومَن زَعَمَ أَنَّ قَوْلَه: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} يَتَنَاوَلُ اللَّمْسِ وَإِن لَمْ يَكُن لِشَهْوَةٍ: فَقَد خَرَجَ عَن اللُّغَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ؛ بَل وَعَن لُغَةِ النَّاسِ فِي
(1)
مع أنّ لسمه قد تُحرك شهوته، وهذا يُؤكد أن الراجح أن لمس فرج الآدمي وبدن المرأة لا ينقض.
ولكن لا يعني هذا أنه يجوز لمس فرج الحيوان إذا كان ذلك بشهوة، بل هو حرام عند بعض العلماء كابن الجوزي وغيره.
قال صاحب الإنصاف نقلًا عن ابن عقيل: يحرم النظر مع شهوة تخنيث وسحاق وإلى دابة يشتهيها ولا يعف عنه وكذا الخلوة بها، قال في الفروع: وهو ظاهر كلام غيره. اهـ.
ثم ذكر جملة من الفوائد منها: أن معنى الشهوة التلذذ بالنظر، ومنها أن اللمس كالنظر بل أولى منه بالمنع. انتهى بتصرف. الإنصاف (8/ 30).
عُرْفِهِمْ، فَإِنَّهُ إذَا ذُكِرَ الْمَسُّ الَّذِي يُقْرَنُ فِيهِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عُلِمَ أَنَّهُ مَسُّ الشَّهْوَةِ، كَمَا أَنَّهُ إذَا ذُكِرَ الْوَطْءُ الْمَقْرُونُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عُلِمَ أَنَّهُ الْوَطْءُ بِالْفَرْجِ لَا بِالْقَدَمِ.
فَإِنَّ خِطَابَ اللّهِ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ بِذِكْرِ اللَّمْسِ وَالْمَسِّ وَالْمُبَاشَرَةِ لِلنِّسَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: لَا يَتَنَاوَلُ مَا تَجَرَّدَ عَن شَهْوَةٍ أَصْلًا، وَلَمْ يَتَنَازَعْ الْمُسْلِمُونَ فِي شَيْءٍ مِن ذَلِكَ إلَّا فِي آيَةِ الْوُضُوءِ، وَالنِّزَاعُ فِيهَا مُتَأَخِّرٌ، فَيَكُونُ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ قَاضِيًا عَلَى مَا تَنَازَعَ فِيهِ مُتَأَخِّرُوهُمْ. [21/ 232 - 239]
2332 -
من النواقض: أن تمس بشرته بشرة أنثى لشهوة، وقال الشيخ تقي الدين: يستحب إن لمسها لشهوة وإلا فلا. [المستدرك 3/ 38]
2333 -
الْأَظْهَرُ: أَنَّ الْوُضُوءَ مِن مَسِّ الذَّكَرِ مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ. [21/ 241]
2334 -
مس اليهودي أو النصراني لا ينقض الوضوء باتفاق المسلمين. [المستدرك 3/ 38]
2335 -
إذَا مَسَّ الْأمْرَدَ لِشَهْوَةٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَمَسِّ النِّسَاءِ لِشَهْوَةٍ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ.
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ فَإِنَّ الْوَطْءَ فِي الدُّبُرِ يُفْسِدُ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَفْسُدُ بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ كَالصِّيَامِ وَالْإِحْرَامِ وَالِاعْتِكَافِ وُيوجِبُ الْغُسْلَ كَمَا يُوجِبُهُ هَذَا.
وَنَقْضُ الْوُضُوءِ بِاللَّمْسِ يُرَاعَى فِيهِ حَقِيقَةُ الْحِكْمَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَسُّ لِشَهْوَةٍ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ -كَمَالِكِ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا-.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَحَيْثُ وُجِدَ اللَّمْسُ لِشَهْوَة تَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ، حَتَّى لَو مَسَّ بِنْتِهِ وَأُخْتَه وَأُمَّهُ لِشَهْوَة انْتَقَضَ وَضَوْءُهُ؛ فَكَذَلِكَ مِن الْأَمْرَدِ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ فَيَعْتَبرُ الْمَظِنَّة، وَهُوَ أَنَّ النِّسَاءَ مَظِنَّةُ
الشَّهْوَةِ فَيَنْقُضُ الْوُضُوءَ، سَوَاءٌ كَانَ بِشَهْوَة أَو بِغَيْرِ شَهْوَةٍ؛ وَلِهَذَا لَا يَنْقُضُ مَسُّ الْمَحَارِمِ، لَكِن لَو مَسَّ ذَوَاتَ مَحَارِمِهِ لِشَهْوَةِ فَقَد وُجِدَتْ حَقِيقَةُ الْحِكْمَةِ، وَكَذَلِكَ إذَا مَسَّ الْأَمْرَدَ لِشَهْوَةِ. [15/ 411 - 412، 21/ 243 - 251]
* * *
(لحم الإبل ناقض للوضوء)
2336 -
مَن نَقَلَ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَو جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُم لَمْ يَكُونُوا يَتَوَضَّؤُونَ مِن لُحُومِ الْأِبِلِ: فَقَد غَلِطَ عَلَيْهِمْ. [21/ 13]
2337 -
ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ"
(1)
عَن جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَأَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: "إِنْ شِئْتَ فَتَوَضأْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَوَضَّأْ"، قَالَ: أتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ؟ قَالَ: "نَعَمْ فَتَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ"، قَالَ: أُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ: أُصَلِّي فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ؟ قَالَ: "لَا".
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِ جَابِرٍ: كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ.
وَأمَّا جَابِرٌ فَإِنَّمَا نَقَلَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّت النَّارُ، وَهَذَا نَقْلٌ لِفِعْلِهِ لَا لِقَوْلِهِ.
فَإِذَا شَاهَدُوهُ قَد أَكَلَ لَحْمَ غَنَمِ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأُ بَعْدَ أَنْ كَانَ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ صَحَّ أَنْ يُقَالَ: التَّرْكُ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ، وَالتَّرْكُ الْعَامُّ لَا يُحَاطُ بِهِ إلا بِدَوَامِ مُعَاشَرَتِهِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، بَل الْمَنْقولُ عَنْهُ التَّرْكُ فِي قَضِيَّهِ مُعَيَّنَةٍ.
ثُمَّ تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّت النَّارُ لَا يُوجِبُ تَرْكَهُ مِن جِهَةٍ أُخْرَى، وَلَحْمُ
(1)
رواه مسلم (360).
الْإِبِلِ لَمْ يُتَوَضَّأَ مِنْهُ لِأَجْلِ مَسِّ النَّارِ؛ بَل الْمَعْنَى يَخْتَصُّ بِهِ وَيتَنَاوَلُهُ نِيئًا وَمَطْبُوخًا. [21/ 260 - 263]
2338 -
مَن تَوَضَّأَ مِن لُحُومِهَا [أي: الإبل] انْدَفَعَ عَنْهُ مَا يُصِيبُ الْمُدْمِنِينَ لِأَكْلِهَا مِن غَيْرِ وُضُوءٍ؛ كَالْأَعْرَاب مِنَ الْحِقْدِ وَقَسْوَةِ الْقَلْبِ، الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ الْمُخَرَّجِ عَنْهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ":"إنَّ الْغِلْظَةَ وَقَسْوَةَ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ أَصْحَابِ الإِبِلِ وَإِنَّ السَّكِينَةَ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ"
(1)
. [21/ 11]
2339 -
السابع: أكل لحم الجزور، وعنه: لا ينقض مطلقًا، اختاره الشيخ تقي الدين.
وفي المسائل: يجب الوضوء من لحم الإبل؛ لحديثين صحيحين. لعله آخر ما أفتى به
(2)
. [المستدرك 3/ 39]
* * *
(بَابٌ الْغسْلُ)
2340 -
الطَّهَارَةُ مِن الْجَنَابَةِ فَرْضٌ، لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ جُنُبًا وَلَا مُحْدِثًا حَتَّى يَتَطَهَّرَ، وَمَن صَلَّى بِغَيْرِ طَهَارَةٍ شَرْعِيَّةٍ مُسْتَحِلًّا لِذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ، وَلَو لَمْ يَسْتَحِلَّ ذَلِكَ فَقَد اُخْتُلِفَ فِي كُفْرِهِ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ الْغَلِيظَةِ، لَكِنْ إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الِاغْتِسَالِ بِالْمَاءِ اغْتَسَلَ، وَإِن كَانَ عَادِمًا لِلْمَاءِ وَيخَافُ الضَّرَرَ بِاسْتِعْمَالِهِ بِمَرَض أَو خَوْفِ بَرْدٍ تيَمَّمَ وَصَلَّى.
وَإِن تَعَذَّرَ الْغُسْلُ وَالتَّيمُّمُ صَلَّى بِلَا غسْلٍ وَلَا تَيَمُّمٍ فِي أَظْهَرِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ. [21/ 295]
2341 -
الْمَنِيُّ الَّذِي يُوجِبُ الْغُسْلَ هُوَ الَّذِي يَخْرُجُ بِشَهْوَة، وَهُوَ أَبْيَضُ غَلِيظٌ تُشْبِهُ رَائِحَتُهُ رَائِحَةَ الطَّلْعِ.
(1)
رواه البخاري (3301)، ومسلم (51).
(2)
وهو اللائق بأصله، لصراحة وصحة الأدلة الدالة على الوجوب.
فَأَمَّا الْمَنِيُّ الَّذِي يَخْرُجُ بِلَا شَهْوَةٍ إمَّا لِمَرَض أو غَيْرِهِ فَهَذَا فَاسِدٌ لَا يُوجِبُ الْغُسْلَ عِنْدَ أكْثَرِ الْعُلَمَاءِ .. كَمَا أَنَّ دَمَ الِاسْتِحَاضَةِ لَا يُوجِبُ الْغُسْلَ.
وَالْخَارجُ عَقِيبَ الْبَوْلِ تَارَةً مَعَ أَلَمٍ أَو بِلَا ألَمٍ هُوَ مِن هَذَا الْبَابِ: لَا غُسْلَ فِيهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. [21/ 296]
2342 -
لَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ إذَا اغْتَسَلَتْ مِن جَنَابَةٍ أو حَيْضٍ غَسْلُ دَاخِلِ الْفَرْجِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ. [21/ 297]
2343 -
لو انتبه بالغ أو من يحتمل بلوغه فوجد بللًا جهل أنه مني وجب الغسل مطلقًا على الصحيح من المذهب، وعنه: يجب مع الحلم، وعنه: لا يجب مطلقًا، ذكرها الشيخ تقي الدين
(1)
. [المستدرك 3/ 40]
(1)
أي: ذكر هذه الرواية عن الإمام أحمد، ولا يعني أنه يُرجح هذه الرواية.
قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى في شرحِه لقول المؤلف في زاد المستقنع: قوله: "ومن تيقَّن الطَّهارة وشَكّ في الحدث أو بالعَكْسِ بَنَى على اليقينِ"؛ يعني: إِذا تيقَّن أنه طاهر، وشك في الحدث فإِنه يبني على اليقين، وهذا عام في موجبات الغُسل، أو الوُضُوء.
مثاله: رجل توضَّأ لصَلاةِ المغرب، فلما أذَّن العِشَاء وقام ليُصلِّي شَكَّ هل انتقض وضوءُه أم لا؟
فالأصل عدم النَّقضِ فيبني على اليقين وهو أنه متوضَّئ.
مثال آخر: استيقظ رجل فوجد عليه بللًا، ولم يرَ احتلامًا، فشكَّ هل هو منيٍّ أم لا؟ فلا يجب عليه الغسل للشَّكِّ.
ولو رأى عليه أثر المنيَّ وشكَّ هل هو من الليلة البعيدة أم القريبة؟ يجعله من القريبة لأنها مُتيقَّنة، وما قبلها مشكوك فيه.
ودليل ذلك حديث أبي هريرة، وعبد الله بن زيد رضي الله عنهما في الرَّجُل يجد الشيءَ في بطنه، ويُشْكِلُ عليه: هل خرج منه شيء أم لا؟ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "لا ينصرف حتى يسمعَ صوتًا، أو يجد ريحًا" .. مع أن قرينةَ الحَدَثِ موجودةٌ، وهي ما في بَطْنِهِ من القرقرة والانتفاخ.
وقوله: "أو بالعكس"؛ يعني: أن من تيَقَّنَ الحدثَ وشكَّ في الطَّهارة، فالأصْل الحدث. اهـ.
وقال في موضع آخرِ: إِذا استيقظَ ووجد بَللًا فلا يخلو من ثلاث حالات:
الأولى: أن يتيقَّنَ أنه مُوجِبٌ للغُسْل؛ يعني: أنه مَنِيٍّ، وفي هذه الحال يجبُ عليه أنْ يغتسلَ سواء ذَكرَ احتلامًا أم لم يذكر.
الثانية: أن يتيقَّنَ أنَّه ليسَ بِمِنىٍّ، وفي هذه الحال لا يجب الغُسْل، لكنْ يجب عليه أنْ يَغْسِلَ ما أصابه؛ لأن حُكمَهُ حُكمُ البولِ. =
2344 -
مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ قِلَّةُ وُلُوعِهِ بِالْمَاءِ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ تَكثِيرِ الِاغْتِرَافِ مَكْرُوة، بَلْ إذَا غَرَفَ الْمَاءَ يُرْسِلُهُ عَلَى وَجْهِهِ إرْسَالًا مِن أَعَالِي الْوَجْهِ إلَى أَسْفَلِهِ بِرِفْقٍ
(1)
. [21/ 298]
2345 -
لَمْ يَدْخُل النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَمَّامًا وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ وَلَا عُثْمَانُ،
وَالْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْحَمَامَ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ
بِالْحَدِيثِ.
وَلَكِنْ عَلِيٌّ رضي الله عنه لَمَّا قَدِمَ الْعِرَاقَ كَانَ بِهَا حَمَّامَاتٌ، وَقَد دَخَلَ الْحَمَّامَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِن الصَّحَابَةِ، وَبُنِيَ بِالْجُحْفَةِ حَمَّامٌ دَخَلَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ.
وَكَانَ أبُو عَبْدِ اللهِ
(2)
لَا يَدْخُلُ الْحَمَّامَ اقْتِدَاءً بِابْنِ عُمَرَ، فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَدْخُلُهَا وَيقُولُ: هِيَ مِن رَقِيقِ الْعَيْشِ.
وَهَذَا مُمْكِنٌ فِي أرْضٍ يَسْتَغْنِي أهْلُهَا عَن الْحَمَّامِ، كَمَا يُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ عَن الْفِرَاءِ وَالْحَشَايَا فِي مِثْل تِلْكَ الْبِلَادِ.
وَالْكَلَامُ فِي فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي تَفْصِيلِ حُكْمِ مَا ذُكِرَ مِن بِنَائِهَا وَبَيْعِهَا وَإِجَارَتهَا.
= الثالثة: أنْ يجهلَ هل هو مَنيٌّ أم لا؟ فإن وُجِدَ ما يُحَالُ عليه الحُكْم بِكَوْنِهِ منيًّا، أو مذيًّا أُحِيلَ الحكم عليه، واِنْ لم يوجد فالأصل الطَّهارة، وعدم وجوب الغُسْل.
وكيفيَّة إِحالةِ الحُكْمِ أنْ يُقال: إِنْ ذَكَرَ أنَّه احتلم فإننا نجعله منيًّا؛ لأنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم لما سُئِل عن المرأة تَرى في مَنَامِها ما يَرى الرَّجُلُ في مَنَامِهِ؛ هل عليها غسل؟ قال: "نعم، إِذا هي رأت الماء"، وإِنْ لم يَرَ شيئًا في منامه، وقد سبقَ نومَهُ تفكيرٌ في الجِمَاعِ جعلناه مَذيًّا؛ لأنَّه يخرج بعد التَّفَكيرِ في الجِمَاعِ دونَ إِحساس، وإِنْ لَمْ يَسبِقْه تفكير ففيه قَوْلان للعلماء:
قيل: يجبُ أن يغتسلَ احتياطًا.
وقيل: لا يجب.
وقد تعارضَ هُنا أصْلان. اهـ. الشرح الممتع (1/ 311، 335).
(1)
ولا يكرر الصب على وجهه في الوضوء؛ لأن هذا أعون على الاقتصاد وعدم الإسراف.
(2)
أي: الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
وَالْأَقْسَامُ أَرْبَعَةٌ: فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو:
أ - إمَّا أَنْ يُحْتَاجُ إلَيْهَا مِن غَيْرِ مَحْظُورٍ.
ب - أَو لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا وَلَا مَحْظُورَ.
ج - أَو يُحْتَاجُ إلَيْهَا مَعَ الْمَحْظورِ.
د - أَو يَكُونُ هُنَاكَ مَحْظُورٌ مِن غَيْرِ حَاجَةٍ.
فَأَمَّا الْأوَّلُ: فَلَا ريبَ فِي الْجَوَازِ.
فَإِنَّ نَظَافَةَ الْبَدَنِ مِن الْأَوْسَاخِ مُسْتَحَبَّةٌ؛ كَمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ
(1)
عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ اللهَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ".
وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ"
(2)
عَن أَبِي هُرَيْرَةَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "حَقّ للهِ عَلَى كُلِّ مُسْلِم أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ: يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ"، وَهَذَا فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَّمَاءِ هُوَ غُسْلٌ رَاتِبٌ مَسْنُونٌ لِلنَّظَافَةِ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ وَإِن لَمْ يَشْهَد الْجُمْعَةَ.
وَأَيْضًا: فَالْحَمَّامُ قَد يُحَلِّلُ عَنْهُ مِن الْأَبْخِرَةِ وَالْأَوْسَاخِ، ويُوجِبُ لَهُ مِن الرَّاحَةِ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى مَا أُمِرَ بِهِ مِن الْوَاجِبَاتِ والمُسْتَحَبَّاتِ، وَدُخُولُهَا حِينَئِذٍ بِهَذِهِ النِّيَّةِ يَكُونُ مِن جِنْسِ الِاسْتِعَانَةِ بِسَائِرِ مَا يَسْتَرِيحُ بِهِ كَالْمَنَامِ وَالطَّعَامِ، كَمَا قَالَ مُعَاذٌ لِأَبِي مُوسَى: إنِّي أَنَامُ وَأَقُومُ وَأَحْتَسِبُ نُوَمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي.
الْقِسْمُ الثَّانِي: إذَا خَلَتْ عَن مَحْظُورٍ
(3)
فِي الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ أَو الْحَارَّةِ، فَهُنَا لَا رَيْبَ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ بِنَاؤُهَا، وَقَد بُنِيَت الْحَمَّامَاتُ عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ فِي الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ عَلَى عَهْدِ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ وَأَقَرُّوهَا.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى الْحَاجَةِ وَالْمَحْظُورِ غَالِبًا؛ كَغَالِبِ
(1)
(2799)، وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَخَالِدُ بْنُ إِلْيَاسَ يُضَعَّفُ.
(2)
(849)، ورواه البخاري أيضًا (897).
(3)
ولا حاجة إليها.
الْحَمَّامَاتِ الَّتِي فِي الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لِأَهْلِ تِلْكَ الْأمْصَارِ مِن الْحَمَّامِ، وَلَا بُدَّ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى مَحْظُورٍ، فَهُنَا أَيْضًا لَا تُطْلَق كَرَاهَةُ بِنَائِهَا وَبَيْعِهَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"الْحَلَالُ بَيِّن وَالْحَرَامُ بَيِّن وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِن النَّاسِ، فَمَن اتَقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ، وَمَن وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ؛ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُخَالِطَهُ"
(1)
: إنَّمَا يَقْتَضِي اتِّقَاءَ الشُّبُهَاتِ الَّتِي يَشْتَبِهُ فِيهَا الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَبَهَ الْوَاجِبُ أَو الْمُسْتَحَبُّ بِالْمَحْظُورِ.
وَلِهَذَا سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَد عَن رَجُلٍ مَاتَ أَبُوة وَعَلَيْهِ دَيْن، وَلَهُ دُيُونٌ فِيهَا شُبْهَةٌ أَيَقْضِيهَا وَلَدُهُ؟ فَقَالَ: أَيَدَعُ ذِمَّةَ أَبِيهِ مَرْهُونَةً؟
وَهَذَا جَوَابٌ سَدِيدٌ؛ فَإِنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ وَاجِبٌ، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ سَبَبٌ لِلْعِقَابِ، فَلَا يُتْرَكُ لِمَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ عِقَابٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ.
وَمِن الْمَعْلُومِ أَنَّ مِن الْأَغْسَالِ مَا هُوَ وَاجِبٌ؛ كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَمِنْهَا مَا هُوَ مُؤَكَّدٌ .. وَمِنْهَا مَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ، وَهَذِهِ الْأَغْسَالُ لَا تُمْكِنُ فِي الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ إلَّا فِي حَمَّامٍ.
وَإِن اغْتَسَلَ فِي غَيْرِ حَمَّامٍ خِيفَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ أَو الْمَرَضُ.
فَلَا يَجُوزُ الِاغْتِسَالُ فِي غَيْرِ حَمَّامٍ حِينَئِذٍ.
وَلَا يَجُوزُ الِانْتِقَالُ إلَى التَّيَمُّمِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاغْتِسَالِ بِالْمَاءِ فِي الْحَمَّامِ.
الْقِسْم الرَّابعُ: أنْ تَشْتَمِلَ عَلَى الْمَحْظُورِ مَعَ إمْكَانِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا: كَمَا فِي حَمَّامَاتِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالْيَمَنِ فِي الْأَزْمَانِ الْمُتَأَخِّرَةِ، فَهَذَا مَحَلُّ نَصِّ أَحْمَد وَتَجَنُّبُ ابْنِ عُمَرَ.
(1)
رواه البخاري (52)، ومسلم (1599).
الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي دُخُولِهَا فَنَقُولُ: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى كَرَاهَةِ دُخُولِهَا أَو عَدَمِ اسْتِحْبَابِهِ بِكَوْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَدْخُلْهَا وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَكونُ حُجَّةً لَو امْتَنَعُوا مِن دُخُولِ الْحَمَّامِ، وَقَصَدُوا اجْتِنَابَهَا، أَو أَمْكَنَهُم دُخُولُهَا فَلَمْ يَدْخُلُوهَا، وَقَد عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُن فِي بِلَادِهِمْ حِينَئِذٍ حَمَّامٌ. [21/ 300 - 314]
2346 -
مَن تَرَكَ دُخُولَ الْحَمَّامِ لِعَدَمِ حَاجَتِهِ إلَيْهِ فَقَد أَحْسَنَ.
وَمَن دَخَلَهَا مَعَ كَشْفِ عَوْرَتِهِ وَالنَّظَرِ إلَى عَوْرَاتِ النَّاسِ أَو ظَلَمَ الحمامي فَهُوَ عَاصٍ مَذْمُومٌ.
وَمَن تَنَعَّمَ بِهَا لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَهُوَ مَنْقُوصٌ مَرْجُوحٌ.
وَمَن تَرَكَهَا مَعَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا حَتَّى يَكْثُرَ وَسَخُهُ وَقَمْلُهُ فَهُوَ جَاهِلٌ مَذْمُومٌ
(1)
. [21/ 341]
2347 -
يجب غسل الجمعة على من له عرق أو ريح يتأذى به غيره. [المستدرك 3/ 41]
2348 -
لا يستحب تكرار الغسل على بدنه.
ويفيض الماء على جسده ثلاثًا، وقيل: مرة واختاره الشيخ تقي الدين. [المستدرك 3/ 42]
2349 -
اختار الشيخ تقي الدين: عدم استحباب الغسل للوقوف بعرفة وطواف الوداع، والمبيت بمزدلفة ورمي الجمار.
قال في المستوعب: يستحب الغسل لدخول مكة ولو كانت حائضًا أو نفساء، وقال الشيخ تقي الدين: لا يستحب لها ذلك. [المستدرك 3/ 41]
2350 -
لَيْسَ لِلْجُنُبِ أَنْ يَلْبَثَ فِي الْمَسْجِدِ، لَكِنْ إذَا تَوَضَّأَ جَازَ لَهُ اللُّبْثُ
(1)
هذا تفصيل دقيق جدًّا، وينطبق على كل أمرٍ مُباحٍ.
فِيهِ عِنْدَ أَحْمَد وَغَيْرِهِ .. فَإِنَّ فِي "السُّنَنِ" عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ جُنُبٌ"
(1)
وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِنَهْيِهِ عَن اللُّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ؛ فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ بُيُوتُ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَن أَكْلِ الثُّومِ وَالْبَصَلِ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ:"إنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنَوْا آدَمَ"
(2)
.
وَلِهَذَا يُجَوِّزُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد لِلْجُنُبِ الْمُرُورَ فِي الْمَسْجِدِ بِخِلَافِ قِرَاءَةِ الْقرْآنِ، فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى مَنْعِهِ مِن ذَلِكَ؛ فَعُلِمَ أَنَّ مَنْعَهُ مِن الْقُرْآنِ أَعْظَمُ مِن مَنْعِهِ مِن الْمَسْجِدِ.
وَقَد تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي مَنْعِ الْكُفَّارِ مِن دُخُولِ الْمَسْجِدِ، وَالْمُسْلِمُونَ خَيْرٌ مِن الْكُفَّارِ وَلَو كَانُوا جُنُبًا .. وَقَد قَالَ اللهُ تَعَالَى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28].
فَلُبْثُ الْمُؤمِنِ الْجُنُبِ إذَا تَوَضَّأَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْلَى مَن لُبْثِ الْكافِرِ فِيهِ عِنْدَ مَن يُجَوِّزُ ذَلِكَ، وَمَن مَنَعَ الْكَافِرَ لَمْ يَجِبْ أَنْ يُمْنَعَ الْمُؤْمِنُ الْمُتَوَضِّئُ كَمَا نُقِلَ عَن الصَّحَابَةِ
(3)
.
وَإِذَا كَانَ الْجُنُبُ يَتَوَضَّأُ عِنْدَ النَّوْمِ وَالْمَلَائِكَةُ تَشْهَدُ جِنَازَتَهُ حِينَئِذٍ: عُلِمَ أَنَّ النَّوْمَ لَا يُبْطِلُ الطَّهَارَةَ الْحَاصِلَةَ بِذَلِكَ وَهُوَ تَخْفِيفُ الْجَنَابَةِ، وَحِينَئِذٍ، فَيَجُوزُ أَنْ
(1)
النسائي (4281)، وأحمد (633)، وضعَّفه الألباني في تخريج مشكاة المصابيح (441).
(2)
وهذا يدل على أن النهي عن أكل الثوم والبصل خاصٌّ بمن يصلي في المسجد، وأما من صلى وحده، أو مع جماعة وقد أكلوا جميعًا منه فلا بأس، وأما إن أكل وحده فلا يجوز؛ لأنه يؤذي المصلين.
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: الصحيح أنه لا يكره أن يصلي الانسانُ جماعةً وقد أكل بصلًا
أو ثومًا، إلا إذا كان يؤذي المصلين، فإذا كان يؤذي المصلين فلا يدخل معهم، أما المساجد فإِنه لا يحل له أن يحضر وقد أكل بصلًا أو ثومًا وبقيت رائحتهما فيه، فإن زالت الرائحة فلا بأس.
قال السائل: لوكانوا جميعهم قد أكلوا بصلًا؟
فأجاب الشيخ: لا بأس يصلون جماعة ولا حرج. اهـ. [لقاءات الباب المفتوح].
(3)
أنهم يلبثون في المسجد وهم على جنابةٍ إذا توضؤوا.
يَنَامَ فِي الْمَسْجِدِ حَيْثُ يَنَامُ غَيْرُهُ، وَإِذَا كَانَ النَّوْمُ الْكَثِيرُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فَذَاكَ هُوَ الْوُضُوءُ الَّذِي يَرْفَعُ الْحَدَثَ الْأَصْغَرَ، وَوُضُوءُ الْجُنُبِ هُوَ تَخْفِيفُ الْجَنَابَةِ
(1)
، وَإِلَّا فَهَذَا الْوُضُوءُ لَا يُبِيحُ لَهُ مَا يَمْنَعُهُ الْحَدَثُ الْأَصْغَرُ مِن الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ. [21/ 344 - 345]
2351 -
إِذَا أَمْكَنَ الْجُنُبُ الْوُضُوءَ دُونَ الْغُسْلِ فَتَوَضَّأَ وَتَيَمَّمَ عَن الْغُسْلِ جَازَ، وَإِن تَيَمَّمَ وَلَمْ يَتَوَضأْ فَفِيهِ قَوْلَانِ: قِيلَ: يَجْزِيهِ عَن الْغُسْلِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَقِيلَ: لَا يَجْزِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلِ
(2)
. [21/ 459]
2352 -
وَسُئِلَ رحمه الله: عَن التَيَمُّمِ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ جِرَاحَةٌ وَتَوَضأَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ فَهَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ عِنْدَ غَسْلِ الْيَدَيْنِ؟ أَمْ يُكْمِلُ وُضُوءَهُ إلَى آخِرِهِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَيَمَّمُ؟ وَإِنْ كَانَتْ الْجِرَاحَةُ مَشْدُودَةً: فَهَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَحِلَّ الْجِرَاح وَيغْسِلَ جَمِيعَ الصَّحِيحِ، أَمْ يَغْسِلَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَيتْرُكَ الشَّدَّ عَلَى حَالِهِ؟
فَأَجَابَ: الصَّحِيحُ أَنَّ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ التَّيَمُّمَ حَتَّى يَفْرَغَ مِن وُضُوئِهِ؛ بَل هَذَا الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَهُ إذَا قِيلَ: إنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ، فَإِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَيَمُّمٍ، وَلَكِنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا!. اهـ. [21/ 466 - 467]
2353 -
لو نوى الطهارة الكبرى فقط لا يجزي عن الصغرى، وقال الشيخ تقي الدين يرتفع أيضًا الأصغر معه. [المستدرك 3/ 42]
(1)
وهذا يُزيل إشكال كثير من الناس وهو أنه ما دام أن النوم ينقض الوضوء فلا فائدة من الوضوء للجنب؛ لأنه من حين استغراقه في النوم ينتقض وضوؤه، فجواب الشيخ رحمه الله يرفع هذا الإشكال.
(2)
قال الشيخ ابن عثيمين في الشرح الممتع: إذا وجد ماء لا يكفي إلا بعض أعضائه: فالمذهب يستعمله ويتيمم، لقوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وهذا وجد ما يغسل به بعض الأعضاء فيستعمله ويتيمم؛ لأن بقية الأعضاء لا يستطيع غسلها، وهذا أقوى الأقوال وأحوطها. الشرح الممتع (6/ 178).
2354 -
ذكر شيخنا في الجنب: (لا تدخل الملائكة عليه) إلا إذا توضَّأ. [المستدرك 3/ 43]
* * *
(بَابٌ: التَّيَمُّمُ)
(1)
2355 -
وَالتَّيَمُّمُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الْقَصْدُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى:{وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267].
لَكِنْ لَمَّا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} كَانَ التَّيَمُّمُ الْمَأمُورُ بِهِ: هُوَ تَيَمُّمَ الصَّعِيدِ الطَّيبِ لِلتَّمَسُّحِ بِهِ، فَصَارَ لَفْظُ التَّيَمُّمِ إذَا أُطْلِقَ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ انْصَرَفَ إلَى هَذَا التَّيَمُّمِ الْخَاصِّ.
وَقَد يُرَادُ بِلَفْظِ التَّيَمُّمِ: نَفْسُ مَسْحِ الْيَدَيْنِ وَالْوَجْهِ، فَسُمِّيَ الْمَقْصُودُ بِالتَّيَمُّمِ تيَمُّمًا.
وَهَذَا التَّيَمُّمُ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي الْآيَةِ هُوَ مِن خَصَائِصِ الْمُسْلِمِينَ، وَمِمَّا فَضَّلَهُم اللهُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِن الْأُمَمِ.
(1)
قال العلَّامة محمد رشيد رضا رحمه الله: أَذْكُرُ أنَّنِي عِنْدَمَا كُنْتُ أَدْرُسُ شَرْحَ الْمِنْهَاجِ فِي فِقْهِ الشَّافِعِيَّةِ قَرَأتُ بَابَ التَّيَمُّمِ فِي شَهْرَيْنِ كَامِلَيْنِ لَمْ أَتْرُكِ الدَّرْسَ فِيهِمَا لَيْلَةً وَاحِدَةً، فَهَل وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَو أحَدَ الصَّحَابَةِ تَكَلَّمَ فِي التَّيَمُّمِ يَوْمَيْنِ أَو سَاعَتَيْنِ؟
وَهَل كَانَ هَذَا التَّوَسُّعُ فِي اسْتِنْبَاطِ الْأحْكَامِ وَالشُّرُوطِ وَالْحُدُودِ سَعَةً وَرَحْمَةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أمْ عُسْرًا وَحَرَجًا عَلَيْهِم وَهُوَ مَا رَفَعَهُ اللهُ عَنْهُمْ؟ تفسير المنار (5/ 99).
وقَوْله تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ؛ كَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] .. وَهَذِهِ تُسَمَّى مُطْلَقَةً، وَهِيَ تُفِيدُ الْعُمُومَ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ أيَّ صَعِيدٍ طَيِّبٍ اتَّفَقَ.
وَالطَّيِّبُ هُوَ الطَّاهِرُ وَالتُّرَابُ الَّذِي يَنْبَعِثُ مُرَادٌ مِن النَّصِّ بِالْإِجْمَاعِ، وَفِيمَا سِوَاهُ نِزَاعٌ سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} قَد اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ عَلَى قِرَاءَةِ {أَيْدِيكُمْ} بِالْإِسْكَانِ؛ بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي الْوُضُوءِ: {وَأَرْجُلَكُمَ} فَإِنَّ بَعْضَ السَّبْعَةِ قَرَءُوا: {وَأَرْجُلَكُمْ} بِالنَّصْبِ، قَالُوا: إنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْمَغْسُولِ، تَقْدِيرُهُ: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ، كَذَلِكَ قَالَ عَلِيٌّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرُهُ مِن السَّلَفِ.
وَالْبَاءُ هُنَا لِلْإِلْصَاقِ لَيْسَتْ لِلتَّوْكِيدِ، وَلِهَذَا لَمْ يَقْرَأ الْقُرَّاءُ هُنَا {وَأَيْدِيَكُمْ} كَمَا قَرَءُوا هُنَاكَ {وَأَرْجُلَكُمْ}؛ لِأنَّهُ لَو قَالَ:(فَامْسُحُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ) أو "امْسَحُوا بِهَا) لَكَانَ يُكْتَفَى بِمُجَرَّدِ الْمَسْحِ مِن غَيْرِ إيصَالٍ لِلطَّهُورِ إلَى الرَّأْسِ
(1)
، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، فَلَمَّا كَانَت الْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِن إلْصَاقِ الْمَمْسُوحِ بِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الطَّهُورِ.
وَلِهَذَا كَانَت هَذِهِ الْبَاءُ لَا تَدُلُّ عَلَى التَّبْعِيضِ عِنْدَ أَحَدٍ مِن السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ.
وقَوْله تَعَالَى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ التُّرَابَ طَهُورٌ، كَمَا صَرَّحَتْ بِذَلِكَ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا"
(2)
.
(1)
أي: يمسح بيديه فقط، بلا ماءٍ للرأس في الوضوء، وبلا تراب للوجه واليدين في التيمم.
(2)
البخاري (328).
وَقَد اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِد الْمَاءَ فِي السَّفَرِ تَيَمَّمَ وَصَلَّى إلَى أَنْ يَجِدَ الْمَاءَ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَعَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ.
وَكَذَلِكَ تيمُّمُ الْجُنُبِ: ذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَجَمَاهِيرُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ إذَا عَدِمَ الْمَاءَ فِي السَّفَرِ إلَى أَنْ يَجِدَ الْمَاءَ، فَإِذَا وَجَدَة كَانَ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ. [21/ 346 - 351]
2356 -
تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّيَمُّمِ: هَل يَقُومُ مَقَامَ الْمَاءِ فَيَتَيَمَّمُ قَبْلَ الْوَقْتِ، كَمَا يَتَوَضأُ قَبْلَ الْوَقْتِ وَيُصَلِّي بِهِ مَا شَاءَ مِن فُرُوضٍ وَنَوَافِلَ، كَمَا يُصَلِّي بِالْمَاءِ وَلَا يَبْطُلُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ، كَمَا لَا يَبْطُلُ الْوُضُوءُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورينِ:
فَمَذْهَبُ أَبِى حَنِيفَةَ: أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ قَبْلَ الْوَقْتِ وَيبْقَى بَعْدَ الْوَقْتِ وَيُصَلِّي بِهِ مَا شَاءَ كَالْمَاءِ.
وَالْقَوْلُ الثَّاني: أَنَّهُ لَا يَتَيَمَّمُ قَبْلَ الْوَقْتِ وَلَا يَبْقَى بَعْدَ خُرُوجِهِ.
وَلَنَا أَنَّهُ قَد ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: أَنَّ التُّرَابَ طَهُورٌ كَمَا أَنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ.
وَقَد قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَلَو لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ
سِنِينَ فَإِذَا وَجَدْت الْمَاءَ فأمسه بَشَرَتَك فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ"
(1)
، فَجَعَلَهُ مُطَهِّرًا عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ مُطْلَقًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُطَهِّرٌ لِلْمُتَيَمِّمِ، وَإِذَا كَانَ قَد جَعَلَ الْمُتَيَمِّمَ مُطَهَّرًا كَمَا أَنَّ الْمُتَوَضِّئَ مُطَهَّرٌ، وَلَمْ يُقَيِّدْ ذَلِكَ بِوَقْت، وَلَمْ يَقُلْ: إنَّ خُرُوجَ الْوَقْتِ يُبْطِلُهُ، كَمَا ذَكَرَ أَنَّهُ يُبْطِلُهُ الْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، وَهُوَ مُوجَبُ الْأُصُولِ، فَإِنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ عَن الْمَاءِ، وَالْبَدَلُ يَقومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ فِي أَحْكَامِهِ، وَإِن لَمْ يَكُن مُمَاثِلًا لَهُ فِي صِفَتِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْوُضُوءُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَالتَّيَمُّمُ لَا يَرْفَعُهُ؟
قِيلَ: عَن هَذَا جَوَابَانِ:
(1)
الترمذي (124)، والنسائي (322)، وصحَّحه الألباني في صحيح الترمذي (124).
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سَوَاءٌ كَانَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ أَو لَا يَرْفَعُهُ فَإِنَّ الشَّارعَ جَعَلَهُ طَهُورًا عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ يَقُومُ مَقَامَهُ؛ فَالْوَاجِبُ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ مِن أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ مَا يَثْبُتُ لِلْمَاءِ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: قَوْلُ الْقَائِلِ: يَرْفَعُ الْحَدَثَ أَو لَا يَرْفَعُهُ لَيْسَ تَحْتَهُ نِزَاعٌ عَمَلِيٌّ، وَإِنَّمَا هُوَ نِزَاعٌ اعْتِبَارِيٌّ لَفْظِيٌّ.
وَحِينَئِذٍ فَيَكونُ طَهُورًا قَبْلَ الْوَقْتِ وَبَعْدَ الْوَقْتِ وَفِي الْوَقْتِ، كَمَا كَانَ الْمَاءُ طَهُورًا فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ، وَلَيْسَ بَيْنَ هَذَا فَرْق مُؤَثِّرٌ إلَّا إذَا قَدَرَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَمَن أَبْطَلَهُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ فَقَد خَالَفَ مُوجِبَ الدَّلِيلِ.
وَأَمَّا ذَوُو الْأَحْدَاثِ الدَّائِمَةِ؛ كَالْمُسْتَحَاضَةِ؛ فَأُولَئِكَ وُجِدَ فِي حَقِّهِمْ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْحَدَثِ وَهُوَ خُرُوجُ الْخَارجِ النَّجِسِ مِن السَّبِيلَيْنِ، وَلَكِنْ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ رَخَّصَ لَهُم الشَّارعُ فِي الصَّلَاةِ مَعَهُ، فَجَازَ أَنْ تَكُونَ الرُّخْصَةُ مُؤَقَّتَةً؛ وَلِهَذَا لَو تَطَهَّرَتِ الْمُسْتَحَاضَةُ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا شَيْءٌ لَمْ تَنْتَقِضْ طَهَارَتُهَا بِخُرُوجِ الْوَقْتِ، وَإِنَّمَا تَنْتَقِضُ إذَا خَرَجَ الْخَارجُ فِي الْوَقْتِ، فَإِنَّهَا تُصَلِّي بِهِ إلَى أَنْ يَخْرُجَ الْوَقْت، ثُمَّ لَا تُصَلِّي لِوُجُودِ النَّاقِضِ لِلطَّهَارَةِ، بِخِلَافِ الْمُتَيَمِّمِ فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ بَعْدَ تيَمُّمِهِ مَا يَنْقُضُ طَهَارَتَهُ.
وَالتَّيَمُّمُ كَالْوُضُوءِ، فَلَا يُبْطِلُ تَيَمُّمَهُ إلَّا مَا يُبْطِلُ الْوُضُوءَ مَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ. [21/ 352 - 362]
2357 -
وعنه: يجوز التيمم للفرض قبل وقته؛ فالنفل المعين أولى، واختاره الشيخ تقي الدين.
ويلزمه قبول الماء قرضًا، وكذا ثمنه، والمراد: وله ما يوفيه، وقاله شيخنا. [المستدرك 3/ 43]
2358 -
أَصَحُّ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ: أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ لِكُلِّ مَا يَخَافُ فَوْتَهُ؛ كَالْجِنَازَةِ، وَصَلَاةِ الْعِيدِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يَخَافُ فَوْتَهُ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ بِالتَّيَمُّمِ خَيْرٌ مِن تَفْوِيتِ
الصَّلَاةِ، كَمَا أَنَّ صَلَاةَ التَّطَوُّعِ بِالتَّيَمُّمِ خَيْرٌ مِن تَفْوِيتِهِ، وَلِهَذَا يَتَيَمَّمُ لِلتَّطَوُّعِ مَن كَانَ لَهُ وِرْدٌ فِي اللَّيْلِ يُصَلِّيهِ وَقَد أَصَابَتْهُ جَنَابَةٌ وَالْمَاءُ بَارِدٌ يَضُرُّهُ، فَإِذَا تَيَمَّمَ وَصَلَّى التَّطَوُّعَ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ بِالتَّيَمُّمِ كَانَ خَيْرًا مِن تَفْوِيتِ ذَلِكَ. [21/ 439]
2359 -
الصَّوَابُ: أَنَّهُ يَجُوز التَّيَمُّمُ ضَرْبَةً وَاحِدَةً لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، وَلَا يَجِبُ فِيهِ تَرْتِيبُ
(1)
؛ بَل إذَا مَسَحَ وَجْهَهُ بِبَاطِنِ رَاحَتَيْهِ أَجْزَأَ ذَلِكَ عَن الْوَجْهِ وَالرَّاحَتَيْنِ، ثُمَّ يَمْسَحُ ظُهُورَ الْكَفَّيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَمْسَحَ رَاحَتَيْهِ مَرَّتَيْنِ، وَعَلَى هَذَا دَلَّتِ السُّنَّةُ. [21/ 439 - 440]
2360 -
إِذَا لَمْ يَكُن مَعَهُ
(2)
مَا يُعْطِي الحمامِيِّ
(3)
: جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ وَيُصَلِّي بِلَا رَيْبٍ.
وَإِذَا لَمْ يَكُن مِمَن يُنْظِرُهُ الْحَمَّامَيُّ، وَلَمْ يَجِدْ مَا يَرْهَنُهُ عِنْدَهُ، وَلَمْ يَقْبَل مِنْهُ، فَهَل عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ بِالْأُجْرَةِ الْمُؤَجَّلَةِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: هُمَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ إذَا كَانَ (عَادَةُ إظْهَارِ)
(4)
الحمامي: لَهُ أنْ يَغْتَسِلَ فِي الْحَمَّامِ كَالْعَادَةِ.
وَإِن مَنْعَهُ الْحَمَّامَيُّ مِن الدُّخُولِ مِن غَيْرِ ضَرَرٍ
(5)
؛ لِبُغْضِ الحمامي وَنَحْوِ ذَلِكَ: دَخَلَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الحمامي، وَأَعْطَاهُ أُجْرَتَهُ.
(1)
قال ابن عثيمين رحمه الله: الذي يظهر أن يقال: إِن التَّرتيب واجب في الطَّهارتين جميعًا، أو غير واجب فيهما جميعًا؛ لأن الله تعالى جعل التَّيمُّم بدلًا عن الطَّهارتين جميعًا، والعضوان للطهارتين جميعًا.
وبالنَّسبة للموالاة الأوْلَى أن يُقال: إِنها واجبة في الطَّهارتين جميعًا، إِذ يبعد أن نقول لمن مَسَح وَجْهَه أوَّل الصُّبْح، ويدَيْه عند الظُّهر: إِن هذه صورة التَّيمُّم المشروعة!. اهـ. الشرح الممتع (1/ 398).
(2)
أي: مع الذي أصابته جنابةٌ.
(3)
هو القائم على الحمام، ويأخذ من الناس أجرةً على اغتسالهم فيه.
(4)
لعل صواب العبارة: عَادَته إنظار ..
(5)
مع أنه يُوَفِّيه حَقَّهُ.
وَإِن لَمْ يَكُن مَعَهُ أُجْرَةٌ فَمَنَعَهُ لِكَوْنِهِ لَمْ يُوَفِّهِ حَقَّهُ فِي الْحَالِ وَلَا هُوَ مِمَن يَعْرِفُهُ الْحَمَّامَيُّ لِيُنْظِرَهُ: فَهَذَا لَيْسَ لَهُ أنْ يَدْخُلَ إلَّا بِرضى الحمامي.
وَإِن طَابَتْ نَفْسُ الحمامي بِأَخْذِ مَاءٍ فِي الْإِنَاءِ وَلَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِأَنْ يَتَطَهَّرَ فِي دَهَالِيزِ أَبْوَابِ الْحَمَّامِ: جَازَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا تَطِيبُ بِهِ نَفْسُ الحمامي دُونَ مَا لَا تَطِيبُ إلَّا بِعِوَضِ الْمِثْلِ.
وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَ الْمَاءَ الْبَارِدَ وَالْحَارَّ وَيُعْطِيَ الحمامي أُجْرَةَ الدُّخُولِ إذَا كَانَ الْمَاءُ يُبْذَلُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ، أَو بِزِيَادَةٍ لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهَا، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ.
فَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَى ذَلِكَ لِنَفَقَتِهِ أَو نَفَقَةِ عِيَالِهِ أَو وَفَاءِ دَيْنِهِ الَّذِي يُطَالَبُ بِهِ: كَانَ صَرْفُ ذَلِكَ إلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِن نَفَقَةِ أَو قَضَاءِ دَيْنٍ مُقَدَّمًا عَلَى صَرْفِ ذَلِكَ فِي عِوَضِ الْمَاءِ؛ كَمَا لَو احْتَاجَ إلَى الْمَاءِ لِشُرْبِ نَفْسِهِ أَو دَوَابِّهِ فَإِنَّهُ يَصْرِفُهُ فِي ذَلِكَ وَيَتَيَمَّمُ.
وَإِن كَانَت الزِّيَادَةُ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْل لَا تُجْحِفُ بِمَالِهِ: فَفِي وُجُوبِ بَذْلِ الْعِوَضِ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ، وَأكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أنَّهُ لَا يَجِبُ. [21/ 444 - 445]
2361 -
إن تيمم في الحضر خوفًا من البرد وصلى ففي وجوب الإعادة روايتان، واختار الشيخ تقي الدين: لا إعادة عليه. [المستدرك 3/ 44]
2362 -
إذَا خَافَ فَوَاتَ الْجِنَازَةِ أَو الْعِيدِ أو الْجُمُعَةِ فَفِي التَّيَمُّمِ نِزَاعٌ، وَالْأَظْهَرُ أنَّهُ يُصَلِّيهَا بِالتَّيَمُّم وَلَا يُفَوِّتُهَا، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ الْوَاجِبَةِ إلَّا بِالتَّيَمُّمِ فَإِنَّهُ يُصَلِّيَهَا بِالتَّيَمُّمِ. [21/ 456]
2363 -
إِذَا تَيَمَّمَ بِالتُّرَابِ الَّذِي تَحْتَ حَصِيرِ بَيْتِهِ جَازَ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ هُنَاكَ غُبَارٌ لَاصِقٌ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَتَيَمَّمَ بِذَلِكَ التُّرَابِ اللَّاصِقِ جَازَ. [21/ 459]
2364 -
لَا يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ إلَّا مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَالْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ. [21/ 473]
2365 -
إن نوى
(1)
فرض فله فعله والجمع بين الصلاتين وقضاء الفوائت والنوافل. [المستدرك 3/ 44]
2366 -
وَسُئِلَ رحمه الله: عَن الْحَاقِنِ، أَيُّمَا أَفْضَلُ: يُصَلِّي بِوُضوءٍ مُحْتَقِنًا أَو أَنْ يُحْدِثَ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ لِعَدَمِ الْمَاءِ؟
فَأَجَابَ: صَلَاتُهُ بِالتَّيَمُّمِ بِلَا احْتِقَانٍ أَفْضَلُ مِن صَلَاتِهِ بِالْوُضُوءِ مَعَ الِاحْتِقَانِ، فَإِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ مَعَ الِاحْتِقَانِ مَكْرُوهَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَفِي صِحَّتِهَا رِوَايَتَانِ، وَأَمَّا صَلَاتُهُ بِالتَّيَمُّمِ فَصَحِيحَةٌ لَا كَرَاهَةَ فِيهَا بِالِاتِّفَاقِ. [21/ 473]
2367 -
التيمم لوقت كل صلاة إلى أن يدخل وقت الصلاة الأخرى أعدل الأقوال. [المستدرك 3/ 44]
2368 -
يجوز التيمم لمن يصلي التطوع بالليل وإن كان في البلد، ولا يؤخر ورده إلى النهار، [ويجوز لخوف فوات صلاة الجنازة، وهو رواية عن أحمد وإسحاق، وهو قول ابن عباس، ومذهب أبي حنيفة]
(2)
.
وثبت أنه عليه الصلاة والسلام تيمم لردِّ السلام، وأَلْحق به من خاف فوات العيد. [المستدرك 3/ 44 - 45]
2369 -
من أبيح له التيمم: فله أن يصلي به أول الوقت ولو علم وجود الماء آخر الوقت، وفيه أفضلية
(3)
. [الاختيارات 20]
ويستحب تأخير التيمم إلى آخر الوقت لمن يرجو وجود الماء، وقيل: التأخير أفضل إن علم وجوده فقط واختاره الشيخ تقي الدين. [الإنصاف 1/ 300، المستدرك 3/ 45]
(1)
المتيمم.
(2)
ما بين المعقوفتين من الاختيارات (20).
(3)
لعل المعنى: وفي الصلاة في آخر الوقت إذا علم وجود الماء أفضلية. وذلك ليُوافق ما نقله صاحب الإنصاف.
2370 -
لا يستحب حمل التراب معه للتيمم قاله طائفة من العلماء، خلافًا لما نُقل عن أحمد. [المستدرك 3/ 45]
* * *
(بَابٌ: إزَالَةُ النَّجَاسَةِ)
2371 -
قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِن أَصْحَابِ الشَافِعِيِّ وَأَحْمَد: تُشْتَرَطُ [أي: النية] لِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ شاذٌّ؛ فَإِنَّ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا عَمَلُ الْعَبْدِ. [18/ 258]
2372 -
الرَّاجِحُ: أَنَّ النَّجَاسَةَ مَتَى زَالَتْ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ زَالَ حُكْمُهَا، فَإِنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ بِعِلَّةٍ زَالَ بِزَوَالِهَا. [21/ 475]
2373 -
لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِن فَسَادِ الْأَمْوَالِ، كَمَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِهَا. [21/ 475]
2374 -
أَصَحُّ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ: أَنَّهُ إذَا صَلَّى بِالنَّجَاسَةِ جَاهِلًا أَو نَاسِيًا فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَلَعَ نَعْلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ لِلْأَذَى الَّذِي كَانَ فِيهِمَا وَلَمْ يَسْتَأْنِف الصَّلَاةَ. [21/ 477]
2375 -
وَأَمَّا طِينُ الشَّوَارعِ فَمَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ: وَهُوَ أَنَّ الْأرْضَ إذَا أَصَابَتْهَا نَجَاسَةٌ ثُمَّ ذَهَبَتْ بِالرِّيحِ أَو الشَّمْسِ أَو نَحْوِ ذَلِكَ: هَل تَطْهُرُ الْأرْضُ؟
وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهَا ويُتَيَمَّمُ بِهَا، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّهُ قَد ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَن ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ الْكِلَابَ كَانَت تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ وَتَبُولُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِن ذَلِكَ.
وَمِن الْمَعْلُومِ أَنَّ النَّجَاسَةَ لَو كَانَت بَاقِيَةً لَوَجَبَ غَسْلُ ذَلِكَ.
وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" مِن أَنَّهُ أَمَرَهُم أَنْ يَصُبُّوا عَلَى بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي بَالَ فِي الْمَسْجِدِ ذَنُوبًا مِن مَاءٍ؛ فَإِنَّ هَذَا يَحْصُلُ بِهِ تَعْجِيل تَطْهِيرِ
الْأَرْضِ وَهَذَا مَقْصُودٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُصَبَّ الْمَاءُ فَإِنَّ النَّجَاسَةَ تَبْقَى إلَى أَنْ تَسْتَحِيلَ. [21/ 479 - 480]
2376 -
اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ إذَا انْقَلَبَتْ بِفِعْلِ اللهِ بِدُونِ قَصْدِ صَاحِبِهَا وَصَارَتْ خَلًّا أَنَّهَا تَطْهُرُ.
وَلَهُم فِيهَا إذَا قَصَدَ التَّخْلِيلَ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا قَصَدَ تَخْلِيلَهَا لَا تَطْهُرُ بِحَالِ
(1)
، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه
(2)
، لِمَا صَحَّ مِن نَهْي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَن تَخْلِيلِهَا، وَلِأَنَّ حَبْسَهَا مَعْصِيَةٌ، وَالطَّهَارَةُ نِعْمَةٌ، وَالْمَعْصِيَةُ لَا تَكُوَنُ سَبَبًا لِلنِّعْمَةِ
(3)
.
وَتَنَازَعُوا فِيمَا إذَا صَارَتِ النَّجَاسَةُ مِلْحًا فِي الْمَلَّاحَةِ، أَو صَارَتْ رَمَادًا، أَو صَارَتِ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَالصَّدِيدُ تُرَابًا؛ كَتُرَابِ الْمَقْبَرَةِ، فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ .. وَالصَّوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ طَاهِرٌ إذَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِن أَثَرِ النَّجَاسَةِ لَا طَعْمُهَا وَلَا لَوْنُهَا وَلَا رِيحُهَا
(4)
. [21/ 481]
(1)
هذا خاصٌ بالخمر، وأما إذا قصد تطهير غيره فيجوز عند الشيخ كما سيأتي.
(2)
حيث قَالَ: "لَا تَشْرَبْ خَلَّ خَمْرٍ أُفْسِدَتْ حَتَّى يُبْدِيَ اللهُ فَسَادَهَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُطَيَّبُ الْخَلُّ".
(3)
الاستحالة اصطلاحًا: تَحوُّل العين النَّجسة بنفسها أو بواسطة.
وإذا استحالت العين النَّجسة إلى عينٍ أخرى: طهُرت، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميَّة، وابن القيِّم، وبه أفتت اللَّجنة الدَّائمة.
وأما حُكم الخَمر إذا انقلبت خلًّا بنفسها فتطهُر بالاتفاق.
وإذا خُلِّلت بعلاج (أي: بإضافة شيء إليها)، فإنَّها لا تطهُر، ولا يجوز استخدامها، وهذا مذهب الشَّافعيَّة، والحنابلة، وغيرهم، وهو اختيار شيخ الإسلام وابن القيِّم وابن عثيمين، وبه أفتت اللَّجنة الدَّائمة؛ لما ثبت عن أنسٍ رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئل عن الخَمر تُتَّخذ خلًّا؟
فقال: "لا". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وإذا خُلِّلت بنقلها، كما لو نُقلت من الظِّل إلى الشَّمس أو العكس: فجمهور أهل العلم يرون طهارتها.
وذهب الحنابلة إلى عدم طهارتها، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميَّة كما في الفتاوى (21/ 483).
(4)
وقال الشيخ: "فيما اسْتَحَالَ بِسَبَبِ كَسْبِ الْإِنْسَانِ؛ كَإِحْرَاقِ الرَّوْثِ حَتَّى يَصِيرَ رَمَادًا، وَوَضْعِ الخِنْزِيرِ فِي الْمَلَّاحَةِ حَتَّى يَصِيرَ مِلْحًا فَفِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ، وَللْقَوْلِ بِالتَّطْهِيرِ اتِّجَاهٌ وَظُهُورُ". (21/ 601)
2377 -
ثَبَتَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سُئِلَ عَن خَمْرٍ لِيَتَامَى فَأَمَرَ بِإرَاقَتِهَا، فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُم فُقَرَاءُ؟ فَقَالَ: سَيُغْنِيهِمْ اللهُ مِن فَضْلِهِ.
فَلَمَّا أَمَرَ بِإِرَاقَتِهَا وَنَهَى عَن تَخْلِيلِهَا وَجَبَتْ طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ، فَيَجِبُ أَنْ تُرَاقَ الْخَمْرَةُ وَلَا تُخَلَّلُ، هَذَا مَعَ كَوْنِهِمْ كَانُوا يَتَامَى، وَمَعَ كَوْنِ تِلْكَ الْخَمْرَةِ كَانَت مُتَّخَذَةً قَبْلَ التَّحْرِيمِ فَلَمْ يَكُونُوا عُصَاةً.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ فَأُمِرُوا بِذَلِكَ كَمَا أُمِرُوا بِكَسْرِ الْآنِيَةِ وَشَقِّ الظُّرُوفِ ليَمْتَنِعُوا عَنْهَا.
قِيلَ: هَذَا غَلَطٌ مِن وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ أَمْرَ اللهِ وَرَسُولِهِ لَا يُنْسَخُ إلَّا بِأَمْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ
(1)
، وَلَمْ يَرِدْ بَعْدَ هَذَا نَصٌّ يَنْسَخُهُ.
الثَّانِى: أنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ بَعْدَ مَوْتِهِ عَمِلُوا بِهَذَا؛ كَمَا ثَبَتَ عَن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَأَكُلُوا خَلَّ خَمْرٍ إلَّا خَمْرًا بَدَأَ اللهُ بِفَسَادِهَا وَلَا جُنَاحَ عَلَى مُسْلِمٍ أَنْ يَشْتَرِيَ مِن خَلِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ". فَهَذَا عُمَرُ يَنْهَى عَن خَلِّ الْخَمْرِ الَّتِي قَصَدَ إفْسَادَهَا، وَيَأْذَنُ فِيمَا بَدَأَ اللهُ بِإِفْسَادِهَا، ويُرَخِّصُ فِي اشْتِرَاءِ خَلِّ الْخَمْرِ مِن أهْلِ الْكِتَاب؛ لِأنَّهُم لَا يُفْسِدُونَ خَمْرَهُمْ، وَإِنَّمَا يَتَخَلَّلُ بِغَيْرِ اخْتيَارِهِمْ، وَفِي قَوْلِ عُمَرَ حُجَّةٌ عَلَى جَمِيعِ الْأَقْوَالِ.
وَلِهَذَا تَنَازَعُوا فِي خَمْرَةِ الْخِلَالِ: هَل يَجِبُ إرَاقَتُهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَب أَحْمَد وَغَيْرِهِ: أَظْهَرُهُمَا وُجُوبُ إرَاقَتِهَا كَغَيْرِهَا؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ خَمْرَةٌ مُحْتَرَمَةٌ، وَلَو كَانَ لِشَيْءٍ مِن الْخَمْرِ حُرْمَةٌ لَكَانَت لِخَمْرِ الْيَتَامَى الَّتِي اُشْتُرِيَتْ لَهُم قَبْلَ التَّحْرِيمِ.
وَإِنَّمَا وَقَعَتِ الشُّبْهَةُ فِي التَّخْلِيلِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ اعْتَقَدَ أَنَّ التَّخْلِيلَ
(1)
هذه قاعدةٌ هامّة جدًّا، وَيجب العمل بها في كل ما قيل بأنه منسوخ.
إصْلَاحٌ لَهَا كَدِبَاغِ الْجِلْدِ النَّجِسِ، وَبَعْضُهُم قَالَ: اقْتِنَاؤُهَا لَا يَجُوزُ لَا لِتَخْلِيلٍ وَلَا غَيْرِهِ، لَكِنْ إذَا صَارَتْ خَلًّا فَكَيْفَ تَكُونُ نَجِسَةً؟
وَأَمَّا أَهْلُ الْقَوْلِ الرَّاجِحِ فَقَالُوا: قَصْدُ الْمُخَلِّلِ لِتَخْلِيلِهَا هُوَ الْمُوجِبُ لِتَنْجِيسِهَا، فَإِنَّهُ قَد نُهِيَ عَن اقْتِنَائِهَا وَأُمِرَ بِإِرَاقَتِهَا فَإِذَا قَصَدَ التَّخْلِيلَ كَانَ قَد فَعَلَ مُحَرَّمًا.
وَغَايَةُ مَا يَكُونُ تَخْلِيلُهَا كَتَذْكِيَةِ الْحَيَوَانِ .. وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الْحَيَوَانُ مُحَرَّمًا قَبْلَ التَّذْكِيَةِ وَلَا يُبَاحُ إلَّا بِالتَّذْكِيَةِ. فَلَو ذَكَّاهُ تَذْكِيَةً مُحَرَّمَةً مِثْلُ أَنْ يُذَكِّيَهُ فِي غَيْرِ الْحَلْقِ وَاللَّبَّة مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، أَو لا يَقْصِدُ ذَكَاتَهُ، أو يَأْمُرُ وَثَنِيًّا أو مَجُوسِيًّا بِتَذْكِيَتِهِ وَنَحْو ذَلِكَ لَمْ يُبَحْ.
وَكَذَلِكَ الصَّيْدُ إذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ لَمْ يَصِرْ ذَكِيًّا؛ فَالْعَيْنُ الْوَاحِدَةُ تَكُونُ طَاهِرَةً حَلَالًا فِي حَالِ وتَكُونُ حَرَامًا نَجِسَةً فِي حَالٍ. [21/ 483 - 486]
2378 -
إِن الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي النَّجَاسَةِ إذَا أصَابَتِ الْأَرْضَ وَذَهَبَتْ بِالشَّمْسِ أَو الرِّيحِ أَو الِاسْتِحَالَةِ هَل تَطْهُرُ الْأرْضُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَطْهُرُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبي حَنِيفَةَ، وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشافِعِيِّ وَأَحْمَد، وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الدَّلِيلِ. [21/ 510]
2379 -
يَطْهُرُ الْجِلْدُ بَعْدَ الدِّبَاغِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، سَوَاءٌ قِيلَ: إنَّ الدِّبَاغَ كَالْحَيَاةِ، أَو قِيلَ إنَّهُ كَالذَّكَاةِ؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ مَشْهُورينِ لِلْعُلَمَاءِ، وَالسُّنَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدِّبَاغَ كَالذَّكَاةِ
(1)
. [21/ 518]
2380 -
أَمَّا مَقَاوِدُ الْخَيْلِ وَرِبَاطُهَا فَطَاهِرٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ؛ لِأَنَّ الْخَيْلَ طَاهِرَةٌ بِالِاتِّفَاقِ.
وَلَكِنَّ الْحَمِيرَ فِيهَا خِلَافٌ: هَل هِيَ طَاهِرَةٌ أَو نَجِسَةٌ، أَو مَشْكُوكٌ فِيهَا؟
(1)
الشيخ يرى أنه لا يَطهُر جِلدُ ميتةٍ بالدِّباغ إِلَّا ميتة مأكول اللَّحم، واختاره ابن العربيِّ المالكيُّ، وابن قدامة الحنبليُّ، وابن باز، وابن عثيمين، عليهم رحمة الله.
وَالصَّحِيحُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ أَنَّ شَعْرَهَا طَاهِرٌ؛ إذ قَد بَيَّنَّا أَنَّ شَعْرَ الْكَلْبِ طَاهِرٌ فَشَعْرُ الْحِمَارِ أَوْلَى.
وَإِنَّمَا الشُّبْهَةُ فِي رِيقِ الْحِمَارِ: هَل يُلْحَقُ بِرِيقِ الْكَلْبِ أَو بِرِيقِ الْخَيْلِ؟
وَأَمَّا مَقَاوِدُهَا وَبَرَاذِعُهَا فَمَحْكُومٌ بِطَهَارَتهَا، وَغَايَةُ مَا فِيهَا أَنَّهُ قَد يُصِيبُهَا بَوْلُ الدَّوَابِّ وَرَوْثُهَا، وَبَوْلُ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُم مَن يَقُولُ: هُوَ طَاهِرٌ، وَمِنْهُم مَن يُنَجِّسُهُ، وَهُم الْجُمْهُورُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ.
لَكِنْ هَل يُعْفَى عَن يَسِيرِهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.
فَإِذَا عُفِيَ عَن يَسِيرِ بَوْلِهِ وَرَوْثِهِ كَانَ مَا يُصِيبُ الْمَقَاوِدَ وَغَيْرَهَا مَعْفُوًّا عَنْهُ، وَهَذَا مَعَ تيَقُّنِ النَّجَاسَةِ.
وَأَمَّا مَعَ الشَّكِّ فَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ الطَّهَارَةُ، وَالِاحْتِيَاطُ فِي ذَلِكَ وَسْوَاسٌ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا أَصَابَهُ مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا وَيجُوزُ أَنْ يَكُونُ نَجِسًا: لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُ التَّجَنُّبُ عَلَى الصَّحِيحِ وَلَا الِاحْتِيَاطِ
(1)
؛ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه مَرَّ هُوَ وَصَاحِبٌ لَهُ بِمِيزَاب فَقَطرَ عَلَى صَاحِبِهِ مِنْهُ مَاءٌ، فَقَالَ صَاحِبُهُ: يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ مَاؤُك طَاهِرٌ أَو نَجِسٌ؟
فَقَالَ عُمَرُ: يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ لَا تُخْبِرْهُ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ عَلَيْهِ. [21/ 521]
2381 -
ثَوْبُ الْقَصَّابِ وَبَدَنُهُ مَحْكُومٌ بِطَهَارَتِهِ وَإِن كَانَ عَلَيْهِ دَسَمٌ، وَغَسْلُ الْيَدَيْنِ مِن ذَلِكَ وَسُوسَةٌ وَبِدْعَةٌ وَمَكَانُهُ مِنَ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ طَاهِرٌ. [21/ 521]
(1)
أغلق شيخ الإسلام رحمه الله بابًا من أعظم وأوسع أبواب الوسواس، الذي منه تلج وساوس الشيطان والنفس إلى الناس، فمن أَصَابَهُ مَا يحتمل أنْ يَكُونَ طَاهِرًا وَيحتمل أَنْ يَكُونُ نَجِسًا: فلا يُسْتَحَبَّ لَهُ أنْ يجتنب ما أصابه بدعوى الِاحْتِيَاطِ، بل الِاحْتِيَاطُ فِي ذَلِكَ وَسْوَاسٌ، مثال ذلك: أصابه ماء من الشارع أو من دورات المياه، أو لوّث ثوبه روثٌ، وشك هل هو روث شاةٍ أو روث حمار أو بعير، فلا يلتفت إلى هذا، ولا يلزمه غسل ما أصابه إلا على سبيل التنظف.
2382 -
سِكِّينُ الْقَصَّابِ يَذْبَحُ بِهَا وَيسْلَخُ، فَلَا تَحْتَاجُ إلَى غَسْلٍ؛ فَإِنَّ غَسْلَ السَّكَاكِينِ الَّتِي يُذْبَحُ بِهَا بِدْعَةٌ، وَكَذَلِكَ غَسْلُ السُّيُوفِ.
وَإِنَّمَا كَانَ السَّلَفُ يَمْسَحُونَ ذَلِكَ مَسْحًا؛ وَلِهَذَا جَازَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَجْسَامِ الصَّقِيلَهِ كَالسَّيْفِ وَالْمِرْآةِ إذَا أَصَابَهَا نَجَاسَةٌ أَنْ تُمْسَحَ وَلَا تُغْسَلَ، وَهَذَا فِيمَا لَا يُعْفَى عَنْهُ. [21/ 523]
2383 -
الْكَلْبُ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ طَاهِرٌ حَتَّى رِيقُهُ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكِ.
وَالثَّانِي: نَجِسٌ حَتَّى شَعْرُهُ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
وَالثَّالِثُ: شَعْرُهُ طَاهِرٌ وَرِيقُهُ نَجِسٌ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ.
فَإِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ أَو الْبَدَنَ رُطُوبَةُ شَعْرِهِ لَمْ يَنْجُسْ بِذَلِكَ، وَإِذَا وَلَغَ فِي الْمَاءِ أُرِيقَ الْمَاءُ.
وَإِن وَلَغَ فِي اللَّبَنِ وَنَحْوِهِ فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَن يَقُولُ: يُوكَلُ ذَلِكَ الطَّعَامُ؛ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، وَمِنْهُم مَن يَقُولُ: يُرَاقُ، كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد.
فَأَمَّا إنْ كَانَ اللَّبَنُ كَثيرًا فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ
(1)
. [21/ 531]
2384 -
هَل يُعْفَى عَن يَسِيرِ بَعْرِ الْفَأْرِ؟ فِي أحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ يُعْفَى عَن يَسِيرِهِ، وَهَذَا أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ. [21/ 534]
2385 -
اعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي جَمِيعِ الْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا، وَتَبَايُنِ أَوْصَافِهَا، أَنْ تَكُونَ حَلَالًا مُطْلَقًا لِلْآدَمِيِّينَ، وَأَنْ تَكُونَ طَاهِرَةً
(1)
وكذا الحكم في الماء والإناء وغيرها.
وهذه الفتوى كُررت في (21/ 616)، مع زيادات أخرى.
لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِم مُلَابَسَتُهَا وَمُبَاشَرَتُهَا وَمُمَاسَّتُهَا، وَهَذِهِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ، وَمَقَالَةٌ عَامَّةٌ، وَقَضِيَّةٌ فَاضِلَةٌ، عَظِيمَةُ الْمَنْفَعَةِ، وَاسِعَةُ الْبَرَكَةِ، يَفْزَعُ إلَيْهَا حَمَلَةُ الشَّرِيعَةِ فِيمَا لَا يُحْصَى مِنَ الْأَعْمَالِ وَحَوَادِثِ النَّاسِ.
وَقَد دَلَّ عَلَيْهَا أدِلَّةٌ عَشَرَةٌ -مِمَّا حَضَرَنِي ذِكْرُهُ مِنَ الشَّرِيعَةِ- وَهِيَ: كِتَابُ اللهِ، وَسُنَّةُ رَسُولِهِ، وَاتِّبَاعُ سَبيلِ الْمُومِنِينَ الْمَنْظُومَةِ فِي قَوْله تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ} [النساء: 59]، وَقَوْلِهِ:{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ} [المائدة: 55]، ثُمَّ مَسَالِكُ الْقِيَاسِ، وَالِاعْتِبَارِ، وَمَنَاهِجُ الرَّأيِ، وَالِاسْتِبْصَارِ.
الصَّنْفُ الْأوَّلُ: الْكِتَابُ .. قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] وَالْخِطَابُ لِجَمِيعِ النَّاسِ لِافْتِتَاحِ الْكَلَامِ بِقَوْلِهِ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21].
وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ: أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ جَمِيعَ مَا فِي الْأرْضِ لِلنَّاسِ مُضَافًا إلَيْهِم بِاللَّامِ، وَاللَّامُ حَرْفُ الْإِضَافَةِ، وَهِيَ تُوجِبُ اخْتِصَاصَ الْمُضَافِ بِالْمُضَافِ إلَيْهِ وَاسْتِحْقَاقَهُ إيَّاهُ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي يَصْلُحُ لَهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَعُمُّ مَوَارِدَ اسْتِعْمَالِهَا.
الصِّنْفُ الثَّانِي: السُّنَّةُ .. فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ سَعْدِ بْنِ أبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَن يَسْأَلُ عَن شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِن أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ)
(1)
. دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأشْيَاءَ لَا تَحْرُمُ إلَّا بِتَحْرِيم خَاصٍّ؛ لِقَوْلِهِ: "لَمْ يُحَرَّمْ" وَدَلَّ أَنَّ التَّحْرِيمَ قَد يَكُونُ لِأجْلِ الْمَسْأَلَةِ، فَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهَا بِدُونِ ذَلِكَ لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً، وَهُوَ الْمَقْصُودُ.
الصِّنْفُ الثَّالِثُ: اتِّبَاعُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَشَهَادَةُ شُهَدَاءِ اللهِ فِي أَرْضِهِ، الَّذِينَ هُم عُدُولُ الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ النَّاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ، الْمَعْصُومِينَ مِن
(1)
البخاري (7289)، ومسلم (2358).
اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى ضَلَالَةٍ، الْمَفْرُوضِ اتِّباعُهُمْ؛ وَذَلِكَ أَنِّي لَسْت أَعْلَمُ خِلَافَ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ السَّالِفيْنِ فِي أَنَّ مَا لَمْ يَجِئْ دَليلٌ بِتَحْرِيمِهِ فَهُوَ مُطْلَقٌ غَيْرُ مَحْجُورٍ.
إذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ فَنَقُولُ: الْأَصْلُ فِي الْأَعْيَانِ الطَّهَارَةُ.
الْقَوْلُ فِي طَهَارَةِ الْأَرْوَاثِ وَالْأبْوَالِ مِنَ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ الَّتِي لَمْ تَحْرُمْ وَعَلَى ذَلِكَ عِدَّة أَدِلَّةٍ: أَنَّ الْأَصْلَ الْجَامِعَ طَهَارَةُ جَمِيعِ الْأَعْيَانِ حَتَّى تَتَبَيَّنَ نَجَاسَتُهَا.
فَكُلُّ مَا لَمْ يُبَينْ لَنَا أَنَّهُ نَجِسٌ فَهُوَ طَاهِرٌ، وَهَذ الْأَعْيَانُ لَمْ يُبَيَّنْ لَنَا نَجَاسَتُهَا فَهِيَ طَاهِرَةٌ.
الدَّلِيلُ [على ذلك]
(1)
: الْحَدِيثُ الْمُسْتَفِيضُ أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ الصَّحِيحِ وَغَيْرُهُم حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ نَاسًا من عُكْل أَو عُرَينة قَدِمُوا الْمَدِينَةَ فَاجْتَوَوْهَا، فَأَمَرَ لَهُم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِلَقَاحٍ وَأَمَرَهُم أنْ يَشْرَبُوا مِن أَبْوَالِهَا وَألْبَانِهَا.
وَجْهُ الْحُجَّةِ: أَنَّهُ أَذِنَ لَهُم فِي شُرْبِ الْأبْوَالِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُصِيبَ أَفْوَاهَهُم وَأَيْدِيَهُم وَثيَابَهُم وَآنِيَتَهُمْ، فَإِذَا كَانَت نَجِسَةً وَجَبَ تَطْهِيرُ أَفْوَاهِهِمْ وَأَيْدِيهِمْ وَثيَابِهِم لِلصَّلَاةِ، وَتَطْهِيرُ آنِيَتِهِمْ، فَيَجِبُ بَيَانُ ذَلِكَ لَهُمْ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَن وَقْتِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ لَا يَجُوزُ، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِم إمَاطَةُ مَا أَصَابَهُم مِنْهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ نَجِسٍ.
وَلَسْت أَعْرِفُ عَن أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ الْقَوْلَ بِنَجَاسَتِهَا؛ بَلِ الْقَوْلُ بِطَهَارَتِهَا، إلَّا مَا ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ إنْ كَانَ أَرَادَ النَّجَاسَةَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ ابْنُ الْمُنْذِرِ -وَعَلَيْهِ اعْتِمَادُ أَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ، وَقَد ذكرَ طَهَارَة الْأَبْوَالِ عَن عَامَّةِ السَّلَفِ- ثُمَّ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْأبْوَالُ كُلُّهَا نَجَسٌ.
(1)
ما بين المعقوفتين من تصرفي.
قَالَ: وَلَا نَعْلَمُ أحَدًا قَالَ قَبْلَ الشَافِعِيِّ إنَّ أَبْوَالَ الْأنْعَامِ وأبعارها نَجَسٌ. اهـ.
وَفِي الْحَدِيثِ دِلَالَةٌ أُخْرَى فِيهَا تَنَازُعٌ: وَهُوَ أَنَّهُ أَبَاحَ لَهُم شُرْبَهَا، وَلَو كَانَت مُحَرَّمَةً نَجِسَةً لَمْ يُبحْ لَهُم شُرْبَهَا، وَلَسْت أَعْلَمُ مُخَالِفًا فِي جَوَازِ التَّدَاوِي بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ، كَمَا جَاءَتِ السُّنَّةُ، لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَخْرِيجِ مَنَاطِهِ:
فَقِيلَ: هُوَ أَنَّهَا مُبَاحَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِلتَّدَاوِي وَغَيْرِ التَّدَاوِي.
وَقِيلَ: بَل هِيَ مُحَرَّمَةٌ وَإِنَّمَا أَبَاحَهَا لِلتَّدَاوِي.
وَقِيلَ: هِيَ مَعَ ذَلِكَ نَجِسَةٌ.
وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْوَجْهِ يَحْتَاجُ إلَى رُكْنٍ آخَرَ: وَهُوَ أَنَّ التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمَاتِ النَّجِسَةِ مُحَرَّمٌ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَد أَبَاحَهَا لِلضَّرُورَةِ وَالْمُتَدَاوِي مُضْطَرٌّ فَتبَاحُ لَهُ.
قلت: أَمَّا إبَاحَتُهَا لِلضَّرُورَةِ فَحَقٌّ، وَلَيْسَ التَّدَاوِي بِضَرُورَة لِوُجُوهِ:
أَحَدُهَا: أنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمَرْضَى أَو أَكْثَرُ الْمَرْضَى يُشْفَونَ بِلَا تَدَاوٍ، لَا سِيَّمَا فِي أَهْلِ الْوَبَرِ وَالْقُرَى وَالسَّاكِنِينَ فِي نَوَاحِي الْأَرْضِ، يَشْفِيهِمُ اللهُ بِمَا خَلَقَ فِيهِمْ مِنَ الْقُوَى الْمَطْبُوعَةِ فِي أَبْدَانِهِمُ الرَّافِعَةِ لِلْمَرَضِ، وَفِيمَا يُيَسِّرُهُ لَهُم مِن نَوْعِ حَرَكَةٍ وَعَمَلٍ أَو دَعْوَةٍ مُسْتَجَابَةٍ أَو رُقْيَةٍ نَافِعَةٍ او قُوَّةٍ لِلْقَلْبِ وَحُسْنِ التَّوَكُّلِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ الْكَثِيرَةِ غَيْرِ الدَّوَاءِ.
وَأَمَّا الْأَكْلُ فَهُوَ ضَرُورِيٌّ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللهُ أَبْدَانَ الْحَيَوَانِ تَقُومُ إلَّا بِالْغِذَاءِ، فَلَو لَمْ يَكُن يَأْكُلُ لَمَاتَ، فَثبتَ بِهَذَا أَنَّ التَّدَاوِي لَيْسَ مِنَ الضَّرُورَةِ فِي شَيْءٍ.
وَثَانِيهَا: أَنَّ الْأَكْلَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَاجِبٌ، قَالَ مَسْرُوقٌ: مَن اُضْطُرَّ إلَى الْمَيْتَةِ فَلَمْ يَأْكلْ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ، وَالتَّدَاوِي غَيْرُ وَاجِبٍ، وَمَن نَازَعَ فِيهِ خَصَمَتْهُ السُّنَّةُ فِي الْمَرْأَةِ السَّوْدَاءِ الَّتِي خَيَّرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الصَّبْرِ عَلَى الْبَلَاءِ وَدُخولِ
الْجَنَّةِ، وَبَيْنَ الدُّعَاءِ بِالْعَافِيَةِ، فَاخْتَارَتِ الْبَلَاءَ وَالْجَنَّةَ، وَلَو كَانَ رَفْعُ الْمَرَضِ وَاجِبًا لَمْ يَكُن لِلتَّخْيِيرِ مَوْضِعٌ.
وَلَسْت أَعْلَمُ سَالِفًا أَوْجَبَ التداوي.
وَثَالِثُهَا: أَنَّ الدَّوَاءَ لَا يُسْتَيْقَنُ؛ بَل وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرَاضِ لَا يَظُنُّ دَفْعَهُ لِلْمَرَضِ؛ إذ لَوِ اطَّرَدَ ذَلِكَ لَمْ يَمُتْ أَحَدٌ، بِخِلَافِ دَفْعِ الطَّعَامِ لِلْمَسْغَبَةِ وَالْمُجَاعَةِ، فَإِنَّهُ مُسْتَيْقَنٌ بِحُكمِ سُنَّةِ اللهِ فِي عِبَادِهِ وَخَلْقِهِ.
وأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ" أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ الْخَمْرِ: أَيُتَدَاوَى بِهَا؟ فَقَالَ: إنَّهَا دَاءٌ وَلَيْسَتْ بِدَوَاء.
فَهَذَا نَصٌّ فِي الْمَنْعِ مِنَ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ رَدًّا عَلَى مَن أَبَاحَهُ، وَسَائِرُ الْمُحَرَّمَاتِ مِثْلُهَا قِيَاسًا.
وَقَد ذَكَرْنَا عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ عَن أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ الْقَوْلَ بِنَجَاسَتِهَا.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ عَلَى عَدَمِ النَّجَاسَةِ؛ بَل مُقْتَضَاهُ أَنَّ التَّنْجِيسَ مِنَ الْأَقْوَالِ الْمُحْدَثَةِ، فَيَكُونُ مَرْدُودًا بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى إبْطَالِ الْحَوَادِثِ، لَا سِيَّمَا مَقَالَةٌ مُحْدَثَةٌ مُخَالِفَةٌ لِمَا عَلَيْهِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأَعْيَانَ الْمَوْجُودَةَ فِي زَمَانِهِمْ وَمَكَانِهِمْ إذَا أَمْسَكُوا عَن تَحْرِيمِهَا وَتَنْجِيسِهَا -مَعَ الْحَاجَةِ إلَى بَيَانِ ذَلِكَ-: كَانَ تَحْرِيمُهَا وَتَنْجِيسُهَا مِمَن بَعْدَهُم بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَمْسِكُوا عَن بَيَانِ أَفْعَالٍ يُحْتَاجُ إلَى بَيَانِ وُجُوبِهَا لَو كَانَ ثَابِتًا، فَيَجِيءُ مَن بَعْدَهُم فَيُوجِبُهَا.
وَمَتَى قَامَ الْمُقْتَضِي لِلتَّحْرِيمِ أَو الْوُجُوبِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا وُجُوبًا وَلَا تَحْرِيمًا: كَانَ إجْمَاعًا مِنْهُم عَلَى عَدَمِ اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ مُعْتَمَدَةٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَهِيَ أَصْلٌ عَظِيمٌ يَنْبَغِي
لِلْفَقِيهِ أَنْ يَتَأمَّلَهَا وَلَا يَغْفَلُ عَن غَوْرِهَا، لَكِنْ لَا يُسَلَّمُ إلَّا بِعَدَمِ ظُهُورِ الْخِلَافِ فِي الصَّدْرِ الْأوَّلِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ مُحَقَّقٌ بَطَلَتْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ، وَالْحَقُّ أحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ. [21/ 535 - 581]
2386 -
مَنِيّ الْآدَمِيِّ فِيهِ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ نَجِسٌ كَالْبَوْلِ، فَيَجِبُ غَسْلُهُ رَطْبًا وَيابِسًا مِنَ الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ
(1)
.
وَثَانِيهَا: أَنَّهُ نَجِسٌ يُجْزِئُ فَرْكُ يَابِسِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَثَالِثُهَا: أنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ كَالْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَهُوَ الَّذِي نَصَرْنَاهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: مَا أخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَن عَائِشَةَ قَالَتْ: "كُنْت أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِن ثَوْبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَذْهَبُ فَيُصَلِّي فِيهِ"
(2)
.
فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهُ لَيْسَ كَالْبَوْلِ يَكونُ نَجِسًا نَجَاسَةً غَلِيظَةً، فَبَقِيَ أَنْ يُقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا كَالدَّمِ أَو طَاهِرًا كَالْبُصَاقِ، لَكِنَّ الثَّانِيَ أَرْجَحُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ تَطْهِيرِ الثِّيَابِ مِنَ الْأَنْجَاسِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا، فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ حَمْلِ قَلِيلِهِ فِي الصَّلَاةِ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي كَثيرِهِ؛ فَإِنَّ الْقِيَاسَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا.
ثُمَّ جَعَلَهُ اللهُ أَصْلًا لِجَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْليَائِهِ وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ وَالْإِنْسَانِ الْمُكَرَّمِ فَكَيْفَ يَكُونُ أَصْلُهُ نَجِسًا؟
ولَو جَرَى فِي مَجْرَاهُ
(3)
: فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْبَوْلَ قَبْلَ ظُهُورِهِ نَجِسٌ، كَمَا مَرَّ
(1)
مع أن الإمام مالك رحمه الله يتوسع في طهارة الطيور والحيوانات بجميع أنواعها، بل ويرى طهارة شعر وجلدِ الخنزير والكلب، وهو الذي رجحه شيخ الاسلام ابن تيمية.
بل وله قول بجواز أكل بعض السباع والطيور.
(2)
مسلم (288).
(3)
أي: لو سلّمنا أنّ المني يجري مجرى البول، فيكون قد خالط النجاسة.
تَقْرِيرُهُ فِي الدَّمِ
(1)
، وَهُوَ فِي الدَّمِ أَبْيَنُ مِنْهُ فِي الْبَوْلِ؛ لِأَنَ ذَلِكَ رُكْنٌ وَبَعْضُ وَهَذَا فَضلٌ. [21/ 587 - 602]
2387 -
آخِرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمَد: أَن الدِّبَاغَ مُطَهِّرٌ لِجُلُودِ الْمَيْتَةِ، لَكِنْ هَل يَقُومُ مَقَامَ الذَّكَاةِ أَو مَقَامَ الْحَيَاةِ، فَيُطَهِّرُ جِلْدَ الْمَأْكُولِ أَو جِلْدَ مَا كَانَ طَاهِرًا فِي الْحَيَاةِ دُونَ مَا سِوَى ذَلِكَ؟
عَلَى وَجْهَيْنِ: أصَحُّهُمَا الْأوَّلُ، فَيَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ مَا تُطَهِّرُهُ الذَّكَاةُ؛ لِنَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثٍ عَن جُلُودِ السِّبَاعِ. [21/ 609]
2388 -
مُلَابَسَةُ النَّجَاسَةِ لِلْحَاجَةِ جَائِزٌ إذَا طَهَّرَ بَدَنَهُ وَثيَابَهُ عِنْدَ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا، كَمَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ مَعَ مُبَاشَرَةِ النَّجَاسَةِ، وَلَا يُكْرَهُ ذَلِكَ عَلَى أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمَد، وَهُوَ قَوْلُ أكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: يُكْرَهُ ذَلِكَ؛ بَل يسْتَعْمَلُ الْحَجَر أَو يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا.
وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْمَاءِ أَفْضَلُ وَإِن كَانَ فِيهِ مُبَاشَرَتُهَا
(2)
. وَفِي اسْتِعْمَالِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ -إذَا لَمْ يَقُلْ بِطَهَارَتِهَا- فِي الْيَابِسَاتِ رِوَايَتَانِ: أَصَحُّهُمَا جَوَازُ ذَلِكَ، وَإِن قِيلَ: إِنَّهُ يُكْرَهُ؛ فَالْكَرَاهَةُ تَزُولُ بِالْحَاجَةِ. [21/ 609 - 610]
2389 -
النَّجَاسَةُ فِي الْمَلَّاحَةِ إذَا صَارَتْ مِلْحًا وَنَحْو ذَلِكَ هَل هِيَ نَجِسَةٌ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَينِ لِلْعُلَمَاءِ:
أَحَدُهُمَا: هِيَ نَجِسَةٌ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ مَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهَا لَا تَبْقَى نَجِسَةً، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ.
(1)
حيث قال: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الدَّمَ قَبْلَ ظُهُورِهِ وَبُرُوزِهِ يَكُونُ نَجِسًا فَلَا بُدَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى تَنْجِيسِهِ. (21/ 598)
وقد قرر الشيخ قبل ذلك أَنَّ الْمَائِعَ لا يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ القليلة، والمني أكثر بكثير من البول المتبقي في مجراه.
(2)
أي: مباشرة النجاسة.
فَإِنَّ جَمِيعَ النَّجَاسَاتِ إنَّمَا نَجُسَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ؛ كَالدَّمِ فَإِنَّهُ مُسْتَحِيلٌ عَنِ الْغِذَاءِ الطَّاهِرِ، وَكَذَلِكَ الْبَوْلُ وَالْعَذِرَةُ حَتَّى الْحَيَوَانُ النَّجِسُ مُسْتَحِيلٌ عَنِ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ وَنَحْوِهِمَا مِنَ الطَّاهِرَاتِ.
وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَبَّرَ عَن ذَلِكَ بِأَنَّ النَّجَاسَةَ طَهُرَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ، فَإِنَّ نَفْسَ النَّجِسِ لَمْ يَطْهُرْ
(1)
، لَكِنِ اسْتَحَالَ، وَهَذَا الطَّاهِرُ لَيْسَ هُوَ ذَلِكَ النَّجِسَ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِيلًا مِنْهُ وَالْمَادَّةُ وَاحِدَةٌ، كَمَا أَنَّ الْمَاءَ لَيْسَ هُوَ الزَّرْعَ وَالْهَوَاءَ وَالْحَبَّ، وَتُرَابُ الْمَقْبَرَةِ لَيْسَ هُوَ الْمَيِّتَ، وَالْإِنْسَانُ لَيْسَ هُوَ الْمَنِيَّ.
وَعَلَى هَذَا فَدُخَانُ النَّارِ الْمُوقَدَةِ بِالنَّجَاسَةِ طَاهِرٌ، وَبُخَارُ الْمَاءِ النَّجِسِ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِي السَّقْفِ طَاهِرٌ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ. [21/ 610 - 611]
2390 -
الْقَوْلُ الرَّاجِحُ: طَهَارَةُ الشُّعُورِ كُلِّهَا: شَعْرُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَغَيْرِهمَا، بِخِلَافِ الرِّيقِ.
وَعَلَى هَذَا: فَإِذَا كَانَ شعْرُ الْكَلْب رَطْبًا وَأَصَابَ ثَوْبَ الْإِنْسَانِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَعْيَانِ الطَّهَارَةُ، فَلَا يَجُوزُ تَنْجِيسُ شَيْءٍ وَلَا تَحْرِيمُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "طَهُورُ إنَاءِ أَحَدِكمْ إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعًا أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ"
(2)
.
فَأَحَادِيثُهُ كُلُّهَا لَيْسَ فِيهَا إلَّا ذِكْرُ الْوُلُوغِ، لَمْ يَذْكُرْ سَائِرَ الْأَجْزَاءِ، فَتَنْجِيسُهَا إنَّمَا هُوَ بِالْقِيَاسِ.
وَالشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُهُم يَقُولُونَ: إنَّ الزَّرْعَ النَّابِتَ فِي الْأَرْضِ النَّجِسَةِ طَاهِرٌ، فَغَايَةُ شَعْرِ الْكَلْبِ أَنْ يَكُونَ نَابِتًا فِي مَنْبَتٍ نَجِسٍ كَالزَّرْعِ النَّابِتِ فِي الْأَرْضِ النَّجِسَةِ، فَإِذَا كَانَ الزَّرْعُ طَاهِرًا فَالشَّعْرُ أَوْلَى بِالطَّهَارَةِ.
(1)
هذه معلومة دقيقة مهمة.
(2)
البخاري (172)، ومسلم (279).
وَأَيْضًا: فَإِنَّ لُعَابَ الْكَلْبِ إذَا أَصَابَ الصَّيْدَ لَمْ يَجِبْ غَسْلُهُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا بِغَسْلِ ذَلِكَ، فَقَد عفى عَن لُعَابِ الْكَلْبِ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ، وَأَمَرَ بِغَسْلِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْحَاجَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّارعَ رَاعَى مَصْلَحَةَ الْخَلْقِ وَحَاجَتَهُمْ.
وَأمَّا سُؤْرُ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يُجَوِّزُونَ التَّوَضُّؤَ بِهِ؛ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. [21/ 617 - 620]
2391 -
الأظهر أنَّ شعر الكلب طاهر؛ لأنه لم يثبت فيه
(1)
دليل شرعي. [المستدرك 3/ 46]
2392 -
في سائر النجاسات
(2)
ثلاث روايات إحداهن: يجب غسلها سبعًا، والثانية: يجب غسلها ثلاثًا، والثالثة: تكاثر بالماء من غير عدد اختارها، والشيخ تقي الدين.
وهل يقوم الإشنان ونحوه مقام التراب؟ فيه وجهان: أحدهما يجزئ ذلك ويقوم مقام التراب وهو الصحيح، قال الشيخ تقي الدين في "شرح العمدة": هذا أقوى الوجوه. [المستدرك 3/ 46]
2393 -
وإذا تنجس أسفل خف وحذاء بالمشي .. وقيل كذا الرجل ذكره شيخنا واختاره، وذيل المرأة قيل كذلك، وقيل: يغسل، ونقل إسماعيل بن سعيد يطهر بمروره على طاهر يزيلها اختاره شيخنا ومال إليه.
ولا يجوز إزالة نجاسة إلا بماء طهور .. وعنه: بكل مائع طاهر مزيل كخل اختاره ابن عقيل وشيخنا، قال: ويحرم استعمال طعام أو شراب في إزالتها. [المستدرك 3/ 46]
2394 -
إذا تنجس ما يضره الغسل كثياب حرير والورق وغير ذلك: أجزأ
(1)
أي: في نجاستِه.
(2)
عدا نجاسة الكلب.
مسحه في أظهر قولي العلماء، وأصله: الخلاف في إزالة النجاسة بغير الماء.
ويجزيه استعمالُ الطعام والشراب في إزالة النجاسة، لا إفساد الماء المحتاج إليه. [المستدرك 3/ 47]
2395 -
وَسُئِلَ: عَمَّا إذَا بَالَ الْفَأْرُ فِي الْفِرَاشِ هَل يُصَلَّى فِيهِ؟
فَأَجَابَ: غَسْلُهُ أَحْوَطُ، وَيُعْفَى عَن يَسِيرِهِ فِي أَحَدِ قَوْفَي الْعُلَمَاءِ. [21/ 622]
2396 -
رِيش الْقُنْفُذِ طَاهِرٌ وَإِن وُجِدَ بَعْدَ مَوْتِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. [21/ 622]
* * *
(حكم تراب الشارع
؟)
2397 -
إن ظنَّت نجاسة طين شارع وقلنا بنجاسته فهل يعفى عن يسيره أم لا؟ يعفى عن يسيره واختاره شيخنا تقي الدين.
قال الشيخ تقي الدين: لو تحققت نجاسة طين الشوارع عفي عن يسيره لمشقة التحرز منه ذكره بعض أصحابنا واختاره.
وقطع ابن تميم وابن حمدان أن تراب الشارع طاهر، واختاره الشيخ تقي الدين، وقال: هو أصح القولين. [المستدرك 3/ 47 - 48]
* * *
(حكم قيءِ
(1)
الصبي ولعابه)
2398 -
قال ابن القيم رحمه الله: هذه المسألة مما تعم بها البلوى، وقد علم الشارع أن الطفل يقيء كثيرًا، ولا يمكن غسل فمه، ولا يزال ريقه ولعابه يسيل على من يربيه، ولم يأمر الشارع بغسل الثياب من ذلك، ولا منع من الصلاة
(1)
في الأصل: (ريق)، وعلى هذا يكون قوله: ولعابه مكررًا، ولعل الصواب المثبت، والتأسيس مقدم على التأكيد، والشيخ قد تحدث عن القيء.
فيها، ولا أمر بالتحرز من ريق الطفل، فقالت طائفة من الفقهاء: هذا من النجاسة التي يعفى عنها للمشقة والحاجة كطين الشوارع والنجاسة بعد الاستجمار ونجاسة أسفل الخف والحذاء بعد دلكهما بالأرض.
قال شيخنا وغيره من الأصحاب: بل ريق الطفل يطهر فمه
(1)
للحاجة كما كان ريق الهرة مطهرًا لفمها. [المستدرك 3/ 48]
* * *
فصل (حكم نجاسة المذي
؟)
2399 -
قال ابن القيم رحمه الله: ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم عن المذي فأمر بالوضوء منه فقال: كيف ترى بما أصاب ثوبي منه؟ قال: "تأخذ كفًّا من ماء فتنضح به حيث ترى أنه أصابه"
(2)
. رواه أحمد والترمذي والنسائي، فجوَّز نضح ما أصابه المذي، كما أمر بنضح بول الغلام.
قال شيخنا: وهذا هو الصواب؛ لأن هذه نجاسة يشق الاحتراز منها لكثرة ما يصيب ثوب الشاب العزب، فهي أولى بالتخفيف من بول الغلام ومن أسفل الخف والحذاء.
ولا يجب غسل الثوب والبدن من المذي والقيح والصديد ولم يقم دليل على نجاسته، وحكى أبو البركات عن بعض أهل العلم طهارته.
والأقوى في المذي أنه يجزي فيه النضح وهو إحدى الروايتين عن أحمد. [المستدرك 3/ 49]
* * *
(1)
الذي يحتوي على قيئِه. فريقه يُطهر قيئَه.
(2)
رواه أبو داود (210)، والترمذي (115)، وأحمد (15973)، وحسَّنه الألباني في صحيح أبي داود.
(حكم ريق الهرة والبهائم
؟)
2400 -
إذا أكلت الهرة فأرة ونحوها فإذا طال الفصل طهر فمها بريقها لأجل الحاجة، وهذا أقوى الأقوال، واختاره طائفة من أصحاب أحمد وأبي حنيفة، وكذلك أفواه الأطفال والبهائم. [المستدرك 3/ 49 - 50]
* * *
فصل
2401 -
قال الْقَاضِي: فَأَمَّا الدَّمُ الذي يَبْقَى في خَلَلِ اللَّحْمِ بَعْدَ الذَّبْحِ وما يَبْقَى في الْعُرُوقِ فَمُبَاحٌ، قال في الْفُرُوعِ: ولم يذكر جَمَاعَةٌ إلَّا دَمَ الْعُرُوقِ، وقال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فيه: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا في الْعَفْوِ عنه، وَأَنَّهُ لَا يُنَجِّسُ الْمَرَقَ بَل يُؤْكَلُ مَعَهَا. [الإنصاف 1/ 327]
2402 -
وعنه في الطير: لا يعجبني عرقه إن أكل الجيف، فدل أنه كرهه لأكله النجاسة فقط، ذكره شيخنا ومال إليه، ولا فرق في الكراهة بين جوارح الطير وغيرها، وسواء كان يأكل الجيف أو لا. [المستدرك 3/ 50]
2403 -
لا ينجس الآدمي بالموت. [المستدرك 3/ 50]
2404 -
روث دود القز طاهر عند أكثر العلماء، ودود الجروح. [المستدرك 3/ 50]
2405 -
ويجوز الانتفاع بالنجاسات سواء في ذلك شحم الميتة وغيره، وهو قول الشافعي، وأومأ إليه أحمد في رواية ابن منصور. [المستدرك 3/ 50]
* * *
(بَابٌ: الْحَيْضُ)
2406 -
الَّذِينَ يَقُولُونَ: أَكْثَرُ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ كَمَا يَقُولُهُ: الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد، وَيَقُولُونَ: أَقَلُّهُ يَوْمٌ كَمَا يَقُولُهُ: الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد، أَوَ لَا حَدَّ لَهُ؛ كَمَا يَقُولُهُ مَالِكٌ: فَهُم يَقُولُونَ: لَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَن أَصْحَابِهِ فِي هَذَا
شَيْءٌ، وَالْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعَادَةِ كَمَا قُلْنَا
(1)
. [21/ 623]
2407 -
وَطْءُ النُّفَسَاءِ كَوَطْءِ الْحَائِضِ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ.
لَكِنْ لَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ مِنَ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ بِمَا فَوْقَ الْإِزَارِ. [21/ 624]
2408 -
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] قَالَ مُجَاهِدٌ: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} ؛ يَعْنِي: يَنْقَطِعُ الدَّمُ، {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ}: اغْتَسَلْنَ بِالْمَاءِ.
وَهُوَ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ.
وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللهُ غَايَتَيْنِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} غَايَةُ التَّحْرِيمِ الْحَاصلُ بِالْحَيْضِ
(2)
، وَهُوَ تَحْرِيمٌ لَا يَزُولُ بِالِاغْتِسَالِ وَلَا غَيْرِهِ
(3)
، فَهَذَا التَّحْرِيمُ يَزُولُ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ، ثُمَّ يَبْقَى الْوَطْءُ بَعْدَ ذَلِكَ جَائِزًا بِشَرْطِ الِاغْتِسَالِ، لَا يَبْقَى مُحَرَّمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ فَلِهَذَا قَالَ:{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} . [21/ 625]
2409 -
يحرم وطء الحائض، فإن وطئ في الفرج فعليه دينار أو نصفه كفارة، واعتبر شيخنا كونه مضروبًا. [المستدرك 3/ 51]
2410 -
وَطْؤُهَا [أي: النفساء] قَبْلَ أَنْ يَنْقَطِعَ الدَّمُ: حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ.
وَإِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ بِدُونِ الْأَرْبَعِينَ فَعَلَيْهَا أَنْ تَغْتَسِلَ وَتُصَلِّيَ، لَكِنْ يَنْبَغِي لِزَوْجِهَا أَنْ لَا يَقْرَبَهَا إلَى تَمَامِ الْأَرْبَعِينَ.
وَأَمَّا قِرَاءَتُهَا الْقُرْآنَ فَإِنْ لَمْ تَخَفِ النِّسْيَانَ فَلَا تَقْرَؤُهُ، وَأَمَّا إذَا خَافَتِ النِّسْيَانَ فَإِنَّهَا تَقْرَؤُهُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ.
(1)
لأن تحديد أقله وأكثره تحكّم، فيُترك للعادة، والعادة تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص.
(2)
أي: أنّ جماعهن حرام عليكم حتى يطهرن من الحيض.
(3)
فلو اغتسلت وهي حائض فلا تحل له.
وَإذَا انْقَطَعَ الدَّمُ وَاغْتَسَلَتْ قَرَأَتْ الْقُرْآنَ وَصَلَّتْ بِالِاتِّفَاقِ.
فَإِنْ تَعَذَرَ اغْتِسَالُهَا لِعَدَمِ الْمَاءِ أو لِخَوْفِ ضَرَرٍ لِمَرَضِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهَا تَتَيَمَّمُ وَتَفْعَلُ بِالتَّيَمُّمِ مَا تَفْعَلُ بِالِاغْتِسَالِ. [21/ 636]
2411 -
فِي "الصَّحِيحَيْن": عَن عَائِشَةَ رضي الله عنها "أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حبيش سَأَلَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إنِّي أُسْتَحَاضُ فَلَا أطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ: إنَّ ذَلِكَ عِرْقٌ، وَلَكِنْ دَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الأَيَّامِ الَّتِي كُنْت تَحِيضِينَ فِيهَا ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي"
(1)
، وَفِي رِوَايَةٍ:"وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلَاةَ، فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلى عَنْك الدَّمَ وَصلِّي"
(2)
.
وعَن عَائِشَةَ أَيْضًا رضي الله عنها: "أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ اُسْتُحِيضَتْ سَبْعَ سِنِينَ فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَن ذَلِكَ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ، فَقَالَ: "هَذَا عِرْقٌ" فَكَانَت تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ"
(3)
.
لَيْسَ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ نَاسِخًا لِلْآخَرِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا؛ فَإِنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ: فِيمَن كَانَت لَهَا عَادَةٌ تَعْلَمُ قَدْرَهَا، فَإِذَا اُسْتحِيضَتْ قَعَدَتْ قَدْرَ الْعَادَةِ، وَلِهَذَا قَالَ:"فَدَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَهَا الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْت تَحِيضِينَ فِيهَا"، وَقَالَ:"إذَا أَقبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي عَنْك الدَّمَ وَصَلِّي"، وَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَخَذَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ الْمُعْتَادَةِ: أَنَّهَا تَرْجِعُ إلَى عَادَتِهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَالْإِمَامِ أحْمَد.
لَكِنَّهُم مُتَنَازِعُونَ: لَو كَانَت مُمَيِّزَةً: تُمَيِّزُ الدَّم الْأَسْوَدِ مِنَ الْأَحْمَرِ: فَهَل
(1)
البخاري (325) واللفظ له، ومسلم (333).
(2)
البخارى (306) واللفظ له، ومسلم (333).
(3)
البخاري (327) واللفظ له، ومسلم (334).
قال الزركشي في النكت (ص 56): غسلها لكل صلاة لم يقع بأمره صلى الله عليه وسلم كما بيّن في رواية مسلم (443)، ولفظه:"فأمرها أن تغتسل، فكانت تغتسل لكل صلاة"، وكذا ذكره الحميدي في جمعه.
تُقَدِّمُ التَّمْيِيزَ عَلَى الْعَادَةِ، أَمْ الْعَادَةُ عَلَى التَّمْيِيزِ؟ فَمِنْهُم مَن يُقَدِّمُ التَّمْيِيزَ عَلَى الْعَادَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.
وَالثَّانِي: فِي أَنَّهَا تُقَدِّمُ الْعَادَةَ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ وهو مذهب أبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.
وَأمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي: فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَلَكِنْ أَمَرَهَا بِالْغُسْلِ مُطْلَقًا، فَكَانَت هِيَ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ.
وَالْغُسْلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ مُسْتَحَبٌّ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ إذَا قَعَدَتْ أَيَّامًا مَعْلُومَةً هِيَ ايَّامُ الْحَيْضِ ثُمَّ اغْتَسَلَتْ كَمَا تَغْتَسِلُ مَنِ انْقَطَعَ حَيْضُهَا ثُمَّ صَلَّتْ وَصَامَتْ فِي هَذِهِ الِاسْتِحَاضَةِ؛ بَلِ الْوَاجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَتَوَضَّأَ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد، وَأَمَّا مَالِكٌ فَعِنْدَهُ لَيْسَ عَلَيْهَا وُضُوءٌ وَلَا غُسْلٌ؛ فَإِنَّ دَمَ الِاسْتِحَاضَةِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ عِنْدَهُ لَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ مِنَ النَّادِرَاتِ
(1)
.
(1)
ومثله الإفرازات التي تخرج من غالب النساء، فلا تنقض الطهارة عنده، وهل هي طاهرة أم نجسة؟ الراجح عند العلماء أنها طاهرة، ولكنها تنقض الطهارة إلا عند الإمام مالك، ومذهبه فيه تيسير عظيم على النساء.
قالَ ابن عبد البر رحمه الله: والوضوء عليها عند مالك على الاستحباب دونَ الوجوب، قالَ: وقد احتج بعض أصحابنا على سقوط الوضوء بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا ذهب قدرها فاغتسلي وصلي"، ولم يذكر وضوءًا.
قالَ: وممن قالَ بأن الوضوء على المستحاضة غير واجب: ربيعة، وعكرمة، ومالك، وأيوب، وطائفة.
قالَ: وأما الأحاديث المرفوعة في الغسل لكل صلاة، فكلها مضطربة، لا تجب بمثلها حجة ..
وقال: إِذَا أحْدَثَتِ الْمُسْتَحَاضَةُ حَدَثًا مَعْرُوفًا مُعْتَادًا لَزِمَهَا لَهُ الْوُضُوءُ، وَأمَّا دَمُ اسْتِحَاضَتِهَا فَلَا يُوجِبُ وُضُوءًا؛ لِأَنَّهُ كَدَمِ الْجُرْحِ السَّائِلِ، وَكَيفَ يَجِبُ مِن أجْلِهِ وُضُوءٌ وَهُوَ لَا يَنْقَطِعُ؟ وَمَن كَانَت هَذِهِ حَالُهُ مِن سَلَسِ الْبَوْلِ وَالْمَذيِ وَالِاسْتِحَاضَةِ لَا يَرْفَعُ بِوُضُوئِهِ حَدَثًا؛ لِأنَّهُ لَا يُتِمُّهُ إِلَّا وَقَد حَصَلَ ذَلِكَ الْحَدَثُ فِي الْأَغْلَبِ، وَإِلَى هَذَا الْمَذهَبِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَأصْحَابُهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ حديث هشام بن عُرْوَةَ هَذَا فِي قِصَّةِ فَاطِمَةَ بِنْتِ أبِي حُبَيْش، إلَّا أَنَّ عُرْوَةَ كَانَ يُفْتِي =
وَقَد احْتَجَّ الْأَكْثَرُونَ بِمَا فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الْمُسْتَحَاضَةَ أَنْ تتَوَضَّأَ لِكُلِّ صَلَاةٍ"
(1)
.
وَهَذِهِ الْمُسْتَحَاضَةُ الثَّانِيَةُ لَمْ تَكُنْ مُبْتَدَأَةً، وَإِن كَانَ ذَلِكَ قَد ظَنَّهُ بَعْضُ النَّاسِ، فَإِنَّهَا كَانَت عَجُوزًا كَبِيرَةً، وَإِنَّمَا حَمَلُوا أَمْرَهَا عَلَى أَنَّهَا كَانَت نَاسِيَةً لِعَادَتِهَا، وَفِي "السُّنَنِ": أَنَّهَا أُمِرَتْ أَنْ تَحِيضَ سِتًّا أَو سَبْعًا.
وَبِهَذَا احْتَجَّ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ الْمُتَمَيِّزَةَ تَجْلِسُ سِتًّا أَو سَبْعًا وَهُوَ غَالِبُ الْحَيْضِ. [21/ 627 - 630]
2412 -
فِي الْمُسْتَحَاضَةِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثلَاثُ سُنَنٍ:
أ - سُنَّةٌ فِي الْعَادَةِ كَمَا تَقَدَّمَ
(2)
؛ فَإِنَّ الْعَادَةَ أَقْوَى الْعَلَامَاتِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مُقَامُ الْحَيْضِ دُونَ غَيْرِهِ.
ب - وَسُنَّةٌ فِي الْمُمَيِّزَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:"دَمُ الْحَيْضِ أَسْوَدُ يُعْرَفُ"؛ لِأَنَّهُ الدَّمُ الْأَسْوَدُ، وَالثَّخِينُ الْمُنْتِنُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ حَيْضًا مِنَ الأَحْمَرِ.
ج - وَسُنَّةٌ فِي غَالِبِ الْحَيْضِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:"تَحَيَّضِي سِتًّا أَو سَبْعًا، ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي ثَلَاًثًا وَعِشْرِينَ أَو أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ كمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ، وَيَطْهُرْنَ لِمِيقَاتِ حَيْضِهِنَّ وَطُهْرِهِنَّ".
لِأَنَّ الْأَصْلَ إلْحَاقُ الْفَرْدِ بِالْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ.
= بِأَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ على الاستحباب لا على الْإيجَابِ. اهـ. يُنظر التمهيد (22/ 109).
قال ابن رجب: وأحاديث الأمر بالغسل لكل صلاة كلها معلولة.
وإنما المراد هنا: أحاديث الوضوء لكل صلاة، وقد رويت مِن وجوه متعددة، وهي مضطربة -أيضًا- ومعللة. اهـ. فتح الباري (2/ 104).
(1)
صحَّحه الألباني في صحيح أبي داود (299).
(2)
وهو قولُه لفَاطِمَةَ بِنْت أَبِي حبيش: "دَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْت تَحِيضِينَ فِيهَا ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي".
فَهَذِهِ الْعَلَامَاتُ الثَّلَاثُ تَدُل عَلَيْهَا السُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ.
وَالْعُلَمَاءُ لَهُم فِي الِاسْتِحَاضَةِ نِزَاعٌ فَإِنَّ أَمْرَهَا مُشْكِلٌ لِاشْتِبَاهِ دَمِ الْحَيْضِ بِدَمِ الِاسْتِحَاضَةِ .. وَأَصْوَبُ الْأَقْوَالِ اعْتِبَارُ الْعَلَامَاتِ الَّتِي جَاءَت بِهَا السُّنَّةُ وَإِلْغَاءُ مَا سِوَى ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْمُتَحَيِّرَة
(1)
: فَتَجْلِسُ غَالِبَ الْحَيْضِ كَمَا جَاءَت بِهِ السُّنَّةُ، وَمَن لَمْ يَجْعَلْ لَهَا دَمًا مَحْكُومًا بِأَنَّهُ حَيْضٌ بَل أَمَرَهَا بِالِاحْتِيَاطِ مُطْلَقًا فَقَد كَلَّفَهَا أَمْرًا عَظِيمًا لَا تَأْتِي الشَّرِيعَةُ بِمِثْلِهِ، وَفِيهِ تَبْغِيضُ عِبَادَةِ اللهِ إلَى أَهْلِ دِينِ اللهِ، وَقَد رَفَعَ اللهُ الْحَرَجَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مِن أَضْعَفِ الْأَقْوَالِ جِدًّا.
وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الدَّمَ بِاعْتِبَارِ حُكمِهِ لَا يَخْرُجُ عَن خَمْسَةِ أَقْسَامٍ:
أ - دَمٌ مَقْطُوعٌ بِأَنَّهُ حَيْضٌ؛ كَالدَّمِ الْمُعْتَادِ الَّذِي لَا اسْتِحَاضَةَ مَعَهُ.
ب - وَدَمٌ مَقْظوعٌ بِأَنَّهُ اسْتِحَاضَةٌ؛ كَدَمِ الصَّغِيرَةِ.
ج - وَدَمٌ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ لَكِنَّ الْأَظْهَرَ أنَّهُ حَيْضٌ، وَهُوَ دَمُ الْمُعْتَادَةِ وَالْمُمَيِّزَةِ وَنَحْوِهِمَا مِنَ المستحاضات الَّذِي يُحْكَمُ بِأَنَّهُ حَيْضٌ.
د - وَدَمٌ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ دَمُ فَسَادٍ، وَهُوَ الدَّمُ الَّذِي يُحْكمُ بِأَنَّهُ اسْتِحَاضَةٌ مِن دِمَاءِ هَؤُلَاءِ.
هـ - وَدَمٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ لَا يَتَرَجَّحُ فِيهِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ، فَهَذَا يَقُولُ بِهِ طَائِفَةٌ مِن أَصْحَابِ الشَافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا فَيُوجِبُونَ عَلَى مَن أَصَابَهَا أَنْ تَصُومَ وَتُصَلِّيَ ثُمَّ تَقْضِي الصَّوْمَ، وَالصَّوَابُ: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ بَاطِلٌ؛ لِوُجُوهٍ:
(1)
في الأصل: (الْمُتَمَيِّزَةُ)، وهكذا في النسخ التي وقفت عليها، وهو خطأ بلا شك، والمثبت هو الصواب، ولذلك صححت في طبعة مجمع الملك فهد.
والمتحيرة: هي التي تكون ناسية لوقت حيضها، وعدد أيام حيضها، فالحكم في هذه الحالة أنها تجلس عادة نسائها كأمها وأختها وعمتها وخالتها، فإن كانت تعرف شهرها جلست ذلك منه؛ لأنه عادتها فترد إليه كما ترد المعتادة إلى عادتها. وإن لم تعرف شهرها جلست من الشهر المعتاد.
أَحَدُهَا: أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]؛ فَاللهُ تَعَالَى قَد بَيَّنَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ وَغَيْرِهَا مَا تَتَّقِيهِ مِن الصَّلَاةِ وَالصّيَامِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ، فَكَيْفَ "يُقَالُ: إنَّ الشَّرِيعَةَ فِيهَا شَكٌّ مُسْتَمِرٌ يَحْكُمُ بِهِ الرَّسُولُ وَأُمَّتُهُ.
نَعَمْ: قَد يَكُونُ شَكٌّ خَاصٌّ بِبَعْضِ النَّاسِ، كَاَلَّذِي يَشُكُّ هَل أَحْدَثَ أَمْ لَا؟ كَالشُّبُهَاتِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِن النَّاسِ، فَأَمَّا شَكُّ وَشُبْهَةٌ تَكُونُ فِي نَفْسِ الشَّرِيعَةِ فَهَذَا بَاطِلٌ.
وَاَلَّذِينَ يَجْعَلُونَ هَذَا دَمَ شَكٍّ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ حُكمَ الشَّرْعِ، لَا يَقُولُونَ: نَحْنُ شَكَكْنَا؛ فَإِنَّ الشَّاكَّ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ فَلَا يَجْزِمُ، وَهَؤُلَاءِ يَجْزِمُونَ بِوُجُوبِ الصِّيَامِ وَإِعَادَتِهِ لِشَكِّهِمْ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّرِيعَةَ لَيْسَ فِيهَا إيجَابُ الصَّلَاةِ مَرَّتَيْنِ، وَلَا الصِّيَام مَرَّتَيْنِ إلا بِتَفْرِيطٍ مِنَ الْعَبْدِ.
فَأَمَّا مَعَ عَدَمِ تَفْرِيطِهِ: فَلَمْ يُوجِبِ اللهُ صَوْمَ شَهْرَيْنِ فِي السُّنَّةِ، وَلَا صَلَاةَ ظُهْرَيْنِ فِي يَوْمٍ، وَهَذَا مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ ضَعْفُ قَوْلِ مَن يُوجِبُ الصَّلَاةَ وُيوجِبُ إعَادَتَهَا؛ فَإِنَّ هَذَا أَصْلٌ ضَعِيفٌ.
وَيَدْخُلُ فِي هَذَا مَن يَأْمُرُ بِالصَّلَاةِ خَلْفَ الْفَاسِقِ وَإِعَادَتِهَا، وَبِالصَّلَاةِ مَعَ الْأَعْذَارِ النَّادِرَةِ الَّتِي لَا تتَصِلُ وَإِعَادَتِهَا.
فَإِنَّ الصَّوَابَ مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ: أَنَّ مَن فَعَلَ الْعِبَادَةَ كَمَا أُمِرَ بِحَسَبِ وُسْعِهِ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وَلَمْ يُعْرَفْ قَطُّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الْعَبْدَ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَاةَ مَرَّتَيْنِ، لَكِنْ يَأْمُرُ بِالْإِعَادَةِ مَن لَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ؛ كَمَا قَالَ لِلْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ: "ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ]، وَكَمَا أَمَرَ مَن صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ.
فَأَمَّا الْمَعْذُورُ؛ كَاَلَّذِي يَتَيَمَّمُ لِعَدَمِ الْمَاءِ، أَو خَوْفَ الضَّرَرِ بِاسْتِعْمَالِهِ لِمَرَضٍ أو لِبَرْدٍ، وكالاستحاضة وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ: فَإِنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَؤُلَاءِ أَنْ يَفْعَلُوا مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِمْ، وَيسْقُطُ عَنْهُم مَا يَعْجِزُونَ عَنْه؛ بَل سُنَّتُهُ فِيمَن كَانَ لَمْ يَعْلَمِ الْوُجُوبَ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ مَشْرُوطٌ بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْفِعْلِ.
وَلِهَذَا لَمْ يَأْمُرْ عُمَرَ وَعَمَّارًا بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ لَمَّا كَانَا جُنُبَيْنِ، فَعُمَرُ لَمْ يُصَلِّ، وَعَمَّارٌ تَمَرَّغَ كَمَا تَتَمَرَّغُ الدَّابَّةُ؛ ظَنًّا أنَّ التُّرَابَ يَصِلُ إلَى حَيْثُ يَصِلُ الْمَاءُ، وَكَذَلِكَ الَّذِينَ أَكَلُوا مِن الصَّحَابَةِ حَتَّى تبَيَّنَ لَهُم الْحِبَالُ السُّودُ مِن الْبِيضِ لَمْ يَأْمُرْهُم بِالْإِعَادَةِ .. وَنَظَائِرُهَا مُتَعَدِّدَةٌ
(1)
.
فَمَن اسْتَقْرَأَ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ تبَيَّنَ لَهُ أَنَّ التَّكْلِيفَ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، فَمَن كَانَ عَاجِزًا عَن أَحَدِهِمَا سَقَطَ عَنْهُ مَا يُعْجِزُهُ، وَلَا يُكلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا.
وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُفَرِّطِ الْمُتَمَكنِ مِن فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ: فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: "صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْب"
(2)
. [21/ 630 - 634]
2413 -
من كانت ترى يومًا دمًا ويومًا طهرًا؛ فالنقاء طهر والدم حيض، وعنه أيام النقاء والدم حيض اختاره الشيخ تقي الدين
(3)
. [المستدرك 3/ 51]
(1)
ومن ذلك: من صلى الفرض باجتهادٍ فبان أنه صلى قبل الوقت؛ مثاله: رجل صلى الفجر - مثلًا - عن اجتهاد، فثبت له بعد خروج الوقت أنه قد صلاها قبل وقتها، فالراجح - على ما أصله شيخ الإسلام - أن صلاته صحيحة ولا يُعيدها؛ لأنه قد صلى على الوجه المأمور به.
(2)
رواه البخاري (1117).
(3)
الدم المتقطِّع، وهو الدم الذي يأتي المرأة على شكلٍ متقطِّع، بحيث تَرَى المرأة يومًا دمًا، ويومًا نقاءً ونحو ذلك، فهذا التقطع لا يخلو من حالتين:
الحالة الأول: أن يكون هذا التقطع مستمرًا في كل وقتها، ويستمر معها أكثر شهرها: فهذا دم استحاضة لا دم حيض، ويترتب عليه أحكام الاستحاضة. =
2414 -
الْأَسْمَاءُ الَّتِي عَلَّقَ اللهُ بِهَا الْأَحْكَامَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ:
أ - مِنْهَا مَا يُعْرَفُ حَدُّهُ وَمُسَمَّاهُ بِالشَّرْعِ، فَقَد بَيَّنَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ؛ كَاسْمِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ.
ب - وَمِنْهُ مَا يُعْرَفُ حَدُّهُ بِاللُّغَةِ؛ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْبَرِّ.
ج - وَمِنْهُ مَا يَرْجِعُ حَدُّهُ إلَى عَادَةِ النَّاسِ وَعُرْفِهِمْ، فَيَتَنَوَّعُ بِحَسَبِ عَادَتِهِمْ؛ كاسْمِ الْبَيْعِ وَالنِّكَاح وَالْقَبْضِ وَالدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي لَمْ يَحُدَّهَا الشَّارعُ بِحدٍّ وَلَا لَهَا حَدٌّ وَاحِدٌ يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ أَهْلِ اللُّغَةِ؛ بَل يَخْتَلِفُ قَدْرُهُ وَصِفَتُهُ بِاخْتِلَافِ عَادَاتِ النَّاسِ.
فَمَا كَانَ مِنَ النَّوْعِ الْأوَّلِ فَقَد بَيَّنَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ.
وَمَا كَانَ مِنَ الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ الْمُخَاطَبُونَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَد عَرَفُوا الْمُرَادَ بِهِ؛ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِمُسَمَّاهُ الْمَحْدُودِ فِي اللُّغَةِ، أَو الْمُطْلَقِ فِي عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَتِهِم مِن غَيْرِ حَدٍّ شَرْعِيٍّ وَلَا لُغَوِيٍّ، وَبِهَذَا يَحْصُلُ التَّفَقُّهُ فِي الْكتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَالِاسْمُ إذَا بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَدَّ مسَمَّاهُ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ قَد نَقَلَهُ عَنِ اللُّغَةِ أَو زَادَ فِيهِ.
وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَمَا أَطْلَقَهُ اللهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَعَلَّقَ بِهِ الْأَحْكَامَ مِنَ
= الحالة الثانية: ألا يكون هذا التقطع مستمرًّا معها، فهو يأتيها بعض الوقت، لكنه لا يستمر معها أكثر الشهر، فمثلًا: تمكث عشرة أيام أو خمسة عشر يومًا ترى خلالها دم الحيض متقطعًا، فأْيَّامًا يأتيها الدم على شكل قطرات، وأيَّامًا يأتيها الدم يومًا كاملًا، وينقطع يومًا، وتطهر في هذا اليوم تمامًا، لكن هذا الطهر لا يزيد عن يوم وليلة: فإن هذا الطهرَ ينسحبُ عليه أحكام الحيض، فيكونُ حيضًا، فتُعتبر عشرةُ الأيام، أو الخمسة عشر يومًا كلُّها حيضٌ.
أما إذا كان هذا الطهر يزيد عن اليوم والليلة: فإِنها تضم الدم إلى الدم، فيكون حيضًا، والباقي طهرًا صحيحًا تصوم وتصلي فيه، إلا أن يجاوز أكثر الشهر فتكون مستحاضة. يُنظر: الْإِفَاضَةُ في أَحْكَامِ الْحَيْضِ والنِّفَاِس والْاسْتِحَاضَةِ، للمؤلف (107 - 111).
الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ لَمْ يَكُن لِأَحَدٍ أَنْ يُقَيِّدَهُ إلَّا بِدَلَالَةِ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ.
فَمِن ذَلِكَ اسْمُ الْحَيْضِ، عَلَّقَ اللهُ بِهِ أَحْكَامًا مُتَعَدِّدَةً فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَمْ يُقَدَّرْ لَا أَقَلُّهُ وَلَا أَكْثَرُهُ وَلَا الطُّهْرُ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ مَعَ عُمُومِ بَلْوَى الْأُمَّةِ بِذَلِكَ، وَاحْتِيَاجِهِمْ إلَيْهِ، وَاللُّغَةُ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ قَدْرٍ وَقَدْرٍ، فَمَن قَدَّرَ فِي ذَلِكَ حَدًّا فَقَد خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ.
وَأَمَّا إذَا اسْتَمَرَّ الدَّمُ بِهَا دَائِمًا فَهَذَا قَد عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيْضِ؛ لِأَنَّهُ قَد عُلِمَ مِنَ الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَارَةً تَكُونُ طَاهِرًا وَتَارَةً تَكُونُ حَائِضًا، وَلطُهْرِهَا أَحْكَامٌ وَلحَيْضِهَا أَحْكَامٌ.
وَالْعَادَةُ الْغَالِبَةُ أَنَّهَا تَحِيضُ رُبُعَ الزَّمَانِ: سِتَّةً أَو سَبْعَةً، وَإِلَى ذَلِكَ رَدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُسْتَحَاضَةَ الَّتِي لَيْسَ لَهَا عَادَةٌ وَلَا تَمْيِيزٌ، وَالطُّهْرُ بَيْنَ الحَيْضَتَيْنِ لَا حَدَّ لِأَكْثَرِهِ بِاتِّفَاقِهِمْ.
وَكَذَلِكَ أَقَلُّهُ عَلَى الصَّحِيحِ لَا حَدَّ لَهُ؛ بَل قَد تَحِيضُ الْمَرْأَةُ فِي الشَّهْرِ ثَلَاثَ حِيَضٍ، وَإِن قُدِّرَ أَنَّهَا حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ فِي أَقَلَّ مِن ذَلِكَ أَمْكَنَ، لَكِنْ إذَا ادَّعَتِ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا فِيمَا يُخَالِفُ الْعَادَةَ الْمَعْرُوفَةَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَشْهَدَ لَهَا بِطَانَةٌ مِن أَهْلِهَا كَمَا رُوِيَ عَن عَلِيٍّ رضي الله عنه فِيمَنِ ادَّعَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ فِي شَهْرٍ.
وَالْأَصْلُ فِي كُلِّ مَا يَخْرُجُ مِنَ الرَّحِمِ أَنَّهُ حَيْضٌ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ اسْتِحَاضَةٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الدَّمُ الْأَصْلِيُّ الْجَبَلِيُّ، وَهُوَ دَمٌ تُرْخِيه الرَّحِمُ، وَدَمُ الْفَسَادِ دَمُ عِرْقٍ يَنْفَجِرُ؛ وَذَلِكَ كَالْمَرَضِ؛ وَالْأصْلُ الصِّحَّةُ لَا الْمَرَضُ.
فَمَتَى رَأَتِ الْمَرْأَةُ الدَّمَ جَارٍ مِن رَحِمِهَا فَهُوَ حَيْضٌ تُتْرَكُ لِأَجْلِهِ الصَّلَاةُ.
وَمَن قَالَ: إنَّهَا تَغْتَسِلُ عَقِيبَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَهُوَ قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِلْمَعْلُومِ مِنَ السُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ.
وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْمُنْتَقِلَةُ إذَا تَغَيَّرَتْ عَادَتُهَا بِزِيَادَةٍ أَو نَقْصٍ أَو انْتِقَالٍ فَذَلِكَ حَيْضٌ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ اسْتِحَاضَةٌ بِاسْتِمْرَارِ الدَّمِ؛ فَإِنَّهَا كَالْمُبْتَدَأَةِ.
وَالْمُسْتَحَاضَةُ تُرَدُّ إلَى عَادَتِهَا ثُمَّ إلَى تَمْيِيزِهَا ثُمَّ إلَى غَالِبِ عَادَاتِ النِّسَاءِ.
وَالْحَامِلُ إذَا رَأَتِ الدَّمَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ لَهَا فَهُوَ دَمُ حَيْضٍ بِنَاءَ عَلَى الْأَصْلِ.
وَالنِّفَاسُ لَا حَدَّ لِأقَلِّهِ وَلَا لِأكْثَرِهِ، فَلَو قُدِّرَ أَنَّ امْرَأَةً رَأَتِ الدَّمَ أَكْثَرَ مِن أَرْبَعِينَ أَو سِتينَ أَو سَبْعِينَ وَانْقَطَعَ فَهُوَ نِفَاسٌ، لَكِنْ إن اتَّصَلَ فَهُوَ دَمُ فَسَادٍ، وَحِينَئِذٍ فَالْحَدُّ أَرْبَعُونَ؛ فَإِنَّهُ مُنْتَهَى الْغَالِبِ جَاءَت بِهِ الْآثَارُ.
وَلَا حَدَّ لِسِنٍّ تَحِيضُ فِيهِ الْمَرْأَةُ؛ بَل لَو قُدِّرَ أَنَّهَا بَعْدَ سِتِّينَ أَو سَبْعِينَ زَادَ الدَّمُ الْمَعْرُوفُ مِنَ الرَّحِمِ لَكانَ حَيْضًا.
وَالْيَأْسُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق: 4] لَيْس هُوَ بُلُوغُ سِنٍّ، فلَو كَانَ بُلُوغُ سَنٍّ لَبَيَّنَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ أَنْ تَيْأَسَ الْمَرْأَةُ نَفْسُهَا مِن أَنْ تَحِيضَ.
وَإِذَا لَمْ يَكُن لِلنِّفَاسِ قَدْرٌ فَسَوَاءٌ وَلَدَتِ الْمَرْأَةُ تَوْأَمَيْنِ أَو أَكْثَرَ مَا زَالَتْ تَرَى الدَّمَ فَهِيَ نُفَسَاءُ، وَمَا تَرَاهُ مِن حِينِ تَشْرَعُ فِي الطَّلْقِ فَهُوَ نِفَاسٌ، وَحُكْمُ دَمِ النِّفَاسِ حُكْمُ دَمِ الْحَيْضِ.
وَمَن لَمْ يَأْخُذْ بِهَذَا بَل قَدَّرَ أقَل الْحَيْضِ بِيَوْمٍ أَو يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَو ثَلَاثَةِ أيَّامٍ فَلَيْسَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ مَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ.
وَلَو كَانَ هَذَا حَدًّا شَرْعِيًّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَكَانَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم أَوْلَى بِمَعْرِفَتِهِ وَبَيَانِهِ مِنَّا، كَمَا حَدَّ لِلْأَمَةِ مَا حَدَّهُ اللهُ لَهُم مِن أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَمِن أَمَاكِنِ الْحَجِّ، وَمِن نُصُبِ الزَّكَاةِ وَفَرَائِضِهَا، وَعَدَدِ الصَّلَوَاتِ وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا، فَلَو كَانَ لِلْحَيْضِ وَغَيْرِهِ مِمَّا لَمْ يُقَدِّرْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَدٌّ عِنْدَ اللهِ وَرَسُولِهِ لَبَيَّنَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا لَمْ يَحُدَّهُ دَلَّ عَلَى أنَّهُ رَدَّ ذَلِكَ إلَى مَا يَعْرِفُهُ النِّسَاءُ
ويُسَمَّى فِي اللُّغَةِ حَيْضًا؛ وَلِهَذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ إذَا سُئِلُوا عَنِ الْحَيْضِ قَالُوا: سَلُوا النِّسَاءَ فَإِنَّهُنَّ أَعْلَمُ بِذَلِكَ.
يَعْنِي: هُنَّ يَعْلَمْنَ مَا يَقَعُ مِنَ الْحَيْضِ وَمَا لَا يَقَعُ.
وَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ تَعَلَّقَ بِالِاسْمِ الدَّالِّ عَلَى الْوَاقِعِ، فَمَا وَقَعَ مِن دَمٍ فَهُوَ حَيْضٌ إذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ دَمُ عِرْقٍ أَو جُرْحٍ؛ فَإِنَّ الدَّمَ الْخَارجَ:
أ - إمَّا أَنْ تُرْخِيَهُ الرَّحِمُ.
ب - أَو يَنْفَجِرَ مِن عِرْقٍ مِنَ الْعُرُوقِ، أَو مِن جِلْدِ الْمَرْأَةِ أَو لَحْمِهَا فَيَخْرُجُ مِنْهُ، وَذَلِكَ يَخْرُجُ مِن عُرُوقٍ صِغَارٍ، لَكنَّ دَمَ الْجُرْحِ الصَّغِيرِ لَا يَسِيلُ سَيْلًا مُسْتَمِرًّا كَدَمِ الْعِرْقِ الْكبِيرِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْمُسْتَحَاضَةِ:"إنَّ هَذَا دَمُ عِرْقٍ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ"، وَإِنَّمَا يَسِيلُ الْجُرْحُ إذَا انْفَجَرَ عِرْقٌ كَمَا ذَكَرْنَا فَصْدَ الْإِنْسَانِ؛ فَإِنَّ الدَّمَ فِي الْعُرُوقِ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ
(1)
. [19/ 235 - 242]
2415 -
المبتدئة بدم أسود والأصح وأحمر: تجلس برؤيته .. تترك الصلاة والصوم أقل الحيض في ظاهر المذهب ثم تغتسل، وإن انقطع لدون أقله فلا حيض، ولأقله حيض، وإن جاوز أقله اغتسلت عند انقطاعه في مدة الحيض، ولم تجلس ما جاوزه حتى يتكرر ثلاثًا فتجلس الرابع نص على ذلك، وقيل: في الثالث: وعنه: يتكرر مرتين فتجلس في الثالث، وقيل: في الثاني، واختاره شيخنا، وأنْ كلامَ أحْمدَ
(2)
يقتضيه ويصير عادة.
وتعيد واجب صوم ونحوه نص عليه، وعنه: قبل تكراره احتياطًا، واختار شيخنا لا تجب الإعادة. [المستدرك 3/ 52]
2416 -
عَن عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: "رَأَيْت رِجَالًا مِن أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(1)
ذكر هذا البحث القيِّم في المجلد التاسع عشر في كِتَاب أُصُولِ الْفِقْهِ، وأعدت ذكره هنا لمناسبته لباب الحيض.
(2)
في الأصل: (الكلام)، والتصويب من الفروع (1/ 267).
يَجْلِسُونَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُم مُجْنِبُونَ إذَا تَوَضَّئُوا وُضُوءَ الصَّلَاةِ"؛ وَذَلِكَ -وَاللهُ أَعْلَمُ- أَنَّ الْمَسْجِدَ بَيْتُ الْمَلَائِكَةِ، وَالْمَلَائِكَةُ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ جُنُبٌ كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي "السُّنَنِ" عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَقَد أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْجُنُبَ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْمُعَاوَدَةِ، وَهَذَا دَلِيل أَنَّهُ إذَا تَوَضَّأَ ذَهَبَتِ الْجَنَابَةُ عَن أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَلَا تَبْقَى جَنَابَتُهُ تَامَّةً، وَإِن كَانَ قَد بَقِيَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْحَدَثِ، كَمَا أَنَّ الْمُحْدِثَ الْحَدَثَ الْأَصْغَرِ عَلَيْهِ حَدَثٌ دُونَ الْجَنَابَةِ، وَإِن كَانَ حَدَثُهُ فَوْقَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ فَهُوَ دُونُ الْجُنُبِ، فَلَا تَمْتَنِعُ الْمَلَائِكَةُ عَن شُهُودِهِ، فَلِهَذَا يَنَامُ وَيلْبَثُ فِي الْمَسْجِدِ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَنَابَةَ تَتَبَعَّضُ فَتَزُولُ عَن بَعْضِ الْبَدَنِ دُونَ بَعْضٍ كَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ.
وَأَمَّا الْحَائِضُ فَحَدَثُهَا دَائِمٌ لَا يُمْكِنُهَا طَهَارَةٌ تَمْنَعُهَا عَنِ الدَّوَامِ فَهِيَ مَعْذُورَةٌ فِي مُكْثِهَا وَنَوْمِهَا وَأَكْلِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا تُمْنَعُ مِمَّا يُمْنَعُ مِنْهُ الْجُنُبُ مَعَ حَاجَتِهَا إلَيْهِ.
وَلِهَذَا كَانَ أَظْهَرُ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهَا لَا تُمْنَعُ مِن قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ إذَا احْتَاجَتْ إلَيْهِ .. ؛ فَإِنَّهَا مُحْتَاجَةٌ إلَيْهَا وَلَا يُمْكِنُهَا الطَّهَارَةُ كَمَا يُمْكِنُ الْجُنُبَ وَإِن كَانَ حَدَثُهَا أَغْلَظَ مِن حَدَثِ الْجُنُبِ مِن جِهَةِ أَنَّهَا لَا تَصُومُ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ الدَّمُ وَالْجُنُبُ يَصُومُ، وَمِن جِهَةِ أَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنَ الصَّلَاةِ طَهُرَتْ أَو لَمْ تَطْهُرْ، ويُمْنَعُ الرَّجُلُ مِن وَطْئِهَا أَيْضًا، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلْحَظْرِ فِي حَقِّهَا أَقْوَى، لَكِنْ إذَا احْتَاجَتْ إلَى الْفِعْلِ اسْتَبَاحَتِ الْمَحْظُورَ مَعَ قِيَامِ سَبَبِ الْحَظْرِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ كَمَا يُبَاحُ سَائِرُ الْمُحَرَّمَاتِ مَعَ الضَّرُورَةِ.
وَإِذَا قُدِّرَ جُنُبٌ اسْتَمَرَّتْ بِهِ الْجَنَابَةُ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى غُسْلٍ أَو تَيَمُّمٍ فَهَذَا كَالْحَائِضِ فِي الرُّخْصَةِ وَإِن كَانَ هَذَا نَادِرًا.
فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَنَوْعِهَا، لَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ إلَى غِلَظِ
الْمَفْسَدَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْحَظْرِ إلَّا وَيُنْظَرُ مَعَ ذَلِكَ إلَى الْحَاجَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْإِذْنِ؛ بَلِ الْمُوجِبَةِ لِلِاسْتِحْبَابِ أَو الْإِيجَابِ.
وَكُلُّ مَا يَحْرُمُ مَعَهُ الصَّلَاةُ يَجِبُ مَعَهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إذَا لَمْ تُمْكِنِ الصَّلَاةُ إلَّا كَذَلِكَ، فَإِنَّ الصُّلَاةَ مَعَ تِلْكَ الْأُمُورِ أَخَفُّ مِن تَرْكِ الصَّلَاةِ.
وَكَذَلِكَ أَكْل الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ: يَحْرُمُ أَكْلُهَا عِنْدَ الْغِنَى عَنْهَا وَيجِبُ أَكْلُهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.
وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي قِرَاءَةِ الْقرْآنِ، وَلَيْسَ فِي مَنْعِهَا مِنَ الْقُرْآنِ سُنَّةٌ أَصْلًا فَإِنَّ قَوْلَهُ:"لَا تَقْرَأُ الْحَائِضُ وَلَا الْجُنُبُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ": حَدِيثٌ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ.
وَقَد كَانَ النِّسَاءُ يَحِضْنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَو كَانَتِ الْقِرَاءَةُ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِنَّ كَالصَّلَاةِ لَكَانَ هَذَا مِمَّا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأُمَّتِهِ، وَتَعْلَمُهُ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَنْقُلُونَهُ إلَى النَّاسِ، فَلَمَّا لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ نَهْيًا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُجْعَلَ حَرَامًا، مَعَ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَمْ يَنْهَ عَن ذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ مَعَ كَثْرَةِ الْحَيْضِ فِي زَمَنِهِ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُحَرَّمِ
(1)
. [26/ 178 - 191]
2417 -
الصحيح من المذهب: أنها
(2)
لا تجلس ما جاوز اليوم والليلة إلا بعد تكراره ثلاثًا، وعليه جماهير الأصحاب وهو من المفردات فتجلس الرابعة على الصحيح، وقيل: تجلسه في الثالثة، وعنه: يصير عادة بمرتين، وقيل: في الثاني، واختاره الشيخ تقي الدين وقال: إن كلام أحمد يقتضيه. [المستدرك 3/ 51]
2418 -
إن تغيرت العادة بزيادة أو تقدم أو تأخر أو انتقال فالمذهب أنها
(1)
رجح الشيخ -كما سيأتي بحول الله تعالى- صحة طواف الحائض عند الضرورة، ولا دم عليها.
(2)
أي: المبتدأة، وهي التي ابتدأها الحيض لأول مرة.
لا تلتفت إلى ما خرج عن العادة حتى يتكرر ثلاثًا أو مرتين، قال المصنف هنا
(1)
: وعندي أنها تصير إليه من غير تكرار.
قلت
(2)
: وهو الصواب، وعليه العمل، ولا يسع النساء العمل بغيره ..
قال في الفائق: وهو المختار، واختاره الشيخ تقي الدين. [المستدرك 3/ 51 - 52]
2419 -
هي طاهر إذا رأت البياض .. وعنه: أقله ساعة، وعنه: يوم، اختاره الشيخ، وقال: إلا أن ترى ما يدل عليه. [المستدرك 3/ 52]
2420 -
يجوز التداوي لحصول الحيض ذكره شيخنا إلا قرب رمضان لتفطره. [المستدرك 3/ 52]
* * *
(1)
أي: صاحب الشرح الكبير، وقد نقله عن ابن قدامة صاحب المغني.
(2)
أي: المرداوي.
المساجد وصونها
2421 -
إذَا اتَّخَذَ الْمَسْجِدَ بِمَنْزِلَةِ الْبُيُوتِ فِيهِ أَكْلُهُ وَشُرْبُهُ وَنَوْمُهُ وَسَائِرُ أَحْوَالِهِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَى مَا لَمْ تُبْنَ الْمَسَاجِدُ لَهُ دَائِمًا: فَإِنَّ هَذَا يُمْنَعُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، فَاِنَّمَا وَقَعَتِ الرّخْصَة فِي بَعْضِ ذَلِكَ لِذَوِي الْحَاجَةِ؛ مِثْل مَا كَانَ أَهْلُ الصُّفَّةِ: كَانَ الرَّجُلُ يَأتِي مُهَاجِرًا إلَى الْمَدِينَةِ وَلَيْسَ لَهُ مَكانٌ يَأْوِي إلَيْهِ فَيُقِيمُ بِالصُّفَّةِ إلَى أَنْ يَتيسَّرَ لَهُ أَهْلٌ أَو مَكَانٌ يَأْوِي إلَيْهِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ.
وَمِثْل الْمِسْكينَةِ الَّتي كَانَت تَأْوِي إلَى الْمَسْجِدِ وَكَانَت تَقُمُّهُ.
وَمِثْل مَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَبِيتُ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ عَزَبٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُن لَهُ بَيْتٌ يَأْوِي إلَيْهِ حَتَّى تَزَوَّج.
وَمِن هَذَا الْبَابِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: لَمَّا تَقَاوَلَ هُوَ وَفَاطِمَةُ ذَهَبَ إلَى الْمَسْجِدِ فَنَامَ فِيهِ.
فَيَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرِ الْيَسِيرِ وَذَوِي الْحَاجَاتِ وَبَيْنَ مَا يَصِيرُ عَادَةً ويكْثُرُ وَمَا يَكُونُ لِغَيْرِ ذَوِي الْحَاجَاتِ؛ وَلهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَتَّخِذُوا الْمَسْجِدَ مَبِيتًا وَمَقِيلًا، هَذَا وَلَمْ يَفْعَلْ فِيهِ إلَّا النَّوْمُ؟.
وَأبْلَغُ مَا يَكونُ مِن الْمُقَامِ فِي الْمَسْجِدِ مُقَامُ الْمُعْتَكِفِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ يَحْتَجِرُ لَهُ حَصِيرًا فَيَعْتَكفُ فِيهِ، وَكَانَ يَعْتَكِفُ فِي قُبَّةٍ، وَكَذَلِكَ كَانَ النَّاسُ يَعْتَكفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ويضْرِبُونَ لَهُم فِيهِ الْقِبَابَ، فَهَذَا مُدَّةُ الِاعْتِكافِ خَاصَّةً، وَالِاعْتِكَافُ عِبَادَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَلَيْسَ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَخْرُجُ مِن الْمَسْجِدِ إلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ. [22/ 196 - 197]
2422 -
إذَا سَرَّحَ شَعْرَهُ وَجَمَعَ الشَّعْرَ فَلَمْ يُتْرَكْ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا بَأسَ بِذَلِكَ.
وَأَمَّا تَرْكُ شَعْرِهِ فِي الْمَسْجِدِ فَهَذَا يُكْرَهُ وإِن لَمْ يَكُن نَجِسًا؛ فَإِنَّ الْمَسْجِدَ يُصَانُ حَتَّى عَنِ الْقَذَاةِ الَّتِي تَقَعُ فِي الْعَيْنِ
(1)
. [22/ 202]
2423 -
لَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَّخِذَ الْمَسْجِدَ طَرِيقًا، فَكَيْفَ إذَا اتَّخَذَهُ الْكَافِرُ طَرِيقًا، فَإِنَّ هَذَا يُمْنَعُ بِلَا ريبٍ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ دَخَلَهُ ذِمِّيٌّ لِمَصْلَحَةٍ فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَن أَحْمَد:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ عَمَلُ الصَّحَابَةِ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ وَهُوَ مَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. [22/ 193 - 194]
2424 -
لَا يَجُوزُ أَنْ يُذْبَحَ فِي الْمَسْجِدِ؛ لَا ضَحَايَا وَلَا غَيْرهَا.
وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُدْفَنَ فِي الْمَسْجِدِ مَيِّتٌ: لَا صَغِيرٌ وَلَا كَبِيرٌ وَلَا جَنِينٌ وَلَا غَيْرُهُ، فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَا يَجُوز تَشْبِيهُهَا بِالْمَقَابِرِ. وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ فِيهَا.
وَأَمَّا الْوُضُوءُ فَفِي كَرَاهَتِهِ فِي الْمَسْجِدِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَالْأَرْجَحُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ إلَّا أَنْ يَحْصُلَ مَعَهُ امْتِخَاطٌ أَو بُصَاقٌ فِي الْمَسْجِدِ.
وَلَا تُغَسَّلُ الْمَوْتَى فِي الْمَسْجِدِ. [22/ 203 - 204]
2425 -
يُصَانُ الْمَسْجِدُ عَمَّا يُؤْذِيهِ وَيُؤْذِي الْمُصَلِّينَ فِيهِ حَتَّى رَفْعُ الصِّبْيَانِ أَصْوَاتَهُم فِيهِ، وَكَذَلِكَ تَوْسِيخُهُم لِحُصْرِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ وَقْتَ الصَّلَاةِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِن عَظِيمِ الْمُنْكرَاتِ
(2)
. [22/ 204]
(1)
وينبغي أن يصون المسلم المسجد كذلك عن إلقاء أجزاء السواك الباقي في الفم.
(2)
وقد وقع في هذا المنكر بعض حلقات التحفيظ في المساجد، حيث يكثر لغط الصبيان فيه =
2426 -
أَصْلُ السُّؤَالِ: مُحَرَّمٌ فِي الْمَسْجِدِ وَخَارجَ الْمَسْجِدِ إلَّا لِضَرُورَة، فَإِنْ كَانَ بِهِ ضَرُورَةٌ، وَسَأَلَ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا بِتَخَطِّيهِ رِقَابَ النَّاسِ وَلَا غيْرِ تَخَطِّيهِ، وَلَمْ يَكْذِبْ فِيمَا يَرْوِيهِ ويذْكُرُ مِن حَالِهِ، وَلَمْ يَجْهَرْ جَهْرًا يَضُرُّ النَاسَ؛ مِثْل أَنْ يَسْأَلَ وَالْخَطِيبُ يَخْطُبُ، أَو وَهُم يَسْمَعُونَ عِلْمًا يَشْغَلُهُم بِهِ وَنَحْو ذَلِكَ جَازَ
(1)
. [22/ 206]
* * *
= وقت الصلاة، بل ويعظم إفسادهم لبعض محتويات المساجد، فالواجب أنْ يتعاون أولياؤهم ومعلموهم في ذلك.
(1)
إذا خلا سؤال السائلين فى المسجد عن المحاذير التي ذكرها الشيخ: فقد نص العلماء على جوازه وإن كان خلاف الأُوْلى؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: فإن المساجد لم تُبنَ لهذا. أخرجه مسلم.
وقد أجابت اللجنة الدائمة للإفتاء في المملكة رقم (166) بقريب من جواب الشيخ حينما سُئلوا عن السؤال في المسجد، ورأوا الجواز إذا خلت المسألة من المحاذير.
وسئل الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله: بعض المتسولين يسألون في المساجد وبعض الأئمة يمنعونهم من السؤال، فهل لديهم دليل على منعهم؟ وهل يجوز إعطاؤهم؟
فأجاب: لا أعلم بأسًا في ذلك ولا أعلم حجة لمن منعه، لكن إذا كان السائلون يتخطون رقاب الناس ويمشون بين الصفوف فينبغي منعهم، لما في عملهم هذا من إيذاء المصلين، وهكذا وقت الخطبة يجب أن يمنعوا لوجوب الإنصات عليهم وعلى غيرهم من المصلين، ولأن سؤالهم في هذه الحال يشغل غيرهم عن استماع الخطبة. اهـ. مجموع الفتاوى (14/ 320).
وقال السيوطي رحمه الله: السؤال في المسجد مكروه كراهة تنزيه، وإعطاء السائل فيه قربة يثاب عليها وليس بمكروه فضلًا عن أن يكون حرامًا، هذا هو المنقول والذي دلت عليه الأحاديث، أما النقل فقال النووي في شرح المهذب في باب الغسل: فرع لا بأس بأن يعطي السائل في المسجد شيئًا لحديث عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل منكم أحد أطعم اليوم مسكينًا؟ " فقال أبو بكر دخلت المسجد فإذا أنا بسائل يسأل فوجدت كسرة خبز في يد عبد الرحمن فأخذتها فدفعتها. رواه أبو داود بإسناد جيد- هذا كلام شرح المهذب بحروفه، والحديث الذي أورده فيه دليل للأمرين معًا أن الصدقة عليه ليست مكروهة، وأن السؤال في المسجد ليس بمحرم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم اطّلع على ذلك بإخبار الصديق ولم ينكره، ولو كان حرامًا لم يقر عليه بل كان يمنع السائل من العود إلى السؤال في المسجد، وبذلك يعرف أن النهي عن السؤال في المسجد إن ثبت محمول على الكراهة والتنزيه. انتهى. يُنظر: الحاوي للفتاوي، للسيوطي (1/ 87).
اللباس
2427 -
في سِيرِ الذَّهَبِ فِي (بَابِ اللِّبَاسِ) عَن أَحْمَد أقْوَالٌ أَحَدُهَا: الرُّخْصَةُ مُطْلَقًا؛ لِحَدِيثِ مُعَاوِيةَ "نَهَى عَنِ الذَّهَبِ إلَّا مُقَطَّعًا"
(1)
، وَلَعَلَّ هَذَا الْقَوْلَ أَقْوَى مِن غَيْرِهِ.
وَلهَذَا فَرَّقَ أَحْمَد وَغَيْرهُ بَيْنَ يَسِيرِ الْحَرِيرِ مُفْرَدًا كَالتِّكَّةِ فَنَهَى عَنْهُ، وبَيْنَ يَسِيرِه تبَعًا كَالْعَلَمِ؛ إذِ الِاسْتِثْنَاءُ وَقَعَ فِي هَذَا النَّوْعِ فَقَطْ.
فَكمَا يُفَرَّقُ فِي الرُّخْصَةِ بَيْنَ الْيَسِيرِ وَالْكَثِيرِ: فَيفَرَّقُ بَيْنَ التَّابعِ وَالْمُفْرَدِ، وَيُحْمَلُ حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ "إلَّا مُقَطَّعًا" عَلَى التَّابعِ لِغَيْرِهِ. [22/ 87 - 88]
2428 -
مَن تَرَكَ لُبْسَ الرَّفِيعِ مِنَ الثِّيابِ تَوَاضُعًا للهِ -لَا بُخْلًا
(2)
وَلَا الْتِزَامًا لِلتَّرْكِ مُطْلَقًا
(3)
-: فَإِنَّ اللهَ يُثيبُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَكسُوهُ مِن حُلَلِ الْكَرَامَةِ.
وَتُكْرَة الشُّهْرَةُ مِنَ الثِّيَاب، وَهوَ الْمُتَرَفِّعُ الْخَارجُ عَنِ الْعَادَةِ، وَالْمُتَخَفِّضُ الْخَارجُ عَنِ الْعَادَةِ؛ فَإِنًّ السَّلَفَ كَانُوا يَكْرَهُونَ الشهرتين: الْمُتَرَفِّعَ وَالْمُتَخَفِّضَ.
والْفِعْلُ الْوَاحِدُ فِي الظَّاهِرِ يُثَابُ الْإِنْسَانُ عَلَى فِعْلِهِ مَعَ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ وَيُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِهِ مَعَ النّيَّةِ الْفَاسِدَةِ، فَمَن حَجَّ مَاشِيًا لِقُوَّتِهِ عَلَى الْمَشْيِ وَآثَرَ بِالنَّفَقَةِ كَانَ مَأجُورًا أَجْرَيْنِ: أَجْرَ الْمَشْيِ وَأَجْرَ الْإِيثَارِ.
(1)
رواه أبو داود (4239)، والنسائي (5149)، وصحَّحه الألبانيّ.
(2)
فمن ترك لبس الرفيع بخلًا فلا يُحمد ولا يُؤجر.
(3)
فمن ترك لبس الرفيع على وجه الدوام، وامتنع من ذلك ولو جاءه على وجه الهدية: فهو أمر غير محمود، وهو دليل على التكلف المنهي عنه.
وَمَن حَجَّ مَاشِيًا بُخْلًا بِالْمَالِ، وإضْرَارًا
(1)
بِنَفْسِهِ: كَانَ آثِمًا إثْمَيْنِ: إثْمَ الْبُخْلِ وَإِثْمَ الْإِضْرَارِ.
وَمَن حَجَّ رَاكِبًا لِضَعْفِهِ عَنِ الْمَشْيِ، وَللِاسْتِعَانَةِ بِذَلِكَ عَلَى رَاحَتِهِ لِيَتَقَوَّى بِذَلِكَ عَلَى الْعِبَادَةِ: كَانَ مَأجُورًا أَجْرَيْنِ.
وَمَن حَجَّ رَاكِبًا يَظْلِم الْجَمَّالَ وَالْحَمَّالَ كَانَ آثِمًا إثْمَيْنِ.
وَكَذَلِكَ اللِّبَاسُ: فَمَن تَرَكَ جَمِيلَ الثِّيُابِ بُخْلًا بِالْمَالِ لَمْ يَكُن لَهُ أَجْرٌ.
وَمَن تَرَكَهُ مُتَعَبِّدًا بِتَحْرِيمِ الْمُبَاحَاتِ كَانَ آثِمًا.
وَمَن لَبِسَ جَمِيلَ الثِّيَابِ إظْهَارًا لِنِعْمَةِ اللهِ وَاسْتِعَانَةً عَلَى طَاعَةِ اللهِ: كَانَ مَأجُورًا.
وَمَن لَبِسَهُ فَخْرًا وَخُيَلَاءَ: كَانَ آثِمًا؛ فَإِن اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ. [22/ 138 - 139]
2429 -
إِنَّمَا كُسْوَةُ الْمَرْأَةِ: مَا يَسْتُرُهَا فَلَا يُبْدِي جِسْمَهَا وَلَا حَجْمَ أَعْضَائِهَا؛ لِكَوْنِهِ كَثِيفًا
(2)
وَاسِعًا ..
وَمِن هُنَا يَظْهَرُ الضَّابِطُ فِي نَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم عَن تَشَبُّهِ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَعَن تَشَبُّهِ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ، وَأَنَّ الْأَصْلَ فِي ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ رَاجِعًا إلَى مُجَرَّدِ مَا يَخْتَارُهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ ويشْتَهُونَهُ وَيَعْتَادُونَهُ، فَإِنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ إذَا اصْطَلَحَ قَوْمٌ عَلَى أَنْ يَلْبَسَ الرِّجَالُ الْخُمُرَ الَّتِي تُغَطّي الرَّأسَ وَالْوَجْهَ وَالْعُنُقَ، وَالْجَلَابِيبَ الَّتِي تُسْدَلُ مِن فَوْقِ الرُّؤُوسِ حَتَّى لَا يَظْهَرَ مِن لَابِسِهَا إلَّا الْعَيْنَانِ، وَأَنْ تَلْبَسَ النّسَاءُ الْعَمَائِمَ وَالْأَقْبِيَةَ الْمُخْتَصَرَةَ وَنَحْو ذَلِكَ: أَنْ يَكُونَ هَذَا سَائِغًا!
وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ.
(1)
في الأصل: بدون الواو، ولعل الصواب إثباتها.
(2)
الكَثِيف من الثياب: هُوَ الثَخين الْغَلِيظُ، فلا يجوز أن يكون لباس المرأةِ شفَّافًا رقيقًا يصف البَشَرة.
فَلَو كَانَ اللِّبَاسُ الْفَارِقُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مُسْتَنَدُهُ مُجَرَّدَ مَا يَعْتَادُهُ النِّسَاءُ أَو الرِّجَالُ بِاخْتِيَارِهِمْ وَشَهْوَتِهِمْ: لَمْ يَجِبْ انْ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ الْجَلَابِيبَ وَلَا أَنْ يَضْرِبْنَ بِالْخُمُرِ عَلَى الْجُيُوبِ وَلَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْهِنَّ التَّبَرُّجُ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأولَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَادَةً لِأولَئِكَ.
فَالْفَارِق بَيْنَ لِبَاسِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ: يَعُودُ إلَى مَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ وَمَا يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ، وَهُوَ مَا يُنَاسِبُ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الرِّجَالُ وَمَا تُؤْمَرُ بِهِ النِّسَاءُ.
فَالنِّسَاءُ مَأْمُورَاتٌ بِالِاسْتِتَارِ وَالِاحْتِجَابِ دُونَ التَّبَرجِ وَالظُّهُورِ؛ وَلهَذَا لَمْ يُشْرَعْ لَهَا رَفْعُ الصَّوْتِ فِي الْأذَانِ وَلَا التَّلْبِيَةِ وَلَا الصُّعُودُ إلَى الصَّفَا والمروة وَلَا التَّجَرُّدُ فِي الْإِحْرَامِ كما يَتَجَرَّدُ الرَّجُلُ.
فَإِنَّ الرَّجُلَ مَأمُورٌ أَنْ يَكْشِفَ رَأسَهُ، وَأَنْ لَا يَلْبَسَ الثِّيَابَ الْمُعْتَادَةَ وَهِيَ الَّتِي تُصْنَعُ عَلَى قَدْرِ أَعْضَائِهِ.
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا لَمْ تُنْهَ عَن شَيء مِنَ اللِّبَاسِ؛ لِأنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِالِاسْتِتَارِ وَالِاحْتِجَاب، فَلَا يَشْرَعُ لَهَا ضِدُّ ذَلِكَ، لَكِنْ مُنِعَتْ أَنْ تَنْتَقِبَ وَأَنْ تَلْبَسَ الْقُفَّازينِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِبَاسٌ مَصْنُوعٌ عَلَى قَدْرِ الْعُضْوِ وَلَا حَاجَةَ بِهَا إلَيْهِ.
وَقَد تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ: هَل وَجْهُهَا كَرَأسِ الرَّجُلِ أو كَيَدَيْهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ، فَمَن جَعَلَ وَجْهَهَا كَرَأسِهِ أَمَرَهَا إذَا سَدَلَتْ الثَّوْبَ مِن فَوْقِ رَأسِهَا أَنْ تُجَافِيَهُ عَنِ الْوَجْهِ، كَمَا يُجَافَى عَنِ الرَّأسِ مَا يُظَلَّلُ بِهِ.
وَمَن جَعَلَهُ كَالْيَدَيْنِ -وَهُوَ الصَّحِيحُ- قَالَ: هِيَ لَمْ تُنْهَ عَن سَتْرِ الْوَجْهِ، وَإِنَّمَا نُهِيَتْ عَن الِانْتِقَابِ، كَمَا نُهِيَتْ عَن الْقُفَّازَيْنِ؛ وَذَلِكَ كَمَا نُهي الرَّجُل عَن الْقَمِيصِ وَالسَّرَاوِيلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَفِي مَعْنَاهُ الْبُرْقُعُ وَمَا صُنِعَ لِسَتْرِ الْوَجْهِ.
فَأَمَّا تَغْطِيَةُ الْوَجْهِ بِمَا يُسْدَلُ مِن فَوْقِ الرَّأسِ: فَهُوَ مِثْلُ تَغْطيَتِهِ عِنْدَ النَّوْمِ بِالْمِلْحَفَةِ وَنَحْوِهَا، وَمِثْلُ تَغْطِيَةِ الْيَدَيْنِ بِالْكُمَّيْنِ، وَهِيَ لَمْ تُنْهَ عَن ذَلِكَ.
فَلَو أَرَادَ الرِّجَالُ أَنْ يَنْتَقِبُوا ويتبرْقَعُوا ويدَعُوا النِّسَاءَ بَادِيَاتِ الْوُجُوهِ لَمُنِعُوا مِن ذَلِكَ.
وَأَصلُ هَذَا: أَنْ تَعْلَمَ أَنَ الشَّارعَ لَهُ مَقْصُودَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْفَرْقُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ.
والثَّاني: احْتِجَابُ النِّسَاءِ.
فَلَو كَانَ مَقْصُودُهُ مُجَرَّدَ الْفَرْقِ لَحَصَلَ ذَلِكَ بِأَيِّ وَجْهٍ حَصَلَ بِهِ الِاخْتِلَافُ، وَقَد تَقَدَّمَ فَسَادُ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ أَيْضًا: لَيْسَ الْمَقْصُودُ مُجَرَّدَ حَجْبِ النِّسَاءِ وَسَتْرِهِنَّ دُونَ الْفَرْقِ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ الرِّجَالِ؛ بَلِ الْفَرْقُ أَيْضًا مَقْصُود، حَتَّى لَو قُدِّرَ أَنَّ الصِّنْفَيْنِ اشْتَرَكُوا فِيمَا يَسْتُرُ ويحْجُبُ بِحَيْثُ يُشْتبهُ لِبَاسُ الصِّنْفَيْنِ لنهُوا عَن ذَلِكَ.
وَقَد بَسَطْنَا هَذِهِ الْقَاعِدَةَ فِي "اقْتِضَاءِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ لِمُخَالَفَةِ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ" وَبَيَّنَّا أَنَّ الْمُشَابَهَةَ فِي الْأُمُورِ الظاهِرَةِ تُورِثُ تَنَاسُبَا وَتَشَابُهَا فِي الْأخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ.
وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِن أَنْ يَكُونَ بَيْنَ لِبَاسِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَرْق يَتَمَيَّزُ بِهِ الرِّجَالُ عَن النِّسَاءِ، وَأَنْ يَكُونَ لِبَاسُ النِّسَاءِ فِيهِ مِن الِاسْتِتَارِ وَالِاحْتِجَابِ مَا يُحَصِّلُ مَقْصُودَ ذَلِكَ: ظَهَرَ أَصْلُ هَذَا الْبَابِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ اللِّبَاسَ إذَا كَانَ غَالِبُهُ لُبْسَ الرِّجَالِ: نُهِيَتْ عَنْهُ الْمَرْأَةُ وإن كَانَ سَاتِرًا؛ كالفراجي الَّتِي جَرَتْ عَادَةُ بَعْضِ الْبِلَادِ أَنْ يَلْبَسَهَا الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاء.
وَالنَّهْيُ عَن مَثَلِ هَذَا بِتَغَيُّرِ الْعَادَاتِ.
وَأَمَّا مَا كَانَ الْفَرْقُ عَائِدًا إلَى نَفْسِ السِّتْرِ: فَهَذَا يُؤْمَرُ بِهِ النِّسَاءُ بمَا كَانَ أَسْتَرُ، وَلَو قُدِّرَ أَنَّ الْفَرْقَ يَحْصُلُ بِدُونِ ذَلِكَ، فَإِذَا اجْتَمَعَ فِي اللِّبَاسِ قِلًّةُ السَّتْرِ وَالْمُشَابَهَةُ نُهِيَ عَنْهُ مِن الْوَجْهَيْنِ. [22/ 146 - 155]
2430 -
وَأَمَّا الْأَكْلُ وَاللّبَاسُ: فَخَيْرُ الْهَدْي هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَكانَ خُلُقُهُ فِي الْأكْلِ أنَّهُ يَأْكُلُ مَا تَيَسَّرَ إذَا اشْتَهَاهُ، وَلَا يَرُدُّ مَوْجُودًا وَلَا يَتَكَلَّفُ مَفْقُودًا .. فَلَمْ يَكُن إذَا حَضَرَ لَوْنَانِ مِن الطَّعَامِ يَقُولُ: لَا آكُلُ لَوْنَيْنِ، وَلَا يَمْتَنِعُ مِن طَعَامٍ لِمَا فِيهِ مِن اللَّذَةِ وَالْحَلَاوةِ.
وَكَذَلِكَ اللِّبَاسُ: كَانَ يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَالْعِمَامَةَ ويلْبَسُ الْإِزَارَ وَالرّدَاءَ، ويلْبَسُ الْجُبَّةَ وَالْفَرُّوجَ، وَكَانَ يَلْبَسُ مِن الْقُطْنِ وَالصُّوفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
فَسُنَّتُهُ فِي ذَلِكَ تَقْتَضِي أنْ يَلْبَسَ الرَّجُلُ ويطْعَمَ مِمَّا يَسَّرَهُ اللهُ بِبَلَدِهِ مِن الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ، وَهَذَا يَتَنَوَّع بِتَنَوُّعِ الْأَمْصَارِ. [22/ 310 - 311]
* * *
(مَا حَرُمَ عَلَى الرّجَلِ فِعْلُه حَرُمَ عَلَيْهِ أَنْ يُمَكِّنَ مِنْهُ الصَّغِير)
2431 -
لِبَاسُ الْحَرِيرِ لِلصِّبْيَانِ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا: فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ، لَكِنْ أَظْهَرُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ فَإِنَّ مَا حَرُمَ عَلَى الرّجلِ
(1)
فِعْلُهُ حَرُمَ عَلَيْهِ أَنْ يُمَكِّنَ مِنْهُ الصَّغِيرَ؛ بَل عَلَيْهِ أَنْ يَأمُرَهُ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ، وَيَضْرِبهُ عَلَيْهَا إذَا بَلَغَ عَشَرًا، فَكيْفَ يَحِلُّ لَه أَنْ يُلْبِسَهُ الْمُحَرَّمَاتِ؟
وَقَد رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى صَبِيٍّ لِلزُّبَيْرِ ثَوْبًا مِن حَرِيرٍ فَمَزَّقَهُ وَقَالَ: لَا تُلْبِسُوهم الْحَرِيرَ.
وَكَذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ
(2)
مَزَّقَ ثَوْبَ حَرِيرٍ كَانَ عَلَى ابْنِهِ
(3)
.
(1)
في الأصل: (الرِّجَالِ)، ولعل الصواب المثبت، وقد جاءت هذه الفتوى في موضع آخر، وذكر فيها لفظ الإفراد، كما في (22/ 143).
(2)
في (22/ 143): ابْنُ مَسْعُودٍ.
(3)
وقال في موضع آخر: مَا حَرُمَ عَلَى الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ فَعَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يُجَنِّبُهُ الصِّبْيَانَ. اهـ. (30/ 51) فلا يجوز إلباس البنات الصغيرات المميزات لباسًا قصيرًا أو ضيّقًا أو شفّافًا.
2432 -
مَا حَرُمَ لُبْسُهُ لَمْ تَحِلَّ صِنَاعَتُهُ وَلَا بَيْعُهُ لِمَن يَلْبَسُهُ مِن أَهْلِ التَّحْرِيمِ.
وَأَمَّا إذَا بِيعَ الْحَرِيرُ لِلنِّسَاءِ فَيَجُوزُ، وَكَذَلِكَ إذَا بِيعَ لِكَافِرٍ؛ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أرْسَلَ بِحَرِيرٍ أَعْطَاهُ إيَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى رَجُلٍ مُشْرِكٍ
(1)
. [29/ 298 - 299]
* * *
(اللباس والزي الذي يتخذه بعض النُّساك والفُقهاء شعارًا)
2433 -
اللباس والزي الذي يتخذه بعض النساك من الفقراء والصوفية والفقهاء وغيرهم بحيث يصير شعارًا فارقًا، كما أُمر أهل الذمة بالتميز عن المسلمين في شعورهم وملابسهم، فيه مسألتان:
المسألة الأولى: هل يشرع ذلك استحبابًا لتمييز الفقير والفقيه من غيره؟ فإن طائفة من المتأخرين استحبوا ذلك، وأكثر الأئمة لا يستحبون ذلك؛ بل قد كانوا يكرهونه لما فيه من التميز عن الأمة وبثوب الشهرة.
المسألة الثانية: أن لبس المرقعات والمصبغات والصوف من العباءة وغير ذلك فالناس فيه على ثلاثة طرق.
والصواب: أنه جائز كلبس غير ذلك، وأنه يستحب أن يرقع الرجل ثوبه للحاجة، كما رقع عمر ثوبه وعائشة وغيرهما من السلف، وكما لبس قوم الصوف للحاجة، ويلبس أيضًا للتواضع والمسكنة مع القدرة على غيره، كما جاء في الحديث:" من ترك جيد اللباس وهو يقدر عليه تواضعًا لله كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة "
(2)
.
(1)
رواه البخاري (886)، ومسلم (2068).
(2)
رواه الترمذي (2481)، وحسَّنه، بلفظ:"من ترك اللباس تواضعًا لله وهو يقدر عليه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يُخَيِّره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها".
فأما تقطيع الثوب الصحيح وترقيعه فهذا فساد وشهرة، وكذلك تعمد صبغ الثوب لغير فائدة، أو حك الثوب ليظهر التحتاني، أو المغالاة في الصوف الرفيع ونحو ذلك مما فيه إفساد المال ونقص قيمته، أو فيه إظهار التشبه بلباس أهل التواضع والمسكنة مع ارتفاع قيمته وسعره، فإن هذا من النفاق والتلبيس.
فهذان النوعان فيهما إرادة العلو في الأرض بالفساد. والدار الآخرة للذين لا يريدون علوًّا في الأرض ولا فسادًا، مع ما في ذلك من النفاق.
وأيضًا: فالتقيد بهذه اللبسة بحيث يَكرَهُ اللابس غيرها أو يُكْرِة أصحابه ألا يلبسوا غيرها هو أيضًا منهي عنه. [المستدرك 1/ 156 - 157]
* * *
كتاب الصلاة
2434 -
تنازع الناس في اسم الصلاة: هل هو من الأسماء المنقولة عن مسماها في اللغة، أو أنها باقية على ما كانت عليه في اللغة، أو أنها تصرف فيها الشارع تصرف أهل العرف، فهي بالنسبة إلى عرف أهل اللغة مجاز، وبالنسبة إلى عرف الشرع حقيقة؟ على ثلاثة أقوال.
والتحقيق: أن الشارع لم يغيرها، ولكن استعملها مقيدة لا مطلقة كما يستعمل نظائرها؛ كقوله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] فذكر بيتًا خاصًّا، فلم يكن لفظ الحج متناولًا لكل قصد؛ بل لقصد مخصوص دلَّ عليه اللفظ نفسه
(1)
. [المستدرك 3/ 53]
2435 -
صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" وَغَيْرِهِ مِن حَدِيثِ أَبِي ذَرِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه وَجَاءَ مِن حَدِيثِ غَيْرِهِمَا: أَنَّهُ "يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ وَالْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ" وَفَرَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ وَالْأَبْيَضِ: بِأَنَّ "الْأَسْوَدَ شَيْطَانٌ".
وَصَحَّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ الشَّيْطَانَ تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ صلَاِتِي فَأَخَذْته فَأَرَدْت أَنْ أَرْبُطَهُ إلَى سَارِيَةٍ مِن سَوَارِي الْمَسْجِدِ"
(2)
الْحَدِيثَ، فَأَخْبَرَ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ، فَهَذَا أَيْضًا يَقْتَضي أَنَّ مُرُورَ الشَّيْطَانِ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ؛ فَلِذَلِكَ أَخَذَ أَحْمَد بِذَلِكَ فِي الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الْمَرْأَةِ وَالْحِمَارِ؛ لِأَنَّهُ عَارَضَ هَذَا الْحَدِيثَ حَدِيثُ عَائِشَةَ لَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي
(1)
الاختيارات (30)، وهذا النقل أتم ممَّا في المجموع. (الجامع).
(2)
البخاري (3423).
وَهِيَ فِي قِبْلَتِهِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه لَمَّا اجْتَازَ عَلَى أَتَانِهِ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ وَالنَّبِي صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ بِمِنًى.
مَعَ أَنَّ الْمُتَوَجَّهَ أَنَّ الْجَمِيعَ يَقْطَعُ وَأَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمَارِّ وَاللَّابِثِ. [21/ 14]
2436 -
إذَا ثَبَتَ أَنَّ حَدِيثَ ذِي الْيَدَيْنِ مُحْكَمٌ: ثَبَتَ بِهِ أَنَّ مِثْل ذَلِكَ الْكَلَامِ وَالْفِعَالِ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَهُنَا أَقْوَالٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ: فَعَنْة أَنَّ كَلَامَ النَّاسي وَالْمُخْطِئ لَا يُبْطِلُ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ أقْوَى الْأَقْوَالِ، وَمِمَّا يُؤَيّدُهُ حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِي لَمَّا شَمَّتَ الْعَاطِسَ فِي الصَّلَاةِ فَلَمَّا سَمِعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ:" إنَّ صَلَاَتنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيءٌ مِن كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ "
(1)
.
وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ، وَهَذَا كَانَ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ.
وَعَلَى هَذَا يُقَالُ: الْجَاهِل لَمْ يَبْلُغْهُ حُكْمُ الْخِطَابِ.
وَقَد يُفَرَّقُ بَيْنَ النَّاسِي وَالْجَاهِلِ: ألَا تَرَى مَن نَامَ عَن صَلَاةٍ أَو نَسِيَهَا فَإِنَّهُ يُعِيدُهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؟.
وَأَمَّا الْجَاهِلُ فَلَو صَلَّى غَيْرَ عَالِم بِوُجُوبِ الْوُضُوءِ مِن لَحْمِ الْإِبِلِ أَو صَلَّى فِي مَبَارِكِهَا غَيْرَ عَالِمٍ بِالنَّهْيِ ثُمَّ بَلَغَهُ: فَفِي الْإِعَادَةِ رِوَايَتَانِ، لَكِنَّ الْأَظْهَرَ فِي الْحُجَّةِ أَنَّهُ لَا يُعِيدُ. [21/ 160 - 161]
2437 -
قَوْلُهُ: "أَقرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِن رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ"
(2)
؛ أَيْ: مِن الْأَفْعَالِ، فَلَمْ تَدْخُلْ الْأقْوَالُ فِي ذَلِكَ.
وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْأقْرَبِ وَالْأَفْضَلِ، فَقَد يَكون بَعْضُ الْأعْمَالِ أَفْضَلَ مِن السُّجُودِ وَإِن كَانَ فِي السُّجُودِ أَقْرَبَ؛ كَالْجِهَادِ فَإِنَّهُ سَنَامُ الْعَمَلِ. [21/ 293 - 294]
2438 -
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: إنَّ الصَّبِيَّ إذَا صَلَّى ثُمَّ بَلَغَ لَمْ يُعِد الصَّلَاةَ؛
(1)
رواه مسلم (537).
(2)
رواه مسلم (482).
لِأَنَّهَا تِلْكَ الصَّلَاةُ بِعَيْنِهَا سَابَقَ إلَيْهَا قَبْلَ وَقْتِهَا، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد، وَهَذَا الْقَوْلُ أقْوَى مِن إيجَابِ الْإِعَادَةِ، وَمَن أوْجَبَهَا قَاسَهُ عَلَى الْحَجِّ وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ. [21/ 377]
2439 -
هَذَا الْحَدِيثُ: "كُلُّ صَلَاةٍ لَمْ تَنْهَ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ صَاحِبُهَا مِنَ اللهِ إلا بُعْدًا"
(1)
: لَيْسَ بِثَابِتٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لَكِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ كَمَا ذَكَرَ اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَبِكُلِّ حَالٍ فَالصَّلَاةُ لَا تَزِيدُ صَاحِبَهَا بُعْدًا؛ بَلِ الَّذِي يُصَلِّي خَيْرٌ مِنَ الَّذِي لَا يُصَلِّي، وَأَقْرَبُ إلَى اللّهِ مِنْهُ وَإِن كَانَ فَاسِقًا. [22/ 5 - 6]
2440 -
صَلَاةُ السَّكرَانِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ لَا تَجُوزُ بِاتِّفَاقِ؛ بَل وَلَا يَجُوزُ أنْ يُمَكَّنَ مِن دُخُولِ الْمَسْجِدِ. [22/ 6]
2441 -
يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُطَاعٍ أَنْ يَأْمُرَ مَن يُطِيعُهُ بِالصَّلَاةِ، حَتَّى الصِّغَارَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مُرُوهُم بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ، وَاضْرِبُوهُم عَلَيْهَا لِعَشْر، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُم: في الْمَضَاجعِ"
(2)
. [22/ 50]
2442 -
لَيْسَتْ [أي: الْبِيَع وَالْكَنَائِس] بُيُوتَ اللّهِ، وإنَّمَا بيُوتُ اللهِ الْمَسَاجِدُ؛ بَل هِيَ بُيُوتٌ يُكْفَرُ فِيهَا بِاللّهِ.
وَأمَّا الصَّلَاةُ فِيهَا فَفِيهَا ثَلَاثَةُ اقْوَالٍ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أحْمَد وَغَيْرِهِ:
أ- الْمَنْعُ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
ب- وَالْإِذْنُ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أصْحَابِ أَحْمَد.
ج- وَالثالِثُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَأثُورُ عَن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب وَغَيْرِهِ وَهُوَ مَنْصُوصٌ عَن أحْمَد وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ إنْ كَانَ فِيهَا صُوَرٌ لَمْ يُصَلَّ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ
(1)
قال ابن كثير رحمه الله بعد أن ساق الحديث-: وَالْأصحُّ فِي هَذَا كُلَّهِ الْمَوْقُوفَاتُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسِ، وَالْحَسَنِ وقَتَادَةَ، وَالأعْمَشِ وَغَيْرِهِمْ. تفسير ابن كثير (6/ 281).
(2)
صحَّحه الألباني في حجاب المرأة (22).
لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ، وَلأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَدْخُلْ الْكَعْبَةَ حَتَّى مُحِيَ مَا فِيهَا مِن الصُّوَرِ، وَكَذَلِكَ قَالَ عُمَرُ: إنَّا كُنَّا لَا نَدْخُلُ كَنَائِسَهُم وَالصُّوَرُ فِيهَا.
وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمَسْجِدِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْقَبْرِ
(1)
.
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُن فِيهَا صُوَرٌ فَقَد صَلَّى الصَّحَابَةُ فِي الْكَنِيسَةِ. [22/ 162 - 163]
2443 -
الصَّلَاةُ عَلَى السَّجَّادَةِ بِحَيْثُ يَتَحَرَّى الْمُصَلِّي ذَلِكَ: لَمْ تَكُنْ هَذِهِ سُنَّةَ السَّلَفِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَمَن بَعْدَهُم مِن التَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَانٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم؛ بَل كَانُوا يُصَلُّونَ فِي مَسْجِدِهِ عَلَى الْأَرْضِ لَا يَتَّخِذُ أَحَدُهُم سَجَّادَةً يَخْتَصُّ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا
(2)
.
(1)
فالصلاة فيه لا تجوز حتى يزال القبر.
(2)
قال ابن القيِّم رحمه الله: كذلك ترى أحدهم لا يصلِّي إلا على سجادة، ولم يصلِّ عليه السلام على سجادة قط، ولا كانت السجادة تفرش بين يديه، بل كان يصلِّي على الأرض، وربما سجد في الطين، وكان يصلِّي على الحصير فيصلي على ما اتفق بسطه، فإن لم يكن ثمة شيء صلَّى على الأرض. إغاثة اللهفان (126).
ولا يعني هذا أن الصلاة على السجاد مكروهة أو بدعة، وإنما المحذور تقصد ذلك كما يفعله الكثير من النساء في هذا الزمان، فلا تكاد تجد امرأة تصلي إلا على سجاد.
وقد صحت أحاديث كثيرة في الصلاة على السجاد والحصير، منها:
ما رواه البخاري (326)، ومسلم (513)، عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت تكون حائضًا لا تصلي وهي مفترشة بحذاء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي على خمرته، إذا سجد أصابني بعض ثوبه.
وما رواه البخاري (373)، ومسلم (658)، عن أنس بن مالك أن جدته مليكة دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعته له فأكل منه ثم قال: قوموا فلأصلِّ لكم، قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسودَّ من طول ما لبس فنضحته بماء، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصففتُ واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا، فصلَّى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ثم انصرف.
وقد بوَّب عليه البخاري بقوله: باب الصلاة على الحصير.
وما رواه البخاري (5524)، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحتجر حصيرًا بالليل فيصلي عليه ويبسطه بالنهار فيجلس عليه.
وما رواه مسلم (519)، عن أبي سعيد الخدري أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم قال: فرأيته يصلي على حصير يسجد عليه.
وَعَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: "كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي شِدَّةِ الْحَرِّ فَإذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أنْ يُمَكِّنَ جَبْهَتَهُ مِنَ الْأَرْضِ بَسَطَ ثَوْبَهُ فَسَجَدَ عَلَيْهِ"
(1)
. أَخْرَجَهُ صَاحِبُ الصِّحَاحِ؛ كَالْبُخَاريِّ وَمُسْلِمٍ وَأَهْلُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُم.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ: بَيَانُ أَنَّ أَحَدَهُم إنَّمَا كَانَ يَتَّقِي شِدَّةَ الْحَرِّ بِأَنْ يَبْسُطَ ثَوْبَهُ الْمُتَّصِلَ؛ كَإزَاره وَرِدَائِهِ وَقَمِيصِهِ فَيَسْجُدُ عَلَيْهِ.
وَهَذَا بَيِّنٌ أَنَّهُم لَمْ يَكُونُوا يُصَلُّونَ عَلَى سَجَّادَاتٍ؛ بَل وَلَا على حَائِلٍ. [22/ 163 - 165]
2444 -
فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَن خباب بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: "شَكوْنَا إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم شِدَّةَ حَرِّ الرَّمْضَاءِ فِي جِبَاهِنَا وَأَكُفِّنَا فَلَمْ يُشْكِنَا"
(2)
.
(1)
رواه البخاري (1208)، ومسلم (620).
(2)
وجاء عند البخاري عنه أنه قال: أتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بِبُرْدَةٍ وَهُوَ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، وَقَد لَقِينَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ شِدَّةً، فَقَلْتُ ألَا تَدْعُو اللهَ؟ فَقَعَدَ وَهُوَ مُحْمَرُّ الْوَجْهِ، فَقَالَ: قَد كَانَ مَن كَانَ قَبلَكُمْ لَيُمَشَّطُ بِأمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عِظَامِهِ مِن لَحْمٍ أو عَصَبِ، مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَن دِينِهِ، ويُوضَعُ الْمِنْشَارُ عَلَى مِفْرَقِ رَأسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَن دِينِهِ، وَلَيُتِمَّنَّ اللهُ هَذَا الأمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، مَا يَخَافُ إِلَّا اللهَ عز وجل.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله -بعد أن ساق الحديثين-: وَالَّذِى يَقَعُ لِي -وَاللهُ أعْلَمُ- أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ- أي: قوله: شَكَوْنَا إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم شِدَّةَ حَرِّ الرَّمْضَاءِ فِي جِبَاهِنَا وَأَكُفَّنَا فَلَمْ يُشْكِنَا- مُخْتَصَرٌ مِنَ الْأوَّلِ، وَهُوَ أنَّهُم شَكَوْا إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم مَا يَلْقَوْنَ مِنَ الْمُشرِكِينَ مِنَ التَّعْذِيبِ بِحَرِّ الرَّمْضَاءِ، وَأَنَّهُم يَسحَبُونَهُم عَلَى وُجُوهِهِمْ فَيَتَّقُونَ بِأَكُفِّهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن أَنْوَاعِ الْعَذَابِ، وَسَأَلُوا مِنْهُ صلى الله عليه وسلم أنْ يَدْعُوَ اللهَ لَهُم عَلَى الْمُشْرِكِينَ، أو يَسْتَنْصِرَ عَلَيْهِمْ، فَوَعَدَهُم ذَلِكَ وَلَمْ يُنْجِزْهُ لَهُم فِي الْحَالَةِ الرَّاهِنَةِ، وَأَخْبَرَهُم عَمَّن كَانَ قَبْلَهُم أَنَّهُم كَانُوا يَلْقَوْنَ مِنَ الْعَذَابِ مَا هُوَ أَشَدُّ مِمَّا أَصَابَهُمْ، وَلَا يَصْرِفُهُم ذَلِكَ عَن دِينِهِمْ، وَيُبَشِّرُهُم أَنَّ اللهَ سَيُتِمُّ هَذَا الْأَمْرَ، وَيُظْهِرُهُ، وَيُعْلِيهِ، وينْشُرُهُ، وينْصُرُهُ فِي الْأقَالِيمِ وَالْآفَاقِ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعَاءَ إلَى حَضرَمَوْتَ، لَا يَخَافُ إِلَّا اللهَ عز وجل وَالذِّئبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ؛ وَلهَذَا قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَرَّ الرَّمْضَاءِ فِي وُجُوهِنَا وَأكُفِّنَا، فَلَمْ يُشْكنَا؛ أيْ: لَمْ يَدْعُ لَنَا فِي السَّاعَةِ الرَاهِنَةِ.
فَمَنِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى عَدَمِ الْإِبْرَادِ، أو عَلَى وُجُوب مُبَاشَرَةِ الْمُصَلِّىِ بِالْكَفِّ، كَمَا هُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ: فَفِيهِ نَظَرٌ. البداية والنهاية (4/ 151).
وَقَد ظَنَّ طَائِفَةٌ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ
(1)
فِي "مُسْلِمٍ" وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَسَبَبُ هَذِهِ الشَّكْوَى: أَنَّهُم كَانُوا يَسْجُدُونَ عَلَى الْأَرْضِ فَتَسْخَنُ جِبَاهُهُم وَأَكُفُّهُمْ، وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ زِيادَةً عَلَى مَا كَانَ يُؤَخِّرُهَا وَيُبْرِدُ بِهَا فَلَمْ يَفْعَلْ.
وَقَد ظَنَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُم طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَسْجُدُوا عَلَى مَا يَقِيهِمْ مِن الْحَرِّ مِن عِمَامَةٍ وَنَحْوِهَا فَلَمْ يَفْعَلْ، وَجعَلُوا ذَلِكَ حُجَّةً فِي وُجُوبِ مُبَاشَرَةِ الْمُصَلِّي بِالْجَبْهَةِ، وَهَذِهِ حُجَّةٌ ضَعِيفَة لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَنَسٍ الْمُتَّفَقُ عَلَى صِحَّتِهِ: "وَأَنَّهُم كَانُوا إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُهُم أَنْ يُمَكنَ جَبْهَتَهُ مِن الْأَرْضِ بَسَطَ ثَوْبَهُ وَسَجَدَ عَلَيْهِ".
وَالسُّجُودُ عَلَى مَا يَتَّصِلُ بِالْإِنْسَانِ مِن كُمِّهِ وَذَيْلِهِ وَطَرَفِ إزَارِهِ وَرِدَائِهِ فِيهِ النِّزَاعُ الْمَشْهُورُ.
وَقَالَ هِشَامٌ عَن الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْجُدُونَ وَأَيْدِيهِمْ فِي ثِيَابِهِمْ، وَيَسْجُدُ الرَّجُلُ عَلَى عِمَامَتِهِ. رَوَاهُ البيهقي.
وَقَد اسْتَشْهَدَ بِذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ السُّجودِ عَلَى الثَّوْبِ مِن شِدَّةِ الْحَرِّ فَقَالَ: "وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ الْقَوْمُ يَسْجُدُونَ عَلَى الْعِمَامَةِ وَالْقَلَنْسُوَةِ ويدَاهُ فِي كُمِّهِ".
وَرَوَى حَدِيثَ أَنَسٍ الْمُتَقَدِّمَ قَالَ: "كُنَّا نُصَلّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَضَعُ أَحَدُنَا الثَّوْبَ مِن شِدَّةِ الْحَرِّ فِي مَكَانِ السُّجُودِ".
فَالْأحَادِيثُ وَالْاَثَارُ تَدُل عَلَى أَنَّهُم فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ كَانُوا يُبَاشِرُونَ الْأَرْضَ بِالْجِبَاهِ، وَعِنْدَ الْحَاجَةِ كَالْحَرِّ وَنَحْوِهِ يَتَّقُونَ بِمَا يَتَّصِلُ بهِم مِن طَرَفِ ثَوْبٍ وَعِمَامَةٍ وَقَلَنْسُوَةٍ؛ وَلهَذَا كَانَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْألةِ أَنَّهُ يُرَخَّصُ
(1)
أي: قوله: فِي جِبَاهِنَا وَأَكُفنَا. وهي عند البيهقي.
فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ، ويُكْرَهُ السُّجُودُ عَلَى الْعِمَامَةِ وَنَحْوِهَا عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ
(1)
.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَو كَانَ مَطْلُوبُهُم مِنْهُ السُّجودَ عَلَى الْحَائِلِ لَأَذِنَ لَهُم فِي اتِّخَاذِ مَا يَسْجُدُونَ عَلَيْهِ مُنْفَصِلًا عَنْهُمْ، فَقَد ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الْخُمْرَةِ
(2)
فَقَالَتْ مَيْمُونَةُ: "كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَى الْخُمْرَةِ". أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ "الصَّحِيحِ"؛ كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ
(3)
.
فَهَذَا صَلَاتُهُ عَلَى الْخُمْرَةِ، وَهِيَ نَسْجٌ يُنْسَجُ مِن خُوصٍ كَانَ يُسْجَدُ عَلَيْهِ.
وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الصَّلَاةِ عَلَى مَا يُفْرَشُ -بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ- عُلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَمْنَعْهُم أنْ يَتَّخِذُوا شَيْئًا يَسْجُدُونَ عَلَيْهِ يَتَّقُونَ بِهِ الْحَرَّ، وَلَكِنْ طَلَبُوا مِنْهُ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ زِيادَةً عَلَى مَا كَانَ يُؤَخِّرُهَا فَلَمْ يُجِبْهُمْ، وَكَانَ مِنْهُم مَن يَتَّقِي الْحَرَّ إمَّا بِشَيءٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ، وَإِمَّا بِمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِن طَرَفِ ثَوْبِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَفِي حَدِيثِ الْخُمْرَةِ حُجَّةٌ لِمَن يَتَّخِذُ السَّجَّادَةَ كَمَا قَد احْتَجَّ بِذَلِكَ بَعْضهُم.
(1)
وهذا رأي العلَّامة محمد بن عثيمين رحمه الله.
وبعض أهل العِلْم كَرِه السجود على كور العمامة إذا كان كبيرًا.
قال القرطبي: يُكْرَه السجود على كَور العمامة، وإن كان طاقة أو طاقتين مثل الثياب التي تَسْتر الرُّكَب والقَدَمين فلا بأس، والأفضل مُباشرة الأرض أوْ مَا يَسْجد عليه. اهـ.
ومثله في عصرنا هذا: الغترة والطاقية، فلا تكره على اختيار القرطبي.
والذي يظهر أنه لا يُكرَه السجود على شيء متّصل بالمصلي ولا منفصل عنه، إلا إذا كان ذلك يُؤدي إلى كثرة الحركة، فتكره من هذا الباب.
(2)
قال في النهاية: هي مقدار ما يضع الرجل عليه وجهه في سجوده من حصير أو نسيجة خوص ونحوه من النبات، ولا تكون خمرة إلا في هذا المقدار. اهـ.
قال الشيخ: وَأمَّا اتِّخَاذُهَا كَبِيرَةً يُصَلِّي عَلَيْهَا يَتَقِي بِهَا النَّجَاسَةَ وَنَحْوَهَا: فَلَمْ يَكُن النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَّخِذُ سَجَّادَةً يُصَلِّي عَلَيْهَا وَلَا الصَّحَابَةُ، بَل كَانُوا يُصَلُّونَ حُفَاةً وَمُنْتَعِلِينَ، وَيُصَلُّونَ عَلَى التُّرَابِ وَالْحَصِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن غَيرِ حَائِلٍ. اهـ. (22/ 192)
(3)
رواه البخاري (379)، ومسلم (513).
قِيلَ: الْجَوَابُ عَن ذَلِكَ مِن وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُن يُصَلِّي عَلَى الْخُمْرَةِ دَائِمَا؛ بَل أَحْيَانًا، كَأَنَّهُ كَانَ إذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ يَتَّقِي بِهَا الْحَرَّ وَنَحْو ذَلِكَ .. فَلَمْ يَكُن فِي هَذَا حُجَّة لِمَن يَتَّخِذ السَّجَّادَةَ يُصَلِّي عَلَيْهَا دَائِمًا.
وَالثَّانِي: قَد ذَكَرُوا أَنَّهَا كَانَت لِمَوْضِعِ سُجُودِهِ لَمْ تَكُنْ بِمَنْزِلَةِ السَّجَّادَةِ الَّتِي تَسَعُ جَمِيعَ بَدَنِهِ، كَأَنَّهُ كَانَ يَتَّقِي بِهَا الْحَرَّ، هَكَذَا قَالَ أَهْلُ الْغَرِيبِ.
قَالُوا: "الْخُمْرَةُ" كَالْحَصِيرِ الصَّغِيرِ تُعْمَلُ مِن سَعَفِ النَّخْلِ، وَتُنْسَجُ بِالسُّيُورِ وَالْخُيُوطِ، وَهِيَ قَدْرُ مَا يُوضَعُ عَلَيْهِ الْوَجْهِ وَالْأَنْفِ، فَإذَا كَبِرَتْ عَن ذَلِكَ فَهِيَ حَصِيرٌ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِسَتْرِهَا الْوَجْهَ وَالْكَعْبَيْنِ مِن حَرِّ الْأَرْضِ وَبَرْدِهَا.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْخُمْرَةَ لَمْ تَكُنْ لِأَجْلِ اتِّقَاءِ النَّجَاسَةِ أَو الِاحْتِرَازِ مِنْهَا كَمَا يُعَلِّلُ بِذَلِكَ مَن يُصَلِّي عَلَى السَّجَّادَةِ
(1)
.
أَمَّا الْغُلَاةُ مِن الْمُوَسْوِسِينَ: فَإِنَّهُم لَا يُصَلُّونَ عَلَى الْأَرْضِ، وَلَا عَلَى مَا يُفْرَشُ لِلْعَامَّةِ عَلَى الْأَرْضِ، لَكِنْ عَلَى سَجَّادَةِ وَنَحْوِهَا.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَإذَا لَمْ يَكُن عَالِمًا بالنَّجَاسَةِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ بَاطِنًا
(2)
وَظَاهِرًا، فَلَا حَاجَةَ بِهِ حِينَئِذٍ عَن السُّؤَالِ عَن أَشْيَاءَ إنْ أبْدِيَتْ سَاءَتْهُ قَد عَفَا اللهُ عَنْهَا. [22/ 163 - 186]
(1)
وقد ذكر الشيخ أنّه لَا يُسْتَحَبُّ الْبَحْثُ عَمَّا لَمْ يَظْهَرْ مِن النَّجَاسَةَ، وَلَا الِاحْتِرَازُ عَمَّا لَيْسَ عَلَيهِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ لِاحْتِمَالِ وَجُودِهِ. (22/ 184)
ومرّ مثل هذا في باب إزالة النجاسة.
(2)
أي: بينه وبين الله، فعبادته صحيحةٌ ولو كانت عليه نجاسة لم يعلم بها، وعلى هذا: فالذي يشك في خروج قطرات من بوله لا ينبغي أن يلتفت إلى ذلك، فما دام أنه لم يتأكد تأكدًّا تامًّا بأنها خرجت فلا حرج عليه ولو خرجت في الواقع، ووضوؤه وعبادته لم تبطل عند الله تعالى. فلا حجة في ذلك للموسوسين.
2445 -
وأما مَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِن تَقْدِيمِ مَفَارِشَ إلَى الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَو غَيْرِهَا قَبْلَ ذَهَابِهِم إلَى الْمَسْجِدِ فَهَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِاتّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَل مُحَرَّمٌ
(1)
.
وَهَل تَصِحُّ صَلَاتُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَفْرُوشِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ؛ لِأَّنَّهُ غَصَبَ بُقْعَةً فِي الْمَسْجِدِ بِفَرْشِ ذَلِكَ الْمَفْرُوشِ فِيهَا وَمَنَعَ غَيْرَهُ مِنَ الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ يَسْبِقُونَهُ إلَى الْمَسْجِدِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ.
وَالْمَأمُورُ بِهِ أَنْ يَسْبِقَ الرَّجُلُ بِنَفْسِهِ إلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا قَدَّمَ الْمَفْرُوشَ وَتَأَخرَ هُوَ فَقَد خَالَفَ الشَّرِيعَةَ مِن وَجْهَيْنِ:
أ- مِن جِهَةِ تَأَخُّرِهِ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالتَّقَدُّمِ.
ب- وَمِن جِهَةِ غَصْبِهِ لِطَائِفَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ وَمَنْعِهِ السَّابِقِينَ إلَى الْمَسْجِدِ أَنْ يُصَلُّوا فِيهِ، وَأنْ يُتمُّوا الصَّفَّ الْأَوَّلَ فَالْأوَّلَ، ثُمَّ إنَّهُ يَتَخَطَّى النَّاسَ إذَا حَضَرُوا.
ثُمَّ إذَا فَرَشَ هَذَا: فَهَل لِمَن سَبَقَ إلَى الْمَسْجِدِ أَنْ يَرْفَعَ ذَلِكَ وَيُصَلِّىِ مَوْضِعَهُ؟
فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ.
وَالثَّانِي -وَهوَ الصَّحِيحُ-: أَنَّ لِغَيْرِهِ رَفْعَهُ وَالصَّلَاةَ مَكَانَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا السَّابِقَ يَسْتَحِقُّ الصَّلَاةَ فِي ذَلِكَ الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ، وَهُوَ مَأمُورٌ بِذَلِكَ أَيْضًا، وَهُوَ لَا يَتَمَكَّنُ مِن فِعْلِ هَذَا الْمَأْمُورِ وَاسْتِيفَاءِ هَذَا الْحَقِّ إلَّا بِرَفْعِ ذَلِكَ الْمَفْرُوشِ، وَمَا لَا يَتمُّ الْمَأمُورُ إلَّا بِهِ فَهُوَ مَأمُورٌ بِهِ.
(1)
وقال رحمه الله: لَيْسَ لِأحَدٍ أنْ يَفْرِشُ شَيْئًا ويخْتَصَّ بِهِ مَعَ غَيْبَتِهِ ويمْنَعَ بِهِ غَيْرَهُ، هَذَا غَصْبٌ لِتِلْكَ الْبُقْعَةِ، وَمَنْعٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِمَّا أمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِن الصَّلَاةِ.
وَالسُّنةُ أنْ يَتَقَدَّمَ الرَّجُلُ بِنَفْسِهِ، وَأمَّا مَن يَتَقَدَّمُ بِسَجَّادَة فَهُوَ ظَالِمٌ يُنْهَى عَنْهُ، ويَجِبُ رَفْعُ تِلْكَ السَّجَاجِيدِ ويُمَكنُ النَّاسُ مِن مَكَانِهَا.
هَذَا مَعَ أَنَّ أَصْلَ الْفَرْشِ بِدْعَةٌ، لَا سِيَّمَا فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. (24/ 216)
وَأيْضًا: فَذَلِكَ الْمَفْرُوشُ وَضَعَهُ هُنَاكَ عَلَى وَجْهِ الْغَصْبِ وَذَلِكَ مُنْكَرٌ، وَقَد قَالَ النَبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" مَن رَأى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ"
(1)
.
لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى فِي ذَلِكَ أنْ لَا يَؤُولَ إلَى مُنْكَرٍ أَعْظَمَ مِنْهُ. [22/ 189 - 191]
2446 -
لَيْسَ لِأحَد أنْ يَتَحَجَّرَ مِن الْمَسْجِدِ شَيْئًا: لَا سَجَّادَة يَفْرِشُهَا قَبْلَ حُضورِهِ، وَلَا بِسَاطًا وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ.
وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ، لَكنْ يَرْفَعُهَا وَيُصَلِّي مَكَانَهَا فِي أصَحِّ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ. [22/ 193]
2447 -
لو غصب مسجدًا وغيَّرَه، بأن حوله عن كونه مسجدًا بدعوى ملكه أو وقفه على جهةٍ أخرى: لم تصح صلاته فيه، وإن أبقاه مسجدًا ومنع الناس من الصلاة فيه ففي صحة صلاته فيه وجهان، اختار طائفة من المتأخرين الصحة، والأقوى البطلان. [المستدرك 3/ 69]
2448 -
لو كان المصلي جاهلًا بالمكان والثوب أنه حرام فلا إعادة عليه .. وكذا إذا لم يعلم بالتحريم لم يكن فعله معصية؛ بل يكون طاعة. [المستدرك 3/ 70]
2449 -
أما المحبوس في مكان مغصوب فينبغي أن لا تجب عليه الإعادة إذا صلى فيه قولًا واحدًا؛ لأن لبثه فيه ليس بمحرم. [المستدرك 3/ 70]
2450 -
إِنَّ الْإِمَامَ عَلَيْهِ أنْ يُصَلِّيَ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي، لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى مَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ الْمُنْفَرِدُ
(2)
؛ بَل يُنْهَى عَن التَّطْوِيلِ وَالتَّقْصِيرِ، فَكيْفَ
(1)
رواه مسلم (49).
(2)
كأن يقتصر على تسبيحة واحدة في الركوع والسجود.
إذَا أصَرَّ عَلَى مَا يُنْهَى عَنْهُ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ وَالْمُنْفَرِد؟
(1)
. [22/ 256]
2451 -
مِن شَعَائِرِهَا [أي: الصَّلَاةِ]: مَسْأَلَةُ الْبَسْمَلَةِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ اضْطَرَبُوا فِيهَا نَفْيًا وَإِثْبَاتًا فِي كَوْنِهَا آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ وَفِي قِرَاءَتِهَا، وَصُنفْت مِنَ الطَّرَفَيْنِ مُصَنَّفَات يَظْهَرُ فِي بَعْضِ كَلَامِهَا نَوْعُ جَهْلٍ وَظُلْمٍ.
مَعَ أنَّ الْخَطْبَ فِيهَا يَسِيرٌ.
وَأَمَّا التَّعَصُّبُ لِهَذِهِ الْمَسَائِلِ وَنَحْوِهَا فَمِن شَعَائِرِ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي نُهِينَا عَنْهَا؛ إذِ الدَّاعِي لِذَلِكَ هُوَ تَرْجِيحُ الشَّعَائِرِ الْمُفْتَرِقَةِ بَيْنَ الْأمَّةِ، وَإِلَّا فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مِن أخَفِّ مَسَائِلِ الْخِلَافِ جَدًّا، لَوْلَا مَا يَدْعُو إلَيْهِ الشَّيْطَانُ مِن إظْهَارِ شِعَارِ الْفُرْقَةِ. [22/ 405 - 406]
2452 -
مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ ذِكْرَ الْقِيَامِ -الَّذِي هُوَ الْقِرَاءَةُ- أفْضَلُ مِن ذِكْرِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَلَكِنْ نَفْسُ عَمَلِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ افْضَلُ مِن عَمَلِ الْقِيَامِ؛ وَلهَذَا كَانَ عِبَادَةً بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي شَرْعِنَا إلَّا للّهِ بِوَجْهِ مِنَ الْوُجُوهِ. [22/ 544]
2453 -
فَصْلٌ
(2)
فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ وَهُوَ نَوْعَانِ:
أ- خَبَرٌ عَن أَهْلِ السُّجُودِ وَمَدْحْ لَهُمْ.
ب- أو أمْرٌ بِهِ وَذَمٌّ عَلَى تَرْكِهِ.
فَالسِّتَّةُ الْأوَلُ إلَى الْأولَى مِن الْحَج خَبَرٌ وَمَدْحٌ.
وَالتِّسْعُ الْبَوَاقِي مِن الثَّانِيَةِ مِن الْحَجِّ أَمْرٌ وَذَمٌّ لِمَن لَمْ يَسْجُدْ، إلَّا "صَ".
فَنَقُولُ: قَد تَنَازَعَ النَّاسُ فِي وُجُوبِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ .. وَاَلَّذِي يَتبَيَّنُ لِي أنَّهُ وَاجِب؛ فَإِنَّ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا مَدْحٌ لَا تَدُلُّ بِمُجَرَّدِهَا عَلَى الْوُجُوبِ، لَكِنَّ آياتِ
(1)
كأن ينقر الصلاة نقر الغراب، أو يبتدع في صلاته.
(2)
هذا مما كتبه في سجن القلعة.
الْأَمْرِ وَالذَّمّ وَالْمُطْلَق مِنْهَا قَد يُقَالُ: إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الصَّلَاةِ، كَالثَّانِيَةِ مِن الْحَجِّ وَالْفُرْقَانِ وَاقْرَأ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، فَكَيْفَ وَفِيهَا مَقْرُونٌ بِالتِّلَاوَةِ؛ كَقَوْلِهِ:{إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15)} [السجدة: 15] فَهَذَا نَفْيٌ لِلْإِيمَانِ بِالْآيَاتِ عَمَّن لَا يَخِرُّ سَاجِدًا إذَا ذُكّرَ بِهَا، وَإِذَا كَانَ سَامِعًا لَهَا فَقَد ذُكِّرَ بِهَا.
وَكَذَلِكَ "سُورَةُ الِانْشِقَاقِ"{فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21)} [الانشقاق: 20، 21] وَهَذَا ذَمٌّ لِمَن لَا يَسْجُدُ إذَا قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ؛ كَقَوْلِهِ: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)} [المدثر: 49]{وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ} [الحديد: 8].
لَكِنَّ السُّجُودَ الْمَأْمُورَ بِهِ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِسُجُودِ الصَّلَاةِ: فَلَيْسَ هُوَ مُخْتَصًّا بِسُجُودِ التِّلَاوَةِ، فَمَن ظَنَّ هَذَا أَو هَذَا فَقَدَ غَلِطَ؛ بَل هُوَ مُتَنَاوِلٌ لَهُمَا جَمِيعًا كَمَا بَيّنهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم.
فَالسُّنَّةُ تُفَسِّرُ الْقُرْآنَ وَتُبَيِّنهُ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ؛ فَالسُّجُودُ عِنْدَ سَمَاعِ آيَةِ السَّجْدَةِ هُوَ سُجُودٌ مُجَرَّدٌ عِنْدَ سَمَاعِ آيَةِ السَّجْدَةِ، سَوَاءٌ تُلِيَتْ مَعَ سَائِرِ الْقُرْآنِ أَو وَحْدَهَا، لَيْسَ هُوَ سُجُودًا عِنْدَ تِلَاوَةِ مُطْلَقِ الْقُرْآنِ
(1)
.
وَأَمَّا قَوْلُهُ عَن دَاوُد عليه السلام: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)} [ص: 24] لَا ريْبَ أَنَّهُ سَجَدَ، كَمَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ سَجَدَ للّهِ، وَاللّهُ سُبْحَانَهُ مَدَحَهُ بِكَوْنِهِ خَرَّ رَاكِعًا، وَهَذَا أَوَّلُ السُّجُودِ وَهُوَ خُرُورُهُ، فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَوَّلَ فِعْلِهِ وَهُوَ خُرُورُهُ رَاكِعًا، لِيُبَيّنَ أَنَّ هَذَا عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخُرُورَ هُوَ أَوَّلُ الْخُضوعِ الْمُنَافِي لِلْكِبْرِ، فَإِنَّ الْمُتَكَبّرَ يَكْرَهُ أَنْ يَخِرَّ ويُحِبَّ أَنْ لَا يَزَالَ مُنْتَصِبًا مُرْتَفِعًا.
(1)
أي: أنّ سجدة التلاوةِ إنما تُشرع عند ورود آية فيها السجدة، لا عند تلاوة القرآن مطلقًا، ولو لم ترد آية فيها سجدة.
ولهَذا يَأْنَفُ مِنْهُ أَهْلُ الْكِبْرِ مِن الْعَرَبِ وَغَيْرِ الْعَرَبِ، فَكَانَ أَحَدُهُم إذَا سَقَطَ مِنْهُ الشَّيءُ لَا يَتَنَاوَلُهُ لِئَلَّا يَخِرّ وَيَنْحَنِي، فَإِنَّ الْخُرُورَ انْخِفَاضُ الْوَجْهِ وَالرَّأسِ وَهوَ أَعْلَى مَا فِي الْإِنْسَانِ وَأَفْضَلُهُ وَهُوَ قَد خُلِقَ رَفِيعًا مُنْتَصِبًا فَإِذَا خَفَضَهُ لَا سِيَّمَا بِالسُّجُودِ كَانَ ذَلِكَ غَايَةَ ذُلِّهِ؛ وَلهَذَا لَمْ يَصْلُح السُّجُودُ إلَّا للّهِ، فَمَن سَجَدَ لِغَيْرِهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ، وَمَن لَمْ يَسْجُدْ لَهُ فَهُوَ مُسْتَكْبِرٌ عَن عِبَادَتِهِ، وَكِلَاهُمَا كَافِرٌ مِن أَهْلِ النَّارِ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ الْأَمْرَ بِالسُّجُودِ تَابعٌ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ كُلِّهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21)} [الانشقاق: 20، 21] فَهَذَا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْقرْآنِ، وَأَنَّهُ مَن قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْاَنُ فَهُوَ مَأمُورٌ بِالسُّجُودِ، وَالْمُصَلِّي قَد قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَذَلِكَ سَبَبٌ لِلْأَمْرِ بِالسُّجُودِ، فَلِهَذَا يَسْمَعُ الْقُرْآنَ وَيَسْجُدُ الْإِمَامُ، وَالْمُنْفَرِدُ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ نَفْسِهِ وَهُوَ يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ الْقُرْآنَ.
وَقَد يُقَالُ: لَا يُصَلُّونَ؛ لَكِنْ قَوْلَهُ: {خَرُّوا سُجَّدًا (58)} [مريم: 58] صَرِيحٌ فِي السُّجُودِ الْمَعْرُوفِ لِاقْتِرَانِهِ بِلَفْظِ الْخُرُورِ.
وَأمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَفِيهَا نِزَاعٌ قَالَ أَبُو الْفَرَجِ: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21)} فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُصَلُّونَ.
وَالثَّانِي: لَا يَخْضَعُونَ لَهُ وَلَا يَسْتَكِينُونَ لَهُ، قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
قُلْت: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِن الْمُفَسِّرِينَ لَا يَذْكُرُونَ غَيْرَهُ .. وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَن مُفَسِّرِي السَّلَفِ وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ.
وَأمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: فَمَا عَلِمْت أَحَدًا نَقَلَهُ عَن أَحَدٍ مِن السَّلَفِ.
وَأمَّا أَنْ يَكُونَ سُجُودُ الْإِنْسَانِ لَا يُرَادُ بِهِ إلَّا خُضوعٌ لَيْسَ فِيهِ سُجُودُ الْوَجْهِ: فَهَذَا لَا يُعْرَفُ.
بَل يُقَالُ: هُم مَأْمُورُونَ إذَا قُرِئَ عَلَيْهِم الْقرْآن بِالسُّجُودِ، وَإِن لَمْ يَكُن السُّجُودُ التَّامُّ عَقِبَ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ، فَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ فَقَد أَتَوْا بِالسُّجودِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ، وَهُم لَمَّا قُرِئَ عَلَيْهِم حَصَلَ لَهُم نَوْعٌ مِن الْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ بِاعْتِقَادِ الْوُجُوبِ وَالْعَزْمِ عَلَى الِامْتِثَالِ، فَإِذَا اعْتَقَدُوا وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَعَزَمُوا عَلَى الِامْتِثَالِ فَهَذَا مَبْدَأُ السُّجُودِ الْمَأْمُورِ بِهِ، ثُمَّ إذَا صَلَّوْا فَهَذَا تَمَامُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا فسِّرَ السُّجودُ بِالصَّلَاةِ كَمَا قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ لَمْ يَجِبْ سُجُودُ التِّلَاوَةِ.
قِيلَ: الصَّلَاةُ مُرَادَةٌ مِن جِنْسِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تُوجِبُ عَلَى مَن قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْاَنُ أَنْ يَسْجُدَ، فَإِنْ قُرِئَ عَلَيْهِ خَارجَ الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ قَرِيبًا إذَا حَضَرَ وَقْتُ الصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ مَا مِن سَاعَةٍ يُقْرأُ عَلَيْهِ فِيهَا الْقُرْآنُ إلَّا هُوَ وَقْتُ صَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا؛ إذ بَيْنَه وَبَيْنَ وَقْتِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ أَقَلُّ مِن نِصْفِ يَوْمِ، فَإِذَا لَمْ يُصَلِّ فَهُوَ مِمَن إذَا قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُ، فَإِنْ قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ سَجْدَةً يَخِرُّ فِيهَا مِن قِيَامٍ، وَسَجْدَةٍ يَخِرُّ فِيهَا مِن قُعُودٍ، وَكُل مِنْهُمَا بَعْدَ رُكُوعٍ كَمَا بَيَّنهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم.
وَأَمَّا السُّجُودُ عِنْدَ تِلَاوَةِ هَذِهِ الْآيَةِ: فَهُوَ السُّجُودُ الْخَاصُّ، وَهُوَ سُجُودُ التِّلَاوَةِ، وَهَذَا سُجُودٌ مُبَادَرٌ إلَيْهِ عِنْدَ سَمَاعِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّهَا أَمَرَتْهُ أَنْ يَسْجُدَ إذَا قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، فَمِن تَمَامِ الْمُبَادَرَةِ أَنْ يَسْجُدَ عِنْدَ سَمَاعِهَا سُجُودَ التّلَاوَةِ، ثُمَّ يَسْجُدَ عِنْدَ تِلَاوَةِ غَيْرِهَا كَمَا تَقَدَّم.
فَتخَصُّ بِالسُّجُودِ لَهَا، ويَسْجُدُ فِي الصَّلَاةِ إذَا قُرِئَتْ كَمَا يَسْجُدُ إذَا قُرِئَ غَيْرُهَا.
وَبِهَذَا فَسَّرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَإنَّهُ سَجَدَ بِهَا فِي الصَّلَاةِ.
وَعَن أَحْمَد فِي وُجُوبِ هَذَا السُّجُودِ فِي الصَّلَاةِ رِوَايَتَانِ: وَالْأَظْهَرُ الْوُجُوبُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ؛ لِوُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ:
مِنْهَا: أَنَّ نَفْسَ الْأئِمَّةِ يُؤْمَرُونَ أَنْ يُصَلُّوا كَمَا صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ هَكَذَا صَلَّى.
وَقَوْلُهُ: {لَا يَسْجُدُونَ (21)} وَلَمْ يَقُلْ: "لَا يُصَلُّونَ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّجُودَ مَقْصُودٌ لِنَفْسِهِ، وَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ السُّجُودَ فِي الصَّلَاةِ وَخَارجَ الصَّلَاةِ، فَيَتَنَاوَلُ أَيْضًا الْخُضُوعَ وَالْخُشُوعَ كَمَا مُثِّلَ.
جَاءَ فِي "الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ": "إذَا قَرَأَ ابْن آدَمَ السَّجْدَةَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي يَقُولُ: يَا ويْلَهُ أمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْت بِالسُّجُودِ فَأبَيْت فَلي النَّارُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
وَهَذَا الْحَدِيثُ كَافٍ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْوُجُوبِ، وَكَذَلِكَ الْآيَاتُ الَّتِي فِيهَا الْأَمْرُ الْمُقَيَّد وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ أَيْضًا.
وَأَمَّا احْتِجَاجُ مَن لَمْ يُوجِبْهُ بِكَوْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْجُدْ لَمَّا قَرأَ عَلَيْهِ زيدٌ النَّجْمَ
(2)
.
وَبقُول عُمَر "لَمَّا قَرَأَ يَوْمَ الجُمُعَةِ عَلَى المِنْبَرِ بِسُورَةِ النَّحْلِ حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ نَزَلَ، فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ حَتَّى إِذَا كَانَتِ الجُمُعَةُ القَابِلَةُ قَرَأَ بِهَا، حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ، قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا نَمُرُّ بِالسُّجُودِ، فَمَن سَجَدَ فَقَد أَصَابَ، وَمَن لَمْ يَسْجُدْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ"، وَلَمْ يَسْجُدْ عُمَرُ رضي الله عنه.
وَزَادَ نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما:"إِنَّ اللّهَ لَمْ يَفْرِضِ السُّجُودَ إِلَّا أَنْ نَشَاءَ"
(3)
.
فَيُقَالُ: تِلْكَ قَضِيَّة مُعَيَّنَةٌ، وَلَعَلَّهُ لَمَّا لَمْ يَسْجُدْ زَيْدٌ لَمْ يَسْجُدْ هُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَنْتَ إمَامُنَا فَإِنْ سَجَدْت سَجَدْنَا.
(1)
(81).
(2)
رواه البخاري (1073)، ومسلم (577).
(3)
رواه البخاري (1077)، وقد أثبت الحديث من صحيحه، وتركت اللفظ الذي ذكره الشيخ، ففيه بعض التصرف.
وَقَالَ عُثْمَانُ: إنَّمَا السَّجْدَةُ عَلَى مَن جَلَسَ إلَيْهَا وَاسْتَمَعَ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْمُسْتَمِعِ وَلَا تَجِبُ عَلَى السَّامِعِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ: فَلَو كَانَ صَرِيحًا لَكَانَ قَوْلُهُ وَإِقْرَارُ مَن حَضَرَ وَلَيْسُوا كُلَّ الْمُسْلِمِينَ، وَقَوْلُ عُثْمَانَ وَغَيْرِهِ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ.
ثُمَّ يُقَالُ: قَد يَكون مُرَادُ عُمَرَ أَنَّهُ لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْنَا السُّجُودُ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَهُوَ إذَا قَرَأَهَا الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ
(1)
.
وَأَيْضًا فَسُجُودُ الْقُرْآنِ هُوَ مِن شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ، إذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فِي الْجَامِعِ سَجَدَ النَّاسُ كُلُّهُم للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَفِي تَرْكِ ذَلِكَ إخْلَالٌ بِذَلِكَ؛ وَلهَذَا رَجَّحْنَا أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأعْيَانِ كَقَوْلِ أبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ.
وَقَوْلُ مَن قَالَ: لَا تَجِبُ، فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، فَإنَّهَا مِن أَعْظَمِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، وَالنَّاسُ يَجْتَمِعُونَ لَهَا أَعْظَمَ مِن الْجُمُعَةِ.
وَأَمَّا الْأضْحِيَّةُ فَالْأظْهَرُ وُجُوبُهَا أَيْضًا؛ فَإِنَّهَا مِن أَعْظَمِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ. ونفاة الْوُجُوبِ لَيْسَ مَعَهُم نَصٌّ.
وَإنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْقَادِرِ. [23/ 136 - 160]
2454 -
سُجُودُ الْقُرْآنِ لَا يُشْرَعُ فِيهِ تَحْرِيم وَلَا تَحْلِيل، هَذَا هُوَ السُّنَّةُ الْمَعْرُوفَة عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ السَّلَفِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَن الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ، وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَتْ صَلَاةً، فَلَا تشْتَرَطُ لَهَا شُرُوطُ الصَّلَاةِ؛ بَل تَجُوزُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ. [23/ 165]
2455 -
وَسُئِلَ رحمه الله: عَن الرَّجُلِ إذَا كَانَ يَتْلُو الْكِتَابَ الْعَزِيزَ بَيْنَ جَمَاعَةٍ فَقَرَأَ سَجْدَةً فَقَامَ عَلَى قَدَمَيْهِ وَسَجَدَ، فَهَل قِيَامُهُ أفْضَلُ مِن سُجُوده وَهُوَ قَاعِدٌ أَمْ لَا؟
(1)
الأدلة الدالة على عدم الوجوب صريحةٌ صحيحة، والشيخ رحمه الله ورفع منزلته في الجنة- صرفها عن ظاهرها، والراجح عند كثير من أهل العلم أنها ليست واجبة.
فَأَجَابَ: بَل سُجُودُ التِّلَاوَةِ قَائِمًا أَفْضَلُ مِنْهُ قَاعِدًا كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مَن ذَكَرَهُ مِن الْعُلَمَاءِ مِن أَصْحَاب الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا، وَكَمَا نُقِلَ عَن عَائِشَةَ بَل وَكَذَلِكَ سُجُودُ الشُّكْرِ
(1)
. [23/ 173]
2456 -
الْمُصَافَحَةُ عَقِيبَ الصَّلَاةِ لَيْسَتْ مَسْنُونَةً؛ بَل هِيَ بِدْعَةٌ. [23/ 339]
* * *
الوسوسة والشك في النية
2457 -
إنَّ الْأَفْعَالَ الِاخْتِيَارِيَّةَ لَا تُتَصَوَّرُ إلَّا بِإِرَادَةٍ تَقُومُ بِنَفْسِ الْإِنْسَانِ، وَكُلُّ مَن فَعَلَ فِعْلًا اخْتِيَارِيًّا وَهُوَ يَعْرِفُهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يُرِيدَهُ؛ كَاَلَّذِي يَأكُلُ ويشْرَبُ ويلْبَسُ وَهُوَ يَعْرِفُ أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُرِيدَهُ.
فَالْإِنْسَانُ إذَا قَامَ إلَى صَلَاةٍ يَعْلَمُ أَنَّهَا الظُّهْرَ فَمِنَ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ وَهُوَ يَعْلَمُ هَذَا لَمْ يَنْسَهُ، وَلَا يُرِيدُ صَلَاةَ الظُّهْرِ.
(1)
لا يعني كون سُجُود التِّلَاوَةِ والشكر قَائِمًا أفْضَلُ مِنْهُ قَاعِدًا أنْ يقوم ليخر ساجدًا، وكما يُقال: بأن غسل القدمين أفضل من المسح عند جمهور العلماء، لا يعني ذلك أن يخلع الإنسان خفه عند الوضوء لغسل رجليه.
ومن المعلوم أنْ هذا السجود تكرر كثيرًا في زمن الصحابة والتابعين، فهل ثبت ذلك عنهم وهم أحرص منا على الخير والفضل؟
قال النووي في المجموع (4/ 65): هل يستحب لمن أراد السجود أن يقوم فيستوي قائمًا، ثم يكبر للإحرام، ثم يهوي للسجود بالتكبيرة الثانية؟ فيه وجهان:
(أحدهما): يستحب.
(والثاني): وهو الأصح: لا يستحب، وهذا اختيار إمام الحرمين والمحققين.
قال الإمام: ولم أر لهذا القيام ذكرًا ولا أصلًا.
قلت: ولم يذكر الشافعي وجمهور الأصحاب هذا القيام ولا ثبت فيه شيء يعتمد مما يحتج به، فالاختيار تركه؛ لأنه من جملة المحدثات، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على النهي عن المحدثات، وأما ما رواه البيهقي بإسناده عن أم سلمة الأزدية قالت: رأيت عائشة تقرأ في المصحف فإذا مرت بسجدة قامت فسجدت. فهو ضعيف، أم سلمة هذه مجهولة. اهـ.
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (7/ 265)، رقم الفتوى (9328): لا نعلم دليلًا على شرعية القيام مِن أجل سجود التلاوة.
وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ إذَا تَصَوَّرَ أَنَّ غَدًا مِن رَمَضَانَ وَهُوَ مُرِيدٌ لِصَوْمِ رَمَضَانَ امْتَنَعَ أنْ لَا يَنْوِيَ صَوْمَهُ
(1)
. [16/ 342]
* * *
(العناية بالصلاة والأمر بها)
2458 -
رُوِيَ عَن ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ: "إنَّ فِي الصَّلَاةِ مُنْتَهًى وَمُزْدَجَرًا عَن مَعَاصِي اللّهِ، فَمَن لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَن الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ بِصَلَاتِهِ مِن اللّهِ إلَّا بُعْدًا".
وَقَوْلُهُ: "لَمْ يَزْدَدْ إلَّا بُعْدًا": إذَا كَانَ مَا تَرَكَ مِن الْوَاجِبِ مِنْهَا أَعْظَمَ مِمَّا فَعَلَهُ: أَبْعَدَهُ تَرْكُ الْوَاجِبِ الْأَكْثَرِ مِن اللهِ أَكْثَرَ مِمَّا قَرَّبَهُ فِعْلُ الْوَاجِبِ الْأقَلِّ. [7/ 30]
2459 -
عِمَادُ الدِّينِ الَّذِي لَا يَقُومُ إلَّا بِهِ: هُوَ. الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ الْمَكْتُوبَاتُ، ويجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِن الِاعْتِنَاءِ بِهَا مَا لَا يَجِبُ مِن الِاعْتِنَاءِ بِغَيْرِهَا.
كَانَ عمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَكْتُبُ إلَى عُمَّالِهِ: إنَّ أهَمَّ أَمْرِكُمْ عِنْدِي الصَّلَاةُ، فَمَن حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا حَفِظَ دِينَهُ، وَمَن ضَيَّعَهَا كَانَ لِمَا سِوَاهَا مِن عَمَلِهِ أشَدَّ إضَاعَةً.
وَهِيَ أوَّلُ مَا أَوْجَبَهُ اللهُ مِن الْعِبَادَاتِ.
وَالصَّلَوَات الْخَمْس تَوَلَّى اللّهُ إيجَابَهَا بِمُخَاطَبَةِ رَسُولِهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ.
وَهِيَ آخِرُ مَا وَصَّى بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّتَهُ وَقْتَ فِرَاقِ الدُّنْيَا، جَعَلَ يَقُولُ:"الصَّلَاةُ الصَّلَاةُ وَمَا مَلَكتْ أَيْمَانُكُمْ"
(2)
.
(1)
وهذا أكبر علاج للوسوسة، والشك في النية.
(2)
رواه ابن ماجه (1625)، وأحمد (12169).
وَهِيَ أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ مِن عَمَلِهِ، وَآخِرُ مَا يُفْقَدُ مِن الدِّينِ، فَإِذَا ذَهَبَتْ ذَهَبَ الدِّينُ كُلُّهُ. وَهِيَ عَمُودُ الدِّينِ، فَمَتَى ذَهَبَتْ سَقَطَ الدِّينُ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"رَأسُ الْأَمْرِ الإسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاة"
(1)
.
وَقَد قَالَ اللّهُ فِي كِتَابِهِ: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)} [مريم: 59]، قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه وَغَيْره: إضَاعَتُهَا تَأخِيرُهَا عَن وَقْتِهَا، وَلَو تَرَكُوهَا كَانُوا كُفَّارًا.
وَقَالَ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)} [الماعون: 4، 5]، وَهُم الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَهَا حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ.
وَقَد اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَّنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ صَلَاةِ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلِ.
ويجِبُ عَلَى أهْلِ الْقُدْرَةِ مِن الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَأْمُرُوا بِالصَّلَاةِ كُلَّ أَحَدٍ مِن الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ حَتَّى الصِّبْيَانَ
(2)
.
قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مُرُوهم بِالصَّلَاةِ لِسَبْع، وَاضْرِبُوهُم عَلَى تَرْكِهَا لِعَشْرٍ، وَفَرِّفوا بَيْنَهُم في الْمَضَاجعِ"
(3)
.
وَالرَّجُلُ الْبَالِغُ إذَا امْتَنَعَ مِن صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ مِن الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، أَو تَرَكَ بَعْضَ فرَائِضِهَا الْمُتَّفَق عَلَيْهَا: فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ.
فَمِن الْعُلَمَاءِ مَن يَقُولُ: يَكُونُ مُرْتَدًّا كَافِرًا لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُدْفَنُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْهُم مَن يَقُولُ: يَكُونُ كَقَاطِعِ الطَّرِيقِ وَقَاتِلِ النَّفْسِ وَالزَّانِي الْمُحْصَنِ. [3/ 427 - 430]
(1)
رواه الترمذي (2616)، وأحمد (22016)، وقال الترمذي: حسن صحيح.
(2)
فيجب على ولي أمر الصبي المميز الذي بلغ سبع سنين أنْ يأمره بالصلوات في أوقاتها، وقد فرط كثير من الآباء والأمهات في هذا الأمر، والله المستعان.
(3)
رواه أبو داود (495)، وأحمد (6756).
2460 -
لا تلزم الصلاة صبيًّا ولو بلغ عشرًا، قاله جمهور العلماء، وثواب صلاة الصبي له. [المستدرك 3/ 54]
2461 -
مَن حَافَظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ بِخُشُوعِهَا الْبَاطِنِ، وَأَعْمَالِهَا الظَّاهِرَةِ، وَكَانَ يَخْشَى اللهَ الْخَشْيَةَ الَّتِي أَمَرَهُ بِهَا: فَإِنَّهُ يَأتِي بِالْوَاجِبَاتِ، وَلَا يَأتِي كَبِيرَة.
وَمَن أَتَى الْكَبَائِرَ؛ مِثْل الزِّنَا، أَو السَّرِقَةِ، أَو شُرْبِ الْخَمْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ
(1)
: فَلَا بُدَّ أَنْ يَذْهَبَ مَا فِي قَلْبِهِ مِن تِلْكَ الْخَشْيَةِ وَالْخُشُوعِ وَالنُّورِ، وَإِن بَقِيَ أَصْلُ التَّصْدِيقِ فِي قَلْبِهِ، وَهَذَا مِن الْإِيمَانِ الَّذِي يُنْزَغ مِنْهُ عِنْدَ فِعْلِ الْكَبِيرَةِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ"
(2)
. [7/ 31]
* * *
حكم تارك الصلاة
2462 -
تَكْفِيرُ تَارِكِ الصَّلَاةِ هُوَ الْمَشْهُورُ الْمَأثُورُ عَن جُمْهُورِ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
وَمَوْرِدُ النّزَاعِ هُوَ فِيمَن أَقَرَّ بِوُجُوبِهَا وَالْتَزَمَ فِعْلَهَا وَلَمْ يَفْعَلْهَا.
وَأَمَّا مَن لَمْ يُقِرَّ بِوُجُوبِهَا فَهُوَ كَافِرٌ بِاتِّفَاقِهِمْ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يُفْهَمُ مِن إطْلَاقِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ مِن أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ: أَنَّهُ إنْ جَحَدَ وُجُوبَهَا كَفَرَ، وَإِن لَمْ يَجْحَدْ وُجُوبَهَا فَهُوَ مَوْرِدُ النّزَاعِ.
بَل هُنَا ثَلَاثَةُ أَقْسَام:
أَحدُهَا: إنْ جَحَدَ وُجُوبَهَا فَهُوَ كَافِرٌ بِالِاتِّفَاقِ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَجْحَدَ وُجُوبَهَا لَكِنَّهُ مُمْتَنِعٌ فِيِ الْتِزَامِ فِعْلِهَا كِبْرًا أَو حَسَدًا أَو بُغْضًا للّهِ وَرَسُولِهِ فَيَقُولُ: أعْلَمْ أَنَّ اللهَ أَوْجَبَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَالرَّسُولَ
(1)
كالغيبة أو النميمة ونحوها.
(2)
رواه البخاري (2475)، ومسلم (57).
صَادِقٌ فِي تَبْلِيغِ الْقُرْآنِ وَلَكِنَّهُ مُمْتَنِعٌ عَنِ الْتِزَامِ الْفِعْلِ اسْتِكْبَارًا أَو حَسَدًا لِلرَّسُولِ أَو عَصَبِيَّةً لِدِينِهِ أو بُغْضًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَهَذَا أَيْضًا كَافِرٌ بِالِاِّتفَاقِ. [20/ 97 - 98]
وَالثَّالِثُ: أنْ يَكُونَ مُقِرًّا مُلْتَزِمًا، لَكِنْ تَرَكَهَا كَسَلًا وَتَهَاوُنًا، أَو اشْتِغَالًا بِأَغْرَاضٍ لَهُ عَنْهَا: فَهَذَا مَوْرِدُ النِّزَاعِ.
2463 -
تَارِكُ الصَّلَاةِ: إنْ لَمْ يَكُن مُعْتَقِدًا لِوُجُوبِهَا فَهُوَ كَافِرٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، لَكِنْ إذَا أَسْلَمَ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ، أَو وُجُوبَ بَعْضِ أَرْكَانِهَا .. : فَهَذَا لَيْسَ بِكَافِرٍ.
لَكِنْ إذَا عَلِمَ الْوُجُوبَ: هَل يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: قِيلَ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ.
وَقِيلَ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ.
وَإِذَا أصَرُّوا عَلَى جَحْدِ الْوُجُوبِ حَتَّى قُتِلُوا: كَانُوا مِن الْمُرْتَدِّينَ، وَمَن تَابَ مِنْهُم وَصَلَّى لَمْ يَكُن عَلَيْهِ إعَادَةُ مَا تَرَكَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، فَإنَّ هَؤُلَاءِ إمَّا أَنْ يَكُونُوا مُرْتَدّينَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ جَاهِلِينَ لِلْوُجُوبِ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّهُم مُرْتَدُّونَ عَن الْإِسْلَامِ؛ فَالْمُرْتَدُّ إذَا أسْلَمَ لَا يَقْضِي مَا تَرَكَهُ حَالَ الرِّدَّةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، كَمَا لَا يَقْضِي الْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ مَا تَرَكَ حَالَ الْكُفْرِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَد ارْتَدَّ فِي حَيَاتِهِ صلى الله عليه وسلم خَلْقٌ كَثِيرٌ وَعَادَ أولَئِكَ إلَى الْإسْلَامِ، وَلَمْ يُؤمَرُوا بِالْإِعَادَةِ.
وَإِن قِيلَ: إنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا مُرْتَدِّينَ؛ بَل جُهَّالًا بِالْوُجُوبِ؟
وَقَد تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَظْهَرَ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ أَنَّهُم يَسْتَأنِفُونَ الصَّلَاةَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِمْ.
فَهَذَا حُكْمُ مَن تَرَكَهَا غَيْرَ مُعْتَقِدٍ لِوُجُوبِهَا.
وَأَمَّا مَن اعْتَقَدَ وُجُوبَهَا مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى التَّرْكِ: فَقَد ذَكَرَ عَلَيْهِ الْمُفَرِّعُونَ مِن الْفُقَهَاءِ فُرُوعًا: أحَدُهَا هَذَا، فَقِيلَ عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ: مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد: إِذَا صَبَرَ حَتَّى يُقْتَلَ فَهَل يُقْتَلُ كَافِرًا مُرْتَدًّا، أو فَاسِقًا كَفُسَّاقِ الْمُسْلِمِينَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورِينَ.
وَهَذ الْفُرُوعُ لَمْ تُنْقَلْ عَن الصَّحَابَةِ، وَهِيَ فُرُوعٌ فَاسِدَةٌ، فَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِالصَّلَاةِ فِي الْبَاطِنِ، مُعْتَقِدًا لِوُجُوبِهَا، يَمْتَنِعُ أَنْ يُصِرَّ عَلَى تَرْكِهَا حَتَّى يُقْتَلَ وَهُوَ لَا يُصَلِّي
(1)
.
هَذَا لَا يُعْرَفُ مِن بَنِي آدمَ وَعَادَتِهِمْ؛ وَلهَذَا لَمْ يَقَعْ هَذَا قَطُّ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا يُعْرَفُ أَنَّ أحَدًا يَعْتَقِدُ وُجُوبَهَا وَيُقَالُ لَه: إنْ لَمْ تُصَلِّ وَإِلَّا قَتَلْنَاك، وَهُوَ يُصِرُّ عَلَى تَرْكِهَا، مَعَ إقْرَارِهِ بِالْوُجُوبِ، فَهَذَا لَمْ يَقَعْ قَطُّ في الْإِسْلَامِ.
وَمَتَى امْتَنَعَ الرَّجُلُ مِن الصَّلَاةِ حَتَّى يُقْتَلَ لَمْ يَكُن فِي الْبَاطِنِ مُقِرًّا بِوُجُوبِهَا، وَلَا مُلْتَزِمًا بِفِعْلِهَا، وَهَذَا كَافِرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا اسْتَفَاضَت الْآثَار عَن الصَّحَابَةِ بِكُفْرِ هَذَا، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ؛ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:"لَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْكفْرِ إلَّا تَرْكُ الصَّلَاةِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
لكن أكثر الناس يصلون تارة، ويتركونها تارة، فهؤلاء ليسوا يحافظون عليها، وهؤلاء تحت الوعيد.
فالمحافظ عليها: الذي يصليها في مواقيتها، كما أمر الله تعالى، والذي
(2)
يؤخرها أحيانًا عن وقتها، أو يترك واجباتها: فهذا تحت مشيئة اللّه تعالى، وقد يكون لهذا نوافل يكمل بها فرائضه. [22/ 40 - 49]
2464 -
لَعْنُ تَارِكِ الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ جَائِزٌ، وَأَمَّا لَعْنَةُ الْمُعَيَّنِ فَالْأوْلَى تَرْكُهَا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَتُوبَ. [22/ 63]
(1)
قال المرداوي في الإنصاف (1/ 405): والعقل يشهد بما قال ويقطع به، وهو عين الصواب الذي لا شك فيه، وأنه لا يقتل إلا كافر.
(2)
في الأصل: (والذي ليس)، وهو خطأ.
2465 -
ويعفى عن النائم والناسي إن كان محافظًا على الصلاة حال اليقظة والذكر، وأما من لم يكن محافظًا عوقب على الترك مطلقًا.
وينبغي الإشاعة عنه بتركها حتى يصلي، قاله شيخنا، قال: ولا ينبغي السلام عليه، ولا إجابة دعوته. [المستدرك 3/ 55]
2466 -
تارك الصلاة عمدًا لا يشرع له قضاؤها، ولا تصح منه؛ بل يكثر من التطوع، وكذلك الصوم، وهو قول طائفة من السلف كأبي عبد الرحمن صاحب الشافعي وداود بن علي وأتباعه، وليس في الأدلة ما يخالف هذا بل يوافقه.
وأمرُه صلى الله عليه وسلم المجامع في نهار رمضان بالقضاء: ضعيف لعدول البخاري ومسلم عنه. [المستدرك 3/ 55 - 56]
2467 -
مَن تَرَكَ الصَّلَاةَ أَو فَرض مِن فَرَائِضِهَا:
أ- فَإِمَّا أنْ يَكُونَ قَد تَرَكَ ذَلِكَ نَاسِيًا لَهُ بَعْدَ عِلْمِهِ بِوُجُوبِهِ.
ب- وَإمَّا أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِوُجُوبِهِ.
ج- وَإمَّا أنْ يَكُونَ لِعُذْر يَعْتَقِدُ مَعَهُ جَوَازَ التَّأْخِيرِ.
د- وَإِمَّا أَنْ يَتْرُكَهُ عَالِمًا عَمْدًا.
فَأَمَّا النَّاسِي لِلصَّلَاةِ: فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا إذَا ذَكَرَهَا.
وَأَمَّا مَن تَرَكَ الصَّلَاةَ جَاهِلًا بِوُجُوبِهَا: مِثْلُ مَن أسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، فَهَذِهِ الْمَسْالَةُ لِلْفُقَهَاءِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ.
وَالصَّحِيحُ عَدَمُ وجُوبِ الْإِعَادَةِ؛ لِأنَّ اللّهَ عَفَا عَن الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ.
فَمَن لَمْ يَبْلُغْهُ أَمْرُ الرَّسُولِ فِي شَيءٍ مُعَيَّنٍ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ وُجُوبِهِ عَلَيْهِ.
وَمِن هَذَا الْبَابِ: "الْمُسْتَحَاضَةُ" إذَا مَكَثَتْ مُدَّةً لَا تُصَلِّي لِاعْتِقَادِهَا عَدَمَ وُجُوبِ الصَلَاةِ عَلَيْهَا، فَفِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا لَا إعَادَةَ عَلَيْهَا، كَمَا نُقِلَ عَن مَالِكٍ وَغَيْرِهِ: لِأَنَّ الْمُسْتَحَاضَةِ الَّتِي قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنِّي حِضْت حَيْضَةً شَدِيدَة كَبِيرَةً مُنْكرَةً مَنَعَتْنِي الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ": أَمَرَهَا بِمَا يَجِبُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَمْ يَأمُرْهَا بِقَضَاءِ صَلَاةِ الْمَاضِي.
وَقَد ثَبَتَ عِنْدِي بِالنَّقْلِ الْمتَوَاتِرِ أَنَّ فِي النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ بِالْبَوَادِي وَغَيْرِ الْبَوَادِي مَن يَبْلُغُ وَلَا يَعْلَمُ أَنَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ؛ بَل إذَا قِيلَ لِلْمَرْأَةِ: صَلّي، تَقُولُ: حَتَّى أَكْبُرَ وَأَصِيرَ عَجُوزَةً، ظَانَّةً أَنَّهُ لَا يُخَاطَبُ بِالصَّلَاةِ إلَّا الْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ؛ كَالْعَجُوزِ وَنَحْوِهَا.
وَفِي أتْبَاعِ الشُّيُوخِ طَوَائِفُ كَثِيرُونَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَة عَلَيْهِمْ، فَهَؤُلَاءِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِم فِي "الصَّحِيحِ" قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ، سَوَاءٌ قِيلَ: كَانُوا كُفَّارًا، أَو كَانُوا مَعْذورِينَ بِالْجَهْلِ.
وَكَذَلِكَ مَن كَانَ مُنَافِقًا زِنْدِيقًا يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُ خِلَافَهُ وَهُوَ لَا يُصَلِّي أَو يُصَلِّي أَحْيَانًا بِلَا وُضُوءٍ أَو لَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ إذَا تَابَ مِن نِفَاقِهِ وَصَلَّى فَإِنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.
وَالْمُرْتَدُّ الَّذِي كَانَ يَعْتَقِدُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ ثُمَّ ارْتَدَّ عَن الْإِسْلَامِ ثُمَّ عَادَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا تَرَكَة حَالَ الرِّدَّةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.
وَأَمَّا مَن كَانَ عَالِمًا بِوُجُوبِهَا وَتَرَكَهَا بِلَا تَأْوِيلٍ حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهَا الْمُوَقَّتِ: فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ.
وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْهُم ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ إلَى أَنَّ فِعْلَهَا بَعْدَ الْوَقْتِ لَا يَصِحُّ مِن هَؤُلَاءِ، وَكَذَلِكَ قَالُوا فِيمَن تَرَكَ الصَّوْمَ مُتَعَمِّدًا؟ [22/ 98 - 103]
2468 -
من كفر بترك الصلاة: الأصوب أنه يصير مسلمًا بفعلها من غير إعادة الشهادتين؛ لأن كفره بالامتناع؛ كإبليس وتارك الزكاة كذلك. [المستدرك 3/ 54]
2469 -
تَارِكُ الصَّلَاةِ أَحْيَانًا وَأَمْثَالُهُ مِن الْمُتَظَاهِرِينَ بِالْفِسْقِ: فَأَهْلُ الْعِلْمِ
وَالدِّينِ إذَا كَانَ فِي هَجْرِ هَذَا وَتَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ مَنْفَعَة لِلْمُسْلِمِينَ بِحَيْثُ يَكُونُ ذَلِكَ بَاعِثًا لَهُم عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَيْهِ هَجَرُوهُ وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَيْهِ، كَمَا تَرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ وَالْغَالِّ وَالْمَدِينِ الَّذِي لَا وَفَاءَ لَهُ، وَهَذَا شَرٌّ مِنْهُمْ. [24/ 288]
* * *
(تَارِكُ الصَّلَاةِ يَكْفُرُ، وِإِذَا صَلَّاهَا بَعْدَ الْوَقْتِ لَمْ يَكْفُرْ)
2470 -
قَالَ صلى الله عليه وسلم: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللّهُ عَلَى الْعَبْدِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، مَن حَافَظَ عَلَيْهِنَّ كَانَ لَهُ عَهْدٌ عِنْدَ اللّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَن لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهِنَّ لَمْ يَكُن لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْدٌ، إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِن شَاءَ غَفَرَ لَهُ"
(1)
.
وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ لَا يَكْفُرُ حُجَّةٌ ضَعِيفَة، لَكِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الْمُحَافَظَةِ لَا يَكْفُرُ، فَإِذَا صَلَّاهَا بَعْدَ الْوَقْتِ لَمْ يَكْفُرْ؛ وَلهَذَا جَاءَت فِي "الْأمَرَاءِ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَن وَقْتِهَا قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلَا نُقَاتِلُهُم؟ قَالَ: لَا مَا صَلَّوْا"
(2)
.
وَكَذَلِكَ لَمَّا سُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَن قَوْله تَعَالَى: {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ} [مريم: 59] قَالَ: هُوَ تَأْخِيرُهَا عَن وَقْتِهَا، فَقِيلَ لَهُ: كُنَّا نَظنُّ ذَلِكَ تَرْكَهَا، فَقَالَ: لَو تَرَكُوهَا كَانُوا كُفَّارًا. [7/ 578 - 579]
* * *
(حكم ترك جنس العمل، وحكم ترك الصلاة عمدًا
؟)
2471 -
تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي تَكْفِيرِ مَن يَتْرُكُ شَيْئًا مِن هَذِهِ الْفَرَائِضِ الْأَرْبَعِ
(3)
بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِوُجُوبِهَا:
(1)
رواه أبو داود (1420)، والنسائي (461)، ومالك (320)، والدارمي (1618)، وأحمد (22693)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.
(2)
رواه مسلم (1854).
(3)
وهي الصلاة والزكاة والصوم والحج.
فَأمَّا الشَهَادَتَانِ إذَا لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِمَا مَعَ الْقُدْرَةِ: فَهُوَ كَافِرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ كَافِرٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا عِنْدَ سَلَفِ الْأمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَجَمَاهِيرِ عُلَمَائِهَا.
وَأَمَّا الْفَرَائِضُ الْأَرْبَعُ:
- فَإذَا جَحَدَ وُجُوبَ شَىْءٍ مِنْهَا بَعْدَ بُلُوغِ الْحُجَّةِ: فَهُوَ كَافِرٌ.
- وَكَذَلِكَ مَن جَحَدَ تَحْرِيمَ شَيْءٍ مِن الْمُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِر تَحْرِيمُهَا؛ كَالْفَوَاحِشِ وَالظلْمِ وَالْكَذِبِ وَالْخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
- وَأَمَّا مَن لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ؛ مِثْل أَنْ يَكُونَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإسْلَامِ، أَو نَشَأَ بِبَادِيَة بَعِيدَةٍ لَمْ تَبْلُغْهُ فِيهَا شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ وَنَحْو ذَلِكَ، أو غَلِطَ فَظَنَّ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يُسْتَثْنَوْنَ مِن تَحْرِيمِ الْخَمْرِ كَمَا غَلِطَ فِي ذَلِكَ الَّذِينَ استَابَهُم عُمَرُ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ: فَإنَّهُم يُسْتَتَابُونَ وَتقَامُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، فَإنْ أَصَرُّوا كَفَرُوا حِينَئِذٍ، وَلَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ؛ كَمَا لَمْ يَحْكُم الصَّحَابَةُ بِكُفْرِ قدامة بْنِ مَظْعُونٍ وَأَصْحَابِهِ لَمَّا غَلِطُوا فِيمَا غَلِطُوا فِيهِ مِن التَّأوِيلِ.
- وَأَمَّا مَعَ الْإِقْرَارِ بِالْوُجُوبِ إذَا تَرَكَ شَيْئًا مِن هَذِهِ الْأَرْكَانِ الْأرْبَعَةِ: فَفِي التَّكْفِيرِ أَقْوَالٌ لِلْعُلَمَاءِ هِيَ رِوَايَات عَن أَحْمَد.
وَهَذِهِ الْمَسْألَةُ لَهَا طَرَفَانِ:
أَحَدُهُمَا: فِي إثْبَاتِ الْكُفْرِ الظَّاهِرِ.
وَالثَّانِي: فِي إثْبَاتِ الْكفْرِ الْبَاطِنِ.
فَأَمَّا الطَّرَفُ الثَّانِي: فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَسْأَلَةِ كَوْنِ الْإِيمَانِ قَوْلًا وَعَمَلًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِن الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا إيمَانًا ثَابتًا فِي قَلْبِهِ بأَنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْحَجَّ، وَيَعِيشُ دَهْرَهُ لَا يَسْجُدُ للّهِ سَجْدَةً، وَلَا يَصُومُ مِن رَمَضَانَ، وَلَا يُؤَدِّي للهِ زَكَاةً، وَلَا يَحُجُّ إلَى بَيْتِهِ، فَهَذَا مُمْتَنِعٌ
(1)
، وَلَا
(1)
وعلى هذا: فتارك جنس العمل كافر، ولا يجري فيه خلاف العلماء في ترك بعض الأعمال، كالصلاة ونحوها.
يَصْدُرُ هَذَا إلَّا مَعَ نِفَاقٍ فِي الْقَلْبِ، وَزَنْدَقَةٍ، لَا مَعَ إيمَانٍ صَحِيحٍ؛ وَلهَذَا إنَّمَا يَصِفُ سبْحَانَهُ بِالِامْتِنَاعِ مِن السُّجُودِ الْكفَّارَ؛ كَقَوْلِهِ:{وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)} [القلم: 43].
وَثَبَتَ أَيْضًا فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّ النَّارَ تَأْكلُ مِن ابْنِ آدمَ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا مَوْضِعَ السُّجُودِ، فَإنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ أنْ تَأْكُلَهُ، فَعُلِمَ أنَّ مَن لَمْ يَكُن يَسْجُدُ للهِ تَأكُلُهُ النَّارُ كُلّهُ.
وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَعْرِفُ أمَّتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِن آثَارِ الْوُضُوءِ"
(1)
، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَن لَمْ يَكن غُرًّا مُحَجَّلًا لَمْ يَعْرِفْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلَا يَكُونُ مِن أمَّتِهِ.
وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يُكَفِّرُوا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا: فَلَيْسَتْ لَهُم حُجَّة إلَّا وَهِيَ مُتَنَاوِلَة لِلْجَاحِدِ كَتَنَاوُلهَا لِلتَّارِكِ، فَمَا كَانَ جَوَابُهُم عَن الْجَاحِدِ كَانَ جَوَابًا لَهُم عَن التَّارِكِ، مَعَ أَن النُّصُوصَ عَلَّقَت الْكُفْرَ بِالتَّوَلِّي.
وَأَجْوَدُ مَا اعْتَمَدُوا عَلَيْهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللهُ عَلَى الْعِبَادِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، فَمَن حَافَظَ عَلَيْهِنُّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَن لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهِنَّ لَمْ يَكن لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْدٌ إنْ شَاء عَذَّبَهُ وَإِن شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ"
(2)
.
قَالُوا: فَقَد جَعَلَ غَيْرَ الْفحَافِظِ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ، وَالْكَافِرُ لَا يَكونُ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ.
وَلَا دَلَالَةَ فِي هَذَا؛ فَإنَّ الْوَعْدَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، وَالْمُحَافَظَةُ: فِعْلُهَا فِي أَوْقَاتِهَا؛ كَمَا أَمَرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، وَعَدَمُ الْمُحَافَظَةِ يَكُونُ مَعَ فِعْلِهَا بَعْدَ الْوَقْتِ، كَمَا أَخَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
(1)
رواه البخاري (136)، ومسلم (246).
(2)
تقدم تخريجه.
صَلَاةَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَأَنْزَلَ اللّهُ آيَةَ الْأَمْرِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا وَعَلَى غَيْرِهَا مِن الصَّلَوَاتِ.
وَقَد قَالَ تَعَالَى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)} [مريم: 59] فَقِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ: مَا إضَاعَتُهَا؟ فَقَالَ: تَأخِيرُهَا عَن وَقْتِهَا فَقَالُوا: مَا كُنَّا نَظُنُّ ذَلِكَ إلَّا تَرْكَهَا فَقَالَ: لَو تَرَكُوهَا لَكانُوا كُفَّارًا.
وَبِهَذَا تَزُولُ الشُّبْهَةُ فِي هَذَا الْبَابِ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِن النَّاسِ بَل أَكْثَرُهُم فِي كَثِيرٍ مِن الْأمْصَارِ لَا يَكُونُونَ مُحَافِظِينَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَلَا هُم تَارِكُوهَا بِالْجُمْلَةِ؛ بَل يُصَلُّونَ أَحْيَانًا ويدَعُونَ أَحْيَانًا، فَهَؤُلَاءِ فِيهِمْ إيمَان وَنِفَاقٌ، وَتَجْرِي عَلَيْهِم أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةُ فِي الْمَوَارِيثِ وَنَحْوِهَا مِن الْأَحْكَامِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ إذَا جَرَتْ عَلَى الْمُنَافِقِ الْمَحْضِ -كَابْنِ أبي وَأَمْثَالِهِ مِن الْمُنَافِقِينَ- فَلَأَنْ تَجْرِيَ عَلَى هَؤُلَاءِ أَوْلَى وَأَحْرَى. [7/ 609 - 616]
* * *
(قضاء الفوائت)
2472 -
الْمُسَارَعَةُ إلَى قَضَاءِ الْفَوَائِتِ الْكَثِيرَةِ أَوْلَى مِنَ الِاشْتِغَالِ عَنْهَا بِالنَّوَافِلِ
(1)
، وَأَمَّا مَعَ قِلَّةِ الْفَوَائِتِ فَقَضَاءُ السُّنَنِ مَعَهَا حَسَن؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا نَامَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَنِ الصَّلَاةِ -صَلَاةِ الْفَجْرِ- عَامَ حُنين قَضَوْا السُّنَّةَ وَالْفَرِيضَةَ، وَلَمَّا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ قَضَى الْفَرَائِضَ بِلَا سُنَنٍ، وَالْفَوَائِتُ الْمَفْرُوضَةُ تُقْضَى فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ. [22/ 104]
2473 -
وَسئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلٍ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ: فَجَاءَ إلَى الْمَسْجِدِ فَوَجَدَ الْمَغْرِبَ قَد أُقِيمَتْ فَهَل يصَلِّي الْفَائِتَةَ قَبْلَ الْمَغْرِبِ أَمْ لَا؟
(1)
الراتبة القبلية أو البعدية، فإنه لو كان عليه قضاء عدة صلوات، وقضى معها رواتبها تأخر في الإتيان بالمفروضات، وفيه مشقة أيضًا عليه.
فَأَجَابَ: بَل يُصَلِّي الْمَغْرِبَ مَعَ الْإمَامِ، ثُمَّ يُصَلِّي الْعَصْرَ بِاتِّفَاقِ الأئِمَّةِ
(1)
.
وَلَكِنْ هَل يُعِيدُ الْمَغْرِبَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ:
(1)
حكى الاتفاق على جواز صلاة الْمَغْرِبَ الحاضرة مَعَ الْإِمَامِ، ثُمَّ يُصَلِّي الْعَصْرَ الفائتة بعدها.
ولا يقصد الشيخ الاتفاق على وجوب ذلك، ومنع من دخل مع الإمام بنية صلاة العصر خلف إمام يصلي المغرب؛ فإن هذه الصورة فيها خلاف مشهور، بل وأفتى كثير من العلماء باستحباب هذه الصورة، وهو مذهب الإمام الشافعي رحمه الله، وأحد القولين عن الإمام أحمد، وذكر المرداوي في الإنصاف (4/ 413) أنه اختارها جماعة من أصحاب الإمام أحمد منهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وجده المجد ابن تيمية، وهو اختيار العلَّامة ابن باز كما في مجموع فتاوى ابن باز (12/ 189)، والعلَّامة ابن عثيمين رحمهم الله تعالى.
قال النووي رحمه الله في "المجموع"(4/ 143): "ولو نوى الصبح خلف مصلي الظهر وتمت صلاة المأموم، فإن شاء انتظر في التشهد حتى يفرغ الإمام، ويسلم معه، وهذا أفضل، وإن شاء نوى مفارقته وسلم، ولا تبطل صلاته هنا بالمفارقة بلا خلاف، لتعذر المتابعة، وكذا فيما أشبهها من الصور". اهـ.
وقال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله: "الصحيح أن الإنسان إذا جاء والإمام في صلاة العشاء، سواء كان معه جماعة أم لم يكن، فإنه يدخل مع الإمام بنية المغرب، ولا يضر أن تختلف نية الإمام والمأموم لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى".
القول الثاني في المسألة: أن يدخلوا معه بنية العشاء، ويصلوا بعده المغرب ويسقط الترتيب هنا مراعاةً للجماعة.
القول الثالث: أن يصلوا وحدهم صلاة المغرب، ثم يدخلوا معه فيما بقي من صلاة العشاء.
والقولان الأخيران فيهما محذور، أما الأول فمحذوره فوات الترتيب حيث قدم صلاة العشاء على صلاة المغرب، وأما الثاني فمحذوره إقامة جماعتين في مسجد واحد وفي آن واحد، وهذا تفريق للأمة.
أما القول الأول الذي ذكرنا أنه الصحيح، فربما قال قائل إن فيه محذورًا وهو تسليم هؤلاء قبل أن يسلم إمامهم، وهذا في الحقيقة ليس فيه محذور، فقد ورد انفراد المأموم عن الإمام في مواضع من السُّنَّة، منها: صلاة الخوف، فإن الإمام يصلي بهم ركعة ثم يتمون لأنفسهم وينصرفون.
ومنها: قصة الرجل الذي دخل مع معاذ بن جبل رضي الله عنه، فلما بدأ بسورة البقرة أو سورة نحوها انفصل عنه ولم يكمل معه.
ومنها: أن العلماء قالوا: لو أن الإنسان أثناء الصلاة وهو مأموم ثارت عليه الريح (الغازات) أو احتاج إلى نقض الوضوء ببول أو غائط، فإنه لا بأس أن ينوي الانفراد ويكمل صلاته وينصرف، فهذا يدل على أن الانفراد لحاجة لا يعتبر محذورًا". اهـ.
لقاءات الباب المفتوح (3/ 425).
أَحَدُهُمَا: يُعِيدُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ.
وَالثَّانِي: لَا يُعِيدُ الْمَغْرِبَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَوْلُ الشَّافِعيِّ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد.
وَالثَّانِي أَصَحُّ؛ فَإِنَّ اللّهَ لَمْ يُوجِبْ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَاةَ مَرَّتَيْنِ إذَا اتَّقَى اللّهَ مَا اسْتَطَاعَ. [22/ 106]
2474 -
إذَا ذَكَرَ أَنَّ عَلَيْهِ فَائِتَةً وَهوَ فِي الْخُطْبَةِ يَسْمَعُ الْخَطِيبَ أَو لَا يَسْمَعُهُ: فَلَهُ أَنْ يَقْضِيَهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إذَا أَمْكَنَهُ الْقَضَاءُ وَإِدْرَاكُ الْجُمُعَةِ؛ بَل ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الصَّلَاةِ وَقْتَ الْخُطْبَةِ لَا يَتَنَاوَلُ النَّهْيَ عَنِ الْفَرِيضَةِ، وَالْفَائِتَةُ مَفْرُوضَةٌ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ؛ بَل لَا يَتَنَاوَلُ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إذَا دَخَلَ أَحَدُكمْ الْمَسْجِدَ وَالإمَامُ يَخْطُبُ فَلَا يَجْلِسُ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكعَتَينِ"
(1)
.
وَقَد تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا ذَكَرَ الْفَائِتَةَ عِنْدَ قِيَامِهِ إلَى الصَّلَاةِ: هَل يَبْدَأُ بِالْفَائِتَةِ وَإِن فَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ؟ كَمَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ، أَو يُصَلِّي الْجُمُعَةَ ثُمَّ يُصَلِّي الْفَائِتَةَ كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا
(2)
. [22/ 107 - 108]
2475 -
مَن عَلَيْهِ فَائِتَة فَعَلَيْهِ أَنْ يُبَادِرَ إلَى قَضَائِهَا عَلَى الْفَوْرِ، سَوَاءٌ فَاتَتْهُ عَمْدًا أَو سَهْوًا
(3)
عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ؛ كَمَالِك وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ،
(1)
وقضاء الفائتة أوجب من تحية المسجد؛ لِمَا صحّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: "مَن نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكرَهَا، لَا كَفارَةَ لَهَا إلا ذَلِكَ {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]. متفق عليه.
(2)
القول الثاني هو الراجح، وهو ما رجحه الشيخ وغيرُه؛ لأن الترتيب يسقط بضيق الوقت وخوف فوات الجماعة.
(3)
لكن ثبت في صحيح مسلم (680)، عَن أبي هُرَيْرَةَ، قَالَ: عَرَّسْنَا مَعَ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ نَسْتَيْقِظْ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم "لِيَأخُدْ كُلُّ رَجُل بِرَأسِ رَاحِلَتِهِ، فَإنَّ هَذَا مَنْزلٌ حَضَرَنَا فِيهِ الشَّيْطَانُ"، فَالَ: فَفَعَلْنَا، ثُمَّ دَعَا بِالْمَاءِ فَتَوَضَّأ. =
وَكَذَلِكَ الرَّاجِحُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا إذَا فَاتَتْ عَمْدًا كَانَ قَضَاؤُهَا وَاجِبًا عَلَى الْفَوْرِ. [23/ 259]
* * *
(القنوت في الفروض والنوافل)
2476 -
مَن تَأَمَّلَ الْأَحَادَيثَ عَلِمَ عِلْمًا يَقِينًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُدَاوِمْ عَلَى الْقُنُوتِ فِي شَيْءٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ لَا الْفَجْرِ وَلَا غَيْرِهَا؛ وَلهَذَا لَمْ يَنْقُلْ هَذَا أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ بَل أَنْكَرُوهُ.
وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَرْفًا وَاحِدًا مِمَّا يُظَنُّ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهِ فِي الْقُنُوتِ الرَّاتِبِ، وَإِنَّمَا الْمَنْقُولُ عَنْهُ مَا يَدْعُو بِهِ فِي الْعَارِضِ
(1)
. [21/ 153]
2477 -
الدُّعَاءُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ -كَمَا يَتَّخِذُهُ مَن يَتَّخِذُهُ سُنَّةً رَاتِبَةً فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِن شَهْرِ رَمَضَانَ أَو غَيْرِهِ- فَهَذَا إنَّمَا هُوَ مَنْقولٌ عَن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهِ لَمَّا كَانَ يُجَاهِدُ اهْلَ الْكِتَابِ بِالشَّامِ، وَكَانَ يَدْعُو بِهِ فِي الْمَكْتُوبَةِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْنُتُ أَحْيَانًا يَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَلْعَنُ الْكَافِرِينَ،
= قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قَوْلُهُ: "ارْتَحِلُوا" بِصِيغَةِ الْأَمْرِ اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْفَائِتَةِ عَن وَقْتِ ذِكْرِهَا إِذَا لَمْ يَكن عَن تَغَافُلٍ أو اسْتِهَانَةٍ، وَقَد بَيَّنَ مُسْلِمٌ مِن رِوَايَةِ أَبِي حَازِم عَن أَبِي هُرَيْرَةَ السَّبَبَ فِي الْأمْرِ بِالِارْتحَالِ مِن ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الَّذِي نَامُوا فِيهِ وَلَفْظُهُ:"فَإِنّ هَذَا مَنْزِلٌ حَضَرَنَا فِيهِ الشَّيْطَان" وَلأبي دَاوُد من حَدِيث ابن مَسْعُودٍ: "تَحَوَّلُوا عَن مَكَانِكُمُ الَّذِي أَصَابَتْكُمْ فِيهِ الْغَفْلَة". فتح الباري (1/ 450).
(1)
قال الشيخ في موضع آخر: لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ -أي: في الفجر- ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قِيلَ: إنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ سُنَّة، وَقِيلَ: الْقُنُوتُ مَنْسُوخٌ، وَأَنَّهُ كُلُّهُ بِدْعَهٌ، وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يُسَنُّ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ كَمَا قنتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَاؤُة الرَّاشِدُونَ.
وَأمَّا الْقُنُوتُ فِي الْوِتْرِ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَيْسَ بِلَازِمِ، فَمِن أَصْحَابِهِ مَن لَمْ يَقْنُتْ، وَمِنْهُم مَن قَنَتَ فِي
النّصْفِ الْأخِيرِ مِن رَمَضَانَ، وَمِنْهُم مَن قَنَتَ السَّنَةَ كُلّهَا.
فَمَن فَعَلَ شَيْئًا مِن ذَلِكَ فَلَا لَوْمَ عَلَيْهِ. (23/ 99)
ويذْكُرُ قَبَائِلَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُحَارِبُونَهُ كمضر ورعل وذكوان وَعُصَيَّةَ، وَعُمَرُ لَمَّا قَاتَلَ أَهْلَ الْكِتَابِ قَنَتَ عَلَيْهِم فِي الْمَكْتُوبَةِ.
فَالسُّنَّةُ أَنْ يَقْنتَ عِنْدَ النَّازِلَةِ ويدْعُوَ فِيهَا بِمَا يُنَاسِبُ أُولَئِكَ الْقَوْمَ الْمُحَارِبِينَ. [21/ 154 - 155]
2478 -
يُشرَعُ أَنْ يَقْنتَ عِنْدَ النَّوَازِلِ، يَدْعُو لِلْمُؤمِنِينَ وَيَدْعُو عَلَى الْكُفَّارِ فِي الْفَجْرِ وَفِي غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ.
وَهَكَذَا كَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يَقْنُتُ لَمَّا حَارَبَ النَّصَارَى بِدُعَائِهِ الَّذِي فِيهِ: "اللَّهُمَّ الْعَن كَفَرَةَ اُّهْلِ الْكِتَابِ" إلَى آخِرِهِ.
وَكَذَلِكَ عَلِيٌّ رضي الله عنه لَما حَارَبَ قَوْمًا قَنَتَ يَدْعُو عَلَيْهِمْ.
وينْبَغِي لِلْقَانِتِ أَنْ يَدْعُوَ عِنْدَ كُلِّ نَازِلَةِ بِالدُّعَاءِ الْمُنَاسِبِ لِتِلْكَ النَّازِلَةِ، وَإِذَا سَمَّى مَن يَدْعُو لَهُم مِن الْمُومِنِينَ وَمَن يَدْعُو عَلَيْهِم مِنَ الْكَافِرِينَ الْمُحَارِبِينَ كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا. [22/ 270 - 271]
2479 -
قُنُوتُ الْوَتَرِ لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
قِيلَ: لَا يُسْتَحَبُّ بِحَالٍ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَنَتَ فِي الْوِتْرِ.
وَقيلَ: بَل يُسْتَحَبُّ فِي جَمِيع السَّنَةِ؛ كَمَا يُنْقَلُ عَن ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ، وَلأنَّ فِي "السُّنَنِ" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رضي الله عنهما دُعَاءً يَدْعُو بِهِ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ.
وَقيلَ: بَل يَقْنُتُ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِن رَمَضَانَ، كَمَا كَانَ أُبي بْنُ كَعْبٍ يَفْعَلُ.
وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ: أَنَّ قُنُوتَ الْوِتْرِ مِن جِنْسِ الدُّعَاءِ السَّائِغِ فِي الصَّلَاةِ، مَن شَاءَ فَعَلَهُ وَمَن شَاءَ تَرَكَهُ، كَمَا يُخَيَّرُ الرَّجُلُ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثِ أَو خَمْسٍ أَو سَبْعٍ، وَكَمَا يُخَيَّرُ إذَا أَوْتَرَ بِثَلَاثِ إنْ شَاءَ فَصَلَ وَإِن شَاءَ وَصَلَ.
وَكَذَلِكَ يُخَيَّرُ فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ إنْ شَاءَ فَعَلَهُ وَإِن شَاءَ تَرَكَهُ.
وَإِذَا صَلَّى بِهِم قِيَامَ رَمَضَانَ: فَإِنْ قَنَتَ فِي جَمِيعِ الشَّهْرِ فَقَد أَحْسَنَ، وَإِن قَنَتَ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ فَقَد أَحْسَنَ، وَإِن لَمْ يَقْنُتْ بِحَالٍ فَقَد أَحْسَنَ.
كَمَا أَنَّ نَفْسَ قِيَامِ رَمَضَانَ لَمْ يُوَقِّتِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ عَدَدًا مُعَيَّنًا؛ بَل كَانَ هُوَ صلى الله عليه وسلم لَا يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا غَيْرِهِ عَلَى ثَلَاثَ عَشْرَة رَكْعَة.
لَكِنْ كَانَ يُطِيلُ الرَّكَعَاتِ، فَلَمَّا جَمَعَهُم عُمَرُ عَلَى أبي بْنِ كَعْبٍ كَانَ
يُصَلِّي بِهِم عِشْرِينَ رَكْعَةً، ثُمَّ يُوتِرُ بِثَلَاث، وَكَانَ
(1)
يُخِفُّ الْقِرَاءَةَ بِقَدْرِ مَا زَادَ مِنَ الرَّكَعَاتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَخَفُّ عَلَى الْمَأمُومِينَ مِن تَطْوِيلِ الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ.
ثُمَّ كَانَ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ يَقُومُونَ بِأَرْبَعِينَ رَكْعَةً ويُوتِرُونَ بِثَلَاثِ.
وَآخَرُونَ قَامُوا بِسِتِّ وَثَلَاثِينَ وَأَوْتَرُوا بِثَلَاثِ.
وَهَذَا كُلُّهُ سَائِغٌ، فَكَيْفَمَا قَامَ فِي رَمَضَانَ مِن هَذِهِ الْوُجُوهِ فَقَد أَحْسَنَ.
وَالْأَفْضَلُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُصَلِّينَ:
- فَإِنْ كَانَ فِيهِم احْتِمَالٌ لِطُولِ الْقِيَامِ: فَالْقِيَامُ بِعَشْرِ رَكَعَاتٍ وَثَلَاثٍ بَعْدَهَا -كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي لِنَفْسِهِ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ-: هُوَ الأفْضَلُ
(2)
.
(1)
أي: أبَي بْن كَعْب.
(2)
فالأفضل للإمام ألا يزيد على ثلاث عشرة ركعة إذا احتمل هو وجماعته ذلك، وهذا هو اختيار ابن عثيمين رحمه الله حيث قال: الصحيح أن السُّنَّة في التَّراويح أن تكون إحدى عشرة ركعة، يُصلِّي عشرًا شَفْعًا، يُسَلِّم مِن كُلِّ ركعتين، ويُوتِر بواحدة.
وإنْ أوترَ بثلاث بعد العشر وجعلها ثلاثَ عشرةَ ركعةً فلا بأس؛ لأن هذا أيضًا صَحَّ مِن حديث عبدِ الله بنِ عباس رضي الله عنهما:"أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى ثلاثَ عَشْرةَ ركعةً".
فهذه هي السُّنَّةُ.
ولا فَرْقَ في هذا العدد بين أوَّلِ الشهرِ وآخره، وعلى هذا؛ فيكون قيامُ العشرِ الأخيرة كالقيام في أوَّل الشَهر. اهـ. الشرح الممتع (4/ 51).
وهو اختيار محدث العصر العلَّامة الألبانيّ رحمه الله، بل إنه رأى تحريم الزيادةِ على إحدى عشرة ركعة، حيث قال: اقتصاره صلى الله عليه وسلم على الإحدى عشرة ركعة دليل على عدم جواز الزيادة عليها. صلاة التراويح (29). =
- وَإِن كَانُوا لَا يَحْتَمِلُونَهُ: فَالْقِيَام بِعِشْرِينَ هُوَ الْأَفْضَلُ، وَهُوَ الَّذِي يَعْمَلُ بِهِ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ وَسَطٌ بَيْنَ الْعَشْرِ وَبَيْنَ الْأرْبَعِينَ.
وَإِن قَامَ بِأَرْبَعِينَ وَغَيْرِهَا جَازَ ذَلِكَ وَلَا يُكْرَهُ شَيءٌ مِن ذَلِكَ، وَقَد نَصَّ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ.
وَمَن ظَنَّ أَنَ قِيَامَ رَمَضَانَ فِيهِ عَدَد مُوَقَّت عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا يُزَادُ فِيهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ فَقَد أَخْطَأ
(1)
. [22/ 271 - 272]
* * *
(بَابُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ)
2480 -
الصَّحِيحُ: أَنْ الْأَذَانَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ فَلَيْسَ لِأهْلِ مَدِينَةٍ وَلَا قَرْيَةٍ أَنْ يَدَعُوا الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ.
وَأَمَّا مَن زَعَمَ أَنَّهُ سُنَّةٌ لَا إثْمَ عَلَى تَارِكِيهِ وَلَا عُقُوبَةَ فَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ؛ فَإنَّ الْأذَانَ هُوَ شِعَارُ دَارِ الْإِسْلَامِ الَّذِي ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعَلِّقُ اسْتِحْلَالَ أَهْلِ الدَّارِ بِتَرْكِهِ، فَكَانَ يُصَلِّي الصُّبْحَ ثُمَّ يَنْظُرُ: فَإِنْ سَمِعَ مُؤَذِّنًا لَمْ يُغِرْ وَإِلَّا أَغَارَ. [22/ 64 - 65]
2481 -
لا يجوز أخذُ الأجرةِ عليهما، وقيل: يجوز إن كان فقيرًا ولا يجوز مع غناه، واختاره الشيخ تقي الدين، قال: وكذا كل قربة. [المستدرك 3/ 57]
2482 -
وأما التَّرْجِيعُ وَتَرْكُة، وَتَثْنِيَةُ التَّكْبِيرِ وَتَرْبِيعه، وَتَثْنِيَةُ الْإِقَامَةِ
= ولكن لا يُعلم أنَّ أحدًا من السلف قال بالتحريم، وذكر أنَّ الصواب أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما أمَر أبيَّ بن كعب وتميمًا الداري أن يقوما للناس بإحدى عشر ركعة، وليس بثلاث وعشرين ركعة، وقال: لم يثبت أنَّ عمر صلاها عشرين. صلاة التراويح (57).
(1)
قال ابنُ عبد البر رحمه الله: "أجمع العلماءُ على أنَّه لا حدَّ ولا شيءَ مُقدَّرًا في صلاة الليل، وأنَّها نافلة، فمن شاء أطالَ فيها القيامَ وقلَّت ركعاتُه، ومن شاء أكثَرَ الركوعَ والسُّجود". الاستذكار (5/ 244).
وَإِفْرَادُهَا: فَقَد ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" وَ"السُّنَنِ": حَدِيثُ أَبِي مَحْذُورَةَ الَّذِي عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْأذَانَ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَكَانَ الْأَذَانُ فِيهِ وَفِي وَلَدِهِ بِمَكَّةَ، ثَبَتَ أَنَّهُ عَلَّمَهُ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ وَفيهِ التَّرْجِيعُ.
وَروي فِي حَدِيثِهِ "التَّكْبِيرُ مَرَّتَيْنِ" كَمَا فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ".
وَروي "أرْبَعًا" كَمَا فِي "سُنَنِ أَبِي دَاوُد" وَغَيْرِهِ.
وَفِي حَدِيثِهِ أَنَّهُ عَلَّمَهُ الْإِقَامَةَ شَفْعًا.
وَثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" عَن أنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "أُمرَ بِلَال أَنْ يَشْفَعَ الْأذَانَ ويُوتِرَ الْإِقَامَةَ"
(1)
، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ:"إلَّا الْإِقَامَةَ".
وَفِي "سُنَنِ أَبِي دَاوُد" وَغَيْرِهِ انَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ زيدٍ لَمَّا أُريَ الْأَذَانَ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُلْقِيَهُ عَلَى بِلَالِ فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِ، وَفِيهِ:"التَّكبِيرُ أَرْبَعًا بِلَا تَرْجِيعٍ".
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَالصَّوَابُ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَمَن وَافَقَهُمْ، وَهُوَ تَسْوِيغُ كلِّ مَا ثَبَتَ فِي ذَلِكَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لَا يَكْرَهُونَ شَيْئًا مِن ذَلِكَ، إذ تَنَوُّعُ صِفَةِ الْأذَانِ وَالْإِقَامَةِ كَتَنَوُّعِ صِفَةِ الْقِرَاءَاتِ وَالتَّشَهُّدَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَكْرَهَ مَا سَنَّهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لِأمَّتِهِ.
وَأَمَّا مَن بَلَغَ بِهِ الْحَالُ إلَى الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ حَتَّى يُوَالِيَ وَيُعَادِيَ وَيُقَاتِلَ عَلَى مِثْل هَذَا وَنَحْوِهِ مِمَّا سَوَّغَهُ اللهُ تَعَالَى: فَهَؤُلَاءِ مِن الَّذِينَ فَرَّقُوا دِيْنَهُم وَكَانُوا شِيَعًا.
وَكَذَلِكَ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ -وَلَا أحِبُّ تَسْمِيَتَهُ-
(2)
مِن كَرَاهَةِ بَعْضِهِمْ لِلتَّرْجِيعِ وَظَنِّهِمْ أَنَّ ابَا مَحْذُورَةَ غَلِطَ فِي نَقْلِهِ وَأنَّهُ كَرَّرَهُ ليَحْفَظَهُ.
وَإِن كَانَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِن أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ يَخْتَارُونَ أذَانَ بِلَالٍ وَإِقَامَتَهُ؛
(1)
رواه البخاري (603)، (605)، (606)، (607)، ومسلم (378) واللفظ له.
(2)
هذا من كراهته للغيبة والسب، ومحبته للستر، وهو بهذا يُؤكد أنَّ الهدف هو الرد على القول لا على القائل.
لِمُدَاوَمَتِهِ عَلَى ذَلِكَ بِحَضْرَتِهِ صلى الله عليه وسلم. فَهَذَا كَمَا يَخْتَارُ بَعْضَ الْقِرَاءَاتِ وَالتَّشَهّدَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَمِن تَمَامِ السُّنَّةِ فِي مِثْل هَذَا: أَنْ يُفْعَلَ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً، وَهَذَا فِي
مَكَانٍ وَهَذَا فِي مَكَانٍ؛ لِأَنَّ هَجْرَ مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَمُلَازِمَةَ غَيْرِهِ قَد يُفْضِي إلَى أَنْ يَجْعَلَ السُّنَّةَ بِدْعَة، وَالْمُسْتَحَبَّ وَاجِبًا، ويُفْضِيَ ذَلِكَ إلَى التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ إذَا فَعَلَ آخَرُونَ الْوَجْهَ الْآخَرَ.
فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُرَاعِيَ الْقَوَاعِدَ الْكُلِّيَّةَ الَّتِي فِيهَا الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، لَا سِيَّمَا فِي مِثْل صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ.
وَالتَّرْجِيعُ فِي الْأذَانِ: اخْتِيَارُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، لَكِنَّ مَالِكًا يَرَى التَّكْبِيرَ مَرَّتَيْنِ وَالشَّافِعِيَّ يَرَاهُ أَرْبَعًا.
وَتَرْكُهُ
(1)
اخْتِيَارُ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَأَمَّا أَحْمَد فَعِنْدَهُ كِلَاهُمَا سُنَّةٌ وَتَرْكُهُ أَحَبُّ إلَيْهِ؛ لِأَّنَّهُ أَذَانُ بِلَالٍ.
وَالْإِقَامَةُ يَخْتَارُ إفْرَادَهَا مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَقُولُ: إنَّ تَثْنِيَتَهَا سُنَّةٌ.
وَالثَّلَاثَةُ: أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد يَخْتَارُونَ تَكْرِيرَ لَفْظِ الْإِقَامَةِ دُونَ مَالِكٍ
(2)
. [22/ 65 - 66]
(1)
أي: ترك الترجيع.
(2)
خلاصةُ صِفة الأذان:
الأولى: تربيعُ التكبيرِ الأوَّل -يعنى: قوْل كلمة: (الله أكبر) أربع مرات-، وتَثنِيَة باقِي ألفاظ الأذان- يعني: باقِي ألفاظ الأذان تُكَرَّر مرتين-، بلا ترجيع، وهذا واردٌ في حديث عبد الله بن زيد.
وألفاظه: خمس عشرة جملة.
وهو أذان أهل الكوفة وهو قول أبي حنيفة وسفيان الثوري.
الثانية: تَربيعُ التكبير الأوَّل، وتَثنِيَة باقِي ألفاظِه، مع ترجيع الشهادتين (وذلك بأنْ يقول المؤذِّن الشهادتين أولًا بصوت منخفِض، ثم يَقولهما بعدَ ذلك بصوت مرتفِع). =
2483 -
يستحب للمؤذن أنْ يرفع فَمَه ووجهه إلى السماء إذا أَذَّن أو أقام ونصَّ عليه أحمد، كما يستحب للذي يتشهد عقيب الوضوء أن يرفع بصره إلى السماء، وكما يستحب للمحرم بالصلاة أن يرفع رأسه قليلًا؛ لأن التهليل والتكبير إعلان بذكر الله لا يصلح إلا له، فاستحب الإشارة إليه كما تستحب الإشارة بالأصبع الواحدة في التشهد والدعاء، وهذا بخلاف الصلاة والدعاء إذ المستحب فيه خفض الطرف. [المستدرك 3/ 57]
2484 -
الْأَذَانُ لِلْوَقْتِ الَّذِي تفْعَلُ فِيهِ، لَا الْوَقْتُ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ [22/ 72]
2485 -
إذَا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ يُؤَذِّنُ وَهُوَ فِي صَلَاةٍ فَإنَّهُ يُتِمُّهَا وَلَا يَقُولُ مِثْل مَا يَقُولُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ
(1)
.
وَأَمَّا إذَا كَانَ خَارجَ الصَّلَاةِ فِي قِرَاءَةٍ أو ذِكْرٍ أَو دُعَاءٍ: فَإنَّهُ يَقْطَعُ ذَلِكَ
= لحديث أبي محذورة رضي الله عنه.
وهو أذان أهل مكة وهو قول الشافعي كما قال الترمذي، واختاره ابن حزم.
وعدد جمله تسع عشرة جملة.
الثالثة: تثنيةُ التكبير -يعني: قول كلمة: (الله أكبر) مرتين فقط- وتَثنِيَة باقي ألفاظِه، مع ترجيعِ الشهادتين.
لحديث أبي محذورة وهي رواية لمسلم في صحيحه.
وهو أذان أهل المدينة وبه قال مالك.
وعدد جمله سبع عشرة جملة.
خلاصةُ صِفة الإقامة:
أولًا: تربيع التكبير الأوَّل -يعني: قوْل كلمة: (الله أكبر) أربع مرات-، وتَثنِيَه جميع كلماتها- يعني: باقِي كلمات الإقامة تُكَرَّر مرتين-، ما عدَا الكلمةَ الأخيرةَ (وهى قول:(لا إله إلا الله) تقال مرة واحدة فقط.
ثانيًا: أنْ تكونَ الإقامة وترًا (يعني جميع ألفاظها تقال مرة واحدة فقط) عَدَا قوْلِهِ: (قد قامتِ الصلاةُ)، فتقال مرتين، وعدا التكبير في أوَّله وآخِره فيُقال مرتين أيضًا (وهذه الصِيغة هي المشهورة).
(1)
ولكن قال في الإنصاف (1/ 426): وقال الشيخ تقي الدين: يستحب أن يجيبه ويقول مثل ما يقول ولو في الصلاة. اهـ.
فهذا يُخالف ما قرره هنا.
ويقُولُ مِثْل مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ؛ لِأَنَّ مُوَافَقَةَ الْمُؤَذِّنِ عِبَادَةٌ مُؤَقَّتَة يَفُوتُ وَقْتُهَا، وَهَذ الْأَذْكَارُ لَا تَفُوتُ.
وَإِذَا قَطَعَ الْمُوَالَاةَ فِيهَا
(1)
لِسَبَبٍ شَرْعِيٍّ كَانَ جَائِزًا؛ مِثْل مَا يَقْطَعُ الْمُوَالَاةَ فِيهَا بِكَلَامٍ لِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِن خِطَابِ آدَمِيٍّ وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ وَنَهْي عَن مُنْكَرٍ، وَكَذَلِكَ لَو قَطَعَ الْمُوَالَاةَ بِسُجُودِ تِلَاوَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الصَّلَاةً فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُ مُوَالَاتَهَا بِسَبَبِ آخَرَ. [22/ 72 - 73]
2486 -
في إجزاء الأذان في الفاسق روايتان: أقواهما عدمه لمخالفته أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأما ترتيب الفاسق مؤذنًا فلا ينبغي قولًا واحدًا. [المستدرك 3/ 58]
2487 -
الأشبه أنَّ الأذان الذي يُسقط الفرض عن أهل القرية ويعتمد في وقت الصلاة والصيام: لا يجوز أن يباشره صبي قولًا واحدًا، ولا يُسقط الفرض، ولا يُعتد به في مواقيت العبادات، وأما الأذان الذي يكون سُنَّة مؤكدة في مثل المساجد التي في المصر ونحو ذلك فهذا فيه الروايتان، والصحيح جوازه. [المستدرك 3/ 58]
2488 -
وأما المؤذنون الذين يؤذنون مع المؤذن الراتب يوم الجمعة في مثل صحن المسجد فليس أذانهم مشروعًا باتفاق الأئمة؛ بل ذلك بدعة منكرة. [المستدرك 3/ 58]
2489 -
يستحب إذا أخذ المؤذن في الأذان أن لا يقوم؛ إذ في ذلك تشبهٌ بالشيطان.
قال أحمد: لا يقومُ أولَ ما يبدأ ويصبر قليلًا. [المستدرك 3/ 59]
2490 -
يجيب مُؤذِنًا ثانيًا وأكثر حيث يستحب ذلك، كما كان المؤذنان يؤذنان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. [المستدرك 3/ 59]
(1)
أي: الأذكار.
2491 -
الخروج من المسجد بعد الأذان منهي عنه، وهل هو حرام أو مكروه؟ في المسألة وجهان إلا أن يكون التأذين للفجر قبل الوقت فلا يكره الخروج نص عليه أحمد. [المستدرك 3/ 59]
2492 -
الإقامة كالنداء بالأذان. [المستدرك 3/ 60]
2493 -
إذا أقيمت الصلاة وهو قائم استحب له أن يجلس، وإن لم يكن صلى تحية المسجد، قال ابن منصور: رأيت أبا عبد اللّه أحمد خرج عند المغرب فحين انتهى إلى موضع الصف أخذ المؤذن في الإقامة فجلس
(1)
.
2494 -
السُّنَّة أن ينادي للكسوف: "الصلاة جامعة"
(2)
ولا ينادي للعيد والاستسقاء؛ ولهذا لا يشرع للجنازة ولا للتراويح على نص أحمد؛ لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، والقياس على الكسوف فاسد الاعتبار. [المستدرك 3/ 60]
2495 -
اتفق العلماء على أنه لا يُستحب التبليغ
(3)
بل يكره إلا لحاجة؛ مثل ضعف صوت الإمام، وبُعْدِ المأموم ونحوه، وقد اختلفوا فيه في هذه الحال، والمعروف عن أحمد أنه جائز وأصح قولي مالك، وأما عند عدم الحاجة فبدعة؛ بل صرح كثير منهم أنه مكروه؛ بل قد ذهب طائفة من أصحاب مالك وأحمد إلى أنه يبطل صلاة المبلغ لغير حاجة ولم يستحبه أحد من العلماء حينئذ، ومن أصر على اعتقاد كونه قربة فإنه يعزر وهذا أقل أحواله. [المستدرك 3/ 60]
2496 -
ليس الأذان بواجب للصلاة الفائتة، وإذا صلى وحده أداءً أو قضاءً وأَذَّن وأَقام فقد أحسن، وإن اكتفى بالإقامة أجزأه، وإن كان يقضي
(1)
لا أعرف لذلك سنةً صحيحة صريحة، وليس العمل في هذا الزمان على ما ذكر.
(2)
رواه البخاري (1045)، ومسلم (901).
(3)
بأن يكبر المأموم أو غيره عند تكبير الإمام.
صلوات فأَذَّن أول مرة وأقام لبقية الصلوات كان حسنًا أيضًا. [المستدرك 3/ 61]
2497 -
هو
(1)
أفضل من الإمامة، وهو أصح الروايتين عن أحمد، واختيار أكثر أصحابه.
وأما إمامته صلى الله عليه وسلم وإمامة الخلفاء الراشدين فكانت متعينة عليهم؛ فإنها وظيفة الإمام الأعظم، ولم يكن يُمْكن الجمع بينها وبين الأذان، فصارت الإمامة في حقهم أفضل من الأذان لخصوص أحوالهم، وإن كان لأكثر الناس الأذان أفضل. [المستدرك 3/ 61]
* * *
(بَابُ شرُوطِ الصَّلَاةِ) الوقت
2498 -
يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أنْ يُصَلِّيَ الصَلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي مَوَاقِيتِهَا، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ قَطُّ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ عَن وَقْتِهَا لَا لِعُذْرٍ وَلَا لِغَيْرِ عُذْرٍ.
وَمَا تَرَكَ لِجَهْلِهِ بِالْوَاجِبِ؛ مِثْلُ مَن كَانَ يُصَلِّي بِلَا طُمَأنِينَةٍ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ فَهَذَا قَد اخْتَلَفُوا فِيهِ: هَل عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ أَو لَا؟ وَالصَّحِيحُ: أَنَّ مِثْل هَذَا لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ؛ فَإنَّ النَبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَد ثَبَتَ عَنْهُ فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّهُ قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ الْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ: "اذْهَبْ فَصَلِّ فَإنَّك لَمْ تُصَلِّ- مَرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا- فَقَالَ: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَق لَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا فَعَلِّمْنِي مَا يَجْزِينِي فِي صَلَاتي"
(2)
فَعَلَّمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ بِالطُّمَانِينَةِ.
وَلَمْ يَأمُرْة بِاِعَادَةِ مَا مَضَى قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ، مَعَ قَوْلِهِ: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا، وَلَكِنْ أَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ تِلْكَ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّ وَقْتَهَا بَاقٍ، فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي وَقْتِهَا، وَأَمَّا مَا خَرَجَ وَقْتُهُ مِن الصَّلَاةِ فَلَمْ يَأْمُرْهُ
(1)
أي: الأذان.
(2)
البخاري (793)، ومسلم (397).
بِإِعَادَتِهِ مَعَ كَوْنِهِ قَد تَرَكَ بَعْضَ وَاجِبَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُن يَعْرِفُ وُجُوبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ الَّذِينَ أَكَلُوا فِي رَمَضَانَ حَتَّى تَبَيَّنَ لِأحَدِهِمْ الْحِبَالُ الْبِيضُ مِن الْحِبَالِ السُّودِ أَكَلُوا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَلَمْ يَأمُرْهُم بِالْإِعَادَةِ، فَهَؤُلَاءِ كَانُوا جُهَّالًا بِالْوُجُوبِ، فَلَمْ يَأمُرْهُم بِقَضَاءِ مَا تَرَكُوهُ فِي حَالِ الْجَهْلِ، كَمَا لَا يُؤْمَرُ الْكَافِرُ بِقَضَاءِ مَا تَرَكَهُ فِي حَالِ كُفْرِهِ وَجَاهِلِيَّتِهِ، بِخِلَافِ مَن كَانَ قَد عَلِمَ الْوُجُوبَ وَتَرَكَ الْوَاجِبَ نِسْيَانًا، فَهَذَا أَمَرَهُ بِهِ إذَا ذَكَرَهُ.
وَأَمر النَّائِمَ مِن حِينِ يَسْتَيْقِظ، فَإِنَّهُ حِينَ النَّوْمِ لَمْ يَكُن مَأمُورًا بِالصَّلَاةِ، فَلِهَذَا كَانَ النَّائِمُ إذَا اسْتَيْقَظَ قُرْبَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يَتَوَضَّأُ ويغْتَسِل وَإِن طَلَعَتْ الشَّمْسُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاء؛ كَالشَّافِعيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن مَالِكٍ، بِخِلَافِ مَن كَانَ مُسْتَيْقِظًا وَالْوَقْتُ وَاسِعٌ، مِثْلُ الَّذِي يَكُونُ نَائِمًا فِي بُسْتَانٍ أَو قَرْيَةٍ وَالْمَاءُ بَارِد يَضُرُّهُ، وَالْحَمَّامُ بَعِيدٌ مِنْهُ إنْ خَرَجَ إلَيْهِ ذَهَبَ الْوَقْتُ، فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي فِي الْوَقْتِ وَلَا يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ.
وَكَذَلِكَ لَو كَانَ فِي الْمِصْرِ وَقَد تَعَذَّرَ عَلَيْهِ دُخُولُ الْحَمَّامِ: إمَّا لِكَوْنِهِ لَمْ يُفْتَحْ، أَو لِبُعْدِهَا عَنْهُ، أَو لِكَوْنِهِ لَيْسَ مَعَهُ مَا يُعْطِي الحمامي أُجْرَتَهُ وَنَحْو ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُصلِّي بِالتَّيَمُّمِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ بِالتَّيَمُّمِ فَرْضٌ إذَا عَجَزَ عَن الْمَاءِ لِعَدَمٍ أَو لِخَوْفِ الضَّرَرِ بِاسْتِعْمَالِهِ، وَلَا إعَادَةَ عَلَى أَحَدٍ مِن هَؤُلَاءِ، فَفِي كَثِيرٍ مِن الضَّرَرِ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَبَعْضُ الضَّرَرِ تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَى أَحَدٍ صَلَّى بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ كَمَا أَمَرَ. [21/ 428 - 431]
2499 -
دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَوَاقِيتَ "خَمْسَةٌ" فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ، وَهِيَ:"ثَلَاثَة" فِي حَالِ الْعُذْرِ، فَفِي حَالِ الْعُذْرِ إذَا جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ: بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، فَإِنَّمَا صَلَّى الصَّلَاةَ فِي وَقْتِهَا، لَمْ يُصَلِّ وَاحِدَةً بَعْدَ وَقْتِهَا؛ وَلهَذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَنْوِيَ الْجَمْعَ وَلَا
يَنْوِيَ الْقَصْرَ
(1)
.
وَلهَذَا كَانَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ: كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد إذَا طَهُرَتْ الْحَائِضُ فِي آخِرِ النَّهَارِ صَلَّتِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، وَإذَا طَهُرَتْ فِي آخِرِ اللَّيْلِ صَلَّتْ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا؛ لِأنَّ الْوَقْتَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي حَالِ الْعُذْرِ، فَإذَا طَهُرَتْ فِي آخِرِ النَّهَارِ فَوَقْتُ الظُّهْرِ بَاقٍ فَتُصَلِّيهَا قَبْلَ الْعَصْرِ، وَإِذَا طَهُرَتْ فِي اَخِرِ اللَّيْلِ فَوَقْت الْمَغْرِبِ بَاقٍ فِي حَالِ الْعُذْرِ فَتُصَلِّيهَا قَبْلَ الْعِشَاء. [21/ 434]
2500 -
إِذَا أَمْكَنَ الرَّجُلُ أو الْمَرْأةُ أَنْ يَغْتَسِلَ وَيُصَلِّيَ خَارجَ الْحَمَّام فَعَلَا ذَلِكَ.
فَإِنْ لَمْ يُمْكن ذَلِكَ؛ مِثْل أَنْ لَا
(2)
يَسْتَيْقِظَ أوَّلَ الْفَجْرِ، وَإن اشْتَغَلَ بِطَلَبِ الْمَاءِ خَرَجَ الْوَقْتُ، وَإن طَلَبَ حَطَبًا يُسَخِّنُ بِهِ الْمَاءَ أَو ذَهَبَ إلَى الْحَمَّامِ فَاتَ الْوَقْتُ: فَإِنَّهُ يُصَلِّي هُنَا بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، إلَّا أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِن أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد قَالُوا: يَشْتَغِلُ بِتَحْصِيلِ الطَّهَارَةِ وَإِن فَاتَ الْوَقْتُ.
وَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ؛ فَإنَّ قِيَاسَ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْمُسَافِرَ
(3)
يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يُصَلِّيَ بَعْدَ الْوَقْتِ بِالْوُضُوءِ، وَأنَّ الْعُرْيَانَ يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ حَتى يُصَلِّيَ بَعْدَ الْوَقْتِ بِاللِّبَاسِ!
وَهَذَا خِلَافُ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَل عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ بِحَسَبِ الْإمْكَانِ، وَمَا عَجَزَ عَنْهُ مِن وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ سَقَطَ عَنْهُ.
(1)
لأنه الأصل في السفر، فلو صلى في السفر ولم ينو القصر ولا الجمع أو نوى الإتمام على عادته فإن له القصر أثناء الصلاة ولا حرج.
(2)
هكذا في الأصل!! ولعل الصواب حذفها ليستقيم المعنى، وقد حُذفت في الفتاوى المصريّة. (1/ 35).
(3)
الذي ليس بحوزته ماء.
وَأَمَّا
(1)
إذَا اسْتَيْقَظَ آخِرَ الْوَقْتِ، وإن
(2)
اشْتَغَلَ بِاسْتِقَاءِ الْمَاءِ مِن الْبِئْرِ خَرَجَ الْوَقْتُ، أَو إنْ ذَهَبَ إلَى الْحَمَّامِ لِلْغُسْلِ خَرَجَ الْوَقْتُ: فَهَذَا يَغْتَسِلُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.
وَمَالكٌ رحمه الله يَقُولُ: بَل يُصَلِّي بِالتَّيّمُّمِ مُحَافَظَةً عَلَى الْوَقْتِ
(3)
.
وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ: إذَا اسْتَيْقَظَ آخِرَ الْوَقْتِ فَهُوَ حِينَئِذٍ مَأمُورٌ بِالصَّلَاةِ؛ فَالطَّهَارَةُ وَالْوَقْتُ فِي حَقِّهِ مِن حِينَ اسْتَيْقَظَ، وَهُوَ مَا يُمْكِنُهُ فِعْلُ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَقَد قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَن نَامَ عَن صَلَاةٍ أَو نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا"
(4)
.
فَالْوَقْتُ الْمَأُمُورُ بِالصَّلَاةِ فِيهِ فِي حَقِّ النَّائِمِ هُوَ إذَا اسْتَيْقَظَ لَا مَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَفِي حَقِّ النَّاسِي إذَا ذَكَرَ. [21/ 446 - 447]
2501 -
إِنَّ الْأصُولَ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّهُ مَتَى دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ الْإِخْلَالِ بِوَقْتِ الْعِبَادَةِ وَالْإخْلَالِ ببَعْضِ شُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا: كَانَ الْإِخْلَالُ بِذَلِكَ أَوْلَى؛ كَالصَّلَاةِ فَإنَّ الْمُصَلِّيَ لَو أَمْكَنَهُ أَنْ يُصَلِّيَ قَبْلَ الْوَقْتِ بِطَهَارَة وَسِتَارَةٍ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ مُجْتَنِبَ النَّجَاسَةِ وَلَمْ يُمْكنْهُ ذَلِكَ فِي الْوَقْتِ فَإنَّهُ يَفْعَلُهَا فِي الْوَقْتِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُمْكِنِ وَلَا يَفْعَلُهَا قَبْلَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِجْمَاعِ.
وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَا يُؤَخِّرُ الْعِبَادَةَ عَنِ الْوَقْتِ بَل يَفْعَلُهَا فِيهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَإِنَّمَا يُرَخَّصُ لِلْمَعْذُورِ فِي الْجَمْعِ لِأَنَّ الْوَقْتَ وَقْتَانِ: وَقْتٌ مُخْتَصٌّ لِأهْلِ الرَّفَاهِيَةِ، وَوَقْتٌ مُشْتَرَكٌ لِأَهْلِ الْأَعْذَارِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ صَلَّاهُمَا فِي الْوَقْتِ الْمَشْرُوعِ لَمْ يُفَوّتْ وَاحِدَةً مِنْهُمَا وَلَا قَدَّمَهَا عَلَى الْوَقْتِ الْمُجْزِئِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. [26/ 232]
(1)
هذه المسألة تختلف عن الأولى.
(2)
في الأصل: (أَو إن)، ولعل المثبتَ هو الصواب.
(3)
وقد رجح الشيخ قول الجمهور في مواضع أخرى (21/ 469، 22/ 36).
(4)
مسلم (684).
2502 -
الصَّلَاةُ فِي الْوَقْتِ فَرْضٌ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَالِاسْتِطَاعَةِ وَإِن كَانَت صَلَاةً نَاقِصَةً، حَتَّى الْخَائِفُ يُصَلّي صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي الْوَقْتِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَلَا يُفَوّتُهَا لِيُصَلِّيَ صَلَاةَ أَمْنٍ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، حَتَّى فِي حَالِ الْمُقَاتَلَةِ يُصَلِّي وَيُقَاتِلُ وَلَا يُفَوِّتُ الصَّلَاةَ لِيُصَلِّيَ بِلَا قِتَالٍ.
فَالصَّلَاةُ الْمَفْرُوضَةُ فِي الْوَقْتِ وَإِن كَانَت نَاقِصَةً خَيْرٌ مِن تَفْوِيتِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْوَقْتِ وَإِن كَانَت كَامِلَةً؛ بَل الصَّلَاةُ بَعْدَ تَفْوِيتِ الْوَقْتِ عَمْدًا لَا تُقْبَلُ مِن صَاحِبِهَا، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ إثْمُ التَّفْوِيتِ الْمُحَرَّمِ، وَلَو قَضَاهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. [21/ 455 - 456]
2503 -
لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُؤَخِّرَ صَلَاةَ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلَ، وَلَا يُؤَخِّرَ صَلَاةَ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ لِشُغْلٍ مِنَ الْأَشْغَالِ، لَا لِحَصْدٍ وَلَا لِحَرْثٍ وَلَا لِصَنَاعَةٍ وَلَا لِجَنَابَةٍ وَلَا نَجَاسَةٍ وَلَا صَيْدٍ وَلَا لَهْوٍ وَلَا لَعِبٍ وَلَا لِخِدْمَةِ أُسْتَاذٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ.
وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَخَّرَ صَلَاةَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ لِاشْتِغَالِهِ بِجِهَادِ الْكفَّارِ، ثُمَّ صَلَّاهَا بَعْدَ الْمَغْرِبِ، فَانْزَلَ اللهُ تَعَالَى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238].
وَقَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ.
فَلِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: إنَّ ذَلِكَ التَّأخِيرَ مَنْسُوخ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَلَمْ يُجَوِّزُوا تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ حَالَ الْقِتَالِ؛ بَل أَوْجَبُوا عَلَيْهِ الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ حَالَ الْقِتَالِ.
وَلَكنْ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ، وَبَيْنَ الْمَغْرِب وَالْعِشَاءِ بمزدلفة بِاتفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.
وَكَذَلِكَ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَبَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِن الْعُلَمَاءِ لِلسَّفَرِ وَالْمَرَضِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِن الْأَعْذَارِ.
وَأَمَّا تَأخِيرُ صَلَاةِ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلِ، وَتَأْخِيرُ صَلَاةِ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ: فَلَا يَجُوزُ لِمَرَض وَلَا لِسَفَر، وَلَا لِشَغْل مِن الْأشْغَالِ، وَلَا لِصَنَاعَةٍ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ؛ بَل قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: الْجَمْعُ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ مِن غَيْرِ عُذْرٍ مِن الْكَبَائِرِ
(1)
.
والْمَرِيضُ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّوْمَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ بِاتّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُسَافِرُ لَهُ أنْ يُؤَخِّرَ الصِّيَامَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَخرَ الصَّلَاةَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.
وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّن أَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا أَوْكَدُ مِن الصَّوْمِ فِي وَقْتِهِ.
وقَالَ تَعَالَى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم: 59] قَالَ طَائِفَةٌ مِن السَّلَفِ: إضَاعَتهَا تَأْخِيرُهَا عَن وَقْتِهَا، وَلَو تَرَكُوهَا لَكَانُوا كُفَّارًا.
وَمَن ظَنَّ أَنَّ الصَّلَاةَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ بِالْمَاءِ خَيْرٌ مِن الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ فَهُوَ ضَالٌّ جَاهِلٌ.
وَإذَا اسْتَيْقَظَ آخِرَ وَقْتِ الْفَجْرِ فَإذَا اغْتَسَلَ طَلَعَتْ الشَّمْسُ: فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ هنَا يَقُولُونَ: يَغْتَسِلُ وَيُصَلِّي بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد، وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ.
وَقَالَ فِي الْقَوْلِ الآخَرِ: بَل يَتَيَمَّمُ أَيْضًا هُنَا وَيُصَلِّي قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ بِالتَّيمُّمِ خَيْرٌ مِن الصَّلَاةِ بَعْدَهُ بِالْغُسْلِ.
(1)
رواه عبد الرزاق في مصنفه (2035)، والبيهقي في سننه (5559)، من طريق أبِي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيِّ عن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّاب، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ هَذَا بثَابتٍ عَن عُمَرَ، هُوَ مُرْسَلٌ.
قال البيهقي: هُوَ كَمَا قَالَ الَشَّافِعِيُّ، وَالْإسْنَادُ الْمَشْهُورُ لَهَذًا الْأثَرِ مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ مُرْسَلٌ، أَبُو الْعَاليَةِ لَمْ يَسْمَعْ مِن عُمَرَ رضي الله عنه. اهـ.
وروي عن ابن عباس وغيره بأسانيد ضعيفة.
وَالصحِيحُ: قَوْلُ الْجُمْهُورِ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ فِي حَقِّ النَّائِمِ هُوَ مِن حِينِ يَسْتَيْقِظُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَن نَامَ عَن صَلَاةٍ أَو نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَاِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا"
(1)
.
فَالْوَقْتُ فِي حَقّ النَّائِمِ هُوَ مِن حِينِ يَسْتَيْقِظُ، وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُن وَقْتا فِي حَقِّهِ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَلَمْ يُمْكنْه الِاغْتِسَالُ وَالصَّلَاةُ إلا بَعْدَ طُلُوعِهَا فَقَد صَلَّى الصَّلَاةَ فِي وَقْتِهَا وَلَمْ يُفَوِّتْهَا، بِخِلَافِ مَن اسْتَيْقَظَ فِي أَؤَلِ الْوَقْتِ فَإِنَّ الْوَقْتَ فِي حَقِّهِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَوّتَ الصَّلَاةَ.
وَكَذَلِكَ مَن نَسِيَ صَلَاةً وَذَكَرَهَا فَإِنَّهُ حِينَئِذ يَغْتَسِلُ وَيُصَلِّي فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ، وَهَذَا هُوَ الْوَقْتُ فِي حَقِّهِ.
فَإِذَا لَمْ يَسْتَيْقِظْ إلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، كَمَا اسْتَيْقَظَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا نَامُوا عَن الصَّلَاةِ عَامَ خَيْبَرَ: فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِالطَّهَارَةِ الْكَامِلَةِ وَإِن أَخَّرَهَا إلَى حِينِ الزَّوَالِ، فَاِذَا قُدّرَ أَنَّهُ كَانَ جُنبا فَاِنَّهُ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ ويغْتَسِلُ وإِن أَخَّرَهَا إلَى قَرِيبِ الزَّوَالِ، وَلَا يُصَلِّي هُنَا بِالتَّيَمُّمِ.
ويُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْتَقِلَ عَن الْمَكَانِ الَّذِي نَامَ فِيهِ، كَمَا انْتَقَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ عَن الْمَكَانِ الَّذِي نَامُوا فِيهِ، وَقَالَ:"هذَا مَكَانٌ حَضَرَنَا فِيهِ الشَّيْطَانُ "
(2)
. وَإِن صَلَّى فِيهِ جَازَتْ صَلَاتُهُ.
فَإِنْ قِيل: هَذَا يُسَمَّى قَضَاءً أَو أَدَاءً؟
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ هُوَ فَرْن اصْطِلَاحِيٌّ، لَا أَصْلَ لَهُ فِي كَلَامِ اللهِ وَرَسُولِهِ؛ فَإِنَّ اللّهَ تَعَالَى سَمَّى فِعْلَ الْعِبَادَةِ فِي وَقْتِهَا قَضَاءً، كَمَا قَالَ فِي
(1)
رواه مسلم (684).
(2)
رواه مسلم (680).
الْجُمُعَةِ: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10]، وَقَالَ تَعَالَى:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة: 200] مَعَ أَنَّ هَذَيْنِ يَفْعَلَانِ فِي الْوَقْتِ.
والْقَضَاءُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: هُوَ إكْمَالُ الشَّيْءِ وَإِتْمَامُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت: 12]؛ أَيْ: أَكْمَلَهُنَّ وَأَتَمَّهُنَّ.
وَالنَّائِمُ وَالنَّاسِي إذَا صَلَّيَا وَقْتَ الذِّكْرِ وَالِانْتِبَاهِ فَقَد صَلَّيَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي أُمِرَا بِالصَّلَاةِ فِيهِ، وَإِن كَانَا قَد صَلَّيَا بَعْدَ خرُوجِ الْوَقْتِ الْمَشْرُوعِ لِغَيْرِهِمَا.
فَمَن سَمَّى ذَلِكَ قَضَاءً بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى، وَكَانَ فِي لُغَتِهِ أَنَّ الْقَضَاءَ فِعْلُ الْعِبَادَةِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ الْمُقَدَّرِ شَرْعًا لِلْعُمُومِ: فَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ. [22/ 37 - 38]
2504 -
مَن فَوَّتَهَا [أي: الصلاة] مُتَعَمِّدًا فَقَد أَتَى كَبِيرَةً مِن أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا يَصِحُّ فِعْلُهَا قَضَاءً أَصْلًا.
وَمَعَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ لَا تَبْرأْ ذِمَّتُهُ مِن جَمِيعِ الْوَاجِبِ، وَلَا يَقْبَلُهَا اللّهُ مِنْهُ بِحَيْثُ يَرْتَفِعُ عَنْهُ الْعِقَابُ، ويسْتَوْجِبُ الثَّوَابَ؛ بَل يُخَفِّفُ عَنْهُ الْعَذَابَ بمَا فَعَلَهُ مِن الْقَضَاءِ، ويبْقَى عَلَيْهِ إثْمُ التَّفْوِيتِ .. قَالَ تَعَالَى:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)} [الماعون: 4، 5] وَتَأخِيرُهَا عَن وَقْتِهَا مِن السَّهْوِ عَنْهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. [22/ 39]
2505 -
تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَن غَيْرِ وَقْتِهَا الَّذِي يَجِبُ فِعْلُهَا فِيهِ عَمْدًا مِن الْكَبَائِرِ؛ بَل قَد قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: "الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِن غَيْرِ عُذْرٍ مِن الْكبَائِرِ"
(1)
.
وَقَد رَوَاهُ التّرْمِذِيُّ مَرْفُوعًا عَن ابْنِ عَبَّاسٍ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَن جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاَتيْنِ مِن غَيْرِ عُذْرٍ فَقَد أَتَى بَابًا مِن أَبْوَابِ الْكَبَائِرِ". وَرَفَعَ هَذَا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَإِن كَانَ فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَ التِّرْمِذِيَّ قَالَ: الْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ.
(1)
تقدم تخريجه ص (179).
وَالْأَثَرِ مَعْرُوفٌ، وَأَهْلُ الْعِلْمِ ذَكَرُوا ذَلِكَ مُقِرِّينَ لَهُ لَا مُنْكِرِينَ لَهُ. [22/ 53 - 54]
2506 -
قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا: إنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا عَن وَقْتِهَا إلَّا لِنَاوٍ لِجَمْعِهَا أَو مُشْتَغِلٍ بِشَرْطِهَا: لَمْ يَقُلْهُ قَبْلَهُ أَحَدٌ مِن الْأَصْحَابِ؛ بَل وَلَا أحَدٌ مِن سَائِرِ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَعْضَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، فَهَذَا أَشُكُّ فِيهِ.
وَمَا أَعْلَمُ مَن يُوَافِقُه عَلَى ذَلِكَ إلَّا بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَمَن قَالَ ذَلِكَ فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِإجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الِاشْتِغَالِ -بِالشَّرْطِ لَا يُبِيحُ تَأخِيرَ الصَّلَاةِ عَن وَقْتِهَا الْمَحْدُودِ شَرْعًا، فَإِنَّهُ لَو دَخَلَ الْوَقْتُ وَأَمْكَنَهُ أَنْ يَطْلُبَ الْمَاءَ وَهُوَ لَا يَجِدُهُ إلَّا بَعْدَ الْوَقْتِ: لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّأخِيرُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِن كَانَ مُشْتَغِلًا بِالشَّرْطِ.
وَكَذَلِكَ الْعُرْيَانُ لَو أَمْكَنَهُ أَنْ يَذْهَبَ إلَى قَرْيَةٍ لِيَشْتَرِيَ لَهُ مِنْهَا ثَوْبًا وَهُوَ لَا يُصَلِّي إلَّا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّأخِيرُ بِلَا نِزَاعِ.
وَكَذَلِكَ الْمُسْتَحَاضَةُ لَو كَانَ دَمهَا يَنْقَطِعُ بَعْدَ الْوَقْتِ لَمْ يَجُزْ لَهَا أَنْ تُؤَخرَ الصَّلَاةَ لِتُصَلِّي بِطَهَارَةٍ بَعْدَ الْوَقْتِ؛ بَل تُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ.
وَأمَّا حَيْثُ جَازَ الْجَمْعُ فَالْوَقْتُ وَاحِدٌ، وَالْمُؤَخِّرُ لَيْسَ بِمُؤَخِّر عَن الْوَقْتِ الَّذِي يَجُوزُ فِعْلُهَا فِيهِ.
وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْخَوْفِ تَجِبُ فِي الْوَقْتِ مَعَ إمْكَانِ أَنْ يُؤَخِّرَهَا فَلَا يَسْتَدْبِرُ الْقِبْلَةَ وَلَا يَعْمَلُ عَمَلًا كَثِيرًا فِي الصَّلَاةِ، وَلَا يَتَخَلَّفُ عَن الْإِمَامِ بِرَكْعَةٍ، وَلَا يُفَارِقُ الْإِمَامَ قَبْلَ السَّلَامِ، وَلَا يَقْضِي مَا سَبَقَ بِهِ قَبْلَ السَّلَامِ وَنَحْو ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِأَجْلِ الْوَقْتِ، وَإِلَّا فَفِعْلُهَا بَعْدَ الْوَقْتِ وَلَو بِاللَّيْلِ مُمْكِن عَلَى الْإِكْمَالِ.
وَإِنَّمَا نَازَعَ مَن نَازَعَ إذَا أَمْكَنَهُ تَعَلُّمُ دَلَائِلِ الْقِبْلَةِ وَلَا يَتَعَلَّمُهَا حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ، وَهَذَا النزَاعُ هُوَ الْقَوْذ الْمُحْدَثُ الشَّاذُّ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
وَأَمَّا النِّزَاعُ الْمَعْرُوفُ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي مِثْل مَا إذَا اسْتَيْقَظَ النَّائِمُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُصَلّيَ قَبْلَ الطُّلُوعِ بِوُضُوءِ: هَل يُصلّي بِتَيَمُّمِ؟ أَو يَتَوَضَّأُ ويُصَلّي بَعْدَ الطُّلُوعِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورينِ:
الْأَوَّلُ: قَوْلُ مَالِكٍ؛ مُرَاعَاة لِلْوَقْتِ.
الثَّانِي: قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ؛ كَأحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ. [22/ 57 - 59]
2507 -
وَقْتُ الْفَجْرِ: مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ.
وَوَقْتُ الظُّهْرِ: مِن الزَّوَالِ إلَى مَصِرِ ظِلِّ كُلّ شَيءٍ مِثْلِهِ سِوَى فَيءِ الزَّوَالِ.
وَوَقْتُ الْعَصْرِ: إلَى اصْفِرَارِ الشَّمْسِ عَلَى ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَد.
وَوَقْتُ الْمَغْرِبِ: إلَى مَغِيبِ الشَّفَقِ.
وَوَقْتُ الْعِشَاءِ: إلَى مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ عَلَى ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَد.
وَنَقُولُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْآثَارُ مِن أَنَّ الْوَقْتَ وَقْتَانِ:
أ- وَقْتَ اخْتِيَارٍ، وَهُوَ خَمْسُ مَوَاقِيتَ.
ب- وَوَقْتَ اضْطِرَارٍ، وَهُوَ ثَلَاثُ مَوَاقِيتَ.
وَلهَذَا أَمَرَت الصَّحَابَةُ -كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا- الْحَائِضَ إذَا طَهُرَتْ قَبْلَ الْغُرُوب أَنْ تُصَلِّيَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَإِذَا طَهُرَتْ قَبْلَ الْفَجْرِ أَنْ تُصَلِّيَ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ
(1)
.
وَكَذَلِكَ أَوْقَاتُ الِاسْتِحْبَابِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ يَسْتَحِبُّونَ الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فِي الْجُمْلَةِ، إلَّا حَيْثُ يَكُونُ فِي التَّأْخِيرِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ كَمَا جَاءَت بِهِ
(1)
وهذا رأي العلَّامة ابن باز كما في مجموع الفتاوى (10/ 217)، واللجنة الدائمة للإفتاء كما في الفتاوى (6/ 158)، وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله الشرح الممتع (2/ 133): لا يلزمها إلا الصَّلاة التي أدركت وقتها فقط، فأما ما قبلها فلا يلزمها. اهـ.
السُّنَّةُ، فَيَسْتَحِبُّونَ تَأْخِيرَ الظُّهْرِ فِي الْحَرِّ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ أَو مُتَفَرِّقِينَ، ويسْتَحِبُّونَ تَأْخِيرَ الْعِشَاءِ مَا لَمْ يَشُقَّ، وَبِكُلِّ ذَلِكَ جَاءَت السُّنَنُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي لَا دَافِعَ لَهَا. [22/ 74 - 77]
2508 -
الْوَقْت فِي كِتَابِ اللّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللّهِ نَوْعَانِ:
أ- وَقْتُ اخْتِيَارٍ وَرَفَاهِيَةٍ.
ب- وَوَقْتُ حَاجَةٍ وَضَرُورَةٍ.
أمَّا الْأوَّلُ: فَالْأَوْقَاتُ خَمْسَةٌ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَالْأَوْقَاتُ ثَلَاثَةٌ.
فَصَلَاتَا اللَّيْلِ وَصَلَاتَا النَّهَارِ وَهُمَا اللَّتَانِ فِيهِمَا الْجَمْعُ وَالْقَصْرُ، بِخِلَافِ صَلَاةِ الْفَجْرِ فَإنَّهُ لَيْسَ فِيهَا جَمْعٌ وَلَا قَصْرٌ.
ولِكُلٍّ مِنْهُمَا وَقْت مُخْتَصٌّ وَقْتُ الرَّفَاهِيَةِ وَالِاخْتِيَارِ، وَالْوَقْتُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالِاضْطِرَارِ.
لَكِنْ لَا تُؤَخَّرُ صَلَاةُ نَهَارٍ إلَى لَيْلٍ وَلَا صَلَاةُ لَيْلٍ إلَى نَهَارٍ.
وَقَد دَلَّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أنَّ اللهَ فِي كِتَابِهِ ذَكَرَ الْوُقُوتَ تَارَةً ثَلَاثَة، وَتَارَةً خَمْسَةً.
أَمَّا الثَّلَاثَةُ: فَفِي قَوْلِهِ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114]
(1)
، وَفِي قَوْلِهِ:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78]
(2)
.
(1)
قال العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله عند تفسير هذه الآية: يأمر تعالى بإقامة الصلاة كاملة {طَرَفَيِ النَّهَارِ} ؛ أي: أوله وآخره، ويدخل في هذا، صلاة الفجر، وصلاتا الظهر والعصر، {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} ويدخل في ذلك، صلاة المغرب والعشاء، ويتناول ذلك قيام الليل، فإنها مما تزلف العبد، وتقربه إلى الله تعالى. اهـ.
(2)
قال العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله عند تفسير هذه الآية: يأمر تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بإقامة الصلاة تامة، ظاهرًا وباطنًا، في أوقاتها. {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}؛ أي: ميلانها إلى الأفق =
وَأَمَّا الْخَمْسُ: فَقَد ذَكَرَهَا أَرْبَعَةَ: فِي قَوْلِهِ: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)} [الروم: 17، 18]
(1)
.
وَقَوْلِهِ: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)} [طه: 130]
(2)
.
وَالسُّنَّةُ هِيَ الَّتِي فَسَّرَتْ ذَلِكَ وَبَيَّنَتْهُ وَأَحْكمَتْهُ.
وَذَلِكَ أَنَّهُ قَد ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي خَمْسِ مَوَاقِيتَ فِي حَالِ مُقَامِهِ بِالْمَدِينَةِ، وَفِي غَالِبِ أَسْفَارِهِ
(3)
.
= الغربي بعد الزوال، فيدخل في ذلك صلاة الظهر وصلاة العصر.
{إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} ؛ أي: ظلمته، فدخل في ذلك صلاة المغرب وصلاة العشاء. {قُرْآنَ الْفَجْرِ}؛ أي: صلاة الفجر.
ففي هذه الآية، ذكر الأوقات الخمسة، للصلوات المكتوبات، وأن الصلوات الموقعة فيه فرائض لتخصيصها بالأمر.
وأن الظهر والعصر يجمعان، والمغرب والعشاء كذلك، للعذر؛ لأن الله جمع وقتهما جميعًا. اهـ.
(1)
قال العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله عند تفسير هذه الآية: هذا إخبار عن تنزهه عن السوء والنقص وتقدسه عن أن يماثله أحد من الخلق وأمر للعباد أن يسبحوه حين يمسون وحين يصبحون ووقت العشي ووقت الظهيرة.
فهذه الأوقات الخمسة أوقات الصلوات الخمس أمر الله عباده بالتسبيح فيها والحمد، ويدخل في ذلك الواجب منه كالمشتملة عليه الصلوات الخمس، والمستحب كأذكار الصباح والمساء وأدبار الصلوات وما يقترن بها من النوافل. اهـ.
(2)
قال الإمام القرطبيُّ رحمه الله عند تفسير هذه الآية: قَالَ أَكْثَرُ الْمُتَأَوِّلينَ: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْس:
{قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} : صَلَاةِ الصُّبْح.
{وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} : صَلَاةِ الْعَصْرِ.
{وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ} : الْعَتَمَةِ (أي: الفجر).
{وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} : الْمَغْرِبَ وَالظُّهْرَ؛ لِأن الظُّهْرَ فِي آخِرِ طَرَفِ النَهَارِ الْأَوَّلِ، وَأَوَّل طَرَفِ النَّهَارِ الْاَخِرِ، فَهِيَ فِي طَرَفَيْنِ مِنْهُ، وَالظرَت الثَّالِثُ: غُرُوبُ الشَّمْسِ، وَهُوَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ. اهـ.
(3)
فالغالب عليه عدم الجمع في السفر، وإنما يجمع إذا جدّ به السير، وفي عرفة ومزدلفة لحاجته للتفرغ للدعاء.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِي غَيْرِ حَدِيث: "سَيَكُونُ أمُرَاءُ يُؤَخّرُونَ الصَّلَاةَ عَن وَقْتِهَا، فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا ثُمَّ اجْعَلُوا صَلَاَتَكُمْ مَعَهُم نَافِلَةً"، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُورُ تَأخِيرُ الْأُولَى إلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ، وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ؛ فَإِنَّ الْأُمَرَاءَ لَمْ يَكُونُوا يُؤَخّرُونَ صَلَاةَ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلِ، وَلَا صَلَاةَ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ، وَلَكِنَّ غَايَتَهُم أَنْ يُؤَخرُوا الظُّهْرَ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، أَو الْعَصْرَ إلَى الِاصْفِرَارِ، أَو يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ إلَى مَغِيبِ الشَّفَقِ.
وَأَمَّا الْعِشَاءُ فَلَو أَخَّرُوهَا إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ لَمْ يَكُن ذَلِكَ مَكْرُوهًا.
وَتَأخِيرُهَا إلَى مَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُن يَفْعَلُهُ أَحَدٌ وَلَا هُوَ مِمَّا يَفْعَلُهُ الْأُمَرَاءُ.
وَأَمَّا الثَّلَاث: فَقَد ثَبَتَ عَنْهُ فِي "الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ" مِن حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاء، يَجْمَعُ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ فِي وَقْتِ الْأُولَى، أَو إذَا كَانَ سَائِرًا فِي وَقْتِهَا.
وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْقَائِلُونَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِن فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الْحِجَاز.
وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِيمَا إذَا كَانَ نَازِلًا فِي وَقْتِ الصَّلَاتَيْنِ كِلَاهُمَا، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَن أَحْمَد:
إحْدَاهُمَا: لَا يَجْمَعُ؛ لِعَدَمِ السُّنَّةِ وَالْحَاجَةِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
الثَّانِيَةُ: يَجْمَعُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِحَدِيثِ رُوِيَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَثَبَتَ عَنْهُ أَيْضًا بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَبِالِاتِّفَاقِ أَنَّهُ جَمَعَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِعَرَفَةَ بَيْنَ صَلَاتَي الْعَشِيِّ وبمزدلفة بَيْنَ صَلَاتَيْ الْعِشَاءَيْنِ.
وَثَبَتَ عَنْهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" مِن حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ صَلَّى بِالْمَدِينَةِ سَبْعًا وَثَمَانِيًا: الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاء.
وَرَوَى أَهْلُ السُّنَنِ عَنْهُ حَدِيثَيْنِ أَو ثَلَاثَةً أَنَّهُ أَمَرَ الْمُسْتَحَاضَةَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ.
- فَهَذَا الْجَمْعُ بِالْمَدِينَةِ لِلْمَطَرِ وَلغَيْرِ مَطَرٍ، وَقَد نَبَّهَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى الْجَمْعِ لِلْخَوْفِ وَالْمَطَرِ
(1)
.
- وَالْجَمْعُ عِنْدَ الْمَسِيرِ فِي السَّفَرِ؛ يَجْمَعُ فِي الْمَقَامِ وَفِي السَّفَرِ لِرَفْعِ الْحَرَجِ.
فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ السَّفَرُ سَبَبٌ لِلْجَمْعِ كَمَا هُوَ سَبَبٌ لِلْقَصْرِ؛ فَإنَّ قَصْرَ الْعَدَدِ دَائِرٌ مَعَ السَّفَرِ وَجُودًا وَعَدَمًا، وَأَمَّا الْجَمْعُ فَقَد جَمَعَ فِي غَيْرِ سَفَرِ، وَقَد كَانَ فِي السَّفَرِ يَجْمَعُ لِلْمَسِيرِ، وَيَجْمَعُ فِي مِثْل عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ، وَلَا يَجْمَعُ فِي سَائِرِ مَوَاطِنِ السَّفَرِ، وَأَمَرَ الْمُسْتَحَاضَةَ بِالْجَمْعِ.
فَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ الْجَمْعَ هُوَ لِرَفْعِ الْحَرَجِ، فَإِذَا كَانَ فِي التَّفْرِيقِ حَرَجٌ جَازَ الْجَمْعُ، وَهُوَ وَقْتُ الْعُذْرِ وَالْحَاجَةِ؛ وَلهَذَا قَالَ الصَّحَابَةُ: كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَابْنِ عُمَرَ فِي الْحَائِضِ إذَا طَهُرَتْ قَبْلَ الْغُرُوبِ: صَلَّتْ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَإِذَا طَهُرَتْ قَبْلَ الْفَجْرِ: صَلَّتْ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ.
وَقَالَ بِذَلِكَ اهْلُ الْجَمْعِ؛ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد.
فَهَذَا يُوَافِقُ قَاعِدَةَ الْجَمْعِ فِي أَنَّ الْوَقْتَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ صَلَاتَي الْجَمْعِ عِنْدَ الضَّروُرَةِ وَالْمَانِعِ.
فَمَن أَدْرَكَ آخِرَ الْوَقْتِ الْمُشْتَرَكِ فَقَد أَدْرَكَ الصَّلَاتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا.
ثُمَّ إمَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْجَمْعَ مُعَلَّقٌ بِالسَّفَرِ مُطْلَقًا قَصِيرِهِ
(2)
وَطَوِيلِهِ: إمَّا
(1)
لقوله: "جَمَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الظهْرِ وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ مِن غَيْرِ خَوْفِ، وَلَا مَطَرٍ".
فدل ذلك على أن الخوف والمطر سبب للجمع.
(2)
السفر القصير عند الفقهاء: هو السفر الذي لا تقصر فيه الصلاة، وهو ما دون (4) برد أو (16) فرسخًا، وهي ما تزيد على (80 كم). =
مُطْلَقًا، وَإِمَّا لِأَجْلِ الْمَسِيرِ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ الْجَمْع بمزدلفة لِأَجْلِ النُّسُكِ، كَمَا يَقُولُهُ مَن يَقُولُه مِن أصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ.
وَالْأوَّلُ أصْوَبُ عِنْدِي، وَأَقْيَسُهُ بِأُصُولِ أَحْمَد وَنُصُوصِهِ؛ فَإِنَّه قَد نَصَّ عَلَى الْجَمْعِ فِي الْحَضَرِ لِشُغْل، فَإِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ فَهُوَ أَوْلَى
(1)
.
وَالْجَمْعُ هُوَ مِن هَذَا الْبَاب: إنَّمَا جَازَ لِعُمُومِ الْحَاجَةِ لَا لِخُصُوصِ السَّفَرِ
(2)
.
= فلو سافر إلى بلدة دون هذه المسافة فهذا هو السفر القصير.
وأما إذا كان أربعة برد فهذا الذي يحل فيه قصر الصلاة -على ما ذهب إليه الجمهور من تقسيم السفر إلى سفر طويل وقصير-.
والشيخ يرجح أن السفر مطلق، ليس منه القصير والطويل، بل متى ثبت السفر فإن القصر يكون مشروعًا ولا فرق بين السفر الطويل والقصير.
قال ابن القيِّم: "لَمْ يَحُدَّ صلى الله عليه وسلم لِأُمَّتِهِ مَسَافَةَ مَحْدُودَةً لِلْقَصْرِ وَالْفِطْرِ، بَل أَطْلَقَ لَهُم ذَلِكَ فِي مُطْلَقِ السَّفَرِ وَالضَّرْب فِي الْأَرْضِ، كَمَا أطْلَقَ لَهُمُ التَّيَمُّمَ فِي كُلِّ سَفَر". زاد المعاد (1/ 463).
وعلى هذا: فلَو سافر رجل إلى قرية قريبة لا تبعد أكثر من (40 كيلو) وعزم على النوم فيها، فسفره هذا على رأي الجمهور قصير، لا يترخص برخص السفر، وعلى رأي شيخ الإسلام لا يُطلَق عليه سفر قصير، بل يعتبر الرجل مسافرًا ويترخص برخص السفر كلها.
(1)
يعني: أن الإمام أحمد نص على جواز الجمع في غير السفر لمجرد الشغل والحاجة، فإذا سافر سفرًا قصيرًا -على رأي الفقهاء- واحتاج للجمع فهو أولى.
(2)
ينبغي أنْ يُعلم أنّ الجمع رخصة لا سُنَّة، وهذا ما أكده الشيخ رحمه الله، قال ابن القيِّم:"الجمع ليس سُنَّة راتبة كما يعتقد أكثر المسافرين أن سُنَّة السفر الجمع سواء وجد عذر أو لم يوجد، بل الجمع رخصة، والقصر سُنَّة راتبة، فسنة المسافر قصر الرباعية سواء كان له عذر أو لم يكن، وأما جمعه بين الصلاتين فحاجة ورخصة، فهذا لون وهذا لون". الوابل الصيب (ص 14).
وهل يشترط للجمع الجدّ في السير؛ أي: يكون المسافر سائرًا في الوقتين المشتركين؟
اتفق القائلون بجواز الجمع في السفر بأن الجمع جائز في حال انتقال المسافر وقطعه للطريق في وقت الصلاة.
واختلفوا في حكم جمع الصلاة للمقيم في بلد إقامةٍ يقصر فيها الصلاة على قولين:
فذهب الإمام مالك -وظاهر كلام ابن تيمية-: إلى أن الجمع لا يجوز إلا لمن جد به السير.
المدونة (1/ 205)، المبدع (2/ 125)، الوابل الصيب (ص 14)، مجموع الفتاوى (20/ 360، 22/ 290) لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين المغرب والعشاء إذا جد به السير". البخاري (1055)، مسلم (703). =
وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْعُمُومِ وَالْجَمْعِ وَإِن اشْتَبَهَ مَعْنَاهَا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] فَإِنَّهُ أَبَاحَ الْقَصْرَ بِشَرْطَيْنِ:
أ- الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ.
ب- وَخَوْفِ الْكُفَّارِ.
فَالسَّفَر: سَبَبُ قَصْرِ الْعَدَدِ.
وَالْخَوْفُ: سَبَبُ قَصْرِ الْأَرْكَانِ.
فَإِذَا اجْتَمَعَ الْأَمْرَانِ: قَصُرَ الْعَدَدُ وَالْأَرْكَان.
= قال شيخ الإسلام: لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ جَمَعَ فِي السَّفَرِ وَهُوَ نَازِلٌ إلَّا مَرَّةٌ وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا كَانَ يَجْمَعُ فِي السَّفَرِ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ، وإنَّمَا جَمَعَ لِنَحْوِ الْوُقُوفِ لِأجْلِ أَلَّا يَفْصِلَ بَيْنَ الْوُقُوفِ بِصَلَاةٍ وَلَا غَيْرِهَا.
فَالْجَمْعُ لَيْسَ مِن خَصَائِصِ السَّفَرِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْقَصْرِ فَإنَّهُ لَا يُشْرَعُ إلَّا لِلْمُسَافِرِ. مجموع الفتاوى (26/ 169).
وذهب الشافعية والحنابلة -وهو إحدى الروايات عن الإمام مالك- إلى أنه يباح الجمع في كل سفر يقصر فيه، سواء كان جادًّا في سفره أم نازلًا بحيث لا تنقطع عنه أحكام السفر. مغني المحتاج (1/ 529)، وكشاف القناع (2/ 5)، والبيان والتحصيل (18/ 110).
قال ابن قدامة: "وإن أحب أن يجمع بين الصلاتين في وقت الأولى منهما، جاز، نازلًا كان أو سائرًا، أو مقيمًا في بلد إقامة لا تمنع القصر. وهذا قول عطاء، وجمهور علماء المدينة، والشافعي، وإسحاق، وابن المنذر". المغني (2/ 201).
واستدلوا على ذلك بحديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك، فكان يجمع الصلاة، فصلى الظهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا، حتى إذا كان يومًا أخّر الصلاة، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعًا، ثم دخل، ثم خرج بعد ذلك، فصلى المغرب والعشاء جميعًا". رواه مسلم (706).
قال ابن قدامة: "في هذا الحديث أوضح الدلائل، وأقوى الحجج، في الرد على من قال: لا يجمع بين الصلاتين إلا إذا جدّ به السير؛ لأنه كان يجمع وهو نازل غير سائر، ماكث في خبائه، يخرج فيصلي الصلاتين جميعًا، ثم ينصرف إلى خبائه .... والأخذ بهذا الحديث متعين؛ لثبوته وكونه صريحًا في الحكم، ولا معارض له، ولأن الجمع رخصة من رخص السفر، فلم يختص بحالة السير، كالقصر والمسح، ولكن الأفضل التأخير؛ لأنه أخذ بالاحتياط، وخروج من خلات القائلين بالجمع، وعمل بالأحاديث كلها". اهـ. المغني (2/ 202).
وَإِن انْفَرَدَ أَحَدُ السَّبَبَيْنِ: انْفَرَدَ قَصْرُهُ.
فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} مُطْلَقٌ فِي هَذَا الْقَصْرِ وَهَذَا الْقَصْرُ، وَسُنَّة رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم تُفَسِّرُ مُجْمَلَ الْقُرْآنِ وَتُبَيِّنُهُ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ وَتُعَبِّرُ عَنْهُ، وَهِيَ مفَسّرَة لَهُ، لَا مُخَالِفَة لِظَاهِرِهِ.
وَنَظِيرُ هَذَا أَيْضًا مَا قُرِئَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ}
(1)
[المائدة: 6] مِن أَنَّ الْمَسْحَ مُطْلَقٌ يَدْخُلُ فِيهِ:
أ- الْمَسْحُ بِإِسَالَةٍ، وَهُوَ الْغَسْلُ.
ب- وَالْمَسْخ بِغَيْرِ إسَالَةٍ، وَهُوَ الْمَسْحُ بِلَا غَسْلٍ.
فَالْقُرْآنُ أَمَرَ بِمَسْحٍ مُطْلَقٍ، وَالسُّنَّة تُثْبِتُ أَنَّ الْمَسْحَ فِي الرَّأسِ بِغَيْرِ إسَالَةٍ، وَالْمَسْحَ عَلَى الرِّجْلَيْنِ بِاِسَالَةِ، فَهِيَ مُفَسِّرَة لَهُ لَا مُخَالِفَة لِظَاهِرِهِ.
فَيَنْبَغِي تَدَبُّر الْقُرْآنِ وَمَعْرِفَةُ وُجُوهِهِ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا يَتَوَهَّمُ النَّاسُ أَنَّهُ قَد خُولِفَ ظَاهِرُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا لَهُ دَلَالَات يَعْرِفُهَا مَن أَعْطَاهُ اللّهُ فَهْمًا فِي كِتَابِهِ، وَيَسْتَفِيدُ بِذَلِكَ خَمْسَةَ فَوَائِدَ:
أَحَدُهَا: تَقْرِيرُ الأَحْكَامِ بِدَلَائِلَ الْقُرْآنِ.
وَالثَّانِي: بَيَانُ اتِّفَاقِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَالثَّالِثُ: بَيَانُ أَنَّ السُّنَّةَ مُفَسِّرَةٌ لَهُ لَا مُنَافِيَةٌ لَهُ.
وَالرَّابعُ: بَيَانُ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ.
وَالْخَامِسُ: الْإِجْمَاعُ مُوَافِقٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. [22/ 83 - 92]
2509 -
وَقْتُ الْعِشَاءِ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ يَتْبَعُ النَّهَارَ، فَيَكُونُ فِي الصَّيْفِ أَطْوَلَ، كَمَا أَنَّ وَقْتَ الْفَجْرِ يَتْبَعُ اللَّيْلَ، فَيَكُونُ فِي الشِّتَاءِ أَطْوَلَ.
(1)
بجر (أرجلكم)، فيكون معطوفًا على مسح الرأس.
وَمَن زَعَمَ أَنَّ حِصَّةَ الْعِشَاءِ بِقَدْرِ حِصَّةِ الْفَجْرِ فِي الشِّتَاءِ وَفِي الصَّيْفِ: فَقَد غَلِطَ غَلَطًا حِسِّيًّا بِاتِّفَاقِ النَّاسِ.
وَأَمَّا جَعْلُ هَذِهِ الْحِصةِ بِقَدْرِ هَذِهِ الْحِصَّةِ، وَأَنَّ الْفَجْرَ فِي الصَّيْفِ أَطْوَلُ، وَالْعِشَاءَ فِي الشِّتَاءِ أَطْوَلُ، وجَعْل الْفَجْر تَابِعًا لِلنَّهَارِ، يَطُولُ فِي الصَّيْفِ وَيَقْصُرُ فِي الشِّتَاءِ، وجَعْلُ الشَّفَق تَابِعًا لِلَّيْلِ يَقْصُرُ فِي الصَّيْفِ وَيَطُولُ فِي الشِّتَاءِ: فَهَذَا قَلْبُ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ. [22/ 93 - 94]
2510 -
التَّغْلِيسُ أَفْضَلُ إذَا لَمْ يَكُن ثَمَّ سَبَبٌ يَقْتَضِي التَّأْخِيرَ، فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الْمُسْتَفِيضَةَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تُبَيِّنُ أَنَّهُ كَانَ يُغَلِّسُ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ .. كَمَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن أَبِي بَرْزَةَ الأسلمي: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بِمَا بَيْنَ السِّتِّينَ آيَةً إلَى الْمِائَةِ وينْصَرِفُ مِنْهَا حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ
(1)
.
وَهَذ الْقِرَاءَةُ هِيَ نَحْوُ نِصْفِ جُزْءٍ أَو ثُلُثِ جُزْءٍ، وَكَانَ فَرَاغُهُ مِن الصَّلَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ.
وَأَمَّا إذَا أَخَّرَهَا لِسَبَب يَقْتَضِي التَّأُخِيرَ؛ مِثْل الْمُتَيَمِّم عَادَتُهُ إنَّمَا يُؤَخِّرُهَا لِيُصَلّيَ آخِرَ الْوَقْتِ بِوُضُوءِ، وَالْمُنْفَرِدُ يُؤَخِّرُهَا حَتَّى يُصَلِّيَ آخِرَ الْوَقْتِ فِي جَمَاعَةٍ، أَو أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الصَّلَاةِ آخِرَ الْوَقْتِ قَائِمًا، وَفِي أَوَّلِ الْوَقْتِ لَا يَقْدِرُ إلَّا قَاعِدًا، وَنَحْو ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ فِيهِ فَضِيلَةٌ تَزِيدُ عَلَى الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ: فَالتَأخِيرُ لِذَلِكَ أَفْضَلُ
(2)
. [22/ 95 - 97]
2511 -
المسافر العادم للماء إذا علم أنه يجد الماء بعد الوقت فلا يجوز له التأخير إلى ما بعد الوقت، بَل يصلي بالتيمم في الوقت بلا نزاع.
(1)
رواه البخاري (771)، ومسلم (647).
(2)
مع أنّ الوضوء والصلاة جماعة والقيام من واجبات أو شروط الصلاة، ومع ذلك لا يجب على الإنسان أنْ ينتظر إلى آخر الوقت ليحصلها، بل من حين دخول الوقت فله أنْ يُصلي حسب حاله واسْتطاعته.
وكذلك العاجز عن الركوع والسجود والقراءة إذا علم أنه يمكنه أن يصلي بعد الوقت بإتمام الركوع والسجود والقراءة كان الواجب أن يصلي في الوقت بحسب إمكانه. [المستدرك 3/ 54]
2512 -
من أخَّر صلاة عن وقتها فقد أتى بابًا من الكبائر. [المستدرك 3/ 55]
2513 -
تفويت العصر أعظم من تفويت غيرها؛ فإنها الوسطى، وعُرضت على من كان قبلنا فضيعوها، ومن حافظ عليها فله الأجر مرتين، ولما فاتت سليمان فعل بالخيل ما فعل. [المستدرك 3/ 55]
2514 -
يُعمل بقول المؤذن في دخول الوقت مع إمكان العلم بالوقت، وهو مذهب أحمد وسائر العلماء المعتبرين، وكما شهدت له النصوص. [المستدرك 3/ 61]
2515 -
بدأ جماعة من أصحابنا كالخرقي بالظهر، ومنهم من بدأ بالفجر، وهذا أجود؛ لأن الصلاة الوسطى هي العصر، وإنما تكون الوسطى إذا كانت الفجر هي الأولى. [المستدرك 3/ 62]
2516 -
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)} [طه: 84]، وظاهر الآية أن الحامل لموسى على العجلة هو طلب رضى ربه، وأن رضاه في المبادرة إلى أوامره والعجلة إليها؛ ولهذا احتج السلف بهذه الآية على أن الصلاة في أول الوقت أفضل، سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يذكر ذلك، قال: إنَّ رضى الرب في العجلة إلى أوامره
(1)
. [المستدرك 3/ 62]
(1)
المدارج (1/ 59).
ولذلك ينبغي للمؤمن أن يُوطِّن نفسه على المبادرة للعمل الصالح الذي يَبْلغه عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا عوّد نفسه ذلك انقادت نفسه للخير واعتادت عليه، وأحبته وكرهت مُخالفته، وكلما تباطأ وسوّف: أحجمت نفسُه عن كثير من الخير والبر والصلاح، حتى إن الكثير من الناس لا يستطيع التغلب على هواه ورغبته ولو كان في مُتابعة هواه العطب، والضرر المحقق.
2517 -
جمهور العلماء يرون أن تقديم الصلاة أفضل إلا إذا كان في التأخير مصلحة؛ مثل المتيمم يؤخر ليصلي اَخر الوقت بوضوء، والمنفرد يؤخر ليصلي آخر الوقت مع جماعة ونحو ذلك.
لم أجد أحدًا قال: إن تأخير جميع الصلوات أفضل، لكن منهم من يقول بعضها أفضل، كما يقول أبو حنيفة في الفجر والعصر. [المستدرك 3/ 62]
2518 -
المواقيت التي علمها جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم وعلمها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته حين بيَّن مواقيت الصلاة وهي التي ذكرها العلماءفي كتبهم هي في الأيام المعتادة.
فأما ذلك اليوم الذي قال فيه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "يوم كسنة" قال: "اقدروا له"
(1)
فله حكم آخر، يبين ذلك أن صلاة الظهر في الأيام المعتادة لا تكون إلا بعد الزوال وانتصاف النهار، وفي ذلك اليوم يكون من أوائل اليوم بقدر ذلك، وكذلك وقت العصر.
لا يكون وقت العصر فيه إذا صار ظل كل شيء لا مثله ولا مثليه؛ بَل يكون أول يوم قبل هذا الوقت بشيء كثير، فكما أن وقت الظهر والعصر ذلك اليوم هما قبل الزوال، كذلك صلاة المغرب والعشاء قبل الغروب، وكذلك صلاة الفجر فيه تكون بقدر الأوقات في الأيام المعتادة، ولا يُنظر فيها إلى حركة الشمس لا بزوالٍ، ولا بغروب، ولا مغيب شفق ونحو ذلك.
وقول الصحابة رضي الله عنهم: يا رسول الله أرأيت اليوم كالسَّنَة أيكفينا فيه صلاة اليوم؟ فقال: "لا ولكن اقدروا له قدره": أراد اليوم والليلة.
فقد يعني به: الليل كما يعني بلفظ الليلة الليلة بيومها؛ كقوله تعالى: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} [آل عمران: 41] وفي الموضع الآخر:
(1)
رواه مسلم (2937).
{ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10)} [مريم: 10] ويوم كقوله: "يوم عرفة"، "وإذا فاته الوقوف يوم عرفة" يراد اليوم والليلة التي تليه. [المستدرك 3/ 62 - 63]
2519 -
قال في اقتضاء الصراط المستقيم في تسمية العشاء بالعتمة: إن الأشهر عندنا إنما يكره الإكثار حتى يغلب على الاسم الآخر، وأن مثلها العشاء في الخلاف تسمية المغرب بالعشاء. [المستدرك 3/ 64]
2520 -
المرأةُ إذا غلب على ظنها أنها لا تخرج من الحمام حتى يفوت العصر، أو تصفر الشمس: لم يجز لها تفويت العصر باتفاق الأئمة؛ بل إمَّا أن تصلي في البيت جمعًا
(1)
، وإمَّا أنْ تخرجَ مِن الحمام وتصلي، وإمَّا أن تصلي في الحمام
(2)
، وجمعُها في البيت خيرٌ من صلاتها في الحمام. [المستدرك 3/ 64]
2521 -
من دخل عليه الوقت ثم طرأ عليه مانع من جنون أو حيض: فلا قضاء عليه إلا أن يتضايق الوقت عن فعلها، ثم يوجد المانع، وهو قول مالك.
ومتى زال المانع من تكليفه في وقت الصلاة: لزمته إن أدرك فيها قدر ركعة وإلا فلا، وهو قول الليث وقول الشافعي. [المستدرك 3/ 64]
* * *
ستر العورة
2522 -
فَصْلٌ فِي "اللِّبَاسِ فِي الصَّلَاةِ"، وَهُوَ أخْذُ الزِّينَةِ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، الَّذِي يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ:(بَابُ سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ)، فَاِنَّ طَائِفَةً مِن الْفُقَهَاءِ ظَنُّوا أَنَّ الَّذِي يُسْتَرُ فِي الصَّلَاةِ هُوَ الَّذِي يُسْتَرُ عَن أَعْيُنِ النَّاظِرِينَ وَهُوَ الْعَوْرَةُ، وَأَخَذَ
(1)
فتصلي الظهر والعصر جمعًا قبل أن تذهب للحمام، ولو كانت في الحضر، فالجمع يُشرع عند الحاجة.
(2)
إذا لم تستطع الخروج.
ومثل هذه الحالة: من أدركته صلاة الظهر وهو يقود السيارة. في طريق مزدحم، فيجوز له تأخيرها ويجمعها مع العصر، وأما إذا كانت صلاة العصر فيجب أن يصلي في سيارته ولا يُؤخر الصلاة عن وقتها.
مَا يُسْتَرُ فِي الصَّلَاةِ مِن قَوْلِهِ: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31].
ثُمَّ قَالَ: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} يَعْنِي: الْبَاطِنَةَ، {إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} الْآيَةَ [النور: 31].
فَقَالَ: يَجُوزُ لَهَا فِي الصَّلَاةِ أنْ تُبْدِيَ الزِّينَةَ الظَّاهِرَةَ دُونَ الْبَاطِنَةِ.
وَالسَّلَفُ قَد تَنَازَعُوا فِي الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أ- فَقَالَ ابْن مَسْعُودٍ وَمَن وَافَقَهُ: هِيَ الثِّيَابُ.
ب- وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَن وَافَقَة: هِيَ فِي الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ؛ مِثْلُ الْكُحْلِ وَالْخَاتَمِ.
وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي النَّظَرِ إلَى الْمَرْأةِ الْأجْنَبِيَّةِ: فَقِيلَ: يَجُوزُ النَّظَرُ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ إلَى وَجْهِهَا ويدَيْهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد.
وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أحْمَد، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ: أَنَّ اللهَ جَعَلَ الزِّينَةَ زِينتَيْنِ:
أ- زِينَةً ظَاهِرَةً
ب- وَزِينَةً غَيْرَ ظَاهِرَةٍ.
وَجَوَّزَ لَهَا إبْدَاءَ زِينَتهَا الظَّاهِرَةَ لِغَيْرِ الزَّوْجِ وَذَوِي الْمَحَارِمِ.
وَكَانُوا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ آيَةُ الْحِجَابِ كَانَ النِّسَاءُ يَخْرُجْنَ بِلَا جِلْبَاب، يَرَى الرَّجُلُ وَجْهَهَا وَيَدَيْهَا، وَكَانَ إذ ذَاكَ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُظْهِرَ الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ، وَكَانَ حِينَئِذٍ يَجُوزُ النَّظَرُ إلَيْهَا؛ لِأنَّهُ يَجُوزُ لَهَا إظْهَارُهُ.
ثُمَّ لَمَّا أَنْزَلَ اللّهُ عز وجل آيَةَ الْحِجَابِ بِقَوْلِهِ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59] حَجَبَ النِّسَاءَ عَنِ
الرِّجَالِ، وَكَانَ ذَلِكَ لَمَّا تَزَوَّجَ زينَبَ بِنْتَ جَحْشٍ فَأرْخَى السِّتْرَ ومَنَع أنسًا أنْ ينظر
(1)
.
والْجِلْبَابُ هُوَ الْملَاءَةُ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ الرِّدَاءَ، وَتُسَمّيهِ الْعَامَّةُ الْإِزَارَ، وَهُوَ الْإِزَارُ الْكَبِيرُ الَّذِي يُغَطِّي رَأسَهَا وَسَائِرَ بَدَنِهَا.
وَقَد حَكَى أَبُو عَبِيدٍ وَغَيْرُهُ: أَنَّهَا تُدْنِيهِ مِن فَوْقِ رَأسِهَا فَلَا تُظْهِرُ إلَّا عَيْنَهَا، وَمِن جِنْسِهِ النِّقَابُ، فَكنَّ النِّسَاءُ يَنْتَقِبْنَ.
فَإذَا كُنَّ مَأمُورَاتٍ بِالْجِلْبَابِ لِئَلَّا يُعْرَفْنَ وَهُوَ سَتْرُ الْوَجْهِ أَو سَتْرُ الْوَجْهِ بِالنِّقَابِ: كَانَ الْوَجْهُ وَالْيَدَانِ مِنَ الزِّينَةِ الَّتِي أُمِرَتْ أَلَّا تُظْهِرَهَا لِلْأَجَانِبِ، فَمَا بَقِيَ يَحِلُّ لِلْأَجَانِبِ النَّظَرُ إلَّا إلَى الثّيَابِ الظَّاهِرَةِ.
فَابْنُ مَسْعُودٍ ذَكَرَ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ذَكَرَ أَوَّلَ الْأَمْرَيْنِ.
وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: {أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهَا أَنْ تُبْدِيَ الزِّينَةَ الْبَاطِنَةَ لِمَمْلُوكِهَا، وَفِيهِ قَوْلَانِ: قِيلَ: الْمُرَادُ الْإِمَاءُ وَالْإِمَاءُ الْكِتَابِيَّاتُ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَرَجَّحَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ، وَقِيلَ: هُوَ الْمَمْلُوكُ الرَّجُلُ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأخْرَى عَن أَحْمَد.
(1)
ليست هذه آية الحجاب، بل هي قوله تعالى: قَوْلِهِ: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53].
ويدل على ذلك ما رواه البخاري (4791)، ومسلم (1428)، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ:"لَمَّا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زينَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، دَعَا القَوْمَ فَطَعِمُوا ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ، وَإِذَا هُوَ كَأَنَّهُ يَتَهَيَّأ لِلْقِيَامِ، فَلَمْ يَقُومُوا فَلَمَّا رَأى ذَلِكَ قَامَ، فَلَمَّا قَامَ قَامَ مَنْ قَامَ، وَقَعَدَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِيَدْخُلَ فَإِذَا القَوْمُ جُلُوسٌ، ثُمَّ إِنَّهُمْ قَامُوا، فَانْطَلَقْتُ فَجِئْتُ فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُمْ قَدِ انْطَلَقُوا، فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ فَذَهَبْتُ أدْخُلُ، فَأَلْقَى الحِجَابَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَأنْزَلَ اللهُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} [الأحزاب: 53] الآيَةَ".
وفي رواية: أَرْخَى السِّتْرَ بَيْني وَبَيْنَهُ، وَأنْزِلَتْ آيَةُ الحِجَابِ.
تنبيه: في الأصل: (وَمَنَعَ النسَاءَ أَنْ يَنْظُرْنَ)، والتصويب من كتاب: حجاب المرأة ولباسها في الصلاة لشيخ الإسلام ابن تيمية، الذي حققه العلامة محمد ناصر الدين الألباني (4).
فَهَذَا يَقْتَضِي جَوَازَ نَظَرِ الْعَبْدِ إلَى مَوْلَاتِهِ، وَقَد جَاءَت بِذَلِكَ أَحَادِيثُ، وَهَذَا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ.
فَصْلٌ
فَهَذَا سَتْرُ النِّسَاءِ عَنِ الرِّجَالِ، وَسَتْرُ الرِّجَالِ عَنِ الرّجَالِ، وَالنِّسَاءِ عَنِ النِّسَاءِ فِي الْعَوْرَةِ الْخَاصَّةِ، كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:"لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ وَلَا تَنْظُرُ الْمَرْأة إلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ"
(1)
.. وَنَهَى أَنْ يُفْضِيَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَالْمَرْأَةُ إلَى الْمَرْأَةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ.
فَنَهَى عَنِ النَّظَرِ وَاللَّمْسِ لِعَوْرَةِ النَّظِيرِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْقُبْحِ وَالْفُحْشِ. وَأَمَّا الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ فَلِأَجْلِ شَهْوَةِ النكَاحِ.
فَهَذَانِ نَوْعَانِ.
وَفِي الصَّلَاةِ نَوْعٌ ثَالِث؛ فَإنَّ الْمَرْأَةَ لَو صَلَّتْ وَحْدَهَا كَانَت مَأْمُورَةً بِالِاخْتِمَارِ، وَفِي غَيْرِ الصَّلَاةِ يَجُوزُ لَهَا كَشْفُ رَأسِهَا فِي بَيْتِهَا فَأخْذُ الزِّينَةَ فِي الصَّلَاةِ لِحَقّ اللّهِ.
وَحِينَئِذٍ: فَقَدَ يَسْتُرُ الْمُصَلِّي فِي الصَّلَاةِ مَا يَجُوزُ إبْدَاؤُهُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَقَد يُبْدِي فِي الصَّلَاةِ مَا يَسْتُرُهُ عَنِ الرِّجَالِ:
فَالْأَوَّلُ: مِثْلُ الْمَنْكِبَيْنِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ.
فَهَذَا لِحَقِّ الصَّلَاةِ، ويَجُوزُ لَهُ كَشْفُ مَنْكِبَيْهِ لِلرِّجَالِ خَارجَ الصَّلَاةِ.
كَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ تَخْتَمِرُ فِي الصَّلَاةِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: "لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارِ"
(2)
، وَهِيَ لَا تَخْتَمِرُ عِنْدَ زَوْجِهَا وَلَا عِنْدَ ذَوِي
(1)
رواه مسلم (338).
(2)
صحَّحه الألباني في صحيح أبي داود (641).
مَحَارِمِهَا، فَقَد جَازَ لَهَا إبْدَاءُ الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ لِهَؤُلَاءِ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا فِي الصَّلَاةِ أَنْ يُكْشَفَ رَاسُهَا لِهَؤُلَاءِ وَلَا لِغَيْرِهِمْ.
وَعَكْسُ ذَلِكَ: الْوَجْهُ وَالْيَدَانِ وَالْقَدَمَانِ، لَيْسَ لَهَا أَنْ تُبْدِيَ ذَلِكَ لِلْأَجَانِبِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ.
وَأَمَّا سَتْرُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يَجِبُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَل يَجُوزُ لَهَا إبْدَاؤُهُمَا فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمَد، فَكَذَلِكَ الْقَدَمُ يَجُوزُ إبْدَاؤُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْأَقْوَى.
وَتَغْطِيَةُ هَذَا فِي الصَّلَاةِ فِيهِ حَرَجٌ عَظِيمٌ.
وَبِالْجُمْلَةِ: قَد ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ أَنْ تَلْبَسَ الْجِلْبَابَ الَّذِي يَسْتُرُهَا إذَا كَانَت فِي بَيْتهَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ إذَا خَرَجَتْ.
وَحِينَئِذٍ فَتُصَلّي فِي بَيْتِهَا وإِن رُئيَ وَجْهُهَا وَيَدَاهَا وَقَدَمَاهَا كَمَا كُنَ يَمْشِينَ أَوَّلًا قَبْلَ الْأَمْرِ بِإِدْنَاءِ الْجَلَابِيبِ عَلَيْهِنَّ، فَلَيْسَتِ الْعَوْرَةُ فِي الصَّلَاةِ مُرْتَبِطَةً بِعَوْرَةِ النَّظَرِ لَا طَرْدًا وَلَا عَكْسًا
(1)
.
وَابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه لَمَّا قَالَ: الزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ هِيَ الثّيَابُ، لَمْ يَقُلْ إنَّهَا كُلَّهَا عَوْرَةٌ حَتَّى ظفْرِهَا؛ بَل هَذَا قَوْلُ أَحْمَد؛ يَعْنِي: أَنَّهَا تُشْتَرَطُ فِي الصَّلَاةِ؛ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ يُسَمُّونَ ذَلِكَ: (بَابُ سَتْرِ الْعَوْرَةِ)
(2)
وَلَيْسَ هَذَا مِن ألْفَاظِ الرَّسُولِ، وَلَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ مَا يَسْتُرُهُ الْمُصَلِّي فَهُوَ عَوْرَةٌ؛ بَل قَالَ تَعَالَى:{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]
(3)
.
(1)
فلو صلت المرأة بثوبها الساتر لبدنها، وغطت شعرها فلا بأس، ولا يلزم أن ترتدي العباءة المخصصة للصلاة.
(2)
عند حديثهم على اللبس الواجب في الصلاة.
(3)
فلم تأتِ كلمة "سَتْرُ العَوْرَة" في الكتاب أو السُّنَّة، والذي جاء في القرآن:{يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]. فأمر الله تعالى بأخذ الزِّينة عند الصَّلاة، وأقلُّ ما يمكن لباس يُواري السَّوأة. يُنظر: الشرح الممتع (2/ 149).
وَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانَا؛ فَالصَّلَاةُ أَوْلَى.
فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُؤْمَرُ فِي الصَّلَاةِ بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ؛ الْفَخْذِ وَغَيْرِهِ، وَإِن جَوَّزنا لِلرَّجُلِ النَّظَرَ إلَى ذَلِكَ.
فَإِذَا قُلْنَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمَد: أَنَّ الْعَوْرَةَ السَّوْأَتَانِ، وَانَّ الْفَخْذَ لَيْسَتْ بِعَوْرَةِ: فَهَذَا فِي جَوَازِ نَظَرِ الرَّجُلِ إلَيْهَا، لَيْسَ هُوَ فِي الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُل مَكْشُوفَ الْفَخْذَيْنِ سَوَاءٌ قِيلَ هُمَا عَوْرَةٌ أَو لَا، وَلَا يَطُوفَ عُرْيَانَا.
وَأَمَّا صَلَاةُ الرَّجُلِ بَادِيَ الْفَخْذَيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِزَارِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ، وَمَن بَنَى ذَلِكَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْعَوْرَةِ كَمَا فَعَلَهُ طَائِفَةٌ فَقَد غَلِطُوا.
وَلهَذَا أُمِرَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تَخْتَمِرَ فِي الصَّلَاةِ، وَأَمَّا وَجْهُهَا ويدَاهَا وَقَدَمَاهَا فَهِيَ إنَّمَا نُهِيَتْ عَن إبْدَاءِ ذَلِكَ لِلْأَجَانِبِ، لَمْ تُنْهَ عَن إبْدَائِهِ لِلنِّسَاءِ وَلَا لِذَوِي الْمَحَارِمِ.
فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِن جِنْسِ عَوْرَةِ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ، وَالْمَرْأَةِ مَعَ الْمَرْأَةِ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا لِأَجْلِ الْفُحْشِ وَقُبْحِ كَشْفِ الْعَوْرَةِ.
بَل هَذَا مِن مُقَدّمَاتِ الْفَاحِشَةِ، فَكانَ النَّهْيُ عَن إبْدَائِهَا نَهْيًا عَن مُقَدّمَاتِ الْفَاحِشَةِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ:{ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ} [البقرة: 232]، وَقَالَ فِي آيَةِ الْحِجَابِ:{ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53] فَنَهَى عَن هَذَا سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، لَا أَنَّهُ عَوْرَة مُطْلَقَة لَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا غَيْرِهَا
(1)
.
وَأَمْرُ الْمَرْأَةِ فِي الصَّلَاةِ بِتَغْطِيَةِ يَدَيْهَا بَعِيدٌ جِدًّا .. كَذَلِكَ الْقَدَمَانِ.
وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْخِمَارِ فَقَطْ مَعَ الْقَمِيصِ، فَكُنَّ يُصَلِّينَ بقُمُصهن وَخُمُرِهِنَّ.
(1)
تنبيهٌ لطيفٌ جدًّا قلّ من يتنبه له.
وَأَمَّا الثَّوْب الَّتِي كَانَتِ الْمَرْأَةُ تُرْخِيهِ وَسَألَتْ عَن ذَلِكَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: شِبْرًا، فَقُلْنَ: إذَنْ تَبْدُو سُوقُهُنَّ، فَقَالَ: ذِرَاعٌ لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ: فَهَذَا كَانَ إذَا خَرَجْنَ مِنَ الْبُيُوتِ، وَأَمَّا فِي نَفْسِ الْبَيْتِ فَلَمْ تكُنْ تَلْبَسُ ذَلِكَ.
وَلَمْ يُؤْمَرْنَ مَعَ القمص إلَّا بِالْخُمُرِ
(1)
، لَمْ تُؤْمَرْ بِسَرَاوِيلَ؛ لِأَنَّ الْقَمِيصَ يُغْنِي عَنْهُ، وَلَمْ تُؤْمَرْ بِمَا يُغَطِّي رِجْلَيْهَا لَا خُفٍّ وَلَا جَوْرَبٍ، وَلَا بِمَا يُغَطِّي يَدَيْهَا لَا بِقُفَّازَيْنِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ.
فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ سَتْرُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكن عِنْدَهَا رِجَالٌ أَجَانِبُ. [22/ 109 - 120]
2523 -
اختلفت عبارات أصحابنا في وجه الحرة في الصلاة، فقال بعضهم: ليس بعورة، وقال بعضهم: عورة، وإنما رخص في كشفه في الصلاة للحاجة، والتحقيق: أنه ليس بعورة في الصلاة، وهو عورة في باب النظر إذا لم يجز النظر إليه.
وفي الكفين روايتان: إحداهما: عورة، والرواية الثانية: ليستا بعورة .. واختارها الشيخ تقي الدين.
واختار الشيخ تقي الدين أن القدمين ليستا بعورة أيضًا. [المستدرك 3/ 65 - 66]
2524 -
لا يختلف المذهب في أن ما بين السرة والركبة من الأَمَة عورة، وقد حكى جماعة من أصحابنا أن عورتها السوأتان فقط كالرواية في عورة الرجل، وهذا غلط قبيح فاحش على المذهب خصوصًا وعلى الشريعة عمومًا، وكلام أحمد أبعد شيء عن هذا القول. [المستدرك 3/ 66]
2525 -
أمر الله بقدر زائد على ستر العورة في الصلاة وهو أخذ الزينة لا
(1)
أي: لَمْ يُؤمَرْنَ أنْ يلبسن مَعَ القمص في الصلاة إلَّا بِالْخُمُرِ، الذي يُغطي رؤسهنّ.
بستر العورة؛ إيذانًا بأنَّ العبد ينبغي له أن يلبس أزين ثيابه وأجملها في الصلاة، وكان لبعض السلف حلةٌ بمبلغ عظيم من المال وكان يلبسها وقت الصلاة ويقول: ربي أحق من تجملت له في صلاتي. [المستدرك 3/ 65]
2526 -
قَالَ ابْنُ عُمَرَ لِغلَامِهِ نَافِع لَمَّا رَآهُ يُصَلِّي حَاسِرًا: أَرَأَيْت لَو خَرَجْت إلَى النَّاسِ كُنْت تَخْرُجُ هَكَذَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَاللّهُ أحَقُّ مَن يُتَجَمَّلُ لَهُ
(1)
. [22/ 117]
وَعَلَى هَذَا فَيَسْتَتِرُ فِي الصَّلَاةِ أَبْلَغَ مِمَّا يَسْتَتِرُ الرَّجُلُ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةُ مِنَ الْمَرْأةِ.
2527 -
ومعلوم أن اللّه سبحانه وتعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، لا سيما إذا وقف بين يديه فأحسن ما وقف بين يديه بملابسه ونعمته التي ألبسه إياها ظاهرًا وباطنًا. [المستدرك 3/ 65]
2528 -
وَسُئِلَ الشيخ رحمه الله: عَن لُبْسِ الْقبَاءِ
(2)
فِي الصَّلَاةِ إذَا أَرَادَ أَنْ يُدْخِلَ يَدَيْهِ فِي أَكْمَامِهِ هَل يُكْرَهُ أَمْ لَا؟
فَأجَابَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ ذَكَرُوا جَوَازَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ هُوَ مِثْل السَّدْلِ الْمَكْرُوهِ
(3)
؛ لِمَا فِيهِ مِن فشَابَهَةِ الْيَهُودِ؛ فَاِنَّ هَذِهِ اللُّبْسَةَ لَيْسَتْ مِن مَلَابِسِ الْيَهُودِ. [22/ 122]
(1)
وإنك ترى الكثير من الناس إذا صلى وحده أو مع أصدقائه صلى بقميص أو بدون غترة، وإذا خرج إلى الناس لبس أحسن ثيابه!.
(2)
القباء أقرب ما يكون من (البالطو) ذي الأزرار الأمامية، وكان مشقوقًا من الخلف، طويلًا، من أجل أن تسهل حركة الرجلين، وكان في وسطه نطاق يُشدّ به ..
قال البخاري رحمه الله في اللباس من صحيحه: باب القَباء وفَرُّوج حرير، وهو القَباء، ويقال هو الذي له شقٌّ من خلفه.
وفي الفتح (10/ 281): قال القرطبي: القباء والفروج كلاهما ثوب ضيق الكلمين والوسط، مشقوق من خلف، يُلبس في السفر والحرب؛ لأنه أعون على الحركة. اهـ.
وفي كنز العمال (11771): أن عمرَ رضي الله عنه لمّا أنكر على معاوية بن عياض لبسه القباء والخفين الرقيقين، قال معاوية: يا أمير المؤمنين: أما القباء فإن الرجل يشد فيضم ثيابه. اهـ.
(3)
السدل: هو أن يطرح ثوبًا على كتفيه، ولا يرد أحد طرفيه على الكتف الأخرى، قال الشيخ: =
2529 -
وَسُئِلَ: هَل طَرْحُ الْقَبَاءِ عَلَى الْكَتِفَيْنِ مِن غَيْرِ أَنْ يُدْخِلَ يَدَيْهِ فِي أَكْمَامِهِ مَكْرُوهٌ؟
فَأَجَابَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ
(1)
، وَقَد ذَكَرُوا جَوَازَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ هَذَا مِنَ السَّدْلِ الْمَكْرُوهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ اللُّبْسَةَ لَيْسَتْ لُبْسَةَ الْيَهُودِ. [22/ 144]
2530 -
جِلْدُ الْأَرْنَبِ: تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ بِلَا ريبٍ، وَأَمَّا الثَّعْلَبُ فَفِيهِ نِزَاعٌ وَالْأَظْهَرُ جَوَازُ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَجِلْدُ الضَّبُعِ وكَذَلِكَ كُلُّ جِلْدٍ غَيْرِ جُلُودِ السِّبَاعِ التي نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَن لُبْسِهَا. [22/ 122]
2531 -
في لبس جلد الثعلب وافتراش جلد سبع روايتان، قال الشيخ تقي الدين: وأما الثعلب ففيه نزاع، والأظهر جواز الصلاة فيه. [المستدرك 3/ 69]
2532 -
إذَا انْكَشَفَ شَيْءٌ يَسِيرٌ مِن شَعْرِهَا وَبَدَنِهَا
(2)
: لَمْ يَكُن عَلَيْهَا الْإِعَادَةُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد.
وَإِن انْكَشَفَ شَيْءٌ كَثِيرٌ أَعَادَتِ الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ. [22/ 123]
= هذا التفسير هو الصحيح المنصوص عن أحمد. اهـ. المستدرك (3/ 66).
وقيل: هو أن يلتحف بثوب ويدخل يديه من داخل القميص فيركع ويسجد وهو كذلك، وكانت اليهود تفعل ذلك، لكن إذا أدى السدل إلى انكشاف العورة فإنه يحرم حينئذ.
قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله: المعروف عند فقهائنا هو -أي: السدل-: أنْ يطرح الثَّوب على الكتفين، ولا يردَّ طرفه على كتفه الآخر، ولكن إذا كان هذا الثَّوب مما يلبس عادة هكلذا، فلا بأس به، ولهذا قال شيخ الإسلام: إنَّ طَرْح القَبَاءَ على الكتفين من غير إدخال الكمَّين لا يدخل في السَّدْلِ.
والقَبَاء يُشبه ما يُسمَّى عندنا "الكوت" أو "الجُبَّةَ". الشرح الممتع (2/ 191).
(1)
فطرح القباء على الكتفين من غير أن يُدْخل يديه في الكمين لا بأس به باتفاق الفقهاء كما قال الشيخ.
(2)
أي: المرأة في الصلاة.
2533 -
اختار الشيخ تقي الدين أن الأفضل أن يلبس مع القميص
السراويل من غير حاجة إلى الإزار والرداء، وهذا من جنس اختياره أن الفصاد في البلاد الرطبة أولى، وأن الاغتسال بالماء الحار في البلاد الرطبة أولى من الادهان؛ اعتبارًا في كل بلد بعادتهم ومصلحتهم. [المستدرك 3/ 66]
2534 -
اعتبار لبس الطيالسة على العمائم لا أصل له في السُّنَّة، ولم يكن مِن فعل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم. [المستدرك 3/ 66]
2535 -
عن ابن عمر مرفوعًا: "من تشبه بقوم فهو منهم"
(1)
رواه أحمد وأبو داود وإسناده صحيح، قال شيخنا: أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] في مخالفة الأمر. [المستدرك 3/ 67]
2536 -
إرخاء الذؤابة بين الكتفين معروف في السُّنَّة، وإطالة الذؤابة كثيرًا من الإسبال المنهي عنه. [المستدرك 3/ 67]
2537 -
الصلاة في النعلين سُنَّةٌ أمَرَ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمَرَ إذا كان فيها أذى أن يدلكهما بالأرض فإنها لهما طهور، وهذا هو الصحيح من قولي العلماء، وصلاته صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالنعال في المسجد مع أنهم يسجدون على ما يلاقي النعال كل ذلك دليل على طهارة أسفل النعل، مع أنهم كانوا يروحون بها إلى الحش للبراز، فإذا رأى عليهما أثر النجاسة فدلكهما بالأرض طهرتا. [المستدرك 3/ 69]
2538 -
لا يجوز لبس ما فيه صورة حيوان في أحد الوجهين، والوجه الثاني: لا يحرم؛ بل يكره ذكره ابن عقيل والشيخ تقي الدين رواية. [المستدرك 3/ 69]
(1)
رواه أبو داود (4031)، وأحمد (5114)، قال الألباني في صحيح أبي داود: حسن صحيح.
2539 -
لو صلى على راحلة مغصوبة أو سفينة مغصوبة فهو كالأرض المغصوبة، وإن صلى على فراش مغصوب فوجهان، أظهرهما البطلان. [المستدرك 3/ 69]
2540 -
لبس الحرير حيث يكون سدى
(1)
بحيث يكون القطن والكتان أغلى قيمة منه وفي تحريمه إضرار بهم، لأنه أرخص عليهم: يُخَرَّج على وجهين؛ لتعارض لفظ النص ومعناه؛ كالروايتين في إخراج غير الأصناف الخمسة إذا لم يكن قوتًا لذلك البلد.
ولو كان الظهور للحرير وهو أقل من غيره ففيه ثلاثة أوجه: التحريم والكراهة، والإباحة، وحديث الحلة السيراء والقسي يستدل به على تحريم ما ظهر فيه الحرير؛ لأن ما فيه خيوط حرير أو سيور لا بد أن ينسج مع غيرها من الكتان أو القطن فالنبي صلى الله عليه وسلم حرمها لظهور الحرير فيها ولم يسأل هل وزن ذلك الموضع من القطن أو الكتان أكثر، أم لا؟ مع أن العادة أنه أقل، فإن استويا فالأشبه بكلام أحمد التحريم.
والثياب القسية ثياب مخططة بحرير. [المستدرك 3/ 71]
2541 -
الخز اسم لثلاثة أشياء:
أ- للوبر الذي ينسج مع الحرير، وهو وبر الأرنب.
ب- واسم لمجموع الحرير والوبر.
ت- واسم لرديء الحرير.
فالأول والثاني حلال، والثالث حرام.
(1)
أي: مُهْملًا، وَقَد تُفْتَحُ السِّينُ، فالسّدَى: يَدُلُّ عَلَى إِهْمَالٍ وَذَهَابٍ عَلَى وَجْهٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ:{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)} [القيامة: 36] أَيْ: مُهْمَلًا لَا يُؤمَرُ وَلَا يُنْهَى. مقاييس اللغة، مادة:(سَدَوَ)، والنهاية في غريب الحديث، مادة (سدى).
وعبارة كشاف القناع وغيره: مبتذلًا.
وأما لبس الرجال الحرير؛ كالكتولة والقباء فحرام على الرجال بالاتفاق على الأجناد وغيرهم، لكن تنازع العلماء في لبسه عند القتال بغير ضرورة على قولين: أظهرهما الإباحة.
وأما إن احتاج إلى الحرير في السلاح ولم يقم غيره مقامه فهذا يجوز بلا نزاع. [المستدرك 3/ 72]
2542 -
قال الشيخ تقي الدين: يجوز بيع حرير لكافر ولبسه له؛ لأن عمر بعث بما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أخ له مشرك. رواه أحمد والبخاري ومسلم.
قال شيخنا: وعلى قياسه بيع آنية الذهب والفضة للكفار، وإذا جاز بيعها لهم جاز صنعتها لبيعها منهم، وعملها لهم بالأجرة. [المستدرك 3/ 73]
2543 -
أطلق في المستوعب: له الخضاب بالحناء، وقال في مكان آخر: كرهه أحمد، لأنه من الزينة، وقال شيخنا: هو بلا حاجة مختص بالنساء، ثم احتج بلعن المتشبهين والمتشبهات. [المستدرك 3/ 73]
* * *
(اجتناب النجاسة)
2544 -
وجوب تطهير البدن من الخبث، يحتج عليه بأحاديث الاستنجاء، وبحديث التنزه عن البول، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"حتيه ثم اقرصيه ثم انضحيه بالماء ثم صلي فيه"
(1)
من حديث أسماء وغيرها، وبحديث أبي سعيد في "دلك النعلين بالتراب ثم الصلاة فيهما".
وطهارة البقعة يستدل عليها بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الأعرابي: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول والعذرة"
(2)
وأمره صلى الله عليه وسلم بصب الماء على البول. [المستدرك 3/ 74]
(1)
رواه أبو داود (362)، والترمذي (138)، والنسائي (293)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.
(2)
رواه مسلم (285).
2545 -
نزاع الفقهاء فيمن صدى في موضع نجس لا يمكنه الخروج منه؟ على قولين معروفين، الأظهر: أنه لا يعيد؛ بل الصحيح: أن كل من صلى في الوقت بحسب إمكانه لا يعيد كالعاجز عن الطهارة والستارة والاستقبال أو اجتناب النجاسة أو عن إكمال الركوع والسجود أو عن قراءة الفاتحة ونحوهم. [المستدرك 3/ 74]
2546 -
قال ابن القيم رحمه الله في مسألة الثياب التي اشتبه الطاهر منها بالنجس: هذه مسألة نزاع .. قال شيخنا: اجتناب النجاسة من باب المحظور، فإذا تحرى وكلب على ظنه طهارة ثوب منها فصلى فيه لم يُحكم ببطلان صلاته بالشك؛ فإنَّ الأصل عدم النجاسة. [المستدرك 3/ 74]
2547 -
لا تصح الصلاة في المقبرة ولا إليها، والنهي عن ذلك إنما هو سد لذريعة الشرك.
وذكر طائفةٌ مِن أصحابنا أن وجود القبر والقبرين لا يمنع من الصلاة؛ لأنه لا يتناول اسم المقبرة، وإنما المقبرة ثلاثة قبور فصاعدًا، وليس في كلام أحمد وعامة أصحابه هذا الفرق؛ بل عموم كلامهم وتعليلهم واستدلالهم يوجب منع الصلاة عند قبر واحد من القبور، وهو الصواب.
والمقبرة كل ما قبر فيه، لا أنه جمع قبر، وقال أصحابنا: وكل ما دخل في اسم المقبرة مما حول القبور لا يصلي فيه، فهذا ينبني على أن المنع يكون متناولًا لتحريم الصلاة عند القبر المنفرد وفنائه المضاف إليه.
وذكر الآمدي وغيره: أنه لا تجوز الصلاة فيه؛ أي: المسجد الذي قبلته إلى القبر حتى يكون بين الحائط وبين المقبرة حائل آخر وذكر بعضهم هذا مثصوص أحمد. [المستدرك 3/ 74 - 75]
2548 -
لا تصح الصلاة في الحش ولا إليه، ولا فرق عند عامة أصحابنا بين أن يكون الحش في ظاهر جدار المسجد أو باطنه، واختار ابن عقيل: أنه
إذا كان بين المصلي وبين الحش ونحوه حائل مثل جدار المسجد لم يكره، والأول هو المأثور عن السلف. [المستدرك 3/ 75]
2549 -
لا تصح الفريضة في الكعبة؛ بل النافلة وهو مذهب أحمد، وأما صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في البيت الحرام فإنها كانت تطوعًا فلا يلحق به الفرض. [المستدرك 3/ 75]
* * *
استقبال القبلة
2550 -
فَصْلٌ: فِي "اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ"، وَأَّنَّهُ لَا نِزَاعَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْوَاجِبِ مِن ذَلِكَ، وَأنَّ النِّزَاعَ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِالْجِهَةِ وَالْعَيْنِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150] وَشَطْرُهُ: نَحْوُهُ وَتلْقَاؤُهُ .. وَقَالَ: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148].
والوجهة: هِيَ الْجِهَةُ.
فَالْقِبْلَةُ هِيَ الَّتِي تُسْتَقْبَلُ، والوجهة هِيَ الَّتِي يُوَلِّيهَا.
وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يُوَلِّيَ وَجْهَهُ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، والْمَسْجِدُ الْحَرَامُ هُوَ الْحَرَمُ كُلُّهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ:{فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِالْكَعْبَةِ، وَهَذَا يُحَقِّقُ الْأثَرَ الْمَرْوِيَّ:"الْكَعْبَةُ قِبْلَةُ الْمَسْجِدِ، وَالْمَسْجِدُ قِبْلَةُ مَكَّةَ، وَمَكَّةُ قِبْلَةُ الْحَرَمِ، وَالْحَرَمُ قِبْلَةُ الْأَرْضِ".
وَثَبَتَ عَنْهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلَا بَوْلٍ، وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَو غَرِّبُوا"
(1)
، فَنَهَى عَن اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ بِغَائِطٍ أَو بَوْلٍ، وَأَمَرَ بِاسْتِقْبَالِهَا فِي الصَّلَاةِ؛ فَالْقِبْلَةُ الَّتِي نَهَى عَن اسْتِقْبَالِهَا وَاسْتِدْبَارِهَا
(1)
رواه البخاري (394)، ومسلم (264).
بِالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ هِيَ الْقِبْلَةُ الَّتِي أَمَرَ الْمُصَلِّيَ بِاسْتِقْبَالِهَا فِي الصَّلَاةِ
(1)
.
وقَالَ صلى الله عليه وسلم: "مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ"، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَهَكذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: مِثْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ، وَلَا يُعْرَفُ عَن أَحَدٍ مِن الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ، وَهَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ أئِمَّةُ الْمَذَاهِبِ الْمَتْبُوعَةِ وَكَلَامُهُم فِي ذَلِكَ مَعْرُوفٌ.
وَقَد تَأَمَّلْت نُصُوصَ أَحْمَد فِي هَذَا الْبَابِ فَوَجَدْتهَا مُتَّفِقَةَ لَا اخْتِلَافَ فِيهَا.
بَل مَن قَالَ: يَجْتَهِدُ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى عَيْنِ الْكَعْبَةِ، أو فَرْضُهُ اسْتِقْبَالُ عَيْنِ الْكَعْبَةِ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ: فَقَد أصَابَ.
وَمَن قَالَ: يَجْتَهِدُ انْ يُصَلِّيَ إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ، أو فَرْضُهُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ: فَقَد أَصَابَ.
وَذَلِكَ أَنَّهُم مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَن شَاهَدَ الْكَعْبَةَ فَإِنَّهُ يُصَلِّي إلَيْهَا، وَمُتَّفِقونَ
(1)
قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله في الشرح الممتع عند قول المؤلف: "وَفَرْضُ مَن قَرُبَ مِن القِبْلَةِ إِصَابَةُ عَينِهَا، وَمنْ بَعُدَ جِهَتُها"؛ أي: من بَعُدَ عن الكعبة بحيث لا يمكنه المشاهدة؛ فيجب عليه إصابةُ الجهة، والجهة حدَّدها النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال:"لا تستقبلوا القِبْلة بغائطٍ ولا بولٍ، ولا تستدبرُوها، ولكن شَرِّقُوا أو غَرِّبُوا". لما قال: "شَرِّقُوا أو غَرِّبُوا" يريد بذلك عكس القِبْلة، وعلى هذا فيكون ما بين المشرق والمغرب بالنسبة لأهل المدينة كلُّه قِبْلة، فالجنوب كلُّه قِبْلة لهم، ليس قِبْلتهم ما سامت الكعبةَ فقط، وبهذا نعرف أنَّ الأمر واسع، فلو رأينا شخصًا يُصلِّي منحرفًا يسيرًا عن مُسامَتَةِ القِبْلة، فإن ذلك لا يضرُّ؛ لأنَّه متَّجه إلى الجهة وهذا فرضه.
وجهة القِبْلة لمن كانوا شمالًا عن الكعبة ما بين الشَّرق والغرب، ولمن كانوا شرقًا عن الكعبة ما بين الشَّمال والجنوب. ولمن كانوا غربًا ما بين الشَّمال والجنوب، ولمن كانوا جنوبًا عن الكعبة ما بين الشرق والغرب، فالجهات إذًا أربع، وهذا مقتضى حديث أبي أيوب.
واعلمْ أنه كلَّما قَرُبتَ من الكعبة صَغُرت الجهة، فإذا صِرتَ تحت جدار الكعبة تكون الجهة بقَدْر بدنك فقط. شرح الزاد (2/ 271).
عَلَى أَنَّهُ كُلَّمَا قَرُبَ الْمُصَلُّونَ إلَيْهَا كَانَ صَفُّهُم أقْصَرَ مِنَ الْبَعِيدِينَ عَنْهَا.
وَهَذَا شَأنُ كُلِّ مَا يُسْتَقْبَلُ؛ فَالصَّفُّ الْقَرِيبُ مِنْهَا لَا يَزِيدُ طُولُهُ عَلَى قَدْرِ الْكَعْبَةِ.
وَلَو زَادَ: لَكَانَ الزَّائِدُ مُصَلِّيًا إلَى غَيْرِ الْكَعْبَةِ.
وَالصَّفُّ الَّذِي خَلْفَهُ يَكُونُ أَطْوَلَ مِنْهُ وَهَلُمَّ جَرَّا.
فَإِذَا كَانَتِ الصُّفُوفُ تَحْتَ سَقَائِفِ الْمَسْجِدِ كَانَت مُنْحَنِيَةً بِقَدْرِ مَا يَسْتَقْبِلُونَ الْكَعْبَةَ وَهُم يُصَلُّونَ إلَيْهَا وَإِلَى جِهَتِهَا أَيْضًا.
فَإِذَا بَعُدَ النَّاسُ عَنْهَا: كَانُوا مُصَلّينَ إلَى جِهَتِهَا، وَفم مُصَلُّونَ إلَيْهَا أَيْضًا.
وَلَو كَانَ الصَّفُّ طَوِيلًا يَزِيدُ طُولُهُ عَلَى قَدْرِ الْكَعْبَةِ: صَحَّتْ صَلَاتُهُم بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِن كَانَ الصَّفُّ مُسْتَقِيمًا حَيْثُ لَمْ يُشَاهِدُوهَا.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَو سَارَ مِنَ الصُّفُوفِ عَلَى خَطٍّ مُسْتَقِيمٍ إلَيْهَا لَكَانَ مَا يَزِيدُ عَلَى قَدْرِهَا خَارِجًا عَن مَسَافَتِهَا.
فَمَن تَوَهَّمَ أَنَّ الْفَرْضَ أَنْ يَقْصِدَ الْمُصَلِّي الصَّلَاةَ فِي مَكَانٍ لَو سَارَ عَلَى خَطٍّ مُسْتَقِيمٍ وَصَلَ إلَى عَيْنِ الْكعْبَةِ فَقَد أخْطَأَ
…
فَإِنَّ الْأُمَّةَ مُتَّفِقَةٌ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الصَّفِّ الْمُسْتَطِيلِ الَّذِي يَزِيدُ طُولُهُ عَلَى سَمْتِ الْكَعْبَةِ بِأضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ، وَإِن كَانَ الصَّفُّ مُسْتَقِيمَا لَا انْحِنَاءَ فِيهِ وَلَا تَقَوُّسَ.
فَالْمَقْصُودُ: أَنَّ مَن صَلَّى إلَى جِهَتِهَا فَهُوَ مُصَلٍّ إلَى عَيْنِهَا، وَاِن كَانَ لَيْسَ عَلَيْهِ أنْ يَتَحَرَّى مِثْل هَذَا.
وَلَا يُقَالُ لِمَن صَلَّى كَذَلِكَ أنَّهُ مُخْطِئٌ فِي الْبَاطِنِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ؛ بَل هَذَا مُسْتَقْبِلٌ الْقِبْلَةَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أمِرَ بِهِ؛ وَلهَذَا لَمَّا بَنَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مَسَاجِدَ الْأمْصارِ كَانَ فِي بَعْضِهَا مَا لَو خَرَجَ مِنْهُ خَطٌّ مُسْتَقِيمٌ إلَى الْكَعْبَةِ لَكَانَ مُنْحَرِفًا، وَكَانَت صَلَاةُ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ جَائِزَة بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.
وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إذَا وَقَفَ النَّاسُ يَوْمَ الْعَاشِرِ خَطَأ أَجْزَأَهُمْ؛ فَالصَّوَابُ: أَنَ ذَلِكَ هُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَلَا خَطَأَ فِي ذَلِكَ؛ بَل يَوْمُ عَرَفَةَ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يُعَرِّفُ فِيهِ النَّاسُ، وَالْهِلَالُ إنَّمَا يَكُونُ هِلَالًا إذَا اسْتَهَلَّهُ النَّاسُ، وإِذَا طَلَعَ وَلَمْ يَسْتَهِلُّوهُ فَلَيْسَ بِهِلَالٍ.
وَمَعْلُوم أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةَ لَمْ يَأمُرُوا احَدًا بِمُرَاعَاةِ الْقُطْبِ
(1)
وَلَا مَا قَرُبَ مِنْهُ وَلَا الْجَدْيُ وَلَا بَنَاتُ نَعْشٍ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَلهَذَا أَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَد عَلَى مَن أَمَرَ بِمُرَاعَاةِ ذَلِكَ، وَأَمَرَ أَنْ لَا تُعْتَبَرَ الْقِبْلَةُ بِالْجَدْيِ، وَقَالَ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ الْجَدْيِ، وَلَكِنْ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ.
وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ فَإِنَّهُ لَو كَانَ تَحْدِيدُ الْقِبْلَةِ بِذَلِكَ وَاجِبًا أَو مُسْتَحَبًّا لَكَانَ الصَّحَابَةُ أَعْلَمَ بِذَلِكَ وَإِلَيْهِ أَسْبَقُ، وَلَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بيَّنَ ذَلِكَ؛ فَإنَّهُ لَمْ يَاَع مِنَ الدِّينِ شَيْئًا إلَّا بَيّنهُ، فَكَيْفَ وَقَد صَرَّحَ بِأَنَّ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ
(2)
.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ تَعْلِيقَ الدّينِ بِذَلِكَ يُفْضِي إلَى تَنَازُعِ الْأُمَّةِ وَاخْتِلَافِهَا فِي دِينِهَا، وَاللّهُ قَد نَهَى عَنِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ.
(1)
أي: في تحديد اتجاه القبلة.
(2)
ولذلك لا نحتاج في هذا الزمان إلى استعمال الأجهزة التي تحدد اتجاه القبلة، فإذا عرفنا جهة القبلة فهذا يكفي، ولا نحتاج إلى التحديد الدقيق.
قال ابن رجب رحمه الله: وبذلك يعلم أن من أوجب تعلم هذه الأدلة، وقال: أنه فرض عين أو كفاية -ممن ينتسب إلى الإمام أحمد- فلا أصل لقوله، وإنما تلقاه من قواعد قوم آخرين تقليدًا لهم.
ويدل على ذلك من الأدلة الشرعية: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنًّا أمة أميَّة، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا، صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة".
فتبين أن ديننا لا يحتاج إلى حساب ولا كتاب، كما يفعله أهل الكتاب من ضبط عباداتهم بمسير الشمس وحسباناتها، وأن ديننا في ميقات الصيام معلق بما يرى بالبصر وهو رؤية الهلال، فإن غم أكملنا عدة الشهر ولم نحتج إلى حساب. اهـ. فقح الباري (3/ 67).
وبهذا يظهر خطأ تشدد بعض الناس في تحريهم لاتجاه القبلة، حتى إن بعضهم إذا صلى الإمام صرخوا عليه: اتجه يمنةً أو يسرة!! وكلّ هذا لا حاجة إليه، بل هو إلى التشدد والتنطع أقرب.
وَسَبَبُ ذَلِكَ: أنَّهُم أَدْخَلُوا فِي دِينِهِمْ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَشَرَعُوا مِن الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، فَاخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الْبِدْعَةِ الَّتِي شَرَعُوهَا؛ لِأنَّهَا لَا ضَابِطَ لَهَا، كَمَا يَخْتَلِفُ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أنْ يَعْلَمُوا طُلُوعَ الْهِلَالِ بِالْحِسَابِ، أَو طُلُوعَ الْفَجْرِ بِالْحِسَابِ، وَهُوَ أمْرٌ لَا يَقومُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ حِسَابِيٌّ مُطَّرِدٌ؛ بَل ذَلِكَ مُتَنَاقِضٌ مُخْتَلِفٌ، فَهَؤُلَاءِ أَعْرَضوا عَن الدِّينِ الْوَاسِعِ، وَالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَدَخَلُوا فِي أَنْوَاعٍ مِن الْجَهْلِ وَالْبِدَعِ، مَعَ دَعْوَاهُم الْعِلْمَ وَالْحِذْقَ، كَذَلِكَ يَفْعَلُ اللهُ بِمَن خَرَجَ عَن الْمَشْرُوعِ إلَى الْبِدع وَتَنَطَّعَ فِي الدِّينِ.
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُصَلِّي اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ فِي الْجُمْلَةِ؛ فَالْمَأمُورُ بِهِ الِاسْتِقْبَالُ لِلْقِبْلَةِ، وَتَوْلِيَةُ الْوَجْهِ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَيُنْظَرُ: هَل الِاسْتِقْبَالُ وَتَوْلِيَةُ الْوَجْهِ مِن شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ وَسَط وَجْهِهِ مُسْتَقْبِلًا لَهَا -كَوَسَطِ الْأَنْفِ وَمَا يُحَاذِيهِ مِن الْجَبْهَةِ وَالذَّقَنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أو يَكُونَ الشَّخْصُ مُستَقْبِلًا لِمَا يَسْتَقْبِلُهُ إذَا وَجَّهَ إلَيْهِ وَجْهَهُ وَإِن لَمْ يُحَاذِهِ بِوَسَطِ وَجْهِهِ؟
فَهَذَا أَصْلُ الْمَسْألَةِ
(1)
.
وَالِاسْمُ إنْ كَانَ لَهُ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ رُجِعَ إلَيْهِ، وَإِلَّا رُجِعَ إلَى حَدِّهِ فِي اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ، وَالِاسْتِقْبَالُ هُنَا دَلَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ وَاللُّغَةُ وَالْعُرْفُ. [22/ 206 - 216]
2551 -
تصح صلاة الفرض على الراحلة خشية الانقطاع عن الرفقة، أو حصول ضرر بالمشي، أو تبرُّزٌ للخَفَرة. [المستدرك 3/ 76]
2552 -
ذكر طائفة من الأصحاب أنَّ الواجب في استقبال القبلة هواؤها دون بنيانها؛ بدليل المصلي على جبل أبي قبيس وغيره من الجبال العالية بمكة، فإنه إنما يستقبل الهواء لا البنيان، وبدليل ما لو انتقضت الكعبة والعياذ باللّه، فإنه يكفيه استقبال العرصة
(2)
، قال أبو العباس: الواجب استقبال
(1)
الثاني هو الذي انتصر له الشيخ.
(2)
العرصة: كلُّ بقعةٍ بين الدُّور واسعة ليس فيها بناء، والجمع العراص والعرصات.
البنيان، وأما العرصة والهواء فليس بكعبة ولا بناء، وأما ما ذكروه من الصلاة على أبي قبيس ونحوه فإنما ذلك لأن بين يدي المصلي قبله شاخصة مرتفعة وإن لم تكن مسامته؛ فإن المسامتة لا تشترط كما لم تكن مشروطة في الائتمام بالإمام.
فإن زال بنيان البيت والعياذ بالله وصلى وبين يديه شيء صحت الصلاة، وإن لم يكن بين يديه شيء لم تصح.
نعم لو فرض أنه قد تعذر نصب شيء من الأشياء موضعها بأن يقع ذلك إذا هدمها ذو السويقتين من الحبشة في آخر الزمان فهنا ينبغي أن يكتفي حينئذ باستقبال العرصة، كما يكتفي المصلي أن يخط خطًّا إذا لم يجد سترة؛ فإن قواعد إبراهيم كالخط. [المستدرك 3/ 76 - 78]
2553 -
قال ابن حامد وابن عقيل في الواضح وأبو المعالي: لو صلى إلى المجر مَن فرضُه المعاينة لم تصح صلاته؛ لأنه في المشاهدة والعيان ليس مِن الكعبة البيت الحرام .. وقال القاضي: يجوز التوجه إليه في الصلاة وتصح صلاته كما لو توجه إلى حائط الكعبة.
قال أبو العباس: وهذا قياس المذهب؛ لأنه مِن البيت بالسُّنَّة الثابتة، وبعيان من شاهده من الخلق الكثير لما نقضه ابن الزبير، ونص أحمد أنه لا يصلي الفرض في الحجر، فقال: لا يصلي في الحجر، والحِجْر مِن البيت، قال أبو العباس: والحجر جميعه ليس من البيت، وإنما الداخل في حدود البيت ستة أذرع وشيء، فمن استقبل ما زاد على ذلك لم تصح صلاته ألبتة.
2554 -
إن اختلف مجتهدان في جهتين .. أنهما إذا استويا عنده: له اتباع أيهما شاء، وجزم به الشيخ تقي الدين في المسودة، وقال: ذكره القاضي في أصوله المختلفة بما يقتضي أنه محل وفاق ولم يمنعه. [المستدرك 3/ 79]
* * *
النية
2555 -
مَحَلُّ النِّيَّةِ الْقَلْبُ دُونَ اللِّسَانِ بِاتّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ.
وَلَو تَكَلَّمَ بِلِسَانِهِ بِخِلَافِ مَا نَوَى فِي قَلْبِهِ كَانَ الِاعْتِبَارُ بِمَا نَوَى بِقَلْبِهِ لَا بِاللَّفْظِ، وَلَو تَكَلَّمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ تَحْصُلِ النِّيَّةُ فِي قَلْبِهِ لَمْ يُجْزِئْ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ.
فَإنَّ النِّيَّةَ هِيَ مِن جِنْسِ الْقَصْدِ؛ وَلهَذَا تَقُولُ الْعَرَبُ: نَوَاك اللهُ بِخَيْر؛ أَيْ: قَصَدَك بِخَيْر.
وَالنِّيَّةُ تَتْبَعُ الْعِلْمَ، فَمَن عَلِمَ مَا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْوِيَهُ، فَإِذَا عَلِمَ الْمُسْلِمُ أَنَّ غَدًا مِن رَمَضَانَ وَهُوَ مِمَن يَصُومُ رَمَضَانَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْوِيَ الصِّيَامَ، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ غَدًا الْعِيدَ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ.
وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ: فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ الصَّلَاةَ الْقَائِمَةَ صَلَاةُ الْفَجْرِ أَو الظُّهْرِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْفَجْر أَو الظُّهْرِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَنْوِي تِلْكَ الصَّلَاةَ، لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا الْفَجْرُ وينْوِي الظُّهْرَ.
فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُن يَقُولُ قَبْلَ التَّكْبِيرِ شَيْئًا، وَلَمْ يَكُن يَتَلَفَّظُ بِالنِّيَّةِ لَا فِي الطَّهَارَةِ وَلَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا فِي الصيَام.
وَكَذَلِكَ فِي الْحَجِّ، إنَّمَا كَانَ يَسْتَفْتِحُ الْإِحْرَامَ بِالتَّلْبِيَةِ، وَشَرَعَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُلَبُّوا فِي أَوَّلِ الْحَجِّ.
بَل جَعَلَ التَّلْبِيَةَ فِي الْحَجِّ كَالتَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ، وَكَانَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ يَقُولُونَ: فُلَانٌ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، أَو أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا، كَمَا يُقَالُ: كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ.
وَالْإِهْلَالُ: رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، وَكَانَ يَقُولُ فِي تَلْبِيَتِهِ:"لَبَّيْكَ حَجًّا وَعُمْرَةً" يَنْوِي مَا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَة بَعْدَ التَّلْبِيَةِ، لَا قَبْلَهَا.
وَالْوجْهُ الثاني: مِن حَيْثُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى خِلَافِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم فِي الْعِبَادَاتِ؛ فَإِنَّ هَذَا بِدْعَة بِاتِّفَاقِ الْأئِمَّةِ وَإِن ظَنَّ الظَّانُّ أَنَّ فِي زِيَادَتِهِ خَيْرًا"
(1)
، كَمَا أَحْدَثَهُ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِن الْأذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي الْعِيدَيْنِ.
وَاسْتَحَبَّ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِن أصْحَابِ أَحْمَد فِي الْحَاجِّ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَنْ يَسْتَفْتِحَ بِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، فَخَالَفُوا الْأَئِمَّةَ وَالسُّنَّةَ، وَإِنَّمَا السُّنَّةُ أَنْ يَسْتَفْتِحَ الْمُحْرِمُ بِالطَّوَافِ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ، بِخِلَافِ الْمُقِيمِ الَّذِي يُرِيدُ الصَّلَاةَ فِيهِ دُونَ الطَّوَافِ، فَهَذَا إذَا صَلَّى تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ فَحَسَنٌ. [22/ 217 - 226، 26/ 171]
2556 -
سُئِلَ الْإَمَامُ أَحْمَد عَن رَجُلٍ يَخْرُجُ مِن بَيْتِهِ لِلصَّلَاةِ هَل يَنوِي حِينَ الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: قَد نَوَى حِينَ خَرَجَ. [22/ 228]
2557 -
تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ: هَل يُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ سِرًّا أَمْ لَا؟ قَالَ طَائِفَةٌ مِن أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأحْمَد: يُسْتَحبُّ التَّلَفُّظُ بِهَا؛ لكَوْنه أَوْكَدَ.
وَقَالَتْ طَائِفَة مِن أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا: لَا يُسْتَحَبُّ التَّلَفُظُ بِهَا.
وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ الْأقْوَالِ؛ بَل التَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ:
أَمَّا فِي الدِّينِ فَلِأَنَّهُ بِدْعَةٌ.
وَأَمَّا فِي الْعَقْلِ فَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَن يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ طَعَامًا فَيَقُولُ: نَوَيْت بِوَضْعِ يَدِي فِي هَذَا الْإِنَاءِ أَنِّي أرِيدُ أَنْ آخُذَ مِنْهُ لُقْمَةً فَأَضَعُهَا فِي فَمِي فَأمْضُغُهَا ثمَّ أَبْلَعُهَا لِأَشْبَعَ!
مِثْل الْقَائلِ الَّذِي ويَقُولُ: نَوَيْت أُصَلِّي فَرِيضَةَ هَذِهِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ عَلَيَّ حَاضِرَ الْوَقْتِ أرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي جَمَاعَةٍ أَدَاءً للهِ تَعَالَى!
(1)
ومن أمثلة ذلك: أن بعض الناس يقرأ كل يوم آيةً مِن السجدة ليسجد، وربما فعل ذلك كل وقت صلاة، والمداومة على هذا العمل يجعله شبيهًا بالسنن أو الواجبات، فيكون عملُه بدعة، لم يَعْمَله الرسول ولا الصحابة، ولو فعلته بعض الأحيان فلا بأس.
فَهَذَا كُلّهُ حُمْقٌ وَجَهْلٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ النِّيَّةَ بَليغُ الْعِلْمِ، فَمَتَى عَلِمَ الْعَبْدُ مَا يَفْعَلُة كَانَ قَد نَوَاهُ ضَرُورَةً. [22/ 231 - 232]
2558 -
الْجَهْرُ بِلَفْظِ النِّيَّةِ لَيْسَ مَشْرُوعًا عِنْدَ أَحَدٍ مِن عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا فَعَلَهُ أَحَدٌ مِن خُلَفَائِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا.
وَمَن ادَّعَى أَنَّ ذَلِكَ دِينُ اللهِ، وَأَنَّهُ وَاجِبٌ: فَإِنَّهُ يَجِبُ تَعْرِيفُهُ الشَّرِيعَةَ وَاسْتِتَابَتُهُ مِن هَذَا الْقَوْلِ، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ قُتِلَ
(1)
. [22/ 236]
2559 -
وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَالسُّنَّةُ لَهُ الْمُخَافَتَةُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، لَكِنْ إذَا جَهَرَ أَحْيَانًا بِشَيءٍ مِنَ الذِّكْرِ فَلَا بَأْسَ؛ كَالْإِمَامِ إذَا أَسْمَعَهُم أَحْيَانًا الْآيَةَ فِي صَلَاةِ السِّرِّ، فَقَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" عَن أَبِي قتادة أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ يُسْمِعُهُم الْآيَةَ أَحْيَانًا.
وَثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّ مِنَ الصَّحَابَةِ الْمَأْمُومِينَ مَن جَهَرَ بِدُعَاءٍ حِينَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، وَعِنْدَ رَفْعِ رَأسِهِ مِن الرُّكُوعِ، وَلَمْ يُنْكِر النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ
(2)
. [22/ 239 - 240]
2560 -
(نِيَّةُ الْمَرْءِ أَبْلَغُ مِن عَمَلِهِ): هَذَا الْكَلَامُ قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ؛ وَبَيَانُهُ مِن وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ النّيَّةَ الْمُجَرَّدَةَ مِن الْعَمَلِ يُثَابُ عَلَيْهَا، وَالْعَمَلَ الْمُجَرَّدَ عَن النِّيِّةِ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ.
الثَّانِي: أَنَّ مَن نَوَى الْخَيْرَ وَعَمِلَ مِنْهُ مَقْدُورَهُ وَعَجَزَ عَن إكْمَالِهِ كَانَ لَهُ أَجْرُ عَامِلٍ. [22/ 243]
* * *
(1)
كثيرًا ما يقول هذا الشيخ، ولا يعني أن يقوم بالقتل أيّ أحد، بل هو مُوكلٌ إلى إمام المسلمين.
(2)
هذا إذا لم يكن من المأموم على سبيل الدوام والعادة، ولا يؤذي بذلك غيره من المأمومين.
(بَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ)
2561 -
قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالسَّعْيِ الْمَأْمُورِ بِهِ الْعَدْوَ؛ فَإِنَّهُ قَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إذَا أقِيمَت الصَّلَاةُ فَلَا تَأتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ وَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَمْشُونَ وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةَ"
(1)
.
وَلَكِنْ قَالَ الْأَئِمَّةُ: السَّعْيُ فِي كِتَابِ اللهِ هُوَ الْعَمَلُ وَالْفِعْلُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)} [الليل: 4].
وَلَفْظُ السَّعْيِ فِي الْأصْلِ: اسْمُ جِنْسٍ، وَمِن شَأْنِ أهْلِ الْعُرْفِ إذَا كَانَ الِاسْمُ عَامًّا لِنَوْعَيْنِ فَإِنَّهُم يُفْرِدُونَ أَحَدَ نَوْعَيْهِ بِاسْم ويبْقَى الِاسْمُ الْعَامُّ مُخْتَصًّا بِالنَّوْعِ الْآخَرِ.
كَمَا فِي لَفْظِ "ذَوِي الْأَرْحَامِ" فَإِنَّهُ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأقَارِبِ: مَن يَرِثُ بِفَرْضٍ وَتَعْصِيبٍ، وَمَن لَا فَرْضَ لَهُ وَلَا تَعْصِيبَ.
فَلَمَّا مُيِّزَ ذُو الْفَرْضِ وَالْعَصَبَةِ: صَارَ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ ذوو الْأَرْحَامِ مُخْتَصًّا بِمَن لَا فَرْضَ لَهُ وَلَا تَعْصِيبَ.
وَبِسَبَبِ هَذَا الِاشْتِرَاكِ الْحَادِثِ غَلِطَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي فَهْمِ الْخِطَابِ بِلَفْظِ السَّعْيِ مِن هَذَا الْبَاب، فَإِنَّهُ فِي الْأَصْلِ عَام فِي كُلِّ ذَهَابٍ وَمُضِيٍّ، وَهُوَ السَّعْيُ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَقَد يَخُصُّ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ بِاسْمِ الْمَشْي، فَيَبْقَى لَفْظُ السَّعْيِ مُخْتَصُّا بِالنَّوْعِ الْآخَرِ، وَهَذَا هُوَ السَّعْيُ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قَالَ:"إذَا أقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا تَأْتُوهَا وَأنتُمْ تَسْعَوْنَ وَأْتُوهَا وَأَنتُمْ تَمْشُون". [22/ 259 - 261]
2562 -
ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي "الصَّحِيحِ": "خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُها وَشَرُّهَا
(1)
رواه البخاري (908)، ومسلم (602).
آخِرُهَا"
(1)
وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنَ السُّنَنِ الَّتِي يَنْبَغِي فِيهَا لِلْمُصَلِّينَ أَنْ يُتِمُّوا الصَّفَّ الأَوَّلَ ثُمَ الثَّانِي.
فَمَن جَاءَ أوَّلَ النَّاسِ وَصَفَّ فِي غَيْرِ الْأَوَّلِ فَقَد خَالَفَ الشَّرِيعَةَ
(2)
.
وَإِذَا ضَمَّ إلَى ذَلِكَ إسَاءَةَ الصَّلَاةِ أَو فُضُولَ الْكَلَامِ أَو مَكْرُوهَهُ أَو مُحَرَّمَهُ وَنَحْو ذَلِكَ مِمَّا يُصَانُ الْمَسْجِدُ عَنْهُ: فَقَد تَرَكَ تَعْظِيمَ الشَّرَائِعِ، وَخَرَجَ عَنِ الْحُدُودِ الْمَشْرُوعَةِ مِن طَاعَةِ اللهِ.
وَإِن لَمْ يَعْتَقِدْ نَقْصَ مَا فَعَلَهُ، وَيَلْتَزِمْ اتبُاعَ أَمْرِ اللّهِ: اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ الْبَلِيغَةَ الَّتِي تَحْمِلُهُ وَأَمْثَالُهُ عَلَى أَدَاءِ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ، وَتَرْكِ مَا نَهَى اللّهُ عَنْهُ. [22/ 262]
2563 -
لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ مُنْفَرِدًا خَلْفَ الصَّفِّ؛ بَل عَلَى النَّاسِ أَنْ يُصَلُّوا مُصْطَفِّينَ .. وَلَا يَصِح لَهُم أَنْ يُصَلُّوا فِي السُّوقِ حَتَّى تَتَّصِلَ الصُّفُوفُ؛ بَل عَلَيْهِم أَنْ يُقَارِبُوا الصُّفُوفَ وَيَسُدُّوا الْأوَّلَ فَالْأوَّلَ. [22/ 263]
2564 -
مَا ثَبَتَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ وَاتَّفَقَتِ الْأمَّةُ عَلَى أَنَّ مَن فَعَلَ أَحَدَهُمَا: لَمْ يَأْثَمْ بِذَلِكَ، لَكِنْ قَد يَتَنَازَعُونَ فِي الْأَفْضَلِ.
لَكِنْ مَا أَمَرَ بِهِ مِن ذَلِكَ أَفْضَلُ لنَا مِمَّا فَعَلَهُ وَلَمْ يَأمُرْ بِهِ
(3)
.
وَقَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيح" أَّنَّهُ قَالَ: "إذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي التَّشَهُّدِ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ مِن أَرْبَعٍ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِن عَذَابِ جَهَنَّمَ وَمِن عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِن فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِن فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ"
(4)
؛ فَالدُّعَاءُ بِهَذَا أفْضَلُ مِنَ الدُّعَاءِ بِقَوْلِهِ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدمْت وَمَا أَخَّرْت وَمَا أَسْرَرْت وَمَا أَعْلَنْت وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إلَهَ إلا أنتَ"، وَهَذَا أَيْضًا قَد
(1)
رواه مسلم (440).
(2)
وهذا يحدث كثيرًا، يأتي الرجل مُبكرًا، ثم يجلس في غير الصف الأول؛ لأجل أن يتكئ على ساريةٍ ونحوها، فهذا مذمومٌ إلا إذا كان له عذرٌ.
(3)
قاعدة مهمة.
(4)
رواه مسلم (588).
صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَقُولُهُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ، لَكِنَ الْأَوَّلَ أَمَرَ بِهِ. [22/ 265 - 266]
2565 -
كَانَت صَلَاةُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مُعْتَدِلَةً، إذَا أَطَالَ الْقِيَامَ أَطَالَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، وَإِذَا خَفَّفَ الْقِيَامَ خَففَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ فِي الْمَكْتُوبَاتِ وَقِيَامِ اللَّيْلِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَد تَنَازَعَ النَّاسُ هَلِ الْأَفْضَلُ طُولُ الْقِيَامِ؟ أَمْ كَثْرَةُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؟ أَو كِلَاهُمَا سَوَاءٌ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَصَحُّهَا: أَنَّ كِلَيْهِمَا سَوَاءٌ؛ فَإِنَّ الْقِيَامَ اخْتَصَّ بِالْقِرَاءَةِ وَهِيَ أَفْضَلُ مِنَ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ، وَالسُّجُودُ نَفْسُهُ أَفْضلُ مِنَ الْقِيَامِ.
فَيَنْبَغِي أَنَّهُ إذَا طَوَّلَ الْقِيَامَ أَنْ يُطِيلَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ. [22/ 273]
2566 -
قِرَاءَة الْفَاتِحَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ حَالَ الْجَهْرِ: لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ:
قِيلَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ حَالَ جَهْرِ الْإِمَامِ إذَا كَانَ يَسْمَعُ لَا بِالْفَاتِحَةِ وَلَا غَيْرِهَا، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ
(1)
، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَأَحَدُ قَوْلَي الشَّافِعِيِّ.
وَقيلَ: بَل يَجُوزُ الْأَمْرَانِ وَالْقِرَاءَةُ أَفْضَلُ.
وَييلَ: بَل الْقِرَاءَةُ وَاجِبَة، وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيِّ
(2)
.
وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ هُوَ الصَّحِيحُ
(3)
؛ فَإنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {وَإِذَا قُرِئَ
(1)
وهو اختيار العلَّامة الألباني كما في إرواء الغليل (2/ 283) حيث قال: لا يعقل البتة أن يجهر الإمام، وينشغل المأموم بالقراءة عن الأصغاء والاستماع إليه. اهـ.
(2)
وهو اختيار ابن حزم. المحلى لابن حزم (3/ 236)، دار الفكر، تحقيق: الشيخ أحمد محمد شاكر، والعلَّامة ابن باز، فتاوى اللجنة الدائمة (6/ 386، 387) القراءة في الصلاة، والعلَّامة ابن عثيمين مجموع الفتاوى (13/ 150).
(3)
أما في الصلاة السرية فالأدلة ظاهرةٌ على وجوب قراءة الفاتحة، وإن كان الشيخ -كما سيأتي- يرى أن قراءة الفاتحة للمأموم في السرية على سبيل الأفضلية.
وقد تقدم قول الشيخ: فَإِنَّ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)} أَجْمَعَ النَاسُ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الصَّلَاةِ، وَأنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ مُرَادَةٌ مِن هَذَا النَّصِّ. =
الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)} [الأعراف: 204] قَالَ أحْمَد: أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الصَّلَاةِ.
وَقَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" مِن حَدِيثِ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإذَا كبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا"
(1)
.
فَقَد أَمَرَ اللهُ وَرَسُولُهُ بِالْإِنْصَاتِ لِلْإِمَامِ إذَا قَرَأَ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ مِن جُمْلَةِ الِائْتِمَامِ بِهِ، فَمَن لَمْ يُنْصِتْ لَهُ لَمْ يَكُن قَد ائْتَمَّ بِهِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِمَامَ يَجْهَرُ لِأجْلِ الْمَأمُومِ، وَلهَذَا يُؤَمِّنُ الْمَأمُومُ عَلَى دُعَائِهِ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَمِعْ لِقِرَاءَتِهِ ضَاعَ جَهْرُهُ، وَمَصْلَحَةُ مُتَابِعَةِ الْإِمَامِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَصْلَحَةِ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الْمُنْفَرِدُ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَو أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي وِتْرٍ مِن صَلَاتِهِ: فَعَلَ كَمَا يَفْعَلُ، فَيَتَشَهَّدُ عَقِيبَ الْوِتْرِ، وَيَسْجُدُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ إذَا وَجَدَهُ سَاجِدًا، كُلُّ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْمُتَابَعَةِ، فَكَيْفَ لَا يَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِهِ مَعَ أَنَّهُ بِالِاسْتِمَاعِ يَحْصُلُ لَهُ مَصْلَحَةُ الْقِرَاءَةِ؟ فَإنَّ الْمُسْتَمِعَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الْقَارِئِ.
وقد تَنَازَعُوا إذَا لَمْ يَسْمَعِ الْإِمَامَ لِكوْنِ الصَّلَاةِ صَلَاةَ مُخَافَتَةٍ، أَو لِبُعْدِ الْمَأمُومِ، أو طَرَشِهِ
(2)
أَو نَحْوِ ذَلِكَ: هَل الْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَقْرَأَ أَو يَسْكُتَ؟
وَالصَّحِيحُ: أَنَّ الْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَقْرا فِي هَذ الْمَوَاضِع؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَمِعُ قِرَاءَةً يَحْصُلُ لَهُ بِهَا مَقْصُودُ الْقِرَاءَةِ، فَإِذَا قَرَأَ لِنَفْسِهِ حَصَلَ لَهُ أَجْرُ الْقِرَاءَةِ، وَإِلَّا بَقِيَ
= وَلهَذَا كَانَ أَعْدَلُ الْأقْوَالِ فِي الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَام: أَنَّ الْمَأمُومَ إذَا سَمِعَ قِرَاءَةَ الْاِمَامِ يَسْتَمِعُ لَهَا ويُنْصِتُ، لَا يَقْرأُ بِالْفَاتِحَةِ وَلَا غَيْرِهَا، وَإِذَا لَمْ يَسْمَعْ قِرَاءَتَهُ بِهَا يَقْرا الْفَاتِحَةَ وَمَا زَادَ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكِ وَأصْحَابِهِ وَأَحْمَد بْنِ حَنبَلٍ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ ..
وَعَلَى هَذَا فَاسْتِمَاعُهُ لِقِرَاءَةِ إمَامِهِ بِالْفَاتِحَةِ يَحْصُلُ لَهُ بِهِ مَقْصُودُ الْقِرَاءَةِ وَزِيادَةٌ تُغْني عَن الْقِرَاءَةِ مَعَهُ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا. اهـ. (18/ 21)
(1)
رواه مسلم (846).
(2)
الأطرش هو الأصم الذي لا يسمع.
سَاكِتًا لَا قَارِئًا وَلَا مُسْتَمِعًا، وَمَن سَكَتَ غَيْرَ مُسْتَمِعٍ وَلَا قَارِئٍ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَكُن مَأمُورًا بِذَلِكَ وَلَا مَحْمُودًا؛ بَل جَمِيعُ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لَا بُدَّ فِيهَا مِن ذِكْرِ اللّهِ تَعَالَى؛ كَالْقِرَاءَةِ وَالتَّسْبِيحِ وَالدُّعَاءِ أَو الِاسْتِمَاعِ لِلذِّكْرِ. [22/ 294 - 297]
2567 -
هَل قِرَاءَتُهُ [أي: المأموم خلف الإمام] لِلْفَاتِحَةِ مَعَ الْجَهْرِ وَاجِبَةٌ، أَو مُسْتَحَبَّةٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أحَدُهُمَا: أَنَّهَا وَاجِبَةٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ.
وَلَا سَبِيلَ إلَى الِاحْتِيَاطِ فِي الْخُرُوجِ مِن الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، كَمَا لَا سَبِيلَ إلَى الْخُرُوجِ مِن الْخِلَافِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ، وَفِي فَسْخِ الْحَجِّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِن الْمَسَائِلِ.
يَتَعَيَّنُ فِي مِثْل ذَلِكَ النَّظَرُ فِيمَا يُوجِبُهُ الدَّليلُ الشَّرْعِيُّ.
وَذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِن الْعُلَمَاءِ يَقُولُ: صَلَاةُ الْعَصْرِ يَخْرُجُ وَقْتُهَا إذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ؛ كَالْمَشْهُورِ مِن مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمَدَ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: حِينَئِذٍ يَدْخُلُ وَقْتُهَا.
وَلَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى وَقْتٍ تَجُوزُ فِيهِ صَلَاةُ الْعَصْرِ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا، فَإِنَّهُ إذَا صَلَّى الظُّهْرَ بَعْدَ الزَّوَالِ بَعْدَ مَصِيرِ ظِلِّ كُل شَيْءٍ مِثْلَهُ سِوَى ظِلِّ الزَّوَالِ: صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَالْمَغْرِبُ أَيْضًا تُجْزِئُ بِاتِّفَاقِهِمْ إذَا صَلَّى بَعْدَ الْغُرُوبِ، وَالْعِشَاءُ تُجْزِئُ بِاتِّفَاقِهِمْ إذَا صَلَّى بَعْدَ مَغِيبِ الشَّفَقِ الْأَبْيَضِ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ، وَالْفَجْرُ تُجْزِئُ بِاتِّفَاقِهِمْ إذَا صَلَّاهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى الْإِسْفَارِ الشَّدِيدِ.
وَأَمَّا الْعَصْرُ: فَهَذَا يَقُولُ: تُصَلَّى إلَى الْمِثْلَيْنِ، وَهَذَا يَقُولُ لَا تُصَلَّى إلَّا بَعْدَ الْمِثْلَيْنِ.
وَالصَّحِيحُ: أَنَّها تُصَلَّى مِن حِينِ يَصِيرُ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ إلَى اصْفِرَارِ الشَّمْسِ، فَوَقْتُهَا أَوْسَعُ كَمَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ مِن الْمَسَائِلِ مَسَائِلَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْمَلَ فِيهَا بِقَوْلٍ يُجْمَعُ عَلَيْهِ، لَكِنْ وَللهِ الْحَمْدُ: الْقَوْلُ الصَّحِيح عَلَيْهِ دَلَائِل شَرْعِيَّةٌ وتُبَيِّنُ الْحَقَّ. [22/ 267 - 268]
2568 -
مَا جَاءَت بِهِ السُّنَّةُ عَلَى وجُوهٍ؛ كَالْأَذَانِ، وَالْإِقَامَةِ، وَصَلَاةِ الْخَوْفِ، وَالِاسْتِفْتَاحِ
(1)
؛ فَالْكَلَامُ فِيهِ مِن مَقَامَيْنِ:
أَحَدِهِمَا: فِي جَوَازِ تِلْكَ الْوُجُوهِ كُلِّهَا بِلَا كَرَاهَةٍ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ فِي هَذَا كُلِّهِ.
الْمَقَامُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِن أَنْوَاعٍ مُتَنَوِّعَةٍ وإن قِيلَ: إنَّ بَعْضَ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ أَفْضَلُ؛ فَالِاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أَنْ يَفْعَلَ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً أَفْضَلُ مِن لُزُومِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَهَجْرِ الْآخَرِ، وَهَذَا مِثْلُ الِاسْتِفْتَاحِ. [22/ 336 - 337]
فَلِكُلِّ اسْتِفْتَاحٍ حَاجَة لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ؛ فَيَأْخُذُ الْمُؤمِنُ بِحَظِّهِ مِن كُلِّ ذِكْرٍ. [22/ 346]
2569 -
لِلنَّاسِ فِي الصَّلَاةِ أَقْوَالٌ .. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ إلَّا سَكْتَتَانِ
(2)
.
وَأَمَّا السُّكُوتُ عَقِيبَ الْفَاتِحَةِ فَلَا يَسْتَحِبُّه أَحْمَد، كَمَا لَا يَسْتَحِبُّهُ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ.
(1)
وأوجه القراءات.
(2)
سكتةٌ قبل قراءة سورة الفاتحة، وسكتة قبل الركوع، ولا يُشرع للإمام أن يسكت بعد قراءة الفاتحة، وهو ما اختاره الشيخ، ورجحه كذلك الشيخ ابن عثيمين. مجموع الفتاوى (13/ 150).
وَالْجُمْهُورُ لَا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَسْكُتَ الْإِمَامُ لِيَقْرَأ الْمَأْمُومُ؛ وَذَلِكَ أَنَّ قِرَاءَةَ الْمَأْمُومِ عِنْدَهُم إذَا جَهَرَ الْإِمَامُ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ وَلَا مُسْتَحَبَّةٍ؛ بَل هِيَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا وَهَل تُبْطِل الصَّلَاةَ إذَا قَرَأَ مَعَ الْإِمَامِ؟
فِيهِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد.
فَهُوَ إذَا كَانَ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ فَاسْتِمَاعُهُ أَفْضَلُ مِن قِرَاءَتِهِ.
وَلهَذَا لَمْ يَسْتَحِبَّ أَحْمَد وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ قِرَاءَتَهُ فِي سَكَتَاتِ الْإِمَامِ، إلَّا أَنْ يَسْكُتَ سُكُوتا بَلِيغًا يَتَّسِعُ لِلِاسْتِفْتَاحِ وَالْقِرَاءَةِ.
وَأَمَّا إنْ ضَاقَ عَنْهُمَا فَقَوْلُهُ وَقَوْلُ أَكْثَرِ أصْحَابِهِ إنَّ الِاسْتِفْتَاحَ أَوْلَى مِنَ الْقِرَاءَةِ
(1)
.
بَل هوَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يَأْمُرُ بِالِاسْتِفْتَاحِ مَعَ جَهْرِ الْإِمَامِ.
فَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ مِمَن يَسْكتُ عَقِيبَ الْفَاتِحَةِ سُكوتًا يَتَّسِعُ لِلْقِرَاءَةِ فَالْقِرَاءَةُ فِيهِ أَفْضَلُ مِن عَدَمِ الْقِرَاءَةِ.
لَكِنْ هَل يُقَالُ الْقِرَاءَةُ فِيهِ بِالْفَاتِحَةِ أَفْضَلُ لِلِاخْتِلَافِ فِي وُجُوبِهَا، أَو بِغَيْرِهَا مِن الْقُرْآنِ لِكَوْنِهِ قَد اسْتَمَعَهَا
(2)
؟ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ.
وَمُقْتَضَى نصُوصِ أَحْمَد وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ: أنَّ الْقِرَاءَةَ بِغَيْرِهَا أَفْضَلُ؛ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ انْ يَقْرَأَ بِهَا مَعَ اسْتِمَاعِهِ قِرَاءَتَهَا.
بَل يَفْعَلُ فِي سُكُوتِهِ مَا يُشْرَعُ مِنَ الِاسْتِفْتَاحِ وَالِاسْتِعَاذَةِ.
وَلَو لَمْ يَسْكُتِ الْإِمَامُ سُكُوتًا يَتسِعُ لِذَلِكَ، أَو لَمْ يُدْرِكْ سُكُوتَهُ: فَهَل يَسْتَفْتِحُ ويسْتَعِيذُ مَعَ جَهْرِ الْإِمَامِ؟ فِيهِ ثَلَاث رِوَايَاتٍ:
إحْدَاهَا: يَسْتَفْتِحُ وَيَسْتَعِيذ مَعَ جَهْرِ الْإِمَامِ وإن لَمْ يَقْرَأ.
(1)
ولو كانت سورة الفاتحة.
(2)
أي: استمع قراءة الإمام للفاتحة، والاستماع يقوم مقام القراءة.
وَالثَّانِيَةُ: يَسْتَفْتِحُ وَلَا يَسْتَعِيذُ.
وَالثَّالِثَةُ: لَا يَسْتَفْتِحُ وَلَا يَسْتَعِيذُ، وَهُوَ أَصَحُّ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَكَذَا أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَا أَظُنُّ؛ لِأَنَّهُ مَأمُورٌ بِالْإِنْصَاتِ وَالِاسْتِمَاعِ فَلَا يَتَكَلَّمُ بِغَيْرِ ذَلِكَ. [22/ 338 - 341]
2570 -
الذِّكْرُ ثَلَاثَةُ أنْوَاعٍ:
1 -
أَفْضَلُهُ مَا كَانَ ثنَاءً عَلَى اللهِ.
2 -
ثُمَّ مَا كَانَ إنْشَاءً مِن الْعَبْدِ أَو اعْتِرَافًا بِمَا يَجِبُ للهِ عَلَيْهِ.
3 -
ثُمَّ مَا كَانَ دُعَاءً مِن الْعَبْدِ.
فَالْأوَّلُ: مِثْلُ النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِن الْفَاتِحَةِ، وَمِثْلُ:"سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك وَتَبَارَكَ اسْمُك وَتَعَالَى جَدُّك وَلَا إلَهَ غَيْرُك"، وَمِثْلُ التَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوع وَالسُّجُودِ.
وَالثَّانِي. مِثْلُ قَوْلِهِ: "وَجَّهْت وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ"، وَمَثَلُ قَوْلِهِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ:"اللَّهُمَّ لَك رَكعْت وَلَك سَجَدْت".
وَالثَّالِثُ: مِثْلُ قَوْلِهِ: "اللَّهُمَّ بَعِّدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ"، وَمَثَلُ دُعَائِهِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. [22/ 242 - 243]
2571 -
كَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يَجْهَرُ: بـ "سبحانك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك" يُعَلِّمُهَا النَاسَ، وَلَوْلَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُهَا فِي الْفَرِيضَةِ مَا فَعَلَ ذَلِكَ عُمَرُ وَأَقَرَّهُ الْمُسْلِمُونَ.
وَكَمَا كَانَ بَعْضُهُم يَجْهَرُ بِالِاسْتِعَاذَةِ، وَكَذَلِكَ قِيلَ فِي جَهْرِ جَمَاعَةٍ مِنْهُم بِالْبَسْمَلَةِ إنَّهُ كَانَ لِتَعْلِيمِ النَّاسِ قِرَاءَتَهَا كَمَا جَهَرَ مَن جَهَرَ مِنْهُم بِالِاسْتِعَاذَةِ وَالِاسْتِفْتَاحِ، وَكَمَا جَهَرَ ابْن عَبَّاسٍ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ.
وَلهَذَا كَانَ الصَّوَابُ هُوَ الْمَنْصُوصَ عَن أَحْمَد أَنَّهُ يُسْتَحَبّ الْجَهْرُ أَحْيَانًا بِذَلِكَ، فَيُسْتَحَبُّ الْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ أَحْيَانًا. [22/ 344]
2572 -
رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي الِاسْتِفْتَاحِ أَنْوَاعٌ، وَعَامَّتُهَا فِي قِيَامِ اللَّيْلِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَحْمَد.
ويُسْتَحَبُّ لِلْمُصَلِّي بِاللَّيْلِ أَنْ يَسْتَفْتِحَ بِهَا كُلَّهَا، وَهَذَا أَفْضَلُ مِن أَنْ يُدَاوِمَ عَلَى نَوْعٍ وَيهْجُرَ غَيْرَهُ؛ فَإنَّ هَذَا هَدْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
لَكِنْ يُقَالُ أَيْضًا: هَدْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْأَفْضَلُ، وَمِن النَّاسِ مَن لَا يَصْلُحُ لَهُ الْأَفْضَلُ؛ بَل يَكُونُ فِعْلُهُ لِلْمَفْضُولِ أنْفَعَ، كَمَن يَنْتَفِعُ بِالدُّعَاءِ دُونَ الذِّكْرِ أَو بِالذِّكْرِ دُونَ الْقِرَاءَةِ أَو بِالْقِرَاءَةِ دُونَ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ؛ فَالْعِبَادَةُ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا فَيَحْضُرُ لَهَا قَلْبُهُ وَيَرْغَبُ فِيهَا وَيُحِبُّهَا أفْضَلُ مِن عِبَادَةٍ يَفْعَلُهَا مَعَ الْغَفْلَةِ وَعَدَمِ الرَّغْبَةِ؛ كَالْغِذَاءِ الَّذِي يَشْتَهِيهِ الْإِنْسَانُ وَهُوَ جَائِعٌ: هُوَ أَنْفَعُ لَه مِن غِذَاءٍ لَا يَشْتَهِيهِ أو يَأكُلُهُ وَهُوَ غَيْرُ جَائِعٍ، فَكَذَلِكَ يُقَالُ هُنَا: قَد تَكُونُ مُدَاوَمَتُهُ عَلَى النَّوْعِ الْمَفْضُولِ أَنْفَعَ لِمَحَبَّتِهِ وَشُهُودِ قَلْبِهِ وَفَهْمِهِ ذَلِكَ الذِّكْرَ. [22/ 347 - 348]
2573 -
أَكْثَرُ الْأَدْعِيَةِ الْمَنْقُولَةِ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَت فِي آخِرِ الصَّلَاةِ؛ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ أجوب الدُّعَاءِ جَوْفُ اللَّيْلِ الْآخِرِ ودُبُرُ الصَّلَاةِ
(1)
.
فَعُلِمَ أَنَّ الدُّعَاءَ دُبُرُ الصَّلَاةِ -لَا سِيَّمَا قَبْلَ السَّلَامِ؛ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو فِي الْغَالِبِ- فَهُوَ أجوب سَائِرِ أحْوَالِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ دعَاءٌ بَعْدَ إكْمَالِ الْعِبَادَةِ.
وَأَمَّا السُّجُودُ فَإِنَّمَا ذَكَرَهُ وَالرُّكُوعُ لِأَنَّهُ قَالَ:"إنِّي نُهِيت أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَو سَاجِدًا، أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ"
(2)
، فَلَمَّا نَهَى عَنِ الْقِرَاءَةِ فِي هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ ذَكَرَ
(1)
روى الترمذي وحسَّنه (3499)، عَن أبِي أمَامَةَ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ: أَي الدُّعَاءِ أسْمَعُ؟ قَالَ: "جَوْفَ اللَّيْلِ الآخِرِ، وَدُبُرَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ".
وحسَّنه الألباني في مشكاة المصابيح (968).
(2)
رواه مسلم (479، 480).
مَا يَكُونُ بَدَلًا مَشْرُوعًا لِمَن أَرَادَ، فَخَصَّ الرُّكُوعَ بِالتَّعْظِيمِ وَالسُّجُودَ بِالدُّعَاءِ
(1)
. [22/ 379]
2574 -
أَفْضَلُ أَنْوَاعِ الِاسْتِفْتَاحِ مَا كَانَ ثَنَاءً مَحْضًا مِثْل: "سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك وَتَبَارَكَ اسْمُك وَتَعَالَى جَدُّك وَلَا إلَهَ غَيْرُك"، وَقَوْلُهُ:"اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا وَالْحَمْدُ للهِ كَثِيرًا وَسُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا"
(2)
.
وَلَكِنَّ ذَاكَ فِيهِ مِنَ الثَّنَاءِ مَا لَيْسَ فِي هَذَا؛ فَإِنَّهُ تَضَمَّنَ ذِكْرَ "الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ" الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ، وَتَضَمَّنَ قَوْلُهُ:"تَبَارَكَ اسْمُك وَتَعَالَى جَدُّك"، وَهُمَا مِن الْقُرْآنِ أَيْضًا.
وَلهَذَا كَانَ أَكْثَرُ السَّلَفِ يَسْتَفْتِحُونَ بِهِ، وَكَانَ عُمَرُ بْن الْخَطَّابِ يَجْهَرُ بِهِ يُعَلِّمُهُ النَّاسَ.
وَبَعْدَهُ النَّوْعُ الثَّانِي: وَهُوَ الْخَبَرُ عَن عِبَادَةِ الْعَبْدِ؛ كَقَوْلِهِ: "وَجَّهْت وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ
…
"
(3)
إلَخْ.
وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الدُّعَاءَ
(4)
، وَإن اسْتَفْتَحَ الْعَبْدُ بِهَذَا بَعْدَ ذَلِكَ: فَقَد جَمَعَ بَيْنَ
(1)
والنصوص الصحيحة كثيرة في الأمر بالدعاء في السجود، والحث عليه، والشيخ رحمه الله يرى في موضع آخر أن الدُّعَاء فِي السُّجُودِ أفْضَلُ مِن غَيْرِهِ، قال رحمه الله: الدُّعَاءُ فِي السُّجُودِ أفْضَلُ مِن غَيْرِهِ؛ كَمَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِثْل قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ: "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِن رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ". وَقَد ثَبَتَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الدُّعَاءُ فِي السُّجُودِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ. (23/ 80)
(2)
لما رواه مسلم (601)، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذ قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: اللهُ أكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثيرًا، وَسُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنِ الْقَائِلُ كَلِمَةَ كَذَا وَكَذَا؟ " قَالَ رَجُلٌ مِن الْقَوْمِ: أنَا، يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ:"عَجِبْت لَهَا، فُتِحَتْ لَهَا أبْوَابُ السَّمَاءِ" قَالَ ابْنُ عُمَرَ: "فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ذَلِكَ".
(3)
رواه مسلم رقم (771).
(4)
قال الشيخ رحمه الله: لفظ الدعاء والدعوة في القرآن يتناول معنيين: دعاء العبادة، ودعاء المسألة .. قال الله تعالى:{وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10]، وفي الحديث:"أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله". رواه ابن ماجه وابن أبي الدنيا. =
الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ وَهُوَ أَفْضَلُ الِاسْتِفْتَاحَاتِ؛ كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ مُصَرَّحًا بِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي يُوسُفَ، وَابْنِ هُبَيْرَةَ الْوَزِيرِ -مِن أَصْحَابِ أَحْمَد صَاحِبِ "الْإِفْصَاحِ".
وَهَكَذَا أَسْتَفْتِحُ أنَا
(1)
.
= وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره: "دعوة أخي ذي النون {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]، ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربته"، سماها دعوة؛ لأنها تتضمن نوعي الدعاء.
فقوله: لا إله إلا أنت اعتراف بتوحيد الإلهية.
وتوحيد الإلهية يتضمن أحد نوعي الدعاء، فإن الإله هو المستحق لأن يدعى دعاء عبادة، ودعاء مسألة، وهو الله لا إله إلا هو.
وقوله: {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} اعتراف بالذنب، وهو يتضمن طلب المغفرة، فإن الطالب السائل تارة يسأل بصيغة الطلب، وتارة يسأل بصيغة الخبر، إما بوصف حاله، وإما بوصف حال المسئول، وإما بوصف الحالين.
كقول نوح عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47] فهذا ليس صيغة طلب، وإنما هو إخبار عن الله أنه إن لم يغفر له ويرحمه خسر.
ومن هذا الباب قول أيوب عليه السلام: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83]، فوصف نفسه، ووصف ربه بوصف يتضمن سؤال رحمته بكشف ضره، وهي صيغة خبر تضمنت السؤال.
وهذا من باب حسن الأدب في السؤال والدعاء، فقول القائل لمن يعظمه، ويرغب إليه: أنا جائع، أنا مريض، حسن أدب في السؤال.
وإن كان في قوله: أطعمني، وداوني، ونحو ذلك، مما هو بصيغة الطلب، طلب جازم من المسئول، فذاك فيه إظهار حاله وإخباره على وجه الذل والافتقار المتضمن لسؤال الحال، وهذا فيه الرغبة التامة والسؤال المحض بصيغة الطلب. مجموع الفتاوى (10/ 237 - 246).
(1)
وقال في موضع آخر -بعد أن رجح الجمع بينهما-: وَكُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ، بِمَنْزِلَةِ أَنْوَاعِ التَّشَهُّدَاتِ، وَبِمَنْزِلَةِ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ الَّتِي يَقْرَأ الْإِنْسَانُ مِنْهَا بِمَا اخْتَارَ. (22/ 404)
ومن المعروف أن الشيخ لا يرى الجمع بين أنواع الاستفتاحات وغيرها، ولعله يستثني الجمع بين هذين الاستفتاحين فقط.
جاء في الموسوعة الفقهية (4/ 52): "مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ صَاحِبِ أبِي حَنِيفَةَ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، مِنْهُم أَبُو إسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَالْقَاضِيَ أبُو حَامِدٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْوَزِيرِ ابْنِ هُبَيْرَةَ مِن أصْحَابِ الْإمَامِ أَحْمَدَ: أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصِّيغَتَيْنِ الْوَارِدَتَيْنِ: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك
…
وَوَجَّهْتُ وَجْهِي
…
=
وَبَعْدَهُ النَّوْعُ الثَّالِثُ كَقَوْلِهِ: "اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كمَا بَاعَدْت بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ" إلَخْ، وَهَكَذَا ذِكْرُ الرُّكُوعِ وَالسُّجودِ وَالتَّسْبِيحِ فِيهِمَا أَفْضَلُ مِن قَوْلِهِ:"لَك رَكعْت وَلَك سَجَدْت"، وَهَذَا أَفْضَلُ مِنَ الدُّعَاءِ.
وَالتَّرْتِيبُ هنَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِيمَا أعْلَمُ، فَإِنِّي لَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا قَالَ: إنَّ الدُّعَاءَ فِيهِمَا أَفْضَل مِنَ التَّسْبِيحِ، كَمَا قِيلَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الِاسْتِفْتَاحِ
(1)
. [22/ 394 - 395]
2575 -
مِقْدَارُ الصَّلَاةِ: يَخْتَارُ فِيهِ فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ صَلَاةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّتِي كَانَ يَفْعَلُهَا غَالِبًا، وَهِيَ الصَّلَاةُ الْمُعْتَدِلَةُ الْمُتَقَارِبَةُ، الَّتِي يُخَفِّفُ فِيهَا الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ، وَيُطِيلُ فِيهَا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، ويُسَوّي بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَبَيْنَ الِاعْتِدَالِ مِنْهُمَا.
ويسْتَحبُّ إطَالَة الرَّكْعَةِ الْأولَى مِن كُلِّ صَلَاةٍ عَلَى الثَّانِيَةِ، ويسْتَحبُّ أَنْ
= وَقَد اسْتَحَبَّ النَّوَوِيُّ أيْضًا أنْ يَكُونَ الِاسْتِفْتَاحُ بِمَجْمُوعِ الصِّيَغِ الْوَارِدَةِ كُلِّهَا، لِمَن صَلَّى مُنْفَرِدًا، وَللْإِمَامِ إذَا أذِنَ لَهُ الْمَأمُومُونَ". انتهى.
وممن لا يرى الجمع بينها العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله كما في الفتاوى (13/ 112).
والعلامة الشيخ ابن باز رحمه الله-كما في فتاوى نور على الدرب، لابن باز (8/ 172).
فائدةٌ: قال الْحافِظُ ابن حجر رحمه الله: كَلَامُ الرَّافِعِيِّ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يُرِد الْجَمْعَ بَيْنَ "وَجَّهْت وَجْهِي" وَبَيْنَ "سُبْحَانَك اللَّهُمَّ"، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَد جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَفِيهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَامِرٍ الْأسْلَمِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَفيهِ عَن جَابِرٍ أخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، وَلَكِنَّهُ مِن رِوَايَةِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْهُ، وَقَد اُخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِيهِ. انْتَهَى. التلخيص الحبير، طباعة دار الكتب العلمية (1/ 563).
(1)
فائدة: قال الشوكاني رحمه الله: الْأحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي التَّعَوُّذِ لَيْسَ فِيهَا إلَّا أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَفْد ذَهَبَ الْحَسَنُ وَعَطَاءُ وإبْرَاهِيمُ إلَى اسْتِحْبَابِهِ فِي كُلِّ رَكْعَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} .
وَلَا شَكَّ أنَّ الآيَةَ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الِاسْتِعَاذَةِ قَبْلَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَهِيَ أَعَمُّ مِن أنْ يَكُونَ الْقَارِئُ خَارجَ الصَّلَاةِ أو دَاخِلَهَا.
وَأَحَادِيثُ النَّهْي عَن الْكلَامِ فِي الصَّلَاةِ تَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ حَالَ الصَّلَاةِ مِن غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الِاسْتِعَاذَةِ وَغَيْرِها مِما لَمْ يَرِدْ بِهِ دَلِيلٌ يَخُصُّهُ وَلَا وَقَعَ الْإِذْن بِجِنْسِهِ، فَالْأحْوَطُ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ، وَهُوَ الِاسْتِعَاذَةُ قَبْلَ قِرَاءَةِ الرَّكْعَةِ الْأولَى فَقَطْ. نيل الأوطار (2/ 230).
يَمُدَّ فِي الْأولَيَيْنِ ويحْذِفَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ؛ كَمَا رَوَاهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعَامَّةُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا. [22/ 408 - 409]
2576 -
قَالَ أنس رضي الله عنه: "صَلَّيْت خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمْرَ وَعُثْمَانَ فَكَانوا يَسْتَفْتِحُونَ بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، لَا يَذْكُرُونَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلَا فِي آخِرِهَا"
(1)
وَهَذَا النَّفْيُ لَا يَجُوزُ إلَّا مَعَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ لَمْ يَسْمَعْ مَعَ إمْكَانِ الْجَهْرِ بِلَا سَمَاعٍ. [22/ 411]
2577 -
اللَّحْنُ فِي الْفَاتِحَةِ الَّذِي لَا يُحِيلُ الْمَعْنَى: تَصِحُّ صَلَاةُ صَاحِبِهِ إمَامًا أَو مُنْفَرِدًا؛ مِثْل أَنْ يَقُولَ: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَ {الضَّالِّينَ} وَنَحْو ذَلِكَ.
وَأَمَّا مَا قُرِئَ بِهِ مَثَلُ: الْحَمْدُ للّهِ رَبَّ، وَرَبِّ، وَرَبُّ، وَمِثْلُ: الْحَمْدُ للهِ، وَالْحَمْدِ للّهِ، بِضَمِّ الْدَّالِ أَو بِكَسْرِ الدَّالِ، وَمِثْلُ: عَلَيْهِم، وعليهِمِ، وعليهُمُ، وَأمْثَالُ ذَلِكَ: فَهَذَا لَا يُعَدُّ لَحْنًا.
وَأَمَّا اللَّحْن الَّذِي يُحِيلُ الْمَعْنَى: إذَا عَلِمَ صَاحِبُهُ مَعْنَاهُ مِثْل أَنْ يَقُولَ: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا ضَمِيرُ الْمُتَكلِّمِ: لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ.
وَإِن لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ يُحِيلُ الْمَعْنَى وَاعْتَقَدَ أَنَّ هَذَا ضَمِيرُ الْمُخَاطَبِ: فَفِيهِ نِزَاعٌ. [22/ 443]
2578 -
إن احْتَاجَ إلَى قِرَاءَةِ الْقرْآنِ قَرَأَهُ بِحَسَب الْإِمْكَانِ، وَرَجَعَ إلَى الْمُصْحَفِ فِيمَا يُشْكِلُ عَلَيْهِ، وَلَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلًّا وُسْعَهَا، وَلَا يَتْرُكُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَينْتَهِي بِهِ مِن الْقِرَاءَةِ لِأَجْلِ مَا يَعْرِضُ مِن الْغَلَطِ أَحْيَانًا، إذَا لَمْ يَكن فِيهِ مَفْسَدَة رَاجِحَةٌ. [22/ 444]
(1)
رواه مسلم (399).
2579 -
وَسُئِلَ: عَمَّا إذَا نَصَبَ الْمَخْفُوضَ فِي صَلَاتِهِ؟
فَأَجَابَ: إنْ كَانَ عَالِمًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَلَاعِبٌ فِي صَلَاتِهِ، وَإِن كَانَ جَاهِلًا لَمْ تَبْطُلْ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. [22/ 444]
2580 -
يَجُوزُ أَنْ يَقْرَأَ بَعْضَ الْقُرْآنِ بِحَرْفِ أَبِي عَمْرٍو، وَبَعْضَهُ بِحَرْفِ نَافِعٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي رَكْعَةٍ أَو رَكْعَتَيْنِ، وَسَوَاءٌ كَانَ خَارجَ الصَّلَاةِ أَو دَاخِلَهَا. [22/ 445]
2581 -
إنْ شَاءَ الْمُصَلِّي يَضَعُ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ، وَإِن شَاءَ وَضَعَ يَدَيْهِ ثُمَّ رُكْبَتَيْهِ، وَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ فِي الْحَالَتَيْنِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي الْأَفْضَلِ
(1)
. [22/ 449]
2582 -
وَسُئِلَ رحمه الله: عَمَّا يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "أُمِرْت أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ وَأَنْ لَا كُفَّ لِي ثَوْبًا وَلَا شَعْرًا"
(2)
، وَفِي رِوَايَةٍ:"وَأَنْ لَا أَكْفِتَ لِي ثَوْبًا وَلَا شَعْرًا".
فَأَجَابَ: الْكَفْتُ: الْجَمْعُ وَالضَّمُّ، وَالْكَفُّ: قَرِيبٌ مِنْهُ، وَهُوَ مَنْعُ الشَّعْرِ وَالثَّوْبِ مِنَ السُّجُودِ، وَيُنْهَى الرَّجُلُ أَنْ يُصَلِّيَ وَشَعْرُهُ مَغْرُوزٌ فِي رَأسِهِ أَو مَعْقُوصٌ.
(1)
لم يرجح الشيخ رحمه الله أيًّا من القولين، ولكن تلميذه ابن القيِّم رحمه الله نصر القول بأنَّ الأفضل وضع الركبتين قبل اليدين، حيث قال:"وَكَان صلى الله عليه وسلم يَضَعُ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَدَيْهِ بَعْدَهُمَا، ثُمَّ جَبْهَتَهُ وَأنْفَهُ"، هذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي رَوَاهُ شريك، عَن عاصم بن كليب، عَن أَبِيهِ، عَن وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ:"رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَجَدَ وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ، وَإِذَا نَهَضَ رَفَعَ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ".
وَلَمْ يُرْوَ فِي فِعْلِهِ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ: "إِذَا سَجَدَ أحَدُكُمْ فَلَا يَبْرُكْ كمَا يَبْرُكُ الْبَعِيرُ، وَلْيَضَعْ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ"، فَالْحَدِيثُ -وَاللهُ أَعْلَمُ- قَد وَقَعَ فِيهِ وَهْمٌ مِن بَعْضِ الرُّوَاةِ. اهـ. ثم شرع في نصرة هذا القول، ورد القول الثاني. زاد المعاد (1/ 216 - 224).
(2)
رواه البخاري (779)، ومسلم (490).
وَأَمَّا الضَّفْرُ مَعَ إرْسَالِهِ فَلَيْسَ مِنَ الْكَفْتِ
(1)
. [22/ 450]
2583 -
جِلْسَةُ الِاسْتِرَاحَةِ: قَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَلَسَهَا.
وَمَن فَعَلَهَا لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ وَإِن كَانَ مَأْمُومًا؛ لِكَوْنِ التَّأخُّرِ بِمِقْدَارِ مَا لَيْسَ هُوَ مِنَ التَّخَلُّفِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ عِنْدَ مَن يَقُولُ بِاسْتِحْبَابِهَا، وَهَل هَذَا إلَّا فِعْلٌ فِي مَحَلِّ اجْتِهَادٍ؟ فَإِنَّهُ قَد تَعَارَضَ فِعْلُ هَذِهِ السّنَّةِ عِنْدَهُ، وَالْمُبَادَرَةَ إلَى مُوَافَقَةِ الْإِمَامِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَوْلَى مِنَ التَّخَلّفِ لَكِنَّهُ يَسِيرُ، فَصَارَ مِثْل مَا إذَا قَامَ مِنَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ قَبْلَ أَنْ يُكمِلَهُ الْمَأمُومُ وَالْمَأمُومُ يَرَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، أَو مِثْلُ أَنْ يُسَلِّمَ وَقَد بَقِيَ عَلَيْهِ يَسِيرٌ مِنَ الدُّعَاءِ هَل يُسَلِّمُ أَو يُتمُّهُ؟
وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ هِيَ مِن مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ.
وَالْأَقْوَى: أَنَّ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ أَوْلَى مِنَ التَّخَلُّفِ لِفِعْلِ مُسْتَحَبٍّ. [22/ 451]
(1)
قال ابن عثيمين رحمه الله: قال فقهاؤنا: ولا فرق بين أن يفعل ذلك عند الصَّلاة من أجل الصَّلاة، أو أن يفعل ذلك لعمل قبل الصَّلاة، كما لو كان يشتغل، وقد كفَّ كُمَّه أو لَفَّه ثم جاء يُصلِّي، نقول له: أطلق الكُمَّ وفُكَّ اللفَّة ..
إذ يُكره كفُّ الثَّوب بأن يرفع الثوب من أسفل، ولفُّ الثوب أيضًا بأن يطويه حتى يحزمه على بطنه، كل هذا مكَروهٌ للحديث، ولأنه ليس من تمام أخذ الزِّينة، فإنَّ أخذ الزِّينة عند الناس أن يكون الثَّوب مرسلًا غير مكفوف، ثم إن الإنسان قد يفعله ترفُّعًا؛ لئلا يتلوَّث ثوبُه بالتُّراب فيكون في هذا نوعٌ من الكبرياء. ثم إنه ينبغي أيضًا أن ينتشر الثوبُ ولا يُكفَّ؛ لأنه ربما يُؤجَر الإنسان على كلِّ ما يتَّصل به مما يُباشر الأرض، فلهذا يُكره كَفُّ الثَّوب.
فإن قيل: هل من كَفِّ الثَّوب ما يفعله بعض الناس بأن يكفَّ "الغُتْرَة" بأن يردَّ طرف "الغُتْرَة" على كتفه حول عنقه؟
فالجواب: هذا ليس من كفِّ الثَّوب؛ لأن هذا نوع من اللباس؛ أي: أن "الغُتْرة" تُلبس على هذه الكيفيَّة، فَتُكفُّ مثلًا على الرَّأس، وتُجعل وراءه، ولذلك جاز للإنسان أن يُصلِّي في العِمَامة، والعِمَامة مكوَّرة على الرَّأس غير مرسلة، فإذا كان من عادة الناس أن يستعملوا "الغُتْرة" و"الشِّمَاغ" على وجوه متنوِّعة فلا بأس، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: إنَّ طرح "القَبَاء" على الكتفين بدون إدخال الأكمام لا يُعدُّ من السَّدل؛ لأنه يُلبس على هذه الكيفيَّة أحيانًا.
لكن لو كانت "الغُتْرة" مرسلة؛ ثم كفَّها عند السُّجود؛ فالظَّاهر أن ذلك داخل في كَفِّ الثَّوب. الشرح الممتع (2/ 195).
2584 -
هَذَا الْحَدِيثُ: "اللَّهُمَّ صلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ" فِي "الصِّحَاحِ" مِن أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
أ- أَشْهَرُهَا حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ فَقَالَ: أَلَا أُهْدِي لَك هَدِيَّةً؟ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا: قَد عَرَفْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْك فَكَيْفَ نصَلِّي عَلَيْك؟ قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كمَا صَلَّيْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ -وَفِي لَفْظ- وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ
(1)
، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ".
رَوَاهُ أَهْلُ "الصِّحَاحِ" وَ"السُّنَنِ" وَ"الْمَسَانِيدِ"؛ كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ.
ب- وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" وَالسُّنَنِ الثَّلَاثَةِ عَن أَبِي حميد الساعدي أَنَّهُم قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْك؟ قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كلمَا صَلَّيْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ". هَذَا هُوَ اللَّفْظُ الْمَشْهُورُ.
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي فِي "الصِّحَاحِ": لَمْ أَجِدْ فِيهَا وَلَا فِيمَا نُقِلَ لَفْظَ "إبْرَاهِيمَ وَآلِ إبْرَاهِيمَ"
(2)
.
ج- وَفِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا السَّلَامُ عَلَيْك فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْك؟ قَالَ: "قُولُوا: اللهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِك وَرَسُولِك، كمَا صَلَّيْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كمَا بَارَكْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ".
(1)
لفظ البخاري (3370): "كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ" في كِلا الموضعين.
(2)
تقدم التنبيه على أنها موجودة في رواية البخاري، وقد يكون الشيخ حينها لم يرجع إلى صحيح البخاري، أو كانت عنده نسخة لا يُوجد فيها هذا اللفظ.
د- وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: أَتَانَا رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ فِي مَجْلِسِ سَعْدِ بْنِ عبادة فَقَالَ لَهُ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ: أمَرَنَا اللهُ أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْك فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْك؟ قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تَمَنَّيْنَا أَّنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"قُوُلوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَليْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ في الْعَالَمِينَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَالسَّلَامُ كَمَا عَلِمْتُمْ".
ومِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مَن سَلَكَ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْأَدْعِيَةِ وَالْأَذْكَارِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقولُهَا ويعْمَلُهَا بِأَلْفَاظٍ مُتَنَوِّعَةٍ -وَرُوِيتْ بِأَلْفَاظِ مُتَنَوِّعَةٍ-: طَرِيقَةٌ مُحْدَثَةٌ؛ بِأَنْ جَمَعَ بَيْنَ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ وَاسْتَحَبَّ ذَلِكَ، وَرَأَى ذَلِكَ أَفْضَلَ مَا يُقَالُ فِيهَا.
مِثَالُهُ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن أَبِي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه؛ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي، قَالَ:"قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي ظُلْمًا كثِيرًا وَلَا يَغْفِرُ الذّنُوبَ إلَّا أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِن عِنْدِك، وَارْحَمْنِي إنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ"
(1)
.
قَد رُوِيَ: "كَثِيرًا" وَرُوِيَ "كَبِيرًا"، فَيَقُولُ هَذَا الْقَائِلُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ: "كَثِيرًا كَبِيرًا".
وَطَرْدُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَنْ يَذْكُرَ التَّشَهُّدَ بِجَمِيعِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْمَأْثُورَةِ، وَأَنْ يُقَالَ الِاسْتِفْتَاحُ بِجَمِيعِ الْأَلْفَاظِ الْمَأثُورَةِ.
وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ خِلَافُ عَمَلِ الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يَسْتَحِبَّهُ أَحَدٌ مِن أَئِمَّتِهِمْ؛ بَل عَمِلُوا بِخِلَافِهِ، فَهُوَ بِدْعَة فِي الشَّرْعِ فَاسِدٌ فِي الْعَقْلِ. [22/ 454 - 458]
2585 -
فِي "الصحِيحِ" أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو بَعْدَ التَّشَهُّدِ وَقَبْلَ السَّلَامِ، وَكَانَ
(1)
رواه البخاري (799).
يَدْعُو فِي سُجُودِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ يَدْعُو إذَا رَفَعَ رَأسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَكَانَ يَدْعُو فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ.
وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ هُوَ وَالْمَأْمُومُونَ يَدْعُونَ بَعْدَ السَّلَامِ؛ بَل كَانَ يَذْكُر اللّهَ بِالتَّهْلِيلِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ كَمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ. [22/ 481]
2586 -
تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي السُّجُودِ الْمُطْلَقِ لِغَيْرِ سَبَبٍ: هَل هُوَ عِبَادَةٌ أمْ لَا؟
وَمَن سَوَّغَهُ يَقُولُ: هُوَ خُضُوعٌ للهِ وَالسُّجُودُ هوَ الْخُضُوعُ قَالَ تَعَالَى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ [البقرة: 58].
قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: السُّجُودُ فِي الفُغَةِ هُوَ الْخُضُوعُ، وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: أُمِرُوا أَنْ يَدْخُلُوا رُكَّعًا مُنْحَنِينَ، فَإنَّ الدُّخُولَ مَعَ وَضْعِ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأرْضِ لَا يُمْكِنُ، وَقَد قَالَ تَعَالَى:{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الرعد: 15] وَمَعْلُومٌ أَنَّ سُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، لَيْسَ سُجُودُ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ وَضْعَ جِبَاهِهَا عَلَى الْأرْضِ.
وَقَد قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ لَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ: "إنَّهَا تَذْهَبُ فتَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
فَعُلِمَ أَنَّ السُّجُودَ اسْمُ جِنْس، وَهُوَ كَمَالُ الْخُضُوعِ للهِ، وَأَعَزُّ مَا فِي الْإِنْسَانِ وَجْهُهُ، فَوَضْعُهُ عَلَى الْأرْضٌ للهِ غَايَةُ خُضُوعِهِ بِبَدَنِهِ، وَهوَ غَايَةُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِن ذَلِكَ.
وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أقرَبُ مَا يَكونُ الْعَبْدُ مِن رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ"، وَقَالَ تَعَالَى:{وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)} [العلق: 19] فَصَارَ مِن جِنْسِ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ الَّتِي تُشْرَعُ خَارجَ الصَّلَاةِ كَالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتكبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. [21/ 285]
2587 -
إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ [أي: المأموم] أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ الْجَمَاعَةِ إلَّا قُدَّامَ الْإِمَامِ
فَإِنَّهُ يُصَلِّي هُنَا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ أَمَامَهُ، وَهُوَ قَوْلُ طَوَائِفَ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد، وَإِن كَانُوا لَا يُجَوِّزُونَ التَّقَدُّمَ عَلَى الْإِمَامِ إذَا أَمْكَنَ تَرْكُ التَّقَدُّمِ عَلَيْهِ. [20/ 559]
2588 -
ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي "صحِيحِ الْبُخَارِيِّ": أنَّهُ قَالَ لِمَالِكِ بْنِ الحويرث وَصَاحِبِهِ: "إذَا حَضَرَت الصَّلَاةُ فَأَذِّنَا وَأقِيمَا وَلْيَؤُمَّكمَا أَكبَرُكُمَا، وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي"، فَأَمَرَهُم أَنْ يُصَلُّوا كَمَا رَأَوْهُ يُصَلِّي.
وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي لَهُمْ، وَلَا مُعَارِضَ لِذَلِكَ وَلَا مُخصِّصَ؛ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَجِبُ عَلَيْهِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ
(1)
. [22/ 568 - 569]
2589 -
فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَن جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كُنْت أُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الصَّلَوَاتِ، فَكَانَت صَلَاتُهُ قَصْدًا؛ أَيْ: وَسَطًا.
وَفِعْلُهُ الَّذِي سَنَّهُ لِأُمَّتِهِ هُوَ مِن التَّخْفِيفِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ الْأَئِمَّةُ؛ إذ التَّخْفِيفُ مِن الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ؛ فَالْمَرْجِعُ فِي مِقْدَارِهِ إلَى السُّنَّةِ
(2)
. [22/ 575]
(1)
فالواجب على الأئمة وخاصة في صلاة التراويح والقيام أنْ يتأنوا في القراءة والركوع والسجود والاعتدال منهما، فمن لم يفعل ذلك: لم يكن صلى كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم، كمن يقتصر على ثلاث تسبيحات على عَجَل، وكمن يُبادر بقراءة الفاتحة بعد تكبيرة الإحرام دون أنْ يدَعَ وقتًا لقراءة دعاء الاستفتاح.
(2)
وسُنَّته في هذا الباب قولية وفعلية؛ فالفعلية كانت طويلةٌ مرة، ومرة أخرى قصيرة، وأما القولية، فقد ثبت أنه أمر الأئمة بالتخفيف، والسُّنَّةُ القولية أقوى من السُّنَّةُ الفعلية.
فالذي يظهر أنّ الأصل في الإمام أن يخفف الصلاة، مع إتمام ركوعها وسجودها وأركانها، فقد ثبت عن أبي مَسْعُودٍ رضي الله عنه أنَّ رجلًا قَالَ: وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَن صَلَاةِ الْغَدَاةِ مِن أَجْلِ فُلَانِ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا، قال: فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأيُّكُمْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ؛ فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ". رواه البخاري (90)، ومسلم (1072).
وعَن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا صَلَّى أحَدُكمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَففْ؛ فَإِنَّ مِنْهُمُ الضعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَالْكَبِيرَ، وَإذَا صَلَّى أحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ". رواه البخاري (703)، ومسلم (1074). =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وهكذا أوصى عثْمان بْن أَبي الْعاص رضي الله عنه، فقد ثبت فى صحيح مسلم (1078)، عن عُثْمَان بْن أبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيّ رضي الله عنه، أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ:"أُمَّ قَوْمَكَ، فَمَن أَمَّ قَوْمًا فَلْيُخَفِّفْ؛ فَإِنَّ فِيهِمُ الْكبِيرَ، وَإِنَّ فِيهِمُ الْمَرِيضَ، وَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ، وَإِنَّ فِيهِمْ ذَا الْحَاجَةِ، وَإِذَا صَلَّى أحَدُكُمْ وَحْلَهُ فَلْيُصَل كَيْفَ شَاءَ".
قال ابن عبد البر رحمه الله: في هذا الحديث أوضح الدلائل على أن أئمة الجماعة يلزمهم التخفيف؛ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بذلك.
ولا يجوز لهم التطويل؛ لأن في الأمر لهم بالتخفيف نهيًا عن التطويل، وقد بأن في هذا الحديث العلة الموجبة للتخفيف، وهيم عندي غير مأمونة على أحد من أئمة الجماعة؛ لأنه وإن علم قوة من خلفه فإنه لا يدري ما يحدث لهم من آفات بني آدم.
ولذلك قال: "فإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء"؛ لأنه يعلم من نفسه ما لا يعلم من غيره.
وقد يحدث للظاهر القوةِ ومن يُعرف منه الحرصُ على طول الصلاة حادثٌ من شغل، وعارضٌ من حاجة وآفةٌ من حدث بول أو غيره.
فينبغي لكل إمام أن يخفف جهده إذا أكمل الركوع والسجود. اهـ. الاستذكار (2/ 166) وعَن جَابِر رضي الله عنه قَالَ: كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَأْتِي فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ فَصَلَّى لَيْلَةً مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءَ ثُمَّ أَتَى قَوْمَهُ فَأَمَّهُم فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ فَانْحَرَفَ رَجُلٌ فَسَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى وَحْدَهُ وَانْصَرَفَ، فَقَالُوا لَهُ: أَنَافَقْتَ يَا فُلَانُ؟ قَالَ: لَا وَاللهِ وَلآتِيَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلأُخْبِرَنَّهُ. فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا أصْحَابُ نَوَاضِحَ نَعْمَلُ بِالنَّهَارِ وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى مَعَكَ الْعِشَاءَ ثُمَّ أتَى فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ. فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مُعَاذٍ فَقَالَ: "يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟ اقْرَأ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ اِذَا يَغْشَى، وَسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى". رواه البخاري (6106)، ومسلم (1068).
وهذا الحديث صريحٌ وظاهرٌ في وجوب التخفيف، وعدم المشقة على المأمومين.
وأما حذ التخفيف وضابطُه: قد ثبت عند أبي داود (531)، عَن عُثْمَانَ بْنِ أبِي الْعَاصِ رضي الله عنه قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللهِ اجْعَلْنِي إِمَامَ قَوْمِي. فقَالَ: "أنتَ إِمَامُهُمْ، وَاقْتَدِ بِأَضعَفهمْ، وَاتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى أذَانِهِ أجْرًا".
أي: "اجعل أضعَفهم -بمرض، أو زمانَةٍ، أو نحوهما- قدوة لك، تصلي بصلاته تخفيفًا، وأنه يجب على إمام الصلاة أن يلاحظ حال المصلي خلفه، فيجعل أضعَفهم كأنه المقتدي به، فيخفف لأجله". سبل السلام، للصنعاني 2/ 66).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "وَأَوْلَى مَا أخِذَ حَدّ التَّخْفِيفِ مِن الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيّ عَن عُثْمَان بْن أَبِي الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: أَنْتَ إِمَامُ قَوْمِك، وَاقْدِر الْقَوْمَ بِأَضْعَفهمْ". اهـ. فتح الباري (2/ 25) =
وَمِن الْمَعْلُومِ أَنَّ مِقْدَارَ الصَّلَاةِ -وَاجِبِهَا وَمُسْتَحَبِّهَا- لَا يُرْجَعُ فِيهِ إلَى غَيْرِ السُّنَّةِ، فَإِنَّ هَذَا مِن الْعِلْمِ الَّذِي لَمْ يَكلْهُ اللهُ وَرَسُولُهُ إلَى آرَاءِ الْعِبَادِ؛ إذ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلّي بِالْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ صَلَوَات، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشدُونَ الَّذِينَ أُمِرْنَا بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، فَيَجِبُ الْبَحْثُ عَمَّا سَنَّهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُوضَعَ فِيهِ حُكْمٌ بِالرَّأيِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ اجْتِهَادُ الرَّأيِ فِيمَا لَمْ تَمْضِ بِهِ سُنَّة عَن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْمَدَ إلَى شَيْءٍ؛ مَضَتْ بِهِ سُنَّةٌ فَيُرَدّ بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ.
وَمِمَّا يُبَيِّنُ هَذَا: أَنَّ التَّخْفِيفَ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ إضَافِيٌّ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الْعُرْفِ؛ إذ قَد يَسْتَطِيلُ هَؤُلَاءِ مَا يَسْتَخِفُّهُ هَؤُلَاءِ وَيَسْتَخِفُّ هَؤُلَاءِ مَا يَسْتَطِيلُهُ هَؤلَاءِ فَهُوَ أَمْرٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ عَادَاتِ النَّاسِ وَمَقَادِيرِ الْعِبَادَاتِ وَلَا فِي كُلٍّ مِن الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ شَرْعِيةً.
فَعُلِمَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُسْلِمِ: أَنْ يَرْجِعَ فِي مِقْدَارِ التَّخْفِيفِ وَالتَّطْوِيلِ إلَى السُّنَّةِ.
وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ أَمْرَهُ صلى الله عليه وسلم بِالتَّخْفِيفِ
(1)
لَا يُنَافِي أَمْرَهُ بِالتَّطْوِيلِ أَيْضًا فِي حَدِيثِ عَمَّارٍ الَّذِي فِي "الصَّحِيحِ "
(2)
لَمَّا قَالَ:، إنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقصر خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِن فِقْهِهِ، فَأَطيلُوا الصَّلَاةَ وَأقصِرُوا الْخُطْبَةَ".
فَإِنَّ الْإِطَالَةَ هُنَا بالنّسْبَةِ إلَى الْخُطْبَةِ، وَالتَّخْفِيفَ هُنَاكَ بِالنّسْبَةِ إلَى مَا فَعَلَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ فِي زَمَانِهِ
(3)
مِن قِرَاءَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، وَلهَذَا قَالَ:"فَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ".
= مع أن عثمان رضي الله عنه كان قدومه مع قومه في وفد ثقيف على النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان سنة تسع من الهجرة. يُنظر: البداية والنهاية (5/ 94).
أي: أن الأمر بالتخفيف كان متأخرًا لم ينسخه شيء.
يُنظر: إرْشادُ السَّاجدِ بأسْباب الخِلَافِ والتَّقاطُع في الْمَسَاجِدِ، للمؤلف (70 - 82).
(1)
كقولِه: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ".
(2)
رواه مسلم (869).
(3)
يقصد معاذًا رضي الله عنه.
فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ لَيْسَ لِطُولِ صَلَاتِهِ حَدٌّ تَكُونُ بِهِ الصَّلَاةُ خَفِيفَةً بِخِلَافِ الْإِمَامِ؛ لِأَجْلِ مُرَاعَاةِ الْمَأمُومِينَ، فَإِنَّ خَلْفَهُ السَّقِيمُ وَالْكَبِيرُ وَذُو الْحَاجَةِ؛ وَلهَذَا مَضَت السُّنَّةُ بِتَخْفِيفِهَا عَن الْإِطَالَةِ إذَا عَرَضَ لِلْمَأمُومِينَ أَو بَعْضِهِمْ عَارِضٌ. [22/ 596 - 597]
2590 -
رَوَى مُسْلِمٌ عَن أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: مَا صَلَّيْتُ خَلْفَ أَحَدٍ أَوْجَزَ صَلَاةً مِن صَلَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَمَامٍ، كَانَت صَلَاةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُتَقَارِبَةً، وَكَانَت صَلَاةُ أَبِي بَكْرٍ مُتَقَارِبَةً، فَلَمَّا كَان عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَدَّ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِذَا قَالَ:"سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَهُ" قَامَ، حَتَّى نَقُولَ قَد أَوْهَمَ، ثُمَّ يَسْجُدُ وَيَقْعُدُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ حَتَّى نَقُولَ قَد أَوْهَمَ.
فَقَوْلُ أَنَسٍ رضي الله عنه: "مَا صَلَّيْت وَرَاءَ إمَامٍ قَطُّ أَخَفَّ وَلَا أَتَمَّ صَلَاةً مِن رَسُولِ اللهِ ": يُرِيدُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَخَفَّ الْأَئِمَّةِ صَلَاةً وَأَتَمَّ الْأئِمَّةِ صَلَاةً، وَهَذَا لِاعْتِدَالِ صَلَاتِهِ وَتَنَاسُبِهَا.
كَمَا فِي اللَّفْظِ الْآخَرِ: "وَكَانَت صَلَاتُهُ مُعْتَدِلَةً"، وَفِي اللَّفْظِ الْآخَرِ:"وَكَانَت صَلَاتُهُ مُتَقَارِبَةً": لِتَخْفِيفِ قِيَامِهَا وَقُعُودِهَا، وَتَكونُ أَتَمَّ صَلَاة لِإِطَالَةِ رُكُوعِهَا وَسجُودِهَا.
وَلَو أَرَادَ أَنْ يَكُونَ نَفْسُ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ -كَالْقِيَامِ- هُوَ أَخَفَّ وَهُوَ أَتَمَّ لنَاقَضَ ذَلِكَ.
فَهَذِهِ أَحَادِيث أَنَسٍ الصَّحِيحَةُ تُصَرِّحُ أَنَّ صَلَاةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّتِي كَانَ يُوجِزُهَا ويُكَمِّلُهَا، وَاَلَّتِي كَانَت أَخَفَّ الصَّلَاةِ وَأَتَمَّهَا: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُومُ فِيهَا مِن الرُّكُوعِ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: إنَّهُ قَد نَسِيَ، وَيَقْعُدُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: قَد نَسِيَ.
وإِذَا كَانَ فِي هَذَا يَفْعَلُ ذَلِكَ: فمِن الْمَعْلُومِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَالسُّنَّةِ
الْمُتَوَاتِرَةِ: أَنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ لَا يَنْقُصَانِ عَن هَذَيْنِ الِاعْتِدَالَيْنِ
(1)
؛ بَل كَثيرٌ مِن الْعُلَمَاءِ يَقُولُ: لَا يُشْرَعُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ هَذَيْنِ الِاعْتِدَالَيْنِ بِقَدْرِ الرّكُوعِ وَالسُّجُودِ؛ بَل يَنْقُصَانِ عَن الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. [22/ 577 - 579]
2591 -
رَوَى الْبُخَارِيُّ عَن سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: "صَلَّى لَنَا أَبُو سَعِيدٍ فَجَهَرَ بِالتَّكْبِيرِ حِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ مِن السُّجُودِ وَحِينَ سَجَدَ وَحِينَ رَفَعَ وَحِينَ قَامَ مِن الرَّكْعَتَيْنِ، وَقَال: هَكَذَا رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ".
ثُمَّ أَرْدَفَهُ الْبُخَارِيُّ بِحَدِيثِ مُطَرِّفٍ قَالَ: "صَلَّيْت أَنَا وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ خَلْفَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، فَكَانَ إذَا سَجَدَ كَبَّرَ، وَإِذَا رَفَعَ كَبَّرَ، وَإِذَا نَهَضَ مِن الرَّكْعَتَيْنِ كَبَّرَ، فَلَمَّا سَلَّمَ أَخَذَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْن بِيَدِي فَقَالَ: لَقَد صَلَّى بِنَا هَذَا صَلَاةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَو قَالَ: لَقَد ذَكَّرَنِي هَذَا صَلَاةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ".
فَهَذَا يُبَيِّن أنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا هُوَ فِي الْجَهْرِ بِالتَّكْبِيرِ، وَأَمَّا أَصْلُ التَّكْبِيرِ: فَلَمْ يَكُن مِمَّا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ. [22/ 586]
2592 -
السُّنَّةُ تَطْوِيل الْأولَى عَلَى الثَّانِيَةِ كَمَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [23/ 121]
2593 -
قَوْلُ أَكْثَرِ السَّلَفِ: أَنَّهُ إذَا سَمِعَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ أَنْصَتَ وَلَمْ يَقْرَأْ؛ فَإنَّ اسْتِمَاعَهُ لِقِرَاءَةِ الْإمَامِ خَيْرٌ مِن قِرَاءَتِهِ، وَإِذَا لَمْ يَسْمَعْ قِرَاءَتَهُ قَرَأَ لِنَفْسِهِ؛ فَإِنَّ قِرَاءَتَهُ خَيْرٌ مِن سُكُوتِهِ؛ فَالِاسْتِمَاعُ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ أَفْضَلُ مِنَ الْقِرَاءَةِ، وَالْقِرَاءَةُ أَفْضَلُ مِنَ السُّكُوتِ، هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.
قَالَ تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)} [الأعراف: 204] وَقَد اسْتَفَاضَ عَنِ السَّلَفِ أنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَقَالَ بَعْضُهُم فِي الْخُطْبَةِ، وَذَكَرَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَل الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ، وَذَكَرَ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْمَأمُومِ حَالَ الْجَهْرِ
(2)
.
(1)
أي: القيام مِن الرُّكُوعِ والقعدةُ بَينَ السَّجْدَتَيْنِ.
(2)
قال الشيخ بعد أن ذكر قول من قال بوجوب قراءة الفاتحة على المأموم في الصلاة الجهريّة: فَإنَّهُ شَاذٌّ، حَتَّى نَقَلَ أَحْمَدُ الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِهِ. (23/ 284)
وَثَبَتَ أنَّه فِي هَذِهِ الْحَالِ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ، كَمَا قَالَ ذَلِكَ جَمَاهِيرُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإحْسَانٍ، وَفِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"مَن كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ"
(1)
.
وَهَذَا الْحَدِيثُ رُوِيَ مُرْسَلًا وَمُسْنَدًا، لَكِنْ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ الثقاة رَوَوْهُ مُرْسَلًا عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ شَدَّادٍ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَسْنَدَهُ بَعْضُهُمْ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَه مُسْنَدًا، وَهَذَا الْمُرْسَلُ قَد عَضَّدَهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَقَالَ بِهِ جَمَاهِيرُ أَهلِ الْعِلْمِ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمُرْسِلُهُ مِن أَكَابِرِ التَّابِعِينَ، وَمِثْلُ هَذَا الْمُرْسَلِ يُحْتَجُّ بِهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَد نَصَّ الشَافِعِيُّ عَلَى جَوَازِ الِاحْتِجَاجِ بِمِثْل هَذَا الْمُرْسَلِ.
فَتَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِمَاعَ إلَى قِرَاءَةِ الْأِمَامِ أَمْرٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ دَلَالَةً قَاطِعَةً؛ لِأَنَّ هَذَا مِن الْأمُورِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا جَمِيعُ الْأُمَّةِ، فَكَانَ بَيَانُهَا فِي الْقُرْآنِ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُ الْبَيَانِ، وَجَاءَت السُّنَّةُ مُوَافِقَةً لِلْقُرْآنِ، فَفِي "صَحِيح مُسْلِمٍ" عَن أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: إنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا".
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَن ابْنِ أكيمة الليثي عَن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ مِن صَلَاةٍ جَهَرَ فِيهَا فَقَالَ: "هَل قَرَأَ مَعِي أَحَدٌ مِنْكُمْ آنِفًا؟ " فَقَالَ رَجُلٌ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:"إنِّي أَقُولُ مَا لِي أُنازَعُ الْقُرْآنَ"؟
(2)
.
قَالَ: فَانْتَهَى النَّاسُ عَن الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا جَهَرَ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
(1)
قال الحافظ رحمه الله: حَدِيثُ: "مَن كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الإمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ" مَشْهُورٌ مِن حَدِيث جَابِرٍ، وَلَهُ طُرُق عَن جَمَاعَةٍ مِن الصَّحَابَةِ وَكُلُّهَا مَعْلُولَةٌ. اهـ. التلخيص الحبير (1/ 568 - 569).
(2)
قال الشيخ: وَهَذَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِن الْمؤتَمِّينَ الَّذِينَ يَرَوْنَ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ حَالَ جَهْرِ الْإِمَامِ وَاجِبَةً أَو مُسْتَحَبَّةَ، فَيُثْقِلُونَ الْقِرَاءَةَ عَلَى الْإِمَامِ، وَيُلَبِّسُونَهَا عَلَيْهِ، وَيُلَبِّسُونَ عَلَى مَن يُقَارِبُهُم الْإِصْغَاءَ وَالِاسْتِمَاعَ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ، فَيُفَوِّتُونَ مَقْصُودَ جَهْرِ الْإِمَامِ، وَمَقْصُودَ اسْتِمَاعِ الْمَأُمُومِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْل هَذَا يَكُونُ مَكرُوهًا. اهـ. (23/ 316)
بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَوَاتِ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِي وَالتِّرْمِذِي وَقَالَ: حَدِيث حَسَنٌ
(1)
.
قَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى بْنِ فَارِسٍ يَقُولُ: قَوْلُهُ: "فَانْتَهَى النَّاسُ" مِن كَلَامِ الزُّهْرِيِّ.
وَقَالَ بَعْضُهُم: هُوَ قَوْلُ ابْنِ أكيمة، وَالصَّحِيحُ: أنَّه قَوْلُ الزُّهْرِيِّ.
وَهَذَا إذَا كَانَ مِن كَلَامِ الزُّهْرِيِّ فَهُوَ مِن أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يَقْرَءُونَ فِي الْجَهْرِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فَإنَّ الزُّهْرِيَّ مِن أَعْلَمِ أَهْلِ زَمَانِهِ أَو أَعْلَمُ أَهْلِ زَمَانِهِ بِالسُّنَّةِ، وَقِرَاءَةُ الصَّحَابَةِ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إذَا كَانَت مَشْرُوعَةً وَاجِبَةً أَو مُسْتَحَبَّةً تَكُونُ مِن الْأَحْكامِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَعْرِفُهَا عَامَّةُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَانٍ، فَيَكُونُ الزُّهْرِيُّ مِن أَعْلَمِ النَّاسِ بِهَا، فَلَو لَمْ يُبَيِّنْهَا لَاسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى انْتِفَائِهَا، فَكَيْفَ إذَا قَطَعَ الزُّهْرِيُّ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونوا يَقْرَءُونَ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْجَهْرِ.
فَاِنَّ الْإِنْصَاتَ إلَى قِرَاءَةِ الْقَارِئِ مِن تَمَامِ الِائْتِمَامِ بِهِ، فَإِنَّ مَن قَرَأَ عَلَى قَوْمِ لَا يَسْتَمِعُونَ لِقِرَاءَتِهِ لَمْ يَكُونُوا مُؤتَمِّينَ بهِ، وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ حِكْمَةَ سُقوطِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْمَأْمُومِ، فَإِنَّ مُتَابَعَتَهُ لِإِمَامِهِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى غَيْرِهَا حَتَّى فِي الْأَفْعَالِ.
وَأَيْضًا: فَلَو كَانَتِ الْقِرَاءَةُ فِي الْجَهْرِ وَاجِبَةً عَلَى الْمَأْمُومِ لَلَزِمَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ:
أ- إمَّا أَنْ يَقْرأ مَعَ الْإمَامِ.
ب- وَإِمَّا أَنْ يَجِبَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَسْكُتَ لَهُ حَتَّى يَقْرَأَ.
وَلَمْ نَعْلَمْ نِزَاعًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَسْكُتَ لِقِرَاءَةِ الْمَأمُومِ بِالْفَاتِحَةِ وَلَا غَيْرِهَا، وَقِرَاءَتُهُ مَعَهُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
(1)
أما حديث عباد بن الصامت مرفوعًا: "لَا تَقْرَءوا بِشَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ إِذَا جَهَرْتُ إِلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ"؛ فقد ضعَّفه الألباني في ضعيف أبي داود (824).
فَثبتَ أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ مَعَهُ فِي حَالِ الْجَهْرِ.
بَل نَقُولُ: لَو كَانَت قِرَاءَةُ الْمَأْمُومِ فِي حَالِ الْجَهْرِ وَالِاسْتِمَاعِ مُسْتَحَبَّةً لَاسْتُحِبَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْكُتَ لِقِرَاءَةِ الْمَأمُومِ، وَلَا يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ السُّكُوتُ لِيَقْرَأَ الْمَأْمُومُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ.
وَحُجَّتُهُم فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُن يَسْكُت ليَقْرَأَ الْمَأمُومُونَ، وَلَا نَقَلَ هَذَا أَحَدٌ عَنْهُ؛ بَل ثَبَتَ عَنْهُ فِي "الصَّحِيحِ" سُكُوتُهُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ لِلِاسْتِفْتَاحِ، وَفِي "السُّنَنِ" أَنَّهُ كَانَ لَهُ سَكْتَتَانِ:"سَكْتَةٌ فِي أَوَّلِ الْقِرَاءَةِ وَسَكْتَة بَعْدَ الْفَرَاغِ مِن الْقِرَاءَةِ"، وَهِيَ سَكْتَةٌ لَطِيفَةٌ لِلْفَصْلِ لَا تَتَّسِعُ لِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ.
وَقَد رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ السَّكْتَةَ كَانَت بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّه كَانَ لَهُ ثَلَاثُ سَكَتَاتٍ، وَلَا أَرْبَعُ سَكَتَاتٍ، فَمَن نَقَلَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ سَكَتَاتٍ أَو أَرْبَعَ فَقَد قَالَ قَوْلًا لَمْ يَنْقُلْهُ عَن أَحَدٍ مِن الْمُسْلِمِينَ.
وَالسَّكتَةُ الَّتِي عَقِبَ قَوْلِهِ: {وَلَا الضَّالِّينَ} مِن جِنْسِ السَّكَتَاتِ الَّتِي عِنْدَ رُؤُوسِ الْآيِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُسَمَّى سُكوتًا؛ وَلهَذَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِن الْعُلَمَاءِ إنَّهُ يَقْرأ فِي مِثْل هَذَا.
وَلَمْ يَسْتَحِبَّ أَحْمَدُ أَنْ يَسْكُتَ الْإِمَامُ لِقِرَاءَةِ الْمَأُمُومِ، وَلَكِنْ بَعْضُ أَصْحَابِهِ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَو كَانَ يَسْكُتُ سَكتَةً تَتَّسِعُ لِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ لَكَانَ هَذَا مِمَّا تتوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعيِ عَلَى نَقْلِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَنْقُلْ هَذَا أَحَدٌ عُلِمَ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ.
وَأَيْضًا: فَلَو كَانَ الصَّحَابَةُ كُلُّهُم يَقْرَءُونَ الْفَاتِحَةَ خَلْفَهُ إمَّا فِي السَّكْتَةِ الْأُولَى وَإِمَّا فِي الثَّانِيَةِ؛ لَكَانَ هَذَا مِمَّا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ، فَكيْفَ وَلَمْ يَنْقُلْ هَذَا أَحَد عَن أَحَدٍ مِن الصَّحَابَةِ أنَّهُم كَانُوا فِي السَّكْتَةِ الثَّانِيَةِ خَلْفَهُ يَقْرَؤُونَ الْفَاتِحَةَ، مَعَ أنَّ ذَلِكَ لَو كَانَ مَشْرُوعًا لَكَانَ الصَّحَابَةُ أَحَقَّ النَّاسِ بِعِلْمِهِ
وَعَمَلِهِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ بِدْعَهٌ
(1)
.
وَأَيْضا: فَالْمَقْصُودُ بِالْجَهْرِ: اسْتِمَاعُ الْمَأُمُومِينَ، وَلهَذَا يُؤَمِّنُونَ عَلَى قِرَاءَةِ الْإِمَامِ فِي الْجَهْرِ دُونَ السِّرِّ، فَإِذَا كَانُوا مَشْغُولِينَ عَنْهُ بِالْقِرَاءَةِ فَقَد أُمِرَ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى قَوْمٍ لَا يَسْتَمِعُونَ لِقِرَاءَتِهِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُحَدِّثَ مَن لَمْ يَسْتَمِعْ لِحَدِيثِهِ، وَيَخْطُبَ مَن لَمْ يَسْتَمِعْ لِخُطْبَتِهِ، وَهَذَا سَفَهٌ تُنَزَّهُ عَنْهُ الشَّرِيعَةُ.
وَإِذَا كَانَ الْمَأمُومُ مَأْمُورًا بِالِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ لِقِرَاءَةِ الْأِمَامِ: لَمْ يَشْتَغِلْ عَن ذَلِكَ بِغَيْرِهَا لَا بِقِرَاءَةٍ وَلَا ذِكْرٍ وَلَا دُعَاءٍ، فَفِي حَالِ جَهْرِ الْإِمَامِ لَا يَسْتَفْتِحُ وَلَا يَتَعَوَّذُ.
وَأَمَّا فِي حَالِ الْمُخَافَتَةِ: فَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَسْتَفْتِحَ، وَاسْتِفْتَاحُهُ حَالَ سُكُوتِ الْإِمَامِ أَفْضَلُ مِن قِرَاءَتِهِ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ يُعْتَاضُ عَنْهَا بِالِاسْتِمَاعِ بِخِلَافِ الِاسْتِفْتَاحِ
(2)
.
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ قِرَاءَةَ الْمَأمُومِ مُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِهَا
(3)
.
(1)
تنبَّه بأن الشيخ من شدة إنكاره لهذه السكة يرى أنها بدعةٌ مُحدَثة، وليست سُنَّةً مُتّبعة.
قال العلَّامة الألباني: ومما يؤيد عدم سكوته صلى الله عليه وسلم تلك السكتة الطويلة قول أبي هريرة رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر للصلاة سكت هنية، فقلت: يا رسول الله أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول؟ قال أقول: اللَّهُمَّ باعد بيني وبين خطاياي .... "، الحديث فلو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسكت تلك السكتة بعد الفاتحة بمقدارها لسألوه عنها كما سألوه عن هذه. اهـ. سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (2/ 26).
تنبيه: عزا الألباني رحمه الله كلام شيخ الاسلام من قوله: ولم يستحب .. إلى (2/ 146 - 147) من الفتاوى، والصواب أنه في (23/ 278).
(2)
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: إذا جاء المصلي والإمام قد شرع في الصلاة وهو يعلم أنه إن شرع في دعاء الاستفتاح ركع الإمام ولم يتمكن من قراءة الفاتحة فما العمل؟
فأجاب بقوله: إذا جاء الإنسان ودخل مع الإمام فإنه يكبر تكبيرة الإحرام، ويستفتح ويشرع بقراءة الفاتحة ثم إن تمكن من إتمامها قبل أن يفوته الركوع فعل، فإن لم يتمكن فإنها تسقط عنه ما لم يتمكني منه؛ لأنه مسبوق في القيام، وحينئذ يكون قد أتى بالصلاة على ترتيبها المشروع حسبما أُمر به. مجموع الفتاوى (13/ 112).
(3)
أي: أن سورة الفاتحة قد قيل بوجوب قراءتها على المأموم بخلاف دعاء الاستفتاح فهو سُنّة، فيُقدمها على دعاء الاستفتاح؛ أي: يبدأ بسورة الفاتحة قبل دعاء الاستفتاح.
فَيُقَالُ: وَكَذَلِكَ الِاسْتِفْتَاحُ هَل يَجِبُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد.
مَعَ أَنَّ تَعْلِيلَ الْأَحْكَامِ بِالْخِلَافِ
(1)
: عِلَّةٌ بَاطِلَةٌ فِي نَفْسِ الْأمْرِ؛ فَإِنَّ الْخِلَافَ لَيْسَ مِن الصِّفَاتِ الَّتِي يُعَلِّقُ الشَّارعُ بِهَا الْأَحْكَامَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَإِنَّ ذَلِكَ وَصْفٌ حَادِث بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنْ يَسْلُكهُ مَن لَمْ يَكُن عَالِمًا بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِطَلَبِ الِاحْتِيَاطِ.
وَاَلَّذِينَ أَوْجَبُوا الْقِرَاءَةَ فِي الْجَهْرِ: احْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِي "السُّنَنِ" عَن عبادة أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا كنْتُمْ وَرَائِي فَلَا تَقْرَءُوا إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكتَابِ فَإنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَن لَمْ يَقْرَأ بِهَا". وَهَذَا الْحَدِيث مُعَلَّلٌ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ بِأُمُورِ كَثِيرَةٍ، ضَعَّفَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِن الْأئِمَّةِ.
وَالْبُخَارِيُّ مِمَن بَالَغَ فِي الِانْتِصَارِ لِلْإِثْبَاتِ بِالْقِرَاءَةِ حَتَّى مَعَ جَهْرِ الْإِمَامِ
(2)
؛ بَل يُوجِبُ ذَلِكَ كَمَا يَقُولُهُ الشَافِعِي فِي الْجَدِيدِ وَابْنُ حَزْمٍ، وَمَعَ هَذَا فَحُجَجُهُ وَمُصَنَّفُهُ إنَّمَا تَتَضَمَّنُ تَضْعِيفَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
(3)
وَتَوَابِعِهَا. [23/ 265 - 287]
2594 -
إِنَّ الْمُسْتَمِعَ الْمُنْصِتَ قَارِئٌ؛ بَل أَفْضَلُ مِنَ الْقَارِئِ لِنَفْسِهِ. [23/ 294]
2595 -
مَعْلُومٌ أَنَّ النَّهْيَ عَن الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي الْجَهْرِ مُتَوَاتِرٌ عَن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَن بَعْدَهُمْ؛ كَمَا أَنَّ الْقِرَاءَةَ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي السِّرِّ مُتَوَاتِرَةٌ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَن بَعْدَهُمْ؛ بَل وَنَفْيُ وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْمَأُمُومِ مُطْلَقًا مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ عَنْهُمْ
(4)
. [23/ 307]
(1)
أي: أنْ يُجعل الشيء واجبًا لأجل الخلاف في وجوبه، وحرامًا لأجل الخلاف في تحريمه، فيقول المفتي: هذا حرامٌ خروجًا من الخلاف، وهذا واجب خروجًا من الخلاف، على سبيل الاحتياط.
(2)
في كتابه: جزء القراءة خلف الإمام.
(3)
حيث يرى كراهة القراءة خلف الأمام مطلقًا، في الصلاةِ السرية والجهرية!
(4)
أي: أن نَفْي وُجُوبِ الْقِرَاءَةَ عَلَى الْمَأُمُومِ خَلْفَ الْإِمَامِ في الصلاةِ السرية والجهرية مِمَّا هُوَ =
2596 -
عَن عِمْرَانَ بْنِ حُصيْنٍ، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الظُّهْرِ - أَوِ الْعَصْرِ- فَقَالَ: "أَيُّكُمْ قَرَأَ خَلْفِي بِسَبِّح اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى؟ " فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا وَلَمْ أُرِدْ بِهَا إِلَّا الْخَيْرَ، قَالَ:"قَد عَلِمْتُ أنَّ بَعْضَكُمْ خَالَجَنِيهَا"
(1)
.
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَأمُرْهُم بِالْقِرَاءَةِ خَلْفَهُ فِي السِّرِّ لَا بِالْفَاتِحَةِ وَلَا غَيْرِهَا، إذ لَو كَانَ أَمَرَهُم بِذَلِكَ لَمْ يُنْكِر الْقِرَاءَةَ خَلْفَهُ، وَهُوَ لَمْ يُنْكِرْ قِرَاءَةَ سُورَةٍ مُعَيَّنَةٍ؛ بَل قَالَ:"أَيُّكُمْ قَرَأَ أَوأَيُّكُمْ الْقَارِئُ؟ "،؛ بَل مِن الْمَعْلُومِ فِي الْعَادَةِ أَنَّ الْقَارِئَ خَلْفَهُ لَمْ يَقْرَأْ بسبح إلَّا بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أنهُ لَا تَجِبُ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْمَأْمُومِ في السِّرِّ لَا بِالْفَاتِحَةِ وَلَا غَيْرِهَا
(2)
. [23/ 320]
= مَعْرُوف عَن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَن بَعْدَهُمْ.
وهذا هو رأي شيخ الإسلام كما تقدّم.
(1)
رواه مسلم (398).
(2)
هذا الكلام صريح في أن الشيخ لا يرى وجوب الْقِرَاءَة عَلَى الْمَأْمُومِ فِي السِّرِّ لَا بالْفَاتِحَةِ وَلَا غَيْرِهَا، بل الوجوب في حق الإمام والمنفرد.
وهذا ما نقله البعلي (ص 108) عنه حيث قال: ومن أخّر الدخول في الصلاة مع إمكانه حتى قضى الإمام القيام، أو كان القيام مُتسِّعًا لقراءة الفاتحة ولم يقرأها: فهذا تجوز صلاتُه عند جماهير العلماء. اهـ.
لكنه يرى الاستحباب، كما قال رحمه الله في غير موضع؛ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ حَالِ الْجَهْرِ وَحَالِ الْمُخَافَتَةِ، فَيَقْرَأُ فِي حَالِ السِّرِّ، وَلَا يَقْرَأُ فِي حَالِ الْجَهْرِ، وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ. (23/ 330)
والشيخ يُوافق في هذا مذهب الحنفية والمالكيّة والحنابلة، حيث قال في المغني عند قول الخرقي (1/ 406):"مَن كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْاِمَام لَهُ قِرَاءَةٌ"، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ: أَنَّ الْقِرَاءَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى الْمَأْمُومِ فِيمَا جَهَرَ بِهِ الْإِمَامُ، وَلَا فَيمَا أَسَرَّ بِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ.
وَبِذَلِكَ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَإِسْحَاقُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَدَاوُد: يَجِبُ؛ لِعُمُومِ قَوْلهِ عليه السلام: "لَاصَلَاةَ لِمَن لَا يَقْرَأ بِفَاتِحَةِ الْكتَاب" غَيْرَ أَنَّهُ خَصَّ فِي حَالِ الْجَهْرِ بِالْأَمْرِ بِالْإِنْصَاتِ، فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى الْعُمُوم.
وَلنَا مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَن وَكِيعٍ، عَن سُفْيَانَ، عَن مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ شَدَّادٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَن كَانَ لَهُ إمَامٌ فَإنَّ قِرَاءَةَ الْإمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ". اهـ.
فثبت بهذا أنّ جماهير العلماء لا يرون وجوب قراءة الفاتحة في حق المأموم مطلقًا.
وإذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَد جَعَلَ الْمَأْمُومَ يُخَلِّطُ عَلَيْهِ ويُلَبِّسُ وَيُخَالِجُ الْإِمَامَ: فَكَيْفَ بِالْإِمَامِ فِي حَالِ جَهْرِهِ مَعَ الْمَأمُومِ؟ وَالْمَأمُومُ يُلَبِّسُ عَلَى الْمَأْمُومِ حَالَ الْجَهْرِ؟ لِأَنَهُ إذَا جَهَرَ وَحْدَهُ كَانَ أَدْنَى حِسٍّ يُلَبِّسُ عَلَيْهِ وَيُثْقِلُ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ، فَإِنْ لَمْ تَكن الْأصْوَاتُ هَادِئَةً هُدُوءًا تَامًّا وَإِلَّا ثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ ولبس عَلَيْهِ، وَهَذَا أَمْرٌ مَحْسُوسٌ. [23/ 322]
2597 -
ظاهر كلام أبي العباس أنه يجب تسوية الصفوف؛ لأنه عليه السلام "رأى رجلًا باديًا صدره فقال: لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم"
(1)
. [الاختيارات 75]
2598 -
لا تنعقد إلا بقوله قائمًا في فوض: الله أكبر، وهي ركن بقدر ما يُسمع نفسه، ومع عذر بحيث يحصل السماع مع عدمه، واختار شيخنا الاكتفاء بالحروف وإن لم يَسْمَعْها، وكذا ذكرٌ واجب. [المستدرك 3/ 80]
2599 -
إذا قدر المصلي أن يقول: الله أكبر، لزمه ولا يجزئه غيرها وهو قول مالك وأحمد. [المستدرك 3/ 80]
2600 -
من أصناف الوسواس ما يفسد الصلاة، مثل تكرير بعض الكلمة كقوله في التحيات: أت، أت، ألتحي، ألتحي، وفي السلام: أس، أس. وقوله في التكبير: أكككبر ونحو ذلك فهذا الظاهر بطلان صلاته به، وربما كان إمامًا فأفسد صلاة المأمومين، وصارت الصلاة التي هي أكبر الطاعات أعظم إبعادًا له عن الله من الكبائر، وما لم تبطل به الصلاة من ذلك فمكروه وعدول عن السُّنَّة ورغبة عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه وما كان عليه أصحابه، وربما رفع صوته بذلك فآذى سامعيه. [المستدرك 3/ 80 - 81]
2601 -
يستحب التعوذ أوَّل كل قراءة، ويجهر في الصلاة بالتعوذ وبالبسملة وبالفاتحة في الجنازة ونحو ذلك أحيانا، فإنه المنصوص عن أحمد تعليمًا للسُّنَّة. [الاختيارات 77]
(1)
رواه البخاري (717)، ومسلم (436).
2602 -
تكتب البسملة أوائل الكتب، كما كتبها سليمان، وكتبها النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية وإلى قيصر وغيره. [الاختيارات 76]
2603 -
لا يشترط أن يُسمع المصلي نفسه القراءة الواجبة؛ بل يكفيه الإتيان بالحروف وإن لم يسمعها. [الاختيارات 76]
2604 -
عند شيخنا ترتيب الآيات واجب؛ لأن ترتيبها بالنص، وترتيب السور بالاجتهاد لا بالنص في قول جمهور العلماء منهم المالكية والشافعية، قال شيخنا: فيجوز قراءة هذه قبل هذه، وكذا في الكتابة؛ ولهذا تنوعت مصاحف الصحابة رضي الله عنهم في كتابتها، لكن لمَّا اتفقوا على المصحف في زمن عثمان صار هذا مما سَنَّه الخلفاء الراشدون، وقد دل الحديث على أن لهم سُنَّة يجب اتباعها. [المستدرك 3/ 82]
2605 -
وقوف القارئ على رؤوس الآيات سُنَّة وإن كانت الآية الثانية متعلقة بالأولى تعلق الصفة بالموصوف أو غير ذلك
(1)
. [المستدرك 3/ 82]
2606 -
القراءة القليلة بتفكر أفضل من الكثيرة بلا تفكر، وهو المنصوص عن الصحابة رضي الله عنهم صريحًا. [المستدرك 3/ 82]
2607 -
يكره أن يقول مع إمامه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} ونحوه
(2)
. [المستدرك 3/ 82]
2608 -
مَن لم يحسن القراءة ولا الذكر، أو الأخرس لا يحرك لسانه حركة مجردة.
ولو قيل: إن الصلاة تبطل بذلك كان أقرب؛ لأنه عبث ينافي الخشوع وزيادة على غير المشروع. [المستدرك 3/ 83]
(1)
كقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)} .
(2)
فالمشروع في حق المأموم الإنصات دون ترديد مع إمامه.
2609 -
قال تعالى لبني إسرائيل: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} [البقرة: 43] فأفرد الركوع بالتخصيص بعد الأمر بإقامة الصلاة، ويشبه والله أعلم أن يكون فيه معنيان:
أحدهما: أنهم لا يركعون في صلاتهم فأمرهم بالركوع إذا كانوا لا يفهمون ذلك في نفس الصلاة.
الثاني: أن قوله: {مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} أمر بصلاة الجماعة، ودل بذلك على وجوبها، وأمر بالركوع معهم؛ لأنه بالركوع يكون مدركًا للركعة، فإذا ركع معهم فقد فعل بقية الأفعال معهم، وما قبل الركوع من القيام لا يجب فعله معهم فما بعده لازم؛ بخلاف ما لو قال: قوموا، أو: اسجدوا لم يدل على ذلك.
وقال لمريم: {يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} [آل عمران: 43] قد يكون أمرًا لها بصلاة الجماعة وإن كانت امرأة؛ لأنها كانت محررة منذورة لله عاكفة في المسجد. [المستدرك 3/ 84]
2610 -
لما كَثُر ذكر السجود في القرآن، تارة أمرًا به، وتارةً ذمًّا لمن تركه، وتارةً ثناءً على فاعله، وتارةً إخبارًا عن سجود عظماء الخليقة وعمومهم: كان ذلك دليلًا على فضيلة السجود، وهذا ظاهر؛ فإن السجود فيه غاية الخضوع والتواضع، وهو أفضل أركان الصلاة الفعلية وأكثرها حتى إن مواضع الصلاة سميت به فقيل: مسجد ولم يقل: مقام، ولا مركع لوجهين:
أحدهما: أنه أفضل وأشرف وأكثر.
والثاني: أن نصيب الأرض منه أكثر من نصيبها من جميع الأفعال، فإن العبد يسجد على سبعة أعضاء وإنما يقوم على رجلين، وأما الركوع فسيان نسبة الأرض إليه وإلى القيام، فلهذا قيل: مسجد وهو موضع السجود دون موضع الركوع، والركوع نصف سجود، والسجود شرع مثنى مثنى في كل ركعة
سجدتان ولم يشرع من الأركان مثنى إلا هو، حتى سجود الجبران جعل أيضًا مثنى وهو سجدتا السهو، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسميهما الْمُرْغِمَتَين وقال في الشك:"إن كانت صلاته وترًا شفعتا له صلاته، وإن كانت تامة كانت ترغيمًا للشيطان"
(1)
فأقام السجدتين مقام ركعة في تكميل الصلاة؛ لأن الركن الأعم في كل ركعة هما السجدتان، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أعني على نفسك بكثرة السجود"
(2)
، وقال:"أقرب ما يكلون العبد من ربه وهو ساجد"
(3)
.
ولما كانت الصلاة مثنى مثنى، جعل في كل ركعة السجود مثنى مثنى، فكل سجدتين معقودتان بركعة، فتصير وترًا سجدتين وركوع، والركوع مقدمة أمامهما؛ كتقدمة الوقوف على طواف الزيارة. [المستدرك 3/ 87 - 88]
* * *
أركان الصلاة وواجباتها
2611 -
يجب تحريك لسانه بالذكر الواجب في الصلاة من القراءة وغيرها مع القدرة.
ومن قال: إنها تصح بدونه يستتاب، ويستحب ذلك في الذكر المستحب.
والمشهور من مذهب الشافعي وأحمد أن يكون بحيث يُسمع نفسه إذا لم يكن مانع، وفيه وجه أن تكون الحركة بالحرف. [المستدرك 3/ 99]
2612 -
أكمل الذكر بالقلب واللسان، ثم بالقلب، ثم باللسان، والمأمور به في الصلاة القلب واللسان جميعًا، لكن ذكر اللسان مقدور، والقلب قد لا يقدر عليه للوسواس، فلو قدر رجلان أحدهما: ذكر الذكر الواجب بالقلب فقط، والثاني: بلسانه فقط فإن الأول لا يجزئه في صلاته بلا نزاع وإن قدر ذكر القلب أفضل؛ لأنه ترك الواجب المقدور عليه، كما أن الخشوع لله بالقلب
(1)
رواه مسلم (571).
(2)
رواه مسلم (489).
(3)
رواه مسلم (482).
والبدن أكمل منه بالقلب وحده، وهو بالقلب وحده أكمل منه بالبدن وحده.
ثم إنَّ المصلي لو اقتصر على خشوع القلب لم يجزئه بلا نزاع، ولو غلب الوسواس على قلبه في أكثر الصلاة لم تصح صلاته عند أبي حامد الغزالي وأبي الفرج ابن الجوزي، لكن المشهور عند الأئمة أنَّ الفرض يسقط بذلك. [المستدرك 3/ 99 - 100]
2613 -
المسبوق إذا لم يتسع وقت قيامه لقراءة الفاتحة فإنه يركع مع إمامه ولا يتم الفاتحة باتفاق الأئمة، وإن كان فيه خلاف فهو شاذ.
وأما إذا أخَّر في الصلاة مع إمكانه حتى قصر القيام
(1)
، أو كان القيام متسعًا ولم يقرأها
(2)
: فهذا تجوز صلاته عند الجماهير، وعند الشافعي: عليه أن يقرأها وإن تخلف عن الركوع، وإنما تسقط قراءتها عنده على المسبوق خاصة. [المستدرك 3/ 101]
2614 -
جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ التَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَرُوِيَ عَن مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى ذَلِكَ لِئَلَّا يُظَنَّ وُجُوبُهُ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِهِ؛ فَالْمَشْهُورُ عَن أَحْمَد وَإِسْحَاقَ ودَاوُد وَغَيْرِهِمْ: وُجُوبُهُ.
وَعَن أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ: اسْتِحْبَابُهُ.
وَالْقَائِلُونَ بِالْوُجُوبِ مِنْهُم مَن يَقُولُ: يَتَعَيَّنُ "سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ" و"سُبْحَانَ رَبّي الْأَعْلَى" لِلْأَمْرِ بِهِمَا، وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِن أَصْحَابِ أَحْمَد، وَمِنْهُم مَن يَقُولُ: بَل يَذْكُرُ بَعْضَ الْأَذْكَارِ الْمَأْثُورَةِ.
وَالْأَقْوَى أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ التَّسْبِيحُ، إمَّا بِلَفْظِ "سُبْحَانَ" وَإِمَّا بِلَفْظِ:"سُبْحَانَك" وَنَحْوِ ذَلِكَ.
(1)
هكذا في الأصل والفتاوى المصرية (
…
)، وفي الاختيارات (ص 108):"حتى قضى الإمام القيام"، ولعل هذه العبارة أوضح وأصح.
(2)
كأن يشرد ذهنه ولم ينتبه إلا قرب الركوع، أو قرأها ببطئ.
وَذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ سَمَّاهَا "تَسْبِيحًا" فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ التَّسْبِيحِ فِيهَا، وَقَد بَيَّنَتْ السُّنَّةُ أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ.
وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ"
(1)
عَن عَائِشَةَ أَنَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: "سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ".
وَفِي "السُّنَنِ" أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوت وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ"
(2)
. فَهَذِهِ كُلُّهَا تَسْبِيحَاتٌ.
وَالْمَنْقُولُ عَن مَالِكٍ: أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ كَرَاهَةُ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى "سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى وَالْعَظِيمِ" فَلَهُ وَجْهٌ، وَإِن كَانَ كَرَاهَةُ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى جِنْسِ التَّسْبِيحِ فَلَا وَجْهَ لَهُ، وَأَظُنُّهُ الْأَوَّلَ. وَكَذَلِكَ الْمَنْقُولُ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ كَرَاهَةُ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى "سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ"؛ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّهَا فَرْضٌ؛ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَالِكًا أَنْكَرَ أَنْ تَكُونَ فَرضًا وَاجِبًا، وَهَذَا قَوِيّ ظَاهِرٌ، بِخِلَافِ جِنْسِ التَّسْبِيحِ فَإنَّ أَدِلَّةَ وُجُوبِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرَة جِدًّا.
وَقَد عُلِمَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُدَاوِمُ عَلَى التَّسْبِيحِ بِأَلْفَاظٍ مُتَنَوِّعَةٍ.
وَقَوْلُهُ: "اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ وَهي سُجُودِكُمْ"
(3)
يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا مَحَلٌّ لِامْتِثَالِ هَذَا الْأَمْرِ، لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُقَالُ إلَّا هِيَ، مَعَ مَا قَد ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ غَيْرَهَا.
وَالْجَمْعُ بَيْنَ صِيغَتَي تَسْبِيحٍ بَعِيدٍ
(4)
، بِخِلَافِ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ
(1)
(487).
(2)
صحَّحه الألباني في صحيح النسائي (1048).
(3)
يعني: حديث عَن عُقْبَةَ بْنِ عَامِر قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)} [الواقعة: 74]، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ"، فَلَمَّا نَزَلَتْ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} [الأعلى: 1] قَالَ: "اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ". رواه أبو داود (869)، وابن ماجه (887)، والإمام أحمد (17414)، وغيرهم، وقد ضعَّفه العلَّامة الألبانيُّ. في ضعيف أبي داود (152)، والإرواء:(2/ 41).
(4)
يعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يجمع بين قوله: سبحان ربي الأعلى في السجود أو سبحان =
وَالتَّهْلِيلِ وَالدُّعَاءِ، فَإنَّ هَذِهِ أَنْوَاعٌ، وَالتَّسْبِيحَ نَوْعٌ وَاحِدٌ، فَلَا يُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ صِيغَتَيْنِ
(1)
.
وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} [الأعلى: 1]، و {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)} [الواقعة: 74] أَمْرٌ بِتَسْبِيحِ رَبِّهِ، لَيْسَ أَمْرًا بِصِيغَةِ مُعَيَّنَةٍ
(2)
.
وَأَحْمَد يُوجِبُهُ [أي: التسبيح، فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَرُوِيَ عَنْهُ: أَنَّهُ رُكْنٌ وَهُوَ قَوِيٌّ؛ لِثُبُوتِ الْأَمْرِ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، فَكَيْفَ يُوجِبُ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَجِئْ أَمْرٌ بِهَا فِي الصَّلَاةِ خُصُوصًا وَلَا يُوجِبُ التَّسْبِيحَ مَعَ الْأَمْرِ بِهِ فِي الصَّلَاةِ؟ وَمَعَ كَوْنِ الصَّلَاةِ تُسَمَّى "تَسْبِيحًا"؟
لَكِنْ قَد يُقَالُ: لَمَّا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ الْمُسِيءَ فِي صَلَاتِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ لَيْسَ بِرُكْنٍ
(3)
. [16/ 114 - 118]
2615 -
مِنَ الْفُقَهَاءِ مَن قَد يَقُولُ: التَّسْبِيحُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ يُخَالِفُ ظَاهِرَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
= ربي العظيم في الركوع، وبين التسبيحات الأخرى الثابتة عنه، مثل: سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ، ومثل: سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوت وَالْكِبْرِياءِ وَالْعَظَمَةِ.
وهذا يدل على وجوب التسبيح، وأنه لا يجب أن يلتزم المصلي صيغةً مُعيّنة.
(1)
كلامه ظاهر الرجحان، لا سِيَّمَا مع ضعفِ حديثِ عقبةَ بنِ عامر.
(2)
وأيضًا: فقد ثبت في الصحيحين البخاري: (817)، ومسلم (484)، عَن عَائِشَةَ رضي الله عنها أنَّهَا قَالَتْ:"كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي" يَتَأَوَّلُ القُرْآنَ.
أي: يُنفذ الأمر الذي ورد في قول الله تبارك وتعالى في سورة النصر: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ} .
فظاهر هذا: أنّه بهذا الذكر يكون قد أتى بالواجب، لا سيما وأنه كان يُكثر منه.
(3)
وهذا هو الصارف الراجح للركنية، ويبقى التسبيح في الركوع والسجود على الوجوب، وقد قال الشيخ في موضع آخر في قَوْله تَعَالَى:{إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [السجدة: 15]، وَقَوْلُهُ:{ذُكِّرُوا بِهَا} يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْآيَاتِ، فَالتَّذْكِيرُ بِهَا جَمِيعِهَا مُوجِبٌ لِلتَّسْبِيحِ وَالسُّجُودِ، وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ التَّسْبِيحِ وَالسُّجُودِ، وَعَلَى هَذَا تَدُلُّ عَامَّةُ أَدِلَّةِ الشَرِيعَةِ مِن الْكِتَابِ وَالسُّنَةِ: تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ جِنْسِ التَّسْبِيحِ، فَمَن لَمْ يُسَبِّحْ فِي السُّجُودِ فَقَد عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ، وإِذَا أَتَى بِنَوْعٍ مِن أنْوَاعِ التَّسْبِيحِ الْمَشْرُوع أَجْزَأَهُ. (32/ 149)
وَإِذَا كَانَ اللهُ عز وجل قَد سَمَّى الصَّلَاةَ تَسْبِيحًا
(1)
، فَقَد دَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ التَّسْبِيحِ، كَمَا أَنَهُ لَمَّا سَمَّاهَا قِيَامًا فِي قَوْله تَعَالَى:{قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)} [المزمل: 2] دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْقِيَامِ، وَكَذَلِكَ لَمَّا سَمَّاهَا قُرآنًا فِي قَوْله تَعَالَى:{قُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْقُرْاَنِ فِيهَا، وَلَمَّا سَمَّاهَا رُكُوعًا وَسُجُودًا فِي مَوَاضِعَ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِيهَا. [22/ 550 - 551]
* * *
(الحكمة من قول: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى في السجود
؟)
2616 -
فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِاللَّيْلِ طَلَاةً قَرَأَ فِيهَا بِالْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَآلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ رَكَعَ ثُمَّ سَجَدَ نَحْو قِرَاءَتِهِ، يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ:"سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ"، وَفِي سُجُودِهِ:"سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى".
وَذَلِكَ أَنَّ السُّجُودَ غَايَةُ الْخُضوع وَالذُّلِّ مِن الْعَبْدِ، وَغَايَةُ تَسْفِيلِهِ وَتَوَاضُعِهِ بِأَشْوَفِ شَيءٍ فِيهِ للهِ -وَهُوَ وَجْهُهُ-، بَأَنْ يَضَعَهُ عَلَى التُّرَابِ، فَنَالسَبَ فِي غَايَةِ سُفُولِهِ أَنْ يَصِفَ رَبَّهُ بِأَنَّهُ الْأَعْلَى.
وَالْأَعْلَى أَبْلَغُ مِن الْعَلِيِّ؛ فَإنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ مِن نَفْسِهِ شَيْءٌ، هُوَ بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ عَدَمٌ مَحْضٌ، وَلَيْسَ لَهُ مِن الْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ نَصِيبٌ.
وَكَذَلِكَ فِي الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ: لَيْسَ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَقٌّ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَمَّ مَن يُرِيدُ الْعُلُوَّ فِي الْأَرْضِ؛ كَفِرْعَوْنَ وَإِبْلِيسَ.
وَأَمَّا الْمُؤمِنُ فَيَحْصُلُ لَهُ الْعُلُوُّ بِالْإِيمَانِ، لَا بِإِرَادَتِهِ لَهُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} [آل عمران: 139].
فَلَمَّا كَانَ السُّجُودُ غَايَةَ سُفُولِ الْعَبْدِ وَخُضُوعِهِ: سَبَّحَ اسْمَ رَبِّهِ الْأَعْلَى، فَهُوَ سُبْحَانَة الْأَعْلَى، وَالْعَبْدُ الْأسْفَلُ، كَمَا أَنَّهُ الرَّبُّ، وَالْعَبْدُ الْعَبْدُ، وَهُوَ
(1)
كقوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39].
الْغَنِيُّ، وَالْعَبْدُ الْفَقِيرُ، وَلَيْسَ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ إلَّا مَحْضُ الْعُبُودِيَّةِ، فَكُلَّمَا كمَّلَهَا قَرُبَ الْعَبْدُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَرٌّ جَوَاد مُحْسِنٌ، يُعْطِي الْعَبْدَ مَا يُنَاسِبُهُ، فَكُلَّمَا عَظُمَ فَقْرُهُ إلَيْهِ كَانَ أَغْنَى، وَكُلَّمَا عَظُمَ ذُلُّه لَهُ كَانَ أَعَزَّ؛ فَإِنَّ النَّفْسَ -لِمَا فِيهَا مِن أَهْوَائِهَا الْمُتَنَوّعَةِ وَتَسْوِيلِ الشَّيْطَانِ لَهَا- تَبْعُدُ عَن اللهِ حَتَّى تَصِيرَ مَلْعُونَةً بَعِيدَةً مِن الرَّحْمَةِ. [5/ 237 - 238]
* * *
(خطأ من قال في الرفع من الركوع: حَقٌّ مَا قَالَ الْعَبْد)
2617 -
فِي "الصَّحِيحِ"
(1)
: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إذَا رَفَعَ رَأسَهُ مِن الرُّكُوعِ يَقُولُ: "رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاءِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِن شَيْءٍ بَعْد، أَهْلَ الثناءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ" هَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ.
و"أَحَقُّ" أَفْعَلُ التَّفْضِيل، وَقَد غَلِطَ فِيهِ طَائِفَةٌ فَقَالُوا:"حَقٌّ مَا قَالَ الْعَبْدُ"، وَهَذَا لَيْسَ بِسَدِيدِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ؛ بَل حَقُّ مَا يَقُولُهُ الرَّبُّ، كَمَا قَالَ:{قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84)} [ص: 84].
وَلَكِنْ أَحَقُّ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ؛ اي: الْحَمْدُ أَحَقّ مَا قَالَ الْعَبْدُ، فَفِيهِ أَنَّ الْحَمْدَ أَحَقُّ مَا قَالَهُ الْعَبْدُ، وَلهَذَا وَجَبَ فِي كلِّ صَلَاةٍ. [8/ 212]
* * *
(الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
-)
2618 -
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، بلفظ الحديث أفضل من كل لفظ، ولا يُزاد عليه كما في الأذان والتشهد قاله الأئمة الأربعة وغيرهم، وهي في الصلاة واجبة في أشهر الروايتين وقول للشافعي، ولا تجب في غيرها، والرواية الأخرى: لا تجب في الصلاة، وهو قول مالك وأبي حنيفة. [المستدرك 3/ 94]
(1)
رواه مسلم (477).
2619 -
لا تجوز الصلاة على غير الأنبياء إذا اتخذت شعارًا، وهو قول متوسط بين من قال بالمنع مطلقًا وهو قول طائفة من أصحابنا، ومنهم من قال بالجواز مطلقًا وهو منصوص أحمد. [المستدرك 3/ 94]
* * *
(معنى الآل، ومنهم آل محمد)
2620 -
آل محمد فيه قولان:
أحدهما: أنهم أهل بيته الذين حرموا الصدقة، نصَّ عليه أحمد والشافعي، وهو أصح.
وعلى هذا فتحريم الصدقة على أزواجه وكونهم من أهل بيته: روايتان الأصح: دخولهن دون مواليهن كبريرة، بخلاف موالي الرجال.
وعلى هذا: أهلُ بيته هم بنو هاشم من ذريةِ:
1 -
أبي طالب.
2 -
والعباس.
3 -
والحارث.
أبناء عبد المطلب أعمام النبي صلى الله عليه وسلم فذرية هؤلاء الثلاثة أهل بيته.
4 -
وكذلك ذرية أبي لهب عند الجمهور.
وليس مِن أعْمامِه مَن له نسل غيرُ هؤلاء الأربعة.
وأفضل أهل بيته: عليّ وفاطمة وحسن وحسين الذين أدار عليهم الكساء وخصَّهم بالدعاء.
وظاهر كلام أبي العباس في موضع آخر: أنَّ حمزة أفضل من حسن وحسين، واختاره بعض العلماء.
وأما بنو المطلب: هل هم من أهل بيته الذين تحرم عليهم الصدقة؟ على روايتين.
والقول الثاني: آل محمد هم أمته، أو الأتقياء من أمته.
ولفظ آل فلان، إذا أطلق دخل فيه فلان وآله، وقد يقال: محمد وآل محمد، فلا يدخل فيهم محمد، وكذلك أهل البيت.
وأصل آل أول، فَحُرِّكتِ
(1)
الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا.
ومن قال: إن أصله أهل فقد غلط؛ لأن الأهل يضاف إلى الجماد وغيره.
وأما آل فإنما يضاف إلى شخص معظم من شأنه أن يؤول إليه غيره؛ أي: يسوسه فيكون مآله إليه فيتناول نفسه ومن يؤول إليه. [المستدرك 3/ 90 - 91]
* * *
مبطلات الصلاة
2621 -
إذَا أَحْدَثَ الْمُصَلِّي قَبْلَ السَّلَامِ بَطَلَتْ، مَكْتُوبَةً كَانَت أَو غَيْرَ مَكْتُوبَةٍ. [22/ 613]
2622 -
التَّبَسُّمُ: لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَأَمَّا إذَا قَهْقَهَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا تَبْطُلُ، وَلَا يُنْتَقَضُ وُضُوءُة عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فِي أَقْوَى الْوَجْهَيْنِ، لِكَوْنِهِ أَذْنَبَ ذَنْبًا وَللْخُرُوجِ مِن الْخِلَافِ، فَإِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ يُنْتَقَضُ وَضُوْءُهُ. [22/ 614]
2623 -
اللَّفْظُ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَدُلَّ عَلَى مَعْنًى بِالْوَضْعِ: إمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا مَعَ لَفْظٍ غَيْرِهِ؛ كَـ "فِي" وَ"عَنْ" فَهَذَا الْكَلَامُ مِثْلُ: يَدٍ وَدَمٍ وَفَمٍ وَخَدٍّ.
الثَّانِي: أَنْ يَدُلَّ عَلَى مَعْنًى بِالطَّبْعِ؛ كَالتَّأَوُّهِ وَالْأَنِينِ وَالْبُكَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
الثَّالِثْ أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَى مَعْنًى لَا بِالطَّبْعِ وَلَا بِالْوَضْعِ؛ كَالنَّحْنَحَةِ.
(1)
في الأصل: (فحركة)، وفي الفتاوى الكبرى (2/ 190): تحركت.
وَإِنَّ الْأَظْهَرَ فِيهَا جَمِيعًا أَنَّهَا لَا تُبْطِلُ؛ فَإنَّ الْأَصْوَاتَ مِن جِنْسِ الْحَرَكَاتِ، وَكَمَا أَنَّ الْعَمَلَ الْيَسِيرَ لَا يُبْطِلُ فَالصَّوْتُ الْيَسِيرُ لَا يُبْطِلُ، بِخِلَافِ صَوْتِ الْقَهْقَهَةِ فَإِنّه بِمَنْزِلَةِ الْعَمَلِ الْيَسِيرِ وَذَلِكَ
(1)
يُنَافِي الصَّلَاةَ؛ بَل الْقَهْقَهَةُ تُنَافِي مَقْصُودَ الصَّلَاةِ أَكْثَرَ؛ وَلهَذَا لَا تَجُوزُ فِيهَا بِحَالٍ، بِخِلَافِ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ فَإنَّة يُرَخَّصُ فِيهِ لِلضَرُورَةِ. [22/ 616 - 624]
2624 -
إنْ كَانَ الْمُصَلِّي يُحْسِنُ الرَّدَّ بِالْإِشَارَةِ: فَإِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَا بَأْسَ
(2)
، كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يُسَلِّمُونَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَرُدُّ عَلَيْهِم بِالْإِشَارَةِ.
وَإِن لَمْ يُحْسِنْ الرَّدَّ بَل قَد يَتَكَلَّمُ: فَلَا يَنْبَغِي إدْخَالُهُ فِيمَا يَقْطَعُ صَلَاتَهُ، أَو يَتْرُكُ بِهِ الرَّدَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ
(3)
. [22/ 625]
2625 -
مُسَابَقَةُ الْإِمَامِ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الأئِمَّةِ، لَا يَجُوز لِأحَد أَنْ يَرْكَعَ قَبْلَ إمَامِهِ، وَلَا يَرْفَعَ قَبْلَهُ، وَلَا يَسْجُدَ قَبْلَهُ.
وَإِذَا سَبَقَ الْإِمَامَ سَهْوًا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، لَكِنْ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ بِقَدْرِ مَا سَبَقَ بِهِ الْإِمَامَ، كَمَا أمَرَ بِذَلِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم .. ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، لِأَنَّ مَا قَبْلَ فِعْلِ الْإِمَامِ لَيْسَ وَقْتًا لِفِعْلِ الْمَأْمُومِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَن صَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ أَو بِمَنْزِلَةِ مَن كَبَّرَ قَبْلَ تَكْبِيرِ الْإِمَامِ، فَإِنَّ هَذَا لَا يُجْزِئُهُ عَمَّا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا إذَا سَبَقَ الْإِمَامَ عَمْدًا فَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ.
(1)
أي: وذلك الْعَمَل الْيَسِير يُنافي الصلاة ويتناقض معها، كالأكل والشرب اليسير عمدًا.
(2)
ويرد المصلي عليه بالإشارة، بأن يرفع يده -هكذا- مشيرًا إلى أنه يرد عليه السلام، ثم إن بقي المسلِّم حتى انصراف المصلي من صلاته رد عليه باللفظ، وإن لم يبق وانصرف فالإشارة تكفي. مجموع فتاوى ابن عثيمين (13/ 315).
(3)
وهو الرد بالإشارة، وكان الشيخ يرى وجوب الرد بها حال الصلاة.
قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله في لقاءات الباب المفتوح: ظاهر النصوص: أن الرد واجب لكنه يتعذر بالقول لأنه مبطل للصلاة. اهـ.
فَعَلَى الْمُصَلِّي أَنْ يَتُوبَ مِن الْمُسَابَقَةِ، وَيَتُوبَ مِن نَقْرِ الصَّلَاةِ وَتَرْكِ الطُّمَأْنِينَةِ فِيهَا، وَإِن لَمْ يَنْتَهِ فَعَلَى الناسِ كُلِّهِمْ أنْ يَأْمُرُوهُ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي أَمَرَهُ اللهُ بِهِ، وَيَنْهَوْهُ عَن الْمُنْكَرِ الَّذِي نَهَاهُ اللهُ عَنْهُ.
فَإِنْ قَامَ بِذَلِكَ بَعْضُهُم وَإِلَّا أَثِمُوا كُلُّهُمْ.
وَمَن كَانَ قَادِرًا عَلَى تَعْزِيرِهِ وَتَأْدِيبِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ فَعَلَ ذَلِكَ، وَمَن لَمْ يُمْكِنْهُ إلَّا هَجْرَهُ وَكَانَ ذَلِكَ مُؤَثِّرًا فِيهِ هَجَرَهُ حَتَّى يَتُوبَ. [22/ 336 - 338]
2626 -
العبد الآبق لا يصح نفله ويصح فرضه عند ابن عقيل وابن الزاغوني، وبطلان فرضه قوي أيضًا كما جاء في الحديث مرفوعًا، وينبغي قبول صلاته. [المستدرك 3/ 69 - 70]
2627 -
الصواب: أن مرور المرأة والكلب الأسود والحمار بين يدي المصلي دون سترته يقطع الصلاة. [المستدرك 3/ 99]
2628 -
تبطل الصلاة بتعمد تكرار الركن الفعلي لا القولي
(1)
، وهو مذهب الشافعي وأحمد. [المستدرك 3/ 102]
* * *
(بَابُ الذِّكْرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ)
2629 -
الْأَحَادِيثُ الْمَعْرُوفَةُ فِي "الصِّحَاحِ" وَ"السُّنَنِ" وَلا الْمَسَانِدِ" تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو فِي دُبُرِ صَلَاتِهِ قَبْلَ الْخُرُوجِ مِنْهَا، وَكَانَ يَأمُرُ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ وَيُعَلِّمُهُم ذَلِكَ، وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا صَلَّى بِالنَّاسِ يَدْعُو بَعْدَ الْخُزوجِ مِنَ الصَّلَاةِ هُوَ وَالْمَأمُومُونَ جَمِيعًا، لَا فِي الْفَجْرِ وَلَا فِي الْعَصْرِ وَلَا فِي غَيْرِهِمَا مِنَ الصَّلَوَاتِ. [22/ 492 - 493]
2630 -
الْأذْكَارُ الَّتِي كَانَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُهَا الْمُسْلِمِينَ عَقِيبَ الصَّلَاةِ أَنْوَاعٌ:
(1)
فلو كرَّر المصلي قراءة سورة الفاتحة أو إحدى آياتها فإنّ صلاتَه لا تبطل.
أَحَدُهَا: أنَّه "يُسَبِّحُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ ويَحْمَدُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَيُكَبِّرُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَتِلْكَ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ، وَيَقُولُ تَمَامَ الْمِائَةِ: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُل شَيءٍ قَدِير". رَوَاهُ مُسْلِم فِي "صَحِيحِهِ"
(1)
.
وَالثَّانِي: يَقُولُهَا خَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَيَضُمُّ إلَيْهَا "لَا إلَهَ إلَّا اللهُ" وَقَد رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(2)
.
وَالثَّالِثُ: يَقُولُ الثَّلَاثَةَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أنْ يَقُولَ كُلَّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ
(3)
.
وَالثَّانِي: أَنْ يَقُولَ كُلَّ وَاحِدَةٍ إحْدَى عَشْرَةَ مَرَّة.
وَالثَّلَاثُ وَالثَّلَاثُونَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي "الصَّحِيحَيْنِ".
وَالْرَّابعُ: يُكَبّرُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ لِيُتِمَّ مِائَةً.
وَالخَامِسُ: يَقُولُ: الثَّلَاثَةَ عَشْرًا عَشْرًا.
فَهَذَا هُوَ الَّذِي مَضَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَذَلِكَ مُنَاسِبٌ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ.
فَدُعَاؤُهُ لَهُ وَمَسْأَلَتُهُ إيَّاهُ وَهُوَ يُنَاجِيهِ أَوْلَى بِهِ مِن مَسْألَتِهِ وَدعَائِهِ بَعْدَ انْصِرَافِهِ عَنْهُ. [22/ 493 - 494]
(1)
(597).
(2)
رواه النسائي (1350)، والترمذي (3413) وقال:"حديث صحيح"، وصحَّحه الألباني، ولم أجده في صحيح مسلم.
(3)
عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ الْفُقَرَاءُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ مِن الْأمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلا، وفيه: تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُل صَلَاةٍ ثَلاثًا وَثَلَاثِينَ. رواه البخاري (843)، (595)، ومسلم (595).
وفي رواية للبخاري (6329): تُسَبِّحُونَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ عَشْرًا، وَتَحْمَدُونَ عَشْرًا، وَيكَبِّرُونَ عَشْرًا.
وفي روايةِ لمسلم (595): يَقُولُ سُهَيْلٌ: إِحْدَى عَشْرَةَ، إِحْدَى عَشْرَةَ، فَجَمِيعُ ذَلِكَ كُلِّهِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ.
والذي يظهر أنها اجتهاد من الراوي سهيل، وليست مرفوعة، لا سيما والقصة واحدة.
2631 -
وأما الذِّكْرُ بَعْدَ الِانْصِرَافِ فَكَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها هُوَ مِثْل مَسْحِ الْمِرْآةِ بَعْدَ صِقَالِهَا.
فَإِنَّ الصَّلَاةَ نُورٌ، فَهِيَ تَصْقُلُ الْقَلْبَ كَمَا تُصْقَلُ الْمِرْآةُ، ثُمَّ الذِّكْرُ بَعْدَ ذَلِكَ بمَنْزِلَةِ مَسْحِ الْمِرْآةِ، وَقَد قَالَ اللهُ تَعَالَى:{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)} [الشرح: 7، 8] قِيلَ: إذَا فَرَغْت مِن أَشْغَالِ الدُّنْيَا فَانْصَبْ فِي الْعِبَادَةِ وَإِلَى رَبّك فَارْغَبْ، وَهَذَا أَشْهَرُ الْقَوْلَيْنِ.
مَعَ أَنَّ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7)} ؛ أَيْ: فَرَغْت مِنَ الصَّلَاةِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ.
فَعُلِمَ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِشَيْئَيْنِ:
أ- أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْعِبَادَةِ عِنْدَ فَرَاغِهِ مِن أَشْغَالِهِ.
ب- وَأَنْ تكونَ رَغْبَتُهُ إلَى رَبِّهِ لَا إلَى غَيْرِهِ. [22/ 495 - 498]
2632 -
لَفْظُ "دُبُر الصَّلَاةِ":
أ- قَد يُرَادُ بِهِ آخِر جُزْءٍ مِنْهُ.
ب- وَقَد يُرَادُ بِهِ مَا يَلِي آخِرَ جُزْءٍ مِنْهُ.
كَمَا فِي دُبُرِ الْإنْسَانِ: فَإِنَّهُ آخِرُ جُزْءٍ مِنْهُ.
وَمِثْلُهُ لَفْظُ "الْعَقِبِ" قَد يُرَادُ بِهِ الْجُزْء الْمُؤَخَّرَ مِنَ الشَّيءِ كَعَقِبِ الْإِنْسَانِ. وَقَد يُرَادُ بِهِ مَا يَلِي ذَلِكَ.
فَالدُّعَاءُ الْمَذْكُورُ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ:
أ- إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ آخِر جُزْءٍ مِنْهَا لِيُوَافقَ بَقِيَّةَ الْأَحَادِيثِ.
ب- أَو يُرَادَ بِهِ مَا يَلِي آخِرَهَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ مَا بَعْدَ التَّشَهُّدِ.
وَبِكُلِّ حَالٍ: فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ بِهِ مَا بَعْدَ السَّلَامِ؛ لِأَنَّ عَامَّةَ الْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ كَانَت قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشَرِّعَ سُنَّةً بِلَفْظٍ مُجْمَلٍ يُخَالِفُ السُّنَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ بِالْأَلْفَاظِ الصَّرِيحَةِ.
وأمَّا قَوْلُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: "أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ اقْرَأ بِالْمُعَوِّذَاتِ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ"
(1)
: فَهَذَا بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْهَا.
وَأمَّا حَدِيثُ أَبِي أُمامة "قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: جَوْفَ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ وَدُبُرَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ"
(2)
: فَهَذَا يَجِبُ أَنْ لَا يَخُصَّ مَا بَعْدَ السَّلَامِ؛ بَل لَا بُدَّ أَنْ يَتَنَاوَلَ مَا قَبْلَ السَّلَامِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: "لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتِك"
(3)
: يَتَنَاوَلُ مَا قَبْلَ السَّلَامِ، وَيتَنَاوَلُ مَا بَعْدَهُ أَيْضًا. [22/ 499 - 501]
2633 -
فِي "الصَّحِيحِ" عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِب قَالَ: "كُنَّا إذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحْبَبْنَا أَنْ نَكُونَ عَن يَمِينِهِ يُقْبِلُ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ قَالَ: فَسَمِعْته يَقُولُ: رَبِّ قِنِي عَذَابَك يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَك"
(4)
: فَهَذَا فِيهِ دُعَاؤُهُ صلى الله عليه وسلم بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ، وَفِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَقْبِلُ الْمَأْمُومِينَ وَأَنَّهُ لَا يَدْعُو بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. [22/ 501]
2634 -
التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ عَقِبَ الصَّلَاةِ مُسْتَحَبٌّ لَيْسَ بِوَاجِبِ، وَمَن أَرَادَ أَنْ يَقُومَ قَبْلَ ذَلِكَ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ.
وَلَكِنْ يَنْبَغِي لِلْمَأْمُومِ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَنْصَرِفَ الْإِمَامُ؛ أَيْ: يَنْتَقِلَ عَنِ الْقِبْلَةِ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْعُدَ بَعْدَ السَّلَامِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ إلَّا مِقْدَارَ مَا يَسْتَغْفِرُ ثَلَاثًا وَيَقُولُ:"اللَّهمَّ أنْتَ السَّلَامُ وَمِنْك السَّلَامُ تَبَارَكْت يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ".
وَإِذَا انْتَقَلَ الْإِمَامُ: فَمَن أَرَادَ أَنْ يَقُومَ قَامَ وَمَن أَحَبَّ أَنْ يَقْعُدَ يَذْكُرُ اللهَ فَعَلَ ذَلِكَ. [22/ 505]
(1)
رواه أبو داود (1523)، والترمذي (2903)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود (1523).
(2)
رواه الترمذي (3499)، وحسَّنه الألباني في صحيح الترمذي (3499).
(3)
رواه أبو داود (1522)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود (1522).
(4)
رواه مسلم (709).
2635 -
عَدُّ التَّسْبِيحِ بِالْأَصَابعِ سُنَّةٌ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلنِّسَاءِ: "سَبِّحْنَ وَاعْقِدْنَ بِالْأَصَابعِ فَإنَّهُنَّ مَسْؤُولَاتٌ مُسْتَنْطَقَاتٌ"
(1)
.
وَأَمَّا عَدُّهُ بِالنَّوَى وَالْحَصَى وَنَحْوُ ذَلِكَ فَحَسَنٌ، وَكَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَقَد رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ تُسَبِّحُ بِالْحَصَى وَأَقَرَّهَا عَلَى ذَلِكَ.
وَأَمَّا التَّسْبِيحُ بِمَا يُجْعَلُ فِي نِظَامٍ مِنَ الْخَرَزِ وَنَحْوِهِ: فَمِنَ النَّاسِ مَن كَرِهَهُ وَمِنْهُم مَن لَمْ يَكْرَهْهُ.
وَإِذَا أُحْسِنَتْ فِيهِ النِّيَّة فَهُوَ حَسَنٌ غَيْرُ مَكرُوهٍ.
وَأَمَّا اتخَاذُهُ مِن غَيْرِ حَاجَةٍ، أَو إظْهَارُهُ لِلنَّاسِ مِثْلُ تَعْلِيقِهِ فِي الْعُنُقِ أَو جَعْلِهِ كَالسُّوَارِ فِي الْيَدِ أَو نَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا:
أ- إمَّا رِيَاءٌ لِلنَّاسِ.
ب- أَو مَظِنَّةُ الْمُرَاءَاةِ وَمُشَابَهَةِ الْمُرَائينَ مِن غَيْرِ حَاجَةٍ.
الْأَوَّلُ: مُحَرَّمٌ.
وَالثَّاني: أَقَلُّ أَحْوَالِهِ الْكَرَاهَةُ.
فَإِنَّ مُرَاءَاةَ النَّاسِ فِي الْعِبَادَاتِ الْمُخْتَصَّةِ
(2)
؛ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالذِّكْرِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مِن أَعْظَمِ الذُّنُوبِ.
وَأَمَّا الْمُرَائِي بِنَوَافِلِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالذِّكْرِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ: فَلَا يَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّهُ يُكْتَفَى فِيهِ بِحُبُوطِ عَمَلِهِ فَقَطْ بِحَيْثُ يَكونُ لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ؛ بَل هُوَ مُسْتَحِقّ لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ عَلَى قَصْدِهِ شُهْرَةَ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ، إذ هِيَ عِبَادَاتٌ
(1)
رواه الترمذي (3583)، وقال الألباني في صحيح الترمذي: حسن صحيح.
(2)
لعل الصواب؛ (المحضة)، ولا معنى لكلمة:(مختصة)، بل المشهور من كلام الشيخ وغيره من العلماء إطلاق عبارة:"محضة وغير محضة" للعبادات والمصالح والمفاسد ونحوها، وقد أطلقها في مواضع لا تُحصى، ولم أر الشيخ استعمل "مختصة" في مثل ذلك.
مخْتَصَّةٌ
(1)
وَلَا تَصِحُّ إلَّا مِن مُسْلِمٍ، وَلَا يَجُوزُ إيقَاعُهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ التَّقَرُّبِ.
بِخِلَافِ مَا فِيهِ نَفْعُ الْعَبْدِ كَالتَّعْلِيمِ وَالْإِمَامَةِ: فَهَذَا فِي الِاسْتِئْجَارِ عَلَيْهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. [22/ 506 - 507]
2636 -
رُوِيَ فِي قِرَاءَةِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ عَقِيبَ الصَّلَاةِ حَدِيثٌ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ
(2)
، وَلهَذَا لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِن أَهْلِ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدِ عَلَيْهَا، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ حُكْمٌ شَرْعيٌّ، وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ وَخُلَفَاؤُهُ يَجْهَرُونَ بَعْدَ الصَّلَاةِ بِقِرَاءَةِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَلَا غَيْرِهَا مِنَ الْقُرْآنِ، فَجَهْرُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ بِذَلِكَ وَالْمُدَاوِمَةُ عَلَيْهَا بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ بِلَا ريبٍ. [22/ 508]
2637 -
الْأَدْعِيَةُ وَالْأَذْكَارُ النَّبَوِيَّةُ هِيَ أَفْضَلُ مَا يَتَحَرَّاهُ الْمُتَحَرِّي مِنَ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ، وَسَالِكُهَا عَلَى سَبِيلِ أَمَانٍ وَسَلَامَةٍ، وَالْفَوَائِدُ وَالنَّتَائِجُ الَّتِي تَحْصُلُ لَا يُعَبِّرُ عَنْهُ لِسَانٌ، وَلَا يُحِيطُ بِهِ إنْسَانٌ.
وَلَيْسَ لِأَحَد أنْ يَسُنَّ لِلنَّاسِ نَوْعًا مِن الْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَةِ غَيْرِ الْمَسْنُونِ، وَيَجْعَلَهَا عِبَادَةً رَاتِبَةً يُوَاظِبُ النَّاسُ عَلَيْهَا كَمَا يُوَاظِبُونَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ؛ بَل هَذَا ابْتِدَاعُ دِينٍ لَمْ يَأذَنْ اللهُ بِهِ، بِخِلَافِ مَا يَدْعُو بِهِ الْمَرْءُ أحْيَانًا مِن غَيْرِ أَنْ يَجْعَلَهُ لِلنَّاسِ سُنَّةً، فَهَذَا إذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَعْنًى مُحَرَّمًا: لَمْ يَجُزِ الْجَزْمُ بِتَحْرِيمِهِ، لَكِنْ قَد يَكُون فِيهِ ذَلِكَ وَالْإِنْسَانُ لَا يَشْعُرُ بِهِ.
وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ يَدْعُو بِأَدْعِيَة تُفْتَحُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْوَقْتَ، فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ قَرِيبٌ (منه)
(3)
.
(1)
تقدم أن الذي يظهر أنها: محضة.
(2)
وقال في (2/ 516): وأما قراءة آية الكرسي فقد رويث بإسناد لا يمكن أن يثبت به سنة. اهـ.
قال ابن القيِّم رحمه الله في زاد المعاد (1/ 294): بلغني عن شيخنا أي العباس ابن تيمية قدس الله روحه أنه قال: ما تركتها عقيب كل صلاة.
(3)
لعله بهذه الإضافة يتم المعنى، وأي: فَهَذَا المضطر وَأَمْثَالُهُ قَرِيبٌ ممن يَدْعُو أَحْيَانًا فيُفتح له.
وَأَمَّا اتِّخَاذُ وِرْدٍ غَيْرِ شَرْعِيٍّ وَاسْتِنَانُ ذِكْرٍ غَيْرِ شَرْعِيٍّ: فَهَذَا مِمَّا يُنْهَى عَنْهُ.
وَمَعَ هَذَا: فَفِي الْأَدْعِيَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَذْكَارِ الشَّرْعِيَّةِ غَايَةُ الْمَطَالِبِ الصَّحِيحَةِ، وَنهَايَةُ الْمَقَاصِدِ الْعَلِيَّةِ، وَلَا يَعْدِلُ عَنْهَا إلَى غَيْرِهَا مِن الْأَذْكَارِ الْمُحْدَثَةِ الْمُبْتَدَعَةِ إلَّا جَاهِلٌ أَو مُفَرِّط أَو مُتَعَدٍّ. [22/ 511]
2638 -
لَو دَعَا الْإِمَامُ وَالْمَأمُومُ أَحْيَانًا عَقِيبَ الصَّلَاةِ لِأَمْر عَارِضٍ: لَمْ يُعَدَّ هَذَا مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ. [22/ 513]
2639 -
الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو دُبُرَ الصَّلَاةِ قَبْلَ السَّلَامِ وَيَأمُرُ بِذَلِكَ .. ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَإِذَا سَلَّمَ انْصَرَفَ عَن مُنَاجَاتِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ سُؤَالَ السَّائِلِ لِرَبِّهِ حَالَ مُنَاجَاتِهِ هُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ، دُونَ سُؤَالِهِ بَعْدَ انْصِرَافِهِ، كَمَا أَنَّ مَن كَانَ يُخَاطِبُ مَلِكًا أَو غَيْرَهُ فَإِنَّ سُؤَالَهُ وَهُوَ مُقْبِلٌ عَلَى مُخَاطَبَتِهِ أَوْلَى مِن سُؤَالِهِ لَه بَعْدَ انْصِرَافِهِ. [22/ 513 - 514]
2640 -
لَفْظُ دُبُرِ الصَّلَاةِ: قَد يُرَادُ بِهِ: آخِرُ جُزْءٍ مِنَ الصَّلَاةِ، كَمَا يُرَادُ بِدُبُرِ الشَّيْءِ مُؤَخَّرُهُ، وَقَد يُرَادُ بِهِ مَا بَعْدَ انْقِضَائِهَا، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:{وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)} [ق: 40]، وَقَد يُرَادُ بِهِ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ، وَبَعْض الْأَحَادِيثِ يُفَسِّرُ بَعْضًا لِمَن تَتَبَّعَ ذَلِكَ وَتَدَبَّرَهُ. [22/ 516 - 517]
2641 -
مَا يَحْصُلُ عِنْدَ السَّمَاعِ وَالذِّكْرِ الْمَشْرُوعِ مِن وَجَلِ الْقَلْبِ وَدَمْعِ الْعَيْنِ وَاقْشِعْرَارِ الْجُسُومِ: فَهَذَا أَفْضَل الْأَحْوَالِ الَّتِي نَطَقَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.
وَأَمَّا الِاضْطِرَابُ الشَّدِيدُ وَالْغَشْيُ وَالْمَوْتُ وَالصَّيْحَاتُ: فَهَذَا إنْ كَانَ صَاحِبُهُ مَغْلُوبًا عَلَيْهِ لَمْ يُلَمْ عَلَيْهِ؛ كَمَا قَد كَانَ يَكُونُ فِي التَّابِعِينَ وَمَن بَعْدَهُمْ؛ فَإِنَّ مَنْشَأَهُ قُوَّةُ الْوَارِدِ عَلَى الْقَلْبِ مَعَ ضَعْفِ الْقَلْبِ، وَالْقُوَّةُ وَالتَّمَكُّنُ أَفْضَلُ كَمَا هُوَ حَالُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ.
وَأَمَّا السُّكُونُ قَسْوَةً وَجَفَاءً: فَهَذَا مَذْمُومٌ لَا خَيْرَ فِيهِ. [22/ 522]
2642 -
الحسنة الواحدة قد يقترن بها من الصدق واليقين ما يجعلها تكفر الكبائر؛ كالحديث الذي في صاحب البطاقة الذي ينشر له تسعة وتسعون سجلًّا كل سجل منها مد البصر، ويؤتى ببطاقة فيها كلمة لا إله إلا الله فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة فثقلت البطاقة وطاشت السجلات وذلك لعظم ما في قلبه من الإيمان واليقين، وإلا فلو كان كل من نطق بهذه الكلمة تكفر خطاياه لم يدخل النار من أهل الكبائر المؤمنين؛ بل والمنافقين أحد، وهذا خلاف ما تواترت به الآيات والسنن، وكذلك حديث البغي، وإلا فليس كل من سقى كلبًا عطشانًا يغفر له، كما أنه قد يقترن بالسيئة من الاستخفاف والإصرار ما يعظمها فلهذا وجب التوقف في المعين، فلا يقطع بجنة ولا نار إلا ببيان من الله، لكن يرجى للمحسن ويخاف على المسيء. [المستدرك 3/ 96]
2643 -
المصافحة أدبار الصلوات بدعة باتفاق المسلمين، لكن عند اللقاء فيها آثار حسنة، وقد اعتقد بعضهم أنها في أدبار الصلاة تندرج في عموم الاستحباب وبعضهم أنها مباحة.
والتحقيق أنها بدعة إذا فعلت على أنها عبادة، أما إذا كانت أحيانًا لكونه لقيه عقيب الصلاة -لا لأجل الصلاة- فهذا حسن كما أن الناس لو اعتادوا سلامًا غير المشروع عقيب الصلاة كره.
وأما المعانقة ففي الحديث النهي عنها، ويحمل النهي على فعلها دائمًا، وأما عند اللقاء فقد جاء فيها حديث جعفر:"أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه فالتزمه وقبَّل بين عينيه"
(1)
. [المستدرك 3/ 96]
2644 -
ما جاء في خبر ثوبان "من أن الإمام إذا خص نفسه بالدعاء فقد خان المأمومين" المراد به الدعاء الذي يُؤَمِّن المأموم عليه كدعاء القنوت. [المستدرك 3/ 97]
(1)
رواه أبو داود (5220)، وقال الألباني في صحيح أبي داود: إسناد جيد مرسل، وهو صحيح بشواهده.
2645 -
يحرم الاعتداء في الدعاء لقوله تعالى: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)} [الأعراف: 55] والاعتداء قد يكون في نفس الطلب، وقد يكون في نفس المطلوب. [المستدرك 3/ 98]
2646 -
يكره رفع بصره إلى السماء في الدعاء
(1)
ذكره في الغنية من الأدب، وهو قول شريح وآخرين، واختاره شيخنا؛ لفعله عليه السلام، قال شيخنا: وما علمتُ أحدًا استحبه. [المستدرك 3/ 98]
2647 -
في النسائي الكبير عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ آية الكرسي عقب كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت"
(2)
وبلغني عن شيخ الإسلام ابن تيمية قال: ما تركته عقيب كل صلاة إلا نسيانًا أو نحوه. [المستدرك 3/ 98]
2648 -
لا يستحب الدعاء عقب الصلوات
(3)
لغير عارض؛ كالاستسقاء أو تعليم المأموم، ولم يستحبه الأئمة الأربعة. [المستدرك 3/ 98]
2649 -
يُسَنُّ للداعي رفع يديه والابتداء بحمد الله والثناء عليه والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وأن يختمه بذلك كله وبالتأمين. [المستدرك 3/ 98]
* * *
(بَاب مَا يُكْرهُ فِي الصَّلَاةِ)
2650 -
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الْمُسِيءَ فِي صَلَاتِهِ بِأَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ، وَأمْرُ اللهِ وَرَسُولِهِ إذَا أُطْلِقَ كَانَ مُقْتَضَاهُ الْوُجُوبَ، وَامَرَهُ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ بِالطُّمَأْنِينَةِ كَمَا أمَرَهُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.
(1)
في غير الصلاة، وأما في الصلاة فمحرم بالنص الصريح الصحيح.
(2)
قال السيوطي في النكت على الموضوعات (57): صحيح على شرط البخاري.
(3)
وقد خالف كثير من الناس هذا، فتجدهم لا يتركون الدعاء عقب الصلوات، حتى أصبح عادة، وبعضهم لا يدعو بإخلاص وصدق، بل ربما تثاءب أثناء الدعاء، وبعضهم يكرر دعاءً مُعيَّنًا لا يكاد يأتي بغيرِه!
وَأَمْرُهُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْإِيجَابِ.
وَأَيْضًا قَالَ لَهُ: "فَإنَّك لَمْ تُصَلِّ" فَنَفَى أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ الْأَوَّلُ صَلَاةً، وَالْعَمَلُ لَا يَكُونُ مَنْفِيًّا إلَّا إذَا انْتَفَى شَيءٌ مِن وَاجِبَاتِهِ.
فَأَمَّا إذَا فَعلَ كَمَا أَوْجَبَهُ اللهُ عز وجل فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ نَفْيُهُ لِانْتِفَاءِ شَيءٍ مِن الْمُسْتَحَبَّاتِ الَّتِي لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ.
وَأَمَّا مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّ هَذَا نَفْيٌ لِلْكَمَالِ.
فَيُقَالُ لَهُ: نَعَمْ هُوَ لِنَفْيِ الْكَمَالِ، لَكنْ لِنَفْيِ كَمَالِ الْوَاجِبَاتِ أَو لِنَفْي كَمَالِ الْمُسْتَحَبَّاتِ؟
فَأَمَّا الْأوَّلُ فَحَقٌّ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَبَاطِلٌ، لَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ اللهِ عز وجل، وَلَا فِي كَلَامِ رَسُولِهِ قَطُّ وَلَيْسَ بِحَقّ.
فَإِنَّ الشَّيْءَ إذَا كَمُلَتْ وَاجِبَاتُهُ فَكَيْفَ يَصِحّ نَفْيُهُ؟
وَلهَذَا يُؤْمَرُ مِثْلُ هَذَا الْمُسِيءِ بِالْإِعَادَةِ، كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذَا.
لَكِنْ لَو لَمْ يُعِدْ وَفَعَلَهَا نَاقِصَةً فَهَل يُقَالُ: إنَّ وُجُودَهَا كَعَدَمِهَا، بِحَيْثُ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهَا؟
أَو يُقَالُ: إنَّهُ يُثَابُ عَلَى مَا فَعَلَهُ وَيُعَاقَبُ عَلَى مَا تَرَكَهُ، بِحَيْثُ يَجْبُرُ مَا تَرَكَهُ مِن الْوَاجِبَاتِ بِمَا فَعَلَهُ مِن التَّطَوُّعِ؟
هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ، وَالثَّانِي أَظْهَرُ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ النَّاسُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِن أَعْمَالِهِمْ الصَّلَاةُ، قَالَ: يَقُولُ رَبّنَا عز وجل لِمَلَائِكَتِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ: اُنْظُرُوا في صَلَاةِ عَبْدِي أتمَّهَا أَمْ نَقَصَهَا؛ فَإِنْ كَانَت تَامَّة كُتِبَتْ لَهُ تَامَّة، وَإِن كَانَ انْتَقَصَ مِنْهَا شَيْئًا قَالَ: اُنْظُرُوا هَل لِعَبْدِي مِن تَطَوُّعٍ؟ فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ قَالَ: أَتِمُّوهَا مِن تَطَوُّعِهِ ثُمَّ تُؤْخَذُ الْأَعْمَالُ عَلَى ذَلِكُمْ"
(1)
.
(1)
صحَّحه الألباني في صحيح أبي داود (810).
وَفِي لَفْظٍ: "إنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِن عَمَلِهِ صَلَاتُهُ، فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَد أفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِن فَسَدَتْ فَقَد خَابَ وَخَسِرَ، فَإِن انْتَقَصَ مِن فَرِيضَتِهِ شَيْئًا قَالَ الرَّبُّ: اُنْظُرُوا هَل لِعَبْدِي مَن تَطَوُّعٍ؟ فَكَمُلَ بِهِ مَا انْتَقَصَ مِن الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ يَكُون سَائِرُ أَعْمَالِهِ عَلَى هَذَا"، رَوَاة التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيث حَسَنٌ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ اللهَ عز وجل أَمَرَنَا بِإِقَامَتِهَا، وَالْإِقَامَةُ: أَنْ تُجْعَلَ قَائِمَةً، وَالشَّيْءُ الْقَائِمُ: هُوَ الْمُسْتَقِيمُ الْمُعْتَدِلُ، فَلَا بُدَّ أَنْ تَكونَ أَفْعَالُ الصَّلَاةِ مُسْتَقِرَّةً مُعْتَدِلَةً، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِثُبُوتِ أَبْعَاضِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ الطمَأْنِينَةَ، فَإِنَّ مَن نَقَرَ نَقْرَ الْغُرَابِ: لَمْ يُقِم السُّجُودَ وَلَا يُتِمُّ سُجُودَهُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ وَلَمْ يَسْتَقِرَّ، وَكَذَلِكَ الرَّاكِعُ.
يُبَيِّنُ ذَلِكَ: مَا جَاءَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "سَوُّوا صُفُوفَكُمْ فَإِنّ تَسْوَيةَ الصَّفِّ مِن تَمَامِ الصَّلَاةِ"
(1)
. وَفِي لَفْظٍ: "أَقِيمُوا الصُّفُوفَ".
فَإِذَا كَانَ تَقْوِيمُ الصَّفِّ وَتَعْدِيلُهُ مِن تَمَامِهَا وَإِقَامَتِهَا بِحَيْثُ لَو خَرَجُوا عَن الِاسْتِوَاءِ وَالِاعْتِدَالِ بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى يَكُونَ رَأسُ هَذَا عِنْدَ النِّصْفِ الْأسْفَلِ مِن هَذَا: لَمْ يَكُونوا مُصْطَفِّينَ، وَلَكَانُوا يُؤْمَرُونَ بِالْإِعَادَةِ.
فَكَيْفَ بِتَقْوِيمِ أَفْعَالِهَا وَتَعْدِيلِهَا؛ بِحَيْثُ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؟
وَأَيْضًا: فَإِنَّ اللهَ عز وجل ذَمَّ عُمُومَ الْإِنْسَانِ، وَاسْتَثْنَى الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُم عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)} [المعارج: 19 - 23]، وَالسَّلَفُ مِن الصَّحَابَةِ وَمَن بَعْدَهُم قَد فَسَّرُوا الدَّائِمَ عَلَى الصَّلَاةِ بِالْمُحَافَظِ عَلَى أَوْقَاتِهَا وَبِالدَّائِمِ عَلَى أَفْعَالِهَا بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهَا، وَالْآيَةُ تَعُمُّ هَذَا وَهَذَا.
(1)
رواه البخاري (723)، ومسلم (433).
وَأَيْضًا: فَقَد قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)} [البقرة: 45]، وَهَذَا يَقْتَضِي ذَمَّ غَيْرِ الْخَاشِعِينَ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143].
فَقَد دَلَّ كِتَابُ اللهِ عز وجل عَلَى مَن كَبُرَ عَلَيْهِ مَا يُحِبُّهُ اللهُ: أنَّه
(1)
مَذْمُومٌ بِذَلِكَ فِي الدِّينِ، مَسْخُوطٌ مِنْهُ ذَلِكَ.
وَالذَّمُّ أَو السُّخْطُ لَا يَكُونُ إلَّا لِتَرْكِ وَاجِبٍ أَو فِعْلِ مُحَرَّمٍ، وَإِذَا كَانَ غَيْرُ الْخَاشِعِينَ مَذْمُومِينَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ الْخُشُوعِ.
فَمِن الْمَعْلُومِ أَنَّ الْخُشُوعَ الْمَذْكُورَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)} : لَا بُدَّ أَنْ يَتَضَمَّنَ الْخشُوعَ فِي الصَّلَاةِ.
ويُدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْخُشُوعِ فِيهَا أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون: 1، 2] .. وَقَد دَلَّ هَذَا عَلَى وُجُوبِ هَذِهِ الْخِصَالِ؛ إذ لَو كَانَ فِيهَا مَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ لَكَانَت جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ تُورَثُ بِدُونِهَا؛ لِأَنَّ الْجَنَّةَ تُنَالُ بِفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ دُونَ الْمُسْتَحَبَّات.
وَلهَذَا لَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الْخِصَالِ إلَّا مَا هُوَ وَاجِبٌ.
وإِذَا كَانَ الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبًا فَالْخُشُوعُ يَتَضَمَّنُ السَّكِينَةَ وَالتَّوَاضُعَ جَمِيعًا، وَمِنْهُ حَدِيثُ عُمَرَ رضي الله عنه حَيْثُ رَأَى رَجُلًا يَعْبَثُ فِي صَلَاتِهِ، فَقَالَ:"لَو خَشَعَ قَلْبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ"
(2)
؛ أَيْ: لَسَكَنَتْ وَخَضَعَتْ.
وَلهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي حَالِ رُكُوعِهِ: "اللُّهُمَّ لَك رَكعْت وَبِك
(1)
في الأصل وجميع النسخ التي وقفتُ عليها: "وَأنَّهُ" بالعطف، ولا يظهر صواب الجملة واستقامتها بالواو. والله أعلم.
(2)
قال الألبانيّ رحمه الله: لا يصح لا مرفوعًا ولا موقوفًا، والمرفوع أشد ضعفًا، بل هو موضوع. اهـ. إرواء الغليل (2/ 93).
آمَنْت وَلَك أَسْلَمْت، خَشَعَ لَك سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَقْلِي وَعَصَبِي". رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ".
فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْخشُوعِ فِي حَالِ الرُّكُوعِ؛ لِأَنَّ الرَّاكِعَ سَاكِنٌ مُتَوَاضِعٌ، وَبِذَلِكَ فُسِّرَت الْآيَةُ.
وإِذَا كَانَ الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبًا وَهُوَ مُتَضَمِّن لِلسُّكُونِ: فَمَن نَقَرَ نَقْرَ الْغُرَابِ لَمْ يَخْشَعْ فِي سُجُودِهِ، وَكَذَلِكَ مَن لَمْ يَرْفَعْ رَأسَهُ مِن الرُّكُوعِ وَيَسْتَقِرَّ قَبْلَ أَنْ يَنْخَفِضَ لَمْ يَسْكُنْ؛ لِأَنَّ السُّكُونَ هُوَ الطُّمَأْنينَةُ بِعَيْنِهَا.
فَمَن لَمْ يَطْمَئِنَّ لَمْ يَسْكُنْ، وَمَن لَمْ يَسْكُنْ لَمْ يَخْشَعْ فِي رُكُوعِهِ وَلَا فِي سُجُودِهِ، وَمَن لَمْ يَخْشَعْ: كَانَ آثِمًا عَاصِيًا، وَهُوَ الَّذِي بَيَّنَّاهُ
(1)
.
فَإِنَّ السُّكُونَ فِيهَا يَكُونُ بِحَرَكَةٍ مُعْتَدِلَةٍ لَا سَرِيعَةٍ، كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَشْي إلَيْهَا وَهِيَ حَرَكَة إلَيْهَا، فَكيْفَ بِالْحَرَكَةِ فِيهَا؛ فَقَالَ:"إذَا أتيْتُمْ الصَّلَاةَ فَلَا تَأْتَوهَا تَسْعَوْنَ وائتوها وَعَلَيْكُم السَّكِينَةُ فَمَا أَدْرَكتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا".
فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَد أَمَرَ بِالسَّكِينَةِ حَالَ الذَّهَابِ إلَى الصَّلَاةِ، وَنَهَى عَن السَّعْيِ الَّذِي هُوَ إسرَاعٌ فِي ذَلِكَ لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِلصَّلَاةِ: فَالصَّلَاةُ أُحَقُّ أنْ يُؤْمَرَ فِيهَا بِالسَّكِينَةِ وَيُنْهَى فِيهَا عَن الِاسْتِعْجَالِ.
فَإِنَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ تَقْتَضِي السَّكّينَةَ فِي الِانْتِقَالِ؛ كَالرَّفْعِ وَالْخَفْضِ
(1)
واضح من كلام الشيخ أنه يرى وجوب الخشوع في الصلاة.
وقد سبق كلام الشيخ عن الخشوع حيث قال: الْخُشُوعُ يَتَضَمَّنُ مَعْنيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: التَّوَاضُعُ وَالذُّلُّ.
وَالثَّانِي: السُّكُونُ وَالطُّمَأنِينَةُ، وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلِينِ الْقَلْبِ الْمُنَافِي لِلْقَسْوَةِ، فَخُشُوعُ الْقَلْبِ يَتَضَمَّنُ عُبُودِيَّتَهُ لِلَّهِ وَطُمَأنِينتهُ أيْضًا.
وَلهَذَا كَانَ الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ يَتَضَمَّنُ هَذَا وَهَذَا: التَّواضُعَ وَالسُّكُونَ. (7/ 28).
وَالنُّهُوضِ وَالِانْحِطَاطِ، وَأَمَّا نَفْسُ الْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ الْمَقْصُودُ بِالِانْتِقَالِ؛ كَالرُّكُوعِ نَفْسِهِ، وَالسُّجُودِ نَفْسِهِ، وَالْقِيَامِ وَالْقعُودِ أَنْفُسِهِمَا -وَهَذِهِ هِيَ مِن نَفْسِهَا سُكُونٌ- فَمَن لَمْ يَسْكُنْ فِيهَا لَمْ يَأْتِ بِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَن أَهْوَى إلَى الْقُعُودِ وَلَمْ يَأْتِ بِهِ، وكَمَنْ
(1)
مَدَّ يَدَهُ إلَى الطَّعَامِ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ، أَو وَضَعَهُ عَلَى فِيهِ وَلَمْ يَطْعَمْهُ.
وَأَيْضًا: فَإِن الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَا يَكُونُ إلَّا إذَا سَكَنَ حِينَ انْحِنَائِهِ وَحِينَ وَضْعِ وَجْهِهِ عَلَى الْأرْضِ، فَأَمَّا مُجَرَّد الْخَفْضِ وَالرَّفْعِ عَنْهُ: فَلَا يُسَمَّى ذَلِكَ رُكُوعًا وَلَا سُجُودًا، وَمَن سَمَّاهُ رُكُوعًا وَسُجُودًا فَقَد غلِطَ عَلَى اللُّغَةِ. [22/ 529 - 565]
2651 -
إِنَّ الصَّلَاةَ قُوتُ الْقُلُوبِ كَمَا أَنَّ الْغِذَاءَ قُوتُ الْجَسَدِ، فَإِذَا كَانَ الْجَسَدُ لَا يَتَغَذَّى بِالْيَسِيرِ مِن الْأَكْلِ؛ فَالْقَلْبُ لَا يَقْتَاتُ بِالنَّقْرِ فِي الصَّلَاةِ؛ بَل لَا بُدَّ مِن صَلَاةٍ تَامَّةٍ تُقِيتُ الْقُلُوبَ. [22/ 538]
2652 -
الْوَسْوَاسُ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ إذَا كَانَ قَلِيلًا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ بَل يَنْقُصُ الأجْرُ.
وَأَمَّا الْوَسْوَاسُ الَّذِي يَكُونُ غَالِبًا عَلَى الصَّلَاةِ فَقَد قَالَ طَائِفَةٌ- مِنْهُم أبُو عَبْدِ اللهِ بْنُ حَامِدٍ وَأَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِي- وَغَيْرُهُمَا: أَنَّهُ يُوجِبُ الْإِعَادةَ.
وَلَا رَيْبَ أنَّ الْوَسْوَاسَ كُلَّمَا قَلَّ فِي الصَّلَاةِ كَانَ أَكْمَلَ؛ كَمَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ" مِن حَدِيثِ عُثْمَانَ رضي الله عنه عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: "إنَّ مَن تَوَضَّأَ نَحْو وُضُوئي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُحَدِّثْ فِيهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ"
(2)
.
وَاَلَّذِي يُعِينُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئَانِ:
(1)
في الأصل: (كمَنْ) بدون واو العطف، ولعل الأصوب وضعها لتستقيم الجملة.
(2)
رواه البخاري (1934)، ومسلم (226).
أ- قُوَّةُ الْمُقْتَضِي.
ب- وَضَعْفُ الشَّاغِلِ.
أمّا الْأَوَّلُ: فَاجْتِهَادُ الْعَبْدِ فِي أَنْ يَعْقِلَ مَا يَقُوُلهُ ويفْعَلُهُ، وَيَتَدَبَّرُ الْقِرَاءَةَ وَالذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ، ويسْتَحْضِرُ أَنَّهُ مُنَاجٍ للهِ تَعَالَى كَأَنَّهُ يَرَاهُ، فَإِنَّ الْمُصَلِّيَ إذَا كَانَ قَائِمًا فَإِنَّمَا يُنَاجِي رَبَّهُ.
وَالْإِحْسَانُ: أَنْ تَعْبُدَ اللّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ يكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك.
ثُمَّ كُلَّمَا ذَاقَ الْعَبْدُ حَلَاوَةَ الصَّلَاةِ كَانَ انْجِذَاُبهُ إلَيْهَا أَوْكَدَ، وَهَذَا يَكُونُ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ.
فَإِنَّ مَا فِي الْقَلْبِ مِن مَعْرِفَةِ اللهِ وَمَحَبَّتِهِ وَخَشْيَتِهِ، وَإخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ، وَالتَّصْدِيقِ بِأَخْبَارِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: مِمَّا يَتَبَايَنُ النَّاسُ فِيهِ وَيَتَفَاضَلُونَ تَفَاضُلًا عَظِيمًا.
وَيَقْوَى ذَلِكَ كُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ تَدَبُّرًا لِلْقُرْآنِ، وَفَهْمًا وَمَعْرِفَةً بِأسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ وَعَظْمَتِهِ، وَتَفَقُّرِهِ إلَيْهِ فِي عِبَادَتِهِ، وَاشْتِغَالِهِ بِهِ، بِحَيْثُ يَجِدُ اضْطِرَارَهُ إلَى أَنْ يَكُونَ تَعَالَى مَعْبُودَهُ وَمُسْتَغَاثَهُ أَعْظَمَ مِن اضْطِرَارِهِ إلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ.
وَأَمَّا زَوَالُ الْعَارِضِ: فَهُوَ الِاجْتِهَادُ فِي دَفْعِ مَا يَشْغَلُ الْقَلْبَ مِن تَفَكُّرِ الْإِنْسَانِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ.
فَإِنَّ كَثْرَةَ الْوَسْوَاسِ بِحَسَبِ:
أ- كَثْرَةِ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ.
ب- وَتَعْلِيقِ الْقَلْبِ بِالْمَحْبُوبَاتِ الَّتِي يَنْصَرِفُ الْقَلْبُ إلَى طَلَبِهَا
(1)
.
ج- وَالْمَكْرُوهَاتِ الَّتِي يَنْصَرِفُ الْقَلْبُ إلَى دَفْعِهَا
(2)
.
(1)
من مال أو متاع أو زوجة ونحوها من محبوبات الدنيا.
(2)
من دينٍ أو قلة مالٍ ونحو ذلك.
وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي كَانَ غَايَةُ كَيْدِ الشَّيْطَانِ الْوَسْوَسَةَ.
فَإِنَّ شَيْطَانَ الْجِنِّ إذَا غَلَبَ وَسْوَسَ، وَشَيْطَانَ الْإِنْسِ إذَا غَلَبَ كَذَبَ.
وَالْوَسْوَاسُ يَعْرِضُ لِكُلِّ مَن تَوَجَّهَ إلَى اللهِ تَعَالَى بِذِكْرٍ أَو غَيْرِهِ، لَا بُدَّ لَهُ مِن ذَلِكَ.
فَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَثْبُتَ وَيصْبِرَ وُيلَازِمَ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الذِّكْرِ وَالصَّلَاةِ وَلَا يَضْجَرُ، فَإِنَّهُ بِمُلَازَمَةِ ذَلِكَ يَنْصَرِفُ عَنْهُ كَيْدُ الشَّيْطَانِ {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)} [النساء: 76].
وَكُلَّمَا أَرَادَ الْعَبْدُ تَوَجُّهًا إلَى اللهِ تَعَالَى بِقَلْبِهِ جَاءَ مِن الْوَسْوَاسِ أُمُورٌ أُخْرَى، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ بِمَنْزِلَةِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ، كُلَّمَا أَرَادَ الْعَبْدُ أنْ يَسِيرَ
(1)
إلَى اللهِ تَعَالَى أَرَادَ قَطْعَ الطَّرِيقِ عَلَيْهِ.
وَأمَّا مَا يُرْوَى عَن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه مِن قَوْلِهِ: إنِّي لَأُجَهِّزُ جَيْشِي وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ: فَذَاكَ لِأنَّ عُمَرَ كَانَ مَأْمُورَا بِالْجِهَادِ، وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤمِنِينَ فَهُوَ أَمِيرُ الْجِهَادِ، فَصَارَ بِذَلِكَ مِن بَعْضِ الْوُجُوهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُصَلِّي الَّذِي يُصَلِّي صَلَاةَ الْخَوْفِ حَالَ مُعَايَنَةِ الْعَدُوِّ:
- إمَّا حَالَ الْقِتَالِ.
- وَإِمَّا غَيْرَ حَالِ الْقِتَالِ.
فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ وَمَأْمُورٌ بِالْجِهَادِ، فَعَلَيْهِ أنْ يُؤَدِّيَ الْوَاجِبَيْنِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. [22/ 603 - 609]
2653 -
الْوَسْوَاسُ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَمْنَعُ مَا يُؤْمَرُ بِهِ مِن تَدَبُّرِ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي
(1)
في الأصل: (يَسِيرُ)، بدون "أن" وهو إن كان له وجه صحيح في اللغة إلا أن المعتاد من الشيخ في مثل هذا أن يضيف "أنْ".
فِي الصَّلَاةِ؛ بَل يَكونُ بِمَنْزِلَةِ الْخَوَاطِرِ: فَهَذَا لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، لَكِنْ مَن سَلِمَتْ صَلَاتُهُ مِنْهُ فَهُوَ أَفْضَلُ مِمَن لَمْ تَسْلَمْ مِنْهُ صَلَاتُهُ.
الْأَوَّلُ: شِبْهُ حَالِ الْمُقَرَّبِينَ.
وَالثَّانِي: شِبْهُ حَالِ الْمُقْتَصِدِينَ.
وَأمَّا الثَّانِي: فَهُوَ مَا مَنَعَ الْفَهْمَ وَشُهُودَ الْقَلْبِ بِحَيْثُ يَصِيرُ الرَّجُلُ غَافِلًا: فَهَذَا لَا ريبَ أَنَّهُ يَمْنَعُ الثَّوَابَ.
وَلَكِنْ هَل يُبْطِلُ الصَّلَاةَ ويُوجِبُ الْإِعَادَةَ؟ فِيهِ تَفْصِيلٌ:
أ- فَإِنَّهُ إنْ كَانَت الْغَفْلَةُ فِي الصَّلَاةِ أَقَلَّ مِن الْحُضُورِ وَالْغَالِبُ الْحُضُورُ: لَمْ تَجِب الْإِعَادَةُ، وَإِن كَانَ الثَّوَابُ نَاقِصًا، فَإنَّ النُصُوصَ قَد تَوَاتَرَتْ بِأَنَّ السَّهْوَ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَإِنَّمَا يُجْبَرُ بَعْضُهُ بِسَجْدَتَي السَّهْوِ.
ب- وَأمَّا إنْ غَلَبْت الْغَفْلَةُ عَلَى الْحُضُورِ: فَفِيهِ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِي الْبَاطِنِ وَإِن صَحَّتْ فِي الظَّاهِرِ.
وَالثَّانِي: تَبْرأُ الذِّمَّةُ فَلا تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَإِن كَانَ لَا أَجْرَ لَهُ فِيهَا وَلَا ثَوَابَ، بِمَنْزِلَةِ صَوْمِ الَّذِي لَمْ يَدَع قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لَهُ مِن صِيَامِهِ إلَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ.
وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَن الْإمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِن الْأئِمَّةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن أبِي هُرَيْرَةَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ:"إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ، حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا قُضِيَ التَّأْذِينُ أقبَلَ، فَإِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ، فَإِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أقبَلَ حَتى يَخْطُرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اُذْكرْ كذَا، اُذْكرْ كَذَا، مَا لَمْ يَكُن يَذْكُرُ، حَتى يَظَلَّ لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى، فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكمْ ذَلِكَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ"
(1)
.
(1)
البخاري (608)، ومسلم (389).
فَقَد أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الشَّيْطَانَ يُذَكِّرُهُ بِأُمُورٍ حَتَّى لَا يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى، وَأَمَرَهُ بِسَجْدَتَيْنِ لِلسَّهْوِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ.
وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ وَأَعْدَلُ
(1)
؛ فَإِنَّ النُّصُوصَ وَالْآثَارَ إنَّمَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْأَجْرَ وَالثَّوَابَ مَشْرُوطٌ بِالْحُضُورِ، لَا تَدُلُّ عَلَى وُجُوب الْإِعَادَةِ لَا بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا. [22/ 611 - 613]
2654 -
يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْصِدَ إعَادَةَ الصَّلَاةِ مِن غَيْرِ سَبَبٍ يَقْتَضِي الْإِعَادَةَ؛ إذ لَو كَانَ مَشْرُوعًا لِلصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّةِ عَدَد مُعَيَّن كَانَ يُمْكِنُ الْإِنْسَانَ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ مَرَّاتٍ وَالْعَصْرَ مَرَّاتٍ وَنَحْو ذَلِكَ، وَمِثْلُ هَذَا لَا رَيْبَ فِي كَرَاهَتِهِ.
ويُسْتَحَبُّ لِمَن صَلَّى ثمَّ حَضَرَ جَمَاعَةً رَاتِبَةً أَنْ يُصَلِّيَ مَعَهُمْ.
فَإِذَا أَعَادَهَا فَالْأُولَى هِيَ الْفَرِيضَةُ عِنْدَ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. [22/ 260 - 262]
2655 -
من الأدب: نهيُ النبي صلى الله عليه وسلم المصلي أن يرفع بصره إلى السماء، فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: هذا من كمال أدب الصلاة أن يقف العبد بين يدي ربه مطرقًا خافضًا طرفه إلى الأرض ولا يرفع بصره إلى فوق. [المستدرك 3/ 89 - 90]
2656 -
كره شيخنا السجود عليها -الصورة-. [المستدرك 3/ 99]
* * *
(الجهر ورفع الصوت بالصلاة على النبي والدعاء بدعة)
2657 -
اتفق المسلمون على أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء كله سرًّا أفضل؛ بل الجهر ورفع الصوت بالصلاة بدعة، ورفع الصوت بذلك أو بالترضي قدام الخطيب في الجمعة مكروه أو محرم بالاتفاق. [المستدرك 3/ 93 - 94]
* * *
(1)
وهو ما رجحه تلميذُه ابن القيِّم رحمه الله في مدراج السالكين (1/ 521 - 526).
(بَابُ سُجُودِ السَّهْوِ)
2658 -
الشَّكُّ: فِيهِ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ وَهِيَ كُلُّهَا مُتَّفِقَةٌ - وَللهِ الْحَمْدُ - وَإِنَّمَا تَنَازَعَ النَّاسُ لِكوْنِ بَعْضِهِمْ لَمْ يَفْهَمْ مُرَادَهُ .. فَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" وَغَيْرِهِ عَن أَبِي سَعِيدٍ الخدري قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا شَكَّ أَحَدُكمْ فِي صَلَاِتهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا شَفَعَتَا لَهُ صَلَاته، وَإِن كَانَ صَلَّى تَمَامًا لِأَرْبَع كَانتا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ".
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ إذَا شَكَّ فَلَمْ يَدْرِ فَلْيَطْرَح الشَّكَّ.
وَفِيهِ الْأَمْرُ بِسَجْدَتَيْنِ قَبْلَ السَّلَامِ.
وَمِن أَصَحِّ أَحَادِيثِ الْبَابِ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي التَّحَرِّي فَإِنَّهُ أَخْرَجَاهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا شَكَّ أَحَدُكمْ فِي صَلَاِتهِ، فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِيُسَلِّمْ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ".
وَقَد تَأَوَّلَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْقَوْلِ عَلَى أَنَّ التَّحَرِّيَ هُوَ طَرْحُ الْمَشْكُوكِ فِيهِ وَالْبِنَاءُ عَلَى الْيَقِينِ وَهَذَا ضَعِيفٌ.
فَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ: الْفَرْقُ بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ، وَبَيْنَ الشَّكِّ مَعَ التَّحَرِّي وَالشَّكِّ مَعَ الْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ .. فَإِنَّ هَذَا مَعَ مَا فِيهِ مِن اسْتِعْمَالِ النُّصُوصِ كُلِّهَا: فِيهِ الْفَرْقُ الْمَعْقُولُ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي نَقْصٍ كَتَرْكِ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ احْتَاجَت الصَّلَاةُ إلَى جَبْرٍ، وَجَابِرُهَا يَكُونُ قَبْلَ السَّلَامِ لِتَتِمَّ بِهِ الصَّلَاةُ، فَإِنَّ السَّلَامَ هُوَ تَحْلِيلٌ مِن الصَّلَاةِ، وَإِذَا كَانَ مِن زِيادَةٍ كَرَكْعَةِ لَمْ يَجْمَعْ فِي الصَّلَاةِ بَيْنَ زِيادَتَيْنِ؛ بَل يَكُونُ السُّجُودُ بَعْدَ السَّلَامِ؛ لِأَنَّهُ إرْغَامٌ لِلشَّيْطَانِ، بِمَنْزِلَةِ صَلَاةٍ مُسْتَقِلَّةٍ جَبَرَ بِهَا نَقْصَ صَلَاتِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جعَلَ السَّجْدَتَيْنِ كَرَكْعَة.
وَكَذَلِكَ إذَا شَكَّ وَتَحَرَّى فَإِنَّهُ أَتَمَّ صَلَاتَهُ، وَإِنَّمَا السَّجْدَتَانِ لِتَرْغِيمِ الشَّيْطَانِ فَيَكونُ بَعْدَ السَّلَامِ.
وَكَذَلِكَ إذَا سَلَّمَ وَقَد بَقِيَ عَلَيْهِ بَعْضُ صَلَاتِهِ ثُمَّ أَكْمَلَهَا فَقَد أَتَمَّهَا، وَالسَّلَامُ مِنْهَا زَيادَةٌ، وَالسُّجُودُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ السَّلَامِ؛ لِأَنَّهُ إرْغَامٌ لِلشَّيْطَانِ.
وَأَمَّا إذَا شَكَّ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ الرَّاجِحُ فَهُنَا: إمَّا أَنْ يَكُونَ صَلَّى أَرْبَعًا أَو خَمْسًا فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا فَالسَّجْدَتَانِ يَشْفَعَانِ لَهُ صَلَاتَهُ، لِيَكُونَ كَأَنَّهُ قَد صَلَّى سِتًّا لَا خَمْسًا، وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ السَّلَامِ.
فَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي نَصَرْنَاهُ هُوَ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِيهِ جَمِيعُ الْأَحَادِيثِ، لَا يُتْرَكُ مِنْهَا حَدِيثٌ مَعَ اسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ فِيمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ، وَإِلْحَاقُ مَا لَيْسَ بِمَنْصُوصِ بِمَا يُشْبِهُهُ مِن الْمَنْصُوصِ.
وَأَمَّا وُجُوبُهُ: فَقَد أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّم لِمُجَرَّدِ الشَّكِّ.
وأَمَرَ بِالسَّجْدَتَيْنِ إذَا زَادَ أَو إذَا نَقَصَ، وَمُرَادُهُ: إذَا زَادَ مَا نُهي عَنْهُ، أَو نَقَصَ مَا أُمرَ بِهِ.
فَفِي هَذَا إيجَابُ السُّجُودِ لِكُلِّ مَا يَتْرُكُ مِمَّا أُمرَ بِهِ إذَا تَرَكَهُ سَاهِيًا، وَلَمْ يَكُن تَرْكُهُ سَاهِيًا مُوجِبًا لِإِعَادَتِهِ بِنَفْسِهِ، وَإِذَا زَادَ مَا نُهي عَنْهُ سَاهِيًا.
فَعَلَى هَذَا: كُلُّ مَأْمُورٍ بِهِ فِي الصَّلَاةِ إذَا تَرَكَهُ سَاهِيًا:
أ - فَإمَّا أَنْ يُعِيدَ إذَا ذَكَرَهُ.
ب - وَإِمَّا أنْ يَسْجُدَ لِلسَّهْوِ.
لَا بُدَّ مِن أَحَدِهِمَا.
فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ فِيهَا كُلُّهَا يَأْمُرُ السَّاهِيَ بِسَجْدَتَي السَّهْوِ وَهُوَ:
أ - لَمَّا سَهَا عَنِ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ سَجَدَهُمَا بِالْمُسْلِمِينَ قَبْلَ السَّلَامِ.
ب - وَلَمَّا سَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ مِن رَكْعَتَيْنِ أَو مِن ثَلَاثٍ صَلَّى مَا بَقِيَ وَسَجَدَهُمَا بِالْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الصَّلَاةِ.
ج - وَلَمَّا أَذْكَرُوهُ أَنَّهُ صَلَّى خَمْسًا سَجَدَهُمَا بَعْدَ السَّلَامِ وَالْكَلَامِ.
وَهَذَا يَقْتَضِي مُدَاوَمَتَهُ عَلَيْهِمَا وَتَوْكِيدَهُمَا، وَأَنَّهُ لَمْ يَدَعْهُمَا فِي السَّهْوِ الْمُقْتَضِي لَهَا قَطُّ، وَهَذِهِ دَلَائِلُ بَيِّنَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى وُجُوبِهِمَا، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.
فَقَد تَبَيَّنَ وُجُوبُ سُجُودِ السَّهْوِ، وَسَبَبُهُ: إمَّا نَقْصٌ وَإِمَّا زِيادَةٌ؛ كَمَا قَالَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ": "إذَا زَادَ أَو نَقَصَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ".
فَالنَّقْصُ: كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ بحينة: لَمَّا تَرَكَ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ سَجَدَ.
وَالزِّيَادَةُ: كَمَا سَجَدَ لَمَّا صَلَّى خَمْسًا.
وَأَمَرَ بِهِ الشَّاكَّ الَّذِي لَا يَدْرِي أَزَادَ أَمْ نَقَصَ.
فَهَذِهِ أَسْبَابُهُ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:
أ - إمَّا الزِّيَادَةُ.
ب - وَإِمَّا النَّقْصُ.
ج - وَإِمَّا الشَّكُّ.
وَقَد تبَيَّنَ أَنَّهُ فِي النَّقْصِ وَالشَّكِّ يَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ، وَفِي الزِّيَادَةِ بَعْدَهُ.
وَإِذَا كَانَ وَاجِبًا فَتَرَكَهُ عَمْدًا أَو سَهْوًا -تَرَكَ الَّذِي قَبْلَ السَّلَامِ أَو بَعْدَهُ- فَفِيهِ أَقْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ:
قِيلَ: إنْ تَرَكَ مَا قَبْلَ السَّلَامِ عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِن تَرَكَة سَهْوًا لَمْ تَبْطُلْ كَالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَغَيْرِهِ مِن الْوَاجِبَاتِ، وَمَا بَعْدَهُ لَا يَبْطُلُ بِحَال.
وَقِيلَ: إنْ تَرَكَ مَا قَبْلَ السَّلَامِ يَبْطُلُ مُطْلَقًا، فَإِنْ تَرَكَهُ سَهْوًا فَذَكَرَ قَرِيبًا سَجَدَ، وَإِن طَالَ الْفَصْلُ أَعَادَ الصَّلَاةَ .. وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ مِن الَّذِي قَبْلَهُ
(1)
،
(1)
هذا ما اختاره الإمام ابن عثيمين رحمه الله فقد سئل عن رجل نسي التشهد الأول فعلم أنه يجب عليه سجود سهو قبل السلام ولكنه نسي وسلم فما الحكم؟
فَإِنَّهُ إذَا كَانَ وَاجِبًا فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يَأْتِ بِهِ سَهْوًا لَمْ تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ مِنْهُ، وَإِن كَانَ لَا يَأْثَمُ؛ كَالصَّلَاةِ نَفْسِهَا إذَا ذَكَرَهَا، فَهَكَذَا مَا يَنْسَاهُ مِن وَاجِبَاتِهَا لَا بُدَّ مِن فِعْلِهِ إذَا ذَكَرَ.
وَأَمَّا الْوَاجِبُ بَعْدَهُ: فَالنِّزَاعُ فِيهِ قَرِيبٌ، فَمَالَ كَثِيرٌ مِمَن قَالَ إنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ: إلَى أَنَّ تَرْكَ هَذَا لَا يُبْطِلُ؛ لأِنَّهُ جَبْرٌ لِلْعِبَادَةِ خَارجٌ عَنْهَا فَلَمْ تَبْطُلْ كَجُبْرَانِ الْحَجِّ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِن هَذَا السُّجُودِ أَو مِن إعَادَةِ الصَّلَاةِ .. ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِتَمَامِ الصَّلَاةِ، فَلَا تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْعَبْدِ إلَّا بِهِ .. وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا قَبْلَ السَّلَامِ وَمَا بَعْدَهُ.
فَإِذَا قِيلَ: إنَّهُ يُفْعَلُ وَإِن طَالَ الْفَصْلُ كَالصَّلَاةِ الْمَنْسِيَّةِ: فَهَذَا مُتَوَجِّةٌ قَوِيٌّ .. فَإِنَّ التَّحْدِيدَ بِطُولِ الْفَصْلِ وَبِغَيْرِهِ غَيْرُ مَضْبُوطٍ بِالشَّرْعِ، وَكَذَلِكَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، وَكَذَلِكَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا قَبْلَ الْحَدَثِ وَبَعْدَهُ؛ بَل عَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَهُمَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ.
فصل
وَمَا شُرِعَ قَبْلَ السَّلَامِ أَو بَعْدَهُ: فَهَل ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ؟ أو الِاسْتِحْبَابِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ:
ذَهَبَ كَثِيرٌ مِن أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ إلَى أَنَّ النِّزَاعَ إنَّمَا هُوَ فِي الِاسْتِحْبَابِ وَأَنَّهُ لَو سَجَدَ لِلْجَمِيعِ قَبْلَ السَّلَامِ أَو بَعْدَهُ: جَازَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَا شَرَعَهُ قَبْلَ السَّلَامِ يَجِبُ فِعْلُهُ قَبْلَهُ وَمَا شَرَعَهُ بَعْدَهُ لَا يُفْعَلُ إلَّا بَعْدَهُ، وَعَلَى هَذَا يَدُلُّ كَلَامُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِن الْأَئِمَّةِ، وَهُوَ
= فأجاب: "إن ذكر في زمن قريب سجد، وإن طال الفصل سقط، مثل أن لا يذكر إلا بعد مدة طويلة، فلو خرج من المسجد فإنه لا يرجع إلى المسجد ويسقط عنه". انتهى. فتاوى ابن عثيمين (14/ 50).
الصَّحِيحُ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في حَدِيثِ طَرْحِ الشَّكِّ قَالَ:"وَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ"
(1)
.
وَفِي حَدِيثِ التَّحَرِّي قَالَ: "فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ ثُمَّ يُسَلِّمَ ثُمَّ يَسْجُدَ سَجْدَتَيْنِ"
(2)
.
فَهَذَا أَمَرَ فِيهِ بِالسَّلَامِ ثُمَّ بِالسُّجُودِ، وَذَاكَ أَمَرَ فِيهِ بِالسُّجُودِ قَبْلَ السَّلَامِ، وَكِلَاهُمَا أَمْرٌ مِنْهُ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ.
وَلَكِنْ مَن سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ مُطْلَقًا أَو بَعْدَ السَّلَامِ مُطْلَقًا فتَأَوِّلًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِن تبَيَّنَ لَهُ فِيمَا بَعْدُ السُّنَّةَ اسْتَأْنَفَ الْعَمَلَ فِيمَا تبَيَّنَ لَهُ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ كُلُّ مَن تَرَكَ وَاجِبًا لَمْ يَعْلَمْ وُجُوبَهُ، فَإِذَا عَلِمَ وُجُوبَهُ فَعَلَهُ وَلَا تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ فِيمَا مَضَى فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ.
وَكَذَلِكَ مَن فَعَلَ مَحْظُورًا فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مَحْظُورٌ ثُمَّ عَلِمَ.
فَصْلٌ
إذَا نَسِيَ السُّجُودَ حَتَّى فَعَلَ مَا يُنَافِي الصَّلَاةَ مِن كَلَامِ وَغَيْرِهِ: فَقَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَينِ" عَن ابْنِ مَسْعُودٍ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ وَالْكَلَامِ.
وَقَد اُخْتُلِفَ فِي السُّجُودِ وَالْبِنَاءِ بَعْدَ طُولِ الْفَصْلِ .. وَعَن أَحْمَد رِوَايَةٌ أَنَّهُ يَسْجُدُ وَإِن خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ وَتَبَاعَدَ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَافِعِيِّ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ؛ فَإِنَّ تَحْدِيدَ ذَلِكَ بِالْمَكَانِ أَو بِزَمَانٍ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرْع، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الزَّمَانُ غَيْرَ مَضْبُوطٍ، فَطُولُ الْفَصْلِ وَقِصَرُهُ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ مَعْرُوفٌ فِي عَادَاتِ النَّاسِ لِيَرْجِعَ إلَيْهِ وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ وَلَمْ يُفَرِّق الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ فِي السُّجُودِ وَالْبِنَاءِ بَيْنَ طُولِ الْفَصْلِ وَقِصَرِهِ، وَلَا بَيْنَ الْخُرُوجِ مِن الْمَسْجِدِ وَالْمُكْثِ فِيهِ.
(1)
رواه مسلم (571) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (401).
فَصلٌ
وَالتَّكْبِيرُ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيم عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالِ:
فَرُوِيَ عَن أَنَسٍ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ: أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا تَشَهُّدٌ وَلَا تَسْلِيمٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ فِيهِمَا تَشَهُّدًا يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ إذَا سَجَدَهُمَا بَعْدَ السَّلَامِ.
وَالثَّالِثُ: فِيهِمَا تَسْلِيمٌ بِغَيْرِ تَشَهُّدٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِين.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: التَّسْلِيمُ فِيهِمَا ثَابِتٌ مِن غَيْرِ وَجْهٍ، وَفِي ثُبُوتِ التَّشَهُّدِ نَظَرٌ.
قُلْت: أَمَّا التَّسْلِيمُ فِيهِمَا فَهُوَ ثَابِتٌ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَحَدِيثِ عِمْرَانَ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَاتَيْنِ وَبَيْنَ سُجُودِ التِّلَاوَةِ: أَنَّ هَاتَيْنِ صَلَاةٌ، وَأَنَّهُمَا سَجْدَتَانِ، وَقَد أُقِيمَتَا مَقَامَ رَكعَةٍ وَجُعِلَتَا جَابِرَتَيْنِ لِنَقْصِ الصَّلَاةِ، فَجُعِلَ لَهُمَا تَحْلِيلٌ كَمَا لَهُمَا تَحْرِيمٌ، وَهَذِهِ هِيَ الصَّلَاةُ، كَمَا قَالَ:"مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التسْلِيمُ"
(1)
.
وَأَمَّا "سُجُودُ التِّلَاوَةِ" فَهُوَ خُضُوعٌ للهِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ يَسْجُدُونَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ.
وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ بِدَاخِل فِي مُسَمَّى الصَّلَاةِ، وَلَكِنْ سَجْدَتَا السّهو
(2)
يُشْبِهَانِ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ، فَإِنَّهَا قِيَامٌ مُجَرَّدٌ، لَكِنْ هِيَ صَلَاةٌ فِيهَا تَحْرِيمٌ وَتَحْلِيلٌ؛ وَلهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَتَطَهَّرُونَ لَهَا.
وَهِيَ كَسَجْدَتَي السَّهْوِ يُشْتَرَطُ لَهَا اسْتِقْبَالُ الْكَعْبَةِ وَالِاصْطِفَافُ، كَمَا فِي
(1)
رواه أبو داود (61، 618)، والترمذي (3)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود (618).
(2)
في الأصل: (السُّجُودِ)، وهو كذلك في جميع النسخ! ولعل الصواب الْمُثبت.
الصَّلَاةِ، وَالْمُؤْتَمّ فِيهِ تبَعٌ لِلْإِمَامِ، لَا يُكَبِّرُ قَبْلَهُ وَلَا يُسَلِّمُ قَبْلَهُ كَمَا فِي الصَّلَاةِ.
بِخِلَافِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ، فَإِنَّهُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ يَسْجُدُ وَإِن لَمْ يَسْجُد الْقَارِئُ.
وَالْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى "إنَّك إمَامُنَا فَلَو سَجَدْت لَسَجَدْنَا": مِن مَرَاسِيلِ عَطَاءٍ وَهُوَ مِن أَضْعَفِ الْمَرَاسِيلِ قَالَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ.
وَمَن قَالَ: إنَّهُ لَا يَسْجُدُ إلَّا إذَا سَجَدَ: لَمْ يَجْعَلْهُ مُوتَمًّا بِهِ مِن كُلِّ وَجْهٍ، فَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَمِعُونَ يَسْجُدُونَ جَمِيعًا صَفًّا كَمَا يَسْجُدُونَ خَلْفَ الْإِمَامِ لِلسَّهْوِ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ إمَامَهُ كَمَا فِي الصَّلَاةِ، وَللْمَأْمُومِ أَنْ يَرْفَعَ قَبْلَ إمَامِهِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُؤتَمّ بِهِ فِي صَلَاةٍ.
وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِن أَقْوَالِهِ أَمْرٌ بِالتَّشَهُّدِ بَعْدَ السُّجُودِ، وَلَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُتَلَقَّاةِ بِالْقَبُولِ أَنَّهُ يَتَشَهَّد بَعْدَ السُّجُودِ. [23/ 5 - 51]
2659 -
وَسُئِلَ رحمه الله: عَن إمَامٍ قَامَ إلَى خَامِسَةٍ فَسَبَّحَ بِهِ فَلَمْ يَلْتَفِتْ لِقَوْلِهِمْ وَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَسْهَ، فَهَل يَقُومُونَ مَعَه أَمْ لَا؟
فَأَجَابَ: إنْ قَامُوا مَعَهُ جَاهِلِينَ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُم، لَكِنْ مَعَ الْعِلْمِ لا يَنْبَغِي لَهُم أَنْ يُتَابِعُوهُ؛ بَل يَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى يُسَلِّمَ بِهِم أَو يُسَلِّمُوا قَبْلَهُ، وَالِانْتِظَارُ أَحْسَنُ
(1)
. [23/ 53]
(1)
بالنسبة للإمام، فإنه إذا جزم بصواب نفسه: لم يلتفت لتنبيه المأمومين وصلاته صحيحة ولا شيء عليه، ولو كان قد زاد ركعة في حقيقة الأمر.
ثم إذا تبين له أنه أخطأ بعد السلام سجد سجدتين للسهو وسلّم.
وبالنسبة للمأموم: فإنه إذا علم بأن إمامه قام لركعة زائدة، وجب عليه تنبيهه، فإن لم يرجع لم يجز له متابعته، بل كما قال الشيخ:"يَنْتَظِرُه حَتَّى يُسَلِّمَ بِهِم أَو يُسَلِّم قَبْلَهُ، وَالِانْتِظَارُ أَحْسَنُ".
والشيخ لم يُؤكد على المأموم العالم بزيادة ركعة الإمام بالمفارقة، بل قال:"لا يَنْبَغِي لَهُم أَنْ يُتَابِعُوه"، والمعروف عند أهل العلم تحريم المتابعة.
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: إذا صلى الإمام خمسًا سهوًا فما حكم صلاته وصلاة من خلفه؟ وهل يعتدّ المسبوق بتلك الركعة الزائدة؟ =
2660 -
الوسواس إذا قلَّ لم يبطل الصلاة بالاتفاق، لكن ينقصها.
وأما الوسواس إذا غلب فقد قيل يبطل، قال عمر رضي الله عنه: إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة، وليس من تفكر بالواجب مثل من تفكر بالفضول فعمر رضي الله عنه كان أمير الجيش وهو مأمور بالصلاة والجهاد معًا، فلو قُدِّر أنه نقص شيء من الصلاة لأجل الجهاد لم يقدح في كمال إيمانه، فلهذا خففت صلاة الخوف، فكان بمنزلة من يصلي صلاة الخوف، ولا شك أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم حال الخوف كانت ناقصة عن صلاته حال أمنه في الأفعال الظاهرة، فإذا كان قد عفي عن الأفعال الظاهرة فكيف بالباطنة؟ وقال تعالى:{فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [النساء: 103] وإقامتها حال الأمن لا يؤمر به حال الخوف. [المستدرك 3/ 102 - 103]
2661 -
قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي "الْحَدِيثِ الصَّحِيح" حَدِيثِ الشَّكِّ: "إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فَلَمْ يَدْرِ ثَلَاًثا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَطْرَح الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ ثُمَّ لِيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، فَإِنْ صَلَّى خَمْسًا شَفَعَتَا لَهُ صَلَاَتهُ، وَإِلَّا كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ". وَفِي لَفْظٍ: "وَإِن كَانَت صَلَاتُهُ تَمَامًا كَانَتَا تَرْغِيمًا".
فَجَعَلَهُمَا كَالرَّكْعَةِ السَّادِسَةِ الَّتِي تَشْفَعُ الْخَامِسَةَ الْمَزِيدَةَ سَهْوًا.
= فأجاب: "إذا صلى الإمام خمسًا سهوًا فإن صلاته صحيحة، وصلاة من اتبعه في ذلك ساهيًا أو جاهلًا صحيحة أيضًا.
وأما من علم بالزيادة، فإنه إذا قام الإمام إلى الزائدة وجب عليه أن يجلس ويسلم؛ لأنه في هذه الحالة يعتقد أن صلاة إمامه باطلة، إلا إذا كان يخشى أن إمامه قام إلى الزائدة؛ لأنه أخلَّ بقراءة الفاتحة - مثلًا - في إحدى الركعات فحينئذٍ ينتظر ولا يسلم.
وأما بالنسبة للمسبوق الذي دخل مع الإمام في الثانية فما بعدها فإن هذه الركعة الزائدة ثُحسب له، فإذا دخل مع الإمام في الثانية مثلًا سلم مع الإمام الذي زاد ركعة، وإن دخل في الثالثة أتى بركعة بعد سلام الإمام من الزائدة، وذلك لأننا لو قلنا بأن المسبوق لا يعتد بالزائدة للزم من ذلك أن يزيد ركعة عمدًا، وهذا موجب لبطلان الصلاة، أما الإمام فهو معذور بالزيادة؛ لأنه كان ناسيًا فلا تبطل صلاته". اهـ. مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين (14/ 19).
وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يُؤْجَرُ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّهَا مِن تَمَامِ الْمَكْتُوبَةِ وَفَعَلَهَا تَقَرُّبًا إلَى اللهِ وَإِن كَانَ مُخْطِئًا فِي هَذَا الِاعْتِقَادِ.
وَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَن فَعَلَ مَا يَعْتَقِدُهُ قُرْبَةً بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ إنْ كَانَ مُخْطِئًا فِي ذَلِكَ: أَنَّهُ يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِن كَانَ لَهُ عِلْمٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ. [21/ 291 - 292]
* * *
(بَاب صَلَاةِ التَّطَوُّعِ)
(1)
2662 -
نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَ تَطَوُّعِ الْبَدَنِ الصَّلَاةُ. [23/ 57]
2663 -
الْمَرِيضُ إذَا عَجَزَ عَن إيمَائِهِ أَتَى مِنْهُ بِقَدْرِ الْمُمْكِنِ وَهُوَ الْإِيمَاءُ بِرَأْسِهِ وَهُوَ سُجُود مِثْلِهِ، وَلَو عَجَزَ عَنِ الْإِيمَاءِ بِرأْسِهِ؟ فَفِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَن أَحْمَد:
(1)
ذكر الجامع دعاء ختم القرآن المنسوب لشيخ الإسلام، ولكن النسبة إليه أنكرها بعضُ أهل العلم، قال العلَّامة الألباني رحمه الله في السلسلة الضعيفة عند كلامه على الحديث رقم (6135): إن الدعاء المطبوع في آخر بعض المصاحف المطبوعة في تركيا وغيرها، تحت عنوان:(دعاء ختم القرآن) والذي ينسب لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فهو مما لا نعلم له أصلًا عن ابن تيمية أو غيره من علماء الإسلام. اهـ.
وقال العلَّامة ابن عثيمين في مجموع الفتاوى (14/ 226): أما الدعاء المنسوب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فلا أظنه يصح عنه؛ لأنه لم يذكر في مصنفاته. اهـ.
وقال: الصواب أن القنوت يكون في الوتر خاصة، ويكون أيضًا في الفرائض إذا نزلت بالمسلمين نازلة، لكن القنوت في النوازل ليس هو دعاء القنوت في الوتر، بل القنوت في النوازل أن تدعو الله تعالى بما يناسب تلك النازلة.
وأما دعاء ختم القرآن في الصلاة فلا أعلم له أصلًا لا من سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا من سُنَّة الصحابة، وغاية ما فيه: أن أنس بن مالك رضي الله عنه كان إذا أراد أن يختم القرآن جمع أهله ودعا. وهذا في غير الصلاة، أما في الصلاة فليس لها أصل، لكن مع ذلك هي مما اختلف فيه العلماء رحمهم الله، علماء السُّنَّة وليسوا علماء البدعة، والأمر في هذا واسع؛ يعني: لا ينبغي للإنسان أن يشدد حتى يخرج عن المسجد ويفارق جماعة المسلمين من أجل الدعاء عند ختم القرآن، وإذا وكل الأمر إليه فلا يدعو في الصلاة عند ختم القرآن. اهـ. لقاءات الباب المفتوح (108/ 38) من المكتبة الشاملة.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُومِئُ بِطَرَفِهِ، فَجَعَلُوا إيمَاءَهُ بِطَرَفِهِ هُوَ رُكوعَهُ وَسُجُودَهُ فَلَمْ يُسْقِطُوهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَسْقُطُ الصَّلَاةُ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَلَا تَصِحُّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ فِي الدَّلِيلِ
(1)
. [23/ 72]
2664 -
تَنَازَعَ النَّاسُ
(2)
: أَيُّمَا أَفْضَلُ: كَثْرَة الرُّكُوع وَالسُّجُودِ
(3)
أَو طُولُ الْقِيَامِ؟
(4)
.
نَقُولُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَهَا صُورَتَانِ:
إحْدَاهُمَا: أَنْ يُطِيلَ الْقِيَامَ مَعَ تَخْفِيفِ الرَّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَيُقَالُ أَيُّمَا أَفْضَلُ هَذَا، أَمْ تَكْثِيرُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَعَ تَخْفِيفِ الْقِيَامِ؟ وَيَكُونُ هَذَا قَد عَدَلَ بَيْنَ الْقِيَامِ وَبَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَخَفَّفَ الْجَمِيعَ.
وَالصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُطِيلَ الْقِيَامَ، فَيُطِيلَ مَعَهُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، فَيُقَالُ: أَيُّمَا أَفْضَلُ هَذَا، أَمْ أَنْ يُكْثِرَ مِن الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِيَامِ؟
وَهَذَا قَد عَدَلَ بَيْنَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي النَّوْعَيْنِ، لَكِنْ أَيُّمَا أَفْضَلُ: تَطْوِيلُ الصَّلَاةِ قِيَامًا وَرُكُوعًا وَسُجُودًا أَمْ تَكْثِيرُ ذَلِكَ مَعَ تَخْفِيفِهَا؟
الصَّوَابُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الصُّورَةَ الْأُولَى - تَقْلِيلُ الصَّلَاةِ مَعَ كَثْرَةِ الرُّكُوعِ
(1)
وقد خالف العلَّامة ابن عثيمين في هذا وقال: الرَّاجح أنه تسقطُ عنه الأفعالُ فقط؛ لأنها هي التي كان عاجزًا عنها، وأما الأقوالُ فإنَّها لا تسقط عنه؛ لأنه قادرٌ عليها، وقد قال الله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} .
فإن عَجَزَ عن القولِ والفعلِ بحيث يكون الرَّجُلُ مشلولًا ولا يتكلَّم، فماذا يصنع؟
الجواب: تسقط عنه الأقوالُ والأفعالُ، وتبقى النِّيةُ، فينوي أنَّه في صلاةٍ، وينوي القراءةَ، وينوي الركوعَ والسجودَ والقيامَ والقعودَ. اهـ. الشرح الممتع (4/ 332).
وهذا أرجح وأقرب، فالصلاة لا تسقط عن المكلف بحال، ما دام معه وعيُه.
(2)
هذا البحث القيِّم مما كتبه في سجن القلعة.
(3)
وذلك بتكثير عدد ركعات الصلاة، ويلزم منه تخفيف القيام.
(4)
وذلك بتقليل عدد ركعات الصلاة، ويلزم منه إطالة القيام.
وَالسُّجُودِ وَتَخْفِيفُ الْقِيَامِ - أَفْضَلُ مِن تَطْوِيلِ الْقِيَامِ وَحْدَهُ مَعَ تَخْفِيفِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.
والنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ أَنَّ طُولَ الْقُنُوتِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ
(1)
، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْقُنُوتَ فِي حَالِ السُّجُودِ وَحَالِ الْقِيَامِ
(2)
.
وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، وَهو أَنَّ
(3)
تَطْوِيلَ الصَّلَاةِ قِيَامًا وَرُكُوعًا وَسُجُودًا أَوْلَى مِن تَكْثِيرِهَا قِيَامًا وَرُكُوغا وَسُجُودًا؛ لِأَنَّ طُولَ الْقُنُوتِ يَحْصُلُ بِتَطْوِيلِهَا لَا بِتَكْثِيرِهَا.
وَأَمَّا تَفْضِيلُ طُولِ الْقِيَامِ مَعَ تَخْفِيفِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَلَى تَكْثِيرِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَغَلَطٌ
(4)
؛ فَإِنَّ جِنْسَ السُّجُودِ أَفْضَلُ مِن جِنْسِ الْقِيَامِ مِن وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ لَا بُدَّ فِيهَا مِن السُّجُودِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ صَلَاةٍ فِيهَا رُكُوعٌ لَا بُدَّ فِيهَا مِن سُجُودٍ، لَا يَسْقُطُ السُّجُودُ فِيهَا بِحَالٍ مِن الْأَحْوَالِ فَهُوَ عِمَادُ الصَّلَاةِ.
وَأَمَّا الْقِيَامُ فَيَسْقُطُ فِي التَّطَوَّعِ دَائِمًا، وَفِي الصَّلَاةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ، وَكَذَلِكَ يَسْقُطُ الْقِيَامُ فِي الْفَرْضِ عَن الْمَرِيضِ وَكَذَلِكَ الْمَأْمُومُ إذَا صَلَّى إمَامُهُ جَالِسًا.
وَلهَذَا قَالُوا: مَا كَانَ عِبَادَةً بنَفْسِهِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى رُكْنٍ قَوْلِيٍّ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَمَا لَمْ يَكن عِبَادَةً بِنَفْسِهِ احْتَاجَ إلَى رُكْنٍ قَوْلِيٍّ كَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ.
(1)
روى مسلم (756)، عَن جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ".
(2)
وفيه ردّ على قول النووي رحمه الله: الْمُرَادُ بِالْقُنُوتِ هُنَا الْقِيَامُ بِاتِّفَاقِ العلماء فيما عَلِمْتُ. اهـ. شرح النووي لصحيح مسلم (6/ 36).
(3)
في الأصل: "وَأَنَّ"، ولعل المثبت أوضح وأصوب.
(4)
وهذا يفعله كثيرٌ من الأئمة في رمضان، فهم يُطيلون القيام ليختموا القرآن، لكنهم يخففون الركوع والسجود والاعتدال منهما.
وَإِذَا كَانَ السُّجُود عِبَادَةً بِنَفْسِهِ عُلِمَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِن الْقِيَامِ
(1)
.
وَقَد ثَبَتَ فِي "الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ" عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِن رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ"
(2)
وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهُ فِي حَالِ السُّجُودِ أَقْرَبُ إلَى اللهِ مِنْة فِي غَيْرِهِ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي فَضِيلَةِ السُّجُودِ عَلَى غَيْرِهِ.
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَطْوِيلَ الصَّلَاةِ قِيَامِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا أَفْضَلُ مِن تَكْثِيرِ ذَلِكَ مَعَ تَخْفِيفِهِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ.
فَإِنَّهُ لَمَّا صَلَّى الْكسُوفَ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَشْرَ رَكَعَاتٍ أَو عِشْرِينَ رَكْعَة يُكْثِرُ فِيهَا قِيَامَهَا وَسُجُودَهَا فَلَمْ يَفْعَلْ؛ بَل صَلَّى رَكْعَتَيْنِ أَطَالَ فِيهِمَا الْقِيَامَ وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، وَجَعَلَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قِيَامَيْنِ وَرُكُوعَيْنِ.
وَعَلَى هَذَا: فَكَثْرَةُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَفْضَلُ مِن طُولِ الْقِيَامِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ تَطْوِيلُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.
وَأَمَّا إذَا أَطَالَ الْقِيَامَ وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ: فَهَذَا أَفْضَلُ مِن إطَالَةِ الْقِيَامِ فَقَطْ، وَأَفْضَلُ مِن تَكْثِيرِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِيَامِ بِقَدْرِ ذَلِكَ
(3)
. [23/ 69 - 82]
(1)
ولهذا يرى الشيخ جواز السجود المطلق لله تعالى، كان يدعو الله وهو ساجد بلا صلاة. فقد ذكر أن العلماء اختلفوا في السجود المطلق هل هو مشروع أم لا؟ ومال إلى المول بمشروعيته، وأنه كالتسبيح والذكر يشرع خارج الصلاة أيضًا. يُنظر إلى كلامه في (21/ 285).
وقد ذكر الشيخ أن جنس السجود أفضل من جنس القيام من اثني عشر وجهًا، اقتصرتُ على بعضِها.
(2)
رواه مسلم (482).
(3)
خلاصة كلام شيخ الإسلام في أَيّهُمَا أَفْضَلُ: كَثْرَةُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مع تخفيف القراءة، أَو طُولُ الْقِيَامِ مع تقليل عدد الركعات؟
1 -
أَنَّ تَطْوِيلَ الصَّلَاةِ قِيَامِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا مع تقليل عدد الركعات: أَفْضَلُ مِن تَكْثِيرِ ذَلِكَ مَعَ تَخْفِيفِهِا.
2 -
أنّ كَثْرَةَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ -وذلك بتكثير عدد الركعات- وَتَخْفِيفَ الْقِيَامِ: أَفْضَلُ مِن طُولِ الْقِيَامِ الَّذِي فِيهِ تَخفيف الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. =
2665 -
تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ: أَيُّمَا أَفْضَلُ: إطَالَةُ الْقِيَامِ، أَمْ تَكْثِيرُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، أَمْ هُمَا سَوَاءٌ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ السُّجُودَ فِي نَفْسِهِ أَفْضَلُ مِنَ الْقِيَامِ، وَلَكِنَّ ذِكْرَ الْقِيَامِ أَفْضَلُ وَهُوَ الْقِرَاءَةُ.
وَتَحْقِيقُ الْأَمْرِ: أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي الصَّلَاةِ أَنْ تَكُونَ مُعْتَدِلَةً، فَإِذَا أَطَالَ الْقِيَامَ يُطِيلُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِاللَّيْلِ كَمَا رَوَاهُ حُذَيْفَةُ وَغَيْرُهُ.
فَإِنْ فَضَّلَ مُفَضِّلٌ إطَالَةَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجودِ مَعَ تَقْلِيلِ الرَّكَعَاتِ، وَتَخْفِيفَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَعَ تَكْثِيرِ الرَّكَعَاتِ: فَهَذَانِ مُتَقَارِبَانِ. [23/ 114 - 115]
2666 -
الْوِتْرُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَن أَصَرَّ عَلَى تَرْكِهِ فَإِنَّهُ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ.
وَالْوِتْرُ أَوْكَدُ مِن سُنَّةِ الظُّهْرِ وَالْمَغْرِب وَالْعِشَاءِ، وَالْوِتْرُ أَفْضَلُ مِن جَمِيعِ تَطَوُّعَاتِ النَّهَارِ كَصَلَاةِ الضُّحَى؛ بَل أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ: قِيَامُ اللَّيْلِ، وَأَوْكَدُ ذَلِكَ الْوِتْرُ وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ. [23/ 88]
2667 -
وَسُئِلَ: عَمَّن نَامَ عَن صَلَاةِ الْوِتْرِ؟
= 3 - أنّه إذَا أَطَالَ الْقِيَامَ وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ - بحيث تكون الصلاةُ مُعتدلة مُتقاربة -: فَهَذَا أَفْضَلُ مِن إطَالَةِ الْقِيَامِ فَقَطْ وتخفيف الرُّكُوع وَالسُّجُود.
بل وَأَفْضَلُ مِن تَكْثِيرِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِيَامِ بِقَدْرِ ذَلِكَ.
فمثلًا: لو كان يُصلي إحدى عشرة ركعة، ويقرأ كل ركعة وجهين، ويُطيل في الركوع والسجود، فهذا أفضل الصور جميعًا، بل وأفضل من الزيادة على الإحدى عشرة إذا كان زمن صلاتِه بقدر ما كان يُصلي الإحدى عشرة.
فلو كان يصلي إحدى عشرة ركعة في ساعة واحدة، ويُطيل فيها الركوع والسجود والقراءة، فهو أفضل مِن صلاته ثلاثًا وعشرين ركعة في ساعة واحدة، بحيث يُخفّف فيها الركوع والسجود والقراءة.
فَأَجَابَ: يُصَلِّي مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الصُّبْحِ كمَا فَعَلَ ذَلِكَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ وَغَيْرُهُمَا
(1)
.
وَاخْتَلَفَت الرِّوَايَةُ عَن أَحْمَد هَل يَقْضِي شَفْعَهُ مَعَهُ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَقْضِي شَفْعَهُ مَعَهُ
(2)
.
وَقَد صَحَّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَن نَامَ عَن صَلَاةٍ أَو نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا".
(1)
اختلف العلماء في الوتر بعد الفجر ما لم يُصَلّ الصبح، فقيل: إذا طلع الفجر خرج وقت الوتر، ولا يصلي الوتر بعد ذلك إلا شفعًا، وبه قال الثوري وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه.
واسْتدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة".
وقال آخرون: وقت الوتر ما بين صلاة العشاء إلى صلاة الفجر، وبه قال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل.
وممن أوتر بعد الفجر عبادةُ بن الصامت وابن عباس وأبو الدرداء وحذيفة وابن مسعود وعائشة، روي ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهم.
قال ابن عبد البر رحمه الله: وهو الصواب عندي؛ لأني لا أعلم لهؤلاء الصحابة مخالفًا من الصحابة.
فَدَلّ إجماعهم على أن معنى الحديث في مراعاة طلوع الفجر أريد ما لم تُصَلِّ صلاة الفجر. اهـ. الاستذكار (2/ 122).
وقال النووي في شرح المهذب: قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر وقت للوتر، ثم حكى عن جماعة من السلف أنهم قالوا: يمتد وقته إلى أن يصلي الصبح، وعن جماعة أنهم قالوا يفوت لطلوع الفجر. انتهى.
ورجح العلّامة ابن عثيمين رحمه الله أنّ الوتر ينتهي بطلوع الفجر، وقال: وأما ما يُروى عن بعضِ السَّلفِ؛ أنَّه كان يُوتِرُ بين أذانِ الفَجرِ، وإقامةِ الفَجرِ فإنَّه عَمَلٌ مُخالفٌ لما تقتضيه السُّنَّة، ولا حُجَّةَ في قولِ أحدٍ بعد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
فالوِتْرُ ينتهي بطُلوعِ الفَجرِ، فإذا طَلَعَ الفجرُ وأنت لم تُؤتِرْ؛ فلا تُوتِر، لكن ماذا تصنعُ؟ الجواب: تُصلِّي في الضُّحى وِترًا مشفوعًا بركعة، فإذا كان مِن عادتك أن توتر بثلاث صلَّيتَ أربعًا، وإذا كان مِن عادتك أن توتر بخمس فصلِّ ستًا. اهـ. الشرح الممتع (4/ 13).
والذي يترجح لي أنه لا يُشْرع للمسلم تعمُّد تأخير الوتر ليصليه بعد الأذان الثاني للصبح؛ لأنه ليس وقتًا له، ولكن من فاته الوتر فإنه يشرع له قضاؤه، وقضاؤه قبل صلاة الصبح أولى؛ لوروده عن كثير من الصحابة والسلف الصالح، ولا يُعلم مَن خالفهم، ولأنه وقتٌ للوتر عند بعض العلماء.
(2)
فيصلي الركعتين وهما الشفع، مع الوتر وهو الركعة الواحدة.
وَهَذَا يَعُمُّ الْفَرْضَ وَقِيَامَ اللَّيْلِ وَالْوِتْرَ وَالسُّنَنَ الرَّاتِبَةَ
(1)
.
وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ: إنَّ الْوِتْرَ لَا يُقْضَى وَهُوَ رِوَايَةٌ عَن أَحْمَد.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْوِتْرَ يُقْضَى قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَإِنَّهُ إذَا صُلِّيَتْ لَمْ يَبْقَ فِي قَضَائِهِ الْفَائِدَةَ الَّتِي شُرعَ لَهَا. [23/ 89 - 91]
2668 -
الْمَأْثُورُ عَنِ السَّلَفِ أَنَّهُم إذَا نَامُوا عَنِ الْوِتْرِ كَانُوا يُوتِرُونَ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَلَا يُؤَخِّرُونَهُ إلَى مَا بَعْدَ الصَّلَاةِ. [17/ 473]
2669 -
لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلَّى بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ إحْدَى عَشْرَةَ؛ بَل وَلَا نَقَلَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ أَنَّهُ خَصَّ مَا بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ بِصَلَاةٍ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} [المزمل: 6] عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ هُوَ إذَا قَامَ الرَّجُلُ بَعْدَ نَوْمٍ، لَيْسَ هُوَ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ؛ لِأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هَكَذَا كَانَ يُصَلِّي، وَالْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْهُ، كَانَ يَقُومُ بَعْدَ النَّوْمِ، لَمْ يَكُن يَقُومُ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ
(2)
. [17/ 474]
(1)
ظاهر الحديث أن من فاته الوتر بسبب نوم أو نسيان أنه يُصليه إذا استيقظ أو ذكره أداءً لا قضاءً، وهذا هو ظاهر رأي الشيخ في استدلاله بالحديث.
قال العلَّامة الصنعاني: والقياس أنه أداء كما عرفت فيمن نام عن الفريضة أو نسيها. سبل السلام (2/ 18).
(2)
لكن ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى ما بين المغرب والعشاء، فقد روى الإمام أحمد (22926)،
عَن حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: "جِئْتُ النبي صلى الله عليه وسلم فَصَلَّيْتُ مَعَهُ الْمَغْرِبَ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَامَ يُصَلِّي،
فَلَمْ يَزَلْ يُصَلِّي حَتَّى صَلَّى الْعِشَاءَ"، صحَّحه الألباني في إرواء الغليل (470).
وكذلك ثبت عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يصلون ما بين المغرب والعشاء، فقد روى أبو داود (1321)، عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه فِي هَذ الْآيَةِ:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)} [السجدة: 16] قَالَ: كَانُوا يَتَيَقَّظُونَ - وفي رواية: يَتَنَفَّلُونَ- مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ يُصَلُّونَ. وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: قِيَامُ اللَّيْلِ.
صحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.
قال الشوكاني رحمه الله: "والآيات والأحاديث المذكورة في الباب تدل على مشروعية الاستكثار من الصلاة ما بين المغرب والعشاء، والأحاديث وإن كان أكثرها ضعيفًا فهي منتهضة بمجموعها، لا سيما في فضائل الأعمال". نيل الأوطار (3/ 68).
2670 -
الْأَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْوِتْرِ رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ غَيْرَ رَكْعَتَي الْفَجْرِ.
فَإِذَا كَانَت الْمَغْرِبُ وِتْرَ النَّهَارِ: فَقَد كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بَعْدَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ وَلَمْ يَخْرُج الْمَغْرِبُ بِذَلِكَ عَن أَنْ يَكُونَ وِتْرًا؛ لِأَنَّ تِلْكَ الرَّكْعَتَيْنِ هُمَا تَكْمِيلُ الْفَرْضِ وَجَبْرٌ لِمَا يَحْصُلُ مِنْهُ مِن سَهْوٍ وَنَقْصٍ.
فَكَذَلِكَ وِتْرُ اللَّيْلِ جَبَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهُ.
وَإِنْ
(1)
كَانَ يُصَلِّيهِمَا جَالِسًا؛ لِأنَّ وِتْرَ اللَّيْلِ دُونَ وِتْرِ النَّهَارِ، فَيَنْقُصُ عَنْهُ فِي الصِّفَةِ. [23/ 96 - 98]
2671 -
إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِن الْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّات الرَّاتِبَةِ يَسْقُط بِالْعُذْرِ الْعَارِضِ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لَا وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا، كَمَا سَقَطَ بِالسَّفَرِ وَالْمَرَضِ وَالْخَوْفِ كَثِيرٌ مِن الْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّات.
وَكَذَلِكَ أَيْضًا: قَد يَجِبُ أَو يُسْتَحَبُّ لِلْأَسْبَابِ الْعَارِضَةِ مَا لَا يَكُونُ وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا رَاتِبًا؛ فَالْعِبَادَاتُ فِي ثُبُوتِهَا وَسُقُوطِهَا تَنْقَسِمُ إلَى:
أ - رَاتِبَةٍ.
ب - وَعَارِضَةٍ.
وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ ثُبُوتُ الْوُجُوبِ أَو الِاسْتِحْبَابُ أَو سُقُوطُهُ.
وَإِنَّمَا تَغْلَطُ الْأَذْهَانُ مِن حَيْثُ تَجْعَلُ الْعَارِضَ رَاتِبًا، أَو تَجْعَلُ الرَّاتِبَ لَا يَتَغَيَّرُ بِحَال.
وَمَن اهْتَدَى لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْمَشْرُوعَاتِ الرَّاتِبَةِ وَالْعَارِضَةِ: انْحَلَّتْ عَنْهُ هَذِهِ الْمُشْكلَاتُ كَثِيرًا. [23/ 103 - 104]
2672 -
تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي الْقُنُوتِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
(1)
لعله: وإنما؛ ليستقيم المعنى.
أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَنْسُوخٌ فَلَا يُشْرَعُ بِحَالٍ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَنَتَ ثُمَّ تَرَكَ وَالتَّرْكُ نَسْخٌ لِلْفِعْلِ.
وَالثَّانِي: أَنَ الْقُنُوتَ مَشْرُوعٌ دَائِمًا وَأَنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ سُنَّةٌ وَأنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِي الْفَجْرِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَنَتَ لِسَبَب نَزَلَ بِهِ ثُمَّ تَرَكَهُ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ السَّبَبِ النَّازِلِ بِهِ، فَيَكُونُ الْقُنُوتُ مَسْنُونًا عِنْدَ النَّوَازِلِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ فُقَهَاءُ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَن الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ رضي الله عنهم.
فَسُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَخلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ تَدُلُّ عَلَى شَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ دُعَاءَ الْقُنُوتِ مَشْرُوعٌ عِنْدَ السَّبَبِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ، لَيْسَ بِسُنَّة دَائِمَةٍ فِي الصَّلَاةِ.
الثَّانِي: أَنَّ الدُّعَاءَ فِيهِ لَيْسَ دُعَاءً رَاتِبًا؛ بَل يَدْعُو فِي كُلِّ قُنُوتٍ بِالَّذِي يُنَاسِبُهُ.
وَهَذَا النِّزَاعُ الَّذِي وَقَعَ فِي الْقُنُوتِ لَهُ نَظَائِرُ كَثِيرةٌ فِي الشَّرِيعَةِ: فَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِسَبَب، فَيَجْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ سُنَّةً، وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ السُّنَّةِ الدَّائِمَةِ وَالْعَارِضَةِ.
وَبَعْضُ النَّاسِ يَرَى أَنَّهُ لَمْ يَكُن يَفْعَلُهُ فِي أَغْلَبِ الْأَوْقَاتِ فَيَرَاهُ بِدْعَةً، ويجْعَلُ فِعْلَهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ مَخْصُوصًا أَو مَنْسُوخًا إنْ كَانَ قَد بَلَغَهُ ذَلِكَ؛ مِثْلُ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فِي جَمَاعَةٍ، فَإِنَّهُ قَد ثَبَتَ عَنْهُ فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّهُ صَلَّى بِاللَّيْلِ وَخَلْفَهُ ابْنُ عَئاسٍ مَرَّةً، وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ مَرَّةً، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمَا.
فَمِن النَّاسِ مَن يَجْعَلُ هَذَا فِيمَا يُحْدثُ مِن "صَلَاةِ الْأَلْفِيَّةِ" لَيْلَةَ نِصْفِ شَعْبَانَ، وَالرَّغَائِبِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا يُدَاوِمُونَ فِيهِ عَلَى الْجَمَاعَاتِ.
وَمِن النَّاسِ مَن يَكْرَهُ التَّطَوُّعَ؛ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ إنَّمَا سُنَّتْ فِي
الْخَمْسِ
(1)
، كَمَا أَنَّ الْأَذَانَ إنَّمَا سُنَّ فِي الْخَمْسِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّوَابَ هُوَ مَا جَاءَت بِهِ السُّنَّةُ فَلَا يُكْرَهُ أَنْ يَتَطَوَّعَ فِي جَمَاعَةٍ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا يَجْعَلُ ذَلِكَ سُنَةً رَاتِبَةً؛ كَمَن يُقِيمُ لِلْمَسْجِدِ إمَامًا رَاتِبًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ أَو فِي جَوْفِ اللَّيْلِ
(2)
كَمَا يُصَلِّي بِهِم الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ.
وَيُشْبِهُ ذَلِكَ مِن بَعْضِ الْوُجُوهِ تَنَازُعُ الْعُلَمَاءِ فِي مِقْدَارِ الْقِيَامِ فِي رَمَضَانَ، فَإِنَّهُ قَد ثَبَتَ أَنَّ أبي بْنَ كَعْب كَانَ يَقُومُ بِالنَّاسِ عِشْرِينَ رَكْعَةً فِي قِيَامِ رَمَضَانَ وُيوتِرُ بِثَلَاثِ، فَرَأَى كَثِيرٌ مِن الْعُلَمَاءِ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ السُّنَّةُ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَهُ بَيْن الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ.
وَاسْتَحَبَّ آخَرُونَ: تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْقَدِيمِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: قَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" عَن عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُن يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا غَيْرِهِ عَلَى ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً.
وَاضْطَرَبَ قَوْمٌ فِي هَذَا الْأَصْلِ لِمَا ظَنُّوهُ مِن مُعَارَضَةِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِمَا ثَبَتَ مِن سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَعَمَلِ الْمُسْلِمِينَ.
وَالصَّوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ جَمِيعَهُ حَسَنٌ؛ كَمَا قَد نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَد رضي الله عنه، وَأَنَّهُ لَا يتوقت فِي قِيَامِ رَمَضَانَ عَدَدٌ، فَإنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُوَقِّتْ فِيهَا عَدَدًا.
وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ تَكْثِيرُ الرَّكَعَاتِ وَتَقْلِيلُهَا بِحَسَبِ طُولِ الْقِيَامِ وَقِصَرِهِ.
فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُطِيلُ الْقِيَامَ بِاللَّيْلِ، حَتَّى إنَّهُ قَد ثَبَتَ عَنْهُ فِي
(1)
أي: الصلوات الخمس.
(2)
في غير رمضان، حيث ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى التراويح في رمضان جماعة، ولم يُدوِام عليها خوفًا من أن تُفرض عليهم، وكذلك صلاها الصحابة جماعة راتبة.
"الصَّحِيحِ" مِن حَدِيثِ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ بِالْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَآلِ عِمْرَانَ، فَكَانَ طُولُ الْقِيَامِ يُغْنِي عَن تَكْثِيرِ الرَّكَعَاتِ.
وأبيُّ بْنُ كَعْبٍ لَمَّا قَامَ بِهِم وَهُم جَمَاعَةٌ وَاحِدَةٌ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُطِيلَ بِهِم الْقِيَامَ، فَكَثَّرَ الرَّكَعَاتِ لِيَكُونَ ذَلِكَ عِوَضًا عَن طُولِ الْقِيَامِ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ ضِعْفَ عَدَدِ رَكَعَاتِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُومُ بِاللَّيْلِ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً أَو ثَلَاثَ عَشْرَة، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ النَّاسُ بِالْمَدِينَةِ ضَعُفُوا عَن طُولِ الْقِيَامِ فَكَثَّرُوا الرَّكَعَاتِ حَتَّى بَلَغَتْ تِسْعًا وَثَلَاثِينَ
(1)
. [23/ 105 - 113]
2673 -
السُّنَّةُ فِي التَّرَاوِيحِ أَنْ تُصَلَّى بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ كَمَا اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ
(2)
. [23/ 119]
2674 -
تَطْوِيلُ آخِرِ قِيَامِ اللَّيْلِ عَلَى أَوَّلهِ: خِلَافُ السُّنَّةِ، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُطَوِّلُ أَوَائِلَ مَا كَانَ يُصَلِّيهِ مِن الرَّكَعَاتِ عَلَى أَوَاخِرِهَا
(3)
. [23/ 121]
2675 -
ثَبَتَ عَنْهُ فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّهُ قَالَ: "بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ، بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: لِمَن شَاءَ"
(4)
؛ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّة.
فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الصَّلَاةَ قَبْلَ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ حَسَنَةٌ وَلَيْسَتْ بِسُنَّةٍ، فَمَن أَحَبَّ أَنْ يُصَلِّيَ قَبْلَ الْعَصْرِ كَمَا يُصَلِّي قَبْلَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَحَسَنٌ.
وَأَمَّا أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ كَانَ يُصَلِّيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا يُصَلِّي قَبْلَ
(1)
وتقدم أنّ الشيخ يختار طول القيام والركوع والسجود على كثرة الركوع والسجود مع التخفيف.
(2)
حتى في العشر الأواخر من رمضان، وهذا بخلاف ما عليه واقع كثير من المسلمين، حيث يصلون بعض الركعات في أوّل الليل، ويُكملون البقيّة في آخره.
(3)
وواقع كثير من المسلمين على خلاف هذا، حيث يُطيلون الصلاة في آخر الليل، ويخفّفون الصلاة في أوّله في العشر الأواخر من رمضان.
(4)
رواه البخاري (627)، ومسلم (838).
الظُّهْرِ وَبَعْدَهَا وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ: فَهَذَا خَطَأٌ
(1)
. [23/ 125]
2676 -
الصَّلَاة مَعَ الْمَكْتُوبَةِ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ:
إحْدَاهَا: سُنَّةُ الْفَجْرِ وَالْوِتْرِ، فَهَاتَانِ أَمَرَ بِهِمَا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَأْمُرْ بِغَيْرِهِمَا، وَهُمَا سُنَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّيهِمَا فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، وَلَمْ يَجْعَلْ مَالِكٌ سُنَّةً رَاتِبَةً غَيْرَهُمَا.
وَالثانِيَةُ: مَا كَانَ يُصَلِّيهِ مَعَ الْمَكْتُوبَةِ فِي الْحَضَرِ، وَهُوَ عَشْرُ رَكَعَاتٍ
(2)
، وَثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً
(3)
.
وَقَد أَثْبَتَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد مَعَ الْمَكتُوبَاتِ سُنَّةً مُقَدَّرَةً بِخِلَافِ مَالِكٍ.
وَالثَّالِثَةُ: التَّطَوُّعُ الْجَائِزُ فِي هَذَا الْوَقْتِ مِن غَيْرِ أَنْ يُجْعَلَ سُنَّةً؛ لِكَوْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهِ وَلَا قَدَّرَ فِيهِ عَدَدًا، وَالصَّلَاةُ قَبْلَ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ مِن هَذَا الْبَابِ.
وَقَرِيبًا مِن ذَلِكَ صَلَاةُ الضُّحَى. [23/ 125 - 126]
2677 -
إذَا فَاتَت السُّنَّةُ الرَّاتِبَةُ مِثْل سُنَّةِ الظُّهْرِ، فَهَل تُقْضَى بَعْدَ الْعَصْرِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا تُقْضَى، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ.
وَالثَّانِي: تُقْضَى، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَقْوَى. [23/ 127]
(1)
والشيخ لم يتكلم عن الحديث المروي: "رَحِمَ اللهُ امْرَأً صَلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا". رواه الإمام أحمد (5980)، وأبو داود (1271)، والترمذي (430)، وحسَّنه الترمذي والألباني في صحيح أبي داود.
ولم أر الشيخ أشار إليه ولا سُئِل عنه!
(2)
وهي: رَكْعَتَان أَو أَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَان بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَان بَعْدَ الْمَغْرِب، وَرَكْعَتَان بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَان قَبْلَ الْفَجْرِ.
(3)
وهي صلاة الليل مع الوتر.
2678 -
الَّذِي ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي السَّفَرِ مِن التَّطَوُّعِ: رَكْعَتَا الْفَجْرِ .. وَكَذَلِكَ قِيَامُ اللَّيْلِ وَالْوِتْر. [23/ 128]
2679 -
إذَا صَلَّى الْإِنْسَانُ لَيْلَةَ النِّصْفِ [أي: مِن شَعْبَانَ] وَحْدَهُ أَو فِي جَمَاعَةٍ خَاصَّةٍ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ طَوَائِفُ مِن السَّلَفِ: فَهُوَ أَحْسَنُ.
وَأَمَّا الِاجْتِمَاعُ فِي الْمَسَاجِدِ عَلَى صَلَاةٍ مُقَدَّرَةٍ؛ كَالِاجْتِمَاعِ عَلَى مِائَةِ رَكْعَةٍ بِقِرَاءَةِ أَلْفٍ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1] دَائِمًا: فَهَذَا بِدْعَةٌ لَمْ يَسْتَحِبَّهَا أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ. [23/ 131]
2680 -
إذا تكرر منه دخول المسجد: يستحب له أن يعيد التحية، واختاره الشيخ تقي الدين. [المستدرك 3/ 114]
2681 -
صَلَاةُ الرَّغَائِبِ: لَا أَصْلَ لَهَا؛ بَل هِيَ مُحْدَثَةٌ، فَلَا تُسْتَحَبُّ لَا جَمَاعَةً وَلَا فُرَادَى.
وَأَمَّا لَيْلَةُ النِّصْفِ: فَقَد رُوِيَ فِي فَضْلِهَا أَحَادِيثُ وَآثَارٌ، وَنُقِلَ عَن طَائِفَةٍ مِن السَّلَفِ أَنَّهُم كَانُوا يُصَلُّونَ فِيهَا.
فَصلَاةُ الرَّجُلِ فِيهَا وَحْدَهُ قَد تَقَدَّمَهُ فِيهِ سَلَفٌ وَلَهُ فِيهِ حُجَّةٌ فَلَا يُنْكَرُ مِثْلُ هَذَا.
وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِيهَا جَمَاعَةً: فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةٍ عَامَّةٍ فِي الِاجْتِمَاعِ عَلَى الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ، فَإِنَّهُ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ، إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ؛ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ، وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالتَّرَاوِيحِ، فَهَذَا سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ، يَنْبَغِي الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا وَالْمُدَاوَمَةُ.
وَالثَّانِي: مَا لَيْسَ بِسُنَّةِ رَاتِبَةٍ؛ مِثْل الِاجْتِمَاعِ لِصَلَاةِ تَطَوُّعٍ؛ مِثْل قِيَامِ اللَّيْلِ، أَو عَلَى قِرَاءَةِ قُرْاَنٍ، أَو ذِكْرِ اللهِ أَو دُعَاءٍ، فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ إذَا لَمْ يُتَّخَذْ عَادَةً رَاتِبَةً.
فَلَو أَنَّ قَوْمًا اجْتَمَعُوا بَعْضَ اللَّيَالِي عَلَى صَلَاةِ تَطَوُّعٍ مِن غَيْرِ أَنْ يَتَّخِذُوا ذَلِكَ عَادَةً رَاتِبَةً تُشْبِهُ السُّنَّةَ الرَّاتِبَةَ: لَمْ يُكْرَهْ.
لَكِنَّ اتِّخَاذَهُ عَادَةً دَائِرَةً بِدَوَرَانِ الْأَوْقَاتِ: مَكْرُوهٌ؛ لِمَا فِيهِ مِن تَغْيِيرِ الشُّرِيعَةِ، وَتَشْبِيهِ غَيْرِ الْمَشْرُوعِ بِالْمَشْرُوعِ.
وَلَو سَاغَ ذَلِكَ لَسَاغَ أَنْ يَعْمَلَ صَلَاةً أُخْرَى وَقْتَ الضُّحَى، أَو بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، أَو تَرَاوِيحَ فِي شَعْبَانَ، أَو أَذَانًا فِي الْعِيدَيْنِ، أَو حَجًّا إلَى الصَّخْرَةِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَهَذَا تَغْيِيرٌ لِدِينِ اللهِ وَتَبْدِيلٌ لَهُ.
وَهَكذَا الْقَوْلُ فِي لَيْلَةِ الْمَوْلِدِ وَغَيْرِهَا.
وَالْبِدَع الْمَكْرُوهَةُ مَا لَمْ تَكُنْ مُسْتَحَبَّة فِي الشَّرِيعَةِ وَهِيَ: أَنْ يُشَرِّعَ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، فَمَن جَعَلَ شَيْئًا دِينًا وَقُرْبَةً بِلَا شَرْع مِن اللهِ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ، وَهُوَ الَّذِي عَنَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ:"كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ"
(1)
.
فَالْبِدْعَةُ: ضِدُّ الشِّرْعَةِ، وَالشِّرْعَةُ: مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ أَمْرَ إيجَابٍ أَو أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ -وَإِن لَمْ يُفْعَلْ عَلَى عَهْدِهِ- كَالِاجْتِمَاعِ فِي التَّرَاوِيحِ عَلَى إمَامٍ وَاحِدٍ، وَجَمْعِ الْقُرْآنِ فِي الْمُصْحَفِ، وَقَتْلِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَالْخَوَارجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَمَا لَمْ يَشْرَعْهُ اللهُ وَرَسُولُهُ: فَهُوَ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ؛ مِثْل تَخْصِيصِ مَكَانٍ أَو زَمَانٍ بِاجْتِمَاع عَلَى عِبَادَةٍ فِيهِ، كَمَا خَصَّ الشَّارعُ أَوْقَاتَ الصَّلَوَاتِ وَأَيَّامَ الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ، وَكَمَا خَصَّ مَكَّةَ بِشَرَفِهَا، وَالْمَسَاجِدَ الثَّلَاثَةَ وَسَائِرَ الْمَسَاجِدِ بِمَا شَرَعَهُ فِيهَا مِن الصَّلَوَاتِ وَأَنْوَاعَ الْعِبَادَاتِ، كُلٌّ بِحَسْبِهِ. [23/ 132 - 134]
2682 -
سُنَّةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قِيَامِ اللَّيْلِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَغَيْرِهِمَا: تَطْوِيلُ أَوَّلِ الْعِبَادَةِ عَلَى آخِرِهَا؛ لِأَسْبَابٍ تَقْتَضِي ذَلِكَ. [24/ 233]
(1)
رواه مسلم (867).
2683 -
مَعْلُومٌ أَنَّ التَّطَوُّعَ بِالصَّلَاةِ مُضْطَجِعًا بِدْعَةٌ لَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِن السَّلَفِ
(1)
. [23/ 242]
2684 -
في رد شيخنا على الرافضي بعد أن ذكر تفضيل أحمد للجهاد والشافعي للصلاة وأبي حنيفة ومالك للعلم: وَالتَّحْقِيقُ لَا بُدَّ لِكُلٍّ من الْآخَرَيْنِ، وقد يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ أَفْضَلَ في حَالٍ؛ كَفِعْلِ النبي صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ رضي الله عنهم بِحَسَبِ الْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ. [المستدرك 3/ 103]
2685 -
نقل حرب أنه قال لرجل له مال كثير: أَقِمْ على وَلَدِك وَتَعَاهَدْهُم أَحَبُّ إلَيَّ، ولم يُرَخِّصْ له؛ يَعْنِي: في غَزْوٍ غَيْرِ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ. [المستدرك 3/ 103 - 104]
2686 -
استيعابُ عشر ذي الحجة بالعبادة ليلًا ونهارًا أفضل من جهادٍ لم يذهب فيه نفسه وماله.
والعبادة في غيره تعدل الجهاد للأخبار الصحيحة. المشهورة، وقد رواها أحمد وغيره، وقال: العمل بالقوس والرمح أفضل من الرباط في الثغر وفي غيره نظيرها. [المستدرك 3/ 104]
2687 -
وظاهر كلام ابن الجوزي وغيره أن الطواف أفضل من الصلاة فيه
(2)
، وقال شيخنا: وذكره عن جمهور العلماء للخبر. [المستدرك 3/ 104]
(1)
قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله: وَرَدَ في الحديث أنَّ أجْرَ صلاةِ المُضطجعِ على النَّصفِ من أجْرِ صلاةِ القاعد. رواه البخاري (2996)، لكن هذا الشَّطر مِن الحديث لم يأخذ به جمهورُ العلماء، ولم يروا صِحَّة صلاة المضطجع إلا إذا كان معذورًا.
وذهب بعضُ العلماء: إلى الأخذ بالحديث وقالوا: يجوز أنْ يتنفلَ وهو مضطجع، لكن أجره على النصف من أجر صلاة القاعد، فيكون على الرُّبع مِن أجر صلاة القائم.
وهذا قولٌ قويٌّ؛ لأن الحديث في صحيح البخاري، ولأنَّ فيه تنشيطًا على صلاة النَّفل؛ لأن الإنسان أحيانًا يكون كسلانًا وهو قادر على أنْ يُصلِّي قاعدًا؛ لكن معه شيء مِن الكسل؛ فيُحِبُّ أنْ يُصلِّي وهو مضطجعٍ، فمن أجل أنْ ننشِّطَهُ على العمل الصَّالح نَفْلًا نقول: صَلِّ مضطجعًا. الشرح الممتع (4/ 80 - 81).
(2)
أي: في الحرم.
2688 -
قال أحمد: معرفة الحديث والفقه فيه أعجب إلي من حفظه. [المستدرك 3/ 104]
2689 -
قال القاضي: أقل الترتيل ترك العجلة في القرآن عن الإبانة، ومعناه: أنه إذا بين ما يقرأ به فقد أتى بالترسل وإن كان مستعجلًا في قراءته، وأكمله أن يرتل القراءة ويتوقف فيها ما لم يخرجه ذلك إلى التمديد والتمطيط؛ فإذا انتهى إلى التمطيط كان ممنوعًا، قال: وقد أومأ أحمد إلى معنى هذا فقال: يعجبني من قراءة القرآن السهلة ولا تعجبني هذه الألحان.
وقال الشيخ تقي الدين: قراءة القرآن بصفة التلحين الذي يشبه تلحين الغناء مكروه مبتدع، كما نص على ذلك مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من الأئمة. [المستدرك 3/ 105]
2690 -
إن غلَّط القراء المصلين
(1)
: فذكر صاحب الترغيب وغيره يكره، وقال شيخنا: ليس لهم القراءة إذن، وعن البياضي واسمه عبد الله بن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم يصلون وقد علت أصواتهم بالقراءة فقال:"إن المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن"
(2)
، وعن أبي سعيد قال:"اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة وهو في قبة له فكشف الستور وقال: "كلكم مناج ربه فلا يؤذين بعضكم بعضَّا ولا يرفعن بعضكم على بعض في القراءة" أو قال: "في الصلاة"
(3)
وعن علي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يرفع الرجل صوته بالقراءة قبل العشاء وبعدها؛ يُغَلِّطُ أصحابه وهم يصلون"
(4)
رواهن أحمد. [المستدرك 3/ 105 - 106]
(1)
بحيث يقرؤون بصوتٍ مرتفع.
(2)
رواه مالك (213)، وأحمد (19022).
(3)
رواه أبو داود (1332)، وأحمد (11896)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.
(4)
رواه أحمد (663).
2691 -
التراويح سُنَّة وإنما سماها عمر رضي الله عنه بدعة؛ لأنها لم تفعل قبل ذلك على الوجه الذي جمع الناس فيه على أبي، كما أخرج عمر اليهود والنصارى من الجزيرة وكما قاتل أبو بكر الصديق والصحابة أهل الردة، وكما جمع أبو بكر رضي الله عنه المصحف، وكما قاتل علي رضي الله عنه الخوارج، وكما شرط على أهل الذمة الشروط وغير ذلك من الأمور التي فعلوها عملًا بكتاب الله واتباعًا لسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم وإن لم يتقدم نظيرها، وكضرب عمر رضي الله عنه الناس على الركعتين بعد العصر، وعلى إلزامه الإفطار في رجب وكسر أبو بكر رضي الله عنه كيزان أهله في رجب وقال: لا تشبهوه برمضان.
فهذه العقوبة البدنية والمالية لمن كان يعتقد أن صوم رجب مشروع مستحب وأنه أفضل من صوم غيره من الأشهر، وهذا الاعتقاد خطأ وضلال ومن صامه على هذا الاعتقاد الفاسد كان عاصيًا فيعزر على ذلك، ولهذا كرهه من كرهه خشية أن يتعوده الناس، وقال: يستحب أن يفطر بعضه، ومنهم من رخص فيه إذا صام معه شهرًا آخر من السَّنة كالمحرم.
ورجب أحد الأشهر الحرم، وله فضل على غيره من الأشهر التي ليست بحرم، وكلما كان المكان والزمان أفضل كانت الطاعة فيه أفضل، والمعاصي فيه أشد، وليس هو أفضل الشهور عند الله؛ بل شهر رمضان أفضل منه كما أن يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع. [المستدرك 3/ 106 - 107]
2692 -
قيام بعض الليالي كلها مما جاءت به السُّنَّة. [المستدرك 3/ 108]
2693 -
مَن يُجَوِّزُ الْوِتْرَ بِثَلَاثٍ مَفْصُولَةٍ -كَالشَافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا- يَجُوزُ عِنْدَهُم أَنْ تَكونَ الصَّلَاةُ الَّتِي لَهَا اسْمٌ وَاحِدٌ يُفْصَلُ بَيْنَ أَبْعَاضِهَا بِالسَّلَامِ الْعَمْدِ؛ كَالْوِتْرِ، وَالضُّحَى، وَقِيَامِ رَمَضَانَ، وَالْأَرْبَعِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَاخْتِيَارُهُم فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ أَنْ تَكُونَ مَثْنَى مَثْنَى، إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ أَحْمَد مِنَ الصُّوَرِ الَّتِي ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْفَصْلُ؛ كَالْوِتْرِ بِخَمْسٍ، أَو سَبْعٍ، أَو تِسْعٍ، فَإِنَّهُ يَخْتَارُ فِيهَا
ما ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِعْلُهُ، وَيَقُولُونَ: أَدْنَى الْوِتْرِ ثَلَاثٌ مَفْصُولَةٌ، وَقَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" مِن غَيْرِ وَجْهٍ عَن عَائِشَةَ:"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوتِرُ مِنَ اللَّيْلِ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يَفْصِلُ بَيْن كُلِّ رَكْعَتَيْنِ"، فَسُمَّتِ الْجَمِيعَ وِتْرًا مَعَ الْفَصْلِ
(1)
. [21/ 146 - 147]
2694 -
ثَبَتَ عَنْهُ فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّهُ قَالَ: "بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ
(2)
صَلَاةٌ، بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ، بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ، وَقَالَ: فِي الثَّالِثَةِ لِمَن شَاءَ"
(3)
؛ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً.
وَثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّ أَصْحَابَهُ كَانُوا يُصَلُّونَ بَيْنَ أَذَانِ الْمَغْرِبِ
(1)
اختلف العلماء في مسمى الوتر: هل هو الركعة الواحدة التي تكون فى آخر صلاته، أو هو مجموع ما يصليه من أشفاع مُتصلةٍ أو منفصلةٍ مختومة بهذه الركعة؟
الثاني هو الذي يظهر، وهو ظاهر الحديث، وظاهر كلام شيخ الإسلام.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وقول النبي في حديث ابن عمر: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة، توتر له ما قد صلى"، يدل على أن هذه الركعة الواحدة جعلت مجموع ما صلى قبلها وترًا، فيكون الوتر هو مجموع صلاة الليل الذي يختم بوتر، وهذا قول إسحاق بن راهويه، واستدل بقول النبي:"أوتروا يا أهل القرآن"، وإنما أراد صلاة الليل، وقالت طائفة: الوتر هو الركعة الأخيرة، وما قبله فليس منه. وهو قول طائفة من أصحابنا.
وقد ذكر أبو عمرو بن الصلاح: أن أصحاب الشافعي اختلفوا في ذلك على أوجه - ثم ذكر الوجه الرابع - وقال: أن ينوي بالجميع الوتر.
ويشهد له: قول الشيخ أبي إسحاق وغيره؛ أقل الوتر ركعة، وأكثره إحدى عشرة ركعة. وفي بعض كلام الشافعي إيماء إليه.
قال: وهو المختار؛ لأن فيهِ جمعًا بين الأحاديث كلها؛ إذ الواحدة الأصل في الإيتار، وبها يصير ما قبلها وترًا ..
وينبغي أن يكون الاختلاف في تسمية ما قبل الركعة الأخيرة وترًا مختصًّا بما إذا كانت الركعات مفصولة بالتسليم بينها، فأما إن أوتر بتسع، أو بسبع، أو بخمس، أو ثلاث بسلام واحد، فلا ينبغي التردد في أن الجميع وتر. اهـ. شرح البخاري (9/ 116 - 120).
(2)
أي: (بين الأذان والإقامة) باتفاق الأئمة كما قال النووي رحمه الله.
(3)
رواه البخاري (624، 627)، ومسلم (838).
وَإِقَامَتِهَا رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ يَرَاهُم وَلَا يَنْهَاهُمْ
(1)
.
فَإِذَا كَانَ التَّطَوُّعُ بَيْنَ أَذَانَي الْمَغْرِبِ مَشْرُوعًا فَلَأَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا بَيْنَ أَذَانَي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ تَعْجِيلُ الْمَغْرِبِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ قَبْلَ الْعَصْرِ وَقَبْلَ الْمَغْرِبِ وَقَبْلَ الْعِشَاءِ: مِنَ التَّطَوُّعِ الْمَشْرُوعِ
(2)
، وَلَيْسَ هُوَ مِنَ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ الَّتِي قَدَّرَهَا بِقَوْلِهِ، وَلَا دَاوَمَ عَلَيْهَا بِفِعْلِهِ. [21/ 281 - 282]
2695 -
روي عَنْهُ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّهُ صَلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا" أَو "أَنَّهُ قَضَى سُنَّةَ الْعَصْرِ" أَو "أَنَّهُ صَلَّى قَبْلَ الظُّهْرِ سِتًّا" أَو "بَعْدَهَا أَرْبَعًا" أَو "أَنَّهُ كَانَ يُحَافِظُ عَلَى الضُّحَى"، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِن الْأَحَادِيثِ الْمَكْذُوبَةِ عَلَى النَّبِىٍّ صلى الله عليه وسلم.
(1)
ثبت في الصحيحين عَن أَنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "كَانَ المُؤَذِّنُ إِذَا أَذَّنَ قَامَ نَاسٌ مِن أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَبْتَدِرُونَ السَّوَارِيَ -أَيْ: يُصَلُّونَ إِلَيْهَا يتخذونها سترة - حَتَى يَخْرُجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُم كَذَلِكَ، يُصَلُّونَ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ المَغْرِبِ".
(2)
قال الشوكاني رحمه الله تعليقًا على الحديث: الحديث يدل على مشروعية الفصل بين الأذان والإقامة، وكراهة الموالاة بينهما؛ لما في ذلك من تفويت صلاة الجماعة على كثيرٍ من المريدين لها؛ لأن مَن كان على طعامه أو غير متوضئ حال النداء إذا استمر على أكل الطعام أو توضأ للصلاة فاتته الجماعة أو بعضها بسبب التعجيل وعدم الفصل، لا سيما إذا كان مسكنه بعيدًا من مسجد الجماعة، فالتراخي بالإقامة نوع من المعاونة على البر والتقوى المندوب إليها. اهـ.
ومن الْمُلاحظ على بعض المؤذنين في شهر رمضان أنهم يقيمون الصلاة بعد أذان العشاء مباشرة، وهذا خلاف السُّنَّة.
ومن الحرمان أنْ يظل بعض الناس جالسًا ولا يُبادر بالصلاة، قال الشوكاني رحمه الله: لا خلاف في أنه يستحب -أي: الصلاة بين الأذان والإقامة- لمن كان في المسجد في ذلك الوقت منتظرًا لقيام الجماعة، وكان فعله للركعتين لا يؤثر في التأخير كما يقع من الانتظار بعد الأذان للمؤذن حتى ينزل من المنارة، ولا ريب أن ترك هذه السُّنَّة في ذلك الوقت الذي لا اشتغال فيه بصلاة المغرب ولا بشيء من شروطها مع عدم تأثير فعلها للتأخير: من الاستحواذات الشيطانية التي لم ينج منها إلا القليل. اهـ. نيل الأوطار للشوكاني (2/ 11 - 12).
وَأَشَدُّ مِن ذَلِكَ مَا يَذْكُرُه بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ فِي "الرَّقَائِقِ وَالْفَضَائِلِ" فِي الصَّلَوَاتِ الْأُسْبُوعِيَّةِ وَالْحَوْلِيَّةِ: كَصَلَاةِ يَوْمِ الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ وَالْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ وَالسَّبْتِ الْمَذْكُورَةِ فِي كِتَابِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِي حَامِدٍ وَعَبْدِ الْقَادِرِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَصَلَاةِ "الْأَلْفِيَّةِ" الَّتِي فِي أَوَّلِ رَجَبٍ وَنِصْفِ شَعْبَانَ، وَالصَّلَاةِ "الِاثْنَيْ عَشَرِيَّةَ" الَّتِي فِي أَوَّلِ لَيْلَةِ جمُعَةٍ مِن رَجَبٍ، وَالصَّلَاةِ الَّتِي فِي لَيْلَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِن رَجَبٍ، وَصَلَوَاتٍ أُخَرَ تُذْكَرُ فِي الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ، وَصَلَاةِ لَيْلَتَي الْعِيدَيْنِ، وَصَلَاةِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِن الصَّلَوَاتِ الْمَرْوِيَّةِ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ اتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِحَدِيثِهِ أَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ بَلَغَ ذَلِكَ أقْوَامًا مِن أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ فَظَنُّوهُ صَحِيحًا فَعَمِلُوا بِهِ.
وَهُم مَأْجُورُونَ عَلَى حُسْنِ قَصْدِهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ، لَا عَلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ
(1)
.
وَأَمَّا مَن تَبَيَّنَتْ لَهُ السُّنَّةُ فَظَنَّ أَنَّ غَيْرَهَا خَيْرٌ مِنْهَا: فَهُوَ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ؛ بَل كَافِرٌ. [24/ 201 - 202]
* * *
(السُّنن الرواتب)
2696 -
تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ مَعَ الْفَرِيضَةِ، فَمِنْهُم مَن لَمْ يُوَقِّتْ فِي ذَلِكَ شَيْئًا، وَمِنْهُم مَن وَقَّتَ أَشْيَاءَ بِأَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ؛ بَل أَحَادِيثَ يَعْلَمُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ؛ كَمَن يُوَقِّتُ سِتًّا قَبْلَ الظُّهْرِ وَأَرْبَعًا بَعْدَهَا، وَأَرْبَعًا قَبْلَ الْعَصْرِ، وَأَرْبَعًا قَبْلَ الْعِشَاءِ وَأَرْبَعًا بَعْدَهَا وَنَحْو ذَلِكَ.
(1)
هذا من إنصاف الشيخ رحمه الله، واتزانِه في الحكم على الناس وعباداتِهم.
وَالصَّوَابُ فِي هَذَا الْبَابِ الْقَوْلُ بِمَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ دُونَ مَا عَارَضَهَا
(1)
، وَقَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ:
أ - حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "حَفِظْت عَن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ"
(2)
.
ب - وَحَدِيثُ عَائِشَةَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا.
وَهُوَ فِي "الصَّحِيحِ" أَيْضًا، وَسَائِرُهُ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ"
(3)
؛ كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَهَكَذَا فِي "الصَّحِيحِ"، وَفِي رِوَايَةٍ صَحَّحَهَا التِّرْمِذِيُّ: صَلَّى قَبْلَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ.
ج - وَحَدِيثُ أُمِّ حَبِيبَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَّنهُ قَالَ: "مَن صَلَّى فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعًا كَيْرَ فَرِيضَةٍ بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ".
وَقَد جَاءَ فِي "السُّنَنِ" تَفْسِيرُهَا: "أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ"
(4)
. [22/ 280 - 281]
2697 -
مَن أَصَرَّ عَلَى تَرْكِهَا [أي: السُّنَن الرَّوَاتِب] دَلَّ ذَلِكَ عَلَى قِلَّةِ دِينِهِ، وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا. [23/ 127]
2698 -
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: كان صلى الله عليه وسلم يضطجع بعد سُنَّة الفجر
(1)
فكلّ ما لم يرد في الأحاديث التي سيُوردها الشيخ فهي ضعيفةٌ عنده، كصلاة أربع ركعات بعد الظهر، كما هو معمولٌ به عند كثير من الناس.
بل صرح بأنَّ الحديثَ الوارد فيها مكذوبٌ كما تقدّم.
(2)
رواه البخاري (1165)، ومسلم (729).
(3)
(730).
(4)
قال الشيخ رحمه الله: وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُومُ بِاللَّيْلِ إمَّا إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةٌ وَإِمَّا ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةٌ، فَكَانَ مَجْمُوعُ صَلَاتِهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَرْضُهُ وَنَفْلُهُ نَحْوًا مِن أَرْبَعِينَ رَكْعَةً. (24/ 200).
على شقه الأيمن، هذا الذي ثبت عنه في "الصحيحين" من حديث عائشة رضي الله عنها، وذكر الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا صلى أحدكم الركعتين قبل صلاة الصبح فليضطجع على جنبه الأيمن" قال الترمذي
(1)
: حديث حسن صحيح غريب، وسمعت ابن تيمية يقول: هذا باطل وليس بصحيح، وإنما الصحيح عنه الفعل لا الأمر بها.
أما الأربع قبل العصر فلم يصح عنه عليه السلام في فعلها شيء، إلا حديث عاصم بن ضمرة عن علي الحديث الطويل، أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي في النهار ست عشرة ركعة، يصلي إذا كانت الشمس من ههنا كهيئتها من ههنا لصلاة الظهر أربع ركعات، وكان يصلي قبل الظهر أربع ركعات وبعد الظهر ركعتين، وقبل العصر أربعًا، ويفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين ومن تبعهم من المؤمنين والمرسلين، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية ينكر هذا الحديث، ويدفعه جدًّا ويقول: إنه موضوع. [المستدرك 3/ 111 - 112]
2699 -
اجتماع الإمام والمأموم دائمًا على صلاة ركعتين عقب الفريضة ونحو ذلك: كل ذلك مما لا ريب في أنه من البدع. [المستدرك 3/ 112]
2700 -
أما ليلة النصف من شعبان ففيها فضل وكان من السلف من يصليها لكن اجتماع الناس فيها لإحيائها في المساجد بدعة. [المستدرك 3/ 112]
2701 -
صلاة الألفية في ليلة النصف من شعبان والاجتماع على صلاة راتبة فيها بدعة وإنما كانوا يصلون في بيوتهم في قيام الليل.
وإن قام معه بعض الناس من غير مداومة على الجماعة فيها وفي غيرها فلا بأس، كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة بابن عباس، وليلة بحذيفة.
وولي الأمر ينبغي أن ينهى عن هذه الاجتماعات البدعية. [المستدرك 3/ 112]
(1)
(420).
2702 -
وَمِن هَذَا الْبَاب الَّذِي اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ الْأَمْرَانِ: فِعْلُ الرَّوَاتِبِ فِي السَّفَرِ، فَإِنَّهُ مَن شَاءَ فَعَلَهَا وَمَن شَاءَ تَرَكَهَا بِاتِّفَاقِ الْأئِمَّةِ.
وَالصَّلَاةُ الَّتِي يَجُوزُ فِعْلُهَا وَتَرْكُهَا: قَد يَكُونُ فِعْلُهَا أَحْيَانًا أَفْضَلَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ إلَيْهَا، وَقَد يَكُونُ تَرْكُهَا أَفْضَلَ إذَا كَانَ مُشْتَغِلًا عَنِ النَّافِلَةِ بِمَا هُوَ أفْضَلُ مِنْهَا.
لَكِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي السَّفَرِ لَمْ يَكُن يُصَلِّي مِنَ الرَّوَاتِبِ إلَّا رَكْعَتَي الْفَجْرِ وَالْوِتْرِ. [22/ 279 - 280]
* * *
(صلاة الضحى)
2703 -
اسْتَحَبَّ الْأَئِمَّةُ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ عَدَد مِنَ الرَّكَعَاتِ يَقُومُ بِهَا مِنَ اللَّيْلِ لَا يَتْرُكُهَا، فَإِنْ نَشِطَ أَطَالَهَا، وَإِن كَسِلَ خَفَّفَهَا، وَإِذَا نَامَ عَنْهَا صَلَّى بَدَلَهَا مِن النَّهَارِ.
وَمِن هَذَا الْبَابِ "صَلَاةُ الضُّحَى" فَإِنَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُن يُدَاوِمُ عَلَيْهَا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِسُنَّتِهِ.
بَل ثَبَتَ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ لَا مُعَارِضَ لَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي وَقْتَ الضُّحَى لِسَبَب عَارِضٍ، لَا لِأَجْلِ الْوَقْتِ؛ مِثْل أَنْ يَنَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَيُصَلِّيَ مِنَ النَّهَارِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَمِثْل أَنْ يَقْدَمَ مِن سَفَرٍ وَقْتَ الضُّحَى فَيَدْخُلَ الْمَسْجِدَ فَيُصَلِّىَ فِيهِ.
وَالْأَشْبَهُ أَنْ يُقَالَ: مَن كَانَ مُدَاوِمًا عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ أَغْنَاهُ عَنِ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى صَلَاةِ الضُّحَى، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ.
وَمَن كَانَ يَنَامُ عَن قِيَامِ اللَّيْلِ فَصَلَاةُ الضُّحَى بَدَلٌ عَن قِيَامِ اللَّيْلِ. [22/ 284]
وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْصِد الصَّلَاةَ لِأَجْلِ الْوَقْتِ، وَلَو قَصَدَ ذَلِكَ لَصَلَّى كُلَّ يَوْمٍ أَو غَالِبَ الْأَيَّامِ كَمَا كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَي الْفَجْرِ كُلَّ يَوْمٍ. [17/ 474]
2704 -
قال في الرعاية: وكان واجبًا عليه صلى الله عليه وسلم الضحى وقال شيخنا: هذا غلط، والخبر "ثلاث هي علي فرائض"
(1)
موضوع، ولم يكن يداوم على الضحى باتفاق العلماء بسُنَّته. [المستدرك 3/ 113]
* * *
(الاستخارة والسجود لأجل الدعاء أو لسبب)
2705 -
في "مسند الإمام" أحمد
(2)
من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من سعادة ابن آدم استخارةُ الله، ومن شقاوة ابن آدم سخطه بما قضاه الله" وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه يقول: ما ندم من استخار الخالق وشاور المخلوقين، وثبت في أمره، وقد قال الله سبحانه وتعالى:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159]، وقال قتادة: ما تشاور قوم يبتغون وجه الله إلا هدوا إلى أرشد أمرهم. [المستدرك 3/ 113 - 114]
2706 -
لو أراد الدعاء فعفر وجهه بالتراب وسجد له ليدعوه فهذا سجود لأجل الدعاء ولا شيء يمنعه، وابن عباس سجد سجودًا مجردًا لما جاء نعي بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"إذا رأيتم آية فاسجدوا"
(3)
، وهذا يدل على أن السجود يشرع عند الآيات؛ فالمكروه هو السجود بلا سبب. [المستدرك 3/ 114]
2707 -
يَجُوزُ الدُّعَاءُ فِي صلَاةَ الَاسْتِخَارَةِ وَغَيْرِهَا قَبْلَ السَّلَامِ وَبَعْدَهُ، وَالدُّعَاءُ قَبْلَ السَّلَامِ أَفْضَلُ؛ فَإِنَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرُ دُعَائِهِ كَانَ قَبْلَ السَّلَامِ، وَالْمُصَلِّي قَبْلَ السَّلَامِ لَمْ يَنْصَرِفْ، فَهَذَا أَحْسَنُ. [23/ 177]
(1)
رواه الإمام أحمد (2050) بلفظ: "ثَلاثٌ هُنَّ عَلَيَّ فَرَائِضُ، وَهُنَّ لَكُمْ تَطَوُّعٌ: الْوَتْرُ، وَالنَّحْرُ، وَصَلاةُ الضُّحَى".
(2)
(1444)، ورواه الترمذي (2151) واستغربه، وضعَّفه الألبانيّ في ضعيف الجامع الصغير (5300).
(3)
رواه أبو داود (1197)، والترمذي (3891)، وحسَّنه الألباني في صحيح الترمذي.
2708 -
إِذَا اسْتَخَارَ اللهَ كَانَ مَا شَرَحَ لَهُ صَدْرَهُ وَتَيَسَّرَ لَهُ مِن الْأُمُورِ هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ اللهُ لَهُ. [10/ 539]
2709 -
[ويُسْتَحَبُّ صلَاةُ الاستخارة]
(1)
وعند جماعة "وصلاة التسبيح" ونصه: لا، لخبر ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم علمها لعمه العباس .. "، وادعى شيخنا: أنه كذب، ونص أحمد وأئمة أصحابه على كراهتها ولم يستحبها إمام، واستحبها ابن المبارك على صفة لم يرد بها الخبر لئلا تثبت سُنَّة بخبر لا أصل له، قال: وأما أبو حنيفة ومالك والشافعي فلم يسمعوها بالكلية. [المستدرك 3/ 112 - 113]
* * *
أوقات النهي
2710 -
نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَن الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ حِينَئِذٍ، وَالشَّيْطَان يُقَارِنُهَا، وَإِن كَانَ الْمُسْلِمُ الْمُصَلِّي لَا يَقْصُدُ السُّجُودَ لَهَا، لَكِنْ سَدَّ الذَّرِيعَةَ لِئَلَّا يَتَشَبَّهُ بِالْمُشْرِكِينَ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الَّتِي يَخْتَصُّونَ بِهَا، فَيُفْضِي إلَى مَا هُوَ شِرْكٌ، وَلهَذَا نَهَى عَن تَحَرِّي الصَّلَاةِ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ، هَذَا لَفْظُ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي فِي "الصَّحِيحَيْنِ"
(2)
.
فَقَصْدُ الصَّلَاةِ فِيهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ.
وَأَمَّا إذَا حَدَثَ سَبَبٌ تُشْرَعُ الصَّلَاةُ لِأَجْلِهِ: مِثْل تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ وَرَكْعَتَي الطَّوَافِ وَإِعَادَةِ الصَّلَاةِ مَعَ إمَامِ الْحَيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذِهِ فِيهَا نِزَاعٌ مشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَالْأَظْهَرُ جَوَازُ ذَلِكَ وَاسْتِحْبَابُهُ، فَإِنَّهُ خَيْرٌ لَا شَرَّ فِيهِ، وَهُوَ يَفُوتُ إذَا تُرِكَ، وَإِنَّمَا نُهي عَن قَصْدِ الصَّلَاةِ وَتَحَرِّيهَا فِي
(1)
ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، ولا يُفهم المعنى بدونه، وهو في الفروع (1/ 504).
(2)
جاء في الصحيحين عنه مرفوعًا: "لَا تَحَرَّوْا بِصَلَاِتكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلَا غُرُوبَهَا، فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بِقَرْنَيْ الشَّيْطَانِ".
ذَلِكَ الْوَقْتِ لِمَا فِيهِ مِن مُشَابَهَةِ الْكفَّارِ بِقَصْدِ السُّجُودِ ذَلِكَ الْوَقْتَ، فَمَا لَا سَبَبَ لَهُ: قَد قَصَدَ فِعْلَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.
وَإِن لَمْ يَقْصِدِ الْوَقْتَ بِخِلَافِ ذِي السَّبَبِ: فَإِنَّهُ فَعَلَ لِأَجْلِ السَّبَبِ، فَلَا تَأْثِيرَ فِيهِ لِلْوَقْتِ بِحَالٍ. [17/ 502]
2711 -
الصَّحِيحُ أَنَّ الْعِلَّةَ
(1)
فِي الْحَمَّامِ وَأَعْطَانِ الْإِبِلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَنَّهَا مَأْوَى الشَّيَاطِينِ، وَفِي الْمَقْبَرَةِ أَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إلَى الشِّرْكِ، مَعَ أَنَّ الْمَقَابِرَ تَكونُ أَيْضًا مَأْوًى لِلشَّيَاطِينِ. [19/ 41]
وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّهْيَ لَو لَمْ يَكُن إلَّا لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ فَمَقَابِرُ الْأَنْبِيَاءِ لَا تُنْتِنُ؛ بَلِ الْأَنْبِيَاءُ لَا يَبْلُونَ، وَتُرَابُ قُبُورِهِمْ طَاهِرٌ، وَالنَّجَاسَةُ أَمَامَ الْمُصَلِّي لَا تُبْطِلُ صَلَاتَهُ، وَاَلَّذِينَ كَانوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ كَانُوا يَفْرِشُونَ عِنْدَ الْقُبُورِ الْمَفَارِشَ الطَّاهِرَةَ فَلَا يُلَاقُونَ النَّجَاسَةَ، وَمَعَ أَنَّ الَّذِينَ يُعَلِّلُونَ بِالنَّجَاسَةِ لَا يَنْفُونَ هَذِهِ الْعِلَّةَ؛ بَل قَد ذَكَرَ الشَّافِعِي وَغَيْرُهُ النَّهْيَ عَنِ اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِخَشْيَةِ التَّشَبُّهِ بِذَلِكَ. [27/ 159 - 160]
2712 -
تَعْلِيلُ النَّهْيِ عَن الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ بِنَجَاسَةِ التُّرَابِ ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ النَّهْيَ عَن الْمَقْبَرَةِ مُطْلَقًا وَعَن اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَا يُبَيِّنُ أَنَّ النَّهْيَ لِمَا فِيهِ مِن مَظِنَّةِ الشِّرْكِ وَمُشَابَهَةِ الْمُشْرِكِينَ.
وَأَيْضًا فَنَجَاسَةُ ترَابِ الْمَقْبَرَةِ فِيهِ نَظَرٌ.
فَتبيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّقٌ بِظُهُورِ الْقُبُورِ لَا بِظَنِّ نَجَاسَةِ التُّرَابِ. [21/ 321]
2713 -
اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ أَنَّهُ لَا يُبْنَى مَسْجِدٌ عَلَى قَبْرٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّ مَن كَانَ قَبْلَكمْ كَانوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فَإِنِّي أَنهَاكُمْ عَن ذَلِكَ"
(2)
.
(1)
في تحريم الصلاة في هذه الأماكن.
(2)
رواه مسلم (532).
وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ دَفْنُ مَيِّتٍ فِي مَسْجِدٍ، فَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ قَبْلَ الدَّفْنِ غُيِّرَ:
أ - إمَّا بِتَسْوِيَةِ الْقَبْرِ.
ب - وَإِمَّا بِنَبْشِهِ إنْ كَانَ جَدِيدًا.
وَإِن كَانَ الْمَسْجِدُ بُنِيَ بَعْدَ الْقَبْرِ:
أ - فَإِمَّا أَنْ يُزَالَ الْمَسْجِدُ.
ب - وَإِمَّا أَنْ تُزَالَ صُورَةُ الْقَبْرِ.
فَالْمَسْجِدُ الَّذِي عَلَى الْقَبْرِ لَا يُصَلَّى فِيهِ فَرْضٌ وَلَا نَفْلٌ؛ فَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. [22/ 194 - 195]
2714 -
ما فِعْلُ الصَّلَاةِ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ مِثْل تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ: الصَّحِيحُ قَوْلُ مَنِ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ. [22/ 297]
2715 -
أَمَّا قَوْلُهُ: "إذَا دَخَلَ أَحَدُكمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ"
(1)
: فَهُوَ أَمْرٌ عَامٌّ لَمْ يُخَصَّ مِنْهُ صُورَة، فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِعُمُومٍ مَخْصُوصٍ؛ بَلِ الْعُمُومُ الْمَحْفُوظُ أَوْلَى مِنَ الْعُمُومِ الْمَخْصُوصِ
(2)
.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الصَّلَاةَ وَالْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ أَشَدُّ مِنَ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ، وَقَد ثَبَتَ عَنْهُ فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّهُ قَالَ:"إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكعَتَيْنِ"، فَلَمَّا أَمَرَ بِالرَّكْعَتَيْنِ فِي وَقْتِ هَذَا النَّهْيِ فَكَذَلِكَ فِي وَقْتِ ذَلِكَ النَّهْيِ وَأَوْلَى.
وَلِأَنَّ أَحَادِيثَ النَّهْيِ فِي بَعْضِهَا "لَا تَتَحَرَّوْا بِصَلَاِتكُمْ"
(3)
فَنَهَى عَنِ التَّحَرِّي لِلصَّلَاةِ ذَلِكَ الْوَقْتَ. [22/ 298]
(1)
رواه البخاري (1167).
(2)
هذه قاعدةٌ فقهية عظيمة النفع، وينبغي على طالب العلم أنْ يُعْملها في نصوص الكتاب والسُّنَّة.
(3)
رواه مسلم (833)، وفي صحيح البخاري:(1191) أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قال: "لَا أَمْنَعُ أَحَدًا أَنْ يُصَلَّيَ فِي أَيِّ سَاعَةٍ شَاءَ مِن لَيْلٍ أَو نَهَارٍ، غَيْرَ أَنْ لَا تَتَحَرَّوْا طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلَا غُرُوبَهَا".
2716 -
فَصْلٌ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ وَالنِّزَاعِ فِي ذَوَاتِ الْأَسْبَابِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّ لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ اضْطِرَابًا كَثيرًا.
فَنَقُولُ: قَد ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ عَامًّا لِجَمِيعِ الصَّلَوَاتِ، فَإِنَّهُ قَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"مَن أَدْرَكَ رَكعَةً قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَد أَدْرَكَ"، وَكَذَلِكَ قَالَ:"مَن أَدْرَكَ رَكْعَةً مِن الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَد أَدْرَكَ"
(1)
.
ثُمَّ إنَّ مَا نَهَى عَنْهُ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ يُبَاحُ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، كَمَا يُبَاحُ النَّظَرُ إلَى الْمَخْطُوبَةِ وَالسَّفَرُ بِهَا إذَا خِيفَ ضَيَاعُهَا، كَسَفَرِهَا مِن دَارِ الْحَرْبِ، مِثْل سَفَرِ أُمِّ كُلْثُومٍ، وَكَسَفَرِ عَائِشَةَ لَمَّا تَخَلَّفَتْ مَعَ صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطِّلِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْهَ عَنْهُ إلَّا لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى الْمَفْسَدَةِ، فَإِذَا كَانَ مُقْتَضِيًا لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ لَمْ يَكُن مُفْضِيًا إلَى الْمَفْسَدَةِ.
وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي التَّطَوُّعِ الْمُطْلَقِ، فَإِنَّهُ قَد يُفْضِي إلَى الْمَفْسَدَةِ وَلَيْسَ النَّاسُ مُحْتَاجِينَ إلَيْهِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ لِسِعَةِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي تُبَاحُ فِيهَا الصَّلَاةُ.
بَل فِي النَّهْيِ عَنْهُ بَعْضُ الْأَوْقَاتِ مَصَالِحُ أُخَرُ:
أ - مِن إجْمَامِ النُّفُوسِ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ مَن ثِقَلِ الْعِبَادَةِ كَمَا يُجَمُّ بِالنَّوْمِ وَغَيْرِهِ؛ وَلهَذَا قَالَ مُعَاذٌ: إنِّي لَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي
(2)
.
ب - وَمِن تَشْوِيقِهَا وَتَحْبِيبِ الصَّلَاةِ إلَيْهَا إذَا مُنِعَتْ مِنْهَا وَقْتًا فَإِنَّهُ يَكُونُ أَنْشَطَ وَأَرْغَبَ فِيهَا؛ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ إذَا خُصَّتْ بِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ نَشِطَتْ النُّفُوسُ لَهَا أَعْظَمَ مِمَّا تَنْشَطُ لِلشَّيْءِ الدَّائِمِ.
(1)
رواه البخاري (579)، ومسلم (608).
(2)
وهناك من الناس من حُببت إليه الصلاة، فلو لم يكن هناك وقتٌ يُنهى فيه عن الصلاة لَمَا انقطع عنها، وربما أدى ذلك إلى التفريط في حقوق نفسه وأهله وغيرهم. فسبحان العليم الحكيم.
ج - وَمِنْهَا: أَنَّ الشَّيْءَ الدَّائِمَ تَسْأَمُ مِنْهُ وَتَمَلُّ وَتَضْجَرُ، فَإِذَا نَهَى عَنْهُ الْأَوْقَاتِ زَالَ ذَلِكَ الْمَلَلُ.
إلَى أَنْوَاعٍ أُخَرَ مِن الْمَصَالِحِ فِي النَّهْيِ عَن التَّطَوُّعِ الْمُطْلَقِ، فَفِي النَّهْيِ دَفْعٌ لِمَفَاسِدَ وَجَلْبٌ لِمَصَالِحَ مِن غَيْرِ تَفْوِيتِ مَصْلَحَةٍ.
وَأَمَّا مَا كَانَ لَهُ سَبَبٌ فَمِنْهَا مَا إذَا نَهَى عَنْهُ فَاتَت الْمَصْلَحَةُ وَتَعَطَّلَ عَلَى النَّاسِ مِن الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ وَتَحْصِيلِ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ وَالْمَصْلَحَةِ الْعَظِيمَةِ فِي دِينِهِمْ مَا لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ؛ كَالْمُعَادَةِ مَعَ إمَامِ الْحَيِّ، وَكَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وذَوَاتُ الْأَسْبَابِ إنَّمَا دَعَا إلَيْهَا دَاعٍ، لَمْ تُفْعَلْ لِأَجْلِ الْوَقْتِ، بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ الْمُطْلَقِ الَّذِي لَا سَبَبَ لَهُ، وَحِينَئِذٍ فَمَفْسَدَةُ النَّهْيِ إنَّمَا تَنْشَأُ مِمَّا لَا سَبَبَ لَهُ دُونَ مَا لَهُ السَّبَبُ، وَلهَذَا قَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ:"لَا تَتَحَرَّوْا بِصَلَاِتكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلَا غُرُوبَهَا"
(1)
.
وَالْمُعَادَةُ إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ تُعَادُ فِي وَقْتِ النَّهْيِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَالصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ بَعْدَ الْفَجْرِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ بَعْدَ الْفَجْرِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ.
وَتِلْكَ الْأَنْوَاعُ الثَّلَاثَةُ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهَا قَوْلُ أَحْمَد أَنَّهَا تُفْعَلُ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ؛ لِأَنَّ فِيهَا أَحَادِيثَ خَاصَّةً تَدُلُّ عَلَى جَوَازِهَا فِي وَقْتِ النَّهْيِ، فَلِهَذَا اسْتَثْنَاهَا وَاسْتَثْنَى الْجِنَازَةَ فِي الْوَقْتَيْنِ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا سَائِرُ ذَوَاتِ الْأَسْبَابِ: مِثْل تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ، وَصَلَاةِ
(1)
رواه مسلم (833).
الْكُسُوفِ، وَمِثْل رَكْعَتَي الطَّوَافِ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ
(1)
، وَمِثْل الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ: فَاخْتَلَفَ كَلَامُهُ فِيهَا، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ النَّهْيُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ.
وَالرِّوَايَة الثَّانِيَةُ: جَوَازُ جَمِيعِ ذَوَاتِ الْأَسْبَابِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ الرَّاجِحُ فِي هَذَا الْبَابِ لِوُجُوهِ: مِنْهَا: أَنَّ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ قَد ثَبَتَ الْأَمْرُ بِهَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن أَبِي قتادة أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ"
(2)
.
وَعَنْهُ قَالَ: "إِذَا دَخَلَ أَحَدُكمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ".
فَهَذَا فِيهِ الْأَمْرُ بِرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ، وَالنَّهْيُ عَن أَنْ يَجْلِسَ حَتَّى يَرْكَعَهُمَا، وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ وَقْتٍ عُمُومًا مَحْفُوظًا لَمْ يُخَصَّ مِنْهُ صُورَةٌ بِنَصّ وَلَا إجْمَاعٍ.
وَحَدِيثُ النَّهْيِ
(3)
قَد عُرِفَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَامّ، وَالْعَامُّ الْمَحْفُوظُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، فَإِنَّ هَذَا قَد عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَامٍّ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُقْتَضِيَ لِعُمُومِهِ قَائِمٌ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ.
فَكَيْفَ وَهُوَ صلى الله عليه وسلم قَد أَمَرَهُم إذَا دَخَلَ أَحَدُهُم الْمَسْجِدَ وَالْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَلَا يَجْلِسُ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، أَلَيْسَ فِي أَمْرِهِمْ بِهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ تَنْبِيهًا عَلَى غَيْرِهِ مِن الْأَوْقَاتِ؟ [23/ 178 - 196]
(1)
وهي:
أ - من طلوع الشمس إلى أن ترتفع قيد رمح.
ب - من حين ميلان الشمس عن وَسَطِ السَّماء نحو المغرب إلى أن تزول الشمس.
ج - من حين يبدأ قُرْص الشَّمس بالمغيب إلى تمام الغُروب.
(2)
رواه البخاري (444)، ومسلم (714).
(3)
أي: حديث النهي عن الصلاة في أوقات النهي.
2717 -
لا نهي عن الصلاة عند طلوع الشمس إلى زوالها يوم الجمعة، وهو قول الشافعي. [المستدرك 3/ 114]
2718 -
يصلي صلاة الاستخارة وقت النهي في أمر يفوت بالتأخير إلى وقت الإباحة. [المستدرك 3/ 114]
2719 -
يستحب أن يصلي ركعتين عقب الوضوء ولو كان وقت النهي، قاله الشافعية. [المستدرك 3/ 114]
2720 -
ثَبَتَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَرَأَ فِي الْفَجْرِ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قِيلَ لَهُ: كَادَت الشَّصْدق تَطْلُعُ! فَقَالَ: لَو طَلَعَتْ لَمْ تَجِدْنَا غَافِلِينَ
(1)
.
فَهَذَا خِطَابُ الصِّدِّيقِ لِلصَّحَابَةِ يُبَيِّنُ أَنَّهَا لَو طَلَعَتْ لَمْ يَضُرَّهُم ذَلِكَ، وَلَمْ تَجِدْهُم غَافِلِينَ؛ بَل وَجَدْتهمْ ذَاكِرِينَ اللهَ.
وَلهَذَا لَا يَأْثَمُ مَن أَخَّرَ الصَّلَاةَ حَتَّى يَفْرَغَ مِنْهَا قَبْلَ الطُّلُوعِ، كَمَا ثَبَتَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أَحَادِيثِ الْمَوَاقِيتِ أَنَّهُ سَلَّمَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالْقَائِلُ يَقُولُ: قَد طَلَعَت الشَّمْسُ أَو كَادَتْ.
وَقَالَ فِي "الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ": "وَقْتُ الْفَجْرِ مَا لَمْ تَطْلُع الشَّمْسُ"
(2)
، وَقَالَ:"وَقْتُ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ"
(3)
.
فَمَن صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ جَمِيعَ صَلَاةِ الْفَجْرِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ.
وَمَن صَلَّى الْعَصْرَ وَقْتَ الْغُرُوبِ مِن غَيْرِ عُذْرٍ فَهُوَ آثِمٌ.
لَكِنْ جَعَلَهُ الرَّسُولُ مُدْرِكًا لِلْوَقْتِ وَهُوَ وَقْتُ الضَّرُورَةِ
(4)
فِي مِثْل النَائِمِ إذَا اسْتَيْقَظَ، وَالْحَائِضِ إذَا طَهُرَتْ، وَالْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ، وَالْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ إذَا أَفَاقَا.
(1)
رواه البيهقي (4015)
(2)
رواه مسلم (612).
(3)
رواه مسلم (612).
(4)
لما ثبت عنه أنه قال: "مَن أَدْرَكَ رَكْعَةً مِن الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَد أَدْرَكَ".
فَأَمَّا مَن أَمْكَنَهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ آثِمٌ بِالتَّأْخِيرِ إلَيْهِ، وَهُوَ مِن الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُم عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ، وَلَكِنْ فِعْلُهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ خَيْرٌ مِن تَفْوِيتِهَا؛ فَإِنَّ تَفْوِيتَهَا مِن الْكَبَائِرِ. [23/ 179 - 181]
2721 -
النَّهْيُ فِي الْعَصْرِ مُعَلَّقٌ بِصَلَاةِ الْعَصْرِ، فَإِذَا صَلَّاهَا لَمْ يُصَلِّ بَعْدَهَا، وَإِن كَانَ غَيْرُهُ لَمْ يُصَلِّ، وَمَا لَمْ يُصَلِّهَا فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ، وَهَذَا ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَالِاتِّفَاقِ؛ فَإِنَّ النَّهْيَ مُعَلَّقٌ بِالْفِعْلِ.
وَأَمَّا الْفَجْرُ: فَفِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ وَفِيهِ عَن أَحْمَد رِوَايَتَانِ:
قِيلَ: إنَّهُ مُعَلَّقٌ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ فَلَا يَتَطَوَّعُ بَعْدَهُ بِغَيْرِ الرَّكْعَتَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِن السَّلَفِ وَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقِيلَ: إنَّهُ مُعَلَّقٌ بِالْفِعْلِ كَالْعَصْرِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ النَّهْيُ إلَّا بَعْدَ الصَّلَاةِ كَمَا فِي الْعَصْرِ
(1)
.
وَأَحَادِيثُ النَّهْيِ تُسَوِّي بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ كَمَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ وَأَرْضَاهُم عِنْدِي عُمَرُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَن الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَى تُشْرِقَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ"
(2)
.
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَو أَرَادَ الْوَقْتَ لَاسْتَثْنَى رَكْعَتَي الْفَجْرِ وَالْفَرْضِ
(3)
، كَمَا وَرَدَ اسْتِثْنَاءُ ذَلِكَ فِي مَا نَهَى عَنْهُ حَيْثُ قَالَ:"لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْفَجْرِ إلَّا سَجْدَتَيْنِ"
(4)
.
فَلَمَّا لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ فِعْلَ الصَّلَاةِ؛ كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ
(5)
.
(1)
وعلى هذا؛ فوقت صلاة الوتر يمتد إلى صلاة الفجر لا إلى طلوع الفجر، وهذا الذي رجحه الشيخ كما تقدّم.
(2)
رواه البخاري (581).
(3)
فلم يقل: لا صلاة بعد الفجر إلا راتبة الفجر وفرضها.
(4)
رواه الترمذي (419).
(5)
مثل الحديث الذي رواه مُسْلِم عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ".
وَلِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكونَ أَوْقَاتُ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ فَرْضُهَا وَسُنَّتُهَا وَقْتَ نَهْيٍ، وَمَا بَعْدَ الْفَجْرِ وَقْتُ صَلَاةِ الْفَجْرِ: سُنَّتُهَا وَفَرْضُهَا، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ هَذَا وَقْتُ نَهْيٍ؟
وَهَل يَكُونُ وَقْتَ نَهْيٍ سُنَّ فِيهِ الصَّلَاةُ دَائِمًا بِلَا سَبَبٍ، وَأَمَرَ بِتَحَرِّي الصَّلَاةِ فِيهِ؟
هَذَا تَنَاقُضٌ.
وَالنَّهْيُ هُوَ لِأَنَّ الْكُفَّارَ يَسْجُذونَ لَهَا، وَهَذَا لَا يَكُونُ مِن طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَلهَذَا كَانَ الْأَصْلُ فِي النَّهْيِ عِنْدَ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، لَكِنْ نَهَى عَن الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاتَيْنِ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، فَإِنَّ الْمُتَطَوِّعَ قَد يُصَلِّي بَعْدَهُمَا حَتَّى يُصَلِّيَ وَقْتَ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ.
وَلهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِاللَّيْلِ وُيوتِرُ، ثُمَّ إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى الْفَرْضَ، وَكَانَ يَضْطَجِعُ أَحْيَانًا لِيَسْتَرِيحَ: إمَّا بَعْدَ الْوِتْرِ وَإِمَّا بَعْدَ رَكْعَتَي الْفَجْرِ.
وَكَانَ إذَا غَلَبَهُ مِن اللَّيْلِ نَوْمٌ أَو وَجَعٌ صَلَّى مِن النَّهَارِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً بَدَلَ قِيَامِهِ مِن اللَّيْلِ، وَلَمْ يَكُن يَقْضِي ذَلِكَ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ؛ لِأَنَّة لَمْ يَكن يَتَّسِعُ لِذَلِكَ، فَإِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ فِيهَا طُولٌ وَكَانَ يُغَلِّسُ بِالْفَجْرِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَو أَمْكَنَ قِرَاءَةُ شَيْءٍ مِنْهُ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ كَانَ أَبْلَغَ، لَكِنْ إذَا قَرَأَهُ قَبْلَ الزَّوَالِ كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِن اللَّيْلِ، فَإِنَّ هَذَا الْوَقْتَ تَابعٌ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ، وَلهَذَا يُقَالُ فِيمَا قَبْلَ الزَّوَالِ: فَعَلْنَاهُ اللَّيْلَةَ، وَيُقَالُ بَعْدَ الزَّوَالِ: فَعَلْنَاهُ الْبَارِحَةَ، وَهُوَ وَقْتُ الضُّحَى، وَهُوَ خَلَفٌ عَن قِيَامِ اللَّيْلِ.
فَمَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إنَّمَا سُنَّ لِلْمُسْلِمِينَ السُّنَّة الرَّاتِبَة وَفَرْضُهَا الْفَجْرُ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ لَمْ يُسَنَّ، وَلَمْ يَكُن مَنْهِيًّا عَنْهُ إذَا لَمْ يُتَّخَذْ سُنَّةً.
فَإِذَا قِيلَ: لَا سُنَّةَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَّا رَكْعَتَانِ: فَهَذَا صَحِيحٌ.
وَأَمَّا النَّهْيُ الْعَامُّ فَلَا.
وَالْإِنْسَانُ قَد لَا يَقُومُ مِن اللَّيْلِ فَيُرِيدُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَقَد اسْتَحَبَّ السَّلَفُ لَهُ قَضَاءَ وِتْرِهِ؛ بَل وَقِيَامَهُ مِن اللَّيْلِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَذَلِكَ عِنْدَهُم خَيْرٌ مِن أَنْ يُؤَخِّرَهُ إلَى الضُّحَى. [23/ 200 - 205]
2722 -
لِلنَّاسِ فِي الصَّلَاةِ نِصْفَ النَّهَارِ
(1)
يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا أَقْوَالٌ: قِيلَ بِالنَّهْيِ مُطْلَقًا وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَن أَحْمَد.
وَقِيلَ: الْإِذْنُ مُطْلَقًا كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الخرقي وُيرْوَى عَن مَالِكٍ.
وَقِيلَ: بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
وَأَبَاحَهُ فِيهَا عَطَاءٌ فِي الشِّتَاءِ دُونَ الصَّيْفِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عبسة: "ثُمَّ بَعْدَ طُلُوعِهَا صَلِّ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ، ثُمَّ اُقْصُرْ عَن الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ حِينَئِدٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ، فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ فَصَلِّ".
فَعَلَّلَ النَّهْيَ حِينَئِذٍ بِأَنَّهُ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ.
وَفِي الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ بِمُقَارَنَةِ الشَّيْطَانِ فَقَالَ: "ثُمَّ اُقْصُرْ عَن الصَّلَاةِ حَتَّى تَطْلُعَ فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ".
(1)
الذي هو قُبيل الزوال بيسير.
قال ابن رشد رحمه الله: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ ثَلَاثَةً مِنَ الْأَوْقَاتِ مَنْهِيٌّ عَن الصَّلَاةِ فِيهَا وَهِيَ:
أ - وَقْتُ طُلُوعِ الشَّمْسِ.
ب - وَوَقْتُ غُرُوبِهَا.
ج - وَمِن لَدُنْ تُصَلَّى صَلَاةُ الصُّبْح حَتى تَطْلُعَ الشَّمْسُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتَيْنِ: فِي وَقْتِ الزَّوَالِ، وَفِي الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ؛ فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ الْأَوْقَاتَ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا هِيَ أَرْبَعَةٌ: الطُّلُوعُ، وَالْغُرُوبُ، وَبَعْدَ الصُّبْح، وَبَعْدَ الْعَصْرِ، وَأَجَازَ الصَّلَاةَ عِنْدَ الزوَالِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أن هَذ الْأَوْقَاتَ خَمْسَة كُلُّهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا إِلَّا وَقْتَ الزَّوَالِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ أَجَازَ فِيهِ الصَّلَاةَ، وَاسْتَثْنَى قَوْمٌ مِن ذَلِكَ الصَّلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ. بداية المجتهد (1/ 109).
وَفِي الْغُرُوبِ قَالَ: "ثُمَّ اُقْصُرْ عَن الصَّلَاةِ حَتَّى تَغْرُبَ فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ"
(1)
.
وَأَمَّا مُقَارَنَةُ الشَّيْطَانِ لَهَا حِينَ الِاسْتِوَاءِ فَلَيْسَ فِي شَيءٍ مِن الْحَدِيثِ إلَّا فِي حَدِيثِ الصنابحي، قَالَ:"إنَّهَا تَطْلُعُ وَمَعَهَا قَرْنُ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا ارْتَفَعَتْ قَارَنَهَا، ثُمَّ إذَا اسْتَوَتْ قَارَنَهَا، فَإِذَا زَالَتْ قَارَنَهَا، وَإِذَا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ قَارَنَهَا، فَإِذَا غَرَبَتْ قَارَنَهَا"
(2)
.
لَكِن الصنابحي قَد قِيلَ: إنَّهُ لَمْ تَثْبُتْ لَهُ صُحْبَةٌ فَلَمْ يَسْمَعْ هَذَا مِن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِخِلَافِ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عبسة فَإِنَّهُ صَحِيحٌ سَمِعَهُ مِنْهُ.
ويُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ عَامَّةَ الْأَحَادِيثِ لَيْسَ فِيهَا إلَّا النَّهْيُ وَقْتَ الطُّلُوعِ وَوَقْتَ الْغُرُوب أَو بَعْدَ الصَّلَاتَيْنِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ نِصْفَ النَّهَارِ نَوْعٌ اَخَرُ لَهُ عِلَّةٌ غَيْرُ عِلَّةِ ذَيْنك الْوَقْتَيْنِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ ضَبْطَ هَذَا الْوَقْتِ مُتَعَسِّرٌ، فَقَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّهُ قَالَ صلى الله عليه وسلم:"إذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدوا بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِن فَيْحِ جَهَنَّمَ"
(3)
، وَهَذَا حَدِيثٌ اتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى صِحَّتِهِ وَتَلَقِّيه بِالْقَبُولِ، فَأَخْبَرَ أَنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِن فَيْحِ جَهَنَّمَ وَهَذَا مُوَافِق لِقَوْلِهِ:"فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ"، وَأَمَرَ بِالْإِبْرَادِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا عِنْدَ شِدَّةِ الْحَرِّ؛ لِأَنَّهُ مِن فَيْحِ جَهَنَّمَ.
وَبِالْجُمْلَةِ: جَوَازُ الصَّلَاةِ وَقْتَ الزَّوَالِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى أَصْلِ أَحْمَد أَظْهَرُ مِنْهُ عَلَى أَصْلِ غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ الْجُمُعَةَ وَقْتَ الزَّوَالِ، وَلَا يَجْعَلُ ذَلِكَ وَقْتَ
(1)
رواه مسلم (832).
(2)
رواه النسائي (559)، والبغوي في شرح السُّنَّة (776)، وقال: الصنابحي ليس له سماع من النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الطريق.
وصحح الألباني الحديث وقال: صحيح إلا قوله: "فإذا استوت قارنها فإذا زالت قارنها".
وهو يُوافق ما جنح إليه الشيخ ورجحه.
(3)
رواه البخاري (536)، ومسلم (615).
نَهْيٍ؛ بَل قَد قِيلَ فِي مَذْهَبِهِ: أَنَّهَا لَا تَجُوزُ إلَّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي هُوَ وَقْتُ نَهْيٍ فِي غَيْرِهَا.
فَعُلِمَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا، وَكَمَا أَنَّ الْإِبْرَادَ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي غَيْرِهَا لَا يُؤْمَرُ بِهِ فِيهَا؛ بَل يُنْهَى عَنْهُ، وَهُوَ مُعَلَّلٌ بِأَنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِن فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَكَذَلِكَ قَد عَلَّلَ بِأَنَّهُ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ.
وَإِذَا كَانَت مُخْتَصَّةً بِمَا سِوَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ: فَكذَلِكَ الْأُخْرَى، وَعَلَى مُقْتَضَى هَذِهِ الْعِلَّةِ لَا يُنْهَى عَن الصَّلَاةِ وَقْتَ الزَّوَالِ لَا فِي الشِّتَاءِ وَلَا يَوْمِ الْجُمُعَةِ، ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا فِي "السُّنَنِ" عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"إنَّهُ نَهَى عَن الصَّلَاةِ نِصْفَ النَّهَارِ إلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ"
(1)
، وَهُوَ أَرْجَحُ مِمَّا احْتَجُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ فِي الْفَجْرِ مُعَلَّقٌ بِالْوَقْتِ. [23/ 205 - 209]
2723 -
النَّهْيُ عَن الصَّلَاةِ فِيهَا
(2)
هُوَ مِن بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ؛ لِئَلَّا يَتَشَبَّهُ بِالْمُشْرِكِينَ فَيُفْضِي إلَى الشِّرْكِ، وَمَا كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ، لَا لِأَنَّهُ مَفْسَدَةٌ فِي نَفْسِهِ: يُشْرَعُ إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ، وَلَا تَفُوتُ الْمَصْلَحَةُ لِغَيْرِ مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ.
وَالصَّلَاةُ للهِ فِيهِ لَيْسَ فِيهَا مَفْسَدَةٌ؛ بَل هِيَ ذَرِيعَةٌ إلَى الْمَفْسَدَةِ، فَإِذَا تَعَذَّرَتِ الْمَصْلَحَةُ إلَّا بِالذَّرِيعَةِ
(3)
شُرِعَتْ، وَاكْتَفَى مِنْهَا إذَا لَمْ يَكُن هُنَاكَ مَصْلَحَةٌ، وَهُوَ التَّطَوُّعُ الْمُطْلَقُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَنْعِ مِنْهُ مَفْسَدَةٌ وَلَا تَفْوِيتُ مَصْلَحَةٍ لِإِمْكَانِ فِعْلِهِ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ.
وَهَذَا أَصْلٌ لِأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ: فِي أَنَّ مَا كَانَ مِن "بَابِ سَدِّ الذَّرِيعَةِ" إنَّمَا يُنْهَى عَنْهُ إذَا لَمْ يُحْتَجْ إلَيْهِ، وَأَمَّا مَعَ الْحَاجَةِ لِلْمَصْلَحَةِ الَّتِي لَا تَحْصُلُ إلَّا بِهِ:
(1)
رواه أبو داود (1083)، وقال: مرسل، وضعَّفه الألباني في ضعيف أبي داود.
(2)
أي: في أوقات النهي.
(3)
التي تُفضي إلى المفسدة.
فلا
(1)
يُنْهَى عَنْهُ
(2)
.
وَذَوَاتُ الْأَسْبَابِ كُلّهَا تَفُوتُ إذَا أُخِّرَتْ عَن وَقْتِ النَّهْيِ؛ مِثْل سُجُودِ التِّلَاوَةِ، وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ، وَمِثْل الصَّلَاةِ عَقِبَ الطَّهَارَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ بِلَالٍ، وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الِاسْتِخَارَةِ إذَا كَانَ الَّذِي يَسْتَخِيرُ لَهُ يَفُوتُ إذَا أُخِّرَتِ الصَّلَاةُ، وَكَذَلِكَ صَلَاةُ التَّوْبَةِ، فَإِذَا أَذْنَبَ فَالتَّوْبَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْفَوْرِ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَى أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَتُوبَ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَنَحْو قَضَاءِ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ كَمَا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَي الظُّهْرِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَكَمَا أَقَرَّ الرَّجُلُ عَلَى قَضَاءِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ بَعْدَ الْفَجْرِ مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ تَأْخِيرُهَا، لَكِنْ تَفُوتُ مَصْلَحَةُ الْمُبَادَرَةِ إلَى الْقَضَاءِ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ مَأْمُورٌ بِهِ عَلَى الْفَوْرِ فِي الْوَاجِبِ وَاجِبٌ، وَفِي الْمُسْتَحَبِّ مُسْتَحَبٌّ. [23/ 214 - 215]
2724 -
مَشَاهِدُ الْقُبُورِ وَنَحْوِهَا: اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِن دِينِ الْإِسْلَامِ أَنْ تُخَصَّ بِصَلَاةٍ أَو دُعَاءٍ أَو غَيْرِ ذَلِكَ، وَمَن ظَنَّ أَنَّ الصَّلَاةَ وَالدُّعَاءَ وَالذِّكْرَ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْهُ فِي الْمَسَاجِدِ فَقَد كَفَرَ؛ بَل قَد تَوَاتَرَت السُّنَنُ فِي النَّهْيِ عَن اتِّخَاذِهَا لِذَلِكَ. [23/ 224]
* * *
(بَاب صَلَاة الْجَمَاعَةِ)
2725 -
تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي كَوْنِهَا [أي: صلاة الجماعة] وَاجِبَةً عَلَى الْأَعْيَانِ
(3)
، أَو عَلَى الْكِفَايَةِ، أَو سُنَّةً مُؤَكَّدَةً؟
وَاَلَّذِينَ نَفَوْا الْوُجُوبَ احْتَجُّوا بِتَفْضِيلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ عَلَى
(1)
في الأصل: (وقد)، ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
هذه قاعدة مهمة جدًّا، يُحتاج إليها في كثير من مسائل الدين، وخاصَّةً في النوازل.
(3)
قال الشيخ في موضع آخر: وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. (23/ 239)
صَلَاةِ الرَّجُلِ وَحْدَهُ، قَالُوا: وَلَو كَانَت وَاجِبَةً لَمْ تَصِحَّ صَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ وَلَمْ يَكُن هُنَاكَ تَفْضِيل.
وَأَمَّا الْمُوجِبُونَ: فَاحْتَجُّوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ:
أَمَّا الْكتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102]، وَفِيهَا دَلِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَمَرَهُم بِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ مَعَهُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهَا حَالَ الْخَوْفِ، وَهُوَ يَدُلُّ بِطَرِيقِ الْأوْلَى عَلَى وُجُوبِهَا حَالَ الْأَمْنِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ سَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ جَمَاعَةً وَسَوَّغَ فِيهَا مَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ عُذْرٍ؛ كَاستِدْبَارِ الْقِبْلَةِ، وَالْعَمَلِ الْكَثِيرِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ عُذْرٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَلِكَ مُفَارَقَةُ الْإِمَامِ قَبْلَ السَّلَامِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَكَذَلِكَ التَّخَلُّفُ عَن مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ، كَمَا يَتَأَخَّرُ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بَعْدَ رُكُوعِهِ مَعَ الْإِمَامِ إذَا كَانَ الْعَدُوُّ أَمَامَهُم.
قَالُوا: وَهَذِهِ الْأُمُورُ تُبْطِلُ الصَّلَاةَ لَو فعِلَتْ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَلَو لَمْ تَكُن الْجَمَاعَةُ وَاجِبَةً؛ بَل مُسْتَحَبَّةً لَكَانَ قَد الْتَزَمَ فِعْلَ مَحْظُورٍ مُبْطِلٍ لِلصَّلَاةِ وَتُرِكَت الْمُتَابَعَةُ الْوَاجِبَةُ فِي الصَّلَاةِ لِأَجْلِ فِعْلٍ مُسْتَحَبٍّ، مَعَ أَنَّهُ قَد كَانَ مِن الْمُمْكِنِ أَنْ يُصَلُّوا وُحْدَانًا صَلَاةً تَامَّةً، فَعُلِمَ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ.
وَأَمَّا احْتِجَاجُهُم بِتَفْضِيلِ صلَاةِ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاتِهِ وَحْدَهُ فَعَنْهُ جَوَابَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَمَن صَحَّحَ صَلَاتَهُ قَالَ: الْجَمَاعَةُ وَاجِبَةٌ وَلَيْسَتْ شَرْطًا فِي الصِّحَّةِ كَالْوَقْتِ، فَإِنَّهُ لَو أَخَّرَ الْعَصْرَ إلَى وَقْتِ الِاصْفِرَارِ كَانَ آثِمًا مَعَ كَوْنِ الصَّلَاةِ صَحِيحَةً؛ بَل وَكَذَلِكَ لَو أَخَّرَهَا إلَى أَنْ يَبْقَى مِقْدَارَ رَكْعَةٍ كَمَا ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ":"مَن أَدْرَكَ رَكْعَةً مِن الْعَصْرِ فَقَد أَدْرَكَ الْعَصْرَ"
(1)
.
(1)
رواه البخاري (579)، ومسلم (608).
قَالَ: وَالتَّفْضِيلُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَفْضُولَ جَائِزٌ، فَقَد قَالَ تَعَالَى:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} [الجمعة: 9]، فَجَعَلَ السَّعْيَ إلَى الْجُمُعَةِ خَيْرًا مِن الْبَيْعِ، وَالسَّعْيُ وَاجِبٌ وَالْبَيْعُ حَرَامٌ.
وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور: 30]. [23/ 225 - 232]
2726 -
إِنْ قَصَدَ الرَّجُلُ الْجَمَاعَةَ وَوَجَدَهُم قَد صَلَّوْا: كَانَ لَهُ أَجْرُ مَن صَلَّى فِي الْجَمَاعَةِ كَمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَإِذَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً فَقَد أَدْرَكَ الْجَمَاعَةَ، وَإِن أَدْرَكَ أَقَلَّ مِن رَكْعَةٍ فَلَهُ بِنِيَّتِهِ أَجْرُ الْجَمَاعَةِ
(1)
.
وَلَكِنْ هَل يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجَمَاعَةِ، أَو يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَن صَلَّى وَحْدَهُ؟
فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَكُونُ كَمَن صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ كقَوْلِ أبِي حَنِيفَةَ.
وَالثَّانِي: يَكُونُ كَمَن صَلَّى مُنْفَرِدًا كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَهَذَا أَصَحُّ؛ لِمَا ثَبَتَ فِي "الصَّحِيح" عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"مَن أَدْرَكَ رَكْعَةً مِن الصَّلَاةِ فَقَد أَدْرَكَ الصَّلَاة"
(2)
.
وَمِن فَوَائِدِ النِّزَاعِ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا صَلَّى خَلْفَ الْمُقِيمِ أَتَمَّ الصَّلَاةَ إذَا أَدْرَكَ رَكعَةً، فَإِنْ أَدْرَكَ أَقَلَّ مِن رَكْعَةٍ فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ
(3)
.
(1)
فمن أدْرَكَ أقَلَّ مِن رَكْعَةٍ فَلَهُ أجْرُ صلاةِ الْجَمَاعَةِ إذا كان معذورًا، أما إذا كان مُفرّطًا فلا يدرك أجر صلاة الجماعة، بخلاف من أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً، فَقَد أَدْرَكَ أجر صلاةِ الْجمَاعَةَ ولو كان ما فوّته من الصلاة ناجمًا عن تهاونٍ وتفريط.
(2)
رواه البخاري (580)، ومسلم (607).
(3)
قال الشيخ في موضع آخر: يَنْبَنِي عَلَى هَذَا: أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا ائْتَمَّ بِمُقِيم وَأَدْرَكَ مَعَهُ رَكْعَةً فَمَا =
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَكونُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ وَلَا لِلْجَمَاعَةِ إلَّا بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ لَا يُعْتَدُّ لَهُ بِهِ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ مُتَابَعَةً لِلْإِمَامِ، وَلَو بَعْدَ السَّلَامِ كَالْمُنْفَرِدِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. [23/ 242 - 243]
وَيَنْبَنِي عَلَيْهِ أَيْضًا: أَنَّ الْمَرْأَةَ الْحَائِضَ إذَا طَهُرَتْ
(1)
قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ بِقَدْرِ رَكْعَةٍ لَزِمَهَا الْعَصْرُ، وَإِن طَهُرَتْ قَبْلَ الْفَجْرِ بِقَدْرِ رَكْعَةٍ لَزِمَهَا الْعِشَاءُ
(2)
، وَإن حَصَلَ ذَلِكَ بِأَقَلَّ مِن مِقْدَارِ رَكْعَةٍ لَمْ يَلْزَمْهَا شَيْءٌ.
وَأَمَّا الظُّهْرُ وَالْمَغْرِبُ: فَهَل يَلْزَمُهَا بِذَلِكَ؟ فِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ؟
فَقِيلَ: لَا يَلْزَمُهَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ
(3)
.
وَقِيلَ: يَلْزَمُهَا وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد عَن ابْنِ عَبَّاسِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ
(4)
.
ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِيمَا تَلْزَمُ بِهِ الصَّلَاةُ الْأُولَى
(5)
عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَجِبُ بِمَا تَجِبُ بِهِ الثَّانيَةُ.
وَالثَّانِي: لَا تَجِبُ إلَّا بِأَنْ تُدْرَكَ زَمَنًا يَتَّسِعُ لِفِعْلِهَا وَهُوَ أَصَحُّ.
وَقَرِيبٌ مِن هَذَا: اخْتِلَافُهُم فِيمَا إذَا دَخَلَ عَلَيْهَا الْوَقْتُ وَهِيَ طَاهِرَةٌ ثُمَّ حَاضَتْ هَل يَلْزَمُهَا قَضَاءُ الصَّلَاةِ أَمْ لَا؟
(6)
عَلَى قَوْلَيْنِ:
= فَوقَهَا فَإِنَّهُ يُتِمُّ الصَّلَاةَ، وَإِن أدْرَكَ مَعَهُ أَقَلَّ مِن رَكْعَةِ صَلَّاهَا مَقْصُورَةً، نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ بِإِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ قَد ائْتَمَّ بِمُقِيم فِي جُزْءٍ مِن صَلَاتِهِ فَلَزِمَهُ الْإِتْمَامُ، وَإِذَا لَمْ يُدْرِكْ مَعَهُ رَكْعَةً فَصَلَاتُهُ صَلَاةُ مُنْفَرِدٍ فَيُصَلِّيهَا مَقْصُورَةً. (23/ 333)
(1)
وكذا كلّ مَنْ صَارَ أَهْلًا لِوُجُوبِهَا، وأهليَّة الوجوب تكون بالتَّكليف أو زوال المانع، فيصير أهلًا لوجوبها: إذا بلغ قبل خروج الوقت، وإذا عَقِلَ قبل خروج الوقت، وإذا زال الإغماءُ قبل خروج الوقت على قول أن المُغمى عليه لا يقضي الصَّلاة.
وأما زوال المانع: فمثاله: إذا طَهُرت الحائض قبل خروج الوقت. الشرح الممتع (2/ 132).
(2)
فيه نظر؛ لأن آخر وقت العشاء نصف الليل، كما رواه مسلم في صحيحه (612).
(3)
اختاره العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله. الشرح الممتع (2/ 134).
(4)
اختاره الشيخ رحمه الله كما تقدّم.
(5)
وهي الظُّهْرُ وَالْمَغْرِبُ.
(6)
جاء في الشرح الممتع (2/ 134) في انتصاره لمذهب أَبِي حَنِيفَةَ: إن هذا مُقتضى القياس الصَّحيح؛ =
أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهَا كَمَا يَقُولُهُ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ.
وَالثَّانِي: يَلْزَمُهَا كَمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد
(1)
.
وَالْأَظْهَرُ فِي الدَّلِيلِ: مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ أَنَّهَا لَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا يَجِبُ بِأَمْر جَدِيدٍ، وَلَا أَمْرَ هُنَا يُلْزِمُهَا بِالْقَضَاءِ، وَلِأَنَّهَا أَخَّرَتْ تَأْخِيرًا جَائِزًا فَهِيَ غَيْرُ مُفَرِّطَةٍ.
وَأَمَّا النَّائِمُ أَو النَّاسِي وَإِن كَانَ غَيْرَ مُفَرِّطٍ أَيْضًا فَإِنَّ مَا يَفْعَلُهُ لَيْسَ قَضَاءً؛ بَل ذَلِكَ وَقْتُ الصَّلَاةِ فِي حَقِّهِ حِينَ يَسْتَيْقِظُ وَيَذْكُرُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَن نَامَ عَن صَلَاةٍ أَو نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا".
وَلَيْسَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثٌ وَاحِدٌ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ بَعْدَ وَقْتِهَا، وَإِنَّمَا وَرَدَت السُّنَّةُ بِالْإِعَادَةِ فِي الْوَقْتِ لِمَن تَرَكَ وَاجِبًا مِن وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ، كَأَمْرِهِ لِلْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ بِالْإِعَادَةِ لَمَّا تَرَكَ الطُّمَأْنِينَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا، وَكَأَمْرِهِ لِمَن صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ مُنْفَرِدًا بِالْإِعَادَةِ لَمَّا تَرَكَ الْمُصَافَّةَ الْوَاجِبَةَ، وَكَأَمْرِهِ لِمَن تَرَكَ لُمْعَةً مِن قَدَمِهِ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ بِالْإِعَادَةِ لَمَّا تَرَكَ الْوُضُوءَ الْمَأْمُورَ بِهِ، وَأَمَرَ النَّائِمَ وَالنَّاسِيَ بِأَنْ يُصَلِّيَا إذَا ذَكَرَا، وَذَلِكَ هُوَ الْوَقْتُ فِي حَقِّهِمَا
(2)
. [23/ 334 - 336]
2727 -
الصَّلَاةُ فِي الْجَمَاعَاتِ الَّتِي تُقَامُ فِي الْمَسَاجِدِ مِن شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ وَسُنَّتِهِ الْهَادِيَةِ.
وَصَلَاةُ الْجَمَاعَةِ مِن الْأُمُورِ الْمُؤَكَّدَةِ فِي الدِّينِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.
وَهِيَ فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ عِنْدَ أَكْثَرِ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ.
= لأننا متَّفقون على أنه لو أدرك ركعةً من صلاة الظُّهر ثم وُجِدَ مانعُ التكليف، لم يلزمه إلا قضاء الظُّهر فقط. اهـ.
وحكايته الاتفاق فيه نظر، حيث إنّ الإمامين الشَّافِعِيَّ وَأَحْمَد يرون أنه يَلْزَمُهَا قضاء العصر مع الظهر.
(1)
وكذا كلّ من أدرك ركعةً من صلاة الظُّهر أو المغرب ثم وُجِدَ مانعُ التكليف.
(2)
يرى الشيخ أن من ترك الفرض المؤقت عمدًا بلا عذر أنه لا يُقبل منه لو قضاه.
وَالْمُصِرُّ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ: رَجُلُ سُوءٍ يُنْكَرُ عَلَيْهِ ويُزْجَرُ عَلَى ذَلِكَ؛ بَل يُعَاقَبُ عَلَيْهِ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ وَإِن قِيلَ إنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَة
(1)
.
وَأَمَّا مَن كَانَ مَعْرُوفًا بِالْفِسْقِ مُضَيِّعًا لِلصَّلَاةِ: فَهَذَا دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)} [مريم: 59].
وَتَجِبُ عُقُوبَتُهُ عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَدْعُوهُ إلَى تَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ وَفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ. [23/ 250 - 252]
2728 -
مَن اعْتَقَدَ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِن صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فِي مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ ضَالٌ مُبْتَدِعٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. [23/ 253]
2729 -
تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَن صَلَّى جَمَاعَةً فِي بَيْتِهِ: هَل يَسْقُطُ عَنْهُ حُضُورُ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، أَمْ لَا بُدَّ مِن حُضُورِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ؟
وَاَلَّذِي يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَتْرُكَ حُضُورَ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ إلَّا لِعُذْرٍ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ السُّنَنُ وَالْآثَارُ. [23/ 254 - 255]
2730 -
وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَن رَجُلٍ أَدْرَكَ آخِرَ جَمَاعَةٍ، وَبَعْدَ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ جَمَاعَةٌ أُخْرَى، فَهَل يُسْتَحَبُّ لَهُ مُتَابَعَةُ هَؤُلَاءِ في آخِرِ الصَّلَاةِ، أَو يَنْتَظِرُ الْجَمَاعَةَ الْأُخْرَى؟
فَأَجَابَ: أَمَّا إذَا أَدْرَكَ أَقَلَّ مِن رَكْعَةٍ: فَهَذا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ هَل يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجَمَاعَةِ بِأَقَلَّ مِن رَكْعَةٍ أَمْ لَا بُدَّ مِن إدْرَاكِ رَكْعَةٍ؟ فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ يَكُونُ مُدْرِكًا.
وَمَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا إلَّا بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ.
وَالْأَظْهَرُ هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" عَن أَبِي
(1)
وهذا مما يجهله الكثير من الناس، فيقول: لا يجوز الإنكار على من يترك الصلاة جماعة في المساجد ممن يقدم إلى هذه البلاد -أعني المملكة العربية السعودية- لأن مذهبهم لا يرى وجوب صلاة الجماعة.
هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَن أَدْرَكَ رَكْعَةً مِن الصَّلَاةِ فَقَد أَدْرَكَ الصلَاةَ"
(1)
، فَهَذَا نَصٌّ عَامٌّ فِي جَمِيعِ صُوَرِ إدْرَاكِ رَكْعَةٍ مِن الصَّلَاةِ، سَوَاءٌ كَانَ إدْرَاكَ جَمَاعَةٍ أَو إدْرَاكَ الْوَقْتِ.
فَعَلَى هَذَا: إذَا كَانَ الْمُدْرَكُ أَقَلَّ مِن رَكْعَةٍ وَكَانَ بَعْدَهَا جَمَاعَةٌ أُخْرَى فَصَلَّى مَعَهُم فِي جَمَاعَةٍ صَلَاةً تَامَّةً: فَهَذَا أَفْضَلُ؛ فَإِنَّ هَذَا يَكُونُ مُصَلِّيًا فِي جَمَاعَةٍ، بِخِلَافِ الْأوَّلِ.
وَإِن كَانَ الْمُدْرَكُ رَكْعَةً، -أَو كَانَ أَقَلَّ مِن رَكْعَةٍ وَقُلْنَا إنَّهُ يَكُونُ بِهِ مُدْرِكًا لِلْجَمَاعَةِ
(2)
- فَهُنَا قَد تَعَارَضَ إدْرَاكُهُ لِهَذِهِ الْجَمَاعَةِ
(3)
وَإِدْرَاكُهُ لِلثَّانِيَةِ مِن أَوَّلهَا: فَإِنَّ إدْرَاكَ الْجَمَاعَةِ مِن أَوَّلهَا أَفْضَلُ.
وَإِن تَمَيَّزَت الْأُولَى بِكَمَالِ الْفَضِيلَةِ، أَو كَثْرَةِ الْجَمْعِ، أَو فَضْلِ الْإِمَامِ، أَو كَوْنِهَا الرَّاتِبَةَ: فَهِيَ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ أَفْضَلُ، وَتَلْكَ مِن جِهَةِ إدْرَاكِهَا بِحَدِّهَا أَفْضَلُ.
وَقَد يَتَرَجَّحُ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً.
وَأَمَّا إنْ قُدِّرَ أَنَّ الثَّانِيَةَ أَكْمَلُ أَفْعَالًا وَإِمَامًا أَو جَمَاعَةً: فَهُنَا قَد تَرَجَّحَتْ مِن وَجْهٍ آخَرَ.
وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَمْ تَكُنْ تُعْرَفُ فِي السَّلَفِ، إلا إذَا كَانَ مُدْرِكًا لِمَسْجِدٍ آخَرَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُن يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ الْوَاحِدِ إمَامَانِ رَاتِبَانِ وَكَانَت الْجَمَاعَةُ تتوَفَّرُ مَعَ الْإِمَامِ الرَّاتِبِ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ صَلَاتَهُ مَعَ الْإِمَام الرَّاتِب فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً وَلَو رَكْعَةً خَيْرٌ مِن صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَلَو كَانَ جَمَاعَةً
(4)
. [23/ 255 - 258]
(1)
رواه البخاري (580)، ومسلم (607).
(2)
على القول الضعيف.
(3)
التي فات منها بعض الركعات.
(4)
وصلاتُه في بيتِه جماعة خيرٌ من صلاتِه في المسجد منفردًا.
(هل تبرأ ذمَّة الْإِنْسَانِ إذَا تَرَكَ الْجَمَاعَةَ وَصَلَّى وَحْدَهُ؟ وما حكم صَلَاةِ التَّطَوُّعِ مُضْطَجِعًا
؟)
2731 -
مِن النَّاسِ مَن لَا يَعْرِفُ مَذَاهِبَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَد نَشَأَ عَلَى قَوْلٍ لَا يَعْرِفُ غَيْرَهُ، فَيَظُنُّهُ إجْمَاعًا؛ كَمَن يَظنُّ أَنَّهُ إذَا تَرَكَ الْإِنْسَانُ الْجَمَاعَةَ وَصَلَّى وَحْدَهُ بَرِئَتْ ذِمَّتُة إجْمَاعًا، وَلَيْسَ الْأمْرُ كَذَلِكَ؛ بَل لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ فِي إجْزَاء هَذِهِ الصَّلَاةِ، وَفِي مَذْهَبِ أَحْمَد فِيهَا قَوْلَانِ، فَطَائِفَةٌ مِن قُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ يَقُولُونَ: مَن صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ وَحْدَهُ مِن غَيْرِ عُذْرٍ يُسَوِّغُ لَهُ ذَلِكَ فَهُوَ كَمَن صَلَّى الظُّهْرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ؛ فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُؤَدِّيَهَا فِي جَمَاعَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ ذَلِكَ، وَإِلَّا بَاءَ بِإِثْمِهِ كَمَا يَبُوءُ تَارِكُ الْجُمُعَةِ بِإِثْمِهِ، وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ، وَهَذَا قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَكْثَرُ الْآثَارِ الْمَرْوِّيَةِ عَن السَّلَفِ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَابِعِينَ تَدُلُّ عَلَى هَذَا
(1)
.
وَقَد احْتَجُّوا بِمَا ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَن سَمِعَ النِّدَاءَ ثُمَّ لَمْ يُجِبْ مِن غَيْرِ عُذْرٍ فَلَا صَلَاةَ لَهُ"
(2)
.
وَأَجَابُوا عَن حَدِيثِ التَّفْضِيلِ بِأَنَّهُ فِي الْمَعْذُورِ الَّذِي تُبَاحُ لَهُ الصَّلَاةُ وَحْدَهُ.
كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "صَلَاةُ الرَّجُلِ قَاعِدًا عَلَى النِّصْفِ مِن صَلَاةِ الْقَائِمِ، وَصَلَاةُ الْمُضْطَجِعِ عَلَى النِّصْفِ مِن صَلَاةِ الْقَاعِدِ"
(3)
، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَعْذُورُ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ خَرَجَ وَقَد أَصَابَهُم وَعْكٌ، وَهُم يُصَلُّونَ قُعُودًا فَقَالَ ذَلِكَ.
وَلَمْ يُجَوِّزْ أَحَدٌ مِن السَّلَفِ صَلَاةَ التَّطَوُّعِ مُضْطَجِعًا مِن غَيْرِ عُذْرٍ، وَلَا
(1)
وقد اختار هذا القول الشيخ رحمه الله في موضعين في الفتاوى.
(2)
رواه الترمذي (217)، وابن ماجه (793)، وصحَّحه الألباني في صحيح الترغيب (426).
(3)
رواه البخاري بنحوه (1115).
يُعْرَفُ أَنَّ أَحَدًا مِن السَّلَفِ فَعَلَ ذَلِكَ، وَجَوَازُهُ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد، وَلَا يُعْرَفُ لِصَاحِبِهِ سَلَفُ صِدْقٍ مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِمَّا تَعُمُّ بِهَا الْبَلْوَى. [7/ 35 - 36]
* * *
(بَاب الْإِمَامَةِ)
2732 -
كَانَ صلى الله عليه وسلم يُصلِّي إمَامًا بِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، يُصَلِّي عَلَى مَا يُصلُّونَ عَلَيْهِ، وَيَقْعُدُ عَلَى مَا يَقْعُدُونَ عَلَيْهِ، لَمْ يَكُن مُتَمَيِّزًا عَنْهُم بِشَيْء يَقْعُدُ عَلَيْهِ، لَا سَجَّادَةٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَكِنْ يَسْجُدُ أَحْيَانًا عَلَى الْخَمِيرَةِ -وَهِيَ شَيْءٌ يُصْنَعُ مِنَ الْخُوصِ صَغِيرٌ- يَسْجُدُ عَلَيْهَا أَحْيَانًا؛ لِأنَّ الْمَسْجِدَ لَمْ يَكُن مَفْرُوشًا؛ بَل كَانُوا يُصَلُّونَ عَلَى الرَّمْلِ وَالْحَصَى، وَكَانَ أَكثَرَ الْأَوْقَاتِ يَسْجُدُ عَلَى الْأَرْضِ حَتَّى يَبِينَ الطِّينُ فِي جَبْهَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. [21/ 118]
2733 -
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَّبِعُوا إمَامَهُم إذَا فَعَلَ مَا يَسُوغُ؛ فَإِنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ"
(1)
. [22/ 253]
2734 -
تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَ كُلِّ مُسْلِمٍ مَسْتُورٍ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ.
فَمَن قَالَ: لَا أُصَلِّي جُمْعَةً وَلَا جَمَاعَةً إلَّا خَلْفَ مَن أَعْرِفُ عَقِيدَتَهُ فِي الْبَاطِنِ: فَهَذَا مُبْتَدِعٌ مُخَالِفٌ لِلصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَانٍ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ. [4/ 542]
2735 -
وَسُئِلَ: عَن رَجُلٍ أَدْرَكَ مَعَ الْجَمَاعَةِ رَكْعَةً، فَلَمَّا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَامَ لِيُتِمَّ صَلَاتَهُ، فَجَاءَ آخَرُ فَصَلَّى مَعَهُ، فَهَل يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِهَذَا الْمَأْمُومِ؟
فَأَجَابَ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَفِي صَلَاتِهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ، لَكِنَّ
(1)
رواه البخاري (378)، ومسلم (411).
الصَّحِيحَ أَنَّ مِثْل هَذَا جَائِزٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ إذَا كَانَ الْإِمَامُ قَد نَوَى الْإِمَامَةَ وَالْمُؤتَمُّ قَد نَوَى الِائْتِمَامَ.
فَإِنْ نَوَى الْمَأْمُومُ الِائْتِمَامَ، وَلَمْ يَنْوِ الْإِمَامُ الْإِمَامَةَ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَصِحُّ؛ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ رِوَايَة عَن أَحْمَد.
وَالثَّانِي: لَا تَصِحُّ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَن أَحْمَد.
وَذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ كَانَ مُوتَمًّا فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ، وَصَارَ مُنْفَرِدًا بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ، فَإِذَا ائتَمَّ بِهِ ذَلِكَ الرَّجُلُ: صَارَ الْمُنْفَرِدُ إمَامًا، كَمَا صَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إمَامًا بِابْنِ عَبَّاسٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُنْفَرِدًا.
وَهَذَا يَصِحُّ فِي النَّفْلِ كَمَا جَاءَ فِي هَذَاْ الْحَدِيثِ كَمَا هُوَ مَنْصُوصٌ عَن أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَإِن كَانَ قَد ذُكِرَ فِي مَذْهَبِهِ قَوْلٌ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ.
وَأَمَّا فِي الْفَرْضِ فَنِزَاعٌ مَشْهُورٌ وَالصَّحِيحُ جَوَازُ ذَلِكَ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ
(1)
. [22/ 257 - 258]
2736 -
تَنَازَعُوا
(2)
فِيمَا إذَا تَرَكَ الْإِمَامُ مَا يَعْتَقِدُ الْمَأْمُومُ وُجُوبَهُ؛ مِثْل أَنْ يَتْرُكَ قِرَاءَةَ الْبَسْمَلَةِ وَالْمَأْمُومُ يَعْتَقِدُ وُجُوبَهَا، أَو يَمَسَّ ذَكَرَهُ وَلَا يَتَوَضَّأُ وَالْمَأْمُومُ يَرَى وُجُوبَ الْوُضُوءِ مِن ذَلِكَ، أَو يُصَلِّيَ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ الْمَدْبُوغَةِ وَالْمَأْمُومُ يَرَى أَنَّ الدِّبَاغَ لَا يُطَهِّرُ، أَو يَحْتَجِمَ وَلَا يَتَوَضَّأُ وَالْمَأْمُومُ يَرَى الْوُضُوءَ مِنَ الْحِجَامَةِ.
وَالصَّحِيحُ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ صَحِيحَةٌ خَلْفَ إمَامِهِ، وَإِن كَانَ إمَامُهُ مُخْطِئًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ لِمَا ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ"
(3)
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "يُصَلُّونَ لَكُمْ فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُم وَإِن أَخْطَؤوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ"
(4)
. [22/ 267]
(1)
وهو اختيار العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله كما في الشرح الممتع (2/ 306).
(2)
أي: العلماء.
(3)
البخاري (694).
(4)
كل هذا من أجل تأليف القلوب، وعدم إحداث ما يُوغل الصدور، ويفرق الأمة، فكيف =
2737 -
لَو كَانَ الْإِمَامُ يَرَى اسْتِحْبَابَ شَيْءٍ، وَالْمَأمُومُونَ لَا يَسْتَحِبُّونَهُ، فَتَرَكُهُ لِأجْلِ الِاتِّفَاقِ والائتلاف: كَانَ قَد أَحْسَنَ.
مِثَالُ ذَلِكَ: الْوِتْرُ، فَإِنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ:
أحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلا بِثَلَاث مُتَّصِلَةٍ؛ كَالْمَغْرِبِ.
وَالثَّاني: أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلا رَكْعَةً مَفْصُولَةً عَمَّا قَبْلَهَا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الأمْرَيْنِ جَائِزَانِ؛ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ -وَإِن كَانَ هَؤُلَاءِ يَخْتَارُونَ فَصْلَهُ عَمَّا قَبْلَهُ-.
فَلَو كَانَ الْإِمَامُ يَرَى الْفَصْلَ، فَاخْتَارَ الْمَأْمُومُونَ أَنْ يُصَلِّيَ الْوِتْرَ كَالْمَغْرِبِ، فَوَافَقَهُم عَلَى ذَلِكَ تَأْليفًا لِقُلُوبِهِمْ: كَانَ قَد أَحْسَنَ؛ كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لِعَائِشَةَ: "لَوْلَا أَنَّ قَوْمَك حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لنَقَضْت الْكَعْبَةَ وَلَأَلْصَقْتهَا بِالْأَرْضِ وَلَجَعَلْت لَهَا بَابَيْنِ بَابًا يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْهُ وَبَابًا يَخْرُجُونَ مِنْهُ"
(1)
فَتَرَكَ الْأَفْضَلَ عِنْدَهُ؛ لِئَلَّا يَنْفِرَ النَّاسُ.
وَكَذَلِكَ لَو كَانَ رَجُل يَرَى الْجَهْرَ بِالْبَسْمَلَةِ فَأَمَّ بقَوْم لَا يَسْتَحِبُّونَهُ أَو بِالْعَكْسِ وَوَافَقَهُمْ: كَانَ قَد أَحْسَنَ، وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي الْأفضَلِ، فَهُوَ بِحَسَبِ مَا اعْتَقَدُوهُ مِنَ السُّنَةِ
(2)
. [22/ 268 - 269]
فَالصَّوَابُ أَنَّ مَا لَا يُجْهَرُ بِهِ قَد يُشْرَع الْجَهْرُ بِهِ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ، فَيُشْرَعُ لِلْإِمَامِ أَحْيَانًا لِمِثْل تَعْلِيمِ الْمَأْمُومِينَ وَيَسُوغُ لِلْمُصَلِّينَ أَنْ يَجْهَرُوا بِالْكَلِمَاتِ
= يسعى بعض الناس -هداهم الله- إلى تفريق الأمة بالقدح في بعض رؤوسها وكبارها من المشايخ والخطباء والمصلحين، وسبهم وتتبع عثراتهم!.
(1)
رواه البخاري (126).
(2)
وقال رحمه الله: يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْصِدَ إلَى تَأْلِيفِ الْقُلُوبِ بِتَرْكِ هَذه الْمُسْتَحَبَّاتِ؛ لِأنَّ مَصْلَحَةَ التَّألِيفِ فِي الدِّينِ أَعْظَمُ مِن مَصْلَحَةِ فِعْلِ مِثْل هَذَا؛ كَمَا تَرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَغْيِيرَ بِنَاءِ الْبَيْتِ لِمَا فِي إبْقَائِهِ مِن تَأْلِيفِ الْقُلُوبِ، وَكَمَا أنْكَرَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَى عُثْمَانَ إتْمَامَ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ ثُمَّ صَلَّى خَلْفَهُ مُتِمًّا، وَقَالَ: الْخِلَافُ شَرٌّ. (22/ 407)
الْيَسِيرَةِ أحْيَانًا، ويسُوغُ أَيْضًا أَنْ يَتْرُكَ الْإِنْسَانُ الْأَفْضَلَ لِتَأْلِيفِ الْقُلُوبِ وَاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ خَوْفًا مِنَ التَّنْفِيرِ عَمَّا يَصْلُحُ، كَمَا تَرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِنَاءَ الْبَيْتِ عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ؛ لِكَوْنِ قُرَيْشٍ كَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ وَخَشِيَ تَنْفِيرَهُم بِذَلِكَ، وَرَأَى أَنَّ مَصْلَحَةَ الِاجْتِمَاعِ والائتلاف مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَصْلَحَةِ الْبِنَاءِ عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ
(1)
. [22/ 436 - 437]
2738 -
الْأَفْضَلُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَحَرَّى صَلَاةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الَّتِي كَانَ يُصَلِّيهَا بِأصْحَابِهِ؛ بَل هَذَا هُوَ الْمَشْرُوعُ الَّذِي يَأمُرُ بِهِ الْأَئِمَّةُ؛ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّهُ قَالَ لِمَالِكِ بْنِ الحويرث وَصَاحِبهِ: "إذَا حَضَرَت الصَّلَاةُ فَأذِّنَا وَأَقِيمَا وَلْيَؤُمَّكُمَا أَحَدُكمَا وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي"
(2)
.
(1)
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ترك هدم الكعبة، وبناءَها على قواعد إبراهيم عليه السلام، وهذه مصلحةٌ شرعيةٌ عظيمة، ويستفيد منها الناسُ من وقته إلى وقتنا وبعد ذلك، ولكن ترك النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هذه المصلحة العامة، لأجل الخوف من مفسدةٍ أعظم منها، وهي تشكيك بعض الذين أسلموا حديثًا، واضطراب إيمانهم، مع أن ذلك لن يُؤثر على الدولة الإسلامية الكبيرة، ولكن القائد الأعظم كان يخاف ويُشفق على جميع أفراد الدولة، ويُقدم مصلحة صفاء عقيدتهم على المصلحةٍ العامةٍ، ولكنها دون هذا المصلحة؛ فإذا كان هدم الكعبة أهون عند الله من إراقة دم مُسلم، فتركُ ترميمها أهون عند الله من دخول الشك في قلوب بعض المسلمين، الذين أسَلموا حديثًا.
والنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَكُفُّ عَن قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ مَعَ كَوْنِهِ مَصْلَحَةً عظيمة؛ لِئَلَّا يُؤدِّي ذلك إلى مفسدةٍ أكبر، وهي قَوْلُ النَّاسِ أنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم يَقْتُلُ أصْحَابَهُ؛ "لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُوجِبُ النُّفُورَ عَنِ الْإِسْلَامِ مِمَن دَخَلَ فِيهِ وَمِمَن لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ وَهَذَا النُّفُورُ حَرَامٌ". يُنظر: إقامة الدليل على إبطال التحليل، لشيخ الإسلام ابن تيمية (3/ 471).
فأين مَن يسفك دماء المسلمين، لأجل أنهم خالفوهم في توجهاتهم وآرائهم، وأدَّتْ أفعالُهم النُّفُورَ عَنِ الْإِسْلَامِ مِمَن دَخَلَ فِيهِ وَمِمَن لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ، وَهَذَا النُّفُورُ حَرَامٌ كما قاله شيخ الإسلام رحمه الله.
وأين من يتهجم على العلماء والمصلحين، ويُطلق السب والطعن عليهم لكونهم اختلفوا معه في آراءٍ رأوها، وأقوالٍ اجتهدوا فيها، أين هم من مراعاة مصلحة الاجتماع والائتلاف، والتي قدّمها نبيُّنا ولإمامنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم على أمور شرعية ودينية عظيمة؟ يُنظر: المَعيْنُ الْجَارِي فِيْ اسْتِنْبَاطِ الْفَوَائِدِ واللَّطَائِفِ مِن صَحِيْحِ الْبُخَارِي، للمؤلف (665).
(2)
رواه البخاري (658)، ومسلم (674).
وَقَد ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي "الصَّحِيحِ": "أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأ فِي الْفَجْرِ بِمَا بَيْنَ السِّتِّينَ آيَةً إلَى مِائَةِ آيَةٍ"
(1)
، وَهَذَا بِالتَّقْرِيبِ نَحْوُ ثُلُثِ جُزْءٍ إلَى نِصْفِ جُزْءٍ مِن تَجْزِئَةِ ثَلَاثِينَ، فَكَانَ يَقْرَأُ بِطِوَالِ الْمُفَضلِ.
وَكَانَ يَقْرَأ فِي الظُّهْرِ بِأَقَلَّ مِن ذَلِكَ بِنَحْوِ ثَلَاثِينَ آيَةً.
وَيَقْرَأ فِي الْعَصْرِ بِأَقَل مِن ذَلِكَ.
وَيَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِأَقَلَّ مِن ذَلِكَ مِثْل قِصَارِ الْمُفَصَّلِ.
وَفِي الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ بِنَحْوِ: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)} [الشمس: 1]، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)} [الليل: 1]، وَنَحْوِهِمَا.
وَكَانَ أَحْيَانًا يُطِيلُ الصَّلَاةَ وَيَقْرَأُ بِأَكْثَرَ مِن ذَلِكَ.
وَلَيْسَ لِلْإمَامِ أنْ يُطِيلَ عَلَى الْقَدْرِ الْمَشْرُوعِ إلَّا أَنْ يَخْتَارُوا ذَلِكَ؛ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّهُ قَالَ صلى الله عليه وسلم: "إذَا أَمَّ أحَدُكمْ النَّاسَ فَلْيُخَفِّفْ وَإِذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ"
(2)
.
وَكَانَ يُطِيلُ الركُوعَ وَالسُّجُودَ والاعتدالين.
وَفِي "السُّنَنِ"
(3)
أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ شَبَّهَ صَلَاةَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِصَلَاتِهِ، وَكَانَ عُمَرُ يُسَبِّحُ فِي الرُّكُوعِ نَحْو عَشْرِ تَسْبِيحَاتٍ، وَفِي السُّجُودِ نَحْو عَشْرِ تَسْبِيحَاتٍ
(4)
.
فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ فِي الْغَالِبِ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ فِي الْغَالِبِ.
وَإِذَا اقْتَضَتِ الْمَصْلَحَةُ أَنْ يُطِيلَ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ أَو يُقَصِّرَ عَن ذَلِكَ فَعَلَ ذَلِكَ؛ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحْيَانًا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ وَأَحْيَانًا يُنْقِصُ عَن ذَلِكَ. [22/ 315 - 318]
(1)
رواه مسلم (461، 647).
(2)
رواه البخاري (703).
(3)
راوه أبو داود (888) وغيره، وضعَّفه الألباني في ضعيف أبي داود.
(4)
وهذا ما يُفعل في قيام الليل في العشر الأواخر من رمضان، ولو فعلها أحد الأئمة في غيرها لأنكر عليه العامة وربما أصبح حديث المجالس!
2739 -
إِنَّ الْمَسَاجِدَ يَجِبُ أَنْ يُوَلَّى فِيهَا الْأَحَقُّ شَرْعًا، وَهُوَ الْأَقْرَأُ لِكِتَابِ اللهِ وَالْأَعْلَمُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، الْأَسْبَقُ إلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ مِثْل أَنْ يَكُونَ أَسْبَقَ هِجْرَةً أَو أَقْدَمَ سِنًّا.
فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْأَحَقُّ هُوَ الْمُتَوَلِّي فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عَزْلُهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. [31/ 95]
2740 -
كَانَ أَحْمَدُ رحمه الله فِي الْمَنْصُوصِ عَنْهُ وَطَائِفَةٌ مِن أَصْحَابِهِ يَقُولُ: يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ لِلْحَاجَةِ، كَمَا فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَكَمَا لَو كَانَ الْمُفْتَرِضُ غَيْرَ قَارِئٍ كَمَا فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ وَمُعَاذٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَإِن كَانَ لَا يُجَوّزُهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.
وَيُشْبِهُ هَذَا: مُفَارَقَةُ الْمَأْمُومِ إمَامَهُ قَبْلَ السَّلَامِ، فَعَنْهُ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: أَوْسَطُهَا جَوَاز ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ، كَمَا تَفْعَلُ الطَّائِفَةُ الْأُولَى فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَكَمَا فَعَلَ الَّذِي طَوَّلَ عَلَيْهِ مُعَاذٌ صَلَاةَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ لَمَّا شَقَّ عَلَيْهِ طُولُ الصَّلَاةِ.
وَلهَذَا جَوَّزَ أَحْمَد عَلَى الْمَشْهُورِ عَنْهُ أَنْ تَؤُمَّ الْمَرْأَةُ الرِّجَالَ لِحَاجَةِ؛ مِثْل أَنْ تَكُونَ قَارِئَةً وَهُم غَيْرُ قَارِئينَ فَتُصَلِّي بِهِمُ التَّرَاوِيحَ، كَمَا أَذِنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأُمِّ وَرَقَةَ أَنْ تَؤمَّ أَهْلَ دَارِهَا، وَجَعَلَ لَهَا مُؤَذِّنًا وَتَتَأَخَّرُ خَلْفَهُمْ
(1)
، وَإِن كَانُوا مَأْمُومِينَ بِهَا لِلْحَاجَةِ.
(1)
رواه الإمام أحمد (27283)، وأبو داود (591)، وحسَّنه الألباني في صحيح أبي داود.
قال في المغني (3/ 33): وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا يَصِحُّ أنْ يَأْتَمَّ بِهَا الرَّجُلُ بِحَالٍ، فِي فَرْضٍ وَلَا نَافِلَةٍ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ أبُو ثَوْرٍ: لَا إعَادَةَ عَلَى مَن صَلَّى خَلْفَهَا. وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الْمُزَنِيّ.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَجُوزُ أنْ تَؤُمَّ الرِّجَالَ فِي التَّرَاوِيحِ، وَتَكُونَ وَرَاءَهُمْ؛ لِمَا رُوِيَ عَن أُمِّ وَرَقَةَ بِنْتِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ، "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ لَهَا مُؤَذِّنَا يُؤَذِّنُ لَهَا، وَأَمَرَهَا أَنْ تَؤُمَّ أَهْلَ دَارِهَا". رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَهَذَا عَامُّ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ.
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلًا"، وَلأَنَّهَا لَا تُؤَذِّنُ لِلرِّجَالِ، فَلَمْ يَجُزْ أنْ تَؤُمَّهُمْ، كَالْمَجْنُونِ. =
وَهُوَ حُجَّةٌ لِمَن يُجَوِّزُ تَقَدُّمَ الْمَأْمُومِ لِحَاجَة، هَذَا مَعَ مَا رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم مِن قَوْلِهِ:"لَا تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلًا"
(1)
، وَأنَّ الْمَنْعَ مِن إمَامَةِ الْمَرْأَةِ بِالرِّجَالِ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. [23/ 247 - 249]
2741 -
مَن كَانَ إمَامًا رَاتِبًا فِي مَسْجِدٍ فَصَلَاتُهُ فِيهِ إذَا لَمْ تَقُمْ الْجَمَاعَةُ إلَّا بِهِ أَفْضَلُ مِن صَلَاتِهِ فِي غَيْرِهِ وَإِن كَانَ أَكْثَرَ جَمَاعَةٍ. [23/ 252]
2742 -
قال صلى الله عليه وسلم: "يَؤُمُّ الْقَوْمَ أقرَؤُهُم لِكِتَاب اللهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُم بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا في السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُم هِجْرَةً"
(2)
.
فَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ أَو الْعِلْمِ بِالسُّنَةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ.
وَإِنَّمَا يَكونُ تَرْجِيحُ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ عَلَى بَعْضٍ إذا اسْتَوَوْا فِي الْمَعْرِفَةِ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ وَفَعَلَهَا عَلَى السُّنَّةِ، وَفِي دِينِ الْإِمَامِ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ الْمَأْمُومُ عَن نَقْصِ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ.
فَإِذَا اسْتَوَيَا فِي كَمَالِ الصَّلَاةِ: قُدِّمَ الْأَقْرَأُ، ثُمَّ الْأَعْلَمُ بِالسُّنَّةِ، وَإِلَّا فَفَضْلُ الصَّلَاةِ فِي نَفْسِهَا مُقَدَّمٌ عَلَى صِفَةِ إمَامِهَا.
وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ فِيهَا مُقَدَّمٌ عَلَى مَا يُسْتَحَبُّ مِن ذَلِكَ. [23/ 244]
فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا فَاجِرًا؛ مِثْل أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِالْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ وَنَحْوِ
= وَحَدِيثُ أُمِّ وَرَقَةَ إنَّمَا أذِنَ لَهَا أَنْ تَؤُمَّ نِسَاءَ أَهْلِ دَارِهَا، كَذَلِكَ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيِّ. وَهَذِهِ زِيادَةٌ يَجِبُ قَبُولُهَا، وَلَو لَمْ يُذْكَرْ ذَلِكَ لَتَعَيَّنَ حَمْلُ الْخَبَرِ عَلَيْهِ؛ لِأنَّهُ أَذِنَ لَهَا أَنْ تَؤُمَّ فِي الْفَرَائِضِ، بِدَليلِ أَنَّهُ جَعَلَ لَهَا مُؤَذنًا، وَالْأذَانُ إنَّمَا يُشْرَعُ فِي الْفَرَائِضِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا لَا تَؤُمُّهُم فِي الْفَرَائِضِ، وَلأنَّ تَخْصِيصَ ذَلِكَ بِالتَّرَاوِيحِ وَاشْتِرَاطَ تَأَخُّرِهَا تَحَكُّمٌ يُخَالِفُ الْأصُولَ بغَيْرِ دَليلٍ، فَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، وَلَو قُدِّرَ ثُبُوتُ ذَلِكَ لِأُمِّ وَرَقَةَ، لَكَانَ خَاصًّا بِهَا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ لِغَيْرِهَا مِن النِّسَاءِ أذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ، فتَخْتَصُّ بِالْأِمَامَةِ لِاخْتِصَاصِهَا بِالْأذَانِ وَالْإِقَامَةِ. اهـ.
(1)
ضغفه الألباني في ضعيف ابن ماجه (204).
(2)
رواه مسلم (673).
ذَلِكَ مِن أسْبَابِ الْفُسُوقِ، وَالْآخَرُ مُؤمِنًا مِن أَهْلِ التَّقْوَى، فَهَذَا الثَّانِي أَوْلَى بِالْأِمَامَةِ إذَا كَانَ مِن أَهْلِهَا، وَإِن كَانَ الْأوَّلُ أَقْرَأ وَأَعْلَمَ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ خَلْفَ الْفَاسِقِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا نَهْيَ تَحْرِيمٍ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَنَهْيَ تَنْزِيهٍ عِنْدَ بَعْضِهِمْ. [23/ 341]
2743 -
الصَّلَاةُ خَلْفَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَخَلْفَ أَهْلِ الْفُجُورِ: فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ، لَكِنْ أَوْسَطُ الْأقْوَالِ فِي هَؤُلَاءِ أَنَّ تَقْدِيمَ الْوَاحِدِ مِن هَؤُلَاءِ فِي الْإِمَامَةِ لَا يَجُوزُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى غَيْرِهِ.
فَإِنَّ مَن كَانَ مُظْهِرَا لِلْفُجُورِ أَو الْبِدَعِ يَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَنَهْيُهُ عَن ذَلِكَ، وَأَقَلُّ مَرَاتِبِ الْإِنْكارِ هَجْرُهُ لِيَنْتَهِيَ عَن فُجُورِهِ وَبِدْعَتِهِ.
وَلهَذَا فَرَّقَ جُمْهُورُ الْأئِمَّةِ بَيْنَ الدَّاعِيَةِ وَغَيْرِ الدَّاعِيَةِ؛ فَإِنَّ الدَّاعِيَةَ أَظْهَرَ الْمُنْكَرَ فَاسْتَحَقَّ الْإِنْبهَارَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ السَّاكِتِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَن أَسَرَّ بِالذَّنْبِ فَهَذَا لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ، فَإِنَّ الْخَطِيئَةَ إذَا خَفِيَتْ لَمْ تَضُرَّ إلا صَاحِبَبها وَلَكِنْ إذَا اعْلِنَتْ فَلَمْ تُنْكَرْ ضَرَّت الْعَامَّةَ؛ وَلهَذَا كَانَ الْمُنَافِقُونَ تُقْبَلُ مِنْهُم عَلَانِيَتَهُم وَتُوكَلُ سَرَائِرُهُم إلَى اللهِ تَعَالَى بِخِلَافِ مَن أظْهَرَ الْكُفْرَ.
فَإِذَا كَانَ دَاعِيَةً: مُنِعَ مِن وِلَايَتِهِ وَإِمَامَتِهِ وَشَهَادَتِهِ وَرِوَايَتِهِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِن النَّهْيِ عَن الْمُنْكرِ، لَا لِأجْلِ فَسَادِ الصَّلَاةِ أَو اتِّهَامِهِ فِي شَهَادَتِهِ وَرِوَايَتِهِ
(1)
.
فَإِذَا أمْكَنَ لِإِنْسَان أَلَّا يُقَدِّمَ مُظْهِرَا لِلْمُنْكرِ فِي الْإِمَامَةِ وَجَبَ ذَلِكَ.
لَكِنْ إذَا وَلَّاهُ غَيْرُهُ وَلَمْ يُمْكِنْهُ صَرْفُهُ عَن الْإِمَامَةِ، أَو كَانَ هُوَ لَا يَتَمَكَّنُ
(1)
هذا صريح في صحة الصلاة خَلْفَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَخَلْفَ أَهْلِ الْفُجُورِ، وهذا بخلاف ما نقله البعلي رحمه الله (ص 107)، عن الشيخ أنه يرى عدم صحة الصلاة خلفهم مع القدرة، وقد يكون فهم ذلك من العبارة السابقة:"الصَّلَاةُ خَلْفَ أَهْلِ الْأهْوَاءِ وَالْبِدَع وَخَلْفَهم أَهْلِ الْفُجُورِ: فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ، لَكِنْ أَوْسَطُ الْأَقْوَالِ فِي هَؤُلَاءِ أَنَّ تَقْدِيمَ الْوَاحِدِ مِن هَؤُلَاءِ فِي الْإِمَامَةِ لَا يَجُوزُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى غَيْرِهِ". اهـ.
وفرق بين منع تقديمهم في الإمامة وبين عدم صحة الصلاة خلفهم لو قُدموا.
مِن صَرْفِهِ إلَّا بِشَرّ أَعْظَمَ ضَرَرًا مِن ضَرَرِ مَا أَظْهَرَهُ مِن الْمُنْكَرِ: فَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الْفَسَادِ الْقَلِيلِ بِالْفَسَادِ الْكَثِيرِ، وَلَا دَفْعُ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ بِتَحْصِيلِ أَعْظَمِ الضَّرَرَيْنِ، فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ جَاءَت بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ.
وَمَطْلُوبُهَا تَرْجِيحُ خَيْرِ الْخَيْرَيْنِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَجْتَمِعَا جَمِيعًا، وَدَفْعُ شَرِّ الشَّرَّيْنِ إذَا لَمْ يَنْدَفِعَا جَمِيعًا.
فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ مَنْعُ الْمُظْهِرِ لِلْبِدْعَةِ وَالْفُجُورِ إلَّا بِضَرَر زَائِدٍ عَلَى ضَرَرِ إمَامَتِهِ: لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ بَل يُصَلِّي خَلْفَهُ مَا لَا يُمْكِنُهُ فِعْلُهَا إلَّا خَلْفَهُ؛ كَالْجُمَعِ، وَالْأَعْيَادِ، وَالْجَمَاعَةِ إذَا لَمْ يَكُن هُنَاكَ إمَامٌ غَيْرُهُ، وَلهَذَا كَانَ الصَّحَابَة يُصَلُّونَ خَلْفَ الْحَجَّاجِ وَالْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ الثَّقَفِيِّ وَغَيْرِهِمَا الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ؛ فَإِنَّ تَفْوِيتَ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ أَعْظَمُ فَسَادًا مِن الِاقْتِدَاءِ فِيهِمَا بِإِمَام فَاجِرٍ، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ التَّخَلُّفُ عَنْهُمَا لَا يَدْفَعُ فُجُورَهُ، فَيَبْقَى تَرْكُ الْمَصْلَحَةِ الشَّرْعِيَّةِ بِدُونِ دَفْعِ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ.
وَلهَذَا كَانَ التَّارِكُونَ لِلْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ خَلْفَ أَئِمَّةِ الْجَوْرِ مُطْلَقًا: مَعْدُودِينَ عِنْدَ السَّلَفِ وَالْأئِمَّةِ مِن أَهْلِ الْبِدَع.
وَأَمَّا إذَا أَمْكَنَ فِعْلُ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ خَلْفَ الْبَرِّ: فَهُوَ أَوْلَى مِن فِعْلِهَا خَلْفَ الْفَاجِرِ.
وَحِينَئِذٍ فَإِذَا صَلَّى خَلْفَ الْفَاجِرِ مِن غَيْرِ عُذْرٍ فَهُوَ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ لِلْعُلَمَاءِ:
مِنْهُم مَن قَالَ: أَنَّهُ يُعِيدُ.
وَمِنْهُم مَن قَالَ: لَا يُعِيدُ، قَالَ: لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي نَفْسِهَا صَحِيحَة.
وَأَمَّا إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الصَّلَاةُ إلا خَلْفَهُ كَالْجُمُعَةِ فَهُنَا لَا تُعَادُ الصَّلَاةُ، وَإِعَادَتُهَا مِن فِعْلِ أَهْلِ الْبِدَعِ.
وَأَمَّا الصَّلَاةُ خَلْفَ مَن يَكْفُرُ بِبِدْعَتِهِ مِن أَهْلِ الْأَهْوَاءِ: فَهُنَاكَ قَد تَنَازَعُوا
فِي نَفْسِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ خَلْفَهُ، وَمَن قَالَ إنَّهُ يَكْفُرُ أُمِرَ بِالْإِعَادَةِ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ خَلْفَ كَافِرٍ.
لَكِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِتَكْفِيرِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَالنَّاسُ مُضْطَرِبُونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَد حُكِيَ عَن مَالِكٍ فِيهَا رِوَايَتَانِ، وَعَن الشَّافِعِيِّ فِيهَا قَوْلَانِ، وَعَن الْإِمَامِ أَحْمَد أَيْضًا فِيهَا رِوَايَتَانِ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْكَلَامِ فَذَكَرُوا لِلْأَشْعَرِيِّ فِيهَا قَوْلَيْنِ، وَغَالِبُ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ فِيهَا تَفْصِيلٌ.
وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْقَوْلَ قَد يَكُونُ كُفْرًا فَيُطْلَقُ الْقَوْلُ بِتَكْفِيرِ صَاحِبِهِ، وَيُقَالُ: مَن قَالَ كَذَا فَهُوَ كَافِرٌ، لَكِنَّ الشَّخْصَ الْمُعَيَّنَ الَّذِي قَالَهُ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الَّتِي يَكْفُرُ تَارِكُهَا.
فَأَمَّا التَّفْرِيقُ بَيْنَ نَوْعٍ وَتَسْمِيَتِهِ مَسَائِلَ الْأُصُولِ، وَبَيْنَ نَوْعٍ آخَرَ وَتَسْمِيَتِهِ مَسَائِلَ الْفُرُوعِ: فَهَذَا الْفَرْقُ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ لَا عَن الصَّحَابَةِ وَلَا عَن التَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَانٍ وَلَا أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ عَن الْمُعْتَزِلَةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِن أَهْلِ الْبِدَعِ، وَعَنْهُم تَلَقَّاهُ مَن ذَكَرَهُ مِن الْفُقَهَاءِ فِي كُتُبِهِمْ، وَهُوَ تَفْرِيق مُتَنَاقِضٌ.
فَإِنَّهُ يُقَالُ لِمَن فَرَّقَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ: مَا حَدٌ مَسَائِلِ الْأُصُولِ الَّتِي يَكْفرُ الْمُخْطِئُ فِيهَا؟ وَمَا الْفَاصِلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ؟
فَإِنْ قَالَ: مَسَائِلُ الْأُصُولِ هِيَ مَسَائِلُ الِاعْتِقَادِ، وَمَسَائِلُ الْفرُوعِ هِيَ مَسَائِلُ الْعَمَلِ.
قِيلَ لَهُ: فَتَنَازَعَ النَّاسُ فِي مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم هَل رَأَى رَبَّهُ أَمْ لَا؟
وَفِي أَنَّ عُثْمَانَ أَفْضَلُ مِن عَلِيٍّ أَمْ عَلِيٌّ أَفْضَلُ؟
وَفِي كَثِيرٍ مِن مَعَانِي الْقُرْآنِ وَتَصْحِيحِ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ هِيَ مِن الْمَسَائِلِ الِاعْتِقَادِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ وَلَا كُفْرَ فِيهَا بِالِاتِّفَاقِ.
وَوُجُوبُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَتَحْرِيمِ الْفَوَاحِشِ وَالْخَمْرِ هِيَ مَسَائِلُ عَمَلِيَّةٌ وَالْمُنْكِرُ لَهَا يَكْفُرُ بِالِاتِّفَاقِ.
وَإِن قَالَ الْأُصُولُ: هِيَ الْمَسَائِل الْقَطْعِيَّةُ.
قِيل له: كَثِيرٌ مِن مَسَائِلِ الْعَمَلِ قَطْعِيَّةٌ، وَكَثِيرٌ مِن مَسَائِلِ الْعِلْمِ لَيْسَتْ قَطْعِيَّةً، وَكَوْنُ الْمَسْأَلَةِ قَطْعِيَّةً أَو ظَنّيَّةً هُوَ مِن الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ، وَقَد تَكُونُ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَ رَجُلٍ قَطْعِيَّةً لِظُهُورِ الدَّلِيلِ الْقَاطِع لَهُ كَمَن سَمِعَ النَّصَّ مِن الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَتَيَقَّنَ مُرَادَهُ مِنْهُ، وَعِنْدَ رَجُلٍ لَا تَكُون ظَنِّيَّةً فَضْلًا عَن أَنْ تَكُونَ قَطْعِيَّةً، لِعَدَمِ بُلُوغِ النَّصِّ إيَّاهُ، أَو لِعَدَمِ ثُبُوتِهِ عِنْدَهُ، أَو لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِن الْعِلْمِ بِدَلَالَتِهِ.
وَقَد ثَبَتَ فِي "الصِّحَاحِ" عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثُ الَّذِي قَالَ لِأَهْلِهِ: "إذَا أَنَا مُتّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي ثُمَّ ذروني فِي الْيَمِّ فَوَاللهِ لَئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيَّ لَيُعَدِّبُنِي اللهُ عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا مِن الْعَالَمِينَ، فَأَمَرَ اللهُ الْبَرَّ بِرَدِّ مَا أَخَذَ مِنْهُ وَالْبَحْرَ بِرَدِّ مَا أَخَذَ مِنْهُ وَقَالَ: مَا حَمَلَك عَلَى مَا صَنَعْت؟ قَالَ خَشْيَتَك يَا رَبِّ فَغَفَرَ اللهُ لَهُ"
(1)
: فَهَذَا شَكَّ فِي قُدْرَةِ اللهِ وَفِي الْمَعَادِ؛ بَل ظَنَّ أَنَّهُ لَا يَعُودُ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ اللهُ عَلَيْهِ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَغَفَرَ اللهُ لَهُ.
وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَلَكِنَ الْمَقْصُودَ هُنَا أَنَّ مَذَاهِبَ الْأَئِمَّةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ بَيْنَ النَّوْعِ وَالْعَيْنِ، وَلهَذَا حَكَى طَائِفَةٌ عَنْهُم الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَفْهَمُوا غَوْرَ قَوْلِهِمْ، فَطَائِفَةٌ تَحْكِي عَن أَحْمَد فِي تَكْفِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ رِوَايَتَيْنِ مُطْلَقًا، حَتَّى تَجْعَلَ الْخِلَافَ فِي تَكْفِيرِ الْمُرْجِئَةِ وَالشِّيعَةِ الْمُفَضَّلَةِ لِعَلِيِّ، وَرُبَّمَا رَجَّحَت التَّكْفِيرَ وَالتَّخْلِيدَ فِي النَّارِ، وَلَيْسَ هَذَا مَذْهَبَ أَحْمَد وَلَا غَيْرِهِ مِن أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ؛ بَل لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُهُ أَنَّهُ لَا يُكَفِّرُ الْمُرْجِئَةَ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ بِلَا عَمَلٍ، وَلَا يُكَفِّرُ مَن يُفَضِّلُ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ؛ بَل نُصُوصُهُ صَرِيحَةٌ بِالِامْتِنَاعِ مِن تَكْفِيرِ الْخَوَارجِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ.
(1)
رواه البخاري (3478).
وَإِنَّمَا كَانَ يُكَفِّرُ الْجَهْمِيَّة الْمُنْكِرِينَ لِأَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ؛ لِأَنَّ مُنَاقَضَةَ أَقْوَالِهِمْ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ.
لَكِنْ مَا كَانَ يُكَفِّرُ أَعْيَانَهُمْ.
وَأَمَّا قَتْلُ الدَّاعِيَةِ إلَى الْبِدَعِ فَقَد يُقْتَلُ لِكَفِّ ضَرَرِهِ عَنِ اْلنَّاسِ كَمَا يُقْتَلُ الْمُحَارِبُ، وَإِن لَمْ يَكُن فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كفْرًا، فَلَيْسَ كُلُّ مَن أُمِرَ بِقَتْلِهِ يَكُونُ قَتْلُهُ لِرِدَّتِهِ، وَعَلَى هَذَا قَتْلُ غَيْلَان الْقَدَرِيّ وَغَيْره قَد يَكُونُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. [23/ 342 - 350]
2744 -
مَن لَا يُقِيمُ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ: لَا يُصَلِّي خَلْفَهُ إلَّا مَن هُوَ مِثْلُهُ، فَلَا يُصَلِّي خَلْفَ الْأَلْثَغِ الَّذِي يُبَدِّلُ حَرْفًا بِحَرْفٍ، إلا حَرْفَ الضَّادِ إذَا أَخْرَجَهُ مِن طَرَفِ الْفَمِ كَمَا هُوَ عَادَةُ كَثِيرٍ مِن النَّاسِ، فَهَذَا فِيهِ وَجْهَانِ:
مِنْهُم مَن قَالَ: لَا يُصَلِّي خَلْفَهُ وَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ أَبْدَلَ حَرْفًا بِحَرْفٍ؛ لِأَنَّ مَخْرَجَ الضَّادِ الشِّدْق، وَمَخْرَجَ الظَّاءِ طَرَفُ الْأَسْنَانِ، فَإِذَا قَالَ:(وَلَا الظَّالِّينَ) كَانَ مَعْنَاهُ: ظَلَّ يَفْعَلُ كَذَا.
وَالْوَجْهُ الثانِي: تَصِحُّ، وَهَذَا أَقْرَبُ؛ لِأَنَّ الْحَرْفَيْنِ فِي السَّمْعِ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَحِسُّ أَحَدِهِمَا مِن جِنْسِ حِسِّ الْآخَرِ لِتَشَابُهِ الْمَخْرَجَيْنِ.
وَالْقَارِئُ إنَّمَا يَقْصِدُ الضَّلَالَ الْمُخَالِفَ لِلْهُدَى وَهُوَ الَّذِي يَفْهَمُهُ الْمُسْتَمِعُ، فَأَمَّا الْمَعْنَى الْمَأْخُوذُ مِن ظَلَّ فَلَا يَخْطِرُ بِبَالِ أَحَدٍ.
وَهَذَا بِخِلَافِ الْحَرْفَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ صَوْتًا وَمَخْرَجًا وَسَمْعًا؛ كَإِبْدَالِ الرَّاءِ بِالْغَيْنِ فَإِنَّ هَذَا لَا يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُ الْقِرَاءَةِ. [23/ 350 - 351]
2745 -
يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَالْجُمُعَةَ وَغَيْرَ ذَلِكَ خَلْفَ مَن لَمْ يَعْلَمْ مِنْهُ بِدْعَةً وَلَا فِسْقًا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِن أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَلَيْسَ مِن شَرْطِ الِائْتِمَامِ أَنْ يَعْلَمَ الْمَأْمُومُ اعْتِقَادَ إمَامِهِ، وَلَا أَنْ يَمْتَحِنَهُ فَيَقُولُ: مَاذَا تَعْتَقِدُ؟ بَل يُصَلِّي خَلْفَ مَسْتُورِ الْحَالِ.
وَلَو عَلِمَ الْمَأْمُومُ أَنَّ الْإِمَامَ مُبْتَدِعٌ يَدْعُو إلَى بِدْعَتِهِ، أَو فَاسِقٌ ظَاهِرُ الْفِسْقِ وَهُوَ الْإِمَامُ الرَّاتِبُ الَّذِي لَا تُمْكِنُ الصَّلَاةُ إلَّا خَلْفَهُ كَإِمَامِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ، وَالْإِمَامِ فِي صَلَاةِ الْحَجِّ بِعَرَفَةَ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمَأْمُومَ يُصَلِّي خَلْفَهُ عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ وَأبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ.
وَلهَذَا قَالُوا فِي الْعَقَائِدِ: إنَّهُ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَ خَلْفَ كُلِّ إمَامٍ بَرًّا كَانَ أَو فَاجِرًا، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُن فِي الْقَرْيَةِ إلَّا إمَامٌ وَاحِدٌ فَإِنَّهَا تُصَلَّى خَلْفَهُ الْجَمَاعَاتُ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِي جَمَاعَةٍ خَيْرٌ مِن صَلَاةِ الرَّجُلِ وَحْدَهُ وَإِن كَانَ الْإِمَامُ فَاسِقًا.
هَذَا مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ: أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا؛ بَل الْجَمَاعَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَد.
وَمَن تَرَكَ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ خَلْفَ الْإِمَامِ الْفَاجِرِ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِن أَئِمَّةِ السُّنَّةِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُصَلِّيهَا وَلَا يُعِيدُهَا؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُصَلُّونَ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ خَلْفَ الْأَئِمَّةِ الْفُجَّارِ وَلَا يُعِيدُونَ.
وَالْفَاسِقُ وَالْمُبْتَدِعُ
(1)
صَلَاتُهُ فِي نَفْسِهِ صَحِيحَةٌ، فإذَا صَلَّى الْمَأْمُومُ خَلْفَهُ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، لَكِنْ إنَّمَا كَرِهَ مَن كَرِهَ الصَّلَاةَ خَلْفَهُ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ.
وَمِن ذَلِكَ أَنَّ مَن أَظْهَرَ بِدْعَةٌ أَو فجُورًا لَا يُرَتَّبُ إمَامًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقّ التَعْزِيرَ حَتَّى يَتُوبَ، فَإِذَا أَمْكَنَ هَجْرُهُ حَتَّى يَتُوبَ كَانَ حَسَنًا، وَإِذَا كَانَ بَعْضُ النَّاسِ إذَا تَرَكَ الصَّلَاةَ خَلْفَهُ وَصَلَّى خَلْفَ غَيْرِهِ أثَّرَ ذَلِكَ حَتَّى يَتُوبَ أَو يُعْزَلَ أَو يَنْتَهِيَ النَّاسُ عَن مِثْل ذَنْبِهِ: فَمِثْلُ هَذَا إذَا تَرَكَ الصَّلَاةَ خَلْفَهُ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ وَلَمْ يَفُتِ الْمَأْمُومَ جُمُعَةٌ وَلَا جَمَاعَةٌ.
(1)
إذا لم تكن بدعتُه مُكفرة.
وَأَمَّا إذَا كَانَ تَرْك الصَّلَاة يفَوِّتُ الْمَأْمُومَ الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة: فَهُنَا لَا يَتْرُكُ الصَّلَاةَ خَلْفَهُم إلا مُبْتَدِعٌ مُخَالِفٌ لِلصَّحَابَةِ رضي الله عنهم.
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْإِمَامُ قَد رَتَّبَهُ وُلَاةُ الْأُمُورِ وَلَمْ يَكُن فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ مَصْلَحَةٌ: فَهُنَا لَيْسَ عَلَيْهِ تَرْكُ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ؛ بَلِ الصَّلَاةُ خَلْفَ الْإِمَامِ الْأَفْضَلِ أَفْضَلُ.
وَهَذَا كُلُّه يَكُونُ فِيمَن ظَهَرَ مِنْهُ فِسْقٌ أَو بِدْعَةٌ تَظْهَرُ مُخَالَفَتهَا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ كَبِدْعَةِ الرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَنَحْوِهِمْ
(1)
.
وَمَن أَنْكَرَ مَذْهَبَ الرَّوَافِضِ وَهُوَ لَا يُصَلِّي الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ؛ بَل يُكَفِّرُ الْمُسْلِمِينَ فَقَد وَقعَ فِي مِثْل مَذْهَبِ الرَّوَافِضِ، فَإِنَّ مِن أَعْظَمِ مَا أَنْكَرَهُ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَيْهِم تَرْكَهُم الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ وَتَكْفِيرَ الْجُمْهُورِ. [23/ 351 - 355]
2746 -
وَسُئِلَ: عَن خَطِيبٍ قَد حَضَرَ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ فَامْتَنَعُوا عَنِ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ؛ لِأَجْلِ بِدْعَةٍ فِيهِ فَمَا هِيَ الْبِدْعَةُ الَّتِي تَمْنَعُ الصَّلَاةَ خَلْفَهُ؟
فَأَجَابَ: لَيْسَ لَهُم أَنْ يَمْنَعُوا أَحَدًا مِن صَلَاةِ الْعِيدِ وَالْجُمُعَةِ وَإِن كَانَ الْإِمَامُ فَاسِقًا، وَكَذَلِكَ لَيْسَ لَهُم تَرْكُ الْجُمُعَةِ وَنَحْوِهَا لِأَجْلِ فِسْقِ الْإِمَامِ؛ بَل عَلَيْهِم فِعْلُ ذَلِكَ خَلْفَ الْإِمَامِ وَإِن كَانَ فَاسِقًا.
(1)
أي: أنّ هذا الكلام الذي قرره الشيخ، وهو الصلاة خلف المبتاع، إنما هو الذي أظهر وأعلن بدعته، كالروافض.
لكن يُقال: الروافض ليسوا كالجهمية، بل هم أشد كفرًا، فهم يُعلنون الشرك الصريح، بل وصلاتهم تختلف عن صلاتنا، فكيف تصح الصلاة خلفهم؟
ولعل الروافض في وقت شيخ الإسلام كانوا يُصلون كصلاتنا ولو ظاهرًا ونفاقًا، ولو علم الشيخ أن صلاتهم تختلف عن صلاة المسلمين لم يقل بجواز الصلاة خلفهم مهما كان الأمر، والله أعلم.
ولذلك قال البخاري رحمه الله كتابه: خلق أفعال العباد (ص 33): "مَا أُبَالِي صَلَّيْتُ خَلْفَ الْجهْمِيِّ الرَّافِضِيِّ أمْ صَلَّيْتُ خَلْفَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَا يُسَلَّمُ عَلَيْهِمْ، وَلَا يُعَادُونَ، وَلَا يُنَاكَحُونَ، وَلَا يَشْهَدُونَ، وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ".
ونقل عن الإمام عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مَهْدِيّ أنه قال: هُمَا مِلَّتَانِ: "الْجَهْمِيَّةُ وَالرَّافِضيَّةُ".
وَإِن عَطَّلُوهَا لِأَجْلِ فِسْقِ الْإِمَامِ كَانُوا مِن أَهْلِ الْبِدَعِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا.
وَإِنَّمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْإِمَامِ إذَا كَانَ فَاسِقًا أَو مُبْتَدِعًا وَأَمْكَنَ أَنْ يُصَلَّى خَلْفَ عَدْلٍ. [23/ 360]
2747 -
الْمَأْمُومُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِحَدَثِ الْإِمَامِ أَو النَّجَاسَةِ الَّتِي عَلَيْهِ حَتَّى قُضِيَتِ الصَّلَاةُ: فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَد إذَا كَانَ الْإِمَامُ غَيْرَ عَالِمٍ، وَيُعِيدُ وَحْدَهُ إذَا كَانَ مُحْدِثًا.
وَبِذَلِكَ مَضَتْ سُنَّة الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، فَإِنَّهُم صَلَّوْا بِالنَّاسِ ثُمَّ رَأَوُا الْجَنَابَةَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَأَعَادُوا وَلَمْ يَأْمُرُوا النَّاسَ بِالْإِعَادَةِ. [23/ 369]
2748 -
فَصْلٌ فِي انْعِقَادِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ: النَّاسُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَما: أنَّهُ لَا ارْتبَاطَ بَيْنَهُمَا وَأَنَّ كُلَّ امْرِئٍ يُصَلِّي لِنَفْسِهِ، وَفَائِدَةُ الِائتِمَامِ فِي تَكْثِيرِ الثَّوَابِ بِالْجَمَاعَةِ، وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ.
وَمِنَ الْحُجَّةِ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْأئِمَّةِ: "إنْ أَحْسَنُوا فَلَكُمْ وَلَهُم وَإِن أَسَاؤُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ"
(1)
.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا مُنْعَقِدَةٌ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ وَفَرْعٌ عَلَيْهَا مُطْلَقًا، فَكُلُّ خَلَلٍ حَصَلَ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ يَسْرِي إلَى صلَاةِ الْمَأْمُومِ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:"الْإِمَامُ ضَامِنٌ"
(2)
.
وَعَلَى هَذَا فَالْمُؤْتَمُّ بِالْمُحْدِثِ النَّاسِي لِحَدَثِهِ يُعِيدُ كَمَا يُعِيدُ إمَامُهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَرِوَايَةٌ عَن أَحْمَد.
(1)
رواه البخاري (694).
(2)
صحَّحه الألباني في صحيح الجامع (2787).
وَالْقَوْلُ الثالِثُ: أنَّهَا مُنْعَقِدَةٌ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ، لَكِنْ إنَّمَا يَسْرِي النَّقْصُ إلَى صَلَاةِ الْمَأْمُومِ مَعَ عَدَمِ الْعُذْرِ مِنْهُمَا، فَأَمَّا مَعَ الْعُذْرِ فَلَا يَسْرِي النَّقْصُ، فَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ يَعْتَقِدُ طَهَارَتَهُ فَهُوَ مَعْذُورٌ فِي الْإِمَامَةِ، وَالْمَأُمُومُ مَعْذُور فِي الِائتِمَامِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا.
وَعَلَيْهِ يَتَنَزَّلُ مَا يُؤْثَرُ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَوْسَطُ الْأَقْوَالِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي نَفْسِ صِفَةِ الْإِمَامِ النَّاقِصِ أَنَّ حُكْمَهُ مَعَ الْحَاجَةِ يُخَالِفُ حُكْمَهُ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ، فَحُكْمُ صَلَاتِهِ كَحُكْمِ نَفسِهِ.
وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يَنْبَنِي اقْتِدَاءُ الْمُؤتَمِّ بِإِمَامٍ قَد تَرَكَ مَا يَعْتَقِدُهُ الْمَأْمُومُ مِن فَرَائِضِ الصَّلَاةِ إذَا كَانَ الْإِمَامُ مُتَأَوِّلًا تَأْوِيلًا يَسُوغُ كَأَنْ لَا يَتَوَضَّأَ مِن خُرُوجِ النَّجَاسَاتِ وَلَا مِن مَسِّ الذكَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ: مَا أَخْرَجَة الْبُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ" عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يُصَلُّونَ لَكُمْ، فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ، وَإِن أَخْطَؤُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ"، فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الْإِمَامَ إذَا أَخْطَأَ كَانَ دَركُ خَطَئِهِ عَلَيْهِ لَا عَلَى الْمَأْمُومِينَ. [23/ 370 - 372]
2749 -
وَسُئِلَ: عَن رَجُلٍ يَؤُمُّ قَوْمًا وَأَكْثَرُهُم لَهُ كَارِهُونَ؟
فَأَجَابَ: إنْ كَانُوا يَكْرَهُونَ هَذَا الْإِمَامَ لِأَمْرٍ فِي دِينِهِ؛ مِثْل كَذِبِهِ أَو ظُلْمِهِ أَو جَهْلِهِ أَو بِدْعَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وُيحِبُّونَ الْآخَرَ لِأَنَّهُ أَصْلَحُ فِي دِينِهِ مِنْهُ؛ مِثْل أَنْ يَكُونَ أَصْدَقَ وَأَعْلَمَ وأدين: فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُوَلَّى عَلَيْهِم هَذَا الْإِمَامُ الَّذِي يُحِبُّونَهُ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ الْإِمَامِ الَّذِي يَكْرَهُونَهُ أَنْ يَؤُمَّهُمْ
(1)
. [23/ 373]
2750 -
كَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَمَن بَعْدَهُم مِنْهُم مَن يَقْرَأُ الْبَسْمَلَةَ وَمِنْهُم مَن لَا يَقْرَؤُهَا، وَمِنْهُم مَن يَجْهَرُ بِهَا وَمِنْهُم مَن لَا يَجْهَرُ بِهَا، وَكَانَ مِنْهُم مَن
(1)
أما إذا كانوا يكرهونه لقيامه بالسُّنَّة، أو لهوى في أنفسهم: فلا يلزمه أن يتركهم.
يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ وَمِنْهُم مَن لَا يَقْنُتُ، وَمِنْهُم مَن يَتَوَضَّأُ مِن الْحِجَامَةِ وَالرُّعَافِ وَالْقَيْءِ وَمِنْهُم مَن لَا يَتَوَضَّأُ مِن ذَلِكَ، وَمِنْهُم مَن يَتَوَضَّأُ مِن مَسِّ الذَّكَرِ وَمَسِّ النِّسَاءِ بِشَهْوَة وَمِنْهُم مَن لَا يَتَوَضَّأُ مِن ذَلِكَ، وَمِنْهُم مَن يَتَوَضَّأُ مِن الْقَهْقَهَةِ فِي صَلَاتِهِ وَمِنْهُم مَن لَا يَتَوَضَّأُ مِن ذَلِكَ، وَمِنْهُم مَن يَتَوَضَّأُ مِن أَكْلِ لَحْمِ الْإِبِلِ وَمِنْهُم مَن لَا يَتَوَضَّأُ مِن ذَلِكَ.
وَمَعَ هَذَا فَكَانَ بَعْضُهُم يُصَلِّي خَلْفَ بَعْضٍ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ لَهَا صُورَتَانِ:
إحْدَاهُمَا: أَنْ لَا يَعْرِفَ الْمَأْمُومُ أَنَّ إمَامَهُ فَعَلَ مَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ فَهُنَا يُصَلِّي الْمَأْمُومُ خَلْفَهُ بِاتِّفَاقِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَيْسَ فِي هَذَا خِلَافٌ مُتَقَدِّمٌ، وَإِنَّمَا خَالَفَ بَعْضُ الْمُتَعَصِّبِينَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ فَزَعَمَ أَنَّ الصَّلَاةَ خَلْفَ الْحَنَفِيِّ لَا تَصِحُّ وَإِن أَتَى بِالْوَاجِبَاتِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا وَهُوَ لَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَهَا.
وَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ إلَى أَنْ يُسْتَتَابَ كَمَا يُسْتَتَابُ أَهْلُ الْبِدَعِ أَحْوَجُ مِنْهُ إلَى أَنْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِهِ.
وَهَذَا الْقَائِلُ نَفْسُهُ لَيْسَ مَعَهُ إلَّا تَقْلِيدُ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَلَو طُولِبَ بِأَدِلَّةٍ شَرْعِيَّةٍ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ إمَامِهِ دُونَ غَيْرِهِ لَعَجَزَ عَن ذَلِكَ؛ وَلهَذَا لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ مِثْل هَذَا فَإِنَّهُ لَيْسَ مِن أَهْلِ الِاجْتِهَادِ
(1)
.
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَيَقَّنَ الْمَأمُومُ أَنَّ الْإِمَامَ فَعَلَ مَا لَا يَسُوغُ عِنْدَهُ؛ مِثْل أَنْ يَمَسَّ ذَكَرَهُ أَو النِّسَاءَ لِشَهْوَة، أَو يَحْتَجِمَ أَو يَفْتَصِدَ أَو يَتَقَيَّأَ ثُمَّ
(1)
فأتباع المذاهب المقلّدون لهم لا يُعتد بخلافهم.
قال العلَّامة الشوكاني رحمه الله: إِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الْخِلَافِ أَقْوَالُ الْمُجْتَهِدِينَ، وَهَؤُلَاءِ - أي: أَتْبَاع الْأَئِمَّةِ الْأرْبَعَةِ - هُم مُقَلِّدُونَ، فَلَيْسُوا مِمَن يُعْتبَرُ خِلَافُهُ. اهـ. إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول (2/ 244 - 245).
وصدق رحمه الله، فهؤلاء هم مُقلّدة، فكيف يُعتَبر قولُهم؟؟
لكن يُستثنى من ذلك المحققون الذي عُرف عنهم اتباع الدليل ولو خالف المذهب.
يُصَلِّيَ بِلَا وُضُوءٍ، فَهَذِهِ الصُّورَةُ فِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ، فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لَا تَصِحُّ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَصِحُّ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ؛ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ .. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ.
وَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ الْمَأْمُومَ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ صَلَاةِ الْإِمَامِ: خَطَأٌ مِنْهُ؛ فَإِنَّ الْمَأْمُومَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْإِمَامَ فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَأَنَّ اللهَ قَد غَفَرَ لَهُ مَا أَخْطَأَ فِيهِ، وَأنْ لَا تَبْطُلَ صَلَاتُهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ. [23/ 374 - 377]
2751 -
إذَا رَأَى عَلَى الْإِمَامِ نَجَاسَةً وَلَمْ يُحَذِّرْهُ مِنْهَا: فَإِنَّ الْمَأْمُومَ هُنَا مُفَرِّطٌ، فَإِذَا صَلَّى يُعِيدُ لأَنَّ ذَلِكَ لِتَفْرِيطِهِ، وَأَمَّا الْإِمَامُ فَلَا يُعِيدُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فِي أَصَحِّ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ. [23/ 380]
2752 -
إذَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ بَعْضًا وَقَامَ يَأْتِي بِمَا فَاتَهُ فَائْتَمَّ بِهِ آخَرُونَ: جَازَ ذَلِكَ فِي أظْهَرِ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ. [23/ 382]
2753 -
مَن أَدَّى فَرْضَهُ إمَامًا أو مَأْمُومًا أَو مُنْفَرِدًا، فَهَل يَجُوزُ أَنْ يَؤُمَّ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ لِمَن يُؤَدِّي فَرْضَهُ؟ مِثْل أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ مَرَّتَيْنِ؟ هَذِهِ فِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ وَفِيهَا ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَن أَحْمَد:
إحْدَاهَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَهِيَ اخْتِيَارُ كَثِيرٍ مِن أَصْحَابِهِ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ.
وَالثَّانِيَةُ: يَجُوزُ مُطْلَقًا، وَهِيَ اخْتِيَارُ بَعْضِ أَصْحَابِهِ؛ كَالشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي، وَهِيَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
وَالثَّالِثَةُ: يَجُوزُ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَصَلَاةِ الْخَوْفِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ جَدِّنَا أَبِي الْبَرَكَاتِ؛ لِأَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صلى بِأَصْحَابِهِ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ صَلَاةَ الْخَوْفِ مَرَّتَيْنِ وَصَلَّى بِطَائِفَةِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى بِطَائِفَةٍ أُخْرَى وَسَلَّمَ.
وَمَن جَوَّزَ ذَلِكَ مُطْلَقًا احْتَجَّ بِحَدِيثِ مُعَاذٍ الْمَعْرُوفِ: "أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي
خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَنْطَلِقُ فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ"
(1)
. وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا ذَلِكَ لَيْسَ لَهُم حُجَّةٌ مُسْتَقِيمَة، فَإِنَّهُم احْتَجُّوا بِلَفْظٍ لَا يَدُلُّ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ؛ كَقَوْلِهِ:"إنمَا جُعِلَ الامَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ"
(2)
.
وَالِاخْتِلَافُ الْمُرَادُ بِهِ الِاخْتِلَافُ فِي الْأفْعَالِ
(3)
.
وَمِن هَذَا الْبَابِ: صَلَاةُ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ خَلْفَ مَن يُصَلَّي قِيَامَ رَمَضَانَ، يُصَلِّي خَلْفَهُ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَقُومُ فَيُتِمُّ رَكْعَتَيْنِ، فَأَظْهَرُ الْأقْوَالِ جَوَازُ هَذَا كُلِّهِ، لَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ بِغَيْرِهِمْ ثَانِيًا إلَّا لِحَاجَة أَو مَصْلَحَةٍ؛ مِثْل أَنْ يَكُونَ لَيْسَ هُنَاكَ مَن يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ غَيْرُهُ، أَو هُوَ أَحَقُّ الْحَاضِرِينَ بِالْإِمَامَةِ؛ لِكَوْنِهِ أَعْلَمَهُم بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، أَو كَانُوا مُسْتَوِينَ فِي الْعِلْمِ وَهُوَ أَسْبَقُهُم إلَى هِجْرَةِ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ، أَو أَقْدَمُهُم سِنًّا.
وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ إذَا صَلَّى عَلَيْهَا الرَّجُلُ إمَامًا ثُمَّ قُدِّمَ آخَرُونَ فَلَهُ أَنْ يُصَلَّيَ بِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ إذَا كَانَ أَحَقَّهُم بِالْإِمَامَةِ.
وَلَهُ إذَا صَلَّى غَيْرُهُ عَلَى الْجِنَازَةِ مَرَّةً ثَانِيَةً أَنْ يُعِيدَهَا مَعَهُم تَبَعًا كَمَا يُعِيدُ الْفَرِيضَةَ تبَعًا. [23/ 384 - 387]
2754 -
[الصحيح]
(4)
مِن قَوْلِ الْعُلَمَاءِ: أَنَّهُ لَا تَصِحُّ صَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ خَلْفَ الصَّفِّ؛ لِأَن فِي ذَلِكَ حَدِيثَيْن عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَمَرَ الْمُصَلِّيَ خَلْفَ الصَّفِّ بِالْاِعَادَةِ، وَقَالَ:"لَا صَلَاةَ لِفَذًّ خَلْفَ الصَّفِّ"
(5)
، وَقَد صَحَّحَ الْحَدِيثَيْنِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِن أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، وَأسَانِيدُهُمَا مِمَّا تَقُومُ بِهِمَا الْحُجَّةُ.
فَإِذَا كَانَ الْجُمْهُورُ لَا يُصَحِّحُونَ الصَّلَاةَ قُدَّامَ الْإِمَامِ إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا لِغَيْرِ عُذْرٍ: فَكَيْفَ تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِدُونِ الِاصْطِفَافِ؟
(1)
رواه البخاري (6106).
(2)
رواه البخاري (722)، ومسلم (414).
(3)
لا يُراد به اختلافُ النِّيةِ.
(4)
ما بين الْمعقوفتين ليست في الأصل، ولا في النسخ الأخرى! والذي يظهر أن السياق يقتضيها، والمعنى لا يستقيم بدونها.
(5)
صحَّحه الألباني في الإيمان، لابن تيمية (12).
فَقِيَاسُ الْأصُولِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الِاصْطِفَافِ، وَأَنَّ صَلَاةَ الْمُنْفَرِدِ لَا تَصِحُّ.
وَاَلَّذِينَ عَارَضُوهُ اضجُّوا بِصِحَّةِ صَلَاةِ الْمَرْأَةِ مُنْفَرِدَةً؛ كَمَا ثَبَتَ فِي "الصَّحِيح" أَنَّ أَنَسًا وَالْيَتِيمَ صفَّا خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصفَّت الْعَجُوزُ خَلْفَهُمَا.
وَقَد اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى صِحَّةِ وُقُوفِهَا مُنْفَرِدَةً إذَا لَمْ يَكُن فِي الْجَمَاعَةِ امْرَأَةٌ غَيْرَهَا كَمَا جَاءَت بِهِ السُّنَّةُ.
وَهَذِهِ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ لَا تُقَاوِمُ حُجَّةَ النَّهْيِ عَن ذَلِكَ، وَذَلِكَ مِن وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ وُقُوفَ الْمَرْأَةِ خَلْفَ صَفِّ الرِّجَالِ سُنَّةٌ مَأْمُورٌ بِهَا، وَلَو وَقَفَتْ فِي صَفِّ الرِّجَالِ لَكَانَ ذَلِكَ مَكْرُوهًا، وَهَل تَبْطُلُ صَلَاةُ مَن يُحَاذِيهَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ.
وَأَمَّا وُقُوفُ الرَّجُلِ وَحْدَهُ خَلْفَ الضَفِّ فَمَكْرُوهٌ وَتَرْكٌ لِلسُّنَّةِ بِاتِّفَاقِهِمْ، فَكَيْفَ يُقَاسُ الْمَنْهِيُّ بِالْمَأْمُورِ بِهِ؟
وَكَذَلِكَ وُقُوفُ الْإِمَامِ أَمَامَ الصَّفّ هُوَ السُّنَّةُ، فَكَيْفَ يُقَاسُ الْمَأْمُورُ بِهِ بِالْمَنْهِيِّ عَنْهُ؟ وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ إنَّمَا هُوَ قِيَاسُ الْمَسْكُوتِ عَلَى الْمَنْصُوصِ، أَمَّا قِيَاسُ الْمَنْصُوصِ عَلَى مَنْصُوصٍ يُخَالِفُهُ فَهُوَ بَاطِل بِاتّفَاقِ الْعُلَمَاءِ؛ كَقِيَاسِ الرِّبَا عَلَى الْبَيْعِ، وَقَد أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَرْأَةَ وَقَفَتْ خَلْفَ الصَّفِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُن لَهَا مَن تُصَافُّهُ، وَلَمْ يُمْكِنْهَا مُصَافَّةَ الرِّجَالِ، وَلهَذَا لَو كَانَ مَعَهَا فِي الصَّلَاةِ امْرَأَةٌ لَكَانَ مِن حَقِّهَا أَنْ تَقُومَ مَعَهَا وَكَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ الرَّجُلِ الْمُنْفَرِدِ عَن صَفّ الرِّجَالِ.
وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنْ لَا يَجِدَ الرَّجُلُ مَوْقِفًا إلا خَلْفَ الصَّفِّ، فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْمُبْطِلِينَ لِصَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ، وَالَأظْهَرُ
(1)
صِحَّةُ صَلَاتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ تَسْقُطُ بِالْعَجْزِ.
وَطَرْدُ هَذَا صِحَّةُ صَلَاةِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْإِمَامِ لِلْحَاجَةِ. [23/ 393 - 396]
(1)
في الأصل: (وإلا ظهر)، ولعل المثبت هو الصواب.
2755 -
لَمْ يَكُن التَّبْلِيغُ
(1)
وَالتَّكْبِير وَرَفْعُ الصَّوْتِ بِالتحْمِيدِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَلَى عَهْدِ خُلَفَائِهِ وَلَا بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَانٍ طَوِيلٍ إلا مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً صُرعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَن فَرَسٍ رَكِبَهُ فَصَلَّى فِي بَيْتِهِ قَاعِدًا، فَبَلَّغَ أَبُو بَكْرٍ عَنْهُ التَّكْبِيرَ، كَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ".
وَمَرَّةً أُخْرَى فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بَلَّغَ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ وَهَذَا مَشْهُورٌ.
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا التَّبْلِيغَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ لَيْسَ بِمُسْتَحَبّ؛ بَل صَرَّحَ كَثِيرٌ مِنْهُم أَنَّهُ مَكْرُوة، وَمِنْهُم مَن قَالَ: تَبْطُلُ صَلَاة فَاعِلِهِ.
وَأَمَّا الْحَاجَةُ لِبُعْدِ الْمَأْمُومِ أَو لِضَعْفِ الْإِمَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَقَد اخْتَلَفُوا فِيهِ فِي هَذِهِ، وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَصْحَابِ أَحْمَد أَنَّهُ جَائِزٌ فِي هَذَا الْحَالِ.
وَحَيْثُ جَازَ وَلَمْ يَبْطُلُ: فَيُشْتَرَطُ انْ لَا يُخِلَّ بِشَيْءٍ مِن وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ.
وَلَا ريبَ أَنَّ التَّبْلِيغَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ بِدْعَةٌ
(2)
، وَمَن اعْتَقَدَهُ قُرْبَةً مُطْلَقَةً فَلَا ريبَ أَنَّهُ إمَّا جَاهِلٌ وَإِمَّا مُعَانِدٌ، وَإِلَّا فَجَمِيعُ الْعُلَمَاءِ مِن الطَّوَائِفِ قَد ذَكَرُوا ذَلِكَ فِي كُتُبِهِم حَتَّى فِي الْمُخْتَصَرَاتِ، قَالُوا: وَلَا يَجْهَرُ بِشَيْءٍ مِن التَّكْبِيرِ، إلا أَنْ يَكُونَ إمَامًا.
وَمَن أَصَرَّ عَلَى اعْتِقَادِ كَوْنِهِ قُرْبَةً فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ عَلَى ذَلِكَ لِمُخَالَفَتِهِ الْإِجْمَاعَ، هَذَا أَقَلُّ أَحْوَالِهِ. [23/ 400 - 402]
2756 -
صَلَاةُ الْمَأْمُومِ قُدَّامَ الْإِمَامِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلْعُلَمَاءِ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا تَصِحُّ مُطْلَقًا وَإِن قِيلَ إنَّهَا تُكْرَهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَصِحُّ مُطْلَقًا.
(1)
أي: كما يُفعل بالحرم المدني والمكي، حيث يُكبر المؤذن بعد تكبير الإمام، وهكذا يفعل في التسميع والتسليم.
(2)
قال في موضع آخر: أَمَّا التَّبْلِيغ خَلْفَ الْإِمَامِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَهُوَ بِدْعَةٌ غَيْرُ مُسْتَحَبَّةِ بِاتِّفَاقِ الْأئِمَّةِ. (23/ 403)
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا تَصِحُّ مَعَ الْعُذْرِ دُونَ غَيْرِهِ؛ مِثْل مَا إذَا كَانَ زَحْمَةً فَلَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُصلِّيَ الْجُمُعَةَ أَو الْجِنَازَةَ إلا قُدَّامَ الْإِمَامِ، فَتَكُونُ صَلَاتُهُ قدَّامَ الْإِمَامِ خَيْرًا لَهُ مِن تَرْكِهِ لِلصَّلَاةِ.
وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِن الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ وَأَرْجَحُهَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ تَرْكَ التَّقَدُّمِ عَلَى الْإِمَام غَايَتُهُ: أنْ يَكُونَ وَاجِبًا مِن بهاجِبَاتِ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ، وَالْوَاجِبَاتُ كُلُّهَا تَسْقُطُ بِالْعُذْرِ، وَإِن كَانَت وَاجِبَةً فِي أَصْلِ الصَّلَاةِ؛ فَالْوَاجِبُ فِي الْجَمَاعَةِ أَوْلَى بِالسُّقُوطِ؛ وَلهَذَا يَسْقُطُ عَن الْمُصَلِّي مَا يَعْجِزُ عَنْهُ مِن الْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَاللِّبَاسِ وَالطَّهَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْجَمَاعَةُ فَإِنَّهُ يَجْلِسُ فِي الْأَوْتَارِ لِمُتَابَعَةِ الْإِمَامِ، وَلَو فَعَلَ ذَلِكَ مُنْفَرِدًا عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِن أَدْرَكَهُ سَاجِدًا أَو قَاعِدًا كَبَّرَ وَسَجَدَ مَعَهُ وَقَعَدَ مَعَهُ لِأَجْلِ الْمُتَابَعَةِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَعْتَدُّ لَه بِذَلِكَ، ويسْجُدُ لِسَهْوِ الْإِمَامِ وَإِن كَانَ هُوَ لَمْ يَسْهَ.
وَأَيْضًا فَفِي صَلَاةِ الْخَوْفِ لَا يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ، وَيَعْمَلُ الْعَمَلَ الْكَثِيرَ، وَيُفَارِقُ الْإِمَامَ قَبْلَ السَّلَامِ، وَيَقْضِي الرَّكْعَةَ الْأُولَى قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ لِأجْلِ اْلْجَمَاعَةِ، وَلَو فَعَلَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ.
وَأبْلَغُ مِن ذَلِكَ أَنَّ مَذْهَبَ أَكْثَرِ الْبَصْرِيِّينَ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ: أَنَّ الْإِمَامَ الرَّاتِبَ إذَا صَلَّى جَالِسًا صَلَّى الْمَأْمُومُونَ جُلُوسًا؛ لِأَجْلِ مُتَابَعَتِهِ، فَيَتْرُكُونَ الْقِيَامَ الْوَاجِب لِأَجْلِ الْمُتَابَعَةِ كَمَا اسْتَفَاضَت "السُّنَنُ" عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلَوْا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ"
(1)
.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ الْجَمَاعَةَ تُفْعَلُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، فَإِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ لَا يُمْكِنُهُ الِائتِمَامُ بِإِمَامِهِ إلا قُدَّامَهُ كَانَ غَايَةُ مَا فِي هَذَا أَنَّهُ قَد تَرَكَ الْمَوْقِفَ لِأَجْلِ الْجَمَاعَةِ، وَهَذَا أَخَفُّ مِن غَيْرِهِ. [23/ 404 - 406]
(1)
رواه البخاري (689).
2757 -
تجوز الصلاة قدام الإمام لعذر من زحمة ونحوها في أعدل الأقوال، وكذا المأموم إذا لم يجد مَن يقوم معه صلى وحده ولم يدع الجماعة، ولم يجذب أحدًا يصلي معه؛ كالمرأة إذا لم تجد من يصافها فيها تصف وحدها بالاتفاق، وهو مأمور بالمصافة مع الإمكان لا مع العجز. [المستدرك 3/ 131]
2758 -
تصح صلاة الجمعة ونحوها قدام الإمام لعذر، وهو قول في مذهب أحمد، ومن تأخر بلا عذر فلما أذَّن جاء فصلى قدام الإمام عذر. [المستدرك 3/ 122]
2759 -
صَلَاةُ الْمَأْمُومِ خَلْفَ الْإِمَامِ خَارجَ الْمَسْجِدِ أَو فِي الْمَسْجِدِ وَبَيْنَهُمَا حَائِل: إِنْ كَانَت الصُّفُوفُ مُتَّصِلَةً جَازَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ.
وَإِن كَانَ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ أَو نَهْرٌ تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ: فَفِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَن أَحْمَد:
أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَالثاني: الْجَوَازُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ.
وَأمَّا إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ يَمْنَعُ الرُّؤْيةَ وَالِاسْتِطْرَاقَ
(1)
: فَفِيهَا عِدَّةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ.
وَلَا ريبَ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ مَعَ الْحَاجَةِ مُطْلَقًا؛ مِثْل أَنْ تَكُونَ أَبْوَابُ الْمَسْجِدِ مُغْلَقَة، أَو تَكُونَ الْمَقْصُورَةُ الَّتِي فِيهَا الْإِمَامُ مُغْلَقَةً أَو نَحْوُ ذَلِكَ، فَهُنَا لَو كَانَت الرُّؤْيَةُ وَاجِبَةً لَسَقَطَتْ لِلْحَاجَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّهُ قَد تَقَدَّمَ أَنَّ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ وَالْجَمَاعَةِ تَسْقُطُ بِالْعُذْرِ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِن صَلَاةِ الْإِنْسَانِ وَحْدَهُ بِكُل حَالٍ
(2)
. [23/ 407 - 408]
(1)
أي: اتخاذه طريقًا.
(2)
قال ابن عثيمين رحمه الله: الرَّاجح: أنه لا يَصِحُّ اقتداءُ المأموم خارجَ المسجد إلا إذا اتَّصلتِ الصُّفوف، فلا بُدَّ له مِن شرطين: =
2760 -
وَسُئِلَ رحمه الله: عَمَّن يُصَلِّي مَعَ الْإِمَامِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ حَائِلٌ، بِحَيْثُ لَا يَرَاهُ وَلَا يَرَى مَن يَرَاهُ
(1)
: هَل تَصِحُّ صَلَاتُهُ أَمْ لَا؟
فَأجَابَ: الْحَمْدُ للهِ
(2)
، نَعَمْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ الصَّرِيحُ عَن أَحْمَد. [23/ 408]
2761 -
السُّنَّةُ فِي الصُّفُوفِ أَنْ يُتِمُّوا الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ، فَمَن صَلَّى فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ مَعَ خُلُوِّ مَا يَلِي الْإِمَامَ كَانَت صَلَاتُهُ مَكْرُوهَةً. [23/ 408]
2762 -
لَيْسَ لِأَحَد أَنْ يَسُدَّ الطفُوفَ الْمُؤَخَّرَةَ مَعَ خُلُوِّ الْمُقَدِّمَةِ، وَلَا يُصَفُّ فِي الطُّرُقَاتِ وَالْحَوَانِيتِ مَعَ خُلُوِّ الْمَسْجِدِ، وَمَن فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ التَّأْدِيبَ، وَلمَن جَاءَ بَعْدَهُ تَخَطِّيهِ، وَيَدْخُلُ لِتَكْمِيلِ الصُّفُوفِ الْمُقَدَّمَةِ، فَإِنَّ هَذَا لَا حُرْمَةَ لَهُ.
كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَد أَنْ يُقَدّمَ مَا يُفْرَشُ لَهُ فِي الْمَسْجِدِ وَيَتَأَخَّرَ هُوَ، وَمَا فُرِشَ لَهُ لَمْ يَكُن لَهُ حُرْمَةٌ؛ بَل يُزَالُ وَيُصَلِّي مَكَانَهُ عَلَى الصَّحِيحِ.
بَل إذَا امْتَلَأَ الْمَسْجِدُ بِالصُّفُوفِ صَفُّوا خَارجَ الْمَسْجِدِ، فَإِذَا اتَّصَلَت الصُّفُوفُ حِينَئِذٍ فِي الطرُقَاتِ وَالْأَسْوَاقِ صَحَّتْ صَلَاتهُمْ.
وَأَمَّا إذَا صَفُّوا وَبَيْنَهُم وَبَيْنَ الصَّفِّ الْآخَرِ طَرِيق يَمْشِي النَّاسُ فِيهِ: لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُم فِي أَظْهَرِ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ
(3)
.
= أ - أن يَسمعَ التكبيرَ.
ب - اتِّصال الصُّفوف.
أما اشتراطُ الرُّؤيةِ ففيه نظر، فما دام يَسمعُ التَّكبير والصُّفوف متَّصلة فالاقتداء صحيح، وعلى هذا؛ إذا امتلأ المسجدُ واتَّصلتِ الصُّفوف وصَلَّى النَّاسُ بالأسواقِ وعلى عتبة الدَّكاكين فلا بأس به. اهـ. الشرح الممتع (4/ 300).
(1)
كحال مصليات النساء عندنا في المملكة العربية السعودية، حيث يوجد جدار يحول بينهن وبين الرجال.
(2)
هكذا يقول في بداية فتاويه رحمه الله.
(3)
ويُقال لهم: إن تمكنتم من المجيء للمسجد فبها ونعمت، وإلا فصلوا في أقرب مسجد لكم، والواجب عليهم أنْ يُبكروا ليتمكنوا من الصلاة في المسجد.
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ بَيْنَهُم وَبَيْنَ الصُّفُوفِ حَائِطٌ بِحَيْثُ لَا يَرَوْنَ الصُّفُوفَ وَلَكِنْ يَسْمَعُونَ التَّكْبِيرَ مِن غَيْرِ حَاجَةٍ: فَإِنَّهُ لَا تَصِحُ صَلَاتُهُم فِي أَظْهَرِ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ.
وَكَذَلِكَ مَن صَلَّى فِي حَانُوتِهِ وَالطَّرِيقُ خَالٍ: لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ.
وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْعُدَ فِي الْحَانُوتِ وَيَنْتَظِرَ اتِّصَالَ الصُّفوفِ بِهِ
(1)
؛ بَل عَلَيْهِ أَنْ يَذْهَبَ إلَى الْمَسْجِدِ فَيَسُدَّ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ. [23/ 409 - 411]
2763 -
كَانَت السُّنَّةُ أَنَّ الَّذِي يُصَلِّي بِالْمُسْلِمِينَ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ ويَخْطُبُ بِهِم: هُم أُمَرَاء الْحَرْبِ، الَّذِينَ هُم نُوَّابُ ذِي السُّلْطَانِ عَلَى الْأَجْنَادِ؛ وَلهَذَا لَمَّا قَدَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ فِي الصَّلَاةِ قَدَّمَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي إمَارَةِ الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا.
وَذَلِكَ لِأنَّ أَهَمَّ أَمْرِ الدِّينِ الصَّلَاةُ وَالْجِهَادُ؛ وَلهَذَا كَانَت أَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ عَن النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ. [28/ 260 - 261]
2764 -
إذا كان الرجلان من أهل الديانة فايهما كان أعلم بالكتاب والسُّنَّة: وجب تقديمُه على الآخر، وكان ائتمامه به متعيِّنًا. [المستدرك 3/ 115]
2765 -
لا يجوز أن يولى المصر ولا المدمن إمامة صلاة؛ لكن لو ولي صلي خلفه عند الحاجة؛ كالجمعة والجماعة التي لا يقوم بها غيره، وإن أمكن الصلاة خلف البر فهو أولى.
2766 -
يصح ائتمام المسلمين بعضهم ببعض مع اختلافهم في الفروع بإجماع السلف وأصح قول الخلف، فإن صلاة الإمام جائزة إجماعًا؛ لأنه صلى باجتهاده فهو ماجور فاعل الواجب عليه الذي يكفي، وهو من المصلين.
ولو ترك الإمام ركنًا يعتقده المأموم ولا يعتقده الإمام صحت صلاته خلفه، وهو إحدى الروايتين عن أحمد ومذهب مالك واختيار المقدسي.
(1)
قال الشيخ عنهم: فَهَؤُلَاءِ مُخْطِئُونَ مُخَالِفُونَ لِلسُّنَّةِ. (23/ 411)
ولو فعل الإمام ما هو محرم عند المأموم دونه مما يسوغ فيه الاجتهاد صحت صلاته خلفه، وهو المشهور عن أحمد. [المستدرك 3/ 116]
2767 -
إذا فعل الإمام ما يسوغ فيه الاجتهاد يتبعه المأموم فيه وإن كان هو لا يراه مثل القنوت في الفجر، ووصل الوتر، وإذا ائتم من يرى القنوت بمن لا يراه تبعه في تركه. [المستدرك 3/ 117]
2768 -
من قال: لا تجوز الصلاة خلف من لا تعرف عقيدته وما هو عليه فهو قول لم يقله أحد من المسلمين، فإن أهل الحديث السُّنَّة كالشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم متفقون على أن صلاة الجمعة تصلى خلف البر والفاجر، حتى إن أهل الباع كالجهمية الذين يقولون بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة، ومع أن أحمد ابتلي بهم،- وهو أشهر الأئمة بالإمامة في السُّنَّة- ومع هذا فلم تختلف نصوصه أنه تصلى الجمعة خلف الجهمي والقدري والرافضي
(1)
، وليس لأحد أن يدع الجمعة لبدعة في الإمام، لكن تنازعوا: هل تعاد؟ على قولين هما روايتان عن أحمد: قيل: تعاد خلف الفاسق، ومذهب الشافعي وأبي حنيفة لا تعاد. [المستدرك 3/ 117]
2769 -
تصح إمامة من عليه نجاسة يعجز عن إزالتها بمن ليس عليه نجاسة. [المستدرك 3/ 118]
2770 -
اللحن الذي يحيل المعنى:
أ- إن أحاله إلى ما هو من جنس معنى من معاني القرآن خطأ: فهذا لا
(1)
هذا في حالة ما إذا كانت صلاتهم موافقةً لصلاة المسلمين في الظاهر، أما مع الاختلاف الجذري كزيادة أو نقص ركعة أو ركن فلا تصح الصلاة خلفهم بلا ريب؛ لأنه لم يُصل، دىاذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته: صل فإنك لم تصل، مع أنه لم يزد أو يَنقص ركنًا أو ركعةً، بل أخلَّ في الطمأنينة، فلم يعتبر ما فعله صلاة، فكيف بمن كان خلله في أركان الصلاة ولبّها؟
وهذا يدل على أنَّ الرافضة زمن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى لم يكونوا يُصلون إلا كصلاة المسلمين، إما تقيّةً، وإما أنهم لم يُحدثوا التغيير في صلاتهم إلا بعد ذلك.
يبطل صلاته، كما لو غلط في القرآن في موضع الاشتباه فخلط سورة بغيرها.
ب- وأما إن أحاله إلى ما يخالف معنى القرآن؟ كقوله: (أنعمتُ) بالضم: فهذا بمنزلة كلام الآدميين، وهو في مثل هذه الحال كلام محرم في الصلاة، لكنه لو تكلم به في الصلاة جاهلًا بتحريمه ففي بطلان صلاته نزاع في مذهب أحمد وغيره كالناسي، الصحيح أنه لا يبطل صلاته
(1)
.
والجاهل بمعنى أنعمت عذره أقوى من عذر الناسي والجاهل، فإنه يعلم أنه كلام الآدميين لكن لا يعلم أنه محظور.
وعلى هذا:
أ - فلو كان مثل هذا اللحن في نفل القراءة لم تبطل.
ب- وأما إذا كان في الفاتحة التي هي فرض فيُقال: هب أنها لا تبطل من جهة كونه متكلمًا، لكنه لم يأت بفرض القراءة، فيكون قد ترك ركنا في الصلاة جاهلًا، ولو تركه ناسيًا لم تصح صلاته فكذلك إن تركه جاهلًا.
لكن
(2)
هذا لم يترك أصل الركن، وإنما ترك صفةً فيه وأتى بغيرها، ظانًّا أنها هي، فهو بمنزلة من سجد إلى غير القبلة
(3)
.
ولو ترك بعضَ الفروض غيرَ عالمٍ بفرضه: ففي هذا الأصل قولان، في مذهب أحمد وغيره.
وأصل ذلك
(4)
: خطاب الشارع: هل يثبت قبل البلوغ والعلم به أم لا؟
على ثلاثة أقوال: أصحها أنه يُعذر، فلا تجب الإعادة على هذا الجاهل.
(1)
وهذا حال عامة من يُخطئ في قراءة الفاتحة خطَأً يُحيل المعنى، فصلاته صحيحة، وصلاةُ من خلفه صحيحة كذلك، وهو الأرفق بالناس، ولو طُولبوا بالإعادة أو مفارقة الإمام لأدى ذلك إلى لحاق مشقة عظيمة بهم.
(2)
هذا استدراك على قوله: فيقال، فالشيخ يميل إلى تصحيح صلاته.
(3)
ظانًّا أنها جهة القبلة.
(4)
أي: أصل الخلاف في مسألة بطلان من أخطأ في سورة الفاتحة خطأ يُحيل المعنى.
ومثله: ما لو لم تعلم المرأة أنه يجب ستر رأسها وجسدها لم تعد، ولهذا إذا تغير اجتهاد الحاكم لم ينقض ما حكم فيه، وكذلك المفتي إذا تغير اجتهاده.
وأما إن تعمد اللحن عالمًا بمعناه بطلت صلاته من جهة أنه لم يقرأ الفاتحة، ومن جهة أنه تكلم بكلام الآدميين؛ بل لو عرف معناه وخاطب به الله كفر، وإن تعمده ولم يعلم معناه لم يكفر، وإن لم يتعمد لكن ظن أنه حق ففي صحة صلاته نزاع، كما ذكرناه.
وكذلك لو علم أنه لحن لكن اعتقد أنه لا يحيل المعنى حتى لو كان إمامًا ففي صحة صلاة من خلفه نزاع، هما روايتان عن أحمد.
وفي إمامة المتنفل بالمفترض ثلاثة أقوال: يجوز، ولا يجوز، ويجوز عند الحاجة؟ نحو أن يكون المأمومون
(1)
أُمِّيين.
أما لو صلى من يلحن بمثله فيجوز إذا كانوا عاجزين عن إصلاحه هذا في الفاتحة، أما في غير الفاتحة فإن تعمده بطلت صلاته.
والذي يحيل المعنى مثل: (أنعمتُ) و (إياك) بالضم والكسر، والذي لا يحيله مثل فك الأدغام في موضعه، أو قطع همز الوصل، ومثل:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} و {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} .
وأما إن قال: (الحمدَ) أو (ربَّ) أو (نستعين (أو (أنعَمَتَ) فهذا تصح صلاته لكل أحد؛ فإنها قراءة وليست لحنًا
(2)
. [المستدرك 3/ 118 - 119]
2771 -
من يبدل الراء غينًا والكاف همزة: لا يَؤُم إلا مثله، أما من يشوب
(1)
في الأصل: (المأمومين)، والصواب بالرفع لأنها اسم كان. والتصحيح من مختصر الفتاوى المصرية (1/ 55).
(2)
ذكر الشيخ هذه المسألة في المجموع، لكن بدون هذا التفصيل الدقيق، والترجيح الفاصل في هذا النزاع.
ولذلك قال في الحاشية: هذه مستوفاة أكثر من الموجود في المجموع.
الراء بغين يخرجها من فوق مخرجها بقليل فتصح إمامته للقارئ وغيره، وهذا كله مع العجز. [المستدرك 3/ 119 - 120]
2772 -
إِنَّ عَامَّةَ الْخَلْقِ مِنَ الْعَامَّةِ وَالْخَاضةِ يَقْرَؤُونَ الْفَاتِحَةَ قِرَاءَةً تُجْزِئُ بِهَا الصَّلَاةَ؛ فَإِنَّ اللَّحْنَ الْخَفِيَّ وَاللَّحْنَ الَّذِي لَا يُحِيلُ الْمَعْنَى لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ.
وَفِي الْفَاتِحَةِ قِرَاءَاث كَثِيرَةٌ قَد قُرِئَ بِهَا، فَلَو قَرَأَ:(عَلَيْهِمِ) وَ (عَلَيْهُمْ) و (عَلَيْهِمُ).
أَو قَرَأَ: (الصِّرَاطَ) وَ (السِّرَاطَ) وَ (الزراط)، فَهَذِهِ قِرَاءَاةٌ مَشْهُورَةٌ.
وَلَو قَرَأَ: (الْحَمْدُ لِلّهِ) وَ (الْحَمْدَ للهِ).
أَو قَرَأَ: (رَبَّ الْعَالَمِينَ) أَو (رَبِّ الْعَالَمِينِ)، أَو قَرَأَ بِالْكَسْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ:
لَكَانَت قِرَاءَاتِ قَد قُرِئَ بِهَا، وَتَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَ مَن قَرَأَ بِهَا.
وَلَو قَرَأَ: (رَبُّ الْعَالَمِينَ) بِالضَّمِّ.
أَو قَرَأَ: (مَالِكَ يَوْمَ الدِّينِ) بِالْفَتْحِ: لَكَانَ هَذَا لَحْنًا لَا يُحِيلُ الْمَعْنَى وَلَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ.
وَإِن كَانَ إمَامَا رَاتِبًا وَفِي الْبَلَدِ مَن هُوَ أَقْرَأُ مِنْهُ صَلَّى خَلْفَهُ.
وَإِن كَانَ فتَظَاهِرًا بِالْفِسْقِ وَلَيْسَ هُنَاكَ مَن يُقِيمُ الْجَمَاعَةَ غَيْرُهُ: صَلَّى خَلْفَهُ أَيْضًا وَلَمْ يَتْرُكِ الْجَمَاعَةَ، وَإِن تَرَكَهَا فَهُوَ آثِمٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَاب وَالسُّنَّةِ وَلمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ
(1)
. [23/ 368 - 369]
(1)
الشيخ يأمر أنْ يصلي المسلم خلف الفاسق المعلن لفسقه، والمبتدع الداعي لبدعته -إذا لم يكن هناك إمام غيره أحسن منه- حرصًا على الاجتماع والائتلاف، وكرهًا للتفرق والاختلاف، فما بالك بمن يسعى في تفريق الناس وتصنيفهم، ونبزهم بالألقاب؟
ومنهج شيخ الإسلام هذا هو منهج علماء الإسلام والحمد لله.
سُئل العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى: هل يجوز تصنيف الناس بأن هذا من جماعة كذا وهذا من جماعة كذا؟
فاجاب رحمه الله: يجوز أن يصنف الناس، فيقال: هذا مؤمن وهذا كافر، فاليهودي يهودي كافر، =
2773 -
لا يجوز للعامي أن يقدم على فعل لا يعلم جوازه ويفسق به إن كان مما يفسق به
(1)
، ذكره القاضي. [المستدرك 3/ 120]
2774 -
يلزم الإمام مراعاة المأموم إن تضرر بالصلاة أول الوقت أو آخره.
وليس له أن يزيد على القدر المشروع، وينبغي أن يفعل غالبًا ما كان
= والنصراني نصراني كافر، وأن الشيوعي كافر ملحد، أما المسلمون فهم أمة واحدة، لقول الله تبارك وتعالى:{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون: 52].
ولا يجوز أبدًا أن يتفرق المسلمون، فيكون هذا تبليغي، وهذا سلفي، وهذا إخواني، وهذا جهادي، وهذه جماعة إسلامية، هذا يدخل في قول الله تبارك وتعالى:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159]، ويكون ارتكابًا لما نهى الله عنه؛ لقول الله تبارك وتعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].
هؤلاء لم يعتصموا بحبل الله جميعًا وتفرقوا، خالفوا ما أمر الله به، وارتكبوا لما نهى عنه.
أنا أعتقد لو أنك سألت أي واحدٍ منهم: هل أنت على حق؟ هل أنت تريد الحق؟
الجواب: بالإيجاب أو بالنفي؟ الجواب بالإيجاب: نعم أنا أعتقد أني على حق، وأريد الحق.
قلنا: حسنًا، هل الحق ما تهواه أنت أو ما جاء في الكتاب والسُّنَّة؟ ما جاء في الكتاب والسُّنَّة، فإذا قال: ما أهواه أنا فسلم عليه واتركه، فليس فيه خير.
إذا قال: ما جاء في الكتاب والسُّنَّة، قل: تفضل! القرآن مملوء من الأمر بالائتلاف وإزالة الخلاف، وبيان أنه يجب أن نكون أمة واحدة.
تعال مع الآخر الذي رميته بأنه مبتدع وأنه ضال، تعال على مائدة البحث والمناقشة، والبحث هو مناقشة مع حسن النية لا بد أن يصل الناس فيه إلى نتيجة ..
ولكن ربما يقول: أنا لا أرضى أن يناقشني؛ لأنه خصمي نقول: اختصموا إلى من تثقون به من أهل العلم؛ لأنه لا بد أن يوجد أناس ليسوا من هؤلاء ولا هؤلاء، عليهم أن يقولوا: نحن أمة مسلمة، أمة واحدة ولا يجوز أن نتفرق، ولا يجوز أن يعادي بعضنا بعضًا، وهذا هو الواجب. وإني أقول: إن التفرق باللسان اليوم ربما يكون تفرقًا بالسنان غدًا -نسأل الله العافية-. من دروس وفتاوى الحرم المدني.
وقال رحمه الله في وصيتِه للشباب: أوصيكم ألا يكون همكم وشغلكم الشاغل ما فُتن به بعض الشباب الآن في مسألة التكفير: هل هذا كافر أو مسلم؟ هل هذا الحاكم كافر أو مسلم؟
وإذا حصل أي اختلاف بين الشباب قال: هذا اتركوه هذا مبتدع، هذا إخواني هذا تبليغي، هذا سلفي، وما أشبه ذلك. [سلسلة لقاءات الباب المفتوح].
(1)
كأن يدخل في مساهمة لا يعلم جوازها، وكالإمام الراتب، وكمن يُريد الحج، فهؤلاء وغيرهم يجب عليهم أنْ يتعلَّموا أحكام ما أقدموا على فعلِه.
النبي صلى الله عليه وسلم ويزيد وينقص للمصلحة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وينقص أحيانًا. [المستدرك 3/ 120]
2775 -
ليس للإمام تأخير الصلاة عن الوقت المستحب وبعد حضور أكثر الجماعة منتظرًا لأحد؛ بل يُنهى عن ذلك إذا شق، ويجب عليه رعاية المأمومين. [المستدرك 3/ 120]
2776 -
إن كان بين الإمام والمأمومين معاداة من جنس معاداة أهل الأهواء أو المذاهب: لم ينبغ أن يؤمهم لأن المقصود بالصلاة جماعة الائتلاف ولهذا قال النبي: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم"
(1)
.
فإنْ أمَّهم: فقد أتى بواجب ومحرم يقام به الصلاة فلم تقبل؛ إذ الصلاة المقبولة ما يثاب عليها. [المستدرك 3/ 120]
2777 -
وتجوز الصلاة خلف ولد الزنى باتفاقهم. [المستدرك 3/ 120]
2778 -
تجوز صلاة الفجر خلف الظهر في إحدى الروايتين عن أحمد. [المستدرك 3/ 120]
2779 -
لو قام رجل يقضي ما فاته فائتم به رجل آخر جاز في أصح قولي العلماء إذا نويا. [المستدرك 3/ 121]
(موقف الإمام والمأمومين)
2780 -
قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم
أ - بتسوية الصفوف.
ب- ورصِّها.
(1)
رواه مسلم (432).
ج- وسدِّ الفرج.
د- وتكميل الأول فالأول.
هـ- وأن يتوسط الإمام وتقاربها -يعني: الصفوف-.
خمسُ سنن
(1)
. [المستدرك 3/ 121]
2781 -
تصح صلاة الفذ لعذر وفاقًا للحنفية، وإذا لم يجد إلا موقفًا خلف الصف فالأفضل أن يقف وحده ولا يجذب من يصافه؛ لما في الجذب من التصرف في المجذوب
(2)
.
وللمجذوب الاصطفاف مع بقاء فرجه
(3)
، أو وقوف المتأخر وحده؟ وكذلك لو حضر اثنان وفي الصف فرجة: فأيهما أفضل: وقوفهما جميعًا، أو سد أحدهما الفرجة وينفرد الآخر؟
رجح أبو العباس الاصطفاف مع بقاء الفرجة؛ لأن سد الفرجة مستحب والاصطفاف واجب. [المستدرك 3/ 121]
2782 -
المرأة إذا كان معها امرأة أخرى تصافها كان من حقها أن تقف معها، وكان حكمها إن لم تقف معها حكم المنفرد عن صف الرجال، وهو أحد القولين في مذهب أحمد. [المستدرك 3/ 122]
2783 -
حيث صحت الصلاة عن يسار الإمام كرهت إلا لعذر. [المستدرك 3/ 122]
2784 -
من أخّر الدخول في الصلاة مع إمكانه حتى قضى الإمام القيام، أو كان القيام متسعًا لقراءة الفاتحة ولم يقرأها فهذا تجوز صلاته عند جماهير العلماء.
(1)
مِن سنن الصفوف في الصلاة.
(2)
وقال: لأن غاية المصافة أن تكون واجبة فتسقط بالعذر.
(3)
حيث تأخر وترك فرجةً في الصف.
وأما الشافعي فعليه عنده أن يقرأ وإن تخلف عن الركوع، وإنما تسقط قراءتها عنده عن المسبوق خاصة، فهذا الرجل كان حقه أن يركع مع الإمام ولا يتم القراءة؛ لأنه مسبوق. [المستدرك 3/ 122 - 123]
* * *
بَابُ صَلَاةِ أَهْلِ الْأَعْذَارِ
2785 -
كُلُّ مَا عَجَزَ عَنْهُ الْعَبْدُ مِن وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ: سَقَطَ عَنْهُ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ عَن وَقْتِهَا؛ بَل يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، لَكِنْ يَجُوزُ لَهُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِعُذْرٍ، حَتَّى أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسْتَحَاضَةِ وَأَصْحَابِ الْأَعْذَارِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ.
وَلَا بُدَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ: إمَّا بِطَهَارَةٍ إنْ أَمْكَنَهُ وَإِلَّا بِالتَّيَمُّمِ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِمَن عَدِمَ الْمَاءَ أو خَافَ الضَّرَرَ بِاسْتِعْمَالِهِ إمَّا لِمَرَضٍ وَإِمَّا لِشِدَّةِ الْبَرْدِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَإِن كَانَ جُنُبًا؛ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ.
وَإِذَا تيَمَّمَ فِي السَّفَرِ لِعَدَمِ الْمَاءِ لَمْ يُعِدْ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ.
وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ إذَا صَلَّى قَاعِدًا أَو صَلَّى عَلَى جَنْب لَمْ يُعِدْ بِاتفَاقِ الْعُلَمَاءِ.
وَكَذَلِكَ الْعُرْيَانُ: كَاَلَّذِي تَنْكَسِرُ بِهِ السَّفِينَةُ، أَو يَأخُذُ الْقُطَّاعُ ثِيَابَهُ: فَإِنَّهُ يُصَلِّي عريانًا وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.
وَكَذَلِكَ مَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ وَصَلَّى ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ فِيمَا بَعْدُ: لَا يُعِيدُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.
وَإِن أَخْطَأ مَعَ اجْتِهَادِهِ لَمْ يُعِدْ أَيْضًا عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ.
وَقَد تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّيَمُّمِ لِخَشْيَةِ الْبَرْدِ: هَل يُعِيدُ؟ وَفِيمَن صَلَّى فِي ثَوْبٍ نَجِسٍ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ: هَل يُعِيدُ؟
وَالصَّحِيحُ فِي جَمِيعِ هَذَا النَّوْعِ: أَنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَى أَحَدٍ مِن هَؤُلَاءِ؛ بَل
يُصَلِّي كل وَاحِدٍ عَلَى حَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا عَجَزَ عَنْهُ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ.
وَلَمْ يَأْمُرِ اللهُ تَعَالَى وَلَا رَسُولُهُ أَحَدًا أَنْ يُصَلّيَ الْفَرْضَ مَرَّتَيْنِ مُطْلَقًا. [21/ 223 - 224]
2786 -
وَسُئِلَ عَن رَجُل نُصَلِّي الْخَمْسَ لَا يَقْطَعُهَا
(1)
، وَلَمْ يَحْضُرْ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ؛ وَذَكَرَ أَنَّ عَدَمَ حُضُورِهِ لَهَا أَنَّهُ يَجِدُ رِيحًا فِي جَوْفِهِ تَمْنَعُهُ عَن انْتِظَارِ الْجُمْعَةِ، فَهَل الْعُذْرُ الَّذِي ذَكَرَهُ كَافٍ فِي تَرْكِ الْجُمْعَةِ مَعَ قُرْبِ مَنْزِلِهِ؟
فَأَجَابَ: بَل عَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ الْجُمْعَةَ وَيَتَأخَّرَ، بِحَيْثُ يَحْضُرُ وَيُصَلِّي مَعَ بَقَاءِ وُضُوئِهِ.
وَإِن كَانَ لَا يُمْكِنهُ الْحُضُورُ إلا مَعَ خرُوجِ الرِّيحِ فَلْيَشْهَدْهَا وَإِن خَرَجَتْ مِنْهُ الرِّيحُ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّه ذَلِكَ
(2)
. [21/ 225]
2787 -
من نوى الخير وفعل ما يقدر عليه منه كان له مثل أجر الفاعل، ثم احتج بحديث أبي كبشة، وحديث:"إِن بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا، إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ، حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ"
(3)
، وحديث: "إِذَا مَرِضَ العَبْدُ،
(1)
أي: يُواظب على حضور الصلوات الخمسة جماعةً.
(2)
مع أنه لو صلاها في بيته لأمكنه الصلاة بكامل طهارته، لكن الشيخ يرى أهمية الجمعة والجماعة، ويرى أن خروج الريح من هذا الرجل مُلحقٌ بسلس البول.
وعلى هذا؛ فمن يشتكي خروج قطراتٍ من البول بعد تبوله، ولا تنقطع إلا بعد زمن طويل أو قصير، ويسأل عن حاله إذا حضرت الصلاة، فنقول لا يخلو مثل هذا من حالين:
الأولى: إذا أمكنه تأخير الوضوء والصلاة دون فوات الجمعة والجماعة، فعليه أنْ ينتظر حتى تنقطع ويتطهر طهارةً صحيحة.
الثانية: إذا لم يمكنه ذلك، كما لو بال قُبيل إقامة الصلاة، فإنه يستنجي ويرش على سرواله من الماء، ويتوضأ ولا يلتفت إلى ما نزل من قطرات، فحاله كحال من به سلسُ بولٍ دائم، والله أعلم.
وهذا هو التيسير الذي لو لم نقل به لوقع أمثال هؤلاء -وهم كثير جدًّا- في الحرج والعسر الذي رفعه الله تعالى.
(3)
رواه مسلم (1911).
أَوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا"
(1)
وحديث: "منْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا"
(2)
.
واحتج بها في مكان آخر وبقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ} [النساء: 95].
وقال أيضًا عن حديث: "إذا مرض العبد" هذا يقتضي أن من ترك الجماعة لمرض أو سفر وكان يعتادها كتب له أجر الجماعة، وإن لم يكن يعتادها لم يكتب له، وإن كان في الحالين إنما له بنفس الفعل صلاة منفرد، وكذلك المريض إذا صلى قاعدًا أو مضطجعًا.
قال: ومن قصد الجماعة فلم يدركها: كان له أجر من صلى في جماعة. [المستدرك 3/ 123 - 124]
* * *
الجمع والقصر
2788 -
اعْتَبَرَ في الفصول الموالاة، قال شيخنا: ومعناها أن لا يفصل بينهما بصلاة ولا كلام لئلا يزول معنى الاسم وهو الجمع .. واختار شيخنا لا موالاة
(3)
، وأخذه من رواية أبي طالب والمروذي: للمسافر أن يصلي العشاء قبل مغيب الشفق، وعلَّله أحمد بأنه يجوز له الجمع، ومن نصه في جمع المطر، إذا صلى إحداهما في بيته والأخرى في المسجد فلا بأس. [المستدرك 3/ 124]
2789 -
كل مَسْجِدٍ بِمَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا غَيْرُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَهُوَ مُحْدَثٌ،
(1)
رواه البخاري (2996).
(2)
رواه مسلم (2674).
(3)
وقال في المجموع: لَا تُشْتَرَطُ الْمُقَارَنَةُ.
وقال: الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا تُشْتَرَي الْمُوَالَاةُ بِحَالٍ، لَا فِي وَقْتِ الْأولَى وَلَا فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ، وَلأَنَّ مُرَاعَاةَ ذَلِكَ يُسْقِط مَقْصُودَ الرُّخْصَةِ. اهـ. (24/ 51 - 54)
وَمِنَى نَفْسُهَا لَمْ يَكُن بِهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَسْجِدٌ مَبْنِيٌّ، وَلَكِنْ قَالَ:"مِنَى مُنَاخٌ لِمَن سَبَقَ"
(1)
، فَنَزَلَ بِهَا الْمُسْلِمُونَ، وَكَانَ يُصَلِّي بِالْمُسْلِمِينَ بِمِنَى وَغَيْرِ مِنًى، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ مِن بَعْدِهِ، وَاجْتِمَاعُ الْحُجَّاجِ بِمِنَى أَكْثَرُ مِن اجْتِمَاعِهِمْ بِغَيْرِهَا فَإِنَّهُم يُقِيمُونَ بِهَا أَرْبَعًا، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْر وَعُمَرُ يُصَلُّونَ بِالنَّاسِ بِمِنَى وَغَيْرِ مِنًى، وَكَانُوا يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ بِمِنَى وَعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ، وَيَجْمَعُونَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بمزدلفة، وَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِمْ جَمِيعُ الْحُجَّاجِ مِن أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ، وَكُلُّهُم يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ بِالْمَشَاعِرِ، وَكُلُّهُم يَجْمَعُونَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ.
وَقَد تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي أَهْلِ مَكَّةَ وَنَحْوِهِمْ هَل يَقْصُرُونَ أَو يَجْمَعُونَ:
فَقِيلَ: لَا يَقْصُرُونَ وَلَا يَجْمَعُونَ.
وَقِيلَ: يَجْمَعُونَ وَلَا يَقْصُرُونَ؛ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَمَن وَافَقَهُ مِن أَصْحَابِهِ وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.
وَقِيلَ: يَجْمَعُونَ ويقْصُرُونَ كمَا قَالَ ذَلِكَ مَالِكٌ وَابْن عُيَيْنَة وَإِسْحَاقُ بْن رَاهَوَيْه وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرُهُمْ.
وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ بِلَا ريب، فَإِنَّهُ الَّذِي فَعَلَهُ أَهْلُ مَكةَ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِلَا ريبٍ، وَلَمْ يَقُلِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَطُّ وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ بِمِنَى وَلَا عَرَفَةَ وَلَا مُزْدَلِفَةَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفَرٌ، وَلَكِنْ ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ ذَلِكَ فِي جَوْفِ مَكَّةَ، وَكَذَلِكَ فِي "السُّنَنِ" عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي جَوْفِ مَكَّةَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ
(2)
، وَهَذَا مِن أَقْوَى الْأدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ مَشْرُوعٌ لِكُلِّ مُسَافِرٍ وَلَو كَانَ سَفَرُهُ بَرِيدًا، فَإِنَّ عَرَفَةَ مِن مَكَّةَ: بَرِيدٌ: أَرْبَعُ فَرَاسِخَ، وَلَمْ يُصَلِّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَلَا خُلَفَاؤُهُ بِمَكَّةَ صَلَاةَ عِيدٍ؛ بَل وَلَا صَلَّى فِي أَسْفَارِهِ قَطُّ صلَاةَ
(1)
الترمذي (881)، وقال: حسن صحيح.
(2)
ضعَّفه الألباني في ضعيف أبي داود (1229).
الْعِيدِ، وَلَا صَلَّى بِهِم فِي أسْفَارِهِ صَلَاةَ جُمْعَةٍ يَخْطُبُ ثمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ؛ بَل كَانَ يُصَلِّي يَوْمَ الْجُمْعَةِ فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ كَمَا يُصَلِّي فِي سَائِرِ الْأيَّامِ. [17/ 478 - 480]
2790 -
قَوْلُ مَن يَقُولُ: إنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ كَمَا يَجُوزُ فِي الطَّوِيلِ: أَقْوَى مِن قَوْلِ مَن لَا يُجَوِّزْهُ إلا فِي الطَّوِيلِ لَا فِي الْقَصِيرِ.
2791 -
مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ: أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ حَرَفي فِي التَّفْرِيقِ، فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا الْمَرِيضُ، وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي الْمَطَرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد، وَقَالَ أَحْمَد: يَجْمَعُ إذَا كَانَ لَهُ شُغْلٌ. [21/ 433]
2792 -
الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِطِهَارَةٍ كَامِلَةٍ بالْمَاءِ خَيْرٌ مِن أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِالتَّيمُّمِ، كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُسْتَحَاضَةَ أَنْ تَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ، وَجعلَ ذَلِكَ خَيْرًا مِن التَّفْرِيقِ بِوُضُوءٍ.
وَأَيْضًا: فَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مَشْرُوعٌ لِحَاجَةٍ دُنْيَوِيَّةِ، فَلَأَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا لِتَكْمِيلِ الصَّلَاةِ أَوْلَى.
وَالْجَامِعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مُصَلِّ فِي الْوَقْتِ.
وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرفة فِي وَقْتِ الظُّهْرِ؛ لِأَجْلِ تَكْمِيلِ الْوُقُوفِ وَاتصَالِهِ، وَإِلَّا فَقَد كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْزِلَ فَيُصَلِّيَ، فَجَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِتَكْمِيلِ الْوُقُوفِ؛ فَالْجَمْعُ لِتَكْمِيلِ الصَّلَاةِ أَوْلَى.
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ جَمَعَ بِالْمَدِينَةِ لِلْمَطَرِ، وَهُوَ نَفْسُهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُن يَتَضَرَّرُ بِالْمَطَرِ؛ بَل جمعَ لِتَحْصِيلِ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ، وَالْجَمْعُ لِتَحْصِيلِ الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِن التَّفْرِيقِ وَالِانْفِرَادِ. [21/ 451 - 452]
2793 -
مَا كَانَ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ فِي السَّفَرِ بَينَ الصَّلَاتَيْنِ إلَّا أَحْيَانًا عِنْدَ الْحَاجَةِ، لَمْ يَكُن جَمْعُهُ كَقَصْرِهِ؛ بَلِ الْقَصْرُ سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ، وَالْجَمْعُ رُخْصَة عَارِضَةٌ، فَمَن نَقَلَ
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ رَبَّعَ فِي السَّفَرِ الظُّهْرَ أَو الْعَصْرَ أَو الْعِشَاءَ فَهَذَا غَلَطٌ، فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَنْقُلْهُ عَنْهُ أَحَدٌ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ.
وَلَكِنْ رَوَى بَعْضُ النَّاسِ حَدِيثًا عَن عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي السَّفَرِ يَقْصُرُ وَتُتِمُّ، وَيُفْطِرُ وَتَصُومُ، فَسَأَلْته عَن ذَلِكَ فَقَالَ:"أَحْسَنْت يَا عَائِشَةُ" فَتَوَهَّمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ هُوَ كَانَ الَّذِي يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ ويُتِمُّ، وَهَذَا لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ، وَنَفْسُ الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِي فِعْلِهَا بَاطِلٌ، وَلَمْ تَكُنْ عَائِشَةُ وَلَا أَحَدٌ غَيْرُهَا مِمَن كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي إلَّا كَصَلَاتِهِ، وَلَمْ يُصَلِّ مَعَهُ أَحَدٌ أَرْبَعًا قَطُّ، لَا بِعَرَفَةَ وَلَا بمزدلفة وَلَا غَيْرِهِمَا، لَا مِن أَهْلِ مَكَّةَ وَلَا مِن غَيْرِهِمْ؛ بَل جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ كَانوا يُصَلُّونَ مَعَهُ رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ يُقِيمُ بِمِنَى أَيَّامَ الْمَوْسِمِ يُصَلِّي بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ بَعْدَهُ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ بْنُ عفان فِي أَوَّلِ خِلَافَتِهِ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ أَرْبَعًا لِأُمُورِ رَآهَا تَقْتَضِي ذَلِكَ فَاخْتَلَفَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَمِنْهُم مَن وَافَقَهُ وَمِنْهُم مَن خَالَفَهُ.
وَلَمْ يَجْمَعِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ إلَّا بِعَرَفَةَ وبمزدلفة خَاصَّةً، لَكِنَّهُ كَانَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِن أَسْفَارِهِ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ إلَى بَعْدِ الْعِشَاءِ ثُمَّ صَلَّاهُمَا جَمِيعًا، ثُمَّ أَخَّرَ الظُّهْرَ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ فَصَلَّاهُمَا جَمِيعًا.
وَلهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ مِن قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْقَصْرَ فِي السَّفَرِ يَجُوزُ، سَوَاءٌ نَوَى الْقَصْرَ أَو لَمْ يَنْوِهِ، وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ حَيْثُ يَجُوزُ لَهُ سَوَاءٌ نَوَاة مَعَ الصَّلَاةِ الْأولَى أَو لَمْ يَنْوِهِ.
وَقَد اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ، وَاتَّفَقُوا أَنَّهُ الْأَفْضَلُ إلا قَوْلًا شَاذًّا لِبَعْضِهِمْ.
وَاتَّفَقُوا أَنَّ فِعْلَ كُل صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ إذَا لَمْ يَكُن هُنَاكَ سَبَبٌ يُوجِبُ الْجَمْعَ إلَّا قَوْلًا شَاذًّا لِبَعْضِهِمْ.
وَالْقَصْرُ سَبَبُهُ السَّفَرُ خَاصَّةً، لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ السَّفَرِ، وَأَمَّا الْجَمْعُ فَسَبَبُهُ
الْحَاجَةُ وَالْعُذْرُ، فَإِذَا احْتَاجَ إلَيْهِ جَمَعَ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ وَالطَّوِيلِ، وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ لِلْمَطَرِ وَنَحْوِهِ وَللْمَرَضِ وَنَحْوِهِ وَلغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ.
فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ رَفْعُ الْحَرَجِ عَنِ الْأُمَّةِ.
وَلَمْ يَرِدْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ جَمَعَ فِي السَّفَرِ وَهُوَ نَازِلٌ إلَّا فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ.
وَلهَذَا تَنَازَعَ الْمُجَوِّزُونَ لِلْجَمْعِ؛ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد: هَل يَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْمُسَافِرِ النَّازِلِ؟
فَمَنَعَ مِنْهُ مَالِكٌ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْه
(1)
.
وَجَوَّزَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأخْرَى.
وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ الْجَمْعَ إلَّا بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ. [22/ 290 - 292]
2794 -
قَالَ سبحانه وتعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101]، فَأَبَاحَ اللهُ الْقَصْرَ مِن عَدَدِهَا وَالْقَصْرَ مِن صِفَتِهَا؛ وَلهَذَا عَلَّقَهُ بِشَرْطَيْنِ: السَّفَرِ، وَالْخَوْفِ.
فَالسَّفَرُ: يُبِيحُ قَصْرَ الْعَدَدِ فَقَطْ .. وَالْخَوْفُ يُبِيحُ قَصْرَ صِفَتِهَا. [22/ 541]
2795 -
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ قَد نَقَلُوا بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَلِّ فِي السَّفَرِ إلَّا رَكْعَتَيْنِ، وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ أَحَدٌ أَنَّهُ صَلَّى أَرْبَعًا قَطُّ، وَلَكِنَّ الثَّابِتَ عَنْهُ أَنَّهُ صَامَ فِي السَّفَرِ وَأَفْطَرَ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ مِنْهُم الصَّائِمُ وَمِنْهُم الْمُفْطِرُ.
وَأَمَّا الْقَصْرُ فَكُلُّ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَقْصُرُونَ، مِنْهُم أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُ أَهْلِ مَكَّةِ، بِمِنَى وَعَرَفَةَ وَغَيْرِهِمَا.
(1)
وهو الذي يميل إليه الشيخ لكنه لم يجزم به، وأما الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، فيرى أن الجمع للمسافر وقت النزول لا بأس به، ولكن تركه أفضل. انظر: مجموع فتاوى ابن باز (12/ 297).
وهو اختيار العلَّامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله حيث قال: "والصحيح أن الجمع للمسافر جائز لكنه في حق السائر مستحب، وفي حق النازل جائز غير مستحب، إن جمع فلا بأس، وإن ترك فهو أفضل". الشرح الممتع (4/ 550 - 553).
وَقَد تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّرْبِيعِ .. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ قَوْلُ مَن يَقُولُ إنَّهُ سُنَّة وَأَنَّ الْإِتْمَامَ مَكْرُوهٌ؛ وَلهَذَا لَا تَجِبُ نِيَّةُ الْقَصْرِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَنْهُ فِي مَذْهَبِهِ. [24/ 8 - 9]
2796 -
تتازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُسَافِرِ إذَا صَلَّى أَرْبَعًا، فَقِيلَ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ.
وَقِيلَ: يَجُوزُ.
وَلَكِنَّ الْقَصْرَ أَفْضَلُ عِنْدَ عَامَّتِهِمْ - لَيْسَ فِيهِ إلَّا خِلَافٌ شَاذٌّ، وَلَا يَفْتَقِرُ الْقَصْرُ إلَى نِيَّةٍ؛ بَل لَو دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يُصَلِّيَ أرْبَعًا
(1)
-اتِّبَاعًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَد كَانَ صلى الله عليه وسلم لَمَّا حَجَّ بِالْمُسْلِمِينَ حِجَّةَ الْوَدَاعِ يُصَلِّي بِهِم رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ إلَى أَنْ رَجَعَ، وَجَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَالْمُسْلِمُونَ خَلْفَهُ وَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِ أهْلُ مَكَةَ وَغَيْرُهُم جَمْعًا وَقَصْرًا، وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا أنْ يَنْوِيَ لَا جَمْعًا وَلَا قَصْرًا.
وَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّ أَهْلَ مَكةَ يَقْصُرُونَ وَيَجْمَعُونَ هُنَاكَ كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ هُنَاكَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَن أَحَدٍ مِن الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ قَالَ لَهُم هُنَاكَ: أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ، وَلَكِنْ نُقِلَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ لَمَّا صَلَّى بِهِم دَاخِلَ مَكَّةَ، وَكَذَلِكَ كَانَ عُمَرُ يَأَمُرُ أَهْلَ مَكَّةَ بِالْإِتْمَامِ إذَا صَلَّى بِهِم فِي الْبَلَدِ، وَأَمَّا بِمِنَى فَلَمْ يَكُن يَأْمُرُهُم بِذَلِكَ.
وَقَد تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي قَصْرِ أَهْلِ مَكَّةَ خَلْفَهُ: فَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ النُّسُكِ، فَلَا يَقْصُرُ الْمُسَافِرُ سَفَرًا قَصِيرًا هُنَاكَ، وَقِيلَ: بَل كَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ السَّفَرِ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي هُوَ الصَّوَابُ، وَهُوَ أَنَّهُم قَصَرُوا لِأَجْلِ سَفَرِهِمْ، وَلهَذَا لَمْ يَكُونُوا يَقْصُرُونَ بِمَكَّةَ وَكَانُوا مُحْرِمِينَ.
(1)
أي: فيقصُر ولو نوى الإتمام.
وَالْقَصْرُ مُعَلَّق بِالسَّفَرِ وُجُودًا وَعَدَمًا، فَلَا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ إلا مُسَافِرٌ.
وَقَد تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ: هَل يَخْتَصُّ بِسَفَرٍ دُونَ سَفَرٍ، أَمْ يَجُوزُ فِي كُلِّ سَفَرٍ؟
وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي كُلِّ سَفَرٍ قَصِيرًا كَانَ أَو طَوِيلًا، كَمَا قَصَرَ أَهْلُ مَكَّةَ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَةَ وَمِنًى، وَبَيْنَ مَكَّةَ وَعَرَفَةَ نَحْوُ بَرِيدٍ: أَرْبَعِ فَرَاسِخَ.
وَأَيْضًا: فَلَيْسَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يَخُصَّانِ بِسَفَرٍ دُونَ سَفَرٍ: لَا بِقَصْرٍ وَلَا بِفِطْر، وَلَا تَيَمُّمٍ، وَلَمْ يَحُدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَسَافَةَ الْقَصْرِ بِحَدّ لَا زَمَانِيِّ وَلَا مَكَانِيٍّ، وَالْأَقْوَالُ الْمَذْكُورَةُ فِي ذَلِكَ مُتَعَارِضَةٌ، لَيْسَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا حُجَّةٌ وَهِيَ مُتَنَاقِضَةٌ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَحُدَّ ذَلِكَ بِحَدٍّ صَحِيحٍ.
فَإِنَّ الْأَرْضَ لَا تُذْرَعُ بِذَرْع مَضْبُوطٍ فِي عَامَّةِ الْأَسْفَارِ، وَحَرَكَةُ الْمُسَافِرِ تَخْتَلِفُ.
وَالْوَاجِبُ أَنْ يُطْلَقَ مَا أَطْلَقَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ صلى الله عليه وسلم، وَيُقَيَّدَ مَا قَيَّدَهُ، فَيَقْصُرُ الْمُسَافِرُ الصَّلَاةَ فِي كُلِّ سَفَرٍ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الأحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالسَّفَرِ مِن الْقَصْرِ، وَالصَّلَاةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
وَمَن قَسَّمَ الْأَسْفَارَ إلَى قَصِيرٍ وَطَوِيلٍ وَخَصَّ بَعْضَ الْأحْكَامِ بِهَذَا وَبَعْضَهَا بِهَذَا وَجَعَلَهَا مُتَعَلِّقَة بِالسَّفَرِ الطَّوِيلِ: فَلَيْسَ مَعَهُ حُجَّةٌ يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَيْهَا. [24/ 10 - 13]
2797 -
سافَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَرِيبًا مِن ثَلَاثِينَ سَفْرَة وَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فِي أَسْفَارِهِ وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ أَحَدٌ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ صَلَّى فِي السَّفَرِ الْفَرْضَ أَرْبَعًا قَطُّ
(1)
.
(1)
فهل يُعقل أنْ يُسافر كل هذه السفرات ولا يبين لأصحابه المسافة التي يجوز فيها القصر، ولا يحدد لهم الأيام التي لا يقصرون فيها إذا تجاوزوها؟ ولا ينقل أصحابه ذلك، ولا يسألون ولا يُسألون؟
كل هذا يبيِّن ويؤكد أن التحديد لا يقومُ عليه دليل صحيح صريح، والأصل في المسافر القصر حتى يرجع.
فَثَبَتَ بِهَذِهِ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ أَنَّ صَلَاةَ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ، كَمَا أَنَّ صَلَاةَ الْحَضَرِ أَرْبَعٌ، فَإِنَّ عَدَدَ الرَّكَعَاتِ إنَّمَا أُخِذَ مِن فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي سَنَّهُ لِأُمَّتِهِ.
وَبَطَلَ قَوْلُ مَن يَقُولُ مِن أَصْحَاب أَحْمَد وَالشَّافِعِيَّ: إنَّ الْأَصْلَ أَرْبَعٌ وَإِنَّمَا الرَّكْعَتَانِ رُخْصَةٌ، وَبَنَوْا عَلَى هَذَا: أَنَّ الْقَاصِرَ يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الْقَصْرِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ قَوْلُ الخرقي وَالْقَاضِي وَغَيْرِهِمَا.
بَل الصَّوَابُ مَا قَالَهُ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ الْقَصْرَ لَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ؛ بَل دُخُولُ الْمُسَافِرِ فِي صَلَاتِهِ كَدُخُولِ الْحَاضِرِ؛ بَل لَو نَوَى الْمُسافِرُ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا لَكُرِهَ لَهُ ذَلِكَ، وَكَانَت السُّنَّةُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، وَنُصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَد إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ.
وَقَد تَنَازَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي التَّرْبِيعِ فِي السَّفَرِ: هَل هُوَ مُحَرَّمٌ؟ أَو مَكرُوهٌ؟ أَو تَرْكُ الْأَفْضَلِ. أَو هُوَ أَفْضَلُ. عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ.
وإنما الْمُتَوَجِّهُ أَنْ يَكونَ التَّرْبِيعُ إمَّا مُحَرَّمٌ أَو مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّ طَائِفَةً مِن الصَّحَابَةِ كَانُوا يُرَبِّعُونَ وَكَانَ الْآخَرُونَ لَا يُنْكِرُونَهُ عَلَيْهِم إنْكَارَ مَن فَعَلَ الْمُحَرَّمَ؛ بَل إنْكَارَ مَن فَعَلَ الْمَكْرُوهَ.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] فَهُنَا عَلَّقَ الْقَصْرَ بِسَبَبَيْنِ:
أ- الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ.
ب- وَالْخَوْفِ مِن فِتْنَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا.
لِأَنَّ الْقَصْرَ الْمُطْلَقَ يَتَنَاوَلُ:
أ- قَصْرَ عَدَدِهَا.
ب- وَقَصْرَ عَمَلِهَا وَأَرْكَانِهَا؛ مِثْل الْإِيمَاءِ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَهَذَا الْقَصْرُ إنَّمَا يَشْرَعُ بِالسَّبَبَيْنِ كِلَاهُمَا، كُلُّ سَبَبٍ لَة قَصْرٌ.
فَالسَّفَر: يَقْتَضِي قَصْرَ الْعَدَدِ، وَالْخَوْفُ يَقْتَضِي قَصْرَ الْأَرْكَانِ.
وَلَو قِيلَ: إنَّ الْقَصْرَ الْمُعَلَّقَ هُوَ قَصْرُ الْأَرْكَانِ فَإِنَّ صَلَاةَ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ لَكَانَ وَجِيهًا؛ وَلهَذَا قَالَ: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [النساء: 103]. [22/ 78 - 83]
2798 -
الْأسْمَاءُ الَّتِي عَلَّقَ اللهُ بِهَا الْأَحْكَامَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ:
أ- مِنْهَا مَا يُعْرَفُ حَدُّهُ وَمُسَمَّاهُ بِالشَّرْعِ، فَقَد بَيَّنَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ؛ كَاسْمِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ.
ب- وَمِنْهُ مَا يُعْرَفُ حَدُّهُ بِاللُّغَةِ؟ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْبَرِّ.
ج- وَمِنْهُ مَا يَرْجِعُ حَدُّهُ إلَى عَادَةِ النَّاسِ وَعُرْفِهِمْ، فَيَتَنَوَّعُ بِحَسَبِ عَادَتِهِمْ؛ كَاسْمِ الْبَيْعِ وَالنِّكَاح وَالْقَبْضِ وَالدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي لَمْ يَحُدَّهَا الشَّارعُ بِحَدٍّ وَلَا لَهَا حَدٌّ وَاحِدٌ يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ أَهْلِ اللُّغَةِ؛ بَل يَخْتَلِفُ قَدْرُهُ وَصِفَتُهُ بِاخْتِلَافِ عَادَاتِ النَّاسِ.
فَمَا كَانَ مِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ فَقَد بَيَّنَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ.
وَمَا كَانَ مِنَ الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَالصَّحَابَة وَالتَّابِعُونَ الْمُخَاطَبُونَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَد عَرَفُوا الْمُرَادَ بِهِ؛ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِمُسَمَّاهُ الْمَحْدُودِ فِي اللُّغَةِ، أَو الْمُطْلَقِ فِي عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَتِهِم مِن غَيْرِ حَدٍّ شَرْعِيٍّ وَلَا لُغَوِيٍّ، وَبِهَذَا يَحْصُل النَّفَقُّهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَالِاسْمُ إذَا بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَدَّ مُسَمَّاهُ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكونَ قَد نَقَلَهُ عَنِ اللُّغَةِ أَو زَادَ فِيهِ.
وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَمَا أَطْلَقَهُ اللهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَعَلَّقَ بِهِ الْأَحْكَامَ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ لَمْ يَكُن لِأَحَدٍ أنْ يُقَيِّدَهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ.
فَمِن ذَلِكَ اسْمُ الْمَاءِ مُطْلَقٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَمْ يُقَسّمْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى قِسْمَيْنِ: طَهُورٌ وَغَيْرُ طَهُورٍ، فَهَذَا التَّقْسِيمُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
فصلٌ
وَاللهُ وَرَسُولُهُ عَلَّقَ الْقَصْرَ وَالْفِطْرَ بِمُسَمَّى السَّفَرِ، وَلَمْ يَحُدَّهُ بِمَسَافَةٍ وَلَا فَرْقٍ بَيْنَ طَوِيل وَقَصِيرٍ، وَلَو كَانَ لِلسَّفَرِ مَسَافَةٌ مَحْدُودَة لَبَيَّنَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَلَا لَهُ فِي اللُّغَةِ مَسَافَةٌ مَحْدُودَة، فَكُلَّمَا يُسَمِّيهِ أَهْلُ اللُّغَةِ سَفَرًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَقَد قَصَرَ أَهْلُ مَكَةَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَى عَرَفَاتٍ وَهِيَ مِن مَكَّةَ بَرِيدٌ، فَعُلِمَ أَنَّ التَّحْدِيدَ بِيَوْمٍ أَو يَوْمَيْنِ أَو ثَلَاثَةٍ لَيْسَ حَدًّا شَرْعِيًّا عَامًّا.
وَمَا نقِلَ فِي ذَلِكَ عَنِ الصَّحَابَةِ قَد يَكُون خَاصُّا: كَانَ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، لَا يَكُونُ السَّفَرُ إلا كَذَلِكَ، وَلهَذَا اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَن كُلٍّ مِنْهُم كَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا، فَعُلِمَ أَنَّهُم لَمْ يَجْعَلُوا لِلْمُسَافِرِ وَلَا الزَّمَانِ حَدًّا شَرْعِيًّا عَامًّا كَمَوَاقِيتِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ؛ بَل حَدُّوهُ لِبَعْضِ النَّاسِ بِحَسَبِ مَا رَأَوْهُ سَفَرًا لِمِثْلِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَكَمَا يَحُدُّ الْحَادُّ الْغَنِيّ وَالْفَقِير فِي بَعْضِ الصُّوَرِ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ، لَا لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ لِلْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ مِقْدَارًا مِنَ الْمَالِ يَسْتَوِي فِيهِ النَّاسُ كُلُّهُمْ؛ بَل قَد يَسْتَغْنِي الرَّجُلُ بِالْقَلِيلِ وَغَيْرُهُ لَا يُغْنِيهِ أَضْعَافُهُ؛ لِكَثْرَةِ عِيَالِهِ وَحَاجَاتِهِ وَبِالْعَكْسِ.
وَبَعْضُ النَّاسِ قَد يَقْطَعُ الْمَسَافَةَ الْعَظِيمَةَ وَلَا يَكُونُ مُسَافِرًا، كَالْبَرِيدِ إذَا ذَهَبَ مِنَ الْبَلَدِ لِتَبْلِيغِ رِسَالَةٍ أَو أَخْذِ حَاجَةٍ ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا مِن غَيْرِ نُزُولٍ، فَإِنَّ هَذَا لَا يُسَمَّى مُسَافِرًا، بِخِلَافِ مَا إذَا تَزَوَّدَ زَادَ الْمُسَافِرِ وَبَاتَ هُنَاكَ فَإِنَّهُ يُسَمَّى مُسَافِرًا، وَتَلْكَ الْمَسَافَةُ يَقْطَعُهَا غَيْرُهُ فَيَكُونُ مُسَافِرًا يَحْتَاجُ أَنْ يَتَزَوَّدَ لَهَا ويبِيتَ بِتِلْكَ الْقَرْيَةِ وَلَا يَرْجِعُ إلَّا بَعْدَ يَوْمٍ أَو يَوْمَيْنِ؛ فَهَذَا يُسَمِّيه النَّاسُ. مُسَافِرًا، وَذَلِكَ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهَا طَرْدا وَكَرَّ رَاجِعًا عَلَى عَقِبِهِ لَا يُسَمُّونَهُ مُسَافِرًا وَالْمَسَافَةُ وَاحِدَةٌ.
فَالسَّفَرُ حَالٌ مِن أَحْوَالِ السَّيْرِ لَا يُحَدُّ بِمَسَافَةٍ وَلَا زَمَانٍ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَذْهَبُ إلَى قُبَاء كُلَّ سَبْتٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا وَلَمْ يَكن مُسَافِرًا، وَكَانَ النَّاسُ يَأْتُونَ الْجُمُعَةَ مِنَ الْعَوَالِي وَالْعَقِيقِ ثُمَّ يُدْرِكُهُم اللَّيْلُ فِي أَهْلِهِمْ وَلَا يَكُونُونَ مُسَافِرِينَ، وَأَهْلُ مَكَّةَ لَمَّا خَرَجُوا إلَى مِنَى وَعَرَفَةَ كَانُوا مُسَافِرِينَ يَتَزَوَّدُونَ لِذَلِكَ وَيَبِيتُونَ خَارجَ الْبَلَدِ وَيَتَأَهَّبُونَ أُهْبَةَ السَّفَرِ، بِخِلَافِ مَن خَرَجَ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ أَو غَيْرِهَا مِنَ الْحَاجَاتِ ثُمَّ رَجَعَ مِن يَوْمِهِ وَلَو قَطَعَ بَرِيدًا، فَقَد لَا يُسَمَّى مُسَافِرًا.
وَمَا زَالَ النَاسُ يَخْرُجُونَ مِن مَسَاكِنِهِمْ إلَى الْبَسَاتِينِ الَّتِي حَوْلَ مَدِينَتِهِمْ، ويعْمَلُ الْوَاحِد فِي بُسْتَانِهِ أَشْغَالًا مِن غَرْسٍ وَسقْيٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا كَانَتِ الْأَنْصَارُ تَعْمَلُ فِي حِيطَانِهِمْ وَلَا يُسَمَّوْنَ مُسَافِرِينَ.
وَلَو أَقَامَ أَحَدُهُم طُولَ النَّهَارِ وَلَو بَاتَ فِي بُسْتَانِهِ وَأَقَامَ فِيهِ أَيَّامًا، وَلَو كَانَ الْبُسْتَانُ أَبْعَدَ مِن بَرِيدٍ؛ فَإِنَّ الْبُسْتَانَ مِن تَوَابِعِ الْبَلَدِ عِنْدَهُمْ، وَالْخُرُوجُ إلَيْهِ كَالْخُرُوجِ إلَى بَعْضِ نَوَاحِي الْبَلَدِ.
وَالْبَلَدُ الْكَبِيرُ الَّذِي يَكُونُ أَكْثَرَ مِن بَرِيدٍ مَتَى سَارَ مِن أَحَدِ طَرَفَيْهِ إلَى الْآخَرِ لَمْ يَكن مُسَافِرًا.
فَالنَّاسُ يُفَرِّفونَ بَيْنَ الْمُتَنَقِّلِ فِي الْمَسَاكِنِ وَمَا يَتْبَعُهَا، وَبَيْنَ الْمُسَافِرِ الرَّاحِلِ عَن ذَلِكَ كُلِّهِ، كَمَا كَانَ أَهْلُ مَدِينَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَذْهَبُونَ إلَى حَوَائِطِهِمْ وَلَا يَكُونُونَ مُسَافِرِينَ، وَالْمَدِينَةُ لَمْ يَكُن لَهَا سُورٌ؛ بَل كَانَت قَبَائِلَ قَبَائِلَ، وَدُورًا دُورًا، وَبَيْنَ جَانِبَيْهَا مَسَافَةٌ كَبِيرَةٌ، فَلَمْ يَكُنِ الرَّاحِلُ مِن قَبِيلَةٍ إلَى قَبِيلَةٍ مُسَافِرًا، وَلَو كَانَ كُلُّ قَبِيلَةٍ حَوْلَهُم حِيطَانُهُم وَمَزَارِعُهُمْ، فَإِنَّ اسْمَ الْمَدِينَةِ كَانَ يَتَنَاوَلُ هَذَا كُلَّهُ
(1)
.
(1)
مثال ذلك: لو أن رجلًا ذهب إلى مكان قرب مدينته للتنزه ونحوه، كروضة السبلة لأهل الزلفي، ومكث فيها أيامًا لا يرجع إلى أهله، فلا يترخص برخص السفر؛ لأنها داخلة حكمًا في المدينة.
يَقُولُ الْقَائِلُ: ذَهَبْت إلَى دِمَشْقَ أَو مِصْرَ أَو بَغْدَادَ أَو غَيْرِ ذَلِكَ وَسَكَنْت فِيهَا وَأَقَمْت فِيهَا مُدَّةً وَنَحْو ذَلِكَ، وَهُوَ إنَّمَا كَانَ سَاكِنًا خَارجَ السُّورِ فَاسْمُ الْمَدِينَةِ يَعُمُّ تِلْكَ الْمَسَاكِنَ كُلَّهَا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمُتَرَدِّدَ فِي الْمَسَاكِنِ لَا يُسَمَّى مُسَافِرًا، وَإِذَا كَانَ النَّاسُ يَعْتَادُونَ الْمَبِيتَ فِي بَسَاتِينِهِمْ وَلَهُم فِيهَا مَسَاكِنُ كَانَ خُرُوجُهُم إلَيْهَا كَخُرُوجِهِمْ إلَى بَعْضِ نَوَاحِي مَسَاكِنِهِمْ، فَلَا يَكُونُ الْمُسَافِرُ مُسَافِرًا حَتَّى يُسْفِرَ فَيَكْشِفَ وَيَظْهَرَ لِلْبَرِيَّةِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْمَسَاكِنِ الَّتِي لَا يَسِيرُ السَّائِرُ فِيهَا؛ بَل يَظْهَرُ فِيهَا وَيَنْكَشِفُ فِي الْعَادَةِ. [19/ 235 - 247]
2799 -
إِذَا جَدَّ السَّيْرُ بِالْمُسَافِرِ جَمَعَ سَوَاءٌ كَانَ سَفَرُهُ طَوِيلًا أَو قَصِيرًا كَمَا مَضَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
وَلَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ فِي الْعُرْفِ سَفَرًا؛ مِثْل أَنْ يَتَزَوَّدَ لَهُ، وَيبْرُزَ لِلصَّحْرَاءِ.
فَأمَّا إذَا كَانَ فِي مِثْل دِمَشْقَ وَهُوَ يَنْتَقِلُ مِن قُرَاهَا الشَّجَرِيَّةِ مِن قَرْيَةٍ إلَى قَرْيَةٍ كَمَا يَنْتَقِلُ مِنَ الصالحية إلَى دِمَشْقَ: فَهَذَا لَيْسَ بِمُسَافِر، كَمَا أَنَّ مَدِينَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَت بِمَنْزِلَةِ الْقُرَى الْمُتَقَارِبَةِ، عِنْدَ كُلِّ قَوْمٍ نَخِيلُهُم وَمَقَابِرُهُم وَمَسَاجِدُهُمْ: قُبَاء وَغَيْرِ قُبَاء، وَلَمْ يَكُن خُرُوجُ الْخَارجِ إلَى قُبَاء سَفَرًا، وَلهَذَا لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُة يَقْصُرُونَ فِي مِثْل ذَلِكَ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ:{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} [التوبة: 101] فَجَمِيعُ الْأَبْنِيَةِ تَدْخلُ فِي مُسَمَّى الْمَدِينَةِ، وَمَا خَرَجَ عَن أَهْلِهَا فَهُوَ مِنَ الْأَعْرَابِ أَهْلِ الْعَمُودِ.
وَالْمُنْتَقِل مِنَ الْمَدِينَةِ مِن نَاحِيَةٍ إلَى نَاحِيَةٍ لَيْسَ بِمُسَافِر وَلَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ.
وَلَكِنَّ هَذِهِ مَسَائِلُ اجْتِهَادٍ، فَمَن فَعَلَ مِنْهَا بِقَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ لَمْ يُنْكرْ عَلَيْهِ وَلَمْ يُهْجَرْ. [24/ 14 - 16]
2800 -
تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ الْجَمْعِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجْمَعُ إلا بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ.
وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهُ لَا يَجْمَعُ الْمُسَافِرُ إذَا كَانَ نَازِلًا، وَإِنَّمَا يَجْمَعُ إذَا كَانَ سَائِرًا؛ بَل عِنْد مَالِكٍ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ يَجْمَعُ الْمُسَافِرُ وَإِن كَانَ نَازِلًا.
وَسَبَبُ هَذَا النِّزَاعِ مَا بَلَغَهُم مِن أَحَادِيثِ الْجَمْعِ، فَإِنَّ أَحَادِيثَ الْجَمْعِ قَلِيلَةٌ؛ فَالْجَمْعُ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَنْقُولٌ بِالتَّوَاتُرِ فَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِيهِ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يَقُلْ بِغَيْرِهِ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّهُ قَالَ: "مَا رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى صَلَاةً لِغَيْرِ وَقْتِهَا إلَّا صَلَاةَ الْفَجْرِ بمزدلفة وَصَلَاةَ الْمَغْرِبِ لَيْلَةَ جَمْع"
(1)
.
وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: "فِي الْفَجْرِ لِغَيْرِ وَقْتِهَا" الَّتِي كَانَت عَادَتُهُ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِيهِ .. لَكِنْ بمزدلفة غَلَّسَ بِهَا تَغْلِيبها شَدِيدًا.
وَأَمَّا أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ فَبَلَغَتْهُم أَحَادِيثُ فِي الْجَمْعِ صَحِيحَةٌ؛ كَحَدِيثِ أَنَسٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَمُعَاذٍ وَكُلُّهَا مِنَ الصَّحِيحِ. [24/ 22 - 23]
2801 -
وَأَمَّا الْجَمْعُ فَإِنَّمَا كَانَ يَجْمَعُ صلى الله عليه وسلم بَعْضَ الْأَوْقَاتِ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ وَكَانَ لَهُ عُذْرٌ شَرْعِيٌّ
(2)
، كَمَا جَمَعَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ، وَكَانَ يَجْمَعُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَحْيَانًا.
كَانَ إذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَخَّرَ الظُّهْرَ إلَى الْعَصْرِ ثُمَّ صَلَّاهُمَا جَمِيعًا، وَهَذَا ثَابِتٌ فِي "الصَّحِيحِ".
(1)
رواه مسلم (1289).
(2)
هذا هو الأفضل، ولكن ليس على سبيل الوجوب، والشيخ لم يمنع الجمع للمسافر النازل.
وَأَمَّا إذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَقَد رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلَّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، كَمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِعَرَفَةَ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي "السُّنَنِ". [24/ 27]
2802 -
أَوْسَعُ الْمَذَاهِبِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ: مَذْهَبُ الْإِمَامِ أحْمَد، فَإنَّهُ نصَّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْحَرَجِ وَالشُّغْلِ بِحَدِيثٍ رُوِيَ فِي ذَلِكَ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ مِن أصْحَابِنَا: يَعْنِي: إذَا كَانَ هُنَاكَ شُغْلٌ يُبِيحُ لَهُ تَرْكَ الْجُمْعَةِ وَالْجَمَاعَةِ جَازَ لَهُ الْجَمْعُ. [24/ 28]
2803 -
يَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْوَحْلِ الشَّدِيدِ، وَالرِّيحِ الشَّدِيدَةِ الْبَارِدَةِ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ وَنحْوِ ذَلِكَ، وَإِن لَمْ يَكنِ الْمَطَرُ نَازِلًا فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ؛ وَذَلِكَ أَوْلَى مِن أَنْ يُصَلُّوا فِي بُيُوتِهِمْ؛ بَل تَرْكُ الْجَمْعِ مَعَ الصَّلَاةِ فِي الْبُيُوتِ بِدْعَةٌ مُخَالِفَة لِلسُّنَّةِ، إذِ السُّنَّةُ انْ تُصَلَّى الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فِي الْمَسَاجِدِ جَمَاعَةً، وَذَلِكَ أَوْلَى مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْبُيُوتِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.
وَالصَّلَاةُ جَمْعًا فِي الْمَسَاجِدِ أَوْلَى مِنَ الصَّلَاةِ فِى الْبُيُوتِ مُفَرَّقَة بِاتِّفَاقِ الْأئِمَّةِ الَّذِينَ يجَوّزُونَ الْجَمْعَ؛ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. [24/ 29 - 30]
2804 -
الْفَرْقُ بَيْنَ السَّفَرِ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ لَا أَصْلَ لَهُ فِي كِتَابِ اللهِ وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم؛ بَلِ الْأَحْكامُ الَّتِي عَلَّقَهَا اللهُ بِالسَّفَرِ عَلَّقَهَا بِهِ مُطْلَقًا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ الطَّهَارَةِ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، وقَوْله تَعَالَى:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101]. [24/ 34]
2805 -
وَأَمَّا الجمعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَهَل يَجُوزُ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ كَمَذْهَبِ الشَافِعِيِّ قِيَاسًا عَلَى الْقَصْرِ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ كَقَوْلِ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شُرعَ فِي الْحَضَرِ لِلْمَرَضِ وَالْمَطَرِ فَصَارَ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ إنَّمَا عِلَّتُهُ الْحَاجَةُ لَا السَّفَرُ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، فَإِنَّ الْجَمْعَ
بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لَيْسَ مُعَلَّقًا بِالسَّفَرِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلْحَاجَةِ، بِخِلَافِ الْقَصْرِ. [24/ 37]
2806 -
حَدُّ السَّفَرِ الَّذِي عَلَّقَ الشَّارعُ بِهِ الْفِطْرَ وَالْقَصْرَ: قِيلَ: ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَقِيلَ: يَوْمَيْنِ قَاصِدَيْنِ، وَقِيلَ: أَقَلُّ مِن ذَلِكَ حَتَّى قِيلَ: مِيلٌ.
وَاَلَّذِينَ حَدَّدُوا ذَلِكَ بِالْمَسَافَةِ مِنْهُم مَن قَالَ: ثَمَانِيَة وَأَرْبَعُونَ مِيلًا، وَقِيلَ: سِتَّة وَأَرْبَعُونَ، وَقِيلَ: خَمْسَة وَأَرْبَعُونَ، وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ، وَهَذِهِ أَقْوَالٌ عَن مَالِكٍ.
وَقَد قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي: لَا أَعْلَمُ لِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَئِمَّةُ وَجْهًا
(1)
.
وَهُوَ كَمَا قَالَ رحمه الله فَإِنَّ التَّحْدِيدَ بِذَلِكَ لَيْسَ ثَابِتًا بِنَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ وَلَا قِيَاسٍ.
وَأَيْضًا: فَالتَّحْدِيدُ بِالْأَمْيَالِ وَالْفَرَاسِخِ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ مِسَاحَةِ الْأَرْضِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا خَاصَّةُ النَّاسِ، وَمَن ذَكَرَهُ فَإِنَّمَا يُخْبِرُ بِهِ عَن غَيْرِهِ تَقْلِيدًا، وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا يُقْطَعُ بِهِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُقَدِّرْ الْأَرْضَ بِمِسَاحَةٍ أَصْلًا، فَكَيْفَ يُقَدِّرُ الشَّارعُ لِأُمَّتِهِ حَدًّا لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ فِي كَلَامِهِ وَهُوَ مَبْعُوثٌ إلَى جَمِيعِ النَّاسِ؟
(1)
ونص كلامه كما في المغني (2/ 190): وَلَا أَرَى لِمَا صَارَ إلَيْهِ الْأئِمَّةُ حُجَّةً؛ لِأنَّ أقْوَالَ الصَّحَابَةِ مُتَعَارِضَةٌ مُخْتَلِفَةْ، وَلَا حُجَّةَ فِيهَا مَعَ الِاخْتِلَافِ. وَقَد رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، خِلَافُ مَا احْتَجَّ بِهِ أَصْحَابُنَا.
ثُمَّ لَو لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ: لَمْ يَكُن فِي قَوْلِهِمْ حُجَّةٌ مَعَ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِعْلِهِ، وَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ أَقْوَالُهُم امْتَنَعَ الْمَصِيرُ إلَى التقْدِيرِ الَّذِي ذَكَرُوهُ؛ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِسُنَّةِ النبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّتِي رَوَيْنَاهَا، وَلظَاهِرِ الْقُرْآنِ؛ لِأن ظَاهِرَهُ إبَاحَةُ الْقَصْرِ لِمَن ضَرَبَ فِي الْأرْضِ، لِقَوْلهِ تَعَالَى:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101]، وَقَد سقَطَ شَرْطُ الْخَوْفِ بِالْخَبَرِ الْمَذْكُورِ عَن يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، فَبَقِيَ ظَاهِرُ الْآيَةِ مُتَنَاوِلًا كُل ضَرْبِ فِي الْأرْضِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ التَّقْدِيرَ بَابُهُ التَّوْقِيفُ، فَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ بِرَأْي مُجَرَّدٍ، سِيَّمَا وَلَيْسَ لَهُ أصْلٌ يُرَدُّ إلَيْهِ، وَلَا نَظِيرٌ يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَالْحُجَّةُ مَعَ مَن أبَاحَ الْقَصْر لِكُلِّ مُسَافِرٍ، إلَّا أَنْ يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ. اهـ.
فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِقْدَارُ السَّفَرِ مَعْلُومًا عِلْمًا عَامًّا، وَذَرْعُ الْأَرْضِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ؛ بَل هُوَ إمَّا مُتَعَذَّرٌ وَإِمَّا مُتَعَسِّرٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَمْكَنَ الْمُلُوكَ وَنَحْوَهُم مَسْحُ طَرِيقٍ فَإِنَّمَا يَمْسَحُونَهُ عَلَى خَطٍّ مُسْتَوٍ أَو خطُوطٍ مُنْحَنِيَةٍ انْحِنَاءً مَضْبُوظًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسَافِرِينَ قَد يَعْرِفُونَ غَيْرَ تِلْكَ الطَّرِيقِ، وَقَد يَسْلُكُونَ غَيْرَهَا، وَقَد يَكُونُ فِي الْمَسَافَةِ صُعُودٌ، وَقَد يَطُولُ سَفَرُ بَعْضِهِمْ لِبُطْءِ حَرَكَتِهِ، وَيَقْصُرُ سَفَرُ بَعْضِهِمْ لِسُرْعَةِ حَرَكَتِهِ، وَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ هُوَ نَفْسُ السَّفَرِ لَا نَفْسُ مِسَاحَةِ الْأرْضِ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَقُولُ: كُلُّ اسْمٍ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الشَّرْعِ فَالْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ، فَمَا كَانَ سَفَرًا فِي عُرْفِ النَّاسِ فَهُوَ السَّفَرُ الَّذِي عَلَّقَ بِهِ الشَّارعُ الْحُكْمَ، وَذَلِكَ مِثْلُ سَفَرِ أَهْلِ مَكَّةَ إلَى عَرَفَةَ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسَافَةَ بَرِيدٌ، وَهَذَا سَفَرٌ ثَبَتَ فِيهِ جَوَازُ الْقَصْرِ وَالْجَمْعِ بِالسُّنَّةِ، وَالْبَرِيدُ هُوَ نِصْفُ يَوْمٍ بِسَيْرِ الْإِبِلِ وَالْأقْدَامِ وَهُوَ رُبُعُ مَسَافَةِ يَوْمَيْنِ وَلَيْلَتَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي قَد يُسَمَّى مَسَافَةَ الْقَصْرِ، وَهُوَ الَّذِي يُمْكِنُ الذَّاهِبُ إلَيْهَا أَنْ يَرْجِعَ مِن يَوْمِهِ.
وَأَمَّا مَا دُونَ هَذِهِ الْمَسَافَةِ إنْ كَانَت مَسَافَةُ الْقَصْرِ مَحْدُودَةً بِالْمِسَاحَةِ: فَقَد قِيلَ: يَقْصُرُ فِي مِيل.
وَقَد يَرْكَبُ الرَّجُلُ فَرْسَخًا يَخْرُجُ بِهِ لِكَشْفِ أمْرٍ وَتَكونُ الْمَسَافَةُ أَمْيَالًا وَيرْجِعُ فِي سَاعَةٍ أَو سَاعَتَيْنِ وَلَا يُسَمَّى مُسَافِرًا، وَقَد يَكُونُ غَيْرُهُ فِي مِثْل تِلْكَ الْمَسَافَةِ مُسَافِرًا بِأَنْ يَسِيرَ عَلَى الْأِبِلِ وَالْأقْدَامِ سَيْرًا لَا يَرْجِعُ فِيهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ إلَى مَكَانِهِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ
(1)
: الْحُجَّةُ مَعَ مَن أبَاحَ الْقَصْرَ لِكُلِّ مُسَافِرٍ
(2)
إلَّا أَنْ يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ.
(1)
أي: ابن قدامة.
(2)
لأن الشرع أباح القصر والفطر والمسح ثلاثة أيام لكل مسافر، فالأصل أنّ كلّ من خرج من بلده لغيره فهو مسافر.
وَالْمَعْلُومُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَمْ يَنْعَقِدْ عَلَى خِلَافِهِ
(1)
، وَهُوَ اخْتِيَارُ طَائِفَةٍ مِن عُلَمَاءِ أَصْحَابِ أَحْمَد، كَانَ بَعْضُهُم يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِي مَسِيرَةِ بَرِيدٍ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا يَجوزُ الْقَوْلُ بِخِلَافِهِ لِمَن تَبَيَّنَ السُّنَّةَ وَتَدَبَّرَهَا، فَإِنَّ مَن تَأَمَّلَ الْأَحَادِيثَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ وَسِيَاقَهَا عَلِمَ عِلْمًا يَقِينا أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِن أَهْلِ مَكةَ وَغَيْرِهِمْ صَلَّوْا بِصَلَاتِهِ قَصْرًا وَجَمْعًا وَلَمْ يَفْعَلُوا خِلَافَ ذَلِكَ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ بِعَرَفَةَ لِمُجَرَّدِ السَّفَرِ كَمَا قَصَرَ لِلسَّفَرِ؛ بَل لِاشْتِغَالِهِ بِاتِّصَالِ الْوُقُوفِ عَن النُّزُولِ، وَلِاشْتِغَالِهِ بِالْمَسِيرِ إلَى مُزْدَلِفَةَ.
وَكَانَ جَمْعُ عَرَفَةَ لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ، وَجَمْعُ مُزْدَلِفَةَ لِأَجْلِ السَّيْرِ الَّذِي جَدَّ فِيهِ، وَهُوَ سَيْرُهُ إلَى مُزْدَلِفَةَ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَصْنَعُ فِي سَفَرِهِ: كَانَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ أَخَّرَ الْأُولَى إلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ ثُمَّ يَنْزِلُ فَيُصَلِّيهِمَا جَمِيعًا كَمَا فَعَلَ بمزدلفة.
وَأَمَّا "الْقَصْرُ" فَلَا ريبَ أَنَّهُ مِن خَصَائِصِ السَّفَرِ، وَلَا تَعَلُّقَ لَه بِالنُّسُكِ، وَلَا مُسَوِّغَ لِقَصْرِ أَهْلِ مَكَّةَ بِعَرَفَةَ وَغَيْرِهَا إلَّا أَنَّهُم بِسَفَر، وَعَرَفَةُ عَنِ الْمَسْجِدِ بَرِيدٌ.
وَأيُّ فَرْقٍ بَيْنَ سَفَرِ أَهْلِ مَكَّةَ إلَى عَرَفَةَ، وَبَيْنَ سَفَرِ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ إلَى قَدْرِ ذَلِكَ مِن بِلَادِهِمْ؟
(2)
.
(1)
فنبقى على الأصل، وهو القصر لكل مسافر، فمن قال بخلافه فنُطالبه بالدليل الصحيح الصريح، أو الإجماع الصريح على قوله، وإلا فالأقوال كثيرة، فليس قول أحد بأولى من القول الآخر، إلا إذا كان مع أحدهم حجة واضحة صحيحة صريحة.
(2)
كلام الشيخ رحمه الله في غاية الإقناع والنظر الصحيح، والقياس الصريح، كيف وقد دلّ عليه الدليل الصحيح؟
وكثير ممن يرى التحديد يعترض على هذا ويستنكر أن يقصر الناس في مثل هذه المسافة، ويقول بعضهم: التحديد أضبط للناس! وهل المعتبر في ديننا الضبط أم اتباع الدليل؟
وأيضًا: لا نُسلم بأن التحديد أضبط؛ لأنه ليس كل الناس يعرفون مقدار المسافة -لا سيَّما في البادية وقبل العصر الحديث- فقد يتنازعون: هل هذه المدينة تبلغ مسافة ثمانين كيلًا أم لا؟
أما عدم التحديد فهو أضبط، فإذا قلنا للناس: لكم القصر إذا سافرتم من بلادكم إلى غيرها، =
وَقَد ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الْقَصْرُ فِي مَسَافَةِ بَرِيدٍ، فَعُلِمَ أَنَّ فِي الْأَسْفَارِ مَا قَد يَكُونُ بَرِيدًا، وَأَدْنَى مَا يُسَمَّى سَفَرًا فِي كَلَامِ الشَّارعِ الْبَرِيدُ.
وَأَمَّا مَا دُونَ الْبَرِيدِ كَالْمِيلِ فَقَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي قُبَاء كُلَّ سَبْتٍ، وَكَانَ يَأْتِيهِ رَاكِبًا وَمَاشِيًا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ أَهْلَ قُبَاء وَغَيْرَهُم مِن أَهْلِ الْعَوَالِي كَانُوا يَأْتُونَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ وَلَمْ يَقْصُر الصَّلَاةَ هُوَ وَلَا هُمْ، وَقَد كَانُوا يَأْتُونَ الْجُمُعَةَ مِن نَحْوِ مِيلٍ وَفَرْسَخٍ وَلَا يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ، وَالْجُمُعَةُ عَلَى مَن سَمِعَ النِّدَاءَ، وَالنّدَاءُ قَد يُسْمَعُ مِن فَرْسَخٍ.
وَأَمَّا مَا نقِلَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ
(1)
: فَيُنْظَرُ فِيهِ هَل هُوَ ثَابِتٌ أَمْ لَا؟ فَإِنْ ثَبَتَ فَالرِّوَايَةُ عَنْهُ مُخْتَلِفَةٌ، وَقَد خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ: إذَا قَطَعْتُ مِنَ
= ونويتم النوم هناك، أو سافرتم مسافةً طويلة فلكم القصر ولو رجعتم من يومكم: فلا شك أن هذا أضبط لهم. والله أعلم.
وقد ذكر الشيخ رحمه الله تعالى أنَّ الْأحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ كُلَّهَا بَيَّنَتْهَا النُّصُوصُ، وأنَّ الْأحْكَامَ الَّتِي تَحْتَاجُ الْأُمَّةُ إلَى مَعْرِفَتِهَا لَا بُذَ أَنْ يُبَيِّنَهَا الرَسُولُ صلى الله عليه وسلم بَيَانًا عَامًّا، وَلَا بُدَّ أَنْ تَنْقُلَهَا الْأُمَّةُ، فَإذَا انْتَفَى هَذَا: عُلِمَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِن دِينِهِ، وَهَذَا كَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَفْرِضْ صِيَامَ شَهْرٍ غَيْرِ رَمَضَانَ، وَلَا حَجَّ بَيْتٍ غَيْرِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَلَا صَلَاةً مَكْتُوبَةً غَيْرَ الْخَمْسِ، وَلَمْ يُوجِب الْغُسْل فِي مُبَاشَرَةِ الْمَرْأةِ بِلَا إنْزَالٍ، وَلَا أَوْجَبَ الْوُضُوءَ مِن الْفَزَعِ الْعَظِيمِ وَإِن كَانَ فِي مَظِنَّةِ خُرُوج الْخَارجِ. ا هـ. (25/ 236 - 237)
وقال: إِذَا كَانَت الْأحْكَامُ الَّتِي تَعُمُّ بِهَا الْبَلْوَى: لَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَهَا الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بَيَانًا عَامًّا، وَلَا بُدَّ أَنْ تَنْقُلَ الْأُمَّةُ ذَلِكَ. اهـ. (25/ 241)
وقد ثبت بالكتاب والسُّنَّة والإجماع القصر في السفر، فلا يجوز تخصيص سفر دون سفر إلا بالحجة والبيان الصحيح الصريح من كلام الله تعالى أو كلام رسولِه صلى الله عليه وسلم، فإنَّ القصر في السفر مِن دينِ الْمُسْلمينَ الَّذي يَحْتَاجُ إلَى مَعْرفتِهِ الخاصُّ والْعامُّ، فلوْ كان خصص سفرًا دون سفر بالقصر ونحوه لكان هذَا ممَّا يجبُ على الرَّسُولِ بيانُهُ، ولوْ ذكرَ ذلكَ لعلِمَهُ الصَّحابةُ وبَلَّغُوهُ الْأُمَّةَ كما بَلَّغوا سائِرَ شَرْعِه.
وقد يقول قائل: أفلا نأخذ بقول الجمهور من باب الاحتياط؟
والجواب أن نقول ما قال الشيخ رحمه الله: إِن الِاحْتيَاطَ إنَّمَا يُشْرَعُ إذَا لَمْ تَتَبَيَّنْ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإذَا تَبَيَّنَت السُّنَةُ فَاتِّبُاعُهَا أوْلَى. اهـ. (26/ 54)
(1)
أَنَّهُ قَالَ: لَو سَافَرْت مِيلًا لَقَصَرْت. واختار ابن حزم القصر في مسافة ميل.
المسافة ميلًا
(1)
.
وَلَا ريبَ أَنْ قُبَاء مِنَ الْمَدِينَةِ أَكْثَرُ مِن مِيلٍ، وَمَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ وَلَا غَيْرُهُ يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ إذَا ذَهَبُوا إلَى قُبَاء.
فَقَصْرُ أَهْلِ مَكَّةَ الصَّلَاةَ بِعَرَفَةَ وَعَدَمُ قَصْرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الصَّلَاةَ إلَى قُبَاء وَنَحْوِهَا مِمَّا حَوْلَ الْمَدِينَةِ: دَلِيلٌ عَلَى الْفَرْقِ.
وَالصَّلَاةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ إذَا كَانَت مُخْتَصَّةً بِالسَّفَرِ: لَا تُفْعَلُ إلَّا فِيمَا يُسَمَّى سَفَرًا؛ وَلهَذَا لَمْ يَكُن النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي خُرُوجِهِ إلَى مَسْجِدِ قُبَاء، مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ إلَيْهِ رَاكِبًا وَمَاشِيًا، وَلَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ الدَّاخِلُونَ مِن الْعَوَالِي يَفْعَلُونَ ذَلِكَ؛ وَهَذَا لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسَافَةَ قَرِيبَة كَالْمَسَافَةِ فِي الْمِصْرِ.
وَاسْمُ "الْمَدِينَةِ" يَتَنَاوَلُ الْمَسَاكِنَ كُلَّهَا، فَلَمْ يَكُن هُنَاكَ إلا أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْأَعْرَابُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، فَمَن لَمْ يَكُن مِنَ الْأعْرَابِ كَانَ مِن أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ مَسِيرُهُ إلَى قُبَاء كَأَنَّهُ فِي الْمَدِينَةِ، فَلَو سُوِّغَ ذَلِكَ: سُوّغَتِ الصَّلَاةُ فِي الْمِصْرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا تُشْتَرَطُ الْمُوَالَاةُ بِحَالٍ
(2)
: لَا فِي وَقْتِ الْأُولَى وَلَا فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ، وَلأنَّ مُرَاعَاةَ ذَلِكَ يُسْقِطُ مَقْصُودَ الرُّخْصَةِ، وَهُوَ شَبِية بِقَوْلِ مَن حَمَلَ الْجَمْعَ عَلَى الْجَمْعِ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ أَنْ يُسَلِّمَ مِن الْأُولَى فِي آخِرِ وَقْتِهَا وَيُحْرِمَ بِالثَّانِيَةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، كَمَا تَأَوَّلَ جَمْعَهُ عَلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِن الْعُلَمَاءِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرهمْ، وَمُرَاعَاةُ هَذَا مِن أَصْعَبِ الْأَشْيَاءِ وَأَشَقِّهَا.
وَالْجَمْعُ جَائِزٌ فِي الْوَقْتِ الْمُشْتَرَكِ، فَتَارَةً يَجْمَعُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ كَمَا جَمَعَ
(1)
أي: إذا جاوزت البلد مسافة ميل شرعت في القصر.
(2)
فإذَا صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا وَالْعِشَاءَ فِي آخِرِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ -حَيْثُ يَجُوزُ لَهُ الْجَمْعُ- جَازَ ذَلِكَ.
بِعَرَفَةَ، وَتَارَةً يَجْمَعُ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ كَمَا جَمَعَ بمزدلفة وَفِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، وَتَارَةً يَجْمَعُ فِيمَا بَيْنَهُمَا فِي وَسَطِ الْوَقْتَيْنِ .. ؛ لِأَنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الْوَقْتَ عِنْدَ الْحَاجَةِ مُشْتَرَكٌ، وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّوَسُّطُ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، فَفِي عَرَفَةَ وَنَحْوِهَا يَكُونُ التَّقْدِيمُ هُوَ السُّنَّةَ.
وَكَذَلِكَ جَمْعُ الْمَطَرِ: السُّنَّةُ أَنْ يَجْمَعَ لِلْمَطَرِ فِي وَقْتِ الْمَغْرِبِ، حَتَى اخْتَلَفَ مَذْهَبُ أَحْمَد: هَل يَجُوز أَنْ يَجْمَعَ لِلْمَطَرِ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ؟ [24/ 38 - 56]
2807 -
عَن أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَل أَخْبَرَهُمْ، "أَنَّهُم خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، فَأخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ دَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا"
(1)
.
قُلْت: الْجَمْعُ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ:
أ - إذَا كَانَ سَائِرًا فِي وَقْتِ الْأولَى فَإِنَّمَا يَنْزِلُ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ: فَهَذَا هُوَ الْجَمْعُ الَّذِي ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" مِن حَدِيثِ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ نَظِيرُ جَمْعِ مُزْدَلِفَةَ.
ب - إذَا كَانَ وَقْتَ الثَّانِيَةِ سَائِرًا أَو رَاكِبًا: فَجَمَعَ فِي وَقْتِ الْأولَى، فَهَذَا نَظِيرُ الْجَمْعِ بِعَرَفَةَ.
ج- إذَا كَانَ نَازِلًا فِي وَقْتِهِمَا جَمِيعًا نُزُولًا مُسْتَمِرًّا: فَهَذَا مَا عَلِمْت رُوِيَ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَيْهِ إلا حَدِيثَ مُعَاذٍ هَذَا؛ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ كَانَ نَازِلًا فِي خَيْمَةٍ فِي السَّفَرِ، وَأَنَّهُ أَخَّرَ الظُّهْرَ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الظهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ دَخَلَ إلَى بَيْتِهِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا.
(1)
رواه أبو داود (1206)، والنسائي (587)، وصحَّحه الألبانيّ.
قَالَ أبو عمر ابن عبد البَرّ رحمه الله: ليس في حديث ابن عُمَرَ هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أنَّ الْمُسَافِرَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ إِلا أنْ يَجِدَّ بِهِ السَّيْرُ بِدَلِيلِ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي سَفَرِهِ إِلَى تَبُوكَ نَازِلًا غَيْرَ سَائِرٍ. اهـ. التمهيد (2/ 205).
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ أَحْيَانًا فِي السَّفَرِ وَأَحْيَانًا لَا يَجْمَعُ وَهُوَ الْأغْلَبُ عَلَى أَسْفَارِهِ: أَنَّهُ لَمْ يَكُن يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا.
وَهَذَا يُبَيِّن انَّ الْجَمْعَ لَيْسَ مِن سُنَّةِ السَّفَرِ كَالْقَصْرِ؛ بَل يُفْعَلُ لِلْحَاجَةِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي السَّفَرِ أَو الْحَضَرِ فَإِنَّهُ قَد جَمَعَ أَيْضًا فِي الْحَضَرِ لِئَلَّا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ.
وَأَمَّا النَّازِلُ أَيَّامًا فِي قَرْيَةٍ أَو مِصْرٍ وَهُوَ فِي ذَلِكَ كَأَهْلِ الْمِصْرِ: فَهَذَا وَإِن كَانَ يَقْصُرُ؛ لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ: فَلَا يَجْمَعُ
(1)
، كَمَا أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَلَا يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ، وَلَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، فَهَذِهِ الْأُمُورُ أُبِيحَتْ لِلْحَاجَةِ، وَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْقَصْرِ فَإِنَّهُ سُنَّةٌ صَلَاةِ السَّفَرِ. [24/ 63 - 65]
2808 -
عَن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "جَمَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ
(1)
هذه أصرح عبارةٍ -وقفتُ عليها- لشيخ الاسلام رحمه الله بمنع المسافر النازل من الجمع.
لكن صح الجمع للمسافر النازل في غزوة تبوك وفي غيرها، وقد ذكر الشيخ ابن عثيمين رحمه الله بعض الأحاديث الدالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين في السفر وهو نازل، ثم قال:
"وظاهر هذه الأحاديث أنه كان يجمع بين الصلاتين وهو نازل، فإما يكون ذلك لبيان الجواز، أو أن ثمة حاجة إلى الجمع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع في حجته حين كان نازلًا بمنى.
وعلى هذا فنقول: الأفضل للمسافر النازل أن لا يجمع، وإن جمع فلا بأس، إلا أن يكون في حاجة إلى الجمع، إما لشدة تعبه ليستريح، أو لمشقة طلب الماء عليه لكل وقت، ونحو ذلك، فإن الأفضل له الجمع، واتباع الرخصة". اهـ. مجموع الفتاوى (12/ 252).
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: "المسافر المقيم (يعني: النازل في مكان) مخير إن شاء جمع جمع تأخير وإن شاء جمع جمع تقديم، والأفضل له أن يصلي كل صلاة في وقتها كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في منى في حجة الوداع، فإنه كان يصلي كل صلاة في وقتها؛ لأنه مقيم فإن دعت الحاجة إلى الجمع فلا حرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في غزوة تبوك وهو مقيم". اهـ. مجموع فتاوى ابن باز (12/ 281، 282).
قال البيهقي رحمه الله: وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِعُذْرِ السَّفَرِ مِنَ الْأمُورِ الْمَشْهُورَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ. اهـ. سنن البيهقي (5536).
وعلى هذا، فالمسافر مخير بين الجمع بين الصلاتين أو فعل كل صلاة في وقتها، والأفضل له أن لا يجمع إلا إذا كان عليه مشقة في فعل كل صلاة في وقتها.
وينبغي التنبيه إلى أن السفر لا يُسقط صلاة الجماعة في المسجد لمن سمع النداء ولا مشقة عليه، وقد رخص بعض العلماء للمسافر إذا لم يكن لوحده أن يصلي في بيته.
الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ، فِي غَيْرِ خَوْفٍ، وَلَا مَطَرٍ".
قِيلَ لَهُ: لِمَ فَعَلَ ذَلِكَ؟ قَالَ: "كَيْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ"
(1)
.
اسْتَدَلَّ أَحْمَد بِهِ عَلَى الْجَمْعِ لِهَذِهِ الْأُمُورِ بِطَرِيقِ الأوْلَى، فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ لِهَذِهِ الْأُمُورِ أَوْلَى، وَهَذَا مِن بَابِ التَّنْبِيهِ بِالْفِعْلِ، فَإِنَّهُ إذَا جَمَعَ لِيَرْفَعَ الْحَرَجَ الْحَاصِلَ بِدُونِ الْخَوْفِ وَالْمَطَرِ وَالسَّفَرِ؛ فَالْحَرَجُ الْحَاصِلُ بِهَذِهِ أَوْلَى أَنْ يُرْفَعَ، وَالْجَمْعُ لَهَا أَوْلَى مِنَ الْجَمْعِ لِغَيْرِهَا.
وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يُرِد الْجَمْعَ لِلْمَطَرِ- وَإِن كَانَ الْجَمْعُ لِلْمَطَرِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ- بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(2)
مِن حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَن الزُّبَيْرِ بْنِ الْخِرّيتِ عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: خَطَبَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ يَوْمًا بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَبَدَتِ النُّجُومُ، وَجَعَلَ النَّاسُ يَقُولُونَ: الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، قَالَ: فَجَاءَهُ رَجُل مِن بَنِي تَمِيمٍ، لَا يَفْتُرُ وَلَا يَنْثَنِي: الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَتُعَلِّمُنِي بِالسُّنَّةِ لَا أُمَّ لَكَ؟ ثُمَّ قَالَ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ".
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ شَقِيقٍ: فَحَاكَ فِي صَدْرِي مِن ذَلِكَ شَيْءٌ، فَأتَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَسَأَلْتُهُ فَصَدَّقَ مَقَالَتَهُ.
فَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَكُن فِي سَفَرٍ وَلَا فِي مَطَرٍ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِمَا رَوَاهُ عَلَى مَا فَعَلَهُ، فَعُلِمَ أَنَّ الْجَمْعَ الَّذِي رَوَاهُ لَمْ يَكُن فِي مَطَرٍ، وَلَكِنْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي أَمْرٍ مُهِمٍّ مِن أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، يَخْطُبُهُم فِيمَا يَحْتَاجُونَ إلَى مَعْرِفَتِهِ، وَرَأَى أَنَّهُ إنْ قَطَعَهُ وَنَزَلَ فَاتَتْ مَصْلَحَتُهُ، فَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُ مِنَ الْحَاجَاتِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا الْجَمْعُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْمَعُ بِالْمَدِينَةِ لِغَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ؛ بَل لِلْحَاجَةِ تَعْرِضُ لَهُ، كَمَا قَالَ:"أَرَادَ أَنْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ"، وَمَعْلُومٌ أَنَّ جَمْعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَةَ
(1)
(705).
(2)
(705).
وَمُزْدَلِفَةَ لَمْ يَكُن لِخَوْفٍ وَلَا مَطَر وَلَا لِسَفَرٍ أَيْضًا، فَإِنَّهُ لَو كَانَ جَمْعُهُ لِلسَّفَرِ: لَجَمَعَ فِي الطَّرِيقِ، وَلَجَمَعَ بِمَكَّةَ كَمَا كَانَ يَقْصُرُ بِهَا، وَلَجَمَعَ لَمَّا خَرَجَ مِن مَكَّةَ إلَى مِنَى وَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ، وَلَمْ يَجْمَعْ بِمِنَى قَبْلَ التَّعْرِيفِ، وَلَا جَمَعَ بِهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ أَيَّامَ مِنًى؛ بَل يُصَلَّي كُلَّ صَلَاةٍ رَكْعَتَيْنِ غَيْرَ الْمَغْرِبِ وَيُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا، وَلَا جَمْعُهُ أَيْضًا كَانَ لِلنُّسُكِ، فَإِنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِكَ لَجَمَعَ مِن حِينِ أَحْرَمَ، فَإِنَّهُ مِن حِينئِذٍ صَارَ مُحْرِمَا، فَعُلِمَ أَنَّ جَمْعَهُ الْمُتَوَاتِرَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ لَمْ يَكُن لِمَطَرٍ وَلَا خَوْفٍ، وَلَا لِخُصُوصِ النُّسُكِ، وَلَا لِمُجَرَّدِ السَّفَرِ، فَهَكَذَا جَمْعُة بِالْمَدِينَةِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَإِنَّمَا كَانَ الْجَمْعُ لِرَفْعِ الْحَرَجِ عَن أُمَّتِهِ، فَإِذَا احْتَاجُوا إلَى الْجَمْعِ جَمَعُوا.
فَالْأَحَادِيثُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جَمَعَ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ لِرَفْعِ الْحَرَجِ عَن أُمَّتِهِ، فَيُبَاحُ الْجَمْعُ إذَا كَانَ فِي تَرْكِهِ حَرَجٌ قَد رَفَعَهُ اللهُ عَنِ الْأُمَّةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ لِلْمَرَضِ الَّذِي يُحْرِجُ صَاحِبَهُ بِتَفْرِيقِ الصَّلَاةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، وَيَجْمَعُ مَن لَا يُمْكِنُهُ إكْمَالُ الطَّهَارَةِ فِي الْوَقْتَيْنِ إلَّا بِحَرَجٍ؛ كَالْمُسْتَحَاضَةِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنَ الصُّوَرِ
(1)
. [24/ 74 - 84]
2809 -
فَصْلٌ: فِي تَمَامٍ الْكَلَامِ فِي الْقَصْرِ وَسَبَبِ إتْمَامِ عُثْمَانَ الصَّلَاةَ بِمِنَى .. رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أخْبرنَا مَعْمَرٌ عَن الزُّهْرِيِّ قَالَ: إنَّمَا صَلَّى عُثْمَانُ بِمِنَى أَرْبَعًا لِأَنَّهُ قَد عَزَمَ عَلَى الْمُقَامِ بَعْدَ الْحَجِّ، وَرَجَّحَ الطَّحَاوِي هَذَا الْوَجْهَ.
قَالَ البيهقي: الْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ رَآهُ رُخْصَةً فَرَأَى الْإِتْمَامَ جَائِزًا كَمَا رَأَتْهُ عَائِشَةُ.
قُلْت: وَهَذَا بَعِيدٌ؛ فَإِنَّ عُدُولَ عُثْمَانَ عَمَّا دَاوَمَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَخَلِيفَتَاهُ بَعْدَهُ مَعَ أَنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمسْلِمِينَ وَمَعَ مَا عُلِمَ مِن حِلْمِ عُثْمَانَ
(1)
ويجمع كبير السن الذي يشق عليه الوضوء، ولا يستطيع الوصول إلى مكان الماء إلا بكلفة، ويجمع الناس في الجو المصحوب بالغبار الشديد الذي يُؤثر على تنفسهم وصحتهم.
وَاخْتِيَارِهِ لَهُ وَلرَعِيَّتِهِ أَسْهَل الْأُمُورِ وَبُعْدهُ عَنِ التَّشْدِيدِ وَالتَّغْلِيظِ: لَا يُنَاسِبُ أَنْ يَفْعَلَ الْأَمْرَ الْأثْقَلَ الْأشَدَّ، مَعَ تَرْكِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَخَلِيفَتَاهُ بَعْدَهُ، وَمَعَ رَغْبَةِ عُثْمَانَ فِي الِاقْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَخَلِيفَتَيْهِ بَعْدَهُ لِمُجَرَّدِ كَوْنِ هَذَا الْمَفْضُولِ جَائِزًا إنْ لَمْ يَرَ أنَّ فِي فِعْلِ ذَلِكَ مَصْلَحَةً رَاجِحَةً بَعَثَتْة عَلَى أَنْ يَفْعَلَهُ. [24/ 85 - 89]
2810 -
وَأَمَّا صَلَاةُ عُثْمَانَ فَقَد غرِفَ إنْكَارُ أَئِمَّةِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ، وَمَعَ هَذَا فَكَانُوا يُصَلُّونَ خَلْفَهُ؛ بَل كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُصَلِّي أَرْبَعًا وَإِن انْفَرَدَ، ويقُولُ: الْخِلَافُ شَرٌّ.
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا انْفَرَدَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ.
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنْ صَلَاةَ السَّفَرِ أَرْبَعًا مَكْرُوهَة عِنْدَهُم وَمُخَالِفَة لِلسُّنَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا إعَادَةَ عَلَى مَن فَعَلَهَا، وَإِذَا فَعَلَهَا الْإِمَامُ اُتُّبعَ فِيهَا، وَهَذَا لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُسَافِرِ لَيْسَتْ كَصَلَاةِ الْفَجْرِ؛ بَل هِيَ مِن جِنْسِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ تَارَة وَيُصَلِّي أَرْبَعًا أُخْرَى، وَمَن فَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ إنَّمَا يُصَلَّي أَرْبَعًا لَا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ مَن لَمْ يُدْرِكْ مِنْهَا رَكْعَةً عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.
وَإِذَا حَصَلَتْ شُرُوطُ الْجُمُعَةِ خَطَبَ خطْبَتَيْنِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَلَو قُدِّرَ أَنَّهُ خَطَبَ وَصَلَّى الظُّهْرَ أَرْبَعًا لَكَانَ تَارِكًا لِلسُّنَّةِ، وَمَعَ هَذَا فَلَيْسُوا كَمَن صَلَّى الْفَجْرَ أَرْبَعًا؛ وَلهَذَا يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَالْمَرْأَةِ وَغَيْرِهِمْ مِمَن لَا تَجِبُ عَلَيْهِم الْجُمُعَةُ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ أَرْبَعًا أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ فِي الْجُمُعَةِ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَكَذَلِكَ الْمُسَافِرُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، وَلَهُ أَنْ يَأْتَمَّ بِمُقِيم فَيُصَلِّي خَلْفَهُ أَرْبَعًا.
فَإِنْ قِيلَ: الْجُمُعَةُ يُشْتَرَطُ لَهَا الْجَمَاعَةُ، فَلِهَذَا كَانَ حُكْمُ الْمُنْفَرِدِ فِيهَا خِلَافُ حُكْمِ الْمُؤتَمِّ؟
قِيلَ لَهُم: اشْتِرَاطُ الْجَمَاعَةِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِيهِ نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ
أَحْمَد وَغَيْرِهِ، وَالْأَقْوَى أَنَّهُ شَرْطٌ مَعَ الْقُدْرَةِ
(1)
، وَحِينَئِذٍ الْمُسَافِرُ لَمَّا ائْتَمَّ بِالْمُقِيمِ دَخَلَ فِي الْجَمَاعَةِ الْوَاجِبَةِ فَلَزِمَهُ اتِّبَاعُ الْإِمَامِ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ.
وَصَلَاةُ الْعِيدِ قَد ثَبَتَ عَن عَلِيٍّ أَنَّهُ اسْتَخْلَفَ مَن صَلَّى بِالنَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ أَرْبَعًا: رَكْعَتَيْنِ لِلسُّنَّةِ وَرَكْعَتَيْنِ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَخْرُجُوا إلَى الصَّحْرَاءِ.
فَصَلَاةُ الظُّهْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَصَلَاةُ الْعِيدَيْنِ تُفْعَلُ تَارَةً اثْنَتَيْنِ، وَتَارَةً أَرْبَعًا، كَصَلَاةِ الْمُسَافِرِ، بِخِلَافِ صَلَاةِ الْفَجْرِ. [24/ 100 - 102]
2811 -
لَمْ يَنْقُلْ قَطُّ أَحَدٌ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَمَرَ أَصْحَابَهُ لَا بِنِيَّةِ قَصْرٍ وَلَا نِيَّةِ جَمْعٍ، وَلَا كَانَ خُلَفَاؤُهُ وَأَصْحَابُهُ يَأْمُرُونَ بِذَلِكَ مَن يُصَلِّي خَلْفَهُمْ، مَعَ أَنَّ الْمَأمُومِينَ أَو أَكْثَرَهُم لَا يَعْرِفُونَ مَا يَفْعَلُهُ الْإمَامُ. [24/ 104]
2812 -
هَل يَقْصُرُ فِي سَفَرِ النُّزْهَةِ؟ فِيهِ عَن أَحْمَد رِوَايَتَانِ:
وَأَمَّا السَّفَرُ الْمُحَرَّمُ فَمَذْهَبُ الثَّلَاثَةِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد لَا يَقْصُرُ فِيهِ، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَطَوَائِفُ مِن السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فَقَالُوا: يَقْصُرُ فِي جِنْسِ الْأَسْفَارِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُمَا: يُوجِبُونَ الْقَصْرَ فِي كُلِّ سَفَرٍ وَإِن كَانَ مُحَرَّمًا، كَمَا يُوجِبُ الْجَمِيعُ التَّيَمُّمَ إذَا عُدِمَ الْمَاءُ فِي السَّفَرِ الْمُحَرَّمِ.
(1)
هذا صريحٌ في أنَّ شيخ الإسلام يرى أن صلاة الجماعة شرط فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ مع القدرة وليست واجبة.
وقد صرح في أنّ الْجَمَاعَة شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ في موضعين، هذا الموضع، والموضع الآخر في (11/ 615).
قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله -بعد أن نسب القول بأنها شرط لشيخ الإسلام وابن عقيل-: وهذا القولُ ضَعيفٌ، ويضعَّفه أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"صَلاةُ الجماعةِ أفضلُ مِن صلاةِ الفَذِّ بسبعٍ وعِشرين درجةً".
والمفاضلةُ: تدلُّ على أن المُفَضَّلَ عليه فيه فَضَلٌ، ويلزمُ مِن وجودِ الفَضْلِ فيه أنْ يكون صحيحًا؛ لأن غيرَ الصحيح ليس فيه فَضْلٌ، بل فيه إثمٌ، وهذا دليل واضحٌ على أنَّ صلاةَ الفَذِّ صحيحةٌ، ضرورةَ أن فيَها فضلًا؛ إذ لو لم تكن صحيحةً لم يكن فيها فَضْلٌ. اهـ. الشرح الممتع (4/ 145).
وَالْحُجَّةُ مَعَ مَن جَعَلَ الْقَصْرَ وَالْفِطْرَ مَشْرُوعًا فِي جِنْسِ السَّفَرِ، وَلَمْ يَخُصَّ سَفَرًا مِن سَفَرٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ؛ فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَةَ قَد أَطْلَقَا السَّفَرَ.
وَلَمْ يُذْكَرْ قَطُّ فِي شَيءٍ مِن نُصُوصِ الْكِتَاب وَالسُّنَّةِ تَقْيِيد السَّفَرِ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُعَلَّقًا بِأَحَدِ نَوْعَيِ السَّفَرِ وَلَا يُبَيِّنُ اللهُ وَرَسُولُهُ ذَلِكَ؛ بَل يَكُونُ بَيَانُ اللهِ وَرَسُولِهِ مُتَنَاوِلًا لِلنَّوْعَيْنِ.
وَهَكَذَا فِي تَقْسِيمِ السَّفَرِ إلَى طَوِيلٍ وَقَصِيرٍ، وَتَقْسِيمِ الطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ إلَى بَائِنٍ وَرَجْعِيٍّ
(1)
، وَتَقْسِيمِ الأيْمَانِ إلَى يَمِينٍ مُكَفِّرَةٍ وَغَيْرِ مُكفِّرَةٍ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا عَلَّقَ اللهُ وَرَسُولُهُ الْحُكْمَ فِيهِ بِالْجِنْسِ الْمُشْتَرَكِ الْعَامِّ فَجَعَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ نَوْعَيْنِ: نَوْعًا يَتَعَلَّقُ بِهِ ذَلِكَ الْحُكْمُ، وَنَوْعًا لَا يَتَعَلَّق مِن غَيْرِ دَلَالَةٍ عَلَى ذَلِكَ مِن كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ: لَا نَصًّا وَلَا اسْتِنْبَاطًا.
فَإنْ قِيلَ: فَلَو قَاتَلَ قِتَالًا مُحَرَّمًا هَل يُصَلّي صَلَاةَ الْخَوْفِ؟
قِيلَ: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ وَلَا يُقَاتِلَ، فَإِنْ كَانَ لَا يَدَعُ الْقِتَالَ الْمُحَرَّمَ فَلَا نُبِيحُ لَهُ تَرْكَ الصَّلَاةِ؛ بَل إذَا صَلَّى صَلَاةَ خَائِفٍ كَانَ خَيْرًا مِن تَرْكِ الصَّلَاةِ بِالْكُلِّيَّةِ. [24/ 108 - 114]
2813 -
الْمُسَافِرُ لَمْ يَكن مُسَافِرًا لِقَطْعِهِ مَسَافَةً مَحْدُودَةً وَلَا لِقَطْعِهِ أَيَّامًا
(1)
الطلاق الشرعي هو ما كان مرةً بعد مرة، وأما جمع الثنتين أو الثلاث فبدعة وحرام، ولا يقع عند كثير من المحققين كشيخ الإسلام وتلميذه وابن باز وابن عثيمين رحمهم الله تعالى.
وهذا هو الطلاق المشروع في كتاب الله تعالى، وهو الطلاق المرجعي على هذه الصفة وبهذا العدد، أما الطلاق البائن- هو الذي يطلقها بالثلاث بكلمة واحدة عند الجمهور- فلم يرد في كتاب الله، وهو الذي أنكره هؤلاء المحققون وغيرهم.
إلا أن الإمام ابن باز رحمه الله قال: إن طلاق الثلاث لا يقع إذا طلقها بالثلاث بكلمة واحدة، وهكذا لو قال: طالق، طالق، طالق، ولم ينو الثلاث، فإنه يعتبر واحدة ويكون لفظ الثانية والثالثة تأكيدًا للفظ الأول.
أما إذا طلقها بالثلاث بألفاظ متعددة، بأنْ قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ولم ينو إفهامًا، ولا تأكيدًا، وهي في طهر لم يجامعها فيه، أو في حال الحمل، فإنه يعتبر الثلاث. ا هـ.
مَحْدُودَةً؛ بَل كَانَ مُسَافِرًا لِجِنْسِ الْعَمَلِ الَّذِي هُوَ سَفَرٌ، وَقَد يَكُونُ مُسَافِرًا مِن مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ وَلَا يَكُونُ مُسَافِرًا مِن أبْعَدَ مِنْهَا؛ مِثْل أَنْ يَرْكَبَ فَرَسًا سَابِقًا وَيَسِيرَ مَسَافَةَ بَرِيدٍ ثُمَّ يَرْجِعَ مِن سَاعَتِهِ إلَى بَلَدِهِ: فَهَذَا لَيْسَ مُسَافِرًا.
وَإِن قَطَعَ هَذِهِ الْمَسَافَةَ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَيَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى حَمْلِ زَادٍ وَمَزَادٍ: كَانَ مُسَافِرًا، كَمَا كَانَ سَفَرُ أَهْلِ مَكَّةَ إلَى عَرَفَةَ.
وَلَو رَكِبَ رَجُلٌ فَرَسًا سَابِقًا إلَى عَرَفَةَ ثُمَّ رَجَعَ مِن يَوْمِهِ إلَى مَكَّةَ: لَمْ يَكُن مُسَافِرًا. [24/ 119]
2814 -
الْمُسَافِرُ لَا بُدَّ أَنْ يُسْفِرَ؛ أَيْ: يَخْرُجَ إلَى الصَّحْرَاءِ؛ فَإِنَّ لَفْظَ "السَّفَرِ" يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، يُقَالُ: سَفَرَت الْمَرْأَةُ عَن وَجْهِهَا إذَا كَشَفَتْهُ.
فَإذَا لَمْ يَبْرُزْ إلَى الصَّحْرَاءِ الَّتِي يَنْكَشِفُ فِيهَا مِن بَيْن الْمَسَاكِن لَا يَكُونُ مُسَافِرًا
(1)
، قَالَ تَعَالَى:{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} [التوبة: 101] فَجَعَلَ النَّاسَ قِسْمَيْنِ: أَهْلَ الْمَدِينَةِ وَالْأَعْرَابَ.
وَالْأَعْرَابُ هُم أَهْلُ الْعَمُودِ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ هُم أَهْلُ الْمَدَرِ.
فَجَمِيعُ مَن كَانَ سَاكِنًا فِي مَدَرٍ كَانَ مِن أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَكُن لِلْمَدِينَةِ سُورٌ يَتَمَيَّزُ بِهِ دَاخِلُهَا مِن خَارِجِهَا؛ بَل كَانَت مَحَالَّ مَحَالَّ، وَتُسَمَّى الْمَحَلَّةُ دَارًا، وَالْمَحَلَّةُ الْقَرْيَةُ الصَّغِيرَةُ فِيهَا الْمَسَاكِنُ وَحَوْلَهَا النَّخْلُ وَالْمَقَابِرُ، لَيْسَتْ أَبْنِيَةَ مُتَّصِلَةً.
(1)
صريح كلام شيخ الإسلام رحمه الله أنّ من أراد السفر فإنه لا يقصر حتى يخرج من المدينة كلّها، وما تشمله من عمران ومزارع، ومن وصل حدود مدينته ودخل المزارع أو الاستراحات التابعة لها فإنه ينقطع في حقّه السفر، حيث قال: الْمُسَافِرُ لَا بُدَّ أَنْ يُسْفِرَ؛ أيْ: يَخْرُجَ إلَى الصَّحْرَاءِ، ومن خرج من العمران ولم يخرج من المزارع لم يخرج بعدُ إلَى الصَّحْرَاءِ.
وَقال كذلك: اسْمُ "الْمَدِينَةِ" يَتَنَاوَلُ الْمَسَاكِنَ كُلَّهَا، فَلَمْ يَكُن هُنَاكَ إلا أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْأعْرَابُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، فَحَن لَمْ يَكن مِنَ الْأعْرَابِ كَانَ مِن أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ مَسِيرُهُ إلَى قُبَاء كَأنَّهُ فِي الْمَدِينَةِ، فَلَو سُوِّغَ ذَلِكَ: سُوِّغَتِ الصَّلَاةُ فِي الْمِصْرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. اهـ.
وَإِن كَانَ الْمَكِّيُّ إذَا خَرَجَ إلَى عَرَفَاتٍ مُسَافِرًا: فَعَرَفَةُ وَمُزْدَلِفَةُ وَمِنَى صَحَارَى خَارِجَة عَن مَكَّةَ، لَيْسَتْ كَالْعَوَالِي مِنَ الْمَدِينَةِ.
وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِمَسَافَةٍ مَحْدُودَةٍ؛ فَإِنَّ الْمُسَافِرَ فِي الْمِصْرِ الْكَبِيرِ لَو سَافَرَ يَوْمَيْنِ أَو ثَلَاثَة لَمْ يَكُن مُسَافِرًا، وَالْمُسَافِرُ عَن الْقَرْيَةِ الصَّغِيرَةِ إذَا سَافَرَ مِثْل ذَلِكَ كَانَ مُسَافِرًا.
فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَقْصِدَ بُقْعَةً يُسَافِرُ مِن مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ، فَإِذَا كَانَ مَا بَيْنَ الْمَكَانَيْنِ صَحْرَاء لَا مَسَاكِنَ فِيهَا يَحْمِلُ فِيهَا الزَّادَ وَالْمَزَادَ فَهُوَ مُسَافِرٌ، وَإِن وَجَدَ الزَّادَ وَالْمَزَادَ بِالْمَكَانِ الَّذِي يَقْصِدُهُ.
وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ"
(1)
عَن يَحْيَى بْنِ يَزِيدَ الْهُنَائِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَن قَصْرِ الصَّلَاةِ فَقَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَرَجَ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، أَو ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ -شُعْبَةُ الشَّاكُّ- صَلَّى رَكْعَتَيْنِ".
وَلَمْ يَرَ أَنَسٌ أَنْ يَقْطَعَ مِن الْمَسَافَةِ الطَّوِيلَةِ هَذَا؛ لِأَنَّ السَّائِلَ سَأَلَة عَن قَصْرِ الصَّلَاةِ وَهُوَ سُؤَالٌ عَمَّا يَقْصُرُ فِيهِ؛ لَيْسَ سُؤَالًا عَن أَوَّلِ صَلَاةٍ يَقْصُرُهَا. [24/ 120 - 131]
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَنَسًا أَرَادَ أَنَّهُ مَن سَافَرَ هَذِهِ الْمَسَافَةَ قَصَرَ.
2815 -
كَانَ عُثْمَانُ
(2)
جَعَلَ حُكْمَ الْمَكَانِ الَّذِي يَقْصِدُهُ حُكْمَ طَرِيقِهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُعْدَمَ فِيهِ الزَّاد وَالْمَزَاد، وَخَالَفَهُ أَكْثَرُ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ، وَقَوْلُهُم أَرْجَحُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَصَرَ بِمَكَّةَ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ وَفيهَا الزَّادُ وَالْمَزَادُ. [24/ 122]
2816 -
نَفْسُ تَحْدِيدِ السَّفَرِ بِالْمَسَافَةِ بَاطِلٌ فِي الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ. [24/ 133]
2817 -
التَّحْدِيدُ بِالْمَسَافَةِ لَا أَصْلَ لَهُ فِي شَرْعٍ وَلَا لُغَةٍ، وَلَا عُرْفٍ وَلَا عَقْلٍ، وَلَا يَعْرِفُ عُمُومُ النَّاسِ مِسَاحَةَ الْأَرْضِ، فَلَا يُجْعَلُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ عُمُومُ الْمُسْلِمِينَ مُعَلَّقًا بِشَيْءٍ لَا يَعْرِفونَهُ، وَلَمْ يَمْسَحْ أَحَدٌ الْأَرْضَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا قَدَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْأَرْضَ لَا بِأَمْيَالٍ وَلَا فَرَاسِخَ.
(1)
(691).
(2)
حينما أتم بمكة.
وَالرَّجُلُ قَد يَخْرُجُ مِن الْقَرْيَةِ إلَى صَحْرَاءَ لِحَطَبٍ يَأْتِي بِهِ فَيَغِيبُ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ فَيَكُونُ مُسَافِرًا وإن كَانَت الْمَسَافَةُ أَقَلَّ مِن مِيلٍ
(1)
، بخِلَافِ مَن يَذْهَبُ ويرْجِعُ مِن يَوْمِهِ، فَإِنَّه لَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُسَافِرًا؛ فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَأْخُذُ الزَّادَ وَالْمَزَادَ بِخِلَافِ الثَّانِي.
فَالْمَسَافَةُ الْقَرِيبَةُ فِي الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ تكونُ سَفَرًا، وَالْمَسَافَةُ الْبَعِيدَةُ فِي الْمَدَّةِ الْقَلِيلَةِ لَا تكُونُ سَفَرًا
(2)
.
(1)
مع أنك لو سألت أهلَه: هل سافر؟ لقالوا: لم يُسافر، ولكن ذهب يحتطب لنا مِن حولنا.
فشرطُ السفر: طول الزمان أو بُعد المكان، فمتى وُجد أحدهما فهو سفر.
(2)
فهذا صريحٌ في أن الشيخ رحمه الله لا يرى القصر في المسافة الطويلة إذا كانت المدة قصيرة، وهذا ما فهمه البعلي في اختياراته حيث قال (ص 111): فالمسافة القريبة في المدة الطويلة سفر، لا البعيدة في المدة القليلة. ا هـ.
ومن الغريب قول العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله: ولكن شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله قال: إنَّ المسافة الطويلة في الزمن القصير سفر، والإقامة الطويلة في المسافة القصيرة: سفر. اهـ.
الشرح الممتع (4/ 352).
فشيخ الإسلام لم ينص على ذلك، بل كلامه مُخالف لما نقله الشيخ ابن عثيمين، ولكن لعله أخذه من مجموع ومفهوم كلام شيخ الإسلام وسبر كلامه.
وهل يشمل كلام شيخ الاسلام رحمه الله المسافة الطويلة جدًّا، كمن يُسافر بالطائرة مسافة ألف كيلو ويرجع من يومه؟ وكمن يُسافر بالسيارة مسافةً تتجاوز مائتي كيلو؟
يرى العلامة ابن جبرين رحمه الله أنه يشمله، حيث قال رحمه الله في شرح أخصر المختصرات: ثم في هذه الأزمنة يكثر التساهل في الرخص كالذين يسافرون ساعتين أو نصف يوم نرى أن هذا ليس بسفر، إذا كان مثلًا يذهب في أول النهار ثم يرجع في الليل فلا يسمى سفرًا، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية وذكر أن السفر يحدد بالزمان لا بالمساحة.
فعلى هذا؛ لو أن إنسانًا خرج من الرياض مسافة ثلاثين كيلو وطال مقامه وجلس هناك -مثلًا - يومين فله أن يترخص، ولو وصل -مثلًا- إلى القصيم مع طول المسافة ورجع في يومه فلا يترخص؛ نظرًا إلى الزمان، وكذلك لو سافر في الطائرة إلى جدة ورجع في يومه فلا يترخص، فهذا هو الذي رجحه شيخ الإسلام؛ لأنه نظر إلى العلة وهي الزمان الذي يغيب فيه عن أهله؛ لأن الإنسان إذا غاب عن أهله نصف يوم فقط ولو وصل إلى أطراف المملكة، فإنه لا يقصده الناس، ولا يأتون ليسلموا عليه، ولا ليهنئوه بسلامته من السفر، ولا يظنون أنه سافر، أما إذا غاب يومين أو ثلاثة أيام، ولو كانت مسافة عشرين أو ثلاثين كيلو فقط فإنهم يفتقدونه ويأتون إليه ليسلموا عليه ويهنئوه، فهذا هو العذر.
وهذا هو الأقرب وهو أن السفر لا يقدر بالمساحة، بل يقدر بالزمان. اهـ. =
فَالسَّفَرُ يَكُونُ بِالْعَمَلِ الَّذِي سُمِّيَ سَفَرًا لِأَجْلِهِ، وَالْعَمَلُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي زَمَانٍ، فَإِذَا طَالَ الْعَمَلُ وَزَمَانُهُ فَاحْتَاجَ إلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُسَافِرُ مِن الزَّادِ وَالْمَزَادِ سُمِّيَ مُسَافِرًا وَإِن لَمْ تَكُن الْمَسَافَةُ بَعِيدَةً، وَإِذَا قَصَرَ الْعَمَل وَالزَّمَان بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُ إلَى زَادٍ وَمَزَادٍ لَمْ يُسَمَّ سَفَرًا وَإِن بَعُدَتِ الْمَسَافَةُ.
= وخالف في ذلك الشيخ سليمان الماجد حفظه الله فقال: ومن احتج بكلام الإمام ابن تيمية هذا من أن المسافة البعيدة في المدة القليلة لا تكون سفرًا، حتى في الشاسع منها؛ فاعتبروا أن من قطع ثلاثمائة كيل مثلًا دون مبيت أو تزود أنه غير مسافر فهو محل نظر وتأمل؛ لأمرين:
الأول: أن ابن تيمية لم يتعرض للمسافات الشاسعة التي يَعتبرها أهل العرف سفرًا حتى وإن رجع من ساعته ويومه؛ كالمائتي كيل ونحوها؛ فالناس لا يكادون يختلفون في اعتباره مسافرَا، ومثال ابن تيمية رحمه الله في كلامه هذا إنما كان بالمسافة القصيرة جدًّا.
ومما يؤكد ذلك أنه ذكر هذه القاعدة في مواضع عدة، ومثَّل لها بمسافات قصيرة، وهي البريد والفرسخ، وبالمسافة بين مكة وعرفة، وبالمسافة بين المدينة وقباء، وبمسير الساعة والساعتين، ولم يذكر مع هذه القاعدة مسافات شاسعة.
الثاني: على تسليم أن ابن تيمية يرى عموم تلك القاعدة لجميع المسافات فإنه إنما يتكلم في تقدير ذلك بصفته من أهل العرف لا بصفته مجتهدًا مستدلًا من الشريعة؛ فإذا كان الأمر كذلك فإن الأعراف قد تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال، هذا من وجه، ومن وجه آخر: قد يختلف أهل العرف أنفسهم في التقدير والحكم، وإن اتحد المكان والزمان والحال.
ويلزم من طرد هذه القاعدة وهي عدم اعتبار المسافة الطويلة في المدة القليلة يلزم من ذلك أن نقول: إن من سافر بالطائرة مسافة ثلاثة آلاف كيل، أو بالسيارة ألف كيل مثلًا، ثم عاد من فوره أنه غير مسافر؛ لأنه يعود من نهاره ولا يبيت، وهذا مخالف للمقطوع به عرفًا. اهـ. حد الإقامة (36 - 37).
وكلامه أوجه وأقرب.
وقال ابن عثيمين رحمه الله: المسألة لا تخلو من أربع حالات:
أ- مدة طويلة في مسافة طويلة، فهذا سفر لا إشكال فيه، كما لو ذهب في الطائرة من القصيم إلى مكة، وبقي فيها عشرة أيام.
ب- مدة قصيرة في مسافة قصيرة، فهذا ليس بسفر، كما لو خرج مثلًا من عنيزة إلى بريدة في ضحى يوم ورجع، أو إلى الرس أو إلى أبعد من ذلك، لكنه قريب لا يعد مسافة طويلة.
ج- مدة طويلة في مسافة قصيرة، بمعنى أنه ذهب إلى مكان قريب لا ينسب لبلده، وليس منها، وبقي يومين أو ثلاثة فهذا سفر، فلو ذهب إنسان من عنيزة إلى بريدة مثلًا ليقيم ثلاثة أيام أو يومين أو ما أشبه ذلك فهو مسافر.
د- مدة قصيرة في مسافة طويلة، كمَن ذهب مثلًا من القصيم إلى جدة في يومه ورجع فهذا يسمى سفرًا؛ لأن الناس يتأهبون له، ويرون أنهم مسافرون. اهـ. الشرح الممتع (4/ 352 - 353).
فَالْأَصْلُ هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي يُسَمَّى سَفَرًا، وَلَا يَكُونُ الْعَمَلُ إلَّا فِي زَمَانٍ، فَيُعْتَبَرُ الْعَمَلُ الَّذِي هُوَ سَفَرٌ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا فِي مَكَانٍ يُسْفِرُ عَنِ الْأَمَاكِنِ، وَهَذَا مِمَّا يَعْرِفُهُ النَّاسُ بِعَادَاتِهِمْ، لَيْسَ لَهُ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ وَلَا اللُّغَةِ، بَل مَا سَمَّوْه سَفَرًا فَهُوَ سَفَرٌ. [24/ 134 - 135]
2818 -
الْإِقَامَةُ: هِيَ خِلَافُ السَّفَرِ؛ فَالنَّاسُ رَجُلَانِ: مُقِيمٌ وَمُسَافِرٌ.
وَلهَذَا كَانَت أَحْكَامُ النَّاسِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَحَدَ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ: إمَّا حُكْمُ مُقِيمٍ، وَإِمَّا حُكْمُ مُسَافِرٍ، وَقَد قَالَ تَعَالَى:{يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} [النحل: 80]، فَجَعَلَ لِلنَّاسِ يَوْمَ ظَعْنٍ وَيوْمَ إقَامَةٍ.
وَقَد أَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّتِهِ بِمَكَّةَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ سِتَّةَ أَيَّامٍ بِمِنَى وَمُزْدَلِفَةَ وَعَرَفَةَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُم كَانُوا مُسَافِرِينَ، وَأَقَامَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَأَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ.
وَمَعْلُومٌ بِالْعَادَةِ أَنَّ مَا كَانَ يَفْعَلُ بِمَكَّةَ وَتَبُوكَ لَمْ يَكُن يَنْقَضِي فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَا أَرْبَعَةٍ حَتَّى يُقَالَ: إنَّهُ كَانَ يَقُولُ الْيَوْمَ أُسَافِرُ، غَدًا أُسَافِرُ! بَل فَتَحَ مَكَّةَ وَأَهْلُهَا وَمَا حَوْلَهَا كُفَّارٌ مُحَارِبونَ لَهُ، وَهِيَ أَعْظَمُ مَدِينَةٍ فَتَحَهَا، وَبِفَتْحِهَا ذَلَّتِ الْأَعْدَاءُ وَأَسْلَمَتِ الْعَرَبُ، وَسَرَى السَّرَايَا إلَى النَّوَاحِي يَنْتَظِرُ قُدُومَهُمْ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْأمُورِ مِمَّا يُعْلَمُ أَنَّهَا لَا تَنْقَضِي فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، فَعُلِمَ أَنَّهُ أَقَامَ لِأُمُورٍ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تَنْقَضِي فِي أَرْبَعَةٍ، وَكَذَلِكَ فِي تَبُوكَ.
وَأَيْضًا: فَمَن جَعَلَ لِلْمُقَامِ حَدَّا مِنَ الْأَيَّامِ: إمَّا ثَلَاثَةً وَإِمَّا أَرْبَعَةً وَإِمَّا عَشَرَة وَإِمَّا اثْنَيْ عَشَرَ وَإِمَّا خَمْسَةَ عَشَرَ فَإِنَّهُ قَالَ قَوْلًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِن جِهَةِ الشَّرْعِ، وَهِيَ تَقْدِيرَاتٌ مُتَقَابِلَةٌ.
فَقَد تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْأَقْوَالُ تَقْسِيمَ النَّاسِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إلَى مُسَافِرٍ، وَإِلَى مُقِيمٍ مُسْتَوْطِنٍ، وَهُوَ الَّذِي يَنْوِي الْمُقَامَ فِي الْمَكَانِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَنْعَقِدُ
بِهِ الْجُمُعَةُ وَتَجِبُ عَلَيْهِ، وَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ إتْمَامُ الصَّلَاةِ بِلَا نِزَاعٍ، فَإِنَّه الْمُقِيمُ الْمُقَابِلُ لِلْمُسَافِرِ، وَالثَّالِثُ: مُقِيم غَيْرُ مُسْتَوْطِنٍ أَوْجَبُوا عَلَيْهِ إتْمَامَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ الْجُمُعَةَ وَقَالُوا: لَا تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ، وَقَالُوا: إنَّمَا تَنْعَقِدُ الْجُمُعَةُ بِمُسْتَوْطِنٍ.
وَهَذَا التَّقْسِيمُ -وَهُوَ تَقْسِيمُ الْمُقِيمِ إلَى مُسْتَوْطِنٍ وَغَيْرِ مُسْتَوْطِنٍ- تَقْسِيمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِن جِهَةِ الشَّرْعِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى مَن لَا تَنْعَقِدُ بِهِ؛ بَل مَن وَجَبَتْ عَلَيْهِ انْعَقَدَتْ بِهِ.
وَالنَبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ ضبْحَ رَابِعَةٍ مِن ذِي الْحِجَّةِ
(1)
، وَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، لَكِنْ مِن أَيْنَ لَهُم أَنَّهُ لَو قَدِمَ صُبْحَ ثَالِثَةٍ وَثَانِيَةِ كَانَ يُتِمُّ وَيَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِالْإِتْمَامِ؟
لَيْسَ فِي قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
وَلَو كَانَ هَذَا حَدًّا فَاصِلًا بَيْنَ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ لَبَيَّنَهُ لِلْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]، وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ بِنِيَّةِ أَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ يُقِيمُهَا لَيْسَ هُوَ أَمْرًا مَعْلُومًا لَا بِشَرْعٍ وَلَا لُغَةٍ وَلَا عُرْفٍ
(2)
.
وَقَد رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْمُهَاجِرِ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا، وَالْقَصْرُ فِي هَذَا جَائِزٌ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ، وَقَد سَمَّاهُ إقَامَة، وَرَخَّصَ لِلْمُهَاجِرِ أَنْ يُقِيمَهَا، فَلَو أَرَادَ الْمُهَاجِرُ أَنْ يُقِيمَ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ بَعْدَ قَضَاءِ النُّسُكِ لَمْ يَكُن لَهُ
(1)
قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله في شرحه لعبارة زاد المستقنع: "أَو نَوَى إِقَامَةَ أَكْثَرَ مِن أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ": إذا رجعنا إلى ما يقتضيه ظاهر الكتاب والشُنة وجدنا أن القول الذي اختاره شيخ الإِسلام رحمه الله هو القول الصحيح، وهو أن المسافر مسافر، سواء نوى إقامة أكثر من أربعة أيام أو دونها. اهـ. الشرح الممتع (4/ 374).
(2)
فهل يُعقل أنْ يشرع الله حكمًا ينبني عليه صحة أو بطلان عبادات من أعظم العبادات البدنية من صلاة وصيام ووضوء ونحوها، بخطابٍ غيرِ واضح الدلالة، بل يشرع هذا الحكم الكبير بطرق خفيَّةٍ، غامضةٍ غيرِ صريحة؟
لا يُظن ذلك بالشارع الحكيم.
ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ فَرْقٌ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ؛ بَلِ الْمُهَاجِرُ مَمْنُوعٌ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ أَكْثَرَ مِن ثَلَاثٍ بَعْدَ قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ.
وَقَد أَقَامَ الْمُهَاجِرُونَ مَعَ النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ قَرِيبًا مِن عِشْرِينَ يَوْمًا بِمَكَّةَ، وَلَمْ يَكُونُوا بِذَلِكَ مُقِيمِينَ إقَامَةً خَرَجُوا بِهَا عَنِ السَّفَرِ، وَلَا كَانُوا مَمْنُوعِينَ؛ لِأَنَّهُم كَانُوا مُقِيمِينَ لِأَجْلِ تَمَامِ الْجِهَادِ وَخَرَجُوا مِنْهَا إلَى غَزْوَةِ حنين.
وَهَذَا بِخِلَافِ مَن لَا يَقْدُمُ إلَّا لِلنُّسُكِ فَإنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَكْثَرَ مِن ثَلَاثٍ.
فَعُلِمَ أَنَ هَذَا التَّحْدِيدَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَصْرِ وَلَا بِتَحْدِيدِ السَّفَرِ.
وَاَلَّذِينَ حَدُّوا ذَلِكَ بِأَرْبَعَةٍ مِنْهُم مَنِ احْتَجَّ بِإِقَامَةِ الْمُهَاجِرِ وَجَعَلَ يَوْمَ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ غَيْرَ مَحْسُوبٍ، وَمِنْهُم مَن بَنَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ مَن قَدِمَ الْمِصْرَ أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا يُتِمُّ الصَّلَاةَ، لَكِنْ ثَبَتَتِ الْأرْبَعَةُ بِإِقَامَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّتِهِ فَإنَّهُ أَقَامَهَا وَقَصَرَ، وَقَالُوا فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ وَتَبُوكَ: إنَّهُ لَمْ يَكُن عَزَمَ عَلَى إقَامَةِ مُدَّةٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُرِيدُ عَامَ الْفَتْحِ غَزْوَ حنين، وَهَذَا الدَّلِيلُ مَبْنِي عَلَى أَنَّهُ مَن قَدِمَ الْمِصْرَ فَقَد خَرَجَ عَن حَدِّ السَّفَرِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ، بَل هُوَ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ وَالْإجْمَاعِ وَالْعُرْفِ، فَإِنَّ التَّاجِرَ الَّذِي يَقْدُمُ لِيَشْتَرِيَ سِلْعَةً أَو يَبِيعَهَا وَيَذْهَبُ: هُوَ مُسَافِرٌ عِنْدَ النَّاسِ، وَقَد يَشْتَرِي السِّلْعَةَ وَيَبِيعُهَا فِي عِدَّةِ أَيَّامٍ وَلَا يَحِدُّ النَّاسُ فِي ذَلِكَ حَدًّا. [24/ 136 - 140]
2819 -
فِي "الصَّحِيحَيْنِ"
(1)
عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ زيدٍ قَالَ: صَلَّى بِنَا عُثْمَانُ بِمِنَى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَقِيلَ ذَلِكَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَاسْتَرْجَعَ وَقَالَ: صَلَّيْت مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمِنَى رَكعَتَيْنِ، وَصَلَّيْت مَعَ أَبِي بَكْرِ بِمِنَى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْت مَعَ عُمَرَ بِمِنَى رَكْعَتَيْنِ، فَلَيْتَ حَظِّي مِن أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ.
وَإِتْمَامُ عُثْمَانَ رضي الله عنه قَد قِيلَ إنَّهُ كَانَ لِأَنَّهُ تَأَهَّلَ بِمَكَّةَ فَصَارَ مُقِيمًا.
(1)
رواه البخاري (1084)، ومسلم (695).
وَكَانَ عُثْمَانُ إذَا اعْتَمَرَ يَأْمُرُ بِرَاحِلَتِهِ فَتُهَيَّأُ لَهُ فَيَرْكَبُ عَلَيْهَا عَقِبَ الْعُمْرَةِ لِئَلَّا يُقِيمَ بِمَكَّةَ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ صَارَ مُسْتَوْطِنًا بِمَكَّةَ؟
لَكِنْ قَد يَكُونُ نَفْسُ التَّأَهُّلِ مَانِعًا مِن الْقَصْرِ، وَهَذَا أَيْضًا بَعِيدٌ؛ فَإِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ كَانوا يَقْصُرُونَ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ بِمِنَى.
وَقِيلَ: إنَّهُ خَشِيَ أَنَّ الْأعْرَابَ يَظُنُّونَ أَنَّ الصَّلَاةَ أَرْبَعٌ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ الْأَعْرَابَ كَانُوا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَجْهَلَ مِنْهُم فِي زَمَنِ عُثْمَانَ وَلَمْ يُتَمِّمِ الصَّلَاةَ.
وَأَيْضًا: فَظَنُّهُم أنَّ السُّنَّةَ فِي صَلَاةِ الْمُسَافِرِ أَرْبَعٌ خَطَأٌ مِنْهُمْ، فَلَا يَسُوغُ مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ ليَحْصُلَ بِالْمُخَالَفَةِ مَا هُوَ بِمِثْل ذَلِكَ
(1)
.
وَعُرْوَةُ قَد قَالَ: إنَّ عَائِشَةَ تَأَوَّلَتْ كَمَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ، وَعَائِشَةُ أَخْبَرَتْ أَنَّ الْإِتْمَامَ لَا يَشُقُّ عَلَيْهَا.
أَو يَكُونُ ذَلِكَ كَمَا رَآهُ مَن رَآهُ لِأَجْلِ شُقَّةِ السَّفَرِ، وَرَأَوْا أَنَّ الدُّنْيَا لَمَّا اتَّسَعَتْ عَلَيْهِم لَمْ يَحْصُلْ لَهُم مِن الْمَشَقَّةِ مَا كَانَ يَحْصُلُ عَلَى مَن كَانَ صَلَّى أَرْبَعًا، كَمَا قَد جَاءَ عَن عُثْمَانَ مِن نَهْيِهِ عَن الْمُتْعَةِ الَّتِي هِيَ الْفَسْخُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِأَجْلِ حَاجَتِهِمْ إذ ذَاكَ إلَى هَذِهِ الْمُتْعَةِ، فَتِلْكَ الْحَاجَةُ قَد زَالَتْ. [24/ 160 - 162]
2820 -
إذَا نَوَى أَنْ يُقِيمَ بِالْبَلَدِ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ فَمَا دُونَهَا: قَصَرَ الصَّلَاةَ؛ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ، فَإِنَهُ أَقَامَ بِهَا أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ.
وَإِن كَانَ أَكْثَرَ فَفِيهِ نِزَاعٌ، وَالْأَحْوَطُ أَنْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ
(2)
.
(1)
ويُقال: كان الأولى أن يُعلمهم بأنهم مسافرون، وحق المسافر القصر، فإذا رجعتم إلى بلدكم فأتموا.
(2)
هذا الموضع الوحيد الذي مشى فيه الشيخ على رأي المذهب الحنبلي -فيما وقفت عليه-، وبظهر أنه ليس رأيه المتأخر الذي انتصر له في مواضع وفتاوى كثيرة.
وَأَمَّا إنْ قَالَ غَدًا أُسَافِرُ أَو بَعْدَ غَدٍ أُسَافِرُ وَلَمْ يَنْوِ الْمُقَامَ: فَإِنَّهُ يَقْصُرُ أَبَدًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقَامَ بِمَكَةَ بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَأقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ لَيْلَةً يَقْصرُ الصَّلَاةَ. [24/ 17]
2821 -
وَسُئِلَ: عَن رَجُلٍ خَرَجَ إلَى الْخَرِبَةِ لِأجْلِ الْحُمَّى وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُقِيمُ مُدَّةَ شَهْرَيْنِ. فَهَل يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ؟ وَإِذَا جَازَ الْقَصْرُ فَالْإِتْمَامُ أَفْضَلُ أَم الْقَصْرُ؟
فَأَجَابَ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ: مِنْهُم مَن يُوجِبُ الْإِتْمَامَ، وَمِنْهُم مَن يُوجِبُ الْقَصْرَ، وَالصَّحِيحُ أَن كِلَاهُمَا سَائِغٌ، فَمَن قَصَرَ لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ، وَمَن أَتَمَّ لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ تَنَازَعُوا فِي الْأَفْضَلِ.
فَمَن كَانَ عِنْدَهُ شَكٌّ فِي جَوَازِ الْقَصْرِ فَأَرَادَ الِاحْتِيَاطَ فَالْإِتْمَامُ أَفْضَلُ.
وَأَمَّا مَن تَبَيَّنَتْ لَهُ السُّنَةُ وَعَلِمَ أنَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَشْرَعْ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُصَلَّيَ إلا رَكْعَتَيْنِ، وَلَمْ يحدَّ السَّفَرَ بِزَمَانٍ أَو بِمَكَان، وَلَا حَدَّ الْإِقَامَةَ أَيْضًا بِزَمَنٍ مَحْدُودٍ: لَا ثَلَاثَةٍ وَلَا أَرْبَعَةٍ وَلَا اثْنَا عَشَرَ وَلَا خَمْسَةَ عَشَرَ: فَإِنَّهُ يَقْصُرُ، كمَا كَانَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ يَفْعَلُ.
وَإِذَا كَانَ التَّحْدِيدُ لَا أَصْلَ لَهُ: فَمَا دَامَ الْمُسَافِرُ مُسَافِرًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَلَو أَقَامَ فِي مَكَانٍ شُهُورًا
(1)
. [24/ 17 - 18]
* * *
(صلاة الخوف)
2822 -
يصلي صلاة الخوف في الطريق إذا خاف فوات الوقوف بعرفة، وهو أحد الوجوه الثلاثة في مذهب أحمد. [المستدرك 3/ 124]
* * *
(1)
هذا هو رأيه الذي استقرّ عليه، وانتصر له في جميع فتاويه وبحوثه أو جلّها.
(بَابٌ صَلَاة الْجُمُعَةِ)
2823 -
الْجُمْعَةُ فَرِيضَة بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَالْجَمَاعَةُ وَاجِبَةٌ أَيْضًا عِنْدَ كَثِيرٍ مِن الْعُلَمَاءِ؛ بَل عِنْدَ أَكْثَرِ السَّلَفِ.
وَهَل هِيَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَقْوَاهُمَا كَمَا فِي "سُنَنِ أَبِي دَاوُد" عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَن سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يُجِبْ مِن غَيْرِ عُذْرٍ فَلَا صَلَاةَ لَهُ"
(1)
.
وَعِنْدَ طَائِفَةٍ مِن الْعُلَمَاءِ: أَنَّهَا وَاجِبَة عَلَى الْكِفَايَةِ.
وَأَحَدُ الْأَقْوَالِ أَنَّهَا سُنَّة مُؤَكَّدَةٌ. [11/ 615]
2824 -
[إن الله لم يخلق شَيْئًا وَلم يَأْمر بِشَيْء ثمَّ أبطله وأعدمه بِالْكُلِّيَّةِ؛ بل لَا بُد أَن يُثبتهُ بِوَجْه مَا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا خلقه لحكمة لَهُ فِي خلقه، وَكَذَلِكَ أمرُه بِهِ وشرعُه إِيَّاه هُوَ لما فِيهِ من الْمصلحَة.
وَإِذا تَأَمَّلت الشَّرِيعَة والخلق رَأَيْت ذَلِك ظَاهرًا، وَهَذَا سر قل من تفطن لَهُ من النَّاس، فَتَأمل الْأَحْكَام المنسوخة حُكْمًا حُكْمًا كَيفَ تَجِد الْمَنْسُوخ لم يبطل بِالْكُلِّيَّةِ؛ بل لَهُ بَقَاء بِوَجْه، فَمن ذَلِك: نسخ الْقبْلَة وَبَقَاء بَيت الْمُقَدّس مُعظمًا مُحْتَرمًا تشد إِلَيْهِ الرّحال ويقصد بِالسَّفرِ إِلَيْهِ]
(2)
.
ومن ذلك نسخُ وجوب الصدقة بين يدي مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبطل
(1)
فالشيخ رحمه الله يرى أن صلاة الجماعة شرط لصحة الصلاة مع القدرة كما قيّدها في موضع آخر.
والشيخ صرح بأنّ الْجَمَاعَة شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ في موضعين، هذا الموضع، والموضع الَاخر في (24/ 101).
وهكذا نقل البعلي رحمه الله ذلك في اختياراته (ص 103) فقال: والجماعة شرط للصلاة المكتوبة .. فإذا صلى وحده لغير عذر: لم تصح صلاتُه.
وقال الشَّيْخُ تَقِي الذينِ في الصَّارِمِ الْمَسْلُولِ: خَبَرُ التَّفْضِيلِ في الْمَعْذُورِ الذي تبُاحُ له الصَّلَاةُ وَحْدَهُ. الإنصاف، للمرداوي (2/ 212).
(2)
ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، ونقلتُه لتمام الفائدة.
حكمه بالكلية، نُسِخَ وجوبُه وبقي استحبابه والندب إليه، وما عُلم من تنبيهه وإشارته، وهو أنه إذا استحبت الصدقة بين يدي مناجاة المخلوق فاستحبابها بين يدي مناجاة الله عند الصلوات والدعاء أولى، فكان بعض السلف الصالح يتصدق بين يدي الصلاة والدعاء إذا أمكنه ويتأول هذه الأولوية، ورأيت شيخ الإسلام ابن تيمية يفعله ويتحراه ما اْمكنه، وفاوضته فيه فذكر لي هذا التنبيه والإشارة.
وشاهدت شيخ الإِسلام ابن تيمية قدس الله روحه إذا خرج إلى الجمعة يأخذ ما وجد في البيت من خبز أو غيره فيتصدق به في طريقه سرًّا، وسمعته يقول: إذا كان الله قد أمرنا بالصدقة بين يدي مناجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فالصدقة بين يدي مناجاته أفضل وأولى بالفضيلة
(1)
. [المستدرك 3/ 124 - 125]
2825 -
لا يكره فعل الصلاة فيه
(2)
وقت الزوال عند الشافعي رضي الله عنه ومن وافقه، وهو اختيار شيخنا أبي العباس ابن تيمية، ولم يكن اعتماده على حديث ليث، عن مجاهد، عن أبي الخليل، عن أبي قتادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه كره الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة، وقال:"إن جهنم تسعر إلا يوم القيامة"
(3)
، وإنما كان اعتماده على أن من جاء إلى الجمعة يستحب له أن يصلي حتى يخرج الإمام. [المستدرك 3/ 125]
2826 -
صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صيام يوم عرفة يكفر سنتين، وصيام يوم عاشوراء يكفر سنة"
(4)
لكن إطلاق القول بأنه يكفر لا يوجب أن يكفر الكبائر بلا توبة فإنه صلى الله عليه وسلم قال في: "الجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارة لما
(1)
زاد المعاد (110)، ومفتاح دار السعادة (362).
(2)
أي: في يَوْمِ الْجُمُعَةِ.
(3)
وذلك لضعفه، فقد ضعَّفه بعض أهل العلم، ومنهم الألباني، والحديث أخرجه أبو داود (1083).
(4)
رواه مسلم (1162).
بينهن إذا اجتنبت الكبائر"
(1)
، ومعلوم أنَّ الصلاةَ هي أفضل من الصيام، وصيام رمضان أعظم من صيام يوم عرفة، ولا يكفر السيئات إلا باجتناب الكبائر كما قيده النبي صلى الله عليه وسلم يظن أن صوم يوم أو يومين تطوعًا يكفر الزنى والسرقة وشرب الخمر، والميسر، والسحر، ونحوه؟ فهذا لا يكون.
وتكفير الطهارة والصلاة وصيام رمضان وعرفة وعاشوراء للصغائر فقط، وكذا الحج؛ لأن الصلاة ورمضان أعظم منه. [المستدرك 3/ 126]
2827 -
عَلَى وُلَاةِ الْأمُورِ أَمْرُ جَمِيعِ مَن تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ بِهَا مِن أَهْلِ الْأَسْوَاقِ وَالدُّورِ وَغَيْرِهِمْ، وَمَن تَخَلَّفَ عَن هَذَا الْوَاجِبِ عُوقِبَ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةً تَحْمِلُهُ وَأَمْثَالَهُ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِن وُجُوب أَمْرِ مَن تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ بِهَا وَنَهْيِهِ عَمَّا يَمْنَعُهُ مِن الْجُمْعَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ. [21/ 339 - 340]
2828 -
تنعقد الجمعة بثلاثة، واحد يخطب، واثنان يستمعان. [المستدرك 3/ 127]
2829 -
تجب الجمعة عدى مَن أقام في غير بناء؛ كالخيام وبيوت الشعر ونحوها.
وقال أبو العباس في موضع آخر: يشترط مع إقامتهم في الخيام ونحوها أن يكونوا يزرعون كما يزرع أهل القرية. [المستدرك 3/ 127]
2830 -
يجوز إقامة جمعتين في بلد واحد لأجل الشحناء بأن حضروا كلهم ووقعت الفتنة ويجوز ذلك للضرورة إلى أن تزول الفتنة. [المستدرك 3/ 127]
2831 -
تسقط الجمعة عمن يخاف بحضوره فتنة إذا لم يكن ظالمًا. [المستدرك 3/ 127]
(1)
رواه مسلم (233).
2832 -
لا يكفي في الخطبة ذم الدنيا وذكر الموت؛ بل لا بد من مسمى الخطبة عرفًا، ولا تحصل باختصار يفوت به المقصود. [المستدرك 3/ 127]
2833 -
يجب في الخطبة أن يشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله.
وأوجب أبو العباس في موضع آخر الشهادتين، وتردد في وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة.
وقال في موضع آخر، وهو الأشبه أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فيها واجبة، ولا تجب منفردة
(1)
؛ لقول عمر رضي الله عنه: الدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى تصلي على نبيك صلى الله عليه وسلم، وتقدم الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم على الدعاء لوجوب تقديمه على النفس.
وأما الأمر بتقوى الله: فالواجب إما معنى ذلك وهو الأشبه من أن يقال الواجب لفظ التقوى. [المستدرك 3/ 127 - 128]
2834 -
في قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 254]، أجمع الناس أنها نزلت في الصلاة، وقد قيل في الخطبة: والصحيح أنها نزلت في ذلك كله.
وظاهر كلام أبي العباس: أنها تدل على وجوب الاستماع.
وصرَّح على أنها تدل على وجوب القراءة في الخطبة، لأن كلمة (إذا) ظرف لما يُستقبل من الزمان يتضمن معنى الشرط غالبًا، والظرف للفعل لا بد أن يشتمل على الفعل وإلا لم يكن ظرفًا. [المستدرك 3/ 128]
2835 -
يحرم تخطي رقاب الناس.
قال أبو العباس في موضع آخر: ليس لأحد أن يتخطى رقاب الناس
(1)
فلو صلّى عليه في أثناء الخطبة حينما يذكرُ قولًا له، أو صلّى عليه في افتتاح الخطبة لكفى.
ليدخل في الصف إذا لم يكن بين يديه فرجة لا يوم الجمعة ولا غيره؛ لأن هذا من الظلم والتعدي لحدود الله تعالى. [المستدرك 3/ 129]
2836 -
اُسْتُحِبَّتْ وَفُعِلَتْ [أي: خطبة ابن مسعود] فِي مُخَاطَبَةِ النَّاسِ بِالْعِلْمِ عُمُومًا وَخُصُوصًا، مِن تَعْلِيمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْفِقْهِ فِي ذَلِكَ وَمَوْعِظَةِ النَّاسِ وَمُجَادَلَتِهِمْ أَنْ يُفْتَتَحَ بِهَذِهِ الْخُطْبَةِ الشَّرْعِيَّةِ النَّبوَّيةِ.
وَكَانَ الَّذِي عَلَيْهِ شُيُوخُ زَمَانِنَا ائَذِينَ أَدْرَكْنَاهُم وَأَخَذْنَا عَنْهُم وَغَيْرهمْ يَفْتَتِحُونَ مَجْلِسَ التَّفْسِيرِ أَو الْفِقْهِ فِي الْجَوَامِعِ وَالْمَدَارِسِ وَغَيْرِهَا بِخُطْبَةٍ أخْرَى؛ مِثْل: الْحَمْدُ للهِ رَبّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أجْمَعِينَ، وَرَضِيَ اللهُ عَنَا وَعَنْكُمْ وَعَن مَشَايِخِنَا وَعَن جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، أَو وَعَنِ السَّادَةِ الْحَاضِرِينَ وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.
كَمَا رَأَيْت قَوْمًا يَخْطُبُونَ لِلنّكَاحِ بِغَيْرِ الْخُطْبَةِ الْمَشْرُوعَةِ، وَكُلُّ قَوْمٍ لَهُم نَوْعٌ غَيْر نَوْعِ الْآخَرِينَ، فَإِنَّ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمْ يَخُصَّ النِّكَاحَ، وَإِنَّمَا هِيَ خُطْبَة لِكُلِّ حَاجَةٍ فِي مُخَاطَبَةِ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَالنِّكَاحُ مِن جُمْلَةِ ذَلِكَ، فَإِنَّ مُرَاعَاةَ السُّنَنِ الشَّرْعِيَّةِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأعْمَالِ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ هُوَ كَمَالُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
2837 -
قال شيخ الإسلام في رفع الخطيب يديه على المنبر يوم الجمعة: في هذه قولان، هما وجهان في مذهب أحمد في رفع الخطيب يديه، قيل: يستحب، قاله ابن عقيل: وقيل: لا يستحب؛ بل هو مكروه، وهو أصح. [18/ 287]
قال إسحاق بن راهويه: هو بدعةٌ للخطيب، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يشير بأصبعه إذا دعا. [المستدرك 3/ 128 - 129]
2838 -
مُبْتَدَأُ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
فَإِنَّ الشَّهَادَةَ بِهَا يَصِيرُ مُسْلِمًا وَهُوَ الْأَصْلُ وَالْأَسَاسُ، وَلهَذَا جُعِلَتْ رُكْنًا فِي الْخُطَبِ:
أ- فِي خُطَبِ الصَّلَاةِ وَهِيَ التَّشَهُّدُ يخْتمُ بِقَوْلِهِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوُلهُ.
ب- وَفِي الْخُطَبِ خَارجَ الصَّلَاةِ؛ كَخُطْبَةِ الْحَاجَةِ: خُطْبَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
ج - وَالْخُطَبِ الْمَشْرُوعَةِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا.
وَفِي "السُّنَنِ" عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "كُلُّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَشَهُّدٌ فَهِيَ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ"
(1)
.
وَاَلَّذِينَ أَوْجَبُوا ذِكْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْخُطْبَةِ كَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد قَالَ كَثِيرٌ مِنْهُم: يَجِبُ مَعَ الْحَمْدِ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ، وَقَالَ بَعْضُهُم: يَجِبُ ذِكْرُهُ إمَّا بِالصَّلَاةِ وَإِمَّا بِالتَّشَهُّدِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ جَدِّي أبِي الْبَرَكَاتِ.
وَالصَّوَابُ: أَنَّ ذِكْرَهُ بِالتَّشَهُّدِ هُوَ الْوَاجِبُ؛ لِدَلَالَةِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ إيمَانٌ بِهِ، وَالصَّلَاةَ عَلَيْهِ دُعَاءٌ لَهُ، وَأَيْنَ هَذَا مِن هَذَا؟
فَقَدَّمَ فِي الْخُطَبِ الْحَمْدَ عَلَى التَّشَهُّدِ، كَمَا قَدَّمَ فِي الْفَاتِحَةِ الْحَمْدَ عَلَى التَّوْحِيدِ بِقَوْلِهِ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5].
وَلهَذَا كَانَت خُطَبُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَفْتَتِحُهَا بالحمد للهِ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ إنَّمَا تُفْتَتَحُ بالحمد.
فَاَلَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْخُطْبَةِ: الْحَمْدُ للهِ وَالتَّشَهُّدُ. [22/ 390 - 394]
2839 -
إِنَ كُلَّ قَوْمٍ كَانُوا مُسْتَوْطِنِينَ بِبِنَاءٍ مُتَقَارِبٍ لَا يَظْعَنُونَ عَنْهُ شِتَاءً وَلَا
(1)
رواه أبو داود (4841)، والترمذي (1106)، وصحَّحه الألباني في صحيح الترمذي (1106).
صَيْفًا تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ، إذ
(1)
كَانَ مَبْنِيًّا بِمَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُم: مِن مَدَرٍ وَخَشَبٍ، أَو قَصَبٍ، أَو جَرِيدٍ، أو سَعَفٍ، أَو غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ أَجْزَاءَ الْبِنَاءِ وَمَادَّتَهُ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي ذَلِكَ، إنَّمَا الْأَصْل أَنْ يَكُونُوا مُسْتَوْطِنِينَ لَيْسُوا كَأَهْلِ الْخِيَامِ وَالْحُلَلِ الَّذِينَ يَنْتَجِعُونَ فِي الْغَالِبِ مَوَاقِعَ الْقَطْرِ، وَيَتَنَقَّلُونَ فِي الْبِقَاعِ، وَيَنْقُلُونَ بُيُوتَهُم مَعَهُم إذَا انْتَقَلُوا، وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد: لَيْسَ عَلَى الْبَادِيَةِ جُمُعَةٌ لِأَنَّهُم يَنْتَقِلُونَ.
فَعَلَّلَ سُقُوطَهَا بِالِانْتِقَالِ، فَكُلُّ مَن كَانَ مُسْتَوْطِنًا لَا يَنْتَقِلُ بِاخْتِيَارِهِ فَهُوَ مِن أَهْلِ الْقُرَى
(2)
. [24/ 166 - 169]
2840 -
تَنَازَعَ النَّاسُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ: هَل تُشْتَرَطُ لَهُمَا الْإِقَامَةُ أَمْ تُفْعَلُ فِي السَّفَرِ؟ عَلَى ثَلَاَثةِ أقوَالٍ:
أَحَدُهَا: مِن شَرْطِهِمَا جَمِيعًا الْإِقَامَةُ فَلَا يُشْرَعَانِ فِي السَّفَرِ، هَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي أظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.
وَالثَّانِي: يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الْجُمُعَةِ دُونَ الْعِيدِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
وَالثَّالِثُ: لَا يُشْتَرَطُ لَا فِي هَذَا وَلَا هَذَا كَمَا يَقُولُهُ مَن يَقُولُهُ مِنَ الظَّاهِرِيَّةِ.
وَالصَّوَابُ بِلَا ريبٍ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ لِلْمُسَافِرِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُسَافِرُ أَسْفَارًا كَثِيرَةً، قَدِ اعْتَمَرَ ثَلَاثَ عُمَرٍ سِوَى عُمْرَةِ حَجَّتِهِ، وَحَجَّ حَجَّةَ الْوَدَاعِ وَمَعَهُ أُلُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ، وَغَزَا أَكْثَرَ مِن عِشْرِينَ
(1)
هكذا في الأصل! ولعل الصواب: (إذا).
(2)
قال هذه الفتوى جوابًا لأهل البحرين له، ومما جاء فيه: هُنَالِكَ مَسْجِدٌ مَبْنِي بِمَدَرٍ وَحَوْلَهُ أَقْوَامٌ كَثِيرُونَ مُقِيمُونَ مُسْتَوْطِنُونَ لَا يَظْعَنُونَ عَنِ الْمَكَانِ شِتَاءً وَلَا صَيْفًا إلَّا أَنْ يُخْرِجَهُم أحَدٌ بِقَهْرٍ، بَل هُم وَآبَاؤُهُم وَأَجْدَادُهُم مُسْتَوْطِنُونَ بِهَذَا الْمَكَانِ كَاسْتِيطَانِ سَائِر أَهْلِ الْقُرَى، لَكِنَّ بُيُوتَهُم لَيْسَتْ مَبْنِيَّةً بِمَدَرٍ، إنَّمَا هِيَ مَبْنيَّةٌ بِجَرِيدِ النَّخْلِ وَنَحْوِهِ. فأجابهم بأَنَّ مِثْل هَذِهِ الصُّورَةِ تُقَامُ فِيهَا الْجُمُعَةُ.
غَزَاة، وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ أَحَدٌ قَطُّ أَنَّهُ صَلَّى فِي السَّفَرِ لَا جُمُعَةً وَلَا عِيدًا؛ بَل كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فِي جَمِيعِ أَسْفَارِهِ، ويوْمَ الْجُمُعَةِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ، وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ أَحَد قَطُّ أَنَّهُ خَطَبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ مُسَافِرٌ قَبْلَ الصَّلَاةِ لَا وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى قَدَمَيْهِ وَلَا عَلَى رَاحِلَتِهِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ فِي خُطْبَةِ الْعِيدِ، وَلَا عَلَى مِنْبَرٍ كَمَا كَانَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقَد كَانَ أَحْيَانًا يَخْطُبُ بِهِم فِي السَّفَرِ خُطَبًا عَارِضَةً. [24/ 177 - 178]
2841 -
يُحْتَمَل أَنْ يُقَالَ بِوُجُوبِ الْجُمُعَةِ عَلَى مَن فِي الْمِصْرِ مِنَ الْمُسَافِرِينَ وَإِن لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِم الْإِتْمَامُ، كَمَا لَو صَلَّوْا خَلْفَ مَن يُتِمُّ فَإِنَّ عَلَيْهِم الْإِتْمَامَ تبَعًا لِلْإِمَامِ، كَذَلِكَ تَجِبُ عَلَيْهِم الْجُمُعَةُ تبَعًا لِلْمُقِيمِينَ.
وَهَؤُلَاءِ تَجِبُ عَلَيْهِم الْجُمُعَةُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ} [الجمعة: 9] وَنَحْوِهَا يَتَنَاوَلُهُمْ، وَلَيْسَ لَهُم عُذْرٌ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي مِصْرِ الْمُسْلِمِينَ مَن لَا يُصَلِّي الْجُمُعَةَ إلَّا مَن هُوَ عَاجِزٌ عَنْهَا كَالْمَرِيضِ وَالْمَحْبُوسِ، وَهَؤُلَاءِ قَادِرُونَ عَلَيْهَا؛ لَكِنِ الْمُسَافِرُونَ لَا يَعْقِدُونَ جُمُعَةً، لَكنْ إذَا عَقَدَهَا أَهْلُ الْمِصْرِ صَلَّوْا مَعَهُمْ، وَهَذَا أَوْلَى مِن إتْمَامِ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْإِمَامِ الْمُقِيمِ.
وَكَذَلِكَ وُجُوبُهَا عَلَى الْعَبْدِ قَوِيٌّ: إمَّا فطْلَقًا وَإِمَّا إذَا أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ.
وَالْمُسَافِرُ فِى الْمِصْرِ لَا يُصَلِّي عَلَى الرَّاحِلَةِ وَإِن كَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فَكَذَلِكَ الْجُمُعَةُ.
وَأَمَّا إفْطَارُهُ: فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَكَانَ هُوَ وَالْمُسْلِمُونَ مُفْطِرِينَ، وَمَا نقِلَ أَنَّهُم أُمِرُوا بِابْتِدَاءِ الصَّوْمِ فَالْفِطْرُ كَالْقَصْرِ؛ لِأنَّ الْفِطْرَ مَشْرُوعٌ لِلْمُسَافِرِ فِي الْإِقَامَاتِ ائتِي تَتَخَلَّلُ السَّفَرَ كَالْقَصْرِ؛ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَإِنَّهُ لَا يُشْرَعُ إلَّا فِي حَالِ السَّيْرِ، وَلأنَّ اللهَ عَلَّقَ الْفِطْرَ وَالْقَصْرَ بِمُسَمَّى السَّفَرِ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَلَيْسَ فِيهِ لَفْظُ إتْمَامٍ؛ بَل فِيهِ الْفِعْلُ الَّذِي لَا عُمُومَ لَهُ، فَهُوَ مِن جِنْسِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ الَّذِي يُبَاحُ لِلْعُذْرِ مُطْلَقًا، كَمَا أَنَّ
الصَّلَاةَ عَلَى الرَّاحِلَةِ تُبَاحُ لِلْعُذْرِ فِي السَّفَرِ فِي الْفَرِيضَةِ مَعَ الْعُذْرِ الْمَانِعِ مِن النُّزُولِ، وَالْمُتَطَوِّعُ مُحْتَاجٌ إلَى دَوَامِ التَّطَوُّعِ، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ مَعَ النُّزُولِ وَالسَّفَرِ، وَإِذَا جَازَ التَّطَوُّعُ قَاعِدًا مَعَ إمْكَانِ الْقِيَامِ فَعَلَى الرَّاحِلَةِ لِلْمُسَافِرِ أجوز. [24/ 184 - 185]
2842 -
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُن يُصَلِّي قَبْلَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْأَذَانِ شَيْئًا وَلَا نَقَلَ هَذَا عَنْهُ أَحَدٌ. [24/ 188]
2843 -
وَلهَذَا كَانَ جَمَاهِيرُ الْأئِمَّةِ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ قَبْلَ الْجُمُعَةِ سُنَّةٌ مُؤَقَّتَةٌ بِوَقْتٍ مُقَدَّرَةٌ بِعَدَد. [24/ 189]
2844 -
الصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ قَبْلَ الْجُمُعَةِ سُنَّة رَاتِبَةٌ مُقَدَّرَةٌ، وَلَو كَانَ الْأَذَانَانِ عَلَى عَهْدِهِ، فَإِنَّهُ قَد ثَبَتَ عَنْهُ فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّهُ قَالَ:"بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ، بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صلَاةٌ، بَيْنَ كلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: لِمَن شَاءَ"
(1)
؛ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً.
ويتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْأَذَانُ لَمَّا سَنَّهُ عُثْمَانُ وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمونَ عَلَيْهِ صَارَ أَذَانًا شَرْعِيًّا، وَحِينَئِذٍ فَتَكُونُ الصَّلَاةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَذَانِ الثَّانِي جَائِزَةً حَسَنَةً، وَلَيْسَتْ سُنَّةً رَاتِبَةً؛ كَالصَّلَاةِ قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ.
وَحِينَئِذٍ فَمَن فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ، وَمَن تَرَكَ ذَلِكَ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ، وَكَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَد يَدُلُّ عَلَيْهِ.
وَحِينَئذٍ فَقَد يَكُونُ تَرْكُهَا أَفْضَلَ إذَا كَانَ الْجُهَّالُ يَظُنُّونَ أَنَّ هَذِهِ سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ، أَو أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، فَتُتْرَكُ حَتَّى يَعْرِفَ النَّاسُ أَنَّهَا لَيْسَتْ سُنَّةً رَاتِبَةً وَلَا وَاجِبَةً، لَا سِيَّمَا إذَا دَاوَمَ النَّاسُ عَلَيْهَا، فَيَنْبَغِي تَرْكُهَا أَحْيَانًا حَتَّى لَا تُشْبِهَ الْفَرْضَ، كَمَا اسْتَحَبَّ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُدَاوَمَ عَلَى قِرَاءَةِ السَّجْدَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَعَ أَنَّهُ قَد ثَبَتَ
(1)
رواه البخاري (627)، ومسلم (838).
فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَهَا، فَإِذَا كَانَ يُكْرَة الْمُدَاوَمَةَ عَلَى ذَلِكَ: فَتَرْكُ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى مَا لَمْ يَسُنَّهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أوْلَى. [24/ 193 - 194]
2845 -
إذَا خَشِيَ فَوْتَ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ يُسْرعُ حَتَّى يُدْرِكَ مِنْهَا رَكْعَة فَأَكْثَرَ، وَأَمَّا إذَا كَانَ يُدْرِكُهَا مَعَ الْمَشْيِ وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ، فَهَذَا أَفْضَلُ بَل هُوَ السُّنَّةُ
(1)
. [24/ 204]
2846 -
لَيْسَتْ قِرَاءَةُ {الم (1) تَنْزِيلُ} [السجدة: 1، 2] الَّتِي فِيهَا السَّجْدَةُ وَلَا غَيْرِهَا مِن ذَوَاتِ السُّجُودِ وَاجِبَةً فِي فَجْرِ الْجُمُعَةِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَمَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ وَاجِبًا، أَو ذَمَّ مَن تَرَكَ ذَلِكَ فَهُوَ ضَالٌّ مُخْطِئٌ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ مِن ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ.
وَإِنَّمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ وَكَرَاهِيَتِهِ:
فَعِنْدَ مَالِكٍ: يُكرَهُ أَنْ يُقْرَأَ بِالسَّجْدَةِ فِي الْجَهْرِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ، كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد.
وَعِنْدَ مَالِكٍ: يُكْرَة أَنْ يَقْصِدَ سُورَةً بِعَيْنِهَا.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فَيَسْتَحِبُّونَ مَا جَاءَت بِهِ السُّنَةُ مِثْل الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي الْجُمُعَةِ، وَالذَّارِيَاتُ وَاقْتَرَبَتْ فِي الْعِيدِ، {الم (1) تَنْزِيلُ} [السجدة: 1، 2] وَ {هَلْ أَتَى} [الإنسان: 1] فِي فَجْرِ الْجُمُعَةِ.
لَكِنْ هُنَا مَسْأَلَتَانِ نَافِعَتَانِ:
(1)
وقال الشيخ أيضًا: "وإن خشي فوات الجماعة أو الجمعة بالكلية، فلا ينبغي أن يكره له الإسراع هنا؛ لأن ذلك لا ينجبر إذا فات". اهـ. شرح العمدة (598).
وقال سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله: "واختار بعضهم أَيضًا: أَنه إِذا خشي فوات الجماعة أو الجمعة فله العجلة، وذلك أنه شيء لا بدل له، فيكون ما اختاره الشيخ هو ارتكاب إِحدى المفسدتين لتفويت أعلاهما، فمفسدة فوت الجمعة أَو الجماعة أَكبر؛ لأَنهما واجبان، والعجلة منهي عنها إِلا أنه نهي كراهة". اهـ. فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ (2/ 148).
إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُقْرَأَ بِسُورَةٍ فِيهَا سَجْدَةٌ أخْرَى بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، فَلَيْسَ الِاسْتِحْبَابُ لِأَجْلِ السُّجْدَةِ؛ بَل لِلسُّورَتَيْنِ، وَالسُّجْدَةُ جَاءَت اتِّفَاقًا، فَإِنَّ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ فِيهِمَا ذِكْرُ مَا يَكُونُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنَ الْخَلْقِ وَالْبَعْثِ.
الثَّانِيَةُ: أنَّهُ لَا يَنْبَغِي الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا بِحَيْثُ يَتَوَهَّمُ الْجُهَّالُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَأَنَّ تَارِكَهَا مُسِيءٌ؛ بَل يَنْبَغِي تَرْكُهَا أَحْيَانًا لِعَدَمِ [اعتقاد]
(1)
وُجُوبِهَا.
وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ السُّورَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا؛ فَالسُّنَّةُ قِرَاءَتُهُمَا بِكَمَالِهِمَا. [24/ 204 - 206]
2847 -
وَسُئِلَ: عَمَّن أَدْرَكَ رَكْعَةً مِن صَلَاةِ الْجُمُعَةِ ثُمَّ قَامَ ليَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ.
فَهَل يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ أَمْ لَا؟
فَأَجَابَ: بَل يُخَافِتُ بِالْقِرَاءَةِ وَلَا يَجْهَرُ؛ لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ إذَا قَامَ يَقْضِي فَإِنَّهُ مُنْفَرِدٌ فِيمَا يَقْضِيهِ، حُكْفهُ حُكْمُ الْمُنْفَرِدِ
(2)
، وَهُوَ فِيمَا يُدْرِكُهُ فِي حُكْمِ الْمُؤتَمِّ؛ وَلهَذَا يَسْجُدُ الْمَسْبُوقُ إذَا سَهَا فِيمَا يَقْضِيهِ. [24/ 207]
2848 -
إذَا اجْتَمَعَ الْجُمُعَةُ وَالْعِيدُ فِي يَوْمٍ وَاحِدِ فَلِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى مَن شَهِدَ الْعِيدَ كَمَا تَجِبُ سَائِرُ الْجُمَعِ؛ للعمومات الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْجُمُعَةِ.
وَالثَّانِي: تَسْقُطُ عَن أَهْلِ الْبِرِّ مِثْل أَهْلِ الْعَوَالِي وَالسّوَاد
(3)
.
(1)
ما بين المعقوفتين يقتضيه السياق.
(2)
وعلى هذا؛ فلا يجوز المرور بين يديه إذا قام يقضي ما عليه، وكثيرٌ من الناس يتساهل في هذا، وخاصّهً الذين في الصّفّ الأول، حيث يخرج بعضُهم مسرعًا فيضطر إلى المرور بين يدي بعض المصلين.
(3)
في الأصل: (وَالشَّوَاذِّ)، ولعل الصواب المثبت، ويدل عليه قول الشيخ في جوابه للسؤال الذي بعده: وَالثَّانِي: أَنَّ الْجُمُعَةَ سَقَطَتْ عَن السَّوَادِ الْخَارجِ عَن الْمِصْرِ ..
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ -وَهُوَ الصَّحِيحُ-: أَنَّ مَن شَهِدَ الْعِيدَ سَقَطَتْ عَنْهُ الْجُمُعَةُ، لَكِنْ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُقِيمَ الْجُمُعَةَ لِيَشْهَدَهَا مَن شَاءَ شُهُودَهَا وَمَن لَمْ يَشْهَدِ الْعِيدَ، وَهَذَا هُوَ الْمَأثُورُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ؛ كَعُمَر وَعُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِمْ رضي الله عنهم، وَلَا يُعْرَفُ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ.
وَأَصْحَابُ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ لَمْ يَبْلُغْهُم مَا فِي ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا اجْتَمَعَ فِي يَوْمِهِ عِيدَانِ صَلَّى الْعِيدَ ثُمَّ رَخَّصَ فِي الْجُمُعَةِ.
وَفِي إيجَابِهَا عَلَى النَّاسِ تَضْيِيقٌ عَلَيْهِمْ، وَتَكْدِيرٌ لِمَقْصُودِ عِيدِهِمْ، وَمَا سُنَّ لَهُم مِنَ السُّرُورِ فِيهِ وَالِانْبِسَاطِ.
وَلِأَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عِيدٌ ويوْمَ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ عِيدٌ، وَمِن شَأْنِ الشَّارعِ إذَا اجْتَمَعَ عِبَادَتَانِ مِن جِنْسٍ وَاحِدٍ أَدْخَلَ إحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى، كَمَا يُدْخِلُ الْوُضُوءَ فِي الْغُسْلِ وَأَحَدَ الْغُسْلَيْنِ فِي الْآخَرِ. [24/ 210 - 211]
2849 -
أَفْضَلُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ يَوْمُ الْجُمْعَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَأَفْضَلُ أَيَّامِ الْعَامِ هُوَ يَوْمُ النَّحْرِ.
وَفِيهِ مِن الْأَعْمَالِ مَا لَا يُعْمَلُ فِي غَيْرِهِ: كَالْوُقُوفِ بمزدلفة وَرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَحْدَهَا وَالنَّحْرِ وَالْحَلْقِ وَطَوَافِ الْإِفَاضَةِ، فَإِنَّ فِعْلَ هَذِهِ فِيهِ أَفْضَلُ بِالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. [25/ 288]
2850 -
كان صلى الله عليه وسلم إذا صلى الجمعة دخل إلى منزله فصلى ركعتين سُنَّتها، وأمر من صلاها أن يصلي بعدها أربعًا.
قال شيخنا أبو العباس: إن صلى في المسجد صلى أربعًا، وإن صلى في بيته صلى ركعتين. [المستدرك 3/ 129]
2851 -
قَالَ صلى الله عليه وسلم: "لَقَد هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُم حُزَمٌ مِن حَطَب إِلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ
الصُّلَاةَ، فَاُحَرِّقَ عَلَيْهِم بُيُوتَهُم بِالنَّارِ، لَوْلَا مَا فِي الْبُيُوتِ مِن النَّسَاءِ وَالذُّرِّيةِ"
(1)
.
فَكَانَ يَدَعُ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ الْوَاجِبَةَ لِأَجْلِ عُقُوبَةِ الْمُتَخَلِّفِينَ، فَإِنَّ هَذَا مِن بَابِ الْجِهَادِ الَّذِي قَد يَضِيقُ وَقْتُهُ، فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ.
وَلَو أَنَّ وَليَّ الْأَمْرِ -كَالْمُحْتَسِبِ وَغَيْرِهِ- تَخَلَّفَ بَعْضَ الْأَيَّامِ عَن الْجُمُعَةِ لِيَنْظُرَ مَن لَا يُصَلِّيهَا فَيُعَاقِبَة جَازَ ذَلِكَ، وَكَانَ هَذَا مِن الْأَعْذَارِ الْمُبِيحَةِ لِتَرْكِ الْجُفعَةِ، فَإِنَّ عُقُوبَةَ أُولَئِكَ وَاجِبٌ مُتَعَيَّنٌ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ. [23/ 164 - 165]
* * *
(بَابُ صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ)
2852 -
من شرطها الاستيطان، وعدد الجمعة، ويفعلها المسافر والعبد والمرأة تبعًا، ولا يستحب قضاؤها لمن فاتته منهم، وهو قول اْبي حنيفة. [المستدرك 3/ 129]
2853 -
صَلَاةُ الْعِيدِ قَد ثَبَتَ عَن عَلِيٍّ أَنَّهُ اسْتَخْلَفَ مَن صَلَّى بِالنَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ أَرْبَعًا: رَكْعَتَيْنِ لِلسنَّةِ وَرَكْعَتَيْنِ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَخْرُجُوا إلَى الصَّحْرَاءِ
(2)
.
فَصَلَاةُ الظُّهْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَصَلَاةُ الْعِيدَيْنِ
(3)
تُفْعَلُ تَارَةً اثْنَتَيْنِ، وَتَارَةً أرْبَعًا؟ كَصَلَاةِ الْمُسَافِرِ، بِخِلَافِ صَلَاةِ الْفَجْرِ. [24/ 100 - 102]
(1)
رواه البخاري (644) ومسلم (651)، سوى لفظ:"لَوْلَا مَا فِي الْبُيُوتِ مِن النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ"، فقد رواه الإمام أحمد (8796)، وغيرُه.
(2)
وورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ا من فاته العيد فليصل أربعًا"، ولكنه منقطع كما قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل (3/ 121).
(3)
عند الحنابلة: أنّ السُّنَّةَ لِمَن فَاتَتْهُ أو بَعْضُهَا قَضَاؤُهَا عَلَى صِفَتِهَا.
قال ابن عثيمين رحمه الله في شرحه لهذه العبارة في الزاد؛ أي: صفة الصلاة ركعتين بالتكبيرات الزوائد.
هذا هو المذهب أن قضاءها سُنَّة، وأن الأفضل أن يكون على صفتها.
وعلى هذا فلو ترك القضاء فلا إثم عليه. =
2854 -
لَمْ يَكُن أَحَدٌ يُصَلِّي صَلَاةَ الْعِيدِ بِالْمَدِينَةِ إلَّا مَعَهُ صلى الله عليه وسلم، كَمَا لَمْ يَكُونُوا يُصَلُّونَ الْجُمُعَةَ إلَّا مَعَهُ، وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ مَسَاجِدُ كَثِيرَةٌ لِكُلِّ دَارٍ مِن دُورِ الْأَنْصَارِ مَسْجِدٌ، وَلَهُم إمَامٌ يُصَلِّي بِهِمْ، وَالْأَئِمَّةُ يُصَلُّونَ بِهِم الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَلَمْ يَكُونُوا يُصَلُّونَ بِهِم لَا جُمُعَة وَلَا عِيدًا.
فَعُلِمَ أَنَّ الْعِيدَ كَانَ عِنْدَهُم مِن جِنْسِ الْجُمُعَةِ لَا مِن جِنْسِ التَّطَوُّعِ الْمُطْلَقِ، وَلَا مِن جِنْسِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ تَطَوُّعٌ: مَمْنُوعٌ.
فَالْقَادِرُ يَخْرُجُ، وَالنِّسَاءُ قَادِرَاتٌ عَلَى الْخُرُوجِ فَيَخْرُجْنَ وَلَا يُصَلِّينَ وَحْدَهُنَّ، وَكَذَلِكَ مَن كَانَ مِنَ الْمُسَافِرِينَ فِي الْبَلَدِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُم أَنْ يُصَلُّوا مَعَ الْإِمَامِ فَلَا يُصَلُّونَ وَحْدَهُم بِإِمَام، بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُم إذَا لَمْ يُصَلُّوهَا صَلَّوْا وَحْدَهُمْ، وَإِذَا كَانُوا فِي بُيُوتِهِمْ صَلَّوْا بِإِمَامٍ كَمَا يُصَلُّونَ فِي الصَّحْرَاءِ.
وَأَمَّا مَن كَانَ يَوْمَ الْعِيدِ مَرِيضًا أَو مَحْبُوسًا وَعَادَتُهُ يُصَلِّي الْعِيدَ فَهَذَا لَا يُمْكِنُهُ الْخرُوجُ، فَهَؤُلَاءِ بِمَنْزِلَةِ الَّذِينَ اسْتَخْلَفَ عَلِيٌّ مَن يُصَلِّي بِهِم فَيُصَلُّونَ
= ولو قضاها كراتبة من الرواتب فجائز؛ لأن كونها على صفتها على سبيل الأفضلية وليس بواجب.
والدليل على سنيّة القضاء قوله صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها اذا ذكرها".
ولكن في هذا الاستدلال نظر؛ لأن المراد بالحديثين الفريضة، أما هذه فصلاة مشروعة على وجه الاجتماع، فإذا فاتت فإنها لا تقضى إلا بدليل يدل على قضائها إذا فاتت، ولهذا إذا فاتت الرجل صلاة الجمعة لم يقضها، وإنما يصلي فرض الوقت وهو الظهر.
ولهذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أنها لا تقضى إذا فاتت، وأن من فاتته، فلا يسنّ له أن يقضيها؛ لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولأنها صلاة ذات اجتماع معين، فلا تشرع إلا على هذا الوجه.
فإن قال قائل: أليست الجمعة ذات اجتماع على وجه معين، ومع ذلك تقضى؟
فالجواب: الجمعة لا تقضى، وإنما يصلى فرض الوقت، وهو الظهر، وصلاة العيد أيضًا نقول: فات الاجتماع فلا تُقْضَى، وليس لهذا الوقت فرضٌ ولا سنّةٌ أيضًا.
فهي صلاة شُرعت على هذا الوجه، فإن أدركها الإنسان على هذا الوجه صلاها، وإلا فلا. اهـ. يُنظر: الشرح الممتع (5/ 155 - 156).
جَمَاعَةً وَفُرَادَى، وَيُصَلُّونَ أَرْبَعًا كَمَا يُصَلُّونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِلَا تَكْبِيرٍ وَلَا جَهْرٍ بِالْقِرَاءَةِ، وَلَا أَذَانٍ وَإِقَامَةٍ؛ لِأَنَّ الْعِيدَ لَيْسَ لَهُ أَذَانٌ وَإِقَامَةٌ.
وَالْجُمُعَةُ كُلُّ مَن فَاتَتْهُ صَلَّى الظُّهْرَ؛ لِأَنَّ الظُّهْرَ وَاجِبَةٌ فَلَا تَسْقُطُ إلَّا عَمَّن صَلَّى الْجُمُعَةَ فَلَا بُدَّ لِكُلّ مَن كَانَ مِن أَهْلِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ أَنْ يُصَلِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إمَّا الْجُمُعَةَ وَإِمَّا الظُّهْرَ وَلهَذَا كَانَ النِّسَاءُ وَالْمُسَافِرُونَ وَغَيْرُهُم إذَا لَمْ يُصَلُّوا الْجُمُعَةَ صَلَّوْا ظُهْرًا.
وَأَمَّا يَوْمُ الْعِيدِ فَلَيْسَ فِيهِ صَلَاةٌ مَشْرُوعَةٌ غَيْرُ صَلَاةِ الْعِيدِ، وَإِنَّمَا تُشْرَعُ مَعَ الْإِمَامِ. [24/ 179 - 182]
2855 -
أَصَحّ الْأَقْوَالِ فِي التَّكْبِيرِ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ: أَنْ يُكَبِّرَ مِن فَجْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عَقِبَ كُلِّ صَلَاةٍ.
ويشْرَعُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَجْهَرَ بِالتَّكْبِيرِ عِنْدَ الْخُرُوجِ إلَى الْعِيدِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ.
وَصِفَةُ التَكْبِيرِ الْمَنْقُولِ عِنْدَ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ: قَد رُوِيَ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ وَللهِ الْحَمْدُ"، وَإِن قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا جَازَ. [24/ 220]
2856 -
التَّكْبِيرُ مَشْرُوعٌ فِي عِيدِ الْأَضْحَى بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَلِكَ هُوَ مَشْرُوعٌ فِي عِيدِ الْفِطْرِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد.
وَذَكَرَ ذَلِكَ الطَّحَاوِي مَذْهَبًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُم خِلَافُهُ.
لَكِنَّ التَّكْبِيرَ فِيهِ هُوَ الْمَأْثُورُ عَنِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ.
وَالتَّكْبِيرُ فِيهِ أَوْكَدُ مِن جِهَةِ أَنَّ اللهَ أَمَرَ بهِ بِقَوْلِهِ: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].
وَالتَّكْبِيرُ فِيهِ: أَوَّلُهُ مِن رُؤيَةِ الْهِلَالِ، وَآخِرُهُ انْقِضَاءُ الْعِيدِ، وَهُوَ فَرَاغُ الْإِمَامِ مِنَ الْخُطْبَةِ عَلَى الصَّحِيحِ.
وَأَمَّا التَّكْبِيرُ فِي النَّحْرِ فَهُوَ أَوْكَدُ مِن جِهَةِ أنَّهُ يُشْرَعُ أَدْبَارَ الصَّلَوَاتِ وَأَنَّهُ متَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي "السُّنَنِ" وَقَد صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ: "يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ مِنَى عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ للهِ".
وَلهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ مِن أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ أَهْلَ الْأمْصَارِ يُكَبِّرُونَ مِن فَجْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لِهَذَا الْحَدِيثِ .. وَلِأَنَّهُ إجْمَاعٌ مِن أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ. [24/ 221 - 222]
2857 -
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]، وَ"اللَّامُ" إمَّا مُتَعَلَّقَة بِمَذْكورِ: أَيْ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} ، كَمَا قَالَ:{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} .
أَو بِمَحْذُوفِ: ايْ: وَلتكْمِلُوا الْعِدَّةَ شَرَعَ ذَلِكَ، وَهَذَا أَشْهَرُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ:{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} فَيَجِبُ عَلَى الْأَوَّلِ أَنْ يُقَالَ: ويُرِيدُ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَفِيهِ وَهْنٌ.
وَاتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ مَخْصُوصَة بِتَكْبِيرٍ زَائِدٍ، وَلَعَلَّهُ يَدْخُلُ فِي التَكْبِيرِ صَلَاةُ الْعِيدِ.
وَكَانَ التَّكْبِيرُ أيْضًا مَشْرُوعًا فِي خُطْبَةِ الْعِيدِ زِيادَةً عَلَى الْخُطَبِ الجمعية، وَكَانَ التَّكْبِيرُ ايْضًا مَشْرُوعًا -عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ- مِن حِينِ إهْلَالِ الْعِيدِ إلَى انْقِضَاءِ الْعِيدِ إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ
(1)
.
(1)
فلذلك يكبر الخطيب في ثنايا الخطبة لأنه مأمور بالتكبير، أما الناس فهم مشغولون بالاستماع للخطبة، فلا يُشرع لهم التكبير.
لَكِنْ هَل يَقْطَعُهُ الْمُؤْتَمُّ إذَا شَهِدَ الْمُصَلَّى لِكَوْنِهِ مَشْغُولًا بَعْدَ ذَلِكَ بِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ؟
أَو يَقْطَعُهُ بِالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ لِلِاشْتِغَالِ عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ؟
أَو لَا يَقْطَعُهُ إلَى انْقِضَاءِ الْخُطْبَةِ؟
فِيهِ خِلَافٌ عَن أَحْمَد وَغَيْرِهِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إلَى آخِرِ الْعِيدِ.
وَقَد قَالَ تَعَالَى فِي الْحَجِّ {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28] فَقِيلَ: الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ: هِيَ أَيَّامُ الذَّبْحِ، وَذِكْرُ اسْمِ اللهِ: التَّسْمِيَةُ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ وَالْهَدْيِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي رِوَايَةٍ.
وَقِيلَ: هِيَ أَيَّامُ الْعَشْرِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَن أَحْمَد وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ.
ثُمَّ ذِكْرُ اسْمِ اللهِ فِيهَا هُوَ ذِكْرُهُ فِي الْعَشْرِ بِالتَكْبِيرِ عِنْدَنَا، وَقِيلَ هُوَ ذِكْرُهُ عِنْدَ رُؤيَةِ الْهَدْيِ.
وَفِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" أَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ كَانَا يَخْرُجَانِ إلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ فَيُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْكتَابُ وَالسُّنَّةُ قَد أَمَرَا بِذِكْرِهِ فِي الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ، فَهَلَّا شُرِعَ التَكْبِيرُ فِيهَا فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ كَمَا شُرعَ فِي أَيَّامِ الْعِيدِ؟
قِيلَ: إنَّمَا شُرعَ التَّكْبِيرُ فِي لَيْلَةِ الْفِطْرِ إلَى حِينِ انْقِضَاءِ الْعِيدِ وَلَمْ يُشْرَعْ عَقِبَ الصَّلَاةِ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ عَقِبَ الصَّلَاةِ أَوْكَدُ، فَاخْتُصَّ بِهِ الْعِيدُ الْكَبِيرُ، وَأَيَّامُ الْعِيدِ خَمْسَةٌ هِيَ أَيَّامُ الِاجْتِمَاعِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ مِنَى عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْب"
(1)
، وَقَد قَالَ تَعَالَى:
(1)
صحَّحه الألباني في صحيح أبي داود (2419).
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 253]، وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَنَا وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ، وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهَا أَيَّامُ الذَّبْحِ.
وَقَد ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَمَّا أشْرَفَ عَلَى خَيْبَرَ قَالَ: "اللهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ إنَّا إذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ".
وَكَانَ يُكَبِّرُ عَلَى الْأشْرَافِ مِثْل التَّكْبِيرِ إذَا رَكِبَ دَابَّةً وَإِذَا عَلَا نَشْزًا مِنَ الْأَرْضِ وَإِذَا صَعِدَ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.
وَجَاءَ التَّكْبِيرُ مُكَرَّرًا فِي الْأَذَانِ فِي أَوَّلهِ وَفِي آخِرِهِ.
وَفِي أثْنَاءِ الصَّلَاةِ وَهُوَ حَالُ الرَّفْعِ وَالْخَفْضِ وَالْقِيَامِ إلَيْهَا.
فَالتَّكْبِيرُ شُرعَ أَيْضًا لِدَفْعِ الْعَدُوِّ مِن شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالنَّارِ الَّتِي هِيَ عَدُوٌّ لَنَا، وَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ التَّكْبِيرَ مَشْرُوعٌ فِي الْمَوَاضِعِ الْكِبَارِ لِكَثْرَةِ الْجَمْعِ، أَو لِعَظَمَةِ الْفِعْلِ، أَو لِقُوَّةِ الْحَالِ، أَو نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأمُورِ الْكَبِيرَةِ؛ لِيُبَيِّنَ أَنَّ اللهَ أَكْبَرُ، وَتَسْتَوْلِيَ كِبْرِيَاؤُهُ فِي الْقُلُوبِ عَلَى كِبْرِيَاءِ تِلْكَ الْأُمُورِ الْكِبَارِ، فَيَكُونُ الدّينُ كُلّهُ للهِ، ويكُونُ الْعِبَادُ لَهُ مُكَبّرِينَ، فَيَحْصُلُ لَهُم مَقْصُودَانِ:
أ- مَقْصُودُ الْعِبَادَةِ بِتَكْبِيرِ قُلُوبِهِم للهِ.
ب- وَمَقْصُودُ الِاسْتِعَانَةِ بِانْقِيَادِ سَائِرِ الْمَطَالِبِ لِكِبْرِيَائِهِ.
فَجِمَاعُ هَذَا: أَنَّ التكْبِيرَ مَشْرُوعٌ عِنْدَ كُلّ أَمْرٍ كَبِيرٍ مِن مَكَانٍ وَزَمَانٍ، وَحَالٍ وَرِجَالٍ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ اللهَ أَكْبَرُ لِتَسْتَوْلِيَ كِبْرِيَاؤُهُ فِي الْقُلُوبِ عَلَى كِبْرِيَاءِ مَا سِوَاهُ، ويَكُونَ لَهُ الشَّرَفُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ. [24/ 223 - 230]
2858 -
ذِكْرُ الْأَعْيَادِ اجْتَمَعَ فِيهِ التَّعْظِيمُ وَالنِّعْمَةُ، فَجَمَعَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْحَمْدِ؛ فَاللهُ أَكْبَرُ عَلَى مَا هَدَانَا وَالْحَمْدُ للهِ عَلَى مَا أَوْلَانَا.
وَقَد رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّه كَانَ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا وَيَقُولُ: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ.
فَيُشَبِّهُهُ بِذِكْرِ الأشْرَافِ فِي تَثْلِيثِهِ وَضَمِّ التَّهْلِيلِ إلَيْهِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ.
وَأَمَّا أَحْمَد وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْزهُمَا فَاخْتَارُوا فِيهِ مَا رَوَوْهُ عَن طَائِفَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَرَوَاهُ الدارقطني مِن حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إلَّا اللهُ وَالله أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ وَللهِ الْحَمْدُ"، فَيشفعُونَهُ مَرَّتَيْنِ، ويقْرِنُونَ بِهِ فِي إحْدَاهُمَا التَّهْلِيلَ وَفِي الْأُخْرَى الْحَمْدَ، تَشْبِيهًا لَهُ بِذِكْرِ الْأَذَانِ، فَإِنَّ هَذَا بِهِ أَشْبَهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالصَّلَاةِ، وَلِأَنَّهُ فِي الْأعْيَادِ الَّتِي يُجْتَمَعُ فِيهَا اجْتِمَاعًا عَامًّا، كَمَا أَنَّ الْأَذَانَ لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ، فَشَابَهَ الْأَذَانَ فِي أَنَّهُ تَكْبِيرُ اجْتِمَاع لَا تَكْبِيرُ مَكَانٍ، وَأَنَّهُ مُتَعَلِّق بِالصَّلَاةِ لَا بِالشَّرَفِ، فَشُرعَ تَكْرِيرُهُ كَمَا شُرعَ تَكْرِيرُ تَكْبِيرِ الْأَذَانِ، وَهُوَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مَشْفُوعٌ، وَكلُّ الْمَأْثُورِ حَسَن.
وَقَاعِدَتُنَا فِي هَذَا الْبَابِ أَصَحُّ الْقَوَاعِدِ: أَنَّ جَمِيعَ صِفَاتِ الْعِبَادَاتِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ إذَا كَانَت مَأْثُورَةً أَثَرًا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهِ لَمْ يُكْرَهْ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ، بَل يُشْرَعُ ذَلِكَ كُلُّهُ. [24/ 241 - 244]
2859 -
التَّهْنِئَةُ يَوْمَ الْعِيدِ: يَقُولُ بَعْضُهُم لِبَعْضٍ إذَا لَقِيَهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ: تَقَبَّلَ الله مِنَّا وَمِنْكُمْ، وَأَحَالَة اللهُ عَلَيْك وَنَحْوُ ذَلِكَ: فَهَذَا قَد رُوِيَ عَن طَائِفَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُم كَانُوا يَفْعَلُونَهُ وَرَخَّصَ فِيهِ الْأَئِمَّةُ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ.
لَكِنْ قَالَ أَحْمَد: أَنَا لَا أَبْتَدِئُ أَحَدًا فَإِنْ ابْتَدَأَنِي أَحَدٌ أَجَبْته.
وَذَلِكَ لِأَنَّ جَوَابَ التَّحِيَّةِ وَاجِبٌ
(1)
، وَأَمَّا الِابْتِدَاءُ بِالتَّهْنِئَةِ فَلَيْسَ سُنَّةً
(1)
الشيخ يرى وجوب جواب التحية مطلقًا ما لم تكن محرمة، فليس الوجوب مختصًّا بالسلام، أخذا بظاهر القرآن:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] قال العلَّامة السعدي رحمه الله: التحية هي: اللفظ الصادر من أحد المتلاقيين على وجه الإكرام والدعاء، وما يقترن بذلك اللفظ من البشاشة ونحوها.
وأعلى أنواع التحية ما ورد به الشرع، من السلام ابتداء وردًّا، فأمر تعالى المؤمنين أنهم إذا حُيّوا بأي تحية كانت أن يردوها بأحسن منها لفظًا وبشاشة، أو مثلها في ذلك.
ومفهوم ذلك النهي عن عدم الرد بالكلية أو ردها بدونها. =
مَأْمُورًا بِهَا وَلَا هُوَ أَيْضًا مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ، فَمَن فَعَلَهُ فَلَهُ قُدْوَةٌ، وَمَن تَرَكَهُ فَلَهُ قُدْوَةٌ. [24/ 253]
2860 -
الذي يدل عليه كلام أحمد في أكثر المواضع، وهو الذي تدل عليه السُّنَّة وآثار السلف أن الاجتماع على جنس القرب والعبادات كالاجتماع على الصلاة أو القراءة وسماعها، أو ذكر الله تعالى، أو دعائه أو تعليم العلم أو غير ذلك نوعان:
أ- نوعٌ شُرع الاجتماع له على وجه المداومة، وهو قسمان:
2861 -
قسم مؤقت يدور بدوران الأوقات؛ كالجمعة والعيدين، والحج، والصلوات الخمس.
2862 -
وقسم مسبب
(1)
، ويتكرر بتكرر الأسباب؛ كصلاة الاستسقاء والكسوف والآيات، والقنوت في النوازل.
وما لم يشرع فيه الجماعة: كصلاة الاستخارة وصلاة التوبة، وصلاة ركعتين بعد الوضوء، وتحية المسجد ونحو ذلك مما لم يذكر نوعه في باب صلاة التطوع والأوقات المنهي عن الصلاة فيها.
ب- والنوع الثاني: ما لم يسن له الاجتماع المعتاد الدائم كالتعريف في الأمصار، والدعاء المجتمع عليه بعد الفجر والعصر، والصلاة والتطوع المطلق في جماعة، والاجتماع لسماع القرآن وتلاوته، أو سماع العلم والحديث ونحو ذلك، فهذه الأمور لا يكره الاجتماع لها مطلقًا، ولم يسن مطلقًا؛ بل المداومة عليها بدعة، فيستحب أحيانًا، ويباح أحيانًا، وتكره المداومة عليها، وهذا هو الذي نص عليه أحمد في الاجتماع على الدعاء والقراءة والذكر ونحو ذلك.
= ويدخل في رد التحية كل تحية اعتادها الناس وهي غير محظورة شرعًا، فإنه مأمور بردّها وبأحسن منها. تفسير السعدي (1/ 191).
(1)
وهو ما له سبب وليس له وقت محدود.
والتفريق بين السُّنَّة والبدعة في المداومة: أمرٌ عظيم ينبغي التفطن له. [المستدرك 3/ 133 - 134]
2863 -
ليس الخميس مِن أعيادِ المسلمين؛ بل هو من أعياد النصارى كعيد الميلاد، وعيد الغطاس، لكل أمة قبلة، وليس لأهل الذمة أن يعينوهم على أعيادهم في بلاد المسلمين، وليس للمسلمين أن يعينوهم على أعيادهم لا ببيع ما يستعينون به على عيدهم ولا بإجارة دوابهم ليركبوها في عيدهم؛ لأن أعيادهم مما حرمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لما فيها من الكفر والفسوق والعصيان.
وأما إذا فعل المسلمون معهم أعيادهم مثل صبغ البيض وتحمير دوابهم بمغرة وبخور وتوسيع النفقات وعمل طعام فهذا أظهر من أن يحتاج إلى سؤال؛ بل قد نص طائفة من العلماء من أصحاب أبي حنيفة ومالك على كفر من يفعل ذلك.
وقال بعضهم: من ذبح بطيخة في عيدهم فكأنما ذبح خنزيرًا. [المستدرك 3/ 130]
2864 -
لو تشَبَّه المسلمُ باليهودِ والنصارى في شيء من الأمور المختصة بهم لنهي عن ذلك باتفاق العلماء وإن كان أصل ذلك جائزًا، وإذا لم يكن من شعارهم مثل لباس الأصفر، ونحوه فإن هذا جائز في الأصل، لكن لما صار شعار الكفر لم يجز لأحد من المسلمين أن يخص مواسمهم بشيء مما يخصونها به، فليس للمسلم أن يخص خميسهم الحقير بتجديد طعام الرز والعدس والبيض المصبوغ وغير ذلك، ومن فعل ذلك على وجه العبادة والتقرب به واعتقاد التبرر به فإنه يعرف دين الإسلام وأن هذا ليس منه بل هو ضده ويستتاب منه فإن تاب وإلا قتل.
وليس لأحدٍ أن يجيب دعوة مسلم يعمل في أعيادهم مثل هذه الأطعمة
ولا يحل له أن يأكل من ذلك؛ بل لو ذبحوا هم في أعيادهم شيئًا لأنفسهم ففي جواز أكل المسلم من ذلك نزاع بين العلماء، والأصح عدم الجواز، لكونهم يذبحونها على وجه القربان، فصار من جنس ما ذبح على النصب وما أُهلَّ به لغير الله.
وأما ذبح المسلم لنفسه في أعيادهم على وجه القربة فكفرٌ بَيِّن، كالذبح للنصب، ولا يجوز الأكل من هذه الذبيحة بلا ريب، ولو لم يقصد التقرب بذلك بل فعله لأنه عادة أو لتفريح أهله فمانه يحرم عليه ذلك، واستحق العقوبة البليغة إن عاد إلى مثل ذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم:"ليس منا من تشبه بغيرنا"
(1)
و"من تشبه بقوم فهو منهم"
(2)
، وقد بسطنا ذلك في كتابنا: اقتضاء الصراط المستقيم، وذكرنا دلائل ذلك كلها.
وسأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أذبح ببوانة فهل أوف بنذري؟ فقال: "إن كان بها عيد من أعياد المشركين أو وثن فلا تذبح بها"
(3)
.
فنهاه أن يذبح في مكان كانوا يتخذونه في الجاهلية عيدًا، لئلا يكون ذبحُه ذريعةً إلى إحياء سنن الكفر، فكيف بمن يظهر شعائر كفرهم وإفكهم؟ وإن كان لا يعلم أنه من خصائص دينهم بل يفعله على وجه العادة فهي عادة جاهلية مأخوذة عنهم، ليس هذا من عادات المسلمين التي أخذوها عن المؤمنين.
وقد كره السلف صيام أيام أعيادهم ديان لم يقصد تعظيمها فكيف بتخصيصها بمثل ما يفعلونه هم؟
بل قد نهى أئمة الدين عن أشياء ابتدعها بعض الناس من الأعياد وإن لم
(1)
رواه الترمذي (2695)، وحسَّنه الألباني في صحيح الترمذي.
(2)
رواه أبو داود (4531)، وأحمد (5114)، وقال الألباني في صحيح أبي داود: حسن صحيح.
(3)
رواه أبو داود (3313)، وابن ماجه (2130)، وأحمد (27066)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.
تكن من أعياد الكفار، كما يفعلونه في يوم عاشوراء، وفي رجب، وفي ليلة نصف شعبان، ونحو ذلك، فقد نهى العلماء عما أحدث في ذلك من الصلوات والاجتماعات والأطعمة والزينة وغير ذلك، فكيف باعياد المشركين، فالناهي عن هذه المنكرات من المطيعين لله ورسوله؛ كالمجاهدين في سبيله.
وينبغي لولاة الأمور التشديد في نهي المسلمين عن كل ما فيه عز للنصارى كالسؤال على بابه، وخدمته له بعوض يعطيه إياه، ويكره إجارة نفسه للخدمة في المنصوص من الروايتين، وهو مذهب مالك.
ويحرم بيعهم ما يعملونه كنيسة أو مثالًا ونحوه، وكل ما فيه تخصيص لعيدهم أو ما هو بمنزلته، قال أبو العباس: لا أعلم خلافًا أنه من التشبه بهم، والتشبه بهم منهي عنه إجماعًا، وتجب عقوبة فاعله، ولا ينبغي إجابة هذه الدعوى.
ويحرم شهودُ عيد اليهود والنصارى، ونقله مهنا عن أحمد، وبيعُه لهم فيه ما يستعينون به عليه. [المستدرك 3/ 130 - 132]
* * *
(تحريم شهود أعياد الكفار وأكل ذبائح أعيادهم)
2865 -
رَوَى البيهقي بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ فِي بَابِ: (كَرَاهِيَةِ الدُّخُولِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ عِيدِهِمْ فِي كَنَائِسِهِمْ وَالتَّشَبُّهِ بِهِم يَوْمَ نيروزهم وَمَهْرَجَانِهِمْ) عَن سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَن ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَن عَطَاءِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: قَالَ عُمَر بْن الْخَطَّابِ رضي الله عنه: "لَا تَعَلَّمُوا رَطَانَةَ الْأَعَاجِمِ وَلَا تَدْخُلُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي كنَائِسِهِمْ يَوْمَ عِيدِهِمْ؛ فَإِنَّ السُّخْطَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ"
(1)
.
فَهَذَا عُمَر قَد نَهَى عَن تَعَلُّمِ لِسَانِهِمْ، وَعَن مُجَرَّدِ دُخُولِ الْكَنِيسَةِ عَلَيْهِم
(1)
قال ابن القيِّم في أحكام أهل الذمة (3/ 1247): إسناده صحيح.
يَوْمَ عِيدِهِمْ، فَكَيْفَ مَن يَفْعَلُ بَعْضَ أَفْعَالِهِمْ؟ أو قَصَدَ مَا هُوَ مِن مُقْتَضَيَاتِ دِينِهِمْ؟
أَلَيْسَتْ مُوَافَقَتهُم فِي الْعَمَلِ أَعْظَمَ مِن مُوَافَقَتِهِمْ فِي اللُّغَةِ؟
أوَلَيْسَ عَمَلُ بَعْضِ أَعْمَالِ عِيدِهِمْ أَعْظَمَ مِن مُجَرَّدِ الدُّخُولِ عَلَيْهِم فِي عِيدِهِمْ؟
وَإِذَا كَانَ السُّخْطُ يَنْزِلُ عَلَيْهِم يَوْمَ عِيدِهِمْ بِسَبَبِ عَمَلِهِمْ فَمَن يُشْرِكهُم فِي الْعَمَلِ أَو بَعْضِهِ أَلَيْسَ قَد تَعَرَّضَ لِعُقُوبَةِ ذَلِكَ؟
ثُمَّ قَوْلُهُ: "اجْتَنِبُوا أَعْدَاء اللهِ فِي عِيدِهِمْ" ألَيْسَ نَهْيًا عَن لِقَائِهِمْ وَالِاجْتِمَاعِ بِهِم فِيهِ؟ فَكَيْفَ بِمَن عَمِلَ عِيدَهُمْ؟
(1)
.
وَنَصَّ الْإِمَامِ أحْمَد عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ شُهُودُ أَعْيَادِ الْيَهُود وَالنَّصَارَى، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72]، قَالَ: الشَّعَانِينُ
(2)
وَأَعْيَادُهُمْ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ مِن أَصْحَابِ مَالِكٍ: فَلَا يُعَاوَنُونَ عَلَى شَيءٍ مِن عِيدِهِمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِن تَعْظِيمِ شِرْكِهِمْ وَعَونهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَيَنْبَغِي لِلسَّلَاطِينِ أَنْ يَنْهَوُا الْمُسْلِمِينَ عَن ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِك وَغَيْرِهِ، لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِيهِ.
وَأَكْلُ ذَبَائِحِ أعْيَادِهِمْ دَاخِلٌ فِي هَذَا الَّذِي اُجْتُمِعَ عَلَى كَرَاهِيَتِهِ؛ بَل هُوَ عِنْدِي أَشَدُّ.
وَبِالْجُمْلَةِ: لَيْسَ لَهُم اُّنْ يَخُصُّوا أعْيَادَهُم بِشَيْءٍ مِن شَعَائِرِهِمْ؛ بَل يَكونُ يَوْمُ عِيدِهِمْ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ كَسَائِرِ الْأيَّامِ، لَا يَخُصُّهُ الْمُسْلِمُونَ بِشَيءٍ مِن خَصَائِصِهِمْ.
(1)
وبنى كنائسهم في بلاد الإسلام وخاصةً في جزيرة العرب؟
(2)
عيد الشّعانين: عيد نصرانيّ، يقع يوم الأحد السابق لعيد الفصح، يُحتفل فيه بذكرى دخول المسيح عليه السلام بيتَ المقدس. معجم اللغة العربية المعاصرة (2/ 1211).
وَفِي "سُنَنِ أَبِي دَاوُد" عَن ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: "نَذَرَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَنْحَرَ إبلًا ببوانة، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنِّي نَذَرْت أَنْ أَنْحَرَ إبِلًا ببوانة، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "هَل كانَ فِيهَا مِن وَثَنٍ يُعْبَدُ مَن دُونِ اللهِ مِن أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ: "فَهَل كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِن أَعْيَادِهِمْ؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوْفِ بِنَذْرِك، فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ .. ""
(1)
.
فَإِذَا كَانَ الذَّبْحُ بِمَكَانٍ كَانَ فِيهِ عِيدُهُم مَعْصِيَةً فَكَيْفَ بِمُشَارَكَتِهِمْ فِي نَفْسِ الْعِيدِ؟
وَقَد كَرِهَ جُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ - إمَّا كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ أَو كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ - أَكْلَ مَا ذَبَحُوهُ لِأَعْيَادِهِمْ وَقَرَابِينِهِمْ؛ إدْخَالًا لَهُ فِيمَا أهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ، وَكَذَلِكَ نُهُوا عَن مُعَاوَنَتِهِمْ عَلَى أَعْيَادِهِمْ بِإِهْدَاءٍ أَو مُبَايَعَةٍ وَقَالُوا: إنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَبِيعُوا لِلنَّصَارَى شَيْئًا مِن مَصْلَحَةِ عِيدِهِمْ لَا لَحْمًا وَلَا دَمًا وَلَا ثَوْبًا، وَلَا يُعَارُونَ دَابَّةً، وَلَا يَعَاوَنُونَ عَلَى شَيْءٍ مِن دِينِهِمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِن تَعْظِيمِ شِرْكِهِمْ وَعَوْنِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَيَنْبَغِي لِلسَّلَاطِينِ أَنْ يَنْهَوا الْمُسْلِمِينَ عَن ذَلِكَ؛ لِأنَ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. [25/ 325 - 332]
* * *
(بَابُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ)
2866 -
الْخُسُوفُ وَالْكُسُوفُ لَهُمَا أَوْقَاتٌ مُقَدَّرَةٌ، كَمَا لِطُلُوعِ الْهِلَالِ وَقْتٌ مُقَدَّرٌ، وَذَلِكَ مَا أَجْرَى اللهُ عَادَتَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ وَسَائِرِ مَا يَتْبَعُ جَرَيَانَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَذَلِكَ مِن آيَاتِ اللهِ تَعَالَى.
(1)
رواه أبو داود (3313) وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
وَكَمَا أَنَّ الْعَادَةَ الَّتِي أَجْرَاهَا اللهُ تَعَالَى أَنَّ الْهِلَالَ لَا يَسْتَهِلُّ إلَّا لَيْلَةَ ثَلَاثِينَ مِنَ الشَّهْرِ، أَو لَيْلَةَ إحْدَى وَثَلَاثِينَ، وَأَنَّ الشَّهْرَ لَا يَكُونُ إلَّا ثَلَاثِينَ أَو تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، فَمَن ظَنَّ أَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ أَو أَقَلَّ فَهُوَ غالط.
فَكَذَلِكَ أَجْرَى اللهُ الْعَادَةَ أَنَّ الشَّمْسَ لَا تَكْسِفُ إلَّا وَقْتَ الِاسْتِسْرَارِ
(1)
، وَأنَّ الْقَمَرَ لَا يَخْسِفُ إلَّا وَقْتَ الْإِبْدَارِ، وَوَقْتُ إبْدَارِهِ هِيَ اللَّيَالِي الْبِيضُ الَّتِي يُسْتَحَبُّ صِيَامُ أَيَّامِهَا: لَيْلَةُ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالرَّابعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ؛ فَالْقَمَرُ لَا يَخْسِفُ إلَّا فِي هَذِهِ اللَّيَالِي.
وَالْهِلَالُ يَسْتَسِرُّ آخِرَ الشَّهْرِ: إمَّا لَيْلَةً وَإِمَّا لَيْلَتَيْنِ، كَمَا يَسْتَسِرُّ لَيْلَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثينَ.
وَالشَّمْسُ لَا تَكْسِفُ إلَّا وَقْتَ اسْتِسْرَارِهِ.
وَللشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لَيَالِي مُعْتَادَةٌ مَن عَرَفَهَا عَرَفَ الْكُسُوفَ وَالْخُسُوفَ، كَمَا أَنَّ مَن عَلِمَ كَمْ مَضَى مِنَ الشَّهْرِ يَعْلَمُ أَنَّ الْهِلَالَ يَطْلُعُ فِي اللَّيْلَةِ الْفُلَانِيَّةِ أَو الَّتِي قَبْلَهَا، لَكِنَّ الْعِلْمَ بِالْعَادَةِ فِي الْهِلَالِ عِلْمٌ عَامٌ يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ النَّاسِ، وَأَمَّا الْعِلْمُ بِالْعَادَةِ فِي الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ فَإِنَّمَا يَعْرِفُهُ مَن يَعْرِفُ حِسَابَ جَرَيَانِهِمَا.
وَلَيْسَ خَبَرُ الْحَاسِبِ بِذَلِكَ مِن بَابِ عِلْمِ الْغَيْبِ وَلَا مِن بَابِ مَا يُخْبِرُ بِهِ مِنَ الْأَحْكامِ الَّتِي يَكُونُ كَذِبُة فِيهَا أَعْظَمَ مِن صِدْقِهِ.
وَمَعَ هَذَا فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى خَبَرِهِمْ عِلْمٌ شَرْعِيٌّ، فَإِنَّ صَلَاةَ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ لَا تُصَلَّى إلَّا إذَا شَاهَدْنَا ذَلِكَ.
وَإِذَا جَوَّزَ الْإِنْسَان صِدْقَ الْمُخْبِرِ بِذَلِكَ أَو غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ
(2)
، فَنَوَى أَنْ
(1)
مأخوذ من السَّرَرِ، والْمُرَادُ به: آخرُ الشَهْرِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لاسْتِتِسْرارِ الْقمَرِ فيها وهيَ لَيْلَةُ ثَمانٍ وعِشْرينَ وتسْعٍ وعِشْرينَ وثلاثينَ.
قال في مختار الصحاح، مادة:(س ر ر): سَرَرُ الشَهْرِ آخِرُ لَيْلَةٍ مِنْهُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِن قَوْلِهِمْ: اسْتَسَرَّ الْقَمَرُ؛ أيْ: خَفِيَ لَيْلَةَ السِّرَارِ، فَرُبَّمَا كَانَ لَيْلَةً وَرُبَّمَا كَانَ لَيْلَتَيْنِ. اهـ.
(2)
كما هو الواقع في هذا الزمان، حيث يُعلن عن ذلك، ويستعد كثيرٌ من المسلمين لصلاة الكسوف والخسوف.
يُصَلِّيَ الْكُسُوفَ وَالْخُسُوفَ عِنْدَ ذَلِكَ وَاسْتَعَدَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ لِرُؤْيةِ ذَلِكَ: كَانَ هَذَا حَثًّا مِن بَابِ الْمُسَارَعَةِ إلَى طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ عِنْدَ الْكُسُوفِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَد تَوَاتَرَتْ بِهَا السُّنَنُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَرَوَاهَا أَهْلُ "الصَّحِيحِ" وَ"السُّنَنِ" وَ"الْمَسَانِيدِ" مِن وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَاسْتَفَاضَ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى بِالْمُسْلِمِينَ صَلَاةَ الْكُسُوفِ يَوْمَ مَاتَ ابْنُهُ إبْرَاهِيمُ. [24/ 254 - 258]
2867 -
فِي "الصَّحِيحِ": "وَلَكِنَهُمَا آيَتَانِ مِن آيَاتِ اللهِ يُخَوِّفُ بِهِمَا عِبَادَهُ"
(1)
، وَهَذَا بَيَان مِنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمَا سَبَبٌ لِنُزُولِ عَذَاب بِالنَّاسِ، فَإِنَّ اللهَ إنَّمَا يُخَوِّفُ عِبَادَهُ بِمَا يَخَافُونَهُ إذَا عَصَوْهُ وَعَصَوْا رُسُلَهُ، وَإِنَّمَا يَخَافُ النَّاسُ مِمَّا يَضُرُّهُمْ، فَلَوْلَا إمْكَانُ حُصُولِ الضَّرَرِ بِالنَّاسِ عِنْدَ الْخُسُوفِ مَا كَانَ ذَلِكَ تَخْوِيفًا، قَالَ تَعَالَى:{وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)} [الأسراء: 59]، وَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَا يُزِيلُ الْخَوْفَ، أَمَرَ بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِالنَّاسِ، وَصَلَّى بِالْمُسْلِمِينَ فِي الْكُسُوفِ صَلَاةً طَوِيلَةً. [24/ 259]
2868 -
رُوِيَ فِي صِفَةِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ أنْوَاعٌ؛ لَكِنَّ الَّذِي اسْتَفَاضَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِن غَيْرِ وَجْهٍ، وَهُوَ الَّذِي اسْتَحَبَّهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد: أَنَّهُ صَلَّى بِهِم رَكْعَتَيْنِ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَانِ، يَقْرَأُ قِرَاءَةً طَوِيلَةً، ثُمَّ يَرْكَعُ رُكُوعًا طَوِيلًا دُونَ الْقِرَاءَةِ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَقْرَأُ قِرَاءَة طَوِيلَةً دُونَ الْقِرَاءَةِ الْأولَى، ثُمَّ يَرْكَعُ رُكُوعًا دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ، وَثَبَتَ عَنْهُ فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّهُ جَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا.
وَالْمَقْصُودُ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ وَقْتَ الْكسُوفِ إلَى أَنْ يَتَجَلَّى، فَإِنْ فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ قَبْلَ التَّجَلِّي ذَكَرَ اللهَ وَدَعَاهُ إلَى أَنْ يَتَجَلَّى. [24/ 259 - 260]
(1)
رواه مسلم (911).
2869 -
الْكُسُوفُ يَطُولُ زَمَانُهُ تَارَةً وَيَقْصُرُ أُخْرَى بِحَسَبِ مَا يَكْسِفُ مِنْهَا، فَقَد تَكْسِفُ كُلُّهَا وَقَد يَكْسِفُ نِصْفُهَا أَو ثُلُثُهَا، فَإِذَا عَظُمَ الْكُسُوفُ طَوَّلَ الصَّلَاةَ حَتَّى يَقْرَأَ بِالْبَقَرَةِ وَنَحْوِهَا فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ، وَبَعْدَ الرُّكُوعِ الثَّانِي يَقْرَأُ بِدُونِ ذَلِكَ. [24/ 260]
2870 -
فِي التّرْمِذِيّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّعْدِ قَالَ: مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُوَكَّل بِالسَّحَابِ مَعَهُ مخاريق مِن نَارٍ يَسُوقُ بِهَا السَّحَابَ حَيْثُ شَاءَ الله.
وَقَد رُوِيَ عَن بَعْضِ السَّلَفِ أَقْوَالٌ لَا تُخَالِفُ ذَلِكَ؛ كَقَوْلِ مَن يَقُولُ: إنَّهُ اصْطِكَاكُ أَجْرَامِ السَّحَابِ بِسَبَبِ انْضِغَاطِ الْهَوَاءِ فِيهِ.
فَإنَّ هَذَا لَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الرَّعْدَ مَصْدَرُ رَعَدَ يَرْعدُ رَعْدًا. وَكَذَلِكَ الرَّاعِدُ يُسَمَّى رَعْدًا؛ كَمَا يُسَمَّى الْعَادِلُ عَدْلًا.
وَالْحَرَكَة تُوجِبُ الصَّوْتَ، وَالْمَلَائِكَةُ هِيَ الَّتِي تُحَرِّكُ السَّحَابَ وَتَنْقُلُهُ مِن مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ، وَكُلُّ حَرَكَةٍ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ فَهِيَ عَنِ الْمَلَائِكَةِ. [24/ 263]
2871 -
تُصلى صلاة الكسوف لكل آية كالزلزلة وغيرها، وهو قول أبي حنيفة ورواية عن أحمد، وقول محققي أصحابنا وغيرهم. [المستدرك 3/ 134]
2872 -
إِنَّ الشَّمْسَ لَا تَكْسِفُ فِي سُنَّةِ اللهِ الَّتِي جَعَلَ لَهَا إلَّا عِنْدَ الِاسْتِسْرَارِ
(1)
، إذَا وَقَعَ الْقَمَرُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَبْصَارِ النَّاسِ عَلَى مُحَاذَاةٍ مَضْبُوطَةٍ، وَكَذَلِكَ الْقَمَرُ لَا يَخْسِفُ إلَّا فِي لَيَالِي الْإِبْدَارِ، عَلَى مُحَاذَاةٍ مَضْبُوطَةٍ، لِتَحَوُّلِ الْأَرْضِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّمْسِ، فَمَعْرِفَةُ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ لِمَن صَحَّ حِسَابُهُ مِثْلُ مَعْرِفَةِ كُلِّ أَحَدٍ أَنَّ لَيْلَةَ الْحَادِيَ وَالثَّلَاثِينَ مِن الشَّهْرِ لَا بُدَّ أَنْ يَطْلُعَ الْهِلَالُ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الشَّكُّ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ. [25/ 185]
* * *
(1)
المراد بالاستسرار آخر الشهر.
(الحكمة من الصلاة عند الخسوف والكسوف)
2873 -
ثَبَتَ بِالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْعُلَمَاءُ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَمَرَ بِالصَّلَاةِ عِنْدَ كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَأَمَرَ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَقَالَ:"إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِن آيَاتِ اللهِ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ"
(1)
، وَفِي رِوَايَةٍ:"آيَتَانِ مِن آيَاتِ اللهِ يُخَوِّفُ بِهِمَا عِبَادَهُ"
(2)
.. فَذَكَرَ أَنَّ مِن حِكْمَةِ ذَلِكَ تَخْوِيفَ الْعِبَادِ؛ كَمَا يَكُونُ تَخْوِيفُهُم فِي سَائِرِ الْآيَاتِ كَالرِّيَاحِ الشَّدِيدَةِ وَالزَّلَازِلِ وَالْجَدْبِ وَالْأَمْطَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِن الْأَسْبَابِ الَّتِي قَد تَكُونُ عَذَابًا، كَمَا عَذَّبَ اللهُ أُمَمًا بِالرّيحِ وَالصَّيْحَةِ وَالطُّوفَانِ.
وَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يُنَافَي؛ لِكَوْنِ الْكُسُوفِ لَهُ وَقْتٌ مَحْدُودٌ يَكُونُ فِيهِ، حَيْثُ لَا يَكونُ كُسُوفُ الشَّمْسِ إلَّا فِي آخِرِ الشَّهْرِ لَيْلَةَ السِّرَارِ، وَلَا يَكُونُ خُسُوفُ الْقَمَرِ إلَّا فِي وَسَطِ الشَّهْرِ وَلَيَالِي الْإِبْدَارِ، وَمَن ادَّعَى خِلَافَ ذَلِكَ مِن الْمُتَفَقِّهَةِ أَو الْعَامَّةِ فَلِعَدَمِ عِلْمِهِ بِالْحِسَابِ؛ وَلهَذَا يُمْكِنُ الْمَعْرِفَة بِمَا مَضَى مِن الْكُسُوفِ وَمَا يسْتَقْبلُ، كَمَا يُمْكِنُ الْمَعْرِفَةُ بِمَا مَضَى مِن الْأَهِلَّةِ وَمَا يسْتَقْبلُ؛ إذ كُلُّ ذَلِكَ بِحِسَاب، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} [الأنعام: 96]. [35/ 168 - 175]
* * *
(صلاة الاستسقاء)
2874 -
لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ افْتَتَحَ خُطْبَتَهُ بِغَيْرِ الْحَمْدِ، لَا خُطْبَةَ عِيدٍ وَلَا اسْتِسْقَاءٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ، وَقَد قَالَ صلى الله عليه وسلم:"كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بالحمد فَهُوَ أَجْذَمُ"
(3)
.
(1)
رواه البخاري (1042)، ومسلم (901).
(2)
رواه البخاري (1048)، ومسلم (911).
(3)
قال ابن باز في الفتاوى (25/ 135): ضعَّفه بعض أهل العلم والأقرب أنه من باب الحسن لغيره.
وَقَد كَانَ يَخْطُبُ خُطَبَ الْحَجِّ وَغَيْرَ خُطَبِ الْحَجِّ خُطَبًا عَارِضَةً، وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْهُ أَنَّهُ افْتَتَحَ خُطْبَةً بِغَيْرِ الْحَمْدِ. [22/ 394]
2875 -
كَانُوا يَسْتَسْقُونَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أ- تَارَةً: يَدْعُونَ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ.
ب- وَتَارَةً: يَخْرُجُونَ إلَى الْمُصَلَّى فَيَدْعُونَ مِن غَيْرِ صَلَاةٍ.
ج- وَتَارَةً: يُصَلُّونَ وَيَدْعُونَ.
وَالْوَجْهَانِ الْأَوَّلَانِ مَشْرُوعَانِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ مَشْرُوعٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد، وَلَمْ يَعْرِفْهُ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَقَد أُمِرُوا فِي الِاسْتِسْقَاءِ بِأَنْ يَسْتَسْقُوا بِأَهْلِ الصَّلَاحِ، لَا سِيَّمَا بِأَقَارِبَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا فَعَلَ الصَّحَابَةُ.
وَأمِرُوا بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ.
وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدٌ مِنْهُم بِالِاسْتِسْقَاءِ عِنْدَ شَيْءٍ مِن قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا الِاسْتِعَانَةِ بِمَيِّت وَالتَّوَسُّلِ بِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ دِينًا وَقُرْبَةً. [27/ 154 - 155]
2876 -
من الناس من قال: إن اليد لا ترفع إلا في الاستسقاء، وتركوا رفع اليدين في سائر الأدعية.
والصحيح الرفع مطلقًا، فقد تواتر عنه ي كما في "الصحاح"
(1)
أن الطفيل قال: يا رسول الله إن دوسًا قد عصت وأبت فادع الله عليهم فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال: "اللَّهُمَّ اهد دوسًا وأت بهم".
(1)
رواه البخاري (4392)، ومسلم (2524).
وفي "الصحيحين"
(1)
: "لما دعا لأبي عامر رفع يديه".
وروى عنه أنس رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء" أخرجاه في "الصحيحين"
(2)
.
وفيهما
(3)
: "أنه كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه وينحي فيه يديه".
وهذا هو الذي سمَّاه ابن عباس رضي الله عنه الابتهال، وجعل المراتب ثلاثًا: الإشارة بأصبع واحدة، كما كان يفعل يوم الجمع على المنبر.
والثانية: المسألة، وهو أن تجعل يديك حذو منكبيك كما في أكثر الأحاديث.
والثالثة: الابتهال، وهو الذي ذكره أنس رضي الله عنه، ولهذا قال:"كان يرفع يديه حتى يرى بيان إبطيه"، وهو الرفع إذا اشتد: كان
(4)
بطون يديه مما يلي وجهه والأرض وظهورهما مما يلىِ السماء.
وقد يكون أنس بن مالك رضي الله عنه أراد بالرفع على المنبر يوم الجمعة كما في مسلم وغيره: "أنه كان لا يزيد على أن يرفع أصبعه المسبحة"
(5)
.
وفي هذه المسألة قولان هما وجهان في مذهب أحمد في رفع الخطيب يديه.
قيل: يستحب قاله ابن عقيل، وقيل: لا يستحب بل هو مكروه وهو أصح: قال إسحاق بن راهويه هو بدعة للخطيب، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يشير بأصبعه إذا دعا.
وأما في الاستسقاء فإنه لما استسقى على المنبر رفع يديه كما رواه
(1)
البخاري (4323)، ومسلم (2498).
(2)
البخاري (1031)، ومسلم 8961).
(3)
البخاري (3565)، ومسلم (895).
(4)
في الأصل: (وكان)، والتصويب من جامع المسائل (4/ 94).
(5)
رواه مسلم (874).
البخاري
(1)
عن أنس رضي الله عنه فقد روى أنس في هذا الحديث: "أنه استسقى بهم يوم الجمعة على المنبر فرفع يديه".
وقد ثبت أنه لم يكن يرفع يديه على المنبر في غير الاستسقاء فيكون أنس أراد هذا المعنى لا سيما وقد كان عبد الملك بن مروان أحدث رفع الأيدي على المنبر وأنس رضي الله عنه أدرك هذا العصر، وقد أنكر ذلك على عبد الملك عاصم بن الحارث، فيكون هو أخبر بالسُّنَّة التي أخبر بها غيره من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرفع يديه -يعني: على المنبر- إلا في الاستسقاء"
(2)
.
وهذا يبين أن الاستسقاء مخصوص بمزيد الرفع وهو الابتهال الذي ذكره ابن عباس رضي الله عنهما.
فالأحاديث تأتلف ولا تختلف.
ومن ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم الرفع المعتدل جعل ظهر كفيه إلى السماء فقد أخطأ.
وكذلك من ظن أنه قصد بوجهه وظهر يديه إلى السماء فقد أخطأ، فإنه نهى عن ذلك فقال:"إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها" أخرجه أبو داود
(3)
عن ابن عباس، قال: وهو من غير وجه عن محمد بن كعب كلها واهية، وروى أحاديث أخر في أبي داود وغيره.
وبالجملة فهذا الرفع الذي استفاضت به الأحاديث وعليه الأئمة والمسلمون من زمن نبيهم إلى هذا التأريخ.
وحديث أنس الذي تقدم يدل على أنه لشدة الرفع انحنت يداه فصار كفه مما يلي السماء لشدة الرفع لا قصدًا لذلك، كما جاء "أنه رفعهما حذاء وجهه"
(4)
.
فتبين بذلك أنه لم يقصد في هذا الرفع الشديد لا ظهر اليد ولا بطنها. [المستدرك 3/ 135 - 138]
(1)
(933).
(2)
رواه البخاري (1031)، ومسلم (896).
(3)
(1485)، وضعَّفه الألباني في ضعيف أبي داود.
(4)
رواه أبو داود (1175)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.
كِتَابُ الْجَنَائِزِ
2877 -
الْمَقْصُودُ الْأَكْبَرُ مِن صَلَاةِ الْجِنَازَةِ هُوَ الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ، وَلهَذَا كَانَ عَامَّةُ مَا فِيهَا مِن الذِّكْرِ دُعَاءً.
وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْعُلَمَاءُ: هَل فِيهَا قِرَاءَةٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ، وَلَمْ يُوَقِّتْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا دُعَاءً بِعَيْنِهِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يتوقت فِيهَا وُجُوبُ شَيْءٍ مِن الْأَذْكَارِ، وَإِن كَانَت قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِيهَا سُنَّةً كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ؛ فَالنَّاسُ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِيهَا عَلَى أَقْوَالٍ: قِيلَ: تُكْرَهُ، وَقِيلَ: تَجِبُ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ لَا تُكْرَهُ وَلَا تَجِبُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا فرْآنٌ غَيْرَ الْفَاتِحَةِ، فَلَو كَانَت الْفَاتِحَةُ وَاجِبَةً فِيهَا كَمَا تَجِبُ فِي الصَّلَاةِ التَّامَّةِ لَشُرِعَ فِيهَا قِرَاءَة زَائِدَةٌ عَلَى الْفَاتِحَةِ. [21/ 286]
2878 -
إنَّ النَّاسَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
مِنهُم مَن لَا يَرَى فِيهَا قِرَاءَةً بِحَالٍ كَمَا قَالَهُ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ.
وَمِنْهُم مَن يَرَى الْقِرَاءَةَ فِيهَا سُنَّةً؛ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا وَغَيْرِهِ.
ثُمَّ مِن هَؤلَاءِ مَن يَقُولُ الْقِرَاءَةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ كَالصَّلَاةِ.
وَمِنْهُم مَن يَقُولُ: بَل هِيَ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ لَيْسَتْ وَاجِبَةً، وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ؛ فَإِنَّ السَّلَفَ فَعَلُوا هَذَا وَهَذَا، وَكَانَ كِلَا الْفِعْلَيْنِ مَشْهُورًا بَيْنَهُمْ، كَانُوا يُصَلُّونَ عَلَى الْجِنَازَةِ بِقِرَاءَةٍ وَغَيْرِ قِرَاءَةٍ، كَمَا كَانوا يُصَلُّونَ تَارَةً بِالْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ وَتَارَةً بِغَيْرِ جَهْرٍ بِهَا، وَتَارَةً بِاسْتِفْتَاحٍ وَتَارَةً بِغَيْرِ اسْتِفْتَاحٍ، وَتَارَةً بِرَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي
الْمَوَاطِنِ الثَّلَاثَةِ وَتَارَة بِغَيْرِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ، وَتَارَةً يُسَلِّمُونَ تَسْلِيمَتَيْنِ وَتَارَةً تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً، وَتَارَةً يَقْرَؤُونَ خَلْفَ الْإِمَامِ بِالسِّرِّ وَتَارَةً لَا يَقْرَؤُونَ، وَتَارَة يُكَبِّرُونَ عَلَى الْجِنَازَةِ أَرْبَعًا وَتَارَةً خَمْسًا وَتَارَةً سَبْعًا، كَانَ فِيهِمْ مَن يَفْعَلُ هَذَا وَفِيهِمْ مَن يَفْعَلُ هَذَا.
كُلُّ هَذَا ثَابِتٌ عَنِ الصَّحَابَةِ، كَمَا ثَبَتَ عَنْهُم أَنَّ مِنْهُم مَن كَانَ يُرَجِّعُ فِي الْأَذَانِ وَمِنْهُم مَن لَمْ يُرَجِّعْ فِيهِ، وَمِنْهُم مَن كَانَ يُوتِرُ الْإِقَامَةَ وَمِنْهُم مَن كَانَ يَشْفَعُهَا، وَكِلَاهُمَا ثَابِتٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [24/ 196 - 197]
2879 -
إذَا حَضَرَ الْجِنَازَةَ مَن لَمْ يُصَلِّ أَوَّلًا: فَهَل لِمَن صَلَّى عَلَيْهَا أَوَّلًا أَنْ يُصَلِّيَ مَعَهُ تَبَعًا كَمَا يَفْعَلُ مِثْل هَذَا فِي الْمَكْتُوبَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
قِيلَ: لَا يَجُوزُ هُنَا؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ هُنَا نَفْلٌ بِلَا نِزَاعٍ، وَهِيَ لَا يُتَنَفَّلُ بِهَا. [23/ 263]
وَقِيلَ: بَل لَهُ الْإِعَادَةُ؛ فَإِنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا صَلَّى عَلَى الْقَبْرِ صَلَّى خَلْفَهُ مَن كَانَ قَد صَلَّى أَوَّلًا، وَهَذَا أَقْرَبُ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْإِعَادَةَ بِسَبَبٍ اقْتَضَاهُ، لَا إعَادَةً مَقْصُودَةً، وَهَذَا سَائِغٌ فِي الْمَكْتُوبَةِ وَالْجِنَازَةِ. [24/ 265]
2880 -
سُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: هَل يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ إذَا مَرِضَ النَّصْرَانِيُّ أَنْ يَعُودَهُ وَإِذَا مَاتَ أَنْ يَتْبَعَ جِنَازَتَهُ؟
فَأَجَابَ: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا يَتْبَعُ جِنَازَتَهُ، وَأَمَّا عِيَادَتُهُ فَلَا بَأْسَ بِهَا، فَإِنَّهُ قَد يَكُونُ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لِتَأْلِيفِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَإِذَا مَاتَ كَافِرًا فَقَد وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ؛ وَلهَذَا لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ.
2881 -
مَن كَانَ مُظْهِرًا لِلْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةُ: مِنَ الْمُنَاكَحَةِ والموارثة وَتَغْسِيلِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَدَفْنِهِ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لَكِنْ مَن عُلِمَ مِنْهُ النِّفَاقُ وَالزَّنْدَقَةُ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَن عَلِمَ ذَلِكَ مِنْهُ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ وَإِن كَانَ مُظْهِرًا لِلْإِسْلَامِ.
وَأَمَّا مَن كَانَ مُظْهِرًا لِلْفِسْقِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْإِيمَانِ كَأَهْلِ الْكَبَائِرِ فَهَؤُلَاءِ لَا بُدَّ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِم بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ.
وَمَنِ امْتَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى أَحَدِهِمْ زَجْرًا لِأَمْثَالِهِ عَن مِثْل مَا فَعَلَهُ كَمَا امْتَنَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ، وَعَلَى الْغَالِّ، وَعَلَى الْمَدِينِ الَّذِي لَا وَفَاءَ لَهُ، وَكَمَا كَانَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ يَمْتَنِعُونَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى أَهْلِ الْبِدَع - كَانَ عَمَلُهُ بِهَذِهِ السُّنَّةِ حَسَنًا.
وَهَذَا مِن جِنْسِ هَجْرِ الْمُظْهِرِينَ لِلْكَبَائِرِ حَتَّى يَتُوبُوا، فَإِذَا كَانَ فِي ذَلِكَ مِثْلُ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا.
وَمَن صَلَّى عَلَى أَحَدِهِمْ يَرْجُو لَهُ رَحْمَةَ اللهِ وَلَمْ يَكُن فِي امْتِنَاعِهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا.
وَلَو امْتَنَعَ فِي الظَّاهِرِ وَدَعَا لَهُ فِي الْبَاطِنِ لِيَجْمَعَ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ كَانَ تَحْصِيلُ الْمَصْلَحَتَيْنِ أَوْلَى مِن تَفْوِيتِ إحْدَاهُمَا.
وَكُلُّ مَن لَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ النِّفَاقُ وَهُوَ مُسْلِمٌ يَجُوزُ الِاسْتِغْفَارُ لَهُ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ بَل يُشْرَعُ ذَلِكَ وَيُؤْمَرُ بِهِ. [24/ 285 - 286]
2882 -
ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ امْتَنَعَ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى مَن عَلَيْهِ دَيْنٌ حَتَّى يُخَلِّفَ وَفَاءً قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِن وَفَاءِ الدَّيْنِ عَنْهُ، فَلمَّا تَمَكَّنَ صَارَ هُوَ يُوَفِّيهِ مِن عِنْدِهِ فَصَارَ الْمَدِينُ يُخَلِّفُ وَفَاءَ.
هَذَا مَعَ قَوْلِهِ فِيمَا رَوَاهُ أبُو مُوسَى عَنْه: "إنَّ أَعْظَمَ الذُّنُوبِ عِنْدَ اللهِ أَنْ يَلْقَاهُ عَبْدٌ بِهَا بَعْدَ الْكَبَائِرِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا اُّنْ يَمُوتَ الرَّجُلُ وَعَلَيْهِ دَيْن لَا يَدَعُ قَضَاءً" رَوَاهُ أَحْمَد
(1)
.
(1)
في المسند (19495)، وأبو داود (3342)، وضعَّفه الألباني.
فَثبتَ بِهَذَا أَنَّ تَرْكَ الدَّيْنِ بَعْدَ الْكَبَائِرِ
(1)
. [24/ 288 - 289]
2883 -
وَسُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلٍ يَدَّعِي الْمَشْيَخَةَ، فَرَأَى ثُعْبَانًا فَقَامَ بَعْضُ مَن حَضَرَ لِيَقْتُلَهُ فَمَنَعَهُ عَنْهُ وَأَمْسَكَهُ بِيَدِهِ عَلَى مَعْنَى الْكَرَامَةِ لَهُ فَلَدَغَهُ الثُّعْبَانُ فَمَاتَ، فَهَل تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟
فَأَجَابَ: يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ أَنْ يَتْرُكُوا الصَّلَاةَ عَلَى هَذَا وَنَحْوِهِ وَإِن كَانَ يُصَلِّي عَلَيْهِ عُمُومُ النَّاسِ.
وَقَالُوا لسمرة بْنِ جُنْدُبٍ: إنَّ ابْنَك الْبَارِحَةَ لَمْ يَبِتْ، فَقَالَ: بَشَمًا؟
(2)
قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: أمَا إنَّهُ لَو مَاتَ لَمْ أُصَلِّ عَلَيْهِ.
فَبَيَّنَ سَمُرَةُ أَنَّهُ لَو مَاتَ بَشَمًا لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ قَاتِلًا لِنَفْسِهِ بِكَثْرَةِ الْأَكْلِ.
فَهَذَا الَّذِي مَنَعَ مِن قَتْلِ الْحَيَّةِ وَأَمْسَكَهَا بيَدِهِ حَتَّى قَتَلَتْهُ أَوْلَى أَنْ يَتْرُكَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَاتِلُ نَفْسِهِ
(3)
؛ بَل لَو فَعَلَ هَذَا غَيْرُهُ بِهِ لَوَجَبَ الْقَوَدُ عَلَيْهِ.
وَإِن قِيلَ: إنَّهُ ظَنَّ أَنَّهَا لَا تَقْتُلُ، فَهَذَا شَبِيهُ عَمَلِهِ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي أَكَلَ حَتَّى بَشَمَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ قَتْلَ نَفْسِهِ.
فَمَن جَنَى جِنَايَةً لَا تَقْتُلُ غَالِبًا كَانَ شِبْهَ عَمْدٍ وَإِمْسَاكُ الْحَيَّاتِ مِن نَوْعِ الْجِنَايَاتِ فَإِنَّهُ فِعْلٌ غَيْرُ مُبَاحٍ، وَهَذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهَذَا الْفِعْلِ إلَّا إظْهَارَ خَارِقِ
(1)
وقد عدّ الهيتمي المتوفى (974 هـ) مِن الكبائر: "الِاسْتِدَانَةَ مَعَ نِيَّتِهِ عَدَمَ الْوَفَاءِ أَو عَدَمَ رَجَائِهِ" مستدلًا بأدلة كثيرة منها ما أخْرَجَه الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ: "مَن أخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ إتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللهُ". الزواجر عن اقتراف الكبائر (2/ 410).
(2)
البَشَمُ: التُّخَمَةُ، والسآمَةُ، يُقَالُ: بَشِمْتُ مِنَ الطَّعَامِ، كَأَنَّكَ سَئِمْتَهُ. قَالَ الْخَلِيلُ: الْبَشَمُ يُخَصُّ بِهِ الدَّسَمُ. يُنظر مقاييس اللغة، مادة:(بشم).
(3)
لأنه تسبب في إتلاف نفسه متعمّدًا من غير حاجة، ومثله: الذي يقودُ مركبته بسرعة كبيرة خطرة كما صرح بذلك بعض علماء هذا العصر.
الْعَادَةِ وَلَمْ يَكُن مَعَهُ مَا يَمْنَعُ انْخِرَاقَ الْعَادَةِ، كَيْفَ وَغَالِبُ هَؤُلَاءِ كَذَّابُونَ مُلَبِّسُونَ خَارِجُونَ عَن أَمْرِ اللهِ تَعَالَى وَنَهْيِهِ. [24/ 290 - 201]
2884 -
وَسُئِلَ: عَن رَجُلٍ رَكِبَ الْبَحْرَ لِلتِّجَارَةِ فَغَرِقَ، فَهَل مَاتَ شَهِيدًا؟
فَأَجَابَ: نَعَمْ مَاتَ شَهِيدًا إذَا لَمْ يَكُن عَاصِيًا بِرُكُوبِهِ، فَإِنَّهُ قَد صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"الْغَرِيقُ وَالْمَبْطُونُ شَهِيدٌ، وَالْحَرِيقُ شَهِيدٌ، وَالْمَيِّتُ بِالطَّاعُونِ شَهِيدٌ، وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ في نِفَاسِهَا شَهِيدَةٌ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ شَهِيدٌ"، وَجَاءَ ذِكْرُ غَيْرِ هَؤُلَاءِ
(1)
.
وَرُكُوبُ الْبَحْرِ لِلتِّجَارَةِ جَائِزٌ إذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ السَّلَامَةُ.
وَأَمَّا بِدُونِ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْكَبَهُ لِلتِّجَارَةِ فَإِنْ فَعَلَ فَقَد أَعَانَ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ إنَّهُ شَهِيدٌ. [24/ 293]
2885 -
لَا يُسْتَحَبُّ رَفْعُ الصَّوْتِ مَعَ الْجِنَازَةِ لَا بِقِرَاءَة وَلَا ذِكْرٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ، هَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنِ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا. [24/ 293 - 294]
2886 -
أَهْلُ الْكِتَابِ عَادَتُهُم رَفْعُ الْأَصْوَاتِ مَعَ الْجَنَائِزِ. [24/ 295]
(1)
فيه جواز إطلاق كلمة شهيد على هؤلاء، وعلى من قُتل في المعركة مع الكفار قتالًا شرعيًّا.
وقد ثبت عن عُمَر بْن الْخَطَّابِ أنه قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ، أَقْبَلَ نَفَرٌ مِن صَحَابَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: فُلَانٌ شَهِيدٌ، فُلَانٌ شَهِيدٌ، حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ، فَقَالُوا: فُلَانٌ شَهِيدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"كَلَّا، إِنِّي رَأَيْتُهُ في النَّارِ في بُرْدَةٍ غِلَّهَا". رواه مسلم (114).
فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم إطلاق لفظ الشهادة على الغال، ولم يُنكر أصل إطلاقها.
فالشهادة والإيمان من موجبات دخول الجنة، فإذا قيل فلان مؤمن أو فلان شهيد فلا مانع من ذلك، وهو حكم بالظاهر وليس على سبيل القطع.
قال العلَّامة ابن باز رحمه الله: كل من سماه النبي صلى الله عليه وسلم شهيدًا فإنه يسمى شهيدًا؛ كالمطعون والمبطون وصاحب الهدم والغرق والقتيل في سبيل الله والقتيل دون دينه أو دون ماله أو دون أهله أو دون دعه، لكن كلهم يغسلون ويصلى عليهم ما عدا الشهيد في المعركة فإنه لا يغسل ولا يصلى عليه إذا مات في المعركة. الفتاوى (9/ 461).
2887 -
وَسُئِلَ رحمه الله: عَنِ امْرَأَةٍ نَصْرَانِيَّةٍ بَعْلُهَا مُسْلِمٌ تُوُفِّيَتْ وَفِي بَطْنِهَا جَنِينٌ لَهُ سَبْعَةُ أَشْهُرٍ، فَهَل تُدْفَنُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ أَو مَعَ النَّصَارَى؟
فَأَجَابَ: لَا تُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا مَقَابِرِ النَّصَارَى؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ فَلَا يُدْفَنُ الْكَافِرُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا الْمُسْلِمُ مَعَ الْكَافِرِينَ؛ بَل تُدْفَنُ مُنْفَرِدَةً وَيُجْعَلُ ظَهْرُهَا إلَى الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ وَجْهَ الطِّفْلِ إلَى ظَهْرِهَا، فَإِذَا دُفِنَتْ كَذَلِكَ كَانَ وَجْهُ الصَّبِيِّ الْمُسْلِمِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، وَالطِّفْلُ يَكُونُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَبِيهِ وَإِن كَانَت أُمُّهُ كَافِرَةً بِاتفَاقِ الْعُلَمَاءِ. [24/ 295 - 296]
2888 -
تَلْقِينُهُ [أي: الميت] بَعْدَ مَوْتِهِ لَيْسَ وَاجِبًا بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا كَانَ مِن عَمَلِ الْمُسْلِمِينَ الْمَشْهُورِ بَيْنَهُم عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ.
بَل ذَلِكَ مَأْثُورٌ عَن طَائِفَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ؛ كَأَبِي أمامة وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، فَمِنَ الْأَئِمَّةِ مَن رَخَّصَ فِيهِ كَالْإِمَامِ أَحْمَد، وَقَد اسْتَحَبَّهُ طَائِفَةٌ مِن أَصْحَابِهِ وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَن يَكْرَهُهُ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ بِدْعَةٌ.
فَالْأَقْوَالُ فِيهِ ثَلَاثَةٌ: الِاسْتِحْبَابُ، وَالْكَرَاهَةُ، وَالْإِبَاحَةُ، وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ.
فَأَمَّا الْمُسْتَحَبُّ الَّذِي أَمَرَ بِهِ وَحَضَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ.
وَأمَّا الْقِرَاءَةُ عَلَى الْقَبْرِ فَكَرهَهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَلَمْ يَكُن يَكْرَهُهَا فِي الْأُخْرَى، وَإِنَّمَا رَخَّصَ فِيهَا لِأَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَوْصَى أَنْ يُقْرَأَ عِنْدَ قَبْرِهِ بِفَوَاتِحِ الْبَقَرَةِ وَخَوَاتِيمِهَا، وَرُوِيَ عَن بَعْضِ الصَّحَابَةِ قِرَاءَةُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ؛ فَالْقِرَاءَةُ عِنْدَ الدَّفْنِ مَأْثُورَةٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَلَمْ يُنْقَلْ فِيهِ أَثَرٌ. [24/ 297 - 298]
2889 -
اسْتِئْجَارُ النَّاسِ لِيَقْرَؤُوا وَيُهْدُوهُ إلَى الْمَيِّتِ لَيْسَ بِمَشْرُوع، وَلَا اسْتَحَبَّهُ أَحَدٌ مِن الْعُلَمَاءِ؛ فَإِنَّ الْقُرْاَنَ الَّذِي يَصِلُ: مَا قُرِئَ للهِ، فَإِذَا كَانَ قَد
اسْتُؤْجِرَ لِلْقِرَاءَةِ للهِ وَالْمُسْتَأْجِرُ لَمْ يَتَصَدَّقْ عَن الْمَيِّتِ بَل اسْتَأْجَرَ مَن يَقْرَأُ عِبَادَةً للهِ عز وجل: لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ.
لَكِنْ إذَا تَصَدَّق عَنِ الْمَيِّتِ عَلَى مَن يَقْرَأُ الْقُرْآنَ أَو غَيْرِهِمْ: يَنْفَعُهُ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ مَن قَرَأَ الْقُرْآنَ مُحْتَسِبًا وَأَهْدَاهُ إلَى الْمَيِّتِ نَفَعَهُ ذَلِكَ. [24/ 300]
2890 -
جعْلُ الْمُصْحَفِ عِنْدَ الْقُبُورِ وَإِيقَادُ الْقَنَادِيلِ هُنَاكَ: مَكْرُوهٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلَو كَانَ قَد جَعَلَ الْقِرَاءَةَ فِيهِ هُنَالِكَ، فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَقْرَأْ فِيهِ؟ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَعَنَ اللهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ"
(1)
.
فَإِيقَاد السُّرُجِ مِن قِنْدِيلٍ وَغَيْرِهِ عَلَى الْقُبُورِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مُطْلَقًا.
وَأَمَّا جَعْلُ الْمَصَاحِفِ عِنْدَ الْقُبُورِ لِمَن يَقْصِدُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ هُنَاكَ وَتِلَاوَتَهُ فَبِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ لَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ؛ بَل هِيَ تَدْخُلُ فِي مَعْنَى "اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ". [24/ 300 - 302]
2891 -
لَا يُنْبَشُ الْمَيِّتُ مِن قَبْرِهِ إلَّا لِحَاجَة، مِثْل أَنْ يَكُونَ الْمَدْفَنُ الْأَوَّلُ فِيهِ مَا يُؤْذِي الْمَيِّتَ، فَيُنْقَلُ إلَى غَيْرِهِ، كَمَا نَقَلَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ فِي مِثْل ذَلِكَ. [24/ 303]
2892 -
أَرْوَاحُ الْأَحْيَاءِ إذَا قُبِضَتْ تَجْتَمِعُ بِأَرْوَاحِ الْمَوْتَى، وَيَسْأَلُ الْمَوْتَى الْقَادِمَ عَلَيْهِم عَن حَالِ الْأَحْيَاءِ فَيَقُولُونَ: مَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانٌ تَزَوَّجَ، فُلَانٌ عَلَى حَالٍ حَسَنَةٍ، وَيَقُولُونَ: مَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ فَيَقُولُ: أَلَمْ يَأْتِكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: لَا، ذُهِبَ بِهِ إلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ.
وَأَمَّا أَرْوَاحُ الْمَوْتَى فَتَجْتَمِعُ، الْأَعْلَى يَنْزِلُ إلَى الْأَدْنَى، وَالْأَدْنَى لَا يَصْعَدُ إلَى الْأَعْلَى.
(1)
رواه الترمذي (1056)، وصحَّحه، وابن ماجه (1575).
وَالرُّوحُ تُشْرِفُ عَلَى الْقَبْرِ وَتُعَادُ إلَى اللَّحْدِ أَحْيَانًا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَا مِن رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ الرَّجُلِ كانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إلَّا رَدَّ اللهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ حَتَّى يَرُدَّ عليه السلام"
(1)
.
وَالْمَيِّتُ فَد يَعْرِفُ مَن يَزُورُهُ. [24/ 304 - 305]
2893 -
الْأَئِمَّةُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ تَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ، وَكَذَلِكَ الْعِبَادَاتُ الْمَالِيَّةُ؛ كَالْعِتْقِ.
وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ؛ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْقِرَاءَةِ
(2)
، وَمَعَ هَذَا فَفِي "الصَّحِيحَيْنِ"
(3)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صِيَامُ نَذْرٍ، قَالَ:"أَرَأَيْت إنْ كَانَ عَلَى أُمِّك دَيْنٌ فقضيتيه أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْهَا؟ "، قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ:"فَصُومِي عَن أُمِّك".
وَفِي "الصَّحِيحِ"
(4)
عَنْهُ: أَنَّ امْرَأَةً جَاءَت إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إنَّ أُخْتِي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: "أَرَأَيْت لَو كَانَ عَلَى أُخْتِك دَيْنٌ أَكُنْت تَقْضِيهِ؟ "، قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ:"حَقُّ اللهِ أَحَقُّ بالوفاء".
وَفِي "الصَّحِيحَيْن"
(5)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ امْرَأَةً مِن جُهَيْنَةَ جَاءَت إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ فَقَالَ: "حُجِّي عَنْهَا".
فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ: أَنَّهُ أَمَرَ بِحَجِّ الْفَرْضِ عَنِ الْمَيِّتِ وَبِحَجِّ النَّذْرِ، كَمَا أَمَرَ بِالصِّيَامِ، وَأَنَّ الْمَأْمُورَ تَارَةً يَكُونُ وَلَدَا، وَتَارَةً يَكُونُ أَخًا، وَشَبَّهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ بِالدَّيْنِ يَكُونُ عَلَى الْمَيِّتِ، وَالدَّيْنُ يَصِحُّ قَضَاؤُهُ مِن كُلِّ أَحَدٍ،
(1)
قال الشيخ رحمه الله في حقوق آل البيت (60): ثابت.
(2)
رجح الشيخ رحمه الله إنها تصل كما سيأتي.
(3)
رواه مسلم (1148)، ولم أجده عند البخاري.
(4)
رواه الترمذي (716)، والبخاري في العلل الكبير (114).
(5)
رواه البخاري (1852)، ولم أجده عند مسلم.
فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ ذَلِكَ مِن كلِّ أَحَدٍ لَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْوَلَدِ، كَمَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي الْأَخِ.
فَهَذَا الَّذِي ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ عِلْمٌ مُفَصَّلٌ مُبَيِّنٌ، فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي قَوْلَهُ:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 39]، "إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِن ثَلَاثٍ"؛ بَل هَذَا حَقٌّ وَهَذَا حَقٌّ.
أَمَّا الْحَدِيثُ فَإِنَّهُ قَالَ: لا انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِن ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَو وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ"
(1)
، فَذِكْرُ الْوَلَدِ وَدُعَاؤُهُ لَهُ خَاصَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مِن كَسْبِهِ.
فَلَمَّا كَانَ هُوَ السَّاعِيَ فِي وُجُودِ الْوَلَدِ: كَانَ عَمَلُهُ مِن كَسْبِهِ، بِخِلَافِ الْأَخِ وَالْعَمِّ وَالْأَبِ وَنَحْوِهِمْ، فَإِنَّهُ يَنْتَفِعُ أَيْضًا بِدُعَائِهِمْ بَل بِدُعَاءِ الْأَجَانِبِ، لَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ مِن عَمَلِهِ.
وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِن ثَلَاثٍ"، لَمْ يَقُلْ: إنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِعَمَلِ غَيْرِهِ.
فَإِذَا دَعَا لَهُ وَلَذهُ كَانَ هَذَا مِن عَمَلِهِ الَّذِي لَمْ يَنْقَطِعْ، وَإِذَا دَعَا لَهُ غَيْرُهُ لَمْ يَكُن مِن عَمَلِهِ لَكِنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ.
وَأَمَّا الْآيَةُ .. فَإِنَّهُ قَالَ: {لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} وَهَذَا حَقٌّ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ سَعْيَهُ، فَهُوَ الَّذِي يَمْلِكُهُ وَيَسْتَحِقُّهُ، كَمَا أَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ مِنَ الْمَكَاسِبِ مَا اكْتَسَبَهُ هُوَ، وَأَمَّا سَعْيُ غَيْرِهِ فَهُوَ حَقٌّ وَمِلْكٌ لِذَلِكَ الْغَيْرِ لَا لَهُ، لَكِنْ هَذَا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِسَعْيِ غَيْرِهِ، كَمَا يَنْتَفِعُ الرَّجُلُ بِكَسْبِ غَيْرِهِ.
وَلَيْسَ كُلُّ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمَيِّتُ أَو الْحَيُّ أَو يُرْحَمُ بِهِ يَكُونُ مِن سَعْيِهِ؛ بَل أَطْفَالُ الْمُومِنِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مَعَ آبَائِهِمْ بِلَا سَعْيٍ. [24/ 309 - 313]
(1)
رواه مسلم (1631).
2894 -
الصَّدَقَةُ عَنِ الْمَيِّتِ يَنْتَفِعُ بِهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ .. وَكَذَلِكَ يَنْفَعُهُ الْحَجُّ عَنْهُ، وَالْأُضْحِيَّةُ عَنْهُ، وَالْعِتْقُ عَنْهُ، وَالدُّعَاءُ وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُ، بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ، وَأَمَّا الصِّيَامُ عَنْهُ وَصَلَاةُ التَّطَوُّعِ عَنْهُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَنْهُ فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ.
وَأَمَّا الِاسْتِئْجَارُ لِنَفْسِ الْقِرَاءَةِ وَالْإِهْدَاءِ فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ إنَّمَا تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، وَالْأَذَانِ، وَالْإِمَامَةِ، وَالْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَسْتَوْفِي الْمَنْفَعَةَ
(1)
، فَقِيلَ: يَصِحُّ لِذَلِكَ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِن مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ.
وَقِيلَ: لَا يَجُوز.
وَقِيلَ: يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا لِلْفَقِيرِ دُونَ الْغَنِيِّ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد، كَمَا أَذِنَ اللهُ لِوَلِيِّ الْيَتِيمِ أَنْ يَأْكُلَ مَعَ الْفَقْرِ وَيَسْتَغْنِيَ مَعَ الْغِنَى، وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْوَى مِن غَيْرِهِ.
عَلَى هَذَا: فَإِذَا فَعَلَهَا الْفَقِيرُ للهِ، وَإِنَّمَا أَخَذَ الْأُجْرَةَ لِحَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ وَليَسْتَعِينَ بِذَلِكَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ فَاللهُ يَأْجُرُهُ عَلَى نِيَّتِهِ، فَيَكُونُ قَد أَكَلَ طَيِّبًا وَعَمِلَ صَالِحًا.
وَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ إلَّا لِأَجْلِ الْعُرُوضِ فَلَا ثَوَابَ لَهُم عَلَى ذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يَكن فِي ذَلِكَ ثَوابٌ فَلَا يَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ ثَوَابُ الْعَمَلِ لَا نَفْسُ الْعَمَلِ؛ فَإِذَا تَصَدَّقَ بِهَذَا الْمَالِ عَلَى مَن يَسْتَحِقُّهُ وَصَلَ ذَلِكَ إلَى الْمَيِّتِ وَإِن قَصَدَ بِذَلِكَ مَن يَسْتَعِينُ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَتَعْلِيمِهِ كَانَ أَفْضَلَ وَأَحْسَنَ فَإِنَّ إعَانَةَ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ عَلَى تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَتِهِ وَتَعْلِيمِهِ مِن أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ.
(1)
أي: أنه يستفيد وينتفع من هذا الاستئجار، بخلاف الِاسْتِئْجَار لِنَفْسِ الْقِرَاءَةِ وَالْإِهْدَاءِ، فلا ينتفع منها.
وَأَمَّا صَنْعَةُ أَهْلِ الْمَيِّتِ طَعَامًا يَدْعُونَ النَّاسَ إلَيْهِ فَهَذَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَإِنَّمَا هُوَ بِدْعَةٌ. [24/ 314 - 316]
2895 -
الْعُلَمَاءُ لَهُم فِي وُصُولِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ؛ كَالْقِرَاءَةِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ إلَى الْمَيِّتِ قَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يَصِلُ.
وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِن الْعُلَمَاءِ: إنَّ الْقِرَاءَةَ عِنْدَ الْقَبْرِ أَفْضَلُ، وَمَن قَالَ: إنَّهُ عِنْدَ الْقَبْرِ يَنْتَفِعُ الْمَيِّتُ بِسَمَاعِهَا دُونَ مَا إذَا بَعُدَ الْقَارِئُ: فَقَوْلُهُ هَذَا بِدْعَة بَاطِلَةٌ مُخَالِفَةٌ لِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ.
وَالْمَيِّتُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يَنْتَفِعُ بِأَعْمَال يَعْمَلُهَا هُوَ بَعْد الموت: لَا مِن اسْتِمَاعٍ وَلَا قِرَاءَةٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.
وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِآثَارِ مَا عَمِلَهُ فِي حَيَاتِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِن ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَو عِلْم يُنْتَفَعُ بِهِ أَو وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ"
(1)
.
وَيُنْتَفَعُ أَيْضًا بِمَا يُهْدَى إلَيْهِ مِن ثَوَابِ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ؛ كَالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَكَذَلِكَ الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِمْ. [31/ 41 - 42]
2896 -
أَمَّا بِنَاءُ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ وَتُسَمَّى "مَشاهِدَ": فَهَذَا غَيْرُ سَائِغٍ؛ بَل جَمِيعُ الْأُمَّةِ يَنْهَوْنَ عَن ذَلِكَ، لِمَا ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا"
(2)
.
فَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الصَّلَاةَ عِنْدَهَا فِيهَا فَضْلٌ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِهَا، أَو أَنَّهَا
(1)
رواه مسلم (1631).
(2)
رواه البخاري (1390)، ومسلم (529).
أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ فِي بَعْضِ الْمَسَاجِدِ: فَقَد فَارَقَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَمَرَقَ مِنَ الدِّينِ
(1)
.
بَلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْأُمَّةُ أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا مَنْهِي عَنْهَا نَهْيَ تَحْرِيمٍ. [24/ 318]
2897 -
لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْقُلَ صَلَاةَ الْمُسْلِمِينَ وَخطَبَهُم مِن مَسْجِدٍ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ إلَى مَشْهَدِ مِن مَشَاهِدِ الْقُبُورِ وَنَحْوِهَا، بَل ذَلِكَ مِن أَعْظَمِ الضَّلَالَاتِ وَالْمُنْكَرَاتِ، حَيْثُ تَرَكُوا مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَفَعَلُوا مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ، وَتَرَكُوا السُّنَّةَ وَفَعَلُوا الْبِدْعَةَ، تَرَكُوا طَاعَةَ اللهِ وَرَسولِهِ، وَارْتَكَبُوا مَعْصِيَةَ اللهِ وَرَسُولِهِ؛ بَل يَجِبُ إعَادَةُ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ إلَى الْمَسْجِدِ الَّذِي هُوَ بَيْتٌ مِن بُيُوتِ اللهِ.
وَأَمَّا الْقُبُورُ الَّتِي فِي الْمَشَاهِدِ وَغَيْرِهَا؛ فَالسُّنَّةُ لِمَن زَارَهَا أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى الْمَيِّتِ وَيَدْعُوَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ. [24/ 230]
2898 -
الْأَمْرُ الَّذِي كَانَ مَعْرُوفًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْقُرُونِ الْمُفَضَّلَةِ: أَنَّهُم كَانُوا يَعْبُدُونَ اللهَ بِأْنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ الْمَشْرُوعَةِ فَرْضِهَا وَنَفْلِهَا مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانُوا يَدْعُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ كَمَا أَمَرَ اللهُ بِذَلِكَ لِأَحْيَائِهِمْ وَأَمْوَاتِهِمْ فِي صَلَاتِهِمْ عَلَى الْجِنَازَةِ وَعِنْدَ زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَد صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَمَرَ بِالصَّدَقَةِ عَلَى الْمَيِّتِ، وَأَمَرَ أَنْ يُصَامَ عَنْهُ الصَّوْمَ، فَالصَّدَقَةُ عَنِ الْمَوْتَى مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَكَذَلِكَ مَا جَاءَت بِهِ السُّنَّةُ فِي الصَّوْمِ عَنْهُمْ.
وَبِهَذَا وَغَيْرِه احْتَجَّ مَن قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إنَّهُ يَجُوزُ إهْدَاءُ ثَوَابِ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ إلَى مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ.
(1)
فهذا الاعتقاد ردّةٌ عن الدين.
فَإِذَا أَهْدَى لِمَيِّت ثَوَابَ صِيَامٍ أَو صَلَاةٍ أَو قِرَاءَةٍ جَازَ ذَلِكَ.
وَمَعَ هَذَا: فَلَمْ يَكُن مِن عَادَةِ السَّلَفِ إذَا صَلَّوْا تَطَوُّعًا وَصَامُوا وَحَجُّوا أَو قَرَؤُوا الْقُرْآنَ يُهْدُونَ ثَوَابَ ذَلِكَ لِمَوْتَاهُم الْمُسْلِمِينَ وَلَا لِخُصُوصِهِمْ؛ بَل كَانَ عَادَتُهُم كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَا يَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يَعْدِلُوا عَن طَرِيقِ السَّلَفِ، فَإِنَّهُ أَفْضَل وَأَ كْمَلُ. [24/ 322 - 323]
2899 -
القراءة على الميت بعد موته بدعة، بخلاف القراءة على المحتضر فإنها تستحب بياسين. [المستدرك 3/ 142]
2900 -
اختلف أصحابنا وغيرهم في عيادة المريض، وتشميت العاطس وابتداء السلام، والذي يدل عليه النص وجوب ذلك، فيقال: هو واجب على الكفاية. [المستدرك 3/ 139]
2901 -
وسمعت
(1)
شيخ الإسلام أبا العباس ابن تيمية رحمه الله يقول -وقد عرض له بعض الألم- فقال له الطبيب: أضر ما عليك الكلام في العلم والفكر فيه والتوجه والذكر، فقال الشيخ: ألستم تزعمون أن النفس إذا قويت وفرحت أوجب فرحها لها قوة تعين بها الطبيعة على دفع المعارض فإنه عدوها فإذا قويت عليه قهرته، فقال له الطبيب: بلى، فقال: إذا اشتغلت نفسي بالتوجه والذكر والكلام في العلم وظفرت بما يشكل عليها منه فرحت به وقويت فأوجب ذلك دفع المعارض هذا أو نحوه من الكلام
(2)
. [المستدرك 3/ 139]
(1)
نَسَب الجامعُ رحمه الله وغفر له- هذه الفائدة لابن مفلح في الآداب، ولم أجدها عنده، والصواب أنها عند ابن القيِّم في مفتاح دار السعادة (1/ 250).
(2)
وذكر ابن القيِّم نحو هذا في روضة المحبين (1/ 70) فقال: حدثني شيخنا قال: ابتدأني مرض فقال لي الطبيب: إن مطالعتك وكلامك في العلم يزيد المرض، فقلت له: لا أصبر على ذلك، وأنا أحاكمك إلى علمك، أليست النفس إذا فرحت وسرت قويت الطبيعة فدفعت المرض؟ فقال: بلى، فقلت له: فإن نفسي تسر بالعلم فتقوى به الطبيعة، فأجد راحة، فقال: هذا خارج عن علاجنا، أو كما قال.
2902 -
كان الشيخ تقي الدين رحمه الله يكتب على جبهة الراعف: {وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} [هود: 44].
قال: ولا يجوز كتابتها بدم، فإن الدم نجس، فلا يجوز أن يكتب به كلام الله.
وشاهدت شيخنا يرسل إلى المصروع، من يخاطب الروح التي فيه ويقول: قال لك الشيخ: اخرجي، فإن هذا لا يحل لك، فيفيق المصروع، وربما خاطبها بنفسها، وربما كانت الروح ماردة فيخرجها بالضرب فيفيق المصروع ولا يحس بألم، وقد شاهدنا نحن وغيرنا منه ذلك مرارًا.
وكان كثيرًا ما يقرأ في أذن المصروع: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)} [المؤمنون: 115].
وحدثني أنه قرأها مرة في أذن المصروع، فقالت الروح: نعم، ومد بها صوته، قال: فأخذت له عصا وضربته بها في عروق عنقه حتى تخلت يداي من الضرب، ولم يشك الحاضرون بأنه يموت لذلك الضرب، ففي أثناء الضرب قالت: أنا أحبه، فقلت لها: هو لا يحبك، قالت: أنا أريد أن أحج به، فقلت لها: هو لا يريد أن يحج معك، فقالت: أنا أدعه كرامة لك، قال: قلت: لا، ولكن طاعة لله ورسوله، قالت: فأنا أخرج منه، قال: فقعد المصروع يلتفت يمينًا وشمالًا، وقال ما جاء بي إلى حضرة الشيخ؟ قالوا له: وهذا الضرب كله، فقال: وعلى أي شيء يضربني الشيخ ولم أذنب، ولم يشعر بأنه وقع به ضرب ألبتة.
وكان يعالج بآية الكرسي، وكان يامر بكثرة قراءة المصروع ومن يعالجه بها وبقراءة المعوذتين. [المستدرك 3/ 140 - 141]
2903 -
إذا كان اليهودي أو النصراني خبيرًا بالطب ثقة عند الإنسان جاز له أن يستطبه، كما يجوز له أن يودعه المال وأن يعامله كما قال تعالى: {وَمِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75].
وفي "الصحيح"
(1)
: "أن النبي صلى الله عليه وسلم استأجر رجلًا مشركًا هاديًا خِرِّيتًا" والخريت: الماهر بالهداية، و"أْتَمَنَهُ على نفسه وماله"، "وكانت خزاعة عَيْبةَ [نُصْح] لرسل الله صلى الله عليه وسلم مسلمهم وكافرهم"
(2)
، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم:"أمر أن يستطبّ الحارث بن كلدة وكان كافرًا".
وإذا أمكنه أن يستطب مسلمًا فهو كما لو أمكنه أن يودعه أو يعامله فلا ينبغي أن يعدل عن ذلك، وأما إذا احتاج إلى ائتمان الكتابي أو استطبابه فله ذلك، ولم يكن من ولاية اليهود والنصارى المنهي عنها، وإذا خاطبه بالتي هي أحسن كان حسنًا، فإن الله تعالى يقول:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46]. [المستدرك 3/ 141]
* * *
(يستحب البكاء على الميت رحمة)
2904 -
يستحب البكاء على الميت رحمة له، وهو أكمل من الفرح لقوله صلى الله عليه وسلم:"هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده" متفق عليه
(3)
. [المستدرك 1/ 147]
* * *
(1)
البخاري (2263).
(2)
البخاري (2731).
ومعنى عيبة نصح: أي: محل نصحه وموضع سره وأمانته، والعيبة في الأصل ما يوضع فيه الثياب لحفظها، والنصح الخالص من الشوائب.
تنبيه: ما بين المعقوفتين من صحيح البخاري، وبها يصح المعنى.
(3)
رواه البخاري (7377)، ومسلم (923).
(غسل الميت وتكفينه)
2905 -
من ظن أن غيره لا يقوم بأمر الميت تعين عليه. [المستدرك 3/ 142]
2906 -
تركُ النبي صلى الله عليه وسلم غسل الشهيد والصلاة عليه يدل على عدم الوجوب، أما استحباب
(1)
الترك فلا يدل على التحريم. [المستدرك 3/ 142]
* * *
(الصلاة عليه)
2907 -
قال شيخنا: كان يشكل عليَّ أحيانًا حال من أصلي عليه الجنائز: هل هو مؤمن، أو منافق؟ فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فسألته عن مسائل عديدة منها هذه المسألة، فقال:"يا أحمد: الشرط، الشرط، أو قال: علق الدعاء بالشرط". [المستدرك 3/ 143]
2908 -
يُصلّى على الجنازة مرة بعد أخرى، لأنه دعاء، وهو وجه في المذهب، واختاره ابن عقيل في الفنون.
وقال أبو العباس في موضع آخر: ومن صلى على الجنازة فلا يعيدها إلا لسبب؛ مثل أن يعيد غيره الصلاة فيعيدها معه، أو يكون هو أحق بالإمامة من الطائفة التي صلت أولًا فيصلي بهم. [المستدرك 3/ 143]
2909 -
يُصلّى على القبر ولو إلى شهر، وهو مذهب أحمد. [المستدرك 3/ 143]
2910 -
الصواب أن الغائب إذا مات ببلد لم يصل عليه فيه صلي عليه صلاة الغائب، كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي؛ لأنه مات بين الكفار ولم يصل عليه، وإن صلي عليه حيث مات لم يصل عليه صلاة الغائب؛ لأن
(1)
قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى في حاشية الاختيارات (ص 131): لعلها: (أما مجرد)، بدل:(أما استحباب).
الفرض قد سقط بصلاة المسلمين عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم صلى صلى على الغائب، وتركُه وفعلُه سُنَّة، وهذا له موضع وهذا له موضع. [المستدرك 3/ 143]
2911 -
من مات وكان لا يزكي ولا يصلي إلا في رمضان: ينبغي لأهل العلم والدين أنْ يَدَعُو الصلاة عليه عقوبة ونكالًا لأمثاله؛ لتركه صلى الله عليه وسلم الصلاة على القاتل وعلى الغال، والمدين الذي لا وفاء له، ولا بد أن يصلي عليه بعض الناس
(1)
. [المستدرك 3/ 143 - 143]
2912 -
يستحب القيام للجنازة إذا مرت به، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار ابن عقيل. [المستدرك 3/ 145]
2913 -
يتبع الجنازة ولو لأجل أهله فقط؛ إحسانًا إليهم لتألفهم، أو مُكافأةً
(2)
أو غير ذلك. [المستدرك 3/ 145]
2914 -
الجنازة التي فيها منكر؛ مثل أن يحمل قدامها أو وراءها الخبز والغنم أو غير ذلك من البدع الفعلية أو القولية: فهل له أن يمتنع من تشييعها؟ على قولين هما روايتان عن أحمد.
والصحيح أنه يشيعها؛ لأنه حق للميت فلا يسقط بفعل غيره، وينكر المنكر بحسبه، وإن كان ممن إذا امتنع تركوا المنكر امتنع، بخلاف الوليمة فإن صاحب الحق هو فاعل المنكر فسقط حقُّهُ لمعصيته؛ كالمتلبس بمعصيةٍ لا يُسَلَّمُ عليه حال تلَبُّسِهِ بها. [المستدرك 3/ 145]
2915 -
عمل العرس للميت من أعظم البدع المنكرات، وكذلك الضرب بالدف عند الجنازة، لكن يضرب به عند العرس، وكرهه بعضهم مطلقًا، والصحيح الفرق، وكان دفهم ليس له صلاصل. [المستدرك 3/ 145]
* * *
(1)
فالشيخ رحمه الله تعالى يرى أن تارك الصلاة إلا يكفر إلا إذا تركها بالكليّة.
(2)
في الأصل: (مكافئة)، والتصويب من الفتاوى الكبرى (5/ 359).
(حمل الميت ودفنه)
2916 -
كان الميِّتُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج به الرجال يحملونه إلى المقبرة، لا يسرعون ولا يبطئون؛ بل عليهم السكينة، لا نساء معهم، ولا يرفعون أصواتهم، لا بقراءةٍ ولا غيرها، وهذه هي السُّنَّة باتفاق المسلمين. [المستدرك 3/ 146]
2917 -
لا يستحب للرجل أن يحفر قبره قبل أن يموت؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك لا هو ولا أصحابه، والعبد لا يدري أين يموت، وإذا كان مقصود الرجل الاستعداد للموت فهذا يكون بالعمل الصالح
(1)
. [المستدرك 3/ 146]
2918 -
في لَحْدِ الرجلِ للمرأة نزاعٌ: الصحيحُ أنه إنْ كان مِن أهل الخير يلحدها. [المستدرك 3/ 146]
2919 -
حديثُ عقبةَ بن عامر: "ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا"
(2)
فسر بعضهم القبر بأنه الصلاة على الجنازة، وهذا ضعيف؛ لأن صلاة الجنازة لا تُكره في هذا الوقت بالإجماع، وإنما معناه: تعمُّدُ تأخيرِ الدفن إلى هذه الأوقات، كما يُكره تعمُّدُ تأخيرِ صلاةِ العصر إلى اصفرار الشمس بلا عذر، فأما إذا وقع الدفن في هذه الأوقات بلا تعمُّدٍ فلا يكره. [المستدرك 3/ 146]
2920 -
يكره دفن اثنين فأكثر في قبر واحد
(3)
. [المستدرك 3/ 147]
2921 -
لا بد أن تكون مقابر أهل الذمة متميزة عن مقابر المسلمين تمييزًا ظاهرًا بحيث لا يختلطون بهم، ولا تشتبه على المسلمين بقبورهم، وهذا آكد من التمييز بينهم حال الحياة بلبس الغيار ونحوه، فإن مقابر المسلمين فيها الرحمة ومقابر الكفار فيها العذاب؛ بل ينبغي مباعدة مقابرهم عن مقابر المسلمين، وكلما بعدت كان أصلح. [المستدرك 3/ 147]
(1)
في الأصل (من العمل الصالح)، والتصويب من جامع المسائل (4/ 219).
(2)
رواه مسلم (831).
(3)
إلا عند الحاجة.
2922 -
تدقين الميت
(1)
بعد دفنه، قيل: مباح، وقيل: مستحب، وقيل: مكروه.
وفعله واثلة بن الأسقع وأبو أمامة، والأظهر أنه مكروه
(2)
؛ لأنه لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم؛ بل المستحب الدعاء له، كما في "سنن أبي داود" أنه كان إذا مات رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم النبي صلى الله عليه وسلم على قبره فيقول:"اسألوا له التثبيت فإنه الآن يُسأل"
(3)
. [المستدرك 3/ 147]
2923 -
من بنى في مقبرة المسلمين ما يختص به فهو عاص، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم. [المستدرك 3/ 147]
2924 -
يحرم الإسراج على القبور، واتخاذ المساجد عليها وبينها، ويتعين إزالتها.
قال أبو العباس: لا أعلم فيه خلافًا بين العلماء المعروفين. [المستدرك 3/ 147]
2925 -
إذا لم يمكنه المشي إلى المسجد إلا على الجبَّانة
(4)
فله ذلك ولا يترك المسجد. [المستدرك 3/ 147]
2926 -
حديث أُبي الذي فيه: أجعل صلاتي كلها عليك، قال: "إذا
(1)
أي: وتلقين الميت بعد الدفن، فيقوم الملقن عند رأسه، بعد تسوية التراب عليه، فيقول: يا فلان اذكر ما خرجت عليه من الدنيا، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخوانًا، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية، لا ربب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. يُنظر: حاشية ابن قاسم على الروض المربع (5/ 114).
(2)
وهذا بخلاف ما جاء في مجموع الفتاوى (24/ 298)، حيث رجح الجواز فقال: فَالْأَقْوَالُ فِيهِ ثَلَاثَةٌ: الِاسْتِحْبَابُ وَالْكَرَاهَةُ وَالْإِبَاحَةُ، وَهَذَا أَعْدَلُ الْأقْوَالِ. اهـ.
وقال كذلك في مجموع الفتاوى (24/ 299): وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ جَائِزٌ وَلَيْسَ بِسُنَّةِ رَاتِبَةٍ. اهـ.
(3)
رواه أبو داود (3221)، وصخَحه الألباني في صحيح أبي داود ..
(4)
أي: المقبرة.
يكفيك الله همك ويغفر ذنبك"
(1)
المراد أنه يجعل له ربع دعائه أو نصفه أو ثلثه، إلى أن قال: كلها أي كل دعائي، فإن الصلاة في اللغة الدعاء، ولهذا قال له:"إذًا يكفيك الله همّك ويغفر ذنبك" فإنه إذا صلى عليه واحدة صلى الله عليه بها عشرًا.
ومن دعا لأخيه وكل الله بها ملكًا يقول: "ولك بمثله"
(2)
فإذا صلى عليه بَدَل دُعائِه كَفَاه الله همه وحصل له مقصود ذلك الدعاء من كفاية همه وكفران ذنبه، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، فكيف بمن يدعو للنبي صلى الله عليه وسلم بدل نفسه؟ إنه لحقيق أن يحصل له أكثر مما يطلبه لنفسه. [المستدرك 3/ 148]
2927 -
لا يُستحب إهداء القُرَبِ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ بل هو بدعة، هذا هو الصواب المقطوع به. [المستدرك 3/ 149]
2928 -
استفاضت الآثار بمعرفة الميت أهله وبأحوال أهله وأصحابه في الدنيا، وأن ذلك يعرض عليه، وجاءت الآثار بأنه يَرَى أيضًا، وبأنه يدري بما يُفعل عنده، فيُسرُّ بما كان حسنًا، ويتالم بما كان قبيحًا، وتجتمع أرواح الموتى فينزل الأعلى إلى الأدنى لا العكس. [المستدرك 3/ 149]
2929 -
لا يمنع الكافر من زيارة قبر أبيه المسلم. [المستدرك 3/ 149]
2930 -
قال ابن القيم رحمه الله -بعد أن ذكر أقوال الفرق في جواز البكاء على الميت وعدمه إذا كان معه نياحة أو ندب-: فإذا بكى على الميت البكاءَ المحرم، وهو البكاء الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه، والبكاء على الميت عندهم اسم لذلك، وهو معروف في نثرهم ونظمهم: تألَّم الميت بذلك في قبره، فهذا التألم هو عذابه بالبكاء عليه، وهذه طريقة شيخنا في هذه الأحاديث. [المستدرك 3/ 149]
(1)
رواه الترمذي (2457)، وقال: هذا حديث حسن.
(2)
رواه مسلم (2732).
2931 -
الميت يتأذى بنوح أهله عليه مطلقًا قاله طائفة من العلماء، وما يُهَيِّجُ المصيبةَ مِن إنشاد الشعر والوعظ فمن النياحة. [المستدرك 3/ 149]
* * *
(حكم الاستئجار على التلاوة)
2932 -
إِنَّ الِاسْتِئْجَارَ عَلَى التِّلَاوَةِ لَمْ يُرَخِّصْ فِيهِ أَحَد مِن الْعُلَمَاءِ. [23/ 364]
* * *
(بَابُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ)
2933 -
زَيارَةُ الْقُبُورِ عَلَى وَجْهَيْنِ: شَرْعِيَّةٌ وَبِدْعِيَّةٌ.
فَالشَّرْعِيَّةُ: مِثْلُ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ، وَالْمَقْصُودُ بِهَا الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ، كَمَا يُقْصَدُ بِذَلِكَ الصَّلَاةُ عَلَى جِنَازَيهِ.
وَأَمَّا الزِّيَارَةُ الْبِدْعِيَّةُ: وَهِيَ زِيَارَةُ أَهْلِ الشِّرْكِ مِن جِنْسِ زِيَارَةِ النَّصَارَى الَّذِينَ يَقْصِدُونَ دُعَاءَ الْمَيِّتِ وَالِاسْتِعَانَةَ بِهِ وَطَلَبَ الْحَوَائِجِ عِنْدَهُ، فَيُصَلُّونَ عِنْدَ قَبْرِهِ وَيَدْعُونَ بِهِ، فَهَذَا وَنَحْوُهُ لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا اسْتَحَبَّهُ أَحَدٌ مِن سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا.
وَلَمْ يَكُنِ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم وَالتَّابِعُونَ يَقْصِدُونَ الدُّعَاءَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا غَيْرِهِ؛ بَل كَرِهَ الْأَئِمَّةُ وُقُوفَ الْإِنْسَانِ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلدُّعَاءِ، وَقَالُوا: هَذِهِ بِدْعَةٌ لَمْ يَفْعَلْهَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ؛ بَل كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَعَلَى صَاحِبَيْهِ ثُمَّ يَذْهَبُونَ. [24/ 326 - 328، 26/ 148 - 149]
2934 -
الِاخْتِلَافُ إلَى الْقَبْرِ بَعْدَ الدَّفْنِ: لَيْسَ بِمُسْتَحَبٍّ، وَإِنَّمَا الْمُسْتَحَبُّ عِنْدَ الدَّفْنِ أَنْ يُقَامَ عَلَى قَبْرِهِ وَيُدْعَى لَهُ بِالتَّثْبِيتِ، كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي "سُنَنِهِ" عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّهُ كَانَ إذَا دَفَنَ الرَّجُلَ مِن أَصْحَابِهِ يَقُومُ عَلَى قَبْرِهِ وَيَقُولُ:
سَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ"
(1)
.
وَهَذَا مِن مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84]، فَإِنَّهُ لَمَّا نَهَى نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَعَنِ الْقِيَامِ عَلَى قُبُورِهِمْ كَانَ دَلِيلُ الْخِطَابِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يُصَلَّى عَلَيْهِ قَبْلَ الدَّفْنِ وَيُقَامُ عَلَى قَبْرِهِ بَعْدَ الدَّفْنِ. [24/ 330]
2935 -
وَأَمَّا مَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ مِن حَيَاةِ الشَّهِيدِ وَرِزْقِهِ وَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِن دُخولِ أَرْوَاحِهِمْ الْجَنَّةَ: فَذَهَبَ طَوَائِف إلَى أَنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِهِم دُونَ الصِّدِّيقِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ وَجَمَاهِيرُ أَهْلِ السُّنَّةِ: أَنَّ الْحَيَاةَ وَالرِّزْقَ وَدُخُولَ الْأَرْوَاحِ الْجَنَّةَ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالشَّهِيدِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ النُّصُوصُ الثَّابتَةُ، وَيَخْتَصُّ الشَّهِيدُ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِ الظَّانّ يَظُنُّ أَنَّهُ يَمُوتُ فَيَنْكُلُ عَنِ الْجِهَادَ، فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ لِيَزُولَ الْمَانِغ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْجِهَادِ وَالشَّهَادَةِ.
كَمَا نَهَى عَن قَتْلِ الْأَوْلَادِ خَشْيَةَ الْإِمْلَاقِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْوَاقِعُ، وَإِن كَانَ قَتْلُهُم لَا يَجُوزُ مَعَ عَدَمِ خَشْيَةِ الْإِمْلَاقِ. [24/ 332]
2936 -
الزِّيَارَةُ الْبِدْعِيَّةُ: هِيَ مِن أَسْبَابِ الشِّرْكِ بِاللهِ تَعَالَى، وَدُعَاء خَلْقِهِ، وَإِحْدَاث دِينٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ.
وَالزِّيَارَةُ الشَّرْعِيَّةُ: هِيَ مِن جِنْسِ الْإِحْسَانِ إلَى الْمَيِّتِ بِالدُّعَاءِ لَهُ؛ كَالْإِحْسَانِ إلَيْهِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَهِيَ مِنَ الْعِبَادَاتِ للهِ تَعَالَى الَّتِي يَنْفَعُ اللهُ بِهَا الدَّاعِيَ وَالْمَدْعُوَّ لَهُ؛ كَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَطَلَبِ الْوَسِيلَةِ وَالدُّعَاءِ لِسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ أَحْيَائِهِمْ وَأَمْوَاتِهِمْ. [24/ 343]
2937 -
مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ النِّسَاءَ مَأْذُونٌ لَهُنَّ فِي الزِّيَارَةِ وَأَنَّهُ أَذِنَ
(1)
صحَّحه الألباني في صحيح أبي داود (3221).
لَهُنَّ كَمَا أَذِنَ لِلرِّجَالِ، وَاعْتَقَدَ أَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم:"فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُدَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ"
(1)
: خِطَابٌ عَامٌّ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَالصَّحِيح أَنَّ النِّسَاءَ لَمْ يَدْخُلْنَ فِي الْإَذْنَ فِي زِيارَةَ الْقُبُورِ لِعِدَّةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: "فَزُورُوهَا" صِيغَةُ تَذْكِيرٍ، وَصِيغَةُ التَّذْكِيرِ إنَّمَا تَتَنَاوَلُ الرِّجَالَ بِالْوَضْعِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يُقَالَ: لَو كَانَ النِّسَاءُ دَاخِلَاتٍ فِي الْخِطَابِ لَاسْتَحَبَّ لَهُنَّ زِيارَةَ الْقُبُورِ كَمَا اسْتَحَبَّ لِلرِّجَالِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَمَا عَلِمْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْأَئِمَّةِ اسْتَحَبَّ لَهُنَّ زِيارَةَ الْقُبُورِ، وَلَا كَانَ النِّسَاءُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ يَخْرُجْنَ إلَى زِيارَةِ الْقُبُورِ كَمَا يَخْرُجُ الرِّجَالُ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْجَنَائِزِ أَوْكَدُ مِن زَيارَةِ الْقُبُورِ، وَمَعَ هَذَا فَقَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى النِّسَاءَ عَن اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَفِي ذَلِكَ تَفْوِيتُ صَلَاتِهِنَّ عَلَى الْمَيِّتِ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَحِبَّ لَهُنَّ اتِّبَاعَهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الصَّلَاةِ وَالثَّوَابِ فَكَيْفَ بِالزِّيَارَةِ؟!
بِخِلَافِ مَا إذَا أَمْكَنَ النِّسَاءَ أَنْ يُصَلِّينَ عَلَى الْمَيِّتِ بِلَا اتِّبَاعٍ كَمَا يُصَلِّينَ عَلَيْهِ فِي الْبَيْتِ
(2)
فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الدُّعَاءِ لَهُ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي الْبَيْتِ.
وَقَوْلُ الْقَائِلِ: مَفْسَدَةُ التَّشْيِيعِ أَعْظَمُ: مَمْنُوعٌ؛ بَل إذَا رُخِّصَ لِلْمَرْأَةِ فِي الزِّيَارَةِ كَانَ ذَلِكَ مَظِنَّةَ تَكْرِيرِ ذَلِكَ، فَتَعْظُمُ فِيهِ الْمَفْسَدَةُ، وَيَتَجَدَّدُ الْجَزَعُ وَالْأَذَى لِلْمَيِّتِ، فَكَانَ ذَلِكَ مَظِنَّةَ قَصْدِ الرِّجَالِ لَهُنَّ وَالِافْتِتَانِ بِهِنَّ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْصَارِ، فَإِنَّهُ يَقَعُ بِسَبَب زِيارَةِ النِّسَاءِ الْقُبُورَ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالْفَوَاحِشِ وَالْفَسَادِ مَا لَا يَقَعُ شَيْءٌ مِنْهُ عِنْدَ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ.
(1)
قال الألباني في النصيحة (157): صحيح بشواهده.
(2)
أو في المسجد كما هو الحال اليوم.
وَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ جِنْسَ زِيارَةِ النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِن جِنْسِ اتِّبَاعِهِنَّ، وَأَنَّ نَهْيَ الِاتِّبَاعِ إذَا كَانَ نَهْيَ تَنْزِيهٍ لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَكُونَ نَهْيُ الزِّيَارَةِ نَهْيَ تَحْرِيمٍ.
وَمِن أُصُولِ الشَّرِيعَةِ: أَنَّ الْحِكْمَةَ إذَا كَانَت خَفِيَّةً أَو [غَيْرَ]
(1)
مُنْتَشِرَةٌ عَلَّقَ الْحُكْمَ بِمَظِنَّتِهَا، فَيُحَرَّمُ هَذَا الْبَابُ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، كمَا حَرَّمَ النَّظَرَ إلَى الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَكَمَا حَرَّمَ الْخَلْوَةَ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ النَّظَرِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ مَا يُعَارِضُ هَذِهِ الْمَفْسَدَةَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ إلَّا دُعَاؤُهَا لِلْمَيِّتِ، وَذَلِكَ فمْكِن فِي بَيْتِهَا؛ وَلهذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: إذَا عَلِمَت الْمَرْأَةُ مِن نَفْسِهَا أَنَّهَا إذَا زَارَت الْمَقْبَرَةَ بَدَا مِنْهَا مَا لَا يَجُوزُ مِن قَوْلٍ أَو عَمَلِ: لَمْ تَجُزْ لَهَا الزِّيَارَةُ بِلَا نِزَاعٍ. [24/ 343 - 356]
2938 -
لَيْسَ فِي زِيارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثٌ حَسَنٌ وَلَا صَحِيحٌ.
وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ مَالِكًا رحمه الله كَرِهَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: زُرْت قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمَالِكٌ قَد أَدْرَكَ النَّاسَ مِنَ التَّابِعِينَ وَهُم أَعْلَمُ النَّاسِ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ تُعْرَفُ عِنْدَهُم أَلْفَاظُ زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلهَذَا كَرِهَ مَن كَرِهَ مِنَ الْأَئِمَّةِ أَنْ يَقِفَ مُسْتَقْبِلَ الْقَبْرِ يَدْعُو.
بَل وَكَرِهَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنْ يَقُومَ لِلدُّعَاءِ لِنَفْسِهِ هُنَاكَ، وَذَكَرَ أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُن مِن عَمَلِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَأَنَّهُ لَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا.
وَقَد ذَكَرُوا فِي أَسْبَابِ كَرَاهَتِهِ أَنْ يَقُولَ: زُرْت قَبْرَ النَّبِيِّ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ قَد صَارَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يُرِيدُ بِهِ الزِّيَارَةَ الْبِدْعِيَّةَ، وَهِيَ قَصْدُ الْمَيِّتِ لِسُؤَالِهِ وَدُعَائِهِ وَالرَّغْبَةِ إلَيْهِ فِي قَضَاءِ الْحَوَائِجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَهُم يَعْنُونَ بِلَفْظِ الزِّيَارَةِ مِثْل هَذَا، وَهَذَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، فَكَرِهَ
(1)
الذي يظهر أن هذه اللفظة مقحمة، أو كتبت سهوًا، وقد ذكر الشيخ هذه القاعدة بنصها في غير موضع بالإثبات لا بالنفي (7/ 210، 25/ 257).
مَالِكٌ أَنْ يُتَكَلَّمَ بِلَفْظٍ مُجْمَلٍ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى فَاسِدٍ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالسَّلَامِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا أَمَرَ اللهُ بِهِ.
فَلَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَرْوِيَ بِإِسْنَادٍ ثَابِتٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَن أصْحَابِهِ شَيْئًا فِي زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ بَل الثَّابِتُ عَنْهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" يُنَاقِضُ الْمَعْنَى الْفَاسِدَ الَّذِي تَرْوِيهِ الْجُهَّالُ بِهَذَا اللَّفْظِ؛ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا"
(1)
.
وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَدُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ"
(2)
يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا .. وَأَشْبَاهُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِي "الصَّحَاحِ" وَ"السُّنَنِ" وَالْكُتُب الْمُعْتَمَدَةِ.
فَكَيْفَ يَعْدِلُ مَن لَهُ عِلْمٌ وَإِيمَانٌ عَن مُوجِبِ هَذِهِ النُّصُوصِ الثَّابِتَةِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ إلَى مَا يُنَاقِضُ مَعْنَاهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي لَمْ يُثْبِتْ مِنْهَا شَيْئًا أَحَدٌ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ. [24/ 356 - 359]
2939 -
صَحَّ عَن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "لَعَنَ اللهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ"
(3)
رَوَاهُ أَحْمَد وَابْنُ مَاجَه وَالتِّرْمِذِي وَصَحَّحَه.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: "لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجِ"
(4)
رَوَاهُ أَهْلُ "السُّنَنِ" الْأَرْبَعَةِ: أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي وَالتِّرْمِذِي وَابْنُ مَاجَه.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَعَلَى هَذَا الْعَمَلُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ نَهَى زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ عَن ذَلِكَ
(5)
. [24/ 360]
(1)
قال الألباني في أحكام الجنائز (280): مرسل بإسناد قوي.
(2)
رواه البخاري (1390)، ومسلم (529).
(3)
صحَّحه الألباني في صحيح الجامع (5109).
(4)
ضعَّفه الألباني في ضعيف أبي داود (3236).
(5)
قال بعض العلماء كَإِسْحَاقِ بْنِ رَاهَوَيْه وغيره: اللَّعْنُ قَد جَاءَ بِلَفْظِ الزَّوَّارَاتِ وَهُنَّ الْمُكْثِرَاتُ =
2940 -
ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ"
(1)
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ حِينَ يُوَلُّونَ عَنْهُ". وَثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ"
(2)
عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ عَلَى قَلِيبِ بَدْرٍ فَقَالَ: "هَل وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ "، وَقَالَ:"إنَّهُم يَسْمَعُونَ الْآنَ مَا أَقُولُ".
فَهَذِهِ النُّصُوصُ وَأَمْثَالُهَا تُبَيِّنُ أَنَّ الْمَيِّتَ يَسْمَعُ فِي الْجُمْلَةِ كَلَامَ الْحَيِّ، وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ السَّمْعُ لَهُ دَائِمًا؛ بَل قَد يَسْمَعُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، كَمَا قَد يَعْرِضُ لِلْحَيِّ فَإِنَّهُ قَد يَسْمَعُ أَحْيَانًا خِطَابَ مَن يُخَاطِبُهُ وَقَد لَا يَسْمَعُ لِعَارِضٍ يَعْرِضُ لَهُ، وَهَذَا السَّمْعُ سَمْعُ إدْرَاكٍ لَيْسَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ جَزَاءٌ، وَلَا هُوَ السَّمْعُ الْمَنْفِيُّ بِقَوْلِهِ:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80]، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ سَمْعُ الْقَبُولِ وَالِامْتِثَالِ، فَإِنَّ اللهَ جَعَلَ الْكَافِرَ كَالْمَيِّتِ الَّذِي لَا يَسْتَجِيبُ لِمَن دَعَاهُ، وَكَالْبَهَائِمِ الَّتِي تَسْمَعُ الصَّوْتَ وَلَا تَفْقَهُ الْمَعْنَى؛ فَالْمَيِّتُ وَإِن سَمِعَ الْكَلَامَ وَفَقِهَ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إجَابَةُ الدَّاعِي وَلَا امْتِثَالُ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ فَلَا يَنْتَفِعُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ لَا يَنْتَفِعُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَإِن سَمِعَ الْخِطَابَ وَفَهِمَ الْمَعْنَى. [24/ 364]
2941 -
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: هَل تُعَادُ رُوحُهُ إلَى بَدَنِهِ ذَلِكَ الْوَقْتَ
(3)
أَمْ تَكُونُ
= للزِّيَارَةِ، فَالْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ فِي الدَّهْرِ لَا تَتَنَاوَلُ ذَلِكَ وَلَا تَكونُ الْمَرْأةُ زَائِرَةً، وَيَقُولُونَ: عَائِشَةُ زَارَتْ مَرَّةَ وَاحِدَةً وَلَمْ تَكُنْ زَوَّارَةً.
وممن قال بهذا من المعاصرين: العلَّامة الألباني رحمه الله.
وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالتَّحْرِيم: فَيَقُولُونَ قَد جَاءَ بِلَفْظِ: "الزَّوَّارَاتِ" وَلَفْظُ: "الزَّوَّارَاتِ" قَد يَكُونُ لِتَعَدُّدِهِنَّ، كَمَا يُقَالُ: فَئحْتُ الْأَبْوَابَ، إذ لِكُلِّ بَابٍ فَتْحٌ يَخُصُّهُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى:{حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73]، وَمَعْلُومٌ أَنَّ لِكُلِّ بَابِ فَتْحًا وَاحِدًا.
قَالُوا: وَلأَنَّهُ لَا ضَابِطَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا يُحَرَّمُ وَمَا لَا يُحَرَّمُ وَاللَّعْنُ صَرِيحٌ فِي التَّحْرِيمِ.
يُنظر: مجموع الفتاوى (24/ 354 - 355)، وكتاب الجنائز للألباني (180 - 186).
(1)
رواه البخاري (1338)، مسلم (2870).
(2)
رواه البخاري (4026)، ومسلم (2873).
(3)
أي: إذا زاره أحدٌ وسلّم عليه.
تُرَفْرِفُ عَلَى قَبْرِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَغَيْرِهِ؟ فَإِنَّ رُوحَهُ تُعَادُ إلَى الْبَدَنِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ، وَتُعَادُ أَيْضًا فِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَأَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائي وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِي وَغَيْرُهُم:"أَنَّ نَسَمَةَ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللهُ إلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ"
(1)
.
وَمَعَ ذَلِكَ فَتَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ مَتَى شَاءَ اللهُ، وَذَلِكَ فِي اللَّحْظَةِ بِمَنْزِلَةِ نُزُولِ الْمَلَكِ وَظُهُورِ الشُّعَاعِ فِي الْأَرْضِ وَانْتِبَاهِ النَّائِمِ.
وهذا جاء في عدة آثار
(2)
، أن الأرواح تكون في أفنية القبور. [24/ 365]
2942 -
لَا نِزَاعَ بَيْنَ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي وُصُولِ ثَوَابِ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ كَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ
(3)
، كَمَا يَصِلُ إلَيْهِ أَيْضًا الدُّعَاءُ وَالِاسْتِغْفَارُ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ وَالدُّعَاءُ عِنْدَ قَبْرِهِ.
وَتَنَازَعُوا فِي وُصُولِ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ، كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْجَمِيعَ يَصِلُ إلَيْهِ. [24/ 366]
2943 -
قَوْلُ السَّائِلِ: هَل يُؤْذِيهِ الْبُكَاءُ عَلَيْهِ؟ الصَّوَابُ أَنَّهُ يَتَأَذَّى بِالْبُكَاءِ عَلَيْهِ كَمَا نَطَقَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: "إنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ"
(4)
.
فَهُوَ لَمْ يَقُلْ: إنَّ الْمَيِّتَ يُعَاقَبُ بِبُكَاءِ اهْلِهِ عَلَيْهِ؛ بَل قَالَ: "يُعَذَّبُ"، وَالْعَذَابُ أَعَمُّ مِنَ الْعِقَابِ، فَإِنَّ الْعَذَابَ هُوَ الْأَلَمُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَن تَأَلَّمَ بِسَبَبٍ كَانَ ذَلِكَ عِقَابًا لَهُ عَلَى ذَلِكَ السَّبَبِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ
(1)
رواه الإمام أحمد (15777)، والنسائي (2073)، وابن ماجه (4271)، وصحَّحه محققو المسند، والألباني في صحيح الجامع الصغير (2373 - 1066).
(2)
لعل صواب العبارة: هذا، وجاء في عدة آثار .. وهي هكذا في النسخة التي حققها: أنور الباز، عامر الجزار.
(3)
إلى الميت.
(4)
رواه البخاري (1304)، ومسلم (927).
الْعَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ"
(1)
، فَسَمَّى السَّفَرَ عَذَابًا وَلَيْسَ هُوَ عِقَابًا عَلَى ذَنْبٍ.
وَالْإِنْسَانُ فِي قَبْرِهِ يُعَذَّبُ بِكَلَامِ بَعْضِ النَّاسِ وَيَتَألَّمُ بِرُؤَيةِ بَعْضِهِمْ وَبِسَمَاعِ كَلَامِهِ. وَلهَذَا أَفْتَى الْقَاضِي أَئو يَعْلَى: بِأَنَّ الْمَوْتَى إذَا عُمِلَ عِنْدَهُم الْمَعَاصِي فَإِنَّهُم يَتَأَلَّمُونَ بِهَا كَمَا جَاءَت بِذَلِكَ الْآثَارُ.
وَقَد يَنْدَفِعُ حُكْمُ السَّبَبِ بِمَا يُعَارِضُهُ، فَقَد يَكُونُ فِي الْمَيِّتِ مِن قُوَّةِ الْكَرَامَةِ مَا يَدْفَعُ عَنْهُ مِنَ الْعَذَابِ، كَمَا يَكُونُ فِي بَعْضِ النَّاسِ مِنَ الْقُوَّةِ مَا يَدْفَعُ ضَرَرَ الْأَصْوَاتِ الْهَائِلَةِ وَالْأَرْوَاحِ وَالصُّوَرِ الْقَبِيحَةِ.
وَمَا يَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِ فِي الدُّنْيَا وَالْبَرْزَخِ وَالْقِيَامَةِ مِنَ الْأَلَمِ
(2)
الَّتِي هِيَ عَذَابٌ فَإِنَّ ذَلِكَ يُكَفِّرُ اللهُ بِهِ خَطَايَاهُ.
وَمَا ذَكَرْنَا فِي أَنَّ الْمَوْتَى يَسْمَعُونَ الْخِطَابَ وَيَصِلُ إلَيْهِم الثَّوَابُ وَيُعَذَّبُونَ بِالنِّيَاحَةِ؛ بَل وَمَا لَمْ يَسْأَلْ عَنْهُ السَّائِلُ مِن عِقَابِهِم فِي قُبُورِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ: فَقَد يُكْشَفُ لِكَثِيرٍ مِن أَبْنَاءِ زَمَانِنَا يَقَظَةً وَمَنَامًا، وَيَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَيَتَحَقَّقُونَهُ، وَعِنْدَنَا مِن ذَلِكَ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ، لَكِنَّ الْجَوَابَ فِي الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ يُعْتَمَدُ فِيهِ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ التَّصْدِيقُ بِهِ، وَمَا كُشِفَ لِلْإِنْسَانِ مِن ذَلِكَ أَو أَخْبَرَهُ بِهِ مَن هُوَ صَادِقٌ عِنْدَهُ فَهَذَا يَنْتَفِعُ بِهِ مَن عَلِمَهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِمَّا يَزِيدُهُ إيمَانًا وَتَصْدِيقًا بِمَا جَاءَت بِهِ النُّصُوصُ، وَلَكِنْ لَا يَجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ الْإِيمَانُ بِغَيْرِ مَا جَاءَت بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، فَإِنَّ اللهَ عز وجل أَوْجَبَ التَّصْدِيقَ بِمَا جَاءَت بِهِ الْأَنْبِيَاءُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 136]. [24/ 369 - 377]
2944 -
أَطْفَالُ الْكُفَّارِ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِيهِمْ: أَنْ يُقَالَ فِيهِمْ: اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانوا عَامِلِينَ، كَمَا قَد أَجَابَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. [24/ 372]
(1)
رواه البخاري (1804)، ومسلم (1927).
(2)
هكذا في الأصل! ولعل الصواب: (الآلام)، ويدل عليه ما بعده:(الَّتِي هِيَ).
2945 -
ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي "الصَّحِيحِ": "أَنَّ الْمَيِّتَ يُسْأَلُ فِي قَبْرِهِ: فَيُقَالُ لَهُ: مَن رَبُّك؟ وَمَا دِينُك؟ وَمَن نَبِيُّك؟ فَيُثبِّتُ اللهُ الْمُؤْمِنَ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فَيَقُولُ: اللهُ رَبِّي وَالْإِسْلَامُ دِينِي وَمُحَمَّدٌ نَبِيِّى، وَيُقَالُ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هُوَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ"
(1)
، وَهَذَا تَأْوِيلُ قَوْله تَعَالَى:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27].
وَقَد صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ. [24/ 379]
2946 -
التَّعْزِيَةُ مُسْتَحَبَّةٌ فَفِي التِّرْمِذِيِّ
(2)
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَن عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ". [24/ 380]
2947 -
قَوْلُ الْقَائِلِ: مَا نَقَصَ مِن عُمُرِهِ زَادَ فِي عُمُرِك: غَيْرُ مُسْتَحَّبٍّ؛ بَل الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ بِمَا يَنْفَعُ مِثْل أَنْ يَقُولَ: أَعْظَمَ اللهُ أَجْرَك وَأَحْسَنَ عَزَاك وَغَفَرَ لِمَيِّتِك
(3)
. [24/ 381]
(1)
رواه الترمذي (3120)، وابن ماجه (4269)، والنسائي (2057)، وصحَّحه الترمذي والألباني في تخريج المشكاة (127).
(2)
(1073)، وقال: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلا مِن حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ.
وأورده ابن الجوزي في الموضوعات. الموضوعات (3/ 223).
وضعَّفه الألباني في ضعيف الترمذي (72) وإرواء الغليل (3/ 220) وقال: لكنه لا يبلغ أن يكون موضوعًا كما زعم ابن الجوزي، وقد رد عليه المحققون ذلك. اهـ.
ورواه ابن ماجه (1601) بلفظ: "مَا مِن مُؤْمِنٍ يُعَزِّي أَخَاهُ بِمُصِيبَةٍ، إِلَّا كَسَاهُ اللهُ سُبْحَانَهُ مِن حُلَلِ الْكَرَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
وضعَّفه الألباني في إرواء الغليل (3/ 216).
(3)
هذا يدل على أنه لم يرد في الشرع لفظ معين في التعزية، بل الأمر في ذلك واسع ومطلق، قال ابن قدامة المقدسي رحمه الله:"ولا نعلم في التعزية شيئًا محدودًا". اهـ. المغني (4/ 405).
فائدة: قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله: لا أرى فيها مانعًا إذا قال الإنسان: "البقية في حياتك"، ولكلن الأولى أن يقال:"إن في الله خلفًا من كل هالك"، أحسن من أن يقال:"البقية في حياتك"، كذلك الرد عليه إذا غير المعزي هذا الأسلوب فسوف يتغير الرد. فتاوى ابن عثيمين (3/ 90).
2948 -
النِّيُاحَةُ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْمَعْرُوفِينَ. [24/ 382]
2949 -
الَّذِي يَفْعَلُهُ مَن سَافَرَ إلَى قَبْرِ غَيْرِهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّمَا هُوَ مِن نَوْعِ الشِّرْكِ؛ كَدُعَائِهِمْ، وَطَلَبِ الْحَوَائِجِ مِنْهُمْ، وَاتِّخَاذِ قبُورِهِمْ مَسَاجِدَ وَأَعْيَادًا وَأَوْثَانًا، وَهَذَا مُحَرَّمٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ.
فَإِنْ قُلْت: فَقَد يَفْعَلُ بَعْضُ النَّاسِ عِنْدَ قَبْرِهِ مِثْل هَذَا؟
قُلْت لَك: أَمَّا عِنْدُ الْقَبْرِ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ اللهَ أَجَابَ دَعْوَتَهُ حَيْثُ قَالَ: "اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ"
(1)
.
وَأَمَّا فِي مَسْجِدِهِ: فَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ الْجُهَّالِ، وَأَمَّا مَن يَعْلَمُ شَرْعَ الْإِسْلَامِ فَإِنَّمَا يَفْعَلُ مَا شُرعَ، وَهَؤُلَاءِ يَنْهَوْنَ أُولَئِكَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، فَلَا يَجْتَمِعُ الزُّوَّارُ عَلَى الضَّلَالِ.
وَامَّا قَبْرُ غَيْرِهِ فَالْمُسَافِرُونَ إلَيْهِ كُلُّهُم جُهَّالٌ ضَالُّونَ مُشْرِكُونَ، وَيَصِيرُونَ عِنْدَ نَفْسِ الْقَبْرِ، وَلَا أَحَدَ هُنَاكَ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ. [27/ 268 - 269]
2950 -
اتَّفَقَ السَّلَفُ وَأَئِمَّةُ الدِّينِ عَلَى أَنَّ أَهْلَ مَدِينَتِهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَزُورُونَ قَبْرَهُ؛ بَل وَلَا يَقِفُونَ عِنْدَهُ لِلسَّلَامِ إذَا دَخَلُوا الْمَسْجِدَ وَخَرَجُوا، وَإِن لَمْ يُسَمَّ هَذَا زِيارَةً؛ بَل يُكْرَهُ لَهُم ذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِ السَّفَرِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مَالِكٌ، وَبَيَّنَ أنَّ ذَلِكَ مِن الْبِدَعِ الَّتِي لَمْ يَكُن صَدْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَفْعَلُونَهُ. [27/ 243]
2951 -
مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى حَفِظَ عَامَّةَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ بِبَرَكَةِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَتَمَكَّن النَّاسُ مَعَ ظُهُورِ دِينِهِ أَنْ يَتَّخِذُوا قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ مَسَاجِدَ، كَمَا أَظْهَرَ مِن الْإِيمَانِ بِنُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَمَا جَاؤُوا بِهِ مِن إعْلَانِ ذِكْرِهِمْ وَمَحَبَّتِهِمْ وَمُوَالَاتِهِمْ وَالتَّصْدِيقِ لِأَقْوَالِهِمْ وَالِاتبُاعِ لِأَعْمَالِهِمْ: مَا لَمْ يَكُن هَذَا لِأُمَّةٍ أُخْرَى.
(1)
رواه مالك في الموطأ (475).
وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ مِن جِهَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ تَصْدِيقُهُم فِيمَا أَخْبَرُوا، وَطَاعَتُهُم فِيمَا أَمَرُوا، وَالِاقْتِدَاءُ بِهِم فِيمَا فَعَلُوا، وَحُبُّ مَا كَانُوا يُحِبُّونَهُ، وَبُغْضُ مَا كَانُوا يُبْغِضُونَهُ، وَمُوَالَاةُ مَن يُوَالُونَهُ، وَمُعَادَاةُ مَن يُعَادُونَهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَحْصُلُ إلَّا بِمَعْرِفَةِ أَخْبَارِهِمْ.
وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ مَمْلُوءَانِ مِن ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهَذَا أَمْرٌ ثَابِتٌ فِي الْقُلُوبِ مَذْكُورٌ بِالْأَلْسِنَةِ.
وَأَمَّا نَفْسُ الْقَبْرِ فَلَيْسَ فِي رُؤَيتِهِ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ؛ بَل أَهْلُ الضَّلَالِ يَتَّخِذُونَهَا أَوْثَانًا كَمَا كَانَت الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَتَّخِذُونَ قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مَسَاجِدَ، فَبِبَرَكَةِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَظْهَرَ اللهُ مِن ذِكْرِهِمْ وَمَعْرِفَةِ أَحْوَالِهِمْ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ وَتَنْتَفِعُ بِهِ الْعِبَادُ، وَأَبْطَلَ مَا يَضُرُّ الْخَلْقَ مِن الشِّرْكِ بِهِم وَإتِّخَاذِ قُبُورِهِمْ مَسَاجِدَ كَمَا كَانُوا يَتَّخِذُونَهَا فِي زَمَنِ مَن قَبْلَنَا.
وَلَمْ يَكُن عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ قَبْرُ نَبِيٍّ ظَاهِرٌ يُزَارُ، لَا بِسَفَر وَلَا بِغَيْرِ سَفَرٍ، لَا قَبْرُ الْخَلِيلِ وَلَا غَيْرُهُ.
وَلَمْ تَدَع الصَّحَابَةُ فِي الْإِسْلَامِ قَبْرًا ظَاهِرًا مِن قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ يَفْتَتِنُ بِهِ النَّاسُ، وَلَا يُسَافِرُونَ إلَيْهِ، وَلَا يَدْعُونَهُ، وَلَا يَتَّخِذُونَهُ مَسْجِدًا. [27/ 269 - 271]
2952 -
قَالَ سُفْيَانُ التَّمَّارُ: إنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُسَنَّمًا.
وَلَكِنْ كَانَ الدَّاخِلُ يُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِهِ: "مَا مِن أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عليه السلام"
(1)
(2)
، وَهَذَا السَّلَامُ مَشْرُوعٌ لِمَن كَانَ
(1)
رواه أبو داود (2041)، وحسَّنه الألباني في صحيح أبي داود (2041).
(2)
قال الشيخ في موضع آخر: الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمِ كَانُوا يَعْرِفُونَ أن هَذَا السَّلَامَ عَلَيْهِ عِنْدَ قَبْرِهِ .. : لَيْسَ مِن خَصَائِصِهِ، وَلَا فِيهِ فَضِيلَة لَهُ عَلَى غيْرِهِ، بَل هُوَ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ كُلِّ مُسْلِمٍ حَيٍّ وَمَيِّتٍ، وَكُلُّ مُؤمِنٍ يَرُدُّ السَّلَامَ عَلَى مَن سَلَّمَ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَيْسَ مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ، بَل إذَا لَقِيَهُ سَلَّمَ عَلَيْهِ، وَهَكَذَا إذَا زَارَ الْقَبْرَ يُسَلِّمُ عَلَى الْمَيِّتِ. (27/ 413)
يَدْخُلُ الْحُجْرَةَ، وَهَذَا السَّلَامُ هُوَ الْقَرِيبُ الَّذِي يَرُدُّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى صَاحِبِهِ.
وَأَمَّا السَّلَامُ الْمُطْلَقُ الَّذِي يُفْعَلُ خَارِجَ الْحُجْرَةِ وَفِي كُلِّ مَكَانٍ فَهُوَ مِثْلُ السَّلَامِ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ وَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ.
وَاللهُ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَى مَن يُصَلِّي عَلَيْهِ مَرَّةَ عَشْرًا، وَيُسَلِّمُ عَلَى مَن يُسَلِّمُ عَلَيْهِ مَرَّةً عَشْرًا، فَهَذَا هُوَ الَّذِي أُمِرَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ خُصُوصًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بِخِلَافِ السَّلَامِ عَلَيْهِ عِنْدَ قَبْرِهِ، فَإِنَّ هَذَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَبْرِهِ كَمَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِ فِي الْحَيَاةِ عِنْدَ اللِّقَاءِ.
وَأَمَّا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَالصَّلَاةُ عَلَى التَّعْيِينِ: فَهَذَا إنَّمَا أَمَرَ بِهِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَهُوَ الَّذِي أَمَرَ الْعِبَادَ أَنْ يُصَلُّوا عَلَيْهِ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. [27/ 324 - 325]
2953 -
ذَكَرَ أَصْحَابُ أَحْمَد فِي السَّفَرِ إلَى زَيارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ هَل تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ؟ أَرْبَعَة أَقْوَالٍ:
قِيلَ: لَا يَقْصُرُ مُطْلَقًا.
وَقِيلَ: يَقْصُرُ مُطْلَقًا.
وَقِيلَ: لَا يَقْصُرُ إلَّا إلَى قَبْرِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم.
وَقِيلَ: لَا يَقْصُرُ إلَّا إلَى قَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ وَقُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ دُونَ قُبُورِ الصَّالِحِينَ.
وَاَلَّذِينَ اسْتَثْنَوْا قَبْرَ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِهِمْ وَجْهَانِ
(1)
: أَحَدُهُمَا: -وَهُوَ الصَّحِيحُ- أَنَّ السَّفَرَ الْمَشْرُوعَ إلَيْهِ هُوَ السَّفَرُ إلَى مَسْجِدِهِ، وَهَذَا السَّفَرُ تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.
وَهَؤُلَاءِ رَأَوْا مُطْلَقَ السَّفَرِ وَلَمْ يُفَصِّلُوا بَيْنَ قَصْدٍ وَقَصْدٍ؛ إذ كَانَ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ لَا بُدَّ أَنْ يُصَلُّوا فِي مَسْجِدِهِ، فَكُلُّ مَن سَافَرَ إلَى قَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ فَقَد
(1)
لم يذكر الوجه الثاني، وقد يكون نسي ذكره لاستطراده وتفصيله في الوجه الأول.
سَافَرَ إلَى مَسْجِدِهِ الْمُفَضَّلِ، وَكَذَلِكَ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: فَمَن نَذَرَ زِيارَةَ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يُوفِي بِنَذْرِهِ، وَإِن نَذَرَ قَبْرَ غَيْرِهِ فَوَجْهَانِ.
وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِن الْعُلَمَاءِ يُطْلِقُ السَّفَرَ إلَى قَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ، وَعِنْدَهُم أَنَّ هَذَا يَتَضَمَّنُ السَّفَرَ إلَى مَسْجِدِهِ؛ إذ كَانَ كُلُّ مُسْلِمٍ لَا بُدَّ إذَا أَتَى الْحُجْرَةَ الْمُكَرَّمَةَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِهِ؛ فَهُمَا عِنْدَهُم مُتَلَازِمَانِ.
وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ: أَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهِ مِن لَوَازِمِ هَذَا السَّفَرِ، فَكُلُّ مَن سَافَرَ إلَى قَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ لَا بُدَّ أَنْ تَحْصُلَ لَهُ طَاعَةٌ وَقُرْبَةٌ يُثَابُ عَلَيْهَا بِالصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهِ.
وَأَمَّا نَفْسُ الْقَصْدِ فَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ يَقْصِدُونَ السَّفَرَ إلَى مَسْجِدِهِ.
وَظَنَّ بَعْضُهُم أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لِكَوْنه نَبِيًّا، فَعَدَّى ذَلِكَ فَقَالُوا: يُسَافِرُ إلَى سَائِرِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ كَذَلِكَ.
وَلهَذَا تَنَازَعَ النَّاسُ: هَل يُحْلَفُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ بِأَنَّهُ لَا يُحْلَفُ بِشَيْء مِن الْمَخْلُوقَاتِ الْمُعَظَمَةِ؛ كَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَالْكَعْبَةِ وَالْمَلَائِكَةِ: فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ؛ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ إلَى أَنَّهُ لَا يُحْلَفُ بِالنَّبِيِّ، وَلَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ، كَمَا لَا يُحْلَفُ بِشَيْءٍ مِن الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى مَن حَلَفَ بِشَيْء مِن ذَلِكَ وَحَنِثَ، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَد ثَبَتَ عَنْهُ فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّهُ قَالَ:"لَا تَحْلِفُوا إلَّا بِاللهِ"
(1)
.
وَعَن أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ رِوَايَةٌ أَنَّهُ يُحْلَفُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ خُصُوصًا، وَيَجِبُ ذِكْرُهُ فِي الشَّهَادَتَيْنِ وَالْأَذَانِ، فَلِلْإِيمَانِ بِهِ اخْتِصَاصٌ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ.
وَقَالَ ابْن عَقِيلٍ: بَل هَذَا لِكَوْنِهِ نَبِيًّا، وَطَرَدَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ.
(1)
رواه أبو داود (3248)، والنسائي (3769)، بهذا اللفظ، ومسلم (1646) بلفظ:"من كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله".
مَعَ أَنَّ الصَّوَابَ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ سَلَفُهُم وَخَلَفُهُم أَنَّهُ لَا يُحْلَفُ بِمَخْلُوقِ، لَا نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِ نَبِيٍ، وَلَا مَلَكٍ مِن الْمَلَائِكَةِ وَلَا مَلِكٍ مِن الْمُلُوكِ وَلَا شَيْخٍ مِن الشُّيُوخِ.
وَالنَّهْيُ عَن ذَلِكَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ. [27/ 346 - 349]
2954 -
زِيَارَةُ الْقُبُورِ لِمُجَرَّدِ الْحُزْنِ عَلَى الْمَيِّتِ لِقَرَابَتِهِ أَو صَدَاقَتِهِ: مُبَاحَةٌ، كَمَا يُبَاحُ الْبُكَاءُ عَلَى الْمَيِّتِ بِلَا نَدْبٍ وَلَا نِيَاحَةٍ، كَمَا زَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَن حَوْلَهُ وَقَالَ:"زُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكَرُكُم الْآخِرَةَ"
(1)
. فَهَذِهِ الزِّيَارَةُ كَانَ نَهَى عَنْهَا لِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ مِن الْمُنْكَرِ، فَلَمَّا عَرَفُوا الْإِسْلَامَ أَذِنَ فِيهَا؛ لِأَنَّ فِيهَا مَصْلَحَةٌ وَهُوَ تَذَكُّرُ الْمَوْتِ. [27/ 378]
2955 -
حَدَّثَنِي جِيرَانُ الْقَبْرِ الَّذِي بِجَبَلِ لُبْنَانَ بِالْبِقَاعِ الَّذِي يُقَالُ إنَّهُ قَبْرُ نُوحٍ، وَكَانَ قَد ظَهَرَ قَرِيبًا فِي أَثْنَاءِ الْمِائَةِ السَّابِعَةِ، وَأَصْلُهُ: أَنَّهُم شَمُّوا مِن قَبْرٍ رَائِحَةً طَيِّبَةً وَوَجَدُوا عِظَامًا كَبِيرَةً فَقَالُوا: هَذِهِ تَدُلُّ عَلَى كَبِيرِ خَلْقِ الْبِنْيَةِ فَقَالُوا - بِطَرِيقِ الظَّنِّ- هَذَا قَبْرُ نوحٍ، وَكَانَ بِالْبُقْعَةِ مَوْتَى كَثِيرُونَ مِن جِنْسِ هَؤُلَاءِ.
وَكَذَلِكَ بِدِمَشْقَ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مَشْهَدٌ يُقَالُ: إنَّهُ قَبْرُ أبي بْنِ كَعْبٍ، وَقَد اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ أُبيًّا لَمْ يَقْدَمْ دِمَشْقَ، وَإِنَّمَا مَاتَ بِالْمَدِينَةِ، فَكَانَ بَعْضُ النَّاسِ يَفولُ: إنَّهُ قَبْرُ نَصْرَانِيٍّ، وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ، فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى هُم السَّابِقُونَ فِي تَعْظِيمِ الْقُبُورِ وَالْمَشَاهِدِ
(2)
.
وَالنَّصَارَى أَشَدُّ غلُوًّا فِي ذَلِكَ مِن الْيَهُودِ.
وَاَلَّذِينَ يُعَظِّمُونَ الْقُبُورَ وَالْمَشَاهِدَ: لَهُم شَبَهٌ شَدِيدٌ بِالنَّصَارَى.
وَكَانَ بَعْضُ النَّصَارَى يَقُولُ لِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ: لنَا سَيِّدٌ وَسَيِّدَةٌ، وَلَكُمْ سَيِّدٌ وَسَيِّدَةٌ، لنَا السَّيِّدُ الْمَسِيحُ وَالسَّيِّدَةُ مَرْيَمُ، وَلَكُمْ السَّيِّدُ الْحُسَيْنُ وَالسَّيِّدَةُ نَفِيسَةُ.
(1)
رواه مسلم (976).
(2)
والرافضة اليوم مثلهم أو يفوقونهم.
فَالنَّصَارَى يَفْرَحُونَ بِمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالْجَهْلِ مِن الْمُسْلِمِينَ مِمَّا يُوَافِقُ دِينَهُم وَيُشَابِهُونَهُم فِيهِ، وَيُحِبُّونَ أَنْ يَقْوَى ذَلِكَ وَيَكْثُرَ
(1)
. [27/ 459 - 460]
2956 -
وَأَمَّا "بِنْتُ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ" فَهَذِهِ تُوُفيَتْ بِالشَّامِ فَهَذِهِ قَبْرُهَا مُحْتَمَلٌ، وَأَمَّا "قَبْرُ بِلَالٍ" فَمُمْكِنٌ؛ فَإِنَّهُ دُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ بِدِمَشْقَ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ دُفِنَ هُنَاكَ، وَأَمَّا الْقَطْعُ بِتَعْيِينِ قَبْرِهِ فَفِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّهُ يُقَالُ: إنَّ تِلْكَ الْقُبُورَ حُرِثَتْ.
وَمِنْهَا: الْقَبْرُ الْمُضَافُ إلَى "أُوَيْسٍ القرني" غَرْبِيِّ دِمَشْقَ؛ فَإِنَّ أُوَيْسًا لَمْ يَجِئْ إلَى الشَّامِ وَإِنَّمَا ذَهَبَ إلَى الْعِرَاقِ.
وَمِنْهَا: الْقَبْرُ الْمُضَافُ إلَى "هُودٍ عليه السلام" بِجَامِعِ دِمَشْقَ كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ فَإِنَّ هُودًا لَمْ يَجِئْ إلَى الشَّامِ؛ بَل بُعِثَ بِالْيَمَنِ وَهَاجَرَ إلَى مَكَّةَ.
وَأَمَّا الَّذِي خَارِجَ بَابِ الصَّغِيرِ الَّذِي يُقَالُ: إنَّهُ قَبْرُ مُعَاوِيَةَ، فَإِنَّمَا هُوَ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ الَّذِي تَوَلَّى الْخِلَافَةَ مُدَّةً قَصِيرَةَ ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يَعْهَدْ إلَى أحَدٍ، وَكَانَ فِيهِ دِينٌ وَصَلَاحٌ.
وَمِنْهَا: "قَبْرُ خَالِدٍ" بحمص يُقَالُ: إنَّهُ قَبْرٌ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوَيةَ أَخُو مُعَاوِيَةَ هَذَا، وَلَكِنْ لَمَّا اشْتُهِرَ أَنَّهُ خَالِدٌ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْعَامَّةِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: ظَنُّوا أَنَّهُ خَالِدُ بْنُ الْوَليدِ.
وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ فِي "الِاسْتِيعَاب" أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ تُوُفِّيَ بحمص، وَقِيلَ: بِالْمَدِينَةِ - سَنَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ أَو اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأوْصَى إلَى عُمَرَ وَاللهُ أَعْلَمُ.
(1)
ولذلك لم نرَ عداءً حصل بين النصارى والرافضة على مرّ العصور، بل إنّ النصارى يقفون معهم في حربهم على أهل السُّنَّة، كما حصل في وقائع حفظها لنا التاريخ أيام الحروب الصليبية والدولة العثمانية، وليست نصرتهم ومُعاونتهم للرافضة اليوم بأقل من السابق.
وَمِنْهَا: "قَبْرُ أَبِي مُسْلِمٍ الخولاني" الَّذِي بداريا اُخْتُلِفَ فِيهِ.
وَمِنْهَا: "قَبْرُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ" الَّذِي بِمِصْرِ فَإِنَّهُ كَذِبٌ قَطْعًا؛ فَإِنَّ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ بِإِجْمَاعِ النَّاسِ وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ.
وَمِنْهَا: "مَشْهَدُ الرَّأْسِ" الَّذِي بِالْقَاهِرَةِ فَإِنَّ الْمُصَنِّفِينَ فِي قَتْلِ الْحُسَيْنِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الرَّأْسَ لَيْسَ بِمِصْر وَيَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا كَذِبٌ.
وَأَمَّا "بَدَنُ الْحُسَيْنِ" فَبِكَرْبَلَاءَ بِالِاتِّفَاقِ.
وَمِنْهَا: "قَبْرُ عَلِيٍّ رضي الله عنه" الَّذِي بِبَاطِنِ النَّجَفِ؛ فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ عَلِيًّا دُفِنَ بِقَصْرِ الْإِمَارَةِ بِالْكُوفَةِ، كَمَا دُفِنَ مُعَاوِيةُ بِقَصْرِ الْإِمَارَةِ مِن الشَّامِ، وَدُفِنَ عَمْرٌو بِقَصْرِ الْإِمَارَةِ؛ خَوْفًا عَلَيْهِم مِن الْخَوَارجِ أَنْ يَنْبُشُوا قُبُورَهُمْ.
وَمِنْهَا: "قَبْرُ جَابِرٍ" الَّذِي بِظَاهِرِ حَرَّانَ، وَالنَّاسُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ جَابِرًا تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ النَّبَويَّةِ، وَهُوَ آخِرُ مَن مَاتَ مِن الصَّحَابَةِ بِهَا.
وَمِنْهَا: قَبْرٌ يُنْسَبُ إلَى "أُمِّ كُلْثُومٍ" و"رُقَيَّةَ" بِالشَّامِ، وَقَد اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُمَا مَاتَتَا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ تَحْتَ عُثْمَانَ، وَهَذَا إنَّمَا هُوَ سَبَبُ اشْتِرَاكِ الْأَسْمَاءِ؛ لَعَلَّ شَخْصًا يُسَمَّى بَاسِمِ مَن ذُكِرَ تُوُفيَ وَدُفِنَ فِي مَوْضِع مِن الْمَوَاضِعِ الْمَذْكُورَةِ فَظَنَّ بَعْضُ الْجُهَّالِ أَنَّهُ أَحَدٌ مِن الصَّحَابَةِ. [27/ 491 - 494]
* * *
(النذر لقبور النصارى وتعظيم كنائسهم وقسيسيهم)
2957 -
من نذر لقبر من قبور النصارى فإنه يستتاب؛ بل كل من عظم شيئًا من شعائر الكفار مثل الكنائس، أو قبور القسيسين، أو عظم الأحياء منهم يرجو بركتهم فإنه كافر يستتاب. [المستدرك 1/ 24]
* * *
(كسوة القبور، ونذر الزيت والحصر)
2958 -
أما تغشية قبور الأنبياء والصالحين وغيرهم بالأغشية من الثياب الحريرية وغيرها فليس مشروعًا في الدين، ولا قربة لرب العالمين، فلا يجب الوفاء به إذا نذر بلا نزاع بين العلماء والأئمة؛ بل ينهى عن ذلك. [المستدرك 1/ 24]
* * *
(السفر للمشاهد وإذا سمي حجًّا، والطواف بالصخرة أو الحجرة النبوية)
2959 -
الذي عليه أئمة المسلمين وجمهور العلماء أن السفر للمشاهد التي على القبور غير مشروع؛ بل معصية من أشنع المعاصي، حتى لا يجوز قصر الصلاة فيه عند من لا يجوز قصرها في سفر المعصية، لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والأقصى ومسجدي هذا"
(1)
.
لكن إذا سمي: "حَجًّا" مقيَّدًا بقيدٍ يُخرجه عن شبهة المشروع؛ مثل أن يقال: حج النصارى، وحج أهل الباع، وحج الضالين، كما يقال: صوم النصارى، وصوم اليهود، وصلاة النصارى، وصلاة اليهود، وصلاة الرافضة، وعيد الرافضة، ونحو ذلك فهو جائز ليميز بين الحق المأمور به والباطل المنهي عنه. [المستدرك 1/ 26 - 27]
2960 -
السَّفَرُ إلَى الْبِقَاعِ الْمُعَظَّمَةِ هُوَ مِن جِنْسِ الْحَجِّ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ حَجٌّ؛ فَالْمُشْرِكُونَ مِن الْعَرَبِ كَانُوا يَحُجُّونَ إلَى اللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْثَانِ.
وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يَحُجَّ أَحَدٌ أَو يُسَافِرَ إلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ، وَالْحَجُّ
(1)
رواه البخاري (1189)، ومسلم (1397).
الْوَاجِبُ الَّذِي يُسَمَّى عِنْدَ الْإِطْلَاقِ حَجًّا إنَّمَا هُوَ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ خَاصَّةً، وَالسَّفَرُ إلَى بُقْعَةٍ لِلْعِبَادَةِ فِيهَا هُوَ إلَى الْمَسْجِدَيْنِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِن الْأَسْفَارِ إلَى مَكَانٍ مُعَظَّمٍ هُوَ مِن جِنْسِ الْحَجِّ إلَيْهِ، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. [27/ 353]
* * *
(فتوى الشيخ في المنع من شد الرحال إلى زيارة القبور، والفتنة التي لحقته، ووقوفُ العلماء معه)
2961 -
وَقَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْهَادِي
(1)
: هَذِهِ فُتْيَا أَفْتَى بِهَا الشَّيخُ الْإِمَامُ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة رضي الله عنهم، ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ نَحْو سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً أَنْكَرَهَا بَعْضُ النَّاسِ وَشَنَّعَ بِهَا جَمَاعَةٌ عِنْدَ بَعْضِ وُلَاةِ الْأُمُورِ، وَذُكِرَتْ بِعِبَارَاتٍ شَنِيعَةٍ، فَفَهِمَ مِنْهَا جَمَاعَةٌ غَيْرَ مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَانْضَمَّ إلَى الْإِنْكَارِ وَالشَّنَاعَةِ وَتَغَيُّرِ الْأَلْفَاظِ أُمُورٌ أَوْجَبَ ذَلِكَ كُلّهُ مُكَاتبَةَ السُّلْطَانِ -سُلْطَانِ الْإِسْلَامِ بِمِصْر- أَيَّدَهُ اللهُ تَعَالَى، فَجَمَعَ قُضَاةَ بَلَدِهِ ثُمَّ اقْتَضَى الرَّأْيُ حَبْسَهُ فَحُبِسَ بِقَلْعَةِ دِمَشْقَ الْمَحْرُوسَةِ بِكِتَاب وَرَدَ سَابِعَ شَعْبَانَ الْمُبَارَكِ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
(2)
.
وَنَبْدَأُ بِذِكْرِ السُّؤَالِ الَّذِي كَتَبَ عَلَيْهِ أَهْلُ بَغْدَادَ وَبِذِكْرِ الْفُتْيَا وَجَوَابِ الشَّيْخِ الْمَذْكُورِ عَلَيْهَا وَجَوَابِ الْفُقَهَاءِ بَعْدَهُ.
(1)
في كتابه: العقود الدرية من مناقب شيخ الاسلام أحمد بن تيمية (346 - 376).
(2)
أي: قبل وفاته بسنتين وَثَلَاثَة أشهر فقط، وعمره حينها خمسًا وستين عامًا، فأي بلاءٍ واجهه في شبابه وكهولته وشيخوخته، وذلك أنه نذر نفسه للدين، وأتعب نفسه في نصح المسلمين، وجهاد الكفار والمنافقين.
ثمَّ إِن الشيْخ رَحمَه الله تَعَالَى بَقِي مُقيمًا بالقلعة سنتَيْن وَثَلَاثَة أشهر وأيامًا ثمَّ توفي إِلَى رَحْمَة الله ورضوانه وَمَا برح فِي هَذِه الْمدَّة مكبًّا على الْعِبَادَة والتلاوة وتصنيف الْكتب وَالرَّدّ على الْمُخَالفين.
وَكتب في تَفْسِير الْقُرْآن الْعَظِيم جملَة كَثيرَة تشْتَمل نفائس جليلة ونكت دقيقة وَمَعَان لَطِيفَة وَبَين فِي ذَلِك مَوَاضِع كَثِيرَة أشكلت على خلق من عُلَمَاء أهل التَّفْسِير.
وَهَذِهِ صُورَةُ السُّؤَالِ وَالْأَجْوِبَةِ: مَا يَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ نَفَعَ اللهُ بِهِم الْمُسْلِمِينَ: فِي رَجُلٍ نَوَى السَّفَرَ إلَى "زِيارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ" مِثْل نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِ، فَهَل يَجُوزُ لَهُ فِي سَفَرِهِ أَنْ يَقْصُرَ الصَّلَاةَ؟ وَهَل هَذِهِ الزِّيَارَةُ شَرْعِيَّةٌ أَمْ لَا؟
فَأَجَابَ: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَمَّا مَن سَافَرَ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَهَل يَجُوزُ لَهُ قَصْرُ الصَّلَاةِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ مُتَقَدِّمِي الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ لَا يُجَوِّزُونَ الْقَصْرَ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ؛ كَأَبِي عَبْدِ اللهِ بْنِ بَطَّةَ، وَأَبِي الْوَفَاءِ بْنِ عَقِيلٍ، وَطَوَائِفَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَصْرُ فِي مِثْل هَذَا السَّفَرِ؛ لِأَنَّهُ سَفَرٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد: أَنَّ السَّفَرَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي الشَّرِيعَةِ لَا يُقْصرُ فِيهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُقْصَرُ، وَهَذَا يَقُولُهُ مَن يُجَوِّزُ الْقَصْرَ فِي السَّفَرِ الْمُحَرَّمِ كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَيَقُولُهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِن أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد، مِمَن يُجَوِّزُ السَّفَرَ لِزِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ؛ كَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ، وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ عبدوس الْحَرَّانِي، وَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ قدامة المقدسي.
وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّ هَذَا السَّفَرَ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:"زُورُوا الْقُبُورَ"
(1)
.
وَأَمَّا الْأَوَّلُونَ: فَاِنَّهُم يَحْتَجُّونَ بِمَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاَثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى"
(2)
، وَهَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى صِحَّتِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ،
(1)
رواه مسلم (976).
(2)
قال الشيخ في موضع آخر: وَهَذِهِ الْفَضِيلَةُ ثَابِتَةٌ لَهُ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَ فِيهِ الْحُجْرَةُ، بَل كَانَ حِينَئِذٍ الَّذِينَ يُصَلُّونَ فِيهِ أَفْضَلَ مِمَن صَلَّى فِيهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُ بَعْدَ دُخُولِ الْحُجْرَةِ فِيهِ صَارَ أَفْضَلَ مِمَّا كَانَ فِي حَيَاتِهِ وَحَيَاةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ. (27/ 423 - 424)
فَلَو نَذَرَ الرَّجُلُ أَنْ يَشُدَّ الرَّحْلَ لِيُصَلِّيَ بِمَسْجِدٍ أَو مَشْهَدٍ أَو يَعْتَكِفَ فِيهِ أَو يُسَافِرَ إلَيْهِ غَيْرَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ: لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ.
قَالُوا: وَلأَنَّ السَّفَرَ إلَى زَيارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ بِدْعَةٌ لَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِن الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ، وَلَا أَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا اسْتَحَبَّ ذَلِكَ أَحَدٌ مِن أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَمَن اعْتَقَدَ ذَلِكَ عِبَادَةً وَفَعَلَهُ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَلِإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ.
وَهَذَا مِمَّا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللهِ بْنُ بَطَّةَ فِي "الْإِبَانَةِ الصُّغْرَى" مِن الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.
هَذَا آخِرُ مَا أَجَابَ بِهِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَاللهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
وَلَمَّا ظَفَرُوا فِي دِمَشْقَ بِهَذَا الْجَوَابِ كَتَبُوهُ وَبَعَثُوا بِهِ إلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَكَتَبَ عَلَيْهِ قَاضِي الشَّافِعِيَّةِ: قَابَلْت الْجَوَابَ عَن هَذَا السُّؤَالِ الْمَكْتُوبِ عَلَى خَطِّ ابْنِ تَيْمِيَّة فَصَحَّ -إلَى أَنْ قَالَ-: وَإِنَّمَا الْمُحَوَّفُ جَعْلُهُ: زَيارَةَ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ مَعْصِيَةً بِالْإِجْمَاعِ مَقْطُوعٌ بِهَا هَذَا كَلَامُهُ.
فَانْظُرْ إلَى هَذَا التَّحْرِيفِ عَلَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ، وَالْجَوَابُ لَيْسَ فِيهِ الْمَنْعُ مِن زِيارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِيهِ قَوْلَيْنِ فِي شَدِّ الرَّحْلِ، وَالسَّفَرِ إلَى مُجَرَّدِ زيارَةِ الْقُبُورِ.
وَزِيارَةُ الْقُبُورِ مِن غَيْرِ شَدِّ رَحْلٍ إلَيْهَا مَسْأَلَة، وَشَدُّ الرَّحْلِ لِمُجَرَّدِ الزِّيَارَةِ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى.
وَالشَّيْخُ لَا يَمْنَعُ الزِّيَارَةَ الْخَالِيَةَ عَن شَدِّ رَحْلٍ؛ بَل يَسْتَحِبُّهَا وَيَنْدُبُ إلَيْهَا
(1)
، وَكُتُبُهُ وَمَنَاسِكُهُ تَشْهَدُ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ الشَّيْخُ إلَى هَذِهِ الزِّيَارَةِ فِي
(1)
فيه ردٌّ على من فهم أن الشيخ لا يستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لمن كان قد سافر إلى المسجد النبوي، وإن كان يُفهم ذلك من كلامٍ له سيأتي بحول الله تعالى. =
الْفتْيَا وَلَا قَالَ: إنَّهَا مَعْصِيَةٌ، وَلَا حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهَا.
وَلَمَّا وَصَلَ خَطُّ الْقَاضِي الْمَذْكُورُ إلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ كَثُرَ الْكَلَامُ وَعَظُمَت الْفِتْنَةُ، وَطَلَبَ الْقُضَاةُ بِهَا، فَاجْتَمَعُوا وَتَكَلَّفوا وَأَشَارَ بَعْضُهُم بِحَبْسِ الشَّيْخِ، فَرَسَمَ السُّلْطَانُ بِهِ.
وَقَد وَصَلَ مَا أَجَابَ بِهِ الشَّيْخُ فِي هَذِهِ الْمَسْأْلَةِ إلَى عُلَمَاءِ بَغْدَادَ فَقَامُوا فِي الِانْتِصَارِ لَهُ وَكَتَبُوا بِمُوَافَقَتِهِ وَرَأَيْت خُطُوطَهُم بِذَلِكَ.
بسم الله الرحمن الرحيم
يَقُولُ الْعَبْدُ الْفَقِيرُ إلَى اللهِ تَعَالَى: -بَعْدَ حَمْدِ اللهِ السَّابِغَةِ نِعَمُهُ السَّابِقَةِ مِنَنُهُ. وَالصَّلَاةُ عَلَى أَشْرَفِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ-.
الْمَرْجُوُّ مِن أَلْطَافِ الْحَضْرَةِ الْمُقَدَّسَةِ -زَادَهَا اللهُ تَعَالَى عُلُوًّا وَشَرَفًا- أَنْ يَكُونَ لِلْعُلَمَاءِ الَّذِينَ هُم وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَصَفْوَةُ الْأصْفِيَاءِ وَعِمَادُ الدِّينِ وَمَدَارُ أَهْلِ الْيَقِينِ: حَظٌّ مِن الْعِنَايَةِ السُّلْطَانِيَّةِ وَافِرٌ، وَنَصِيبٌ مِن الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ، فَإِنَّهَا مَنْقَبَةٌ لَا يُعَادِلُهَا فَضِيلَةٌ، وَحَسَنَةٌ لَا يُحِيطُهَا سَيِّئَةٌ؛ لِأنَّهَا حَقِيقَةُ التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى، وَخُلَاصَةُ الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللهِ تَعَالَى.
وَلَا ريبَ أَنَّ الْمَمْلُوكَ وَقَفَ عَلَى مَا سُئِلَ عَنْهُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ، وَحِيدُ دَهْرِهِ، وَفَرِيدُ عَصْرِهِ، تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة وَمَا أَجَابَ
= وقد قال رحمه الله: وَلَا نَهَى أَحَدٌ عَن السَّفَرِ إلَى مَسْجِدِهِ، وَإِن كَانَ الْمُسَافِرُ إلَى مَسْجِدِهِ يَزُورُ قَبْرَهُ صلى الله عليه وسلم، بَل هَذَا مِن أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَلَا فِي شَيْءٍ مِن كَلَامِي وَكَلَام غَيْرِي نَهْيٌ عَن ذَلِكَ، وَلَا نَهْيٌ عَن الْمَشْرُوعِ فِي زَبارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَلَا عَن الْمَشْرُوعِ فِي زِيارَةِ سَائِرِ الْقُبُورِ، بَل قَد ذَكَرْت فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ اسْتِحْبَابَ زِيارَةِ الْقُبُورِ.
وَإِذَا كَانَت زِيَارَةُ قُبُورِ عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ مَشْرُوعَةً فَزِيَارَةُ قُبُورِ الْأَنْبيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَوْلَى (27/ 330 - 331)
بِهِ، فَوَجَدْته خُلَاصَةَ مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ حَسْبَ مَا اقْتَضَاهُ الْحَالُ مِن نَقْلِهِ الصَّحِيحِ، وَمَا أَدَّى إلَيْهِ الْبَحْثُ مِنَ الْإِلْزَامِ وَالِالْتِزَامِ، لَا يُدَاخِلُهُ تَحَامُل وَلَا يَعْتَرِيهِ تَجَاهُلٌ.
فمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ الْمَوقُوفِ عَلَيْهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ عِقَابًا وَلَا يُوجِبْ عِتَابًا، وَالْمَرَاحِمُ السُّلْطَانِيَّةُ أَحْرَى بِالتَّوْسِعَةِ وَالنَّظَرِ بِعَيْنِ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ إلَيْهِ وَللْآرَاءِ الْمَلَكِيَّةِ علُوُّ الْمَزِيدِ.
حَرَّرَهُ ابْنُ الْكُتُبِيِّ الشَّافِعِيُّ.
جَوَابٌ آخَرُ: مَا أَجَابَ بِهِ الشَّيْخُ الْأَجَلُّ الْأَوْحَدُ بَقِيَّةُ السَّلَفِ وَقُدْوَةُ الْخَلَفِ رَئيسُ الْمُحَقِّقِينَ وَخُلَاصَةُ الْمُدَقِّقِينَ، تَقِيُّ الْمِلَّةِ وَالْحَقِّ وَالدِّينِ: مِن الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأْلَةِ صَحِيحٌ مَنْقُولٌ فِي غَيْرِ مَا كِتَابٍ مِن كُتُبِ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ؛ إذ لَيْسَ فِي ذَلِكَ ثَلْبٌ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا غَضٌّ مِن قَدْرِهِ صلى الله عليه وسلم.
كَتَبَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَغْدَادِيُّ الْخَادِمُ لِلطَّائِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ بِالْمَدْرَسَةِ الشَّرِيفَةِ المستنصرية.
وَأَجَابَ غَيْرُهُ فَقَالَ: مَا ذَكَرَة مَوْلَانَا الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَامِلُ، جَامِعُ الْفَضَائِلِ وَالْفَوَائِدِ، بَحْرُ الْعُلُومِ، وَمَنْشَأُ الْفَضْلِ، جَمَالُ الدِّينِ .. أَتَى فِيهِ بِالْحَقِّ الْجَلِيِّ الْوَاضِحِ، وَأَعْرَضَ فِيهِ عَن إغْضَاءِ الْمَشَايِخِ، إذِ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ اللَّذَانِ تَقَدَّمَاهُ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْنَة وَعَقْلٍ أَنَّهُ أَتَى فِي الْجَوَابِ الْمُطَابِقِ لِلسُّؤَالِ بِحِكَايَةِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ تَقَدَّمُوهُ.
وَأَجَابَ غَيْرُهُ فَقَالَ: مَا حَكَاهُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ، الْبَارعُ الْهُمَامُ، افْتِخَارُ الْأَنَامِ، جَمَالُ الْإِسْلَامِ، رُكْنُ الشَّرِيعَةِ، نَاصِرُ السُّنَّةِ، قَامِعُ الْبِدْعَةِ، جَامِعُ أَشْتَاتِ الْفَضَائِلِ، قُدْوَةُ الْعُلَمَاءِ الْأَمَاثِلِ، فِي هَذَا الْجَوَابِ مِن أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ وَالْأَئِمَّةِ النُّبَلَاءِ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ- بَيِّنٌ لَا يُدْفَعُ، وَمَكْشُوفٌ لَا يَتَقَنَّعُ؛ بَل أَوْضَحُ مِن النَّيِّرَيْنِ، وَأَظْهَرُ مِن فَرَقِ الصُّبْحِ لِذِي عَيْنَيْنِ.
فَأَيُّ حَرَج عَلَى مَن سُئِلَ عَن مَسْأَلَةٍ فَذَكَرَ فِيهَا خِلَافَ الْفُقَهَاءِ، وَمَالَ فِيهَا إلَى بَعْضِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ؟ فَإِنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ عَلَى مَرِّ الْعُصُورِ وَتَعَاقُبِ الدُّهُورِ.
جَوَابٌ آخَرُ لِبَعْضِ عُلَمَاءِ أَهْلِ الشَّامِ الْمَالِكِيَّةِ: اللَّهمَّ إنَّ بَابَك لَمْ يَزَلْ مَفْتُوحًا لِلسَّائِلِينَ، وَرِفْدَك مَا بَرِحَ مَبْذُولًا لِلْوَافِدِينَ، مَن عَؤَدْته مَسْأَلَتَك وَحْدَك، لَمْ يَسْأَلْ أَحَدًا سِوَاك، وَمَن مَنَحْته منائح رِفْدِك، لَمْ يَفِدْ عَلَى غَيْرِك، وَلَمْ يَحْتَمِ إلَّا بِحِمَاك، أَنْتَ الرَّبُّ الْعَظِيمُ الْكَرِيمُ الْأَكْرَمُ، قَصْدُ بَابِ غَيْرِك عَلَى عِبَادِك مُحَرَّمٌ، أَنْتَ الَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُك، وَلَا مَعْئودَ سِوَاك، عَزَّ جَارُك، وَجَلَّ ثَنَاؤُك، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُك، وَعَظُمَ بَلَاؤُك، وَلَا إلَهَ غَيْرُك، وَلَمْ تَزَلْ سُنَّتُك فِي خَلْقِك جَارِيةً بِامْتِحَانِ أَوْليَائِك وَأَحْبَابِك، تَفَضُّلًا مِنْك عَلَيْهِمْ، وَإِحْسَانًا مِن لَدُنْك إلَيْهِمْ؛ لِيَزْدَادُوا لَك فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ ذِكْرًا، وَلِإِنْعَامِك فِي جَمِيعِ التَّقَلُّبَاتِ شُكْرًا، وَلَكِنَ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)} [العنكبوت: 43].
اللَّهُمَّ .. قَد عَلِمْتَ يَا عَالِمَ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ أَنَّ قُلُوبَنَا لَمْ تَزَلْ تَرْفَعُ إخْلَاصَ الدُّعَاءِ صَادِقَةً، وَأَلْسِنَتَنَا فِي حَالَتَي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ نَاطِقَةٌ، أَنْ تُسْعِفَنَا بِإِمْدَادِ هَذِهِ الدَّوْلَةِ الْمُبَارَكَةِ الْمَيْمُونَةِ السُّلْطَانِيَّةِ النَّاصِرِيَّةِ، بِمَزِيدِ الْعُلَا وَالرِّفْعَةِ وَالتَّمْكِينِ.
وَاَلَّذِي حَمَلَ عَلَى رَفْعِ هَذ الْأَدْعِيَةِ الصَّرِيحَةِ إلَى الْحَضْرَةِ الشَّرِيفَةِ -وَإِن كَانَت لَمْ تَزَلْ مَرْفُوعَةً إلَى اللهِ سُبْحَانَهُ بِالنِّيَّةِ الصَّحِيحَةِ- قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ"، قِيلَ: لِمَن يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "للهِ وَلرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ"
(1)
، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:"إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ"
(2)
، فَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ مَشْهُورَانِ بِالصِّحَّةِ وَمُسْتَفِيضَانِ فِي الْأُمَّةِ.
(1)
أخرجه مسلم (55).
(2)
أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907).
ثُمَّ إنَّ هَذَا الشَّيْخَ الْمُعَظَّمَ الْجَلِيلَ، وَالْإِمَامَ الْمُكَرَّمَ النَّبِيلَ، أَوْحَدُ الدَّهْرِ، وَفَرِيدُ الْعَصْرِ، طِرَازُ الْمَمْلَكَةِ الْمَلَكِيَّةِ، وَعَلَمُ الدَّوْلَةِ السُّلْطَانِيَّةِ، لَو أَقْسَمَ مُقْسِمٌ بِاللهِ الْعَظِيمِ الْقَدِيرِ، أَنَّ هَذَا الْإِمَامَ الْكَبِيرَ، لَيْسَ لَهُ فِي عَصْرِهِ مُمَاثِلَ وَلَا نَظِيرٌ، لَكَانَت يَمِينُهُ بَرَّةً غَنِيَّةً عَن التَّكْفِيرِ، وَقَد خَلَتْ مِن وُجُودِ مِثْلِهِ السَّبْعُ الْأَقَالِيمُ إلَّا هَذَا الْإِقْلِيمَ، يُوَافِقُ عَلَى ذَلِكَ كُلُّ مُنْصِفٍ خبِلَ عَلَى الطَّبْعِ السَّلِيمِ، وَلَسْتُ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ أُطْرِيهِ، بَل لَو أَطْنَبَ مُطْنِبٌ فِي مَدْحِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، لَمَا أَتَى عَلَى بَعْضِ الْفَضَائِلِ الَّتِي هِيَ فِيهِ: أَحْمَد ابْن تَيْمِيَّة، دُرَّةٌ يَتِيمَةٌ، يُتَنَافَسُ فِيهَا، تُشْتَرَى وَلَا تُبَاعُ، لَيْسَ فِي خَزَائِنِ الْمُلُوكِ دُرَّةٌ تُمَاثِلُهَا وَتُؤَاخِيهَا، انْقَطَعَتْ عَن وُجُودِ مِثْلِهِ الْأَطْمَاعُ، وَلَقَد أَصَمَّ الْأَسْمَاعَ، وَأَوْهَى قُوَى الْمَتْبُوعِينَ وَالْأَتْبَاعِ، سَماعُ رَفْعِ أَبِي الْعَبَّاسِ -أَحْمَد ابْنِ تَيْمِيَّة- إلَى الْقِلَاعِ.
وَلَيْسَ يَقَعُ مِن مِثْلِهِ أَمْرٌ يُنْقَمُ مِنْهُ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّهُ يَكُونُ أَمْرًا قَد لُبِّسَ عَلَيْهِ، وَنُسِبَ إلَى مَا يُنْسَبُ مِثْلُهُ إلَيْهِ.
وَالظَّاهِرُ بَيْنَ الْأَنَامِ، أَنَّ إكْرَامَ هَذَا الْإِمَام، وَمُعَامَلَتَهُ بِالتَّبْجِيلِ وَالِاحْتِرَامِ، فِيهِ قِوَامُ الْمُلْكِ، وَنِظَامُ الدَّوْلَةِ، وَإِعْزَازُ الْمِلَّةِ، وَاسْتِجْلَابُ الدُّعَاءِ، وَكَبْتُ الْأَعْدَاءِ، وَإِذْلَالُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ، وَإِحْيَاءُ الْأُمَّةِ، وَكَشْفُ الْغُمَّةِ، وَوُفُورُ الْأَجْرِ، وَعُلُوُّ الذِّكْرِ، وَرَفْعُ الْبَأْسِ، وَنَفْعُ النَّاسِ
(1)
، وَلسَانُ حَالِ الْمُسْلِمِينَ تَالٍ قَوْلَ الْكَبِيرِ المتعال:{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)} [يوسف: 88].
وَالْبِضَاعَةُ الْمُزْجَاةُ: هِيَ هَذِهِ الْأَوْرَاقُ الْمَرْقُومَةُ بِالْأَقْلَامِ.
وَالْمِيرَةُ الْمَطْلُوبَةُ: هِيَ الْإِفْرَاجُ عَن شَيْخِ الْإِسْلَامِ.
(1)
وهكذا الشأن في إكرام جميع العلماء في كل عصر ومِصر، فإن إكرامهم سببٌ في رفعة الحاكم، ودوام سلطانه، وعزته ونصرِه.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ: وَوَقَفْت عَلَى "كِتَاب آخَرَ" مِن بَغْدَادَ أَيْضًا صورَتُهُ: لَمَّا قَرَعَ أَسْمَاعَ أَهْلِ الْبِلَادِ الْمَشْرِقِيَّةِ، وَالنَّوَاحِي الْعِرَاقِيَّةِ، التَّضْيِيقُ عَلَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ تَقِيِّ الدِّينِ أبِي الْعَبَّاسِ "أَحْمَد ابْنِ تَيْمِيَّة" سَلَّمَهُ اللهُ، عَظُمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَشَقَّ عَلَى ذَوِي الدِّينِ، وَارْتَفَعَتْ رُؤُوسُ الْمُلْحِدِينَ، وَطَابَتْ نُفُوسُ أَهْلِ الْأهْوَاءِ وَالْمُبْتَدِعِينَ، وَلَمَّا رَأَى عُلَمَاءُ أهْلِ هَذِهِ النَّاحِيَةِ عِظَمَ هَذِهِ النَّازِلَةِ، مِن شَمَاتَةِ أَهْلِ الْبِاَع وَأَهْلِ الْأهْوَاءِ، بِأَكَابِرِ الْأَفَاضِلِ وَأَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ، أَنْهَوْا حَالَ هَذَا الْأمْرِ الْفَظِيعِ، وَالْأَمْرِ الشَّنِيعِ، إلَى الْحَضرَةِ الشَّرِيفَةِ السُّلْطَانِيَّةِ، زَادَهَا اللهُ شَرَفًا، وَكَتَبُوا أَجْوِبَتَهُم فِي تَصْوِيبِ مَا أَجَابَ بِهِ الشَّيْخُ سَلَّمَهُ اللهُ فِي فَتَاوَاهُ، وَذَكَرُوا مِن عِلْمِهِ وَفَضَائِلِهِ بَعْضَ مَا هُوَ فِيهِ، وَحَمَلُوا ذَلِكَ إلَى بَيْنَ يَدَيْ مَوْلَانَا مَلِكِ الْأمَرَاءِ أَعَز اللهُ أَنْصَارَهُ، وَضَاعَفَ اقْتِدَاءَهُ؛ غَيْرَةً مِنْهُم عَلَى هَذَا الدِّينِ، وَنَصِيحَةً لِلْإِسْلَامِ وَأُمَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ
(1)
. [27/ 182 - 213]
صُورَةُ خُطُوطِ الْقُضَاةِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى ظَهْرِ فُتْيَا الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ أَبِي الْعَبَّاسِ ابْنِ تَيْمِيَّة فِي "السَّفَرِ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ":
هَذَا الْمَنْقُولُ بَاطِنُهَا جَوَابًا عَن السُّؤَالِ أَنَّ زِيارَةَ الْأَنْبِيَاءِ بِدْعَةٌ، أَو مَا ذَكَرَهُ مِن نَحْوِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يَتَرَخَّصُ فِي السَّفَرِ إلَى زِيارَةِ الْأَنْبِيَاءِ: هَذَا كَلَامُ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ، وَقَد نَقَلَ جَمَاعَةٌ مِن الْعُلَمَاءِ وَالْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ أَنَّ زِيَارَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
(1)
تأمل ثناء هؤلاء العلماء على شيخ الإسلام، وهم من مختلف المذاهب الفقهية، والبلدان الإسلاميّة، فأثنوا عليه بما هو أهله، وأجمعوا على علو شأنه، ورفعة قدره، وجلالة علمه، وكثرة فضائله.
لقد أثنوا في هذه الرسائل على السلطان، وطلبوا منه بأدب أن يُخرج شيخ الإسلام من الحبس، وأيّدوا فتواه.
فرحم الله العلماء الربانيين، الذين يتكاتفون فيما بينهم، ويُناصر بعضهم بعضًا.
فَضِيلَةٌ وَسُنَّةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا، وَهَذَا الْمُفْتِي الْمَذْكُورُ
(1)
يَنْبَغِي أَنْ يُزْجَرَ عَن مِثْل هَذِهِ الْفَتَاوَى الْبَاطِلَةِ عِنْد الْعُلَمَاء وَالْأئِمَّةِ الْكِبَارِ، وَيُمْنَعَ مِن الْفَتَاوَى الْغَرِيبَةِ الْمَرْدُودَةِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَيُحْبَسَ إذَا لَمْ يَمْتَنِعْ مِن ذَلِكَ، وَيُشْهَرَ أَمْرُهُ لِيَتَحَفَّظَ النَّاسُ مِن الِاقْتِدَاءِ بِهِ، كَتَبَهُ الْعَبْدُ الْفَقِرُ إلَى اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ بْنِ جَمَاعَةَ.
وَتَحْتَهُ: يَقُولُ أَحْمَد بْنُ عُمَرَ المقدسي الْحَنْبَلِيُّ.
وَتَحْتَهُ: كَذَلِكَ يَقُولُ محَمَّد بْنُ الجريري الْحَنَفِيِّ، لَكِنْ يُحْبَسُ الْآنَ جَزْمًا مُطْلَقًا.
وَتَحْتَهُ: كَذَلِكَ يَقُولُ الْعَبْدُ الْفَقِيرُ إلَى اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمَالِكِيُّ إنْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَيُبَالَغُ فِي زَجْرِهِ بِحَسَبِ مَا تَنْدَفِعُ بِهِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ وَغَيْرُهَا مِن الْمَفَاسِدِ.
فَهَذِهِ صُورَةُ خُطُوطِهِمْ بِمِصْرِ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَسْكَنَة اللهُ الْجَنَّةَ آمِينَ:
(2)
فَصْلٌ
فِي الْجَوَابِ عَمَّا كتِبَ عَلَى نُسْخَةِ جَوَابِ الْفُتْيَا، وَبَيَانِ بُطْلَانِ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْحُكْمَ بِهِ بَاطِل بِإجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ مِن وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ:
(1)
يعنون ابن تيمية رحمه الله، وهذا أسلوب تحقير وتصغير.
وانظر إلى كيدهم وكذبهم، وتحريضهم السلطان على سجنه ومنعه من الفتيا، لِيَتَحَفَّظَ النَّاسُ مِن الِاقْتِدَاءِ بِهِ.
ويا سبحان الله! ها نحن بعد مئات السنين نرى كتب ورسائل وفتاوى وآراءَ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تُزيّن الأرض جمالًا، وتُضيء الصدور نورًا، وتُشعّ في الكون شُموسًا، والناس منشغلون به وبسيرته وعلومه وآرائه، وأقام الله آلاف العلماء وعشرات الْحُكام وبعض الدول لنصر مذهبِه، والانتصار لمنهجِه.
وأين هؤلاء الْمُوقّعون اليوم؟ وأين الحكام الذين سجنوه؟ وأين القضاةُ الذين آذوه؟
لقد ذهبوا واضّمحلّوا وتلاشوا، وبقي صاحب الحقّ.
(2)
في الرد على هؤلاء القضاة، وسأنتقي أهم ما جاء في كلامِه، وكثيرٌ مما جاء فيه قد ذكره في مواضع أخرى.
الْأَوّلُ: أَنَّهُ نَقَلَ عَن الْجَوَابِ مَا لَيْسَ فِيهِ، وَرَتَّبَ الْحُكْمَ عَلَى ذَلِكَ النَّقْلِ الْبَاطِلِ، وَمِثْلُ هَذَا بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ فَإِنَّهُ نَقَلَ أَنَّ الْمُجِيبَ قَالَ: إنَّ زِيارَةَ الْأَنْبِيَاءِ بِدْعَةٌ، أَو أَنَّهُ ذَكَرَ نَحْو ذَلِكَ، وَالْمُجِيبُ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ وَلَا نَقَلَ ذَلِكَ عَن أَحَدٍ مِن الْعُلَمَاءِ؛ وَإنَّمَا فِي الْجَوَابِ ذِكْرُ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ فِيمَن سَافَرَ لِمُجَرَّدِ زِيارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ: هَل يَحْرُمُ هَذَا السَّفَرُ أَو يَجُوزُ، وَأَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَبِّ، وَالطَّائِفَتَانِ لَمْ يَقُولَا ذَلِكَ فِي الزِّيَارَةِ الْمُطْلَقَةِ؛ بَل جُمْهُورُهُم يَقُولُونَ: إنَّ زِيارَةَ الْقُبُورِ مُسْتَحَبَّةٌ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ.
وَلَكِنْ لَا يَقولُونَ: إنَّهُ يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ إلَيْهَا.
وَالْمُجِيبُ لَمْ يَذْكُرْ لِنَفْسِهِ فِي الْجَوَابِ قَوْلًا؛ بَل حَكَى أَقْوَالَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَدِلَّتَهُمْ، وَهَؤُلَاءِ نَقَلُوا عَنْهُ مَا لَمْ يَقُلْهُ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا لَا يُنَازَعُ فِيهِ، وَأَخْطَؤُوا فِيمَا نَقَلُوهُ.
الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّ الْأَحْكَامَ الْكُلِّيَّةَ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ -سَوَاءٌ كَانَت مُجْمَعًا عَلَيْهَا أَو مُتَنَازَعًا فِيهَا- لَيْسَ لِلْقُضَاةِ الْحُكْمُ فِيهَا؛ بَل الْحَاكِمُ الْعَالِمُ كَآحَادِ الْعُلَمَاءِ، يَذْكُرُ مَا عِنْدَهُ مِن الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا يَحْكُمُ الْقَاضِي فِي أُمُورٍ مُعَيَّنَةٍ.
وَأَمَّا كَوْنُ هَذَا الْعَمَلِ وَاجِبًا أَو مُسْتَحَبًّا أَو مُحَرَّمًا فَهَذَا مِن الْأَحْكَامِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي لَيْسَ لِأَحَد فِيهَا حُكْمٌ إلَّا للهِ وَرَسُولِهِ.
وَهَؤُلَاءِ حَكَمُوا فِي الْأَحْكَامِ الْكُلِّيَّةِ وَحُكْمُهُم فِي ذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ.
الرَّابعَ عَشَرَ: أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذ الْمَسَائِلِ الْكُلِّيَّةِ إنَّمَا يَجُوزُ لِمَن كَانَ عَالِمًا بِأَقْوَالِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا، وَمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَمَا تَنَازَعُوا فِيهِ، عَالِمًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَوَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِمَا.
وَكَلَامُ هَؤُلَاءِ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُم لَا يَعْرِفُونَ مَا قَالَهُ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ
الْمَسَائِلِ، وَلَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ وَتَنَازَعوا فِيهِ، وَلَا يَعْرِفُونَ سُنَّةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا رَغَّبَ فِيهِ وَمَا نَهَى عَنْة وَلَمْ يَسُنَّهُ، وَلَا يَعْرِفُونَ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ وَالضَّعِيفَةَ فِي هَذَا الْبَابِ؛ بَل وَلَا يَعْرِفُونَ مَذْهَبَهُم فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَلَا عِنْدَهُم نَقْلٌ عَن الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا الْعُلَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ مِن أَتْبَاعِهِمْ فِيمَا قَالُوهُ وَحَكَمُوا بِهِ؛ بَل هُم فِيهِ بِمَنْزِلَةِ آحَادِ الْمُتَفَقِّهَةِ الطَّلَبَةِ الَّذِينَ يَنْبَغِي لَهُم طَلَبُ عِلْمِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ؛ بَل لَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يُفْتِيَ فِيهَا وَلَا يُنَاظِرَ وَلَا يُصَنِّفَ، فَضْلًا عَن أَنْ يَحْكُمَ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَن كَانَ كَذَلِكَ وَحَكَمَ فِيمَا لَيْسَ لَهُ الْحُكْمُ فِيهِ: كَانَ حُكمُهُ مُحَرَّمًا بِالْإِجْمَاعِ، فَكَيْفَ إذَا حَكَمَ فِيمَا لَيْسَ لَهُ فِيهِ الْحُكْمُ، وَحَكَمَ بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ؛ فَإِنَّ الْحَاكِمَ إذَا حَكَمَ بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ وَلَا تَقْلِيدٍ كَانَ حُكْمُهُ مُحَرَّمًا بِالْإِجْمَاعِ.
السَّادِسَ عَشَرَ: لَو كَانَ لَهُم فِيهَا الْحُكْمُ، وَقَد حَكَمُوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ: لَمْ يَكُن لَهُم الْحُكْمُ حَتَّى يَسْمَعُوا كَلَامَ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَحجَّتَهُ وَيعْذُرُوا إلَيْهِ، وَهَل لَهُ جَوَابٌ أَمْ لَا؟
فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ تَنَازَعُوا فِي الْحُقُوقِ كَالْأَمْوَالِ: هَل يُحْكَمُ فِيهَا عَلَى غَائِبٍ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَمَن جَوَّزَ الْحُكْمَ عَلَيْهِ قَالَ: هُوَ بَاقٍ عَلَى حُجَّتِهِ تُسْمَعُ إذَا حَضَرَ.
فَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ وَالْحُدُودُ فَلَا يُحْكَمُ فِيهَا عَلَى غَائِبٍ، وَهَؤُلَاءِ حَكَمُوا عَلَى غَائِبٍ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يُمَكِّنُوهُ مِن سَمَاعِ كَلَامِهِ وَالْإِدْلَاءِ بِحُجَّتِهِ.
السَّابعَ عَشَرَ: أَنَّهُ لَو كَانَ الْحَاكِمُ خَصْمًا لِشَخْصٍ فِي حَقٍّ مِن الْحُقُوقِ: لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ عَلَى خَصْمِهِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ الْمَسَائِلُ الْعِلْمِيَّةُ إذَا تَنَازَعَ حَاكِمٌ وَغَيْرُهُ مِن الْعُلَمَاءِ فِي تَفْسِيرِ آيَةٍ أَو حَدِيثٍ أَو بَعْضِ مَسَائِلِ الْعِلْمِ لَمْ يَكُن لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُمَا خَصْمَانِ فِيمَا تَنَازَعَا فِيهِ، وَالْحَاكِمُ لَا يَحْكُمُ عَلَى خَصْمِهِ بِالْإِجْمَاعِ.
الْوَجْهُ الْعِشْرُونَ: أَنَّهُ لَو قُدِّرَ أَن الْعَالِمَ الْكَثِيرَ الْفَتَاوَى أَخْطَأَ فِي مِائَةِ مَسْأَلَةٍ لَمْ يَكُن ذَلِكَ عَيْبًا، وَكُلُّ مَن سِوَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم يُصِيبُ ويُخْطِئُ، وَمَن مَنَعَ عَالِمًا مِنَ الْإِفْتَاءِ مُطْلَقًا وَحَكَمَ بِحَبْسِهِ لِكَوْنِهِ أَخْطَأَ فِي مَسَائِلَ: كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا بِالْإِجْمَاعِ؛ فَالْحُكْمُ بِالْمَنْعِ وَالْحَبْسِ حُكْمٌ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْمُفْتِي قَد أَجَابَ بِمَا هُوَ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَوْلُ عُلَمَاءِ أُمَّتِهِ؟
الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُم قَالُوا: يُمْنَعُ مِنَ الْفَتَاوَى الْغَرِيبَةِ الْمَرْدُودَةِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِن أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْحُكْمُ بِهِ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ الْأرْبَعَةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَهُ إنَّمَا يُنْقَضُ حُكْمُ الْحَاكِمِ إذَا خَالَفَ كِتَابًا أَو سُنَّةً أَو إجْمَاعًا أَو مَعْنَى ذَلِكَ، فَأَمَّا مَا وَافَقَ قَوْلَ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ فَإِنَّهُ لَا يُنْقَضُ لِأَجْلِ مُخَالَفَتِهِ قَوْلَ الْأَرْبَعَةِ، وَمَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ يَجُوزُ أَنْ يُفْتِيَ بِهِ الْمُفْتِي بِالْإِجْمَاعِ؛ بَل الْفُتْيَا أَيْسَرُ؛ فَإِنَّ الْحَاكِمَ يُلْزِمُ وَالْمُفْتِيَ لَا يُلْزِمُ.
الْوَجْة التَّاسِعُ وَالثلَاُثونَ: أَّنَّهُ لَو قُدِّرَ أَنَّ الْعَالِمَ الْكَثِيرَ الْفَتَاوَى أَفْتَى فِي عِدَّةِ مَسَائِلَ بِخِلَافِ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الثَّابِتَةِ عَنْهُ، وَخِلَافِ مَا عَلَيْهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ: لَمْ يَجُزْ مَنْعُهُ مِن الْفُتْيَا مُطْلَقًا؛ بَل يُبَيَّنُ لَهُ خَطَؤُهُ فِيمَا خَالَفَ فِيهِ، فَمَا زَالَ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِن أَعْصَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَن بَعْدَهُم مِن عُلَمَاءِ الْفسْلِمِينَ مَن هُوَ كَذَلِكَ.
الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ
(1)
: أَنَّ مَا قَالُوهُ لَو قَالَهُ مُفْتٍ لَوَجَبَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَمَنْعُهُ وَحَبْسُهُ إنْ لَمْ يَنْتَهِ عَن الْإِفْتَاءِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاع فَكَيْفَ إذَا قَالَهُ حَاكِمٌ يُلْزِمُ النَّاسَ بِهِ وَهُوَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ وَالْعُقُوبَةِ عَلَى ذَلِكَ كَأَهْلِ الْبِدَع: مِن الْخَوَارِجِ وَالرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ وَاَلَّذِينَ يَبْتَدِعُونَ بِدْعَةً يُلْزِمُونَ بِهَا النَّاسَ وَيُعَادُونَ مَن خَالَفَهُم فِيهَا وَيَسْتَحِلُّونَ عُقُوبَتَهُ وَالْبِدَعُ الْمُتَضَمِّنَةُ لِلشِّرْكِ وَاتِّخَاذِ الْقُبُورِ أَوْثَانًا
(1)
هذا آخر الأوجه، وقارن بين فتوى هؤلاء القضاة وفتواه من ناحية الطول وذكر الأدلة.
وَالْحَجِّ إلَيْهَا وَدُعَاءِ غَيْرِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ: مِن بِدَعِ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ
(1)
. [27/ 288 - 313]
* * *
(هل السلام على النبي عند قبره سُنَّة
؟)
2962 -
ذَكَرَ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَأْتِي فَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللهِ، السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكْرٍ، السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَت، ثُمَّ يَنْصَرِفُ، وَفِي رِوَايَةٍ:"كَانَ إذَا قَدِمَ مِن سَفَرٍ"، رَوَاهُ مَعْمَرٌ عَن نَافِعٍ عَنْهُ.
وَعَلَى هَذَا اعْتَمَدَ مَالِكٌ رحمه الله فِيمَا يُفْعَلُ عِنْدَ الْحُجْرَةِ؛ إذ لَمْ يَكُن عِنْدَهُ إلَّا أَثَرُ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما.
وَأَمَّا مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِثْلُ الْوُقُوفِ لِلدُّعَاءِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ كَثْرَةِ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ فَقَد كَرِهَهُ مَالِكٌ وَقَالَ: هُوَ بِدْعَةٌ لَمْ يَفْعَلْهَا السَّلَفُ، وَلَنْ يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأمَّةِ إلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا
(2)
. [27/ 384]
(1)
من الملاحظ أن هؤلاء القضاة لجؤوا في تقوية رأيهم ودَعْمِ حجتهم وطلبهم إلى السلطان الحسي، وهو الحاكم، وذلك بأنْ يحبسه ويضيق عليه، فلذلك لا تجدهم ذكروا أدلة لِما زعموا، بل لم يتجاوز كلامهم صفحة واحدة، وأما شيخ الإسلام فإنما لجأ إلى السلطان المعنوي، وهو الحجة والبرهان، كما سماه الله تعالى بذلك في قوله:{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} [غافر: 56]، وهذا السلطان أقوى أثرًا، وأطولُ بقاءً.
وهكذا أهل الباطل في كل زمان ومكان يلجؤون إلى السلطان الحسي للاستقواء به على من خالفهم، بل ويُحرضون الناس عليهم، ويسبون ويقدحون، وأما العلماء الربانيون فإنما يلجؤون إلى السلطان المعنوي، من الحجج الواضحة، والبراهين الساطعة، دون اللجوء إلى حاكم ليُنصفهم، أو إلى جرح ذوات المخالفين -فيما يسوغ فيه الاجتهاد- لشفاءِ غيظهم. والله المستعان.
(2)
قال الشيخ في موضع آخر: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ، لَا يَقِفُ لَا لِدُعَاءِ لَهُ وَلَا لِنَفْسِهِ، وَلهَذَا كَرِهَ مَالِكٌ مَا زَادَ عَلَى فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ مِن وُقُوفٍ لَهُ أو لِنَفْسِهِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ عَن أَحَدٍ مِن الصَّحَابَةِ فَكَانَ بِدْعَةً مَحْضَةً ..
مَعَ أنَّ فِعْلَ ابْنِ عُمَرَ إذَا لَمْ يَفْعَلْ مِثْلَهُ سَائِرُ الصَّحَابَةِ إنَّمَا يَصْلُحُ لِلتَّسْوِيغِ، كَأَمْثَالِ ذَلِكَ فِيمَا فَعَلَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ. (27/ 396)
وَلَمْ يَكُن الصَّحَابَةُ يَدْخُلُونَ إلَى عِنْدِ الْقَبْرِ، وَلَا يَقِفُونَ عِنْدَهُ خَارِجًا، مَعَ أَنَّهُم يَدْخُلُونَ إلَى مَسْجِدِهِ لَيْلًا وَنَهَارًا.
وَكَانُوا يَقْدمُونَ مِن الْأَسْفَارِ لِلِاجْتِمَاعِ بِالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيُصَلُّونَ فِي مَسْجِدِهِ، وَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ وَعِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ وَلَا يَأْتُونَ الْقَبْرَ؛ إذ كَانَ هَذَا عِنْدَهُم مِمَّا لَمْ يَأْمُرْهُم بِهِ وَلَمْ يَسُنَّهُ لَهُمْ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُم وَسَنَّ لَهُم الصَّلَاةَ وَالسَّلَامَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ وَعِنْدَ دُخُولِهِمْ الْمَسَاجِدَ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَلَكِنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَأْتِيهِ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَعَلَى صَاحِبَيْهِ عِنْدَ قُدُومِهِ مِن السَّفَرِ، وَقَد يَكون فَعَلَهُ غَيْرُ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا.
فَلِهَذَا رَأَى مَن رَأَى مِن الْعُلَمَاءِ هَذَا جَائِزًا اقْتِدَاءً بِالصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِم، وَابْنُ عُمَرَ كَانَ يُسَلِّمُ ثُمَّ يَنْصَرِفُ وَلَا يَقِفُ، يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللهِ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكْرٍ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَتْ ثُمَّ يَنْصَرِفُ.
وَلَمْ يَكُن جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ يَفْعَلُونَ كَمَا فَعَلَ ابْنُ عُمَرَ؛ بَل كَانَ الْخُلَفَاءُ وَغَيْرُهُم يُسَافِرُونَ لِلْحَجِّ وَغَيْرِهِ وَيرْجِعُونَ وَلَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ؛ إذ لَمْ يَكُن هَذَا عِنْدَهُم سُنَّة سَنَّهَا لَهُمْ
(1)
.
(1)
أي: على الخصوص، وإلا فزيارة القبور قد سنها بقوله وفعله، وزيارة قبره داخلة في زيارة القبور، لكن المبالغة في ذلك خلاف هدي الصحابة والتابعين كما قرره الشيخ وغيرُه.
والشيخ هنا لا يرى أن تخصيص زيارة القبر لمن صلى في المسجد سُنَّة، بل غايته أنه جائز، وهذا يشمل أهل المدينة عند عودهم من السفر، وبشمل من كان من غير أهل المدينة، لاستشهاده بأمداد أهل اليمن.
مع أن الشيخ -كما سبق- قد أطلق القول بأن السلام عليه من أفضل الأعمال لمن سافر إلى مسجده حيث قال رحمه الله: وَإِن كَانَ الْمُسَافِرُ إلَى مَسْجِدِهِ يَزُورُ قَبْرَهُ صلى الله عليه وسلم، بَل هَذَا مِن أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَلَا فِي شَيْءٍ مِن كَلَامِي وَكَلَامِ غَيْرِي نَهْيٌ عَن ذَلِكَ، وَلَا نَهْيٌ عَن الْمَشْرُوعِ فِي زَيارةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَلَا عَن الْمَشْرُوعِ فِي زِيارَةِ سَائِرِ القُبُورِ، بَل قَد ذَكَرْت فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ اسْتِحْبَابَ زَيارَةِ الْقُبُورِ ..
وَإِذَا كَانَت زِيَارَةُ قُبُورِ عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ مَشْرُوعَةً فَزِيَارَةُ قُبُورِ الْأنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَوْلَى. اهـ. (27/ 330 - 331)
وَكَذَلِكَ أَزْوَاجُهُ كُنَّ عَلَى عَهْدِ الْخُلَفَاءِ وَبَعْدَهُم يُسَافِرُونَ إلَى الْحَجِّ، ثُمَّ تَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدَةٍ إلَى بَيْتِهَا كَمَا وَصَّاهُنَّ بِذَلِكَ.
وَكَانَت أَمْدَادُ الْيَمَنِ الَّذِينَ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ يَأْتُونَ أَفْوَاجًا مِن الْيَمَن لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، ويُصَلُّونَ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي مَسْجِدِهِ، وَلَا يَدْخُلُ أَحَدٌ مِنْهُم إلَى دَاخِلِ الْحُجْرَةِ وَلَا يَقِفُ فِي الْمَسْجِدِ خَارِجًا لَا لِدُعَاءٍ وَلَا لِصَلَاةٍ وَلَا سَلَامٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانُوا عَالِمِينَ بِسُنَّتِهِ كَمَا عَلَّمَتْهُم الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ، وَأَنَّ حُقُوقَهُ لَازِمَةٌ لِحُقُوقِ اللهِ عزَّوجلَّ، وَأَنَّ جَمِيعَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَأَحَبَّهُ مِن حُقُوقِهِ وَحُقُوقِ رَسُولِهِ، فَإِنَّ صَاحِبَهَا يُؤْمَرُ بِهَا فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ وَالْبِقَاعِ.
فَلَيْسَتِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ قَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ بِأَوْكَدَ مِن ذَلِكَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ؛ بَل صَاحِبُهَا مَأْمُورٌ بِهَا حَيْثُ كَانَ: إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا عِنْدَ الْأَسْبَابِ الْمُؤَكِّدَةِ لَهَا كَالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالْأَذَانِ. [27/ 400 - 401]
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِن عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْكَرَاهَةِ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ قَصْدَهُم الْقَبْرَ إذَا دَخَلُوا أَو خَرَجُوا مِنْهُ وَنَحْو ذَلِكَ وَإِن كَانَ قَصْدُهُم مُجَرَّدَ السَّلَامِ عَلَيْهِ وَالصَّلَاةِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْتِي قُبَاء رَاكِبًا وَمَاشَيًا كُلَّ سَبْتٍ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ"
(1)
مِن حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْتِي قُبَاء كُلَّ سَبْتٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا"، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ، زَادَ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"فَيُصَلِّي فِيهِ رَكعَتَيْن".
وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِهِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ، وَيَذْهَبُ إلَى مَسْجِدِ قُبَاء فَيُصَلِّي فِيهِ يَوْمَ السَّبْتِ، وَكِلَاهُمَا أُسِّس عَلَى التَّقْوَى.
وَلَمْ يَكُن ابْنُ عُمَرَ وَلَا غَيْرُهُ إذَا كَانُوا مُقِيمِينَ بِالْمَدِينَةِ يَأْتُونَ قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا فِي الْأُسْبُوعِ وَلَا فِي غَيْرِ الْأُسْبُوعِ، وَإِنَّمَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَأْتِي الْقَبْرَ إذَا قَدِمَ
(1)
رواه البخاري (1134)، ومسلم (1399).
مِن سَفَرٍ، وَكَثِيرٌ مِن الصَّحَابَةِ أَو أَكْثَرُهُم كَانُوا يَقْدمُونَ مِن الْأسْفَارِ وَلَا يَأْتُونَ الْقَبْرَ لَا لِسَلَام وَلَا لِدُعَاء وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ، فَلَمْ يَكُونُوا يَقِفُونَ عِنْدَهُ خَارجَ الْحُجْرَةِ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ، وَلَمْ يَكُن أَحَدٌ مِنْهُم يَدْخُلُ الْحُجْرَةَ لِذَلِكَ؛ بَل وَلَا يَدْخُلُونَهَا إلَّا لِأَجْلِ عَائِشَةَ رضي الله عنها لَمَّا كَانَت مُقِيمَةً فِيهَا.
وَحِينَئِذٍ فَكَانَ مَن يَدْخُلُ إلَيْهَا يُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ إذَا حَضَرُوا عِنْدَهُ.
وَأَمَّا السَّلَامُ الَّذِي لَا يَسْمَعُهُ
(1)
: فَذَلِكَ سَلَامُ اللهِ عَلَيْهِم بِهِ عَشْرًا كَالسَّلَامِ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ، وَعِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ، وَالْخُرُوجِ مِنْهُ، وَهَذَا السَّلَامُ مَأْمُورٌ بِهِ فِي كُلِّ مَكانٍ وَزَمَانٍ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِن السَّلَامِ الْمُخْتَصِّ بِقَبْرِهِ
(2)
، فَإِنَّ هَذَا الْمُخْتَصَّ بِقَبْرِهِ مِن جِنْسِ تَحِيَّةِ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا.
وَأَمَّا السَّلَامُ الْمُطْلَقُ الْعَامُّ: فَالْأَمْرُ بِهِ مِن خَصَائِصِهِ، كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ مِن خَصَائِصِهِ. [27/ 405 - 408]
وَقَد تَبَيَّنَ أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ وَجُمْهُورَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ وَيُصَلُّونَ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
(3)
، وَلَا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ
(4)
عِنْدَ الْخُرُوجِ مِن الْمَدِينَةِ وَعِنْدَ الْقُدُومِ مِن السَّفَرِ؛ بَل يَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ فَيُصَلُّونَ فِيهِ، وَيُسَلِّمُونَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَأْتُونَ الْقَبْرَ، وَمَقْصُودُ بَعْضِهِم التَّحِيَّةُ.
وَأَيْضًا: فَقَد اُسْتُحِبَّ لِكُلِّ مَن دَخَلَ الْمَسْجِدَ أنْ يُسَلِّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَقُولَ: بِسْمِ اللهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك، وَكَذَلِكَ إذَا خَرَجَ يَقُولُ: بِسْمِ اللهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ
(1)
وهو السلام عليه من بعيد، كان يكون المسلِّمُ عليه في البيت أو في الصلاة.
(2)
وهذا ما يجهله الكثير من الناس؛ لأن النصوص الكثيرة جاءت بها، في حين لم يأت شيء بخصوص السلام عند القبر. فانظر فقه الشيخ الدقيق رحمه الله.
(3)
عند دخول المسجد النبوي، وحاله كحال أيّ مسجد.
(4)
عند قبره.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِى أَبْوَابَ فَضْلِك، فَهَذَا السَّلَامُ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ كُلَّمَا يَدْخُلُ يُغْنِي عَن السَّلَامِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَبْرِ، وَهُوَ مِن خَصَائِصِهِ وَلَا مَفْسَدَةَ فِيهِ.
وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِن السَّلَامِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَبْرِ، وَهُوَ مِن خَصائِصِهِ وَهُوَ مَأمُورٌ بِهِ، وَاللهُ يُسَلِّمُ عَلَى صَاحِبِهِ كَمَا يُصَلِّي عَلَى مَن صَلَّى عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مَن صَلَّى عَلَيْهِ وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، وَمَن سَلَّمَ عَلَيْهِ وَاحِدَةً سَلَّمَ اللهُ عَلَيْهِ عَشْرًا، وَقَد حَصَلَ مَقْصُودُهُم وَمَقْصُودُهُ مِن السَّلَامِ عَلَيْهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فِي مَسْجِدِهِ وَغَيْرِ مَسْجِدِهِ، فَلَمْ يَبْقَ فِي إتْيَانِ الْقَبْرِ فَائِدَةٌ لَهُم وَلَا لَهُ
(1)
.
بِخِلَافِ إتْيَانِ مَسْجِدِ قُبَاء، فَإِنَّهُم كَانُوا يَأْتُونَهُ كُلَّ سَبْتٍ فَيُصَلُّونَ فِيهِ اتِّبَاعًا لَهُ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ كَعُمْرَةٍ، وَيجْمَعُونَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ؛ إذ كَانَ أَحَدُ هَذَيْنَ لَا يُغْنِي عَن الْآخَرِ؛ بَل يَحْصُل بِهَذَا أَجْرٌ زَائِدٌ.
وَكَذَلِكَ إذَا خَرَجَ الرَّجُلُ إلَى الْبَقِيعِ وَأَهْلِ أُحُدٍ، كَمَا كَانَ يَخْرُجُ إلَيْهِم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو لَهُمْ: كَانَ حَسَنًا؛ لِأَنَّ هَذَا مَصْلَحَةٌ لَا مَفْسَدَةَ فِيهَا، وَهُم لَا يَدْعُونَ لَهُم فِي كُلّ صَلَاةٍ حَتَّى يُقَالَ: هَذَا يُغْنِي عَن هَذَا
(2)
. [27/ 414 - 416]
فَلَيْسَ فِعْلُ شَيْءٍ مِن حُقُوقِهِ صلى الله عليه وسلم كَالْإِيمَانِ بِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَمُوَالَاتِهِ وَتَبْلِيغِ الْعِلْمِ عَنْهُ وَالْجِهَادِ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ وَمُوَالَاةِ أَوْليَائِهِ وَمُعَادَاةِ أَعْدَائِهِ وَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ وَكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ ويُتَقَرَّبُ إلَيْهِ لَيْسَ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ عِنْدَ خجْرَتِهِ أَفْضَلَ مِنْهُ
(1)
فمن ذهب إلى المدينة وصلى في المسجد النبوي، وصلى على النبي عند دخول المسجد وفي الصلاة وغيرها أغنى عن السلام عليه عند قبره، وعلى هذا: فلا حرج على الإنسان إذا رأى الزحام عند قبره ألا يصف معهم للسلام، بل يصلي ويسلم عليه في أيّ مكان -صلى الله تعالى وسلم عليه صلاةً وسلامًا دائمين ما دام الليل والنهار-.
(2)
وكذلك الذي يسلم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ويدعو لهما فهو حسن، فقصدُ السلام عليهما حسن مطلوب، ولا يُمكن للإنسان إذا سلم عليها أن يبدأ بهما قبل الرسول صلى الله عليه وسلم.
فِيمَا بَعُدَ عَنِ الْحُجْرَةِ، لَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ علَيْهِ
(1)
، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِن حُقُوقِهِ؛ بَل قَد نَهَى هُوَ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجْعَلَ بَيْتُهُ عِيدًا، فَنَهَى أَنْ يُقْصَدَ بَيْتُهُ بِتَخْصِيصِ شَيْءٍ مِن ذَلِكَ.
فَمَن قَصَدَ أَو اعْتَقَدَ أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ عِنْدَ الْحُجْرَةِ أَفْضَلُ: فَهُوَ مُخَالِفٌ لَهُ صلى الله عليه وسلم. [27/ 427 - 428]
2963 -
قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35]، قَالَ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ؛ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَالْفَرَّاءِ: الْوَسِيلَةُ الْقُرْبَةُ. [27/ 434]
* * *
(هل سكنى المدينة ومكة أفضل مطلقًا
؟)
2964 -
سُكْنَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ هُوَ أَفْضَلُ فِي حَقِّ مَن تَتَكَرَّرُ طَاعَتُهُ للهِ وَرَسُولِهِ فِيهَا أَكْثرُ، كَمَا كَانَ الْأَمْرُ لَمَّا كَانَ النَّاس مَأْمُورِينَ بِالْهِجْرَةِ إلَيْهَا، فَكَانَت الْهِجْرَةُ إلَيْهَا وَالْمُقَامُ بِهَا أَفْضَلَ مِن جَمِيعِ الْبِقَاعِ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا؛ بَل كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا مِن أَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ، فَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ"
(2)
، وَكَانَ مَن أَتَى مِن أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ لِيُهَاجِرَ وَيسْكُنَ الْمَدِينَةَ يَأْمُرُهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مَدِينَتِهِ وَلَا يَأْمُرُهُ بِسُكْنَاهَا، كَمَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ النَّاسَ عَقِبَ الْحَجّ أَنْ يَذْهَبُوا إلَى بِلَادِهِمْ لِئَلَّا يُضَيِّقُوا عَلَى أَهْلِ مَكًّةَ، وَكَانَ يَأْمُرُ كَثِيرًا مِن أَصْحَابِهِ وَقْتَ الْهِجْرَةِ أَنْ يَخْرُجُوا إلَى أَمَاكِنَ أُخَرَ لِوِلَايَةِ مَكَانٍ وَغَيْرِهِ، وَكَانَت طَاعَةُ الرَّسُولِ بِالسَّفَرِ إلَى غَيْرِ الْمَدِينَةِ أَفْضَلَ مِنَ الْمُقَامِ عِنْدَهُ بِالْمَدِينَةِ حِينَ كَانَت دَارَ الْهِجْرَةِ، فَكَيْفَ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ؟
إذ كَانَ الَّذِي يَنْفَعُ النَّاسَ: طَاعَةُ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَأَمَّا مَا سوَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُهُم لَا قَرَابَة وَلَا مُجَاوَرَةٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ.
(1)
تأمل! فالصلاة والسلام عليه عند حجرته ليس بأفضل مما بعُد عن حجرتِه.
(2)
أخرجه البخاري (2783)، ومسلم (1864).
فَالْمَسَاجِدُ وَالْمَشَاعِرُ إنَّمَا يَنْفَعُ فَضْلُهَا لِمَن عَمِلَ فِيهَا بِطَاعَةِ اللهِ عز وجل، وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ الْبِقَاعِ لَا يَحْصُلُ بِهَا ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ، وَإِنَّمَا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ عَلَى الْأَعْمَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا وَالْمَنْهِيِّ عَنْهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَد آخَى بَيْنَ سَلْمَانَ الْفَارِسِيّ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ بِدِمَشْقَ وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ بِالْعِرَاقِ، فَكَتَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إلَى سَلْمَانَ: هَلُمَّ إلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَكَتَبَ إلَيْهِ سَلْمَانُ: إنَّ الْأَرْضَ لَا تُقَدِّسُ أَحَدًا وَإِنَّمَا يُقَدِّسُ الرَّجُلَ عَمَلُهُ.
وَالْمُقَامُ بِالثُّغُورِ لِلْجِهَادِ أَفْضَلُ مِن سُكْنَى الْحَرَمَينِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.
وَلهَذَا كَانَ سُكْنَى الصَّحَابَةِ بِالْمَدِينَةِ أَفْضَلَ لِلْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ. [27/ 434 - 435]
2965 -
الْإِقَامَةُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ تَكُونُ الْأسْبَابُ فِيهِ أَطْوَعَ للهِ وَرَسُولِهِ وَأَفْعَلَ لِلْحَسَنَاتِ وَالْخَيْرِ، بِحَيْثُ يَكُونُ أَعْلَمَ بِذَلِكَ وَأَقْدَرَ عَلَيْهِ وَأَنْشَطَ لَهُ: أَفْضَلُ مِنَ الْإِقَامَةِ فِي مَوْضِعٍ يَكُونُ حَالُهُ فِيهِ فِي طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ دُونَ ذَلِكَ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ الْجَامِعُ.
وَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الْأَصْلَ: فَهَذَا يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ حَالِ الْإِنْسَانِ، فَقَد يَكُونُ مُقَامُ الرَّجُلِ فِي أرْضِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ مِن أَنْوَاعِ الْبِدَع وَالْفُجُورِ أَفْضَلَ: إذَا كَانَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللهِ بِيَدِهِ أَو لِسَانِهِ آمِرًا بِالْمَعْرُوفِ نَاهِيًا عَنِ الْمُنْكَرِ، بِحَيْثُ لَو انْتَقَلَ عَنْهَا إلَى أَرْضِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ لَقَلَّتْ حَسَنَاتُهُ، وَلَمْ يَكُن فِيهَا مُجَاهِدًا وَإِن كَانَ أَرْوَحَ قَلْبًا، وَكَذَلِكَ إذَا عَدِمَ الْخَيْرَ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ فِي أَمَاكِنِ الْفُجُورِ وَالْبِدَعِ.
وَلهَذَا كَانَ الْمُقَامُ فِي الثُّغُورِ بِنِيَّةِ الْمُرَابَطَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى أَفْضَلَ مِن الْمُجَاوَرَةِ بِالْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ؛ فَإِنَّ جِنْسَ الْجِهَادِ أَفْضَلُ مِن جِنْسِ الْحَجِّ.
وَهَكَذَا لَو كَانَ عَاجِزًا عَن الْهِجْرَةِ وَالِانْتِقَالِ إلَى الْمَكَانِ الْأَفْضَلِ الَّتِي لَو
انْتَقَلَ إلَيْهَا لَكَانَت الطَّاعَةُ عَلَيْهِ أَهْوَنَ وَطَاعَةُ اللهِ وَرَسُولِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدَةٌ، لَكِنَّهَا هُنَاكَ أَشَقُّ عَلَيْهِ: فَإِنَّهُ إذَا اسْتَوَت الطَّاعَتَانِ فَأَشَقُّهُمَا أَفْضَلُهُمَا؛ وَبِهَذَا نَاظَرَ مُهَاجِرَةُ الْحَبَشَةِ الْمُقِيمُونَ بَيْنَ الْكُفَّارِ لِمَن زَعَمَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُم فَقَالُوا: كُنَّا عِنْدَ الْبُغَضَاءِ الْبُعَدَاء، وَأَنْتُمْ عِنْدُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يُعلِّمُ جَاهِلَكمْ، ويُطْعِمُ جَائِعَكُمْ، وَذَلِكَ فِي ذَاتِ اللهِ.
وَأمَّا إذَا كَانَ دِينُهُ هُنَاكَ أَنْقَصَ: فَالِانْتِقَالُ أَفْضَلُ لَهُ، وَهَذَا حَالُ غَالِبِ الْخَلْقِ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَهُم لَا ئدَافِعُونَ؛ بَل يَكُونُونَ عَلَى دِينِ الْجُمْهُورِ. [27/ 39 - 41]
* * *
كتاب الزكاة
2966 -
أَصْلُ "الزَّكَاةِ" الزِّيَادَةِ فِي الْخَيْرِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: زَكَا الزَّرْعُ وَزَكَا الْمَالُ إذَا نَمَا.
وَلَنْ يَنْمُوَ الْخَيْرُ إلَّا بِتَرْكِ الشَّرِّ، وَالزَّرْعُ لَا يَزْكُو حَتَّى يُزَالَ عَنْهُ الدَّغَلُ، فَكَذَلِكَ النَّفْسُ وَالأعْمَالُ لَا تَزْكُوَا حَتَّى يُزَالَ عَنْهَا مَا يُنَاقِضُهَا، وَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُتَزَكِّيًا إلَّا مَعَ تَرْكِ الشَّرِّ، فَإِنَّهُ يُدَنِّسُ النَّفْسَ وَيُدَسِّيهَا.
وَلهَذَا كَانَ التَّوْحِيدُ وَالْإِيمَانُ أَعْظَمَ مَا تَزْكُو بِهِ النَّفْسُ، وَكَانَ الشِّرْكُ أَعْظَمَ مَا يُدَسِّيهَا وَتتزَكَّى بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالصَّدَقَةِ، هَذَا كُلُّهُ مِمَّا ذَكَرَهُ السَّلَفُ.
قَالُوا فِي {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)} [الأعلى: 14] تَطَهَّرَ مِن الشِّرْكِ وَمِن الْمَعْصِيَةِ بِالتَّوْبَةِ.
وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي قَوْلِهِ: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت: 6، 7] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَشْهَدُونَ أَنْ لَا إلَهَ إلا اللهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يُزَكُّونَ أَعْمَالَهُم؛ أَيْ: لَيْسَتْ زَاكِيَةً.
وَعَن الْحَسَنِ: لَا يُؤْمِنُونَ بِالزَّكَاةِ وَلَا يُقِرُّونَ بِهَا.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْآيَةَ تَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يَتَزَكَّى بِهِ الْإِنْسَانُ مِن التَّوْحِيدِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ كَقَوْلِهِ: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18)} [النازعات: 18]، وَقَوْلُهُ:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)} [الأعلى: 14]، وَالصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ لَمْ يمُنْ فُرِضَتْ عِنْدَ نُزولهَا.
فَإِنْ قِيلَ: يُؤْتَى فِعْلٌ مُتَعَدٍّ.
قِيلَ: هَذَا كَقَوْلِهِ: {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا} [الأحزاب: 14]، وَتَقَدَّمَ قَبْلَهَا
أَنَّ الرَّسُولَ دَعَاهُمْ، وَهُوَ طَلَبٌ مِنْهُ، فَكَانَ هَذَا اللَّفْظُ مُتَضَمِّنًا قِيَامَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِم بِالرُّسُلِ، وَالرُّسُلُ إنَّمَا يَدْعُونَهُم لِمَا تَزْكُو بِهِ أَنْفُسُهُمْ. [10/ 628 - 634]
2967 -
تجب الزكاة في جميع أجناس الأجرة المقبوضة، ولا يعتبر لها مضي حول، وهو رواية عن أحمد، ومنقول عن ابن عباس.
وعنه لا حول لأجرة اختاره شيخنا. [المستدرك 3/ 151]
2968 -
تُفَسَّرُ الزَّكَاةُ تَارَةً بِالنَّمَاءِ وَالزِّيَادَةِ، وَتَارَةً بِالنَّظَافَةِ وَالْإِمَاطَةِ، وَالتَحْقِيقُ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجْمَعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ: إزَالَةِ الشَّرِّ وَزِيَادَةِ الْخَيْرِ. [16/ 198]
2969 -
جَعَلَ -تعالى- دِينَهُ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ: إسْلَامٌ ثُمَّ إيمَانٌ ثُمَّ إحْسَانٌ، وَجَعَلَ الْإِسْلَامَ مَبْنِيًّا عَلَى أَرْكَانٍ خَمْسَةٍ، وَمِن آكَدِهَا الصَّلَاةُ، وَهِيَ خَمْسَةُ فُرُوضٍ، وَقَرَنَ مَعَهَا الزَّكَاةَ، فَمِن آكَدِ الْعِبَادَاتِ الصَّلَاةُ، وَتَلِيهَا الزَّكَاةُ، فَفِي الصَّلَاةِ عِبَادَتُهُ، وَفِي الزَّكَاةِ الْإِحْسَانُ إلَى خَلْقِهِ.
فَكَرَّرَ فَرْضَ الصَّلَاةِ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ آيَةٍ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا إلَّا قَرَنَ مَعَهَا الزَّكَاةَ، مِن ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [المزمل: 20]. [25/ 6]
2970 -
أَفْهَمَ الشَّرْعُ أَنَّهَا [أي: الزكاة] شُرِعَتْ لِلْمُوَاسَاةِ، وَلَا تَكُونُ الْمُوَاسَاةُ إلَّا فِيمَا لَهُ مَالٌ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَحَدَّ لَهُ أَنْصِبَةً وَوَضَعَهَا فِي الْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ:
أ- فَمِن ذَلِكَ مَا يَنْمُو بِنَفْسِهِ؛ كَالْمَاشِيَةِ وَالْحَرْثِ.
ب- وَمَا يَنْمُو بِتَغَيُّر عَيْنِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ؛ كَالْعَيْنِ.
وَجَعَلَ الْمَالَ الْمَأْخُوذَ عَلَى حِسابِ التَّعَبِ:
- فَمَا وُجِدَ مِن أَمْوَالِ الْجَاهِلِيَّةِ هُوَ أَقَلُّهُ تَعَبًا فَفِيهِ الْخُمُسُ.
- ثُمَّ مَا فِيهِ التَّعَبُ مِن طَرَفٍ وَاحِدٍ فِيهِ نِصْفُ الْخُمُسِ وَهُوَ الْعُشْرُ فِيمَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ.
- وَمَا فِيهِ التَّعَبُ مِن طَرَفَيْنِ فِيهِ رُبُعُ الْخُمُسِ وَهُوَ نِصْفُ الْعُشْرِ فِيمَا سُقِيَ بِالنَّضحِ.
- وَمَا فِيهِ التَّعَبُ فِي طُولِ السَّنَةِ كَالْعَيْنِ فَفِيهِ ثُمُنُ ذَلِكَ وَهُوَ رُبُعُ الْعُشْرِ. [25/ 8]
2971 -
الْحَوْلُ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَيْنِ وَالْمَاشِيَةِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَبْعَثُ عُمَّالَة عَلَى الصَّدَقَةِ كُلَّ عَامٍ، وَعَمِلَ بِذَلِكَ الْخُلَفَاءُ فِي الْمَاشِيَةِ وَالْعَيْنِ.
فَمَن مَلَكَ نِصَابًا مِن الذَّهَبِ أَو الْوَرِقِ وَأَقَامَ فِي مِلْكِهِ حَوْلًا: وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ.
وَإِن مَلَكَ دُونَ النِّصَابِ ثُمَّ مَلَكَ مَا يُتِمُّ النِّصَابَ: بَنَى الْأَوَّلَ عَلَى حَوْلِ الثَّانِي؛ فَالِاعْتِبَارُ مِن يَوْمِ كَمُلَ النِّصَابُ
(1)
.
وَإِن مَلَكَ نِصَابًا ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ مَلَكَ نِصَابًا: بَنَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى
(1)
مثال ذلك: إذا كان شخص عنده من الدراهم أقل من النصاب، وفي أثناء الحول مات له قريب، فورث منه خمسين ألفًا فيبتدئ الحول من وقت صلك الخمسين ألفًا؛ في الخمسين، وفي الدراهم السابقة، ولا يبتدئ الحول في الدراهم السابقة من حين ملكها، وفي الخمسين من حين ملكها؛ لأن الدراهم الأولى أقل من النصاب فليس فيها زكاة، لكن لما تم النصاب بإرث الخمسين ضممنا الأولى إلى الثانية، وصار الحول واحدًا من حين تمام النصاب بملك الخمسين.
مثال آخر: ملك في شهر محرم نصابًا، ثم ملك بالإرث في شهر جمادى الثانية أقل من النصاب مائة درهم ففيها زكاة -وإن كان أقل من النصاب- لأن عنده مالًا يبلغ النصاب، لكن حول المائة درهم يكون في جمادى الثانية، وليس في محرم؛ لأنها تضم إلى ما عنده في النصاب، لا في الحول. يُنظر: الشرح الممتع (6/ 21 - 22).
فائدة: قال ابن عثيمين رحمه الله: المستفاد بغير الربح كالرجل يرث مالًا، أو يوهب له، أو المرأة تملك الصداق، وما أشبه ذلك، فهذا لا يضم إلى ما عنده من المال في الحول؛ لأنه مستقل وليس فرعًا له، ولكنه يضم في تكميل النصاب.
مثاله: رجل عنده (100،000) ريال، وفي أثناء الحول ورث من قريب له (50،000) ريال فنزكي الخمسين إذا تم حولها، ولا تضم إلى (100.000) في الحول. الشرح الممتع (6/ 21).
حَوْلِهِ، وَرِبْحُ الْمَالِ مَضْمُومٌ إلَى أَصْلِهِ يُزَكِّي الرِّبْحَ لِحَوْلِ الْأَصْلِ، وَإِذَا كَانَ الْأصْلُ نِصَابًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَإِن كَانَ الْأصْلُ دُونَ النِّصَاب فَتَمَّ عِنْدَ الْحَوْلِ نِصَابًا بِرِبْحِهِ: فَفِيهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ مَالِكٌ رحمه الله.
وَإِن كَانَ مَعَهُ عَرَضٌ لِلتِّجَارَةِ ثُمَّ مَلَكَ مَا يُكْمِلُ النِّصَابَ: فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ. [25/ 14 - 15]
2972 -
لَا بُدَّ فِي الزَّكَاةِ مِنَ الْمِلْكِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْيَدِ، فَلَهُم فِي زَكَاةِ مَا لَيْسَ فِي الْيَدِ كَالدَّيْنِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا تَجِبُ فِي كُلِّ دَيْنٍ وَكُلِّ عَيْنٍ وَإِن لَمْ تَكُنْ تَحْتَ يَدِ صَاحِبِهَا كَالْمَغْصُوبِ وَالضَّالِّ، وَالدَّيْنِ الْمَجْحُودِ وَعَلَى مُعْسِرٍ أَو مُمَاطِلٍ، وَأَنَّهُ يَجِبُ تَعْجِيلُ الْإِخْرَاجِ مِمَّا يُمْكِنُ قَبْضُهُ كَالدَّيْنِ عَلَى الْمُوسِرِ، وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَقْوَاهُمَا
(1)
. [25/ 45 - 46]
2973 -
لِلنَّاسِ فِي إخْرَاجِ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُجْزِئُ بِكُلِّ حَالٍ، كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَالثَّانِي: لَا يُجْزِئُ بِحَالٍ، كَمَا قَالَة الشَّافِعِيِّ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ مِثْلُ مَن تَجِبُ عَلَيْهِ شَاةٌ فِي الْإِبِلِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، وَمِثْلُ مَن يَبِيعُ عِنبهُ وَرُطَبَهُ قَبْلَ الْيُبْسِ .. وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَن أَحْمَد صَرِيحًا.
وَهَذَا الْقَوْلُ أَعْدَلُ الْأقْوَالِ كَمَا ذَكَرْنَا مِثْلَهُ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ الْمُوجِبَةَ لِلَعِينِ نَصًّا وَقِيَاسًا: كَسَائِرِ أَدِلَّةِ الْوُجُوبِ.
(1)
وسيأتي ما جاء في الاختيارات (98)، والفروع (2/ 251): أن الشيخ لا يرى وجوب الزكاة في دينٍ مؤجَّل، أو على معسر، أو مماطل.
وعلى هذا؛ فقد يكون له في المسألة قولان.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَصْلَحَةَ وُجُوبِ الْعَيْنِ قَد يُعَارِضُهَا أَحْيَانًا فِي الْقِيمَةِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، وَفِي الْعَيْنِ مِنَ الْمَشَقَّةِ الْمَنْفِيَّةِ شَرْعًا. [25/ 46]
2974 -
لا يصح أن يشترط ربُّ المال زكاة رأس المال أو بعضه من الربح؛ لأنه قد يحيط بالربح، فهو كشرط فضل دراهم، ساله المروذي: يشترط المضارب على رب المال أن الزكاة من الربح؟ قال: لا، الزكاة على رب المال، وصححه شيخنا، كما يختص بنفعه في المساقاة إذا لم يثمر الشجر
(1)
، وركوب الفرس في الجهاد إذا لم يغنموا
(2)
.
ويصح أن يشترط رب المال زكاة رأس المال أو بعضه من الربح، ولا يقال بعدم الصحة ونقله المروذي عن أحمد لأن الزكاة قد تحيط بالربح فيختص رب المال بعمله؛ لأنا نقول: لا يمتنع ذلك، كما يختص بنفعه في المساقاة إذا لم يثمر الشجر وبركوب الفرس في الجهاد إذا لم يغنموا
(3)
. [المستدرك 3/ 151]
2975 -
لا تجب
(4)
في دينٍ مؤجَّل
(5)
، أو على معسر، أو مماطل، أو
(1)
وفي نسخة: إذا لم يثمر عن ربح الشجر. (الجامع).
(2)
الفروع (2/ 338).
(3)
الاختيارات (98).
قال الجامع: هذا خلاف ما في الفروع، ولعل ما فيه أصح.
(4)
يعني: الزكاة.
(5)
كما لو اقترض رجل مالًا يحل بعد سنتين، فإنه لا زكاة على الدائن حتى يقبضه.
وهذا ظاهر في أن الشيخ لا يرى وجوب الزكاة في الدين المؤجل مطلقًا، وهو ما ذهب إليه ابن حزم رحمه الله تعالى حيث قال: وَمَن كَانَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ دَيْنٌ فَسَوَاءٌ: كَانَ حَالًا أو مُؤَجَّلًا عِنْدَ مَلِيءٍ مُقِرٍّ يُمْكِنُهُ قَبْضُهُ أو مُنْكِرٍ، أو عِنْدَ عَدِيمٍ مُقِرٍّ أَو مُنْكرٍ كُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَلَا زَكَاةَ فِيهِ عَلَى صَاحِبهِ، وَلَو أقَامَ عَنْهُ سِنِينَ حَتَّى يَقْبِضَهُ فَإِذَا قبَضَهُ اسْتَأْنَفَ حَوْلًا كسَائِرِ الفَوَائِدِ.
إلى أن قالَ: إنَّمَا لِصَاحِبِ الدَّيْن عِنْدَ غَرِيمِهِ عَدَدٌ فِي الذِّمَّةِ وَصِفَةٌ فَقَطْ، وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ عَيْنُ مَالٍ أصْلًا، وَلَعَلَّ الْفِضَّةَ أو الذَّهَبَ اللَّذَيْنِ لَهُ عِنْدَهُ فِي الْمَعْدِنِ بَعْدُ، وَالْفِضَّةُ تُرَابٌ بَعْدُ، وَلَعَلَّ الْمَوَاشِيَ الَّتِي لَهُ عَلَيْهِ لَمْ تخْلَقْ بَعْدُ، فَكَيْفَ تَلْزَمُهُ زَكَاةُ مَا هَذِهِ صِفَتُهُ فَصَحَّ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. اهـ. المحلى (6/ 103 - 105).
واختاره مِن المعاصرين: الشيخ الدكتور خالد المصلح حفظه الله، وهو الذي يترجح لي؛ بناء على البراءة الأصلية. والله تعالى أعلم.
جاحد، ومغصوب، ومسروق، وضال، وما دفنه ونسيه، أو جهل عند من هو، ولو حصل في يده، وهو رواية عن أحمد، واختارها وصححها طائفة من أصحابه، وهو قول أبي حنيفة
(1)
. [المستدرك 3/ 152]
2976 -
دين الابن الذي له على أبيه، قال أبو العباس: الأشبه عندي أن يكون بمنزلة المال الضال، فيُخَرَّج على الروايتين، ووجهه ظاهر؛ فإن الابن غير مُمَكَّنٍ مِن المطالبةِ به فقد حيل بينه وبينه، ولو قيل: لا تلزمه زكاته بمنزلة دين الكتابة لكان متوجهًا. [المستدرك 3/ 152]
2977 -
إذا فرط الإنسان ولم يخرج الزكاة حتى مات: فعلى الورثة الإخراج عند أحمد والشافعي، وكذلك كل حق لله.
وعند غيرهما: لا يجب على الورثة، مع أنه يعذب بِتَرْكِه الزكاة. [المستدرك 3/ 152]
2978 -
إذا مات الميت وله غرماء مَدْيُونون لم يَستوف مما عليهم شيئًا: فهل مطالبتهم للميت أو للورثة؟
(2)
اضطرب فيها الناس.
والصواب:
أ- إن كان الحق مظالم لم يتمكن هو ولا ورثته من استيفائها من قول أو قذف أو غصب: فهو المطالِب.
ب- وإن كان دينًا ثبت باختياره وتمكن من استيفائه فلم يستوفه حتى مات: فورثته تطالِب به إلى يوم القيامة.
ج- وإن كان دينًا عجز عن استيفائه هو وورثته: فالأشبه أنه هو
(3)
الذي يطالِب به؛ فإنَّ العجز إذا كان ثابتًا فيه وفي الوارث ولم يتمكن أحدهما من
(1)
الاختيارات (98)، الفروع (2/ 251).
(2)
يوم القيامة.
(3)
أي: الميت.
الانتفاع بذلك في الدنيا لم يدخل في الميراث، فيكون المستحق أحق بحقه في الآخرة، كما في المظالم، والإرث مشروط بالتمكن من الاستيفاء كما أنه مشروط بالعلم بالوارث.
فلو مات وله عصبة بعيدة لا يعرف نسبهم لم يرثوه في الدنيا ولا في الآخرة، وهذا عام في جميع الحقوق التي لله ولعباده هي مشروطة بالتمكن من العلم والقدرة، والمجهول والمعجوز عنه كالمعدوم.
ولهذا قال العلماء: إن ما يجهل مالكه من الأموال التي قبضت بغير حق؛ كالمكوس أو قبضت بحق كالوديعة والعارية وجهل صاحبها بحيث تعذر ردها عليه فإنها تصرف في مصالح المسلمين، وتكون حلالًا لمن أخذها بحق؛ كأهل الحاجة والاستعانة بها على مصالح المسلمين، دون من أخذها بباطل، كمن يأخذ فوق حقه.
ثم المظلوم إذا طالب بها يوم القيامة وعليه زكاة فلا تقوم هذه بالزكاة بل عقوبة الزكاة أعظم من حسنة المظالم، والوعيد بترك الزكاة عظيم، ولكن الذي ورد أن الفرائض تجبر بالنوافل، فهذا إذا تصدق باختياره صدقة تطوع، ولا يكون شيئًا خرج بغير اختياره فإنه يرجى له أن يحاسب بما تركه من الزكاة إذا كان من أهلها العازمين على فعلها.
و"أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة فإن أكملها وإلا قيل: انظروا إن كان لعبدي تطوع فيكمل بها فريضته ثم الزكاة كذلك، ثم تؤخذ الأعمال على حساب ذلك"
(1)
، روى ذلك أحمد في"المسند".
هذا لأن التطوع من جنس الفريضة فأمكن الجبران به عند التعذر، كما قال الصديق رضي الله عنه: إن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدى فريضة.
فيكون من رحمة الله به أن يجعل النفل مثل الفرض، بمنزلة من أحرم
(1)
رواه ابن ماجه (1425)، وأحمد (9494)، وصحَّحه الألباني في صحيح ابن ماجه.
بالحج تطوعًا وعليه فرضه فإنه يقع عن فرضه عند طائفة؛ كالشافعي وأحمد في المشهور.
وكذلك في رمضان عند أبي حنيفة وهو قول في مذهب أحمد
(1)
.
وكذلك من شك: هل وجب عليه غسل أو وضوء بحدث أم لا؟ فإنه لا يجب عليه غسل.
وكذلك الوضوء عند جمهور العلماء، لكن يستحب له التطهر احتياطًا.
وإذا فعل ذلك وكان واجبًا عليه في نفس الأمر أجزأ عنه {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. [المستدرك 3/ 152 - 154]
* * *
(باب زكاة بهيمة الأنعام)
2979 -
من أنكر زكاة السائمة وجبت استتابته. [المستدرك 3/ 155]
2980 -
قال ابن عقيل: لا يجوز إخصاء البهائم ولا كيِّها بالنار للوسم.
وقال في موضع آخر: إن ذلك وخزمها في الأنف لقصد المثلة إثم، وإن كان ذلك لغرض صحيح جاز، وأما فعل ذلك بالآدميين فيحصل به الفسق.
وذكر الشيخ تقي الدين كلام ابن عقيل الأول، وقال: فعلى قوله: لا يجوز وسمها، قال: وهو ضعيف. [المستدرك 3/ 155]
2981 -
الْخُلَطَاءُ فِي الْمَاشِيَةِ: وَهوَ إذَا كَانَ مَالُ كُلٍّ مِنْهُمَا مُتَمَيِّزًا عَنِ الآْخَرِ، فَإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ فَهُمَا شَرِيكَانِ، وَإِذَا كَانَا خَلِيطَيْنِ زَكَّيَا زَكَاةَ الْمَالِ الْوَاحِدِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَرْبَعُونَ فَعَلَيْهِمَا فِي الْخلْطَةِ شَاةٌ وَاحِدَةٌ وَيتَرَادَّانِ قِيمَتَهَا. [25/ 38]
* * *
(1)
وهو الذي رجحه الله كما في (25/ 102).
(باب زكاة الحبوب والثمار)
2982 -
الْعِنَبُ الَّذِي لَا يَصِيرُ زَبِيبًا: إِذَا أَخْرَجَ عَنْهُ زَبِيبًا بِقَدْرِ عُشْرِهِ لَو كَانَ يَصِيرُ زَبِيبًا جَازَ وَهُوَ أَفْضَلُ، وَأَجْزَأَهُ ذَلِكَ بِلَا ريبٍ.
وَلَا يَتَعَيَّن عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ الْإِخْرَاجُ مِن عَيْنِ الْمَالِ لَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَلَا غَيْرِهَا؛ بَل مَن كَانَ مَعَهُ ذَهَبٌ أَو فِضَّةٌ أَو عَرَضُ تِجَارَةٍ أَو لَهُ حَبٌّ أَو ثَمَرٌ يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ أَو مَاشِيَةٌ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ وَأَخْرَجَ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ الْمَنْصُوصِ مِن غَيْرِ ذَلِكَ الْمَالِ: أَجْزَأَهُ، فَكَيْفَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ.
وَإِن أَخْرَجَ الْعُشْرَ عِنَبًا؟ فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُجْزئُهُ.
وَالثَّانِي: يُجْزِئُهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَظْهَرُ.
وَأَمَّا الْعِنَبُ الَّذِي يَصِيرُ زَبِيبًا لَكِنَّهُ قَطَعَهُ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ زَبِيبًا: فَهُنَا يُخْرِجُ زَبِيبًا بِلَا رَيْبٍ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَبْعَثُ سُعَاتِهِ فَيَخْرُصُونَ النَّخْلَ وَالْكَرْمَ ويُطَالِبُ أَهْلَهُ بِمِقْدَارِ الزَّكَاةِ يَابِسًا، وَإِن كَانَ أَهْلُ الثِّمَارِ يَأْكُلُونَ كَثِيرًا مِنْهَا رُطَبًا.
وَيَأْمُرُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْخَارِصِينَ أَنْ يَدَعُوا لِأَهْلِ الْأَمْوَالِ الثُّلُثَ أَو الرُّبُعَ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ عُشْرٌ وَيَقُولُ: "إذَا خَرَصْتُمْ فَدَعُوا الثُّلُثَ فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُبُعَ"
(1)
.
(1)
رواه الإمام أحمد (15713)، وأبو داود (1605)، والترمذي (643)، والنسائي (2491)، من حديث سَهْل بْن أبِي حَثْمَةَ، وصحَّحه محققو المسند، وضعَّفه الألباني.
قال الترمذي: وَالعَمَلُ عَلَى حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أبِي حَثْمَةَ عِنْدَ أكْثَرِ أَهْلِ العِلْمِ فِي الخَرْصِ، وَبحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، يَقُولُ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ.
وَالخَرْصُ إِذَا أَدْرَكَتِ الثِّمَارُ مِنَ الرُّطَبِ وَالعِنَبِ مِمَّا فِيهِ الزَّكَاةُ بَعَثَ السُّلْطَانُ خَارِصًا يَخْرُصُ عَلَيْهِمْ، وَالخَرْصُ: أَنْ يَنْظُرَ مَن يُبْصِرُ ذَلِكَ فَيَقُولُ: يَخْرُجُ مِن هَذَا الزَّبِيبِ كَذَا، وَكَذَا،=
وَفِي رِوَايَةٍ: "فَإِنَّ فِي الْمَالِ الْعَرِيَّةَ والوطية وَالسَّابِلَةَ"؛ يَعْنِي: أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ يَتَبَرَّعُ بِمَا يُعَرِّيهِ مِنَ النَّخْلِ لِمَن يَأُكلُهُ وَعَلَيْهِ ضَيْفٌ يَطَئُونَ حَدِيقَتَهُ يُطْعِمُهُم وَيُطْعِمُ السَّابِلَةَ وَهُم أَبْنَاءُ السَّبِيلِ، وَهَذَا الْإِسْقَاطُ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِن فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ
(1)
.
نَعَمْ، لَو بَاعَ عِنَبَهُ أَو رُطَبَهُ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ فَقَد نَصَّ أَحْمَد فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى أَّنَّهُ يُجْزِئُهُ إخْرَاجُ عُشْرِ الثَّمَنِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إخْرَاج عِنَبٍ أَو زَبِيبٍ، فَإِنَّ فِي إخْرَاجِ الْقِيمَةِ نِزَاعًا فِي مَذْهَبِهِ، وَنُصُوصُهُ الْكَثِيرَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ، وَلَا يَجُوزُ بِدُونِ الْحَاجَةِ. [25/ 56 - 57]
2983 -
الزَّكَاةُ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ: مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ وَالْمُسَاقَاةَ: هَل هِيَ جَائِزَةٌ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَوْلُ مَن قَالَ: إنَّهَا لَا تَجُوزُ وَاعْتَقَدُوا أَنَّهَا نَوْعٌ مِنَ الْإِجَارَةِ بِعِوَضٍ مَجْهُولٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَولُ مَن يُجَوِّزُ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ وَيَقُولُ: إنَّ هَذِهِ مُشَارَكَةٌ، وَهِيَ جِنْسٌ غَيْرُ جِنْسِ الْإِجَارَةِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا قَدْرُ النَّفْعِ وَالْأُجْرَةِ، فَإنَّ الْعَمَلَ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ لَيْسَ بِمَقْصُود بَلِ الْمَقْصُودُ هُوَ الثَّمَرُ الَّذِي يَشْتَرِكَانِ فِيهِ، وَلَكِنَّ هَذَا شَارَكَ بِنَفْعِ مَالِهِ وَهَذَا بِنَفْعِ بَدَنِهِ وَهَكَذَا الْمُضَارَبَةُ.
فَعَلَى هَذَا: فَإِذَا افْتَرَقَ أَصْحَابُ هَذِهِ الْعُقُودِ وَجَبَ لِلْعَامِلِ قِسْطُ مِثْلِهِ مِنَ
= وَمِنَ التَّمْرِ، كَذَا، وَكَذَا، فَيُحْصِي عَلَيْهِم وَينْظُرُ مَبْلَغَ العُشْرِ مِن ذَلِكَ فَيُثْبِتُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يُخَلِّي بَيْنَهُم وَبَيْنَ الثِّمَارِ، فَيَصْنَعُونَ مَا أَحَبُّوا، فَإِذَا أدْرَكَتِ الثِّمَارُ، أُخِذَ مِنْهُمُ العُشْرُ، هَكَذَا فَسَّرَهُ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ، وَبِهَذَا يَقُولُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ. اهـ.
(1)
قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله: هل المراد منه إسقاط الزكاة في هذا القدر من الثمر، أو المراد أن يجعل الثلث من الزكاة للمالك يتصرف فيه؟
الصحيح: أن هذا ليس من باب الإسقاط، بل جُعل التصرف فيه للمالك؛ لأنه قد يكون للمالك أقارب وأصحاب، وما أشبه ذلك يعطيهم من الزكاة، ويدل على أن هذا هو القول الراجح، عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:"فيما سقت السماء العشر". الشرح الممتع (6/ 90 - 91).
الرِّبْحِ: إمَّا ثُلُثُ الرّبْحِ وَإمَّا نِصْفُهُ، وَلَمْ تَجِبْ أُجْرَةُ الْمِثْل لِلْعَامِلِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ.
وَالْقَوْلُ بِجَوَازِ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ: قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ.
وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ أَحَلُّ مِنَ الْإِجَارَةِ بِثَمَنٍ مُسَمَّى؛ لأنَّهَا أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ وَأَبْعَدُ عَنِ الْخَطَرِ .. فَإِنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْمَغْنَمِ وَفِي الْحِرْمَانِ كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ، فَإِنْ حَصَلَ شَيْءٌ اشْتَرَكَا فِيهِ وَإِن لَمْ يَحْصُلْ شَيْءٌ اشْتَرَكَا فِي الْحِرْمَانِ، وَكَانَ ذَهَابُ نَفْعِ مَالِ هَذَا فِي مُقَابَلَةِ ذَهَابِ نَفْعِ بَدَنِ هَذَا.
وَلهَذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُشْتَرَطَ لِأَحَدِهِمَا شَيْءٌ مُقَدَّرٌ مِنَ النَّمَاءِ لَا فِي الْمُضَارَبَةِ وَلَا فِي الْمُسَاقَاةِ وَلَا فِي الْمُزَارَعَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلْعَدْلِ، إذ قَد يَحْصُلُ لِأَحَدِهِمَا شَيْءٌ وَالْآخَرُ لَا يَحْصُلُ لَهُ شَيْءٌ.
وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي رُوِيَ فِيهَا "أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْمُخَابَرَةِ" أَو "عَن كِرَاءِ الْأَرْضِ" أَو "عَنِ الْمُزَارَعَةِ"؛ كَحَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ قَد جَاءَ مُفَسَّرًا بِأَنَّهُم كَانُوا يَعْمَلُونَ عَلَيْهَا بِزَرْعِ بُقْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ الْأَرْضِ لِلْمَالِك.
فَأَمَّا الْمُزَارَعَةُ فَجَائِزَةٌ بِلَا ريبٍ سَوَاءٌ كَانَ الْبَذْرُ مِنَ الْمَالِكِ أَو الْعَامِلِ أَو مِنْهُمَا، وَسَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ أَو الْمُزَارَعَةِ أَو غَيْرِ ذَلِكَ، هَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ مِن هَذَا الْجِنْسِ مِثْلُ أَنْ يَدْفَعَ دَابَّتَهُ أَو سَفِينَتَهُ إلَى مَن يَكْتَسِبُ عَلَيْهَا وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا، أَو مَن يَدْفَعُ مَاشِيَتَهُ أَو نَخْلَهُ لِمَن يَقُومُ عَلَيْهَا وَالصُّوفُ وَاللَّبَنُ وَالْوَلَدُ وَالْعَسَلُ بَيْنَهُمَا.
فَإِذَا عُرِفَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ فِي الْمُزَارَعَةِ فَمَن قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إنَّ الْمُزَارَعَةَ بَاطِلَةٌ قَالَ: الزَّرْعُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْأَرْضِ إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْهُ، أَو لِلْعَامِلِ إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْهُ.
وَمَن قَالَ: لَهُ الزَّرْعُ كَانَ عَلَيْهِ الْعُشْرُ.
وَأَمَّا مَن قَالَ: إنَّ رَبَّ الْأرْضِ يَسْتَحِقُّ جُزْءًا مُشَاعًا مِنَ الزّرْعِ فَإِنَ عَلَيْهِ عُشْرَهُ بِاتِّفَاقِ الْأئِمَّةِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: إنَّ رَبَّ الْأَرْضِ يُقَاسِمُ الْعَامِلَ وَيكُونُ الْعُشْرُ كُلُّهُ عَلَى الْعَامِلِ، فَمَن قَالَ هَذَا فَقَد خَالَفَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ. [25/ 59 - 63]
2984 -
يُضَمُّ الْقَمْحُ وَالشَّعِيرُ وَالسَّلْتُ فِي الزَّكَاةِ
(1)
، وَتُضَمُّ القطافي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، ويُضَمُّ زَرْعُ الْعَامِ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ، وَلَو كَانَ بَعْضُهُ صَيْفِيًّا وَبَعْضُهُ شَتْوِيًّا
(2)
، وَكَذَلِكَ الثَّمَرَةُ وَلَو كَانَ فِي بُلْدَانٍ شَتَّى إذَا كَانَ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ.
وَأمَّا الشرَكَاءُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي حِصَّهِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُم نِصَابٌ. [25/ 23]
2985 -
مَن بَاعَ ثَمَرَةً أَو وَهَبَهَا أو مَاتَ عَنْهَا بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا فَالزَّكَاةُ عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا فَالزَّكَاةُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَالْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْوَارِثِ، إنْ كَانَ فِي حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ نِصَابٌ.
وُيخْرَصُ النَّخْلُ وَالْكَرْمُ عَلَى أَرْبَابِهِ، وَيُخَلَّى بَيْنَهُم وَبَيْنَهُ، فَإِنْ شَاؤُوا أَكلُوا وَإِن شَاؤُوا بَاعُوا. [25/ 24]
2986 -
نص أبو العباس على وجوب الزكاة في التين للادخار، وإنما اعتبر الكيل والوزن في الروايات لأجل التماثل المعتبر فيها وهو غير موجود ههنا. [المستدرك 3/ 155]
(1)
الذي يظهر أن الأنواع تضم بعضها إلى بعض، كالسكري يضم إلى البرحي، وهكذا.
ولا يضم جنسٌ إلى آخر، قال ابن عثيمين رحمه الله: والدليل على أنه يضم الأنواع بعضها إلى بعض دون الجنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الزكاة في الثمر مطلقًا، ومعلوم أن التمر يشمل أنواعًا؛ ولم يأمر بتمييز كل نوع عن الآخر، فلو كان عنده مزرعة نصفها شعير، ونصفها بر، وكل واحد نصف النصاب، فإنه لا يضم بعضه إلى بعض؛ لاختلاف الجنس، كما لا تضم البقر إلى الإبل أو الغنم؛ لأن الجنس مختلف. الشرح الممتع (6/ 74).
(2)
أي: لو كان عند إنسان بستان بعضه يُجنى مبكرًا، والبعض الآخر يتأخر، فإننا نضم بعضه إلى بعض إلى أن يكتمل النصاب، فإذا كان الأول نصف نصاب، والثاني نصف نصاب، وجبت الزكاة. الشرح الممتع (6/ 72 - 73).
2987 -
ما يديره الماء من النواعير
(1)
ونحوها مما يُصنع من العام إلى العام أو أثناء العام ولا يحتاج إلى دولاب تديره الدواب يجب فيه العشر؛ لأن مؤنته خفيفة فهي كحرث الأرض وإصلاح [طُرُقِ] الماء
(2)
. [المستدرك 3/ 156]
2988 -
تسقط الزكاة فيما خرج من مؤنة الزرع والثمر منه، وهو قول عطاء بن أبي رباح؛ لأن الشارع أسقط في الخرص زكاة الثلث أو الربع لأجل ما يخرج من الثمرة بالإعراء والضيافة وإطعام ابن السبيل، وهو تبرع فيما يخرج عنه لمصلحته التي لا تحصل إلا بها أولى بإسقاط الزكاة عنه. [المستدرك 3/ 156]
2989 -
مذهب سائر الأئمة أنه لا بد في الأرض من عشر أو خراج وهل يجتمعان؟ قال أبو حنيفة: لا. [المستدرك 3/ 151]
2990 -
كلام أبي العباس في اقتضاء الصراط المستقيم، يعطي أن أهل الذمة منعوا من شراء الأرض العشرية، ولا يصح البيع، وجزم الأصحاب بالصحة. [المستدرك 3/ 156 - 157]
2991 -
وَأَمَّا "الْعُشْرُ": فَهُوَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ؛ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ عَلَى مَن نَبَتَ الزَّرْعُ عَلَى مِلْكِهِ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267].
فَالْأَوَّلُ: يَتَضَمَّنُ زَكَاةَ التِّجَارَةِ.
وَالثَّانِي: يَتَضَمَّنُ زَكَاةَ مَا أَخْرَجَ اللهُ لنَا مِنَ الْأَرْضِ.
فَمَن أَخْرَجَ اللهُ لَهُ الْحَبَّ فَعَلَيْهِ الْعُشْرُ، فَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَرضًا لِيَزْرَعَهَا فَالْعُشْرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ كُلِّهِمْ.
(1)
مفردها: ناعورة، وهي دولاب ذو دِلاء أو نحوِها يدور بدفع الماء أو جرّ الماشية، فيخرج الماءُ من البئر أو النَّهر إلى الحقل. يُنظر: معجم اللغة العربية المعاصرة: رقم (5163) مادة: (ن ع ر)، ومختار الصحاح مادة:(ن ع ر).
(2)
اختيارات (101)، وما بين المعقوفتين من الإنصاف (3/ 100).
وَأَصْلُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ: أَنَّ الْعُشْرَ حَقُّ الزَّرْع، وَلهَذَا كَانَ عِنْدَهُم يَجْتَمِعُ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ؛ لِأنَّ الْعُشْرَ حَقُّ الزَّرْعِ وَمُسْتَحِقُّهُ أَهْلُ الزَّكَاةِ، وَالْخَرَاجُ حَقُّ الْأَرْضِ وَمُسْتَحِقُّهُ أَهْلُ الْفَيءِ فَهُمَا حَقَّانِ لِمُسْتَحِقَّيْنِ بسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَاجْتَمَعَا، كَمَا لَو قَتَلَ مُسْلِمًا خَطَأً فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ لِأَهْلِهِ وَالْكَفَّارَة حَقّ للهِ. [25/ 54 - 55]
2992 -
على كل من أنبت الله له زرعًا العشر، سواء كان بأرض مصر أو كيرها، من مالك، ومستأجر، ومقطع، ومستعير.
وكذلك التمر والزبيب ونحوه مما تجب فيه الزكاة، فلا تخلى الأرض من عشر، أو خراج باتفاق المسلمين.
ولكن اختلفوا هل يجتمع العشر والخراج الذي هو خراج الإسلام؟
فقال أبو حنيفة: لا، وقال الباقون: نعم. [المستدرك 3/ 228]
* * *
(باب زكاة النقدين)
2993 -
ما سماه الناس درهمًا وتعاملوا به تكون أحكامه أحكام الدرهم من وجوب الزكاة فيما بلغ مائتين منه، والقطع بسرقة ثلاثة دراهم منه، إلى غير ذلك من الأحكام قل ما فيه من الفضة أو كثر، وكذلك ما سمي دينارًا
(1)
.
أما الفلوس فلا يجوز إخراجها عن النقدين على الصحيح؛ لأنها ولو كانت نافقة فليست في المعاملة كالدراهم، في العادة؛ لأنها قد تكسد وتحرم
(1)
وقال رحمه الله في كتابه الرد على المنطقيين (ص 27): وقد تنازع علماء المسلمين في مسمى الدرهم والدينار هل هو مقدر بالشرع أو المرجع فيه إلى العرف؟ على قولين أصحهما الثاني، وعلى ذلك يُبْنَى النصاب الشرعي: هل هو مائتا درهم بوزن معين، أو مائتا درهم مما يتعامل بها الناس، واعتبار تقررها؟ ا. هـ.
قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى في تعليقه على الاختيارات (ص 152): فعلى هذا: إذا لم يكن عند الواحد في البلاد السعودية مائتا ريال سعودي: فلا زكاة عليه على رأي الشيخ تقيّ الدين رحمه الله تعالى.
المعاملة بها ولأنها أنقص سعرًا، ولهذا يكون البيع بالفلوس، دون البيع بقيمتها من الدراهم، وغايتها أن تكون بمنزلة المكسرة مع الصحاح والبهرجة مع الخالصة فإن تلك إلى النحاس أقرب. [المستدرك 3/ 157 - 158]
وعلى هذا: إذا أخرج الفلوس وأخرج التفاوت جاز على المنصوص في جواز إخراج التفاوت فيما بين الصحيح والمكسر؛ بناء على أن جبران الصفات كجبران المقدار.
2994 -
الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لَا تُقْصَدُ لِنَفْسِهَا؛ بَل هِيَ وَسِيلَةٌ إلَى التعامل بِهَا، وَلهَذَا كَانَت أثْمَانًا، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الِانْتِفَاعُ بِهَا نَفْسِهَا؛ فَلِهَذَا كَانَت مُقَدَّرَةً بِالْأُمُورِ الطَّبْعِيَّةِ أَو الشَّرْعِيَّةِ.
وَالْوَسِيلَةُ الْمَحْضَةُ الَّتِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا غَرَضٌ لَا بِمَادَّتِهَا وَلَا بِصُورَتِهَا يَحْصُلُ بِهَا الْمَقْصُودُ كَيْفَمَا كَانَتْ. [19/ 251 - 252]
2995 -
نِصَابُ الْوَرِقِ الَّتِي تَجِبُ زَكَاتُهُ: مِائَتَا دِرْهَمٍ عَلَى مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ: "خَمْسُ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ"
(1)
، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا "نِصَابُ الذَّهَبِ" فَقَد قَالَ مَالِكٌ فِي "الْمُوَطَّأِ": السُّنَّةُ الَّتِي لَا اخْتِلَافَ فِيهَا عِنْدَنَا: أَنَّ الزكَاةَ تَجِبُ فِي عِشْرِينَ دِينَارًا كَمَا تَجِبُ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ.
فَقَد حَكَى مَالِكٌ إجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
وَمَا دُونَ الْعِشْرِينَ: فَإِنْ لَمْ تَكُنْ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ.
وَإِن كَانَ أَقَلَّ مِن عِشْرِينَ وَقِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ: فَفِيهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ.
(1)
رواه البخاري (1459)، ومسلم (980).
وَدَلَّ الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ عَلَى إيجَابِ الزكَاةِ فِي الذَّهَبِ كَمَا وَجَبَتْ فِي الْفِضَّةِ، قَالَ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الْآيَةَ [التوبة: 34].
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِن صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا زَكاتَهَا"
(1)
الْحَدِيثَ. [25/ 12 - 13]
2996 -
أما كتابة "لا إله إلا الله" على الدراهم فمحدث من خلافة عبد الملك بن مروان -وإلى الآن- وكانوا يكتبون عليها نحوًا من ذلك.
ويجوز للمحدث مسكها، وإذا كانت معه في منديل أو خريطة وشق عليه مسكها جاز أن يدخل بها الخلاء. [المستدرك 3/ 158]
2997 -
لم يضرب الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه دراهم، وإنما حدث ضربها في خلافة عبد الملك. [المستدرك 3/ 158]
2998 -
حديث معاوية في إباحة الذهب مقطعًا
(2)
هو في التابع غير المنفرد؛ كالزر والعلم ونحوه، وحديث الخريصة
(3)
هو في الفرد كالخاتم وغيره فلا تعارض بينهما. [المستدرك 3/ 158]
2999 -
نقل-أبو العباس- عن غير واحد من الصحابة أنه قال: زكاة الحلي عاريته، ولهذا تنازع أهل هذا القول: هل يلزمها أن تعيره لمن يستعيره إذا لم يكن في ذلك ضرر عليها؟ على وجهين في مذهب أحمد وغيره.
والذي ينبغي إذا لم تخرج الزكاة عنه أن تعيره، وأما إذا كانت تكريه ففيه الزكاة عند جمهور العلماء.
قال الزركشي نقلًا عن الشيخ: وكذلك المكروه. [المستدرك 3/ 158 - 159]
(1)
رواه مسلم (987).
(2)
وهو نَهْيُه صلى الله عليه وسلم عَن لُبْس الذَّهَب إِلَّا مُقَطَّعًا.
(3)
رواه الإمام أحمد بلفظ: "مَن تَحَلَّى أَو حُلِّيَ بِخَرْبَصِيصَةٍ مِن ذَهَبٍ، كُوِيَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
3000 -
وَأَمَّا "الْحُلِيِّ" فَإِنْ كَانَ لِلنِّسَاءِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ عِنْدَ مَالِك وَاللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي عُبَيْدٍ.
وَأَمَّا حِلْيَةُ الرِّجَالِ: فَمَا أُبِيحُ مِنْهُ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ كَحِلْيَةِ السَّيْفِ وَالْخَاتَمِ الْفِضَّةِ، وَأَمَّا مَا يَحْرُمُ اتِّخَاذُهُ كَالْأَوَاني فَفِيهِ الزَّكَاةُ. [25/ 16]
3001 -
تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَالِ الْيَتَامَى عِنْدَ مَالِك وَاللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. [25/ 17]
3002 -
الْمَالُ الْمَغْصُوبُ وَالضَّائِعُ وَنَحْوُ ذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ فِيهِ زَكَاةٌ حَتَّى يَقْبِضَهُ فَيُزَكِّيَهُ لِعَامٍ وَاحِدٍ، كَذَلِكَ الدَّيْنُ عِنْدَهُ لَا يُزَكِّيهِ حَتَّى يَقْبِضَهُ زَكَاةً وَاحِدَةً. [25/ 18]
3003 -
الدَّيْنُ يُسْقِطُ زَكَاةَ الْعَيْنِ عِنْدَ مَالِك وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَأَحَدِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالْحَسَن وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ
(1)
وَمَيْمُون بْن مهران والنَّخَعِي وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَاللَّيْثِ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ.
وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: سَمِعْت عُثْمَانَ رضي الله عنه يَقُولُ: هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ، فَمَن كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيُؤَدِّهِ حَتَّى تَخْلُصَ أمْوَالُكُمْ تُؤَدُّونَ مِنْهَا الزَّكَاةَ
(2)
. [25/ 19]
3004 -
وَسُئِلَ رحمه الله: عَن صَدَاقِ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا تَمُرُّ عَلَيْهِ السُّنُونَ الْمُتَوَالِيَةُ لَا يُمْكِنُهَا مُطَالَبَتُهُ بِهِ .. فَهَل تَجِبُ زَكَاةُ السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ؟
فأجاب: الْحَمْدُ للهِ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا لِلْعُلَمَاءِ أَقْوَالٌ:
قِيلَ: يَجِبُ تَزْكِيَةُ السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ مُوسِرًا أَو مُعْسِرًا.
(1)
حيث سُئل عن رجل له مال وعليه دين مثله أعليه زكاة؟ فقال له: لا.
(2)
قال في حاشية الروض -بعد أن ساق كلام عثمان رضي الله عنه: وقد قاله بمحضر من الصحابة فدل على اتفاقهم عليه، ولأن الزكاة وجبت مواساة للفقراء، وحاجة المدين كحاجة الفقير أو أشد. اهـ.
وَقِيلَ: يَجِبُ مَعَ يَسَارِهِ وَتَمَكُّنِهَا مِن قَبْضِه
(1)
دُونَ مَا إذَا لَمْ يُمْكِنْ تَمْكِينُهُ مِنَ الْقَبْضِ.
وَقِيلَ: تَجِبُ لِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ؛ كَقَوْلِ مَالِكٌ.
وَقِيلَ: لَا تَجِبُ بِحَالٍ؛ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَأَضْعَفُ الْأَقْوَالِ: مَن يُوجِبُهَا لِلسِّنِينَ الْمَاضِيَةِ حَتَّى مَعَ الْعَجْزِ عَن قَبْضِهِ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ بَاطِلٌ.
وَأَقْرَبُ الْأقْوَالِ قَوْلُ مَن لَا يُوجِبُ فِيهِ شَيْئًا بِحَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ، أَو يُوجِبُ فِيهِ زَكَاةً وَاحِدَةً عِنْدَ الْقَبْضِ، فَهَذَا الْقَوْلُ لَهُ وَجْهٌ وَهَذَا وَجْهٌ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٌ، وَكِلَاهُمَا قِيل بِهِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد. [25/ 47 - 48]
* * *
(باب زكاة العروض)
3005 -
يجوز إخراج زكاة العروض عرضًا، ويقوى على قول من يقول: تجب الزكاة في عين المال. [المستدرك 3/ 159]
3006 -
وَأَمَّا الْعُرُوضُ الَّتِي لِلتِّجَارَةِ فَفِيهَا الزَّكَاةُ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ أنَّ فِي الْعُرُوضِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا التِّجَارَةُ الزكَاةَ إذَا حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ.
وَأَمَّا مَالِكٌ: فَمَذْهَبُهُ أَنَّ التُّجَّارَ عَلَى قِسْمَيْنِ:
أ- مُتَرَبِّصٍ.
ب- وَمُدِيرٍ.
فَالْمُتَرَبِّصُ: وَهُوَ الَّذِي يَشْتَرِي السِّلَعَ وَيَنْتَظِرُ بِهَا الْأسْوَاقَ، فَرُبَّمَا أَقَامَت
(1)
في الأصل: (قَبْضِها)، ولعل الصواب المثبت؛ لأن الضمير عائد إلى الصداق، وهو مذكر.
وفي الفتاوى المصرية (1/ 281): بالتذكير.
السِّلَعُ عِنْدَهُ سِنِينَ، فَهَذَا عِنْدَهُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَبِيعَ السِّلْعَةَ فَيُزَكّيَهَا لِعَامٍ وَاحِدٍ، وَحُجَّتُهُ أَنَّ الزَّكَاةَ شُرِعَتْ فِي الْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ، فَإِذَا زَكَّى السِّلْعَةَ كُلَّ عَامٍ - وَقَد تَكُونُ كَاسِدَةً- نَقَصَتْ عَن شِرَائِهَا فَيَتَضَرَّرُ.
فَإِذَا زُكِّيَتْ عِنْدَ الْبَيْعِ: فَإِنْ كَانَت رَبِحَتْ فَالرِّبْحُ كَانَ كَامِنًا فِيهَا، فَيُخْرِجُ زَكَاتَهُ، وَلَا يُزَكِّي حَتَى يَبِيعَ بِنِصَابٍ، ثُمَّ يُزَكِّي بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَبِيعُهُ مِن كَثِيرٍ وَقَلِيلٍ.
وَأَمَّا الْمُدِيرُ: وَهُوَ الَّذِي يَبِيعُ السّلَعَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ فَلَا يَسْتَقِرُّ بِيَدِهِ سِلْعَةٌ، فَهَذَا يُزَكِّي فِي السَّنَةِ الْجَمِيعَ، يَجْعَلُ لِنَفْسِهِ شَهْرًا مَعْلُومًا يَحْسِبُ مَا بِيَدِهِ مِنَ السِّلَع وَالْعَيْنِ وَالدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْمَلِيءِ الثِّقَةِ وُيزَكِّي الْجَمِيعَ، هَذَا إذَا كَانَ يَنِضُّ
(1)
فِي يَدِهِ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ وَلَو دِرْهَمٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُن يَبِيعُ بِعَيْن أَصْلًا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ عِنْدَهُ. [25/ 15 - 16]
3007 -
الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَسَائِرُ الْأُمَّةِ -إلَّا مَن شَذَّ- مُتَّفِقُونَ عَلَى وُجُوبِهَا [أي: الزكاة] فِي عَرْضِ التّجَارَةِ، سَوَاءٌ كَانَ التَّاجِرُ مُقِيمًا أَو مُسَافِرًا، وَسَوَاءٌ كَانَ مُتَرِبِّصًا -وَهُوَ الَّذِي يَشْتَرِي التِّجَارَةَ وَقْتَ رُخْصِهَا وَيَدَّخِرُهَا إلَى وَقْتِ ارْتفَاعِ السِّعْرِ- أَو مُدِيرًا كَالتُّجَّارِ الَّذِينَ فِي الْحَوَانِيتِ.
فَالتِّجَارَاتُ هِيَ أَغْلَبُ أَمْوَالِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ الْبَاطِنَةِ، كَمَا أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ الْمَاشِيَةَ هِيَ أَغْلَبُ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ. [25/ 45]
* * *
(بَابٌ صَدَقَة الْفِطْرِ)
3008 -
لا يعتبر في زكاة الفطر ملك نصاب؛ بل تجب على كل من ملك صاعًا فاضلًا عن قوته يوم العيد وهو مذهب أحمد، ومن عجز عن صدقة الفطر وقت وجوبها عليه ثم أيسر فأداها فقد أحسن. [المستدرك 3/ 159]
(1)
نَضَّ المالُ يَنِضُّ: إذا تَحَوّل نَقْدًا بعد أنْ كان متاعًا. النهاية، لابن الأثير، مادة:(نضض).
3009 -
صدقة الفطر قدرها: صاعٌ من الشعير أو التمر، ونصفُه من البر عند أبي حنيفة واختيار الشيخ، وخرجه على قواعد أحمد.
وقياس قول أحمد في الكفارات. [المستدرك 3/ 159]
3010 -
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِن تَمْرٍ أَو صَاعًا مِن شَعِيرٍ؛ لِأَنَّ هَذَا كَانَ قُوتَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلَو كَانَ هَذَا لَيْسَ قُوتَهُم بَل يَقْتَاتُونَ غَيْرَهُ لَمْ يُكَلِّفْهُم أَنْ يُخْرِجُوا مِمَّا لَا يَقْتَاتُونَهُ، كَمَا لَمْ يَأْمُرِ اللهُ بِذَلِكَ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ مِن جِنْسِ الْكَفَّارَاتِ، هَذِهِ مُعَلَّقَةٌ بِالْبَدَنِ وَهَذِهِ مُعَلَّقَةٌ بِالْبَدَنِ، بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْمَالِ فَإِنَّهَا تَجِبُ بِسَبَبِ الْمَالِ مِن جِنْسِ مَا أَعْطَاهُ اللهُ.
والْقَرِيبُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهَا إذَا كَانَت حَاجَتُهُ مِثْل حَاجَةِ الْأَجْنَبِيِّ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا مِنْهُ فإِنَّ صَدَقَتَك عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ. [25/ 68 - 69]
3011 -
وَسُئِلَ: رحمه الله: عَمَّن عَلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ وَيعْلَمُ أَنَّهَا صَاعٌ وَيزِيدُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: هُوَ نَافِلَةٌ هَل يُكْرَهُ؟
فَأجَابَ: الْحَمْدُ للهِ، نَعَمْ يَجُوزُ بِلَا كَرَاهِيَةٍ عِنْدَ أكْثَرِ الْعُلَمَاءِ؛ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا. [25/ 70]
3012 -
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَنْ صَدَقَةِ الْفِطْرِ: هَلْ يَجِبُ اسْتِيعَابُ الْأصْنَافِ الثَّمَانيَةِ فِي صَرْفِهَا، أَمْ يُجْزِئُ صَرْفُهَا إلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ؟
فَأَجَابَ: الْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَابِ فِي أصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي زَكَاةِ الْمَالِ كَزَكَاةِ الْمَاشِيَةِ وَالنَّقْدِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ وَالْمُعَشَّرَاتِ: فَهَذِهِ فِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ:
أَحَدُهُمَا: أنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُزَكِّ أَنْ يَسْتَوْعِبَ بِزَكَاتِهِ جَمِيعَ الْأصْنَافِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهَا، وَأَنْ يُعْطِيَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ ثَلَاثَةَ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد.
الثَّانِي: بَل الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَخْرُجَ بِهَا عَن الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، وَلَا يُعْطِيَ أَحَدًا فَوْقَ كِفَايَتِهِ، وَلَا يُحَابِيَ أحَدًا بِحَيْثُ يُعْطِي وَاحِدًا وَيدَعُ مَنْ هُوَ أَحَقُّ مِنْهُ أَوْ مِثْلُهُ مَعَ إمْكَانِ الْعَدْلِ.
وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ: إذَا دَفَعَ زَكَاةَ مَالِهِ جَمِيعَهَا لِوَاحِدِ مِنْ صِنْفٍ، وَهُوَ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ غَارِمًا عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا يَجِدُ لَهَا وَفَاءً فَيُعْطِيهِ زَكَاتَهُ كُلَّهَا، وَهِيَ أَلْفُ دِرْهَمٍ اَجْزَأَهُ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنِ الصَّحَابَةِ .. وَقَدْ ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لقبيصة بْنِ مخارق الْهِلَالِيِّ:"أَقِمْ يَا قَبِيصَةُ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرَ لَك بِهَا". وَفِي "سُنَنِ أبِي دَاوُد" وَغَيْرِهَا أَنَّهُ قَالَ لسلمة بْنِ صَخْرٍ البياضي: اذْهَبْ إلَى عَامِلِ بَنِي زُريقٍ فَلْيَدْفَعْ صَدَقَتَهُمْ إلَيْك.
فَفِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَّنَّهُ دَفَعَ صَدَقَةَ قَوْمٍ لِشَخْصِ وَاحِدٍ لَكِنَّ الْآمِرَ هُوَ الْإِمَامُ وَفِي مِثْلِ هَذَا تَنَازُعٌ، وَمي الْمَسْألَةِ بَحْثٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ لَا تَحْتَمِلُهُ هَذِهِ الْفَتْوَى، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْأَصْلُ الثَّانِي: وَهُوَ "صَدَقَةُ الْفِطْرِ"، فَإِنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ هَلْ تَجْرِي مَجْرَى صَدَقَةِ الْأَمْوَالِ أَوْ صَدَقَةِ الْأَبْدَانِ كَالْكفَّارَاتِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.
فَمَن قَالَ بِالْأَوَّلِ وَكَانَ مِن قَوْلِهِ وُجُوبُ الِاسْتِيعَابِ
(1)
أَوْجَبَ الِاسْتِيعَابَ فِيهَا.
وَمَن كَانَ مِن مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الِاسْتِيعَابُ كَقَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُم يُجَوِّزُونَ دَفْعَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ إلَى وَاحِدٍ كَمَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا.
وَمَن قَالَ بِالثَّانِي إنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ تَجْرِي مَجْرَى كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ وَالْقَتْلِ وَالْجِمَاعِ فِي رَمَضَانَ وَمَجْرَى كَفَّارَةِ الْحَجِّ، فَإِنَّ سَبَبَهَا هُوَ الْبَدَنُ لَيْسَ هُوَ الْمَالَ.
(1)
أي: استيعاب الأصناف الثمانية بدفع الزكاة لهم.
وَلهَذَا أَوْجَبَهَا اللهُ طَعَامًا كَمَا أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ طَعَامًا.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَلَا يُجْزِئُ إطْعَامُهَا إلَّا لِمَن يَسْتَحِقّ الْكَفَّارَةَ، وَهُم الْآخِذُونَ لِحَاجَةِ أَنْفُسِهِمْ، فَلَا يُعْطى مِنْهَا فِي الْمُؤَلَّفَةِ وَلَا الرِّقَاب وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْوَى فِي الدَّلِيلِ.
وَأَضعَفُ الْأَقْوَالِ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَدْفَعَ صَدَقَةَ فِطْرِهِ إلَى اثْنَيْ عَشَرَ، أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ .. وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذَا خِلَافُ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَصَحَابَتِهِ أَجْمَعِينَ.
فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدَّرَ الْمَأْمُورَ بِهِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، وَمِنْ الْبُرِّ إمَّا نِصْفَ صَاعٍ وَإمَّا صَاعًا عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ التَّامَّةِ لِلْوَاحِدِ مِن الْمَسَاكِينِ، وَجَعَلَهَا طُعْمَةً لَهُمْ يَوْمَ الْعِيدِ يَسْتَغْنُونَ بِهَا، فَإِذَا أَخَذَ الْمِسْكِينُ حَفْنَةً: لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا وَلَمْ تَقَعْ مَوْقِعًا.
وَكَذَلِكَ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَهُوَ ابْنُ سَبِيلٍ إذَا أَخَذَ حَفْنَةً مِنْ حِنْطَةٍ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا مِنْ مَقْصُودِهَا مَا يُعَدُّ مَقْصُودًا لِلْعُقَلَاءِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَقْصُودًا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، كَمَا لَوْ فُرِضَ عَدَدٌ مُضْطَرُّونَ، وَإِنْ قَسَمَ بَيْنَهُم الصَّاعَ عَاشُوا، وَإِنَّ خَصَّ بِهِ بَعْضَهُمْ مَاتَ الْبَاقُونَ، فَهُنَا يَنْبَغِي تَفْرِيقُهُ بَيْنَ جَمَاعَةٍ، لَكِنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ التَّفْرِيقُ هُوَ الْمَصْلَحَةَ، وَالشَّرِيعَةُ مُنَزَّهَةٌ عَنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْمُنْكَرَةِ الَّتِي لَا يَرْضَاهَا الْعُقَلَاءُ، وَلَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا.
ثُمَّ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"طُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ"
(1)
نَصٌّ فِي أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لِلْمَسَاكِينِ، وقَوْله تَعَالَى فِي آيَةِ الظِّهَارِ:{فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4]، فَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُصْرَفَ تِلْكَ
(2)
لِلْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ فَكَذَلِكَ هَذِهِ
(3)
، وَلهَذَا يُعْتَبَرُ فِي الْمُخْرَجِ مِنَ الْمَالِ أَنْ يَكُونَ مِن جِنْسِ النِّصَابِ، وَالْوَاجِبُ مَا يَبْقَى
(1)
رواه أبو داود (1609)، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع (3570).
(2)
أي: زكاة الفطر وكفارة الظهار.
(3)
أي: زكاة المال.
ويُسْتَنْمَى؛ وَلهَذَا كَانَ الْوَاجِبَ فِيهَا
(1)
الْإِنَاثُ دُونَ الذُّكُورِ إلَّا فِي التَّبِيعِ وَابْنِ لَبُونٍ؛ لِأنَّ الْمَقْصُودَ الدَّرُّ وَالنَّسْلُ وَإِنَّمَا هُوَ لِلْإِنَاثِ
(2)
.
وَفِي الضَّحَايَا وَالْهَدَايَا لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَكْلَ: كَانَ الذَّكَرُ أَفْضَلَ منَ الْأُنْثَى، وَكَانَتِ الْهَدَايَاْ وَالضَّحَايَا إذَا تصُدّقَ بِهَا أَو بِبَعْضِهَا فَإِنَّمَا هُوَ لِلْمَسَاكِينِ أَهْلِ الْحَاجَةِ دُونَ اسْتِيعَابِ الْمَصَارِفِ الثمَانِيَةِ، وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ وَجَبَتْ طَعَامًا لِلْأَكْلِ لَا للاسْتِنْمَاء، فَعُلِمَ أَنَّهَا مِن جِنْسِ الْكَفَّارَاتِ. [25/ 71 - 75]
* * *
(بَابُ إخْرَاجُ الزَّكَاةِ)
3013 -
إذَا أَعْطَاهُ الْقِيمَةَ
(3)
فَفِيهِ نِزَاعٌ: هَل يَجُوزُ مُطْلَقًا، أَو لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا، أَو يَجُوزُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ لِلْحَاجَةِ أَو الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ؟
عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ.
فَإِنْ كَانَ آخِذُ الزَّكَاةِ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا كُسْوَةً فَاشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ لَهُ بِهَا كُسْوَةً وَأَعْطَاهُ فَقَد أَحْسَنَ إلَيْهِ.
وَأَمَّا إذَا قَوَّمَ هُوَ
(4)
الثِّيَابَ الَّتِي عِنْدَهُ وَأَعْطَاهَا فَقَد يُقَوِّمُهَا بِأَكْثَرَ مِنَ السِّعْرِ، وَقَد يَأْخُذُ الثِّيَابَ مَن لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا بَل يَبِيعُهَا فَيَغْرَمُ أُجْرَةَ الْمُنَادِي، وَرُبَّمَا خَسِرَتْ فَيَكون فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ.
(1)
أي: في زكاة المال.
(2)
قال أهل العلم: لا يجوز إخراج الذكر في زكاة بهيمة الأنعام إلا في ثلاث مسائل:
1 -
أن يكون النصاب كله ذكورًا.
2 -
في زكاة البقر خاصة يجوز إخراج التبيع أو التبيعة.
3 -
ابن اللبون والحِقّ والجذع يجزئ عن بنت مخاض عند عدمها.
وهذا قول الجمهور خلافًا للحنفية، حيث لا يرون بأسًا في إخراج الذكر مطلقًا.
(3)
صورة المسألة: إذا أخرج من وجبت عليه الزكاة القيمة بدل العين الواجبة في الزكاة هل يُجزئ؟
(4)
أي: الْمزكي.
وَالْأَصْنَافُ الَّتِي يُتَّجَرُ فِيهَا: يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ عَنْهَا جَمِيعًا دَرَاهِمَ بِالْقِيمَةِ، فَاِنْ لَمْ يَكُن عِنْدَهُ دَرَاهِمُ فَأعْطَى ثَمَنَهَا بِالْقِيمَةِ فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأنَّهُ وَاسَى الْفُقَرَاءَ فَأَعْطَاهُم مِن جِنْسِ مَالِهِ. [25/ 79 - 80]
3014 -
أَمَّا الدَّيْنُ الَّذِي عَلَى الْمَيِّتِ: فَيَجُوزُ أنْ يُوَفَّى مِنَ الزَّكَاةِ فِي أَحَدِ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمَد؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ:{وَالْغَارِمِينَ:} [التوبة 60] وَلَمْ يَقُلْ وَللْغَارِمِينَ؛ فَالْغَارِمُ لَا يُشْتَرَطُ تَمْلِيكُهُ.
وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ عَنْهُ وَأَنْ يُمَلَّكَ لِوَارِثهِ وَلغَيْرِهِ
(1)
.
وَلَكِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يُعْطَى ليَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ
(2)
. [25/ 80]
3015 -
مَا يَأْخُذُهُ وُلَاةُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعُشْرِ وَزَكَاةِ الْمَاشِيَةِ وَالتِّجَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ ذَلِكَ مِن صَاحِبِهِ إذَا كَانَ الْإِمَامُ عَادِلًا يَصْرِفُه فِي مَصَارِفِهِ الشَّرْعِيَّةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.
فَإِنْ كَانَ ظَالِمًا لَا يَصْرِفُهُ فِي مَصَارِفِهِ الشَرْعِيَّةِ: فَيَنْبَغِي لِصَاحِبِهِ أنْ لَا يَدْفَعَ الزكَاةَ إلَيْهِ بَل يَصْرِفُهَا هُوَ إلَى مُسْتَحِقِّيهَا، فَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى دَفْعِهَا إلَى الظَّالِمِ بِحَيْثُ لَو لَمْ يَدْفَعْهَا إلَيْهِ لَحَصَلَ لَهُ ضَرَرٌ: فَإِنَّهَا تُجْزِئُهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَهُم فِي هَذه الْحَالِ ظَلَمُوا مُسْتَحِقِّيهَا كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ إذَا قَبَضُوا مَالَهُ وَصَرَفُوهُ فِي غَيْرِ مَصَارِفِهِ. [25/ 81]
3016 -
وَأَمَّا إخْرَاجُ الْقِيمَةِ فِي الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَالْمَعْرُوفُ مِن مَذْهَبِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ أَنَهُ لَا يَجُوزُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ.
(1)
الشيخ رحمه الله يرى جواز قضاء دين الميت من الزكاة، وهو قول المالكية، وبه أفتت اللجنةُ الدائمة في السعودية برئاسة الشيخ ابن باز، وصدر به قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي.
وخالف في ذلك العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله، فلا يرى أنه يقضى دين الميت منها. الشرح الممتع (6/ 235).
(2)
أي: لا يجوز أن أعطي المدين زكاتي لأستوفي ديني منه.
وَالْأَظْهَرُ فِي هَذَا: أَنَّ إخْرَاجَ الْقِيمَةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَلَا مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ مَمْنُوعٌ مِنْهُ، وَلهَذَا قَدَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْجُبْرَانَ بِشَاتَيْنِ أَو عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَلَمْ يَعْدِلْ إلَى الْقِيمَةِ.
وَأَمَّا إخْرَاجُ الْقِيمَةِ لِلْحَاجَةِ أَو الْمَصْلَحَةِ أَو الْعَدْلِ فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ مِثْلُ أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَ بُسْتَانِهِ أو زَرْعِهِ بِدَرَاهِمَ، فَهُنَا إخْرَاجُ عُشْرِ الدَّرَاهِمِ يُجْزِئُهُ وَلَا يُكَلَّفُ أَنْ يَشْتَرِيَ ثَمَرًا أَو حِنْطَةً، إذ كَانَ قَد سَاوَى الْفُقَرَاءَ بِنَفْسِهِ، وَقَد نَصَّ أَحْمَد عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ.
وَمِثْلُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ شَاةٌ فِي خَمْسٍ مِنَ الْإِبِل وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَن يَبِيعُهُ شَاةً فَإِخْرَاجُ الْقِيمَةِ هُنَا كَافٍ وَلَا يُكَلَّفُ السَّفَرَ إلَى مَدِينَةٍ أُخْرَى لِيَشْتَرِيَ شَاةً.
وَمِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَحِقُّونَ لِلزَّكَاةِ طَلَبُوا مِنْهُ إعْطَاءَ الْقِيمَةِ لِكَوْنِهَا أَنْفَعَ فَيُعْطِيهِمْ إيَّاهَا، أَو يَرَى السَّاعِي أَنَ أَخْذَهَا أَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ، كَمَا نُقِلَ عَن مُعَاذ بْن جَبَلٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِأَهْلِ الْيَمَنِ:"ائْتُونِي بخَمِيص أَو لَبِيسٍ أَسْهَلُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ لِمَن فِي الْمَدِينَةِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأنْصَارِ"
(1)
. [25/ 82 - 83]
3017 -
إسْقَاطُ الدَّيْنِ عَنِ الْمُعْسِرِ: لَا يُجْزِئُ عَن زَكَاةِ الْعَيْنِ بِلَا نِزَاعٍ
(2)
.
لَكِنْ إذَا كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى مَن يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ: فَهَل يَجُوزُ أَنْ يُسْقِطَ عَنْهُ قَدْرَ زَكَاةِ ذَلِكَ الذَيْنِ وَيَكُونُ ذَلِكَ زَكَاةَ ذَلِكَ الدَّيْنِ؟
(3)
فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ، أَظْهَرُهُمَا الْجَوَازُ؛ لأنَّ الزَّكَاةَ مَبْنَاهَا عَلَى الْمُوَاسَاةِ، وَهُنَا قَد أَخْرَجَ مِن جِنْسِ مَا يَمْلِكُ، بِخِلَافِ مَا إذَا
(1)
رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم.
(2)
صورتها: رجل له مدين فقير يطلبه ألف ريال، وكان على هذا الطالب ألف ريال زكاة، فلا يجوز أن يسقط الدائن عن المدين الألف ريال الذي عليه بنية الزكاة.
(3)
صورتها: رجلٌ له مدين فقير يطلبه ثلاثة آلاف ريال، وحال عليها الحول، فيجوز أن يسقط الدائن عن المدين قدر زكاة ذلك الدين. وهذا على القول بوجوب زكاة الدين إذا كان عند معسر.
كَانَ مَالُهُ عَيْنًا وَأَخْرَجَ دَيْنًا فَإِنَّ الَّذِي أَخْرَجَهُ دُونَ الَّذِي يَمْلِكُهُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ إخْرَاجِ الْخَبِيثِ عَنِ الطَّيِّبِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
(1)
. [25/ 84]
3018 -
تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ وُجُوبِهَا بَعْدَ سَبَبِ الْوُجُوبِ: يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ؛ كَأَي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد، فَيَجُوزُ تَعْجِيلُ زَكَاةِ الْمَاشِيَةِ وَالنَّقْدَيْنِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ إذَا مَلَكَ النِّصَابَ.
وَيَجُوزُ تَعْجِيلُ الْمُعَشَّرَاتِ قَبْلَ وُجُوبِهَا إذَا كَانَ قَد طَلَعَ الثَّمَرُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ وَنَبَتَ الزَّرْعُ قَبْلَ اشْتِدَادِ الْحَبِّ.
فَأَمَّا إذَا اشْتَدَّ الْحَبُّ وَبَدَا صَلَاحُ الثَّمَرَةِ وَجَبَتِ الزَّكَاةُ. [25/ 85 - 86]
3019 -
إِعْطَاءُ الْقَرِيبِ الْمُحْتَاجِ الَّذِي لَيْسَ مَن أَهْلِ نَفَقَتِهِ أَوْلَى مِن إعْطَاءِ الْبَعِيدِ الْمُسَاوِي لَهُ فِي الْحَاجَةِ. [25/ 88]
3020 -
مَا أَخَذَهُ السُّلْطَانُ مِنَ الزَّكَاةِ بِغَيْرِ أَمْرِ أَصْحَابِهِ: احْتَسَبَ بِهِ. [25/ 89]
3021 -
الَّذِينَ يَأْخُذُونَ الزَّكَاةَ صِنْفَانِ:
أ- صِنْفٌ يَأْخُذُ لِحَاجَتِهِ؛ كَالْفَقِيرِ وَالْغَارِمِ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ.
ب- وَصِنْفٌ يَأْخُذُهَا لِحَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ كَالْمُجَاهِدِ وَالْغَارِمِ فِي إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، فَهَؤُلَاءِ يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَيْهِم وَإِن كَانُوا مِن أَقَارِبِهِ.
وَأَمَّا دَفْعُهَا إلَى الْوَالِدَيْنِ إذَا كَانُوا غَارِمِينَ أَو مُكَاتَبِينَ: فَفِيهَا وَجْهَانِ، وَالْأَظْهَرُ جَوَازُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا إنْ كَانُوا فُقَرَاءَ وَهُوَ عَاجِزٌ عَن نَفَقَتِهِمْ: فَالْأَقْوَى جَوَازُ دَفْعِهَا إلَيْهِم
(1)
قال ابن رحمه الله: وَإِن أَبْرَأَ رَبُّ الدَّيْنِ غَرِيمَهُ مِن دَيْنِهِ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ لَمْ يُجْزِئْهُ، نَصَّ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُخْرَجُ عَنْهُ عَيْنًا أَو دَيْنًا خِلَافًا لِلْحَسَنِ وَعَطَاء ..
وَقِيلَ: تُجْزئُهُ مِن زَكَاةِ دَيْنِهِ، حَكاهُ شَيْخُنَا، وَاخْتَارَهُ أَيْضًا؛ لِأنَّ الزَّكَاةَ مُوَاسَاةٌ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: تَسْقُطُ زَكَاةُ الدَّيْنِ بِالْإِبْرَاءِ مِنْهُ وَلَو بِلَا نِيَّةٍ. اهـ. الفروع (4/ 342).
فِي هَذِهِ الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ مَوْجُودٌ، وَالْمَانِعَ مَفْقُودٌ، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِالْمُقْتَضِي السَّالِمِ عَنِ الْمُعَارِضِ الْمُقَاوِمِ. [25/ 90]
3022 -
مَا يَأْخُذُهُ وُلَاةُ الْأُمُورِ بِغَيْرِ اسْمِ الزَّكَاةِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ مِن الزَّكَاةِ
(1)
. [25/ 93]
3023 -
إنْ كَانَ مَالُ الْإِنْسَانِ لَا يَتَّسِعُ لِلْأَقَارِبِ وَالْأَبَاعِدِ فَإِنَّ نَفَقَةَ الْقَرِيبِ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ فَلَا يُعْطِي الْبَعِيدَ مَا يَضُرُّ بِالْقَرِيبِ.
وَأَمَّا الزَّكَاةُ وَالْكَفَّارَةُ فَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ مِنْهَا الْقَرِيبَ الَّذِي لَا يُنْفِق عَلَيْهِ، وَالْقَرِيبُ أَوْلَى إذَا اسْتَوَتِ الْحَاجَةُ. [25/ 93]
3024 -
ثَبَتَ عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ لِعُمَر: "مَا أَتَاك مِن هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ سَائِلٍ
(2)
وَلَا مُشْرِفٍ
(3)
فَخُذْهُ، وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَك"
(4)
.
وَثَبَتَ أَيْضًا فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَألْتُهُ فَأعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ قَالَ:"يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا المالَ خَضِرَة حُلْوَةٌ، فَمَن أَخَذَهُ بسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَن أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْس لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ؛ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى"، قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَالَّذِىِ بَعَثَكَ بِالحَقّ لَا أَرْزَأُ
(5)
أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه، يَدْعُو حَكِيمًا إِلَى العَطَاءِ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ.
فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
(6)
.
(1)
كالضرائب ونحوها.
(2)
بلسانك.
(3)
أي: غير متطلع إليه ولا طامع فيه بحال.
(4)
أي: فلا تجعل نفسك تابعة له.
والحديث رواه البخاري (1473)، ومسلم (1045).
(5)
أي: لا أُنْقِصُ مالَهُ بالطَّلَبِ مِنْه.
(6)
رواه البخاري (1472)، وَقد أثبت اللفظ من صحيحه.
فَتَبَيَّنَ بِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا كَانَ سَائِلًا بِلِسَانِهِ، أَو مُشْرِفًا إلَى مَا يُعْطَاهُ: فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْبَلَهُ إلَّا حَيْثُ تُبَاحُ لَهُ الْمَسْألَةُ وَالِاسْتِشْرَافُ.
وَأَمَّا إذَا أَتَاهُ مِن غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا إشْرَافٍ: فَلَهُ أَخْذُهُ إنْ كَانَ الَّذِي أَعْطَاهُ أَعْطَاهُ حَقَّهُ، كمَا أعْطَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ مِن بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنَّهُ قَد كَانَ عَمِلَ فَأَعْطَاهُ عِمَالَتَهُ، وَلَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَهُ كَمَا فَعَلَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ قَبِلَهُ وَكَانَ مِن غَيْرِ إشْرَافٍ لَهُ عَلَيْهِ فَقَد أَحْسَنَ.
وَأَمَّا الْغَنِيُّ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُكَافِئَ بِالْمَالِ مَن أَسْدَاهُ إلَيْهِ؛ لِخَبَرِ: "مَن أَسْدَى إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكافِئُوهُ، فَإنْ لَمْ تَجِدُوا لَهُ مَا تُكَافِئُوهُ فَادْعُوا حَتَّى تَعْلَمُوا أَنْ قَد كَافَأْتُمُوهُ"
(1)
. [25/ 94 - 95]
قَوْلُهُ: "لَمْ يَرْزَأْ": أَيْ: "لَمْ يُنْقِصْ"، لَا "لَمْ يَسْأَلْ" كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ.
فَفِيهِ: أَنَّ حَكِيمًا ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِن أَحَدٍ شَيْئًا، وَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ، وَهَذَا حُجَّةٌ فِي جَوَازِ الرَّدِّ وَإِن كَانَ عَن غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا إشْرَافٍ. [25/ 97]
3025 -
الْأَمْوَالُ الَّتِي بِأَيْدِي هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ المتناهبين إذَا لَمْ يُعْرَفْ لَهَا مَالِكٌ مُعَيَّن: فَإِنَّهُ يُخْرِجُ زَكَاتَهَا، فَإِنَّهَا إنْ كَانَت مِلْكًا لِمَن هِيَ فِي يَدِهِ كَانَت زَكَاتُهَا عَلَيْهِ، وَإِن لَمْ تَكُنْ مِلْكًا لَهُ وَمَالِكُهَا مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهَا كُلِّهَا، فَإِذَا تَصَدَّقَ بِقَدْرِ زَكَاتِهَا كَانَ خَيْرًا مِن أَنْ لَا يَتَصَدَّقَ بِشَيء مِنْهَا.
فَإِخْرَاجُ قَدْرِ الزَّكَاةِ مِنْهَا أَحْسَن مِن تَرْكِ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ.
= قال المهلب: في حديث حكيم من الفقه: أن سؤال السلطان الأعلى ليس بعار.
وفيه: أن السائل إذا ألحف لا بأس برده وتخييبه وموعظته، وأمره بالتعفف وترك الحرص على الأخذ.
(1)
صحَّحه الألباني في صحيح النسائي (2566).
وَإِذَا كَانَ يَنْهَبُ بَعْضُهُم بَعْضًا: فَإِنْ كَانَ النَّهْبُ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ مَعْرُوفَتَيْنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ قَدْر مَا أَخَذَتْهُ كُلُّ طَائِفَةٍ مِن الْأخْرَى، فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً تَقَاضَيَا، وَأَقَرَّ كُلَّ قَوْمٍ عَلَى مَا بِأَيْدِيهِمْ، وَإِن لَمْ يُعْرَفْ عَيْنُ الْمَنْهُوبِ مِنْهُ؛ كَمَا لَو تَقَاتَلُوا قِتَالَ جَاهِلِيَّةٍ، وَقَتَلَ هَؤُلَاءِ بَعْضَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ بَعْضَ هَؤُلَاءِ وَأَتْلَفَ هَؤُلَاءِ بَعْضَ أَمْوَالِ هَؤُلَاءِ: فَإِنَ الْوَاجِبَ الْقِصَاصُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ، فَتُقَابَل النُّفُوسِ بِالنُّفُوسِ، وَالْأمْوَالِ بِالْأمْوَالِ، فَإِنْ فَضَلَ لِأِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى الْأخْرَى شَيْءٌ طَالَبَتْهَا بِذَلِكَ. [30/ 325]
3026 -
قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من صاحب إبل لا يؤدي حقها"
(1)
يراد بالحق الزكاة ويراد به ما يجب من غير الزكاة: مثل الإعطاء في النوائب لابن السبيل والمسكين وذي الرحم، "ومن حقها حلبها يوم وردها"
(2)
لأجل ابن السبيل ونحوهم، فإنهم يقعدون على الماء، فإن إطعام المحتاج وسقيه فرض كفاية. [المستدرك 3/ 160]
3027 -
ما يأخذ العدَّاد: فإن كان هو من أهل الزكاة أجزأت عن صاحبها عند الأئمة، وإن كان من الكُلَف
(3)
التي وضعها الملوك فإنها لا تجزئ عن الزكاة. [المستدرك 3/ 160]
3028 -
أما ما يؤخذ من التجار بغير اسم الزكاة من الوظانف السلطانية فلا يعتبر من الزكاة، وما يؤخذ باسم الزكاة ففيه نزاع، والأولى إعادتها إذا غلب على الظن أنها لا تصرف إلى مستحقها
(4)
.
وإذا أخذ ولي الأمر العشر أو زكاة التجارة فصرفها في مصرفها أجزأت باتفاق المسلمين.
وأما إذا كان ولي الأمر يتعدى في صرفها: فالمشهور عند الأئمة أنه يجزئ أيضًا كما نقل ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم.
(1)
رواه مسلم (987).
(2)
رواه مسلم (987).
(3)
أي: الضرائب.
(4)
مختصر الفتاوى المصرية (1/ 275).
وما يأخذه الإمام باسم المكس جاز دفعه بنية الزكاة، وتسقط وإن لم تكن على صفتها
(1)
. [المستدرك 3/ 160]
3029 -
ذكر شيخنا أن من أداها لم تجز مقاتلته للخلف في إجزائها، ثم ذكر نص أحمد فيمن قال: أنا أؤديها ولا أعطيها للإمام، لم يكن له قتاله، ثم قال: من جوَّز القتال على ترك طاعة ولي الأمر جوَّزه، ومن لم يجوِّزه إلا على ترك طاعة الله ورسوله لم يجوِّزه. [المستدرك 3/ 161]
3030 -
تحديد المنع من نقل الزكاة بمسافة القصر ليس عليه دليل شرعي.
ويجوز نقل الزكاة وما في حكمها لمصلحة شرعية. [المستدرك 3/ 162]
* * *
(باب أهل الزكاة)
3031 -
لا ينبغي أن تُعطى الزكاة لمن لا يستعين بها على طاعة الله؛ فإن الله فرضها معونة على طاعته لمن يحتاج إليها من المؤمنين؛ كالفقراء والغارمين ولمن يعاونون المؤمنين، فمن لا يصلي من أهل الحاجات لا يُعطى شيئًا حتى يتوب ويلتزم بأداء الصلاة في أوقاتها. [المستدرك 3/ 162]
3032 -
إذا اشترى من قبض الزكاة ليدفعها إلى أهلها عقارًا أو نحوه فإن عليه أن يؤدي إلى الثمانية الأصناف مقدار الذي قبضه وما حصل من نماء يقسمه بينه وبينهم. [المستدرك 3/ 162]
3033 -
إذا قبض من ليس مِن أهل الزكاة مالًا من الزكاة وصرفه في شراء
(1)
الاختيارات (155).
وهذا يُخالف ما نُقل في الفتاوى المصرية كما تقدم.
وهو الذي ذكر الأصحاب أنه اختياره، وصرح بذلك في مجموع الفتاوى، حيث سُئِلَ: هَل يُجْزِئُ الرَّجُلَ عَن زَكَاتِهِ مَا يُغَرِّمُهُ وُلَاةُ الْأمُورِ فِي الطُّرُقَاتِ؟
فَأَجَابَ: مَا يَأْخُذُهُ وُلَاةُ الْأُمُورِ بِغَيْرِ اسْمِ الزَّكَاةِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ مِن الزَّكَاةِ وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. اهـ. (25/ 93)
عقار أو نحوه فالنماء الذي حصل بعمله وسعيه يجعل مضاربة بينه وبين أهل الزكاة. [المستدرك 3/ 162]
3034 -
يأخذ الفقير من الزكاة ما يصير به غنيًّا وإن كثر، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي. [المستدرك 3/ 163]
3035 -
من لم يحج حجة الإسلام وهو فقير أعطي ما يحج به، وهو إحدى الروايتين عن أحمد. [المستدرك 3/ 163]
3036 -
من ليس معه ما يشتري به كتبًا يشتغل بها بعلم الدين يجوز له الأخذ من الزكاة ما يشتري له به ما يحتاج إليه من كتب العلم التي لا بد لتعلم دينه أو دنياه منها. [المستدرك 3/ 163]
3037 -
يجوز الأخذ من الزكاة لما يحتاج إليه في إقامة مؤنته وإن لم ينفقه بعينه في المؤنة. [المستدرك 3/ 163]
3038 -
قيل لأحمد رحمه الله: الرجل يكون له الزرع القانم وليس عنده ما يحصده أيأخذ من الزكاة؟ قال: نعم يأخذ. [المستدرك 3/ 163]
3039 -
نص أحمد في فقير دقريبه وديمة: يستقرض ويُهدي له، ذكره أبو الحسين في الطبقات، قال شيخنا: فيه صلة الرحم بالقرض. [المستدرك 3/ 163]
3040 -
الذي يخدمه إذا لم تكفه أجرته أعطاه من زكاته إذا لم يستعمله بدل زكاته
(1)
. [المستدرك 3/ 164]
3041 -
اليتيم المميز يقبض الزكاة لنفسه، وإن لم يكن غير مميز قبضها كافله كائنًا من كان. [المستدرك 3/ 164]
3042 -
يشترط في إخراج الزكاة تمليك المُعطَى، فلا يجوز أن يغدي
(1)
وفي هذا إجابة لأسئلة كثير من الناس ممن عندهم خدم أو خادمات، حيث يسألون: هل يجوز إعطاؤهم من زكاتنا ونحن نعلم حاجتهم؟ فأجاب الشيخ بجواز ذلك بشرط ألا يستعمله بدل زكاته.
المساكين ويعشيهم، ولا يقضي منها دين ميت كرمه لمصلحة نفسه أو غيره، حكاه أبو عبيد وابن عبد البر؛ لعدم أهليته لقبولها، كما لو كفنه منها.
وحكى ابن المنذر عن أبي ثور: يجوز
(1)
، وعن مالك أو بعض أصحابه مثله، واختاره شيخنا، وذكره إحدى الروايتين عن أحمد؛ لأن الغارم لا يشترط تمليكه؛ لأن الله تعالى قال:{وَالْغَارِمِينَ} [التوبة: 60]، ولم يقل: وللغارمين. [المستدرك 3/ 164]
3043 -
دفع الزكاة إلى الوالد لا يجوز عند الأئمة المتبوعين في المشهور عنهم، إلا إذا أخذها لكونه غارمًا لإصلاح ذات البين أو للجهاد ونحوه مما فيه مصلحة للمسلمين.
وأما إذا كان غارمًا في مصلحة نفسه ففيه الخلاف، وجوازه قوي متجه، ويدفعها إلى أبنائه إن كان عاجزا عن نفقتهم في قول بعضهم. [المستدرك 3/ 164]
3044 -
إن دفعها إلى غريمه وشارطه أن يوفيه إياها
(2)
: فلا يجوز، وإن قصد ذلك من غير شرط ففيه نزاع
(3)
. [المستدرك 3/ 164]
3045 -
ذكر أحمد رضي الله عنه عن سفيان بن عيينة قال: كان العلماء رحمهم الله يقولون: لا يحابي بها قريبًا ولا يدفع بها مذلة ولا مذمة، ولا يقي بها ماله. [المستدرك 3/ 165]
3046 -
إذا مُنع بنو هاشم حقّهم من الخمس فلا يجوز لهم أخذ الصدقة إلا عند بعض المتأخرين، وليس هو قولًا لأحدٍ المتبوعين
(4)
. [المستدرك 3/ 165]
3047 -
بنو هاشم إذا منعوا خمس الخمس جاز لهم الأخذ من الزكاة،
(1)
أي: يجوز أن يقضي منها دين ميت غرمه لمصلحة نفسه أو غيره.
(2)
كان يكون لفلان على رجل فقير دينٌ، فقال له: سأعطيك زكاتي بشرط أنْ تُوفي ديني منها.
(3)
والذي يظهر جواز ذلك؛ لعدم المحذور في هذه الصورة.
(4)
مختصر الفتاوى (277).
وهو قول القاضي يعقوب وغيره من أصحابنا، وقاله أبو يوسف من الحنفية، والإصطخري من الشافعية؛ لأنه محل حاجة وضرورة.
ويجوز لبني هاشم الأخذ من زكاة الهاشميين وهو محكي عن طائفة من أهل البيت
(1)
. [المستدرك 3/ 165]
3048 -
قَد تَبَيَّنَ أَنَّ دُخُولَ أزْوَاجِهِ عليه الصلاة والسلام فِي آلِ بَيْتِهِ أَصَحُّ. [22/ 461]
3049 -
مَن سأل وظهر صدقه وجب إطعامه لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)} [المعارج: 24، 25] وإن ظهر كذبه لم يجب إطعامه. [المستدرك 3/ 165]
3050 -
[قال الْقَاضِي: النِّكَاحُ وَحُقُوقُهُ من الطَّلَاقِ وَالْخُلْعِ وَالرَّجْعَةِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالْوَصِيَّةُ وَالْكِتَابَةُ وَنَحْوُهُمَا يَخْرُجُ على رِوَايَتَيْنِ.
وَعَنْهُ يقبل في ذلك كُلِّهِ رَجُل وَامْرَأَتَانِ.
وَعَنْهُ يُقْبَلُ فيه رَجُل وَيمِينٌ، ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ، واختارها الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رحمه الله]
(2)
.
وعنه يعتبر في الإعسار ثلاثة
(3)
، واستحسنه شيخنا؛ لأن حق الآدمي آكد فاستظهر بالثالث.
ولا يقبل في الإعسار شاهد ويمين، وقال شيخنا: فيه نظر. [المستدرك 3/ 166]
3051 -
إِعْطَاءُ السُّؤَّالِ
(4)
فَرْضُ كِفَايَةٍ إنْ صَدَقُوا. [المستدرك 3/ 166]
(1)
الاختيارات (154).
(2)
ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، ونقلتُه من الإنصاف ليتضح المراد.
(3)
أي: ثلاثة شهود.
(4)
وهو الذين يسألون الناس صدقة أو زكاةً.
3052 -
لا تسقط الزكاة والحج والديون ومظالم العباد عمن مات شهيدًا. [المستدرك 3/ 166]
3053 -
يحرم الْمَنُّ بالصدقة وغيرها، وهو كبيرة على نص أحمد أن الكبيرة ما فيه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة، ويبطل الثواب بذلك للآية، ولأصحابنا خلاف فيه، وفي بطلان طاعة بمعصية، واختار شيخنا الأحباط بمعنى الموازنة وذكر أنه قول أكثر السلف. [المستدرك 3/ 166]
3054 -
قال جماعة من أصحابنا: يجوز العمل مع السلطان وقبول جوائزه، وقيده في الترغيب بالعادل، وقيده في التبصرة بمن غلب عدله، وأنها تكره في رواية، وقيل للإمام أحمد في جائزته ومعاملته فقال: أكرههما، وجائزته أحب إلي من الصدقة، وقال: هي خير من صلة الإخوان، وأجرة التعليم خير منهما، ذكره شيخنا وقال أيضًا: ليس بحرام. [المستدرك 3/ 166 - 167]
3055 -
وَمَن كَانَ مِنَ الْفُقَرَاءِ اَّلذِينَ لَمْ تَشْغَلْهُم مَنْفَعَةٌ عَامَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَنِ الْكَسْبِ قَادِرًا عَلَيْهِ: لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأحْمَد.
وَجَوَّزَ ذَلِكَ أبُو حَنِيفَةَ.
وَقَد قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيِّ وَلَا لَقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ"
(1)
.
وَلَا يَجُوزُ أنْ يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ مَن يَصْنَعُ بِهَا دَعْوَةً وَضِيَافَةً لِلْفُقَرَاءِ، وَلَا يُقِيمُ بِهَا سِمَاطًا، لَا لِوَارِد وَلَا غَيْرِ وَارِدٍ؛ بَل يَجِبُ أَنْ يُعْطِيَ مُلْكًا لِلْفَقِيرِ الْمُحْتَاجِ؛ بِحَيْثُ يُنْفِقُهَا عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ فِي بَيْتِهِ إنْ شَاءَ
(2)
، وَيَقْضِي مِنْهَا دُيُونَهُ، ويصْرِفُهَا فِي حَاجَاتِهِ. [28/ 571 - 572]
(1)
رواه أبو داود (1633)، والنسائي (2598)، وصحَّحه الألباني في الإرواء (3/ 381).
(2)
لأن الله تعالى قال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 65] واللام للتمليك، فيجب أن يُملك هؤلاء الأصناف الأربعة، فإذا صنع وليمة ودعا الفقراء إليها ونوى بها الزكاة: لم يكن قد ملّكهم، فلا يصح جعل ذلك زكاة.
3056 -
لَا يَسْتَرِيبُ مُسْلِمٌ أَنَّ السَّعْيَ فِي تَمْيِيزِ الْمُسْتَحِقِّ مِن غَيْرِهِ وَإِعْطَاءَ الْوِلَايَاتِ وَالْأرْزَاقِ مَن هُوَ أحَقُّ بِهَا وَالْعَدْلَ بَيْنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ وَفِعْلَهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ: هُوَ مِن أَفْضَلِ أَعْمَالِ وُلَاةِ الْأُمُورِ؛ بَل وَمِن أَوْجَبِهَا عَلَيْهِم؛ فَإِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَالْعَدْلُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أحَدٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ. [28/ 572 - 573]
3057 -
إِذَا ادَّعَى الْفَقْرَ مَن لَمْ يُعْرَفْ بِالْغِنَى وَطَلَب الْأخْذ مِن الصَّدَقَاتِ: فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَهُ بِلَا بَيِّنَةٍ بَعْدَ أَنْ يُعْلِمَهُ أنَّهُ لَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيِّ وَلَا لَقَوِيِّ مُكْتَسِب؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَأَلَهُ رَجُلَانِ مِن الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا رَآهُمَا جَلْدَيْنِ صَعَّدَ فِيهَا النَّظَرَ وَصَوَّبَهُ فَقَالَ:"إنْ شِئْتُمَا أعْطَيْتُكُمَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيِّ وَلَا لَقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ". [28/ 573]
* * *
كتاب الصيام
3058 -
ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ"
(1)
عَن عُمَرَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ "إنَّا أمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسِبُ صُومُوا لِرُؤيتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤيَتِهِ". فَمَن أَخَذَ عِلْمَ الْهِلَالِ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ مَوَاقِيتَ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ بِالْكِتَابِ وَالْحِسَابِ فَهُوَ فَاسِدُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ.
وَالْحسَّابُ إذَا صَحَّ حِسَابُهُ: أَكْثَرُ مَا يُمْكِنُهُ ضَبْطُ الْمَسَافَة الَّتِي بَيْنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَقْتَ الْغُرُوبِ مَثَلًا، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى بُعْدَ الْقَمَرِ عَن الشَّمْسِ، لَكِنَّ كَوْنَهُ يُرَى لَا مَحَالَةَ أَو لَا يُرَى بِحَال لَا يُعْلَمُ بِذَلِكَ. [6/ 590]
3059 -
المستحب قول شهر رمضان كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ} [لبقرة: 185]، ولا يكره قول رمضان بإسقاط الشهر، وذكر الشيخ: يكره إلا مع قرينة الشهر. [المستدرك 3/ 169]
3060 -
قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ وَصُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ"
(2)
فَإِنَّ مَجَارِيَ الشَّيَاطِينِ الَّذِي هُوَ الدَّمُ ضَاقَتْ، وَإِذَا ضَاقَت انْبَعَثَت الْقُلُوبُ إلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ الَّتِي بِهَا تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَإِلَى تَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ الَّتِي بِهَا تُفْتَحُ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَت الشَّيَاطِينُ فَضَعُفَتْ قُوَّتُهُم وَعَمَلُهُم بِتَصْفِيدِهِمْ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَفْعَلُوا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي غَيْرِهِ.
(1)
البخاري (1913)، ومسلم (1080).
(2)
أخرجه البخاري (3277)، مسلم (1079).
وَلَمْ يَقُلْ إنَّهُم قُتِلُوا وَلَا مَاتُوا؛ بَل قَالَ: "صُفِّدَتْ" وَالْمُصَفَّدُ مِن الشَّيَاطِينِ قَد يُؤْذِي، لَكِنَّ هَذَا أَقَلُّ وَأَضْعَفُ مِمَّا يَكُونُ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، فَهُوَ بِحَسَبِ كَمَالِ الصَّوْمِ وَنَقْصِهِ، فَمَن كَانَ صَوْمُهُ كَامِلًا دَفَعَ الشَّيْطَانَ دَفْعًا لَا يَدْفَعُهُ دَفْعُ الصَّوْمِ النَّاقِصِ. [25/ 246]
3061 -
لمْ يَصُمْ صلى الله عليه وسلم رَمَضَانَ إلَّا تِسْعَ مَرَّاتِ، فَإِنَّهُ فُرِضَ فِي الْعَامِ الثَّانِي مِن الْهِجْرَةِ بَعْدَ أنْ صَامَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَإِنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأوَّلِ مِن السَّنَةِ الْأُولَى، وَقَد تَقَدَّمَ عَاشُورَاءُ فَلَمْ يَأْمُرْ ذَلِكَ الْعَامَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا أَهَلَّ الْعَامُ الثَّانِي أَمَرَ النَّاسَ بصِيَامِهِ .. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ أمْرَ إيجَابٍ اُبْتُدِئَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ مِن اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَ فِي أثْنَاءِ الْحَوْلِ- رَجَبٍ أو غَيْرِهِ- فُرِضَ شَهْرُ رَمَضَانَ، وَغَزَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ذَلِكَ الْعَامَ -أوَّلُ شَهْرٍ فُرِضَ- غَزْوَةَ بَدْرٍ وَكَانَت يَوْمَ الْجُمْعَةِ لسبع عَشَرَةَ خَلَتْ مِن الشَّهْرِ، فَلَمَّا نَصَرَهُ اللهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أقَامَ بِالْعَرْصَةِ بَعْدَ الْفَتْح ثَلَاثًا فَدَخَلَ عَلَيْهِ الْعَشْرُ وَهُوَ فِي السَّفَرِ، فَرَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَبْقَ مِن الْعَشْرِ إلَّا أقَلُّهُ، فَلَمْ يَعْتَكِفْ ذَلِكَ الْعَشْرَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ فِي تَمَامِهِ مَشْغُولًا بِأَمْرِ الْأَسْرَى وَالْفِدَاءِ. [25/ 295 - 296]
3062 -
إذَا غَابَ جَمِيعُ الْقُرْصِ أفْطَرَ الصَّائِمُ وَلَا عِبْرَةَ بِالْحُمْرَةِ الشَّدِيدَةِ الْبَاقِيَةِ فِي الْأفُقِ .. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إذَا أقْبَلَ اللَّيْلُ مِن هَاهُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِن هَاهُنَا وَغَرَبَت الشَّمْسُ فَقَد أَفْطَرَ الصَّائِمُ"
(1)
. [25/ 215]
3063 -
إذَا كَانَ الْمُؤَذِّنُ يُؤَذِّنُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ .. : فَلَا بَأْسَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَنِ يَسِيرٍ.
وَإِن شَكَّ: هَل طَلَعَ الْفَجْرُ أو لَمْ يَطْلُعْ؟ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَيشْرَبَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الطُّلُوعَ، وَلَو عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ أكَلَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَفِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ نِزَاعٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَهُوَ الثَّابِتُ عَن عُمَرَ. [25/ 216 - 217]
(1)
رواه البخاري (5297)، ومسلم (1100).
3064 -
كَثِيرًا مَا يَضِيعُ الْحَقُّ بَيْنَ الْجُهَّالِ الْأُمِّيِّينَ، وَبَيْنَ الْمُحَرِّفِينَ لِلْكَلِمِ الَّذِينَ فِيهِمْ شُعْبَةُ نِفَاقٍ.
إلَّا أَنَّ هَذَا الدِّينَ مَحْفُوظٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 19] وَلَا تَزَالُ فِيهِ طَائِفَةٌ قَائِمَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى الحَقِّ.
فَلَمْ يَنَلْهُ مَا نَالَ غَيْرَهُ مِن الْأَدْيَانِ مِن تَحْرِيفِ كُتُبِهَا، وَتَغْيِيرِ شَرَائِعِهَا مُطْلَقًا؛ لِمَا يُنْطِقُ الله بِهِ الْقَائِمِينَ بِحُجَّةِ اللهِ وَبَيِّنَاتِهِ، الَّذِينَ يُحْيُونَ بِكِتَابِ اللهِ الْمَوْتَى، ويُبَصِّرُونَ بِنُورِهِ أَهْلَ الْعَمَى، فَإِنَّ الْأَرْضَ لَنْ تَخْلُوَ مِن قَائِمٍ للهِ بِحُجَّة؛ لِكَيْلَا تَبْطُلَ حُجَجُ اللهِ وَبَيِّناتُهُ.
وَكَانَ مُقْتَضَى تَقْدِيمِ هَذِهِ "الْمُقَدِّمَةِ"
(1)
أَنِّي رَأَيْت النَّاسَ فِي شَهْرِ صَوْمِهِمْ وَفِي غَيْرِهِ أَيْضًا: مِنْهُم مَن يُصْغِي إلَى مَا يَقُولُهُ بَعْضُ جُهَّالِ أَهْلِ الْحِسَابِ: مِن أَنَّ الْهِلَالَ يُرَى أَو لَا يُرَى، وَيَبْنِي عَلَى ذَلِكَ إمَّا فِي بَاطِنِهِ وَإِمَّا فِي بَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ، حَتَّى بَلَغَنِي أَنَّ مِنَ الْقُضَاةِ مَن كَانَ يَرُدُّ شَهَادَةَ الْعَدَدِ مِنَ الْعُدُولِ لِقَوْلِ الْحَاسِبِ الْجَاهِلِ الْكَاذِبِ: إنَّهُ يُرَى أَو لَا يُرَى، فَيَكُونُ مِمَن كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ.
فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِن دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْعَمَلَ فِي رُؤَيةِ هِلَالِ الصَّوْمِ أَو الْحَجِّ أو الْعِدَّةِ أَو الْإِيلَاءِ أَو غَيْرِ ذَلِكَ مِن الْأَحْكَامِ الْمُعَلَّقَةِ بِالْهِلَالِ بِخَبَرِ الْحَاسِبِ أَنَّهُ يُرَى أَو لَا يُرَى لَا يَجُوزُ، وَالنُّصُوصُ الْمُسْتَفِيضَةُ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَقَدّ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ، وَلَا يُعْرَفُ فِيهِ خِلَافٌ قَدِيمٌ أَصْلًا، وَلَا
(1)
التى ذكر فيها أن الله تعالى أكمل لنا الدين، وأمرنا ألا نتفرق، ونهانا عن الأخذ من الجهال وأهل الأهواء.
خِلَافٌ حَدِيثٌ، إلَّا أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخرِينَ مِن الْمُتَفَقِّهَةِ الحادثين بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ زَعَمَ أَنَّهُ إذَا غُمَّ الْهِلَالُ جَازَ لِلْحَاسِب أنْ يَعْمَلَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ بِالْحِسَابِ، فَإِنْ كَانَ الْحِسَابُ دَلَّ عَلَى الرُّؤْيَةِ صَامَ وَإِلَّا فَلَا.
وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِن كَانَ مُقَيَّدًا بِالْإِغْمَامِ وَمُخْتَصًّا بِالْحَاسِبِ فَهُوَ شَاذٌّ مَسْبُوقٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِهِ.
فَأَمَّا اتِّبَاعُ ذَلِكَ فِي الصَّحْوِ أَو تَعْلِيقُ عُمُومِ الْحُكْمِ الْعَامِّ بِهِ فَمَا قَالَهُ مُسْلِمٌ.
قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} [يونس: 5]، فَقَوْلُهُ:{لِتَعْلَمُوا} [يونس: 5] مُتَعَلِّقٌ -وَاللهُ أَعْلَمُ- بِقَوْلِهِ: {وَقَدَّرَهُ} [يونس: 5] لَا بـ {جَعَلَ} [يونس: 5]؛ لِأنَّ كَوْنَ هَذَا ضِيَاءً وَهَذَا نُورًا لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي مَعْرِفَةِ عَدَدِ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ، وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ انْتِقَالُهَا مِن بُرْجٍ إلَى بُرْجٍ، وَلأَنَّ الشَّمْسَ لَمْ يُعَلَّقْ لنا بِهَا حِسَابُ شَهْرٍ وَلَا سَنَةٍ وَإِنَّمَا عُلِّقَ ذَلِكَ بِالْهِلَالِ.
وَذَلِكَ أَنَّ الْهِلَالَ أَمْرٌ مَشْهُودٌ مَرْئِيٌّ بِالْأَبْصَارِ، وَمِن أَصَحِّ الْمَعْلُومَاتِ مَا شُوهِدَ بِالْأَبْصَارِ، وَلهَذَا سَمَّوْهُ هِلَالًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَادَّةَ تَدُلُّ عَلَى الظُّهُورِ وَالْبَيَانِ: إمَّا سَمْعًا وَإِمَّا بَصَرًا، كَمَا يُقَالُ: أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ وَأَهَلَّ بِالذَّبِيحَةِ لِغَيْرِ اللهِ، إذَا رَفَعَ صَوْتَهُ.
فَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمَوَاقِيتَ حُدِّدَتْ بِأَمْرِ ظَاهِرٍ بَيِّنٍ يَشْتَرِكُ فِيهِ النَّاسُ، وَلَا يَشْرَكُ الْهِلَالَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ، فَإِنَّ اجْتِمَاعَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ الَّذِي هُوَ تَحَاذِيهِمَا الْكَائِنُ قَبْلَ الْهِلَالِ: أَمْرٌ خَفِيٌّ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِحِسَابٍ يَنْفَرِدُ بِهِ بَعْضُ الناسِ مَعَ تَعَبٍ وَتَضْيِيعِ زَمَانٍ كَثِيرٍ وَاشْتِغَالٍ عَمَّا يَعْنِي: النَّاسَ وَمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَرُبَّمَا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ وَالِاخْتِلَافُ.
فَظَهَرَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَوَاقِيتِ حَدٌّ ظَاهِرٌ عَامُّ الْمَعْرِفَةِ إلَّا الْهِلَالُ.
وَأَمَّا الْحَوْلُ فَلَمْ يَكُن لَهُ حَدٌّ ظَاهِرٌ فِي السَّمَاءِ، فَكَانَ لَا بُدَّ فِيهِ مِن الْحِسَابِ وَالْعَدَدِ، فَكَانَ عَدَد الشُّهُورِ الْهِلَالِيَّةِ أَظْهَرَ وَأعَمَّ مِن أَنْ يُحْسَبَ بِسَيْرِ الشَّمْسِ، وَتَكُونُ السَّنَةُ مُطَابِقَةً لِلشُّهُورِ؛ وَلأَنَ السِّنِينَ إذَا اجْتَمَعَتْ فَلَا بُدَّ مِن عَدَدِهَا فِي عَادَةِ جَمِيعِ الْأمَمِ؛ إذ لَيْسَ لِلسِّنيْنِ إذَا تَعَدَّدَتْ حَدٌّ سَمَاوِيٌّ يُعْرَفُ بِهِ عَدَدُهَا، فَكَانَ عَدَدُ الشُّهُورِ مُوَافِقًا لِعَدَدِ الْبُرُوجِ، جُعِلَت السَّنَةُ اثْنَي عَشَرَ شَهْرًا بِعَدَدِ الْبُرُوجِ الَّتِي تَكْمُلُ بِدَوْرِ الشَّمْسِ فِيهَا سَنَةً شَمْسِيَّةً، فَإِذَا دَارَ الْقَمَرُ فِيهَا كَمَّلَ دَوْرَتَهُ السَّنَوِيَّةَ، وَبِهَذَا كُلِّهِ يَتَبَيَّن مَعْنَى قَوْلِهِ:{وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس: 5] فَإِنَّ عَدَدَ شُهُورِ السَّنَةِ وَعَدَدَ السَّنَةِ بَعْدَ السَّنَةِ إنَّمَا أَصْلُهُ بِتَقْدِيرِ الْقَمَرِ مَنَازِلَ.
وَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ الْحِسَابِ؛ فَإِنَّ حِسَابَ بَعْضِ الشُّهُورِ لِمَا يَقَعُ فِيهِ مِن الْآجَالِ وَنَحْوِهَا إنَّمَا يَكُون بِالْهِلَالِ.
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189].
فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ بِالْهِلَالِ يَكُونُ تَوْقِيتُ الشَّهْرِ وَالسَّنَةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يَقُومُ مَقَامَ الْهِلَالِ أَلْبَتَّةَ لِظُهُورِهِ وَظُهُورِ الْعَدَدِ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهِ، وَتيَسُّرِ ذَلِكَ وَعُمُومِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن الْمَصَالِحِ الْخَاليَةِ عَن الْمَفَاسِدِ.
وَمَن عَرَفَ مَا دَخَلَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ وَالصَّابِئِينَ وَالْمَجُوسِ وَغَيْرِهِمْ فِي أَعْيَادِهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ وَتَوَارِيخِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن أُمُورِهِمْ مِن الِاضْطِرَابِ وَالْحَرَجِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن الْمَفَاسِدِ: ازْدَادَ شُكْرُهُ عَلَى نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ.
فَصْلٌ
لَمَّا ظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ عَوْدُ الْمَوَاقِيتِ إلَى الْأهِلَّةِ: وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَوَاقِيتُ كلُّهَا مُعَلَّقَةً بِهَا، فَلَا خِلَافَ بَيْن الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ إذَا كَانَ مَبْدَأ الْحُكْمِ فِي الْهِلَالِ حُسِبَت الشُّهُورُ كُلُّهَا هِلَاليَّةً .. وَإِن كَانَ بَعْضُهَا أَو جَمِيعُهَا نَاقِصًا.
فَأَمَّا إنْ وَقَعَ مَبْدَأُ الْحُكْمِ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ: فَقَد قِيلَ: تُحْسَبُ الشُّهُورُ كُلُّهَا بِالْعَدَدِ.
وَقِيلَ: بَل يُكْمِلُ الشَّهْرَ بِالْعَدَدِ وَالْبَاقِيَ بِالْأهِلَّةِ.
ثُمَّ لِهَذَا الْقَوْلِ تَفْسِيرَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجْعَلُ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ ثَلَاثينَ يَوْمًا وَبَاقِيَ الشُّهُورِ هِلَاليَّةً.
وَالتَّفْسِيرُ الثَّانِي هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا: أَنَّ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ إنْ كَانَ كَامِلًا كمُلَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَإِن كَانَ نَاقِصًا جُعِلَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا.
فَمَتَى كَانَ الْإِيلَاءُ فِي مُنْتَصَفِ الْمُحَرَّمِ: كَمُلَت الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ فِي مُنْتَصَفِ جُمَادَى الْأولَى، وَهَكَذَا سَائِرُ الْحِسَابِ.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْجَمِيعُ بالْهِلَالِ وَلَا حَاجَةَ إلَى أنْ نَقُولَ بِالْعَدَدِ؛ بَل نَنْظُرُ الْيَوْمَ الَّذِي هُوَ الْمَبْدَأُ مِن الشَّهْرِ الأوَّلِ، فَتكُونُ النِّهَايَةُ مِثْلَهُ مِن الشَّهْرِ اْلآخَرِ.
فَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِن الشَّهْرِ الْأوَّلِ كَانَت النهَايَةُ فِي مِثْل تِلْكَ السَّاعَةِ بَعْدَ كَمَالِ الشُّهُورِ، وَهُوَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ بَعْدَ انْسِلَاخِ الشُّهُورِ.
وَإِن كَانَ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ مِن الْمُحَرَّمِ كَانَت النِّهَايَةُ فِى الْيَوْمِ الْعَاشِرِ مِن الْمُحَرَّمِ أَو غَيْرِهِ عَلَى قَدْرِ الشُّهُورِ الْمَحْسُوبَةِ.
وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ، وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:{قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 189] فَجَعَلَهَا مَوَاقِيتَ لِجَمِيعِ النَّاسِ مَعَ عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ أَنَّ الَّذِي يَقَعُ فِي أَثْنَاءِ الشُّهُورِ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا يَقَعُ فِي أَوَائِلهَا، فَلَو لَمْ يَكُن مِيقَاتًا إلَّا لِمَا يَقَعُ فِي أَوَّلهَا لَمَا كَانَت مِيقَاتًا إلَّا لِأَقَلَّ مِن ثُلُثِ عُشْرِ أُمُورِ النَّاسِ.
وَأيْضًا: فَمَن الَّذِي جَعَلَ الشَّهْرَ الْعَدَدِيَّ ثَلَاثِينَ؟ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكذَا وَخَنَّسَ إبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ"، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ نِصْفَ شُهُورِ السَّنَةِ يَكُونُ ثَلَاثِينَ وَنِصْفَهَا تِسْعَةً وَعِشْرِينَ.
فَصْلٌ
مَا ذَكَرْنَاهُ مِن أَنَّ الْأَحْكامَ مِثْل صِيَامِ رَمَضَانَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْأَهِلَّةِ لَا رَيْبَ فِيهِ، لَكِن الطَّرِيقُ إلَى مَعْرِفَةِ طُلُوعِ الْهِلَالِ فوَ الرُّؤْيَةُ لَا غَيْرُهَا بِالسَّمْعِ وَالْعَقْلِ.
أَمَّا السَّمْعُ: فَقَدْ .. قَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَدَا، وَعَقَدَ الإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ، وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكذَا؛ يَعْنِي: تَمَامَ الثَّلَاِثِينَ"
(1)
.
وَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ الْأُمِّيَّةَ الْمَذْكُورَةَ هُنَا صِفَةُ مَدْحٍ وَكَمَالٍ مِن وُجُوهٍ: مِن جِهَةِ الِاسْتِغْنَاءِ عَن الْكِتَابِ وَالْحِسَابِ بِمَا هُوَ أَبْيَنُ مِنْهُ وَأَظْهَرُ وَهُوَ الْهِلَالُ.
وَمِن جِهَةِ أَنَّ الْكِتَابَ وَالْحِسَابَ هُنَا يَدْخُلُهُمَا غَلَطٌ.
وَمِن جِهَةِ أَنَّ فِيهِمَا تَعَبًا كَثِيرًا بِلَا فَائِدَةٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ شُغْلٌ عَن الْمَصَالِحِ، إذ هَذَا مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ لَا لِنَفْسِهِ، وَإِذَا كَانَ نَفْيُ الْكِتَابِ وَالْحِسَابِ عَنْهُم لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِخَيْرٍ مِنْهُ، وَللْمَفْسَدَةِ الَّتِي فِيهِ: كَانَ الْكِتَابُ وَالْحِسَابُ فِي ذَلِكَ نَقْصًا وَعَيْبًا؛ بَل سَيِّئَةً وَذَنْبًا، فَمَن دَخَلَ فِيهِ فَقَد خَرَجَ عَن الْأُمَّةِ الْأُمِّيَّةِ فِيمَا هُوَ مِن الْكَمَالِ وَالْفَضْلِ السَّالِمِ عَن الْمَفْسَدَةِ، وَدَخَلَ فِي أَمْرٍ نَاقِصٍ يُؤَدِّيهِ إلَى الْفَسَادِ وَالِاضْطِرَابِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ جَعَلَ هَذَا وَصْفًا لِلْأُمَّةِ، كَمَا جَعَلَهَا وَسَطًا فِي قَوْله تَعَالَى:{جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]؛ فَالْخُرُوجُ عَن ذَلِكَ اتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَأَمَّا الْعَقْلُ: فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِن أَهْلِ الْحِسَابِ كُلَّهُم مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ
(1)
أخرجه البخاري (1913) ومسلم (1080).
لَا يُمْكِنُ ضَبْطُ الرُّؤَيَةِ بِحِسَابٍ، بِحَيْثُ يُحْكَمُ بِأَنَّهُ يُرَى لَا مَحَالَةَ أَو لَا يُرَى أَلْبَتَّةَ عَلَى وَجْهٍ مُطَّرِدٍ، وَإِنَّمَا قَد يَتَّفِقُ ذَلِكَ، أو لَا يُمْكِنُ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ.
فَإِنْ قُلْت: مِن عَوَامِّ النَّاسِ -وَإِن كَانَ مُنْتَسِبًا إلَى عِلْم- مَن يَجْزِمُ بِأَنَّ الْحَرَكَاتِ الْعُلْوِيَّةَ لَيْسَتْ سَبَبًا لِحُدُوثِ أَمْرٍ أَلْبَتَّةَ.
قُلْت: قَوْلُ هَذَا جَهْلٌ
(1)
؛ لِأنَّهُ قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ.
هَذَا وَقَد ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ أَنَّ الأَفْلَاكَ مُسْتَدِيرَةٌ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40]، قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي فَلْكَةٍ مِثْل فَلْكَةِ الْمِغْزَلِ، وَهَكَذَا هُوَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: الْفَلَكُ الشَّيْءُ الْمُسْتَدِيرُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: تَفَلَّكَ ثَدْيُ الْجَارِيَةِ إذَا اسْتَدَارَ.
قَالَ تَعَالَى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} [الزمر: 5] وَالتَّكْوِيرُ هُوَ التَّدْوِيرُ، وَمِنْهُ قِيلَ: كَارَ الْعِمَامَةَ وَكَوَّرَهَا إذَا أَدَارَهَا، وَمِنْهُ قِيلَ: لِلْكُرَةِ كُرَةٌ وَهِيَ الْجِسْمُ الْمُسْتَدِيرُ، وَلهَذَا يُقَالُ لِلْأَفْلَاكِ: كُرَوِيَّةُ الشَّكْلِ.
وَأَمَّا إجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ: فَقَالَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيةَ -الْإِمَامُ الْمَشْهُورُ قَاضِي الْبَصْرَةِ مِن التَّابِعِينَ-: السَّمَاءُ عَلَى الْأرْضِ مِثْل الْقُبَّةِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَد بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْمُنَادِي مِن أَعْيَانِ الْعُلَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ بِمَعْرِفَةِ الْآثَارِ وَالتَّصَانِيفِ الْكِبَارِ فِي فُنُونِ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ مِن الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ مِن أَصْحَابِ أَحْمَد: لَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ أنَّ السَّمَاءَ عَلَى مِثَالِ الْكُرَةِ، وَأَنَّهَا تَدُورُ بِجَمِيعِ مَا فِيهَا مِن الْكَوَاكِب كَدَوْرَةِ الْكُرَةِ عَلَى قُطْبَيْنِ ثَابِتَيْنِ غَيْرِ مُتَحَرِّكَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي نَاحِيَةِ الشَّمَالِ وَالْآخَرُ فِي نَاحِيَةِ الْجَنُوبِ.
(1)
ولم يقل: قائل هذا جاهل! وشتان بينهما! فالشيخ عند إيراده للأقوال الخاطئة قد يُجهل القول ولا يُجهل القائل.
قَالَ: وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ بِجَمِيعِ حَرَكَاتِهَا مِن الْبَرِّ وَالْبَحْرِ مِثْلُ الْكُرَةِ. [25/ 131 - 195]
3065 -
الْمُعْتَمِدُ عَلَى الْحِسَابِ فِي الْهِلَالِ كَمَا أَنَّهُ ضَالٌّ فِي الشَّرِيعَةِ، مُبْتَدِعٌ فِي الدِّينِ، فَهُوَ مُخْطِئٌ فِي الْعَقْلِ وَعِلْمِ الْحِسَابِ. [25/ 207]
3066 -
دَلَّ الْكِتَاب وَالسُّنَّةُ وَأجْمَعَ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ عَلَى مَثَلِ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ مِن أَهْلِ الْحِسَابِ: مِن أنَّ الْأَفْلَاكَ مُسْتَدِيرَةٌ لَا مُسَطَّحَةٌ. [25/ 142]
3067 -
من تجدد له الصوم بسببٍ؛ كما إذا قامت البينة بالرؤية في أثناء النهار: فإنه يتم بقية يومه، ولا يلزمه قضاء وإن كان قد أكل. [المستدرك 3/ 170]
3068 -
هل يجب تعيين النية لرمضان؟
فمذهب مالك والشافعي: تجب، فلو نوى نية مطلقة أو معلقة لم تجزه.
وعند أبي حنيفة: لا يجب التعيين، فلو نوى نية مطلقة أو معلقة تقع عن رمضان في هذه الصورة.
وفي هذه الصورة في مذهب أحمد ثلاثة أقوال:
أحدها: كمذهب مالك والشافعي يجب.
والثاني: كقول أبي حنيفة.
والثالث: تقع عن رمضان مع الإطلاق لا مع نية غير رمضان.
والذي يجب أن يفرق بين العالم والجاهل، فمن علم أن غدًا من رمضان ولم ينوه بل نوى غيره فقط: تَرَك الواجب فلم يجزه، ومن لم يعلم فنوى صومًا مطلقًا للاحتياط أو صومًا مقيدًا فهذا إذا قيل بجوازه كان متوجهًا.
وإن نوى نذرًا أو نفلًا ثم بان من رمضان أجزأه إن كان جاهلًا، كمن دفع وديعة رجل إليه على طريق التبرع ثم تبين أنها كانت حقه فإنه لا يحتاج إلى إعطاء ثان؛ بل يقول له: الذي وصل إليك هو كان عندي لك.
ومن خطر في قلبه أنه صائم غدًا فقد نوى.
ومن كان يعلم أنَّ غدًا من رمضان وهو مسلم يعتقد وجوب الصوم وهو مريد للصوم: فهذا نية الصوم
(1)
، وهو حين يتعشى: يتعشى عشاء من يريد الصوم؛ ولهذا يُفرَّق بين عشاء ليلة العيد وعشاء ليالي شهر رمضان، فليلة العيد يعلم أنه لا يصوم فلا يريد الصوم ولا ينوه ولا يتعشى عشاء من يريد الصوم
(2)
. [المستدرك 3/ 171 - 172]
3069 -
اخْتَلَفُوا فِي تَبْيِيتِ نِيَّتِهِ [أي: الصيام] عَلَى ثَلَاثَةِ أقْوَالٍ:
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ -مِنْهُم أَبُو حَنِيفَةَ- إنَّهُ يُجْزِئُ كُلُّ صَوْمٍ فَرضًا كَانَ أو نَفْلًا بِنِيَّة قَبْلَ الزَّوَالِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَاشُورَاءَ وَحَدِيثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَلَمْ يَجِدْ طَعَامًا فَقَالَ:"إنِّي إذًا صَائِمٌ".
وَبِإِزَائِهَا طَائِفَةٌ أُخْرَى -مِنْهُم مَالِكٌ- قَالَتْ: لَا يُجْزِئُ الصَّوْمُ إلَّا مُبَيَّتًا مِن اللَّيْلِ فَرضًا كَانَ أَو نَفْلًا عَلَى ظَاهِرِ حَدِيثِ حَفْصَةَ وَابْنِ عُمَرَ: الَّذِي يُرْوَى مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا: "لَا صِيَامَ لِمَن لَمْ يُبَيِّت الصِّيَامَ مِن اللَّيْلِ"
(3)
.
وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّالِثُ: فَالْفَرْضُ لَا يُجْزِئُ إلَّا بِتَبْيِيتِ النِّيَّةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ حَفْصَةَ وَابْنِ عُمَرَ؛ لِأنَّ جَمِيعَ الزَّمَانِ يَجِبُ فِيهِ الصَّوْمُ، وَالنِّيَّةُ لَا تَنْعَطِفُ عَلَى الْمَاضِي.
وَأمَّا النَّفْلُ فَيُجْزِئُ بِنِيَّةٍ مِن النَّهَارِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:"إنِّي إذًا صَائِمٌ"
(4)
، كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ يَجِبُ فِيهَا مِن الْأرْكَانِ- كَالْقِيَامِ وَالِاسْتِقْرَارِ
(1)
فلا تحتاج نية الصوم إلى جهد وتكلف.
(2)
منهاج السُّنَّة (5/ 399)، وقد أخذتها منه؛ لأن كلامه أتم مما في الفروع وغيرِه، ويظهر أنهم نقلوا منه.
(3)
صحَّحه الألباني في صحيح النسائي (2333).
(4)
رواه مسلم (1154)، ولفظُه: عَنْ عَائِشَةَ أمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنهما قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ: "يَا عَائِشَةُ، هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ "، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ قَالَ:"فَإِني صَائِمٌ".
عَلَى الْأَرْضِ- مَا لَا يَجِبُ فِي التَّطَوُّعِ تَوْسِيعًا مِن اللهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي طُرُقِ التَّطَوُّعِ، فَإِنَّ أَنْوَاعَ التَّطَوُّعَاتِ دَائِمًا أَوْسَعُ مِن أَنْوَاعِ الْمَفْرُوضَاتِ.
وَصَوْمُهُم يَوْمَ عَاشُورَاءَ إنْ كَانَ وَاجِبًا: فَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِم مِن النَّهَارِ لِأَنَّهُم لَمْ يَعْلَمُوا قَبْلَ ذَلِكَ. [25/ 119 - 120]
3070 -
تصحُّ النيةُ المترددةُ؛ كقوله: إن كان غدًا من رمضان فهو فرض وإلا فهو نفل، وهو إحدى الروايتين عن أحمد. [المستدرك 3/ 172]
3071 -
كُلُّ مَن عَلِمَ أَنَّ غَدًا مِن رَمَضَانَ وَهُوَ يُرِيد صَوْمَهُ فَقَد نَوَى صَوْمَهُ. [25/ 215]
3072 -
الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ قِيلَ: لَا يَجُوزُ بَل يَجِبُ الْفِطْرُ وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ جَوَازُ الْأَمْرَيْنِ، ثُمَّ قَالَ كَثِيرٌ مِنْهُم إنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْفِطْرَ أَفْضَلُ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ. [22/ 336]
3073 -
إِذَا فَعَلَ الرَّجُلُ فِي السَّفَرِ أَيْسَرَ الْأَمْرَيْنِ عَلَيْهِ مِن تَعْجِيلِ الصَّوْمِ أَو تَأْخِيرِهِ فَقَد أَحْسَنَ؛ فَإِنَّ اللهَ يُرِيدُ بِنَا الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِنَا الْعُسْرَ.
أَمَّا إذَا كَانَ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ أَشَقَّ عَلَيْهِ مِن تَأْخِيرِهِ فَالتَّأْخِيرُ أَفْضَلُ.
وَأَمَّا صَوْمُ يَوْمِ الْغَيْمِ إذَا حَالَ دُونَ مَنْظَرِ الْهِلَالِ غَيْمٌ أَو قَتَرٌ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِن شَعْبَانَ: فَكانَ فِي الصَّحَابَةِ مَن يَصُومُهُ احْتِيَاطًا، وَكَانَ مِنْهُم مَن يُفْطِرُ، وَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا مِنْهُم أَوْجَبَ صَوْمَهُ؛ بَلِ الَّذِينَ صَامُوهُ إنَّمَا صَامُوهُ عَلَى طَرِيقِ التَّحَرِّي وَالِاحْتِيَاطِ.
وَإِذَا صَامَهُ الرَّجُلُ بِنِيَّةِ مُعَلَّقَةٍ؛ بِأَنْ يَنْوِيَ إنْ كَانَ مِن رَمَضَانَ أجْزَأَهُ وَإِلَّا فَلَا، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مِن رَمَضَانَ: أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَن أحْمَد وَغَيْرِهِ؛ فَإِنَ النِّيَّةَ تَتْبَعُ الْعِلْمَ، فَمَن عَلِمَ مَا يُرِيدُ فِعْلَهُ ثَوَاهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَم الشَّيْءَ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَقْصِدَهُ. [22/ 288 - 289]
3074 -
المريض إذا خاف الضرر استُحب له الفطر، والمسافر الأفضل له الفطر فإن أضعفه الصوم عن الجهاد كره له؛ بل يجب منعه إن منعه عن واجب آخر.
قال ابن القيم رحمه الله: وأجاز شيخنا ابن تيمية الفطر للتقوي على الجهاد، وفعله وأفتى به لما نازل العدو دمشق في رمضان، فأنكر عليه بعض المتفقهين وقال: ليس هذا سفرًا طويلًا
(1)
، فقال الشيخ: هذا فطر للتقوي على جهاد العدو، وهو أولى من الفطر للسفر يومين سفرًا مباحًا أو معصية، والمسلمون إذا قاتلوا عدوهم وهم صيام لم يمكنهم النكاية فيهم، وربما أضعفهم الصوم عن القتال فاستباح العدو بيضة الإسلام.
وهل يشك فقيه أن الفطر ههنا أولى من فطر المسافر وقد أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح بالإفطار ليتقووا على عدوهم، فعلَّل
(2)
ذلك للقوة على العدو لا للسفر. [المستدرك 3/ 170]
3075 -
يَجُوزُ الْفِطْرُ لِلْمُسَافِرِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ، سَوَاءٌ كَانَ قَادِرًا عَلَى الصِّيَامِ أَو عَاجِزًا، وَسَوَاءٌ شَقَّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ أَو لَمْ يَشُقَّ، بِحَيْثُ لَو كَانَ مُسَافِرًا فِي الظِّلِّ وَالْمَاءِ، وَمَعَهُ مَن يَخْدِمُهُ جَازَ لَهُ الْفِطْرُ وَالْقَصْرُ.
وَمَن قَالَ: إنَّ الْفِطْرَ لَا يَجُوزُ إلَّا لِمَن عَجَزَ عَن الصِّيَامِ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَكَذَلِكَ مَن أَنْكَرَ عَلَى الْمُفْطِرِ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ مِن ذَلِكَ. [25/ 210]
3076 -
مِقْدَارُ السَّفَرِ الَّذِي يُقْصَرُ فِيهِ وُيفْطَرُ: مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنَّهُ مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ قَاصِدَيْنِ بِسَيْرِ الْإِبِلِ وَالْأَقْدَامِ وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وعسفان وَمَكَّةَ وَجُدَّةَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.
(1)
في الأصل: (سفر طويل)، بالرفع، والتصويب من بدائع الفوائد (5/ 52).
(2)
في الأصل: (فعَلَ)، والتصويب من بدائع الفوائد (5/ 52).
وَقَالَ طَائِفَةٌ مِن السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: بَل يَقْصُرُ وَيُفْطِرُ فِي أَقَلِّ مِن يَوْمَيْنِ، وَهَذَا قَوْلٌ قَوِيٌّ، فَإِنَّهُ قَد ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنَى يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَخَلْفُهُ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُم يُصَلُّونِ بِصلَاتِهِ، لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْهُم بِإِتْمَامِ الصَّلَاةِ.
وَإِذَا سَافَرَ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ فَهَل يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورينِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَن أَحْمَد، أَظْهَرُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوز ذَلِكَ، كمَا ثَبَتَ فِي "السُّنَنِ" أَنَّ مِن الصَّحَابَةِ مَن كَانَ يُفْطِرُ إذَا خَرَجَ مِن يَوْمِهِ. [25/ 211 - 212]
3077 -
يُفْطِرُ مَن عَادَتُهُ السَّفَرُ إذَا كَانَ لَهُ بَلَدٌ يَأْوِي إلَيْهِ؛ كَالتَّاجِرِ الْجَلَّابِ الَّذِي يَجْلِبُ الطَّعَامَ وَغَيْرَهُ مِن السِّلَعِ، وَكَالْمُكَارِي الَّذِي يَكرِي دَوَابَّهُ مِن الْجُلَّابِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَالْبَرِيدِ الَّذِي يُسَافِرُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَنَحْوِهِمْ، وَكَذَلِكَ الْمَلَّاحُ الَّذِي لَهُ مَكَانٌ فِي الْبَرِّ يَسْكُنُهُ.
فَأَمَّا مَن كَانَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ امْرَأَتُهُ وَجَمِيعُ مَصَالِحِهِ وَلَا يَزَالُ مُسَافِرًا: فَهَذَا لَا يَقْصُرُ وَلَا يُفْطِرُ.
وَأهْلُ الْبَادِيَةِ: كَأَعْرَابِ الْعَرَبِ وَالْأَكْرَادِ وَالتُّرْكِ وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ يُشَتُّونَ فِي مَكَانٍ وَيُصَيِّفُونَ فِي مَكَانٍ إذَا كَانُوا فِي حَالِ ظَعْنِهِمْ مِن الْمَشْتَى إلَى الْمَصِيفِ وَمِن الْمَصِيفِ إلَى الْمَشْتَى: فَإِنَّهُم يَقْصُرُونَ.
وَأَمَّا إذَا نَزَلُوا بِمَشْتَاهُم وَمَصِيفِهِمْ لَمْ يُفْطِرُوا وَلَمْ يَقْصُرُوا، وَإِن كَانُوا يَتَتَبَّعُونَ الْمَرَاعِيَ. [25/ 213]
3078 -
الْمُسَافِرُ: يُفْطِرُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِن لَمْ يَكُن عَلَيْهِ مَشَقَّةٌ وَالْفِطْرُ لَهُ أَفْضَلُ، وَإِن صَامَ جَازَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. [25/ 214]
3079 -
إذَا رَأَى هِلَالَ الصَّوْمِ وَحْدَهُ أَو هِلَالَ الْفِطْرِ وَحْدَهُ فَهَل عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ بِرُؤْيَةِ نَفْسِهِ؟ أَو يُفْطِرَ بِرُؤْيَةِ نَفْسِهِ؟ أَمْ لَا يَصُومُ وَلَا يُفْطِرُ إلَّا مَعَ النَّاسِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ هِيَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَن أَحْمَد:
أَحَدُهَا: أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ وَأَنْ يُفْطِرَ سِرًّا، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
وَالثَّانِي: يَصُومُ وَلَا يُفْطِرُ إلَّا مَعَ النَّاسِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِن مَذْهَب أَحْمَد وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ.
وَالثَّالِثُ: يَصُومُ مَعَ النَّاسِ وَيُفْطِرُ مَعَ النَّاسِ، وَهَذَا أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
(1)
، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَحِينَئِذٍ: فَشَرْطُ كَوْنِهِ هِلَالًا وَشَهْرًا شُهْرَتُهُ بَيْنَ النَّاسِ، وَاسْتِهْلَالُ النَّاسِ بِهِ، حَتَّى لَو رَآهُ عَشَرَةٌ وَلَمْ يَشْتَهِرْ ذَلِكَ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْبَلَدِ لِكَوْنِ شَهَادَتِهِمْ مَرْدُودَةً أَو لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَشْهَدُوا بِهِ: كَانَ حُكمُهُم حُكْمَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَمَا لَا يَقِفُونَ وَلَا يَنْحَرُونَ وَلَا يُصَلُّونَ الْعِيدَ إلَّا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَكَذَلِكَ لَا يَصُومُونَ إلَّا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ:"صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ"
(2)
.
وَلهَذَا قَالَ أحْمَد فِي رِوَايَتِهِ: يَصُومُ مَعَ الْإِمَامِ وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي الصَّحْوِ وَالْغَيْمِ، قَالَ أَحْمَد: يَدُ اللهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ.
لَكِنْ مَن كَانَ فِي مَكَانٍ لَيْسَ فِيهِ غَيْرُهُ إذَا رَآهُ صَامَهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ غَيْرُهُ.
وَعَلَى هَذَا: فَلَو أَفْطَرَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ رُئِيَ فِي مَكَانٍ آخَرَ، أَو ثَبَتَ نِصْفَ النَّهَارِ: لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمَد، فَإِنَّهُ إنَّمَا صَارَ شَهْرًا فِي حَقِّهِمْ مِن حِينِ ظَهَرَ وَاشْتَهَرَ، وَمِن حِينَئِذٍ وَجَبَ الْإِمْسَاكُ كَأَهْلِ عَاشُورَاءَ الَّذِينَ أُمِرُوا بِالصَّوْمِ فِي أثْنَاءِ الْيَوْمِ وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِالْقَضَاءِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَحَدِيثُ الْقَضَاءِ ضَعِيفٌ. [25/ 114 - 118]
3080 -
عَن عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ
(1)
(802).
(2)
تقدم تخريجه.
النَّاسُ وَالْأَضْحَى يَوْمَ يُضَحِّي النَّاسُ" رَوَاهُ التّرْمِذِيُّ
(1)
وَعَلَى هَذَا الْعَمَلُ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ كلِّهِمْ.
فَإِنَّ النَّاسَ لَو وَقَفُوا بِعَرَفَةَ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ خَطَأَ أَجْزَأَهُم الْوُقُوفُ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي حَقِّهِمْ.
وَلَو وَقَفُوا الثَّامِنَ خَطَأَ فَفِي الْإِجْزَاءِ نِزَاعٌ، وَالْأَظْهَرُ صِحَّةُ الْوُقُوفِ أَيْضًا، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِك وَمَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ.
وَأَصْلُ ذَلِك أنَ اللهَ سبحانه وتعالى عَلَّقَ الْحُكْمَ بِالْهِلَالِ وَالشَّهْرِ فَقَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]، وَالْهِلَالُ اسْمٌ لِمَا يُسْتَهَلُّ بِهِ؛ أَيْ: يُعْلَنُ بِهِ وَيُجْهَرُ بِهِ، فَإِذَا طَلَعَ فِي السَّمَاءِ وَلَمْ يَعْرِفْهُ النَّاسُ وَيَسْتَهِلُّوا لَمْ يَكُن هِلَالًا، وَكَذَا الشَّهْرُ مَأْخُوذٌ مِن الشُّهْرَةِ، فَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ بَيْنَ النَّاسِ لَمْ يَكن الشَّهْرُ قَد دَخَلَ.
وَإِنَّمَا يَغْلَطُ كَثِيرٌ مِن النَّاسِ فِي مِثْل هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِظَنِّهِمْ أَنَّهُ إذَا طَلَعَ فِي السَّمَاءِ كَانَت تِلْكَ اللَّيْلَةُ أَوَّلَ الشَّهْرِ سَوَاءٌ ظَهَرَ ذَلِكَ لِلنَّاسِ وَاسْتَهَلُّوا بِهِ أَو لَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَل ظُهُورُهُ لِلنَّاسِ وَاسْتِهْلَالُهُم بِهِ لَا بُدَّ مِنْهُ؛ وَلهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ وَفِطْرُكُمْ يَوْم تُفْطِرُونَ وَأضْحَاكُمْ يَوْم تُضَحُّونَ"؛ أَيْ: هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَعْلَمُونَ أنَّهُ وَقْتُ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ وَالْأضْحَى، فَإِذَا لَمْ تَعْلَمُوهُ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ حُكْمٌ.
وَصَوْمُ الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ: هَل هُوَ تَاسِعُ ذِي الْحِجَّةِ أَو عَاشِرُ ذِي الْحِجَّةِ جَائِزٌ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ؛ لِأنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْعَاشِرِ.
وَإِنَّمَا الَّذِي يَشْتَبِهُ فِي هَذَا الْبَابِ مَسْأَلَتَانِ:
إحْدَاهُمَا: لَو رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ وَحْدَهُ أَو أَخْبَرَهُ بِهِ جَمَاعَةٌ يَعْلَمُ صِدْقَهُم: هَل يُفْطِرُ أَمْ لَا؟
(1)
(802)، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع الصغير (4287).
وَالثَّانِيَةُ: لَو رَأَى هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ أَو أَخْبَرَهُ جَمَاعَةٌ يَعْلَمُ صِدْقَهُم هَل يَكونُ فِي حَقِّهِ يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ هُوَ التَّاسِعَ وَالْعَاشِرَ بِحَسَبِ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ الَّتِي لَمْ تَشْتَهِرْ عِنْدَ النَّاسِ؟ أَو هُوَ التَّاسِعُ وَالْعَاشِرُ الَّذِي اشْتَهَرَ عِنْدَ النَّاسِ؟
فَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فَالْمُنْفَرِدُ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ شَوَّالٍ لَا يُفْطِرُ عَلَانِيَةً بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ يُبِيحُ الْفِطْرَ كَمَرَضٍ وَسَفَرٍ.
وَهَل يُفْطِرُ سِرًّا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ أَصَحُّهُمَا لَا يُفْطِرُ سِرًّا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٌ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِهِمَا.
وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْفِطْرَ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ، وَهُوَ يَوْمُ الْعِيدِ، وَاَلَّذِي صَامَهُ الْمُنْفَرِدُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ لَيْسَ هُوَ يَوْمَ الْعِيدِ الَّذِي نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَن صَوْمِهِ.
وَهَذَا يَظْهَرُ بِالْمَسْألَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّهُ لَو انْفَرَدَ بِرُؤْيَةِ ذِي الْحِجَّةِ لَمْ يَكُن لَهُ أَنْ يَقِفَ قَبْلَ النَّاسِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ فِي الظَّاهِرِ الثَّامِنُ وَإِن كَانَ بِحَسَبِ رُؤْيَتهِ هُوَ التَّاسِع، وَهَذَا لِأَنَّ فِي انْفِرَادِ الرَّجُلِ فِي الْوُقُوفِ وَالذَّبْحِ مِن مُخَالَفَةِ الْجَمَاعَةِ مَا فِي إظْهَارِهِ لِلْفِطْرِ. [25/ 202 - 205]
3081 -
"ومن فطر صائمًا فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء" صححه الترمذي
(1)
من حديث زيد بن خالد. مراده بتفطيره أن يشبعه. [المستدرك 3/ 172]
3082 -
أَبَاحَ سبحانه وتعالى الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَالْجِمَاعَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِن الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ، وَالشَّاكُّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ يَجُوزُ لَهُ الْأَكْل وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ إذَا اسْتَمَرَّ الشَّكُّ. [25/ 260]
3083 -
السِّوَاكُ جَائِزٌ بِلَا نِزَاعٍ، لَكِن اخْتَلَفُوا فِي كَرَاهِيَتِهِ بَعْدَ الزَّوَالِ عَلَى
(1)
(807).
قَوْلَيْنِ مَشْهُورينِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَن أحْمَد، وَلَمْ يَقُمْ عَلَى كَرَاهِيَتِهِ دَلِيل شَرْعِيٌّ يَصْلُحُ أَنْ يَخُصَّ عمومات نُصُوصِ السِّوَاكِ. [25/ 266]
* * *
(حكم صَوْمِ يَوْمِ الْغَيْمِ)
3084 -
صَوْمُ يَوْمِ الْغَيْمِ: إذَا حَالَ دُونَ رُؤْيةِ الْهِلَالِ غَيْمٌ أَو قَتَرٌ
(1)
: لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ عِدَّةُ أَقْوَالٍ وَهِيَ فِي مَذْهَبِ أحْمَد وَغَيْرِهِ:
أَحَدُهَا: أنَّ صَوْمَهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، ثُمَّ هَل هُوَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ أَو تَنْزِيهٍ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٌ وَالشَافِعِيِّ وَأحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ صِيَامَهُ وَاجِبٌ كَاخْتِيَارِ الْقَاضِي والخرقي وَغَيْرِهِمَا مِن أَصْحَابِ أَحْمَد
(2)
.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ صَوْمُهُ وَيجُوزُ فِطْرُهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد الْمَنْصُوصُ الصَّرِيحُ عَنْهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَو أكْثَرِهِمْ
(3)
.
وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْإِمْسَاكَ عِنْدَ الْحَائِلِ عَن رُؤْيَةِ الْفَجْرِ جَائِزٌ، فَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ
(1)
ليلة الثلاثين من شعبان.
(2)
قال في زاد المستقنع: وَإِن حَالَ دُونَهُ غَيْمٌ، أوْ قَتَرٌ فَظَاهِرُ المَذْهَبِ يَجِبُ صَوْمَهُ. اهـ.
(3)
قال رحمه الله في موضع آخر: وَأُصُولُ الشَّرِيعَةِ أَدَلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْهَا عَلَى غَيْرِهِ؛ فَإِنَّ الْمَشْكُوكَ فِي وُجُوبِهِ -كَمَا لَو شَكَّ فِي وُجُوبِ زَكَاةٍ أو كَفَّارَةٍ أو صَلَاةٍ أو غَيْرِ ذَلِكَ- لَا يَجِبُ فِعْلُهُ وَلَا يُسْتَحَبُّ تَرْكُهُ، بَل يُسْتَحَبُّ فِعْلُهُ احْتِيَاطًا، فَلَمْ تُحَرِّمْ أصُولُ الشَّرِيعَةِ الِاحْتِيَاطَ وَلَمْ تُوجِبْ بِمُجَرَّدِ الشَّكِّ.
وقال: فَإِنَّ تَحْرِيمَ الصَّوْم أَو إيجَابَهُ كِلَاهُمَا فِيهِ بُعْدٌ عَن أصُولِ الشَّرِيعَةِ. اهـ. (25/ 124 - 125) واختار ابن حزم والشوَكاني والصنعاني والإمامان ابن باز وابن عثيمين رحمهم الله وغيرُهم تحريم صيامه. المحلى (7/ 23)، نيل الأوطار (4/ 227) سبل السلام (1/ 558)، مجموع فتاوى ابن باز (15/ 408)، زاد المستقنع (6/ 307).
وَإن شَاءَ أَكَلَ حَتَّى يَتَيَقَّنَ طُلُوعَ الْفَجْرِ، وَكَذَلِكَ إذَا شَكَّ هَل أَحْدَثَ أَمْ لَا؟ إنْ شَاءَ تَوَضَّأَ وَإِن شَاءَ لَمْ يَتَوَضَّأْ.
وَكَذَلِكَ إذَا شَكَّ هَل حَالَ حَوْلُ الزَّكَاةِ أَو لَمْ يَحُلْ؟
وَإِذَا شَكَّ هَل الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ عَلَيْهِ مِائَةٌ أَو مِائَةٌ وَعِشْرُونَ؟ فَأَدَّى الزِّيَادَةَ.
وَأُصُولُ الشَّرِيعَةِ كُلُّهَا مُسْتَقِرَّةٌ عَلَى أَنَّ الِاحْتِيَاطَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا مُحَرَّمٍ.
ثُمَّ إذَا صَامَهُ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ أَو بِنِيَّةٍ مُعَلَّقَةٍ، بِأَنْ يَنْوِيَ إنْ كَانَ مِن شَهْرِ رَمَضَانَ كَانَ عَن رَمَضَانَ وَإِلَّا فَلَا: فَإِنَّ ذَلِكَ يَجْزِيهِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ إلَّا بِينَّةِ أَنَّهُ مِن رَمَضَانَ.
وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْألَةِ أَنَّ تَعْيِينَ النِّيَّةِ لِشَهْرِ رَمَضَانَ: هَل هوَ وَاجِبٌ؟ فِيهِ ثلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد.
وَتَحْقِيقُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ النِّيَّةَ تَتْبَعُ الْعِلْمَ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ غَدًا مِن رَمَضَانَ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّعْيِينِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ.
فَإِنْ نَوَى نَفْلًا أَو صَوْمًا مُطْلَقًا لَمْ يُجْزئهُ؛ لِأَنَّ اللهَ أَمَرَهُ أَنْ يَقْصِدَ أَدَاء الْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَهُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي عَلِمَ وُجُوبَهُ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلِ الْوَاجِبَ لَمْ تَبْرأْ ذِمَّتُهُ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ غَدًا مِن شَهْرِ رَمَضَانَ: فَهُنَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّعْيِينُ، وَمَن أَوْجَبَ التَّعْيِينَ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ فَقَد أَوْجَبَ الْجَمْعَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ.
فَإِذَا قِيلَ: إنَّهُ يَجُوزُ صَوْمُهُ، وَصَامَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ أَو مُعَلَّقَةٍ أَجْزَأَهُ.
وَأَمَّا إذَا قَصدَ صَوْمَ ذَلِكَ تَطَوُّعًا ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مِن شَهْرِ رَمَضَانَ:
فَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ أَيْضًا
(1)
، كَمَن كَانَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ وَلَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ فَأَعْطَاهُ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّبَرُّعِ، ثُمَّ تبَيَّنَ أَنَّهُ حَقُّهُ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى إعْطَائِهِ ثَانِيًا.
وَالرّوَايَةُ الَّتِي تُرْوَى عَن أَحْمَد: أَنَّ النَّاسَ فِيهِ تَبَعٌ لِلْإِمَامِ فِي نِيَّتِهِ، عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ وَالْفِطْرَ بِحَسَبِ مَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ، كَمَا فِي "السُّنَنِ" عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ"
(2)
.
وَقَد تَنَازَعَ النَّاسُ فِي "الْهِلَالِ": هَل هُوَ اسْمٌ لِمَا يَطْلُعُ فِي السَّمَاءِ وَإِن لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ؟ أَو لَا يُسَمَّى هِلَالًا حَتَّى يَسْتَهِلَّ بِهِ النَّاسُ ويعْلَمُوهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ
(3)
. [25/ 98 - 102]
3085 -
إنْ حال دون رؤية الهلال ليلة الثلاثين غيم أو قتر فصومه جائز، لا واجب ولا حرام، وهو قول طوائف من السلف والخلف، وهو مذهب أبي حنيفة، والمنقولات المستفيضة عن أحمد إنما تدل على هذا، ولا أصل للوجوب في كلامه ولا في كلام أحد من الصحابة رضي الله عنهم.
وحكي عن أبي العباس أنه كان يميل أخيرًا إلى أنه لا يستحب صومه
(4)
. [المستدرك 3/ 169 - 170]
* * *
(1)
هذا من تيسير الشيخ رحمه الله على الأمة، وحبه لليسر والرفق بالناس.
(2)
رواه أبو داود (2324)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود (2324).
(3)
واختار الشيخ القول الثاني كما تقدم حيث قال: قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إذَا وَقَفَ النَّاسُ يَوْمَ الْعَاشِرِ خَطَأَ أَجْزَأَهُمْ، فَالصَّوَابُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَلَا خَطَأَ فِي ذَلِكَ، بَل يَوْمُ عَرَفَةَ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يُعَرِّفُ فِيهِ النَّاسُ، وَالْهِلَالُ إنَّمَا يَكُونُ هِلَالًا إذَا اسْتَهَلَّهُ النَّاسُ، وَإِذَا طَلَعَ وَلَمْ يَسْتَهِلُّوهُ فَلَيْسَ بِهِلَالِ.
(4)
واختار العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله تحريم صومه وقال: وأصح هذه الأقوال هو التحريم، ولكن إذا رأى الإمام وجوب صوم هذا اليوم، وأمر الناس بصومه، فإنه لا ينابذ، ويحصل عدم منابذته بألا يظهر الإنسان فطره، وإنما يفطر سرًّا.
والمسألة هنا لم يثبت فيها دخول الشهر، أما لو حكم ولي الأمر بدخول الشهر فالصوم واجب. اهـ. الشرح الممتع (6/ 307).
(هل رُؤْيَةُ بَعْضِ الْبِلَادِ رُؤْيَةٌ لِجَمِيعِهَا
؟)
3086 -
مَسْأَلَةُ رُؤْيَةِ بَعْضِ الْبِلَادِ رُؤْيَةٌ لِجَمِيعِهَا: فِيهَا اضْطِرَابٌ
(1)
، فَإِنَّهُ قَد حَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِيمَا يُمْكِنُ اتِّفَاقُ الْمَطَالِعِ فِيهِ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِثْل الْأنْدَلُسِ وَخُرَاسَانَ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ
(2)
.
وَاَلَّذِينَ قَالُوا: لَا تَكونُ رُؤْيَةً لِجَمِيعِهَا كَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مِنْهُم مَن حَدَّدَ ذَلِكَ بِمَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَمِنْهُم مَن حَدَّدَ ذَلِكَ بِمَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَطَالِعُ؛ كَالْحِجَازِ مَع الشَّامِ، وَالْعِرَاقِ مَعَ خُرَاسَانَ، وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ
(3)
؛ فَإِنَّ مَسَافَةَ الْقَصْرِ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْهِلَالِ.
وَأَمَّا الْأَقَالِيمُ فَمَا
(4)
حَدَّدَ ذَلِكَ؟ ثُمَّ هَذَانِ خَطَأٌ مِن وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرُّؤْيَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ التَّشْرِيقِ وَالتَّغْرِيبِ، فَإِنَّهُ مَتَى رُئِيَ
(1)
ومن عجيب الاضطراب: الاضطراب في النقل عن شيخ الإسلام رحمه الله، فحينما قرأت كلامه هنا ولخصته تعجبت من أنه يُناقض ما اشْتُهر عنه القولُ باعتبارِ اتفاق المطالع في لزوم الصوم، فإذا اختلفت المطالع فلا يلزم الصوم بهذه الرؤية سوى من اتفقت مطالعهم فحسب.
وهذا هو الذي نقله عنه البعلي في الاختيارات، قال رحمه الله:"تختلف المطالع باتفاق أهل المعرنة بهذا، فإن اتفقت لزمه الصوم وإلا فلا، وهو الأصح للشافعية وقول في مذهب أحمد".
لكنَّ شيخَ الإسلام هنا -كما سترى-: سيقرر نقيض ذلك، وسيضعّف فيه اعتبارَ اتفاق المطالع.
وقد وجدت بحثًا في موقع: صيد الفوائد، للدكتور سمير بن خليل المالكي، توصل إلى ما توصلتُ إليه فزادني طمأنينة حيث قال في نهايته: وإنما أطلت النقل من كلامه رحمه الله لنفاسته، وهو يخالف ما ذهب إليه في الاختبارات من اعتبار اختلاف المطالع، بينما نص هنا على أن العبرة هي في بلوغ العلم بالرؤية في الوقت الذي يؤدى فيه الصوم أو الفطر، بمعنى أنه لو بلغهم خبر الرؤية بعد ذلك لم يلزمهم قضاء ذلك اليوم، والله أعلم. اهـ.
http:www.saaid.net-Doat-samer-6.htm.
(2)
ونصّ كلامه كما في الاستذكار (10/ 30): قَد أَجْمَعُوا أَنَّهُ لَا تُرَاعَى الرُّؤْيَةُ فِيمَا أُخِّرَ مِنَ الْبُلْدَانِ، كَالْأنْدَلُسِ مِن خُرَاسَانَ، وَكَذَلِكَ كُلُّ بَلَدٍ لَهُ رُؤْيتُهُ إِلَّا مَا كَانَ كَالْمِصْرِ الْكَبِيرِ، وَمَا تَقَارَبَتْ أَقْطَارُهُ مِن بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ -وَاللهُ أَعْلَمُ-. اهـ.
(3)
أي: التحديد بمسافة القصر، والتحديد بما تختلف فيه المطالع.
(4)
لعل الصواب: (فمن).
فِي الْمَشْرِقِ وَجَبَ أَنْ يُرَى فِي الْمَغْرِبِ وَلَا يَنْعَكِسُ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَخَّرُ غُرُوبُ الشَّمْسِ بِالْمَغْرِبِ عَن وَقْتِ غُرُوبِهَا بِالْمَشْرِقِ.
الْوَجْهُ الثانِي: أَنَّهُ إذَا اعْتَبَرْنَا حَدًّا كَمَسَافَةِ الْقَصْرِ أَو الْأَقَالِيمَ فَكَانَ رَجُلٌ فِي آخِرِ الْمَسَافَةِ وَالْاِقْلِيمِ: فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ ويُفْطِرَ وَيَنْسُكَ، وَآخَرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ غَلْوَةُ
(1)
سَهْمٍ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِن ذَلِكَ! وَهَذَا لَيْسَ مِن دِينِ الْمُسْلِمِينَ.
فَالصَّوَابُ فِي هَذَا -وَاللهُ أَعْلَمُ- مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: "صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ وَفِطْرُكمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ"
(2)
، فَإِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِن شَعْبَانَ أَنَّهُ رَآه بِمَكَان مِن الْأَمْكِنَةِ قَرِيبٍ أَو بَعِيدٍ: وَجَبَ الصَّوْمُ.
وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَ بِالرُّؤْيَةِ نَهَارَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ إلَى الْغُرُوبِ: فَعَلَيْهِم إمْسَاكُ مَا بَقِيَ، سَوَاءٌ كَانَ مِن إقْلِيمٍ أَو إقْلِيمَيْنِ.
وَالِاعْتِبَارُ بِبُلُوغِ الْعِلْمِ بِالرُّؤْيَةِ فِي وَقْتٍ يُفِيدُ، فَأَمَّا إذَا بَلَغَتْهُم الرُّؤْيَةُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَالْمُسْتَقْبَلَ يَجِبُ صَوْمُهُ بِكُلِّ حَالٍ.
لَكِنَّ الْيَوْمَ الْمَاضِيَ: هَل يَجِبُ قَضَاؤُهُ؟ فَإِنَّهُ قَد يَبْلُغُهُم فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ أَنَّهُ رُئِيَ بِإِقْلِيمٍ آخَرَ وَلَمْ يُرَ قَرِيبًا مِنْهُمْ؟
الْأَشْبَهُ: أَنَّهُ إنْ رُئِيَ بِمَكَانٍ قَرِيبٍ -وَهُوَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَبْلُغَهُم خَبَر فِي الْيَوْمِ الْأوَّلِ- فَهُوَ كَمَا لَو رُئِيَ فِي بَلَدِهِمْ وَلَمْ يَبْلُغْهُمْ.
وَأَمَّا إذَا رُئيَ بِمَكَانٍ لَا يُمْكِنُ وُصُولُ خَبَرِهِ إلَيْهِم إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ الْأوَّلِ: فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ صَوْمَ النَّاسِ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يَصُومُونَهُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَصُومُوا إلَّا الْيَوْمَ الَّذِي يُمْكِنُهُم فِيهِ رُؤيَةُ الْهِلَالِ، وَهَذَا لَمْ يَكُن يُمْكِنُهُم فِيهِ بُلُوغُهُ فَلَمْ يَكُن يَوْمَ صَوْمِهِمْ، وَكَذَلِكَ فِي الْفِطْرِ وَالنُّسُكِ.
(1)
الغَلْوَة: قَدْرُ رَمْيَة بِسَهْمٍ.
(2)
رواه أبو داود (2324)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود (2324).
لَكِنَّ هَؤُلَاءِ هَل يُفْطِرُونَ إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُم فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ أَنَّهُ رُئِيَ بِنَاءً عَلَى تِلْكَ الرُّؤْيَةِ؟
لَكِنْ إنْ بَلَغَتْهُم بِخَبَرٍ وَاحِدٍ لَمْ يُفْطِرُوا؛ لِأَنَّهُ قَد ثَبَتَ عِنْدَهُم فِي أَثْنَائِهِ مَا يُفْطِرُونَ بِهِ وَلَا يَقْضُونَ الْيَوْمَ الْأَوَّلَ فَيَكُونُ صَوْمُهُم تِسْعَةً وَعِشْرِينَ كَمَا يَقُولُهُ مَن يَقُولُ بِالْمَطَالِعِ، إذَا صَامَ بِرُؤْيَةِ مَكَانٍ ثُمَّ سَافَرَ إلَى مَكَانٍ تَقَدَّمَتْ رُؤْيَتُهُم فَإِنَّهُ يُفْطِرُ مَعَهُم وَلَا يَقْضِي الْيَوْمَ الأوَّلَ
(1)
.
فَالضَّابِطُ: أَنَّ مَدَارَ هَذَا الْأَمْرِ عَلَى الْبُلُوغِ؛ لِقَوْلِهِ: "صُومُوا لِرُؤيتِهِ"، فَمَن بَلَغَهُ أَنَّهُ رُئِيَ ثَبَتَ فِي حَقِّهِ مِن غَيْرِ تَحْدِيدٍ بِمَسَافَةٍ أَصْلًا، وَهَذَا يُطَابِقُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي أَنَّ طَرَفَيِ الْمَعْمُورَةِ لَا يَبْلُغُ الْخَبَرُ فِيهِمَا إلَّا بَعْدَ شَهْر فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ، بِخِلَافِ الْأَمَاكِنِ الًّذِي يَصِلُ الْخَبَرُ فِيهَا قَبْلَ انْسِلَاخِ الشَّهْرِ فَإِنَّهَا مَحَلُّ الِاعْتِبَارِ
(2)
.
(1)
فائدة: قال رحمه الله: "لَا بُدَّ أنْ يُصَامَ فِي رَمَضَانَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ، لَا يُصَامُ أَقَلُّ مِنْهَا بِحَالٍ". اهـ. (25/ 153)
قال في الإقناع، وشرحه كشاف القناع (2/ 966 - 970): وإن صاموا ثمانية وعشرين يومًا، ثم رأوا الهلال قضوا يوما فقط. نصَّ عليه الإمام أحمد بن حنبل، ونقله واحتج بقول علي رضي الله عنه: لأن أصوم يومًا من شعبان أحبُّ إليَّ من أن أفطر يومًا من رمضان. اهـ.
فائدة: قال ابن عثيمين رحمه الله: لو أن الإنسان سافر من المملكة العربية السعودية إلى باكستان، وباكستان لم يروا الهلال، والسعودية ثبت عندها رؤية الهلال، نقول في هذه الحال تبقى صائمًا؛ لأنك في مكان لم ير فيه الهلال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته". فلو فرض أنك رجعت في اليوم نفسه فلك أن تفطر، والعكس إذا ذهبنا إلى الغرب ونزلنا في بلد رأوا الهلال، ولم يُرَ في السعودية فإننا نصوم؛ لأن المكان رؤي فيه الهلال؛ لأن الله تعالى قال:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا".
فالعبرة بمكانك الذي أنت فيه، فمتى رؤى الهلال فاعمل به إفطارًا وصومًا. مجموع الفتاوى (15/ 440 - 439).
(2)
والناس في هذه الأزمان يبلغهم الخبر بلحظات، عن طريق التلفاز والجوال ونحوها، فيصومون في يوم واحد.
وَلهَذَا قَالُوا: إذَا أَخْطَأَ النَّاسُ كُلُّهُم فَوَقَفُوا فِي غَيْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ أَجْزَأَهُم اعْتِبَارًا بِالْبُلُوغِ، وَإِذَا أَخْطَأَهُ طَائِفَةٌ مِنْهُم لَمْ يُجْزِئْهُم لِإِمْكَانِ الْبُلُوغِ؛ فَالْبُلُوغُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ سَوَاءٌ كَانَ عَلِمَ بِهِ لِلْبُعْدِ أَو لِلْقِلَّةِ.
وَالْحُجَّةُ فِيهِ: أَنَّا نَعْلَم بِيَقِينٍ أَنَّهُ مَا زَالَ فِي عَهدِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يُرَى الْهِلَالُ فِي بَعْضِ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ بَعْضٍ، فَإِنَّ هَذَا مِن الْأُمُورِ الْمُعْتَادَةِ الَّتِي لَا تَبْدِيلَ لَهَا، وَلَا بُدَّ أَنْ يَبْلُغَهُم الْخَبَرُ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ، فَلَو كَانُوا يَجِبُ عَلَيْهِم الْقَضَاءُ لَكَانَت هِمَمُهُم تَتَوَفَّرُ عَلَى الْبَحْثِ عَن رُؤَيتِهِ فِي سَائِرِ بُلْدَانِ الْإِسْلَامِ، كَتَوَفُّرِهَا عَلَى الْبَحْثِ عَن رُؤْيَتِهِ فِي بَلَدِهِ، وَلَكَانَ الْقَضَاءُ يَكثُرُ فِي أَكْثَرِ الرمضانات، وَمِثْلُ هَذَا لَو كَانَ لَنُقِلَ، وَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ يَدُلُّ عَلَى هَذَا
(1)
.
وَلَو قِيلَ: إذَا بَلَغَهُم الْخَبَرُ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ لَمْ يَبْنُوا إلَّا عَلَى رُؤْيَتِهِمْ بِخِلَافِ مَا إذَا بَلَغَهُم فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ: لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ.
بَل الرُّؤْيَةُ الْقَلِيلَةُ لَو لَمْ تَبْلُغ الْإِنْسَانَ إلَّا فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ فَفِي وُجُوبِ قَضَاءِ ذَلِكَ الْيَوْمِ نَظَرٌ وَإِن كَانَ يُفْطِرُ بِهَا
(2)
؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: "صَوْمُكمْ يَوْمَ تَصُومُون ": دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُن يَوْمَ صَوْمِنَا، وَلِأِنَّ التَّكْلِيفَ يَتْبَعُ الْعِلْمَ، وَلَا عِلْمَ وَلَا دَليلَ ظَاهِرٌ فَلَا وُجُوبَ.
(1)
وهو ما رواه مسلم (1087)، عَن كُرَيْبٍ، أنَ أُمَّ الْفَضْلِ بِنْتَ الْحَارِثِ، بَعَثَتْهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ، قَالَ: فَقَدِمْتُ الشَّامَ، فَقَضَيْتُ حَاجَتَهَا، وَاسْتُهِلَّ عَلَيَّ رَمَضَانُ وَأنَا بِالشَّامِ، فَرَأَيْتُ الْهِلَالَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ، فَسَأَلَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلَالَ فَقَالَ: مَتَى رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ؟ فَقُلْتُ: رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، وَرَآه النَّاسُ، وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ:"لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ، فَلَا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نَكْمِلَ ثَلَاثِينَ أَو نَرَاهُ"، فَقُلْتُ: أَوَ لَا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَصِيَامِهِ؟ فَقَالَ: "لَا، هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم".
(2)
المعنى: لو رأى هلال رمضان قلّةٌ من الناس فأبلغوا من حولهم، ولم يصل الخبر إلى بعض البلدان إلا في أثناء الشهر، وهم لم يروا الهلال في نفس اليوم: فلا يجب عليهم قضاء ذلك اليوم.
وَطَرْدُ هَذَا: أَنَّ الْهِلَالَ إذَا ثَبَتَ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ قَبْلَ الْأَكْلِ أَو بَعْدَهُ أَتَمُّوا وَأَمْسَكُوا وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِمْ، كَمَا لَو بَلَغَ صَبِيٌّ أَو أَفَاقَ مَجْنُون عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ.
فَإِنّ الْهِلَالَ مَأْخُوذٌ مِن الظُّهُورِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ، فَطُلُوعُهُ فِي السَّمَاءِ إنْ لَمْ يَظْهَرْ فِي الْأرْضِ فَلَا حُكْمَ لَهُ لَا بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا.
فَلَا هِلَالَ إلَّا مَا اُسْتُهِلَّ، فَإِذَا اسْتَهَلَّهُ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَان فَلَمْ يُخْبِرَا بِهِ فَلَمْ يَكُن ذَاكَ هِلَالًا، فَلَا يَثْبُتْ بِهِ حُكْمٌ حَتَّى يُخْبِرَا بِهِ فَيَكُونُ خَبَرُهُمَا هُوَ الْإِهْلَالَ الَّذِي هُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْإِخْبَارِ بِهِ، وَلأَنَّ التَّكْلِيفَ يَتْبَعُ الْعِلْمَ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ عِلْمُهُ لَمْ يَجِبْ صَوْمُهُ.
وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ إذَا كَانَ التَّرْكُ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ يَفْتَقِرُ إلَى دَليلٍ.
فَتَلَخَّصَ:
أ- أَنَّهُ مَن بَلَغَهُ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُؤَدِّي بِتِلْكَ الرُّؤْيَةِ الصَّوْمَ أَو الْفِطْرَ أَو النُّسُكَ وَجَبَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ بِلَا شَكِّ، وَالنُّصُوصُ وَآثَارُ السَّلَفِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
وَمَن حَدَّدَ ذَلِكَ بِمَسَافَةِ قَصْرٍ أَو إقْلِيمٍ فَقَوْلُهُ: مُخَالِفٌ لِلْعَقْلِ وَالشَّرْعِ.
ب- وَمَن لَمْ يَبْلُغْهُ إلَّا بَعْدَ الْأَدَاءِ وَهُوَ مِمَّا لَا يُقْضَى كَالْعِيدِ الْمَفْعُولِ وَالنُّسُكِ: فَهَذَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ، وَعَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ الَّذِي حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.
ج- وَأَمَّا إذَا بَلَغَهُ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ: فَهَل يُؤَثِّرُ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ وَفِي بِنَاءِ الْفِطْرِ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ فِي بَقِيَّةِ الْأَحْكَامِ: مِن حُلُولِ الدَّيْنِ وَمُدَّةِ الْإِيلَاءِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالْقَضَاء؟
يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ، وَفِي بِنَاءِ الْفِطْرِ عَلَيْهِ نَظَرٌ.
فَهَذَا مُتَوَسِّطٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَمَا مِن قَوْلِ سِوَاهُ إلَّا وَلَهُ لَوَازِمُ شَنِيعَةٌ
(1)
. [25/ 103 - 113]
* * *
(باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة)
3087 -
فَصْل: فِيمَا يُفَطِّرُ الصَّائِمَ وَمَا لَا يُفَطِّرُهُ وَهَذَا نَوْعَانِ:
مِنْهُ مَا يُفَطِّرُ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَهُوَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ.
وَلَفْظُ "الصِّيَامِ" كَانُوا يَعْرِفُونَهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ويستعملونه كَمَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن عَائِشَةَ رضي الله عنه: "أَنَّ يَوْمَ عَاشُورَاءَ كَانَ يَوْمًا تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ".
وَكَذَلِكَ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ دَمَ الْحَيْض يُنَافِي الصَّوْمَ فَلَا تَصُومُ الْحَائِضُ لَكِنْ تَقْضِي الصِّيَامَ.
وَثَبَتَ بِالسُّنَّةِ أَيْضًا مِن حَدِيثِ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكَونَ صَائِمًا"
(2)
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إنْزَالَ الْمَاءِ مِن الْأَنْفِ يُفَطِّرُ الصَّائِمَ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ.
وَفِي "السُّنَنِ" عَن أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَن ذَرَعَهُ قَيْءٌ وَهُوَ صَائِمٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ، وَإِن استقاء فَلْيَقْضِ"
(3)
.. قَالَ الخطابي: وَلَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ مَن ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَإِنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَلَا فِي أَنَّ مَنِ استقاء عَامِدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي الْكَفَّارَةِ، فَقَالَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُ الْقَضَاءِ.
(1)
بحثُه هذا وإن كان قليلًا فهو من أعسر بحوثه عندي.
(2)
رواه أبو داود (2366)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود (2366).
(3)
رواه أبو داود (2380)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود (2380).
وَأَمَّا حَدِيثُ الْحِجَامَةِ
(1)
فَإِمَّا أَنْ يَكونَ مَنْسُوخًا، وَإِمَّا أَنْ يَكونَ نَاسِخًا لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسِ:"أَنَّهُ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ صَائِمٌ"
(2)
.
أَيْضًا: وَلَعَلَّ فِيهِ الْقَيْءَ إنْ كَانَ مُتَنَاوِلًا لِلِاسْتِقَاءَةِ هُوَ أَيْضًا مَنْسُوخٌ.
وَهَذَا يُؤَيِّدُ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْحِجَامَةِ هُوَ الْمُتَأَخِّرُ، فَإِنَّهُ إذَا تَعَارَضَ نَصَّانِ نَاقِلٌ وَبَاقٍ عَلَى الِاسْتِصْحَابِ فَالنَّاقِلُ هُوَ الرَّاجِحُ فِي أنَّه النَّاسِخُ وَنَسْخ أَحَدِهِمَا يُقَوِّي نَسْخَ قَرِينِهِ.
وَأَمَّا مَن اسْتَمْنَى فَأَنْزَلَ فَإِنَّهُ يُفْطِرُ، وَلَفْظُ الِاحْتِلَامِ إنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى مَن احْتَلَمَ فِي مَنَامِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَد ذَكَرْتمْ أَنَّ مَن أَفْطَرَ عَامِدًا بِغَيْرِ عُذْرٍ كَانَ فِطْرُهُ مِن الْكَبَائِرِ، وَكَذَلِكَ مَن فَوَّتَ صَلَاةَ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلِ عَامِدًا مِن غَيْرِ عُذْرٍ كَانَ تَفْوِيتُهُ لَهَا مِنَ الْكبَائِرِ، وَأَنَّهَا مَا بَقِيَتْ تُقْبَلُ مِنْهُ عَلَى أَظْهَرِ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ، كَمَن فَوَّتَ الْجُمْعَةَ وَرَمَى الْجِمَارَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمُؤَقَّتَةِ، وَهَذَا قَد أَمَرَهُ بِالْقَضَاءِ
(3)
.
قِيلَ: هَذَا إنَّمَا أَمَرَهُ بِالْقَضَاءِ لِأنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَتَقَيَّأُ لِعُذْرٍ؛ كَالْمَرِيضِ يَتَدَاوَى بِالْقَيْءِ أَو يَتَقَيَّأُ لِأَنَّهُ أَكَلَ مَا فِيهِ شُبْهَةٌ، كَمَا تَقَيَّأ أَبُو بَكْرٍ مِن كَسْبِ الْمُتَكَهِّنِ، وَإذَا كَانَ الْمُتَقَيِّئُ مَعْذُورًا كَانَ مَا فَعَلَهُ جَائِزًا وَصَارَ مِن جُمْلَةِ الْمَرْضَى الَّذِينَ يَقْضُونَ وَلَمْ يَكُن مِن أَهْلِ الْكَبَائِرِ الَّذِينَ أَفْطَرُوا بِغَيْرِ عُذْرٍ.
وَالْمجَامِعُ النَّاسِي فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ:
أَحَدُهُمَا: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفارَةَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْأَكْثَرِينَ.
وَالثَّانِيَةُ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِلَا كَفَّارَةٍ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٌ.
(1)
يعني قول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَفْطَرَ الحَاجِمُ وَالمَحْجُومُ". رواه الترمذي (774)، وصحَّحه.
(2)
أخرجه البخاري (1938).
(3)
يعني: أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أمر من استقاء بالقضاء بقوله: "وَإِن استقاء فَلْيَقْضِ".
وَالثَّالِثَةُ: عَلَيْهِ الْأَمْرَانِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَن أَحْمَد.
وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.
فَإِنَّهُ قَد ثَبَتَ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ مَن فَعَلَ مَحْظُورًا مُخْطِئًا أَو نَاسِيًا لَمْ يُؤَاخِذْهُ اللهُ بِذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَن لَمْ يَفْعَلْهُ، فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ إثْمٌ، وَمَن لَا إثْمَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُن عَاصِيًا، وَلَا مُرْتَكِبًا لِمَا نُهِيَ عَنْهُ، وَحِينَئِذٍ فَيَكونُ قَد فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَلَمْ يَفْعَلْ مَا نُهِيَ عَنْهُ.
وَطَرْدُ هَذَا: أَنَّ الْحَجَّ لَا يَبْطُلُ بِفِعْلِ شَيْءٍ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ لَا نَاسِيًا وَلَا مُخْطِئًا، لَا الْجِمَاعُ وَلَا غَيْرُهُ، وَهُوَ أَظْهَرُ قَوْلَي الشَّافِعِيِّ.
وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ وَالْفِدْيَةُ فَتِلْكَ وَجَبَتْ لِأَنَّهَا بَدَلُ الْمُتْلَفِ، مِن جِنْسِ مَا يَجِبُ ضَمَانُ الْمُتْلَفِ بِمِثْلِهِ، كَمَا لَو أَتْلَفَهُ صَبِيٌّ أَو مَجْنُونٌ أَو نَائِمٌ ضَمِنَهُ بِذَلِكَ، وَجَزَاءُ الصَّيْدِ إذَا وَجَبَ عَلَى النَّاسِي وَالْمُخْطِئِ فَهُوَ مِن هَذَا الْبَابِ، بِمَنْزِلَةِ دِيَةِ الْمَقْتُولِ خَطَأً، وَالْكَفَّارَةِ الْوَاجِبَةِ بِقَتْلِهِ خَطَأً بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا سَائِرُ الْمَحْظُورَاتِ فَلَيْسَتْ مِن هَذَا الْبَابِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَقَصُّ الشَّارِبِ وَالتَّرَفُّهُ الْمُنَافِي لِلتَّفَثِ كَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ.
وَلهَذَا كَانَت فِدْيَتُهَا مِن جِنْسِ فِدْيَةِ الْمَحْظُورَاتِ لَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ الصَّيْدِ الْمَضْمُونِ بِالْبَدَلِ.
فَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي النَّاسِي وَالْمُخْطِئِ إذَا فَعَلَ مَحْظورًا أَلَّا يَضْمَنَ مِن ذَلِكَ إلَّا الصَّيْدَ
(1)
، وَللنَّاسِ فِيهِ أَقْوَالٌ هَذَا أَحَدُهَا وَهوَ قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ.
وَكَذَلِكَ طَرْدُ هَذَا أَنَّ الصَّائِمَ إذَا أَكَلَ أَو شَرِبَ أَو جَامَعَ نَاسِيًا أَو مُخْطِئًا فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ.
(1)
قال ابن عثيمين رحمه الله: "والصحيح أن المعذور بجهل، أو نسيان، أو إكراه، لا يترتَّب على فعله شيء أصلًا، لا في الجماع، ولا في الصيد، ولا في التقليم، ولا في لُبْس المَخِيط، ولا في شيء". اهـ. الشرح الممتع (7/ 200)
فَصْلٌ
وَأَمَّا الْكُحْلُ وَالْحُقْنَةُ وَمَا يُقْطَرُ فِي إحْلِيلِهِ وَمُدَاوَاةُ الْمَأْمُومَةِ وَالْجَائِفَةِ فَهَذَا مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ بِشَيْء مِن ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الصِّيَامَ مِن دِينِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهِ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، فَلَو كَانَت هَذ الْأمُورُ مِمَّا حَرَّمَهَا اللهُ وَرَسُولُهُ فِي الصِّيَامِ وَيفْسُدُ الصَّوْمُ بِهَا لَكَانَ هَذَا مِمَّا يَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ بَيَانُهُ، وَلَو ذَكَرَ ذَلِكَ لَعَلِمَهُ الصَّحَابَةُ وَبَلَّغُوهُ الْأُمَّةَ كَمَا بَلَّغُوا سَائِرَ شَرْعِهِ.
فَإِنَّ الْكُحْلَ لَا يُغَذِّي أَلْبَتَّةَ، وَلَا يُدْخِلُ أَحَدٌ كُحْلًا إلَى جَوْفِهِ لَا مِن أَنْفِهِ وَلَا فَمِهِ.
وَكَذَلِكَ الْحُقْنَةُ لَا تُغَذّي؛ بَل تَسْتَفْرغُ مَا فِي الْبَدَنِ، كَمَا لَو شَمَّ شَيْئًا مِن الْمُسَهِّلَاتِ أَو فَزعَ فَزَعًا أَوْجَبَ اسْتِطْلَاقَ جَوْفِهِ، وَهِيَ لَا تَصِلُ إلَى الْمَعِدَةِ
(1)
.
وَالدَّوَاءُ الَّذِي يَصِلُ إلَى الْمَعِدَةِ فِي مُدَاوَاةِ الْجَائِفَةِ وَالْمَأْمُومَةِ لَا يُشْبِهُ مَا يَصِلُ إلَيْهَا مِن غِذَائِهِ.
فَالصَّائِمُ نُهِيَ عَن الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ التَّقَوِّي. [25/ 219 - 245]
3088 -
الْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ بِالْكُحْلِ وَلَا بِالتَّقْطِيرِ فِي الْإِحْلِيلِ وَلَا بِابْتِلَاعِ مَا لَا يُغَذِّي كَالْحَصَاةِ، وَلَكِنْ يُفْطِرُ بِالسَّعُوطِ
(2)
لِقَوْلِهِ: "وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا"
(3)
. [20/ 528]
(1)
قال في الحاشية: وقوله حقّ، ولكن يُوجد في هذا الزمان حَقْنٌ اَخر، وهو إيصال بعض المواد الغذائية إلى الأمعاء، يُقصد بها تغذيةُ بعض المرضى فَتُفطّر. اهـ.
(2)
هو إدخال الدواء أو غيرِه من الأنف.
(3)
الترمذي (788)، والنسائي (87)، وابن ماجه (407)، وقال الألباني في صحيح أبي داود (142): صحيح.
3089 -
قَالَ أَحْمَد: أَصَحُّ شَيءٍ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ رَافِعٍ، وَذَكَرَ أحَادِيثَ:"أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ"
(1)
: ثُمَّ اخْتَلَفُوا عَلَى أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: يُفْطِرُ الْمَحْجُومُ دُونَ الْحَاجِمِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُفْطِرُ الْمَحْجُومُ الَّذِي يَحْتَجِمُ وَيخْرُجُ مِنْهُ الدَّمُ، وَلَا يُفْطِرُ بِالِافْتِصَادِ وَنَحْوِهِ؛ لِأنَّهُ لَا يُسَمَّى احْتِجَامًا.
وَالرابع
(2)
: وَهُوَ الصَّوَابُ
(3)
وَاخْتَارَهُ أَبُو الْمُظَفَّرِ ابْنُ هُبَيْرَةَ الْوَزِيرُ الْعَالِمُ الْعَادِلُ وَغَيْرُهُ أنَّه يُفْطِرُ بِالْحِجَامَةِ وَالْفِصَادِ
(4)
وَنَحْوِهِمَا، وَذَلِكَ لِأنَّ الْمَعْنَى الْمَوْجُودَ فِي الْحِجَامَةِ مَوْجُودٌ فِي الْفِصَادِ شَرْعًا وَطَبْعًا.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَبِأَيِّ وَجْهٍ أَرَادَ إخْرَاجَ الدَّمِ أَفْطَرَ، كَمَا أنَّه بِأَيِّ وَجْهٍ أخْرَجَ الْقَيْءَ أَفْطَرَ، سَوَاءٌ جَذَبَ الْقَيْءَ بِإِدْخَالِ يَدِهِ، أَو بِشَمِّ مَا يُقَيِّئُهُ، أَو وَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ بَطْنِهِ وَاسْتَخْرَجَ الْقَيْءَ فَتِلْكَ طُرُقٌ لِإِخْرَاجِ الْقَيْءِ، وَهَذِهِ طُرُقٌ لِإِخْرَاجِ الدَّمِ.
وَأَمَّا الْحَاجِمُ فَإِنَّهُ يَجْتَذِبُ الْهَوَاءَ الَّذِي فِي الْقَارُورةِ بِامْتِصَاصِهِ، وَالْهَوَاءُ يَجْتَذِبُ مَا فِيهَا مِنَ الدَّمِ، فَرُبَّمَا صَعِدَ مَعَ الْهَوَاءِ شَيْءٌ مِنَ الدَّمِ وَدَخَلَ فِي حَلْقِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، وَالْحِكْمَةُ إذَا كَانَت خَفِيَّةً أَو مُنْتَشِرَةً عُلِّقَ الْحكْمُ بِالْمَظِنَّةِ، كَمَا
(1)
رواه الترمذي (774)، والنسائي في السنن الكلبرى (3180).
(2)
لم يذكر القول الثالث لأن الفتوى نقلها أحد طلابه بتصرف.
(3)
وهو اختيار العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله كما في الشرح الممتع: (6/ 383)، وقال: وأما مغالاة العامة بحيث إن الإنسان لو استاك وأدمت لثته قالوا: أفطر، ولو حك جلده حتى خرج الدم قالوا: أفطر، ولو قلع ضرسه وخرج الدم قالوا: أفطر، ولو رعف بدون اختياره قالوا: أفطر، فكل هذه مبالغة، فقلع الضرس لا يفطر ولو خرج الدم؛ لأن قالع ضرسه لا يقصد بذلك إخراج الدم، وإنما جاء خروج الدم تبعًا، وكذلك لو حك الإنسان جلده، أو بط الجرح حتى خرجت منه المادة العفنة فكل ذلك لا يضر. اهـ.
(4)
الْفَصْدُ: قَطْعُ الْعِرْقِ حَتَّى يَسِيلَ.
قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله: الفصد: قطع العِرق، والشرط: شق العِرق.
فإن شققته طولًا فهو شرط، وإن شققته عرضًا فهو فصد.
أَنَّ النائِمَ الَّذِي تَخْرُجُ مِنْهُ الرِّيحُ وَلَا يَدْرِي يُؤْمَرُ بِالْوُضُوءِ فَكَذَلِكَ الْحَاجِمُ، يَدْخُلُ شَيءٌ مِن الدَّمِ مَعَ رِيقِهِ إلَى بَطْنِهِ وَهُوَ لَا يَدْرِي.
وَأَمَّا الشَّارِطُ فَلَيْسَ بِحَاجِمٍ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ فِيهِ فَلَا يُفْطِرُ الشَّارِطُ، وَكَذَلِكَ لَو قُدِّرَ حَاجِمٌ لَا يَمُصُّ الْقَارُورَةَ بَل يَمْتَصُّ غَيْرَهَا
(1)
، أَو يَأْخُذُ الدَّمَ بِطَرِيقٍ أُخْرَى لَمْ يُفْطِرْ. [25/ 255 - 258]
3090 -
لا يفطر الصائم بالاكتحال والحقنة، وما يقطر في إحليله، ومداواة المأمومة والجائفة، وهو قول بعض أهل العلم، ويفطر بإخراج الدم بالحجامة وهو مذهب أحمد، وبالفصد والتشريط وهو وجه لنا، أو بإرعاف نفسه وهو قول الأوزاعي، ويفطر الحاجم إن مص القارورة. [المستدرك 3/ 172]
3091 -
لا يفطر بمذي بسبب قبلة أو لمس وتكرار نظر، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وبعض أصحابنا. [المستدرك 3/ 173]
3092 -
وَسُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلٍ أرَادَ أَنْ يُوَاقِعَ زَوْجَتَهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِالنَّهَارِ، فَأَفْطَرَ بِالْأكْلِ قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَ ثُمَّ جَامَعَ، فَهَل عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أَمْ لَا؟
فَأَجَابَ: الْحَمْدُ للهِ، هَذه الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ مَشْهُورَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَجِبُ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِهِمْ؛ كَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ.
وَالثَّانِي: لَا تَجِبُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
ثُمَّ تَنَازَعُوا: هَل يُشْتَرَطُ الْفِطْرُ مِن الصَّوْمِ الصَّحِيحِ؟
فَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ يَشْتَرِطُ ذَلِكَ، فَلَو أَكَلَ ثُمَّ جَامَعَ، أَو أَصْبَحَ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ ثُمَّ جَامَعَ، أَو جَامَعَ وَكَفَّرَ ثُمَّ جَامَعَ: لَمْ يَكُن عَلَيْهِ كَفارَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَطَأْ فِي صَوْمٍ صَحِيحٍ.
(1)
والحجامة في العصر الحديث تكون بآلات تستخرج الدم.
وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَغَيْره يَقُولُ: بَل عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ وَنَحْوِهَا .. ؛ لِأنَّهُ عَاصٍ بِفِطْرِهِ أَوَّلًا فَصَارَ عَاصِيًا مَرَّتَيْنِ فَكَانَت الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ أَوْكَدَ، وَلِأَنَّهُ لَو لَمْ تَجِب الْكَفَّارَةُ عَلَى مِثْل هَذَا لَصَارَ ذَرِيعَةً إلَى أَلَّا يُكَفِّرَ أَحَدٌ، فَأَنَّهُ لَا يَشَاء أَحَدٌ أَنْ يُجَامِعَ فِي رَمَضَانَ إلَّا أَمْكَنَهُ أَنْ يَأْكُلَ ثُمَّ يُجَامِعَ.
فَإِنَّهُ قَد اسْتَقَرَّ فِي الْعُقُولِ وَالأدْيَانِ أَنَّهُ كُلَّمَا عَظُمَ الذَّنْبُ كَانَت الْعُقُوبَةُ أَبْلَغَ.
ثُمَّ الْمُجَامِعُ كَثِيرًا مَا يُفْطِرُ قَبْلَ الْإِيلَاجِ فَتَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ عَنْهُ بِذَلِكَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَهَذَا ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ
(1)
. [25/ 260 - 263]
3093 -
من طلع عليه الفجر وهو مجامع: فالواجب عليه النزع عينًا، ويحرم عليه استدامة الجماع واللبث.
وإنما اختلف في وجوب القضاء والكفارة عليه على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره:
أحدها: عليه القضاء والكفارة.
والثاني: لا شيء عليه، وهذا اختيار شيخنا. [المستدرك 3/ 173]
3094 -
من جامع جاهلًا بالرفث فلا قضاء عليه وهو إحدى الروايتين عن أحمد. [المستدرك 3/ 173]
3095 -
إذا أكره الرجل زوجته على الجماع في رمضان يحمل عنها ما يجب عليها، وهل تجب كفارة الجماع في رمضان لإفساد الصوم الصحيح، أو لحرمة الزمان؟ فيه قولان: الصواب الثاني. [المستدرك 3/ 173]
3096 -
نقل طائفة عن طائفة من السلف: أن الغيبة والنميمة ونحوهما تفطر الصائم وذكر وجهًا في مذهب أحمد.
(1)
هذا ظاهر بأن الشيخ يرجح قول الجمهور.
وتحقيق الأمر في ذلك: أن الله تعالى أمر بالصيام لأجل التقوى، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"
(1)
فإذا لم تحصل له التقوى لم يحصل له مقصود الصوم فينقص من أجر الصوم بحسب ذلك.
والأعمال الصالحة لها مقصودان: حصول الثواب، واندفاع العقاب.
فإذا فعلها مع المنهيات من الغيبة والنميمة وأكل الحرام وغيره فاته الثواب.
فقول الأئمة: لا يفطر؛ أي: لا يعاقب عقاب المعلن بالفطر.
ومن قال: إنه يفطر بمعنى أنه لم يحصل له مقصود الصوم أو قد يذهب بأجر الصوم فقوله موافق لقول الأئمة.
ومن قال: إنه يفطر بمعنى أنه يعاقب على الترك فهو مخالف لأقوالهم. [المستدرك 3/ 173 - 174]
* * *
(باب ما يكره ويستحب وحكم القضاء)
3097 -
إذا ذاق طعامًا ولفظه أو وضع في فيه عسلًا ومجَّه فلا بأس به للحاجة؛ كالمضمضة والاستنشاق. [المستدرك 3/ 174]
3098 -
شم الروائح الطيبة لا بأس به للصائم. [المستدرك 3/ 174]
3099 -
ذَوْقُ الطَّعَامِ يُكْرَهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ لَكِنْ لَا يُفَطِّرُهُ. [25/ 266]
3100 -
إذا شُتِم الصائم استحب له أن يجهر بقوله: "إني صائم"
(2)
، وسواء كان الصوم فرضًا أو نفلًا، وهو أحد الوجوه في مذهب أحمد. [المستدرك 3/ 174]
(1)
رواه البخاري (1903)، ومسلم (2362).
(2)
رواه البخاري (1894)، ومسلم (1151).
3101 -
إن تبرع إنسان بالصوم عمن لم يطقه لكبر ونحوه، أو عن ميت وهما معسران: توجه جوازه؛ لأنه أقرب إلى المماثلة من المال، وحكى القاضي في صوم النذر في حياة الناذر نحو ذلك. [المستدرك 3/ 174 - 175]
3102 -
من مات وعليه صوم نذر أجزأ الصوم عنه بلا كفارة. [المستدرك 3/ 175]
3103 -
جَمْعُ النَّاسِ لِلطَّعَامِ فِي الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ: سُنَّةٌ، وَهُوَ مِن شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الَّتِي سَنَّهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِلْمُسْلِمِينَ، وَإِعَانَة الْفُقَرَاءِ بِالْإِطْعَامِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ هُوَ مِن سُنَنِ الْإِسْلَامِ. [25/ 298]
3104 -
إذا شرعت المرأة في قضاء رمضان وجب عليها إتمامه، ولم يكن لزوجها تفطيرها، وإن أمرها أن تؤخر القضاء قبل الشروع فيه كان حسنًا؛ لحديث عائشة. [المستدرك 3/ 175]
3105 -
عند شيخنا: لا يقضي متعمد بلا عذر صومًا ولا صلاة، قال: ولا يصح منه، وأنه ليس في الأدلة ما يخالف هذا بل يوافقه، وضعف أمره عليه السلام المجامع بالقضاء لعدول البخاري ومسلم عنه. [المستدرك 3/ 169]
3106 -
إنْ كَانَت الْحَامِلُ تَخَافُ عَلَى جَنِينِهَا فَإِنَّهَا تُفْطِرُ وَتَقْضِي عَن كُلِّ يَوْمٍ يَوْمًا وَتُطْعِمُ عَن كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا. [25/ 218]
* * *
(باب صوم التطوع)
3107 -
إذا نوى صيام التطوع بعد الزوال ففي ثوابه روايتان عن أحمد. والأظهر الثواب. [المستدرك 3/ 172]
3108 -
يستحب صيام ثلاثة أيام من كل شهر للأخبار الصحيحة وفي بعضها "هو كصوم الدهر"
(1)
، والمراد بذلك: أن من فعل هذا حصل له أجر صيام الدهر من غير حصول مفسدة.
(1)
رواه البخاري (3419).
وصوم الدهر: الصواب قول من جعله تركًا للأولى أو كرهه، فعلى الأول صوم وفطر يوم أفضل منه خلافًا لطائفة من الْعُبَّادِ، ذكره شيخنا. [المستدرك 3/ 175]
3109 -
سئل صلى الله عليه وسلم: أي الصيام أفضل؟ فقال: "شهر الله الذي تدعونه المحرم"
(1)
.
قال شيخنا: ويحتمل أن يريد بشهر الله المحرم أول العام، وأن يريد به الأشهر الحرم.
ولا يكره إفراد العاشر
(2)
بالصوم، وقد أمر أحمد بصومهما، ووافق شيخنا المذهب أنه لا يكره، وقال: مقتضى كلام أحمد يكره، وهو قول ابن عباس، وعن أحمد: وجب ثم نسخ، اختاره شيخنا. [المستدرك 3/ 175 - 176]
3110 -
تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي سَرْدِ الصَّوْمِ: إذَا أَفْطَرَ يَوْمَيِ الْعِيدَيْنِ وَأيَّامَ مِنًى:
فَاسْتَحَبَّ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْعُبَّادِ فَرَأَوْهُ أفْضَلَ مِن صَوْمِ يَوْمٍ وَفِطْرِ يَوْمٍ.
وَطَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يَرَوْهُ أفْضَلَ؛ بَل جَعَلُوهُ سَائِغًا بِلَا كَرَاهَةٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: -وَهُوَ الصَّوَابُ- قَوْلُ مَن جَعَلَ ذَلِكَ تَرْكًا لِلْأَوْلَى أو كَرِهَ ذَلِكَ؛ فَإِنَ الْأحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَنَهْيِهِ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو عَن ذَلِكَ وَقَوْلِهِ: "مَن صَامَ الدَّهْرَ فَلَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ"
(3)
وَغَيرَهَا صَرِيحَةٌ فِي أنَّ هَذَا لَيسَ بِمَشْرُوعِ.
وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ اسْتِغْرَاقُ الزَّمَانِ بِالصَّوْمِ عِبَادَةً، لَوْلَا مَا فِي ذَلِكَ مِن الْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ، وَقَد بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الرَّاجِحَ وَهُوَ إضَاعَة مَا هُوَ أوْلَى مِن
(1)
رواه ابن ماجه (1742)، والدارمي (1798)، وأحمد (8026)، وصحَّحه الألباني في صحيح ابن ماجه.
(2)
من محرم.
(3)
أخرجه مسلم (1162).
الصَّوْمِ، وَحُصُولُ الْمَفْسَدَةِ رَاجِحَةٌ، فَيَكُونُ قَد فَوَّتَ مَصْلَحَةً رَاجِحَةً وَاجِبَةً أَو مُسْتَحَبَّةً، مَعَ حُصُولِ مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ عَلَى مَصْلَحَةِ الصَّوْمِ.
فَأَمَّا سَرْدُ الصَّوْمِ بَعْضَ الْعَامِ فَهَذَا قَد كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ، قَد كَانَ يَصُومُ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ لَا يُفْطِرُ، ويُفْطِرُ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ لَا يَصُومُ.
وَكَذَلِكَ قِيَامُ بَعْضِ اللَّيَالِي جَمِيعِهَا؛ كَالْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِن رَمَضَانَ، أَو قِيَامِ غَيْرِهَا أَحْيَانًا، فَهَذَا مِمَّا جَاءَت بِهِ السُّنَنُ، وَقَد كَانَ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَهُ. [22/ 301 - 304]
3111 -
يكره موسم خاص: كالرغائب، وليلة النصف من شعبان، وهو بدعة. [المستدرك 3/ 176]
3112 -
ما يروى في الكحل يوم عاشوراء أو الخضاب، أو الاغتسال، أو المصافحة أو مسح رأس اليتيم أو أكل الحبوب، أو الذبح، أو نحو ذلك: لا يستحب منه شيء عندأئمة الدين؛ بل ينهى عنه.
وما يفعله الرافضة في يوم عاشوراء، من النياحة والندب والمأتم وسب الصحابة رضي الله عنهم هو أيضًا من أعظم البدع والمنكرات، وكل بدعة ضلالة: هذا وهذا، وإن كان بعض الباع والمنكرات أغلظ من بعض. [المستدرك 3/ 176]
3113 -
إن غُمَّ هلال ذي الحجة أو شهد برؤيته من لا تقبل شهادته إما لانفراده بالرؤية أو لكونه ممن لا يجوز قبول قوله ونحو ذلك واستمر الحال على إكمال ذي القعدة فصوم يوم التاسع الذي هو يوم عرفة من هذا الشهر المشكوك فيه جائز بلا نزاع.
وأما من شهد بهلال ذي الحجة من يثبت الشهر به لكن لم يقبله الحاكم، إما لعذر ظاهر، وإما لتقصير في أمره: فقال أبو العباس: هذه الصورة تخرج على الخلاف المشهور في مسألة المنفرد بهلال شوال: هل يفطر عملًا برؤيته، أم لا يفطر إلا مع الناس؟ في ذلك قولان مشهوران، فعلى قول من يقول:
لا يفطر المنفرد برؤية هلال شوال بل يصوم ولا يفطر إلا مع الناس فإنه يقول: لا يستحب صوم يوم عرفة للشاهد الذي لم تقبل شهادته بهلال ذي الحجة، ومن قال في الشاهد بهلال شوال يفطر سرًّا قال هنا إنه يفطر ولا يصوم لأنه يوم عيد في حقه، ولكن لا يضحي ولا يقف بعرفة بذلك. [المستدرك 3/ 176 - 177]
3114 -
ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ"
(1)
عَن أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: أَفْطَرْنَا يَؤمًا مِن رَمَضَانَ فِي غَيْمٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ طَلَعَت الشَّمْس.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شَيْئَيْنِ:
أ- عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ مَعَ الْغَيْمِ التَّأْخِيرُ إلَى أنْ يَتَيَقَّنَ الْغُرُوبَ؛ فَإِنَّهُم لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُم بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَالصَّحَابَةُ مَعَ نَبِيِّهِمْ أَعْلَمُ وَأَطْوَعُ للهِ وَلرَسُولِهِ مِمَن جَاءَ بَعْدَهُمْ.
ب- لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَو أَمَرَهُم بِالْقَضَاءِ لَشَاعَ ذَلِكَ كَمَا نُقِلَ فِطْرُهُمْ، فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى إنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُم بِهِ. [25/ 231]
3115 -
قال ابن القيم رحمه الله: وقد ذُكر لفطره بعرفة عدة حكم، منها: أنه أقوى على الدعاء.
ومنها: أن الفطر في السفر أفضل في فرض الصوم فكيف بنفله.
ومنها: أن ذلك اليوم كان يوم جمعة وقد نهى عن إفراده بالصوم فأحب أن يرى الناس فطره فيه تأكيدًا لنهيه عن تخصيصه بالصوم وإن كان صومه لكونه يوم عرفة لا يوم جمعة.
وكان شيخنا رضي الله عنه يسلك مسلكًا آخر، وهو أنه يوم عيد لأهل عرفة لاجتماعهم فيه كاجتماع الناس يوم العيد، وهذا الاجتماع يختص بمن بعرفة
(1)
(1959).
دون أهل الآفاق، قال وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا في الحديث الذي رواه أهل السنن:"يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام"
(1)
، ومعلوم أن كونه عيدًا هو لأهل ذلك المجمع لاجتماعهم فيه. [المستدرك 3/ 177]
3116 -
من صام رجب معتقدًا أنه أفضل من غيره من الأشهر أثم وعزر، وعليه يحمل فعل عمر. [المستدرك 3/ 177]
3117 -
إفراد رجب بالصوم مكروه، نص على ذلك الأئمة كالشافعي وأحمد وغيرهما، وسائر الأحاديث التي وردت في فضل الصوم فيه موضوعة، لكن لو صام أكثره فلا بأس.
فلو نذر صومه قصدًا فهو مثل من نذر صوم يوم الجمعة وغيره من العبادات المكروهة، والواجب أن يصوم شهرًا آخر، وهل عليه كفارة يمين؟ على قولين لنا ولغيرنا، وإنما يلزم الوفاء بما كان طاعة بدون النذر، والنذر في نفسه ليس بطاعة، ولكن يجعل الطاعة واجبة، والصلاة في وقت النهي منهي عنها فلا تصير بالنذر طاعة واجبة. [المستدرك 3/ 178]
3118 -
لا يكره إفراد يوم السبت بالصوم.
قال الأثرم: وحجة أبي عبد الله في الرخصة في صوم يوم السبت: أن الأحاديث كلها مخالفة لحديث عبد الله بن بشر، منها حديث أم سلمة يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم السبت والأحد، ويقول:"هما عيدان للمشركين فأنا أحب أن أخالفهما"
(2)
رواه أحمد والنسائي وإسناده جيد، واختار شيخنا أنه لا يكره وأنه قول أكثر العلماء، وأنه الذي فهمه الأثرم من روايته، وأنه لو أريد إفراده لما دخل الصوم المفروض ليستثنى فالحديث شاذ أو منسوخ. [المستدرك 3/ 178]
(1)
رواه أبو داود (2419)، والترمذي (773)، والنسائي (3004)، وأحمد (17379)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.
(2)
ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1099).
3119 -
لا يجوز تخصيص صوم أعياد المشركين، ولا صومِ يوم الجمعة ولا قيامِ ليلتها. [المستدرك 3/ 179]
3120 -
ليلة القدر أفضل الليالي. [المستدرك 3/ 179]
3121 -
لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِن شَهْرِ رَمَضَانَ.
وَتَكُونُ فِي الْوِتْرِ مِنْهَا، لَكِنَّ الْوِتْرَ يَكونُ بِاعْتِبَارِ الْمَاضِي، فَتُطْلَبُ لَيْلَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ، وَلَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَلَيْلَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَلَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَلَيْلَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ.
ويكُونُ بِاعْتِبَارِ مَا بَقِيَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"لِتَاسِعَةٍ تَبْقَى، لِسَابِعَةٍ تَبْقَى، لِخَامِسَةٍ تبْقَى، لِثَالِثَةٍ تبْقَى"
(1)
.
فَعَلَى هَذَا: إذَا كَانَ الشَّهْرُ ثَلَاثِينَ يَكُونُ ذَلِكَ لَيَالِيَ الْأشْفَاعِ، وَتَكُونُ الِاثْنَيْنِ وَالْعِشْرِينَ تَاسِعَةً تَبْقَى، وَلَيْلَةُ أرْبَعٍ وَعِشْرِينَ سَابِعَةً تَبْقَى، وَهَكَذَا فَسَّرَهُ أَبُو سَعِيدٍ الخدري فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.
وَإِن كَانَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ كَانَ التَّارِيخُ بِالْبَاقِي كَالتَّارِيخِ الْمَاضِي.
وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّاهَا الْمُؤْمِنُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ جَمِيعِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"تَحَرَّوْهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ"، وَتَكون فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ أَكْثَرَ، وَأَكْثَرُ مَا تَكُونُ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ. [25/ 284 - 285]
3122 -
إنَّ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ أَفْضَلُ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَيْلَةَ الْقَدْرِ أَفْضَلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأُمَّةِ. [25/ 286]
3123 -
أَيَّامُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ أَفْضَلُ مِن أَيَّامِ الْعَشْرِ مِن رَمَضَانَ، وَاللَّيَالِي الْعَشْر الْأَوَاخِر مِن رَمَضَانَ أَفْضَلُ مِن لَيَالِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ. [25/ 287]
3124 -
الأوتار هي باعتبار ما مضى، أو باعتبار ما بقي؟ فليلة إحدى
(1)
رواه البخاري (2021).
وعشرين وثلاثة، وخمسة وسبعة وتسعة باعتبار ما مضى، وباعتبار ما بقي لتسع بقين وسبع بقين ونحو ذلك فإذا كان الشهر ناقصًا فقيل لتسع كانت ليلة إحدى وعشرين فيكون وتر المستقبل والماضي، وإن كان الشهر كاملًا كانت الأوتار هي الأشفاع باعتبار الماضي كما فسره أبو سعيد رضي الله عنه وغيره.
ولهذا كانت ليلة القدر كثيرًا ما تكون لسبع مضين، ولسبع بقين؛ فتكون ليلة أربع وعشرين، وهي التي روي أن القرآن نزل فيها.
فالتحقيق أنها تكون في العشر الأواخر في الأوتار، لكن بالاعتبارين.
فأما ليلة سبع عشرة من رمضان فلا ريب أنها ليلة بدر يومها هو: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال: 41]، ولم يجئ حديث يعتمد عليه أنها ليلة القدر.
والصحيح أنها في العشر الأواخر تنتقل، فروى البخاري
(1)
: "ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان".
3125 -
إِذَا كَانَ اللهُ تَعَالَى قَد أَمَرَ بِالصَّبْرِ وَالِاحْتِسَابِ عِنْدَ حَدَثَانِ الْعَهْدِ بِالْمُصِيبَةِ، فَكَيْفَ مَعَ طُولِ الزَّمَانِ، فَكَانَ مَا زَيَّنَهُ الشَّيْطَانُ لِأَهْلِ الضَّلَالِ وَالْغَيِّ مِن اتِّخَاذِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ مَأْتَمًا، وَمَا يَصْنَعُونَ فِيهِ مِن النَّدْبِ وَالنَّيَاحَةِ وَإنْشَادِ قَصَائِدِ الْحُزْنِ، وَرِوَايَةِ الْأخْبَارِ الَّتِي فِيهَا كَذِبٌ كَثِيرٌ، وَالصِّدْقُ فِيهَا. لَيْسَ فِيهِ إلا تَجْدِيدُ الْحُزْنِ وَالتَّعَصُّبُ وَإِثَارَةُ الشَّحْنَاءِ وَالْحَرْبِ، وَإِلْقَاءُ الْفِتَنِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَالتَّوَسُّلُ بِذَلِكَ إلَى سَبِّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلينَ، وَكَثْرَةِ الْكَذِبِ وَالْفِتَنِ فِي الدَّنْيَا.
وَلَمْ يَعْرِفْ طَوَائِفُ الْإِسْلَامِ أَكْثَرَ كَذِبًا وَفِتَنًا وَمُعَاوَنَةً لِلْكُفَّارِ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ مِن هَذِهِ الطَّائِفَة الضَّالَّةِ الْغَاوِيةِ، فَإِنَّهُم شَرٌّ مِن الْخَوَارجِ الْمَارِقِينَ.
(1)
(2020).
وَأُولَئِكَ قَالَ فِيهِم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلَامِ وَيدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ"
(1)
، وَهَؤُلَاءِ يُعَاوِنُونَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأُمَّتِهِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا أَعَانُوا الْمُشْرِكِينَ مِن التُّرْكِ وَالتَّتَارِ عَلَى مَا فَعَلُوهُ بِبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا بِأَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ وَمَعْدِنِ الرِّسَالَةِ وَلَدِ الْعَبَّاسِ وَغَيْرِهِمْ مِن أَهْلِ الْبَيْتِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَخَرَابِ الدِّيَارِ.
وَشَرُّ هَؤُلَاءِ وَضَرَرُهُم عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا يُحْصِيهِ الرَّجُلُ الْفَصِيحُ فِي الْكَلَامِ.
فَعَارَضَ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ إمَّا مِنَ النَّوَاصِبِ الْمُتَعَصِّبِينَ عَلَى الْحُسَيْنِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، وَإِمَّا مِنَ الْجُهَّالِ الَّذِينَ قَابَلُوا الْفَاسِدَ بِالْفَاسِدِ، وَالْكَذِبَ بِالْكَذِبِ، وَالشَّرَّ بِالشَّرِّ، وَالْبِدْعَةَ بِالْبِدْعَةِ، فَوَضَعُوا الْآثَارَ فِي شَعَائِرِ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ كَالِاكْتِحَالِ وَالِاخْتِضَابِ وَتَوْسِيعِ النَّفَقَاتِ عَلَى الْعِيَالِ وَطَبْخِ الْأَطْعِمَةِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْعَادَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُفْعَلُ فِي الْأَعْيَادِ وَالْمَوَاسِمِ، فَصَارَ هَؤُلَاءِ يَتَّخِذونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ مَوْسِمًا كَمَوَاسِمِ الْأَعْيَادِ وَالْأَفْرَاحِ، وَأُولَئِكَ يَتَّخِذُونَهُ مَأْتَمًا يُقِيمُونَ فِيهِ الْأَحْزَانَ وَالْأَتْرَاحَ، وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ مُخْطِئَةٌ خَارِجَةٌ عَن السُّنَّةِ، وَإِن كَانَ أُولَئِكَ أَسْوَأَ قَصْدًا وَأَعْظَمَ جَهْلًا وَأَظْهَرَ ظُلْمًا، لَكِنَّ اللهَ أَمَرَ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ.
وَلَمْ يَسُنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ شَيْئًا مِن هَذِهِ الْأُمُورِ، لَا شَعَائِرِ الْحُزْنِ وَالتَّرَحِ، وَلَا شَعَائِرِ السُّرُورِ وَالْفَرَحِ. [25/ 308 - 310]
* * *
(باب الاعتكاف وأحكام المساجد)
3126 -
من نذر الاعتكاف في مسجد غير المساجد الثلاثة تعين ما امتاز على غيره بمزية شرعية؛ كقدم، وكثرة جمع. [المستدرك 3/ 180]
(1)
أخرجه البخاري (7432)، ومسلم (1064).
3127 -
"اعتكف صلى الله عليه وسلم العشر"
(1)
يدخل فيه الليل. [المستدرك 3/ 181]
3128 -
لم ير أبو العباس لمن قصد المسجد للصلاة، أو غيرها أن ينوي الاعتكاف مدة لبثه. [المستدرك 3/ 181]
3129 -
كُلُّ مَن صَامَ صَوْمًا مَشْرُوعًا وَأَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ مِن صِيَامِهِ: كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا بِلَا ريبٍ. [25/ 291 - 292]
3130 -
حكى الشيخ تقي الدين رحمه الله عن الجمهور استحباب المجاورة بمكة، قال: قالوا: ولأن المجاورة بها من تحصيل العبادات وتضعيفها ما لا يكون في بلد آخر، ولأن الصلاة فيها تتضاعف هي وغيرها من الأعمال. [المستدرك 3/ 181]
* * *
(أحكام المساجد)
3131 -
ينشأ مسجد إلى جنب آخر إذا كان محتاجًا إليه، ولم يقصد الضرر؛ فإن قصد الضرر أو لا حاجة، فلا ينشأ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، ويجب هدمه، وقاله أبو العباس فيما بُني بجوار جامع بني أمية. [المستدرك 3/ 181]
3132 -
ليس له البول في المسجد ولو في وعاء، وقال في موضع آخر في البول حول البركة في المسجد: هذا يشبه البول في قارورة في المسجد، ومنهم من نهى عنه، ومنهم من رخص فيه للحاجة، فأما اتخاذه مبالًا فلا. [المستدرك 3/ 181]
3133 -
النهي عن قربان المسجد لمن أكل الثوم ونحوه عام في كل مسجد عند عامة العلماء. [المستدرك 3/ 181]
(1)
رواه البخاري (813)، ومسلم (1167).
3134 -
المعاصي في الأيام المعظمة والأمكنة المعظمة تغلظ معصيتها وعقابها بقدر فضيلة الزمان والمكان. [المستدرك 3/ 182]
3135 -
منع شيخنا اتخاذه طريقًا، قال: والاتخاذ والاستئجار كبيع وشراء وقعود صانع وفاعل فيه لمن يكتريه كبضاعة لمشتر: لا يجوز. [المستدرك 3/ 182]
3136 -
يجوز تعليم القرآن في المسجد إذا لم يكن فيه ضرر على المسجد وأهله؛ بل يستحب
(1)
. [المستدرك 3/ 182]
3137 -
السُّنَّة في المسجد: أن من سبق إلى بقعة لعمل جائز فهو أحق به حتى يقوم منه، لكن المصلون أحق بالسواري. [المستدرك 3/ 182]
3138 -
يجوز نصب خيمة وسترة لمن يعتكف، وكذلك لو أقام الرجل مدة إقامة مشروعة، كما أذن صلى الله عليه وسلم لوفد ثقيف أن ينزلوا بالمسجد ليكون أرق لقلوبهم، وأقرب لدخول الإيمان فيها، وكما مرَّض سعدًا فيه ليكون أسهل لعيادته، وكالمرأة التي كانت تقم المسجد كان لها خص فيه. [المستدرك 3/ 182]
* * *
(1)
وعلى هذا: إذا كان يقع من الصِّبْيَانِ الذين يقرؤون القرآن أذى على مَن في المسجد، وخاصةً المصلين: فالواجب الأخذ على أيديهم، وتربيتهم، على تعظيم بيوت الله، وتعظيم شعائره، وذلك بأن يتعاون امام المسجد ومعلمو القرآن وأهل الحي.
كتاب الحج
3139 -
الْحَجُّ مَبْنَاهُ عَلَى الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ للهِ، وَلهَذَا خُصَّ بِاسْمِ النُّسُكِ، و"النُّسُكُ" فِي اللُّغَةِ الْعِبَادَة. [17/ 483]
3140 -
البيت زاده الله تشريفًا وتعظيمًا ومهابة وبرًّا له الشرف من وجوه كثيرة:
أ- منها: نفس البقعة شرفها الله على غيرها، كما شرف في بقية الأنواع بعضَ أشخاصها، وكما خص بعض الناس بنوع من الفضل.
ب- ومنها: أن الله بوأه لخليله إبراهيم خير البرية، فليس بعد محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم الذي بناه ودعا الناس إليه.
ت- ومنها: أنه جُعل على الناس حج البيت، حتى حجه الأنبياء كموسى ويونس وغيرهما.
ج- وفيه آيات كثيرة: مثل مقام إبراهيم، ومثل الأمان الذي جعله للناس والطير والوحش.
ومثل إهلاك الجبابرة الذين قصدوا انتهاكه، إلى غير ذلك من العلامات والدلالات على حرمته وعظمته.
د- {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] فلا يُقتل الجاني فيه عند أحمد وأبي حنيفة، وكان الكفار يعظمونه حتى ليلقى الرجل قاتل أبيه فلا يقتله.
والإسلام زاده حرمة. [المستدرك 3/ 182]
3141 -
النَّظَرُ إلَى الْبَيْتِ عِبَادَةٌ
(1)
. [26/ 213]
3142 -
دُخُولُ الْكَعْبَةِ لَيْسَ بِفَرْضٍ وَلَا سُنَّةٍ مُؤَكَّدَةٍ بَل دُخُولُهَا حَسَنٌ. [26/ 144]
3143 -
مَن أَخَلَّ بِرُكْنِ الْحَجِّ أَو فَعَل [ما يُفسِده]
(2)
فَحَجُّهُ فَاسِدٌ لَا يَسْقُطُ بِهِ فَرْضٌ؛ بَل عَلَيْهِ إعَادَتُهُ، مَعَ أَنَّهُ قَد يُتَنَازَعُ في إثَابَتِهِ عَلَى مَا فَعَلَهُ وَإِن لَمْ يَسْقُطْ بِهِ الْفَرْضُ، وَالْأَشْبَة أَنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهِ. [12/ 473]
3144 -
الْعُمْرَةُ فِي وُجُوبِهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُمَا وُجُوبُهَا، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَا تَجِبُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَرْجَحُ؛ فَإِنَّ اللهَ إنَّمَا أَوْجَبَ الْحَجَّ بِقَوْلِهِ:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97]، لَمْ يُوجِبْ الْعُمْرَةَ وَإِنَّمَا أَوْجَبَ إتْمَامَهُمَا؛ فَأَوْجَبَ إتْمَامَهُمَا لِمَن شَرَعَ فِيهِمَا، وَفِي الِابْتِدَاءِ إنَّمَا أَوْجَبَ الْحَجَّ، وَهَكذَا سَائِرُ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ لَيْسَ فِيهَا إلَّا إيجَابُ الْحَجِّ
(3)
. [26/ 5، 197]
(1)
لم يصح حديث في فضل النظر إلى الكعبة، وورد ذلك عن بعض الصحابة والسلف، وفي كثير مما روي عنهم ضعفٌ.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "ومن العجيب أن الذين قالوا: ينظر إلى الكعبة -أي: في الصلاة بدلًا من النظر إلى موضع السجود- علَّل بعضهم ذلك بأن النظر إلى الكعبة عبادة، وهذا التعليل يحتاج إلى دليل، فمن أين لنا أن النظر إلى الكعبة عبادة؟ لأن إثبات أي عبادة لا أصل لها من الشرع فهو بدعة". اهـ. الشرح الممتع (3/ 41).
(2)
في الأصل: (يُفسِده)، وفي النسخة القديمة للفتاوى:(مُفْسِدِه)، وفي نسخة:(مُفْسِدِ)، ولعل المثبت هو الصواب؛ ليستقيم المعنى.
(3)
وقال الشيخ في موضع آخر: لَمْ يَكن الْحَجُّ وَاجِبًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} هَذَا هُوَ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ: أَنَّهُ يُفِيدُ إيجَابَهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فَقِيلَ: إنَّهُ يُفِيدُ إيجَابَهُمَا ابْتِدَاءً وإِتْمَامَهُمَا بَعْدَ الشُّرُوعِ. وَقِيلَ: إنَّمَا يُفِيدُ وُجُوبَ إتْمَامِهِمَا بَعْدَ الشُّرُوعِ لَا إيجَابَهُمَا ابْتِدَاءً، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ بِإِجْمَاع النَّاسِ بَعْدَ شُرُوعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْعُمْرَةِ -عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ- لَمَّا صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ، وَأُبِيحُ فِيهَا اَلتَّحَلُّلُ لِلْمُحْصَرِ، فَحَلَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ لَمَّا صَدَّهُم=
3145 -
طَوَافُ الْوَدَاعِ لَيْسَ بِرُكْن بَل هُوَ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ هُوَ مِن تَمَامِ الْحَجِّ، وَلَكِنْ كُلُّ مَن خَرَجَ مِن مَكَّةَ عَلَيْهِ أَنْ يُوَدع، وَلهَذَا مَن أقَامَ بِمَكَّةَ لَا يُوَدِّعُ عَلَى الصَّحِيحِ فَوُجُوبُهُ لِيَكُونَ آخِرُ عَهْدِ الْخَارجِ بِالْبَيْتِ كَمَا وَجَبَ الدُّخُولُ بِالْإِحْرَامِ فِي أَحَدِ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ لِسَبَب عَارِضٍ، لَا كَوْنِ ذَلِكَ وَاجِبًا بِالْإِسْلَامِ كَوُجُوبِ الْحَجِّ.
وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ الْمُقِيمِينَ بِمَكَّةَ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَمِرُونَ بِمَكَّةَ، لَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَلَى عَهْدِ خُلَفَائِهِ؛ بَل لَمْ يَعْتَمِرْ أَحَدٌ عُمْرَةً بِمَكَّةَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا عَائِشَةَ وَحْدَهَا لِسَبَبٍ عَارِضٍ. [26/ 4]
3146 -
لَمْ يَعْتَمِرْ أَحَدٌ مِن الصَّحَابَةِ عَلَى عَهْدِ النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا قَبْلَ الْفتْحِ وَلَا بَعْدَهُ عُمْرَةً مِن مَكَّةَ إلَّا عَائِشَةُ؛ فَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا تَوَاتَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ.
وَلَمْ يُسَافِرْ فِي رَمَضَانَ إلَى مَكَّةَ إلَّا غَزْوَةَ الْفَتْحِ. [24/ 148 - 150]
3147 -
أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ فَرْضَ الْحَجِّ كَانَ مُتَأَخرًا، وَمَن قَالَ: إنَّهُ فُرِضَ سَنَةَ سِتٍّ فَإِنَّهُ احْتَجَّ بآيَةِ الْإِتْمَامِ وَهُوَ غَلَطٌ، فَإِنَّ الْآيَةَ إنَّمَا أَمَرَ فِيهَا بِإِتْمَامِهِمَا لِمَن شَرَعَ فِيهِمَا، لَمْ يَأْمُرْ فِيهَا بِابْتِدَاءِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. [26/ 7]
3148 -
اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ يَلْزَمَانِ بِالْمَشْرُوعِ فَيَجِبُ إتْمَامُهُمَا، وَتَنَازَعُوا فِي الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالِاعْتِكَافِ. [26/ 8]
3149 -
وَسُئِلَ رحمه الله
(1)
:
مَاذَا يَقُولُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي رَجُلٍ
…
آتاهُ ذُو الْعَرْشِ مَالًا حَجَّ وَاعْتَمَرَا
فَهَزَّهُ الشَّوْقُ نَحْو الْمُصْطَفَى طَرَبًا
…
أَتَرَوْنَ الْحَجَّ أَفْضَلَ أَمْ إيثَارَهُ الفُقرا
= المُشْرِكُونَ وَرَجَعُوا، وَالحَجُّ وَالْعُمْرَةُ يَجِبُ عَلَى الشَّارعِ فِيهِمَا إتْمَامُهُمَا بِاتِّفَاقِ الْأئِمَّةِ. اهـ. (27/ 264 - 265)
(1)
سأله عن الأفضل: التصدق بالمال أم حج التطوع؟ فأجابه الشيخ بأن التطوع بالحج أفضل من التصدق.
أَمْ حَجَّةً عَن أَبِيهِ ذَاكَ أَفْضَلُ أَمْ
…
مَاذَا الَّذِي يَا سَادَتِي ظَهَرَا
فَأَفْتُوا مُحِبًّا لَكُمْ فديتكمو
…
وَذِكْرُكُمْ دَأَبَهُ إنْ غَابَ أَو حَضَرَا
فَأَجَابَ رضي الله عنه:
نَقولُ فِيهِ بِأَنَّ الْحَجَّ أَفْضَلُ مِن
…
فِعْل التَّصَدُّقِ وَالْإِعْطَاءِ للفقرا
وَالْحَجُّ عَن وَالِدَيْهِ فِيهِ بِرُّهُمَا
…
وَالْأُمُّ أَسْبَقُ فِي الْبِرِّ الَّذِي ذَكَرَا
لَكِنْ إذَا الْفَرْضُ خَصَّ الْأَبَ كَانَ إذًا
…
هُوَ الْمُقَدَّمَ فِيمَا يَمْنَعُ الضَّرَرَا
كَمَا إذَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَى صِلَةٍ
…
وَأُمُّهُ قَد كَفَاهَا مَن بَرَا الْبَشَرَا
هَذَا جَوَابُك يَا هَذَا مُوَازَنَةً
…
وَلَيْسَ مُفْتِيك مَعْدُودًا مِن الشُّعرا [26/ 10 - 11]
3150 -
وَسُئِلَ: هَل يَجُوزُ أَنْ تَحُجَّ الْمَرْأَةُ بِلَا مَحْرَمٍ؟
فَأَجَابَ: إنْ كَانَت مِن الْقَوَاعِدِ اللَّاتِي لَمْ يَحِضْنَ وَقَد يَئِسَتْ مِن النِّكَاحِ وَلَا مَحْرَمَ لَهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِي أَحَدِ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ أَنْ تَحُجَّ مَعَ مَن تَأْمَنُهُ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمَد وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. [26/ 13]
3151 -
فَصْلٌ: في الْحَجِّ عَن الْمَيِّتِ أَو الْمَعْضُوبِ
(1)
بِمَال يَأْخُذُهُ:
أ- إمَّا نَفَقَةً فَإِنَّهُ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ.
ب- أَو بِالْإِجَارَةِ أَو بِالْجَعَالَةِ عَلَى نِزَاعٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ.
وَالْمَنْصُوصُ عَن أَحْمَد أنَّه قَالَ: لَا أَعْرِفُ فِي السَّلَفِ مَن كَانَ يَعْمَلُ هَذَا وَعَدَّهُ بِدْعَةً وَكَرِهَهُ.
وَلَمْ يَكْرَهْ إلَّا الْإِجَارَةَ وَالْجَعَالَةَ.
قُلْت: حَقِيقَةُ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْحَاجَّ يسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ أَحَدَ شَيْئَيْنِ:
(1)
أي: الضعيف.
أ- الْإِحْسَانَ إلَى الْمَحْجُوجِ عَنْهُ.
ب- أَو نَفْسَ الْحَجِّ لِنَفْسِهِ.
وَذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّ عَن الْمَيِّتِ إنْ كَانَ فَرضًا فَذِمَّتُهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ، فَالْحَجُّ عَنْهُ إحْسَانٌ إلَيْهِ بِإِبْرَاءِ ذِمَّتِهِ بِمَنْزِلَةِ قَضَاءِ دَيْنهِ.
وَعَلَامَةُ ذَلِكَ: أَنْ يَطْلُبَ مِقْدَارَ كِفَايَةِ حَجِّهِ، وَلهَذَا جَوَّزنا نَفَقَةَ الْحَجِّ بِلَا نِزَاعٍ.
وَكَذَلِكَ لَو وَصَّى بِحَجَّةٍ مُسْتَحَبَّةٍ وَأَحَبَّ إيصَالَ ثَوَابِهَا إلَيْهِ.
وَالْمَوْضِع الثَّانِي: إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُؤْثِرًا أَنْ يَحُجَّ مَحَبَّةً لِلْحَجِّ وَشَوْقًا إلَى الْمَشَاعِرِ وَهُوَ عَاجِزٌ فَيَسْتَعِينُ بِالْمَالِ الْمَحْجُوجِ بِهِ عَلَى الْحَجِّ، وَهَذَا قَد يُعْطَى الْمَالَ لِيَحُجَّ بِهِ لَا عَن أَحَدٍ، كَمَا يُعْطَى الْمُجَاهِدُ الْمَالَ لِيَغْزُوَ بِهِ فَلَا شُبْهَةَ فِيهِ؛ فَيَكُونُ لِهَذَا أَجْرُ الْحَجِّ بِبَدَنِهِ، وَلهَذَا أَجْرُ الْحَجِّ بِمَالِهِ، كَمَا فِي الْجِهَادِ فَإِنَّهُ مَن جَهَّزَ غَازِيًا فَقَد غَزَا.
وَقَد يُعْطَى الْمَالَ لِيَحُجَّ بِهِ عَن غَيْرِهِ، فَيَكُونُ مَقْصُودُ الْمُعْطِي الْحَجَّ عَن الْمُعْطَى عَنْهُ، وَمَقْصُودُ الْحَاجِّ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِن الْأَجْرِ بِنَفْسِ الْحَجِّ، لَا بِنَفْسِ الْإِحْسَانِ إلَى الْغَيْرِ.
فَهَاتَانِ صُورَتَانِ مُسْتَحَبَّتَانِ وَهُمَا الْجَائِزَتَانِ مِن أَنْ يَأْخُذَ نَفَقَةَ الْحَجِّ وَيَرُدَّ الْفَضْلَ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ قَصْدُهُ الِاكْتِسَابَ بِذَلِكَ وَهُوَ أَنْ يَسْتَفْضِلَ مَالًا: فَهَذَا صُورَةُ الْإِجَارَةِ وَالْجَعَالَةِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا لَا يُسْتَحَبُّ وَإِن قِيلَ بِجَوَازِهِ؛ لِأنَّ الْعَمَلَ الْمَعْمُولَ لِلدُّنْيَا لَيْسَ بِعَمَلٍ صَالِحٍ فِي نَفْسِهِ إذَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ إلَّا الْمَالُ فَيَكُونُ مِن نَوْعِ الْمُبَاحَاتِ، وَمَن أَرَادَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ فَلَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن خَلَاقٍ.
وَنَحْنُ إذَا جَوَّزنى الْإِجَارَةَ وَالْجَعَالَةَ عَلَى أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي يَخْتَصُّ أَنْ يَكونَ
فَاعِلُهَا مِن أَهْلِ الْقُرَبِ لَمْ نَجْعَلْهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ إلَّا بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاحَاتِ، لَا نَجْعَلُهَا مِن "بَابِ الْقُرَبِ".
فَهُنَا تَصِيرُ الأقْسَامُ ثَلَاثَةً:
أ- إمَّا أَنْ يَقْصِدَ الْحَجَّ وَالْإِحْسَانَ فَقَطْ.
ب- أو يَقْصِدَ النَّفَقَةَ الْمَشْرُوعَةَ لَهُ فَقَطْ.
ج- أَو يَقْصِدَ كِلَيْهِمَا.
فَمَتَى قَصَدَ الْأَوَّلَ: فَهُوَ حَسَنٌ.
وَأَمَّا إنْ لَمْ يَقْصِدْ إلَّا الْكَسْبَ لِنَفَقَتِهِ: فَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ.
وَإِن قَصَدَهُمَا مَعًا: فَهُوَ حَسَنٌ إنْ شَاءَ اللهُ؛ لِأَنَّهُمَا مَقْصُودَانِ صَالِحَانِ
(1)
. [26/ 14 - 17]
3152 -
الْحَاجُّ عَن الْغَيْرِ لِأَنْ يُوَفِّيَ دَيْنَهُ: قَد اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْأَفْضَلَ التَّرْكُ، فَإِنَّ كَوْنَ الْإِنْسَانِ يَحُجُّ لِأَجْلِ أَنْ يَسْتَفْضِلَ شَيْئًا مِن النَّفَقَةِ لَيْسَ مِن أَعْمَالِ السَّلَفِ.
وَهَذَا الْمَدِينُ يَأْخُذُ مِن الزَّكَاةِ مَا يُوَفِّي بِهِ دَيْنَهُ خَيْرٌ لَهُ مِن أَنْ يَقْصِدَ أَنْ يَحُجَّ لِيَأْخُذَ دَرَاهِمَ يُوَفِّي بِهَا دَيْنَهُ.
وَلَا يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْخُذَ مَالًا يَحُجُّ بِهِ عَن غَيْرِهِ إلَّا لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ:
أ- إمَّا رَجُل يُحِبُّ الْحَجَّ وَرُؤْيَةَ الْمَشَاعِرِ وَهُوَ عَاجِزٌ؛ فَيَأْخُذُ مَا يَقْضِي بِهِ وَطَرَهُ الصَّالِحَ ويُؤَدِّي بِهِ عَن أَخِيهِ فَرِيضَةَ الْحَجِّ.
ب- أَو رَجُلٌ يُحِبُّ أَنْ يُبَرِّئَ ذِمَّةَ الْمَيِّتِ عَن الْحَجِّ إمَّا لِصِلَة بَيْنَهُمَا، أَو لِرَحْمَة عَامَّةٍ بِالْمُؤْمِنِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَيَأْخُذُ مَا يَأْخُذُ ليُؤَدّيَ بِهِ ذَلِكَ.
(1)
ومثل هذا: من يدرس ليحصل العلم، وينال الشهادة التي بها يكسب المال ليغتني به ويُعف نفسه وأهله.
وَجِمَاعُ هَذَا: أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يَأْخُذَ لِيَحُجَّ لَا أَنْ يَحُجَّ لِيَأْخُذَ، وَهَذَا فِي جَمِيعِ الْأرْزَاقِ الْمَأْخُوذَةِ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ، فَمَن ارْتَزَقَ لِيَتَعَلَّمَ أَو لِيُعَلِّمَ أَو لِيُجَاهِدَ فَحَسَنٌ. [26/ 19]
3153 -
يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ الْمَدِينُ الْمُعْسِرُ إذَا حجَّجه غَيْرُهُ، وَلَمْ يَكُن فِي ذَلِكَ إضَاعَةٌ لِحَقِّ الدَّيْنِ: إمَّا لِكَوْنِهِ عَاجِزًا عَن الْكَسْبِ، وَإِمَّا لِكوْنِ الْغَرِيمِ غَائِبًا لَا يُمْكِنُ تَوْفِيَتُهُ مِن الْكَسْبِ. [26/ 20]
3154 -
إذَا اسْتَطَاعَ الْحَجَّ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنْ حَجَّ عَقِبَ ذَلِكَ بِحَسَب الْإِمْكَانِ وَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ وَجَبَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَمَاتَ وَهُوَ غَيْرُ عَاصٍ، وَلَهُ أَجْرُ نِيَّتِهِ وَقَصْدِهِ.
فَإِنْ كَانَ فَرَّطَ ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَاتَ قَبْلَ أَدَاءِ الْحَجِّ: مَاتَ عَاصِيًا آثِمًا، وَلَهُ أَجْرُ مَا فَعَلَهُ، وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْفَرْضُ بِذَلِكَ؛ بَل الْحَجُّ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ
(1)
، ويُحَجُّ عَنْهُ مِن حَيْثُ بَلَغَ. [26/ 21]
3155 -
يلزم الإنسان طاعة والديه في غير المعصية وإن كانا فاسقين، وهو ظاهر إطلاق أحمد، وهذا فيما فيه منفعة لهما ولا ضرر عليه، فإن شق عليه ولم يضره: وجب وإلا فلا.
وتحرم الطاعة في المعصية، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
فحينئذٍ ليس للأبوين منع ولدهما من الحج الواجب، لكن يستطيب أنفسهما فإن أذنا وإلا حج. [المستدرك 3/ 184]
3156 -
ليس للزوج منع زوجته من الحج الواجب مع ذي محرم، وعليها أن تحج وإن لم يأذن في ذلك، حتى إن كثيرًا من العلماء أو أكثرهم يوجبون لها النفقة. [المستدرك 3/ 184]
(1)
قال الشيخ: وَإِن كَانَ قَد خَلَّفَ مَالًا فَالنَّفَقَةُ مِن ذَلِكَ وَاجِبَةٌ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ.
3157 -
الحج واجب على الفور عند أكثر العلماء. [المستدرك 3/ 184]
3158 -
من وجب عليه الحج فتوفي قبله وخلف مالًا حُجَّ عنه في أظهر قولي العلماء. [المستدرك 3/ 184]
3159 -
إذا وجب الحج على المحجور عليه: لم يكن لوليه منعه منه على الوجه الشرعي. [المستدرك 3/ 184]
3160 -
التجارة ليست محرمة، لكن ليس للإنسان أن يفعل ما يشغله عن الحج. [المستدرك 3/ 184]
3161 -
من أراد سلوك طريق يستوي فيها السلامة والهلاك وجب عليه الكف عن سلوكها، فإن لم يكف فيكون قد أعان على هلاك نفسه فلا يكون شهيدًا. [المستدرك 3/ 184]
3162 -
تجوز الخفارة
(1)
عند الحاجة إليها في الدفع عن المخفر، ولا يجوز مع عدمها، كما يأخذ السلطان من الرعايا. [المستدرك 3/ 185]
3163 -
تحج كل امرأة آمنة مع عدم محرم، قال أبو العباس: وهذا متوجه في سفر كل طاعة
(2)
.
وصحح أبو العباس في الفتاوى المصرية أن المرأة لا تسافر للحج إلا مع زوج أو ذي محرم
(3)
.
والمحرم: زوج المرأة أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب، ولو كان النسب وطء شبهة لا زنا، وهو قول أكثر العلماء واختاره ابن عقيل.
وأما إماء المرأة فيسافرون معها ولا يفتقرن إلى المحرم؛ لأنه لا محرم لهن في العادة الغالبة.
(1)
أي: الأجرة التي يأخذها من يحرس الحاج ويخفُرُه. محمد حامد الفقي في حاشية الاختيارات (171).
(2)
الاختيارات (171).
(3)
فالشيخ له قولان في سفر المرأة بلا محرم.
وعند شيخنا تحج كل امرأة آمنة مع عدم المحرم، وقال: إن هذا متوجه في كل سفر طاعة، ونقله الكرابيسي عن الشافعي في حجة التطوع، وقاله بعض أصحابه فيه وفي كل سفر غير واجب كزيارة وتجارة، وقاله الباجي المالكي في كبيرة غير مشتهاة، وذكر أبو الخطاب رواية المروذي ثم قال: وظاهره جواز خروجها بغير محرم ذكره شيخنا في مسألة العجوز تحضر الجماعة
(1)
.
وذكر صاحب المحرر عن نقل أسماء النَّوى على رأسها للزبير نحو ثلثي فرسخ من المدينة أنه حجة في سفر المرأة السفر القصير بغير محرم، ورعي جارية معاوية بن الحكم في معناه وأولى؛ فيتوجه على هذا الخلاف، وأما كلام شيخنا ومعناه لغيره فيجوز مثل هذا قولًا واحدًا لأنه ليس بسفر شرعًا ولا عرفًا ولا يتأهب له أهبته. [المستدرك 3/ 185 - 186]
3164 -
يحرم سفره بأخت زوجته ولو معها
(2)
. [المستدرك 3/ 186]
3165 -
الحج على الوجه المشروع أفضل من الصدقة التي ليست بواجبة، وأما إن كان له أقارب محاويج، أو هناك فقراء تضطرهم الحاجة إلى نفقة فالصدقة عليهم أفضل.
أما إذا كان كلاهما تطوعًا فالحج أفضل؛ لأنه عبادة بدنية ومالية، وكذلك الأضحية والعقيقة أفضل من الصدقة بقيمة ذلك؛ لأنه عبادة بدنية ومالية، وكذلك الأضحية والعقيقة أفضل من الصدقة بقيمة ذلك.
لكن بشرط أن يقيم الواجب في الطريق، ويترك المحرمات، ويصلي الصلوات ويصدق الحديث ويؤدي الأمانة، ولا يتعدى على أحد، فمن فعل شيئًا من تلك المحرمات فقد يكون إثمه أعظم من أجره، فأي فضيلة في هذا؟ [المستدرك 3/ 186]
(1)
الفروع (3/ 236).
(2)
أي: مع زوجته؛ لعدم وجود المحرم معها، وأختها ليست محرمًا لها.
3166 -
البر: إطعام الطعام، وإفشاء السلام، كذا روي في الحديث، وهو يتضمن الإحسان إلى الناس بالنفس والمال. [المستدرك 3/ 188]
3167 -
إذا حصل من الحاج المشاجرةُ والخصومةُ والسبُّ: فكفارته الاستغفار وفعل الحسنات الماحية إلى من جهل عليه وغيره، فيُحسن إليه ويستغفر له ويدعو له ويداريه ويلاينه.
وإن اغتاب غائبًا وهو لم يعلم: دعا له ولا يحتاج إلى إعلامه في أصح قولي العلماء. [المستدرك 3/ 188]
3168 -
قوله عليه السلام: "من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه"
(1)
يدخل فيه بإحرام العمرة؛ ولهذا أنكر أحمد على من قال: إن حجة التمتع حجة مكية، نقله الأثرم وهي عند أحمد بعض حجة الكامل بدليل صومها. [المستدرك 3/ 188]
3169 -
وعنه العمرة سُنَّة، اختاره شيخنا. [المستدرك 3/ 188]
3170 -
من جرد مع الحاج أو غيره وجمع له من الجند المقطعين ما يعينه على كلفة الطريق أبيح له أخذه، ولا ينقص أجره، وله أجر الحج والجهاد، وليس في هذا اختلاف. [المستدرك 3/ 188 - 189]
3171 -
من كان قادرًا على الكسب ويأكل من صدقات الناس: فهو مذموم على ذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"لا تحل الصدقة لغني ولا لقوي مكتسب"
(2)
.
وأما سؤال الناس مع القدرة على الكسب فهو حرام بلا نزاع؛ فمن حج على أن يسأل مع إمكان القعود فهو عاص، فقد جاء بضعة عشر حديثًا في النهي عن المسألة. [المستدرك 3/ 189]
3172 -
من اغتصب إبلًا أو اشتراها بثمن مغصوب أو بعضه وأراد الحج
(1)
رواه البخاري (1521).
(2)
رواه أبو داود (1633)، والنسائي (2598)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.
وليس له مال يحج به غيره: فإنه يجب عليه أنْ يُعوِّض أربابها إن أمكن معرفتهم، وإلا تصدق بقيمة الثمن عنهم، فإن عجز عن الصدقة تصدق وقت قدرته بعد ذلك، وإن عرفهم في قرية ولا يعرف أعيانهم تصدق على فقراء تلك القرية، وقد طاب له الحج
(1)
.
ومن حج بمال حرام: لم يتقبل الله منه حجه، وهل عليه الإعادة؟ على قولين للعلماء
(2)
. [المستدرك 3/ 189]
3173 -
الْعُمْرَةُ عَقِيبَ الْحَجِّ مِن مَكَّةَ كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِن النَّاسِ الْيَوْمَ: لَمْ يُعْرَفْ عَلَى عَهْدِ السَّلَفِ، وَلَا نَقَلَ أَحَدٌ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَن أحَدٍ مِن الَّذِينَ حَجُّوا مَعَهُ أَنَّهُم فَعَلُوا ذَلِكَ إلَّا عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ لِأَنَّهَا كَانَت قَدِمَتْ مُتَمَتِّعَةً فَحَاضَتْ، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَتَدَعَ الْعُمْرَةَ.
فَمَذْهَبُ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهَا صَارَتْ قَارِنَةً وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا قَضَاءُ تِلْكَ الْعُمْرَةِ.
وَهَكَذَا يَقُولُونَ فِي كُلِّ مُتَمَتِّعٍ ضَاقَ عَلَيْهِ الْوَقْتُ فَلَمْ يَتَمَكنْ مِن الطَّوَافِ قَبْلَ التَّعْرِيفِ، فَإِنَّهُم يَأْمُرُونَهُ بِإِدْخَالِ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ وَيَصِيرُ قَارِنًا؛ كَالْمُفْرِدِ الَّذِي قَدِمَ وَقَد ضَاقَ عَلَيْهِ الْوَقْتُ فَإِنَّهُ يَقِفُ بِعَرَفَةَ أَؤلًا وَلَا يَطُوفُ قَبْلَ التَّعْرِيفِ.
وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَبَنَوْهُ عَلَى أُصُولِهِمْ: فِي أنَّ عَمَلَ الْقَارِنِ لَا يَزِيدُ عَلَى عَمَلِ الْمُفْرِدِ، وَقَالُوا: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم إنَّمَا أَعْمَرَ عَائِشَةَ تَطْيِيبًا لِنَفْسِهَا. [26/ 41 - 43]
3174 -
الْعُمْرَةُ وَاجِبَةٌ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمَد .. وَمِنْهُم مَن قَالَ: أَهْلُ مَكَّةَ يُسْتَثْنَوْنَ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِم عُمْرَةٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ طَرِيقَةُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ، وَهِيَ أَصَحُّ. [26/ 45]
3175 -
أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا -وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَن أَحْمَد-: أَنَّهُ لَا
(1)
مختصر الفتاوى (297).
(2)
مختصر الفتاوى (295).
يُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِن الْعُمْرَةِ، لَا مِن مَكَّةَ وَلَا غَيْرِهَا؛ بَل يَجْعَلُ بَيْنَ الْعُمْرَتَيْنِ مُدَّةً، وَلَو أَنَّهُ مِقْدَارُ مَا يَنْبُتُ فِيهِ شَعْرُهُ وَيُمْكِنُهُ الْحِلَاقُ، وَهَذَا لِمَن يَخْرُجُ إلَى مِيقَاتِ بَلَدِهِ وَيَعْتَمِرُ.
وَأَمَّا الْمُقِيمُ بِمَكَّةَ: فَكثْرَةُ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ أَفْضَلُ لَهُ مِن الْعُمْرَةِ الْمَكِّيَّةِ، كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَ إذَا كَانُوا مُقِيمِينَ بِمَكَّةَ، كَانُوا يَسْتَكْثِرُونَ مِن الطَّوَافِ وَلَا يَعْتَمِرُونَ عُمْرَةً مَكِّيَّةً، فَالصَّحَابَةُ الَّذِينَ اسْتَحَبُّوا الْإِفْرَادَ كَعُمَر بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ إنَّمَا اسْتَحَبُّوا أَنْ يُسَافِرَ سَفَرًا آخَرَ لِلْعُمْرَةِ؛ لِيَكونَ لِلْحَجِّ سَفَرٌ عَلَى حِدَةٍ وَللْعُمْرَةِ سَفَرٌ عَلَى حِدَةٍ.
وَأَحْمَد وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمَا اتَّبَعُوا الصَّحَابَةَ فِي ذَلِكَ وَاسْتَحَبُّوا هَذَا الْإِفْرَادَ عَلَى التَّمَتُّعِ وَالْقِرَآنِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ: فَأَيُّ الْعُمْرَةِ عِنْدَك أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَفْضَلُ الْعُمْرَةِ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ كَمَا قَالَ عُمَرُ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَتَمُّ لِحَجِّكُمْ وَأَتَمُّ لِعُمْرَتِكُمْ أَنْ تَجْعَلُوهَا فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ. [26/ 45 - 46]
3176 -
الْإِكْثَارُ مِن الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ مِنَ الْأعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَهُوَ أَفْضَلُ مِن أَنْ يَخْرُجَ الرَّجُلُ مِن الْحَرَمِ وَيَأْتِيَ بِعُمْرَةٍ مَكِّيَّةٍ، فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَكُن مِن أَعْمَالِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلينَ مِن الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَلَا رَغَّبَ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأُمَّتِهِ بَل كَرِهَهُ السَّلَفُ. [26/ 145]
3177 -
يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْكعْبَةَ فِي حَجَّةٍ أو عُمْرَةٍ، وَإِنَّمَا كَانَ دُخُولُهُ الْكَعْبَةَ عَامَ الْفَتْحِ لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهُ دَخَلَهَا فِي حَجَّةٍ وَلَا عُمْرَةٍ. [26/ 68]
3178 -
لَمْ يَعْتَمِرْ بَعْدَ الْحَجِّ أَحَدٌ مِمَن كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا عَائِشَةَ وَحْدَهَا؛ لِأَنَّهَا كَانَت قَد حَاضَتْ فَلَمْ يُمْكِنْهَا الطَّوَافُ؛ لِأَنَّ النَبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"تَقْضِي الْحَائِضُ الْمَنَاسِكَ كلَّهَا إلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ"
(1)
، فَأَمَرَهَا أَنْ تُهِلَّ بِالْحَجِّ وَتَدَع أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ لِأَنَّهَا كَانَت مُتَمَتِّعَةً، ثُمَّ إنَّهَا طَلَبَتْ مِن النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعْمِرَهَا فَأَرْسَلَهَا مَعَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَاعْتَمَرَتْ مِنَ التَّنْعِيمِ، وَالتَّنْعِيمُ هُوَ أَقْرَبُ الْحِلِّ إلَى مَكَّةَ وَبِهِ الْيَوْمَ الْمَسَاجِدُ الَّتِي تُسَمَّى "مَسَاجِدَ عَائِشَةَ"، وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا بُنِيَتْ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَامَةً عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَحْرَمَتْ مِنْهُ عَائِشَةُ، وَلَيْسَ دُخُولُ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ وَلَا الصَّلَاةُ فِيهَا -لِمَنِ اجْتَازَ بِهَا مُحْرِمًا- لَا فَرضًا وَلَا سُنَّةً؛ بَل قَصْدُ ذَلِكَ وَاعْتِقَادُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ، لَكِنْ مَن خَرَجَ مِن مَكَّةَ لِيَعْتَمِرَ فَإِنَّهُ إذَا دَخَلَ وَاحِدًا مِنْهَا وَصَلَّى فِيهِ لِأَجْلِ الْإِحْرَامِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ. [26/ 102 - 103]
3179 -
ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي "الصَّحِيحَيْنِ"
(2)
أَنَّهُ قَالَ: "مَن حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ: فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِن ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أمُّهُ"، وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ مَن قَرَأَ:{فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ} [البقرة: 197] بِالرَّفْعِ
(3)
؛ فَالرَّفَثُ: اسْمٌ لِلْجِمَاعِ قَوْلَّا وَعَمَلًا، وَالْفُسُوقُ: اسْمٌ لِلْمَعَاصِي كُلِّهَا، وَالْجِدَالُ: عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ هُوَ الْمِرَاءُ فِي أَمْرِ الْحَجِّ، فَإِنَّ اللهَ قَد أَوْضَحَهُ وَبَيَّنَهُ وَقَطَعَ الْمِرَاءَ فِيهِ كَمَا كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَمَارَوْنَ فِي أَحْكَامِهِ.
وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى
(4)
: قَد يُفَسَّرُ بِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا، وَقَد فَسَّرُوهَا بِأَنْ لَا يُمَارِي الْحَاجُّ أَحَدًا، وَالتَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَنْهَ الْمُحْرِمَ وَلَا غَيْرَهُ عَنِ الْجِدَالِ مُطْلَقًا؛ بَلِ الْجِدَالُ قَد يَكُونُ وَاجِبًا أَو مُسْتَحَبًّا كَمَا قَالَ تَعَالَى:
(1)
صحَّحه الألباني في صحيح أبي داود (1744).
(2)
أخرجه البخاري (1521، 1820)، ومسلم (1350).
(3)
والتنوين.
(4)
وهي التسوية بين الكل بالفتح.
وقرأ أبو جعفر برفع الجميع.
{وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] وَقَد يَكُونُ الْجِدَالُ مُحَرَّمًا فِي الْحَجِّ وَغَيْرِهِ كَالْجِدَالِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَكَالْجِدَالِ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تبَيَّنَ
(1)
. [26/ 107]
3180 -
لَو وَضَعَ يَدَهُ عَلَى الشاذروان الَّذِي يُرْبَطُ فِيهِ أَسْتَارُ الْكَعْبَةِ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ فِي أَصَحِّ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ، وَلَيْسَ الشاذروان مِنَ الْبَيْتِ بَل جُعِلَ عِمَادًا لِلْبَيْتِ. [26/ 121]
3181 -
لَو صَلَّى الْمُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ يَطُوفُونَ أَمَامَهُ لَمْ يُكْرَهْ، سَوَاءٌ مَرَّ أَمَامَهُ رَجُلٌ أَو امْرَأَةٌ، وَهَذَا مِن خَصَائِصِ مَكَّةَ. [26/ 122]
3182 -
مَن حَمَلَ شَيْئًا مِن مَاءِ زَمْزَمَ جَاز، فَقَد كَانَ السَّلَفُ يَحْمِلُونَهُ. [26/ 154]
* * *
(الأنساك وأفضلها)
3183 -
تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي حَجِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَل تَمَتَّعَ فِيهِ أَو أَفْرَدَ أَو قَرَنَ؟
وَتَنَازَعُوا أَيُّ الثَّلَاثَةِ أَفْضَلُ؟.
فَطَائِفَةٌ تَظُنُّ أَنَّهُ تمَتَّعَ تَمَتُّعًا حَلَّ فِيهِ مِن إحْرَامِهِ.
وَطَائِفَة أُخْرَى تَظُنُّ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَلَمْ يُحْرِمْ بِالْحَجِّ حَتَّى طَافَ وَسَعَى لِلْعُمْرَةِ.
وَطَائِفَةٌ تَظُنُّ أَنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ وَاعْتَمَرَ عَقِيبَ ذَلِكَ.
وَطَائِفَةٌ تَظُنُّ أَنَّهُ قَرَنَ قِرَانًا طَافَ فِيهِ طَوَافَيْنِ وَسَعَى فِيهِ سعيين.
وَطَائِفَةٌ تَظُنُّ أَنَّهُ أَحْرَمَ مُطْلَقًا.
وَكُلُّ ذَلِكَ خَطَأٌ لَمْ تَرْوِهِ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ؛ بَل عَامَّةُ رِوَايَاتِ
(1)
وقد جاء في الفتاوى المصرية (ص 149)، ونقلها صاحب المستدرك (3/ 186 - 187) بما هو مضمون هذا الكلام، ولكن حصل فيه بعض الخلل.
الصَّحَابَةِ مُتَّفِقَةٌ، وَمَن نَسَبَهُم إلَى الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ فَلِعَدَمِ فَهْمِهِ أحْكَامَهُم؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ نَقَلُوا أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ، هَكَذَا الَّذِي نَقَلَهُ عَامَّةُ الصَّحَابَةِ، وَنَقَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِن هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ قَرَنَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ، وَأَنَّهُ أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا، كَمَا نَقَلُوا أَنَّهُ اعْتَمَرَ مَعَ حَجَّتِهِ.
مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ بَعْدَ الْحَجِّ؛ بَل لَمْ يَعْتَمِرْ مَعَهُ مِن أَصْحَابِهِ بَعْدَ الْحَجِّ إلَّا عَائِشَةُ؛ لِأَجْلِ حَيْضَتِهَا.
وَلَفْظُ "الْمُتَمَتِّعِ" فِي الْكتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ الصَّحَابَةِ اسْمٌ لِمَن جَمَعَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، سَوَاءٌ أَحْرَمَ بِهِمَا جَمِيعًا، أَو أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ، أَو أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ تَحَلُّلِهِ مِن الْعُمْرَةِ -وَهَذَا هُوَ التَّمَتُّعُ الْخَاصُّ فِي عُرْفِ الْمُتَأَخِّرِين-.
وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ قَضَاءِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ التَّحَلُّلِ مِنْهَا لِكَوْنِهِ سَاقَ الْهَدْيَ، أَو مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَسُقْهُ، وَهَذَا قَد يُسَمُّونَهُ مُتَمَتِّعًا التَّمَتُّعَ الْخَاصَّ وَقَارِنًا، وَقَد يَقُولُونَ: لَا يَدْخُلُ فِي التَّمَتُّعِ الْخَاصِّ بَل هُوَ قَارِنٌ.
وَمَا ذَكَرْتُه مِن أَنَّ الْقِرَآنَ يُسَمُّونَهُ تَمَتُّعًا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي أَحَادِيثَ صَحِيحَةِ.
وَهَؤلَاءِ الَّذِينَ نَقَلُوا أَنَّهُ تَمَتَّعَ نَقَلَ بَعْضُهُم أَنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ؛ فَإِنَّهُ أَفْرَدَ أَعْمَالَ الْحَجِّ وَلَمْ يَحِلَّ مِن إحْرَامِهِ لِأَجْلِ سَوْقِهِ الْهَدْيَ، فَهُوَ لَمْ يَتَمَتَّعْ مُتْعَةً حَلَّ فِيهَا مِن إحْرَامِهِ، فَلِهَذَا صَارَ كَالْمُفْرِدِ مِن هَذَا الْوَجْهِ.
وَأَمَّا الْأفْضَل لِمَن قَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَلَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ: فَالتَّحَلُّلُ مِن إحْرَامِهِ بِعُمْرَةٍ أَفْضَلُ لَهُ كَمَا أمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَإِنَّهُ أَمَرَ كُلَّ مَن لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ بِالتَّمَتُّعِ.
وَمَن سَاقَ الْهَدْيَ فَالْقِرَآنُ لَهُ أَفْضَلُ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
وَمَنِ اعْتَمَرَ فِي سَفْرَةٍ وحَجَّ فِي سَفْرَةٍ، أَو اعْتَمَرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَأَقَامَ حَتَّى يَحُجَّ: فَهَذَا الْإِفْرَادُ لَه أَفْضَلُ مِن التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. [22/ 292 - 294]
3184 -
اَلَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ السُّنَّةُ أَنَّ مَن لَمْ يَسُق الْهَدْيَ فَالتَّمَتُّعُ أَفْضَلُ لَهُ، وَأنَّ مَن سَاقَ الْهَدْيَ فَالْقِرَآنُ أَفْضَلُ لَهُ، هَذَا إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي سُفْرَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَأَمَّا إذَا سَافَرَ لِلْحَجِّ سُفْرَةً وَللْعُمْرَةِ سُفْرَةٌ فَالْإِفْرَادُ أَفْضَلُ لَهُ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الْأرْبَعَةِ، اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ إذَا سَافَرَ لِكلِّ مِنْهُمَا سُفْرَةً، وَالْقِرَانُ الَّذِي فَعَلَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ بِطَوَاف وَاحِدٍ وَبِسَعْيٍ وَاحِدٍ، لَمْ يَقْرِنْ بِطَوَافَيْنِ وسعيين، كَمَا يَظُنُّهُ مَن يَظُنُّهُ مِن أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يُفْرِدِ الْحَجَّ كَمَا يَظُنُّهُ مَن ظَنَّهُ مِن أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ، وَلَا اعْتَمَرَ بَعْدَ الْحَجِّ لَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِن أَصْحَابِهِ إلَّا عَائِشَةُ لِأَجْلِ عُمْرَتِهَا الَّتِي حَاضَتْ فِيهَا. [20/ 373 - 374]
3185 -
قَوْلُ الْقَائِلِ: أَيُّمَا أَفْضَلُ
(1)
؟ التَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّهُ إذَا أَفْرَدَ الْحَجَّ بِسَفْرَةٍ وَالْعُمْرَةَ بِسَفْرَةٍ فَهُوَ أَفْضَلُ مِن الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ الْخَاصِّ بِسَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَد نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد وَأَبُو حَنِيفَةَ مَعَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ.
وَهَذَا هُوَ الْإِفْرَادُ الَّذِي فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَكَانَ عُمَرُ يَخْتَارُهُ لِلنَّاسِ، وَكَذَلِكَ عَلِيٌّ رضي الله عنه.
وَأَمَّا إذَا أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ النُّسُكين بِسَفْرَة وَاحِدَةٍ وَقَدِمَ مَكَّةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَلَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ: فَالتَّمَتُّعُ أَفْضَلُ لَهُ مِن أَنْ يَحُجَّ وَيعْتَمِرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْحِلِّ
(2)
؛ لِأَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِينَ حَجُّوا مَعَهُ وَلَمْ يَسُوقُوا الْهَدْيَ أَمَرَهُم جَمِيعَهُم أَنْ يَحُجُّوا هَكَذَا، أَمَرَهُم إذَا طَافُوا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنْ يُحِلُّوا مِن إحْرَامِهِمْ وَيَجْعَلُوهَا مُتْعَةً، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوَيةِ أَمَرَهُم أَنْ يُحْرِمُوا بِالْحَجِّ، وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَمَرَهُم بِذَلِكَ وَحَجُّوا مَعَهُ كَذَلِكَ.
(1)
أي: الإفراد أو القران أو المتعة.
(2)
والعمرة بعد الحج غير مستحبة كما قرر ذلك الشيخ رحمه الله.
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُم أَفْضَلُ الْأُمَّةِ بَعْدَهُ، وَلَا حَجَّةَ تَكُونُ أَفْضَلَ مِن حَجَّةِ أَفْضَلِ الْأُمَّةِ مَعَ أَفْضَلِ الْخَلْقِ بِأَمْرِهِ.
فَكَيْفَ يَكُونُ حَجُّ مَن حَجَّ مُفْرِدًا وَاعْتَمَرَ عَقِبَ ذَلِكَ، أَو قَارِنًا وَلَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ
(1)
: أَفْضَلَ مِن حَجِّ هَؤُلَاءِ مَعَهُ بِأَمْرِهِ، وَكَيْفَ يَنْقُلُهُم عَنِ الْأَفْضَلِ إلَى الْمَفْضُولِ، وَأَمْرُهُ أَبْلَغُ مِن فِعْلِهِ؟ [26/ 85 - 86]
3186 -
كَلَامُهُ؛ [أي: الإمام أحمد] إنَّمَا كَانَ فِي أَيِّهِمَا أَفْضَلُ: أَنْ يَسُوقَ وَيقْرِنَ، أَو يَتَمَتَّعَ وَلَا يَسُوقَ؟
لِأَنَّهُ إذَا سَاقَ الْهَدْيَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ
(2)
، فَهَذَا مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ لِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"لَو اسْتَقْبَلْت مِن أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَمَا سُقْت الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً"
(3)
: هَل كَانَ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِعُمْرَةٍ أَفْضَلُ مِن الْقِرَانِ أَمْ لَا؟
مُوَافَقَةً لِأَصْحَابِهِ لَمَّا أَمَرَهُم بِالتَّحَلُّلِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ.
فَهَذَا مَوْرِدُ اجْتِهَادٍ.
وَلَمْ يَخْتَلِفْ كَلَامُ أَحْمَد أَنَّ مَن لَمْ يَسُق الْهَدْيَ وَقَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَالتَّمَتُّعُ أفْضَلُ لَهُ.
وَحِيَنئِذٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُتَمَتِّعِ وَالْقَارِنِ عِنْدَ أَحْمَد إلَّا فِي شَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَارِنَ يَكُونُ قَد أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ الطَّوَافِ، سَوَاءٌ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ، أَو أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ، بِأَنَّهُ فِي كِلَيْهِمَا قَارِنٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ.
وَأَمَّا الْمُتَمَتِّعُ التَّمَتُّعَ الْخَاصَّ: فَإِنَّهُ يُؤَخّرُ إحْرَامَهُ بِالْحَجِّ إلَى مَا بَعْدَ قَضَاءِ العُمْرَةِ.
(1)
أما إذا ساق الهدي فالقران أفضل بلا شك، وسيأتي إن شاء الله تعالى أن الشيخ اختار أن الأفضل للحاج أن يسوق الهدي ويقرن.
(2)
حَتَّى يَنْحَرَ الْهَدْيَ يَوْمَ النَّحْرِ.
(3)
أخرجه البخاري (7229).
الثَّانِي: أَنَّ الْقَارِنَ عِنْدَهُ لَا يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً كَالْمُفْرِدِ، وَأَمَّا الْمُتَمَتِّعُ فَقَد اخْتَارَ لَهُ أَنْ يَسْعَى سَعْيَيْنِ، وَنَصَّ عَلَى أَنَّهُ يُجْزِيهِ سَعْيٌ وَاحِد كَالْمُفْرِدِ وَالْقَارِنِ.
وَحِينَئِذٍ فَيَكونُ قَد تَمَيَّزَ بِسَعْيٍ زَائِدٍ مُسْتَحَبِّ، لَكِنْ هُوَ أَيْضًا يَسْتَحِبُّ لِلْمُتَمَتِّعِ أَنْ يَطُوفَ أَوَّلًا بَعْدَ عَرَفَةَ طَوَافَ الْقُدُومِ، فَيَكُونُ الْمُتَمَتِّعُ قَد طَافَ بَعْدَ عَرَفَةَ مَرَّتَيْنِ وَسَعَى سَعْيًا ثَانِيًا، وَأَمَّا الْقَارِنُ فَإِنَّهُ يَعْمَلُ مَا يَعْمَلُه الْمُفْرِدُ.
لَكِنْ كُلُّ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ، وَفِي مَذْهَبِهِ قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّ السَّعْيَ الثَّانِيَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ.
وَقَوْلٌ: أَنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ ويسْعَى سعيين كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَوْلٌ: أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ لَا يسْتَحَبُّ لَهُ طَوَافُ الْقُدُومِ
(1)
، وَهَذَا هُوَ
الصَّوَابُ
(2)
؛ بَل وَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ سَعْيٌ ثَانٍ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ حَجُّوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لمْ يَسْعَوْا إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً.
وَلَمْ يَخْتَلِفْ كَلَامُ أَحْمَد أَنَّ مَن لَمْ يَسُق الْهَدْيَ وَقَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَالتَّمَتُّعُ أَفْضَلُ لَهُ؛ لأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الَّذِينَ حَجُّوا مَعَهُ جَمِيعَهُم أَنْ يَحِلُّوا مِن إحْرَامِهِمْ وَيَجْعَلُوهَا عُمْرَةً إلَّا مَن سَاقَ الْهَدْيَ.
وَمَذْهَبُ أَحْمَد أَيْضًا أَنَّهُ إذَا افْرَدَ الْحَجَّ بِسَفْرَةٍ وَالْعُمْرَةَ بِسَفْرَةٍ فَهَذَا الْإِفْرَادُ أَفْضَلُ لَهُ مِن التَّمَتُّعِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ
(3)
. [26/ 35 - 37، 26/ 276 - 277]
(1)
الذي يكون بعد الوقوف بعرفة، بل يطوف طوات الإفاضة فقط.
وذلك لأنّ المتمتع إنما يلزمه طوافان وسعيان، طواف للعمرة، وطواف للحج، وسعي للعمرة وسعي للحج.
(2)
وقال رحمه الله فِيمَن يَسْتَحِبُّ لِلْمُتَمَتِّعِ أَنْ يَطُوفَ طَوَافَ الْقُدُومِ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِن عَرَفَةَ قَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ: الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ أنَّهُ لَا يُسْتَحب، وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْأَخِيرُ مِن مَذْهَب أحْمَد. (26/ 273)
(3)
والشيخ ذكر الاتفاق على ذلك.
3187 -
هَل يُجْزِيهِ؛ [أي: الْمُتَمَتِّعُ] السَّعْيُ الْأَوَّلُ الَّذِي مَعَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ، أَو يَحْتَاجُ إلَى سَعْيٍ ثَانٍ عَقِيبَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ أَو غَيْرِهِ؟
(1)
عَلَى. قَوْلَيْنِ عَن أَحْمَد: وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ هُوَ الثَّانِي، وَالْأَوَّلُ قَد نَصَّ عَلَيْهِ أَيْضًا، قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَد: قُلْت لِأَبِي: الْمُتَمَتّعُ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوة؟ قَالَ: إنْ طَافَ طَوَافَيْنِ فَهُوَ أَجْوَدُ، وَإِن طَافَ طَوَافًا وَاحِدًا فَلَا بَأْسَ.
فَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَن جَابِرٍ قَالَ: "لَمْ يَطُفْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إلَّا طَوَافًا وَاحِدًا طَوَافَهُ الْأَوَّلَ"
(2)
.
وَهَذَا مَعَ أَنَّهُم كَانُوا مُتَمَتِّعِينَ. [26/ 38 - 39]
3188 -
الصَّوَابُ أَنَّ مَن سَاقَ الْهَدْيَ فَالْقِرَانُ لَهُ أَفْضَلُ.
وَمَن لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا
(3)
فِي سَفَرٍ وَقَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ: فَالتَّمَتُّعُ الْخَاصُّ أَفْضَلُ لَهُ
(4)
.
وَإن قَدِمَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَقَبْلَهُ بِعُمْرَةٍ: فَهَذَا أَفْضَلُ مِنَ التَّمَتُّعِ.
وَكَذَلِكَ لَو أَفْرَدَ الْحَجَّ بِسَفْرَةٍ وَالْعُمْرَةَ بِسَفْرَةٍ: فَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْمُتْعَةِ الْمُجَرَّدَةِ
(5)
.
بِخِلَافِ مَن أَفْرَدَ الْعُمْرَةَ بِسَفْرَةٍ ثُمَّ قَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مُتَمَتِّعًا فَهَذَا لَهُ عُمْرَتَانِ وَحَجَّةٌ: فَهُوَ أَفْضَلُ؛ كَالصَّحَابَةِ الَّذِينَ اعْتَمَرُوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عُمْرَةَ
(1)
صورة المسألة: السعي الذي سعاه المتمتع مع عمرته وتحلل منها هل يجزئه ويكفيه، فلا يسعى سعيًا آخر بعد طواف الإفاضة؟
فيه خلاف، ورجح شيخ الإسلام رحمه الله أنه لا يجب عليه أن يسعى سعيًا آخر، واختار ابن عثيمين الوجوب حيث قال: الصحيح أن المتمتع يلزمه سعيٌ للحج، كما يلزمه سعيٌ للعمرة.
الشرح الممتع (7/ 344).
(2)
أخرجه مسلم (1279).
(3)
أي: بين الحج والعمرة.
(4)
والمعنى: من لم يتيسر له الإتيان إلى مكة إلا مرة واحدة، فهذا إن لم يسق الهدي فالأفضل له التمتع.
(5)
لأنه أنشأ سفرين للعمرة والحج.
الْقَضِيَّةِ ثُمَّ تَمَتَّعُوا مَعَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَهَذَا أَفْضَلُ الْإِتْمَامِ.
ثُمَّ إنَّ النَّاسَ كَانُوا فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ لَمَّا رَأَوْا فِي ذَلِكَ مِن السُّهُولَةِ صَارُوا يَقْتَصِرُونَ عَلَى الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ويتْرُكُونَ سَائِرَ الْأَشْهُرِ لَا يَعْتَمِرُونَ فِيهَا مِن أَمْصَارِهِمْ، فَصَارَ الْبَيْت يَعْرَى عَن الْعُمَّارِ مِن أَهْلِ الأمْصَارِ فِي سَائِرِ الْحَوْلِ؛ فَأَمَرَهُم عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِمَا هُوَ أَكْمَلُ لَهُم بِأَنْ يَعْتَمِرُوا فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَيَصِيرُ الْبَيْتُ مَقْصُودًا مَعْمُورًا فِي أشْهُرِ الْحَجِّ وَغَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ لَهُم عُمَرُ هُوَ الْأَفْضَلُ حَتَّى عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ التَّمَتُّعَ أَفْضَلُ مِنَ الْإِفْرَادِ وَالْقِرَانِ كَالْإِمَام أَحْمَد وَغَيْرِهِ، فَإِنَّ الْإِمَامُ أَحْمَد يَقُولُ: إنَّهُ إذَا اعْتَمَرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ كَانَ أفْضَلَ مِن أَنْ يُؤَخِّرَ الْعُمْرَةَ إلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ، سَوَاءٌ قَدِمَ مَكَّةَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَاعْتَمَرَ وَأَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى يَحُجَّ مِن عَامِهِ ذَلِكَ، أَو اعْتَمَرَ ثُمَّ رَجَعَ إلَى مِصْرِهِ أَو مِيقَاتِ بَلَدِهِ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ، وَهَذَا ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الْقَاصِدَ لِمَكَّةَ إذَا قَدِمَ مَثَلًا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَاعْتَمَرَ فِيهِ حَصَلَ لَهُ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ:"عُمْرَةٌ في رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً"
(1)
.
وَإن قَدِمَ قَبْلَ ذَلِكَ مُعْتَمِرًا وَأَقَامَ بِمَكَّةَ: فَذَلِكَ كُلُّهُ أَفْضَلُ لَهُ، فَإِنَّة يَطُوفُ بِمَكَّةَ ويعْتَكِفُ بِهَا تِلْكَ الْمُدَّةَ إلَى حِينِ الْإِهْلَالِ بِالْحَجِّ.
وَإِن رَجَعَ إلَى مِصْرِهِ ثُمَّ قَدِمَ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَقَد أَفْرَدَ لِلْعُمْرَةِ سَفَرًا وَللْحَجِّ سَفَرًا وَذَلِكَ أَتَمُّ لَهُمَا.
وَأَمَّا مَن اعْتَمَرَ قَبْلَ أشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ رَجَعَ إلَى مِصْرِهِ ثُمَّ قَدِمَ ثَانِيًا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَتَمَتَّعَ بِعُمْرَةٍ إلَى الْحَجِّ: فَهَذَا أَفْضَلُ مِمَّن اقْتَصَرَ عَلَى مُجَرَّدِ الْحَجِّ فِي سَفْرَتِهِ الثَّانِيَةِ إذَا اعْتَمَرَ مَعَهَا عَقِيبَ الْحَجِّ
(2)
؛ لِأَنَّ مَن تَحْصُلُ لَهُ عُمْرَةٌ مُفْرَدَةٌ وَعُمْرَةٌ مَعَ حَجَّةٍ: أَفْضَل مِمَن لَا يَحْصُلُ لَهُ إلَّا عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ.
(1)
رواه البخاري (1782)، ومسلم (1256).
(2)
والعمرة بعد الحج غير مشروعة كما ذكره الشيخ رحمه الله تعالى.
وَعُمْرَةُ تَمَتُّعٍ أَفْضَلُ مِن عُمْرَةٍ مَكِّيَّةِ عَقِيبَ الْحَجِّ.
فَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ عُمَرُ لِلنَّاسِ هُوَ الِاخْتِيَارُ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ: كَالْإِمَامِ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَالشافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَن مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَلَا يُعْرَفُ فِي اخْتِيَارِ ذَلِكَ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ
(1)
.
وَقَوِيَ النِّزَاعُ فِي ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَان، حَتَّى ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أنَّ عُثْمَانُ كَانَ يَنْهَى عَن الْمُتْعَةِ، فَلَمَّا رَآهُ عَلِيٌّ اُّهَلَّ بِهِمَا وَقَالَ: لَمْ أَكُنْ لِأَدَعَ سُنَّةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِ أَحَدٍ، وَنَهْيُ عُثْمَان كَانَ لِاخْتِيَارِ الْأفْضَلِ لَا نَهْيَ كَرَاهَةٍ. [26/ 276 - 278]
3189 -
نَصَّ أَحْمَد عَلَى أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ يُجْزِئهُ سَعْيٌ وَاحِدٌ كَمَا يُجْزِئُ الْقَارِنَ
(2)
، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَخْتَلِفَانِ إلَّا بِالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَمَعْلُومٌ اُّنَّ تَقَدُّمَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ أَفْضَلُ مِن تَأْخِيرِهِ؛ لِأَنَّهُ أَكْمَلُ، وَهَذَا الَّذِي ثَبَتَ صَحِيحًا صَرِيحًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قال أَنَسٌ: سَمِعْته يَقُولُ: "لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا"
(3)
.
وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لَو اسْتَقْبَلْت مِن أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَمَا سُقْت الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً"
(4)
: فَهَذَا أَيْضا يُبَيِّنُ أَنَّهُ مَعَ سَوْقِ الْهَدْيِ لَمْ يَكُن يَجْعَلُهَا عُمْرَةً، وَأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ يَجْعَلُهَا عُمْرَةً إذَا لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ؛ وَذَلِكَ لِأنَّ أَصْحَابَهُ الَّذِينَ أَمَرَهُم بِالْإِحْلَالِ -وَهُم الَّذِينَ لَمْ يَسُوقُوا الْهَدْيَ- كَرِهُوا أَنْ يُحِلُّوا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لِأَنَّهُم لَمْ يَكُونوا يَعْتَادُونَ الْحِلَّ فِي وَسَطِ الْإِحْرَامِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لِأَجْلِ تَطْيِيبِ قُلُوبِهِم يُوَافِقُهُم فِي الْفِعْلِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ لَو اسْتَقْبَلَ مِن
(1)
ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ظاهرٌ في أنَّه يرى أنّ العمرة التي تكون لها سفرة خاصة أفضل من العمرة التي تكون مع التمتع، ولهذا إذا رجع بعد عمرته السابقة فالشيخ لا يقول بأنَّ الإفراد أفضل، بل إن تمتع فهذا أكمل وأفضل.
(2)
وهو الذي رجحه الشيخ كما تقدم.
(3)
رواه مسلم (1232).
(4)
أخرجه البخاري (7229).
أَمْرِهِ مَا اسْتَدْبَرَ؛ أَيْ: لَو كُنْت السَّاعَةَ مُبْتَدِئًا الْإِحْرَامَ لَمْ أَسُق الْهَدْيَ وَلَأَحْرَمْت بِعُمْرَةٍ أَحِلُّ مِنْهَا.
وَهُوَ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُخْتَارَ لِمَن قَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَحَدُ أَمْرَيْنِ:
أ- إمَّا أَنْ يَسُوقَ الْهَدْيَ و
(1)
يَتَمَتَّعَ تَمَتُّعَ قَارِنٍ.
ب- أَو لَا يَسُوقُ الْهَدْيَ وَيتَمَتَّعُ بِعُمْرَةٍ وَيَحِلُّ مِنْهَا.
ثُمَّ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إنَّ الَّذِي اخْتَارَهُ اللهُ لِنَبِيِّهِ هُوَ أَفْضَلُ الْأَمْرَيْنِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "لَو اسْتَقْبَلْت مِن أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَمْ أفعَلْ ذَلِكَ": فَهُوَ حُكْمٌ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ، وَالْمُعَلَّقُ عَلَى شَرْطٍ عُدِمَ عِنْدَ عَدَمِهِ، فَمَا اسْتَقْبَلَ مِن أَمْرِهِ مَا اسْتَدْبَرَ، وَقَد اخْتَارَ اللهُ تَعَالَى لَهُ مَا فَعَلَ، وَاخْتَارَ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَقْبِلْ مَا اسْتَدْبَرَ.
وَلَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ الشَّيْءُ أَفْضَلَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مُطْلَقًا.
وَلَكِنَّ هَذَا بَيَّنَ أَنَّ الْمُوَافَقَةَ إذَا كَانَ فِي تَنْوِيعِ الْأَعْمَالِ تَفَرُّقٌ وَتَشَتُّتٌ: هُوَ أَوْلَى مِن تَنْوِيعِهَا
(2)
.
فَأَعْدَلُ الْأَقْوَالِ وَهُوَ أَتْبَعُهَا لِلسُّنَّةِ وَأَصَحُّهَا فِي الْأَثَرِ وَالنَّظَرِ مَا ذَكَرْنَاهُ: أَنَّ مَن قَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مُرِيدًا لِلْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فِي تِلْكَ السَّفْرَةِ: فَالسُّنَّةُ لَهُ التَّمَتُّعُ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ
(3)
، ئُمَّ إنْ سَاقَ الْهَدْيَ لَمْ يَحِلّ مِن إحْرَامِهِ، وَلَكِنَّ إحْرَامَهُ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ أَوَّلًا قَبْلَ الطَّوَافِ وَالسَّعْي أَفْضَلُ لَهُ مِن أَنْ يُؤَخِّرَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ إلَى مَا بَعْدَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ.
(1)
في الأصل: (أَوْ)، ولعل المثبت هو الصواب؛ لأنه ذكر أمرين، وإذا جعلناها (أو) أصبحت ثلاثة أمور، ولا يستقيم المعنى بها أيضًا.
(2)
والمعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم اختار القران لا لأنه الأفضل، بل لينوع في العبادات، والفعل أقوى من القول، ولكن حينما رأى أن قلوبهم بدأت تتغير، وامتنع بعضهم من الفسخ: أحبَّ لو أنه لم يسق الهدي وتمتع لئلا يسري الشقاق والخلاف بينهم.
(3)
وهو يشمل التمتع والقران.
وَإِن لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ: حَلَّ، وَهَذَا أَفْضَلُ لَهُ مِن أَنْ يَجِيءَ بِعُمْرَةٍ عَقِبَ الْحَجِّ.
وَأَمَّا مَن أَفْرَدَهُمَا فِي سَفْرَةٍ وَاعْتَمَرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَأَقَامَ إلَى الْحَجِّ: فَهَذَا أَفْضَلُ مِن التَّمَتُّعِ، وَهَذَا قَوْلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ.
وَاخْتِيَارُ الْمُتْعَةِ هُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ مَكَّةَ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَقَوْلُ بَنِي هَاشِمٍ.
فَاتَّفَقَ عَلَى اخْتِيَارِهِ: عُلَمَاءُ سُنَّتِهِ، وَأَهْلُ بَلْدَتِهِ، وَأَهْلُ بَيْتِهِ.
وَالْغَلَطُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرٌ عَلَى السُّنَّةِ وَعَلَى الْأَئِمَّةِ، وَإِلَّا فَكَيْفَ يَشُكُّ مَن لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ فِي السُّنَّةِ أَنَ أَصْحَابَهُ لَمْ يَعْتَمِرْ أَحَدٌ مِنْهُم عَقِيبَ الْحَجِّ!
وَكَيْفَ يَشكُّ مُسْلِمٌ أَنَّ مَا فَعَلُوهُ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْأَفْضَلُ لَهُم وَلمَن كَانَ حَالُهُ كَحَالِهِمْ!
(1)
[26/ 284 - 289]
3190 -
وَأَمَّا مَن قَالَ مِن الْفُقَهَاءِ: الْإِفْرَادُ أَنْ يَحُجَّ وَيَعْتَمِرَ عَقِبَ ذَلِكَ مِن مَكَّةَ فَهَذَا غالط بِإِجْمَاع الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّهُ لَا نِزَاعَ بَيْنَهُم أَنَّ مَن اعْتَمَرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَرَجَعَ إلَى بَلَدهِ ثُمَّ حَجَّ، أَو أَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى يَحُجَّ مِن عَامِهِ أَنَّهُ مُفْرِدٌ لِلْحَجِّ
(2)
، وَكَذَلِكَ لَو اعْتَمَرَ بَعْدَ الْحَجِّ فِي سَفْرَةٍ أُخْرَى فَإِنَّهُ مُفْرِدٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَهَذَا الْإِفْرَادُ هُوَ الَّذِي اسْتَحَبَّهُ الصَّحَابَةُ، وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ أَيْضًا عِنْدَ أحْمَد وَغَيْرِهِ؛ فَإِنَّ الِاعْتِمَارَ فِي رَمَضَانَ وَالْإِقَامَةَ إلَى أَنْ يَحُجَّ أَفْضَلُ مِن التَّمَتُّعِ، وَإِن كَانَ الرُّجُوعُ إلَى بَلَدِهِ ثُمَّ السَّفَرُ لِلْحَجِّ أَفْضَلَ مِنْهَا. [26/ 48 - 49]
3191 -
مَن قَالَ مِن أَصْحَابِ أَحْمَد: إنَّهُ تَمَتَّعَ وَلَمْ يَحِلَّ مِن إحْرَامِهِ لِأَجْلِ
(1)
فالمتعة أفضل الأنساك لمن لم يسق الهدي.
(2)
إذا أحْرَمَ بِالعمرة فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الحج: لَمْ يَكُن مُتَمَتِّعًا، سَوَاءٌ: وَقَعَتْ أَفْعَالُهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، أَو فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ الإمام أَحْمَدُ. يُنظر: المغني (3/ 412).
سَوْقِ الْهَدْيِ -كَمَا يَخْتَارُهُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ- فَالتَّمَتُّعُ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُم: السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ بَعْدَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ لِلْحَجِّ كَمَا سَعَى أوَّلًا لِلْعُمْرَةِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْعَ بَعْدَ الْإِفَاضَةِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ؟
لَكِنْ عَن أحْمَد رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ لَا يَحْتَاجُ إلَى سَعْي ثَانٍ؛ بَل يَكْفِيهِ السَّعْيُ الْأَوَّلُ كَمَا يَكْفِي الْمُفْرِدَ وَكَمَا يَكْفِي الْقَارِنَ .. لَكِنْ لَا يَبْقَى بَيْنَ الْقَارِنِ وَبَيْنَ الْمُتَمَتِّعِ الَّذِي سَاقَ الْهَدْيَ -فَلَمْ يَحِلَّ لِأَجْلِهِ- فَرْقٌ إلا أَنَّ الْقَارِنَ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، وَالْمُتَمَتِّعُ أحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ إدْخَالُهُ الْحَجَّ عَلَيْهَا بَعْدَ طَوَافِهِ وَسَعْيِهِ كَإِدْخَالِهِ قَبْلَ طَوَافِهِ وَسَعْيِهِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ سَعْيًا ثَانِيًا: لَمْ يَكُن بَيْنَ الْقَارِنِ وَالْمُتَمَتِّعِ الَّذِي لَمْ يَحِلَّ فَرْقٌ أَصْلًا. [26/ 84]
3192 -
لَيْسَ فِي عَمَلِ الْقَارِنِ زَيادَةٌ عَلَى عَمَلِ الْمُفْرِدِ، لَكِنْ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُتَمَتِّعِ هَدْيٌ: بَدَنَةٌ أَو بَقَرَةٌ أو شَاةٌ أَو شِرْكٌ فِي دَمٍ، فَمَن لَمْ يَجِد الْهَدْيَ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ، وَلَهُ أَنْ يَصُومَ الثَّلَاثَةَ مِن حِينِ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أظْهَرِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ. [26/ 143]
* * *
(باب المواقيت)
3193 -
الْمَوَاقِيتُ خَمْسَةٌ: ذُو الحليفة وَالْجَحْفَةُ وَقَرْنُ الْمَنَازِلِ ويلملم وَذَاتُ عِرْقٍ.
فَذُو الحليفة: هِيَ أبْعَدُ الْمَوَاقِيتِ .. وَفِيهَا بِئْرٌ تُسَمِّيهَا جُهَّالُ الْعَامَّةِ "بِئْرَ عَلِيٍّ" لِظَنِّهِمْ أَنَّ عَلِيًّا قَاتَلَ الْجِنَّ بِهَا وَهُوَ كَذِبٌ، فَإِن الْجِنَّ لَمْ يُقَاتِلْهُم أحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَلِيٌّ أَرْفَعُ قَدْرًا مِن أنْ يَثْبُتَ الْجِنُّ لِقِتَالِهِ، وَلَا فَضِيلَةَ لِهَذَا الْبِئْرِ وَلَا مَذَمَّةَ وَلَا يُسْتَحَبُّ أنْ يَرْمِيَ بِهَا حَجَرًا وَلَا غَيْرَهُ.
وَأَمَّا الْجَحْفَةُ: فَبَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ نَحْوُ ثَلَاثِ مَرَاحِلَ وَهِيَ قَرْيَةٌ كَانَت قَدِيمَةً مَعْمُورَةً وَكَانَت تُسَمَّى مهيعة وَهِيَ الْيَوْمَ خَرَابٌ؛ وَلهَذَا صَارَ النَّاسُ يُحْرِمُونَ
قَبْلَهَا مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي يُسَمَّى رَابِغًا، وَهَذَا مِيقَاتٌ لِمَن حَجَّ مِن نَاحِيَةِ الْمَغْرِبِ: كَأَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَسَائِرِ الْمَغْرِبِ، لَكِنْ إذَا اجْتَازُوا بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ -كَمَا يَفْعَلُونَهُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ- أَحْرَمُوا مِن مِيقَاتِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمُسْتَحَبُّ لَهُم بِالِاتِّفَاقِ، فَإِنْ أَخَّرُوا الْإِحْرَامَ إلَى الْجَحْفَةِ فَفِيهِ نِزَاعٌ.
وَأَمَّا الْمَوَاقِيتُ الثَّلَاثَةُ فَبَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ نَحْوُ مَرْحَلَتَيْنِ.
وَلَيْسَ لأحَدٍ أَنْ يُجَاوِزَ الْمِيقَاتَ إذَا أَرَادَ الْحَجَّ أَو الْعُمْرَةَ إلَّا بِإِحْرَام. [26/ 99 - 100]
3194 -
مَن كَانَ بِمَكَّةَ مِن مُسْتَوْطِنٍ وَمُجَاوِرٍ وَقَادِمٍ وَغَيْرِهِمْ: فَإِنَّ طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ أَفْضَلُ لَهُ مِنَ الْعُمْرَةِ، وَسَوَاءٌ خَرَجَ فِي ذَلِكَ إلَى أَدْنَى الْحِلِّ وَهُوَ التَّنْعِيمُ الَّذِي أُحْدِثَ فِيهِ الْمَسَاجِدُ الَّتِي تُسَمَّى "مَسَاجِدَ عَائِشَةَ"، أَو أَقْصَى الْحِلِّ مِن أَيِّ جَوَانِبِ الْحَرَمِ.
وَهَذَا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ بَيْنَ سَلَفِ الْأُمَّةِ، وَمَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا مِن أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ فِي الْعُمْرَةِ الْمَكِّيَّةِ.
وَأَمَّا الْعُمْرَةُ مِن الْمِيقَاتِ: بِأَنْ يَذْهَبَ إلَى الْمِيقَاتِ فَيُحْرِمَ مِنْهُ، أَو يَرْجِعَ إلَى بَلَدِهِ ثُمَّ يُنْشِئَ السَّفَرَ مِنْهُ لِلْعُمْرَةِ: فَهَذِهِ لَيْسَتْ عُمْرَة مَكيَّةً؛ بَل هَذِهِ عُمْرَةٌ تَامَّةٌ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ هُنَا فِيهَا.
وَسَيَأْتِي كَلَامُ بَعْضِ مَن رَجَّحَ الْمُقَامَ بِمَكَّةَ لِلطَّوَافِ عَلَى الرُّجُوعِ لِلْعُمْرَةِ مِنَ الْمِيقَاتِ.
وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّهُ هَل يُكْرَهُ لِلْمَكِّيِّ الْخُرُوجُ لِلِاعْتِمَارِ مِن الْحِلِّ أَمْ لَا؟
وَهَل يُكْرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ مَن تُشْرَعُ لَهُ الْعُمْرَةُ كَالْأفُقِيِّ
(1)
فِي الْعَامِ أَكْثَرَ مِن عُمْرَةٍ أَمْ لَا؟ وَهَل يُسْتَحَبُّ كَثْرَةُ الِاعْتِمَارِ أَمْ لَا؟
(1)
الأفقي: نسبة إلى الأفق، ويقال: الآفاقي نسبة إلى الآفاق، والأرجح لغةٌ أن يقال الأفقي نسبة إلى المفرد؛ لأن هذا هو الأصل في النسبة.
والأفقي: من لم يكن حاضر المسجد الحرام. الشرح الممتع (7/ 88).
فَأَمَّا كوْنُ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ أَفْضَلَ مِنَ الْعُمْرَةِ لِمَن كَانَ بِمَكَّةَ: فَهَذَا مِمَّا لَا يَسْتَرِيبُ فِيهِ مَن كَانَ عَالِمًا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ وَأئِمَّتِهَا؛ وَذَلِكَ أَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ مِن أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ وَالْقُرُبَاتِ الَّتِي شَرَعَهَا اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَقَد قَالَ تَعَالَى لِخَلِيلِهِ إمَامِ الْحُنَفَاءِ الَّذِي أَمَرَهُ بِبِنَاءِ الْبَيْتِ وَدَعَا النَّاسَ إلَى حَجِّهِ: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)} [البقرة: 125] ..
قَدَّمَ الْأَخَصَّ بِالْبِقَاعِ فَالْأَخَصَّ، فَقَدَّمَ الطَّوَافَ لِأنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، ثُمَّ الْعُكُوفَ لِأَنَّهُ يَكونُ فِيهِ وَفِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي يُصَلِّي الْمُسْلِمُونَ فِيهَا الصَّلَاةَ الْمَشْرُوعَةَ وَهِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ جَمَاعَةً، ثُمَّ الصَّلَاةَ لِأنَّ مَكَانَهَا أَعَمُّ.
وَمِن خَصَائِصِ الطَّوَافِ: أنَّه مَشْرُوعٌ بِنَفْسِهِ مُنْفَرِدًا أَو فِي ضِمْنِ الْعُمْرَةِ وَفِي ضِمْنِ الْحَجِّ، وَلَيْسَ فِي أعْمَالِ الْمَنَاسِكِ مَا يُشْرَعُ مُنْفَرِدًا عَن حَجّ وَعُمْرَةٍ إلَّا الطَّوَافَ.
ويُسْتَحَبُّ أَيْضًا الطَّوَافُ فِي أثْنَاءِ الْمُقَامِ بِمِنَى ويُسْتَحَبُّ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ عُمُومًا.
وَأَمَّا الِاعْتِمَارُ لِلْمَكِّيِّ بِخُرُوجِهِ إلَى الْحِلِّ: فَهَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَطُّ إلَّا عَائِشَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْهَا بِهِ؛ بَل أَذِنَ فِيهِ بَعْدَ مُرَاجَعَتِهَا إيَّاهُ.
فَأَمَّا أَصْحَابُهُ الَّذِينَ حَجُّوا مَعَهُ حَجَّةَ الْوَدَاعِ كُلُّهُم مِن أَوَّلهِمْ إلَى آخِرِهِمْ فَلَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ مِنْهُم لَا قَبْلَ الْحَجَّةِ وَلَا بَعْدَهَا لَا إلَى التَّنْعِيمِ وَلَا إلَى الْحُدَيْبِيَةِ وَلَا إلَى الْجِعْرَانَةِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْعُمْرَةِ. وَكَذَلِكَ أَهْلُ مَكَّةَ الْمُسْتَوْطِنِينَ لَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ مِنْهُم إلَى الْحِلِّ لِعُمْرَةٍ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ لِجَمِيعِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ سُنَّتَهَ وَشَرِيعَتَهُ.
فَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِين كَانُوا بِمَكَّةَ مِن حِينِ بُعِثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى أَنْ تُوُفِّيَ
-إذَا كَانُوا بِمَكَّةَ- لَمْ يَكُونُوا يَعْتَمِرُونَ مِن مَكَّةَ؛ بَل كَانُوا يَطُوفُونَ وَيحُجُّونَ مِنَ الْعَامِ إلَى الْعَامِ، وَكَانُوا يَطُوفُونَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِن غَيْرِ اعْتِمَارٍ: كَانَ هَذَا مِمَّا يُوجِبُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ أَنَّ الْمَشْرُوعَ لِأَهْلِ مَكَّةَ إنَّمَا هُوَ الطَّوَافُ، وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَفْضَلُ لَهُم مِن الْخُرُوجِ لِلْعُمْرَةِ؛ إذ مِن الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَتَّفِقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَجَمِيعُ أَصْحَابهِ عَلَى عَهْدِهِ عَلَى الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْمَفْضُولِ وَتَرْك الْأَفْضَلِ، فَلَا يَفْعَلُ أَحَدٌ مِنْهُم اَلْأَفْضَلَ وَلَا يُرَغِّبُهُم فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ مِن أهْلِ الْإِيمَانِ.
وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ: أنَّ الْمُسْلِمِينَ قَد تَنَازَعُوا فِي وُجُوبِ الْعُمْرَةِ لِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورينِ لِلْعُلَمَاءِ.
وَمَعَ هَذَا فَالْمَنْقُولُ الصَّرِيحُ عَمَّن أَوْجَبَ الْعُمْرَةَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتابِعِينَ لَمْ يُوجِبْهَا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ.
قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ: كَانَ ابْن عَباسٍ يَرَى الْعُمْرَةَ وَاجِبَةً ويقُولُ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ عُمْرَةٌ إنَّمَا عُمْرَتُكُمْ طَوَافُكُمْ بِالْبَيْتِ.
وَكَلَامُ هَؤُلَاءِ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ يَقْتَضِي أَنَّهُم كَانُوا لَمْ يَسْتَحِبُّوهَا لِأَهْلِ مَكَّةَ فَضْلًا عَن أَنْ يُوجِبُوهَا
(1)
.
وَلهَذَا لَمْ يَكُن بُدٌّ مِن أَنْ يَجْمَعَ فِي نُسُكِهِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ حَتَّى يَكُونَ قَاصِدًا لِلْحَرَمِ مِنَ الْحِلِّ؛ فَيَظْهَرُ فِيهِ مَعْنَى الْقَصْدِ إلَى اللهِ وَالتَّوَجُّهِ إلَى بَيْتِهِ وَحَرَمِهِ، فمَن كَانَ بَيْتُهُ خَارجَ الْحَرَمِ فَهُوَ قَاصِدٌ مِنَ الْحِلِّ إلَى الْحَرَمِ إلَى الْبَيْتِ.
وَأَمَّا مَن كَانَ بِالْحَرَمِ -كَأَهْلِ مَكَّةَ- فَهُم فِي الْحَجِّ لَا بُدَّ لَهُم مِنَ الْخُرُوجِ إلَى عَرَفَاتٍ، وَعَرَفَاتٌ هِيَ مِنَ الْحِلِّ، فَإِذَا فَاضُوا مِن عَرَفَاتٍ قَصَدُوا حِينَئِذٍ الْبَيْتَ مِنَ الْحِلِّ، وَلهَذَا كَانَ الطَّوَافُ الْمَفْرُوضُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ التَّعْرِيفِ وَهُوَ
(1)
قال الشيخ في الرد على مَن أوجَب الْعُمْرَة عَلَى أهْلِ مَكَّةَ: قَوْلٌ ضَعِيفٌ جِدًّا مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ. (258)
الْقَصْدُ مِن الْحِلِّ إلَى الْكَعْبَةِ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةُ الْحَجِّ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "الْحَجُّ
عَرَفَةُ"
(1)
.
وَلهَذَا لَمْ يَكُن عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ طَوَافُ قُدُومٍ وَلَا طَوَافُ وَدَاعٍ؛ لِانْتِفَاءِ مَعْنَى ذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ، فَإِنَّهُم لَيْسُوا بِقَادِمِينَ إلَيْهَا وَلَا مُوَدِّعِينَ لَهَا مَا دَامُوا فِيهَا.
فَظَهَرَ أَنَّ الْحَجَّ الَّذِي أَصْلُهُ التَّعْرِيفُ لِلطَّوَافِ بَعْدَ ذَلِكَ: مَشْرُوعٌ لِوُجُودِ حَقِيقَتِهِ فِيهِمْ.
وَأَمَّا الْعُمْرَةُ: فَإِنَّ جِمَاعَهَا الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَذَلِكَ مِن نَفْسِ الْحَرَمِ وَهُوَ فِي الْحَرَمِ دَائِمًا.
وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أنَّ الطَّوَافَ أَفْضَلُ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أنَّ الِاعْتِمَارَ مِن مَكَّةَ وَتَرْكَ الطَّوَافِ لَيْسَ بِمُسْتَحَبٍّ؛ بَل الْمُسْتَحَبُّ هُوَ الطَّوَافُ دُونَ الِاعْتِمَارِ؛ بَلِ الِاعْتِمَارُ فِيهِ حِينَئِذٍ هُوَ بِدْعَةٌ لَمْ يَفْعَلْهُ السَّلَفُ وَلَمْ يُؤمَرْ بِهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا قَامَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى اسْتِحْبَابِهَا، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مِنَ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.
وَلهَذَا كَانَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ يَنْهَوْنَ عَن ذَلِكَ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا كَثْرَةُ الِاعْتِمَارِ فِي رَمَضَانَ لِلْمَكِّيِّ وَغَيْرِهِ، فَهُنَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ مُرَتَّبَةٍ:
أ- الِاعْتِمَارُ فِي الْعَامِ أَكْثَرَ مِن مَرَّةٍ.
ب- ثُمَّ الِاعْتِمَارُ لِغَيْرِ الْمَكِّيِّ.
ج- ثُمَّ كَثْرَةُ الِاعْتِمَارِ لِلْمَكِّيِّ.
فَأَمَّا كَثْرَةُ الِاعْتِمَارِ الْمَشرُوعِ: كَاَلَّذِي يَقْدَمُ مِن دويرة أَهْلِهِ فَيُحْرِمُ مِنَ
(1)
رواه الترمذي (2975)، وصحَّحه الألباني في صحيح الترمذي (2975).
الْمِيقَاتِ بِعُمْرَة، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ يَفْعَلُونَ، وَهَذِهِ مِنَ الْعُمْرَةِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَهُمْ، فَقَد تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ: هَل يُكْرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي السَّنَةِ أَكْثَرَ مِن عُمْرَةٍ وَاحِدَةٍ؟ فَكَرِهَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ: مِنْهم الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِين وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِي: مَا كَانُوا يَعْتَمِرُونَ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً.
وَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ آخَرُونَ، مِنْهُم مِن أَهْلِ مَكَّةَ: عَطَاءٌ وطاوس وَعِكْرِمَةُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ الصَّحَابَةِ.
قَالَ عَلِيٌّ: أَعْتَمِرُ فِي الشَّهْرِ إنْ أَطَقْت مِرَارًا.
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَن سُفْيَانَ عَن ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ عَن بَعْضِ وَلَدِ أَنَسٍ: أَنْ أَنَسًا كَانَ إذَا كَانَ بِمَكَّةَ فَحَمَّمَ رَأسُهُ خَرَجَ إلَى التَّنْعِيمِ وَاعْتَمَرَ.
وَهَذِهِ -وَاللهُ أَعْلَمُ- هِيَ عُمْرَةُ الْمُحرمِ، فَإِنَّهُم كَانُوا يُقِيمُونَ بِمَكَّةَ
(1)
إلَى الْمُحَرَّمِ ثُمَّ يَعْتَمِرُونَ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ الْعُمْرَةَ مِن مَكَّةَ مَشْرُوعَةٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَهَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ، وَالْأئِمَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ.
فَصْلٌ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْإِكْثَارِ مِنَ الِاعْتِمَارِ وَالْمُوَالَاةِ بَيْنَهَا: مِثْل أَنْ يَعْتَمِرَ مَن يَكُونُ مَنْزِلُهُ قَرِيبًا مِن الْحَرَمِ كُلَّ يَوْمٍ أَو كُلَّ يَوْمَيْنِ، أَو يَعْتَمِرَ الْقَرِيبُ مِن الْمَوَاقِيتِ الَّتِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ يَوْمَانِ: فِي الشَّهْرِ خَمْسَ عُمَرٍ أَو سِتَّ عُمَرٍ وَنَحْو ذَلِكَ، أو يَعْتَمِرَ مَن يَرَى الْعُمْرَةَ مِن مَكَّةَ كُلَّ يَوْمٍ عُمْرَةً أَو عُمْرَتَيْنِ، فَهَذَا مَكْرُوهٌ بِاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ، لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِن السَّلَفِ؛ بَل اتَّفَقُوا عَلَى كَرَاهِيَتِهِ.
وَاَلَّذِينَ رَخَّصُوا فِي أَكْثَرَ مِن عُمْرَةٍ فِي الْحَوْلِ أَكْثَرُ مَا قَالُوا: يَعْتَمِرُ إذَا أَمْكَنَ الْمُوسَى مِن رَأسِهِ أَو فِي شَهْرٍ مَرَّتَيْنِ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
(1)
بعد حجهم.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد، قَالَ أَحْمَد: إذَا اعْتَمَرَ فَلَا بُدَّ مِن أَنْ يَحْلِقَ أَو يُقَصِّرَ وَفِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ يُمْكِنُ حَلْقُ الرَّأْسِ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد فِعْلُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الَّذِي رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ: أنَّه كَانَ إذَا حَمَّمَ رَأْسُهُ خَرَجَ فَاعْتَمَرَ.
وَهَذَا لِأَنَّ تَمَامَ النُّسُكِ الْحَلْقُ أَو التَّقْصِيرُ وَهُوَ إمَّا وَاجِبٌ فِيهِ أَو مُسْتَحَبٌّ.
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ
(1)
فَنَقُول: فَإِذَا كَانَ قَد تَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِن السُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ بَل تُكْرَهُ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ الْعُمْرَةِ لِمَن يُحْرِمُ مِن الْمِيقَاتِ، فَمِن الْمَعْلُوم أَنَّ الَّذِي يُوَالِي بَيْنَ الْعُمَرِ مِن مَكَّةَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ أَو غَيْرِهِ أَوْلَى بِالْكَرَاهَةِ، فَإِنَّهُ يَتَّفِقُ فِي ذَلِكَ مَحْذُورَانِ:
أَحَدُهُمَا: كَوْنُ الِاعْتِمَارِ مِن مَكَّةَ، وَقَد اتَّفَقُوا عَلَى كَرَاهَةِ اخْتِيَارِ ذَلِكَ بَدَلَ الطَّوَافِ.
وَالثَّانِي: الْمُوَالَاةُ بَيْنَ الْعُمَرِ، وَهَذَا اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ اسْتِحْبَابِهِ؛ بَل يَنْبَغِي كَرَاهَتُهُ مُطْلَقًا فِيمَا أَعْلَمُ لِمَن لَمْ يَعْتَضْ عَنْهُ بِالطَّوَافِ وَهُوَ الْأَقْيَسُ، فَكَيْفَ بِمَن قَدَرَ عَلَى أَنْ يَعْتَاضَ عَنْهُ بِالطَّوَافِ؟
بِخِلَافِ كَثْرَةِ الطَّوَافِ فَإِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ مَأْمُورٌ بِهِ لَا سِيَّمَا لِلْقَادِمِينَ، فَإِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ طَوَافَهُم بِالْبَيْتِ أَفْضَلُ لَهُم مِن الصَّلَاةِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مَعَ فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
وَأَمَّا الِاعْتِمَارُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ: فَفِي "الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ" عَن ابْن عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِامْرَأَةٍ مِن الْأَنْصَارِ: مَا مَنَعَك أَنْ تَحُجِّي مَعَنَا؟ فَقَالَتْ: لَمْ يَكُن لَنَا إلَّا نَاضِحَانِ فَحَجَّ أَبُو وَلَدِهَا عَلَى نَاضِحٍ وَتَرَكَ لَنَا نَاضِحًا
(1)
وهي كَثْرَةُ الِاعْتِمَارِ لِلْمَكِّيِّ.
نَنْضَحُ عَلَيْهِ، قَالَ:"فَإِذَا جَاءَ شَهْرُ رَمَضَانَ فَاعْتَمِرِي فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّة"
(1)
.
وَفي "الصَّحِيحَيْنِ"
(2)
أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأمِّ سِنَانٍ امْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ: "عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً مَعِي".
فَهَذِهِ الْأحَادِيثُ تُبَيِّنُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ بِذَلِكَ الْعُمْرَةَ الَّتِي كَانَ الْمُخَاطَبُونَ يَعْرِفُونَهَا، وَهِيَ قُدُومُ الرَّجُلِ إلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرًا، فَأمَّا أَنْ يَخْرُجَ الْمَكِّيُّ فَيَعْتَمِرَ مِنَ الْحِلِّ فَهَذَا أمْرٌ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهُ وَلَا يَفْعَلُونَهُ وَلَا يَأْمُرُونَ بِهِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُرَادًا مِن الْحَدِيثِ مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ كَانَت بِالْمَدِينَةِ النَّبوَّيةِ وَعُمْرَتُهَا لَا تَكُونُ إلَّا عَن الْمِيقَاتِ لَيْسَتْ عُمْرَتُهَا مَكِّيَّةٌ؟ [26/ 248 - 292]
3195 -
يكره الخروج من مكة لعمرة تطوع، وذلك بدعة لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه على عهده، لا في رمضان ولا في غيره، ولم يأمر عائشة بها؛ بل أذن لها بعد المراجعة تطييبًا لقلبها، وطوافه بالبيت أفضل من الخروج اتفاقًا
(3)
. [المستدرك 3/ 189 - 190]
* * *
(باب الإحرام)
3196 -
يستحب للمحرم الاشتراط إن كان خائفًا وإلا فلا؛ جمعًا بين الأخبار. [المستدرك 3/ 190]
3197 -
إِذَا أَرَادَ الْإِحْرَامَ: فَإِنْ كَانَ قَارِنًا قَالَ: لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا، وَإِن كَانَ مُتَمَتِّعًا قَالَ: لَبَّيْكَ عُمْرَةً مُتَمَتِّعًا بِهَا إلَى الْحَجِّ، وَإِن كَانَ مُفْرِدًا قَالَ: لَبَّيْكَ حجَّة.
(1)
رواه البخاري (1782)، ومسلم (1256).
(2)
البخاري (1863)، ومسلم (1256).
(3)
اختيارات (119) والفروع (3/ 528)، فيه التصريح بالحكم. (الجامع).
أَو قَالَ: اللَهُمَّ إنِّي أَوْجَبْت عُمْرَةً وَحَجًّا، أَو أَوْجَبْت عُمْرَةً أَتَمَتَعُ بِهَا إلَى الْحَجِّ، أَو أَوْجَبْت حَجًّا.
أَو أُرِيدُ الْحَجَّ، أَو أُرِيدُهُمَا، أَو أُرِيدُ التَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ، فَمَهْمَا قَالَ مِن ذَلِكَ أَجْزَأَهُ بِاتِّفَاقِ الْأئِمَّةِ، لَيْسَ فِي ذَلِكَ عِبَارَةٌ مَخْصُوصَةٌ، وَلَا يَجِبُ شَيْءٌ مِن هَذِهِ الْعِبَارَاتِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، كَمَا لَا يَجِبُ التَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ فِي الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ؛ بَل مَتَى لَبَّى قَاصِدًا لِلْإِحْرَامِ انْعَقَدَ إحْرَامُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أنْ يَتَكَلَّمَ قَبْلَ التَّلْبِيَةِ بِشَيْءٍ.
وَلَكِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ: هَل يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِذَلِكَ؟ كَمَا تَنَازَعُوا: هَل يُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ؟ وَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ؟. [26/ 104 - 105]
3198 -
لَو أَحْرَمَ إحْرَامًا مُطْلَقًا جَازَ، فَلَو أَحْرَمَ بِالْقَصْدِ لِلْحَجِّ مِن حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَلَا يُعْرَفُ هَذَا التَّفْصِيلُ جَازَ.
ولَو أَهَلَّ وَلَبَّى كَمَا يَفْعَلُ النَّاسُ قَاصِدًا لِلنُّسُكِ، وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا بِلَفْظِهِ وَلَا قَصَدَ بِقَلْبِهِ لَا تَمَتُّعًا وَلَا إفْرَادًا وَلَا قِرَانًا صَحَّ حَجُّهُ أَيْضًا، وَفَعَلَ وَاحِدًا مِنَ الثَّلَاثَةِ. [26/ 106]
3199 -
التَّجَرُّدُ مِنَ اللِّبَاسِ وَاجِبٌ فِي الْإحْرَامِ وَلَيْسَ شَرْطًا فِيهِ، فَلَو أحْرَمَ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ صَحَّ ذَلِكَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَبِاتِّفَاقِ أئِمَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَعَلَيْهِ أنْ يَنْزعَ اللِّبَاسَ الْمَحْظُورَ. [26/ 108]
3200 -
يُسْتَحَبُّ أَنْ يُحْرِمَ عَقِيبَ صَلَاةٍ: إمَّا فَرْضٍ وَإمَّا تَطَوُّعٍ إنْ كَانَ وَقْتَ تَطَوُّعٍ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، الْآخَرِ: إنْ كَانَ يُصَلِّي فَرضًا أَحْرَمَ عَقِيبَهُ وَإِلَّا فَلَيْسَ لِلْإِحْرَامِ صَلَاةٌ تَخُصُّهُ وَهَذَا أَرْجَحُ.
ويُسْتَحَبُّ أنْ يَغْتَسِلَ لِلْإِحْرَامِ وَلَو كَانَت نُفَسَاءَ أَو حَائِضًا.
وَإِن احْتَاجَ إلَى التَّنْظِيفِ؛ كَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَنَتْفِ الْإِبِطِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ وَنَحْوِ
ذَلِكَ فَعَلَ ذَلِكَ، وَهَذَا لَيْسَ مِن خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَكُن لَهُ ذِكْرٌ فِيمَا نَقَلَهُ الصَّحَابَةُ، لَكِنَّهُ مَشْروعٌ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، وَهَكَذَا يُشْرَعُ لِمُصَلِّي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ.
ويُسْتَحَبُّ أَنْ يُحْرِمَ فِي ثَوْبَيْنِ نَظِيفَيْنِ فَإِنْ كَانَا أَبْيَضَيْنِ فَهُمَا أَفْضَلُ، وَيجُوزُ أَنْ يُحْرِمَ فِي جَمِيعِ أَجْنَاسِ الثيابِ الْمُبَاحَةِ: مِنَ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَالصُّوفِ.
وَالسُّنَّة أَنْ يُحْرِمَ فِي إزَارٍ وَرِدَاءٍ سَوَاءٌ كَانَا مَخِيطَيْنِ أَو غَيْرَ مَخِيطَيْنِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَلَو أَحْرَمَ فِي غَيْرِهِمَا جَازَ إذَا كَانَ مِمَّا يَجُوزُ لُبْسُهُ، وَيَجُوزُ أنْ يُحْرِمَ فِي الْأَبْيَضِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَلْوَانِ الْجَائِزَةِ وَإِن كَانَ مُلَوَّنًا. [26/ 108 - 109]
3201 -
الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَ مَا دُونَ الْكَعْبَيْنِ؛ مِثْل الْخُفِّ الْمُكَعَّبِ وَالْجُمْجُمِ وَالْمَدَاسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ وَاجِدًا لِلنَّعْلَيْنِ أَو فَاقِدًا لَهُمَا.
وَإِذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ وَلَا مَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا؛ مِثْلُ الْجُمْجُمِ وَالْمَدَاسِ وَنَحْوُ ذَلِكَ: فَلَهُ أَنْ يَلْبَسَ الْخُفَّ وَلَا يَقْطَعَهُ.
وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَجِدْ إزَارًا فَإِنَّهُ يَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ وَلَا يَفْتُقُهُ، هَذَا أَصَحُّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ.
وَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَ كُلَّ مَا كَانَ مِن جِنْسِ الْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ، فَلَهُ أَنْ يَلْتَحِفَ بِالْقَبَاءِ وَالْجُبَّةِ وَالْقَمِيصِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيتَغَطَّى بِهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ عَرْضًا، ويلْبَسُهُ مَقْلُوبًا: يَجْعَلُ أَسْفَلَهُ أَعْلَاهُ وَيتَغَطَّى بِاللِّحَافِ وَغَيْرِهِ، وَلَكِنْ لَا يُغَطِّي رَأسَهُ إلَّا لِحَاجَةٍ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَهَى الْمُحْرِمَ أَنْ يَلْبَسَ الْقَمِيصَ وَالْبُرْنُسَ وَالسَّرَاوِيلَ وَالْخُفَّ وَالْعِمَامَةَ، وَنَهَاهُم أَنْ يُغَطُّوا رَأسَ الْمُحْرِمِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَمَرَ مَن أَحْرَمَ فِي جُبَّةِ أَنْ يَنْزِعَهَا عَنْهُ، فَمَا كَانَ مِن هَذَا الْجِنْسِ فَهُوَ فِي مَعْنَى مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَمَا كَانَ فِي مَعْنَى الْقَمِيصِ فَهُوَ مِثْلُهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَلْبَسَ الْقَمِيصَ لَا بِكُمّ وَلَا بِغَيْرِكُمِّ، وَسَوَاءٌ أَدْخَلَ فِيهِ يَدَيْهِ أَو لَمْ يَدْخُلْهُمَا، وَسَوَاء كَانَ سَلِيمًا أَو مَخْرُوقًا.
وَكَذَلِكَ لَا يَلْبَسُ الْجُبَّةَ وَلَا الْقَبَاءَ الَّذِي يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِيهِ .. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ.
وَأمَّا إذَا طَرَحَ الْقَبَاءَ عَلَى كَتِفَيْهِ مِن غَيْرِ إدْخَالِ يَدَيْهِ فَفِيهِ نِزَاعٌ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ: لَا يُلْبَسُ.
وَالْمَخِيطُ: مَا كَانَ مِنَ اللِّبَاسِ عَلَى قَدْرِ الْعُضْوِ، وَكَذَلِكَ لَا يَلْبَسُ مَا كَانَ فِي مَعْنَى الْخُفِّ: كَالْمُوقِ وَالْجَوْرَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَا يَلْبَسُ مَا كَانَ فِي مَعْنَى السَّرَاوِيلِ؛ كَالتّبَّانِ وَنَحْوِهِ.
وَلَهُ أَنْ يَعْقِدَ مَا يَحْتَاج إلَى عَقْدِهِ كَالْإِزَارِ وَهِمْيَانِ النَّفَقَةِ.
وَالرِّدَاءُ لَا يَحْتَاجُ إلَى عَقْدِهِ فَلَا يَعْقِدُهُ، فَإِن احْتَاجَ إلَى عَقْدِهِ فَفِيهِ نِزَاعٌ، وَالْأَشْبَهُ جَوَازُهُ حِينَئِذٍ.
وَهَل الْمَنْعُ مِن عَقْدِهِ مَنْعُ كَرَاهَةٍ أَو تَحْرِيمٍ؟ فَفِيهِ نِزَاعٌ، وَلَيْسَ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ دَلِيلٌ.
وَأَمَّا الرَّأْسُ فَلَا يُغَطِّيهِ لَا بِمَخِيطٍ وَلَا غَيْرِهِ.
وَأمَّا الْمَرْأَة فَإِنَّهَا عَوْرَةٌ، فَلِذَلِكَ جَازَ لَهَا أَنْ تَلْبَسَ الثِّيَابَ الَّتِي تَسْتَتِرُ بِهَا وَتَسْتَظِلُّ بِالْمَحْمَلِ، لَكِنْ نَهَاهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَنْتَقِبَ أَو تَلْبَسَ الْقُفَّازَيْنِ، وَالْقُفَّازَانِ: غِلَافٌ يُصْنَعُ لِلْيَدِ.
وَلَو غَطَّتِ الْمَرْأَةُ وَجْهَهَا بِشَيْءٍ لَا يَمَسُّ الْوَجْهَ جَازَ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِن كَانَ يَمَسُّهُ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوز أَيْضًا.
وَلَا تُكَلَّفُ الْمَرْأَةُ أَنْ تجَافِيَ سُتْرَتَهَا عَنِ الْوَجْهِ لَا بِعُود وَلَا بِيَد وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ.
وَلَمْ يَنْقلْ أَحَد مِن أَهْلِ الْعِلْمِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا"
(1)
وَإِنَّمَا هَذَا قَوْلُ بَعْضِ السَّلَفِ، لَكِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَاهَا أَنْ تَنْتَقِبَ أَو
(1)
ضعَّفه الألباني في ضعيف الجامع (4894).
تَلْبَسَ الْقُفَّازينِ، كَمَا نَهَى الْمُحْرِمَ أَنْ يَلْبَسَ الْقَمِيصَ وَالْخُفَّ، مَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتُرَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَالْبُرْقُعُ أَقْوَى مِن النِّقَابِ؛ فَلِهَذَا يُنْهَى عَنْهُ بِاتِّفَاقِهِمْ، وَلهَذَا كَانَتِ الْمُحْرِمَةُ لَا تَلْبَسُ مَا يُصْنَعُ لِسَتْرِ الْوَجْهِ كَالْبُرْقُعِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ كَالنِّقَابِ. [26/ 109 - 113]
3202 -
لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُحْرِمًا بِمُجَرَّدِ مَا فِي قَلْبِهِ مِن قَصْدِ الْحَجِّ وَنِيَّتِهِ، فَإِنَّ الْقَصْدَ مَا زَالَ فِي الْقَلْبِ مُنْذُ خَرَجَ مِن بَلَدِهِ؛ بَل لَا بُدَّ مِن قَوْلٍ أَو عَمَلٍ يَصِيرُ بِهِ مُحْرِمًا، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِن الْقَوْلَيْنِ. [26/ 108]
3203 -
قَوْلهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا سُئِلَ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِن الثِّيَابِ؟ فَقَالَ: "لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا الْبَرَانِسَ وَلَا الْخِفَافَ، وَمَن لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِن الْكَعْبَيْنِ"
(1)
، هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ، وَذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ بِذَلِكَ لَمَّا كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَكُن حِينَئِذٍ قَد شُرِعَتْ رُخْصَةُ الْبَدَلِ، فَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُم لَا فِي لُبْسِ السَّرَاوِيلِ إذَا لَمْ يَجِدُوا الْإِزَارَ وَلَا فِي لُبْسِ الْخُفِّ مُطْلَقًا.
ثُمَّ إنَّهُ فِي عَرَفَاتٍ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ: "السَّرَاوِيلُ لِمَن لَمْ يَجِدِ الإِزَارَ وَالْخِفَافُ لِمَن لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ"
(2)
، هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَحَدِيثُهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ"، وَرَوَاهُ جَابِرٌ وَحَدِيثُهُ فِي مُسْلِمٍ.
فَأرْخَصَ لَهُم بِعَرَفَات فِي الْبَدَلِ، فَأَجَازَ لَهُم لُبْسَ السَّرَاوِيلِ إذَا لَمْ يَجِدُوا الْإِزَارَ بِلَا فَتْقٍ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، فَمَن اشْتَرَطَ فَتْقَهُ خَالَفَ النَّصَّ.
وَأَجَازَ لَهُم حِينَئِذٍ لُبْسَ الْخُفَّيْنِ إذَا لَمْ يَجِدُوا النَّعْلَيْنِ بِلَا قَطْع، فَمَن اشْتَرَطَ الْقَطْعَ فَقَد خَالَفَ النَّصَّ، فَإِنَّ السَّرَاوِيلَ الْمَفْتُوقَ وَالْخُفَّ الْمَقْطُوعَ لَا
(1)
أخرجه البخاري (1542)، ومسلم (1177).
(2)
أخرجه البخاري (1843)، ومسلم (1178).
يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى السَّرَاوِيلِ وَالْخُفِّ عِنْدَ الْاِطْلَاقِ، كَمَا أَنَ الْقَمِيصَ إذَا فُتِقَ وَصَارَ قطعًا لَمْ يُسَمَّ سَرَاوِيلَ.
وَدَلَّتْ نُصُوصُهُ الْكَرِيمَةُ وَأَلْفَاظُهُ الشَّرِيفَةُ الَّتِي هِيَ مَصَابِيحُ الْهُدَى عَلَى أُمُورٍ يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَى مَعْرِفَتِهَا قَد تَنَازَعَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ:
مِنْهَا: أَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ لِلْمُحْرِمِ إذَا لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ يَلْبَسُ الْخُفَّ: إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا مَعَ الْقَطْعِ: كَانَ ذَلِكَ إذْنًا فِي كل مَا يُسَمَّى خُفًّا سَوَاءٌ كَانَ سَلِيمًا أَو مَعِيبًا، وَكَذَلِكَ لَمَّا أَذِنَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ كَانَ ذَلِكَ إذْنًا فِي كُل خُفِّ.
الثَّانِي: أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ وَلَا مَا يُشْبِهُ النَّعْلَيْنِ -مِن خُفِّ مَقْطُوعٍ أَو جُمْجُمٍ أَو مَدَاسٍ أَو غَيْرِ ذَلِكَ- فَإِنَّهُ يَلْبَسُ أَيَّ خُفِّ شَاءَ وَلَا يَقْطَعُهُ، هَذَا أَصَحُّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ بِذَلِكَ فِي عَرَفَات بَعْدَ نَهْيِهِ عَن لُبْسِ الْخُفِّ مُطْلَقًا، وَبَعْدَ أَمْرِهِ مَن لَمْ يَجِدْ أنْ يَقْطَعَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُم بِعَرَفَات بِقَطْعٍ، مَعَ أَنَّ الَّذِينَ حَضَرُوا بِعَرَفَات كَانَ كَثيرٌ مِنْهُم أَو أَكْثَرُهُم لَمْ يَشْهَدُوا كَلَامَهُ بِالْمَدِينَةِ؛ بَل حَضَرَ مِن مَكَّةَ وَالْيَمَنِ وَالْبَوَادِي وَغَيْرِهَا خَلْقٌ عَظِيمٌ حَجُّوا مَعَهُ لَمْ يَشْهَدُوا جَوَابَهُ بِالْمَدِينَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ؛ بَل أَكْثَرُ الَّذِينَ حَجُّوا مَعَهُ لَمْ يَشْهَدُوا ذَلِكَ الْجَوَابَ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَلْبَسُ سَرَاوِيلَ بِلَا فَتْقٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد.
الرَّابعُ: أَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَقْطُوعَ كَالنَّعْلَيْنِ يَجُوزُ لُبْسُهُمَا مُطْلَقًا وَلُبْسُ مَا أَشْبَهَهُمَا مِن جُمْجُمٍ وَمَدَاسٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. [26/ 192 - 196]
3204 -
اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ يَعْقِدُ الْإِزَارَ إذَا احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْعَقْدِ، وَكَرِهَ ابْنُ عُمَرَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَعْقِدَ الرِّدَاءَ، كَأَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ إذَا عَقَدَ عُقْدَةً صَارَ يُشْبِهُ الْقَمِيصَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ يَدَانِ، وَاتَّبَعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ
فَكَرِهُوهُ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ فَيُوجِبُونَ الْفِدْيَةَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ، وَأَمَّا كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ فَلَا يُوجِبُونَ الْفِدْيَةَ وَهَذَا أَقْرَبُ.
وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ مِن الصَّحَابَةِ كَرَاهَةَ عَقْدِ الرِّدَاءِ الصَّغِيرِ الَّذِي لَا يُلْتَحَفُ وَلَا يَثْبُتُ بِالْعَادَةِ إلَّا بِالْعَقْدِ أَو مَا يُشْبِهُة مِثْلُ الْخِلَالِ وَرَبْطِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى حَقْوِهِ وَنَحْو ذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَيَنْبَغِي أَنْ يُرَخَّصَ فِي لُبْسِ الْقَمِيصِ وَالْجُبَّةِ وَنَحْوِهِمَا لِمَن لَمْ يَجِدِ الرِّدَاءَ.
قِيلَ: الْحَاجَةُ تَنْدَفِعُ بِأَنْ يَلْتَحِفَ بِذَلِكَ عَرضًا مَعَ رَبْطِهِ وَعَقْدِ طَرَفَيْهِ فَيَكُونُ كَالرِّدَاءِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الرَّبْطُ فَإنَّ طَرَفَيِ الْقَمِيصِ وَالْجُنَّةِ وَنَحْوِهِمَا لَا يَثْبُتُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْأَرْدِيَةُ الصِّغَارُ.
فَمَا وَجَدَة الْمُحْرِمُ مِن قَمِيصٍ وَمَا يُشْبِهُهُ كَالْجُبَّةِ وَمِن بُرْنُسٍ وَمَا يُشْبِهُهُ مِن ثِيَابٍ مُقَطَّعَةٍ: أَمْكَنَهُ أَنْ يَرْتَدِيَ بِهَا إذَا رَبَطَهَا فَيَجِبُ أَنْ يُرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ لَو كَانَ الْعَقْدُ فِي الْأَصْلِ مَحْظُورًا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَكْرُوهًا فَعِنْدَ الْحَاجَةِ تَزُولُ الْكَرَاهَةُ، كَمَا رُخِّصَ لَهُ أَنْ يَلْبَسَ الْهِمْيَانَ لِحِفْظِ مَالِهِ وَيعْقِدَ طَرَفَيْهِ إذَا لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِالْعَقْدِ، وَهُوَ إلَى سَتْرِ مَنْكِبَيْهِ أَحْوَجُ؛ فَرُخِّصَ لَهُ عَقْدُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ بِلَا ريبٍ.
وَالنَّبِي صلى الله عليه وسلم لَمْ يَذْكُرْ فِيمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ وَمَا يُنْهَى عَنْهُ لَفْظًا عَامًّا يَتَنَاوَلُ عَقْدَ الرِّدَاءِ؛ بَل سُئِلَ صلى الله عليه وسلم عَمَّا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِن الثيابِ فَقَالَ: "لَا يَلْيَسُ الْقَمِيصَ وَلَا الْبَرَانِسَ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا الْخِفَافَ إلَّا مَن لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ" الْحَدِيثَ.
فَنَهَى عَن خَمْسَةِ أَنْوَاعٍ مِن الثِّيَابِ الَّتِي تُلْبَسُ عَلَى الْبَدَنِ، وَهِيَ الْقَمِيصُ وَفي مَعْنَاهُ الْجُبَّةُ وَأَشْبَاهُهَا؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ تَحْرِيمَ هَذِهِ الْخَمْسَةِ فَقَطْ؛ بَل أَرَادَ تَحْرِيمَ هَذِهِ الْأَجْنَاس، وَنَبَّهَ عَلَى كُلِّ جِنْسٍ بِنَوْعِ مِنْهَا، وَذَكَرَ مَا احْتَاجَ الْمُخَاطَبُونَ إلَى مَعْرِفَتِهِ، وَهُوَ مَا كَانُوا يَلْبَسُونَة غَالِبًا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: مَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ"
(1)
أَنَّهُ سُئِلَ قَبْلَ ذَلِكَ عَمَّن أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ فَقَالَ: "انْزعْ عَنْك الْجُبَّةَ". وَكَانَ هَذَا فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ، فَعُلِمَ أَنَّ تَحْرِيمَ الْجُبَّةِ كَانَ مَشْرُوًعا قَبْلَ هَذَا، وَلَمْ يَذْكُرْهَا بِلَفْظِهَا فِي الْحَدِيثِ.
وَأَيْضًا فَقَد ثَبَتَ عَنْهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ: "وَلَا تُخَمّرُوا رَأْسَهُ"
(2)
.. فَنَهَاهُم عَن تَخْمِيرِ رَأْسِهِ لِبَقَاءِ الْإِحْرَامِ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا، كَمَا أَمَرَهُم أَنْ لَا يُقَرِّبُوهُ طِيبًا؛ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُحْرِمَ يُنْهَى عَن هَذَا وَهَذَا.
وَإِنَّمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَن لُبْسِ الْعَمَائِمِ.
فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ النَّهْيَ عَن ذَلِكَ وَعَمَّا يُشْبِهُهُ فِي تَخْمِيرِ الرَّأْسِ.
فَذَكَرَ:
أ- مَا يُخَمِّرُ الرَّأْسَ.
ب- وَمَا يُلْبَسُ عَلَى الْبَدَنِ كَالْقَمِيصِ وَالْجُبَّةِ.
ج- وَمَا يُلْبَسُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا وَهُوَ الْبُرْنُسُ.
د- وَذَكَرَ مَا يُلْبَسُ فِي النِّصْفِ الْأَسْفَلِ مِن الْبَدَنِ وَهُوَ السَّرَاوِيل وَالثِّيَابُ، وَالتُّبَّانُ فِي مَعْنَاهُ.
هـ- وَكَذَلِكَ مَا يُلْبَسُ فِي الرِّجْلَيْنِ وَهُوَ الْخُفُّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الجرموق وَالْجَوْرَبَ فِي مَعْنَاهُ.
وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ بِصَاعٍ مِن تَمْرٍ أَو شَعِيرٍ هُوَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ لِكَوْنِهِ كَانَ قُوتًا لِلنَّاسِ؛ فَأَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ يُخْرِجُونَ مِن قُوتِهِمْ وَإِن لَمْ يَكُن
(1)
رواه البخاري (1789)، ومسلم (1180).
(2)
رواه البخاري (1850)، ومسلم (1206).
مِن الْأَصْنَافِ الْخَمْسَةِ؛ كَاَلَّذِينَ يَقْتَاتُونَ الرُّزَّ أَو الذُّرَةَ: يُخْرِجُونَ مِن ذَلِكَ عِنْدَ أكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. [21/ 201 - 206]
* * *
(باب محظورات الإحرام)
3205 -
مِمَّا يُنْهَى عَنْهُ الْمُحْرِمُ: أَنْ يَتَطَيَّبَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ فِي بَدَنِهِ أَو ثِيَابِهِ، أَو يَتَعَمَّدَ شَمَّ الطِّيبِ.
وَأمَّا الدُّهْنُ فِي رَأْسِهِ أَو بَدَنِهِ بِالزَّيْتِ وَالسَّمْنِ وَنَحْوِهِ إذَا لَمْ يَكُن فِيهِ طِيبٌ: فَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ وَتَرْكُهُ أَوْلَى.
وَلَا يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ وَلَا يَقْطَعُ شَعْرَهُ، وَلَهُ أَنْ يَحُكَّ بَدَنَهُ إذَا حَكَّهُ، وَيَحْتَجِمَ فِي رَأْسِهِ وَغَيْرِ رَأْسِهِ، وَإِن احْتَاجَ أَنْ يَحْلِقَ شَعْرًا لِذَلِكَ جَازَ، فَإِنَّهُ قَد ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "احْتَجَمَ فِي وَسَطِ رَأسِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ"
(1)
وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إلَّا مَعَ حَلْقِ بَعْضِ الشَّعْرِ .. وَيَفْتَصِدُ إذَا احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ.
وَلَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ وَلَا يَخْطِبُ، وَلَا يَصْطَادُ صَيْدًا بَرِّيًّا وَلَا يَتَمَلَّكُهُ بِشِرَاء وَلَا اتِّهَابٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا يُعِينُ عَلَى صَيْدٍ وَلَا يَذْبَحُ صَيْدًا، فَأَمَّا صَيْدُ الْبَحْرِ كَالسَّمَكِ وَنَحْوِهِ فَلَهُ أَنْ يَصْطَادَهُ وَيأْكُلَهُ.
وَلَهُ أَنْ يَقْطَعَ الشَّجَرَ لَكِنْ نَفْسُ الْحَرَمِ لَا يَقْطَعُ شَيْئًا مِن شَجَرِهِ وَإِن كَانَ
غَيْرَ مُحْرِمٍ، وَلَا مِن نَبَاتِهِ الْمُبَاحِ إلَّا الْإِذْخِرَ، وَأمَّا مَا غَرَسَ النَّاسُ أو زَرَعُوهُ فَهُوَ لَهُمْ، وَكَذَلِكَ مَا يَبِسَ مِنَ النَّبَاتِ يَجُوزُ أَخْذُهُ، وَلَا يَصْطَادُ بِهِ صَيْدًا وَإِن كَانَ مِنَ الْمَاءِ كَالسَّمَكِ عَلَى الصَّحِيحِ؛ بَل وَلَا يُنَفّرُ صَيْدَهُ؛ مِثْل أَنْ يُقِيمَهُ لِيَقْعُدَ مَكَانَهُ.
وَكَذَلِكَ حَرَمُ مَدِينَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم .. لَا يُصَادُ صَيْدُهُ وَلَا يُقْطَعُ شَجَرُهُ إلَّا
(1)
أخرجه البخاري (1836)، ومسلم (1203).
لِحَاجَة كَآلَةِ الرُّكُوب وَالْحَرْثِ، ويُؤْخَذُ مِن حَشِيشِهِ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِلْعَلَفِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي هَذَا لِحَاجَتِهِمْ إلَى ذَلِكَ، إذ لَيْسَ حَوْلَهم مَا يَسْتَغْنُونَ بِهِ عَنْهُ بِخِلَافِ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ.
وَإِذَا أُدْخِلَ عَلَيْهِ صَيْدٌ لَمْ يَكُن عَلَيْهِ إرْسَالُهُ.
وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا حَرَمٌ لَا بَيْتُ الْمَقْدِسِ وَلَا غَيْرُهُ إلَّا هَذَانِ الْحَرَمَانِ، وَلَا يُسَمَّى غَيْرُهُمَا حَرَمًا، كَمَا يُسَمِّي الْجُهَّالُ، فَيَقُولونَ: حَرَمُ الْمَقْدِسِ وَحَرَمُ الْخَلِيلِ، فَإِنَّ هَذَيْنِ وَغَيْرَهُمَا لَيْسَا بِحَرَم بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْحَرَمُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ: حَرَمُ مَكَّةَ، وَأَمَّا الْمَدِينَةُ فَلَهَا حَرَمٌ أَيْضًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ. [26/ 116 - 117]
3206 -
لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَقْتُلَ مَا يُؤْذِي بِعَادَتِهِ النَّاسَ؛ كَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَالْفَأْرَةِ وَالْغُرَابِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ، وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ مَا يُؤْذِيه مِن الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ، حَتَى لَو صَالَ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَلَمْ يَنْدَفِعْ إلَّا بِالْقِتَالِ قَاتَلَهُ.
وَإِذَا قَرَصَتْهُ الْبَرَاغِيثُ وَالْقَمْلُ فَلَهُ إلْقَاؤُهَا عَنْهُ وَلَهُ قَتْلُهَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِلْقَاؤُهَا أَهْوَنُ مِن قَتْلِهَا، وَكَذَلِكَ مَا يَتَعَرَّضُ لَهُ مِن الدَّوَابِّ فَيُنْهَى عَن قَتْلِهِ وَإِن كَانَ فِي نَفْسِهِ مُحَرَّمًا كَالْأَسَدِ وَالْفَهْدِ، فَإِذَا قَتَلَهُ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ. [26/ 118]
3207 -
إِنَّ هَدْيَ الْجُبْرَانِ -الَّذِي يَكُونُ لِتَرْكِ وَاجِبٍ أَو فِعْلِ مُحَرَّمٍ- لَا يَحِلُّ سَبَبُهُ إلَّا مَعَ الْعُذْرِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ شَيْئًا مِن وَاجِبَاتِ الْحَجِّ بِلَا عُذرٍ أَو يَفْعَلَ شَيْئًا مِن مَحْظُورَاتِهِ بِلَا عُذْرٍ وَيأْتِي بِدَم. [26/ 87]
3208 -
يَقتل النملة إذا عضته، والنحلةَ إذا آذته.
واختار شيخنا: لا يجوز قتل نحل ولو بأخذ كل عسله، قال هو وغيره: إن لم يندفع ضرر نمل إلا بقتله جاز، قال أحمد: يدخن للزنابير إذا خشي أذاهم أحب إلي من تحريقه، والنمل إذا آذاه يقتله. [المستدرك 3/ 190]
3209 -
نقل ابن منصور والميموني وابن الحكم فيمن وطئ بعد الرمي: ينتقض إحرامه
(1)
، ويعتمر من التنعيم، فيكون إحرامٌ مكان إحرام، فهذا المذهب: أنه يفسد الإحرام بالوطء بعد رمي جمرة العقبة، ويلزمه أن يحرم من الحل؛ ليجمع بين الحل والحرم ليطوف في إحرام صحيح؛ لأنه ركن الحج كالوقوف، وإذا أحرم طاف للزيارة وسعى ما لم يكن سعى وتحلل؛ لأن الإحرام إنما وجب ليأتي بما بقي من الحج، هذا ظاهر كلام الخرقي واختاره الشيخ وغيره، وقال: ويحتمل أن الإمام أحمد والأئمة أرادوا هذا وسمُّوه عمرة؛ لأن هذه أفعالها، ويحتمل أن يريدوا عمرة حقيقية فيلزمه سعي وتقصير.
وقال شيخنا أيضًا: يعتمر مطلقًا، وعليه نصوصُ أحمد. [المستدرك 3/ 191]
3210 -
إذا تعدى أحدٌ على الركب في الطريق أو في مكة فدفعهم الركب عن أنفسهم كالصائل: فيجوز الدفع مع الركب، بل يجب دفع هؤلاء عن الركب.
وإذا وَجد مع الركب جائعًا أو عطشانًا فعليه أن يبذل ما فضل عن حاجته، فأما ما يحتاج إليه فلا يجب بذله، ولو وجد ميتًا فليس عليه أن يتخلف ليدفنه بحيث يخاف الانقطاع
(2)
.
وقال شيخنا: إنْ تَعَدَّى أَهْلُ مَكَّةَ أو غَيْرُهُم على الرَّكْبِ: دَفَعَ الرَّكْبُ، كما يُدْفَعُ الصَّائِلُ، وَللْإِنْسَانِ أَنْ يَدْفَعَ مع الرَّكْبِ؛ بَل قد يَجِبُ إن اُحْتِيجَ إلَيْهِ
(3)
. [المستدرك 3/ 191 - 192]
(1)
وأما الحج فلا يفسد.
قال في المبدع: والمراد به فساد ما بقي منه لا ما مضى؛ إذ لو فسد كله لوقع الوقوف في غير إحرام. ا هـ.
(2)
الاختيارات (118). (الجامع).
قلت: لم أجده في الاختيارات، ووجدته في مختصر الفتاوى المصرية (575).
(3)
مختصر الفتاوى (575). (الجامع).
قلت: لم أجده فيه، ووجدته في الإنصاف (10/ 169).
3211 -
لا تعصم الأشهر الحرم؛ للعمومات، ولغزو الطائف، وتردد كلام شيخنا. [المستدرك 3/ 192]
* * *
(باب الفدية)
3212 -
الْفِدْيَةُ يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَهَا إذَا احْتَاجَ إلَى فِعْلِ الْمَحْظُورِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ.
وَيجُوزُ أَنْ يَذْبَحَ النُّسُكَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى مَكَّةَ، ويصُومَ الْأَيَّامَ الثَّلَاثَةَ مُتَتَابِعَةً إنْ شَاءَ وَمُتَفَرِّقَةً إنْ شَاءَ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ أَخَّرَ فِعْلَهَا وَإلَّا عَجَّلَ فِعْلَهَا.
وَإِذَا لَبِسَ ثُمَّ لَبِسَ مِرَارًا وَلَمْ يَكن أَدَّى الْفِدْيَةَ أَجْزَأَتْهُ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ فِي أَظْهَرِ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ. [26/ 114]
3213 -
المحرم إن احتاج وقطع شعره لحجامة أو غسلٍ: لم يضره، والقمل والبعوض والقراد إن قرصه قتله مجانًا، وإلا فلا يقتله. [المستدرك 3/ 192]
3214 -
الْفِدْيَةُ لِلْعُذْرِ: أَنْ يَذْبَحَ شَاةً يُقَسِّمُهَا بَيْنَ الْفُقَرَاءِ، أَو يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَو يَتَصَدَّقُ عَلَى سِتَّةِ فُقَرَاءَ، كُلُّ فَقِيرٍ بِنِصْفِ صَاعِ تَمْرٍ، وَإِن تَصَدَّقَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ بِرِطْلِ خُبْزٍ جَازَ.
* * *
(باب دخول مكة)
3215 -
يسن أن يستقبل الحجر الأسود في
(1)
الطواف. [المستدرك 3/ 192]
3216 -
تستحب القراءة فيه
(2)
، لا الجهر بها. [المستدرك 3/ 193]
3217 -
لا يشرع الطواف بغير الكعبة من سائر الأرض باتفاق المسلمين، ومن اتخذ ذلك عُرِّف واسْتُتِيب؛ فإنْ أصرّ قُتِلَ بالاتفاق. [المستدرك 3/ 193]
(1)
في الأصل: (وفي) بالعطف، والتصويب من الاختيارات (175).
(2)
أي: في الطواف.
3218 -
يحرم طوافه بغير البيت اتفاقًا، واتفقوا على أنه لا يُقَبِّله ولا يتمسح به؛ فإنه من الشرك، وقال: الشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر
(1)
. [المستدرك 3/ 193]
3219 -
لا يشرع تقبيل المقام ولا مسحه إجماعًا، فسائر المقامات غيره أولى. [المستدرك 3/ 193]
* * *
(باب صفة الحج والعمرة)
3220 -
فَصْلٌ فِي"صِفَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ": لَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَصْحَابَهُ إذَا طَافُوا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنْ يَحِلُّوا مِن إحْرَامِهِمْ وَيجْعَلُوهَا عُمْرَةً، وَهَذَا مِمَّا تَوَاتَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ.
وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ بَعْدَ الْحَجِّ لَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَحَدٌ مِن الصَّحَابَةِ إلا عَائِشَةَ، فَهَذَا كُلُّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ النَّقْلُ وَلَا خَالَفَ فِيهِ أَحَدٌ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَلَكِنْ تَنَازَعُوا: هَل حَجَّ مُتَمَتِّعًا أَو مُفْرِدًا أَو قَارِنًا أَو أَحْرَمَ مُطْلَقًا؟ وَاضْطَرَبَتْ عَلَيْهِم فِيهِ الْأَحَادِيثُ، وَهِيَ بِحَمْدِ اللهِ غَيْرُ مُخْتَلِفَةٍ عِنْدَ مَن فَهِمَ مُرَادَ الصَّحَابَةِ بِهَا
(2)
.
وَالْمَنْصُوصُ عَن الْإِمَامُ أَحْمَد أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَارِنًا بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ حَتَّى قَالَ: لَا أَشُكُّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَارِنًا، وَهَذَا قَوْلُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ
(3)
.
(1)
فيه التصريح بأنه شرك. (الجامع).
قلت: فالشيخ يرى أنّ الشرك الأصغر لا يُغفر إلا بتوبة؛ لعموم قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48].
(2)
قال الشيخ: فَالْغَلَطُ فِي هَذَا الْبَابِ وَقَعَ مِمَن دُونَ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يَفْهَمُوا كَلَامَهُمْ، وَأمَّا الصَّحَابَةُ فنُقُولُهُم مُتَّفِقَةٌ. (26/ 75)
(3)
قال الشيخ في موضع آخر: فَإِنَّهُ قَرَنَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِسُنَّتِهِ وَبِاتِّفَاقِ=
وَالصَّوَابُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْأَحَادِيثَ مُتَّفِقَةٌ لَيْسَتْ مُخْتَلِفَةً إلَّا اخْتِلَافًا يَسِيرًا يَقَعُ مِثْلُهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ ثَبَتَ عَنْهُم أَنَّهُ تَمَتَّعَ، وَالتَّمَتُّعُ عِنْدَهُم يَتَنَاوَلُ الْقِرَانَ، وَاَلَّذِينَ رُوِيَ عَنْهُم أَنَّهُ أَفْرَدَ رُوِيَ عَنْهُم أَنَّهُ تَمَتَّعَ.
وَفي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ"
(1)
عن غُنَيْمِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: سَأَلْت سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ عَن الْمُتْعَةِ فِي الْحَجِّ فَقَالَ: "فَعَلْنَاهَا وَهَذَا يَوْمَئِذٍ كَافِرٌ بِالْعَرْشِ -يَعْنِي: مُعَاوِيَةَ-".
وَهَذَا إنَّمَا أَرَادَ بِهِ سَعْدٌ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ، فَإِنَّ مُعَاوِيةَ لَمْ يَكُن أَسْلَمَ إذ ذَاكَ، وَأَمَّا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَكَانَ قَد أَسْلَمَ، فَكَذَلِكَ فِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ.
فَسَمَّى سَعْدٌ الِاعْتِمَارَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مُتْعَةً لِأَنَّ بَعْضَ الشَّامِيِّينَ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَن الِاعْتِمَارِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَصَارَ الصَّحَابَةُ يَرْوُونَ السُّنَّةَ فِي ذَلِكَ رَدًّا عَلَى مَن نَهَى عَن ذَلِكَ؛ فَالْقَارِنُ عِنْدَهُم مُتَمَتِّعٌ، وَلهَذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْهَدْيُ وَدَخَلَ فِي قَوْله تَعَالَى:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196].
وَقَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ"
(2)
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ، الرَّابِعَة مَعَ حَجَّتِهِ".
وَقَد ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ بَعْدَ الْحَجِّ، وَثَبَتَ أَنَ ابْنَ عُمَرَ وَعَائِشَةَ نَقَلَا عَنْهُ أَنَّهُ اعْتَمَرَ مَعَ الْحَجِّ
(3)
، وَهَذَا هُوَ التَّمَتُّعُ الْعَام الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ الْقِرَانُ وَهُوَ الْمُوجِبُ لِلْهَدْيِ. [26/ 61 - 75]
3221 -
كَانَ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَنَاسِكِ وَالْأَعْيَادِ يَذْهَبُ مِن طَرِيقٍ وَيرْجِعُ مِن أُخْرَى. [26/ 134]
= الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَن أحَدٍ مِن الصَّحَابَةِ أَنَّهُ تَمَتَّعَ تَمَتُّعًا حَلَّ فِيهِ، بَل كَانُوا يُسَمُّونَ الْقِرَانَ تَمَتُّعًا، وَلَا نُقِلَ عَن أحَدٍ مِن الصَّحَابَةِ أَنَّهُ لَمَّا قَرَنَ طَافَ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سعيين. اهـ. (26/ 104)
(1)
(1225).
(2)
البخاري (1780)، ومسلم (1253).
(3)
بمعنى: قَرَنَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ.
3222 -
إِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيةِ: أَحْرَمَ
(1)
وَأَهَلَّ بِالْحَجِّ فَيَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ عِنْدَ الْمِيقَاتِ
(2)
، وَإِن شَاءَ أَحْرَمَ مِن مَكَّةَ وَإن شَاءَ مِن خَارِجِ مَكَّةَ، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا أَحْرَمُوا كَمَا أَمَرَهُم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِن الْبَطْحَاءِ. [26/ 128 - 129]
وَالسُّنَّةُ أَنْ يُحْرِمَ مِن الْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ نَازِلٌ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْمَكِّيُّ يُحْرِمُ مِن أَهْلِهِ.
3223 -
يُسْتَحَبُّ لَهُ فِي الطَّوَافِ أَنْ يَذْكُرَ اللهَ تَعَالَى وَيَدْعُوَهُ بِمَا يُشْرَعُ، وَإِن قَرَأَ الْقُرْآنَ سِرًّا فَلَا بَأْسَ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرٌ مَحْدُودٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا بِأَمْرِهِ وَلَا بِقَوْلِهِ وَلَا بِتَعْلِيمِهِ؛ بَل يَدْعُو فِيهِ بِسَائِرِ الْأَدْعِيَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِن دُعَاءٍ مُعَيَّنٍ تَحْتَ الْمِيزَابِ وَنَحْو ذَلِكَ فَلَا أَصْلَ لَهُ.
وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْتِمُ طَوَافَة بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ بِقَوْلِهِ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]، كَمَا كَانَ يَخْتِمُ سَائِرَ دُعَائِهِ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ ذِكْرٌ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. [26/ 122 - 123]
3224 -
مَن طَافَ فِي جَوْرَبٍ وَنَحْوِهِ لِئَلَّا يَطَأَ نَجَاسَةً مِن ذَرْقِ الْحَمَامِ، أَو غَطَّى يَدَيْهِ لِئَلَّا يَمَسَّ امْرَأَةً وَنَحْو ذَلِكَ: فَقَد خَالَفَ السُّنَّةَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ وَالتَّابِعِينَ مَا زَالُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ وَمَا زَالَ الْحَمَامُ بِمَكَّةَ، لَكِنَّ الِاحْتِيَاطَ حَسَنٌ مَا لَمْ يُخَالِفِ السُّنَّةَ الْمَعْلُومَةَ، فَإِذَا أَفْضَى إلَى ذَلِكَ كَانَ خَطَأً. [26/ 124]
3225 -
إِنَّ الْحَجَّ فِيهِ ثَلَاثَةُ أطوفة:
أ- طَوَافٌ عِنْدَ الدُّخُولِ، وَهُوَ يُسَمَّى: طَوَافَ الْقُدُومِ، وَالدُّخُولِ، وَالْوُرُودِ.
ب- وَالطَّوَافُ الثَّانِي: هُوَ بَعْدَ التَّعْرِيفِ، ويُقَالُ لَهُ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ،
(1)
أي: المتمتع الذي حل من إحرامه.
(2)
كالإحرام بعد الصلاة والغسل ونحو ذلك.
وَالزِّيَارَةِ، وَهُوَ طَوَافُ الْفَرْضِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29].
ج- وَالطَوَافُ الثَّالِثُ: هُوَ لِمَن أَرَادَ الْخُرُوجَ مِن مَكَّةَ، وَهُوَ طَوَافُ الْوَدَاعِ.
وَإِذَا سَعَى عَقِيبَ وَاحِدٍ مِنْهَا أَجْزَأَهُ
(1)
. [26/ 127]
3226 -
يوم عرفة يراد به اليوم والليلة التي تليه
(2)
. [المستدرك 3/ 194]
3227 -
هل لخائف فوتها
(3)
صلاة خائف؟ واختاره شيخنا. [المستدرك 3/ 194]
3228 -
الاِغْتِسَالُ لِعَرَفَةَ قَد رُوِيَ فِي حَدِيثٍ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرُوِيَ عَن ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرِهِ.
وَلَمْ يُنْقَلْ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَن أَصْحَابِهِ فِي الْحَجِّ إلَّا ثَلَاثَةُ أَغْسَالٍ:
أ- غُسْلُ الْإِحْرَامِ.
ب- وَالْغُسْلُ عِنْدَ دُخُولِ مَكَّةَ.
ج- وَالْغُسْلُ يَوْمَ عَرَفَةَ
(4)
.
وَمَا سِوَى ذَلِكَ كَالْغُسْلِ لِرَمْيِ الْجِمَارِ وَللطَّوَافِ وَالْمَبِيتِ بمزدلفة فَلَا أَصْلَ لَهُ لَا عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَن أَصْحَابِهِ وَلَا اسْتَحَبَّهُ جُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ .. بَل هُوَ بِدْعَةٌ، إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ سَبَبٌ يَقْتَضِي الِاسْتِحْبَابَ، مِثْل أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ رَائِحَةٌ يُؤذِي النَّاسَ بِهَا فَيَغْتَسِلُ لِإِزَالَتِهَا. [26/ 132 - 133]
(1)
أما السعي الذي لم يتقدمه طواف فلا يُعتد به عند أهل العلم.
(2)
ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما من يوم إلا وليلته قبله إلا يوم عرفة فإن ليلته بعده.
(3)
أي: عرفة.
(4)
الغسل يوم عرفة مستحب عند الجمهور، والحديث الذي ورد فيه ضعَّفه الألباني في ضعيف الجامع (3929).
لكن ثبت عن غير واحد من الصحابة أنه اغتسل ليوم عرفة، كابن مسعود وابن عمر وعلي رضي الله عنهم.
3229 -
عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَلَا يَقِفُ بِبَطْنِ عرنة، وَأَمَّا صُعُودُ الْجَبَلِ الَّذِي هُنَاكَ فَلَيْسَ مِن السُّنَّةِ، ويُسَمَّى جَبَلَ الرَّحْمَةِ، وَيُقَالُ لَهُ إلَال عَلَى وَزْنِ هِلَالٍ، وَكَذَلِكَ الْقُبَّةُ الَّتِي فَوْقَهُ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: قُبَّةُ آدَمَ لَا يُسْتَحَبُّ دُخُولُهَا وَلَا الصَّلَاةُ فِيهَا.
وَالطَّوَافُ بِهَا مِن الْكَبَائِرِ، وَكَذَلِكَ الْمَسَاجِدُ الَّتِي عِنْدَ الْجَمَرَاتِ لَا يُسْتَحَبُّ دُخُولُ شَيْءٍ مِنْهَا وَلَا الصَّلَاة فِيهَا.
وَأمَّا الطَّوَافُ بِهَا أَو بِالصَّخْرَةِ أَو بِحُجْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَا كَانَ غَيْرَ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ فَهُوَ مِن أَعْظَمِ الْبِدَعِ الْمُحَرَّمَةِ. [26/ 133]
3230 -
لا يشرع صعود جبل الرحمة إجماعًا. [المستدرك 3/ 194]
3231 -
الحلق أو التقصير إما واجب، أو مستحب، ومن حكى عن أحمد أنه مباح فقد غلط. [المستدرك 3/ 194]
3232 -
وإن قصّر فمن جميعه نص عليه، قال شيخنا: لا من كل شعرةٍ بعينها. [المستدرك 3/ 194]
3233 -
عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر ثم صلى الظهر بمنى؛ يعني: راجعًا"
(1)
.
قال ابن القيم: هكذا قال ابن عمر، وقال جابر في حديثه الطويل:"ثم أفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر"، رواه مسلم
(2)
، وقالت عائشة رضي الله عنهما:"أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى فمكث بها"
(3)
.
فاختلف الناس في ذلك، فرجحت طائفة منهم ابن حزم وغيره حديث جابر وأنه صلّى الظهر بمكة.
(1)
رواه مسلم (1308).
(2)
(1218).
(3)
رواه أبو داود (1973)، وقال الألباني في صحيح أبي داود: صحيح، إلا قوله:"حين صلى الظهر"، فهو منكر.
وقالت طائفة منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره: الذي يرجح أنه إنما صلى بمنى وجوه:
أحدها: أنه لو صلى الظهر بمكة لأناب عنه في إمامة الناس بمنى إمامًا يصلي بهم الظهر بمنى نائب له ولا ينقله أحد، فقد نقل الناس نيابة عبد الرحمن بن عوف لما صلى بهم الفجر في السفر، ونيابة الصديق لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلح بين بني عمرو بن عوف، ونيابته في مرضه، ولا يحتاج إلى ذكر من صلى بهم بمكة؛ لأن إمامهم الراتب الذي كان مستمرًّا على الصلاة قبل ذلك وبعده هو الذي كان يصلي بهم.
الثاني: أنه لو صلى بهم في مكة لكان أهل مكة مقيمين فكان يتعين عليهم الإتمام، ولم يقل لهم النبي صلى الله عليه وسلم:"أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر"
(1)
كما قاله في غزوة الفتح.
الثالث: أنه يمكن اشتباه الظهر المقصورة بركعتي الطواف، ولا سيما والناس يصلونهما معه ويقتدون به فيهما فظنهما الرائي الظهر، وأما صلاته بمنى والناس خلفه فهذه لا يمكن اشتباهها بغيرها أصلًا، لا سيما وهو صلى الله عليه وسلم كان إمام الحاج الذي لا يصلي لهم سواه، فكيف يدعهم بلا إمام يصلون أفرادًا ولا يقيم لهم من يصلي بهم؟ هذا في غاية البعد. [المستدرك 3/ 195 - 196]
3234 -
مِمَّا قَد يَغْلَطُ فِيهِ النَّاسُ: اعْتِقَادُ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ صَلَاةُ الْعِيدِ بِمِنَى يَوْمَ النَّحْر .. فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَاءَهُ لَمْ يُصَلُّوا بِمِنَى عِيدًا قَطُّ، وَإِنَّمَا صَلَاةُ الْعِيدِ بِمِنَى هِيَ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ، فَرَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ لِأَهْلِ الْمَوْسِمِ بِمَنْزِلَةِ صَلَاةِ الْعِيدِ لِغَيْرِهِمْ، وَلِهَذَا اسْتَحَبَّ أَحْمَد أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَقْتَ النَّحْرِ بِمِنَى، وَلهَذَا خَطَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ الْجَمْرَةِ كَمَا كَانَ يَخْطُبُ فِي غَيْرِ مَكَّةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَرَمْيِ الْجَمْرَةِ تَحِيَّةَ مِنَى كَمَا أَنَّ الطَّوَافَ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. [26/ 170 - 171]
(1)
رواه أبو داود (1229)، وضعَّفه الألباني في ضعيف أبي داود.
3235 -
إِذَا أَتَى مِنَى
(1)
: رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، وَيرْفَعُ يَدَهُ فِي الرَّمْيِ، وَهِيَ الْجَمْرَةُ الَّتِي هِيَ آخِرُ الْجَمَرَاتِ مِن نَاحِيَةِ مِنَى، وَأَقْرَبُهُنَّ مِن مَكَّةَ، وَهِيَ الْجَمْرَةُ الْكُبْرَى، وَلَا يَرْمِي يَوْمَ النَّحْرِ غَيْرَهَا، يَرْمِيهَا مُسْتَقْبِلًا لَهَا يَجْعَلُ الْبَيْتَ عَن يَسَارِهِ وَمِنَى عَن يَمِينِهِ، هَذَا هُوَ الَّذِي صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا.
وَلَا يَزَالُ يُلَبِّي فِي ذَهَابِهِ مِن مَشْعَرٍ إلَى مَشْعَرٍ مِثْل ذَهَابِهِ إلَى عَرَفَاتٍ، وَذَهَابِهِ مِن عَرَفَاتٍ إلَى مُزْدَلِفَةَ، حَتَّى يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، فَإِذَا شَرَعَ فِي الرَّمْيِ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَشْرَعُ فِي التَّحَلُّلِ.
وَأَمَّا التَّلْبِيَةُ فِي وُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ: فَلَمْ يُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَد نُقِلَ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُم كَانُوا يُلَبُّونَ بِعَرَفَةَ، فَإِذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ نَحَرَ هَدْيَهُ إنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ. [26/ 135 - 136، 173]
3236 -
كلُّ مَا ذُبِحَ بِمِنَى وَقَد سِيقَ مِنَ الْحِلِّ إلَى الْحَرَمِ: فَإِنَّهُ هَدْيٌ، سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْإِبِلِ أَو الْبَقَرِ أَو الْغَنَمِ، ويُسَمَّى أَيْضًا أُضْحِيَّةً
(2)
.
بِخِلَافِ مَا يُذْبَحُ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْحِلِّ: فَإِنَّهُ أُضْحِيَّةٌ وَلَيْسَ بِهَدْيٍ.
وَلَيْسَ بِمِنَى مَا هُوَ أُضْحِيَّةٌ وَلَيْسَ بِهَدْي كَمَا فِي سَائِرِ الْأَمْصَارِ.
فَإِذَا اشْتَرَى الْهَدْيَ مِن عَرَفَاتٍ وَسَاقَهُ إلَى مِنَى فَهُوَ هَدْيٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ
(3)
، وَكَذَلِكَ إنِ اشْتَرَاهُ مِنَ الْحَرَمِ فَذَهَب بِهِ إلَى التَّنْعِيمِ.
وَأَمَّا إذَا اشْتَرَى الْهَدْيَ مِن مِنَى وَذَبَحَهُ فِيهَا: فَفِيهِ نِزَاعٌ: فَذَهَبَ مَالِكٍ أَنَّهُ لَيْسَ بِهَدْيِ وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ ابْنُ عُمَرَ، وَمَذْهَبُ الثَّلَاثَةِ أَنَّهُ هَدْيٌ وَهُوَ مَنْقُولٌ عَن عَائِشَةَ. [26/ 137]
(1)
يوم النحر.
(2)
فكل ما سيق من بهيمة الأنعام من الحل إلى الحرم وذُبح هناك أو العكس: بأن سيقت من الحرم إلى الحل فهو هدي.
(3)
لأنه ساقه من الحل إلى الحرم وذبحه فيه.
3237 -
وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْحَصَى مِن حَيْثُ شَاءَ، لَكِنْ لَا يَرْمِي بِحَصَى قَد رُمِيَ بِهِ، ويُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ الْحُمّصِ وَدُونَ الْبُنْدُقِ، وَإِن كَسَرَهُ جَازَ، وَالْتِقَاطُ الْحَصَى أَفْضَلُ مِن تَكْسِيرِهِ مِنَ الْجَبَلِ.
ثُمَّ يَحْلِقُ رَأْسَهُ أَو يُقَصِّرُهُ وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ مِن التَّقْصِيرِ، وَإِذَا قَصَّرَهُ: جَمَعَ الشَّعْرَ وَقَصَّ مِنْهُ بِقَدْرِ الْأُنْمُلَةِ أَو أَقَلَّ أَو أَكْثَرَ، وَالْمَرْأَةُ لَا تَقُصُّ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ، وَأَمَّا الرَّجُلُ فَلَهُ أَنْ يُقَصِّرَ مَا شَاءَ.
وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ: فَقَد تَحَلَّلَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ التَّحَلُّلَ الْأَوَّلَ فَيَلْبَسُ الثِّيَابَ وَيُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ، وَكَذَلِكَ لَهُ عَلَى الصَّحِيحِ أَنْ يَتَطَيَّبَ وَيتَزَوَّجَ، وَأَنْ يَصْطَادَ وَلَا يَبْقَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ إلَّا النِّسَاءُ.
وَبَعْدَ ذَلِكَ يَدْخُلُ مَكَّةَ فَيَطُوفُ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ إنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ يَوْمَ النَّحْرِ، وَإِلَّا فَعَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَإِنَّ تَأْخِيرَهُ عَن ذَلِكَ فِيهِ نِزَاعٌ.
ثُمَّ يَسْعَى بَعْدَ ذَلِكَ سَعْيَ الْحَجِّ، وَلَيْسَ عَلَى الْمُفْرِدِ إلَّا سَعْيٌ وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ الْقَارِنُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَكَذَلِكَ الْمُتَمَتِّعُ فِي أَصَحِّ أَقْوَالِهِمْ، وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ أَحْمَد، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا سَعْيٌ وَاحِدٌ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ تَمَتَّعُوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً قَبْلَ التَّعْرِيفِ.
فَإِذَا اكْتَفَى الْمُتَمَتِّعُ بِالسَّعْيِ الْأَوَّلِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ كَمَا يُجْزِئُ الْمُفْرِدَ وَالْقَارِنَ.
ويُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: "دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"
(1)
؛ فَالْمُتَمَتِّعُ مِن حِينِ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ دَخَلَ بِالْحَجِّ، لَكِنَّهُ فَصَلَ بِتَحَلُّل لِيَكُونَ أَيْسَرَ عَلَى الْحَاجِّ، وَأَحَبُّ الدِّينِ إلَى اللهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ.
(1)
رواه مسلم (1218).
فَإِذَا طَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ فَقَد حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ: النِّسَاءُ وَغَيْرُ النِّسَاءِ. [26/ 137 - 139]
3238 -
أَخَذَ فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ -كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا مَعَ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ- مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ بِتَلْبِيَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّه قَد ثَبَتَ عَنْه أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ.
وَلهَذَا قَالُوا أَيْضًا بِمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يلَبِّي بِالْعُمْرَةِ إلَى أَنْ يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ
(1)
، وَإِن كَانَ ابْنُ عُمَرَ وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِن أَهْلِ الْمَدِينَةِ -كَمَالِك- قَالُوا: يُلَبِّي إلَى أنْ يَصِلَ إلَى الْحَرَمِ، فَإِنَّهُ وَإِن وَصَلَ إلَيْهِ فَإِنَّهُ مَدْعُوٌّ إلَى الْبَيْتِ. [26/ 173]
3239 -
إِنْ أَحَبَّ أَنْ يَأْتِيَ الْمُلْتَزَمَ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الْحَجَرِ الْأسْوَدِ وَالْبَابِ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ صَدْرَهُ وَوَجْهَة وَذِرَاعَيْهِ وَكَفَّيْهِ وَيَدْعُوَ وَيسْألَ اللهَ تَعَالَى حَاجَتَهُ فَعَلَ ذَلِكَ، وَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ طَوَافِ الْوَدَاع؛ فَإِنَّ هَذَا الِالْتِزَامُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ حَال الْوَدَاعِ أَو غَيْره، وَالصَّحَابَةُ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ حِينَ يَدْخُلُونَ مَكَّةَ. [26/ 142]
3240 -
[إذا فَرَغَ من الْوَدَاعِ وَقَفَ في الْمُلْتَزَمِ بين الرُّكْنِ وَالْبَابِ]
(2)
، وذكر أحمد: أنه يأتي الحطيم وهو تحمت الميزاب فيدعو، وذكر شيخنا: ثم يشرب من ماء زمزم ويستلم الحجر الأسود. [المستدرك 3/ 196]
3241 -
[قال شيْخُنَا: هو [أي: يوم الْجُمُعَةِ] أَفْضَلُ أيَّامِ الْأسْبُوعِ إجْمَاعًا، وقال: يَوْمُ النَّحْرِ أَفْضَلُ أَيَّامِ الْعَامِ .. وَظَاهِرُ ما ذَكَرَهُ أبو حَكيم أَنَّ يوم عَرَفَةَ أَفْضَلُ، وَهَذَا أَظْهَرُ]
(3)
.
(1)
عند بداية الطواف، وإن لم يتمكن فمن حين يشرع بالطواف يقطع التلبية.
(2)
ما بين المعقوفتين من الإنصاف (4/ 52)؛ وبه يتبين ويتضح أنّ هذا يكون إذا فَرَغَ من الْوَدَاعِ.
(3)
ما بين المعقوفتين من الفروع (3/ 107 - 108)، ولا يُفهم المعنى بدونه، وقد أوقع حذفه في لبس.
وَيَتَوَجَّهُ على اخْتِيَارِ شَيْخِنَا بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ: يَوْم الْقَرِّ الذي يَلِيهِ
(1)
؛ لِأنَّهُ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ عليه السلام: "أَعْظَمُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ"
(2)
. [المستدرك 3/ 196]
3242 -
قال أصحابنا: وإن خرج إنسان غير حاج فظاهر كلام أبي العباس لا يودع. [المستدرك 3/ 197]
3243 -
ذكر ابن عقيل وابن الزاغوني: لا يودع البيت ظهره حتى يغيب، قال أبو العباس: هذه بدعة منكرة.
3244 -
شهر السلاح عند قدوم تبوك بدعة، زاد شيخنا: محرمة.
وما يذكره الجهال من حصار تبوك كذب لا أصل له، فلم يكن بها حصن ولا مقاتلة، وأن مغازي النبي صلى الله عليه وسلم كانت بضعًا وعشرين لم يقاتل فيها إلا في تسع، بدر، وأحد، والخندق، وبني المصطلق، والغابة، وفتح خيبر، وفتح مكة، وحنين، والطائف. [المستدرك 3/ 197]
* * *
(حكم طواف المحدث والحائض
؟)
3245 -
تَعْلِيلُ مَنْعِ طَوَافِ الْحَائِضِ: بِأَنَّهُ لِأَجْلِ حُرْمَةِ الْمَسْجِدِ رَأَيْته يُعَلِّلُ بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ
(3)
، فَإِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ أنَّ الطّهَارَةَ وَاجِبَة لَهُ لَا فَرْضَ فِيهِ
(1)
أي: أَفْضَلُ أَيَّامِ الْعَامِ: يَوْمُ النَّحْرِ، ثم يَوْمُ الْقَرِّ.
(2)
رواه أبو داود (1765)، وأحمد (19075)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.
(3)
وهو الذي يميل إليه الشيخ رحمه الله حيث قال: الْمُعْتَكِفَةُ إذَا حَاضَتْ خَرَجَتْ مِنَ الْمَسْجِدِ وَنَصَبَتْ لَهَا قُبَّةً في فِنَائِهِ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أنَّ مَنْعَ الْحَائِض مِنَ الطَّوَافِ كَمَنْعِهَا مِنَ الِاعْتِكَافِ فِيهِ لِحُرْمَةِ الْمَسْجِدِ، وَإِلَّا فَالْحَيْضُ لَا يُبْطِلُ اعْتِكافَهَا؛ لِأَنَّهَا مُضْطَرَّةٌ إلَيْهِ، بَل إنَّمَا تُمْنَعُ مِنَ الْمَسْجِدِ لَا مِنَ الِاعْتِكَافِ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مُضْطَرَّةً إلَى أنْ تُقِيمَ فِي الْمَسْجِدِ.
وَمَّا الطَّوَافُ فَلَا يُمْكنُ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَإِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِبُقْعَةٍ مُعَيَّنةٍ. (26/ 215 - 216)
وَلَا شَرْطَ لَهُ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ يُنَاسِبُ الْقَوْلَ بِأَنَّ طَوَافَ الْمُحْدِثِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ رَوَاهُ أَحْمَد عَنْهُمَا.
وَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ: فَلَا يَحْرُمُ طَوَافُ الْجُنُبِ وَالْحَائِض إذَا اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ، كَمَا لَا يَحْرُمُ عِنْدَهُم الطَّوَافُ عَلَى الْمُحْدِثِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمَا دُخُولُ الْمَسْجِدِ حِينَئِذٍ، وَهُمَا إذَا كَانَا مُضْطَرَّيْنِ إلَى ذَلِكَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِن الْمُحْدِثِ الَّذِي يُجَوِّزُونَ لَهُ الطَّوَافَ مَعَ الْحَدَثِ مِن غَيْرِ عُذْرٍ.
وَإِذَا كَانَت إنَّمَا مُنِعَتْ مِنَ الطَّوَافِ لِأجْلِ الْمَسْجِدِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ إبَاحَةَ ذَلِكَ لِلْعُذْرِ أَوْلَى مِن إبَاحَةِ مَسِّ الْمُصْحَفِ لِلْعُذْرِ، وَلَو كَانَ لَهَا مُصْحَفٌ وَلَمْ يُمْكِنْهَا حِفْظُهُ إلَّا بِمَسِّهِ؛ مِثْل أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَأْخُذَهُ لِصٌّ أَو كَافِرٌ، أَو يَنْهَبَهُ أَحَدٌ، أَو يَتَّهِبَهُ مِنْهَا، وَلَمْ يُمْكِنْهَا مَنْعُهُ إلَّا بمَسِّهِ لَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَهَا، مَعَ أَنَّ الْمُحْدِثَ لَا يَمَسُّ الْمُصْحَفَ، وَيَجُوزُ لَهُ الدُّخولُ فِي الْمَسْجِدِ.
فَعُلِمَ أَنَّ حُرْمَةَ الْمُصْحَفِ أَعْظَمُ مِن حُرْمَةِ الْمَسْجِدِ، وَإِذَا أُبِيحَ لَهَا مسُّ الْمُصْحَفِ لِلْحَاجَةِ فَالْمَسْجِدُ الَّذِي حُرْمَتُهُ دُونَ حُرْمَةِ الْمُصْحَفِ أَوْلَى بِالْإِبَاحَةِ.
وَأَمَّا إنْ كانَ الْمَنْعُ مِنَ الطَّوَافِ لِمَعْنًى فِي نَفْسِ الطَّوَافِ كَمَا مُنِعَ مِن غَيْرِهِ، أَو كَانَ لِذَلِكَ وَللْمَسْجِدِ كُلٌّ مِنْهُمَا عِلَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ؛ فَنَقُولُ: إذَا اُضْطُرَّتْ إلَى ذَلِكَ بِحَيْثُ لَمْ يُمْكِنْهَا الْحَجُّ بِدُونِ طَوَافِهَا وَهِيَ حَائِضٌ لِتَعَذُّرِ الْمُقَامِ عَلَيْهَا إلَى أَنْ تَطْهُرَ فَهُنَا الْأَمْرُ دَائِرٌ بَيْنَ أَنْ تَطُوفَ مَعَ الْحَيْضِ، وَبَيْنَ الضَّرَرِ الَّذِي يُنَافِي الشَّرِيعَةَ، فَإنَّ إلْزَامَهَا بِالْمُقَامِ إذَا كَانَ فِيهِ خَوْفٌ عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِهَا وَفِيهِ عَجْزُهَا عَنِ الرُّجُوعِ إلَى أَهْلِهَا، وَإلْزَامُهَا بِالْمُقَامِ بِمَكَّةَ مَعَ عَجْزِهَا عَن ذَلِكَ وَتَضَرُّرِهَا بِهِ لَا تَأْتِي بِهِ الشَّرِيعَةُ.
وَكَثِيرٌ مِنَ النِّسَاءِ إذَا لَمْ تَرْجِعْ مَعَ مَن حَجَّتْ مَعَهُ لَمْ يُمْكِنْهَا بَعْدَ ذَلِكَ الرُّجُوعُ، وَلَو قُدِّرَ أَنَّهُ يُمْكِنُهَا بَعْدَ ذَلِكَ الرُّجُوعُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ يَبْقَى وَطْؤُهَا مُحَرَّمًا مَعَ رُجُوعِهَا إلَى أَهْلِهَا، وَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ إلَى أَنْ تَعُودَ، فَهَذَا أَيْضًا مِن
أَعْظَمِ الْحَرَجِ الَّذِي لَا يُوجِبُ اللهُ مِثْلَهُ، إذ هُوَ أَعْظَمُ مِن إيجَابِ حَجَّتَيْنِ، وَاللهُ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ إلَّا حَجَّةً وَاحِدَةً.
وَمَن وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ كَالْمُفْسِدِ فَإِنَّمَا ذَاكَ لِتَفْرِيطِهِ بِإفْسَادِ الْحَجِّ، وَلهَذَا لَمْ يَجِب الْقَضَاءُ عَلَى الْمُحْصَرِ فِي أَظْهَرِ قَوْلي الْعُلَمَاءِ لِعَدَمِ التَّفْرِيطِ، وَمَن أَوْجَبَ الْقَضَاءَ عَلَى مَن فَاتَهُ الْحَجُّ فَإِنَّهُ يُوجِبُهُ لِأنَّهُ مُفَرِّطٌ عِنْدَهُ.
وَإِذَا قِيلَ فِي هَذِهِ الْمَرْأَةِ: بَل تَتَحَلَّلُ كَمَا يَتَحَلَّلُ الْمُحْصَرُ فَهَذَا لَا يُفِيدُ سُقُوطَ الْفَرْضِ عَنْهَا؛ فَتَحْتَاجُ مَعَ ذَلِكَ إلَى حَجَّةٍ ثَانِيَةٍ، ثُمَّ هِيَ فِي الثَّانِيَةِ تَخَافُ مَا خَافَتْهُ فِي الْأُولَى، مَعَ أَنَّ الْمَحْصَرَ لَا يَحِلُّ إلَّا مَعَ الْعَجْزِ الْحِسِّيِّ: إمَّا بِعَدُوٍّ أَو بِمَرَضٍ أَو فَقْرٍ أَو حَبْسٍ، فَأَمَّا مِن جِهَةِ الشَّرْعِ فَلَا يَكُونُ أَحَدٌ مُحْصَرًا، وَكُلُّ مَن قَدَرَ عَلَى الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ لَمْ يَكُن مَحْصَرًا فِي الشَّرْعِ.
فَهَذِهِ هِيَ التَّقْدِيرَاتُ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تُفْعَلَ:
أ- إمَّا مُقَامُهَا بِمَكَّةَ.
ب-وَإمَّا رُجُوعُهَا مُحْرِمَةً.
ج- وَاِمَّا تَحَلُّلُهَا.
وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِي عَن ابْنِ عَبَّاسٍ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ إلَّا أَنَّ اللهَ أَبَاحَ فِيهِ الْكَلَامَ فَمَن تَكَلَّمَ فِيهِ فَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِخَيْرِ"
(1)
قَد قِيلَ: إنَّهُ مِن كلَام ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ مِن كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَو كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الصَّلَاةِ كَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالْكُسُوفِ؛ فَإِنَّ اللهَ قَد فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125].
وَالْآثَارُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ الْعُلَمَاءِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ
(1)
صحَّحه الألباني في مناسك الحج (23).
مُسَمَّى الصَّلَاةِ وَمُسَمَّى الطَّوَافِ مُتَوَاتِرَةٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ نَوْعًا مِنَ الصَّلَاةِ.
ثُمَّ تَدَبَّرْتُ وَتَبَيَّنَ لِي أَنَّ طَهَارَةَ الْحَدَثِ لَا تُشْتَرَطُ فِي الطَّوَافِ وَلَا تَجِبُ فِيهِ بِلَا ريبٍ، وَلَكِنْ تُسْتَحَبُّ فِيهِ الطَّهَارَةُ الصُّغْرَى، فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا فِيهِ.
وَحِينَئِذٍ: فَهَذِهِ الْمُحْتَاجَةُ إلَى الطَّوَافِ أَكْثَرُ مَا يُقَالُ: إنَّهُ يَلْزَمُهَا دَمٌ، كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد؛ فَإِنَّ الدَّمَ يَلْزَمُهَا بِدُونِ الْعُذْرِ عَلَى قَوْلِ مَن يَجْعَلُ الطَّهَارَةَ وَاجِبَةً، وَأَمَّا مَعَ الْعَجْزِ فَإذَا قِيلَ بِوُجُوبِ ذَلِكَ فَهَذَا غَايَةُ مَا يُقَالُ فِيهَا، وَالْأَقْيَسُ: أَنَّهُ لَا دَمَ عَلَيْهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ
(1)
، وَأَمَّا أَنْ يُجْعَلَ هَذَا وَاجِبًا يَجْبُرُهُ دَمٌ وَيُقَالَ: أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ لِلضَّرُورَةِ فَهَذَا خِلَافُ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ.
وَقَد تَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمُضْطَرَّةَ إلَى الطَّوَافِ مَعَ الْحَيْضِ لَمَّا كَانَ فِي عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَن يُفْتِيهَا بِالْإِجْزَاءِ مَعَ الدَّمِ وَإِن لَمْ تَكُنْ مُضْطَرَّةً: لَمْ تَكُنِ الْأُمَّةُ مُجْمِعَةً عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهَا إلَّا الطَّوَافُ مَعَ الطُّهْرِ مُطْلَقًا، وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ مَعَ الْمُنَارعِ الْقَائِلِ بِذَلِكَ لَا نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ، وَقَد بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُسْتَلْزِمٌ لِجَوَازِ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ هَل هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهَا؟ وَأَنَّ قَوْلَ الْنُّفَاةِ لِلْوُجُوبِ أَظْهَرُ، فَلَمْ تُجْمِع الْأُمَّةُ عَلَى وُجُوبِ الطَّهَارَةِ مُطْلَقًا، وَلَا عَلَى أَنَّ شَيْئًا مِن الطَّهَارَةِ شَرْطٌ فِي الطَّوَافِ.
وَأَمَّا الَّذِي لَا أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا: أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَطُوفَ مَعَ الْحَيْضِ إذَا كَانَت قَادِرَةً عَلَى الطَّوَافِ مَعَ الطُّهْرِ، فَمَا أَعْلَمُ مُنَازِعًا أنَّ ذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْهَا وَتَأْثَمُ بِهِ.
وَتَنَازَعُوا فِي إجْزَائِهِ: فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ يُجْزِئُهَا ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد.
(1)
وقال في موضع آخر: وَأمَّا هَذ الْعَاجِزَةُ عَنِ الطَّوَافِ وَهِيَ طَاهِرَةٌ فَإِنْ أَخْرَجَتْ دَمًا فَهُوَ أحْوَطُ، وَإِلَّا فَلَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ عَلَيْهَا شَيْئًا، فَإِنَّ اللهَ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا. (26/ 244)
وَبِالْجُمْلَةِ: هَل يُشْتَرَطُ لِلطَّوَافِ شُرُوطُ الصَّلَاةِ؟
عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ:
أَحَدُهُمَا: يُشْتَرَطُ؛ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا.
وَالثَّانِي: لَا يُشْتَرَطُ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ السَّلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِطِينَ فِي الطَّوَافِ كَشُرُوطِ الصَّلَاةِ لَيْسَ مَعَهُم حُجَّةٌ إلَّا قَوْلَه صلى الله عليه وسلم:"الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ"، وَهَذَا لَو ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكن لَهُم فِيهِ حُجَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ. [26/ 182 - 218]
3246 -
إِنْ حَاضَتْ قَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَحْتَبِسَ حَتَى تَطْهُرَ وَتَطُوفَ إذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ، وَعَلَى مَن مَعَهَا أَنْ يَحْتَبِسَ لِأَجْلِهَا إذَا أمْكنَهُ ذَلِكَ
(1)
، وَلَمَّا كَانَت الطُّرُقَاتُ آمِنَةً فِي زَمَنِ السَّلَفِ وَالنَّاسُ يَرِدُونَ مَكَّةَ وَيصْدُرُونَ عَنْهَا فِي أَيَّامِ الْعَامِ كَانَت الْمَرْأَةُ يُمْكِنُهَا أَنْ تَحْتَبِسَ هِيَ وَذُو مَحْرَمِهَا وَمُكَارِيهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَطُوفَ، فَكَانَ الْعُلَمَاءُ يَأْمُرُونَ بِذَلِكَ.
وَأَمَّا هَذِهِ الْأَوْقَاتُ: فَكَثِيرٌ مِنَ النِّسَاءِ أَو أَكْثَرُهُنَّ لَا يُمْكنُهَا الِاحْتِبَاسُ بَعْدَ الْوَفْدِ، وَالْوَفْدُ يَنْفِرُ بَعْدَ التَّشْرِيقِ بِيَوْم أَو يَوْمَيْنِ أَو ثَلَاثَةٍ، وَتَكُونُ هِيَ قَد حَاضَتْ لَيْلَةَ النَّحْرِ فَلَا تَطْهُرُ إلَى سَبْعَةَ أَيَّامٍ أَو أَكْثَرَ، وَهِيَ لَا يُمْكِنُهَا أَنْ تُقِيمَ بِمَكَّةَ حَتَّى تَطْهُرَ؛ إمَّا لِعَدَمِ النَّفَقَةِ، أو لِعَدَمِ الرُّفْقَةِ ائَتِي تُقِيمُ مَعَهَا وَتَرْجِعُ مَعَهَا، وَلَا يُمْكِنُهَا الْمُقَامُ بِمَكَّةَ لِعَدَمِ هَذَا أو هَذَا، أَو لِخَوْفِ الضَّرَرِ عَلَى نَفْسِهَا.
فَيَتَوَجَّهُ أنْ يُقَالَ: إنَّمَا تَفْعَلُ مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِن الْوَاجِبَاتِ وَيَسْقُطُ عَنْهَا مَا تَعْجِزُ عَنْهُ فَتَطُوفُ، وَينْبَغِي أَنْ تَغْتَسِلَ -وَإِن كَانَت حَائِضًا- كَمَا تَغْتَسِلُ لِلْإِحْرَامِ وَأوْلَى، وَتَسْتَثْفِرُ كَمَا تَسْتَثْفِرُ الْمُسْتَحَاضَةُ وَأَوْلَى.
وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةُ الْأُصُولِ وَالنُّصُوصِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ
(1)
قال الشيخ في موضع آخر: لَو أمْكَنَهَا أنْ تُقِيمَ بِمَكَّةَ حَتَّى تَطْهُرَ وَتَطُوفَ وَجَبَ ذَلِكَ بِلَا رَيْبٍ. اهـ. (26/ 246)
الطَّهَارَةِ؛ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "تَقْضِي الْحَائِضُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ"
(1)
إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ مُطْلَقًا؛ كَقَوْلِهِ: "إذَا أحْدَثَ أَحَدُكُمْ فَلَا يُصَلِّي حَتَّى يَتَوَضَّأَ"
(2)
، وَقَوْلِهِ:"لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَار"
(3)
.. وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِن النُّصُوصِ، وَقَد عُلِمَ أَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ جَمِيعِهِ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].
هَذَا هُوَ الَّذِي تَوَجَّهَ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، وَلَوْلَا ضَرُورَةُ النَّاسِ وَاحْتِيَاجُهُم إلَيْهَا عِلْمًا وَعَمَلًا لَمَا تَجَشَّمْت الْكَلَامَ، حَيْثُ لَمْ أَجِدْ فِيهَا كَلَامًا لِغَيْرِي، فَإِنَّ الِاجْتِهَادَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ مِمَّا أَمَرَنَا اللهُ بِهِ، فَإِنْ يَكُن مَا قُلْته صَوَابًا فَهُوَ حُكْمُ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْحَمْدُ للهِ، وَإِن يَكُن مَا قُلْته خَطُا فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ، وَاللهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنَ الْخَطَأِ، وَإِن كَانَ الْمُخْطِئُ مَعْفُوًّا عَنْهُ. [26/ 224 - 241]
3247 -
لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَمَرَ بِالطَّهَارَةِ لِلطَّوَافِ، وَلَا نَهَى الْمُحْدِثَ أَنْ يَطُوفَ، وَلَكِنَّهُ طَافَ طَاهِرًا. [26/ 123]
3248 -
لَا يَجُوزُ لِحَائضٍ أَنْ تَطُوفَ إلَّا طَاهِرَةً إذَا أَمْكَنَهَا ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَلَو قَدِمَتِ الْمَرْاُّةُ حَائِضًا لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ، لَكِنْ تَقِفُ بِعَرَفَةَ وَتَفْعَلُ سَائِرَ الْمَنَاسِكِ كُلِّهَا مَعَ الْحَيْضِ إلَّا الطَّوَافَ فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ حَتى تَطْهُرَ إنْ أَمْكَنَهَا ذَلِكَ ثُمَّ تَطُوفُ، وَإِنِ اضْطُرَّتْ إلَى الطَّوَافِ فَطَافَتْ أَجَزْأهَا ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ مِن قَوْلَي الْعُلَمَاءِ. [26/ 126 - 127]
3249 -
الْمَنَاسِكُ قَبْلَ وَقْتِهَا لَا تُجْزِئُ، وَإِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ أَنْ تَطُوفَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ مَعَ الْحَدَثِ وَبَيْنَ أَنْ لَا تَطُوفَهُ: كَانَ أنْ تَطُوفَهُ مَعَ الْحَدَثِ
(1)
رواه أبو داود (1744)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود (1744).
(2)
أخرجه البخاري (6954)، ومسلم (225).
(3)
رواه أبو داود (641)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود (641).
أَوْلَى؛ فَإِنَّ فِي اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ نِزَاعًا مَعْرُوفًا، وَكَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ يَقُولُونَ: إنَّهَا فِي حَالِ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّهَارَةِ إذَا طَافَتْ مَعَ الْحَيْضِ أَجْزاهَا وَعَلَيْهَا دَمٌ، مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّهَا تَأْثَمُ بِذَلِكَ، وَلَو طَافَتْ قَبْلَ التَّعْرِيفِ لَمْ يُجْزِئهَا، وَهَذَا الْقَوْلُ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ، فَتَبَيَّنَ لَك أن الطَّوَافَ مَعَ الْحَيْضِ أَوْلَى مِنَ الطَّوَافِ قَبْلَ الْوَقْتِ. [26/ 203]
* * *
(الفرق بين قَصْدِ الْعِبَادَةِ وَقَصْدِ الْمَعْبُودِ، وبَيْنَ النِّيَّةِ الْمُشْتَرَطَةِ لِلْحَجِّ وَالنِّيَّةِ الَّتي يَنْعَقِدُ بِهَا الْإِحْرَامُ)
3250 -
أما النِّيَّةُ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ: فلَا خِلَافَ بَيْنَ أصْحَابِنَا وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْحَجَّ لَا يَصِحُّ إلَّا بِهَا: إمَّا مِن الْحَاجِّ نَفْسِهِ، وَإِمَّا مَن يَحُجُّ بِهِ كَمَا يَحُجُّ وَلِيُّ الصَّبِيِّ.
وَسَوَاءٌ قِيلَ: إنَّ الْحَجَّ يَنْعَقِدُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، أوْ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِهَا وَبِشَيْء آخَرَ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، مِنْ تَلْبِيَةٍ أَوْ تَقْلِيدِ هَدْيٍ عَلَى الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ.
وَسَوَاءٌ قُلْنَا: إنَّ الْإِحْرَامَ رُكْنٌ أمْ لَيْسَ بِرُكْن، وَهَذَا أمْرٌ لَا يَقْبَلُ الْخِلَافَ؛ فَإِنَ الْعِبَادَاتِ الْمَقْصُودَةَ يَمْتَنِعُ أنْ تَكُونَ هِيَ الْعِبَادَاتِ الْمَأْمُورَ بِهَا بِدُونِ النِّيَّةِ.
وَأمَّا انْعِقَادُ الْإِحْرَامِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ: فَفِيهِ خِلَافٌ فِي الْمَذْهَبِ وَغَيْرِهِ.
وَفَرْقٌ بَيْنَ النِّيَّةِ الْمُشْتَرَطَةِ لِلْحَجِّ وَالنِّيَّةِ الَّتِي يَنْعَقِدُ بِهَا الْإِحْرَامُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْوِيَ الْحَجَّ مِن حِينِ يَخْرُجُ مِن بَيْتِهِ كمَا هُوَ الْوَاقِعُ، وَيقِفَ وَيَطُوفَ مُسْتَصْحِبًا لِهَذِهِ النِّيَّةِ ذِكْرًا وَحُكْمًا، وَإِن لَمْ يَقْصِد الْإِحْرَامَ وَلَا يَخْطُرُ بِقَلْبِهِ
(1)
.
(1)
ظاهره: أنه يصح إحرام الرَّجُل بمُجرَّدِ ما في قَلْبهِ منْ قصْدِ الحجِّ ونيّته، ولا يلزمه قَوْل أوْ عَمَل يَصيرُ به مُحْرمًا.
لكن هذا الظاهر يُعارضه قول الشيخ في موضع آخر: وَلَا يَكونُ الرَّجُلُ مُحْرِمًا بِمُجَرَّدِ مَا فِي=
وَأَصْلُ ذَلِكَ: أَنَّ النِّيَّةَ الْمَعْهُودَةَ فِي الْعِبَادَاتِ تَشْتَمِلُ عَلَى أَمْرَيْنِ:
أ- عَلَى قَصْدِ الْعِبَادَةِ.
ب- وَقَصْدِ الْمَعْبُودِ.
وَقَصْدُ الْمَعْبُودِ: هُوَ الْأصْلُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5].
وَأَمَّا قَصْدُ الْعِبَادَةِ: فَقَصْدُ الْعَمَلِ الْخَاصِّ.
أَمَّا الْأُولَى
(1)
: فَبِهَا يَتَمَيَّزُ مَن يَعْبُدُ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ مِمَن يَعْبُدُ الطَّاغُوتَ أَو يُشْرِكُ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ، وَمَن يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ مِمَّن يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا.
وَأمَّا النِّيَّةُ الثَّانِيَةُ
(2)
: فَبِهَا تَتَمَيَّزُ أَنْوَاعُ الْعِبَادَاتِ، وَأَجْنَاسُ الشَّرَائِعِ، فَيَتَمَيَّزُ الْمُصَلِّي مِن الْحَاجِّ وَالصَّائِمِ، وَيتَمَيَّزُ مَن يُصَلِّي الظُّهْرَ وَيَصُومُ قَضَاءَ رَمَضَانَ مِمَن يُصَلِّي الْعَصْرَ وَيَصُومُ شَيْئًا مِن شَوَّالٍ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نِيَّةَ نَوْعِ الْعَمَلِ الْوَاجِبِ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي الْجُمْلَةِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَقْصِدَ الصَّلَاةَ أَو الْحَجَّ أَو الصِّيَامَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي النِّيَّةِ الْأُولَى: وَهِيَ نِيَّةُ الْإِضَافَةِ إلَى اللهِ تَعَالَى:
مِن أَصْحَابِنَا مَن قَالَ: لَا تَجِبُ نِيَّةُ الْإِضَافَةِ إلَى اللهِ تَعَالَى .. وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ لَمْ يَعْتَبِرُوا نِيَّةَ الْإِضَافَةِ إلَى اللهِ تَعَالَى فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ.
وَذَلِكَ لِأنَّ نَفْسَ نِيَّةِ فِعْلِ الْعِبَادَةِ تَتَضَمَّنُ الْإِضَافَةَ، كَمَا تَتَضَمَّنُ عَدَدَ الرَّكَعَاتِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ لَا تُشْرَعُ إلَّا للهِ تَعَالَى، كَمَا أَنَ صَلَاةَ الظُّهْرِ فِي الْحَضَرِ لَا تَكُونُ إلَّا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَلِهَذَا لَمْ تَجِبْ نِيَّةُ الْإِضَافَةِ
(3)
.
= قَلْبهِ مِن قَصْدِ الْحَجِّ وَنِيَّتِهِ، فَإِنَّ الْقَصْدَ مَا زَالَ فِي الْقَلْب مُنْذُ خَرَجَ مِن بَلَدِهِ، بَل لَا بُدَّ مِن قَوْلِ أَو عَمَلٍ يَصِيرُ بهِ مُحْرِمًا، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِن الْقَوْلَيْنِ. (26/ 108)
(1)
وهي نية قَصْد الْمَعْبُوَدِ، وهو الله تعالى.
(2)
وهي نية قَصْدِ الْعِبَادَةِ المعيّنة.
(3)
ومن قرأ القرآن ابتغاء الأجر، قد لا يخطر بباله استحضار نية الْإِضَافَةِ إلَى اللهِ تَعَالَى.
وَأَيْضًا: النِّيَّة الْحُكْمِيَّةُ تَقُومُ مَقَامَ النِّيَّةِ الْمُسْتَحْضَرَةِ، وَإِن كَانَت النِّيَّةُ الْمُسْتَحْضَرَةُ أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ، فَإِذَا نَوَى الْعَبْدُ صَلَاةَ الظُّهْرِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ أَجْزَأَهُ اسْتِصْحَابُ النِّيَّةِ حُكْمًا، فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ الَّذِي دَخَلَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ قَد نَوَى نِيَّةً عَامَّةً أَنَّ عِبَادَاتِهِ هِيَ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَكن كَذَلِكَ كَانَ مُنَافِقًا.
فَإِذَا نَوَى عِبَادَةً مُعَيَّنَةً مِن صَلَاةٍ وَصَوْمِ كَانَ مُسْتَصْحِبًا لِحُكْمِ تِلْكَ النِّيَّةِ الشَّامِلَةِ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ، كَمَا أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ إذَا نَوَى الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ كَانَ مُسْتَصْحِبًا لِحُكْمِ نِيَّةِ الظُّهْرِ أَو الْعَصْرِ الشَّامِلَةِ لِجَمِيعِ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ إنْ أَتَى بِمَا يَنْقُضُ عِلْمَ تِلْكَ أَفْسَدَهَا، فَإِنَّهُ يَكُونُ فَاسِخًا لَهَا، كَمَا لَو فَسَخَ نِيَّةَ الصَّلَاةِ فِي أَثْنَائِهَا، فَإِذَا قَامَ يُصَلِّي لِئَلَّا يُضْرَبَ أَو يُؤخَذَ مَالُهُ أَو أَدَّى الزَّكَاةَ لِئَلَّا يُضْرَبَ: كَانَ قَد فَسَخَ تِلْكَ النِّيَّةَ الْإِيمَانِيَّةَ.
فَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذِهِ الْعِبَادَةَ فَاسِدَةٌ لَا يَسْقُطُ الْفَرْضُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ.
فَفَرْقٌ بَيْنَ مَن لَمْ يُرِدِ اللهَ بِعَمَلِهِ لَا جُمْلَةً وَلَا تَفْصِيلًا، وَبَيْنَ مَن أَرَادَهُ جُمْلَةً وَذُهِلَ عَن إرَادَتِهِ بِالْعَمَلِ الْمُعَيَّنِ تَفْصِيلًا.
فَإِنَّ مَن نَوَى الْعَمَلَ الْمُعَيَّنَ فَقَد نَوَى الْعَمَلَ للهِ بِحُكْمِ إيمَانِهِ. [26/ 22 - 32]
* * *
(التفصيل في حكم إدخال الحج على العمرة والعكس، وما الأفضل لمن اعتمر في غير أشهر الحج وأراد الحج: الإفراد أو التمتع
؟)
3251 -
إِذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ: جَازَ ذَلِكَ بِالاِتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا إذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ
(1)
: لَمْ يَجُزْ عَلَى الصَّحِيحِ؛
(1)
صورة المسألة: رجلٌ أهل بالحج وحده ثم أدخل العمرة عليه فصار قارنًا؛ أي: انتقل من الإفراد=
لِأَنَّهُ لَا يَلْتَزِمُ زِيادَةَ شَيْءٍ، وَإِنَّمَا جَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ: فِي أَنَّ عَمَلَ الْقَارِنِ فِيهِ زَيادَةٌ عَلَى عَمَلِ الْمُفْرِدِ
(1)
.
ومَن سَافَرَ سَفْرَةً وَاحِدَةً وَاعْتَمَرَ فِيهَا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُسَافِرَ أُخْرَى لِلْحَجِّ فَتَمَتُّعُهُ أَيْضًا أَفْضَلُ لَهُ مِن الْحَجِّ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِن الصَّحَابَةِ الَّذِينَ حَجُّوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانُوا قَد اعْتَمَرُوا قَبْلَ ذَلِكَ، وَمَعَ هَذَا فَأَمَرَهُم بِالتَّمَتُّعِ، لَمْ يَأْمُرْهُم بِالْإِفْرَادِ؛ وَلأَنَّ هَذَا يَجْمَعُ بَيْنَ عُمْرَتَيْنِ وَحَجَّةٍ وَهَدْيٍ، وَهَذَا أَفْضَلُ مِن عُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ
(2)
.
وَكَذَلِكَ لَو تَمَتَّعَ ثُمَّ سَافَرَ مِن دويرة أَهْلِهِ لِلْمُتْعَةِ: فَهَذَا أَفْضَلُ مِن سَفْرَةٍ بِعُمْرَة، وَسَفْرَةٍ بِحَجَّةِ مُفْرَدَةٍ، وَهَذَا الْمُفْرِدُ
(3)
أَفْضَلُ مِن سَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ يَتَمَتَّعُ فِيهَا.
وَأَمَّا إذَا أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ النسكين بِسَفْرَة وَاحِدَةٍ وَيَسُوقَ الْهَدْيَ: فَالْقِرَآنُ أَفْضَلُ؛ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قَرَنَ وَسَاقَ الْهَدْيَ.
= إلى القران: فالجمهور وهو ما رجحه الشيخ أنه لا يجوز؛ لأن الأصغر لا يقوى على الأكبر.
(1)
لأنه يُوجب على القارن طوافين وسعيين.
(2)
هذا الكلام يردّ على من نسب إلى شيخ الإسلام أن من اعتمر في غير أشهر الحج وأراد الحج أن الأفضل في حقه نسك الإفراد، وكلامه الآتي يُؤكد ردّ هذا الفهم، وسبب هذا الفهم الخاطئ: أن شيخ الإسلام رحمه الله ذكر أن من اعتمر قبل أشهر الحج فإن الحج مفردًا أفضل في حقه باتفاق الأئمة.
قال شيخنا سليمان الحربي حفظه الله: ومن الغريب أن ابن عثيمين استشكل هذا الموضع عند تعليقه على الاختيارات حيث نقل البعلي عن ابن تيمية قوله: "وإن اعتمر وحج في سفرتين أو اعتمر قبل أشهر الحج فالإفراد أفضل باتفاق الأئمة الأربعة ومن أفرد العمرة بسفرة ثم قدم فى أشهر الحج فإنه يتمتع".
علَّق الشيخ فقال: "اعلم أن هذه العبارة تنافي ما قبلها إلا أن تحمل على محمل بعيد من ظاهرها .. ولعل صواب العبارة: فإنه لا يتمتع" فزاد الشيخ حرف النفي "لا" وهذا بسبب أن الشيخ فهم أن ابن تيمية يتكلم عن نوع النسك وإنما الشيخ يتكلم عن تفضيل سفرة للعمرة على عمرة تكون مع التمتع وهذا لا إشكال فيه. اهـ.
(3)
أي: الذي أفرد سفرةً لحجة، وسفرةً لعمرته.
فَإِنْ قِيلَ: أَيُّمَا أَفْضَلُ أَنْ يَسُوقَ الْهَدْيَ وَيقْرِنَ، أَو أَنْ يَتَمَتَّعَ بِلَا سَوْقِ هَدْيٍ وَيحِلَّ مِن إحْرَامِهِ؟
قِيلَ: هَذَا مَوْضِعُ الِاجْتِهَادِ
(1)
. [26/ 88 - 92]
* * *
(حكم فَسْخِ الْمُفْرِدِ وَالْقَارِنِ وَانْتِقَالِهِمَا إلَي التَّمَتُّعِ)
3252 -
وَأَمَّا تَنَازُعُ الْعُلَمَاءِ فِي جَوَازِ فَسْخِ الْمُفْرِدِ وَالْقَارِنِ وَانْتِقَالِهِمَا إلَى التَمَتُّعِ
(2)
: فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَن قَالَ: إنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَخْصُوصًا بِاَلَّذِينَ حَجُّوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ بَعْضُهُم: لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ أَنْ يُعْلِمَهُم جَوَازَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ.
وَقَالَ آخَرُونَ: هَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ جِدًّا، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ غَيْرَ مَرَّةٍ؛ بَل عُمَرُهُ كَانَت فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ.
وَأَيْضًا: فَإِذَا كَانَ الْكُفَّارُ لَمْ يَكُوُنوا يَتَمَتَّعُونَ وَلَا يَعْتَمِرُونَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَصَدَ مُخَالَفَةَ الْكُفَّارِ: كَانَ هَذَا مِن سُنَنِ الْحَجِّ، كَمَا فَعَلَ فِي وُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُعَجِّلُونَ الْإِفَاضَةَ مِن عَرَفَةَ قَبْلَ
(1)
ذكر الشيخ القولين ولم يرجح، لكنه في ص (26/ 284 - 286) رجح الأول، وهو أَنْ يَسُوقَ الْهَدْيَ وَيقْرِنَ.
(2)
فسخ الحج لمن لم ينو الإتيان به بعد عمرته لا يجوز بلا شك، إلا في حالة الفوات.
أما إذا انتقل من إفراد أو قران إلى تمتع: فقد اختلف أهل العلم رحمهم الله في ذلك على أقوال:
القول الأول: أنه لا يجوز له أن يفسخ الحج لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} . وهو قول جمهور أهل العلم.
القول الثاني: أنه يسن، واستدلوا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة رضي الله عنهم الذين أهلُّوا بحج أو حج وعمرة أن يفسخوها إلى عمرة، وهو مذهب الحنابلة، واختيار شيخ الإسلام رحمه الله.
القول الثالث: أنه يجب الفسخ، وهو مذهب الظاهرية واختيار ابن القيِّم رحمه الله.
الْغُرُوبِ، ويُؤَخِّرُونَ الْإِفَاضَةَ مِن جَمْعٍ إلَى أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَخَالَفَهُم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ:"خَالَفَ هَدْيُنَا هَدْيَ الْمُشْرِكِينَ"، فَأَخَّرَ الْإِفَاضَةَ مِن عَرَفَةَ إلَى أنْ غَرَبَت الشَّمْسُ، وَعَجَّلَ الْاِفَاضَةَ مِن جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَهَذَا هُوَ السُّنَّةُ لِلْمُسْلِمِينَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.
فَهَكَذَا مَا فَعَلَهُ مِنَ التَّمَتُّعِ وَالْفَسْخِ إنْ كَانَ قَصَدَ بِهِ مُخَالَفَةَ الْمُشْرِكِينَ فَهَذَا هُوَ السُّنَةُ، وَإِن فَعَلَهُ لِأنَّهُ أَفْضَلُ وَهُوَ سُّنَّةٌ، فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَكُونُ الْفَسْخُ أَفْضَلَ؛ اتِّيُاعًا لِمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ. [26/ 95 - 96]
3253 -
الْفَسْخُ
(1)
فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ:
قِيلَ: هُوَ وَاجِبٌ كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأتْبَاعِهِ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَالشِّيعَةِ.
وَقِيلَ: هُوَ مُحَرَّمٌ كَقَوْلِ مُعَاوَيةَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَمَن اتِّبَعَهُمَا كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ.
وَقِيلَ: هُوَ جَائِزٌ مُسْتَحَبٌّ، وَهُوَ مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ: أَحْمَد وَغَيْرِهِ
(2)
. [26/ 49]
(1)
أي: فَسْخَ الْحَجِّ إلَى التمَتُّعِ.
(2)
وهذا اختيار الشيخ رحمه الله، وجعل اخْتِصَاص وُجُوبِهِ بِالصَّحَابَةِ، وقال: إِنَّهُم كانُوا قَد فُرِضَ عَلَيْهِمُ الْفَسْخُ لِأَمْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَهُم بِهِ وَحَتْمِهِ عَلَيْهِمْ، وَغَضَبِهِ عِنْدَمَا تَوَقَّفُوا فِي الْمُبَادَرةِ إِلَى امْتِثَالِهِ، وَأمَّا الْجَوَازُ وَالِاسْتِحْبَابُ فَلِلْأُمَّةِ الَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. اهـ. زاد المعاد (2/ 180).
قال ابن عثيمين رحمه الله: وما قاله رحمه الله وجيه جدًّا، وهو أن وجوب الفسخ إنما هو في ذلك العام الذي واجههم به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما بعد ذلك فليس بواجب، وأظنه لو كان واجبًا لم يخف على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وهما من هما بالنسبة لقربهما من الرسول صلى الله عليه وسلم ولفهمهما قوله. اهـ. الشرح الممتع (7/ 79).
وقد خالف ابن القيِّم شيخه في هذا واختار قول ابن عباس والظاهرية، حيث قال: لَكِنْ أبَى ذَلِكَ الْبَحْرُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَجَعَلَ الْوُجُوبَ لِلْأُمَّةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأنَّه فَرض عَلَى كُلِّ مُفْرِدٍ وَقَارِنٍ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ، أنْ يَحِلَّ وَلَا بُدَّ، بَل قَد حَلَّ وَإِن لَمْ يَشَأْ، وَأَنَا إِلَى قَوْلِهِ أَمْيَلُ مِنِّي إِلَى قَوْلِ شَيْخِنَا. اهـ. زاد المعاد (2/ 180).
3254 -
فَسْخُ الْحَجِّ إلَى التَّمَتُّعِ: مُوَافِقٌ لِقِيَاسِ الْأصُولِ لَا مُخَالِفٌ لَهُ، فَإِنَّ الْمُحْرِمَ إذَا الْتَزَمَ أَكْثَرَ مِمَا لَزِمَهُ جَازَ بِاتِّفَاقِ الْأئِمَّةِ، فَلَو أَحْرَمَ بِالْغمْرَةِ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجِّ جَازَ بِلَا نِزَاعٍ.
وَأَمَّا إذَا أحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ
(1)
.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَالْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا الْحَجّ، فَإِذَا صَارَ مُتَمَتِّعًا صَارَ مُلْتَزِمًا لِعُمْرَةٍ وَحَجٍّ، فَكانَ مَا الْتَزَمَهُ بِالْفَسْخِ أكْثَرَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ فَجَازَ ذَلِكَ وَهُوَ أَفْضَلُ.
وَإِنَّمَا يشْكلُ هَذَا عَلَى مَن يَظُنُّ أَنَّهُ فَسَخَ حَجًّا إلَى عُمْرَةِ مُجَرَّدَ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَو أَرَادَ أنْ يَفْسَخَ الْحَجَّ إلَى الْعُمْرَةِ مُفْرَدَةً لَمْ يَجُزْ بِلَا نِزَاعٍ، وَإِنَّمَا الْفَسْخُ جَائِزٌ لِمَن كَانَ نِيَّتَهُ أنْ يَحُجَّ بَعْدَ الْعُمْرَةِ.
وَقَد قَدَّمْنَا أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ مِن حِينِ يُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ دَخَلَ فِي الْحَجِّ، كَمَا قَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"دَخَلَت الْعُمْرَةُ في الْحَجِّ"
(2)
، وَلهَذَا يَجُوزُ أنْ يَصومَ الْأيَّامَ الثَّلَاثَةَ
(3)
مِن حِينَئذٍ، وَإِنَّمَا إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ بَعْدَ ذَلِكَ. [26/ 57 - 58]
3255 -
مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ وَكَثِيرٍ مِن الظَّاهِريَّةِ وَالشِّيعَةِ: يَرَوْنَ أَنَّ الْفَسْخَ وَاجِبٌ
(4)
، وَأَنَهُ لَيْسَ لِأحَد أَنْ يَحُجَّ إلَّا مُتَمَتِّعًا.
وَمَذْهَبُ كَثِيرِ مِن السَّلَفِ وَالْخَلَفِ انَّهُ وَإِن جَازَ التَّمَتُّعُ فَلَيْسَ لِمَن أَحْرَمَ مُفْرِدًا أو قَارِنًا أنْ يَفْسَخَ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَمَذْهَبُ كَثِيرٍ مِن فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ: كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَ الْفَسْخَ هُوَ الْأَفْضَلُ، وَأنَّهُ إنْ حَجَّ مُفْرِدًا أَو قَارِنًا وَلَمْ يَفْسَخْ جَازَ.
(1)
وهو الذي رجحه الشيغ كما سيأتي.
(2)
أخرجه مسلم (1218).
(3)
في حقّ من لم يجد الهدي، قال تعالى:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} .
(4)
وهو اختيار العلَّامة ابن القيِّم رحمه الله، وقد خالف في ذلك شيخه.
وَأَمَّا مَن سَاقَ الْهَدْيَ فَلَا يَفْسَخُ بِلَا نِزَاعٍ.
وَالْفَسْخُ جَائِز
(1)
مَا لَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَد نَوَى عِنْدَ الطَّوَافِ طَوَافَ الْقُدُومِ أَو غَيْرَ ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَد نَوَى عِنْدَ الْإِحْرَامِ الْقِرَانَ أَو الْإِفْرَادَ أَو أَحْرَمَ مُطْلَقًا.
فَأَمَّا الْفَسْخُ بِعُمْرَةٍ مُجَرَّدَةٍ: فَلَا يُجَوِّزُهُ أَحَدٌ مِن الْعُلَمَاءِ. [26/ 280]
* * *
(حكم تقبيل أركان الكعبة والمقام وقبر النبي)
3256 -
الرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ: لَا يُقَبَّلُ عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ، وَأَمَّا سَائِرُ جَوَانِبِ الْبَيْتِ وَالرُّكْنَانِ الشَّامِيَّانِ وَمَقَامُ إبْرَاهِيمَ فَلَا تُقَبَّلُ وَلَا يُتَمَسَّحُ بِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ الْمُتَّبِعِينَ لِلسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فإذا لَمْ يَكُن التَّمَسُّحُ بِذَلِكَ وَتَقْبِيلُهُ مُسْتَحَبًّا فَأَوْلَى أَلَّا يُقَبَّلَ وَلَا يُتَمَسَّحَ بِمَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ.
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لِمَن سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ قَبْرِهِ أَنْ يُقَبِّلَ الْحُجْرَةَ وَلَا يَتَمَسَّحَ بِهَا؛ لِئَلَّا يُضَاهِيَ بَيْتُ الْمَخْلُوقِ بَيْتَ الْخَالِقِ. [26/ 97]
3257 -
الرُّكْنُ الْأَسْوَدُ يُسْتَلَمُ وَيُقَبَّلُ، وَالْيَمَانِيُّ يُسْتَلَمُ وَلَا يُقَبَّلُ، وَالْآخَرَانِ لَا يُسْتَلَمَانِ وَلَا يُقَبَّلَانِ، وَالِاسْتِلَامُ هُوَ مَسْحُهُ بِالْيَدِ، وَأَمَّا سَائِرُ جَوَانِبِ الْبَيْتِ وَمَقَامُ إبْرَاهِيمَ وَسَائِرُ مَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْمَسَاجِدِ وَحِيطَانِهَا وَمَقَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ .. : فَلَا تُسْتَلَمُ وَلَا تُقَبَّلُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ.
وَأَمَّا الطَّوَافُ بِذَلِكَ فَهُوَ مِن أَعْظَمِ الْبِدَعِ الْمحَرَّمَةِ، وَمَنِ اتَّخَذَهُ دِينًا يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. [26/ 121]
* * *
(1)
لمن لم يسق الهدي.
(الصلاة في المسجد النبوي والسلام على الرسول والوقوف للدعاء)
3258 -
قال ابن عقيل وابن الجوزي: يكره قصد القبور للدعاء، قال شيخنا: ووقوفه عندها له. [المستدرك 3/ 197]
3259 -
مكة أفضل بقاع الله، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وأنص الروايتين عن أحمد، قال أبو العباس: ولا أعلم أحدًا فضل تربة النبي صلى الله عليه وسلم على الكعبة إلا القاضي عياض، ولم يسبقه إليه أحد، ولا وافقه عليه أحد.
والصلاة وغيرها من القرب بمكة أفضل، والمجاورة بمكان يكثر فيه إيمانه وتقواه أفضل حيث كان
(1)
، وتضاعف السيئة والحسنة بمكان أو زمان فاضل، ذكره القاضي وابن الجوزي. [المستدرك 3/ 198]
3260 -
المعاصي في الأيام المفضلة والأمكنة المفضلة تغلظ المعصية، والعقاب عليها على قدر ذلك المكان والزمان. [المستدرك 3/ 198]
* * *
(ما هو أول مسجد أُسّس على التقوى
؟)
3261 -
قَالَ تَعَالَى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)} [التوبة: 108]، وَقَد رُوِيَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِن غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ سَأَلَ أَهْلَ قُبَاء عَن هَذَا الطَّهُورِ الَّذِي أَثْنَى اللهُ عَلَيْهِم فَذَكَرُوا أَنَّهُم يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ.
وَقَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ"
(2)
عَن سَعْدٍ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَن الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى وَهُوَ فِي بَيْتِ بَعْضِ نِسَائِهِ فَأَخَذَ كَفًّا مِن حَصًى فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ ثُمَّ قَالَ: "هُوَ مَسْجِدُكُمْ هَذَا لِمَسْجِدِ الْمَدِينَة".
(1)
ولو لم يكن المكان فاضلًا.
(2)
مسلم (1398).
فَتَبَيَّنَ أَنَّ كِلَا الْمَسْجِدَيْنِ أُسِّس عَلَى التقْوَى، لَكِنَّ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ أَكْمَلُ فِي هَذَا النَّعْتِ فَهُوَ أَحَق بِهَذَا الِاسْمِ، وَمَسْجِدُ قُبَاءَ كَانَ سَبَبَ نزُولِ الْآيَةِ؛ لِأنَّهُ مُجَاوِز لِمَسْجِدِ الضِّرَارِ الَّذِي نُهِيَ عَن الْقِيَامِ فِيهِ. [27/ 406 - 407]
* * *
(باب الفوات والإحصار)
3262 -
سُئِلَ رحمه الله: عَن امْرأةٍ حَجَّتْ وَأَحْرَمَتْ لِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ .. وَعِنْدَمَا حَضَرَتِ الْحَرَمَ حَاضَتْ وَرَجَعَتْ إلَى مِنَى وَكَتَمَتْ وَعَادَتْ إلَى بَلَدِهَا وَبَعْدَ سَنَتَيْنِ اعْتَرَفَتْ بِمَاْ وَقَعَ لَهَا؟
فَأَجَابَ: إنْ كَانَت قَد طَافَتْ طَوَافَ الْاِفَاضَةِ وَهِيَ حَائِضٌ وَالْحَالَةُ هَذِهِ نَاوَيةً
(1)
: أَجْزَأَهَا الْحَجُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ
(2)
، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.
وَغَايَةُ مَا يَجِبُ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: بَدَنَةٌ، وَعِنْدَ أحْمَد: دَمٌ وَهِيَ شَاةٌ.
وَأَمَّا إنْ كَانَت لَمْ تَطُفْ
(3)
: تَحَلَّلَتِ التَّحَلُّلَ الْأوَّلَ
(4)
وَجَازَ لَهَا الطّيبُ وَتَغْطِيَةُ الْوَجْهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، لَكِنْ لَا يَطَؤُهَا زَوْجُهَا حَتَّى تَطُوفَ طَوَافَ الْإفَاضَةِ.
فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهَا الْعَوْدُ: فَغَايَةُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَخَّصَ لَهَا فِيهِ أَنَّهَا تَكونُ
(1)
هذا قيد مهم، فمن طافت ولم تنو أنه طوافٌ مُجزئ، بل طافت وهي معتقدة بطلان طوافها، حيث سارت حول الكعبة مجاملة لأهلها، وحياء من اطلاعهم على حيضها، أو خوفًا من تأنيبهم ولومهم: لم يصحّ طوافها.
(2)
سواء أمكنها الرجوع لقربها من مكة أو لا، فما دام أنها طافت أجزأها، فإن كانت متعمِّدة عالمة بالحكم أثمت.
(3)
أي: لم تطف طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، وقد أتت ببقية أركان الحج من الوقوف بعرفة ومزدلفة وغيرها.
(4)
لأنها رمت جمرة العقبة وقصرت، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"وإذا فعل ذلك (يعني: الرمي والحلق) فقد تحلل باتفاق المسلمين التحلل الأول". اهـ.
كَالْمُحْصَرَةِ، تحلل
(1)
مِن إحْرَامِهَا بِهَدْي، وَلَكِنَ الْأحْوَطَ أَنْ تَبْعَثَ بِهِ إلَى مَكَّةَ لِيُذْبَحَ مِثْل أنْ يُذْبَحَ يَوْمَ النَّحْرِ، فَإِذَا ذُبِحَ هُنَاكَ حَلَّتْ هُنَا، وَجَازَ لِزَوْجِهَا أَنْ يَطَأهَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ.
فَإِذَا وَاعَدَتْ مَن يَذْبَحُهُ هُنَاكَ فِي يَوْمٍ مُعَيَّن حَلَّتْ إلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ.
ثُمَّ إذَا أَمْكَنَهَا بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ تَذْهَبَ إلَى مَكَّةَ: فَإِنَّهَا تَدْخُلُ مُهِلَّةً بِعُمْرَةٍ، وَتَطُوفُ هَذَا الطَّوَافَ الْبَاقِيَ عَلَيْهَا، ثُمَّ إنْ شَاءَتْ حَجَّتْ مِن هُنَاكَ
(2)
، وَإِن عَجَزَتْ عَن ذَلِكَ حَتَّى تَمُوتَ
(3)
: فَلَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا.
وَإِن أَمْكَنَ أَنْ تَبْعَثَ عَنْهَا بَعْدَ مَوْتِهَا مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ عَنْهَا
(4)
: فَعَلَ.
وَإِن كَانَ وَطْؤُهَا قَبْلَ هَذَا الطَّوَافِ
(5)
: لَمْ يَفْسُد الْحَجُّ بِذَلِكَ، لَكنْ يَفْسُدُ مَا بَقِيَ، وَعَلَيْهَا طَوَافُ الْإِفَاضَةِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ كَمَا ذُكِرَ، لَكِنْ عِنْدَ مَالِكِ وَأَحْمَد عَلَيْهَا أَنْ تُحْرِمَ بِعُمْرَةِ كَمَا نُقِلَ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُمَا يُجْزِئُهَا بِلَا إحْرَامٍ جَدِيدٍ، هَذَا إذَا كَانَت هُنَاكَ.
فَأَمَّا إنْ كَانَت رَجَعَتْ إلَى بَلَدِهَا وَوَطاهَا زَوْجُهَا فَلَا بُدَّ لَهَا إذَا رَجَعَتْ أَنْ تُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ مِن الْمِيقَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ مَكَّةَ إلا مُحْرِمًا بِحَجٍّ أو عُمْرَةٍ إمَّا وُجُوبًا أَو اسْتِحْبَابًا، إلَّا مَن لَهُ حَاجَةٌ مُتَكَرّرَةٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ. [26/ 246 - 247]
3263 -
المحصر بمرض أو ذهاب نفقة كالمحصر بعدو، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، والمحصر يلزمه دم في إحدى الروايتين.
وإذا مُنع في حج عن عرفة
(6)
تحلل بعمرة مجانًا.
(1)
لعل الأصوب: (تتحلل)؛ لأن الضمير يعود لمؤنث.
(2)
أي: حجة نفل؛ لأن الفرض سقط عنها بإتيانها بطواف الإفاضة.
(3)
أي: إن عجزت عن الذهاب إلَى مَكَّةَ لتطوف طواف الإفاضة الذي تركته.
(4)
أي: يطوف طواف الإفاضة.
(5)
أي: لو أنها ذات زوج، أو تزوجت بعد رجوعها وهي لم تطف طواف الإفاضة، فوطأها زوجها.
(6)
فقط، دون الطواف والسعي.
وإن حصره مرض أو ذهاب نفقة بقي محرمًا حتى يقدر على البيت، فإن فاته الحج تحلل بعمرة نقله الجماعة، ولا ينحر هديًا معه إلا بالحوم، نص على التفرقة، وفي لزوم القضاء والهدي الخلاف، وأوجب الآجري القضاء هنا، وعنه: يتحلل كمحصر بعدو، واختاره شيخنا، وأن مثله حائض تعذر مقامها وحرم طوافها ورجعت ولم تطف لجهلها بوجوب طواف الزيارة، أو لعجزها عنه، أو لذهاب الرفقة، وكذا من ضل الطريق ذكره في المستوعب، وفي التعليق: واحتج شيخنا لاختياره بأن الله لم يوجب على المحصر أن يبقى محرمًا حولًا بغير اختياره، بخلاف بعيدٍ أحرم من بلده ولا يصل إلا في عام، بدليل تحلل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما حصروا عن إتمام العمرة مع إمكان رجوعهم محرمين إلى العام القابل. [المستدرك 3/ 198 - 199]
3264 -
لَا بُدَّ بَعْدَ الْوُقُوفِ
(1)
مِن طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، وَإِن لَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ لَمْ يَتمَّ حَجُّهُ بِاتّفَاقِ الْأمَّةِ.
وَإِن أَحْصَرَهُ عَدُوٌّ
(2)
عَنِ الْبَيْتِ وَخَافَ فَلَمْ يُمْكِنْهُ الطَّوَافُ: تَحَلَّلَ فَيَذْبَحُ هَدْيًا وَيحِلُّ، وَعَلَيْهِ الطَّوَافُ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ كَانَت تِلْكَ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ
(3)
؛ فَيَدْخُلُ مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ يَعْتَمِرُهَا تَكُونُ عِوَضًا عَن ذَلِكَ. [26/ 302]
* * *
(1)
بعرفة.
(2)
المشهور من المذهب الحنبلي: أن الحصر خاص بمنع العدو، وأما غير العدو فإنه لا إحصار فيه كضياع النفقة والمرض ونحو ذلك.
والقول الثاني: أنه إذا حصر بغير عدو فكما لو حصر بعدو؛ لعموم قول الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة: 196]؛ أي: عن إتمامهما، ولم يقيد الله تعالى الحصر بعدو. وهذا اختيار العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله. الشرح الممتع (7/ 418).
(3)
أما إن كانت نفلًا فلا يجب، والشيخ رحمه الله تعالى اختار عدم وجوب القضاء على المحصر إذا كان بغير تفريط منه، حيث قال: مَن وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ كَالْمُفْسِدِ فَإِنَّمَا ذَاكَ لِتَفْرِيطِهِ بِإِفْسَادِ الْحَجِّ، وَلهَذَا لَمْ يَجِب الْقَضَاءُ عَلَى الْمُحْصَر فِي أظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ لِعَدَمِ التَّفْرِيطِ، وَمَن أوْجَبَ الْقَضَاءَ عَلَى مَن فَاتَهُ الْحَجُّ فَإِنَّهُ يُوجِبُهُ لِأنَّهُ مُفَرَّطٌ عِنْدَهُ. اهـ. (186/ 26)
(باب الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَالْعَقِيقَةِ)
(الهدي والأضحية)
3265 -
الْأُضْحِيَّةُ وَالْعَقِيقَة وَالْهَدْيُ: أَفْضَلُ مِن الصَّدَقَةِ بِثَمَنِ ذَلِكَ.
وَالْأَكْلُ مِن الْأضْحِيَّةِ أَفْضَلُ مِن الصَّدَقَةِ، وَالْهَدْيُ بِمَكَّةَ أَفْضَلُ مِن الصَّدَقَةِ بِهَا. [26/ 304]
3266 -
إذَا اشْتَرَى أُضْحِيَّةً فَتَعَيَّبَتْ قَبْلَ الذَّبْحِ ذَبَحَهَا فِي أَحَدِ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ، وَإِن تَعَيَّبَتْ عِنْدَ الذَّبْحِ أَجْزَأَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. [26/ 304]
3267 -
الْأُضْحِيَّةُ: مِنَ النَّفَقَةِ بِالْمَعْرُوفِ؛ فَيُضَحِّي عَن الْيَتِيمِ مِن مَالِهِ، وَتَأْخُذُ الْمَرْأَةُ مِن مَالِ زَوْجِهَا مَا تُضَحِّي بِهِ عَن أَهْلِ الْبَيْتِ وَإِن لَمْ يَأْذَنْ فِي ذَلِكَ، وَيُضَحِّي الْمَدِينُ إذَا لَمْ يُطَالَبْ بِالْوَفَاءِ، ويَتَدَيَّنُ وُيضَحّي إذَا كَانَ لَهُ وَفَاءٌ .. وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ. [26/ 305]
3268 -
تَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ عَنِ الْمَيِّتِ كَمَا يَجُوزُ الْحَجُّ عَنْهُ وَالصَّدَقَةُ عَنْهُ، وَلَا يُذْبَحُ عِنْدَ الْقَبْرِ أُضْحِيَّةً وَلَا غَيْرَهَا.
وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ عِنْدَ الْقَبْرِ كَرِهَهَا الْعُلَمَاءُ، وَشَرْطُ الْوَاقِفِ ذَلِكَ شَرْطٌ فَاسِدٌ.
وَأَنْكَرُ مِن ذَلِكَ: أَنْ يُوضَعَ عَلَى الْقَبْرِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ لِيَأْخُذَهُ النَّاسُ، فَإِنَّ هَذَا وَنَحْوَهُ مِن عَمَلِ كَفَّارِ التُّرْكِ لَا مِن أَفْعَالِ الْمُسْلِمِينَ. [26/ 306 - 307]
3269 -
الْأُضْحِيَّةُ بِالْحَامِلِ جَائِزَةٌ، فَإِذَا خَرَجَ وَلَدُهَا مَيِّتًا فَذَكَاتُهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا، سَوَاءٌ أَشْعَرَ أَو لَمْ يُشْعِرْ، وَإِن خَرَجَ حَيًّا ذُبحَ. [26/ 307]
3270 -
الْهَتْمَاءُ الَّتِي سَقَطَ بَعْضُ أَسْنَانِهَا: فِيهَا قَوْلَانِ هُمَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد، أَصَحُّهُمَا: أَنَّهَا تُجْزِئ.
وَأَمَّا الَّتِي لَيْسَ لَهَا أَسْنَانٌ فِي أَعْلَاهَا فَهَذِهِ تُجْزِئُ بِاتِّفَاقِ. [26/ 308]
3271 -
وَأَمَّا الْأُضْحِيةُ فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ بِهَا الْقِبْلَةَ فَيُضْجِعَهَا عَلَى الْأَيْسَرِ وَيَقُولُ: بِسْمِ اللهِ وَاللهُ أكْبَرُ اللَّهُمَّ تَقَبَل مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْت مِن إبْرَاهِيمَ خَلِيلِك.
وَإِذَا ذَبَحَهَا قَالَ: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)} [الأنعام: 79]، {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162، 163].
وَيتَصَدَّقُ بِثُلُثِهَا وَيُهْدِي ثُلُثَهَا، وَإِن أَكَلَ أَكْثَرَهَا أَو أَهْدَاهُ أَو أَكَلَهُ أَو طَبَخَهَا وَدَعَا النَّاسَ إلَيْهَا جَازَ.
وَيُعْطِي أُجْرَةَ الْجَزَّارِ مِن عِنْدِهِ، وَجِلْدُهَا إنْ شَاءَ انْتَفَعَ بِهِ وَإِن شَاءَ تَصَدَّقَ بِهِ
(1)
. [26/ 308 - 309]
3272 -
إِنْ ضَحَّى بِشَاةً وَاحِدَةٍ عَنْهُ وَعَن أَهْلِ بَيْتِهِ أَجْزَأَ ذَلِكَ فِي أظْهَر قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ. [26/ 310]
3273 -
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرٍ فحضر
النحر فاشتركنا في البعير عن عشرة، وفي البقرة عن سبعة، والذي في الصحيح، أنهم عام الحديبية نحروا البدنة عن سبعة، وهي البعير، وهو مذهب الجمهور، وقال مالك: لا يجزي نفس إلا عن نفس.
وأما ذبح البعير عن عشرة فلم يقل به أحد من الأئمة الأربعة.
وحديث النسائي قيل: إنه في قسم الغنائم، فقسم بينهم فجعل الجزور بعشرة من الغنم، لا في النسك. [المستدرك 3/ 199 - 200]
(1)
نصّ أكثر أهل العلم أنه لا يجوز بيع جلد الأضحية ولا غيره من أجزائها للجزار أو غيره، كما لا يجوز إعطاؤه للجزار مقابل أجرته أو بعضها؛ لحديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمَره أن يقوم على بُدْنه وأن يقسِّم بدنه كلها؛ لحومها وجلودها وجلالها ولا يعطي في جزارتها شيئًا. متفق عليه.
3274 -
من ضحى بشاة ثمنها أكثر من ثمن البقرة كان أفضل من البقرة؛ فإنه صلى الله عليه وسلم سئل أي الصدقات أفضل؟ فقال: "أغلاها ثمنًا وأنفسها عند أهلها"
(1)
.
والذي دلَّت عليه السُّنَّة أن الضحية صمان كانت واجبة يضحي الرجل بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته، فقد ضحى النبي صلى الله عليه وسلم وقال:"اللَّهُمَّ هذا عن محمدٍ وآل محمد"
(2)
، وقال:" الرجل يضحي بالشاة الواحدة عن أهل بيته"
(3)
.
وتعدد أفضل، ومسألة ابن منصور: بدنتان سمينتان بتسعة، وبدنة بعشرة؟
فقال: اثنتان أعجب إلي، ورجح الشيخ تقي الدين البدنة السمينة.
والأضحية من النفقة بالمعروف، فتضحي امرأة من مال زوجها عن أهل البيت بدون إذنه، ومدين لم يطلبه رب الدين.
وتجوز الأضحية بما كان أصغر من الجذع من الضأن لمن ذبح قبل صلاة العيد جاهلًا بالحكم، ولم يكن عنده ما يعتد به في الأضحية غيرها؛ لقصة أبي بردة بن نِيَار
(4)
، ويُحمل قوله صلى الله عليه وسلم:"ولن تجزئ عن أحد بعدك"؛ أي: بعد حالك. [المستدرك 3/ 200 - 201]
3275 -
الأجر في الأضحية على قدر القيمة مطلقًا. [المستدرك 3/ 201]
3276 -
لا يستحب أخذ شعره بعد ذبح الأضحية، وهو إحدى الروايتين عن أحمد
(5)
. [المستدرك 3/ 201]
(1)
رواه البخاري (2518).
(2)
رواه أحمد (27190).
(3)
رواه البخاري (7210).
(4)
وهو ما ثبت في صحيح البخاري (955)، ومسلم (1961)، عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِب رضي الله عنهما قَالَ: خَطَبَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الأضْحَى بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ:"مَن صلَّى صَلَاَتنَا، وَنَسَكَ نُسُكَنَا، فَقَد أصَابَ النُّسُكَ، وَمَن نَسَكَ قَبْلَ الصَّلاةِ فَإِنَّهُ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَلَا نُسُكَ لَهُ"، فَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ خَالُ البَرَاءِ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّي نَسَكْتُ شَاتِي قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَعَرَفْتُ أنَ اليَوْمَ يَوْمُ أَكْل وَشُرْب، وَأحْبَبْتُ أَنْ تَكُونَ شَاتِي أَوَّلَ مَا يُذْبَحُ فِي بَيْتِي، فَذَبَحْتُ شَاتِي وَتَغَدَّيْتُ قَبْلَ أنْ آتِيَ الصَّلَاةَ، قَالَ:"شَاتُكَ شَاةُ لَحْم"، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّ عِنْدَنَا عَنَاقًا لَنَا جَذَعَةً هِيَ أحَبُّ إِلَيَّ مِن شَاتَيْنِ، أَفتَجْزِي عَنِّي؟ قالَ:"نَعَمْ وَلَنْ تَجْزِيَ عَن أَحَدٍ بَعْدَكَ".
(5)
إلا إذا كان طويلًا ومن عادته أنه يحلقه أو يُقصره، لا سيما الشارب.
3277 -
التضحية عن الميت أفضل من الصدقة بثمنها. [المستدرك 3/ 201]
3278 -
آخر وقت ذبح الأضحية: آخر أيام التشريق، وهو مذهب الشافعي وأحد القولين في مذهب أحمد. [المستدرك 3/ 201]
3279 -
لم ينسخ تحريم الادخار عام مجاعة؛ لأنه سبب التحريم، قاله طائفة من العلماء. [المستدرك 3/ 201]
3280 -
من عدم ما يضحي به ويعق: اقترض وضحى وعق مع عدم القدرة على الوفاء. [المستدرك 3/ 201]
3281 -
يُنهى عن التضحية في الكنيسة التي فيها صور
(1)
، كما ينهى عن ذبحها عند الأصنام.
ومن اعتقد أن الذبح عند القبر أفضل أو الصلاة أو الصدقة فهو ضال مخالف لإجماع المسلمين. [المستدرك 3/ 201]
3282 -
كَانَ مَن كَانَ قَبْلَنَا لَا يَأْكُلُونَ الْقُرْبَانَ؛ بَل تَأْتِي نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتَأْكُلُهُ، وَلهَذَا قَالَ تَعَالَى:{الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)} [آل عمران: 183]، وَكَذَلِكَ كَانوا إذَا غَنِمُوا
(1)
وقد ذكر أهل العلم أنه يجوز الصلاة في الكنيسة إذا دعت الحاجة لذلك، قال ابن قدامة رحمه الله: ولا بأس بالصلاة في الكنيسة النظيفة، رخص في ذلك الحسن، وعمر بن عبد العزيز، والشعبي، والأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، وروي أيضًا عن عمر، وأبي موسى، وكره ابن عباس ومالك الصلاة في الكنائس من أجل الصور.
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة وفيها صور، ثم هي داخلة في قوله عليه الصلاة والسلام:"فأينما أدركتَ الصلاة فصل فإنه مسجد". اهـ. المغني (1/ 723).
وبوَّب الإمام البخاري في صحيحه بقوله: باب الصلاة في البيعة، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها الصور، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يصلي في البيعة، إلا بيعة فيها تماثيل".
غَنِيمَةً جَمَعُوهَا ثُمَّ جَاءَت النَّارُ فَأَكَلَتْهَا لِيَكُونَ قِتَالُهُم مَحْضًا للهِ لَا لِلْمَغْنَمِ، وَيكُونَ ذَبْحُهُم عِبَادَةً مَحْضَةً للهِ لَا لِأجْلِ أَكْلِهِمْ.
وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِم لِكَمَالِ يَقِينِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ، وَأَنَّهُم يُقَاتِلُونَ للهِ وَلَو أَكَلُوا الْمَغْنَمَ، وَيذْبَحُونَ للهِ وَلَو أَكَلُوا الْقُرْبَانَ. [17/ 484]
* * *
العقيقة
3283 -
العقيقة سُنَّة، وتنازعوا في وجوبها على قولين في مذهب أحمد وغيره، وإن كان بعض أهل العراق لم يعرفها، وهي أفضل من الصدقة. [المستدرك 3/ 202]
3284 -
يعق الكبير عن نفسه إذا لم يعق عنه أبوه، جوزه طائفة، وروى عبد الحق في أحكامه، أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة، وهذا فيه نظر ونزاع. [المستدرك 3/ 202]
3285 -
لا يعتبر التمليك في العقيقة. [المستدرك 3/ 202]
3286 -
يكره أن يكنى بأبي يحيى وأبي عيسى ذكره في المستوعب والرعاية وذكره القاضي وابن عقيل ولم يذكر له دليلًا.
قال الشيخ تقي الدين: فإنما كره أبا عيسى دون أبي يحيى، والفرق ظاهر. [المستدرك 3/ 202]
* * *
الزِّيَارَة
3287 -
اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى اسْتِحْبَابِ السَّفَرِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِلْعِبَادَةِ الْمَشْرُوعَةِ فِيهِ.
وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَن نَذَرَ السَّفَرَ إلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ فِيهِ أَو الِاعْتِكَافِ فِيهِ: هَل يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَذَا النَذْرِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأكْثَرِينَ.
وَالثانِي: لَا يَجِبُ وَهُوَ قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّ مِن أَصْلِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ إلَّا مَا كَانَ جِنْسُهُ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ.
وَأَمَّا الْأكْثَرُونَ فَيَحْتَجُّونَ بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
(1)
فِي "صَحِيحِهِ" عَن عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَن نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَن نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللهَ فَلَا يَعْصِهِ" فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ لِكلِّ مَن نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَنْ تكُونَ الطَّاعَةُ مِن جِنْسِ الْوَاجِبِ بِالشَّرْعِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ.
وَهَكَذَا النِّزَاعُ لَو نَذَرَ السَّفَرَ إلَى مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَنَّه أَفْضَلُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى.
وَأَمَّا لَو نَذَرَ إتْيَانَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِحَجِّ أَو عُمْرَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.
وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ أَفْضَلُ الْمَسَاجِدِ، وَيلِيهِ مَسْجِدُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيَلِيهِ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى، وَقَد ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ
(2)
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: "صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِن أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ".
وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَقَد رَوَى أَحْمَد وَالنّسَائِي وَغَيْرُهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَن الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ ألْفِ صَلَاةٍ"
(3)
.
وَأمَّا فِي الْمَسْجِدِ الْأقْصَى فَقَد رُوِيَ: "أنَّهَا بِخَمْسِينَ صَلَاةٍ" وَقِيلَ: "بِخَمْسِمِائَةِ صَلَاةٍ" وَهُوَ أَشْبَهُ.
(1)
(6700).
(2)
البخاري (1133)، ومسلم (2465).
(3)
صحَّحه الألباني في الإرواء (1129).
وَلَو نَذَرَ السَّفَرَ إلَى "قَبْرِ الْخَلِيلِ عليه السلام" أَو قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أو إلَى "الطُّورِ" الَّذِي كَلَّمَ اللهُ عَلَيْهِ مُوسَى عيه السلام أو إلَى "جَبَلِ حِرَاءَ" .. وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن الْمَقَابِرِ وَالْمَقَامَاتِ وَالْمَشَاهِدِ الْمُضَافَةِ إلَى بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَشَايِخِ أَو إلَى بَعْضِ الْمَغَارَاتِ أَو الْجِبَالِ: لَمْ يَجِبْ الْوَفَاءُ بِهَذَا النَّذْرِ بِاتِّفَاقِ الأئمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، فَإِنَّ السَّفَرَ إلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مَنْهِيّ عَنْه؛ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلا إلَى ثَلَاَثةِ مَسَاجِدَ"
(1)
.
وَالْعِبَادَاتُ الْمَشْرُوعَةُ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى هِيَ مِن جِنْسِ الْعِبَادَاتِ الْمَشْرُوعَةِ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِ مِن سَائِرِ الْمَسَاجِدِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، فَإِنَّهُ يُشْرَعُ فِيهِ زِيادَةٌ عَلَى سَائِرِ الْمَسَاجِدِ الطَّوَافُ بِالْكَعْبَةِ وَاسْتِلَامُ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ وَتَقْبِيلُ الْحَجَرِ الْأسْوَدِ. [27/ 6 - 10]
3288 -
لَيْسَ فِي الْأرْضِ مَكانٌ يُطَافُ بِهِ كَمَا يُطَافُ بِالْكَعْبَةِ، وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الطَّوَافَ بِغَيْرِهَا مَشْرُوعٌ فَهُوَ شَرٌّ مِمَن يَعْتَقِدُ جَوَازَ الصَّلَاةِ إلَى غَيْرِ الْكَعْبَةِ.
فَمَنِ اتَّخَذَ الصَّخْرَةَ الْيَوْمَ قِبْلَةً يُصَلِّي إلَيْهَا فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، مَعَ أَنَّهَا كَانَت قِبْلَةَ لَكِنْ نُسِخَ ذَلِكَ، فَكَيْفَ بِمَن يَتَخِذُهَا مَكَانًا يُطَافُ بِهِ كَمَا يُطَافُ بِالْكَعْبَةِ؟ وَالطَّوَافُ بِغَيْرِ الْكَعْبَةِ لَمْ يَشْرَعْهُ اللهُ. [27/ 10 - 11]
3289 -
إِنَّ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى اسْمٌ لِجَمِيعِ الْمَسْجِدِ الَّذِي بَنَاهُ سُلَيْمَانُ عليه السلام، وَقَد صَارَ بَعْضُ النَّاسِ يُسَمِّي الْأقْصَى الْمُصَلى الَّذِي بَنَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَظَابِ رضي الله عنه فِي مَقْدَمِهِ
(2)
، وَالصَّلَاةُ فِي هَذَا الْمُصَلَّى الَّذِي بَنَاهُ عُمَرُ لِلْمُسْلِمِينَ أَفْضَلَ مِن الصَّلَاةِ فِي سَائِرِ الْمَسْجِدِ .. وَلهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ الْأُمَّةِ إذَا دَخَلُوا الْمَسْجِدَ قَصَدُوا الصَّلَاةَ فِي الْمُصَلَّى الَّذِي بَنَاهُ عُمَرُ.
(1)
أخرجه البخاري (1189)، ومسلم (2033).
(2)
قال الشيخ في موضع آخر: فَبَنَى -أي: عمر- هَذَا الْمُصَلَّى الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَامَّةُ "الْأقْصَى". (27/ 136)
وَأَمَّا"الصَّخْرَةُ" فَلَمْ يُصَلِّ عِنْدَهَا عُمَرُ رضي الله عنه وَلَا الصَّحَابَةُ، وَلَا كَانَ عَلَى عَهْدِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ عَلَيْهَا قُبَّةٌ؛ بَل كَانَت مَكْشُوفَةً فِي خِلَافَةِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَمُعَاوِيةَ وَيزِيدَ وَمَرْوَانَ، وَلَكِنْ لَمَّا تَوَلَّى ابْنُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ الشَّامَ وَوَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ الْفِتْنَةُ كَانَ النَّاسُ يَحُجُّونَ فَيَجْتَمِعُونَ بِابْنِ الزُّبَيْرِ، فَارَادَ عَبْدُ الْمَلِكِ أَنْ يَصْرِفَ النَّاسَ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَبَنَى الْقُبَّةَ عَلَى الصَّخْرَةِ.
وَأَمَّا أَهْلُ الْعِلْمِ مَنَّ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان فَلَمْ يَكُونُوا يُعَظِّمُونَ الصَّخْرَةَ، فَإِنَّهَا قِبْلَة مَنْسُوخَةٌ، كَمَا أَنَّ يَوْمَ السَّبْتِ كَانَ عِيدًا فِي شَرِيعَةِ مُوسَى عليه السلام ثُمَّ نُسِخَ فِي شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بيَوْمِ الْجُمْعَةِ، فَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَخُصُّوا يَوْمَ السَّبْتِ وَيوْمَ الأحَدِ بِعِبَادَة كَمَا تَفْعَلُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَكَذَلِكَ الصَّخْرَةُ إنَّمَا يُعَظِّمُهَا الْيَهُودُ وَبَعْضُ النَّصَارَى.
وَلَيْسَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَكان يُقْصَدُ لِلْعِبَادَةِ سِوَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، لَكِنْ إذَا زَارَ قُبُورَ الْمَوْتَى وَسَلَّمَ عَلَيْهِم وَتَرَحَّمَ عَلَيْهِم كَمَا كَانَ النَّبِي-صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ فَحَسَنٌ.
وَلَيْسَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ مَكَان يُسَمَّى "حَرَمًا" وَلَا بِتُرْبَةِ الْخَلِيلِ. [27/ 11 - 14]
3290 -
الْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ -مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ- أَسَّسَهُ عَلَى التَّقْوَى خَاتَمُ الْمُرْسَلِينَ، وَمَسْجِدُ إيليا قَد كَانَ مَسْجِدًا قَبْلَ سُلَيْمَانَ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ
(1)
عَن أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه: قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ أَيّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلًا؟ قَالَ: "الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ"، قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: "الْمَسْجِدُ الأَقصَى"، قُلْت: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: "أَرْبَعُونَ سَنَةً، ثُمَّ حَيْثُ مَا أَدْرَكتْك الصَّلَاةُ فَصَلِّ فَإِنَّهُ لَك مَسْجِدٌ".
وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ: "فَإِنَّ فِيهِ الْفَضْلَ".
وَهَذِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يُصَلِّي حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ
(2)
.
(1)
رواه البخاري (3425)، ومسلم (520).
(2)
قال الشيخ في موضع آخر: فَمَن أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِمَكَانٍ فَتَرَكُوا الصَّلَاةَ فِيهِ وَذَهَبُوا إلَى مَكَانٍ آخَرَ لِكَوْنِهِ فِيهِ أَثَرٌ لِبَعْضِ الْأنْبِيَاءِ: فَقَد خَالَفُوا السنَّةَ. (27/ 423)
فَالْمَسْجِدُ الْأَقْصَى كَانَ مِن عَهْدِ إبْرَاهِيمَ عليه السلام، لَكِنَّ سُلَيْمَانَ عليه السلام بَنَاهُ بِنَاءً عَظِيمًا، فَكُلٌّ مِن الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ بَنَاهُ نَبِيٌّ كَرِيمٌ لِيُصَلِّيَ فِيهِ هُوَ وَالنَّاسُ.
فَلَمَّا كَانَت الْأَنْبِيَاءُ عليهم السلام تَقْصِدُ الصَّلَاةَ فِي هَذَيْنِ الْمَسْجِدَيْنِ شرعَ السَّفَرُ إلَيْهِمَا لِلصَّلَاةِ فِيهِمَا وَالْعِبَادَةِ اقْتِدَاءً بِالْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام وَتَأَسّيًا بِهِمْ.
كَمَا أَنَّ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ عليه السلام لَمَّا بَنَى الْبَيْتَ وَأَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ بِحَجِّهِ، فَكَانُوا يُسَافِرُونَ إلَيْهِ مِن زَمَنِ إبْرَاهِيمَ عليه السلام، وَلَمْ يَكُن ذَلِكَ فَرضًا عَلَى النَّاسِ فِي أَصَحّ الْقَوْلَيْنِ، كَمَا لَمْ يَكُن ذَلِكَ مَفْرُوضًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا فَرَضَهُ اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي آخِرِ الْأَمْرِ لَمَّا نَزَلَتْ "سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ".
وَلَمْ يَبْنِ أَحَدٌ مِن الْأَنْبِيَاءِ عليه السلام مَسْجِدًا وَدَعَا النَّاسَ إلَى السَّفَرِ لِلْعِبَادَةِ فِيهِ إلَّا هَذِهِ الْمَسَاجِدَ الثَّلَاثَةَ، وَلَكِنْ كَانَ لَهُم مَسَاجِدُ يُصَلُّونَ فِيهَا وَلَمْ يَدْعُوا النَّاسَ إلَى السَّفَرِ إلَيْهَا كَمَا كَانَ إبْرَاهِيمُ عليه السلام يُصَلِّي فِي مَوْضِعِهِ، وَإِنَّمَا دَعَا النَّاسَ إلَى حَجِّ الْبَيْتِ، وَلَا دَعَا نَبِيٌّ مِن الْأَنْبِيَاءِ إلَى السَّفَرِ إلَى قَبْرِهِ وَلَا بَيْتِهِ وَلَا مَقَامِهِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِن آثَارِهِ.
وَلهَذَا لَا يَجُوزُ تَغْيِيرُ وَاحِدٍ مِن هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الثلَاثَةِ عَن مَوْضِعِهِ، وَأَمَّا سَائِرُ الْمَسَاجِدِ فَفَضِيلَتُهَا مِن أَنَّهَا مَسْجِدٌ للهِ، وَبَيْتٌ يُصَلَّى فِيهِ، وَهَذَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمَسَاجِدِ. [27/ 351 - 353]
3291 -
وأما زِيارَةُ الْمَسَاجِدِ الَّتِي بُنِيَتْ بِمَكَّةَ غَيْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ .. فَلَيْسَ قَصْدُ شَيءٍ مِن ذَلِكَ مِن السُّنَّةِ، وَلَا اسْتَحَبَّهُ أَحَدٌ مِن الْأَئِمَّةِ،. وَكَذَلِكَ قَصْدُ الْجِبَالِ وَالْبِقَاعِ الَّتِي حَوْلَ مَكَّةَ -غَيْرِ الْمَشَاعِرِ عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنَى- مِثْل جَبَلِ حِرَاءَ، وَالْجَبَلِ الَّذِي عِنْدَ مِنَى الَّذِي يُقَالُ إنَّهُ كَانَ فِيهِ قُبَّةُ الْفِدَاءِ وَنَحْو ذَلِكَ: فَإِنَّهُ لَيْسَ مِن سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم زَيارَةُ شَيْءٍ مِن ذَلِكَ؛ بَل هُوَ بِدْعَةٌ، وَكَذَلِكَ مَا يُوجَدُ فِي الطُّرُقَاتِ مِن الْمَسَاجِدِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْآثَارِ وَالْبِقَاعِ الَّتِي يُقَالُ إنَّهَا مِن الْآثَارِ لَمْ يَشْرَعِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زيَارَةَ شَيءٍ مِن ذَلِكَ بِخُصُوصِهِ وَلَا زِيارَةَ شَيءٍ مِن ذَلِكَ. [26/ 144]
3292 -
إِذَا دَخَلَ الْمَدِينَةَ قَبْلَ الْحَجّ أَو بَعْدَهُ: فَإِنَّهُ يَأْتِي مَسْجِدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيُصَلِّي فِيهِ، وَالصَّلَاةُ فِيهِ خَيْرٌ مِن أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَلَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَيْهِ وَإِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى.
وَمَسْجِدُهُ كَانَ أَصْغَرَ مِمَّا هُوَ الْيَوْمَ، وَكَذَلِكَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، لَكِنْ زَادَ فِيهِمَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَمَن بَعْدَهُمْ، وَحُكْمُ الزِّيَادَةِ حُكْمُ الْمَزِيدِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ.
ثُمَّ يُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَيْهِ فَإِنَّهُ قَد قَالَ: "مَا مِن رَجُلٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عليه السلام" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
(1)
وَغَيْرُهُ، وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْن عُمَرَ يَقُولُ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ:"السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللهِ، السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكرٍ، السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَتِ" ثُمَّ يَنْصَرِفُ، وَهَكَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ.
وَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ مُسْتَقْبِلِي الْحُجْرَةِ مُسْتَدْبِرِي الْقِبْلَةِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد، وَأبُو حَنِيفَةَ قَالَ: يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَلِمُ الْحُجْرَةَ وَلَا يُقَبِّلُهَا وَلَا يَطُوفُ بِهَا وَلَا يُصَلِّي إلَيْهَا.
وَلَا يَدْعُو هُنَاكَ مُسْتَقْبِلَ الْحُجْرَةِ فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ.
وَلَا يَقِفُ عِنْدَ الْقَبْرِ لِلدُّعَاءِ لِنَفْسِهِ، فَإِنَّ هَذَا بِدْعَةٌ، وَلَمْ يَكُن أَحَدٌ مِن الصَّحَابَةِ يَقِفُ عِنْدَهُ يَدْعُو لِنَفْسِهِ، وَلَكِنْ كَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ الْقِبْلَةَ وَيدْعُونَ فِي مَسْجِدِهِ، فإنه صلى الله عليه وسلم قَالَ:"اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثنًا يُعْبَدُ"
(2)
.
فَدَفَنَتْهُ الصَّحَابَةُ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ مِن حُجْرَةِ عَائِشَةَ، وَكَانَت هِيَ وَسَائِرُ الْحُجَرِ خَارجَ الْمَسْجِدِ مِن قِبْلِيِّهِ وَشَرْقِيِّهِ، لَكنْ لَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ الْوَلِيدِ بْنِ
(1)
(2041)، وحسَّنه الألباني في صحيح أبي داود (2041).
(2)
صحَّحه الألباني في غاية المرام (126).
عَبْدِ الْمَلِكِ عُمِّرَ هَذَا الْمَسْجِدُ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ نَائِبُهُ عَلَى الْمَدِينَةِ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَأَمَرَ أنْ تُشْتَرَى الْحُجَرُ ويُزَادَ فِي الْمَسْجِدِ، فَدَخَلَت الْحُجْرَة فِي الْمَسْجِدِ مِن ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَبُنِيَتْ مُنْحَرِفَةً عَن الْقِبْلَةِ مُسَنَّمَةً؛ لِئَلَّا يُصَلِّيَ أحَدٌ إلَيْهَا، فَإِنَّهُ قَالَ صلى الله عليه وسلم:"لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [26/ 145 - 148]
3293 -
يُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْتِيَ مَسْجِدَ قُبَاء وَيُصَلِّيَ فِيهِ. [26/ 150]
3294 -
السَّفَرُ إلَى الْمَسْجِدِ الْأقْصَى وَالصَّلَاةُ فِيهِ وَالدُّعَاءُ وَالذِّكْرُ وَالْقِرَاءَةُ وَالِاعْتِكَافُ مُسْتَدَب فِي أيِّ وَقْتٍ شَاءَ سَوَاءٌ كَانَ عَامَ الْحَجِّ أَو بَعْدَة.
وَلَا يَفْعَلُ فِيهِ وَفِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا مَا يَفْعَلُ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، وَلَيْسَ فِيهَا شَيءٌ يُتَمَسَّحُ بِهِ وَلَا يُقَبَّلُ وَلَا يُطَافُ بِهِ، هَذَا كُلُّهُ لَيْسَ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ خَاضَّةً، وَلَا تُسْتَحَبُّ زِيَارَةُ الصَّخْرَةِ؛ بَل الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ فِي قِبْلِيِّ الْمَسْجِدِ الْأقْصَى الَّذِي بَنَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَلَا يُسَافِرُ أَحَدٌ ليَقِفَ بِغَيْرِ عَرَفَاتٍ، وَلَا يُسَافِرُ لِلْوُقُوفِ بِالْمَسْجِدِ الْأقْصَى وَلَا لِلْوُقوفِ عِنْدَ قَبْرِ أَحَدٍ لَا مِن الْأَنْبِيَاءِ وَلَا الْمَشَايِخِ وَلَا غَيْرِهِمْ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.
بَل أَظْهَرُ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يُسَافِرُ أَحَدٌ لِزِيَارَةِ قَبْرٍ مِن الْقُبُورِ. [26/ 150]
3295 -
قَوْلهُ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاَثةِ مَسَاجِدَ"
(1)
: يَتَنَاوَلُ الْمَنْعَ مِن السَّفَرِ إلَى كُلِّ بُقْعَةٍ مَقْصُودَةٍ، بِخِلَافِ السَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ السَّفَرَ لِطَلَبِ تِلْكَ الْحَاجَةِ حَيْثُ كَانَتْ، وَكَذَلِكَ السَّفَرُ لِزِيَارَةِ الْأخِ فِي اللهِ فَإِنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ حَيْثُ كَانَ. [27/ 21]
3296 -
الْمُرَابَطَةُ بِالثُّغُورِ أَفْضَلُ مِنَ الْمُجَاوَرَةِ فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ كَمَا نَصَّ
(1)
أخرجه البخاري (1189)، ومسلم (2033).
عَلَى ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ عَامَّةً؛ بَل قَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُجَاوَرَةِ: فَكَرِهَهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَاسْتَحَبَّهَا مَالِكٌ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا؛ وَلَكِنَّ الْمُرَابَطَةَ عِنْدَهُم أفْضَل مِنَ الْمُجَاوَرَةِ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْن السَّلَف
(1)
. [27/ 24]
3297 -
وَأَمَّا قَوْلُهُ: "مَن زَارَ قَبْرِي فَقَد وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي" وَأَمْثَالُ هَذَا الْحَدِيثِ مِمَّا رُوِيَ فِي زِيارَةِ قَبْرِهِ صلى الله عليه وسلم فَلَيْسَ مِنْهَا شَيءٌ صَحِيحٌ، وَلَمْ يَرْوِ أَحَدٌ مِن أَهْلِ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ مِنْهَا شَيْئًا.
وَقَد كَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلَ: زُرْت قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَالُوا: لِأنَّ لَفْظَ الزّيَارَةِ قَد صَارَتْ فِي عُرْفِ النَّاسِ تَتَضَمَّنُ مَا نُهِيَ عَنْهُ، فَإِنَّ زَيارَةَ الْقبُورِ عَلَى وَجْهَيْنِ: وَجْهٌ شَرْعِيٌّ وَوَجْهٌ بِدْعِيّ.
فَالزِّيَارَةُ الشَّرْعِيَّةُ: مَقْصُودُهَا السَّلَامُ عَلَى الْمَيِّتِ وَالدُّعَاءُ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ نَبِيًّا أَو غَيْرَ نَبِيٍّ، وَلهَذَا كَانَ الصَّحَابَة إذَا زَارُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَيَدْعُونَ لَهُ ثُمَّ يَنْصَرِفُونَ وَلَمْ يَكُن أَحَدٌ مِنْهُم يَقِفُ عِنْدَ قَبْرِهِ لِيَدْعُوَ لِنَفْسِهِ.
وَلهَذَا اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَلِئم قَبْرًا. مِن قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَلَا يَتَمَسَّحُ بِهِ، وَلَا يُسْتَحَبُّ الصَّلَاةُ عِنْدَهُ وَلَا قَصْدُهُ لِلدُّعَاءِ عِنْدَهُ أَو بِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ كَانَت مِن أَسْبَابِ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ.
وَهَذِهِ الْأُمُورُ وَنَحْوُهَا هِيَ مِن "الزّيَارَةِ الْبِدْعِيَّةِ" وَهِيَ مِن جِنْسِ دِينِ النَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَصْدُ الزَّائِرِ أَنْ يُسْتَجَابَ دُعَاؤُهُ عِنْدَ الْقَبْرِ، أَو أَنْ يَدْعُوَ الْمَيِّتَ ويسْتَغِيثَ بِهِ وَيطْلُبَ مِنْهُ، أَو يُقْسِم بِهِ عَلَى اللهِ فِي طَلَبِ حَاجَاتِهِ وَتَفْرِيجِ كُرُبَاتِهِ.
وَلهَذَا اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الدِّينِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَو نَذَرَ السَّفَرَ إلَى زِيَارَةِ "قَبْرِ الْخَلِيلِ"
(1)
قال في موضع آخر: كَانَ الصَّالِحُونَ يَتَنَاوَبُونَ الثُّغُورَ لِأجْلِ الْمُرَابَطَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ فَإِنَّ الْمُقَامَ بِالثُّغُورِ لِأَجْلِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ أَفْضَلُ مِن الْمُجَاوَرر بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، مَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. (27/ 51)
و"الطُّورِ" الَّذِي كَلَّمَ اللهُ عَلَيْهِ مُوسَى عليه السلام أَو "جَبَلِ حِرَاءَ" وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ .. وَالسَّفَرُ إلَى هَذِهِ الْبِقَاعِ مَعْصِيَةٌ فِي أظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ. [27/ 29 - 32]
3298 -
ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه كَانَ فِي بَعْضِ الْأَسْفَارِ: فَرَأَى قَوْمًا يَتَنَاوَبُونَ مَكَانًا يُصَلُّونَ فِيهِ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: مَكان صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَتَّخِذوا أَثَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَكُمْ مَسَاجِدَ؟ إنَّمَا هَلَكَ مَن كَانَ قَبْلكُمْ بِهَذَا، مَن أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَل، وَإِلَّا فَلْيَمْضِ.
وَهَذَا لِأَنَّ اللهَ لَمْ يَشْرَعْ لِلْمُسْلِمِينَ مَكَانا يَتَنَاوَبُونَهُ لِلْعِبَادَةِ إلَّا الْمَسَاجِدَ خَاصَّةً، فَمَا لَيْسَ بِمَسْجِد لَمْ يَشْرَعْ قَصْدَهُ لِلْعِبَادَةِ وَإِن كَانَ مَكَانَ نَبِيٍّ أَو قَبْرَ نَبِيٍّ. [27/ 33 - 34]
3299 -
أَمَّا التُّرْبَةُ الَّتِي دُفِنَ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ قَالَ إنَّهَا أَفْضَلُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَو الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ أَو الْمَسْجِدِ الْأقْصَى إلَّا الْقَاضِي عِيَاضٌ، فَذَكَرَ ذَلِكَ إجْمَاعًا، وَهُوَ قَوْلٌ لَمْ يَسْبِقْهُ إلَيْهِ أَحَدٌ فِيمَا عَلِمْنَاهُ
(1)
، وَلَا حُجَّةَ عَلَيْهِ؛ بَل بَدَنُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ مِنَ الْمَسَاجِدِ.
وَلَو كَانَ مَا ذَكَرَهُ حَقًّا لَكَانَ مَدْفِنُ كُلِّ نَبِيٍّ بَل وَكُلّ صَالِحٍ أَفْضَلَ مِنَ الْمَسَاجِدِ الَّتِي هِيَ بُيُوتُ اللهِ، فَيَكونُ بُيُوت الْمَخْلُوقِينَ أَفْضَلَ مِن بُيُوتِ الْخَالِقِ الَّتِي أَذِنَ اللهُ أنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ، وَهَذَا قَوْلٌ مُبْتَدَعٌ فِي الدِّينِ مُخَالِفٌ لِأصُول الْإسْلَامِ. [27/ 37 - 39]
* * *
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
3300 -
اسْمُ "الْمُنْكَرِ" يَعُمُّ كُلّ مَا كَرِهَهُ اللهُ وَنَهَى عَنْهُ وَهُوَ الْمُبْغَضُ، وَاسْمُ "الْمَعْرُوفِ" يَعُمُّ كُلَّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيرْضَاهُ وَيأْمُرُ بِهِ، فَحَيْثُ أُفْرِدَا بِالذِّكْرِ فَإِنَّهُمَا يَعُمَّانِ كُل مَحْبُوب فِي الدِّينِ وَمَكْرُوهٍ.
(1)
قال الشيخ: وَلَا وَافَقَهُ أحَدٌ عَلَيْهِ. (27/ 38)
وَإِذَا قُرِنَ الْمُنْكَرُ بِالْفَحْشَاءِ فَإِنَّ الْفَحْشَاءَ مَبْنَاهَا عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالشَّهْوَةِ، والْمُنْكَرُ هُوَ الَّذِي تُنْكِرُهُ الْقُلُوبُ. [15/ 348]
3301 -
امْتَنَّ اللهُ سُبْحَانَهُ عَلَى زَكَرِيَّا حَيْثُ قَالَ: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90]، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَجْتَهِدَ إلَى اللهِ فِي إصْلَاحِ زَوْجَتِهِ. [25/ 324]
3302 -
المعروف: اسمَ جامع لكل ما يحبُّه الله ويرضاه، والمنكر: اسم جامع لكل ما يكرهه وَيَسخَطُه. [المجموعات 1/ 64]
* * *
(فضله ووجوبه)
3303 -
الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَن الْمُنْكَرِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِم؛ لَكِنَهُ مِن فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ؛ فَإِنْ قَامَ بِهِمَا مَن يَسْقُطُ بِهِ الْفَرْضُ مِن وُلَاةِ الْأمْرِ أَو غَيْرِهِمْ، وَالْأَوْجَبُ عَلَى غَيْرِهِمْ أَنْ يَقُومَ مِن ذَلِكَ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. [11/ 94]
3304 -
مَن لَمْ يَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَ عَن الْمُنْكرِ لَمْ يَكُن مِن شُيُوخِ الدِّينِ، وَلَا مِمَن يُقْتَدَى بِهِ. [11/ 510]
3305 -
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، وكل واحد من الأمة مخاطب بقدر قدرته، وهو من أعظم العبادات.
ومن الناس من يكون ذلك لهواه، لا لله. [مختصر الفتاوى المصرية 580]
3306 -
يَجِبُ عَلَى أُولي الْأمْرِ وَهُم عُلَمَاءُ كُلِّ طَائِفَةٍ وَأُمَرَاؤُهَا وَمَشَايِخُهَا: أنْ يَقُومُوا عَلَى عَامَّتِهِمْ، وَيأْمُرُوهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْهُم عَن الْمُنْكَرِ، فَيَأْمُرُونَهُم بِمَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَينْهَوْنَهُم عَمَّا نَهَى اللهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم. [3/ 423]
3307 -
ليس لأحد أن يزيل المنكر بما هو أنكر منه: مثل أن يقوم واحد من الناس يريد أن يقطع يد السارق، ويجلد الشارب، ويقيم الحدود؛ لأنه لو
فعل ذلك لأفضى إلى الهرج والفساد؛ لأنَّ كلَّ واحد يضرب غيره ويدعي أنه استحق ذلك؛ فهذا مما ينبغي أن يقتصر فيه على ولي الأمر المطاع كالسلطان ونوابه.
وإنما الخلاف فيما إذا غلب على ظن الرجل أن أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر لا يطاع فيه هل يجب عليه حينئذٍ؟ على قولين: أصحهما: أنه يجب وإن لم يقبل منه إذا لم يكن مفسدة الأمر راجحة على مفسدة الترك، كما بقي نوح عليه السلام ألف سنة إلا خمسين عامًا ينذر قومه، ولما قالت الأمة من أهل القرية الحاضرة البحر لواعظي الذين يعدون في السبت:{لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)} [الأعراف: 164] أي: نقيم عذرنا عند ربنا، وليس هداهم علينا، بل الهداية إلى الله. [مختصر الفتاوى المصرية 580]
3308 -
من لم بحب ما أحبه الله وهو المعروف وببغض ما أبغضه الله تعالى وهو المنكر: لم يكن مؤمنًا، فلهذا لم يكن وراء إنكار المنكر بالقلب حبة خردل من إيمان.
لكن من الناس من ينكر بعض الأمور دون بعض؛ فيكون في قلبه إيمان ونفاق، كما ذكر ذلك من ذكره من السلف حيث قالوا: القلوب أربعة:
أ- قلب أجرد فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن.
ب- وقلب أغلف، فهو قلب الكافر.
ت- وقلب منكوس، فذلك قلب المنافق.
ج- وقلب فيه مادتان، مادة تمده بالإيمان، ومادة تمده بالنفاق، فذلك خلط عملًا صالحًا وآخر سيِّئًا. [مختصر الفتاوى المصرية 580]
3309 -
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، فإذا غلب على ظنه أن غيره لا يقوم به تعيِّن عليه ووجب عليه ما يقدر عليه من ذلك؛ فانْ تركه
كان عاصيًا لله ولرسوله، وقد يكون فاسقًا وقد يكون كافرًا. [مختصر الفتاوى المصرية 581]
3310 -
ينبغي لمن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر أن يكون فقيهًا قبل الأمر، رفيقًا عند الأمر، ليسلك أقرب الطرق في تحصيله حليمًا بعد الأمر؛ لأن الغالب أن لا بد أن يصيبه أذى. [مختصر الفتاوى المصرية 581]
* * *
(مسائل الخلاف هل فيها إنكار
؟)
3311 -
قولهم: ومسائل الخلاف لا إنكار فيها: ليس بصحيح؛ فإن الإنكار:
أ- إما أن يتوجه إلى القول بالحكم.
ب- أو العمل.
أما الأول: فإن كان القول يخالف سُنَّة أو إجماعًا قديمًا: وجب إنكاره وفاقًا، وإن لم يكن كذلك فإنه ينكر بمعنى بيان ضعفه عند من يقول: المصيب واحد، وهم عامة السلف والفقهاء.
وأما العمل: فإن كان على خلاف سُنَّة أو إجماع وجب إنكاره أيضًا بحسب درجات الإنكار، كما ذكرنا من حديث شارب النبيذ المختلف فيه، وكما ينقض حكم الحاكم إذا خالف سُنَّة وإن كلان قد اتبع بعض العلماء.
وأما إذا لم يكن في المسألة سُنَّة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ: فلا ينكر على من عمل بها مجتهدًا أو مقلدًا، وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد كما اعتقد ذلك طوائف من الناس.
والصواب الذي عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد -ما لم يكن فيه دليل يجب العمل به وجوبًا ظاهرًا؛ مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه-:
فيسوغ إذا عدم ذلك الاجتهادُ؛ لتعارض الأدلة المقاربة أو لخفاء الأدلة فيها.
وليس في ذكر كون المسألة قطعية طعن على من خالفها من المجتهدين. [الآداب الشرعية 1/ 169]
* * *
(آداب المحتسب)
3312 -
الصبر على أذى الخلق عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن لم يستعمل لزم أحد أمرين:
أ- إما تعطيل الأمر والنهي.
ب- وإما حصول فتنة ومفسدة أعظم من مفسدة ترك الأمر والنهي، أو مثلها أو قريب منها.
وكلاهما معصية وفساد، قال تعالى:{وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)} [لقمان: 17].
فمن أمر ولم يصبر، أو صبر ولم يأمر، أو لم يأمر ولم يصبر: حصل من هذه الأقسام الثلاثة مفسدة، وإنما الصلاح في أن يأمر ويصبر، وفي "الصحيحين"
(1)
عن عبادة قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا وعلى أثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله وأن نقوم أو نقول بالحق حيث ما كنا لا نخاف في الله لومة لائم، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال في الفتنة.
فأهل البدع من الخوارج والمعتزلة والشيعة وغيرهم يرون قتالهم والخروج عليهم إذا فعلوا ما هو ظلم أو ما ظنّوه هم ظلمة ويرون ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
(2)
.
(1)
البخاري (7556)، ومسلم (1709).
(2)
كما هو حال الخوارج في هذا العصر، حيث خرجوا على ولاة أمر المسلمين للإنكار على الظلم والأمور المحرمة.
وآخرون من المرجئة وأهل الفجور قد يرون ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ظنًّا أن ذلك من باب ترك الفتنة، وهؤلاء يقابلون لأولئك
(1)
. [الآداب الشرعية 1/ 157]
3313 -
إِذَا كَانَ مِن الْمُحَرَّمَاتِ مَا لَو نَهَى عَنْهُ حَصَلَ مَا هُوَ أَشَدُّ تَحْرِيمًا مِنْهُ لَمْ يَنْهَ عَنْه، وَلَمْ يُبِحْهُ أيْضًا.
وَلهَذَا لَا يَجُوزُ إنْكَارُ الْمُنْكَرِ بِمَا هُوَ أَنْكَرُ مِنْهُ؛ وَلهَذَا حُرِّمَ الْخرُوجُ عَلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ بِالسَّيْفِ؛ لِأَجْلِ الْأمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَن الْمُنْكَرِ؛ لِأَنَّ مَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ مِن فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَرْكِ وَاجِبٍ
(2)
أَعْظَمُ مِمَّا يَحْصُلُ بِفِعْلِهِمُ الْمُنْكَرَ وَالذُّنُوبَ، وَإِذَا كَانَ قَوْمٌ عَلَى بِدْعَةٍ أَو فُجُورِ وَلَو نُهُوا عَن ذَلِكَ وَقَعَ بِسَبَبِ ذَلِكَ شَرٌّ أَعْظَمُ مِمَّا هُم عَلَيْهِ مِن ذَلِكَ وَلَمْ يُمْكِنْ مَنْعُهُم مِنْهُ وَلَمْ يَحْصُلْ بِالنَّهْيِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ: لَمْ يُنْهَوْا عَنْهُ.
بِخِلَافِ مَا أمَرَ اللهُ بِهِ الْأنْبِيَاءَ وَأَتْبَاعَهُم مِن دَعْوَةِ الْخَلْقِ؛ فَإِنَّ دَعْوَتَهم يَحْصُلُ بِهَا مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى مَفْسَدَتِهَا.
فَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ إذَا زَادَ شَرُّهُ بِالنَّهْيِ وَكَانَ النَّهْيُ مَصْلَحَةً رَاجِحَةً: كَانَ حَسَنًا.
وَأَمَّا إذَا زَادَ شَرُّهُ وَعَظُمَ وَلَيْسَ فِي مُقَابَلَتِهِ خَيْرٌ يَفُوتُهُ: لَمْ يُشْرَعْ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مُقَابَلَتِهِ مَصْلَحَةٌ زَائِدَةٌ، فَإِنْ أَدَّى ذَلِكَ إلَى شَرٍّ أعْظَمَ مِنْة لَمْ يُشْرَعْ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ لَا صَبْرَ لَهُ فَيُوذَى فَيَجْزَعُ جَزَعًا شَدِيدًا يَصِيرُ بِهِ مُذْنِبًا، وينْتَقِصُ بِهِ إيمَانُهُ وَدِينُهُ، فَهَذَا لَمْ يَحْصُلْ بِهِ خَيْرٌ لَا لَهُ وَلَا لِأولَئِكَ؛ بِخِلَافِ مَا
(1)
كما هو حال مرجئة الحكام في هذا الزمان، حيث يرون أنّ أي أمرٍ يخرج من الحكام- الذين يهوونهم- لا يجوز إنكازه علانيةً، ولو لم يتعرَّض الْمُنْكِرُ للحاكم، وإنما أنكر الْمُنْكَرَ فحسب، ولا يلتمسون الأعذار إلا لمن هو على منهجهم وطريقهم.
ولقد وصَف شيخ الإسلام رحمه الله تعالى حال الأمة هذا الزمان توصيفا دقيقًا وكأنه بيننا!
(2)
لعل الصواب: (الواجبات).
إذَا صَبَرَ وَاتَّقَى اللهَ وَجَاهَدَ وَلَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ بَلِ اسْتَعْمَلَ التَّقْوَى وَالصَّبْرَ؛ فَإِنَّ هَذَا تَكُونُ عَاقِبَتُهُ حَمِيدَةً، وَأُولَئِكَ قَد يَتُوبُونَ فَيَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِم بِبَرَكَتِهِ، وَقَد يُهْلِكُهُم بِبَغْيِهِمْ وَيكُونُ ذَلِكَ مَصْلَحَةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)} [الأنعام: 45]. [14/ 472 - 473]
3314 -
مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر فأنكر عليهم من كان معي، فانكرت عليه، وقلت له: إنما حوم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم
(1)
. [أعلام الموقعين 3/ 13]
3315 -
إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مستلزمًا من الفساد أكثر مما فيه من الصلاح: لم يكن مشروعًا، وقد محره أئمة السُّنَّة القتال في الفتنة التي يسميها كثير من أهل الأهواء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن ذلك إذا كان يوجب فتنة هي أعظم فسادًا مما في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يُدفع أدنى الفسادين بأعلاهما، بل يُدفع أعلاهما باحتمال أدناهما. [الاستقامة: 341]
3316 -
إِذَا قَوِيَ أهْلُ الْفُجُورِ حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُم إصْغَاءٌ إلَى الْبِرِّ؛ بَل يُؤذُونَ النَّاهِيَ لِغَلَبَةِ الشُّحِّ وَالْهَوَى وَالْعُجْبِ سَقَطَ التَّغْيِيرُ بِاللِّسَانِ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَبَقِيَ بِالْقَلْبِ. [14/ 479 - 480]
3317 -
اللهُ سُبْحَانَهُ قَد أَمَرَنَا بِالْأمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَن الْمُنْكَرِ، وَالْأمْرُ بِالشَّيْءِ مَسْبُوقٌ بِمَعْرِفَتِهِ، فَمَن لَا يَعْلَمُ الْمَعْرُوفَ لَا يُمْكِنُهُ الْآمْرُ بِهِ، وَالنَّهْيُ عَن الْمُنْكَرِ مَسْبُوقٌ بِمَعْرِفَتِهِ، فَمَن لَا يَعْلَمُهُ لَا يُمْكِنُهُ النَّهْيُ عَنْه. [15/ 337]
3318 -
إِنَّ الْإنْكارَ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ قَبْلَ الْإِنْكَارِ بِالْيَدِ. [15/ 338]
(1)
هذا هو فقه إنكار المنكر.
3319 -
مَن أصرَّ على ترك الجماعة: يُنكو عليه، ويقاتَل أيضًا في أحد الوجهين عند من استحبها، وأما من أوجبها فإنه عنده يقاتل ويفسق إذا قام عنده الدليل المبيح للمقاتلة والتفسيق؛ كالبغاة بعد زوال الشبهة. [الآداب الشرعية 1/ 169]
3320 -
من كان قادرًا على إراقة الخمر وجب عليه إراقتها ولا ضمان عليه، وأهل الذمة إذا أظهروا الخمر فمانهم يعاقبون عليه أيضا بإراقتها وشق ظروفها وكسر دِنَانها، وإنْ كنا لا نتعرض لهم إذا أسرّوا ذلك بينهم
(1)
. [الآداب الشرعية 1/ 262]
3321 -
إِذَا رَأيْت إمَامًا قَد غَلَّظَ عَلَى قَائِلٍ مَقَالَتَهُ، أَو كَفَّرَهُ فِيهَا: فَلَا يُعْتَبَرُ هَذَا حُكْمًا عَامًّا فِي كُلِّ مَن قَالَهَا، إلَّا إذَا حَصَلَ فِيهِ الشُّرْطُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّغْلِيظَ عَلَيْهِ وَالتَّكْفِيرَ لَهُ؛ فَإِنَّ مَن جَحَدَ شَيْئًا مِن الشَّرَائِعِ الظَّاهِرَةِ، وَكَانَ حَدِيثَ الْعَهْدِ بِالْإسْلَامِ، أَو نَاشِئًا بِبَلَدِ جَهْلٍ: لَا يَكْفُرُ حَتَّى تَبْلُغَهُ الْحُجَّةُ النَبّوَيَّةُ.
وَكَذَلِكَ الْعَكْسُ: إذَا رَأيْت الْمَقَالَةَ الْمُخْطِئَةَ قَد صَدَرَتْ مِن إمَامٍ قَدِيمِ فَاغْتُفِرَتْ؛ لِعَدَمِ بُلُوغِ الْحُجَّةِ لَهُ: فَلَا يُغْتَفَرُ لِمَن بَلَغَتْهُ الْحُجَّةُ مَا اُغْتُفِرَ لِلأوَّلِ؛
(1)
من عظمة وسماحة الإسلام أنه يمنع من التجسس على الناس في بيوتهم وأماكنهم الخاصة، ولو كانوا على منكر، الا إذا كان هذا المنكر يثعدى ضرره على الآخرين؛ كالاغتصاب وتهريب المخدرات ونحوها، فهذا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَؤفِ وعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، خرجا ليلًا في ضواحي بِالْمَدِينَةِ، فَبَيْنَمَا هُما يَمْشيان إذ أبصرا سِرَاجًا فِي بَيْتٍ، فَانْطَلَقا إليه حَتَّى إِذَا اقْتربا مِنْهُ، فإِذَا بَابٌ قد فتُح شيءٌ منه، وسمعا فِيهِ أصْوَاتًا مُرْتَفِعَةً، فَقَالَ عُمَرُ وَأخَذَ بِيَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أتَدْرِي بَيْتُ مَن هَذَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: هَذَا بَيْتُ رَبِيعَةَ بْنِ أمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَهُمُ الآنَ يشربون الخمر، فَمَا تَرَى؟
فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أرَى أنّا قَد أَتَيْنَا مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ، نَهَانَا اللهُ عز وجل فَقَالَ:{وَلَا تَجَسَّسُوا} فَقَد تَجَسَّسْنَا، فَانْصَرَفَ عُمَرُ عَنْهُم وَتَرَكَهُمْ. رواه البيهقي (18080)، وصحَّحه الحاكم (8136)، والذهبي.
فدينُ الإسلام جاء بالقِيَم النبيلة العالية، وحَفِظَ للناس حقوقهم وحريَّتَهم، ما لم يُجاهروا بالفسق والكفر والفجور.
فَلِهَذَا يُبَدَّعُ مَن بَلَغَتْهُ أَحَادِيثُ عَذَابِ الْقَبْرِ وَنَحْوِهَا إذَا أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَلَا تبَدَّع عَائِشَةُ وَنَحْوُهَا مِمَن لَمْ يَعْرِفْ بِأَنَّ الْمَوْتَى يَسْمَعُونَ فِي قُبُورِهِمْ.
فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فَتَدَبَّرْهُ فَإِنَّهُ نَافِعٌ
(1)
. [6/ 61]
* * *
(حكم الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنْكَرِ وآدابه)
(2)
3322 -
الْأمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَن الْمُنْكَرِ لَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بِعَيْنِهِ؛ بَل هُوَ عَلَى الْكفَايَةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَلَمَّا كَانَ الْجِهَادُ مِن تَمَامِ ذَلِكَ كَانَ الْجِهَادُ أيْضًا كَذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ مَن يَقُومُ بِوَاجِبِهِ أَثِمَ كُلُّ قَادِرٍ بِحَسَبِ قُدْرَتهِ؛ إذ هُوَ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ بِحَسَبِ قُدْرَتهِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَن رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإيمَانِ"
(3)
.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَن الْمُنْكَرِ وَإِتْمَامَهُ بِالْجِهَادِ: هُوَ مِن أَعْظَمِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي أُمِرْنَا بِهِ؛ وَلهَذَا قِيلَ: لِيَكُن أمْرُك بِالْمَعْرُوفِ
(4)
وَنَهْيُك عَن الْمُنْكَرِ غَيْرَ مُنْكَرٍ.
وَإِذَا كَانَ هُوَ مِن أعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ والمستحبات فَالْوَاجِبَاتُ والمستحبات لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْمَصْلَحَةُ فِيهَا رَاجِحَةَ عَلَى الْمَفْسَدَةِ؛ إذ بِهَذَا بُعِثَت الرُّسُلُ، وَنَزَلَت الْكُتُبُ، وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ؛ بَل كُلُّ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ فَهُوَ صَلَاحٌ.
وَقَد أَثْنَى اللهُ عَلَى الصَّلَاحِ وَالْمُصْلِحِينَ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَذَمَّ الْمُفْسِدِينَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ.
(1)
صدق رحمه الله، وما أحوجنا لهذا الأصْل العَظِيم، والقاعدة المهمة.
(2)
هذه رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد لخّصتُ أهم ما جاء فيها في هذه الفقرات.
(3)
رواه مسلم (49).
(4)
لعل إضافة: (معروفًا) أنسب وأقوى في المعنى.
فَحَيْثُ كَانَت مَفْسدَةُ الْأمْرِ وَالنَّهْيِ أَعْظَمَ مِن مَصْلَحَتِهِ: لَمْ تكنْ مِمَّا أَمَرَ اللهُ بِهِ
(1)
وَإِن كَانَ قَد تُرِكَ وَاجِبٌ وَفُعِلَ مُحَرَّمٌ
(2)
.
إذ الْمُؤْمِنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ فِي عِبَادِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ هُدَاهُمْ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْله تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 155]، وَالِاهْتِدَاءُ إنَّمَا يَتِمُّ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ، فَإِذَا قَامَ الْمُسْلِمُ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِن الْأَمْرِ بالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَن الْمُنْكَرِ كَمَا قَامَ بِغَيْرِهِ مِن الْوَاجِبَاتِ: لَمْ يَضرَّه ضَلَالُ الضُّلَّالِ
(3)
.
وَذَلِكَ يَكُونُ تَارَةً بِالْقَلْبِ، وَتَارَةً بِاللِّسَانِ، وَتَارَةً بِالْيَدِ.
فَأَمَّا الْقَلْبُ: فَيَجِبُ بِكُلِّ حَالٍ؛ إذ لَا ضَرَرَ فِي فِعْلِهِ، وَمَن لَمْ يَفْعَلْهُ فَلَيْسَ هُوَ بِمُؤمِن؛ كَمَا قَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ".
وَهُنَا يَغْلَطُ فَرِيقَانِ مِن النَّاسِ:
أ- فَرِيق يَتْرُكُ مَا يَجِبُ مِن الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ تَأْوِيلًا لِهَذِهِ الْآيَةِ؛ كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه فِي خطْبَتِهِ: إنَّكُمْ تَقْرَؤُونَ هَذِهِ الْآيَةَ: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] وَإِنَّكُمْ تَضَعُونَهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَإِنِّي سَمِعْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُم اللهُ بِعِقَاب مِنْهُ"
(4)
.
ب- وَالْفَرِيقُ الثَّانِي: مَن يُرِيدُ أَنْ يَأْمُرَ وَيَنْهَى إمَّا بِلِسَانِهِ وَإِمَّا بِيَدِهِ مُطْلَقًا،
(1)
أي: لم تكن هذه المفسدة الناتجة عن الأمر أو النهي: مما أمر الله به، بل يُعلم قطعًا أنه خطأ ارتكبه هذا الآمر والناهي.
(2)
أي: ولو تحقق من ترك واجب أو فعل محرم، فلا يجوز الأمر والنهي إذا أدى إلى منكر أكبر وأعظم.
(3)
فلا ينبغي الحزن الشديد لعلو الباطل وضعف الحق، فهذه سُنَّة الله تعالى في بقاءِ الصراع بين الحق والباطل؛ لحِكَم عظيمةِ، تَقْصُر عقولُنا عن إدراكِها، ونحن لا نُلام على ضَلَال الضُّلَّالِ إذا فعلنا الأسباب التي نقدر عليها لهدايتهم أو زجرهم عن ضلالهم.
(4)
رواه ابن ماجه (4005)، وصحَّحه الألباني في صحيح ابن ماجه (3252).
مِن غَيْرِ فِقْهٍ وَحِلْمٍ وَصَبْرٍ وَنَظَرٍ فِيمَا يَصْلُحُ مِن ذَلِكَ وَمَا لَا يَصْلُحُ، وَمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَمَا لَا يَقْدِرُ.
وَلهَذَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالصَّبْرِ عَلَى جَوْرِ الْأَئِمَّةِ، وَنَهَى عَن قِتَالِهِمْ مَا أقَامُوا الصَّلَاةَ.
وَلهَذَا كَانَ مِن أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ لُزُومُ الْجَمَاعَةِ وَتَرْكُ قِتَالِ الْأَئِمَّةِ وَتَرْكُ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ.
وَعَلَى هَذَا: إذَا كَانَ الشَّخْصُ أَو الطَّائِفَةُ جَامِعيْنِ بَيْنَ مَعْرُوفٍ وَمُنْكَرٍ بِحَيْثُ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا؛ بَل إمَّا أَنْ يَفْعَلُوهُمَا جَمِيعًا، أَو يَتْرُكُوهَا جَمِيعًا: لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْمَرُوا بِمَعْرُوف وَلَا أَنْ يُنْهُوا مِن مُنْكَرٍ، بل يُنْظَرُ: فَإِنْ كَانَ الْمَعْرُوفُ أَكْثَرَ: أَمَرَ بِهِ وَإِن اسْتَلْزَمَ مَا هُوَ دُونَهُ مِن الْمُنْكَرِ.
وَلَمْ يَنْهَ عَن مُنْكَرٍ يَسْتَلْزِمُ تَفْوِيتَ مَعْرُوفٍ أَعْظَمَ مِنْهُ؛ بَل يَكُونُ النَّهْيُ حِينَئِذٍ مِن بَابِ الصَّدِّ عَن سَبِيلِ اللهِ، وَالسَّعْيِ فِي زَوَالِ طَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَزَوَالِ فِعْلِ الْحَسَنَاتِ.
وَإِن كَانَ الْمُنْكَرُ أَغْلَبَ: نَهَى عَنْهُ وَإِن اسْتَلْزَمَ فَوَاتَ مَا هُوَ دُونَهُ مِن الْمَعْرُوفِ.
وَيكُونُ الْأَمْرُ بِذَلِكَ الْمَعْرُوفِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْمُنْكرِ الزَّائِدِ عَلَيْهِ: أَمْرًا بِمُنْكَر وَسَعْيًا فِي مَعْصِيَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ.
وَإِن تكَافَأَ الْمَعْرُوفُ وَالْمُنْكَرُ الْمُتَلَازِمَانِ: لَمْ يُؤمَرْ بِهِمَا وَلَمْ يُنْهَ عَنْهُمَا.
وَمِن هَذَا الْبَابِ: إقْرَارُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ اللهِ بْنِ أبي وَأَمْثَالِهِ مِن أَئِمَّةِ النِّفَاقِ وَالْفُجُورِ؛ لِمَا لَهُم مِن أَعْوَانٍ، فَإِزَالَةُ مُنْكَرِهِ بِنَوْع مِن عِقَابِهِ: مُسْتَلْزِمَةٌ إزَالَةَ مَعْرُوفٍ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ بِغَضَبِ قَوْمِهِ وَحَمِيَّتِهِمْ، وَبِنُفُورِ النَّاسِ إذَا سَمِعُوا أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ.
فَلَا بُدَّ مِن الْعِلْمِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا، وَلَا بُدَّ مِن الْعِلْمِ بِحَالِ الْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ، وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِن الرِّفْقِ.
وَلَا بُذَ أَيْضًا أَنْ يَكونَ حَلِيمًا صَبُورًا عَلَى الْأَذَى؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ أَذًى، فَإِنْ لَمْ يَحْلَمْ وَيَصْبِرْ كَانَ مَا يُفْسِدُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُ، كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ:{وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)} [لقمان: 17].
فَلَا بُدَّ مِن هَذِهِ الثَّلَاثَةِ:
أ- الْعِلْمُ.
ب- وَالرِّفْقُ.
ج- وَالصَّبْرُ.
الْعِلْمُ قَبْلَ الْأمْرِ وَالنَّهْي، وَالرِّفْقُ مَعَهُ، وَالصَّبْرُ بَعْدَة، وَإِن كَانَ كُلٌّ مِن الثَّلَاثَةِ مُسْتَصْحَبًا فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ.
وَلْيُعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ بِهَذِهِ الْخِصَالِ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَن الْمُنْكَرِ مِمَّا يُوجِبُ صُعُوبَة عَلَى كَثِيرٍ مِن النُّفُوسِ، فَيَظُنُّ أَنَهُ بِذَلِكَ يَسْقُطُ عَنْهُ فَيَدَعُهُ؛ وَذَلِكَ مِمَّا يَضرُّهُ أَكْثَرَ مِمَّا يَضُرُّهُ الْأَمْرُ بِدُونِ هَذِهِ الْخِصَالِ أَو أَقَلَّ؛ فَإِنَّ تَرْكَ الْأَمْرِ الْوَاجِبِ مَعْصِيَة، فَالْمُنْتَقِلُ مِن مَعْصِيَةٍ إلَى مَعْصِيَةٍ أَكْبَرَ مِنْهَا كَالْمُسْتَجِيرِ مِن الرَّمْضَاءِ بِالنَّارِ.
وَمِن الْمَعْلُومِ بِمَا أَرَانَا اللهُ مِن آيَاتِهِ فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِنَا وَبِمَا شَهِدَ بِهِ فِي كِتَابِهِ: أَنَّ الْمَعَاصِيَ سَبَبُ الْمَصَائِبِ .. وَأَنَّ الطَّاعَةَ سَبَبُ النِّعْمَةِ، فَإِحْسَانُ الْعَمَلِ سَبَبٌ لِإِحْسَانِ اللهِ قَالَ تَعَالَى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30]. [28/ 121 - 138]
3323 -
مَن فَعَلَ شَيْئًا مِن الْفنْكَرَاتِ كَالْفَوَاحِشِ وَالْخَمْرِ وَالْعُدْوَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَن رَأَى
مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ"
(1)
.
فَإنْ كَانَ الرَّجُلُ مُتَسَتِّرًا بِذَلِكَ، وَلَيْسَ مُعْلِنًا لَهُ: أُنْكِرَ عَلَيْهِ سِرًّا وَسُتِرَ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَن سَتَرَ عَبْدًا سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ"
(2)
.
إلَّا أَنْ يَتَعَدَّى ضَرَرُهُ.
وَالْمُتَعَدِّي لَا بُدَّ مِن كَفّ عُدْوَانِهِ، وَإِذَا نَهَاهُ الْمَرْءُ سِرًّا فَلَمْ يَنْتَهِ فَعَلَ مَا يَنْكَفُّ بِهِ مِن هَجْرٍ وَغَيْرِهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ أَنْفَعَ فِي الدِّينِ.
وَأَمَّا إذَا أَظْهَرَ الرَّجُلُ الْمُنْكَرَاتِ: وَجَبَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ عَلَانِيَةً، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ غِيْبَةٌ
(3)
، وَوَجَبَ أَنْ يُعَاقَبَ عَلَانِيَةً بِمَا يَرْدَعُهُ عَن ذَلِكَ مِن هَجْرٍ وَغَيْرِهِ، فَلَا يُسَلَّمُ عَلَيْهِ وَلَا يُرَدُّ عليه السلام إذَا كَانَ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ مُتَمَكِّنًا مِن ذَلِكَ مِن غَيْرِ مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ.
وَينْبَغِي لِأَهْلِ الْخَيْرِ وَالدِّينِ أَنْ يَهْجُرُوهُ مَيِّتًا كَمَا هَجَرُوهُ حَيًّا إذَا كَانَ فِي ذَلِكَ كَف لِأَمْثَالِهِ مِن الْمُجْرِمِينَ فَيَتْرُكُونَ تَشْيِيعَ جِنَازَتهِ. [28/ 217 - 218]
3324 -
لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَحْضُرَ الْأَمَاكِنَ الَّتِي يَشْهَدُ فِيهَا الْمُنْكَرَاتِ وَلَا يُمْكِنُهُ الْإِنْكَارُ إلَّا لموجِب شَرْعِيٍّ؛ مِثْل أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ أَمْرٌ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِمَصْلَحَةِ دِينِهِ أَو دُنْيَاهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِن حُضُورِهِ، أَو يَكُونُ مُكْرَهًا.
فَأَمَّا حُضُورُهُ لِمُجَرَّدِ الْفُرْجَةِ وَإِحْضَارُ امْرَأَتِهِ تُشَاهِدُ ذَلِكَ: فَهَذَا مِمَّا يَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِ وَمُرُوءَتِهِ إذَا أَصَرَّ عَلَيْهِ
(4)
. [28/ 239]
(1)
رواه مسلم (49).
(2)
رواه البخاري (2442)، ومسلم (2580) بلفظ:"من ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة".
(3)
قال العلماء: لا غيبة لمجاهر.
(4)
ينطبق هذا على من يذهب بنفسه أو مع أهله للنزهة في أمكنة يظهر فيها الفساد علانية، ولا هدف له من ذلك سوى الفرجة والنزهة، فالواجب عليه ألا يمكث فيها أبدًا.
3325 -
خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي وُجُوبِ الْإِنْكَارِ عَلَى هَؤُلَاءِ الْفُسَّاقِ الَّذِينَ يَسْكرُونَ مِن الْحَشِيشَةِ؛ بَل الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأئِمَّةِ أنَّ قَلِيلَهَا وَكَثِيرَهَا حَرَامٌ؛ بَل الصَّوَابُ أَنَّ آكِلَهَا يُحَدُّ، وَأَنَّهَا نَجِسَةٌ، فَإِذَا كَانَ آكِلُهَا لَمْ يَغْسِلْ مِنْهَا فَمَهُ كَانَت صَلَاتُهُ بَاطِلَةً وَلَو غَسَلَ فَمَهُ مِنْهَا أيْضًا فَهِيَ خَمْرٌ. [23/ 358 - 359]
* * *
(ضوابط الْحُبّ وَالْبُغْض)
3326 -
الْحُبُّ وَالْبُغْضُ يَتْبَعُهُ ذَوْقٌ عِنْدَ وُجُودِ الْمَحْبُوبِ وَالْمُبْغَضِ وَوَجْدٌ وَإِرَادَةٌ وَغيْرُ ذَلِكَ، فَمَن اتَّبَعَ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَمْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ فَهُوَ مِمَّن اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِن اللهِ؛ بَل قَد يَصْعَدُ بِهِ الْأَمْرُ إلَى أَنْ يَتَّخِذَ إلَهَهُ هَوَاهُ.
وَاتِّبُاعُ الْأهْوَاءِ فِي الدِّيَانَاتِ أَعْظَمُ مِن اتِّبُاعِ الْأَهْوَاءِ فِي الشَّهَوَاتِ
(1)
.
فَالْوَاجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أنْ يَنْظُرَ فِي نَفْسِ حُبِّهِ وَبُغْضِهِ، وَمِقْدَارِ حُبِّهِ وَبُغْضِهِ: هَل هُوَ مُوَافِقٌ لِأَمْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ؟ وَهُوَ هُدَى اللهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ؛ بِحَيْثُ يَكونُ مَأْمُورًا بِذَلِكَ الْحَبِّ وَالْبُغْضِ، لَا يَكُونُ مُتَقَدِّمًا فِيهِ بَيْنَ يَدَي اللهِ وَرَسُولِهِ؛ فَإِنَّهُ قَد قَالَ:{لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1]، وَمَن أَحَبَّ أو أَبْغَضَ قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ فَفِيهِ نَوْعٌ مِنَ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَي اللهِ وَرَسْولِهِ.
وَمُجَرَّدُ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ هَوًى؛ لَكِنَّ الْمُحَرَّمَ اتِّبَاعُ حُبِّهِ وَبُغْضِهِ بغَيْرِ هُدًى مِن الله، وَلهَذَا قَالَ:{وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [ص: 26] فَأَخْبَرَ أنَّ مَن اتَّبَعَ هَوَاهُ أَضَلَّهُ ذَلِكَ عَن سَبِيلِ اللهِ، وَهُوَ هُدَاهُ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ، وَهُوَ السَّبِيلُ إلَيْهِ. [28/ 132 - 134]
3327 -
لَمَّا كَانَ الْعَمَلُ لَا بُدَّ فِيهِ مِن شَيْئَيْنِ:
(1)
صدق رحمه الله، ولذلك تجد الذين اتّبعوا أهْوَاءهم فِي الدِّيَانَاتِ أعْظَمَ فسادًا وضررًا من الذين اتّبعوا أهْوَاءهم فِي الشَّهَوَاتِ، ولا يكاد يتركون أهواءهم أو يتوبون منها، والفساد في الأرض إنما حصل جلّه منهم، حيث ظهرت البدع والديانات الفاسدة بسببهم.
أ- النِّيَّةُ.
ب- وَالْحَرَكَةُ.
كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ حَارِثٌ وَهَمَّام"
(1)
، فَكُلُّ أحَدٍ حَارِثٌ وَهَمَّامٌ، لَهُ عَمَل وَنِيَّةٌ، لَكِنَ النِّيَّةَ الْمَحْمُودَةَ الَّتِي يَتَقَبَّلُهَا اللهُ ويُثِيبُ عَلَيْهَا: أنْ يُرَادَ اللهُ بِذَلِكَ الْعَمَلِ.
وَالْعَمَلُ الْمَحْمُودُ: الصَّالِحُ، وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ. [28/ 135]
3328 -
إِنَ الْقَصْدَ وَالْعَمَلَ إنْ لَمْ يَكُن بِعِلْم: كَانَ جَهْلًا وَضَلَالًا وَاتِّبَاعًا لِلْهَوَى. [28/ 136]
3329 -
إِذَا كَانَ الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ سَبَبَ الشَّرِّ وَالْعُدْوَانِ: فَقَد يُذْنِبُ الرَّجُلُ أَو الطَّائِفَةُ، ويَسْكُتُ آخَرُونَ عَن الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِن ذُنوبِهِمْ، وَيُنْكِرُ عَلَيْهِم آخَرُونَ إنْكَارًا مَنْهِيًّا عَنْهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِن ذُنُوبِهِمْ، فَيَحْصُلُ التَّفَرُّقُ وَالِاخْتِلَافُ وَالشَّرُّ، وَهَذَا مِن أعْظَمِ الْفِتَنِ وَالشُّرُورِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا؛ إذِ الْإِنْسَانُ ظَلُومٌ جَهُولٌ، وَالظُّلْمُ وَالْجَهْلُ أَنْوَاعٌ.
فَيَكونُ ظُلْمُ الْأوَّلِ وَجَهْلُهُ مِن نَوْعٍ، وَظُلْمُ كُلّ مِن الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَجَهْلِهِمَا مَن نَوْعٍ آخَرَ وَآخَرَ.
وَمَن تَدَبَّرَ الْفِتَنَ الْوَاقِعَةَ رَأَى سَبَبَهَا ذَلِكَ، وَرَأَى أَنَ مَا وَقَعَ بَيْنَ أُمَرَاءِ الْأُمَّةِ وَعُلَمَائِهَا، وَمَن دَخَلَ فِي ذَلِكَ مِن مُلُوكِهَا وَمَشَايِخِهَا، وَمَن تَبِعَهُم مِن الْعَامَّةِ مِن الْفِتَنِ: هَذَا أصْلُهَا. [28/ 142 - 143]
3330 -
فِي "الصَّحِيحِ" عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: "إَّياكُمْ وَالشُّحَّ فَإِنَّهُ أهْلَكَ مَن كَانَ قَبْلَكُمْ: أمَرَهُم بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا، وَأَمَرَهُم بِالظُّلْمِ فَظَلَمُوا، وَأَمَرَهُم بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا"
(2)
.
(1)
رواه الامام أحمد (19032)، وأبو داود، (4950)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.
(2)
رواه أحمد (6753).
فَهَذَا الشُّحُّ الَّذِي هُوَ شِدَّةُ حِرْصِ النَّفْسِ: يُوجِبُ الْبُخْلَ بِمَنْعِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَالظُّلْمَ بِأَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ، ويُوجِبُ قَطِيعَةَ الرَّحِمِ، ويُوجِبُ الْحَسَدَ، وَهُوَ: كَرَاهَةُ مَا اخْتَصَّ بِهِ الْغَيْرُ.
وَالْحَسَدُ فِيهِ بُخْل وَظُلْم؛ فَإِنَّهُ بُخْل بِمَا أُعْطِيهِ غَيْرُهُ، وَظُلْمُهُ بِطَلَبِ زَوَالِ ذَلِكَ عَنْهُ. [28/ 144]
3331 -
أُمُورُ النَّاسِ تَسْتَقِيمُ فِي الدُّنْيَا مَعَ الْعَدْلِ الَّذِي فِيهِ الِاشْتِرَاكُ فِي أَنْوَاعِ الْإِثْمِ: أَكْثَرُ مِمَّا تَسْتَقِيمُ مَعَ الظُّلْمِ فِي الْحُقُوقِ وَإِن لَمْ تَشْتَرِكْ فِي إثْمٍ؛ وَلهَذَا قِيلَ: إنَّ اللهَ يُقِيمُ الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَإن كَانَت كَافِرَة، وَلَا يُقِيمُ الظَّالِمَةَ وَإِن كَانَت مُسْلِمَةً.
ويُقَالُ: الدُّنْيَا تَدُومُ مَعَ الْعَدْلِ وَالْكُفْرِ وَلَا تَدُومُ مَعَ الظُّلْمِ وَالْإِسْلَامِ.
وَقَد قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ ذَنْب أَسْرَعَ عُقُوبَةً مِن الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ"؛ فَالْبَاغِي يُصْرَعُ فِي الدُّنْيَا وَإِن كَانَ مَغْفُورًا لَهُ مَرْحُومًا فِي الْآخِرَةِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَدْلَ نِظَامُ كُلِّ شَيءٍ، فَإِذَا أُقِيمَ أَمْرُ الدُّنْيَا بِعَدْل: قَامَتْ وَإِن لَمْ يَكُن لِصَاحِبِهَا فِي الْآخِرَةِ مِن خَلَاقٍ.
وَمَتَى لَمْ تَقُمْ بِعَدْل: لَمْ تَقُمْ وَإِن كَانَ لِصَاحِبِهَا مِن الْإِيمَانِ مَا يُجْزَى بِهِ فِي الْآخِرَةِ. [28/ 146]
3332 -
النَّفْسُ فِيهَا:
أ- دَاعِي الظُّلْمِ لِغَيْرِهَا بِالْعُلُوِّ عَلَيْهِ وَالْحَسَدِ لَهُ، وَالتَّعَدِّي عَلَيْهِ فِي حَقِّهِ.
ب- وَدَاعِي الظُّلْمِ لِنَفْسِهَا بِتَنَاوُلِ الشَّهَوَاتِ الْقَبِيحَةِ كَالزنى وَأَكْلِ الْخَبَائِثِ، فَهِيَ قَد تَظْلِمُ مَن لَا يَظْلِمُهَا، وَتُؤْثِرُ هَذ الشَّهَوَاتِ وَإِن لَمْ تَفْعَلْهَا.
فَإِذَا رَأَتْ نُظَرَاءَهَا قَد ظَلَمُوا وَتَنَاوَلُوا هَذِهِ الشَّهَوَاتِ صَارَ دَاعِي هَذِهِ الشَّهَوَاتِ أَو الظُّلْمِ فِيهَا أَعْظَمَ بِكَثِيرِ.
فَكَمْ مِمَّن لَمْ يُرِدْ خَيْرًا وَلَا شَرًّا حَتَى رَأَى غَيْرَهُ -لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ نَظِيرهُ-
يَفْعَلُهُ فَفَعَلَهُ؛ فَإِنَّ النَّاسَ كَأَسْرَابِ الْقَطَا، مَجْبُولُونَ عَلَى تَشَبُّهِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضِ
(1)
. [28/ 146 - 150]
3333 -
النَّاسُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
أ- قَوْمٌ لَا يَقُومُونَ إلا فِي أَهْوَاءِ نُفُوسِهِمْ، فَلَا يَرْضَوْنَ إلَّا بِمَا يُعْطَونَهُ، وَلَا يَغْضَبُونَ إلَّا لِمَا يحرَمونه، فَإِذَا أُعْطِيَ أَحَدُهُم مَا يَشْتَهِيهِ مِن الشَّهَوَاتِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ زَالَ غَضَبُة وَحَصَلَ رِضَاهُ، وَصَارَ الْأَمْرُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ مُنْكَرًا- يَنْهَى عَنْهُ وَيُعَاقَبُ عَلَيْهِ، وَيذُمُّ صَاحِبَهُ وَيغْضَبُ عَلَيْهِ-: مَرْضِيًّا عِنْدَهُ.
ب- وَقَوْمٌ يَقُومُونَ دِيَانَةً صَحِيحَةً يَكُونُونَ فِي ذَلِكَ مُخْلِصِينَ للهِ، مُصْلِحِينَ فِيمَا عَمِلُوهُ، وَيسْتَقِيمُ لَهُم ذَلِكَ حَتَّى يَصْبِرُوا عَلَى مَا أُوذُوا، وَهَؤُلَاءِ هُم الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَهُم مِن خَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.
ج- وَقَوْمٌ يَجْتَمِعُ فِيهِمْ هَذَا وَهَذَا، وَهُم غَالِبُ الْمُؤمِنِينَ، فَمَن فِيهِ دِينٌ وَلَهُ شَهْوَةٌ: تَجْتَمِعُ فِي قُلُوبِهِم إرَادَة الطَّاعَةِ وَإِرَادَةُ الْمَعْصِيَةِ، وَرُبَّمَا غَلَبَ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً.
وَهَذِهِ الْقِسْمَةُ الثُّلَاثِيَّةُ كَمَا قِيلَ: الْأَنْفُسُ ثَلَاث: أَمَّارَةٌ، وَمُطَمْئِنَةٌ، وَلَوَّامَةٌ.
فَالْأَوَّلُونَ: هُم أَهْلُ الْأَنْفُسِ الْأَمَّارَةِ الَّتِي تَأْمُرُهُ بِالسُّوءِ.
وَالأوْسَطُونَ: هُم أَهْلُ النُّفُوسِ الْمُطْمَئِنَّةِ.
وَالْآخَرُونَ: هُم أَهْلُ النُّفُوسِ اللَّوَّامَةِ الَّتِي تَفْعَلُ الذَّنْبَ ثُمَّ تَلُومُ عَلَيْهِ وَتتلَوَّنُ: تَارَةً كَذَا وَتَارَةً كَذَا، وَتَخْلِطُ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا.
3334 -
رُوِيَ عَن الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: لَو فَكَّرَ النَّاسُ كُلُّهُم فِي سُورَةِ (وَالْعَصْرِ) لَكَفَتْهُمْ.
(1)
ولهذا أوجب الشرع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعقوبة المجاهر بالمعصية؛ حتى لا يُجزِّئ بعضُهم بعضًا، ولا يقتديَ بعضهم ببعض.
وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ فَإِن اللهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ خَاسِرُونَ، إلَّا مَن كَانَ فِي نَفْسِهِ مُؤمِنًا صَالِحًا، وَمَعَ غَيْرِهِ مُوصِيًا بِالْحَق مُوصِيًا بِالصَّبْرِ. [28/ 152]
3335 -
لَا يُمْكِنُ الْعَبْدُ أَنْ يَصْبِرَ إنْ لَمْ يَكن لَهُ مَا يَطْمَئِنُّ بِهِ وَيتَنَعَّمُ بِهِ وَيغْتَذي بِهِ، وَهُوَ الْيَقِينُ. [28/ 153]
3336 -
الْمُؤْلِم: إنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ دَفْعُهُ أَثَارَ الْغَضَبَ، وَإِن كَانَ مِمَّا لَا يُمْكنُ دَفْعُهُ أَثَارَ الْحُزْنَ؛ وَلهَذَا يَحْمَرُّ الْوَجْهُ عِنْدَ الْغَضَبِ لِثَوَرَانِ الدَّمِ عِنْدَ اسْتِشْعَارِ الْقُدْرَةِ، وَيَصْفَرُّ عِنْدَ الْحُزْنِ لِغَوْرِ الدَّمِ عِنْدَ اسْتِشْعَارِ الْعَجْزِ. [28/ 159]
3337 -
وَلهَذَا كَانَ النَّاسُ أرْبَعَةَ أَصْنَافٍ:
أ- مَن يَعْمَلْ للهِ بِشَجَاعَةٍ وَسَمَاحَةٍ: فَهَؤُلَاءِ هُم الْمُؤمِنُونَ الْمُسْتَحِقُّونَ لِلْجَنَّةِ.
ب- وَمَن يَعْمَلْ لِغَيْرِ اللهِ بِشَجَاعَةٍ وَسَمَاحَةٍ: فَهَذَا يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَلَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن خَلَاقٍ.
ج- وَمَن يَعْمَلْ للهِ لَكِنْ لَا بِشَجَاعَةٍ وَلَا سَمَاحَةٍ: فَهَذَا فِيهِ مِن النِّفَاقِ وَنَقْصِ الْإِيمَانِ بِقَدْرِ ذَلِكَ.
د- وَمَن لَا يَعْمَلْ للهِ وَلَيْسَ فِيهِ شَجَاعَةٌ وَلَا سَمَاحَةٌ: فَهَذَا لَيْسَ لَهُ دُنْيَا وَلَا آخِرَةٌ. [28/ 164 - 165]
3338 -
لَمَّا كَانَ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَن الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ مِن الِابْتِلَاءِ وَالْمِحَنِ مَا يُعَرّضُ بِهِ الْمَرْءَ لِلْفِتْنَةِ: صَارَ فِي النَّاسِ مَن يَتَعَلَّلُ لِتَرْكِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِن ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَطْلُبُ السَّلَامَةَ مِن الْفِتْنَةِ، كَمَا قَالَ عَن الْمُنَافِقِينَ:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} الْآيَةَ [التوبة: 49].
فَمَن تَرَكَ الْقِتَالَ الَّذِي أَمَرَ اللهُ بِهِ لِئَلَّا تكُونَ فِتْنَة: فَهُوَ فِي الْفِتْنَةِ سَاقِطٌ بِمَا وَقَعَ فِيهِ مِن ريبِ قَلْبِهِ، وَمَرَضِ فُؤَادِهِ، وَتَرْكِهِ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ مِن الْجِهَادِ.
فَتَدَبَّرْ هَذَا؛ فَإِنَّ هَذَا مَقَائم خَطِرٌ؛ فَإِنَّ النَّاسَ هُنَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
أ- قِسْمٌ يَأْمُرُونَ وَينْهَوْنَ وَيُقَاتِلُونَ؛ طَلَبًا لِإِزَالَةِ الْفِتْنَةِ الَّتِي زَعَمُوا، وَيكُونُ فِعْلُهُم ذَلِكَ أَعْظَمَ فِتْنَةَ؛ كَالْمُقْتَتِلِينَ فِي الْفِتْنَةِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ الْأُمَّةِ.
ب- وَأقْوَامٌ يَنْكُلُونَ عَن الْأمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْقِتَالِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ، وَتَكُونُ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا؛ لِئَلَّا يُفْتَنوا، وَفم قَد سَقَطُوا فِي الْفِتْنَةِ.
وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَيْهِم الْقِيَامُ بِالْوَاجِبِ وَتَرْكُ الْمَحْظُورِ، وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ
(1)
. [28/ 165 - 167]
3339 -
قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، وَأُولُو الْأمْرِ: أَصْحَابُ الْأَمْرِ وَذَوُوه، وَهُم الَّذِينَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ، وَذَلِكَ يَشْتَرِكُ فِيهِ أَهْلُ الْيَدِ وَالْقُدْرة وَأَهْلُ الْعِلْمِ وَالْكلَامِ؛ فَلِهَذَا كَانَ أُولُو الْأمْرِ صِنْفَيْنِ: الْعُلَمَاءُ وَالأُمَرَاءُ.
فَإِذَا صَلَحُوا صَلَحَ النَّاسُ وَإِذَا فَسَدُوا فَسَدَ النَّاسُ؛ كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه للأحمسية لَمَّا سَأَلَتْهُ: مَا بَقَاؤُنَا عَلَى هَذَا الْأمْرِ؟ قَالَ: مَا اسْتَقَامَتْ لَكُمْ أَئِمَّتكُمْ.
ويدْخُلُ فِيهِم الْمُلُوكُ وَالْمَشَايخُ وَأَهْلُ الدِّيوَانِ، وَكُلُّ مَن كَانَ مَتْبُوعًا فَإِنَّهُ مِن أُولي الْأَمْرِ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِن هَؤُلَاءِ أَنْ يَأْمُرَ بِمَا أَمَرَ اللهُ بِهِ، وَينْهَى عَمَّا نَهَى عَنْهُ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِمَن عَلَيْهِ طَاعَتُهُ أَنْ يُطِيعَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَلَا يُطِيعُهُ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ. [28/ 170]
3340 -
ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ"
(2)
عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إن أَوَّلَ ثَلَاَثةٍ تُسْجَرُ بِهِم جَهَنَّمُ: رَجُل تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ وَأقرَأهُ لِيَقُولَ النَّاسُ: هُوَ عَالِمٌ وَقَارِئٌ؛ وَرَجُلٌ قَاتَلَ وَجَاهَدَ لِيَقُولَ النَّاسُ: هُوَ شُجَاعٌ وَجَرِئٌ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ
(1)
لم يذكر القسم الثالث.
(2)
رواه مسلم (1905).
وَأَعْطَى لِيَقُولَ الناسُ: جَوَادٌ سَخِيٌّ"، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ هُم بِإِزَاءِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ بَعْدَ النَّبِيِّينَ مِن الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ؛ فَإِنَّ مَن تَعَلَّمَ الْعِلْمَ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ رُسُلَة وَعَلَّمَهُ لِوَجْهِ اللهِ كَانَ صِدِّيقًا
(1)
، وَمَن قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَقُتِلَ كَانَ شَهِيدًا، وَمَن تَصَدَّقَ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ كَانَ صَالِحًا. [28/ 171]
3341 -
لفْظُ السُّنَّةِ فِي كَلَامِ السَّلَفِ: يَتَنَاوَلُ السُّنَّةَ فِي الْعِبَادَاتِ وَفِي الِاعْتِقَادَاتِ، وَإِن كَانَ كَثِيرٌ مِمَن صَنَّفَ فِي السُّنَّةِ يَقْصِدُونَ الْكَلَامَ فِي الِاعْتِقَادَاتِ، وَهَذَا كَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وأبي بْنِ كَعْب وَأَبِي الدَّرْدَاء رضي الله عنهم: اقْتِصَادٌ فِي سُنَّةٍ خَيْرٌ مِن اجْتِهَادٍ فِي بِدْعَةٍ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ
(2)
. [28/ 178]
* * *
(الهجر والسلام)
3342 -
فأما هجر المسلم العدل في اعتقاده وأفعاله فقال ابن عقيل: يكره، وكلام الأصحاب خلافه، ولهذا قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: اقتصاره في الهجرة على الكراهة ليس بجيد، بل من الكبائر، على نص أحمد: الكبيرة ما فيه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة، وقد صح قوله صلى الله عليه وسلم:"فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار"
(3)
. [المستدرك 3/ 212]
3343 -
إن اقتصر الراد على لفظ: "وعليك"، كما رد النبي صلى الله عليه وسلم على الأعرابي
(4)
، وهو مقتضى الكتاب؛ فمان المضمر كالمظهر، إلا أن يقال: إذا
(1)
هنيئًا لطالب العلم هذه المنزلة السهلة المنال، فلْيحتسب الأجر في تعلّمه وتعليمه، ولْيبذل ما بوسعه لأجل ذلك، نسأل الله أن يجعلنا من الصديقين.
(2)
إلى هنا انتهى ما انتقيتُه من رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(3)
رواه أبو داود (4914)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.
(4)
يعني: ما ثبت عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن رَجُلًا دَخَلَ المَسْجِدَ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ المَسْجِدِ، فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"وَعَلَيْكَ السَّلَامُ، ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ".
وصله بكلام فله الاقتصار بخلاف ما إذا سكت، ولولا أن الرد الواجب يحصل به لما أجزأ الاقتصار عليه في الرد على الذمي. [المستدرك 3/ 212]
3344 -
روى أبو جعفر عن ابن عباس مرفوعًا: "إني لأرى لرد جواب الكتاب علي حقًّا كما أرى ردَّ جواب السلام"
(1)
، قال الشيخ تقي الدين: وهو المحفوظ عن ابن عباس؛ يعني: موقوفًا. [المستدرك 3/ 212]
3345 -
قال أبو داود: قلت لأحمد، أسلم على المخنث؟ قال: لا أدري: السلام اسم من أسماء الله عز وجل، قال الشيخ تقي الدين: فقد توقف في السلام على المخنث. [المستدرك 3/ 211]
3346 -
ذكر الشيخ تقي الدين في فتاويه: أنه لا ينبغي أن يسلم على من لا يصلي، ولا يجيب دعوته. [المستدرك 3/ 211]
3347 -
[يَجُوز السَّلَامُ عَلَى الصِّبْيَانِ تَأْدِيبًا لَهُمْ، وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ ابْنِ عَقِيلٍ، وَذَكَرَ الْقَاضِي .. أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ، وَذَكَرَهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ إجْمَاعًا]
(2)
، قَالَ الشَّيْخُ تَقِي الدِّينِ: فَأَمَّا الْحَدَثُ الْوَضِيءُ فَلَمْ يَسْتَثْنُوهُ، وفِيهِ
(3)
نَظَرٌ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُشْبِهُ مَسْألَةَ النَّظَرِ إلَيْهِ وَهِيَ مَشْهُورَةٌ. [المستدرك 3/ 212]
3348 -
ذكر الشيخ تقي الدين أن ابتداء السلام واجب في أحد القولين في مذهب أحمد وغيره. [المستدرك 3/ 212]
* * *
(1)
فابن عباس رضي الله عنهما يرى أنّ الردّ على الرسائل وغيرها كتابةً حقٌّ عليه كردّ السلام، وبشمل ذلك الرد على رسائل الجوال ومواقع التواصل الاجتماعي المعروفة بين الناس، إذا كان السائل يبتغي العلم النافع له.
وكثيرًا ما تُرسل لبعض الناس -وخاصة طلاب العلم- بسلام يتلوه طلبٌ أو سؤال فيتجاهلك! فقد ترك حقين من حقوق المسلم على أخيه: رد السلام، وإجابة السائل.
(2)
ما بين المعقوفتين من الفروع (1/ 338)؛ لزيادة التوضيح.
(3)
في الأصل وكذلك في الفروع: (فِيهِ)، بدون واو، ولعل زيادتها أصوب.