المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب الجهاد 3349 - جهاد النفس والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين؛ - تقريب فتاوى ابن تيمية - جـ ٤

[أحمد بن ناصر الطيار]

فهرس الكتاب

‌كتاب الجهاد

3349 -

جهاد النفس والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين؛ فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولًا حتى يخرج إليهم

(1)

. [المستدرك 3/ 213]

3350 -

الْجِهَادُ وَإِن كَانَ فَرضًا عَلَى الْكِفَايَةِ: فَجَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ يُخَاطَبُونَ بِهِ ابْتِدَاءً، فَعَلَيْهِم كُلّهمْ اعْتِقَادُ وُجُوبِهِ، وَالْعَزْمُ عَلَى فِعْلِهِ إذَا تَعَيَّنَ؛ وَلهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَن مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِغَزْوٍ مَاتَ عَلَى شُعْبَةِ نِفَاقٍ". رَوَاه مُسْلِمٌ

(2)

. [7/ 16]

3351 -

جِنْسُ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ أَفْضَلُ مَن جِنْسِ النُّسُكِ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة: 19].

3352 -

إِذَا تَرَكَ النَّاسُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَقَد يَبْتَلِيهِمْ بِأَنْ يُوقِعَ بَيْنَهُم الْعَدَاوَةَ، حَتَّى تَقَعَ بَيْنَهُم الْفِتْنَةُ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ؛ فَإِنَّ النَّاسَ إذَا اشْتَغَلُوا بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ جَمَعَ اللهُ قُلُوبَهُمْ، وَأَلَّفَ بَيْنَهُمْ، وَجَعَلَ بَأسَهُم عَلَى عَدُوِّ اللهِ وَعَدُوِّهِمْ، وإِذَا لَمْ يَنْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ عَذَّبَهُم اللهُ بِأَنْ يَلْبِسَهُم شِيَعًا ويُذِيقَ بَعْضَهُم بَأْسَ بَعْضٍ. [15/ 44 - 45]

(1)

ولذلك رأينا من قدَّم جهاد الكفار أو المنافقين على جهاد نفسِه بالقول أو بالفعل: قد أفسد أكثر مما أصلح، وجر على نفسه وأمته مصائب لا تُحصى، وأضرارًا لا تُحدّ.

(2)

(1910).

ص: 5

3353 -

الْجِهَادُ مَقْصُودُهُ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَأَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ؛ فَمَقْصُودُهُ إقَامَةُ دِينِ اللهِ، لَا اسْتِيفَاءُ الرَّجُلِ حَظَّهُ.

وَلهَذَا كَانَ مَا يُصَابُ بِهِ الْمُجَاهِدُ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ أَجْرُهُ فِيهِ عَلَى اللهِ، فَاِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِن الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُم وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُم الْجَنَّةَ، حَتَّى إنَّ الْكُفَّارَ إذَا أَسْلَمُوا أَو عَاهَدُوا لَمْ يَضْمَنُوا مَا أَتْلَفُوة لِلْمُسْلِمِينَ مِن الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ؛ بَل لَو أَسْلَمُوا وَبِأَيْدِيهِمْ مَا غَنِمُوهُ مِن أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ مِلْكًا لَهُم عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد، وَهُوَ الَّذِي مَضَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشدِينَ.

وَلهَذَا كَانَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ الْمُتَأوِّلينَ لَا يَضْمَنونَ مَا أَتْلَفُوهُ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ بِالتَّأْوِيلِ، كَمَا لَا يَضْمَنُ أَهْلُ الْعَدْلِ مَا أَتْلَفُوهُ عَلَى أَهْلِ الْبَغْيِ بِالتَّأْوِيلِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.

وَكَذَلِكَ أَصَحُّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ فِي الْمُرْتَدِّينَ، فَإِنَّ الْمُرْتَدَّ وَالْبَاغِيَ الْمُتَأَوِّلَ وَالْمُبْتَدِعَ كُلُّ هَؤُلَاءِ يَعْتَقِدُ أَحَدُهُم أَنَّهُ عَلَى حَقٍّ، فَيَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ مُتَأَوِّلًا، فَإِذَا تَابَ مِن ذَلِكَ كَانَ كَتَوْبَةِ الْكَافِرِ مِن كُفْرِهِ؛ فَيُغْفَرُ لَهُ مَا سَلَفَ مِمَّا فَعَلَهُ مُتَأوِّلًا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَن يَعْتَقِدُ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ بَغْيٌ وَعُدْوَانٌ؛ كَالْمُسْلِمِ إذَا ظَلَمَ الْمُسْلِمَ، وَالذِّمِّيِّ إذَا ظَلَمَ الْمُسْلِمَ، وَالْمُرْتَدِّ الَّذِي أَتْلَفَ مَالَ غَيْرِهِ وَلَيْسَ بمُحَارَب؛ بَل هُوَ فِي الظَّاهِرِ مُسْلِمٌ أَو مُعَاهَدٌ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوهُ بِالِاتِّفَاقِ.

فَالْمَأْمُورُ الْمَنْهِيُّ إنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ أَذَى الْآمِرِ النَّاهِي جَائِز لَهُ

(1)

: فَهُوَ مِن الْمُتَأَوِّلينَ، وَحَقُّ الْآمِرِ النَّاهِي دَاخِل فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى، فَإِذَا تَابَ سَقَطَ الْحَقَّانِ

(2)

، وَإِن لَمْ يَتُبْ كَانَ مَطْلُوبًا بِحَقِّ اللهِ الْمُتَضَمِّنِ حَقَّ الْآدَمِيِّ.

(1)

أي: إذا أُمر أحد بمعروف أو نُهي عن منكر، فآذى الآمر والناهي بالقول أو بالفعل، مُعتقدًا أنّ أذاه له جائزٌ أو مُستحب؛ لارتكاب الْاَمِر النَّاهِي ما يستوجب ذلك: فهو مُتأولٌ مُجتهدٌ.

(2)

أي: إذا تاب الذي آذى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر: سقط حق الله وحق الذي آذاه.

ص: 6

فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَافِرًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَاصِيًا.

فَهَؤُلَاءِ كَلٌّ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ الشَّرْعِيَّةَ بِحَسَبِهِ.

وَإِن كَانَ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا: فَإِذَا قَد عَفَا اللهُ عَنْهُ خَطَأَهُ، فَإِذَا كَانَ قَد حَصَلَ بِسَبَب اجْتِهَادِهِ الْخَطَأِ أَذًى لِلْآمِرِ النَّاهِي بِغَيْرِ حَق فَهُوَ كَالْحَاكِمِ إذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطأ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ أَذى لِلْمُسْلِمِ، أَو كَالشَّاهِدِ أَو كَالْمُفْتِي

(1)

.

فَإِذَا كَانَ الْخَطَأُ لَمْ يَتَبَيَّنْ لِذَلِكَ الْمُجْتَهِدِ الْمُخْطِئِ: كَانَ هَذَا مِمَّا ابْتَلَى الله بِهِ هَذَا الْاَمِرَ النَّاهِيَ، قَالَ تَعَالَى:{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)} [الفرقان: 20] فَهَذَا مِمَّا يَرْتَفِعُ عَنْهُ الْإِثْمُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَكَذَلِكَ الْجَزَاءُ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ.

وَلَكِنْ قَد يُقَالُ: قَد يَسْقُطُ الْجَزَاءُ عَلَى وَجْهِ الْقِصَاصِ الَّذِي يَجِبُ فِي الْعَمْدِ ويثْبُتُ الضَّمَانُ الَّذِي يَجِبُ فِي الْخَطَأِ، كَمَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ، وَكَمَا يَجِبُ ضَمَانُ الْأَمْوَالِ الَّتِي يُتْلِفُهَا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ فِي مَالِهِ .. فَكَذَلِكَ هَذَا الَّذِي ظَلَمَ خَطَأً

(2)

.

لَكِنْ يُقَالُ: يفَرَّقُ بَيْنَ مَا كَانَ الْحَقُّ فِيهِ للهِ وَحَقُّ الْآدَمِيِّ تَبَعٌ لَهُ، وَمَا كَانَ حَقًّا لِآدَمِيِّ مَحْضًا أَو غَالِبًا، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَن الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادُ مِن هَذَا الْبَابِ

(3)

، مُوَافِق لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ لَا يُوجِبُونَ عَلَى أَهْلِ الْبَغْيِ ضَمَانَ

(1)

وهؤلاء لا يُؤاخذون إذا اجتهدوا في إلحاق أذى بأحد من الناس اجتهادًا منهم، وعملًا بالنصوص التي يرون أنها منطبقةٌ عليهم.

(2)

فللمظلوم الحق في أنْ يستوفي حقه منه، وأنْ يرجع عليه بكل ما أخذه منه.

(3)

أي: الحق فيه لِلَّهِ وَحَقُّ الْآدَمِيِّ تَبَعٌ لَهُ، فلا يحق له اسْتيفاء حقه من ظالمه المتأول، ولا أنْ ينتقم لنفسه، بل ينتقم لله لا لنفسِه، وكثيرًا ما يغضب الإنسان لنفسه وهو يظن أنه يغضب لله.

قال ابن القيِّم رحمه الله في المشاهد التي يشهدها مَن يصيبه أذى الناس:

المشهد الثامن: مشهد الجهاد، وهو أن يشهد تولد أذى الناس له من جهاده في سبيل الله، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وإقامة دين الله، وإعلاء كلماته. =

ص: 7

مَا أَتْلَفُوهُ لِأَهْلِ الْعَدْلِ بِالتَّأوِيلِ، وَإِن كَانَ ذَلِكَ خَطَأً مِنْهُمْ، لَيْسَ كُفْرًا وَلَا فِسْقًا.

وَإِذَا قَدَرَ عَلَيْهِم أَهْلُ الْعَدْلِ لَمْ يَتْبَعُوا مُدْبِرَهُمْ، وَلَمْ يُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَلَمْ يَسْبُوا حَرِيمَهُمْ، وَلَمْ يَغْنَمُوا أَمْوَالَهُمْ، فَلَا يُقَاتِلُونَهُم عَلَى مَا أَتْلَفُوهُ مِن النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ إذَا أَتْلَفُوا مِثْل ذَلِكَ أَو تَمَلَّكُوا عَلَيْهِم.

فَتَبَيَّنَ أَنَ الْقِصَاصَ سَاقِطٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِن بَابِ الْجِهَادِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْأَجْرُ عَلَى اللهِ، وَهَذَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِحَقَ الْعَبْدِ الْاَمِرِ النَّاهِي.

وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ: هَل يُقْتَصُّ مِنْهُ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى طَمَع مِنْهُ فِي جَانِب الْحَق؟

فَيُقَالُ: مَتَى كَانَ فِيمَا فَعَلَهُ إفْسَادٌ لِجَانِبِ الْحَقّ كَانَ الْحَقّ فِي ذَلِكَ للهِ وَرَسُولِهِ؛ فَيُفْعَلُ فِيهِ مَا يُفْعَلُ فِي نَظِيرِهِ، وَإِن لَمْ يَكُن فِيهِ أَذًى لِلْآمِرِ النَّاهِي.

لَكِنَّ الْإِنْسَانَ تُزَيِّنُ لَهُ نَفْسُهُ أَنَّ عَفْوَهُ عَن ظَالِمِهِ يُجَرّيهِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَل قَد ثَبَتَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّه قَالَ:"وَمَا تَوَاضعَ أَحَدٌ للهِ إلَّا رَفَعَهُ اللهُ"

(1)

.

فَاَلَّذِي يَنْبَغِي فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يَعْفوَ الْإِنْسَانُ عَن حَقِّهِ، ويسْتَوْفِيَ حُقُوقَ اللهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ.

= وصاحب هذا المقام: قد اشترى اللهُ منه نفسَه ومالَه وعرضَه بأعظم الثمن، فإن أراد أن يُسلَّم إليه الثمن فليسلِّم هو السلعة ليستحق ثمنها، فلا حق له على من آذاه ولا شيء له قِبَله إن كان قد رضي بعقد هذا التبايع، فإنه قد وجب أجره على الله.

وهذا ثابت بالنص وإجماع الصحابة رضي الله عنهم؛ ولهذا منع النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين من سُكنى مكة أعزها الله، ولم يَرُدَّ على أحد منهم داره ولا ماله الذي أخذه الكفار، ولم يُضَمِّنهم دية من قتلوه في سبيل الله، ولما عزَم الصديق رضي الله عنه على تضمين أهل الردة ما أتلفوه من نفوس المسلمين وأموالهم قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمشهد من الصحابة رضي الله عنهم: تلك دماء وأموال ذهبت في الله، وأجورها على الله، ولا دية لشهيد، فاتفق الصحابة على قول عمر، ووافقه عليه الصديق. مدارج السالكين (2/ 305).

(1)

رواه مسلم (2588).

ص: 8

3354 -

الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُم الَّذِينَ أَعْطَاهُم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِن غَنَائِم خَيْبَرَ فِيمَا أَعْطَاهُم قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِن الْخُمُسِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِن أَصْلِ الْغَنِيمَةِ وَهَذَا أَظْهَرُ.

فَإِنَّ الَّذِي أَعْطَاهُم إيَّاهُ هُوَ شَيْءٌ كَثِيرٌ لَا يَحْتَمِلُهُ الْخُمُسُ.

وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْغَنِيمَةَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْسِمَهَا بِاجْتِهَادِهِ كَمَا يَقْسِمُ الْفَيءَ بِاجْتِهَادِهِ إذَا كَانَ إمَامَ عَدْلٍ قَسَمَهَا بِعِلْمٍ وَعَدْلٍ.

وَقَد قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِن خَيْبَرَ لِأَهْلِ السَّفِينَةِ الَّذِينَ قَدِمُوا مَعَ جَعْفَرَ وَلَمْ يَقْسِمْ لِأَحَد غَابَ عَنْهَا غَيْرُهُمْ.

3355 -

قَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ لِعُمَر بْنِ الْخَطَّابِ: إنَّ الْعَدُوَّ إذَا رَأَيْنَاهُم قَد لَبِسُوا الْحَرِيرَ وَجَدْنَا فِي قُلُوبِنَا رَوْعَةً، فَقَالَ: وَأَنْتُمْ فَالْبَسُوا كَمَا لَبِسُوا.

وَقَد أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ بِالرَّمَلِ وَالِاضْطِبَاعِ؛ لِيُرِيَ الْمُشْرِكِينَ قُوَّتَهُمْ، وَإِن لَمْ يَكُن هَذَا مَشْرُوعًا قَبْلَ هَذَا.

فَفَعَلَ لِأَجْلِ الْجِهَادِ مَا لَمْ يَكُن مَشْرُوعًا بِدُونِ ذَلِكَ.

3356 -

فِي السُّنَنِ

(1)

عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ اللهَ يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلَاَثةَ نَفَرٍ الْجَنَّةَ: صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ، الْخَيْرَ، وَالرَّامِيَ بِهِ، وَالْمُمِدَّ بِهِ"؛ وَهَذَا لِأَنَّ هَذ الْأَعْمَالَ هِيَ أَعْمَالُ الْجِهَادِ، وَالْجِهَادُ أَفْضَلُ مَا تَطَوَّعَ بِهِ الْإِنْسَانُ، وَتَطَوُّعُهُ أَفْضَلُ مِن تَطَوُّعِ الْحَجِّ وَغَيْرِهِ.

وَلهَذَا كَانَ الرّبَاطُ فِي الثُّغُورِ أَفْضَلَ مِن الْمُجَاوَرَةِ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَالْعَمَلُ بِالرّمْحِ وَالْقَوْسِ فِي الثّغُورِ أَفْضَلَ مِن صَلَاةِ التَّطَوُّعِ.

وَأَمَّا فِي الْأَمْصَارِ الْبَعِيدَةِ مِن الْعَدُوِّ فَهُوَ نَظِيرُ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ.

(1)

رواه النسائي (3578)، وأحمد (17321)، وضعَّفه الألباني في ضعيف النسائي.

ص: 9

وَتَعَلُّمُ هَذِهِ الصِّنَاعَاتِ هُوَ مِن الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِمَن يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ عز وجل، فَمَن عَلَّمَ غَيْرَهُ ذَلِكَ كَانَ شَرِيكَهُ فِي كُلِّ جِهَادٍ يُجَاهِدُ بِهِ، لَا ئنْقَصُ أَحَدُهُمَا مِن الْأَجْرِ شَيْئًا؛ كَاَلَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيُعَلِّمُ الْعِلْمَ.

3357 -

لِبَاسُ الْحَرِيرِ عِنْدَ الْقِتَالِ لِلضَّرُورَةِ: يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَذَلِكَ بِأَنْ لَا يَقُومَ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فِي دَفْعِ السّلَاحِ وَالْوِقَايَةِ.

وَأَمَّا لِبَاسُهُ لِإِرْهَابِ الْعَدُوِّ فَفِيهِ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ.

وَأَمَّا يَسِيرُ الْحَرِيرِ مِثْلُ الْعَلَمِ الَّذِي عَرْضُهُ أَرْبَعَةُ أَصَابعَ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَجُوزُ مُطْلَقًا.

وَفِي الْعَلَمِ الذَّهَبِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَالْأَظْهَرُ جَوَازُهُ أَيْضًا؛ فَإِنَّ فِي السُّنَنِ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "أنَّهُ نَهَى عَن الذَّهَبِ إلَّا مُقَطَّعًا"

(1)

.

3358 -

رِسَالَة مِن شَيْخِ الْإِسْلَامِ -قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ- إلَى أَصْحَابِهِ وَهُوَ فِي حَبْسِ الإسكندرية قَالَ: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)} [الضحى: 11]، وَاَلَّذِي أُعَرِّفُ بِهِ الْجَمَاعَةَ أَحْسَنَ اللهُ إلَيْهِم فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَأَتَمَّ عَلَيْهِم نِعْمَتَهُ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ، فَإِنِّي -وَاللهِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ- فِي نِعَمٍ مِن اللهِ مَا رَأَيْتُ مِثْلَهَا فِي عُمْرِي كُلِّهِ، وَقَد فَتَحَ اللهُ سبحانه وتعالى مِن أَبْوَابِ فَضْلِهِ وَنعْمَتِهِ وَخَزَائِنِ جُودِهِ وَرَحْمَتِهِ مَا لَمْ يَكُن بِالْبَالِ، وَلَا يَدُورُ فِي الْخَيَالِ.

فَإِنَّ اللَّذَّةَ وَالْفَرْحَةَ وَالسُّرُورَ وَطِيبَ الْوَقْتِ وَالنَّعِيمَ الَّذِي لَا يُمْكِنُ التَّعْبِير عَنْهُ: إنَّمَا هُوَ فِي مَعْرِفَةِ اللهِ سبحانه وتعالى وَتَوْحِيدِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَانْفِتَاحِ الْحَقَائِقِ الْإِيمَانِيَّةِ وَالْمَعَارِفِ الْقُرْآنِيَّةِ.

وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا نَعِيمٌ يُشْبِهُ نَعِيمَ الْآخِرَةِ إلَّا نَعِيمَ الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ.

وَلَيْسَ لِلْقُلُوبِ سُرُورٌ وَلَا لَذَّةٌ تَامَّةٌ إلَّا فِي مَحَبَّةِ اللهِ وَالتَّقَرُّبِ إلَيْهِ بِمَا

(1)

رواه النسائي (5150)، وأحمد (16833)، وصحَّحه الألباني في صحيح النسائي (5174).

ص: 10

يُحِبُّهُ، وَلَا تُمْكِنُ مَحَبَّتُهُ إلَّا بِالْإِعْرَاضِ عَن كُلِّ مَحْبُوبٍ سِوَاهُ، وَهَذَا حَقِيقَةُ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ.

وَلهَذَا كَانَ الدِّينُ مَجْمُوعًا فِي التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ، قَالَ تَعَالَى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]، وَقَالَ تَعَالَى:{فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت: 6].

وَكُلَّمَا قَوِيَ التَّوْحِيدُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ قَوِيَ إيمَانُهُ وَطُمَأنِينَتُهُ وَتَوَكُّلُهُ ويقِينُهُ.

وَالْخَوْفُ الَّذِي يَحْصُلُ فِي قُلُوبِ النَّاسِ هُوَ الشِّرْكُ الَّذِي فِي قُلُوبِهِم قَالَ الله تَعَالَى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ} [آل عمران: 151].

وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الفتح: 28] بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ؛ وَبِالْيَدِ وَاللّسَانِ، وَهَذَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَكِنَّ الْجِهَادَ الْمَكِّيَّ بِالْعِلْمِ وَالْبَيَانِ، وَالْجِهَادَ الْمَدَنِيَّ مَعَ الْمَكّيِّ بِالْيَدِ وَالْحَدِيدِ، قَالَ تَعَالَى:{فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)} [الفرقان: 52] وَسُورَةُ الْفُرْقَانِ مَكِّيَّةٌ، وَإِنَّمَا جَاهَدَهُم بِاللِّسَانِ وَالْبَيَانِ، وَلَكِنْ يَكُفُّ عَنِ الْبَاطِلِ.

وَفِي الْجُمْلَةِ: مَا يُبَيِّنُ نِعَمَ اللهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيَّ وَأَنَا فِي هَذَا الْمَكَانِ: أَعْظَمُ قَدْرًا وَأَكْثَرُ عَدَدًا، مَا لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُ، وَأَكْثَرُ مَا يَنْقُصُ عَلَيَّ الْجَمَاعَةُ، فَأَنَا أُحِبُّ لَهُم أَنْ يَنَالُوا مِن اللَّذَّةِ وَالسُّرُورِ وَالنَّعِيمِ مَا تَقَرُّ بِهِ أَعْيُنُهُمْ، وَأَنْ يُفْتَحَ لَهُم مِن مَعْرِفَةِ اللهِ وَطَاعَتِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ مَا يَصِلُونَ بِهِ إلَى أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَأُعَرِّفُ أَكْثَرَ النَّاسِ قَدْرَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالذَّوْقِ وَالْوَجْدِ، لَكِنْ مَا مِن مُؤْمِنٍ إلَّا لَهُ نَصِيبٌ مِن ذَلِكَ، ويسْتَدِلُّ مِنْهُ بِالْقَلِيلِ عَلَى الْكَثِيرِ، وَإِن كَانَ لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ الْكَبِيرَ، وَأَنَا أَعْرِفُ أَحْوَالَ النَّاسِ وَالْأَجْنَاسِ وَاللَّذَّاتِ.

وَالْمَقْصُودُ إخْبَارُ الْجَمَاعَةِ بِأَنَّ نِعَمَ اللهِ عَلَيْنَا فَوْقَ مَا كَانَت بِكَثِيرٍ كَثِيرٍ، وَنَحْنُ بِحَمْدِ اللهِ فِي زِيَادَةٍ مِن نِعَمِ اللهِ، وَإِن لَمْ يُمْكِنْ خِدْمَة الْجَمَاعَةِ بِاللِّقَاءِ

ص: 11

فَأَنَا دَاعٍ لَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ؛ قِيَامًا بِبَعْضِ الْوَاجِبِ مِن حَقِّهِمْ؛ وَتَقَرُّبًا إلَى اللهِ تَعَالَى فِي مُعَامَلَتِهِ فِيهِمْ

(1)

.

3359 -

كِتَابُ الشَّيْخِ إلَى وَالِدَتِهِ يَقُولُ فِيهِ: مِن أَحْمَد ابْنِ تَيْمِيَّة إلَى الْوَالِدَةِ السَّعِيدَةِ أَقَرَّ اللهُ عَيْنَيْهَا بِنِعَمِهِ وَأَسْبَغَ عَلَيْهَا جَزِيلَ كَرَمِهِ وَجَعَلَهَا مِن خِيَارِ إمَائِهِ وَخَدَمِهِ، سَلَامُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَة اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.

تَعْلَمُونَ أَنَّ مُقَامَنَا السَّاعَةَ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ إنَّمَا هُوَ لِأُمُور ضَرُورِيَّةٍ، مَتَى أَهْمَلْنَاهَا فَسَدَ عَلَيْنَا أَمْرُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَلَسْنَا -وَاللهِ- مُخْتَارِينَ لِلْبُعْدِ عَنْكُمْ، وَلَو حَمَلَتْنَا الطُّيُورُ لَسِرْنَا إلَيْكُمْ، وَلَكِنَّ الْغَائِبَ عُذْرُهُ مَعَهُ، وَأَنْتُمْ لَو اطَّلَعْتُمْ عَلَى بَاطِنِ الْأُمُورِ فَإِنَّكُمْ -وَللهِ الْحَمْدُ- مَا تَخْتَارُونَ السَّاعَةَ إلَّا ذَلِكَ، وَلَمْ نَعْزِمْ عَلَى الْمُقَامِ وَالِاسْتِيطَانِ شَهْرًا وَاحِدًا؛ بَل كُلَّ يَوْمٍ نَسْتَخِيرُ اللهَ لنَا وَلَكُمْ، وَادْعُوا لنَا بِالْخِيَرَةِ

(2)

، فَنَسْأَلُ اللهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَخِيرَ لنَا وَلَكُمْ وَللْمُسْلِمِينَ مَا فِيهِ الْخِيَرَةُ فِي خَيْبر وَعَافِيَةٍ.

وَمَعَ هَذَا فَقَد فَتَحَ اللهُ مِن أَبْوَاب الْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ وَالْهِدَايَةِ وَالْبَرَكَةِ مَا لَمْ يَكُن يَخْطُرُ بِالْبَالِ وَلَا يَدُورُ فِي الْخَيَالِ

(3)

.

وَنَحْنُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَهْمُومُونَ بِالسَّفَرِ مُسْتَخِيرُونَ اللهَ سبحانه وتعالى، فَلَا يَظُنُّ الظَّانُّ أَنَا نُؤْثِرُ عَلَى قُرْبِكُمْ شَيْئًا مِن أُمُورِ الدُّنْيَا قَطُّ، بَل وَلَا نُؤْثِرُ مِن أُمُورِ الدِّينِ مَا يَكُونُ قُرْبُكُمْ أَرْجَحَ مِنْهُ

(4)

.

وَلَكِنْ ثَمَّ أُمُورٌ كِبَارٌ نَخَافُ الضَّرَرَ الْخَاصَّ وَالْعَامَّ مِن إهْمَالِهَا، وَالشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ.

(1)

هذا يُؤكد حبّ الشيخ للاجتماع مع أصدقائه ومحبيه، وأنه ليس في عزلة عنهم، وأنه حريصٌ على رعاية حق إخوانه وأَصْحَابهِ، وتفقدهم وإدخال السرور عليهم، والدعاء لهم بالليل والنهار.

(2)

لم يقل: ادعو لنا بالجلوس أو بالقدوم، بل بالخيرة؛ أي: الخيرة من الأمر.

(3)

يُطمئنها ويهدئ من قلقها.

(4)

لعلمه بأن بر الوالدين والقرب منهما من أعظم الأعمال وأحبها إلى الله تعالى.

ص: 12

وَالْمَطْلُوبُ كَثْرَةُ الدُّعَاءِ بِالْخِيَرَةِ، فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَلَا نَعْلَمُ، وَيَقْدِرُ وَلَا نَقْدِرُ وَهُوَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ.

وَالتَّاجِرُ يَكُونُ مُسَافِرًا فَيَخَافُ ضَيَاعَ بَعْضِ مَالِهِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يُقِيمَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ أَمْرٌ يُجَلُّ عَنِ الْوَصْفِ

(1)

.

3360 -

وَقَالَ الشَّيْخُ: بَعْدَ حَمْدِ اللهِ تَعَالَى وَالصَّلَاةِ عَلَى نَبِيّهِ صلى الله عليه وسلم، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ اللهَ -وَلَهُ الْحَمْدُ- قَد أَنْعَمَ عَلَيَّ مِن نِعَمِهِ الْعَظِيمَةِ وَمِنَنِهِ الْجَسِيمَةِ وَاَلَائِهِ الْكَرِيمَةِ مَا هُوَ مُسْتَوْجِبٌ لِعَظِيمِ الشُّكْرِ وَالثَّبَاتِ عَلَى الطَّاعَةِ وَاعْتِيَادِ حُسْنِ الصَّبْرِ عَلَى فِعْلِ الْمَأمُورِ.

فتَعْلَمُونَ -رَضِيَ اللهُ عَنْكُمْ- أَنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ يُؤْذَى أَحَدٌ مِن عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ -فَضْلًا عَن أَصْحَابِنَا- بِشَيء أَصْلًا، لَا بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا، وَلَا عِنْدِي عَتْبٌ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَلَا لَوْمٌ أَصْلًا؛ بَل لَهُم عِنْدِي مِن الْكَرَامَةِ وَالْإِجْلَالِ وَالْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا كَانَ كُلٌّ بِحَسَبِهِ، وَلَا يَخْلُو الرَّجُلُ:

أ- إمَّا أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا مُصِيبًا.

ب- أَو مُخْطِئًا.

ج- أَو مُذْنِبًا.

فَالْأوّلُ: مَأجُورٌ مَشْكُورٌ.

وَالثانِي مَعَ أَجْرِهِ عَلَى الِاجْتِهَادِ: فَمَعْفُوٌّ عَنْة مَغْفُورٌ لَهُ.

وَالثَّالِثُ: فَاللهُ يَغْفِرُ لنَا وَلَهُ وَلسَائِرِ الْمُومِنِينَ.

فَنَطْوِي بِسَاطَ الْكَلَامِ الْمُخَالِفِ لِهَذَا الْأَصْلِ؛ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: فُلَانٌ قَصَّرَ، فُلَانٌ مَا عَمِلَ، فُلَانٌ أُوذِيَ الشَّيْخُ بِسَبَبِهِ، فُلَانٌ كَانَ سَبَبَ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، فُلَانٌ

(1)

من أمور الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله، ونصح ولاة الأمر وعامة المسلمين، ودحض شبه المبتدعة والمنافقين.

ص: 13

كَانَ يَتَكَلَّمُ فِي كَيْدِ فُلَانٍ، وَنَحْو هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الَّتِي فِيهَا مَذَمَّةٌ لِبَعْضِ الْأَصْحَابِ وَالْإِخْوَانِ.

فَإِنِّي لَا أُسَامِحُ مَن آذَاهُم مِن هَذَا الْبَابِ

(1)

.

وَتَعْلَمُونَ أَيْضًا: أَنَّ مَا يَجْرِي مِن نَوْعِ تَغْلِيظٍ أَو تَخْشِينٍ عَلَى بَعْضِ الْأَصْحَابِ وَالْإِخْوَانِ، مَا كَانَ يَجْرِي بِدِمَشْقَ، وَمِمَّا جَرَى الْآنَ بِمِصْر: فَلَيْسَ ذَلِكَ غَضَاضَةً وَلَا نَقْصًا فِي حَق صَاحِبِهِ، وَلَا حَصَلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ تَغَيُّر مِنَّا وَلَا بُغْضٌ؛ بَل هُوَ بَعْدَ مَا عُومِلَ بِهِ مِن التَّغْلِيظِ وَالتَّخْشِينِ أَرْفَعُ قَدْرًا، وَأَنْبَهُ ذِكْرًا، وَأَحَبُّ وَأَعْظَمُ.

وَإِنَّمَا هَذِهِ الْأُمُورُ هِيَ مِن مَصَالِحِ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي يُصْلِحُ اللهُ بهَا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْيَدَيْنِ، تَغْسِلُ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، وَقَد لَا يَنْقَلِعُ الْوَسَخُ إلَّا بِنَوْع مِن الْخُشُونَةِ، لَكِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ مِن النَّظَافَةِ وَالنّعُومَةِ مَا نَحْمَدُ مَعَهُ ذَلِكَ التَّخْشِين.

وَتَعْلَمونَ -رَضِيَ اللهُ عَنْكُمْ-: أَنَّ مَا دُونَ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ مِن الْحَوَادِثِ يَقَعُ فِيهَا مِن اجْتِهَادِ الْآرَاءِ وَاخْتِلَافِ الْأَهْوَاءِ وَتَنَوُّعِ أَحْوَالِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ -مِن نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ- مَا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَعْرَى عَنْهُ نَوْعُ الْإِنْسَانِ.

فَلَا أُحِبُّ أَنْ يُنْتَصَرَ مِن أَحَدٍ بِسَبَبِ كَذِبِهِ عَلَيَّ، أَو ظُلْمِهِ وَعُدْوَانِهِ، فَإِنِّي قَد أَحْلَلْت كُلَّ مُسْلِمٍ.

وَأَنَا أُحِبُّ الْخَيْرَ لِكُلّ الْمُسْلِمِينَ، وَأُرِيدُ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِن الْخَيْرِ مَا أُحِبُّهُ لِنَفْسِي.

وَاَلَّذِينَ كَذَبُوا وَظَلَمُوا فَهُم فِي حِلٍّ مِن جِهَتِي.

(1)

فهو رحمه الله لا يُسامح من يُعاتب المخطئ من أصحابه، ويُسامح المخطئ ويعفو عنه، وكان رحمه الله قد يقسو مع أحدهم للمصلحة الراجحة، لكنه لا يتردد في طلب المسامحة منهم، ويُبين لهم أنّ العتب والقسوة لا تتجاوز اللسان، وأما القلب فهو موفورٌ بالمحبة والإكرام لهم.

ص: 14

وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّق بِحُقُوقِ اللهِ: فَإِنْ تَابُوا تَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَإِلَّا فَحُكْمُ اللهِ نَافِذٌ فِيهِمْ، فَلَو كَانَ الرَّجُلُ مَشْكُورًا عَلَى سوءِ عَمَلِهِ لَكُنْتُ أَشْكُرُ محلَّ مَن كَانَ سَبَبًا فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ؛ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَن خَيْرِ الدُّنْيَا والآخرة.

3361 -

وَكَتَبَ أَيْضًا

(1)

: .. فَإِنَّ الشَّيْطَانَ اسْتَعْمَلَ حِزْبَهُ فِي إفْسَادِ دِينِ اللهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتبهُ.

وَمِن سُنَّةِ اللهِ: أَنَّهُ إذَا أَرَادَ إظْهَارَ دِينِهِ أَقَامَ مَن يُعَارِضُهُ فَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ.

وَاَلَّذِي سَعَى فِيهِ حِزْبُ الشَّيْطَانِ لَمْ يَكُن مُخَالَفَةً لِشَرْعِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَحْدَهُ؛ بَل مُخَالَفَةً لِدِينِ جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ.

وَكَانُوا قَد سَعَوْا فِي أَنْ لَا يَظْهَرَ مِن جِهَةِ حِزْبِ اللهِ وَرَسُولِهِ خِطَابٌ وَلَا كِتَابٌ، وَجَزِعُوا مِن ظُهُورِ الإخنائية، فَاسْتَعْمَلَهُم اللهُ تَعَالَى حَتَّى أَظْهَرُوا أَضْعَافَ ذَلِكَ وَأَعْظَمَ، وَأَلْزَمَهُم بِتَفْتِيشِهِ وَمُطَالَعَتِهِ، وَمَقْصُودُهُم إظْهَارُ عُيُوبِهِ وَمَا يَحْتَجُّونَ بِهِ، فَلَمْ يَجِدُوا فِيهِ إلَّا مَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَظَهَرَ لَهُم جَهْلُهُم وَكَذِبُهُم وَعَجْزُهُمْ، وَشَاعَ هَذَا فِي الْأَرْضِ، وَأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللهُ.

ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامًا وَقَالَ: بَل جِهَادُنَا فِي هَذَا مِثْلُ جِهَادِنَا يَوْمَ قازان وَالْجَبَلِيَّة وَالْجَهْمِيَّة والاتحادية وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ مِن أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.

3362 -

ظُلْمُ الْمُقَاتِلَةِ بِتَرْكِ الْجِهَادِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مِن أَعْظَمٍ ظُلْمٍ يَكُونُ.

3363 -

مَضَتِ السُّنَّةُ بِأَنَّ الشُّرُوعَ فِي الْعِلْمِ وَالْجِهَادِ يَلْزَمُ؛ كَالشُّرُوعِ فِي الْحَجِّ؛ يَعْنِي: أَنَّ مَا حَفِظَهُ مِن عِلْمِ الدِّينِ وَعِلْمِ الْجِهَادِ لَيْسَ لَهُ إضَاعَتُهُ؛ لِقَوْلِ

(1)

هذه الرسالة أرسلها الشيخ وهو في سجن القلعة في دمشق في آخر حياته قبل موته بقليل، وهي مكتوبةٌ بفحم، كما ذكر ذلك في العقود (ص 380).

ص: 15

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَن قَرَأَ الْقُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ لَقِيَ اللهَ وَهُوَ أَجْذَمُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

وَقَالَ: "مَن تَعَلَّمَ الرَّمْيَ ثُمَّ نَسِيَهُ فَلَيْسَ مِنَّا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

وَكَذَلِكَ الشُّرُوعُ فِي عَمَلِ الْجِهَادِ، فَإِنَ الْمسْلِمِينَ إذَا صافوا عَدُوًّا أَو حَاصَرُوا حِصْنًا لَيْسَ لَهُم الِانْصِرَاف عَنْهُ حَتَّى يَفْتَحُوه، وَلذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يَنْزِعَهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ"

(2)

.

فَالْمُرْصَدُونَ لِلْعِلْمِ عَلَيْهِم لِلْأُمَّةِ حِفْظُ عِلْمِ الدِّينِ وَتَبْلِيغُهُ، فَإِذَا لَمْ يُبَلِّغوهُم عِلْمَ الدِّينِ أَو ضَيَّعُوا حِفْظَهُ: كَانَ ذَلِكَ مِن أَعْظَمِ الظُّلْمِ لِلْمُسْلِمِينَ؛ وَلهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)} [البقرة: 159]، فَإِنَّ ضَرَرَ كِتْمَانِهِمْ تَعَدَّى إلَى الْبَهَائِمِ وَغَيْرِهَا؛ فَلَعَنَهُم اللَّاعِنُونَ حَتَّى الْبَهَائِمُ.

كَمَا أَنَّ مُعَلّمَ الْخَيْرِ يُصَلّي عَلَيْهِ اللهُ وَمَلَائِكَتُهُ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيءٍ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْبَحْرِ وَالطَّيْرُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ.

وَكَذَلِكَ كَذِبُهُم فِي الْعِلْمِ مِن أَعْظَمِ الظُّلْمِ، وَكَذَلِكَ إظْهَارُهُم لِلْمَعَاصِي وَالْبِدَعِ الَّتِي تَمْنَعُ الثّقَةَ بِأَقْوَالِهِمْ، وَتَصْرِفُ الْقُلُوبَ عَن اتِّبَاعِهِمْ وَتَقْتَضِي مُتَابَعَةَ النَّاسِ لَهُم فِيهَا: هِيَ مِن أَعْظَمِ الظُّلْمِ، وَيسْتَحِقُّونَ مِن الذَّمِّ وَالْعُقُوبَةِ عَلَيْهَا مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ مَن أَظْهَرَ الْكَذِبَ وَالْمَعَاصِيَ وَالْبِدَعَ مِن غَيْرِهِمْ.

فَتَرْكُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِتَبْلِيغِ الدِّينِ كَتَرْكِ أَهْلِ الْقِتَالِ لِلْجِهَادِ.

3364 -

الْهَجْرُ الشَّرْعِيُّ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: بِمَعْنَى التَّرْكِ لِلْمُنْكَرَاتِ.

وَالثَّانِي: بِمَعْنَى الْعُقُوبَةِ عَلَيْهَا.

(1)

(1919)، من حديث عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ بلفظ:"مَن عَلِمَ الرَّمْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ، فَلَيْسَ مِنَّا" أَو "قَد عَصَى".

(2)

صحَّحه الألباني في فقه السيرة (250).

ص: 16

فَالْأوّلُ: هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)} [الأنعام: 68].

فَهَذَا يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ الْمُنْكَرَاتِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ مِثْل قَوْمٍ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ يَجْلِسُ عِنْدَهُم، وَقَوْمٌ دُعُوا إلَى وَليمَةٍ فِيهَا خَمْرٌ وَزَمْرٌ لَا يُجِيبُ دَعْوَتَهُم وَأَمْثَالَ ذَلِكَ.

بِخِلَافِ مَن حَضَرَ عِنْدَهُم لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِم أَو حَضَرَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَلهَذَا يُقَالُ: حَاضِرُ الْمُنْكَرِ كَفَاعِلِهِ.

وَهَذَا الْهَجْرُ مِن جِنْسِ هَجْرِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ عَن فِعْلِ الْمُنْكَرَاتِ، كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:"الْمُهَاجِرُ مَن هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ"

(1)

.

وَمِن هَذَا الْبَابِ: الْهِجْرَةُ مِن دَارِ الْكفْرِ وَالْفُسُوقِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، فَإِنَّهُ هَجْرٌ لِلْمَقَامِ بَيْنَ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ لَا يُمَكِّنُونَهُ مِن فِعْلِ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ.

وَمِن هَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} [المدثر: 5].

النَّوْعُ الثَّانِي: الْهَجْرُ عَلَى وَجْهِ التَّادِيبِ، وَهُوَ هَجْرُ مَن يُظْهِرُ الْمُنْكَرَاتِ يُهْجَرُ حَتَّى يَتُوبَ مِنْهَا، كَمَا هَجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ خُلِّفوا حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ تَوْبَتَهُمْ، حِينَ ظَهَرَ مِنْهُم تَرْكُ الْجِهَادِ الْمُتَعَيِّنِ عَلَيْهِم بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَلَمْ يَهْجُرْ مَن أَظْهَرَ الْخَيْرَ، وَاِن كَانَ مُنَافِقًا، فَهُنَا الْهَجْرُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّعْزِيرِ.

وَالتَّعْزِيرُ يَكُونُ لِمَن ظَهَرَ مِنْهُ تَرْكُ الْوَاجِبَاتِ وَفِعْلُ الْمُحَرَّمَاتِ؛ كَتَارِكِ الضَلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالتَّظَاهُرِ بِالْمَظَالِمِ وَالْفَوَاحِشِ، وَالدَّاعِي إلَى الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ الَّتِي ظَهَرَ أَنَّهَا بِدَعٌ.

(1)

صحَّحه الألباني في صحيح الأدب المفرد (872).

ص: 17

وَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِ مَن قَالَ مِن السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ: إنَّ الدُّعَاةَ إلَى الْبِدَعِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُم وَلَا يُصَلَّى خَلْفَهُمْ، وَلَا يُؤْخَذُ عَنْهُم الْعِلْمُ وَلَا يُنَاكَحُونَ، فَهَذِهِ عُقُوبَة لَهُم حَتَى يَنْتَهوا؛ وَلهَذَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الدَّاعِيَةِ وَغَيْرِ الدَّاعِيَةِ؛ لِأَنَّ الدَّاعِيَةَ أَظْهَرَ الْمُنْكَرَاتِ فَاسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ بِخِلَافِ الْكَاتِمِ فَإِنَّهُ لَيْسَ شَرًّا مِن الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْبَلُ عَلَانِيَتَهُم وَيكِلُ سَرَائِرَهُم إلَى اللهِ مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ.

فَالْمُنْكَرَاتُ الظَّاهِرَةُ يَجِبُ إنْكَارُهَا، بِخِلَافِ الْبَاطِنَةِ فَإِنَّ عُقُوبَتَهَا عَلَى صَاحِبِهَا خَاصَّةً.

وَهَذَا الْهَجْرُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْهَاجِرِينَ فِي قُوَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ، وَقِلَّتِهِمْ وَكَثْرَتِهِمْ، فَإِنَ الْمَقْصُودَ بِهِ زَجْرُ الْمَهْجُورِ وَتَأْدِيبُهُ وَرُجُوعُ الْعَامَّةِ عَن مِثْل حَالِهِ، فَإِنْ كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ رَاجِحَةً بِحَيْثُ يُفْضِي هَجْرهُ إلَى ضَعْفِ الشَرِّ وَخِفْيَتِهِ كَانَ مَشْرُوعًا، وَإِن كَانَ لَا الْمَهْجُورُ وَلَا غَيْرُهُ يَرْتَدِعُ بِذَلِكَ بَل يُزِيدُ الشَّرَّ، وَالْهَاجِرُ ضَعِيفٌ بِحَيْثُ يَكُونُ مَفْسَدَةُ ذَلِكَ رَاجِحَةً عَلَى مَصْلَحَتِهِ لَمْ يُشْرَع الْهَجْرُ؛ بَل يَكونُ التَّألِيفُ لِبَعْضِ النَّاسِ أَنْفَعَ مِن الْهَجْرِ.

وَالْهَجْرُ لِبَعْضِ النَّاسِ أَنْفَعُ مِن التَّأْلِيفِ.

وَإِذَا عُرفَ هَذَا: فَالْهِجْرَةُ الشَّرْعِيَّةُ هِيَ مِن الْأَعْمَالِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا وَرَسُولُهُ، فَالطَّاعَةُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ خَالِصَةً للهِ وَأَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً لِأَمْرِهِ فَتَكُونُ خَالِصَةً للهِ صَوَابًا، فَمَن هَجَرَ لِهَوَى نَفْسِهِ أَو هَجَرَ هَجْرًا غَيْرَ مَأْمُورٍ بِهِ: كَانَ خَارِجًا عَن هَذَا.

وَمَا أَكْثَرَ مَا تَفْعَلُ النُّفُوسُ مَا تَهْوَاهُ ظَانَّة أَنَّهَا تَفْعَلُهُ طَاعَةً للهِ

(1)

.

(1)

صدق رحمه الله تعالى، فلذا يجب على المسلم أن يُحاسب نفسه كثيرًا، وأنْ ينظر في تصرفاته وأعماله ويدقق فيها، فسيجد في كثيرِ منها أو بعضها شوائب منعت كمال العمل ونفعه.

ص: 18

وَالْهَجْرُ لِأجْلِ حَظِّ الْإِنْسَانِ لَا يَجُوزُ أَكْثَرَ مِن ثَلَاثٍ .. فَإِذَا الْهَجْرُ لِحَقِّ الْإِنْسَانِ حَرَام، وَإِنَّمَا رُخِّصَ فِي بَعْضِهِ، كَمَا زخصَ لِلزَّوْجِ انْ يَهْجُرَ امْرَأَتَهُ فِي الْمَضْجَعِ إذَا نَشَزَتْ، وَكَمَا رُخِّصَ فِي هَجْرِ الثَّلَاثِ.

فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْهَجْرِ لِحَقِّ اللهِ وَبَيْنَ الْهَجْرِ لِحَق نَفْسِهِ، فَالْأَوَّلُ مَأمُوز بِهِ وَالثَّانِي مَنْهِيٌّ عَنْهُ.

وَهَذَا لِأَنَّ الْهَجْرَ مِن بَابِ "الْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ" فَهُوَ مِن جِنْسِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَهَذَا يُفْعَلُ لِأَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَيكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ، وَالْمُؤمِنُ عَلَيْهِ أَنْ يُعَادِيَ فِي اللهِ ويُوَالِيَ فِي اللهِ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ مُؤْمِنٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُوَالِيَهُ وَإِن ظَلَمَهُ؛ فَإنَّ الظُّلْمَ لَا يَقْطَعُ الْمُوَالَاةَ الْإِيمَانِيَّةَ.

فَلْيَتَدَبَّر الْمُؤمِنُ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ، فَمَا أَكْثَرَ مَا يَلْتَبِسُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، وَلْيُعْلَمْ أَنَّ الْمُؤْمِنَ تَجِبُ مُوَالَاتُهُ وَإِن ظَلَمَك وَاعْتَدَى عَلَيْك، وَالْكَافِرُ تَجِحث مُعَادَاتُهُ وَإِن أَعْطَاك وَأَحْسَنَ إلَيْك

(1)

.

وَإِذَا اجْتَمَعَ فِي الرَّجُلِ الْوَاحِدِ خَيْرٌ وَشَرٌّ وَفُجُورٌ وَطَاعَةٌ وَمَعْصِيَةٌ وَسُنَّةٌ وَبِدْعَةٌ: اسْتَحَقَّ مِن الْمُوَالَاةِ وَالثَّوَابِ بِقَدْرِ مَا فِيهِ مِن الْخَيْرِ، وَاسْتَحَقَّ مِن الْمُعَادَاتِ وَالْعِقَابِ بِحَسَبِ مَا فِيهِ مِن الشَّرّ، فَيَجْتَمِعُ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ مُوجِبَاتُ الْإِكْرَامِ وَالْإِهَانَةِ، فَيَجْتَمِعُ لَهُ مِن هَذَا وهذا.

3365 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن بَلَدِ "مَارِدِينَ"

(2)

هَل هِيَ بَلَدُ حَرْبٍ أَمْ بَلَدُ سِلْمٍ؟ وَهَل يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْمُقِيمِ بِهَا الْهِجْرَةُ إلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَمْ لَا؟

(1)

ومن الأدب مع الله تعالى ألا تُواليَ مَن عاداه وعبد غيرَه، ولا تُعادي من أحبّه ووحدّه، ولو طالك منه أذى لتأويلٍ أو معصيةِ قد يتوبُ منها.

(2)

مدينة ماردين: هي مدينة تقع جنوب شرق تركيا وهي عاصمة محافظة ماردين، وكانت من الأقاليم السورية الشمالية، لكنها ضمت إلى تركيا بموجب معاهدة لوزان عام (1923 م) بين تركيا من جهة وبريطانيا وفرنسا من جهة أخرى.

ويظهر من سياق السؤال أن المسلمين فتحوها من عهد قريب من عصر ابن تيمية، وأهلها لم يدخلوا الإسلام بعدُ، فالناس على الكفر، والحكم للإسلام.

ص: 19

فَأجَابَ: الْحَمْدُ للهِ، دِمَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالُهُم مُحَرَّمَة حَيْثُ كَانُوا فِي مَارِدِينَ أَو غَيْرِهَا، وَإِعَانَةُ الْخَارِجِينَ عَن شَرِيعَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ مُحَرَّمَةٌ سَوَاءٌ كَانُوا أَهْلَ مَارِدِينَ أَو غَيْرَهُم.

وَالْمُقِيمُ بِهَا إنْ كَانَ عَاجِزًا عَن إقَامَةِ دِينِهِ وَجَبَتْ الْهِجْرَةُ عَلَيْهِ، وَإِلَّا اُسْتُحِبَّتْ وَلَمْ تَجِبْ.

وَأَمَّا كَوْنُهَا دَارَ حَرْبٍ أَو سِلْمٍ فَهِيَ فرَكَّبَةٌ: فِيهَا الْمَعْنَيَانِ، لَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ دَارِ السِّلْمِ الَّتِي تَجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ؛ لِكَوْنِ جُنْدِهَا مُسْلِمِينَ، وَلَا بِمَنْزِلَةِ دَارِ الْحَرْبِ الَّتِي أَهْلُهَا كُفَّارٌ؛ بَل هِيَ قِسْمٌ ثَالِثٌ يُعَامَلُ الْمُسْلِمُ فِيهَا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ، ويُقَاتَلُ الْخَارجُ عَن شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ.

3366 -

الْأَمْرُ بِالْجِهَادِ وَذِكْرُ فَضَائِلِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: أَكْثَرُ مِن أَنْ يُحْصَرَ.

وَلهَذَا كَانَ أَفْضَلَ مَا تَطَوَّعَ بِهِ الْإِنْسَانُ، وَكَانَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ أَفْضَلَ مِنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَمِنَ الصَّلَاةِ التَّطَوُّعِ وَالصَّوْمِ التَّطَوُّعِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"رَأْسُ الْأَمْرِ الإِسْلَامُ وَعَمُودهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ"

(1)

، وَقَالَ:"إن فِي الْجَنَّةِ لَمِائَةَ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ الدَّرَجَةِ وَالدَّرَجَةِ كمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَعَدَّهَا الله لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ" مُتَفَق عَلَيْهِ

(2)

.

وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ، لَمْ يَرِدْ فِي ثَوَابِ الْأَعْمَالِ وَفَضْلِهَا مِثْلُ مَا وَرَدَ فِيهِ.

وَهُوَ ظَاهِرٌ عِنْدَ الِاعْتِبَارِ؛ فَإِنَّ نَفْعَ الْجِهَادِ عَامّ لِفَاعِلِهِ وَلغَيْرِهِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَمُشْتَمِلٌ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ، فَإِنَّهُ مُشْتَمِلٌ مِن مَحَبَّةِ اللهِ تَعَالَى وَالْإِخْلَاصِ لَهُ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَتَسْلِيمِ النَّفْسِ وَالْمَالِ لَهُ، وَالصَّبْرِ وَالزُّهْدِ وَذِكْرِ اللهِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْأعْمَالِ: عَلَى مَا لَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ عَمَل آخَرُ.

(1)

رواه الترمذي (2616)، وأحمد (22016)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

(2)

البخاري (2790)، ولم أجده عند مسلم.

ص: 20

3367 -

مَوْتُ الشَّهِيدِ أَيْسَرُ مِن كُلّ مِيتَةٍ وَهِيَ أَفْضَلُ الْمِيتَاتِ.

3368 -

كَتَبَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ إلَى الْمَلِكِ النَّاصِرِ بَعْدَ وَقْعَةِ جَبَلِ كسروان بِسَبَبِ فُتُوحِ الْجَبَلِ: مِن الدَّاعِي أَحْمَد ابْنِ تَيْمِيَّة إلَى سُلْطَانِ الْمُسْلِمِينَ وَمَن أَيَّدَ الله فِي دَوْلَتِهِ الدِّينَ وَأَعَزَّ بِهَا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ وَقَمَعَ فِيهَا الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَالْخَوَارجِ الْمَارِقِينَ، نَصَرَهُ اللهُ وَنَصَرَ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَأَصْلَحَ لَهُ وَبِهِ أُمُورَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَأَحْيَا بِهِ مَعَالِمَ الْإِيمَانِ، وَأَقَامَ بِهِ شَرَائِعَ الْقُرْآنِ، وَأَذَلَّ بِهِ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ.

سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ .. أَمَّا بَعْدُ، فَقَد صَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَأَعَزَّ جُنْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، وَأَنْعَمَ الله عَلَى السُّلْطَانِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي دَوْلَتِهِ نِعَمًا لَمْ تُعْهَدْ فِي الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ.

وَذَلِكَ: أَنَّ السُّلْطَانَ -أَتَمَّ اللهُ نِعْمَتَهُ- حَصَلَ لِلْأُمَّةِ بِيُمْنِ وِلَايَتِهِ وَحُسْنِ نِيَّتِهِ وَصِحَّةِ إسْلَامِهِ وَعَقِيدَتِهِ وَبَرَكَةِ إيمَانِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَفَضْلِ هِمَّتِهِ وَشَجَاعَتِهِ وَثَمَرَةِ تَعْظِيمِهِ لِلدِّينِ وَشِرْعَتِهِ وَنَتِيجَةِ اتِّبَاعِهِ كِتَابَ اللهِ وَحِكْمَتِهِ: مَا هُوَ شَبِيةٌ بِمَا كَانَ يَجْرِي فِي أَلَّامِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَمَا كَانَ يَقْصِدُهُ أَكَابِرُ الْأَئِمَّةِ الْعَادِلِينَ: مِن جِهَادِ أَعْدَاءِ اللهِ الْمَارِقِينَ مِن الدِّينِ وَهم صِنْفَانِ:

أ- أَهْلُ الْفُجُورِ وَالطُّغْيَانِ، وَذَوُو الْغَئ وَالْعُدْوَانِ، الْخَارِجُونَ عَن شَرَائِعِ الْإِيمَانِ، طَلَبًا لِلْعُلُوّ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادِ، وَتَرْكًا لِسَبِيلِ الْهدَى وَالرَّشَادِ، وَهَؤُلَاءِ هُم التَّتَارُ وَنَحْوُهُم مِن كُلِّ خَارجٍ عَن شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَإِن تَمَسَّكَ بِالشَّهَادَتَيْنِ أَو بِبَعْضِ سِيَاسَةِ الْإِسْلَامِ.

ب- وَالصِّنْفُ الثانِي: أَهْلُ الْبِدَعِ الْمَارِقُونَ، وَذَوُو الضَّلَالِ الْمُنَافِقُونَ، الْخَارِجُونَ عَن السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، الْمُفَارِقُونَ لِلشِّرْعَةِ وَالطَّاعَةِ.

وَذَلِكَ: أَنَ هَؤُلَاءِ وَجِنْسَهُم مِن أَكَابِرِ الْمُفْسِدِينَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، فَإِنَّ اعْتِقَادَهُم: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَأَهْلَ بَدْرٍ وَبَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، وَجُمْهُورَ

ص: 21

الْمُهَاجِرِينَ وَالْأنْصَارَ، وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَانِ وَأئِمَّةَ الْاِسْلَامِ وَعُلَمَاءَهُم أَهْلَ الْمَذَاهِبِ الْأرْبِعَةِ وَغَيْرَهُمْ، وَمَشَايِخَ الْإِسْلَامِ وَعُبَّادَهُم وَمُلُوكَ الْمُسْلِمِينَ وَأَجْنَادَهُم وَعَوَامَّ الْمُسْلِمِينَ وَأَفْرَادَهُمْ: كُلُّ هَؤُلَاءِ عِنْدَهُم كُفَّارٌ مُرْتَدُّونَ، أَكْفَرُ مِن الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ لِأنَّهُم مُرْتَاونَ عِنْدَهُمْ، وَالْمُرْتَدُّ شَرٌّ مِن الْكافِرِ الْأَصْلِيِّ.

وَلهَذَا السَّبَبِ يُقَدِّمُونَ

(1)

الفرنج وَالتَّتَارَ عَلَى أَهْلِ الْقُرْاَنِ وَالْإِيمَانِ، وَلهَذَا لَمَّا قَدِمَ التَّتَارُ إلَى الْبِلَادِ وَفَعَلُوا بِعَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ مَا لَا يُحْصَى مِن الْفَسَادِ، وَأَرْسَلُوا إلَى أهْلِ قُبْرُصَ فَمَلَكُوا بَعْضَ السَّاحِلِ، وَحَمَلُوا رَايَةَ الصَّلِيبِ، وَحَمَلُوا إلَى قُبْرُصَ مِن خَيْلِ الْمُسْلِمِينَ وَسِلَاحِهِمْ وَأسْرَاهُم مَا لَا يُحْصِي عَدَدَهُ إلَّا اللهُ، وَأقِيمَ سُوقُهُم بِالسَّاحِلِ عِشْرِينَ يَوْمًا يَبِيعُونَ فِيهِ الْمُسْلِمِينَ وَالْخَيْلَ وَالسِّلَاحَ عَلَى أهْلِ قُبْرُصَ، وَفَرِحُوا بِمَجِيءِ التَّتَارِ هُم وَسَائِرُ أَهْلِ هَذَا الْمَذْهَبِ الْمَلْعُونِ، مِثْل أهْلِ جَزَيْنَ وَمَا حَوَالَيْهَا، وَجَبَلِ عَامِلٍ وَنَوَاحِيهِ.

‌فَصْلٌ

تَمَامُ هَذَا الْفَتْحِ وَبَرَكتُهُ تُقَدِّمُ مَرَاسِمَ السُّلْطَانِ بِحَسْمِ مَادَّةِ أهْلِ الْفَسَادِ وَإِقَامَةِ الشَّرِيعَةِ فِي الْبِلَادِ.

فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُحَارِبِينَ وَأمْثَالَهُم قَالُوا: نَحْنُ قَوْمٌ جُهَّالٌ، وَهَؤُلَاءِ كَانُوا يُعَلِّمُونَنَا وَيَقُولُونَ لنَا: أَنْتُمْ إذا قَاتَلْتُمْ هَؤُلَاءِ تَكُونُونَ مُجَاهِدِينَ، وَمَن قُتِلَ مِنْكُمْ فَهُوَ شَهِيدٌ.

وَفِي هَؤُلَاءِ خَلْقٌ كثِيرٌ لَا يُقِرُّونَ بِصَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ وَلَا حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ، وَلَا يُحَرِّمُونَ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ، وَلَا يُؤْمِنُونَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، مِن جِنْسِ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَالْنُصَيْرِيَّة وَالْحَاكِمِيَّةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ، وَهُم كُفَّارٌ أَكْفَرُ مِن الْيَهُودِ

(1)

أي: الروافض.

ص: 22

وَالنَّصَارَى بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِين

(1)

.

فَتَقَدُّمُ الْمَرَاسِيم السُّلْطَانِيَّة بِإِقَامَةِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ: مِن الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَتَبْلِيغِ أَحَادِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قُرَى هَؤُلَاءِ مِن أَعْظَمِ الْمَصَالِحِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَأَبْلَغِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ.

وَاللهُ هُوَ الْمَسْؤُولُ أنْ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَى سُلْطَانِ الْإِسْلَامِ خَاصَّةً وَعَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.

3369 -

وَكَتَبَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة -قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ- لَمَّا قَدِمَ الْعَدُوُّ مِن التَّتَارِ سَنَةَ تِسْعِ وَيسْعِينَ وَسِتِّمِائَةِ إلَى حَلَبَ وَانْصَرَفَ عَسْكَرُ مِصْرَ وَبَقِيَ عَسْكَرُ الشَّامِ: .. اعْلَمُوا -أَصْلَحَكُمْ اللهُ- أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَد ثَبَتَ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِن أُمَّتي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُم مَن خَذَلَهُم وَلَا مَن خَالَفَهُم إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ

(2)

.

وَثَبَتَ أَنَّهُم بِالشَّامِ.

فَهَذِهِ الْفِتْنَةُ قَد تَفَرَّقُ النَّاسُ فِيهَا ثَلَاثُ فِرَقٍ:

الطَّائِفَةُ الْمَنْصُورَةُ، وَهُم الْمُجَاهِدُونَ لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ.

وَالطَّائِفَةُ الْمُخَالِفَةُ، وَهُم هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ وَمَن تَحَئزَ إلَيْهِم مِن خبالة الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ.

(1)

قال الشيخ في موضع آخر: فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ عَن أَحَدِهِمْ ذَلِكَ: كَانَ مِن الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ هُم فِي الدَّرْكِ الْأسْفَلِ مِن النَّارِ، وَمَن أظْهَرَ ذَلِكَ كَانَ أَشَدَّ مِن الْكَافِرِينَ كُفْرًا، فَلَا يَجُوزُ أنْ يُقَرَّ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَا بِجِزْيَة وَلَا ذِمَّةٍ، وَلَا يَحِلُّ نِكَاحُ نِسَائِهِمْ وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُم؛ لِأنَّهُم مُرْتَدُّونَ مِن شَرِّ الْمُرْتَدِّينَ، فَإِنْ كَانُوا طَائِفَةً مُمْتَنِعَةً وَجَبَ قِتَالُهُم كَمَا يُقَاتَلُ الْمُرْتَدُّونَ؛ كَمَا قَاتَلَ الصِّدِّيقُ وَالصَّحَابَةُ أصْحَابَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّاب.

وَإِذَا كَانُوا فِي قُرَى الْمُسْلِمِينَ فُرِّقُوا وَأُسْكِنُوا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ التَّوْبَةِ، وَألْزِمُوا بِشَرَائِعِ الْإِسْلَام الَّتِي تَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.

(2)

رواه مسَلم (1920).

ص: 23

وَالطَّائِفَةُ الْمُخَذِّلَةُ، وَهُم الْقَاعِدُونَ عَن جِهَادِهِمْ، وَإِن كَانُوا صَحِيحِي الْإِسْلَامِ.

فَلْيَنْظُر الرَّجُلُ أَيَكُونُ مِن الطَّائِفَةِ الْمَنْصُورَةِ أَمْ مِن الْخَاذِلَةِ أَمْ مِن الْمُخَالِفَةِ؟ فَمَا بَقِيَ قِسْمٌ رَابعٌ.

وَاعْلَمُوا- أَصْلَحَكمْ اللهُ- أَنَّ النُّصْرَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْعَاقِبَة لِلْمُتَّقِينَ، وَأَنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَاَلَّذِينَ هُم مُحْسِنُونَ.

وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ مَقْهُورُونَ مَقْمُوعُونَ، وَاللهُ سبحانه وتعالى نَاصِرُنَا عَلَيْهِمْ، وَمُنْتَقِمٌ لَنَا مِنْهُمْ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.

فَأَبْشِرُوا بِنَصْرِ اللهِ تَعَالَى وَبِحُسْنِ عَاقِبَتِهِ {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} [آل عمران: 139].

وَهَذَا أَمْرٌ قَد تيَقَّنَّاهُ وَتَحَقَّقْنَاهُ وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَاعْلَمُوا- أَصْلَحَكُم اللهُ- أَنَّ مِن أَعْظَم النّعَم عَلَى مَن أَرَادَ اللهُ بِهِ خَيْرًا أَنْ أَحْيَاهُ إلَى هَذَا الْوَقْتِ الَّذِي يُجَدِّدُ اللهُ فِيهِ الَدِّينَ، وَيُحْيِي فِيهِ شِعَارَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَحْوَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدِينَ، حَتَّى يَكُونَ شَبِيهًا بِالسَّابِقِينَ الْأَوَّلينَ مِن الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَمَن قَامَ فِي هَذَا الْوَقْتِ بِذَلِكَ كَانَ مِن التَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان، الَّذِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم وَرَضُوا عَنْهُ، وَأَعَدَّ لَهُم جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.

فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَشْكُرُوا اللهَ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْمِحْنَةِ الَّتِي حَقِيقَتهَا مِنْحَة كَرِيمَة مِن اللهِ، وَهَذِهِ الْفِتْنَةِ الَّتِي فِي بَاطِنِهَا نِعْمَةٌ جَسِيمَةٌ، حَتَّى- وَاللهِ- لَو كَانَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِن الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ- كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمْ- حَاضِرِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ لَكَانَ مِن أَفْضَلِ أَعْمَالِهِمْ جِهَادُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ.

ص: 24

3370 -

اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ -فِيمَا أَعْلَمُ- عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّطَوُّعَاتِ أَفْضَلُ مِن الْجِهَادِ، فَهُوَ أَفْضَلُ مِن الْحَجِّ، وَأَفْضَلُ مِن الصَّوْمِ التَّطَوُّعِ، وَأَفْضَلُ مِن الصَّلَاةِ التَّطَوُّعِ.

وَالْمُرَابَطَةُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَفْضَلُ مِن الْمُجَاوَرَةِ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ، حَتَّى قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: لَأَنْ أُرَابِطَ لَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِن أَنْ أوَافِقَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأسْوَدِ.

فَقَد اخْتَارَ الرِّبَاطَ لَيْلَة عَلَى الْعِبَادَةِ فِي أَفْضَلِ اللَّيَالِي عِنْدَ أَفْضَلِ الْبِقَاعِ؛ وَلهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ يُقِيمُونَ بِالْمَدِينَةِ دُونَ مَكَّةَ؛ لَمَعَانٍ مِنْهَا: أَنَّهُم كَانُوا مُرَابِطِينَ بِالْمَدِينَةِ.

فَإِنَّ الرّبَاطَ هُوَ الْمَقَامُ بِمَكَان يُخِيفُهُ الْعَدُوُّ ويُخِيفُ الْعَدُوَّ.

فَمَن أَقَامَ فِيهِ بِنِيَّةِ دَفْعِ الْعَدُوِّ فَهُوَ مُرَابِطٌ، وَالْأعْمَالُ بِالنِّيَّاَتِ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِن ألْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِن الْمَنَازِل" رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَصَحَّحُوهُ

(1)

.

وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِم"

(2)

عَن سَلْمَانَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم-قَالَ: "رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِن صِيَامِ شَهْرٍ وَقيَامِهِ، وَمَن مَاتَ مُرَابِطًا أُجْرِيَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ، وَأجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ مِن الْجَنَّةِ، وَأَمِنَ الْفَتَّانَ"؛ يَعْني: مُنْكرًا وَنَكِيرًا.

فَهَذَا فِي الرِّبَاطِ فَكَيْفَ الْجِهَادُ؟

3371 -

وَقَالَ -قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ-: .. إِنَّ هَذِهِ الْفِتْنَةَ

(3)

الَّتِي اُبْتُلِيَ بِهَا

(1)

رواه البخاري (2892)، والترمذي (1667)، والنسائي (3169)، والدارمي (2468)، وأحمد (470).

(2)

(1913).

(3)

أي: وقعة قازان، وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ الشَّامِية وَالْمِصْرِيَّة وَمَا يَتْبَعُهَا مِنَ الْمَمَالِكِ حينها: هو الْمَلِكُ النَّاصِرُ مُحَمَّدُ بْنُ قَلَاوُونَ، وَنَائِبُ مِصْرَ: سَلَّارُ، وَبِالشَّامِ: جَمَالُ الدِّينِ آقُوشُ الْأفْرَمُ. =

ص: 25

الْمُسْلِمُونَ مَعَ هَذَا الْعَدُوِّ الْمُفْسِدِ الْخَارجِ عَن شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ: قَد جَرَى فِيهَا شَبِيةٌ بِمَا جَرَى لِلْمُسْلِمِينَ مَعَ عَدُوِّهِمْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمُغَازِي الَّتِي أَنَزَلَ اللهُ فِيهَا كُتُبَهُ، وَابْتَلَى بِهَا نَبِيَّهُ وَالْمُومِنِينَ، مِمَّا هُوَ أُسْوَة لِمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

فَيَنْبَغِي لِلْعُقَلَاءِ أَنْ يَعْتَبِرُوا بِسُنَّةِ اللهِ وَأَيَّامِهِ فِي عِبَادِهِ، وَدَأْبِ الْأُمَمِ وَعَادَاتهمْ، لَا سِيَّمَا فِي مِثْل هَذِهِ الْحَادِثَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي طَبَّقَ الْخَافِقَيْنِ خَبَرُهَا، وَاسْتَطَارَ فِي جَمِيعِ دِيَارِ الْإِسْلَامِ شَرَرُهَا، وَأَطْلَعَ فِيهَا النِّفَاقُ نَاصِيَةَ رَأسِهِ، وَكَشَّرَ فِيهَا الْكُفْرُ عَن أَنْيَابِهِ وَأَضْرَاسِهِ، وَكَادَ فِيهِ عَمُودُ الْكِتَابِ أَنْ يُجْتَثَّ وَيخْتَرِمَ، وَحَبْلُ الْإِيمَانِ أَنْ يَنْقَطِعَ وَيَصْطَلِمَ، وَعُقْرُ دَارِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَحِلَّ بِهَا الْبَوَارُ، وَأَنْ يَزُولَ هَذَا الدِّينُ بِاسْتِيلَاءِ الْفَجَرَةِ التَّتَارِ، وَظَنَّ الْمُنَافِقُونَ وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ أَنَّ مَا وَعَدَهُم اللهُ وَرَسُولُهُ إلَّا غُرُورًا، وَأَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ حِزْبُ اللهِ وَرَسُولِهِ إلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا، وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِم وَظَنُّوا ظَنَّ السَّوْءِ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا،

= وقد ذكر أهل التاريخ أنه لَمَّا وَصَلَ السُّلْطَانُ إِلَى وَادِي الْخَزَنْدَارِ عِنْدَ وَادِي سَلَمْيَةَ، الْتَقَى التَّتَارَ هُنَاكَ يَوْمَ الأرْبِعَاءِ السَّاجِ وَالْعِشْرِينَ مِن رَبِيع الْأوَّلِ، فَكَسَرُوا الْمُسْلِمِينَ، وَوَلى السُّلْطَانُ هَارِبَا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَقُتِلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الأمَرَاءِ وَغَيْرِهم وَمِنَ الْعَوَام خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَفُقِدَ في الْمَعْرَكَةِ قَاضِي الحَنَفِيَّةِ حُسَامُ الرَّازِيُّ، وَقَد صَبَرُوا وَأبْلَوْا بَلَاءً حَسَنًا، وَلَكِنْ كَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرَا مَقْدُورًا، فَوَلَّى الْمُسْلِمُونَ لَا يَلْوِي أحَدٌ عَلَى أحَدٍ.

ثمَّ بعد ذَلِك بعام سنة سَبْعمِائة لما قدم التتار إِلَى أطْرَاف الْبِلَاد وَبَقِي الْخلق فِي شدَّة عَظِيمَة، وَغلب على ظنهَم أَن عَسْكَر مصر قد تخلوا عَن الشام، ركب الشَّيْخ رحمه الله وَسَار على الْبَرِيد إِلَى الْجَيْش الْمصْريّ فِي سبْعَة أَيَّام وَدخل الْقَاهِرَة فِي الْيَوْم الثَّامِن يَوْم الاثْنَيْنِ حادي عشر جمادى الأولى، وأَطلاب المصريين دَاخِلَة، وَقد دخل السُّلْطَان الْملك النَّاصِر فَاجْتمع بأركان الدولة واستصرخ بهم وحضهم على الْجِهَاد، وتلا عَلَيْهِم الْآيَات وَالْأحَادِيث، وَأخْبرهمْ بِمَا أعد الله للمجاهدين من الثَّوَاب، فاستفاقوا وقويت هممهم وأبدوا لَهُ الْعذر فِي رجوعهم مِمَّا قاسوا من الْمَطَر وَالْبرد مُنْذُ عشْرين، وَنُودِيَ بالغزاة وقوي الْعَزْم، وعظموه وأكرموه وَتردد الْأعْيَان إَلَى زيارته.

وَفِي الْيَوْم السَّابع وَالْعِشْرين من شهر جُمَادَى الْمَذْكور وصل الشَّيْخ إِلَى دمشق على الْبَرِيد، وَكتب فِي هَذِه الحَادِثَة كتابًا وَصورته هو هَذَا المذكور. البداية والنهاية (14/ 78)، العقود الدرية (135 - 136).

ص: 26

وَنَزَلَتْ فِتْنَةٌ تَرَكتِ الْحَلِيمَ فِيهَا حَيْرَانَ، وَأنْزَلَتِ الرَّجُلَ الصَّاحِيَ مَنْزِلَةَ السَّكْرَانِ، وَتَرَكَت الرَّجُلَ اللَّبِيبَ لِكَثْرَةِ الْوَسْوَاسِ لَيْسَ بِالنَّائِمِ وَلَا الْيَقِظَانِ، وَتَنَاكَرَتْ فِيهَا قُلُوبُ الْمَعَارِفِ وَالْإخْوَانِ، حَتَّى بَقِيَ لِلرَّجُلِ بنَفْسِهِ شُغْل عَن أَنْ يُغِيثَ اللَّهْفَانَ، وَمَيَّزَ اللهُ فِيهَا أَهْلَ الْبَصَائِرِ وَالْإِيقَانَ، مِنَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ أَو نِفَاقٌ وَضَعْفُ إيمَانِ، وَرَفَعَ بِهَا أَقْوَامًا إلَى الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ، كمَا خَفَضَ بِهَا أَقْوَامًا إلَى الْمَنَازِلِ الْهَاوِيةِ، وَكَفَّرَ بِهَا عَن آخَرِينَ أعْمَالَهُم الْخَاطِئَةَ.

وَكَانَت هَزِيمَةُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعَامِ الْمَاضِي بِذُنُوب ظَاهِرَةٍ، وَخَطَايَا وَاضِحَةٍ، مِن فَسَادِ النِّيَّاتِ، وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ، وَالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَالْإعْرَاضِ عَن حُكْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنةِ، وَعَن الْمُحَافَظَةِ عَلَى فَرَائِضِ اللهِ، وَالْبَغْيِ عَلَى كَثِيرٍ مِن الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ بِأَرْضِ الْجَزِيرَةِ وَالرُّومِ.

فَكَانَ مِن حِكْمَةِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ بِالْمُؤمِنِينَ أَن ابْتَلَاهُم بِمَا ابْتَلَاهُم بِهِ لِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمنُوا، ويُنِيبُوا إلَى رَبِّهِمْ، وَليَظْهَرَ مِن عَدُوِّهِمْ مَا ظَهَرَ مِنْهُ مِن الْبَغْي وَالْمَكْرِ، وَالنَّكْثِ وَالْخُرُوجِ عَن شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، فَيَقُومُ بِهِم مَا يَسْتَوْجِبُونَ بِهِ النَّصْرَ، وَبِعَدُوِّهِمْ مَا يَسْتَوْجِبُ بِهِ الِانْتِقَامَ.

فَقَد كَانَ فِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِن مُقَاتِلَةِ الْمُسْلِمِينَ وَرَعِيَّتِهِمْ مِن الشَّرِّ الْكَبِيرِ مَا لَو يَقْتَرِنُ بِهِ ظَفَرٌ بِعَدُوِّهِم -الَّذِي هُوَ عَلَى الْحَالِ الْمَذْكُورَةِ- لَأوْجَبَ لَهُم ذَلِكَ مِن فَسَادِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَا لَا يُوصَفُ، كَمَا أَنَّ نَصْرَ اللهِ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ كَانَ رَحْمَةً وَنعْمَةً، وَهَزِيمَتَهُم يَوْمَ أُحُدٍ كَانَ نِعْمَةً وَرَحْمَةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا يَقْضِي اللهُ لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إلَّا كَانَ خَيْرًا، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدِ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ إنْ أَصَابَتْهُ سَرًّاءُ فَشَكَرَ اللهَ كانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِن أَصَابَتْة ضَرَّاءُ فَصَبَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ"

(1)

.

قَالَ الشَّيْخُ: رحمه الله: كَتَبْت أَوَّلَ هَذَا الْكِتَابِ بَعْدَ رَحِيلِ قازان وَجُنُودِهِ، لَمَّا

(1)

رواه مسلم (2999).

ص: 27

رَجَعْتُ مِن مِصْرَ فِي جمَادَى الْآخِرَةِ، وَأَشَاعُوا أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُم أَحَدٌ، ثُمَّ لَمَّا بَقِيَتْ تِلْكَ الطَّائِفَةُ اشْتَغَلْنَا بِالِاهْتِمَامِ بِجِهَادِهِمْ، وَقَصْدَ الذَّهَابِ إلَى إخْوَانِنَا بِحَمَاة وَتَحْرِيضِ الْأمَرَاءِ عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى جَاءَنَا الْخَبَرُ بانْصِرَافِ الْمُتبقّينَ مِنْهُمْ، فَكَتَبْته فِي رَجَبٍ، وَاللهُ أَعْلَمُ، وَالْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ

(1)

.

3372 -

قَالَ الْإِمَامَانِ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا: إذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي شَيْءٍ فَانْظُرُوا مَاذَا عَلَيْهِ أَهْلُ الثَّغْرُ فَإِنَّ الْحَقَّ مَعَهُم؛ لِأَنَّ اللهَ يَقُولُ: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].

3373 -

لَنْ يَخَافَ الرَّجُلُ غَيْرَ اللهِ إلَّا لِمَرَض فِي قَلْبِهِ، كَمَا ذَكَرُوا أَنَّ رَجُلًا شكَا إلَى أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ خَوْفَهُ مِن بَعْضِ الْوُلَاةِ فَقَالَ: لَو صَحَحْت لَمْ تَخَفْ أَحَدًا.

أَيْ: خَوْفُك مِن أَجْلِ زَوَالِ الصِّحَّةِ مِن قَلْبِك

(2)

.

وَلهَذَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ لَا يَخَافُوا حِزْبَ الشَّيْطَانِ؛ بَل لَا يَخَافُونَ غَيْرَهُ تَعَالَى فَقَالَ: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} [آل عمران: 175]؛ أَيْ: يُخَوِّفُكُمْ أَوْليَاءَهُ. وَقَالَ لِعُمُومِ بَنِي إسْرَائِيلَ تَنْبِيهًا لنا: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)} [البقرة: 40].

3374 -

إنَّ الْمَنَايَا مَحْتُومَةٌ، فَكَمْ مَن حَضَرَ الصُّفُوفَ فَسَلِمَ، وَكَمْ مِمَن فَرَّ مِن الْمَنِيَّةِ فَصَادَفَتْهُ، كَمَا قَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ -لَمَّا احْتُضِرَ- لَقَد حَضَرْت كَذَا وَكَذَا صَفًّا، وَإنَّ بِبَدَنِي بِضْعًا وَثَمَانِينَ مَا بَيْنَ ضَرْبَةٍ بِسَيْف، وَطَعْنَةٍ

(1)

وقد شبَّه ما وقع بهم بما حصل في غزوة الأحزاب، وقارَن بينهما، وشرح الآيات ونزلها على تلك الوقْعة.

(2)

معنى العبارة: أي: خوفُك من هذا الوالي إنما كان بسبب انعدام صحة الإيمان والتوكل من قلبك.

ص: 28

بِرُمْح، وَرَمْيَةٍ بِسَهْمِ، وها أنا ذا أَمُوتُ عَلَى فِرَاشِي كَمَا يَمُوتُ الْبَعِيرُ، فَلَا نَامَتْ أَعْيُنُ الْجُبَنَاءِ.

3375 -

إنَّ فِكَاكَ الْأَسَارَى مِن أَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ، وَبَذْلَ الْمَالِ الْمَوْقُوفِ وَغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ مِن أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ.

* * *

‌(أنواع الجهاد ومتى يجب كفاية أو عينًا

؟)

3376 -

الجهاد منه: ما هو باليد، ومنه ما هو بالقلب، والدعوة، والحجة، واللسان، والرأي والتدبير، والصناعة، فيجب بغاية ما يمكنه.

3377 -

يستحب أن يدعو سرًّا، قال أبو داود: باب ما يدعى عند اللقاء، ثم روى بإسناد جيد عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا قال: "اللَّهُمَّ أنت عضدي ونصيري بك أحول وبك أصول وبك أقاتل .. " وكان غير واحد منهم شيخنا يقول هذا عند قصد مجلس علم.

3378 -

من عجز عن الجهاد ببدنه وقدر على الجهاد بماله: وجب عليه الجهاد بماله وهو نص أحمد .. فيجب على الموسرين النفقة في سبيل الله.

وعلى هذا: فيجب على النساء الجهاد في أموالهن إن كان فيها فضل، وكذلك في أموال الصغار إذا احتيج إليها، كما تجب النفقات والزكاة وينبغي أن يكون محل الروايتين في واجب الكفاية، فأما إذا هجم العدو فلا يبقى للخلاف وجه، فإن دفع ضررهم عن الدين والنفس والحرمة واجب إجماعًا.

3379 -

إِنَّ جِهَادَ الْكُفَّارِ يَجِبُ أنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِدَعْوَتِهِمْ؛ إذ لَا عَذَابَ إلَّا عَلَى مَن بَلَغَتْهُ الرِّسَالَةُ، وَكَذَلِكَ عُقُوبَةُ الْفُسَّاقِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ.

ص: 29

3380 -

سئلتُ عمن عليه دين وله ما يوفيه وقد تعين الجهاد؟

فقلت: من الواجبات ما يقدم على وفاء الدين؛ كنفقة النفس والزوجة والولد الفقير، ومنها ما يقدم وفاء الدين عليه كالعبادات من الحج والكفارات، ومنها ما لا يقدم عليه إلا إذا خوطب به كصدقة الفطر، فإن كان الجهاد المتعين لدفع الضرر كما إذا حضره العدو أو حضر هو الصف قدم على وفاء الدين كالنفقة، وأولى، وإن كان حال استنفار الإمام فقضاء الدين أولى؛ إذ الإمام لا ينبغي له استنفار المدين مع الاستغناء عنه ولذلك قلت: لو ضاف المال عن إطعام جياع والجهاد الذي يتضرر بتركه قدمنا الجهاد وإن مات الجياع، كما في مسألة التترس وأولى، فإن هناك نقتلهم بفعلنا وهنا يموتون بفعل الله.

3381 -

العدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له شرط، بل يدفع بحسب الإمكان، وقد نص على ذلك العلماء أصحابنا وغيرهم، فيجب التفريق بين دفع الصائل الظالم الكافر وبين طلبه في بلاده.

3382 -

يجب على القَعَدة لعذر أن يخلفوا الغزاة في أهليهم وأموالهم.

3383 -

كثيرًا ما يكون ثواب بعض المستحبات أو واجبات الكفاية أعظم من ثواب واجب، كما لو تصدق بألف درهم وزكى بدرهم.

3384 -

سئل

(1)

عن رجل قدم يريد الغزو ولم يحج فنزل على قوم ثبطوه عن الغزو وقالوا: إنك لم تحج تريد الغزو، قال أبو عبد الله: يغزو ولا عليه، فإن أعانه الله حج، ولا نرى بالغزو قبل الحج بأسًا.

قال أبو العباس: هذا مع أنَّ الحج واجب على الفور عنده، لكن تأخيره

(1)

أي: الإمام أحمد رحمه الله.

ص: 30

لمصلحة الجهاد كتأخير الزكاة الواجبة على الفور لانتظار قوم أصلح من غيرهم، أو لضرر أهل الزكاة، وكتأخير الفوائت للانتقال عن مكان الشيطان ونحو ذلك، وهذا أجود ما ذكره بعض أصحابنا في تأخير النبي صلى الله عليه وسلم الحج إن كان وجب عليه مقدمًا.

وكلام أحمد يقتضي الغزو وإن لم يبق معه مال للحج؛ لأنه قال: فإن أعانه الله حج.

* * *

(وجوبُ الجهاد، وإعانة الناس بالنفس والمال)

3385 -

الْأصْلُ أَنَّ إعَانَةَ النَّاسِ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ عَلَى الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَالسُّكنَى: أَمْرٌ وَاجِبٌ، وَللْإِمَامِ أَنْ يُلْزِمَ بِذَلِكَ ويُجْبِرَ عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ ظُلْمًا؛ بَل إيجَابُ الشَّارع لِلْجِهَادِ الَّذِي فِيهِ الْمُخَاطَرَةُ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ لِأَجْلِ هِدَايَةِ النَّاسِ فِي دِينِهِمْ: أبْلَغُ مِن هَذَا كُلِّهِ، فَإِذَا كَانَت الشَّجَاعَةُ الَّتِي يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهَا وَالْكَرَمُ الَّذِي يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِ وَاجِبًا فَكَيْفَ بِالْمُعَاوَضَةِ الَّتِي يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهَا؟

وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَفْعَلُونَ هَذَا بِحكْمِ الْعَادَاتِ وَالطّبَاعِ وَطَاعَةِ السُّلْطَانِ، غَيْرَ مُسْتَشْعِرِينَ مَا فِي ذَلِكَ مِن طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَطَاعَةِ أُولي الْأَمْرِ فِيمَا أَمَرَ اللهُ بِطَاعَتِهِمْ فِيهِ.

وَلهَذَا يَعُدُّونَ ذَلِكَ ظُلْمًا وَعَنَاءً، وَلَو عَلِمُوا أَنَّهُ طَاعَةٌ للهِ: احْتَسَبُوا أَجْرَهُ، وَزَالَت الْكَرَاهَةُ، وَلَو عَلِمُوا الْوُجُوبَ الشَّرْعِيَّ لَمْ يَعُدُّوهُ ظُلْمًا.

وَكَذَلِكَ إذَا احْتَاجُوا إلَى الْقِتَالِ وَالْجِهَادِ بِالنَّفْسِ وَبَذَلُوا أَمْوَالًا مِن بَيْتِ الْمَالِ أَو مِن غَيْرِهِ؛ فَإِنَّ الْجِهَادَ وَإِن كَانَ فِيهِ مُخَاطَرَةٌ بِالنَّفْسِ ويُخَافُ فِيهِ الضَّرَرُ، لَكِنَّهُ وَاجِبٌ بِالشَّرْعِ إذَا بُذِلَ لِلْإِنْسَانِ الْمَالُ؛ فَإِنَ مَصْلَحَةَ الدِّينِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِوُجُوبِهِ، وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُجَاهِدَ بِمَالِ نَفْسِهِ، فَإِذَا بُذِلَ لَهُ الْمَالُ كَانَ أَوْلَى بِالْوُجُوبِ.

ص: 31

فَمَن كَانَ مِن أَهْلِ صِنَاعَاتِ الْقِتَالِ: رَمْيًا وَضَرْبًا وَطَعْنًا وَرُكُوبًا وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَأُجْبِرَ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا"

(1)

.

وَكَذَلِكَ التُّجَّارُ فِيمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْجِهَادِ: عَلَيْهِم بَيْعُ ذَلِكَ، وَإِذَا احْتَاجَ الْعَسْكَرُ إلَى خُرُوجِ قَوْمٍ تجَّارٍ فِيهِ لِبَيْعِ مَا لَا يُمْكِنُ الْعَسْكَرُ حَمْلهُ مِن طَعَامٍ وَلبَاسٍ وَسِلَاحٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَالتَّجَارَةُ كَالصِّنَاعَةِ.

وَالْإِمَامُ الْعَدْلُ تَجِبُ طَاعَتُهُ فِيمَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ

(2)

، وَغَيْرُ الْعَدْلِ تَجِبُ طَاعَتُهُ فِيمَا عُلِمَ أَنَّهُ طَاعَةٌ كَالْجِهَادِ

(3)

.

* * *

‌(هل يطيع والديه في تركه أو ترك غيره

؟)

3386 -

قال أبو بكر في زاد المسافر: من أغضب والديه وأبكاهما يرجع فيضحكهما.

قال الشيخ تقي الدين بعد قول أبي بكر هذا: مقتضى قوله: أن يُبَرَّا في جميع المباحات، فما أمراه ائتمر، وما نهياه انتهى، ثم ذكر الشيخ تقي الدين: نصوص أحمد تدل على أنه لا طاعة لهما في ترك الفرض، وهي صريحة في عدم ترك الجماعة وعدم تأخير الحج.

وروى المروذي عن علي بن عاصم: أنه سئل عن الشبهة فقال: أَطِعْ والديك.

وذكر الشيخ تقي الدين رواية المروذي ثم قال: وقال في رواية ابن إبراهيم فيما هو شبهة فتعرض عليه أمه أن يأكل، فقال: إذا علم أنه حرام بعينه فلا يأكل، قال الشيخ تقي الدين: مفهوم هذه الرواية أنهما قد يطاعان إذا لم

(1)

رواه البخاري (1834)، ومسلم (1353).

(2)

لأن الأصل أنه لا يأمر إلا بالحق والصواب.

(3)

لأن الأصل أنه لا يُراعي الحق والعدل والدين، فوجب التثبت من أمره ونهيِه.

ص: 32

يُعلم أنه حرام، ورواية المروذي فيها أنهما لا يطاعان في الشبهة، وكلامه يدل على أنه لولا الشبهة لوجب الأكل؛ لأنه لا ضرر عليه فيه وهو يطيب نفسهما.

* * *

(جهاد الدفع)

3387 -

إذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب؛ إذ بلاد الإسلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة، وأنه يجب النفير إليه بلا إذن والدٍ ولا غريم، ونصوص أحمد صريحة بهذا.

لكن هل يجب على جميع أهل المكان النفير إذا نفر إليه الكفاية؟ كلام أحمد فيه مختلف.

وقتال الدفع: مثل أن يكون العدو كثيرًا لا طاقة للمسلمين به، لكن يخاف إن انصرفوا عن عدوهم عطف العدو على من يخلفون من المسلمين، فهنا قد صرح أصحابنا بأنه يجب أن يبذلوا مهجهم ومهج من يخاف عليهم في الدفع حتى يسلموا.

ونظيرها أن يهجم العدو على بلاد المسلمين وتكون المقاتلة أقل من النصف فإن انصرفوا استولوا على الحريم، فهذا وأمثاله قتال دفع لا قتال طلب لا يجوز الانصراف عنه بحال، ووقعة أحد من هذا الباب.

3388 -

يجوز أن يغمس المسلم نفسه في صف الكفار لمصلحة، ولو غلب على ظنه أنهم يقتلونه.

3389 -

يستعان باليهود والنصارى ولا يستعان باهل الأهواء كالرافضة والقدرية والجهمية وفروعهم والخوارج.

3390 -

قال أبو علي بن الحسين بن أحمد بن المفضل البلخي: دخلت

ص: 33

على أحمد بن حنبل فجاءه رسول الخليفة يسأله عن الاستعانة بأهل الأهواء فقال أحمد: لا يستعان بهم، قال: يستعان باليهود والنصارى ولا يستعان بهم؟ قال: إن النصارى واليهود لا يدعون إلى أديانهم وأصحاب الأهواء داعية، عزاه الشيخ تقي الدين إلى مناقب البيهقي وابن الجوزي يعني للإمام أحمد، وقال: فالنهي عن الاستعانة بالداعية لما فيه من الضرر على الأمة.

* * *

(من يعتبر برأيه في أمور الجهاد)

3391 -

الواجب أن يعتبر في أمور الجهاد برأي أهل الدين الصحيح الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا، دون أهل الدنيا الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين فلا يؤخذ برأيهم، ولا برأي أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا.

* * *

(الحالة السياسية عام سبعمائة)

3392 -

أَمَّا الطَّائِفَةُ بِالشَّامِ وَمِصْرَ وَنَحْوِهِمَا فَهُم فِي هَذَا الْوَقْتِ الْمُقَاتِلُونَ عَن دِينِ الْإِسْلَامِ، وَهُم مِن أَحَقِّ النَّاسِ دُخولًا فِي الطَّائِفَةِ الْمَنْصُورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْهُ:"لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِن أُمّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَق لَا يَضُرُّهُم مَن خَالَفَهُم وَلَا مَن خَذَلَهُم حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ"

(1)

، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ

(2)

: "لَا يَزَالُ أَهْلُ الْغَرْبِ".

وَقَد جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي صِفَةِ الطَّائِفَةِ الْمَنْصُورَةِ "أَنَّهُم بِأَكْنَافِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ"

(3)

، وَهَذ الطَّائِفَةُ هِيَ الَّتِي بِأَكْنَافِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ الْيَوْمَ.

(1)

رواه مسلم (1920).

(2)

(1925).

(3)

رواه أحمد (22320).

ص: 34

وَمَن يَتَدَبَّرُ أَحْوَالَ الْعَالَم فِي هَذَا الْوَقْتِ يَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ هِيَ أَقْوَمُ الطَّوَائِفِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ: عِلْمًا وَعَمَلًا وَجِهَادًا عَن شَرْقِ الْأرْضِ وَغَرْبِهَا؛ فَإِنَّهُم هُم الَّذِينَ يُقَاتِلونَ أَهْلَ الشَّوْكَةِ الْعَظِيمَةِ مِن الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَمُغَازِيهِمْ مَعَ النَّصَارَى وَمَعَ الْمُشْرِكِينَ مِن التُّرْكِ وَمَعَ الزَّنَادِقَةِ الْمُنَافِقِينَ مِن الدَّاخِلِينَ فِي الرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ كالإسْماعيليَّة وَنَحْوِهِمْ مِن الْقَرَامِطَةِ مَعْرُوفَة مَعْلُومَةٌ قَدِيمًا وَحَدِيثًا.

وَالْعِزُّ الَّذِي لِلْمُسْلِمِينَ بِمَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا هُوَ بِعِزِّهِمْ، وَلهَذَا لَمَّا هُزمُوا سنَةَ تِسْعٍ وَتسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ دَخَلَ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ مِن الذُّلِّ وَالْمُصِيبَةِ بِمَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللهُ.

وَالْحِكَايَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَة لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا.

وَذَلِكَ أنَّ سُكانَ الْيَمَنِ فِي هَذَا الْوَقْتِ ضِعَافٌ عَاجِزُونَ عَن الْجِهَادِ أَو مُضَيِّعُونَ لَهُ، وَهُم مُطِيعُونَ لِمَن مَلَكَ هَذِهِ الْبِلَادَ، حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُم أَرْسَلُوا بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِهَؤُلَاءِ.

وَمَلِكُ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا جَاءَ إلَى حَلَبَ جَرَى بِهَا مِن الْقَتْلِ مَا جَرَى.

وَأَمَّا سُكَّانُ الْحِجَازِ فَأَكْثَرُهُم أَو كَثِيرٌ مِنْهُم خَارِجُونَ عَن الشَّرِيعَةِ، وَفِيهِمْ مِن الْبِدع وَالضَّلَالِ وَالْفُجُورِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا الله، وَأَهْلُ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ فِيهِمْ مُسْتَضْعَفُونَ عَاجِزُونَ.

وَإِنَّمَا تَكُونُ الْقُوَّةُ وَالْعِزَّةُ فِي هَذَا الْوَقْتِ لِغَيْرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِهَذِهِ الْبِلَادِ، فَلَو ذَلَّتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى- لَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ بِالْحِجَازِ مِن أذَلِّ النَّاسِ، لَا سِيَّمَا وَقَد غَلَبَ فِيهِم الرَّفْضُ، وَمُلْكُ هَؤُلَاءِ التَّتَارِ الْمُحَارِبِينَ للهِ وَرَسُولِهِ الْآنَ مَرْفُوضٌ، فَلَو غَلَبُوا لَفَسَدَ الْحِجَاز بِالْكُلِّيَّةِ.

وَأَمَّا بِلَادُ إفْرِيقِيَّةَ فَأَعْرَابُهَا غَالِبُونَ عَلَيْهَا وَهُم مِن شَرِّ الْخَلْقِ؛ بَل هُم مُسْتَحِقُّونَ لِلْجِهَادِ وَالْغَزْوِ.

ص: 35

وَأَمَّا الْمَغْرِبُ الْأَقْصَى فَمَعَ اسْتِيلَاءِ الْإِفْرِنْجِ عَلَى أَكْثَرِ بِلَادِهِمْ لَا يَقُومُونَ بِجِهَادِ النَّصَارَى هُنَاكَ؛ بَل فِي عَسْكَرِهِمْ مِن النَّصَارَى الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الصُّلْبَانَ خَلْقٌ عَظِيمٌ، لَو اسْتَوْلَى التتارُ عَلَى هَذِهِ الْبِلَادِ لَكَانَ أَهْلُ الْمَغْرِبِ مَعَهُم مِن أَذَلِّ النَّاسِ، لَا سِيَّمَا وَالنَّصارَى تَدْخُلُ مَعَ التَّتَارِ فَيَصِيرُونَ حِزْبًا عَلَى أَهْلِ الْمَغْرِبِ.

فَهَذَا وَغَيْرُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ هَذِهِ الْعِصَابَةَ الَّتِي بِالشَّامِ وَمِصْرَ فِي هَذَا الْوَقْتِ هُم كَتِيبَةُ الْإِسْلَامِ، وَعِزُّهُم عِزُّ الْإِسْلَامِ، وَذُلُّهُم ذُلُّ الْإِسْلَامِ، فَلَو اسْتَوْلَى عَلَيْهِم التَّتَارُ لَمْ يَبْقَ لِلْإِسْلَامِ عِزٌّ، وَلَا كَلِمَةٌ عَالِيَة، وَلَا طَائِفَة ظَاهِرَةٌ عَالِيَةٌ يَخَافُهَا أَهْلُ الْأرْضِ تُقَاتِل مِنْهُ.

فَمَن قَفَزَ عَنْهُم إلَى التَّتَارِ كَانَ أَحَقَّ بِالْقِتَالِ مِن كَثِيرٍ مِن التَّتَارِ؛ فَإِنَّ التَّتَارَ فِيهِم الْمُكْرَهُ وَغَيْرُ الْمُكْرَهِ.

* * *

(لا يستعان بأهل الذمة)

3393 -

لا يستعان بأهل الذمة في عمالة ولا كتابة؛ لأنه يلزم منه مفاسد أو يفضي إليها.

وسئل أحمد في رواية أبي طالب عن الاستعانة بهم في مثل الخراج فقال: لا يستعان بهم في شيء، ومن تولى منهم ديوانًا

(1)

للمسلمين ينقض عهده، ومن ظهر منه أذى للمسلمين أو سعى في فساد لم يجز استعماله، لكن إن تاب ومضت مدة ظهر معها صدق توبته جاز استعماله، وغيره أولى منه بكل حال، فإن أبا بكر رضي الله عنه عهد: ألا يستعمل من أهل الردة أحد وإن عاد إلى الإسلام؛ لما يخاف من فساد نياتهم.

* * *

(1)

في الأصل: (ديوان) بالرفع، والتصويب من الفتاوى الكبرى (5/ 537).

ص: 36

(أصناف من يقاتل والغرض من قتالهم)

3394 -

إذا قدر على كافر حربي فنطق بالشهادتين وجب الكف عنه، بخلاف الخارجين عن الشريعة؛ كالمرتدين الذين قاتلهم أبو بكر رضي الله عنه، أو الخوارج الذين قاتلهم علي: كالخرمية، والتتار، وأمثال هذه الطوائف ممن نطق بالشهادتين ولا يلتزم شرائع الإسلام.

وأما الحربي إذا نطق بها: كف عنه، ثم إن لم يصلِّ فإنه يستتاب، فإن صلى وإلا قتله الإمام، وليس لأحدٍ من الرعية قتله

(1)

، إنما يقتله ولي الأمر عند مالك والشافعي وأحمد؛ وعند أبي حنيفة يعاقبه بدون القتل.

وأما إذا كان في طائفة ممتنعين عن الصلاة ونحوها، فهؤلاء يقاتلون كقتال المرتدين والخوارج، ومن قدر عليه قتله، فيجب الفرق بين المقدور عليه وبين قتال الطائفة الممتنعة التي تحتاج إلى قتال.

3395 -

يجب جهاد الكفار واستنقاذ ما بأيديهم من بلاد المسلمين وأسراهم، ويجب على المسلمين أن يكونوا يدًا واحدة على الكفار، وأن يجتمعوا ويقاتلوا على طاعة الله ورسوله والجهاد في سبيله، ويدعوا المسلمين إلى ما كان عليه السلف من الصدق وحسن الأخلاق، فإن هذا من أعظم أصول الإسلام وقواعد الإيمان.

3396 -

لما بدلت اليهود التوراة ونسخت لم يبقوا مسلمين حيث كفروا ببعض الكتاب وآمنوا ببعض.

3397 -

إِنَّ الْيَهُودَ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّهَا غَلَبَت الْعَرَبَ؛ بَل كَانُوا مَغْلُوبِينَ مَعَهُمْ،

(1)

وهذا يبين أنَّ ما أقدم عليه الخوارج في هذا الزمان من قتل بعض المعاهدين -بزعم أنهم حربيون- ضَلَالٌ وغيّ، فالشيخ يمنع مِن قتل حتى الحربي، وقد ذكر أنّ إقامةَ الحدود مرجعها لولي الأمر لا للرعيّة، فكيف بمن يُقدم على قتل العساكر ورجال الأمن المسلمين المصلّين بزعم ردّتهم، ولو كانوا مرتدين على زعمهم فلا يجوز لهم إقامة الحد عليهم.

ص: 37

وَكَانُوا يُحَالِفُونَ الْعَرَبَ؛ فَيُحَالِفُ كُلُّ فَرِيقٍ فَرِيقًا، كَمَا كَانَت قُرَيْظَةُ حُلَفَاءَ الْأَوْسِ، وَكَانَت النَّضِيرُ حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ.

فَالْيَهُودُ -مِن حِينِ ضرِبَتْ عَلَيْهِم الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا إلَّا بِحَبْلٍ مِن اللهِ وَحَبْل مِن النَّاسِ- لَمْ يَكُونُوا بِمُجَرَّدِهِمْ يَنْتَصِرُونَ لَا عَلَى الْعَرَبِ وَلَا غَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانُوا يُقَاتِلُونَ مَعَ حُلَفَائِهِمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَالذِّلَّةُ ضُرِبَتْ عَلَيْهِم مِن حِينِ بُعِثَ الْمَسِيحُ عليه السلام فَكَذَّبُوهُ.

3398 -

الزنديق وهو المنافق كمرتد .. وكذا قال ابن الجوزي بعد أن ذكر: هل جهادهم بالكلام أم بالسيف؟ وأورد على الثاني أنه لم يقع؟

فأجاب أنه إذا أظهروه.

وكذا قال شيخنا: هذا كان أولًا ثم نزل: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61)} [الأحزاب: 61]، فعلم أنهم إن أظهروه كما كانوا قتلوا.

3399 -

قتال التتار ولو كانوا مسلمين هو مثل قتال الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة، ويأخذ مالهم وذريتهم، وكذا المتحيز إليهم ولو ادعى إكراهًا.

ومن أجهز على جريح لم يأثم ولو تشهد.

ومن أخذ منهم شيئا: خمَّسَ وبقيته له.

ومن ابتاع منهم مال مسلم: أخذه ربه، وإن جهله أعطى ما اشتراه به، وهو للمصالح.

3400 -

من قفز إلى بلد العدو ولم يندفع ضرره

(1)

إلا بقتله

(2)

جاز قتله؛ كالصائل.

(1)

أي: ضرر القافز، الذي خان المسلمين وخَذَلَهُم، أو أراد أن ينقل أخبارهم للعدو.

(2)

أي: بقتل المسلم القافز إليهم.

ص: 38

3401 -

الرافضة الجبلية يجوز أخذ أموالهم وسبي حريمهم، يُخَرَّج على تكفيرهم.

3402 -

يجب أنْ يُحال بين الرافضي وبين أولاده في حال حياتهم؛ لأنه لا بد أن يفسد دينهم.

3403 -

التمثيل: إن مثل الكفار بالمسلمين فالمثلة حق لهم، فلهم فعلها للاستيفاء وأخذ الثأر، ولهم تركها، والصبر أفضل، وهذا حيث لا يكون في التمثيل بهم زيادةٌ في الجهاد ولا نكالٌ لهم عن نظيرها، فأما إن كان في التمثيل السائغ لهم دعاءٌ إلى الإيمان أو زجرٌ لهم عن العدوان فإنه هنا من إقامة الحدود والجهاد المشروع، ولم تكن القضيّة

(1)

في أحد كذلك؛ فلهذا كان الصبر أفضل.

فأما إن كانت المثلة حقًّا لله تعالى

(2)

: فالصبر هناك واجب

(3)

، كما يجب حيث لا يمكن الانتصار، ويحرم الجزع.

3404 -

مَن كَانَ مِن الْمُحَارِبِينَ قَد قَتَلَ فَإِنَّهُ يقتلُهُ الْإِمَامُ حَدًّا، لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ بِحَال بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَلَا يَكُون أَمْرُهُ إلَى وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ، بِخِلَافِ مَا لَو قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا لِعَدَاوَة بَيْنَهُمَا أَو خُصُومَةٍ أَو نَحْوِ ذَلِكَ مِن الْأسْبَابِ الْخَاصَّةِ، فَإِنَّ هَذَا دَمُهُ لِأَوْليَاءِ الْمَقْتُولِ: إنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا، وَإِن أَحَبُّوا عَفَوْا، وَإِن أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ، لِأَنَّهُ قَتَلَهُ لِغَرَض خَاصٍّ.

وَأَمَّا الْمُحَارِبُونَ فَإِنَّمَا يَقْتُلُونَ لِأَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ، فَضَرَرُهُم عَامّ؛ بِمَنْزِلَةِ السُّرَّاقِ، فَكان قَتْلُهُم حَدًّا للهِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، حَتَّى لَو كَانَ

(1)

في الأصل: (القصة)، والمثبت من الاختيارات (450)، والفتاوى الكبرى (5/ 537).

(2)

في الفروع (6/ 204): إذَا كان الْمُغَلَّبُ حَق اللهِ تَعَالَى.

(3)

قال العلَّامة محمد بن عثيمين رحمه الله في حاشيته على الاختيارات (451): معنى هذه العبارة:

أننا إذا قلنا المثلةُ حق لله تعالى: فإنه لا يجوز التمثيل بالكفار وإن مثّلوا بنا، بل يجب الصبر. اهـ.

ص: 39

الْمَقْتُولُ غَيْرَ مُكَافِئٍ لِلْقَاتِلِ مِثْل أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ حُرًّا وَالْمَقْتُولُ عَبْدًا، أَو الْقَاتِلُ مُسْلِمًا وَالْمَقْتُولُ ذِمِّيًّا او مُسْتَأْمَنًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَل يُقْتَلُ فِي الْمُحَارَبَةِ؟ وَالْأقْوَى أَنَّهُ يُقْتَلُ؛ لِأَنَّهُ قُتلَ لِلْفَسَادِ الْعَامِّ حَدًّا كَمَا يُقطعُ إذَا أَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، وَكَمَا يُحْبَسُ بِحُقُوقِهِمْ.

وَإِذَا كَانَ الْمُحَارِبُونَ الْحَرَامِيَّةُ جَمَاعَةً فَالْوَاحِدُ مِنْهُم بَاشَرَ الْقَتْلَ بِنَفْسِهِ وَالْبَاقونَ لَهُ أَعْوَان ورِدء لَهُ، فَقَد قِيلَ: إنَّهُ يُقْتَلُ الْمُبَاشِرُ فَقَطْ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْجَمِيعَ يُقْتَلُونَ وَلَو كَانُوا مِائَةً، وَأَنَّ الرِّدء وَالْمُبَاشِرَ سَوَاءٌ، وَهَذَا هُوَ الْمَأثُورُ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ؛ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَتَلَ رَبِيئَةَ الْحُحَارِبِينَ، وَالرَّبِيئَةُ هُوَ النَّاظِرُ الَّذِي يَجْلِسُ عَلَى مَكانٍ عَالٍ يَنْظُرُ مِنْهُ لَهُم مَن يَجِيءُ، وَلِأَنَّ الْمُبَاشِرَ إنَّمَا تَمَكَنَ مِن قَتْلِهِ بِقُوَّةِ الرّدْءِ وَمَعُونَتِهِ.

وَالطَّائِفَة إذَا انْتَصَرَ بَعْضهَا بِبَعْضٍ حَتَّى صَارُوا مُمْتَنِعِينَ فَهُم مُشْتَرِكُونَ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ كَالْمُجَاهِدِينَ.

وَهَكَذَا الْمُقْتَتِلُونَ عَلَى بَاطِلٍ لَا تَأْوِيلَ فِيهِ؛ مِثْل الْمُقْتَتِلِينَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ وَدَعْوَى جَاهِلِيَّةٍ؛ كَقَيْس وَيمَن وَنَحْوِهِمَا: هُمَا ظَالِمَتَانِ.

وَتَضمنُ كُلُّ طَائِفَةٍ مَا أَتْلَفَتْهُ لِلْأُخْرَى مِن نَفْسٍ وَمَالٍ، وَإِن لَمْ يُعْرفْ عَيْنُ الْقَاتِلِ؛ لِأنَّ الطَّائِفَةَ الْوَاحِدَةَ الْمُمْتَنِعَ بَعْضُهَا بِبَعْضُهَا كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ، وَعَيْنُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178].

وَلهَذَا كَانَ فِي مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ أَنَّ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ يُقْتَلُ مِنْهُم الرِّدْءُ وَالْمُبَاشِرُ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَتَلَ رَبِيئَةَ الْمُحَارِبِينَ، وَهُوَ النَّاظِرُ الَّذِي يَنْظُرُ لَهُم الطَّرِيقَ.

فالمتعاونون عَلَى الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ تَجِبُ عَلَيْهِم الْعُقُوبَةُ بِالضَّمَانِ وَغَيْرِهِ، وَلهَذَا قَالَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ: إنَّ الطَّائِفَتَيْنِ الْمُقْتَتِلَتَيْن عَلَى عَصَبِيَّةٍ وَرِياسَةٍ تَضْمَنُ كُلُّ طَائِفَةٍ مَا أتْلَفَتْ لِلْأُخْرَى مِن نَفْسٍ وَمَالٍ.

ص: 40

فَأَوْجَبُوا الضَّمَانَ عَلَى مَجْمُوعِ الطَّائِفَةِ وَإِن لَمْ يُعْرَفْ عَيْنُ الْمُتْلِفِ.

وَإِن كَانَ قَدْرُ الْمَنْهُوبِ مَجْهُولًا لَا يُعْرَفُ مَا نَهَبَ هَؤُلَاءِ مِن هَؤُلَاءِ، وَلَا قَدْرُ مَا نَهَبَ هَؤُلَاءِ مِن هَؤُلَاءِ: فَإِنَّهُ يُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى التَّسَاوِي؛ كَمَنِ اخْتَلَطَ فِي مَالِهِ حَلَالٌ وَحَرَامٌ وَلَمْ يَعْرِفْ أَيَّهمَا أَكْثَرُ، فَإِنَّهُ يُخْرِجُ نِصْفَ مَالِهِ، وَالنِّصْفُ الْبَاقِي لَة حَلَالٌ؛ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِالْعمَّالِ عَلَى الْأَمْوَالِ فَإِنَّهُ شَاطَرَهُمْ، فَأَخَذَ نِصْفَ أَمْوَالِ عُمَّالِهِ عَلَى الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْعِرَاقَ، فَإِنَّهُ رَأَى أَنَّهُ اخْتَلَطَ بِأَمْوَالِهِمْ شَيْءٌ مِن أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَعْرِفْ لَا أَعْيَانَ الْمَمْلُوكِ وَلَا مِقْدَارَ مَا أَخَذَهُ هَؤُلَاءِ مِن هَؤُلَاءِ وَلَا هَؤُلَاءِ مِن هَؤُلَاءِ.

بَل يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْوَاحِدِ أَقَلُّ مِن حَقِّهِ وَأَكْثَرُ، فَفِي مِثْل هَذَا يُقَرُّ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى مَا فِي يَدِهِ إذَا تَابَ مِن التَّعَاوُنِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، فَإِنَّ الْمَجْهُولَ كَالْمَعْدُومِ، يَسْقطُ التَّكْلِيفُ بِهِ ويُزَكِّي ذَلِكَ الْمَالَ كَمَا يُزَكِّيهِ الْمَالِكُ.

وَإِن عَرَفَ أَنَّ فِي مَالِهِ حَلَالًا مَمْلُوكًا وَحَرَامًا لَا يعْرِفُ مَالِكَهُ وَعَرَفَ قَدْرَهُ: فَإِنَّهُ يَقْسِمُ الْمَالَ عَلَى قَدْرِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَيَأْخُذُ قَدْرَ الْحَلَالِ، وَأَمَّا الْحَرَامُ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ عَن أَصْحَابِهِ، كَمَا يَفْعَلُ مَن عِنْدِهِ أَمْوَالٌ مَجْهُولَةُ الْمُلَّاكِ مِن غصوب وَعَوَارِيّ وَوَدَائِعَ؛ فَإِنَ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ؛ كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ: إنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهَا، وَهَذَا هُوَ الْمَأثُورُ فِي مِثْل ذَلِكَ عَن أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

وَإِن لَمْ يَعْرِفْ مِقْدَارَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ: فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الْمَالَ نِصْفَيْنِ يَأْخذُ لِنَفْسِهِ نِصْفَهُ، وَالنِّصْفُ الثَّانِي يُوْصِلُهُ إلَى أَصْحَابِهِ إنْ عَرَفَهُم وَإِلَّا تَصَدَّقَ بِهِ.

وَمَا تَصَدَّقَ بِهِ فَإِنَّهُ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ: فَيُعْطَى مِنْهُ مَن يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ، وَيُقْرَى مِنْهُ الضَّيْفُ، ويُعَانُ فِيهِ الْحَاجُّ، ويُنْفَقُ فِي الْجِهَادِ وَفِي أَبْوَابِ الْبِرِّ الَّتِي يُحِبُّهَا اللهُ وَرَسُولُهُ، كَمَا يُفْعَلُ بِسَائِرِ الْأَمْوَالِ الْمَجْهُولَةِ، وَهَكَذَا يَفْعَلُ مَن تَابَ مِنَ الْحَرَامِ وَبِيَدِهِ الْحَرَامٌ لَا يَعْرِفُ مَالِكَهُ.

ص: 41

3405 -

الْقَتْلُ الْمَشْرُوعُ: هُوَ ضَرْبُ الرَّقَبَةِ بِالسَّيْفِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَرْوَحُ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ.

وَأَمَّا الصَّلْبُ الْمَذْكُورُ فَهُوَ رَفْعُهُم عَلَى مَكَانٍ عَالٍ لِيَرَاهُم النَّاسُ وَيَشْتَهِرَ أَمْرُهُمْ، وَهُوَ بَعْدَ الْقَتْلِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَمِنْهُم مَن قَالَ: يُصَلَّبُونَ ثُمَّ يُقَتَّلُونَ وَهُم مُصَلَّبُونَ.

وَقَد جَوَّزَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَتْلَهُم بِغَيْرِ السَّيْفِ.

فَأَمَّا التَّمْثِيلُ فِي الْقَتْلِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْقِصَاصِ .. وَالتَّرْكُ أَفْضَلُ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 126، 127].

قِيلَ: إنَّهَا نَزَلَتْ لَمَّا مَثَّلَ الْمُشْرِكُونَ بِحَمْزَة وَغَيْرِهِ مِن شُهَدَاءَ أُحُدٍ رضي الله عنهم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"لَئِنْ أَظْفَرَنِي اللهُ بِهِم لَأُمَثِّلَنَّ بِضِعْفَيْ مَا مَثَّلُوا بِنَا"؛ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ.

وَإِن كَانَت قَد نَزَلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ بِمَكَّةَ، مِثْل قَوْلِهِ:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85]، وَقَوْلِهِ:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ بِمَكَّةَ ثُمَّ جَرَى بِالْمَدِينَةِ سَبَبٌ يَقْتَضِي الْخِطَابَ فَأْنْزِلَتْ مَرَّةً ثَانِيَةً.

فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "بَل نَصْبِرُ".

وَلَو شَهَرُوا السِّلَاحَ فِي الْبُنْيَانِ -لَا فِي الصَّحْرَاءِ- لِأَخْذِ الْمَالِ فَقَد قِيلَ: إنَّهُم لَيْسُوا مُحَارِبِينَ بَل هُم بِمَنْزِلَةِ الْمُخْتَلِسِ وَالْمُنْتَهِبِ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ يُدْرِكُهُ الْغَوْثُ إذَا اسْتَغَاثَ بِالنَّاسِ.

وَقَالَ أَكْثَرُهُم: إنَّ حُكْمَهُم فِي الْبُنْيَانِ وَالصَّحْرَاءِ وَاحِدٌ .. بَل هُم فِي الْبُنْيَانِ أَحَقُّ بِالْعُقُوبَةِ مِنْهُم فِي الصَّحْرَاءِ؛ لِأَنَّ الْبُنْيَانَ مَحَلُّ الْأَمْنِ وَالطُّمَأْنِينَةِ وَلِأَنَّهُ مَحَلُّ تَنَاصُرِ النَّاسِ وَتَعَاوُنهِمْ فَإِقْدَامُهُم عَلَيْهِ يَقْتَضِي شِدَّةَ الْمُحَارَبَةِ وَالْمُغَالَبَةِ .. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ.

ص: 42

وَلَو حَارَبُوا بِالْعَصَا وَالْحِجَارَةِ الْمَقْذُوفَةِ بِالْأيْدِي أَو الْمَقَالِيعِ وَنَحْوِهَا: فَهُم مُحَارِبُونَ أَيْضًا.

فَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ: أَنَّ مَن قَاتَلَ عَلَى أَخْذِ الْمَالِ بِأَيِّ نَوْعٍ كَانَ مِن أَنْوَاعِ الْقِتَالِ: فَهُوَ مُحَارِبٌ قَاطِعٌ

(1)

، كَمَا أَنَ مَن قَاتَلَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْكُفَّارِ بِأَيِّ نَوْعٍ كَانَ مِن أنْوَاعِ الْقِتَالِ فَهُوَ حَرْبِيٌّ، وَمَن قَاتَلَ الْكفَّارَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِسَيْفٍ أَو رُمْحٍ أَو سَهْمٍ أو حِجَارَةٍ أَو عَصًا فَهُوَ مُجَاهِدٌ فِي سَبِيلِ اللهِ.

وَأَمَّا إذَا كَانَ يَقْتُلُ النُفُوسَ سِرًّا لِأَخْذِ الْمَالِ .. فَهَل هُم كَالْمُحَارِبِينَ؟ أَو يَجْرِي عَلَيْهِم حُكْمُ الْقَوَدِ؟ .. وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ؛ بَل قَد يَكُونُ ضَرَرُ هَذَا أَشَدَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُدْرى بِهِ.

وَهَذَا كُلُّهُ إذَا قَدَرَ عَلَيْهِمْ، فَأَمَّا إذَا طَلَبَهُم السُّلْطَانُ أَو نُوَّابُهُ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ بِلَا عُدْوَانٍ فَامْتَنَعُوا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قِتَالُهُم بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَيْهِم كُلّهمْ، وَمَتَى لَمْ يَنْقَادُوا إلَّا بِقِتَال يُفْضِي إلَى قَتْلِهِمْ كُلّهِمْ قُوتِلُوا وَإِن أَفْضَى إلَى ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانُوا قَد قَتَلُوا أو لَمْ يَقْتُلُوا.

لَكِنْ قِتَالهُم لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ قِتَالِ الْكُفَّارِ إذَا لَمْ يَكُونُوا كُفَّارًا، وَلَا تُؤْخَذُ أَمْوَالُهُم إلَّا أَنْ يَكُونُوا أَخَذُوا أَمْوَالَ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ فَإِنَّ عَلَيْهِم ضَمَانَهَا فَيُؤْخَذُ مِنْهُم بِقَدْرِ مَا أَخَذُوا وَإِن لَمْ نَعْلَمْ عَيْنَ الْآخِذِ.

وَكَذَلِكَ لَو عُلِمَ عَيْنهُ؛ فَإِنَّ الرِّدْءَ وَالْمُبَاشِرَ سَوَاءٌ كَمَا قُلْنَاهُ، لَكِنْ إذَا عُرِفَ عَيْنهُ كَانَ قَرَارُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، ويُرَدُّ مَا يُؤخَذُ مِنْهُم عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الرَّدُّ عَلَيْهِم كَانَ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، مِن رِزْقِ الطَّائِفَةِ الْمُقَاتِلَة لَهُم وَغَيْرِ ذَلِكَ.

(1)

وهو ما يُسمى في هذا الزمان: السطو المسلّح، فمن أشهر السلاح أو العصا في وجه صاحب الدكان لأخذ مالِه فهو مُحارب.

ص: 43

بَلِ الْمَقْصُودُ مِن قِتَالِهِمْ التَّمَكُّنُ مِنْهُم لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ، وَمَنْعهمْ مِنَ الْفَسَادِ، فَإِذَا جُرِحَ الرَّجُل مِنْهُم جُرْحًا مُثْخَنًا لَمْ يُجْهَزْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمُوتَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَد وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ.

وَإِذَا هَرَبَ وَكَفَانَا شَرَّهُ لَمْ نَتَّبِعْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ حَدٌ أَو نَخَافُ عَاقِبَتَهُ، وَمَن أُسر مِنْهُم أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ الَّذِي يُقَائم عَلَى غَيْرِهِ.

فَأَمَّا إذَا تَحَيَّزُوا إلَى مَمْلَكَةِ طَائِفَةٍ خَارِجَةٍ عَن شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ وَأَعَانُوهُم عَلَى الْمُسْلِمِينَ قُوتِلُوا كَقِتَالِهِمْ.

وَأَمَّا مَن كَانَ لَا يَقْطَعُ الطَّرِيقَ وَلَكِنَّهُ يَأخُذُ خفَارَةً أَو ضَرِيبَة مِن أَبْنَاءِ السَّبِيلِ عَلَى الرُّؤُوسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَحْمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا مكاس عَلَيْهِ عُقُوبَةُ المكاسين، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ قَتْلِهِ وَلَيْسَ هُوَ مِن قُطَّاعِ الطَّرِيقِ؛ فَإِنَّ الطَّرِيقَ لَا يَنْقَطِعُ بِهِ، مَعَ أَنَّهُ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الغامدية:"لَقَد تَابَتْ تَوْبَةً لَو تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ"

(1)

.

وَيجُوزُ لِلْمَظْلُومِينَ -الَّذِينَ تُرَادُ أَمْوَالُهُم- قِتَالُ الْمُحَارِبِينَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَجِبُ أَنْ يُبْذَلَ لَهُم مِنَ الْمَالِ لَا قَلِيل وَلَا كَثِيرٌ إذَا أَمْكَنَ قِتَالُهُمْ.

وَهَذَا الَّذِي تُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ: "الصَّائِلُ "، وَهُوَ الظَّالِمُ بِلَا تَأْوِيل وَلَا وِلَايَةٍ. فَإِذَا كَانَ مَطْلُوبُهُ الْمَالَ جَازَ دَفْعُهُ بِمَا يُمْكِنُ، فَإِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ إلَّا بالْقِتَال قوتِلَ، وَإِن تَرَكَ الْقِتَالَ وَأَعْطَاهُم شَيْئًا مِنَ الْمَالِ جَازَ.

وَأمَّا إذَا كَانَ مَطْلُوبُهُ الْحُرْمَةَ؛ مِثْل أَنْ يَطْلُبَ الزنى بِمَحَارِمِ الْإِنْسَانِ، أَو يَطْلُبَ مِنَ الْمَرْأَةِ أَو الصَّبِيِّ الْمَمْلُوكِ أَو غَيْرِهِ الْفُجُورَ بِهِ: فَإِنَّه يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ عَن نَفْسِهِ بِمَا يُمْكِنُ وَلَو بِالْقِتَالِ، وَلَا يَجُوزُ التَّمْكِينُ مِنْهُ بِحَال، بِخِلَافِ

(1)

رواه مسلم (1695).

ص: 44

الْمَالِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ التَّمْكِينُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ جَائِزٌ، وَبَذْلَ الْفُجُورِ بِالنَّفْسِ أَو بِالْحُرْمَةِ غَيْرُ جَائِزٍ.

وَلَو كَانَت لَهُم شَوْكَةٌ قَوِيَّةٌ تَحْتَاجُ إلَى تَأْلِيفٍ فَأَعْطَى الْإِمَامُ مِنَ الْفَيْءِ وَالْمَصَالِحِ وَالزكَاةِ لِبَعْضِ رُؤَسَائِهِمْ يُعِينُهُم عَلَى إحْضَارِ الْباقِينَ أَو لِتَرْكِ شَرِّهِ فَيَضْعُفُ الْبَاقُونَ وَنَحْوُ ذَلِكَ: جَازَ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ مِن الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَقَد ذَكَرَ مِثْل ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الأئِمَّةِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأُصُولِ الشَّرِيعَةِ.

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرْسِلَ الْإِمَامُ مَن يَضْعُفُ عَن مُقَاوَمَةِ الْحَرَامِيَّةِ، وَلَا مَن يَأخُذُ مَالًا مِنَ الْمَأخُوذِينَ: التُّجَّارُ وَنَحْوُهُم مِن أَبْنَاءِ السَّبِيلِ؛ بَل يُرْسِلُ مِنَ الْجُنْدِ الْأَقْوِيَاءَ الْأُمَنَاءَ، إلَّا أَنْ يَتَعَذَّرَ ذَلِكَ فَيُرْسِلُ الْأَمْثَلَ فَالْأَمْثَلَ.

3406 -

مَن آوَى مُحَارِبًا أَو سَارِقًا أَو قَاتِلًا وَنَحْوَهُم مِمَن وَجَبَ عَلَيْهِ حَدٌّ أَو حَق للهِ تَعَالَى أَو لِآدَمِيِّ وَمَنَعَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْهُ الْوَاجِبَ بِلَا عُدْوَانٍ فَهُوَ شَرِيكُهُ فِي الْجُرْمِ، وَقَد لَعَنَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، رَوَى مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ" عَن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَعَنَ اللهُ مَن أَحْدَثَ حَدَثًا أَو آوَى مُحْدِثًا"

(1)

.

وَإِذَا ظُفِرَ بِهَذَا الَّذِي آوَى الْمُحْدِثَ فَإِنَّهُ يُطلَب مِنْهُ إحْضَارهُ أَو الْإِعْلَام بِهِ، فَإِنِ امْتَنَعَ عُوقِبَ بِالْحَبْسِ وَالضرْبِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ حَتَّى يُمَكنَ مِن ذَلِكَ الْمحدِثِ.

وَلَو كانَ رَجُلًا يَعْرِفُ مَكَانَ الْمَالِ الْمَطْلُوبِ بِحَقّ أَو الرَّجُلَ الْمَطْلُوبَ بِحَقّ وَهُوَ الَّذِي يَمْنَعُهُ فَإِنَّه يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعْلَامُ بِهِ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ كِتْمَانُهُ، فَإِنَّ هَذَا مِن بَابِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَذَلِكَ وَاجِبٌ.

(1)

رواه مسلم (1366).

ص: 45

وَلَيْسَ هَذَا بِمُطَالَبَة لِلرَّجُلِ بِحَقّ وَجَب عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا عُقُوبَةٍ عَلَى جِنَايَةِ غَيْرِهِ حَتَّى يَدْخُلَ فِي قَوْله تَعَالَى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15]

فَإِنَّمَا يُعَاقَبُ عَلَى ذَنْبِ نَفْسِهِ، وَهوَ أَنْ يَكُونَ قَد عَلِمَ مَكَانَ الظَّالِمِ الَّذِي يُطْلبُ حُضُورهُ لِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ، أَو يَعْلَمُ مَكَانَ الْمَالِ الَّذِي قَد تَعَلَّقَ بِهِ حُقُوقُ الْمُسْتَحِقِّينَ فَيَمْتَنِعُ مِنَ الْإِعَانَةِ وَالنُّصْرَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.

3407 -

مَن كَانَ مِن أَهْلِ الذِّمَّةِ يُؤوِي أَهْلَ الْحَرْبِ أَو يُعَاوِنُهُم عَلَى الْمُسْلِمِينَ: فَإِنَّهُ قَد انْتَقَضَ عَهْدُهُ، وَحَلَّ دَمُهُ وَمَالُهُ، وَالْوَاجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأمُورِ أَلَّا يَتْرُكُوا مِثْل هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يُؤْمَنُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي مَوْضِعٍ يُخَافُ ضَرَرُهُم عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَو يُنْقَلُ إلَيْهِم أَوْلَادُ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّهُ قَد انْتَقَضَ عَهْدُهُ وَحَلَّ دَمُهُ وَمَالُهُ.

3408 -

كُلُّ مَن بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى دِينِ اللهِ الَّذِي بَعَثَهُ بِهِ فَلَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهُ {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39].

3409 -

مَن لَمْ يَكُن مِن أَهْلِ الْمُمَانَعَةِ وَالْمُقَاتِلَةِ كَالنِّسَاءِ وَالصّبْيَانِ وَالرَّاهِبِ وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْأَعْمَى وَالزَّمِنِ وَنَحْوِهِمْ فَلَا يُقْتَلُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، إلَّا أَنْ يُقَاتِلَ بِقَوْلِهِ أَو فِعْلِهِ.

وَإِن كَانَ بَعْضُهُم يَرَى إبَاحَةَ قَتْلِ الْجَمِيعِ لِمجَرَّدِ الْكُفْرِ إلَّا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ؛ لِكَوْنِهِمْ مَالًا لِلْمُسْلِمِينَ.

وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّ الْقِتَالَ هُوَ لِمَن يُقَاتِلُنَا إذَا أَرَدْنَا إظْهَارَ دِينِ اللهِ.

3410 -

ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم مِن وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ أَمَرَ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ .. فَثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ أَنَّهُ يُقَاتَلُ مَن خَرَجَ عَن شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ وَإِن تَكَلَّمَ بِالشَّهَادَتَيْنِ.

ص: 46

3411 -

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الطَّائِفَة الْمُمْتَنِعَةِ لَو تَرَكَت السُّنَّةَ الرَّاتِبَةَ كَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ هَل يَجُوزُ قِتَالُهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.

فَأَمَّا الْوَاجِبَاتُ وَالْمحَرَّمَاتُ الظَاهِرَةُ وَالْمُسْتَفِيضَةُ فَيُقَاتَلُ عَلَيْهَا بِالِاتِّفَاقِ

(1)

.

وَقِتَالُ هَؤُلَاءِ وَاجِبٌ ابْتِدَاءً بَعْدَ بُلُوغِ دَعْوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَيْهِم بِمَا يُقَاتَلُونَ عَلَيْهِ.

فَأَمَّا إذَا بَدَؤُوا الْمُسْلِمِينَ فَيَتَأَكَّدُ قِتَالُهُم كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي قِتَالِ الْمُمْتَنِعِينَ مِنَ الْمُعْتَدِينَ قُطَّاعِ الطُّرُقِ.

فَأَمَّا إذَا أَرَادَ الْعَدُوُّ الْهُجُومَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ يَصِيرُ دَفْعُهُ وَاجِبًا عَلَى الْمَقْصُودِينَ كُلِّهِمْ وَعَلَى غَيْرِ الْمَقْصُودِينَ؛ لِإِعَانَتِهِمْ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [الأنفال: 72]، وَكَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِنَصْرِ الْمُسْلِمِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الرَّجُلُ مِن الْمُرْتَزَقَةِ لِلْقِتَالِ أَو لَمْ يَكُنْ

(2)

.

وَهَذَا يَجِبُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ مَعَ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَالْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ، كَمَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ لَمَّا قَصَدَهُم الْعَدُوُّ عَامَ الْخَنْدَقِ لَمْ يَأذَن اللهُ فِي تَرْكِهِ لِأَحَد، كَمَا أَذِنَ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ ابْتِدَاءً لِطَلَبِ الْعَدُوِّ الَّذِي قَسَمَهُم فِيهِ إلَى قَاعِدٍ وَخَارجٍ؛ بَل ذَمَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم:{يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)} [الأحزاب: 13].

(1)

وقال في موضع آخر: وَهَذَا مَا لَا أعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. (28/ 503)

(2)

أي: سواءٌ كان يأخذ مرتّبًا من الدولة على جهاده أم لا، والمرتزق: هو كل شخص يقوم بأي عمل بمقابل مادي، بغض النظر عن نوعية العمل أو الهدف منه، وغالبًا يطلق على من يخدم في القوات المسلحة لبلد أجنبي من أجل المال.

ص: 47

فَهَذَا دَفْعٌ عَن الدِّينِ وَالْحُرْمَةِ وَالْأنْفَسِ، وَهُوَ قِتَالُ اضْطِرَارٍ، وَذَلِكَ قِتَالُ اخْتِيَارٍ لِلزِّيَادَةِ فِي الدِّينِ وَإِعْلَائِهِ وَلِإِرْهَابِ الْعَدُوِّ كَغَزَاةِ تبُوكَ وَنَحْوِهَا.

فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعُقُوبَةِ هُوَ لِلطَّوَائِفِ الْمُمْتَنِعَةِ.

فَأمَّا غَيْر الْمُمْتَنِعِينَ مِن أَهْلِ دِيَارِ الْإِسْلَامِ وَنَحْوِهِمْ فَيَجِبُ إلْزَامُهُم بِالْوَاجِبَاتِ الَّتِي هِيَ مَبَانِي الْإِسْلَامِ الْخَمْسِ وَغَيْرِهَا مِن أَدَاءِ الْأَمَانَاتِ وَالْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

3412 -

أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ مُمْتَنِعَةٍ عَن شَرِيعَةٍ مِن شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ: فَإِنَهُ يَجِبُ قِتَالُهَا حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ.

فَلَو قَالوا: نُصَلِّي وَلَا نُزَكِّي، أَو نصَلِّي الْخَمْسَ وَلَا نُصَلِّي الْجُمعَةَ وَلَا الْجَمَاعَةَ، أَو نَقُومُ بِمَبَانِي الْإِسْلَامِ الْخَمْسِ وَلَا نُحَرِّمُ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ، أَو لَا نَتْرُكُ الرِّبَا وَلَا الْخَمْرَ وَلَا الْمَيْسِرَ، أَو نتَبعُ الْقُرْآنَ وَلَا نَتَّبعُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا نَعْمَلُ بِالْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ عَنْهُ، أَو نَعْتَقِدُ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى خَيْرٌ مِن جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ أَهْلَ الْقِبْلَةِ قَد كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُم مُؤْمِنٌ إلَّا طَائِفَة قَلِيلَة

(1)

، أَو قَالُوا: إنَّا لَا نُجَاهِدُ الْكُفَّارَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ

(2)

، أَو غَيْرِ ذَلِكَ مِن الْأمُورِ الْمُخَالِفَةِ لِشَرِيعَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَسُنَّتِهِ وَمَا عَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ: فَإِنَّهُ يَجِبُ جِهَادُ هَذِهِ

(1)

كما هو دين الرافضة الاثني عشرية والنصيرية والإسماعيلية.

(2)

وقال في موضع آخر: وَكَذَلِكَ إن امْتَنَعُوا عَن الْأمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنْكَرِ وَجِهَادِ

الْكُفَّارِ إلَى أَنْ يُسْلِمُوا ويُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُم صَاغِرُونَ. (28/ 510 - 511)

قلت: هذا إذا كان الجهاد مشروعًا، كأنْ يكون المسلمون في حال قوة وتمكين، أو في حال دخول العدو بلاد المسلمين، أو إذا أمر الحاكم في الجهاد.

أما في حال ضعف المسلمين فلا يجب عليهم جهاد الطلب.

ص: 48

الطَّوَائِفِ جَمِيعِهَا كَمَا جَاهَدَ الْمُسْلِمُونَ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَجَاهَدُوا الْخَوَارجِ وَأَصْنَافَهُمْ، وَجَاهَدُوا الخرمية وَالْقَرَامِطَةَ وَالْبَاطِنِيَّةَ وَغَيْرَهُم مِن أَصْنَافِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ الْخَارِجِينَ عَن شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ.

وَذَلِكَ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كتَابِهِ: {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال: 39]، فَإِذَا كَانَ بَعْضُ الذينِ للهِ وَبَعْضُهُ لِغَيْرِ اللهِ: وَجَبَ قِتَالُهُم حَتَّى يَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ للهِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة؛ 5]، فَلَمْ يَأْمُرْ بِتَخْلِيَةِ سَبِيلِهِمْ إلَّا بَعْدَ التَّوْبَةِ مِن جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ، وَبَعْدَ إقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ.

3413 -

قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]، فَكَلُّ مَن خَرَجَ عَن سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَشَرِيعَتِهِ: فَقَد أَقْسَمَ اللهُ بِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ أَنَّهُ لَا يُؤمِنُ حَتَّى يَرْضَا بِحُكْمِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَمِيعِ مَا يَشْجُرُ بَيْنَهُم مِن أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَحَتَّى لَا يَبْقَى فِي قُلُوبِهِم حَرَفي مِن حُكْمِهِ

(1)

.

3414 -

وسُئل الشيخ: مَا تَقُولُ الْفُقَهَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ: فِي هَؤُلَاءِ التَّتَارِ الَّذِينَ قَدِمُوا سَنَةَ تِسْع وَتسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ وَفَعَلُوا مَا اشْتَهَرَ مَن قَتْلِ الْمُسْلِمِينَ وَسَبْيِ بَعْضِ الذَّرَارِيِّ وَالنَّهْبِ لِمَن وَجَدُوهُ مِن الْمُسْلِمِينَ وَهَتَكُوا حُرُمَاتِ الدِّينِ.

(1)

مثال ذلك: مِن سُنَّةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَشَرِيعَتِهِ تركُ إشهار تسمية المنافقين في وقتِه، وعدمُ التصريح والتشهير بأسماء من ارتكب مخالفة أو معصيةً من أصحابه، بل يقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا، كلّ هذا حرصًا على جمع الكلمة، وبعدًا عن التنافر والاختلاف، بل ترك إقامة الحدود على بعض المنافقين خشية أن يُقال: بأن محمدًا يقتل أصحابَه.

ص: 49

وَادَّعَوْا مَعَ ذَلِكَ التَّمَسُّكَ بِالشَّهَادَتَيْنِ .. فَهَل يَجُوزُ قِتَالُهُم أَو يَجِبُ؟

فَأَجَابَ: .. هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الْمَسْؤُولُ عَنْهُمْ: عَسْكَرُهُم مُشْتَمِلٌ عَلَى قَوْمٍ كفَّارٍ مِن النَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ، وَعَلَى قَوْمٍ مُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ- وَهُم جُمْهُورُ الْعَسْكَرِ- يَنْطِقُونَ بِالشَّهَادَتَيْنِ إذَا طُلِبَتْ مِنْهُمْ، وَيُعَظِّمُونَ الرَّسُولَ، وَلَيْسَ فِيهِمْ مَن يُصَلِّي إلَّا قَلِيلًا جِدًّا، وَصَوْمُ رَمَضَانَ أَكْثَرُ فِيهِمْ مِن الصَّلَاةِ، وَالْمُسْلِمُ عِنْدَهُم أعْظَمُ مِن غَيْرِهِ، وَللصَّالِحِينَ مِن الْمُسْلِمِينَ عِنْدَهُم قَدْرٌ، وَعِنْدَهُم مِن الْإِسْلَامِ بَعْضُهُ، وَهُم مُتَفَاوِتُونَ فِيهِ.

لَكِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّتُهُم وَاَلَّذِي يُقَاتِلُونَ عَلَيْهِ: مُتَضَمِّنٌ لِتَرْكِ كَثِير مِن شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ أَو أَكْثَرِهَا.

فَإِنَّهُم أَوَّلًا: يُوجِبُونَ الْإِسْلَامَ وَلَا يُقَاتِلُونَ مَن تَرَكَهُ؛ بَل مَن قَاتَلَ عَلَى دَوْلَةِ الْمَغُولِ عَظَّمُوهُ وَتَرَكُوهُ وَإِن كَانَ كَافِرًا عَدُوًّا للهِ وَرَسُولِهِ، وَكُلُّ مَن خَرَجَ عَن دَوْلَةِ الْمَغُولِ أَو عَلَيْهَا اسْتَحَلُّوا قِتَالَهُ وَإِن كَانَ مِن خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ.

فَلَا يُجَاهِدُونَ الْكُفَّارَ وَلَا يُلْزِمُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ بِالْجِزْيَةِ وَالصَّغَارِ وَلَا يَنْهَوْنَ أَحَدًا مِن عَسْكَرِهِمْ أَنْ يَعْبُدَ مَا شَاءَ مِن شَمْسٍ أَو قَمَرٍ أَو غَيْرِ ذَلِكَ.

بَل الظَّاهِرُ مِن سِيرَتِهِمْ أَنَّ الْمُسْلِمَ عِنْدَهُم بِمَنْزِلَةِ الْعَدْلِ أَو الرَّجُلِ الصَّالِحِ، أَو الْمُتَطَوِّعِ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَالْكَافِرُ عِنْدَهُم بِمَنْزِلَةِ الْفَاسقِ فِي الْمُسْلِمِينَ أَو بِمَنْزِلَةِ تَارِكِ التَّطَوُّعِ.

وَكَذَلِكَ أَيْضًا: عَامَّتُهُم لَا يُحَرِّمُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُم إلا أَنْ يَنْهَاهُم عَنْهَا سُلْطَانُهُمْ؛ أَيْ: لَا يَلْتَزِمُونَ تَرْكَهَا، وَإِذَا نَهَاهُم عَنْهَا أَو عَن غَيْرِهَا أَطَاعُوهُ لِكَوْنِهِ سُلْطَانًا لَا بِمُجَرَّدِ الدِّينِ.

وَعَامَّتُهُم لَا يَلْتَزِمُونَ أَدَاءَ الْوَاجِبَاتِ لَا مِن الصَّلَاةِ وَلَا مِن الزَّكَاةِ وَلَا مِن

ص: 50

الْحَجِّ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا يَلْتَزِمُونَ الْحُكْمَ بَيْنَهُم بِحُكْمِ اللهِ؛ بَل يَحْكُمُونَ بِأَوْضَاعِ لَهُم تُوَافِق الْإِسْلَامَ تَارَةً وَتُخَالِفُهُ أُخْرَى.

وَقِتَالُ هَذَا الضَّرْبِ وَاجِبٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ مَن عَرَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ وَعَرَفَ حَقِيقَةَ أَمْرِهِمْ.

نَعَمْ، يَجِبُ أَنْ يُسْلَكَ فِي قِتَالِهِ الْمَسْلَكَ الشَّرْعِيَّ مِن دُعَائِهِمْ إلَى الْتِزَامِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ إنْ لَمْ تَكُن الدَّعْوَةُ إلَى الشَّرَائِعِ قَد بَلَغَتْهُمْ، كَمَا كَانَ الْكَافِرُ الْحَرْبِيُّ يُدْعَى أَوَّلًا إلَى الشَّهَادَتَيْنِ إنْ لَمْ تكُن الدَّعْوَةُ قَد بَلَغَتْهُ.

فَإِنَّ اتَّفَقَ مَن يُقَاتِلُهُم عَلَى الْوَجْهِ الْكَامِلِ: فَهُوَ الْغَايَةُ فِي رِضْوَانِ اللهِ وَإِعْزَازِ كَلِمَتِهِ، وَإِقَامَةِ دِينهِ، وَطَاعَةِ رَسُولِهِ.

وَإِن كَانَ فِيهِمْ

(1)

مَن فِيهِ فُجُورٌ وَفَسَادُ نِيَّةٍ، بأَنْ يَكُونَ يُقَاتِلُ عَلَى الرِّيَاسَةِ، أَو يَتَعَدَّى عَلَيْهِم فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَكَانَت مَفْسَدَةُ تَرْكِ قِتَالِهِمْ أَعْظَمَ عَلَى الدِّينِ مِن مَفْسَدَةِ قِتَالِهِمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: كَانَ الْوَاجِبُ أَيْضًا قِتَالَهُم دَفْعًا لِأَعْظَمِ الْمُفْسِدَتَيْنِ بِالْتِزَامِ أَدْنَاهُمَا؛ فَإِنَّ هَذَا مِن أُصُولِ الْإِسْلَامِ الَّتِي يَنْبَغِي مُرَاعَاتُهَا

(2)

.

وَلهَذَا كَانَ مِن أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الْغَزْوُ مَعَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ؛ فَإِنَّ اللهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ وَبِأَقْوَام لَا خَلَاقَ لَهُم، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَّفِق الْغَزْوُ إلا مَعَ الْأُمَرَاءِ الْفُجَّارِ أَو مَعَ عَسْكَرٍ كَثِيرِ الْفُجُورِ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِن أَحَدِ أَمْرَيْنِ:

أ- إمَّا تَرْكُ الْغَزْوِ مَعَهُمْ، فَيَلْزَمُ مِن ذَلِكَ اسْتِيلَاءُ الْآخَرِينَ الَّذِينَ هُم أَعْظَمُ ضَرَرًا فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا.

(1)

أي: في الذي يُقَاتِلُهُمْ.

(2)

انظر إلى هذا الفقه العظيم، وبهذا تعرف ضلال الخوارج في كل زمان ومكان والله المستعان.

ص: 51

ب- وَإِمَّا الْغَزْوُ مَعَ الْأَمِيرِ الْفَاجِرِ فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ دَفْعُ الْأَفْجَرِينَ، وَإِقَامَةُ أَكْثَرِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَإِن لَمْ يُمْكِنْ إقَامَةُ جَمِيعِهَا، فَهَذَا هوَ الْوَاجِبُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَكُلّ مَا أَشْبَهَهَا؛ بَل كَثِيرٌ مِن الْغَزْوِ الْحَاصِلِ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ لَمْ يَقَعْ إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ.

فَإِذَا أَحَاطَ الْمَرْءُ عِلْمًا بِمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِن الْجِهَادِ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْأُمَرَاءُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَبِمَا نَهَى عَنْهُ مِن إعَانَةِ الظَّلَمَةِ عَلَى ظُلْمِهِمْ: عَلِمَ أَنَّ الطَّرِيقَةَ الْوُسْطَى الَّتِي هِيَ دِينُ الْإِسْلَامِ الْمَحْضِ جِهَادُ مَن يَسْتَحِقُّ الْجِهَادَ؛ كَهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمَسْؤُولِ عَنْهُم مَعَ كُلِّ أَمِيرٍ وَطَائِفَةٍ هِيَ أَوْلَى بِالْإِسْلَامِ مِنْهُمْ، إذَا لَمْ يُمْكِنْ جِهَادُهُم إلَّا كَذَلِكَ، وَاجْتِنَابُ إعَانَةِ الطَّائِفَةِ الَّتِي يَغْزُو مَعَهَا عَلَى شَيءٍ مِن مَعَاصِي اللهِ؛ بَل يُطِيعُهُم فِي طَاعَةِ اللهِ، وَلَا يُطِيعُهُم فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، إذ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوق فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ.

وَهَذِهِ طَرِيقَةُ خِيَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا.

وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى كُل فكَلَّفٍ، وَهِيَ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ طَرِيقِ الحرورية وَأَمْثَالِهِمْ مِمَن يسلك مَسْلَكَ الْوَرَعِ الْفَاسِدِ النَّاشِئِ عَن قِلَّةِ الْعِلْمِ، وَبَيْنَ طَرِيقَةِ الْمُرْجِئَةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِمَن يَسْلُكُ مَسْلَكَ طَاعَةِ الْأمَرَاءِ مُطْلَقًا وَإِن لَمْ يَكُونُوا أَبْرَارًا.

3415 -

اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ وَالْأَئِمَّةُ بَعْدَهُم عَلَى قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَإِن كَانُوا يُصَلُّونَ الْخَمْسَ وَيَصُومُونَ شَهْرَ رَمَضَانَ.

وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُن لَهُم شُبْهَةٌ سَائِغَةٌ، فَلِهَذَا كَانُوا مُرْتَدِّينَ

(1)

، وَهُم يُقَاتَلُونَ عَلَى مَنْعِهَا وَإِن أَقَرُّوا بِالْوُجُوبِ كَمَا أَمَرَ اللهُ.

(1)

والرافضة كما هو معلومٌ لا يرون وجوب الزكاة، ويُسقطون هذا الركن الثابت في الكتاب والسُّنَّة =

ص: 52

3416 -

رَوَى مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ"

(1)

عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قِصَّةَ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ، وَفِيهَا: أَنَّ الْغُلَامَ أَمرَ بِقَتْلِ نَفْسِهِ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ ظُهُورِ الدِّينِ، وَلهَذَا جَوَّزَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ أَنْ يَنْغَمِسَ الْمُسْلِمُ فِي صَفِّ الْكُفَّارِ وَإِن غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُم يَقْتُلُونَهُ؛ إذَا كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَة لِلْمُسْلِمِينَ.

3417 -

قِتَالُ التَّتَارِ الَّذِينَ قَدِمُوا إلَى بِلَادِ الشَّامِ وَاجِبٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ فِي الْقُرْآنِ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]، وَالدِّينُ هُوَ الطَّاعَةُ، فَإِذَا كَانَ بَعْضُ الدِّينِ للهِ وَبَعْضُهُ لِغَيْرِ اللهِ وَجَبَ الْقِتَالُ حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ؛ وَلهَذَا قَالَ اللهُ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278، 279].

وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الطَّائِفِ لَمَّا دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامٍ وَالْتَزَمُوا الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ، لَكِن امْتَنَعوا مِن تَرْكِ الرِّبَا، فَبَيَّنَ اللهُ أَنَهُم مُحَارِبُونَ لهُ وَلرَسُولِهِ إذَا لَمْ يَنْتَهُوا عَن الرِّبَا.

وَالرِّبَا هُوَ آخِرُ مَا حَرَّمَهُ اللهُ، وَهُوَ مَالٌ يُؤخَذُ بِرضى صَاحِبِهِ.

فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ مُحَارِبِينَ للهِ وَرَسُولِهِ يَجِبُ جِهَادُهُمْ، فَكَيْفَ بِمَن يَتْرُكُ كَثيرًا مِن شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ أَو أَكْثَرَهَا كَالتَّتَارِ؟

وَقَد اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنْ الطَّائِفَةَ الْمُمْتَنِعَةَ إذَا امْتَنَعَتْ عَن بَعْضِ وَاجِبَاتِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهَا.

= والإجماع، فهم أولى بوصف الردة من مانعي الزكاة الذين حاربهم الصحابة، فهم إنما تركوا هذا الركن فقط، والرافضة تركوا أكثر أركان الإسلام المتفق عليها، فصلاتهم تختلف عن صلاتنا، وهم يستغيثون بالموتى، ويُبيحون المتعة المجمع على تحريمها، إلى غير ذلك من أنواع الشرك والفجور.

قال الشيخ رحمه الله عنهم: فِيهِمْ مِن الرَّدَّةِ عَن شَرَائِعِ الدِّينِ أعْظَمُ مِمَّا فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ الَّذِينَ قَاتَلَهُم أَبُو بَكْرِ الصِّدِّيقُ وَالصَّحَابَةُ. (28/ 528)

(1)

(3005).

ص: 53

3418 -

أَمَرَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِ مَوْتِهِ أَنْ تَخْرُجَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِن جَزِيرَةِ الْعَرَبِ- وَهِيَ الْحِجَازُ- فَأَخْرَجَهُم عُمَرُ بْن الْخَطَّابِ رضي الله عنه من الْمَدِينَةِ وَخَيْبَرَ وَينْبُعَ وَالْيَمَامَةِ وَمَخَالِيف هَذِهِ الْبِلَادِ

(1)

.

فَمَا كَانَ دُونَ وَادِي الْمُنْحَنَى فَهُوَ مِن الشَّامِ: مِثْل مَعَانٍ.

وَأَمَّا الْعُلَى وَتَبُوكَ وَنَحْوُهمَا: فَهُوَ مِن أَرْضِ الْحِجَازِ.

* * *

‌(هل قاتل الصحابة للجن

؟)

3419 -

لَمْ يُقَاتِلْ أَحَدٌ مِن الْإِنْسِ لِلجِنِّ، لَا عَلِيٌّ وَلَا غَيْرُهُ؛ بَل عَلِي كَانَ أجَلَّ قَدْرًا مِن ذَلِكَ، وَالْجِنُّ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الصَّحَابَةَ يُقَاتِلُونَ كُفَّارَ الْجِنِّ، لَا يَحْتَاجُونَ فِي ذَلِكَ إلَى قِتَالِ الصَّحَابَةِ مَعَهُمْ.

* * *

(الاسترقاق)

3420 -

الرق الشرعى سببه الكفر، لَمَّا لم يسلم ويعبد الله أباح الله للمسلم أن يستعبده.

3421 -

سئل أبو العباس عن سبي ملطية مسلميها ونصاراها: فحرم مال المسلمين وأباح سبي النصارى وذريتهم ومالهم كسائر الكفار؛ إذ لا ذمة لهم ولا عهد؛ لأنهم نقضوا عهدهم السابق من الأئمة بالمحاربة وقطع الطريق وبما فيه الغضاضة علينا والإعانة على ذلك، ولا يعقد لهم الأمن عن قتالهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

وهؤلاء التتر لا يقاتلونهم على ذلك؛ بل بعد إظهار إسلامهم لا يقاتلون الناس على الإسلام؛ ولهذا وجب قتال التتر حتى يلتزموا شعائر الإسلام،

(1)

أي: أطْرَافُها ونوَاحِيها.

ص: 54

ومنها الجهاد وإلزام أهل الذمة بالجزية والصغار، ونواب التتر، الذين يسمون الملوك لا يجاهدون على الإسلام، وهم تحت حكم التتر.

ونصارى أهل ملطية وأهل المشرق ويهودهم لو كان لهم ذمة وعهد من ملك مسلم يجاهدهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية كأهل المغرب واليمن لما لم يعاملوا أهل مصر والشام معاملة أهل العهد جاز لأهل مصر والشام غزوهم واستباحة دمهم ومالهم؛ لأن أبا جندل وأبا بصير حاربا أهل مكة مع أن بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهدًا، وهذا باتفاق الأئمة؛ لأن العهد والذمة إنما يكون من الجانبين، والسبي المشتبه يحرم استرقاقه.

3422 -

يحكم بإسلام الطفل إذا مات أبواه أو كان نسبه منقطعًا؛ مثل كونه ولد زنا، أو منفيًّا بلعان. وقاله غير واحد من العلماء.

* * *

(الأموال السلطانية ومصارفها)

3423 -

الْأَمْوَالُ السُّلْطَانِيَّةُ الَّتِي أَصْلُهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ:

أ- الْغَنِيمَةُ.

ب- وَالصَّدَقَةُ.

ج- وَالْفَيءُ.

فَأَمَّا الْغَنِيمَةُ: فَهِيَ الْمَالُ الْمَأْخُوذُ مِنَ الْكُفَّارِ بِالْقِتَالِ، ذَكَرَهَا اللهُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ الَّتِي أَنْزَلَهَا فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَسَمَّاهَا أَنْفَالًا؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ.

فَالْوَاجِبُ فِي الْمَغْنَمِ تَخْمِيسُهُ، وَصَرْفُ الْخُمُسِ إلَى مَن ذَكَرَهُ اللهُ تَعَالَى، وَقِسْمَةُ الْبَاقِي بَيْنَ الْغَانِمِينَ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: الْغَنِيمَةُ لِمَن شَهِدَ الْوَقْعَةَ.

وَهُم الَّذِينَ شَهِدُوهَا لِلْقِتَالِ، قَاتَلُوا أَو لَمْ يُقَاتِلُوا.

ص: 55

وَيجِبُ قَسْمُهَا بَيْنَهُم بِالْعَدْلِ، فَلَا يُحَابَى أَحَدٌ لَا لِرِيَاسَتِهِ وَلَا لِنَسَبِهِ وَلَا لِفَضْلِهِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَاؤُهُ يَقْسِمُونَهَا.

لَكِنْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ مَن ظَهَرَ مِنْهُ زِيَادَةُ نِكَايَةٍ؛ كَسَرِيَّة تَسَرَّتْ مِن الْجَيْشِ، أَو رَجُلٍ صَعِدَ حِصْنًا عَالِيًا فَفَتَحَهُ، أَو حَمَلَ عَلَى مُقَدَّمِ الْعَدُوِّ فَقَتَلَهُ فَهَزَمَ الْعَدُوَّ وَنَحْو ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَاءَهُ كَانُوا يُنَفِّلُونَ لِذَلِكَ.

وَكَانَ يُنَفِّلُ السّرِيَّةَ فِي الْبِدَايَةِ الرّبعَ بَعْدَ الْخُمُسِ، وَفِي الرَّجْعَةِ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ، وَهَذَا النَّفْلُ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إنَّهُ يَكُونُ مِن الْخُمُسِ.

وَقَالَ بَعْضُهُم: إنَّهُ يَكُونُ مِن خمُسِ الْخُمُسِ؛ لِئَلَّا يُفَضِّلَ بَعْضَ الْغَانِمِينَ عَلَى بَعْضٍ.

وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ يَجُوزُ مِن أَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ وَإِن كَانَ فِيهِ تَفْضِيلُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لِمَصْلَحَة دِينِيَّةٍ لَا لِهَوَى النَّفْسِ، كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرَ مَرَّةٍ، وَهَذَا قَوْلُ فُقَهَاءِ الشَّامِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ.

كَذَلِكَ -عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ- لِلْإِمَامِ أَنْ يَقُولَ: مَن أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ؛ كَمَا روِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَد قَالَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، إذَا رَأَى ذَلِكَ مَصْلَحَةً رَاجِحَةً عَلَى الْمَفْسَدَةِ.

فَإِذَا تَرَكَ الْإِمَامُ الْجَمْعَ وَالْقِسْمَةَ وَأَذِنَ فِي الْأخْذِ إذْنًا جَائِزًا، فَمَن أَخَذَ شَيْئًا بِلَا عُدْوَانٍ حَلَّ لَهُ بَعْدَ تَخْمِيسِهِ، وَكُلُّ مَا دَلَّ عَلَى الْإِذْنِ فَهُوَ إذْنٌ.

وَأَمَّا إذَا لَمْ يَأْذَن أَو أَذِنَ إذْنًا غَيْرَ جَائِزٍ: جَازَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَأْخُذَ مِقْدَارَ مَا يُصِيبُهُ بِالْقِسْمَةِ مُتَحَرِّيًا لِلْعَدْلِ فِي ذَلِكَ.

وَمَن حَرَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ جَمْعَ الْغَنَائِمِ وَالْحَالُ هَذِهِ وَأَبَاحَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ فِيهَا ما يَشَاءُ: فَقَد تَقَابَلَ الْقَوْلَانِ تَقَابُلَ الطَّرَفَيْنِ، وَدِينُ اللهِ وَسَطٌ.

وَالْعَدْلُ فِي الْقِسْمَةِ: أَنْ يُقْسَمَ لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَللْفَارِسِ ذِي الْفَرَسِ الْعَرَبِيِّ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لَهُ وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ؛ هَكَذَا قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَامَ خَيْبَرَ.

ص: 56

وَإِذَا كَانَ الْمَغْنُومُ مَالًا -قَد كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ قَبْلَ ذَلِكَ مِن عَقَارٍ أَو مَنْقُولٍ وَعُرِفَ صَاحِبُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ- فَإِنَّهُ يُرَدُّ إلَيْهِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.

وَأَمَّا الصَّدَقَاتُ: فَهِيَ لِمَن سَمَّى اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ.

فَالْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ: يَجْمَعُهَا مَعْنَى الْحَاجَةِ إلَى الْكِفَايَةِ، فَلَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ.

وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا: هُم الَّذِينَ يَجْبُونَهَا ويحْفَظُونَهَا وَيَكْتمونَهَا وَنَحْو ذَلِكَ.

وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ: فَنَذْكُرُهُم -إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى- فِي مَالِ الْفَيْءِ.

وَفِي الرِّقَابِ: يَدْخُلُ فِيهِ إعَانَةُ الْمُكَاتِبِينَ، وَافْتِدَاءُ الْأَسْرَى، وَعِتْقُ الرِّقَابِ، هَذَا أَقْوَى الْأَقْوَالِ فِيهَا.

وَالْغَارِمِينَ: هُم الَّذِينَ عَلَيْهِم دُيُون لَا يَجِدُونَ وَفَاءَهَا فَيُعْطُونَ وَفَاءَ دُيُونِهِمْ وَلَو كَانَ كَثِيرًا، إلَّا أَنْ يَكُونُوا غَرِمُوهُ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ تَعَالَى فَلَا يُعْطَونَ حَتَّى يَتُوبُوا.

وَفِي سَبِيلِ اللهِ: وَهُم الْغُزَاةُ الَّذِينَ لَا يُعْطَونَ مِن مَالِ اللهِ مَا يَكْفِيهِمْ لِغَزْوِهِمْ، فَيُعْطَونَ مَا يَغْزُونَ بِهِ، أَو تَمَامَ مَا يَغْزُونَ بِهِ مِن خَيْلٍ وَسِلَاحٍ وَنَفَقَةٍ وَأُجْرَةٍ.

وَالْحَجُّ مِن سَبِيلِ اللهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم

(1)

.

(1)

روى أبو داود (1988)، عن أُمِّ مَعْقَلٍ رضي الله عنها أنها قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ عَلَيَّ حَجَّةَ وَإِنَّ لأبِي مَعْقَلِ بَكْرًا (والبكر هو الفتي من الإبل)، قَالَ أبُو مَعْقَلٍ رضي الله عنه: صَدَقَتْ جَعَلْتُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَعْطِهَا فَلْتَحُجَّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، صحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.

وثبت عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: أَمَا إنَّ الْحَجَّ مِن سَبِيلِ اللهِ.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: أَخْرَجَهُ أبُوَ عُبَيْد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. اهـ. فتح الباري (3/ 332).

فشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يرى جواز إعطاء الفقير من الزكاة ليحج، وقد قال كما في الاختيارات (105): ومن لم يحج حجة الإسلام وهو فقير أعطي ما يحج به. اهـ؛ يعني: من الزكاة. =

ص: 57

وَابْنُ السَّبِيلِ: هُوَ الْمُجْتَازُ مِن بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ.

وَأَمَّا الْفَيءُ: فَأَصْلُهُ مَا ذَكَرَهُ اللهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَشْرِ الَّتِى أَنْزَلَهَا اللهُ فِي غَزْوَةِ بَنِي النَّضِيرِ بَعْدَ بَدْرٍ.

وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6]؛ أَيْ: مَا حَرَّكْتُمْ وَلَا سُقْتُمْ خَيْلًا وَلَا إبِلًا.

وَلهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: إنَّ الْفَيءَ هُوَ مَا أُخِذَ مِن الْكُفَّارِ بِغَيْرِ قِتَالٍ؛ لِأَنَّ إيجَافَ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ هُوَ مَعْنَى الْقِتَالِ، وَسُمِّيَ فَيْئًا؛ لِأَنَّ اللهَ أَفَاءَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ؛ أَيْ: رَدَّهُ عَلَيْهِم مِن الْكُفَّارِ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى إنَّمَا خَلَقَ الْأمْوَالَ إعَانَةً عَلَى عِبَادَتِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ؛ فَالْكَافِرُونَ بِهِ أَبَاحَ أَنْفُسَهُم الَّتِي لَمْ يَعْبُدُوهُ بِهَا، وَأَمْوَالَهُم الَّتِي لَمْ يَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى عِبَادَتِهِ: لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهُ، وَأَفَاءَ إلَيْهِم مَا يَسْتَحِقُّونَة، كَمَا يُعَادُ عَلَى الرَّجُلِ مَا غُصِبَ مِن مِيرَاثِهِ وَإن لَمْ يَكُن قَبَضَهُ قَبْلَ ذَلِكَ.

3424 -

وَأَمَّا الْمَصَارِفُ: فَالْوَاجِبُ أَنْ يَبْدَأَ فِي الْقِسْمَةِ بِالْأهَمِّ فَالْأَهَمِّ مِن مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ: كَعَطَاءِ مَن يَحْصُلُ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِ مَنْفَعَةٌ عَامَّة.

فَمِنْهُم الْمُقَاتِلَةُ: الَّذِينَ هُم أَهْلُ النُّصْرَةِ وَالْجِهَادِ وَهُم أَحَقُّ النَّاسِ بِالْفَيءِ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهِمْ.

وَأَمَّا سَائرُ الْأَمْوَالِ السُّلْطَانِيَّةِ فَلِجَمِيعِ الْمَصَالِحِ وِفَاقًا إلَّا مَا خُصَّ بِهِ نَوْعٌ كَالصَّدَقَاتِ وَالْمَغْنَمِ.

وَمِنَ الْمُسْتَحَقِّينَ: ذَوُو الْحَاجَاتِ؛ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ قَد اخْتَلَفُوا هَل يُقَدَّمُونَ فِي غَيْرِ الصَّدَقَاتِ مِن الْفَيْءِ وَنَحْوِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ؟. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُم يُقَدَّمُونَ؛ فَإِنَّ

= وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة (10/ 38): يجوز صرف الزكاة في إركاب فقراء المسلمين لحج فريضة الإسلام، ونفقتهم فيه، لدخوله في عموم قوله تعالى:{وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} من آية مصارف الزكاة. اهـ.

ص: 58

النبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُقَدِّمُ ذَوِي الْحَاجَاتِ، كَمَا قَدَّمَهُم فِي مَالِ بَنِي النَّضِيرِ.

وَلَا يَجُوزُ لِلإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَ أَحَدًا مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ لِهَوَى نَفْسِهِ.

لَكِنْ يَجُوزُ -بَل يَجِبُ- الْإِعْطَاءُ لِتَأْلِيفِ مَن يَحْتَاجُ إلَى تَأْلِيفِ قَلْبِهِ، وَإِن كَانَ هُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ ذَلِكَ، كَمَا أَبَاحَ اللهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ الْعَطَاءَ لِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُم مِن الصَّدَقَاتِ، وَكَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُم مِن الْفَيءِ وَنَحْوِهِ، وَهُم السَّادَةُ الْمُطَاعُونَ فِي عَشَائِرِهِمْ.

وَهَذَا النَّوْعُ مِن الْعَطَاء وَإِن كَانَ ظَاهِرُهُ إعْطَاءَ الرُّؤَسَاءِ وَتَرْكُ الضُّعَفَاءِ كَمَا يَفْعَلُ الْمُلوكُ؛ فَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ؛ فَإِذَا كَانَ الْقَصْدُ بِذَلِكَ مَصْلَحَةَ الدِّينِ وَأَهْلِهِ كَانَ مِن جِنْسِ عَطَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ، وَإِن كَانَ الْمَقْصُودُ الْعُلُوَّ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادَ كَانَ مِن جِنْسِ عَطَاءِ فِرْعَوْنَ.

3425 -

الْأَمْوَالُ الَّتِي لَهَا أَصْل فِي كِتَابِ اللهِ الَّتِي يَتَوَلَّى قَسْمَهَا وُلَاةُ الْأمْرِ ثَلَاثَةٌ:

أ- مَالُ الْمَغَانِمِ: وَهَذَا لِمَن شَهِدَ الْوَقْعَةَ، إلَّا الْخُمُسَ فَإِنَّ مَصْرِفَهُ مَا ذَكَرَهُ اللهُ فِي قَوْلِهِ:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} [الأنفال: 41].

وَالْمَغَانِمُ مَا أخِذَ مِن الْكُفَّارِ بِالْقِتَالِ، فَهَذه الْمَغَانِمُ وَخُمُسُهَا.

ب- وَالثَّانِي: الْفَيءُ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَشْرِ حَيْثُ قَالَ:{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6].

وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ} ؛ أَيْ: مَا حَرَّكْتُمْ وَلَا أَعْمَلْتُمْ وَلَا سُقْتُمْ، يُقَالُ: وَجَفَ الْبَعِيرُ يَجِفُ وُجُوفًا وأوجفته: إذَا سَارَ نَوْعًا مِن السَّيْرِ.

فَهَذَا هُوَ الْفَيْءُ الَّذِي أَفَاءَهُ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَهُوَ مَا صَارَ لِلْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ إيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَن الْقِتَال؛ أَيْ: مَا قَاتَلْتُمْ عَلَيْهِ.

ص: 59

فَمَا قَاتَلُوا عَلَيْهِ كَانَ لِلْمُقَاتِلَةِ، وَمَا لَمْ يُقَاتِلُوا عَلَيْهِ فَهُوَ فَيْءٌ؛ لِأَنَّ اللهَ أَفَاءَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.

وَهَذَا الْفَيْءُ لَمْ يَكُن مِلْكًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَيَاتِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد: كَانَ مِلْكًا لَهُ.

وَأَمَّا مَصْرِفُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ: فَقَد اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنْ يُصْرَفَ مِنْه أَرْزَاق الْجُنْدِ الْمُقَاتِلِينَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ الْكُفَّارَ؛ فَإِنَّ تَقْوِيَتَهُم تُذِلُّ الْكُفَّارَ فَيُؤْخَذُ مِنْهُم الْفيْءُ.

وَتَنَازَعُوا هَل يُصْرَفُ فِي سَائِرِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ أَمْ تُخْتَصُّ بِهِ الْمُقَاتِلَةُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ وَوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد، لَكِنَّ الْمَشْهُورَ فِي مَذْهَبِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ: أَنَّهُ لَا يُخْتَصُّ بِهِ الْمُقَاتِلَةُ؛ بَل يُصْرَفُ فِي الْمَصَالِحِ كُلِّهَا.

وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ: يُعْطَى مَن فِيهِ مَنْفَعَةٌ عَامَّةٌ لِأَهْلِ الْفَيءِ.

ج- وَأَمَّا الْمَالُ الثَّالِثُ؛ فَهُوَ الصَّدَقَاتُ الَّتِي هِيَ زَكَاةُ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ: زَكَاةُ الْحَرْثِ وَهِيَ الْعُشُورُ وَأَنْصَافُ الْعُشُورِ الْمَأْخُوذَةُ مِنَ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ، وَزَكَاةُ الْمَاشِيَةِ وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ، وَزَكَاةُ النَّقْدَيْنِ.

فَهَذَا الْمَالُ مَصْرِفُهُ مَا ذَكَرَهُ اللهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)} [التوبة: 60].

إذَا تَبَيَّنَ هَذَانِ الْأَصْلَانِ فَنَقُولُ: مَن كَانَ مِن ذَوِي الْحَاجَاتِ: كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْغَارِمِينَ وَابْنِ السَّبِيلِ: فَهَؤُلَاءِ يَجُوزُ بَل يَجِبُ أَنْ يُعْطَوا مِن الزَّكَوَاتِ، وَمِن الْأَمْوَالِ الْمَجْهُولَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.

وَكَذَلِكَ يُعْطَوا مِن الْفَيْءِ مِمَّا فَضَلَ مِن الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ.

سَوَاءٌ كَانُوا مُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ الْوَاجِبِ عَلَى الْكِفَايَةِ أَو لَمْ يَكونُوا، وَسَوَاءٌ

ص: 60

كَانوا فِي زَوَايَا أَو رَبْطٍ أَو لَمْ يَكُونُوا، لَكِنْ مَن كَانَ مُمَيَّزًا بِعِلْم أَو دِينٍ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى غَيْرِهِ.

وَيُعْطَى قُضَاةُ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَاؤُهُم مِنْهُ مَا يَكْفِيهِمْ، وَيُدْفَعُ مِنْهُ أَرْزَاق الْمُقَاتِلَةِ وَذَرَارِيِّهِمْ، لَا سِيَّمَا مِن بَنِي هَاشِمٍ الطالبيين والعباسيين وَغَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَتَعَيَّنُ إعْطَاؤُهُم مِن الْخُمُسِ وَالْفَيءِ وَالْمَصَالِحِ؛ لِكَوْنِ الزَّكَاةِ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ.

وَالْفَقِيرُ الشَّرْعِيُّ الْمَذْكورُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ مِن الزَّكَاةِ وَالْمَصَالِحِ وَنَحْوِهِمَا: .. كُلُّ مَن لَيْسَ لَهُ كِفَايَةٌ تَكْفِيهِ وَتَكْفِي عِيَالَهُ فَهُوَ مِن الْفقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَن لَا مَالَ لَهُ وَهُوَ عَاجِز عَن الْكَسْبِ: فَإِنَّهُ يُعْطَى مَا يَكْفِيهِ .. مِثْلُ:

أ- الصَّانِعِ الَّذِي لَا تَقُومُ صَنْعَتُهُ بِكِفَايَتِهِ.

ب - وَالتَّاجِرِ الَّذِي لَا تَقُومُ تِجَارَتُة بِكِفَايَتِهِ.

ج - وَالْجُنْدِيِّ الَّذِي لَا يَقُومُ إقْطَاعُهُ بِكِفَايَتِهِ.

د - وَالْفَقِيرِ وَالصُّوفِيَّ الَّذِي لَا يَقُومُ مَعْلُومُهُ مِن الْوَقْفِ بِكِفَايَتِهِ.

هـ - وَالشَّاهِدِ وَالْفَقِيهِ الَّذِي لَا يَقُومُ مَا يَحْصُلُ لَهُ بِكِفَايَتِهِ.

وَمَن كَانَ مِن هَؤُلَاءِ مُنَافِقًا أَو مُظْهِرًا لِبِدْعَة تُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ مِن بِدَعِ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْعِبَادَاتِ: فَإِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ، وَمِن عُقُوبَتِهِ أَنْ يُحْرَمَ حَتَّى يَتوبَ.

وَعَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ مَعَ إعْطَاءِ الْفُقَرَاءِ بَل وَالْأَغْنِيَاءِ: بِأَنْ يُلْزِمُوا هَؤُلَاءِ بِاتِّباعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ.

ص: 61

3426 -

قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَامَ حنين: "لَيْسَ لِي مِمَّا أفَاءَ اللهُ عَلَيْكُمْ إلَّا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ"

(1)

؛ أَيْ: لَيْسَ لَهُ بِحُكْمِ الْقَسْمِ الَّذِي يُرْجَعُ فِيهِ إلَى اجْتِهَادِهِ وَنَظَرِهِ الْخَاصّ إلَّا الْخُمُسُ، وَلهَذَا قَالَ:"وهو مردود عليكم" بِخِلَافِ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ، فَإِنَّهُ لِمَن شَهِدَ الْوَقْعَةَ.

وَلهَذَا كَانَت الْغَنَائِمُ يُقَسِّمُهَا الْأُمَرَاءُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَالْخُمُسُ يُرْفَعُ إلَى الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ الَّذِينَ خَلَفُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي أُمَّتِهِ

(2)

؛ فَيُقَسِّمُونَهَا بِأمْرِهِمْ، فَأَمَّا أَرْبَعَةُ الأخْمَاسِ فَإنَّمَا يَرْجِعُونَ فِيهَا لِيُعْلَمَ حُكْمُ اللهِ وَرَسُولِهِ، كَمَا يَسْتَفْتِي الْمُسْتَفْتِي، وَكَمَا كَانُوا فِي الْحُدُودِ لِمَعْرِفَةِ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُم مِن غَنَائِمِ حنين مَا أَعْطَاهُمْ؛ فَقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ كَانَ مِن الْخُمُسِ، وَقِيلَ: إنَّه كَانَ مِن أَصْلِ الْغَنِيمَةِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَهُوَ فَعَلَ ذَلِكَ لِطِيبِ نُفُوسِ الْمُؤمِنِينَ بِذَلِكَ؛ وَلهَذَا أَجَابَ مَن عَتَبَ مِن الْأنْصَارِ بِمَا أَزَالَ عَتْبَهُ وَأَرَادَ تَعْوِيضَهُم عَن ذَلِكَ.

3427 -

الْعَطَاءُ إذَا كَانَ لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ: لَمْ يُنْظَرْ إلَى الْآخِذِ هَل هُوَ صَالِحُ النِّيَّةِ أَو فَاسِدُهَا.

وَلَمَّا كَانَ عَامَ حنين قَسَمَ غَنَائِمَ حنين بَيْنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُم مِن أَهْلِ نَجْدٍ وَالطُّلَقَاءِ مِن قُرَيْشٍ كعُيَيْنَة بْنِ حِصْنٍ وَالْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وَأَمْثَالِهِمْ، وَبَيْنَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرو وَصَفْوَانِ بْنِ أُمَيَّةَ وَعِكْرِمَةَ بْن أَبِي جَهْلٍ وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْب وَابْنِهِ مُعَاوِيةَ وَأَمْثَالِهِمْ مِن الطُّلَقَاءِ الَّذِينَ أَطْلَقَهُم عَامَ الْفَتْحِ، وَلَمْ يُعْطِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ شَيْئًا.

(1)

صحَّحه الألباني في إرواء الغليل (1240) بلفظ: "والذي نفسي بيده ما لي مما أفاء الله عليكم

" الحديث.

(2)

هذا يدل على أنّ شيخ الإسلام يرى أنّ المقصود بالخلفاء الراشدين في حديث: "فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين" كل خليفةٍ راشد عادل، وليس محصورًا على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وهذا اختيار بعض العلماء كالصنعاني.

ص: 62

أَعْطَاهُم لِيَتَأَلَّفَ بِذَلِكَ قُلُوبَهُم عَلَى الْإِسْلَامِ، وَتَأْلِيفُهُم عَلَيْهِ مَصْلَحَة عَامَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ.

وَاَلَّذِينَ لَمْ يُعْطِهِمْ: هُم أَفْضَلُ عِنْده، وَهُم سَادَاتُ أَوْليَاءِ اللهِ الْمُتَّقِينَ، وَأَفْضَلُ عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ بَعْد النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ.

وَاَلَّذِينَ أَعْطَاهُمْ: مِنْهُم مَن ارْتَدَّ عَن الْإِسْلَامِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَعَامَّتُهُم أَغْنِيَاءُ لَا فُقَرَاءُ.

فَلَو كَانَ الْعَطَاءُ لِلْحَاجَةِ مُقَدَّمًا عَلَى الْعَطَاءِ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ: لَمْ يُعْطِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَؤُلَاءِ الْأَغْنِيَاءَ السَّادَةَ الْمُطَاعِينَ فِي عَشَائِرِهِمْ وَيَدَعُ عَطَاءَ مَن عِنْدَهُ مِن الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ هُم أَحْوَجُ مِنْهُم وَأَفْضَلُ.

وَبِمِثْل هَذَا طَعَنَ الْخَوَارجُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ لَهُ أَوَّلُهُم: يَا مُحَمَّدُ اعْدِلْ فَإنَّك لَمْ تَعْدِلْ، وَقَالَ: إنَّ هَذ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللهِ تَعَالَى

(1)

.

(1)

ولعل هذا الدعم الذي تقدّمه بعض الدول الإسلامية لبعض المنظمات العالمية والدول وغيرها هو من هذا الباب، حيث يتألفون بها قلوب كثير منهم، ويكفون بها شرهم، وبعض الناس يطعن في الحكام الذين يفعلون مثل هذا، وهذا خطأ.

وقد قال ابن تيمية رحمه الله في موضع آخر: جَعَلَ -تعالى- لِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُم حَقًّا فِي الصَّدَقَاتِ الَّتِي حَصَرَ مَصَارِفَهَا فِي كِتَابِهِ وَتَوَلَّى قَسْمَهَا بِنَفْسِهِ، وَكَانَ هَذَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُم يُعْطَوْنَ مِن الْمَصَالِح - وَمِن الْفَيءِ عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيح - الَّتِي هِيَ أَوْسَعُ مَصْرِفًا مِن الزَّكَاةِ؛ فَإنَّ كُلَّ مَن جَازَ أَنْ يُعْطَى مِن الصَّدَقَةِ أُعْطِيَ مِن الْمَصَاَلِحِ وَلَا يَنْعَكِسُ ..

وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُم هُم مِن أَهْلِ الْمَنْفَعَةِ الَّذِينَ هُم أحَقُّ بِمَالِ الْمَصَالِحِ وَالْفَيءِ، وَلهَذَا أَعْطَاهُم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِن الْفَئِ وَالْمَغَانِمِ كَمَا فَعَلَهُ بِالذهَيْبَةِ الَّتِي بعثَ بِهَا عَلِي مِن الْيَمَنِ.

وَكَمَا فَعَلَ فِي مَغَانِم حنين حَيْثُ قَسَّمَهَا بَيْنَ رُؤَسَاءِ قُريشِ وَأَهْلِ نَجْدِ وَقَالَ: "إنِّي لَأُعْطِي رِجَالًا وَأدَعُ مَن هُوَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْهُمْ، أُعْطِي رِجَالًا لِمَا فِي قُلُوبِهِم مِن الْهَلَعِ وَالْجَزَعِ وَأَكِلُ رِجَالًا إلَى مَا جَعَلَ اللهُ فِي قُلُوبِهِم مِن الْغِنَى وَالْخَيْرِ". (29/ 182 - 183)

ص: 63

3428 -

مَالُ الدِّيوَانِ الْإِسْلَامِي لَيْسَ كلُّهُ وَلَا أَكْثَر حَرَامًا؛ بَل فِيهِ مِن أَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ وَالْفَيْءِ وَأَمْوَالِ الْمَصَالِحِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللهُ، وَفِيهِ مَا هُوَ حَرَامٌ أَو شبْهَةٌ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الَّذِي أَعْطَاهُ مِن الْحَرَامِ لَمْ يَكُن لَهُ أَخذ ذَلِكَ، وَإِن جَهِلَ الْحَالَ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ ذَلِكَ.

* * *

(الغنائم وقسمتها)

3429 -

تحريق رحل الغال من باب التعزير، لا الحد الواجب، فيجتهد فيه الإمام بحسب المصلحة، ومن العقوبة المالية حرمانه صلى الله عليه وسلم السلب للمددي لما كان في أخذه عدوانًا على ولي الأمر.

3430 -

إذا قال الإمام: من أخذ شيئًا فهو له، أو فضَّل بعض الغانمين على بعض، وقلنا: ليس له ذلك على رواية: هل تباح لمن لا يعتقد جواز أخذه؟.

والواجب أن يقال: يباح الأخذ مطلقًا، لكن يشترط أن لا يظلم غيره، وإذا لم يغلب على ظنه واحد من الأمرين فالحل أقرب.

ولو ترك قسمة الغنيمة وترك هذا القول وسكت سكوت الإذن في الانتهاب وأقر على ذلك فهو إذن، فمان الإذن تارة يكون بالقول، وتارة يكون بالفعل، وتارة يكون بالإقرار على ذلك؛ فالثلاث في هذا الباب سواء، كما في إباحة المالك في أكل طعامه ونحو ذلك، بل لو عرف أنه راض بذلك فيما يرون أن يصدر منه قول ظاهر أو فعل ظاهر أو إقرار، فالرضى منه بتغيير إذنه بمنزلة الدال على ذلك؛ إذ الأصل رضاه، حتى لو أقام الحدّ وعقَدَ الأنكحة مَن رَضِيَ الإمامُ بفعله ذلك كان بمنزلة إذنه على أكثر أصولنا، فإنّ الإذن العرفي عندنا كاللفظي، والرضى الخاص كالإذن العام، فيجوز للإنسان أن

ص: 64

يأكل طعام من يعلم رضاه بذلك لِمَا بينهما من المودة، وهذا أصل في الإباحة والوكالات والولايات، لكن لو ترك القسمة ولم يرض بالانتهاب إما لعجزه أو لأخذه المال ونحو ذلك، أو أجاز القسمة فهنا مَن قدر على أخذ مبلغ حقه من هذا المال المشترك فله ذلك؛ لأنَّ مالكيهِ متعينون، وهو قريب من الورثة؛ لكن يُشترط انتفاء المفسدة من فتنة أو نحوها.

3431 -

الإقطاع اليوم إقطاع استغلال، ليس له بيعه ولا هبته باتفاق الأئمة، ولا ينتقل إلى ورثته، بخلاف ما كان في العصور الأولى.

وما يأخذه الجندي ليس أجرة للجهاد؛ لأنه لو كان أجرة كان لفعل الجهاد، وإنما عليهم أن يقاتلوا في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله للهِ، وأجرهم على الله، فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة.

والإقطاع الذي يأخذونه معاونة لهم، ورزقًا لنفقة عيالهم ولإقامة الخيل والسلاح، وفي الحديث:"مثل الدي يغزو من أمتي في سبيل الله مثل أم موسى ترضع ابنها وتأخذ أجرها"

(1)

، فهي ترضعه لما في قلبها عليه من الشفقة والرحمة، لا لأجل أجرها؛ كذلك المجاهد يغزو لما في قلبه من الإيمان بالله والدار الآخرة، لا لأجل المال.

وإذا كان الله قد أمر المسلمين من الصحابة وغيرهم أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأوجب عليهم عشر أموالهم من الخارج من الأرض فكيف لا يجب على من يعطي مالًا ليجاهد؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من جهز غازيًا فقد غزا، ومن خلفه في أهله فقد غزا"

(2)

. فالذي يعطي المجاهد يكون مجاهدًا بماله،

(1)

ضعَّفه الألباني في السلسلة الضعيفة (4500).

(2)

رواه البخاري (2843)، ومسلم (1895).

ص: 65

والمجاهد يجاهد بنفسه، وأجر كل واحد منهما على الله لا ينقص أحدها من الآخر شيئًا، ولم يكن هذا أجيرًا لهذا.

3432 -

يحرم تعشير الأموال والكُلَف التي ضربها الملوك على الناس، ذكره ابن حزم وشيخنا.

3433 -

لم ينص الإمام أحمد على أن الكفار يملكون أموال المسلمين بالقهر ولا على عدمه، وإنما نص على أحكام أخذ منها ذلك.

فالصواب أنهم يملكونها ملكًا مقيدًا لا يساوي ملك المسلمين من كل وجه.

وإذا أسلموا وفي أيديهم أموال المسلمين فهي لهم، نص عليه الإمام أحمد، وقال في رواية أبي طالب: ليس بين المسلمين اختلاف في ذلك.

قال أبو العباس: وهذا يرجع إلى أن كل ما قبضه الكفار من الأموال قبضًا يعتقدون جوازه فإنه يستقر لهم بالإسلام؛ كالعقود الفاسدة والأنكحة والمواريث وغيرها؛ ولهذا لا يضمنون ما أتلفوه على المسلمين بالإجماع.

وما باعه الإمام من الغنيمة أو قسمه وقلنا لم يملكوه ثم عرف ربه فالأشبه أن المالك لا يملك انتزاعه من المشتري مجانًا؛ لأنَّ قبضَ الإمام بحقِّ ظاهرًا وباطنًا.

ويشبه هذا ما يبيعه الوكيل والوصي ثم يتبين مودعًا أو مغصوبًا أو مرهونًا، وكذا القبض، والقبض منه واجب، ومنه مباح، وكذلك صرفه منه واجب، ومنه مباح.

3434 -

المكوس إذا قطعها الإمام الجند فهي حلال لهم إذا جهل مستحقها، وكذلك إذا رتبها للفقراء والفقهاء وأهل العلم.

* * *

ص: 66

(الفيء ومصرفه)

3435 -

لا حق للرافضة في الفيء

(1)

.

3436 -

ليس لولاة الأمور أن يستأثروا منه بما فوق الحاجة؛ كالإقطاع يصرفونه فيما لا حاجة إليه، أو إلى من يهوونه.

3437 -

ويقدم المحتاج على غيره في الأصح عن أحمد.

3438 -

عمال الفيء إذا خانوا فيه وقبلوا هدية أو رشوة فمن فرض له دون أجرته أو دون كفايته وكفاية عياله بالمعروف لم يستخرج منه ذلك القدر.

قال: وإن قلنا: لا يجوز لهم الأخذ خيانة، فإنه يلزم الإمام الإعطاء، فهو كأخذ المضارب حصته أو الغريم دينه بلا إذن فلا فائدة في استخراجه ورده إليهم، بل إن لم يصرفه الإمام في مصارفه الشرعية، لم يعن على ذلك.

3439 -

وَأَمَّا مَذْهَبُ عُمَرَ فِي الْفَيءِ: فَإِنَّهُ يجْعَلُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ فِيهِ حَقًّا، لَكِنَّهُ يُقَدِّمُ الْفُقَرَاءَ وَأَهْلَ الْمَنْفَعَةِ.

وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه فَسَوَّى بَيْنَهُم فِي الْعَطَاءِ إذَا اسْتَوَوْا فِي الْحَاجَةِ، وَإِن كَانَ بَعْضُهُم أَفْضَلَ فِي دِينِهِ، وَقَالَ: إنَمَا أَسْلَمُوا للهِ وَأُجُورُهُم عَلَى اللهِ، وَإِنَّمَا هَذِهِ الدُّنْيَا بَلَاغٌ.

* * *

(باب الأمان والهدنة)

3440 -

لا يصح إلا حيث جاز تأخير الجهاد مدة معلومة لازمة، قال شيخنا: وجائزة.

(1)

لأنهم ليسوا من المسلمين، بل هم أصحاب دين مختلف كبقية الأديان، لا يتفقون مع المسلمين بشيء واحدٍ أبدًا.

ص: 67

وإذا قال: هادناكم ما شئنا أو شاء فلان لم يصح في الأصح؛ كقوله: نُقِرُّكم ما أَقرَّكم الله، واختار شيخنا صحته أيضًا.

3441 -

وَسُئِلَ عَن يَهُودِيٍّ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ الْكِلَابُ أَبْنَاءُ الْكِلَاب يَتَعَصَّبُونَ عَلَيْنَا وَكَانَ قَد خَاصَمَهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ.

فَأَجَابَ رحمه الله: إذَا كَانَ أَرَادَ بِشَتْمِهِ طَائِفَةً مُعَيَّنَةً مِن الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةً تَزْجُرُهُ وَأَمْثَالَهُ عَن مِثْل ذَلِكَ.

وَأَمَّا إنْ ظَهَرَ مِنْهُ قَصْدُ الْعُمُومِ: فَإِنَّهُ يَنْتَقِضُ عَهْدُهُ بِذَلِكَ، وَيَجِبُ قَتْلُهُ.

3442 -

لَو صَالَحَ الْإِمَامُ قَوْمًا مِن الْمُشْرِكِينَ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ وَلَا خَرَاجٍ: لَمْ يَجُزْ إلَّا لِلْحَاجَةِ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ.

أَمَّا إذَا فَتَحْنَا الْأَرْضَ فَتْحَ صُلْحٍ وَأَهْلُهَا مُشْرِكُونَ مِن غَيْرِ أَهْلِ الْجِزْيَةِ: فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُم بِغَيْرِ جِزْيَةٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.

3443 -

مَن قَالَ مِن الْفُقَهَاءِ مِن أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ: إنَّ الْهُدْنَةَ لَا تَصِحُّ إلَّا مُؤَقَّتَة: فَقَوْلُهُ -مَعَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِأُصُولِ أَحْمَد- يَرُدُّهُ الْقُرْآنُ وَتَرُدُّة سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي أكْثَرِ الْمُعَاهَدِينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُوَقِّتْ مَعَهُم وَقْتاً، فَأَمَّا مَن كَانَ عَهْدُهُ مُوَقَّتًا فَلَمْ يُبَحْ لَهُ نَقْضُهُ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:{إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)} [التوبة: 4]

* * *

(أخذ الجزية)

3444 -

الجزية شُرعت عقوبة وعوضًا عن حقن الدم عند أكثر العلماء، وأجرةً عن سكنى الدار عند بعضهم، ومن قال بالثاني لا يسقطها بإسلام من وجبت عليه ولا بموته، ولا جزية على عبد مسلم، وفي عبد الكافر نزاع لأحمد وغيره.

ص: 68

3445 -

اختار أبو العباس في رده على الرافضي أخذ الجزية من جميع الكفار، وأنه لم يبق أحدٌ من مشركي العرب بعد، بل كانوا قد أسلموا.

وقال في الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة: من أخذها من الجميع أو سوى بين المجوس وأهل الكتاب فقد خالف الكتاب والسُّنَّة.

3446 -

لا يبقى في يد راهب مال إلا ما يتبلغ به فقط.

ويجب أن يؤخذ منه مال كالورق التي في الديورة والمزارع إجماعًا.

ومن له تجارة منهم أو زراعة وهو مخالطهم أو معاونهم على دينهم كمن يدعو إليه من راهب وغيره تلزمه الجزية، وحكمه حكمهم بلا نزاع.

3447 -

اتفقوا على التسوية بين اليهود والنصارى لتقابلهما وتعارضهما.

3448 -

العشور التي تؤخذ من تجار أهل الحرب تدخل في أحكام الجزية وتقديرها على الخلاف.

3449 -

الرُّهْبَانُ الَّذِينَ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي قَتْلِهِمْ وَأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُم: هُم الْمَذْكُورُونَ فِي الْحَدِيثِ الْمَأثُورِ عَن خَلِيفَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه أَنَهُ قَالَ فِي وَصِيَّتِهِ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ لَمَّا بَعَثَهُ أَمِيرًا عَلَى فَتْحِ الشَّامِ فَقَالَ لَهُ فِي وَصِيَّتِهِ: "وَسَتَجِدُونَ أَقْوَامًا قَد حَبَسُوا أَنْفُسَهُم فِي الصَّوَامِعِ، فَذَرُوهُم وَمَا حَبَسُوا أَنْفُسَهُم لَهُ".

وَإِنَّمَا نَهَى عَن قَتْلِ هَؤُلَاءِ: لِأَنَّهُم قَوْمٌ مُنْقَطِعُونَ عَن النَّاسِ، مَحْبُوسُونَ فِي الصَّوَامِعِ، يُسَمَّى أَحَدُهُم حَبِيسًا، لَا يُعَاوِنُونَ أَهْلَ دِينِهِمْ عَلَى أَمْرٍ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَصْلًا، وَلَا يُخَالِطُونَهُم فِي دُنْيَاهُمْ، وَلَكِنْ يَكتَفِي أَحَدُهُم بِقَدْرِ مَا يَتَبَلَّغُ بِهِ.

فَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي قَتْلِهِمْ كَتَنَازُعِهِمْ فِي قَتْلِ مَن لَا يَضُرُّ الْمُسْلِمِينَ لَا بِيَدِهِ وَلَا لِسَانِهِ؛ كَالْأَعْمَى وَالزَّمِنِ وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَنَحْوِهِ؛ كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ.

ص: 69

فَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ: لَا يُقْتَلُ إلَّا مَن كَانَ مِن الْمُعَاوِيينَ لَهُم عَلَى الْقِتَالِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِلَّا كَانَ كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ.

وَمِنْهُم مَن يَقُولُ: بَل مُجَرَّدُ الْكُفْرِ هُوَ الْمُبِيحُ لِلْقَتْلِ. وَإِنَّمَا اسْتَثْنَى النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ لِأَنَّهُم أَمْوَالٌ.

وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَنْبَنِي أَخْذُ الْجِزْيَةِ.

وَأَمَّا الرَّاهِبُ الَّذِي يُعَاوِنُ أَهْلَ دِينِهِ بِيَدِهِ وَلِسَانِهِ؛ مِثْل أَنْ يَكُونَ لَهُ رَأيٌ يَرْجِعُونَ إلَيْهِ فِي الْقِتَالِ أَو نَوْعٍ مِن التَّحْضِيضِ: فَهَذَا يُقْتَلُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ إذَا قدِرَ عَلَيْهِ، وَتُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ وَإِن كَانَ حَبِيسًا مُنْفَرِدًا فِي مُتَعَبَّدِهِ، فَكَيْفَ بِمَن هم كَسَائِرِ النَّصَارَى فِي مَعَايِشِهِمْ وَمُخَالَطَتِهِم النَّاسَ، وَاكْتِسَابِ الْأمْوَالِ بِالتِّجَارَاتِ وَالزِّرَاعَاتِ وَالصِّنَاعَاتِ؟

* * *

(بناء الكنائس في مدائن المسلمين)

3450 -

إنَّ مِن الْعِلْمِ الْمُتَوَاقَرِ أَنَّ الْقَاهِرَةَ بُنِيَتْ بَعْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه بِأَكْثَرَ مِن ثَلَاثمِائَةِ سَنَةٍ، بُنِيَتْ بَعْدَ بَغْدَادَ وَبَعْدَ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ وَوَاسِطَ.

وَقَد اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَا بَنَاهُ الْمُسْلِمُونَ مِن الْمَدَائِنِ لَمْ يَكُن لِأَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ يُحْدثُوا فِيهَا كَنِيسَةً؛ مِثْل مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ صُلْحًا، وَأَبْقَوْا لَهُم كَنَائِسَهُم الْقَدِيمَةَ، بَعْدَ أَنْ شَرَطَ عَلَيْهِم فِيهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنْ لَا يُحْدِثُوا كَنِيسَةً فِي أَرْضِ الصُّلْحِ، فَكَيْفَ فِي مَدَائِنِ الْمُسْلِمِينَ؟

بَل إذَا كَانَ لَهُم كَنِيسَةٌ بِأَرْضِ الْعَنْوَةِ كَالْعِرَاقِ وَمِصْرَ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَبَنَى الْمُسْلِمُونَ مَدِينَةً عَلَيْهَا فَإنَّ لَهُم أَخْذَ تِلْكَ الْكنِيسَةِ؛ لِئَلَّا تُتْرَكَ فِي مَدَائِنِ الْمُسْلِمِينَ كَنِيسَةٌ بِغَيْرِ عَهْدٍ؛ فَإِنَّ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد

(1)

بِإسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنِ ابْنِ

(1)

(3053، 3032).

ص: 70

عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَصْلُحُ قِبْلَتَانِ بِأَرْض وَلَا جِزْيَة عَلَى مُسْلِمٍ".

3451 -

الْمَدِينَةُ الَّتِي يَسْكُنُهَا الْمُسْلِمُونَ وَالْقَرْيَةُ الَّتِي يَسْكُنُهَا الْمُسْلِمُونَ وَفِيهَا مَسَاجِدُ الْمُسْلِمِينَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَظْهَرَ فِيهَا شَيءٌ مِن شَعَائِرِ الْكُفْرِ، لَا كَنَائِسَ وَلَا غَيْرهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُم عَهْدٌ فَيُوَفَّى لَهُم بِعَهْدِهِمْ.

فَلَو كَانَ بِأرْضِ الْقَاهِرَةِ وَنَحْوِهَا كَنِيسَةٌ قَبْلَ بِنَائِهَا لَكَانَ لِلْمُسْلِمِينَ أَخْذُهَا؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ عَنْوَةٌ، فَكَيْفَ وَهَذِهِ الْكَنَائِسُ مُحْدَثَةٌ أَحْدَثَهَا النَّصَارَى؟

فَإِنَّ الْقَاهِرَةَ بَقِيَ وُلَاةُ امُورِهَا نَحْو مِائَتَي سَنَةٍ عَلَى غَيْرِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ

(1)

، وَكَانُوا يُظْهِرُونَ أَنَّهُم رَافِضَةٌ وَهُم فِي الْبَاطِنِ: إسْمَاعِيلِيَّة ونصيرية وَقَرَامِطَةٌ بَاطِنِيَّةٌ، كَمَا قَالَ فِيهِمْ الْغَزَالِيُّ -رحمه الله تَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِم: ظَاهِرُ مَذْهَبِهِم الرَّفْضُ وَبَاطِنُهُ الْكُفْرُ الْمَحْضُ.

وَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَمُلُوكِهِمْ، ثُمَّ الرَّافِضَة بَعْدَهُمْ

(2)

.

3452 -

قَد عَرَفَ الْعَارِفُونَ بِالْإِسْلَامِ: أَنَّ الرَّافِضَةَ تَمِيلُ مَعَ أَعْدَاءِ الدِّينِ، وَلَمَّا كَانُوا مُلُوكَ الْقَاهِرَةِ كَانَ وَزِيرُهُم مَرَّةً يَهُوديًّا، وَمَرَّة نَصْرَانِيًّا أَرْمِينِيًّا، وَقَوِيَت النَّصَارَى بِسَبَبِ ذَلِكَ النَّصْرَانِيِّ الْأَرْمِينِيِّ، وَبَنَوْا كَنَائِسَ كَثِيرَةً بِأرْضِ مِصْرَ فِي دَوْلَةِ أُولَئِكَ الرَّافِضَةِ الْمُنَافِقِينَ، وَكَانُوا يُنَادُونَ بَيْنَ الْقَصْرَيْنِ: مَن لَعَنَ وَسَبَّ فَلَهُ دِينَارٌ وإرْدَبٌّ.

(1)

ومع ذلك ظلت مصر السنية على دينها وعقيدتها طوال هذه السنين الطويلة، التي تعاقب عليها الأجيال تلو الأجيال، ولقد أذهب الله دين الرافضة في مصر بذهاب حُكامهم، وبقي وذكرهم السيّء، فدين الرافضة لا تتقبله النفوس الزكيّة، والعقول السليمة، والشعوب الأبيّة.

فلن نيأس من الله تعالى أنْ يُزيل دين الرافضة من بلاد الشام والعراق ولبنان واليمن، الذي جيء به بقوة المال والسلاح منذ أزمنة طويلة، وعثا أصحابُه في هذه البلاد الفساد والشر، ففرجُ اللهِ تعالى قريب، ونصرُه ليس ببعيد.

(2)

فهما طائفتان مختلفتان، وكلاهما عدوتان لدودتان للمسلمين.

ص: 71

وَفِي أَيَّامِهِمْ أَخَذَت النَّصَارَى سَاحِلَ الشَامِ مِن الْمُسْلِمِينَ حَتَّى فَتَحَهُ نورُ الدِّينِ وَصَلَاحُ الدِّينِ.

وَفِي أَيَّامِهِمْ جَاءَت الفرنج إلَى بلبيس وَغَلَبُوا مِن الفرنج؛ فَإِنَّهُم مُنَافِقُونَ، وَأَعَانَهُم النَّصَارَى، وَاللهُ لَا يَنْصُرُ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ هم يُوَالُونَ النَّصَارَى، فَبَعَثُوا إلَى نُورِ الدِّينِ يَطْلُبُونَ النَّجْدَةَ، فَأَمَدَّهُم بِأَسَدِ الدِّينِ وَابْنِ أَخِيهِ صَلَاحِ الدِّينِ، فَلَمَّا جَاءَت الْغُزَاةُ الْمُجَاهِدُونَ إلَى دِيَارِ مِصْرَ قَامَت الرَّافِضةُ مَعَ النَّصَارَى فَطَلَبُوا قِتَالَ الْغزَاةِ الْمُجَاهِدِينَ الْمُسْلِمِينَ، وَجَرَتْ فُصُولٌ يَعْرِفُهَا النَّاسُ حَتَّى قَتَلَ صَلَاحُ الدِّينِ مُقَدِّمَهُم شَاوَرَ.

وَمِن حِينَئِذٍ ظَهَرَتْ بِهَذِهِ الْبِلَادِ كَلِمَة الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةُ وَالْجَمَاعَةُ.

فَبِهَذَا السَّبَبِ وَأَمْثَالِهِ كَانَ إحْدَاثُ الْكَنَائِسِ فِي الْقَاهِرَةِ وَغَيْرِهَا، وَقَد كَانَ فِي بَرِّ مِصْرَ كَنَائِسُ قَدِيمَةٌ، لَكِنْ تِلْكَ الْكَنَائِس أَقَرَّهُم الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا حِينَ فَتَحُوا الْبِلَادَ؛ لأنَّ الْفَلَّاحِينَ كَانُوا كُلُّهُم نَصَارَى وَلَمْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ، وإِنَّمَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ الْجُنْدُ خَاصَّةً.

وَهَكَذَا الْقَرْيَةُ الَّتِي يَكُونُ أَهْلُهَا نَصَارَى وَلَيْسَ عِنْدَهُم مُسْلِمُونَ وَلَا مَسْجِدٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَإِذَا أَقَرَّهُم الْمُسْلِمُونَ عَلَى كَنَائِسِهِمْ الَّتِي فِيهَا جَازَ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَهُ الْمُسْلِمُونَ.

وَأَمَّا إذَا سَكَنَهَا الْمُسْلِمُونَ وَبَنَوْا بِهَا مَسَاجِدَهُمْ: فَقَد قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"لَا تَصْلُحُ قِبْلَتَانِ بِأَرْض"

(1)

، وَفي أَثَرٍ آخَرَ:"لَا يَجْتَمِعُ بَيْتُ رَحْمَةٍ وَبَيْتُ عَذَابٍ".

فَكَانَ وُلَاةُ الْأمُورِ الَّذِينَ يَهْدِمُونَ كَنَائِسَهُم وَيُقِيمُونَ أَمْرَ اللهِ فِيهِمْ كعُمَر بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهَارُونَ الرَّشِيدِ وَنَحْوِهِمَا: مُؤَيّدِينَ مَنْصُورِينَ، وَكَانَ الَّذِينَ هُم بِخِلَافِ ذَلِكَ مَغْلُوبِينَ مقهُورِينَ.

(1)

رواه الترمذي (633)، وأحمد (1949).

ص: 72

وَإِنَّمَا كَثُرَت الْفِتَنُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَفَرَّقوا عَلَى مُلُوكِهِمْ مِن حِينِ دَخَلَ النَّصَارَى مَعَ وُلَاةِ الْأمُورِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي دَوْلَةِ الْمُعِزِّ وَوِزَارَةِ الْفَائِزِ، وَتَفَرُّقِ الْبَحْرِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَقَد أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُم كَنَائِسَ كَثِيرَةً مِن أَرْضِ الْعَنْوَةِ بَعْدَ أَنْ أقِرُّوا عَلَيْهَا فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِهِ مِن الْخُلَفَاءِ، وَلَيْسَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَن أَنْكَرَ ذَلِكَ.

فَعُلِمَ أَنَّ هَدْمَ كَنَائِس الْعَنْوَةِ جَائِزٌ إذَا لَمْ يَكُن فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.

فَإِعْرَاضُ مَن أَعْرَضَ عَنْهُم كَانَ لِقِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَنَحْو ذَلِكَ مِن الْأَسْبَابِ كَمَا أَعْرَضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَن إجْلَاءِ الْيَهُودِ حَتَّى أَجْلَاهُم عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه.

3453 -

وَسُئِلَ: عَن نَصْرَانِيٍّ قِسِّيسٍ بِجَانِبِ دَارِهِ سَاحَةٌ بِهَا كَنِيسَةٌ خَرَابٌ لَا سَقْفَ لَهَا، وَلَمْ يَعْلَمْ أَحدٌ مِن الْمُسْلِمِينَ وَقْتَ خَرَابِهَا، فَاشْتَرَى الْقِسِّيسُ السَّاحَةَ وَعَمَّرَهَا وَأَدْخَلَ الْكَنِيسَةَ فِي الْعِمَارَةِ وَأَصْلَحَ حِيطَانَهَا وَعَمَّرَهَا.

فَأَجَابَ: لَيْسَ لَه أَنْ يُحْدِثَ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْكَنِيسَةِ، وَإِن كَانَ هُنَاكَ آثَارُ كَنِيسَةٍ قَدِيمَةٍ بِبَرِّ الشَّامِ، فَإِنَّ بَرَّ الشَّامِ فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ عنْوَةً وَمَلَكُوا تِلْكَ الْكَنَائِسَ، وَجَازَ لَهُم تَخْرِيبُهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي وُجُوبِ تَخْرِيبِهَا.

3454 -

لَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ أَرْضَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَجُوزُ أَنْ تُحْبَسَ عَلَى الدِّيَارَاتِ وَالصَّوَامِعِ، وَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهَا؛ بَل لَو وَقَفَهَا ذِمِّيٌّ وَتَحَاكَمَ إلَيْنَا لَمْ نَحْكُمْ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ، فَكيْفَ بِحَبْسِ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَعَابِدِ الْكُفَّارِ الَّتِي يُشْرَكُ فِيهَا بِالرَّحْمَنِ وَيُسَبُّ اللهُ وَرَسُولُهُ فِيهَا أَقْبَحَ سَبٍّ؟

وَكَانَ مِن سَبَبِ إحْدَاثِ هَذِهِ الْكَنَائِسِ وَهَذِهِ الْأَحْبَاسِ عَلَيْهَا شَيْئَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ بَنِي عُبَيْدٍ الْقَدَّاحَ - الَّذِينَ كَانَ ظَاهِرُهُم الرَّفْضَ وَبَاطِنُهُم

ص: 73

النِّفَاقَ- يستوزرون تَارَةً يَهُودِيًّا وَتَارَةً نَصْرَانِيًّا، وَاجْتَلَبَ ذَلِكَ النَّصْرَانِيُّ خَلْفًا كَثِيرًا وَبَنَى كَنَائِسَ كَثِيرَةً.

وَالثَّانِي: اسْتِيلَاءُ الْكُتَّابِ مِن النَّصَارَى عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَيُدَلِّسُونَ فِيهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا يَشَاؤُونَ.

* * *

(شروط نُصُوصِ الْوَعْدِ والْوَعِيدِ، وحكم لعن الْمُعيّن)

3455 -

لعن الكفار مطلقًا حسن لما فيهم من الكفر، وأما لعن المعين فينهى عنه وفيه نزاع، وتركه أولى.

3456 -

المنصوص عن أحمد الذي قرره الخلال اللعن المطلق، لا المعين، كما قلنا في نصوص الوعيد والوعد، وكما نقول في الشهادة بالجنة والنار؛ فإنا نشهد بأن المؤمنين في الجنة وأن الكافرين في النار، ونشهد بالجنة والنار لمن شهد له الكتاب والسُّنَّة، ولا نشهد بذلك لمعين إلا من شهد له النص أو شهد له الاستفاضة على قول، فالشهادة في الخبر كاللعن في الطلب، والخبر والطلب نوعا الكلام؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الطعانين واللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة"

(1)

، فالشفاعة ضد اللعن، كما أن الشهادة ضد اللعن.

ثم قال في الرد على الرافضي: لا يجوز، واحتج بنهيه عليه السلام عن لعنة الرجل الذي يُدعى حمارًا.

3457 -

تَنَاوُلُ نُصُوصِ الْوَعْدِ لِلشَّخْصِ مَشْرُوطٌ بِأَنْ يَكُونَ عَمَلُة خَالِصًا لِوَجْهِ اللهِ مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ.

وَكَذَلِكَ تَنَاوُلُ نُضوصِ الْوَعِيدِ لِلشَّخْصِ مَشْرُوطٌ بِألَا يَكُونَ مُتَأوِّلًا وَلَا مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا، فَإِنَّ اللهَ عَفَا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَن الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ.

(1)

رواه مسلم (2598).

ص: 74

وَالسيّئَاتُ الَّتِي يَرْتَكِبُهَا أَهْلُ الذُّنُوبِ تَزُولُ بِالتَّوْبَةِ، وَقَد. تَزُولُ بِحَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ وَمَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ، وَقَد تَزُولُ بِصَلَاةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ وَبِشَفَاعَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ.

فَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ يَخْتَارُونَ فِيمَن عُرِفَ بِالظُّلْمِ وَنَحْوِهِ مَعَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ لَهُ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ فِي الظَّاهِرِ -كَالْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ وَأَمْثَالِهِ- أَنَّهُم لَا يَلْعَنُونَ أَحَدًا مِنْهُم بِعَيْنِهِ؛ بَل يَقُولُونَ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)} [هود: 18]، فَيَلْعَنُونَ مَن لَعَنَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ عَامًّا .. وَلَا يَلْعَنُونَ الْمُعَيَّنَ؛ كَمَا ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" وَغَيْرِهِ: أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُدْعَى حِمَارًا وَكَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْلِدُهُ، فَأُتِيَ بِهِ مَرَّةً فَلَعَنَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"لَا تَلْعَنْهُ، فَإنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ"

(1)

.

وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّعْنَةَ مِن بَابِ الْوَعِيدِ، وَالْوَعِيدُ الْعَامُّ لَا يُقْطَعُ بِهِ لِلشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ لِأحَدِ الْأسْبَابِ الْمَذْكُورَةِ: مِن تَوْبَةٍ، أَو حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ، أَو مَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ، أَو شَفَاعَةٍ مَقْبُولَةٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْأمَّةِ: أَنَّا لَا نَلْعَنُ مُعَيّنًا مُطْلَقًا، وَلَا نُحِبُّ مُعَيّنا مُطْلَقًا.

* * *

(1)

وقد بوَّب البخاري رحمه الله: (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِن لَعْنِ شَارِبِ الخَمْرِ، وإِنَّهُ لَيْسَ بِخَارجٍ مِنَ المِلَّةِ) ثم ذكر بسنده هذا الحديث.

قال الحافظ رحمه الله: صَنِيعُ الْبُخَارِيِّ يَقْتَضِي لَعْنَ الْمُتَّصِفِ بِذَلِكَ مِن غَيْرِ أَنْ يُعَيَّنَ باسْمِهِ فَيُجْمَعُ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ؛ لِأنَّ لَعْنَ الْمُعَيَّنِ وَالدُّعَاءَ عَلَيْهِ قَد يَحْمِلُهُ عَلَى التَّمَادِي أَو يُقَنِّطُهُ مِن قَبُولِ التَّوْبَةِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا صَرَفَ ذَلِكَ إِلَى الْمُتَّصِفِ فَإِنَّ فِيهِ زَجْرًا وَرَدْعًا عَنِ ارْتكَاب ذَلِكَ وَبَاعِثًا لِفَاعِلِهِ عَلَى الْأِقْلَاعِ عَنْهُ، وَيُقَوِّيهِ النَّهْيُ عَنِ التَّثْرِيبِ عَلَى الْأمَةِ إِذَا جُلِدَتْ عَلَى الزِّنَى. اهـ. فتح الباري (12/ 82).

ص: 75

‌(تشميت العاطس وإذا كان كافرًا أو ذِمِّيًّا أو [ما]

(1)

شابة)

3458 -

قال القاضي: إنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم لفظان: أحدهما: "يهديكم الله"

(2)

، الثاني:"يرحمكم الله"

(3)

كذا قال: وصوابه: "يغفر الله لكم"

(4)

قاله الشيخ تقي الدين.

3459 -

قال ابن تميم: لا يشمت الرجل الشابة ولا تشمته، وقال حرب: قلت لأحمد: الرجل يشمت المرأة إذا عطست فقال: إن أراد أن يستنطقها يسمع كلامها فلا؛ لأن الكلام فتنة، وإن لم يرد ذلك فلا بأس أن يشمتها، قال الشيخ تقي الدين: فيه عموم في الشابة.

3460 -

قال الشيخ تقي الدين: وقد نص أحمد على أنه لا يستحب تشميت الذمي.

* * *

(السلام على الكفار وتهنئتهم وتعزيتهم وعيادة مرضاهم)

3461 -

إذا سلم أحدهم وجب الرد عليه عند أصحابنا وعند عامة العلماء لصحة الأحاديث عنه عليه السلام بالرد.

3462 -

قال الشيخ تقي الدين: إذا سلم الذمي على المسلم فإنه يرد عليه مثل تحيته، وإن قال: أهلًا وسهلًا فلا بأس.

وتحرم البداءة بالسلام، وفي الحاجة احتمال، نقل أبو داود فيمن له حاجة إليه: لا يعجبني، ومثله: كيف أنت؟ أو أصبحت؟ أو حالك؟ نص عليه وجوزه شيخنا

(5)

.

(1)

هكذا في الأصل، ولعل الصواب حذفها.

(2)

رواه البخاري (6224).

(3)

رواه أبو داود (5038)، والترمذي (2739)، والدارمي (2701)، وأحمد (998).

(4)

رواه أبو داود (5031)، وضعَّفه الألباني.

(5)

يعني قوله: كيف أنت

إلخ .. (الجامع).

ص: 76

وقال الشيخ تقي الدين: إن خاطبه بكلام غير السلام مما يؤنسه له فلا بأس بذلك.

3463 -

تجوز عيادة أهل الذمة، وتهنئتهم وتعزيتهم، ودخولهم المسجد للمصلحة الراجحة كرجاء الإسلام.

قال العلماء: يعاد الذمي ويعرض عليه الإسلام.

* * *

(من الشروط عليهم)

3464 -

يمنع أهل الذمة من إظهار الأكل في نهار رمضان؛ فإن هذا من المنكر في دين الإسلام.

وليس لهم إظهار شيء من شعائر دينهم في دار الإسلام لا وقت الاستسقاء ولا عند لقاء الملوك.

ويُمنعون من المقام في الحجاز، وهو مكة، والمدينة واليمامة، والينبع، وفدك، وتبوك، ونحوها وما دون المنحنى وهو عقبة الصوان من الشام كمعان.

وإن أبى الذمي بذل الجزية أو الصغار أو التزام حكمنا ينقض عهده.

3465 -

سابُّ الرسول صلى الله عليه وسلم يقتل ولو أسلم

(1)

، وهو مذهب أحمد.

3466 -

من قطع الطريق على المسلمين أو تجسس عليهم أو أعان أهل الحرب على سبي المسلمين أو أسرهم وذهب بهم إلى دار الحرب ونحو ذلك مما فيه مضرة على المسلمين: فهذا يقتل ولو أسلم.

(1)

ولقد أسلم كثير من الكفار في هذا الزمان الذين سبوا الرسول صلى الله عليه وسلم، ونفع الله بإسلامهم، ولو قتلناهم لكان هذا أعظم صادّ لهم ولغيرهم عن الدخول في الإسلام.

وان كان قتلُ من سب الرسول صلى الله عليه وسلم ولو أسلم: واجبًا شرعيًّا، فالواجبات تسقط إذا ترتب عليها مفاسد أعظم من الإتيان بها، وهذا من فقه مقاصد الشريعة.

ص: 77

3467 -

إذا شرط ولي الأمر على التجار الداخلين إلى بلاد الإسلام، وهم من أهل الحرب أن يضمنوا ما أخذه أهل الحرب منهم لتجار المسلمين جاز ذلك وكان شرطًا صحيحًا؛ لأن غايته أنه ضمان مجهول أو ضمان ما لم يجب، فهو كضمان السوق، وهو أن يضمن الضامن ما يجب على التاجر للناس من الديون، وهذا جائز عند أكثر العلماء مالك وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم، كما في قوله:{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)} [يوسف: 72]، ولأن هؤلاء الطائفة الممتنعة ينصر بعضهم بعضًا فهم كالشخص الواحد، فإذا اشترطوا أن تجارهم يدخلون بلاد الإسلام بشرط ألا يأخذوا للمسلمين شيئاً، وما أخذوه كانوا ضامنين له، والمضمون يؤخذ من أموال التجار جاز ذلك؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للأسير العقيلي حين قال: يا محمد علام أوخذ؟ فقال: "بجريرة حلفائك من ثقيف"

(1)

وأسره النبي صلى الله عليه وسلم وحبسه لينال بذلك من حلفائه مقصوده.

3468 -

لو أسرنا حربيًّا لأجل تخليص من أسروه منا جاز باتفاق المسلمين.

ولنا أن نحبسه حتى يردوا أسيرنا، ولو أخذنا مال حربي حتى يردوا علينا ما أخذوه لمسلم جاز، فإذا اشترط عليهم ذلك في عقد الأمان جاز.

3469 -

ليس لأهل الذمة إظهار شيء من شعائر دينهم في ديار المسلمين، لا في أوقات الاستسقاء ولا في وقت مجيء النوائب، ويمنعون من إظهار التوراة، ولا يرفعون أصواتهم بالقراءة وصلاتهم، وعلى ولي الأمر منعهم من ذلك.

3470 -

لا يُمنع أهل الذمة مِن ركوب جنس الخيل، فلو ركبوا البراذين التي لا زينة فيها والبغال على هذه الصفة فلا منع.

(1)

رواه مسلم (1641).

ص: 78

3471 -

يمنعون من تعلية البنيان على جيرانهم المسلمين، وقال العلماء: ولو في ملك مشترك بين مسلم وذمي؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

3472 -

ما فتحه المسلمون -كأرض خيبر التي فتحت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكعامَّة أرض الشام وبعض مدنها وكسواد العراق إلا مواضع قليلة فتحت صلحًا وكأرض مصر؛ فإن هذه الأقاليم فتحت عنوة على خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد روي في أرض مصر أنها فتحت صلحًا، وروي أنها فتحت عنوة، وكلا الأمرين صحيح، على ما ذكره العلماء المتأملون للروايات الصحيحة في هذا الباب؛ فإنها فتحت أولًا صلحًا، ثم نقض أهلها العهد فبعث عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يستمده فأمده بجيش كثير فيه الزبير بن العوام ففتحها المسلمون الفتح الثاني عنوة .. - فما فتحه المسلمون عنوة: فقد ملكهم الله إياه، كما ملكهم ما استولوا عليه من النفوس والأموال والمنقول والعقارَ.

ويدخل في العقار معابد الكفار ومساكنهم وأسواقهم ومزارعهم وسائر منافع الأرض، كما يدخل في المنقول سائر أنواعه من الحيوان والمتاع والنقد.

وليس لمعابد الكفار خاصة تقتضي خروجها عن ملك المسلمين؛ فإن ما يقال فيها من الأقوال ويفعل فيها من العبادات: إما أن يكون مبدلًا أو محدثًا لم يشرعه الله قط، أو يكون الله نهى عنه بعد ما شرعه.

وقد أوجب الله على أهل دينه جهاد أهل الكفر حتى يكون الدين كله للهِ، وتكون كلمة الله هي العليا، ويرجعوا عن دينهم الباطل إلى الهدى ودين الحق الذي بعث الله به خاتم المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، ويعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون.

ص: 79

3473 -

هل يجوز للإمام عقد الذمة مع بقاء المعابد بأيديهم؟ فيه خلاف معروف في مذاهب الأئمة الأربعة:

منهم من يقول: لا يجوز تركها لهم؛ لأنه إخراج ملك المسلمين عنها وإقرار الكفر بلا عهد قديم.

ومنهم من يقول: بجواز إقرارهم فيها إذا اقتضت المصلحة ذلك، كما أقر النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر فيها، وكما أقر الخلفاء الراشدون الكفار على المساكن والمعابد.

فمن قال بالأول قال: حكم الكنائس حكم غيرها من العقار، منهم من يوجب إبقاءه كمالك في المشهور عنه وأحمد في رواية، ومنهم من يخير الإمام فيه بين الأمرين بحسب المصلحة، وهذا قول الأكثرين وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه، وعليه دلت سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قسم نصف خيبر وترك نصفها لمصالح المسلمين.

ومن قال بجواز إقرارها بأيديهم فقوله أوجه وأظهر، فإنهم لا يملكون بهذا الإقرار رقاب المعابد كما يملك الرجل ماله، كما أنهم لا يملكون ما ترك لمنافعهم المشتركة كالأسواق والمراعي، كما لم يملك أهل خيبر ما أقرهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المساكن والمعابد، ومجرد إقرارهم ينتفعون بها ليس تمليكًا، كما لو أقطع المسلم بعض عقار بيت المال ينتفع بغلته أو سلم إليه مسجد أو رباط ينتفع به لم يكن ذلك تمليكًا له؛ بل ما أقروا فيه من كنائس العنوة يجوز للمسلمين انتزاعها منها إذا اقتضت المصلحة ذلك، كما انتزعها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل خيبر بأمره بعد إقرارهم فيها، وقد طلب المسلمون في خلافة الوليد بن عبد الملك أن يأخذوا من النصارى بعض كنائس العنوة التي خارج دمشق، فصالحوهم على إعطائهم الكنيسة التي داخل البلد وأقر ذلك عمر بن عبد العزيز أحد الخلفاء الراشدين

(1)

ومن معه في عصره من أهل

(1)

وصفه بهذا الوصف الشريف وحُقّ له، فقد كان من أعلم وأزهد وأعدل أهل زمانِه رحمه الله تعالى.

ص: 80

العلم؛ فإن المسلمين لما أرادوا أن يزيدوا جامع دمشق بالكنيسة التي إلى جانبه وكانت من كنائس الصلح لم يكن لهم أخذها قهرًا، فاصطلحوا على المعاوضة بإقرار كنائس العنوة التي أرادوا انتزاعها، وكان ذلك الإقرار عوضًا عن كنيسة الصلح التي لم يكن لهم أخذها عنوة.

3474 -

متى انتقض عهدهم: جاز أخذ كنائس الصلح منهم فضلًا عن كنائس العنوة كما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ما كان لقريظة والنضير لما نقضوا العهد؛ فإن ناقض العهد أسوأ حالًا من الكافر الأصلي؛ ولذلك لو انقرض أهل مصر من الأمصار ولم يبق من دخل في عهدهم فإنه يصير للمسلمين جميع عقارهم ومنقولهم من المعابد وغيرها فيئًا، فإذا عقدت الذمة لغيرهم كان كالعهد المبتدأ وكان لمن يعقد لهم الذمة أن يقرهم في المعابد، وله أن لا يقرهم بمنزلة ما فتح ابتداء، فإنه لو أراد الإمام عند فتحه هدم ذلك جاز بإجماع المسلمين، ولم يختلفوا في جواز هدمه، وإنما اختلفوا في جواز بقائه، وإذا لم تدخل في العهد كانت فيئًا للمسلمين.

وهذا الجواب حكمه فيما كان من معابدهم قديمًا قبل فتح المسلمين.

أمَّا ما حدث بعد ذلك فإنه يجب إزالته، ولا يُمَكَّنون من إحداث البِيَع والكنائس، كما شرط عليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الشروط المشهورة عنه:"ألا يجددوا في مدائن الإسلام ولا فيما حولها كنيسة ولا صومعة ولا ديرًا ولا قلاية"؛ امتثالًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تكون قبلتان ببلد واحد"

(1)

رواه أحمد وأبو داود بإسناد جيد، ولما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لا كنيسة في الإسلام.

وهذا مذهب الأئمة الأربعة في الأمصار، ومذهب جمهورهم في القرى، وما زال من يوفقه الله من ولاة أمور المسلمين ينفذ ذلك ويعمل به مثل عمر بن

(1)

رواه أبو داود (3032)، وضعَّفه الألباني.

ص: 81

عبد العزيز الذي اتفق المسلمون على أنه إمام هدى؛ فروى الإمام أحمد عنه أنه كتب إلى نائبه عن اليمن أن يهدم الكنائس التي في أمصار المسلمين؛ فهدمها بصنعاء وغيرها.

وروى الإمام أحمد عن الحسن البصري أنه قال: من السُّنَّة أن تهدم الكنائس التي في الأمصار القديمة والحديثة. وكذلك هارون الرشيد في خلافته أمر بهدم ما كان في سواد بغداد، وكذلك المتوكل لما ألزم أهل الكتاب بشروط عمر استفتى أهل وقته في هدم الكنائس والبيع فأجابوه فبعث بأجوبتهم إلى الإمام أحمد فأجابه بهدم كنائس سواد العراق وذكر الآثار عن الصحابة والتابعين، فمما ذكره ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أيما مصر مصرته العرب- يعني: المسلمين- فليس للعجم - يعني: أهل الذمة-، أن يبنوا فيه كنيسة، ولا يضربوا فيه ناقوسًا، ولا يشربوا فيه خمرًا، وأيما مصر مصرته العجم ففتحه الثه على العرب فإن للعجم ما في عهدهم، وعلى العرب أن يوفوا بعهدهم، ولا يكلفوهم فوق طاقتهم.

3475 -

كلُّ مِصْرٍ مَصَّره العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه بيعةٌ، ولهم رمُّ ما تشعث منها، وعنه

(1)

: وبناؤها إذا انهدمت، وعنه: منعهما، اختاره الأكثر، قاله ابن هبيرة؛ كمنع الزيادة، قال شيخنا: ولو في الكيفية، وقال: لا أعلى ولا أوسع اتفاقًا.

3476 -

الكنائس ليست ملكًا لأحد، وأهل الذمة ليس لهم منع من يعبد الله فيها؛ لأنا صالحناهم عليه.

والعابد بينهم وبين الغافلين: أعظمُ أجرًا

(2)

.

* * *

(1)

أي: عن الإمام أحمد.

(2)

أي: الذي يعبد الله ويذكره بين الكفار أو بين الغافلين من المسلمين: أعظمُ أجرًا ممن عبد الله بين أهل الصلاح والخير.

ص: 82

(لا يقال لزائر كنائسهم: يا حاج، ولا لمن يزور القبور والمشاهد)

3477 -

إذا زار أهل الذمة كنيسة بيت المقدس فهل يقال لهم: يا حاج مثلًا؟ لا ينبغي أن يقال لهم ذلك تشبيهًا بحاج البيت الحرام، ومن اعتقد أن زيارتها قربة فقد كفر، فإن كان مسلمًا فهو مرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، فإن جهل أن ذلك محرم عرف ذلك، فإن أصر فقد كفر وصار مرتدًّا، ومن قال لأحدهم: يا حاج فإنه يعاقب عقوبة بليغة تردعه عن مثل هذا الكلام الذي فيه تشبيه القاصدين للكنائس بالقاصدين لبيت الله الحرام، وفيه تعظيم لذلك النصراني وللكنيسة، وهو بمنزلة من يشبه أعياد النصارى بأعياد المسلمين ويعظمها، وأمثال ذلك مما فيه تشبيه الذين كفروا من أهل الكتاب بأهل الإيمان وقد قال تعالى:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)} [القلم: 35].

3478 -

يلزم تمييز قبورهم عن قبورنا تمييزًا ظاهرًا كالحياة وأولى، ذكره شيخنا وألا يتكنوا بكنية المسلمين؛ كأبي القاسم، وأبي عبد الله، وكذا اللقب؛ كعز الدين، ونحوه.

ومِن حمل سِلاحٍ والعملِ به، وتعلُّمِ المقاتَلَة والطعانِ والرميِ وركوبِ الخيل.

3479 -

قال ابن القيم رحمه الله: ولما أحرقت النصارى أموال المسلمين بالشام ودورهم وراموا إحراق جامعهم الأعظم حتى أحرقوا منارته، وكادوا لولا دفاع الله أن يحترق كله، وعلم من علم بذلك من النصارى وواطؤوا عليه وأقروه ورضوا به ولم يعلموا به ولي الأمر فاستفتى فيهم ولي الأمر من حضره من الفقهاء وأفتيناه بانتقاض عهد من فعل ذلك وأعان عليه بوجه من الوجوه، أو رضي به وأقر عليه، وأن حدَّه القتل حتمًا لا تخيير للإمام فيه كالأسير، بل صار القتل له حدًّا، والإسلام لا يسقط القتل إذا كان حدًّا ممن هو تحت الذمة

ص: 83

ملتزمًا لأحكام الله؛ بخلاف الحربي إذا أسلم فإن الإسلام يعصم دمه وماله ولا يقتل بما فعله قبل الإسلام، فهذا له حكم، والذمي الناقض للعهد إذا أسلم له حكم آخر، وهذا الذي ذكرناه هو الذي تقتضيه نصوص الإمام أحمد وأصوله، ونص عليه شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه، وأفتى به في غير موضع.

3480 -

من تولى منهم ديوانًا للمسلمين انتقض عهده؛ لأنه من الصغار.

3481 -

كل ما يفعل في أعياد الكفار من الخصائص التي يعظم بها فليس للمسلم أن يفعل شيئًا منها، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من تشبه بقوم فهو منهم"

(1)

، وقال صلى الله عليه وسلم:"ليس منا من تشبه بغيرنا"

(2)

.

وقد شارط عمر بن الخطاب رضي الله عنه أهل الكتاب ألا يظهروا شيئًا من شعائر الكفار لا الأعياد ولا غيرها، واتفق المسلمون على نهيهم عن ذلك كما شرطه عليهم أمير المؤمنين، وسواء قصد المسلم التشبه بهم أو لم يقصد ذلك بحكم العادة التي تعودها، فليس له أن يفعل ما هو من خصائصهم، وكل ما فيه تخصيص عيدهم بلباس وطعام ونحو ذلك فهو من خصائص أعيادهم، وليس ذلك من دين المسلمين.

وكذلك التزين يوم عيد النصارى من المنكرات، وصنعة الطعام الزائد عن العادة، وتكحيل الصبيان .. وعمل الولائم، وجمع الناس على الطعام في عيدهم، ومن فعل هذه الأمور يتقرب بها إلى الله تعالى راجيًا بركتها فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل؛ فإن هذا من إخوان النصارى، كما لو عظم رجل

(1)

رواه أبو داود (4031)، وأحمد (5114)، وقال الألباني في صحيح أبي داود: حسن صحيح.

(2)

رواه الترمذي (2695)، وحسَّنه الألباني.

ص: 84

الصليب وصلى إلى المشرق، وتعمد بالعمودية فإن من فعل هذا فهو كافر مرتد يجب قتله شرعًا وإن أظهر مع ذلك الإسلام.

وأما القمار فيه فإنه حرام في كل وقت فيه وفي غيره.

وكذلك البخور فيه ونحو ذلك.

وبالجملة: فليس ليوم عيدهم مزية على غيره، ولا يفعل فيه شيء مما يميزونه هم به.

ولكن لو صامه الرجل قصدًا لمخالفتهم فقد كرهه كثير من العلماء، كما روي عن أنس بن مالك، والحسن البصري، وأحمد بن حنبل، وغيرهم رضي الله عنهم؛ لأن من تخصيص أعياد الكفار بالصوم نوع تعظيم لها، وإن كانوا هم لا يصومونه فكيف إذا كان التعظيم من جنس ما يفعلونه؟ ألا ترى أن اليهود كانوا يتخذون يوم عاشوراء عيذا فيصومونه ويظهرون السرور فيه، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بصيامه مرة واحدة قبل أن يفرض رمضان، فلما فرض رمضان سقط وجوبه وبقي صومه مستحبًّا ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له إن اليهود والنصارى يتَّخذونه عيدًا قال:"لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع"

(1)

، فقال أكثر أهل العلم: مراده صوم التاسع والعاشر؛ لئلا يخص يوم عاشوراء بالصوم، كما نهى عن إفراد يوم الجمعة بالصوم، وكان يقول:"صوموا يومًا قبله أو يومًا بعده"

(2)

، وهو صلى الله عليه وسلم فعل هذا في عاشوراء بعد أن كان أمر بصيامه ليخالف اليهود ولا يشاركهم في إفراد تعظيمه، هذا مع أن عاشوراء لم يشرع فيه غير الصوم باتفاق علماء المسلمين.

* * *

(1)

رواه مسلم (1134)، بلفظ: "لئن بقيت

".

(2)

قال الألباني في صحيح ابن خزيمة (2095): إسناده ضعيف، وروي موقوفًا وسنده صحيح.

ص: 85

(الرسالة القبرصيّة)

3482 -

وَقَالَ -قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ-:

(1)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِن أَحْمَد ابْنِ تَيْمِيَّة إلَى سرجوان عَظِيمِ أَهْلِ مِلَّتِهِ وَمَن تَحُوطُ بِهِ عِنَايَتُهُ مِن رُؤَسَاءِ الدِّينِ وَعُظَمَاءِ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْكُتَّابِ وَأَتْبَاعِهِمْ، سَلَامٌ عَلَى مَن اتَّبَعَ الْهُدَى.

أمَّا بَعْدُ: فَإِنَّا نَحْمَدُ إلَيْكُم اللهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ إلَهَ إبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ، وَنَسْأَلُهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى عِبَادِهِ الْمُصْطَفِينَ وَأَنْبِيَائِهِ الْمُرْسَلِينَ، وَيَخُصُّ بِصَلَاتِهِ وَسَلَامِهِ أُولِي الْعَزْمِ الَّذِينَ هُم سَادَةُ الْخَلْقِ وَقَادَةُ الْأُمَمِ، الَّذِينَ خُصُّوا بِأَخْذِ الْمِيثَاقِ وَهُم: نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ.

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ اللهَ خَلَقَ الْخَلَائِقَ بِقُدْرَتِهِ، وَأَظْهَرَ فِيهِمْ آثَارَ مَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتهِ وَرَحْمَتهِ، وَجَعَلَ الْمَقْصُودَ الَّذِي خُلِقُوا لَهُ فِيمَا أَمَرَهُم بِهِ هُوَ عِبَادَتهُ.

وَأَصْلُ ذَلِكَ هُوَ مَعْرِفَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ، فَمَن هَدَاهُ الله صِرَاطَهُ الْمُسْتَقِيمَ آتَاهُ رَحْمَةً وَعِلْمًا، وَمَعْرِفَةً بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا، وَرَزَقَهُ الْإنَابَةَ إلَيْهِ، وَالْوَجَلَ لِذِكْرِهِ وَالْخُشُوعَ لَهُ وَالتَّأَلُّهَ لَهُ، فَحَنَّ إلَيْهِ حَنِينَ النُّسُورِ إلَى أَوْكَارِهَا، وَكَلَفَ

(2)

بِحُبِّهِ تَكَلُّفَ الصَّبِيَّ بِأُمَّهِ، لَا يَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ رَغْبَةً وَرَهْبَةً وَمَحَبَّةً، وَأَخْلَصَ دِينَهُ لِمَن الدُّنْيَا وَالْآخِرَة لَهُ رَبَّ الْأوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، خَالِقِ مَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ، عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الَّذِي أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.

وَقَد أَخْبَرَ الْحَوَارِيُّونَ عَن خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ أَنَّهُ يُبْعَثُ مِن أَرْضِ الْيَمَنِ، وَأَنَّهُ

(1)

الرسالة القبرصية أرسلها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى ملك قبرص يحثه فيها على إطلاقِ أسارى المسلمين.

(2)

قال صاحب العين: الكَلَفُ: الإيلاع بالشيء، كَلِفَ بهذا الأمر وبهذه الجارية فهو بها كَلِفٌ، وكَلِفتُ هذا الأمر وتكلَّفْته. اهـ.

قلت: ومنه قولهم: "لَا يَكُن حُبُّكَ كَلَفًا، وَلَا بُغْضُكَ تَلَفًا".

ص: 86

يُبْعَثُ بِقَضِيبِ الْأَدَب وَهُوَ السَّيْفُ، وَأَخْبَرَ الْمَسِيحُ أَنَّهُ يَجِيءُ بِالْبَيَّنَاتِ وَالتَّأْوِيلِ، وَأَنَّ الْمَسِيحَ جَاءَ بِالأَمْثَالِ.

وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ شَرْحُهُ.

وَإِنَّمَا نَبَّهَ الدَّاعِي

(1)

لِعَظِيمِ مِلَّتِهِ وَأَهْلِهِ

(2)

لما بَلَغَنِي مَا عِنْدَهُ مِن الدِّيَانَةِ وَالْفَضْلِ وَمَحَبَّةِ الْعِلْمِ وَطَلَبِ الْمُذَاكَرَةِ، وَرَأَيْت الشَّيْخَ أَبَا الْعَبَّاسِ المقدسي

(3)

شَاكِرًا مِن الْمَلِكِ: مِن رِفْقِهِ وَلُطْفِهِ وَإِقْبَالِهِ عَلَيْهِ وَشَاكِرًا مِن الْقِسِّيسِينَ وَنَحْوِهِمْ.

وَنَحْنُ قَوْمٌ نُحِبُّ الْخَيْرَ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَنُحِبُّ أَنْ يَجْمَعَ اللهُ لَكُمْ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ

(4)

.

وَلَمَّا قَدِمَ مُقَدَّمُ الْمَغُولِ غازان وَأَتْبَاعُهُ إلَى دِمَشْقَ، وَكَانَ قَد انْتَسَبَ إلَى الْإِسْلَامِ، لَكِنْ لَمْ يَرْضَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالْمُومِنُونَ بِمَا فَعَلُوهُ؛ حَيْثٌ لَمْ يَلْتَزِمُوا دِينَ اللهِ، وَقَد اجْتَمَعَتُ بِهِ وَبِأُمَرَائِهِ وَجَرَى لِي مَعَهُم فُصُولٌ يَطُولُ شَرْحُهَا لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ قَد بَلَغَت الْمَلِكَ؛ فَأَذَلَّهُ اللهُ وَجُنُودَهُ لَنَا، حَتَّى بَقِينَا نَضْرِبُهُم بِأَيْدِينَا وَنَصْرُخُ فِيهِمْ بِأَصْوَاتِنَا، وَكَانَّ مَعَهُم صَاحِبَ سيسَ

(5)

مِثْلُ أَصْغَرِ غُلَامٍ يَكُونُ، حَتَّى كَانَ بَعْض الْمُؤَذِّنِينَ الَّذِينَ مَعَنَا يَصْرُخُ عَلَيْهِ وَيَشْتُمُهُ وَهُوَ لَا يَجْتَرِئُ أَنْ يُجَاوِبَهُ، حَتَّى إنَّ وُزَرَاءَ غازان ذَكَرُوا مَا يَنُمُّ عَلَيْهِ مِن فَسَادِ النِّيَّةِ لَهُ

(6)

، وَكُنْتُ حَاضِرًا لَمَّا جَاءَت رُسُلُكُمْ إلَى نَاحِيَةِ السَّاحِلِ، وَأَخْبَرَنِي التَّتَارُ بِالْأمْرِ الَّذِي أَرَادَ صَاحِبُ سِيسَ أَنْ يَدْخُلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ فِيهِ، حَيْثُ مَنَّاكُمْ بِالْغُرُورِ، وَكَانَ التّتَارُ مِن أَعْظَمِ النَّاسِ شَتِيمَة لِصَاحِبِ سِيسَ وَإِهَانَة لَهُ.

(1)

يعني: نفسه.

(2)

يعني: الملك.

(3)

أحد الأسرى عند هذا الملك، وقد أطلق سراحه بشفاعة أو فدية.

(4)

هكذا هم أهل السُّنَّة والجماعة، رحماء يُحبون الهداية للناس، ويتمنون أن يموتوا على الإسلام، ويرفقون في كلامهم مع غير المسلمين، ما لم تقتض المصلحةُ الغلظة معهم.

(5)

يظهر أنه من النصارى، قاتل مع التتار ضد المسلمين.

(6)

أي: لصَاحِب سيسَ.

ص: 87

وَمَعَ هَذَا: فَإِنَّا كُنَّا نُعَامِلُ أَهْلَ مِلَّتِكُمْ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِم وَالذَّبِّ عَنْهُمْ.

وَقَد عَرَفَ النَّصَارَى كُلُّهُم أَنِّي لَمَّا خَاطَبْت التَّتَارَ فِي إطْلَاقِ الْأَسْرَى وَأَطْلَقَهُم غازان وقطلوشاه، وَخَاطَبْت مَوْلَايَ فِيهِمْ فَسَمَحَ بِإِطْلَاقِ الْمُسْلِمِينَ.

قَالَ لِي: لَكِنَّ مَعَنَا نَصَارَى أَخَذْنَاهُم مِن الْقُدْسِ فَهَؤُلَاءِ لَا يُطْلَقُونَ.

فَقُلْت لَهُ: بَل جَمِيعُ مَن مَعَك مِن الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ هُم أَهْلُ ذِمَّتِنَا؛ فَإِنَّا نفْتِكَهُم وَلَا نَدَعُ أَسِيرًا لَا مِن أَهْلِ الْمِلَّةِ وَلَا مِن أَهْلِ الذِّمَّةِ.

وَأَطْلَقْنَا مِن النَّصَارَى مَن شَاءَ اللهُ.

فَهَذَا عَمَلُنَا وَإِحْسَانُنَا وَالْجَزَاءُ عَلَى اللهِ.

وَكَذَلِكَ السَّبْيُ الَّذِي بِأَيْدِينَا مِن النَّصَارَى يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ إحْسَانَنَا وَرَحْمَتَنَا وَرَأْفَتَنَا بِهِم؛ كَمَا أَوْصَانَا خَاتَمُ الْمُرْسَلِينَ حَيْثُ قَالَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ: "الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ"

(1)

.

قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)} [الإنسان: 8].

وَمَعَ خُضُوعِ التَّتَارِ لِهَذِهِ الْمِلَّةِ وَانْتِسَابِهِم إلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ، فَلَمْ نُخَادِعْهُم وَلَمْ نُنَافِقْهمْ؛ بَل بَيَّنَّا لَهُم مَا هُم عَلَيْهِ مِن الْفَسَادِ وَالْخُرُوجِ عَن الْإِسْلَامِ الْمُوجِبِ لِجِهَادِهِمْ، وَأَنَّ جُنُودَ اللهِ الْمُؤَيَّدَة، وَعَسَاكِرَهُ الْمَنْصُورَةَ الْمُسْتَقِرَّةَ بِالدَّيَارِ الشَّامِيَّةِ وَالْمِصْرِيَّةِ: مَا زَالَتْ مَنْصُورَة عَلَى مَن نَاوَأَهَا، مُظَفَّرَةً عَلَى مَن عَادَاهَا، وَفِي هَذِهِ الْمُدَّةِ لَمَّا شَاعَ عِنْدَ الْعَامَّةِ أَنَّ التَّتَارَ مُسْلِمُونَ أَمْسَكَ الْعَسْكَر عَن قِتَالِهِمْ، فَقتلَ مِنْهُم بِضْعَة عَشَرَ أَلْفًا، وَلَمْ يُقْتلْ مِن الْمُسْلِمِينَ مِائَتَانِ.

فَلَمَّا انْصَرَفَ الْعَسْكَرُ إلَى مِصْرَ وَبَلَغَهُ مَا عَلَيْهِ هَذِهِ الطَّائِفَةُ الْمَلْعُونَةُ مِن الْفَسَادِ وَعَدَمِ الدِّينِ: خَرَجَتْ جُنُودُ اللهِ وَلِلْأَرْضِ مِنْهَا وَئِيدٌ

(2)

، قَد مَلَأَت السَّهْلَ

(1)

رواه ابن ماجه (1625)، وأحمد (12169).

(2)

أي: صوتٌ عالٍ شديد.

ص: 88

وَالْجَبَلَ، فِي كَثْرَةٍ وَقُوَّةٍ وَعدَّةٍ وَإِيمَانٍ وَصِدْقٍ، قَد بَهَرَت الْعُقُولَ وَالْألْبَابَ، مَحْفُوفَةٌ بِمَلَائِكَةِ اللهِ الَّتِي مَا زَالَ يُمدُّ بِهَا الْأُمَّةَ الْحَنِيفِيَّةَ الْمُخْلِصَةَ لِبَارِئِهَا، فَانْهَزَمَ الْعَدُوُّ بَيْنَ أَيْدِيهَا وَلَمْ يَقِفْ لِمُقَابَلَتِهَا.

ثُمَّ أَقْبَلَ الْعَدُوُّ ثَانِيًا فَأَرْسَلَ عَلَيْهِ مِن الْعَذَابِ مَا أَهْلَكَ النُّفُوسَ وَالْخَيْلَ، وَانْصَرَفَ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ، وَصَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهُوَ الْآنُ فِي الْبَلَاءِ الشَّدِيدِ، والتعكيس الْعَظِيمِ، وَالْبَلَاءِ الَّذِي أَحَاطَ بِهِ.

وَالْإسْلَامُ فِي عِزَّ مُتَزَايدٍ، وَخَيْرٍ مُتَرَافِدٍ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَد قَالَ:"إنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فِي رَأْسِ كُلَّ مِائَةِ سَنَةٍ مَن يُجَدِّدُ لَهَا أَمْرَ دِينِهَا"

(1)

.

وَهَذَا الدِّينُ فِي إقْبَالٍ وَتَجْدِيدٍ، وَأَنَا نَاصِحٌ لِلْمَلِكِ وَأَصْحَابِهِ وَاللهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالْفُرْقَانَ.

فَيَا أَيُّهَا الْمَلِكُ، كَيْفَ تَسْتَحِلُّ سَفْكَ الدِّمَاءِ وَسَبْيَ الْحَرِيمِ وَأَخْذَ الْأَمْوَالِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ مِنَ اللهِ وَرُسُلِهِ؟

ثُمَّ أَمَا يَعْلَمُ الْمَلِكُ أَنَّ بِدِيَارِنَا مِنَ النَّصَارَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْأَمَانِ مَا لَا يُحْصِي عَدَدَهُم إلَّا اللهُ وَمُعَامَلَتُنَا فِيهِمْ مَعْرُوفَةٌ، فَكَيْفَ يُعَامِلُونَ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ بِهَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي لَا يَرْضَا بهَا ذُو مُرُوءَةٍ وَلَا ذُو دِينٍ، لَسْت أَقُولُ عَن الْمَلِكِ وَأَهْلِ بَيْته وَلَا إخْوَتِهِ، فَإِنًّ أَبَا الْعَبَّاسِ شَاكِرٌ لِلْمَلِكِ وَلِأَهْلِ بَيْتِهِ كَثِيرًا مُعْتَرِفًا بِمَا فَعَلُوهُ مَعَهُ مِن الْخَيْرِ، وَإِنَّمَا أَقُولُ عَن عُمُومِ الرَّعِيَّةِ، أَلَيْسَ الْأَسْرَى فِي رَعِيَّةِ الْمَلِكِ؟ أَلَيْسَتْ عُهُودُ الْمَسِيحِ وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ تُوَصِّي بِالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ؟ فَأَيْنَ ذَلِكَ؟

ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْهُم إنَّمَا أُخِذُوا غَدْرًا وَالْغَدْرُ حَرَامٌ فِي جَمِيعِ الْمِلَلِ وَالشَّرَائِعِ وَالسِّيَاسَاتِ.

(1)

رواه أبو داود (4291).

ص: 89

فَكيْفَ تَسْتَحِلُّونَ أَنْ تَسْتَوْلُوا عَلَى مَن أُخذَ غَدْرًا؟ أَفَتأْمَنُونَ مَعَ هَذَا أَنْ يُقَابِلَكُمْ الْمُسْلِمُونَ بِبَعْضِ هَذَا وَتَكُونُونَ مَغْدُورِينَ؟ واللهُ نَاصِرُهُم وَمُعِينُهُمْ، لَا سِيَّمَا فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، وَالْأُمَّةُ قَد امْتَدَّتْ لِلْجِهَادِ، وَاسْتَعَدَّتْ لِلْجَلَّادِ، وَرَغِبَ الصَّالِحُونَ وَأَوْلِيَاءُ الرَّحْمَنِ فِي طَاعَتِهِ، وَقَد تَوَلَّى الثُّغُورَ السَّاحِلِيَّةَ أُمَرَاءُ ذَوُو بَأْسٍ شَدِيدٍ، وَقَد ظَهَرَ بَعْضُ أَثَرِهِمْ وَهُم فِي ازْدِيَادٍ.

ثُمَّ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مِن الرِّجَالِ الفداوية الَّذِينَ يَغْتَالُونَ الْمُلُوكَ فِي فُرُشِهَا وَعَلَى أَفْرَاسِهَا، مَن قَد بَلَغَ الْمَلِكُ خَبَرهُم قَدِيمًا وَحَدِيثًا.

وَنَحْنُ إذَا رَأَيْنَا مِن الْمَلِكِ وَأَصْحَابِهِ مَا يَصْلُحُ عَامَلْنَاهُم بِالْحُسْنَى، وَإِلَّا فَمَن بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ.

وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ مِن أَيْسَرِ الْأمُورِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَا مَا غَرَضِي السَّاعَةَ إلَّا مُخَاطَبَتُكُمْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَالْمُعَاوَنَةُ عَلَى النَّظَرِ فِي الْعِلْمِ وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ وَفِعْلِ مَا يَجِبُ.

فَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْمَلِكِ مَن يَثِقُ بِعَقْلِهِ وَدِينِهِ فَلْيَبْحَثْ مَعَهُ عَن أُصُولِ الْعِلْمِ وَحَقَائِقِ الْأَدْيَانِ، وَلَا يَرْضَا أَنْ يَكُونَ مِن هَؤُلَاءِ النَّصَارَى الْمُقَلِّدِينَ الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ، إنْ هُم إلَّا كَالْأَنْعَامِ؛ بَل هُم أَضَلُّ سَبِيلًا.

وَمِن الْعَجَبِ كُلَّ الْعَجَبِ أنْ يَأْسِرَ النَّصَارَى قَوْمًا غَدْرًا أَو غَيْرَ غَدْرٍ وَلَمْ يُقَاتِلُوهُمْ، وَالْمَسِيحُ يَقُولُ:"مَن لَطَمَك عَلَى خَدِّك الْأَيْمَنِ فَأَدِرْ لَهُ خَدَّك الْأَيْسَرَ، وَمَن أَخَذَ رِدَاءَك فَأَعْطِهِ قَمِيصَك".

وَكُلَّمَا كَثُرَتِ الْأَسْرَى عِنْدَكُمْ كَانَ أَعْظَمَ لِغَضبِ اللهِ وَغَضَبِ عِبَادِهِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ السُّكُوتُ عَلَى أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ فِي قُبْرُصَ سِيَّمَا وَعَامَّةُ هَؤُلَاءِ الْأَسْرَى قَوْمٌ فُقَرَاءُ وَضُعَفَاءُ لَيْسَ لَهُم مَن يَسْعَى فِيهِمْ، وَهَذَا أَبُو الْعَبَّاسِ مَعَ أَنَّهُ مِن عُبَّادِ الْمُسْلِمِينَ وَلَهُ عِبَادَةٌ وَفَقْرٌ، وَفِيهِ مَشْيَخَةٌ، وَمَعَ هَذَا فَمَا كَادَ يَحْصُلُ لَهُ فِدَاؤُهُ إلَّا بِالشَّدَّةِ.

ص: 90

وَدِينُ الْإِسْلَامِ يَأْمُرُنَا أَنْ نُعِينَ الْفَقِيرَ وَالضَّعِيفَ، فَالْمَلِكُ أَحَقُّ أَنْ يُسَاعِدَ عَلَى ذَلِكَ مِن وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، لَا سِيَّمَا وَالْمَسِيحُ يُوصِي بِذَلِكَ فِي الْإِنْجِيلِ، وَيَأْمُرُ بِالرَّحْمَةِ الْعَامَّةِ وَالْخَيْرِ الشَّامِلِ كَالشَّمْسِ وَالْمَطَرِ.

وَالْمَلِكُ وَأَصْحَابُهُ إذَا عَاوَنُونَا عَلَى تَخْلِيصِ الْأَسْرَى وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِم كَانَ الْحَظُّ الْأَوْفَرُ لَهُم فِي ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

أَمَّا فِي الْآخِرَةِ: فَإِنَّ اللهَ يُثِيبُ عَلَى ذَلِكَ وَيَأْجُرُ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِمَّا لَا رَيْبَ فِيهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ الْمَسِيحِيَّينَ الَّذِينَ لَا يَتَّبِعُونَ الْهَوَى.

أَمَّا فِي الدُّنْيَا: فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَقْدَرُ عَلَى الْمُكَافَأةِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرَّ مِن كُلِّ أَحَدٍ، وَمَن حَارَبُوهُ فَالْويلُ كُلَّ الْوَيْلِ لَهُ.

ثُمَّ إنَّ فِي بِلَادِهِمْ مِن النَّصَارَى أَضْعَافَ مَا عِنْدَكُمْ مِن الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ فِيهِمْ مِن رُؤُوسِ النَّصَارَى مَن لَيْسَ فِي الْبَحْرِ مِثْلُهُم إلَّا قَلِيلٌ.

وَأَمَّا أُسَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ فِيهِمْ مَن يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَلَا مَن يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَإِنَّمَا نَسْعَى فِي تَخْلِيصِهِمْ لِأجْلِ اللهِ تَعَالَى رَحْمَةً لَهُم وَتَقَرُّبًا إلَيْهِ يَوْمَ يَجْزِي اللهُ الْمُصَدَّقِينَ وَلَا يُضَيَّعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.

وَاَلَّذِي أَخْتِمُ بِهِ الْكِتَابَ الْوَصِيَّةَ بِالشَّيْخِ أَبِي الْعَبَّاسِ وَبِغَيْرِهِ مِن الْأسْرَى وَالْمُسَاعَدَةِ لَهُمْ، وَالرِّفْق بِمَن عِنْدَهُم مِن أَهْلِ الْقُرْآَنِ، وَالِامْتِنَاعِ مِن تَغْيِيرِ دِينِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَسَوْفَ يَرَى الْمَلِكُ عَاقِبَةَ ذَلِكَ كُلَّهِ.

وَنَحْنُ نَجْزِي الْمَلِكَ عَلَى ذَلِكَ بِأَضْعَافِ مَا فِي نَفْسِهِ، وَاللهُ يَعْلَمُ أَنِّي قَاصِدٌ لِلْمَلِكِ الْخَيْرَ؛ لِأنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِذَلِكَ وَشَرَعَ لَنَا أَنْ نُرِيدَ الْخَيْرَ لِكُلَّ أَحَدٍ وَنَعْطِفَ عَلَى خلقِ اللهِ، وَنَدْعُوهُم إلَى اللهِ وَإِلَى دِينِهِ وَنَدْفَع عَنْهُم شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنَّ.

وَاللهُ الْمَسْؤُولُ أَنْ يُعِينَ الْمَلِكَ عَلَى مَصْلَحَتِهِ الَّتِي هِيَ عِنْدَ اللهِ الْمَصْلَحَةُ، وَأَنْ يُخَيِّرُ لَهُ مِن الْأَقْوَالِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ اللهِ، وَيَخْتِمَ لَهُ بِخَاتِمَةِ خَيْرٍ.

ص: 91

وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَوَاتُهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ الْمُرْسَلِينَ، وَلَا سِيَّمَا مُحَمَّدٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، وَالسَّلَامُ عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ

(1)

.

* * *

(قاعدة في الحسبة)

3483 -

هَذِهِ قَاعِدَةٌ فِي الْحِسْبَةِ

(2)

: أَصْلُ ذَلِكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ جَمِيعَ الْوِلَايَاتِ فِي الْإِسْلَامِ مَقْصُودُهَا أَنْ يَكُونَ الدَّينُ كُلُّهُ للهِ، وَأَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا.

وَكُلُّ بَنِي آدَمَ لَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهُم لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ إلَّا بِالِاجْتِمَاعِ وَالتَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ؛ فَالتَّعَاوُنُ وَالتَّنَاصُرُ عَلَى جَلْبِ مَنَافِعِهِمْ، وَالتَّنَاصُرُ لِدَفْعِ مَضَارِّهِمْ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ: الْإِنْسَانُ مَدَنِيٌّ بِالطَّبْعِ.

فَإِذَا اجْتَمَعُوا فَلَا بُدَّ لَهُم مِن أُمُورٍ يَفْعَلُونَهَا يَجْتَلِبُونَ بِهَا، وَأُمُورٍ يَجْتَنِبُونَهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَفْسَدَةِ، وَيَكُونُونَ مُطِيعِينَ لِلْآمِرِ بِتِلْكَ الْمَقَاصِدِ وَالنَّاهِي عَن تِلْكَ الْمَفَاسِدِ، فَجَمِيعُ بَنِي آدَمَ لَا بُدَّ لَهُم مِن طَاعَةِ آمِرٍ وَنَاهٍ.

(1)

في هذه الرسالة من اللطائف والتعامل الحسن مع غير المسلمين، فمن ذلك لطف الشيخ في خطابه، ومنادته الملك بالألفاظ اللائقة بالملوك، وثناؤه عليه.

وقد استخدم الشيخ كافة الأساليب في إقناعه، فمرة يميل إلى التهديد بغير تصريح، ومرة يميل إلى استعطافه.

فأين هذا الأسلوب اللطيف اللين اللبق، من خطاب الخوارج في وقتنا هذا، الذين يُجاهرون بسفك دماء غير المسلمين، ويهددون ويفجرون الآمنين؟

مع أن الشيخ خاطب الملك الذي في حوزته الكثير من أسرى المسلمين، وقد قُتل بعضهم، وأهين الكثير منهم، وقاتلوا مع التتر وأيَّدوهم، ومع ذلك استعمل اللين والرفق.

وفيه أنه راسل الملك وناصحه ووعظه، وحثه على إطلاق سراح المسلمين الأسارى عنده، ولم يكل الأمر إلى ولاة الأمر، وهكذا كان العلماء يُناصحون ولاة أمر بلادهم وغيرهم، وكم نفع الله بهذه المناصحات، وقد ضرب الشيخ الإمام العلَّامة عبد العزيز بن باز رحمه الله أروع الأمثلة في مناصحة الحكام، وقد أعتق الله رقاب كثير من علماء المسلمين والمصلحين بشفاعته ورسائله التي يُرسلها لولاة الأمر الذين حكموا على بعض رعاياهم بالإعدام أو بالسجن.

(2)

الحسبة في اصطلاح العلماء: منصبٌ دينيّ يقوم ولي الأمر بمقتضاه بتعيين من يتولى مهمةَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ صيانة للمجتمع من الانحراف، وحماية للدين من الضياع، وتحقيقًا لمصالح الناس الدينية والدنيوية وفقًا لشرع الله تعالى.

ص: 92

وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِن طَاعَةِ آمِرٍ وَنَاهٍ: فَمَعْلُومٌ أَنَّ دُخُولَ الْمَرْءِ فِي طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ خَيْرٌ لَهُ

(1)

، وَهُوَ الرَّسُولُ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ الْمَكْتُوبُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ الَّذِي يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَن الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُم الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِم الْخَبَائِثَ، وَذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ.

وَإِذَا كَانَ جِمَاعُ الدِّينِ وَجَمِيعُ الْوِلَايَاتِ هُوَ أَمْرٌ وَنَهْيٌ؛ فَالْأَمْرُ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ رَسُولَهُ: هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ الَّذِي بَعَثَهُ بِهِ: هُوَ النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهَذَا نَعْتُ النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71]، وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ قَادِرٍ، وَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ.

وَيَصِيرُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى الْقَادِرِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُ.

وَالْقُدْرَةُ هُوَ السُّلْطَانُ وَالْوِلَايَةُ، فَذَوُو السُّلْطَانِ أَقْدَرُ مِن غَيْرِهِمْ، وَعَلَيْهِم مِن الْوُجُوبِ مَا لَيْسَ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَإِنَّ مَنَاطَ الْوُجُوبِ فوَ الْقُدْرَةُ، فَيَجِبُ عَلَى كُلَّ إنْسَانٍ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ، قَالَ تَعَالَى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].

3484 -

إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي أَنَّ عَاقِبَةَ الظُّلْمِ وَخِيمَةٌ، وَعَاقِبَة الْعَدْلِ كَرِيمَةٌ، وَلِهَذَا يُرْوَى:"اللَّهُ يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَإِن كَانَت كَافِرَةً، وَلَا يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الظَّالِمَةَ وَإِن كَانَت مُؤْمِنَةً".

3485 -

يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَلِيَّ أَمْرٍ أَنْ يَسْتَعِينَ بِأَهْلِ الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ اسْتَعَانَ بِالْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ، وَإِن كَانَ فِيهِ كَذِبٌ وَظُلْمٌ؛ فَإِنَّ اللهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ وَبِأَقْوَام لَا خَلَاقَ لَهُمْ، وَالْوَاجِبُ إنَّمَا هُوَ فِعْلُ الْمَقْدُورِ، وَقَد قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَو عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: "مَن قَلَّدَ رَجُلًا عَلَى عِصَابَةٍ

(1)

والمرء لا ينفك من دخوله في طاعة غيره، من ملك أو رئيس أو هوى، فإذا كان كذلك: فلْتكن طاعته تحت من تنفعُه طاعتُه، وتضرُّه معصيتُه، وهو الله جل جلاله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

ص: 93

وَهُوَ يَجِدُ فِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَن هُوَ أَرْضَى للهِ مِنْهُ فَقَد خَانَ اللهَ وَخَانَ رَسُولَهُ وَخَانَ الْمُؤْمِنِينَ"

(1)

.

3486 -

جَمِيعُ هَذِهِ الْوِلَايَاتِ هِيَ فِي الْأَصْلِ وِلَايَةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَمَنَاصِبُ دِينِيَّةٌ

(2)

، فَأَيُّ مَن عَدَلَ فِي وِلَايَةٍ مِن هَذِهِ الْوِلَايَاتِ فَسَاسَهَا بِعِلْمٍ وَعَدْلٍ وَأَطَاعَ اللهَ وَرَسُولَهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَهُوَ مِن الْأَبْرَارِ الصَّالِحِينَ، وَأَيُّ مَن ظَلَمَ وَعَمِلَ فِيهَا بِجَهْل فَهُوَ مِن الْفُجَّارِ الظَّالِمِينَ، إنَّمَا الضَّابِطُ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} [الانفطار: 13، 14].

3487 -

وَأَمَّا الْمُحْتَسِبُ فَلَهُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَن الْمُنْكرِ مِمَّا لَيْسَ مِن خَصَائِصِ الْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ وَأَهْل الدِّيوَانِ وَنَحْوهمْ، وَكَثِيرٌ مِن الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ وُلَاةِ الْأُمُورِ، فَمَن أَدَّى فِيهِ الْوَاجِبَ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ فِيهِ، فَعَلَى الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْمُرَ الْعَامَّةَ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي مَوَاقِيتِهَا، وَيُعَاقِبَ مَن لَمْ يُصَلِّ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ، وَأَمَّا الْقَتْلُ فَإِلَى غَيْرِهِ.

وَذَلِكَ أَنَّ الصَّلَاةَ هِيَ أَعْرَفُ الْمَعْرُوفِ مِن الْأَعْمَالِ، وَهِيَ عَمُودُ الْإِسْلَامِ وَأَعْظَمُ شَرَائِعِهِ، وَهِيَ قَرِينَةُ الشَّهَادَتَيْنِ.

وَأَمْرُهَا أَعْظَمُ مِن أَنْ يُحَاطَ بِهِ فَاعْتِنَاءُ وُلَاةِ الْأَمْرِ بِهَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ اعْتِنَائِهِمْ بِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ.

3488 -

لَيْسَ لِأهْلِ السُّوقِ أَنْ يَبِيعُوا الْمُمَاكِسَ بِسِعْر، وَيَبِيعُوا الْمُسْتَرْسِلَ الَّذِي لَا يُمَاكِسُ أَو مَن هُوَ جَاهِلٌ بِالسِّعْرِ بِأَكْثَرَ مِن ذَلِكَ السِّعْرِ، هَذَا مِمَّا يُنْكَرُ عَلَى الْبَاعَةِ.

(1)

رواه ابن أبي عاصم (1462)، والحاكم (7023) والعقيلي في الضعفاء (90)، عن حسين بن قيس، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعًا.

قال العقيلي: "لا يتابع عليه، ولا يعرف إلا به، ويروى من كلام عمر بن الخطاب". اهـ.

وضعَّفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (4545).

(2)

حتى منصب الإمارة والشرطة وغيرها، فلْيستشعر الولاة عظم هذا المنصب.

ص: 94

وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ تَلَقِّي السِّلَعِ؛ فَإنَّ الْقَادِمَ جَاهِلٌ بِالسِّعْرِ؛ وَلِذَلِكَ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لَبَادٍ وَقَالَ: "دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللهُ بَعْضَهُم مِن بَعْضٍ"

(1)

.

وَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ مَا قَوْلُهُ: "لَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لَبَادٍ"؟

قَالَ: لَا يَكُونُ لَهُ سِمْسَارٌ.

وَهَذَا نَهْيٌ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِن ضَرَرِ الْمُشْتَرِينَ؛ فَإِنَّ الْمُقِيمَ إذَا تَوَكَّلَ لِلْقَادِمِ فِي بَيْعِ سِلْعَةٍ يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهَا، وَالْقَادِمُ لَا يَعْرِفُ السِّعْرَ ضَرَّ ذَلِكَ الْمُشْتَرِيَ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللهُ بَعْضَهُم مِن بَعْضٍ".

3489 -

رَوَى مُسْلِمٌ

(2)

فِي "صَحِيحِهِ" عَن مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَحْتَكِرُ إلَّا خَاطئٌ"، فَإِنَّ الْمُحْتَكِرَ هُوَ الَّذِي يَعْمَدُ إلَى شِرَاءِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاسُ مِن الطَّعَامِ فَيَحْبِسُهُ عَنْهُم وَيُرِيدُ إغْلَاءَهُ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ ظَالِمٌ لِلْخَلْقِ الْمُشْتَرِينَ، وَلِهَذَا كَانَ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يُكْرِهَ النَّاسَ عَلَى بَيْعِ مَا عِنْدَهُم بِقِيمَةِ الْمِثْل عِنْدَ ضَرُورَةِ النَّاسِ إلَيْهِ.

وَمِن هُنَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ السِّعْرَ:

أ - مِنْهُ مَا هُوَ ظُلْمٌ لَا يَجُوزُ.

ب - وَمِنْهُ مَا هُوَ عَدْلٌ جَائِزٌ.

فَإِذَا كَانَ النَّاسُ يَبِيعُونَ سِلَعَهُم عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ مِن غَيْرِ ظُلْمٍ مِنْهُمْ، وَقَد ارْتَفَعَ السِّعْرُ: إمَّا لِقِلَّةِ الشَّيءِ، وَإِمَّا لِكَثْرَةِ الْخَلْقِ: فَهَذَا إلَى اللهِ، فَإِلْزَامُ الْخَلْقِ أَنْ يَبِيعُوا بِقِيمَةٍ بِعَيْنِهَا إكْرَاهٌ بِغَيْرِ حَقّ.

وَأمَّا الثَّانِي: فَمِثْلُ أَنْ يَمْتَنِعَ أَرْبَابُ السِّلَعِ مِن بَيْعِهَا مَعَ ضَرُورَةِ النَّاسِ إلَيْهَا إلَّا بِزِيَادَة عَلَى الْقِيمَةِ الْمَعْرُوفَةِ، فَهُنَا يَجِبُ عَلَيْهِم بَيْعُهَا بِقِيمَةِ الْمِثْلِ، وَلَا مَعْنَى لِلتَّسْعِيرِ إلَّا إلْزَامَهُم بِقِيمَةِ الْمِثْلِ، فَيَجِبُ أَنْ يَلْتَرِمُوا بِمَا أَلْزَمَهُم اللهُ بِهِ.

(1)

رواه مسلم (1522).

(2)

(1605).

ص: 95

وَأَبْلَغُ مِن هَذَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ قَدِ الْتَزَمُوا أَلَّا يَبِيعَ الطَّعَامَ أَو غَيْرَهُ إلَّا أُنَاسٌ مَعْرُوفُونَ، لَا تُبَاعُ تِلْكَ السَّلَعُ إلَّا لَهُم، ثُمَّ يَبِيعُونَهَا هُم، فَلَو بَاعَ غَيْرُهُم ذَلِكَ مُنِعَ .. : فَهَهُنَا يَجِبُ التَّسْعِيرُ عَلَيْهِمْ، بِحَيْثُ لَا يَبِيعُونَ إلَّا بِقِيمَةِ الْمِثْلِ، وَلَا يَشْتَرُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ إلَّا بِقِيمَةِ الْمِثْل بِلَا تَرَدُّدٍ فِي ذَلِكَ عِنْدَ أحَدٍ مِن الْعُلَمَاءِ.

وَمَا احْتَاجَ إلَى بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ عُمُومُ النَّاسِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ لَا يُبَاعَ إلَّا بِثَمَنِ الْمِثْلِ، إذَا كَانَت الْحَاجَةُ إلَى بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ عَامَّةً.

3490 -

قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِن الْفُقَهَاءِ مِن أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ كَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَأَبِي الْفَرَجِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرِهِمْ: إنَّ هَذِهِ الصِّنَاعَاتِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا تَتِمُّ مَصْلَحَةُ النَّاسِ إلَّا بِهَا؛ كَمَا أَنَّ الْجِهَادَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، إلَّا أَنْ يَتَعَيَّنَ فَيَكونُ فَرضًا عَلَى الْأَعْيَانِ.

3491 -

طَلَبُ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ فَرْضٌ عَلَى الْكفَايَةِ إلَّا فِيمَا يَتَعَيَّنُ؛ مِثْل طَلَبِ كُلَّ وَاحِدٍ عِلْمَ مَا أَمَرَهُ اللهُ بِهِ وَمَا نَهَاهُ عَنْهُ؛ فَإِنَّ هَذَا فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ، كَمَا أَخْرَجَاهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"مَن يُرِد اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدَّينِ"

(1)

، وَكُلُّ مَن أَرَادَ اللهُ بِهِ خَيْرًا لَا بُدَّ أَنْ يُفَقِّهَهُ فِي الدِّينِ، فَمَن لَمْ يُفَقِّهْهُ فِي الدَّينِ لَمْ يُرِد الله بِهِ خَيْرًا.

وَالدِّينُ: مَا بَعَثَ اللهُ بِهِ رَسُولَه، وَهُوَ مَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ التَّصْدِيقُ بِهِ وَالْعَمَلُ بِهِ.

3492 -

الْعَاجِزُ عَن الْجِهَادِ بِنَفْسِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ بِمَالِهِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ إحْدَى الرَّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمَد؛ فَإِنَّ اللهَ أَمَرَ بِالْجِهَادِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِن الْقُرْآنِ، وَقَد قَالَ اللهُ تَعَالَى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].

(1)

أخرجه البخاري (3116)، ومسلم (1037).

ص: 96

فَمَن عَجَزَ عَن الْجِهَادِ بِالْبَدَنِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْجِهَادُ بِالْمَالِ، كَمَا أَنَّ مَن عَجَزَ عَن الْجِهَادِ بِالْمَالِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْجِهَادُ بِالْبَدَنِ.

3493 -

إذَا امْتَنَعَ النَّاسُ مِن بَيْعِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِم بَيْعُهُ: فَهُنَا يُؤمَرُونَ بِالْوَاجِبِ، وَيُعَاقَبُونَ عَلَى تَرْكِهِ.

وَكَذَلِكَ مَن وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَ بِثَمَنِ الْمِثْل فَامْتَنَعَ أَنْ يَبِيعَ إلَّا بِأَكْثَرَ مِنْهُ: فَهُنَا يُؤْمَرُ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ بِلَا رَيْبٍ.

وَمَن مَنَعَ التَّسْعِيرَ مُطْلَقًا مُحْتَجًّا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ، وَإِنَّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى الله وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُني بِمَظْلِمَةٍ فِي دَم وَلَا مَالٍ"

(1)

: فَقَد غَلِطَ؛ فَإِنَّ هَذِهِ قَضِيَّةٌ مُعَيَّنَةٌ لَيْسَتْ لَفْظًا عَامًّا، وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّ أَحَدًا امْتَنَعَ مِن بَيْعٍ يَجِبُ عَلَيْهِ، أَو عَمَلٍ يَجِبُ عَلَيْهِ، أَو طَلَبَ فِي ذَلِكَ أَكْثَرَ مِن عِوَضِ الْمِثْلِ.

3494 -

إذَا قُدِّرَ أنَّ قَوْمًا اُضْطُرُّوا إلَى سُكْنَى فِي بَيْتِ إنْسَانٍ إذَا لَمْ يَجِدُوا مَكَانًا يَأْوُونَ إلَيْهِ إلَّا ذَلِكَ الْبَيْتَ: فَعَلَيْهِ أَنْ يُسَكِّنَهُمْ.

وَكَذَلِكَ لَو احْتَاجُوا إلَى أَنْ يُعِيرَهُم ثِيَابًا يَسْتَدْفِئُونَ بِهَا مِن الْبَرْدِ، أَو إلَى آلَاتٍ يَطْبُخُونَ بِهَا، أَو يَبْنُونَ أَو يَسْقُونَ: يَبْذُلُ هَذَا مَجَّانًا.

وَإِذَا احْتَاجُوا إلَى أَنْ يُعِيرَهُم دَلْوًا يَسْتَقُونَ بِهِ، أَو قِدْرًا يَطْبُخُونَ فِيهَا، أَو فَأْسًا يَحْفِرُونَ بِهِ: فَهَل عَلَيْهِ بَذْلُهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْل لَا بِزِيَادَةٍ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ، وَالصَّحِيحُ وُجُوبُ بَذْلِ ذَلِكَ مَجَّانًا إذَا كَانَ صَاحِبُهَا مُسْتَغْنِيًا عَن تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ وَعِوَضِهَا؛ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ قَالَ اللهُ تَعَالَى:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} [الماعون: 4 - 7].

(1)

رواه أبو داود (3451)، والترمذي (1314)، وابن ماجه (2200)، وقال الترمذي: هذا الحديث حسن صحيح.

ص: 97

وَفِي السُّنَنِ عَن ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ الْمَاعُونَ عَارِيةَ الدَّلْوِ وَالْقِدْرِ وَالْفَأْسِ.

3495 -

مَا احْتَاجَ إلَيْهِ النَّاسُ حَاجَةً عَامَّةً فَالْحَقُّ فِيهِ للهِ؛ وَلهَذَا يَجْعَلُ الْعُلَمَاءُ هَذِهِ حُقُوقًا للهِ تَعَالَى، وَحُدُودًا للهِ، بِخِلَافِ حُقُوقِ الْآدَمِيّينَ وَحُدُودِهِمْ، وَذَلِكَ مِثْلُ حُقُوقِ الْمَسَاجِدِ، وَمَالِ الْفَيْءِ، وَالصَّدَقَاتِ، وَالْوَقْفِ عَلَى أَهْلِ الْحَاجَاتِ، وَالْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمِثْل حَدِّ الْمُحَارَبَةِ وَالسَّرِقَةِ وَالزنى وَشُرْبِ الْخَمْرِ؛ فَإِنَّ الَّذِي يَقْتُلُ شَخْصًا لِأَجْلِ الْمَالِ يُقْتَلُ حَتْمًا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَلَيْسَ لِوَرَثَةِ الْمَقْتُولِ الْعَفُوُّ عَنْة، بِخِلَافِ مَن يَقْتُلُ شَخْصًا لِغَرَضٍ خَاصٍّ؛ مِثْل خصُومَةٍ بَيْنَهُمَا؛ فَإِنَّ هَذَا حَقٌّ لِأَوْليَاءِ الْمَقْتُول، إنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا، وَإِن أَحَبُّوا عَفَوْا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.

وَحَاجَةُ الْمُسْلِمِينَ إلَى الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ: لَيْسَ الْحَقُّ فِيهَا لِوَاحِدٍ بِعَيْنِهِ.

3496 -

نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَن تَلَقِّي الْجَلَبِ، وَجعَلَ لِلْبَائِعِ إذَا هَبَطَ إلَى السُّوقِ الْخِيَارُ؛ وَلهَذَا كَانَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ نَهَى عَن ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِن ضَرَرِ الْبَائِعِ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْل وَغَبْنِهِ، فَأَثْبَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْخِيَارَ لِهَذَا الْبَائِعِ.

وَهَل هَذَا الْخِيَارُ فِيهِ ثَابِتٌ مطْلَقًا أَو إذَا غُبنَ؟ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَن أَحْمَد، أَظْهَرُهُمَا أَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ إذَا غُبنَ.

وَفِي الْجُمْلَةِ: فَقَد نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَن الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ الَّذِي جِنْسُهُ حَلَالٌ حَتَّى يَعْلَمَ الْبَائِعُ بِالسَّعْرِ وَهُوَ ثَمَنُ الْمِثْلِ، وَيَعْلَمُ الْمُشْتَرِي بِالسِّلْعَةِ.

وَصَاحِبُ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ يَقُولُ: لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَشْتَرِيَ حَيْثُ شَاءَ، وَقَد اشْتَرَى مِن الْبَائِعِ، كَمَا يَقُولُ: وَلِلْبَادِي أَنْ يُوَكِّلَ الْحَاضِرَ.

وَلَكِنَّ الشَّارعَ رَاعَى الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ؛ فَإِنَّ الْجَالِبَ إذَا لَمْ يَعْرِف السِّعْرَ كَانَ جَاهِلًا بِثَمَنِ الْمِثْلِ، فَيَكُونُ الْمُشْتَرِي غَارًّا لَهُ؛ وَلِهَذَا أَلْحَقَ مَالِكٌ وَأَحْمَد

ص: 98

بِذَلِكَ كُلَّ مُسْتَرْسِلٍ، وَالْمُسْتَرْسِلُ: الَّذِي لَا يُمَاكِسُ وَالْجَاهِلُ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ؛ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْجَالِبِينَ الْجَاهِلِينَ بِالسَّعْرِ.

فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ لَا يَبِيعَ مِثْل هَؤُلَاءِ إلَّا بِالسَّعْرِ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ ثَمَنُ الْمِثْل، وَإِن لَمْ يَكُن هَؤُلَاءِ مُحْتَاجِينَ إلَى الِابْتِيَاعِ مِن ذَلِكَ الْبَائِعِ، لَكِنْ لِكَوْنِهِمْ جَاهِلِينَ بِالْقِيمَةِ، أَو مُسْلِمِينَ إلَى الْبَائِع غَيْرَ مُمَاكِسين لَهُ، وَالْبَيْعُ يُعْتَبَرُ فِيهِ الرِّضَا، وَالرِّضا يَتْبَعُ الْعِلْمَ، وَمَن لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ غَبْنٌ فَقَد يَرْضَى وَقَد لَا يَرْضَى، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ غُبِنَ وَرَضِيَ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يَرْضَ بِثَمَنِ الْمِثْل لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى سَخَطِهِ.

وَلِهَذَا أَثْبَتَ الشَّارعُ الْخِيَارَ لِمَن لَمْ يَعْلَمْ بِالْعَيْبِ أَو التَّدْلِيسِ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْبَيْع الصِّحَّةُ وَأَنْ يَكونَ الْبَاطِنُ كَالظَّاهِرِ، فَإِذَا اشْتَرَى عَلَى ذَلِكَ فَمَا عُرِفَ رِضَاهُ إلَّا بِذَلِكَ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ فِي السِّلْعَةِ غِشًّا أَو عَيْبًا فَهُوَ كَمَا لَو وَصَفَهَا بِصِفَةٍ وَتبَيَّنَتْ بِخِلَافِهَا، فَقَد يَرْضَى وَقَد لَا يَرْضَى، فَإِنْ رَضِيَ وَإِلَّا فَسَخَ الْبَيْعَ.

3497 -

الْعُقُوبَةُ لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى ذَنْبٍ ثَابِتٍ، وَأَمَّا الْمَنْعُ وَالِاحْتِرَاز فَيَكُونُ مَعَ التُّهْمَةِ.

3498 -

الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَن الْمُنْكَرِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ

(1)

؛ فَإِنَّ اللهَ يَزَعُ بِالسُّلْطَانِ مَا لَا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ.

وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ وَاجِبَةٌ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ.

3499 -

التَّعْزِيرُ أَجْنَاسٌ، فَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِالتَّوْبِيخِ وَالزَّجْرِ بِالْكَلَامِ، وَمِنْهُ مَا

(1)

وهذا بخلاف ما يُنادي به التغريبيون من اقتصار الآمرين بالمعروف والنَّاهين عن المنكر على النصح والتوجيه فحسب، وأن يتركوا الناس يختارون ما يشاؤون، فلا إكراه في الدين!

وهذا خطأ محض، فالإسلام لا يُكره الناس على إدخالهم في الدين، لكن لا يجوز أن يُمكن الناس من إظهار ما يُخالف الإسلام ويُجرئ بعضهم بعضًا على انتهاك الحرمات، وترك الواجبات، وإلا ضاع الدين.

ص: 99

يَكُونُ بِالْحَبْسِ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِالنَّفْيِ عَن الْوَطَنِ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِالضَّرْبِ.

وَأَمَّا أَكْثَرُ التَّعْزِيرِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ أَحَدُهَا: عَشْرُ جَلَدَاتٍ.

وَالثَّانِي: دُونَ أَقَلَّ الْحُدُودِ؛ إمَّا تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ سَوْطًا؛ وَإِمَّا تِسْعَةٌ وَسَبْعُونَ سَوْطًا.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَتَقَدَّرُ بِذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَطَائِفَةٍ مِن أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.

لَكِنْ إنْ كَانَ التَّعْزِيرُ فِيمَا فِيهِ مُقَدَّرٌ لَمْ يَبْلُغْ بِهِ ذَلِكَ الْمُقَدَّرَ؛ مِثْل التَّعْزِيرِ عَلَى سَرِقَةٍ دُونَ النِّصَابِ لَا يَبْلُغُ بِهِ الْقَطْعَ، وَالتَّعْزِيرِ عَلَى الْمَضْمَضَةِ بِالْخَمْرِ لَا يَبْلُغُ بِهِ حَدَّ الشُّرْبِ، وَالتَّعْزِيرِ عَلَى الْقَذْفِ بِغَيْرِ الزنى لَا يَبْلُغُ بِهِ الْحَدَّ.

وَهَذَا الْقَوْلُ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ، عَلَيْهِ دَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ.

وَمَن لَمْ يَنْدَفِعْ فَسَادُهُ فِي الْأَرْضِ إلَّا بِالْقَتْلِ قُتِلَ؛ مِثْل الْمُفَرِّقِ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالدَّاعِي إلَى الْبِدَعِ فِي الدِّينِ.

وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ الْمُخْتَصَرَةُ مَوْضِعَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُحْتَسِبَ لَيْسَ لَهُ الْقَتْلُ وَالْقَطْعُ.

3500 -

التَّعْزِيرُ بِالْعُقُوبَاتِ الْمَالِيَّةِ مَشْرُوعٌ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ مَخْصُوصَةٍ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَمَذْهَبِ أَحْمَد فِي مَوَاضِعَ بِلَا نِزَاعٍ عَنْهُ، وَفِي مَوَاضِعَ فِيهَا نِزَاعٌ عَنْهُ، وَالشَّافِعِيّ فِي قَوْلٍ، وَإِن تَنَازَعُوا فِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي مِثْل إبَاحَتِهِ سَلْبَ الَّذِي يَصْطَادُ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ لِمَن وَجَدَهُ، وَمِثْل أَمْرِهِ بِكَسْرِ دِنَانِ الْخَمْرِ وَشَقِّ ظُرُوفِهِ، وَمِثْل أَمْرِهِ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرو بِحَرْقِ الثَّوْبَيْنِ الْمُعَصْفَرَيْنِ.

وَمِمَّا يُشْبِهُ ذَلِكَ: مَا فَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ؛ حَيْثُ رَأَى رَجُلًا قَد شَابَ

ص: 100

اللَّبَنَ بِالْمَاءِ لِلْبَيْعِ فَأرَاقَهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا ثَابِت عَن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه.

وَهَذَا كَمَا يُتْلِفُ مِن الْبَدَنِ الْمَحَلَّ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْمَعْصِيَةُ؛ فَتُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ، وَتُقْطَعُ رِجْلُ الْمُحَارِبِ وَيَدُهُ، وَكَذَلِكَ الَّذِي قَامَ بِهِ الْمُنْكرُ فِي إتْلَافِهِ نهْيٌ عَن الْعَوْدِ إلَى ذَلِكَ الْمُنْكَرِ، وَلَيْسَ إتْلَافُ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ بَل إذَا لَمْ يَكُن فِي الْمَحَلِّ مَفْسَدَةٌ جَازَ إبْقَاؤُهُ أَيْضًا؛ إمَّا للهِ وإِمَّا أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، كَمَا أَفْتَى طَائِفَةٌ مِن الْعُلَمَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ: أَنَّ الطَّعَامَ الْمَغْشُوشَ مِن الْخُبْزِ وَالبَطّيخِ وَالشِّوَاءِ كَالْخُبْزِ وَالطَّعَامِ الَّذِي لَمْ يَنْضَجْ وَكَالطَّعَامِ الْمَغْشُوشِ وَهُوَ: الَّذِي خُلِطَ بِالرَّدِيءِ وَأَظْهَرَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ جَيّد وَنَحْو ذَلِكَ: يُتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِن إتْلَافِهِ.

وَإِذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَد أَتْلَفَ اللَّبَنَ الَّذِي شِيبَ لِلْبَيْعِ: فَلَأَنْ يَجُوزُ التَّصَدُّقُ بِذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأوْلَى؛ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ عُقُوبَةُ الْغَاشِّ وَزَجْرُهُ عَن الْعَوْدِ، وَيَكُونُ انْتِفَاعُ الْفُقَرَاءِ بِذَلِكَ أَنْفَعَ مِن إتْلَافِهِ، وَعُمَرُ أَتْلَفَهُ لِأَنَّه كَانَ يُغْنِي النَّاسَ بِالْعَطَاءِ، فَكَانَ الْفُقَرَاءُ عِنْدَهُ فِي الْمَدِينَةِ إمَّا قَلِيلًا وَإِمَّا مَعْدُومِينَ.

3501 -

أَكْثَرُ مَن يَدَّعِي نَسْخَ النُّصُوصِ بِمَا يَدَّعِيهِ مِن الْإِجْمَاعِ إذَا حُقّقَ الْأَمْر عَلَيْهِ لَمْ يَكُن الْإِجْمَاعُ الَّذِي ادَّعَاهُ صَحِيحًا؛ بَل غَايَتُهُ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ فِيهِ نِزَاعًا.

3502 -

كُلُّ مَا كَانَ مِن الْعَيْنِ أَو التَّألِيفِ الْمُحَرَّمِ: فَإِزَالَتُهُ وَتَغْيِيرُهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ مِثْل إرَاقَةِ خَمْرِ الْمُسْلِمِ، وَتَفْكِيكِ آلَاتِ الْمَلَاهِي، وَتَغْيِيرِ الصُّوَرِ الْمُصَوَّرَةِ، وإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ إتْلَافِ مَحِلِّهَا تَبَعًا لِلْحَالِ، وَالصَّوَابُ جَوَازُهُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا.

وَالصَّوَابُ أنَّ كلَّ مُسْكرٍ مِن الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَهُوَ حَرَامٌ، ويدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْبِتْعُ وَالْمِزْرُ وَالْحَشِيشَة القنبية وَغَيْرُ ذَلِكَ.

ص: 101

3503 -

وَأَمَّا التَّغْرِيمُ: فَمِثْلُ مَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ مِن أَهْلِ السُّنَنِ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَن سَرَقَ مِن الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ قَبْلَ أَنْ يُؤوِيَهُ إلَى الْجَرِينِ: أَنَّ عَلَيْهِ جَلَدَاتٍ نَكَالٍ وَغُرْمُهُ مَرَّتَيْنِ، وَفِيمَن سَرَقَ مِن الْمَاشِيَةِ قَبْلَ أَنْ تُؤْوَى إلَى الْمَرَاحِ: أَنَ عَلَيْهِ جَلَدَاتٍ نَكَالٍ وَغُرْمُهُ مَرَّتَيْنِ.

وَكَذَلِكَ قَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي الضَّالَّةِ الْمَكْتُومَةِ أَنَّهُ يُضَعَّفُ غُرْمُهَا، وَبِذَلِكَ كُلِّهِ قَالَ طَائِفَةٌ مِن الْعُلَمَاءِ؛ مِثْلُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ.

وَأَضْعَفَ عُثْمَانُ بْنُ عفان فِي الْمُسْلِمِ إذَا قَتَلَ الذِّمِّيَّ عَمْدًا أنَّهُ يُضَعَّفُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ دِيَةَ الذِّمِّيِّ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَأَخَذَ بِذَلِكَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ.

3504 -

الثوَابُ وَالْعِقَابُ يَكُونَانِ مِن جِنْسِ الْعَمَلِ فِي قَدَرِ اللهِ وَفي شَرْعِهِ، فَإنَّ هَذَا مِن الْعَدْلِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ السَّمَاءُ وَالْأَرْض؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى:{إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)} [النساء: 149]، وَقَالَ:{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}

(1)

[النور: 22].

* * *

(1)

إلى هنا انتهت الفوائد المنتقاةُ من قاعدة في الحسبة.

ص: 102

‌كتاب البيع

(1)

(الْعُقُود تَصِحُّ بِكُلِّ مَا دَلَّ عَلَى مَقْصُودِهَا مِن قَوْلٍ أَو فِعْلٍ)

3505 -

كل ما عدَّه الناس بيعًا أو هبة: من متعاقب، أو متراخ، من قول، أو فعل، انعقد به البيع والهبة.

3506 -

صِفَةُ الْعُقُودِ: الْفُقَهَاءُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أنَّ الْأصْلَ فِي الْعُقُودِ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ إلَّا بِالصِّيغَةِ وَهِيَ الْعِبَارَاتُ الَّتِي قَد يَخُصُّهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِاسْمِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّهَا تَصِحُّ بِالْأَفْعَالِ فِيمَا كَثُرَ عَقْدُهُ بِالْأَفْعَالِ؛ كَالْمَبِيعَاتِ

(1)

قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى بعد أن أجاز مسائل في البيوع خلافًا للمذهب: لأن المعاملات الممنوعة -كما قال شيخ الإسلام رحمه الله وقوله صحيح- مبناها على ثلاثة أشياء: الظلم، والغرر، والميسر، فإذا وجدت معاملة تشتمل على واحد من هذه الأمور الثلاثة فاعلم أن الشرع لا يقرها، وأما ما عدا ذلك مما ينفع الناس، وييسر أحوالهم فاستعن بالله وأفتِ بحله، حتى يتبين لك التحريم، وأنت إذا أفتيت بحل ما لم يتبين تحريمه، فأنت على حق؛ لأن الأصل في المعاملات الحل، ويوم القيامة سوف يسألك الله رحمه الله لماذا حرمت على عبادي ما لم أحرمه؟ فماذا يكون الجواب؟! ليس عندك جواب، لكن لو أحللت لهم شيئًا لا تعلم أنه حرام قلت: يا ربي مشيت على قاعدة شرعية "أن الأصل الإباحة"، وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وليس في كتاب الله بطلان هذا الشرط، والمسلمون على شروطهم، وقال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1].

فالإنسان في هذه المسألة بالذات ينبغي أن يغلِّب جانب الحل؛ لأن تحليل المحرَّم أهون من تحريم الحلال؛ لأن تحليل المحرم في المعاملات مبني على أصل، لكن تحريم الحلال مبني على غير أصل، وفيه تضييق على العباد بدون برهان من الله عز وجل. اهـ. الشرح الممتع (9/ 134).

وقال شيخ الإسلام رحمه الله: لَا يَحْرمُ مِن الْعُقُودِ إلا مَا حَرَّمَهُ نَصٌّ أو إجْمَاعٌ أو قِيَاسٌ فِي مَعْنَى مَا دَلَّ عَلَى النَّصِّ أَو الْإِجْمَاعِ. اهـ. (30/ 159)

ص: 103

بِالْمُعَاطَاةِ، وَكَالْوَقْفِ فِي مِثْل مَن بَنَى مَسْجِدًا وَأَذِنَ لِلنَّاسِ فِي الصَّلَاةِ فِيهِ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: إنَّهَا تَنْعَقِدُ بِكُلِّ مَا دَلَّ عَلَى مَقْصُودِهَا مِن قَوْلٍ أَو فِعْلٍ، فَكُلُّ مَا عَدَّهُ النَّاسُ بَيْعًا وَإِجَارَةً فَهُوَ بَيْعٌ وَإِجَارَةٌ.

وإِن اخْتَلَفَ اصْطِلَاحُ النَّاسِ فِي الْأَلْفَاظِ وَالْأَفْعَالِ: انْعَقَدَ الْعَقْدُ عِنْدَ كُلِّ قَوْمٍ بِمَا يَفْهَمُونَهُ بَيْنَهُم مِن الصِّيَغِ وَالْأَفْعَالِ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ مُسْتَمِرٌّ لَا فِي شَرْعٍ وَلَا فِي لُغَةٍ؛ بَل يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ اصْطِلَاحِ النَّاسِ كَمَا تتنَوَّعُ لُغَاتُهُمْ.

وَقَد ذَكَرَ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابُ أَحْمَد؛ كَالْقَاضِي أبِي يَعْلَى وَابْنِ عَقِيلٍ والمتأخرين: أَنَّهُ يُرْجَعُ فِي نِكَاحِ الْكُفَّارِ إلَى عَادَتِهِمْ، فَمَا اعْتَقَدُوهُ نِكَاحًا بَيْنَهُم جَازَ إقْرَارُهُم عَلَيْهِ إذَا أَسْلَمُوا وَتَحَاكَمُوا إلَيْنَا، إذَا لَمْ يَكُن حِينَئِذٍ مُشْتَمِلًا عَلَى مَانِعٍ، وَإِن كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ لَيْسَ بِنِكَاحٍ لَمْ يَجُزْ الْإِقْرَارُ عَلَيْهِ.

فَهَذِهِ الْأمُورُ الَّتِي اعْتبَرَهَا الشَّارعُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ حِكْمَتُهَا بَيِّنَةٌ.

فَأمَّا الْتِزَامُ لَفْظٍ مَخْصُوصٍ فَلَيْسَ فِيهِ أَثَرٌ وَلَا نَظَرٌ.

وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ الْجَامِعَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِن أَنَّ الْعُقُودَ تَصِحُّ بِكُلِّ مَا دَلَّ عَلَى مَقْصُودِهَا مِن قَوْلٍ أَو فِعْلٍ: هِيَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهَا أُصُولُ الشَّرِيعَةِ، وَهِيَ الَّتِي تَعْرِفُهَا الْقُلُوبُ.

وَذَلِكَ أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى قَالَ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)} [النساء: 4]، وَقَالَ:{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. فَإِنَّ الدَّلَالَةَ فِيهَا مِن وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ اكْتَفَى بِالتَّرَاضِي فِي الْبَيْعِ فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 4]، وَبِطِيبِ النَّفْسِ فِي التَّبَرُّعِ فِي قَوْلِهِ:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)} [النساء: 4].

فَتِلْكَ الْآيَةُ فِي جِنْسِ الْمُعَاوَضَاتِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي جِنْسِ التَّبَرُّعَاتِ، وَلَمْ

ص: 104

يَشْتَرِطْ لَفْظًا مُعَيَّنًا وَلَا فِعْلًا مُعَيّنًا يَدُلُّ عَلَى التَّرَاضِي وَعَلَى طِيبِ النَّفْسِ.

وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِن عَادَاتِ النَّاسِ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ أَنَّهُم يَعْلَمُونَ التَّرَاضِيَ وَطِيبَ النَّفْسِ بِطُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ جَاءَت فِي كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مُعَلَّقًا بِهَا أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ، وَكُلُّ اسْمٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِن حَدٍّ:

أ - فَمِنْهُ مَا يُعْلَمُ حَدُّهُ بِاللُّغَةِ؛ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.

ب - وَمِنْهُ مَا يُعْلَمُ بِالشَّرْعِ؛ كَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ وَكَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجّ.

ج - وَمَا لَمْ يَكن لَهُ حَدٌّ فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الشَّرْعِ: فَالْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى عُرْفِ النَّاسِ؛ كَالْقَبْضِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "مَن ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ"

(1)

.

وَمَعْلومٌ أَنَّ الْبَيْعَ وَالْإِجَارَةَ وَالْهِبَةَ وَنَحْوَهَا لَمْ يَحُدَّ الشَّارعُ لَهَا حَدًّا، لَا فِي كِتَابِ اللهِ وَلَا سنَّةِ رَسُولِهِ، وَلَا نُقِلَ عَن أَحَدٍ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّهُ عَيَّنَ لِلْعقُودِ صِفَةً مُعَيَّنَةً مِن الْأَلْفَاظِ أَو غَيْرِهَا أَو قَالَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ: مِن أَنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِالصِّيَغِ الْخَاصَّةِ.

وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ.

فَإِذَا لَمْ يَكُن لَهُ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي اللُّغَةِ كَانَ الْمَرْجِع فِيهِ إلَى عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ، فَمَا سَمَّوْهُ بَيْعًا فَهُوَ بَيْعٌ، وَمَا سَمَّوْهُ هِبَةً فَهُوَ هِبَةٌ.

الْوَجْهُ الثالِثُ: أَنَّ تَصرُّفَاتِ الْعِبَادِ مِن الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ نَوْعَانِ:

أ - عِبَادَاتٌ يَصْلُحُ بِهَا دِينُهُمْ.

(1)

رواه مسلم (1525).

ص: 105

ب - وَعَادَاتٌ يَحْتَاجُونَ إلَيْهَا فِي دُنْيَاهُمْ.

فَبِاسْتِقْرَاءِ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ نَعْلَمُ أَنَّ الْعِبَادَاتِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللهُ أَو أَحَبَّهَا لَا يَثْبُتُ الْأَمْرُ بِهَا إلَّا بِالشَّرْعِ.

وَأَمَّا الْعَادَاتُ فَهِيَ مَا اعْتَادَهُ النَّاسُ فِي دُنْيَاهُم مِمَّا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ.

وَالْأَصْلُ فِيهِ: عَدَمُ الْحَظْرِ، فَلَا يُحْظرُ مِنْهُ إلَّا مَا حَظَرَهُ اللهُ سبحانه وتعالى؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ هُمَا شَرْعُ اللهِ، وَالْعِبَادَةُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَأْمُورًا بِهَا، فَمَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّه مَأْمُورٌ بِةِ كَيْفَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ عِبَادَةٌ؟

وَمَا لَمْ يَثْبُتْ مِن الْعَادَاتِ

(1)

أَنَّه مَنْهِيٌّ عَنْهُ كَيْفَ يُحْكَمُ عَلَى أَنَّهُ مَحْظُورٌ؟

وَلهَذَا كَانَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِن فُقَهَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَقُولُونَ: إنَّ الْأَصْلَ فِي الْعِبَادَاتِ التَّوْقِيفُ، فَلَا يُشْرَعُ مِنْها إلَّا مَا شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى، وإِلا دَخَلْنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21].

وَالْعَادَاتُ الْأَصْلُ فِيهَا الْعَفْوُ، فَلَا يُحْظرُ مِنْهَا إلَّا مَا حَرَّمَهُ وإِلَّا دَخَلْنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا} [يونس: 59].

وَمِمَّا يَلْتَحِقُ بِهَذَا: أَنَّ الْإِذْنَ الْعُرْفِيَّ فِي الْإِبَاحَةِ أَوِ التَّمْلِيكِ أَو التَّصَرُّفِ بِطَرِيقِ الْوِكَالَةِ: كَالْإِذْنِ اللَّفْظِيِّ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِن الْوِكَالَةِ وَالْإِبَاحَةِ يَنْعَقِدُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا مِن قَوْلٍ وَفعْلٍ.

وَالْعِلْمُ بِرِضَى الْمُسْتَحِقِّ يَقُومُ مَقَامَ إظْهَارِهِ لِلرِّضَى.

(1)

في الأصل: (العبادات)، وهو هكذا في جميع النسخ التي وقفت عليها، ولعل المثبت هو الصواب؛ ليستقيم المعنى، فقد ذكر قبلُ أنّ الأصل في العادات: عَدَمُ الحَظْرِ، ولا يقال في العبادات: الأصل فيها عدم الحظر، بل يقال: الأصل فيها المنع حتى يثبت الدليل على مشروعيتها.

ص: 106

وَعَلَى هَذَا يُخرَّجُ مُبَايَعَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَن عُثْمَانَ بْنِ عَفَّان بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ وَكَانَ غَائِبًا، وَإِدْخَالُهُ أَهْلَ الْخَنْدَقِ إلَى مَنْزِل أَبِي طَلْحَةَ وَمَنْزِلِ جَابِرٍ بِدُونِ اسْتئْذَانِهِمَا؛ لِعِلْمِهِ أَنَّهُمَا رَاضِيَانِ بِذَلِكَ.

وَلَمَّا دَعَاهُ صلى الله عليه وسلم اللَّحَّامُ سَادِس سِتَّةٍ: اتَّبَعَهُم رَجُلٌ فَلَمْ يُدْخِلْهُ حَتَّى اسْتَأْذَنَ اللَّحَّامُ الدَّاعِيَ

(1)

.

3507 -

إِنَّ الْمُسْلِمِينَ إذَا تَعَاقَدُوا بَيْنَهُم عُقُودًا وَلَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ لَا تَحْرِيمَهَا وَلَا تَحْلِيلَهَا: فإِنَّ الْفُقَهَاءَ جَمِيعَهُم -فِيمَا أَعْلَمُهُ- يُصَحِّحُونَهَا إذَا لَمْ يَعْتَقِدُوا تَحْرِيمَهَا، وإِن كَانَ الْعَاقِدُ لَمْ يَكُن حِينَئِذٍ يَعْلَمُ تَحْلِيلَهَا لَا بِاجْتِهَادٍ وَلَا بِتَقْلِيدٍ.

3508 -

مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ مِن مَذْهَبِهِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ وَالْإِجَارَةَ لَا تَفْتَقِرُ إلَى صِيغَةٍ؛ بَل يَثْبُتُ ذَلِكَ بِالْمُعَاطَاةِ، فَمَا عَدَّهُ النَّاسُ بَيْعًا أَو هِبَةً أَو إجَارَةً فَهُوَ كَذَلِكَ.

وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ ذَكَرَ الْبَيْعَ وَالْإِجَارَةَ وَالْعَطِيَّةَ مُطْلَقًا فِي كِتَابِهِ، لَيْسَ لَهَا حَدٌّ فِي اللُّغَةِ وَلَا الشَّرْعِ، فَيَرْجِعُ فِيهَا إلَى الْعُرْفِ.

وَالْمَقْصُودُ بِالْخِطَابِ: إفْهَامُ الْمَعَانِي، فَأَيُّ لَفْظٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَقْصُودُ الْعَقْدِ انْعَقَدَ بِهِ.

وَعَلَى هَذَا قَاعِدَةُ النَّاسِ، إذَا اشْتَرَى أَحَدٌ لِابْنِهِ أمَةً وَقَالَ: خذْهَا لَك اسْتَمْتِعْ بِهَا وَنَحْو ذَلِكَ كَانَ هَذَا تَمْلِيكًا عِنْدَهُمْ.

(1)

عَن أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ يُكْنَى أبَا شُعَيْبٍ، فَقَالَ لِغُلَام لَهُ قَصَّابٍ: اجْعَلْ لِي طَعَامًا يَكْفِي خَمْسَةَ، فَإِنَّي أرِيدُ أنْ أَدْعُوَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَامِسَ خَمْسَةٍ، فَإنّي قَد عَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الجُوعَ، فَدَعَاهُمْ، فَجَاءَ مَعَهُم رَجُلٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إِن هَذَا قَد تَبِعَنَا، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَأْذَنَ لَهُ، فَأَذَنْ لَهُ وَإِن شِئْتَ أنْ يَرْجِعَ رَجَعَ". فَقَالَ: لَا، بَل قَد أَذِنْتُ لَهُ. رواه البخاري (2081)، ومسلم (2036).

ص: 107

3509 -

أُصُولُ مَالِكٍ فِي الْبُيُوعِ أَجْوَدُ مِن أُصُولِ غَيْرِهِ؛ فَإِنَّه أَخَذَ ذَلِكَ عَن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ الَّذِي كَانَ يُقَالُ: هُوَ أَفْقَهُ النَّاسِ فِي الْبُيُوعِ، كَمَا كَانَ يُقَالُ: عَطَاء أَفْقَهُ النَّاسِ فِي الْمَنَاسِكِ، وَإِبْرَاهِيمُ أَفْقَهُهُم فِي الصَّلَاةِ، وَالْحَسَنُ أَجْمَعُهُم لِذَلِكَ كُلِّهِ.

وَلهَذَا وَافَقَ أَحْمَد كلَّ وَاحِدٍ مِن التَّابِعِينَ فِي أغْلَبِ مَا فُضِّلَ فِيهِ لِمَن اسْتَقْرَأَ ذَلِكَ مِن أَجْوِبَتِهِ، وَالْإِمَامُ احْمَد مُوَافِقٌ لِمَالِكٍ فِي ذَلِكَ فِي الْأَغْلَبِ.

3510 -

كَرِهَ مَن كَرِهَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بَيْعَ الْأَرْضِ الخراجية؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ الْمُشْتَرِيَ لَهَا إذَا أَدَّى الْخَرَاجَ عَنْهَا أَشْبَهَ أَهْلَ الذِّمَّةِ فِي الْتِزَامِ الْجِزْيَةِ، فَإِنَّ الْخَرَاجَ جِزْيَةُ الْأَرْضِ، وَإِن لَمْ يُؤَدِّهَا ظَلَمَ الْمُسْلِمِينَ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِمْ مِنَ الْأَرْضِ.

لَمْ يَكْرَهُوا بَيْعَهَا لِكَوْنِهَا وَقْفًا؛ فَإنَّ الْوَقْفَ إنَّمَا مُنِعَ مِن بَيْعِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ الْوَقْفَ، وَلهَذَا لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ، وَالْأَرْضُ الخراجية تَنْتَقِلُ إلَى الْوَارِثِ بِاتَّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَتَجُوزُ هِبَتُهَا، وَالْمُتَّهِبُ الْمُشْتَرِي يَقُومُ فِيهَا مَقَامَ الْبَائِعِ؛ فَيُؤَدِّي مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْخَرَاجِ، وَلَيْسَ فِي بَيْعِهَا مَضَرَّةٌ لِمُسْتَحِقِّي الْخَرَاجِ كَمَا فِي بَيْعِ الْوَقْفِ.

وَأعْجَبُ مِن ذَلِكَ: أَنَّ طَائِفَة مِن هَؤُلَاءِ قَالُوا: مَكَّةُ إنَّمَا كرِهَ بَيْعُ رِبَاعِهَا لِكَوْنِهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً وَلَمْ تقْسَمْ أَيْضًا، وَهُم قَد قَالُوا مَعَ جَمِيعِ النَّاسِ: إنَّ الْأَرْضَ الْعَنْوَةَ الَّتِي جُعِلَتْ أَرْضُهَا فَيْئًا يَجُوزُ بَيْعُ مَسَاكِنِهَا، وَالْخَرَاجُ إنَّمَا جُعِلَ عَلَى الْمَزَارعِ لَا عَلَى الْمَسَاكِنِ، فَلَو كَانَت مَكَّةُ قَد جُعِلَتْ أَرْضُهَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَجُعِلَ عَلَيْهَا خَرَاجٌ: لَمْ يَمْتَنِعْ بَيْعُ مَسَاكِنِهَا لِذَلِكَ، فَكَيْفَ وَمَكَّةُ أَقَرَّهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِ أَهْلِهَا عَلَى مَا كَانَت عَلَيْهِ مَسَاكِنُهَا وَمَزَارِعُهَا، وَلَمْ يَقْسمْهَا وَلَمْ يَضْرِبْ عَلَيْهَا خَرَاجًا؛ وَلهَذَا قَالَ مَن قَالَ: إنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا، وَلَا رَيْبَ أَنَّهَا فُتِحَتْ عُنْوَةً

ص: 108

كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمُتَوَاتِرَةُ، لَكِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَطْلَقَ أَهْلَهَا جَمِيعَهُم فَلَمْ يَقْتُلْ إلَّا مَن قَاتَلَهُ، وَلَمْ يَسْبِ لَهُم ذُرِّيَّةً، وَلَا غَنِمَ لَهُم مَالًا، وَلهَذَا سُمُّوا الطُّلَقَاءَ.

وَلهَذَا كَانَتِ الْأَقْوَالُ فِي إجَارَةِ دُورِهَا وَبَيْعِ رِبَاعِهَا ثَلَاثَةً:

قِيلَ: لَا يَجُوزُ لَا هَذَا وَلَا هَذَا، وَقِيلَ: يَجُوزُ الْأَمْرَانِ

(1)

.

وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ رِبَاعِهَا وَلَا يَجُوزُ إجَارَتُهَا.

وقد تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْأَرْضِ إذَا فُتِحَتْ عَنْوَةً: هَل يَجِبُ قَسْمُهَا كَخَيْبَر لِأَنَّهَا مَغْنَمٌ، أَو تَصِيرُ فَيْئًا كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْحَشْرِ وَلَيْسَتِ الْأرْضُ مِنَ الْمَغْنَمِ، أَو يُخَيَّرُ الْإِمَامُ فِيمَا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى التَّخْيِيرِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَغَيْرِهِمَا.

وَلَو فَتَحَ الْإِمَامُ بَلَدًا وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ أَهْلَهُ يُسْلِمونَ وَيُجَاهِدُونَ: جَازَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِم بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَهْلِ مَكَّةَ، فَإنَّهُم أَسْلَمُوا كُلُّهُم بِلَا خِلَافٍ، بِخِلَافِ أَهْلِ خَيْبَرَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُم أَحَدٌ، فَأَولَئِكَ قَسَمَ أَرْضَهُم لِأَنَّهُم كَانُوا كفَّارًا مُصِرِّينَ عَلَى الْكُفْرِ، وَهَؤُلَاءِ تَرَكَهَا لَهُمْ؛ لِأَنَّهُم كُلَّهُم صَارُوا مُسْلِمِينَ، وَالْمَقْصُودُ بِالْجِهَادِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَأَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّة للهِ.

وَقَد كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُم لِيَتَأَلَّفَهُم عَلَى الْإِسْلَامِ، فَكَيْفَ لَا يَتَأَلَّفُهُم بِإِبْقَاءِ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ؟

(1)

وهو قول الشافعي رحمه الله، قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله: وما ذهب إليه الشافعي وغيره هو الذي نصره الموفق في المغني، وأيده بأدلة كثيرة وقال: إنَّ الصحيحَ جوازُ البيع والإجارة في بيوت مكة، والعمل على هذا القول.

وأما القول بأنه لا يجوز بيعها ولا إجارتها فهو قول ضعيف.

وأما ما ذهب إليه شيخ الإسلام فهو وإن كان فيه شيء من القوة، فإنه يمكن أن يجاب عنه بأن الآية في أمكنة المشاعر، فهذه لا شك أنها لا تملك. الشرح الممتع 8/ 138).

ص: 109

3511 -

مَسْألَة السّفْتجَة

(1)

: كَرِهَهَا مَن كَرِهَهَا، وَالصَّحِيحُ أنَّهَا لَا تُكْرَهُ؛ لِأنَّ الْمُقْتَرِضَ يَنْتَفِعُ بِهَا أَيْضًا، فَفِيهَا مَنْفَعَةٌ لَهُمَا جَمِيعًا إذَا أقْرَضَهُ.

3512 -

التَّحْقِيقُ: أَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ إنْ عَرَفَا الْمَقْصُودَ انْعَقَدَتْ [أي: الإجارة]، فَأَيُّ لَفْظٍ مِنَ الْأَلْفَاظِ عَرَفَ بِهِ الْمُتَعَاقِدَانِ مَقْصُودَهُمَا انْعَقَدَ بِهِ الْعَقْدُ.

وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ، فَإنَّ الشَّارعَ لَمْ يَحُدَّ فِي أَلْفَاظِ الْعُقُودِ حَدًّا؛ بَل ذَكَرَهَا مُطْلَقَةً، فَكَمَا تَنْعَقِدُ الْعُقُودُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الْفَارِسِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَلْسُنِ الْعَجَمِيَّةِ: فَهِيَ تَنْعَقِدُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلهَذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ وَغَيْرُهُ.

وَطَردُ هَذَا النِّكَاح، فَإنَّ أَصَحَّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِكُلِّ لَفْظ يَدُلُّ عَلَيْهِ، لَا يَخْتَصُّ بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ، وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَأبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ؛ بَل نُصُوصُهُ لَمْ تَدُلُّ إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ.

3513 -

الشَّارعُ أَمَرَ الْإِنْسَانَ أَنْ يُؤَخِّرَ الْعَقْدَ عَلَى الْأَعْيَانِ الَّتِي لَمْ تُخْلَقْ إلَى أَنْ تُخْلَقَ، فَنَهَى عَن بَيْعِ السِّنِينَ

(2)

، وَبَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ، وَبَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، وَعَن بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ.

3514 -

لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ؛ بَل وَلَا عَن أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ بَيْعَ الْمَعْدُومِ لَا يَجُوزُ، لَا لَفْظٌ عَامٌّ وَلَا مَعْنًى عَامٌّ، وَإِنَّمَا فِيهِ النَّهْيُ عَن بَيْعِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مَعْدُومَةٌ، كَمَا فِيهِ النَّهْيُ عَن بَيْعِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ

(1)

هي: أن يقترض شخص من آخر قرضًا، ويشترط المقرض على المقترض أن يقضيه في بلد آخر ليستفيد ضمان وصول المال ويأمن خطر الطريق.

(2)

قال الخطابي رحمه الله: هو أن يبيع الرجل ما تثمره النخلة أو النخلات بأعيانها سنين ثلاثًا أو أربعًا أو أكثر منها، وهذا غرر؛ لأنه بيع شيء غير موجود ولا مخلوق حال العقد، ولا يُدْرى هل يكون ذلك أم لا، وهل يثمر النخل أم لا، وهذا في بيوع الأعيان، وأما في بيوع الصفات فهو جائز؛ مثل أن يسلف في شيء إلى ثلاث سنين أو أربع أو أكثر.

ص: 110

مَوْجُودَةٌ، وَلَيْسَتِ الْعِلَّةُ فِي الْمَنْعِ لَا الْوُجُودَ وَلَا الْعَدَمَ؛ بَل الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَن بَيْعِ الْغَرَرِ.

وَالْغَرَرُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَوْجُودًا أَو مَعْدُومًا؛ كَالْعَبْدِ الْآبِقِ وَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا قَد لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ؛ بَل قَد يَحْصُلُ وَقَد لَا يَحْصُل هُوَ غَرَرٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَإِن كَانَ مَوْجُودًا، فَإِنَّ مُوجَبَ الْبَيْعِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ، وَالْبَائِعُ عَاجِزٌ عَنْهُ، وَالْمُشْتَرِي إنَّمَا يَشْتَرِيهِ مُخَاطَرَةً وَمُقَامَرَةً، فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَخْذُهُ كَانَ الْمُشْتَرِي قَد قَمَرَ الْبَائِعَ، وإِن لَمْ يُمْكِنْهُ أَخْذُهُ كَانَ الْبَائِعُ قَد قَمَرَ الْمُشْتَرِيَ.

وَهَكَذَا الْمَعْدُومُ الَّذِي هُوَ غَرَرٌ نَهَى عَن بَيْعِهِ لِكَوْنِهِ غَرَرًا لَا لِكَوْنِهِ مَعْدُومًا.

3515 -

النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَوَّزَ بَيْعَ الثَّمَرِ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ مُسْتَحِقٌّ الْإِبْقَاءَ إلَى كَمَالِ الصَّلَاحِ، وَعَلَى الْبَائِعِ السَّقْيُ وَالْخِدْمَةُ إلَى كَمَالِ الصَّلَاحِ، وَيَدْخلُ فِي هَذَا مَا هُوَ مَعْدُومٌ لَمْ يُخْلَقْ، وَهَذَا إذَا قُبِضَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَبْضِ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ، فَقَبْضُهُ

(1)

يُبِيحُ لَهُ التَّصَرُّفَ فِيهِ فِي أظْهَرِ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمَدَ، وَقَبْضُهُ لَا يُوجِبُ انْتِقَالَ الضَّمَانِ إلَيْهِ، بَل إذَا تَلِفَ الثَّمَرُ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ كَانَ مِن ضَمَانِ الْبَائعِ

(2)

.

وَقَد ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إنْ بِعْت مِن أَخِيك ثَمَرَةً فَاَصَابَتْهَا جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَأخُذَ مِن مَالِ أَخِيك شَيْئًا، بِمَ يَأخُذُ أحًدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ؟ ".

وَلَيْسَ مَعَ الْمُنَازعِ دَلِيل شَرْعِيٌّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ قَبْضٍ جَوَّزَ التَّصَرُّفَ يَنْقُلُ الضَّمَانَ وَمَا لَمْ يُجَوِّزْ التَّصَرُّفَ لَمْ يَنْقُلِ الضَّمَانَ؛ بَل قَبْضُ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ يُجَوِّزُ

(1)

أي: قبضُ الثَّمَرِ بَعْدَ بُدُوِّ صلَاحِه.

(2)

إلا إذا كان المشتري تأخر عن موعد تسليم الثمر وفرط في ذلك.

ص: 111

التَّصَرُّفَ وَلَا يَنْقُلُ الضَّمَانَ

(1)

.

3516 -

الصَّحِيحُ أَنَّ الْعَرَايَا يُلْحَقُ بِهَا مَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا.

3517 -

الصَّلِيبُ لَا يَجُوزُ عَمَلُهُ بِأُجْرَة وَلَا غَيْرِ أُجْرَةٍ، وَلَا بَيْعُهُ صَلِيبًا، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْأَصْنَامِ وَلَا عَمَلُهَا.

وَمَن أَخَذَ عِوَضًا عَن عَيْنٍ مُحَرَّمَةٍ أَو نَفْعٍ اسْتَوْفَاهُ؛ مِثْل أُجْرَةِ حَمَّالِ الْخَمْرِ، وَأجْرَةِ صَانِعِ الصَّلِيبِ، وَأُجْرَةِ الْبَغِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَلْيَتَصَدَّقْ بِهَا

(2)

، وَلْيَتُبْ مِن ذَلِكَ الْعَمَلِ الْمُحَرَّمِ، وَتَكُونُ صَدَقَتُهُ بِالْعِوَضِ كَفَّارَةً لِمَا فَعَلَهُ؛ فَإِنَّ هَذَا الْعِوَضَ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ خَبِيثٌ.

وَلَا يُعَادُ إلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ قَد اسْتَوْفَى الْعِوَضَ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ، كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مَن نَصَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي مِثْل حَامِلِ الْخَمْرِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُمْ

(3)

.

(1)

فإذا استأجرت سيارةً فسُرقت دون تفريط منك فهي من ضمان الْمُؤجّر لا المستأجر؛ لأن من له غنم شيء فعليه غرمه.

(2)

بنية التخلص منها، لا بنية طلب الأجر من الله.

(3)

المال الحرام إما أن يكون محرمًا لعينه، وإما أن يكون محرمًا لكسبه.

فالمحرم لعينه كالمال المغصوب والمسروق، فهذا لا يحل لأحد الانتفاع به وهو يعلم أنه مسروق من فلان، بل يجب رده إلى صاحبه.

وطريقة التوبة من غصب هذا المال: أن يرد إلى صاحبه، ولا يجزئ الغاصب التبرع به لبناء مسجد وهو يقدر على رده إلى صاحبه.

لكن إن تعذر رده إلى صاحبه (كالمال الذي تغتصبه بعض الحكومات الظالمة من الناس)، فلا حرج في إنفاقه في مصالح المسلمين العامة، ومنها بناء المساجد.

وأما المحرَّم لكسبه فهو الذي اكتسبه الإنسان بطريق محرم كبيع الخمر، أو التعامل بالربا، أو أجرة الغناء والزنى ونحو ذلك، فهذا المال حرام على من اكتسبه فقط، أما إذا أخذه منه شخص آخر بطريق مباح فلا حرج في ذلك، كما لو تبرع به لبناء مسجد، أو دفعه أجرة لعامل عنده، أو أنفق منه على زوجته وأولاده، فلا يحرم على هؤلاء الانتفاع به، وإنما يحرم على من اكتسبه بطريق محرم فقط.

وطريقة التوبة من هذا المال المحرم: التخلص منه، وإنفاقه في وجوه البر.=

ص: 112

3518 -

مَن جَوَّزَ بَيْعَ الْبُسْتَانِ مِن الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لِبدُوِّ الصَّلَاحِ فِي بَعْضِهِ فَقِيَاسُ قَوْلِهِ: جَوَازُ بَيْعِ المقثاة إذَا بَدَا صَلَاحُ بَعْضِهَا.

وَالْمَعْدُومُ هُنَا فِيهَا كَالْمَعْدُومِ مِن أَجْزَاءِ الثَّمَرَةِ؛ فَإنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ أَكثَرَ؛ إذ تَفْرِيقُ الْأَشْجَارِ فِي الْبَيْعِ أَيْسَرُ مِن تَفْرِيقِ الْبِطِّيخَاتِ وَالْقِثَّاءَاتِ وَالْخِيَارَاتِ، وَتَمْيِيزِ اللَّقْطَةِ عَن اللَّقْطَةِ لَو لَمْ يَشُقَّ: فَإِنَّه أَمْرٌ لَا يَنْضَبِط؛ فَإِنَّ اجْتِهَادَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ مُتَفَاوِتٌ.

3519 -

فِي "صحيح مُسْلِمٍ"

(1)

عَن أَبِي رَافِعٍ: "أَنَّ رَسُولَ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْلَفَ مِن رَجُلٍ بَكْرًا، فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إبِلٌ مِن إبِلِ الصَّدَقَةِ فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ، فَرَجَعَ إلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ فِيهَا إلَّا خِيَارًا رباعيًّا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَعْطِهِ إيَّاهُ فَإنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُم قَضَاءً". فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِسْلَافِ فِيمَا سِوَى الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مِن الْحَيَوَانِ وَنَحْوِهِ، كَمَا عَلَيْهِ فُقَهَاءُ الْحِجَازِ وَالْحَدِيثِ، خِلَافًا لِمَن قَالَ مِن الْكُوفِيِّينَ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ مُوجِبُهُ رَدُّ الْمِثْلِ، وَالْحَيَوَانُ لَيْسَ بِمِثْلِيٍّ.

وَفيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَثْبُث مِثْلُ الْحَيَوَانِ تَقْرِيبًا فِي الذِّمَّةِ .. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى

= سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: عن حكم الصلاة في مسجد بني من مال حرام؟

فأجاب: "الصلاة فيه جائزة ولا حرج فيها؛ لأن الذي بناه من مال حرام ربما يكون أراد في بنائه أن يتخلص من المال الحرام الذي اكتسبه، وحينئذٍ يكون بناؤه لهذا المسجد حلالًا إذا قصد به التخلص من المال الحرام، وإن كان التخلص من المال الحرام لا يتعين ببناء المساجد، بل إذا بذله الإنسان في مشروع خيري حصلت به البراءة". انتهى. مجموع فتاوى ابن عثيمين (12) سؤال رقم (304)، الإسلام، سؤال وجواب (75410).

تنبيه: يجوز لمن تاب من الكسب المحرم إن كان محتاجًا أنْ يأخذ من المال قدر حاجته، وله أن يستثمر شيئًا منه يجعله رأس مال في تجارة أو صناعة، ثم يتصدق بما زاد عن حاجته، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"فإن تابت هذه البغي وهذا الخمار، وكانوا فقراء جاز أن يصرف إليهم من هذا المال قدر حاجتهم، فإن كان يقدر يتجر أو يعمل صنعة كالنسيج والغزل، أُعطي ما يكون له رأس مال". انتهى من مجموع الفتاوى (29/ 308).

(1)

(1600).

ص: 113

أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي مَعْرِفَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ: هُوَ التَّقْرِيبُ، وإِلَّا فَيَعِزُّ وُجُودُ حَيَوَانٍ مِثْلُ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ.

3520 -

مِن مَسَائِلِ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ: مَا قَد عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى فِي كَثِيرٍ مِن بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَو أَكْثَرِهَا لَا سِيَّمَا دِمَشْقُ، وَذَلِكَ أَن الْأَرْضَ تَكُونُ مُشْتَمِلَةً عَلَى غِرَاسٍ وَأَرْضٍ تَصْلُحُ لِلزرْعِ، وَرُبَّمَا اشْتَمَلَتْ مَعَ ذَلِكَ عَلَى مَسَاكِنَ، فَيُرِيدُ صَاحِبُهَا أَنْ يُؤَاجرَهَا لِمَن يَسْقِيهَا وَيَزْرَعُهَا أَو يُسْكِنُهَا مَعَ ذَلِكَ، فَهَذَا -إذَا كَانَ فِيهَا أَرْضٌ وَغِرَاسٌ- مِمَّا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِحَال، وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيّينَ وَالشَّافِعِيِّ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِن مَذْهَبِ أَحْمَد عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ إذَا كَانَ الشَّجَرُ قَلِيلًا، وَكَانَ الْبَيَاضُ الثُّلُثَيْنِ أَو أَكْثَرَ، وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَكْرَى دَارًا فِيهَا نَخَلَاتٌ قَلِيلَةٌ أَو شَجَرَاتُ عِنَبٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ.

وَذَكَرَ ابُو عُبَيْدٍ: أَنَّ الْمَنْعَ مِن إجَارَةِ الْأرْضِ الَّتِي فِيهَا شَجَرٌ كَثِيرٌ: إجْمَاعٌ.

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أنَّه يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا شَجَرٌ، وَدُخُولُ الشَّجَرِ فِي الْإِجَارَةِ مُطْلَقًا .. وَهَذَا الْقَوْلُ كَالْإِجْمَاعِ مِن السَّلَفِ، وإِن كَانَ الْمَشْهُورُ عَن الْأئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ خِلَافَهُ.

فَقَد رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ -وَرَوَاهُ عَنْهُ حَرْبٌ الكرماني فِي مَسَائِلِهِ- قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ عَن هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَن أَبِيهِ أَنَّ أسيد بْنَ حضير تُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ سِتَّةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَدَعَا عُمَرُ غُرَمَاءَهُ فَقَبَّلَهُم أَرْضَهُ سنِينَ وَفِيهَا النَّخْل وَالشَّجَرُ.

وَالْغَرَضُ مِن هَذَا: أَنَّ تَحْرِيمَ مِثْل هَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ الْأُمَّةُ الْتِزَامَهُ قَطُّ؛ لِمَا فِيهِ مِن الْفَسَادِ الَّذِي لَا يُطَاقُ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ

(1)

؛ بَل هُوَ أَشَدُّ مِن

(1)

استدل شيخ الإسلام على الجواز بأن الأمة لا تُطيق العمل به، وهذا من فهمِه وتشربه لروح الشريعة ومقاصدها.

ص: 114

الْأَغْلَالِ وَالْآصَارِ الَّتِي كَانَت عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ وَوَضَعَهَا اللهُ عَنَّا عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

وَمَن اسْتَقْرَأَ الشَّرِيعَةَ فِي مَوَارِدِهَا وَمَصَادِرِهَا وَجَدَهَا مَبْنِيَّةً عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] .. فَكُلُّ مَا احْتَاجَ النَّاسُ إلَيْهِ فِي مَعَاشِهِمْ وَلَمْ يَكُن سَبَبُهُ مَعْصِيَةً - هِيَ تَرْكُ وَاجِبٍ أَو فِعْلُ مُحَرَّمٍ - لَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْهِم؛ لِأَنَّهُم فِي مَعْنَى الْمُضْطَرّ الَّذِي لَيْسَ بِبَاغٍ وَلَا عَادٍ.

وَإِن كَانَ سَبَبُهُ مَعْصِيَةً كَالْمُسَافِرِ سَفَرَ مَعْصِيَةٍ اُضْطُرَّ فِيهِ إلَى الْمَيْتَةِ، وَالْمُنْفِقِ لِلْمَالِ فِي الْمَعَاصِي حَتَّى لَزِمَتْهُ الدُّيُونُ: فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالتَّوْبَةِ، وَيُبَاحُ لَهُ مَا يُزِيلُ ضرُورَتَهُ، فَتُبَاحُ لَهُ الْمَيْتَةُ، ويُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ مِن الزَّكَاةِ.

وَإِن لَمْ يَتُبْ: فَهُوَ الظَّالِمُ لِنَفَسِهِ الْمُحْتَالُ.

وَهَذَا الْقَوْلُ الْمَأْثُورُ عَن السَّلَف الَّذِي اخْتَارَة ابْنُ عَقِيلٍ: هُوَ قِيَاسُ أُصُولِ أَحْمَد وَبَعْضِ أُصُولِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى

(1)

.

فَإِنْ قِيلَ: الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ هُنَا غَرَرٌ؛ لِأَنَّهُ قَد يُثْمِرُ قَلِيلًا وَقَد يُثْمِرُ كَثِيرًا.

يُقَالُ: وَمِثْلُهُ فِي إكْرَاء الْأَرْضِ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ غَرَرٌ أَيْضًا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ؛ فَإِنَّهَا قَد تُنْبِتُ قَلِيلًا وَقَد تُنْبِتُ كَثِيرًا.

وَإِن قِيلَ: الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُنَاكَ التَّمَكُّنُ مِن الِازْدِرَاعِ لَا نَفْسُ الزَّرْعِ النَّابِتِ.

قِيلَ: وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُنَا التَّمَكُّنُ مِن الِاسْتِثْمَارِ، لَا نَفْسُ الثَّمَرِ الْخَارج، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهِمَا إنَّمَا هُوَ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ.

وَإِنَّمَا يَجِبُ الْعِوَضُ بِالتَّمَكنِ مِن تَحْصِيلِ ذَلِكَ، كَمَا أنَّ الْمَقْصُودَ بِاكْتِرَاءِ الدَّارِ إنَّمَا هُوَ السُّكْنَى وإِن وَجَبَ الْعِوَضُ بِالتَّمَكُّنِ مِن تَحْصِيلِ ذَلِكَ.

(1)

مع أن جماهير العلماء على خلافه، بل وحُكي الإجماع المنع من ذلك، ولكن الشيخ رحمه الله لا يهوله كثرةُ المخالفين، بل ينظر إلى كلام الله وكلام رسوله ومقاصد الشريعة، ولو خالف من خالف.

ص: 115

فَظَهَرَ بِهِ أَنَّ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِن بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ زُهوِّهَا وَبَيْعِ الْحَبِّ قَبْلَ اشْتِدَادِهِ لَيْسَ هُوَ -إنْ شَاءَ اللهُ- إكْرَاؤُهَا لِمَن يُحصِّلُ ثَمَرَتهَا وَزَرْعهَا بِعَمَلِهِ وَسَقْيِهِ، وَلَا هَذَا دَاخِلٌ فِي نَهْيِهِ لَفْظًا وَلَا مَعْنًى.

يُوَضِّحُ ذَلِكَ: أَنَّ الْبَائِعَ لِثَمَرَتِهَا عَلَيْهِ تَمَامُ سَقْيِهَا وَالْعَمَلُ عَلَيْهَا حَتَّى يَتَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي مِن الْجِذَاذِ، كَمَا عَلَى بَائِعِ الزَّرْعِ تَمَامُ سَقْيِهِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي مِن الْحَصَادِ؛ فَإِنَّ هَذَا مِن تَمَامِ التَّوْفِيَةِ، وَمَئُونَةُ التَّوْفِيَةِ عَلَى الْبَائِعِ كَالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ.

وَأَمَّا الْمُكْرِي لَهَا لِمَن يَخْدِمُهَا حَتَّى تُثْمِرَ فَهُوَ كَمُكْرِي الْأَرْضِ لِمَن يَخْدمُهَا حَتَّى تَنْبُتَ، لَيْسَ عَلَى الْفكْرِي عَمَلٌ أَصْلًا، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ التَّمْكِينُ مِن الْعَمَلِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الثَّمَرُ وَالزرْعُ.

لَكِنْ يُقَالُ: طَرْدُ هَذَا: أَنْ يَجُوزَ إكْرَاءُ الْبَهَائِمِ لِمَن يَعْلِفُهَا وَيَسْقِيهَا وَيحْتَلِبُ لَبَنَهَا.

قِيلَ: إذَا جَوَّزنا عَلَىْ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنْ تُدْفَعَ الْمَاشِيَةُ إلَى مَن يَعْلِفُهَا ويَسْقِيهَا بِجُزْءٍ مِن دَرِّهَا وَنَسْلِهَا

(1)

: جَازَ دَفْعُهَا إلَى مَن يَعْمَلُ عَلَيْهَا لِدَرِّهَا وَنَسْلِهَا بِشَيءٍ مَضْمُونٍ.

وإِن قِيلَ: فَهَلَّا جَازَ إجَارَتُهَا لِاحْتِلَابِ لَبَنِهَا كَمَا جَازَ إجَارَةُ الظّئْرِ؟

قِيلَ: .. الْقِيَاسُ: جَوَازُهُ.

وَلَو كَانَ لِرَجُلٍ غَنَمٌ فَاسْتَأجَرَ غَنَمَ رَجُلٍ ليُرْضِعَهَا: لَمْ يَكُن هَذَا مُمْتَنِعًا.

وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُسْتَأجِرُ هُوَ الَّذِي يَحْلِبُ اللَّبَنَ، أَو هُوَ الَّذِي يَسْتَوْفِيهِ: فَهَذَا مُشْتَرٍ لِلَبَنِ، لَيْسَ مُسْتَوْفِيًا لِمَنْفَعَة، وَلَا مُسْتَوْفِيًا لِلْعَيْنِ بِعَمَل، وَهُوَ شَبِيةٌ بِاشْتِرَاءِ الثَّمَرَةِ، وَاحْتِلَابُهُ كَاقْتِطَافِهَا، وَهُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ:"لَا يُبَاعُ لَبَنٌ فِي ضَرْعٍ".

(1)

وهو الراجح.

ص: 116

بِخِلَافِ مَا لَو اسْتَأجَرَهَا لِأنْ يَقُومَ عَلَيْهَا وَيحْتَلِبَ لَبَنَهَا فَهَذَا نَظِيرُ اكْتِرَاءِ الْأرْضِ وَالشَّجَرِ.

‌فَصْلٌ

هَذَا إذَا أَكْرَاهُ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ، أَو الشَّجَرَةَ وَحْدَهَا لِأَنْ يَخْدِمَهَا وَيَأْخُذَ الثَّمَرَةَ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ.

فَإِنْ بَاعَهُ الثَّمَرَةَ فَقَطْ وَأَكْرَاهُ الْأَرْضَ لِلسُّكْنَى: فَهُنَا لَا يَجِيءُ إلَّا الْأَصْلُ الْأَوَّلُ الْمَذْكورُ عَن ابْنِ عَقِيلٍ وَبَعْضُهُ عَن مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: إذَا كَانَ الْأَغْلَبُ هوَ السُّكْنَى، وَهُوَ أَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، فَيَجُوزُ فِي الْجَمْعِ مَا لَا يَجُوزُ فِي التَّفْرِيقِ كَمَا تَقَدَّمَ مِن النَّظَائِرِ.

وَهَذَا إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِن السُّكْنَى وَالثَّمَرَةِ مَقْصُودًا لَهُ.

وَعَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ: فَيَجُوزُ وإِن كَانَ الثَّمَرُ لَمْ يَطْلُعْ بِحَالٍ، سَوَاءٌ كَانَ جِنْسًا وَاحِدًا أَو أَجْنَاسًا مُتَفَرِّقَةً كَمَا يَجُوزُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ.

فَأَمَّا إنْ كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً أَصْلًا وَإِنَّمَا جَاءَت لِأَجْلِ جُذَاذِ الثَّمَرَةِ؛ مِثْل أَنْ يَشْتَرِيَ عِنبًا او بَلَحًا ويُرِيدُ أَنْ يُقِيمَ فِي الْحَدِيقَةِ لِقِطَافِهِ: فَهَذَا لَا يَجُوز قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ.

وَلَو لَمْ تَكُن السُّكْنَى مَقْصُودَةً وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ ابْتِيَاعُ ثَمَرَةٍ فِي بُسْتَانٍ ذِي أَجْنَاسٍ وَالسَّقْيُ عَلَى الْبَائِعِ: فَهَذَا عِنْدَ اللَّيْثِ يَجُوزُ، وَهُوَ قِيَاسُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَن أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ وَقَرَّرْنَاهُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ كَالْحَاجَةِ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ بَيْعِ الثَّمَرَةِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَرُبَّمَا كَانَ أَشَدَّ؛ فَإِنَّهُ قَد لَا يُمْكِنُ بَيْعُ كُلِّ جِنْسٍ عِنْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، فَإِنَّهُ فِي كثِيرٍ مِن الْأَوْقَاتِ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ، وَفِي بَعْضِهَا إنَّمَا يَحْصُلُ بِضَرَر كَثِيرٍ.

وَهُوَ قِيَاسُ مَا قَرَّرْنَاهُ مِن جَوَازِ بَيْعِ المقثاة جَمِيعِهَا بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا؛ لِأَنَّ

ص: 117

تَفْرِيقَ بَعْضِهَا مُتَعَسِّرٌ أَو مُتَعَذّرٌ؛ كَتَعَسُّرِ تَفْرِيقِ الْأَجْنَاسِ فِي الْبُسْتَانِ الْوَاحِدِ، وَإِن كَانَت الْمَشَقَّةُ فِي المقثاة أوْكَدَ؛ وَلهَذَا جَوَّزَهَا مَن مَنَعَ الْأجْنَاسَ كَمَالِكٍ.

فَإنْ قِيلَ: هَذِهِ الطورَةُ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ نَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَن بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَكْرَاهُ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ لِيَعْمَلَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ -كَمَا قَرَّرْتُمْ- لَيْسَ بِدَاخِل فِي الْعُمُومِ؛ لِأنَّهُ إجَارَةٌ لِمَن يَعْمَلُ، لَا بَيْعٌ لِعَيْن.

وَأَمَّا هَذَا فَبَيْعٌ لِلثَّمَرَةِ فَيَدْخُلُ فِي النَّهْيِ، فَكَيْفَ تُخَالِفُونَ النَّهْيَ؟

قُلْنَا: الْجَوَابُ عَن هَذَا كَالْجَوَاب عَمَّا يَجُوزُ بالسُّنَّةِ وَالْإجْمَاعِ مِن ابْتِيَاعِ الشَّجَرِ مَعَ ثَمَرَةِ الَّذِي لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ

(1)

، وَابْتِيَاعِ الأرْضِ مَعَ زَرْعِهَا الَّذِي لَمْ يَشْتَدَّ حَبُّهُ، وَمَا نَصَرْنَاهُ مِن ابْتِيَاعِ المقاثي مَعَ أنَّ بَعْضَ خَضِرِهَا لَمْ يُخْلَقْ.

وَجَوَابُ ذَلِكَ كُلِّهِ بِطَرِيقَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أنْ يُقَالَ: إنَّ النَّهْيَ لَمْ يَشْمَلْ بِلَفْظِهِ هَذِهِ الصُّورَةَ .. فَإنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أنَّ الْمُرَادَ بِالثَّمَرِ هُنَا الرُّطَبُ دُونَ الْعِنَبِ وَغَيْرِهِ.

الطَّرِيقُ الثَّانِي أنْ نَقُولَ: وَإِن سَلَّمْنَا الْعُمُومَ اللَّفْظِيَّ لَكِنْ لَيْسَتْ هِيَ مُرَادَةً؛ بَل هِيَ مَخْصُوصَةٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِن الْأدِلَّهِ التِي تَخُصُّ مِثْل هَذَا الْعُمُومِ؛ فَإنَّ هَذَا الْعُمُومَ مَخْصُوصٌ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فِي الثَّمَرِ التَّابع لِشَجَرِهِ، حَيْثُ قَالَ النُّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَن ابْتَاعَ نَخْلًا لَمْ يُؤبَّرْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إلَّا أنْ يَشْتَرِطُ الْمُبْتَاعُ" أخْرَجَاهُ

(2)

مِن حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، فَجَعَلَهَا لِلْمُبْتَاعِ إذَا اشْتَرَطَهَا بَعْدَ التَّأْبِيرِ، وَمَعْلُومٌ أنَّهَا حِينَئِذٍ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا مُفْرَدَةً.

وَأمَّا نَهْيُهُ صلى الله عليه وسلم عَن الْمُعَاوَمَةِ الَّذِي جَاءَ مُفَسَّرًا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى بِأَنَّهُ بَيْعُ

(1)

وأما حَدِيث ابنِ عَبَّاسٍ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَن بَيْعِ النُّخْلِ حَتَّى يَأْكُلَ مِنْهُ أَو يُؤكَلَ مِنْهُ"، فقال الشيخ: الْمُرَادُ بِالنُّخْلِ ثَمَرُهُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَد جَوَّزَ اشْتِرَاءَ النَّخْلِ الْمُؤَبَّرِ مَعَ اشْتِرَاطِ الْمُشْتَرِي لِثَمَرَتِهِ. (29/ 85)

(2)

البخاري (2379)، ومسلم (1543).

ص: 118

السِّنِينَ: فَهُوَ -وَاللهُ أَعْلَمُ- مِثْلُ نَهْيِهِ عَن بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ، إنَّمَا نَهَى أَنْ يَبْتَاعَ الْمُشْتَرِي الثَّمَرَةَ الَّتِي يَسْتَثْمِرُهَا رَبُّ الشَّجَرَةِ، وَأَمَّا اكْتِرَاءُ الْأَرْضِ وَالشَّجَرَةِ حَتَّى يَسْتَثْمِرَهَا فَلَا يَدْخلُ هَذَا فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ، وَإِنَّمَا هُوَ نَوْعٌ مِن الْإِجَارَةِ.

وَنَظِيرُ هَذَا: مَا تَقَدَّمَ مِن حَدِيثِ جَابِرٍ فِي "الصَّحِيحِ"

(1)

مِن أَنَّهُ "نَهَى عَن كِرَاءِ الْأَرْضِ"، وَأَنَّهُ "نَهَى عَن الْمُخَابَرَةِ"، وَأَنَّهُ "نَهَى عَن الْمُزَارَعَةِ"، وَأَنَّهُ قَالَ:"لَا تكروا الأرْضَ": فَإنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ: الْكِرَاءُ الَّذِي كَانُوا يَعْتَادُونَهُ، كمَا جَاءَ مُفَسَّرًا، وَهِيَ الْمُخَابَرَةُ وَالْمُزَارَعَةُ الَّتِي كَانُوا يَعْتَادُونَهَا، فَنَهَاهُم عَمَّا كَانُوا يَعْتَادُونَهُ مِن الْكِرَاءِ وَالْمُعَاوَمَةِ الَّذِي يَرْجِعُ حَاصِلُهُ إلَى بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ أَنْ تَصْلُحَ، وَإِلَى الْمُزَارَعَةِ الْمَشْرُوطِ فِيهَا جُزْءٌ مُعَيَّن.

3521 -

إكْرَاءُ الشَّجَرِ لِلِاسْتِثْمَارِ يَجْرِي مَجْرَى إكْرَاءِ الْأَرْضِ لِلِازْدِرَاعِ، وَاسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ لِلرِّضَاعِ.

وَذَلِكَ: أَنَّ الْفَوَائِدَ الَّتِي تُسْتَخْلَفُ مَعَ بَقَاءِ أُصُولِهَا تَجْرِي مَجْرَى الْمَنَافِعِ وإِن كَانَت أَعْيَانًا، وَهِيَ ثَمَرُ الشَّجَرِ، وَلَبَن الْآدَمِيَّاتِ وَالْبَهَائِمِ، وَالصُّوف وَالْمَاء الْعَذْبِ: فَإِنَّهُ كُلَّمَا خُلِقَ مِن هَذِهِ شَيءٌ فَأُخذ خَلق الله بَدَلَهُ مَعَ بَقَاء الْأصْلِ كَالْمَنَافِعِ سوَاءٌ.

وَلهَذَا جَرَتْ فِي الْوَقْفِ وَالْعَارِية وَالْمُعَامَلَةِ بِجُزْءٍ مِن النَّمَاءِ مَجْرَى الْمَنْفَعَةِ؛ فَإِنَّ الْوَقْفَ لَا يَكُون إلَّا فِيمَا ينْتَفعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ، فَإِذَا جَازَ وَقْفُ الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ أَو الرِّبَاعِ لِمَنْفَعَتِهَا فَكَذَلِكَ وَقْفُ الْحِيطَانِ لِثَمَرَتِهَا، وَوَقْفُ الْمَاشِيَةِ لِدَرِّهَا وَصُوفِهَا، وَوَقْفُ الْآبَارِ وَالْعُيُونِ لِمَائِهَا، بِخِلَافِ مَا يَذْهَبُ بِالِانْتِفَاعِ كَالطَّعَامِ وَنَحْوِهِ فَلَا يُوقَفُ.

3522 -

مَن اسْتَقْرَأَ الشَّرِيعَةَ تبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْمُعَاوَضَةَ إذَا احْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهَا بِلَا ضَرَرٍ يَزِيدُ عَلَى حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ: وَجَبَتْ.

(1)

رواه مسلم (1536، 1539).

ص: 119

فَأَمَّا عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ وَمَعَ حَاجَةِ رَبِّ الْمَالِ المُكافِيَة لِحَاجَةِ الْمُعْتَاضِ: فَرَبُّ الْمَالِ أَوْلَى؛ فَإِنَ الضَّرَرَ لَا يُزَالُ بِالضَّرَرِ، وَالرَّجُلُ أَحَقُّ بِمَالِهِ مِن وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، "وَابْدَأ بِنَفْسِك ثُمَّ بِمَن تَعُولُ".

وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ حَسَنَةٌ مُنَاسِبَةٌ وَلَهَا شَوَاهِدُ كَثيرَة فِي الشَّرِيعَةِ.

وَبِالْجُمْلَةِ: فَوُجُوبُ الْمُعَاوَضَاتِ مِن ضَرُورَةِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ؛ إذ الْإِنْسَانُ لَا يَنْفَرِدُ بِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ؛ بَل لَا بُدَّ لَهُ مِن الِاسْتِعَانَةِ بِبَنِي جِنْسِهِ، فَلَو لَمْ يَجِبْ عَلَى بَنِي آدمَ أَنْ يَبْذُلَ هَذَا لِهَذَا مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَهَذَا لِهَذَا مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لَفَسَدَ النَّاسُ، وَفَسَدَ أَمْرُ دُنْيَاهُم وَدِينِهِمْ، فَلَا تَتِمُّ مَصَالِحُهُم إلَّا بِالْمُعَاوَضَةِ، وَصَلَاحُهَا بِالْعَدْلِ الَّذِي أَنْزَلَ اللهُ لَهُ الْكُتُبَ وَبَعَثَ بِهِ الرُّسُلَ، فَقَالَ تَعَالَى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25].

وَلَا ريبَ أَنَّ النفوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى بَذْلِ الْمُعَاوَضَةِ لِحَاجَتِهَا إلَيْهَا؛ فَالشَّارعُ إذَا بُذِلَ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ بِلَا إكْرَاهٍ: لَمْ يَشْرَعِ الْإِكْرَاهَ وَرَدَّ الْأَمْر إلَى التَّرَاضِي فِي أَصْلِ الْمُعَاوَضَةِ وَفِي مِقْدَارِ الْعِوَضِ.

وَأَمَّا إذَا لَمْ يُبْذَلْ:

أ - فَقَد يُوجِبُ الْمُعَاوَضَةَ تَارَةً.

ب - وَقَد يُوجِبُ عِوَضا مُقَدَّرًا تَارَةً.

ج - وَقَد يُوجِبُهُمَا جَمِيعًا.

د - وَقَد يُوجِبُ التَّعْوِيضَ لِمَعَانٍ

(1)

أُخْرَى.

مِثَالُ الْأوَّلِ: مَن عَلَيْهِ دَيْن فَطُولِبَ بِهِ وَلَيْسَ لَهُ إلَّا عَرَضٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَهُ لِيُوفِيَهُ الدَّيْنَ، فَإِنَّ وَفَاءَ الدَّيْنِ وَاجِبٌ، وَلَا يَتِمُّ إلَّا بِالْبَيْعِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَللْحَاكِمِ أَنْ يُكْرِهَهُ عَلَى بَيْعِ الْعَرَضِ فِي وَفَاءِ دَيْنِهِ، وَلَهُ أَنْ

(1)

في الأصل: (لِمُعَيَّن)، ولعل المثبت هو الصواب؛ ليستقيم المعنى.

ص: 120

يَبِيعَ عَلَيْهِ إذَا امْتَنَعَ؛ لِأنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ عَلَيْهِ فَقَبِلَ النِّيَابَةَ، فَقَامَ ذُو السُّلْطَانِ فِيهِمْ مَقَامَهُ؛ كَمَا يَقُومُ فِي تَوْفِيَةِ الدَّيْنِ وَتَزْوِيجِ الْأيِّمِ مِن كُفْئِهَا إذَا طَلَبَتْهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَبِالْجُمْلَةِ: فَكُلُّ مَن وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ مَالٍ إذَا لَمْ يُمْكِنْ أَدَاؤُهُ إلَّا بِالْبَيْعِ صَارَ الْبَيْعُ وَاجِبًا يُجْبَرُ عَلَيْهِ ويُفْعَلُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ.

وَمِثَالُ الثَّانِي: الْمُضْطَرُّ إلَى طَعَامِ الْغَيْرِ إذَا بَذَلَهُ لَهُ بِمَا يَزِيدُ عَلَى الْقِيمَةِ، فَإنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَهُ وَأَنْ يَكُونَ بَيْعُهُ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْهُمَا أجْبِرَ عَلَيْهِمَا، وَإِن بَذَلَ أَحَدُهُمَا أُجْبِرَ الْآخَرُ.

حَتَّى إنَّهُ لَو امْتَنَعَ عَن بَذْلِ الطَّعَامِ فَلَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَاتِلِ عَن نَفْسِهِ.

وَأَمَّا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ: فَنَهْيُهُ صلى الله عليه وسلم عَن أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ لِمَا فِيهِ مِن إضْرَارِ الْمُشْتَرِي إذَا تَوَكَّلَ الْحَاضِرُ لِلْقَادِمِ بِسِلْعَتِهِ فِي الْبَيْعِ مَعَ حَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهَا.

3523 -

ذَكَرَ طَائِفَةٌ مِن الْعُلَمَاءِ مِن أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ: أَنَّ أُصُولَ الصِّنَاعَاتِ كَالْفِلَاحَةِ وَالْحِيَاكَةِ وَالْبِنَايَةِ: فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهَا فَرْضٌ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا، وَأَمَّا مَعَ إمْكَانِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا فَلَا تَجِبُ.

3524 -

الَّذِي يُكْرَهُ مِن شِرَاءِ الأرْضِ الخراجية: إنَّمَا كَانَ لِأنَّ الْمُشْتَرِيَ يَشْتَرِيهَا فَيَرْفَعُ الْخَرَاجَ عَنْهَا وَذَلِكَ إسْقَاطٌ لِحَقِّ الْمُسْلِمِينَ كَمَا كَانُوا أَحْيَانًا يَقْطَعُونَ بَعْضَهَا لِبَعْضِ الْمُحَارِبِينَ إقْطَاعَ تَمْلِيكٍ، لَا إقْطَاعَ اسْتِغْلَالٍ كَإِقْطَاعِ الْمَوَاتِ، فَهَذَا الِانْتِفَاعُ وَالْإِقْطَاعُ يُسْقِطُ حَقَّ الْمُسْلِمِينَ مِن الرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَالْخُلَفَاءُ أَخَذُوهُ مِن الْغُزَاةِ لِتَكُونَ مَنْفَعَتُهُ دَائِمَةً لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا قُطِعَتْ مَنْفَعَتُهُ عَن الْمُسْلِمِينَ صَارَ ظُلْمًا لَهُمْ.

فَاَمَّا إذَا اشْتَرَاهَا وَعَلَيْهِ مِن الْخَرَاجِ مَا عَلَى الْبَائِعِ: فَهُوَ كَمَا لَو وَلَّاهُ إيَّاهَا بِلَا حَقّ، وَكَمَا لَو وَرِثَهَا؛ فَإِنَّ الْإِرْثَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ: أَنَّ الْوَارِثَ أَحَقُّ بِهَا

ص: 121

بِالْخَرَاجِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ إعْطَاءَهَا لِمَن أُعْطَيَتْه بِالْخَرَاجِ قَد قِيلَ: إنَّهُ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْمُقَسَّطِ الدَّائِمِ.

وَالتحْقِيقُ: أَنَّهَا معَامَلَة قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا، ذَاتُ شَبَهٍ مِن الْبَيْعِ وَمِن الْإِجَارَةِ .. فَإِنَّهُ لَمْ يَمْلِكِ الْعَيْنَ مُطْلَقًا وَلَمْ يَسْتَأْجِرْهَا، وَإِنَّمَا مَلَكَ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ مُؤَبَّدَةً.

يُوَضحُ ذَلِكَ: أَنَّ أَصْلَ الْخَرَاجِ

(1)

فِي قَوْلِهِ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7]، فَإنَّ هَذَا فَرْقٌ بَيْنَ الْعَقَارِ وَالْمَنْقُولِ، وَمَعَ هَذَا فَقَدَ أَضَافَ الْقُرَى إلَيْهِم فَعُلِمَ اخْتِصَاصُهُم بِهَا.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَلَو أَخَذَهُ ذِمِّيٌّ مِن الذِّمِّيِّ الْأَوَّلِ بِالْخَرَاجِ وَعَاوَضَهُ عَلَى ذَلِكَ عِوَضًا لَمْ يَكُن فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ أَصْلًا فَلَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ.

لِأَنَّهُ إنْ قِيلَ: إَّنهُ وَقْفٌ، فَهَذَا لَا يُخْرِجُهُ بِهَذِهِ الْمُعَاوَضَةِ عَن أَنْ يَكُونَ وَقْفَا؛ بَل مُسْتَحَقُّ أَهْلِ الْوَقْفِ بَاقٍ كَمَا كَانَ، وَبَيْعُ الْوَقْفِ إنَّمَا مُنِعَ مِنْهُ لِإِزَالَةِ حَقِّ أَهْلِ الْوَقْفِ، وَهَذَا لَا يَزُولُ، بَل هُوَ بِمَنْزِلَةِ إجَارَةِ أَرْضِ الْوَقْفِ بِأكْثَرَ مِمَّا اسْتَأجَرَهَا، فَكَأنَّهُ قَالَ: أكريتك هَذِهِ الْأرْضَ بِمَا عَلَيَّ مِن الْخَرَاجِ وَبِالزِّيَادَةِ الَّتِي تُعَجِّلُهَا إلَيَّ، وَلهَذَا يَنْتَقِلُ إلَى وَرَثَةِ مَن هِيَ فِي يَدِهِ، وَالْوَقْفُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ، فَإذَا جَازَ انْتِقَالُهُ بِالْأِرْثِ عَلَى صِفَةِ مَا كَانَ -وَالْهِبَةُ مِثْلُهُ- فَكَذَلِكَ الْمُعَاوَضَةُ سَوَاءٌ سُمِّيَتْ بَيْعًا أَو إجَارَةً.

وَلهَذَا جَوَّزَ أَحْمَد إصْدَاقَ الْأرْضِ الخراجية وَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا جَازَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا وَأُجْرَةً، وَمَا كَانَ ثَمَنًا كَانَ مُثَمَّنًا.

فَهَذَا بَابٌ يَنْبَغِي تَأَمُّلُهُ.

3525 -

بُيُوتُ مَكَّةَ: أَحْسَنُ مَا فِيهَا أنَّه لَا تَجُوزُ إجَارَتُهَا؛ بَل يَجِبُ بَذْلُهَا

(1)

قال الشيخ: الْخَرَاجُ: ضَرِيبَةٌ عَلَى الْأرْضِ التي فِيهَا شَجَرٌ وَالْأرْضِ الْبَيْضَاءِ.

وَضَرَبَ عَلَى جَرِيبِ النُّخْلِ مِقْدَارًا وَعَلَى جَرِيب الْكَرْمِ مِقْدَارًا، وَهَذَا بِعَينِهِ إجَارَةٌ لِلْأرْضِ مَعَ الشُّجَرِ. (30/ 233)

ص: 122

لِلْمُحْتَاجِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَهَذَا الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْآثَارُ وَالْقِيَاسُ

(1)

.

وَأَمَّا الْمَنْعُ مِن بَيْعِهَا فَفِيهِ نَظَرٌ، فَلَو كَانَ الْمَانِعُ كَوْنَ فَتْحِهَا عَنْوَةً لَمَا مُنعَ إجَارَتهَا.

بَل الصَّوَابُ: أَنَّ الْمَانِعَ مِن إجَارَتهَا كَوْنُهَا أرْضَ الْمَشَاعِرِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِي اسْتِحْقَاقِ الِانْتِفَاعِ بِهَا جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى:{سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25]، فَالسَّاكِنُونَ بِهَا أَحَقُّ بِمَا احْتَاجُوا إلَيْهِ؛ لِأنَّهُم سَبَقُوا إلَى الْمُبَاحِ، كَمَن سَبَقَ إلَى مُبَاحٍ مِن مَسْجِدٍ أَو طَرِيقٍ أَو سُوقٍ.

وَأَمَّا الْفَاضِلُ فَعَلَيْهِم بَذْلُهُ.

أَو لِأنَّ الْمَكِّيَّ لَمَّا صَارَ النَّاسُ يُهْدُونَ إلَيْهِم الْهَدَايَا، وَتَجِبُ عَلَيْهِم قِسْمَتُهَا فِيهِمْ، صَارَ يَجِبُ عَلَى الْمَكِّيِّينَ إنْزَالُ النَّاسِ فِي مَنَازِلهِمْ مُقَابَلَةً لِلإحْسَانِ بِالْإِحْسَانِ.

وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَد يَكُونُ هُوَ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِإبْقَائِهَا بِيَدِ أَرْبَابِهَا مِن غَيْرِ خَرَاجٍ مَضْرُوبِ عَلَيْهِم أَصْلًا؛ لِأنَّ لِلْمُقِيمِينَ بِمَكَّةَ حَقًّا وَعَلَيْهِم حَقٌّ، لَيْسَتْ كَغَيْرِهَا مِن الْأَمْصَارِ.

وَمِن هُنَا يَصِيرُ التَّعْلِيلُ بِفَتْحِهَا عَنْوَةَ مُنَاسِبًا لِمَنْعِ إجَارَتهَا -كَمَا ذَكَرْنَاهُ- لَا إلْحَاقًا لَهَا بِسَائِرِ أَرْضِ الْعَنْوَةِ.

3526 -

مَن يَمْلِكُ مَاءً نَابِعًا مِثْل أنْ يَمْلِكَ بِئْرًا مَحْفُورَةً فِي مِلْكِهِ -ويدْخُلُ فِي لَفْظِ الْبِئْرِ: مَا يُنْصَبُ عَلَيْهِ الدُّولَابُ وَمَا لَا يُنْصَبُ، أو يَمْلِكُ عَيْنَ مَاء فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ - فَهَذَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْبِئْرَ وَالْعَيْنَ جَمِيعًا.

وإِنَّمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ: لَو بَاعَ الْمَاءَ بِدُونِ الْقَرَارِ: هَل يَصِحُّ بَيْعُهُ لِكَوْنِهِ

(1)

هذا خاص بالبيوت، أما المزارع فلا بأس بإجارتها وبيعها، قال الشيخ عن مَزَارع مَكَّةَ: مَا عَلِمْت أحَدًا مِن أَصْحَابِنَا وَلَا غَيْرِهِمْ مَنَعَ بَيْعَهَا أو إجَارَتَهَا، وَإنَّمَا الْكَلَامُ فِي الرّبَاعِ، وَهِيَ الْمَسَاكِنُ لَا الْمَزَارعُ. (29/ 211)

ص: 123

يُمْلكُ أَو لَا يَصِحُّ لِكَوْنِهِ لَا يُمْلكُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورينِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَن أَحْمَد، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَهُوَ مَنْصُوصٌ لِلشَّافِعِيِّ.

وَأَمَّا بَيْعُ الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ بِكَمَالِهَا أَو بَيْعُ جُزْءٍ مِنْهَا: "فَمَا عَلِمْت فِيهِ تَنَازُعًا إذَا كَانَت الْأَرْضُ مَمْلُوكَةً، وَقَد نَدَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى شِرَاءِ بِئْرِ رُومَةَ مِن مَالِكِهَا الْيَهُودِيِّ، فَاشْتَرَى عُثْمَانُ بْنُ عفان نِصْفَهَا وَحَبَسَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ دَلْوُهُ مِنْهَا كَدَلْوِ وَاحِدٍ مِن الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ لَمَّا رَأَى الْيَهُودِيُّ ذَلِكَ بَاعَهُ النِّصْفَ الْآخَرَ فَاشْتَرَاهُ عُثْمَانُ، وَجَعَلَ الْبِئْرَ كُلَّهَا حَبْسًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ".

وَهَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا احْتَجَّ بِهِ الْفُقَهَاءُ عَلَى عِدَّةِ مَسَائِلَ؛ مِثْل وَقْفِ الْمُشَاعِ، وَيكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي مِثْل ذَلِكَ: هَل فِيهِ شُفْعَةٌ؟

فَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ فِيهِ الشُّفْعَةَ كَأَبي حَنِيفَةَ .. وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ عَن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ فِيهِ.

وَالْأظْهَرُ وُجُوبُ الشُّفْعَةِ فِي ذَلِكَ.

وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهم اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ بَيْعِ ذَلِكَ، وَجَوَازُ هِبَةِ ذَلِكَ أَظْهَرُ مِن جَوَازِ بَيْعِهِ.

3527 -

قَوْلُهُ: "النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: الْمَاءُ وَالْكَلَأُ وَالنَّارُ"

(1)

: فَهُوَ حَدِيثْ مَعْرُوفٌ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ، وَقَد اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَ الْكَلَأَ النَّابِتَ فِي الْأَرْضِ الْمُبَاحَةِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ النَّاسِ، فَمَن سَبَقَ إلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ.

وَأَمَّا النَّابِتُ فِي الْأرْضِ الْمَمْلُوكَةِ: فَإِنَّهُ إنْ كَانَ صَاحِبُ الْأَرْضِ مُحْتَاجًا إلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِن كَانَ مُسْتَغْنِيًا عَنْهُ فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ، وَأكْثَرُهُم يُجَوِّزُونَ أَخْذَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ، ويُجَوِّزُونَ رَعْيَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ.

(1)

رواه ابن ماجه (2472)، وأحمد (23082، 23083).

ص: 124

كَذَلِكَ الْمَاءُ: إنْ كَانَ نَابِعًا فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ فَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ النَّاسِ، وَإِن كَانَ نَابِعًا فِي مِلْكِ رَجُلٍ فَعَلَيْهِ بَذْلُ فَضْلِهِ لِمَن يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِلشُّرْبِ لِلْآدَمِيِّينَ وَالدَّوَابِّ بِلَا عِوَضٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ.

3528 -

عَلَى صَاحِبِ النَّحْلِ الْعُشْرُ، يَصْرِفُهُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِن الْعُلَمَاءِ كَأبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ؛ لِمَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ.

وَهَذِهِ الطُّلُولُ

(1)

هي أَحَقُّ بِالْبَذْلِ مِن الْكلَأِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الطُّلُولَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْمَعَهَا إلَّا النَّحْلُ.

لَكِنْ إذَا كَانَت لِصَاحِبِ الْأَرْضِ فَنَحْلُهُ أَحَقُّ بِالْجِنَاءِ فِي أَرْضِهِ، فَإِذَا كَانَ جَنْيُ تِلْكَ النَّحْلَ تَضْرِبُهُ فَلَهُ الْمَنْعُ مِن ذَلِكَ.

3529 -

وَسُئِلَ: عَمَّن هَاجَرَ مِن بَلَدِ التتر وَلَمْ يَجِدْ مَرْكُوبًا فَاشْتَرَى مِن التتر مَا يَرْكَبُ بِهِ، فَهَل عَلَيْهِ الثَّمَنُ بَعْدَ هِجْرَتِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ؟

فَأَجَابَ: نَعَمْ، إذَا اشْتَرَى مِنْهُم فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ الثَّمَنَ لِمَن بَاعَهُ وَإِن كَانَ تتريًّا

(2)

.

3530 -

وَسُئِلَ: عَن تَاجِرٍ رُسمَ لَهُ بِتَوْقِيع سُلْطَانِيٍّ بِالْمُسَامَحَةِ بِأَنْ لَا يُؤخَذَ مِنْهُ شَيءٌ عَلَى مَتْجَرِهِ، فَتَاجَرَ سَفْرَةً

(3)

، فَبَاعَ التَّوْقِيعَ الَّذِي بِيَدِهِ لِتَاجِرٍ آخَرَ؛ لِأَجْلِ الْإِطْلَاقِ الَّذِي فِيهِ

(4)

، فَهَل يَصِحُّ بَيْعُ مَا فِي التَّوْقِيعِ؟ ثُمَّ إنَّ الْمُشْتَرِيَ لِلتَّوْقِيعِ بَطَلَ سَفَرُهُ، وَلَمْ يَنْتَفِعْ، فَهَل يَلْزَمُهُ أَدَاءُ الثَّمَنِ؟

فَأَجَابَ: هَذَا الْبَيْعُ لَيْسَ مَقْصُودُهُ بَيْعَ الْوَرَقَةِ؛ فَإِنَّ قِيمَتَهَا يَسِيرَةٌ؛ بَل لَا

(1)

التي يجني منها النحل.

(2)

وهذا من الأمانة التي يجب على المسلم أداؤها للمسلم والكافر والفاجر.

(3)

أي: سافر للتجارة.

(4)

بأن لَا يُؤْخَذ مِنْهُ شَيءٌ عَلَى مَتْجَرِهِ. وهذا يُشبه ما عليه اليوم من رسوم على لوحات المحلات ونحوها.

ص: 125

تُقْصَدُ بِالْبَيْعِ أَصْلًا، وإِنَّمَا مَقْصُودُهُ أَنَّ الْوَظِيفَةَ الَّتِي كَانَ يَأْخُذُهَا نُوَّابُ السُّلْطَانِ تُسْقِطُ عَنْهُ الْحُقُوقَ، وَيأْخُذُ هَذَا الْبَائِعُ بَعْضَهَا أَو عِوَضَهَا مِنْهُ؛ لِأنَّ الْبَائِعَ كَانَت تَسْقُطُ عَنْهُ.

وَهَذَا يُشْبِهُ مَا يُطْلَقُ مِن بَيْتِ الْمَالِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ إطْلَاقًا لِمَن وَفَدَ عَلَى السُّلْطَانِ أَو خَرَّجَ بَرِيدًا أَو غَيْرَ ذَلِكَ.

وَهَذَا إنَّمَا يُعْطَاهُ إذَا عَمِلَ ذَلِكَ الْعَمَلَ، فَإِذَا لَمْ يَخْرُجْ وَلَا عِوَضُهُ لَمْ يُعْطَه.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَإِذَا كَانَ هَذَا لِلْعَارِضِ لَا هُوَ وَلَا صَاحِبُ التَّوْقِيعِ لَمْ يُطْلَقْ لَهُ شَيءٌ.

وَحِينَئِذٍ فَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الْمُشْتَرِي شَيْئًا، وَلَيْسَ مَا ذُكِرَ لَازِمًا حَتَّى يَجِبَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ؛ بَل غَايَتُهُ إنْ قِيلَ بِالْجَوَازِ كَانَ جَائِزًا وَالْحَالَةُ هَذِهِ

(1)

.

3531 -

وَسئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلٍ أَخَذَ سَنَةَ الْغَلَاءِ غَلَّةً

(2)

وَقَالَ لَهُ: قَاطِعْنِي

(3)

فِيهَا قَالَ لَهُ: حَتَّى يَسْتَقِرَّ السِّعْرُ

(4)

، وَصَبَرَ أَشْهُرًا

(5)

، وَحَضَرَ فَأَخَذَ حَظَّهُ بِمِائَة وَخَمْسِينَ إرْدَبًّا

(6)

فَهَل لَهُ ثَمَنٌ أَو غَلَّةٌ؟

فَأَجَابَ: الصَّحِيحُ فِي هَذِهِ الْمَسْألَةِ أنَّ لَهُ مَا تَرَاضَيَا وَهُوَ الْمِائَةُ وَالْخَمْسُونَ، سَوَاءٌ قِيلَ: إنَّ الْوَاجِبَ كَانَ أَوَّلًا هُوَ السِّعْرُ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمَد أَنَّ الْبَيْعَ بِالسِّعْرِ صَحِيحٌ.

(1)

جواب الشيخ الدقيق ينمّ عن فطنته وذكائه رحمه الله.

(2)

الغَلَّة: جمع غَلَّات؛ أي: المحاصيل الزرِاعية. قال ابن الأثير: هي: الدَّخْل الَّذِي يَحْصُل مِنَ الزَّرْع والثَّمر وَاللَّبَنِ وَالْإجَارَةِ والنِّتاج وَنحْوِ ذَلِكَ. النهاية، مادة:(غلل).

(3)

قَاطَع فُلَانًا على كَذَا وَكَذَا من الْأجر وَالْعَمَل وَنَحْوهمَا: ولَّاه إِيَّاه بِأجْرَةٍ مُعينَة.

(4)

أي: تعمل عندي حتى يستقر السعر ويزول الغلاء.

(5)

أي: عمل عنده مدة هذه الأشهر التي فيها الغلاء.

(6)

الإرْدَبّ: مكيالٌ لتقدير الحبوب يسع أربعة وعشرين صاعًا، ويزن مِائةً وخمسين كيلو جرامًا.

ص: 126

أَو قِيلَ: إنَّ الْبَيْعَ كَانَ بَاطِلًا وَأَنَّ الْوَاجِبَ رَدُّ الْبَدَل، فَإِنَّهُمَا إذَا اصْطَلَحَا عَن الْبَدَلِ بِقِيمَتِهِ -وَقْتَ الِاصْطِلَاحِ- جَازَ الصّلْحُ وَلَزِمَ.

3532 -

يَجُوزُ بَيْعُ الْمُشَاعِ بِاتّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا مَضَتْ بِذَلِكَ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، مِثْلُ قَوْلِهِ الَّذِي فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ"

(1)

: "أيُّمَا رَجُلٍ كَانَ لَهُ شِرْكٌ فِي أَرْضٍ أَو ربْعَةٍ أَو حَائِطٍ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِن شَاءَ تَرَكَ، فَإِنْ بَاعَ قَبْلَ أَنْ يُؤْذِنَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ بِالثمَنِ".

فإذَا بَاعَ نَصِيبَهُ وَسَلَّمَ الْجَمِيعَ إلَى الْمُشْتَرِي وَتَعَذَّرَ عَلَى الشَّرِيكِ الِانْتِفَاعُ بِنَصِيبِهِ: كَانَ ضَامِنًا لِنَصِيبِ الشَّرِيكِ.

فَإِمَّا أَنْ يُمَكّنَهُ مِن نَصِيبِهِ، وإِمَّا أَنْ يَضْمَنَهُ لَه بِقِيمَتِهِ.

3533 -

بَيْعُ الزَّيْتِ جَائِزٌ وإِن لَمْ يُعْلَمْ مِقْدَارُ زيتِهِ، كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ حَبِّ الْقُطْنِ وَالزَّيْتُونِ وَنَحْوِهِمَا مِن الْمُنْعَصِرَاتِ وَالْمَبِيعَاتِ مُجَازَفَةً

(2)

.

3534 -

لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ فِي الدَّرَاهِمِ: هَل تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي الْعُقُودِ والقبوض حَتَى فِي الْغَصْبِ وَالْوَدِيعَةِ؟

فَقِيلَ: تتعَيَّنُ مُطْلَقًا كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأحْمَد فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ.

وَقِيلَ: لَا تتعَيَّنُ مُطْلَقًا كَقَوْلِ ابْنِ قَاسِمٍ.

وَقِيلَ: تَتَعَيَّنُ فِي الْغَصْبِ وَالْوَدِيعَةِ، دُونَ الْعَقْدِ؛ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى.

3535 -

إنَّ حَقَّ الْمَظْلُومِ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ مَالِ الظَّالِمِ وَإِن فَاتَت الْعَيْنُ؛ لِكَوْنِ هَذَا بَدَلُ مَالِهِ.

وَيكُونُ مَا يَزِيدُ مِن الْمَالِ مِن نَمَاءٍ وَرِبْحٍ وَغَيْرِهِ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ.

(1)

(1608).

(2)

بَيْعُ المُجَازَفَة: هو البَيْعُ بالتقدير والتخمين بعد التحري وغلبة الظن، مِن غَيْرِ كَيْلٍ وَلَا وَزْنٍ.

ص: 127

لَكِنْ يُقَالُ عَلَى هَذَا: الْمَظْلُومُ لَيْسَ لَهُ إلَّا قَدْرُ حَقّهِ، وَأَمَّا الزّيَادَةُ الثَّانِيَةُ الَتِي حَصَلَتْ بِتَصَرُّفِ الظَّالِمِ فَهِيَ مَبْنِيَّة عَلَى وَقْفِ الْعُقُودِ

(1)

، فَمَن قَالَ: إنَّ الْعُقُودَ لَا تُوقَفُ يَقُولُ: مَا قَبَضَهُ الْبَائِغ الظَّالِمُ مِن الْمُشْتَرِي لَمْ يَمْلِكْهُ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، وَالثَّمَنُ الَّذِي أدَّاهُ وَقَد غَصَبَهُ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ دُونَ النَّاسِ الَّذِينَ ظَلَمَهُمْ، وَمَا فِي يَدِهِ لَا يَمْلِكُهُ؛ بَل هُوَ لِأُنَاسٍ مَجْهُولِينَ لَا يَعْرِفُهُمْ، وَلَا يَتَصَرَّفُ فِي مَالِهِمْ إلَّا بِإِذْنِهِمْ.

وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ قَوْلَانِ:

قِيلَ: إنَّ وَليَّ الْأَمْرِ كَالْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ مِمَّن لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ عَلَى الْغَائِبِينَ يَقْضِي الدُّيُونَ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهِم لِلْبَائِعِ بِالْأَمْوَالِ الَّتِي فِي يَدِهِ لَهُمْ.

وَقِيلَ: إنَّ الْبَائِعَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ الَّذِي عَلَيْهِم مِمَّا لَهُم فِي يَدِهِ مِن الْمَالِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْذَانِ حَاكِمٍ وَهَذَا أَصَحُّ؛ فَإِنَّ الْمَعْلُومَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ مِن مَالِ مَن هُوَ عَلَيْهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إذْنِ الْحَاكِمِ، كَمَا أَذِنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلضَّيْفِ الْمَظْلُومِ أَنْ يَأْخُذَ حَقَّهُ مِن زَرْعِ الْمُضيفِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَكَمَا أَمَرَ الْمَرْأَةَ أَنْ تَأْخُذَ مَا يَكْفِيهَا وَوَلَدَهَا بِالْمَعْرُوفِ بِلَا إذْنِ الزَّوْجِ.

لَكِنْ إذَا كَانَ الْحَقُّ مَجْحُودًا: فَقَد قَالَ: "أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَن ائْتَمَنَك وَلَا تَخُنْ مَن خَانَك"

(2)

، فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْإِنْسَانُ قَد بَاعَ غَيْرَة سِلْعَةً بَيْعًا فَاسِدًا،

(1)

معنى وَقْف الْعُقُودِ: هو أنه إذَا تَصَرَّفَ الرَّجُلُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ: هَل يَقَعُ تَصَرُّفُهُ مَرْدُودًا أَو مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتهِ؟

رجح الشيخ رحمه الله أنها موقوفة على الإجازة، حيث قال في موضع آخر: وَالْقَوْلُ بِوَقْفِ الْعُقُودِ عِنْدَ الْحَاجَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ.

وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إضْرَارًا أَصْلًا، بَل صَلَاحٌ بِلَا فَسَادٍ، فَإِنَّ الرَّجُلَ قَد يَرَى أَنْ يَشْتَرِيَ لِغَيْرِهِ أَو يَبِيعَ لَهُ أو يَسْتَأْجِرَ لَهُ أو يُوجِبَ لَهُ ثُمَّ يُشَاوِرَهُ، فَإِنْ رَضِيَ وَإِلَّا فَلَمْ يُصِبْهُ مَا يَضُرُّهُ، وَكَذَلِكَ فِي تَزْوِيجِ مُوَلِّيَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَأَمَّا مَعَ الْحَاجَةِ فَالْقَوْلُ بهِ لَا بُدَّ مِنْهُ. اهـ. (20/ 580)

(2)

رواه أبو داود (3534)، والترمذي (1264)، والدارمي (2639)، وأحمد (15424). وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

ص: 128

وَقَبَضَ مِنْهُ الثَّمَنَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْهُ مِن هَذِهِ السِّلْعَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى.

3536 -

إِنَّ النَّاسَ إذَا اضْطُرُّوا إلَى مَا عِنْدَ الْإِنْسَانِ مِن السِّلْعَةِ وَالْمَنْفَعَةِ: وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُبْذَلَ لَهُم بِقِيمَةِ الْمِثْلِ، وَمَنْعُهُ أَنْ لَا يَبِيعَ سِلْعَةً حَتَّى يَبِيعَ مِقْدَارًا مُعَيَّنًا.

3537 -

إِنَّ التَّحْرِيمَ فِي حَقِّ الْآدَمِيّينَ إذَا كَانَ مِن أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْجَانِبِ الآخَرِ؛ كَمَا لَو اشْتَرَى الرَّجُلُ ملْكَهُ الْمَغْصُوبَ مِن الْغَاصِبِ، فَإنَّ الْبَائِعَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخْذُ الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِي لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخْذُ مِلْكِهِ وَلَا بَذْلُ مَا بَذَلَهُ مِن الثَّمَنِ؛ وَلهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: يَجُوزُ رِشْوَةُ الْعَامِلِ لِدَفْعِ الظُّلْمِ لَا لِمَنْعِ الْحَقِّ، وَإِرْشَاؤُهُ حَرَامٌ فِيهِمَا.

وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا إذَا جَحَدَ الزَّوْجُ طَلَاقَهَا فَافْتَدَتْ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْخلْعِ فِي الظَّاهِرِ كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ مَا بَذَلَتْهُ وَيُخَلِّصُهَا مِن رِقِّ اسْتِيلَائِهِ.

3538 -

نَصَّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِن الْعُلَمَاءِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ مَن اشْتَرَى شَيْئًا فَظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ مَغْصُوبٌ، وَلَمْ يَعْرِفْ مَالِكَهُ: فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ ويَأْخُذَ ثَمَنَهُ، وَلَكِنْ يَتَصَدَّقَ بِالرِّبْحِ.

3539 -

قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: لَا خَيْرَ فِيمَن لَا يُحِبُّ الْمَالَ: يَعْبُدُ بِهِ رَبَّهُ، ويُؤَدِّي بِهِ أَمَانتَهُ، وَيَصُونُ بِهِ نَفْسَهُ، وَيَسْتَغْنِي بِهِ عَن الْخَلْقِ.

وَفِي "السُّنَنِ"

(1)

عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ثَلَاَثة حَقٌّ عَلَى اللهِ عَوْنُهُم: النَّاكحُ يُرِيدُ الْعَفَافَ، وَالْمُكَاتَبُ يُرِيدُ الْأَدَاءَ، وَالْغَارِمُ يُرِيدُ الْوَفَاءَ".

فَذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُؤْمِنُ: عِفَّةَ فَرْجِهِ، وَتَخْلِيصَ رَقَبَتِهِ، وَبَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ.

(1)

الترمذي (1655)، والنسائي (3120)، وابن ماجه (2518)، وأحمد (7416)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن.

ص: 129

فَاَخْبَرَ أَنَّ هَذِهِ الْوَاجِبَاتِ مِن عِبَادَةِ اللهِ، وَقَضَاءُ الدُّيُونِ، وَصِيَانَةُ النَّفْسِ، وَالِاسْتِغْنَاءُ عَن النَّاسِ: لَا تُتَمَّمُ إلَّا بِالْمَالِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَمَن لَا يُحِبُّ أَدَاءَ مِثْل هَذَا الْوَاجِبِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَا يَقُومُ الدِّينُ إلَّا بِهِ فَلَا خَيْرَ فِيهِ.

3540 -

لَا يَجُوزُ لِلدَّلَّالِ -الَّذِي هوَ وَكِيلُ الْبَائِعِ فِي الْمُنَادَاةِ

(1)

- أَنْ يَكُونَ شَرِيكًا لِمَن يَزِيدُ بِغَيْرِ عِلْمِ الْبَائِعِ؛ فَإِنَّ هَذَا يَكُونُ هُوَ الَّذِي يَزِيدُ وَيَشْتَرِي فِي الْمَعْنَى، وَهَذَا خِيَانَةٌ لِلْبَائِعِ، وَمَن عَمِلَ مِثْل هَذَا لَمْ يُحب أَنْ يَزِيدَ أَحَدٌ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَنْصَح الْبَائِعَ فِي طَلَبِ الزِّيَادَةِ وَإِنْهَاءِ الْمُنَادَاةِ.

وَإِذَا تَوَاطَأَ جَمَاعَةٌ عَلَى ذَلِكَ: فَإِنَّهُم يَسْتَحِقُّونَ التَّعْزِيرَ الْبَلِيغَ الَّذِي يَرْدَعُهُم وَأَمْثَالَهُم عَن مِثْل هَذِهِ الْخِيَانَةِ، وَمِن تَعْزِيرِهِمْ أَنْ يُمْنَعُوا مِن الْمُنَادَاةِ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهمْ.

3541 -

الْبَيْعُ بِتَخْبِيرِ الثَّمَنِ

(2)

: جَائِزٌ، سَوَاءٌ: كَانَ مُرَابَحَة أَو مُوَاضَعَةً أَو تَوْلِيَة أَو شَرِكَةً، لَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يَسْتَوِيَ عِلْمُ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ، فَإِذَا كَانَ الْبَائِعُ قَد اشْتَرَاهُ إلَى أَجَلٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ، فَإِنْ أَخْبَرَهُ بِثَمَنٍ مُطْلَقٍ وَلَمْ يُبَيّنْ لَهُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ إلَى أَجَلٍ فَهَذَا جَائِز ظَالِمٌ.

3542 -

إِنَّ مَن اشْتَرَى سِلْعَةً عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَاهِ لَمْ يَكُن لَهُ أَنْ يُخْبِرَ بِالثَّمَنِ مِن غَيْرِ بَيَانِ الْحَالِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ؛ إذ هَذَا مِن نَوْعِ الْخِيَانَةِ.

وَالْبَيْعُ بِتَخْبِيرِ الثَّمَنِ أَصْلُهُ الصِّدْقُ وَالْبَيَانُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وإن كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكةُ بَيْعِهِمَا"

(3)

.

(1)

في سوق الحراج، حيث يُنادي: من يزيد في السلعة، وله أجرة من البائع.

(2)

أي: البيع بإخبار المشتري بثمن السلعة التي اشتراها البائع.

(3)

رواه البخاري (2079)، ومسلم (1532).

ص: 130

فَمَا كَانَ مِن الْأُمُورِ الَّتِي إذَا اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي عَلَيْهَا لَمْ يَشْتَرِ بِذَلِكَ الثَّمَنِ: كَانَ كِتْمَانُهُ خِيَانَةً.

3543 -

إِنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ مَقْبُوضٌ، فَإِذَا كَانَ مَكِيلًا أَو مَوْزُونًا وَبَاعَهُ بِمَكِيلٍ أَو مَوْزُونٍ وَلَمْ يَقْبِضْهُ فَقَد بَاعَ مَكِيلًا بِمَكِيلٍ وَلَمْ يَقْبِضهُ، وَأمَّا إذَا قَبَضَهُ فَهَذَا جَائِزٌ.

3544 -

وَسُئِلَ: عَن مَرِيضٍ طَلَبَ مِن رَجُلٍ أَنْ يُطَبِّبَهُ وَيُنْفِقَ عَلَيْهِ فَفَعَلَ، فَهَل لِلْمُنْفِقِ أَنْ يُطَالِبَ الْمَرِيضَ بِالنَّفَقَةِ؟

فَأَجَابَ: إنْ كَانَ يُنْفِقُ طَالِبًا لِلْعِوَضِ لَفْظًا أَو عُرْفًا فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْعِوَضِ.

3545 -

يجوز تصرفه فيما بيده بالوقف وغيره حتى تقوم حجة شرعية بأنه ليس ملكًا له؛ لكن لا يحكم بالوقف حتى يثبت الملك.

3546 -

مكة المشرفة فتحت عنوة، ويجوز بيعها لا إجارتها؛ فإن استأجرها فالأجرة ساقطة يحرم بذلها.

3547 -

جوز شيخنا بيع الصفة والسلم حالًا إن كان في ملكه

(1)

، قال: وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: "لا تبع ما ليس عندك"

(2)

فلو لم يجز السلم حالًا لقال: لا تبع هذا، سواء كان عنده أو لا.

(1)

وهنا صورتان:

الأولى: أنْ يأتي رجل للبائع، ويطلب منه سلعة لا يملكها، فيقول للمشتري: أبيعك إياها بخمسين ريالًا مثلًا حالًا على أن تَسْتَلِمَها من الغد: فهذا لا يجوز؛ لِمَا ذكره الشيخ من التعليل.

الثانية: أن يطلب المشتري من البائع سلعة يملكها، لكنها ليست عنده، فيجوز له بيعها، ويُرجئ تسليم السلعة إلى حين جلبها.

(2)

رواه أبو داود (3503)، والترمذي (1232)، والنسائي (4613)، وابن ماجه (2187)، ومالك (1868)، وأحمد (15311)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.

ص: 131

وأما إذا لم يكن عنده: فإنما يفعله لقصد التجارة والربح، فيبيعه بسعر، ويشتريه بأرخص، ويلزمه تسليمه في الحال، وقد يقدر عليه، وقد لا تحصل له تلك السلعة إلا بثمن أعلى مما تسلف فيندم.

وإن حصلت بسعر أرخص من ذلك: ندم المسلف؛ إذ كان يمكنه أن يشتريه بذلك الثمن.

فصار هذا من نوع الميسر والقمار والمخاطرة؛ كبيع العبد الآبق والبعير الشارد يباع بدون ثمنه، فإن حصل: ندم البائع، وإن لم يحصل: ندم المشتري.

3548 -

في التلخيص وغيره: لا يصح بيع لحم في جلد أو معه اكتفاء برؤية الجلد فإنه بيع رؤوس وسموط، قال شيخنا في حيوان مذبوح: يجوز بيعه مع جلده جميعًا، كما قبل الذبح كقول جماهير العلماء، كما يعلمه إذا رآه حيًا.

ومنعه بعض متأخري الفقهاء ظنًّا أنه بيع غائب بدون رؤية ولا صفة.

قال شيخنا: وكذلك يجوز بيع اللحم وحده والجلد وحده، وأبلغ من ذلك "أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر في سفر الهجرة، اشتريا من رجل شاة، واشترطا له رأسها وجلدها وسواقطها، وكذلك كان أصحابه عليه السلام يتبايعون.

3549 -

يجوز بيع الطير لقصد صوته إذا جاز حبسه.

3550 -

إن باعه لبنًا موصوفًا في الذمة واشترط كونه من هذه الشاة أو البقرة: صح.

واحتج رحمه الله بما في "المسند" أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى أن يسلم في حائط بعينه" إلا أن يكون قد بدا صلاحه، وقال: أسلمت إليك في عشرة أوسق من تمر هذا الحائط جاز، كما يجوز أن يقول: ابتعت منك عشرة أوسق من هذه الصبرة، ولكن التمر يتأخر قبطه إلى كمال صلاحه.

ص: 132

3551 -

يجوز بيع الكلاء ونحوه الموجود في أرضه إذا قصد استنباته.

3552 -

لو باع ولم يسم الثمن صح بثمن المثل كالنكاح.

3553 -

أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْعَهْدِ مَا يَحْرُمُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِن الْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةِ.

3554 -

مَن كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعٌ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِن الصِّيغَةِ مِن الْجَانِبَيْنِ: .. يَجِبُ أَنْ يَعْمَلَ بِمُوجَبِ اعْتِقَادِهِ لَهُ وَعَلَيْهِ، لَيْسَ لِأَحَد أَنْ يَعْتَقِدَ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ فِيهَا لَهُ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ فِيهَا عَلَيْهِ، كَمَن يَعْتَقِدُ أَنَّهُ إذَا كَانَ جَارًا اسْتَحَقَّ شُفْعَةَ الْجِوَارِ، وَإِذَا كَانَ مُشْتَرِيًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شُفْعَةُ الْجَارِ.

فَلَيْسَ لِأَحَد أَنْ يَعْتَقِدَ فِي مَسْأَلَةِ نِزَاعِ مِثْل هَذَا بِاتَّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.

فَإِنَّ مَضْمُونَ هَذَا أَنْ يُحَلِّلَ لِنَفْسِهِ مَا يُحَرِّمُهُ عَلَى مِثْلِهِ، وَيُحَرِّمَ عَلَى مِثْلِهِ مَا يُحَلِّلُهُ لِنَفْسِهِ، وَيُوجِبَ عَلَى غَيْرِهِ -الَّذِي هُوَ مِثْلُهُ- مَا لَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَيُوجِبَ لِنَفْسِهِ عَلَى غَيْرِهِ مَا لَا يُوجِبُهُ لِمِثْلِهِ، وَمَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِن دِينِ الْإِسْلَامِ؛ بَل وَمِن كُلِّ دِينٍ أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ، وَمَن اعْتَقَدَ جَوَازَ هَذَا فَهُوَ كَافِرٌ.

* * *

(باب الشروط في البيع)

3555 -

تصح الشروط التي لم تخالف الشرع في جميع العقود، فلو باع جارية وشرط على المشتري إن باعها فهو أحق بها بالثمن صح البيع والشرط.

سأل أبو طالب الإمام أحمد عمن اشترى أمة يشترط أن يتسرى بها لا للخدمة قال: لا بأس به.

وهذا من أحمد يقتضي أنه إذا شرط على البائع فعلًا أو تركًا في البيع مما هو مقصود للبائع أو للمبيع نفسه صح البيع والشرط كاشتراط العتق، وكما

ص: 133

اشترط عثمان لصهيب وقف داره عليه، ومثل هذا أن يبيعه بشرط أن يعلمه، أو شرط ألا يخرجه من ذلك البلد، أو شرط ألا يستعمله في العمل الفلاني، أو أن يزوجه، أو يساويه في المطعم، أو لا يبيعه، أو لا يهبه.

فإذا امتنع المشتري من الوفاء فهل يجبر عليه أو يفسخ؟ على وجهين، وهو قياس قولنا: إذا شرط في النكاح ألا يسافر بها أو ألا يتزوج عليها؛ إذ لا فرق في الحقيقة بين الزوجة والمملوك.

3556 -

الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ فِيهَا، فِيمَا يَحِلُّ مِنْهَا وَيَحْرُمُ، وَمَا يَصِحُّ مِنْهَا وَيَفْسُدُ، وَمَسَائِلُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَاَلَّذِي يُمْكِنُ ضَبْطُهُ فِيهَا قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: الْأصْلُ فِي الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ فِيهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ: الْحَظْرُ، إلَّا مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِإِجَازَتهِ، فَهَذَا قَوْلُ أهْلِ الظَّاهِرِ وَكَثِيرٌ مِن أُصُولِ أَبِي حَنِيفَةَ تَنْبَنِي عَلَى هَذَا.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ الْجَوَازُ وَالصِّحَّةُ، وَلَا يَحْرُمُ مِنْهَا ويبْطُلُ إلَّا مَا دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى تَحْرِيمِهِ وإِبْطَالِهِ نَصًّا أَو قِيَاسًا عِنْدَ مَن يَقُولُ بِهِ.

وَأُصُولُ أَحْمَد الْمَنْصُوصَةُ عَنْهُ: أَكثَرُهَا يَجْرِي عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَمَالِكٌ قَرِيبٌ مِنْهُ، لَكنَّ أَحْمَد أَكْثَرُ تَصْحِيحًا لِلشُّرُوطِ، فَلَيْسَ فِي الْفُقَهَاءِ الْأرْبَعَةِ أكْثَرُ تَصْحِيحًا لِلشُّرُوطِ مِنْهُ.

وَجِمَاعُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمِلْكَ يُسْتَفَادُ بِهِ تَصَرفَاتٌ مُتَنَوِّعَةٌ، فَكَمَا جَازَ بِالْإجْمَاعِ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ الْمَبِيعِ، وَجَوَّزَ أَحْمَد وَغَيْر اسْتِثْنَاءَ بَعْضِ مَنَافِعِهِ جَوَّزَ أَيْضًا اسْتِثْنَاءَ بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ.

وَعَلَى هَذَا فَمَن قَالَ: هَذَا الشَّرْطُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ، قِيلَ لَهُ: أَيُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ، أَو مُقْتَضَى الْعَقْدِ مُطْلَقًا؟

ص: 134

فَإِنْ أَرَادَ الْأَوَّلَ: فَكُلُّ شَرْطٍ كَذَلِكَ.

وَإِن أَرَادَ الثَّانِيَ: لَمْ يُسلَّمْ لَهُ، وإِنَّمَا الْمَحْذُورُ: أَنْ يُنَافِيَ مَقْصُودَ الْعَقْدِ؛ كَاشْتِرَاطِ الطَّلَاقِ فِي النّكَاحِ، أَو اشْتِرَاطِ الْفَسْخِ فِي الْعَقْدِ.

فَأَمَّا إذَا شَرَطَ مَا يُقْصَدُ بِالْعَقْدِ: لَمْ يُنَافِ مَقْصُودَهُ.

هَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ: بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالِاعْتِبَارِ مَعَ الِاسْتِصْحَابِ وَعَدَمِ الدَّليلِ الْمُنَافِي.

فَقَد جَاءَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بِالْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَالشُّرُوطِ وَالْمَوَاثِيقِ وَالْعُقُودِ وَبِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَرِعَايَةِ ذَلِكَ، وَالنَّهْيِ عَن الْغَدْرِ وَنَقْضِ الْعُهُودِ وَالْخِيَانَةِ وَالتَّشْدِيدِ عَلَى مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ.

وَإِذَا كَانَ جِنْسُ الْوَفَاءِ وَرِعَايَةُ الْعَهْدِ مَأْمُورًا بِهِ: عُلِمَ أَنَّ الْأَصْلَ صِحَّةُ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ؛ إذ لَا مَعْنَى لِلتَّصْحِيحِ إلَّا مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ اثَرُهُ وَحَصَلَ بِهِ مَقْصُودُهُ.

وَمَقْصُودُ الْعَقْدِ: هُوَ الْوَفَاءُ بِهِ، فَإِذَا كَانَ الشَّارعُ قَد أَمَرَ بِمَقْصُودِ الْعُهُودِ دَلَّ عَلَى أنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الصِّحَّةُ وَالْإبَاحَةُ.

وَقَد رَوَى التِّرْمِذِيُّ

(1)

وَالْبَزَّارُ مِن حَدِيثِ كثيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ المزني عَن أبِيهِ عَن جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلا صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا أَو أَحَلَّ حَرَامًا، وَالْمُسْلِمُونَ علَى شُرُوطِهِمْ إلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا أَو أَحَلَّ حَرَامًا" قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيث حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَرَوَى ابْنُ مَاجَه مِنْهُ اللَّفْظَ الْأَوَّلَ؛ لَكِنَّ كثيرَ بْنَ عَمْرٍو ضَعَّفَهُ الْجَمَاعَةُ، وَضَرَبَ أحْمَد عَلَى حَدِيثهِ فِي "الْمُسْنَدِ" فَلَمْ يُحَدّثْ بِهِ.

فَلَعَلَّ تَصْحِيحَ الترْمِذِيِّ لَهُ لِرِوَايَتهِ مِن وُجُوهٍ.

(1)

(1352).

ص: 135

وَقَد رَوَى أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ أَيْضًا عَن مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ البيلماني عَن أَبِيهِ عَن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "النَّاسُ عَلَى شُرُوطِهِمْ مَا وَافَقَت الْحَقَّ".

وَهَذِهِ الْأَسَانِيدُ -وَإِن كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهَا ضعِيفًا- فَاجْتِمَاعُهَا مِن طُرُقٍ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا.

وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.

وَقَد وَرَدَتْ شُبْهَةٌ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ حَتَّى تَوَهَّمَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُتَنَاقِضٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَل كُلُّ مَا كَانَ حَرَامًا بِدُونِ الشَّرْطِ: فَالشَّرْطُ لَا يُبِيحُهُ؛ كَالرِّبَا، وَكَالْوَطْءِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَكَثُبُوتِ الْوَلَاءِ لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ.

وَأَمَّا مَا كَانَ مُبَاحًا بدُونِ الشَرْطِ: فَالشَّرْطُ يُوجِبُهُ؛ كَالزِّيَادَةِ فِي الْمَهْرِ وَالثَّمَنِ وَالْمُثْمنِ وَالرَّهْنِ وَتَأَخِيرِ الِاسْتِيفَاءِ.

وَأَمَّا الِاعْتِبَارُ فَمِن وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْعُقُودَ وَالشُّرُوطَ مِن بَابِ الْأَفْعَالِ الْعَادِيَّةِ، وَالْأَصْلُ فِيهَا عَدَمُ التَّحْرِيمِ، فَيُسْتَصْحبُ عَدَم التَّحْرِيمِ فِيهَا حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى التَّحْرِيمِ، كَمَا أَنَّ الْأَعْيَانَ: الْأَصْلُ فِيهَا عَدَمُ التَّحْرِيمِ، وقَوْله تَعَالَى:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119]، عَامٌّ فِي الْأَعْيَانِ وَالْأَفْعَالِ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ حَرَامًا لَمْ تَكُنْ فَاسِدَةً؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ إنَّمَا يَنْشَأُ مِن التَّحْرِيمِ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ فَاسِدَةً كَانَت صَحِيحَةً.

وَالشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ قَد تَبْطُلُ لِكَوْنِهَا قَد تُنَافِي مَقْصُودَ الشَّارعِ

(1)

مِثْل اشْتِرَاطِ الْوَلَاءِ لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ

(2)

؛ فَإِنَ هَذَا لَا يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَلَا مَقْصُودَهُ، فَإِنَّ مَقْصُودَهُ: الْمِلْكُ، وَالْعِتْقُ قَد يَكونُ مَقْصُودًا لِلْعَقْدِ.

(1)

لا لكونها تُنافي مقصود العقد أو مُقتضى العقد.

(2)

ثبت في الصحيحين عن عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِىَ بَرِيرَةَ، فَاشْتَرَطُوا عَلَيْهَا الْوَلاءَ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"اشْتَرِيهَا، فَإِنَّمَا الْوَلاءَ لِمَن أَعْتَقَ".

ص: 136

فَإِنَّ اشْتِرَاءَ الْعَبْدِ لِعِتْقِهِ يُقْصَدُ كَثِيرًا، فَثُبُوتُ الْوَلَاءِ لَا يُنَافِي مَقْصُودَ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يُنَافِي كِتَابَ اللهِ وَشَرْطَهُ، كَمَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ:"كِتَابُ اللهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ"

(1)

، فَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ مُنَافِيًا لِمَقْصودِ الْعَقْدِ كَانَ الْعَقْدُ لَغْوًا، وَإِذَا كَانَ مُنَافِيًا لِمَقْصُودِ الشَّارعِ كَانَ مُخَالِفًا للهِ وَرَسُولِهِ.

فَأَمَّا إذَا لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا: فَلَمْ يَكُن لَغْوًا وَلَا اشْتَمَلَ عَلَى مَا حَرَّمَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ: فَلَا وَجْهَ لِتَحْرِيمِهِ بَل الْوَاجِبُ حِلُّهُ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ مَقْصُودٌ لِلنَّاسِ يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ؛ إذ لَوْلَا حَاجَتُهُم إلَيْهِ لَمَا فَعَلُوهُ، فَإِنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْفِعْلِ مَظِنَّةُ الْحَاجَةِ إلَيْهِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِن كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، كِتَابُ اللهِ أَحَقُّ وَشَرْطُهُ أَوْثَق" .. : إنَّمَا يَشْمَلُ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ لَا بِعُمُومِهِ وَلَا بِخُصُوصِهِ، فَإِنَّ مَا دَلَّ كِتَابُ اللهِ عَلَى إبَاحَتِهِ بِعُمُومِهِ فَإِنَّهُ فِي كِتَابِ اللهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَنَا: هَذَا فِي كِتَابِ اللهِ يَعُمُّ مَا هوَ فِيهِ بِالْخُصُوصِ وَبِالْعُمُومِ.

يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي ثَبَتَ جَوَازُهُ بِسُنَّةٍ أَو إجْمَاعٍ: صَحِيحٌ بِالِاتِّفَاقِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي كِتَابِ اللهِ، وَقَد لَا يَكُونُ فِي كِتَابِ اللهِ بِخُصُوصِهِ، لَكِنْ فِي كِتَابِ اللهِ الْأَمْرُ بِاتَّبَاعِ السُّنَّةِ وَاتَّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ فِي كِتَابِ اللهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.

يَبْقَى أَنْ يُقَالَ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ: فَإِذَا كَانَ كِتَابُ اللهِ أَوْجَبَ الْوَفَاءَ بِالشُّرُوطِ عُمُومًا، فَشَرْطُ الْوَلَاءِ دَاخِلٌ فِي الْعُمُومِ.

فَيُقَالُ: الْعُمُومُ إنَّمَا يَكُونُ دَالًّا إذَا لَمْ يَنْفِهِ دَلِيلٌ خَاصٌّ؛ فَإِنَّ الْخَاصَّ يُفَسِّرُ الْعَامَّ، وَهَذَا الْمَشْرُوطُ قَد نَفَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِنَهْيِهِ عَن بَيْعِ الْوَلَاءِ، وَعَن هِبَتِهِ،

= يعني: أن الشرط الذي شرطوه غير مانع لك من ولائها؛ فإن الولاء إنما هو لمن أعتق.

والمراد بالولاء هنا: ولاء العتاقة، وهو ميراثٌ يستحقه المرء بسبب عتق شخص في ملكه.

فالحديث دليل على أنه لا يجوز بيع الولاء ولا هبته.

(1)

رواه البخاري (2168)، ومسلم (1504)، واللفظ له.

ص: 137

وَقَوْله: "مَنِ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَو تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ"

(1)

.

وأُصُولُ أَحْمَد وَنُصُوصُهُ تَقْتَضِي جَوَازَ شَرْطِ كُلِّ تَصَرُّفٍ فِيهِ مَقْصُودٌ صَحِيحٌ وَإِن كَانَ فِيهِ مَنْعٌ مِن غَيْرِهِ.

3557 -

إذا شرط البائع نفع المبيع لغيره مدة معلومة: فمقتضى كلام أصحابنا جوازه؛ فإنهم احتجوا بحديث أم سلمة: "أنها أعتقت سفينة وشرطت عليه أن يخدم النبي صلى الله عليه وسلم ما عاش"، واستثناء خدمة غيره في العتق كاستثنائها في البيع.

3558 -

شرط البراءة من كل عيب: باطل، وعلَّله جماعة من أصحابنا بأنه خيار يثبت بعد البيع فلا يسقط قبله كالشفعة. ومقتضى هذا التعليل صحة البراءة من العيوب بعد عقد البيع.

والصحيح في مسألة البيع بشرط البراءة مِن كلِّ عيب، والذي تقضي به الصحابة وعليه أكثر أهل العلم: أن البائع إذا لم يكن علم بذلك العيب فلا رد للمشتري، لكن إذا ادعى

(2)

أن البائع علم بذلك فأنكر البائع: حلف

(3)

أنه لم يعلم، فإن نَكَل قضي عليه.

3559 -

لو قال: بعتك إن جئتني بكذا، أو إن رضي زيد: صح البيع والشرط، وهو إحدى الروايتين عن أحمد.

3560 -

وإن علق عتق عبده ببيعه

(4)

وكان قصده بالتعليق اليمين دون التبرر بعتقه: أجزأه كفارة يمين.

وإن قصد به التقرب: كان عتقه مستحقًّا كالنذر فلا يصح بيعه، ويكون العتق معلقًا على صورة البيع.

* * *

(1)

رواه مسلم (1370).

(2)

المشتري.

(3)

البائع.

(4)

بأن قال: إنْ بعتك فأنت حرّ.

ص: 138

(البيوع الباطلة وغير اللازمة)

3561 -

بَيْعُ الْمُكْرَهِ بِغَيْرِ حَقَّ بَيْعٌ غَيْرُ لَازِمٍ بِاتَّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. [29/ 199]

3562 -

بَيْعُ الْمِلْكِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ وَلَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ: بَيْعٌ بَاطِلٌ، وَالْوَاجِبُ أَنْ يَرُدَّ إلَى الْمُشْتَرِي مَا أَعْطَاهُ مِن الثَّمَنِ، وَيَرُدَّ إلَى الْمَالِكِ مِلْكَهُ. [29/ 203]

3563 -

إذا لم ير المبيع ولم يوصف له: فالبيع باطل، وعليه رده بمثله أو قيمته. [29/ 222]

3564 -

بَيْعُ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ بِغَيْرِ صِفَة: بَيْعٌ بَاطِلٌ يَجِبُ فِيهِ رَدُّ الْمَبِيعِ

(1)

أَو رَدُّ بَدَلِهِ

(2)

، وَلَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ الثَّمَنَ الْمُسَمَّى.

فَكَيْفَ إذَا قَالَ: هَذَا يُسَاوِي السَّاعَةَ كَذَا وَكَذَا، وَأَنَا أَبِيعُكَهُ بِكَذَا، أَكْثَرُ مِنْهُ إلَى أَجَلٍ؟ فَهَذَا رِبًا؛ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: إذَا قَوَّمْت نَقْدًا وَبِعْت نَقْدًا فَلَا بَأْسَ، وَإِذَا قَوَّمْت نَقْدًا وَبِعْت إلَى أَجَلٍ فَتِلْكَ دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ.

وَإِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي قَد فَسَخَ الْبَيْعَ لِفَوَاتِ الصِّفَةِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ رَدُّ الْمَبِيعِ إلَى الْبَائِعِ بِعَيْنِهِ، وَلَا حِفْظُهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ أَحَدٍ، فَبَاعَهُ وَحَفِظَ لَهُ ثَمَنَهُ: لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ الثَّمَنِ إذَا كَانَ قَد بَاعَهُ بِثَمَنِ مِثْلِهِ. [29/ 306 - 307]

3565 -

اختار أبو العباس صحة البيع بغير صفة، وهو بالخيار إذا رآه، وهو رواية عن أحمد ومذهب الحنفية

(3)

.

(1)

إذا لم يتلف، كسيارة ونحوها.

(2)

إذا تلف، كالخضروات ونحوها.

(3)

مثال ذلك: باع رجلٌ على آخر سيارته، فقال له: أين هي لكي أراها؟ قال: إن شاء الله ستراها وتعرفها، قال له: بكم؟ قال: بخمسة آلاف، قال: اشتريت.

فعلى مذهب الحنابلة وغيرهم: لا يصح؛ لأنه لم يرها ولم توصف له.

وعلى مذهب أبي حنيفة رحمه الله: يصح البيع ويكون للمشتري الخيار إذا رآه.

قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله: وهذا هو الصحيح، وهو شبيه ببيع الفضولي؛ لأنه إذا كان له الخيار إذا رآه فليس عليه نقص. اهـ. الشرح الممتع (8/ 152).

ص: 139

وضعفه في موضع آخر

(1)

. [المستدرك 4/ 7]

3566 -

بَيْعُ نَصِيبِ الْغَيْرِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِوِلَايَةٍ أَو وِكَالَةٍ، وَإِذَا لَمْ يُجِزْهُ الْمُسْتَحِقُّ بَطَلَ بِاتِّفَاقِ الأَئِمَّةِ، لَكِنْ يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً فِي أَحَدِ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ بِقِسْطِهِ مِن الثَّمَنِ، وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ أَو إجَازَتهِ.

وَإِن كَانَ الْمَكَانُ مِمَّا يُقْسَمُ بِلَا ضَرَرٍ فَلَهُ

(2)

إلْزَامُ الشَّرِيكِ بِالْقِسْمَةِ. وَإِن كَانَ مِمَّا لَا يُقْسَمُ إلَّا بِضَرَرٍ فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِبَيْعِ الْجَمِيعِ لِيَقْتَسِمَا الثَّمَنَ. [29/ 235 - 236]

* * *

(البيوع المحرمة والمكروهة)

3567 -

لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعِنَبِ لِمَن يَعْصِرُهُ خَمْرًا. [29/ 236]

3568 -

يصح ابتياع كتب الزندقة ليحرقها. [المستدرك 3/ 211]

3569 -

مَن بَاعَ خَمْرًا لَمْ يَمْلِكْ ثَمَنَهُ، فَإِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي قَد أَخَذَ الْخَمْرَ فَشَرِبَهَا: لَمْ يُجْمَعْ لَهُ بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ؛ بَل يُؤْخَذُ هَذَا الْمَالُ فَيُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا قِيلَ فِي مَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ عِوَضٌ عَن عَيْنٍ أَو مَنْفَعَةٍ مُحَرَّمَةٍ إذَا كَانَ الْعَاصِي قَد اسْتَوْفَى الْعِوَضَ.

وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَو بَاع ذِمَّيٌّ لِذِمِّيّ خَمْرًا سِرًّا: فَإِنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِن ذَلِكَ، وَإِذَا تَقَابَضَا جَازَ أَنْ يُعَامِلَهُ الْمُسْلِمُ بِذَلِكَ الثَّمَنِ الَّذِي قَبَضَهُ مِن ثَمَنِ الْخَمْرِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه:"وَلُّوهُم بَيْعَهَا وَخُذُوا مِنْهُم أَثْمَانَهَا". [28/ 667]

3570 -

من استولى على ملك إنسان بلا حق ومنعه إياه حتى يبيعه إياه فهو كبيع المكره بلا عوض. [المستدرك 4/ 5]

(1)

الذي ضعَّفه هو ما ذكره في مجموع الفتاوى في النَّقلين الأولين، والله أعلم، ولعل للشيخ قولين في المسألة.

(2)

أي: الشريك البائع، أو الذي يُريد بيع نصيبه.

ص: 140

3571 -

بيع الحرير للكفار حديث عمر رضي الله عنه يقتضي جوازه؛ بخلاف بيع الخمر؛ فإن الحرير ليس حرامًا على الإطلاق، وعلى قياسه بيع آنية الذهب والفضة لهم؛ وإذا جاز بيعها لهم جاز صنعتها لبيعها منهم، وجاز عملها لهم بالأجرة. [المستدرك 4/ 5]

3572 -

[بَيْعُ الْحَمَّامِ وَشِرَاؤُهُ وَإِجَارَتُهُ وَبِنَاؤُهُ: مَكْرُوهٌ نَصَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ: الَّذِي يَبْنِي حَمَّامًا لِلنِّسَاءِ لَيْسَ بِعَدْلٍ؛ لِأَنَّهُ غَالِبًا يَشْتَمِلُ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ مِن كَشْفِ الْعَوْرَاتِ وَنَظَرِهَا وَدُخُولِهَا النِّسَاءَ]

(1)

.

وَفِي مَجْمُوعِ أَبِي حَفْصٍ فِي الْإِجَارَةِ: نَقَلَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْكَحَّالُ: سَأَلْت أَحْمَدَ عَن رَجُلٍ لَهُ حَمَّامٌ تُقِيمُهُ غَلَّتُهُ يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَهُ؟

قَالَ: لَا يَبِيعُهُ عَلَى أَنَّهُ حَمَّامٌ، يَبِيعُهُ عَلَى أَنَّهُ عَقَارٌ وَيَهْدِمُ الْحَمَّامَ، ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَقَالَ: وَكَذَلِكَ الْأَبْنِيَةُ الْمُصَوَّرَةُ كَنَائِسَ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَبْنِيٌّ لِلْمَنْفَعَةِ الْمُحَرَّمَةِ، وَمَا هُوَ مُصَوَّرٌ عَلَى صُورَةِ الْمَنْفَعَةِ الْمُحَرَّمَةِ، ويُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ عَلَى مَنْفَعَةٍ مُبَاحَةٍ؛ مِثْلُ الْحَرِيرِ الْمُفَصَّلِ لِلرِّجَالِ، وَخَاتَمِ الذَّهَبِ لِلرَّجُلِ وَآنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. [المستدرك 4/ 5 - 6]

3573 -

قال ابن القيم رحمه الله: أما تحريم بيع الميتة فيدخل فيه كل ما يسمى ميتة سواء مات حتف أنفه أو ذكي ذكاة لا تفيد حله، ويدخل فيه أبعاضها أيضًا، ولهذا استشكل الصحابة رضي الله عنهم تحريم بيع الشحم مع ما لهم فيه من المنفعة فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه حرام وإن كان فيه ما ذكروا من المنفعة. وهذا موضع اختلف فيه الناس لاختلافهم في فهم مراده صلى الله عليه وسلم وهو أن قوله:"لا هو حرام"

(2)

هل هو عائد إلى البيع، أو عائد إلى الأفعال التي سألوا عنها؟

فقال شيخنا: هو راجع إلى البيع فإنه صلى الله عليه وسلم لما أخبرهم أن الله حرم بيع

(1)

ما بين المعقوفتين من الآداب الشرعية (3/ 321)؛ لزيادة التوضيح وتمام الفائدة.

(2)

رواه البخاري (2236)، ومسلم (1581).

ص: 141

الميتة قالوا: إن في شحومها من المنافع كذا وكذا يعنون فهل ذلك مسوغ لبيعها؟ فقال: "لا هو حرام". [المستدرك 4/ 6]

3574 -

لا يصح برقم مجهول، ولا بما ينقطع سعره

(1)

، أو كما يبيع الناس على الأصح فيهن.

وصححه شيخنا بثمن المثل؛ كنكاح، وأنه مسألة السعر، وأخذه من مسألة التحالف. [المستدرك 4/ 7 - 8]

3575 -

لا يصح بيع ما قصد به الحرام كعصير يتخذه خمرًا إذا علم ذلك كمذهب أحمد وغيره، أو ظن، وهو أحد القولين.

ويؤيده أن الأصحاب قالوا: لو ظن المؤجر أن المستأجر يستأجر الدار لمعصية كبيع الخمر ونحوه: لم يجز له أن يؤجره تلك الدار ولم تصح الإجارة، والبيع والإجارة سواء. [المستدرك 4/ 8]

3576 -

إن جمع البائع بين عقدين مختلفي الحكم بعوضين متميزين: لم يكن للمشتري أن يقبل أحدهما بعوضه. [المستدرك 4/ 9]

3577 -

يحرم الشراء على شراء أخيه، وإذا فعل ذلك كان للمشتري الأول مطالبةُ البائع بالسلعة وأخذ السلعة أو عوضها.

3578 -

تحرم مسألة التورق، وهو رواية عن أحمد

(2)

.

(1)

مثال ذلك: قال البائع للمشتري: أبيعك إياه بما يقف عليه في المساومة؛ وذلك لأنهما لا يدريان كم تقف عليه السلعة.

(2)

الاختيارات (190)، الإنصاف (4/ 337).

ولم أجد لشيخ الإسلام رحمه الله تصريحًا بتحريمها، سوى ما جاء في الاختيارات.

وأصرح ما رأيت: ما قال ابن القيِّم رحمه الله: كان شيخنا رحمه الله يمنع من مسألة التورق، وروجع فيها مرارًا وأنا حاضر فلم يرخص فيها، وقال: المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود فيها بعينه مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها، والخسارة فيها، فالشريعة لا تحرم الضرر الأدنى وتبيح ما هو أعلى منه. اهـ. أعلام الموقعين (2/ 164).

وهذا ليس صريحًا بالتحريم.

ص: 142

3579 -

قوله: [يَحْرُمُ سَوْمُهُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ مَعَ الرَّضَا صَرِيحًا]

(1)

؛ كَشِرَائِهِ وَبَيْعِهِ عَلَيْهِ زَمَنَ خِيَارٍ

(2)

.

وَقَالَ ابْنُ رَجَبٍ: "وَمَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ إلَى قَوْلٍ بِأَنَّهُ عَام فِي الْحَالَيْنِ؛ يَعْنِي: مُدَّةَ الْخِيَارِ وَبَعْدَهَا وَلَو لَزِمَ الْعَقْدُ، قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِن أَصْحَابِنَا، وَهُوَ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ وَإِن لَمْ يَتَمَكَّنْ مِن الْفَسْخِ بِنَفْسِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ فَإِنَّهُ إذا رَغِبَ فِي رَدَ السِّلْعَةِ الْأُولَى عَلَى بَائِعِهَا فَإِنَّهُ يَتَسَبَّبُ إلَى رَدَّهَا بِأَنْوَاعٍ مِن الطُّرُقِ الْمُقْتَضِيَةِ لِضَرُورَةٍ وَلَو بِالْإِلْحَاحِ عَلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَمَا أَدَّى إلَى ضَرَرِ الْمُسْلِمِ كَانَ مُحَرَّمًا". انْتَهَى.

وَتَبِعَ فِي ذَلِكَ الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ، فَإِنَّهُ سُئِلَ عَن ذَلِكَ فِي الْمَسَائِلِ الْبَغْدَادِيَّةِ، وَأَجَابَ بِأَنَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَقُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ مِثْل أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ زَمَنِ الْخِيَارِ وَعَدَمِهِ. [المستدرك 4/ 9 - 10]

3580 -

يكره للرجل أن يحب غلو أسعار المسلمين ويكره الرخص.

ويكره المال المكسوب من ذلك، كما قال من قال من الأئمة: إن مالًا جمع من عموم المسلمين لمال سوء.

قال أحمد: لا ينبغي أن يتمنى الغلاء. [المستدرك 4/ 10]

3581 -

من ضمن مكانًا للبيع ويشتري فيه وحده كره الشراء منه بلا حاجة، ويحرم عليه أخذ زيادة بلا حق. [المستدرك 4/ 10]

3582 -

لا يربح على المسترسل أكثر من غيره.

وله أن يأخذه منه بالقيمة المعروفة بغير اختياره.

قال أبو طالب: قيل لأحمد: إن ربح الرجل في العشرة خمسة يكره ذلك؟

قال: إذا كان أجله إلى سنة أو أقل بقدر الربح فلا بأس به.

(1)

ما بين المعقوفتين من الفروع (6/ 173)؛ لزيادة التوضيح والفائدة.

(2)

أي: أنَّ مَحلَّ التحريم فِي زمنِ الْخِيارَيْنِ لا غيْرُ، أعْنِي خيارَ الْمجْلسِ وخيارَ الشَّرْط.

ص: 143

وهذا يقتضي كراهة الربح الكثير الذي يزيد على قدر الأجل؛ لأنه شبه بيع المضطر، وهذا يعم بيع المرابحة والمساومة. [المستدرك 4/ 10]

3583 -

إذا اتفق أهل السوق على ألا يزيدوا في سلعة، لهم فيها غرض؛ ليشتريها أحدهم ويتقاسموها: فهذا يضر بالمسلمين أكثر من تلقي الركبان.

أما إذا اتفق اثنان وفي السوق من يزيد: فلا يحرم ذلك؛ لأن باب المزايدة مفتوح. [المستدرك 4/ 10 - 11]

3584 -

لا يجوز أن يطلب بالسلعة ثمنًا كثيرًا ليغري المشتري بها فيدفع ما يزيد على قيمتها إذا كان جاهلًا بالقيمة. [المستدرك 4/ 11]

* * *

(حكم بَيْع الْمَغْشُوشِ)

3585 -

بَيْعُ الْمَغْشُوشِ الَّذِي يُعْرَفُ قَدْرُ غِشَّهِ إذَا عَرَّفَ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ وَلَمْ يُدَلِّسْهُ عَلَى غَيْرِهِ: جَائِزٌ؛ كَالْمُعَامَلَةِ بِدَرَاهِمِنَا الْمَغْشُوشَةِ.

وَأَمَّا إذَا كَانَ قَدْرُهُ مَجْهُولًا؛ كَاللَّبَنِ الَّذِي يُخْلَطُ بِالْمَاءِ: فَهَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَإِن عَلِمَ الْمُشْتَرِي أنَّهُ مَغْشُوشٌ

(1)

.

(1)

قال الشيخ: لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَعْلَمُ مِقْدَارَ الْخَلْطِ فَيَبْقَى الْبَيْعُ مَجْهُولًا وَهُوَ غَرَرٌ، وَهَكَذَا كُلَّمَا كَانَ مِن الْمَغْشُوشِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ قَدْرُ غِشِّهِ فَإِنَّهُ يُنْهَى عَن بَيْعِهِ وَعَن عَمَلِهِ لِمَن يَبِيعُهُ، وَكَذَلِكَ خَلْطُ الْمُشَاقَّ بِالصُّوفِ الْأَبْيَضِ، وَكُلُّ مَا كَانَ مِن الْغِشِّ فِي الْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إذَا لَمْ يُعْلَمْ مِقْدَارُ الْغِشّ فَإِنَّهُ يُنْهَى عَن ذَلِكَ. (29/ 363)

وقال في موضع آخر: بَيْعُ الْمَغْشُوشِ لِمَن لَا يَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّهُ مَغْشُوشٌ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاع. (29/ 371)

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن أُنَاسٍ يتعانون خُرُوجَ الْمِيَاهِ مِثْلُ مَاءِ الْوَرْدِ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ إنَّهُمَ يَأْخُذُونَ حَرْقَانِ الْوَرْدِ وَيَنْقَعُونَهُ وَيَسْتَخْرِجُوهُ عَن الْعَادَةِ وَكَذَلِكَ النينوفر-وهو نوع من الرَّياحينِ- يَنْقَعُونَهُ يَابِسًا فَهَل يَجُوزُ لَهُم أنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ وَيَبِيعُوهُ؟

فَأَجَابَ: لَا يَجُوزُ خَلْطُ الْمَاءِ الْأَوَّلِ بِالْمَاءِ الثَّانِي لِمَن يُرِيدُ بَيْعَهُ وَلَو عَلِمَ بِذَلِكَ الْمُشْتَرُونَ، كَمَا رُوِيَ عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى أَنَّ يُشَابَ اللَّبَنُ بِالْمَاءِ لِلْبَيْعِ وَلَا بَأْسَ بِهِ لِلشُّرْبِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَائِعَاتِ إذَا شِيبَتْ لَمْ يُعْرَفْ مِقْدَارُ مَا يَدْخُلُهَا مِن الْغِشَّ. اهـ. (29/ 367) =

ص: 144

وَمَن بَاعَ مَغْشُوشًا: لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ مِن الثَّمَنِ إلَّا مِقْدَارُ ثَمَنِ الْغِشّ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَة لِصَاحِبِهِ أو يَتَصَدَّقَ بِهِ عَنْهُ إنْ تَعَذرَ رَدُّهُ.

مِثْلُ: مَن يَبِيعُ مَعِيبًا مَغْشُوشًا بِعَشَرَةٍ، وَقِيمَتُهُ لَو كَانَ سَالِمًا عَشَرَةٌ، وَبِالْعَيْبِ قِيمَتُهُ ثَمَانِيَةٌ، فَعَلَيْهِ إنْ عَرَفَ الْمُشْتَرِيَ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ الدَّرْهَمَيْنِ إن اخْتَارَ، وَإِلَّا رَدَّ إلَيْهِ الْمَبِيعَ، وَإِن لَمْ يَعْرِفْهُ تَصَدَّقَ عَنْهُ بِالدِّرْهَمَيْنِ. [29/ 361 - 362]

3586 -

الْأَرْشُ

(1)

الْوَاجِبُ بِسَبَبِ الْعَيْبِ فِي الثَّمَنِ

(2)

- إنْ كَانَ الثَّمَنُ لَمْ

= قلت: وعلى ما قرره الشيخ: فإن حكم دهن العود إذا خُلط بغيره لا يجوز، كما هو الحال في أكثر الأعواد.

لكن الحديث هذا مرويٌ مرسلًا، وروي موقوفًا عن أبي هريرة رضي الله عنه كما في شعب الإيمان للبيهقي (4927) أنَ أَبَا هُرَيْرَةَ مَرَّ بِإِنْسَانٍ يَحْمِلُ لَبَنًا قَد خَلَطَهُ بِالْمَاءِ يَبِيعُهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ:"كَيْفَ لَكَ إِذَا قِيلَ لَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: خَلَّصِ الْمَاءَ مِنَ اللَّبَنِ؟ ".

والجزم بأنه حرام يحتاج إلى تأمل، فإنه يترتب عليه تحريم الكثير من الأشياء الموجودة، ككثير من الألبان، فإنها مشوبة بشيء من الماء أو غيره.

وقد توقف الإمام ابن باز رحمه الله في ذلك حيث سُئل: سمعتُ حديثًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه نهى عن خلط الماء مع اللبن، نحن كلنا نعلم بأن الناس في زماننا هذا يخلطون الماء مع اللبن، فهل المقصود باللبن الذي يسمونه عندنا الشنينة، وهل هذا حرام أو مكروه؟

فأجاب: هذا يحتاج إلى نظر وتأمل في حلقة أخرى - إن شاء الله. اهـ. موقع سماحة الشيخ: http://cutt.us/COSLy.

(1)

قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله في شرحه لزاد المستقنع: قوله: "وهو -أي: الأرش- قِسْط ما بين قيمةِ الصحة والعيب"، قال:"قيمة" ولم يقل: ثمن، والفرق بين القيمة والثمن: أن القيمة هي ثمنه عند عامة الناس، والثمن هو الذي وقع عليه العقد، فإذا اشتريت ما يساوي ثمانية بستة، فالقيمة ثمانية والثمن الستة.

ولهذا قال: "قسط ما بين قيمة الصحة والعيب" فيُقَوَّمُ هذا الشيء صحيحًا ثم يقوم معيبًا، وتؤخذ النسبة التي بين قيمته صحيحًا وقيمته معيبًا، وتكون هي الأرش، فيسقط نظيرها من الثَّمَن، ويكون التقويم وقت العقد، لا وقت العلم بالعيب؛ لأن القيمة قد تختلف فيما بين وقت العقد والعلم بالعيب. مثال ذلك: باع سيارةً قيمتها مائة ألف بخمسين ألفًا، ثم تبين بها عيب، وقلنا لأهل الخبرة: قدروا العيب، قالوا: هي معيبة تساوي ثمانين وسليمة تساوي مائة، فالأرش الآن الخُمس، والثمن كان خمسين ألفًا، فينقص عشرة آلاف. اهـ. زاد المستقنع (8/ 318).

تنبيه: وقع في الأصل: ( .. ولا وقت العلم بالعيب .. )، ولعل الصواب حذف الواو.

(2)

يقصد: الْمُثمن، وهو السلعة.

ص: 145

يَقْبِضْهُ الْمُشْتَرِي -: سَقَطَ مِن الثَّمَنِ

(1)

قَدْرُ الْأَرْشِ.

وَإِن كَانَ قَبَضَهُ لِلْبَائِعِ أَو وَكِيلِهِ فَلَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْبَائِعَ بِالْأَرْشِ، ثُمَّ الْوَكِيلُ إنْ ضَمِنَ عُهْدَةَ الْمَبِيعِ أَو لَمْ يُسَمِّ مُوَكِّلَهُ فِي الْعَقْدِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْأَرْشِ فَيَجُوزُ مُطَالَبَتُهُ بِهِ.

وَإِن سَمَّاهُ فِي الْعَقْدِ وَلَمْ يَضْمَن الْعُهْدَةَ فَهَل يَكُونُ ضَامِنًا لِذَلِكَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. [29/ 364]

3587 -

وَسُئِلَ- قَدَّسَ الله رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ-: عَن دَارٍ بَيْنَ شَخْصَيْنِ بَاعَهَا أَحَدُهُمَا عَن نَفْسِهِ وَعَن شَرِيكِهِ بِالْوِكَالَةِ لِشَخْصٍ آخَرَ، ثُمِّ إنَّ الْمُشْتَرِيَ بَنَى فَوْقَ مَا اشْتَرَاهُ بِنَاءً كَبِيرًا، وَمِن حُقُوقِهِ قَنَاةٌ مُلَاصِقَةٌ جِدَارَ تُرْبَةٍ، فَنَدَّت الْجِدَار، وَسَرَت النَّدَاوَةُ إلَى الْقَبْرِ، فَرَفَعَ مُلَّاكُ التُّرْبَةِ الْمُشْتَرِيَ لِلْحِسْبَةِ، فَشَهِدَت الْبَيِّنَةُ أَرْبَابُ الْخِبْرَةِ بِتَنْدِيَةِ الْجِدَارِ وَوُصُولِ ذَلِكَ إلَى الْقَبْرِ، وَأَنَّ الْقَنَاةَ مُحْدَثَةٌ عَلَى الْجِدَارِ، وَأَنَّهُ ضَرَرٌ يَجِبُ إزَالَتُهَا مِن مَكَانِهَا فَأُلْزِمَ لْزِمَ الْمُشْتَرِي بِنَقْلِهَا، فَهَل مَا أَحْدَثَهُ الْمُشْتَرِي مِن الْبِنَاءِ وَالْهَدْمِ يَمْنَعُ الرَّدَّ أَمْ لَا؟ وَإِذَا مَنَعَ فَهَل يَثْبُتُ الْأَرْشُ؟

فَأَجَابَ: أَمَّا الْقَنَاةُ إذَا كَانَت مُحْدَثَةً حَيْثُ لَا يَجُوزُ إحْدَاثُهَا: فَإِنَّهُ يُلْزَمُ مُحْدِثُهَا بِإِزَالَةِ مَا لَا يَجُوزُ إحْدَاثُهُ.

وَالْمُشْتَرِي إنْ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ بَل اعْتَقَدَ أَنَّ هَذَا حَقُّ لِلْمِلْكِ لَا يَجُوزُ إزَالَتُهُ فَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ: كَانَ هَذَا عَيْبًا.

فَإِذَا بَنَى فِي الْعَقَارِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِالْعَيْبِ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ عَيْبٌ: فَلَيْسَ إلَّا الْأَرْشُ دُونَ الرَّدِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ: كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي أَصَحَّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.

وَفِي الْأُخْرَى -وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ-: لَه الرَّدُّ أَيْضًا، وَيَكُونُ شَرِيكًا لِلْبَائِعِ بِمَا أَحْدَثَهُ مِن الزِّيَادَةِ فِيهِ، وَلَا يُلْزَمُ بِالْهَدْمِ مَجَّانًا؛ لِأَنَّهُ بَنَى بِحَقًّ.

(1)

أي: المبلغ الذي دفعه المشتري للبائع مقابل السلعة المعيبة.

ص: 146

وَخِيَارُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ عَلَى التَّرَاخِي عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِمَا.

فَإِذَا ظَهَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى الرضا مِن قَوْلٍ أَو فِعْلٍ: سَقَطَ خِيَارُهُ بِالِاتِّفَاقِ.

فَإِذَا بَنَى بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْعَيْبِ: سَقَطَ خِيَارُهُ.

وَأَمَّا إذَا أَشْهَدَ بِطَلَبِ الْأَرْشِ: اسْتَحَقَّهُ، كَانَ

(1)

لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا يَسْقُطُ الْأَرْشُ بِتَصَرُّفِهِ، وَالْبَائِعُ يُطَالَبُ بِالدَّركِ مِن أَرْشٍ أَو رَدٍّ فِيمَا بَاعَهُ مِن مِلْكِهِ.

وَأَمَّا إذَا بَاعَهُ مِن مِلْكِ مُوَكّلِهِ:

أ - فَإِنْ كَانَ لَمْ يُسَمِّهِ فِي الْبَيْعِ طُولِبَ أَيْضًا بِدَركِ الْمَبِيعِ.

ب - وَإِن كَانَ سَمَّاهُ: فَهَل يَجُوزُ مُطَالَبَتُهُ وَيَكُونُ ضَامِنًا لِعُهْدَةِ الْمَبِيعِ؟

عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَن أَحْمَد.

وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي أُلْزِمَ بِالْأَرْشِ لِأَجْلِ الْقَنَاةِ الْمُحْدَثَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ إحْدَاثُهَا: فَلَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْبَائِعَ الْغَارّ لَهُ بِأَرْشِ مَا لَزِمَهُ بِغَرَرِهِ. [29/ 365 - 367]

* * *

(بيع الغرر)

3588 -

حَرَّمَ -تعالى- فِي كِتَابِهِ أَكْلَ أَمْوَالِنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ، وَذَمَّ الْأَحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَذَمَّ الْيَهُودَ عَلَى أَخْذِهِم الرِّبَا وَقَد نُهُوا عَنْهُ، وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ.

وَهَذَا يَعُمُّ كُلَّ مَا يُؤْكَلُ بِالْبَاطِلِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ وَالتَّبَرُّعَاتِ، وَمَا يُؤْخَذُ بِغَيْرِ رضا الْمُسْتَحِقِّ وَالِاسْتِحْقَاقِ.

(1)

الذي يظهر أن صواب العبارة: وكان؛ ليستقيم المعنى.

ص: 147

وَأَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ فِي الْمُعَاوَضَةِ نَوْعَانِ ذَكَرَهُمَا اللهُ فِي كِتَابِهِ هُمَا: الرِّبَا وَالْمَيْسِرُ.

ثُمَّ إنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَصَّلَ مَا جَمَعَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ، فَنَهَى صلى الله عليه وسلم عَن بَيْعِ الْغَرَرِ، كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرهُ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، وَالْغَرَرُ: هُوَ الْمَجْهُولُ الْعَاقِبَةِ، فَإِنَّ بَيْعَهُ مِن الْمَيْسِرِ الَّذِي هُوَ الْقِمَارُ.

وَأَمَّا الرِّبَا: فَتَحْرِيمُهُ فِي الْقُرْآنِ أَشَدُّ .. وَذَكَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْكَبَائِرِ.

وَذَلِكَ: أَنَّ الرِّبَا أَصْلُهُ إنَّمَا يَتَعَامَلُ بِهِ الْمُحْتَاجُ، وَإِلَّا فَالْمُوسِرُ لَا يَأْخُذُ أَلْفًا حَالَّةً بِأَلْف وَمِائَتَيْنِ مُؤَجَّلَةٍ إذَا لَمْ يَكُن لَهُ حَاجَةٌ لِتِلْكَ الْأَلْفِ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُ الْمَالَ بِمِثْلِهِ وَزِيَادَةً إلَى أَجَل مَن هُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ فَتَقَعُ تِلْكَ الزِّيَادَةُ ظُلْمًا لِلْمُحْتَاجِ بِخِلَافِ الْمَيْسِرِ، فَإِنَّ الْمَظْلُومَ فِيهِ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ وَلَا هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْعَقْدِ.

ثُمَّ إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ أَشْيَاءَ مِمَّا يَخْفَى فِيهَا الْفَسَادُ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْفَسَادِ الْمُحَقَّقِ - كَمَا حَرَّمَ قَلِيلَ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّهُ يَدْعُو إلَى كَثِيرِهَا - مِثْلُ رِبَا الْفَضْلِ؛ فَإِنَّ الْحِكْمَةَ فِيهِ قَد تَخْفَى؛ إذِ الْعَاقِلُ لَا يَبِيعُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ إلَّا لِاخْتِلَافِ الصِّفَاتِ.

وَأَمَّا الْغَرَرُ: فَإِنَّهُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:

أ- إمَّا الْمَعْدُومُ كَحَبَلِ الْحَبَلَةِ وَبَيْعِ السَّنِينَ.

ب - وَإِمَّا الْمَعْجُوزُ عَن تَسْلِيجهِ كَالْعَبْدِ الْآبِقِ.

ج- وَإِمَّا الْمَجْهُولُ الْمُطْلَقُ، أَو الْمُعَيَّنُ الْمَجْهُولُ جِنْسُهُ أَو قَدْرُهُ؛ كَقَوْلِهِ: بِعْتُك عَبْدًا، أَو بِعْتُك مَا فِي بَيْتِي، أَو بِعْتُك عَبِيدِي.

وَمَفْسَدَةُ الْغَرَرِ أَقَلُّ مِن الرِّبَا؛ فَلِذَلِكَ رُخِّصَ فِيمَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ مِنْهُ؛ فَإِنَّ تَحْرِيمَهُ أَشَدُّ ضَرَرًا مِن ضَرَرِ كَوْنِهِ غَرَرًا؛ مِثْل بَيْعِ الْعَقَارِ جُمْلَةً وإِن لَمْ يُعْلَمْ دَوَاخِلُ الْحِيطَانِ وَالْأَسَاس.

وَمِثْل بَيْعِ الْحَيَوَانِ الْحَامِلِ أَو الْمُرْضِعِ وَإِن لَمْ يُعْلَمْ مِقْدَارُ الْحَمْلِ أَو

ص: 148

اللَّبَنِ، وَإِن كَانَ قَد نُهِي عَن بَيْعِ الْحَمْلِ مُفْرَدًا، وَكَذَلِكَ اللَّبَنُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ.

وَكَذَلِكَ بَيْعُ الثَّمَرَةِ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا؛ فَإِنَّهُ يَصِحُّ مُسْتَحقٌّ الْإِبْقَاءَ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ؛ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد، وَإِن كَانَت الْأَجْزَاءُ الَّتِي يَكْمُلُ الصَّلَاحُ بِهَا لَمْ تُخْلَقْ بَعْدُ.

وَجَوَّزَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا بَاعَ نَخْلًا قَد أُبِّرَتْ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ ثَمَرَتَهَا؛ فَيَكُونُ قَد اشْتَرَى ثَمَرَةً قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، لَكِنْ على وَجْهِ الْبَيْعِ لِلْأَصْلِ.

فَظَهَرَ أَنَّهُ يَجُوزُ مِنَ الْغَرَرِ الْيَسِيرِ ضِمْنًا وَتَبَعًا مَا لَا يَجُوزُ مِن غَيْرِهِ.

وَلَمَّا احْتَاجَ النَّاسُ إلَى الْعَرَايَا أَرْخَصَ فِي بَيْعِهَا بِالْخَرْصِ، وَلَمْ يُجَوِّزْ الْمُفَاضَلَةَ الْمُتَيَقَّنَةَ. [29/ 22 - 26]

3589 -

أَمَّا الْغَرَرُ: فَأَشَدُّ النَّاسِ فِيهِ قَوْلًا أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ رضي الله عنهما، أَمَّا الشَّافِعِيُّ: فَإِنَّهُ يُدْخِلُ فِي هَذَا الِاسْمِ مِن الْأَنْوَاعِ مَا لَا يُدْخِلُهُ غَيْرُهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ؛ مِثْل الْحَبَّ وَالثَّمَرِ فِي قِشْرِهِ الَّذِي لَيْسَ بِصَوَّان؛ كَالْبَاقِلَاءِ وَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ فِي قِشْرِهِ الْأَخْضَرِ وَكَالْحَبِّ فِي سُنْبُلِهِ، فَإِنَّ الْقَوْلَ الْجَدِيدَ عِنْدَهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ.

وَأَمَّا مَالِكٌ: فَمَذْهَبُهُ أَحْسَنُ الْمَذَاهِبِ فِي هَذَا، فَيُجَوِّزُ بَيْعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَجَمِيعَ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ، أَو يَقِلّ غَرَرُهُ بِحَيْثُ يُحْتَمَلُ فِي الْعُقُودِ، حَتَّى يُجَوِّزَ بَيْعَ المقاثي جُمْلَةً، وَبَيْعَ الْمغَيَّبَاتِ فِي الْأَرْضِ كَالْجَزَرِ وَالْفُجْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَأَحْمَد قَرِيبٌ مِنْهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، وَيُجَوّزُ -عَلَى الْمَنْصوصِ عَنْهُ- أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ عَبْدًا مُطْلَقًا، أَو عَبْدًا مِن عَبِيدِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا تَزِيدُ جَهَالَتُهُ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ

(1)

. [29/ 31 - 33]

(1)

قال العلَّامة محمد رشيد رضا في قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} : تَوَسَّعَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي تَفْسِيرِ الْأَلْفَاظِ الْقَلِيلَةِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَأَدْخَلُوا فِي مَعْنَى الرَّبَا وَالْغَرَرِ مَا لَا تُطِيقُهُ النُّصُوصُ مِنَ التَّشْدِيدِ، وَدَعَّمُوا تَشْدَيدَاتِهِمْ بِرِوَايَاتٍ لَا تَصِحُّ، وَأَشَدُّهُمْ تَضْيِيقًا =

ص: 149

وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ أصُولُ مَالِكِ وَأُصُولُ أَحْمَد وَبَعْضُ أُصُولِ غَيْرِهِمَا: هُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ غَالِبُ مُعَامَلَاتِ السَّلَفِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ أَمْرُ النَّاسِ فِي مَعَاشِهِمْ إلَّا بِهِ. [29/ 45]

3590 -

إنَّمَا حَرَّمَ اللهَ سُبْحَانَهُ عَلَيْنَا الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الْأَعْيَانِ؛ كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، أَو مِنَ التَّصَرُّفَاتِ؛ كَالْمَيْسِرِ وَالرِّبَا وَمَا يَدْخُلُ فِيهِمَا مِن بُيُوعِ الْغَرَرِ وَغَيْرِهِ: لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ الَّتِي نَبَّهَ اللهُ عَلَيْهَا وَرَسُولُهُ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة: 91]، فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ: أَنَّ الْمَيْسِرَ يُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ، سَوَاءٌ كَانَ مَيْسِرًا بِالْمَالِ أَو بِاللَّعِبِ؛ فَإِنَّ الْمُغَالَبَةَ بِلَا فَائِدَةٍ وَأَخْذَ الْمَالِ بِلَا حَقَّ يُوقِعُ فِي النُّفُوسِ ذَلِكَ.

وَإِذَا كَانَت مَفْسَدَةُ بَيْعِ الْغَرَرِ هِيَ كَوْنهُ مَظِنَّةَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَأَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ: فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْمَفْسَدَةَ إذَا عَارَضَتْهَا الْمَصْلَحَة الرَّاجِحَةُ قُدِّمَتْ عَلَيْهَا، كَمَا أَنَّ السِّبَاقَ بِالْخَيْلِ وَالسَّهَامِ وَالْإِبِلِ لَمَّا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ جَازَ بِالْعِوَضِ، وَإِن لَمْ يَجُزْ غَيْرُهُ بِعِوَض.

وَكَمَا أَنَّ اللَّهْوَ الَّذِي يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ إذَا لَمْ يَكُن فِيهِ مَنْفَعَةٌ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِن كَانَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ .. : صَارَ هَذَا اللَّهْوُ حَقًّا.

وَمَعْلُومٌ أنَّ الضَّرَرَ عَلَى النَّاسِ بِتَحْرِيمِ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ أَشَدُّ عَلَيْهِم مِمَّا قَد

= فِي الْعُقُودِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ، وَأَكْثَرُهُمُ اتِّسَاعًا وَسِعَةً الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

لِهَذَا تَجِدُ الْإِمَامَ أَحْمَدَ أَكْثَرَ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ تَصْحِيحًا لِلْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ، عَلَى أَنَّهُ أَوْسَعُهُمْ رِوَايَةً لِلْحَدِيثِ وَأَشَدُّهُمُ اسْتِمْسَاكًا بِهِ، فَأَبُو حَنِيفَةَ. يُقَدّمُ الْقِيَاسَ الْجَلِيّ عَلَى حَدِيثِ الْآحَادِ الصَّحِيحِ، وَأحْمَدُ يُقَدّمُ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ عَلَى الْقِيَاسِ.

وَلَمْ أرَ أحَدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ وَفَّىَ مَوْضُوعَ الْعُقُودِ حَقَّهُ مُؤَيّدًا بِدَلَائِلِ الْكِتَاب وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ وَوُجُوهِ الِاعْتِبَارِ فِي مَدَارِكِ الْقِيَاسِ إِلَّا شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى. تفسير المنار (6/ 103 - 105).

ص: 150

يُتَخَوَّفُ فِيهَا مِن تَبَاغُضٍ وَأَكْلِ مَالٍ بِالْبَاطِلِ؛ لِأَنَّ الْغَرَرَ فِيهَا يَسِيرٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْحَاجَةُ إلَيْهَا مَاسَّةٌ، وَالْحَاجَةُ الشَّدِيدَةُ يَنْدَفِعُ بِهَا يَسِيرُ الْغَرَرِ.

وَالشَّرِيعَةُ جَمِيعُهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمَفْسَدَةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِلتَّحْرِيمِ إذَا عَارَضَتْهَا حَاجَةٌ رَاجِحَةٌ أُبِيحَ الْمُحَرَّمُ، فَكَيْفَ إذَا كَانَت الْمَفْسَدَةُ مُنْتَفِيَة؟ [29/ 46 - 49]

3591 -

لَا أَعْلَمُ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سُنَّةً صَرِيحَةً بِأَنَّ الْمَبِيعَ التَّالِفَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِن الْقَبْضِ يَكُونُ مِن مَالِ الْبَائِعِ وَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِتَلَفِهِ إلَّا حَدِيثَ الْجَوَائِحِ.

وَلَو لَمْ يَكُن فِيهِ سُنَّةٌ لَكَانَ الِاعْتِبَارُ الصَّحِيحُ يُوَافِقُهُ، وَهُوَ مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: "بِمَ يَأْخُدُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقّ؟

(1)

فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ لِلثَّمَرَةِ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِن جذَاذِهَا عِنْدَ كَمَالِهَا وَنُضْجِهَا لَا عِنْدَ الْعَقْدِ، كَمَا أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِن اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَتَلَفُ الثُّمَرَةِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِن الْجِذَاذِ كَتَلَفِ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِن اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ.

فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِلَّةَ لَيْسَتْ كَوْنَهُ كَانَ مَعْدُومًا، فَإِنَّهُ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ وَأَمْنِهِ الْعَاهَةَ يَزِيدُ أَجْزَاءً لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةَ وَقْتَ الْعَقْدِ.

وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الْأَمْنَ مِنَ الْعَاهَاتِ النَّادِرَةِ، فَإِنَّ هَذَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ.

وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ ذَهَابُ الْعَاهَةِ الَّتِي يَتَكَرَّرُ وُجُودُهَا، وَهَذِهِ إنَّمَا تُصِيبُ الزَّرْعَ قَبْلَ اشْتِدَادِ الْحَبِّ، وَقَبْلَ ظُهُورِ النُّضْجِ فِي الثَّمَرِ.

وَبَيْعُ الثَّمَرِ عَلَى الشَّجَرِ بَعْدَ كَمَالِ صَلَاحِهِ مُتَعَذَّرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكْمُلُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَإِيجَابُ قَطْعِهِ عَلَى مَالِكِهِ فِيهِ ضَرَرٌ مُرْبٍ عَلَى ضَرَرِ الْغَرَرِ.

فَتَبَيَّنَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدَّمَ مَصْلَحَةَ جَوَازِ الْبَيْعِ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَيْهِ عَلَى مَفْسَدَةِ الْغَرَرِ الْيَسِيرِ، كَمَا تَقْتَضِيهِ أُصُولُ الْحِكْمَةِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا صلى الله عليه وسلم وَعَلَّمَهَا أُمَّتَهُ.

(1)

رواه البخاري (2198).

ص: 151

وَمَن طَرَدَ الْقِيَاسَ الَّذِي انْعَقَدَ فِي نَفْسِهِ، غَيْرَ نَاظِرٍ إلَى مَا يُعَارِضُ عِلَّتَهُ مِن الْمَانِعِ الرَّاجِحِ: أَفْسَدَ كَثِيرًا مِن أَمْرِ الدّينِ وَضَاقَ عَلَيْهِ عَقْلُهُ وَدِينُهُ

(1)

. [29/ 50 - 51]

3592 -

دَلَّ الْكِتَابُ فِى قَوْله تَعَالَى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] وَالسُّنَّةُ فِي حَدِيثِ بروع بِنْتِ وَاشِقٍ، وَإِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ: عَلَى جَوَازِ عَقْدِ النِّكَاحِ بِدُونِ فَرْضِ الصَّدَاقِ، وَتَسْتَحِقُّ مَهْرَ الْمِثْل إذَا دَخَلَ بِهَا بِإِجْمَاعِهِمْ وَإِذَا مَاتَ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ الْمُتَّبِعِينَ لِحَدِيثِ بروع بِنْتِ وَاشِقٍ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَهْرَ الْمِثْل مُتَقَارِبٌ لَا مَحْدُودٌ، فَلَو كَانَ التَّحْدِيدُ مُعْتَبَرًا فِي الْمَهْرِ مَا جَازَ النِّكاحُ بِدُونِهِ.

فَظَهَرَ بِهَذِهِ النُّصُوصِ أَنَّ الْعِوَضَ عَمَّا لَيْسَ بِمَال -كَالصَّدَاقِ، وَالْكتَابَةِ، وَالْفِدْيَةِ فِي الْخُلْعِ، وَالصُّلْحِ عَن الْقِصَاصِ، وَالْجِزْيَةِ، وَالصُّلْحِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ-: لَيْسَ بِوَاجِبٍ أَنْ يُعْلَمَ الثَّمَن وَالْأُجْرَة.

وَلَا يُقَاسُ عَلَى بَيْعِ الْغَرَرِ كُلُّ عَقْدٍ عَلَى غَرَرٍ؛ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ إمَّا أَنَّهَا لَا تَجِبُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ، أَو لَيْسَتْ هِيَ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ مِنْهَا.

وَمَا لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ إذَا وَقَعَ فِيهِ غَرَرٌ لَمْ يُفْضِ إلَى الْمَفْسَدَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَيْعِ؛ بَل يَكُونُ إيجَابُ التَّحْدِيدِ فِي ذَلِكَ فِيهِ مِن الْعُسْرِ وَالْحَرَجِ الْمَنْفِيِّ شَرْعًا مَا يَزِيد عَلَى ضَرَرِ تَرْكِ تَحْدِيدِهِ. [29/ 43 - 55]

* * *

(1)

قاعدة عظيمة النفع، وهي أصلٌ من أصول الدين، ولا يستغني عنها الفقيه والمفتي.

ص: 152

(النهي عن الْجَمْع بَيْنَ السَّلَفِ وَالْبَيْعِ، والقرض الذي يجرُّ نفعًا، وحكم بيع الأمانة)

3593 -

رَوَى عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرُو أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنُ، وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَك". رَوَاهُ الْأَئِمَةُ الْخَمْسَةُ

(1)

: أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي وَالتِّرْمِذِي وَابْنُ مَاجَه، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

فَنَهَى صلى الله عليه وسلم عَن أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ سَلَفٍ وَبَيْعٍ، فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَ سَلَفٍ وَإِجَارَةٍ فَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ سَلَفٍ وَبَيْعٍ أَو مِثْله.

وَكُلُّ تَبَرُّعٍ يَجْمَعُهُ إلَى الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ مِثْل: الْهِبَةِ وَالْعَارِيَة وَالْعُرْيَةِ وَالْمُحَابَاةِ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: هِيَ مِثْلُ الْقَرْضِ.

فَجِمَاعُ مَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنْ لَا يَجْمَعَ بَيْنَ مُعَاوَضَةٍ وَتبَرُّعٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّبَرُّعَ إنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ الْمُعَاوَضَةِ لَا تَبَرُّعًا مُطْلَقًا، فَيَصِيرُ جُزْءًا مِن الْعِوَضِ.

فَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِعِوَضٍ: جَمَعَا بَيْنَ أَمْرَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ؛ فَإِنَّ مَن أَقْرَضَ رَجُلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَبَاعَهُ سِلْعَةً تُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ بِأَلْف: لَمْ يَرْضَ بِالْإِقْرَاضِ إلَّا بِالثَّمَنِ الزَّائِدِ لِلسِّلْعَةِ، وَالْمُشْتَرِي لَمْ يَرْضَ بِبَذْلِ ذَلِكَ الثَّمَنِ الزَّائِدِ إلَّا لِأَجْلِ الْأَلْفِ الَّتِي اقْتَرَضَهَا، فَلَا هَذَا بَاعَ بَيْعًا بِأَلْف، وَلَا هَذَا أَقْرَضَ قَرضًا مَحْضًا؛ بَل الْحَقِيقَةُ: أَنَّهُ أَعْطَاهُ الْأَلْفَ وَالسِّلْعَةَ بِأَلْفَيْنِ فَهِيَ مَسْأَلَةُ: "مُدِّ عَجْوَةٍ"، فَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ أَخْذَ أَلْفٍ بِأَكْثَرَ مِن أَلْفٍ: حَرُمَ بِلَا تَرَدُّدٍ، وَإِلَّا خَرَجَ عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ. [29/ 62 - 63]

3594 -

وَسُئِلَ: عَن رَجُلٍ اشْتَرَى مِن رَجُلٍ دَارًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَهِيَ تُسَاوِي أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، ثُمَّ إنَّ الْمُشْتَرِيَ أَجَّرَ الْبَائِعَ الدَّارَ مُدَّةً مِن الشُّهُورِ بِدَرَاهِمَ مَعْلُومَةٍ

(1)

أبو داود (3554)، والترمذي (1234)، والنسائي (4611)، وأحمد (6671)، وابن ماجه (2188).

ص: 153

فِي تَارِيخِهِ عَلَى الْفَوْرِ، وَهُوَ بَيْنَهُمَا بَيْعُ أَمَانَةٍ فِي الْبَاطِنِ، هَل يَصِحُّ هَذَا الْعَقْدُ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ؟

فَأَجَابَ: إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ أَنْ يَأْخُذَ أَحَدُهُمَا مِن الْآخَرِ دَرَاهِمَ وَيَنْتَفِعُ الْمُعْطِي بِعَقَارِ الْآخَرِ مُدَّةَ مَقَامِ الدَّرَاهِمِ فِي ذِمَّتِهِ، فَإِذَا أَعَادَ الدَّرَاهِمَ إلَيْهِ أَعَادَ إلَيْهِ الْعَقَارَ: فَهَذَا حَرَامٌ بِلَا رَيْبٍ، وَهَذَا دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ مِثْلِهَا وَمَنْفَعَةِ الدَّارِ، وَهُوَ الرِّبَا الْبَيِّنُ.

وَقَد اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُقْرِضَ مَتَى اشْتَرَطَ زِيادَةً عَلَى قَرْضِهِ كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا، وَكَذَلِكَ إذَا تَوَاطَآ عَلَى ذَلِكَ فِي أَصَحِّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ.

وَقَد صَحَّ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يَضْمَنْ، وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَك"

(1)

، حَرَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْجَمْعَ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَقْرَضَهُ وَبَاعَهُ: حَابَاهُ فِي الْبَيْعِ لِأَجْلِ الْقَرْضِ، وَكَذَلِكَ إذَا آجَرَهُ وَبَاعَهُ.

وَمَا يُظْهِرُونَهُ مِن بَيْعِ الْأَمَانَةِ

(2)

الَّذِي يَتَّفِقُونَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ إذَا جَاءَهُ بِالثَّمَنِ

(1)

أبو داود (3504)، والترمذي (1234)، والنسائي (4611)، وأحمد (6671)، وابن ماجه (2188).

(2)

هو البيع بشرط أن البائع متى رد الثمن يرد المشتري المبيع إليه.

ويسميه المالكية: "بيع الثنيا".

والشافعية: "بيع العهدة".

وبعضهم يسميه: "بيع الوفاء". وإنما سمي بذلك لأن المشتري يلزمه الوفاء بالشرط.

وقد ذهب المالكية والحنابلة والمتقدمون من الحنفية والشافعية إلى: أن بيع الوفاء فاسد، وهو الذي رجحه الشيخ؛ وذلك:

أ- لأن اشتراط البائع أخذ المبيع إذا رد الثمن إلى المشتري يخالف مقتض البيع وحكمه، وهو ملك المشتري للمبيع على سبيل الاستقرار والدوام، وفي هذا الشرط منفعة للبائع، ولم يرد دليل معين يدل على جوازه، فيكون شرطًا فاسدًا يفسد البيع باشتراطه فيه.

ب - ولأن البيع على هذا الوجه لا يقصد منه حقيقة البيع بشرط الوفاء، وإنما يقصد من ورائه الوصول إلى الربا المحرم، وهو إعطاء المال إلى أجل، ومنفعة المبيع هي الربح، والربا باطل في جميع حالاته. يُنظر: الموسوعة الفقهية الكويتية (9/ 48، 63، 260).

ص: 154

أَعَادَ إلَيْهِ الْمَبِيعَ: هُوَ بَاطِلٌ بِاتَّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، سَوَاءٌ شَرَطَهُ فِي الْعَقْدِ، أَو تَوَاطَآ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَقْدِ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ.

وَالْوَاجِبُ فِي مِثْل هَذَا أَنْ يُعَادَ الْعَقَارُ إلَى رَبِّهِ وَالْمَالُ إلَى رَبّهِ، وَيُعَزَّرَ كُلٌّ مِن الشَّخْصَيْنِ إنْ كَانَا عَلِمَا بِالتَّحْرِيمِ.

وَالْقَرْضُ الَّذِي يَجُرُّ مَنْفَعَةً قَد ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْهُ عَن غَيْرِ وَاحِدٍ مِن الصَّحَابَةِ؛ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَنَسِ بْن مَالِكٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه وَغَيْرُهُ.

فَإِذَا وَفَّاهُ الْمُقْرِضُ خَيْرًا مِن قَرْضِهِ بِلَا مُوَاطَأَةٍ جَازَ ذَلِكَ، وَإِن وَفَّاهُ أَكْثَرَ مِن قَرْضِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا زِيادَةٌ بَعْدَ وَفَاءِ الْقَرْضِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَهْدَى إلَيْهِ قَبْلَ الْوَفَاءِ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَحْسِبْهُ مِن الْقَرْضِ كَانَ الْقَرْضُ بَاقِيًا فِي ذِمَّتِهِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَهُ مَعَ الْهَدِيَّةِ، وَالْهَدِيَّةُ إنمَا كَانَت بِسَبَبِ الْقَرْضِ.

وَأَمَّا صُورَتُهُ: وَهُوَ أَنْ يَتَوَاطَآ عَلَى أَنْ يَبْتَاعَ مِنْهُ الْعَقَارَ بِثَمَن، ثُمَّ يُؤَجِّرَهُ إيَّاهُ إلَى مُدَّةٍ، وَإِذَا جَاءَهُ بِالثَّمَنِ أَعَادَ إلَيْهِ الْعَقَارَ: فَهُنَا الْمَقْصُودُ أنَّ الْمُعْطِيَ شَيْئًا أَدَّى الْأُجْرَةَ مُدَّةَ بَقَاءِ الْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَخْذِ الْمَنْفَعَةِ وَبَيْنَ عِوَضِ الْمَنْفَعَةِ، الْجَمِيعُ حَرَامٌ.

وَهَذَا وَإِن كَانَ قَد رَخَّصَ فِيهِ طَائِفَةٌ مِن الْفُقَهَاء

(1)

؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُشْتَرَطْ فِي الْعَقْدِ، وَأَنَّ الْمُوَاطَأَةَ وَالنّيَّةَ لَا تُؤَثّرُ فِي الْعُقُودِ، فَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ: تَحْرِيمُ مِثْل ذَلِكَ، وَأَنَّ النِّيَّاتِ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْعُقُودِ. [29/ 333 - 336]

3595 -

وَسُئِلَ: عَن رَجُلٍ بَاعَ زَوْجَتَهُ دَارًا بَيْعَ أَمَانَةٍ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَقَد اسْتَوْفَت الدَّرَاهِمَ مِن الْأُجْرَةِ، فَهَل يَجُوزُ لَهَا أَخْذُ شَيْءٍ آخَرَ وَقَد أَخَذَت الْأَرْبَعَمِائَةِ؟

(1)

رخص فيه بعض المتأخرين من الحنفية والشافعية.

ص: 155

فَأَجَابَ: الْمَقْصُودُ بِهَذَا وَأَمْثَاله أَنْ يُعْطِيَهُ الْمَالَ وَيَسْتَغِلَّ الْعَقَارَ عَن مَنْفَعَةِ الْمَالِ، فَمَا دَامَ الْمَالُ فِي ذِمَّةِ الْآخِذِ فَإِنَّهُ يَسْتَغِلُّ الْعَقَارَ، وَإِذَا رَدَّ عَلَيْهِ الْمَالَ أَخَذَ الْعَقَارَ، وَهَذَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.

وَإِن قَصَدَا ذَلِكَ وَأَظْهَرَا صُورَةَ بَيْعٍ: لَمْ يَجُزْ عَلَى أَصَحّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ أَيْضًا.

وَمَن صَحَّحَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْعُهُ شَرْعِيًّا.

فَإِذَا شَرَطَ أَنَّهُ إذَا جَاءَ بِالثَّمَنِ أَعَادَ إلَيْهِ الْعَقَارَ: كَانَ هَذَا بَيْعًا بَاطِلًا، وَالشَّرْطُ الْمُقَدَّمُ عَلَى الْعَقْدِ كَالْمُقَارِنِ لَهُ فِي أَصَحِّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ.

وَحِينَئِذٍ: فَمَا حَصَلَ لِلْمَرْأَةِ مِن الْأُجْرَةِ بَعْدَ أَنْ عَلِمَت التَّحْرِيمَ تَحْسِبُهُ مِن رَأْسِ الْمَالِ.

وَمَا قَبَضَتْهُ قَبْلَ ذَلِكَ: فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكورِ.

وَإِن اصْطَلَحَا عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ أَحْسَنُ.

وَمَا قَبَضَتْهُ بِعَقْدٍ مُخْتَلَفٍ تَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ: لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا رَدُّهُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ

(1)

. [29/ 395 - 396]

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَك". قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ صحِيحٌ.

(1)

فالعقد هذا باطل على رأي الشيخ وغيره، ويجب أنْ ترد ما اشترته، ولكن لَمَّا كانت اعتقدت صحته، وهذا العقد فيه خلاف بين العلماء: صح عقدها ونفذ حكمه.

وتحريم هذه المعاملة ظاهرٌ جدًّا، فهو في الحقيقة فرضٌ جرّ نفعًا، ويدل عليه هذا السؤال الموجه للشيخ، حيث سُئل عَن رَجُلٍ عنده مزرعةٌ فيها عنب، فطَلَبَ مِن آخر أَنْ يُقْرِضَهُ دَرَاهِمَ، فَامْتَنَعَ إلَّا أَنْ يَبِيعَة الْعنب بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأنَّهُ إذَا جَاءَ بِالدَّرَاهِمِ أَعَادَ إلَيْهِ الْعنب، فَبَاعَهُ الْعنب بِهَذَا الشَّرْطِ، وَلَمْ يَذْكُر الشَّرْطَ فِي الْعَقَّدِ.

فَأَجَابَ: لَيْسَ هَذَا بَيْعًا لَازِمًا، بَل عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ كَرْمَهُ (أي: عنبه) إذَا أَعْطَاهُ دَرَاهِمَهُ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَمْكُرَ بِهِ. (29/ 396)

ص: 156

فَحَرَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ شَيْئًا وَيُقْرِضُهُ مَعَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ يُحَابِيهِ فِي الْبَيْعِ لِأَجْلِ الْقَرْضِ حَتَّى يَنْفَعَهُ، فَهُوَ رِبًا.

وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَغَيْرُهَا تُبَيِّنُ أَنَّ مَا تَوَاطَأَ عَلَيْهِ الرَّجُلَانِ بِمَا يَقْصِدَانِ بِهِ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ أَكْثَرَ مِنْهَا إلَى أَجَلٍ: فَإِنَّهُ رِبًا، سَوَاءٌ كَانَ يَبِيعُ ثُمَّ يَبْتَاعُ، أَو يَبِيعُ وَيُقْرِضُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. [29/ 432، 30/ 35 - 36]

* * *

‌العقود

3596 -

تَنَازَعُوا فِي عُقُودِ السَّكْرَانِ؛ كَطَلَاقِهِ، وَفي أَفْعَالِهِ الْمُحَرَّمَةِ؛ كَالْقَتْلِ وَالزنى هَل يُجْرَى مَجْرَى الْعَاقِلِ، أَو مَجْرَى الْمَجْنُونِ؟.

اَلَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ النُّصُوصُ وَالْأصُولُ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ: أَنَّ أَقْوَالَهُ هَدَرٌ- كَالْمَجْنونِ- لَا يَقَعُ بِهَا طَلَاقٌ وَلَا غَيْرُهُ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَد قَالَ: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ، وَالْقَلْبُ هوَ الْمَلِكُ الَّذِي تَصْدُرُ الْأقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ عَنْهُ، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ مَا يَقُولُ لَمْ يَكُن ذَلِكَ صَادِرًا عَن الْقَلْبِ؛ بَل يُجْرِي مَجْرَى اللَّغْوِ، وَالشَّارعُ لَمْ يُرَتِّبْ الْمُؤَاخَذَةَ إلَّا عَلَى مَا يَكْسِبُهُ الْقَلْبُ مِن الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ، كَمَا قَالَ:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]، وَلَمْ يُؤَاخِذْ عَلَى أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا الْقَلْبُ وَلَمْ يَتَعَمَّدْهَا، وَكَذَلِكَ مَا يُحَدِّثُ بِهِ الْمَرْءُ نَفْسَهُ لَمْ يُؤَاخَذْ مِنْهُ إلَّا بِمَا قَالَهُ أَو فَعَلَهُ.

وَأَمَّا إذَا كَانَ يَعْلَمُ مَا يَقُولُ: فَإِنْ كَانَ مُخْتَارًا قَاصِدًا لِمَا يَقُولُهُ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ، وَإِن كَانَ مُكْرَهًا فَإِنْ أكْرِهَ عَلَى ذَلِكَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ أَقْوَالُهُ كُلُّهَا لَغْوٌ، مِثْلُ كُفْرِهِ وَإِيمَانِهِ وَطَلَاقِهِ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ.

وَأَمَّا ثُبُوتُ بَعْضِ الْأحْكَامِ كَضَمَانِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ إذَا أَتْلَفَهَا مَجْنُونٌ أَو

ص: 157

نَائِمٌ أَو مُخْطِئٌ أَو نَاسٍ فَهَذَا مِن بَابِ الْعَدْلِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، لَيْسَ هُوَ مِن بَابِ الْعُقُوبَةِ. [14/ 115 - 119]

3597 -

الْأَصْلُ حَمْلُ الْعُقُودِ عَلَى الصِّحَّةِ، وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَى ذَلِكَ. [29/ 466]

3598 -

إِنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْعُقُودِ بِالْمَعَانِي وَالْمَقَاصِدِ، لَا بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ، هَذَا أَصْلُ أَحْمَد وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.

وَهَذَا كَالسَّلَمِ الْحَالِّ فِي لَفْظِ الْبَيْعِ، وَالْخُلْعِ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ، وَالْإِجَارَةِ بِلَفْظِ الْبَيْعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. [30/ 112]

3599 -

أمَّا الْعُقُودُ الَّتِي يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي لُزُومِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا؛ كَالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ وَالْوَقْفِ -عِنْدَ مَن يَقُولُ إنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ فِي لُزُومِهِ-: فَهَذَا يَصِحُّ فِي الْمُشَاعِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ؛ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد، وَلَمْ يُجَوِّزْهَا أَبُو حَنِيفَةَ، قَالَ: لِأنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ فِيهَا، وَقَبْضُهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ قَبْلَ الْقِسْمَةِ. [31/ 272]

* * *

(كيفيّة التخلص من الأموال المحرمة وَالْمَقْبُوضَةِ بعقودٍ لا تُبَاح بِالْقَبْضِ، أو التي لا يُعلم صاحبُها)

3600 -

مَا فِي الْوُجُودِ مِن الْأَمْوَالِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْمَقْبُوضَةِ بِعُقُودٍ لَا تُبَاحُ بِالْقَبْضِ إنْ عَرَفَهُ الْمُسْلِمُ اجْتَنبهُ، فَمَن عَلِمْتُ أَنَّهُ سَرَقَ مَالًا أَو خَانَهُ فِي أَمَانَتِهِ، أَو غَصَبَة فَأَخَذَهُ مِن الْمَغْصُوبِ قَهْرًا بِغَيْرِ حَقٍّ: لَمْ يَجُزْ لِي أنْ آخُذَهُ مِنْهُ، لَا بِطَرِيقِ الْهِبَةِ وَلَا بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ، وَلَا وَفَاءً عَن أُجْرةٍ، وَلَا ثَمَنَ مَبِيعٍ، وَلَا وَفَاءً عَن قَرْضٍ، فَإِنَّ هَذَا عَيْنُ مَالِ ذَلِكَ الْمَظْلُومِ.

وَأَمَّا إنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَالُ قَبَضَهُ بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ فِي مَذْهَبِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ جَازَ لِي أَنْ أَسْتَوْفِيَهُ مِن ثَمَنِ الْمَبِيعِ وَالْأُجْرَةِ وَالْقَرْضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن الدُّيُونِ.

وَإِن كَانَ مَجْهُولَ الْحَالِ فَالْمَجْهُولُ كَالْمَعْدُومِ، وَالْأَصْلُ فِيمَا بِيَدِ الْمُسْلِمِ

ص: 158

أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لَهُ إنْ ادَّعَى أَنَّهُ مَلَكَهُ، أَو يَكُونَ وَليًّا عَلَيْهِ؛ كَنَاظِرِ الْوَقْفِ وَوَليِّ الْيَتِيمِ وَوَليِّ بَيْتِ الْمَالِ، أَو يَكُونَ وَكِيلًا فِيهِ.

فَإِذَا لَمْ أَعْلَمْ حَالَ ذَلِكَ الْمَالِ الَّذِي بِيَدِهِ بَنَيْت الْأمْرَ عَلَى الْأَصْلِ.

وإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَهَذَا الْمَظْلُومُ الَّذِي أُخِذَ مَالُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ بِبَيْعٍ أَو أُجْرَةٍ، وَأُخِذَ مِنْهُ، وَالْمُشْتَرِي لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ، ثُمَّ يُنْقَلُ مِن الْمُشْتَرِي إلَى غَيْرِهِ ثُمَّ إلَى غَيْرِهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ أولَئِكَ لَمْ يَظْلِمُوهُ، وَإِنَّمَا ظَالِمُهُ مَن اعْتَدَى عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَو عَلِمَ بِهِم فَهَل لَهُ مُطَالَبَتُهُم بِمَا لَمْ يَلْتَزِمُوا ضَمَانَهُ؟

عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ، أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ.

مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ الظَّالِمَ إذَا أَوْدَعَ مَالَهُ عِنْدَ مَن لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ غَاصِبٌ فَتَلِفَت الْوَدِيعَةُ، فَهَل لِلْمَالِكِ

(1)

أَنْ يُطَالِبَ الْمُودَعَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ.

ثُمَّ إذَا عَلِمْنَا فِيمَا بَعْدُ أَنَّهُ مَسْرُوقٌ، فَعَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ لَا يَجِبُ عَلَيْنَا إلَّا مَا الْتَزَمْنَاهُ بِالْعَقْدِ؛ أَيْ: لَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْنَا إلَّا ضَمَانُ مَا الْتَزَمْنَاهُ بِالْعَقْدِ

(2)

.

لَكِنْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ هُنَا فِي مَسْأَلَة وَهِيَ أَنَّهُ: هَل لِلْمَالِكِ تَضْمِينُ هَذَا الْمَغْرُورِ الَّذِي تَلِفَ الْمَالُ تَحْتَ يَدِهِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى الْغَارِّ بِمَا غَرِمَهُ بِغُرُور، أَمْ لَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْمَغْرُورِ إلَّا بِمَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ؟

عَلَى قَوْلَيْنِ: هُمَا رِوَايَتَانِ عَن أَحْمَد.

وَقَالُوا فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّ هَذَا يَلْزَمُ الْغَارَّ الظَّالِمَ .. لَا يَلْزَمُ الْمَغْرُورَ الْمُشْتَرِيَ إلَّا مَا الْتَزَمَهُ بِالْعَقْدِ وَهُوَ الثَّمَنُ فَقَطْ.

وإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ مِن بَاب الْعَدْلِ الْوَاجِبِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيّينَ وَهُوَ يَجِبُ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ. [29/ 323 - 327]

(1)

الذي غصب الظالم ماله بغير حق.

(2)

وهو الثمن فقط.

ص: 159

3601 -

الِاسْتِئْجَارُ عَلَى مَنْفَعَةٍ مُحَرَّمَةٍ؛ كَالزنى وَاللِّوَاطِ وَالْغِنَاءِ وَحَمْلِ الْخَمْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: بَاطِلٌ، لَكِنْ إذَا اسْتَوْفَى تِلْكَ الْمَنْفَعَةَ وَمَنَعَ الْعَامِلَ أُجْرَتَهُ كَانَ غَدْرًا وَظُلْمًا أَيْضًا.

وَقَد اسْتَوْفَيْتُ مَسْأَلَةَ الِاسْتِئْجَارِ لِحَمْلِ الْخَمْرِ فِي كِتَابِ "الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ" بَيَّنْتُ أَنَّ الصَّوَابَ مَنْصُوصُ أَحْمَد: أَنَّهُ يُقْضَى لَهُ بِالْأُجْرَةِ وَأَنَّهَا لَا تَطِيبُ لَهُ؛ إمَّا كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ أَو تَحْرِيمٍ.

لَكِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا كَانَ جِنْسُهُ مُبَاحًا كَالْحَمْلِ

(1)

، بِخِلَافِ الزِّنَا

(2)

.

(1)

أي: حامل الخمر لمن يشربها.

(2)

قال في اقتضاء الصراط المستقيم (ص 45 - 46): لأن "النبي صلى الله عليه وسلم، لعن عاصر الخمر ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه". فالعاصر والحامل قد عاوضا على منفعة تستحق عوضًا، وهي ليست محرمة في نفسها، وإنما حرمت لقصد المعتصر والمستحمل، فهو كما لو باع عنبًا أو عصيرًا لمن يتخذه خمرًا، وفات العصير والخمر في يد المشتري، فإن مال البائع لا يذهب مجانًا، بل يُقضى له بعوضه.

كذلك هنا: المنفعة التي وفاها المؤجر لا تذهب مجانًا، بل يُعطى بدلها، فإن تحريم الانتفاع بها إنما كان من جهة المستأجر، لا من جهته.

ثم نحن نحرم الأجرة عليه لحق الله سبحانه، لا لحق المستأجر والمشتري، بخلاف من استؤجر للزنى أو التلوط، أو القتل أو الغصب، أو السرقة، فإن نفس هذا العمل محرم، لا لأجل قصد المشتري، فهو كما لو باعه ميتة أو خمرًا، فإنه لا يُقضى له بثمنها؛ لأن نفس هذه العين محرمة.

ومثل هذه الإجارة والجعالة لا تُوصف بالصحة مطلقًا، ولا بالفساد مطلقًا، بل يقال: هي صحيحة بالنسبة إلى المستأجر، بمعنى: أنه يجب عليه مال الجُعل والأجرة، وهي فاسدة بالنسبة إلى الأجير، بمعنى أنه يحرم عليه الانتفاع بالأجرة والجعل، ولهذا في الشريعة نظائر.

وعلى هذا؛ فنص أحمد على كراهة نظارة كرم النصراني لا ينافي هذا، فإنا ننهاه عن هذا الفعل وعن ثمنه، ثم نقضي له بكرائه، ولو لم نفعل هذا لكان في هذا منفعةٌ عظيمة للعصاة، فإنَّ كل من استأجروه على عمل يستعينون به على المعصية قد حصلوا غرضهم منه، ثم لا يعطونه شيئًا، وما هم بأهل أن يُعاونوا على ذلك. بخلاف من سلم إليهم عملًا لا قيمة له بحال.

نعم؛ البغيّ والمغني والنائحة ونحوهم، إذا أُعطوا أجورهم ثم تابوا: هل يتصدقون بها، أو يجب أن يردوها على من أعطاهموها؟ فيها قولان - أصحهما: أنا لا نردها على الفساق =

ص: 160

وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَهْرَ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ، وَحُلْوَانَ الْكَاهِنِ خَبِيثٌ، وَالْحَاكِمُ يَقْضِي بِعُقُوبَةِ الْمُسْتَأْجِرِ الْمُسْتَوْفِي لِلْمَنْفَعَةِ الْمُحَرَّمَةِ فَتَكُونُ عُقُوبَتُهُ لَهُ عِوَضًا عَن الْأَجْرِ.

فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ: فَهَل يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ ذَلِكَ وَإِن كَانَ لَا يَحِلُّ الْأَخْذُ لِحَقِّ اللهِ؟ فَهَذَا مُتَقَوِّمٌ.

وَإِن لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ذَلِكَ كَانَ فِي ذَلِكَ دَركٌ لِحَاجَتِهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الْمُحَرَّمَ وَيُعْذَرُ، وَلَا يُعَاقِبُهُ فِي الْآخِرَةِ إلَّا عَلَى فِعْلِ الْمُحَرَّمِ لَا عَلَى الْغَدْرِ وَالظُّلْمِ.

وَهَذَا الْبَحْثُ يَتَّصِلُ بِالْبَحْثِ فِي أَحْكامِ سَائِر الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ وقُبُوضِهَا. [30/ 209 - 210]

3602 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلٍ مُرَابٍ خَلَّفَ مَالًا وَوَلَدًا، وَهُوَ يَعْلَمُ بِحَالِهِ، فَهَل يَكُونُ الْمَالُ حَلَالًا لِلْوَلَدِ بِالْمِيرَاثِ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ: أَمَّا الْقَدْرُ الَّذِي يَعْلَمُ الْوَلَدُ أَنَّهُ رِبًا فَيُخْرِجُهُ: إمَّا أَنْ يَرُدَّهُ إلَى أَصْحَابِهِ إنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا تَصَدَّقَ بِهِ.

وَالْبَاقِي لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ.

لَكِنَّ الْقَدْرَ الْمُشْتَبَهَ يُسْتَحَبُّ لَهُ تَرْكُهُ إذَا لَمْ يَجِبْ صَرْفُهُ فِي قَضَاءِ دَيْنٍ أَو نَفَقَةِ عِيَالٍ.

وَإِن كَانَ الْأَبُ قَبَضَهُ بِالْمُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ الَّتِي يُرَخِّصُ فِيهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: جَازَ لِلْوَارِثِ الِانْتِفَاعُ بِهِ.

وَإن اخْتَلَطَ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ وَجَهِلَ قَدْرَ كُلِّ مِنْهُمَا: جَعَلَ ذَلِكَ نِصْفَيْنِ. [29/ 307]

3603 -

الْقَبْضُ الَّذِي لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ: هُوَ الظُّلْمُ الْمَحْضُ، فَأَمَّا الْمَقْبُوضُ

= الذين بذلوها في المنفعة المحرمة، ولا يباح الأخذ، بل يُتَصَدَّق بها، وتُصْرَف في مصالح المسلمين، كما نص عليه أحمدُ في أجرة حمال الخمر.

ص: 161

بِعَقْدٍ فَاسِدٍ كَالرِّبَا وَالْمَيْسِرِ وَنَحْوِهِمَا: فَهَل يُفِيدُ الْمِلْكَ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ لِلْفُقَهَاءِ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُفِيدُ الْمِلْكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَالثَّانِي: لَا يُفِيدُهُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَعْرُوفِ مِن مَذْهَبِهِ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إنْ فَاتَ أَفَادَ الْمِلْكَ، وَإِن أَمْكَنَ رَدُّهُ إلَى مَالِكهِ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ فِي وَصْفٍ وَلَا سِعْرٍ لَمْ يُفِد الْمِلْكَ، وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَن مَذْهَبِ مَالِكٍ

(1)

. [29/ 327 - 328]

3604 -

قال ابن القيم رحمه الله: فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ فِي كَسْبِ الزَّانِيَةِ إِذَا قَبَضَتْهُ، ثُمَّ تَابَتْ هَل يَجِبُ عَلَيْهَا رَدُّ مَا قَبَضَتْهُ إِلَى أَرْبَابِهِ، أَمْ يَطِيبُ لَهَا، أَمْ تَصَّدَّقُ بِهِ؟

[قِيلَ: هَذَا يَنْبَنِي عَلَى قَاعِدَةٍ عَظِيمَةٍ مِن قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ أَنَّ مَن قَبَضَ مَا لَيْسَ لَهُ قَبْضُهُ شَرْعًا، ثُمَّ أَرَادَ التَّخَلُّصَ مِنْهُ:

- فَإِنْ كَانَ الْمَقْبُوضُ قَد أُخِذَ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ، وَلَا اسْتَوْفَى عِوَضَهُ: رَدَّهُ عَلَيْهِ.

فَإِنْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ عَلَيْهِ: قَضَى بِهِ دَيْنًا يَعْلَمُهُ عَلَيْهِ.

فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ: رَدَّهُ إِلَى وَرَثَتِهِ.

فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ: تَصَدَّقَ بِهِ عَنْهُ.

فَإِنِ اخْتَارَ صَاحِبُ الْحَقِّ ثَوَابَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: كَانَ لَهُ.

وَإِن أَبَى إِلَّا أَنْ يَأْخُذَ مِن حَسَنَاتِ الْقَابِضِ: اسْتَوْفَى مِنْهُ نَظِيرَ مَالِهِ، وَكَانَ ثَوَابُ الصَّدَقَةِ لِلْمُتَصَدِّقِ بِهَا، كَمَا ثَبَتَ عَنِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم.

(1)

فمن تاب من الربا والميسر بناءً على مذهب أبي حنيفة ومالك رحمهما الله تعالى فإنّ ما بيده من الأموال لا يجب عليه التخلص منها، فهي ملكٌ له، وحلال عليه، ولكن العقود المحرمة الحالية يجب عليه أن يكف عنها، ولا يأخذ ولا يدفع ما لا يحل له.

ص: 162

- وَإِن كَانَ الْمَقْبُوضُ بِرِضَا الدَّافِعِ وَقَدِ اسْتَوْفَى عِوَضَهُ الْمُحَرَّمَ؛ كَمَن عَاوَضَ عَلَى خَمْرٍ أَو خِنْزِيرٍ، أَو عَلَى زِنًى أَو فَاحِشَةٍ: فَهَذَا لَا يَجِبُ رَدُّ الْعِوَضِ عَلَى الدَّافِعِ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَة بِاخْتِيَارِهِ، وَاسْتَوْفَى عِوَضَهُ الْمحَرَّمَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ لَهُ بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ إِعَانَةً لَهُ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَتَيْسِيرَ أَصْحَابِ الْمَعَاصِي عَلَيْهِ.

وَمَاذَا يُرِيدُ الزَّانِي وَفَاعِلُ الْفَاحِشَةِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَنَالُ غَرَضَهُ وَيسْتَرِدُّ مَالَهُ؟ فَهَذَا مِمَّا تُصَانُ الشَّرِيعَةُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِهِ، وَلَا يَسُوغُ الْقَوْلُ بِهِ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الْجَمْعَ بَيْنَ الظُّلْمِ وَالْفَاحِشَةِ وَالْغَدْرِ.

وَمِن أَقْبَحِ الْقَبِيحِ أنْ يَسْتَوْفِيَ عِوَضَهُ مِنَ الْمَزْنِيِّ بِهَا، ثُمَّ يَرْجِع فِيمَا أَعْطَاهَا قَهْرًا، وَقُبْحُ هَذَا مُسْتَقِرٌّ فِي فِطَرِ جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ، فَلَا تَأْتِي بِهِ شَرِيعَةٌ.

وَلَكِنْ لَا يَطِيبُ لِلْقَابِضِ أَكْلُهُ؛ بَل هُوَ خَبِيث كَمَا حَكَمَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنَّ خُبْثَهُ لِخُبْثِ مَكْسَبِهِ، لَا لِظُلْمِ مَن أُخِذَ مِنْهُ، فَطَرِيقُ التَّخَلُّصِ مِنْهُ، وَتَمَامُ التَّوْبَةِ: بِالصَّدَقَةِ بِهِ، فَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ قَدْرَ حَاجَتِهِ، وَيتَصَدَّقَ بِالْبَاقِي، فَهَذَا حُكْمُ كُلِّ كَسْبٍ خَبِيثٍ لِخُبْثِ عِوَضِهِ عَيْنًا كَانَ أَو مَنْفَعَةً.

وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْحُكْمِ بِخُبْثِهِ: وُجُوبُ رَدِّهِ عَلَى الدَّافِعِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَكَمَ بِخُبْثِ كَسْبِ الْحَجَّامِ، وَلَا يَجِبُ رَدُّهُ عَلَى دَافِعِهِ]

(1)

.

وَقَد تَوَقَّفَ شَيْخُنَا فِي وُجُوبِ رَدِّ عِوَضِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَى بَاذِلِهِ، أوِ الصَّدَقَةِ بِهِ فِي كِتَابِ "اقْتِضَاءِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ لِمُخَالَفَةِ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ"، وَقَالَ: الزَّانِي وَمُسْتَمِعُ الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ قَد بَذَلُوا هَذَا الْمَالَ عَن طِيبِ نَفُوسِهِمْ، فَاسْتَوْفَوُا الْعِوَضَ الْمُحَرَّمَ، وَالتَّحْرِيمُ الَّذِي فِيهِ لَيْسَ لِحَقِّهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ لِحَقِّ اللهِ تَعَالَى، وَقَد فَاتَتْ هَذِهِ الْمَنْفَعَةُ بِالْقَبْضِ، وَالْأُصُولُ تَقْتَضِي أَنَّهُ إِذَا رَدَّ أَحَدَ الْعِوَضَيْنِ رَدَّ الْآخَرَ، فَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَى الْمُستَأْجِرِ رَدُّ الْمَنْفَعَةِ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الْمَالَ،

(1)

ما بين المعقوفتين من زاد المعاد؛ تتميمًا للفائدة.

ص: 163

وَهَذَا الَّذِي اسْتُوْفِيَتْ مَنْفَعَتُهُ عَلَيْهِ ضَرَرٌ فِي أَخْذِ مَنْفَعَتِهِ، وَأَخْذِ عِوَضِهَا جَمِيعًا مِنْهُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الْعِوَضُ خَمْرًا أَو مَيْتَةً، فَإِنَّ تِلْكَ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي فَوَاتِهَا، فَإِنَّهَا لَو كَانَت بَاقِيَةً لَأَتْلَفْنَاهَا عَلَيْهِ، وَمَنْفَعَةُ الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ لَو لَمْ تَفُتْ، لَتَوَفَرَتْ عَلَيْهِ بحَيْثُ كَانَ يَتَمَكَّنُ مِن صَرْفِ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ فِي أَمْرٍ آخَرَ، أَعْنِي مَن صَرَفَ الْقُوَّةَ الًّتِي عَمِلَ بِهَا.

ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى نَفْسِهِ سُؤَالًا، فَقَالَ: فَيُقَالُ عَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ تَقْضُوا بِهَا إِذَا طَالَبَ بِقَبْضِهَا.

وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: قِيلَ: نَحْنُ لَا نَأْمُرُ بِدَفْعِهَا وَلَا بِرَدِّهَا كَعُقُودِ الْكُفَّارِ الْمُحَرَّمَةِ، فَإِنَّهُم إِذَا أَسْلَمُوا قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يُحْكَمْ بِالْقَبْضِ، وَلَو أَسْلَمُوا بَعْدَ الْقَبْضِ لَمْ يُحْكَمْ بِالرَّدِّ، وَلَكِنَّ الْمُسْلِمَ تَحْرُمُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأُجْرَةُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُعْتَقِدًا لِتَحْرِيمِهَا بِخِلَافِ الْكَافِرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا طَلَبَ الْأُجْرَةَ، فَقُلْنَا لَهُ: أَنْتَ فَرَّطْتَ حَيْثُ صَرَفْتَ قُوَّتَكَ فِي عَمَلٍ يَحْرُمُ، فَلَا يُقْضَى لَكَ بِالْأُجْرَةِ. فَإِذَا قَبَضَهَا، وَقَالَ الدَّافِعُ هَذَا الْمَالَ: اقْضُوا لِي بِرَدِّهِ، فَإِنِّي أَقَبَضْتُهُ إِيَّاهُ عِوَضًا عَن مَنْفَعَةٍ مُحَرَّمَةٍ، قُلْنَا لَهُ: دَفَعْتَهُ مُعَاوَضةً رَضِيتَ بِهَا، فَإِذَا طَلَبْتَ اسْتِرْجَاعَ مَا أخَذَ، فَارْدُدْ إِلَيْهِ مَا أَخَذْتَ إِذَا كَانَ لَهُ فِي بَقَائِهِ مَعَهُ مَنْفَعَةٌ، فَهَذَا مُحْتَمَلٌ. قَالَ: وَإِن كَانَ ظَاهِرُ الْقِيَاسِ رَدُّهَا، لِأَنَّهَا مَقْبُوضَةٌ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، انْتَهَى.

إلى أن قال ابن القيم رحمه الله: فَأَمَّا إِذَا اسْتَأْجَرَهُ لِحَمْلِهَا لِيُرِيقَهَا، أَو لِيَنْقُلَ الْمَيْتَةَ إِلَى الصَّحْرَاءِ لِئَلَّا يَتَأَذَّى بِهَا، فَإِنَّ الْإِجَارَةَ تَجُوزُ حِينَئذٍ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ مُبَاحٌ، لَكِنْ إِنْ كَانَتِ الْأُجْرَةُ جِلْدَ الْمَيْتَةِ لَمْ تَصِحَّ، وَاسْتَحَقَّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ، وَإِن كَانَ قَد سَلَخَ الْجِلْدَ وَأَخَذَهُ، رَدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ، هَذَا قَوْلُ شَيْخِنَا.

وَقَد نَصَّ أحمد فِي رِوَايَةِ أبي النضر، فِيمَن حَمَلَ خَمْرًا، أَو خِنْزِيرًا، أَو مَيْتَةً لِنَصْرَانِيٍّ: أَكْرَهُ أَكْلَ كِرَائِهِ، وَلَكِنْ يُقْضَى لِلْحَمَّالِ بِالْكِرَاءِ.

وَإِذَا كَانَ لِمُسْلِمٍ، فَهُوَ أَشَدُّ كَرَاهَةً.

ص: 164

فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي هَذَا النَّصِّ عَلَى ثَلَاثِ طُرُقٍ.

إِحْدَاهَا: إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَنَّ الْمَسْأَلَةَ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ.

قَالَ ابن أبي موسى: وَكَرِهَ أحمد أَنْ يُؤَجِّرَ الْمُسْلِمُ نَفْسَهُ لِحَمْلِ مَيْتَةٍ أَو خِنْزِيرٍ لِنَصْرَانِيٍّ.

فَإِنْ فَعَلَ: قُضِيَ لَهُ بِالْكِرَاءِ، وَهَل يَطِيبُ لَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَوْجَهُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَطِيبُ لَهُ، وَيتَصَدَّقُ بِهِ.

إلى أن قال: قَالَ شَيْخُنَا: وَالْأَشْبَهُ طَرِيقَةُ ابن موسى - يَعْنِي: أَنَّهُ يُقْضَى لَهُ بِالْأُجْرَةِ وَإِن كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ مُحَرَّمَةً - وَلَكِنْ لَا يَطِيبُ لَهُ أَكْلُهَا.

قَالَ: فَإِنَّهَا أَقْرَبُ إِلَى مَقْصُودِ أحمد، وَأَقْرَبُ إِلَى الْقِيَاسِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ عَاصِرَ الْخَمْرِ، وَمُعْتَصِرَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ. فَالْعَاصِرُ وَالْحَامِلُ قَد عَاوَضَا عَلَى مَنْفَعَةٍ تَسْتَحِقُّ عِوَضًا، وَهِيَ لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً فِي نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا حُرِّمَتْ بِقَصْدِ الْمُعْتَصِرِ وَالْمُسْتَحْمِلِ، فَهُوَ كَمَا لَو بَاعَ عِنَبًا وَعَصِيرًا لِمَن يَتَّخِذُهُ خَمْرًا، وَفَاتَ الْعَصِيرُ وَالْخَمْرُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّ مَالَ الْبَائِعِ لَا يَذْهَبُ مَجَّانًا؛ بَل يُقْضَى لَهُ بِعِوَضِهِ. كَذَلِكَ هُنَا الْمَنْفَعَةُ الَّتِي وَفَّاهَا الْمُؤَجِّرُ، لَا تَذْهَبُ مَجَّانًا؛ بَل يُعْطَى بَدَلَهَا، فَإِنَّ تَحْرِيمَ الِانْتِفَاعِ بِهَا إِنَّمَا كَانَ مِن جِهَةِ الْمُسْتَأْجِرِ، لَا مِن جِهَةِ الْمُؤَجِّرِ، فَإِنَّهُ لَو حَمَلَهَا لِلْإرَاقَةِ، أَو لِإِخْرَاجِهَا إِلَى الصَّحْرَاءِ خَشْيَةَ التَّاذِّي بِهَا، جَازَ. ثُمَّ نَحْنُ نُحَرِّمُ الْأُجْرَةَ عَلَيْهِ لِحَقِّ اللهِ سُبْحَانَهُ لَا لِحَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُشْتَرِي، بِخِلَافِ مَنِ اسْتُؤْجِرَ لِلزِّنَا أَوِ التَّلَوُّطِ أَوِ الْقَتْلِ أَوِ السَّرِقَةِ، فَإِنَّ نَفْسَ هَذَا الْعَمَلِ مُحَرَّمٌ لِأَجْلِ قَصْدِ الْمُسْتَأْجِرِ، فَهُوَ كَمَا لَو بَاعَ مَيْتَةً أَو خَمْرًا، فَإِنَّه لَا يُقْضَى لَهُ بِثَمَنِهَا؛ لِأَنَّ نَفْسَ هَذِهِ الْعَيْنِ مُحَرَّمَةٌ، وَكَذَلِكَ لَا يُقْضَى لَهُ بِعِوَضِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ الْمُحَرَّمَةِ.

قَالَ شَيْخُنَا: وَمِثْل هَذِهِ الْإِجَارَةِ، وَالْجَعَالَةِ؛ يَعْنِي: الْإِجَارَةَ عَلَى حَمْلِ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ، لَا تُوصَفُ بِالصِّحَّةِ مُطْلَقًا، وَلَا بِالْفَسَادِ مُطْلَقًا؛ بَل يُقَالُ: هِيَ

ص: 165

صَحِيحَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ، بِمَعْنَى: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعِوَضُ، وَفَاسِدَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَجِيرِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الِانْتِفَاعُ بِالْأَجْرِ، وَلهَذَا فِي الشَّرِيعَةِ نَظَائِرُ. قَالَ: وَلَا يُنَافِي هَذَا نَصَّ أحمد عَلَى كَرَاهَةِ نِطَارَةِ كَرْمِ النَّصْرَانِيِّ، فَإِنَّا نَنْهَاهُ عَن هَذَا الْفِعْلِ وَعَن عِوَضِهِ، ثُمَّ نَقْضِي لَهُ بِكِرَائِهِ، قَالَ: وَلَو لَمْ يَفْعَلْ هَذَا، لَكَانَ فِي هَذَا مَنْفَعَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْعُصَاةِ، فَإِنَّ كُلَّ مَنِ اسْتَأجَرُوهُ عَلَى عَمَلٍ يَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ قَد حَصَّلُوا غَرَضَهُم مِنْهُ، فَإِذَا لَمْ يُعْطُوهُ شَيْئًا، وَوَجَبَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِم مَا أَخَذَ مِنْهُمْ، كَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ الْعَوْنِ لَهُمْ، وَلَيْسُوا بِأَهْلٍ أَنْ يُعَاوِنُوا عَلَى ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَن سَلَّمَ إلَيْهِم عَمَلًا لَا قِيمَةَ لَهُ بِحَالٍ؛ يَعْنِي: كَالزَّانِيَةِ، وَالْمُغَنِّي، وَالنَّائِحَةِ، فَإِن هَؤُلَاءِ لَا يُقْضَى لَهُم بِأُجْرَةِ، وَلَو قَبَضُوا مِنْهُمُ الْمَالَ، فَهَل يَلْزَمُهُم رَدُّهُ عَلَيْهِمْ، أَمْ يَتَصَدَّقُونَ بِهِ؟ فَقَد تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مُسْتَوْفًى فِي ذَلِكَ، وَبَيَّنَّا أنَّ الصَّوَابَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُم رَدُّهُ، وَلَا يَطِيبُ لَهُم أَكْلُهُ. [المستدرك 4/ 46 - 49]

3605 -

إِنَّ الْمُحَرَّمَاتِ قِسْمَانِ:

أ - مُحَرَّمٌ لِعَيْنِهِ كَالنَّجَاسَاتِ مِن الدَّمِ وَالْمَيْتَةِ.

ب - وَمُحَرَّمٌ لِحَقِّ الْغَيْرِ وَهُوَ مَا جِنْسُهُ مُبَاحٌ مِن الْمَطَاعِمِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَرَاكِبِ وَالنُّقُودِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَتَحْرِيمُ هَذِهِ جَمِيعهَا يَعُودُ إلَى الظُّلْمِ، فَإِنَّهَا إِنَّمَا تَحْرُمُ لِسَبَبَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: قَبْضُهَا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسِ صَاحِبِهَا وَلَا إذْنِ الشَّارعِ، وَهَذَا هُوَ الظُّلْمُ الْمَحْضُ؛ كَالسَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ وَالْغَصْبِ الظَّاهِرِ.

وَهَذَا أَشْهَرُ الْأَنْوَاعِ بِالتَّحْرِيمِ.

وَالثَّانِي: قَبْضُهَا بِغَيْرِ إذْنِ الشَّارعِ وَإِن أَذِنَ صَاحِبُهَا، وَهِيَ الْعُقُودُ والقبوض الْمُحَرَّمَةُ كَالرِّبَا وَالْمَيْسِرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَالْوَاجِبُ عَلَى مَن حَصَلَتْ بِيَدِهِ رَدُّهَا إلَى مُسْتَحِقِّهَا، فَإِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَالْمَجْهُولُ كَالْمَعْدُومِ، وَقَد دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي اللُّقَطَةِ: "فَإِنْ

ص: 166

وَجَدْت صَاحِبَهَا فَارْدُدْهَا إلَيْهِ وَإِلَّا فَهِيَ مَالُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ"

(1)

.

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ اللُّقَطَةَ الَّتِي عُرِفَ أَنَّهَا مِلْكٌ لِمَعْصُومٍ، وَقَد خَرَجَتْ عَنْهُ بِلَا رِضَاهُ إذَا لَمْ يُوجَدْ: فَقَد آتاهَا اللهُ لِمَن سَلَّطَهُ عَلَيْهَا. بِالِالْتِقَاطِ الشَّرْعِيِّ.

وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ مَن مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ مَعْلُومٌ: فَمَالُهُ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي غَالِبِ الْخَلْقِ أَنْ يَكُونَ لَهُ عصبَةٌ بَعِيدٌ، لَكِنْ جُهِلَتْ عَيْنُهُ وَلَمْ تُرْجَ مَعْرِفَتُهُ، فَجُعِلَ كَالْمَعْدُومِ.

وَلَيْسَ لَهَا مَصْرِفٌ مُعَيَّنٌ، فَتُصْرَفُ فِي جَمِيعِ جِهَاتِ الْبِرِّ وَالْقُرَبِ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إلَى اللهِ؛ لِأنَّ اللهَ خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ، وَخَلَقَ لَهُم الْأَمْوَالَ لِيَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى عِبَادَتِهِ فَتُصْرَفُ فِي سَبِيلِ اللهِ. [28/ 593 - 597]

3606 -

مَن بَاعَ خَمْرًا لَمْ يَمْلِكْ ثَمَنَهُ، فَإِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي قَد أَخَذَ الْخَمْرَ فَشَرِبَهَا: لَمْ يُجْمَعْ لَهُ بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ، بَل يُؤْخَذُ هَذَا الْمَالُ فَيُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا قِيلَ فِي مَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ عِوَضٌ عَن عَيْنٍ أَو مَنْفَعَةٍ مُحَرَّمَةٍ إذَا كَانَ الْعَاصِي قَد اسْتَوْفَى الْعِوَضَ.

وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَو بَاع ذِمِّيٌّ لِذِمِّيّ خَمْرًا سِرًّا: فَإِنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِن ذَلِكَ، وَإِذَا تَقَابَضَا جَازَ أَنْ يُعَامِلَهُ الْمُسْلِمُ بِذَلِكَ الثَّمَنِ الَّذِي قَبَضَهُ مِن ثَمَنِ الْخَمْرِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه:"وَلُّوهُم بَيْعَهَا وَخُذوا مِنْهُم أَثْمَانَهَا". [28 - 667]

3607 -

إذا عاوض غيره معاوضة محرمة وقبض العوض كالزانية والمغني وبائع الخمر وشاهد الزور ونحوهم، ثم تاب والعوض بيده.

فقالت طائفة: يرده إلى مالكه؛ إذ هو عين ماله ولم يقبضه بإذن الشارع، ولا حصل لربه في مقابلته نفع مباح.

وقالت طائفة: بل توبته بالتصدق به، ولا يدفعه إلى من أخذه منه. وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. [المستدرك 1/ 148]

(1)

رواه أبو داود (1709)، وصحَّحه الألباني.

ص: 167

3608 -

الْمَالُ الْمَكْسُوبُ:

أ - إنْ كانت عَيْنٌ أَو مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ فِي نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا حَرُمَتْ بِالْقَصْدِ؛ مِثْل مَن يَبِيعُ عِنَبًا لِمَن يَتَّخِذُهُ خَمْرًا، أَو مَن يُسْتَأْجَرُ لِعَصْرِ الْخَمْرِ أَو حَمْلِهَا: فَهَذَا يَفْعَلُهُ بِالْعِوَضِ، لَكِنْ لَا يَطِيبُ لَهُ أَكْلُهُ.

ب - وَأَمَّا إنْ كَانَت الْعَيْنُ أَو الْمَنْفَعَةُ مُحَرَّمَةً؛ كَمَهْرِ الْبَغِيِّ وَثَمَنِ الْخَمْرِ: فَهُنَا لَا يُقْضَى لَهُ بِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ

(1)

، وَلَو أَعْطَاهُ إيَّاهُ لَمْ يُحْكَمْ بِرَدِّهِ؛ فَإِنَّ هَذَا مَعُونَةٌ لَهُم عَلَى الْمَعَاصِي، إذَا جَمَعَ لَهُم بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ.

وَلَا يَحِلُّ هَذَا الْمَالُ لِلْبَغِيِّ وَالْخَمَّارِ وَنَحْوِهِمَا، لَكِنْ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.

فَإِنْ تَابَتْ هَذِهِ الْبَغِيُّ وَهَذَا الْخَمَّارُ وَكَانُوا فُقَرَاءَ: جَازَ أَنْ يُصْرَفَ إلَيْهِم مِن هَذَا الْمَالِ مِقْدَارُ حَاجَتِهِمْ، فَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ يَتَّجِرُ أَو يَعْمَلُ صَنْعَةً كَالنَّسْجِ وَالْغَزْلِ أُعْطِيَ مَا يَكُونُ لَهُ رَأْسُ مَالٍ.

وَإِن اقْتَرَضُوا مِنْهُ شَيْئًا ليَكْتَسِبُوا بِهِ وَلَمْ يَرُدُّوا عِوَضَ الْقَرْضِ كَانَ أَحْسَنَ.

وَأَمَّا إذَا تَصَدَّقَ بِهِ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ: فَهَذَا يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَّا إنْ تَصَدَّقَ بِهِ كَمَا يَتَصَدَّقُ الْمَالِكُ بِمِلْكِهِ: فَهَذَا لَا يَقْبَلُهُ اللهُ - إنَّ اللهَ لَا يَقْبَلُ إلَّا الطَّيِّبَ - فَهَذَا خَبِيثٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ". [29/ 308 - 309]

3609 -

مَن اكْتَسَبَ مَالًا خَبِيثًا؛ مِثْلُ هَذَا الَّذِي يَأْمُرُ النَّاسَ بِالْبِدَعِ وَيَأُخُذُ عَلَى ذَلِكَ جُعْلًا: فَإِنَّة لَا يَمْلِكُهُ، فَإِذَا تَعَذَّرَ رَدُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ فَإِنَّ وُلَاةَ الْأُمُورِ يَأخذُونَهُ مِن هَذَا الَّذِي أَكَلَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَصَدَّ عَن سَبِيلِ اللهِ، وَيَصْرِفُونَهَا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي يُحِبُّهَا اللهُ وَرَسُولُهُ، فَيُؤْخَذُ الْمَالُ الَّذِي

(1)

أي: لا يملك المال ولا يُمَكَّن منه.

ص: 168

أُنْفِقَ فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ، فَيُنْفَقُ فِي طَاعَةِ الرَّحْمَنِ

(1)

. [27/ 110 - 111]

3610 -

إذَا لَمْ يَعْرِف؛ [أي: الظالم الغاصب أو السارق] الْمَظْلُومَ فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَنْهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، كَمَا لَو حَصَلَ بِيَدِهِ أَثْمَانٌ مِن غصوب وَعَوَارٍ وَوَدَائِعَ لَا يَعْرِفُ أَصْحَابَهَا فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهَا عَنْهُم؛ لِأَنَّ الْمَجْهُولَ كَالْمَعْدُومِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَالْمَعْجُوزُ عَنْهُ كَالْمَعْدُومِ؛ وَلهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي اللُّقَطَةِ:"فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَأَدِّهَا إلَيْهِ، وَإِلَّا فَهِيَ مَالُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ"

(2)

.

فجَعَلَهَا لِلْمُلْتَقِطِ

(3)

إذا تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ صَاحِبِهَا - وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي جَوَازِ صَدَقَتِهِ بِهَا، وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ تَمَلُّكِهِ لَهَا مَعَ الْغِنَى، وَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ - فَكَيْفَ بِمَا يَجْهَلُ فِيهِ ذَلِكَ؟

(4)

.

(1)

ويجوز لمن تاب من الكسب المحرم إن كان محتاجًا أنْ يأخذ من المال قدر حاجته، وله أن يستثمر شيئًا منه يجعله رأس مال في تجارة أو صناعة، ثم يتصدق بما زاد عن حاجته، كما تقدّم النقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

(2)

رواه الإمام أحمد (17481).

(3)

قال الشيخ في موضع آخر: فَهَذ اللُّقَطَةُ كَانَت مِلْكًا لِمَالِكٍ وَوَقَعَتْ مِنْهُ، فَلَمَّا تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ مَالِكِهَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"هِيَ مَالُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ"، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أنَّ اللهَ شَاءَ أَنْ يُزِيلَ عَنْهَا مِلْكَ ذَلِكَ الْمَالِكِ، وُيعْطِيَهَا لِهَذَا الْمُلْتَقِطِ الَّذِي عَرَّفَهَا سَنَةً.

وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْأئِمَّةِ أَنَّهُ بَعْدَ تَعْرِيفِ السَّنَةِ يَجُوزُ لِلْمُلْتَقِطِ أنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا، وَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا إنْ كَانَ فَقِيرًا.

وَهَل لَهُ التَّمَلُّكُ مَعَ الْغِنَى؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ، وَمَذْهَبُ الشافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يُجَوِّزُهُ. اهـ. (29/ 322)

وقال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: مَعْنَاهُ عِنْدَ الْجَمِيعِ؛ انْطِلَاقُ يَدِ الْمُلْتَقِطِ عَلَيْهَا بَعْدَ الْحَوْلِ بِمَا شَاءَ مِنَ الْأَكْلِ لَهَا وَاسْتِنْفَاقِهَا، أَوِ الصَّدَقَةِ بِهَا، وَلَكِنَّهُ يَضْمَنُهَا إِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.

وَمِمَن رُوِيَ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَ الْمُلْتَقِطَ مُخَيرٌ بَعْدَ الْحَوْلِ في أكلها أو الصدقة بها: عمر وابن عمر وابن مَسْعُودٍ وَعَائِشَةُ رضي الله عنهم. اهـ. الاستذكار (7/ 250).

(4)

العبارة في الأصل: فَإِذَا كَانَ فِي اللُّقَطَةِ التِي تَحْرُمُ بِأَنَّهَا سَقَطَتْ مِن مَالِكٍ لَمَّا تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ صَاحِبِهَا جَعَلَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْمُلْتَقِطِ.

وفيها من الغموض ما هو ظاهر، والمثبت من الفتاوى المصرية (334).

ص: 169

وَذَلِكَ لِأَنَّ اللهَ سبحانه وتعالى يَقُولُ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].

وَالْمَالُ الَّذِي لَا نَعْرِفُ مَالِكَهُ يَسْقُطُ عَنَّا وُجُوبُ رَدِّهِ إلَيْهِ، فَيُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَالصَّدَقَةُ مِن أَعْظَمِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.

وَهَذَا أَصْلٌ عَامٌ فِي كُلِّ مَالٍ جُهِلَ مَالِكُهُ بِحَيْثُ يَتَعَذَّرُ رَدُّهُ إلَيْهِ؛ كَالْمَغْصُوبِ وَالْعَوَارِي وَالْوَدَائِعِ تُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ.

وَإِذَا صُرِفَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَازَ لِلْفَقِيرِ أَخْذُهَا؛ لِأنَّ الْمُعْطِيَ هُنَا إنَّمَا يُعْطِيهَا نِيَابَةً عَن صَاحِبِهَا.

بِخِلَافِ مَن تَصَدَّقَ مِن غُلُولٍ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ، وَلَا صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ"

(1)

.

فَهَذَا الَّذِي يَحُوزُ الْمَالَ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ مَعَ إمْكَانِ رَدِّهِ إلَى صَاحِبِهِ، أَو يَتَصَدَّقُ صَدَقَةَ مُتَقَرِّبٍ كَمَا يَتَصَدَّقُ بِمَالِهِ: فَاللهُ لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ.

وَأَمَّا ذَاكَ فَإِنَّمَا يَتَصَدَّقُ بِهِ صَدَقَةَ مُتَحَرِّجٍ مُتَأَثِّمٍ، فَكَانَت صَدَقَتُهُ بِمَنْزِلَةِ أَدَاءِ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ إلَى أَصْحَابِهَا، وَبِمَنْزِلَةِ إعْطَاءِ الْمَالِ لِلْوَكِيلِ الْمُسْتَحِقِّ، لَيْسَ هُوَ مِن الصَّدَقَةِ الدَّاخِلَةِ فِي قَوْلِهِ:"ولا صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ". [29/ 262 - 263، 30/ 413]

* * *

‌(شرح ومعنى حديث: "ابْتَاعِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُم الْوَلَاءَ فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَن أَعْتَقَ

")

3611 -

فَصْلٌ: فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِعَائِشَةَ: "ابْتَاعِيهَا وَاشْتَرِطي لَهُم الْوَلَاءَ فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَن أَعْتَقَ"

(2)

: فَإِنَّ هَذَا أَشْكَلَ عَلَى كثِيرٍ مِن النَّاسِ.

(1)

رواه مسلم (224).

(2)

رواه البخاري (2168)، ومسلم (1504).

ص: 170

فَأَشْكَلَ عَلَيْهِم مِن جِهَتَيْنِ: مِن جِهَةِ أَنَّ الرَّسُولَ كَيْفَ يَأْمُرُ بِالشَّرْطِ الْبَاطِلِ؟

وَالثَّانِي: مِن جِهَةِ أَنَّ الشَرْطَ الْبَاطِلَ كَيْفَ لَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ.

وَقَد أَجَابَ طَائِفَةٌ بِجَوَابٍ ثَالِثٍ ذَكَرَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ، وَهُوَ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا قَد عَلِمُوا أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَأَقْدَمُوا عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ نَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ وُجُودُ اشْتِرَاطِهِمْ كَعَدَمِهِ، وَبَيَّنَ لِعَائِشَةَ أَنَّ اشْتِرَاطَك لَهُم الْوَلَاءَ لَا يَضُرُّك، فَلَيْسَ هُوَ أَمْرًا بِالشَّرْطِ، لَكِنْ إذْنًا لِلْمُشْتَرِي فِي اشْتِرَاطِهِ إذَا أَبَى الْبَائِعُ أَنْ يَبِيعَ إلَّا بِهِ، وَإِخْبَارًا لِلْمُشْتَرِي أَنَّ هَذَا لَا يَضُرُّهُ، وَيجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَدْخُلَ فِي مِثْل ذَلِكَ.

فَهُوَ إذْنٌ فِي الشِّرَاءِ مَعَ اشْتِرَاطِ الْبَائِعِ ذَلِكَ، وَإِذْنٌ فِي الدُّخُولِ مَعَهُم فِي اشْتِرَاطِهِ لِعَدَمِ الضَّرَرِ فِي ذَلِكَ، وَنَفْسُ الْحَدِيثِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مِثْل هَذَا الشَّرْطِ الْفَاسِدِ لَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد فِي أظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.

وَإِنَّمَا اسْتَشْكَلَ الْحَدِيثَ مَن ظَنَّ أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ يُفْسِدُ الْعَقْدَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لَكِنْ إنْ كَانَ الْمُشْتَرِطُ يَعْلَمُ أَنَّهُ شَرْطٌ مُحَرَّمٌ لَا يَحِل اشْتِرَاطُهُ فَوُجُودُ اشْتِرَاطِهِ كَعَدَمِهِ؛ مِثْل هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، فَيَصِحُّ اشْتِرَاءُ الْمُشْتَرِي وَيمْلِكُ الْمُشْتَرِي، وَيلْغُو هَذَا الشَّرْط الَّذِي قَد عَلِمَ الْبَائِعُ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ لَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهِ.

وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُشْتَرِطُ لِمِثْل هَذَا الشَّرْطِ الْبَاطِلِ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ ظَانًّا أَنَّهُ شَرْطٌ لَازِمٌ: فَهَذَا لَا يَكُونُ الْبَيْعُ فِي حَقِّهِ لَازِمًا وَلَا يَكُونُ أَيْضًا بَاطِلًا، وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد؛ بَل لَهُ الْفَسْخُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ بِهَذَا الشَّرْطِ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ فَمُلكهُ لَهُ إنْ شَاءَ، وَإِن شَاءَ أَنْ يُنْفِذَ الْبَيْعَ أَنْفَذَهُ، كَمَا لَو ظَهَرَ بِالْمَبِيعِ عَيْبٌ.

ص: 171

وَقَد قِيلَ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد: إنَّ لَهُ

(1)

أَرْشَ مَا نَقَصَ مِن الثَّمَنِ بِإِلْغَاءِ هَذَا الشَّرْطِ، كَمَا قِيلَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمَعِيبِ، وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.

وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى: لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا الْفَسْخَ، وَإِنَّمَا لَهُ الْأَرْشُ بِالتَّرَاضِي أَو عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ؛ كَقَوْلِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَهَذَا أَصَحُّ؛ فَإِنَّهُ كَمَا أَنَّ الْمُشْتَرِطَ لَمْ يَرْضَ إلَّا بِالشَّرْطِ فَلَا يَلْزَمُ الْبَيْعُ بِدُونِهِ بَل لَهُ الْخِيَارُ، فَكَذَلِكَ الْآخَرُ لَمْ يَرْضَ إلَّا بِالثَّمَنِ الْمُسَمَّى وَإِن كَانَ رَضِيَ بِهِ مَعَ الشَّرْطِ، فَإِذَا أَلْغَى الشَّرْطَ وَصَارَ الْوَلَاءُ لَهُ فَهُوَ لَمْ يَرْضَ بِأَكْثَرَ مِن الثَّمَنِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ؛ بَل إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ فَلَا يُلْزَمُ بِالزِّيَادَةِ؛ بَل إذَا أَعْطَى الثَّمَنَ فَإِنْ شَاءَ الْآخَرُ قَبِلَ وَأَمْضَى، وَاِن شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ، وَإِن تَرَاضَيَا بِالْأَرْشِ جَازَ، لَكِنْ لَا يُلْزَمُ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَّا بِرِضَاهُ، فَإِنَّهُ مُعَاوَضَةٌ عَن الْجُزْءِ الْفَائِتِ.

وَهَكَذَا يُقَالُ فِي نَظَائِرِ هَذَا؛ مِثْل الصَّفْقَةِ إذَا تَفَرَّقَتْ. [29/ 337 - 341]

3612 -

الشَّرْطُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى الْعَقْدِ: هَل هُوَ كَالْمُقَارِنِ لَهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَالْمُقَارِنِ. [29/ 353]

3613 -

"ابتاعيها واشترطي لهم الولاء؛ فإنما الولاء لمن أعتق"

(2)

.

قال ابن القيم رحمه الله بعد أن ذكر أقوال الطوائف في هذا الحديث وهي خمسة: قال شيخنا: بل الحديث على ظاهره، ولم يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم باشتراط الولاء تصحيحًا لهذا الشرط ولا إباحة له، ولكن عقوبة لمشترطه؛ إذ أبى أن يبيع جارية للمعتق إلا باشتراط ما يخالف حكم الله تعالى وشرعه، فأمرها أن تدخل تحت شرطهم الباطل ليظهر به حكم الله ورسوله؛ لأن الشروط الباطلة لا تغير شرعه، وأن من شرط ما يخالف دينه لم يجز أن يوفى له بشرطه، ولا

(1)

أي: المشتري.

(2)

رواه البخاري (456)، ومسلم (1504).

ص: 172

يبطل البيع به، وأن من عرف فساد الشرط وشرطه ألغي اشتراطه ولم يعتبر. [المستدرك 1/ 203]

* * *

(وجوب الوفاء بالعقود، وبيان أن كفارة الأيمان من خصائص هذه الأمة)

3614 -

لَو عَاقَدَ الرَّجُل غَيْرَهُ عَلَى بَيْعٍ أَو إجَارَةٍ أَو نِكَاحٍ: لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَغْدِرَ بِهِ، وَلَوَجَبَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهَذَا الْعَقْدِ، فَكَيْفَ بِمُعَاقَدَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ عَلَى مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِن طَاعَتِهِمْ وَمُنَاصَحَتِهِمْ وَالِامْتِنَاعِ مِن الْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ؟!

فَكُلُّ عَقْدٍ وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ بِدُونِ الْيَمِينِ إذَا حَلَفَ عَلَيْهِ كَانَت الْيَمِينُ مُؤَكِّدَةً لَهُ، وَلَمْ

(1)

يَجُزْ فَسْخُ مِثْل هَذَا الْعَقْدِ؛ بَل قَد ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ

(2)

عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "أَرْبَعٌ مَن كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَن كَانَت فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَت فِيهِ خَصْلَةٌ مِن النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَاِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ".

وَمَا كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ الْيَمِينِ إذَا حَلَفَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ: لَمْ يَصِرْ حَرَامًا؛ بَل لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ وَيُكَفِّرَ عَن يَمِينِهِ

(3)

.

وَمَا لَمْ يَكُن وَاجِبًا فِعْلُهُ إذَا حَلَفَ عَلَيْهِ: لَمْ يَصِرْ وَاجِبًا عَلَيْهِ؛ بَل لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ يَمِينَهُ، وَلَا يَفْعَلُهُ وَلَو غَلَّظَ فِي الْيَمِينِ بِأَيِّ شَيْءٍ غَلَّظَهَا

(4)

.

فَأَيْمَانُ الْحَالِفِينَ لَا تُغَيِّرُ شَرَائِعَ الدِّينِ، وَلَيْسَ لِأَحَد أَنْ يُحَرِّمَ بِيَمِينِهِ مَا أَحَلَّهُ اللهُ، وَلَا يُوجِبَ بِيَمِينِهِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللهُ.

(1)

في الأصل: (وَلَو لم)، ولعل المثبت هو الصواب؛ ليستقيم المعنى.

(2)

البخاري (34)، ومسلم (58).

(3)

مثاله: والله لا أسافر اليوم.

(4)

مثاله: والله لأسافرنّ اليوم.

ما لم يكن في ذلك وعدٌ، فيجب أنْ يبرّ بيمينه وفَاءً بالوعد.

ص: 173

هَذَا هُوَ شَرْعُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

وَأَمَّا شَرْعُ مَن قَبْلَهُ: فَكَانَ فِي شَرْعِ بَنِي إسْرَائيلَ إذَا حَرَّمَ الرَّجُلُ شَيْئًا حَرُمَ عَلَيْهِ، وَإِذَا حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ شَيْئًا وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُن فِي شَرْعِهِمْ كَفَّارَةٌ، فَقَالَ تَعَالَى:{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} [آل عمران: 93] فَإِسْرَائِيلُ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا فَحُرِّمَ عَلَيْهِ.

وَلهَذَا لَمَّا لَمْ يَكُن فِي شَرْعِ مَن قَبْلَنَا كَفَّارَةٌ؛ بَل كَانَت الْيَمِينُ تُوجِبُ عَلَيْهِم فِعْلَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ: أَمَرَ اللهُ أَيوبَ أَنْ يَأْخُذَ بِيَدِهِ ضِغْثًا فَيَضْرِبُ بِهِ وَلَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُن فِي شَرْعِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. [33/ 146 - 147]

* * *

(باب الرِّبَا وَالصَرف)

3615 -

من باع ربويًا بنسيئة حرم أخذه عن ثمن ما لا يباع به نسيئة

(1)

، ما

(1)

مثال ذلك: باع مائة صاع بُرّ بمائتي ريال مؤجلة إلى سنة، فحين حل الأجل جاء البائع إلى المشتري، وقال له: أعطني الدراهم، قال: ليس عندي إلا تمر، والتمر لا يُباع بالبر نسيئة؛ أي: بدون تقابض؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلًا بمثل سواء بسواء يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد".

والحكمة من المنع: لئلا يُتخذ حيلة على بيع البر بالتمر مع عدم التقابض، فيقول مثلًا: بعتك برًّا بمائتي ريال إلى أجل ثم يقضيه تمرًا، فيتحيل على بيع البر بالتمر مع تأخر قبض الثمن، والحيل ممنوعة شرعًا.

وشيخ الإسلام توسط بين من حرم ذلك، وهو مذهب الحنابلة وغيرهم، وبين من أجازه مطلقًا، وهو الموفق ابن قدامة؛ لأن الحيلة هنا بعيدة، كيف يبيع برًّا بتمر بعد سنة؟ فهذا بعيد وما كان بعيدًا فلا عبرة به.

ومثال الحاجة في هذه الصورة: باع رجل على آخر تمرًا بألف ريال إلى سنة، ولما حلّ الأجل، وجاء البائع للمشتري لأخذ الدراهم فقال المشتري: أنا مزارعٌ، ولا أملك الآن نقودًا، ولكن عندي شعيرٌ، فقال: أنا آخذ الشعير بدل الألف ريال.

قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله: وهذا عندي أنه أحسن الأقوال، دفعًا للشبهة، ولئلا ينفتح الباب لغيرنا، فنحن قد لا نفعل هذا حيلة، لكن غيرنا قد يتحيل.

قال: بقي علينا شرط لا بد منه على القول بالجواز، وهو ألا يربح المستوفي، ونأخذ هذا =

ص: 174

لم تكن حاجة، وهو توسط بين الإمام أحمد في تحريمه، والشيخ أبي مقدس في حله. [المستدرك 4/ 8 - 9]

3616 -

مَن بَاعَ مَالًا رِبَوِيًّا كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَغَيْرِهِمَا إلَى أَجَلٍ: لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْتَاضَ عَن ثَمَنِهِ بِحِنْطَةٍ أَو شَعِيرٍ أَو غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُبَاعُ بِهِ نَسِيئَةً؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ لَمْ يُقْبَضْ، فَكَأَنَّه قَد بَاعَ حِنْطَةً أَو شَعِيرًا بِحِنْطَةٍ أَو شَعِيرٍ إلَى أَجَلٍ مُتَفَاضِلًا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ

(1)

.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: هَذَا يَجُوزُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي مِن أَصْحَابِ أَحْمَد؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا يَسْتَحِق الثَّمَنَ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي وَبِهِ اشْتَرَى، فَأَشْبَهَ مَا لَو قَبَضَهُ ثُمَّ اشْتَرَى مِن غَيْرِهِ.

وَأَمَّا إنْ بَاعَ مَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي مِن حِنْطَةٍ أَو شَعِيرٍ وَاسْتَوْفَى حَقَّهُ مِن الثَّمَنِ: فَذَلِكَ جَائِزٌ بِلَا ريبٍ.

وَإِذَا كَانَ الْبَائِعُ قَد أَخَذَ الْحِنْطَةَ أَو الشَّعِيرَ بِدُونِ قِيمَتِهِ: فَذَلِكَ أَخَفُّ. [29/ 449]

3617 -

وسُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلٍ بَاعَ قَمْحًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ لَمْ يَكُن عِنْدَ الْمَدِينِ إلَّا قَمْحًا، فَهَل لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ قَمْحًا؟

فَأَجَابَ: نَعَمْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ قَمْحًا، وَلَيْسَ ذَلِكَ رِبًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ: كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ مِن أَصْحَابِ أَحْمَد.

وَإِذَا كَانَ أَخْذُ الْقَمْحِ أَرْفَقَ بِالْمَدِينِ مِن أَنْ يُكَلِّفَهُ بَيْعَهُ وَإِعْطَاءَ الدَّرَاهِمِ فَالْأَفْضَلُ لِلْغَرِيمِ أَخْذُ الْقَمْحِ. [29/ 300 - 30]

= الشرط من قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر رضي الله عنه: "لا بأس أن تأخذها بسعر يومها". ونأخذ هذا - أيضًا - من نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن"؛ أي: نهى أن تربح في شيء لم يدخل في ضمانك. اهـ. الشرح الممتع (8/ 209).

(1)

نسب الشيخ هذا القول للْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَنْصُوصِ عَنْهُ.

ص: 175

3618 -

إذا باعه ما يجري فيه الربا كالحنطة مثلًا بثمن مؤجل فحل الأجل فاشترى بالثمن حنطة أو مكيلًا آخر من غير الجنس مما يمتنع ربا النسيئة بينهما - فهل يجوز ذلك؟ فيه قولان:

أحدهما: المنع وهو المأثور عن ابن عمر وسعيد بن المسيب وطاوس، وهو مذهب مالك وإسحاق.

والثاني: الجواز، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وابن المنذر وبه قال جابر بن زيد وسعيد بن جبير وعلي بن الحسين، وهو اختيار صاحب المغني وشيخنا

(1)

. [المستدرك 4/ 16]

3619 -

هل تختص الرخصة بعرية النخل

أو لا تختص فتجوز في سائر الثمار؛ إلحاقًا لذلك بعرية النخل بجامع الحاجة، أو يلحق العنب فقط؟ وهو احتمال لأبي محمد لقوة شبهه بالرطب في الاقتيات والتفكه؟ على ثلاثة أقوال.

وخرج أبو العباس على ذلك: بيع الخبز باليابس في برية الحجاز ونحوها، وكذلك بيع الفضة الخالصة بالمغشوشة نظرًا للحاجة. وجوزها

(2)

شيخنا في الزرع. [المستدرك 4/ 16]

3620 -

يحرم بيع حب بدقيقه، أو أحدهما بسويقه.

وعنه يجوز وزنًا.

وعلل أحمد المنع بأن أصله كيل، فيتوجه من الجواز بيع مكيل وزنًا وموزون كيلًا، اختاره شيخنا.

(1)

تهذيب سنن أبي داود (2/ 169).

قلت: هذه أربعة مواضع لشيخ الإسلام في هذه المسألة، ففي الموضع الأول: نُقل عنه أنّه يرى الجواز عند الحاجة، وفي الموضع الثاني أفتى بالتحريم، وفي الموضع الثالث أفتى بالجواز مطلقًا، وفي الموضع الرابع نقل عنه تلميذُه ابن القيم أنه يرى الجواز مطلقًا كذلك.

(2)

أي: العرايا.

ص: 176

وما خرج عن القوت بالصنعة: فليس بربوي، وإلا

(1)

فجنسٌ بنفسِه؛ فيباع خبز بهريسة، وزيت بزيتون، وسمسم بشيرج

(2)

. [المستدرك 4/ 16 - 17]

3621 -

يجوز بيع الموزونات الربوية بالتحري، وقاله مالك.

وما لا يختلف فيه الكيل والوزن؛ مثل الأدهان: يجوز بيع بعضه ببعض كيلًا ووزنًا، وعن أحمد ما يدل عليه. [المستدرك 4/ 17]

3622 -

ظاهر مذهب أحمد جواز بيع السيف المحلى بجنس حليته؛ لأن الحلية ليست بمقصودة. [المستدرك 4/ 17]

3623 -

يجوز بيع المصوغ من الذهب والفضة بجنسه من غير اشتراط التماثل، ويُجعل الزائد في مقابلة الصنعة، سواء كان البيع حالًا أو مؤجلًا، ما لم يقصد كونها ثمنًا. [المستدرك 4/ 17]

3624 -

يحرم بيع اللحم بحيوان من جنسه إذا كان المقصود اللحم

(3)

. [المستدرك 4/ 17]

3625 -

ما جاز فيه التفاضل كالثياب والحيوان يجوز النسأ فيه إن كان متساويًا وإلا فلا. وهو رواية عن أحمد

(4)

. [المستدرك 4/ 18]

3626 -

التحقيق في عقود الربا أنه إذا لم يحصل فيها القبض أن لا عقد.

(1)

أي: وإن لم يخرج عن القوت. كشاف القناع (3/ 253).

(2)

الشيرج: هو دهن السمسم.

(3)

وذلك لأنه في حقيقة الأمر: باع لحمًا بلحم من غير تساوٍ؛ أي: مع التفاضل.

أما إن أراد بالحيوان الانتفاع بغير الأكل: فهذا لا بأس به.

(4)

والمشهور من مذهب الإمام أحمد أنّ ما ليس بربوي فإنه يجوز فيه النساء ولو متفاضلًا، وإذا جاز النساء جاز الفضل ولا عكس.

مثال ذلك: لو بعت عليك ثوبًا بثوبين، الثوب حاضر والثوبان بعد ستة أشهر جاز على المذهب؛ لأن الثياب لا يقع فيها الربا؛ لأنها ليست مكيلًا ولا موزونًا.

يُنظر: الشرح الممتع (8/ 443).

ص: 177

وإن كان بعض الفقهاء يقول: بطل العقد فهو بطلان ما لم يتم لا بطلان

(1)

ما تم. [المستدرك 4/ 17 - 18]

3627 -

رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد فِي "سُنَنِهِ" عَن أَبِي أمامة الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَن شَفَعَ لِأَخِيهِ شَفَاعَةً فَأَهْدَى لَهُ عَلَيْهَا هَدِيَّةً فَقَبِلَهَا فَقَد أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِن أَبْوَابِ الرِّبَا"، وَرَوَى إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: السُّحْتُ أَنْ يَطْلُبَ الْحَاجَةَ لِلرَّجُلِ فَتُقْضَى لَهُ فَيُهْدَى إلَيْهِ هَدِيَّةٌ فَيَقْبَلُهَا

(2)

. [28/ 282]

3628 -

جِمَاعُ الْحِيَلِ نَوْعَانِ:

أ - إمَّا أنْ يَضُمُّوا إلَى أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ مَا لَيْسَ بِمَقْصُود.

ب - أَو يَضُمُّوا إلَى الْعَقْدِ عَقْدٌ عَقْدًا لَيْسَ بِمَقْصُود.

فَالْأَوَّلُ: مَسْأَلَةُ "مُدِّ عَجْوَةٍ"، وَضَابِطُهَا: أَنْ يَبِيعَ رِبَوُّيًّا بِجِنْسِهِ وَمَعَهُمَا أَو مَعِ أَحَدِهِمَا مَا لَيْسَ مِن جِنْسِهِ، مِثْل أَنْ يَكُونَ غَرَضُهُمَا بَيْعَ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ مُتَفَاضِلًا وَنحْوِ ذَلِكَ، فَيَضُمُّ إلَى الْفِضَّةِ الْقَلِيلَةِ عِوَضًا آخَرَ، حَتَّى يَبِيعَ أَلْفَ دِينَارٍ فِي مِنْدِيلٍ بِأَلْفَيْ دِينَارٍ.

فَمَتَى كَانَ الْمَقْصُودُ بَيْعَ الرِّبَوِيِّ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضلًا حَرُمَتْ مَسْأَلَةُ "مُدِّ عَجْوَةٍ" بِلَا خِلَافٍ عِنْد مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا.

وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِن الْحِيَلِ: أَنْ يَضُمَّا إلَى الْعَقْدِ الْمُحَرَّمِ عَقْدًا غَيْرَ مَقْصُودٍ مِثْل أَنْ يَتَوَاطَآ عَلَى اُّنْ يَبِيعَهُ الذَّهَبَ بِخَرَزِهِ، ثُمَّ يَبْتَاعُ الْخَرَزَ مِنْهُ بِأَكْثَرَ مِن ذَلِكَ الذَّهَبِ، أَو يُوَاطِئَا ثَالِثًا عَلَى أَنْ يَبِيعَ أَحَدُهُمَا عَرَضًا، ثُمَّ يَبِيعُهُ الْمُبْتَاعُ لِمُعَامِلِهِ الْمُرَابِي، ثُمَّ يَبِيعُهُ الْمُرَابِي لِصَاحِبِهِ، وَهِيَ الْحِيلَةُ الْمُثَلَّثَةُ، أَو يَقْرِنُ بِالْقَرْضِ مُحَابَاةً.

(1)

في الأصل: (ببطلان)، والتصويب من الاختيارات (190).

(2)

حسَّنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، (3541).

وظاهر الحديث يشمل الأخذ ولو بدون شرط مسبق.

ص: 178

فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِن الْحِيَلِ لَا تَزُولُ بِهِ الْمَفْسَدَةُ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ مِن أَجْلِهَا الرِّبَا .. [29/ 27 - 28]

3629 -

الْحِيَاصَةُ الَّتِي فِيهَا ذَهَبٌ أَو فِضَّةٌ: لَا تُبَاعُ إلَى أَجَلٍ بِفِضَّةٍ أَو ذَهَبٍ، لَكِنْ تُبَاعُ بِعَرَضٍ إلَى أَجَلٍ. [29/ 425]

3630 -

الْمُصَرَّاةُ وَالْمُحَفَّلَةُ: هِيَ الْبَهِيمَةُ - مِن الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَغَيْرِهِمَا - تُتْرَكُ حَتَّى يَجْتَمِعَ اللَّبَنُ فِي ضَرْعِهَا أَيَّامًا ثُمَّ تُبَاعُ، يَظُنُّ الْمُشْتَرِي أَنَّهَا تُحْلبُ كُلَّ يَوْمٍ مِثْل ذَلِكَ، فَهَذَا مِن التَّدْلِيسِ وَالْغِشِّ، وَقَد حَرَّمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عُمُومًا وَخُصُوصًا، وَجَعَلَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارَ ثَلَاثًا إذَا حَلَبَهَا: إنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِن سَخِطَهَا رَدَّهَا وَرَدَّ عِوَضَ اللَّبَنِ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ وَجَعَلَ صلى الله عليه وسلم في عِوَضَهُ صَاعًا مِن تَمْرٍ.

وَأَمَّا بَيْعُ الْغَرَرِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ الْبَائِعُ تَسْلِيمَهُ مِثْلُ أَنْ يَبِيعَ عَبْدَهُ الْآبِقَ، وَبَعِيرَهُ أَو فَرَسَهُ الشَّارِدَ، أَو طَيْرَهُ الَّذِي خَرَجَ مِن قَفَصِهِ أَو مِن حَبْلِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَإِنَّ بَيْعَ مِثْل هَذ الْأُمُورِ مِن بَابِ الْمُخَاطَرَةِ وَالْقِمَارِ.

وَأَمَّا الْعَرَايَا: فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَثْنَاهَا مِمَّا نَهَى عَنْهُ مِن الْمُزَابَنَةِ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَن الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ.

وَالْمُزَابَنَةُ: أَنْ يَشْتَرِيَ الرُّطَبَ فِي الشَّجَرِ بِخَرْصِهِ مِن التَّمْرِ.

وَالْمُحَاقَلَةُ: أنْ يَشْتَوِيَ الْحِنْطَةَ فِي سُنْبُلِهَا بِخَرْصِهَا مِن الْحِنْطَةِ.

وَالْخَرْصُ: هُوَ الْحَزْرُ وَالتَّقْدِيرُ.

فَيُقَالُ: كَمْ فِي هَذِهِ النَّخْلَةِ؟

فَيُقَالُ: خَمْسَةُ أَوْسُقٍ.

فَيُقَالُ: اشْتَرَيْته بِخَمْسَةِ أَوْسُقٍ.

أَو كَمْ فِي هَذَا الْحَقْلِ مِن الْبُرِّ؟ فَيُقَالُ: خَمْسَةُ أَوْسُقٍ.

ص: 179

فَيُقَالُ: اشْتَرَيْته بِخَمْسَةِ أَوْسُقٍ.

وَهَذَا الْحُكْمُ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يُبَاعُ إلا بِقَدْرِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْل، وَلَا تَبِيعُوا الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلِ، وَلَا تَبِيعُوا الْحِنْطَةَ بِالْحِنْطَةِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلِ، وَلَا تَبِيعُوا الشَّعِيرَ بِالشَّعِيرِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلِ، وَلَا تَبِيعُوا التَّمْرَ بِالتَّمْرِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلِ، وَلَا تَبِيعُوا الْمِلْحَ بِالْمِلْحِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْل"

(1)

.

وَنَهَى صلى الله عليه وسلم عَن بَيْعِ الصُّبْرَةِ مِن الطَّعَامِ لَا يُعْلَمُ كَيْلُهَا بِالطَّعَامِ الْمُسَمَّى.

فَإِذَا بيعَتْ هَذِهِ الْأَمْوَالُ بِمِثْلِهَا جُزَافًا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَن بَيْعِهَا إلًّا مُتَمَاثِلَةً، فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ التَّمَاثُلُ لَمْ يَجُز الْبَيْعُ، وَلهَذَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ: الْجَهْلُ بِالتَّسَاوِي كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ، وَالتَّمَاثُلُ يُعْلَمُ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ.

وَأَمَّا الْخَرْصُ: فَهُوَ ظَنٌّ وَحُسْبَانٌ، يُقَدَّرُ بِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ، فَأَمَّا مَعَ إمْكَانِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ فَلَا.

فَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَن الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ؛ لِأَنَّهُم يَحْزِرُونَ مِن غَيْرِ حَاجَةٍ، وَأَبَاحَ ذَلِكَ فِي الْعَرَايَا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَحْتَاجُ إلَى أَكْلِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ خَرْصًا؛ لِأَجْلِ حَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ، وَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ فِي الْقَلِيلِ الَّذِي تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ، وَهُوَ مَا دُونُ النِّصَابِ، وَهُوَ مَا دُونُ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ.

وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لِحَاجَةِ الْبَائِعِ إلَى الْبَيْعِ.

وَلَفْظُ "الْعَرَايَا" مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: هِيَ النَّخَلَاتُ الَّتِي يُعِيرُهَا الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ؛ أَيْ: يُعْطِيهِ إيَّاهَا لِيَأكُلَ ثَمَرَهَا ثُمَّ يُعِيدُهَا إلَيْهِ.

وَهَذَا كَمَا يُقَالُ لِلْمَاشِيَةِ: "الْمَنِيحَةِ"؛ مِثْلُ أَنْ يُعْطِيَهُ النَّاقَةَ أَو الشَّاةَ لِيَشْرَبَ لَبَنَهَا ثُمَّ يُعِيدُهَا إلَيْهِ.

(1)

رواه مسلم بنحوه (1587).

ص: 180

وَهُوَ مِن جِنْسِ الْعَارَيةِ، وَهُوَ أَنْ يُعِيرَهُ دَارَهُ لِيَسْكُنَهَا ثُمَّ يُعِيدُهَا إلَيْهِ.

وَمِنْهُ افْقَارُ الظَّهْرِ: وَهُوَ أَنْ يُعْطِيَهُ دَابَّتَهُ لِيَرْكَبَ فَقَارَهَا ثُمَّ يُعِيدُهَا إلَيْهِ. [29/ 426 - 429]

3631 -

كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَكُونُ لَهُ عَلَى الرَّجُلِ دَيْنٌ فَيَأْتِيه عِنْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ فَيَقُولُ لَهُ: إمَّا أَنْ تَقْضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ، فَإِنْ قَضَاهُ وَإِلَّا زَادَهُ الْمَدِينُ فِي الْمَالِ، وَزَادَهُ الْغَرِيمُ فِي الْأَجَلِ، فَيَكُونُ قَد بَاعَ الْمَالَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ إلَى أَجَلٍ، فَأَمَرَهُم اللهُ إذَا تَابُوا أَنْ لَا يُطَالِبُوا إلَّا بِرَأْسِ الْمَالِ

(1)

.

وَأَهْلُ الْحِيَلِ يَقْصِدُونَ مَا تَقْصِدُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، لَكِنَّهُم يُخَادِعُونَ اللهَ وَلَهُم طُرُقٌ:

أَحَدُهَا: أَنْ يَبِيعَهُ السِّلْعَةَ إلَى أَجَل ثُمَّ يَبْتَاعُهَا بِأَقَلَّ مِن ذَلِكَ نَقْدًا

(2)

.

وَكَذَلِكَ إذَا اتَّفَقَا عَلَى الْمُعَامَلَةِ الرِّبَوِيَّةِ، ثُمَّ أَتَيَا إلَى صَاحِبِ حَانُوتٍ يَطْلُبَانِ مِنْهُ مَتَاعًا بِقَدْرِ الْمَالِ، فَاشْتَرَاهُ الْمُعْطِي

(3)

ثُمَّ بَاعَهُ الْآخِذُ

(4)

إلَى أَجَلٍ، ثُمَّ أَعَادَهُ إلَى صَاحِبِ الْحَانُوتِ بِأَقَلَّ مِن ذَلِكَ.

فَيَكُونُ صَاحِبُ الْحَانُوتِ وَاسِطَةً بَيْنَهُمَا بِجُعْلٍ، فَهَذَا أَيْضًا مِن الرِّبَا الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ.

وَكَذَلِكَ إذَا ضَمَّا إلَى الْقَرْضِ مُحَابَاةً فِي بَيْعٍ أَو إجَارَةٍ أَو غَيرِ ذَلِكَ. [29/ 440 - 441]

3632 -

إذَا بَاعَ السِّلْعَةَ إلَى أَجَلٍ وَاشْتَرَاهَا مِن الْمُشْتَرِي بِأَقَلَّ مِن ذَلِكَ حَالًّا: فَهَذِهِ تُسَمَّى: "مَسْأَلَةُ الْعِينَةِ"، وَهِيَ غَيْرُ جَائِزَةٍ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي

(1)

فِي قَوْله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] إلى آخر الآيات.

(2)

هذا هو بيع العينة.

(3)

وهو الدائن.

(4)

وهو الْمَدين.

ص: 181

حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ. وَهُوَ الْمأْثُورُ عَن الصَّحَابَةِ كعَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَن حَرِيرَةٍ بِيعَتْ إلَى أَجَلٍ ثُمَّ اُشْتُرِيَتْ بِأَقَلَّ، فَقَالَ: دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ دَخَلَتْ بَيْنَهُمَا حَرِيرَةٌ.

فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ تَارَةً يَشْتَرِي السِّلْعَةَ لِيَنْتَفِعَ بِهَا، وَتَارَةً يَشْتَرِيهَا لِيَتَّجِرَ بِهَا، فَهَذَانِ جَائِزَانِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَارَةً لَا يَكُونُ مَقْصُودُهُ إلَّا أَخْذَ دَرَاهِمَ، فَيَنْظُرُ كَمْ تُسَاوِي نَقْدًا فَيَشْتَرِي بِهَا إلَى أَجَلٍ، ثُمَّ يَبِيعُهَا فِي السُّوقِ بِنَقْد، فَمَقْصودُهُ الْوَرِقُ، فَهَذَا مَكْرُوهٌ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ.

وَفِي السُّنَنِ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ لِمَن بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ: "فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَو الرَّبَا"

(1)

، وَهَذَا إنْ تَوَاطَآ عَلَى أَنْ يَبِيعَ ثُمَّ يَبْتَاعُ، فَمَا لَهُ إلَّا الْأَوْكَسُ وَهُوَ الثَّمَنُ الْأَقَلُّ أَو الرِّبَا. [29/ 446 - 447]

3633 -

قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي ابْنِ اللتبية الْعَامِلِ الَّذِي قَبِلَ الْهَدَايَا لَمَّا اسْتَعْمَلَهُ عَلَى الصَّدَقَاتِ فَأُهْدِيَ إلَيْهِ هَدَايَا فَلَمَّا رَجَعَ حَاسَبَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا أَخَذَ وَأُعْطي .. فَقَالَ ابْنُ اللتبية: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَا بَالُ الرَّجُلِ نَسْتَعْمِلُهُ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلَّانَا اللهُ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، أفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى إلَيْهِ أَمْ لَا؟ " .. مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ

(2)

.

فَلَمَّا كَانَ الْمُعْطُونَ الْمُهْدُونَ إنَّمَا أَعْطَوْهُ وَأَهْدَوْا إلَيْهِ لأجْلِ وِلَايَتِهِ جُعِلَ ذَلِكَ مِن جُمْلَةِ الْمَالِ الْمُسْتَحَقّ لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ؛ لِأَنَّهُ بِسَبَبِ أَمْوَالِهِمْ قُبِضَ وَلَمْ يُخَصَّ بِهِ الْعَامِلُ الَّذِي قَبَضَهُ. [30/ 353 - 354]

* * *

(1)

رواه أبو داود (3461).

(2)

البخاري (6636)، ومسلم (1832).

ص: 182

(الصرف)

3634 -

لا يشترط الحلول والتقابض في صرف الفلوس النافقة بأحد النقدين، وهو رواية عن أحمد. [المستدرك 4/ 18]

3635 -

بَيْعُ الْفِضَّةِ بِالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ: هَل يُشْتَرَطُ فِيهَا الْحُلُولُ وَالتَّقَابُضُ كَصَرْفِ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَن أَحْمَد:

إحْدَاهُمَا: لَا بُدَّ مِن الْحُلُولِ وَالتَّقَابُضِ؛ فَإِنَّ هَذَا مِن جِنْسِ الصَّرْفِ؛ فَإِنَّ الْفُلُوسَ النَّافِقَةَ تُشْبِهُ الْأَثْمَانَ، فَيَكُونُ بَيْعُهَا بِجِنْسِ الْأَثْمَانِ صَرْفًا.

وَالثَّانِيَةُ: لَا يُشْتَرَطُ الْحُلُولُ وَالتَّقَابُضُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ فِي جِنْسِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، سَوَاء كَانَ ثَمَنًا أَو كَانَ صَرْفًا أَو كَانَ مَكْسُورًا؛ بِخِلَافِ الْفُلُوسِ.

وَلِأَنَّ الْفُلُوسَ هِيَ فِي الْأَصْلِ مِن بَابِ الْعُرُوضِ، والثمنية عَارِضَةٌ لَهَا. [29/ 459]

3636 -

صَرْفُ الْفُلُوسِ النَّافِقَةِ بِالدَّرَاهِم: هَل يُشْتَرَطُ فِيهَا الْحُلُولُ، أَمْ يَجُوزُ فِيهَا النسأ؟ .. الْأَظْهَرُ الْمَنْعُ مِن ذَلِكَ

(1)

؛ فَإِنَّ الْفُلُوسَ النَّافِقَةَ يَغْلِبُ عَلَيْهَا حُكْمُ الْأَثْمَانِ، وَتُجْعَلُ مِعْيَارَ أَمْوَالِ النَّاسِ.

وَلهَذَا يَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَضْرِبَ لَهُم فُلُوسًا تَكُونُ بِقِيمَةِ الْعَدْلِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ مِن غَيْرِ ظُلْمٍ لَهُمْ. [29/ 468 - 469]

3637 -

إذا اصطرفا دينًا في ذمتهما جاز

(2)

. وحكاه ابن عبد البر عن أبي حنيفة ومالك خلافًا لما نص عليه أحمد. [المستدرك 4/ 18]

(1)

أي: من النسأ فيها.

وهذا ما قرره هنا، وهذا يُخالف ما نقله البعلي رحمه الله في الاختيارات (189) كما تقدم.

قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله حاشيته على الاختيارات: وقولُه بالمنع أظهر من قوله بالجواز؛ لقوة تعليله.

(2)

لأنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ مَقْبُوضٌ.

ص: 183

3638 -

في الموجز رواية: لا يحرم (الربا) في دار حرب، وأقرها شيخنا على ظاهرها. [المستدرك 4/ 18]

* * *

(وجوب إنظار المعسر وحكم التورق)

3639 -

مَن كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ: فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُوَفِّيَهُ، وَإِن كَانَ مُعْسِرًا وَجَبَ إنْظَارُهُ، وَلَا يَجُوزُ قَلْبُة عَلَيْهِ بِمُعَامَلَةٍ وَلَا غَيْرِهَا

(1)

.

وَأَمَّا الْبَيْعُ إلَى أَجَلٍ ابْتِدَاءً: فَإِنْ كَانَ قَصْدُ الْمُشْتَرِي الِانْتِفَاعَ بِالسِّلْعَةِ وَالتِّجَارَةَ فِيهَا جَازَ إذَا كَانَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُبَاحِ.

وَأَمَّا إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ الدَّرَاهِمَ فَيَشْتَرِي بِمِائَةٍ مُؤَجَّلَةٍ وَيبيعُهَا فِي السُّوقِ بِسَبْعِينَ حَالَّةٍ: فَهَذَا مَذْمُومٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ

(2)

، وَهَذَا يُسَمَّى "التَّوَرُّقُ"، قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رضي الله عنه: التَّوَرُّقُ أُخيَّة الرِّبَا. [29/ 302 - 303]

3640 -

الْمُشْتَرِي عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ يَكونَ مَقْصُودُهُ السِّلْعَةَ يَنْتَفِعُ بِهَا لِلْأَكْلِ وَالشُّرْب وَاللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ التِّجَارَةَ فِيهَا.

فَهَذَانِ نَوْعَانِ جَائِزَانِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.

لَكِنْ لَا بُدَّ مِن مُرَاعَاةِ الشُّرُوطِ الشَرْعِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي مُضْطَرًّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبَاعَ إلَّا بِقِيمَةِ الْمِثْلِ؛ مِثْل أَنْ يُضْطَرَّ الْإِنْسَانُ إلَى مُشْتَرَى طَعَامٍ لَا يَجِدُهُ إلَّا عِنْدَ شَخْصٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَهُ إيَّاهُ بِالْقِيمَةِ قِيمَةِ الْمِثْلِ، وَإِن لَمْ يَبِعْهُ إلَّا بِأَكْثَرَ

(1)

قال الشيخ: إذَا حَلَّ الدِّيْنُ عَلَيْهِ وَكَانَ مُعْسِرًا: فَإِنَّهُ يَجِبُ إنْظَارُهُ، وَلَا يَجُوزُ إلْزَامُهُ بِالْقَلْب عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. (29/ 438)

(2)

وقال الشيخ عنها: وَالْأَقْوَى كَرَاهَتُهُ (29/ 302)، وقال: مَكْرُوهٌ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ (29/ 303)، يُنظر كذلك:(29/ 431).

ص: 184

فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ، وَإِذَا أَعْطَاهُ إيَّاهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إلَّا قِيمَةُ الْمِثْلِ، وَإِذَا بَاعَهُ إيَّاهُ بِالْقِيمَةِ إلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ فَإِنَّ الْأَجَلَ يَأْخُذُ قِسْطًا مِن الثَّمَنِ

(1)

.

النَّوْعُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي إنَّمَا يُرِيدُ بِهِ دَرَاهِمَ مَثَلًا لِيُوَفِّيَ بِهَا دَيْنًا، وَاشْتَرَى بِهَا شَيْئًا، فَيَتَّفِقَانِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ مَثَلًا الْمِائَةَ بِمِائَة وَعِشْرِينَ إلَى أَجَلٍ: فَهَذَا كُلُّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ:

أ - فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يُعِيدَ السِّلْعَةَ إلَيْهِ: فَهُوَ "بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ".

ب - وَإِن أَدْخَلَا ثَالِثًا يَشْتَرِي مِنْة السِّلْعَةَ ثُمَّ تُعَادُ إلَيْهِ: فَكَذَلِكَ.

ج - وَإِن بَاعَهُ وَأَقْرَضَهُ: فَكَذَلِكَ، وَقَد نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

د - وَإِن كَانَ الْمُشْتَرِي يَأْخُذُ السِّلْعَةَ فَيَبِيعُهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: يَشْتَرِيهَا بِمِائَة وَيَبِيعُهَا بِسَبْعِينَ لِأَجْل الْحَاجَةِ إلَى دَرَاهِمَ: فَهَذِهِ تُسَمَّى: "مَسْأَلَةُ التَّوَرُّقِ"، وَفِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَالْأَقْوَى أَيْضًا أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَأَنَّهَا أَصْلُ الرِّبَا، كَمَا قَالَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرُهُ. [29/ 499 - 500]

3641 -

الْمُعْسِرُ: لَا يَجُوزُ مُطَالَبَتُهُ بِمَا أُعْسِرَ عَنْهُ، وَإِن كَانَ حَقًّا وَاجِبًا وَجَبَ إنْظَارُهُ بِهِ، وَإِن كَانَ مُعَامَلَةً رِبَوِيَّة لَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَالَبَ إلَّا بِرَأْسِ مَالِهِ. [29/ 306]

* * *

‌(متى يجوز التفاضل في بيع الربوي بجنسِه

؟)

3642 -

وَسُئِلَ: عَن بَيْعِ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ الْمَغْشُوشَةِ مُتَفَاضِلًا؟

فَأَجَابَ: إذَا كَانَت الْفِضَّةُ الْخَالِصَةُ فِي أَحَدِهِمَا بِقَدْرِ الْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ فِي الْأُخْرَى وَهِيَ الْمَقْصُودَةُ وَالنُّحَاسُ يَذْهَبُ، وَقَد عُلِمَ قَدْرُ ذَلِكَ بِالتَّحَرِّي وَالِاجْتِهَادِ: فَهَذَا يَجُوزُ فِي أَحَدِ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ.

(1)

أي: يأخذ زيادة على الثمن الحال.

ص: 185

وَكَذَلِكَ إذَا كَانَت الْفِضَّةُ الْمُفْرَدَةُ أَكْثَرَ مِن الْفِضَّةِ الْمَغْشُوشَةِ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ بِقِدْرِ النُّحَاسِ: فَهَذَا يَجُوزُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ.

وَأَمَّا إذَا كَانَت الْفِضَّةُ الْمَغْشُوشَةُ أَكْثَرَ مِن الْمُفْرَدَةِ: فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ. [29/ 451]

3643 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَن بَيْعِ الأكاديس الْإِفْرِنْجِيَّةِ بِالدَّرَاهِمِ الْإِسْلَامِيَّةِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَهُمَا يَسِيرٌ لَا يَقُومُ بِمُؤْنَةِ الضَّرْبِ؛ بَل فِضَّةُ هَذِهِ الدَّرَاهِمِ أَكْثَرُ، هَل تَجُوزُ الْمُقَابَضَةُ بَيْنَهُمَا أَمْ لَا؟

فَأجَابَ: هَذِهِ الْمُقَابَضَةُ تَجُوزُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ، وَالْجَوَازُ فِيهِ لَهُ مَأْخَذَانِ؛ بَل ثَلَاثَةٌ:

أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْفِضَّةَ مَعَهَا نُحَاسٌ، وَتِلْكَ فِضَّةٌ خَالِصَةٌ، وَالْفِضَّةُ الْمَقْرُونَةُ بِالنُّحَاسِ أَقَلُّ

(1)

.

فَإِذَا بِيعَ مِائَةُ دِرْهَمٍ مِن هَذِهِ بِسَبْعِينَ مَثَلًا مِن الدَّرَاهِمِ الْخَالِصَةِ: فَالْفِضَّةُ الَّتِي فِي الْمِائَةِ أَقَلُّ مِن سَبْعِينَ، فَاِذَا جُعلَ زِيَادَة الْفِضَّةِ بِإِزَاءِ النُّحَاسِ جَازَ عَلَى أَحَدِ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُجَوِّزونَ مَسْألَةَ "مُدِّ عَجْوَةٍ".

وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا مِن مَسْأَلَةِ مُدِّ عَجْوَةٍ - وَهُوَ بَيْعُ الرِّبَوِيِّ بِجِنْسِهِ إذَا كَانَ مَعَهُمَا أَو مَعَ أَحَدِهِمَا مِن غَيْرِ جِنْسِهِ - قَد عَلَّلَهُ طَائِفَةٌ مِنْهُم بِأَنَّ الصَّفْقَةَ إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى عِوَضَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ انْقَسَمَ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا بِالْقِيمَةِ وَهَذِهِ عِلَّةٌ ضَعِيفَةٌ.

وَالصَّحِيحُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ كَوْنُ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى الرِّبَا، بِأَنْ يَبِيعَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِي كِيسٍ، بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ، وَيجْعَلُ الْأَلْفَ الزَّائِدَةَ فِي مُقَابَلَةِ الْكيسِ، كَمَا يُجَوِّزُ ذَلِكَ مَن يُجَوِّزُهُ مِن أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَالصَّوَابُ فِي مِثْل هَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَيْعُ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ

(1)

قال الشيخ في موضع آخر: وَإِذَا بِيعَتْ الْفِضَّةُ الْمَصْنُوعَةُ بِفِضةٍ أَكْثَرَ مِنْهَا لِأجْلِ الصِّنَاعَةِ لَمْ يَجُزْ. (29/ 464)

ص: 186

مُتَفَاضِلَةٍ، فَمَتَى كَانَ الْمَقْصُودُ ذَلِكَ حَرُمَ التَّوَسُّلُ إلَيْهِ بِكُل طَرِيقٍ، فَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ.

وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يُعْلَمْ مِقْدَارُ الرِّبَوِيِّ؛ بَل يُخْرَصُ خَرْصًا؛ مِثْلُ الْقِلَادَةِ الَّتِي بِيعَتْ يَوْمَ حنين وَفِيهَا خَرَزٌ مُعَلَّق بِذَهَبِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"لَا تُبَاعُ حَتَّى تَفْصِلَ"

(1)

، فَإِنَّ تِلْكَ الْقِلَادَةَ لَمَّا فُصِلَتْ كَانَ ذَهَبُ الْخَرَزِ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ الذَّهَبِ الْمُفْرَدِ، فَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَن بَيْعِ هَذَا بِهَذَا حَتَّى تُفْصَلَ؛ لِأَنَّ الذَّهَبَ الْمُفْرَدَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنْقَصَ مِن الذَّهَبِ الْمَقْرُونِ فَيَكُونُ قَد بَاعَ ذَهَبًا بِذَهَبٍ مِثْلِهِ وَزيِادَةَ خَرَزٍ وَهَذَا لَا يَجُوزُ.

وَإِذَا عُلِمَ الْمأْخْذُ: فَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ بَيْعَ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ مِثْلِهَا وَكَانَ الْمُفْرَدُ أَكْثَرَ مِن الْمَخْلُوطِ كَمَا فِي الدَّرَاهِمِ الْخَالِصَةِ بِالْمَغْشُوشَةِ؛ بِحَيْثُ تَكُونُ الزِّيَادَةُ فِي مُقَابَلَةِ الْخَلْطِ: لَمْ يَكُن فِي هَذَا مِن مَفْسَدَةِ الرِّبَا شَيْءٌ؛ إذ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بَيْعَ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ أَكْثَرَ مِنْهَا، وَلَا هُوَ بِمَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ ذَلِكَ فَيَجُوزُ التَّفَاوُتُ.

الْمَأْخَذُ الثَّانِي: مَأْخَذُ مَن يَقُولُ: يَجُوزُ بَيْعُ الرِّبَوِيِّ بِالرِّبَوِيِّ عَلَى سَبِيلِ التَّحَرِّي وَالْخَرْصِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ إذَا تَعَذَّرَ الْكَيْلُ أَو الْوَزْنُ، كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَالِكٌ وَالشَافِعِيُّ وَأَحْمَد فِي بَيْعِ الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا كَمَا مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي جَوَازِ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ خَرْصًا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ.

وَيجُوز ذَلِكَ فِي كُل الثِّمَارِ فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ.

وَإِذَا كَانَت السُّنَّةُ قَد مَضَتْ بِإِقَامَةِ التَّحَرِّي وَالِاجْتِهَادِ مَقَامَ الْعِلْمِ بِالْكَيْلِ أَو الْوَزْنِ عِنْدَ الْحَاجَةِ: فَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّاسَ يَحْتَاجُونَ إلَى بَيْعِ هَذِهِ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ بِهَذِهِ الْخَالِصَةِ، وَقَد عَرَفُوا مِقْدَارَ مَا فِيهَا مِن الْفِضَّةِ بِأَخْبَارِ أَهْلِ الضَّرْبِ وَأَخْبَارِ الصَّيَارِفَةِ وَغَيْرِهِمْ مِمَن سَبَكَ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ، وَعَرَفَ قَدْرَ مَا فِيهَا مِن الْفِضَّةِ، فَلَمْ

(1)

رواه مسلم (1591).

ص: 187

يَبْقَ فِي ذَلِكَ جَهْلٌ مُؤَثِّرٌ؛ بَل الْعِلْمُ بِذَلِكَ أَظْهَرُ مِن الْعِلْمِ بِالْخَرْصِ أَو نَحْوِ ذَلِكَ، وَهُم إِنَّمَا مَقْصُودُهُم دَرَاهِم بِدَرَاهِمَ بِقَدْرِ نَصِيبِهِمْ، لَيْسَ مَقْصُودُهُم أَخْذَ فِضَّةٍ زَائِدَةٍ.

وَلَو وَجَدُوا مَن يَضْرِبُ لَهُم هَذِهِ الدَّرَاهِمَ فِضَّةً خَالِصَةً مِن غَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ بِحَيْثُ تَبْقَى فِي بِلَادِهِمْ لَفَعَلُوا ذَلِكَ وَأَعْطَوْهُ أُجْرَتَهُ، فَهُم يَنْتَفِعُونَ بِمَا يَأْخُذُونَهُ مِن الدَّرَاهِمِ الْخَالِصَةِ وَلَا يَتَضَرَّرُونَ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أَرْبَابُ الْخَالِصَةِ إذَا أَخَذُوا هَذِهِ الدَّرَاهِمَ، فَهُم يَنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ لَا يَتَضَرَّرُونَ.

وَهَذَا "مَأْخَذٌ ثَالِثٌ" يُبَيِّنُ الْجَوَازَ وَهُوَ: أَنَّ الرِّبَا إنَّمَا حَرُمَ لِمَا فِيهِ مِن أَخْذِ الْفَضْلِ، وَذَلِكَ ظُلْمٌ يَضُرُّ الْمُعْطِيَ فَحَرُمَ لِمَا فِيهِ مِن الضَّرَرِ، وَإِذَا كَانَ كُلٌّ مِن الْمُتَقَابِضَيْنِ مُقَابَضَةً أَنْفَعَ لَهُ مِن كَسْرِ دَرَاهِمِهِ وَهُوَ إلَى مَا يَأْخُذُهُ مُحْتَاجٌ: كَانَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً لَهُمَا هُمَا يَحْتَاجَانِ إلَيْهَا، وَالْمَنْعُ مِن ذَلِكَ مَضَرَّة عَلَيْهِمَا. [29/ 451 - 455]

3644 -

أَصْلُ مَسْأَلَةِ "مُدِّ عَجْوَةٍ" أَنْ يَبِيعَ مَالًا رِبَوِيًّا لا بِجِنْسِهِ وَمَعَهُمَا أَو مَعَ أَحَدِهِمَا مِن غَيْرِ جِنْسِهِمَا، فَإِنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: الْمَنْعُ مُطْلَقًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَن أَحْمَد.

وَالثَّانِي: الْجَوَازُ مُطْلَقًا كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَالثَّالِثُ: الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بَيْعَ الرِّبَوِيّ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا أَو لَا يَكُونُ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ

(1)

.

فَإِذَا بَاعَ تَمْرًا فِي نَوَاهٍ بِنَوَى، أَو تَمْرًا مَنْزُوعَ النَّوَى

(2)

، أَو شَاةً فِيهَا لَبَنٌ بِشَاةٍ لَيْسَ فِيهَا لَبَنٌ، أَو بِلَبَنٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَإِنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُمَا.

(1)

وهو الذي رجحه الشيخ كما في (29/ 462).

(2)

لعل صواب العبارة: (أو تمرٍ منزوع النوى)؛ لأن الجملة معطوفةٌ على (بنوى)، ووجدت في كتاب:"المسائل والأجوبة" لشيخ الإسلام (1/ 186) بلفظ: "أو بتمرٍ منزوعٍ النوى".

ص: 188

بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ أَلْفَ دِرْهَمٍ بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ فِي مِنْدِيلٍ: فَإِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ.

فَمَن كَانَ قَصْدُهُ بَيْعَ الرِّبَوِيِّ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا لَمْ يَجُزْ، وَإِن كَانَ تَبَعًا غَيْرَ مَقْصُودٍ جَازَ، وَمَالِكٌ رحمه الله يُقَدِّرُ ذَلِكَ بِالثُّلثِ

(1)

.

وَهَكَذَا إذَا بَاعَ حِنْطَةً فِيهَا شَعِيرٌ يَسِيرٌ بِحِنْطَةٍ فِيهَا شَعِيرٌ يَسِيرٌ فَإِنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.

وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ الدَّرَاهِمَ الَّتِي فِيهَا غِشٌّ بِجِنْسِهَا، فَإِنَّ الْغِشَّ غَيْرُ مَقْصُودٍ، وَالْمَقْصُودُ: بَيْعُ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ وَهُمَا مُتَمَاثِلَانِ.

وَكَذَلِكَ صَرْفُ الْفُلُوسِ بالدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ يَقُولُ مَن يَكْرَهُهُ: إنَّهُ بَيْعُ فِضَّةٍ وَنُحَاسٍ بِنُحَاسٍ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ جَائِزٌ. [29/ 457 - 458]

3645 -

وَسُئِلَ: عَن جَمَاعَةٍ تَبِيعُ بِدَرَاهِمَ وَتُوفِي عَن بَعْضِهَا فُلُوسًا مُحَابَاةً، ثُمَّ تُخْبِرُ عَن الثَّمَنِ بِالثَّمَنِ الْمُسَمَّى؟

فَأَجَابَ: لَيْسَ لَهُم أَنْ يُوَفُّوا فُلُوسًا إلَّا بِرضى الْبَائِعِ، وَإِذَا أَوْفَوْا فُلُوسًا

(1)

وقسمها الشيخ إلى ثَلَاثَةِ أْنوَاعٍ:

أحَدُهَا: أنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بَيْعَ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ مُتَفَاضِلًا، أو بَيْعُ ذَهَبٍ بِذَهَبِ مُتَفَاضِلًا، وَيضُمُّ إلَى الْأَنْقَصِ مِن غَيْرِ جِنْسِهِ حِيلَةً: فَهَذَا لَا يَجُوزُ أَصْلًا.

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بَيْعَ أَحَدِهِمَا وَبَيْعَ عَرَضٍ بِأَحَدِهِمَا وَفِي الْعَرَضِ مَا لَيْسَ مَقْصُودًا؛ مِثْلُ بَيْعِ السِّلَاحِ بِأَحَدِهِمَا وَفِيهِ حِلْيَةٌ يَسِيرَةٌ، أو بَيْعُ عَقَارٍ بِأَحَدِهِمَا وَفِي سَقْفِهِ وَحِيطَانِهِ كَذَلِكَ .. : فَهَذَا يَجُوزُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ الصَّوَابُ.

كَمَا جَازَ دُخُولُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا فِي الْبَيْعِ تبَعًا، وَقَد جَاءَ مَعَ ذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ مَرْفُوعًا:"مَن بَاعَ عَبْدًا لَهُ وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ".

وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ كِلَا الْأَمْرَيْنِ مَقْصُودًا؛ مِثْلُ أنْ يَكُونَ عَلَى السِّلَاحِ ذَهَبٌ أو فِضَّة كَثِيرٌ: فَهَذَا إذَا كَانَ مَعْلُومَ الْمِقْدَارِ وَبِيعَ بِأَكْثَرَ مِن ذَلِكَ: فَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ جَائِزٌ. (29/ 463 - 465)

ص: 189

فَلَيْسَ لَهُم أَنْ يُوَفُّوهَا إلَّا بِالسِّعْرِ الْوَاقِعِ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ لَمَّا قَالَ لَهُ: إنَّا نَبِيعُ بِالذَّهَبِ وَنَقْتَضِي الْوَرِقَ وَنَبِيعُ بِالْوَرِقِ وَنَقْتَضِي الذَّهَبَ، فَقَالَ:"لَا بَأْسَ بِهِ بِسِعْرِ يَوْمِهِ إذَا افْتَرَقْتُمَا وَلَيْسَ بَيْنَكُمَا شَيْءٌ"

(1)

.

فَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يُوَفِّيَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِن قِيمَتِهِ: كَانَ كَالِاتِّفَاقِ عَلَى أَنْ يُوَفِّيَ عَنْهُ أَكثَرَ مِنْهُ مِن جِنْسِهِ، بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ مِن غَيْرِ شَرْطِ

(2)

. [29/ 467 - 468]

* * *

(حكم السُّفْتَجَةَ)

3646 -

الشَّارعُ لَا يَنْهَى عَن الْمَصَالِحِ الرَّاجِحَةِ وُيوجِبُ الْمَضَرَّةَ الْمَرْجُوحَةَ، كَمَا قَد عُرِفَ ذَلِكَ مِن أُصُولِ الشَّرْعِ.

وَهَذَا كَمَا أَنَّ مَن أَخَذَ "السّفْتَجَةَ"

(3)

مِن الْمُقْرِضِ، وَهُوَ أَنْ يُقْرِضَهُ دَرَاهِمَ يَسْتَوْفِيهَا مِنْة فِي بَلَدٍ آخَرَ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْمُقْرِضُ غَرَضُهُ حَمْلَ دَرَاهِمَ إلَى بَلَدٍ آخَرَ، وَالْمُقْتَرِضُ لَهُ دَرَاهِم فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى دَرَاهِمَ فِي بَلَدِ الْمُقْرِضِ، فَيَقْتَرِضُ مِنْهُ فِي بَلَدٍ دَرَاهِمَ الْمُقْرِضِ، وَيَكْتُبُ لَهُ سُفْتَجَةً - أَيْ: وَرَقَةً - إلَى بَلَدِ دَرَاهِمِ الْمُقْتَرِضِ، فَهَذَا يَجُوزُ فِي أصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ.

وَقِيلَ: يُنْهَى عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَرْضٌ جَرَّ مَنْفَعَةً، وَالْقَرْضُ إذَا جَرَّ مَنْفَعَةً كَانَ رِبًا، وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ؛ لِأنَّ الْمُقْتَرِضَ رَأَى النَّفْعَ بِأَمْنِ خَطَرِ الطَّرِيقِ إلَى نَقْلِ دَرَاهِمِهِ إلَى بَلَدِ دَرَاهِمِ الْمُقْتَرِضِ، فَكِلَاهُمَا مُنْتَفِعٌ بِهَذَا الِاقْتِرَاضِ.

وَالشَّارعُ لَا يَنْهَى عَمَّا يَنْفَعُ النَّاسَ وَيُصْلِحُهُم وَيَحْتَاجُونَ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَنْهَى عَمَّا يَضُرُّهُم وَيُفْسِدُهُمْ، وَقَد اغْنَاهُم اللهُ عَنْهُ. [29/ 455 - 456]

* * *

(1)

رواه أبو داود (3354)، والنسائي (4582)، وأحمد (6239)، وضعَّفه الألباني في ضعيف أبي داود.

(2)

فلو زاده أكثر من حقه دون شرط جاز، كما في القرض.

(3)

قال في القاموس المحيط (1/ 193): السُّفْتَجَةُ: أنْ يُعْطِيَ مالًا لآخَرَ، وللآخرِ مالٌ في بَلَدِ المُعْطي، فَيُوَفِّيَهُ إيَّاهُ ثَمَّ، فَيَسْتَفِيدُ أمْنَ الطَّريقِ، وفِعْلُهُ: السُّفْتَجَةُ، بالفتح.

ص: 190

(علة الربا في الأصناف الستة)

3647 -

اخْتَلَفُوا فِي [علّةِ]

(1)

تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ: الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ: هَل هُوَ التَّمَاثُلُ وَهُوَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ؟ أَو هُوَ الثمنية وَالطَّعْمُ؟ أَو هُوَ الثمنية وَالتَّمَاثُلُ مَعَ الطَّعْمِ وَالْقُوتِ وَمَا يُصْلِحُهُ؟ أَو النَّهْيُ غَيْرُ مُعَلَّلٍ وَالْحُكْمُ مَقْصُورٌ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ؟ عَلَى أقْوَالٍ مَشْهُورَةٍ.

وَالْأوَّلُ: مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي أشْهَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ.

وَالثَّانِي: قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ.

وَالثَّالِثُ: قَوْلُ أَحْمَد فِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ اخْتَارَهَا أَبُو مُحَمَّدٍ، وَقَوْلُ مَالِكٍ قَرِيبٌ مِن هَذَا، وَهَذَا الْقَوْلُ أرْجَحُ مِن غَيْرِهِ.

وَالرَّابعُ: قَوْلُ دَاوُد وَأَصْحَابِهِ.

وَالِاتِّحَادُ فِي الْجِنْسِ شَرْطٌ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ مِن رِبَا الْفَضْلِ.

وَالْمَقْصُودُ هُنَا: الْكَلَامُ فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ، وَالْأَظْهَرُ أنَّ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ هُوَ الثمنية لَا الْوَزْنُ، كَمَا قَالَهُ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَلَا يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ فِي سَائِرِ الْمَوْزونَاتِ؛ كَالرَّصَاصِ وَالْحَدِيدِ وَالْحَرِيرِ وَالْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ.

وَالتَّعْلِيلُ بالثمنيَّةِ تَعْلِيلٌ بِوَصْفٍ مُنَاسِبٍ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِن الْأَثْمَانِ أَنْ تَكُونَ مِعْيَارًا لِلْأَمْوَالِ يُتَوَسَّلُ بِهَا إلَى مَعْرِفَةِ مَقَادِيرِ الْأَمْوَالِ، وَلَا يَقْصِدُ الِانْتِفَاعَ بِعَيْنِهَا.

فَمَتَى بِيعَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ إلَى أَجَلٍ: قُصِدَ بِهَا التِّجَارَةُ الَّتِي تُنَاقِضُ مَقْصُودَ الثمنية. [29/ 470 - 471]

* * *

(1)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، ولا تستقيم العبارة إلا به.

ص: 191

‌(حكم بيع الدَّين بالدَّين

؟)

(1)

3648 -

إذَا اشْتَرَى قَمْحًا بِثَمَنٍ إلَى أَجَلٍ ثُمَّ عَوَّضَ الْبَائِعَ عَن ذَلِكَ الثَّمَنِ

(1)

يقصد بالدّين: الأموال المؤجلة، أو الأموال المستحقة في ذمة المدين.

وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن بيع الدين بالدين هو بيع الكالئ بالكالئ، وأنهما مُترادفان. ينظر: الهداية، للمرغيناني (3/ 74)، وبدائع الصنائع، للكاساني (7/ 3151)، والمجموع، للنووي (9/ 400)، والمغني، لابن قدامة (6/ 106)، والإنصاف، للمرداوي (4/ 44)، والكافي، لابن عبد البر (2/ 737).

وذهب العلَّامة ابن القيّم إلى أن الكالئ بالكالئ هو المؤخر الذي لا يقبض، وأن بينهما عمومًا وخصوصًا، وأن بيع الكالئ بالكالئ نوعٌ من أنواع بيع الدين بالدين، فليسا مترادفين. أعلام الموقعين (2/ 300).

صور بيع الدين بالدين:

الصورة الأولى: بيع الدين بالدين ابتداء، وهو أن يبتدئ المتعاقدان التعامل بينهما بالدين كما في السلم إذا لم يسلم رأس المال.

أو هو: بيع دين مؤخر لم يكن ثابتًا في الذمة بدين مؤخر كذلك، كان يشتري المرء شيئًا موصوفًا في الذمة إلى أجل بثمن موصوف في الذمة مؤجل.

وقد سمى شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيّم - رحمهما الله تعالى - هذا النوع من بيع الدين بالدين ببيع الواجب بالواجب، كما أن العلَّامة ابن القيّم يسميه ببيع الكالئ بالكالئ أيضًا، ويرى أن بيع الكالئ بالكالئ المنهي عنه في الحديث ينحصر في هذه الصورة من بيع الدين بالدين فقط.

وقد مثل له شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: "كالسلف المؤجل من الطرفين".

ينظر: نظرية العقد، لابن تيمية (ص 235)، وأعلام الموقعين (2/ 9).

وكما لو باعه مقدارًا من الأرز موصوفًا في ذمته بثمن معلوم كذلك.

وقد حُكي الإجماع على تحريم بيع الدين بالدين ابتداء، كما نقل ذلك الإمام أحمد وابن المنذر وابن رشد وابن تيمية رحمهم الله تعالى.

وبه قال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيّم - رحمهم الله تعالى -.

ينظر: المغني، لابن قدامة (6/ 106)، وبداية المجتهد، لابن رشد (2/ 149)، ونظرية العقد، لابن تيمية (ص 235).

وقال النووي: "لا يجوز نسيئة بنسيئة، بأن يقول بعني ثوبًا في ذمتي بصفة كذا إلى شهر كذا بدينار مؤجل إلى وقت كذا فيقول قبلت وهذا فاسد بلا خلاف". المجموع شرح المهذب (9/ 400).

قال ابن القيِّم: "إنما ورد النهي عن بيع الكالئ بالكالئ: وهو المؤخر الذي لم يقبض كما لو أسلم في شيء في الذمة وكلاهما مؤخر فهذا لا يجوز بالاتفاق وهو بيع الكالئ بالكالئ". إعلام الموقعين (2/ 9). =

ص: 192

سِلْعَةً إلَى أَجَلٍ: لَمْ يَجُزْ؛ فَإِنَّ هَذَا بَيْعُ دَيْنٍ بِدِينِ

(1)

. [29/ 429]

3649 -

بَيْع الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَامٌ وَلَا إجْمَاعٌ، وَإِنَّمَا وَرَدَ النَّهْيُ عَن بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، وَالْكَالِئُ هُوَ الْمُؤَخَّرُ الَّذِي لَمْ يُقْبَضْ بِالْمُؤَخَّرِ الَّذِي لَمْ يُقْبَضْ، وَهَذَا كَمَا لَو أَسْلَمَ شَيْئًا فِي شَيْءٍ فِي الذِّمَّةِ وَكِلَاهُمَا مُؤَخَّرٌ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ، وَهُوَ بَيْعُ كَالِئٍ بِكَالِئ. [20/ 512]

3650 -

نَهَى صلى الله عليه وسلم "عَن بَيْعِ الْكالِئِ بِالْكَالِئِ"، وَهُوَ الْمُؤَخَّرُ بالْمُؤَخَّرِ، وَلَمْ يَنْهَ عَن بَيْع دَيْنٍ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ يَسْقُطُ إذَا بِيعَ بِدَيْنٍ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ يَسْقُطُ

(2)

؛ فَإِنَّ هَذَا الثَّانِيَ يَقْتَضِي تَفْرِيغَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الذِّمَّتَيْنِ وَلهَذَا كَانَ هَذَا جَائِزًا فِي أَظْهَرِ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ وَغَيْرِهِمَا؛ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ دَيْنًا يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ وَيشْغَلُهَا بِدَيْنٍ يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ؛ كَالْمُسْلِمِ إذَا أَسْلَمَ فِي سِلْعَةٍ وَلَمْ يُقْبِضْهُ رَأْسَ الْمَالِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَسْلِفِ دَيْنُ السَّلَمِ وَفِي ذِمَّةِ الْمُسْلِفِ رَأْسُ الْمَالِ وَلَمْ يَنْتَفِعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِشَيْءِ، فَفِيهِ شَغْلُ ذِمَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْعُقُودِ الَّتِي هِيَ وَسَائِلُ إلَى الْقَبْضِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ.

= الصورة الثانية: بيع الدين لمن هو عليه بثمن مؤجل، وهو أن يبيع ما في الذمة حالًا من عروض أو أثمان بثمن إلى أجل ممن هو عليه.

الصورة الثالثة: بيع الدين لغير المدين بثمن مؤجل، كأن يكون لشخص على آخر مائة صاع من بر فيبيعها على شخص آخر بثلاثمائة ريال مؤجلة لشهر مثلًا.

تنبيه: ما تقدم هو بحث قيّمٌ في موقع الشيخ الدكتور عبد العزيز الفوزان: http://cutt.us/ovte

وقد اختصرته للتيسير.

قلت: ورجح بعض المعاصرين جواز الصورة الأولى، كما في حاشية الروض المربع لمجموعة من المشايخ (6/ 351).

(1)

وفي النقلين القادمين رجح الشيخ جواز هذه الصورة وغيرها.

(2)

مثال ذلك: رجلان يطلب كلُّ واحدٍ منها الآخر دينًا، فقال أحدهما للآخر: أسقط دينك عني وأسقط ديني عنك، وتُسمى هذه الصورة بالمقاصة.

والشيخ إنما حرم الدين الواجب بالواجب؛ أي: يجب في ذمة كل واحد منهما دينًا ابتداءً، مثال ذلك: جاء رجل إلى مزارع فقال له: سأشتري منك الزرع الذي سيخرج بعد شهر، بمائة ريال أسلمها لك إذا قبضت المحصول، فهنا: أوجبا في ذمتهما دينًا دون ضرورة.

ص: 193

كَمَا أَنَ السِّلَعَ هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالْأَثْمَانِ، فَلَا يُبَاعُ ثَمَنٌ بِثَمَنٍ إلَى أَجَلٍ كَمَا لَا يُبَاعُ كَالِئٌ بِكَالِئٍ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِن الْفَسَادِ وَالظُّلْمِ الْمُنَافِي لِمَقْصُودِ الثمنية وَمَقْصُودِ الْعُقُودِ. [29/ 472]

* * *

(بَابُ بَيْعِ الْأصُولِ وَالثِّمَارِ)

3651 -

لو تقايلا الإجارة أو فسخاها بحق فله قيمة حرثه، وإن أَخَّر القطع مع شرطه حتى صلح الثمر وطالت الجزة واشتد الحب فسد العقد. [المستدرك 4/ 18 - 19]

3652 -

اخْتَارَ شَيْخُنَا ثُبُوتَهَا

(1)

في زَرْعٍ مُسْتَأْجَرٍ وَحَانُوتٍ نَقَصَ نَفْعُهُ عن الْعَادَةِ، وَأَنَّهُ خِلَافُ ما رَوَاهُ عن أَحْمَدَ وَحَكَمَ بِهِ أبو الْفَضْلِ ابن حَمْزَةَ في حَمَّامٍ.

وقال شَيْخُنَا أَيْضًا: قِيَاسُ نُصُوصِهِ وَأُصُولِهِ: إذَا عَطَّلَ

(2)

نَفْع الْأَرْضِ بِآفَةٍ انْفَسَخَتْ فِيمَا بَقِيَ كَانْهِدَامِ الدَّارِ وَنَحْوِهِ، وَأَنَّهُ لَا جَائِحَةَ فِيمَا تَلِفَ من زَرْعِهِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَجِّرَ لم يَبِعْهُ إيَّاهُ، وَلَا يُنَازعُ في هذا من فَهِمَهُ. [المستدرك 4/ 19]

3653 -

بَيْعُ الزَّرْع بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ: لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَإِن اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ جَازَ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِن بَاعَهُ مُطْلَقًا لَمْ يَجُزْ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَن بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ وَالْعِنَبَ حَتَّى يَسْوَدَّ. [29/ 477]

3654 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن مِلْك بُسْتَانٍ شَجَرُه مُخْتَلِفٌ، مِنْهُ مَا يَبْدُو صلَاحُهُ كَالْمِشْمِشِ، وَمِنْهُ مَا يَتَأَخَّرُ بُدُوُّ صَلَاحِهِ كَالرُّمَّانِ. فَكَيْفَ يُمْكِنُ الِاحْتِيَاطُ الشَّرْعِيُّ مَعَ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي بُدُوِّ الصَّلَاحِ؟

فَأَجَابَ رضي الله عنه: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَهَا صُورَتَانِ:

(1)

أي: الجائحة.

(2)

في الإنصاف: (تعَطَّلَ)، وهو أصوب.

ص: 194

إحْدَاهُمَا: أَنْ يَضْمَنَ الْبُسْتَانَ ضَمَانًا، بِحَيْثُ يَكُونُ الضَّامِنُ هُوَ الَّذِي يَزْرَعُ أَرْضَهُ وَيَسْقِي شَجَرَهُ كَاَلَّذِي يَسْتَأْجِرُ الْأَرْضَ.

وَالْأُخْرَى: إِنَّمَا يَكُونُ اشْتَرَى مُجَرَّدَ الثَّمَرَةِ؛ بِحَيْثُ يَكونُ مُؤْنَةُ السَّقْيِ وَالْإِصْلَاحِ عَلَى الْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي، وَالْمُشْتَرِي لَيْسَ لَهُ إلَّا الثَّمَرَةُ وَلَا مُؤْنَةَ عَلَيْهِ.

فَأَمَّا الصُّورَةُ الْأَوْلَى: فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي النَّهْيِ عَن بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ كَثِيرَةً أَو قَلِيلَةً.

الثَّالِث: جَوَازُ ذَلِكَ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَت الْأَرْضُ أَقَلَّ أَو أَكْثَرَ، وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِن السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْهُم ابْنُ عَقِيلٍ مِن أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَن الصَّحَابَةِ، فَإِنَّهُ قَد رَوَى حَرْبٌ الكرماني وَأَبُو زُرْعَة الدِّمَشْقِيُّ وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ ثَابِتٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَبَّلَ

(1)

حَدِيقَةَ أسيد بْنَ حضير - لَمَّا مَاتَ - ثَلَاثَ سِنِينَ وَتَسَلَّفَ الْقَبَالَةَ وَوَفَّى بِهَا دَيْنًا كَانَ عَلَى أسيد.

وَمِثْلُ هَذِهِ الْقِصَّةِ لَا بُدَّ أَنْ تَنْتَشِرَ وَلَمْ يُنْكِرْهَا أَحَدٌ

(2)

.

الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي [اشترى]

(3)

مُجَرَّدَ الثَّمَرَةِ فَقَطْ، وَمُؤْنَةُ السَّقْيِ عَلَى الْبَائِعِ، فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ إذَا كَانَ الْبُسْتَانُ مُشْتَمِلًا عَلَى أَنْوَاع فَفِيهَا أَيْضًا قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا -وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ-: أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ جَمِيعِ الْبُسْتَانِ إذَا

(1)

أي: أجّر.

(2)

وقد تكلم عن هذه المسألة وأطال فيها في المجلد الثلاثين (ص 220 - 240).

(3)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل ولا في جميع الطبعات، والسياق يقتضيه، وبعد البحث وجدته كذلك في مختصر الفتاوى المصرية والحمد لله. (338)

ص: 195

صَلَحَ نَوْعٌ مِنْهُ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ النَّوْعِ جَمِيعِهِ إذَا بَدَا صَلَاحُ بَعْضِهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّفْرِيقَ فِيهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ.

وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْوَى مِن الْقَوْلِ الثَّانِي وَهُوَ الْمَنْعُ مُطْلَقًا كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ.

وَالْجَوَازُ هُنَا بِمُجَرَّدِ الْحَاجَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ بَيْعَ الْمُزَابَنَةِ أَعْظَمُ مِن بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، فَإِنَّهُ بَيْعٌ رِبَوِيٌّ بِجِنْسِهِ خَرْصًا، وَالرِّبَا أَعْظَمُ مِن الْغَرَرِ.

فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَد أَرْخَصَ فِي الْعَرَايَا اسْتِثْنَاءً مِن الْمُزَابَنَةِ لِلْحَاجَةِ: فَلَأَنْ يَجُوزَ بَيْعُ النَّوْعِ تبَعًا لِلنَّوْعِ مَعَ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى ذَلِكَ أَشَدُّ وَأَوْلَى، وَلَا يَلْزَمُ مِن مَنْعِهِ مُفْرَدًا مَنْعُهُ مَضْمُومًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَمْلَ لَا يَجُوزُ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ، وَبَيْعُ الْحَيَوَانِ الْحَامِلِ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِن اشْتُرِطَ كَونهُ حَامِلًا، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ.

وَسرُّ الشَّرِيعَةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ: أَنَّ الْفِعْلَ إذَا اشْتَمَلَ عَلَى مَفْسَدَةٍ مُنِعَ مِنْهُ إلَّا إذَا عَارَضَهَا مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ كَمَا فِي إبَاحَةِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ، وَبَيْعُ الْغَرَرِ نُهي عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ مِن نَوْعِ الْمَيْسِرِ الَّذِي يُفْضِي إلَى أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، فَاِذَا عَارَضَ ذَلِكَ ضَرَرٌ أَعْظَمُ مِن ذَلِكَ أَبَاحَهُ؛ دَفْعًا لِأَعْظَمِ الفسادين بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا. [29/ 478 - 483]

(حكم بَيْعِ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالْبُنْدُقِ وَالْفُسْتُقِ ذَوَاتِ الْقُشُورِ)

3655 -

سُئِلَ رحمه الله: عَن بَيْعِ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالْبُنْدُقِ وَالْفُسْتُقِ وَالْفُولِ وَالْحِمَّصِ ذَوَاتِ الْقُشُورِ؟

فَأَجَابَ: أَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْمَنْصوصُ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَا يُجَوِّزُ هَذِهِ الْبُيُوعَ، لَكِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَهُوَ الصَّحِيحُ.

وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ مِن عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ، وَقَد نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم "عَن بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ، وَعَن بَيْعِ

ص: 196

الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ"

(1)

، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْحَبِّ بَعْدَ اشْتِدَادِهِ وَإِن كَانَ فِي سنْبُلِهِ.

وَأَمَّا بَيْعُ الْمُغَيَّبَاتِ فِي الْأَرْضِ كَالْجَزَرِ وَاللِّفْتِ وَالْقُلْقَاسِ: فَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَعْرُوفِ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا؛ فَإِنَّ أَهْلَ الْخِبْرَةِ إذَا رَأَوْا مَا ظَهَرَ مِنْهَا مِن الْوَرَقِ وَغَيْرِهِ دَلَّهُم ذَلِكَ عَلَى سَائِرِهَا. [29/ 225 - 227]

3656 -

بَيْعُ الْمَغْرُوسِ فِي الْأَرْضِ الَّذِي يَظْهَرُ وَرَقُهُ كَاللِّفْتِ وَالْجَزَرِ وَالْقُلْقَاسِ وَالْفُجْلِ وَالثُّومِ وَالْبَصَلِ وَشِبْهِ ذَلِكَ: فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَن أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا.

وَالثَّانِي: أَنَّ بَيْعَ ذَلِكَ جَائِزٌ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ لِوُجُوه:

مِنْهَا: أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِن الْغَرَرِ؛ بَل أَهْلُ الْخِبْرَةِ يَسْتَدِلُّونَ بِمَا يَظْهَرُ مِن الْوَرِقِ عَلَى الْمُغَيَّبِ فِي الْأَرْضِ.

وَالثَّانِي: أنَّ الْعِلْمَ فِي جَمِيعِ الْمَبِيعِ يُشْتَرَطُ فِي كُل شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، فَمَا ظَهَرَ بَعْضُهُ وَخَفِيَ بَعْضُهُ وَكَانَ فِي إظْهَارِ بَاطِنِهِ مَشَقَّةٌ وَحَرَجٌ: اُكْتُفِيَ بِظَاهِرِهِ؛ كَالْعَقَارِ فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ رُؤَيةُ أَسَاسِهِ وَدَوَاخِلُ الْحِيطَانِ، وَكَذَلِكَ الْحَيَوَانُ وَكَذَلِكَ أَمْثَالُ ذَلِكَ.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَا اُحْتِيجَ إلَى بَيْعِهِ فَإِنَّهُ يُوَسَّعُ فِيهِ مَا لَا يُوَسَّعُ فِي غَيْرِهِ، فَيُبِيحُهُ الشَّارعُ لِلْحَاجَةِ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْخَاصِّ، كَمَا أَرْخَصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا، وَأَقَامَ الْخَرْصَ مَقَامَ الْكَيْلِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَلَمْ يُجْعَلْ ذَلِكَ مِن الْمُزَابَنَةِ

(1)

رواه أبو داود (3371)، والترمذي (1228)، وابن ماجه (2217)، وأحمد (13314).

ص: 197

الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا، فَإِنَّ الْمُزَابَنَةَ بَيْعُ الْمَالِ بِجِنْسِهِ مُجَازَفَةً إذَا كَانَ رِبَوِيًّا بِالِاتِّفَاقِ، وَإِن كَانَ غَيْرَ رِبَوِيٍّ فَعَلَى قَوْلَيْنِ.

وَكَذَلِكَ رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي ابْتِيَاعِ الثَّمَرِ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ، مَعَ أَنَّ إتْمَامَ الثَّمَرِ لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ وَلَمْ يُرَ، فَجَعَلَ مَا لَمْ يُوجَدْ وَلَمْ يُخْلَقْ وَلَمْ يُعْلَمْ تَابِعًا لِذَلِكَ.

وَالنَّاسُ مُحْتَاجُونَ إلَى بَيْعِ هَذِهِ النَّبَاتَاتِ فِي الأَرْضِ.

وَمِمَّا يُشْبِهُ ذَلِكَ: بَيْعُ المقاثي كمقاثي الْبِطِّيخِ وَالْخِيَارِ وَالْقِثَّاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَمِن أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا مَن يَقُولُ: لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا إلَّا لُقَطَةً لُقَطَةً، وَكَثِيرٌ مِن الْعُلَمَاءِ مِن أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا قَالُوا: إنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا مُطْلَقًا عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ؛ فَإِنَّ بَيْعَهَا لَا يُمْكِنُ فِىِ الْعَادَةِ إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَبَيْعُهَا لُقَطَةً لُقَطَةً إمَّا مُتَعَذِّرٌ وَإِمَّا مُتَعَسِّرٌ؛ فَإِنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ لُقَطَةٌ عَن لُقَطَةٍ؛ إذ كَثِيرٌ مِن ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ الْتِقَاطُهُ وَيُمْكِنُ تَأْخِيرُهُ.

فَبَيْعُ المقثاة بَعْدَ ظُهُورِ صَلَاحِهَا كَبَيْعِ ثَمَرَةِ الْبُسْتَانِ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا وَإِن كَانَ بَعْضُ الْمَبِيعِ لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ وَلَمْ يُرَ؛ وَلهَذَا إذَا بَدَا صَلَاحُ بَعْضِ الشَّجَرَةِ كَانَ صَلَاحًا لِبَاقِيهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَيَكُونُ صَلَاحُهَا صَلَاحًا لِسَائِرِ مَا فِي الْبُسْتَانِ مِن ذَلِكَ النَّوْعِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، وَقَوْلِ جُمْهُورِهِمْ؛ بَل يَكُونُ صَلَاحًا لِجَمِيعِ ثَمَرَةِ الْبُسْتَانِ الَّتِي جَرَت الْعَادَةُ بِأَنْ يُبَاعَ جُمْلَةً فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. [29/ 487 - 489]

* * *

(بَابُ السَّلَمِ)

3657 -

السَّلَمُ فِي الزَّيْتُونِ وَأَمْثَالِهِ مِن الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ: يَجُوزُ، وَمَا عَلِمْت بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ نِزَاعًا.

وَلَكِنَّ النِّزَاعَ فِيمَا إذَا أَسْلَمَ فِي غَيْرِ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ كَالْحَيَوَانِ وَنَحْوِهِ،

ص: 198

وَفِيهِ عَن أَحْمَد رِوَايَتَانِ أَشْهَرُهُمَا جَوَاز ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَالثَّانِيَةُ لَا يَجُوزُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. [29/ 495]

3658 -

لو أسلم مقدارًا معلومًا إلى أجل معلوم في شيء، بحكم أنه إذا حل يأخذه بأنقص مما يساوي بقدر معلوم

(1)

: صح؛ كالبيع بالسعر.

ويصح حالًا إن كان المسلم فيه موجودًا في ملكه وإلا فلا

(2)

.

ويصح تعليق البراءة على شرط، وهو رواية عن أحمد. [المستدرك 4/ 19]

3659 -

لو تبَارَآ

(3)

وكان لِأَحَدِهِمَا على الْآخَرِ دَيْنٌ مَكْتُوبٌ فَادَّعَى اسْتِثْنَاءَة بِقَلْبِهِ، وأنه لم يُبْرئْهُ منه: قُبِلَ قَوْلُهُ، وَلخَصْمِهِ تَحْلِيفُهُ. [المستدرك 4/ 19]

* * *

(حكم بيع دين السلم)

3660 -

سُئِلَ: عَن رَجُلٍ أَسْلَفَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا فِي رِطْلِ حَرِيرٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ جَاءَ الْأَجَلُ فَتَعَذَّرَ الْحَرِيرُ، فَهَل يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ قِيمَةَ الْحَرِيرِ أَو يَأْخُذَ عِوَضَهُ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ؟

فَأَجَابَ: هَذه الْمَسْأَلَةُ فِيهَا رِوَايَتَانِ عَن الْإِمَامِ أَحْمَد:

إحْدَاهُمَا: لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَن دَيْنِ السَّلَمِ بِغَيْرِهِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي

(1)

قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى في حاشيته على الاختيارات (193): وينبغي أن يكون معلومًا بالجزء المشاع، كان يقول: بنازل عشرة في المائة عن قيمته وقت حلوله؛ لأنه إذا جعله شيئًا معيَّنًا بالقدر فقد يستغرق كثيرًا من الثمن أو قليلًا. اهـ.

(2)

ولو يكن موجودًا عنده أثناء العقد، كمن اشترى من صاحب مصنع إبريقًا أو سيارةً أو غيرها، ولم تُصنع بعدُ، ولكن يملك الأدوات التي تصنع السلعة، وكمن اشترى زرعًا من مُزارع، ولم ينبت بعدُ، فهذا جائز.

أما إذا لم يملكها البائع، كان يبيع السلعة للمشتري ويستلم الثمن على أنْ يُحضرها له بعد يوم أو يومين، ثم يذهب ويشتريها أو يُحصّلها: فلا يجوز؛ لأنه باع ما لا يملك، وربح ما لم يدخل في ضمانِه.

(3)

في الأصل: (تبارئآ) والتصويب من الاختيارات (193)، والإنصاف (7/ 130).

ص: 199

حَنِيفَةَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَن أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ فَلَا يَصْرِفْهُ إلَى غَيْرِهِ"

(1)

، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَهِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا الخرقي وَغَيْرُهُ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ ذَلِكَ كَمَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ دَيْنِ السَّلَمِ، وَفِي الْمَبِيعِ مِن الْأَعْيَانِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَقَد نَصَّ أَحْمَد عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَجَعَلَ دَيْنَ السَّلَمِ كَغَيْرِهِ مِن الْمَبِيعَاتِ.

وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ لَا يَمْنَعُ مِن الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ مُطْلَقًا؛ بَل لَهُ فِيهِ تَفْصِيلٌ وَأَقْوَالٌ مَعْرُوفَةٌ، وَلذَلِكَ فَرَّقَ بَيْنَ الْبَيْعِ مِن الْبَائِعِ وَغَيْرِهِ.

وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي "مُغْنِيهِ"

(2)

لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ الخرقي: "وَبَيْعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مِن بَائِعِهِ أَو غَيْرِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ فَاسِدٌ"، قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:"بَيْعُ الْمُسْلَمِ قَبْلَ قَبْضِهِ لَا يُعْلَمُ فِي تَحْرِيمِهِ خِلَافٌ": فَقَالَ رحمه الله بِحَسَبِ مَا عَلِمَهُ، وَإِلَّا فَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ مِن غَيْرِ الْمُسْتَسْلِفِ، كَمَا يَجُوزُ عِنْدَهُ بَيْعُ سَائِرِ الدُّيُونِ مِن غَيْرِ مَن هُوَ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَيْضًا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ أَحْمَد.

وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ وَهُوَ قِيَاسُ أُصُولِ أَحْمَد

(3)

؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ دَيْنَ السَّلَمِ

(1)

رواه أبو داود (3468).

(2)

(4/ 227).

(3)

وقد أفتى الشيخ رحمه الله في مواضع من مجموع الفتاوى بالتحريم، (29/ 500 - 501)(29/ 526)، ومن ذلك قوله: لَا يَجُوزُ بَيْعُ دَيْنِ السَّلَمِ قَبْلَ قَبْضِهِ وَلَا بَيْعُ الدَّيْنِ فَهَذَا حَرَامٌ مِن وَجْهَيْنِ.

والشيخ صحح في جميع فتاويه عدا هذين الموضعين جواز الاعتياض عن دين السلم كالحنطة بغيره كالشعير.

وقد كان رحمه الله يُفتي قبل ذلك بالمنع، وينسب ذلك إلى الأئمة الأربعة، ومن ذلك قوله: لَا يَجُوزُ بَيْعُ هَذَا الدَّيْنِ الَّذِي هُوَ دَيْنُ السَّلَمِ قَبْلَ قَبْضِهِ لَا مِن الْمُسْتَلِفِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ فِي مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، بَلْ هَذَا يَدْخُلُ فِيمَا نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ، وَقَدْ يَدْخُلُ فِي رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنْ. (29/ 500)

وقد يكون اعتمد على قول ابن قدامة رحمه الله، قبل أن يطّلع على قول مالك رحمه الله، ومن ثَمّ استدرك على ابن قدامة كما تقدّم.

ص: 200

مَبِيعٌ، وَقَد تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ بَيْعِ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَبَعْدَ التَّمَكُّنِ مِن قَبْضِهِ، وَفِي ضَمَانِ ذَلِكَ:

أ - فَالشَّافِعِيُّ يَمْنَعُهُ مُطْلَقًا وَيقُولُ: هُوَ مِن ضَمَانِ الْبَائِعِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ عَن أَحْمَد.

ب - وَأَبُو حَنِيفَةَ يَمْنَعُهُ إلَّا فِي الْعَقَارِ وَيقُولُ: هُوَ مِن ضَمَانِ الْبَائِعِ.

ج - وَأَمَّا مَالِكٌ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَغَيْرُهُمَا فَيَقُوُلونَ: مَا تَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي مِن قَبْضِهِ وَهُوَ الْمُتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ -كَالْعَبْدِ وَالْفَرَسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ- فَهُوَ مِن ضَمَانِ الْمُشْتَرِي؛ لِمَا رَوَاهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَن الزُّهْرِيِّ عَن سَالِمٍ عَن ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: "مَضَت السُّنَّةُ أَنَّ مَا أَدْرَكَتْهُ الصَّفْقَةُ حَيًّا مَجْمُوعًا فَهُوَ مِن ضَمَانِ الْمُشْتَرِي".

فَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد: أَنَّ النَّاقِلَ لِلضَّمَانِ إلَى الْمُشْتَرِي هُوَ التَّمَكُّنُ مِن الْقَبْضِ لَا نَفْسُ الْقَبْضِ.

فَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ أَنَّ جَوَازَ التَّصَرُّفِ فِيهِ لَيْسَ مُلَازِمًا لِلضَّمَانِ وَلَا مَبْنِيًّا عَلَيْهِ؛ بَل قَد يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ حَيْثُ يَكُونُ مِن ضَمَانِ الْبَائِعِ، كَمَا ذَكَرَ فِي الثَّمَرَةِ وَمَنَافِعِ الْإِجَارَةِ، وَبِالْعَكْسِ كَمَا فِي الصُّبْرَةِ الْمُعَيَّنَةِ.

وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَد قَد يَكُونُ الْمَبِيعُ مَضْمُونًا عَلَى الْبَائِعِ وَيجُوزُ لِلْمُشْتَرِي بَيْعُهُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ؛ كَالثَّمَرِ إذَا بِيعَ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، فَإِنَّهُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد مِن ضَمَانِ الْبَائِعِ، وَهُوَ قَوْلٌ مُعَلَّقٌ لِلشَّافِعِيِّ؛ لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ" عَن جَابِرٍ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إذَا بِعْت مِن أَخِيك ثَمَرَةً فَأَصَابَتْهَا جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ"

(1)

.

(1)

رواه البخاري بنحوه (2198).

ص: 201

وَمَعَ هَذَا فَيَجُوزُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمَد لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَبِيعَ هَذَا الثَّمَرَ مَعَ أَنَّهُ مِن ضَمَانِ الْبَائِعِ.

وَهَذَا كَمَا يَجُوزُ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُؤَجِّرَ مَا اسْتَأْجَرَهُ بِمِثْل الْأُجْرَةِ بِلَا نِزَاعٍ.

وَإِن كَانَت الْمَنَافِعُ مَضْمُونَةً عَلَى الْبَائِعِ.

وَلَكِنْ إذَا أَجَّرَهَا بِزِيَادَةٍ مِن غَيْرِ إحْدَاثِ زِيَادَةٍ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:

إحْدَاهُمَا: يَجُوزُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ.

وَالثَّانِيَةُ: لَا يَجُوزُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ رَبح مَا لَمْ يَضْمَن، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَن رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ.

وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ.

وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ أَصْلَ أَحْمَد وَمَالِكٍ جَوَازُ التَّصَرُّفِ، وَأَنَّهُ يُوَسَّعُ فِي الْبَيْعِ قَبْلَ انْتِقَالِ الضَّمَانِ إلَى الْمُشْتَرِي.

بِخِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَن أَحْمَد فَإِنَّ الْبَيْعَ لَا يَجُوزُ عَلَى أَصْلِهِمَا إلَّا إذَا انْتَقَلَ الضَّمَانُ إلَى الْمُشْتَرِي وَصَارَ الْمَبِيعُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ.

فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ: يُمْنَعُ مِن بَيْعِ دَيْنِ السَّلَمِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْهُ الْمُسْلِفُ فَإِنَّهُ لَايَضْمَنُهُ إلَّا بِالْقَبْضِ فَلَا يَبِيعُ مَا لَمْ يَضْمَنْ.

وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ: يَجُوزُ ذَلِكَ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ بِرِبْح؛ بَل لَا يُبَاعُ إلَّا بِالْقِيمَةِ؛ لِئَلَّا يَرْبَحَ الْمُسْلِفُ فِيمَا لَا يَضْمَنُ، وَقَد صَحَّ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "أَنَّهُ نَهَى عَن رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ"

(1)

.

(1)

رواه الترمذي (1234)، والنسائي (4629)، وابن ماجه (2188)، والدارمي (2602)، وأحمد (6628). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

ص: 202

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ الثَّمَنَ يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ قَبْلَ قَبْضِهِ بِالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: كُنا نَبِيعُ الْإِبِلَ بِالنَّقِيعِ - وَالنَّقِيعُ بِالنُّونِ: هُوَ سُوقُ الْمَدِينَةِ. وَالْبَقِيعُ بِالْبَاءِ هُوَ مَقْبَرَتُهَا - قَالَ: - كُنَّا نبِيعُ بِالذَّهَبِ وَنَقْضِي الْوَرِقَ، وَنَبِيعُ بِالْوَرِقِ وَنَقْضِي الذَّهَبَ، فَسَأَلْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَن ذَلِكَ فَقَالَ:"لَا بَأْسَ إذَا كَانَ بِسِعْرِ يَوْمِهِ إذَا تَفَرَّقْتُمَا وَلَيْسَ بَيْنكُمَا شَيْءٌ"

(1)

.

فَقَد جَوَّزَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يعتاضوا عَن الدَّيْنِ الَّذِي هُوَ الثَّمَنُ بِغَيْرِهِ، مَعَ أَنَّ الثَّمَنَ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُشْتَرِي، لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى ضَمَانِ الْبَائِعِ، فَكَذَلِكَ الْمَبِيعُ الَّذِي هُوَ دَيْنُ السَّلَمِ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَإِن كَانَ مَضْمُونًا عَلَى الْبَائِعِ لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى ضَمَانِ الْمُشْتَرِي.

وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا جَوَّزَ الِاعْتِيَاضَ عَنْهُ إذَا كَانَ بِسِعْرِ يَوْمِهِ لِئَلَّا يَرْبَحَ فِيمَا لَمْ يَضْمَن.

وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد: أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الدَّيْنِ مِمَن هُوَ عَلَيْهِ

(2)

؛ لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ مَقْبُوضٌ لِلْمَدِينِ.

لَكِنْ إنْ بَاعَهُ بِمَا لَا يُبَاعُ بِهِ نَسِيئَةً اشْتَرَطَ فِيهِ الْحُلُولَ وَالْقَبْضَ لِئَلَّا يَكُونَ رِبًا

(3)

.

(1)

قال الشيخ في موضع آخر: فَيَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ بِالشعْرِ لِئَلَّا يَرْبَحَ فِيمَا لَمْ يَضْمَنْ.

فَإِنْ قِيلَ: فَدَيْنُ السَّلَمِ يَتْبَعُ ذَلِكَ فَنُهِيَ عَن بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ.

قِيلَ: النَّهْيُ إنَّمَا كَانَ فِي الْأَعْيَانِ لَا فِي الدُّيُونِ. (29/ 519)

(2)

بثمن حال.

(3)

ويُشترط كما تقدم: أن يكون بسعر يومه.

وهذا هو اختيار العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله وقال: مثاله -أي: مثال التقابض قبل التفرق-: أن يكون لي في ذمة رجل دنانير فبعتها عليه بدراهم، وبيع الدنانير بالدراهم يشترط فيه القبض ولا يشترط التساوي للحديث:"إذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد"، فيعطيني الدراهم فقط، وليس بلازم أن يحضر الدنانير، فالدنانير عنده في ذمته قد قبضها.

ومثال كونها بسعر يومها: إذا قدرنا أن عشرة دنانير قيمتها في السوق مائة درهم فأبيعها عليه بمائة درهم لا أزيد ولا أنقص.

ص: 203

وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهُ بِمَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ

(1)

.

وَإِن بَاعَهُ بِغَيْرِهِمَا

(2)

: فَفِيهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: لَا يُشْتَرَطُ كَمَا لَا يُشْتَرَطُ فِي غَيْرِهِمَا

(3)

.

وَالثَّانِي: يُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْقَبْضِ نَسِيئَةٌ كَبَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ.

وَلهَذَا: لَو حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّهُ حَقَّهُ فِي غَد، فَأَعْطَاهُ عِوَضًا: بَرَّ فِي يَمِينِهِ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ، فَنَهْيُهُ عَن بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ يُرِيدُ بِهِ بَيْعَهُ مِن غَيْرِ الْبَائِعِ

(4)

.

وَأَيْضًا: فَبَيْعُهُ مِن الْبَائِعِ يُشْبِهُ الْإِقَالَةَ، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ: تَجُوزُ الْإِقَالَة فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالْإِقَالَةُ هَل هِيَ فَسْخٌ أَو بَيْعٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَن أَحْمَد

(5)

.

فَعُلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ فِي دَيْنِ السَّلَمِ أَخَفُّ مِنْهُ فِي بَيْعِ الْأعْيَانِ، حَيْثُ كَانَ الْأَكْثَرُونَ لَا يُجَوِّزُونَ بَيْعَ الْمَبِيعِ لِبَائِعِهِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِن قَبْضِهِ، ويُجَوِّزُونَ الْإِقَالَةَ فِي دَيْنِ السَّلَمِ.

= وقال: إذا باعها بأقل فقد زاد المدين خيرًا، وإن باعها بأكثر فقد ربح فيما لم يدخل في ضمانه، وهذا حرام ولا يجوز. الشرح الممتع (8/ 378 - 379).

(1)

أي: يَجُوزُ بَيْعُ الدَّيْنِ مِمَن هُوَ عَلَيْهِ بثمنٍ مؤجل، بالشرطين السابقين.

ومعنى العبارة: إنْ بَاعَ الدَّيْن على منْ هُوَ عَلَيْهِ بِمَا لَا يُبَاعُ بِهِ نَسِيئَةً، أو بَاعَهُ بمَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ: اشْتُرِطَ قَبْضُ عِوَضِهِ فِي الْمَجْلِسِ.

قال في الإنصاف (5/ 111): (بِلَا نِزَاعٍ).

مثال البيع بِمَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ: باع زيدٌ على عمروٍ سيارةً بعشرة آلاف ريال إلى سنة، فلما حل الأجل لم يكن المال حاضرًا عند عمروٍ، فباع عليه العشرة آلاف ببعيرٍ عنده إلى سنة؛ أي: قال له: بعد سنة تأخذ البعير.

وهذا ما يُسمى بفسخ الدين بالدين، وعبر عنه شيخ الإسلام بـ (الساقط بالواجب)، فسقط الدين (العشرة آلاف) ووجب عوضه: البعير.

(2)

أي: مِمَّا لَا يُبَاعُ بهِ نَسِيئَةً، أو بمَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ مِمَّا لَا يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ.

مِثْلُ: مَا لَو قَالَ المُسِلم للمسلَم إليه حين حلَّ أجلُ قبضِ ثمر نخله ولم يُنتج النخل: بعْتُك ثمر النخل الَّذي فِي ذِمَّتِك بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، أو بسيارتك.

(3)

وهو الأرجح.

(4)

هذا مِن حُجج الوجه الأول.

(5)

الراجح أنها فسخ.

ص: 204

وَالِاعْتِيَاضُ عَنْهُ يَجُوزُ كَمَا تَجُوزُ الْإِقَالَةُ، لَكِنْ إنَّمَا يَكُونُ إقَالَةً إذَا أَخَذَ رَأْسَ مَالِهِ أَو مِثْلَهُ وَإِن كَانَ مَعَ زَيادَةٍ.

أَمَّا إذَا بَاعَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ

(1)

: فَلَيْسَ إقَالَةً؛ بَل هُوَ اسْتِيفَاءٌ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ لِمَا لَمْ يُقْبَضْ.

وَأَحْمَد جَوَّزَ بَيْعَ دَيْنِ السَّلَمِ مِن الْمُسْتَسْلِفِ؛ اتِّبَاعًا لِابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ:"نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَن بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ" وَلَا أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ.

فَابْنُ عَبَّاسٍ لَا يُجَوِّزُ الْبَيْعَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَجَوَّزَ بَيْعَ دَيْنِ السَّلَمِ مِمَن هُوَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَرْبَحْ، وَلَمْ يُفَرِّق ابْنُ عَبَّاسٍ بَيْنَ الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ، وَلَا بَيْنَ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ وَغَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ هُنَا مِن الْبَائِعِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ وَهُوَ الَّذِي يَقْبِضهُ مِن نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، بَل لَيْسَ هُنَا قَبْضٌ، لَكِنْ يُسْقِطُ عَنْهُ مَا فِي ذِمَّتِهِ، فَلَا فَائِدَةَ فِىِ أَخْذِهِ مِنْهُ ثُمَّ إعَادَتُهُ إلَيْهِ، وَهَذَا مِن فِقْهِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

وَأَمَّا احْتِجَاجُ مَن مَنَعَ بَيْعَ دَينِ السَّلَمِ بِقَولِهِ صلى الله عليه وسلم: "مَن أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلَا يَصْرِفْهُ إلَى غَيْرِهِ"

(2)

فَعَنْهُ جَوَابَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ.

وَالثَّانِي: الْمُرَادُ بِهِ أَنْ لَا يَجْعَلَ السَّلَفَ سَلَمًا فِي شَيْءٍ آخَرَ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ النَّهْيَ عَن بَيْعِهِ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ إلَى أَجَلٍ، وَهُوَ مِن جِنْسِ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَلهَذَا قَالَ:"لَا يَصْرِفْهُ إلَى غَيْرِهِ"؛ أَيْ: لَا يَصْرِف الْمُسْلَمَ فِيهِ إلَى مُسْلَمٍ فِيهِ آخَرَ، وَمَن اعْتَاضَ عَنْهُ بِغَيْرِهِ قَابِضًا لِلْعِوَضِ لَمْ يَكُن قَد جَعَلَهُ سَلَمًا فِي غَيْرِهِ.

لَكِنَّ الرُّخْصَةَ فِي هَذَا الْبَابِ ثَابِتَةٌ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ

(3)

. [503 - 517]

(1)

أي: بغير رأس ماله، كأن يكون رأس ماله دراهم، فيعتاض عنها بتمر.

(2)

رواه أبو داود (3468).

(3)

فائدة: فإن قال قائل: إذًا هل يجوز بيع المسلم فيه قبل قبضه؟

ص: 205

3661 -

يصحُّ بيع الدين المستقر من الغريم لا من غيره

(1)

.

وفي رهنه عند مدين بحق له

(2)

: روايتان في الانتصار.

وعنه: يصح منهما. قال شيخنا: نصَّ عليه في مواضع.

وعنه: لا. كدين السلم.

وفي المبهج وغيره رواية: يصح فيه، اختاره شيخنا وأنه قول ابن عباس. لكن بقدر القيمة فقط؛ لئلا يربح فيما لم يضمن.

قال: وكذا ذكره أحمد في بدل القرض وغيره، ولأنه مبيع، وجواز التصرف ليس ملازمًا للضمان في ظاهر مذهب أحمد، وكالثمن. [المستدرك 4/ 19 - 20]

3662 -

ما قبضه أحد الشريكين من دين مشترك بعقد أو إرث أو إتلاف أو ضريبة وسبب استحقاقها واحد: فلشريكه الأخذ من الغريم، ويحاصه فيما قبضه، وهو مذهب الإمام أحمد، وكذا لو تلف. [المستدرك 4/ 19]

* * *

= فالجواب: نعم يجوز بيعه على المسلم إليه، وعند شيخ الإسلام يجوز بيعه حتى على أجنبي، لكن فيه نظر؛ لأنه حقيقة إذا بعته على غير من هو عليه قد يتعذر عليه أخذه، ثم إذا بعته على غير من هو عليه بما يباع نسيئة معناه ما قبضه، فالتوسع غير ظاهر لي جدًّا، وشيخ الإسلام يجوز بيع الدين على غير من هو عليه، ولكنه يشترط القدرة على أخذه. اهـ. الشرح الممتع (9/ 87).

(1)

مثاله: لي في ذمة زيدٍ خمسون ريالًا، فبعتها عليه بثلاثة أصواع رز.

وبيع الدين على من هو عليه جائزٌ بشرطين:

الشرط الأول: أن يكون بسعر يومه؛ لئلا يربح فيما لا يدخل في ضمانه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن".

والشرط الثاني: أن يتقابضا قبل التفرق، لكن هذا فيما يشترط فيه التقابض كالدراهم بالدنانير، والدنانير بالدراهم، والبر بالشعير، والشعير بالبر، وما أشبهها. الشرح الممتع (8/ 378).

(2)

أي: يجوز رهن الدين المستقر عند من هو في ذمته بحق لمن هو في ذمته.

قال في الإنصاف: الأولى الجواز. كشاف القناع (3/ 307).

ص: 206

(بَابُ الْقَرْضِ)

3663 -

يجوز قرض المنافع؛ مثل أن يحصد معه يومًا ويحصد معه الآخر يومًا، أو يسكنه دارًا ليسكنه الآخر بدلها، لكن الغالب على المنافع أنها ليست من ذوات الأمثال، حتى يجب [ردّ المثل]

(1)

على المشهور، وفي

(2)

الأخرى: القيمة.

ويتوجه في المتقوم أنه يجوز رد المثل بتراضيهما. [المستدرك 4/ 20]

3664 -

إن ظهر المقترض مفلسًا، ووجد المُقرضُ عينَ ماله: فله الرجوع بعين ماله بلا ريب. [المستدرك 4/ 20]

3665 -

الدين الحالُّ يتأجل بتأجيله، سواء كان الدين قرض أو غيره، وهو قول مالك ووجه في مذهب أحمد، ويتخرج رواية عن أحمد من إحدى الروايتين في تأجيل العارية، وفي إحدى الروايتين في صحة إلحاق الأجل والخيار بعد لزوم العقد.

3666 -

لو أقرض أكَّارَه

(3)

بذرًا أو أمره ببذره وأنه في ذمته كما يفعله الناس فهو فاسد، وله نصيبُ

(4)

المثل، ولو تلف لم يضمنه لأنه أمانة. [المستدرك 4/ 20]

3667 -

لو اقترض من رجل قروضًا متفرقة ووكَّل المقرضَ في ضبطها، أو ابتاع منه شيئًا ووكل البائع في ضبط المبيع حفظًا أو كتابة: فينبغي أن يكون قولُ هذا المؤتمن ههنا مقبولًا. [المستدرك 4/ 20]

3668 -

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: عَن رَجُلٍ أَقْرَضَ لِرَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَطَالَبَهُ

(1)

ليست من المطبوع. محقق الاختيارات (194).

(2)

في الأصل: في، والتصويب من الاختيارات (194).

(3)

أي: الحراث.

(4)

أي: قيمة المثل.

تنبيه: في الأصل: نصف! وهو خطأ، والتصويب من الاختيارات (194).

ص: 207

فَقَالَ: أَنَا مُعْسِرٌ، أَنَا أَشْتَرِي مِنْك صِنْفًا بِزَائِدٍ إلَى أَنْ تَصْبِرَ سِتَّةَ شُهُورٍ فَهَل يَجُوزُ ذَلِكَ؟

فَأَجَابَ: قَد ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ"

(1)

، فَإِذَا بَاعَهُ وَأَقْرَضَهُ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَكِلَاهُمَا يَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ إذَا كَانَ قَد بَلَغَهُ النَّهْيُ، وَيجِبُ رَدُّ الْقَرْضِ وَالسِّلْعَةِ إلَى صَاحِبِهَا، فَإِذَا تَعَذَرَ ذَلِكَ لَمْ يَكُن لَهُ إلَّا بَدَلُ الْقَرْضِ، وَإِلَّا بَدَلُ السِّلْعَةِ قِيمَةُ الْمِثْلِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الزيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ. [29/ 528]

3669 -

يَجِبُ عَلَى الْمُقْتَرِضِ أَنْ يُوَفِّيَ الْمُقْرِضَ فِي الْبَلَدِ الَّذِي اقْتَرَضَ فِيهِ، وَلَا يُكَلِّفهُ

(2)

شَيْئًا مِن مُؤْنَةِ السَّفَرِ وَالْحَمْلِ.

فَإِنْ قَالَ

(3)

: مَا أُوَفِّيك إلَّا فِي بَلَدٍ آخَرَ غَيْرِ هَذَا: كَانَ عَلَيْهِ

(4)

ضَمَانُ مَا يُنْفِقُهُ

(5)

بِالْمَعْرُوفِ

(6)

. [29/ 530]

3670 -

إذَا أَقْرَضَهُ دَرَاهِمَ لِيَسْتَوْفِيَهَا مِنْهُ فِي بَلَدٍ آخَرَ؛ مِثْل أَنْ يَكُونَ الْمُقْرِضُ غَرَضُهُ حَمْل الدَّرَاهِمِ إلَى بَلَدٍ آخَرَ، وَالْمُقْتَرِضُ لَهُ دَرَاهِمُ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى دَرَاهِمَ فِي بَلَدِ الْمُقْرِضِ، فَيَقْتَرِضُ مِنْهُ وَيَكْتُبُ لَهُ "سُفْتَجَةً"؛ أَيْ: وَرَقَةً إلَى بَلَدِ الْمُقْتَرِضِ: فَهَذَا يَصِحُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ.

(1)

رواه أبو داود (3504)، والترمذي (1234)، والنسائي (4611)، وأحمد (6671)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

(2)

أي: لا يُكلّف الْمُقْتَرِضُ الذي اقترض منه مؤنة السفر ونحوه.

(3)

أي: قال الْمُقْتَرِضُ للذي اقترض منه.

(4)

أي: على الْمُقْتَرِض.

(5)

أي: الْمُقْرِض.

(6)

شيخ الإسلام رحمه الله تعالى خالف المذهب الحنبلي في هذه المسألة، قال في الزاد:"وَإنْ أقْرَضَهُ أَثْمَانًا فَطَالَبَهُ بِهَا بِبَلَدٍ آخَرَ لَزِمَتْهُ، وَفِيمَا لِحَمْلِهِ مَؤونَة قِيمَتُهُ"، ولم يذكر الشيخ ابن عثيمين رحمه الله قولًا آخر، ولم يُشر إلى رأي شيخ الإسلام كعادتِه. يُنظر: الشرح الممتع (9/ 115).

قال البعلي في اختياراته (44): واختار جواز اشتراط الاستيفاء في بلدٍ غير بلد القرض. اهـ.

ص: 208

وَقِيلَ: نُهِيَ عَنْهُ لِأَنَّهُ قَرْضٌ جَرَّ مَنْفَعَةً، وَالْقَرْضُ إذَا جَرَّ مَنْفَعَةً كَانَ رِبًا.

وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَرِضَ رَأَى النَّفْعَ بِأَمْنِ خَطَرِ الطَّرِيقِ فِي نَقْلِ دَرَاهِمِهِ إلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَقَد انْتَفَعَ الْمُقْتَرِضُ أَيْضًا بِالْوَفَاءِ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ وَأَمِنَ خَطَرَ الطَّرِيقِ، فَكِلَاهُمَا مُنْتَفِعٌ بِهَذَا الِاقْتِرَاضِ، وَالشَّارعُ لَا يَنْهَى عَمَّا يَنْفَعُهُم وَيُصْلِحُهُم وَإِنَّمَا يَنْهَى عَمَّا يَضُرُّهُمْ. [29/ 530 - 531]

3671 -

يَجُوزُ قَرْضُ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ إذَا كَانَت مُتَسَاوِيَةَ الْغِشِّ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْغِشُّ مُتَفَاوِتًا يَسِيرًا.

وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ قَرْضُ الْحِنْطَةِ وَغَيْرِهَا مِن الْحُبُوبِ وَإِن كَانَت مَغْشُوشَةً بِالتُّرَابِ وَالشَّعِيرِ؛ فَإِنَّ "بَابَ الْقَرْضِ" أَسْهَلُ مِن "بَابِ الْبَيْعِ".

وَلهَذَا يَجُوزُ عَلَى الصَّحِيحِ قَرْضُ الْخُبْزِ عَدَدًا، وَقَرْضُ الْخَمِيرِ وَإِن كَانَ لَا يَجُوزُ عَدَدًا.

وَيجُوزُ فِي الْقَرْضِ أَنْ يَرُدَّ خَيْرًا مِمَّا اقْتَرَضَ بِغَيْرِ شَرْطٍ كَمَا اسْتَلَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعِيرًا وَرَدَّ خَيْرًا مِنْهُ.

وَكَذَلِكَ يَجُوزُ قَرْضُ الْبَيْضِ وَنَحْوِهِ مِن الْمَعْدُودَاتِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اقْتَرَضَ حَيَوَانًا، وَالْحَيَوَانُ أَكْثَرُ اخْتِلَافًا مِن الْبَيْضِ. [29/ 531 - 532]

* * *

(بَابُ الرَّهْنِ)

(1)

3672 -

يجوز رهن العبد المسلم من كافر بشرط كونه في يد مسلم. [المستدرك 4/ 21]

(1)

الرَّهن اصطلاحًا: توثقة دَين بعين يمكن استيفاؤه أو بعضه منها أو من بعضها.

قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله: قولنا: "توثقة دين بعين" يفيد أنه لا بد أن يكون الرهن عينًا؛ لأن الاستيفاء الكامل لا يكون إلا بالعين، فإن كان منافع أو دينًا فإنه لا يصح على كلام الفقهاء. =

ص: 209

3673 -

يجوز للإنسان أن يرهن مال نفسه على دين غيره، كما يجوز أن يضمنه وأولى، وهو نظيرُ إعارته للرهن

(1)

. [المستدرك 4/ 21]

3674 -

إذا اختلف الراهن والمرتهن في قدر الدين: فالقول قول المرتهن ما لم يَدَّعِ أكثر من قيمة الرهن، وهو مذهب مالك. [المستدرك 4/ 21]

3675 -

لو أذن الراهن للمرتهن في البيع ثم رجع: جاز؛ لكن لو ادعى أنه رجع قبل البيع: لم يقبل؛ لأن الأصل عدمه، ولو تعلق به حق ثالث. [المستدرك 4/ 21]

3676 -

سُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلٍ أَرْهَنَ دَارَهُ عِنْدَ رَجُلٍ عَلَى مَالٍ إلَى أَجَلٍ، فَحَلَّ الْأَجَلُ وَهُوَ

(2)

عَاجِزٌ، فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: بِعْنِي الدَّارَ بِشَرْطِ إنْ وَفَّيْتنِي أَخَذْتهَا بِالثَّمَنِ، وَإِن سَكَنْتَهَا لَمْ آخُذْ مِنْك أُجْرَةً، فَهَل الْبَيْعُ صَحِيحٌ؟ وَقَد عَمَّرَ الْمُشْتَرِي فَوْقَهَا بِنَاءً فَمَا حُكْمُهُ؟

فَأَجَابَ: لَيْسَ هَذَا بَيْعًا صَحِيحًا؛ بَل تُعَادُ الدَّارُ إلَى صَاحِبِهَا، ويُوَفِّي الدَّيْنَ الْمُسْتَحَقَّ، وَالْعِمَارَةُ الَّتِي عَمَّرَهَا الْمُشْتَرِي تُحْسَبُ لَهُ. [29/ 536]

= مثال الرهن بالمنافع، أن يقول: رهنتك منافع هذا البيت، فإنه لا يصح لأنه ليس بعين، بل نقول: ارهن البيت، فإذا قال: البيت وقف لا يمكن بيعه، أنا سأرهنه المنافع، فلا يصح.

مثال الدَّين: أنا أطلب فلانًا عشرة آلاف ريال فأمسكته وقلت: أعطني عشرة آلاف ريال، فقال: ما عندي، قلت: أنت تطلب فلانًا عشرة آلاف ريال، اجعل دينه الذي لك رهنًا لي، فهنا توثقة دين بدين فلا يصح؛ وذلك لأن الدين الذي في ذمة الآخر لا يجوز بيعه إلا على من هو عليه، فإذا كان كذلك فإنه لا يصح أن يكون رهنًا.

وقيل: بل يصح أن يوثق الدين بالمنافع؛ لأن المقصود التوثقة، وبالدين، ويكون المدين الثاني كأنه ضامن، فيقول: نعم أنا مستعد أن أوفيك ما في ذمتي لفلان إذا لم يوفك.

وهذا هو الصحيح. اهـ. الشرح الممتع (9/ 119).

(1)

في الأصل: (وهو نظير ظاهر إعارته للرهن)، ويظهر أنه كلمة (ظاهر) مقحمة، والمثبت من الاختيارات (197)، والإنصاف (5/ 149).

(2)

أي: الراهن، الذي اشترى من الرجل سلعةً، فرهنه بيته؛ ليتمكن المرتهن من استيفاء دينِه من الرهن.

ص: 210

3677 -

إذَا أوْفَى الْغَرِيمُ بَعْضَ الدَّيْنِ وَبَقِيَ بَعْضُهُ فَالرَّهْنُ بَاقٍ بِمَا بَقِيَ مِن الْحَقِّ إلَّا أنْ يَحْصُلَ مَا يُوجِبُ فِكَاكَهُ؛ مِثْل فَكِّ الْمُرْتَهِنِ لَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ. [29/ 537]

3678 -

يُقْبَلُ إقْرَارُ الرَّاهِنِ بِمَا نبْطِلُ الزهْنَ

(1)

، وَإِن قِيلَ: إنَّهُ إذَا أقَرَّ بِالرَّهْنِ فَلِلْمُقَرِّ لَهُ اُّنْ يُبْطِلَهُ بِمُوجِبِ إقْرَارِهِ بِلَا ريب؛ لِأنَّهُ إذَا أَقَرَّ أَنَّ الرَّهْنَ كَانَ مِلْكًا لِغَيْرِهِ وَأَنَّهُ رَهَنَهُ بِدُونِ إذْنِهِ: لَمْ يَبْطُل الرَّهْنُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ. [29/ 538]

3679 -

وَسُئِلَ: عَمَّن لَهُ عَلَى شَخْصِ دَيْن وَأَرْهَنَ عَلَيْهِ رَهْنًا وَالدِّيْنُ حَالٌّ، وَرَب الدِّيْنِ مُحْتَاجٌ إلَى دَرَاهِمِهِ، فَهَل يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الرَّهْنِ؟

فَأَجَابَ: إذَا كَانَ أَذِنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ جَازَ، وَإِلَّا بَاعَ الْحَاكِمُ إنْ أَمْكَنَ وَوَفَّاهُ حَقَّه مِنه.

وَمِن الْعُلَمَاءِ مَن يَقُولُ: إذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ دَفَعَهُ إلَى ثِقَه يَبِيعُهُ، وَيحْتَاطُ بِالْإِشْهَادِ عَلَى ذَلِكَ ويسْتَوْفِي حَقَّهُ مِنْهُ. [29/ 538]

فَإِذَا أَمْكَنَ بَيْعُهُ وَاسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْهُ: لَمْ يَجُزْ حَبْسُ الْغَرِيمِ. [29/ 540]

3680 -

بَيْعُ الرَّهْنِ اللَّازِمِ بِدُونِ إذْنِ الْمُرْتَهِنِ لَا يَجُوزُ، وَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَطْلُبَ دَيْنَهُ مِن الرَّاهِنِ الْمَدِينِ إنْ كانَ قَد حَلَّ، وَلَهُ أَنْ يَطْلُبَ عَوْدَ الرَّهْنِ أو اسْتِيفَاءَ حَقِّهِ مِنْهُ، وَإِن شَاءَ طَالَبَ الْبَائِعَ لَهُ، وَإِن شَاءَ طَالَبَ الْمُشْتَرِيَ لَهُ.

لَكِنَّ الْمُشْتَرِيَ إنْ كَانَ مَغْرُورًا: فَقَرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الْبَائِعِ، يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ أُجْرَةِ الْمَبِيعِ، وَاِن كَانَ عَالِمًا بِصُورَةِ الْحَالِ فَهُوَ ظَالِمٌ، عَلَيْهِ ضَمَانُ الْمَنْفَعَةِ. [29/ 543]

* * *

(1)

كأن يقول حين حلّ الأجل ولم يكن عنده ما يُوفي دينه: البيت الذي رهنتك وقف، أو ملك لفلان.

ص: 211

(بَابُ الضَّمَانِ)

3681 -

قياس المذهب أنه يصح بكل لفظ يفهم منه الضمان عرفًا مثل: زوِّجه وأنا أؤدي الصداق، أو بِعْه وأنا أعطيك الثمن، واتركه لا تطالبه وأنا أعطيك الثمن. [المستدرك 4/ 21]

3682 -

يصح ضمان حارس ونحوه، وتجار حرب بما يذهب من البلد أو البحر، وغايته ضمان مجهول وما لم يجب، وهو جائز عند أكثر أهل العلم مالك وأبي حنيفة وأحمد.

واختار شيخنا صحة ضمان حارس ونحوه وتجار حرب ما يذهب من البلد أو البحر وأن غايته ضمان ما لم يجب، وضمان المجهول كضمان السوق، وهو أن يضمن الضامن ما يجب على التجار للناس من الديون، وهو جائز عند أكثر العلماء كمالك وأبي حنيفة وأحمد لقوله تعالى:{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)} [يوسف: 72] ولأن الطائفة الواحدة الممتنعة من أهل الحرب التي ينصر بعضها بعضًا تجري مجرى الشخص الواحد في معاهدتهم؛ فإذا شورطوا على أن تُجارهم يدخلون دار الإسلام بشرط ألا يأخذوا للمسلمين شيئًا وما أخذوه كانوا ضامنين له، والمضمون يؤخذ من أموال التجار جاز ذلك، كما يجوز نظائره. [المستدرك 4/ 21 - 22]

3683 -

سُئِلَ رحمه الله: ضَن رَجُلٍ ضّامِنٍ مُعَيَّنًا، وَقَد طَلَبَهُ غَرِيمُهُ بِالْمَالِ وَلَمْ يَكُن لِلضَّامِنِ مَقْدِرَةٌ، وَقَد ادَّعَى غَرِيمُهُ عَلَيْهِ وَادَّعَى الْإِعْسَارَ، فَهَل يَحْتَاجُ إلَى بَيِّنةٍ؟

فَأَجَابَ: إذَا كَانَ الضَّامِنُ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَالٌ قَبْلَ ذَلِكَ وَادَّعَى الْإِعْسَارَ: فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ بَيِّنَةٍ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِن مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا. [29/ 545]

ص: 212

3684 -

يَصِحُّ ضَمَانُ مَا فِي الذِّمَّةِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، ويُطَالَبُ الْمُسْتَحِقُّ لِلضَّامِنِ. [29/ 546]

3685 -

إذَا بَذَلَ

(1)

بَيْعَ مَالِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ لَمْ يَجُزْ عُقُوبَتُهُ بِحَبْسٍ وَلَا غَيْرِهِ، فَإِنَّ الْعُقُوبَةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَو فِعْلِ محَرَّمٍ، وَهُوَ إذَا بَذَلَ مَا عَلَيْهِ مِن الْوَفَاءِ لَمْ يَكُن قَد تَرَكَ وَاجِبًا.

لَكِنْ إنْ خَافَ الْغَرِيمُ أَنْ يَغِيبَ أَو لَا يَفِي بِمَا عَلَيْهِ: فَلَهُ أَنْ يَحْتَاطَ عَلَيْهِ: إمَّا بِمُلَازَمَتِهِ وَإِمَّا بِعَائِنٍ فِي وَجْهِهِ.

وَمَتَى اعْتَقَلَهُ الْحَاكِمُ ثُمَّ بَذَلَ بَيْعَ مَالِهِ وَسَأَلَ التَّمْكِينَ مِن ذَلِكَ: يُمَكنُهُ مِن ذَلِكَ. [29/ 547]

3686 -

ضَمَانُ السُّوقِ -وَهُوَ أَنْ يَضْمَنَ الضَّامِنُ مَا يَجِبُ عَلَى التَّاجِرِ مِن الدُّيُونِ وَمَا يَقْبِضُهُ مِن الْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ

(2)

-: ضَمَانٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ وَضَمَانُ الْمَجْهُولِ، وَذَلِكَ جَائِز عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ؛ كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَل.

وَقَد دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ كَقَوْلِهِ: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)} [يوسف: 72]

(3)

.

وَالشَّافِعِيُّ يُبْطِلُهُ.

فَيَجُوزُ لِلْكَاتِبِ وَالشَّاهِدِ أنْ يَكْتُبَهُ وَيُشْهدَ عَلَيْهِ وَلَو لَمْ يَرَ جَوَازَهُ؛ لِأَنَّهُ مِن مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، وَوَليُّ الْأَمْرِ يَحْكُمُ بِمَا يَرَاهُ مِن الْقَوْلَيْنِ. [29/ 549]

(1)

المدين أو ضامنُ المدين.

(2)

أي: يضمن رجلٌ له مكانةٌ عند الناس ويثقون به -غالبًا- أنْ يسدد التجار ما اقترضوه من الناس.

(3)

وإذا امتنع التاجر من الوفاء أو هرب، فطلبه الضامن وغرم بسبب ذلك: فقد قال الشيخ: لَهُ الرُّجُوعُ فِيمَا أَنْفَقَهُ بِسَبَبِ ضَمَانِهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ. (29/ 550)

ص: 213

3687 -

مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْإِمَامِ أَحْمَد أَنَّ لِلْغَرِيمِ أَنْ يَطْلُبَ مَن شَاءَ مِنْهُمَا [أي: الضامِن وَالْمَضْمون].

فَإِذَا اسْتَوْفَى: لَمْ يَكُن لَهُ مُطَالَبَة، وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُمَا جَمِيعًا

(1)

. [29/ 550]

3688 -

إذَا لَمْ يَكُن ضَامِنًا وَلَدَهُ وَلَا لَة عِنْدَهُ مَالٌ: لَمْ تَجُزْ مُطَالَبَتُهُ بِمَا عَلَيْهِ.

لَكِنْ إنْ أَمْكَنَ الْوَالِدُ مُعَاوَنَةَ صَاحِبِ الْحَقِّ عَلَى إحْضَارِ وَلَدِهِ بِالتَّعْرِيفِ بِمَكَانِهِ وَنَحْوِهِ: لَزِمَهُ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَا شَيءَ عَلَيْهِ.

وَلَا تَحِلُّ مُطَالَبَتُهُ بِشَيءٍ مِن جِهَتِهِ، وَعَلَى وَليِّ الْأَمْرِ كَفُّ الْعُدْوَانِ عَنْهُ. [29/ 551]

3689 -

إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ ضَامِنٌ بِإِقْرَارٍ وَبَيِّنَةٍ أَو خَطِّهِ: لَزِمَهُ مَا ضَمِنَهُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى أَنَّ الزَّعِيمَ غَارِمٌ.

(1)

قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله قول صاحب الزاد: الرب الحق مطالبة من شاء منهما": ظاهره أنه لا فرق بين أن يتمكن صاحب الحق من استيفاء الحق من المضمون عنه أو لا يتمكن.

القول الثاني: أنه لا يملك مطالبة الضامن إلا إذا تعذرت مطالبة المضمون عنه بموت، أو غيبة، أو مماطلة، أو فقر، فإذا تعذرت مطالبة المضمون عنه فله أن يطالب الضامن.

وحجة هؤلاء أنه لا يرجع للفرع مع تمكن الاستيفاء من الأصل، فإذا أمكن الرجوع إلى الأصل فإنه يستغنى به عن الفرع، وهذا اختيار شيخنا عبد الرحمن السعدي رحمه الله وعمل الناس اليوم على هذا القول.

أما في المحاكم: فالظاهر أنهم يحكمون بالمذهب وأن صاحب الحق إذا طالب الضامن ألزم بأن يدفع عنه الحق الذي ضمنه.

ولو أنه شرط فقال: إنك لا تطالبني إلا إذا تعذر مطالبة المضمون عنه، فالقاعدة على المذهب أن كل شرط يخالف مقتضى العقد فإنه لا يصح، ومعلوم أنه إذا كان مقتضى العقد مطالبة الرجلين جميعًا، فإنه إذا شرط ألا يطالب الضامن إلا إذا تعذر مطالبة المضمون عنه صار منافيًا لمقتضى العقد.

ولكن الصحيح -حتى لو قلنا: بأن له مطالبة الرجلين- أنه إذا اشترط الضامن ألا يطالبه إلا إذا تعذر مطالبة المضمون عنه، فالصحيع أنه شرط صحيح؛ لعموم قوله:(المسلمون على شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلًالا". الشرح الممتع (9/ 186 - 188).

ص: 214

فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ غَيْرَ مُسْتَقِل بِالتَّصَرُّفِ لِنَفْسِهِ: لَمْ يَصِحَّ ضَمَانُهُ، وَلَكِنْ لَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ الْحَجْرَ.

وَإِن قَالَ: إنَّ الْمَضْمُونَ لَهُ يَعْلَمُ أَنّي كُنْت مَحْجُورًا عَلَيَّ فَلَهُ تَحْلِيفُهُ، وَكَذَلِك إذَا ادَّعَى الْإِكْرَاهَ فَلَهُ تَحْلِيفُ الْمَضْمُونِ لَهُ. [29/ 551 - 552]

3690 -

وَسُئِلَ: عَن رَجُلٍ لَهُ مِلْكٌ وَهُوَ وَاقِع فَأَعْلَمُوة بِوُقُوعِهِ فَأَبَى أَنْ يَنْقُضَهُ، ثمَّ وَقَعَ عَلَى صَغِيرٍ فَهَشَّمَهُ هَل يَضْمَنُ؟

فَأَجَابَ: هَذَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ فِي أَحَدِ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ فِي عَدَمِ إزَالَةِ هَذَا الضَّرَرِ، وَالضَّمَانُ عَلَى الْمَالِكِ الرَّشِيدِ الْحَاضِرِ، أَو وَكِيلِهِ إنْ كَانَ غَائِبًا، أَو وَليّهِ إنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ.

وَالْوَاجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَالْأرْشُ فِي مَا لَا تَقْدِيرَ فِيهِ، وَيجِبُ ذَلِكَ عَلَى عَاقِلَةِ هَؤُلَاءِ إنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا فَعَلَيْهِم فِي أَصَحِّ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ. [30/ 15 - 16]

* * *

‌(الظُّلْمُ أَبْلَغُ تَحْرِيمًا مِن غِنَّاءِ الْأَجْنَبيَّةِ لِلرِّجَالِ وحكم غِنَاء الرِّجَالِ لِلرِّجَالِ، والْحَرَائِرِ لِلرِّجَالِ بِالدُّفِّ في الْأَفْرَاحِ

؟)

3691 -

ظُلْمُ الضَّامِنِ بِمطَالَبَتِهِ بِمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ وَإِن كَانَ مُحَرَّمًا: أَبْلَغُ تَحْرِيمًا مِن غِنَاءِ الْأَجْنَبِيَّةِ لِلرِّجَالِ:

أ- لِأَنَّ الظُّلْمَ مِن الْمُحَرَّمَاتِ الْعَقْلِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَأَمَّا هَذَا الْغِنَاءُ فَإِنَّمَا نهِيَ عَنْهُ لِأَنَّهُ قَد يَدْعُو إلَى الزِّنَا، كَمَا حُرِّمَ النَّظَر إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ.

ب- وَلأَنَّ فِيهِ خِلَافًا شَاذًّا.

ج- وَلِأَنَ غِنَاءَ الْإِمَاءِ الَّذِي يَسْمَعُهُ الرَّجُلُ قَد كَانَ الصَّحَابَةُ يَسْمَعُونَهُ فِي الْعُرْسَاتِ، كَمَا كَانُوا يَنْظُرُونَ إلَى الْإِمَاءِ لِعَدَمِ الْفِتْنَةِ فِي رُويَيهِنَّ وَسَمَاعِ أَصْوَاتِهِنَّ.

فَتَحْرِيمُ هَذَا أَخَفُّ مِن تَحريم الظُّلْمِ، فَلَا يُدْفَعُ أَخَفُّ الْمُحَرَّمَيْنِ بِالْتِزَامِ أَشَدِّهِمَا.

ص: 215

وَأَمَّا غِنَاءُ الرِّجَالِ لِلرِّجَالِ: فَلَمْ يَبْلِغْنَا أَنَّهُ كَانَ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ.

يَبْقَى غِنَاءُ النِّسَاءِ لِلنسَاءِ فِي الْعُرْسِ.

وَأَمَّا غِنَاءُ الْحَرَائِرِ لِلرّجَالِ بِالدُّفِّ: فَمَشْرُوعٌ فِي الْأَفْرَاحِ

(1)

؛ كَحَدِيثِ النَّاذِرَةِ وَغِنَاهَا مَعَ ذَلِكَ

(2)

.

(1)

والأفراح أعم من العرس، فالشيخ يرى جواز سماع الرجال غناء المرأة في الأفراح والمناسبات العامة إذا خلا من التبرج والسفور والفتنة، والفحش والغزل.

وغناء الشابة لا يخلو من إحدى هذه المحاذير، فلا يجوز أن يُتخذ كلام شيخ الإسلام ذريعةً لاختلاط النساء بالرجال، أو خضوعهن بالقول. مع العلم أن المقصود بالغناء هنا: إنشاد الشعر، دون أن يصحبه طبل أو عود أو موسيقى.

(2)

وهو حديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْب عَن أَبِيهِ عَن جَدِّهِ أنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِني نَذَرْتُ أَنْ أَضْرِبَ عَلَىَ رَأْسِكَ بِالدُّفِ، قَالَ:"أوْفِي بِنَذْرِكِ"، قَالَتْ: إِني نَذَرْتُ أنْ أَذْبَحَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، مَكَانٌ كَانَ يَذْبَحُ فِيهِ أهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ "لِصَنَمٍ"، قَالَتْ: لَا، قَالَ:"لِوَثَنٍ"، قَالَتْ: لَا، قَالَ:"أَوْفِي بِنَذْرِكِ". رواه أبو داود (3312)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.

وله شاهدٌ من حديث بُرَيْدَةَ رضي الله عنه أَن أَمَة سوْدَاءَ أتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَد رَجَعَ مِن بَعْضِ مَغَازِيهِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ إِنْ رَدَّكَ اللهُ سَالِمًا أَنْ أَضْرِبَ عَلَى رَأسِكَ بِالدُّفِّ.

فَقَالَ: "إِنْ كُنْتِ نَذَرْتِ فَافْعَلي وَإِلَّا فَلَا"، قَالَتْ: إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ. قَالَ: فَقَعَدَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَضَرَبَتْ بِالدُّفِّ. رواه الترمذي (3690)، والإمام أحمد (22989).

وقال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب.

وقال الألباني في إرواء الغليل (8/ 214): وإسناده صحيح على شرط مسلم.

وحديث عمرو بن شعيب أصرح؛ لأن التي غنت حرة، بدليل قوله:"امْرَأَةً" وهذا لا يُطلق إلا على الحرة.

وقفة: تأمل كيف يلبي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رغبة هاتين المرأتين، وعلى أمرِ يأنف منه غالب الرجال فضلًا عن العلماء والفضلاء، وهو الغناء وضرب الدف عند الرجال!

ولم يكن وقت النبي صلى الله عليه وسلم رخيصًا عنده، ولم يكن يجد الفراغ ليسمع غناءً ولهوًا.

ولكنها أخلاقه العظيمة، وشيمه النبيلة، التي بها تألّف قلوب الناس، وكسب وُدّهم.

كم يأنف كثير من الناس من أقل من هذا، وكم ترفَّع بعض الناس عمَّا هو دون ضرب الدف.

ومن دروس هذه القصة: ترك التكلف، ومعاملة الناس بسماحة ورفق، ومراعاة مشاعرهم، وترك الخوف من نقد الناس إذا كان الفعل لا يُخالف الشرع.

ص: 216

وَلَكِنْ نَصْبُ مُغَنِّيَةٍ لِلنِّسَاءِ وَالرّجَالِ: هَذَا مُنْكَرٌ بِكُلِّ حَالٍ، بِخِلَافِ مَن لَيْسَتْ صَنْعَتُهَا.

وَكَذَلِكَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَيْهِ

(1)

. [29/ 552 - 553]

3692 -

مَا ألْزِمَ الضَّامِنُ بِسَبَبِ عُدْوَانِ الْمَضْمُونِ

(2)

؛ مِثْل أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ فَيَغِيبُ، حَتَّى أَمْسَكَ الْغَرِيمُ لِلضَّامِنِ وَغَرَّمَهُ مَا غَرَّمَهُ: كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ عَلَى الْمَضْمُونِ الَّذِي ظَلَمَهُ

(3)

. [29/ 553]

* * *

(الكفالة)

3693 -

إنَّ السَّجَّانَ وَنَحْوَهُ مِمَن هُوَ وَكِيلٌ عَلَى بَدَنِ الْغَرِيمِ: بِمَنْزِلَةِ الْكَفِيلِ لِلْوَجْهِ، عَلَيْهِ إحْضَارُ الْخَصْمِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ إحْضَار- كَمَا لَو لَمْ يَحْضُر الْمَكْفُولُ- يَضْمَنُ مَا عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ مَالِكِ.

3694 -

من كفل إنسانًا فسلَّمه إلى مكفوله -ولا ضرر في تسليمه- برئ.

ولو في حبس الشرع. ولا يلزمه إحضاره منه

(4)

إليه عند أحد من الأئمة.

* * *

(1)

أي: أخذ العوض للمغنية لتغني للرجال: مُنْكَرٌ بِكُلِّ حَالٍ.

(2)

كأن يتسبب في سجنه وهو قادر على الوفاء، فيخسر أثناء سجنه ماله أو بعضه، أو يُفصل من وظيفتِه.

(3)

ورجح الشيخ صحة اسْتَدَانَة الصَبِيّ المُمَيِّز إذا كَفَلَهُ أبُوهُ، فإن لم يُوف دينه فقال الشيخ: لَهُ أنْ يَرْجِعَ عَلَى مَن كَفَلَهُ؛ فَإِنَّ كَفَالَةَ أبِيهِ لَهُ تَقْتَضِي أنهُ تَصَرَّفَ بِإِذْنِ أَبِيهِ فَيَلْزَمُهُ الدَّيْنُ وَتَصِحُّ كَفَالَتهُ.

وَإِن كَانَ فِي الْبَاطِنِ قَد اسْتَدَانَ لِأبِيهِ وَلَكِنْ أبُوهُ أمَرَهُ: فَالِاسْتِدَانَةُ لِلْأبِ، وُإِلَّا فَلَهُ تَحْلِيفُ الْأبِ أَنَّ الِاسْتِدَانَةَ لَمْ يمُنْ لَهُ. (29/ 555 - 556)

(4)

أي: الحبس. كشاف القناع (3/ 378).

ص: 217

(بَاب الْحَوَالَةِ)

(1)

3695 -

تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِشرُوطِهَا، وَلَيْسَ لِلْمُحِيلِ لَهُ قَبْضُ الْمُحَالِ بِهِ

(2)

بَعْدَ الْحَوَالَةِ، وَلَا تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِالْإِقْبَاضِ لَهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ بِأَمْرِ الْمُحَالِ.

وَللْمُحْتَالِ أَنْ يَطْلُبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِن الْمُحَالِ عَلَيْهِ لِيُعَادَ مِنْهُ فِي ذِمَّتِهِ وَمِن الْقَابِضِ دَيْنَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ.

وَإِن كَانَ قَبْضُ الْغَاصِبِ بِغَيْرِ حَقٍّ بِمَنْزِلَةِ غَصْبِ الْمُشَاعِ فَإِنَّ التَّعْيِينَ بِالْغَصْبِ كَالْقِسْمَةِ، فَمَا لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْغَاصِبَ بِالْقِسْمَةِ.

وَللْمُحْتَالِ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُحِيلِ بِمَا قَبَضَهُ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، لَكِنْ لِلْخَصْمِ تَحْلِيفُ الْمُقرِّ لَهُ أَنَّ بَاطِنَ هَذَا الْإِقْرَارِ كَظَاهِرِهِ. [29/ 557]

3696 -

الحوالة على ماله في الديوان إذنٌ في الامشيفاء فقط، وله اختيار الرجوع ومطالبته. [المستدرك 4/ 23]

3697 -

ليس للابن أن يحيل على الأب، ولا يبيع دينه إذا جوزَّنا بيع ما على الغريم إلا برضاء الأب. [المستدرك 4/ 23]

3698 -

كره أحمد أن يتزوج الرجل أو يقترض أو يشتري إذا لم يعلم الآخر بعسرته، فلأن يكره أن يحيل على معسر ولم يعلم أولى؛ لأن ظاهر الحال أن الرجل إنما يعامل من كان قادرًا على الوفاء، فإذا كتم ذلك كان غارًّا. [المستدرك 4/ 23]

* * *

(1)

الحوالة: نقل الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه.

المحيل: هو المدين.

والمحال: هو الدائن.

والمحال عليه: هو الذي يقوم بقضاء الدين.

(2)

وهو الدين.

ص: 218

‌كِتَاب الصُلْحِ إِلَى الوَقْفِ (الصلح، وحقوق الجار على جار)

3699 -

يصح الصلح عن المؤجل ببعضه حالًّا

(1)

، وهو رواية عن أحمد، وحكي قولًا للشافعي. [المستدرك 4/ 23]

3700 -

يصح عن دية الخطأ وعن قيمة المتلف غير المثل بأكثر منها من جنسها، وهو قياس قول أحمد. [المستدرك 4/ 23]

3701 -

العين والمنفعة التي لا قيمة لها عادة كالاستظلال بجدار الغير والنظر في سراجه: لا يصح أن يرد عليها عقد بيع أو إجارة اتفاقًا. [المستدرك 4/ 23]

3702 -

لو اتَّفقا على بناء حائط بستان فبنى أحدهما: فما تلف من الثمرة بسبب إهمال الآخر ضمن لشريكه نصيبه.

وإذا احتاج الْمُلك المشترك إلى عمارة لا بد منها: فعلى أحد الشريكين أن يعمر مع شريكه إذا طلب ذلك منه في أصح قولي العلماء. [المستدرك 4/ 23]

3703 -

يلزم الأعلى التستر بما يمنع مشارفته على الأسفل.

وإن استويا وطلب أحدهما بناء السترة: أجبر الآخر مع الحاجة إلى السترة، وهو مذهب أحمد. [المستدرك 4/ 23 - 24]

3704 -

ليس للإنسان أن يتصرف في ملكه بما يؤذي جاره، من بناء حمام، وحانوت طباخ، ودقاق، وهو مذهب أحمد. [المستدرك 4/ 24]

(1)

وهي مسألة: ضع وتعجل، وصورتها: أن يقول الرجل لمن له عليه دين مُؤجّل: ضع عني شيئًا من الدين، وأعجل لك المبلغ.

وقد أجازها شيخ الإسلام ابن تيمية، ومنعها جمهور العلماء رحمهم الله ورفع درجاتهم في جنات عدن-، وما ذهب إليه الشيخ أقرب.

ص: 219

3705 -

من لم يسد بئره سدًّا يمنع من التضرر بها: ضمن ما تلف بها. [المستدرك 4/ 24]

3706 -

الضرار محرم بالكتاب، والسُّنَّة، ومعلوم أن المشاقة والمضارة مبناها على القصد والإرادة، أو على فعل ضرر لا يحتاج إليه.

فمتى قصد الإضرار ولو بالمباح، أو فعل الإضرار من غير استحقاق: فهو مضار.

وأما إذا فعل الضرر المستحق للحاجة إليه والانتفاع به لا لقصد الإضرار: فليس بمضار، ومن ذلك قول النبي-صلى الله عليه وسلم حديث النخلة التي كانت تضر صاحب الحديقة لما طلب من صاحبها المعاوضة عنها بعدة طرق فلم يفعل فقال:"إنما أنت مضار، ثم أمر بقلعها"

(1)

فدل على أن الضرار محرم لا يجوز تمكين صاحبه منه. [المستدرك 4/ 24]

3707 -

من كانت له ساحة تلقى فيها الأتربة والزبالة وفضلات الحيوانات ويتضرر الجيران بذلك: فإنه يجب على صاحبها أن يدفع ضرر الجيران: إما بعمارتها أو إعطائها لمن يعموها، أو يمنع أن يلقى فيها ما يضر بالجيران. [المستدرك 4/ 24]

3708 -

ليس لأحدٍ أنْ يبني فوق الوقف ما يضر به اتفاقًا، وكذا إن لم يضر به عند الجمهور. [المستدرك 4/ 25]

3709 -

يجب على الجار تمكين جاره من إجراء مائه في أرضه إذا احتاج إلى ذلك ولم يكن على صاحب الأرض ضرر في أصح القولين في مذهب أحمد، وحكم به عمر بن الخطاب رضي الله عنه. [المستدرك 4/ 25]

(1)

رواه أبو داود (3636)، وضغفه الألبانيّ.

ص: 220

3710 -

الساباط الذي يضر بالمارة: مثل أن يحتاج الراكب أن يحني رأسه إذا مر هناك وإن غفل عن رأسه رمى عمامته أو شج رأسه، ولا يمكن أن يمر هناك جمل عال إلا كسر قتبه، والجمل المحمل لا يمر هناك؛ فمثل هذا الساباط لا يجوز إحداثه على طريق المارة باتفاق المسلمين؛ بل يجب على صاحبه إزالته، فإن لم يفعل كان على ولاة الأمور إلزامه بإزالته حتى يزول الضرر، حتى لو كان الطريق منخفضًا ثم ارتفع على طول الزمان وجب إزالته إذا كان الأمر على ما ذكر. [المستدرك 4/ 25]

3711 -

له تعلية بنائه ولو أفضى إلى سدِّ الهواء عن جاره

(1)

، وليس له منعه خوفًا من نقص أجرة ملكه بلا نزاع

(2)

. [الاختيارات 199]

3712 -

وسُئِلَ رحمه الله: عَن دَارينِ بَيْنَهُمَا شَارعٌ، فَأَرَادَ صَاحِبُ أَحَدِ الدَّارَيْنِ أَنْ يعْمرَ عَلَى دَارِهِ غُرْفَةً تُفْضِي إلَى سَدِّ الْفَضَاءِ عَن الدَّارِ الْأخْرَى، فَهَل يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ: إنْ كَانَ فِي ذَلِكَ إضْرَارٌ بِالْجَارِ؛ مِثْل أَنْ يُشْرِفَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مَا يَمْنَعُ مُشَارَفَتَهُ الْأَسْفَلَ، فَإِذَا لَمْ يَكُن فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْجَارِ بأَنْ يَبْنِيَ جمَا يَمْنَعُ الْأِشْرَافَ عَلَيْهِ أَو لَا يَكُونُ فِيهِ إشْرَافٌ عَلَيْهِ: لَمْ يُمْنَعْ مِن الْبِنَاءِ. [30/ 5 - 6]

3713 -

لَا يَجُوزُ بَيْعُ شَيءٍ مِن طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ النَّافِذِ، وَلَيْسَ لِوَكِيلِ بَيْتِ الْمَالِ بَيْعُ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَت الطَّرِيقُ وَاسِعَةً أَو ضَيِّقَةً. [30/ 6 - 7]

3714 -

لَيْسَ لِلْجَارِ أَنْ يُحْدِثَ فِي الطَّرِيقِ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي لَا يُنْفِذُ شَيْئًا بِغَيْرِ إذْنِ رَفِيقِهِ وَلَا شُرَكَائِهِ، وَلَا أَنْ يُحْدِثَ فِي مِلْكِهِ مَا يَضُرُّ بِجَارِهِ.

(1)

بشرط الحاجة وعدم قصد ضر الجار.

قال في الفروع: ويتوجه من قول أحمد: لا ضرر ولا ضرار: منعُه.

قال في الإنصاف (5/ 261): وهو الصواب.

وقال البعلي في الاختيارات (199): وفيه على قاعدة أبي العباس نظر. اهـ.

(2)

أي: ليس للجار منع جاره من تعلية بنائه ولو خاف نقص أجرة داره.

ص: 221

وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ: فَلِلشَّرِيكِ إزَالَةُ ضَرَرِهِ قَبْلَ الْبَيْعِ وَبَعْدَهُ، لَكِنْ إذَا أُزِيلَ قَبْلَ الْبَيْعِ لَمْ يَعُدْ، وَبَعْدَ الْبَيْعِ فَلِلْمُشْتَرِي فَسْخُ الْبَيْعِ لِأجْلِ هَذَا النَّقْصِ. [30/ 8]

3715 -

لَيْسَ لَهُ أنْ يُحْدِثَ فِي الدَّرْبِ الَّذِي لَا يَنْفُذُ رَوْشَنًا بِاتِّفَاقِ الْأئِمَّةِ، فَإِنَّهُم لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي ذَلِكَ، لَكِنْ تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ إحْدَاثِهِ فِي الدَّرْبِ النَّافِذِ

(1)

.

وَأمَّا الدَّرْبُ الُّذِي لَا يَنْفُذُ فَلَا نِزَاعَ فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَ لَهُ بَابٌ إلَى مَدْرَسَةِ أَو لَمْ يَكُن فَإِنَّهُ لَيْسَ بِنَافِذ.

وَإِذَا ادَّعَى أَنَّ لَهُ فِيهِ حَقَّ رَوْشَنٍ: لَمْ يُقْبَل قَوْلُهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، لَكِنْ لَهُ تَحْلِيفُ الْجِيرَانِ الَّذِينَ تَنَازَعُوا فِيهِ عَلَى نَفْيِ اسْتِحْقَاقِهِ لِذَلِكَ. [30/ 9]

3716 -

لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْتَحَ فِي الدَّرْبِ الَّذِي لَا يَنْفُذُ بَابًا يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى آخِرِ الدَّرْبِ مِن بَابِهِ الْأصْلِيِّ، إلا بِإِذْنِ الْمُشَارِكِينَ لَهُ فِي الِاسْتِطْرَاقِ فِي ذَلِكَ. [30/ 11]

3717 -

لَو كَانَ الْجِدَارُ مُخْتَصًّا بِأحَدِهِمَا

(2)

لَمْ يَكُن لَهُ أَنْ يَمْنَعَ جَارَهُ مِن الِانْتِفَاعِ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْجَارُ وَلَا يَضُرّ بِصَاحِبِ الْجِدَارِ. [30/ 14]

3718 -

إذَا احْتَاجَ إلَى إجْرَاءِ مَائِهِ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ وَلَا ضَرَرَ فَلَهُ ذَلِكَ.

وَلَو كَانَ لِرَجُلٍ نَهْرٌ يَجْرِي فِي أَرْضٍ مُبَاحَةِ فَأرَادَ جَارُ النَّهْرِ أَنْ يَعْرضَهُ إلَى ارْضِهِ أَو بَعْضِهِ وَلَا ضَرَرَ فِيهِ إلَّا انْتِفَاعُهُ بالْمَاءِ -كمَا لَو كَانَ يَنْتَفِعُ بِهِ فِي مَجْرَاهُ، وَلَكِنَّهُ يُسَهِّلُ عَلَيْهِ الِانْتِفَاعَ بِهِ- فَأَفْتَيْت بِجَوَازِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ.

(1)

المذهب لا يجوز ذلك، واختار العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله أنه لا بأس أن يُخْرِجَ ما جرت به العادة، مما لا يضر الناس وبإذن الامام كرَوشَنٍ وسابَاطٍ ودكِّةٍ ومِيزابٍ. الشرح الممتع (9/ 253).

(2)

أي: بأحد الجارين.

ص: 222

وَنَظِيرُهَا لَو كَانَ لِرَبِّ الْجِدَارِ مَصْلَحَة فِي وَضْعِ الْجُذُوعِ عَلَيْهِ مِن غَيْرِ ضَرَرِ الْجُذُوعِ، وَعَكْسُ مَسْأَلَةِ إمْرَارِ الْمَاءِ لَو أَرَادَ انْ يَجْرِيَ فِي أَرْضِهِ مِن بُقْعَةٍ إلَى بُقْعَةٍ ويُخْرِجَهُ إلَى أَرْضٍ مُبَاحَةٍ أَو إلَى أَرْضِ جَارٍ رَاضٍ مِن غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَلَى رَبِّ الْمَاءِ ضَرَرٌ: لَكان

(1)

يَنْبَغِي أنْ يَمْلِكَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ شَغْلَ الْمَكَانِ الْفَارغ، فَكَذَلِكَ تَفْرِيغَ الْمَشْغُولِ.

وَالضَّابِطُ أَنَّ الْجَارَ:

أ- إمَّا أَنْ يُرِيدَ إحْدَاثَ الِانْتِفَاعِ بِمَكَانِ جَارِهِ.

ب- أَو إزَالَةَ انْتِفَاعِ الْجَارِ الَّذِي يَنْفَعُهُ زَوَالُهُ وَلَا يَضُرُّ الْآخَرَ.

وَمِن أَصْلِنَا: أَنَ الْمُجَاوَرَةَ تُوجِبُ لِكُلٍّ مِن الْحَقِّ مَا لَا يَجِبُ لِلْأَجْنَبِيِّ، وَيحْرُمُ عَلَيْهِ مَا لَا يَحْرُمُ لِلْأَجْنَبِيِّ، فَيُبِيحُ الِانْتِفَاعَ بِمِلْكِ الْجَارِ الْخَالِي عَن ضَرَرِ الْجَارِ، وَيحْرُمُ الِانْتِفَاعُ بِمِلْكِ الْمُنْتَفِعِ إذَا كَانَ فِيهِ إضْرَارٌ. [30/ 16 - 17]

* * *

(العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)

3719 -

رَوَى أَهْلُ السُّنَنِ أَبُو دَاوُد وَغَيْر

(2)

عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّه قَالَ: "الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إلَّا صُلْحًا أَحَل حَرَامًا أَو حَرَّمَ حَلَالًا، وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، إلَّا شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا أَو حَرَّمَ حَلَالًا".

وَحَدِيثُ عَائِشَةَ

(3)

هُوَ مِن الْعَامّ الْوَارِدِ عَلَى سَبَب، وَهَذَا وَإِن كَانَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ: إنَّهُ يُوخَذُ فِيهِ بِعُمُومِ الفَفْظِ وَلَا يُقْتَصَرُ عَلَى سَبَبِهِ، فَلَا نِزَاعَ بَيْنَهُم أَنَّ أَكْثَرَ العمومات الْوَارِدَةِ عَلَى أَسْبَابٍ لَا تَخْتَصُّ بِأَسْبَابِهَا؛ كَالْآيَاتِ

(1)

في الأصل: (لَكِنْ)، ولعل الصواب المثبت.

(2)

أبو داود (3594)، والترمذي (1352)، وابن ماجه (2353)، وأحمد (8784)، وقال الألباني في صحيح أبي داود: حسن صحيح.

(3)

يعني به: ما روته في قصة بريرة، وجاء فيه:"من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل".

ص: 223

النَّازِلَةِ بِسَبَبٍ مُعَيَّنٍ؛ مِثْل آيَاتِ الْمَوَارِيثِ، وَالْجِهَادِ وَالظِّهَارِ، وَاللِّعَانِ وَالْقَذْفِ وَالْمُحَارَبَةِ، وَالْقَضَاءِ وَالْفَيءِ وَالرِّبَا وَالصَّدَقَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَعَامَّتُهَا نَزَلَتْ عَلَى أَسْبَابٍ مُعَيَّنَةٍ مَشْهُورَةٍ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَالْمَغَازِي، مَعَ اتّفَاقِ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ حُكْمَهَا عَامّ فِي حَقِّ غَيْرِ أُولَئِكَ الْمُعَيِّنِينَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُمَاثِلُ قَضَايَاهُم مِن كُلِّ وَجْهٍ. [31/ 28 - 29]

* * *

(بَابُ الْحَجْرِ- وأحكام الدّين والإعسار)

3720 -

من ضاق ماله عن ديونه: صار محجورًا عليه بغير حكم حاكم بالحجر، وهو رواية عن أحمد

(1)

. [المستدرك 4/ 25]

3721 -

من طولب باداء دين عليه فطلب إمهالًا: أُمهل بقدر ذلك اتفاقًا.

لكن إن خاف غريمه منه: احتاط عليه بملازمته، أو بكفيل، أو بترسيم عليه. [المستدرك 4/ 25]

3722 -

من كان قادرًا على وفاء دينه وامتنع: أُجبر على وفائه بالضرب والحبس نص على ذلك الأئمة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم.

وقال أبو العباس: ولا أعلم فيه نزاعًا، لكن لا يُزاد كل يوم على أكثر التعزير

(2)

إن قيل يتقدَّر.

وللحاكم أن يبيع عليه ماله، ويقضي دينه، ولا يلزمه إحضاره.

وقال شيخنا: وله منع عاجز حتى يقيم كفيلًا ببدنه. [المستدرك 4/ 26]

(1)

قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله في حاشيته على الاختيارات (202): ظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه محجور عليه حتى في التصرف بثمن المثل أو أكثر، ولعله غير مراد، والظاهر جوازه حتى على كلام الشيخ، وأن المحرم هو التبرع، سواءٌ كان مستقلًا أم تابعًا؛ كالمحاباة، وهو الذي تقتضيه النصوص الشرعية. اهـ.

(2)

في الأصل: (أكثر من التعزير)؛ والمثبت من الاختيارات.

ص: 224

3723 -

من عرف بالقدرة وادَّعى إعسارًا وأمكن عادة: قُبِل.

وليس له إثبات إعساره عند غير مِن حبسه بلا إذنه.

ويقضي دينه من مالٍ له فيه شبهة؛ لأنه لا تبقى شبهة بترك واجب. [المستدرك 4/ 26]

3724 -

لو كان قادرًا على وفاء الدين وامتنع، ورأى الحاكم منعه من فضول الأكل والنكاح: فله ذلك؛ إذ التعزير لا يختص بنوع معين، وإنما يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم في نوعه وقدره إذا لم يتعد حدود الله. [المستدرك 4/ 26]

3725 -

مَن عليه نفقةٌ واجبة فلا يملك التبرع بما يُخِلُّ بالنفقة الواجبة، وكلام أحمد يدل عليه. [المستدرك 4/ 26]

3726 -

لو ادَّعت امرأةٌ على زوجها بحقها وحبسته: لم يسقط من حقوقه عليها شيء قبل الحبس؛ بل يستحقها عليها بعد الحبس؛ كحبسه في دين غيرها، فله إلزامها بملازمة بيته، ولا يدخل عليها أحد إلا لإذنه.

ولو خاف خروجها من منزله بلا إذنه: أسكنها حيث شاء.

ولا يجب حبسه بمكان معين، فيجوز حبسه في دار ولو في دار نفسه؛ بحيث لا يمكَّن من الخروج، ويجوز أن يحبس وُيرَسَّم عليه إذا حصل المقصود بذلك بحيث يمنعه من الخروج.

وهذا أشبه بالسُّنَّة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الغريم بملازمة غريمه وقال له: "ما فعل أسيرك؟ "

(1)

وإنما الْمُرَسَّمُ وكيل الغريم في الملازمة.

فإن لم يكن للزوج من يحفظ امرأته غير نفسه وأمكن أن يحبسهما في بيت واحد فتمنعه هي من الخروج ويمنعها هو من الخروج: فعل ذلك؛ فإن له عليها حبسها في منزله، ولها عليه حبسه في دينها، وحقه عليها أوكد، فإن حق

(1)

رواه البخاري (2311).

ص: 225

نفسه في المبيت ثابت ظاهرًا وباطنًا، بخلاف حبسها له فإنه بتقدير إعساره لا يكون حبسه مستحقًّا في نفس الأمر؛ إذ حبس العاجز لا يجوز، لقوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]، ولأن حبسها له عقوبة حتى يؤدي الواجب عليه، وحبسه لها حق يثبت له بموجب العقد وليس بعقوبة؛ بل حقه عليها كحق المالك على المملوك؛ ولهذا كان النكاح بمنزلة الرق والأسر للمرأة، قال عمر رضي الله عنه: النكاح رق، فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته، وقال زيد بن ثابت: الزوج سيد في كتاب الله وقرأ: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف: 25]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم "

(1)

والعاني الأسير.

وإذا كان كذلك: ظهر أن ما يستحقه عليها من الحبس أعظم مما تستحقه عليه؛ إذ غاية الغريم أن يكون كالأسير.

والحبس الذي يصلح لتوفية الحق مثل المالك لأَمَته، بخلاف الحبس إلى أن يستوفى الحق فإنه من جنس حبس الحر للحر، ولهذا لا يملك الغريم منع المحبوس من تصرف يوفي به الحق، ولا يمنعه من حوائجه إذا احتاج الخروج من الحبس مع ملازمته له.

وليس على المحبوس أن يقبل ما يبذله له الغريم مما عليه مِنَّةٌ فيه.

ويملك الرجل منع امرأته من الخروج مطلقًا إذا قام بما لها عليه، وليس لها أن تمتنع من قبول ذلك.

فإن قيل: فهذا يفضي إلى أن يمطلها ولا يوفي.

فالجواب: أن تعويقه عن التصرف هو الحبس، وهو كاف في المقصود إذا لم يظهر امتناعه عن أداء الواجبات، فإن ظهر أنه قادر وامتنع ظلمًا عوقب باعظم من الحبس بضرب مرة بعد مرة حتى يؤدي، كما نص على ذلك

(1)

رواه مسلم (1218).

ص: 226

أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مطل الغني ظلم"

(1)

والظالم يستحق العقوبة، فإن العقوبة تستحق على ترك واجب أو فعل محرم، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته"

(2)

ومع هذا لا يسقط حقه على امرأته؛ بل يملك حبسها في منزله. [المستدرك 4/ 26 - 28]

3727 -

لا يبطل إبراء الزونجة الزوج بدعواها السفه، ولو مع بينة أنها سفيهة ليست تحت الحجر، ولو أبرأته وولدت عنده ومالها بيدها تتصرف فيه لم يُصَدَّق أبوها أنها كانت سفيهة يجب الحجر عليها بلا بينة. [المستدرك 4/ 29]

3728 -

إذَا كَانَ الدَّيْنُ لَزِمَهُ [أي: الْمُعْسِر] بِغَيْرِ مُعَاوَضَةٍ كَالضَّمَانِ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَالٌ قَبْلَ ذَلِكَ: فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ فِي الْاِعْسَارِ

(3)

. [30/ 18، المستدرك 4/ 25]

3729 -

إذَا كَانَ الْغَرِيمُ قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ: لَمْ يَكن لِأَحَدٍ أَنْ يُلْزِمَ رَبَّ الدَّيْنِ بِتَرْكِ مُطَالَبَتِهِ، وَلَا يَطْلُبَ مِنْهُ حِيلَةً لَا حَقِيقَةَ لَهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ.

وَإِن كَانَ مُعْسِرًا وَجَبَ إنْظَارُهُ

(4)

، وَالْيَمِينُ الْمُطْلَقَةُ مَحْمُولَة عَلَى حَالِ الْقُدْرَةِ لَا عَلَى حَالِ الْعَجْزِ. [30/ 18 - 19]

3730 -

إنْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى وَفَائِهِ فَلَهُ

(5)

أَنْ يَمْنَعَهُ مِن السَّفَرِ قَبْلَ اسْتِيفَائِهِ.

(1)

رواه البخاري (2287)، ومسلم (1564).

(2)

رواه أبو داود (3628)، وحسَّنه الألباني.

(3)

وقال الشيخ فيمن عليه دَيْن وَتَلِفَ مَالُهُ:"إذَا قَالَ: لَمْ يَحْدُثْ لِي بَعْدَ تَلَفِ مَالِي شَيْءٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ فِي ذَلِكَ فِي مَذْهَبِ الشافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا". (30/ 29)

(4)

وقال الشيخ في موضع آخر: إنْ كَانَ مُعْسِرًا لَمْ يَجُزْ حَبْسُهُ وَلَا مُطَالَبَتُهُ، بَل يَجِبُ إنْظَارُهُ إلَى الْمَيْسَرَةِ. (30/ 37)

(5)

أي: للدائن.

ص: 227

وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مُؤَجَّلًا وَمَحَلُّهُ قَبْلَ قُدُومِ الْمَدِينِ: فَلَه أَنْ يَمْنَعَهُ مِن السَّفَرِ حَتَّى يُوَثِّقَ بِرَهْن يَحْفَظُ الْمَالَ أَو كَفِيلٍ.

وَإِن كَانَ الدَّيْنُ لَا يَحِلُّ إلَّا بَعْدَ قُدُومِ الْمَدِينِ: فَفِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. [30/ 20]

3731 -

لَا تُقْبَلُ دَعْوَى إعْسَارِهِ

(1)

بَعْدَ الِاعْتِرَافِ بِالْقُدْرة وَبَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يُبَيِّن السَّبَبَ الَّذِي أَزَالَ الْمَلَاءَةَ وَيَكُونُ ذَلِكَ مُمْكِنًا فِي الْعَادَةِ؛ كَحَرْقِ الدَّارِ الَّتِي فِيهَا مَتَاعُهُ وَنَحْوُهُ. [30/ 21]

3732 -

إذَا امْتَنَعَ

(2)

مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ مِن إظْهَارِ مَالِهِ وَالتَّمْكِينِ مِن تَوْفِيَةِ النَّاسِ جَمِيعَ حُقُوقِهِمْ وَكَانَ مَالُهُ ظَاهِرًا وَاحْتِيجَ إلَى التَّوْفِيَةِ إلَى فِعْلٍ مِنْهُ وَامْتَنَعَ مِنْهُ وَأَصَرَّ عَلَى الْحَبْسِ: فَإِّنهُ يُعَاقَبُ بِالضَّرْبِ حَتَّى يَقُومَ بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ فِي مَذْهَبِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. وَلَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ نِزَاعًا

(3)

.

وَفي "السُّنَنِ" عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عَرْضَه وَعُقُوبَتَهُ"

(4)

.

اللَّيُّ: الْمَطْلُ، وَالْوَاجِدُ: الْقَادِرُ.

فَقَد أَبَاحَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم مِن الْقَادِرِ الْمَاطِلِ عِرْضَهُ.

وَقَد اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ التَّعْزِيرَ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا كَفَّارَةَ.

وَلَيْسَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَتَوَلَّى هُوَ بَيْعَ مَالِهِ وَوَفَاءَ الدَّيْنِ، وَإِن كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لِلْحَاكِمِ، لَكِنْ مَتَى رَأَى أَنْ يُلْزِمَهُ هُوَ بِالْبَيْعِ وَالْوَفَاءِ زَجْرًا لَهُ وَلِأمْثَالِهِ عَن

(1)

أي: المدين.

(2)

أي: المدين.

(3)

أما إذا كان عَلَيْهِ دَيْن وَلَهُ مُدَّةً فِي الِاعْتِقَالِ وَلَا مَوْجُودَ لَهُ غَيْرُ عَمَلِ يَدِهِ فقال الشيخ: لَا يَحِلُّ اعْتِقَالُهُ وَلَا ضَرْبُهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، بَل الْوَاجِبُ تَحكينُهُ حَتى يَعْمَلَ مَا يُوَفِّي دَيْنَهُ بحَسَب الْإِمْكَانِ.

(30/ 32)

(4)

رواه أبو داود (3628)، والنسائي (4689)، وابن ماجه (2427)، وأحمد (17946)، وحسَّنه الألباني في صحيح أبي داود.

ص: 228

الْمَطْلِ، أَو لِكَوْنِ الْحَاكِمِ مَشْغُولًا عَن ذَلِكَ بِغَيْرِهِ، أَو لِمَفْسَدَةٍ تُخَافُ مِن ذَلِكَ: كَانَت عُقُوبَتُه بِالضَّرْبِ حَتَى يَتَوَلَّى ذَلِكَ. [30/ 22 - 24]

3733 -

إذَا كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ وَمَطَلَهُ

(1)

حَئى أَحْوَجَة إلَى الشِّكَايَةِ فَمَا غَرِمَهُ

(2)

بِسَبَبِ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى الظَّالِمِ الْمُمَاطِلِ إذَا غَرمَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ. [30/ 24 - 25]

3734 -

إذَا لَمْ يَكُن لَهُ

(3)

وَفَاءٌ غَيْرُ الرَّهْنِ: وَجَبَ عَلَى الْغَرِيمِ إمْهَالُهُ حَتَّى يَبِيعَهُ.

فَمَتَى لَمْ يُمْكِنْ بَيْعُة إلَّا بِخُرُوجِهِ، أَو كَانَ فِي بَيْعِهِ فِي الْحَبْسِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ: وَجَبَ إخْرَاجُهُ لِيَبِيعَهُ، وَيُضْمَنَ عَلَيْهِ، أَو يَمْشِيَ الْغَرِيمُ أَو وَكِيلُهُ إلَيْهِ. [30/ 25]

3735 -

وَسُئِلَ: عَن رَجُلٍ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَالٌّ. وَإِذَا أَرَادَ بَيْعَهُ لَمْ يَتَهَيَّأْ إلَّا بِدُونِ ثَمَنِ مِثْلِهِ. فَهَل يَلْزَمُهُ بَيْعُهُ بِدُونِ ثَمَنِ مِثْلِهِ؟

فَأَجَابَ: لَا يُبَاعُ إلَّا بِثَمَنِ الْمِثْل الْمُعْتَادِ غَالِبًا فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ الْعَادَةُ تَغَيَّرَتْ تَغَيُّرًا مُسْتَقِرًّا، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ ثَمَنُ الْمِثْل قَد نَقَصَ، فَيُبَاعُ بِثَمَنِ الْمِثْل الْمُسْتَقِرِّ.

وإذَا لَمْ يَجِبْ بَيْعُهُ: فَعَلَى الْغَرِيمِ الْإِنْظَارُ إلَى وَقْتِ السَّعَةِ أَو الْمَيْسَرَةِ، وَلَهُ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ كُلَّ وَقْتٍ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَهُوَ التَّقْسِيطُ. [30/ 25 - 26]

3736 -

مَا كَانَ فِي حَانُوتِ

(4)

الْمُفْلِسِ مِن الأَمَانَاتِ مِثْل الثِّيَابِ الَّذِي يَنْسِجُهَا لِلنَّاسِ وَالْغَزْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: فَإِنَّهَا لِأصْحَابِهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، لَا تُعْطَى لِغَيْرِ صَاحِبِهَا.

(1)

أي: مطل الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ صاحبَ الحق.

كمن يتعاقد مع شركة أو غيرها فيدفع لهم مقدّمًا، ثم لا يُكملون عملهم، أو يتبيّن فساد ما عملوه، فطالبهم بحقّه فامتنعوا، فرفع أمرهم للقاضي، وخسر بسبب مُماطلتهم بعض المال: فإنهم يغرمون ما خسره.

(2)

أي: الدائن.

(3)

أي: المدين.

(4)

الحانوت: محلّ التّجارة.

ص: 229

وَإِذَا كَانَ قَد أَخَذَ لِلنَّاسِ غَزْلًا وَلَمْ يُوجَدْ عَيْنُ الْغَزْلِ: لَمْ يَجُزْ لِصَاحِبِ الْغَزْلِ أَنْ يَأْخُذَ مَالَ غَيْرهِ بَدَلًا عَن مَالِهِ؛ بَل إذَا أَقْرَضَ فِيهَا كَانَت فِي ذِمَّتِهِ، وَكَذَلِكَ مَا أَعْطَاهُ مِن الْأجرَةِ وَلَمْ يُوَفِّ الْعَمَلَ: فَإِنَّهَا دَيْن فِي ذِمَّتِهِ.

وَالدُّيُونُ الَّتِي فِي ذِمَّتِهِ لَا تُوَفِّى مِن أَعْيَانِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.

وَمَن أَقَامَ مِن النَّاسِ بَيِّنَةً بِأَنَّ هَذَا عَيْنُ مَالِهِ: أَخَذَهُ.

وَإِن لَمْ يُقِمْ أَحَدٌ بَينةً وَكَانَ الرَّجُلُ خَائِفًا قَد عَلِمَ أَنَ الَّذِي يَنْسِجُهُ لَيْسَ هُوَ لَة وَإِنَّمَا هُوَ لِلنَّاسِ: لَمْ يُوَفِّ دُيُونَهُ مِن تِلْكَ الْأَمْوَالِ.

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى بَعْضَ الْغَزْلِ بِدَعْوَاهُ دُونَ بَعْضٍ؛ بَل يَجِبُ أَنْ يَعْدِلَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ.

وَإِن أَقَامَ وَاحِدٌ شَاهِدًا وَحَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ: حُكِمَ لَهُ بِذَلِكَ.

وَإِن تَعَذَّرَ مَا يُعْرَفُ بِهِ مَالُ هَذَا وَمَالُ هَذَا إلَّا عَلَامَاتَ مُمَيِّزَةٌ؛ مِثْل اسْمِ كُل وَاحِدٍ عَلَى مَتَاعِهِ: عُمِلَ بِذَلِكَ.

وَإِن تَعَذَّرَ ذَلِكَ كُلُّهُ: أُقْرعَ بَيْنَ الْمُدَّعِينَ، فَمَن خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ عَلَى عَيْني أَخَذَهَا مَعَ يَمِينِهِ، فَقَد ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْقَرْعَةُ فِي مِثْل هَذَا. [30/ 26 - 27]

3737 -

إَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ: فَمَتَى أَذَنَ لَهُ الْغُرَمَاءُ فِي السَّفَرِ لِلْحَجِّ فَلَا رَيْبَ فِي جَوَازِ السَّفَرِ، وَإِن مَنَعُوة مِن السَّفَرِ لِيُقِيمَ وَيعْمَلَ ويُوَفِّيَهُم كَانَ لَهُم ذَلِكَ، وَكَانَ مُقَامُهُ ليَكْتَسِبَ ويُوَفِّيَ الْغُرَمَاءَ أَوْلَى بِهِ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ مِن الْحَجِّ، وَكَانَ لَهُم مَنْعُهُ مِن الْحَجِّ.

وَلَا يَحِلُّ لَهُم أَنْ يُطَالِبُوهُ إذَا عَلِمُوا إعْسَارَهُ، وَلَا يَمْنَعُوهُ الْحَجَّ.

لَكِنْ إنْ قَالَ الْغُرَمَاءُ: نَخَافُ أَنْ يَحُجَّ فَلَا يَرْجِعَ فَنُرِيدُ أَنْ يُقِيمَ كَفِيلًا بِبَدَنِهِ: تَوَجَّهَ مُطَالَبَتُهُم بِهَذَا؛ فَإِنَّ حُقُوقَهُم بَاقِيَةٌ وَلَكِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْهَا.

ص: 230

وَلَو كَانَ قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ، وَالدَّيْنُ حَالٌّ: كَانَ لَهُم مَنْعُهُ بِلَا ريبٍ.

وَكَذَلِكَ لَو كَانَ مُؤَجَّلًا يَحِلُّ قَبْلَ رُجُوعِهِ: فَلَهُم مَنْعُهُ حَتَّى يُوَثّقَ بِرَهْن أَو كَفِيلٍ، وَهُنَاكَ حَتَّى يُوَفّيَ أَو يُوَثّقَ.

وَأَمَّا إنْ كَانَ لَا يَحِلُّ إلَّا بَعْدَ رُجُوعِهِ وَالسَّفَرُ آمِنٌ: فَفِي مَنْعِهِمْ لَهُ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَن أَحْمَد

(1)

.

وَإِن كَانَ السَّفَرُ مَخُوفًا كَالْجِهَادِ: فَلَهُم مَنْعُهُ إذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ. [30/ 28 - 29]

3738 -

إذَا كَانَ لِلرَّجُلِ سِلْعَةٌ فَطَلَبَ أَنْ يُمْهَلَ حَتَّى يَبِيعَهَا ويُوَفّيَهُ

(2)

مِن ثَمَنِهَا: أُمْهِلَ بقَدْرِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَحْتَالَ لِوَفَاءِ دَيْنِهِ بِاقْتِرَاض أَو نَحْوِهِ وَطَلَبَ ألّا يُرْسَمَ عَلَيْهِ حَتَّى يَفْعَلَ ذَلِكَ: وَجَبَتْ إجَابَتُهُ إلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَجُزْ مَنْعُهُ مِن ذَلِكَ بِحَبْسِهِ. [30/ 31]

3739 -

يَجِبُ تَمْكِينُهُ

(3)

مِن إيفَاءِ الدَّيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُمْكِنُهُ، وَلَا يَجوزُ حَبْسُهُ إنْ قَامَ بِذَلِكَ

(4)

.

وَإِذَا ادَّعَى الْإِعْسَارَ وَعُرِفَ لَهُ مَالٌ: لَمْ تُقْبَل دَعْوَى الْإِعْسَارِ إلَّا بِبَيِّنةِ.

وَإِن لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَالٌ: فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ دُونَ قَوْلِ غَرِيمِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد، وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ مَالِكٍ نَحْوٌ مِن ذَلِكَ، وَقَد حَكَاهُ طَائِفَةٌ عَن أَبِي حَنيفَةَ. [30/ 33]

3740 -

إذَا طَلَبَ

(5)

أنْ يُمَكَّنَ مِن بَيْعِ مَا يُوَفِّي دَيْنَهُ: وَجَبَ تَمْكِينُهُ مِن ذَلِكَ، وَلَمْ يَجِبْ حَبْسُهُ الْعَائِقُ لَهُ عَن ذَلِكَ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. [30/ 34]

3741 -

وَسُئِلَ: عَن امْرَأَةٍ تَحْتَ الْحَجْرِ وَقَد شَهِدَ لَهَا بِالرُّشْدِ بَيِّنَة عَادِلَةٌ لَيْسُوا مَحَارِمَهَا، هَل يُقْبَل ذَلِكَ؟

(1)

والأظهر أنه لا يحق لهم منعه، وهذا الذي عليه العمل.

(2)

أي: يُوفّى الدّائن.

(3)

أي: المدين.

(4)

أي: قام بعمل يُدر عليه المال ليسدد دينَه.

(5)

أي: المدين.

ص: 231

فَأَجَابَ: إذَا شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ عَادِلَة بِرُشْدِهَا: حُكِمَ لَهَا بِذَلِكَ وَإِن لَمْ يَكُونُوا أَقَارِبَ؛ فَإِنَّ الْعَدَالَةَ وَالرُّشْدَ وَنَحْو ذَلِكَ قَد تُعْلَمُ بِالِاسْتِفَاضَةِ كَمَا يَعْلَمُ الْمُسْلِمُونَ رُشْدَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَالنِّسْوَةِ الْمَشْهُورَاتِ.

فَمَتَى صَارَتْ رَشيدَةً: زَالَ الْحَجْرُ عَنْهَا، سَوَاءٌ رَشَّدَهَا

(1)

أَو لَمْ يُرَشِّدْهَا، وَسَوَاءٌ حَكَمَ بِذَلِكَ حَاكِمٌ أَو لَمْ يَحْكُمْ، وَإِن نُوزِعَتْ فِي الرُّشْدِ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهَا رَشِيدَة قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا

(2)

. [30/ 40]

3742 -

إن اشْتَرَى لِلْيَتيمِ بِثَمَنِ الْمِثْل أَو بِزِيَادَة لِلْمَصْلَحَةِ: جَازَ.

وَإِن اشْتَرَى بِزِيَادَةٍ لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ لِمِثْلِهَا: كَانَ عَلَيْهِ ضَامِنٌ مَا أَدَّاهُ مِن الزِّيَادَةِ الْفَاحِشَةِ. [30/ 43]

3743 -

وَسُئِلَ: عَن رَجُلٍ مُعْتَقَلٍ فِي سِجْنِ السُّلْطَانِ وَهُوَ خَائِفٌ عَلَى نَفْسِهِ وَطُولِبَ بِدَيْنِ شَرْعِيٍّ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَشْهَدَ عَلَيْهِ فِي حَالِ اعْتِقَالِهِ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَمْلِكُهُ مِن الْعَقَارِ مِلْكٌ لِزَوْجَتِهِ وَصَدَّقَتْهُ عَلَى ذَلِكَ، فَهَل يَجُوزُ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ وَيَنْفُذُ فِي جَمِيعِ مَالِهِ؟ أَو يَخْتَصُّ هَذَا الْإِقْرَارُ بِالثُّلُثِ ويبْقَى الثُّلْثَانِ مَوْقوفَانِ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ: إذَا كَانَ عَلَيْهِ حُقُوقٌ شَرْعِيَّة فَتَبَرَّعَ بِمِلْكِهِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لِأَهْلِ الْحُقُوقِ مَا يَسْتَوْفونَهُ بِهَذَا التمْلِيكِ: فَهُوَ بَاطِلٌ فِي أحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَا هُوَ

(1)

أي: وليّ أمرها.

(2)

وقال الشيخ فيمن اذعى بأنه مَحْجُورٌ عَلَيه: "لَا يُقْبَلُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ فِي أنهُ مَحْجُورْ عَلَيْهِ، بَل الْأصْلُ صِحَّةُ التَّصَرُّفِ وَعَدَمُ الْحَجْرِ حَتى يُثْبِتَ". (30/ 45)

وقال في المرأة التي لها مالٌ: "لَيْسَ لِأبِيهَا أنْ يَتَصَرَّفَ لِنَفْسِهِ، بَل إذَا كَانَ مُتَصَرِّفًا فِي مَالِهَا لِنَقسِهِ كَانَ ذَلِكَ قَادِحًا فِي أهْليَّتِهِ وَمُنِعَ مِن الْوِلَايَةِ عَلَيْهَا كَالْحَجْرِ.

وَأمًا إنْ كَانَ أهْلًا لِلْولَايَةِ وَإِنمَا يَتَصَرَّفُ لَهَا بِمَا فِيهِ الْحَظُّ لَهَا لَا لَهُ وَلَيْسَ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَيْهَا إلَّا بِشَرْطِ دَوَام السَّفَهِ فَإِنَّهَا إذَا رَشَدَتْ زَالَ حَجْرُهَا بِغَيْرِ اخْتيَارِهِ.

وَإِذَا أقَامَت بَيِّنَةً بِرُشْدِهَا: حُكِمَ بِرَفْعِ وِلَايَتِهِ عَنْهَا، وَلَهَا عَلَيْهِ الْيَمِينُ أنَّهُ لَا يَعْلَمُ رُشْدَهَا إذَا طَلَبَ ذَلِكَ وَلَمْ يُقِمْ بَيِّنةً". (30/ 46)

ص: 232

مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالْإِمَامِ أَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: مِن جِهَةِ أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ وَاجِبٌ، وَنَفَقَةَ الْوَلَدِ وَاجِبَةٌ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَدَعَ الْوَاجِبَ

(1)

وَيصْرِفُهُ فِيمَا لَا يَجِبُ

(2)

، فَيَرُدُّ هَذَا التَّمْلِيكَ

(3)

، وَيصْرِفُهُ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِن قَضَاءِ دَيْنِهِ وَنَفَقَةِ وَلَدِهِ.

وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمِلْكُ

(4)

مُسْتَحَقًّا لِغَيْرِهِ، أَو فِيهِ مَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُ: لَمْ يَصِحَّ صَرْفُهُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ إلَّا بِوِلَايَةٍ أَو وَكَالَةٍ.

وَاِذَا كَانَ الْإِشْهَادُ فِيمَا يَمْلِكُهُ مَلَّكَهُ لِزَوْجَتِهِ: لَمْ يَدْخُلْ فِي ذَلِكَ مَا لَا يَمْلِكُهُ. [30/ 44]

3744 -

لَا يَجُوزُ أَنْ يُوَلَّى عَلَى مَالِ الْيَتَامَى إلَّا مَن كَانَ قَوِيًّا، خَبِيرًا بِمَا وُلِّيَ عَلَيْهِ، أَمِينًا عَلَيْهِ.

وَالْوَاجِبُ إذَا لَمْ يَكُن الْوَلِيُّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَنْ يُسْتَبْدَلَ بِهِ مَن يَصْلُحُ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْأجْرَةَ الْمُسَمَّاةَ، لَكِنْ إذَا عَمِلَ لِلْيَتَامَى عَمَلًا يَسْتَحِقُّ اجْرَةَ مِثْلِهِ كَانَ كَالْعَمَلِ فِي سَائِر الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ. [30/ 44 - 45]

3745 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَمَّن عِنْدَهُ يَتِيمٌ وَلَهُ مَالٌ تَحْتَ يَدِهِ. فَهَل لَه أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِهِ بِتِجَارَة أَو شِرَاءِ عَقَارٍ مِمَّا يَزِيدُ الْمَالَ وَيُنَمِّيهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْحَاكِمِ؟

فَأَجَابَ: نَعَمْ يَجُوزُ لَه ذَلِكَ بَل يَنْبَغِي لَهُ، وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى إذْنِ الْحَاكِمِ إنْ كَانَ وَصِيًّا، وَإِن كَانَ غَيْرَ وَصِيٍّ وَكَانَ النَّاظِرُ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى الْحَاكِمَ الْعَالِمَ الْعَادِلَ يَحْفَظُهُ ويأُمُرُ فِيهِ بِالْمَصْلَحَةِ وَجَبَ اسْتِئْذَانُهُ فِي ذَلِكَ.

وَإِن كَانَ فِي اسْتِئْذَانِهِ إضَاعَةُ الْمَالِ؛ مِثْل أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ أَو نَائِبُهُ فَاسِقًا أَو جَاهِلًا أَو عَاجِزًا أَو لَا يَحْفَظُ أَمْوَالَ الْيَتَامَى: حَفِظَهُ الْمُسْتَوْلِي عَلَيْهِ وَعَمِلَ فِيهِ الْمَصْلَحَةَ مِن غَيْرِ اسْتِئْذَانِ الْحَاكِمِ. [30/ 49]

(1)

أي: قضاء الدَّين ونفقة الولد.

(2)

أي: التبرع بماله لزوجته أو لغيرها.

(3)

أي: يرد العقار الذي ملّكه لزوجته.

(4)

وهو العقار الذي تبرع به لزوجته.

ص: 233

3746 -

إذَا بَاعَ

(1)

قَبْلَ أَنْ يَرْشُدَ فَبَيْعُهُ بَاطِلٌ، لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ قَد بَاعَ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ.

فَإِن ادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ كَانَ رَشِيدًا وَقَامَت الْبَيِّنَةُ بِسَفَهِهِ: حُكِمَ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ. [30/ 51 - 52]

3747 -

[يَنْعَقِدُ

(2)

بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بَعْدَهُ بِلَفْظٍ دَالٍّ على الرِّضَا وَلَهُ شُرُوطٌ:

أَحَدُهَا: الرِّضَا.

الثَّاني: الرُّشْدُ]

(3)

، وَعَنْهُ يَصِحُّ تَصَرُّفُ مُمَيِّزٍ وَيقِفُ على إجَازَةِ وَليِّهِ، نَقَلَ حَنْبَل: إنْ تَزَوَّجَ الصَّغِيرُ فَبَلَّغَ أَبَاهُ فَأَجَازَهُ: جَازَ، قال جَمَاعَةٌ: وَلَو أَجَازَهُ هو بَعْدَ رُشْدِهِ لم يَجُزْ.

وقال شَيْخُنَا: رِضَاهُ بِقَسْمِهِ هو قِسْمَةُ تَرَاضٍ، وَلَيْسَ إجَازَةً لِعَقْدِ فُضُولِيٍّ

(4)

، وقال: إنْ نَفَذَ عِتْقُهُ الْمُتَقَدِّمُ أو دَلَّ على رِضَاهُ بِهِ عَتَقَ؛ كَمَن يَعْلَمُ أَنَّهُ يَتَصَرَّفُ كَالْأحْرَارِ. [المستدرك 4/ 29 - 30]

3748 -

إنْ نُوزع المحجوز عليه لِحَظِّهِ في الرشد فشهد شاهدان برشده: قُبل؛ لأنه قد يعلم بالاستفاضة.

ومع عدم البينة له: اليمين على وليه أنه لا يعلم رشده. [المستدرك 4/ 30]

3749 -

الإسراف:

أ- ما صرفه في الحرام.

ب- أو كان صرفه في المباح يضر بعياله.

ج- أو كان وحده ولم يثق بإيمانه.

(1)

أي: الوَصِيّ.

(2)

أي: البيع.

(3)

ما بين المعقوفتين من الفروع (4/ 2 - 3).

(4)

في الأصل: (إجازة بعقد فضولي)، والتصويب من الفروع.

ص: 234

د- أو صرف في مباح قدرًا زائدًا على المصلحة.

قال شيخنا: الإسراف في المباح هو مجاوزة الحد، وهو من العدوان المحرم، وترك فضولها من الزهد المباح، والامتناع عنه مطلقًا كمن يمتنع من اللحم أو الخبز أو الماء أو لبس الكتان والقطن أو النساء فهذا جهل وضلال، والله أمر بأكل الطيب والشكر له، والطيب: ما ينفع ويعين على الخير، وحرم الخبيث وهو: ما يضر في دينه

(1)

. [المستدرك 4/ 30]

3750 -

لو وصَّى مَن فِسْقُه ظاهر إلى عدل: وجب إنفاذه؛ كحاكم فاسق حَكَم بالعدل. [المستدرك 4/ 30]

3751 -

الولاية على الصبي والمجنون والسفيه: تكون لسائر الأقارب.

ومع الاستقامة لا يحتاج إلى الحاكم إلا إذا امتنع من طاعة الولي.

وتكون الولاية لغير الأب والجد والحاكم على اليتيم وغيره، وهو مذهب أبي حنيفة ومنصوص أحمد في الأم.

وأما تخصيص الولاية بالأب والجد والحاكم فضعيف جدًّا.

والحاكم العاجز كالعدم. [المستدرك 4/ 30]

3752 -

لو مات من يتجر لنفسه وليتيمه بماله، وقد اشترى شيئًا لم يُعرف لمن هو: لم يُقسم، ولم

(2)

يُوقف الأمر حتى يصطلحا كما يقوله الشافعي؛ بل مذهب أحمد أنه يقرع، فمن قرع حلف وأخذ.

ولو مات الوصي وجُهل بقاء مال وليِّه: كان دينًا في تركته. [المستدرك 4/ 31]

3753 -

لا يجوز أن يولى على مال اليتيم إلا من كان قويًّا، خبيرًا بما ولي

(1)

عرف الطيب والخبيث بهذا التعريف الدقيق.

(2)

في الأصل: (لم) بدون واو، والتصويب من الفتاوى الكبرى (5/ 397).

ص: 235

عليه، أمينًا عليه، والواجب إذا لم يكن بهذه الصفة أن يُستبدل به غيره. [المستدرك 4/ 31]

3754 -

لا يقبل من السيد دعوى عدم الإذن لعبده مع علمه بتصرفه، ولو قدر صدقه فتسليطه عليه عدوان. [المستدرك 4/ 31]

3755 -

هَل يَتَوَلَّى الْكَافِرُ الْعَدْلُ فِي دِينهِ مَالَ وَلَدهِ الْكَافِرِ؟

عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ: أَنَّ بَعْضَهُم أَوْلَى بِبَعْضِ، وَقَد مَضَتْ سُنَّةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ. [15/ 300]

* * *

(بَابُ الْوَكَالَةِ)

3756 -

يجوز أن يوكل من يقبض له شيئًا من الزكاة ما تيسر وإن كان مجهولًا، ولا محذور فيه. [المستدرك 4/ 31]

3757 -

لو تصرف الوكيل فادعى الْمُوكّل أنه عزله قبل التصرف: لم يُقبل

(1)

.

فلو أقام به بينَّة ببلد آخر وحكم به

(2)

حاكم: فإن لم ينعزل قبل العلم صح تصرفه، وإلا كان حكمًا على الغائب.

ولو حكم قبل هذا الحكم بالصحة حاكم لا يرى عزله قبل العلم: فإن كان قد بلغه ذلك: نفذ، والحكم الناقض له مردود، وإلا وجوده كعدمه.

والحاكم الثاني إذا لم يعلم بأن العزل قبل الحكم

(3)

، أو علم ولم يره، أو رآه ولم ير نقض الحكم المتقدم: فحكمه كعدمه.

وقبض الثمن من وكيله دليل بقاء وكالته. [المستدرك 4/ 31]

(1)

هذه عبارة الفتاوى الكبرى (5/ 399)، والاختيارات (209)، وفي الأصل:(لو باع أو تصرف فادعى أنه عزله قبله: لم يُقبل).

وهي من مختصر الفتاوى (275)، والمثبت أوضح.

(2)

أي: بالعزل.

(3)

في الأصل: (العلم)، والتصويب من الاختيارات (209).

ص: 236

3758 -

قال القاضي في مسألة عزل الوكيل بموت الموكل

(1)

: فأما إن خرج

(2)

الموكل عن ملكه مثل إعتاقه العبد وبيعه فإنه تنفسخ الوكالة بذلك.

ففرق بين الموت وبين العتق والمبيع بأنه حكم الملك هنا قد زال وهناك السلعة بعد الموت باقية على حكم مالكها.

وما قاله القاضي فيه نظر؛ فإن الانتقال بالموت أقوى منه بالبيع والعتق، فإن هذا يمكن الاحتراز عنه فيكون بمنزلة عزله بالقول وذلك قد زال الملك فيه بفعل الله تعالى.

وإذا تصرف بلا إذن ولا ملك ثم تبين أنه كان وكيلًا أو مالكًا: ففي صحة تصرفه وجهان، كما لو تصرف بعد العزل ولم يعلم.

فلو تصرف بإذن، ثم تبيَّن أن الإذن كان من غير المالك، أو المالك أذن له ولم يعلم، أو أذن بناء على جهة، ثم تبيَّن أنه لم يكن يملك الإذن بها بل بغيرها، أو بناءً على أنه ملك بشراء ثم تبيَّن له أنه كان وارثًا:

- فإن قلنا: يصح التصرف في الأول؛ فههنا أولى.

- وإن قلنا لا يصح هناك؛ فقد يقال: يصح هنا؛ لأنه كان مباحًا له في الظاهر والباطن، لكن الذي اعتقده ظاهرًا ليس هو الباطن. فنظيره إذا اعتقد أنه محدث فتطهر ثم تبيَّن فساد طهارته وأنه كان متطهرًا قبل هذا. [المستدرك 4/ 32]

3759 -

نقل مهنا في رجل دفع إلى رجل ثوبًا يبيعه فباعه وأخذ الثمن، فوهبه المشتري

(3)

ثوبًا أو منديلًا: فنص أنه يكون لصاحب الثوب، ولو نقَّص المشتري من الثمن درهمًا: فإن الضمان على الذي باع الثوب.

(1)

قال في المبدع (4/ 365): لا خلاف أن الوكيل إذا علم بموت الموكل أو عزله أن تصرفه باطل، وإن لم يعلم فاختار الأكثر -وذكر الشيخ تقي الدين أنه الأشهر-: أن تصرفه غير نافذ؛ لأنه رفعُ عقدٍ لا يفتقر إلى رضى صاحبه، فصح بغير علمه؛ كالطلاق، والثانية: أنه لا ينعزل؛ اعتمادًا على أن الحكم لا يثبت في حقه قبل العلم. اهـ.

(2)

في الأصل: (أخرج)، والتصويب من الاختيارات (204).

(3)

أي: أهدى المشتري للبائع، الذي هو الوكيل.

ص: 237

فقد نص أحمد على أن ما حصل للوكيل من زيادة فهي للبائع

(1)

، وما نقص فهو عليه، ولم يفرق بين أن يكون النقص قبل لزوم العقد أو بعده.

وينبغي أنْ يُفَصِّلَ إذا لم يُلْزمه. [المستدرك 4/ 33]

3760 -

الوكيل في الضبط والمعرفة؛ مثل مَن وكَّل رجلًا في كتابةِ ما لَه وما عليه؛ كأهل الديوان: فقوله أولى بالقبول من وكيل التصرف؛ لأنه مؤتمن على نفس الإخبار بما له وما عليه، وهذه مسألة نافعة.

ونظيرها: إقرار كُتَّاب الأمراء وأهل ديوانهم بما عليهم من الحقوق بعد موتهم، وإقرار كتاب السلطان وبيت المال وسائر أهل الديوان بما على جهاتهم من الحقوق، ومن ناظر الوقف وعامل الصدقة بما على الخراج ونحو ذلك؛ فإن هؤلاء لا يخرجون عن ولاية أو وكالة. [المستدرك 4/ 33]

3761 -

إن استعمل الأمير كاتبًا خائنًا أو عاجزًا أثم بما أذهب من حقوق الناس لتفريطه. [المستدرك 4/ 33]

3762 -

مَن اسْتَأْمَنَهُ أَمِيرٌ على مَالِهِ، فَخَشِيَ من حَاشِيَتِهِ

(2)

إنْ مَنَعَهُم من عَادَتِهِم الْمُتَقَدِّمَةِ: لَزِمَهُ فِعْلُ ما يُمْكِنُهُ، وهو أصْلَحُ لِلْأَمِيرِ من تَوَلِّيهِ غَيْرَهُ، فَيَرْتَعَ مَعَهُمْ، لَا سِيَّمَا وَللْأَخْذِ

(3)

شُبْهَةٌ

(4)

. [المستدرك 4/ 33]

(1)

وهذه الصورة تحدث كثيرًا، ويتكرر السؤال عنها.

(2)

أي: حاشية الأمير.

(3)

في نسخة: (وَللْآخْذِ)؛ أي: الآخذ من حاشية الأمير.

(4)

كلام عظيم، وفقه دقيق جليل، يدخل تحت قاعدة المصالح والمفاسد، ومراعاة مقاصد الشريعة.

ومعنى كلام الشيخ رحمه الله تعالى: أن الرجل إذا استعمله واستأمنه الأمير أو الوزير أو الملك على ماله، أو مال الدولة، فخشي هذا الرجل من حاشية الأمير أو الوزير إنْ منعهم مما كانوا يأخذونه قبل توليه من مال الدولة، أو مال الأمير أو الوزير أو الملك: فلا يترك منصبه، بشرط أن يفعل ما يمكنه من العدل وحفظ المال وتخفيف الظلم، وهذا الرجل الصالح أصلح للأمير من تولية غيره ممن لا يُخفف الظلم ويقلل من السرقة.

ص: 238

3763 -

قال في "المحرر": إذا اشترى الوكيل أو المضارب بأكثر من ثمن المثل أو باع بدونه: صح، ولزمه النقص والزيادة ونص عليه.

قال أبو العباس: وكذلك الشريك والوصي والناظر على الوقف وبيت المال ونحو ذلك.

وقال: هذا ظاهر فيما إذا فرط.

وأما إذا احتاط في البيع والشراء ثم ظهر غبن أو عيب لم يُقَصِّر فيه: فهذا معذور، يشبه خطأ الإمام أو الحاكم، ويشبه تصرفه قبل علمه بالعزل.

وأبين من هذا: الناظر والوصي والإمام والقاضي إذا باع أو أجَّر أو زارع أو ضارب ثم تبيَّن أنه بدون القيمة بعد الاجتهاد، أو تصرف تصرفًا ثم تبيَّن الخطأ فيه: مثل أن يأمره بعمارة أو غرس ونحو ذلك ثم تبين أن المصلحة كانت في خلافه، وهذا باب واسع.

وكذلك المضارب والشريك؛ فإن عامة من يتصرف لغيره بوكالة أو ولاية قد يجتهد ثم يظهر فوات المصلحة، أو حصول المفسدة: فلا لوم عليه فيهما

(1)

، وتَضْمين مثل هذا فيه نظر، وهو شبيه بما إذا قَتل في دار الحرب من يظنه حربيًّا فبان مسلمًا؛ فإنَّ جماع هذا أنه مجتهدٌ مأمورٌ بعملٍ اجتهد فيه، وكيف يجتمع عليه الأمر والضمان؟ هذا الضرب هو خطأ في الاعتقاد والقصد لا في العمل، وأصول المذهب تشهد له. [المستدرك 4/ 34]

3764 -

إن وكله أو أوصى إليه أن يقف عنه شيئًا ولم يعين مصرفًا فينبغي أن يكون كالصدقة؛ فإن المصرف للوقف كالمصرف للصدقة، ويبقى إلى الوكيل والوصي تعيين المصرف

(2)

.

(1)

أي: في فوات المصلحة وحصول المفسدة.

(2)

فائدة: قال في الإنصاف (5/ 357): لو أذِنَ له أنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِ: لم يَجُزْ له أنْ يأخذ منه لِنَفْسِهِ إذَا كان من أَهْلِ الصَّدَقَةِ على الصَّحِيحِ من الْمَذْهَبِ.

ص: 239

وإن عين مصرفًا منقطعًا فينبغي أن يكون إلى الوصي تتميمه بذكر مصرف مؤبد.

إلا أن يقال: الصدقة لها جهة معلومة بالشرع والعرف وهم الفقراء، وإنما النظر إلى الوصي في تعيين أفراد الجهة، بخلاف الوقف فإنه لا يتبين له جهة معينة شرعًا ولا عرفًا.

فالكلام في هذا ينبغي أن يكون كما لو نذر أن يقف أو يتصدق به. [المستدرك 4/ 35]

3765 -

حديث أبي طلحة

(1)

يقتضي أن من نذر الصدقة بمال فإن الأفضل أن يصرفه في أقربيه وإن كان منهم غني، وهذا يقتضي اْن الصدقة المطلقة في النذر ليست محمولة على الصدقة الواجبة في الشرع، لكن على جنس المستحبة شرعًا.

ويتوجه في الوكالة والوصية مثل ذلك.

= وَيُحْتَمَلُ: الْجَوَازُ مُطْلَقًا.

وَيُحْتَمَلُ: الْجَوَازُ إنْ دَلَّتْ قَرِينَةٌ على إرَادَةِ أَخْذ منه، ذَكَرَهُمَا في الْمُغْني. اهـ.

قلت: وعلى هذا: فمن وُكّل في إيصال الزكاة إلى مستحقّها هل يجوز أن يأخذ منها إذا كان مُستحقًّا للزكاة؟

ينبني على الخلاف السابق.

(1)

وهو ما رواه البخاري (1461)، ومسلم (2362)، عن أنَس بْن مَالِكٍ رضي الله عنه أنه قال: كَانَ أبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الأنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِن نَخْل، وَكَانَ أحَبَّ أمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ وَكَانَت مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُهَا وَيشْرَبُ مِن مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قَالَ أنَسٌ: فَلمَّا أنْزِلَتْ هَذ الآيَةُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] قَامَ أبُو طَلْحَةَ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَ اللهَ تبارك وتعالى يَقُولُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَ أَحَبَّ أَمْوَالي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَة للِّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: بخْ، ذَلِكَ مَالٌ رَابحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابحٌ، وَقَد سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أفْعَلُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ.

ص: 240

وشبيه هذا من أصلنا: لو نذر أن يصلي: هل يحمل على أدنى الواجب، أو أدنى التطوع؟ فإن الوكالة والأيمان متشابهات. [المستدرك 4/ 35]

3766 -

الوكيل أمين لا ضمان عليه، ولو عزل قبل علمه بالعزل وقلنا ينعزل لعدم تفريطه، وكذلك لا يضمن مشتر منه الأجرة إذا لم يعلم، وهو أحد القولين. [المستدرك 4/ 35]

3767 -

مَن وُكِّلَ في بيع أو استئجار أو شراء: فَإِنْ لم يُسَمِّ مُوَكِّلَهُ في الْعَقْدِ فَضَامِنٌ، وإلا فروايتان، وظاهر المذهب تضمينه.

قال: ومثله الوكيل في الإقراض. [المستدرك 4/ 35 - 36]

3768 -

إذا قال

(1)

: زوَّجتك فلانة، فقال: قبلتُ، فقد انعقد النكاح في الظاهر للوكيل.

فإذا قال

(2)

: نويت أن النكاح لموكلي: فهو يدعي فساد العقد، وأن الزوج غيره، فلا يقبل قوله على المرأة إلا أن تُصدِّقه، ولو صدقته لم يلزمه شيءٌ قولًا واحدًا، إلا أن هذا الإنكار من الزوج بخلاف مسألة إنكار الوكالة.

ولو قيل: إن النكاح هنا لا يحتمل إلا أن يكون له: لكان له وجهٌ

(3)

. [المستدرك 4/ 36 - 37]

3769 -

قال الأصحاب: ومن ادعى الوكالة في استيفاء حقٍّ

(4)

فصدقه الغريم: يلزمه الدفع إليه، وإلا اليمين إن كذَّبه

(5)

.

والذي يجب أن يقال: إن الغريم متى غلب على ظنه أن الموكِّلَ لا

(1)

الْمُولي.

(2)

الموكل: الذي عقد النكاح على المرأة.

(3)

في الأصل: (وجهًا) بالنصب، والتصويب من الاختيارات (210).

(4)

بأن قال للغريم: فلان الذي له عليك حقّ وكّلني بأنْ أستوفي الحق منك.

(5)

في الأصل: (لم يلزمه الدفع إليه إن صدقه، ولا اليمين إن كذَّبه)، والتصويب من إحدى نسخ الاختيارات كما أشار إلى ذلك المحقق (211).

ص: 241

ينكر: وجب عليه التسليم فيما بينه وبين الله؛ كالذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى وكيله وعلَّم له علامة

(1)

، فهل يقول أحد: إن ذلك الوكيل لم يكن يجب عليه الدفع؟

وأما في القضاء فإن كان الموكل عدلًا وجب الحكم؛ لأن العدل لا يجحد. والظاهر أنه لا يستثنى، فإن دفع من عنده الحق إلى الوكيل ذلك الحق ولم يصدقه بأنه وكيل وأنكر صاحب الحق الوكالة رجع عليه وفاقًا ومجرد التسليم ليس تصديقًا. وكذا إن صدقه في أحد قولي أصحابنا؛ بل نصَّ إمامنا، وهو قول مالك؛ لأنه متى لم يتبين صدقه فقد غرَّه. [المستدرك 4/ 37]

3770 -

إذا اشترى شيئًا من [مال]

(2)

مُوَكِّله أو مُوليه: كان الملك للموكِّل والمُولى عليه، ولو نوى شراءه لنفسه؛ لأنَّ له ولايةَ الشراء، وليس كالغاصب

(3)

، لكن نوى

(4)

أنْ يقع الملك له، وهذه نية محرمة، فتقع باطلة، ويصير كان العقد عري عنها إذا كان يريد النقد من مال المولى عليه والموكِّل. [المستدرك 4/ 37]

3771 -

حديثُ عروة بن الجعد

(5)

في شراء الشاة يدل على أن الوكيل في شراء معلوم بثمن معلوم إذا اشترى به أكثر من المقدر جاز له بيع الفاضل، وكلذا ينبغي أن يكون الحكم. [المستدرك 4/ 37]

(1)

يعني: ما رواه أبو داود (363)، عَن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: أرَدْتُ الْخُرُوجَ إِلَى خَيْبَرَ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَقُلْتُ لَهُ: إِني أرَدْتُ الْخُرُوجَ إِلَى خَيْبَرَ. فَقَالَ:"إِذَا أتيْتَ وَكيلِي فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا، فَإِنَّ ابْتَغَى مِنْكَ آيَةً فَضَعْ يَدَكَ عَلَى تَرْقُوَتِهِ".

وقد ضعَّف الألباني هذا الحديث في ضعيف أبي داود.

(2)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، والمثبت من الاختيارات (212).

(3)

في الأصل: (كالغصب)، والمثبت من الاختيارات (212).

(4)

في الأصل: (لكن لو نوى)، والمثبت من الاختيارات (212).

(5)

وهو ما رواه البخاري (3642)، عَن عُرْوَةَ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أعْطَاهُ دِينَارًا يَشْتَرِي بِهِ شَاة، فَاشْتَرَى لَهُ بِهِ شَانَيْنِ، فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ وَجَاءَهُ بِدِينَارٍ وَشَاةٍ، فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ، وَكَانَ لَوِ اشْتَرَى التُّرَابَ لَرَبحَ فِيهِ.

ص: 242

3772 -

سُئِلَ شَيْخُ الإِسْلَامِ: رحمه الله: عَن رَجُلِ يُوَكِّلُ الدَّلَّالَ

(1)

فِي أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ سِلْعَةً فَيَشْتَرِيَهَا لَهُ، ويأخُذُ مِن الْبَائِعِ جُعْلًا عَلَى أنْ بَاعَهَا لَهُ بِذَلِكَ الثَّمَنِ

(2)

؟

فَأجَابَ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ يَشْتَرِيهَا لِمُوَكِّلِهِ بِأَكْثَر مِن قِيمَتِهَا، فَيَزِيدُ الْبَائِعُ عَلَى الرِّبْحِ الْمُعْتَادِ إذَا اشْتَرَاهَا بِتَخْبِيرِ الثَّمَنِ

(3)

، فَيَكُونُ ذَلِكَ غِشًّا لِمُوَكِّلِهِ.

هَذَا إذَا حَصَلَ مُوَاطَأَةٌ مِن الْبَائِعِ أَو عُرِفَ بِذَلِكَ.

وَأَمَّا لَو وَهَبَهُ الْبَائِعُ ذَلِكَ مِن غَيْرِ أَنْ يَكُونَ قَد تَقَدَّمَ شُعُورُهُ: فَهَذِهِ مَذْكُورَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ

(4)

. [30/ 54 - 55]

3773 -

وَسُئِلَ: عَن جَمَاعَةٍ مِن الْجُنْدِ اسْتَأَجَرُوا وَكِيلًا عَلَى إقْطَاعِهِمْ، وَأَمَرُوهُ أَنْ يَخْرُجَ إلَى ذَلِكَ الْإِقْطَاعِ، وَيُسَجِّلَ بِالْقَيِّمَةِ، فَوَاطَأ الْوَكِيلُ أَصْحَابَهُ، وَسَجَّلَ بِدُونِ الْقِيمَةِ الْجَارِي بِهَا الْعَادَةُ فَهَل يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ؟

فَأَجَابَ: إذَا أَجَّرَ بِدُونِ أجْرَةِ الْمِثْل وَسَلَّمَ الْأَرْضَ إلَيْهِمْ: فَهُوَ ظَالِمٌ مُعْتَدٍ، وَلأرْبَابِ الْأَرْضِ أَنْ يُضَمِّنُوة تَمَامَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ.

(1)

هو السِّمْسَارُ: وهو المُتَوَسِّطُ بينَ البائِعِ والمُشْتَرِي لإِمضاءِ البيعَ، وسُمي دلّالًا؛ لأنه يَدُلّ المُشْتَرِيَ على السِّلَعِ، ويدُلّ البائِعَ على الأثْمَانِ. يُنظر: تاج العروس، مادة:(سمسر).

(2)

أي: يقول للبائع: إن بعتها لك بالثمن الذي تبيعها به لي كذا وكذا من المال، فالبائع سيزيد من قيمتها لئلا يخسر، ولكن لو باعها بما يبيعها به دون زيادة فلا بأس.

(3)

قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى: الظاهر -والله أعلم- أن الفقهاء رحمهم الله تناقلوها، عبَّر بها الأول ثم تبعه الآخر، وإلا لو قيل: خيار يثبت فيما إذا أخبره بالثمن لكان أوضح ..

مثال: جاءني رجل فقال: أنا اشتريت سيارة بثمانين ألفًا، فجاءني رجل وقال: بعنيها برأس مالها، قلت: بعتها عليك برأس المال، فكم رأس المال؛ قلت: مائة ألف، فقال: قبلت، ثم تبين بعد ذلك أن الثمن ثمانون ألفًا، فالبائع حينئذٍ كذب على المشتري حيث أخبره بما لا صحة له. اهـ. الشرح الممتع (8/ 328).

(4)

والذي يظهر أنه يجوز، والهبة تكون له لا لِمُوكّلِه، إذا كانت الهبة مقصودةً له، لمعرفته به مثلًا، أو لحسن أخلاقه وتعامله.

ص: 243

وَأَمَّا الْمُسْتَأْجِرُونَ إنْ كَانُوا عَلِمُوا أَنَّهُ ظَالِمٌ وَأَنَّهُ حَابَاهُم فَلِأَصْحَابِ الْأرْضِ تَضْمِينُهُم أَيْضًا إنْ كَانوا اسْتَوْفوا الْمَنْفَعَةَ.

وَلَهُم مَنْعُهُم مِن الزرْعِ إنْ كَانُوا لَمْ يَزْرَعُوا؛ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ حِينَئِذٍ بَاطِلَةٌ.

وَإِن كَانُوا لَمْ يَعْلَمُوا؛ بَل الْمُؤَجِّرُ عَرَّفَهُمْ: فَهَل لِأَصْحَابِ الْأَرْضِ تَضْمِينُهُمْ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ. [30/ 55 - 56]

3774 -

إذَا فَسَخَ الْوَكِيلُ الْمَاذُونُ لَهُ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ بَعْدَ تَمْكِينِ الْحَاكِمِ لَهُ مِن الْفَسْخِ: صَحَّ فَسْخُهُ، وَلَمْ يَحْتَجْ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى حُكْمِهِ بِصِحَّةِ الْفَسْخِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ.

وَالْفَسْخُ لِلْإِعْسَارِ جَائِزٌ فِي مَذْهَبِ الثَّلَاثَةِ، وَالْحَاكِمُ لَيْسَ هُوَ فَاسِخًا، وَإِنَّمَا هُوَ الْاَذِنُ فِي الْفَسْخِ وَالْحَاكِمُ بِجَوَازِهِ.

فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ عَقْدُهُ وَفَسْخُهُ إلَى حُكْمِ حَاكِمٍ فِيهِ.

وَالْعُلَمَاءُ الَّذِينَ اشْتَرَطُوا فِي فَسْخِ النّكاحِ بِعَيْب أَو إعْسَارٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِن صُوَرِ النِّزَاعِ أَنْ يَكُونَ بِحُكْمِ حَاكِمٍ: لَمْ يَشْتَرِطُوا أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ قَد حَكَمَ بِصِحَّةِ الْفَسْخِ بَعْدَ وُقُوعِهِ؛ إذ هَذَا لَيْسَ مِن خَصَائِصِ هَذ الْمَسَائِلِ؛ بَل كُلُّ تَصَرُّفٍ مُتَنَازَعٍ فِيهِ إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِصِحَّتِهِ لَمْ يَكُن لِغَيْرِهِ نَقْضُهُ إذَا لَمْ يُخَالِفْ نَصًّا وَلَا إجْمَاعًا. [30/ 57 - 58]

3775 -

هَل يَنْعَزِلُ [أي: الْوَكِيل] قَبْلَ بُلُوغِ الْعَزْلِ لَهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورينِ لِلْعُلَمَاءِ:

أَحَدُهُمَا: لَا يَنْعَزِلُ حَتَّى يَعْلَمَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ بَل أَرْجَحُهُمَا

(1)

.

فَعَلَى هَذَا: تَصَرُّفُ الْوَكيلِ قَبْلَ الْعِلْمِ صَحِيحٌ نَافِذٌ، وَثُبُوتُ عَزْلِهِ قَبْلَ

(1)

وهو الأرجح.

ص: 244

التَّصَرُّفِ لَا يَقْدَحُ فِي تَصَرُّفِهِ قَبْلَ الْعِلْمِ فَيَصِحُّ الْبَيْعُ وَالْوَقْفُ الْوَاقِعُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ، وَلَا يَبْطُل ذَلِكَ وَلَا حُكْمُ الْحَاكِمِ بِهِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَنْعَزِلُ قَبْلَ الْعِلْمِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.

فَعَلَى هَذَا: لَا تُقْبَلُ مُجَرَّدُ دَعْوَاهُ الْعَزْلَ بَعْدَ التَّصَرُّفِ

(1)

.

وَإِذَا أَقَامَ بِذَلِكَ بَيِّنَةً بِبَلَد آخَرَ وَحَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ: كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا عَلَى الْغَائِبِ، وَالْحُكْمُ عَلَى الْغَائبِ إذَا قِيلَ بِصِحَّتِهِ فَهُوَ يَصِحُّ مَعَ بَقَاءِ كُلِّ ذِي حُجَّةٍ عَلَى حُجَّتِهِ، وَللْمَحْكُومِ عَلَيْهِ أَنْ يَقْدَحَ فِي الْحُكمِ وَالشَّهَادَةِ بِمَا يَسُوغُ قَبُولُهُ؛ إمَّا الطَّعْنُ فِي الشُّهُودِ، أَو الْحُكْمِ أَو غَيْرِ ذَلِكَ.

ثمَّ الْحَاكِمُ الَّذِي حَكَمَ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ وَالْوَقْفِ إنْ كَانَ مِمَن لَا يَرَى عَزْلَ الْوَكِيلِ قَبْلَ الْعِلْمِ وَقَد بَلَغَهُ ذَلِكَ: كَانَ حُكْمُهُ نَافِذًا لَا يَجُوزُ نَقْضهُ بِحَالٍ؛ بَل الْحُكْمُ النَّاقِضُ لَهُ مَرْدُودٌ.

وَإِن كَانَ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ، أَو مَذْهَبُهُ عَدَمُ الْحُكْمِ بِالصّحَّةِ إذَا ثَبَتَ: كَانَ وُجُودُ حُكْمِهِ كَعَدَمِهِ.

وَلَو حَكَمَ بِبُطْلَانِ الْوَقْفِ: لَمْ يَجِبْ عَلَى الْوَكِيلِ وَلَا عَلَى الْمُشْتَرِي ضَمَانُ مَا اسْتَوْفَاة مِن الْمَنْفَعَةِ؛ فَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ وَالْمُشْتَرِي مَغْرُورينِ غَرَّهُمَا الْمُوَكِّل لِعَدَمِ إعْلَامِهِ بِالْعَزْلِ؛ فَالتَّفْرِيطُ جَاءَ مِن جِهَتِهِ فَلَا يَضْمَنُ لَهُ الْمَنْفَعَةَ.

وَإِذَا أَنْكَرَ الْمُوَكِّلُ قَبْضَ الثَّمَنِ وَلَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ بَيِّنةً بِهِ:

أ- فَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ بِلَا جُعْلٍ قُبِلَ قَوْلُهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينُهُ، كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُودَعِ فِي رَدِّ الْوَدِيعَةِ إلَى مَالِكِهَا.

ب- وَإِن كَانَ بِجُعَل فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ.

(1)

أي: لا تُقبل دعوى الْمُوكّلِ أنه عزل مُوكِّلَه بعد أن تصرف ببيع أو شراء ونحوه.

ص: 245

وَلَكِنْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ عَلَى الْمُشْتَرِي:

- فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ بَاقِيًا: فَلَا كَلَامَ.

- وَإِن كَانَ الْبَيْعُ مَفْسُوخًا: فَلَهُم أَنْ يُطَالِبُوا الْوَكِيلَ بِالثَّمَنِ، وَالْوَكِيلُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُوَكلِ. [30/ 60 - 63]

3776 -

وَسُئِلَ شَيْغ الْإِسْلَامِ: عَمَّن وَكَّلَ رَجُلًا فِي بَيْعِ سِلْعَةٍ فَبَاعَهَا إلَى أَجَلٍ، وَتَويَ

(1)

بَعْضُ الثَّمَنِ، فَهَل يُطَالِبُ الْمَالِكُ بِقِيمَتِهَا حَالَّةً أَو بِمِثْل الثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ، وَهُوَ أَكْثَرُ؟

فَأَجَابَ: إذَا لَمْ يَكُن قَد أَذِنَ لَهُ فِي الْبَيْعِ إلَى أَجَلٍ: فَالْمَالِكُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُطَالِبَ الْبَائِعَ بِقِيمَتِهَا بِنَقْد، وَبَيْنَ أَنْ يُطَالِبَ بِالثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ جَمِيعِهِ، وَيحْسِبَ الْمُنْكَسِرَ عَلَى صَاحِبِ السِّلْعَةِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ بِدُونِ إذْنٍ كَتَصَرُّفِ غَاصِبٍ، وَالْغَاصِبُ إذَا تَلِفَت الْعَيْنُ عِنْدَهُ إلَى بَدَلٍ: كَانَ لِلْمَالِكِ الْخِيَرَةُ بَيْنَ الْمُطَالَبَةِ وَبَيْنَ الْبَدَلِ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ الْمِثْلُ أو الْقِيمَةُ، وَبَيْنَ الْبَدَلِ الْمعَيَّنِ.

وَهَذَا يَكُونُ حَيْثُ لَمْ يَعْرف الْمُشْتَرِي بِالْغَصْبِ، فَلَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ إلَّا الثَّمَنُ الْمُسَمَّى.

وَإِذَا قُلْنَا بِوَقْفِ الْعُقُودِ عَلَى الْإِجَازَةِ: إذَا لَمْ يُثْبت الْإِجَازَة

(2)

، وَاصطَلَحَا عَلَى الثَّمَنِ وَتَرَاضَيَا بِهِ: صَحَّ الصُّلْحُ عَن بَدَلِ الْمُتْلَفِ بِأَكْثَرِ مِن قِيمَتِهِ مِن ضَمَانِهِ، كَمَا لَو اتَّفَقَا عَلَى فَرْضِ الْمَهْرِ فِي مَسْألَةِ التَّفْوِيضِ. [30/ 65]

3777 -

وَسُئِلَ: عَن رَجُلٍ وَكَّلَ رَجُلًا وِكَالَة مُطْلَقَةً؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَصَرَّفُ إلَّا بِالْمَصْلَحَةِ وَالْغِبْطَةِ، فَأَجَّرَ لَهُ أَرض تُسَاوِي إجَارَتُهَا عَشَرَةَ آلَافٍ بِخَمْسَةِ آلَافٍ، فَهَل تَصِحُّ هَذِهِ الْإِجَارَةُ؟

(1)

قال صاحب العين: التَّوَى: ذهابُ المالِ الذي لا يُرجَى، وتَوِيَ يَتْوَى تَوىً: ذَهَبَ.

(2)

أي: لم يقبل مالك السلعة أنْ يُجيز البيع.

ص: 246

فَأَجَابَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَهَا بِمِثْل هَذَا الْغَبْنِ، وَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْوَكِيلَ الْمُفَرِّطَ مَا فَوَّتَه عَلَيْهِ.

وَأَمَّا صِحَّةُ الْإِجَارَةِ: فَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ يَقُولُونَ: إجَارَةٌ بَاطِلَةٌ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.

لَكِنْ إذَا كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ مَغْرُورًا لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِ الْوَكِيلِ مِثْل أَنْ يَظُنَّ أَنَّهُ مَالِكٌ عَالِمٌ بِالْقِيمَةِ: فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى مَن غَرَّهُ بِمَا يَلْزَمُهُ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ.

وَزَرْعُهُ

(1)

زَرْعٌ مُحْتَرَمٌ لَا يَجُوزُ قَطْعُهُ مَجَّانًا؛ بَل يُنزلُ بِأُجْرَةِ الْمِثْل بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهِ.

وَإِذَا ادَّعَى عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَنَّهُ عَالِمٌ بِالْحَالِ فَأَنْكَرَ: فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. [30/ 68 - 69]

3778 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلٍ وَكَّلَ غُلَامَهُ فِي إيجَارِ حَانُوتٍ لِشَخْص، ثُمَّ إنَّ الْمُسْتَأجِرَ أَجَّرَهُ لِشَخْص، فَهَل لِلْوَكِيلِ أَنْ يَقْبَلَ الزِّيَادَةَ فِي أُجْرَةِ الْحَانُوتِ؛ وَهَل لَهُ مُطَالَبَةُ الْمُسْتَأْجِرِ الثَّانِي؟

فَأجَابَ: لَيْسَ لِلْمُوَكَّلِ -وَالْحَالَةُ هَذِهِ- أَنْ يُؤَجِّرَ الْحَانُوتَ لِأَحَد، لَا بِزِيَادَة وَلَا غَيْرِ زِيادَةٍ، وَلَا لِلْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِلْمُوَكّلِ مُطَالَبَةُ الْمُسْتَأْجِرِ الثَّانِي، وَإِذَا أَخَذَ مِنْهُ الْأُجْرَةَ غَصْبًا فَلَهُ اسْتِرْجَاعُ ذَلِكَ مِنْهُ.

وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي إنْكَارِ الْوَكَالَةِ مَعَ كَوْنِهِ يَتَصَرَّفُ لَهُ تَصَرُّفَ الْوُكَلَاءِ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ، وَكَوْنِهِ مَعْرُوفًا بِأَنَّهُ وَكِيلُهُ بَيْنَ النَّاسِ، حَتَّى لَو قُدّرَ أَنَّهُ لَمْ يُوَكِّلْهُ- وَالْحَالَةُ هَذه- فَتَفْرِيطُهُ وَتَسْلِيطُهُ عُدْوَانٌ مِنْهُ يُوجِبُ الضَّمَانَ.

وَالْإِجَارَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي أَكْرَهَ الْمُوَكِّلُ عَلَيْهَا الْمُسْتَأْجِرَ الثَّانِيَ بَاطِلَةٌ. [30/ 69 - 70]

(1)

الذي زرعه في هذه الأرض.

ص: 247

3779 -

إذَا وَكَّلَ الْإِنْسَانُ وَكِيلًا فِي شِرَاءِ شَيْءٍ وَلَمْ يُوَكِّلْهُ فِي الْإِقَالَةِ: لَمْ يَكن لِلْوَكيلِ الْإِقَالَةُ، وَلَا تَنْفُذُ إقَالَتُهُ بِدُونِ إذْنِ الْمُوَكِّلِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. [30/ 71]

3780 -

الْوَكِيلُ فِي الِاسْتِيفَاءِ لَا يَصِخُ إبْرَاؤُهُ [أي: الغريم]، وَلَا مُصَالَحَتُهُ عَلَى بَعْضِ الْحَق وَلَو كَانَ وَكِيلًا فِي ذَلِكَ.

ثُمَّ إنَّ الْغَرِيمَ إذَا جَحَدَ الْحَقَّ حَتَّى صُولِحَ: كَانَ الصُّلْحُ فِي حَقِّهِ بَاطِلًا، وَلَمْ تَبْرَأ ذِمَّتُهُ.

وَإِذَا كَانَ الْمُدَّعِي إنَّمَا صَالَحَهُ خَوْفًا مِن ذَهَابِ جَمِيعِ الْحَقِّ: فَهُوَ مُكْرَهٌ عَلَى ذَلِكَ، فَلَا يَصِحُّ صُلْحُهُ، وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْحَقِّ بَعْدَ ذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِهِ أَو قَامَتْ بِهِ بَيِّنَة. [30/ 72]

3781 -

إذَا كَانَ التَّاجِرُ الَّذِي يُسَلِّمُ مَالَهُ إلَى الدَّلَالِ

(1)

قَد عَلِمَ أَنَّهُ يُسَلّمُهُ إلَى غَيْرِهِ مِن الدَّلَّالِينَ وَرَضِيَ بِذَلِكَ

(2)

: لَمْ يَكُن بِذَلِكَ بَأْسٌ بِلَا ريبٍ؛ فَإِنَّ الدَّلَالَ وَكِيلُ التَّاجِرِ، وَالْوَكِيلُ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ كَالْمُوَكِّلِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.

وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ تَوْكِيلِهِ بِلَا إذْنِ الْمُوَكِّلِ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ.

وَعَلَى هَذَا تَنَازَعُوا فِي شَرِكَةِ الدَّلَّالِينَ؛ لِكَوْنِهِمْ وُكَلَاءَ، فَبَنَوْا ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ تَوْكِيلِ الْوَكيلِ.

وَإِذَا كَانَ هُنَاكَ عُرْفٌ مَعْرُوفٌ أَنَّ الدَّلَّالَ يُسَلِّمُ السِّلْعَةَ إلَى مَن يَأَتَمِنُهُ: كَانَ الْعُرْفُ الْمَعْرُوفُ كَالشَّرْطِ الْمَشْرُوطِ. [30/ 98]

* * *

(1)

هو السِّمْسَارُ: وهو المُتَوَسّط بينَ البائِعِ والمُشْتَرِي لإِمضاءِ البيعَ.

ويُطلق على الوكيل في بيع السلعة.

(2)

أي: أنّ التاجر عنده علم بأن المال الذي دفعه للوكيل سيسلمه إلى غيره ورضي بذلك.

ص: 248

(خَطُّ الْمَيِّتِ كَلَفْظِهِ ولَا يَحْتَاجُ أَصْحَابُ الْحُقُوقِ على الميّت إلَي بَيِّنَةٍ)

3782 -

إِنَّ إقْرَارَ الْوَكِيلِ عَلَى مُوَكِّلِهِ فِيمَا وَكَّلَهُ فِيهِ مَقْبُولٌ؛ لِأَنَّهُ أَمِينُهُ.

وَخَطُّ الْمَيّتِ كَلَفْظِهِ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْإِقْرَارِ وَنَحْوِهِمَا

(1)

.

وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ أَصْحَابُ الْحُقُوقِ إلَى بيِّنَةٍ، وَتَكْلِيفُهُم الْبَيِّنَةَ إضَاعَةٌ لِلْحُقُوقِ، وَتَعْذِيبٌ لِلْأَمْوَاتِ بِبَقَائِهِمْ مُرْتَهَنِينَ بِالذُّنُوبِ، فَفِيهِ ظُلْمٌ لِلْأَمْوَاتِ وَالْأحْيَاءِ، لَا سِيَّمَا فِي الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ فِيهَا بِالْإِشْهَادِ، فَتَكْلِيفُ الْبَيِّنةِ فِي ذَلِكَ خرُوجٌ عَن الْعَدْلِ الْمَعْرُوفِ. [30/ 66 - 67]

3783 -

اسْتِيفَاءُ الْمَالِ بِجُزْءٍ مُشَاعٍ مِنْهُ: جَائزٌ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ.

وَإِن كَانَ قَد عَمِلَ لَهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ عِوَضًا وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُ ذَلِكَ: فَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْل الَّذِي جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، فَإِن اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ شَيْئًا فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ مُطْلَقًا مِن تَرِكَتِهِ

(2)

وَبِدُونِ إذْنِهِ، وَإِن لَمْ يَسْتَحِقَّهُ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا إلَّا بِإِذْنِهِ. [30/ 67 - 68]

* * *

(بَاب الشَّرِكَةِ)

(3)

3784 -

الاشتراك في مجرد الملك بالعقد: مثل أن يكون بينهما عقار

(1)

وقال رحمه الله: فكُلُّ ما وُجِدَ بخطِّ الْميت، أو أخْبرَ بهِ كاتِبُهُ، أو لَفَظَ وكِيلُهُ في ذلكَ: فإِنَّهُ يَجِبُ الْعمَلُ بذلِك. (30/ 66)

(2)

أي: من ترَكة الميّت.

(3)

الشركة: هِيَ اجتماعٌ فِي اسْتِحقَاقٍ أو تَصَرُّفٍ.

قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله: قوله: "اجتماع في استحقاق" بمعنى: أن يكون شيء بين شخصين فأكثر اشتركا فيه باستحقاق، وهذه تسمى شركة الأملاك.

مثاله: ورثة ورثوا من أبيهم عقارًا، فهؤلاء اجتمعوا في استحقاق ليس بينهم عقد، وكذا اشتراك المجاهدين في الغنيمة، وكذا لو وُهِبَ لرجلين كتاب، وقد تكون في المنافع لا في الأعيان كما لو منحت رجلين الانتفاع بهذا البيت. =

ص: 249

فيشيعانه، أو يتعاقدان على أن المال الذي لهما المعروف بهما يكون بينهما نصفين، ونحو ذلك، مع تساوي ملكهما فيه، فجوازه متوجه؛ لكن هل يكون بيعًا؛ قياس ما ذكروه في الشركة أنه ليس بيعًا، كما أن القسمة ليست بيعًا. [المستدرك 4/ 38]

3785 -

قال أحمد: ما أنفق على المال فعلى المال. وقاله شيخنا في البذل لمحارب ونحوه. [المستدرك 4/ 38]

3786 -

لا نفقة لمضارب إلا بشرط أو عادة؛ فإنْ شُرطت

(1)

مطلقًا فله نفقة مثله طعامًا وكسوة.

وقد يُخرَّج لنا أنَّ للمضارب في السفر الزيادةَ على نفقة الحضر، كما قلنا في الولي إذا جحد الصبي؛ لأن الزيادة إنما احتاج إليها لأجل المال.

وقد ثبت من أصلنا صحة الاشتراك في العقود وأن تختلط الأعيان، كما تصح القسمة بالمحاسبة

(2)

وإن لم تتميز الأعيان. [المستدرك 4/ 39]

= ودليلها قول الله تبارك وتعالى: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12]، هذا اجتماع في استحقاق، والاجتماع في الاستحقاق يسمى شركة أملاك.

وقوله: "أو تصرف" وتسمى شركة عقود، وهي التي قد قسمها المؤلف إلى الأقسام الخمسة الآتية، بمعنى أن يتعاقد شخصان في شيء يشتركان فيه، وهذه لا تثبت إلا بعقد بين المتعاقدين. اهـ. الشرح الممتع (9/ 398 - 399).

قال صاحب الزاد: وَهِيَ -أي: الشركة- أنْوَاعٌ:

فَشَرِكَةُ عِنَانِ أَنْ يَشْتَرِكَ بَدَنَانِ بِمَاليْهِمَا المَعْلُومِ وَلَو مُتَفَاوِتًا ليَعْمَلا فِيهِ بِبَدَنَيْهِمَا.

الثاني: المُضَارَبَةُ لِمُتَّجِر بهِ بِبَعْضِ رِبْحِهِ.

الثالث: شَرِكَةُ الوُجُوهِ، أَنْ يَشْتَرِيَا فِي ذِمَّتَيْهِمَا بِجَاهِهِمَا فَمَا رَبِحَا فَبَيْنَهُمَا.

الرابع: شركة الأبدان، أن يشرَكا فيما يكتسبان بأبدانهما.

الخَامِسُ: شَرِكةَ المفاوَضَةِ، أنْ يُفَوِّضَ كُل مِنْهُمَا إِلى صاحِبهِ كُلٌّ تَصَرُّفٍ مَاليِّ ويَدَنِيِّ مِن أَنْواعِ الشَّرِكَ.

(1)

أي: النفقة.

(2)

المحاسبة مفاعلة من الحساب، وهو استيفاء الأعداد فيما للمرء وعليه. التوقيف على مهمات التعاريف (640).

ص: 250

3787 -

لو دفع دابته أو نخله إلى من يقوم به وله جزء من ثمانية: صح. وهو رواية عن أحمد. [المستدرك 4/ 39]

3788 -

يجوز قسمة الدَّيْن في ذمة أو ذمم

(1)

، وهو رواية عن أحمد، فإن تكافأت

(2)

الذمم فقياس المذهب في الحوالة على [مَلِيءٍ]

(3)

وجوبها. [المستدرك 4/ 39]

3789 -

لو كتب رب المال للجابي والسمسار ورقة ليسلمها إلى الصيرفي

(4)

المتسلم ماله، وأمره أن لا يسلمه حتى يقتص منه فخالف: ضمن؛ لتفريطه. ويُصَدَّق الصيرفي

(5)

مع يمينه، والورقة شاهدة له؛ لأن العادة جارية بذلك. [المستدرك 4/ 39]

3790 -

تصح شركة الشهود، وللشاهد أن يقيم مقامه غيره إن كان الجعل على عمل في الذمة، وإن كان على شهادته بعينه فالأصح جوازه، وللحاكم أن يكرههم؛ لأن له النظر في العدالة وغيرها. [المستدرك 4/ 40]

3791 -

إن اشتركوا على أن كل ما حصله كل واحد منهم بينهم بحيث إذا كتب أحدهم وشهد شاركه الآخر وإن لم يعمل: فهي شوكة الأبدان، تجوز فيما تجوز فيه الوكالة.

وأما حيث لا تجوز: ففيه وجهان كشركة الدَّلَّالين، وقد نص أحمد على جوازها فقال في رواية أبي داود وقد سئل عن الرجل يأخذ الثوب ليبيعه فيدفعه

(1)

الْغُرَمَاءِ.

قال في كشاف القناع (6/ 377): حيث قلنا إنها إفراز لا بيع. اهـ.

(2)

في المطبوع؛ (تكافئت)، والمثبت هو الصواب.

(3)

في الأصل: (ولي اليتيم ونحوه) وهو خطأ، والتصويب من الاختيارات (214)، والإنصاف (5/ 420).

(4)

في الأصل: (الصبي في)، والتصويب من الاختيارات (214).

(5)

في الأصل: (الصبي في)، والتصويب من الاختيارات (214).

ص: 251

إلى الآخر: يبيعه ويناصفه فيما يأخذ من الكراء، قال: الكراء للذي باعه، إلا أن يكونا شريكين فيما أصابا.

ووجه صحتها: أن بيع الدلال وشراءه بمنزلة خياطة الخياط ونجارة النجار وسائر الأجراء المشتركين، ولكلٍّ منهم أن يستنيب وإن لم يكن للوكيل أن يوكل.

ومأخذ من منع من ذلك: أن الدلالة في باب الوكالة وسائر الصناعات من باب الإجارة، وليس الأمر كذلك.

ومحل الخلاف هو في شركة الدلالين التي فيها عقد.

فأما مجرد النداء والعرض وإحضار الديون فلا خلاف في جوازه.

وتسليم الأموال إلى الدلالين مع العلم باشتراكهم إذن لهم ببيعها. [المستدرك 4/ 40]

3792 -

لو باع كل واحد ما أخذه ولم يعط غيره واشتركا في الكسب: جاز في أظهر الوجهين. [المستدرك 4/ 40]

3793 -

ليس لولي الأمر المنع بمقتضى مذهبه في شركة الأبدان والوجوه والمساقاة والمزارعة ونحوها مما يسوغ فيه الاجتهاد. [المستدرك 4/ 41]

3794 -

الربح الحاصل من مال لم يأذن مالكه في التجارة فيه: فقيل: هو للمالك فقط؛ كنماء الأعيان.

وقيل: للعامل فقط؛ لأن عليه الضمان.

وقيل: يتصدقان به؛ لأنه ربح خبيث.

وقيل: يكون بينهما على قدر النفعين بحسب معرفة أهل الخبرة، وهو أصحهما، وبه حكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ إلا أن يتجر به في غير وجه العدوان مثل أن يعتقد أنه مال نفسه فيتبين أنه مال غيره فهنا يقتسمان الربح بلا ريب.

ص: 252

وذكر أبو العباس في موضع آخر: أنه إذا كان عالمًا بأنه مال الغير فهنا يتوجه قول من لا يعطيه شيئًا؛ لأنه حصل بفعل محرم فلا يكون سببًا للإباحة.

فإذا تاب: سقط حق الله بالتوبة وأبيح له حينئذ بالقسمة.

فأما إذا لم يتب: ففي حله نظر.

وكذلك المتوجه فيما إذا غصب شيئًا كفرس وكسب به مالًا كالصيد أن يجعل المكسوب بين الغاصب ومالك الدابة على قدر نفعهما؛ بأن تقوم منفعة الراكب ومنفعة الفرس ثم يقسم الصيد بينهما. [المستدرك 4/ 41]

3795 -

من كانت بينهما أعيان مشتركة فيما يكال أو يوزن، فأخذ أحدهما قدر حقه لإذن حاكم: جاز قولًا واحدًا، وكذلك بدون إذنه على الصحيح. [المستدرك 4/ 41]

3796 -

شَرِكَةُ الْأَبْدَانِ الَّتِي تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا

(1)

نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْتَرِكَا فِيمَا يَتَقَبَّلَانِ مِن الْعَمَلِ فِي ذِمَّتِهِمَا؛ كَأَهْلِ الصِّنَاعَاتِ مِن الْخِيَاطَةِ وَالنِّجَارَةِ وَالْحِيَاكَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ الَّذِينَ تُقَدَّرُ أُجْرَتُهُم بِالْعَمَلِ لَا بِالزَّمَانِ -وَيُسَمَّى الْأَجِيرَ الْمُشْتَرِكَ- وَيَكُونُ الْعَمَلُ فِي ذِمَّةِ أَحَدِهِمْ بِحَيْثُ يَسُوغُ لَهُ أَنْ يُقِيمَ غَيْرَهُ أَنْ يَعْمَلَ ذَلِكَ الْعَمَلَ، وَالْعَمَلُ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ كَدُيُونِ الْأَعْيَانِ، لَيْسَ وَاجِبًا عَلَى عَيْنِهِ كَالْأجِيرِ الْخَاصِّ.

فَهَؤُلَاءِ جَوَّزَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ اشْتِرَاكَفم كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد، وَذَلِكَ عِنْدَهُم بِمَنْزِلَةِ "شَرِكَةِ الْوُجُوهِ"، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِجَاهِهِ شَيْئًا لَهُ وَلشَرِيكِهِ، كَمَا يَتَقَبَّلُ الشَّرِيكُ الْعَمَلَ لَهُ وَلشَرِيكِهِ.

قَالُوا: وَهَذِهِ الشَّرِكَةُ مَبْنَاهَا عَلَى الْوِكَالَةِ فَكُلٌّ مِن الشَّرِيكَيْنِ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ بِالْمِلْكِ وَلشَرِيكِهِ بِالْوِكَالَةِ.

(1)

اختار الشيخ صحتها وقال: وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ. (30/ 77)

ص: 253

وَلَمْ يُجَوِّزْهَا الشَّافِعِيِّ.

وَالْجُمْهُورُ يُخَالِفُونَهُ فِي هَذَا وَيقُولُونَ: الشَّرِكَةُ نَوْعَانِ:

أ- شَرِكَةُ أَمْلَاكٍ

(1)

.

ب- وشَرِكةُ عُقُودٍ

(2)

.

وَشَرِكةُ الْعُقُودِ أَصْلًا لَا تَفْتَقِرُ إلَى شَرِكَةِ الْأمْلَاكِ، كَمَا أَنَّ شَرِكَةَ الْأمْلَاكِ لَا تَفْتَقِرُ إلَى شَرِكَةِ الْعُقُودِ وَإِن كَانَا قَد يَجْتَمِعَانِ.

وَالْمُضَارَبَةُ شَرِكَةُ عُقُودٍ بِالْإِجْمَاعِ لَيْسَتْ شَرِكَةَ أَمْلَاكٍ؛ إذ الْمَالُ لِأَحَدِهِمَا وَالْعَمَل لِلْآخَرِ، وَكَذَلِكَ الْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ وَإِن كَانَ مِن الْفُقَهَاءِ مَن يَزْعُمُ أَنَّهَا مِن بَابِ الْإِجَارَةِ، وَأَنَّهَا خِلَافُ الْقِيَاسِ.

فَالصَّوَابُ أَنَّهَا أَصْل مُسْتَقِلُّ، وَهِيَ مِن بَابِ الْمُشَارَكَةِ لَا مِن بَابِ الْإِجَارَةِ الْخَاصَّةِ وَهِيَ عَلَى وَفْقِ قِيَاسِ الْمُشَارَكَاتِ.

وَلَمَّا كَانَ مَبْنَى الشَّرِكَةِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَنَازَعُوا فِي الشَّرِكَةِ فِي اكْتِسَابِ الْمُبَاحَاتِ؛ بِنَاءَ عَلَى جَوَازِ التَّوَكُّلِ فِيهَا، فَجَوَّزَ ذَلِكَ أَحْمَد، وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ.

وَقَد يُقَالُ: هَذِهِ مِن النَّوْعِ الثَّانِي إذَا تَشَارَكَا فِيمَا يُؤَجِّرَانِ فِيهِ أَبْدَانَهُمَا وَدَابّتَيْهِمَا: إجَارَةَ خَاصَّةً، فَفِي هَذِهِ الْإِجَارَةِ قَوْلَانِ مَرْوِيَّانِ.

وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ، لَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ مَن يُجَوِّز شَرِكَةَ الْعِنَانِ مَعَ عَدَمِ اخْتِلَاطِ الْمَالَيْنِ وَمَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسَيْنِ، وَقَد قَالَ تَعَالَى:{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1].

وَأَمَّا اشْتِرَاكُ الشُّهُودِ: فَقَد يُقَالُ: مِن مَسْأَلَةِ "شَرِكَةِ الْأَبْدَانِ" الَّتِي تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا؛ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَثْبُتْ فِي الذِّمَّةِ، وَلَا يَصِحُّ التَّوَكُّلُ فِيهَا، حَتَّى يَكُونَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مُتَصَرِّفًا لِنَفْسِهِ بِحُكْمِ الْمِلْكِ وَلشَرِيكِهِ بِحُكْمِ الْوِكَالَةِ، وَالْعِوَضُ فِي الشَّهَادَةِ مِن بَابِ الْجَعَالَة لَا مِن بَابِ الْإِجَارَةِ اللَّازِمَةِ.

(1)

وهِيَ اجتماعٌ فِي اسْتِحقَاقٍ.

(2)

وهِيَ اجتماعٌ فِي تَصَرُّفٍ.

ص: 254

وَإِن لَمْ يُقَدِّر الْجُعلَ -وَقَد عَلِمَ أَنَّهُم يَعْمَلُونَ بِالْجُعلِ: مِثْل حَمَّالِينَ يَحْمِلُونَ مَالَ تَاجِرٍ مُتَعَاوِنينَ عَلَى ذَلِكَ- فَهُم يَسْتَحِقُّونَ جُعْلَ مِثْلِهِمْ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ؛ كَمَا يَسْتَحِقُّهُ الطَّبَّاخُ الَّذِي يَطْبُخُ بِالْأجْرَةِ، وَالْخَبَّازُ الَّذِي يَخْبِزُ بِالْأجْرَةِ، وَالنَّسَّاجُ الَّذِي يَنْسِجُ بِالْأُجْرَةِ، وَالْقَصَّارُ الَّذِي يُقَصِّرُ بِالْأجْرَةِ، وَصَاحِبُ الْحَمَّامِ وَالسَّفِينَةِ، وَالْعُرْفُ الَّذِي جَرَتْ عَادَتُهُ بِأنْ يُسْتَوْفَى مَنْفَعَتُهُ بِالأَجْرِ.

فَهَؤُلَاءِ يَسْتَحِقُّونَ عِوَضَ الْمِثْل عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَعْمَلَ جَمَاعَةً فِي أَنْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِ وَيكْتموا خُطُوطَهُم بِالشَّهَادَةِ يَسْتَحِقونَ الْجُعْلَ.

وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ صَحِيحٌ إذَا لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْهُم شَرِكَةٌ، فَأَمَّا إذَا اشْتَرَكُوا فِيمَا يَكْتَسِبُونَهُ بِالشَّهَادَةِ فَهُوَ كَاشْتِرَاكِهِمْ فِيمَا يَكْتَسِبُونَهُ بِسَائِرِ الْجَعَالَاتِ وَالْإِجَارَاتِ. [30/ 73 - 77]

3797 -

إذَا اشْتَرَكُوا عَلَى أَنَّ بَعْضَهُم يَعْمَلُ بِبَدَنِهِ كَالْمُضَارِبِ، وَبَعْضَهُم بِمَالِهِ أَو بِمَالِهِ وَبَدَنِهِ وَتَلِفَ الْمَالُ أو بَعْضُهُ مِن غَيْرِ عُدْوَانٍ وَلَا تَفْرِيطِ مِن الْعَامِلِ بِبَدَنِهِ: لَمْ يَكن عَلَيْهِ ضَمَانُ شَيْءٍ مِن الْمَالِ، سَوَاءٌ كَانَت الْمُضَارَبَةُ صَحِيحَةً أَو فَاسِدَةً بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. [30/ 82]

3798 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن اثْنَيْنِ اشْتَرَكَا: مِن أَحَدِهِمَا دَابَّة وَمِن الْآخَرِ دَرَاهِم، جَعَلَا ذَلِكَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا قَسَمَ اللهُ تَعَالَى مِن رِبْحٍ كَانَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ رَبِحَا، فَمَا الْحُكْمُ؟

فَأَجَابَ: يُنْظَرُ قِيمَة الْبَهِيمَةِ، فَتَكُونُ هِيَ وَالدَّرَاهِمُ رَأسَ الْمَالِ، وَذَلِكَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ عِنْدَنَا أَنَّ الشَّرِكَةَ وَالْقِسْمَةَ تَصحُّ بِالْأَقْوَالِ، لَا تَفْتَقِرُ إلَى خَلْطِ الْمَالَيْنِ وَلَا إلَى تَمْيِيزِهِمَا، وَيثْبُتُ الْمِلْكُ مُشْتَرَكَا بِعَقْدِ الشَّرِكَةِ، كَمَا يَتَمَيَّزُ بِعَقْدِ الْقِسْمَةِ وَالْمُحَاسَبَةِ، فَمَا رَبِحَا كَانَ بَيْنَهُمَا، وَإِذَا تَقَاسَمَا بِيعَت الدَّاَّبةُ وَاقْتَسَمَا ثَمَنَهَا مَعَ جُمْلَةِ الْمَالِ. [30/ 91]

ص: 255

3799 -

إِذَا طَلَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بَيْعَهَا [أي: البَقَرَةٍ الْمُشتركة بينهما]: بِيعَتْ عَلَيْهِمَا وَاقْتَسَمَا الثَّمَنَ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالْإِمَامِ أحْمَد وَغَيْرِهِمْ.

وَإِذَا كَانَ الشَّرِيكُ يَأْخُذُ اللَّبَنَ وَكَانَ اللَّبَنُ بِقَدْرِ الْعَلَفِ سَوَاءً فَلَا شَيءَ عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ انْتِفَاعُهُ بِهَا أَكثَرَ مِن الْعَلَفِ أَعْطَى شَرِيكَهُ نَصِيبَهُ مِن الْفَضْلِ. [30/ 94]

3800 -

مُوجبُ عَقْدِ الشَّرِكَةِ الْمُطْلَقَةِ: التَّسَاوِي فِي الْعَمَلِ وَالْأجْرِ، فَإِنْ عَمِلَ بَعْضُهُم أَكْثَرَ تبَرُّعًا بِالزِّيَادَةِ سَاوَوْهُ فِي الْأجْرِ، وَإِن لَمْ يَكُن مُتَبَرِّعًا طَالَبَهُمْ: إمَّا بِمَا زَادَ فِي الْعَمَلِ، وَإِمَّا بِإِعْطَائِهِ زِيَادَةٌ فِي الْأجْرَةِ بِقَدْرِ عَمَلِهِ، وَإِن اتَّفَقُوا عَلَى أنْ يَشْتَرِطُوا لَهُ زِيَادَةً جَازَ. [30/ 97]

3801 -

موجب العقد المطلق: التساوي في العمل والأجر.

وإن عمل واحد أكثر ولم يتبرع

(1)

: طالبهم إما بما زاده من العمل وإما بإعطائه زيادة في الأجرة بقدر عمله.

وإن اتفقوا على أن يشترطوا له زيادة جاز. [المستدرك 4/ 40]

* * *

(هل للحاكم منع الناس من التعامل في معاملات يَسُوغُ فِيها الِاجْتِهَادُ؟ ومتى يكون حكم الحاكم رافعًا للخلاف)

3802 -

مَا تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ لَيْسَ لِأَحَد مِن الْقُضَاةِ أَنْ يَفْصِلَ النِّزَاعَ فِيهِ بِحُكْم، وَإِذَا لَمْ يَكُن لِأحَد مِن الْقُضَاةِ أَنْ يَقُولَ: حَكَمْت بِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الصَّحِيح، وَأَنَّ الْقَوْلَ الْآخَرَ مَرْدُود عَلَى قَائِلِهِ؛ بَل الْحَاكِمُ فِيمَا تَنَازَعَ فِيهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ أَو أَجْمَعُوا عَلَيْهِ: قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ كَقَوْلِ آحَادِ الْعُلَمَاءِ إنْ كَانَ عَالِمًا، وَإِن كَانَ مُقَلِّدًا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعَامَّةِ الْمُقَلِّدِينَ.

(1)

في الأصل: (يشترط)، والتصويب من الاختيارات (215).

ص: 256

وَالْمَنْصِبُ وَالْوِلَايَةُ لَا يَجْعَلُ مَن لَيْسَ عَالِمًا مُجْتَهِدًا عَالِمًا مُجْتَهِدًا.

وَلَو كَانَ الْكَلَامُ فِي الْعِلْمِ وَالدّينِ بِالْوِلَايَةِ وَالْمَنْصِبِ: لَكَانَ الْخَلِيفَةُ وَالسُّلْطَانُ أَحَقَ بِالْكَلَامِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَبِانْ يَسْتَفْتيَهُ النَّاسُ ويَرْجِعُوا إلَيْهِ فِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِم فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ.

فَإِذَا كَانَ الْخَلِيفَةُ وَالسُّلْطَانُ لَا يَدَّعِي ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَلَا يَلْزَمُ الرَّعِيَّةَ حُكْمُهُ فِي ذَلِكَ بِقَوْل دُونَ قَوْلٍ إلَّا بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ: فَمَن هُوَ دُونَ السُّلْطَانِ فِي الْوِلَايَةِ أَوْلَى بِأَنْ لَا يَتَعَدَّى طُورَهُ.

فَكلُّ مَن كَانَ أَعْلَمَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ أَوْلَى بِالْكَلَامِ فِيهَا مِن غَيْرِهِ وَإِن لَمْ يَكُن حَاكِمًا، وَالْحَاكِمُ لَيْسَ لَهُ فِيهَا كَلَامٌ لِكَوْنِهِ حَاكِمًا؛ بَل إنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ تكَلَّمَ فِيهَا كَآحَادِ الْعُلَمَاءِ. [27/ 296 - 297]

3803 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَمَّن وَليَ أَمْرًا مِن أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَمَذْهَبُهُ لَا يُجَوِّزُ "شَرِكَةَ الْأبْدَانِ" فَهَل يَجُوزُ لَهُ مَنْعُ النَّاسِ؟

فَأَجَابَ: لَيْسَ لَهُ مَنْعُ النَاسِ مِن مِثْل ذَلِكَ وَلَا مِن نَظَائِرِهِ مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، وَلَيْسَ مَعَهُ بِالْمَنْعِ نَصٌّ مِن كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ، وَلَا مَا هُوَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، لَا سِيَّمَا وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ مِثْل ذَلِكَ، وَهُوَ مِمَّا يَعْمَلُ بِهِ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي عَامَّةِ الْأمْصَارِ.

وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْحَاكِمَ لَيْسَ لَهُ أنْ يَنْقُضَ حُكْمَ غَيْرِهِ فِي مِثْل هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَلَا لِلْعَالِمِ وَالْمُفْتِي أَنْ يُلْزِمَ النَّاسَ بِاتِّباعِهِ فِي مِثْل هَذِهِ الْمَسَائِلِ.

وَلهَذَا لَمَّا اسْتَشَار الرَّشِيدُ مَالِكًا أنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى مُوَطَّئِهِ فِي مِثْل هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَنَعَهُ مِن ذَلِكَ، وَقَالَ: إنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَفَرَّقُوا فِي الْأمْصَارِ، وَقَد أَخَذَ كُلُّ قَوْمٍ مِن الْعِلْمِ مَا بَلَغَهُمْ.

وَصَنَّفَ رَجُلٌ كِتَابًا فِي الِاخْتِلَافِ فَقَالَ أَحْمَد: لَا تُسَمِّهِ "كِتَابَ

ص: 257

الِاخْتِلَافِ"، وَلَكِنْ سَمِّهِ "كتَابَ السُّنَّةِ"

(1)

.

وَلهَذَا كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ: إجْمَاعُهُم حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ، وَاخْتِلَافُهُم رَحْمَةٌ وَاسِعَةٌ.

وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ: مَا يَسرُّنِي أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَخْتَلِفوا، لِأَنَّهُم إذَا اجْتَمَعُوا عَلَى قَوْلٍ فَخَالَفَهُم رَجُلٌ كَانَ ضَالًا، وَإِذَا اخْتَلَفُوا فَأَخَذَ رَجُلٌ بِقَوْلِ هَذَا وَرَجُلٌ بِقَوْلِ هَذَا كَانَ فِي الْأَمْرِ سَعَةٌ.

وَكَذَلِكَ قَالَ غَيْرُ مَالِكٍ

(2)

مِن الْأَئِمَّةِ: لَيْسَ لِلْفَقِيهِ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى مَذْهَبِهِ.

وَلهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمُصَنِّفُونَ فِي الأمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَن الْمُنْكَرِ مِن أَصْحَاب الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ: إنَّ مِثْل هَذِهِ الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ لَا تُنْكَرُ بِالْيَدِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَن يُلْزِمَ النَّاسَ بِاتِّباعِهِ فِيهَا، وَلَكِنْ يَتَكَلَّمُ فِيهَا بِالْحُجَجِ الْعِلْمِيَّةِ، فَمَن تبَيَّنَ لَهُ صِحَّةُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ تَبِعَهُ، وَمَن قَلَّدَ أَهْلَ الْقَوْلِ الْآخَرِ فَلَا إنْكَارَ عَلَيْهِ

(3)

. [30/ 79 - 80]

* * *

(1)

لعل الصواب: (السعة)، كما ذكر ذلك في (14/ 159).

(2)

لعل الصواب: (غيرُ واحد)؛ لأنه أنسب للسياق، ولأنه المعهود من كلام شيخ الإسلام، ولأنه لم يجر لمالك ذكر، وهذه المقولة نسبها شيخ الإسلام للإمام أحمد كما في كتابه: إقامة الدليل على إبطال التحليل (5/ 412).

(3)

قاعدة حكم الحاكم يرفع الخلاف وردت كثيرًا في كتب أهل العلم، ومعناها: أنّ وليّ الأمر- سواء أريد به القاضي أو السّلطان- إذا تبنّى رأيًا من الآراء الاجتهاديّة في الشريعة- ولو كان اختيارُه مرجوحًا- فإنه يرتفع به النّزاع بين الناس، ويلزمهم العمل بالقول الّذي اختاره وارتضاه.

فهذا القولُ صحيحٌ، ولكنّه ليس على إطلاقه:

فحكم الحاكم يرفع الخلافَ فيما تجري فيه الدّعاوى والخصومات فحسب (أي: الأمور التّنظيميّة)؛ كالحقوق، والجنايات، والحدود، ونحوها.

ومما يدل على ذلك فول الشيخ رحمه الله: ضَمَانُ السُّوقِ- وَهُوَ أَنْ يَضْمَنَ الضَّامِنُ مَا يَجِبُ عَلَى التَّاجِرِ مِن الدُّيُونِ وَمَا يَقْبِضُة مِن الْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ-: ضَمَانٌ صَحِيحٌ. =

ص: 258

‌(هل يجور أنْ يَشْرِطَ مَعَ الْبَيْعِ عَقْدًا آخر

؟)

3804 -

الْجَمْعُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالشَّرِكَةِ: لَا يَجُوزُ، وَقَد اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْرِطَ مَعَ الْبَيْعِ عَقْدًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ عَلَى أَنْ يُقْرِضَهُ، وَكَذَلِكَ لَا

= وَالشَافِعِيُّ يُبْطِلُهُ.

فَيَجُوزُ لِلْكَاتِبِ وَالشَّاهِدِ أَنْ يَكْتُبَهُ وَيُشْهدَ عَلَيْهِ وَلَو لَمْ يَرَ جَوَازَهُ؛ لِأنَّهُ مِن مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، وَوَليُّ الْأمْرِ يَحْكُمُ بِمَا يَرَاهُ مِن الْقَوْلَيْنِ. اهـ. (49/ 549)

وهذا بخلاف ما أفتى به عَمَّن سأله عن وَليّ أمْرٍ مِن أمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَمَذْهَبُهُ لَا يُجَوِّزُ "شَرِكَةَ الْأبْدَانِ" فَهَل يَجُوزُ لَهُ مَنْعُ النَّاسِ؟

فَأَجَابَ: لَيْسَ لَهُ منع النَّاسِ مِن مِثْل ذَلِكَ وَلَا مِن نَظَائِرِهِ مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، وَلَيْسَ مَعَهُ بِالْمَنْع نَصٌّ مِن كِتَاب وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ وَلَا مَا هُوَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، لَا سِيَّمَا وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ مِثْل ذَلِكَ وَهُوَ مِمَا يَعْمَلُ بِهِ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي عَامَّةِ الْأمْصَارِ. اهـ. (30/ 79)

فالشيخ في الفتوى الأولى رفع الخلاف بحكم الحاكم؛ لأنَّه من قبيل الدّعاوى والخصومات.

بخلاف فتواه الثانية، حيث جعل منع الحاكم من التعاملات المالية بينهم ليس من حقّه.

فما له علاقة بالاعتقاد، أو العبادات المحضة: كالطّهارة، والصّلاة، والصّيام، أو المعاملات الشخصية، فحكمُ الحاكم في هذه المسائل غيرُ ملزِمٍ، ولا يرفع الخلاف.

ومن الأمثلة على ذلك:

لو اختار الحاكم جلدَ شارب الخمر أربعين جلدةً، لا ثمانين، فليس لأحدٍ أن يزيدَ على ما اختاره وأدّاه إليه اجتهادُه؛ لأن ذلك يُحدِث المشاحّة والخصومة بين المسلمين، وهو ما وُضِع إلّا لرفع ذلك.

وكذا لو اختار الحاكمُ أنّ الحضانة للجدّة بعد الأمّ، فليس لأحد أن يعمل بخلاف ذلك؛ لأنَّه لو خالفه لحدث من جرّاء ذلك بلبلة وفتنة، فالأمر متعلّق بالحقوق.

أو اختار أنّ الرّهن يلزم بالقبض دون مجرّد العقد، فلا ينبغي مخالفتُه؛ لأنّ ذلك يُفضِي إلى حدوث الخصومة والشّقاق بين المسلمين.

أمّا مسائل الاعتقاد، والعبادات المحضة فلا يرفع حكمُ الحاكم الخلافَ فيها، ولا يلزمُ النّاسَ اتّباعُه فيما ذهب إليه وتبنّاه، ولا يصح له أن يُجبِرهم أن يأخذوا بقوله.

وإليك مثالا نعيشه كلّ عام، وهو صدقة الفطر:

فليس لوليّ الأمر أن يُلزِم النّاس بإخراج زكاة الفطر نقدًا أو قوتًا، حتى ولو اعتقد صحّة أحدِ القولين، فله أن يعمل بذلك في نفسه، ولا يُلزم غيرَه بذلك؛ لأن صدقة الفطر من جملة العبادات، وليست من الأمور التّنظيميّة الّتي تحدث بسبب تعطيلها خصومة.

يُنظر: بحث للشيخ: عبد الحليم توميات، في موقعه.

ص: 259

يَجُوزُ أَنْ يُؤَجِّرَهُ عَلَى أَنْ يُسَاقِيَهُ، أَو يُشَارِكَهُ عَلَى أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْهُ، وَلَا أَنْ يَبِيعَهُ عَلَى أنْ يَبْتَاعَ مِنْهُ، وَنَحْو ذَلِكَ.

فَقَد صَحَّ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَحِلُّ سَلَف وَبَيْعٌ، وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَك"

(1)

؛ كَذَلِكَ "نَهَى عَن بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ"

(2)

.

وَذَلِكَ أَنَّه إذَا بَاعَهُ أَو أَجَّرَهُ مَعَ الْقَرْضِ فَإِنَّهُ يُحَابِيهِ فِي ذَلِكَ لِأَجْلِ الْقَرْضِ، وَالْقَرْضُ مُوجَبُهُ رَدُّ الْمِثْل فَقَطْ، فَمَتَى اشْتَرَطَ زِيَادَةً لَمْ تَجُزْ بِالِاتِّفَاقِ.

وَكَذَلِكَ الْمُبَايَعَةُ وَالْمُشَارَكَةُ مَبْنَاهَا عَلَى الْعَدَالَةِ مِن الْجَانِبَيْنِ.

وَلهَذَا لَا يَجُوزُ أنْ يَشْتَرِطَ اخْتِصَاصَ أَحَدِهِمَا بِرِبْحِ سِلْعَةٍ مُعَيَّنٍ، وَلَا بِمِقْدَارٍ مِن الرِّبْحِ، وَلَا تَخْصِيصَ أَحَدِهِمَا بِالضَّمَانِ.

وَمَتَى بَايَعَهُ عَلَى أَنْ يُشَارِكَهُ فَإِنَّهُ يُحَابِيهِ، إمَّا فِي الشَّرِكَةِ بِأَنْ يَخْتَصّ بِالْعَمَلِ، وَإِمَّا فِي الْبَيْعِ بِزِيَادَةِ الثَّمَنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَتَخْرُجُ الْعُقُودُ عَن الْعَدْلِ الَّذِي مَبْنَاهَا عَلَيْهِ.

وَأَيْضًا: فَفِي اشْتِرَاطِ الْمُشَارَكَةِ إلْزَامُ الْمُشْتَرِي بِتَصَرُّف خَاصٍّ، وَمَنْعُهُ بِمَا يُوجِبُهُ الْعَقْدُ الْمُطْلَقُ.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَالْمَالُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ، وَلَو كَانَ شَرِيكًا لَمْ يَكُن لَهُ أَنْ يجْعَلَ الشَّرِيك الْآخَر هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الْعُقُودَ والقبوض دُونَهُ؛ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمُضَارَبَةِ لَا فِي شَرِكَةِ الْعِنَانِ.

وَإِذَا كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا: لَمْ يَكُن لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالثَّمَنِ الْمُسَمَّى، لَكنْ إنْ تَعَذَّرَ رَدُّ الْعَيْنِ: رَدَّ الْقِيمَةَ.

وَإِن كَانَ قَد عَمِلَ فِيهَا الْمُشْتَرِي الشَّرِيكُ: فَلَهُ رِبْحُ مِثْلِهِ فِي نَصِيبِ

(1)

رواه أبو داود (3504)، والترمذي (1234)، والنسائي (4611)، وأحمد (6671). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

(2)

رواه أبو داود (3461)، والترمذي (1231)، والنسائي (4632)، ومالك (1935)، وأحمد (6628). وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

ص: 260

الشَّرِيكِ؛ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ مُتَنَازِعُونَ فِيمَا فَسَدَ مِن الْمُشَارَكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ إذَا عَمِلَ فِيهَا الْعَامِلُ: هَل يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ، أَو يَسْتَحِقُّ قِسْطَ مِثْلِهِ مِن الرِّبْحِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَظْهُرُهُمَا الثَّانِي.

وَالْعِوَضُ فِي الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ هُوَ نَظِيرُ مَا يَجِبُ فِي الصَّحِيحِ عُرْفًا وَعَادَةً.

وَبِكُلِّ حَالٍ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ الزِّيَادَةِ الَّتِي زِيدَتْ عَلَى قِيمَةِ الْمِثْل - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - بِالِاتِّفَاقِ. [30/ 83 - 86]

* * *

(المضاربة)

3805 -

تَنْفَسِخُ الْمُضَارَبَةُ بِمَوْتِ الْمَالِكِ، ثُمَّ إذَا عَلِمَ الْعَامِلُ بِمَوْتِهِ وَتَصَرَّفَ بِلَا إذْن الْمَالِكِ لَفْظًا أَو عُرْفًا وَلَا وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ: فَهُوَ غَاصِبٌ.

وَقَد اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الرِّبْحِ الْحَاصِلِ فِي هَذَا: هَل هُوَ لِلْمَالِكِ فَقَطْ كَنَمَاءِ الْأَعْيَانِ؟ أَو لِلْعَامِلِ فَقَطْ لِأَنَّ عَلَيْهِ الضَّمَانَ؟ أَو يَتَصَدَّقَانِ بِهِ لِأَنَّهُ رِبْحٌ خَبِيثٌ؟ أَو يَكُونُ بَيْنَهُمَا؟

عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: أَصَحُّهَا الرَّابِعُ، وَهُوَ إنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا، كَمَا يَجْرِي بِهِ الْعُرْفُ فِي مِثْل ذَلِكَ، وَبِهَذَا حَكَمَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فِيمَا أَخَذَهُ بَنُوهُ مِن مَالِ بَيْتِ الْمَالِ فَاتَّجَرُوا فِيهِ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ فَجَعَلَة مُضَارَبَةً، وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ الْفُقَهَاءُ فِي "بَابِ الْمُضَارَبَةِ"؛ لِأَنَّ الرَّبْحَ نَمَاءٌ حَاصِلٌ مِن مَنْفَعَةِ بَدَنِ هَذَا وَمَالِ هَذَا، فَكَانَ بَيْنَهُمَا كَسَائِرِ النَّمَاءِ الْحَادِثِ مِن أَصْلَيْنِ. [30/ 87]

3806 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلٍ دَفَعَ لِرَجُل مَالًا عَلَى سَبِيلِ الْقِرَاضِ

(1)

، ثُمَّ ظَهَرَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْمَدْفُوعِ لَهُ الْمَالُ دَيْنٌ بِتَارِيخٍ مُتَقَدَّمٍ عَلَى الْقِرَاضِ

(2)

، فَهَل يَجُوز لَهُ أَنْ يُعْطِيَ لِأَرْبَابِ الدَّيْنِ شَيْئًا مِن هَذَا الْمَالِ؟

(1)

أي: المُضَارَبَة.

(2)

أي: ظهر أنه قد اقترض من أحدٍ من الناس مالًا.

ص: 261

فَأجَابَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُوَفِّيَ مِن مَالِ هَذَا الْقِرَاضِ شَيْئًا مِن الدَّيْنِ الَّذِي يَكُونُ عَلَى الْعَامِلِ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ رَبُّ الْمَالِ. [30/ 88 - 89]

3807 -

وَسُئِلَ رحمه الله: هَل يَجُوزُ لِلْعَامِلِ فِي الْقِرَاضِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ مِن مَالِ الْمُقَارِضِ

(1)

حَضَرًا أَو سَفَرًا؟

فَأَجَابَ: إنْ كَانَ بَيْنَهُمَا شَرْطٌ فِي النَّفَقَةِ جَازَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ هُنَاكَ عُرْفٌ وَعَادَةٌ مَعْرُوفَة بَيْنَهُم وَأَطْلَقَ الْعَقْدَ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى تِلْكَ الْعَادَةِ.

وَأَمَّا بِدُونِ ذَلِكَ: فَإِنَّهُ لَا يَجُوز.

وَمِن الْعُلَمَاءِ مَن يَقُولُ: لَهُ النَّفَقَةُ مُطْلَقًا وَإِن لَمْ يَشْتَرِطْ كَمَا يَقُولُهُ أبُو حَنيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعيِّ فِي قَوْلٍ.

وَالْمَشْهُورُ أَنْ لَا نَفَقَةَ بِحَالٍ وَلَو شَرَطَهَا

(2)

.

وَحَيْثُ كَانَت لَهُ النَّفَقَةُ فَلَيْسَ لَهُ النَّفَقَةُ إلاَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَمَّا الْبَسْطُ الْخَارجُ عَن الْمَعْرُوفِ فَيَكُونُ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ. [30/ 90]

* * *

(بَابُ الْمُسَاقَاةِ والْمُزَارَعَةَ)

3808 -

فَصْلٌ: قَد ذَكَرْت فِيمَا تَقَدَّمَ مِن الْقَوَاعِدِ: أَنَّ "الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ وَالْمُضَارَبَةَ" وَنَحْو ذَلِكَ: نَوْعٌ مِن الْمُشَارَكَاتِ، وَبَيَّنْت بَعْضَ مَا دَخَلَ مِن الْغَلَطِ عَلَى مَن اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ مِن الْمُعَاوَضَاتِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، حَتَّى حَكَّمَ فِيهَا أَحْكَام الْمُعَاوَضَاتِ، وَبَيَّنْت جَوَازَ الْمُزَارَعَةِ بِبَذْر مِن الْمَالِكِ أَو مِن الْعَامِلِ كَمَا جَاءَت بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالْقِيَاسُ الْجَلِيُّ.

فَإِنْ تَبَرَّعَ أَحَدُهُمَا بِهَدِيَّة إلَى الْآخَرِ؛ مِثْل أَنْ يُهْدِيَ الْعَامِلُ فِي الْمُضَارَبَةِ

(1)

أي: الْمُضارب.

(2)

والشيخ اختار القول الوسط، وهو الجواز إنْ كَانَ بَيْنَهُمَا شَرْطٌ فِي النَّفَقَةِ، أو هناك عُرْفٌ وَعَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ.

ص: 262

إلَى الْمَالِكِ شَيْئًا، أَو يُهْدِيَ الْفَلَّاحُ غَنَمًا أَو دَجَاجًا أَو غَيْرَ ذَلِكَ: فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ إهْدَاءِ الْمُقْتَرِضِ مِن الْمُقْرِضِ، يُخَيَّرُ الْمَالِكُ فِيهَا:

أ - بَيْنَ الرَّدِّ.

ب - وَبَيْنَ الْقَبُولِ وَالْمُكَافَأَةِ عَلَيْهَا بِالْمَثَلِ.

ج - وَبَيْنَ أَنْ يَحْسِبَهَا لَهُ مِن نَصِيبِهِ مِن الرِّبْحِ إذَا تَقَاسَمَا كَمَا يَحْسِبُهُ مِن أَصْلِ الْقَرْضِ.

وَلَو قَالَ لَهُ وَقْتَ الْقَرْض: أَنَا أُعْطِيك مِثْلَهُ وَهَذِهِ الْهَدِيَّةَ: لَمْ يَجُزْ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِذَا أَعْطَاهُ قَبْلَ الْوَفَاءِ الْهَدِيَّةَ الَّتِي هِيَ مِن أَجْلِ الْقَرْضِ عَلَى أَنْ يُوَفِّيَهُ مَعَهَا مِثْل الْقَرْضِ كَانَ ذَلِكَ مُعَاقَدَةً عَلَى أَخْذِ أَكْثَر مِن الْأَصْلِ.

وَلهَذَا لَو أَهْدَى إلَيْهِ عَلَى الْعَادَةِ الْجَارِيةِ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْقَرْضِ لَمْ يَكُن كَذَلِكَ.

وَهَكَذَا الْأَمْرُ فِي الْمُشَارَكَةِ: فَإِنَّهُ إذَا قَبِلَ هَدِيَّةَ الْعَامِلِ وَنَفْعَهُ الَّذِي إنَّمَا بَذَلَهُ لِأَجْلِ الْمُضَارَبَةِ وَالْمُزَارَعَةِ بِلَا عِوَضٍ مَعَ اشْتِرَاطِهِ النَّصِيبَ مِن الرِّبْحِ: كَانَ هَذَا الْقَبُولُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مُعَاقَدَةً عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مَعَ النَّصِيبِ الشَّائِعِ شَيْئًا غَيْرَهُ؛ بِمَنْزِلَةِ زَرْعِ مَكَانٍ مُعَيَّنٍ، وَقَد لَا يَحْصُلُ رِبْحٌ فَيَكُونُ الْعَامِلُ مَقْهُورًا مَظْلُومًا؛ وَلهَذَا يَطْلُبُ الْعَامِلُ بَدَلَ هَدِيَّتِهِ وَيَحْتَسِبُ بِهَا عَلَى الْمَالِكِ، فَإِنْ لَمْ يُعَوِّضْهُ عَنْهَا وَإِلَّا خَانَهُ فِي الْمَالِ.

وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى إلَيْهِ أَمْ لَا؟ "

(1)

: يَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْمَعَانِيَ جَمِيعَهَا؛ فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ إذَا كَانَت لِأَجْلِ سَبَبٍ مِن الْأَسْبَابِ كَانَت مَقْبُوضَةً بِحُكْمِ ذَلِكَ السَّبَبِ كَسَائِرِ الْمَقْبُوضِ بِهِ؛ فَإِنَّ الْعَقْدَ الْعُرْفِيَّ كَالْعِقْدِ اللَّفْظِيِّ.

(1)

رواه البخاري (6636)، ومسلم (1832).

ص: 263

وَمَن أُهْدِيَ لَهُ لِأَجْلِ قَرْضٍ أَو إقْرَاضٍ: كَانَت الْهَدِيَّةُ كَالْمَالِ الْمَقْبُوضِ بِعَقْدِ الْقَرْضِ وَالْقِرَاضِ إذَا لَمْ يَحْصُلْ عَنْهَا مُكَافَأةٌ.

وَهَذَا أصْلٌ عَظِيمٌ يَدْخُلُ بِسَبَبِ إهْمَالِهِ مِن الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ شَيءٌ عَظِيمٌ.

‌فَصْلٌ

وَكَمَا قُلْنَا فِي الْمَقْبُوضِ: إنَّهُ قَبْلَ الْوَفَاءِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْه مَالًا وَلَا نَفْعًا قَبْلَ الْوَفَاءِ بِغَيْرِ عِوَضٍ مِثْلِهِ؛ لِمَا فِيهِ مِن الرِّبَا، فَالْإِهْدَاءُ وَالْإِعَارَةُ مِن نَوْعٍ، فَكَذَلِكَ فِي الْمُضَارَبَةِ وَالْمُزَارَعَةِ، مَتَى أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ مَالًا أَو نَفْعًا قَبْلَ الِاقْتِسَامِ التَّامِّ لَمْ يَجُزْ إلَّا بِعِوَضِ مِثْلِهِ؛ مِثْل اسْتِخْدَامِ الْعَامِلِ وَالْفَلَّاحِ فِي غَيْرِ مُوجَبِ عَقْدِ الْمُشَارَكَة، أَو الِانْتِفَاعِ بِمَالِهِ، أَو غَيْرِ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَحْتَسِبَ لَهُ ذَلِكَ كُلَّهُ. [30/ 103 - 109]

3809 -

وَأَمَّا الْمُزَارَعَةُ: فَإِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِن الْعَامِلِ أَو مِن رَبِّ الْأَرْضِ، أَو كَانَ مِن شَخْص أَرْضٌ وَمِن آخَرَ بَذْرٌ وَمِن ثَالِثٍ الْعَمَلُ: فَفِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ عَن أَحْمَد، وَالصَّوابُ أَنَّهَا تَصِحُّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.

وَأمَّا إذَا كانَ الْبَذْرُ مِن الْعَامِلِ: فَهُوَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ مِمَّا إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِن الْمَالِكِ؛ فَإِنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَامَلَ أهْلَ خَيْبَرَ عَلَى أَنْ يعمرُوهَا مِن أَمْوَالِهِمْ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِن ثَمَرِ وَزَرْع. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ

(1)

.

وَقِصَّةُ أَهْلِ خَيْبَرَ هِيَ الْأصْلُ فِي جَوَازِ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ، وإِنَّمَا كَانُوا يَبْذُرُونَ مِن أَمْوَالِهِمْ.

وَأَمَّا قَوْلُ مَن فَرَّقَ بَيْنَ الْمُزَارَعَةِ وَالْإِجَارَةِ بِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ لَازِمٌ بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَمْنُوعٌ؛ بَل إذَا زَارَعَهُ حَوْلًا بِعَيْنِهِ فَالْمُزَارَعَةُ عَقْدٌ لَازِمٌ، كَمَا تَلْزَمُ إذَا كَانَت بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ، وَالْإِجَارَةُ قَد لَا تَكُونُ لَازِمَةً، كَمَا إذَا

(1)

رواه البخاري (2285)، ومسلم (1551).

ص: 264

قَالَ: آجَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمَيْنِ؛ فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ، وَكُلَّمَا دَخَلَ شَهْرٌ فَلَهُ فَسْخُ الْإِجَارَةِ.

وَالْجَعَالَةُ فِي مَعْنَى الْإِجَارَةِ وَلَيْسَتْ عَقْدًا لَازِمًا. [30/ 110 - 115]

فَالْعَقْدُ الْمُطْلَقُ الَّذِي لَا وَقْتَ لَهُ لَا يَكُونُ لَازِمًا، وَأَمَّا الْمُؤَقَّتُ فَقَد يَكونُ لَازِمًا.

3810 -

إجَارَةُ الْأَرْضِ بِجِنْسِ الطَّعَامِ الْخَارج مِنْهَا؛ كَإجَارَةِ الْأَرْضِ لِمَن يَزْرَعُهَا حِنْطَةً أَو شَعِيرًا بِمِقْدَار مُعَيَّنٍ مِن الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ: جَائِزٌ فِي أظْهَرِ الرّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمَد وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَفِي الْأُخْرَى: يُنْهَى عَنْهُ كَقَوْلِ مَالِكٍ.

وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ هُوَ الِانْتِفَاعُ بِالْأَرْضِ؛ وَلهَذَا إذَا تَمَكَّنَ مِن الزَّرْعِ وَلَمْ يَزْرَعْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ، وَالطَّعَامُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِعَمَلِهِ وَبَذْرِهِ، وَبَذْرُهُ لَمْ يُعْطِهِ إيَّاهُ الْمُؤَجِّرُ، فَلَيْسَ هَذَا مِن الرِّبَا فِي شَيْءٍ.

وَنَظِيرُ هَذَا: أَنْ يَسْتَأْجِرَ قَوْمًا لِيَسْتَخْرِجُوا لَهُ مَعْدِنَ ذَهَبٍ أَو فِضَّةٍ، أَو رِكَازًا مِن الْأَرْضِ بِدَرَاهِمَ أَو دَنَانِيرَ، فَلَيْسَ هَذَا كَبَيْعِ الدَّرَاهِمِ بِدَرَاهِمَ، وَكَذَلِكَ مَن اسْتَأْجَرَ مَن يَشُقُّ الْأَرْضَ ويبْذُرُ فِيهَا ويسْقِيهَا بِطَعَام مِن عِنْدِهِ، وَقَد اسْتَأْجَرَهُ عَلَى أَنْ يَبْذُرَ لَهُ طَعَامًا، فَهَذَا مِثْلُ ذَلِكَ.

وَالْمُخَابَرَةُ الَّتِي نَهَى عَنْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَد فَسَّرَهَا رَافِعٌ رَاوِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهَا الْمُزَارَعَةُ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا لِرَبِّ الْأَرْضِ زَرْعُ بُقْعَةٍ بِعَيْنِهَا. [30/ 115 - 116]

3811 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُل اسْتَأْجَرَ أَرضًا بِجُزْء مِن زَرْعِهَا وَتَسَلَّمَهَا وَلَمْ يَزْرَعْهَا، فَهَل لِلْمَالِكِ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ؟

فَأَجَابَ: هَذِهِ مُخْتَلَفٌ فِي صِحَّتِهَا، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا صِحَّتُهَا.

وَإِذَا كَانَت صَحِيحَةً: ضُمِنَتْ بِالْمُسَمَّى الصَّحِيحِ، وَهُنَا لَيْسَ هُوَ فِي

ص: 265

الذِّمَّةِ، فَيُنْظَرُ إلَى مُعَدَّلِ الْمُغَلِّ فَيَجِبُ الْقِسْطُ الْمُسَمَّى فِيهِ

(1)

. [30/ 122 - 123]

3812 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَمَّن رَابَعَ رَجُلًا، صورَتُهَا: أَنَّ الْأَرْضَ لِوَاحِد، وَمِن آخَرَ الْبَقَرُ وَالْبَذْرُ، وَمِن الْمُرَاجِ الْعَمَلُ، عَلَى أَنَّ لِرَبِّ الْأَرْضِ النِّصْفَ، وَلهَذَيْنِ النِّصْفُ، لِلْمُرَاجِ رُبُعُهُ، فَبَقِيَ فِي الْأَرْضِ فَمَا نَبَتَ، وَنَبَتَ فِي الْعَامِ الثَّانِي مِن غَيْرِ عَمَلٍ؟

فَأَجَابَ: إنْ كَانَ هَذَا مِن الْأَرْضِ وَمِن الْحَبِّ الْمُشْتَرَكِ فَفِيهِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ فَقَطْ.

والثَّانِي: يُقَسَّمُ بَيْنَهُم عَلَى قَدْرِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَالْحَبِّ، وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ. [30/ 125]

3813 -

وَسُئِلَ: عَن رَجُلٍ غَرَسَ غِرَاسًا فِي أَرْضٍ بِإِذْنِ مَالِكِهَا، ثُمَّ تُوُفِّيَ مَالِكُهَا عَنْهَا وَخَلَّفَ وَرَثَةً، فَوَقَفُوا الْأَرْضَ عَلَى مُعَيَّنِينَ، فَتَشَاجَرَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِم وَصَاحِبُ الْغِرَاسِ عَلَى الْأُجْرَةِ، فَمَاذَا يَلْزَمُ صَاحِبَ الْأَرْضِ؟

فَأجَابَ: إذَا كَانَ الْغِرَاسُ قَد غُرِسَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ بِإِعَارَة أَو بِإِجَارَة وَانْقَضَتْ مُدَّتُهُ، أَو كَانَت مُطْلَقَةً: فَعَلَى صَاحِبِ الْغِرَاسِ أُجْرَةُ. الْمِثْلِ، تُقَوَّمُ الْأَرْضُ بَيْضَاءَ لَا غِوَاسَ فِيها، ثُمَّ تُقَوَّمُ وَفِيهَا ذَلِكَ الْغِرَاسُ، فَمَا بَلَغَ فَهُوَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ. [30/ 126 - 127]

3814 -

ذَهَبَ قَوْمٌ مِن الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ حَرَامٌ بَاطِلٌ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا نوْعٌ مِن الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا عَمَلٌ بِعِوَض، وَالْإِجَارَةُ لَا بُدَّ أَنْ يَكونَ الْأَجْرُ فِيهَا مَعْلُومًا لِأَنَّهَا كَالثَّمَنِ.

(1)

وقال رحمه الله في موضع آخر: إذَا لَمْ يَقُومُوا (أي: العمال) بِمَا شَرَطَ عَلَيْهِم (أي: رب الأرض) كَانَ لِرَبِّ الْأَرْضِ الْفَسْخُ.

وإِذَا فَسَخَ الْعَامِلُ، أو كَانَت فَاسِدَة: فَلِرَبِّ الْأرْضِ أَنْ يَتمَلَّكَ نَصِيبَ الْغَارِسِ بِقِيمَتِهِ إذَا لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى قَلْعِهِ. (30/ 126)

ص: 266

وَالْعِوَضُ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّهُ قَد يَخْرُجُ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ قَلِيلاً، وَقَد يَخْرُجُ كَثِيرًا، وَقَد يَخْرُجُ عَلَى صِفَاتٍ نَاقِصَةٍ، وَقَد لَا يَخْرُجُ، فَإِنْ مَنعَ اللهُ الثَّمَرَةَ كَانَ اسْتِيفَاءُ عَمَلِ الْعَامِلِ بَاطِلًا.

وَذَهَبَ جَمِيعُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ الْجَامِعُونَ لِطُرُقِهِ كُلُّهُم -كَأحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابِهِ كُلِّهِمْ مِن الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين، وإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه. وَأَكْثَرِ فُقَهَاءِ الْكُوفِيِّينَ؛ كَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ. وَالْبُخَارِيّ صَاحِبِ الصَّحِيحِ، وَأَبِي دَاوُد وَجَمَاهِيرِ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ مِن الْمُتَأخِّرِينَ؛ كَابْنِ الْمُنْذِرِ وَابْنِ خُزَيْمَة وَالْخَطَّابِيّ وَغَيْرِهِمْ، وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ - إلَى جَوَازِ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُؤَاجَرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ اتِّباعًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ وَأصْحَابِهِ وَمَا عَلَيْهِ السَّلَفُ وَعَمَلُ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ.

فَمِن ذَلِكَ: مُعَامَلَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ خَيْبَرَ هُوَ وَخُلَفَاؤُة مِن بَعْدِهِ إلَى أَنْ أَجْلَاهُم عُمَرُ، فَعَن ابْنِ عُمَرَ قَالَ:"عَامَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِن ثَمَرٍ أَو زَرْعٍ". أَخْرَجَاهُ

(1)

.

وَأَخْرَجَا

(2)

أَيْضًا عَن ابْنِ عُمَرَ "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا ويزْرَعُوهَا وَلَهُم شَطْرُ مَا خَرَجَ مِنْهَا".

قَالَ الْبُخَارِيُّ

(3)

فِي "صَحِيحِهِ": وَقَالَ قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ عَن أبِي جَعْفَرٍ - يَعْني: الْبَاقِرَ-: "مَا بِالْمَدِينَةِ دَارُ هِجْرَةٍ إلَّا يَزْرَعُونَ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ".

قَالَ: "وَزَارَعَ عَلِيٌّ وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْقَاسِمُ وَعُرْوَةُ وَآلُ أَبِي بَكْرٍ وَآلُ عُمَرَ وَآلُ عَلِيٍّ وَابْنُ سِيرِين، وَعَامَلَ عُمَرُ النَّاسَ عَلَى أَنَّهُ إنْ جَاءَ عُمَرُ بِالْبَذْرِ مِن عِنْده فَلَهُ الشَّطْرُ، وَإِن جَاءُوا بِالْبَذْرِ فَلَهُم كَذَا".

(1)

البخاري (2328)، ومسلم (1551).

(2)

البخاري (2331).

(3)

ذكر هذا في باب المزارعة بالشطر ونحوه.

ص: 267

وَهَذِهِ الْآثَارُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْبُخَارِيُّ قَد رَوَاهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِن الْمُصَنِّفِينَ فِي الْآثَارِ.

فَإِذَا كَانَ جَمِيعُ الْمُهَاجِرِينَ كَانُوا يُزَارِعُونَ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَأَكَابِرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِن غَيْرِ أَنْ يُنْكِرَ ذَلِكَ مُنْكِرٌ: لَمْ يَكُن إجْمَاعٌ أَعْظَمَ مِن هَذَا؛ بَل إنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا إجْمَاعٌ فَهُوَ هَذَا

(1)

.

وَقَد تَأَوَّلَ مَن أَبْطَلَ الْمُزَارَعَةَ وَالْمُسَاقَاةَ ذَلِكَ بِتأْوِيلَاتٍ مَرْدُودَةٍ.

ومَعْلُومٌ قَطْعًا: أَنَّ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ وَنَحْوَهُمَا مِن جِنْسِ الْمُشَارَكَةِ، لَيْسَا مَن جَنْسِ الْمُعَاوَضَةِ الْمَحْضَةِ، وَالْغَرَرُ إنَّمَا حَرُمَ بَيْعُهُ فِي الْمُعَاوَضَةِ لِأنَّهُ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، وَهُنَا لَا يَأْكُلُ أَحَدُهُمَا مَالَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْبُت الزَّرْعُ فَإِنَّ رَبَّ الْأَرْضِ لَمْ يَأخُذْ مَنْفَعَةَ الْآخَرِ؛ إذ هُوَ لَمْ يَسْتَوْفِهَا وَلَا مَلَكَهَا بِالْعَقْدِ وَلَا هِيَ مَقْصُودَةٌ؛ بَل ذَهَبَتْ مَنْفَعَةُ بَدَنِهِ كمَا ذَهَبَتْ مَنْفَعَةُ أَرْضِ هَذَا.

وَرَبُّ الْأَرْضِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ شَيءٌ حَتَّى يَكُونَ قَد أَخَذَهُ، وَالْآخَرُ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا.

بِخِلَافِ بُيُوعِ الْغَرَرِ وإِجَارةِ الْغَرَرِ؛ فَإِنَّ أَحَدَ الْمُتَعَاوِضَيْنِ يَأْخُذُ شَيْئًا، وَالْآخَرُ يَبْقَى تَحْتَ الْخَطَرِ، فَيُفْضِي إلَى نَدَمِ أَحَدِهِمَا وَخُصُومَتِهِمَا.

وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ فِي هَذِهِ الْمُشَارَكَاتِ الَّتِي مَبْنَاهَا عَلَى الْمُعَادَلَةِ الْمَحْضَةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا ظُلْمٌ أَلْبَتَّةَ لَا فِي غَرَرٍ وَلَا فِي غَيْرِ غَرَرٍ.

بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: فَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَن كانَت لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَو لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ وَإِلَّا فَلْيُمْسِكْهَا"

(2)

أَمَر إذَا لَمْ يَفْعَلْ وَاحِدًا مِن الزَّرْعِ وَالْمَنِيحَةِ أَنْ يُمْسِكَهَا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِن الْمُؤَاجَرَةِ وَمِن الْمُزَارَعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.

(1)

ومع ذلك تعجب من تحريم كثير من الفقهاء والعلماء للْمُسَاقَاة وَالْمُزَارَعَة، مع أن إجماع الصحابة العملي على جوازه، وهذا يُؤكد أنّه لا ينبغي التسليم لآراء كثير من الفقهاء، بل يجب الرجوع إلى نصوص الكتاب والسُّنَّة، وعمل الصحابة وفهمهم.

(2)

البخاري (2340)، ومسلم (1536).

ص: 268

فَيُقَالُ: الْأَمْرُ بِهَذَا أَمْرُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ لَا أَمْرُ إيجَابٍ، أَو كَانَ أَمْرَ إيجَاب فِي الِابْتِدَاءِ لِيَنْزَجِرُوا عَمَّا اعْتَادُوهُ مِن الْكِرَاءِ الْفَاسِدِ. [29/ 88 - 113]

3815 -

الْعَمَلُ فِي بِلَادِ الشَّامِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى جَوَازِ الْمُزَارَعَةِ كَمَا مَضَتْ بِذلِكَ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَذْرُ مِن الْمَالِكِ أَو مِن الْعَامِلِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِن ثَمَرٍ وَزَرْعٍ عَلَى أَنْ يَعْمُرُوهَا مِن أَمْوَالِهِمْ، فَكَانَ الْبَذْرُ مِن عِنْدِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ فِي عَامَّةِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ فِي زَمَنِ نَبِيِّهِمْ وَإِلَى الْيَوْمِ. [25/ 53]

3816 -

نَقَلَ أَهْلُ اللُّغَةِ: أَنَّ الْمُخَابَرَةَ هِيَ الْمُزَارَعَةُ، وَالِاشْتِقَاقُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. [29/ 117]

3817 -

اَلَّذِينَ جَوَّزُوا الْمُزَارَعَةَ مِنْهُم مَنِ اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنَ الْمَالِكِ، وَقَالُوا: هَذه هِيَ الْمُزَارَعَةُ، فَاَمَّا إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنَ الْعَامِلِ لَمْ يَجُزْ.

وَجَوَازُ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ مُطْلَقًا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا يَتَوَجَّهُ غَيْر أَثَرًا وَنَظَرًا. [29/ 117 - 119]

3818 -

لو دفع أرضه إلى آخر يغرسها بجزء من الغراس: صح كالمزارعة. [المستدرك 4/ 42]

3819 -

لو كانت الأرض مغروسة فعامله بجزء من غراسها صح.

ولا فرق بين أن يكون الغارس ناظر وقف أو غيره.

ولا يجوز لناظرٍ بعده بيع نصيب الوقف من الشجر بدون حاجة.

وللحاكم الحكم بلزومها في محل النزاع فقط، والحكم له من جهة عوض المثل ولو لم تقم به بينة لأنه الأصل.

ويجوز للإنسان أن يتصرف فيما في يده بوقف وغيره حتى تقوم حجة شرعية بأنه ليس ملكًا له؛ لكن لا يحكم بالوقف حتى يثبت الملك. [المستدرك 4/ 42]

ص: 269

3820 -

إن غارسه على أن رب الأرض تكون له دراهم مسماة إلى حين إثمار الشجر فإذا أثمر كانا شريكين في الثمر: قال أبو العباس: فهذه لا أعرفها منقولة.

فقد يقال: هذا لا يجوز، كما لو اشترط في المزراعة والمساقاة دراهم مقدرة، مع نصيبه من الزرع والثمر، فإن هذا لا يجوز بلا نزاع، كما لو اشترط شيئًا مقدرًا؛ فإنه قد لا يحصل إلا ذلك المشروط فيبقى الآخر لا شيء له؛ لكن الأظهر أن هذا ليس بمحرم. [المستدرك 4/ 42]

3821 -

إذا ترك العامل العمل حتى فسد الثمر: فينبغي أن يجب عليه نصيب المالك، وينظر كم يجيء لو عمل بطريق الاجتهاد، كما يضمن لو يبس الشجر.

وهذا لأن تركه العمل من غير فسخ العقد حرام وغرر، وهو سبب في عدم هذا الثمر، فيكون كما لو تلفت الثمرة تحت اليد العادية؛ كالضمان بالتسبب في الإتلاف، لا سيما إذا انضم إليه اليد العادية. [المستدرك 4/ 43]

3822 -

العامل في المزارعة إذا ترك العمل فقد استولى على الأرض وفوت نفعها: فينبغي [أنْ]

(1)

يضمن ضمان إتلاف أو ضمان إتلاف ويد.

لكن هل يضمن أجرة المثل أو يضمن ما جرت به العادة مثل تلك الأرض؟ مثل أن يكون الزرع في مثلها معروفًا فيقاس بمثلها.

وأما على ما ذكره أصحابنا فينبغي أن يضمن بأجرة المثل.

والأصوب والأقيس بالمذهب

(2)

: أن يضمن بمثل ما يثبت.

(1)

في الأصل: (أن لا)، والتصويب من الاختيارات (218).

(2)

قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله في حاشيته على الاختيارات (219): ولو قيل: يُنظر إلى الأرض، فإن كانت مما يُستأجر: ضمن أجرة المثل، وإن كانت مما يزارع فيه: ضمن بمثل ما ينبت، وإن كانت تارةً وتارة: ضمنت بالأكثر منهما: لم يكن هذا بعيدًا. اهـ.

ص: 270

وعلى هذا: فلا يكون ضمان يد، وإنما هو ضمان تغرير. [المستدرك 4/ 43]

3823 -

لو كان من إنسان الأرض، ومن ثان العمل، ومن ثالث البذر، ومن رابع البقر: صح، وهو رواية عن أحمد. [المستدرك 4/ 43]

3824 -

إذا شرط صاحب البذر أن يأخذ مثل بذره ويقتسمان الباقي جاز؛ كالمضاربة وكاقتسامهما ما يبقى بعد الكلف

(1)

.

وجوَّز شيخنا أخذه

(2)

أو بعضه بطريق القرض.

قال: يلزم من اعتبر البذر من ربِّ الأرض وإلا فقوله فاسد. [المستدرك 4/ 44]

3825 -

الْمُزَارِعَةُ الْمُطْلَقَةُ: تَكُونُ مُشَاطَرَةً لِهَذَا نِصْفُ الزَّرْعِ وَلهَذَا نِصْفُهُ. [30/ 131]

3826 -

إنْ لَمْ تَنْقُصْ حِصَّةُ الشُّرَكَاءِ لَا فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي الزَّرْعِ: فَعَلَيْهِم إجَابَةُ طَالِبِ الْقِسْمَةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا ضَرَرٌ عَلَيْهِمْ، وإِن كَانَ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ بِنَقْصِ قِسْمَةِ أَنْصِبَائِهِمْ لَمْ يُرْفَع الضَّرَرُ بِالضرَرِ؛ بَل إنْ أَمْكَنَ انْقِسَامُ عِوَضِ الْمَقْسُومِ مِن غَيْرِ ضَرَرٍ فَعَلَ. [30/ 137]

3827 -

إذَا طَلَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِن الْآخَرِ أَنْ يَزْرَعَ مَعَهُ أَو يُهَايِئَهُ وَامْتَنَعَ الْآخَرُ مِن ذَلِكَ: فَلِلْأَوَّلِ أَنْ يَزْرَعَ فِي مِقْدَارِ حَقِّهِ وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ لِلشَّرِيكِ، لِأَنَّهُ تَارِكٌ لِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَالْأَوَّلُ مُسْتَوْفٍ لِمَا هُوَ حَقُّهُ.

وَهُوَ نَظِيرُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا دَارٌ فِيهَا بُنْيَانٌ فَيَسْكُن فِيهَا أَحَدُهُمَا عِنْدَ امْتِنَاعِ الْأَوَّلِ مِمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ. [30/ 144 - 145]

3828 -

إذَا كَانَ الشَّرِيكُ قَد فَرَّطَ فِي مَالِ شَرِيكِهِ؛ مِثْل أَنْ يَبْذُرَة فِي غَيْرِ الْوَقْتِ الَّذِي يُبْذَرُ مِثْلُهُ، أَو فِي أَرْضٍ لَيْسَتْ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي اتَّفَقَا عَلَيْهِ وَنَحْو

(1)

هنا جزم بالحكم. (الجامع).

(2)

أي: الْبَذْر.

ص: 271

ذَلِكَ: كَانَ مِن ضَمَانِ شَرِيكِهِ، وَأَقَلُّ مَا عَلَيْهِ مِثْلُ رَأسِ الْمَالِ. [30/ 147]

* * *

(أنواع الإقطاع، وحكم الْمَالِ الْمَغْصُوب إذَا عَمِلَ فِيهِ الْغَاصبُ حَتَّي حَصَلَ مِنْة نَمَاءٌ)

3829 -

إِنَّ الْإِقْطَاعَ نَوْعَانِ:

أ - إقْطَاعُ تَمْلِيكٍ كَمَا يُقْطَعُ الْمَوَاتُ لِمَن يُحْيِيهِ بِتَمَلُّكِهِ.

ب - وَإِقْطَاعُ اسْتِغْلَالٍ، وَهُوَ إقْطَاعُ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ لِمَن يَسْتَغِلُّهَا إنْ شَاءَ أَنْ يَزْرَعَهَا، وَإِن شَاءَ أنْ يُؤَجِّرَهَا، وَإِن شَاءَ أَنْ يُزَارعَ عَلَيْهَا.

وَإِذَا عُرِفَ هَذَا: فَإِذَا انْفَسَخَ الْإِقْطَاعُ فِي أَثْنَاءِ الْأَمْرِ؛ إمَّا لِمَوْتِ الْمُقْطَعِ وَإِمَّا لِغَيْرِهِ وَأُقْطِعَ لِغَيْرِهِ: كَانَت الْمَنْفَعَةُ الْحَادِثَةُ لِلْمُقْطَعِ الثانِي دُونَ الْأَوَّلِ؛ بِحَيْثُ لَو كَانَ الْمُقْطَعُ الْأَوَّلُ قَد أَجَّرَ الْأَرْضَ الْمُقْطَعَةَ ثُمَّ انْفَسَخَ إقْطَاعُهُ انْفَسَخَتْ تِلْكَ الْإِجَارَةُ، كَمَا تَنْفَسِخُ إجَارَةُ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ إذَا انْتَقَلَ الْوَقْفُ إلَى الْبَطْنِ الثَّانِي فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ

(1)

.

(1)

قال في زاد المستقنع: وَتَصِحُّ إِجَارَةُ الوَقْفِ، فَإِنْ مَاتَ المُؤَجِّرُ وَانْتَقَلَ إِلَى مَن بَعْدَهُ لَمْ تَنْفَسِخْ .. قال العلاَّمة ابن عثيمين رحمه الله في شرحه (10/ 42 - 43): أجَّر الوقفَ باعتبار أنه مستحِق ومات، فإن الوقف ينتقل إلى من بعده ..

هذا ما قرره المؤلف رحمه الله أنها لا تنفسخ، والعلة أن أولئك أجروا في وقت هم مالكون للمنفعة فكان عقدهم صحيحًا، وانتقل إلى البطن الثاني وهم الأولاد ومنفعته مملوكة للمستأجر، فتبقى الإجارة على ما هي عليه، كما لو أن رجلًا أجر بيته لشخص ثم مات فإن الورثة لا يفسخون الإجارة، ووجه المماثلة بين هذا وهذا: أن هذا الرجل أجر بيته في حال يملك تأجيره فلم تنفسخ الإجارة بموته، وهذا الموقوف عليه أجر الموقوف في زمن يملك منفعته فلم تنفسخ الإجارة بموته.

وقال بعض العلماء وهو المذهب: إنه إذا مات المؤخر فإن الإجارة تنفسخ؛ لأن البطن الثاني يتلقى المنفعة من الواقف رأسًا، لا من البطن الأول، فهؤلاء انتهى استحقاقهم للوقف بمجرد موتهم ولم يبق لهم فيه شيء، وأما مسألة الميت إذا أجر ملكه ثم مات، فإن الورثة يتلقون الملك من المُوَرِّث رأسًا، والمورث حر في ملكه، واختار هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. اهـ.

ص: 272

ثُمَّ إنَّ الْمُقْطَعَ الْاَوَّلَ لَمَّا ازْدَرَعَهُ بِعَمَلِهِ وَبَذْرِهِ وَبَقَرِهِ، وَصَارَ بَعْضُ الْمَنْفَعَةِ مُسْتَحَقًّا لِغَيْرِهِ صَارَ مُزْدَرِعًا فِي أَرْضِ الْغَيْرِ، لَكِنْ لَيْسَ هُوَ غَاصِبًا يَجُوزُ إتْلَافُ زَرْعِهِ؛ بَل زَرْعُهُ زَرْعٌ مُحْتَرَمٌ كَالْمُسْتَأْجِرِ وَأَوْلَى، فَهُنَا لِلْفُقَهَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ لِلْمُزْدَرعِ وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْل لِمَنْفَعَةِ الثَّانِي.

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ لِرَبِّ الْأرْضِ وَعَلَيْهِ مَا أَنْفَقَهُ الْأَوَّلُ عَلَى زَرْعِهِ.

وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ.

وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْل ثَالِثٌ هُوَ الَّذِي حَكَمَ بِهِ أَهْلُ الدِّيوَانِ، وَهُوَ الَّذِي قَضَى بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي نَظِيرِ ذَلِكَ وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ؛ فَإنَّهُ كَانَ قَد اجْتَمَعَ عِنْدَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مَالٌ لِلْمُسْلِمِينَ يُرِيدُ أَنْ يُرْسِلَهُ إلَى عُمَرَ فَمَرَّ بِهِ ابْنَا عُمَرَ، فَقَالَ: إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أنْ أُعْطِيَكمَا شَيْئًا، وَلَكِنْ عِنْدِي مَالٌ أُرِيدُ حَمْلَهُ إلَيْهِ، فَخُذَاهُ اتَّجِرَا بِهِ وأَعْطُوهُ مِثْل الْمَالِ، فَتَكُونَانِ قَد انْتَفَعْتُمَا، وَالْمَالُ حَصَلَ عِنْدَهُ مَعَ ضَمَانِكُمَا لَهُ، فَاشْتَرَيَا بِهِ بِضَاعَةً، فَلَمَّا قَدِمَا إلَى عُمَرَ قَالَ: أَكُلَّ الْعُشْرِ أَقَرَّهُم مِثْل مَا أَقَرَّكُمَا؟ فَقَالَا: لَا، فَقَالَ: ضَعَا الرِّبْحَ كُلَّهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَسَكَتَ عَبْدُ اللهِ

(1)

، وَقَالَ لَهُ عُبَيْدُ اللهِ: أَرَأَيْت لَو ذَهَبَ هَذَا الْمَالُ أَمَا كَانَ عَلَيْنَا ضَمَانُهُ؟ فَقَالَ: بَلَى، قَالَ: فَكَيْفَ يَكُونُ الرِّبْحُ لِلْمُسْلِمِينَ وَالضَّمَانُ عَلَيْنَا؟

فَوَقَفَ عُمَر

(2)

، فَقَالَ لَهُ الصَّحَابَة: اجْعَلْهُ مُضَارَبَةً بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، لَهُمَا نِصْفُ الرِّبْحِ وَللْمُسْلِمِينَ النِّصْفُ، فَعَمِلَ عُمَرُ بِذَلِكَ.

وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ الَّتِي تَنَازَعَهَا الْفُقَهَاءُ فِي مَسْأَلَةِ التِّجَارَةِ بِالْوَدِيعَةِ وَغَيْرِهَا مِن مَالِ الْغَيْرِ؛ فَإِنَّ فِيهَا أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ هَل الرِّبْحُ لِبَيْتِ الْمَالِ؟ أَو الرِّبْحُ لِلْعَامِلِ؟ أَو يَقْتَسِمَاه بَيْنَهُمَا كَالْمُضَارَبَةِ؟

(1)

وذلك لعظم أدبه مع أبيه.

(2)

وقد "كَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللهِ" كما قال ابن عباس رضي الله عنهم.

ص: 273

وَهَذَا الرَّابعُ الَّذِي فَعَلَهُ عُمَرَ، وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ مَن اعْتَمَدَ مِن الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ الْمُضَارَبَةِ. [30/ 127 - 131، 378]

وَهُوَ الْعَدْلُ؛ فَإِنَّ النَّمَاءَ حَصَلَ بِمَالِ هَذَا وَعَمَلِ هَذَا، فَلَا يَخْتَصُّ أَحَدُهُمَا بِالرِّبْحِ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِم الصَّدَقَةُ بِالنَّمَاءِ؛ فَإِنَ الْحَقَّ لَهُمَا لَا يَعْدُوهُمَا؛ بَل يُجْعَلُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا، كَمَا لَو كَانَا مُشْتَرِكَيْنِ شَرِكَةَ مُضَارِبَةٍ. [30/ 323]

3830 -

تَنْفَسِخُ الْمُضَارَبَةُ بِمَوْتِ الْمَالِكِ، ثُمَّ إذَا عَلِمَ الْعَامِلُ بِمَوْتِهِ وَتَصَرَّفَ بِلَا إذْن الْمَالِكِ لَفْظًا أَو عُوْفًا وَلَا وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ: فَهُوَ غَاصِبٌ.

وَقَد اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الرِّبْح الْحَاصِلِ فِي هَذَا: هَل هُوَ لِلْمَالِكِ فَقَطْ كَنَمَاءِ الْأَعْيَانِ؟ أَو لِلْعَامِلِ فَقَطْ لِأنَّ عَلَيْهِ الضَّمَانَ؟ أَو يَتَصَدَّقَانِ بِهِ لِأَنَّهُ رِبْحٌ خَبِيثٌ؟ أَو يَكُونُ بَيْنَهُمَا؟

عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوالٍ: أَصَحُّهَا الرَّابعُ، وَهُوَ أنَ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا، كَمَا يَجْرِي بِهِ الْعُرْفُ فِي مِثْل ذَلِكَ، وَبِهَذَا حَكَمَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فِيمَا أَخَذَهُ بَنُوهُ مِن مَالِ بَيْتِ الْمَالِ فَاتَّجَرُوا فِيهِ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ فَجَعَلَهُ مُضَارَبَة، وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ الْفُقَهَاءُ فِي "بَابِ الْمُضَارَبَةِ"؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ نَمَاءٌ حَاصِلٌ مِن مَنْفَعَةِ بَدَنِ هَذَا وَمَالِ هَذَا، فَكَانَ بَيْنَهُمَا كَسَائِرِ النَّمَاءِ الْحَادِثِ مِن أَصْلَيْنِ. [30/ 87]

3831 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلٍ مَعَهُ دَرَاهِمُ حَرَامٌ، فَدَفَعَهَا إلَى وَالِدِهِ وَأَخَذَ مِنْهُ عِوَضَهَا مِن دَرَاهِمِهِ الْحَلَالِ، وَاشْتَرَى مِنْهَا شَيْئًا يَعُودُ مِنْهُ مَنْفَعَةٌ: إمَّا نَتَاجُ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ، وإِمَّا زَرْعُ أَرْضٍ، وَاسْتَعْمَلَهَا، هَل هِيَ حَرَامٌ؟

فَأَجَابَ: مَتَى اعْتَاضَ عَن الْحَرَامِ عِوَضًا بِقَدْرِهِ فَحُكْم الْبَدَلِ حُكْم الْمُبْدَلِ منْهُ.

فَإِنْ كَانَ قَد نَمَّى بِفِعْلِهِ نَمَاء مِن رِبْحٍ أَو كَسْب أَو غَيْر ذَلِكَ فَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ، وَأَعْدَل الْأَقْوَالِ أَنْ يُقْسَمَ النَّمَاء بَيْنَ مَنْفَعَةِ الْمَالِ وَبَيْنَ مَنْفَعَةِ الْعَامِلِ

ص: 274

بِمَنْزِلَةِ الْمُضَارَبَةِ؛ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فِي الْمَالِ الَّذِي اتَّجَرَ مِنْهُ أَوْلَاده مِن بَيْتِ الْمَالِ.

وَهَكَذَا كلُّ نَمَاءٍ بَيْنَ أَصْلَيْنِ إذَا بِيعَ الْأَصْلُ. [30/ 139]

3832 -

الربح الحاصل من مال لم يأذن مالكه في التجارة فيه: فقيل: هو للمالك فقط؛ كنماء الأعيان.

وقيل: للعامل فقط؛ لأن عليه الضمان.

وقيل: يتصدقان به؛ لأنه ربح خبيث.

وقيل: يكون بينهما على قدر النفعين بحسب معرفة أهل الخبرة، وهو أصحهما، وبه حكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ إلا أن يتجر به في غير وجه العدوان مثل أن يعتقد أنه مال نفسه فيتبين أنه مال غيره فهنا يقتسمان الربح بلا ريب.

وذكر أبو العباس في موضع آخر

(1)

: أنه إذا كان عالمًا بأنه مال الغير فهنا يتوجه قول من لا يعطيه شيئًا؛ لأنه حصل بفعل محرم فلا يكون سببًا للإباحة.

فإذا تاب: سقط حق الله بالتوبة وأبيح له حينئذٍ بالقسمة.

فأما إذا لم يتب: ففي حله نظر.

وكذلك المتوجه فيما إذا غصب شيئًا كفرس وكسب به مالًا كالصيد أن يجعل المكسوب بين الغاصب ومالك الدابة على قدر نفعهما؛ بأن تقوم منفعة الراكب ومنفعة الفرس ثم يقسم الصيد بينهما. [المستدرك 4/ 41]

* * *

(1)

لم أقف على هذا الموضع، فإن صح أنه كان رأيًا له: فيكون له قولان في المسألة.

ص: 275

(بَابُ الإِجَارَةِ)

3833 -

يجوز [الْجَمْعُ بين]

(1)

البيع والإجارة في عقد واحد في أظهر قوليهم

(2)

. [المستدرك 4/ 45]

3834 -

إذا ترك الأجير ما يلزمه عمله بلا عذر فتلف ما استؤجر عليه ضمنه. [المستدرك 4/ 45]

3835 -

ضَمَان الْبَسَاتِينِ الَّتِي فِيهَا أَرْضٌ وَشَجَرٌ عِدَّةَ سِنِينَ هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي اخْتَارَة ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ. [30/ 151]

3836 -

مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تُمْلَكُ بِالْعَقْدِ بَل بِالِاسْتِيفَاءِ، وَلَا تُمْلَكُ الْمُطَالَبَةُ إلَّا شَيْئًا فَشَيْئًا، وَلهَذَا قَالَ: إنَّ الْإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ.

وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِن قَالَا: تُمْلَكُ بِالْعَقْدِ وَتُمْلَكُ الْمُطَالَبَةُ إذَا سَلَّمَ الْعَيْنَ فَلَا نِزَاعَ أَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ.

وَلَا نِزَاعَ فِي سُقُوطِهَا بِتَلَفِ الْمَنَافِعِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ.

وَلَا نِزَاعَ أَنَّهَا إذَا كَانَت مُؤَجَّلَةً لَمْ تُطْلَبْ إلَّا عِنْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ، فَإِذَا خَلَّفَ الْوَارِثُ ضَامِنًا وَتَعَجَّلَ الْأَجَلَ الَّذِي لَمْ يَجِبْ إلَّا مُؤَخَّرًا مَعَ تَأخِيرِ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِن الْمَنْفَعَةِ كَانَ هَذَا ظُلْمًا لَهُ مُخَالِفًا لِلْعَدْلِ.

وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُؤَجَّرُ وَقْفا وَنَحْوَهُ: فَهُنَا لَيْسَ لِلنَّاظِرِ تَعْجِيلُ الْأُجْرَةِ كلِّهَا؛ بَل لَو شَرَطَ ذَلِكَ لَمْ تَجُزْ؛ لَأَنَّ الْمَنَافِعَ الْمُسْتَقْبَلَةَ [إذًا] لَمْ يَمْلِكْهَا

(3)

، وإِنَّمَا

(1)

ما بين المعقوفتين من الإنصاف (4/ 321).

(2)

بَعْنِي: بثَمَنٍ وَاحِدٍ صَحَّ فِيهِمَا. الإنصاف (4/ 321).

مثاله: لَو اشْتَرى دارًا وسُكْنى دَارٍ أُخْرى بمائةٍ.

أما لو كان البيع والإجارة على شيءٍ واحدٍ فإنه لا يجوز، ومن الأمثلة المعاصرة لذلك: الإجارة المنتهية بالتمليك، وهو في الحقيقة بيع تقسيط، وليس إجارة؛ لأنَّ الكثير من الشركات لا تطبِّق أحكام الإجارة الحقيقية في فترة الإجارة.

(3)

أي: المنافع المستقبلة حينئذ لم يملكها، وحذف ما بين المعقوفتين يغني في المعنى، وقد يكون أوضح.

ص: 276

يَمْلِكُ أُجْرَتَهَا مَا يَحْدُث فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِذَا تَعَجَّلَتْ مِن غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى عِمَارَةٍ كَانَ ذَلِكَ أَخْذًا لِمَا لَمْ يَسْتَحِقَّهُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ الْآنَ. [30/ 155 - 156]

3837 -

لَيْسَ لِلْمُؤَجِّرِ فَسْخُ الْإِجَارَةِ بِمُجَرَّدِ مَوْتِ الْمُسْتَأجِرِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، لَكِنْ مِنْهُم مَن قَالَ: إنَّ الْأُجْرَةَ عَلَى الْمُسْتَأجِرِ تَحِلُّ بِمَوْتِهِ وَتُسْتَوْفَى مِن تَرِكَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكن لَهُ تَرِكَة فَلَهُ فَسْخُ الْإِجَارَةِ.

وَمِنْهُم مَن يَقُولُ: لَا تَحِلُّ الْأُجْرَةُ إذَا وَثَّقَ الْوَرَثَةُ بِرَهْن أَو ضَمِينٍ يَحْفَظُ الْأجْرَةَ؛ بَل يُوَفُّونَهُ كَمَا كَانَ يُوَفِّيهَا الْمَيِّتُ، وَهَذَا أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ. [30/ 157]

3838 -

ثَبَتَ فِي "الصحِيحَيْنِ" عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَحِلُّ لِمُسْلِم أَنْ يَسُومَ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ"

(1)

. فَإِذَا كَانَ الْمُؤَجِّرُ قَد رَكَنَ إلَى شَخْصٍ لِيُؤَجِّرَهُ لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ: فَكَيْفَ إذَا كَانَ سَاكِنًا فِي الْمَكَانِ مُسْتَمِرًّا؟ فَمَن فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ التَّعْزِيرَ. [30/ 160 - 161]

3839 -

وَسُئِلَ: عَن رَجُلٍ اسْتَأجَرَ دَارًا بِجِوَارِهِ رَجُلُ سُوءٍ؟

فَأَجَابَ: إذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذُكِرَ فَمِثْلُ هَذَا عَيْبٌ فِي الْعَقَارِ، وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُسْتَأجِرُ حَالَ الْعَقْدِ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ مِن حِينِ الْفَسْخِ. [30/ 161]

3840 -

إذَا أَقَرَضَهُ عَشْرَةً عَلَى أنْ يَكْتَرِيَ مِنْهُ حَانُوتَهُ بِأُجْرَة أَكْثَر مِن الْمِثْلِ: لَمْ يَجُزْ هَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَل لَو قَرَّرَ بَيْنَهُمَا مِن غَيْرِ شَرْط كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا مَنْهِيًّا عَنْهُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَن النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْع، وَلَا رِبْح مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَك". قَالَ التِّرْمِذِيُّ

(2)

: حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

فَنَهَى صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيعَهُ وَيُقْرِضَهُ؛ لِأَنَّهُ يُحَابِيهِ فِي الْبَيْعِ لأجْلِ الْقَرْضِ، فَكَيْفَ

(1)

رواه البخاري (2727)، ومسلم (1408).

(2)

(1234).

ص: 277

إذَا شَارَطَهُ مَعَ الْقَرْضِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ وَيُحَابِيَهُ؟ وَلَيْسَ عِنْدَهُ، وَإِن كَانَ الْغَرِيمُ مُعْسِرًا أُنْظِرَ إلَى مَيْسَرَةٍ. [30/ 161]

3841 -

إذَا كَانَ الْمُسْتَأجِرُ قَد دَلَّسَ عَلَى الْمُؤَجِّر وَغَرَّهُ حَتَّى اسْتَأْجَرَ بِدُونِ قِيمَةِ الْمِثْل مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ: فَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بَأُجْرَةِ الْمِثْلِ. [30/ 163]

3842 -

إِنَّ الْفُقَهَاءَ لَهُم فِي الْإِجَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَنْعَقِدُ بِمَا يَعْدُّهُ النَّاسُ إجَارَةً، حَتَّى لَو دَفَعَ طَعَامَهُ إلَى طَبَّاخٍ يَطْبُخُ بِالْأُجْرَةِ، أَو ثِيَابَهُ إلَى غَسَّالٍ يَغْسِلُ بِالْأُجْرَةِ، أَو نَسَّاجٍ أَو خَيَّاطٍ أَو نَحْوَهُم مِن الصُّنَّاعِ الَّذِينَ جَرَتْ عَادَتُهُم أَنَّهُم يَصْنَعُونَ بِالْأُجْرَةِ: يَسْتَحِقُّونَ أُجْرَةَ الْمِثْلِ، وَكَذَلِكَ لَو دَخَلَ حَمَّامًا أَو رَكِبَ سَفِينَةً أَو دَابَّةً، كَمَا جَرَت الْعَادَةُ بِالرُّكُوبِ عَلَى الدَّوَابِّ وَالْمَرَاكِبِ الْمُعَدَّةِ لِلْكَرْيِ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِن الصِّفَةِ فِي ذَلِكَ، كَمَا قِيلَ مِثْل ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ

(1)

. [30/ 165 - 166]

3843 -

مُجَرَّدُ الْإِذْنِ فِي الْإِجَارَةِ مُطْلَقًا الَّذِي يَقْتَضِي فِي الْعُوْفِ سَنَةً أَو سَنَتَيْنِ أَو نَحْو ذَلِكَ: لَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْإِذْنُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ [أي: ثلاثين سنة] فَلَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ بِمُجَرَّدِهِ. [30/ 169]

3844 -

إذَا كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ قَد دَلَّسَ عَلَى الْمُؤَجِّرِ؛ مِثْل أَنْ يَكُونَ قَد أَخْبَرَهُ عَنْهُ بِمَا يُنْقصُ قِيمَتَهُ وَلَمْ يَكُن الْأَمْرُ كَذَلِكَ: فَلِلْمُؤَجِّرِ فَسْخُ الْإِجَارَةِ.

وَكَذَلِكَ إنْ أَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ هنَاكَ مَن يَسْتَأْجِرُهُ

(2)

، وَكَانَ لَهُ هُنَاكَ طُلَّابٌ وَأمْثَالُ ذَلِكَ. [30/ 171]

3845 -

هَذَا هُوَ الْقَوْلُ [أي: جَوَاز بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ] الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ، وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ مِن عَهْدِ نَبِيَّهِمْ وإِلَى الْيَوْمِ. [30/ 176 - 177]

(1)

والراجح القول الأول، وهو الذي انتصر له الشيخ وغيره من المحققين.

(2)

يعني: يُخبر الْمُؤجرَ بأنه ليس هنا أحد سيستأجر إلا نحن، فإن لم تُؤجرنا خسرت.

ص: 278

3846 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن أَيْتَامٍ لَهُم نَصِيبٌ فِي مِلْكٍ، فَأَجَّرَهُ الْوَصِيُّ لِلشَّرِكَةِ مُدَّةَ ثَلَاثِ سِنِينَ بِدُونِ قِيمَةِ الْمِثْلِ، فَمَا الْحُكْمُ؟

فَأَجَابَ: مَتَى أَجَّرَهُ الْوَصِيُّ بِدُونِ أُجْرَةِ الْمِثْل كَانَ ضَامِنًا لِمَا فَوَّتَهُ عَلَى الْيَتِيمِ، وَلَمْ تَكُن الْإِجَارَةُ لَازِمَةً لِلْيَتِيمِ بَعْدَ رُشْدِهِ؛ بَل هِيَ بَاطِلَةٌ مُنْفَسِخَةٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، وَفِي الْآخَرِ: لَهُ أَنْ يَفْسَخَهَا.

ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَ مَا فَعَلَهُ الْوَصِيُّ: كَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ مَا لَمْ يَلْتَزِمْ ضَمَانَهُ، وَإِن عَلِمَ اسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ.

بَل لَو أَجَّرَهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ؛ مِثْل هَذِهِ الْمُدَّةِ الَّتِي يَعْلَمُ الْوَصِيُّ أَنَّهُ يَبْلُغُ فِي أَثْنَائِهَا: فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يُجَوِّزُونَ لِلْيَتِيمِ الْفَسْخَ. [30/ 181]

3847 -

وَسُئِلَ: عَن دَابَّةٍ: أَيُّمَا أَفْضَلُ: يَنْقُلُ النَّاسَ بِلَا أُجْرَةٍ، أَو يَأُخُذُ الْأُجْرَةَ وَيَتَصَدَّقُ بِهَا؟

فَأَجَابَ: إنْ كَانُوا فُقَرَاءَ فَتَرْكُهُ لَهُم أَفْضَلُ، وَإِن كَانُوا أَغْنِيَاءَ وَهُنَالِكَ مُحْتَاجٌ فَأَخْذُهُ لِاُّجْلِ الْمُحْتَاجِ أَفْضَلُ. [30/ 183]

3848 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن إجَارَةِ الْجَوَامِيسِ يَسْتَأْجِرُهَا عَامًا وَاحِدًا مُطْلَقًا وَغَرَضُهُ لَبَنُهَا وَيَسْتَعْمِلُهَا لِذَلِكَ؟

فأجاب: الصَّحِيحُ أَنَّ الْعُقُودَ إنَّمَا يُعْتَبِرُ فِيهَا مَعَانِيهَا لَا بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ.

وَالصَّوَابُ: أَنَّ الْإِجَارَةَ الْمَسْؤُولَ عَنْهَا جَائِزَة؛ فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى الْجَوَازِ بِعِوَضِهَا وَمُقَايَسَتِهَا تَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْإِجَارَةَ، وَلَيْسَ مِن الْأَدِلَّةِ مَا يَنْفِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: إنَّ إجَارَةَ الظِّئْرِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ كَلَامٌ فَاسِدٌ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ إجَارَةٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فِي شَرِيعَتِنَا إلَّا هَذِهِ الْأِجَارَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وَقَالَ: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233].

وَالسُّنَّةُ وإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ دَلَّا عَلَى جَوَازِهَا.

ص: 279

وَإِنَّمَا تكونُ مُخَالِفَةً لِلْقِيَاسِ: لَو عَارَضَهَا قِيَاسُ نَصٍّ آخَرَ، وَلَيْسَ فِي سَائِر النُّصُوصِ وَأَقْيِسَتِهَا مَا يُنَاقِضُ هَذِهِ.

وَقَوْلُ الْقَائِلِ: الْإِجَارَةُ إنَمَا تَكونُ عَلَى الْمَنَافِعِ دُونَ الْأَعْيَانِ: لَيْسَ هُوَ قَوْلًا للهِ وَلَا لِرَسُولِهِ وَلَا الصَّحَابَةِ وَلَا الْأَئِمَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلٌ قَالَتْهُ طَائِفَةٌ مِن النَّاسِ.

فَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى الْمَنَافِعِ فَقَطْ؛ بَل الْإِجَارَةُ تَكُونُ عَلَى مَا يَتَجَدَّدُ وَيَحْدُثُ وَيُسْتَخْلَفُ بَدَلُهُ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ؛ كَمِيَاهِ الْبِئْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ عَيْنًا أَو مَنْفَعَةً، كَمَا أَنَّ الْمَوْقُوفَ يَكونُ مَا يَتَجَدَّدُ، وَمَا تَحْدُثُ فَائِدَتُهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيءٍ، سَوَاءٌ كَانَت الْفَائِدَةُ مَنْفَعَةً أَو عَيْنًا؛ كَالتَّمْرِ وَاللَّبَنِ وَالْمَاءِ النَّابعِ.

وَكَذَلِكَ الْعَارَيةُ، وَهُوَ عَمَّا يَكُونُ الِانْتِفَاعُ بِمَا يَحْدُثُ وَيُسْتَخْلَفُ بَدَلُهُ.

يُقَالُ: أَفْقَرَ الظَّهْرَ، وَأَعْرَى النَّخْلَةَ، وَمَنَحَ النَّاقَةَ، فَإِذَا مَنَحَهُ النَّاقَةَ يَشْرَبُ لَبَنَهَا ثُمَّ يَرُدُّهَا، أَو أَعْرَاهُ نَخْلَة يَأْكُلُ ثَمَرَهَا ثُمَّ يَرُدُّهَا، وَهُوَ مِثْلُ أَنْ يُفْقِرَهُ ظَهْرًا يَرْكَبُهُ ثُمَ يَرُدُّهُ.

وَكَذَلِكَ إكْرَاءُ الْمَرْأَةِ، أَو طَيْرٍ، أَو نَاقَةٍ، أَو بَقَرَةٍ، أَو شَاةٍ يَشْرَبُ لَبَنَهَا مُدَّةً مَعْلُومَةً، فَهُوَ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ دَابَّةً يَرْكَبُ ظَهْرَهَا مُدَّةً مَعْلُومَةً.

وَإِذَا تَغَيَّرَت الْعَادَةُ فِي ذَلِكَ: كَانَ تَغَيُّرُ الْعَادَةِ فِي الْمَنْفَعَةِ يَمْلِكُ الْمُسْتَأْجِرُ إمَّا الْفَسْخَ وَإِمَّا الْأَرْشَ.

وَكَذَلِكَ إذَا أَكْرَاهُ حَدِيقَةً يَسْتَعْمِلُهَا حَوْلاً أَو حَوْلَيْنِ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَمَّا قَبلَ حَدِيقَةَ أسيد بْنِ الحضير ثَلَاثَ سِنِينَ وَأَخَذَ الْمَالَ وَقَضَى بِهِ دَيْنًا كَانَ عَلَيْهِ.

وَإِذَا كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ هُوَ الَّذِي يَقُومُ عَلَى هَذِهِ الدَّوَابِّ فَهُوَ إجَارَةٌ، وَهُوَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِن إجَارَةِ الظِّئْرِ.

ص: 280

وَامَّا إذَا كَانَ صَاحِبُ الْمَاشِيَةِ هُوَ الَّذِي يَعْلِفُهَا وَيَسْقِيهَا وَيُؤْوِيهَا، وَطَالِبُ اللَّبَنِ لَا يَعْرِفُ إلاَّ لَبَنَهَا وَقَد اسْتَأْجَرَهَا تُرْضِعُ سِخَالًا لَهُ فَهُوَ مِثْلُ إجَارَةِ الظِّئْرِ.

وَإِذَا كَانَ لِيَأخُذَ اللَّبَنَ هُوَ، فَهُوَ يُشْبِهُ إجَارَةَ الظِّئْرِ لِلرِّضَاعِ الْمُطْلَقِ، لَا لِإِرْضَاعِ طِفْل مُعَيَّنٍ، وَهَذَا قَد يُسَمَّى بَيْعًا وَيُسَمَّى إجَارَةً، وَهُوَ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ.

وَإِذَا قِيلَ: هُوَ بَيْعُ مَعْدُومٍ.

قِيلَ: نَعَمْ، وَلَيْسَ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ مَا يَنْهَى عَن بَيْعِ كُلِّ مَعْدُومٍ؛ بَل الْمَعْدُومُ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَى بَيْعِهِ وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْعَادَةِ: يَجُوزُ بَيْعُهُ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الثَّمَرَةِ بَعْدَ بُدُوَّ صَلَاحِهَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَصِحُّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ، مَعَ أَنَّ الْأَجْزَاءَ الَّتِي تُخْلَقُ بَعْدُ مَعْدُومَةٌ وَقَد دَخَلَتْ فِي الْعَقْدِ. [30/ 197 - 200]

3849 -

يَصِحُّ اسْتِئْجَارُ الْأَعْمَى وَاشْتِرَاؤُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَلَا بُدَّ أَنْ يُوصَفَ لَهُ الْمَبِيعُ وَالْمُسْتَأْجَرُ، فَإِنْ وَجَدَهُ بِخِلَافِ الصَّفَةِ فَلَهُ الْفَسْخُ. [30/ 201]

3850 -

الشَّمْعُ إذَا أعْطَاهُ لِمَن يُوقِدُهُ وَقَالَ: كُلَّمَا نَقَصَ مِنْهُ أُوقِيَّةٌ بِكَذَا: جَائِزٌ، وَلَيْسَ هَذَا مِن بَابِ الْإِجَارَاتِ، وَلَا بَابِ الْبَيْعِ اللَّازِم؛ فَإِنَّ الْبَيْعَ اللَّازِمَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيع فِيهِ مَعْلُومًا؛ بَل هَذَا مُعَاوَضَةٌ جَائِزَةٌ لَا لَازِمَةٌ، كَمَا لَو قَالَ: اُسْكُنْ فِي هَذِهِ الدَّارِ كُلَّ يَوْمٍ بِدِرْهَمِ وَلَمْ يُوَقِّتْ أَجَلًا، فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ.

فَمَسْأَلَةُ الْأَعْيَانِ نَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْألَةِ فِي الْمَنَافِعِ، وَهُوَ إذْنٌ فِي الإِتْلَافِ عَلَى وَجْهِ الِانْتِفَاعِ بِعَرَض. [30/ 195 - 196]

3851 -

لَو ادَّعَى الْمُزْدَرعُ أَنَّهُ إنَّمَا زَرَعَ بِطَرِيقِ الْعَارَيةِ، وَقَالَ رَبُّ الْأَرْضِ: بَل بِطَرِيقِ الْإِجَارَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبَّ الْأَرْضِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ: مَالِكٌ وَأَحْمَد وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ.

ص: 281

فَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ فِي مَسْألَةِ الْأَرْضِ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَالِكِ؛ فَيَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِالْأُجْرَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ.

لَكِنْ هَل يُطَالِبُ بِالْأُجْرَةِ الَّتِي ادَّعَاهَا، أَو بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، أَو بِالْأَقَلِّ مِنْهُمَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. [30/ 249 - 250]

* * *

(شروط الإجارة)

3852 -

يجوز إجارة ماء قناة مدة وماء فائض بركة يراها

(1)

. [المستدرك 4/ 49]

3853 -

لو استأجر تفاحة للشم يحتمل الجواز. [المستدرك 4/ 49]

3854 -

يجوز للمؤجر إجارة العين المؤجرة من غير المستأجر في مدة الإجارة، ويقوم المستأجر الثاني مقام المالك في استيفاء الأجرة من المستأجر الأول. [المستدرك 4/ 49]

3855 -

يجوز للمستأجر إجارة العين المؤجرة لمن يقوم مقامه بمثل الأجرة وزيادة، وهو ظاهر مذهب أحمد والشافعي.

فإن شرط المؤجر على المستأجر ألا يستوفي المنفعة إلا بنفسه أو ألا يؤجرها إلا لعدل أو لا يؤجرها من زيد: قال أبو العباس: فقياس المذهب فيما أراه أنها شروط صحيحة.

لكن لو تعذر على المستأجر الاستيفاء بنفسه لمرض أو تلف مال أو إرادة سفر ونحو ذلك: فينبغي أن يثبت له الفسخ، كما لو تعذر تسليم المنفعة. [المستدرك 4/ 49 - 50]

3856 -

ليس للوكيل أن يطلق في الإجارة مدة طويلة بل العرف كسنتين

(1)

في الأصل: (رأياه)، والتصويب من الاختيارات (221).

ص: 282

ونحوهما. وإذا شرط الواقف أن النظر للموقوف عليه أو أتى بلفظ يدل على ذلك فأفتى بعض أصحابنا أن إجارته كإجارة الظئر. وعلى ما ذكره ابن حمدان ليس كذلك وهو الأشبه. [المستدرك 4/ 50]

3857 -

تنفسخ إجارة البطن الأول إذا انتقل الوقف إلى البطن الثاني في أصح الوجهين.

وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: إن كان قبضها المؤجر رجع بذلك في تركته. [المستدرك 4/ 50]

3858 -

الذي يتوجه أولًا أنه لا يجوز سلف الأجرة للموقوف عليه؛ لأنه لا يستحق المنفعة المستقبلة ولا الأجرة عليها، فالتسليف لهم قبض ما لا يستحقونه، بخلاف المالك.

وعلى هذا: فللبطن الثاني أن يطالبوا بالأجرة المستأجر؛ لأنه لم يكن له التسليف، ولهم أن يطالبوا الناظر. [المستدرك 4/ 51]

3859 -

المستحب أن يأخذ الحاج عن غيره ليحج، لا أن يحج ليأخذ.

فمن أحب إبراء ذمة الميت أو رؤية المشاعر: يأخذ ليحج.

ومثله كل رزق أخذ على عمل صالح.

ففرق بين من يقصد الدينَ، والدنيا وسيلة، وعكسه.

فالأشبه أن عكسه ليس له في الآخرة من خلاق.

والأعمال التي يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة هل يَجُوز إيقاعها على غير وجه القربة؟ فمن قال: لا يجوز ذلك لم يجوِّز

(1)

الإجارة عليها؛ لأنها بالعوض تقع غير قربة، و "الأعمال بالنيات" والله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أُريد به وجهه.

(1)

في الأصل: (يجز)، والتصويب من جامع المسائل (3/ 133).

ص: 283

ومن جوَّز الإجارة جوَّز إيقاعها على غير وجه القربة، وقال: تجوز الإجارة عليها لما فيها من نفع المستأجر.

وأما ما يؤخذ من بيت المال فليس عوضًا وأجرة؛ بل رزق للإعانة على الطاعة.

فمن عمل منهم لله أثيب، وما يأخذه فهو رزق للمعونة على الطاعة، وكذلك المال الموقوف على أعمال البر والموصى به كذلك، والمنذور كذلك، ليس كالأجرة والجعل في الإجارة والجعالة الخاصة.

قال أبو طالب: سألت أبا عبد الله عن الرجل يغسل الميت بكراء؟ قال: بكراء؟! واستعظم ذلك. قلت: يقول: أنا فقير. قال: هذا كسب سوء.

ووجه هذا: أن تغسيل الموتى من أعمال البر، والتكسب بذلك يورث تمني موت المسلمين فيشبه الاحتكار. [المستدرك 4/ 52]

3860 -

اتخاذ الحجامة صناعة يتكسب بها: هو مما نُهي عنه عند إمكان الاستغناء عنه؛ فإنه يفضي إلى كثرة مباشرة النجاسات والاعتناء بها

(1)

، لكن إذا عمل ذلك العمل بالعوض استحقه.

وإذا كان الرجل محتاجًا على هذا الكسب ليس له ما يغنيه عنه إلا مسألة الناس فهو خير له من مسألة الناس، كما قال بعض السلف: كسب فيه دناءة خير من مسألة الناس. [المستدرك 4/ 52 - 53]

3861 -

إذا كان اليهودي أو النصراني خبيرًا بالطب ثقة عند الإنسان جاز له أن يستطبَّه، كما يجوز له أن يودعه المال وأن يعامله، وقد استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا مشركًا لما هاجر وكان هاديًا خريتًا ماهرًا بالهداية إلى الطريق من مكة إلى المدينة وائتمنه على نفسه وماله.

(1)

هذا على القول بنجاسة دم الآدمي، كما ذهب إليه جماهير العلماء، وحكى غير واحد الإجماع عليه.

ص: 284

وإذا وجد طبيبًا مسلمًا فهو أولى، وأما إذا لم يجد إلا كافرًا فله ذلك.

وإذا خاطبه بالتي هي أحسن كان حسنًا. [المستدرك 4/ 53]

3862 -

وإن أكراه كل شهر بدرهم، وكلما دخل شهر لزمهما حكم الإجارة. ظاهر قوله: ولكل واحد منهما الفسخ عند تقضي كل شهر: أنَّ الفسخ يكون قبل دخول الشهر الثاني

(1)

، وهو اختيار أبي الخطاب والشارح والشيخ تقي الدين رحمه الله.

وإن أجره في أثناء شهر سنة: استوفى شهرًا بالعدد، وسائرها بالأهلة.

وعنه يستوفي الجميع بالعدد.

وعند الشيخ تقي الدين رحمه الله إلى مثل تلك الساعة.

وقال: إنما يعتبر الشهر الأول بحسب تمامه ونقصانه، فإن كان تامًّا كمل تامًّا، وإن كان ناقصًا كمل ناقصًا. [المستدرك 4/ 53 - 54]

3863 -

قال القاضي في التعليق: إذا دفع إلى دلَّال ثوبًا أو دارًا وقال له: بع هذا، فمضى وعرض ذلك على جماعة مشترين، وعرف ذلك صاحب المبيع، فامتنع من البيع، وأخذ السلعة ثم باعها هو من ذلك المشتري أو من غيره: لم تلزمه أجرة الدلال للمبيع؛ لأن الأجرة إنما جعلها في مقابلة العقد ولم يحصل ذلك.

قال أبو العباس: الواجب أن يستحق من الأجرة بقدر ما عمل، وهذه من مسائل الجعالات. [المستدرك 4/ 54]

3864 -

لو اضطر ناس إلى السكن في بيت إنسان لا يجدون سواه أو النزول في خان مملوك أو رحى للطحن أو لغير ذلك من المنافع: وجب بذله

(1)

فلكل واحد من المؤجر والمستأجر الفسخ عقب انتهاء كل شهر على الفور في أول الشهر، بأن يقول: فسخت الإجارة في الشهر الآخر، وليس بفسخ على الحقيقة؛ لأن العقد الثاني لم يثبت قاله في المغني والشرح. كشاف القناع (3/ 557).

ص: 285

بأجرة المثل بلا نزاع، والأظهر أنه يجب بذله مجانًا، وهو ظاهر المذهب. [المستدرك 4/ 54]

3865 -

ترك القابلة

(1)

ونحوها الأجرة لحاجة المقبولة أفضل من أخذها منها والصدقة بها. [المستدرك 4/ 54]

3866 -

وقال الشيخ تقي الدين فيمن احتكر أرضًا بنى فيها مسجدًا أو بناءً وقَفَه عليه: متى فرغت المدة وانهدم البناء زال حكم الوقف، وأخذوا أرضهم فانتفعوا بها، وما دام البناء قائمًا فيها فعليه أجرة المثل كوقف علوِّ دارٍ مسجدًا؛ فإن وقف علو ذلك لا يُسقط حق ملاك السفل؛ كذلك وقف البناء لا يسقط حق ملاك الأرض. [المستدرك 4/ 54]

3867 -

إن رَكَن المؤجِّر إلى شخص ليؤجره: لم يجز لغيره الزيادة عليه، فكيف إذا كان المستأجر ساكنًا في الدار؟ فإنه لا يجوز الزيادة على ساكن الدار.

وإذا وقعت الإجارة صحيحة: فهي لازمة من الطرفين، ليس للمؤجر الفسخ لأجل زيادة حصلت باتفاق الأئمة.

وإذا التزم المستأجر بهذه الزيادة على الوجه المذكور: لم تلزمه اتفاقًا.

ولو التزمها بطيب نفس منه: ففي لزومها قولان: فعند الشافعي وأحمد لا تلزمه أيضًا؛ بناء على أن إلحاق الزيادة والشروط بالعقود اللازمة لا تلحق.

وتلزمه إذا فعلها بطيب نفس منه متبرعًا بذلك في القول الآخر، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في القول الآخر؛ بناءً على أنه تلحقه الزيادة بالعقود اللازمة.

لكن إذا كان قد عُلم أنَّ العادة لم تجر بأن أحد هؤلاء يقبلها بطيب

(1)

القابلة: هي المرأة التي تتلقى الولد عند خروجه من أمه أثناء الولادة.

ص: 286

نفسه، ولكن خوفًا من الإخراج: فحينئذٍ لا تلزمهم بالاتفاق؛ بل لهم استرجاعها ممن قبضها منهم. [المستدرك 4/ 55]

3868 -

إن استأجر أرضًا فعند انعقاد الحب أمطرت السماء حجارة أهلكت زرعه قبل حصاده: سقط العشر.

وفي وجوب الأجرة نزاع.

والأظهر أنه إن لم يكن تمكن من استيفاء المنفعة المقصودة بالعقد فلا أجرة. [المستدرك 4/ 55]

3869 -

إن وجد العين معيبة أو حدث بها عيب فله الفسخ.

قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: إن لم نقل بالأرش: فورود ضعفه على أصل الإمام أحمد رحمه الله بيِّن. [المستدرك 4/ 56]

3870 -

إن تعذر زرعها فله الخيار، وكذا لقلة ماء قبل زرعها أو بعده، أو عابت بغرقٍ تعيب به بعض الزرع.

واختار شيخنا: أو برَد، أو فأر، أو عذر، قال: فإن أمضى فله الْأَرْشُ كعيب الأعيان، وإن فسخ فعليه القسط قبل القبض، ثم أجرة المثل إلى كماله، قال: وما لم يَرْوِ من الأرض فلا أجرة له اتفاقًا.

وأجرة المثل ليست شيئًا محدودًا، وإنما هو ما يساوي الشيء في نفوس أهل الرغبة.

ولا عبرة بما يحدث في أثناء المدة من ارتفاع الكراء أو انخفاضه. [المستدرك 4/ 56]

3871 -

لو أنزاه على فرسه فنقص ضمن نقصه. [المستدرك 4/ 56]

3872 -

إذا بيعت العين المؤجرة أو المرهونة ونحوهما مما تعلق به حق لغير البائع، وهو عالم بالعيب فلم يتكلم: فينبغي أن يقال: لا يملك المطالبة

ص: 287

بفساد البيع بعد هذا؛ لأن إخباره بالعيب واجب عليه بالسُّنَّة بقوله: "ولا يحل لمن علم ذلك إلا أن يبينه" فكتمانه تغرير، والغار ضامن.

وكذا ينبغي أن يقال فيما إذا رأى عبده يبيع فلم ينهه.

وفي جميع المواضع؛ فإن المذهب أن السكوت لا يكون إذنًا، فلا يصح التصرف، لكن إذا لم يصح يكون تغريرًا فيكون ضامنًا، بحيث أنه ليس له أن يطالب المشتري بالضمان؛ فإنَّ ترْك الواجب عندنا كفعل المحرم، كما يقال فيمن قدر على إنجاء إنسان من هلاكه، بل الضمان هنا أقوى. [المستدرك 4/ 56]

3873 -

ظاهر كلام الإمام أحمد في رواية الميموني: أن من باع العين المؤجرة ولم يتبين للمشتري أنها مستأجرة أنه لا يصح البيع.

ووجهه: أنه باع ملكه وملك غيره؛ فهي مسألة تفريق الصفقة. [المستدرك 4/ 57]

* * *

‌(حكم كسب الحَجَّام

؟)

3874 -

ثَبَتَ فِي "الصَحِيحَيْنِ" عَن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "احْتَجَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ"

(1)

، وَلَو كَانَ سُحْتًا لَمْ يُعْطِهِ إيَّاهُ.

وَمِنْهُمِ مَن قَالَ: بَل يَحْرُمُ؛ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ

(2)

فِي "صَحِيحِهِ" عَن رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ، وَثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ، وَمَهْرُ الْبَغِيَّ خَبِيثٌ".

وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن ابْنِ أَبِي جحيفة قَالَ: رَأَيْت أَبِي اشْتَرَى حَجَّامًا

(1)

رواه البخاري (2278)، ومسلم (1202).

(2)

(1568).

ص: 288

فَأَمَرَ بِمَحَاجِمِهِ فَكُسِرَتْ، فَسَأَلْته عَن ذَلِكَ فَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَن ثَمَنِ

الدَّم

(1)

.

قَالَ هَؤُلَاءِ: فَتَسْمِيَتُهُ خَبِيثًا يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ كَتَحْرِيمِ مَهْرِ الْبَغِيَّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ.

قَالَ الْأَوَّلُونَ: قَد ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "مَن أَكَلَ مِن هَذَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ الْخَبِيثَتَيْنِ فَلَا يَقْرَبَن مَسْجِدَنَا"

(2)

، فَسَمَّاهُمَا خَبِيثَتَيْنِ بِخُبْثِ رِيحِهِمَا وَلَيْسَتَا حَرَامًا.

وَقَالَ: "لَا يُصَلِّيَن أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُدَافِعُ الْأَخْبَثِينَ"

(3)

؛ أَيْ: الْبَوْلُ وَالْغَائِطُ.

فَيَكُونُ تَسْمِيَتُهُ خَبِيثًا لِمُلَاقَاةِ صَاحِبِهِ النَّجَاسَةَ لَا لِتَحْرِيمِهِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَعْطَى الْحَجُّامَ أَجْرَهُ وَأَذِنَ لَه أَنْ يُطْعِمَهُ الرَّقِيقَ وَالْبَهَائِمَ.

وَمَهْرُ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانُ الْكَاهِنِ لَا يَسْتَحِقُّهُ، وَلَا يُطْعَمُ مِنْهُ رَقِيقٌ وَلَا بَهِيمَةٌ.

وَبِكُلِّ حَالٍ: فَحَالُ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ لَيْسَتْ كَحَالِ الْمُسْتَغْنِي عَنْهُ، كَمَا قَالَ السَّلَفُ: كَسْبٌ فِيهِ بَعْضُ الدَّنَاءَةِ خَيْرٌ مِن مَسْأَلَةِ النَّاسِ.

وَلِهَذَا لَمَّا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِهِ: كَانَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ: أَعْدَلُهَا أَنَّهُ يُبَاحُ لِلْمُحْتَاجِ.

قَالَ أَحْمَد: أُجْرَةُ التَّعْلِيمِ خَيْرٌ مِن جَوَائِزِ السُّلْطَانِ، وَجَوَائِزُ السُّلْطَانِ خَيْرٌ مِن صِلَةِ الْإِخْوَانِ.

وَأُصُولُ الشَّرِيعَةِ كُلُّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، أَنَّهُ يُفَرَّقُ فِي الْمَنْهِيَّاتِ بَيْنَ الْمُحْتَاجِ وَغَيْرِهِ، كَمَا فِي الْمَأْمُورَاتِ، وَلِهَذَا أُبِيحَت الْمُحَرَّمَاتُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، لَا سِيَّمَا إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ يَعْدِلُ عَن ذَلِكَ إلَى سُؤَالِ النَّاسِ؛ فَالْمَسْأَلَةُ أَشَدُّ تَحْرِيمًا.

(1)

رواه البخاري (2238)، ولم أجده في مسلم.

(2)

رواه أحمد (16247).

(3)

رواه مسلم (560).

ص: 289

وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: يَجِبُ أَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ وَإِن لَمْ تَحْصُلْ إلَّا بِالشُّبُهَاتِ، كَمَا ذَكَرَ أَبُو طَالِبٍ وَأَبُو حَامِدٍ: أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد سَأَلَهُ رَجُلٌ قَالَ: إنَّ ابْنًا لِي مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَهُ دُيُونٌ أَكْرَهُ تَقَاضِيهَا، فَقَالَ لَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد: أَتَدَعُ ذِمَّةَ ابْنِك مُرْتَهَنَةً؟

يَقُولُ: قَضَاءُ الدَّيْنِ وَاجِبٌ، وَتَرْكُ الشُّبْهَةِ لِأَدَاءِ الْوَاجِبِ هُوَ الْمَأْمُورُ.

وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُرْزَقُ الْحَاكِمُ وَأَمْثَالُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَتَنَازَعُوا فِي الرِّزْقِ عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ.

وَأَصْلُ ذَلِكَ فِي كِتَاب اللهِ فِي قَوْلِهِ فِي وَلِيَّ الْيَتِيمِ: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} .

فَهَكَذَا يُقَالُ فِي نَظَائِرِ هَذَا؛ إذ الشَّرِيعَةُ مَبْنَاهَا عَلَى تَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا، وَالْوَرَعُ تَرْجِيحُ خَيْرِ الْخَيْرَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا، وَدَفْعِ شَرِّ الشَّرَّيْنِ وَإِن حَصَلَ أَدْنَاهُمَا. [30/ 191 - 193]

* * *

‌(حكم أخذ الأُجرةِ عَلَى الْإِمَامَةِ والْأَذَانِ، وتلاوة القرآن، وتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ

؟)

3875 -

الاستئجار على نفس تلاوة القرآن غير جائز، وإنما النزاع في التعليم ونحوه مما فيه مصلحة تصل إلى الغير.

والثواب لا يصل إلى الميت إلا إذا كان العمل لله، وما وقع بالأجر من النقود ونحوها فلا ثواب فيه، وإن قيل: يصح الاستئجار عليه.

فإذا أوصى الميت أن يعمل له ختمة: فينبغي أن يتصدق بذلك على المحاويج من أهل القرآن أو غيره، فذلك أفضل وأحسن.

وإذا كان المعلم يقرئ فأعطي شيئًا جاز له أخذه عند أكثر العلماء.

ولا يصح الاستئجار على القراءة وإهدائها إلى الميت؛ لأنه لم ينقل عن

ص: 290

أحد من الأئمة الإذن في ذلك، وقد قال العلماء: إن القارئ إذا قرأ لأجل المال فلا ثواب له، فأي شيء يُهدي للميت؟ وإنما يصل إلى الميت العمل الصالح.

والاستئجار على مجرد التلاوة لم يقل به أحد من الأئمة، وإنما تنازعوا في الاستئجار على التعليم. [المستدرك 4/ 51]

3876 -

لا بأس بجواز أخذ الأجرة على الرقية، نص عليه أحمد. [المستدرك 4/ 51]

3877 -

الِاسْتِنْجَارُ عَلَى الْإِمَامَةِ لَا يَجُوزُ فِي الْمَشْهُورِ مِن مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالْإِمَامِ أَحْمَد.

وَقِيلَ: يَجُوز، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَن الْإِمَامِ أَحْمَد وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَالْخِلَافُ فِي الْأَذَانِ أَيْضًا.

وَفِي الِاسْتِئْجَارِ عَلَى هَذَا وَنَحْوِهِ كَالتَّعْلِيمِ قَوْلٌ ثَالِثٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ يَجُوزُ مَعَ الْحَاجَةِ وَلَا يَجُوزُ بِدُونِ الْحَاجَةِ

(1)

. [30/ 203]

3878 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُل مِن أَهْلِ الْعِلْمِ قُصِدَ لِأَنْ يُقْرَأَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِن أَحَادِيثِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهَا مِن الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ فَامْتَنَعَ مِن إقْرَائِهَا إلَّا بِأُجْرَةِ.

فَأَجَابَ: أَمَّا تَعْلِيمٌ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ: فَهُوَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ وَأَحَبُّهَا إلَى اللهِ، وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِن دِينِ الْإِسْلَامِ، لَيْسَ هَذَا مِمَّا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ مِمَن نَشَأَ بِدِيَارِ الْإِسْلَامِ.

وَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَتَابِعُو التَّابِعِينَ وَغَيْرُهُم مِن الْعُلَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ عِنْدَ الْأُمَّةِ بِالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ إنَّمَا كَانُوا يُعَلَّمُونَ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ، وَلَمْ يَكُن فِيهِمْ مَن يُعَلَّمُ بِأُجْرَةِ أَصْلًا؛ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ.

(1)

وهو أرجح الأقوال، وهو الذي رجحه شيخ الإسلام كما سيأتي، وهو الذي يتمشى على قاعدة الشيخ في المسائل المشابهة لهذه المسألة.

ص: 291

وَالْأَنْبِيَاءُ رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ إنَّمَا كَانُوا يُعَلِّمُونَ الْعِلْمَ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ؛ كَمَا قَالَ نُوحٌ عليه السلام: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109)} [الشعراء: 109] وَكَذَلِكَ قَالَ هُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَلُوطٌ وَغَيْرُهُمْ، وَكَذَلِكَ قَالَ خَاتَمُ الرُّسُلِ:{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)} [ص: 86].

وَتَعْلِيمُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ لَمْ يَتَنَازَع الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّهُ عَمَلٌ صَالِحٌ فَضْلًا عَن أَنْ يَكُونَ جَائِزًا؛ بَل هُوَ مِن فُرُوضِ الْكِفَايَةِ.

وَإِنَّمَا تَنَازَعَ العُلَمَاءُ فِي جَوَازِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورينِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَن أَحْمَد:

إحْدَاهُمَا -وَهُوَ مَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ-: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى ذَلِكَ.

وَالثَّانِيَةُ -وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ-: أَنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ.

وَفِيهَا قَوْلٌ ثَالِثٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد: أَنَّهُ يَجُوزُ مَعَ الْحَاجَةِ دُونَ الْغِنَى؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي وَليَّ الْيَتِيمِ: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6].

وَيَجَوزُ أَنْ يُعْطَى هَؤُلَاءِ مِن مَالِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى التَّعْلِيمِ كَمَا يُعْطَى الْأَئِمَّةُ وَالْمُؤَذَّنُونَ وَالْقُضَاةُ وَذَلِكَ جَائِزٌ مَعَ الْحَاجَةِ.

وَهَل يَجُوزُ الارْتزَاقُ

(1)

مَعَ الْغِنَى؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ.

فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِن الْمُسْلِمِينَ أَنَّ عَمَلَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ بغَيْرِ أَجْرٍ لَا يَجُوزُ، وَمَن قَالَ: إنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ

(2)

.

لَكِنْ إنْ أَرَادَ

(3)

أَنَّهُ فَقِيرٌ مَتَى عَلَّمَ بِغَيْرِ أَجْرٍ عَجَزَ عَن الْكَسْبِ لِعِيَالِهِ،

(1)

أي: طلب الرّزْق، وهو الراتب الْمُعطى من الدولة.

(2)

وكثيرٌ من المتشددين والخوارج في هذا العصر يعيبون على علماء المسلمين أنهم يأخذون راتبًا وأجرًا من الدولة، ويُسمونهم علماء السلاطين، وهذا من ضلالهم وجهلِهم.

(3)

أي: هذا الرجل الْمَسؤول عنه.

ص: 292

وَالْكَسْبُ لِعِيَالِهِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ مُتَعَيِّنٌ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ تَرْكُ الْوَاجِبِ الْمُتَعَيِّنِ لِغَيْرِ مُتَعَيَّنٍ، وَاعْتَقَدَ مَعَ ذَلِكَ جَوَازَ التَّعْلِيمِ بِالْأُجْرَةِ مَعَ الْحَاجَةِ أَو مُطْلَقًا: فَهَذَا مُتَأَوِّلٌ فِي قَوْلِهِ، لَا يَكْفُرُ بِذَلِكَ وَلَا يَفْسُقُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ؛ بَل إمَّا أَنْ يَكُونَ فصِيبًا أَو مُخْطِئًا

(1)

.

وَمَن فَرَّقَ بَيْنَ الْمُحْتَاجِ وَغَيْرِهِ -وَهُوَ أَقْرَبُ- قَالَ: الْمُحْتَاجُ إذَا اكْتَسَبَ بِهَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَنْوِيَ عَمَلَهَا للهِ، وَيَأْخُذُ الْأُجْرَةَ لِيَسْتَعِينَ بِهَا عَلَى الْعِبَادَةِ؛ فَإِنَّ الْكَسْبَ عَلَى الْعِيَالِ وَاجِبٌ أَيْضًا فَيُؤَدِّي الْوَاجِبَاتِ بِهَذَا؛ بِخِلَافِ الْغَنِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْكَسْبِ، فَلَا حَاجَةَ تَدْعُوهُ أَنْ يَعْمَلَهَا لِغَيْرِ اللهِ؛ بَل إذَا كَانَ اللهُ قَد أَغْنَاهُ -وَهَذَا فُرضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ-: كَانَ هُوَ مخَاطَبًا بِهِ، وَإِذَا لَمْ يَقُمْ إلَّا بِهِ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْهِ عَيْنًا. [30/ 204 - 207]

* * *

‌(حكم التوصية بأَنْ يُصَلَّى عنه

؟)

3879 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلٍ تُوُفِّيَ وَأَوْصَى أَنْ يُصَلَّى عَنْهُ بِدَرَاهِمَ؟

فَأَجَابَ: صَلَاةُ الْفَرْضِ لَا يَفْعَلُهَا أَحَدٌ عَن أَحَدٍ لَا بِأْجْرَة وَلَا بِغَيْرِ أُجْرَةٍ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ؛ بَل لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجرَ أَحَدًا لِيُصَلِّيَ عَنْهُ نَافِلَةً بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، لَا فِي حَيَاتِهِ وَلَا فِي مَمَاتِهِ، فَكَيْفَ مَن يَسْتَأْجِرُ لِيُصَلَّى عَنْهُ فَرِيضَةً؟

وَإِنّمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا صَلَّى نَافِلَةً بِلَا أُجْرَةٍ وَأَهْدَى ثَوَابَهَا إلَى الْمَيَّتِ، هَل يَنْفَعُهُ ذَلِكَ؟

وَلَو نَذَرَ الْمَيِّتُ أَنْ يُصَلَّيَ فَمَاتَ، فَهَل تُفْعَلُ عَنْهُ الصَّلَاةُ الْمَنْذُورَةُ؟

لَكِنَّ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ الَّتِي أَوْصَى بِهَا يُتَصَدَّقُ بِهَا عَنْهُ، وَيَخُصُّ بِالصَّدَقَةِ أَهْلَ الصَّلَاةِ فَيَكُونُ لِلْمَيِّتِ أَجْرٌ.

(1)

هذا من اتزان الشيخ في الحكم على أفعال المخطئين المتأولين، ومن إنْصافِه والْتماسِه العذر لزلات الناس.

ص: 293

وَكُلُّ صَلَاةٍ يُصَلُّونَهَا وَيَسْتَعِينُونَ عَلَيْهَا بِصَدَقَتِهِ فَيَكُونُ لَهُ مِنْهَا نَصِيبٌ مِن غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِن أَجْرِ الْمُصَلِّي شَيْءٌ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَن فَطَّرَ صَائِمًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ"

(1)

، وَقَالَ:"مَن جَهَّزَ غَازِيًا فَقَد غَزَا"

(2)

. [30/ 203]

* * *

(الإجارة لا تكون لازمةً أو جَائِزَةً إلا من الطرفين)

3880 -

إِذَا آجَرَ الْأَرْضَ أَو الرِّبَاعَ كَالدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ وَالْفَنَادِقِ وَغَيْرِهَا إجَارَةً: كَانت لَازِمَةً مِن الطَّرَفَيْنِ، لَا تَكُونُ لَازِمَةً مِن أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ جَائِزَةً مِن الطَّرَفِ الْآخَرِ؛ بَل إمَّا أَنْ تَكُونَ لَازِمَةً مِنْهُمَا، أَو تَكُونَ جَائِزَةً غَيْرَ لَازِمَةٍ مِنْهُمَا عِنْدَ كَثِيرٍ مِن الْعُلَمَاءِ.

كَمَا لَو اسْتَكْرَاهُ كُلَّ يَوْمٍ بِدِرْهَم وَلَمْ يُوَقِّتْ أَجَلًا: فَهَذِهِ الْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ غَيْرُ لَازِمَةٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، فَكُلَّمَا سَكَنَ يَوْمًا لَزِمَتْهُ أُجْرَتُهُ، وَلَهُ أَنْ يَسْكُنَ الْيَوْمَ الثَّانِيَ، وَلِلْمُؤَجِّرِ أَنْ يَمْنَعَهُ سُكْنَى الْيَوْمِ الثَّانِي، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ أَجَلُ الشَّهْرِ بِكَذَا أَو كلُّ سَنَةٍ بِكَذَا وَلَمْ يُؤَجِّلَا أَجَلًا.

لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِن الْأَئِمَّةِ أَنَّ الْإِجَارَةَ الْمُطْلَقَةَ تَكُونُ لَازِمَةً مِن جَانِبِ الْمُسْتَأْجِرِ غَيْرَ لَازِمَةٍ مِن جَانِبِ الْمُؤَجِّرِ، فِي وَقْفٍ أَو مَالِ يَتِيمٍ وَلَا غَيْرِهِمَا. [30/ 217 - 218]

* * *

(الراجح في مسألة وَضْعِ الْجَوَائِحِ)

3881 -

إذَا اسْتَأْجَرَ أَرضًا لِلزَّرْعِ فَلَمْ يَأْتِ الْمَطَرُ الْمُعْتَادُ: فَلَهُ الْفَسْخُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ؛ بَل إنْ تَعَطَّلَتْ بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ بِلَا فَسْخٍ فِي الْأَظْهَرِ.

(1)

رواه الترمذي (807)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

(2)

رواه مسلم (1895).

ص: 294

وَأَمَّا إذَا نَقَصَت الْمَنْفَعَةُ فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِن الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا نَقَصَت الْمَنْفَعَةُ، نَصَّ عَلَى هَذَا أحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ.

فَيُقَالُ: كَمْ أُجْرَةُ الْأَرْضِ مَعَ حُصُولِ الْمَاءِ الْمُعْتَادِ؟ فَيُقَالُ: أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَيُقَالُ: كَمْ أُجْرَتُهَا مَعَ نَقْصِ الْمَطَرِ هَذَا النَّقْصُ؟ فَيُقَالُ: خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَيَحُطُّ عَن الْمُسْتَأْجِرِ نِصْفَ الْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ، فَإِنَّهُ تَلِفَ بَعْضُ الْمَنْفَعَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالْعَقْدِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِن اسْتِيفَائِهَا، فَهُوَ كَمَا لَو تَلِفَ بَعْضُ الْمَبِيع قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِن قَبْضِهِ.

وَكَذَلِكَ لَو أَصَابَ الْأَرْضَ جَرَادٌ أَو نَارٌ أَو جَائِحَةٌ أَتْلَفَ بَعْضَ الزَّرْعِ: فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِن الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِن الْمَنْفَعَةِ.

وَأَمَّا مَا تَلِفَ مِن الزَّرْعِ فَهُوَ مِن ضَمَانِ مَالِكِهِ، لَا يَضْمَنُهُ لَهُ رَبُّ الْأَرْضِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ

(1)

.

وَقَد اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَو نَقَصَت الْمَنْفَعَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ بِالْعَقْدِ: كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْفَسْخُ، كَمَا لَو اسْتَأْجَرَ طَاحُونًا أَو حَمَّامًا أَو بُسْتَانًا لَهُ مَاءٌ مَعْلُومٌ، فَنَقَصَ ذَلِكَ الْمَاءُ نَقْصًا فَاحِشًا عَمَّا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ.

بِخِلَافِ الْجَائِحَةِ فِي بَيْعِ الثِّمَارِ فَإِنَّ فِيهَا نِزَاعًا مَشْهُورًا، فَلَو اشْتَرَى ثَمَرًا قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ كَانَ مِن ضَمَانِ الْبَائِعِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد.

وَأَمَّا ضَمَانُ الْبَسَاتِينِ عَامًا أَو أَعْوَامًا لِيَسْتَغِلَّهَا الضَّامِنُ بِسَقْيِهِ وَعَمَلِهِ كَالْإِجَارَةِ: فَفِيهَا نِزَاعٌ.

وَكَذَلِكَ إذَا بَدَا الصَّلَاحُ فِي جِنْسٍ مِن الثَّمَرِ كَالتُّوتِ فَهَل يُبَاعُ جَمِيعُ الْبُسْتَانِ؟ فِيهِ نِزَاعٌ.

(1)

فالمَنْفَعةُ مَضْمُونةٌ على المُؤَجِّرِ حتَّى تَنْقَضيَ المُدَّةُ، بخلافِ الزَّرْعِ نَفْسهِ، فإِنَّهُ ليْس مَضْمُونًا عليْهِ.

ص: 295

وَالْأَظْهَرُ جَوَازُ هَذَا وَهَذَا. [30/ 257 - 259]

3882 -

إتْلَافُ الْجَيْشِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ تَضْمِينهُ هُوَ مِن الْآفَاتِ السَّمَاوِيَّةِ كَالْجَرَادِ.

وَإِذَا تَلِفَ الزَّرْعُ بِآفَة سَمَاوِيَّةٍ قَبْلَ تَمَكُّنِ الْآخَرِ مِن حَصَادِهِ: فَهَل تُوضَعُ فِيهِ الْجَائِحَةُ كَمَا تُوضَعُ فِي الثَّمَرِ الْمُشْتَرَى؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ، أَصَحُّهُمَا وَأَشْبَهُهُمَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْعَدْلِ: وَضْعُ الْجَائِحَةِ

(1)

. [30/ 255]

3883 -

إِن اشْتَرَى ثَمَرًا قَد بَدَا صَلَاحُهُ فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ أَتْلَفَتْهُ قَبْلَ كَمَالِ صَلَاحِهِ: فَإِنَّهُ يَتْلَفُ مِن ضَمَانِ الْبَائِعِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ.

وَقَد تَنَازَعَ الْفُقَهَاء: هَل يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا قَبْلَ الْجِذَاذِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَن أحْمَدَ:

أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ لِلْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ، إذ لَو كَانَت مَقْبُوضَةً لَكَانَت مِن ضَمَانِهِ.

وَالثَّانِي: يَجُوزُ بَيْعُهَا وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهَا الْقَبْضَ الْمُبِيحَ لِلتَّصَرُّفِ، وَإِن لَمْ يَقْبِضْهَا الْقَبْضَ النَّاقِلَ لِلضَّمَانِ؛ كَقَبْضِ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ فَإِنَّهُ إذَا قَبَضَهَا جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي الْمَنَافِعِ، وَإِن كَانَت إذَا تَلِفَتْ تَكُونُ مِن ضَمَانِ الْمُؤَجِّرِ.

لَكِنْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ: هَل لَهُ أنْ يُؤَجِّرَهَا بِأَكْثَرِ مِمَّا اسْتَأْجَرَهَا بِهِ؟

قِيلَ: يَجُوزُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ.

وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ؛ لِأَنَّهُ رِبْحٌ فِيمَا لَمْ يُضْمَن؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَمْ يَضْمَنْهَا.

(1)

قال الشيخ في موضع آخر: إذَا تَلِفَ الثَّمَرُ بِجَرَادٍ أَو نَحْوِهِ مِن الْآفَاتِ السَّمَاوِيَّةِ، كَنَهْبِ الْجُيُوشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: فَإِنَّهُ يَجِبُ وَضْعُ الْجَائِحَةِ عَن الْمُسْتَأْجِرِ الْمُشْتَرِي، فَيُحطُّ عَنْهُ مِن الْعِوَضِ بِقَدْرِ مَا تَلِفَ مِن الْعِوَضِ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا أو صَحِيحًا. (30/ 309)

ص: 296

وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهَا مَضْمونَةٌ عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ، بِمَعْنَى: أَنَّهُ إذَا لَمْ يَسْتَوْفِهَا تَلِفَتْ مِن ضَمَانِهِ لَا مِن ضَمَانِ الْمُؤَجِّرِ، كَمَا لَو تَلِفَ الثَّمَرُ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ وَالتَّمَكُّنِ مِن جِذَاذِهِ.

وَلَكِنْ إذَا تَلِفَت الْعَيْنُ الْمُؤَجَّرَةُ: كَانَت الْمَنَافِعُ تَالِفَةً مِن ضَمَانِ الْمُؤَجّرِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِن اسْتِيفَائِهَا؛ فَيُفَرَّقُ بَيْنَ مَا قَبْلَ التَّمَكُّنِ وَبَعْدَهُ.

وَأَمَّا إذَا اسْتَأْجَرَ أَرضًا لِلِازْدِرَاعِ فَأَصَابَتْهَا آفَةٌ: فَإِذَا تَلِفَ الزَّرْعُ بَعْدَ تَمَكُّنِ الْمُسْتَأْجِرِ مِن أَخْذِهِ؛ مِثْل أَنْ يَكُونَ فِي الْبَيْدَرِ فَيَسْرِقَهُ اللَّصُّ أَو يُؤَخِّرَ حَصَادَهُ عَن الْوَقْتِ حَتَّى يَتْلَفَ، فَهُنَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ الْأُجْرَةُ.

وَأَمَّا إذَا كَانَت الْآفَةُ مَانِعَةً مِن الزَّرْعِ فَهُنَا لَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ بِلَا نِزَاعٍ.

وَأَمَّا إذَا نَبَتَ الزَّرْعُ وَلَكِنَّ الْآفَةَ مَنَعَتْهُ مِن تَمَامِ صَلَاحِهِ؛ مِثْل نَارٍ أَو رِيحٍ أَو بَرْدٍ أَو غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُفْسِدُهُ بِحَيْثُ لَو كَانَ هُنَاكَ زَرْعٌ غَيْرُهُ لَأَتْلَفَتْهُ، فَهُنَا فِيهِ قَوْلَانِ: أَظْفُرُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِن ضَمَانِ الْمُؤَجِّرِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآفَةَ أَتْلَفَت الْمَنْفَعَةَ الْمَقْصُودَةَ بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ الْمَنْفَعَةُ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا الزَّرْعُ حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِن حَصَادِهِ، فَإِذَا حَصَلَ لِلْأَرْضِ مَا يَمْنَعُ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ مًطْلَقًا بَطَلَ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِن اسْتِيفَائِهِ.

وَلَيْسَ هَذَا مِثْل أَنْ يُسْرقَ مَالهُ أَو يَحْتَرِقَ مِن الدَّارِ؛ فَإِنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَقْصُودَةَ بِالْعَقْدِ لَمْ تَتَغَيَّرْ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا هُوَ وَغَيْرُهُ بِأَنْ يَحْفَظَهَا مِن اللِّصِّ أَو الْحَرِيقِ.

وَنَظِيرُ ذَلِكَ: أَنْ يَتْلَفَ الْمَالُ الَّذِي اكْتَرَى الدَّابَّةَ لِحَمْلِهِ فَإِنَّ الْأُجْرَةَ عَلَيْهِ.

بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَت الْآفَة مَانِعَةً مِن الِانْتِفَاعِ مُطْلَقًا لَهُ وَلِغَيْرِهِ؛ فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَوْتِ الدَّابَّةِ وَاحْتِرَاقِ الدَّارِ الْمُؤَجَّرَةِ.

وَنَظِيرُ سَرِقَةِ مَتَاعِهِ مِن الدَّارِ: أَنْ يَسْرِقَ سَارِقُ زَرْعَهُ

(1)

.

(1)

فالضمان على المستأجر. =

ص: 297

وَأَمَّا إذَا جَاءَ جَيْشٌ عَامٌّ فَأَفْسَدَ الزَّرْعَ فَهَذِهِ آفَةٌ سَمَاوَّيةٌ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ تَضْمِينُهُ وَلَا الِاحْتِرَازُ مِنْهُ.

وَنَظِيرُهُ: أَنْ يَجِيءَ جَيْشٌ عَامٌّ فَيُخْرِجَ النَّاسَ مِن مَسَاكِنِهِمْ الَّتِي يَسْكُنُونَهَا. [30/ 259 - 263]

3884 -

فَصْلٌ

(1)

: فِي وَضْعِ الْجَوَائِحِ فِي الْمُبَايَعَاتِ وَالضَّمَانَاتِ وَالْمُؤَاجَرَاتِ مِمَّا تَمَسُّ الْحَاجَة إلَيْهِ، وَذَلِكَ دَاخِلٌ فِي قَاعِدَةِ:"تَلَفِ الْمَقْصُودِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِن قَبْضِهِ".

قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29].

وَمِن أَكْلِ أَمْوَال النَّاسِ بِالْبَاطِلِ: أَخذُ أَحَد الْعِوَضَيْنِ بِدُونِ تَسْلِيمِ الْعِوَضِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعُهُودِ وَالْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ هُوَ التَّقَابُضُ، فَكُلٌّ مِن الْعَاقِدَيْنِ يَطْلُبُ مِن الْآخَرِ تَسْلِيمَ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ؛ وَلهَذَا قَالَ تَعَالَى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ} [النساء: 1]؛ أَيْ: تَتَعَاهَدُونَ وَتَتَعَاقَدُونَ، وَهَذَا هُوَ مُوجَبُ الْعُقُودِ وَمُقْتَضَاهَا؛ لِأَنَّ كُلُّا مِن الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْعَقْدِ مَا طَلَبَهُ الْآخَرُ وَسَأَلَهُ مِنْهُ.

وَلِهَذَا نُهِيَ عَن بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ وَإِيجَابٌ عَلَى النُّفُوسِ بِلَا حُصُولِ مَقْصُودٍ لِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَلَا لَهُمَا.

= وَلَو حَالَ بَيْنَ الْمُسْتَأجِرِ وَبَيْنَ المنفعة حَائِلٌ يَخُصُّهُ مِثْل مَرَضِهِ وَنَحْوَهُ: لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْأُجْرَةُ، بخِلَافِ الْعَامِّ فَإِنَّهُ يُسْقِطُ أُجْرَةَ مَا ذَهَبَ بِهِ مِن الْمَنْفَعَةِ. يُنظر (30/ 282).

(1)

أَسهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تقرير هذه القاعدة، وهي: إذا تَلف الْمَقْصُودُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِن قَبْضِهِ بَطَلَ العَقْدُ إنْ كَانَ التَّلَفُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ ضَمَانُهُ، وَإِن كَانَ عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُ فِيهِ الضَّمَانُ: فَلِلْمُشْتَرِي الْفَسْخُ لِأجْلِ تَلَفِهِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِن قَبْضِهِ، وَلَهُ الْإِمْضَاءُ لِإِمْكَانِ مُطَالَبَةِ الْمُتْلِفِ.

وأفرد لها هذا البحث الطويل، الذي يقع في أربعين صفحةً. (30/ 263 - 303)، وقد مرّ مضمون ما فيها، وسأقتصر على أهمها.

ص: 298

وَلِهَذَا حَرَّمَ اللهُ الْمَيْسِرَ الَّذِي مِنْهُ بَيْعُ الْغَرَرِ، وَمِن الْغَرَرِ مَا يُمْكِنُه قَبْضُهُ وَعَدَمُ قَبْضِهِ؛ كَالدَّوَابَّ الشَّارِدَةِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْعَقْدِ -وَهُوَ الْقَبْضُ- غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ.

وَبِهَذَا وَقَعَ التَّعْلِيلُ فِي بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوَّ صَلَاحِهَا؛ كَمَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ"

عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَن بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ، قِيلَ:

وَمَا تُزْهِيَ؟ قَالَ: حَتَّى تَحْمَرَّ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَرَأَيْت إذَا مَنَعَ اللهُ الثَّمَرَةَ

بِمَ يَأْخُدُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟ "

(1)

.

وَهَذَا الْأَصْلُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ فِيهِ نِزَاعٌ، وَهُوَ مِن الْأَحْكَامِ الَّتِي يَجِبُ اتفَاقُ الْأُمَمِ وَالْمِلَلِ فِيهَا فِي الْجُمْلَةِ؛ فَإنَّ مَبْنَى ذَلِكَ عَلَى الْعَدْلِ وَالْقِسْطِ.

وَذَلِكَ أَنَّ الْمُعَاوَضَةَ كَالْمُبَايَعَةِ وَالْمُؤَاجَرَةِ مَبْنَاهَا عَلَى الْمُعَادَلَةِ وَالْمُسَاوَاةِ مِن الْجَانِبَيْنِ لَمْ يَبْذُلْ أَحَدُهُمَا مَا بَذَلَهُ إلَّا لِيَحْصُلَ لَهُ مَا طَلَبَهُ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا آخِذٌ مُعْطٍ طَالِبٌ مَطْلُوبٌ.

فَإِذَا تَلِفَ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِن قَبْضِهِ -مِثْل تَلَفِ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ قَبْلَ التَّمَكنِ مِن قَبْضِهَا وَتَلَفِ مَا بِيعَ بِكيْل أَو وَزْنٍ قَبْلَ تَمْيِيزِهِ بِذَلِكَ وَإِقْبَاضِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ-: لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُؤَجِّرِ أَو الْمُشْتَرِي أَدَاءُ الْأجْرَةِ أَو الثَّمَنِ.

ثُمَّ إنْ كَانَ التَّلَف عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ ضَمَانُهُ -وَهُوَ التَّلَفُ بِأَمْر سَمَاوِيٍّ-: بَطَلَ الْعَقْدُ وَوَجَبَ رَدُّ الثَّمَنِ إلَى الْمُشْتَرِي إنْ كَانَ قَبَضَ مِنْهُ، وَبَرِئَ مِنْهُ إنْ لَمْ يَكُن قَبَضَ.

وإِن كَانَ عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُ فِيهِ الضَّمَانُ وَهُوَ أَنْ يُتْلِفَهُ آدمِيٌّ يُمْكِنُ تَضْمِينُهُ:

(1)

رواه البخاري (2198)، ومسلم (1555).

ص: 299

فَلِلْمُشْتَرِي الْفَسْخُ لِأجْلِ تَلَفِهِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِن قَبْضِهِ

(1)

، وَلَهُ الْإِمْضَاءُ لِإِمْكَانِ مُطَالَبَةِ الْمُتْلِفِ.

فَإِنْ فَسَخَ: كَانَت مُطَالَبَةُ الْمُتْلِفِ لِلْبَائِعِ، وَكَانَ لِلْمُشْتَرِي فطَالَبَةُ الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ إنْ كَانَ قَبَضَهُ، وإِن لَمْ يَفْسَخْ كَانَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ وَلَهُ مُطَالَبَةُ الْمُتْلِفِ، لَكِنَّ الْمُتْلِفَ لَا يُطَالَبُ إلَّا بِالْبَدَلِ الْوَاجِبِ بِالْإِتْلَافِ، وَالْمُشْتَرِي لَا يُطَالِبُ إلَّا بِالْمُسَمَّى الْوَاجِبِ بِالْعَقْدِ.

وَهَذَا الْأَصْلُ مُسْتَقرٌّ فِي جَمِيع الْمُعَاوَضَاتِ إذَا تَلِفَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِن الْقَبْضِ تَلَفًا لَا ضَمَانَ فِيهِ

(2)

: انْفَسَخَ الْعَقْدُ.

وَإِن كَانَ فِيهِ الضَّمَانُ: كَانَ فِي الْعَقْدِ الْخِيَارُ.

وَكَذَلِكَ سَائِر الْوُجُوهِ الَّتِي يَتَعَذَّرُ فِيهَا حُصُولُ الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ مِن غَيْرِ إيَاسٍ؛ مِثْل أَنْ يَغْصِبَ الْمَبِيع أَو الْمُسْتَأجَرَ غَاصِبٌ، أَو يُفْلِسَ الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ، أَو يَتَعَذَّرُ فِيهَا مَا تَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجَةُ مِن النَّفَقَةِ وَالْمُتْعَةِ وَالْقَسْمِ، أَو مَا يَسْتَحِقُّهُ الزوْجُ مِن الْمُتْعَةِ وَنَحْوِهَا.

وَلَا يُنْتَقَضُ هَذَا بِمَوْتِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَمَامُ الْعَقْدِ وَنهَايَتُهُ، وَلَا بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ لِأنَّ نَفْسَ حُصُولِ الصِّلَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَحَدُ مَقْصُودَي الْعَقْدِ؛ وَلهَذَا ثَبَتَتْ بِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ فِي غَيْرِ الرَّبِيبَةِ.

‌فَصْلٌ

وَالْأصْلُ فِي أَنَّ تَلَفَ الْمَبِيع وَالْمُسْتَأْجَرِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِن قَبْضِهِ يَنْفَسِخُ بِهِ الْعَقْدُ مِن السُّنَّةِ: مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ"

(3)

عَن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَو بِعْت مِن أَخِيك ثَمَرًا فَأصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، بِمَ تَأخُذُ مَالَ أَخِيك بِغَيْرِ حَقٍّ؟ ".

(1)

أمَّا إنْ أتلفه بعد التمكن من قبضه فالضمان على المستأجر والمشتري كما تقدم.

(2)

أي: لا يُمكن تضمين المُتلف.

(3)

(1554).

ص: 300

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ.

وَالْعُلَمَاءُ وإِن تَنَازَعُوا فِي حُكْمِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ تَلَفَ الْمَبِيع قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِن الْقَبْضِ يُبْطِلُ الْعَقْدَ وَيُحَرِّمُ أَخْذَ الثَّمَنِ: فَلَسْت أَعْلَمُ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا صَحِيحًا صَرِيحًا فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَهِيَ: "أنَّ تَلَفَ الْمَبِيع قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِن الْقَبْضِ يُبْطِلُ الْعَقْدَ" غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ.

وَاَلَّذِينَ يُنَازِعُونَ فِي وَضْعِ الْجَوَائِحِ لَا يُنَازِعُونَ فِي أَنَّ الْمَبِيع إذَا تَلِفَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِن الْقَبْضِ يَكُونُ مِن ضَمَانِ الْبَائِعِ.

وَأَمَّا النِّزَاعُ فِي أَنَّ تَلَفَ الثَّمَرِ قَبْلَ كَمَالِ صَلَاحِهِ: تَلَفٌ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِن الْقَبْضِ أَمْ لَا؟ فَإِنَّهُمْ

(1)

يَقُولُونَ: هَذَا تَلِفَ بَعْدَ قَبْضِهِ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ حَصَلَ بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَبَيْنَهُ؛ فَإِنَّ هَذَا قَبْضُ الْعَقَارِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ بِالِاتِّفَاقِ؛ وَرلأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، وَجَوَازُ التَّصَرّفِ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الْمَبِيع قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ، فَهَذَا سِرُّ قَوْلِهِمْ.

وَأَمَّا قَوْلُهُم: إنَّهُ تَلِفَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَمَمْنُوعٌ؛ بَل نَقُولُ: ذَلِكَ تَلفٌ قَبْلَ تَمَامِ الْقَبْضِ وَكَمَالِهِ؛ بَل وَقَبْلَ التَّمَكُّنِ مِن الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ عَلَيْهِ تَمَامُ التَّرْبِيَةِ مِن سَقْيِ الثَّمَرِ، حَتَّى لَو تَرَكَ ذَلِكَ لَكَانَ مُفَرِّطًا، وَلَو فُرِضَ أَنَّ الْبَائِعَ فَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِن التَّخْلِيَةِ فَالْمُشْتَرِي إنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَقْبِضَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ الْمُعْتَادِ، فَقَد وُجِدَ التَّسْلِيمُ دُونَ تَمَامِ التَّسَلُّمِ.

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُم بِأَنَّ الْقَبْضَ هُوَ التَّخْلِيَةُ: فَالْقَبْضُ مَرْجِعُهُ إلَى عُرْفِ النَّاسِ، حَيْثُ لَمْ يَكُن لَه حَدٌّ فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الشَّرْعِ.

وَقَبْضُ ثَمَرِ الشَّجَرِ لَا بُدَّ فِيهِ مِن الْخِدْمَةِ وَالتَّخْلِيَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ إلَى كَمَالِ الصَّلَاحِ، بِخِلَافِ قَبْضِ مُجَرَّدِ الْأصُولِ.

(1)

أي: الذين لا يرون وضع الجوائح كالشافعي في الجديد وأبي حنيفة رحمهم الله تعالى.

ص: 301

وَتَخْلِيَةُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ: الْمَنَافِعُ فِي الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ.

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُم بِجَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِالْبَيْعِ، فَعَن أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ:

إحْدَاهُمَا: لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مَا دَامَ مَضْمُونًا عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَمْ يُقْبَضْ فَلَا يَجُوزُ، وَعَلَى هَذَا يُمْنَعُ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ.

وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: يَجُوزُ التَّصَرُّفُ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنَافِعِ الْإِجَارَةِ بِأَنَّهَا لَو تَلِفَتْ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ كَانَت مِن ضَمَانِ الْمُؤَجِّرِ بِالِاتِّفَاقِ، وَمَعَ هَذَا فَيَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهَا قَبْلَ الْقَبْضِ.

وَعَلَى هَذَا فَعِنْدَنَا لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ جَوَازِ التَّصَرُّفِ وَالضَّمَانِ

(1)

.

‌فَصْلٌ

وَالْجَوَائِحُ مَوْضُوعَةٌ فِي جَمِيعِ الشَّجَرِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ.

‌فَصْلٌ

هَذَا إذَا اشْتَرَى الثَّمَرَةَ وَالزَّرْعَ، فَإِن اشْتَرَى الْأَصْلَ بَعْدَ ظُهُورِ الثَّمَرِ أَو قَبْلَ التَّأْبِيرِ، وَاشْتَرَطَ الثَّمَرَ فَلَا جَائِحَةَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا.

وَذَلِكَ لِأَنَّهُ هُنَا حَصَلَ الْقَبْضُ الْكَامِلُ بِقَبْضِ الْأَصْلِ؛ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ سَقْيٌ وَلَا مَئُونَةٌ أَصْلًا؛ فَإِنَّ الْمَبِيع عَقَارٌ، وَالْعَقَارُ قُبِضَ بِالتَّخْلِيَةِ، وَالثَّمَرُ دَخَلَ ضِمْنًا وَتَبَعًا، فَإِذَا جَازَ بَيْعُهُ قَبْلَ صَلَاحِهِ جَازَ هُنَا تَبَعًا، وَلَو بِيعَ مَقْصُودًا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ قَبْلَ صَلَاحِهِ.

‌فَصْلٌ

هَذَا الْكَلَامُ فِي الْبَيْعِ الْمَحْضِ لِلثَّمَرِ وَالزَّرْعِ.

وَأَمَّا الضَّمَان وَالْقَبَالَةُ، وَهُوَ أَنْ يَضْمَنَ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ جَمِيعًا بِعِوَضٍ

(1)

وهو الذي رجحه الشيخ وقال: وَأصُولُ الشَّرِيعَةِ تُوَافِقُ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ. (29/ 401)

ص: 302

وَاحِدٍ لِمَن يَقُومُ عَلَى الشَّجَرِ وَالْأَرْضِ وَيَكُونُ الثَّمَرُ وَالزَّرْعُ لَهُ: فَهَذَا الْعَقْدُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَنْصُوصٌ عَن أَحْمَدَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيَّ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ فِي ذَلِكَ تَبَعًا لِلثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ.

وَالثَّانِي: يَجُوزُ إذَا كَانَت الْأَرْضُ هِيَ الْمَقْصُودَة، وَالشَّجَرُ تَابعٌ لَهَا؛ بِأَنْ يَكُونَ شَجَرًا قَلِيلًا، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ.

وَالثَّالِثُ: جَوَازُ ذَلِكَ مُطْلَقًا، قَالَهُ طَائِفَةٌ مِن أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مِنْهُم ابْن عَقِيلٍ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّ إجَارَةَ الْأَرْضِ جَائِزَةٌ وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إلَّا بِإِدْخَالِ الشَّجَرِ فِي الْعَقْدِ، فَجَازَ لِلْحَاجَةِ تَبَعًا.

وَأَمَّا إذَا جَعَلْنَا الضَّمَانَ صَحِيحًا: فَإِنَّا نَقُولُ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ فِيهِ، كَمَا نَقُولُهُ فِي الشِّرَاءِ وَأَوْلَى أَيْضًا.

‌فَصْلٌ

وَأَمَّا الْجَوَائِحُ فِي الْإِجَارَةِ فَنَقُولُ: لَا نِزَاعَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّ مَنَافِعَ الْإِجَارَةِ إذَا تَعَطَّلَتْ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِن اسْتِيفَائِهَا سَقَطَت الْأُجْرَةُ.

وَتَعَطُّلُ الْمَنْفَعَةِ يَكونُ بِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: تَلَفُ الْعَيْنِ كَمَوْتِ الْعَبْدِ وَالدَّابَّةِ الْمُسْتَأْجَرَةِ.

وَالثَّانِي: زَوَالُ نَفْعِهَا بِأَنْ يَحْدُثَ عَلَيْهَا مَا يَمْنَعُ نَفْعَهَا؛ كَدَارٍ انْهَدَمَتْ، وَأَرْضٍ لِلزَّرْعِ غَرِقَتْ، أَو انْقَطَعَ مَاؤُهَا.

فَهَذِهِ إذَا لَمْ يَبْقَ فِيهَا نَفْعٌ: فَهِيَ كَالتَّالِفَةِ سَوَاءً لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ أَحَدٍ مِن الْعُلَمَاءِ.

وَإِن زَالَ بَعْضُ نَفْعِهَا الْمَقْصُودِ وَبَقِيَ بَعْضُهُ؛ مِثْل أَنْ يُمْكِنَهُ زَرْعُ الْأَرْضِ بِغَيْرِ مَاءٍ وَيَكُونُ زَرْعًا نَاقِصًا، وَكَانَ الْمَاءُ يَنْحَسِرُ عَن الْأَرْضِ الَّتِي غَرِقَتْ عَلَى

ص: 303

وَجْهٍ يَمْنَعُ بَعْضَ الزِّرَاعَةِ أَو نُشُوءَ الزَّرْعِ: مَلَكَ فَسْخَ الْإِجَارَةِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ كَالْعَيْبِ فِي الْبَيْعِ، وَلَمْ تَبْطُلْ بِهِ الْإِجَارَةُ.

وَإِن تَعَطَّلَ نَفْعْهَا بَعْضَ الْمُدَّةِ: لَزِمَهُ مِن الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا انْتَفَعَ بِهِ كَمَا قَالَ الخرقي.

فَإِنْ جَاءَ أَمْرٌ غَالِبٌ يَحْجُرُ الْمُسْتَأْجِرَ عَن مَنْفَعَةِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ: لَزِمَهُ مِن الْأُجْرَةِ بِمِقْدَارِ مُدَّةِ انْتِفَاعِهِ.

‌فَصْلٌ

إذَا تَبَيَّنَ هَذَا: فَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَرضى لِلزَّرْعِ فَقَد يَنْقَطِعُ الْمَاءُ عَنْهَا أَو تَغْرَقُ قَبْلَ الزَّرْعِ

(1)

، أَو يُصِيبُ الزَّرْعَ آفَةٌ بَعْدَ زَرْعِهَا وَقَبْلَ وَقْتِ الْحَصَادِ، فَمَا الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ؟

الْمَنْصُوصُ عَن أَحْمَدَ وَالْأَصْحَابِ وَغَيْرِهِمْ فِي انْقِطَاعِ الْمَاءِ: أَنَّ انْقِطَاعَهُ بَعْدَ الزَّرْعِ كَانْقِطَاعِهِ قَبْلَهُ، إنْ حَصَلَ مَعَهُ بَعْضُ الْمَنْفَعَةِ وَجَبَ مِن الْأُجْرَةِ بِقِسْطِ ذَلِكَ

(2)

. وَهَذَا نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: حُصُولُ الْمَنْفَعَةِ فِي بَعْضِ زَمَنِ الْإِجَارَةِ أَو بَعْضِ أَجْزَاءِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، فَهَذَا تَسْقُطُ فِيهِ الْأُجْرَةُ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ وَيَجِبُ بِقِسْطِ مَا حَصَلَ مِن الْمَنْفَعَةِ، وَتَكُونُ الْأُجْرَةُ مَقْسُومَةً عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ؛ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَد يَكُونُ مُتَمَاثِلًا وَقَد يَكُونُ مُخْتَلِفًا، بِأَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْأَرْضِ خَيْرًا مِن بَعْضٍ، وَكَرْيُ بَعْضِ فُصُولِ السُّنَّةِ أَغْلَى مِن بَعْضٍ.

وَالثَّانِي: نَقْصُ الْمَنْفَعَةِ فِي نَفْسِ الْمَكَانِ الْوَاحِدِ وَالزَّمَانِ الْوَاحِدِ؛ مِثْل أَنْ يَقِلَّ مَاءُ السَّمَاءِ عَن الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ أَو يَحْصُلُ غَرَقٌ يُنْقِصُ الزَّرْعَ وَنَحْو ذَلِكَ، فَهُنَا لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:

(1)

في الأصل هنا: وَقَد يَنْقَطِعُ الْمَاءُ عَنْهَا أو تَغْرَقُ .. وهي زيادة كما نبَّه عليها صاحب كتاب: صيانة فتاوى شيخ الإسلام.

(2)

فعَلَيْهِ مِن الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا حَصَلَ لَهُ مِن الْمَنْفَعَةِ.

ص: 304

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إلَّا الْفَسْخَ.

وَالثَّانِي -وَهُوَ مُقْتَضَى الْمَنْصُوصِ وَقِيَاس الْمَذْهَب-: أَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَبَيْنَ الْأَرْشِ كَالْبَيْعِ؛ بَل هُوَ فِي الْإِجَارَةِ أَوْكَدُ؛ لِأَنّهُ فِي الْبَيْعِ يُمْكِنُهُ الرَّدُّ وَالْمُطَالَبَةُ بِالثَّمَنِ، وَهُنَا لَا يُمْكِنُهُ رَدُّ جَمِيعِ الْمَنْفَعَةِ فَإِنَّهُ لَا يَرُدُّهَا إلَّا مُتَغَيِّرَةً.

فَلَو قِيلَ هُنَا: إنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلَّا الْمُطَالَبَةُ بِالْأَرْشِ، كَمَا نَقُولُ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: إنَّ تَعَيُّبَ الْمَبِيع عِنْدَ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ الْقَدِيمِ وَيُوجِبُ الْأَرْشَ: لَكَانَ ذَلِكَ أَوْجَهَ وَأَقْيَسَ مِن قَوْلِ مَن يَقُولُ: لَيْسَ لَهُ إذَا تَعَقَّبَ الْمَنْفَعَةَ إلَّا الرَّدُّ دُونَ الْمُطَالَبَةِ بِالْأَرْشِ، فَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ جِدًّا بَعِيدٌ عَن أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَقَوَاعِدِ الْمَذْهَبِ.

وَعَلَى هَذَا فَإِذَا حَصَلَ مِن الضَّرَرِ- كَالْبَرْدِ الشَّدِيدِ وَالْغَرَقِ وَالْهَوَاءِ الْمُؤْذِي وَالْجَرَادِ وَالْجَلِيدِ وَالْفَأْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - مَا نَقَّصَ الْمَنْفَعَةَ الْمَقْصُودَةَ الْمُعْتَادَةَ الْمُسْتَحَقَّةَ بِالْعَقْدِ: فَيُصْنَعُ فِي ذَلِكَ كَمَا يُصْنَعُ فِي أَرْشِ الْمَبِيع الْمَعِيبِ: تُنْظَرُ قِيمَةُ الْأَرْضِ بِدُونِ تِلْكَ الْآفَةِ، وَقِيمَتُهَا مَعَ تِلْكَ الْآفَةِ، وَيُنْسَبُ النَّقْصُ إلَى الْقِيمَةِ الْكَامِلَةِ، وَيُحَطُّ مِن الْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ بِقَدْرِ النَّقْصِ.

كَأَنْ تَكُونَ أُجْرَتُهَا مَعَ السَّلَامَةِ تُسَاوِي أَلْفًا، وَمَعَ الْآفَةِ تُسَاوِي ثَمَانِمِائَةٍ؛ فَالْآفَةُ قَد نَقَّصَتْ خُمْسَ الْقِيمَةِ؛ فَيُحَطُّ خُمْسُ الْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ.

وَكَذَلِكَ فِي جَائِحَةِ الثَّمَرِ: يُنْظَرُ كَمْ نَقَصَتْهُ الْجَائِحَةُ؟ هَل نَقَصَتْهُ ثُلُثَ قِيمَتِهِ أَو رُبْعَهَا أَو خُمْسَهَا؟ يُحَطُّ عَنْهُ مِن الثَّمَنِ بِقَدْرِهِ.

وَكَذَلِكَ لَو تَغَيَّرَ الثَّمَرٌ وَعَابَ: نُظِرَ كَمْ نَقَصَهُ ذَلِكَ الْعَيْبُ مَن قِيمَتِهِ وَحُطَّ مِن الثَّمَنِ بِنِسْبَتِهِ.

وَأَمَّا مَا قَد يَتَوَهَّمُهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ جَائِحَةَ الزَّرْعِ فِي الْأَرْضِ الْمُسْتَأجَرَةِ تُوضَعُ مِن رَبَّ الْأَرْضِ، أَو يُوضَعُ مِن رَبِّ الْأَرْضِ بَعْضُ الزَّرْعِ قِيَاسًا عَلَى جَائِحَةِ الْمَبِيع فِي الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ: فَهَذَا غَلَطٌ؛ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ لِلثَّمَرِ وَالزَّرْعِ مَلَكَ

ص: 305

بِالْعَقْدِ نَفْسَ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ، فَإِذَا تَلِفَتْ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِن الْقَبْضِ تَلِفَتْ مِن مِلْك الْبَائِعِ.

وَأَمَّا الْمُسْتَأْجِرُ فَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ الِانْتِفَاعَ بِالْأَرْضِ، وَأَمَّا الزَّرْعُ نَفْسُهُ فَهُوَ مِلْكُهُ الْحَادِثُ عَلَى مِلْكِهِ، لَمْ يَمْلِكْهُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَإِنَّمَا مَلَكَ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ الْمَنْفَعَةَ الَّتِي تُنْبِتُهُ إلَى حِينِ كَمَالِ صَلَاحِهِ. [30/ 263 - 301]

3885 -

الْمَنْفَعَةُ الَّتِي لَا قِيمَةَ لَهَا فِي الْعَادَةِ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْيَانِ الَّتِي لَا قِيمَةَ لَهَا، لَا يَصِحُّ أَنْ يَرِدَ عَلَى هَذِهِ عَقْدُ إجَارَةٍ، وَلَا عَلَى هَذِهِ عَقْدُ بَيْعٍ بِالِاتِّفَاقِ؛ كَالِاسْتِظْلَالِ وَالِاسْتِضَاءَةِ مِن بَعْدُ. [30/ 305]

3886 -

إجَارَةُ الْأَرْضِ الْمُعَيَّنَةِ جَائِزَةٌ وَإِن لَمْ يَعْلَمْ ذَرِعَاتِهَا، كَمَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَبَيْعُ سَائِر الْمُعَيَّنَاتِ وَإِن لَمْ يُعْلَمْ مِقْدَارُهَا.

فَإِنَّ بَيْعَ الْعَيْنِ جُزَافًا جَائِزٌ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، كَمَا ثَبَتَ عَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَجَازَ بَيْعَ الشُّرَكِ فِي الْأَرْضِ الرَّبعَةِ وَالْحَائِطِ، وَبَيْعَ الثَّمَرِ عَلَى الشَّجَرِ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، وَأَقَرَّهُم عَلَى بَيْعِ الطَّعَامِ جُزَافًا.

ثُمَّ إذَا تَعَطَّلَتْ مَنْفَعَتُهَا بِغَرَق أَو غَيْرِهِ: لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أُجْرَةُ مَا تَعَطَّلَ مِن الْمَنْفَعَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. [30/ 307]

3887 -

وَسُئِلَ: عَن رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ قَرْيَةً وَغَلَبَ عَلَى أَرْضِهَا الْمَاءُ بِسَبَبِ أَنَّهُ انْكَسَرَ عَلَيْهِ نَهْرٌ وَعَجَزُوا عَن رَدِّهِ، فَهَل يَسْقُطُ عَنْهُم مِن الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا غَرِقَ؟

فَأَجَابَ: لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ، وَلَهُ أَنْ يَحُطَّ مِن الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِن الْمَنْفَعَةِ.

وَمَن حَكَمَ بِلُزُومِ الْعَقْدِ وَجَمِيعِ الْأُجْرَةِ: فَقَد حَكَمَ بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ وَلَا ينفُذُ حُكْمُهُ. [30/ 308]

3888 -

إذَا اسْتَأْجَرَ مَا تَكُونُ مَنْفَعَةُ إيجَارِهِ لِلنَّاسِ؛ مِثْل الْحَمَّامِ وَالْفُنْدُقِ

ص: 306

والقيسارية

(1)

وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَنَقَصَت الْمَنْفَعَةُ الْمَعْرُوفَةُ؛ مِثْل أَنْ يَنْتَقِلَ جِيرَانُ الْمَكَانِ، وَيَقِلَّ الزَّبُونُ لِخَوْفٍ أَو خَرَابٍ أَو تَحْوِيلِ ذِي سُلْطَانٍ لَهُم وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَإِنَّهُ يُحَطُّ مِن الْمُسْتَأْجِرِ مِن الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِن الْمَنْفَعَةِ الْمَعْرُوفَةِ. [30/ 311]

3889 -

إنَّ الْإِجَارَةَ الْجَائِزَةَ إذَا تَلِفَتْ فِيهَا الْمَنْفَعَةُ سَقَطَت الْأُجْرَةُ الَّتِي تُقَابِلُهَا، وَكَذَلِكَ لَو نَقَصَتْ -عَلَى الصَّحِيحِ- فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِن الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِن الْمَنْفَعَةِ، فَقَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيح" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بوَضْعِ الْجَوَائِحِ وَقَالَ:"إذَا بِعْت مِن أَخِيك بَيْعًا فَأَصَابَتْهُ جائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَأْخُذَ مِن مَالِ أَخِيك شَيْئًا، بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ؟ "

(2)

.

وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ قُبِضَتْ وَلَمْ تُقْبَضْ قَبْضًا تَامًّا بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ الْقَابِضُ مِن جِذَاذِهَا، كَمَا أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ إذَا قَبَضَ الْعَيْنَ لَمْ يَحْصُل الْقَبْضُ التَّامُّ الَّذِي يَتَمَكَّنُ بِهِ مِن اسْتِيفَاءِ جَمِيعِ الْمَنْفَعَةِ، فَإِذَا تَلِفَت الْمَنْفَعَةُ قَبْلَ تَمَكُّنِهِ مِن اسْتِيفَائِهَا سَقَطَت الْأُجْرَةُ، فَكَذَلِكَ إذَا تَلِفَت الثَّمَرَةُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِن الْجِذَاذِ سَقَطَ الثَّمَنُ.

فَهُنَا الْمُسْتَأْجِرُ لِلْبُسْتَانِ إذَا قُدّرَ أَنَّه حَصَلَتْ آفَةٌ مَنَعَت الْأَرْضَ عَن الْمَنْفَعَةِ الْمُعْتَادَةِ، كَمَا لَو نَقَصَ مَاءُ الْمَطَرِ وَالْأَنْهَارِ حَتَّى نَقَصَت الْمَنْفَعَةُ عَن الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ لَا بُدَّ أَنْ يَبْقَى عَلَى الَّذِي يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ، فَإِذَا خَرَجَ عَن هَذِهِ الْحَالِ: كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ إمَّا الْفَسْخُ وَإِمَّا الْأَرْشُ، وَلَيْسَ مِن بَابِ وَضْعِ الْجَائِحَةِ فِي الْمُمْتَنِعِ، كَمَا فِي الثَّمَرِ الْمُشْتَرَى؛ بَل هُوَ مِن بَابِ تَلَفِ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ بِالْعَقْدِ أَو فَوَاتِهَا.

وَهُنَا الْمُسْتَأْجِرُ لِلْبُسْتَانِ كَالْمُسْتَأْجِرِ لِلْأَرْضِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ. [30/ 233 - 236]

3890 -

جوَّز شيخنا إجارة الشجر مطلقًا ويقوم عليها المستأجر كأرض الزرع.

(1)

هي الثكنة؛ أي: بناءٌ لسكن الجنود.

(2)

رواه مسلم (1554).

ص: 307

فإن تلفت الثمرة: فلا أجرة، وإن نقصت عن العادة: فالفسخ أو الأرش لعدم المنفعة المقصودة بالعقد، وهو كجائحة.

ومتى فسد العقد: فالثمرة والبذر لربه وعليه الأجرة. [المستدرك 4/ 44]

3891 -

اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِي الْإِجَارَةِ إذَا تَلِفَتْ قَبْلَ التَّمَكُنِ مِن اسْتِيفَائِهَا فَإِنَّهُ لَا تَجِبُ أُجْرَةُ ذَلِكَ؛ مِثْل أَنْ يَسْتَأْجِرَ حَيَوَانًا فَيَمُوتَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِن الِانْتِفَاعِ، وَكَذَلِكَ الْمَبِيع إذَا تَلِفَ قَبْلَ التَّمَكنِ مِن قَبْضِهِ؛ مِثْل أَنْ يَشْتَرِيَ قَفِيزًا مِن صُبْرَةٍ فَتَتْلَفُ الصُّبْرَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالتَّمْيِيزِ كَانَ ذَلِكَ مِن ضَمَانِ الْبَائِعِ بِلَا نِزَاعٍ.

لَكِنْ تَنَازَعُوا فِي تَلَفِهِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِن الْقَبْضِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ؛ كَمَن اشْتَرَى مَعِيبًا وَمُكِّنَ مِن قَبْضِهِ، وَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَضْمَنُهُ؛ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ؛ لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: "مَضَت السُّنَّةُ أَنَّ مَا أَدْرَكَتْهُ الصَّفْقَةُ حَيًّا

(1)

مَجْمُوعًا فَهُوَ مِن مَالِ الْمُشْتَرِي"

(2)

.

وَالثَّانِي: يَضْمَنُهُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، لَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ يَسْتَثْنِي الْعَقَارَ.

وَمَعَ هَذَا فَمَذْهَبُهُ أَنَّ التَّخْلِيَةَ قَبْضٌ كَقَوْلِ أَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.

فَيَتَقَارَب مَذْهَبُهُ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ: أَنَّ مَا يَتْلَفُ مِن ضَمَانِ الْبَائِعِ؛

(1)

في الأصل: (حَبًّا)، والتصويب من كتب المصادر الحديثية.

(2)

يعني: ما أدركته الصفقة غير محتاج إلى أن يستوفى، فهو من ضمان المشتري. الشرح الممتع (8/ 381).

وقول ابن عمر رضي الله عنهما أخرجه البخاريُّ معلقًا بصيغة الجزم في البيوع، باب إذا اشترى متاعًا أو دابة فوضعه عند البائع، دون قوله:"مضت السُّنَّة"؛ ووصله الدارقطني (3006) موقوفًا على ابن عمر رضي الله عنهما، وصحح الحافظ ابن حجز في "تغليق التعليق"(3/ 242) إسناده إليه، وصحح وقفه أبو حاتم كما في "العلل"(1182).

ص: 308

لِمَا ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ"

(1)

عَن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إذَا بِعْت مِن أَخِيك ثَمَرَةً فَأَصَابَتْهَا جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَأْخُذَ مَن مَالِ أَخِيك شَيْئًا، بِمَ يَأْخُدُ أَحَدُكمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ؟ ".

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْمَشْهُورُ عَنْهُ يَكُونُ مِن ضَمَانِ الْمُشْتَرِي إذَا تَلِفَ بَعْدَ الْقَبْضِ.

وَأَمَّا أبُو حَنِيفَةَ فَمَذْهَبُهُ أَنَّ التَّبْقِيَةَ لَيْسَتْ مِن مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهَا.

وَالْأَوَّلُونَ يَقُولُونَ: قَبْضُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَبْضِ الْمَنْفَعَةِ فِي الْإِجَارَاتِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِقَبْض تَامَّ يَنْقُلُ الضَّمَانَ؛ لِأَنَّ الْقَابِضَ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِن اسْتِيفَاءِ الْمَقْصُودِ.

وَهَذَا طَرْدُ أَصْلِهِمْ فِي أَنَ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ، وَلِهَذَا يَقُولُونَ: لَو أَنَّ الْمُشْتَرِيَ فَرَّطَ فِي قَبْضِ الثَّمَرَةِ بَعْدَ كَمَالِ صَلَاحِهَا حَتَّى تَلِفَتْ كَانَت مِن ضَمَانِهِ، كَمَا لَو فَرَّطَ فِي قَبْضِ الْمُعَيَّنِ حَتَّى تَلِفَ.

وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الْمُنَاسَبَةِ وَالتَّأْثِيرِ؛ فَإِنَّ الْبَائِعَ إذَا لَمْ يَكُن مِنْهُ تَفْرِيطٌ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا التَّفْرِيطُ مِن الْمُشْتَرِي: كَانَ إحَالَةُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُفَرِّطِ أَوْلَى مِن إحَالَتِهِ عَلَى مَن قَامَ بمَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَلَمْ يُفَرِّطْ؛ وَلِهَذَا اتَّفَقُوا عَلَى مِثْل ذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ؛ فَإِنَّ الْمُسْتَأَجِرَ لَو فَرَّطَ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ حَتَّى تَلِفَتْ كَانَت مِن ضَمَانِهِ.

وَلَو تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ كَانَت مِن ضَمَانِ الْمُؤَجِّرِ.

وَفِي الْإِجَارَةِ إذَا لَمْ يَتَمَكَّن الْمُسْتَأجِرُ مِن ازْدِرَاعِ الْأَرْضِ لِآفَة حَصَلَتْ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ.

(1)

رواه مسلم (1554).

ص: 309

وَإِن نَبَتَ الزَّرْعُ ثُمَّ حَصَلَتْ آفَةٌ سَمَاوِيَّةٌ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِن حَصَادِهِ فَفِيهِ نِزَاعٌ

(1)

. [30/ 238 - 239]

* * *

(باب السبق)

3892 -

ظاهر كلام أبي العباس: لا يجوز اللعب المعروف بـ "الطَّاب والْمُنَقَّلَة"

(2)

،

(1)

اختار شيخ الإسلام رحمه الله أنَّ المدار على التمكن من القبض، فما تمكن المشتري من قبضه فعليه، وما لم يتمكن من قبضه فعلى البائع، وقال: إن هذا هو منصوص الإمام أحمد، وكلامه أقيس؛ لأن الثمرة على الشجرة إنما كانت من ضمان البائع؛ لأن المشتري لا يتمكن من قبضها؛ لأن المشتري لن يأخذها جملة بل سيتفكه ويأخذها شيئًا فشيئًا، والمبيع بكيل أو نحوه ما دام لم يكل ولم يعرف مقداره فضمانه على البائع؛ لأن المشتري لا يتمكن من قبضه، وعلى هذا فإنْ بِيْعَ الشيءُ جزافًا فإنه لا يصح بيعه، ولكن إن تلف فمن ضمان المشتري؛ لتمكنه من قبضه. الشرح الممتع (8/ 383).

(2)

الطَّابُ: عَصَى صِغَار، تُرْمَى وَيُنْظَرُ لِلَوْنِهَا لِيُرَتَّبَ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ الَّذِي اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ.

والْمُنَقَّلَةُ: قِطْعَةُ خَشَبٍ يُحْفَرُ فِيهَا حُفَرٌ فِي ثَلَاثَةِ أَسْطُرٍ، يُجْعَلُ فِيهَا حَصّى صِغَارٌ وَيُلْعَبُ بِهَا.

يُنظر: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، للشربيني الشافعي المتوفى (977 هـ)(6/ 347).

اعلم -وفقك الله- أنّ الإسلام حثَّ على ما فيه منفعةٌ لنا في ديننا ودنيانا، وما فيه صلاحنا وقوّتنا وعزّنا، ومن شدّة عِنَايَتِة بذلك أنه أباح لنا المسابقةَ في كلِّ ما يُعين على الجهاد، ولو كانت تشتمل على الميسر، كما قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا سَبَقَ إِلَّا فِي خُفٍّ، أَو نَصْلٍ، أَو حَافِرٍ". رواه الإمام أحمد (10138)، وأبو داود (2574)، والترمذي (1700)، وابن ماجه (2878)، وصحَّحه الألباني.

أي: لا عوض على المسابقة إلا في هذه الثلاثة.

وَالْمُرَادُ بِالنَّصْلِ السَّهَامُ، وبالخف الإبل، وبالحافر الخيل، ويُقَاسُ عَلَيها ما يُشابهها في هذا العصر.

وإذا كانت المصلحةُ والمنفعةُ في الْمُسابقاتِ والألعابِ أقلَّ: فقد أباحها الإسلامُ وحثّ عليها أيضًا، ولكن لَمّا كان نفعُها أقلَّ من الأول، أباحها بشَرط ألا تشتمل على الميسر، وذلك بأن يدفعَ الْمُتسابقون مالًا يأخذه الفائزُ منهم.

فهذا المسابقاتُ والألعابُ تجوز بغير عوض، ولا تجوز إذا كانت بعوضٍ من الطرفين، وذلك في كلّ الألعاب الْمُبَاحَة، كَالْمُصَارَعَةِ والسباحةِ وَالْمُسَابَقَةِ بِالْأقْدَامِ وغيرِها.=

ص: 310

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= أمَّا مَا لا تشتمل على مصلحةٍ دينيّة ولا دنيوبة، فقد منعها الشرع الحكيم، ونهى عنها وحَذَّر منها؛ لأنه يربأ بأتباعه أنْ يُهدروا أوقاتهم، في اللهو واللعب الذي لا ينفعهم.

وهذه الألعاب تعتمد على التخمين والحظ، حيث يفوز اللاعب حظًّا، لا ذكاءً وفطنةً.

فهذه لا يجوز اللعب بها مُطلقًا، ولو كانت بغير عوض.

ودليلُ تحريمها: ما ثبت عَن بُرَيْدَةَ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَن لَعِبَ بِالنَرْدَشِيرِ، فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْم خِنْزِيرٍ وَدَمِه". رواهُ مسلمٌ: (2260).

والنردُ: كما قالَ صاحبُ المعجم الوسيط (2/ 912): "لعبةٌ ذاتُ صندوقٍ وحجارةٍ وفَصَّيْن، تَعْتَمِدُ على الحظِ، وتُنْقَلُ فيها الحجارةُ على حسبِ ما يأتي به الفَصُّ -أيْ: الْمُكَعَّب-، وتُعْرَفُ عند العامةِ بالطاولةِ". اهـ.

فالنَّرد: هي الْمُكَعَّباتُ، فيها نقاطٌ على كلّ جهاتها الست، حيث يرمي بها اللاعب تخمينًا، ويخرج حظه جيّدًا أو لا.

وهذا قول علماء اللغة حسب ما وقفتُ عليه، ولم أقف على من خالف في ذلك، قال الخليل بن أحمد كما في كتابه العين، مادة:(نرد): النَّرْدُ: الكَعْبُ الذي يُلْعَبُ به. ومن لعِبَ بالنَّرْد فكأنّما غَمَسَ يَدَيْهِ في لَحْم الخِنزيرِ. اهـ.

وهو قول ابن الأثير وصاحب القَاموس المحيط، وتاجِ العروس وغيرِهم.

بل نص على ذلك بعض الصَحابة رضي الله عنهم، ولا يُعلم لهمَ مُخالف.

فقد ثبت عن عبد اللهِ بنِ مسعود رضي الله عنه، أنه حذر من اللعب بهذه المكعباتِ حيث قال:"إياكم وهاتين الْكَعْبَتَيْنِ الْمَوْسُومَتَين؛ اللتين تُزْجَران زجرًا؛ فإنهما من الميسر". أخرجهُ البخاري في الأدب المفردِ (1270)، وصحَّحه الألباني في صحيح الأدبِ المفردِ (958).

وثبت عن عبدِ اللهِ بنِ عمرو بنِ العاص رضي الله عنه أنه قالَ: "اللاعبُ بالفصين قمارًا؛ كآكلِ لحمِ الخنزيرِ، واللاعبُ بهما من غيرِ قمارٍ، كالغامسِ يدَهُ في دمِ خنزير". قال العلَّامة الألباني في صحيح الأدب المفردِ (963) صحيحُ الإسنادِ موقوفٌ.

فهذه النصوصُ تدلّ على حرمةِ اللعب بالنردِ، وأنّ النرد هو كلّ لُعبةٍ اشْتملت على الْمُكعبين أو الفصّين، أو ما شابههما في العلّة.

وتدلّ هذه النصوصُ كذلك، على أنّ اللعبَ بالنردِ من الميسر والقمار المحرم، ولو لم يكن بعوضِ، أما لو كان بعوضٍ فالحرمةُ أشدُ وأعظم.

قال الآجري رحمه الله: "واللاعبُ بهذه النرد من غير قمارٍ عاصٍ للهِ عز وجل، يجبُ عليه أن يتوبَ إلى الله من لَهْوِهِ بها، فإنْ لعب بها وقامر فهو أَعظمُ؛ لأنه أَكَلَ الميسرَ وهو القمارُ، وقد نهى اللهُ عز وجل عن الميسرِ، واللعبُ بالنردِ من الميسر لا يختلفُ العلماءُ فيه". اهـ. تحريم النردِ والشطرنج والملاهي (53).

واللعب بالمكعبات لا يستفيد منه اللاعبُ سوى تضييع وفته، وتعطيل عقله، وفساد صحّته، حيث يمكث الأوقاتِ الطويلةَ بلا تحريك أعضائه، ولا تنمية عقله وذكائه.

ومن الأمثلة الْمُعاصرة للنرد: المونوبولي، والسلّم والثعبان، وغيرُها من هذه الألعاب. =

ص: 311

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= ومنها الطاب والمنقلة.

واختلف العلماء في علة تحريم النرد، والذي يظهر أنّ العلة ما نص عليها بعض أهلِ العلم مِن أنّها تعتمد على التخمين والحظ والصّدفة، وليس فيها إعمال للعقل والتفكير.

قال الكمال بن الهمام رحمه الله: "ولَعِبُ الطاب في بلادنا مثلُه -أي: مثلُ النرد-، يُرمى ويُطرح بلا حساب وإعمالِ فكر، وكلُّ ما كان كذلك مما أحدثه الشيطان، وعَمِلَهُ أهلُ الغفلة: فهو حرام، سوَاءٌ قُومر به أم لا" انتهى. شرح فتح القدير 7/ 413).

وقال الرافعي رحمه الله: "وكلُّ ما اعْتَمَدَ على الحساب والفكرِ لا يحرم، وكلُّ ما يعتمد على التخمين يحرم". اهـ. (نهاية المحتاج)(8/ 280).

وعلى هذا: فالألعاب التي تخلو من العوض ولا يترتب عليها تركُ الواجبات: لا تخلو من ثلاث حالات:

الأولى: أن تعتمد على الحظ والتخمين اعتمادًا محضًا، وليس فيها إعمالٌ للفكر والعقل: فهذه لا تجوز.

الثاني: أن تعتمد على إعمال الفكر والعقل اعتمادًا محضًا، لا على الحظ والتخمين، فهذه تجوز.

الثالث: أن تعتمد على إعمال الفكر والعقل مع الحظ والتخمين، فالأصل فيها الجواز.

واللعب بهذه الألعاب التي تعتمد على التخمين والحظ: تُسبب النكد والحسرة، وربما تُؤدّي إلى حدوث الخلافات والبغضاء؛ لأنّ الخاسر يرى أنه ما خسر إلا بسبب سوء حظه، وسوف يكرر اللعبة مرارًا إلى أن يُحالفه الحظ والنصيب، وقد يُؤدّي به ذلك إلى التسخط من القدر، ويرى أنه منزوعُ البركة والخير.

فسيجد في نفسه من الْغضبِ والتسخط الشيءَ الكثير، وهذا ما جاء الإسلام بمحاربته.

وهذا بخلاف الألعاب التيَ تعتمد على الذكاء والقوة، فإنّ اللاعب بها سيتنفع بها في تنمية ذكائه أو علمه أو بدنه، وإذا لعبها مع مَنْ هو أمْهَرُ منه بكثيرٍ وانهزم فإنه سيعترف بهزيمته، ولن يُكرر المحاولة، بل ربما دفعه ذلك إلى المزيد من التعلم وتنشيط ذكائه أو بدنه، وفي هذا فائدة ومصلحة.

وأما الضرر على الفائز، فهو أنه يرى أنه إنما فاز بذكائه وفطنتِه، والواقعُ أنه ما فاز -في الغالب- إلا تخمينًا وصدفةً، ممّا يُؤدي به إلى تعطيلِ عقلِه، وربما غرورِه.

فليس فيها ثمرةٌ ومصلحةٌ للاعبين، لا في تنميةِ عقولهم، ولا في بناء أجسادهم، بل إنَّهَا مِن أعظم أسباب ضررهم وأمراضهم، وذلك لطول جلوسهم، وقلَّةِ حركتهم، وضيقِ صدورهم.

فينبغي على العاقل -إذا ابْتُلي بحب اللعب- أنْ يبحث عن ألعاب نافعةٍ تُنَمِّي العقلَ والْفِكْر.

وقد فَارَقَ النَّرْدُ الشِّطْرَنْجَ: بِأَنَّ مُعْتَمَدَهُ الْحِسَابُ الدَّقِيقُ، وَالْفكْرُ الصَّحِيحُ، فَفِيهِ تَصْحِيحُ الْفِكْرِ، وَنَوْعٌ مِن التَّدْبِيرِ، وَأما مُعْتَمَدُ النَّرْدِ: فهو الْحَزْرُ وَالتَّخْمِينُ الْمُؤَدِّي إلَى غَايَةٍ مِن السَّفَاهَةِ وَالْحُمْقِ.

وَيُقَاسُ بِهِمَا مَا فِي مَعْنَاهُمَا مِن أَنْوَاعِ اللَّهْوِ، وَكُلُّ مَا اعْتَمَدَ الْفِكْرَ وَالْحِسَابَ: لَا يَحْرُمُ، وَكُلُّ مَا مُعْتَمَدُهُ التَّخْمِينُ يَحْرُمُ. يُنظر: حاشية الجمل (5/ 380).

ص: 312

وكل ما أفضى [إلى المحرم كثيرًا حرَّمَه الشارع]

(1)

إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة؛ لأنه يكون سببًا للشر والفساد. [المستدرك 4/ 57]

3893 -

ما ألهى وشغل عما أمر الله به فهو منهي عنه وإن لم يحرم جنسه؛ كالبيع والتجارة وسائر ما يتلهَّى به البطالون من أنواع اللهو وسائر ضروب اللعب مما لا يستعان به على حق شرعي فكله حرام. [المستدرك 4/ 57]

3894 -

روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم

(2)

: "أن عائشة رضي الله عنها وجوارٍ كن يلعبن معها يلعبن بالبنات -وهن اللعب- والنبي صلى الله عليه وسلم يراهن" فيرخص فيه للصغار ما لا يرخص فيه للكبار. [المستدرك 4/ 57]

3895 -

الصراع والسبق بالأقدام ونحوهما طاعة إذا قصد به نصر الإسلام.

وأخذ السَّبَق

(3)

عليه: أخذٌ بالحق.

فالمغالبة الجائزة: تَحِلُّ بالعوض إذا كانت مما ينتفع به في الدين، كما في مراهنة أبي بكر رضي الله عنه، وهو أحد الوجهين في المذهب. [المستدرك 4/ 58]

3896 -

يجوز المسابقة بلا محلل، ولو أخرجه المتسابقان. [المستدرك 4/ 58]

3897 -

يصح شرط السبق للإنشاد وشراء قوس وكراء حانوت وإطعام الجماعة؛ لأنه مما يعين على الرمي. [المستدرك 4/ 58]

3898 -

لا يصح

(4)

تناضلهما على أن السبق لأبعدهما رميًا على الصحيح من المذهب.

وقيل: يصح اختاره الشيخ تقي الدين. قاله في الفائق. [المستدرك 4/ 58]

3899 -

لعب "الكُرَة" إذا كان قصد صاحبه المنفعة للخيل والرجال، بحيث

(1)

في الأصل: (كثيره إلى حرمة)، والمثبت من الاختيارات (233).

(2)

البخاري (6130)، ومسلم (2440)، وأحمد (24298).

(3)

أي: العوض.

(4)

في الأصل: (يصح) بالإثبات، والتصويب من الإنصاف (6/ 93).

ص: 313

يُستعان بها على الكر والفر والدخول والخروج ونحوه في الجهاد، وغرضه الاستعانة على الجهاد الذي أمر الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم فهو حسن.

وإن كان في ذلك مضرة بالخيل والرجال فإنه ينهى عنه. [المستدرك 4/ 58]

3900 -

مسابقة الرمي بالحجارة إن كان فيها منفعة للجهاد وإلا فهي باطل. [المستدرك 4/ 58]

3901 -

أما الرهان على ما فيه ظهور الإسلام وأدلته وبراهينه كما راهن عليه الصديق: فهو أحق الحق وأولى بالجواز من الرهان على النضال، وسباق الخيل والإبل أولى من هذا في الدين وأقوى؛ لأن الدين قام بالحجة والبرهان، وبالسيف.

والقصد الأول: إقامة الحجة، والسيف منفذ.

قالوا: وإذا كان الشارع قد أباح الرهان في الرمي والمسابقة بالخيل والإبل لما في ذلك من التحريض على تعلم الفروسية وإعداد القوة للجهاد فجواز ذلك في المسابقة والمبادرة إلى العلم والحجة الذي به تفتح القلوب ويظهر الإسلام وتظهر أعلامه أولى وأحرى.

وإلى هذا ذهب أصحاب أبي حنيفة وشيخ الإسلام ابن تيمية.

قال أرباب هذا القول: والقمار المحرم هو أكل المال بالباطل فكيف يلحق به أكله بالحق.

قالوا: والصديق لم يقامر قط في جاهلية ولا إسلام، ولا أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم قمار، فضلًا عن أن يأذن فيه.

قال ابن القيم رحمه الله: "المسألة الحادية عشرة": المسابقة على حفظ القرآن والحديث والفقه وغيره من العلوم النافعة والإصابة في المسائل: هل تجوز بعوض؟ منعه أصحاب مالك والشافعي وأحمد، وجوزه أصحاب أبي حنيفة وشيخنا.

ص: 314

إلى أن قال:

وفرقة جوَّزته بغير محلل، قال شيخ الإسلام: وهو مقتضى المنقول عن أبي عبيدة بن الجراح.

قال: وما علمت في الصحابة من اشترط المحلل، وإنما هو معروف عن سعيد بن المسيب وعنه تلقاه عنه الناس؛ ولهذا قال مالك بن أنس: لا تأخذ بقول سعيد بن المسيب في المحلل، ولا يجب المحلل. [المستدرك 4/ 58 - 59]

3902 -

الأعمال التي تكون بين اثنين فصاعدًا يطلب كل منهما أن يغلب الآخر - ثلاثة أصناف:

"صنف" أمر الله به ورسوله كالسباق بالخيل والرمي بالنبل ونحوه من آلات الحرب؛ لأنه مما يعين على الجهاد في سبيل الله.

"والصنف الثاني" ما نهى الله ورسوله عنه بقوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ

} إلى آخر الآية [المائدة: 90].

"النوع الثالث" من المغالبات: ما هو مباح لعدم المضرة الراجحة، وليس مأمورًا به على الإطلاق لعدم احتياج الدين إليه، ولكن قد يقع أحيانًا؛ كالمصارعة والمسابقة على الأقدام ونحوه.

فهذا مباح باتفاق المسلمين إذا خلا عن مفسدة راجحة.

وقد صارع النبي صلى الله عليه وسلم ركانة بن يزيد، وسابق عائشة، وكان أصحابه رضي الله عنهم يتسابقون على أقدامهم بحضرته.

لكن أكثر العلماء لا يجوزون في هذا سَبقًا، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل"

(1)

، ولأن السبق إنما أبيح إعانة على ما أوجبه الله ورسوله من الجهاد.

(1)

رواه أبو داود (2574)، والنسائي (3589)، وابن ماجه (2878)، وأحمد (7482)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.

ص: 315

وأبو حنيفة أباح السبق بالمحلل

(1)

، كما يبيحه في سباق الخيل بناء على أن العمل بنفسه مباح، والسبق عنده من الجعالة، والجعالة تجوز على العمل المباح.

والذي قاله هو القياس، ولو كان السبق من جنس الجعالة فإن الناس قد تنازعوا في جواز الجعالة، وأبطلها طائفة من الظاهرية.

والصواب الذي عليه الجمهور: جوازها، وليست عقدَا لازمًا؛ لأن العمل فيها معلوم.

ولهذا يجوز أن يجعل للطبيب جعلًا على الشفاء؛ كما جعل سيد الحي اللديغ لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حين رقاه أبو سعيد الخدري.

ولا يجوز أن يستأجر الطبيب على الشفاء؛ لأنه غير مقدور عليه.

ومن هنا يظهر فقه "باب السبق"؛ فإن كثيرًا من العلماء اعتقدوا أن السبق إذا كان من الجانبين وليس بينهما محلل: كان هذا من الميسر المحرم، وأنه قمار؛ لأن كلًّا منهما متردد بين أن يغرم أو يغنم، وما كان كذلك فهو قمار.

واعتقدوا أن القمار المحرم إنما حرم لما فيه من المخاطرة والتغرير، وظنوا أن الله حرم الميسر لذلك، وهذا موجود في المتسابقين إذا أخرج كل منهما السبق؛ فحرموا ذلك.

وروي في ذلك حديث ظنَّه بعضهم صحيحًا؛ وهو قوله: "من أدخل فرسًا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فليس بقمار، ومن أدخل فرسًا بين فرسين وهو آمن أن يسبق فهو قمار" ومعلوم أن هذا الحديث ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل هو من كلام سعيد بن المسيب، هكذا رواه الثقات، ورفعه سفيان بن حسين الواسطي وهو ضعيف.

(1)

المقصود بالمحلل: المتسابق المكافئ لبقية المتسابقين الذي لا يبذل عوضًا لمن سبقه، ويأخذ العوض في حال سبقه، فإن غلب أخذ عوضيهما، وإن غلباه لم يُؤخذ منه شيء.

ص: 316

ثم الذين اعتقدوا أن هذه المسابقة بلا محلل قمارٌ تنازعوا بعد ذلك:

- فمنهم من لم يجوِّز العوض بحال.

- ومنهم من جوزه من أحدهما بشرط ألا يرجع إليه بل يعطيه الجماعة إن غلب، وروي ذلك عن مالك وغيره، وهو أصح.

والقياس: لو كانت المسابقة من الطرفين قمارًا محرمًا فإنهم رأوا أن هذه ليست جعالةً يَقْصِد الجاعلُ فيها بدل

(1)

الجعل في عمل ينتفع به، إنما قصد أن يغلب صاحبه فحرموها، وقالوا: دخول المحلل فيها يزيدها شرًّا، وأن المقامرة حرمت لما فيها من أكل المال بالباطل، والمحلل يزيدها شرًّا؛ فإن المتسابقين إذا غلب أحدهما صاحبه فأخذ ماله كان هذا في مقابلة أن الآخر إذا غلبه أخذ ماله، فكان مبناها على العدل، بخلاف المحلل فإنه ظلم محض؛ فإنه بعرضة

(2)

أن يغنم أو يسلم، والآخران قد يغرمان، فلا يستوون في المغنم والمغرم والسلامة؛ بخلاف إذا لم يكن بينهما محلل، فكلاهما قد يغنم وقد يغرم وقد يسلم فيما إذا تساويا وجاءا معًا.

فهذا أقرب إلى العدل، فإذا حرم الأقرب إلى العدل فلأن يحرم الأبعد عنه بطريق الأولى.

فمن تدبر هذه الأمور: علم أن الشريعة منزهة عن مثل هذا: أنْ تحرم الشر لمجرد مفسدة قليلة وتبيحها بالمفسدة عينها إذا كثرت، ولكن أصحاب الحيل كثيرًا ما يقعون في هذا، فيحرمون على الرجل بعض أنواع الزيادة؛ دفعًا لأكل المال بالباطل لئلا يتضرر، ويفتحون له حيلة يُؤكل فيها ماله بالباطل أكثر، ويكون فيها ظلمه وضرره أعظم.

ومن العلماء من أباح السبق بالمحلل؛ كقول أبي حنيفة والشافعي وأحمد وإحدى الروايتين عن مالك.

(1)

لعل الصواب: (بذل) بالذال المعجمة، ليستقيم المعنى.

(2)

لعل الصواب: (عرضةٌ).

ص: 317

والمقصود الأعظم: بيان فساد ظن الظان أنه بدون المحلل قمار وبالمحلل يزول القمار.

فقولهم: إن القمار هو المتردد بين أن يغنم أو يغرم فقط: ليس بمستقيم؛ بل عندهم: وإن تردد بين أن يغنم أو يغرم أو يسلم فهو أيضًا قمار، وهذا موجود مع المحلل؛ فإن كلًّا منهما يتردد بين أن يغنم إن غَلب، وبين أن يغرم إن غُلب، وبين أن يسلم إن جاءا معًا، أو جاء هو ورفيقه معًا؛ فالمخاطرة فيها موجودة مع المحلل، وبدون المحلل؛ بل زادت بدخوله فتبين أن المعنى لم يزل بدخول المحلل، بل ازداد مفسدة.

ومن تبين حقيقة هذه المسألة: تبين له أن من رأى أنه حرام ولو مع المحلل فقوله أصح على ما ظنوه.

وأما إذا تقرر أن تحريم الميسر لِمَا نصَّ الله تعالى على أنه يوقع العداوة والبغضاء ويصد عن ذكر الله عز وجل وعن الصلاة، وقد يشتد تحريمه لما فيه من أكل المال بالباطل، والمسابقة التي أمر الله بها ورسوله لا تشتمل لا على هذا الفساد ولا على هذا: فليست من الميسر، وليس إخراج السبق فيها مما حرَّمه الله ورسوله، ولا من القمار الداخل في الميسر؛ فإن لفظ القمار المحرم ليس في القرآن، إنما فيه لفظ الميسر، والقمار داخل في هذا الاسم، والأحكام الشرعية يجب أن تتعلق بكلام الله ورسوله ومعناه.

فلينظر في دلالة ألفاظ القرآن والحديث، وفي المعاني والعلل، والحِكم والأسباب التي علَّق الشارع بها الأحكام، فيكون الاستدلال بما أنزل الله من الكتاب والميزان.

والقياس الصحيح الذي يسوِّي بين المتماثلين ويفرق بين المختلفين: هو العدل وهو الميزان.

ص: 318

وذلك أن المسابقة والمناضلة عمل صالح يحبه الله ورسوله، وقد سابق النبي صلى الله عليه وسلم بين الخيل، وكان أصحابه يتناضلون، ويقول لهم:"ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميًا".

وما كان كذلك فليس من الميسر الذي حرمه الله؛ بل هو من الحق، كما قال:"كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل إلا رميه بقوسه أو تأديبه فرسه أو ملاعبته لامرأته فإنهن من الحق"

(1)

.

وحينئذٍ فأكل المال بهذه الأعمال: أكل بالحق لا بالباطل، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث الرقية:"لعمري لَمَن كل برقية باطل لقد كلتَ برقية حق"

(2)

فجعل كون العمل نافعًا لا يُنهى عنه، بل إذا أكل به المال فقد أكل بحق، وهنا هذا العمل نافع للمسلمين مأمور به لم ينه عنه.

فالمعنى الذي لأجله حَرَّم الله الميسر: أكلُ المال بالقمار، وهو أن يأكل بالباطل، وهذا أكْلٌ بالحق.

وأما المخاطرة: فليس في الأدلة الشرعية ما يوجب تحريم كل مخاطرة؛ بل قد عُلم أن الله ورسوله لم يحرما كل مخاطرة

(3)

، ولا كل ما كان مترددًا بين أن يغنم أو يغرم أو يسلم، وليس في أدلة الشرع ما يوجب تحريم جميع هذه الأنواع لا نصًّا ولا قياسًا.

ولكن يحرم من هذه الأنواع ما يشتمل على أكل المال بالباطل، والموجب للتحريم عند الشارع: أنه أكل مال بالباطل، كما يحرم أكل المال بالباطل وإن لم يكن مخاطرة، لا أن مجرد المخاطرة محرم؛ مثل المخاطرة

(1)

رواه الترمذي (1637)، وابن ماجه (2811)، والدارمي (2449)، وأحمد (17300)، وضعَّفه الألباني في ضعيف الترمذي.

(2)

رواه أبو داود (3422)، وصحَّحه الألباني.

(3)

فالبيع فيه مخاطرة وتردد بين الغنم والغرم في كثير من الأحيان.

ص: 319

على اللعب بالنرد والشطرنج لِمَا فيه من أكل المال بالباطل، وهو ما لا نفع فيه له ولا للمسلمين.

فلو جعل السلطان أو أجنبي مالًا لمن يغلب بذلك [لما]

(1)

جاز وإن لم يكن هناك مخاطرة، وكذلك لو جعل أحدهما جعلًا، وكذلك لو أدخلا محللًا، فعلم أن ذلك لم يحرم لأجل المخاطرة، لا سيما وجمهور العلماء يحرمون هذا العمل، وإن خلا عن عوض.

وأما أخذُ العوض في المسابقة والمصارعة: فهذه الأعمال لم تُجعل في الأصل لعبادة الله تعالى وطاعته وطاعة رسوله؛ فلهذا لم يحض الشارع عليها ولا رغب فيها، وإنما يُقصد بها في الغالب راحة النفوس، أو الاستعانة على المباحات، فأباحها الشارع لعدم الضرر الراجح، ولم يأمر بها ولا رغب فيها؛ لأنها ليست مما يحتاجه المسلمون، ولا يتوقف قيام الدين عليها؛ كالرمي والركوب، ولو خَلِي المسلمون عن مصارع ومسابق على الأقدام: لم يضرهم لا في دينهم ولا في دنياهم، بخلاف ما لو خَلَوا عن الرمي والركوب لغلب الكفار على المسلمين؛ ولهذا لم يدخل فيها السَّبَق.

ألا ترى أن للإمام أن يخرج جعلًا لمن يرمي، ولا يحل له أن يخرجه لمن يصارع؟

وإذا عُرف هذا: غرف أن مجرد المخاطرة ليس مقتضيًا لتحريم المسألة، وانكشفت، وظهرت، وعُرف أنَّ الصواب: أنْ يُعْرَفَ مرادُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقواله وحكمه وعلله التي علق بها الأحكام؛ فإن الغلط إنما ينشأ عن عدم المعرفة بمراده صلى الله عليه وسلم.

والمخاطرة مشتركة بين كل من المتسابقين؛ فإن كلًّا يرجو أن يغلب الآخر ويخاف أن يغلبه، فكان ذلك عدلًا وإنصافًا بينهما كما تقدم.

(1)

ما بين المعقوفتين من مختصر الفتاوى (532).

ص: 320

وكذلك كل من المتبايعين لسلعة، فإن كلًّا يرجو أن يربح فيها ويخاف أن يخسر.

فمثل هذه المخاطرة جائزة بالكتاب والسُّنَّة والإجماع.

والتاجر مخاطر، وكذلك الأجير المجعولُ له جُعْل على ردِّ آبق، وعلى بناء حائط؛ فإنه قد يحتاج إلى بذل مال فيكون مترددًا بين أن يغرم أو يغنم، ومع هذا فهو جائز.

والمخاطرة إذا كانت من الجانبين كانت أقرب إلى العدل والإنصاف، مثل المضاربة، والمساقاة، والمزارعة؛ فإن أحدهما مخاطر قد يحصل له ربح وقد لا يحصل.

وما علمت أحدًا من الصحابة شرط في السباق محللًا ولا حرمه إذا كان كل منهما يخرج، وإنما علمت المنع في ذلك عن بعض التابعين، وقد روينا عن أبي عبيدة بن الجراح: أنه راهن رجلان في سباق الخيل ولم يكن بينهما محلل.

وثبت في "المسند" والترمذي وغيرهما

(1)

: "أنه لما اقتتلت فارس والروم فغلبت فارس الروم وبلغ ذلك أهل مكة وكان ذلك في أول الإسلام ففرح بذلك المشركون؛ لأن المجوس أقرب إليهم من أهل الكتاب، وساء ذلك المسلمين لأن أهل الكتاب أقرب إليهم من المجوس، فاخبر أبو بكر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [الروم: 1 - 4] فخرج أبو بكر رضي الله عنه فراهن المشركين على أنه إن غلبت الروم في بضع سنين أخذ الرهان، وإن لم تغلب الروم أخذوا الرهان".

(1)

الترمذي (3194).

ص: 321

وهذه المراهنة هي مثل المراهنة في سباق الخيل والرمي بالنشاب، وكانت جائزةً لأنها مصلحةٌ للإسلام؛ لأن فيها مصلحةُ بيانِ صدقِ الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به مِن أنَّ الروم سيغلبون بعد ذلك، وفيها ظهورُ أقربِ الطائفتين إلى المسلمين على أبعدهما.

وهذا فعَلَه الصديق رضي الله عنه وأقرَّه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكره عليه، ولا قال: هذا ميسر وقمار.

والصديق أجل قدرًا من أن يقامر؛ فإنه لم يشرب الخمر في جاهلية ولا إسلام وهي أشهى إلى النفوس من القمار.

وقد ظنَّ بعضهم أن هذا قمار، لكن فِعْلُه هذا كان قبل تحريم القمار، وهذا إنما يُقبل إذا ثبت أن مثل هذا ثابت فيما حرمه الله من الميسر، وليس عليه دليل شرعي أصلًا.

بل هي مجرد أقوالٍ لا دليل عليها، وأقيسةٍ فاسدة يظهر تناقضها لمن كان خبيرًا بالشرع، وحِلُّ ذلك ثابت بسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أقر صديقه على ذلك؛ فهذا العمل معدود من فضائل الصديق رضي الله عنه وكمال يقينه، حيث أيقن بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحب ظهور أقرب الطائفتين إلى الحق، وراهن على ذلك رغبة في إعلاء كلمة الله ودينه بحسب الإمكان.

وبالجملة: إذا ثبتت الإباحة فمدعي النسخ يحتاج إلى دليل.

والسَّبق: بالفتح هو العوض، وبالسكون هو الفعل.

وقال صلى الله عليه وسلم: "لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر"

(1)

مطلقًا لم يشترط محللًا لا هو ولا أصحابه؛ بل ثبت عنهم مثل ذلك بلا محلل.

(1)

تقدم تخريجه.

ص: 322

ومما يوضح الأمر في ذلك: أن السَّبَق في غير هذه الثلاثة لم يحرم لأنه قمار، فلو بذل أحدهما عوضًا في النرد والشطرنج حرم اتفاقًا، مع أنَّ العوض ليس من الجانبين.

ولو كان بينهما محلل في النرد حرم اتفاقًا أيضًا.

فالعوض في النرد والشطرنج حرام، سواء كان منهما، أو من أحدهما، أو من غيرهما، بمحلل أو غير محلل.

فلم يحرم لأجل المخاطرة.

فلو كان الميسر المجمع على تحريمه والنرد والشطرنج لأجل المخاطرة لأبيح مع عدمها.

فلما ثبت أنه محرم على كل تقدير: عُلم بطلان تعليل تحريمه بذلك

(1)

.

وأكثر العلماء يحرمون العوض من الجانبين في المصارعة وإن كان بينهما محلل يرفع المخاطرة عند من يقول بذلك، فعلم أن المؤثر هو أكل المال بالباطل، أو كون العمل يصد عن الصلاة وعن ذكر الله عز وجل ويوقع العداوة والبغضاء كما دلَّ عليه القرآن؛ كما أن بذل المال لما فيه من إعلاء كلمة الله ودين الله هو من الجهاد الذي أمر الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم به، سواء كان فيه مخاطرة أو لم يكن؛ فإن المجاهدة في سبيل الله عز وجل فيها مخاطرة قد يَغْلِب وقد يُغْلَب، وكذلك سائر الأمور من الجعالة والمزارعة والمساقاة والتجارة والسفر وغيرهما كما تقدم بيانه. [المستدرك 4/ 60 - 70]

* * *

(1)

الثابت في النصوص: النرد، والعلة فيما يظهر ما تقدم، وهو أنّ النرد يعتمد على التخمين، فكل ما وافقه في هذه العلة حرم اللعب به.

ص: 323

‌أحكام اللعب في الإسلام (حكم اللعب بالنرد والشطرنج)

3903 -

اللَّعِبُ بِهَا [أي: بِالشِّطْرَنْجِ]:

أ- مِنْهُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ مُتَّفَقٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ.

ب- وَمِنْهُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَمَكْرُوهٌ عِنْدَ بَعْضِهِمْ.

وَلَيْسَ مِن اللَّعِبِ بِهَا مَا هُوَ مُبَاحٌ مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ عِنْدَ أَحَدٍ مِن أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ.

فَإِن اشْتَمَلَ اللَّعِبُ بِهَا عَلَى الْعِوَضِ كَانَ حَرَامًا بِالِاتِّفَاقِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إمَامُ الْمَغْرِبِ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ اللَّعِبَ بِهَا عَلَى الْعِوَضِ قِمَارٌ لَا يَجُوزُ.

وَكَذَلِكَ لَو اشْتَمَلَ اللَّعِبُ بِهَا عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أو فِعْلِ مُحَرَّمٍ؛ مِثْل أَنْ يَتَضَمَّنَ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ عَن وَقْتِهَا، أَو تَرْكَ مَا يَجِبُ فِيهَا مِن أَعْمَالِهَا الْوَاجِبَةِ بَاطِنًا أَو ظَاهِرًا؛ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ حَرَامًا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.

وَالْمَقْصودُ: أَنَّ الشِّطْرَنْجَ مَتَى شَغَلَ عَمَّا يَجِبُ بَاطِنًا أَو ظَاهِرًا حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.

وَكَذَلِكَ لَو شَغَلَ عَن وَاجِبٍ مِن غَيْرِ الصَّلَاةِ؛ مِن مَصْلَحَةِ النَّفْسِ أَو الْأَهْلِ، أَو الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ أَو النَّهْيِ عَن الْمُنْكَرِ، أَو صِلَةِ الرَّحِمِ، أَو بِرِّ الْوَالِدَيْنِ، أَو مَا يَجِبُ فِعْلُهُ مِن نَظَرٍ فِي وِلَايَةٍ أَو إمَامَةٍ أَو غَيْرِ ذَلِكَ مِن الْأُمُورِ.

وَقَلَّ عَبْدٌ اشْتَغَلَ بِهَا إلَّا شَغَلَتْهُ عَن وَاجِبٍ.

فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ التَّحْرِيمَ فِي مِثْل هَذِهِ الصُّورَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ص: 324

وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى مُحَرَّمٍ أَو اسْتَلْزَمَتْ مُحَرَّمًا فَإِنَّهَا تَحْرُمُ بِالِاتِّفَاقِ.

وَإِذَا قُدِّرَ خُلُوُّهَا عَن ذَلِكَ كلِّهِ: فَالْمَنْقُولُ عَن الصَّحَابَةِ الْمَنْعُ مِن ذَلِكَ، وَصَحَّ عَن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْم يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ فَقَالَ: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ.

شَبَّهَهُم بِالْعَاكِفِينَ عَلَى الْأَصْنَامِ، كَمَا فِي "الْمُسْنَدِ"

(1)

عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "شَارِبُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ وَثَنٍ"

(2)

، وَالْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ قَرِينَانِ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى.

وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْهَا مَعْرُوفٌ عَن ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِن الصَّحَابَةِ.

وَالْمَنْقُولُ عَن أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَد وَأَصْحَابِهِ تَحْرِيمُهَا.

وَأمَّا الشافِعِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: أَكْرَهُ اللَّعِبَ بِهَا لِلْخَبَرِ.

وَلَا رَيْبَ أنَّ كَرَاهَتَهُ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: لِلْخَبَرِ.

وَلَفْظ الْخَبَرِ الَّذِي رَوَاهُ هُوَ عَن مَالِكٍ: "مَن لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَد عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ"

(3)

.

وَمَعَ هَذَا فَإِنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ أَنَّ الشِّطْرَنْجَ شَرٌّ مِن النَّرْدِ، وَمَذْهَبُ أَحْمَد أَنَّ النَّرْدَ شَرٌّ مِن الشطْرَنْجِ، كَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ

(4)

.

(1)

(2453)، ورواه ابن ماجه (3375).

(2)

صحَّحه الألباني في صحيح الجامع (3701).

(3)

رواه أبو داود (4938)، وابن ماجه (3762)، ومالك (2752)، وأحمد (19521).

(4)

والقول: أن النَّرْدَ شَرٌّ مِن الشِّطْرَنْجِ هو الذي الأظهر؛ لأمور:

الأول: ثبوت النص الناهي عن النرد.

الثاني: لاشتمال النرد على علة لم يشتمل عليها الشطرنج، وهو التخمين والظن والخرص، فاللعب بالنرد لا يُحرك ذهن اللاعبين، ولا يستفيدون منه سوى مضيعة الوقت والكسل، بخلاف الشطرنج، فإنها تنمي الذكاء، وتزيد الفطنة، وتُكسب اللاعب الصبر والدهاء، ولولا أنها تضيع الوقت الطويل لترجح القول بالجواز من غير كراهة. =

ص: 325

وَالتَّحْقِيقُ فِي ذَلِكَ: أَنَّهُمَا إذَا اشْتَمَلَا عَلَى عِوَضٍ أَو خَلَوَا عَن عِوَضٍ: فَالشِّطْرَنْجُ شَرٌّ مِن النَّرْدِ؛ لِأَنَّ مَفْسَدَةَ النَّرْدِ فِيهَا وَزِيَادَةً؛ مِثْل صَدِّ الْقَلْبِ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَن الصَّلَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَاشْتِغَالُ الْقَلْب بِالتَّفْكِيرِ فِي الشِّطْرَنْجِ أَكْثَرُ.

وَأَمَّا إذَا اشْتَمَلَ النَّرْدُ عَلَى عِوَضٍ فَالنَّرْدُ شَرٌّ. وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي كَوْنِ أَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا جَعَلُوا النَّرْدَ شَرًّا لِاسْتِشْعَارِهِمْ أَنَّ الْعِوَضَ يَكُونُ فِي النَّرْدِ دُونَ الشِّطْرَنْجِ

(1)

.

فَالشِّطْرَنْج إنْ لَمْ يَكُن مِثْلَهَا فَلَيْسَ دُونَهَا، وَهَذَا يَعْرِفُهُ مَن خَبَرَ حَقِيقَةَ اللَّعِبِ بِهَا؛ فَإِنَّ مَا فِي النَّرْدِ مِن الصَّدِّ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَن الصَّلَاةِ، وَمِن إيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ: هُوَ فِي الشِّطْرَنْجِ أَكْثَرُ بِلَا ريبٍ، وَهِيَ تَفْعَلُ فِي النُّفُوسِ فِعْلَ حُمَيَّا الْكُؤُوسِ، فَتَصُدُّ عُقُولَهُم وَقُلُوبَهُم عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَن الصَّلَاةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بِهِم كَثِيرٌ مِن أَنْوَاعِ الْخُمُورِ وَالْحَشِيشَةِ.

وَقَلِيلُهَا يَدْعُو إلَى كَثِيرِهَا، فَتَحْرِيمُ النَّرْدِ الْخَالِيَةِ عَن عِوَضٍ مَعَ إبَاحَةِ الشِّطْرَنْجِ مِثْلُ تَحْرِيمِ الْقَطْرَةِ مِن خَمْرِ الْعِنَبِ وَإِبَاحَةِ الْغَرْفَةِ مِن نَبِيذِ الْحِنْطَةِ.

وَلَو كَانَ النَّهْيُ عَن النَّرْدِ وَنَحْوِهِ لِمُجَرَّدِ الْمُقَامَرَةِ: لَكَانَ النَّرْدُ مِثْل سِبَاقِ الْخَيْلِ، وَمِثْل الرَّمْيِ بِالنِّشَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْمُقَامَرَةَ إذَا دَخَلَتْ فِي هَذَا حَرَّمُوهُ، مَعَ أَنَّهُ عَمَلٌ صَالِحٌ وَاجِبٌ أَو مُسْتَحَبٌّ، كَمَا فِي "الصَّحِيحِ"

(2)

عَن

= وفي هذا الزمان ما هو أشد منها تضييعًا للوقت وإشغالًا للقلوب منها، وقد تسبب ضياع الأموال، والإصابات، والفُرقة والعداوة، وهي لعب الكرة، ومع ذلك فقد أفتى علماؤنا بجوازها إذا لم تشتمل على محذور.

(1)

لا يلزم ذلك، بل قد يكون لثبوت النص في النرد دون الشطرنج، ومن المعلوم أن الإمام أحمد والشافعي يقفون عند النصوص، ولا يحرمون إلا ما قام الدليل عليه.

وقد يكون كذلك لاشتمال النرد على التخمين بخلاف الشطرنج كما تقدم، والله أعلم.

(2)

لمِ أجده فى الصحيح بهذا اللفظ؛ ولكن عند مسلم (1919)، بلفظ:"مَن عَلِمَ الرَّمْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَليْسَ مِنَّا" أَو "قَد عَصَى".

ص: 326

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "ارْمُوا وَارْكَبُوا وَأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إلَيَّ مِن أَنْ تَرْكَبُوا"

(1)

.

فَهَذَا الْمَيْسِرُ الْمَقْرُون بِالْخَمْرِ إذَا قُدِّرَ أَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِهِ أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ

(2)

، وَمَا فِي ذَلِكَ مِن حُصُولِ الْمَفْسَدَةِ وَتَرْكِ الْمَنْفَعَةِ، وَمن الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذِهِ الْمَلَاعِبَ تَشْتَهِيهَا النُّفُوسُ، وَإِذَا قَوِيَت الرَّغْبَةُ فِيهَا أُدْخِلَ فِيهَا الْعِوَضُ كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَكَانَ مِن حِكمِ الشَّارعِ أَنْ يَنْهَى عَمَّا يَدْعُو إلَى ذَلِكَ لَو لَمْ يَكُن فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُغَالَبَاتُ الَّتِي قَد تَنْفَعُ؛ مِثْل الْمُسَابَقَةِ وَالْمُصَارَعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ تِلْكَ فِيهَا مَنْفَعَة رَاجِحَةٌ لِتَقْوِيَةِ الْأَبْدَانِ فَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَلَمْ تَجْرِ عَادَةُ النُّفُوسِ بِالِاكْتِسَابِ بِهَا.

وَهَذَا الْمَعْنَى نَبَّهَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: "مَن لَعِبَ بالنردشير فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ"

(3)

؛ فَإِنَّ الْغَامِسَ يَدَهُ فِي ذَلِكَ يَدْعُوهُ إلَى أَكْلِ الْخِنْزِيرِ، وَذَلِكَ مُقَدِّمَةُ أَكْلِهِ وَسَبَبُهُ وَدَاعِيَتُهُ، فَإِذَا حُرِّمَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ اللَّعِبُ الَّذِي هُوَ مُقَدِّمَةُ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَسَبَبُهُ وَدَاعِيَتُهُ.

وَبِهَذَا يَتبيَّنُ مَا ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ مِن أَنَّ الْمُغَالَبَاتِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:

أ- فَمَا كَانَ مُعِينًا عَلَى مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] جَازَ بِجُعْلٍ وَبِغَيْرِ جُعْلٍ.

ب- وَمَا كَانَ مُفْضِيًا إلَى مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ كَالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ: فَمَنْهِيٌّ عَنْهُ بِجُعْلٍ وَبِغَيْرِ جُعْلٍ.

ج- وَمَا قَد يَكُونُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ بِلَا مَضَرَّةٍ رَاجِحَةٍ كَالْمُسَابَقَةِ وَالْمُصَارَعَةِ: جَازَ بِلَا جُعْلٍ.

(1)

رواه أبو داود (2513)، والترمذي (1637)، والنسائي (3578)، والدارمي (2449)، وأحمد (17300).

(2)

أي: على القول بأن النرد حرمت لأن فيها بذل المال من الطرفين، وهو الميسر.

(3)

رواه مسلم (2260).

ص: 327

بَل كَثِيرٌ مِن الشُّرَّابِ يَكُونُ عَقْلُهُ أصحى مِن كَثِيرٍ مِن أَهْلِ الشِّطْرَنْج وَالنَّرْدِ.

وَاللَّاعِبُ بِهَا لَا تَنْقَضِي نَهْمَتُهُ مِنْهَا إلَّا بدست بَعْدَ دست، كَمَا لَا تَنْقَضِي نَهْمَةُ شَارِبِ الْخَمْرِ إلَّا بِقَدَح بِقَدَح، وَتَبْقَى آثَارُهَا فِي النَّفْسِ بَعْدَ انْقِضَائِهَا أَكْثَرَ مِن آثَارِ شَارِبِ الْخَمْرِ، حَتَّى تَعْرِضَ لَهُ فِي الصَّلَاةِ وَالْمَرَضِ وَعِنْدَ رُكُوبِ الدَّابَّةِ؛ بَل وَعِنْدَ الْمَوْتِ، وَأَمْثَال ذَلِكَ مِن الْأَوْقَاتِ الَّتِي يُطْلَبُ فِيهَا ذِكْرُهُ لِرَبِّهِ وَتَوَجُّهُهُ إلَيْهِ، تَعْرِضُ لَهُ تَمَاثِيلُهَا. [32/ 216 - 228]

3904 -

عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَا سَبْقَ إلا فِي خُفٍّ أَو حَافِرٍ أَو نَصْلٍ"

(1)

، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ مِن أَعْمَالِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَإِخْرَاجُ السَّبْقِ فِيهَا مِن أَنْوَاعِ إنْفَاقِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِن الْمُبَاحَاتِ؛ كَالْمُصَارَعَةِ وَالْمُسَابَقَةِ بِالْأَقْدَامِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِن الْجِهَادِ؛ فَلِهَذَا رُخِّصَ فِيهَا مِن غَيْرِ سَبْقٍ. [32/ 250]

3905 -

الْبَيْهَقِي أَعْلَمُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بِالْحَدِيثِ وَأَنْصَرُهُم لِلشَّافِعِيِّ ذَكَرَ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ [أي: الشطرنج]: عَن عَلِئ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأبِي سَعِيدٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي مُوسَى وَعَائِشَةَ رضي الله عنهم، وَلَمْ يَحْكِ عَن الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ نِزَاعًا.

وَمَن نَقَلَ عَن أَحَدٍ مِن الصَّحَابَةِ أَنَّهُ رَخَّصَ فِيهِ فَهُوَ غالط.

وَالْبَيْهَقِي وَغَيْرُهُ مِن أَهْلِ الْحَدِيثِ أَعْلَمُ بِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ مِمَن يَنْقُلُ أَقْوَالًا بِلَا إسْنَادٍ.

قَالَ البيهقي: جَعَلَ الشَّافِعِيُّ اللَّعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ مِن الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فيها.

(1)

رواه أبو داود (2574)، والترمذي (1700)، والنسائي (3585)، وابن ماجه (2878)، وأحمد (7482). وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.

ص: 328

وَمَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّ اللَّعِبَ بِالنَّرْدِ حَرَامٌ وَإِن لَمْ يَكُن بِعِوَض. [32/ 240 - 242]

3906 -

اللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ حَرَامٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا كَالنَّرْدِ. [32/ 243]

3907 -

الْمَيْسِرُ هُوَ الْقِمَارُ؛ لِأنَّهُ يَصُدُّ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَن الصَّلَاةِ، وَيُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ.

والْمَيْسِرُ الْمُحَرَّمُ: لَيْسَ مِن شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ عِوَضٌ؛ بَل اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِن لَمْ يَكن فِيهِ عِوَضٌ، وَإِن كَانَ فِيهِ خِلَافٌ شَاذٌّ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، وَقَد قَالَ صلى الله عليه وسلم:"مَن لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَد عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ"

(1)

؛ لِأَنَّ النَّرْدَ يَصُدُّ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَن الصَّلَاةِ وَيُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ. [22/ 253]

* * *

(لم يُحرَّم الْمَيْسِر لِمُجَرَّدِ الْمُقَامَرَةِ، وبيان أنه أعظم من الربا)

3908 -

قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ الْمَيْسِرَ إنَّمَا حُرِّمَ لِمُجَرَّدِ الْمُقَامَرَةِ دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالِاعْتِبَارِ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهَا؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ:{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} [المائدة: 91]، فَنَبَّهَ عَلَى عِلَّةِ التَّحْرِيمِ وَهِيَ مَا فِي ذَلِكَ مِن حُصُولِ الْمَفْسَدَةِ وَزَوَالِ الْمَصْلَحَةِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ؛ فَإِنَّ وُقُوعَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ مِن أَعْظَمِ الْفَسَادِ، وَصُدُودُ الْقَلْبِ عَن ذِكرِ اللهِ وَعَن الصَّلَاةِ اللَّذَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُسْتَحَبُّ مِن أَعْظَمِ الْفَسَادِ.

وَمِن الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا يَحْصُلُ فِي اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ وَنَحْوِهِمَا وَإِن لَمْ يَكن فِيهِ عِوَضٌ، وَهُوَ فِي الشِّطْرَنْجِ أَقْوَى.

(1)

رواه أبو داود (4938)، وابن ماجه (3762)، ومالك (2752)، وأحمد (19521).

ص: 329

وَلَعَلَّ الْمَقْصُودَ الْأَوَّلَ لِأَكْثَرِ النَّاسِ بِالْمَيْسِرِ إنَّمَا هُوَ الِانْشِرَاحُ بِالْمُلَاعَبَةِ وَالْمُغَالَبَةِ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَوَّلَ لِأَكْثَرِ النَّاسِ بِالْخَمْرِ إنَّمَا هُوَ مَا فِيهَا مِن لَذَّةِ الشُّرْبِ، وَإِنَّمَا حُرِّمَ الْعِوَضُ فِيهَا لِأَنَّهُ أَخْذُ مَالٍ بِلَا مَنْفَعَةٍ فِيهِ، فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، كَمَا حُرِّمَ ثَمَنُ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ.

فَكَيْفَ تُجْعَلُ الْمَفْسَدَةُ الْمَالِيَّةُ هِيَ حِكْمَةَ النَّهْيِ فَقَطْ وَهِيَ تَابِعَةٌ، وَتُتْرَكُ الْمَفْسَدَةُ الْأَصْلِيَّةُ الَّتِي هِيَ فَسَادُ الْعَقْلِ وَالْقَلْبِ؟

وَالْمَالُ مَادَّةُ الْبَدَنِ، وَالْبَدَنُ تَاجُ الْقَلْبِ، وَ [قد]

(1)

قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَلَا إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ بِهَا سَائِرُ الْجَسَدِ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ بِهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ"

(2)

.

وَالْقَلْبُ هُوَ مَحَلُّ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى وَحَقِيقَةُ الصَّلَاةِ، فَأَعْظَمُ الْفَسَادِ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ: إفْسَادُ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ مِلْكُ الْبَدَنِ أَنْ يُصَدَّ عَمَّا خُلِقَ لَهُ مِن ذِكْرِ اللهِ وَالصَّلَاةِ، وَيَدْخُلَ فِيمَا يُفْسِدُ مِن التَّعَادِي وَالتَّبَاَغُضِ.

وَالصَّلَاةُ حَقُّ الْحَقِّ، وَالتَّحَابُّ وَالْمُوَالَاةُ حَقُّ الْخَلْقِ، وَأَيْنَ هَذَا مِن أَكْلِ مَالٍ بِالْبَاطِلِ؟

وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَصْلَحَةَ الْبَدَنِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَصْلَحَةِ الْمَالِ، وَمَصْلَحَةَ الْقَلْبِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَصْلَحَةِ الْبَدَنِ، وَإِنَّمَا حُرْمَةُ الْمَالِ لِأَنَّهُ مَادَّةُ الْبَدَنِ؛ وَلهَذَا قَدَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي كُتُبِهِم رُبْعَ الْعِبَادَاتِ عَلَى رُبْع الْمُعَامَلَاتِ، وَبِهِمَا تَمُّ مَصْلَحَةُ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ، ثُمَّ ذَكَرُوا رُبْعَ الْمُنَاكَحَاتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَصْلَحَةُ الشَّخْصِ، وَهَذَا مَصْلَحَةُ النَّوْعِ الَّذِي يَبْقَى بِالنِّكَاحِ، ثُمَّ لَمَّا ذَكَرُوا الْمَصَالِحَ ذَكَرُوا مَا يَدْفَعُ الْمَفَاسِدَ فِي رُبْعِ الْجِنَايَاتِ.

والظُّلْمُ فِي الرّبَا وَأَكْل الْمَالِ بِالْبَاطِلِ بِهِ: أَبْيَنُ مِنْهُ فِي الْمَيْسِرِ؛ فَإِنَّ

(1)

ما بين المعكوفين ليس في الأصل، ولعل إضافته أنسب وألْيق بالسياق.

(2)

رواه البخاري (52)، ومسلم (1599).

ص: 330

الْمُرَابِيَ يَأْخُذُ فَضْلًا مُحَقَّقًا مِن الْمُحْتَاجِ؛ وَلهَذَا عَاقَبَهُ اللهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ فَقَالَ: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276].

وَأَمَّا الْمُقَامِرُ فَإِنَّهُ قَد يَغْلِبُ فَيَظْلِمُ، فَقَد يَكُونُ الْمَظْلُومُ هُوَ الْغَنِيَّ، وَقَد يَكونُ هُوَ الْفَقِيرَ، وَظُلْمُ الْفَقِيرِ الْمُحْتَاجِ أَشَدُّ مِن ظُلْمِ الْغَنِيِّ.

فَالرِّبَا فِي ظُلْمِ الْأَمْوَالِ أَعْظَمُ مِن الْقِمَارِ، وَمَعَ هَذَا فَتَأَخَّرَ تَحْرِيمُهُ، وَكَانَ آخِرَ مَا حَرَّمَ اللهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ، فَلَو لَمْ يَكُن فِي الْمَيْسِرِ إلَّا مُجَرَّدُ الْقِمَارِ لَكَانَ أَخَفَّ مِن الرِّبَا لِتَأَخُّرِ تَحْرِيمِهِ.

وَقَد أَبَاحَ الشَّارعُ أَنْوَاعًا مِن الْغَرَرِ لِلْحَاجَةِ، كَمَا أبَاحَ اشْتِرَاطَ ثَمَرِ النَّخْلِ بَعْدَ التَّأْبِيرِ تبَعًا لِلْأَصْلِ، وَجَوَّزَ بَيْعَ الْمُجَازَفَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَأَمَّا الرِّبَا فَلَمْ يُبَحْ مِنْهُ، وَلَكِنْ أَبَاحَ الْعُدولَ عَن التَّقْدِيرِ بِالْكَيْلِ إلَى التَّقْدِيرِ بِالْخَرْصِ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا أَبَاحَ التَّيَمُّمَ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ لِلْحَاجَةِ؛ إذ الْخَرْصُ تَقْدِيرٌ بِظَنٍّ، وَالْكَيْلُ تَقْدِيرٌ بِعِلْمٍ، وَالْعُدُولُ عَن الْعِلْمِ إلَى الظَّنِّ عِنْدَ الْحَاجَةِ جَائِزٌ.

فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَيْسِرَ اشْتَمَلَ عَلَى مَفْسَدَتَيْنِ:

أ- مَفْسَدَةٌ فِي الْمَالِ، وَهِيَ أَكْلُهُ بِالْبَاطِلِ.

ب- وَمَفْسَدَةٌ فِي الْعَمَلِ، وَهِيَ مَا فِيهِ مِن مَفْسَدَةِ الْمَالِ وَفَسَادِ الْقَلْبِ وَالْعَقْلِ وَفَسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ.

وَكُلٌّ مِن الْمَفْسَدَتَيْنِ مُسْتَقِلَّةٌ بِالنَّهْيِ، فَيُنْهَى عَن أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ مُطْلَقًا وَلَو كَانَ بِغَيْرِ مَيْسِرٍ كَالرِّبَا، وَيُنْهَى عَمَّا يَصُدُّ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَن الصَّلَاةِ وَيُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ وَلَو كَانَ بِغَيْرِ أَكْلِ مَالٍ.

فَإِذَا اجْتَمَعَا عَظمَ التَّحْرِيمُ، فَيَكُونُ الْمَيْسِرُ الْمُشْتَمِلُ عَلَيْهِمَا أَعْظَمَ مِن الرِّبَا، وَلهَذَا حُرِّمَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّبَا. [32/ 227 - 237]

* * *

ص: 331

(حكم اللعب بالحَمَامِ)

3909 -

اللَّعِبُ بِالْحَمَامِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَفِي السُّنَنِ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَتْبَعُ حَمَامَةً فَقَالَ:"شَيْطَانٌ يَتْبَعُ شَيْطَانَةً"

(1)

. [32/ 246]

* * *

(بَابُ الْعَارِيَةِ)

3910 -

العارية تجب مع غناء المالك، وهو أحد القولين في مذهب أحمد، وهي مضمونة وإن لم يشترط ضمانها، وهي رواية عن أحمد.

وعنه: يضمن إن شرطه وإلا فلا. اختاره الشيخ تقي الدين. [المستدرك 4/ 71]

3911 -

لو سلم شريك شريكه دابة فتلفت بلا تعدٍّ ولا تفريط: لم يضمن.

وقياس المذهب إذا قال: أعرتك دابتي لتعلفها: أن هذا يصح. [المستدرك 4/ 71]

3912 -

نفقة العين المعارة هل تجب على المالك، أو على المستعير؟ لا أعرف فيها نقلًا، إلا أن قياس المذهب على ما يظهر لي: أنها تجب على المستعير. [المستدرك 4/ 71]

3913 -

سُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلٍ أَعَارَ فَرَسًا وَهِيَ شَرِكَةٌ بغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ، فَمَاتَت الْفَرَسُ عِنْدَ الَّذِي أَعَارَهَا شَرِيكُهُ، فَمَن يَضْمَنُ حِصَّةَ الشَّرِيكِ؟

(1)

رواه الإمام أحمد (8543)، وأبو داود (4940)، وابن ماجه (3764)، وصحَّحه الألباني.

وليس معنى الشيطان: مردة الجن، بل كل ما فيه شر وأذى فهو شيطان.

قال ابن فارس في مقاييس اللغة، مادة:(شَطَنَ): الشِّينُ وَالطَّاءُ وَالنُّونُ أَصْلٌ مُطَّرِدٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى الْبُعْدِ.

وَأَمَّا الشَّيْطَانُ فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ مِن هَذَا الْبَابِ، وَالنُّونُ فِيهِ أَصْلِيَّةٌ، فَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِبُعْدِهِ عَنِ الْحَقِّ وَتَمَرُّدِهِ؛ وَذَلِكَ أنَّ كُلَّ عَاتٍ مُتَمَرِّدٍ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالدَّوَابِّ شَيْطَانٌ. قَالَ جَرِيرٌ:

أَيَّامَ يَدْعُونَنِي الشَّيْطَانَ مِن غَزَلِي

وَهُنَّ يَهْوَيْنَنِي إذ كُنْتُ شَيْطَانًا

ص: 332

فَأَجَابَ: إذَا أَعَارَ نَصِيبَ الشَّرِيكِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَتَلِفَت الْفَرَسُ: كَانَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْمُعِيرِ الْمُعْتَدِي بِقِيمَهِ نَصِيبِهِ، وَلَهُ مُطَالَبَةُ الْمُسْتَعِيرِ أَيْضًا

(1)

. [30/ 314]

3914 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن امْرَأَةٍ اسْتَعَارَتْ زَوْجَيْ حَلَقٍ وَقَد عُدِمُوا مِنْهَا، فَهَل يَلْزَمُهَا قِيمَةُ الْحَلَقِ؟

فَأَجَابَ: إنْ كَانَت فَرَّطَتْ فِي حِفْظِهَا لَزِمَهَا غَرَامَتُهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.

وَإِن لَمْ تُفَرِّطْ: فَفِي ذَلِكَ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَهُمْ:

فَفِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهَا.

وَفِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد: عَلَيْهَا الضَّمَانُ.

وَعِنْدَ مَالِكٍ: إذَا تَلِفَتْ بِسَبَب مَعْلُومٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهَا، وَإِذَا ادَّعَت التَّلَفَ بِسَبَب خَفِيٍّ لَمْ يُقْبَل مِنْهَا. [30/ 314]

* * *

(بَابُ الْغَصْبِ)

3915 -

قال في المحرر: وهو الاستيلاء على مال الغير ظلمًا.

قَوْلُهُ: "على مَالِ الْغَيْرِ ظُلْمًا" يَدْخُلُ فيه مَالُ الْمُسْلِمِ وَالْمُعَاهَدِ، وهو الْمَالُ الْمَعْصُومُ.

وَيَخْرُجُ منه اسْتِيلَاءُ الْمُسْلِمِينَ على أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ فإنه ليس بِظُلْمٍ.

وَيَدْخُلُ فيه اسْتِيلَاءُ أَهْلِ الْحَرْبِ على مَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ فإنه ليس من الْغَصْبِ الْمَذْكُورِ حُكْمُهُ هذا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ؛ إذ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ وَلَا بِالتَّلَفِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في وُجُوبِ رَدِّ عَيْنِهِ إذَا قَدَرْنَا على أَخْذِهِ.

(1)

أما إذا كان المستعير يعتقد أن الفرس للمعير ولم يكن منه تفريط فلا ضمان عليه، ولا يحق للشريك مُطالبته، والله أعلم.

ص: 333

وَأَمَّا أَمْوَالُ أَهْلِ الْبَغْيِ وَأَهْلِ الْعَدْلِ: فَقَد لَا يَرِد؛ لِأَنَّهُ هُنَاكَ لَا يَجُوزُ الِاسْتِيلَاءُ على عَيْنِهَا، وَمَتَى أتلفت

(1)

بَعْدَ الِاسْتِيلَاءِ على عَيْنِهَا ضُمِنَتْ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في ضَمَانِهَا بِالْإِتْلَافِ وَقْتَ الْحَرْبِ.

وَيَدْخُلُ فيه ما أَخَذَهُ الْمُلُوكُ وَالْقُطَّاعُ من أَمْوَالِ الناس بِغَيْرِ حَقٍّ من الْمُكُوسِ وَغَيْرِهَا.

فَأَمَّا اسْتِيلَاءُ أَهْلِ الْحَرْبِ بَعْضُهُم على بَعْضٍ فَيَدْخُلُ فيه، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأنَّهُ ظُلْمٌ، فَيَحْرُمُ عليهم قَتْلُ النُّفُوسِ وَأَخْذُ الْأَمْوَالِ إلَّا بِأَمْرِ اللهِ.

لَكِنْ يُقَالُ: لَمَّا كان الْمَأْخُوذُ مُبَاحًا بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا لم يَصِرْ ظُلْمًا في حَقِّنَا وَلَا في حَقِّ من أَسْلَمَ منهم.

فَأَمَّا ما أُخِذَ من الْأَمْوَالِ وَالنُّفُوسِ، أو أُتْلِفَ مِنْهُمَا في حَالِ الْجَاهِلِيَّةِ: فَقَد أُقِرَّ قَرَارُهُ، [لا]

(2)

لِأَنَّهُ كان مُبَاحًا؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ عَفَا عنه، فَهُوَ عَفْوٌ بِشَرْطِ الْإِسْلَامِ، وَكَذَا بِشَرْطِ الْأَمَانِ، فَلَو تَحَاكَمَ إلَيْنَا مُسْتَأْمَنَانِ حَكَمْنَا بِالِاسْتِقْرَارِ

(3)

. [المستدرك 4/ 72 - 73]

3916 -

يَتَوَجَّهُ فِيمَا إذَا غَصَبَ فَرَسًا وَكَسَبَ عليه مَالًا: أَنْ يَجْعَلَ الْكَسْبَ

(4)

بين الْغَاصِبِ وَمَالِكِ الدَّابَّةِ على قَدْرِ نَفْعِهِمَا، بِأَنْ تُقَوَّمَ مَنْفَعَةُ الرَّاكِبِ وَمَنْفَعَةُ الْفَرَسِ، ثُمَّ يُقْسَمُ الصَّيْدُ بَيْنَهُمَا. [المستدرك 4/ 73]

3917 -

يضمن المغصوب بما نقص رقيقًا كان أو غيره، وهو رواية عن أحمد. [المستدرك 4/ 73]

3918 -

إذا خلف مُوَرِّثٌ مالًا من إبل أو غنم أو غيرها فيه شيء حرام من

(1)

في الإنصاف: (أتلف)، والمثبت من الاختيارات (234).

(2)

ليس في المطبوع، وهي في (ج) و (أ)، حاشية الاختيارات (235).

(3)

الإنصاف (6/ 122 - 123).

(4)

في الأصل: (إن جعل)، والمثبت من الإنصاف، وهو الصواب.

ص: 334

غصب أو غيره لا يعرفه الوارث عينًا، يعرف مالكه أو لا يعرفه، وقَدْر نصيب الحرام غير معروف: فإنه ينصفه نصفين: نصف لهذه الجهة، ونصف لهذه الجهة، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مشاطرة العمال أموالهم لمَّا تبيَّن له أن في مالهم شيئًا من بيت المال وما هو خالص لهم ولم يتبين القدر، فجعل عمر أموالهم نصفين.

ولأنه مال مشترك، والشركة المطلقة تقتضي التسوية.

ولا تجوز القرعة، ووقف الأمر إضاعة للحقوق.

والقول في هذه المسألة بالقسمة تارة والقرعة تارة خير من حبسها بلا فائدة. [المستدرك 4/ 73 - 74]

3919 -

مَن زَرَعَ بِلَا إذْنِ شَرِيكِهِ وَالْعَادَةُ بِأَنَّ من زَرَعَ فيها له نَصِيبٌ مَعْلُومٌ وَلرَبِّهَا نَصِيبٌ: قَسَمَ ما زَرَعَهُ في نَصِيبِ شَرِيكِهِ كَذَلِكَ.

وَلَو طَلَبَ أَحَدُهُمَا من الْآخَرِ أَنْ يَزْرَعَ معه أو يُهَايِئَهُ

(1)

فيها فَأَبَى: فَلِلْأَوَّلِ الزَّرْعُ في قَدْرِ حَقِّهِ بِلَا أُجْرَةٍ؛ كَدَارٍ بَيْنَهُمَا فيها بَيْتَانِ سَكَنَ أَحَدَهُمَا عِنْدَ امْتِنَاعِهِ مِمَّا يَلْزَمُهُ

(2)

.

وقد اعتبر أبو العباس في موضع آخر إذن ولي الأمر

(3)

. [المستدرك 4/ 74]

3920 -

لو حبس الغاصبُ المغصوبَ وقت حاجة مالكِه إليه؛ كمدة شبابه، ثم رده في مشيبه: فتفويت تلك المدة ظلم يفتقر إلى جزاء. [المستدرك 4/ 75]

3921 -

إن غصب ثوبًا فقَصَره أو غزلًا فنسجه أو فضة. رد ذلك بزيادته وأرش نقصه ولا شيء له.

(1)

المهايأة: قسمة المنافع، بأن يتهايأ اثنان في الأراضي المشتركة بينهما على أن يزرع أحدهما نصفها والآخر نصفها الآخر.

(2)

الإنصاف (6/ 132) وقال: وَهَذَا الصَّوَابُ وَلَا يَسَعُ الناس غَيْرُهُ.

(3)

الاختيارات (239).

ص: 335

وعنه: يكون شريكًا بالزيادة، اختاره الشيخ تقي الدين. [المستدرك 4/ 76]

3922 -

قَوْلُهُ: وَإِن نَقَصَتْ الْعَيْنُ؛ أيْ: قِيمَةُ الْعَيْنِ

(1)

لِتَغَيُّرِ الْأَسْعَارِ

(2)

: لم يَضْمَنْ

(3)

، نصَّ عليه.

وعنه: يَضْمَنُ، اخْتَارَهُ ابن أبي مُوسَى وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رحمه الله

(4)

. [المستدرك 4/ 76]

3923 -

إن وطئ الجارية فعليه الحد والمهر وإن كانت مطاوعة وأرش البكارة. وعنه: لا يلزمه مهر للثيب

(5)

، اختاره الشيخ تقي الدين، ولم يوجب عليه سوى أرش البكارة. [المستدرك 4/ 76]

3924 -

لو بايع الرجل مُبايعات يعتقد حلها، ثم صار المال إلى وارث، أو منتهب، أو مشتر يعتقد تلك العقود محرمة: فالمثال الأصلي لهذا: اقتداء المأموم بصلاة إمام أخلَّ بما هو فرض عند المأموم دونه، والصحيح الصحة. [المستدرك 4/ 77]

3925 -

ما قبضه الإنسان بعقد مختلف فيه يعتقد صحته: لم يجب عليه رده في أصح القولين. [المستدرك 4/ 77]

3926 -

من كسب مالًا حرامًا برضاء الدافع ثم تاب؛ كثمن خمر ومهر

(1)

المغصوبة.

(2)

بأن نزل السعر لذهاب نحو موسم.

(3)

الغاصب ما نزل من السعر.

(4)

الإنصاف (6/ 155).

(5)

والمعنى: إن وطئ الجارية بعد غصبها: فهو زان؛ لأنها ليست زوجة ولا ملك يمين، فعليه:

1 -

حد الزنى إذا كان عالمًا بالتحريم؛ لأنه لا ملك له عليها ولا شبهة ملك.

2 -

والمهر؛ أي: مهر مثلها؛ لأنه يجب بالوطء.

ويجب ذلك عليه وإن كانت مطاوعة؛ لأن المهر حق للسيد فلم يسقط بمطاوعتها، كما لو أذنت في قطع طرفها.

3 -

وأرش البكارة؛ لأنه بدل جزء منها.

وعن الإمام أحمد رواية أخرى: أنه لا يلزمه مهر الثيب إذا زنى بها؛ لأنه لم يُنْقصها ولم يؤلمها، أشبه ما لو قبَّلها. يُنظر: المبدع (5/ 173).

ص: 336

البغي وحلوان الكاهن: فالذي يتلخص من كلام أبي العباس أن القابض إذا لم يعلم التحريم ثم علم جاز له أكله.

وإن علم التحريم أولًا ثم تاب: فإنه يتصدق به، كما نصَّ عليه أحمد في حامل الخمر.

وللفقير أكله، ولولي الأمر أن يعطيه أعوانه، وإن كان فقيرًا أخذ هو كفايته له. [المستدرك 4/ 77]

3927 -

ظاهر كلام أبي العباس أن نفس المصيبة لا يؤجر عليها

(1)

، وقاله

(2)

أبو عبيدة؛ بل

(3)

إن صبر أثيب على صبره. [المستدرك 4/ 77]

3928 -

ويضمن المغصوب بمثله مكيلًا أو موزونًا أو غيرهما حيث أمكن، وإلا فالقيمة.

وإذا تغير السعر وفُقد المثل: فينتقل إلى القيمة وقت الغصب، وهو

(1)

أخذ البعلي ذلك -والله أعلم- مِن قول الشيخ في مجموع الفتاوى (30/ 363): الدَّلَائِلُ عَلَى أَنَّ الْمَصَائِبَ كَفارَاتٌ كَثِيرَةٌ، إذَا صَبَرَ عَلَيْهَا أثِيبَ عَلَى صَبْرِهِ، فَالثَّوَابُ وَالْجَزَاءُ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْعَمَلِ -وَهُوَ الصَّبْرُ-، وَأَمَّا نَفْسُ الْمُصِيبَةِ فَهِيَ مِن فِعْلِ اللهِ، لَا مِن فِعْلِ الْعَبْدِ، وَهِيَ مِن جَزَاءِ اللهِ لِلْعَبْدِ عَلَى ذَنْبهِ وَتَكْفِيرِهِ ذَنْبَهُ بِهَا. اهـ.

والذي يظهر: أنّ ما يُصيب الْمؤَمن من مصائب في بدنه أو قلبه فإنّ الله تعالى بكرمه وجوده يُكفّر بها عن خطاياه، وإنْ لم يحتسب ذلك، بشرط ألا يتسخّط ويجزع.

وإنْ لم تكن عنده ذنوبٌ تُكفَّر: أعطاه الله حسناتٍ، لما أَخْرَجَهُ مُسْلِم (2572)، عَن عَائِشَةَ عن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:"مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِن شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ بِهَا دَرَجَةً، أَو حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً".

وهذا ليس شَكًّا مِن الرَّاوِي، بل هو للتَّنْوِيع كما اختاره الحافظ رحمه الله وقال: وَيَكُون الْمَعْنَى: إِلَّا كَتَبَ الله لَهُ بِهَا حَسَنَة إِنْ لَمْ يَكُن عَلَيْهِ خَطَايَا، أو حَطَّ عَنْهُ خَطَايَا إِنْ كَانَ لَهُ خَطَايَا. اهـ. فتح الباري (10/ 138 - 139).

(2)

في الأصل: (وقالّ)، والمثبت من الاختيارات (242) وهو الصواب.

ويعني بأبي عبيدة: عامر بن الجراح الصحابي الجليل رضي الله عنه.

(3)

في الأصل: (بلى)، قال العلَّامة ابن عثيمين في حاشية الاختيارات: لعله: بل. اهـ. قلت: وقد أثبتها.

ص: 337

أرجح الأقوال

(1)

. [المستدرك 4/ 79]

3929 -

من كانت عنده غصوب وودائع وغيرها لا يعرف أربابها: صرفت في المصالح.

وقال العلماء: ولو تصدق بها جاز، وله الأكل منها ولو كان عاصيًا إذا تاب وكان فقيرًا. [المستدرك 4/ 79]

3930 -

لا يجوز لوكيل بيت المال ولا غيره بيع شيء من طريق المسلمين النافذ، وليس للحاكم أن يحكم بصحته. [المستدرك 4/ 79]

3931 -

ما لبيت المال من المقاسمة أو الأرض الخراجية لا يباع لما فيه من إضاعة حقوق المسلمين. [المستدرك 4/ 79]

3932 -

من غرم بسبب كذبٍ عليه عند ولي الأمر: فله تضمين الكاذب عليه بما غرمه. [المستدرك 4/ 79]

3933 -

قدر المتلف إذا لم يُمكن تحديده: عُمل فيه بالاجتهاد، كما يفعل في قدر قيمته بالاجتهاد؛ إذ الخرص والتقويم واحد؛ فإن الخرص: هو الاجتهاد في معرفة مقدار الشيء، والتقويم: هو الاجتهاد في معرفة مقدار ثمنه؛ بل قد يكون الخرص أسهل. وكلاهما يجوز مع الحاجة.

وعمل شيخنا بالاجتهاد في قيمة المتلف فخرص الصبرة، واعتبر في مُزارع أتلف مغل سنتين بالسنين المعتدلة، وفي ربح مضارب بشراء رفقته من نوع متاعه وبيعهم في مثل سفره. [المستدرك 4/ 79 - 80]

3934 -

لو اشترى مغصوبًا من غاصبه ولا يعلم به رجع بنفقته وعمله على بائع غار له. [المستدرك 4/ 80]

3935 -

قال تقي الدين فيمن اشترى مال مسلم من التتار لما دخلوا الشام:

(1)

والمذهب أنه يضمن المغصوب بقيمته يوم التلف. يُنظر: المغني (5/ 421).

ص: 338

إنْ لم يَعْرِفْ صَاحِبَهُ صَرَفَ في الْمَصَالِحِ، وَأَعْطَى مُشْتَرِيَهُ ما اشْتَرَاهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لم يَصِرْ لها إلَّا بِنَفَقَتِهِ، وَإِنْ لم يَقْصِدْ ذلك، كما رَجَّحْته فِيمَنْ اتَّجَرَ بِمَالِ غَيْرِهِ وَرَبِحَ. [المستدرك 4/ 80]

3936 -

من تصرف بولاية شرعية: لم يضمن؛ كمن مات ولا ولي له ولا حاكم، وليس لصاحبه إذا علم رَدُّ المعاوضة؛ لثبوت الولاية عليها شرعًا. [المستدرك 4/ 80]

3937 -

إذا كان المتلف مما لا يباع [لعذر]

(1)

؛ مثل الثمر والزرع قبل بدو صلاحه: فههنا لا يجوز تقويمه بشرط القطع؛ لأنه مستحقٌّ للإبقاء

(2)

.

[وقد لا يكون له قيمة، بل كالجنين في الحيوان.

فههنا:

- إما أن يُقَوَّم مستحق الإبقاء]

(3)

، وإن لم يجز بيعه.

- وإما أن يُقَوَّم مع الأصل ثم يقوم الأصل بدونه.

وأما أنْ ينظر إلى حالةِ كَمَالِه فَيُقَوَّم بدون نفقة الإبقاء: ففيه نظر؛ لإمكان تلفه قبل ذلك.

وأما إذا جاز بيعه مستحق الإبقاء فيقوم مستحق الإبقاء، كما تقوم المنقولات مع جواز الَافات عليها جميعًا. [الاختيارات 235]

3938 -

إذا كان للناس على إنسان ديون، أو امظالم بقدر ما لَه على الناس من الديون والمظالم: كان يسوغ أن يُقال: يُحاسب بذلك فيه بقدر حقه من هذا، ويصرف

(4)

إلى غريمه، كما يُفعل في الدنيا بالمدين الذي له وعليه، يُستوفىَ ما له، ويُوفَّى ما عليه. [المستدرك 4/ 83]

(1)

ليس في المطبوع، وهي في (ج) و (أ)، حاشية الاختيارات (235).

(2)

في الأصل: (للبقاء)، والتصويب من الاختيارات.

(3)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل.

(4)

في الأصل: (أو يصرف)، والتصويب من الاختيارات (241).

ص: 339

3939 -

من ندم ورد المغصوب

(1)

بعد موت المغصوب منه: كان للمغصوب منه مطالبته في الآخرة؛ لتفويته عليه الانتفاع به في حياته، كما لو مات الغاصب فرده وارثه. [المستدرك 4/ 83]

3940 -

من مات معدمًا: يرجى أن الله يقضي عنه ما عليه. [المستدرك 4/ 83]

3941 -

للمظلوم الاستعانةُ بمخلوق

(2)

، فإذا خالَفَه

(3)

: فالأولى له الدعاء على من ظلمه، ويجوز الدعاء بقدر ما يُوجبه ألَمُ ظلمه، لا على من شتمه، أو أخذ ماله: بالكفر

(4)

. [المستدرك 4/ 83]

3942 -

من أمر رجلًا بإمساك دابة ضارية، فجنت عليه: ضمنه إن لم يعلمه بها.

ويضمن جناية ولد الدابة إن فرط. [المستدرك 4/ 84]

3943 -

الدابة إذا أرسلها صاحبها بالليل كان مفرطًا، فهو كما إذا أرسلها قرب زرع.

ولو كان معها راكب أو قائد أو سائق: فما أفسدت بفمها أو يدها فهو عليه؛ لأنه تفريط، وهو مذهب أحمد. [المستدرك 4/ 84]

3944 -

لو ادعى صاحب الزرع أن غنم فلان نفشت ليلًا، ووُجد أثرٌ في الزرع أثرُ غنم: قضي بالضمان على صاحب الغنم.

وجعل الشيخ تقي الدين هذا من القيافة في الأموال، وجعلها معتبرة كالقيافة في الأنساب. [المستدرك 4/ 84]

(1)

في الأصل: (الغصوب)، والتصويب من الاختيارات (240).

(2)

على ظالمِه في أخذِ حقّه.

(3)

في الأصل: (خافة)، والتصويب من الفتاوى الكبرى (5/ 417).

(4)

أىِ: لا يدعو عليه بأن يكفر.

ص: 340

3945 -

من لم يسد بئره سدًّا يمنع من الضررضمن ما تلف بها. [المستدرك 4/ 84]

3946 -

من العقوبة الثابتة: إتلاف الثوبين المعصفرين، كما في الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو، وإراقة عمر اللبن الذي شيب بالماء للبيع. [المستدرك 4/ 84]

3947 -

الصدقة بالمغشوش أولى من إتلافه. [المستدرك 4/ 84]

3948 -

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله: عَمَّن غَصَبَ زَرْعَ رَجُلٍ وَحَصَدَهُ، هَل يُبَاحُ لِلْفُقَرَاءِ اللِّقَاطُ الْمُتَسَاقِطُ؟

فَأجَابَ: نَعَمْ، يُبَاحُ اللِّقَاطُ، كَمَا كَانَ يُبَاحُ لَو حَصَدَهَا الْمَالِكُ، كَمَا يُبَاحُ رَعْيُ الْكَلَإِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، نَصَّ الْإِمَامِ أَحْمَد عَلَى هَذِهِ الْمَسْأْلَةِ الثَّانِيَةِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا يُبَاحُ مِن الْكَلَإِ وَاللِّقَاطِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْغَصْبِ وَعَدَمِهِ، وَلَا يَمْنَعُهُ حَقُّ الْمَالِكِ

(1)

. [30/ 317]

3949 -

وَسُئِلَ: عَن رَجُلٍ لَهُ أَرْضٌ مِلْكٌ، فَجَاءَ رَجُلٌ جَذَّ زَرْعَهُ مِنْهَا ثُمَّ زَرَعَهَا فِي ثَانِي سَنَةٍ، فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ؟

فَأَجَابَ: لَيْسَ لأحَد أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ بَل لَهُ أَنْ يُطَالِبَ مَن زَرَعَ فِي مِلْكِهِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَلَهُ أَنْ يَأخذَ الزَّرْعَ إذَا كَانَ قَائِمًا وَيُعْطِيَهُ نَفَقَتَهُ. [30/ 317 - 318]

3950 -

لِلْمُشْتَرِي أنْ يَرْجِعَ عَلَى الْغَاصِب بِالثَّمَنِ الَّذِي قَبَضَهُ مِنْهُ، سَوَاءٌ كَانَ

(2)

عَالِمًا بِالْغَصْبِ أَو لَمْ يَكُن عَالِمًا؛ فَإِنًّ الثَّمَنَ قَبَضَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَو كَانَ بِرِضَاهُ.

(1)

وذلك لأن اللقاط -وهو التمر المتساقط من النخل، أو السنبل المتساقط من الزرع- ليس له مالك، بل هو مُباح والناس فيه شركاء.

(2)

أي: الْمُشْتَرِي.

ص: 341

فَإِنَّهُمَا لَو تَبَايَعَا مَا لَا يَحِلُّ بَيْعُهُ مِن خَمْرٍ أَو خِنْزِيرٍ بِرِضَاهُمَا لَوَجَبَ أَنْ يَرُدَّ الْمَبِيع فَيُتْلِفَ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ، وَيَرُدَّ عَلَى الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ، فَكَيْفَ إذَا بَاعَهُ مَالَ الْغَيْرِ؟

وَبِأَيِّ وَجْهٍ بَقِيَ الثَّمَن فِى يَدِ الْغَاصِبِ فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي. [30/ 319]

3951 -

إذَا أَنْزَى عَلَى بَهَائِمِهِ فَحْلَ غَيْرِهِ: فَالنَّتَاجُ لَهُ.

وَلَكِنْ إذَا كَانَ ظَالِمًا فِي الْإِنْزَاءِ؛ بِحَيْثُ يَضُرُّ بِالْفَحْلِ الْمُنْزِي: فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا نَقَصَ لِصَاحِبِهِ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ صَاحِبَهُ: تَصَدَّقَ بِقِيمَةِ نَقْصِهِ. وَأَمَّا إنْ كَانَ لَا يَضُرُّهُ: فَلَا قِيمَةَ لَهُ

(1)

؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَن عَسْبِ الْفَحْلِ

(2)

. [30/ 320]

3952 -

إذَا كَانَ اشْتَرَاهَا [أي: البهائم] بِثَمَنٍ بَعْضُهُ لَهُ وَبَعْضُهُ مَغْصُوبٌ: فَنِصْفُهَا مِلْكُهُ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لَا يَسْتَحِقُّهُ؛ بَل يَدْفَعُهُ إلَى صَاحِبِهِ إنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا تَصَدَّقَ بِهِ عَنْهُ.

فَإِنْ حَصَلَ مِن ذَلِكَ نَمَاءٌ: كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْأَصْلِ: نِصْفُهُ لَهُ وَنِصْفُهُ لِلْجِهَةِ الْأُخْرَى. [30/ 321]

3953 -

وَقَال رحمه الله: سُئِلْتُ عَن قَوْمٍ أُخِذَتْ لَهُم غَنَمٌ أَو غَيْرُهَا مِن الْمَالِ، ثُمَّ رُدَّتْ عَلَيْهِم أَو بَعْضُهَا، وَقَد اشْتبهَ مِلْكُ بَعْضِهِمْ بِبَعْضِ.

فَأَجَبْتهمْ: أَنَّهُ إنْ عُرِفَ قَدْرُ الْمَالِ تَحْقِيقًا: قُسِمَ الْمَوْجُودُ بَيْنَهُم عَلَى قَدْرِهِ، وَإِن لَمْ يُعْرَفْ إلَّا عَدَدُهُ: قُسِمَ عَلَى الْعَدَدِ؛ لِأَنَّ الْمَالَيْنِ إذَا اخْتَلَطَا قُسِمَا بَيْنَهُمَا، وَإِن كَانَ يَدْفَعُ لِكلٍّ مِنْهُم عَن مَالِهِ مَا كَانَ لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَاطَ جَعَلَهُم شُرَكَاءَ.

(1)

ولو كان ذلك بدون علم صاحبِه.

(2)

رواه البخاري (2284)، ومسلم (1565).

ص: 342

وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَنَّهُ إذَا اشْتَرَكَا فِيمَا يَتَشَابَهُ مِن الْحَيَوَانِ وَالثِّيَابِ أَنَّهُ يَصِحُّ. [30/ 330 - 331]

3954 -

وَسُئِلَ: عَن تجَّارٍ أَخَذَهُم حَرَامِيَّةٌ، ثُمَّ رَدُّوا عَلَيْهِم مِن الْمَالِ شَيْئًا، فَهَل مَن عَرَفَ شَيْئًا مِن مَالِهِ يَأْخُذُهُ؟ أَو يُقْسَمُ عَلَى رُءُوسِ الْأَمْوَالِ الْمَأْخُوذَةِ بِالسَّوِيَّةِ؟

فَأَجَابَ: أَمَّا مَن وَجَدَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَأَمَّا الَّذِينَ عَدِمَتْ أَمْوَالُهُم فَيَتَقَاسَمُونَ مَا غَرِمَهُ الْحَرَامِيَّةُ لَهُم عَلَى قَدْرِ أَمْوَالِهِمْ، لَا عَلَى عَدَدِ الرُّؤُوسِ. [30/ 334]

3955 -

الْقِصَاصُ فِي إتْلَافِ الْأمْوَالِ؛ مِثْل أَنْ يَخْرِقَ ثَوْبَهُ فَيَخْرِقَ ثَوْبَهُ الْمُمَاثِلَ لَهُ، أَو يَهْدِمَ دَارَهُ فَيَهْدِمَ دَارَهُ وَنَحْو ذَلِكَ: فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَن أَحْمَد:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ؛ لِأَنَّهُ إفْسَاد، وَلِأَنَّ الْعَقَارَ وَالثِّيَابَ غَيْرُ مُمَاثِلَةٍ.

وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ؛ لِأَنَّ الْأَنْفُسَ وَالْأَطْرَافَ أَعْظَمُ قَدْرًا مِن الْأَمْوَالِ، وَإِذَا جَازَ إتْلَافُهَا عَلَى سَبِيلِ الْقِصَاصِ لِأَجْلِ اسْتِيفَاءِ الْمَظْلُومِ فَالْأَمْوَالُ أَوْلَى

(1)

.

وَلهَذَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُفْسِدَ أَمْوَالَ أَهْلِ الْحَرْبِ إذَا أَفْسَدُوا أَمْوَالَنَا كَقَطْعِ الشَّجَرِ الْمُثْمِرِ.

وَإِن قِيلَ بِالْمَنْعِ مِن ذَلِكَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ؛ فَإِنَّهُ إذَا أَتْلَفَ لَهُ ثِيَابًا أَو حَيَوَانًا أَو عَقَارًا وَنَحْو ذَلِكَ: فَهَل يَضْمَنُهُ بِالْقِيمَةِ أَو يَضْمَنُهُ بِجِنْسِهِ مَعَ

(1)

ولأنه ثبت في السُّنَّة العقوبة بإتلاف المال، فإتلاف المال والمتاع من باب القصاص من باب أولى، ولأن الله تعالى قال:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126].

وهذا القول هو الأظهر والعلم عند الله تعالى.

ص: 343

الْقِيمَةِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ

(1)

.

وَلَا رَيْبَ أَنَّ ضَمَانَ الْمَالِ بِجِنْسِهِ مَعَ اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ مِن ضَمَانِهِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ وَهُوَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ مَعَ اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ. [30/ 332/ 333]

3956 -

وَسُئِلَ: عَن عَسْكَرٍ نَزَلُوا مَكَانًا بَاتُوا فِيهِ، فَجَاءَ أَنَاسٌ سَرَقُوا لَهُم قُمَاشًا فَلَحِقُوا السَّارِقَ فَضَرَبَهُ أَحَدُهُم بِالسَّيْفِ، ثُمَّ حُمِلَ إلَى مُقَدَّمِ الْعَسْكَرِ ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ.

فَأَجَابَ: إذَا كَانَ هَذَا هُوَ الطَّرِيق فِي اسْتِرْجَاعِ مَا مَعَ السَّارِقِ لَمْ يَلْزَم الضَّارِبَ شَيْءٌ، وَقَد رَوَى ابْن عُمَرَ: أَنَّ لِصًّا دَخَلَ دَارَهُ فَقَامَ إلَيْهِ بِالسَّيْفِ، فَلَوْلَا أَنَّهُم رَدُّوهُ عَنْهُ لَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ، وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ"

(2)

: "مَن قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ". [30/ 334 - 335]

3957 -

الْأَرَاضِي السُّلْطَانِيَّةُ وَالطَّوَاحِينُ السُّلْطَانِيَّةُ الَّتِي لَمْ يُعْلَم أَنَّهَا مَغْصُوبَةٌ: يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا مُزَارَعَةً بِنَصِيب مِن الزَّرْعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا، وَيَجُوزَ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا بِأُجْرَتِهِ مَعَ الضَّمَانِ.

وَأَمَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهَا مَغْصُوبَةٌ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهَا مَالِكٌ مُعَيَّنٌ: فَهَذِهِ فِيهَا نِزَاعٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَجوزُ الْعَمَلُ فِيهَا إذَا كَانَ الْعَامِلُ لَا يَأْخُذُ إلَّا أُجْرَةَ عَمَلِهِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ قَد ظَلَمَ أَحَدًا شَيْئًا؛ فَالْعَمَلُ فِيهَا خَيْرٌ مِن تَعْطِيلِهَا عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ.

وَهَذَا إنْ أَمْكَنَ أَنْ تُرَدَّ إلَى أَصْحَابِهَا، وَإِلَّا صُرِفَتْ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَجْهُولُ كَالْمَعْدُومِ.

وَأَمَّا إذَا عُرِفَ أَنَّ لِلْأَرْضِ مَالِكًا مُعَيَّنًا، وَقَد أُخِذَتْ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ: فَلَا ئعْمَلُ فِيهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ أَو إذْنِ وَلِيِّهِ أَو وَكِيلِهِ. [30/ 335 - 336]

(1)

الشيخ يميل إلى القول الثاني، وهو الأظهر.

(2)

البخاري (2480)، ومسلم (141).

ص: 344

3958 -

إِنَّ الْغَاصِبَ إذَا قَبَضَ مِنَ الْعَيْنِ الْمُشْتَرَكَةِ نَصِيبَ أَحَدِ الشَّرِيكيْنِ كَانَ ذَلِكَ مِن مَالِ ذَلِكَ الشَّرِيكِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ أَخْذَ مَالِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ. [30/ 345]

3959 -

مَا حَصَلَ بِسَبَبِ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ مِنَ الْمَغَارِمِ الَّتِي تُؤْخَذُ ظُلْمًا أَو غَيْرَ ظُلْمٍ: فَهِيَ عَلَى الْمَالِ جَمِيعِهِ لَا يَخْتَصُّ بِهَا بَعْضُهُم. [30/ 391]

* * *

(حكم الضرائب والعمل بها إذا كان مُجْتَهِدًا فِي الْعَدْلِ وَرَفْعِ الظُّلْمِ)

3960 -

هَذِهِ الْكُلَفُ

(1)

الَّتِي تُطْلَبُ مِن النَّاسِ بِحَقٍّ أَو بِغَيْرِ حَقٍّ

(2)

: يَجِبُ الْعَدْلُ فِيهَا، وَيَحْرُمُ أَنْ يُوَفَّرَ فِيهَا بَعْضُ النَّاسِ وَيُجْعَلَ قِسْطُهُ عَلَى غَيْرِهِ.

وَمَن قَامَ فِيهَا بِنِيَّةِ الْعَدْلِ وَتَخْفِيفِ الظُّلْمِ مَهْمَا أَمْكَنَ وَإِعَانَةِ الضَّعِيفِ لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ الظُّلْمُ عَلَيْهِ بِلَا نِيَّةِ إعَانَةِ الظَّالِمِ: كَانَ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ إذَا تَحَرَّى الْعَدْلَ وَابْتَغَى وَجْهَ اللهِ

(3)

. [30/ 336]

3961 -

أَمَّا الْفُقَهَاءُ الْأَئِمَّةُ الَّذِينَ يُفْتَى بِقَوْلِهِمْ فَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُم جَوَازَ ذَلِكَ [أي: الْجِهَاتُ السُّلْطَانِيَّة]، وَلَكِنْ فِي أَوَائِلِ الدَّوْلَةِ "السَّلْجُوقِيَّةِ" أَفْتَى طَائِفَةٌ مِن الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ بِجَوَازِ ذَلِكَ، وَحَكى أَبُو مُحَمَّدِ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِهِ إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ، وَقَد كَانَ نُورُ الذينِ مَحْمُود الشَهِيدُ

(4)

التُّرْكِيُّ قَد

(1)

تُسمى: الضرائب، والمكوس، والْجِهَاتُ السُّلْطَانِيَّة.

(2)

أثبت الشيخ أن بعض الضرائب تكون بحق وبعضها بدون حق، والذي يظهر -والعلم عند الله- أنّ الكُلف التي تكون بحق، هي المال المأخوذ من التجار لمصلحة الدين كالجهاد أو الدنيا كإعانة الفقراء.

والكُلف التي تكون بغير حق ما خلا من ذلك.

(3)

مع أنها في بعض الأحوال حرام، كالتي تُؤخذ بلا حق، ومع ذلك جعل شيخ الاسلام آخذها بنيّة العدل وتخفيف الظلم كالمجاهد في سبيل الله تعالى، فهذا يدل على أهمية النية الصالحة، ومراعاة المصالح والمقاصد الشرعيّة.

(4)

أطلق الشيخ رحمه الله اسم الشهيد على نور الدين، فمن مات في سبيل الله تعالى وهو يُقاتل الكفار فيجوز إطلاق اسم الشهيد عليه.

ص: 345

أَبْطَلَ جَمِيعَ الْوَظَائِفِ الْمُحْدَثَةِ بِالشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ وَمِصْرَ وَالْحِجَازِ. [32/ 60]

3962 -

وسُئِلَ الشَّيْخُ -قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ-: عَن رَجُلٍ مُتَوَلٍّ وِلَايَاتٍ، وَمُقْطِعِ إقْطَاعَاتٍ، وَعَلَيْهَا مِن الْكُلَفِ السُّلْطَانِيَّةِ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَهُوَ يَخْتَارُ أَنْ يُسْقِطَ الظُّلْمَ كُلَّهُ، وَيَجْتَهِدَ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ إنْ تَرَكَ ذَلِكَ وَأَقْطَعَهَا غَيْرَهُ وَوَلَّى غَيْرَهُ فَإِنَّ الظُّلْمَ لَا يُتْرَكُ مِنْهُ شَيْءٌ؛ بَل زبَّمَا يَزْدَادُ، وَهُوَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُخَفِّفَ تِلْكَ الْمُكُوسَ الَّتِي فِي إقْطَاعِهِ

(1)

.

فَأجَابَ: نَعَمْ، إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا فِي الْعَدْلِ وَرَفْعِ الظُّلْمِ بِحَسَبِ إمْكَانِهِ وَوِلَايَتِهِ خَيْرٌ وَأَصْلَحُ لِلْمُسْلِمِينَ مِن وِلَايَةِ غَيْرِهِ، وَاسْتِيلَاؤُهُ عَلَى الْإِقْطَاعِ خَيْرٌ مِن اسْتِيلَاءِ غَيْرِهِ كَمَا قَد ذُكِرَ: فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْبَقَاءُ عَلَى الْوِلَايَةِ وَالْإِقْطَاعِ، وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ؛ بَل بَقَاؤُهُ عَلَى ذَلِكَ أَفْضَلُ مِن تَرْكِهِ إذَا لَمْ يَشْتَغِلْ إذَا تَرَكَهُ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ.

وَقَد يَكُونُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَاجِبًا إذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُ قَادِرًا عَلَيْهِ.

فَنَشْرُ الْعَدْلِ -بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ- وَرَفْعُ الظُّلْمِ -بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ-: فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ يَقُومُ كُلُّ إنْسَانٍ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِن ذَلِكَ إذَا لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ مَقَامَه، وَلَا يُطَالَبُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُ مِن رَفْعِ الظُّلْمِ.

وَالْمُقْطِعُ الَّذِي يَفْعَلُ هَذَا الْخَيْرَ: يَرْفَعُ عَن الْمُسْلِمِينَ مَا أَمْكَنَهُ مِن الظُّلْمِ، وَيَدْفَعُ شَرَّ الشِّرِّيرِ، بِأَخْذِ بَعْضِ مَا يُطْلَبُ مِنْهُمْ.

فَمَا لَا يُمْكِنُهُ رَفْعُهُ هُوَ مُحْسِنٌ إلَى الْمُسْلِمِينَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، يُثَابُ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِيمَا يَأْخُذُهُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا أَخَذَهُ، وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا فِي الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ

(2)

. [30/ 356 - 358]

* * *

(1)

السائل عبر عن الضرائب بالمكوس وبالْكُلف، والشيخ أقره على ذلك، فهذا يدل على ما ذكرته قبل ذلك في الحاشية بأنّ الضرائب والمكوس والْكُلف معناها واحد.

(2)

هذا من مراعاة الشيخ لمقاصد الشريعة، ودفع أشر الشرين، وارتكاب أخف الضررين.

ص: 346

(المظالم المشتركة)

3963 -

فَصْلٌ فِي "الْمَظَالِمِ الْمُشْتَرِكَةِ" الَّتِي تُطْلَبُ مِن الشُّرَكَاءِ مِثْل الْمُشْتَرِكِينَ فِي قَرْيَةٍ، أَو مَدِينَةٍ إذَا طُلِبَ مِنْهُم شَيْء يُؤْخَذُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ أَو رُؤُوسِهِمْ؛ مِثْل الْكُلَفِ السُّلْطَانِيَّةِ الَّتِي تُوضَعُ عَلَيْهِم كُلِّهِمْ؛ إمَّا عَلَى عَدَدِ رُؤُوسِهِمْ، أَو عَدَدِ دَوَابِّهِمْ، أَو عَدَدِ أَشْجَارِهِمْ، أَو عَلَى قَدْرِ أَمْوَالِهِمْ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْهُم أَكْثَرُ مِن الزَّكَوَاتِ الْوَاجِبَةِ بِالشَّرْعِ، أَو أَكْثَرُ مِن الْخَرَاجِ الْوَاجِبِ بِالشَّرْعِ، أَو تُؤْخَذُ مِنْهُم الْكُلَفُ الَّتِي أُحْدِثَتْ فِي غَيْرِ الْأَجْنَاسِ الشَّرْعِيَّةِ، كَمَا يُوضَعُ عَلَى الْمُتَبَايِعَيْنِ لِلطَّعَامِ وَالثِّيَابِ وَالدِّوَابِّ وَالْفَاكِهَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: يُؤْخَذُ مِنْهُم إذَا بَاعُوا، وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ تَارَةً مِن الْبَائِعِينَ، وَتَارَةً مِن الْمُشْتَرِينَ.

وَإِن كَانَ قَد قِيلَ: إنَّ بَعْضَ ذَلِكَ وُضِعَ بِتَأْوِيلِ وُجُوبِ الْجِهَادِ عَلَيْهِم بِأَمْوَالِهِمْ، وَاحْتِيَاجِ الْجِهَادِ إلَى تِلْكَ الْأَمْوَالِ، كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ "غِيَاثِ الْأُمَمِ"

(1)

، وَغَيْرِهِ مَعَ مَا دَخَلَ فِي ذَلِكَ مِن الظُّلْمِ الَّذِي لَا مَسَاغَ لَهُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ.

وَمِثْل الْجِبَايَاتِ الَّتِي يَجْبِيهَا بَعْضُ الْمُلُوكِ مِن أَهْلِ بَلَدِهِ كُلَّ مُدَّةٍ، وَيَقُولُ: إنَّهَا مُسَاعَدَةٌ لَهُ عَلَى مَا يُرِيدُ، وَمِثْل مَا يَطْلُبُهُ الْوُلَاةُ أَحْيَانًا مِن غَيْرِ أَنْ يَكونَ رَاتِبًا. فَهَؤُلَاءِ الْمُكْرَهُونَ عَلَى أَدَاءِ هَذِهِ الْأَمْوَالِ عَلَيْهِم لُزُومُ الْعَدْلِ فِيمَا يُطْلَبُ مِنْهُمْ، وَلَيْسَ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يَظْلِمَ بَعْضًا فِيمَا يُطْلَبُ مِنْهُمْ؛ بَل عَلَيْهِم الْتِزَامُ الْعَدْلِ فِيمَا يُؤْخَذُ مِنْهُم بغَيْرِ حَقٍّ، كَمَا عَلَيْهِم الْتِزَامُ الْعَدْلِ فِيمَا يُؤْخَذُ مِنْهُم بِحَقِّ، فَإِنَّ هَذِهِ الْكُلَفَ الَّتِي أَخِذَتْ مِنْهُم بِسَبَبِ نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ هِيَ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهَا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ حَالُهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَخْذِ فَقَد يَكُونُ أَخْذًا بِحَقِّ، وَقَد يَكونُ أَخْذًا بِبَاطِلٍ

(2)

.

(1)

لأبي المعالي الجويني.

(2)

هذا يُؤكد ما سبق، من أن الضرائب منها ما هو محرم، ومنها ما هو جائز.

ص: 347

وَأَمَّا الْمُطَالَبُونَ بِهَا فَهَذِهِ كُلَفٌ تُؤْخَذُ مِنْهُم بِسَبَبِ نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَلَيْسَ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يَظْلِمَ بَعْضًا فِي ذَلِكَ؛ بَل الْعَدْلُ وَاجِبٌ لِكُلِّ أَحَدٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَالظُّلْمُ لَا يُبَاحُ شَيْءٌ مِنْهُ بِحَال.

وَحِينَئِذٍ فَهَؤُلَاءِ الْمُشْتَرِكونَ لَيْسَ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يَفْعَلَ مَا بِهِ ظُلْمُ غَيْرِهِ؛ بَل إمَّا أَنْ يُؤَدِّيَ قِسْطَهُ فَيَكُونَ عَادِلًا، وَإِمَّا أَنْ يُؤَدِّيَ زَائِدًا عَلَى قِسْطِهِ فَيُعِينَ شُرَكَاءَهُ بِمَا أُخِذَ مِنْهُم فَيَكُونَ مُحْسِنًا.

وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ عَن أَدَاءِ قِسْطِهِ مِن ذَلِكَ الْمَالِ امْتِنَاعًا يُؤْخَذُ بِهِ قِسْطُهُ مِن سَائِر الشُّرَكَاءِ، فَيَتَضَاعَفُ الظُّلْمُ عَلَيْهِمْ.

وَعَلَى هَذَا: فَإِذَا تَغَيَّبَ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ، أَو امْتَنَعَ مِن الْأَدَاءِ فَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ وَأُخِذَ مَن غَيْرِهِ حِصَّتُهُ: كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ قَدْرَ نَصِيبِهِ إلَى مَن أدَّى عَنْهُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ، كَمَا يُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ مِن الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ، وَيُلْزَمُ بِذَلِكَ، وَيُعَاقَبُ عَلَى أَدَائِهِ، كَمَا يُعَاقَبُ عَلَى أَدَاءِ سَائِر الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ؛ كَالْعَامِلِ فِي الزَّكَاةِ إذَا طَلَبَ مِن أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَكْثَرَ مِن الْوَاجِبِ، وَأَخَذَهُ بِتَأْوِيلٍ، فَلِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ أَنْ يَرْجعَ عَلَى الْآخَرِ بِقِسْطِهِ.

وَإِن كَانَ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ: فَعَلَى قَوْلَيْنِ، أَظْهرُهُمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ أَيْضًا. [30/ 337 - 342]

* * *

‌(مَن أَدَّى عَن غَيْرِهِ وَاجِبًا فَهل يَرْجِعَ بِهِ عَلَيْهِ

؟)

3964 -

مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ الْمَشْهُورُ عَنْهُ وَغَيْرِهِمَا: أَنَّ كُلَّ مَن أدَّى عَن غَيْرِهِ وَاجِبًا فَلَهُ أنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُن مُتَبَرِّعًا بِذَلِكَ، وَإِن أدَّاهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ مِثْل مَن قَضَى دَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، سَوَاءٌ كَانَ قَد ضَمِنَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَأَدَّاهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، أَو أَدَّاهُ عَنْهُ بِلَا ضَمَانٍ.

وَقَد دَلَّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}

ص: 348

[الطلاق: 6] فَأَمَرَ بِإِيتَاءِ الْأَجْرِ بِمُجَرَّدِ إرْضَاعِهِنَّ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَقْدَ اسْتِئْجَارٍ، وَلَا إذْنِ الْأَبِ لَهَا فِي أَنْ تُرْضِعَ بِالْأَجْرِ.

وَكَذَلِكَ مَن خَلَّصَ مَالَ غَيْرِهِ مِن التَّلَفِ بِمَا أَدَّاهُ عَنْهُ: يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ؛ مِثْل مَن خَلَّصَ مَالًا مِن قُطَّاعٍ، أَو عَسْكَرٍ ظَالِمٍ، أَو مُتَوَلٍّ ظَالِمٍ، وَلَمْ يُخَلِّصْهُ إلَّا بِمَا أَدَّى عَنْهُ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِذلِكَ وَهُوَ مُحْسِنٌ إلَيْهِ بِذَلِكَ، وَإِن لَمْ يَكُن مُؤْتَمَنًا عَلَى ذَلِكَ الْمَالِ، وَلَا مُكْرَهًا عَلَى الْأَدَاءِ عَنْهُ، فَإِنَّهُ مُحْسِنٌ إلَيْهِ بِذَلِكَ، وَهَل جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إلَّا الْإِحْسَانُ؟

فَإِذَا خَلَّصَ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ بِأَلْفٍ أَدَّاهَا عَنْهُ: كَانَ مِن الْمُحْسِنِينَ، فَإِذَا أَعْطَاهُ الْأَلْفَ كَانَ قَد أَعْطَاهُ بَدَلَ قَرْضِهِ، وَبَقِيَ عَمَلُهُ وَسَعْيُهُ فِي تَخْلِيصِ الْمَالِ إحْسَانًا إلَيْهِ لَمْ يَجْزِهِ بِهِ

(1)

.

هَذَا أَصْوَبُ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ.

وَمَن جَعَلَهُ فِي مِثْل هَذَا مُتَبَرِّعًا وَلَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا: فَقَد قَالَ مُنْكَرًا مِن الْقَوْلِ وَزُورًا، وَقَد قَابَلَ الْإِحْسَانَ بِالْإِسَاءَةِ، وَمَن قَالَ هَذَا هُوَ الشَّرْعُ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ رَسُولَهُ فَقَد قَالَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ، لَكنَّهُ قَوْلُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَقَد خَالَفَهُم آخَرُونَ.

وَنِسْبَةُ مِثْل هَذِهِ الْأَقْوَالِ إلَى الشَّرْعِ: تُوجِبُ سُوءَ ظَنِّ كَثِيرٍ مِن النَّاسِ فِي الشَّرْعِ، وَفِرَارَهُم مِنْهُ، وَالْقَدْحَ فِي أَصْحَابِهِ

(2)

.

فَإِنَّ مِن الْعُلَمَاءِ مَن قَالَ قَوْلًا بِرَأيِهِ وَخَالَفَهُ فِيهِ آخَرُونَ، وَلَيْسَ مَعَهُ شَرْعٌ مُنَزَّلٌ مِن عِنْدِ اللهِ؛ بَل الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ قَد تَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ قَوْلِهِ.

(1)

ويجزيه بالشكر والدعاء والثناء الحسن.

(2)

فالواجب النظر في مآلات وعواقب الإفتاء والترجيح، فقد تكون عواقبها ضارة بالمسلمين بالتضييق عليهم، وبغير المسلمين بالتشويش عليهم، وتنفيرهم من الإسلام.

هذا إذا كان مجرد قول ورأي، فكيف بالأفعال والتصرفات؟ فهي أحرى وأوجب بأنْ يُنظر في عواقبها ونتائجها.

ص: 349

وَقَد يَتَّفِقُ أَنَّ مَن يَحْكُمُ

(1)

بِذَلِكَ يَزِيدُ ذَلِكَ ظُلْمًا بِجَهْلِهِ وَظُلْمِهِ، وَيَتَّفِقُ أَنَّ كُلَّ أَهْلِ ظُلْمٍ وَشَرٍّ يَزِيدُونَ الشَّرَّ شَرًّا، وَيَنْسُبُونَ هَذَا الظُّلْمَ كُلَّهُ إلَى شَرْعِ مَن نَزَّهَهُ اللهُ عَن الظُّلْمِ، وَبَعَثَهُ بِالْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَجَعَلَ الْعَدْلَ الْمَحْضَ الَّذِي لَا ظُلْمَ فِيهِ هُوَ شَرْعُهُ.

وَلهَذَا كَانَ الْعَدْلُ وَشَرْعُهُ مُتَلَازِمَيْنِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]، وَقَالَ تَعَالَى:{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)} [المائدة: 42]. [30/ 348 - 355]

* * *

‌(إذَا كَانَ لِرَجُلٍ عِنْدَ غَيْرِهِ حَقٌّ: فَهَل يَأْخُذُهُ أَو نَظِيرَهُ بِغَيْرِ إدْنِهِ

؟)

3965 -

إذَا كَانَ لِرَجُلٍ عِنْدَ غَيْرِهِ حَقٌّ مِن عَيْنٍ أَو دَيْنٍ: فَهَل يَأْخُذُهُ أَو نَظِيرَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ؟ فَهَذَا نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ ظَاهِرًا لَا يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتٍ؛ مِثْل اسْتِحْقَاقِ الْمَرْأَةِ النَّفَقَةَ عَلَى زَوْجِهَا، وَاسْتِحْقَاقَ الْوَلَدِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ وَالِدُهُ، وَاسْتِحْقَاقِ الضَّيْفِ الضِّيَافَةَ عَلَى مَن نَزَلَ بِهِ، فَهُنَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِدُونِ إذْنِ مَن عَلَيْهِ الْحَقُّ بِلَا ريبٍ؛ كَمَا ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ"

(2)

أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ عتبة بْنِ رَبِيعَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ: إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَإِنَّهُ لَا يُعْطِينِي مِن النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَبَنِيَّ، فَقَالَ:"خُذِي مَا يَكلفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ".

فَأَذِنَ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ نَفَقَتَهَا بِالْمَعْرُوفِ بِدُونِ إذْنِ وَليِّهِ.

وَهَكَذَا مَن عَلِمَ أَنَّهُ غُصِبَ مِنْهُ مَالُهُ غَصْبًا ظَاهِرًا يَعْرِفُهُ النَّاسُ، فَأَخَذَ

(1)

من الحكام والأمراء والقضاة وغيرِهم.

(2)

البخاري (5364)، ومسلم (1714).

ص: 350

الْمَغْصُوبَ أَو نَظِيرَهُ مِن مَالِ الْغَاصِبِ، وَكَذَلِكَ لَو كَانَ لَهُ دَيْنٌ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَهُوَ يَمْطُلُهُ، فَأَخَذَ مِن مَالِهِ بِقَدْرِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ.

وَالثَّانِي: أَلَّا يَكُونَ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ ظَاهِرًا؛ مِثْل أَنْ يَكُونَ قَد جَحَدَ دَيْنَهُ، أَو جَحَدَ الْغَصْبَ وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي، فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد.

وَالثَّانِي: لَهُ أَنْ يَأْخُذَ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.

وَالْمُجَوِّزُونَ يَقُولُونَ: إذَا امْتَنَعَ مِن أَدَاءِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ: ثَبَتَت الْمُعَاوَضَةُ بِدُونِ إذْنِهِ لِلْحَاجَةِ.

لَكِنْ مَن مَنَعَ الْأَخْذَ مَعَ عَدَمِ ظُهُورِ الْحَقِّ اسْتَدَلَّ بِمَا فِي السُّنَنِ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَن ائْتَمَنَك وَلَا تَخُنْ مَن خَانَك"

(1)

.

وَفِي "الْمُسْنَدِ" عَن بَشِيرِ بْنِ الخصاصية أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ لَنَا جِيرَانًا لَا يَدَعُونَ لَنَا شَاذَّةً وَلَا فَادَّةً إلَّا أَخَذُوهَا، فَإِذَا قَدَرْنَا لَهُم عَلَى شَيْءٍ أَنَأْخُذُهُ؟

قَالَ: "لَا، أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَن ائْتَمَنَك وَلَا تَخُنْ مَن خَانَك".

فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تُبَيِّنُ: أَنَّ حَقَّ الْمَظْلُومِ فِي نَفْسِ الْأمْرِ إذَا كَانَ سَبَبُهُ لَيْسَ ظَاهِرًا، وأَخَذَهُ

(2)

خِيَانَةً: لَمْ يَكُن لَهُ ذَلِكَ.

وَإِن كَانَ هُوَ يَقْصِدُ أَخْذَ نَظِيرِ حَقِّهِ، لَكِنَّهُ خَانَ الَّذِي ائْتَمَنَهُ، فَإِنَّهُ لَمَّا سَلَّمَ إلَيْهِ مَالَهُ فَأَخَذَ بَعْضَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَالِاسْتِحْقَاقُ لَيْسَ ظَاهِرًا كَانَ خَائِنًا.

(1)

رواه أبو داود (3534)، والترمذي (1264)، والدارمي (2639)، وأحمد (15424). وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

(2)

في الأصل: (أخذه)، بدون واو، والمعنى لا يستقيم إلا بها، وقد نبّه على ذلك: منسق الكتاب للموسوعة الشاملة أسامة بن الزهراء.

ص: 351

وَإِذَا قَالَ: أنَا مُسْتَحِقٌّ لِمَا أَخَذْته فِي نَفْسِ الْأَمْرِ: لَمْ يَكُن مَا ادَّعَاهُ ظَاهِرًا مَعْلُومًا.

فَإِنْ قِيلَ: لَا ريبَ أَنَّ هَذَا يُمْنَعُ مِنْهُ ظَاهِرًا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُظْهِرَ ذَلِكَ قُدَّامَ النَّاسِ؛ لِأنَّهُم مَأْمُورُونَ بِإِنْكَارِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حَرَامٌ فِي الظَّاهِرِ، لَكِنَّ الشَّأْنَ إذَا كَانَ يُعْلَمُ سِرًّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ؟

قِيلَ: فِعْل ذَلِكَ سِرًّا يَقْتَضِي مَفَاسِدَ كَثِيرَةً مَنْهِيٌّ عَنْهَا، فَإِنَّ فِعْلَ ذَلِكَ فِي مَظِنَّةِ الظُّهُورِ وَالشُّهْرَةِ، وَفِيهِ ألَّا يَتَشَبَّهَ بِهِ مَن لَيْسَ حَالُهُ كَحَالِهِ فِي الْبَاطِنِ. [30/ 371 - 374]

* * *

(حكم المديون إذا تُوُفِّي وله عند صاحب الدَّين بضاعة تزيد على ثمن الدَّين)

3966 -

[لا يجوز أنْ يكذب على من كذب عليه، ولا يشهد بزور على من شهد عليه بزور، ولا يكفِّره بباطل كما كفَّره بالباطل، ولا يقذفه كذبًا كما قذفه كذبًا، ولا يفجر إذا خاصمه كما فجر هو، وكذلك لا يجوز أن يغرر في عقد عقده بينهما لأجل كونه غرر به، فلا يخونه كما خانه، والشارع نهى عن الخيانة لمن خانه، ولم يجعل ذلك قصاصًا، فلا يأخذ من ماله بغير علمه بقدر ما أخذه هو، وهذا أصح قولي العلماء]

(1)

.

وأما إذا كان الرجل غصب مال الرجل مجاهرة فغصب من ماله مجاهرة بقدر ماله: فليس هذا من هذا الباب؛ فإن الأول

(2)

: يؤدي إلى التأويلات الفاسدة، وأن يحلل لنفسه ما لا يحل له أخذه.

(1)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، ولا يتبين المراد إلا به.

(2)

الذي أخذ من مال الغاصب أو السارق خفيةً بغير علمه بقدر ما أخذ.

ص: 352

وهذا

(1)

يَعْرف ما أخذه فلا يأخذ إلا قدر حقه أو أكثر، ويكون معلومًا لا يمكن إنكاره. [المستدرك 4/ 79]

3967 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلٍ مَدْيُونٍ، وَلَهُ عِنْدَ صَاحِبِ الدَّيْنِ بِضَاعَةٌ، وَالثَّمَنُ سَبْعُونَ دِرْهَمًا، وَمِقْدَارُ الْبِضَاعَةِ تِسْعُونَ دِرْهَمًا، وَقَد تُوُفِّيَ الْمَدْيُونُ، وَاحْتَاطَ

(2)

عَلَى مَوْجودِهِ، فَأَرَادَ صَاحِبُ الدَّيْنِ أَنْ يُطْلِعَ الْوَرَثَةَ عَلَى الْبِضَاعَةِ، فاختشى أَنْ يَأْخُذُوهَا وَلَمْ يُوَصِّلُوهُ إلَى حَقِّهِ، وَإِن أَخْفَاهَا فَيَبْقَى إثْمُ فَرْطِهَا عَلَيْهِ، وَيَخَافُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِغَيْرِ الْبِضَاعَةِ؟

فَأَجَابَ: يَبِيعُهَا وَيَسْتَوْفِي مِن الثَّمَنِ مَا لَهُ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ مِن الْأُجْرَةِ وَالثَّمَنِ، وَمَا بَقِيَ يُوَصِّلُهُ إلَى مُسْتَحِقِّ تَرِكَتِهِ.

وَإِذَا حَلَّفُوهُ فَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِنْدِي غَيْرُ هَذَا، وَإِن أَحَبَّ أَنْ يَشْتَرِيَ بِضَاعَةَ مِثْل تِلْكَ الْبضَاعَةِ وَيَحْلِفَ أنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عِنْدَهُ إلا هَذَا، بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ الْبِضَاعَةُ مِثْل تِلْكَ أَو خَيْرًا مِنْهَا. [30/ 375 - 376]

* * *

(حكم دفع البهائم الداخلة إلى المزارع)

3968 -

لَيْسَ لَهُم [أي: المزارعين] دَفْعُ الْبَهَائِم الدَّاخِلَةِ إلَى زَرْعِهِمْ إلَّا بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ، فَإِذَا أَمْكَنَ إخْرَاجُهُمَا بِدُونِ الْعَرْقَبَةِ

(3)

فَعَرْقَبُوهُمَا عُزِّرُوا عَلَى تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَعَلَى الْعُدْوَانِ عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ بِمَا يَرْدَعُهُم عَن ذَلِكَ، وَضَمِنُوا لِلْمَالِكِ بَدَلَهُمَا.

وَعَلَى أَهْلِ الزرْعِ حِفْظُ زَرْعِهِمْ بِالنَّهَارِ، وَعَلَى أَهْلِ الْمَوَاشِي حِفْظُ مَوَاشِيهِمْ بِاللَّيْلِ، كَمَا قَالَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. [30/ 377]

* * *

(1)

الذي غصب من مال غاصبه مجاهرة بقدر ماله.

(2)

أي: استولى الدائن على البضاعة التي عنده.

(3)

أي: قَطْع عُرْقُوبِ الحيوانات.

ص: 353

(الرّجْلُ جُبَارٌ)

3969 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن غُلَامٍ فِي يَدِهِ فَرَسٌ، فَطَلَعَتْ نَعَامَةٌ مِن إصْطَبْلٍ، وَهَجَمَتْ عَلَى الْخَيْلِ، وَالْغُلَامُ مَاسِكٌ الْفَرَسَ، وَاثْنَانِ قُعُودٌ، فَرَفَسَ أَحَدَهُمَا وَتُوُفِّيَ، فَمَا يَجِبُ عَلَى الْغُلَامِ؟

فَأَجَابَ: إذَا رَفَسَتْهُ بِرِجْلِهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْغُلَامِ وَلَا عَلَى صَاحِبِ الْفَرَسِ؛ بَل الْفَرَسُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ؛ كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ.

وَفِي "السُّنَنِ" عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "الرّجْلُ جُبَار"

(1)

.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَضْمَنُ مَا ضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ إذَا كَانَ عَلَى الْفَرَسِ رَاكِبٌ، أَو قَائِدٌ، أَو سَائِقٌ، كَمَا وَافَقَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْيَدِ.

وَأَمَّا إذَا لَمْ يفَرِّط الْغُلَامُ الَّذِي هُوَ مُمْسِكٌ لِلْفَرَسِ: فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ؛ مِثْل أَنْ تجْفَلَ الْفَرَسُ وَيُحَذِّرَ الْقَرِيبَ مِنْهَا، فَيَقُولُ: حَاذِرُوا، فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ فَمَن رَفَسَتْ مِنْهُمَا كَانَ هُوَ الْمُفَرِّطُ، وَلَمْ يَكُن عَلَى أَحَدٍ ضَمَانٌ بِاتّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. [30/ 379]

* * *

(بَابُ الشُّفْعَةِ)

(2)

3970 -

إنما تجب في عقارٍ تجب قسمته.

(1)

رواه أبو داود (4592)، وقال:"الدَّابَّةُ تَضْرِبُ بِرِجْلِهَا وَهُوَ رَاكِبٌ".

وضعَّفه الألباني في ضعيف أبي داود.

(2)

قال في زاد المستقنع: هِيَ اسْتِحْقَاقُ انْتِزَاعِ حِصَّةِ شَرِيكِهِ مِمَّنِ انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ بعِوَضٍ مَالِيٍّ بثَمَنِهِ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ العَقْدُ.

قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله: مثال ذلك: رجلان شريكان في أرض فباع أحدهما نصيبه على ثالث، فللشريك الذي لم يبع أن ينتزع من المشتري هذا النصيب قهرًا عليه، ويضمه إلى ملكه، فتكون الأرض كلها للشريك الأول الذي لم يبع. =

ص: 354

وعنه: أو لا

(1)

، اختاره ابن عقيل وشيخنا

(2)

. [المستدرك 4/ 85]

3971 -

اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ فِي الْعَقَارِ الَّذِي يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ -قِسْمَةَ الْإِجْبَارِ-؛ كَالْقَرْيَةِ وَالْبُسْتَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

= وقوله: "استحقاق انتزاع" الحقيقة أن في هذا التعريف نظرًا؛ لأن الشفعةَ حقيقةً انتزاعُ الحصة، وليس استحقاقًا؛ لأن هذا المستحق لو لم ينتزع لم تثبت الشفعة، لكن لا يستحق الانتزاع إلا بشروط، فالصواب أن يقال في التعريف: "الشفعة انتزاع حصة الشريك ممن انتقلت إليه

" إلخ، دون أن يقال: "استحقاق"؛ لأن هناك فرقًا بين الاستحقاق وبين الانتزاع، ولهذا لو باع أحد الشريكين نصيبه فالشريك الأول مستحق، فإذا أجاز البيع ولم يأخذه فهل هناك شفعة؟ لا. اهـ. الشرح الممتع (10/ 230).

(1)

أي: أو لا تجب القسمة.

(2)

مذهب الحنابلة أنّ الشفعة لشريك فى أرض تجب قسمتها، وعلى هذا فالجار لا شفعة له. ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية والعلَّامة ابن عثيمين الشفعة للجار؛ لقول جابر رضي الله عنه:"قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة".

فالحديث بيَّن أن الجار له الشفعة في حال، وليس له الشفعة في حال، فإذا كانت الطريق واحدة، أو الماء الذي يسقى به الزرع واحدًا، أو أي شيء اشتركا فيه من حق الملك فإن الشفعة ثابتة، وإذا لم يكن بينهما حق مشترك فلا شفعة.

وخرج بقولهم: "في عقار": الشريك في غير عقار؛ كالشريك في سيارة، والشريك في دكان وما أشبه ذلك، فإنه لا شفعة فيما لو باع نصيبه على آخر.

ورجح العلَّامة ابن عثيمين الشفعة فيها كلها.

وقولهم: "تجب قسمته" احترازًا من الأرض التي لا تجب قسمتها، وهي التي متى طلب أحد الشركاء القسمة قسمت إجبارًا.

وإذا كانت الأرض لا تنقسم إلا بضرر، أو رد عوض فالقسمة اختيارية، مثال ذلك: رجلان بينهما أرض مقدارها عشرة أمتار في عشرة أمتار، فلو طلب أحدهما القسمة وأبى الآخر: فلا يجبر على القسمة؛ لأنه إذا قسمت فسدت ولم تصلح لبناء شيء، فهذه ليس فيها شفعة.

وإذا كانت تنقسم بدون ضرر، ولا ردّ عوض: فالقسمة إجبارية، كالأراضي الواسعة.

والحنابلة يرون أن الشريك في الأرضى الصغيرة إذا باع نصيبه على شخص، فليس لشريكه في هذه الأرض أن يشفع.

مع أنها أولى بالشفعة من الأرض الكبيرة؛ لأن الصغيرة لا يمكن قسمتها، ولا يمكن التخلص من الشريك الجديد، والكبيرة يمكن أن يتخلص من الشريك الجديد بطلب القسمة.

ولهذا كان الأولى أن يقال: الأرض التي لا تجب قسمتها ولا تقسم إلا بالاختيار أولى بثبوت الشفعة من الأرض التي تقسم إجبارًا، وهذا هو المعقول.

يُنظر: الشرح الممتع (10/ 243 - 246)، المغني (5/ 459 - 465).

ص: 355

وَتَنَازَعُوا فِيمَا لَا يَقْبَلُ قِسْمَةَ الْإِجْبَارِ، وَإِنَّمَا يُقْسَمُ بِضَرَرٍ أَو رَدِّ عِوَضٍ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّرَاضِي: هَل تَثْبُت فِيهِ الشُّفْعَةُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: تَثْبُتُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ

(1)

كمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللهُ.

وَالثَّانِي: لَا تَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.

وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ فَإِنَّهُ قَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ"

(2)

عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَن كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فِي أَرْضٍ أَو رَبْعَةٍ أو حَائِطٍ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِن شَاءَ تَرَكَ، فَإِنْ بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَفوَ أَحَقُّ بِهِ".

وَلَمْ يَشْتَرِط النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَرْضِ وَالرَّبْعَةِ وَالْحَائِطِ أَنْ يَكونَ مِمَّا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ، فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ كَلَام الرَّسُولِ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ مِن كَلَامِهِ، لَا سِيَّمَا وَقَد ذَكَرَ هَذَا فِي بَابِ تَأْسِيسِ إثْبَاتِ الشُّفْعَةِ.

وَلَيْسَ عَنْهُ لَفْظٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي الشُّفْعَةِ أَثْبَتُ مِن هَذَا.

وَقَد تَنَازَعَ النَّاسُ فِي شُفْعَةِ الْجَارِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، أَعْدَلُهَا هَذَا الْقَوْلُ: أنَّهُ إنْ كَانَ شَرِيكًا فِي حُقُوقِ الْمِلْكِ ثَبَتَتْ لَهُ الشُّفْعَةُ وَإِلَّا فَلَا.

وَأَيْضًا: فَمِن الْمَعْلُوم أنَّهُ إذَا أَثْبَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الشُّفْعَةَ فِيمَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ، فَمَا لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ أَوْلَى بِثبوتِ الشُّفْعَةِ فِيهِ؛ فَإِن الضَّرَرَ فِيمَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ يُمْكنُ رَفْعُهُ بِالْمُقَاسِمَةِ، وَمَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ الْقِسْمَةُ يَكُونُ ضَرَرُ الْمُشَارَكَةِ فِيهِ أَشَدَّ. [30/ 381 - 383]

3972 -

الِاحْتِيَالُ عَلَى إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الِاحْتِيَالِ عَلَيْهَا قَبْلَ وُجُوبِهَا وَبَعْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ، وَهُوَ مَا إذَا

(1)

وهو اختيار العلَّامة ابن عثيمين. الشرح الممتع (10/ 245).

(2)

رواه مسلم (1608).

ص: 356

أَرَادَ الْمَالِكُ بَيْعَ الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ، مَعَ أَنَّ الصَّوَابَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاحْتِيَالُ عَلَى إسْقَاطِ حَقِّ مُسْلِمٍ، وَمَا وُجدَ مِن التَّصَرُّفَاتِ لِأَجْلِ الِاحْتِيَالِ الْمُحَرَّمِ فَهُو بَاطلٌ. [30/ 386]

3973 -

تثبت شفعة الجوار مع الشركة في حقٍّ من حقوق الملك: من طريق أو ماء أو نحو ذلك نصَّ عليه أحمد. [المستدرك 4/ 85]

3974 -

إذا حابى البائع المشتري بالثمن محاباة خارجة عن العادة: يتوجه ألا يكون [للشريك]

(1)

أخذه إلا بالقيمة، أو أن لا شفعة له؛ فإن المحاباة بمنزلة الهبة من بعض الوجوه. [المستدرك 4/ 85]

3975 -

أولى الروايات في مذهب الإمام أحمد أنه لا شفعة لكافر على مسلم.

وقد يفرق بين أن يكون الشقص لمسلم فلا تجب الشفعة، أو لذمي فتجب.

وحينئذٍ فهل العبرة بالبائع أو المشتري أو كليهما أو أحدهما؟ أربع احتمالات. [المستدرك 4/ 85]

3976 -

لو ترك الولي شفعة موليه فنصه: لا يسقط.

وقيل: بلى.

وقيل: مع عدم الحظ.

قلت: قال في تصحيح الفروع بعد أن ذكر وجهين: والوجه الثالث: إن كان فيها حظ لم تسقط، وإلا سقطت، وعليه أكثر الأصحاب. واختاره الشيخ تقي الدين. [المستدرك 4/ 85 - 86]

(1)

في الأصل: (للمشتري)، ولا يستقيم المعنى بذلك.

وجاء في حاشية الاختيارات عند هذه الكلمة: لعله: للشريك. اهـ.

ص: 357

3977 -

إن أسقط الشفعة قبل البيع لم تسقط.

ويحتمل أن تسقط، وهو رواية عن الإمام أحمد. واختاره الشيخ تقي الدين. [المستدرك 4/ 86]

3978 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلٍ اشْتَرَى نِصْفَ حَوْشٍ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ اشْتَرَاهُ رَجُلٌ آخَرُ، وَأَوْقَفَ حِصَّتَهُ قَبْلَ طَلَبِ الشَّرِيكِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّ الشَّرِيكَ الْأَوَّلَ قَالَ: أَنَا آخُذُهُ بِالشُّفْعَةِ، فَهَل لَهُ ذَلِكَ؟

فَأَجَابَ: إذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ؛ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ الثَّانِيَ وَقَفَهُ فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ، وَشُفْعَةُ الْأَوَّلِ بَطَلَتْ؛ لِكَوْنِهِ أَخَّرَ الطَّلَبَ بَعْدَ عِلْمِهِ حَتَى خَرَجَتْ عَن مِلْك الْمُشْتَرِي بِوَقْف أَو غَيْرِهِ، فَلَا شُفْعَةَ.

وَإِن كَانَ قَد أَخْرَجَهُ مِن مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِالْبَيْعِ: فَلَهُ الشُّفْعَةُ.

وَأَمَّا الْوَقْفُ وَالْهِبَةُ فَفِيهِ نِزَاعٌ. [30/ 387]

* * *

(بَابُ الْوَدِيعَةِ)

3979 -

لو أودع المودَعُ بلا عذر ضمن

(1)

، والمودَع الثاني: لا يضمن إن جهل

(2)

، وهو رواية عن أحمد.

وكذا المرتهن منه. وهو وجه في المذهب. [المستدرك 4/ 86]

3980 -

لو قال المودَع: أودعنيها

(3)

الميتُ، وقال: هي

(4)

لفلان، وقال ورثته: بل هي له وليست لفلان، ولم يُقم بينة أنها كانت للميت ولا على الإيداع؟

(1)

أي: إذا أَوْدَعَ الْمُودَعَ الْوَدِيعَةَ لِأجْنَبِيٍّ أو حَاكِمٍ فَلَا يَخْلُو: فَإِمَّا أنْ يَكونَ لِعُذْرٍ أو غَيْرِهِ، فَإِنْ كان لِعُذْرٍ جَازَ على الصَّحِيحِ من الْمَذْهَبِ.

وإن كان لغير عذر فلا يجوز، ويضمن المودَع الأول.

(2)

وإن كان يعلم ضمن.

(3)

في الأصل: (أودعتها)، والتصويب من الاختيارات (244)، وكشاف القناع (4/ 183).

(4)

أي: الوديعة.

ص: 358

قال أبو العباس: أفتيت أن القول قول المودَع مع يمينه؛ لأنه قد ثبتت له اليد. [المستدرك 4/ 86]

3981 -

إذا تلفت الوديعة فللمودِع قبض البدل؛ لأن من يملك قبض العين يملك قبض البدل؛ كالوكيل وأولى. [المستدرك 4/ 86]

3982 -

إذا استعمل كاتبًا خائنًا أو عاجزًا: أثم بما أذهب من حقوق الناس لتفريطه. [المستدرك 4/ 86]

3983 -

إن دفعها إلى أجنبي أو حاكم ضمن، وليس للمالك مطالبة الأجنبي. واختاره الشيخ تقي الدين رحمه الله. [المستدرك 4/ 87]

3984 -

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله: عَن دَلَّالٍ أَعْطَاهُ إنْسَانٌ قُمَاشًا لِيَخْتِمَهُ وَيَبِيعَهُ، فَمَا وَجَدَ الْخَتَّامَ، فَأَوْدَعَهُ عِنْدَ رِجْلٍ خَيَّاطٍ أَمِينٍ عَادَتُهُم يُودِعُونَ عِنْدَهُ، فَحَضَرَ صَاحِبُ الْقُمَاشِ هُوَ وَدَلَّالٌ آخَرُ، وَأَخَذُوا الْقُمَاشَ مِن عِنْدِهِ، وَلَمْ يَكُن الَّذِي أَوْدَعَهُ حَاضِرًا، فَادَّعَى صَاحِبُ الْقُمَاشِ أَنَّهُ عُدِمَ لَهُ مِنْهُم ثَوْبٌ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الدَّلَّالُ، فَهَل يَلْزَمُ الدَّلَالَ الَّذِي كَانَت عِنْدَهُ الْوَدِيعَةُ شَيْءٌ؟

فَأَجَابَ: إذَا اذَعَوْا

(1)

عَدَمَ قَبْضِ الْوَدِيعَةِ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الدَّلَّالُ

(2)

: فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ

(3)

مَعَ يَمِينِهِ، مَا لَمْ تَقُمْ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ عَلَى تَصْدِيقِ دَعْوَاهُمْ.

وَأَمَّا إذَا عُدِمَ مِنْهَا شَيْءٌ: فَإِنْ كَانَ الدَّلَّالُ فَرَّطَ بِحَيْثُ فَعَلَ مَا لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ لَفْظًا وَلَا عُرْفًا: ضَمِنَ.

فَإِذَا كَانَ مِن عَادَتِهِمْ الْإِيدَاعُ عِنْدَ هَذَا الْأَمِينِ، وَأَصْحَابُ الْقُمَاشِ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَيُقِرُّونَهُ عَلَيْهِ: فَلَا ضَمَانَ عَلَى الدَّلَّالِينَ. [30/ 389]

3985 -

وَسُئِلَ رضي الله عنه: عَن رَجُلٍ مَاتَ وَتَرَكَ بِنْتَيْنِ وَزَوْجَةً، وَإِحْدَى الْبِنْتَيْنِ

(1)

أي: الْمُودِعون.

(2)

أي: أنكر أنهم ما قبضوا.

(3)

أي: قول الدلال، الذي هو الْمُودَع.

ص: 359

غَائِبَةٌ، فَهَل يَجُوزُ لِمَن لَهُ النَّظَرُ عَلَى هَذِهِ التَّرِكَةِ

(1)

أَنْ يُودِعَ مَالَ الْغَائِبَةِ بِحَيْثُ لَا يُعْلَمُ هَل يَحْفَظُهُ الْمُودَعُ عِنْدَهُ أَمْ يَتَصَرَّفُ فِيهِ لِنَفْسِهِ؟

وَإِذَا حَدَثَ مَظْلِمَةٌ عَلَى جُمْلَةِ التَّرِكَةِ: هَل يَخْتَصُّ بِاسْتِدْفَاعِهَا عَن التَّرِكَةِ مَالُ الْغَائِبَةِ، أَو يَعُمُّ جَمِيعَ الْمَالِ الْمَتْرُوكِ؟

فَأَجَابَ: هَذَا الْمَالُ صَارَ تَحْتَ يَدِهِ

(2)

أَمَانَةً، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْفَظَهُ حِفْظَ الْأَمَانَاتِ، وَلَا يُودِعَهُ إلَّا لِحَاجَةٍ.

فَإِنْ أَوْدَعَهُ عِنْدَ مَن يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ حِفْظُهُ لَهُ؛ كَالْحَاكِمِ الْعَادِلِ إنْ وُجِدَ أَو غَيْرِهِ، بِحَيْث لَا يَكُونُ فِي إيدَاعِهِ تَفْرِيطٌ: فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.

وَإِن فَرَّطَ فِي إيدَاعِهِ فَأوْدَعَهُ لِخَائِنٍ أَو عَاجِزٍ مَعَ إمْكَانِ أَلَّا يَفْعَلَ ذَلِكَ: فَهُوَ مُفَرِّطٌ ضَامِنٌ.

وَأَمَّا الْمُودَع إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ وَدِيعَةٌ عِنْدَهُ: فَفِي تَضْمِينِهِ قَوْلَانِ لأَهْلِ الْعِلْمِ فِي مَذْهَبِ أحْمَد وَغَيْرِهِ، أَظْهُرُهُمَا أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. [30/ 390 - 391]

3986 -

لَو صَرَّحَ الْوَصِيُّ بِتَخْصِيصِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ بِالْمَالِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ بِدُونِ إجَازَةِ الْبَاقِينَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. [30/ 393]

3987 -

أُمُّ الْوَلَدِ لَا تَرِثُ مِن سَيِّدِهَا شَيْئًا، لَكنْ إذَا مَاتَ أَحَدُ بَنِيهَا [وَرِثَتْ مِنْهُ]

(3)

. [30/ 393]

3988 -

وَسُئِلَ: عَن رَجُلٍ تَحْتَ يَدِهِ بَعِيرٌ وَدِيعَةَ، فَسُرِقَ مِن جُمْلَةِ إبِلِهِ، ثُمَّ لَحِقَ السَّارِقَ وَأَخَذَ مِنْهُ الْإِبِلَ، وَامْتَنَعَ مِن دَفْع ذَلِكَ الْبَعِيرِ لِلْمُودَع حَتَّى يَحْلِفَ أَنَّهُ كَانَ الْبَعِيرُ عَلَى مِلْكِهِ، فَحَلَفَ بِاللهِ الْعَظِيمِ أَنَّهُ عَلَى مُلْكِهِ، وَقَصَدَ بذَلِكَ مِلْكَ الْحِفْظِ؟

(1)

أي: المسؤول عنها، وهو الوصيّ.

(2)

أي: الوصيّ.

(3)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، بل في كتب ورسائل وفتاوى شيخ الاسلام ابن تيمية (30/ 393).

ص: 360

فَأَجَابَ: أَمَّا إذَا [قَصَد]

(1)

مُلْكَ قَبْضهِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَلَا إثْمَ.

وَإِن قَصَدَ أَنَّهُ مَلَكَهُ الْمِلْكَ الْمَعْرُوفَ فَهَذَا كَذِبٌ، لَكِنَّهُ إذَا اعْتَقَدَ جَوَازَ هَذَا لِدَفْعِ الظُّلْمِ، وَفِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةٌ عَن الْكَذِبِ، وَلْيَسْتَغْفِر اللهَ مِن ذَلِكَ وَيَتُبْ

(2)

إلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. [30/ 394]

* * *

‌(حكم الِاقْتِرَاضِ مِن الْوَدِيعَةِ بِلَا إذْنِ صاحبها

؟)

3989 -

أَمَّا الِاقْتِرَاضُ مِن مَالِ الْمُودِعِ: فَإِنْ عَلِمَ الْمُودَعُ عِلْمًا اطْمَأَنَّ إلَيْهِ قَلْبُهُ أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ رَاضٍ بِذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ.

وَهَذَا إنَّمَا يُعْرَفُ مِن رَجُلٍ اخْتَبَرْتَه خِبْرَةً تَامَّةً، وَعَلِمْت مَنْزِلَتَك عِنْدَهُ، كَمَا نُقِلَ مِثْلُ ذَلِكَ عَن غَيْرِ وَاحِدٍ، وَكَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ فِي بُيُوتِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، وَكَمَا بَايَعَ عَن عُثْمَانَ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ غَائِبٌ.

وَمَتَى وَقَعَ فِي ذَلِكَ شَكٌ: لَمْ يَجُزْ الِاقْتِرَاضُ

(3)

. [30/ 394 - 395]

* * *

‌(ما الحكم إذا ادَّعَى الْمُودَع أَنَّ الْوَدِيعَةَ ذَهَبَتْ دُونَ مَالِهِ

؟)

3990 -

إذَا ظَهَرَ أَنَ الْمَالَ الَّذِي لِلْمُودِعِ لَمْ يَذْهَبْ، فَادَّعَى [أي: الْمُودَع] أَنَّ الْوَدِيعَةَ ذَهَبَتْ دُونَ مَالِهِ: فَهُنَا يَكُونُ ضَامِنًا لِلْوَدِيعَةِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ؛ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه ضَمَّنَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَدِيعَةً ادَّعَى أَنَّهَا ذَهَبَتْ دُونَ مَالِهِ.

(1)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، والمعنى لا يستقيم إلا به.

(2)

هكذا في النسخة التي حققها: أنور الباز - عامر الجزار، وهي الصواب؛ لأنها معطوفة على مجزوم، وفي نسخة الملك فهد والنسخة القديمة:(ويتوب).

(3)

ولا يدخل في ذلك من أودع زكاةً ليصرفها إلى مستحقّها، فلا يجوز له الاقتراض منها مطلقًا؛ لتعلق حق الفقراء بها، ووجوب صرفها على الفور.

ص: 361

وَأَمَّا إذَا ادَّعَى أَنَّهُ ذَهَبَ جَمِيعُ الْمَالِ ثُمَّ ظَهَرَ كَذِبُهُ: فَهُنَا وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ أَوْكَدُ.

فَإِذَا ادَّعَى الْمُودِعُ صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ أَنَّهُ طَلَبَ الْوَدِيعَةَ مِنْهُ فَلَمْ يُسَلِّمْهَا إلَيْهِ، أَو أَنَّهُ خَانَ فِي الْوَدِيعَةِ وَلَمْ تَتْلَفْ: كَانَ قَبُولُ قَوْلِهِ مَعَ يَمِينِهِ أَقْوَى وَأَوْكَدَ؛ بَل يَسْتَحِقُّ فِي مِثْل هَذِهِ الصُّورَةِ التَّعْزِيرَ الْبَلِيغَ الَّذِي يَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ عَن الْكَذِبِ. [30/ 396]

3991 -

إنْ تَلِفَتْ [أي: الوديعةُ] بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ [أي: الْمُودَع] وَلَا عُدْوَانٍ لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانٌ.

وَإِذَا ذَهَبَتْ مَعَ مَالِهِ كَانَ أَبْلَغَ

(1)

.

وَإِذَا ادَّعَى ذَلِكَ بِسَبَبِ ظَاهِرٍ مَعْلُومٍ: كُلِّفَ الْبَيِّنَةَ وَقُبِلَ قَوْلُهُ. [30/ 397]

* * *

(بَابُ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ)

3992 -

حريم البئر

(2)

العادية -وهي التي أعيدت-: خمسون ذراعًا. [المستدرك 4/ 87]

3993 -

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله: عَن حُكْمِ الْبِنَاءِ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ الْوَاسِعِ إذَا كَانَ الْبِنَاءُ لَا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ؟

فَأَجَابَ: إنَّ ذَلِكَ نَوْعَانِ:

(1)

قال الشيخ: لَمْ يَضْمَنْهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ؛ أي: إذا عُدِمَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ وَلَا عُدْوَانٍ مِن الْمُودَعِ وَعُدِمَتْ مَعَ مَالِهِ.

وقال: وَكَذلِكَ إذَا عُدِمَتْ بتَفْرِيطِ صَاحِبِهَا فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُودَعِ سَوَاءٌ ضَاعَتْ وَحْدَهَا أَو ضَاعَتْ مَعَ مَالِهِ. اهـ. (30/ 398)

مثال تفريط صاحبها: أن يطلب الْمُودَع من صاحبِها أنْ يأخذها فيُماطل حتى تلفت.

(2)

أي: محارم الشيء؛ أي: ما حوله. فيملك خمسين ذراعًا من كل جانب.

والشيخ وافق المذهب في هذا.

ص: 362

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبْنِيَ لِنَفْسِهِ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ فِي الْمَشْهُورِ مِن مَذْهَبِ أَحْمَد، وَجَوَّزَهُ بَعْضُهُم بِإِذْنِ الْإِمَامِ.

وَفِي الْجُمْلَةِ: فِي جَوَازِ الْبِنَاءِ الْمُخْتَصِّ بِالْبَانِي الَّذِي لَا ضَرَرَ فِيهِ أَصْلًا بِإِذْنِ الْإِمَامِ

(1)

. قَوْلَانِ:

وَنَظِيرُ هَذَا إذَا أَخْرَجَ رَوْشَنًا

(2)

أَو مِيزَابًا إلَى الطَّرِيقِ النَّافِذِ وَلَا مَضَرَّةَ فِيهِ

(3)

، فَهَل يَجُوزُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد:

أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ كَمَا اخْتَارَهُ ابْن عَقِيلٍ وَأَبُو الْبَرَكَاتِ.

وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ.

وَمَن جَوَّزَ ذَلِكَ احْتَجَّ بِحَدِيثِ مِيزَابِ الْعَبَّاسِ

(4)

.

النَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يَبْنِيَ فِي الطَّرِيقِ الْوَاسِعِ مَا لَا يَضُرُّ الْمَارَّة لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ مِثْل بِنَاءِ مَسْجِدٍ يَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاسُ، أَو تَوْسِيعِ مَسْجِدٍ ضَيِّقٍ بِإِدْخَالِ بَعْضِ الطَّرِيقِ الْوَاسِعِ فِيهِ، أَو أَخْذِ بَعْضِ الطَّرِيقِ لِمَصْلَحَةِ الْمَسْجِدِ؛ مِثْل حَانُوتٍ يَنْتَفِعُ بِهِ الْمَسْجِدُ، فَهَذَا النَّوْعُ يَجُوزُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد الْمَعْرُوفِ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَكِنْ: هَل يَفْتَقِرُ إلَى إذْنِ وَلِيِّ الْأَمْرِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ عَن أَحْمَد. [30/ 399 - 403]

* * *

(1)

يُفهم من كلامه أنه إذا لم يكن بإذن الإمام فلا يجوز وجهًا واحدًا.

(2)

الروشن: هو أن يجعل سقفًا لا يتصل بالجدار الآخر، وإذا اتصل بالجدار الآخر سُمي ساباطًا.

(3)

هذا شرط مهم، فمن وضع مظلةً لسيارته عند باب بيته وتكون أعمدة المظلة في الطريق فإن ذلك لا يجوز.

(4)

اختاره العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله وقال: الصحيح أنه لا بأسَ أنْ يُخْرِجَ ما جرتْ به العادة، مِمَّا لا يضر الناس وبإذن الإمام، فإن كان مما يضرهم فإنه لا يجوز حتى لو أذن من له الولاية على البلد، كرئيس البلدية -مثلًا-. اهـ. الشرح الممتع (9/ 254).

ص: 363

(باب الجعالة)

3994 -

من استنقذ مال غيره من الهلكة ورده: استحق أجرة المثل ولو بغير شرط في أصح القولين، وهو منصوص أحمد وغيره. [المستدرك 4/ 87]

* * *

(بَابُ اللُّقَطَةِ)

3995 -

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَام رحمه الله: عَن رَجُلٍ وَجَدَ فَرَسًا لِرَجُل مِن الْمُسْلِمِينَ مَعَ أُنَاسٍ مِن الْعَرَبِ، فَأَخَذَ الْفَرَسَ مِنْهُمْ، ثُمَّ إنَّ الْفَرَسَ مَرِضَ بِحَيْثُ إنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمَشْيِ، فَهَل لِلْآخِذِ بَيْعُ الْفَرَسِ لِصَاحِبِهَا؟

فَأَجَابَ: نَعَمْ يَجُوزُ؛ بَل يَجِبُ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يَبِيعَهُ الَّذِي اسْتَنْقَذَهُ لِصَاحِبِهِ وَإِن لَمْ يَكُن وَكَّلَهُ فِي الْبَيْعِ، وَقَد نَصَّ الْأَئِمَّةُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَنَظَائِرِهَا، وَيَحْفَظُ الثَّمَنَ

(1)

[30/ 411]

3996 -

وَسُئِلَ: عَن رَجُلٍ لَقِيَ لَقِيَّةٌ فِي وَسَطِ فَلَاةٍ، وَقَد أَنْشَدَ عَلَيْهَا إلَى حَيْثُ دَخَلَ إلَى بَلَدِهِ، فَهَل هِيَ حَلَالٌ؟

فَأَجَابَ: يُعَرِّفُهَا سَنَةً قَرِيبًا مِن الْمَكَانِ الَّذِي وَجَدَهَا فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ بَعْدَ سَنَةٍ صَاحِبَهَا فَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا، وَلَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا. [30/ 411 - 412]

3997 -

وَسُئِلَ رحمه الله: لَمَّا جَاءَ التَّتَارُ وَجَفَلَ النَّاسُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، وَخَلَّفُوا

(1)

وأفتى الشيخ في نظائر هذه المسألة بوُجُوب أُجْرَةِ الْمِثْل لِمَن سَعَى في حفظِ متاع الغيرِ إذا كان فيه كُلْفَة، وقال -فيمن جَمَعُوا الزَّيْتَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ-: وَهُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمُخَلِّصَ مُتَبَرِّعٌ.

وَأَصْحَابُ [هذا] الْقَوْلِ يَقُولُونَ: إنْ خَلَّصُوهُ للهِ تَعَالَى فَأَجْرُهُم عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَإِن خَلَّصُوهُ لِأَجْلِ الْعِوَضِ فَلَهُم الْعِوَضُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَو لَمْ يُفْعَلْ لَأَفْضَى إلَى هَلَاكِ الْأَمْوَالِ ..

فَإِنَّ عَادَةَ النَّاسِ أَنَّهُم يَطْلُبُونَ مَن يُخَلِّصُ لَهُم هَذَا بِالْأُجْرَةِ.

وَالْإِجَارَةُ تَثْبُتُ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، كَمَن دَخَلَ إلَى حَمَّامٍ، أَو رَكِبَ فِي سَفِينَةٍ بِغَيْرِ مُشَارَطَةٍ، وَكَمَنَ دَفَعَ طَعَامًا إلَى طَبَّاخٍ وَغَسَّالٍ بِغَيْرِ مُشَارَطَةٍ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مُتَعَدِّدَةٌ. (30/ 415)

ص: 364

دَوَابَّ وَأَثَاثًا مِن النُّحَاسِ وَغَيْرِهِ وَضَمَّهُ مُسْلِمٌ وَطَالَتْ مُدَّتُهُ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ صَاحِبٌ وَلَا مُنْشِدٌ، وَهُوَ يَسْتَعْمِلُ الدَّوَابَّ وَالْمَتَاعَ، فَمَا يَصْنَعُ؟

فَأَجَابَ: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى مِن يَنْتَفِعُ بِهِ. [30/ 413 - 414]

3998 -

الرُّمَّانُ إذَا لَمْ يُعْرَفْ صَاحِبُهُ: فَهُوَ كَاللُّقَطَةِ، وَاللُّقَطَةُ إنْ رُجِيَ وُجُودُ صَاحِبِهَا عُرِّفَتْ حَوْلًا، وَإِن كَانُوا لَا يَرْجُونَ وُجُودَ صَاحِبِهِ فَفِي تَعْرِيفِهِ قَوْلَانِ، لَكِنْ عَلَى الْقَوْلَيْنِ لَهُم أَنْ يَأْكُلُوا الرُّمَّانَ أَو يَبِيعُوهُ وَيَحْفَظُوا ثَمَنَهُ ثُمَّ يُعَرِّفُوهُ بَعْدَ ذَلِكَ. [30/ 416]

3999 -

وَسُئِلَ -قَدَّسَ اللهَ رُوحَهُ-: عَمَّن وَجَدَ طِفْلًا وَمَعَهُ شَيْءٌ مِن الْمَالِ، ثُمَّ رَبَّاهُ حَتَّى بَلَغَ مِن الْعُمْرِ شَهْرَيْنِ، فَجَاءَ رَجُلٌ آخَرُ لِتُرْضِعَهُ امْرَأَتُهُ للهِ، فَلَمَّا كَبُرَ الطِّفْلُ ادَّعَت الْمَرْأَةُ أَنَّهُ ابْنُهَا، وَأَنَّهَا رَبَّتْهُ فِي حِضْنِ أَبِيهِ، فَهَل يُقْبَلُ قَوْلُهَا؟

فَأَجَابَ: إذَا كَانَ الطِّفْلُ مَجْهُولَ النَّسَبِ وَادَّعَتْ أَنَّهُ ابْنُهَا: قُبِلَ قَوْلُهَا فِي ذَلِكَ، وَيُصْرَفُ مِن الْمَالِ الَّذِي وُجِدَ مَعَهُ فِي نَفَقَتِهِ مُدَّةَ مُقَامِهِ عِنْدَ الْمُلْتَقِطِ. [30/ 416]

4000 -

لا تملك لقطة الحرم بحال، ويجب تعريفها أبدًا، وهو رواية عن أحمد.

وتضمن اللقطة بالمثل؛ كبدل القرض.

وإذا قلنا بالقيمة فالقيمة يوم ملكها. [المستدرك 4/ 88]

4001 -

وإذا باع الملتقط اللقطة بعد الحول ثم جاء ربها: فالأشبه أن المالك لا يملك انتزاعها من المشتري. [الاختيارات 246]

4002 -

لو وجد لقطة في غير طريق مأْتِيّ: فهي لقطة على الصحيح من المذهب، قدمه في الفائق.

ص: 365

واختار الشيخ تقي الدين أنها كالركاز

(1)

. [المستدرك 4/ 88]

4003 -

من استنقذ فرسًا من أيدي العرب، ثم مرض الفرس ولم يقدر على المشي: جاز له بيعه؛ بل يجب في هذه الحال أن يبيعه لذمة صاحبه، وإن لم يكن وكيله، نصَّ عليه الأئمة، ويحفظ الثمن. [المستدرك 4/ 88]

* * *

(باب اللقيط)

4004 -

ذكر ابن أبي موسى في "الإرشاد" أن بعض شيوخه حكى رواية عن الإمام أحمد أن الملتقط يرثه (يرث اللقيط)، واختاره الشيخ تقي الدين رحمه الله ونصره. [المستدرك 4/ 88]

* * *

(فتوى في جواز وضوابط رق الكافر)

4005 -

إذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ بِغَيْرِ أَمَانٍ

(2)

فَاشْتَرَى مِنْهُم أَوْلَادَهُم وَخَرَجَ بِهِم إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ: كَانُوا مِلْكًا لَهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُم لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرُوا مِنْهُ وَيَسْتَحِقّ عَلَى الْمُشْتَرِي جَمِيعَ الثَّمَنِ.

وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ الْحَرْبِيُّ نَفْسَهُ لِلْمُسْلِمِ وَخَرَجَ بِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مِلْكَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى؛ بَل لَو أَعْطَوْهُ أَوْلَادَهُم بِغَيْرِ ثَمَنٍ وَخَرَجَ بِهِم مَلكَهُمْ، فَكَيْفَ إذَا بَاعُوهُ ذَلِكَ.

(1)

فمن وجد لقطةً في غير طريق مسلوك: فهي لقطة على المذهب، تعرف، كما لو وجدها في طريق مسلوك.

ويرى شيخ الإسلام أنها تكون كالركاز، وهو ما يوجد من دفن الجاهلية، فلا يُشترط فيها حولان الحول؛ لأن وجوده يشبه الحصول على الثمار التي تجب الزكاة فيها من حين الحصول عليها عند الحصاد.

وفيه الخمس بمجرد وجوده؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وفي الركاز الخمس".

وهكذا اللقطة في غير الطريق المسلوك، يجوز التقاطها، ولا يجب تعريفها، وفيها الخمس.

(2)

أما إذا كان بأمان فلا يجوز؛ لأن شراءه منهم خيانة للأمان الذي عقده مع حاكمهم.

ص: 366

وَكَذَلِكَ لَو سَرَقَ أَنْفُسَهُم أَو أَوْلَادَهُم أَو قَهَرَهُم بِوَجْهٍ مِن الْوُجُوهِ؛ فَإِنَّ نُفُوسَ الْكُفَّارِ الْمُحَارَبِينَ وَأَمْوَالَهُم مُبَاحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا بِطَرِيقٍ مَشْرُوعٍ مَلَكُوهَا

(1)

.

وَإِنَّمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيما إذَا كَانَ مسْتَأْمَنًا

(2)

: فَهَل لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُم

(1)

وعلى هذا فالاسترقاق لم ينقطع إلى يومنا هذا، ولو لم يكن هناك جهاد قائم، فلو أنّ دولة كافرة حاربت المسلمين أو اغتصبت أرضهم جاز أنْ يشتري المسلم أولادهم، أو يسرقهم ويقهرهم، ويكون استرقاقًا شرعيًّا.

قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى: لكن تبقى مسألةُ التسرّي في ما يُسْلَمُ من نسائهم، هذا هو الذي نحن نتوقّف فيه؛ لأنّ هؤلاء غالبُهم لا يُقاتِلون تحت رايةٍ معيّنةٍ.

أمّا إذا كانوا يُقاتِلون تحت رايةٍ معيّنةٍ كالذين يُقاتِلون تحت راية البوسنة مثلًا، تحت الحكومة يعني، فإنّ ما غنموه كالذي يُغنَم في عهد الرّسول عليه الصلاة والسلام، يكون حلالًا، ويَصحُّ فيه التّسرّي للمَسبيّاتِ. اهـ.

أواخر الوجه الأوّل من الشّريط الثّاني عشرَ من شرح الشّيخ رحمه الله لحلية طالب العلم.

وقال العلَّامة ابن باز رحمه الله: إذا لزمته الكفارة لكونه هو السبب في موت الميت في الحادث، فإنه يكفر بعتق رقبة، يوجد في بعض أفريقيا رقاب تعتق في موريتانيا، فإذا استطاع أن يشتري بواسطة دار الإفتاء أو غيرها فلا بأس بذلك، يلزمه ذلك مع القدرة، فإن عجز صام شهرين متتابعين متى قدر ..

المذيع: جزاكم الله خيرًا، ذكرتم أن هناك بعض الرقاب تعتق في موريتانيا بالذات كم يكلف عتق الرقبة بالريال السعودي؟

قال الشيخ: عشرة آلاف ريال تقريبًا .. وقد اشترينا من هذا جملة وأعتقناها بواسطة مندوبنا في موريتانيا. اهـ. يُنظر الفتوى على الموقع الرسمي له صوتًا وكتابة:

http://www.binbaz.org.org.sa/mat/19308.

(2)

لا يخلو الكفار من أقسام ثلاثة:

القسم الأول: الذمي، وهو الذي بيننا وبينه ذمة; أي؛ عهد على أن يقيم في بلادنا معصومًا مع بذل الجزية.

القسم الثاني: المعاهد، وهو الذي يقيم في بلاده، لكن بيننا وبينه عهد أن لا يحاربنا ولا نحاربه.

القسم الثالث: المستأمِن، بكسر الميم: وهو طالب الأمان من الحربيين، وهو الذي ليس بيننا وبينه ذمة ولا عهد، لكننا أمناه في وقت محدد؛ كرجل حربي دخل إلينا بأمان للتجارة ونحوها، أو ليفهم الإسلام.

فكلام الشيخ لا يحتمل إلا القسم الثالث، فيجوز استرقاق الكافرة إذا كانت من دولة حربية، ما لم يترتب عليه مفاسد، والظاهر أنه لا يخلو استرقاقهن في هذا الزمن من المفاسد الكبيرة. =

ص: 367

أَوْلَادَهُمْ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ يَجُوزُ الشِّرَاءُ مِنْهُمْ، حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ مَنْصُوصَةٍ عَنْهُ: أَنَّهُ إذَا هَادَنَ الْمُسْلِمُونَ أَهْلَ بَلَدٍ وَسَبَاهُم مَن بَاعَهُم لِلْمُسْلِمِينَ جَازَ الشِّرَاءُ مِنْهُ.

وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى.

وَكَذَلِكَ لَو قَهَرَ أَهْلُ الْحَرْبِ بَعْضُهُم بَعْضًا، أَو وَهَبَ بَعْضُهُم بَعْضًا، أَو اشْتَرَى بَعْضُهُم بَعْضًا، أَو سَرَقَهُم وَبَاعَهُمْ، أَو وَهَبَهُم لِلْمُسْلِمِينَ: تَملَّكُوهُمْ؛ كَمَا يَمْلِكُهُم الْمُسْلِمُونَ إذَا مَلَكُوهُم بِالْقَهْرِ. [29/ 224 - 225]

* * *

‌(حكم الشراء من الْمُحتكِر

؟)

4006 -

سُئِلَ رحمه الله: عَمَّن ضَمِنَ مِن وُلَاةِ الْأمُورِ أَنْ لَا يُبَاعَ صِنْفٌ مِن الْأَصْنَافِ إلَّا مِن عِنْدِهِ، وَذَلِكَ الصِّنْفُ لَا يُوجَدُ إلَّا عِنْدَهُ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ، وَيُوجَدُ فِي الْأَمَاكِنِ الْقَرِيبَةِ مِن نَوَاحِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ؛ بِحَيْثُ تَكُونُ الْمَسَافَةُ مَا بَيْنَ مِصْرَ وَالْقَاهِرَةِ، فَهَل يَجُوزُ الِابْتِيَاعُ مِن هَذَا الْمُحْتَكِرِ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ: أَمَّا هُوَ نَفْسُهُ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مِن وَجْهَيْنِ:

أ- مِن جِهَةٍ أَنَّهُ يَمْنَعُ غَيْرَهُ مِن الْبَيْعِ الْحَلَالِ.

ب- وَمِن جِهَةٍ أَنَّهُ يَضْطَرُّ النَّاس إلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ حَتَّى يَشْتَرُوا مَا يُرِيدُ فَيَظْلِمُهُم بِزِيَادَةِ الثَّمَنِ.

= ولا يجوز استرقاق الكافرات الذميات ولا المعاهدات، فأما الذميات فلا وجود لهن في هذا الزمن، وأما المعاهدات فهن رعايا أكثر دول الكفر في هذا الزمن، فلا يجوز استرقاقهن ولو برضاهن.

لكن ذكر الشيخ عن أَبي حَنِيفَةَ وَأحْمَد فِي رِوَايَةٍ مَنْصُوصَةٍ عَنْهُ: أَنَّهُ إذَا هَادَنَ الْمُسْلِمُونَ أهْلَ بَلَدٍ وَسَبَاهُم مَن بَاعَهُم لِلْمُسْلِمِينَ جَازَ الشِّرَاءُ مِنْهُ.

وعلى هذا: فلو أن الكفار الذين بيننا وبينهم عهد كأغلب الدول باعوا للمسلمين نساءهم أو أولادهم جاز الشراء منهم، ما لم يمنع وليّ الأمر من ذلك كما هو الحال اليوم، فالواجب السمع والطاعة.

ص: 368

وَأَمَّا مَا يُشْتَرى مِنْهُ:

أ- فَإِنْ كَانَ قَد اشْتَرَاهُ

(1)

بِمَالٍ لَهُ حَلَالٌ: لَمْ يَحْرُمْ شِرَاؤُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ هُوَ الْمَظْلُومُ، وَمَن اشْتَرَى لَمْ يَأْثَمْ، وَلَا يَحْرُمُ مَا أَخَذَهُ لِظُلْمِ الْبَائِعِ لَهُ؛ فَإِنَّ مِثْل هَذَا إنَّمَا يَحْرُمُ عَلَى الظَّالِمِ لَا عَلَى الْمَظْلُومِ

(2)

.

ب- وَأمَّا إنْ كَانَ اشْتَرَى مَا اشْتَرَاهُ بِمَا ظَلَمَهُ مِن الْأَمْوَالِ: كَانَ ذَلِكَ مَغْصُوبًا مَحْضًا؛ كَالشِّرَاءِ مِن الْغَاصِبِ، فَحُكْمُ هَذَا ظَاهِرٌ

(3)

.

ج- وَأَمَّا إنْ كَانَ أَصْلُ مَالِهِ حَلَالًا، وَلَكِنْ رَبِحَ فِيهِ بِهَذِهِ الْمَعِيشَةِ حَتَّى زَادَ: فَهَذَا قَد صَارَ شُبْهَةً بِقَدْرِ مَا خَالَطَهُ مِن أَمْوَالِ النَّاسِ، فَلَا يُقَالُ: هُوَ حَرَامٌ، وَلَا يُقَالُ: حَلَالٌ مَحْضٌ، لَكِنْ إنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْحَلَالُ جَازَ الشِّرَاءُ مِنْهُ، وَتَرْكُهُ وَرَعٌ.

وَأَمَّا إنْ كَانَ الْغَالِبُ الْحَرَامَ: فَهَل الشِّرَاءُ مِنْهُ حَلَالٌ أَو حَرَامٌ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. [29 - 238 - 239]

* * *

‌(حكم التسعير

؟)

4007 -

فِي "السُّنَنِ" عَن أَنَسٍ قَالَ: غَلَا السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ سَعِّرْ لَنَا، فَقَالَ:"إنَّ اللهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةٍ: فِي مَالٍ"

(4)

.

(1)

هذا البائع المحتكر.

(2)

وقال الشيخ في موضع آخر عن حكم الشراء من المحتكر: فَلَو جَعَلْنَا مَا يَشْتَرِيهِ النَّاسُ مِنْهُ حَرَامًا لَكِنَّا قَد زِدْنَا الضَّرَرَ عَلَى النَّاسِ إذَا احْتَاجُوا أَنْ يَشْتَرُوا مِنْهُ بِأَكْثَرَ مِن الْقِيمَةِ، وَاَلَّذِي اشْتَرَوْهُ حَرَامٌ، وَهُم لَا يُطِيقُونَ الشِّرَاءَ مِن غَيْرِهِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ. (29/ 241)

(3)

وهو تحريم الشراء منه.

(4)

رواه أبو داود (3451)، والترمذي (1314)، وابن ما جه (2200)، والدارمي (2587)، وأحمد (11809). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

ص: 369

فَإِذَا كَانُوا قَد أُلْزِمُوا بِالْمُبَايَعَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُلْزَمُوا بِأَنْ يَبِيعُوا بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ ظُلْمٌ لَهُمْ، وَإِذَا كَانَ غَيْرُهُم قَد مُنِعَ مِن الْمُبَايَعَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُمَكَّنُوا أَنْ يَبِيعُوا بِمَا اخْتَارُوا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ ظُلْمٌ لِلنَّاسِ.

يَبْقَى أَنْ يُقَالَ: فَهَل يَجُوزُ الْتِزَامُهُم بِمِثْل ذَلِكَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَلَى أَنْ يَكُونُوا هُم الْبَائِعِينَ لِهَذَا الصِّنْفِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَأَنْ لَا يَبِيعُوة إلَّا بِقِيمَةِ الْمِثْل مِن غَيْرِ مَكْسٍ يُوضَعُ عَلَيْهِمْ؟ فَهَل يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ بِهِم ذَلِكَ أَمْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتْرُكَ أَحَدًا يَفْعَلُ ذَلِكَ؟

قِيلَ: أَمَّا إذَا اخْتَارُوا أَنْ يَقُومُوا بِمَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهِ مِن تِلْكَ الْمَبِيعَاتِ، وَأَنْ لَا يَبِيعُوهَا إلَّا بِقِيمَةِ الْمِثْل عَلَى أَنْ يُمْنَعَ غَيْرُهُم مِن الْبَيْعِ، وَمَن اخْتَارَ أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُم فِي ذَلِكَ مُكِّنَ: فَهَذَا لَا يَتَبَيَّنُ تَحْرِيمُهُ؛ بَل قَد يَكُونُ فِي هَذَا مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ لِلنَّاسِ. [29/ 254 - 255]

* * *

‌(حكم الشراء من الْمَكَّاس

؟)

4008 -

وَسُئِلَ -قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ-: عَن مَدِينَةٍ لَا يُذْبَحُ فِيهَا شَاةٌ إلَّا وَيَأْخُذُ الْمُكَّاسُ سِقْطَهَا وَرَأْسَهَا وكوارعها مَكْسًا

(1)

، ثُمَّ يَضَعُ ذَلِكَ وَيَبِيعُهُ فِي الْأَسْوَاقِ، وَفِي الْمَدِينَةِ مَن لَا يَمْتَنِعُ مِن شِرَاءِ ذَلِكَ وَأَكْلِهِ مِن أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَيْسَ يُبَاعُ فِي الْمَدِينَةِ رُءُوسٌ وكوارع وَأَسْقَاطٌ إلَّا عَلَى هَذَا الْحُكْمِ وَلَا يُمْكِنُ غَيْرُ ذَلِكَ، فَهَل يَحْرُمُ شِرَاءُ ذَلِكَ وَأَكْلُهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ: هَذِهِ حُكْمُهَا حُكْمُ مَا يَأخُذُهُ الْمُلُوكُ مِن الْكُلَفِ الَّتِي يَضْرِبُونَهَا عَلَى النَّاسِ.

(1)

مكَسَ الشَّيْء مكسًا: نقص.

والْمُمَاكسة فِي البيع: طلبُ المشتري من البائع أَنْ يُنْقص الثّمن.

والماكس: من يَأْخُذ المكس من التُّجَّار، جمع مُكَّاس.

والْمَكْس: الضريبة يَأْخُذهَا المكاس مِمَّن يدْخل الْبَلَد من التُّجَّار.

ص: 370

فَالْمُشْتَرِي لِذَلِكَ مِنْهُم إذَا أَعْطَاهُم الثَّمَنَ لَمْ يَكُن بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاءِ الْمَغْصُوبِ الْمَحْضِ الَّذِي لَا تَأْوِيلَ فِيهِ وَلَا شُبْهَةَ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ وِلَايَةُ بَيْعِهِ حَتَّى يُقَالَ: إنَّهُ فَعَلَ مُحَرَّمًا يَفْسُقُ بِالْإِصْرَارِ عَلَيْهِ.

وَفِي الْمَنْعِ مِن شِرَائِهَا إضْرَارٌ بِالنَّاسِ وَإِفْسَادٌ لِلْأَمْوَالِ مِن غَيْرِ مَنْفَعَةٍ تَعُودُ عَلَى الْمَظْلُومِ.

وَلَا نَحْكُمُ بِأَنَّهَا حَرَامٌ مَحْضٌ، وَمَن اشْتَرَاهَا وَأَكَلَهَا لَمْ يَجِب الْإِنْكارُ عَلَيْهِ، وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ فَعَلَ مُحَرَّمًا لَا تَأْوِيلَ فِيهِ.

فَإِنَّ طَائِفَةً مِن الْفُقَهَاءِ أَفْتَوْا طَائِفَةً مِن الْمُلُوكِ بِجَوَازِ وَضْعِ أَصْلِ هَذِهِ الْوَظَائِفِ، كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو الْمَعَالِي الجُوَيْنِي فِي كِتَابِهِ "غِيَاثِ الْأُمَمِ"، وَكَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ.

وَمَا قُبِضَ بِتَأْوِيلٍ: فَإِنَّهُ يَسُوغُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِمَن قَبَضَهُ وَإِن كَانَ الْمُشْتَرِي يَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ الْعَقْدَ مُحَرَّمٌ؛ كَالذِّمِّيِّ إذَا بَاعَ خَمْرًا وَأَخَذَ ثَمَنَهُ جَازَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُعَامِلَهُ فِي ذَلِكَ الثَّمَنِ، وَإِن كَانَ الْمُسْلِمُ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الْخَمْرِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ:"وَلُّوهُم بَيْعَهَا وَخُذُوا أَثْمَانَهَا".

وَهَذَا كَانَ سَبَبُهُ أَنَّ بَعْضَ عُمَّالِهِ أخَذَ خَمْرًا فِي الْجِزْيَةِ وَبَاعَ الْخَمْرَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، وَقَالَ:"وَلُّوهُم بَيْعَهَا وَخُذُوا أَثْمَانَهَا". وَهَذَا ثَابِتٌ عَن عُمَرَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ.

وَهَكَذَا مَن عَامَلَ مُعَامَلَةً يَعْتَقِدُ جَوَازَهَا فِي مَذْهَبِهِ وَقَبَضَ الْمَالَ: جَازَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَشْتَرِيَ ذَلِكَ الْمَالَ مِنْهُ وَإِن كَانَ لَا يَرَى جَوَازَ تِلْكَ الْمُعَامَلَةِ

(1)

.

وَالْمُشْتَرِي لَمْ يَظْلِمْ صَاحِبَهُ؛ فَإِنَّهُ اشْتَرَاهُ بِمَالِهِ مِمَن قَبَضَهُ قَبْضًا يَعْتَقِدُ جَوَازَهُ.

(1)

ذكر نحو هذا الكلام في (29/ 318 - 320).

ص: 371

وَإِن كَانَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: فَشِرَاؤُهُ حَلَالٌ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَلَيْسَ مِن الشُّبُهَاتِ؛ فَإِنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِن الْكُفَّارِ مَا قَبَضُوا بِعُقُودٍ يَعْتَقِدُونَ جَوَازَهَا -وَإِن كَانَت مُحَرَّمَةً فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ- فَلِأَنْ يَجُوزَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِن الْمُسْلِمِ مَا قَبَضَهُ بِعَقْدِ يَعْتَقِدُ جَوَازَهُ -وَإِن كُنَّا نَرَاهُ مُحَرَّمًا- بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى؛ فَإِنَّ الْكَافِرَ تَأْوِيلُهُ الْمُخَالِفُ لِدِينِ الْإِسْلَامِ بَاطِلٌ قَطْعًا بِخِلَافِ تَأْوِيلِ الْمُسْلِمِ.

وَلِهَذَا إذَا أَسْلَمُوا وَتَحَاكَمُوا إلَيْنَا وَقَد قَبَضُوا أَمْوَالًا بِعُقُودٍ يَعْتَقِدُونَ جَوَازَهَا: كَالرِّبَا وَثَمَنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِم تِلْكَ الْأَمْوَالُ، كَمَا لَا تَحْرُمُ مُعَامَلَتُهُم فِيهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278]، وَلَمْ يَحرمْ مَا قَبَضُوهُ.

وَهَكَذَا مَن كَانَ قَد عَامَلَ مُعَامَلَاتٍ رِبَوِيَّةً يَعْتَقِدُ جَوَازَهَا ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ، وَكَانَت مِن الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ: فَإِنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مَا قَبَضَهُ بِتِلْكَ الْمُعَامَلَةِ عَلَى الصَّحِيحِ. [29/ 264 - 267]

* * *

‌(حكم المال الحلال الْمُختلط بالحرام؟ وحكم مُعاملتهم وأكل طعامهم

؟)

4009 -

مَا قَبَضَهُ الْمُلُوكُ ظُلْمًا مَحْضًا: إذَا اخْتَلَطَ بِمَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَتَعَذَّرَ رَدُّهُ إلَى صَاحِبِهِ فَإِنَّهُ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ الْمَجْهُولَ كَالْمَعْدُومِ، فَمَا عُرِفَ أَنَّهُ قُبِضَ ظُلْمًا وَلَمْ يُعْرَفْ صَاحِبُهُ: صُرِفَ فِي الْمَصَالِحِ.

وَمَا قُبِضَ مِن بَيْتِ الْمَالِ الْمُخْتَلطِ حَلَالُهُ بِحَرَامِهِ: لَمْ يُحْكَمْ بِأَنَّهُ حَرَامٌ؛ فَإِنَّ الِاخْتِلَاطَ إذَا لَمْ يَتَمَيَّز الْمَالُ يَجْرِي مَجْرَى الْإِتْلَافِ، وَصَاحِبُهُ يَسْتَحِقُّ عِوَضَهُ مِن بَيْتِ الْمَالِ.

ص: 372

فَمَن قَبَضَ ثَمَنَ مَبِيعٍ مِن مَالِ بَيْتِ الْمَالِ الْمُخْتَلَطِ: جَازَ لَهُ ذَلِكَ فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ

(1)

. [29/ 267]

4010 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن الَّذِينَ غَالِبُ أَمْوَالِهِمْ حَرَامٌ مِثْل المكاسين وَأَكَلَةِ الرِّبَا وَأَشْبَاهِهِمْ. فَهَل يَحِلُّ أَخْذُ طَعَامِهِمْ بِالْمُعَامَلَةِ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ: إذَا كَانَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَلَالٌ وَحَرَامٌ: فَفِي مُعَامَلَتِهِمْ شُبْهَةٌ، لَا يُحْكَمُ بِالتَّحْرِيمِ إلَّا إذَا عُرِفَ أَنَّهُ يُعْطِيهِ مَا يَحْرُمُ إعْطَاؤُهُ، وَلَا يُحْكَمُ بِالتَّحْلِيلِ إلَّا إذَا عُرِفَ أَنَّهُ أَعْطَاهُ مِن الْحَلَالِ.

فَإِنْ كَانَ الْحَلَالُ هُوَ الْأَغْلَبَ: لَمْ يُحْكَمْ بِتَحْرِيمِ الْمُعَامَلَةِ.

وَإِن كَانَ الْحَرَامُ هُوَ الْأَغْلَبَ: قِيلَ: بِحِلِّ الْمُعَامَلَةِ، وَقِيلَ: بَل هِيَ مُحَرَّمَةٌ.

فَأَمَّا الْمُعَامِلُ بِالرِّبَا: فَالْغَالِبُ عَلَى مَالِهِ الْحَلَالُ، إلَّا أَنْ يُعْرَفَ الْكُرْهُ مِن وَجْهٍ آخَرَ

(2)

؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا بَاعَ أَلْفًا بِأَلْف وَمِائَتَيْنِ: فَالزِّيَادَةُ هِيَ الْمُحَرَّمَةُ فَقَطْ.

وَإِذَا كَانَ فِي مَالِهِ حَلَالٌ وَحَرَامٌ وَاخْتَلَطَ: لَمْ يَحْرُمْ الْحَلَالُ؛ بَل لَهُ أَنْ يَأْخُذَ قَدْرَ الْحَلَالِ؛ كَمَا لَو كَانَ الْمَالُ لِشَرِيكَيْنِ فَاخْتَلَطَ مَالُ أَحَدِهِمَا بِمَالِ الْآخَرِ فَإِنَّهُ يُقْسمُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ.

وَكَذَلِكَ مَن اخْتَلَطَ بمَالِهِ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ: أَخْرَجَ قَدْرَ الْحَرَامِ وَالْبَاقِي حَلَالٌ لَهُ

(3)

. [29/ 272 - 273]

(1)

قال الشيخ في موضع آخر: وَالظَّالِمُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الَّذِي أَخَذَ الْأَمْوَالَ بِغَيْرِ حَقٍّ، لَا مَن أخَذَ عِوَضَ مَالِهِ مِن مَالٍ لَا يَعْلَمُ لَهُ مُسْتَحِقًّا مُعَيَّنًا. (29/ 275)

(2)

كأن يكون المال الذي تعامل به بالربا اكتسبه من طريق حرام، إما من غصب أو سرقة ونحوها.

(3)

وقال في موضع آخر: فَإِنَّ كَثِيرًا مِن النَّاسِ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الدَّرَاهِمَ الْمُحَرَّمَةَ إذَا اخْتَلَطَتْ بِالدَّرَاهِم الْحَلَالِ حَرُمَ الْجَمِيعُ فَهَذَا خَطَأٌ، وَإِنَّمَا تَوَرَّعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا إذَا كَانَت قَلِيلَةً، وَأمَّا مَعَ الْكَثْرَةِ فَمَا أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا.

ص: 373

4011 -

إذَا اخْتَلَطَ الْحَرَامُ بِالْحَلَالِ فِي عَدَدٍ لَا يَنْحَصِرُ؛ كَاخْتِلَاطِ أُخْتِهِ بِأَهْلِ بَلَدٍ، وَاخْتِلَاطِ الْمَيْتَةِ وَالْمَغْصُوبِ بِأَهْلِ بَلْدَةٍ: لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ تَحْرِيمَ مَا فِي الْبَلَدِ، كَمَا إذَا اخْتَلَطَت الْأُخْتُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ، وَالْمُذَكَّى بِالْمَيِّتِ. [21/ 532]

4012 -

مُعَامَلَةُ التَّتَارِ: يَجُوزُ فِيهَا مَا يَجُوزُ فِي أَمْثَالِهِمْ وَيَحْرُمُ فِيهَا مَا يَحْرُمُ مِن مُعَامَلَةِ أَمْثَالِهِمْ.

وَإِن كَانَ الَّذِي مَعَهُم أَو مَعَ غَيْرِهِمْ أَمْوَالٌ يُعْرَفُ أَنَّهُم غَصَبُوهَا مِن مَعْصُومٍ فَتِلْكَ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاؤُهَا لِمَن يَتَمَلَّكُهَا.

لَكِنْ إذَا اشْتُرِيَتْ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِنْقَاذِ لِتُصْرَفَ فِي مَصَارِفِهَا الشَّرْعِيَّةِ فَتُعَاد إلَى أَصْحَابِهَا إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا صُرِفَتْ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ: جَازَ هَذَا.

وَإِذَا عُلِمَ أَنَّ فِي أَمْوَالِهِمْ شَيْئًا مُحَرَّمًا لَا تُعْلَمُ عَيْنُهُ: فَهَذَا لَا يَحْرُمُ مُعَامَلَتُهُمْ، كَمَا إذَا عُلِمَ أَنَّ فِي السُّوقِ مَا هُوَ مَغْصُوبٌ أَو مَسْرُوقٌ وَلَمْ يُعْلَمْ عَيْنُهُ. [29/ 275 - 276]

4013 -

الْحَرَامُ إذَا اخْتَلَطَ بِالْحَلَالِ فَهَذَا نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمًا لِعَيْنِهِ؛ كَالْمَيْتَةِ وَالْأخْتِ مِن الرَّضَاعَةِ، فَهَذَا إذَا اشْتَبَهَ بِمَا لَا يُحْصَرُ

(1)

لَمْ يَحْرُمْ، مِثْل: أَنْ يَعْلَمَ أنَّ فِي الْبَلْدَةِ الْفُلَانِيَّةِ أُخْتًا لَهُ مِن الرَّضَاعَةِ وَلَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا، أَو فِيهَا مَن يَبِيعُ مَيْتَةً لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا، فَهَذَا لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّسَاءُ وَلَا اللَّحْمُ.

وَأَمَّا إذَا اشْتَبَهَتْ أُخْتُهُ بِأَجْنَبِيَّة، أَو الْمُذَكَّى بِالْمَيِّتِ حُرِّمَا جَمِيعًا

(2)

.

(1)

أما إذا أمكن حصره فيحرم، مثاله: من كان عنده مجموعة من الصيد الحلال، فاختلط بها ميتة، كما قال أحدهم: ذهبت أنا وخادمٌ لي كافر مشرك، فصاد خمسة طيور، وصدت أنا طيورًا كثيرة، فوضعها مع صيدي فاختلط صيدي مع صيده، فلا يجوز له الأكل منها؛ لاختلاط الحلال بالحرام وأمكن الحصر، وهذه تُعطى لهذا المشرك أو للسباع.

(2)

لأنه اشتباه محصور.

ص: 374

وَالثَّانِي: مَا حَرُمَ لِكَوْنِهِ أُخِذَ غَصْبًا، وَالْمَقْبُوضُ بِعُقُودٍ مُحَرَّمَةٍ كَالرِّبَا وَالْمَيْسِرِ: فَهَذَا إذَا اشْتَبَهَ وَاخْتَلَطَ بغَيْرِهِ لَمْ يَحْرُم الْجَمِيعُ؛ بَل يُمَيَّزُ قَدْر هَذَا مِن قَدْرِ هَذَا فَيُصْرَفُ هَذَا إلَى مُسْتَحِقِّهِ وَهَذَا إلَى مُسْتَحِقِّهِ؛ مِثْلُ اللِّصِّ الَّذِي أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ فَخَلَطَهَا، أَو أَخَذَ حِنْطَةَ النَّاسِ أَو دَقِيقَهُم فَخَلَطَهُ، فَإِنَّهُ يُقَسَّمُ بَيْنَهُم عَلَى قَدْرِ الْحُقُوقِ. [29/ 276]

* * *

(غلَطُ بعض النَّاسِ في نظرهم إلى مَا فِي الْفِعْلِ أَو الْمَالِ مِن كَرَاهَةٍ تُوجِبُ تَرْكَهُ، دون نظرهم إلى مَا فِيهِ مِن جِهَةِ أَمْرٍ يُوجِبُ فِعْلَهُ)

4014 -

الظُّلْمُ نَوْعَانِ:

أ- تَفْرِيطٌ فِي الْحَقِّ.

ب- وَتَعَدِّ لِلْحَدِّ.

فَإِنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ ظُلْمٌ، كَمَا أَنَّ فِعْلَ الْمحَرَّمِ ظُلْمٌ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمَطْلَ -وَهُوَ تَأْخِيرُ الْوَفَاءِ- ظُلْمٌ، فَكَيْفَ بِتَرْكِهِ؟

وَقَد قَرَّرْت فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ أَدَاءَ الْوَاجِبِ أَعْظَمُ مِن تَرْكِ الْمُحَرَّمِ، وَأَنَّ الطَّاعَاتِ الْوُجُودِيَّةَ أَعْظَمُ مِن الطَّاعَاتِ الْعَدَمِيَّةِ، فَيَكُونُ جِنْسُ الظُّلْمِ بِتَرْكِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ أَعْظَمَ مِن جِنْسِ الظُّلْمِ بِتَعَدِّي الْحُدُودِ.

وَقَرَّرْت أَيْضًا أَنَّ الْوَرَعَ الْمَشْرُوعَ هُوَ أَدَاءُ الْوَاجِبِ وَتَرْكُ الْمُحَرَّمِ، لَيْسَ هُوَ تَرْكَ الْمُحَرَّمِ فَقَطْ، وَكَذَلِكَ التَّقْوَى اسْمٌ لِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ، كَمَا بَيَّنَ اللهُ حَدَّهَا فِي قَوْلِهِ:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} - إلَى قَوْلِهِ-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)} [البقرة: 177].

(1)

البخاري (2400)، ومسلم (1564).

ص: 375

وَمِن هُنَا يَغْلَطُ كَثِيرٌ مِن النَّاسِ فَيَنْظُرُونَ مَا فِي الْفِعْلِ أَو الْمَالِ مِن كَرَاهَةٍ تُوجِبُ تَرْكَهُ، وَلَا يَنْظُرُونَ مَا فِيهِ مِن جِهَةِ أَمْرٍ يُوجِبُ فِعْلَهُ

(1)

.

مِثَالُ ذَلِكَ: مَا سُئِلَ عَنْهُ أَحْمَد: عَن رَجُلٍ تَرَكَ مَالًا فِيهِ شُبْهَةٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَسَأَلَهُ الْوَارِثُ: هَل يَتَوَرَّعُ عَن ذَلِكَ الْمَالِ الْمُشْتَبَهِ؟

فَقَالَ لَهُ أَحْمَد: أَتَتْرُكُ ذِمَّةَ أَبِيك مُرْتَهَنَةً؟

وَهَذَا عَيْنُ الْفِقْهِ؛ فَإِنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ وَاجِبٌ، وَالْغَرِيمُ حَقُّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالتَّرِكَةِ، فَإِنْ لَمْ يُوَفِّ الْوَارِثُ الدَّيْنَ وَإِلَّا فَلَهُ اسْتِيفَاؤُهُ مِن التَّرِكَةِ، فَلَا يَجُوزُ إضَاعَةُ التَّرِكَةِ المشتبهة الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْغَرِيمِ، وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا إضْرَارُ الْمَيِّتِ بِتَرْكِ ذِمَّتِهِ مُرْتَهنَةً.

فَفِي الْإِعْرَاضِ عَن التَّرِكَةِ: إضْرَارُ الْمَيِّتِ وَإِضْرَارُ الْمُسْتَحِقِّ، وَهَذَانِ ظُلْمَانِ مُحَقَّقَانِ بِتَرْكِ وَاجِبَيْنِ، وَأَخْذُ الْمَالِ الْمُشْتَبَهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ ضَرَرُ الْمَظْلُومِ.

فَقَالَ أَحْمَد لِلْوَارِثِ: أَبْرِئْ ذِمَّةَ أَبِيك، فَهَذَا الْمَالُ الْمُشْتَبَهُ خَيْرٌ مِن تَرْكِهَا مُرْتَهِنَةً بِالْأَعْرَاضِ.

وَهَذَا الْفِعْلُ وَاجِبٌ عَلَى الْوَارِثِ وُجُوبَ عَيْنٍ إنْ لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ فِيهِ مَقَامَهُ، أَو وُجُوبَ كِفَايَةٍ أَو مُسْتَحَبٌّ اسْتِحْبَابًا مُؤَكَّدًا أَكْثَرَ مِن الِاسْتِحْبَابِ فِي تَرْكِ الشُّبْهَةِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِن الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ.

وَهَكَذَا جَمِيعُ الْخَلْقِ عَلَيْهِم وَاجِبَاتٌ: مِن نَفَقَاتِ أَنْفُسِهِمْ وَأَقَارِبِهِم وَقَضَاءِ دُيُونِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِذَا تَرَكُوهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ظُلْمًا مُحَقَّقًا، وَإِذَا فَعَلُوهَا بِشُبْهَةٍ

(1)

صدق رحمه الله، وهذا الخطأ يقع فيه كثيرٌ من الناس، فمن ذلك أنّ أحد الآباء كان قليل النفقة على أبنائه، مُمسكًا يده شحيحًا عليهم، فنُوصح بوجوب البذل لهم، وأنهم أحق من غيرهم، وأنك تُؤجر على الإنفاق عليهم، فقال: أخاف أنْ آثم إذا أعطيتهم فوق حاجتهم، وأن يعتمدوا على عطائي ويتركوا التكسب والعمل!

ص: 376

لَمْ يَتَحَقَّقْ ظُلْمُهُمْ، فَكَيْفَ يَتَوَرَّعُ الْمُسْلِمُ عَن ظُلْمٍ مُحْتَمَلٍ بِارْتكَابِ ظُلْمٍ مُحَقَّقٍ؟ [29/ 278 - 280]

* * *

(مَعْنَى قَوْلِهِمْ: النَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ)

4015 -

إنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فَسَادُهُ رَاجِحٌ عَلَى صَلَاحِهِ، وَلَا يُشْرَعُ الْتِزَامُ الْفَسَادِ مِمَن يُشْرَعُ لَهُ دَفْعُهُ.

وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: النَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَانٍ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَجُمْهُورِهِمْ.

والصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَحْتَجُّونَ عَلَى فَسَادِ الْعُقُودِ بِمُجَرَّدِ النَّهْيِ، كَمَا احْتَجُّوا عَلَى فَسَادِ نِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ بِالنَّهْيِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ، وَكَذَلِكَ فَسَادُ عَقْدِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأخْتَيْنِ. وَكَذَلِكَ نِكَاحُ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا اسْتَدَلُّوا عَلَى فَسَادِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ اسْتَدَلُّوا عَلَى فَسَادِ نِكَاحِ الشِّغَارِ بِالنَّهْيِ عَنْهُ، فَهُوَ مِن الْفَسَادِ لَيْسَ مِن الصَّلَاحِ، فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَيُحِبُّ الصَّلَاحَ.

فَالطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ وَالصَّلَاةُ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ فِيهِمَا نِزَاعٌ، وَلَيْسَ عَلَى الصِّحَّةِ نَصٌّ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، فَلَمْ يَبْقَ مَعَ الْمُحْتَجِّ بِهِمَا حُجَّةٌ.

لَكِنْ مِن الْبُيُوعِ مَا نُهِيَ عَنْهُ لِمَا فِيهَا مِن ظُلْمِ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ؛ كَبَيْعِ الْمُصَرَّاةِ، وَالْمَعِيبِ، وَتَلَقِّي السِّلَعَ، وَالنَّجْش وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْبُيُوعَ لَمْ يَجْعَلْهَا الشَّارعُ لَازِمَةً كَالْبُيُوعِ الْحَلَالِ؛ بَل جَعَلَهَا غَيْرَ لَازِمَةٍ، وَالْخِيَرَةُ فِيهَا إلَى الْمَظْلُومِ: إنْ شَاءَ أَبْطَلَهَا وَإِن شَاءَ أَجَازَهَا.

فَإِنَّ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ لَهُ، وَالشَّارعُ لَمْ يَنْهَ عَنْهَا لِحَقٍّ مُخْتَصٍّ بِاللهِ كَمَا نَهَى عَن الْفَوَاحِشِ؛ بَل هَذِهِ إذَا عَلِمَ الْمَظْلُومُ بِالْحَالِ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ مِثْل أنْ يَعْلَمَ بِالْعَيْبِ وَالتَّدْلِيسِ وَالتَّصْرِيَةِ، وَيعْلَمَ السِّعْرَ إذَا كَانَ قَادِمًا بِالسِّلْعَةِ، وَيرْضَا بِأَنْ

ص: 377

يَغْبِنَهُ الْمُتَلَقِّي: جَازَ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ بَعْدَ الْعَقْدِ إنْ رَضِيَ: جَازَ، وَإِن لَمْ يَرْضَ كَانَ لَهُ الْفَسْخُ.

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ يَقَعُ غَيْرَ لَازِمٍ؛ بَل مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ: إنْ شَاءَ أَجَازَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ وَإِن شَاءَ رَدَّهُ.

وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ هَذَا النَّوْعَ لَمْ يَكُن النَّهْيُ فِيهِ لِحَقِّ اللهِ؛ كَنِكَاحِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا، وَبَيْعِ الرِّبَا؛ بَل لِحَقِّ الْإِنْسَانِ.

فَأَمَّا كَوْنُهُ فَاسِدًا مَرْدُودًا وَإِن رَضِيَ بِهِ: فَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ.

وَكَذَلِكَ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَالْمُدَلَّسِ وَالْمُصَرَّاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْمَخْطُوبَةُ إنْ شَاءَ هَذَا الْخَاطِبُ أَنْ يَفْسَخَ نِكَاحَ هَذَا الْمُعْتَدِي عَلَيْهِ وَيتَزَوَّجَهَا بِرِضَاهُ فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِن شَاءَ أَنْ يُمْضِيَ نِكَاحَهَا فَلَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ إذَا اخْتَارَ فَسْخَ نِكَاحِهَا عَادَ الْأَمْرُ إلَى مَا كَانَ: إنْ شَاءَتْ نَكَحَتْهُ وَإِن شاءَتْ لَمْ تَنْكِحْهُ؛ إذ مَقْصُودُهُ حَصَلَ بِفَسْخِ نِكَاحِ الْخَاطِبِ.

وَإِذَا قِيلَ: هُوَ غَيَّر قَلْب الْمَرْأَةِ عَلَيَّ.

قِيلَ: إنْ شِئْت عَاقَبْنَاهُ عَلَى هَذَا بِأَنْ نَمْنَعَهُ مِن نِكَاحِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ، فَيَكُونُ هَذَا قِصَاصًا لِظُلْمِهِ إيَّاكَ، وَإِن شِئْت عَفَوْت عَنْهُ فأنفذنا نِكَاحَهُ.

وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَالذَّبْحِ بِآلَةٍ مَغْصُوبَةٍ، وَطَبْخِ الطَّعَامِ بِحَطَب مَغْصُوبٍ، وَتَسْخِينِ الْمَاءِ بِوَقُودٍ مَغْصُوبٍ، كُلُّ هَذَا إنَّمَا حُرِّمَ لِمَا فِيهِ مِن ظُلْمِ الْإِنْسَانِ، وَذَلِكَ يَزُولُ بِإِعْطَاءِ الْمَظْلُومِ حَقَّهُ.

وَإِنَّمَا قِيلَ فِي الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ وَبِالْمَكَانِ

(1)

: يُعِيدُ، بِخِلَافِ هَذَا

(2)

؛ لِأَنَّهُ هُنَاكَ

(3)

لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ إلَّا بِالْإِعَادَةِ، وَهُنَا يُمْكِنُهُ ذَاكَ بِأَنْ يَرُدَّ أَرْضَ الْمَظْلُومِ.

(1)

النجس.

(2)

أي: الصلاة في الأرض المغصوبة.

(3)

أي: الصَّلَاة فِي الثَّوْبِ وَالْمَكَانِ النَّجِسِ.

ص: 378

لَكِنَّ الصَّلَاةَ فِي الثَّوْبِ الْحَرِيرِ هِيَ مِن ذَلِكَ الْقِسْمِ: الْحَقُّ فِيهَا للهِ، لَكِنْ نُهِيَ عَن ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ وَفِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، لَمْ يُنْهَ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ فَقَطْ.

وَقَد تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي مِثْل هَذَا:

فَمِنْهُم مَن يَقُولُ: النَّهْيُ هُنَا لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَالثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ، وَالطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ، وَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ لَا حَقِيقَةَ لَهُ؛ فَإنَّهُ إنْ عَنَى بذَلِكَ أَنَّ نَفْسَ الْبَيْعِ اشْتَمَلَ عَلَى تَعْطِيلِ الصَّلَاةِ، وَنَفْسَ الصَّلَاةِ اشْتَمَلَتْ عَلَى الظُّلْمِ وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ كَمَا اشْتَمَلَت الصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ عَلَى مُلَابَسَةِ الرِّجْسِ الْخَبِيثِ: فَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ.

وَإِن أَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَا يَخْتَصُّ بِالصَّلَاةِ؛ بَل هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا: فَهَذَا صَحِيحٌ؛ فَإِنَّ الْبَيْعَ وَقْتَ النِّدَاءِ لَمْ يُنْهَ عَنْهُ إلَّا لِكَوْنِهِ شَاغِلًا عَن الصَّلَاةِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي غَيْرِ الْبَيْعِ لَا يَخْتَصُّ بِالْبَيْعِ، لَكِنَّ هَذَا الْفَرْقَ لَا يَجِيءُ فِي طَلَاقِ الْحَائِضِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ مَعْنًى مُشْتَرَكٌ، وَهُم يَقُولُونَ: إنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ لِإِطَالَةِ الْعُدَّةِ وَذَلِكَ خَارجٌ عَن الطَّلَاقِ.

فَيُقَالُ: وَغَيْرُ ذَلِكَ مِن الْمُحَرَّمَاتِ كَذَلِكَ إنَّمَا نُهِيَ عَنْهَا لِإِفْضَائِهَا إلَى فَسَادٍ خَارجٍ عَنْهَا؛ فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ نُهِيَ عَنْهُ لِإِفْضَائِهِ إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَالْقَطِيعَةُ أَمْرٌ خَارجٌ عَن النِّكَاحِ.

وَالْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ حُرِّمَا وَجُعِلَا رِجْسًا مِن عَمَلِ الشَّيْطَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى الصَّدِّ عَن الصَّلَاةِ وَإِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَهُوَ أَمْرٌ خَارجٌ عَن الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ.

وَالرِّبَا حَرَامٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَذَلِكَ أَمْرٌ خَارجٌ عَن عَقْدِ الْمَيْسِرِ وَالرِّبَا.

ص: 379

فَكُلُّ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ لَا بُدَّ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى مَعْنًى فِيهِ يُوجِبُ النَّهْيَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى عَن شَيْءٍ لَا لِمَعْنًى فِيهِ أَصْلًا بَل لِمَعْنًى أَجْنَبِيٍّ عَنْهُ.

وَحِينَئِذٍ: فَالنَّهْيُ لِمَعْنًى مُشْتَرَكٍ أَعْظَمُ

(1)

؛ وَلِهَذَا لَو قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا مَمْلُوكًا وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ لِحَقِّ اللهِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْبَدَلُ لِحَقِّ الْمَالِكِ.

وَلَو زَنَى لَأَفْسَدَ إحْرَامَهُ كَمَا يَفْسُدُ بِنِكَاحِ امْرَأَتِهِ، وَيَسْتَحِقُّ حَدَّ الزنى مَعَ ذَلِكَ.

وَعَلَى هَذَا: فَمَن لَبِسَ فِي الصَّلَاةِ مَا يَحْرُمُ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا؛ كَالثِّيَابِ الَّتِي فِيهَا خُيَلَاءُ وَفَخْرٌ؛ كَالْمُسْبِلَةِ وَالْحَرِيرِ: كَانَ أَحَقَّ بِبُطْلَانِ الصَّلَاةِ مِن الثَّوْبِ النَّجِسِ، وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي "السُّنَنِ":"إنَّ اللهَ لَا يَقْبَلُ صَلَاةَ مُسْبلٍ"

(2)

.

وَالثَّوْبُ النَّجِسُ فِيهِ نِزَاعٌ وَفِي قَدْرِ النَّجَاسَةِ نِزَاعٌ، وَالصَّلَاةُ فِي الْحَرِيرِ لِلرِّجَالِ مِن غَيْرِ حَاجَةٍ حَرَامٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ.

وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ بَعْدَ النِّدَاءِ إذَا كَانَ قَد نُهِيَ عَنْهُ، وَغَيْرُهُ يَشْغَلُ عَن الْجُمُعَةِ: كَانَ ذَلِكَ أَوْكَدَ فِي النَّهْيِ، وَكُلُّ مَا شَغَلَ عَنْهَا فَهُوَ شَرٌّ وَفَسَادٌ لَا خَيْرَ فِيهِ.

وَالْمِلْكُ الْحَاصِلُ بِذَلِكَ كَالْمِلْكِ الَّذِي لَمْ يَحْصُلْ إلَّا بِمَعْصِيَةِ اللهِ وَغَضَبِهِ وَمُخَالَفَتِهِ.

وَإِذَا حَصَلَ الْبَيْعُ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَتَعَذَّرَ الرَّدُّ: فَلَهُ نَظِيرُ ثَمَنِهِ الَّذِي أَدَّاهُ، وَيتَصَدَّقُ بِالرِّبْحِ، وَالْبَائِعُ لَهُ نَظِيرُ سِلْعَتِهِ وَيتَصَدَّقُ بِالرِّبْحِ إنْ كَانَ قَد رَبِحَ، وَلَو تَرَاضَيَا بِذَلِكَ بَعْدَ الصَّلَاةِ لَمْ يَنْفَعْ؛ فَإِنَّ النَّهْيَ هُنَا لِحَقِّ اللهِ تَعَالَى، فَهُوَ كَمَا لَو تَرَاضَيَا بِمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَهُنَاكَ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، لَا يُعْطَى لِلزَّانِي

(3)

. [29/ 282 - 292]

(1)

أي: ليس خاصًّا بحالة دون حالة، ولا وقت دون وقت، فالزنى محرم مطلقًا، فلو زنى المحرم للحج أو العمرة لفسد إحرامه كَمَا يَفْسُدُ بِنِكَاحِ امْرَأَتِهِ.

(2)

رواه أبو داود (638).

(3)

خلاصة هذا المبحث: أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ردّ على من فرّق بين ما نهي عنه لذاته، وما نهي عنه لغيره.=

ص: 380

4016 -

مَتَى اعْتَقَدَ الْمُشْتَرِي أَنَّ الَّذِي مَعَ الْبَائِعِ مِلْكُهُ

(1)

؛ فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ عَلَى الظَّاهِرِ لَمْ يَكُن عَلَيْهِ إثْمٌ فِي ذَلِكَ، وَإِن كَانَ فِي الْبَاطِنِ قَد سَرَقَهُ الْبَائِعُ لَمْ يَكُن عَلَى الْمُشْتَرِي إثْمٌ وَلَا عُقُوبَةٌ، لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ.

وَالضَّمَانُ وَالدَّركُ عَلَى الَّذِي غَرَّهُ وَبَاعَهُ.

وَإِذَا ظَهَرَ صَاحِبُ السِّلْعَةِ فِيمَا بَعْدُ رُدَّتْ إلَيْهِ سِلْعَتُهُ، وَرُدَّ عَلَى الْمُشْتَرِي ثَمَنهُ وَعُوقِبَ الْبَائِعُ الظَّالِمُ. [29/ 293]

4017 -

حَدِيثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَمَرَهُم بِشَقِّ ظُرُوفِ الْخَمْرِ وَكَسْرِ دِنَانِهَا: دَلِيلٌ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي جَوَازِ إتْلَافِ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِنْكَارِ، وَأَنَّ الظَّرْفَ يَتْبَعُ الْمَظْرُوفَ.

وَمِثْلُهُ مَا ثَبَتَ عَن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَنَّهُمَا أَمَرَا بِتَحْرِيقِ الْمَكَانِ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْخَمْرُ وَقَد نَصَّ أَحْمَد عَلَى ذَلِكَ.

وَمِثْلُهُ إتْلَافُ الْآلَةِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا صُورَةُ التَّأْلِيفِ الْمُحَرَّمِ وَهِيَ آلَاتُ اللَّهْوِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ الْمَالِيَّةَ ثَابِتَةٌ بِالسُّنَّةِ وَسِيرَةِ الْخُلَفَاءِ.

وَمَن قَالَ: إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ فَمَا مَعَهُ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ، وَقَد احْتَجَّ بَعْضُهُم: بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّهُم قَد طَبَخُوا لُحُومَ الْحُمُرِ قَالَ لَهُم: "أَرِيقُوهَا وَاكْسِرُوا الْقُدُورَ"، قَالُوا: أَفَلَا نُرِيقُهَا وَنَغْسِلُ الْقُدُورَ؟ قَالَ: "افْعَلُوا".

قَالُوا: فَلَعَلَّهُم لَو اسْتَأْذَنُوهُ فِي أَوْعِيَةِ الْخَمْرِ لَقَالَ ذَلِكَ.

فَأُجِيبَ بِجَوَابَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ دَفْعَ الشَّرِيعَةِ بِمِثْل هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ لَا تَجُوزُ، فَإِنَّا إذَا سَوَّغْنَا

= ونصر القول بأن النهي يقتضي الفساد إلا إذا كان النهي لحقّ الخلق لا لحق الله.

وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه إذا كان النهي عائدًا إلى ذاته أو شرطه.

(1)

أي: مُلك البائع.

ص: 381

فِيمَا أَمَرَ بِهِ أَو نَهَى عَنْهُ أنَّهُ لَو رُوجِعَ لَنَسَخَ ذَلِكَ: لَجَازَ رَفْعُ كَثِيرٍ مِن الشَّرِيعَةِ بِمِثْل هَذِهِ الْخَيَالَاتِ، مِثْل أَنْ يُقَالَ: لَو رُوجِعَ الرَّبُّ فِي نَقْصِ الصَّلَاةِ عَن خَمْسٍ لَنَقَصَهَا، وَلَو وَلَوْ.

وَيُقَالُ: هَذَا بَاطِلٌ مِن وَجْهَيْنِ

(1)

:

أَحَدُهُمَا: أَنَّا لَا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَو رُوجِعَ لَفَعَلَ، وَثُبُوتُ ذَلِكَ فِي صُورَةٍ: لَا يُوجِبُ ثَبَاتَهُ فِي سَائِرِ الصُّوَرِ إلَّا بِتَقْدِيرِ الْمُسَاوَاةِ مِن كُلِّ وَجْهٍ وَانْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ وَهَذَا غَيْرُ مَعْلُومٍ.

الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِي أَوْعِيَةِ لُحُومِ الْحُمُرِ حُجَّةٌ أَيْضًا فِي الْمَسْأَلَةِ؛ فَإِنَّهُ أَمَرَ أَوَّلًا بِتَكْسِيرِ الْأَوْعِيَةِ، ثُمَّ لَمَّا اسْتَأْذَنُوهُ فِي الْغَسْلِ أَذِنَ فِيهِ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الْكَسْرَ لَا يَجِبُ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ بَل يُقَالُ: يَجُوزُ الْأَمْرَانِ: الْكَسْرُ وَالْغَسْلُ.

وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي أَوْعِيَةِ الْخَمْرِ: إنَّهُ يَجُوزُ إتْلَافُهَا وَيَجُوزُ تَطْهِيرُهَا، فَإِذَا كَانَ الْأَصْلَحُ الْإِتْلَافَ أُتْلِفَتْ، وَلَو أَنَّ صَاحِبَ أَوْعِيَةِ الْخَمْرَةِ وَالْمَلَاهِي طَهَّرَ الْأَوْعِيَةَ وَغَسَلَ الْآلَاتِ لَجَازَ بِالِاتِّفَاقِ، لَكِنْ إذَا أَظْهَرَ الْمُنْكَرَ حَتَّى أُنْكِرَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ بِالْإِتْلَافِ.

وَالصَّحَابَةُ رضي الله عنهم لَمْ يَكُونُوا عَلِمُوا التَّحْرِيمَ فَأُسْقِطَ عَنْهُم الْإِتْلَافُ لِذَلِكَ. [29/ 294 - 297]

* * *

(حكم زيادة سعر السلعة على المسترسل والمضطر)

4018 -

لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ لِمُسْتَرْسِلٍ إلَّا بِالسِّعْرِ الَّذِي يُبَاعُ بِهِ غَيْرُه

(2)

.

(1)

اكتفيت بالوجه الأول لوضوحه وقوته.

(2)

واشترط الشيخ رحمه الله لمن باع سلعةً أن يكون بِالسِّعْرِ الْعَامِّ. (29/ 456) =

ص: 382

وَالْمُسْتَرْسِلُ قَد فُسِّرَ بِأَنَّهُ الَّذِي لَا يُمَاكِسُ بَل يَقُولُ: خذْ وَأَعْطِنِي، وَبِأَنَّهُ الْجَاهِلُ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ فَلَا يُغْبنُ غَبْنًا فَاحِشًا، لَا هَذَا وَلَا هَذَا.

وَلِلْمَغْبُونِ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ فَيَرُدّ عَلَيْهِ السِّلْعَةَ وَيَأْخُذ مِنْهُ الثَّمَنَ. [29/ 299]

4019 -

الْمُضْطَرُّ الَّذِي لَا يَجِدُ حَاجَتَهُ إلَّا عِنْدَ هَذَا الشَّخْصِ: يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرْبَحَ عَلَيْهِ مِثْل مَا يَرْبَحُ عَلَى غَيْرِ الْمُضْطَرِّ

(1)

؛ فَإِنَّ فِي السُّنَنِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَن بَيْعِ الْمُضْطَرِّ

(2)

.

وَلَو كَانَت الضَّرُورَةُ إلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ: مِثْل أَنْ يَضْطَرَّ النَّاسُ إلَى مَا عِنْدَهُ مِن الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ: فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَبِيعَهُم إلَّا بِالْقِيمَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَلَا يُعْطُوهُ زِيادَةً عَلَى ذَلِكَ. [29/ 300]

* * *

(بَابُ الشُّرُوطِ فِي الْبَيْعِ)

4020 -

سُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلٍ مُسْلِمٍ اشْتَرَى جَارِيَةً كِتَابِيَّةً وَشَرَطَ لَهُ الْبَائِعُ أَنَّهَا طَبَّاخَةٌ جَيِّدَةٌ، وَأَنَّهَا تَصْنَعُ الْخَمْرَ وَالنَّبِيذَ، فَهَل يَصِحُّ؟

فَأَجَابَ: اشْتِرَاطُ كَوْنِهَا تَصْنَعُ الْخَمْرَ وَالنَّبِيذَ شَرْطٌ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْعَقْدُ مَعَ ذَلِكَ فَاسِدٌ.

أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَن يَقُولُ: إنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ يُفْسِدُ الْعَقْدَ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِن مَذْهَب أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فَظَاهِرٌ.

وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ: فَإِنَّهُ لَو بَاعَهَا بِدُونِ شَرْطٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِيَ

= وعلى هذا: فالذين يرفعون الأسعار في بعض السلع رفعًا فاحشًا، يزيد في كثير من الأحيان على ضعف ثمنها فى السوق: هم آثمون مُخطئون، ليس لهم نصيب من قوله صلى الله عليه وسلم:"لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ".

(1)

فلا يزيد في الربح استغلالًا لضرورته وحاجته.

(2)

رواه أبو داود (3382)، وضعَّفه الألباني في ضعيف أبي داود.

ص: 383

الْجَارَيةَ لِأَجْلِ كَوْنِهَا تَصْنَعُ الْخَمْرَ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ عَيْنًا لِيَعْصِيَ اللهَ بِهَا؛ مِثْل أَنْ يَشْتَرِيَ عَصِيرًا لِيَعْمَلَهُ خَمْرًا، وَيَشْتَرِيَ سِلَاحًا لِيُقَاتِلَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. [29/ 332 - 333]

* * *

(البيع يَصِحُّ بِلَا رُؤْيَةٍ وَلَا صِفَةٍ ويَثْبُتُ فيه الخِيَار، والنكاح يصح ولا يَثْبُتُ فيه الخِيَار)

4021 -

الشَّرْطُ إنَّمَا يَثْبُتُ لَفْظًا أَو عُرْفًا، وَفِي الْبَيْعِ دَلَّ الْعُرْفُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ إلَّا بِسَلِيمٍ مِن الْعُيُوبِ، وَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ لَمْ يَرْضَ بِمَن لَا يُمْكِنُ وَطْؤُهَا، وَالْعَيْبُ الَّذِي يَمْنَعُ كَمَالَ الْوَطْءِ -لَا أَصْلَهُ- فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ.

وَأَمَّا مَا يُمْكِنُ مَعَهُ الْوَطْءُ وَكَمَالُ الْوَطْءِ: فَلَا تَنْضَبِطُ فِيهِ أَغْرَاضُ النَّاسِ.

وَالشَّارعُ قَد أَبَاحَ بَل أَحَبَّ لَهُ النَّظَرَ إلَى الْمَخْطُوبَةِ وَقَالَ: "إذَا أَلْقَى اللهُ فِي قَلْبِ أَحَدِكُمْ خِطْبَةَ امْرَأَةٍ فَلْيَنْظُرْ إلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَهُمَا"

(1)

.

وَقَوْلُهُ: "أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَهُمَا": يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا عَرَفَهَا قَبْلَ النِّكَاحِ دَامَ الْوُدُّ، وَأَنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ وَإِن لَمْ يَرَهَا، فَإِنَّهُ لَمْ يُعَلِّلِ الرُّؤْيَةَ بِأَنَّهُ يَصِحُّ مَعَهُ النِّكَاحُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الرُّؤْيَةَ لَا تَجِبُ وَأَنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ بِدُونِهَا، وَلَيْسَ مِن عَادَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا غَيْرِهِمْ أَنْ يَصِفُوا الْمَرْأَةَ الْمَنْكُوحَةَ بِذَلِكَ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ لَا يَصِحَّ وَإِمَّا أَنْ يَمْلِكَ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ، وَإِن كَانَ قَد ذُكرَ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد رِوَايَة ضَعِيفَة أَنَّهُ يَصِحُّ بِلَا رُؤْيَةٍ وَلَا صِفَةٍ وَلَا يَثْبُتُ خِيَارٌ.

(1)

رواه الترمذي (1087)، والنسائي (3235)، وابن ماجه (1865)، والدارمي (2218)، وأحمد (18137). وقال الترمذي: حديث حسن.

ص: 384

وَهَذَا الْفَرْقُ إنَّمَا هُوَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ النِّسَاءِ وَالْأَمْوَالِ: أَنَّ النِّسَاءَ يُرْضَى بِهِنَّ فِي الْعَادَةِ عَلَى الصِّفَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَالْأَمْوَالَ لَا يُرْضَى بِهَا عَلَى الصِّفَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ؛ إذ الْمَقْصُودُ بِهَا التَّمَوُّلُ وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الصِّفَاتِ، وَالْمَقْصُودُ بِالنِّكَاحِ الْمُصَاهَرَةُ وَالِاسْتِمْتَاعُ وَذَلِكَ يَحْصُلُ مَعَ اخْتِلَافِ الصِّفَاتِ.

فَهَذَا فَرْقٌ شَرْعِيٌّ مَعْقُولٌ فِي عُرْفِ النَّاسِ.

أَمَّا إذَا عُرِفَ أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ لِاشْتِرَاطِهِ صِفَةً فَبَانَتْ بِخِلَافِهَا وَبِالْعَكْسِ فَإِلْزَامُهُ بِمَا لَمْ يَرْضَ بِهِ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ.

وَلَو قَالَ: ظَنَنْتهَا أَحْسَنَ مِمَّا هِيَ أَو مَا ظَنَنْت فِيهَا هَذَا وَنَحْو ذَلِكَ: كَانَ هُوَ الْمُفَرِّطَ حَيْثُ لَمْ يَسْأَلْ عَن ذَلِكَ وَلَمْ يَرَهَا وَلَا أَرْسَلَ مَن رَآهَا. [29/ 354 - 355]

* * *

(النجش)

4022 -

الْمَالِكُ إذَا زَادَ فِي السِّلْعَةِ كَانَ ظَالِمًا نَاجِشًا، وَهُوَ شَرٌّ مِن التَّاجِرِ الَّذِي لَيْسَ بِمَالِكٍ وَهُوَ الَّذِي يَزِيدُ فِي السِّلْعَةِ وَلَا يَقْصِدُ شِرَاءَهَا. [29/ 358 - 389]

* * *

(بَابُ الْخِيَارِ)

4023 -

يثبت خيار المجلس في البيع، ويثبت خيار الشرط في كل العقود ولو طالت المدة، فإن أطلقا الخيار ولم يوقتاه بمدة توجه أن يثبت ثلاثًا، لخبر حبان بن منقذ.

وللبائع الفسخ في مدة الخيار إذا رد الثمن وإلا فلا.

ونقل أبو طالب عن أحمد: وكذلك التملكات القهرية لإزالة الضرر كالأخذ بالشفعة وأخذ الغراس والبناء من المستعير والمستأجر والزرع من الغاصب. [المستدرك 4/ 13]

ص: 385

4024 -

يثبت خيار الغبن لمسترسل، لا لبائع لم يماكسه وهو مذهب أحمد. [المستدرك 4/ 13]

4025 -

النماء المتصل في الأعيان المملوكة العائد إلى من انتقل الملك عنه، لا يتبع الأعيان، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية أبي طالب حيث قال: إذا اشترى غنمًا فنمت ثم استُحقت

(1)

: فالنماء له، وهو يعم المتصل والمنفصل. [المستدرك 4/ 13]

4026 -

يحرم كتم العيب: ذكره الترمذي عن العلماء.

وكذا لو أعلمه به، ولم يُعْلِمه

(2)

قدر عيبه، ذكره شيخنا. [المستدرك 4/ 13]

4027 -

إن اشترى شيئًا وظهر به عيب فله أرشه إن تعذر رده، وإلا فلا، وهو رواية عن أحمد ومذهب أبي حنيفة والشافعي.

وكذا في نظائره كالصفقة إذا تفرقت.

والمذهب يخيَّر المشتري بين الرد وأخذ الثمن، وإمساكه وأخذ الأرش.

فعليه: يجبر المشتري على الرد وأخذ الأرش لتضرر البائع بالتأخير. [المستدرك 4/ 13 - 14]

4028 -

الجار السوء عيب. [المستدرك 4/ 14]

4029 -

إذا ظهر عسرُ المشتري أو مطلُه: فللبائع الفسخ. [المستدرك 4/ 14]

4030 -

سُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلَيْنِ تَبَايَعَا عَيْنًا وَشَرَطَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَسْخَ الْبَيْعِ وَإِمْضَاءَهُ فِي مُدَّةٍ مُعْتَبَرَةٍ شَرْعًا، فَهَل يُعْتَبَرُ الْخِيَارُ فِي الْإِمْضَاءِ وَالْفَسْخِ؟

فَأَجَابَ: إذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذُكِرَ، وَاخْتَارَ أَحَدُهُمَا فَسْخَ الْبَيْعِ: فَلَهُ فَسْخُهُ بِدُونِ رضى الْآخَرِ، وَلَو سَبَقَ الْآخَرُ بِالْإِمْضَاءِ.

(1)

أي: تبين أنها حقٌّ لغيره؛ إما لكون البائع قد سرقها أو غصبها أو نحو ذلك.

(2)

في الأصل: (يعلما)، وهكذا في الفروع (4/ 94)، والمثبت من الاختيارات (186)، والفتاوى الكبرى (5/ 390).

ص: 386

وَالْإِمْضَاءُ الْمَقْرُونُ بِالْفَسْخِ يُقْصَدُ بِهِ تَرْكُ الْفَسْخِ؛ أَيْ: لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَفْسَخَهُ وَأَنْ لَا يَفْسَخَهُ.

وَلَكِنْ إذَا سَقَطَ خِيَارُهُ لَمْ يَسْقُطْ خِيَارُ الْآخَرِ.

وَلَكِنَّ الْمَعْنَى الْمَعْرُوفَ فِي مِثْل هَذِهِ الْعِبَارَةِ: أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَفْسَخَهُ وَأَنْ لَا يَفْسَخَهُ، وَإِذَا لَمْ يَفْسَخْهُ فَقَد أَمْضَاهُ. [29/ 357 - 358]

4031 -

إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي مُسْتَرْسِلًا -وَهُوَ الْجَاهِلُ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ- لَمْ يَجُزْ لِلْبَائِعِ أَنْ يَغْبِنَهُ غَبْنًا يَخْرُجُ عَن الْعَادَةِ؛ بَل عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَهُ بِالْقِيمَةِ الْمُعْتَادَةِ أَو قَرِيبٍ مِنْهَا.

فَإِنْ غَبَنَهُ غَبْنًا فَاحِشًا: فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ وَإِمْضَائِهِ

(1)

.

وَثَبَتَ فِي "الصِّحَاحِ"

(2)

: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَن تَلَقِّي الْجَلَبِ حَتَّى يَهْبِطَ بِهِ السُّوقَ، وَأَثْبَتَ الْخِيَارَ لِلْبَائِعِ إذَا هَبَطَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَائِعَ قَبْلَ أَن يَهْبِطَ السُّوقَ يَكونُ جَاهِلًا بِقِيمَةِ السِّلَعِ، فَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَن أَنْ يَخْرُجَ الْمُشْتَرِي إلَيْهِ وَيَبْتَاعَ مِنْهُ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِن تَغْرِيرِهِ وَالتَّدْلِيسِ، وَأَثْبَتَ لَهُ الْخِيَارَ إذَا عَلِمَ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ.

فَهَكَذَا كُلُّ مَن كَانَ جَاهِلًا بِالْقِيمَةِ لَا يَجُوزُ تَغْرِيرُهُ وَالتَّدْلِيسُ عَلَيْهِ؛ مِثْل أَنْ يُسَامَ سَوْمًا كَثِيرًا خَارِجًا عَن الْعَادَةِ لِيَبْذُلَ مَا يُقَارِبُ ذَلِكَ؛ بَل يُبَاعُ الْبَيْع الْمَعْرُوف غَيْر الْمُنْكَرِ.

وَإِذَا تَابَ هَذَا الْغَابِنُ الظَّالِمُ وَلَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَرُدَّ إلَى الْمَظْلُومِينَ حُقُوقَهُم فَلْيَتَصَدَّقْ بِمِقْدَارِ مَا ظَلَمَهُم بِهِ وَغَبَنَهُم؛ لِتَبْرَأَ ذِمَّتُهُ بِذَلِكَ مِن ذَلِكَ. [29/ 359 - 360]

* * *

(1)

وهو الذي رجحه العلَّامة ابن عثيمين كما في الشرح الممتع (8/ 298)، ويرى بعض العلماء أنه لا خيار له إلا إذا اشترط لنفسه وتحفَّظ.

(2)

رواه البخاري (2166)، ومسلم (1515).

ص: 387

(فصل في التصرف في المبيع قبل قبضه، وما يحصل به قبضه)

4032 -

من اشترى شيئًا بكيل أو وزن نقله جماعة. وعنه: المطعوم منهما، وظاهر المذهب: أو عدد، والمشهور: أو ذرع، وذكره شيخنا، ولا يتصرف فيه ولا بإجارة قبل قبضه.

وجوز شيخنا: التولية

(1)

والشركة

(2)

، وجوَّز: التصرف بغير بيع

(3)

، وبيعه لبائعه

(4)

. [المستدرك 4/ 14]

(1)

هي أن يبيعه برأس ماله، وسميت تولية؛ لأن المشتري صار بدلًا عن البائع، وكأنما يصير وليُّا له؛ أي: متابعًا له، كأنه يقول له: وليتك ما توليت. الشرح الممتع (8/ 330).

(2)

هي أن يبيع عليه بعضه بقسطه من الثمن، مثل أن يبيع عليه النصف فيكون على المشتري الثاني نصف الثمن، أو الثلث، أو الربع، أو أكثر، أو أقل، والبيع بالشركة قد يكون تولية وقد يكون مرابحة وقد يكون مواضعة. الشرح الممتع (8/ 330).

(3)

كالهبة ونحوها.

(4)

مثاله: اشتريت مائة صاع من زيد، فأخذتها ولكنها لا زالت في دكانه، ثم بعتها عليه بثمنها أو أكثر.

وقد استدل الشيخ رحمه الله على جواز بيع السلعة تولية: بأنّ العلة في النهي عن البيع قبل قبضه: أن يربح فيما لم يضمن؛ أي: فيما لم يدخل في ضمانه، وأيضًا فإن العلة من النهي خوف العداوة والبغضاء، أو محاولة البائع فسخ العقد؛ لأن البائع إذا رأى أن المشتري قد ربح فيه قبل أن ينقله إلى بيته فربما يحاول فسخ العقد بأي طريق، فيحصل بذلك نزاع وخلاف.

قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله: الأولى أن يقال: إن النهي في الحديث على ظاهره، وأنه يشمل حتى ما إذا باعه على بائعه، أو باعه تولية أو مشاركة أو مواضعة أو أي شيء، فهذا هو ظاهر النص، والذي ينبغي لنا أن نأخذ بعموم الحديث، وقد سبق لنا أن العلة المستنبطة لا تقوى على تخصيص العموم؛ لأنه من الجائز أن تكون هذه العلة خطأ وأن استنباطنا لها ليس بصواب، فلا نخصص بها عموم الكتاب والسُّنَّة بمجرد أن نقول: إن الحكم مبني على هذه العلة.

وعلى هذا؛ فيكون هذا من المواضع التي يُخَالَف فيها شيخ الإسلام رحمه الله مع أن غالب اختياراته أقرب إلى الصواب من غيره، كل ما اختاره إذا تأملته وتدبرته وجدته أقرب إلى الصواب من غيره، لكنه ليس بمعصوم، لدينا نحو عشر مسائل أو أكثر نرى أن الصواب خلاف كلامه رحمه الله؛ لأنه كغيره يخطئ ويصيب. اهـ. الشرح الممتع (8/ 369 - 370).

ص: 388

4033 -

يملك المشتري المبيع بالعقد، ويصح عتقه قبل القبض إجماعًا فيهما. [المستدرك 4/ 14]

4034 -

من اشترى شيئًا: لم يبعه قبل قبضه، سواء كان المكيل والموزون وغيرهما، وهو رواية عن أحمد.

وسواء كان المبيع من ضمان المشتري أو لا

(1)

، وعلى ذلك تدلُّ أصول أحمد؛ كتصرف المشتري في الثمرة قبل جدّها في أصح الروايتين وهي مضمونة على البائع، وكصحة تصرف المستأجر في العين المؤجرة بالإجارة وهي مضمونة على المؤجر. [المستدرك 4/ 14 - 15]

4035 -

يمنع التصرف في صبرة الطعام المشتراة جزافًا على إحدى الروايتين وهي اختيار

(2)

الخرقي مع أنها من ضمان المشتري، وهذه طريقة الأكثرين.

وعلة النهي عن البيع قبل القبض: ليست توالي الضمانين، بل عجز المشتري عن تسليمه؛ لأن البائع قد يسلمه وقد لا يسلمه، لا سيما إذا رأى المشتري قد ربح فيسعى في رد المبيع إما بجحد أو احتيال في الفسخ.

وعلى هذه العلة: تجوز التولية في المبيع قبل قبضه، وهو مخرج من جواز بيع الدين.

ويجوز التصرف فيه بغير البيع، ويجوز بيعه لبائعه، والشركة فيه.

وكل ما مُلِك بعقد سوى البيع: فإنه يجوز التصرف فيه قبل قبضه بالبيع وغيره؛ لعدم قصد الربح.

وإذا تعين ملك إنسان في موروث أو وصية أو غنيمة: لم يعتبر لصحة

(1)

في الأصل: (أولى)، وهو خطأ، والتصويب من الفتاوى الكبرى (5/ 390)، والاختيارات (187).

(2)

في الأصل: (اختيارات)، والتصويب من الفتاوى الكبرى (5/ 390).

ص: 389

تصرفه قبضُه بغير خلاف، وينقل الضمان إلى المشتري بتمكنه من القبض. [المستدرك 4/ 15]

4036 -

كلُّ عوضٍ مُلك بعقدِ مُعَاوَضَةٍ

(1)

ينفسخ بهلاكه

(2)

قبل القبض: لا يجوز التصرف فيه قبل قبضه؛ كبيع

(3)

.

وجوَّز شيخنا: البيع وغيره؛ لعدم قصد الربح

(4)

.

وما لا ينفسخ: يجوز التصرف فيه قبل القبض؛ كعوض الخلع والعتق والنكاح والصلح عن دم عمد-؛ لأن المقتضي للتصرف الملك وقد وجد.

وقيل: كبيع، لكن يجب بتلفه مثله أو قيمته ولا فسخ

(5)

.

واختار شيخنا: لهما

(6)

فسخ نكاح لفوات بعض المقصود؛ كعيب مبيع

(7)

. [المستدرك 4/ 15 - 16]

* * *

(حكم الكيمياء ومعناها)

4037 -

مَا يَصْنَعُهُ بَنُو آدَمَ مِن الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِهِمَا مِن أَنْوَاعِ الْجَوَاهِرِ وَالطِّيبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُشَبّهُونَ بِهِ مَا خَلَقَهُ اللهُ مِن ذَلِكَ؛ مِثْل مَا يَصنَعُونَهُ مِن اللُّولُؤِ وَالْيَاقُوتِ وَالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَمَاءِ الْوَرْدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: فَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ مِثْل مَا

(1)

غير البيع.

(2)

أي: هلاك العوض.

(3)

فلا يجوز بيع سلعة قبل قبضها.

(4)

أي: أنّه رحمه الله يرى أنَّ كلَّ ما مُلك بعقد سوى البيع: فإنه يجوز التصرف فيه قبل قبضه بالبيع وغيره؛ لعدم قصد الربح. الاختيارات (188).

وعبارة الاختيارات أوضح وأخصر.

(5)

أي: يجب على من تلف ذلك بيده قبل إقباضه بسبب تلفه مثله إن كان مثليًّا، أو قيمته إن كان متقومًا؛ لأنه من ضمانه حتى يقبضه مستحقه إلحاقًا له بالبيع. يُنظر: كشاف القناع عن متن الإقناع، لمنصور البهوتي، المتوفى سنة (1051 هـ)(3/ 245).

(6)

أي: للزوجين.

(7)

العبارة في الأصل يعسر فهمها؛ لِمَا فيها من النقص، وقد قمت بإثبات الفائدة مع الزيادات من المبدع ونحوه.

ص: 390

يَخْلُقُهُ اللهُ مِن ذَلِكَ؛ بَل هُوَ مُشَابِهٌ لَهُ مِن بَعْضِ الْوُجُوهِ، لَيْسَ هُوَ مُسَاوِيًا لَهُ فِي الْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مُحَرَّمٌ فِي الشَّرْعِ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ ذَلِكَ

(1)

.

وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا اسْتِقْرَاءُ الْوُجُودِ: مِن أَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَكُونُ مَصْنُوعًا، وَالْمَصْنُوعُ لَا يَكُونُ مَخْلُوقًا: هِيَ ثَابِتَةٌ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَعِنْدَ أَوَائِلِ الْمُتَفَلْسِفَةِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي الطَّبَائِعِ وَتَكَلَّمُوا فِي الْكِيمْيَاءِ

(2)

وَغَيْرِهَا؛ فَإِنَّ اللهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16].

وَفِي "الصَّحِيحِ" عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فيمَا يَرْوِي عَنِ اللهِ أَنَّهُ قَالَ: "وَمَن أَظْلَمُ مِمَن ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً فَلْيَخْلُقُوا بَعُوضَةً"

(3)

.

وَأَهْلُ الْكِيمْيَاءِ مِن أَعْظَمِ النَّاسِ غِشًّا؛ وَلِهَذَا لَا يُظْهِرُونَ للنَّاس إذَا عَامَلُوهُم أَنَّ هَذَا مِن الْكِيمْيَاءِ، وَلَو أَظْهَرُوا لِلنَّاسِ ذَلِكَ لَمْ يَشْتَرُوهُ مِنْهُم إلَّا مَن يُرِيدُ غِشَّهُمْ.

وَقَد قَالَ الْأَئِمَّةُ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَغْشُوشِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ مِقْدَارُ غِشِّهِ وَإِن بَيَّنَ لِلْمُشْتَرِي أَنَّهُ مَغْشُوشٌ.

(1)

وعلى هذا فالعود الصناعي حرام إذا بيع على أنه طبيعيّ.

(2)

جاء في المعجم الوسيط (2/ 808): الكيمياء: هي الْحِيلَة والحذق، وَكَانَ يُرَاد بهَا عِنْد القدماء تَحْويل بعض الْمَعَادِن إِلَى بعض.

وعلم الكيمياء عِنْدهم: علمٌ يعرف بِهِ طرق سلب الْخَواص من الْجَوَاهِر المعدنية وجلب خَاصَّة جَدِيدَة إِلَيْهَا وَلَا سِيمَا تحويلها إِلَى ذهب.

وعِنْد الْمُحدَثين: علمٌ يُبْحَث فِيهِ عَن خَواص العناصر المادية والقوانين الَّتِي تخضع لَهَا فِي الظروف الْمُخْتَلفَة، وبخاصة عِنْد اتِّحَاد بَعْضهَا بِبَعْض (التَّرْكِيب)، أَو تَخْلِيص بَعْضهَا من بعض (التَّحْلِيل). اهـ.

قلت: والشيخ يقصد بالكيمياء المعنى الأول، وهي التي تُتخذ وسيلة إلى الحيل والغش والدجل.

(3)

رواه البخاري (5953).

ص: 391

وَبَيْعُ الْمَغْشُوشِ لِمَن لَا يَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّهُ مَغْشُوشٌ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْكِيمْيَاءُ لَا يُعْلَمُ مِقْدَارُ الْغِشِّ فِيهَا، فَلَا يَجُوزُ عَمَلُهَا وَلَا بَيْعُهَا بِحَالٍ.

وَالْكِيمْيَاءُ أَشَدُّ تَحْرِيمًا مِن الرِّبَا.

وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّك تَجِدُ "السِّيمَيَا"

(1)

الَّتِي هِيَ مِن السِّحْرِ كَثِيرًا مَا تَقْتَرِنُ بِالْكِيمْيَاءِ، وَمَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِن دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ السِّحْرَ مِن أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَإِذَا كَانَت الْكِيمْيَاءُ تُقْرَنُ بِهِ كَثِيرًا وَلَا تَقْتَرِنُ بِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ: عُلِمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِن أَعْمَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ؛ بَل مِن أَعْمَالِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ.

وَمَن اسْتَقْرَأَ أَحْوَالَ طَالِبِيهَا وَجَدَ تَحْقِيقَ مَا قَالَهُ الْأَئِمَّةُ حَيْثُ قَالُوا: مَن طَلَبَ الْمَالَ بِالْكِيمْيَاءِ أَفْلَسَ، وَمَن طَلَبَ الْعِلْمَ بِالْكَلَامِ تَزَنْدَقَ، وَمَن طَلَبَ غَرَائِبَ الْحَدِيثِ كَذَبَ.

فَإِنَّ أَصْلَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي خَلَقَهَا اللهُ لَا يُمْكِنُ الْبَشَرُ أَنْ يَصْنَعُوا مِثْلَهَا، وَلَا يُمْكِنُهُم نَقْلُ نَوْعٍ مَخْلُوقٍ مِن الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعْدِنِ إلَى نَوْعٍ آخَرَ مَخْلُوقٍ، وَهَذَا مُطَّرِدٌ لَا يُنْقَضُ. [29/ 368 - 388]

* * *

(حكم ما ظهر عيبه بعد البيع)

4038 -

وَسُئِلَ: عَن رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا سَلِيمًا مِنَ الْعَيْبِ ثُمَّ بَاعَهُ كَذَلِكَ، فَسَرَقَ الْعَبْدُ مِن الْمُشْتَرِي الثَّانِي مَبْلَغًا وَأَبَقَ، فَهَل يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِع الْأَوَّلِ؟

فَأَجَابَ: لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُطَالِبَ بِالْأَرْشِ بِلَا نِزَاعِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ

(2)

.

(1)

قال في المعجم الوسيط (1/ 469): هو السحر، وَحَاصِلُه: إِحْدَاث مثالات خيالية لَا وجود لَهَا فِي الْحس.

(2)

هذا بشرط أن يكون البائع قد علم بالعيب وكتمه، أما في حال عدم علمه بعيبه هذا فلا يحق للمشتري الرجوع عليه، ويدل على هذا الفتوى الآتية.

ص: 392

وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنْ يُقَوَّمَ الْعَبْدُ وَلَا عَيْبَ فِيهِ، ويُقَوَّمَ وَبِهِ هَذَانِ الْعَيْبَانِ

(1)

، فَمَا نَقَصَ مِن الْقِيمَةِ نَقَصَ مِن الثَّمَنِ بِحِسَابِهِ، فَإِذَا كَانَت قِيمَتُهُ سَلِيمًا أَرْبَعَمِائَةٍ وَقِيمَتُهُ مَعِيبًا مِائَتَانِ: حُطَّ عَنْهُ نِصْفُ الثَّمَنِ. [29/ 391 - 392]

4039 -

وَسُئِلَ: عَن رَجُلٍ اشْتَرَى جَارَيةً صَحِيحَةً سَالِمَةً، فَهَرَبَتْ مِن يَوْمِ ابْتَاعَهَا مِن غَيْرِ ضَرْبٍ وَلَا إجْحَافٍ، فَهَل لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ قَبْلَ حُضُورِ الْجَارِيةِ وَوُجُودِهَا أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ: إنْ كَانَت الْجَارِيَةُ مَعْرُوفَةً بِالْإِبَاقِ قَبْلَ ذَلِكَ وَكَتَمَ الْبَائِعُ هَذَا الْعَيْبَ وَأَبَقَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُطَالِبَ الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَنْصُوصِ عَنْهُ مِن الْقَوْلَيْنِ.

وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ: يُطَالِبُ بِالْأَرْشِ.

وَإِن لَمْ تَكُنْ أَبَقَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ أَبَقَتْ بِسَبَبِ مَا فَعَلَ بِهَا الْمُشْتَرِي فَلَا شَيْءَ عَلَى الْبَائِعِ

(2)

. [29/ 393]

4040 -

وَسُئِلَ: عَن دَابَّةٍ لَمْ يَعْلَمْ أَحَدٌ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِهَا عَيْبًا، فَمَكَثَتْ عِنْدَهُ مِقْدَارَ شَهْرٍ ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا؟

فَأَجَابَ: إذَا ظَهَرَ بِهَا عَيْبٌ قَدِيمٌ قَبْلَ الْبَيْعِ وَلَمْ يَكُن عَلِمَ بِهِ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِذَلِكَ الْعَيْبِ

(3)

، مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرضى بِهِ. [29/ 394]

* * *

(1)

وهما السرقة والإباق.

(2)

وقد ذكر الشيخ أنّ الْقَوْل قَوْلُ البائعِ مَعَ يَمِينِهِ إذَا لَمْ يُقِم الْمُشْتَرِي بَيِّنَةً. (29/ 395)

(3)

وذكر الشيخ في موضع آخر: أنه إِذَا كَانَ المشتري قَد أنْقَصَ ثمن السلعة -كالدابة أو القماش ونحوه- بِمَا أَحْدَثَه فِيهِ مِن الْعَيْبِ: كَانَ لَه الرَّدُّ مَعَ أَرْشِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. (29/ 397)

ص: 393

‌(هل التَّصَرُّفُ وَالضَّمَان مُتَلَازَمَانِ

؟)

4041 -

المتأخرون مِن أَصْحَابِ أَحْمَد مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيَّةِ يَقُولُونَ بِتَلَازُمِ التَّصَرُّفِ وَالضَّمَانِ، فَعِنْدَهُم أَنَّ مَا دَخَلَ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي جَازَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ، وَمَا لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ لَمْ يَجُزْ تَصَرُّفُهُ فِيهِ؛ وَلِهَذَا طَرَدَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ فِي بَيْعِ الثِّمَارِ عَلَى الشَّجَرِ فَلَمْ يَقُلْ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا قَبَضَهَا وَجَازَ تَصَرُّفُهُ فِيهَا صَارَ ضَمَانُهَا عَلَيْهِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي مَذْهَبِ أَحْمَد الَّذِي ذَكَرَهُ الخرقي وَغَيْرُهُ مِن الْمُتَقَدِّمِينَ وَعَلَيْهِ تَدُلُّ أُصُولُ أَحْمَد: أَنَّ الضَّمَانَ وَالتَّصَرُّفَ لَا يَتَلَازَمَانِ؛ وَلِهَذَا كَانَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد أَنَّ الثِّمَارَ إذَا تَلِفَتْ قَبْلَ تَمَكُّنِ الْمُشْتَرِي مِن جُذَاذِهَا: كَانَت مِن ضَمَانِ الْبَائِعِ، مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي التَّصَرُّفُ فِيهَا بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، فَجَوَّزَ تَصَرُّفَهُ فِيهَا مَعَ كَوْنِ ضَمَانِهَا عَلَى الْبَائِعِ.

وَقَد ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ أَنَّ الثِّمَارَ مِن ضَمَانِ الْبَائِعِ؛ كَمَا فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَن جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا بِعْت مِن أَخِيك ثَمَرَةً فَأَصَابَتْهَا جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَأْخُذَ مِن ثَمَنِهَا شَيْئًا، بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِحَقٍّ؟ ".

وَأُصُولُ الشَّرِيعَةِ تُوَافِقُ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ:

- فَلَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ مَضْمُونًا عَلَى شَخْصٍ كَانَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ؛ كَالْمَغْصُوبِ وَالْعَارَيةِ.

- وَلَيْسَ كُلُّ مَا جَازَ التَّصَرُّفُ فِيهِ كَانَ مَضْمُونًا عَلَى الْمُتَصَرِّفِ؛ كَالْمَالِكِ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْمَغْصُوبِ وَالْمُعَارِ فَيَبِيعُ الْمَغْصُوبَ مِن غَاصِبِهِ وَمِمَن يَقْدِرُ عَلَى تَخْلِيصِهِ مِنْهُ، وَإِن كَانَ مَضْمُونًا عَلَى الْغَاصِبِ.

- كَمَا أَنَّ الضَّمَانَ بِالْخَرَاجِ

(1)

، فَإِنَّمَا هُوَ فِيمَا اُتُّفِقَ مِلْكًا وَيَدًا، وَأَمَّا إذَا

(1)

أصل هذا حديث صحيح بلفظ: "الخراج بالضمان"؛ أي: من له ربح شيء فعليه خسارته.

ص: 394

كَانَ الْمِلْكُ لِشَخْصٍ وَالْيَدُ لِآخَرَ: فَقَد يَكُونُ الْخَرَاجُ لِلْمَالِكِ وَالضَّمَانُ عَلَى الْقَابِضِ.

وَأَيْضًا: فَالْبَائِعُ إذَا مَكَّنَ الْمُشْتَرِيَ مِن الْقَبْضِ: فَقَد قَضَى مَا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْمُشْتَرِي هُوَ الْمُفَرِّطُ بِتَرْكِ الْقَبْضِ فَيَكُونُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُمَكنْهُ مِن الْقَبْضِ، بِأَنْ لَا يُوَفِّيَهُ التَّوْفِيَةَ الْمُسْتَحَقَّةَ، فَلَا يَكِيلُهُ وَلَا يَزِنُهُ وَلَا يَعُدُّهُ، فَإِنَّهُ هُنَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَمْ يُوَفِّهِ إيَّاهُ مِن الدَّيْنِ، وَإِذَا لَمْ يَفْعَل الْبَائِعُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِن التَّوْفِيَةِ: كَانَ هُوَ الْمُفَرِّط، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ؛ إذ التَّفْرِيطُ يُنَاسِبُ الضَّمَانَ. [29/ 398 - 402]

* * *

‌(الْمَقْبُوض بِعَقْدٍ فَاسِد وغصب، والفرق بينهما، ومتى يجب الْوَفَاءَ في الْعُقُود الْجَائِزَة؟ وماذا يجب في العقد الْفَاسِدِ: القيمة أو المثل

؟)

4042 -

فَصْلٌ: فِي الْمَقْبُوضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ: أَصْلُهُ أَنَّ الْعَقْدَ الصَّحِيحَ يُوجِبُ عَلَى كُلٍّ مِن الْمُتَعَاقِدَيْنِ مَا اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ؛ مِثْلُ مَا يُوجِبُ التَّقَابُضَ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِن الْمُعَاوَضَاتِ اللَّازِمَةِ، فَإِنَّ لُزُومَهَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْوَفَاءِ بِهَا وَتَحْرِيمَ نَقْضِهَا.

وَأَمَّا الْعُقُودُ الْجَائِزَةُ مِن الْوِكَالَاتِ بِأَنْوَاعِهَا وَالْمُشَارَكَاتِ بِأَصْنَافِهَا: فَإِنَّهَا لَا تُوجِبُ الْوَفَاءَ مُطْلَقًا؛ إذ الْعَقْدُ لَيْسَ بِلَازِمٍ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ؛ بَل هُوَ جَائِزٌ مُبَاحٌ، وَصَاحِبُهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إمْضَائِهِ وَفَسْخِهِ، وَإِذَا فَسَخَهُ كَانَ نَقْضًا لَهُ.

لَكِنْ مَا دَامَ الْعَقْدُ مَوْجُودًا: فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمُوجِبِهِ مِن حِفْظِ الْمَالِ؛ فَإِنَّهُ عَقْدُ أَمَانَةٍ

(1)

.

وَأمَّا تَحْرِيمُ الْعُدْوَانِ كَالْخِيَانَةِ: فَذَاكَ وَاجِبٌ بِالشَّرْعِ لَا بِالْعَقْلِ، إذ يَحْرُمُ

(1)

والأمانة تقتضي ألا يفسخ العقد ما دام العقد ساريًا؛ لأنه يترتب على فسخِه مفاسد وأضرار كبيرة.

ص: 395

عَلَيْهِ الْعُدْوَانُ فِي مَالِ مَن ائْتَمَنَهُ وَغَيْره، لَكِنَّ الْعَقْدَ أَوْجَبَ ذَلِكَ أَيْضًا وَزَادَهُ تَوْكِيدًا.

وَأَمَّا وُجُوبُ التَّصَرُّفِ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَكُونُ الْعَامِلُ فِي الْمُضَارَبَةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ إذَا تَرَكَ التَّصَرُّفَ الَّذِي اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ مُفَرِّطًا: فَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ؛ فَإِنَّ الْعَقْدَ وَإِن كَانَ جَائِزًا فَمَا دَامَ مَوْجُودًا فَلَهُ مُوجِبَانِ:

أ- الْحِفْظُ بِمَنْزِلَةِ الْوَدِيعَةِ.

ب- وَالتَّصَرُّفُ الَّذِي اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ

(1)

.

وَهَذَا قِيَاسُ مَذْهَبِنَا؛ لِأَنَّا نُوجِبُ عَلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ مِن الْمُعَاوَضَةِ بِالْبَيْعِ وَالْعِمَارَةِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْآخَرُ فِي الْعُرْفِ؛ مِثْلُ عِمَارَةِ مَا استهدم، هَذَا فِي شَرِكَةِ الْأَمْلَاكِ، فَكَذَلِكَ فِي شَرِكَةِ الْعُقُودِ؛ فَإِنَّ مَقْصُودَهَا هُوَ التَّصَرُّفُ، فَتَرْكُ التَّصَرُّفِ فِي الْمُضَارَبَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ قَد يَكُونُ أَعْظَمَ ضَرَرًا مِن تَرْكِ عِمَارَةِ الْمَكَانِ المستهدم فِي شَرِكَةِ الْأَمْلَاكِ، وَمِن تَرْكِ بَيْع الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ الْمُشْتَرَكَةِ

(2)

؛ لِأَنَّهُ هُنَاكَ يُمْكنُ الشَّرِيكَ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ وَهُنَا غَرَّهُ وَضَيَّعَ عَلَيْهِ مَنْفَعَةَ مَالِهِ.

فَإِذَا كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا: لَمْ يَثْبُتْ جَمِيعُ مُقْتَضَاهُ مِن وُجُوبِ التَّقَابُضِ، وَالتَّصَرُّفِ، وَحِلِّ التَّصَرُّفِ وَالِانْتِفَاعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ

(3)

: فَهُوَ قَبْضٌ مَأْذُونٌ فِيهِ بِعَقْد، فَلَيْسَ مِثْل قَبْضِ الْغَاصِبِ الَّذِي هُوَ بِغَيْرِ إذْنٍ.

(1)

فمقتضى عقده مع صاحبه أن يتصرف في العمل بما فيه مصلحته ومنفعته.

(2)

الجملة في الأصل هكذا:

المستهدم فِي شَرِكَةِ الْأَمْلَاكِ.

وَمَن تَرَكَ بَيْعَ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ الْمُشْتَرَكَةِ ..

وهي بهذا لا تكون الجملة مفيدة، وهذا يدل على أهمية وضع علامات الترقيم والفواصل والتشكيل.

(3)

يعني: إذا قبض البائع الثمن، والمشتري السلعة في العقد الفاسد: فهو قبضٌ معترف فيه صحيح، يترتب عليه آثارُه.

ص: 396

وَذَلِكَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا

(1)

مِن وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ قَبْضٌ بِغَيْرِ إذْن الْمَالِكِ، وَهَذَا قَبْضٌ بِإِذْنِ الْمَالِكِ.

الثَّانِي: أَنَّ هَذَا قَبْضٌ اقْتَضَاهُ عَقْدٌ وَإِن كَانَ فِيهِ فَسَادٌ، وَذَاكَ قَبْضٌ لَمْ يَقْتَضِهِ عَقْدٌ بِحَال؛ وَلِهَذَا نُوجِبُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ الْمُسَمَّى فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَفِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ وَنَحْوِهَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.

فَإِنْ كَانَ الْمَقْبُوضُ بِهِ مَوْجُودًا وَأَرَادَ الرَّدَّ: رَدَّهُ.

وَإِن كَانَ فَائِتًا: رَدَّ مِثْلَهُ إذَا أَمْكَنَ.

فَإِذَا تَعَذَّرَ رَدُّ الْعَيْنِ أَو الْمِثْلِ: فَلَا بُدَّ مِن رَدِّ عِوَضٍ؛ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ لَيْسَ مِن ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ؛ بَل مِن ذَوَاتِ الْقِيَمِ، وَمِثْلُ: الْمَنَافِعِ الْمُسْتَوْفَاةِ بِالْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ، وَمِثْلُ: عَمَلِ الْعَامِلِ فِي الْمُشَارَكَةِ الْفَاسِدَةِ مِن الْمُسَاقَاةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَنَحْوِهَا.

فَمِن أَصْحَابِنَا مَن يُوجِبُ رَدَّ الْقِيمَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ.

وَطَرَدَ الشَّافِعِيُّ هَذَا فِي الْمُسَمَّى الْفَاسِدِ فِي النِّكَاحِ وَالْمَغْضُوبِ فَأَوْجَبَ مَهْرَ الْمِثْلِ؛ بِنَاءً عَلَى أَّنَّهُ كَانَ يَجِبُ رَدُّ الْبُضْعِ لِفَسَادِ التَّسْمِيَةِ، فَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْ رَدُّهُ رَدَّ بَدَلَهُ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَخَالَفَهُ بَعْضُ أَصْحَابِه، وَالْجُمْهُورُ مِن أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ وَسَائِرِ الْعُلَمَاءِ أَوْجَبُوا بَدَلَ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى مِثْلُهُ أَو قِيمَتُهُ، لَا بَدَلَ الْبُضْعِ، وَهُوَ الصَّوَابُ قَطْعًا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ هُنَا لَمْ يَفْسُدْ، فَلَمْ يَجِبْ رَدُّ الْمُسْتَحَقِّ بِهِ وَهُوَ الْبُضْعُ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ رَدُّ الْبُضْعِ لَمْ يَجِبْ رَدُّ بَدَلِهِ؛ بَل الْوَاجِبُ هُوَ إعْطَاءُ الْمُسَمَّى إنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا فَبَدَلُهُ، فَكَانَ بَدَلُ الْمُسَمَّى هُوَ الْوَاجِبَ وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى مَا تَرَاضَوْا بِهِ مِن بَدَلِ الْبُضْعِ.

(1)

أي: بين الْمقَبوضِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ، والْمقَبوضِ غصبًا.

ص: 397

وَفِي سَائِرِ الْعُقُودِ إذَا فَسَدَتْ: تُوجِبُ رَدَّ الْعَيْنِ أَو بَدَلَهَا.

وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَد: أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْمُشَارَكَةِ -مِثْلُ الْمُضَارَبَةِ وَنَحْوِهَا- الْمسَمَّى أَيْضًا؛ كَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْوَى.

بَل الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الْفَاسِدِ قِيمَةُ الْعَيْنِ أَو الْمَنْفَعَةِ مُطْلَقًا

(1)

؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَيْنَ لَو أَمْكَنَ رَدُّهَا أَو رَدُّ مِثْلِهَا لَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الْوَاجِب؛ لَأَنَّ الْعَقْدَ لَمَّا انْتَفَى: وَجَبَ إعَادَةُ كُلِّ حَقٍّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ، وَالْمِثْلُ يَقُومُ مَقَامَ الْعَيْنِ.

أَمَّا إذَا كَانَ الْحَقُّ قَد فَاتَ؛ مِثْلُ الْوَطْءِ فِي النِّكاحِ الْفَاسِدِ، وَالْعَمَلِ فِي الْمُؤَاجَّرَاتِ وَالْمُضَارَبَاتِ وَالْغَبْنِ فِي الْمَبِيعِ: فَالْقِيمَةُ لَيْسَتْ مِثْلًا لَهُ.

وَإِنَّمَا تَجِبُ

(2)

فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ: كَالْمُتْلَفِ وَالْمَغْصُوبِ الَّذِي تَعَذَّرَ مِثْلُهُ؛ لِلضَّرُورَةِ؛ إذ لَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ يُوجَدُ أَقْرَبُ إلَى الْحَقِّ مِن الْقِيمَةِ

(3)

، فَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الْعَدْل الْمُمْكِن، كَمَا قُلْنَا مِثْل ذَلِكَ فِي الْقِصَاصِ وَدِيَةِ الْخَطَأِ وَأَرْشِ الْجِرَاحِ، وَاعْتَبَرْنَا الْقِيمَةَ بِتَقْوِيمِ النَّاسِ؛ إذ لَيْسَ هُنَاكَ مُتَعَاقِدَانِ تَرَاضَيَا بِشَيْء، وَأَمَّا هُنَا فَقَد تَرَاضَيَا بِأَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى بَدَلًا عَن الْعَيْنِ أَو الْمَنْفَعَةِ، وَالنَّاسُ يَرْضَوْنَ لَهَا بِبَدَلٍ آخَرَ، فَكَانَ اعْتِبَارُ تَرَاضِيهِمَا أَوْلَى مِن اعْتِبَارِ رضى النَّاسِ. [29/ 406 - 410]

4043 -

قَاعِدَةٌ فِي الْمَقْبُوضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ: وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو:

أ- إمَّا أَنْ يَكُونَ الْعَاقِدُ يَعْتَقِدُ الْفَسَادَ وَيَعْلَمُهُ.

(1)

بل يجب ردّ العين نفسِها أو مثلها عند عدمها أو تلفها.

(2)

أي: القيمة.

(3)

فالقاعدة أنه إِذَا تَعَذَّرَ رَدُّ الْعَيْنِ أوَ مِثْلِهَا: رُدَّت الْقِيمَةُ بِالسِّعْرِ وَقْتَ الْقَبْضِ لا وقت التلف ونحوه، كما قاله الشيخ رحمه الله. (29/ 414)، وهو الذي رجحه العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله كما في الشرح الممتع (8/ 351).

ص: 398

ب- أَو لَا يَعْتَقِدُ الْفَسَادَ.

فَالْأَوَّلُ: يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ؛ حَيْثُ قَبَضَ مَا يَعْلَمُ أَّنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ، لَكِنَّهُ لِشُبْهَةِ الْعَقْدِ وَكَوْنِ الْقَبْض عَن التَّرَاضِي: هَل يَمْلِكُهُ بِالْقَبْضِ أَو لَا يَمْلِكُهُ؟

(1)

.

وَأَمَّا إنْ كَانَ الْعَاقِدُ يَعْتَقِدُ صِحَّةَ الْعَقْدِ: مِثْلُ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِيمَا يَتَعَاقَدُونَ بَيْنَهُم مِن الْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ؛ مِثْلُ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالرِّبَا وَالْخِنْزِيرِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ إذَا اتَّصَلَ بِهَا الْقَبْضُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَالتَّحَاكُمِ إلَيْنَا أُمْضِيَتْ لَهُم وَيَمْلِكُونَ مَا قَبَضُوهُ بِهَا بِلَا نِزَاعٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)} [البقرة: 278] فَأَمَرَ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ.

وَإِن أَسْلَمُوا أَو تَحَاكَمُوا قَبْلَ الْقَبْضِ: فُسِخَ الْعَقْدُ وَوَجَبَ رَدُّ الْمَالِ إنْ كَانَ بَاقِيًا، أَو بَدَلُهُ إنْ كَانَ فَائِتًا.

وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)} [البقرة: 278]-إلَى قَوْلِهِ- {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279] أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِرَدِّ مَا بَقِيَ مِن الرِّبَا فِي الذِّمَمِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِرَدِّ مَا قَبَضُوهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَجَعَلَ لَهُم مَعَ مَا قَبَضُوهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ: رُءُوسَ الْأَمْوَالِ.

فَعُلِمَ أَنَّ الْمَقْبُوضَ بِهَذَا الْعَقْدِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ يَمْلِكُهُ صَاحِبُهُ.

أَمَّا إذَا طَرَأَ الْإِسْلَامُ وَبَيْنَهُمَا عَقْدُ رِبًا فَيَنْفَسِخُ، وَإِذَا انْفَسَخَ مِن حِينِ الْإِسْلَامِ اسْتَحَقَّ صَاحِبُهُ مَا أَعْطَاهُ مِن رَأسِ الْمَالِ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ الزِّيَادَةَ الرِّبَوِيَّةَ الَّتِي لَمْ تُقْبَضْ.

وَهَكَذَا كُلُّ عَقْدٍ اعْتَقَدَ الْمُسْلِمُ صِحَّتَهُ بِتَأْوِيلٍ مِن اجْتِهَادٍ أَو تَقْرِيرٍ؛ مِثْلُ الْمُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ الَّتِي يُبِيحُهَا مُجَوِّزُو الْحِيَلِ.

(1)

سبق في الفقرة السابقة أن الشيخ رجح أنّ الإنسان إذا عقد عقدًا فاسدًا أنه يملكه بالقبض.

ص: 399

وَمِثْلُ بَيْعِ النَّبِيذِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ عِنْدَ مَن يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ.

وَمِثْلُ بُيُوعِ الْغَرَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا عِنْدَ مَن يُجَوِّزُ بَعْضَهَا.

فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ إذَا حَصَلَ فِيهَا التَّقَابُضُ مَعَ اعْتِقَادِ الصِّحَّةِ لَمْ تُنْقَضْ بَعْدَ ذَلِكَ، لَا بِحُكْمٍ وَلَا بِرُجُوعٍ عَن ذَلِكَ الِاجْتِهَادِ.

وَأَمَّا إذَا تَحَاكَمَ الْمُتَعَاقِدَانِ إلَى مَن يَعْلَمُ بُطْلَانَهَا قَبْلَ التَّقَابُضِ أَو اسْتَفْتَيَاهُ إذَا تَبَيَّنَ لَهُمَا الْخَطَأُ فَرَجَعَ عَن الرَّأْيِ الْأَوَّلِ:

- فَمَا كَانَ قَد قُبِضَ بِالِاعْتِقَادِ الْأَوَّلِ أُمْضِيَ.

- وَإِذَا كَانَ قَد بَقِيَ فِي الذِّمَّةِ رَأْسُ الْمَالِ وَزِيادَةٌ رِبَوِيَّةٌ: أُسْقِطَتْ الزِّيَادَةُ وَرَجَعَ إلَى رَأْسِ الْمَالِ. [29/ 411 - 413]

* * *

(حكم المبيع إذا كان غائبًا، أو كان موجودًا ولكنه لم يتمكن من قبضه)

4044 -

إذَا لَمْ يَجِد الْمَبِيعَ الْغَائِبَ، أَو وَجَدَهُ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِن قَبْضِهِ: فَلَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ إنْ كَانَت الْعَيْنُ مَغْصُوبَةً.

وَإِن تَلِفَت: انْفَسَخَ الْبَيْعُ، وَوَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الثَّمَنَ إذَا طَلَبَهُ الْمُشْتَرِي، وَلَا يَنْفَعُهُ إشْهَادُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ إذَا كَانَ قَد أَشْهَدَ قَبْلَ الْقَبْضِ.

وَإِن قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِالْإِقْرَارِ وَكَانَ الْإِقْرَارُ صَحِيحًا: فَلَهُ تَحْلِيفُ الْبَائِعِ أَنَّ بَاطِنَ الْإِقْرَارِ كَظَاهِرِهِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ.

وَأَمَّا إذَا عَلِمَ كَذِبَ الْإِقْرَارِ بِأَنْ يَكُونَ قَد أَقَرَّ بِالْقَبْضِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ: لَمْ يَصِحَّ هَذَا الْإِقْرَارُ كُلُّهُ إذَا صَحَّ بَيْعُ الْغَائِبِ بِأَنْ يَبِيعَهُ بِالصِّفَةِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ

ص: 400

وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ

(1)

. [29/ 415 - 416]

4045 -

إذَا ظَهَرَ الْمَبِيعُ مُسْتَحَقًّا: فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ بِالثَّمَنِ عَلَى مَن قَبَضَهُ مِنْهُ أَو بِبَدَلِهِ، فإِذَا كَانَ الْقَابِضُ مِنْهُ غَائِبًا: حُكِمَ عَلَيْهِ إذَا قَامَت الْحُجَّةُ، وَسُلّمَ إلَى الْمَحْكُومِ لَهُ حَقّهُ مِن مَالِ الْغَائِبِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى حُجَّتِهِ

(2)

. [29/ 417]

* * *

(أهميّة معرفة عِوَضِ الْمِثْل ومعناه)

4046 -

عِوَضُ الْمِثْلِ: كَثِيرُ الدَّوَرَانِ فِي كَلَامِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْعَدْلِ الَّذِي بِهِ تَتِمُّ مَصْلَحَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَهُوَ رُكْنٌ مِن أَرْكَانِ الشَّرِيعَةِ؛ مِثْل قَوْلِهِمْ: قِيمَةُ الْمِثْل، وَأُجْرَةُ الْمِثْل، وَمَهْرُ الْمِثْل وَنَحْوُ ذَلِكَ.

عِوَضُ الْمِثْلِ: هُوَ مِثْلُ الْمُسَمَّى فِي الْعُرْفِ، وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: السِّعْرُ وَالْعَادَةُ.

فَإِنَّ الْمُسَمَّى فِي الْعُقُودِ نَوْعَانِ:

أ- نَوْعٌ اعْتَادَهُ النَّاسُ وَعَرَفُوهُ: فَهُوَ الْعِوَضُ الْمَعْرُوفُ الْمُعْتَادُ.

ب- وَنَوْعٌ نَادِرٌ؛ لِفَرْطِ رَغْبَةٍ أَو مُضَارَّةٍ أَو غَيْرِهِمَا، وَيُقَالُ فِيهِ: ثَمَنُ الْمِثْلِ، وَيُقَالُ فِيهِ: الْمِثْلُ؛ لِأَنَّهُ بِقَدْرِ مِثْل الْعَيْنِ، ثُمَّ يُقَوَّمُ بِثَمَنِ مِثْلِهَا.

فَالْأَصْلُ فِيهِ: اخْتِيَارُ الْآدَمِيِّينَ وَإِرَادَتُهُم وَرَغْبَتُهُمْ.

فَعِوَضُ الْمِثْل فِي الشَّرِيعَةِ: يُعْتَبَرُ بِالْمُسَمَّى الشَّرْعِيِّ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ التَّسْمِيَةُ شَرْعِيَّةً وَهِيَ الْمُبَاحَةُ.

فَأَمَّا التَّسْمِيَةُ الْمَحْظُورَةُ. فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَسْمِيَةٍ شَرْعِيَّةٍ، فَلَيْسَ هُوَ مِيزَانًا شَرْعِيًّا يُعْتَبَرُ بِهِ الْمِثْلُ حَيْثُ لَا مُسَمَّى. [29/ 520 - 523]

(1)

وهو الراجح.

(2)

أي: متى قدم سُمعت حجته، فإن ظهرت أرجح أرجع المشتري الثمن له.

ص: 401

4047 -

وَسُئِلَ: عَن رَجُلٍ لَهُ عِنْدَ رَجُلٍ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: تَبِيعُهَا بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ؟ فَهَل يَجُوزُ ذَلِكَ؟

فَأَجَابَ: إنْ كَانَت مُؤَجَّلَةً فَبَاعَهَا بِأَقَلَّ مِنْهَا حَالَّة: فَهَذَا رِبًا

(1)

.

وَإِن كَانَت حَالَّةً فَأَخَذَ الْبَعْضَ وَأَبْرَأَهُ مِن الْبَعْضِ: فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَقَد أَحْسَنَ. [29/ 526]

* * *

(1)

لأنه باع دراهم بدراهم متفاضلة ونسيئة.

ص: 402

‌كِتَابُ الوَقْفِ

‌تعريفه:

4048 -

أقرب الحدود في الوقف: أنه كل عين تجوز عاريتها. [المستدرك 4/ 89]

4049 -

يصح بالقول وبالفعل الدَّال عليه عرفًا؛ كجعل أرضه مسجدًا، أو الإذن للناس بالصلاة فيه، أو أذَّن فيه وأقام. أو جعل أرضه مقبرة وأذِن للناس بالدفن فيها. [المستدرك 4/ 89]

4050 -

إذا قال واحد أو جماعة: جعلنا هذا المكان مسجدًا أو وقفًا صار مسجدًا ووقفًا بذلك وإن لم يكملوا عمارته.

وإذا قال كل منهم: جعلت ملكي للمسجد أو في المسجد ونحو ذلك صار بذلك حقًّا للمسجد.

ولو قال الإنسان: تصدقت بهذا الدهن على هذا المسجد ليوقد فيه جاز، وهو من باب الوقف، وتسميته وقفًا بمعنى أنه وقف على تلك الجهة لا ينتفع به في غيرها لا تأباه اللغة، وهو جائز في الشرع

(1)

. [المستدرك 4/ 89]

4051 -

قال في المحرر: ولا يصح وقف المجهول.

(1)

قال ابن عثيمين رحمه الله في حاشية الاختيارات (247): وكلام الشيخ هذا صريحٌ في جواز وقف ما لا يُنتفع به إلا مع ذهاب عينِه، والمذهب: عدمُ صحته إلا في الماء، لكن ما ذهب إليه الشيخ أظهر، ولا فرق بين الماء وغيره. اهـ.

ولا يخفى رجحان ما ذهب إليه الشيخان.

ص: 403

قال أبو العباس: المجهول نوعان: مبهم، ومعين؛ مثل دار لم يرها، فمنع هذا بعيد، وكذلك هبته.

فأما الوقف على المبهم: فهو شبيه بالوصية له.

وفي الوصية روايتان منصوصتان؛ مثل أن يوصي لأحد هذين، أو لجاره محمد وله جاران بهذا الاسم.

ووقف المبهم مفرع على هبته وبيعه، وليس عن أحمد في هذا منع. [المستدرك 4/ 90]

4052 -

ينبغي أن يُشترط في الواقف أن يكون ممن يمكن من تلك القربة.

فلو أراد الكافر أن يقف مسجدًا: مُنع منه. [المستدرك 4/ 90]

‌شروطه:

المنفعة:

4053 -

لو قال الواقف: وقفت هذه الدراهم على قرض المحتاجين: لم يكن جواز هذا بعيدًا. [المستدرك 4/ 91]

4054 -

ولو وقف منفعة يملكها؛ كالعبد الموصى بخدمته أو منفعة أَمَةٍ في حياته، أو منفعة العين المستأجرة: فعلى ما ذكره أصحابنا لا يصح.

قال أبو العباس: وعندي ليس في هذا فقه؛ فإنه لا فرق بين وقف هذا ووقف البناء والغراس، ولا فرق بين وقف ثوب على الفقراء يلبسونه أو فرس يركبونه أو ريحان يشمه أهل المسجد.

وطيب الكعبة حكمه حكم كسوتها، فعلم أن التطيب منفعة مقصودة، لكن قد يطول بقاء مدة الطيب وقد يقصر ولا أثر لذلك. [المستدرك 4/ 91]

4055 -

يصح وقف الكلب المعلَّم والجوارح المعلَّمة وما لا يقدر على تسليمه. [المستدرك 4/ 91]

ص: 404

4056 -

ما يأخذه الفقهاء من الوقف: هل هو إجارة، أو جعالة، أو كرزق من بيت المال؟ فيه أقوال: ثالثها المختار.

وما يؤخذ من بيت المال فليس عوضًا أو أجرة؛ بل رزق للإعانة على الطاعة، وذلك المال الموقوف على أعمال البر والموصى به والمنذور ليس كالإجارة والجعل. [المستدرك 4/ 92]

4057 -

قال ابن القيم رحمه الله: وقع لبعض من نصَّب نفسه للفتوى من أهل عصرنا: ما تقول السادة الفقهاء في رجل وقف وقفًا على أهل الذمة: هل يصح ويتقيد الاستحقاق بكونه منهم؟

فأجاب بصحة الوقف، وتقييده الاستحقاق بذلك الوصف. وقال: هكذا قال أصحابنا، ويصح الوقف على أهل الذمة.

فأنكر ذلك شيخنا غاية الإنكار، وقال: مقصود الفقهاء بذلك أن كونه من أهل الذمة ليس مانعًا من صحة الوقف عليه بالقرابة أو بالتعيين، وليس مقصودهم أن الكفر بالله ورسوله أو عبادة الصليب وقولهم: إن المسيح ابن الله شرط لاستحقاق الوقف، حتى إن من آمن بالله ورسوله واتبع دين الإسلام لم يحل له أن يتناول بعد ذلك من الوقف، فيكون حله مشروطًا بتكذيب الله ورسوله والكفر بدين الإسلام. [المستدرك 4/ 92 - 93]

4058 -

أما الوقف على قبور الأنبياء: فإن كان وقفًا على بناء المساجد عليها وإيقاد المصابيح فقد تقدم حكمه وأنه معصية لا يحل الوفاء به، وأنه من عمل المشركين.

والذين يقولون: إن من العلماء من وقف على مدينة النبي صلى الله عليه وسلم يريدون بذلك اْنه وقف على قبر: فهو خطأ منهم في فهم العبارة؛ فإن هذا إنما هو وقف على من بالمدينة النبوية، وليس لذلك اختصاص بالنبي صلى الله عليه وسلم. [المستدرك 4/ 93]

ص: 405

4059 -

يصح الوقف على النفس، وهو إحدى الروايتين عن أحمد. [المستدرك 4/ 94]

4060 -

يصح الوقف على أم ولده بعد موته. [المستدرك 4/ 94]

4061 -

إذا اشتُرط القبول في الوقف على المعين: فلا ينبغي أن يشترط المجلس، بل يلحق بالوصية والوكالة؛ فيصح معجلًا أو مؤجلًا، بالقول والفعل، فأَخْذ ريعه قبول، وينبغي أنه لو رَدَّه بعد قبوله كان له ذلك. [المستدرك 4/ 94]

4062 -

[لا يصح إلا بشروط أربعة. الرابع]

(1)

: أن يقف ناجزًا، فإن علَّقه على شرط لم يصح.

وقيل: يصح، واختاره الشيخ تقي الدين. [المستدرك 4/ 94]

4063 -

الصواب الذي عليه محققو الفقهاء في مسألة الوقف على المعين إذا لم يقبل أو ردّه: أنَّ ذلك ليس كالوقف المنقطع الابتداء، بل الوقف هنا صحيح قولًا واحدًا.

ثم إنْ قَبِل الموقوفُ عليه وإلا انتقل إلى مَن بعده، كما لو مات أو تعذر استحقاقه لِفَواتِ وصفٍ فيه؛ إذ الطبقة الثانية تَتَلقَّى من الواقف لا من الموقوف عليه. [المستدرك 4/ 95 - 96]

‌شروط الواقف:

4064 -

لا يلزم الوفاء بشرط الواقف إلا إذا كان مستحبًّا خاصة، وهو ظاهر المذهب. [المستدرك 4/ 96]

4065 -

يجوز تغيير شرط الواقف إلى ما هو أصلح منه، وإن اختلف ذلك

(1)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، وبه يُفهم ويتضح الكلام.

ص: 406

باختلاف الأزمان، حتى لو وقف على الفقهاء والصوفية واحتاج الناس إلى الجهاد: صرف للجند. [المستدرك 4/ 96]

4066 -

كل متصوف بولاية إذا قيل: يفعل ما يشاء فإنما هو لمصلحة شرعية، حتى لو صرح الواقف بفعل ما يهواه وما يراه مطلقًا فشرط باطل؛ لمخالفته الشرع، وغايته أن يكون شرطًا مباحًا، وهو باطل على الصحيح المشهور، حتى لو تساوى فعلان: عُمل بالقرعة، وإذا قيل هنا بالتخيير فله وجه. [المستدرك 4/ 96]

4067 -

إذا شرط الواقف لناظره أجرة: فكلفته عليه حتى تبقى أجرة مثله

(1)

.

وقال المصنف ومن تبعه: كلفته من غلة الوقف.

قيل للشيخ تقي الدين: فله العادة بلا شرط؟

فقال: ليس له إلا ما يقابل عمله

(2)

. [المستدرك 4/ 96]

4068 -

لو وقف على آل جعفر وآل علي: فهل يسوَّى بين أفرادهم، أو يقسم بينهم نصفين؟

أفتيت أنا وطائفة من الفقهاء أنه يقسم بين أعيان الطائفتين.

وأفتى طائفة أنه يقسم نصفين؛ فيأخذ آل جعفر النصف وإن كانوا واحدًا، وهو مقتضى أحد قولي العلماء. [المستدرك 4/ 97]

4069 -

أفتى تقي الدين باستحقاق الحمل من الوقف. [المستدرك 4/ 97]

(1)

أي: إنْ شَرَط الواقف لناظر الوقف عوضًا معلوما فلا يخلو:

إن كان المشروط بقدر أجرة المثل اختص به، وكان مما يحتاج إليه الوقف من أمناء وغيرهم من غلة الوقف.

وان كان المشروط أكثر: فكلفة ما يحتاج إليه الوقف من نحو أمناء وعمال: على الناظر يصرفها من الزيادة، حتى تبقى له أجرة مثله. يُنظر: كشاف القناع (4/ 271).

(2)

الإنصاف (7/ 58).

ص: 407

4070 -

لو أقرَّ الموقوف عليه أنه لا يستحق في هذا الوقف إلا مقدارًا معلومًا، ثم ظهر شرط الواقف أنه يستحق أكثر: حكم له بمقتضى شرط الواقف، ولا يمنع من ذلك إقراره المتقدم. [المستدرك 4/ 97]

4071 -

مِنْ أكْلِ المال بالباطل:

أ- قومٌ لهم رواتب أضعاف حاجاتهم

(1)

.

ب- وقومٌ لهم جهات معلومها كثير يأخذونها، ويستنيبون بيسير

(2)

. [المستدرك 4/ 98]

4072 -

إذا مات شخص من مستحقي الوقف وجهل شرط الواقف: صرف إلى جميع المستحقين بالسوية. [المستدرك 4/ 98]

4073 -

أنكر بعض المقلدين على شيخ الإسلام في تدريسه بمدرسة ابن الحنبلي، وهي وقف على الحنابلة، والمجتهد ليس منهم، فقال: إنما أتناول ما أتناوله منها على معرفتي بمذهب أحمد، لا على تقليدي له. [المستدرك 4/ 98]

4074 -

اختار الشيخ تقي الدين فيما إذا وقف على أقرب قرابته استواء الأخ من الأب والأخ من الأبوين. [المستدرك 4/ 98]

4075 -

إذا شرط في استحقاق ريع الوقف العزوبة فالمتأهل أحق من العزب إذا استويا في سائر الصفات. [المستدرك 4/ 99]

4076 -

من عمَّر وقفًا بالمعروف ليأخذ عوضه: فله أخذه من غلته. [المستدرك 4/ 99]

4077 -

إذا جُهل شرط الواقف وتعذر العثور عليه: قُسم على أربابه بالسوية.

(1)

أي: من بيت المال.

(2)

أي: يستنيبون في الجهات بيسير من المعلوم؛ لأن هذا خلاف غرض الواقفين.

قال العلَّامة ابن عثيمين في حاشية الاختيارات (257): ومعنى قوله: "ويستنيبون بيسير": أنهم يُقيمون غيرهم نائبًا عنهم ببعض ما أخذوا من الرواتب، أو المعلوم من الجهات. اهـ.

ص: 408

واختار الشيخ تقي الدين رحمه الله أنه يرجع في ذلك إلى العرف والعادة، وهو الصواب. [المستدرك 4/ 99]

4078 -

مَن شَرَط لغيره النظر إن مات فعزل

(1)

نفسه، أو فسق: فكموته؛ لأنَّ تخصيصه للغالب.

ثم إن صار هو أو الوصي أهلًا عاد كما لو صرّح به وكالموصوف. [المستدرك 4/ 100]

4079 -

الناظر إن لم يُشترط له شيء: ليس له إلا ما يقابل عمله، لا العادة.

واعتبر أبو العباس في موضع جواز أخذ الناظر أجرة عمله مع فقره؛ كوصي اليتيم. [المستدرك 4/ 101]

4080 -

لا يجوز أن يُولِّي فاسقًا في جهة دينية؛ كمدرسة وغيرها مطلقًا؛ لأنه يجب الإنكار عليه وعقوبته، فكيف يُولَّى؟. [المستدرك 4/ 101]

4081 -

إنْ نُزِّلَ مستحقٌّ تنزيلًا شرعيًّا: لمْ يَجُزْ صَرْفُهُ بلا موجب شرعي.

4082 -

قد تجوز الصلاة خلف من لا يجوز توليته. وليس للناس أن يولوا عليهم الفساق، وإن نفذ حكمه أو صحت الصلاة خلفه.

وقال أيضًا: اتفقت الأئمة على كراهة الصلاة خلفه، واختلفوا في صحتها، ولم يتنازعوا في أنه لا ينبغي توليته. [المستدرك 4/ 101]

4083 -

ما بناه أهل الشوارع والقبائل من المساجد: فالإمامة لمن رضوه، لا اعتراض للسلطان عليهم، وليس لهم صرفه ما لم يتغير حاله، وليس له أن يستنيب إن غاب، ولهم انتساخ كتاب الوقف والسؤال عن حاله. [المستدرك 4/ 102]

(1)

الناظر.

ص: 409

4084 -

إذا رحل وخلى وظيفته شاغرة فتولاها أحد ولاية شرعية ثم عاد الأول بعد مدة: فليس له أن ينازعه. [المستدرك 4/ 102]

4085 -

الذي يتوجه أنه لا يجوز للموقوف عليهم أن يتسلفوا الأجرة؛ لأنهم لم يملكوا المنفعة المستقبلة ولا الأجرة عليها. وعلى هذا: فلهم أن يطلبوا الأجرة من المستأجر لأنه فرط، ولهم أن يطالبوا الناظر. [المستدرك 4/ 103]

4086 -

مأخذ الوقف المنقطع

(1)

: أن الوقف هل يصح توقيته بغاية مجهولة أو غير مجهولة؟

فعلى قول من قال: لا يزال وقفًا: لا يصح توقيته.

وعلى قول من قال: يعود ملكًا: يصح توقيته.

وضابط الأقوال في الوقف المنقطع: أنه إذا رجع إلى جميع الورثة يكون ملكًا بينهم على فرائض الله، بخلاف رجوعه إلى العصاة.

قال أبو العباس: وهذا أصح وأشبه بكلام أحمد. [المستدرك 4/ 104]

4087 -

ذكر في القاعدة الثالثة والخمسين بعد المائة: أن الشيخ تقي الدين اختار فيما إذا وقف على ولده: دخول ولد الولد في الوقف دون الوصية، وفرّق بينهما

(2)

.

4088 -

إن وقف على عقبه، أو ولد ولده، أو ذريته: دخل فيه ولد البنين.

ونقل عنه: لا يدخل فيه ولد البنات، قال في "الفائق": اختاره الخرقي،

(1)

قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله: الوقف المنقطع: هو الذي ينقطع من الموقوف عليه، مثلًا: وقف على زيد ثم عمرو، ومات زيد ومات عمرو، فالآن انقطعت الجهة فإذا انقطعت ففيه خلاف، وأقرب شيء عندي أنه إذا علم أن قصد الواقف البر والأجر، فإن الوقف المنقطع يرجع إلى المساكين أو المصالح العامة. اهـ. الشرح الممتع (11/ 64).

(2)

قواعد ابن رجب (1/ 374)، وقال في الفرق بينهما: لأن الوقف يتأبد فيستحق ولده طبقة بعد طبقة، والوصية تمليك للموجودين فيختص بالطبقة العليا الموجودة.

ص: 410

والقاضي، وابن عقيل، والشيخان: يعني بهما: المصنف والشيخ تقي الدين. [المستدرك 4/ 104]

4089 -

ذوو طبقته:

أ- إخوتُه وبنو عمه ونحوهم.

ب- ومن هو أعلى منه: عمومته ونحوهم.

ج- ومن هو أسفل منه

(1)

: ولده وولد إخوته وطبقتهم. [المستدرك 4/ 104]

4090 -

لو قال: وقفت على أولادي، ثم أولادهم الذكور والإناث، ثم أولادهم الذكور وإن سفلوا: فإنَّ أحد الطبقة الأولى لو كانت بنتًا فماتت ولها أولاد فما استحقته قبل موتها فلهم. [المستدرك 4/ 104]

4091 -

وعنه: أزواجه من أهله ومن أهل بيته، ذكرها شيخنا، وقال: في دخولهن في آله وأهل بيته روايتان، واختار الدخول. [المستدرك 4/ 105]

4092 -

وقال الشيخ تقي الدين: فيما إذا قال: بطنًا بعد بطن ولم يزد شيئًا: هذه المسألة فيها نزاع، والأظهر أن نصيب كل واحد ينتقل إلى ولده، ثم إلى ولد ولده، ولا مشاركة.

وأفتى أيضًا رحمه الله فيمن وقف على أحد أولاده وله عدة أولاد وجهل اسمه: أنه يميز بالقرعة. [المستدرك 4/ 105]

4093 -

يعطي من ليس له أب يعرف ببلاد الإسلام، ولا يعطي كافرًا. [المستدرك 4/ 106]

4094 -

لو شرط في الوقف أن يبيعه: بطلا، وقيل: يبطل الشرط، قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: يصح في الكل. [المستدرك 4/ 107]

4095 -

يجب بيعه بمثله مع الحاجة، وبلا حاجة يجوز بخير منه لظهور

(1)

في الأصل: (منهم)، والمثبت من الإنصاف (7/ 50).

ص: 411

المصلحة، ولا يجوز بمثله لفوات التعيين بلا حاجة. [المستدرك 4/ 107]

4096 -

جوَّز جمهور العلماء تغيير صورة الوقف للمصلحة، ولا فرق بين بناء وبناء وعرصة بعرصة. [المستدرك 4/ 107]

4097 -

إن علم أن وقفه لا يبقى دائمًا: وجب صرفه؛ لأن بقاءه فساد. [المستدرك 4/ 108]

4098 -

لو جمع كفن ميت فكفن وفضل من ثمنه شيء: صُرف في تكفين الموتى أو رد إلى المعطي، وكلام أحمد يقتضيه.

وما فضل عن حاجة المسجد صرف إلى مسجد آخر؛ لأن الواقف له غرض في الجنس، والجنس واحد.

وقال أبو العباس في موضع آخر: ويجوز صرفه في سائر المصالح وبناء مساكن لمستحقي ريعه القائمين بمصالحه. [المستدرك 4/ 108]

4099 -

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَن رَجُلٍ احْتَكَرَ

(1)

مِن رَجُلٍ قِطْعَةَ أَرْضِ بُسْتَانٍ، ثُمَّ إنَّ الْمُحْتَكِرَ عَمَرَ فِي أَرْضِ الْبُسْتَانِ صُورَةَ مَسْجِدٍ وَبَنَى فِيهَا مِحْرَابًا وَقَالَ لِمَالِكِ الْأَرْضِ: هَذَا عَمَرْته مَسْجِدًا فَلَا تَأْخُذْ مِنِّي حُكْرَهُ، فَأَجَابَهُ إلَى ذَلِكَ، ثُمَّ إنَّ مَالِكَ الْأَرْضِ بَاعَ الْبُسْتَانَ وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهُ شَيْئًا، فَهَل يَصِيرُ هَذَا الْمَكَانُ مَسْجِدًا بِذَلِكَ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ: إذَا لَمْ يُسَبّلْ لِلنَّاسِ كَمَا تُسَبَّلُ الْمَسَاجِدُ؛ بِحَيْثُ تُصَلَّى فِيهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ الَّتِي تُصَلَّى فِي الْمَسَاجِدِ: لَمْ يَصِرْ مَسْجِدًا بِمُجَرَّدِ الْإِذْنِ فِي الْعِمَارَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِذَا لَمْ يَكُن قُرْبَةً يَقْتَضِي خُرُوجَهُ مِن الْمَبِيعِ دَخَلَ فِي الْمَبِيعِ؛ فَإِنَّ الشُّرُوعَ فِي تَصْيِيرِهِ مَسْجِدًا لَا يَجْعَلُهُ مَسْجِدًا.

وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْعِمَارَةِ.

(1)

أي: احتبس؛ أي: حبس قطعة الأرض للصلاة عليها، وجعلها مسجدًا، وهو بمعنى الوقف.

ص: 412

لَكِنْ يَنْبَغِي لِمَن أَخْرَجَ ثَمَنَ ذَلِكَ أَنْ لَا يَعُودَ إلَى مِلْكِهِ؛ كَمَن أَخْرَجَ مِن مَالِهِ مَالًا لِيَتَصَدَّقَ بِهِ فَلَمْ يَجِد السَّائِلَ، يَنْبَغِي لَهُ أنْ يُمْضِيَ ذَلِكَ، وَيَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى سَائِلٍ آخَرَ، وَلَا يُعِيدَهُ إلَى مِلْكِهِ وَإِن لَمْ يَجِبْ

(1)

.

وَإِذَا صَرَفَ مِثْل هَذَا الْمَكَانِ فِي مَصَالِحِ مَسْجِدٍ آخَرَ جَازَ ذَلِكَ.

بَل إذَا صَارَ مَسْجِدًا وَكَانَ بِحَيْثُ لَا يُصَلِّي فِيهِ أَحَدٌ: جَازَ أَنْ يُنْقَلَ إلَى مَسْجِدٍ يُنْتَفَعُ بِهِ.

بَل [إذَا]

(2)

جَازَ أَنْ يُبَاعَ وَيُصْرَفَ ثَمَنُهُ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ.

بَل يَجُوزُ أنْ يُعْمِرَ عِمَارَةً يُنْتَفَعُ بِهَا لِمَسْجِدِ آخَرَ

(3)

. [31/ 5 - 6]

4100 -

مُجَرَّدُ تَصْوِيرِ مِحْرَابٍ لَا يَجْعَلُهُ مَسْجِدًا. [31/ 7]

4101 -

يَجُوزُ أَنْ يَقِفَ الْبِنَاءَ الَّذِي بَنَاهُ فِي الْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَة، سَوَاءٌ وَقَفَهُ مَسْجِدًا أو غَيْرَ مَسْجِدٍ، وَلَا يُسْقِطُ ذَلِكَ حَقَّ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَإِنَّهُ مَتَى انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ وَانْهَدَمَ الْبِنَاءُ زَالَ حُكْمُ الْوَقْفِ، سَوَاءٌ كَانَ مَسْجِدًا أَو غَيْرَ مَسْجِدٍ، وَأَخَذُوا أَرْضَهُم فَانْتَفَغوا بِهَا، وَمَا دَامَ الْبِنَاءُ قَائِمًا فِيهَا فَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ.

وَلَو وَقَفَ عَلَى رَبْعٍ

(4)

أَو دَارٍ مَسْجِدًا ثُمَّ انْهَدَمَت الدَّارُ أَو الرَّبْعُ: فَإِنَّ وَقْفَ الْعُلْوِ لَا يُسْقِطُ حَقَّ مُلَّاكِ السُّفْلِ؛ كَذَلِكَ وَقْفُ الْبِنَاءِ لَا يَسْقُطُ عَلَى مُلَّاكِ الْأَرْضِ. [31/ 8]

4102 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَمَّن وَصَّى أَو وَقَفَ عَلَى جِيرَانِهِ فَمَا الْحُكْمُ؟

فَأَجَابَ: إذَا لَمْ يُعْرَفْ مَقْصُودُ الْوَاقِفِ وَالْوَصِيِّ لَا بِقَرِينَةٍ لَفْظِيَّةٍ وَلَا

(1)

وهذا بخلاف اعتقاد كثير من الناس.

(2)

لعل الصواب حذف ما بين المعقوفتين ليستقيم المعنى.

(3)

أي: يُجعل مكان المسجد عمارة يكون ريعها للمسجد.

(4)

الرَّبْعُ: المنزل والوطنُ، سمّي رَبْعًا؛ لأنّهم يَرْبَعون فيه؛ أي: يطمئنون. العين: مادة، (ربع).

ص: 413

عُرْفِيَّةٍ، وَلَا كَانَ لَهُ عُرْفٌ فِي مُسَمَّى الْجِيرَانِ: رَجَعَ فِي ذَلِكَ إلَى الْمُسَمَّى الشَّرْعِيِّ وَهُوَ أَرْبَعُونَ دَارًا

(1)

مِن كُلِّ جَانِبٍ. [31/ 9]

4103 -

إنَّ شَرْطَ الْوَاقِفِ إنْ كَانَ قُرْبَةً وَطَاعَةً للهِ وَرَسُولِهِ كَانَ صَحِيحًا، وَإِن لَمْ يَكُن شَرْطًا لَازِمًا، وَإِن كَانَ مُبَاحًا، كَمَا لَمْ يُسَوِّغ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم السَّبْقَ إلَّا فِي خُفٍّ أَو حَافِرٍ أو نَصْلٍ، وَإِن كَانَت الْمُسَابَقَةُ بِلَا عِوَضٍ قَد جَوَّزَهَا بِالْأَقْدَامِ وَغَيْرِهَا؛ وَلِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ فِي مَالِ الْفَيْءِ:{كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] فَعُلِمَ أَنَّ اللهَ يَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ.

وَإِن كَانَ الْغِنَى وَصْفًا مُبَاحًا فَلَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ.

وَعَلَى قِيَاسِهِ سَائِرُ الصِّفَاتِ الْمُبَاحَةِ.

وَلِأَنَّ الْعَمَلَ إذَا لَمْ يَكُن قُرْبَةً لَمْ يَكُن الْوَاقِفُ مُثَائا عَلَى بَذْلِ الْمَالِ فِيهِ فَيَكُونُ قَد صَرَفَ الْمَالَ فِيمَا لَا يَنْفَعُهُ، لَا فِي حَيَاتِهِ وَلَا فِي مَمَاتِهِ.

وَإِذَا خَلَا الْعَمَلُ الْمَشْرُوطُ فِي الْغقُودِ كُلِّهَا عَن مَنْفَعَةٍ فِي الدِّينِ، أَو فِي الدُّنْيَا: كَانَ بَاطِلًا بِالِاتِّفَاقِ فِي أُصُولٍ كَثِيرَةٍ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى فَيَكونُ بَاطِلًا وَلَو كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ.

مِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ يَشْرِطَ عَلَيْهِ الْتِزَامَ نَوْعٍ مِن الْمَطْعَمِ أَو الْمَلْبَسِ أَو الْمَسْكَنِ الَّذِي لَمْ تَسْتَحِبُّة الشَّرِيعَةُ، أَو تَرْكَ بَعْضِ الأَعْمَالِ الَّتِي تَسْتَحِبُّ الشَّرِيعَةُ عَمَلَهَا وَنَحْو ذَلِكَ. [31/ 13 - 14]

4104 -

هَذِهِ الْأَرْزَاقُ الْمَأْخُوذَةُ عَلَى الْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ إنَّمَا هِيَ أَرْزَاقٌ وَمعَاوِنٌ عَلَى الدِّينِ، بِمَنْزِلَةِ مَا يرتزقه الْمُقَاتِلَةُ وَالْعُلَمَاءُ مِن الْفَيْءِ.

وَالْوَاجِبَاتُ الشَّرْعِيَّةُ تَسْقُطُ بِالْعُذْرِ، وَلَيْسَتْ كَالْجِعَالَاتِ عَلَى عَمَلٍ دُنْيَوِيٍّ، وَلَا بِمَنْزِلَةِ الْإِجَارَةِ عَلَيْهَا. [31/ 15]

(1)

يعني بذلك: ما ورد [أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حد الجوار أربعون دارًا"] وهذا الحديث ضعفه الألباني رحمه الله في الجامع الصغير وزياداته (2698).

ص: 414

4105 -

وسُئِلَ: عَن رَجُلٍ وَقَفَ مَدْرَسَةً، وَشَرَطَ مَن يَكُونُ لَهُ بِهَا وَظِيفَةٌ أَنْ لَا يَشْتَغِلَ بِوَظِيفَة أُخْرَى بِغَيْرِ مَدْرَسَتِهِ، وَشَرَطَ لَهُ فِيهَا مُرَتَّبًا مَعْلُومًا.

فَأَجَابَ: هَذِهِ الشُّرُوطُ الْمَشْرُوطَة عَلَى مَن فِيهَا كَعَدَمِ الْجَمْعِ إنَّمَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهَا إذَا لَمْ يُفْضِ ذَلِكَ إلَى الْإِخْلَالِ بِالْمَقْصُودِ الشَّرْعِيِّ.

فَأَمَّا الْمحَافَظَةُ عَلَى بَعْضِ الشُّرُوطِ مَعَ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ بِالشُّرُوطِ: فَلَا يَجُوزُ.

فَاشْتِرَاطُ عَدَمِ الْجَمْعِ بَاطِلٌ مَعَ ذَهَابِ بَعْضِ أَصْلِ الْوَقْفِ وَعَدَمِ حُصُولِ الْكِفَايَةِ لِلْمُرَتَّبِ بِهَا: لَا يَجِبُ الْتِزَامُهُ وَلَا يَجُوزُ الْإِلْزَامُ بِهِ.

حَتَّى لَو قُدِّرَ أَنَّ الْوَاقِفَ صَرَّحَ بِخِلَافِ ذَلِكَ كَانَ شَرْطًا بَاطِلًا، مِثْل أَنْ يَقُولَ: إنَّ الْمُرَتَّبَ بِهَا لَا يَرْتَزِقُ مِن غَيْرِهَا وَلَو لَمْ تَحْصُلْ لَهُ كِفَايَتُهُ، فَلَو صَرَّحَ بِهَذَا لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ يُخَالِفُ كِتَابَ اللهِ، فَإِنَّ حُصُولَ الْكِفَايَةِ لَا بُدَّ مِنْهَا، وَتَحْصِيلُهَا لِلْمُسْلِمِ وَاجِبٌ إمَّا عَلَيْهِ وَإِمَّا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَصِحُّ شَرْطٌ يُخَالِفُ ذَلِكَ. [31/ 16 - 17]

4106 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلٍ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى مَسْجِدٍ، وَأَكْفَانِ الْمَوْتَى، وَشَرَطَ فِيهِ الْأَرْشَدَ فَالْأَرْشَدَ مِن وَرَثَتِهِ، ثُمَّ لِلْحَاكِمِ، وَشَرَطَ لِإِمَامِ الْمَسْجِدِ سِتَّةَ دَرَاهِمَ، وَالْمُؤَذِّنِ وَالْقَيِّمِ بِالتُّرْبَةِ سِتَّةَ دَرَاهِمَ، وَشَرَطَ لَهُمَا دَارينِ لِسُكْنَاهُمَا، ثُمَّ إنَّ رَيعَ الْوَقْفِ زَادَ خَمْسَةَ أَمْثَالِهِ، بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُ الْأَكْفَانُ إلَى زَيادَةٍ، فَجَعَلَ لَهُمَا الْحَاكِمُ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثينَ دِرْهَمًا. فَهَل يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ؟

فَأَجَابَ: نَعَمْ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى الْإِمَامُ وَالْمُؤَذِّنُ مِن مِثْل هَذَا الْوَقْفِ الْفَائِضِ رِزْقَ مِثْلِهِمَا، وَإِن كَانَ زَائِدًا عَلَى ثَلَاثِينَ؛ بَل إذَا كَانَا فَقِيرَيْنِ وَلَيْسَ لِمَا زَادَ مَصْرِفٌ مَعْرُوفٌ: جَازَ أَنْ يُصْرفَ إلَيْهِمَا مِنْهُ تَمَامَ كِفَايَتِهِمَا، وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَقْدِيرَ الْوَاقِفِ دَرَاهِمَ مُقَدَّرَةً فِي وَقْفٍ مِقْدَار رَيع: قَد يُرَادُ بِهِ النِّسْبَةُ؛ مِثْل أَنْ يَشْرِطَ لَهُ عَشْرَةً، وَالْمُغَلُّ مِائَةٌ، وَيُرَادُ بِهِ الْعُشْرُ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ هَذَا عُمِلَ بِهِ.

وَمِن الْمَعْلُومِ فِي الْعُرْفِ أَنَّ الْوَقْفَ إذَا كَانَ مُغَلُّهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَشَرَطَ لَهُ سِتَّةً

ص: 415

ثُمَّ صَارَ خَمْسَمِائَةٍ، فَإِنَّ الْعَادَةَ فِي مِثْل هَذَا أنْ يَشْرِطَ لَهُ أَضْعَافَ ذَلِكَ؛ مِثْل خَمْسَةِ أمْثَالِهِ، وَلَمْ تَجْرِ عَادَةٌ مِن شَرْطِ سِتَّةٍ مِن مِائَةٍ أَنْ يَشْتَرِطَ سِتَّةً مِن خَمْسِمِائَةٍ

(1)

، فَيُحْمَلُ كَلَامُ النَّاسِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُم فِي خِطَابِهِمْ.

الثَّانِي: أَنَّ الْوَاقِفَ لَو لَمْ يَشْتَرِطْ هَذَا، فَزَائِدُ الْوَقْفِ يُصْرَفُ فِي الْمَصَالِحِ الَّتِي هِيَ نَظِيرُ مَصَالِحِهِ وَمَا يُشْبِهُهَا؛ مِثْلُ صَرْفِهِ فِي مَسَاجِدَ أُخَرَ وَفِي فُقَرَاءِ الْجِيرَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَقَد رُوِيَ عَن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ حَضَّ النَّاسَ عَلَى مُكَاتَبٍ يَجْمَعُونَ لَهُ، فَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ فَأَمَرَ بِصَرْفِهَا فِي الْمُكَاتَبِينَ.

وَالسَّبَبُ فِيهِ: أَنَّهُ إذَا تَعَذَّرَ الْمُعَيَّنُ صَارَ الصرْفُ إلَى نَوْعِهِ

(2)

.

وَلهَذَا كَانَ الصَّحِيح فِي الْوَقْفِ هُوَ هَذَا الْقَوْل، وَأَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَا فَضَلَ مِن كُسْوَتِهِ، كَمَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَتَصَدَّقُ كُلَّ عَامٍ بِكُسْوَةِ الْكَعْبَةِ يُقَسِّمُهَا بَيْنَ الْحُجَّاجِ. [31/ 17 - 18]

4107 -

إذَا عُلِمَ شَرْط الْوَاقِفِ: عُدلَ عَنْهُ إلَى شَرْطِ اللهِ قَبْلَ شَرْطِ الْوَاقِفِ -إذَا كَانَ مُخَالِفًا لِشَرْطِ اللهِ-.

فَإِنَّ الْجِهَاتِ الدِّينِيَّةَ مِثْل الخوانك

(3)

وَالْمَدَارِسِ وَغَيْرِهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْزِلَ فِيهَا فَاسِقٌ، سَوَاءٌ كَانَ فِسْقُهُ بِظُلْمِهِ لِلْخَلْقِ، وَتَعَدِّيه عَلَيْهِم بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، أَو فِسْقُه بِتَعَدِّيهِ حُقُوقَ اللهِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ.

(1)

المعنى: أن الناس لا تجري عادتهم بأن يُسووا بين ستة من مائة، وبين ستة من خمسمائة. حاشية الاختيارت الفقهية لابن عثيمين (ص 253).

(2)

وقد أفتى الشيخ رحمه الله تعالى في المَسَاجِد وَالجَوَامِع التي لَها أَوْقَافٌ بأنّ الْوَاجِب صَرْفُ هَذِهِ الْأمْوَالِ فِي مَصَارِفِهَا الشَّرْعِيَّةِ، فَيُضرَفُ مِن الْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ إلَى الْأَئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ وَالْقُوَّام مَا يَسْتَحِقُّهُ أَمْثَالهمْ، وَكَذَلِكَ يُصْرَفُ فِي فَرْشِ الْمَسَاجدِ وَتَنْويرِهَا كِفَايَتُهَا بِالْمَعْرُوفِ.

قال: وَمَا فَضَلَ عَن ذَلِكَ: إمَّا أَنْ يُصْرَفَ فِي مَصَالِحِ مَسَاجِدَ أُخَرَ، وَيُصْرَفُ فِي الْمَصَالِحِ؛ كَأَرْزَاقِ الْقُضَاةِ فِي أحَدِ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ. اهـ. (31/ 70).

(3)

المكان المعد للتعليم.

ص: 416

فَإِنَّ كُلًّا مِن هَذَيْنِ الضَّرْبَيْنِ يَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَعُقوبَتُهُ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أنْ يُقَرَّرَ فِي الْجِهَاتِ الدِّينِيَّةِ وَنَحْوِهَا؟ فَكيْفَ إذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ ذَلِكَ؟ فَإِنَّهُ يَصِيرُ وُجُوبُهُ مُؤَكَّدًا. [31/ 19 - 20]

4108 -

إذَا اسْتَوَوْا هُم [أي: أقارب الواقف] وَغَيْرُهُم فِي الْحَاجَةِ: فَأَقَارِبُ الْوَاقِفِ يُقَدَّمُونَ عَلَى نُظَرَائِهِم الْأَجَانِبِ، كَمَا يُقَدَّمُونَ لِصِلَتِهِ فِي حَيَاتِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَتُك عَلَى الْمُسْلِمِينَ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذَوِي الرَّحِمِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ

(1)

"

(2)

.

وَلهَذَا يُؤْمَرُ أَنْ يُوصِيَ لِأَقَارِبِهِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ: إمَّا أَمْرَ إيجَابٍ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَإِمَّا أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ كَقَوْلِ الْأَكْثَرِينَ. [31/ 23]

4109 -

مَن اشْتَرَطَ فِي الْوَقْفِ أَو الْعِتْقِ أَو الْهِبَةِ أَو الْبَيْعِ أَو النِّكَاحِ أَو الْإِجَارَةِ أَو النَّذْرِ أَو غَيْرِ ذَلِكَ شُرُوطًا تُخَالِفُ مَا كَتَبَهُ اللهُ عَلَى عِبَادِهِ، بِحَيْثُ تَتَضَمَّنُ تِلْكَ الشُّرُوطُ الْأَمْرَ بِمَا نَهَى اللهُ عَنْهُ، أو النَّهْيَ عَمَّا أَمَرَ بِهِ، أو تَحْلِيلَ مَا حَرَّمَهُ، او تَحْرِيمَ مَا حَلَّلَهُ: فَهَذِهِ الشُّرُوطُ بَاطِلَةٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ. [31/ 54]

4110 -

إِنَ النَّاظِرَ إنَّمَا هُوَ مُنَفِّذٌ لِمَا شَرَطَهُ الْوَاقِفُ، لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ شُرُوطًا لَمْ يُوجِبْهَا الْوَاقِفُ وَلَا أَوْجَبَهَا الشَّارعُ، وَيَأْثَمُ مَن أَحْدَثَهَا.

4111 -

وأما الصُّوفِيُّ الَّذِي يَدْخُلُ فِي الْوَقْفِ عَلَى الصُّوفِيَّةِ: فَيُعْتَبَرُ لَهُ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ:

(1)

رواه النسائي (2582)، وابن ماجه (1844)، والدارمي (1722)، وأحمد (16226).

(2)

وقال الشيخ في امْرَأَةٍ أَوْقَفَتْ وَقْفًا عَلَى جهة معيّنة، وَمَا يَفْضُلُ عَن ذَلِكَ لِلْفُقَرَاءِ أَو وُجُوهِ الْبِرِّ، ولَهَا خَالْ قَد افْتَقَرَ وَاحْتَاجَ:

"إذَا كَانَ لِلْمُوقِفَةِ قَرَابَةٌ مُحْتَاجٌ كَالْخَالِ وَنَحْوِهِ: فَهُوَ أَحَقُّ مِن الْفَقِيرِ الْمُسَاوِي لَهُ فِي الْحَاجَةِ وَبَنْبَغِي تَقْدِيمُهُ، وَإِذَا اتَّسَعَ الْوَقْفُ لِسَدِّ حَاجَتِهِ سُدَّتْ حَاجَتُهُ مِتهُ،. اهـ. (31/ 84).

ص: 417

أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَدْلًا فِي دِينِهِ، يُؤَدِّي الْفَرَائِضَ وَيَجْتَنِبُ الْمَحَارِمَ.

الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُلَازِمًا لِغَالِبِ الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ، وَإِن لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً؛ مِثْل آدَابِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَالنَّوْمِ.

وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ فِي الصُّوفِيِّ: قَنَاعَتُهُ بِالْكَفَافِ مِن الرِّزْقِ؛ بِحَيْثُ لَا يُمْسِكُ مِن الدُّنْيَا مَا يَفْضُلُ عَن حَاجَتِهِ.

فَمَن كَانَ جَامِعًا لِفُضُولِ الْمَالِ: لَمْ يَكُن مِن الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ يُقْصَدُ إجْرَاءُ الْأَرْزَاقِ عَلَيْهِمْ.

وَمَا دُونَ هَذِهِ الصِّفَاتِ مِن الْمُقْتَصِرِينَ عَلَى مُجَرَّدِ رَسْمٍ فِي لُبْسَةٍ أَو مِشْيَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ: لَا يَسْتَحِقُّونَ الْوَقْفَ، وَلَا يَدْخُلُونَ فِي مُسَمَّى الصُّوفِيَّةِ، لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ ذَلِكَ مُحْدَثًا لَا أَصْلَ لَهُ فِي السُّنَّةِ؛ فَإِنَّ بَذْلَ الْمَالِ عَلَى مِثْل هَذِهِ الرُّسُومِ فِيهِ نَوْعٌ مِن التَّلَاعُبِ بِالدِّينِ، وَأَكْل لِأَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَصُدُود عَن سَبِيلِ اللهِ

(1)

. [31/ 54 - 56]

4112 -

الْقَائِمُونَ بِالْوَظَائِفِ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمَسْجِدُ مِن تَنْظِيفٍ وَحِفْظٍ وَفَرْشٍ وَتَنْوِيرِهِ وَفَتْحِ الْأَبْوَابِ وَإِغْلَاقِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ: هُم مِن مَصَالِحِهِ، يَسْتَحِقُّونَ مِن الْوَقْفِ عَلَى مَصَالِحِهِ. [31/ 198]

4113 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلٍ سَاكِن فِي خَانٍ وَقف، وَلَهُ مُبَاشِرٌ لِرَسْمِ عِمَارَتِهِ وَإِصْلَاحِهِ، وَإنَّ السَّاكِنَ أَخْبَرَ الْمُبَاشِرَ أَنَّ مَسْكَنَهُ يخْشَى سُقُوطهُ وَهُوَ

(1)

بهذا التفصيل يزول الإشكال في إطلاق صاحب الاختيارات بصحة الوقف على الصوفية كما في (ص 247)، وقد استشكل ذلك العلَّامة محمد الفقي حيث قال في الحاشية: إن مثل هذا الوقف ئعين المبتدعين والوثنيين على بدعتهم ووثنيتهم، والله أمر بمُحاربتهم، فيكف يجوز مُعاونة الشاقين لله ولرسوله والمتبعين والداعين لغير سبيل المؤمنين؟ اهـ.

قلت: ولعله رحمه الله وقف على التفصيل الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية هنا لما استنكر كلامه، فقد بين الشيخ أنه إذا أطلق اسم الصوفي فإنما ينصرف إلى الصوفي المتمسك بالكتاب والسُّنَّة، الْمُتحلّي بالآداب الشرعية، والزهد والقناعة.

ص: 418

يُدَافِعُهُ، ثُمَّ إنَّ الْمُبَاشِرَ صَعِدَ إلَى الْمَسْكَنِ الْمَذْكُورِ وَرَآهُ بِعَيْنِهِ وَرَكَضَهُ بِرِجْلِهِ وَقَالَ: لَيْسَ بِهَذَا سُقوطٌ وَلَا عَلَيْك مِنْهُ ضَرَرٌ، وَتَرَكَهُ وَنَزَلَ، فَبَعْدَ نُزُولهِ سَقَطَ الْمَسْكَنُ الْمَذْكُورُ عَلَى زَوْجَةِ السَّاكِنِ وَأَوْلَاده فَمَاتَ ثَلَاثَة وَعُدِمَ جَمِيعُ مَالِهِ، فَهَل يَلْزَمُ الْمُبَاشِرَ مَن مَاتَ وَيَغْرَمُ الْمَالَ الَّذِي عُدِمَ؟

فَأَجَابَ: عَلَى هَذَا الْمُبَاشِرِ الْمَذْكُورِ الَّذِي تَقَدَّمَ إلَيْهِ وَأَخَّرَ الاستهدام ضَمَانُ مَا تَلِفَ بِسُقُوطِهِ.

فَإِنَّهُ مُفَرّطٌ بِتَرْكِ نَقْضِهِ وَإِصْلَاحِهِ وَلَو ظَنّ أنَّهُ لَا يسْقطُ.

فَإِنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُرِيَ ذَلِكَ لِأَرْبَابِ الْخِبْرَةِ بِالْبِنَاءِ، فَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ كَانَ مُفَرِّطًا ضَامِنًا لِمَا تَلِفَ بِتَفْرِيطِهِ.

فَإِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْمُؤَجِّرِ بِالْعِمَارَةِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْمَكانُ، وَاَلَّتِي هِيَ مِن مُوجَبِ الْعَقْدِ.

وَهَذِهِ الْعِمَارَةُ وَاجِبَةٌ مِن وَجْهَيْنِ:

أ- مِن جِهَةِ حَقِّ أَهْلِ الْوَقْفِ.

ب- وَمَن جِهَةِ حَقِّ الْمُسْتَأجِرِ.

وَالْعُلَمَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِنَاظِرِ الْوَقْفِ أَنْ يُفَرِّطَ فِي الْعِمَارَةِ الَّتِي اسْتَحَقَّهَا الْمُسْتَأْجِرُ.

فَهَذَانِ التفريطان يَجِبُ عَلَيْهِ بِتَرْكِهِمَا ضَمَانُ مَا تَلِفَ بِتَفْرِيطِهِ، فَيَضْمَنُ مَالَ الْوَقْفِ لِلْوَقْفِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْمَنَافِعُ الَّتِي اسْتَحَقَّهَا الْمُسْتَأْجِرُ.

بِخِلَافِ مَا لَو كَانَت الْعَيْنُ بَاقِيَةً؛ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ إيَّاهَا، وَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ. [31/ 200 - 201]

4114 -

إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ: لَمْ يَجُزْ فِيهِ تَغْيِيرُهُ وَلَا تَبْدِيلُ شُرُوطِهِ. [31/ 259]

ص: 419

4115 -

وَسُئِلَ: عَن وَقْفٍ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَفِيهِ أَشْجَارُ زَيْتُونٍ وَغَيْرِهِ، يَحْمِلُ بَعْضَ السِّنِينَ بِثَمَرٍ قَلِيلٍ، فَإِذَا قُطِعَتْ وَبِيعَتْ يُشْتَرَى بثَمَنِهَا مِلْكٌ يُغَلُّ بِأَكْثَرَ مِنْهَا، فَهَل لِلنَّاظِرِ ذَلِكَ؟ وَهَل إذَا طَالَبَهُ بَعْضُ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْوَقْفِ يَقْطَعُ الشَّجَرَ وَيَبِيعُهُ وَيُقَسِّمُ مِنْهُ عَلَيْهِم فَهَل لَهُم ذَلِكَ؟

فَأَجَابَ: نَعَمْ يَجُوزُ بَيْعُ تِلْكَ الْأشْجَارِ وَأَنْ يُشْتَرَى بِهَا مَا يَكُونُ مُغَلُّهُ أَكْثَرَ؛ فَاِنَّ الشَّجَرَ كَالْبِنَاءِ.

وَللنَّاظِرِ أَنْ يُغَيِّرَ صُورَةَ الْوَقْفِ مِن صُورَةٍ إلَى صُورَةٍ أَصْلَحَ مِنْهَا، كَمَا غَيَّرَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ صُورَةَ الْمَسْجِدَيْنِ اللَّذَيْنِ بِالْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، وَكَمَا نَقَلَ غمَز بْنُ الْخَطَّابِ مَسْجِدَ الْكُوفَةِ مِن مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ وَأَمْثَال ذَلِكَ.

وَلَا يُقَسَّمُ ثَمَنُ الشَّجَرِ بَيْنَ الْمَوْجُودِينَ؛ لِأنَّ الشَّجَرَ كَالْبِنَاءِ لَا يَخْتَصُّ بِثَمَنِهِ الْمَوْجُودُونَ، وَلَيْسَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الشَّجَرِ وَالزَّرْعِ وَالْمَنَافِعِ الَّتِي يَخْتَصُّ كُلُّ أَهْلِ طَبَقَةٍ بِمَا يُؤْخَذُ فِي زَمَنِهَا مِنْهَا.

وَأمَّا النَّاظِرُ: فَعَلَيْهِ أنْ يَعْمَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِن الْعَمَلِ الْوَاجِبِ، وَيَأْخُذُ لِذَلِكَ الْعَمَلِ مَا يُقَابِلُهُ، فَاِنْ كَانَ الْوَاجِبُ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ مِن الْعِوَضِ الْمُسْتَحَقِّ أَخَذَهُ، وَإِن كَانَ يَسْتَحِقُّ الْجَمِيعَ عَلَى مَا يَعْمَلُهُ أَخَذَ الْجَمِيعَ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى فَقْرِهِ مَا يَاْخُذُهُ الْفَقِيرُ عَلَى فَقْرِهِ. [31/ 260 - 261]

* * *

‌(حكم الْوَقْفِ عَلَى جِهَةٍ مُبَاحَةٍ

؟)

4116 -

إنَّ الْوَاقِفَ إنَّمَا وَقَفَ الْوُقُوفَ بَعْدَ مَوْتِهِ: لِيَنْتَفِعَ بِثَوَابهِ وَأَجْرِهِ عِنْدَ اللهِ، لَا يَنْتَفِع بِهِ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَنْتَفِعُ الْمَيِّتُ إلًّا بِالْأَجْرِ وَالثَّوَابِ.

وَلهَذَا فُرِّقَ بَيْنَ مَا قَد يُقْصَدُ بِهِ مَنْفَعَةُ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا لَا يُقْصَدُ بِهِ إلَّا الْأَجْرُ وَالثَّوَابُ.

ص: 420

فَالْأَوَّلُ: كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ، فَهَذَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ انْ يَبْذُلَ مَالَهُ فِيهَا لِيُحَصِّلَ أَغْرَاضًا مُبَاحَةٌ دُنْيَوِيَّةً وَمسْتَحَبَّةً وَدِينِيَّةً، بِخِلَافِ الْأَغْرَاضِ الْمُحَرَّمَةِ.

وَأمَّا الْوَقْفُ: فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبْذُلَ مِلْكَهُ إلَّا فِيمَا يَنْفَعُهُ فِي دِينِهِ؛ فَإِنَّهُ إذَا بَذَلَة فِيمَا لَا يَنْفَعُهُ فِي الدِّينِ -وَالْوَقْفُ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي الدُّنْيَا-: صَارَ بَذْلُ الْمَالِ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ تَعُودُ إلَيْهِ لَا فِي دِينِهِ وَلَا فِي دُنْيَاهُ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ.

وَلهَذَا فَرَّقَ الْعُلَمَاءُ بَيْنَ الْوَقْفِ عَلَى مُعَيَّنٍ وَعَلَى جِهَةٍ، فَلَو وَقَفَ أو وَصَّى لِمُعَيَّن: جَازَ وَإِن كَانَ كَافِرًا ذِمِّيًّا؛ لِأنَّ صِلَتَهُ مَشْرُوعَةٌ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فِي مِثْل قَوْله تَعَالَى:{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15].

فَإِذَا أَوْصَى أَو وَقَفَ عَلَى مُعَئنٍ وَكَانَ كَافِرًا أَو فَاسِقًا: لَمْ يَكُن الْكُفْرُ وَالْفِسْقُ هُوَ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ وَلَا شَرْطًا فِيهِ؛ بَل هُوَ يَسْتَحِقُّ مَا أَعْطَاهُ وَإِن كَانَ مُسْلِمًا عَدْلًا، فَكَانَت الْمَعْصِيَةُ عَدِيمَةَ التَّأْثِيرِ.

بِخِلَافِ مَا لَو جَعَلَهَا شَرْطًا فِي ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الْكفَّارِ وَالْفُسَّاقِ، أَو عَلَى الطَّائِفَةِ الْفُلَانِيَّةِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونوا كُفَّارًا أَو فُسَّاقًا: فَهَذَا الَّذِي لَا ريبَ فِي بُطْلَانِهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ

(1)

.

وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي الْوَقْفِ عَلَى جِهَةٍ مُبَاحَةٍ؛ كَالْوَقْفِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورينِ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْأُصُولُ: أنَّهُ بَاطِلٌ أَيْضًا، لِأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي مَالِ الْفَيْءِ:{كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ شَرَعَ مَا ذَكَرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ الْفَيْءُ مُتَدَاوَلًا بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ دُونَ الْفُقَرَاءِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَكْرَهُ هَذَا، وَيَنْهَى عَنْهُ وَيَذُمُّهُ.

فَمَن جَعَلَ الْوَقْفَ لِلْأَغْنِيَاءِ فَقَطْ: فَقَد جَعَلَ الْمَالَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ، فَيَتَدَاوَلُونَهُ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ دُونَ الْفُقَرَاءِ، وَهَذَا مُضَادٌّ للهِ فِي أَمْرِهِ وَدِينِهِ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ.

(1)

ولا يُظن بمسلم أن يفعل ذلك.

ص: 421

وَهَذَا بَيِّن فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ مِن وَجْهَيْنِ

(1)

:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ بَذْلَ الْمَالِ لَا يَجُوزُ إلَّا لِمَنْفَعَةٍ فِي الدِّينِ أَو الدُّنْيَا، وَهَذَا أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ.

وَقَد نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَن إضَاعَةِ الْمَالِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَن الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَن قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَإِضاعَةِ الْمَالِ"

(2)

.

إذَا عُرِفَ هَذَا: فَمِن الْمَعْلُومِ أَنَّ الْوَاقِفَ لَا يَنْتَفِعُ بِوَقْفِهِ فِي الدُّنْيَا كمَا يَنْتَفِعُ بِمَا يَبْذلُهُ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالنكَاحِ، وَهَذَا أَيْضًا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ فِي الدِّينِ إنْ لَمْ يُنْفِقْهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَسَبِيلُ اللهِ: طَاعَتُهُ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ.

فَإِنَّ اللهَ إنَّمَا يُثِيبُ الْعِبَادَ عَلَى مَا أَنْفَقُوهُ فِيمَا يُحِبُّهُ، وَأَمَّا مَا لَا يُحِبُّهُ فَلَا ثَوَابَ فِي النَّفَقَةِ عَلَيْهِ.

وَنَفَقَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَزَوْجَتِهِ وَاجِبَةٌ؛ فَلِهَذَا كَانَ الثَّوَابُ عَلَيْهَا أَعْظَمَ مِن الثَّوَابِ عَلَى التَّطَوُّعَاتِ عَلَى الْأَجَانِبِ.

4117 -

الْأَعْمَالُ الْمَشْرُوطَة فِي الْوَقْفِ عَلَى الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ مِثْل الْوَقْفِ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ وَالْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ مِن الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَو بِالْعِبَادَاتِ أَو بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:

أَحَدُهَا: عَمَلٌ يُتَقَرَّبُ

(3)

بِهِ إلَى اللهِ تَعَالَى وَهُوَ الْوَاجِبَاتُ والمستحبات الَّتِي رَغّبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا وَحَضَّ عَلَى تَحْصِيلِهَا: فَمِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَيَقِفُ اسْتِحْقَاقُ الْوَقْفِ عَلَى حُصُولِهِ فِي الْجُمْلَةِ.

(1)

الوجه الأول يُغني عن الْوَجْه الثَّاني.

(2)

رواه البخاري (1477)، ومسلم (593).

(3)

في الأصل: (يَقْتَرِبُ)، ولعل الصواب المثبت، وهذا الكلام مكرر في موضع آخر، باللفظ المثبت. (31/ 58)

ص: 422

وَالثَّانِي: عَمَلٌ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ نَهْيَ تَحْرِيمٍ أَو نَهْيَ تَنْزِيهٍ، فَاشْتِرَاطُ مِثْل هَذَا الْعَمَلِ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: عَمَل لَيْسَ بِمَكْرُوه فِي الشَّرْعِ وَلَا مُسْتَحَبٌّ؛ بَل هُوَ مُبَاحٌ مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ، فَهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهِ، وَالْجُمْهُورُ مِن الْعُلَمَاءِ مِن أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْمَشْهُورَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ بَاطِلٌ، وَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُم أَنْ يَشْتَرِطَ إلَّا مَا كَانَ قُرْبَةً إلَى اللهِ تَعَالَى. [31/ 43 - 46]

4118 -

الْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ كُلَّ مَا شُرِطَ مِن الْعَمَلِ مِن الْوُقُوفِ الَّتِي تُوقَفُ عَلَى الْأَعْمَالِ فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ قُرْبَةً: إمَّا وَاجِبًا وَإِمَّا مُسْتَحَبًّا.

وَأَمَّا اشْتِرَاط عَمَلٍ مُحَرَّمٍ: فَلَا يَصِحُّ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَل وَكَذَلِكَ الْمَكْرُوهُ، وَكَذَلِكَ الْمُبَاحُ عَلَى الصَّحِيحِ. [31/ 47]

4119 -

لَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَن وَقَفَ عَلَى صَلَاةٍ أَو صِيَامٍ أَو قِرَاءَةٍ أَو جِهَادٍ غَيْرِ شَرْعِيٍّ وَنَحْوِ ذَلِكَ: لَمْ يَصِحَّ وَقْفُهُ؛ بَل هُوَ يُنْهَى عَن ذَلِكَ الْعَمَلِ وَعَن الْبَذْلِ فِيهِ. [31/ 37]

* * *

(معنى وصحة قول بعض الْفُقَهَاءِ: إنَّ شُرُوطَ الْوَاقِفِ نُصُوصٌ كَأَلْفَاظِ الشَّارِعِ)

4120 -

مَن قَالَ مِن الْفُقَهَاءِ: إنَّ شُرُوطَ الْوَاقِفِ نُصُوصٌ كَأَلْفَاظِ الشَّارعِ: فَمُرَادُهُ أَنَّهَا كَالنُّصُوصِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مُرَادِ الْوَاقِفِ، لَا فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا.

مَعَ أَنَّ التَّحْقِيقَ فِي هَذَا أَنَّ لَفْظَ الْوَاقِفِ وَلَفْظَ الْحَالِفِ وَالشَّافِعِ وَالْمُوصِي وَكُلِّ عَاقِدٍ: يُحْمَلُ عَلَى عَادَتِهِ فِي خِطَابِهِ وَلُغَتِهِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا، سَوَاءٌ وَافَقَت الْعَرَبِيَّةَ الْعَرْبَاءَ، أَو الْعَرَبِيَّةَ الْمُوَلَّدَةَ، أَو الْعَرَبِيَّةَ الْمَلْحُونَةَ، أَو كَانَت غَيْرَ عَرَبِيَّةٍ، وَسَوَاءٌ وَافَقَتْ لُغَةَ الشَّارعِ أَو لَمْ تُوَافِقْهَا؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِن الْأَلْفَاظِ دَلَالَتُهَا عَلَى مُرَادِ النَّاطِقِينَ بِهَا.

ص: 423

وَأمَّا أَنْ تُجْعَلَ نُصُوصُ الْوَاقِفِ أَو نُصُوصُ غَيْرِهِ مِن الْعَاقِدِينَ كَنُصُوصِ الشَّارعِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا: فَهَذَا كُفْرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ إذ لَا أَحَدَ يُطَاعُ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ مِن الْبَشَرِ -بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَالشُّرُوطُ إنْ وَافَقَتْ كتَابَ اللهِ كَانَت صَحِيحَةً، وَإِن خَالَفَتْ كِتَابَ اللهِ كَانَت بَاطلَةً. [31/ 47 - 48]

* * *

(حكم التصرف في الوقف دون أمر الناظر الشرعي)

4121 -

لَيْسَ لِلْحَاكِمِ أنْ يُوَلِّيَ وَلَا يَتَصَرَّفَ فِي الْوَقْفِ بِدُونِ أَمْرِ النَّاظِرِ الشَّرْعِيِّ الْخَاصِّ، إلا أَنْ يَكونَ النَّاظِرُ الشَّرْعِيُّ قَد تَعَدَّى فِيمَا يَفْعَلُهُ. [31/ 65]

* * *

(أحكام تتعلق بالناظر الشرعي)

4122 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن نَاظِرَيْنِ: هَل لَهُمَا أَنْ يَقْتَسِمَا الْمَنْظُورَ عَلَيْهِ، بِحَيْثُ يَنْظرُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي نِصْفِهِ فَقَطْ؟

فَأَجَابَ: لَا يَتَصَرَّفَانِ إلَّا جَمِيعًا فِي جَمِيعِ الْمَنْظُورِ فِيهِ، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا لَو انْفَرَدَ بِالتَّصَرُّفِ لَمْ يَجُزْ. [31/ 66]

4123 -

النَاظِرُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا فِي أَمْرِ الْوَقْفِ إلَّا بِمُقْتَضَى الْمَصْلَحَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ الْأَصْلَحَ فَالْأَصْلَحَ.

وَإِذَا جَعَلَ الْوَاقِفُ لِلنَّاظِرِ صَرْفَ مَن شَاءَ وَزِيَادَةَ مَن أَرَادَ زِيَادَتَهُ وَنُقْصَانَهُ: فَلَيْسَ لِلَّذِي يَسْتَحِقُّهُ بِهَذَا الشَّرْطِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشْتَهِيه، أَو مَا يَكونُ فِيهِ اتِّبُاع الظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأنْفَسُ؛ بَل الَّذِي يَسْتَحِقُّة بِهَذَا الشَّرْطِ أَنْ يَفْعَلَ مِن الْأُمُورِ الَّذِي هُوَ خَيْرُ مَا يَكُونُ إرْضَاءً للهِ وَرَسُولِهِ.

وَهَذَا فِي كُل مَن تَصَرَّفَ لِغَيْرِهِ بِحُكمِ الْوِلَايَةِ؛ كَالْإِمَامِ وَالْحَاكِمِ وَالْوَاقِفِ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ وَغَيْرِهِمْ إذَا قِيلَ: هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ كَذَا وَكَذَا، أَو يَفْعَلُ مَا شَاءَ وَمَا رَأَى، فَإِنَّمَا ذَاكَ تَخْيِيرُ مَصْلَحَةٍ لَا تَخْيِيرُ شَهْوَةٍ.

ص: 424

حَتَّى لَو صَرَّحَ الْوَاقِفُ بِأَنَّ لِلنَّاظِرِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَهْوَاهُ وَمَا يَرَاهُ مُطْلَقًا: لَمْ يَكُن هَذَا الشَّرْطُ صَحِيحًا؛ بَل كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللهِ، "وَمَن اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِن كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ"

(1)

.

وَعَلَى النَّاظِرِ بَيَانُ الْمَصْلَحَةِ، فَإِنْ ظَهَرَتْ وَجَبَ اتِّبَاعُهَا، وَإِن ظَهَرَ أَنَّهَا مَفْسَدَةٌ رُدَّتْ، وَإِن اشْتَبَهَ الْأَمْرُ وَكَانَ النَّاظِرُ عَالِمًا عَادِلًا سُوِّغَ لَهُ اجْتِهَادُهُ. [31/ 67 - 69]

4124 -

يَجِبُ عَلَى نَاظِرِ الْوَقْفِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي مَصْرِفِهِ، فَيُقَدِّمُ الْأَحَقَّ فَالْأَحَقَّ.

وَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الشَّرْعِيَّةَ اقْتَضَتْ صَرْفَهُ إلَى ثَلَاثَةٍ؛ مِثْل أَنْ لَا يَكْفِيَهُم أَقَلُّ مِن ذَلِكَ: فَلَا يُدْخِلُ غَيْرَهُم مِن الْفُقَرَاءِ.

وَإِذَا كَفَاهُم وَغَيْرهُم مِن الْفُقَرَاءِ: يُدْخِلُ الْفُقَرَاءَ مَعَهُم وَيُسَاوِيهِمْ مِمَّا يَحْصُلُ مِن رِيعِهِ، وَهُم أَحَقُّ مِنْهُ عِنْدَ التَّزَاحُمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَأَقَارِبُ الْوَاقِفِ الْفُقَرَاءِ أَوْلَى مِن الْفُقَرَاءِ الْأَجَانِبِ مَعَ التَّسَاوِي فِي الْحَاجَةِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَ إلَيْهِ كِفَايَتَهُ إذَا لَمْ يُوجَدْ مَن هُوَ أَحَقُّ مِنْهُ.

وَإِذَا قُدِّرَ وُجُودُ فَقِيرٍ مُضْطَرٍّ: كَانَ دَفْعُ ضَرُورَتِهِ وَاجِبًا، وَإِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ إلَّا بِتَنْقِيصِ كِفَايَةِ أُولَئِكَ مِن هَذَا الْوَقْفِ مِن غَيْرِ ضَرُورَةٍ تَحْصُلُ لَهُم تَعَيَّنَ ذَلِكَ. [31/ 90 - 91]

* * *

(1)

رواه البخاري (2155)، ومسلم (1504).

ص: 425

‌(هَل يَقْتَضِي شَرْطُ الْوَاقِفِ تَرْتِيبَ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ؟ أَو الْأَفْرَادَ عَلَى الْأَفْرَادِ

؟)

4125 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن صُورَةِ كِتَابِ وَقْض نَصُّهُ: هَذَا مَا وَقَفَهُ عَامِرُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ عَامِرٍ عَلَى أَوْلَادِهِ: عَلِيٌّ وَطَرِيفَةُ وَزُبَيْدَةُ بَيْنَهُم عَلَى الْفَرِيضَةِ الشَّرْعِيَّةِ.

ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ مِن بَعْدِهِمْ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ، ثُمَّ عَلَى نَسْلِهِمْ وَعَقِبِهِم مِن بَعْدِهِمْ وَإِن سَفَلُوا.

هَل يَقْتَضِي شَرْطُ الْوَاقِفِ الْمَذْكُورِ تَرْتِيبَ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ؟ أَو الْأَفْرَادَ عَلَى الْأَفْرَادِ.

فَأَجَابَ: هَذ الْمَسْأَلَةُ

(1)

فِيهَا قَوْلَانِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مَعْرُوفَانِ لِلْفُقَهَاءِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ، وَلَكِنَّ الْأَقْوَى: أَنَّهَا لِتَرْتِيبِ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ، وَأَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ يَقُومُ مَقَامَ أَبِيهِ لَو كَانَ الِابْنُ مَوْجُودًا مُسْتَحِقًّا قَد عَاشَ بَعْدَ مَوْتِ الْجَدِّ وَاسْتَحَقَّ أَو عَاشَ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ لِمَانِع فِيهِ، أَو لِعَدَمِ قَبُولِهِ لِلْوَقْفِ، أَو لِغَيْرِ ذَلِكَ، أَو لَمْ يَعِشْ بَل مَاتَ فِي حَيَاةِ الْجَدِّ.

وَيَكُونُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ، وَهِيَ تَقْتَضِي تَوْزِيعَ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ:{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12]؛ أَيْ: لِكُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ مَا تَرَكَتْ زَوْجَتُهُ، وَقَوْلُهُ:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]؛ أَيْ: حُرِّمَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ أُمُّهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ.

كَذَلِكَ قَوْلُهُ: "عَلَى أَوْلَادِهِمْ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ"؛ أَيْ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ.

وَإِنَّمَا الشُّبْهَةُ فِي أَنَّ الْوَلَدَ إذَا مَاتَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ وَلَهُ وَلَد، ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ عَن وَلَدٍ آخَرَ وَعَن وَلَدِ الْوَلَدِ الْأَوَّلِ: هَل يَشْتَرِكَانِ، أَو يَنْفَرِدُ بِهِ الْأَوَّلُ؟

(1)

وهي: هَل يَقْتَضِي شَرْطُ الْوَاقِفِ تَرْتِيبَ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ، أَو الْأَفْرَادَ عَلَى الْأَفْرَادِ؟

ص: 426

الْأظْهَرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأْلَةِ: أَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ؛ وَذَلِكَ لِأنَّ الطَّبَقَةَ الثَّانِيَةَ تتلَقَّى الْوَقْفَ مِن الْوَاقِفِ لَا مِن الثَّانِيَةِ، فَلَيْسَ هُوَ كَالْمِيرَاثِ الَّذِي يَرِثُهُ الِابْنُ، ثمَّ يَنْتَقِلُ إلَى ابْنِهِ.

وَإِنَّمَا يَغْلَطُ مَن يَغْلَطُ فِي مِثْل هَذِهِ الْمَسْأْلَةِ حِينَ يَظُنُّ أنَّ الطَّبَقَةَ الثَّانِيَةَ تَتَلَقَّى مِن الَّتِي قَبْلَهَا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَحِقَّ الْأُولَى شَيْئًا لَمْ تَسْتَحِقَّ الثَّانِيَةُ، ثُمَّ يَظُنُّونَ أَنَّ الْوَالِدَ إذَا مَاتَ قَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ لَمْ يَسْتَحِقَّ ابْنُهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَل هُم يَتَلَقَّوْنَ مِن الْوَاقِفِ، حَتَّى لَو كَانَت الْأولَى مَحْجُوبَةً بِمَانِعٍ مِن الْمَوَانِعِ؛ مِثْل أَنْ يَشْتَرِطَ الْوَاقِفُ فِي الْمُسْتَحِقِّينَ أَنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ، او عُلَمَاءَ، أَو عُدُولًا، أَو غَيْرَ ذَلِكَ، وَيَكُونُ الْأَبُ مُخَالِفًا لِلشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، وَابْنُهُ مُتصِفًا بِهِ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الِابْن وَإِن لَمْ يَسْتَحِقَّ أَبُوهُ.

كَذَلِكَ إذَا مَاتَ الْأَبُ قَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ ابْنُهُ.

وَهَكَذَا جَمِيعُ التَّرْتِيبِ فِي الْحَضَانَةِ، وَوِلَايَةِ النِّكَاحِ، وَالْمَالِ، وَتَرْتِيبِ عَصَبَةِ النَّسَبِ، وَالْوَلَاءِ فِي الْمِيرَاثِ، وَسَائِرِ مَا جُعِلَ الْمُسْتَحِقُّونَ فِيهِ طَبَقَاتٍ وَدَرَجَاتٍ، فَإِنَّ الْأَمْرَ فِيهِ عَلَى مَا ذُكِرَ. [31/ 80 - 83]

* * *

‌(هل يجور نقل الوقف من مكان لآخر؟ وما الحكم إذا تعطلت منافعه

؟)

4126 -

إِذَا خَرِبَ مَكَانٌ مَوْقُوفٌ فَتَعَطَّلَ نَفْعُهُ: بِيعَ وَصُرِفَ ثَمَنُهُ فِي نَظِيرِهِ، أَو نُقِلَتْ إلَى نَظِيرِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا خَرِبَ بَعْضُ الْأَمَاكِنِ الْمَوْقوفِ عَلَيْهَا -كَمَسْجِدِ وَنَحْوِهِ- عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ عِمَارَتُهُ، فَإِنَهُ يُصْرَفُ رَيعُ الْوَقْفِ عَلَيْهِ إلَى غَيْرِهِ.

وَمَا فَضَلَ مِن رَيعِ وَقْفٍ عَن مَصْلَحَتِهِ: صُرِفَ فِي نَظِيرِهِ أَو مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ مِن أَهْلِ نَاحِيَتِهِ، وَلَمْ يَحْبِس الْمَالَ دَائِمًا بِلَا فَائِدَةٍ، وَقَد كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كُلَّ عَامٍ يُقَسِّمُ كُسْوَةَ الْكَعْبَةِ بَيْنَ الْحَجِيجِ.

ص: 427

وَنَظِيرُ كُسْوَةِ الْكَعْبَةِ: الْمَسْجِدُ الْمُسْتَغْنَى عَنْهُ مِن الْحُصرِ

(1)

وَنَحْوِهَا.

وَأَمَرَ بِتَحْوِيلِ مَسْجِدِ الْكُوفَةِ مِن مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ حَتَّى صَارَ مَوْضِعُ الْأَوَّلِ سُوقًا. [31/ 92 - 93]

4127 -

مَن وَقَفَ عَلَى الْأَشْرَافِ فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي الْعُرْفِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ إلَّا مَن كَانَ صَحِيحَ النَّسَبِ مِن أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [31/ 94]

* * *

(ميراث الوقف)

4128 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلٍ مَلَّكَ إنْسَانًا أنشابًا قَائِمَةً عَلَى الْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى الْمِلْكِ الْمَذْكُورِ وَغَيْرِهِ أَيَّامَ حَيَاتِهِ، ثُمَّ بَعْدَ وَفَاتِهِ عَلَى أوْلَادِهِ، وَعَلَى مَن يُحْدِثُهُ اللهُ مِن الْأَوْلَادِ مِن الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ بَيْنَهُم بِالسَّوِيَّةِ، عَلَى أَنَّ مَن تُوُفِّيَ مِنْهُم وَتَرَكَ وَلَدًا كَانَ نَصِيبُهُ مِن الْوَقْفِ إلَى وَلَدِهِ أو وَلَدِ وَلَدِهِ وَإِن سَفَلَ، وَاحِدًا كَانَ أَو أَكْثَرَ ذَكَرًا كَانَ او أُنْثَى، مِن وَلَدِ الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ، يَسْتَوِي فِى ذَلِكَ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ.

وَإِن تُوُفِّيَ وَلَمْ يَكُن لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَلَدُ وَلَدٍ وَلَا أَسْفَلَ مِن ذَلِكَ: كَانَ نَصِيبُهُ مِن ذَلِكَ مَصْرُوفًا إلَى مَن هُوَ فِي دَرَجَتِهِ، مُضَافًا إلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ مِن رِيعِ هَذَا الْوَقْفِ.

فَإِنْ لَمْ يَكُن لَهُ أَخٌ وَلَا أُخْتٌ وَلَا مَن يُسَاوِيه فِي الدَّرَجَةِ: كَانَ نَصِيبُهُ مَصْرُوفًا إلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ، الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ مِن وَلَدِ الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ، تَحْجُبُ الطَّبَقَةُ الْعُلْيَا الطَّبَقَةَ السُّفْلَى مِن وَلَدِ الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ بِالسَّويَّةِ إلَى حِينِ انْقِرَاضِهِمْ.

فَمِن أَهْلِ الْوَقْفِ الْأوَّلِ أَحَدُ الْبَنَاتِ تُوُفِّيَتْ وَلَمْ يَكُن لَهَا وَلَدٌ، أَخَذَ إخْوَتُهَا نَصِيبُهَا.

(1)

جمْع حَصِير، وهو الَّذِي يبْسط فِي الْبُيُوتِ.

ص: 428

ثُمَّ مَاتَت الْبِنْتُ الثَّانِيَةُ وَلَهَا ابْنَتَانِ أَخَذَتَا نَصِيبَهَا.

ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ مَاتَت الْبِنْتُ الثَّالِثَةُ وَلَمْ يَكُن لَهَا وَلَدٌ أَخَذَتْ أُخْتُهَا نَصِيبَهَا.

ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ مَاتَت الْأُخْتُ الرَّابِعَةُ فَأخَذوا لَهَا الثلُثَيْنِ.

فَهَل يَصِحُّ لأَوْلَادِ خَالَتِهِ نَصِيبٌ مَعَهُ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ: الْبِنْتُ الْأولَى انْتَقَلَ نَصِيبُهَا إلَى إخْوَتِهَا الثَّلَاثَةِ كَمَا شَرَطَهُ الْوَاقِفُ، لَا يُشَارِكُ أَوْلَادُ هَذِهِ لِأَوْلَادِ هَذ فِي النَّصِيبِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي كَانَ لِأُمِّهَا.

وَأَمَّا النَّصِيبُ الْعَائِدُ -وَهُوَ الَّذِي كَانَ لِلثَّالِثَةِ وَانْتَقَلَ إلَى الرَّابِعَةِ-: فَهَذَا يَشْتَرِكُ فِيهِ أَوْلَادُ هَذِهِ وَأَوْلَادُ هَذِهِ، كَمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ أُمُّهُمَا.

هَذَا اظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأْلَةِ.

فَإِنَّ قَوْلَهُ: كَانَ نَصِيبُهُ

(1)

. يَتَنَاوَلُ النَّصِيبَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.

وَأَمَّا تَنَاوُلُهُ لِمَا بَعْدَ ذَلِكَ: فَمَشْكُوكٌ فِيهِ، فَلَا يَدْخُلُ بِالشَّكِّ.

بَل قَد يُقَالُ: هَذَا هُوَ فِي الْأَصْلِ نَصِيبُ الْمَيِّتِ عَنْهُ كَمَا ذَكَرَ الْوَاقِفُ، وَالظَّاهِرُ مِن حَالِ الْوَاقِفِ لَفْظًا وَعُرْفًا أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ الطَّبَقَةِ فِي نَصِيب مَن وُلدَ لَهُ وَلَدٌ، فَأَخَذَهُ الْمُسَاوِي بِكَوْنِهِ كَانَ فِي الطَّبَقَةِ، وَأَوْلَادُهُ فِي الطَّبَقَةِ كَأَوْلَادِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ.

فَكَمَا أنَّ الْمَيِّتَيْنِ لَو كَانَا حَيَّيْنِ اشْتَرَكَا فِي هَذَا النَّصِيبِ الْعَائِدِ: فَكَذَلِكَ يَشْتَرِكُ فِيهِ وَلَدُهُمَا مِن بَعْدِهِمَا؛ فَإِنَّ نِسْبَتَهُمَا إلَى صَاحِبِ النَّصِيبِ نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ.

وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقْصِدُهُ النَّاسُ بِمِثْل هَذِهِ الشُّرُوطِ كَمَا يَشْهَدُ بِذَلِكَ عُرْفُهُم وَعَادَتُهُمْ.

(1)

تمام العبارة: وَإِن تُوُفِّيَ وَلَمْ يَكُن لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَلَدُ وَلَدٍ وَلَا أَسْفَلَ مِن ذَلِكَ: كَانَ نَصِيبُهُ مِن ذَلِكَ مَصْرُوفًا إلَى مَن هُوَ فِي دَرَجَتِهِ.

ص: 429

وَالْمَقْصُودُ: إجْرَاءُ الْوَقْفِ عَلَى الشُّرُوطِ الَّذِي يَقْصِدُهَا الْوَاقِفُ، وَلهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: إنَ نُصُوصَهُ كَنُصُوصِ الشَّارعِ، يَعْنِي فِي الْفَهْمِ وَالدَّلَالَةِ.

وَمَن كَشَفَ أَحْوَالَ الْوَاقِفِينَ عَلِمَ أَنَّهُم يَقْصِدُونَ هَذَا الْمَعْنَى؛ فَإِنَّهُ أَشْبَهُ بِالْعَدْلِ، وَنِسْبَةُ أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ إلَى الْوَاقِفِ سَوَاءٌ، فَلَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي أَنْ يُعْطِيَ ابْنَ هَذَا نَصِيبَيْنِ أَو ثَلَاثَة لِتَأَخُّرِ مَوْتِ أَبِيهِ، وَأُولَئِكَ لَا يُعْطَوْنَ إلَّا نَصِيبًا وَاحِدًا.

فَكَيْفَ يُقَدَّمُ مَن هُوَ أَقْرَبُ إلَى الْحَاجَةِ إلَى مَن هُوَ أَبْعَدُ عَنْهَا، وَهُمَا فِي الْقُرْبِ إلَيْهِ وَإِلَى الْمَيِّتِ صَاحِبِ النَّصِيبِ -بَعْدَ انْقِرَاضِ الطَّبَقَةِ- سَوَاءٌ؟

وَهُوَ كَمَا لَو مَاتَ صَاحِبُهُ آخِرًا، وَلَو مَاتَ آخِرًا: اشْتَرَكَ جَمِيعُ الْأَوْلَادِ فِيهِ.

بَل هَذَا يَتَنَاوَلُهُ قَوْلُ الْوَاقِفِ: إنْ تُوُفِّيَ وَلَمْ يَكن لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَلَدُ وَلَدٍ: كَانَ نَصِيبُهُ مَصْرُوفًا إلَى مَن هُوَ فِي دَرَجَتِهِ.

فَإِنْ لَمْ يَكُن لَهُ أَخٌ وَلَا أُخْت وَلَا مَن يُسَاوِيه فِي الدَّرَجَةِ: فَيَكُونُ نَصِيبُهُ مَصْرُوفًا إلَى أَقْرَبِ النَّاسِ، وَكُلُّهُم فِي الْقُرْبِ إلَيْهِ سَوَاءٌ. [31/ 96 - 99]

4129 -

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَدُ ابْنُ تَيْمِيَّة رحمه الله،: عَن وَاقِفٍ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى أَوْلَادِهِ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ وَنَسْلِهِ وَعَقِبِهِ دَائِمًا مَا تَنَاسَلُوا، عَلَى أَنَّهُ مَن تُوُفِّيَ مِنْهُم عَن غَيْرِ وَلَدٍ وَلَا وَلَدِ وَلَدٍ وَلَا نَسْلٍ وَلَا عَقِبٍ: كَانَ مَا كَانَ جَارِيًا عَلَيْهِ مِن ذَلِكَ عَلَى مَن فِي دَرَجَتِهِ وَذَوِي طَبَقَتِهِ.

فَإِذَا تُوُفِّيَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِم عَن وَلَدٍ، أَو وَلَدِ وَلَدٍ، أَو نَسْلٍ أو عَقِبٍ لِمَن يَكُونُ نَصِيبُهُ؟ هَل يَكُونُ لِوَلَدِهِ، أَو لِمَن فِي دَرَجَتِهِ مِن الْإِخْوَةِ وَبَنِي الْعَمِّ وَنَحْوِهِمْ؟

فَأَجَابَ

(1)

: نَصِيبُهُ يَنْتَقِلُ إلَى وَلَدِهِ دُونَ إخْوَتِهِ وَبَنِي عَمِّهِ: لِوُجُوهِ مُتَعَدِّدَةٍ

(1)

يظهر أن جواب الشيخ كان ردًّا على فتوى خاطئة، ويدل على ذلك إطالة الشيخ في تقرير الجواب، والتفصيل الطويل جدًّا، فقد وقعت الفتوى في ثمانين صفحة!!

ذكر فيها وجوهًا في الإعراب واللغة، وقواعد في الأصول والاستدلال.

بل صرح بذلك في قوله: وَإِنمَا نَشَأَ غَلَط الغالط مِن حَيْثُ تَوَهَّمَ أَنَّ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ فِيهِ عُمُومٌ =

ص: 430

نَذْكُرُ مِنْهَا ثَلَاثَةً

(1)

:

أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: عَلَى أَوْلَادِهِ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ، مُقَيَّدٌ بِالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَهُ وَهِيَ قَوْلُهُ: عَلَى أَنَّهُ مَن تُوُفِّيَ مِنْهُم عَن غَيْرِ وَلَدٍ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى ذَوِي طَبَقَتِهِ.

وَكُلُّ كَلَامٍ اتَّصَلَ بِمَا يُقَيِّدُهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ اعْتِبَارُ ذَلِكَ الْمُقَيَّدِ دُونَ إطْلَاقِهِ أَوَّلَ الْكَلَامِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَن سَمِعَ هَذَا الْكَلَامَ مِن أَهْلِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ خَاصَّتِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ لَمْ يَفْهَمُوا مِنْهُ إلَّا إعْطَاءَ أَهْلِ طَبَقَةِ الْمُتَوَفَّى بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُتَوَفَّى وَلَدٌ، وَيَعْقِلُونَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ وَاحِدٌ مُتَّصِلٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ.

وَكَثِيرًا مَا قَد يَغْلَطُ بَعْضُ الْمُتَطَرِّفِينَ

(2)

مِن الْفُقَهَاءِ فِي مِثْل هَذَا الْمَقَامِ، فَإِنَّهُ يَسْأَلُ عَن شَرْطِ وَاقِفٍ أَو يَمِينِ حَالِفٍ وَنَحْو ذَلِكَ: فَيَرَى أَوَّلَ الْكَلَامِ مُطْلَقًا أَو عَامًّا وَقَد قَيَّدَ فِي آخِرِهِ، فَتَارَةً يَجْعَلُ هَذَا مِن بَابِ تَعَارُضِ الدَّلِيلَيْنِ وَيَحْكُمُ عَلَيْهِمَا بِالْأَحْكَامِ الْمَعْرُوفَةِ لِلدَّلَائِلِ الْمُتَعَارِضَةِ مِن التَّكَافُؤِ وَالتَّرْجِيحِ.

وَتَارَةً يَرَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُتَنَاقِضٌ؛ لِاخْتِلَافِ آخِرِهِ وَأَوَّلهِ.

وَتَارَةً يَتَلَدَّدُ تَلَدُّدَ الْمُتَحَيِّرِ.

وَرُبَّمَا قَالَ: هَذَا غَلَطٌ مِن الْكَاتِبِ.

وَكُلُّ هَذَا مَنْشَؤُهُ مِن عَدَمِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ وَالْكَلَامِ الْمُنْفَصِلِ.

وَمَن عَلِمَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ أَوَّلِ كَلَامِهِ حَتَّى يَسْكُتَ سُكُوتًا قَاطِعًا، وَأَنَّ الْكَاتِبَ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ كِتَابِهِ حَتَّى يَفْرَغَ فَرَاغًا قَاطِعًا: زَالَتْ

= وَالْكَلَامَ الثَّاني قَد خَصَّ أحَدَ النَّوْعَيْنِ بِالذِّكْرِ، فَيَكُونُ مِن بَاب تَعَارُضِ الْعُمُوم وَالْمَفْهُومِ ..

(1)

أكتفي بوجهين منها.

(2)

التطرف مصطلحٌ قديم، ولا يقتصر على التطرف العقدي، بل يشمل التطرف الفكري والفقهي وغير ذلك. فكل من غلا في شيء فهو متطرف فيما غلا فيه.

ص: 431

عَنْهُ شُبْهَةٌ فِي هَذَا الْبَابِ، وَعَلِمَ صِحَّةَ مَا تَقُولُهُ الْعُلَمَاءُ فِي دَلَالَاتِ الْخِطَابِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي -فِي أَصْلِ الْمَسْأْلَةِ أنَّ قَوْلَه-: عَلَى أَوْلَادِهِ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ: مُقْتَضٍ لِلتَّرْتِيبِ، وَهُوَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ أَوْلَادِ الْأوْلَادِ بَعْدَ الْأَوْلَادِ، وَهُنَا جَمْعَانِ، أَحَدُهُمَا مُرَتَّبٌ عَلَى الْآخَرِ، وَالْأَحْكَامُ الْمُرَتَّبَةُ عَلَى الْأَسْمَاءِ الْعَامَّةِ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَا يَثْبُتُ لِكُلِّ فَرْدٍ مِن أَفْرَادِ ذَلِكَ الْعَامِّ، سَوَاءٌ قُدِّرَ وُجُودُ الْفَرْدِ الْآخَرِ أَو عَدَمُهُ.

وَالثَّانِي: مَا يَثْبُتُ لِمَجْمُوعِ تِلْكَ الْأَفْرَادِ، فَيَكُونُ وُجُودُ كُلٍّ مِنْهَا شَرْطًا فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ لِلْآخَرِ.

مِثَالُ الْأَوَّلِ: قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21].

وَمِثَالُ الثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} فَإِنَّ الْخَلْقَ ثَابِث لِكلِّ وَاحِدٍ مَن النَّاسِ، وَكُلًّا مِنْهُم مُخَاطَبٌ بِالْعِبَادَةِ وَالطَّهَارَةِ، وَلَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ مَن الْأُمَّةِ أُمَّةً وَسَطًا، وَلَا خَيْرَ أُمَّةٍ.

فَقَوْلُ الْوَاقِفِ: عَلَى أوْلَاد، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ: قَد اقْتَضَى تَرْتِيبَ أَحَدِ العمومين عَلَى الْاَخَرِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ أَن الْعُمُومَ الثَّانِيَ بِمَجْمُوعِهِ مُرَتَّبٌ عَلَى مَجْمُوعِ الْعُمُومِ الْأوَّلِ، وَعَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِن أَفْرَادِهِ، فَلَا يَدْخُلُ شَيْءٌ مِن هَذَا الْعُمُومِ الثَّانِي فِي الْوَقْفِ حَتَّى يَنْقَضِيَ جَمِيعُ أَفْرَادِ الْعُمُومِ الْأَوَّلِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ تَرْتِيبًا يُوَزعُّ فِيهِ الْأَفْرَاد عَلَى الْأَفْرَادِ، فَيَكونُ كُلُّ فَرْدٍ مِن أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ دَاخِلًا عِنْدَ عَدَمِ وَالِدِهِ، لَا عِنْدَ عَدَمِ وَالِدِ غَيْرِهِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [البقرة: 233].

ص: 432

وَاللَّفْظُ صَالِحٌ لِكِلَا الْمَعْنييْنِ صَلَاحًا قَوِيًّا، لَكنْ قَد يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِأَسْبَاب أُخْرَى، كَمَا رَجَّحَ الْجُمْهُورُ تَرْتِيبَ الْكُلِّ عَلَى الْكُلِّ فِي قَوْلِهِ: وَقَفْت عَلَى زيدٍ وَعَمْرٍو وَبَكْرِ ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْمَسَاكِينِ وَبَيْنَ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةِ مُسَاوَاةٌ فِي الْعَدَدِ حَتَّى يَجْعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مُرَتَّبًا عَلَى الْآخَرِ، وَلَا مُنَاسَبَة تَقْتَضِي أَنْ يُعَيِّنَ لِزَيْدِ هَذَا الْمِسْكِينَ وَلعَمْرِو هَذَا وَلبَكرِ هَذَا.

وَكَمَا يَتَرَجَّحُ الْمَعْنَى الثَّانِي فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلَى آخِرِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مَن الْمُخَاطَبِينَ جَمِيعَ أُمَّهَاتِ الْمُخَاطبينَ وَبَنَاتَهمْ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ أُمَّهُ وَبِنْتَه.

ثُمَّ الَّذِي يُوَضِّحُ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى قَوِيٌّ فِي الْوَقْفِ: أَنَّ أَكْثَرَ الْوَاقِفِينَ يَنْقُلُونَ نَصِيبَ كُلِّ وَالِدٍ إلَى وَلَدِهِ، لَا يُؤَخِّرُونَ الِانْتِقَالَ إلَى انْقِضَاءِ الطَّبَقَةِ، وَالْكَثْرَةُ دَلِيلُ الْقُوَّةِ؛ بَل وَالرُّجْحَانِ.

وَأَيْضَا: فَإِنَّ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالْمِيرَاثِ هُنَا شَبَهٌ مِن جِهَةِ أنَّ الِانْتِقَالَ إلَى وَلَدِ الْوَلَدِ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ الْوَلَدِ فِيهِمَا. [31/ 100 - 130]

4130 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن وَقْفٍ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْفُسٍ: عَمْرٍو وَيَاقُوتَةَ وَجَهْمَةَ وَعَائِشَةَ، يَجْرِي عَلَيْهِم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، فَمَن تُوُفِّيَ مِنْهُم عَن وَلَدٍ أَو وَلَدِ وَلَدٍ أَو عَن نَسْلٍ وَعَقِبٍ وَإِن سَفَلَ: عَادَ مَا كَانَ جَارِيًا عَلَيْهِ مِن ذَلِكَ عَلَى وَلَدِهِ ثُمَّ عَلَى وَلَدِ وَلَدِهِ ثُمَّ عَلَى نَسْلِهِ وَعَقِبِهِ ثُمَّ مِن بَعْدِهِ وَإِن سَفَلَ بَيْنَهُم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.

وَمَن تُوُفِّيَ مِنْهُم عَن غَيْرِ وَلَدٍ وَلَا وَلَدِ وَلَدٍ وَلَا نَسْلٍ وَلَا عَقِبٍ عَادَ نَصِيبُهُ وَقْفًا عَلَى إخْوَتِهِ الْبَاقِينَ ثُمَّ عَلَى أَنْسَالِهِمْ وَأَعْقَابِهِم بَيْنَهُم لِلذِّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ عَلَى الشَّرْطِ وَالتَّرْتِيبِ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُمَا.

فَإِذَا لَمْ يَبْقَ لِهَؤُلَاءِ الْإِخْوَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِم نَسْلٌ وَلَا عَقِبٌ أَو تُوُفُّوا

ص: 433

بِأَجْمَعِهِمْ وَلَمْ يُعَقِّبُوا وَلَا وَاحِدَ مِنْهُمْ: عَادَ ذَلِكَ وَقْفًا عَلَى الْأَسَارَى ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ.

ثُمَّ تُوُفِّيَ عُمَرُ

(1)

عَن فَاطِمَةَ وَتُوُفِّيَتْ فَاطِمَةُ عَن عيناشي ابْنَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي يَعْلَى ثُمَّ ئوُفِّيَتْ عيناشي عَن غَيْرِ نَسْلٍ وَلَا عَقِب، وَلَمْ يَبْقَ مِن ذُرِّيَّةِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ إلَّا بِنْتُ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي يَعْلَى، وَكِلَاهُمَا مِن ذُرَّيَّةِ جَهْمَةَ.

فَهَاتَانِ الْجِهَتَانِ اللَّتَانِ تَلِيهِمَا عيناشي بَعْدَ مَوْتِ أبِيهَا: هَل يَنْتَقِلُ إلَى أُخْتِهَا رُقَيَّةَ؟ أَو إلَيْهَا أَو إلَى ابْنَةِ عَمِّهَا صَفِيَّةَ؟

فَأَجَابَ: هَذَا النَّصِيبُ الَّذِي كَانَ لعيناشي مِن أُمِّهَا يَنْتَقِلُ إلَى ابْنَتَي الْعَمِّ الْمَذْكُورَتَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ انْ تُخَصَّ بِهِ أُخْتهَا لِأَبِيهَا لِأَنَّ الْوَاقِفَ ذَكَرَ: أَنَّ مَن تُوُفِّيَ مِن هَؤُلَاءِ الْإِخْوَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِم عَن غَيْرِ وَلَدٍ وَلَا وَلَدِ وَلَدٍ وَلَا نَسْلٍ وَلَا عَقِبٍ عَادَ نَصِيبُهُ وَقْفًا عَلَى إخْوَتِهِ ثُمَّ عَلَى أَنْسَالِهِمْ وَأَغْقَابِهِم عَلَى الشَّرْطِ وَالتَّرْتِيبِ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُمَا.

وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ تَعُمُّ مَن انْقَطَعَ نَسْلُهُ أَوَّلًا وَآخِرًا، فَكُلُّ مَن انْقَطَعَ نَسْلُهُ مِن هَؤُلَاءِ الْإِخْوَةِ كَانَ نَصِيبُهُ لِإِخْوَتِهِ ثُمَّ لِأَوْلَادِهِمْ.

إذَا تَقَرَّرَ هَذَا: فَعَمُّ جَدِّ عيناشي هُوَ الْآنَ مُتَوَفَّى عَن غَيْرِ وَلَدٍ وَلَا وَلَدِ وَلَدٍ وَلَا نَسْلٍ وَلَا عَقِبٍ، فَيَكُونُ نَصِيبُهُ لِإِخْوَتِهِ الثَّلَاثَةِ عَلَى أَنْسَالِهِمْ وَأَعْقَابِهِمْ.

وَالْحَالُ الَّتِي انْقَطَعَ فِيهَا نَسْلُهُ: لَمْ يَكُن مِن ذُرِّيَّتِهِ إلَّا هَاتَانِ الْمَرْأَتَانِ، فَيَجِبُ أَنْ تَسْتَوِيَا فِي نَصِيبِ عيناشي.

وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ انْقَطَعَ نَسْلُهُ؛ فَإِنَّ نَصِيبَهُ يَنْتَقِلُ إلَى ذُرَّيَّةِ إخْوَتِهِ، إلَّا أَنْ يَبْقَى أَحَدٌ مِن ذُرَّيَّةِ أَبِيهِم الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ الْوَقْفُ مِنْهُ، أَو مِن ذُرِّيَّةِ أُمِّهِ الَّتِي انْتَقَلَ إلَيْهِ الْوَقْفُ مِنْهَا، فَيَكُونُ بَاقِي الذُّرِّيَّةِ هُم الْمُسْتَحِقِّينَ لِنَصِيبِ

(1)

من ذرية أحد هؤلاء الأربعة، وهو جدّ عيناشي لأمها.

ص: 434

أُمِّهِمْ أَو أَبِيهِمْ؛ لِدُخُولِهِمْ فِي قَوْلِهِ: فَمَن تُوُفِّيَ مِنْهُم عَن وَلَدٍ أَو وَلَدِ وَلَدٍ. [31/ 180 - 184]

4131 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن وَقْفِ إنْسَانٍ شَيْئًا عَلَى زيدٍ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ زيدٍ الثَّمَانِيَةِ، فَمَاتَ وَاحِدٌ مِن أَوْلَادِ زدٍ الثَّمَانِيَةِ الْمُعَيَّنِينَ فِي حَالِ حَيَاةِ زَيْدٍ، وَتَرَكَ وَلَدًا ثُمَّ مَاتَ زيدٌ، فَهَل يَنْتَقِلُ إلَى وَلَدِ وَلَدِ زيْدٍ مَا اسْتَحَقَّهُ وَلَدُ زيدٍ لَو كَانَ حَيًّا؟ أَمْ يَخْتَصُّ الْجَمِيعُ بِأَوْلَادِ زيدٍ؟

فَأَجَابَ: نَعَمْ يَسْتَحِقُّ وَلَدُ الْوَلَدِ مَا كَانَ يَسْتَحِقُّهُ وَالِدُهُ، وَلَا يَنْتَقِلُ ذَلِكَ إلَى أَهْلِ طَبَقَةِ الْمَيِّتِ مَا بَقِيَ مِن وَلَدِهِ، وَوَلَدِ وَلَدِهِ أَحَدٌ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَ الْوَاقِفِ: عَلَى زيْدٍ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِ ثُمَّ اوْلَادِ أَوْلَادِهِ: فِيهِ لِلْفُقَهَاءِ مِن أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ غِنْدَ الْإِطْلَاقِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لِتَرْتِيبِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ لِتَرْتِيبِ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12]؛ أَيْ: لِكُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ مَا تَرَكَتْهُ زَوْجَتُهُ

(1)

.

وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ فِي صُورَةِ السُّؤَالِ قَطْعًا؛ إذ قَد صَرَّحَ الْوَاقِفُ بِأَنَّ مَن مَاتَ مِن هَؤُلَاءِ عَن وَلَدِ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى وَلَدِهِ، فَصَارَ الْمُرَادُ تَرْتِيبَ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْمُقَيَّدَةِ بِلَا خِلَافٍ؛ إذ الْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ مَعَ الْإِطْلَاقِ.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَاسْتِحْقَاقُ الْمُرَتَّبِ فِي الشَّرْعِ وَالشَّرْطِ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْوَقْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: إنَّمَا يُشْتَرَطُ فِي انْتِقَالِهِ إلَى الثَّانِي عَدَمُ اسْتِحْقَاقِ الْأَوَّلِ، سَوَاءٌ كَانَ قَد وُجِدَ وَاسْتَحَقَّ، أَو وُجِدَ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ، أَو لَمْ يُوجَدْ بِحَال. [31/ 189 - 190]

* * *

(1)

وهذا الذي رجحه الشيخ حيث قال بعد ذلك: الْأَقْوَى تَرْتِيبُ الْأَفْرَادِ مُطْلَقًا؛ إذ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِن هَذ الْعِبَارَةِ. (31/ 192)

ص: 435

‌(هل يجوز قسمةُ الوَقْف إذا كان عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ

؟)

4132 -

مَا كَانَ وَقْفًا عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ: لَمْ يَجُزْ قِسْمَةُ عَيْنِهِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ قِسْمَةُ مَنَافِعِهِ بِالْمُهَايَأَةِ

(1)

.

وَإِذَا تَهَايَئُوا ثُمَّ أَرَادُوا نَقْضَهَا فَلَهُم ذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يَقَعْ مِن الْمُسْتَحِقِّ أَو وَكِيلِهِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ. [31/ 196]

4133 -

إذَا كَانَ الْوَقْفُ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ: فَإِنَّ عَيْنَهُ لَا تُقْسَمُ قِسْمَةً لَازِمَةً، لَا فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَلَا غَيْرِهِ.

وَصَرَّحَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّ الْوَقْفَ إنَّمَا يَجُوزُ قِسْمَتُهُ إذَا كَانَ عَلَى جِهَتَيْنِ، فَأَمَّا الْوَقْفُ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا تُقْسَمُ عَيْنُهُ اتِّفَاقًا، فَالتَّعْلِيقُ حَقُّ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ.

لَكِنْ تَجُوزُ الْمُهَايَأَةُ عَلَى مَنَافِعِهِ، والْمُهَايَأَةُ: قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ.

وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مُنَاقَلَةِ الْمَنَافِعِ وَبَيْنَ تَرْكِهَا عَلَى الْمُهَايَأَةِ بِلَا مُنَاقَلَةٍ، فَإِنْ تَرَاضَوْا بِذَلِكَ أعِيدَ الْمَكَانُ شَائِعًا كَمَا كَانَ فِي الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ. [31/ 196 - 197]

4134 -

وَسُئِلَ الشيخ: عَن وَقْف عَلَى رَجُلٍ، ثُمَّ عَلَى أوْلَادِهِ، فَاقْتَسَمَهُ الْفَلَّاحُونَ، ثمَّ تَنَاقَلَ بَعْضُهُم حِصَّتَهُ إلَى جَانِبِ حِصَّةِ شَرِيكِهِ، فَهَل تَنْفَسِخُ الْقِسْمَةُ وَالْمُنَاقَلَةُ؟

فَأَجَابَ: لَا تَصِحُّ قِسْمَةُ رَقَبَةِ الْوَقْفِ الْمَوْقُوفِ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، لَكِنْ تَصِحُّ قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ وَهِيَ الْمُهَايَأَةُ. [31/ 256]

وَإِذَا كَانَت مُطْلَقَةً لَمْ تَكُنْ لَازِمَةً، لَا سِيَّمَا إذَا تَغَيَّرَ الْمَوْقُوفُ فَتَجُوزُ بغَيْرِ هَذِهِ الْمُهَايَأَةِ.

* * *

(1)

الْمُهَايَأَة: هو الاتفاق بين اثنين في تناوب منفعة معينة، فيقال: هيَّأ فلان فلانًا في دار كذا بينهما؛ أي: أَنَّ كل واحد من الاثنين يسكن الدار حقبة معينة. يُنظر: تكملة المعاجم العربية، مادة:(هيأ).

ص: 436

(حكم الفائض في الوقف)

4135 -

وَسُئِلَ: عَن وَقْفٍ عَلَى تَكْفِينِ الْمَوْتَى يَفِيضُ رِيعُهُ كُلَّ سَنَةٍ عَلَى الشَّرْطِ: هَل يَتَصَدَّقُ بِهِ، وَهَل يُعْطِي مِنْهُ أَقَارِبَ الْوَاقِفِ الْفُقَرَاءَ؟

فَأَجَابَ: إذَا فَاضَ الْوَقْفُ عَن الأَكْفَانِ صَرَفَ الْفَاضِلَ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا كَانَ أَقَارِبُهُ مَحَاوِيجَ فَهُم أَحَقُّ مِن غَيْرِهِمْ. [31/ 203]

* * *

‌(حكم من مات وعليه دين، فَهَل يُبَاعُ الْوَقْفُ فِي دَيْنِهِ

؟)

4136 -

وَسُئِلَ: عَمَّن وَقَفَ وَقْفًا مُسْتَغَلًّا، ثُمَّ مَاتَ فَظَهَرَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَهَل يُبَاعُ الْوَقْفُ فِي دَيْنِهِ؟

فَأَجَابَ: إذَا أَمْكَنَ وَفَاءُ الدَّيْنِ مِن رَيعِ الْوَقْفِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ.

وَإِن لَمْ يُمْكِنْ وَفَاءُ الدَّيْنِ إلَّا بِبَيْعِ شَيْءٍ مِن الْوَقْفِ -وَهُوَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ- بِيعَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.

وَإِن كَانَ الْوَقْفُ فِي الصِّحَّةِ: فَهَل يُبَاعُ لِوَفَاءِ الدَّيْنِ؟ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ، وَمَنْعُهُ

(1)

قَوْلٌ قَوِيٌّ. [31/ 204]

* * *

(حكم من وصى بوقفٍ بعد موته وتراجع عن ذلك قبل وفاته)

4137 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلٍ قَالَ فِي مَرَضِهِ: إذَا مُتّ فَدَارِي وَقْفٌ عَلَى الْمَسْجِدِ الْفُلَانِيِّ، فَتَعَافَى ثُمَّ حَدَثَ عَلَيْهِ دُيُونٌ، فَهَل يَصِحُّ هَذَا الْوَقْفُ وَيَلْزَمُ؟

فَأَجَابَ: يَجُوز أَنْ يَبِيعَهَا فِي الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ وَإِن كَانَ التَّعْلِيقُ صَحِيحًا

(1)

لعله: (وبيعه)، ويُؤيّد ذلك الفتوى التي بعدها.

على أنّ كل النسخ باللفظ المثبت، وقد وجدت العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله في حاشية الاختيارات للبعلي (ص 258) استدرك على هذه اللفظة فقال: ولعله: وبيعه، كما في مجموع المنقور؛ لأنه هو الموافق للتعليل الذي ذكره. اهـ.

ص: 437

كَمَا هُوَ أحَدُ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ، وَلَيْسَ هَذَا بِابْلَغَ مِن التَّدْبِيرِ، وَقَد ثَبَتَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ بَاعَ الْمُدَبَّرَ فِي الدَّيْنِ

(1)

. [31/ 205]

4138 -

أَمَّا الْوَصِيَّةُ بمَا يَفْعَلُ بعد مَوْته: فَلَهُ أنْ يَرْجِعَ فِيهَا وَيُغَيِّرَهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَو كَانَ قَد أَشْهَدَ بِهَا وَأَثْبَتَهَا، سَوَاءٌ كَانَت وَصِيَّةٌ بِوَقْف أو عِتْقٍ أو غَيْرِ ذَلِكَ.

وَفِي الْوَقْفِ الْمُعَلَّقِ بِمَوْتِهِ وَالْعِتْقِ نِزَاعَانِ مَشْهُورَانِ. [31/ 206]

* * *

(إذَا فَضَلَ مِن رَيعِ الْوَقْفِ وَاسْتُغْنِيَ عَنْهُ: يُصْرَفُ فِي نَظِيرِ تِلْكَ الْجِهَةِ)

4139 -

وَسُئِلَ: عَن الْوَقْفِ إذَا فَضَلَ مِن رَيعِهِ

(2)

وَاسْتُغْنِيَ عَنْهُ؟

فَأَجَابَ: يُصْرَفُ فِي نَظِيرِ تِلْكَ الْجِهَةِ؛ كَالْمَسْجِدِ إذَا فَضَلَ عَن مَصَالِحِهِ صُرِفَ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ؛ لِأن الْوَاقِفَ غَرَضُهُ فِي الْجِنْسِ، وَالْجِنْسُ وَاحِدٌ، فَلَو قُدِّرَ أنَّ الْمَسْجِدَ الْأَوَّلَ خَرِبَ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ أَحَدٌ صُرِفَ رَيعُهُ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ، فَكَذَلِكَ إذَا فَضَلَ عَن مَصْلَحَتِهِ شَيْء. [31/ 206]

* * *

‌(حكم إبْدَالِ الْوَقْفِ

؟)

4140 -

فَصْلٌ: فِي إبْدَالِ الْوَقْفِ حَتَّى الْمَسَاجِدِ بِمِثْلِهَا أَو خَيْرٍ مِنْهَا لِلْحَاجَةِ أَو الْمَصْلَحَةِ، وَكَذَلِكَ إبْدَالُ الْهَدْيِ، وَالْأُضْحِيَّةِ، وَالْمَنْذُورِ، وَكَذَلِكَ إبْدَالُ الْمُسْتَحِقِّ بِنَظِيرِهِ إذَا تَعَذَّرَ صَرْفُة إلَى الْمُسْتَحَقِّ.

وَالْإِبْدَالُ يَكُونُ تَارَةً بِانْ يُعَوَّضَ فِيهَا بِالْبَدَلِ، وَتَارَةَ بأَنْ يُبَاعَ وَيُشْتَرَى بِثَمَنِهَا الْمُبْدَلِ.

(1)

رواه البخاري (2230).

(2)

الرَّيْعُ: هو الزيادةُ والنمَّاءُ عَلَى الْأَصْلِ.

ص: 438

فَمَذْهَبُ أَحْمَد فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ يَجُوزُ بَيْعُهُ لِلْحَاجَةِ.

وَاَّمَّا الْمَسْجِدُ: فَيَجُوزُ بَيْعُهُ أَيْضًا لِلْحَاجَةِ، فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.

وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه كَانَ يُقَسِّمُ كُسْوَةَ الْكَعْبَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَكَذَلِكَ كُسْوَةُ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ هُم الْمُسْتَحِقُّونَ لِمَنْفَعَةِ الْمَسَاجِدِ.

وَاحْتَجَّ عَلَى صَرْفِهَا فِي نَظِيرِ ذَلِكَ: بِأَنَّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه جَمَعَ مَالًا لِمُكَاتِب فَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ عَن قَدْرِ كِتَابَتِهِ فَصَرَفَهَا فِي مُكَاتِبٌ أُخَرَ؛ فَإِنَّ الْمُعْطِينَ أَعْطَوا الْمَالَ لِلْكِتَابَةِ، فَلَمَّا اسْتَغْنَى الْمُعَيَّنُ صَرَفَهَا فِي النَّظِيرِ.

‌فَصْلٌ

وَأَمَّا إبْدَالُ الْمَسْجِدِ بِغَيْرِهِ لِلْمَصْلَحَةِ مَعَ إمْكَانِ الِانْتِفَاعِ بِالْأَوَّلِ: فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي ذَلِكَ، لَكِنَّ الْجَوَازَ أَظْهَرُ فِي نُصُوصِهِ وَأَدِلَّتِهِ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَيْسَ عَنْهُ بِهِ نَصٌّ صَرِيحٌ.

أمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: لَا يَجُوزُ النَّقْلُ وَالْإِبْدَالُ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الِانْتِفَاعِ: فَمَمْنُوعٌ، وَلَمْ يَذْكُرُوا عَلَى ذَلِكَ حُجَّةَ لَا شَرْعِيَّةَ وَلَا مَذْهَبِيَّةً، فَلَيْسَ عَن الشَّارعِ وَلَا عَن صَاحِبِ الْمَذْهَبِ هَذَا النَّفْيُ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ.

بَل قَد دَلَّت الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَأَقْوَالُ صَاحِبِ الْمَذْهَب عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَقَد قَالَ أَحْمَدُ: إذَا كَانَ الْمَسْجِدُ يَضِيقُ بِأَهْلِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُحَوَّلَ إلَى مَوْضِعِ أَوْسَعَ مِنْهُ.

وَضِيقُهُ بِأَهْلِهِ لَمْ يُعَطِّلْ نَفْعَهُ؛ بَل نَفْعُهُ بَاقٍ كَمَا كَانَ، وَلَكِن النَّاسُ زَادُوا، وَقَد أَمْكَنَ أَنْ يُبْنَى لَهُم مَسْجِدٌ آخَرُ، وَلَيْسَ مِن شَرْطِ الْمَسْجِدِ أَنْ يَسَعَ جَمِيعَ النَّاسِ، وَمَعَ هَذَا جَوَّزَ تَحْوِيلَهُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ؛ لِأنَّ اجْتِمَاعَ النَّاسِ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ أَفْضَلُ مِن تَفْرِيقِهِمْ فِي مَسْجِدَيْنِ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ كُلَّمَا كَثُرَ كَانَ أَفْضَلَ.

ص: 439

وَأَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب بِنَقْلِ مَسْجِدِ الْكوفَةِ إلَى مَكَانٍ آخَرَ، وَصَارَ الْأَوَّلُ سُوقَ التَّمَارِينِ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، لَا لِأَجْلِ تَعَطُّلِ مَنْفَعَةِ تِلْكَ الْمَسَاجِدِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَعَطَّلْ نَفْعُهَا بَل مَا زَالَ بَاقِيًا.

‌فَصْلٌ

وَإِذَا كَانَ يَجُوزُ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ فِي الْمَسْجِدِ الْمَوْقُوفِ الَّذِي يُوقَفُ لِلِانْتِفَاعِ بِعَيْنِهِ وَعَيْنُهُ مُحْتَرَمَةٌ شَرْعًا: يَجُوز أَنْ يُبْدلَ بِهِ غَيْرة لِلْمَصْلَحَةِ -لِكَوْنِ الْبَدَلِ أَنْفَع وَأصْلَحَ وَإِن لَمْ تَتَعَطَّلْ مَنْفَعَتُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَيَعُودُ الْأَوَّلُ طِلْقًا، مَعَ أَنَّهُ مَعَ تَعَطُّلِ نَفْعِهِ بِالْكُلِّيَّةِ: هَل يَجُوزُ بَيْعُهُ؟ عَنْهُ فِيهِ رِوَايَتَانِ- فَلَأَنْ يَجُوزُ الْإِبْدَالُ بِالْأَصْلَحِ وَالْأَنْفَعِ فِيمَا يُوقَفُ لِلِاسْتِغْلَالِ أَوْلَى وَأَحْرَى؛ فَإِنَّهُ عِنْدَهُ يَجُوزُ بَيْعُ مَا يُوقَفُ لِلِاسْتِغْلَالِ لِلْحَاجَةِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَفِي بَيْعِ الْمَسْجِدِ لِلْحَاجَةِ رِوَايَتَانِ.

فَإِذَا جُوِّزَ عَلَى ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ أَنْ يُجْعَلَ الْمَسْجِدُ الْأَوَّلُ طِلْقًا وَيُوقَفُ مَسْجِدٌ بَدَلَهُ لِلْمَصْلَحَةِ وَإِن لَمْ تَتَعَطَّلْ مَنْفَعَة الْأَوَّلِ: فَلَأَنْ يَجُوزَ أَنْ يَجْعَلَ الْمَوْقُوفُ لِلِاسْتِغْلَالِ طِلْقًا وَيُوقِفَ بَدَلَهُ أَصْلَحُ مِنْهُ وَإِن لَمْ تتعَطَّلْ مَنْفَعَةُ الْأَوَّلِ أَحْرَى.

‌فَصْلٌ

قَد نَصَّ أَحْمَد عَلَى أَبْلَغَ مِن ذَلِكَ -وَهُوَ وَقْفُ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا مَعَ إبْدَالِ عَيْنِهِ

(1)

- فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي "الشَّافِي": نَقَلَ الميموني عَن أَحْمَد: أَنَّ الدَّرَاهِمَ إذَا كَانَت مَوْقُوفَةً عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ فَفِيهَا الصَّدَقَةُ، وَإِذَا كَانَت عَلَى الْمَسَاكِينِ فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ.

(1)

جاء في الاختيارات (ص 247): ولو قال الإنسان: تصدقت بهذا الدهن على هذا المسجد ليُوقد فيه جاز، وهو من باب الوقف، وتسميته وقفًا بمعنى أنه وقف على تلك الجهة لا ينتفع به في غيرها لا تأباه اللغة، وهو جائز في الشرع. اهـ.

قال العلَّامة ابن عثيمين في الحاشية: وكلام الشبخ في هذا صريح في جواز وقف ما لا يُنتفع به إلا مع ذهاب عينِه، والمذهب عدم صحته إلا في الماء، لكن ما ذهب إليه الشيخ أظهر، ولا فرق بين الماء وغيرِه. اهـ.

ص: 440

قُلْت: رَجُلٌ وَقَفَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِي السَّبِيلِ؟

قَالَ: إنْ كَانَت لِلْمَسَاكِينِ فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ.

قُلْت: فَإِنْ وَقَفَهَا فِي الْكُرَاعِ

(1)

وَالسِّلَاحِ؟

قَالَ: هَذِهِ مَسْأَلَةُ لَبْسٍ وَاشْتِبَاهٍ.

قَالَ أبُو الْبَرَكَاتِ: وَظَاهِرُ هَذَا جَوَازُ وَقْفِ الْأَثْمَانِ لِغَرَضِ الْقَرْضِ أَو التَّنْمِيَةِ وَالتَّصَدُّقِ بِالرِّبْحِ.

قَالَ: وَمَذْهَبُ مَالِكٍ صِحَّةُ وَقْفِ الْأَثْمَانِ لِلْقَرْضِ.

وَأحْمَد تَوَقَّفَ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ لَا فِي وَقْفِهَا؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا سُئِلَ عَن ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ الْوَقْفَ إذَا كَانَ عَلَى جِهَةِ خَاصَّةٍ؛ كَبَنِي فُلَانٍ: وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ عِنْدَهُ فِي عَيْنِهِ.

فَلَو وَقَفَ أرْبَعِينَ شَاةً عَلَى بَنِي فُلَانٍ وَجَبَت الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهَا فِي الْمَنْصُوصِ عَنْهُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ.

وَأَمَّا مَا وَقَفَهُ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ؛ كَالْجِهَادِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ: فَلَا زَكَاةَ فِيهِ فِي مَذْهَبِهِ وَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.

وَأمَّا مَالِك فَيُوجِبُ فِيهِ الزَّكَاةَ.

فَتَوَقُّفُ أحْمَد فِيمَا وُقِف فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ؛ لِأَنَّ فِيهَا اشْتِبَاهًا؛ لِأَنَّ الْكُرَاعَ وَالسِّلَاحَ تَد يُعَيِّنُهُ لِقَوْم بِعَيْنِهِمْ: إمَّا لِأَوْلَادِهِ أَو غَيْرِهِمْ، بِخِلَافِ مَا هُوَ عَامٌ لَا يَعْتَقِبُهُ التَّخْصِيصُ.

‌فَصْلُ

وَنصُوصُ أَحْمَد فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَاخْتِيَارُ جُمْهُورِ أصْحَابِهِ جَوَازُ إبْدَالِ الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ بِخَيْرٍ مِنْهَا.

(1)

الكراع: اسم لجميع الخيل.

ص: 441

قَالَ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ أبِي طَالِبِ فِي الرَّجُلِ يَشْتَرِي الْأُضْحِيَّةَ يُسَمِّنُهَا لِلْأَضْحَى: يُبَدِّلُهَا بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا، لَا يُبَدِّلُهَا بِمَا هُوَ دُونَهَا.

فَقِيلَ لَهُ: فَإِنْ أبْدَلَهَا بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا يَبِيعُهَا؟

قَالَ: نَعَمْ.

‌فَصْلٌ

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ

(1)

وُجُوهٌ:

أَحَدُهَا: مَا ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ"

(2)

عَن عَائِشَةَ رضي الله عنها عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنهُ قَالَ: "لَوْلَا أَنَّ قَوْمَك حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لَنَقَضْت الْكَعْبَةَ وَلَأَلْصَقْتهَا بِالْأَرْضِ وَلَجَعَلْت لَهَا بَابَيْنِ: بَابًا يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْهُ وَبَابًا يَخْرُجُونَ مِنْهُ".

وَمَعْلُومٌ أنَّ الْكَعْبَةَ أَفْضَلُ وَقْفٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَلَو كَانَ تَغْييرُهَا وَإِبْدَالُهَا بِمَا وَصَفَهُ صلى الله عليه وسلم وَاجِبَا لَمْ يَتْرُكْهُ، فَعُلِمَ أَنَّهُ كَانَ جَائِزًا، وَأَنَّهُ كَانَ أَصْلَحَ لَوْلَا مَا ذَكَرَهُ مِن حَدَثَانِ عَهْدِ قُرَيْشٍ بِالْإِسْلَامِ.

وَهَذَا فِيهِ تَبْدِيلُ بِنَائِهَا بِبِنَاءٍ آخَرَ.

فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَتَبْدِيلُ التَّأْليفِ بِتَأْلِيف آخَرَ هُوَ أَحَدُ أَنْوَاعِ الْإِبْدَالِ.

وَأَيْضًا: فَقَد ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ غَيَّرَا بِنَاءَ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَمَّا عُمَر فَبَنَاهُ بِنَظِيرِ بِنَائِهِ الْأوَّلِ بِاللَّبَنِ وَالْجُذُوعِ، وَأمَّا عُثْمَان فَبَنَاة بِمَادَّةِ أَعْلَى مِن تِلْكَ كَالسَّاجِ

(3)

.

وَبِكُلِّ حَالٍ فَاللَّبِن وَالْجُذُوعُ الَّتِي كَانَت وَقْفًا أَبْدَلَهَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بِغَيْرِهَا.

وَهَذَا مِن أَعْظَمِ مَا يَشْتَهِرُ مِن الْقَضَايَا وَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ.

(1)

أي: على إبْدَالِ الْوَقْفِ وتغييرِه بما هو أصلح منه.

(2)

البخاري (126)، ومسلم (1333).

(3)

الساج: هو نوع من الخشب يؤتى به من الهند.

ص: 442

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ إبْدَالِ الْبِنَاءِ بِبِنَاء، وَإِبْدَالِ الْعَرْصَةِ بِعَرْصَة

(1)

: إذَا اقْتَضَت الْمَصْلَحَةُ ذَلِكَ؛ وَلهَذَا أَبْدَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَسْجِدَ الْكُوفَةِ بِمَسْجِدٍ آخَرَ، أَبْدَلَ نَفْسَ الْعَرْصَةِ وَصَارَت الْعَرْصَةُ الْأُولَى سُوقًا لِلتَّمَارِينِ.

فَصَارَت الْعَرْصَةُ سُوقًا بَعْدَ أَنْ كَانَت مَسْجِدًا.

وَهَذَا أَبْلَغُ مَا يَكُونُ فِي إبْدَالِ الْوَقْفِ لِلْمَصْلَحَةِ.

وَأَيْضًا: فَقَد ثَبَتَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ جَؤزَ إبْدَالَ الْمَنْذُورِ بِخَيْرٍ مِنْهُ، فَفِي الْمُسْنَدِ:"مُسْنَدِ أَحْمَد"

(2)

، وَ "سُنَنِ أَبِي دَاوُد"

(3)

. عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ أَنَّ رَجُلٌ قَامَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ: إنِّي نَذَرْت إنْ فَتَحَ اللهُ عز وجل عَلَيْك مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِس، قَالَ:"صَلِّ هَاهُنَا"، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ: صَلِّ هَاهُنَا، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ قَالَ:"فَشَأْنُك إذًا"

(4)

.

وَهَذَا مَذْهَبُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.

ثُمَّ إنَّ الشَّارِعَ بَيَّنَ أَن الْبَدَلَ الْأَفْضَلَ يَقُومُ مَقَامَ هَذَا، وَالْأُضْحِيَّةُ وَالْهَدْيُ الْمُعَيَّنُ وُجُوبُهُ مِن جِنْسِ وُجُوبِ النَّذْرِ الْمُعَيَّنِ.

فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَن إبْدَالَهُ بِخَيْر مِنْهُ أَفْضَلُ مِن ذَبْحِهِ بِعَيْنِهِ؛ كَالْوَاجِبِ بِالشَّرْعِ فِي الذِّمَّةِ؛ كَمَا لَو وَجَبَ عَلَيْهِ بِنْتُ مَخَاضٍ فَأَدَّى بِنْتَ لَبُونٍ، أَو وَجَبَ عَلَيْهِ بِنْتُ لَبُونٍ فَأَدَّى حِقَّةً.

وَعَلَى هَذَا: فَلَو نَذَرَ أَنْ يَقِفَ شَيْئًا فَوَقَفَ خَيْرًا مِنْهُ: كَانَ أَفْضَلَ.

فَلَو نَذَرَ أنْ يَبْنِيَ للهِ مَسْجِدًا وَصَفَهُ، أَو يَقِفَ وَقْفًا وَصَفَهُ، فَبَنَى مَسْجِدًا خَيْرًا مِنْهُ، وَوَقَفَ وَقْفَا خَيْرًا مِنْهُ: كَانَ أَفْضَلَ.

(1)

العَرْصَة: هِيَ كلُّ موضِعٍ وَاسِعٍ لَا بِناء فِيهِ. يُنظر: النهاية في غريب الحديث، مادة:(عَرَصَ).

(2)

(14919).

(3)

(3305).

(4)

صحَّحه الألباني في إرواء الغليل (2597).

ص: 443

وَلَو عَيَّنَهُ فَقَالَ: للهِ عَلَيَّ أَنْ أَبْنِيَ هَذِهِ الدَّارَ مَسْجِدًا، أَو وَقَفهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَبَنَى خَيْرًا مِنْهَا وَوَقَفَ خَيْرًا مِنْهَا: كَانَ أَفْضَلَ.

وَقَد تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَاجِبِ الْمُقَدَّرِ إذَا زَادَهُ؛ كَصَدَقَةِ الْفِطَرِ إذَا أَخْرَجَ أَكْثَرَ مِن صَاعٍ: فَجَوَّزَهُ أَكَثَرُهُمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ.

وَرُوِيَ عَن مَالِكٍ كَرَاهَةَ ذَلِكَ.

وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فِي الصِّفَةِ فَاتَّفَقُوا عَلَيْهَا.

وَالصَّحِيحُ: جَوَازُ الْأَمْرَيْنِ؛ لِقَوْلهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)} [البقرة: 184]. [31/ 212 - 250]

* * *

‌(هل الشَّهَادَةُ فِي الْوَقْفِ بِالِاسْتِحْقَاقِ مقبولة

؟)

4141 -

الشَّهَادَةُ فِي الْوَقْفِ بِالِاسْتِحْقَاقِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَكَذَلِكَ فِي الْإِرْثِ مِن الْأُمُورِ الِاجْتِهَادِيَّةِ كَطَهَارر الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ.

وَلَكِن الشَّاهِدُ يَشْهَدُ بِمَا يَعْلَمُهُ مِن الشُّرُوطِ، ثُمَّ الْحَاكِمُ يَحْكُمُ فِي الشَّرْطِ بِمُوجِبِ اجْتِهَادِهِ. [31/ 256]

* * *

(بَابُ الْهِبَةِ وَالْعَطِيَّةِ)

4142 -

إعطاء المرء المال ليُمدح به ويُثنَى عليه: مذموم، وإعطاؤه لكف الظلم والشر عنه ولئلا يُنسب إلى البخل: مشروع، بل هو محمود مع النية الصالحة.

والإخلاص في الصدقة: ألا يسأل عوضها دعاء من المعطي، ولا يرجو

ص: 444

بركته وخاطره، ولا غير ذلك من الأقوال، قال الله تعالى:{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)} [الإنسان: 9]. [المستدرك 4/ 108 - 109]

4143 -

مَن طَلَبَ مِن الْفُقَرَاءِ الدُّعَاءَ أَو الثَّنَاءَ خَرَجَ مِن هَذ الْآيَةِ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان: 8، 9]. [11/ 111]

4144 -

حكى أحمد في رواية مثنى عن وهب قال: ترك المكافأة من التطفيف، وقاله مقاتل، وكذا اختار شيخنا في ردِّه على الرافضي: أن مِن العدل الواجب مكافأةَ من له يدٌ أو نعمةٌ ليجزيه بها. [المستدرك 4/ 109]

4145 -

قَوْلُهُ: (وَهِيَ تَمْلِيكٌ في حَيَاتِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ) وَقِيلَ: الْهِبَةُ تَقْتَضِي عِوَضًا، وَقِيلَ: مع عُرْفٍ، فَلَو أَعْطَاهُ لِيُعَاوِضَهُ أو لِيَقْضِيَ له بِهِ حَاجَةً فلم يَفِ: فَكَالشَّرْطِ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رحمه الله

(1)

.

4146 -

لَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ من الدَّيْنِ قبل وُجُوبِهِ. وَجَزَمَ جَمَاعَةٌ بِأَنَّهُ

(2)

تَمْلِيكٌ.

وَمَنَعَ بَعْضُهُم أَنَّهُ إسْقَاطٌ، وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ بِلَفْظِ الْإِسْقَاطِ.

وَمَنَعَ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُعْتبَرُ قَبُولُهُ.

وقال: الْعَفْوُ عن دَمِ الْعَمْدِ تَمْلِيكٌ أَيْضًا.

[وفي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ"

(3)

أَنَّ أَبَا الْيَسْرِ الصَّحَابِيَّ رضي الله عنه قال لِغَرِيمِهِ]

(4)

: إذَا وَجَدْت قَضاءً فَاقْضِ وَإِلَّا فَأَنْتَ في حِلٍّ.

[وَأَعْلَمَ بِهِ الْوَلِيدَ بن عُبَادَةَ بن الصَّامِتِ رضي الله عنه وَابْنَهُ وَهُمَا تَابِعِيَّانِ فلم يُنْكِرَاهُ]

(5)

.

(1)

الإنصاف (7/ 116)، وهذه الفائدة ليست في المستدرك، وأضفتها لتمام الفائدة.

(2)

أي: الْإِبْرَاءُ.

(3)

(3006).

(4)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، ولا يتم المعنى إلا به.

(5)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل.

ص: 445

قال في "الْفُرُوعِ": وَهَذَا مُتَّجِهٌ، وَاخْتَارَهُ شَيْخُنَا

(1)

. [المستدرك 4/ 109 - 110]

4147 -

إن حملوا الجهاز مع البنت إلى بيتها على الوجه المعروف فهو تمليك لها، فلا تقبل دعوى أمها أن الجهاز ملكها، وليس للأم الرجوع به، ولا للأب أيضًا بعد أن تعلقت رغبة الزوج وزوجت على ذلك. [المستدرك 4/ 110]

4148 -

من اشترى عبدًا فوهبه شيئًا حتى أثرى، ثم ظهر أنه كان حرًّا: فله أن يأخذ منه ما وهبه لمَّا كان ظانًّا أنه عبده. [المستدرك 4/ 110]

* * *

‌(أَيُّهُمَا أَفْضَلُ: الصَّدَقَة أم الْهَدِيَّة

؟)

4149 -

الصَّدَقَةُ: مَا يُعْطَى لِوَجْهِ اللهِ، عِبَادَةً مَحْضَةً، مِن غَيْرِ قَصْدٍ فِي شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَلَا طَلَبِ غَرَضٍ مِن جِهَتِهِ، لَكِنْ يُوضَعُ فِي مَوَاضِعِ الصَّدَقَةِ كَأَهْلِ الْحَاجَاتِ.

وَأَمَّا الْهَدِيَّةُ: فَيَقْصِدُ بِهَا إكْرَامَ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ: إمَّا لِمَحَبَّة، وَإِمَّا لِصَدَاقَة،

وَإِمَّا لِطَلَبِ حَاجَةٍ؛ وَلهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا، فَلَا يَكُونُ لِأَحَد عَلَيْهِ مِنَّةٌ، وَلَا يَأْكُلُ أَوْسَاخَ النَّاسِ الَّتِي يَتَطَهَّرُونَ بِهَا مِن ذُنُوبِهِمْ، وَهِيَ الصَّدَقَاتُ، وَلَمْ يَكُن يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ لِذَلِكَ وَغَيْرِهِ.

وَإِذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ: فَالصَّدَقَةُ أَفْضَلُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْهَدِيَّةِ مَعْنًى تَكُونُ بِهِ أَفْضَلَ مِن الصَّدَقَةِ؛ مِثْل الْإِهْدَاءِ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَيَاتِهِ مَحَبَّةً لَهُ.

وَمِثْل الْإِهْدَاءِ لِقَرِيب يَصِلُ بِهِ رَحِمَهُ وَأَخ لَهُ فِي اللهِ: فَهَذَا قَد يَكُونُ أَفْضَلَ مِن الصَّدَقَةِ. [31/ 269]

* * *

(1)

الإنصاف (7/ 130).

ص: 446

‌(حكم هِبَةِ الْمَجْهُولِ؟ وهل العقودُ تَلْزَمُ قَبْلَ الْقَبْضِ

؟)

4150 -

[قال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رحمه الله: وَتَصِحُّ هِبَةُ الْمَجْهُولِ؛ كَقَوْلِهِ: ما أَخَذْت من مَالِي فَهُوَ لَك أو من وَجَدَ شيئًا من مَالِي فَهُوَ له.

قَوْلُهُ: (وَلَا ما لَا يَقْدِرُ على تَسْلِيمِهِ)؛ يَعْنِي: لَا تَصِحُّ هِبَتُهُ.

وَقِيلَ: تَصِحُّ هِبَتُهُ.

قُلْت: اخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: اكَلئهُ صِحَّةَ هِبَةِ الْمَعْدُومِ كَالثَّمَرِ وَاللَّبَنِ بِالسَّنَةِ.

قال: وَاشْتِرَاطُ الْقُدْرَةِ على التَّسْلِيمِ هُنَا فيه نَظَرٌ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ.

قَوْلُهُ: (وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهَا على شَرْطٍ) وَذَكَرَ الْحَارِثِيُّ جَوَازَ تَعْلِيقِهَا على شَرْطٍ.

قُلْت: وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رحمه الله.

قَوْلُهُ: (وَلَا شَرَطَ ما يُنَافِي مُقْتَضَاهَا نحو أَنْ لَا يَبِيعَهَا وَلَا يَهَبَهَا): هذا الشَّرْطُ بَاطِلٌ بِلَا نِزَاعٍ]

(1)

.

وجوَّز الحارثي تجويزها على شرط، واختاره الشيخ تقي الدين.

قَوْلُهُ: (وَلَا تَوْقِيتُهَا)؛ كَقَوْلِهِ: وَهَبْتُك هذا سَنَةً، وَذَكَرَ الْحَارِثيُّ الْجَوَازَ.

وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رحمه الله.

وإن

(2)

شرط رجوعها إلى الْمُعَمِّرِ بكسر الميم عند موته، أو قال: هي لآخرنا موتًا: صح الشرط، هذه إحدى الروايتين، اختاره الشيخ تقي الدين. [المستدرك 4/ 109]

(1)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، ولا يُفهم المعنى بدونه.

وأضفت: المثال على التوقيت؛ لزيادة التوضيح.

(2)

في الأصل: (وأن)، والتصويب من الإنصاف (7/ 134).

ص: 447

4151 -

تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي هِبَةِ الْمَجْهُولِ: فَجَوَّزَهُ مَالِك حَتَّى جَوَّزَ أَنْ يَهَبَ غَيْرَهُ مَا وَرِثَهُ مِن فُلَانٍ، وَإِن لَمْ يَعْلَمْ قَدْرَهُ، وَإِن لَمْ يَعْلَمْ أَثُلُثٌ هُوَ أَمْ رُبُعٌ.

وَلَمْ يُجَوِّزْ ذَلِكَ الشَّافِعِيّ.

وَكَذَلِكَ الْمَعْرُوفُ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأحْمَد الْمَنْعُ مِن ذَلِكَ، لَكِنَ أَحْمَد وَغَيْرَهُ يُجَوِّزُ فِي الصُّلْحِ عَلَى الْمَجْهُولِ وَالْإِبْرَاءِ مِنْهُ مَا لَا يُجَوِّزُهُ الشَّافِعِيِّ، وَكَذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ يُجَوِّزُ مِن ذَلِكَ مَا لَا يُجَوِّزُهُ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ الشَّافِعِيِّ يَشْتَرِطُ الْعِلْمَ بِمِقْدَارِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي عَامَّةِ الْعُقُودِ.

وَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي هَذَا أَرْجَحُ.

وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَصْل آخَرَ وَهُوَ: أنَّ عُقُودَ الْمُعَاوَضَةِ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ: تَلْزَمُ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَالْقَبْضُ مُوجَبُ الْعَقْدِ وَمُقْتَضَاهُ، لَيْسَ شَرْطًا فِي لُزُومِهِ.

وَالتَّبَرُّعَاتُ؛ كَالْهِبَةِ وَالْعَارِيةِ: فَمَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ أنَهَا لَا تَلْزَمُ إلَّا بِالْقَبْضِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ تَلْزَمُ بِالْعَقْدِ.

وَفِي مَذهَبِ أَحْمَد نِزَاعٌ؛ كَالنِّزَاعِ فِي الْمُعَيَّنِ: هَل يَلْزَمُ بِالْعَقْدِ أَمْ لَا بُدَّ مِن الْقَبْضِ؟ وَفِيهِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ.

وَكَذَلِكَ فِي بَعْضِ صُوَرِ الْعَارِيةِ.

وَمَا زَالَ السَّلَفُ يُعِيرُونَ الشَّجَرَةَ، وَيَمْنَحُونَ المنايح، وَكَذَلِكَ هِبَةُ الثَّمَرِ وَاللَّبَنِ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ، وَيَرَوْنَ ذَلِكَ لَازِمًا، وَلَكِنْ هَذَا يُشْبِهُ الْعَارَيةَ؛ لِأنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ يَحْدُثُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ كَالْمَنْفَعَةِ. [31/ 270 - 271]

* * *

ص: 448

‌(وجوب العدل بين الأبناء في العطية، وهل يُستثنى من ذلك شيء

؟)

4152 -

عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَ أَوْلَاد كَمَا أَمَرَ اللهُ وَرَسُولُهُ، فَقَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْن"

(1)

عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ لِبَشِيرِ بْن سَعْدٍ لَمَّا نَحَلَ ابْنَهُ النُّعْمَانَ نِحْلًا، وَأَتَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيُشْهِدَهُ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ:"اتَّقُوا اللهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ".

لَكِنْ إذَا خَصَّ أَحَدَهُمَا بِسَبَبِ شَرْعِيٍّ؛ مِثْل أَنْ يَكونَ مُحْتَاجًا مُطِيعًا للهِ، وَالْآخَرُ غَنِيٌّ عَاصٍ يَسْتَعِينُ بِالْمَالِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ.

فَإِذَا أَعْطَى مَن أَمَرَ الله بِإِعْطَائِهِ، وَمَنَعَ منْ أَمَرَ الله بِمَنْعِهِ: فَقَد أَحْسَنَ. [31/ 295]

4153 -

يجب التعديل في عطية أولاده على حسب ميراثهم، وهو مذهب أحمد، مسلمًا

(2)

كان الولد أو ذميًّا. [المستدرك 4/ 111]

4154 -

لا يجب على المسلم التسوية بين أولاده من أهل الذمة، ولا يجب التسوية بين سائر الأقارب الذين لا يرثون؛ كالأعمام، والإخوة مع وجود الأب.

ويتوجه في ولد البنين التسوية كآبائهم.

فإن فَضَّل -حيث منعناه-: فعليه التسوية أو الرد، وينبغي أن يكون على الفور.

وإذا سوَّى بين أولاده في العطاء: فليس له أن يرجع في عطية بعضهم.

والأحاديث والآثار تدل على وجوب التعديل بينهم في غير التمليك أيضًا، وهو في ماله ومنفعته التي ملَّكهم، والذي أباحهم كالمسكن والطعام.

(1)

البخاري (2587)، ومسلم (1623).

(2)

في المطبوع: مسلم، بالرفع.

ص: 449

ثم هنا نوعان:

أ- نوع يحتاجون إليه من النفقة في الصحة والمرض ونحو ذلك، فتعديله بينهم فيه أن يعطي كل واحد ما يحتاج إليه، ولا فرق بين محتاج قليل أو كثير.

ب- ونوع يشتركون في حاجتهم إليه مِن عطيةِ أو نفقةٍ أو تزويجٍ: فهذا لا ريب في تحريم التفاضل فيه.

ج- وينشأ بينهما نوع ثالث: وهو أن ينفرد أحدهم بحاجة غير معتادة؛ مثل أن يقضي عن أحدهم دينًا وجب عليه من أرش جناية، أو يعطي عنه المهر، أو يعطيه نفقة الزوجة، ونحو ذلك: ففي وجوب إعطاء الآخر مثل ذلك نظر.

وتجهيز البنات بالنُّحْل

(1)

أشبه، وقد يلحق بهذا.

والأشبه أن يقال في هذا: إنه

(2)

يكون بالمعروف، فإن زاد على المعروف فهو من باب النُّحْل.

ولو كان أحدهما محتاجًا دون الآخر: أنفق عليه قدر كفايته.

وأما الزيادة: فمن النُّحْل.

فلو كان أحد الأولاد فاسقًا، فقال والده: لا أعطيك نظير إخوتك حتى تتوب: فهذا حسن، يتعين استتابته.

وإذا امتنع من التوبة: فهو الظالم لنفسه، فإن تاب وجب عليه أن يعطيه.

وأما إن امتنع من زيادة الدِّين: لم يجز منعه.

فلو مات الوالد قبل التسوية الواجبة: فللباقين الرجوع، وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار ابن بطة وأبي حفص.

(1)

النُّحْلُ: بالضم، مصدر نَحَلَهُ يَنْحَله بالفتح، نُحْلًا؛ أي: أعطاه، والنُّحْلَى العَطِية، بوزن الحُبلى، ونَحَلَ المرأة مَهْرها، ينْحَلُها نِحْلَةً بالكسر أعطاها عن طيب نفس. الصحاح، مادة:(نحل).

(2)

في الأصل: (أنه)، والتصويب من الاختيارات (268).

ص: 450

وأما الولد المفضَّل: فينبغي له الرد بعد الموت قولًا واحدًا.

وهل يطيب له الإمساك؟ إذا قلنا: لا يُجبر على الرد فكلام أحمد يقتضي روايتين، فقال في رواية ابن الحكم: وإذا مات الذي فَضَّل لم أُطَيِّبه له، ولم أُجْبِرْه على رَدِّه.

وظاهره التحريم، ونُقل عنه أيضًا.

قلت: فترى على الذي فُضِّل أن يرده؟ قال: إن فعل فهو أجود، وإن لم يفعل ذلك لم أُجْبِرْه.

وظاهره الاستحباب.

وإذا قلنا بوده بعد الموت: فالوصي يفعل ذلك.

فلو مات الثاني قبل الرد والمال بحاله: ردَّ أيضًا.

لكن لو قسمت تركة الثاني قبل الرد، أو بيعت، أو وهبت: فههنا فيه نظر؛ لأنَّ القسمة والقبض تُقَرر العقود الجاهلية

(1)

، وهذا فيه تأويل.

وكذلك لو تصرف المفضَّل في حياة أبيه، ببيع أو هبة، واتصل بهما القبض: ففي الرد نظر، إلا أن هذا متصل بالقبض في العقود الفاسدة.

وللأب الرجوع فيما وهبه لولده ما لم يتعلق به حق أو رغبة، فلا يرجع بقدر الدين وقدر الرغبة، ويرجع فيما زاد. [المستدرك 4/ 111 - 113]

4155 -

يرجع الأب فيما أبرأ منه ابنه من الديون على قياس المذهب، كما للمرأة على إحدى الروايتين الرجوع على زوجها فيما أبرأته به من الصداق.

ويملك الأب إسقاط دين الابن عن نفسه. [المستدرك 4/ 113]

(1)

يعني: متى قُبضت وقُسمت: ثبتت العقود، ولو كانت بعقود الجاهليّة، فلا تُنقض بعد الإسلام. الشيخ محمد حامد الفقي، في حاشيته على الاختيارات (269).

ص: 451

4156 -

لو قتل ابنَه عمدًا: لزمته الدية في ماله

(1)

، نصَّ عليه الإمام أحمد، وكذا لو جنى على طرفه لزمته ديته. [المستدرك 4/ 113]

4157 -

إذا أخذ من مال ولده شيئًا ثم انفسخ سبب استحقاقه، بحيث وجَب ردُّه إلى الذي كان مالكه؛ مثل أن يأخذ صداقها فتطلق، أو يأخذ الثمن ثم ترد السلعة بعيب، أو يأخذ المبيع ثم يفلس الولد بالثمن، ونحو ذلك، فالأقوى في جميع الصور أَنَّ للمالك الأول الرجوع على الأب. [المستدرك 4/ 113]

4158 -

للأب أن يتملك من مال ولده ما شاء ما لم يتعلق به حق كالرهن والفَلَس.

وإن تعلق به رغبة

(2)

؛ كالمداينة والمناكحة، وقلنا يجوز الرجوع في الهبة: ففي التمليك

(3)

نظر. [المستدرك 4/ 113]

4159 -

ليس للأب الكافر تملك مال ولده المسلم، لا سيما إذا كان الولد كافرًا فأسلم، وليس له أنْ يرجع في عطيته إذا كان وهبه إياها في حال الكفر فأسلم الولد.

فأما إذا وهبه في حال إسلام الولد: ففيه نظر. [المستدرك 4/ 113 - 114]

4160 -

الأشبه في زكاة دين الابن على الأب أن يكون بمنزلة المال التاوي

(4)

كالضال فيخرج فيه ما خرج في ذلك. وهل يمنع دين الأب وجوب الزكاة والحج وصدقة الفطر والكفارة المالية وشراؤه العبد ليعتقه؟ يتوجه ألا يمنع ذلك لقدرته على إسقاطه. ويتوجه أن يمنع لأن وفاءه قد يكون خيرًا له ولولده. [المستدرك 4/ 114]

(1)

مال الأب.

(2)

أي: رغبة الابن فى ماله.

(3)

أي: تملك الأب لمال ابنه الذي تعلقت به رغبته.

(4)

المال التاوي: الهالك الذي لا أمل فيه. الشيخ محمد حامد الفقي، في حاشيته على الاختيارات (271).

ص: 452

4161 -

قوله عليه الصلاة والسلام: "أنت ومالك لأبيك"

(1)

يقتضي إباحة نفسه كإباحة ماله، وهو نظير قول موسى عليه السلام:{رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} [المائدة: 25] وهو يقتضي جواز استخدامه، وأنه يجب على الولد خدمة أبيه.

ويقويه: منعه من الجهاد والسفر ونحو ذلك فيما يفوت انتفاعه به، لكن هذا يشترك فيه الأبوان.

فيحتمل أن يقال: خصَّ الأب بالمال، وأما منفعة البدن فيشتركان فيها. [المستدرك 4/ 114 - 115]

4162 -

قياس المذهب جواز أن يؤجر ولده لنفسه مع فائدة فيشتركان فيها. [المستدرك 4/ 115]

4163 -

يقدح في أهليته لأجل الأذى

(2)

، سيَّما بالحبس. [المستدرك 4/ 115]

* * *

‌(ما الحكم فيمن خصّ أحد أبنائه بعطيةٍ

؟)

4164 -

وَسُئِلَ رحمه الله. عَن امْرَأَةٍ لَهَا أَوْلَادٌ غَيْرُ أَشِقَّاءَ، فَخَصَّصَتْ أَحَدَ الْأوْلَادِ وَتَصَدّقَتْ عَلَيْهِ بِحِصَّةٍ مِن مِلْكِهَا دُونَ بَقِيَّةِ إخْوَتِهِ، ثُمَّ تُوُفيَتْ الْمَذْكُورَةُ وَهِيَ مُقِيمَةٌ بِالْمَكَانِ الْمُتَصَدَّقِ بِهِ، فَهَل تَصِحُّ الصَّدَقَةُ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ: إذَا لَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى مَاتَتْ: بَطَلَت الْهِبَةُ فِي الْمَشْهُورِ مِن مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ.

وَإِن أَقَبَضَتْهُ إيَّاة: لَمْ يَجُزْ عَلَى الصَّحِيحِ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ الْمَوْهُوبُ لَهُ؛ بَل يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ إخْوَتِهِ. [31/ 272، 276 - 277]

* * *

(1)

رواه ابن ماجه (2291)، وأحمد (6902)، وصحَّحه الألباني في صحيح ابن ماجه.

(2)

فتُنزع الأهلية من الوالدين أو أحدهما إذا كان يُؤذي الابن ويتقصد ذلك.

ص: 453

‌(هل الهبة تنتقل للورثة

؟)

4165 -

وَسُئِلَ: عَن دَارٍ لِرَجُل، وَأَنَّهُ تَصَدَّقَ مِنْهَا بِالنِّصْفِ وَالرُّبُعِ عَلَى وَلَدِهِ لِصُلْبِهِ

(1)

، وَالْبَاقِي -وَهُوَ الرُّبُعُ- تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى أُخْتِهِ شَقِيقَتِهِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تُوُفيَ وَلَدُهُ الَّذِي كَانَ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِالنِّصْفِ وَالرُّبُعِ، ثُمَّ إنَّ المتَصَدِّقَ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ الدَّارِ عَلَى ابْنَتِهِ، فَهَل تَصِح الصَّدَقَةُ الْأَخِيرَةُ وَيَبْطُل مَا تَصَدَّقَ بِهِ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ: إذَا كَانَ قَد مَلَّكَ أُخْتَه الرُّبُعَ تَمْلِيكًا مَقْبُوضًا وَمَلَّكَ ابْنَهُ الثَّلَاثَةَ أَرْبَاعٍ: فَمِلْكُ الْأُخْتِ يَنْتَقِلُ إلَى وَرَثَتِهَا، لَا إلَى الْبِنْتِ، وَلَيْسَ لِلْمَالِكِ أَنْ يَنْقُلَهُ إلَى ابْنَتِهِ. [31/ 281]

4166 -

وَسُئِلَ: عَن رَجُلٍ مَلَّكَ بِنْتَه ملكًا ثُمَّ مَاتَتْ، وَخَلَّفَتْ وَالِدَهَا وَوَلَدَهَا، فَهَل يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا كَتَبَهُ لِبِنْتِهِ أمْ لَا؟

فَأَجَابَ: مَا مَلَكَتْهُ الْبِنْتُ ملكا تَامًّا مَقْبُوضًا وَمَاتَتْ: انْتَقَلَ إلَى وَرَثَتِهَا، فَلِأَبِيهَا السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِابْنِهَا إذَا لَمْ يَكُن لَهَا وَارِثٌ غَيْرُهُمَا.

وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بَعْدَ مَوْتِ الْبِنْتِ فِيمَا مَلَّكَهَا بِالِاتِّفَاقِ. [31/ 301]

* * *

‌(متى يجوز الرجوع في الهبة

؟)

4167 -

لَيْسَ لِوَاهِبٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ غَيْرَ الْوَالِدِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ الْهِبَةُ عَلَى جِهَةِ الْمُعَاوَضَةِ لَفْظًا أو عُرْفًا، فَإِذَا كَانَت لِأَجْلِ عِوَضٍ وَلَمْ يَحْصُلْ: فَلِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ فِيهَا. [31/ 284]

4168 -

وَسُئِلَ: عَن رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ وَسَأَلَهَا الصُّلْحَ فَصَالَحَهَا، وَكتَبَ لَهَا دِينَاريْنِ، فَقَالَ لَهَا: هَبِينِي الدِّينَارَ الْوَاحِدَ، فَوَهَبَتْهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَهَل لَهَا الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ وَالْحَالُ هَذِهِ؟

(1)

أي: تصدق بثلاثة أرباع الدار لولده.

ص: 454

فَأَجَابَ: نَعَمْ، لَهَا أَنْ تَرْجِعَ فِيمَا وَهَبَتْهُ وَالْحَالُ هَذِهِ؛ فَإِنَّهُ سَأَلَهَا الْهِبَةَ وَطَلَّقَهَا مَعَ ذَلِكَ، وَهِيَ لَمْ تَطْلُبْ

(1)

نَفْسهَا أَنْ يَأْخُذَ مَالَهَا بِسُؤَالِهَا وَيُطَلِّقَهَا. [31/ 290]

4169 -

إذَا كَانَت قَد قَالَتْ [أي: الواهبةُ لأُختها] عِنْدَ الْهِبَةِ: أَنَا أَهَبُ أُخْتِي لِتُعِينَنِي عَلَى أُمُورِي وَنتَعَاوَنُ أَنَا وَهِيَ فِي بِلَادِ الْغُرْبَةِ، أَو قَالَتْ لَهَا أُخْتُهَا: هَبِينِي هَذَا الْمِيرَاثَ، قَالَتْ: مَا أَوْهَبك إلَّا لِتَخْدِمِينِي فِي بِلَادِ الْغُرْبَةِ، ثُمَّ أَوْهَبَتْهَا، أَو جَرَى بَيْنَهُمَا مِن الِاتِّفَاقِ مَا يُشَبِّهُ ذَلِكَ، بِحَيْثُ وَهَبَتْهَا لِأَجْلِ مَنْفَعَةٍ تَحْصُلُ لَهَا مِنْهَا: فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهَا الْغَرَضُ فَلَهَا أَنْ تَفْسَخَ الْهِبَةَ وَتَرْجِعَ فِيهَا. [31/ 293]

4170 -

إذَا كَانَ [أي: الأب، قَد وَهَبَ لِوَلَدِهِ شَيْئًا وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ؛ مِثْل أَنْ يَكُونَ قَد صَارَتْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، أَو زَوَّجُوهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ: فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي ذَلِكَ. [31/ 302]

4171 -

من وَهَبَ لِابْنِهِ هِبَةً ثُمَّ تَصَرَّفَ فِيهَا، فادَّعَى أَنَّهَا

(2)

مِلْكُهُ: تَضَمَّن ذلك الرجوعَ؛ لأنه أقر إقرارًا لا يملك إنشاءه. [المستدرك 4/ 110]

* * *

‌(هَل لِمَن أُهْدِيَ كَلْبَ صَيْدٍ فَأَهْدَى لِلْمُهْدي عِوَضًا أن يأَكْل هَذِهِ الْهَدِيَّةَ

؟)

4172 -

وَسُئِلَ: هَل لِمَن أهْدِيَ كَلْبَ صَيْدٍ فَأَهْدَى لِلْمُهْدي عِوَضًا، هَل لَهُ أَكْلُ هَذِهِ الْهَدِيَّةَ؟

فَأَجَابَ: إذَا أَعْطَى الْكَلْبَ الْمُعَلَّمَ، وَلَمْ يَكُن مِن نِيَّتِهِ أَنْ يَأْخُذَ عِوَضًا، وَلَا قَصدَ بالْهَدِيَّةِ الثَّوَابَ؛ بَل إكْرَامًا لِلْمُهْدَى إلَيْهِ ثُمَّ إنَّ الْمُهْدَى إلَيْهِ أَعْطَاهُ شَيْئًا: فَلَا بَأْسَ. [31/ 283]

(1)

لعل الصواب: (تَطِبْ)؛ ليستقيم المعنى.

(2)

في الأصل: (أنه)، والتصويب من مجموع الفتاوى (31/ 284).

ص: 455

(حكم مَن أَهْدَى هَدِيَّةً لِوَلِيِّ أَمْرٍ لِيَفْعَلَ مَعَهُ مَا لَا يَجُوز، وحكم من أَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً لِيَخفَّ ظُلْمَهُ عَنْهُ، أَو لِيُعْطِيَهُ حَقَّهُ الْوَاجِبَ، وحكم الهدية في الشفاعة)

4173 -

قَالَ الْعُلَمَاءُ: إنَّ مَن أَهْدَى هَدِيَّةً لِوَلِيِّ أَمْرٍ لِيَفْعَلَ مَعَهُ مَا لَا يَجُوزُ كَانَ حَرَامًا عَلَى الْمُهْدِي وَالْمُهْدَى إلَيْهِ.

وَهَذِهِ مِن الرّشْوَةِ الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَعَنَ اللهُ الرَّاشِى وَالْمُرْتَشِي"

(1)

، وَالرِّشْوَةُ تُسَمَّى الْبِرْطِيلُ، وَالْبِرْطِيلُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الْحَجَرُ الْمُسْتَطِيلُ فَاهُ.

فَأَمَّا إذَا أَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً لِيَكُفَّ ظُلْمَهُ عَنْهُ، أَو لِيُعْطِيَهُ حَقَّهُ الْوَاجِبَ: كَانَت هَذِهِ الْهَدِيَّةُ حَرَامًا عَلَى الْآخِذِ، وَجَازَ لِلدَّافِعِ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"إنِّي لَأُعْطي أَحَدَهُم الْعَطِيَةَ فَيَخْرُجُ بِهَا يَتَأَبَّطُهَا نَارًا"، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ فَلِمَ تُعْطِيهِمْ؟ قَالَ: "يَأْبُوْنَ إلَّا أَنْ يَسْأَلُونِي وَيَأْبَى اللهُ لِي الْبُخْلَ"

(2)

.

وَأمَّا الْهَدِيَّةُ فِي الشَّفَاعَةِ: مِثْلُ أنْ يَشْفَعَ لِرَجُلٍ عِنْدَ وَليِّ أَمْرِ لِيَرْفَعَ عَنْهُ مَظْلمَةً، أَو يُوَصِّلَ إلَيْهِ حَقَّهُ، أَو يُوَلِّيَة وِلَايَةً يَسْتَحِقُّهَا، أو يَسْتَخْدِمُهُ فِي الْجُنْدِ الْمُقَاتِلَةِ -وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِذَلِكَ-. وَنَحْو هَذِهِ الشَّفَاعَةِ الَّتِي فِيهَا إعَانَةٌ عَلَى فِعْلٍ وَاجِبٍ، أَو تَرْك مُحَرَّمٍ: فَهَذِهِ أيْضًا لَا يَجُوزُ فِيهَا قَبُولُ الْهَدِيَّةِ، وَيَجُوزُ لِلْمُهْدِي أنْ يَبْذُلَ فِي ذَلِكَ مَا يَتَوَصَّلُ بهِ إلَى أخْذِ حَقِّهِ، أو دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْهُ، هَذَا هُوَ الْمَنْقُولُ عَن السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَكَابِرِ.

وَيُقَالُ لِهَذَا الشَّافِعِ الَّذِي لَهُ الْحَاجَةُ الَّتِي تُقْبَلُ بِهَا الشَّفَاعَةُ: يَجِبُ عَلَيْك أنْ تَكُونَ نَاصِحًا للهِ وَرَسُولِهِ وَلأئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ، وَلَو لَمْ يَكُن لَك هَذَا الْجَاهُ وَالْمَالُ، فَكَيْفَ إذَا كَانَ لَك هَذَا الْجَاهُ وَالْمَالُ؟

(1)

رواه أبو دواد (3580)، والترمذى (1336)، وابن ماجه (2313)، أحمد (9023). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

(2)

رواه أحمد (11123).

ص: 456

فَأَنْتَ عَلَيْك أنْ تَنْصَحَ الْمَشْفُوعَ إلَيْهِ، فَتُبَيِّنُ لَهُ مَن يَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ وَالِاسْتِخْدَامَ وَالْعَطَاءَ وَمَن لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ، وَتَنْصَحُ لِلْمُسْلِمِينَ بِفِعْلِ مِثْل ذَلِكَ، وَتَنْصَحُ للهِ وَلرَسُولِهِ بِطَاعَتِهِ؛ فَإِنَّ هَذَا مِن أَعْظَمِ طَاعَتِهِ، وَتَنْفَعُ هَذَا الْمُسْتَحِقَّ بِمُعَاوَنَتِهِ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا عَلَيْك أنْ تُصَلِّيَ وَتَصُومَ وَتُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ.

وَأَمَّا الرَّجُلُ الْمَسْمُوعُ الْكلَامِ: فَإِذَا أكَلَ قَدْرًا زَائِدًا عَن الضِّيَافَةِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَا بُدَّ لَهُ أنْ يُكَافِئَ الْمُطْعِمَ بِمِثْل ذَلِكَ، أَو لَا يَأْكُلُ الْقَدْرَ الزَّائِدَ، وَإِلَّا فَقَبُولُهُ الضِّيَافَةَ الزَّائِدَةَ مِثْل قَبُولِهِ لِلْهَدِيَّةِ، وَهُوَ مِن جِنْسِ الشَّاهِدِ وَالشَّافِعِ إذَا أَدَّى الشَّهَادَةَ وَقَامَ بِالشَّفَاعَةِ لِضِيَافَةٍ أَو جُعْلِ، فَإِنَّ هَذَا مِن أَسْبَابِ الْفَسَادِ. [31/ 286 - 288]

* * *

(حكم الهبة في مرض الموت)

4174 -

إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لِمَالِهِ: فَلَيْسَ لَهُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ أَنْ يَتَبَرَّعَ لِأَحَدٍ بِهِبَة، لَا مُحَابَاةً وَلَا إبْرَاءً مِن دَيْنٍ إلَّا بِإِجَازَةِ الْغُرَمَاءِ؛ بَل لَيْسَ لِلْوَرَثَةِ حَقٌّ إلَّا بَعْدَ وَفَاءِ الدَّيْنِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّة، وَالتَّبَرُّعُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ كَالْوَصِيَّةِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. [31/ 292]

4175 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلٍ خَلَّفَ شَيْئًا مِن الدُّنْيَا وَتَقَاسَمَهُ أَوْلَادُهُ، وَأَعْطَوْا أُمَّهُم كِتَابَهَا وَثَمَنَهَا، وَبَعْدَ قَلِيلٍ وَجَدَ الْأَوْلَادُ مَعَ أُمِّهِمْ شَيْئًا يَجِيءُ ثُلُثَ الْوِرَاثَةِ، فَقَالُوا: مِن أَيْنَ لَك هَذَا الْمَالُ؟ فَقَالَتْ: لَمَّا كَانَ أَبُوكُمْ مَرِيضًا طَلَبْتُ مِنْهُ شَيْئًا فَأَعْطَانِي ثُلُثَ مَالِهِ، فَأَخَذُوا الْمَالَ مِن أُمِّهِمْ وَقَالُوا: مَا أَعْطَاك أبُونَا شَيْئًا، فَهَل يَجِبُ رَدُّ الْمَالِ إلَيْهَا؟

فَأَجَابَ: مَا أَعْطَى الْمَرِيضُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ لِوُرَّاثِهِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفُذُ إلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَمَا أَعْطَاهُ الْمَرِيضُ لِامْرَأَتِهِ فَهُوَ كَسَائِرِ مَالِهِ، إلَّا أَنْ يُجِيزَ ذَلِكَ بَاقِي الْوَرَثَةِ.

ص: 457

وَيَنْبَغِي لِلْأَوْلَادِ أَنْ يُقِرُّوا أُمَّهُم وَيُجِيزُوا ذَلِكَ لَهَا

(1)

، لَكِنْ لَا يُجْبَرُونَ عَلَى ذَلِكَ؛ بَل تُقَسَّمُ جَمِيعُ التَّرِكَةِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"لَا وَصِيَّةَ لِوَارِث"

(2)

. [31/ 304]

4176 -

ليس معنى المرض المخوف الذي يغلب على القلب

(3)

الموت منه، أو يتساوى في الظن جانب البقاء والموت؛ لأن أصحابنا جعلوا ضرب المخاض من الأمراض المخوفة. وليس الهلاك فيه غالبًا ولا مساويًا للسلامة، وإنما الغرض أن يكون سببًا صالحًا للموت فيضاف إليه ويجوز حدوثه عنده.

وأقرب ما يقال: ما يكثر الموت منه، فلا عبرة بما يندر الموت منه.

ولا يجب أن يكون الموت منه أكثر من السلامة. [المستدرك 4/ 115 - 116]

4177 -

ذكر القاضي: أن الموهوب له يقبض

(4)

الهبة ويتصرف فيها مع كونها موقوفة على الإجازة. وهذا ضعيف.

والذي ينبغي: أنَّ تسليم الموهوب إلى الموهوب له: يذهب حيث شاء

(5)

. [المستدرك 4/ 116]

4178 -

يملك الورثة أن يحجروا على المريض إذا اتهموه بأنه تبرع بما زاد على الثلث؛ مثل أن يهب ويتصدق

(6)

ويحابي، ولا يحسب ذلك، أو يخافون أن يعطي بعض المال لإنسان تمتنع عطيته، ونحو ذلك.

كذلك لو كان المال بيد وكيل أو شريك أو مضارب، وأرادوا الاحتياط على ما بيده، بأن يجعلوا معه يدًا أخرى لهم: فالأظهر أنهم يملكون ذلك أيضًا.

(1)

برًّا بها، وإحسانًا إليها، وهذا اللائق بالأبناء البررة الصالحين.

(2)

رواه أبو داود (2870)، والترمذي (2120)، والنسائي (3641)، وابن ماجه (2713)، وأحمد (17663). قال الترمذي: هو حديث حسن.

(3)

هكذا في جميع المصادر، ولعل صواب العبارة: الظن؛ لأنه هو المعتاد في الاستخدام، ولقوله بعدها: أو يتساوى في الظن .. فالعبرة بالظن لا بالقلب.

(4)

في الأصل: (لا يقبض) بالنفي، والتصوب من الاختيارات (276).

(5)

في الأصل: (لم يذهب لعلة حيث شاء)، والتصويب من الاختيارات (277).

(6)

في الأصل بعد قوله: ويتصدق: (ويهب)، وهي تكرار، وليست موجودة في الاختيارات (277).

ص: 458

وهكذا يقال في كل عين تعلق بها حق الغير كالعبد الجاني والتركة. [المستدرك 4/ 116]

4179 -

لو أوصى لوارث أو لأجنبي بزائد على الثلث فأجاز الورثة الوصية بعد موت الموصي: صحت الإجازة بلا نزاع.

وكذلك قبله في مرض الموت. [المستدرك 4/ 117]

4180 -

إن أجاز الوارث الوصية وقال: ظننت قيمته ألفًا، فبانت أكثر: قُبِل، وكذا لو أجاز، وقال: أردت أصل الوصية. [المستدرك 4/ 117]

4181 -

لا تصح إجازتهم ولا ردهم إلا بعد موت الموصي.

وعنه: تصح إجازتهم قبل الموت في مرضه.

قال في القاعدة الرابعة: الإمام أحمد شبَّهه بالعفو عن الشفعة، فخرجه المجد في شرحه عفى روايتين، واختارها صاحب "الرعاية" والشيخ تقي الدين. [المستدرك 4/ 117]

4182 -

قِيَاسُ الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ ليس لِلْأَبِ [أَنْ]

(1)

يَتَمَلَّكَ من مَالِ ابْنِهِ في مَرَضِ مَوْتِ الْأبِ ما يَخْلُفُ تَرِكَةً؛ لِأَنَّهُ بِمَوَضِهِ قد انْعَقَدَ السَّبَبُ الْقَاطِعُ لِتَمَلُّكِهِ، فَهُوَ كما لو تَمَلَّكَ في مَرَضِ مَوْتِ الِابْنِ. [المستدرك 4/ 117 - 118]

* * *

(صِلَةُ ذِي الرَّحِمِ الْمُحْتَاجِ أَفْضَل مِن الْعِتْقِ)

4183 -

صِلَةُ ذِي الرَّحِمِ الْمُحْتَاجِ أَفْضَلُ مِن الْعِتْقِ؛ كَمَا ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ"

(2)

أَنَّ مَيْمُونَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَعْتَقَتْ جَارِيَةً لَهَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"لَو أَعْطَيْتهَا أَخْوَالَك كانَ خَيْرًّا لَك".

فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَد فَضَّلَ إعْطَاءَ الْخَالِ عَلَى الْعِتْقِ، فَكَيْفَ الْأَوْلَادُ الْمُحْتَاجُونَ؟ (31/ 298)

(1)

ليست في الأصل، والتصويب من الإنصاف (7/ 156).

(2)

البخاري (2592)، ومسلم (999).

ص: 459

‌كتاب الوصايا

4184 -

سُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَمَّن قَالَ: يُدْفَعُ هَذَا الْمَالُ إلَى يَتَامَى فُلَانٍ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، وَلَمْ يُعْرَفْ أهَذَا إقْرَارٌ أَو وَصِيَّةٌ؟

فَأَجَابَ: إنْ كَانَ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تُبَيِّنُ مُرَادَهُ: هَل هُوَ إقْرَارٌ أَو وَصِيَّة: عُمِلَ بِهَا.

وَإِن لَمْ يُعْرَفْ: فَمَا كَانَ مَحْكُومًا لَهُ بِهِ: لَمْ يُزَلْ عَن مِلْكِهِ بِلَفْظِ مُجْمَلٍ؛ بَل يُجْعَلُ وَصِيَّةً. [31/ 305]

4185 -

تَنْعَقِدُ الْوَصِيَّةُ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا إذَا فُهِمَت الْمُخَاطَبَةُ مِن الْمُوصِي، وَيَبْقَى قَبُولُ [حُكْمِ]

(1)

الْوَصِيَّةِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهَا مَوْقُوفًا عَلَى قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ لَفْظًا أَو عُرْفًا، وَعَلَى إذْنِهِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهَا أَو إذْنِ الشَّارعِ، وَيَجُوزُ صَرْفُ مَالِ الْأَسِيرِ فِي فِكَاكِهِ بِلَا إذْنِهِ. [31/ 306]

4186 -

مُجَرَّدُ التَّمْلِيكِ بِدُونِ الْقَبْضِ الشَّرْعِيِّ: لَا يَلْزَمُ بِهِ عَقْدُ الْهِبَةِ.

وَكَذَلِكَ إنْ كَانَت هِبَةَ تَلْجِئَةٍ؛ بِحَيْثُ تُوهَبُ فِي الظَّاهِرِ وَتُقْبَضُ، مَعَ اتِّفَاقِ الْوَاهِبِ وَالْمَوْهُوبِ لَهُ عَلَى أَنَّهُ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُ إذَا شاءَ، وَنَحْو ذَلِكَ مِن الْحِيَلِ الَّتِي تُجْعَلُ طَرِيقًا إلَى مَنْعِ الْوَارِثِ أو الْغَرِيمِ حُقُوقَهُمْ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ: كَانَت أَيْضًا هِبَةً بَاطِلَةً. [31/ 307]

4187 -

لَا يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ تَخْصِيصُ بَعْضِ أَوْلَادِهِ بِعَطِيَّة مُنَجَّزَةٍ، وَلَا وَصِيَّةٍ

(1)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، والمعنى لا يستقيم إلا به، وقد نبّه عليه: منسق الكتاب للموسوعة الشاملة أسامة بن الزهراء.

ص: 460

بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَا أَنْ يُقِرَّ لَهُ بِشَيءٍ فِي ذِمَّتِهِ، وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ تَنْفِيذُهُ بِدُونِ إجَازَةِ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. [31/ 308 - 309]

4188 -

إِنَّ الْوَصِيَّةَ لِوَلَدِ الْوَلَدِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ جَائِزَةً، كمَا وَصَّى الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ لِوَلَدِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزبَيْرِ.

وَالْوَصِيةُ تَصِحُّ لِلْمَعْدُومِ بِالْمَعْدُومِ

(1)

. [31/ 309]

4189 -

لَا يَجُوزُ أَنْ يَخُصَّ بَعْضَ أَوْلَادِهِ دونَ بَعْضٍ فِي وَصِيَّتِهِ وَلَا مَرَضِ مَوْتِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ أَنْ يَخُصَّ بَعْضَهُم بِالْعَطِيَّةِ فِي صِحَّتِهِ أَيْضًا؛ بَل عَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهُمْ، وَيَرُدَّ الْفَضْلَ، كَمَا أمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَشِيرَ بْنَ سَعِيدٍ حَيْثُ قَالَ لَهُ:"اُرْدُدْهُ"، فَرَدَّة، وَقَالَ:"إنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ"، وَقَالَ لَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ:"أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي"

(2)

.

وَلَا يَجُوزُ لِلْوَلَدِ الَّذِي فُضِّلَ أَنْ يَأخُذَ الْفَضْلَ؛ بَل عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ ذَلِكَ فِي حَيَاةِ الظَّالِمِ الْجَائِرِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ، فِي أَصَحِّ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ. [31/ 309 - 310]

4190 -

لَو ادَّعَى مُدَّعٍ عَلَى صَبِيٍّ أَو مَجْنُونٍ جِنَايَةً أَو حَقًّا: لَمْ يُحْكَمْ لَهُ، وَلَا يَحْلِف الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ، وإن كَانَ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ لَا يَقُولُ إلَّا بِيَمِينٍ، وَلَهَا نَظَائِرُ، هَذَا فِيمَا يُشْرَعُ فِيهِ الْيَمِينُ بِالِاتِّفَاقِ أَو عَلَى أَحَدِ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ، فَكَيْفَ بِالْوَصِيَّةِ الَّتِي لَمْ يَذْكُر الْعُلَمَاءُ تَحْلِيفَ الْمُوصَى لَهُ فِيهَا؟

وَالْوَصِيَّةُ تَكُونُ لِلْحَمْلِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَيَسْتَحِقُّهَا إذَا وُلدَ حَيًّا، وَلَمْ يَقُلْ مُسْلِم: إنَّهَا تُؤَخَّرُ إلَى حِينِ بُلُوغِهِ وَلَا يَحْلِفُ. [31/ 311]

4191 -

مَا زَادَ عَلَى ثُلُثِ التَّرِكَةِ فَهُوَ لِلْوَارِثِ. [31/ 311]

(1)

مثاله: لو أوصى لمن تحمل هذه المرأة من إحدى زوجاته بمعدوم؛ أي: أوصى لها بما يخرج من هذه الأرض.

(2)

رواه مسلم (1623).

ص: 461

4192 -

الْوَلَدُ الْيَتِيمُ لَا يُتبَرَّعُ بِشَيءٍ مِن مَالِهِ. [31/ 311]

4193 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَن رَجُلٍ تُوُفِّيَ، وَأَوْصَى فِي حَالِ مَرَضِهِ أَنْ يُبَاعَ فَرَسُهُ الْفُلَانِي وَيُعْطَى ثَمَنُهُ كلهُ لِمَن يَحُجُّ عَنْهُ حُجَّةَ الْإِسْلَامِ، وَبِيعَتْ بِتِسْعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَأرَادَ الْحَاكِمُ أنْ يَسْتَأجِرَ إنْسَانًا أَجْنَبِيًّا لِيَحجَّ بِهَذَا الْمِقْدَارِ، فَجَاءَ رَجُل غَيْرُة فَقَالَ: أَنَا أَحُجُّ بِأرْبَعِمِائَة، فَهَل يَجُوزُ ذَلِكَ؟

فَأجَابَ: بَل يَجِبُ إخْرَاجُ جَمِيعِ مَا أَوْصَى بِهِ إنْ كَانَ يُخْرَجُ مِن ثُلُثِهِ، وَإِن كَانَ لَا يُخْرَجُ مِن ثُلُثِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْوَرَثَةِ إخْرَاجُ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، بِحَيْثُ لَا يَحْصُلُ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ [إلَّا بِهِ]

(1)

. [31/ 313]

4194 -

إذا أوصى أن يُحج عنه بألف، فقال رجل: أنا أحج بأربعمائة: وجب إخراج جميع ما أوصى به إن خرج من ثلثه.

وإن لم يخرج: لم يجب على الورثة إخراج الزائد على الثلث، إلا أن يكون واجبًا بحيث لا يحصل حجة الإسلام إلا به. [المستدرك 4/ 120]

4195 -

وَسُئِلَ: عَن رَجُلٍ أَوْصَى زَوْجَتَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ أَنَّهَا لَا تُوهِبُ شَيْئًا مِن مَتَاعِ الدُّنْيَا لِمَن يَقْرأ الْقُرْآنَ وَيُهْدِي لَهُ. فَهَل أَصَابَ فِيمَا أَوْصَى؟

فَأجَابَ: تُنَفَّذ وَصِيَّتُهُ؛ فَإنَّ إعْطَاءَ أُجْرَةٍ لِمَن يَقْرَأُ الْقُرْآنَ ويُهْدِيه لِلْمَيِّتِ بِدْعَةٌ لَمْ يُنْقَلْ عَن أَحَدٍ مِن السَّلَفِ، وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِيمَن يَقْرَأُ للهِ وَيُهْدِي لِلْمَيِّتِ، وَفِيمَن يُعْطِي أُجْرَة عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وُجُوهٌ.

فَأمَّا الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَإِهْدَائِهَا: فَهَذَا لَمْ يُنْقَلْ عَن أحَدٍ مِن الْأَئِمَّةِ وَلَا أَذِنَ فِي ذَلِكَ؛ فَإنَّ الْقِرَاءَةَ إذَا كَانَت بأُجْرَة: كَانَت مُعَاوَضَةً، فَلَا يَكُونُ فِيهَا أَجْرٌ، وَلَا يَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ شَيءٌ، وَإِنَّمَا يَصِلُ إلَيْهِ الْعَمَلُ الصَّالِحُ.

(1)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، ولا يتم الكلام إلا به، ثم رأيته كذلك في المستدرك كما في الفقرة التالية.

ص: 462

وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى مُجَرَّدِ التِّلَاوَةِ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَد مِن الْأئِمَّةِ، وَإِنَّمَا تَكَلَّمُوا فِي الِاسْتِئْجَارِ عَلَى التَّعْلِيمِ، لَكِنْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ إذَا أَرَادَتْ نَفْعَ زَوْجِهَا فَلْتَتَصَدَّقْ عَنْهُ بِمَا تُرِيدُ الِاستِئْجَارَ بِهِ، فَإِنَّ الصَّدَقَةَ تَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَينْفَعُهُ اللهُ بِهَا، وإِن تَصَدَّقَتْ بِذَلِكَ عَلَى قَوْمٍ مِن قُرَّاءِ الْقُرْآنِ الْفُقَرَاءِ لِيَسْتَغْنُوا بِذَلِكَ عَن قِرَاءَتِهِمْ حَصَلَ مِن الْأَجْرِ بِقَدْرِ مَا أُعِينُوا عَلَى الْقِرَاءَةِ وَينْفَعُ اللهُ الْمَيّتَ بِذَلِكَ. [31/ 315 - 316]

4196 -

وَسُئِلَ: عَن مَسْجِدٍ لِرَجُل، وَعَلَيْهِ وَقْفٌ، وَالْوَقْفُ عَلَيْهِ حِكْرٌ

(1)

، وَأَوْصَى قَبْلَ وَفَاتِهِ أَنْ يُخْرَجَ مِن الثُّلثِ ويُشْتَرَى الْحِكْرُ الَّذِي لِلْوَقْفِ فَتَعَذَّرَ مُشْتَرَاهُ؟

فَأجَابَ: بَل عَلَى الْوَصِيِّ أَنْ يُخْرِجَ جَمِيعَ الثُّلُثِ كَمَا أَوْصَاهُ الْمَيِّتُ، وَلَا يَدَعُ لِلْوَرَثَةِ شَيْئًا، ثُمَّ إنْ أَمْكَنَ شِرَاءُ الْأَرْضِ الَّتِي عَيَّنَهَا الْمُوصِي اشْتَرَاهَا وَوَقَفَهَا، وَإِلَّا اشْتَرَى مَكانًا آخَرَ وَوَقَفَ عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي وَصَّى بِهَا الْمُوصِي، كَمَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا قَالَ: بِيعُوا غُلَامِي مِن زيدٍ وَتَصَدَّقُوا بِثَمَنِهِ، فَامْتَنَعَ فُلَانٌ مِن شِرَائِهِ: فَإِنَّهُ يُبَاعُ مِن غَيْرِهِ ويُتَصَدَّقُ بِثَمَنِهِ.

فَالْوَصِيَّةُ بِشِرَاءِ مُعَيَّنٍ وَالتَّصَدّقِ بِهِ لِوَقْفٍ: كَالْوَصِيَّةِ بِبَيْعِ مُعَيَّنٍ وَالتَّصَدُّقِ بِثَمَنِهِ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ هُنَا: جِهَةُ الصَّدَقَةِ وَالْوَقْفِ وَهِيَ بَاقِيَةٌ، وَالتَّعْيِينُ إذَا فَاتَ قَامَ بَدَلُهُ مَقَامَهُ، كَمَا لَو أَتْلَفَ الْوَقْفَ مُتْلِفٌ، أَو أَتْلَفَ الْمُوصَى بِهِ مُتْلِفٌ: فَإنَّ بَدَلَهُمَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا فِي ذَلِكَ.

فَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْمُوصَى بِهِ وَالْمَوْقُوفِ؛ وَبَيْنَ بَدَلِ الْفوصَى لَهُ وَالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، فَإِنَهُ لَو وَصَّى لِزَيْدٍ لَمْ يَكُن لِغَيْرِهِ، وَلَو وَصَّى أَنْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ الْمُعَيَّنَ، أَو نَذَرَ عِتْقَ عَبْدٍ مُعَيَّنٍ فَمَاتَ الْمُعَيَّنُ لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ مَقَامَهُ. [31/ 316 - 317]

4197 -

إذَا أَوْصَى أَنْ يُبَاعَ شَيءٌ مُعَيَّن مِن مَالِهِ مِن عَقَارٍ أَو مَنْقُولٍ يُضَمُّ

(1)

معنى حِكْر؛ أي: عَقارٌ مَحْبوس لجهةٍ معيَّنةٍ تستفيد منه، ولا يُباع ولا يُشترى.

يُقال: أوصى فلانٌ أن تكون عقاراته حِكْرًا بعد وفاته للجمعيّات الخيريّة. يُنظر: معجم اللغة العربية المعاصرة، مادة:(حكر).

ص: 463

إلَى ثَمَنِهِ شَيءٌ آخَرُ قَدَّرَهُ مِن مَالِهِ، وَيُصْرَفُ ذَلِكَ فِي وَقْفٍ شَرْعِيٍّ: جَازَ.

وَإِذَا كانَ ذَلِكَ يُخْرَجُ مِن الثلُثِ أُخْرِجَ، فإن لَمْ تَرْضَ الْوَرَثَةُ، وَمَا أَعْطَاهُ لِلْوَرَثَةِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ إنْ أَعْطَى أَحَدًا مِنْهُم زِيادَةً عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِ لَمْ يَجُزْ إلَّا بِإجَازَةِ الْوَرَثَةِ.

وَإن أَعْطَى كُلَّ إنْسَانٍ شَيْئًا مُعَينًا بِقَدْرِ حَقِّهِ أَو بَعْضِ حَقِّهِ: فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ:

أَحَدُهُمَا: لَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.

وَالثَّانِي: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ.

وإذَا قِيلَ: إنَّ لَهُ ذَلِكَ بِحَسَبِ مِيرَاثِ أَحَدِهِمْ؛ فَإنَّ عَطِيَّةَ الْمَرِيضِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ الْمَخُوفِ بِمَنْزِلَةِ وَصِيَّتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي مِثْل ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. [31/ 318]

4198 -

لو جُرِحَ جُرْحًا مُوحِيًا

(1)

: صحت توبته، والمراد مع ثبات عقله لصحة وصية عمر وعلي. وذكر الشيخ وغيره: أن حكم من ذبح أو أبينت حشوته وهي أمعاؤه لا خرقها وقطعها فقط: فهو كميت. [المستدرك 4/ 119]

4199 -

نقل حرب فيمن وصى لأجنبي وله قرابة: لا يرثه محتاج، يرد إلى قرابته.

وذكر شيخنا رواية: له ثلثاها وللموصى له ثلثها. [المستدرك 4/ 119]

* * *

(بَاب الْمُوصَى إلَيْهِ)

4200 -

تصح الوصية للحمل.

(1)

في الأصل: (موصيًا)، والتصويب من الآداب الشرعية (7/ 170).

والجرح الموحي: هو الذي لا تبقى معه الحياة غالبًا.

ص: 464

وقياس المنصوص في الطلاق: أنها إذا وضعته لتسعة

(1)

أشهر: استحق الوصية إذا كانت ذات زوج أو سيد يطأ، ولأكثر من أربع سنين إن اعتزلها، وهو الصواب. [المستدرك 4/ 120]

4201 -

إن وصف

(2)

الموصى له أو الموقوف عليه بخلاف صفته؛ مثل أن يقول: على أولادي السود وهم بيض، أو العشرة وهم اثنا

(3)

عشر: فههنا: الأوجه إذا عُلم ذلك أنْ يعتبر الموصوف دون الصفة.

والذي يقتضيه المذهب: أن الغلط في الصفة لا يمنع الورثة صحة العقد. [المستدرك 4/ 120]

4202 -

[حُكْمُ ما]

(4)

إذَا أَوْصَى لِوَلَدِهِ في دُخُولِ وَلَدِ بَنِيهِ: حُكْمُ الْوَقْفِ، قَالَهُ في "الْفُرُوعِ" وَغَيْرِهِ.

وَأَشَارَ الشَّيْخُ تَقِي الدِّينِ رحمه الله إلَى دُخُولِهِمْ في الْوَقْفِ دُونَ الْوَصِيَّةِ؛ لِأنَّ الْوَقْفَ يتأبد، وَالْوَصِيَّةُ تَمْلِيكٌ لِلْمَوْجُودِينَ، فَيَخْتَصُّ بِالطَّبَقَةِ الْعُلْيَا الْمَوْجُودَةِ. [المستدرك 4/ 120]

4203 -

سُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَن وَصِيٍّ عَلَى أَيْتَامٍ بِوِكَالَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَللْأَيْتَامِ دَارٌ، فَبَاعَهَا وَكِيلُ الْوَصِيِّ مِن قَبْلِ أَنْ يَنْظُرَهَا، وَقَبَضَ الثَّمَنَ ثُمَّ زِيدَ فِيهَا، فَهَل لَهُ أَنْ يَقْبَلَ الزِّيَادَةَ أَمْ لَا؟

فَأجَابَ: إنْ كَانَ الْوَكِيلُ بَاعَهَا بِثَمَنِ الْمِثْل وَقَد رُئيَتْ لَهُ: صَحَّ الْبَيْعُ.

وإِن لَمْ تُرَ لَهُ: فِيهِ نِزَاعٌ.

وَإِن بَاعَهَا بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ: فَقَد فَرَّطَ فِي الْوَصِيَّةِ، ويَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا فَرَّطَ فِيهِ، أَو يَفْسَخُ الْبَيْعَ إذَا لَمْ يَبْذُلْ لَهُ تَمَامَ الْمِثْلِ. [31/ 319]

(1)

قال العلَّامة ابن عثيمين: لعله لستة. حاشية الاختيارات (278).

(2)

المُوصي أو المُوقِف.

(3)

في المطبوع: (اثني)، والصواب المثبت.

(4)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، ولا يستقيم الكلام بدونه، والمثبت من الإنصاف (7/ 76).

ص: 465

4204 -

وَسُئِلَ: عَن رَجُلٍ جَلِيلِ الْقَدْرِ، وَأَوْصَى بِأُمُور، فَجَاءَ رَجُلٌ إلَى وَصِيِّهِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، وَقَالَ: يَا فُلَانُ: جِئْتُك فِي حَيَاةِ فُلَانٍ الْمُوصِي بِمَال، فَلِي عِنْدَهُ كَذَا وَكَذَا، فَذَكَرَ الْوَصِيُّ ذَلِكَ لِلْمُوصِي، فَقَالَ الْمُوصي: مَن ادَّعَى بَعْدَ مَوْتِي عَلَيَّ شَيْئًا فَحَلِّفْهُ وَأَعْطِه بِلَا بَيِّنَةٍ، فَهَل يَجُوزُ أَو يَجِبُ عَلَى الْوَصِيِّ فِعْلُ ذَلِكَ مَعَ يَمِينِ الْمُدَّعِي؟

فَأجَابَ: نَعَمْ، يَجِبُ عَلَى الْوَصِيِّ تَسْلِيمُ مَا ادَّعَاهُ هَذَا الْمُدَّعِي إذَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ يُخْرَجُ مِن الثلثِ أَو لَا.

أَمَّا إذَا كَانَ يُخْرَجُ مِن الثُّلُثِ كَانَ أَسْوَأَ الْأَحْوَالِ، كَمَا يَكُونُ هَذَا الْمُوصِي مُتبرِّعًا بِهَذَا الْإعْطَاءِ.

وَلَو وَصَّى لِمُعَيَّن إذَا فَعَلَ فِعْلًا، أَو وَصَّى لِمُطْلَقِ مَوْصُوفٍ: فَكُل مِن الْوَصِيَّتَيْنِ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْأئِمَّةِ؛ فَإنَّهُم لَا يُنَازِعُونَ فِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَجْهُولِ، وَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي جَوَازِ الْإِقْرَارِ بِالْمَجْهُولِ؛ وَلهَذَا لَا يَقَعُ شُبْهَةٌ لِأَحَدٍ فِي أَنَّهُ إذَا خَرَجَ مِن الثُّلُثِ وَجَبَ تَسْلِيمُهُ، وَإِنَّمَا قَد تَقَعُ الشُّبْهَةُ فِيمَا إذَا لَمْ يَخْرُجْ مِن الثُّلُثِ.

وَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ: أَنَّهُ يَجِبُ تَسْلِيمُ ذَلِكَ مِن رَأسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصَايَا، فَإنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَفْهُومُهُ رَدُّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْأَمْرُ بِتَسْلِيمِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ. [31/ 319 - 320]

4205 -

وَسئِلَ: عَن رَجُلٍ وَصِيٍّ عَلَى مَالِ يَتِيم، وَقَد قَارَضَ فِيهِ مُدَّةَ ثَلَاثِ سِنِينَ، وَقَد رَبِحَ فِيهِ فَائِدَة مِن وَجْهِ حلّ، فَهَل يَحِلّ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَأخُذَ مِن الْفَائِدَةِ شَيْئًا؟

فَأجَابَ: الرِّبْحُ كُلُّهُ لِلْيَتِيم، لَكِنْ إنْ كَانَ الْوَصِيُّ فَقِيرًا وَقَد عَمِلَ فِي الْمَالِ فَلَة أَنْ يَأخُذَ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِن أجْرَةِ مِثْلِهِ أَو كِفَايَتِهِ، فَلَا يَأخُذْ فَوْقَ أُجْرَةِ عَمَلِهِ، وَإِن كَانَت الْأُجْرَةُ أَكْثَرَ مِن كِفَايَتِهِ لَمْ يَأخُذْ أَكْثَرَ مِنْهَا. [31/ 322 - 323]

ص: 466

4206 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن وَصِيٍّ تَحْتَ يَدِهِ أيْتَامٌ أطْفَالٌ وَوَالِدَتُهُم حَامِلٌ، فَهَل يُعْطِي الْأَطْفَالَ نَفَقَةً وَاَلَّذِي يَخْدِمُ الْأطْفَالَ وَالْوَالِد إذَا أخَذَتْ صَدَاقَهَا؟ فَهَل يَجُوزُ أَنْ تَأكُلَ الْأَطْفَالُ وَوَالِدَتُهُم وَمَن يَخْدِمُهُم جَمِيعَ الْمَالِ؟

فَأجَابَ: أمَّا الزَّوْجَةُ: فَتُعْطَى قَبْلَ وَضْعِ الْحَمْلِ.

وَأَمَّا سَائِرُ الْوَرَثَةِ: فَإنْ أُخّرَتْ قِسْمَةُ التَّرِكَةِ إلَى حِينِ الْوَضْعِ فَيُنْفِقُ عَلَى الْيَتَامَى بِالْمَعْرُوفِ.

وَلَا بَأسَ أَنْ يَخْتَلِطَ مَالُهُم بِمَالِ الْأُمِّ، وَيَكُونُ خُبْزُهُم جَمِيعًا وَطَبْخُهُم جَمِيعًا إذَا كَانَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلْيَتَامَى؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ سَألُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَن ذَلِكَ فَأنْزَلَ اللهُ تَعَالَى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220].

وَأَمَّا الْحَمْلُ: فَإنْ أُخّرْت

(1)

فَلَا كَلَامَ، وإن عُجّلْت: أُخِّرَ لَهُ نَصِيبُ ذَكَرٍ احْتِيَاطًا. [31/ 323]

4207 -

إذَا آنَسَ الْوَصِيُّ مِنْهُم [أي: اليتامى] الرُّشْدَ: دَفعَ إلَيْهِم الْمَال، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى شُهُودٍ؛ بَل يُقِرُّ بِرُشْدِهِمْ، وَيُسَلِّمُ إلَيْهِم الْمَالَ، وَذَلِكَ جَائِزٌ بِغَيْرِ إذْنِ الْحَاكِمِ، لَكِنْ لَهُ إثْبَاتُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ. [31/ 325]

4208 -

لَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَقْضِيَ مَا يُدّعَى مِن الدَّيْنِ إلَّا بِمُسْتَنَد شَرْعِيٍّ؛ بَل وَلَا بِمُجَرَّدِ دَعْوَى مِن الْمُدَّعِي، فَإنَّهُ ضَامِنٌ لَهُ.

وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّعْوِيضُ إلَّا بِقِيمَةِ الْمِثْلِ، وَمَا عَوَّضَهُ بِدُونِ الْقِيمَةِ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهِ:

أ - فَإمَّا أَنْ يَضْمَنَ مَا نَقَصَ مِن حَقِّ الْوَرَثَةِ.

ب - وَإِمَّا أَنْ يَفْسَخَ التَّعْوِيضَ ويُوَفِّيَ الْغَرِيمَ حَقَّهُ.

(1)

أي: القسمة.

ص: 467

وَالْمُسْتَنَدُ الشَرْعِيُّ مُتَعَدِّدٌ؛ مِثْلُ:

أ - إقْرَارِ الْمَيِّتِ.

ب - أو إقْرَارِ مَن يُقْبَلُ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ؛ مِثْلُ وَكِيلِهِ إذَا أَقَرَّ بِمَا وَكَّلَهُ فِيهِ، وَيدْخُلُ فِي ذَلِكَ دِيوَانُ الْأمِيرِ وَأُسْتَاذُ دَارِهِ؛ مِثْل شَاهِدٍ يَحْلِفُ مَعَهُ الْمُدَّعِي، وَمِثْل خَظِّ الْمَيّتِ الَّذِي يُعْلَمُ أَنَّهُ خَطّهُ وَغَيْر ذَلِكَ. [31/ 325]

4209 -

إذَا كَانَ الْمَيّت مِمَن يَكْتُبُ مَا عَلَيْهِ لِلنَّاسِ

(1)

فِي دَفْتَرٍ وَنَحْوِهِ، وَلَهُ كَاتِبٌ يَكْتُبُ بِإذْنِهِ مَا عَلَيْهِ وَنَحْوه: فَإنَهُ يُرْجَعُ فِي ذَلِكَ

(2)

إلَى الْكِتَابِ الَّذِي بِخَطِّهِ أَو خَطِّ وَكِيلِهِ.

فَمَا كَانَ مَكْتُوبًا وَلَيْسَ عَلَيْهِ عَلَامَةُ الْوَفَاءِ: كَانَ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ الْمَيِّتِ بِهِ؛ فَالْخَطُّ فِي مِثْل ذَلِكَ كَاللَّفْظِ.

وَإِقْرَارُ الْوَكِيلِ فِيمَا وُكِّلَ فِيهِ بِلَفْظِهِ أَو خَطِّهِ الْمُعْتَبَرِ: مَقْبُولٌ.

وَلَكِنْ عَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ: الْيَمِينُ بِالِاسْتِحْقَاقِ أَو نَفِي الْبَرَاءَةِ، كَمَا لَو ثَبَتَ الدَّيْنُ بِإِقْرَارٍ لَفْظِيٍّ.

وَأَمَّا إعْطَاءُ الْمُدَّعِي مَا يَدَّعِيه بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ الذِي لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ دَعْوَاهُ وَدَعْوَى غَيْرِهِ: فَلَا يَجُوزُ. [31/ 326]

4210 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَن الْوَصِيِّ وَنَحْوِهِ إذَا كَانَ بَعْضُ مَالِ الْوَصِىِّ مُشْتَركًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَصِيٍّ عَلَيْهِ، وَللْمُوصى فِيهِ نَصِيبٌ، وَبَاعَ الشُّرَكَاءُ أَنْصبَاءَهُم أو اكْتَروهُ لِلْوَصِىِّ، وَاحتَاجَ الْوَلِيُّ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَ الْيَتِيمِ أَو يَكْرِيَهُ مَعَهُمْ، فَهَل يَجُوزُ لَهُ الشّرَاءُ؟

فَأجَابَ: يَجُوزُ لَهُ الشِّرَاءُ؛ لِأنَّ الشُّرَكَاءَ غَيْرُ مُتَّهَمِينَ فِي بَيْعِ نَصِيبِهِمْ. وَيشْهَدُ لَهُ الْمَعْنَى قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220]. [31/ 326]

(1)

من الديون.

(2)

أي: الديون.

ص: 468

4211 -

إذَا مَاتَ الْوَصِيُّ وَلَمْ يُعْرَفْ أَنَّ مَالَ الْيَتِيمِ قَد ذَهَبَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ: فَهُوَ بَاقٍ بِحُكْم يُوجِبُ إبْقَاءَهُ فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ.

لَكِنْ هَل يَكُونُ دينًا يُحَاصُّ

(1)

الْغُرَمَاءَ؟ أَو يَكُونُ أَمَانَةً يُؤخَذُ مِن أَصْلِ الْمَالِ؟ فِيهِ نِزَاعٌ.

وإذَا ادَّعَى الْوَارِثُ رَدَّهُ إلَيْهِ لَمْ يُقْبَل بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ.

وَأَمَّا إذَا كَانَ الْوَصِيُّ قَد أَقْبَضَهُ لِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ الْغَيْرُ أَقْبَضَهُ لِلْيَتِيمِ، فَإنْ ثَبَتَ ذَلِكَ وَكَانَ الْإِقْبَاضُ مِمَّا يسوغُ: فَقَد بَرِئَتْ ذِمَّةُ الْوَصِيِّ فِي ذَلِكَ؛ مِثْل أَنْ يَكُونَ الْيَتِيمُ قَد رَشَدَ، فَسَلَّمَ إلَيْهِ مَالَهُ بَعْدَ أَنْ آنَسَ الرُّشْدَ، وَإِن لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْحَجْرَ عَنْهُ لَا يحْتَاجُ إلَى ثُبُوتِ الْحَاكِمِ وَلَا حُكْمِهِ؛ بَل مَتَى آنَسَ الْوَصِيُّ مِنْهُ الرُّشدَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ مَالَهُ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6].

وَأَمَّا إنْ كَانَ الْوَصِيُّ قَد سَلَّمَ الْمَالَ مَن لَا يَجُوزُ تَسْلِيمُهُ إلَيْهِ: فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ.

ثُمَّ إنْ كَانَ الْمَالُ وَصَلَ إلَى الْيَتِيمِ الباين رُشْدُهُ: فَقَد بَرِئَتْ ذِمَّةُ الْوَصيِّ، كَمَا تَبْرَأُ ذِمَّةُ كُلِّ غَاصِبٍ يوصِلُ الْمَالَ إلَى مُسْتَحِقِّهِ.

وَلَو كَانَ بِغَيْرِ فِعْلِ الْغَاصِبِ وَلَا تَعَدٍّ مِثْل أَنْ يَأُخُذَهُ الْمَالِكُ قَهْرًا، أَو يُخَلِّصَهُ لَهُ بَعْضُ النَّاسِ، أَو تُطَيِّرَهُ إلَيْهِ الرِّيحُ.

فَإِنْ أَنْكَرَ الْيَتِيمُ بَعْدَ إينَاسِ الرُّشْدِ وُصُولَهُ إلَيْهِ مِن جِهَةِ ذَلِكَ الْقَابِضِ الَّذِي لَيْسَ بِوَكِيل لِلْوَصِيِّ: فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ.

وَأَمَّا إنْ أَنْكَرَ إقْبَاضَ الْوَصِيِّ أَو وَكِيلِهِ لِأحَد: فَهَل يُقْبَلُ قَوْلُهُ أَو قَوْلُ الْوَصِيِّ؟ فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. [31/ 329 - 330]

(1)

المحاصة: المقاسمة، وتحاص الغرماءُ؛ أي: تقاسموا بالحصص، والحصص جمع حصة وهي النصيب.

ص: 469

4212 -

بَيْعُ الْعَقَارِ لَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَفْعَلَهُ إلَّا لِحَاجَةٍ أو مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ بَيِّنةٍ. [31/ 331]

4213 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلٍ لَهُ جَارِيَةٌ، وَلَهُ مِنْهَا أَوْلَاد خَمْسَة، وَأَوْدَعَ عِنْدَ إنْسَانٍ دَرَاهِمَ وَقَالَ لَهُ: إنْ أَنَا مُتّ تُعْطِيهَا الدَّرَاهِمَ، ثُمَّ إنَّهُ مَاتَ، فَأخذَتْ مِن الْوَصيِّ بَعْض الدَّرَاهِمِ، ثُمَّ إنَ أوْلَادَهَا طَلَبُوهَا إلَى الْحَاكِمِ، وَطَلَبُوا مِنْهَا الدَّرَاهِمَ، فَأَعْطَتْهُم إيَّاهَا وَاعْتَرَفَتْ أَنَّهَا أَخَذَتْهَا مِن الْمُوصَى، ئُمَّ إنَّهُم طَلَبُوا الْوَصِيَّ بِجُمْلَةِ الْمَالِ، وَادَّعَوْا أَنَّ الَّذِي أقَرَّتْ بِهِ أَنهُ مِنْهَا لَمْ يَكُن مِنْهُ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ أَنَّهُ مِن الْمَبْلَغِ أَمْ لَا؟

فَأجَابَ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَوْدَعِ الْمُوصَى إلَيْهِ فِي قَدْرِ الْمَالِ مَعَ يَمِينِهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُة أنَّهُ دَفَعَ إلَى الْمَرْأَةِ مَا دَفَعَ إذَا صَدَّقَتْهُ عَلَى ذَلِكَ.

وَالْقَوْلُ قَوْلُ كُل مِنْهُمَا مَعَ يَمِينِهِ أنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ أَكْثَرُ مِن ذَلِكَ.

وَالْوَصِيَّةُ لِأُمِّ الْوَلَدِ وَصِيَّةٌ صَحِيحَةٌ إذَا كَانَت تَخْرُجُ مِن الثُّلُثِ، وَلهَذِهِ الْمَرْأةِ أَنْ تَأخُذَ مَا وُصِّيَ لَهَا بِهِ إذَا كَانَ دُونَ الثُّلُثِ، فَإنْ أَنْكَرَ الْوَارِثُ الْوَصِيَّةَ فَلَهَا عَلَيْهِ الْيَمِينُ، وَإِن شَهِدَ لَهَا شَاهِدٌ عَدْلٌ وَحَلَفَتْ مَعَ شَاهِدِهَا حُكِمَ لَهَا بِذَلِكَ.

وَإِذَا خَرَجَ الْمَالُ عَن يَدِ الْوَصِيِّ وَشَهِدَ لَهَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ لَهَا.

وَإِذَا كَانَت كَتَمَتْ أَوَّلًا مَا عِنْدَ الْوَصِيِّ لِتَأخُذَ مِنْهُ مَا وَصَّى لَهَا بِهِ: كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا لَهَا فِي الْبَاطِنِ، وَإِن لَمْ يَقُمْ لَهَا بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ؛ فَإن مَن عَلِمَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ مَالًا فِي بَاطِنِ ذَلِكَ وَأَخَذَهُ كَانَ مُتَأوِّلًا فِي ذَلِكَ. [31/ 332 - 333]

4214 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلٍ وَصَّى لِرَجُلَيْنِ عَلَى وَلَدِهِ، ثُمَّ إنَّهُمَا اجْتَهَدَا فِي ثُبُوتِ الْوَصِيَّةِ

(1)

، فَهَل لَهُم أَنْ يَأخُذُوا مِن مَالِ الْيَتِيمِ مَا غَرِمُوا عَلَى ثُبُوتِهَا؟

(1)

عن طريق توثيقها عند القاضي، وقد يتطلب ذلك السفر ونحوه من التكاليف.

ص: 470

فَأجَابَ: إذَا كَانَا مُتَبَرِّعَيْنِ بِالْوَصِيَّةِ فَمَا أَنْفَقَاهُ عَلَى إثْبَاتِهَا بِالْمَعْرُوفِ: فَهُوَ مِن مَالِ الْيَتِيمِ. [31/ 333]

4215 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَن رَجُلٍ تُوُفِّيَ صَاحِبٌ لَهُ فِي الْجِهَادِ، فَجَمَعَ تَرِكَتَهُ فِي مُدَّةِ ثَلَاثِ سِنِينَ بَعْدَ تَعَبٍ، فَهَل يَجِبُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ أُجْرَةٌ؟

فَأجَابَ: إنْ كَانَ وَصِيًّا فَلَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِن أجْرَةِ مِثْلِهِ أَو كِفَايَتِهِ.

وإن كَانَ مُكْرَهًا عَلَى هَذَا الْعَمَلِ فَلَهُ أُجْرَةُ مِثْله.

وإن عَمِلَ مُتَبَرِّعًا فَلَا شَئَ لَهُ مِن الْأجْرَةِ؛ بَل أَجْرُهُ عَلَى اللهِ.

وَإِن عَمِلَ مَا يَجِبُ غَيْرَ مُتَبَرِّعٍ: فَفِي وُجُوبِ أَجْرِهِ نزاع، وَالْأَظْهَرُ الْوُجُوبُ. [31/ 334]

* * *

(باب الموصى به)

4216 -

يظهر لي أنه لا تصح الوصية بالحمل

(1)

؛ نظرًا إلى علة التفريق؛ إذ ليس النهي عن التفريق يختص بالبيع؛ بل هو عام في كل تفريق، إلا العتق وافتداء الأسرى. [المستدرك 4/ 122]

4217 -

قال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رحمه الله فِيمَن أُوْصِي إلَيْهِ بِإخْرَاجِ حَجَّةِ: أَنَّ وِلَايَةَ

(2)

إخْرَاجِهَا وَالتَّعْيِينَ لِلنَّاظِرِ الْخَاصِّ إجْمَاعًا، وَإِنَّمَا

(3)

للوليّ الْعَامِّ الِاعْتِرَاضُ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ أو فِعْلِهِ مُحَرَّمًا. [المستدرك 4/ 123]

(1)

خلافًا لمذهب الحنابلة، جاء في المعني (6/ 506): أما الوصية بالحمل فتصح إذا كان مملوكًا، بأن يكون رقيقًا، أو حمل بهيمة مملوكة له؛ لأن الغرر والخطر لا يمنع صحة الوصية، فجرى مجرى إعتاق الحمل، فإن انفصل ميتا بطلت الوصية، وإن انفصل حيًّا وعلمنا وجوده حال الوصية، أو حكمنا بوجوده: صحت الوصية، وإن لم يكن كذلك لم تصح لجواز مع الغرر.

وأما الوصية للحمل فصحيحة أيضا لا نعلم فيه خلافًا.

(2)

في الأصل: (أو وِلَايَة)، وهو خطأ، والتصويب من الإنصاف (7/ 287).

(3)

في الأصل: (وأنّ)، وهو خطأ، والتصويب من الإنصاف (7/ 287).

ص: 471

4218 -

يجب على الوصي تقديم الواجب على المتبرع به، فلو وصى بتبرعات لمعين أو غير معين، فمنع الورثة [بعض التركة]

(1)

أو جحدوا الدَّيْن: قال أبو العباس: أفتيت بأن الوصي يخرج الدين مما قدر عليه مقدمًا على الوصية، وإن اعتقد الورثة أنه نصيب الوصية. وليس هذا مثل غصب المشاع.

وإذا قال: اصنع في مالي ما شئت، أو هو بحكمك افعل فيه ما شئت، ونحو ذلك من ألفاظ الإباحة لا الأمر: قال أبو العباس: له أن يخرج ثلثه، وله ألا يخرجه، فلا يكون الإخراج واجبًا ولا محرمًا، بل هو موقوف على اختيار الوصي. [المستدرك 4/ 123]

4219 -

لو قال: يدفع هذا إلى يتامى فلان: فإقرار بقرينة، وإلا فوصية. [المستدرك 4/ 123]

4220 -

يجوز للوصي صرف الوصية فيما هو أصلح من الجهة التي عيَّنها المُوصِي. [المستدرك 4/ 123]

* * *

(1)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (281).

ص: 472

‌كتَابُ الفَرَائِضِ

‌أركان الإرث، وأسبابه، وموانعه:

4221 -

ذكر الشيخ في فتاويه: إن خَرَجَتْ حَشْوَتُهُ ولم تَبْنِ، ثُمَّ مَاتَ وَلَدُهُ: وَرِثَهُ.

وإن أُبينَتْ: فَالظَّاهِرُ يَرِثُهُ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ زَهُوقُ النَّفْسِ وَخُرُوجُ الرُّوحِ، ولم يُوجَدْ، وَلأنَّ الطِّفْلَ يَرِثُ ويُوَرَّثُ بِمُجَرَّدِ استهلاله، وإن كان لَا يَدُلُّ على حَيَاةٍ أَثْبَتَ من حَيَاةِ هذا. [المستدرك 4/ 125]

4222 -

ذكر الشيخ في ميراث الحمل أن الحيوان يتحرك بعد ذبحه شديدًا وهو كميت. [المستدرك 4/ 125]

4223 -

أسباب التوارث: رحم، ونكاح، وولاءُ عتق إجماعًا.

وقد ذكر عند عدم ذلك كله

(1)

:

أ - موالاته، [وهي المؤاخاة].

ب - ومعاقدته، [وَهِيَ الْمُحَالَفَةُ].

ج - وإسلامه على يديه.

د - والتقاطه.

هـ - وكونهما من أهل الديوان

(2)

.

وهو رواية عن أحمد.

(1)

أي: عند عدم هذه الأسباب.

(2)

أي: مكتوبين في ديوان واحد.

ص: 473

[اخْتَارَهُ شَيْخُنَا]

(1)

.

وقيل: يرث عبدٌ سيده عند عدم الورثة، واختاره الشيخ تقي الدين. [المستدرك 4/ 125]

4224 -

قَوْلُهُ: (وَلِلْأُمِّ أَرْبَعَة أَحْوَالٍ: حَالٌ لها السُّدُسُ وهو مع وُجُودِ الْوَلَدِ أو وَلَدِ الِابْنِ أو اثْنَيْنِ من الْإخْوَةِ وَالْأخَوَاتِ.

تنبيه: ظَاهِرٌ قَوْلِهِ: (وَحَالٌ رَابعٌ: وَهِيَ إذَا لم يَكن لِوَلَدِهَا أَبٌ؛ لِكَوْنِهِ وَلَدَ زنى أو مَنْفِيًّا بِلِعَانٍ، فإنه مُنْقَطِعٌ تَعْصِيبُهُ من جِهَةِ مَن نَفَاهُ).

وَعَنْهُ: أنها هِيَ عَصَبَتُهُ

(2)

.

اخْتَارَهُ أبو بَكْرٍ وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَصَاحِبُ "الْفَائِقِ"

(3)

. [المستدرك 4/ 126]

4225 -

الآمر بقتل مورثه لا يرثه ولو انتفى عنه الضمان. [المستدرك 4/ 126، 4/ 132]

* * *

‌الجد والإخوة:

4226 -

الجد يُسقط الإخوة من الأم إجماعًا، وكذا من الأبوين أو الأب، وهي رواية عن الإمام أحمد، وهو مذهب الصديق وغيره من الصحابة رضي الله عنهم. [المستدرك 4/ 127]

4227 -

جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ مُوَافِقُونَ لَلصِّدِّيقِ فِي أَنَّ الْجَدَّ كَالْأَبِ يَحْجُبُ الإخْوَةَ، وَهُوَ مَرْوِي عَن بِضْعَةَ عَشَرَ مِن الصَّحَابَةِ.

(1)

ما بين المعقوفات من الفروع (5/ 3).

(2)

أي: أن الأم إذَا لم يَكُن لِوَلَدِهَا أَبٌ؛ لِكَونهِ وَلَدَ زنى أو مَنْفِيًّا بِلِعَانٍ: فهي عصبتُه.

(3)

العبارة في الأصل: وعنه: أنها عصبة ولد الزنى والمنفي بلعان: اختاره أبو بكر والشيخ تقي الدين وصاحب الفائق!!

وهذا كما ترى تصرف وحذف يُخل بالمعنى تمامًا.

ص: 474

وَالصَّوَابُ بِلَا رَيْبٍ: قَوْلُ الصِّدِّيقِ. [31/ 342 - 343]

* * *

‌أحوال الأم:

4228 -

الإخوة لا يحجبون الأم من الثلث إلى السدس، إلا إذا كانوا وارثين غير محجوبين بالأب؛ فللأم في مثل أبوين وأخوين الثلث. [المستدرك 4/ 127]

* * *

‌الجدات:

4229 -

لا يرث غير ثلاث جدات:

أ - أم الأم.

ب - وأم الأب.

ج - وأم أبي الأب.

وإن علون أمومة وأبوة. إلا المدلية بغير وارث كأم أبي الأم. [المستدرك 4/ 127]

* * *

‌التعصيب:

4230 -

يرث مولى من أسفل عند عدم الورثة. [المستدرك 4/ 127]

* * *

‌باب الرد

4231 -

لو خلفت المرأة زوجًا وبنتًا وأُمًّا. فهذه الفريضة تقسم على أحد عشر: للبنت ستة أسهم، وللزوج ثلاثة أسهم، وللأم سهمان. وهذا على قول من يقول بالرد كأبي حنيفة وأحمد

(1)

.

(1)

قال العلَّامة ابن عثيمين في حاشية الاختيارات (284): إن القائلين بالرد لا يقسمونها كما ذكر هنا؛ لأنهم لا يرون الرد على الزوجين، اللَّهُمَّ إلا أن يقصد بابتنائه على قولهم مجرد القول بالرد، بقطع النظر عن هذه الصورة. اهـ.

ص: 475

وعلى قول من لا يقول بالرد كمالك والشافعي فيقسم عندهم على اثني عشر سهمًا: للبنت ستة أسهم، وللزوج ثلاثة، وللأم سهمان والباقي لبيت المال

(1)

. [المستدرك 4/ 127 - 128]

* * *

‌ميراث ذوي الأرحام:

4232 -

يُورِّث ذوي الأرحام جمهورُ السلف وأحمد في المشهور عنه وأبو حنيفة وطوائف من أصحاب الشافعي، وقول مالك إذا فسد بيت المال.

والقول الثاني: يرث بيت المال، وهو قول الشافعي ومالك وأحمد في رواية. [المستدرك 4/ 128]

* * *

‌الغرقى ومن عمي موتهم:

4233 -

خرَّج أبو بكر

(2)

ومن بعده منع توارث بعضهم من بعض. وهذا التخريج من المصنف عن الإمام أحمد رحمه الله فيما إذا اختلف ورثة كل ميت في السابق منهما ولا بيِّنة، واختاره المصنف والمجد وحفيده الشيخ تقي الدين. [المستدرك 4/ 128]

* * *

(1)

قال البعلي في الاختيارات (284) تعقيبًا على كلام الشيخ: أبو حنيفة لا يقول بالرد على الزوجين، فللزوج عنده الربع والثلاثة الأرباع الباقية تقسم أرباعًا: ثلاثةُ أرباعها للبنت، وربعها للأم، فتصح هذه المسألة عنده من ستة عشر: للزوج أربعة، وللبنت تسعة، وللأم ثلاثة. اهـ.

قال العلَّامة ابن عثيمين: وكذلك الإمام أحمد لا يقول بالرد على الزوجين، وحكى بعض العلماء الإجماع عليه. اهـ.

(2)

من أصحاب الإمام أحمد.

ص: 476

‌ميراث أهل الملل:

4234 -

قال ابن القيم رحمه الله: وأما توريث المسلم من الكافر فاختلف فيه السلف، فذهب كثير منهم إلى أنه لا يرث، كما لا يرث الكافر المسلم، وهذا هو المعروف عن الأئمة الأربعة وأتباعهم.

وقالت طائفة منهم: بل يرث المسلم الكافر دون العكس، وهذا قول معاذ بن جبل، ومعاوية بن أبي سفيان، ومحمد ابن الحنفية، ومحمد بن علي بن الحسين، وسعيد بن المسيب، ومسروق بن الأجدع، وعبد الله بن مغفل، ويحيى بن يعمر، وإسحاق بن راهويه، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، قالوا: نرثهم ولا يرثوننا، كما ننكح نساءهم ولا ينكحون نساءَنا

(1)

.

قال شيخنا: وقد ثبت بالسُّنَّة المتواترة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُجري الزنادقة المنافقين في الأحكام الظاهرة مجرى المسلمين فيرثون ويورَثون.

وأما أهل الذمة فمن قال بقول معاذ ومعاوية ومن وافقهما يقول: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يرث المسلم الكافر"

(2)

المراد به: الحربي، لا المنافق ولا المرتد ولا الذمي، [ولا ريب أن حمل قوله:"لا يرث المسلم الكافر" على الحربي أولى، وأقرب محملًا، فإن في توريث المسلمين منهم ترغيبا في الإسلام لمن أراد الدخول فيه من أهل الذمة، فإن كثيرًا منهم يمنعهم من الدخول في الإسلام خوف أن يموت أقاربهم، ولهم أموال فلا يرثون منهم شيئًا.

وقد سمعنا ذلك منهم من غير واحد منهم شفاهًا، فإذا علم أن إسلامه لا يسقط ميراثه ضعف المانع من الإسلام وصارت رغبته فيه قوية، وهذا وحده كافٍ في التخصيص، وهم يخصون العموم بما هو دون ذلك بكثير، فإن هذه

(1)

في الأصل: (نسائنا)، والتصويب من أحكام أهل الذمة لابن القيم (2/ 853).

(2)

رواه البخاري (6764)، ومسلم (1614).

ص: 477

مصلحة ظاهرة يشهد لها الشرع بالاعتبار في كثير من تصرفاته، وقد تكون مصلحتها أعظم من مصلحة نكاح نسائهم، وليس في هذا ما يخالف الأصول، فإن أهل الذمة إنما ينصرهم، ويقاتل عنهم المسلمون، ويفتدون أَسْراهم، والميراث يستحق بالنصرة، فيرثهم المسلمون، وهم لا ينصرون المسلمين، فلا يرثونهم، فإن أصل الميراث ليس هو بموالاة القلوب، ولو كان هذا معتبرًا فيه كان المنافقون لا يرثون، ولا يورثون، وقد مضت السُّنَّة بأنهم يرثون ويورثون]

(1)

.

إلى أن قال: قال شيخنا: ومما يؤيد القول بأن المسلم يرث الذمي ولا يرثه الذمي: أن الاعتبار في الأرث بالمناصرة، والمانعُ هو المحاربة.

إلى أن قال: فلما دخل مكة في حجة الوداع قيل له: ألا تنزل في دارك؟

فقال: "وهل ترك عقيل لنا من دار"

(2)

.

قال الشيخ: وهذا الحديث قد استدل به طوائف على مسائل؛ فالشافعي احتج به على جواز بيع رباع مكة، وليس في الحديث أنه باعها.

إلى أن قال ابن القيم: وهذه المسائل الثلاث من محاسن الشريعة: وهي:

أ - توريث من أسلم على ميراث قبل قسمته.

ب - وتوريث المعتق عبدَه بالولاء.

ج - وتوريث المسلم قريبه الذمي.

وهي مسألة نزاع بين الصحابة والتابعين.

وأما المسألتان الأخيرتان: فلم يعلم عن الصحابة فيهما نزاع؛ بل المنقول عنهم التوريث.

(1)

ما بين المعقوفتين من أحكام أهل الذمة لزيادة الفائدة.

(2)

رواه البخارى (1588).

ص: 478

قال شيخنا: والتوريث في هذه المسائل على وفق أصول الشرع؛ فإن المسلمين لهم إنعام وحق على أهل الذمة: بحقن دمائهم، والقتال عنهم، وحفظ دمائهم، وأموالهم، وفداء أسراهم. [المستدرك 4/ 128 - 130]

4235 -

يرث المسلم من قريبه الكافر الذمي؛ لئلا يمتنع قريبه من الإسلام، ولوجوب نصرتهم ولا ينصروننا. [المستدرك 4/ 130]

4236 -

عند شيخنا يرث المنافق ويورث؛ لأنه عليه السلام لم يأخذ من تركة منافق شيئًا ولا جعله فيئًا، فعلم أن الميراث مداره على النُّصْرة

(1)

الظاهرة.

واسم الإسلام يجري عليهم في الظاهر. [المستدرك 4/ 130]

4237 -

عند شيخنا وغيره قد يسمَّى من فعل بعض المعاصي منافقًا. [المستدرك 4/ 130]

4238 -

المرتد إذا قتل في ردته أو مات عليها: فمالُه لوارثه المسلم، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو المعروف عن الصحابة، ولأن ردَّته كمرض موته.

والزنديق منافق يرث ويورث؛ لأنه عليه السلام لم يأخذ من تركة منافقٍ شيئًا. [المستدرك 4/ 130]

* * *

‌ميراث المطلقة:

4239 -

من طلَّق امرأته في مرض موته بقصد حرمانها من الميراث: ورثته إذا كان الطلاق رجعيًّا إجماعًا.

وكذا إن كان بائنًا عند جمهور أئمة الإسلام، وقضى به عمر رضي الله عنه ولم يعرف عن أحد من الصحابة في ذلك خلافًا، وإنما ظهر الخلاف في خلافة ابن الزبير.

(1)

في الأصل: (النظرة)، والتصويب من الفروع لابن مفلح (2/ 37).

ص: 479

وعلى قول الجمهور فهل تعتد عدة طلاق أو وفاة أو أطولهما؟ فيها أقوال: أظهرها الثالث.

وهل يكمل لها المهر؟ فيه قولان: أظهرهما أنه يكمل. [المستدرك 4/ 130 - 131]

4240 -

لو تزوج في مرض موته مُضَارَّةً لتنقيص إرث غيرها وَأَقَرَّتْ

(1)

به: ورثَتْه؛ لأن له أن يوصي بالثلث. [المستدرك 4/ 131]

4241 -

وَسُئِلَ الشَّيْخُ رحمه الله: عَن امْرأةٍ مُزَوَّجَةٍ وَلِزَوْجِهَا ثَلَاثُ شُهُورٍ وَهُوَ فِي مَرَضٍ مُزْمِنٍ، فَطَلَبَ مِنْهَا شَرَابًا فَأبْطَأتْ عَلَيْهِ فَنَفَرَ مِنْهَا وَقَالَ لَهَا: أَنْت طَالِق ثَلَاثَةً، وَبَعْدَ عِشْرِينَ يَوْمًا تُوُفِّيَ الزَّوْجُ: فَهَل يَقَعُ الطَّلَاقُ؟

فَأجَابَ: أَمَّا الطَّلَاقُ فَإِنَّهُ يَقَعُ إنْ كَانَ عَاقِلَا مُخْتَارَا، لَكِنْ تَرِثُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَوْلِ الْقَدِيمِ، كَمَا قَضَى بِهِ عُثْمَانُ بْنُ عفان فِي امْرَأَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَإِنَّهُ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فَوَرَّثَهَا مِنْهُ عُثْمَانَ.

وَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ: مِن عِدَّةِ الطَّلَاقِ أَو عِدَّةِ الْوَفَاةِ.

وَأَمَّا إنْ كَانَ عَقْلُهُ قَد زَالَ: فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ. [31/ 368]

4242 -

مَسْألَة الْمُطَلِّقِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ: اَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ تَوْرِيثُهَا، كَمَا قَضَى بِذَلِكَ عُثْمَانُ بْنُ عفان رضي الله عنه لِامْرَأَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ تُماضر بِنْتِ الأصبغ، وَقَد كَانَ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ

(2)

.

وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَأبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ.

ثُمَّ عَلَى هَذَا: هَل تَرِثُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ؟ وَالْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ؟ عَلَى

(1)

في الأصل: (وَأقَرَّ)، والتصويب من الاختيارات (283)، والفروع (5/ 34).

(2)

رواه البيهقي (4724)، وصحَّحه الألباني في إرواء الغليل (1721).

ص: 480

قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ: أَصَحُّهمَا: أَنَّهَا تَرِثُ أَيْضًا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَد رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ وَرَّثَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ؛ وَلأنَّ هَذِهِ إنَّمَا وَرِثَتْ لِتَعَلُّقِ حَقِّهَا بِالتَّرِكَةِ لَمَّا مَرِضَ مَرَضَ الْمَوْتِ وَصَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فِي حَقِّهَا وَحَقِّ سَائِرِ الْوَرَثَةِ؛ بِحَيْثُ لَا يْملكُ التَّبَرُّعَ لِوَارِثٍ، وَلَا يملكُهُ لِغَيْرِ وَارِثٍ بِزِيَادَة عَلَى الثُّلُثِ، كَمَا لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ.

فَلَمَّا كَانَ تَصَرُّفُهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بِالنّسْبَةِ إلَى الْوَرَثَةِ كَتَصَرُّفِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَمْلِأ قَطْعَ إرْثهَا: فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ بَعْدَ مَرَضِهِ، وَهَذَا هُوَ طَلَافُ الْفَارِّ الْمَشْهُورُ بِهَذَا الِاسْمِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ الَّذِي أُفْتِي بِهِ. [31/ 368 - 369]

4243 -

الْجُمْهُورُ قَالُوا: إنَّ الْمَريضَ مَرَضَ الْمَوْتِ قَد تَعَلَقَ الْوَرَثَةُ بِمَالِهِ مِن حِينِ الْمَرَضِ، وَصَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِالنسْبَةِ إلَيْهِمْ، فَلَا يَتَصَرَّفُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ مِن التَبّرَّعَاتِ إلَّا مَا يَتَصَرَّفُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَلَيْسَ لَهُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ أَنْ يَحْرِمَ بَعْضَ الْوَرَثَةِ مِيرَاثَهُ، وَيَخُصَّ بَعْضَهُم بِالْإِرْثِ، كَمَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَبَرَّعَ لِأجْنَبِيٍّ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، كَمَا لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ الْمَرَضِ أَنْ يَقْطَعَ حَقَّهَا مِن الْإِرْثِ لَا بِطَلَاقِ وَلَا غَيْرِهِ.

وَإِن وَقْعَ الطَّلَاقُ بِالنِّسْبَةِ لَهُ؛ إذ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ نَفْسَهُ مِنْهَا، وَلَا يَقْطَعَ حَقَّهَا منه.

وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَفِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ نِزَاعٌ: هَل تَعْتَدُّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ أَو عِدَّةَ الْوَفَاةِ أَو أَطْوَلَهُمَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، أَظْهَرُهَا: أَنَّهَا تَعْتَدُّ أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ.

وَكَذَلِكَ هَل يَكْملُ لَهَا الْمَهْرُ؟ قَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا: أَنَّهُ يَكْملُ لَهَا الْمَهْر أَيْضًا؛ فَإِنَّهُ مِن حُقُوقِهَا الَّتِي تَسْتَقِرُّ، كَمَا تَسْتَحِقُّ الْإِرْثَ. [31/ 370 - 371]

* * *

ص: 481

‌(حكم من قال لزوجتيه: إحداكما طالق، ومات قبل البيان، فلمن تكون التركة

؟)

4244 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا مُسْلِمَة وَالْأُخْرَى كِتَابِيَّةٌ، ثُمَّ قَالَ: إحْدَاكُمَا طَالِقٌ، وَمَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ، فَلِمَن تَكُونُ التَّرِكَةُ مِن بَعْدِهِ؟

الصَّحِيحُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ -سَوَاءٌ كَانَت الْمُطَلَّقَةُ مُبْهَمَة أَو مَجْهولَةً-: أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَ الزَّوْجَتَيْنِ، فَإِذَا خَرَجَت الْقُرْعَةُ عَلَى الْمُسْلِمَةِ لَمْ تَرِثْ هِيَ وَلَا الذِّمِّيَّةُ شَيْئًا.

أَمَّا هِيَ: فَلِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ.

وَأَمَّا الذِّمِّيَّةُ: فَإِنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ.

وَإِن خَرَجَت الْقُرْعَةُ عَلَى الذِّمِّيَّةِ: وَرِثَت الْمُسْلِمَةُ مِيرَاثَ زَوْجَةٍ كَامِلَةٍ، هَذَا إذَا كَانَ الطَّلَاقُ طَلَاقًا مُحَرِّمًا لِلْمِيرَاثِ

(1)

؛ مِثْل أَنْ يَبِينَهَا فِي حَالِ صِحَّتِهِ.

فَأَمَّا إنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ وَمَاتَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ: فَهَذِهِ زَوْجَتُهُ تَرِثُ وَعَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ بِاتفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَتَنْقَضِي بِذَلِكَ عِدَّتُهَا عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ؛ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.

وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ: أَنَّهَا تَعْتَدُّ أَطْوَلَ الْأَجَلَيْنِ مِن مُدَّةِ الْوَفَاةِ وَالطَّلَاقِ.

وَإِن كَانَ الطَلَاقُ بَائِنًا فِي مَرَضِ الْمَوْتِ: فَإِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْبَائِنَةَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ تَرِثُ إذَا كَانَ طَلَّقَهَا طَلَاقًا فِيهِ قَصْدُ حِرْمَانِهَا الْمِيرَاثَ، هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ.

وَهُوَ يَرِثُهَا وَإِن انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَتَزَوَّجَتْ

(2)

وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ يَرِثُهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ مَا لَمْ تتزَوَّجْ.

(1)

أي: يُحرم أن ترث منه، وهو الطلاق الصحيح المعتد به.

(2)

أي: أن الزوج الذي طلق زوجته طلاقًا بائنًا في مرض الموت يرثها إذا ماتت بعد العدة ولو تزوجت. وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله، ولا شك أنها ترث ما دامت في العدة، وهو المشهور عنه ما لم تتزوج، وهذا من باب أولى.

ص: 482

وَأَمَّا إذَا لَمْ يُتَّهَمْ بقَصْدِ حِرْمَانِهَا: فَالْأَكثَرُونَ عَلَى أَنَّهَا لَا تَرِثُ، فَعَلَى هَذَا لَا تَرِثُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ؛ لِأَنَّ مِثْل هَذَا الطَّلَاقِ الَّذِي لَمْ يُعَيّنْ فِيهِ لَا يَظْهَرُ فِيهِ قَصْدُ الْحِرْمَانِ. [31/ 371 - 373]

* * *

‌الإقرار بمشارك في الميراث:

4245 -

لو أقرّ

(1)

واحدٌ من الورثةِ بالولاء

(2)

أو بالنسب والباقون لم يصدقوه ولم يكذبوه: ثبت النسب، وهذا ظاهر قول الإمام أحمد، وظاهر الحديث؛ فإن الإمام أحمد قال: إذا أقر وحده ولم يكن أحد يدفع قوله.

وعلى هذا: فلو رَدَّ هذا النسب من له فيه حقٌّ: قُبل منه، وارثًا كان أو غير وارث على ظاهر كلامه. [المستدرك 4/ 131]

* * *

‌ميراث القاتل والمبعض:

4246 -

[قَوْلُهُ: (وَيرِثُ ويحْجُبُ بِقَدْرِ ما فيه من الْحُرِّيَّةِ)، وهو من مُفْرَدَاتِ الْمُذْهَبِ].

تَنْبِيهٌ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ إرْثَ الْمُعْتَقِ [بَعْضُهُ] له خَاصَّةً

(3)

، وهو صَحِيحٌ، وهو الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأصْحَابِ قَالَهُ الشَيْخُ تَقِي الدِّينِ رحمه الله، وقال: هو الصَّوَابُ

(4)

. [المستدرك 4/ 132]

* * *

(1)

في الأصل: (أخبر)، والمثبت من الاختيارات (286)، والفتاوى الكبرى (5/ 446).

(2)

في الأصل: (بالفراش)، والتصويب من الاختيارات (286)، والفتاوى الكبرى (5/ 446).

(3)

وليس لسيّدِه.

(4)

الإنصاف (7/ 370)، وما بين المعقوفات منه.

ص: 483

(أسئلة في المواريث)

4247 -

سُئِلَ رحمه الله: عَن امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَخَلَّفَتْ زَوْجًا وَأَبَوَيْنِ؟

فَأجَابَ: مَا خَلَّفَتْهُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ: فَلِزَوْجِهَا نَصِفُهُ، وَلأَبِيهَا الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي لِلْأُمِّ، وَهُوَ السُّدُسُ فِي مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأرْبَعَةِ، سَوَاءٌ كَانَت رَشِيدَةً أَو غَيْرَ رَشِيدَةٍ. [31/ 335]

4248 -

وَسُئِلَ: عَن امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَلَهَا زَوْجٌ وَجَدَّةٌ وإخْوَةٌ أَشِقَّاءُ وَابْنٌ، فَمَا يَسْتَحِقُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِن الْمِيرَاثِ؟

فَأجَابَ: لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ، وَللْجَدَّةِ السُّدُسُ، وَللِابْنِ الْبَاقِي، وَلَا شَيءَ لِلْإِخْوَةِ بِاتِّفَاقِ الْأئِمَّةِ. [31/ 336]

4249 -

وَسُئِلَ: عَن امْرَأَةِ تُوُفِّيَتْ وَخَلَّفَتْ زَوْجًا، وَابْنَتَيْنِ، وَوَالِدَتَهَا، وَأُخْتَيْنِ شَقِيقَتَيْنِ، فَهَل تَرِثُ الْأَخَوَاتُ؟

فَأجَابَ: يُفْرَضُ لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ، وَللْأُمِّ السُّدُسُ، وَللْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ.

أصْلُهَا مِن اثْنَيْ عَشَرَ، وَتَعُولُ إلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ.

وَأَمَّا الْأخَوَاتُ فَلَا شَيءَ لَهُنَّ مَعَ الْبَنَاتِ؛ لِأنَّ الْأخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ عَصَبَةٌ، وَلَمْ يَفْضُلْ لِلْعَصَبَةِ شَيءٌ، هَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. [31/ 337]

4250 -

وَسُئِلَ: عَن امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَخَلَّفَتْ زَوْجًا، وَأُمًّا، وَأُخْتًا شَقِيقَةً، وَأُختًا لِأَبٍ، وَأَخًا وَأُخْتًا لِأُمِّ؟

فَأجَابَ: الْمَسْأَلَةُ عَلَى عَشَرَةِ أَسْهُمٍ، أَصْلُهَا مِن سِتَّةٍ وَتَعُولُ إلَى عَشَرَةٍ، وَتُسَمَّى "ذَاتَ الْفُرُوخِ" لِكَثْرَةِ عَوْلِهَا، لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَللْأُمِّ السُّدُسُ سَهْمٌ، وَللشقِيقَةِ ثَلَاثَة، وَللْأُخْتِ مِن الْأَبِ السُّدُسُ تَكْمِلَةُ الثُّلُثَيْنِ، وَلوَلَدَي الْأُمِّ الثُّلُثُ سَهْمَانِ؛ فَالْمَجْمُوعُ عَشَرَةُ أَسْهُمٍ، وَهَذَا باتفاق الْأئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. [31/ 337]

ص: 484

4251 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَخَلَّفَتْ زَوْجًا، وَبِنْتًا، وَأُمًّا، وَأُخْتًا مِن أُمٍّ، فَمَا يَسْتَحِقُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ؟

فَأجَابَ: هَذِهِ الْفَرِيضَةُ تُقَسَّمُ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ: لِلْبنْتِ سِتَّة أَسْهُمٍ، وَللزَّوْجِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَللْأُمِّ سَهْمَانِ، وَلَا شَيءَ لِلْأُخْتِ مِن الْأُمِّ؛ فَإنَّهَا تَسْقُطُ بِالْبِنْتِ بِاتِّفَاقِ الْأئِمَّةِ كُلِّهِمْ.

وَهَذَا عَلَى قَوْل مَن يَقُولُ بِالرَّدِّ كَأبِي حَنيفَةَ وَأَحْمَد

(1)

.

وَمَن لَا يَقُولُ بِالرَّدِّ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ: فَيُقَسَّمُ عِنْدَهُم عَلَى اثْنَىْ عَشَرَ سَهْمًا: لِلْبِنْتِ سِتَّةٌ، وَللزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ، وَللْأُمِّ سَهْمَانِ، وَالسَّهْمُ الثَّانِيَ عَشَرَ لِبَيْتِ الْمَالِ. [31/ 338]

(1)

من المعلوم أن مذهب الأئمة الأربعة وحُكي إجماعًا أن الزوجين لا يرد عليهما، قال ابن قدامة رحمه الله: فَأمَّا الزوْجَانِ، فَلَا يُرَد عَلَيْهِمَا بِاتِّفَاقٍ مِن أهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا أنهُ رُوِيَ عَن عُثْمَانَ رحمه الله أنَّهُ رَدَّ عَلَى زَوْجٍ.

وَلَعَلَّهُ كَانَ عَصَبَةً، أَو ذَا رَحِمٍ، فَأعْطَاهُ لِذَلِكَ، أو أعْطَاهُ مِن مَالِ بَيْتِ الْمَالِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْمِيرَاثِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ، إنْ شَاءَ اللهُ، أَنَّ أهْلَ الرَّدِّ كُلَّهُم مِن ذَوِي الأرْحَامِ، فَيَدْخُلُونَ فِي عُمُومِ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75]، وَالزوْجَانِ خَارِجَان مِن ذَلِكَ. اهـ. المغني (6/ 296).

وقد استشكل العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله ما جاء في هذه الفتوى حيث قال بعد أن نقلها: فإن ظاهر هذه القسمة أنه يرد على الزوج وفي ذلك نظر من وجوه ثلاثة:

الأول: أن الشيخ صرح بأنها مبنية على قول من يقول بالرد. وقد علم أن القائلين بالرد لا يرون الرد على الزوجين، فقسمة المسألة المذكورة عندهم من ستة عشر للزوج أربعة وللبنت تسعة وللأم ثلاثة.

الثاني: أن الأصحاب لم ينقلوا عن الشيخ أنه يرى الرد على الزوجين مع اعتنائهم بآرائه واعتبارهم لها، بل إن صاحب "مختصر الفتاوى" قال عن المسألة المذكورة: إن فيها نظرًا. الثالث: أن الشيخ نفسه ذكر في موضع آخر مسألتين رد فيهما أحد الزوجين ولم يرد عليهما. ويمكن أن يقال في مسألة الرد على الزوجين أنه إذا لم يكن وارث بقرابة ولا ولاء فإنه يرد على الزوجين؛ لأن ذلك أولى من صرفه إلى بيت المال الذي يكون لعموم المسلمين، فإن بين الزوجين من الاتصال الخاص ما ليس لعموم المسلمين، فيكونان أحق بما بقي بعد فرضهما من بيت المال، ويحتمل أن يحمل على هذا ما روي عن أمير المؤمنين عثمان. اهـ. تسهيل الفرائض (88 - 89).

ص: 485

4252 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن امْرَأَةِ مَاتَتْ وَخَلَّفَتْ زَوْجًا وَابْنَ أُخْتٍ؟

فَأجَابَ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَأَمَّا ابْنُ الْأخْتِ فَفِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ لَهُ الْبَاقِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنيفَةَ.

وَفي الْقَوْلِ الثَّانِي: الْبَاقِي لِبَيْتِ الْمَالِ.

وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْألَةِ: تَنَازُعُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَوِي الْأَرْحَامِ الَّذِينَ لَا فَرْضَ لَهُم وَلَا تَعْصِيبٌ:

أ - فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ: أَنَّ مَن لَا وَارِثَ لَهُ بِفَرْض وَلَا تَعْصِيبٍ يَكُونُ مَالُهُ لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ.

ب - وَمَذْهَبُ أَكْثَرِ السَّلَفِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وإِسْحَاقَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ: يَكُونُ الْبَاقِي لِذَوِي الْأَرْحَامِ، {بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "الْخَالُ وَارِثُ مَن لَا وَارِثَ لَهُ يَرِثُ مَالَهُ وَيَفُكُّ عَانَهُ

(1)

. [31/ 358 - 359]

(1)

رواه الترمذي (2104) وقال: وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَقَد أرْسَلَهُ بَعْضُهُم وَلَمْ يَذْكُرُ فِيهِ عَن عَائِشَةَ.

وَاخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَوَرَّثَ بَعْضُهُمُ الخَالَ وَالخَالَةَ وَالعَمَّةَ، وَإِلَى هَذَا الحَدِيثِ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ العِلْمِ فِي تَوْرِيثِ ذَوِي الأَرْحَامِ، وَأمَّا زيدُ بْنُ ثَابِتٍ فَلَمْ يُوَرِّثهُم وَجَعَلَ الْمِيرَاثَ فِي بَيْتِ الْمَالِ. اهـ.

وصحَّحه الألباني في إرواء الغليل (1700).

واختار العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله القول بالتوريث وقال: فمن ثَمَّ اختلف القائلون بتوريثهم على ثلاثة أموال:

أحدها: اعتبار قرب الدرجة؛ فمن كان أقرب إلى الوارث كان أولى بالميراث من أي جهة كانت، وحجة هذا القول قوله تعالى:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} . [الأنفال: 75]، ومتى اعتبرنا الأولوية كان الأقرب أولى.

القول الثاني: اعتبار قرب الجهة، وهذا مذهب أبي حنيفة فيجعل الجهات أربعًا: بنوة ثم أبوة ثم أخوة ثم عمومة، فمتى كان في الجهة الأولى وارث من ذوي الأرحام لم يرث أحد من الجهة التي بعدها قياسًا على الإرث بالتعصيب، ويسمى هذا المذهب مذهب أهل القرابة. قاله في "المغني"(6/ 232). =

ص: 486

4253 -

ابْنُ الْأُخْتِ يَرِثُ الْمَالَ كُلَّهُ عِنْدَ مَن يَقولُ بِتَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ. وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ السَّلَفِ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد، وَطَوَائِفَ مِن أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ إذَا فَسَدَ بَيْتُ الْمَالِ. [31/ 312]

4254 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَن رَجُلٍ مَاتَ وَتَرَكَ زَوْجَةً، وَأُخْتًا لِأَبَوَيْهِ، وَثَلَاثَ بَنَاتِ أخٍ لِأبَوَيْهِ، فَهَل لِبَنَاتِ الْأخِ مَعَهُنَّ شَئٌ؟

فَأجَابَ: لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ، وَللْأُخْتِ لِأَبَوَيْنِ النِّصْفُ، وَلَا شَيءَ لِبَنَاتِ الْأَخ.

وَالرُّبُعُ الثَّانِي: إنْ كَانَ هُنَاكَ عَصَبَةٌ فَهُوَ لِلْعَصَبَةِ، وإلَّا فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى الْأُخْتِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ، وَعَلَى الْآخَرِ هُوَ لِبَيْتِ الْمَالِ

(1)

. [31/ 359]

4255 -

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله: عَن رَجُلٍ مَاتَ وَخَفَفَ بِنْتًا، وَلَهُ أَوْلَادُ أَخٍ مِن أَبِيهِ وَهُم صِغَارٌ، وَلَهُ ابْنُ عَمِّ، وَلَهُ بِنْتُ عَمِّ، وَلَهُ أَخٌ مِن أُمّهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِن أوْلَادِ أَعْمَامِهِ، فَمَن يَأخُذُ الْمَالَ؟ وَمَن يَكُونُ وَليُّ الْبِنْت؟

فَأجَابَ: أَمَّا الْمِيرَاثُ فَنِصْفُهُ لِلْبِنْتِ، وَنصْفُهُ لِأَبْنَاءِ الْأَخِ.

وَأمَّا حَضَانَةُ الْجَارِيةِ: فَهِيَ لِبِنْتِ الْعَمِّ دُونَ الْعَمِّ مِن الْأُمِّ، وَدُونَ ابْنِ الْعَمِّ الَّذِي لَيْسَ بِمَحْرَم، وَلَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى الْمَالِ الَّذِي لِلْيَتِيمَةِ لِوَصِيّ أَو نُوَّابِهِ. [31/ 360]

= القول الثالث: اعتبار التنزيل فينزل كل واحد من ذوي الأرحام منزلة من أدلى به، ثم يقسم المال بين المدلى بهم، فما صار لكل واحد أخذه المدلى، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد.

وإليك مثالًا يظهر به أثر الخلاف:

فلو هلك هالك عن بنت بنت، وبنت أخٍ لغير أم: فالمال لبنت الأخ على القول الأول؛ لأنها أقرب إلى الوارث، ولبنت البنت على القول الثاني؛ لأنها أسبق جهة، وبينهما نصفين على القول الثالث؛ لأن بنت البنت بمنزلة البنت فلها النصف فرضًا وبنت الأخ بمنزلته فلها الباقي تعصيبًا. اهـ. يُنظر: تسهيل الفرائض (72 - 74).

(1)

ولم يرد على الزوجة.

ص: 487

4256 -

وَسُئِلَ: عَمَّن تَرَكَ ابْنَتَيْنِ، وَعَمَّهُ أَخَا أَبِيهِ مِن أُمهِ، فَمَا الْحُكْمُ؟

فَأجَابَ: إذَا مَاتَ الْمَيِّتُ وَتَرَكَ بِنْتَيْهِ وَأَخَاهُ مِن أُمِّهِ: فَلَا شَيءَ لِأَخِيهِ لِأمِّهِ بِاتّفَاقِ الْأَئِمَّةِ؛ بَل لِلْبنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ، وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ إنْ كَانَ لَهُ عَصَبَةٌ، وَإِلَّا فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى الْبِنْتَيْنِ، أَوَ بَيْتِ الْمَالِ. [31/ 360]

4257 -

وَسُئِلَ الشَيْخُ رحمه الله: عَن رَجُلٍ تُوُفِّيَ وَخَلَّفَ أَخًا لَهُ، وَأُخْتين شَقِيقَيْنِ، وَبِنْتَيْنِ، وَزَوْجَةً؟

فَأجَابَ: لِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ، وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ، وَللْإِخْوَةِ خَمْسَةُ قَرَارِيطَ بَيْنَ الْأخ وَالْأُختِ أَثْلَاثًا.

فَتَحْصُلُ لِلزَّوْجَةِ ثَلَاثَةُ قَرَارِيطَ، وَلكُلّ بِنْتٍ ثَمَانِيَةُ قَرَارِيطَ، وَللْأَخِ ثَلَاثَةُ قَرَارِيطَ وَثُلُثٌ، وَللْأُخْتِ قِيرَاطٌ وَثُلُثَا قِيرَاطٍ. [31/ 361]

4258 -

وَسُئِلَ: عَن رَجُلٍ لَهُ خَالَة مَاتَتْ وَخَلَّفَتْ مَوْجُودًا؛ وَلَمْ يَكُن لَهَا وَارِثٌ: فَهَل يَرِثُهَا ابْنُ أُخْتِهَا؟

فَأجَابَ: هَذَا فِي أحَدِ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ هُوَ الْوَارِثُ؛ وَفِي الْآخَرِ بَيْتُ الْمَالِ الشَّرْعِيِّ. [31/ 361]

4259 -

وَسُئِلَ: عَن رَجُلٍ كَانَت لَهُ بِنْتُ عَمّ، وَابْنُ عَمِّ، فَتُوُفيَتْ بِنْتُ الْعَمِّ وَتَرَكْت بِنْتًا، ثُمَّ تُوُفِّيَ ابْنُ الْعَمِّ الْمَذْكُورِ وَتَرَكَ وَلَدَيْنِ، فَبَقِيَ الْوَلَدَانِ وَبِنْتُ بِنْتِ الْعَمِّ الْمُتَوَفِّيَةِ، ثُمَّ تُوُفِّيَت الْبِنْتُ وَتَرَكَتْ أَوْلَادَ عَمِّ، فَمَن يَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ: أوْلَادُ ابْنِ الْعَمِّ مِن الْأُمِّ، أَمْ أَوْلَادُ عَمِّهَا؟

الْجَوَابُ: مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِمَن يَقُولُ بِالتَّنْزِيلِ

(1)

- كَمَا نُقِلَ

(1)

قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله: وذَوُو الأرحام اختلف العلماء رحمهم الله فى توريثهم، ولكن القول الراجح المتعين أن توريثهم واجب؛ لقول الله تعالى:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6].

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الخالة بمنزلة الأم"، وقال:"الخال وارث من لا وارث له"، وهذا نص. =

ص: 488

نَحْوُ ذَلِكَ عَن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ - فَتَنْزِيلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِن ذَوِي الْأَرْحَامِ مَنْزِلَةَ مَن أَدْلَى بِهِ قَرِيبًا كَانَ أَو بَعِيدًا، وَلَاْ يُعْتَبَرُ الْقُرْبُ إلَى الْوَارِثِ ثُمَّ اتَّحَدَت الْجِهَةُ، فَإنَّ أَوْلَادَ الْعَمِّ لَهُم ثُلُثَا الْمَالِ، وَأَوْلَادُ ابْنِ عَمِّ الْأُمِّ ثُلُثُ الْمَالِ، فَإنَّ أولَئِكَ يَنْتَهِي أَمْرُهُم إلَى الْأُمِّ.

وَإِذَا وُجِدَ أمٌّ مَعَ أَبٍ أَو مَعَ جَدٍّ: كَانَ لِلْأُمٍّ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لَهُ. [31/ 362]

4260 -

القاتل لَا يَرْثِ شَيْئًا بِاتِّفَاقِ الْأئِمَّةِ. [31/ 365]

4261 -

وَسُئِلَ عَن قَوْلِهِ:

جَدَّتِي أُمُّهُ وَأَبِي جَدّه

وَأَنَا عَمَّةٌ لَهُ وَهُوَ خَالِي

أَفْتِنَا يَا إمَامُ حَمَاكَ اللَّهُ

وَيكْفِيك حَادِثَاتُ اللَّيَالِي

فَأجَابَ رحمه الله:

رَجُلٌ زَوَّجَ ابْنَهُ أُمَّ بِنتِهِ

وَأَتَى الْبِنْتَ بِالنِّكَاحِ الْحَلَالِ

فَأتَتْ مِنْهُ بِبِنْتٍ قَالَت الشُّعَرَاءُ

وَقَالَتْ لِابْنِ هَاتِيك خَالِي

رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَتَزَوَّجَ ابْنُهُ بِأُمِّهَا، وُلدَ لَهُ بِنْتٌ، وَلابْنِهِ ابْنٌ، فَبِنْتُهُ هِيَ الْمُخَاطَبَةُ بِالشِّعْرِ، فَجَدَّتُهَا أُمُّ أُمِّهَا هِيَ أُمُّ ابْنِ الِابْنِ زَوْجَةُ الِابْن، وَأَبُوهَا جَدُّ ابْنِ ابْنِهِ، وَهِيَ عَمَّتُهُ أُخْتُ أَبِيهِ مِن الْأَبِ، وَهُوَ خَالُهَا أَخُو أُمِّهَا مِن الأُمّ. [31/ 366]

= والقول بعدم التوريث قول ضعيف - سبحان الله - نحرم الخال أو أبا الأم من مال القريب، ونضعه في بيت المال يأكله أبعد الناس!! مثل هذا لا تأتي به الشريعة، فالصواب المقطوع به أن ذوي الأرحام وارثون، لكن بعد ألا يكون ذو فرض أو عاصب، ولهذا نقول: ذوو الأرحام كل قريب ليس بذي فرض ولا عصبة.

لكن كيف يرثون؟ العلماء اختلفوا في كيفية التوريث، فمنهم من قال: يرث الأقرب مطلقًا، فالأقرب بأي جهة يرث؛ لأن الله يقول:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} ، والأقرب أولى من الأبعد، فخال وابن عمة، المال للخال؛ لأنه أقرب.

ومن العلماء من قال: يرثون بالتنزيل؛ أي: أنهم ينزلون منزلة من أدلوا بهم، وهذا الذي مشى عليه المؤلف رحمه الله فقال:"يرثون بالتنزيل"؛ يعني: نزلهم منزلة من أدلوا به، فأبو الأم مدلٍ بالأم فله ميراث الأم، ابن الأخت مدلٍ بالأخت فله ميراث الأخت، ابن الأخ من الأم مدلٍ بالأخ من الأم فله ميراث الأخ من الأم، فهم يرثون بالتنزيل. الشرح الممتع (11/ 273 - 275).

ص: 489

4262 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن قَوْلِهِ:

مَا بَالُ قَوْمٍ غَدَوْا قَد مَاتَ مَيِّتُهُم

فَأصْبَحُوا يُقَسِّمُونَ الْمَالَ والحللا

فَقَالَت امْرَأَةٌ مِن غَيْرِ عِتْرَتِهِمْ

أَلَا أُخْبِرُكُمْ أعْجُوبَةً مَثَلَا

فِي الْبَطْنِ مِنِّي جَنِينٌ دَامَ يَشْكُرُكُمْ

فَأخِّرُوا الْقَسْمَ حَتَّى تَعْرِفُوا الْحَملَا

فَإِنْ يَكُن ذَكَرًا لَمْ يُعْطَ خَرْدَلَةً

وَإِن يَكُن غَيْرُهُ أُنْثَى فَقَد فَضَلَا

بِالنِّصْفِ حَقًّا يَقِينًا لَيْسَ يُنْكِرُهُ

مَن كَانَ يَعْرِفُ فَرْضَ اللَّهِ لَا زللا

إنِّي ذَكَرْت لَكُمْ أَمْرِي بِلَا كَذِبٍ

فَلَا أَقُولُ لَكُمْ جَهْلًا وَلَا مَثَلَا

فَأجَابَ: زَوْجٌ، وَأُم، وَاثْنَانِ مِن وَلَدِ الْأُمِّ، وَحَمْلٌ مِن الْأَبِ، وَالْمَرْأَةُ الْحَامِلُ لَيْسَتْ أُمَّ الْمَيِّتِ؛ بَل هِيَ زَوْجَةُ أَبِيهَا.

فَلِلزَّوْجِ النّصفُ، وَللْأُمِّ السُّدُسُ، وَلوَلَدِ الْأُمِّ الثُّلُثُ.

فَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ ذَكَرًا فَهُوَ أَخٌ مِن أَبٍ فَلَا شَيءَ لَهُ بِاتّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.

وَإِن كَانَ الْحَمْلُ أُنْثَى فَهُوَ أُخْتٌ مِن أَبٍ، فَيُفْرَضُ لَهَا النِّصْفُ، وَهُوَ فَاضِلٌ عَن السِّهَامِ، فَأصْلُهَا مِن سِتَّةٍ وَتُعَوَّلُ إلَى تِسْعَةٍ.

وَأَمَّا إنْ كَانَ الْحَمْل مِن أُمِّ الْمَيِّتِ: فَهَكَذَا الْجَوَابُ فِي أَحَدِ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ مِن الصَّحَابَةِ وَمَن بَعْدَهُم وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ.

وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ: إنْ كَانَ الْحَمْلُ ذَكَرًا يُشَارِكُ وَلَدَ الْأُمِّ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلَا يَسْقُطُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ. [31/ 367]

* * *

(استنباطُ الحِكم من تحديد الأنصبة لأصحاب الفروض)

4263 -

إنَّ النُّصُوصَ شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ، وَنَحْنُ نُبيِّنُ ذَلِكَ فِيمَا هُوَ مِن أَشْكَلِ الْأَشْيَاءِ، لِنُنَبِّهَ بِهِ عَلَى مَا سِوَاهُ، وَالْفَرَائِضُ مِن أَشْكَلِهَا

(1)

، فَنَقُولُ:

(1)

فإذا كانت الفرائض من أشكل وأصعب مسائل الدين، وجب العناية بها، وكثرة مراجعتها؛ لأنها تحتاج إلى حفظ ودقة.

ص: 490

النَّصُّ وَالْقِيَاسُ -وَهُمَا الْكِتَاب وَالْمِيزَانُ- دَلَّا عَلَى أَنَّ الثُّلُثَ يَخْتَصُّ بِهِ وَلَدُ الْأمِّ، كَمَا هُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَمَن وَافَقَهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ.

وَرَوَى حَرْبٌ التَّشْرِيكَ

(1)

، وَهُوَ قَوْلُ زيدٍ وَمَن وَافَقَهُ وَقَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ.

فَيُقَالُ: النَّصُّ وَالْقِيَاسُ دَلَّا عَلَى مَا قَالَ عَلِيٌّ.

أَمَّا النَّصُّ؛ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12]، وَالْمُرَادُ بِهِ: وَلَدُ الْأُمِّ، وَإِذَا أَدْخَلَنَا فِيهِمْ وَلَدَ الْأَبَوَيْنِ لَمْ يَشْتَرِكُوا فِي الثُّلُثِ؛ بَل زَاحَمَهُم غَيْرُهُمْ.

وَإِن قِيلَ: إنَّ وَلَدَ الْأَبَوَيْنِ مِنْهُم وَأنَّهُم مِن وَلَدِ الْأمِّ فَهُوَ غَلَطٌ، واللهُ تَعَالَى قَالَ:{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12]، وَفِي قِرَاءَةِ سعد وَابْنِ مَسْعُودٍ (مِن الْأُمِّ) وَالْمُرَادُ بِهِ وَلَدُ الْأُمِّ بِالإجْمَاعِ.

وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} وَوَلَدُ الْأَبَوَيْنِ وَالْأَب فِي آيَةٍ فِي قَوْلِهِ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] فَجَعَلَ لَهَا النِّصْفَ وَلَهُ جَمِيعَ الْمَالِ، وَهَكَذَا حُكْمُ وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ.

ثُمَّ قَالَ: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] وَهَذَا حُكْمُ وَلَدِ الأبَوَيْنِ لَا الْأُمِّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.

فَدَلَّ ذِكْرُهُ تَعَالَى لِهَذَا الْحُكْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي تِلْكَ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الصِّنْفَيْنِ غَيْرُ الْآخَرِ.

(1)

أي: التشريك بين أولاد الأم والأخوة الأشقاء.

ص: 491

وإذَا كَانَ النَّصُّ قَد أَعْطَى وَلَدَ الْأمِّ الثلُثَ فَمَن نَقَصَهُم مِنْهُ فَقَد ظَلَمَهُم، وَوَلَدُ الْأبَوَيْنِ جِنْسٌ آخَرُ.

وَقَد قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "ألحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ"

(1)

، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا لَمْ تُبْق الْفَرَائِضُ شَيْئًا لَمْ يَكُن لِلْعَصَبَةِ شَيْءٌ، وَهُنَا لَمْ تُبْق الْفَرَائِضُ شَيْئًا.

وَإِذَا قِيلَ: فَالأبُ إذَا لَمْ يَنْفَعْهُم لَمْ يَضُرَّهُمْ؟

قِيلَ: بَلَى، قَد يَضُرُّهُم كَمَا يَنْفَعُهُمْ؛ بدَلِيلِ مَا لَو كَانَ وَلَدُ الْأُمِّ وَاحِدًا وَوَلَدُ الْأَبَوَيْنِ كَثِيرِينَ، فَإِنَّ وَلَدَ الْأُمِّ وَحْدَهُ يَأخُذُ السُّدُسَ، وَالْبَاقِي يَكُونُ لَهُم كُلّهُ، وَلَوْلَا الْأبُ لَتَشَارَكُوا هُم وَذَاكَ الْوَاحِدُ فِي الثُّلُثِ، وَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْأَبِ يَنْفَعُهُمْ

(2)

جَازَ أَنْ يَحْرِمَهُمْ، فَعُلِمَ أَنَّهُ يَضُرُّهُمْ.

وَأَيْضًا؛ فَأصُولُ الْفَرَائِضِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنُّ الْقَرَابَةَ الْمُتَّصِلَةَ: ذَكَرٌ وَأُنْثَى لَا تُفَرَّقُ أحْكَامُهَا.

وَمِمَّا يُبَيِّنُ الْحُكْمَ فِي مَسْأَلَةِ الْمُشرَّكَةِ: أَنْ لَو كَانَ فِيهِنَّ أَخَوَاتٌ مِن أَبٍ لَفُرِضَ لَهُنَّ الثلثانِ وَعَالَت الْفَرِيضَةُ.

فَلَو كَانَ مَعَهُنَّ أَخُوهُنَّ سَقَطْنَ، ويُسَمَّى "الْأَخُ الْمَشْؤُومُ".

فَلَمَّا صِرْنَ بِوُجُودِهِ يَصِرْنَ عَصَبَةً: صَارَ تَارَةً يَنْفَعُهُنَّ، وَتَارَةً يَضُرُّهُنَّ، وَلَمْ يُجْعَلْ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فِي حَالَةِ الضُّرِّ.

كَذَلِكَ قَرَابَةُ الْأَبِ لَمَّا [صار]

(3)

الْإِخْوَةُ بِهَا عَصَبَة: صَارَ يَنْفَعُهُم تَارَةً ويَضُرّهُم أُخْرَى.

(1)

رواه البخاري (6732)، ومسلم (1615).

(2)

أي: الإخوة الأشقاء.

(3)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، بل في جامع المسائل (2/ 303)، ولا يستقيم المعنى إلا به.

ص: 492

فَهَذَا مَجْرَى العصوبة؛ فَإِنَّ الْعَصَبَةَ تَارَة يَحُوزُ الْمَالَ كُلَّهُ، وَتَارَة يَحُوزُ أَكْثَرَهُ، وَتَارَة أقَلَّهُ، وَتَارَةً لَا يَبْقَى لَهُ شَيْءٌ، وَهُوَ إذَا اسْتَغْرَقَتْ الْفَرَائِضُ الْمَالَ.

فَمَن جَعَلَ الْعَصَبَةَ تَأخُذُ مَعَ اسْتِغْرَاقِ الْفَرَائِضِ الْمَالَ فَقَد خَرَجَ عَن الْأصُولِ الْمَنْصُوصَةِ فِي الْفَرَائِضِ.

وَأَمَّا "الْعُمَريتانِ"

(1)

فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْأُمِّ الثّلثَ مَعَ الْأب وَالزَّوْجِ؛ بَل إنَّمَا أَعْطَاهَا اللهُ الثُّلُثَ إذْ

(2)

وَرِثَت الْمَالَ هِيَ وَالْأَبُ، فَكَانَ الْقُرْآنُ قَد دَلَّ عَلَى أَنَّ مَا وَرِثَتْهُ هِيَ وَالْأبُ تَأخُذُ ثُلُثَهُ وَالْأَبُ ثُلُثَيْهِ.

وَمَفْهُومُ الْقُرْآنِ يَنْفِي أَنْ تَأخُذَ الْأُمُّ الثُّلُثَ مُطْلَقًا، فَمَن أَعْطَاهَا الثلُثَ مُطْلَقًا حَتَّى مَعَ الزَّوْجَةِ فَقَد خَالَفَ مَفْهُومَ الْقُرْآنِ.

وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَقَد عَمِلُوا بِالْمَفْهُومِ، فَلَمْ يَجْعَلُوا مِيرَاثَهَا إذَا وَرِثَهُ أَبُوهُ كَمِيرَاثِهَا إذَا لَمْ يَرِث؛ بَل إنْ وَرِثَهُ أَبُوهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ مُطْلَقًا، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَرِثْهُ

(1)

من المعلوم أن للأم ثلث الباقي في مسألتين، هما المسألتان العمريتان، وسميتا بالعمريتين لقضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه بهما.

المسألة الأولى: زوج وأم وأب.

ففي هذه المسألة: الزوج له النصف، والأم لها الثلث، والأب له الباقي وهو السدس.

غير أنه لا يمكن أن يكون الأم لها الثلث والأب له السدس، فيكون للمرأة ضعف ما للرجل، والقاعدة أن المرأة لا يمكن أن تأخذ ضعف الرجل، بل إما أن يكون لها نصف نصيبه، وإما أن تساويه، أما هنا فقد أخذت ضعفه.

فقسمها عمر رضي الله عنه: بأن أعطى الأم ثلث الباقي فحينئذ: الزوج له النصف، وتأخذ الأم ثلث نصف الباقي وهو السدس هنا، ويأخذ الأب ثلثين، فأصبح هذا ضعفها فجرى هذا على القاعدة.

المسألة الثانية، زوجة وأم وأب.

فإذا قسمنا على الطريقة السابقة، فإن الزوجة تأخذ الربع، وتأخذ الأم الثلث، وللأب الباقي. فإن قيل: إن الله عز وجل قال: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} فظاهر الآية أن الأم تأخذ الثلث مطلقًا. فما الجواب على هذا؟

الجواب: أن يقال: هذا إذا انفردا. فإذا انفرد الأبوان فللأم الثلث والباقي للأب هذا هو ظاهر الآية. يُنظر: شرح الزاد لفضيلة الشيخ حمد بن عبد الله الحمد، عند قول صاحب الزاد: والسدس مع زوج وأبوين، والربع مع زوجة وأبوين، وللأب مثلاهما.

(2)

في جامع المسائل: إذا، ولعله أصوب.

ص: 493

أَبُوهُ بَل وَرِثَهُ مَن دُون الأَبِ؛ كَالْجَدِّ وَالْعَمِّ وَالْأَخِ فَهِيَ بِالثُّلُثِ أَوْلَى، فَإنَّهَا إذَا أَخَذَت الثلثَ مَعَ الْأبِ فَمَعَ غَيْرِهِ مِن الْعَصَبَةِ أوْلَى.

فَدَل الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّهُ

(1)

إذَا لَمْ يَرِثْهُ إلَّا الْأمُّ وَالْأبُ، أَو عَصَبَةٌ غَيْرُ الْأبِ - سِوَى الِابْنِ-: فَلِأُمِّهِ الثّلث، وَهَذَا مِن بَابِ التّنبِيهِ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى.

وَأَمَّا الِابْنُ فَإِنَّهُ أَقْوَى مِن الْأَبِ، فَلَهَا مَعَهُ السُّدُسُ.

وإذَا كَانَ مَعَ الْعَصَبَةِ ذُو فَرْضٍ: فَالْبَنَاتُ وَالْأخَوَاتُ قَد أَعْطَوا الْأمَّ مَعَهُنَّ السُّدُسَ، وَالْأُخْتُ الْوَاحِدَةُ إذَا كَانَت هِيَ وَالْأُمُّ فَالْأُمُّ تَأخُذُ الثُّلُثَ مَعَ الذكَرِ مِن الْإِخْوَةِ، فَمَعَ الْأنْثَى أَوْلَى.

وَإِنَّمَا الْحَجْبُ عَن الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ بِالْإِخْوَةِ، وَالْوَاحِدُ لَيْسَ إخْوَة.

فَإِذَا كَانَت مَعَ الْأَخِ الْوَاحِدِ تَأخُذُ الثُّلثَ فَمَعَ الْعَمِّ وَغَيْرِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.

وَفِي الْجَدِّ نِزَاعٌ، يُرْوَى عَن ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْجُمْهُورِ عَلَى أَنَّهَا

(2)

مَعَ الْجَدِّ تَأخذُ ثُلُثَ الْمَالِ وَهُوَ الصَّوَابُ؛ لِأنَّ الْجَدَّ أَبْعَدُ مِنْهَا، وَهُوَ مَحْجُوبٌ بِالْأَبِ، فَلَا يَحْجُبُهَا عَن شَيْءٍ مِن حَقِّهَا.

وَمَحْضُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْأَبَ مَعَ الْأُمِّ: كَالْبِنْتِ مِن الِابْنِ، وَالْأُخْتِ مَعَ الْأَخِ لِأنَّهُمَا ذَكَرٌ وَانْثَى مِن جِنْسٍ وَاحِدٍ هُمَا عَصَبَةٌ.

وَقَد أُعْطِيَت الزَّوْجَةُ نِصْفَ مَا يُعْطَاهُ الزوْجُ؛ لِأَنَّهُمَا ذَكَرٌ وَأُنْثَى مِن جِنْسٍ.

وَأَمَّا دَلَالَةُ الْكِتَابِ فِي مِيرَاثِ الْأمِّ: فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ: {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] فَاللهُ تَعَالَى فَرَضَ لَهَا بِشَرْطَيْنِ:

أ - أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ.

ب - وَأَنْ يَرِثَهُ أَبُوه.

(1)

أي: الميت.

(2)

أي: الأم.

ص: 494

فَكَانَ فِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تُعْطَى الثُّلُثَ مُطْلَقًا مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ، وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَالْجُمْهُورِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا تُعْطَى فِي الْعُمَرِيّتَيْنِ -زَوْجٌ وَأَبَوَانِ؛ وَزَوْجَةٌ وَأَبَوَانِ- ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ.

بَل فِي كِتَابِ اللهِ مَا يَمْنَعُ إعْطَاءَهَا الثلُثَ مَعَ الْأَبِ وَأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، فَإِنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ: فَإِنْ لَمْ يَكُن لَهُ وَلَدٌ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ، فَإنَّهَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَسْتَحِقُّ الثُّلُثَ مُطْلَقًا، فَلَمَّا خَصَّ الثُّلُثَ بِبَعْضِ الْحَالِ: عُلِمَ أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ مُطْلَقًا، فَهَذَا مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ الَّذِي يُسَمَّى دَلِيلُ الْخِطَابِ، يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَن أَعْطَاهَا الثُّلُثَ إلَّا الْعُمَرِيّتَيْنِ، وَلَا وَجْهَ لِإِعْطَائِهَا الثُّلُثَ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْإِجْمَاعِ.

‌فَصْلٌ

وَأَمَّا مِيرَاثُ الْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ وَأَنَّهُنَّ عَصَبَةً - الَّذِي هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ - فَقَد دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ أَيْضا، فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى:{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176]، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الأُخْتَ تَرِثُ النِّصْفَ مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ، وَأَنَّهُ

(1)

هُوَ يَرِثُ الْمَالَ كُلَّهُ مَعَ عَدَمِ وَلَدِهَا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الْأُخْتَ مَعَ الْوَلَدِ لَا يَكُونُ لَهَا النّصْفُ مِمَّا تَرَكَ.

وإذَا عُلِمَ أَنَّهَا مَعَ الْوَلَدِ لَا تَرِثُ النِّصْفَ: فَالْوَلَدُ:

أ - إمَّا ذَكَرٌ.

ب - وَإِمَّا أُنْثَى.

أَمَّا الذَّكَرُ: فَإِنَّهُ يُسْقِطُهَا كَمَا يَسْقُطُ الْأَخَ بِطَرِيقِ الْأوْلَى؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ الْإِرْثُ الْمُطْلَقُ إلَّا إذَا لَمْ يَكُن لَهَا وَلَدٌ، وَالْإِرْثُ الْمُطْلَقُ هُوَ حَوْزُ جَمِيعِ الْمَالِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ

(1)

أي: الأخ.

ص: 495

إذَا كَانَ لَهَا وَلَدٌ لَمْ يَحُز

(1)

الْمَالَ؛ بَل: إمَّا أَنْ يَسْقُطَ وَإِمَّا أَنْ يَأخُذَ بَعْضَهُ.

وَالْقُرْآنُ قَد بَيَّنَ أَنَّ الْبِنْتَ إنَّمَا تَأخُذُ النِّصْفَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْبِنْتَ لَا تَمْنَعُهُ النِّصْفَ الْآخَرَ إذَا لَمْ يَكُن إلَّا بِنْتٌ وَأَخٌ.

وَلَمَّا كَانَ فُتْيَا اللهِ إنَّمَا هُوَ فِي الْكَلَالَةِ، وَالْكلَالَةُ: مَن لَا وَالِدَ لَهُ وَلَا وَلَد: عُلِمَ أَنَّ مَن لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَوَالِدٌ لَيْسَ هَذَا حُكْمُهُ.

وَلَمَّا كَانَ قَد بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْأَخَ يَحُوزُ الْمَالَ -مَالَ الْأُخْتِ- فَيَكُونُ لَهَا عَصَبَةً: كَانَ الْأَبُ أَنْ يَكونَ لَهُ عَصَبَةً بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَإِذَا كَانَ الْأَبُ وَالْأخُ عَصَبَةً فَالِابْنُ بِطَرِيقِ الْأُولَى.

فَلَمَّا دَلَّ الْقرْآنُ عَلَى أَنَّ لِلْأُخْتِ النِّصْفَ مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ، وَأَنَهُ مَعَ ذُكُورِ الوَلَدِ

(2)

يَكُونُ الِابْنُ عَاصِبًا يَحْجُبُ الْأُخْتَ كَمَا يَحْجُبُ أَخَاهَا: بَقِيَ [حالُ]

(3)

الْأُخْتِ مَعَ إنَاثِ الْوَلَدِ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَنْفِي مِيرَاثَ الْأُخْتِ فِي هَذِهِ الْحَالِ.

وَلَا وَجْهَ لِسُقُوطِهَا؛ فَإِنَّهَا لَا تُزَاحِمُ الْبِنْتَ، وَأَخُوهَا لَا يَسْقُطُ، فَلَا تَسْقُط هِيَ.

وَقَد دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ عَن ابْنُ مَسْعُودٍ لَمَّا ذُكرَ لَهُ أَنَّ أَبَا مُوسَى وَسَلْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ قَالَا فِي بِنْتٍ وَبِنْتِ ابْنٍ وَأُخْتٍ: لِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَللْأُخْتِ النِّصْفُ، وائت ابْنُ مَسْعُودٍ فَإِنَّهُ سَيُتَابِعُنَا، فَقَالَ: لَقَد ضَلَلْت إذًا وَمَا أَنَا مِن الْمُهْتَدِينَ، لَأَقْضِيَن فِيهَا بِقَضَاءِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: لِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَبِنْت الِابْنِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ، وَمَا بَقِيَ لِلْأُخْتِ.

فَدَلَّ ذَلِكَ أَنَّ الْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ عَصَبَةٌ، وَالْأُخْتَ تَكُونُ عَصَبَةً بِغَيْرِهَا وَهُوَ أَخُوهَا، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ عَصَبَةً مَعَ الْبِنْتِ.

وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "ألْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأهِلِهَا"

(4)

إلَخْ فَهَذَا عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ الْمُعْتَقَةُ

(1)

أي: الأخ.

(2)

في الأصل: ولد، والتصويب من جامع المسائل (2/ 322).

(3)

ما بين المعقوفتين من جامع المسائل (2/ 322).

(4)

رواه البخاري (6732)، ومسلم (1615).

ص: 496

وَالْمُلَاعِنَةُ وَالْمُلْتَقِطَةُ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "تَحُوزُ الْمَرْأةُ ثَلَاثَ مَوَارِيثَ: عَتِيقهَا وَلَقِيطهَا وَوَلَدهَا الَّدِي لَاعَنَتْ عَلَيْهِ"

(1)

، وإذَا كَانَ عَامًّا مَخْصُوصًا: خُصَّتْ مِنْهُ هَذِهِ الصُّورَةُ بِمَا ذُكِرَ مِن الْأَدِلَّةِ.

‌فَصْلٌ

وَأَمَّا مِيرَاثُ الْبنْتَيْنِ: فَقَد قَالَ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] فَدَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ الْبِنْتَ لَهَا مَعَ أَخِيهَا الذَّكَرِ الثُّلُثُ

(2)

.

وَلَهَا وَحْدَهَا النِّصْفُ.

وَلمَا فَوْقَ اثْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ.

بَقِيَت الْبِنْتُ إذَا كَانَ لَهَا مَعَ الذَّكَرِ الثُّلُثُ لَا الرُّبُعُ، فَأنْ يَكُونَ لَهَا مَعَ الْأُنْثَى الثلثُ لَا الرُّبُعُ أَوْلَى وَأَحْرَى.

وَأَيْضًا: فَإِنَّ اللهَ لَمَّا قَالَ فِي الْأَخَوَاتِ: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176]: كَانَ دَليلًا عَلَى أَنَّ الْبِنْتَيْنِ أَوْلَى بِالثلثَيْنِ مِن الْأخْتَيْنِ.

‌فَصْلٌ

وَأَمَّا الْجَدَّةُ فَكَمَا قَالَ الصِّدِّيقُ: لَيْسَ لَهَا فِي كِتَابِ اللهِ شَيءٌ؛ فَإِنَّ الْأُمَّ الْمَذْكُورَةَ فِي كِتَابِ اللهِ مُقَيَّدَة بِقُيُود تُوجِبُ اخْتِصَاصَ الْحُكْمِ بِالْأُم الدُّنْيَا، فَالْجَدَّةُ وَإِن سُمِّيَتْ أُمًّا لَمْ تَدْخُلْ فِي لَفْظِ الْأُمِّ الْمَذْكُورَةِ فِي الْفَرَائِضِ، فَأُدْخِلَتْ فِي لَفْظِ الْأُمَّهَاتِ فِي قَوْلِهِ:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23].

وَلَكنْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أعطاها السُّدس، فَثبتَ مِيرَاثُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ لَفْظ عَامٌّ فِي الْجَدَّاتِ؛ بَل وَرَّثَ الْجَدَّةَ الَّتِي سَألَتْهُ، فَلَمَّا جَاءَت الثَّانِيَة أَبَا بَكْرٍ جَعَلَهَا شَرِيكَةَ الأُولَى فِي السُّدُسِ.

(1)

رواه ابن ماجه (2742)، وأحمد (16004).

(2)

لأن له مثل حظ أختَيْه، وهذا يعني أن له الثلثين، ولأخته الثلث.

ص: 497

وَقَد تَنَازَعَ النَّاسُ فِي الْجَدَّاتِ:

فَقِيلَ: لَا يَرِثُ الِاثْنَتَانِ: أُمُّ الْأمِّ، وَأُمُّ الْأَبِ كقَوْلِ مَالِكٍ وَأَبِي ثَوْرٍ.

وَقِيلَ: لَا يَرِثُ إلَّا ثَلَاثٌ هَاتَانِ وَأُمُّ الْجَدِّ.

وَقِيلَ: بَل يَرِثُ جِنْسَ الْجَدَّاتِ الْمُدْلِيَاتِ بِوَارِث، وَهُوَ قَوْلُ الْأكْثَرِينَ؛ كَأبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ اُّحْمَد، وَهَذَا الْقَوْلُ أرْجَحُ

(1)

.

يُبَيِّنُ ذَلِكَ: أَن أُمَّ أمِّ الْمَيِّتِ وَأمَّ أَبِيهِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ سَوَاءٌ، فَكَذَلِكَ أُمُّ أُمِّ أَبِيهِ، وَأمُّ أبِي أبِيهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَبِيهِ سَوَاءٌ، فَوَجَبَ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْمِيرَاثِ.

وَأيْضًا: فَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا أُمَّ أُمِّ الْأُمِّ وَإِن زَادَتْ أمُومَتُهَا تَرِثُ، وَأُمّ أَبِي الأبِ لَا تَرِثُ!

وَرَجَّحُوا الْجَدَّةَ مِن جِهَةِ الْأُمِّ عَلَى الْجَدَّةِ مِن جهَةِ الْأبِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، فَلَمْ تَكُنْ أُمُّ الْأُمِّ أَوْلَى بهِ مِن أُمِّ الْأبِ، وَأَقَارِبُ الْأُمِّ لَمْ يُقَدَّمُوا فِي شَيءٍ مِن الْأحْكَامِ؛ بَل أقَارِبُ الْأبِ أَوْلَى فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، فَكَذَلِكَ فِي الْحَضَانَةِ.

وَالصَّحِيحُ: أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِابْنِهَا -أي: الْأب- كَمَا هُوَ أظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَن أحْمَد؛ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ.

وَلِأَنَّهَا وَلَو أَدْلَتْ بِهِ فَهِيَ لَا تَرِثُ مِيرَاثَهُ؛ بَل هِيَ مَعَهُ كَوَلَدِ الْأمِّ مَعَ الْأمِّ لَمْ يَسْقُطُوا بِهَا.

وَقَوْلُ مَن قَالَ: مَن أَدْلَى بِشَخْص سَقَطَ بِهِ بَاطِل طَرْدًا وَعَكْسًا. بَاطِلٌ طَرْدًا: بِوَلَدِ الْأُمِّ مَعَ الْأُمِّ.

وَعَكْسًا: بِوَلَدِ الِابْنِ مَعَ عَمِّهِمْ، وَوَلَدِ الْأَخِ مَعَ عَمِّهِمْ، وَأمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ سُقُوطُ شَخْصٍ بِمَن لَمْ يَدْلُ بِهِ.

(1)

وهو الذي رجحه العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله. تسهيل الفرائض (47).

ص: 498

وإنَّمَا الْعِلَّةُ: أَنَّهُ يَرِثُ مِيرَاثَهُ، فَكُلُّ مَن وَرِثَ مِيرَاثَ شَخْصٍ سَقَطَ بِهِ إذَا كَانَ أَقْرَبَ مِنْهُ، وَالْجَدَّاتُ يَقُمْنَ مَقَامَ الْأمِّ فَيَسْقُطْنَ بِهَا وَإِن لَمْ يُدْلِينَ بِهَا.

وَأَمَّا كَوْنُ بَنَاتِ الِابْن مَعَ الْبِنْتِ لَهُنَّ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ، وَكَذَلِكَ الْأخَوَاتُ مِن الْأبِ مَعَ أَخْتِ الْأبَوَيْنِ: فَلِأَنَ اللهَ قَالَ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] وَقَد عُلِمَ أَنَّ الْخِطَابَ تَنَاوَلَ وَلَدَ الْبَنِينَ دُونَ وَلَدِ الْبَنَاتِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ:{أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] يَتَنَاوَلُ مَن يُنْسَبُ إلَى الْمَيِّتِ، وَهُم وَلَدُهُ وَوَلَدُ ابْنَتِهِ، وَأَنَّهُ مُتَنَاوِلُهُم عَلَى التَّرْتِيبِ، يَدْخُلُ فِيهِ وَلَدُ الْبَنِينَ عِنْدَ عَدَمِ وَلَدِ الصُّلْبِ؛ لِمَا قَد عُرِفَ مِن أَنَّمَا أَبْقَت الْفُرُوضُ فَلِأَوْلَى رَجُلِ ذَكَرٍ، وَالِابْنُ أَقْرَبُ مِن ابْنِ الِابْنِ، فَإذَا لَمْ تَكُنْ إلَّا بِنْتٌ فَلَهَا النِّصْفُ، وَبَقِيَ مِن نَصِيبِ الْبَنَاتِ السُّدسُ، فَإذَا كَانَ هُنَا بَنَاتُ ابْنٍ فَإنَّهُنَّ يَسْتَحْقِقْنَ الْجَمِيعَ لَوْلَا الْبِنْتُ، فَإذَا أَخَذَت النِّصْفَ فَالْبَاقِي لَهُنَّ.

وَكَذَلِكَ فِي الْأخْتِ مِن الْأبَوَيْنِ مَعَ الْأُخْتِ مِن الْأبِ، أَخْبَرَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى لِلْبِنْتِ بِالنِّصْفِ، وَلبِنْتِ الِابْنِ السُّدُسُ مجمِلَةَ الثُّلثَيْنِ.

وَأَمَّا إذَا اسْتَكْمَلَت الْبَنَاتُ الثُّلُثَيْنِ لَمْ يَبْقَ فَرْضٌ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ عَصَبَةٌ مِن وَلَدِ الْبَنينَ فَالْمَالُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى ذَكَرٍ، وإن كَانَ مَعَهُ أَو فَوْقَهُ عَصَّبهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ كَالْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ.

وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَإنَّهُ يُسْقِطُهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَرِثُ مُفْرَدَةً.

وَالنِّزَاعُ فِي الْأخْتِ لِلْأَبِ مَعَ أخِيهَا إذَا اسْتَكْمَلَ الْبَنَاتُ الثُّلُثَيْنِ، فَالْخمْهُورُ يَجْعَلُونَ الْبَنَات عَصَبَةً مَعَ إخْوَانِهِنَّ، يَقْتَسِمُونَ الْبَاقِي لِلذكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثييْنِ، سَوَاءٌ زَادَ مِيرَاثُهُنَّ بِالتَّعْصِيبِ أَو نَقَصَ.

وَتَوْرِيثهُنَّ هُنَا أَقْوَى. [31/ 338 - 355]

* * *

ص: 499

(حكم توريث من ماتوا وجُهل أيهم الأسبق)

4264 -

فَصْلٌ: فِي مَن "عَمِيَ مَوْتُهُمْ" فَلَمْ يُعْرَفْ أَيُّهُم مَاتَ أَوَّلًا، فَالنِّزَاعُ مَشْهُورٌ فِيهِمْ، وَالْأشْبَهُ بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ أنَّهُ لَا يَرِثُ بَعْضُهُم مِن بَعْضٍ؛ بَل يَرِثُ كُلُّ وَاحِدٍ وَرَثَتَهُ الْأحْيَاءَ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد لَكِنْ خِلَافُ الْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَجْهُولَ كَالْمَعْدُومِ فِي الْأصُولِ؛ كَالْمُلْتَقِطِ لَمَّا جُهِلَ حَالُ الْمَالِكِ كَانَ الْمَجْهُولُ كَالْمَعْدُومِ، فَصَارَ مَالِكًا لِمَا الْتَقَطَهُ؛ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْمِلْكِ.

وَكَذَلِكَ الْمَفْقُودُ قَد أَخَذَ أحْمَد بِأقْوَالِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ جَعَلُوا الْمَجْهُولَ كَالْمَعْدُومِ، فَجَعَلُوهَا زَوْجَةَ الثَّانِي مَا دَامَ الْأوَّلُ مَجْهُولًا بَاطِنًا وَظَاهِرًا كَمَا فِي اللَّقْطِ.

فَإذَا عُلِمَ صَارَ النِّكَاحُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتهِ وَرَدِّهِ، فَخُيِّرَ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَالْمَهْرِ، فَإِن اخْتَارَ امْرَأَتَهُ كَانَت زَوْجَتَهُ وَبَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِي وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى طَلَاقِهِ.

وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ أحْمَد تَبعَ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْمَجْهُولَ كَالْمَعْدُومِ؛ وَهُنَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا قَد مَاتَ قَبْلَ الْآخَرِ فَذَاكَ مَجْهُولٌ، وَالْمَجْهولُ كَالْمَعْدُومِ؛ فَيَكُونُ تَقَدُّمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ مَعْدُومًا فَلَا يَرِثُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ.

وَأيْضًا فَالْمِيرَاثُ جُعِلَ لِلْحَيِّ لِيَكُونَ خَلِيفَة لِلْمَيِّتِ يَنْتَفِعُ بِمَالِهِ. [31/ 356]

* * *

(بَابُ الْعِتْقِ)

4265 -

إذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ وَعَلِمَ أَنَّهَا مَمْلُوكَة: فَإِنَّ وَلَدَهَا مِنْهُ مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ؛ فَإِنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ أَبَاهُ فِي النَّسَبِ وَالْوَلَاءِ، وَيتْبَعُ أُمَّهُ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ.

فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مِمَن يُسْتَرَقُّ جِنْسُهُ بِالِاتفَاقِ: فَهُوَ رَقِيقٌ بِالِاتِّفَاقِ، وإن كَانَ مِمَن تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي رِقِّهِ: وَقَعَ النِّزَاعُ فِي رِقِّهِ؛ كَالْعَرَبِ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ

ص: 500

يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ؛ لِمَا ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ"

(1)

عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: لَا أَزَالُ أُحِبُّ بَنِي تَمِيمٍ بَعْدَ ثَلَاثٍ سَمِعْتهنَّ مِن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُهَا فِيهِمْ، سَمِعْت رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"هُم أَشَدُّ أُمتِي عَلَى الدَّجَّالِ"

(2)

، وَجَاءَت صَدَقَاتُهُم فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"هَذِهِ صَدَقَاتُ قَوْمِنَا".

قَالَ: وَكَانَت سَبِيَّةٌ مِنْهُم عِنْدَ عَائِشَةَ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: "أَعْتِقِيهَا فَإنَّهَا مِن وَلَدِ إسْمَاعِيلَ"

(3)

.

وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَنَحْوُهَا مَشْهُورَةٌ بَل مُتَوَاتِرَةٌ أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْبِي الْعَرَبَ، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ بَعْدَهُ.

وَأَيْضًا: فَسَبَبُ الِاسْتِرْقَاقِ هُوَ الْكُفْرُ بِشَرْطِ الْحَرْبِ، فَالْحُرُّ الْمُسْلِمُ لَا يُسْتَرَقُّ بِحَالٍ، وَالْمُعَاهَدُ لَا يُسْتَرَقُّ، وَالْكُفْرُ مَعَ الْمُحَارَبَةِ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ كَافِرٍ، فَجَازَ اسْتِرْقَاُقهُ كَمَا يَجُوزُ قِتَالُهُ، فَكُلُّ مَا أَبَاحَ قَتْلَ الْمُقَاتِلَةِ أَبَاحَ سَبْيَ الذرِّيَّةِ، وَهَذَا حُكْمٌ عَامٌّ فِي الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ مِن قَوْلَيْهِ وَأَحْمَد.

وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلَا يُجَوِّزُ اسْتِرْقَاقَ الْعَرَبِ، كَمَا لَا يُجَوِّزُ ضَرْبَ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَن الْعَرَبَ اُخْتُصُّوا بِشَرَفِ النَّسَبِ؛ لِكَوْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ. [31/ 376 - 379]

4266 -

الْعَبْدُ إذَا هَاجَرَ مِن أَرْضِ الْحَرْبِ فَإِنَّهُ حُرٌّ، وَلَا حُكْمَ عَلَيْهِ لِأَحَد. [31/ 385]

(1)

البخاري (2543)، ومسلم (2525).

(2)

في الأصل: (الرِّجَالِ)، وهو خطأ، والتصويب من صحيح البخاري ومسلم.

(3)

ومن أصرح الأدلة على ذلك ما ثبت في الصَّحيحِ أنَّهُ سَبَى نِساءَ هَوازنَ، وهُم عَربٌ، وقَسَّمَهُم بَينَ الْغانِمينَ، فَصارُوا رقيقًا لهُمْ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ طَلَبَ من الصحابة أنْ يُطلقوهم ويمنوا عليهم.

ص: 501

4267 -

إذا أعتقت

(1)

جاريتها ونيَّتها أن تعتقها إذا كانت مستقيمة فبانت زانية: جاز لها بيعها، وإن أعتقتها مطلقًا لزمها

(2)

. [المستدرك 4/ 133]

4268 -

قال شيخنا فيمن عتق برحم: لا يملك بائعه استرجاعه لفلس مشتر. [المستدرك 4/ 133]

4269 -

إذا أعتق أحد الشريكين نصيبه وهو موسر: عتق نصيبه، ويعتق نصيب شريكه بدفع القيمة، وهو قول طائفة من العلماء.

وإن كان معسرًا: عتق كله واستسعى العبدُ في باقي قيمته. [المستدرك 4/ 133]

4270 -

المالك إذا استكره عبده على الفاحشة عتق عليه.

وقال بعض السلف: يبنى على القول بالعتق بالمثلة.

وإذا استكره أَمَة امرأته على الفاحشة: عتقت وغرم مثلها لسيدتها، وقاله الإمام أحمد في رواية إسحاق؛ بخبر سلمة بن المحبق.

وكذا أَمَة غير امرأته.

وإن لم يكرهها: لم تعتق وضمنها لسيدتها.

ومن مثَّل بعبد غيره: يتوجه أن يعتق عليه، ويضمن قيمته لسيده، كما دل عليه حديث المستكره لأمة امرأته؛ فإنه يدل على أن الاستكراه تمثيل، وأن التمثيل يوجب العتق ولو بعبد الغير.

ويدل أيضا على أن من تصرف بملك الغير على وجه يمنعه من الانتفاع به فإن له المطالبة بقيمته.

قال أبو العباس: ما أعرف للحديث وجهًا إلا هذا. [المستدرك 4/ 133]

4271 -

لو لم تلائم أخلاق العبد أخلاق سيده لزمه إخراجه من ملكه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "فما لا يلائمكم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله"

(3)

.

(1)

المرأة.

(2)

أي: الإعتاق.

(3)

رواه أبو داود (5157)، وأحمد (21483)، وصَّحه الألباني في صحيح أبي داود.

ص: 502

4272 -

العبد الذي يعتق من مال الفيء والمصالح: يحتمل أن يقال: لا ولاء عليه لأحد، بمنزلة عبد الكافر إذا أسلم وهاجر. ويحتمل أن يقال: الولاء عليه للمسلمين.

وعلى هذا: فإذا اشترى السلطان رقيقًا ونقد ثمنه من بيت المال ثم أعتقه كان الملك فيه ثابتًا للمسلمين، ولا يكون لأحد عليه ولاية، مع عدم نسب لهم في بيت المال؛ لأن ولاءه إما لبيت المال استحقاقًا أو لكونه لا وارث له فيوضع ماله في بيت المال، وليس ميراثه لورثة السلطان؛ لأنه اشتراه بحكم الوكالة، لا بحكم المالك. [المستدرك 4/ 134]

* * *

(شروط نكاح المملوكة، وماذا يترتب على من وَطِئَ الْأَمَةَ بِزنى أو بِنِكَاح)

4273 -

نِكَاحُ الْحُرِّ لِلْمَمْلُوكَةِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِشَرْطَيْنِ: خَوْفُ الْعَنَتِ وَعَدَمُ الطَّوْلِ إلَى نِكَاحِ حُرَّةٍ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِي وَأَحْمَد، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأنَّ تَزَوُّجَهُ يُفْضِي إلَى اسْتِرْقَاقِ وَلَدِهِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْحُرِّ الْعَرَبِيِّ وَلَا الْعَجَمِيِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَمْلُوكَةً إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَإذَا تَزَوَّجَهَا لِلضَّرُورَةِ كَانَ وَلَدُهُ مَمْلُوكًا.

وَأَمَّا إذَا وَطِئَ الْأَمَةَ بِزِنا: فَإنَّ وَلَدَهَا مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِهَا بِالِاتِّفَاقِ، وَإن كَانَ أَبُوهُ عَرَبِيًّا؛ لِأَنَّ النَّسَبَ غَيْرُ لَاحِقٍ.

وَأَمَّا إذَا وَطِئَهَا بِنِكَاح وَهُوَ يَعْتَقِدُهَا حُرَّةً، أَو اسْتَبْرَأَهَا فَوَطِئَهَا يَظُنُّهَا مَمْلُوكَتَهُ: فَهُنَا وَلَدُهُ حُرٌّ، سَوَاءٌ كَانَ عَرَبِيًّا أَو عَجَمِيًّا.

وَهَذَا يُسَمَّى الْمَغْرُورُ، فَوَلَدُ الْمَغْرُورِ مِن النِّكَاحِ أو الْبَيْعِ حُرٌّ؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ وَطِئَ زَوْجَةً حُرَّة أَو مَمْلُوكَتَهُ، وَعَلَيْهِ الْفِدَاءُ لِسَيِّدِ الْأَمَةِ كَمَا قَضَتْ بِذَلِكَ الصَّحَابَةُ؛ لِأَنَّه فَوَّتَ سَيّدَ الْأُمَّةِ مِلْكَهُم فَكَانَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ. [31/ 383]

* * *

ص: 503

‌(ذنب من ظلم الخادم حتى قتل نفسه، وهل يُصلى عليه

؟)

4274 -

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله: عَن رَجُلٍ لَهُ مَمْلُوكٌ هَرَبَ ثُمَّ رَجَعَ، فَلَمَّا رَجَعَ أَخْفَى سِكينَتَهُ وَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهَل يَأثَمُ سَيِّدُهُ؟ وَهَل تَجُوزُ عَلَيْهِ صَلَاةٌ؟

فَأجَابَ: لَمْ يَكن لَهُ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ وَإِن كَانَ سَيِّدُهُ قَد ظَلَمَهُ وَاعْتَدَى عَلَيْهِ؛ بَل كَانَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ دَفْعُ الظُّلْمِ عَن نَفْسِهِ أَنْ يَصْبِرَ إلَى أَنْ يُفَرِّجَ اللهُ.

فَإنْ كَانَ سَيِّدُهُ ظَلَمَهُ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ؛ مِثْل أَنْ يُقَتِّرَ عَلَيْهِ فِي النَّفَقَةِ، أَو يَعْتَدِيَ عَلَيْهِ فِي الِاسْتِعْمَالِ، أَو يَضْرِبَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَو يُرِيدَ بِهِ فَاحِشَةً وَنَحْو ذَلِكَ: فَإِنَّ عَلَى سَيِّدِهِ مِن الْوِزْرِ بِقَدْرِ مَا نُسِبَ إلَيْهِ مِن الْمَعْصِيَةِ.

وَلَمْ يُصَلّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَن قَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ:"صَلُّوا عَلَيْهِ".

فَيَجُوزُ لِعُمُومِ النَّاسِ أَنْ يُصَلُّوا عَلَيْهِ، وَأَمَّا أَئِمَّةُ الدِّينِ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِم فَإِذَا تَرَكُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ زَجْرًا لِغَيْرِهِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهَذَا حَقٌّ. [31/ 384]

* * *

(المكاتب)

(1)

4275 -

الأشبه بالمذهب صحة الخيار في الكتابة

(2)

.

ولو قيل بصحة شرط الخيار في الخلع

(3)

: لم يبعد.

وأما شرط الخيار في التعليقات: ففيه نظر

(4)

. [المستدرك 4/ 135]

4276 -

يجوز شرط وطء المكاتبة، ونصَّ عليه الإمام أحمد.

ويتوجه على هذا: جواز وطئها بلا شرط بإذنها.

وعلى قياس هذا: يجوز أن يشترط الراهن وطء المرتهنة. [المستدرك 4/ 135]

(1)

المكاتب: هو العبد يكاتب على نفسه بثمنه فإذا سعى وأداه عتق.

(2)

في الأصل: (الخيار والكتابة)، والمثبت من الاختيارات (288).

(3)

في الأصل: (الكتابة)، والمثبت من الاختيارات (288).

(4)

في الأصل: (فلا)، والمثبت من الاختيارات (288).

ص: 504

4277 -

قال في "الفائق": ولو أدى ثلاثة أرباعه وعجز عن ربعه لم يعتق في أحد الوجهين، واختاره الشيخ تقي الدين. [المستدرك 4/ 135]

* * *

(أم الولد)

4278 -

لا تعتق أم الولد إلا بموت سيدها، ويجوز لسيدها بيعها، وهو رواية عن الامام أحمد

(1)

. [المستدرك 4/ 135]

4279 -

لا يملك السيد نقل الملك في أم الولد لا في حياته ولا بعد موته، ولا يجوز وقفها ولا هبتها ولا غيره.

ولا نزاع أنه يجوز له استخدامها ووطئها.

وفي جواز إجارتها وتزويجها نزاع، يجوز عند أحمد وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي.

والآخر لا يجوز التزويج.

وله قول ثالث: يجوز برضاها.

ومالك لا يجوِّز إجارتها ولا تزويجها. [المستدرك 4/ 137 - 138]

* * *

(1)

والمشهور من المذهب أن أحكام أمهات الأولاد أحكام الإماء في جميع أمورهن إلا أنهن لا يبعن. المغني (12/ 492).

ص: 505

‌كِتَابُ النِّكَاحِ

4280 -

معناه: في اللغة الجمع والضم على أكمل الوجوه، فإن كان اجتماعًا بالأبدان فهو الإيلاج الذي ليس بعده غاية في اجتماع البدنين. وإن كان اجتماعًا بالعقود فهو الجمع بينهما على الدوام واللزوم؛ ولهذا يقال: استنكحه المذي إذا لازمه وداومه. [المستدرك 4/ 139]

4281 -

تَرَدَّدَتْ عِبَارَاتُ الْأَصْحَابِ في مَوْرِدِ عَقْدِ النّكَاحِ: هل هو الْمِلْكُ، أو الِاسْتِبَاحَةُ؟

فَمِن قَائِلٍ هو الْمِلْكُ: ثُمَّ تَرَدَّدُوا: هل هو مِلْكُ مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ أو مِلْكُ الِانْتِفَاعِ بها؟

وَقِيلَ: بَل الْمَعْقُودُ عليه الِازْدِوَاجُ كَالْمُشَارَكَةِ؛ وَلهَذَا فَرَّقَ اللهُ سبحانه وتعالى بين الِازْدِوَاجِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ.

وَإِلَيْهِ مَيْلُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ- رحمه الله.

فَيَكُونُ من بَابِ الْمُشَارَكَاتِ لَا الْمُعَاوَضَاتِ

(1)

. [المستدرك 4/ 139]

4282 -

النكاح في الآيات: حقيقة في العقد والوطء، وفي النهي لكلٍّ منهما.

وقال شيخنا: في الإثبات لهما، وفي النهي لكل منهما، بناء على أنه إذا نهي عن شيء نهي عن بعضه، والأمر به أمر بكله في الكتاب والسُّنَّة والكلام.

فإذا قيل مثلًا: انكح ابنة عمك: كان المراد العقد والوطء، وإذا قيل: لا تنكحها تناول كل واحد منهما. [المستدرك 4/ 139 - 140]

(1)

الإنصاف (8/ 6)، ومنه نقلت، وفيه شيء مما يُخالف ما في المستدرك.

ص: 506

4283 -

نِكَاحُ الْكِتَابِيَّةِ جَائزٌ بالآيَةِ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ، قَالَ تَعَالَى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5].

وَهَذَا مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِن الْأئِمَّةِ الْأرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ. [14/ 91]

4284 -

إِفْسَادُ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا مِن أَعْظَمِ الظُّلْمِ لِزَوْجِهَا، وَهُوَ عِنْدَهُ أَعْظَمُ مِن أَخْذِ مَالِهِ.

وَلهَذَا يَجُوزُ لَهُ قَتْلُهُ دَفْعًا عَنْهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ إذَا لَمْ يَنْدَفِعْ إلَّا بِالْقَتْلِ بِالِاتِّفَاقِ.

وَيَجُوزُ فِي أَظْهَرِ الْقَوْلِيْنِ قَتْلُهُ وإن انْدَفَعَ بِدُونِهِ، كَمَا فِي قِصَّةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه لَمَّا أَتَاهُ رَجُل بِيَدِهِ سَيْفٌ فِيهِ دَمٌ، وَذَكَرَ أنَّهُ وَجَدَ رَجُلًا تَفَخَّذَ امْرَأَتَهُ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ، فَأقَرَّهُ عُمَرُ عَلَى ذَلِكَ، وَشَكَرَهُ وَقَبِلَ قَوْلَهُ أَنَّهُ قَتَلَهُ لِذَلِكَ إذ ظَهَرَتْ دَلَائِلُ ذَلِكَ.

وَهَذَا كَمَا لَو اطَّلَعَ رَجُل فِي بَيْتِهِ فَإنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أنْ يَفْقَأ عَيْنَهُ ابْتِدَاءً، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُنْذِرَهُ هَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ. [15/ 122]

4285 -

الْمَرْأةُ أسِيرَة مَعَ الزَّوْجِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ: "اتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ؛ فإنَّهُن عَوَانٌ عِنْدَكُمْ، أخَذتُمُوهُنَّ بِأمَانَةِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ"

(1)

. [32/ 28]

4286 -

وَسئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلِ تَزَوَّجَ بِيَتِيمَةٍ وَشَهِدَتْ أمُّهَا بِبُلُوغِهَا، فَمَكَثَتْ فِي صُحْبَتِهِ أرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ بَانَتْ مِنْهُ بِالثّلَاثِ، ثُمَّ شَهِدَتْ أَخَوَاتُهَا وَنِسَاءٌ أُخَرُ أَنَّهَا مَا بَلَغَتْ إلَّا بَعْدَ دُخُولِ الزَّوْجِ بِهَا بِتِسْعَةِ أَيَّامٍ، وَشَهِدَتْ أمُّهَا بِهَذِهِ الصُّورَةِ، وَالْأمُّ مَاتَتْ، وَالزَّوْجُ يُرِيدُ الْمُرَاجَعَةَ؟

(1)

رواه أبو داود (1905)، وابن ماجه (3074)، والدارمي (1892)، وأحمد (20695).

ص: 507

فَأَجَابَ: لَا يَحِلُّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، فَإنَ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ أَنَّ نِكَاحَ هَذِهِ صَحِيحٌ وَإِن كَانَ قَبْلَ الْبُلُوغِ.

وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ.

وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ يَقْبُحُ، فَإِنَّهَا مِن أَهْلِ الْبَغْيِ، فَإِنَّهُم لَا يَتَكَلَّمُونَ فِي صِحَّةِ النكَاح حِين كَانَ يَطَؤُهَا ويسْتَمْتِعُ بِهَا، حَتَّى إذَا طَلَقَتْ ثَلَاثًا أَخَذُوا يَسْعَوْنَ فِيمَا يُبْطِلُ النِّكَاحَ حَتَّى لَا يُقَالَ: إنَّ الطَّلَاقَ وَقَعَ.

وَهَذَا مِن الْمُضَادَّةِ للهِ فِي أَمْرِهِ، فَإنَّهُ حِينَ كَانَ الْوَطْءُ حَرَامًا لَمْ يَتَحَرَّ وَلَمْ يَسْألْ، فَلَمَّا حَرَّمَهُ اللهُ أَخَذَ يَسْألُ عَمَّا يُبَاحُ بِهِ الْوَطْءُ

(1)

! وَمِثْلُ هَذَا يَقَعُ فِي الْمُحَرَّمِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ فَاسِقٌ. [32/ 97 - 98]

4287 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلٍ أقَرَّ عِنْدَ عُدُولٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ مِن مُدَّةٍ تَزِيدُ عَلَى الْمُدَّةِ الشَرْعِيَّةِ، فَهَل يَجُوز لَهُم تَزْوِيجُهَا لَهُ الْآنَ؟

فَأجَابَ: أَمَّا إنْ كَانَ الْمُقِرُّ فَاسِقًا أَو مَجْهُولًا: لَمْ يُقْبَل قَولهُ فِي إسْقَاطِ الْعِدَّةِ الَّتِي فِيهَا حَقُّ اللهِ، وَلَيْسَ هَذَا إقْرَارًا مَحْضًا عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى يُقْبَلَ مِن الْفَاسِقِ؛ بَل فِيهِ حَق للهِ؛ إذ فِي الْعِدَّةِ حَقُّ اللهِ

(2)

وَحَقٌّ لِلزَّوْجِ.

وَأمَّا إذَا كَانَ عَدْلًا غَيْرَ مُتَّهَم: مِثْل أَنْ يَكُونُ غَائِبًا فَلَمَّا حَضَرَ أَخْبَرَهَا أنَّهُ طَلَّقَ مِن مُدَّةِ كَذَا وَكَذَا، فَهَل تَعْتَد مِن حِينِ بَلَّغَهَا الْخَبَرَ إذَا لَمْ تَقُمْ بِذَلِكَ بَيّنَةٌ؟ أو مِن حِينِ الطَّلَاقِ كَمَا لَو قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ؟ فِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ عَن أَحْمَد وَغَيْرِهِ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ هُوَ الثَّاني. [32/ 105]

(1)

وهذا يحدث كثيرًا ممن قل ورعه، وضعف دينُه.

(2)

في الفتاوى الكبرى: (حَقٌّ لِلَّهِ)، وهو أصوب.

ص: 508

4288 -

عُرِفَ بِالْعَادَاتِ وَالتَّجَارِبِ أَنَّ الْمَرْأَة إذَا كَانَت لَهَا إرَادَةٌ فِي غَيْرِ الزَّوْجِ: احْتَالَتْ إلَى ذَلِكَ بِطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، وَتَخْفَى عَلَى الزَّوْجِ، وَرُبَّمَا أَفْسَدَتْ عَقْلَ الزَّوْجِ بِمَا تُطْعِمُهُ، وَرُبَّمَا سَحَرَتْهُ أَيْضًا، وَهَذَا كَثِيرٌ مَوْجُودٌ، رِجَالٌ أَطْعَمَهُم نِسَاؤُهُم وَسَحَرَتْهُم نِسَاؤُهُمْ، حَتَّى يُمْكِنَ الْمَرْأَةَ أَنْ تَفْعَلَ مَا شَاءَتْ.

وَقَد يَكُونُ قَصْدُهَا مَعَ ذَلِكَ أَنْ لَا يَذْهَبَ هُوَ إلَى غَيْرِهَا؛ فَهِيَ تَقْصِدُ مَنْعَهُ مِن الْحَلَالِ أَو مِن الْحَرَامِ وَالْحَلَالِ.

وَقَد تَقْصِدُ أَنْ يُمَكِّنَهَا أَنْ تَفْعَلَ مَا شَاءَتْ فَلَا يَبْقَى مُحْصِنَا لَهَا قَوَّامًا عَلَيْهَا؛ بَل تَبْقَى هِيَ الْحَاكِمَةُ عَلَيْهِ. [32/ 124]

4289 -

الإعراض عن الأهل والأولاد: ليس مما يحبه الله ورسوله، ولا هو دين الأنبياء قال تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38]. [المستدرك 4/ 140]

4290 -

قال أحمد في رواية أبي داود: إذا خافَ العنتَ أَمْرتُهُ أن يتزوج، وإذا أمره والده أمرته أن يتزوج.

وقال في رواية المروذي: إن كان الرجل يخاف على نفسه ووالداه يمنعانه من التزوج: فليس لهم ذلك. [المستدرك 4/ 140]

4291 -

إن احتاج الإنسان إلى النكاح وخشي العنت بتركه: قدمه على الحج الواجب، وإن لم يخف قدم الحج، ونص الإمام أحمد عليه.

وإن كانت العبادات فرض كفاية؛ كالعلم والجهاد: قدمت على النكاح إن لم يخش العنت

(1)

. [المستدرك 4/ 140]

4292 -

إذا طلب العبد النكاح أجبر السيد في مذهب أحمد والشافعي في أحد قوليه على تزويجه؛ لأنه كالإنفاق عليه. وتزويج الأَمَة إذا طلبت النكاح

(1)

لعل شيخ الإسلام لم يتزوج من هذا الباب، حيث قدم العلم ونشره على الزواج. والله أعلم.

ص: 509

من كفء واجب باتفاق العلماء، وصحَّ قوله عليه الصلاة والسلام:"يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج"

(1)

.

واستطاعة النكاح: هي القدرة على المؤونة. ليس القدرة على الوطء، فإن الحديث إنما هو خطاب للقادر على فعل الوطء، ولهذا أمر من لم يستطع الباءة بالصوم فإنه له وجاء. [المستدرك 4/ 140 - 141]

4293 -

كشف النساء وجوههن بحيث يراهن الأجانب غير جائز. [المستدرك 4/ 141]

4294 -

لا يجوز للمرأة أن تظهر على أجنبي ولا رقيق غير ملكها، ولو كان خصيًّا -وهو الخادم- فليس له النظر إليها؛ لأنه يفعل مقدمات الجماع، ويذكر بالرجال وله شهوة وإن كان لا يحبل. وأما مملوكها ففيه قولان:

أحدهما: أنها معه كالأجنبي وهو قول أبي حنيفة والمشهور عن أحمد.

والثاني: أنه محرم وهو قول الشافعي وقول لأحمد. [المستدرك 4/ 141]

4295 -

تصافح المرأة المرأة، والرجل الرجل، والعجوز والبرزة

(2)

، غير الشابة؛ فإنه تحرم مصافحتها للرجل ذكره في الفصول والرعاية. وقال ابن منصور لأبي عبد الله: تكره مصافحة النساء؟ قال: أكرهه. قال إسحاق بن راهويه كما قال.

وقال محمد بن عبد الله بن مهران: إن أبا عبد الله سئل عن الرجل يصافح المرأة؟ قال: لا، وشدد فيه جدًّا.

قلت: فيصافحها بثوبه؟ قال: لا.

قال رجل: فإذا كان ذا محرم؟ قال: لا.

قلت: ابنته؟ قال: إذا كانت ابنته فلا بأس.

(1)

رواه البخاري (5065)، ومسلم (1400).

(2)

المرأة البرزة: هي الكهلة التي لا تحتجب احتجاب الشواب، وهي مع ذلك عفيفة عاقلة تجلس للناس وتحدثهم، مأخوذ من البروز والظهور والفروج، كما قال ذلك ابن الأثير في النهاية (1/ 117).

ص: 510

فهاتان روايتان في تحريم المصافحة، وكراهتها للنساء، والتحريم اختيار الشيخ تقي الدين، وعلل بأن الملامسة أبلغ من النظر. [المستدرك 4/ 142]

4296 -

تحرم الخلوة بغير محرم ولو بحيوان يشتهي المرأة، أو تشتهيه كالقرد، وذكره ابن عقيل وابن الجوزي. [المستدرك 4/ 142]

4297 -

تحرم الخلوة بأمرد حسن، ومضاجعته كالمرأة الأجنبية، ولو لمصلحة التعليم والتأديب. [المستدرك 4/ 142]

4298 -

لا تُترك المرأة تذهب حيث شاءت. [المستدرك 4/ 142]

4299 -

ينبغي أن يكون النظر بعد العزم على نكاحها وقبل الخطبة. [المستدرك 4/ 143]

4300 -

نقل يعقوب بن بختان عن أحمد أنه قال: لا ينبغي للخاطب إذا خطب لقوم أن يقبل لهم هدية.

قال أبو العباس: هذا خاطب الرجل؛ لأن المرأة لا تبذل، وإنما الزوج هو الذي يبذل.

واختار شيخنا التحريم، قال: وهو المنقول عن السلف والأئمة الأكابر. قال: ورخص فيه بعض المتأخرين. [المستدرك 4/ 143]

4301 -

يباح التصريح والتعريض من صاحب العدة فيها إن كانت المعتدة ممن يحل له التزوج بها في العدة كالمختلعة.

فأما إن كانت ممن لا يحل له إِلَّا بعد انقضاء العدة كالمزني بها والموطوءة بشبهة: فينبغي أن يكون كالأجنبي.

والمعتدة باستبراء كأم الولد، أو التي مات سيدها أو أعتقها: فينبغي أن تكون في حق الأجنبي كالمتوفى عنها زوجها.

والمطلقة ثلاثًا، والمنفسخ نكاحها برضاع أو لعان: فيجوز التعريض بخطبتها دون التصريح. [المستدرك 4/ 143]

ص: 511

4302 -

التعريض أنواع تارة:

أ - يذكر صفات نفسه.

ب - وتارة: يذكر لها صفات نفسها.

ج - وتارة: يذكر لها طلبًا بعينه؛ كقوله: رب راغب فيك وطالب لك.

د - وتارة: يذكر أنه طالب للنكاح ولا يعينها.

هـ - وتارة: يطلب منها ما يحتمل النكاح وغيره؛ كقوله: إذا قضى الله شيئًا كان. [المستدرك 4/ 143 - 144]

4303 -

لو خطبت المرأةُ، أو خطب وليُّها لها الرجل ابتداء فأجابها

(1)

: فينبغي ألا يحل لرجل آخر خطبتها، إِلَّا أنه أضعف من أن يكون الرجل هو الخاطب.

وكذا لو خطبته، أو وليُّها بعد أن خطب هو امرأة.

فالأول. إيذاء للخاطب.

والثاني: إيذاء للمخطوب.

وهذا بمنزلة البيع على بيع أخيه قبل انعقاد البيع

(2)

. [المستدرك 4/ 144]

4304 -

من خطب تعريضًا في العدة أو بعدها: فلا يُنهى غيرُه عن الخطبة. [المستدرك 4/ 144]

4305 -

سُكْنَى الْمَرْأةِ بَيْنَ الرِّجَالِ، وَالرِّجَالِ بَيْنَ النِّسَاءِ: يُمْنَعُ مِنْهُ لِحَقِّ اللهِ. [31/ 64]

* * *

‌أركانه:

4306 -

ينعقد النكاح بما عدَّه الناس نكاحًا بأي لغة ولفظ وفعل كان.

ومثله كل عقد. [المستدرك 4/ 144]

(1)

في الأصل [فأجابهما]. والتصحيح من الإنصاف (8/ 37).

(2)

قال في الإنصاف (8/ 37): وَذَلِكَ كُلُّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَرَامًا.

ص: 512

4307 -

قياس المذهب: صحته بما تعارفاه نكاحًا من هبة وتمليك ونحوهما؛ أخذًا من قول الإمام أحمد: أعتقتك وجعلت عتقك صداقك.

4308 -

الأسماء تعرف حدودها: تارة بالشرع، وتارة باللغة، وتارة بالعرف، وكذلك العقود. [المستدرك 4/ 145]

4309 -

نصَّ الإمام أحمد في رواية أبي طالب في رجل مشى إليه قومه، فقالوا: زوِّج فلانًا، فقال: زوجته على ألف، فرجعوا إلى الزوج فأخبروه.

فقال: قد قبلت: هل يكون هذا نكاحًا؟ قال: نعم.

قال ابن عقيل: هذا يُعطي أن النكاح الموقوف صحيح.

وقد أحسن ابن عقيل فيما قاله، وهي طريقة أبي بكر؛ فإن هذا ليس تراخيًا للقبول كما قاله القاضي، وإنما هو تراخ للإجازة.

ومسألة أبي طالب وكلام أبي بكر فيما إذا لم يكن الزوج حاضرًا في مجلس الإيجاب. وهذا أحسن.

وأما إذا تفرقا من مجلس الإيجاب: فليس في كلام أحمد وأبي بكر ما يدل على ذلك.

ويجوز أن يقال: إن العاقد الآخر إن كان حاضرًا اعتُبر قبوله، وإن كان غائبًا جاز تراخي القبول عن الإيجاب كما قلنا في ولاية القضاء، مع أن أصحابنا قالوا في الوكالة: إنه يجوز قبولها على الفور والتراخي، وإنما الولاية نوع من الوكالة. [الاختيارات 293 - 294]

4310 -

سئل الشيخ تقي الدين: عن رجل لم يقدر أن يقول: إِلَّا قبلت (تجويزها) بتقديم الجيم فأجاب بالصحة بدليل قوله: جوزتي طالق. فإنها تطلق. [المستدرك 4/ 146]

4311 -

صرح الأصحاب بصحة نكاح الأخرس إذا فهمت إشارته. [المستدرك 4/ 146]

* * *

ص: 513

‌شروطه:

‌أ - رضاهما:

4312 -

الشرط بين الناس ما عدُّوه شرطًا. [المستدرك 4/ 147]

4313 -

اختار أبو بكر والشيخ تقي الدين عدم إجبار بنت تسع سنين بكرًا كانت أو ثيبًا.

قال في رواية عبد الله: إذا بلغت تسع سنين فلا يزوجها أبوها ولا غيره إِلَّا بإذنها.

وذكر أبو الخطاب وغيره رواية: لا إذن لها وصححه الناظم، وقال الشيخ تقي الدين: لا أعلم أحدًا ذكرها قبله، مع أنه لم يذكرها في رؤوس المسائل. [المستدرك 4/ 147]

4314 -

إذن الثيب الكلام. وإذن البكر الصمات. قال أبو العباس بعد ذكره لقول أبي حنيفة ومالك: تزوج المثابة بالزنى بالجبر كما تزوج البكر: هذا قول قوي. [المستدرك 4/ 147]

4315 -

يعتبر في الاستئذان تسمية الزوج على وجه تقع المعرفة به، ولا يشترط تسمية المهر على الصحيح. [المستدرك 4/ 147]

4316 -

في المذهب خلاف شاذ يشترط الإشهاد على إذنها. [المستدرك 4/ 147]

4317 -

الجد كالأب في الإجبار، وهو رواية عن الإمام أحمد. [المستدرك 4/ 147]

‌ب - الولي:

4318 -

يتخرج لنا مثل قول أبي حنيفة: أن الولي كل وارث بفرض أو تعصيب. ولغير العصبة من الأقارب التزويج عند عدم العصبة.

ويتخرج على ذلك ما إذا قدمنا التوريث لذوي الأرحام على التوريث بالولاء. [المستدرك 4/ 148]

ص: 514

4319 -

إذا كانت المرأة يهودية ووليُّها نصرانيًّا أو بالعكس: فينبغي أن يخرج على الروايتين في توارثهما وقبول شهادته عليها إذا قلنا: تقبل من أهل الذمة بعضهم على بعض، وكذلك في ولاية المال والعقل. [المستدرك 4/ 149]

4320 -

يضم إلى الولي الفاسق أمين كالوصي في رواية. [المستدرك 4/ 149]

4321 -

لو قيل: إن الابن والأب سواء في ولاية النكاح، كما إذا أوصى لأقرب قرابته: لكان متوجهًا.

ويتخرج لنا أن الابن أولى من الأب إذا قلنا: الأخ أولى من الجد، وقد حكى ذلك ابن المنّيّ في تعاليقه، فقال: يقدم الابن على الأب على قول عندنا. [المستدرك 4/ 149]

4322 -

وعنه

(1)

: لها

(2)

تزويج أمتها ومعتقتها واختاره الشيخ تقي الدين.

4323 -

قال الإمام أحمد في رواية محمد بن الحسن في الأخوين الصغير والكبير: ينبغي أن ينظر إلى العقل والرأي.

وكذلك قال في رواية الأثرم في الأخوين الصغير والكبير: كلاهما سواء، إِلَّا أنه ينبغي أن ينظر في ذلك إلى العقل والرأي.

وظاهر كلام أحمد هذا: يقتضي أنه لا أثر للسن هنا، وأصحابنا اعتبروه. [المستدرك 4/ 149 - 150]

4324 -

قال الإمام أحمد في رواية حنبل: لا يعقد نصراني ولا يهودي عقدة نكاح لمسلم ولا مسلمة، ولا يكونان وليين لمسلم ولا مسلمة؛ بل لا يكون الولي إِلَّا مسلمًا.

وهذا يقتضي أن الكافر لا يزوج مسلمة بولاية ولا وكالة. وظاهره يقتضي أن لا ولاية للكلافر على بنته الكافرة في تزويجها لمسلم.

(1)

وهذا قول الامام مالك رحمه الله.

(2)

أي: للسيدة.

ص: 515

قال أبو العباس في موضع آخر: لا ينبغي أن يكون متوليًا لنكاح مسلم؛ ولكن لا يظهر بطلان العقد؛ فإنه ليس على بطلانه دليل شرعي. [المستدرك 4/ 150]

4325 -

إن تعذر من له ولاية النكاح: انتقلت الولايةُ إلى أصلح مَن يوجد، ممن له نوع ولاية في غير النكاح؛ كرئيس القرية، وهو المراد بالدهقان، وأمير القافلة، ونحوه. [المستدرك 4/ 150]

4326 -

قال الإمام أحمد، في رواية المروذي: البلد يكون فيه الوالي وليس فيه قاض: يزوج إذا احتاط للمرأة في المهر والكفء، أرجو ألا يكون به بأس.

وهذا من الإمام أحمد يقتضي أن الولي ينظر في المهر، وأن أمره ليس مفوضًا إليها وحدها، كما أن أمر الكفؤ ليس مفوضًا لها وحدها.

وقال في رواية الأثرم وصالح وأبي الحارث عن المهر: لا نجد فيه حدًّا، هو ما تراضى عليه الأهلون.

وهو يقتضي أن للأهلين نظرًا في الصداق، ولو كان أمره إليها فقط لما كان لذكر الأهلين معنى. [المستدرك 4/ 150 - 151]

4327 -

تزويج الأيامى فرض كفاية إجماعًا. [المستدرك 4/ 151]

من صور العضل: إذا امتنع الخُطاب من خطبتها لشدة الولي. [المستدرك 4/ 151]

4328 -

يُزوِّجُ وليُّ المال الصغيرَ

(1)

. [المستدرك 4/ 151]

4329 -

اشترط الجد في المحرر في الولي كونه رشيدًا، والرشد في الولي هنا هو المعرفة بالكفء ومصالح النكاح، ليس حفظ المال. [المستدرك 4/ 151]

(1)

وفي الإنصاف 8/ 86 نقلًا عن صاحب الفروع: وظاهر كلام الكافي وصاحب المحرر: للوصي مطلقًا تزويجه؛ يعني: سواء كان وصيًّا في التزويج أو في غيره وجزم به الشيخ تقي الدين رحمه الله وأنه قولهما أن وصي المال يزوج الصغير. (الجامع).

ص: 516

4330 -

إن زوج اثنان ولم يعلم السابق

(1)

: قال الإمام أحمد رحمه الله في رواية ابن منصور: ما أرى لواحد منهما نكاحًا.

والرواية الثانية من أصل المسألة: يقرع بينهما.

وعنه: هي للقارع من غير تجديد عقد، واختاره الشيخ تقي الدين. [المستدرك 4/ 153]

* * *

‌(هل يجوز أن يكون الحاكم هو الولي على المرأة مع وجود ولي من النسب

؟)

4331 -

مَن كَانَ لَهَا [أي: للمرأة] وَلِيٌّ مِن النَّسَبِ -وَهُوَ الْعَصَبَةُ مِن النَّسَبِ- أَو الْوَلَاءِ: مِثْل أبِيهَا، وَجَدِّهَا، وَأخِيهَا، وَعَمِّهَا، وَابْنِ أَخِيهَا، وَابْنِ عَمِّهَا، وَعَمِّ أَبِيهَا، وَابْنِ عَمِّ أَبِيهَا، وَإِن كَانَت مُعْتَقَةً فَمُعْتِقُهَا أَو عَصَبَةُ مُعْتِقِهَا: فَهَذِهِ يُزَوِّجُهَا الْوَلِيُّ بِإِذْنِهَا، وَالاِبْنُ وَلِيٌّ عِنْدِ الْجُمْهُورَ، وَلَا يَفْتَقِرُ ذَلِكَ إلَى حَاكِمٍ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. [32/ 34]

* * *

‌(هل يشترط أن يكون الشاهِدَان من الأئمة؟ وهل يشترط أن يكونا عدلين

؟)

4332 -

إِذَا كَانَ النّكَاحُ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ مِن الْمُسْلِمِينَ صَحَّ النِّكاحُ، وَإِن لَمْ يَكُن هُنَاكَ أَحَدٌ مِن الْأئِمَّةِ

(2)

.

وَلَو لَمْ يَكُن الشَّاهِدَانِ مُعَدَّلَيْنِ عِنْدَ الْقَاضِي -بِأْنْ كَانَا مَسْتُورينِ-: صَحَّ النِّكَاحُ إذَا أَعْلَنُوهُ وَلَمْ يَكْتُمُوهُ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ الْأئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ.

(1)

أي: إن زوَّج وليَّان رجلًا، ولا يدري الرجل أيهما زوّجه قبل الآخر؟

(2)

من الحكام أو القضاة ونحوهم.

ص: 517

وَلَو كَانَ بِحَضْرَةِ فَاسِقَيْنِ: صَحَّ النِّكَاحُ أَيْضًا عِنْد أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.

وَلَو لَمْ يَكن بِحَضْرَةِ شُهُودٍ بَل زَوَّجَهَا وَليُّهَا وَشَاعَ ذَلِكَ بَيْنَ الناسِ: صَحَّ النِّكَاحُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.

وَهَذَا أظْهَرُ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ مَا زَالُوا يُزَوِّجُونَ النِّسَاءَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَكُن النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُهُم بِالْإِشْهَادِ، وَلَيْسَ فِي اشْتِرَاطِ الشَّهَادَةِ فِي النِّكَاحِ حَدِيث ثَابِث، لَا فِي الصِّحَاحِ وَلَا فِي السُّنَنِ وَلَا فِي الْمَسَانِدِ

(1)

.

وَأَمَّا مَن لَا وَلِيَّ لَهَا: فَإِنْ كَانَ فِي الْقَرْيَةِ أَو الْحُلَّةِ نَائِبٌ حَاكِمٌ زَوَّجَهَا هُوَ وَأَمِيرُ الْأَعْرَابِ وَرَئِيسُ الْقَرْيَةِ، وَإِذَا كَانَ فِيهِمْ إمَامٌ مُطَاعٌ زَوَّجَهَا أَيْضًا بِإِذْنِهَا. [32/ 35]

* * *

‌(هل للمسلم ولاية على أبنائه الكفار

؟)

4333 -

وَسُئِلَ - قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ -: عَن رَجُلٍ أَسْلَمَ: هَل يَبْقَى لَهُ وِلَايَة عَلَى أَوْلَادِهِ الْكِتَابِيِّينَ؟

فَأَجَابَ: لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِم فِي النِّكَاحٍ، كَمَا لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِم فِي الْمِيرَاثِ، فَلَا يُزَوِّجُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَةَ، سَوَاءٌ كَانت بِنْتَه أَو غَيْرَهَا، وَلَا يَرِثُ كَافِرٌ مُسْلِمًا، وَلَا مُسْلِمٌ كَافِرًا

(2)

.

وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأرْبَعَةِ وَأَصْحَابِهِم مِن السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.

لَكِنَّ الْمُسْلِمَ إذَا كَانَ مَالِكًا لِلْأَمَةِ زَوَّجَهَا بِحُكْمِ الْمِلْكِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ وَلِيَّ أَمْرِ زَوَاجِهَا بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ.

(1)

وعند الإمام أحمد مرفوعًا: "لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَليٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ". وقد ضعَّفه بعضهم وصحَّحه آخرون، وكأن الشيخ يرى عدم ثبوته.

(2)

وقد تقدم أنّ الشيخ رحمه الله يرى أنّ المسلم يرث الكافر دون العكس.

ص: 518

وَأَمَّا بِالْقَرَابَةِ وَالْعَتَاقَةِ: فَلَا يُزَوِّجُهَا؛ إذ لَيْسَ فِي ذَلِكَ إلَّا خِلَافٌ شَاذّ عَن بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي النَّصْرَانِيِّ يُزَوِّجُ ابْنَتَهُ، كَمَا نُقِلَ عَن بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ يَرِثُهَا، وَهُمَا قَوْلَانِ شَاذَّانِ.

وَقَد اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ، وَلَا يَتَزَوَّجُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَةَ. [32/ 35 - 36]

* * *

‌ج - الشهادة:

4334 -

وعنه: ينعقد بحضور فاسقين، ورجل وامرأتين، ومراهقين عاقلين.

وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: هي ظاهر كلام الخرقي. [المستدرك 4/ 156]

* * *

‌(حكم الْإِشْهَاد عَلَى إذْنِ المرأة المخطوبة

؟)

4335 -

الْإِشْهَادُ عَلَى إذْنِهَا لَيْسَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا فِيهِ خِلَافٌ شَاذٌّ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بِأَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ.

وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبَيْنِ -كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ-: أَنَّ ذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ

(1)

.

فَلَو قَالَ الْوَلِيُّ: أَذِنَتْ لِي فِي الْعَقْدِ، فَعَقَدَ الْعَقْدَ وَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى الْعَقْدِ ثُمَّ صَدَّقَتْهُ الزَّوْجَةُ عَلَى الْإِذْنِ: كَانَ النِّكَاحُ ثَابِتًا صَحِيحًا بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَإِن أَنْكَرَت الْإِذْنَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا، وَلَمْ يَثْبُت النِّكَاحُ.

وَدَعْوَاهُ الْإِذْن عَلَيْهَا كَمَا لَو ادَّعَى النِّكَاحَ بَعْدَ مَوْتِ الشُّهُودِ وَنَحْو ذَلِكَ.

وَالَّذِي يَنْبَغِي لِشُهُودِ النِّكَاحِ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَى إذْنِ الزَّوْجَةِ قَبْلَ الْعَقْدِ. [32/ 41]

* * *

(1)

وقال الشيخ: لَا تَفْتَقِرُ صِحَّةُ النِّكَاحِ إلَى الْإِشْهَادِ عَلَى إِذْنِ الْمَرْأَةِ قَبْلَ النِّكَاحِ فِي الْمَذَاهِبِ الْأرْبَعَةِ، إلَّا وَجْهًا ضَعِيفًا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد. (32/ 56)

ص: 519

‌ج - الكفاءة:

4336 -

لا يصح لأحد أن يُنكح موليته رافضيًّا ولا من يترك الصلاة.

ومتى زوَّجوه على أنه سُنِّي يصلي فبان أنه رافضي أو لا يصلي، أو كان قد تاب ثم عاد إلى الرفض وترك الصلاة: فإنهم يفسخون نكاحه إذا قيل: إنه صحيح. [المستدرك 4/ 156 - 157]

4337 -

الذي يقتضيه كلام أحمد: أن الرجل إذا تبين له أنه ليس بكفء فرق بينهما، وأنه ليس للولي أن يزوج المرأة من غير كفء، ولا للزوج أن يتزوج ولا للمرأة أن تفعل ذلك.

وأن الكفاءة ليست بمنزلة الأمور المالية مثل مهر المرأة إن أحبت المرأة والأولياء طلبوه وإلا تركوه، ولكنه أمر ينبغي لهم اعتباره وإن كانت منفعته تتعلق بغيرهما. [المستدرك 4/ 157]

4338 -

فقدُ النسب والدِّين لا يُقَرُّ معهما النكاح بغير خلاف عن أحمد.

وفقد الحرية غير مبطل بغير خلاف عنه؛ بل يثبت به الخيار لمن يختار الفسخ.

وفقد اليسار: هل يثبت به الخيار؟ روايتان.

وحيث ثبت الخيار بفقد الكفاءة: فللمرأة أو لوليها الفسخ. وهذا على التراخي في ظاهر الرواية.

فعلى هذا: يسقط خيارها بما يحصل منهما مما يدل على الرضى من قول أو فعل.

وأما خيار الأولياء: فلا يسقط إِلَّا بالقول.

ويفتقر الفسخ به إلى حاكم في قياس المذهب؛ كالفسخ بالعيوب للاختلاف فيه. [المستدرك 4/ 157]

ص: 520

4339 -

لو كان الزوج ناقصًا [عنها]

(1)

من وجه آخر [يرضون به، ثم بانَ ناقصًا من وجه آخر]

(2)

؛ مثل أن كان دونها في النسب فرضوا به، ثم بان فاسقًا وهي عدل، فههنا ينبغي ثبوت الخيار. [المستدرك 4/ 158]

4340 -

قال الشيخ تقي الدين: لم أجد نصًّا عن الإمام أحمد رحمه الله ببطلان النكاح لفقر، أو رق، ولم أجد عنه أيضًا نصًّا بإقرار النكاح مع عدم الدين والمنصب خلافًا.

واختار أن النسب لا اعتبار به في الكفاءة، واستدل الشيخ تقي الدين بقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} [الحجرات: 13]. [المستدرك 4/ 158]

* * *

‌(هل للولي أن يزوج مُوليتَه بغير كفءٍ إذا لم تكن راضية بذلك

؟)

4341 -

لَيْسَ لِلْعَمِّ وَلَا غَيْرِهِ مِن الْأَوْليَاءِ أَنْ يُزَوِّجَ مُوليتَهُ بِغَيْرِ كُفْءٍ إذَا لَمْ تَكُنْ رَاضِيَةً بِذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي تَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ عَن مِثْل ذَلِكَ؛ بَل لَو رَضِيَتْ هِيَ بِغَيْرِ كُفْءٍ كَانَ لِوَلِيٍّ آخَرَ غَيْر الْمُزَوِّجِ أَنْ يَفْسَخَ النِّكَاحَ. [32/ 57]

(3)

* * *

(علاج المبتلى بالعشق أو الفاحشة)

4342 -

مَن أَصَابَهُ جُرْحٌ مَسْمُومٌ فَعَلَيْهِ بِمَا يُخْرِجُ السُّمَّ، وَيُبْرِئُ الْجُرْحَ بِالتِّرْيَاقِ وَالْمَرْهَمِ، وَذَلِكَ بِأُمُورِ:

مِنْهَا: أَنْ يَتَزَوَّجَ أَو يَتَسَرَّى؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا نَظَرَ أَحَدُكمْ إلَى

(1)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (302).

(2)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (302).

(3)

إلى هنا انتهت شروط النكاح.

ص: 521

مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ؛ فَإِنَّمَا مَعَهَا مِثْلُ مَا معَهَا"

(1)

، وَهَذَا مِمَّا يُنْقِصُ الشَهْوَةَ وَيُضْعِفُ الْعِشْقَ.

الثانِي: أَنْ يُدَاوِمَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَقْتَ السَّحَرِ، وَتَكُونُ صَلَاتُهُ بِحُضُورِ قَلْبٍ وَخُشُوع، وَلْيُكْثِرْ مِن الدُّعَاءِ بِقَوْلِهِ:"يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِك، يَا مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قَلْبِي إلَى طَاعَتِك وَطَاعَةِ رَسُولِك"، فَإِنَّهُ مَتَى أَدْمَنَ الدُّعَاءَ وَالتَّضَرُّعَ للّهِ صَرَفَ قَلْبَهُ عَن ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)} [يوسف: 24].

الثَّالِثُ: أَنْ يَبْعُدَ عَن مَسْكَنِ هَذَا الشَّخْصِ وَالاِجْتِمَاعِ بِمَن يَجْتَمِعُ بِهِ؛ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ لَهُ خَبَرًا، وَلَا يَقَعُ لَهُ عَلَى عَيْنٍ وَلَا أَثَرٍ؛ فَإِنَّ الْبُعْدَ جَفَا، وَمَتَى قَل الذِّكْرُ ضَعُفَ الْأَثَرُ فِي الْقَلْبِ. [32/ 5 - 6]

4343 -

من كان له صورة حسنة فعف عمَّا حرم الله تعالى وخالف هواه وجمَّل نفسه بلباس التقوى، الذي قال اللّه فيه:{يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26]: كان هذا الجمال يحبه اللّه، وكان مِن هذا الوجه أفضل ممن لم يُؤت مثل هذا الجمال. [الاستقامة 255]

* * *

(حث الشباب علي النكاح)

4344 -

ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَن اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَن لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ"

(2)

.

(1)

رواه مسلم (1403).

(2)

رواه البخاري (5065)، ومسلم (1400).

ص: 522

وَاسْتِطَاعَةُ النِّكَاحِ: هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُؤْنَةِ، لَيْسَ هُوَ الْقُدْرَةَ عَلَى الْوَطْءِ؛ فَإِنَّ الْحَدِيثَ إنَّمَا هُوَ خِطَابٌ لِلْقَادِرِ عَلَى فِعْلِ الْوَطْءِ؛ وَلهَذَا أَمَرَ مَن لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَصُومَ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ. [32/ 6]

* * *

(حكم التصريح بخطبة المعتدة)

4345 -

لَا يَجُوزُ التَّصْرِيحُ بِخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ، وَلَو كَانَت فِي عِدَّةِ وَفَاةٍ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَيْفَ إذَا كَانَت فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ؟

وَمَن فَعَلَ ذَلِكَ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ الَّتِي تَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ عَن ذَلِكَ، فَيُعَاقَبُ الْخَاطِبُ وَالْمَخْطُوبَةُ جَمِيعًا وَيُزْجَرُ عَن التَّزْوِيجِ بِهَا؛ مُعَاقَبَة لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ. [32/ 8]

* * *

(حكم خِطبة الرجل على خِطبة أخيه)

4346 -

لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ إذَا أُجِيبَ إلَى النِّكَاحِ وَرَكَنُوا إلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ؛ كَمَا ثَبَتَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ"

(1)

. وَتَجِبُ عُقُوبَةُ مَن فَعَلَ ذَلِكَ وَأَعَانَ عَلَيْهِ عُقُوبَةً تَمْنَعُهُم وَأَمْثَالَهُم عَن ذَلِكَ. [32/ 9]

4347 -

الرَّجُلُ إذَا خَطَبَ امْرَأةً وَرَكَنَ إلَيْهِ مَن إلَيْهِ نِكَاحُهَا: فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ أنْ يَخْطُبَهَا، فَكَيْفَ إذَا كَانُوا قَد رَكَنُوا إلَيْهِ وَأَشْهَدُوا بِالْإِمْلَاكِ الْمُتَقَدِّمِ لِلْعَقْدِ، وَقَبَضُوا مِنْهُ الْهَدَايَا، وَطَابَت الْمُدَّةُ؟ فَإِنَّ هَؤلَاءِ فَعَلُوا مُحَرَّمًا يَسْتَحِقُّونَ الْعُقُوبَةَ عَلَيْهِ بِلَا ريبٍ.

وَلَكِنَّ الْعَقْدَ الثَّانِيَ هَل يَقَعُ صَحِيحًا أَو بَاطِلًا؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ:

(1)

رواه البخاري (5142، 5144)، ومسلم (1408، 1412).

ص: 523

أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَقْدَ الثَّانِي بَاطِلٌ، فَتُنْزَعُ مِنْهُ وَتُرَدُّ إلَى الْأَوَّلِ.

وَالثانِي: أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ؛ فَيُعَاقَبُ مَن فَعَلَ الْمُحَرَّمَ، وَيُرَدُّ إلَى الْأَوَّلِ جَمِيعُ مَا أُخِذَ مِنْهُ، وَالْقَوْلُ الْأوَّلُ أَشْبَهُ بِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. [32/ 10]

* * *

(تفسير أول آية في سورة النساء)

4348 -

قَالَ اللّهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء: 1] افْتَتَحَ السُّورَةَ بِذِكْرِ خَلْقِ الْجِنْسِ الْإِنْسَانِيِّ مِن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّ زَوْجَهَا مَخْلُوقٌ مِنْهَا، وَأَنَّهُ بَثَّ مِنْهُمَا الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ أَكْمَلُ الْأسْبَابِ وَأَجَلُّهَا.

ثُمَّ ذَكَرَ مَا بَيْنَ الْآدَمِيِّينَ مِن الْأَسْبَابِ الْمَخْلُوقَةِ الشَّرْعِيَّةِ: كَالْوِلَادَةِ، وَمِن الكسبية الشَّرْطِيَّةِ: كَالنِّكَاحِ.

ثُمَّ قَالَ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} قَالَ طَائِفَةٌ مِن الْمُفَسِّرِينَ مِن السَّلَفِ: {تَسَاءَلُونَ بِهِ} : تتعَاهَدُونَ بِهِ وَتتعَاقَدُونَ.

وَهُوَ كَمَا قَالُوا؛ لأنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِن الْمُتَعَاقِدَيْنِ عَقْدَ الْبَيْعِ أَو النِّكَاحِ أَو الْهُدْنَةِ أَو غَيْرِ ذَلِكَ يَسْأَلُ الْآخَرَ مَطْلُوبَهُ: هَذَا يَطْلُبُ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ، وَهَذَا تَسْلِيمَ الثَّمَنِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا قَد أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ مَطْلُوبَ الْآخَرِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا طَالِبٌ مِن الْآخَرِ مُوجِبٌ لِمَطْلُوبِ الْآخَرِ.

ثُمَّ قَالَ: {وَالْأَرْحَامَ} ، والْعُهُودُ والْأَرْحَامُ: هُمَا جِمَاعُ الْأَسْبَابِ الَّتِي بَيْنَ بَنِي آدمَ؛ فَإِنَّ الْأسْبَابَ الَّتِي بَيْنَهُمْ: إمَّا أَنْ تكُونَ بِفِعْلِ اللّهِ أَو بِفِعْلِهِمْ.

فَالْأَوَّلُ: الْأَرْحَامُ.

والثَّانِي: الْعُهُودُ.

ص: 524

وَلِهَذَا جَمَعَ اللهُ بَيْنَهُمَا فِي مَوَاضِعَ؛ فِي مِثْل قَوْلِهِ: {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 10] فَالْإِلُّ: الْقَرَابَةُ وَالرَّحِمُ، وَالذِّمَّةُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ.

وَقَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [البقرة: 27].

وَاعْلَمْ أَنَّ حَقَّ اللّهِ دَاخِلٌ فِي الْحَقَّيْنِ، وَمُقَدَّمٌ عَلَيْهِمَا؛ وَلهَذَا قَدَّمَهُ فِي قَوْلِهِ:{اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} . [32/ 12 - 13]

* * *

(حكم توكيل الذمي في قبول نكاح امرأة مسلمة)

4349 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَن رَجُلٍ وَكَّلَ ذِمِّيًّا فِي قَبُولِ نِكَاحِ امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ: هَل يَصِحُّ النِّكَاحُ؟

فَأَجَابَ: هَذِهِ الْمَسْألَةُ فِيهَا نِزَاعٌ؛ فَإِنَّ الْوَكِيلَ فِي قَبُولِ النِّكَاحِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِمَن يَصِحُّ مِنْهُ قَبُولُهُ النِّكَاحَ لِنَفْسِهِ فِي الْجُمْلَةِ، فَلَو وَكَّلَ امْرَأَةً أَو مَجْنُونًا أَو صَبِيًّا غَيْرَ مُمَيِّزٍ لَمْ يَجُزْ.

وَأَمَّا تَوَكُّلُ الذِّمِّيِّ فِي قَبُولِ النِّكَاحِ لَهُ فَهُوَ يُشْبِهُ تَزْوِيجَ الذِّمِّيِّ ابْنَتَهُ الذِّمِّيَّةَ مِن مُسْلِمٍ، وَلَو زَوَّجَهَا مِن ذِمِّيٍّ جَاز، وَلَكِنْ إذَا زَوَّجَهَا مِن مُسْلِمٍ: فَفِيهَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ.

قِيلَ: يَجُوزُ.

وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ؛ بَل يُوَكِّلُ مُسْلِمًا.

وَقِيلَ: لَا يُزَوِّجُهَا إلَّا الْحَاكِمُ بِإِذْنِهِ.

وَكَوْنُهُ وَلِيًّا فِي تَزْوِيجِ الْمُسْلِمِ مِثْل كَوْنِهِ وَكِيلًا فِي تَزْوِيجِ الْمُسْلِمة.

وَمَن قَالَ: إنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ جَائِزٌ

(1)

قَالَ: إنَ الْمِلْكَ فِي النِّكَاحِ يَحْصُلُ لِلزَّوْجِ

(1)

أي: أن يكون الذمي ولِيًّا فِي تَزْوِيجِ الْمُسْلِمِ، ووَكِيلًا عن المسلم فِي تَزْوِيجِ الْمُسْلِمة.

ص: 525

لَا لِلْوَكيلِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، بِخِلَافِ الْمِلْكِ فِي غَيْرِهِ؛ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ تَنَازَعُوا فِي ذَلِكَ: فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيّ وَأحْمَد وَغَيْرِهِمَا: أَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ وَالْمِلْكُ يَحْصُلُ لَهُ، فَلَو وَكَّلَ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا فِي شِرَاءِ خَمْرٍ لَمْ يَجُزْ.

وَأَبُو حَنِيفَةَ يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ.

وَإِذَا كَانَ الْمِلْكُ يَحْصُلُ لِلزَّوْجِ وَهُوَ الْمُوَكِّلُ لِلْمُسْلِمِ: فَتَوْكِيلُ الذِّمّيِّ بِمَنْزِلَةِ تَوَكُّلِهِ فِي تَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ بَعْضَ مَحَارِمِهَا كَخَالِهَا؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَوَكُّلُهُ فِي قَبُولِ نِكَاحِهَا لِلْمُوَكِّلِ، وَإِن كَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ تَزَوُّجُهَا؛ كَذَلِكَ الذِّمِّيُّ إذَا تَوَكَّلَ فِي نِكَاحِ مُسْلِمٍ وَإِن كَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ تَزَوُّجُ الْمُسْلِمَةِ.

لَكِنَّ الْأَحْوَطَ أَلَّا يَفْعَلَ ذَلِكَ؛ لِمَا فِيهِ مِن النِّزَاعِ

(1)

؛ وَلِأَنَّ النِّكاحَ فِيهِ شَوْبُ الْعِبَادَاتِ

(2)

.

وَيُسْتَحَبُّ عَقْدُهُ فِي الْمَسَاجِدِ.

وَلهَذَا وَجَبَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ مَذْهَبُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ أَنْ يُعْقَدَ بِالْعَرَبِيَّةِ كَالْأَذْكَارِ الْمَشْرُوعَةِ.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَنْبَغِ أَنْ يَكُونَ الْكَافِرُ مُتَوَلِّيًا نِكَاحَ مُسْلِمٍ، وَلَكِنْ لَا يَظْهَرُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَى بُطْلَانِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، وَالْكَافِرُ يَصِحُّ مِنْهُ النِّكَاحُ، وَلَيْسَ هُوَ مِن أَهْلِ الْعِبَادَاتِ. [32/ 17 - 18]

* * *

(حكم المريض الذي تزوج في مرضه)

4350 -

نِكَاحُ الْمَرِيضِ صَحِيحٌ، تَرِثُ الْمَرْأَةُ فِي قَوْلِ جَمَاهِيرِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَلَا تَسْتَحِقُّ إلَّا مَهْرَ الْمِثْلِ، لَا تَسْتَحِقُّ الزِّيَادَةَ

(1)

جعل الشيخ النزاع معتبرًا، وذلك لقوة القول الآخر، ولعدم الدليل الصريح في المسألة، فأما إذا كان هناك دليل فلا مجال للتحريم أو التحليل مراعاة للخلاف.

(2)

أي: جانب من التعبد لله بامتثال أمره في النكاح.

ص: 526

عَلَى ذَلِكَ بِالاِتِّفَاقِ

(1)

. [32/ 19]

* * *

(إجْبَارُ الْأَبِ لِابْنَتِهِ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ عَلَى النِّكَاحِ)

4351 -

أَمَّا إجْبَارُ الْأَب لِابْنَتِهِ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ عَلَى النِّكَاحِ: فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ، هُمَا رِوَايَتَانِ عَن أحْمَد:

أَحَدُهُمَا: أَنهُ يُجْبِرُ الْبِكْرَ الْبَالِغَ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ.

والثَّافى: لَا يُجْبِرُهَا كمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ.

وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ

(2)

.

وَالنَّاسُ مُتَنَازِعُونَ فِي مَنَاطِ الْإِجْبَارِ: هَل هُوَ الْبَكَارَةُ، أَو الصِّغَرُ، أَو مَجْمُوعُهَا، أَو كُلٌّ مِنْهُمَا؟ عَلَى أرْبَعَةِ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ.

وَالصَّحِيحُ: أَنَّ مَنَاطَ الْإِجْبَارِ هُوَ الصِّغَرُ، وَأَنَّ الْبِكْرَ الْبَالِغَ لَا يُجْبِرُهَا أَحَدٌ عَلَى النِّكَاحِ؛ فَإِنَّهُ قَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيح"

(3)

عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ، وَلَا الثَّيِّبُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ

(4)

، فَقِيلَ لَهُ: إنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي،

(1)

وقال الشيخ: فيمَن شَهِدَ أَنَّ خَالَ المرأة هو أخُوهَا، وَأَنَّ أبَاهَا مَاتَ وزوجها: هُوَ شَاهِدُ زُورٍ يَجِبُ تَعْزِيرُهُ وَيُعَزَّرُ الْخَالُ، وَإن كَانَ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ، وَيَجُوزُ أنْ يُزَوِّجَهَا الْأبُ فِي عِدَّةِ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ. اهـ. (32/ 19)

وأفتى في امْرَأةٍ ذَهَبَتْ إلَى الشُّهُودِ وَغَيَّرَت اسْمَهَا وَاسْمَ أبِيهَا: أنها تُعَزَّرُ تَعْزِيرًا بَلِيغًا، وَلَو عَزَّرَها ولَيُّ الْأمْرِ مَرَّاتٍ كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا.

وَذَلِكَ أنَّ هَذِهِ قَد ادَّعَتْ إلَى غَيْرِ أَبِيهَا وَاسْتَخْلَفَتْ أخَاهَا وَهَذَا مِن الْكَبَائِرِ. اهـ. (32/ 20)

(2)

قال الشيخ في موضع آخر: إِلَّا الصَّغِيرَةُ الْبِكْرُ فَإِنَّ أَبَاهَا يُزَوِّجُهَا وَلَا إذْنَ لَهَا. اهـ. (32/ 39)

(3)

رواه البخاري (5136)، ومسلم (1419).

(4)

قال الشيخ: فَذَكَرَ فِي هَذِهِ لَفْظَ: "الْإِذْنِ" وَفِي هَذِهِ لَفَظَ: "الْأَمْرِ" .. وَذَلِكَ لِأنَّ "الْبِكْرَ" لَمَّا كَانَت تَسْتَحِي أنْ تتَكَلَّمَ فِي أمْرِ نِكَاحِهَا لَمْ تُخْطَبْ إلَى نَفْسِهَا، بَل تُخْطَبُ إلَى وَليِّهَا، وَوَليُّهَا يَسْتَأْذِنُهَا فَتَأْذَنُ لَهُ، لَا تَأْمُرُهُ ابْتِدَاءً، بَل تَأْذَنُ لَهُ إذَا اسْتَأْذَنَهَا وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا. =

ص: 527

فَقَالَ: إذْنُهَا صُمَاتُهَا"، وَفِي لَفْظٍ فِي "الصَّحِيحِ": "الْبِكْرُ يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا".

فَهَذَا نَهْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَا تُنْكَحُ حَتَّى تُسْتَأذَنَ.

وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْأَب وَغَيْرهُ.

وَأيْضًا: فَإِنَّ الْأَبَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِهَا إذَا كَانَت رَشِيدَةً إلَّا بِإِذْنِهَا، وَبُضْعُهَا أَعْظَمُ مِن مَالِهَا، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي بُضعِهَا مَعَ كَرَاهَتِهَا وَرُشْدِهَا؟ [32/ 22 - 23]

* * *

‌(هل يجوز للأخ أو للعم تزويج البكر دون إذنها

؟)

4352 -

ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ وَاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ إذَا زَوَّجَ الْبِكْرَ أَخُوهَا أَو عَمُّهَا فَإِنَّهُ يَسْتَأْذِنُهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا. [32/ 24]

4353 -

الْمَرْأَةُ الْبَالِغُ لَا يُزَوِّجُهَا غَيْرُ الْأبِ وَالْجَدِّ بِغَيْرِ إذْنِهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ؛ بَل وَكَذَلِكَ لَا يُزَوِّجُهَا الْأَبُ إلَّا بِإِذْنِهَا فِي أَحَدِ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ؛ بَل فِي أَصَحِّهِمَا وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.

وَأَمَّا الْعَمُّ وَالْأَخُ فَلَا يُزَوِّجَانِهَا بِغَيْرِ إذْنِهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.

وَإِذَا رَضِيَتْ رَجُلًا وَكَانَ كُفُؤًا لَهَا وَجَبَ عَلَى وَلِيِّهَا -كَالْأَخِ ثُمَّ الْعَمِّ- أَنْ يُزَوِّجَهَا بِهِ.

فَإِنْ عَضَلَهَا وَامْتَنَعَ مِن تَزْوِيجِهَا: زَوَّجَهَا الْوَلِيُّ الْأَبْعَدُ مِنْهُ أَو الْحَاكِمُ بِغَيْرِ إذْنِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.

فَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُجْبِرَهَا عَلَى نِكَاحِ مَن لَا تَرْضَاهُ، وَلَا يَعْضُلَهَا عَن نِكَاحِ مَن تَرْضَاهُ إذَا كَانَ كُفُؤًا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَإِنَّمَا يُجْبِرُهَا وَيَعْضُلُهَا أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ

= وَأَمَّا الثَّيِّبُ فَقَد زَالَ عَنْهَا حَيَاءُ الْبِكْرِ فَتَتَكَلَّمُ بِالنِّكَاحِ، فَتُخْطَبُ إلَى نَفْسِهَا، وَتَأْمُرُ الْوَلِيَّ أنْ يُزَوِّجَهَا، فَهِيَ آمِرَةٌ لَهُ، وَعَلَيْهِ أنْ يُعْطِيَهَا فَيُزَوِّجَهَا مِن الْكُفْءِ إذَا أَمَرَتْهُ بِذَلِكَ، فَالْوَلِيُّ مَأْمُورٌ مِن جِهَةِ الثَّيِّبِ، وَمُسْتَأْذِن لِلْبِكْرِ. اهـ. (32/ 25)

ص: 528

وَالظَّلَمَةُ الَّذِينَ يُزَوِّجُونَ نِسَاءَهُم لِمَن يَخْتَارُونَهُ لِغَرَض، لَا لِمَصْلَحَةِ الْمَرْأَةِ، وَيُكْرِهُونَهَا عَلَى ذَلِكَ أو يُخْجِلُونَهَا حَتَّى تَفْعَلَ.

وَيَعْضُلُونَهَا عَن نِكَاحِ مَن يَكُونُ كُفُؤًا لَهَا لِعَدَاوَةِ أَو غَرَضٍ.

وَهَذَا كُلُّهُ مِن عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَهُوَ مِمَّا حَرَّمَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِهِ. [32/ 52 - 53]

* * *

(حكم تزويج الثيب بدون إذنها)

4354 -

إذَا كَانَت ثَيِّبًا مِن زَوْجٍ وَهِيَ بَالِغٌ: فَهَذِهِ لَا تُنْكَحُ إلَّا بِإِذْنِهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ.

وَلَكِنْ إذَا زُوِّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهَا ثُمَّ أَجَازَت الْعَقْدَ جَازَ ذَلِكَ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالْإِمَامِ أَحْمَد فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ، وَلَمْ يَجُزْ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى.

وَإِن كَانَت ثَيِّبًا مِن زنى فَهِيَ كَالثَّيِّبِ مِن النِّكَاحِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّهَا كَالْبِكْرِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ نَفْسِهِ وَمَالِكٍ.

وَإِن كَانَت الْبَكَارَةُ زَالَتْ بِوَثْبَة أَو بِأُصْبُع أَو نَحْوِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْبِكْرِ عِنْدَ الْأئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. [32/ 29]

* * *

‌(هل لأحد الأبوين أن يلزم الولد بنكاح من لا يريد

؟)

4355 -

لَيْسَ لِأَحَدِ الْأَبَوَيْنِ أَنْ يُلْزِمَ الْوَلَدَ بِنِكاحِ مَن لَا يُرِيدُ، وَأَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ لَا يَكُونُ عَاقًّا، وَإِذَا لَمْ يَكُن لِأحَد أَنْ يُلْزِمَهُ بِأَكْلِ مَا يَنْفِرُ عَنْهُ مَعَ قُدْرَتهِ عَلَى أَكْلِ مَا تَشْتَهِيهِ نَفْسُهُ، كَانَ النِّكَاحُ كَذَلِكَ وَأَوْلَى. [32/ 30]

* * *

ص: 529

(حكم من تزوج بغير إذن والده)

4356 -

إنْ كَانَ سَفِيهًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ: لَا يَصِحُّ نِكَاحُهُ بِدُونِ إذْنِ أَبِيهِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا.

وَإِذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ: فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.

وَإِن كَانَ رَشِيدًا صَحَّ نِكَاحُهُ وَإِن لَمْ يَأْذَنْ لَهُ أَبُوهُ.

وَإِذَا تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ: هَل نَكَحَ وَهُوَ رَشِيدٌ أَو وَهُوَ سَفِيهٌ: فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي صِحَّةَ النكَاحِ. [32/ 31]

* * *

‌(المراد بالحكم في قوله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:

35])

4357 -

إذَا وَقَعَ الشِّقَاقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فَقَد أمَرَ اللّهُ بِبَعْثِ حَكَمٍ مِن أَهْلِهِ وَحَكَمٍ مِن أَهْلِهَا، وَالْحَكَمَانِ كَمَا سَمَّاهُمَا اللّهُ عز وجل: هُمَا حَكَمَانِ عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد.

وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: هُمَا "وَكِيلَانِ".

وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَيْسَ بِحَكَم، وَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى أَمْرِ الْأَئِمَّةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مِن الْأَهْلِ، وَلَا يَخْتَصُّ بِحَالِ الشِّقَاقِ، وَلَا يُحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى نَصٍّ خَاصٍّ، وَلَكِنْ إذَا وَقَعَ الشِّقَاقُ فَلَا بُدَّ مِن وَلِيٍّ لَهُمَا يَتَوَلَّى أَمْرَهُمَا؛ لِتَعَذُّرِ اخْتِصَاصِ أَحَدِهِمَا بِالْحُكْمِ عَلَى الْآخَرِ، فَأَمَرَ اللّه أَنْ يُجْعَلَ أَمْرُهُمَا إلَى اثْنَيْنِ مِن أَهْلِهِمَا، فَيَفْعَلَانِ مَا هُوَ الْأَصْلَحُ مِن جَمْعٍ بَيْنَهُمَا وَتَفْرِيقٍ بِعِوَض أَو بِغَيْرِهِ.

وَهُنَا يَمْلِكُ الْحَكَمُ الْوَاحِدُ مَعَ الْآخَرِ الطَّلَاقَ بِدُونِ إذْنِ الرَّجُلِ، وَيَمْلِكُ الْحَكَمُ الْآخَرُ مَعَ الْأَوَّلِ بَذْلَ الْعِوَضِ مِن مَالِهَا بِدُونِ إذْنِهَا؛ لِكَوْنِهِمَا صَارَا وَليَّيْنِ لَهُمَا. [32/ 25 - 26]

* * *

ص: 530

(الْعَدَالَة الْمُشْتَرَطَةُ فِي شَاهِدَي النِّكَاحِ)

4358 -

الْعَدَالَةُ الْمُشْتَرَطَةُ فِي شَاهِدَي النّكَاحِ: إنَّمَا هِيَ أَنْ يَكُونَا مَسْتُورينِ غَيْرَ ظَاهِرَي الْفِسْقِ، وَإِذَا كَانَا فِي الْبَاطِنِ فَاسِقَيْنِ، وَذَلِكَ غَيْرُ ظَاهِرٍ؛ بَل ظَاهِرُهُمَا السَّتْرُ انْعَقَدَ النِّكَاحُ بِهِمَا فِي أَصَحِّ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ. [32/ 38]

* * *

‌(من زالت بكارتها بمكروه هل يجوز لأوليائها كتمان ذلك

؟)

4359 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن بِنْتٍ زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِمَكْرُوه، وَلَمْ يُعْقَد عَلَيْهَا عَقْدٌ قَطُّ، وَطَلَبَهَا مَن يَتَزَوَّجُهَا، فَذُكِرَ لَهُ ذَلِكَ فَرَضِيَ، فَهَل يَصِحُّ الْعَقْدُ بِمَا ذُكِرَ إذَا شَهِدَ الْمَعْرُوفُونَ أَنَّهَا بِنْتٌ؛ لِتَسْهِيلِ الأَمْرِ فِي ذَلِكَ؟

فَأَجَابَ: إذَا شَهِدُوا أَنَّهَا مَا زُوِّجَتْ كَانُوا صَادِقِينَ، وَلَمْ يَكُن فِي ذَلِكَ تَلْبِيسٌ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِعِلْمِهِ بِالْحَالِ.

وَيَنْبَغِي اسْتِنْطَاقُهَا بِالْأَدَبِ؛ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ مُتَنَازِعُونَ: هَل إذْنُهَا إذَا زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِالزِّنَا: الصَّمْتُ أَوْ: النُّطْقُ.

والْأَوَّلُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد كَصَاحِبَي أَبِي حَنِيفَةَ.

وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ: إذْنهَا الصُّمَاتُ كَالَّتِي لَمْ تَزُلْ عُذْرَتهَا. [32/ 42]

* * *

‌(حكم تزويج الصغِيرَة التي دُونَ الْبُلُوغِ، وهل يجب استئذانها

؟)

4360 -

إذَا بَلَغَتْ تِسْعَ سِنِينَ فَإِنَّهُ يُزَوِّجُهَا الْأَوْليَاءُ -مِن الْعَصَبَاتِ وَالْحَاكِم وَنَائِبه- فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَد، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةُ فِي مِثْل قَوْله تَعَالَى {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127].

ص: 531

ثُمَّ الْجُمْهُورُ الَّذِينَ جَوَّزُوا إنْكَاحَهَا لَهُم قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: أَنَّهَا تُزَوَّجُ بِدُونِ إذْنِهَا؛ وَلَهَا الْخِيَارُ إذَا بَلَغَتْ.

والثَّانِي وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ: أَنَّهَا لَا تُزَوَّجُ إلَّا بِإِذْنِهَا؛ وَلَا خِيَارَ لَهَا إذَا بَلَغَتْ.

وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ كَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تُسْتَأذَنُ الْيَتِيمَةُ فِي نَفْسِهَا، فَإِنْ سَكَتَتْ فَهُوَ إذْنُهَا، وَإِن أَبَتْ فَلَا جَوَازَ عَلَيْهَا"

(1)

. رَوَاهُ أَحْمَد وَأبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَالنَّسَائِي

(2)

. [32/ 44 - 45]

* * *

(الْأَوْلَادُ تَبَعٌ لِأُمِّهِمْ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ، وَهُم تَبَعٌ لِأَبِيهِمْ فِي النَّسَبِ وَالْوَلَاءِ)

4361 -

الْأَوْلَادُ تَبَعٌ لِأُمِّهِمْ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ، وَهُم تَبَعٌ لِأَبِيهِمْ فِي النَّسَبِ وَالْوَلَاءِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.

(1)

رواه أبو داود (2093)، والترمذي (1109)، والنسائي (3270)، وأحمد (7527). وقال الترمذي: حديث حسن.

(2)

قال الشيخ: وَلَو زَوَّجَهَا حَاكِمٌ يَرَى ذَلِكَ (أي: يرى نكاح الصغيرة): فَهَل يَكُونُ تَزْوِيجُهُ حُكْمًا لَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ؟ أَو يَفْتَقِرُ إلَى حَاكمٍ غَيْرِهِ يَحْكمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا: أصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ.

لَكِنَّ الْحَاكِمَ الْمُزَوِّجَ هنا شَافِعِيٌّ، فَإِنْ كَانَ قَد قَلَّدَ قَوْلَ مَن يُصَحِّحُ هَذَا النِّكَاحَ وَرَاعَى سَائِرَ شُرُوطِهِ وَكَانَ مِمَن لَهُ ذَلِكَ: جَازَ.

وَإِن كَانَ قَد أَقْدَمَ عَلَى مَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ كَانَ فِعْلُهُ غَيْرَ جَائِزٍ.

وَإِن كَانَ قَد ظَنَّهَا بَالِغًا فَزَوَّجَهَا فَكَانَت غَيْرَ بَالِغٍ: لَمْ يَكُن فِي الْحَقِيقَةِ قَد زَوَّجَهَا؛ وَلَا يَكُونُ النِّكَاحُ صحِيحًا. اهـ. (32/ 50 - 51)

وقال: وَالْأَمَةُ والْمَمْلُوك الصَّغِير يُزَوِّجُهُمَا -أي: سيدهما- بِغَيْرِ إذْنِهِمَا بِالاتِّفَاقِ. (32/ 54)

ص: 532

فَمَن كَانَ سَيِّدَ الْأمِّ: كَانَ أَوْلَادُهَا لَهُ، سَوَاءً وُلدُوا مِن زَوْجٍ

(1)

أو مِن زِنًا، كَمَا أَنَّ الْبَهَائِمَ مِن الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَالْحَمِيرِ إذَا نَزَا ذَكَرُهَا عَلَى أُنْثَاهَا كَانَ الْأَوْلَادُ لِمَالِكِ الْأمِّ.

وَلَو كَانَت الْأُمُّ مُعْتَقَةً أَو حُرَّةَ الْأَصْلِ، وَالْأَبُ مَمْلُوكًا: كَانَ الْأَوْلَادُ أَحْرَارًا.

وَأمَّا النَّسَبُ فَإِنَّهُم يَنْتَسِبُونَ إلَى أبِيهِمْ.

وَإِذَا كَانَ الْأَبُ عَتِيقًا وَالْأُمُّ عَتِيقَةً: كَانُوا مُنْتَسِبِينَ إلَى مَوَالِي الْأَبِ.

وَإِن كَانَ الْأَبُ مَمْلُوكًا: انْتَسَبُوا إلَى مَوَالِي الْأُمِّ.

فَإِنْ عَتَقَ الْأَبُ بَعْدَ ذَلِكَ: انْجَرَّ الْوَلَاءُ مِن مَوَالِي الْأُمِّ إلَى مَوَالِي الْأبِ.

وَهَذَا مَذْهَبُ الْأئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ.

وَمَن كَانَ مَالِكًا لِلْأُمِّ مَلَكَ أَوْلَادَهَا، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَتَسَرَّى بِالْبَنَاتِ مِن أَوْلَادِ إمَائِهِ، إذَا لَمْ يَكُن يَسْتَمْتِعُ بِالْأُمِّ فَإِنَّهُ يَسْتَمْتِعُ بِبَنَاتِهَا، فَإِن اسْتَمْتَعَ بِالْأمِّ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِبَنَاتِهَا. [32/ 55]

* * *

‌(إذا كان رزق الخاطب من حرام فهل يحق للولي أن يردّه

؟)

4362 -

وَسُئِلَ: عَن رَجُلٍ خَطَبَ امْرَأَة فَسُئِلَ عَن نَفَقَتِهِ؟ فَقِيلَ لَهُ: مِن الْجِهَاتِ السُّلْطَانِيَّةِ

(2)

شَيْءٌ، فَأَبَى الْوَلِيُّ تَزْوِيجَهَا.

فَأَجَابَ: أَمَّا الْفُقَهَاءُ الْأَئِمَّة الَّذِينَ يُفْتَى بِقَوْلِهِمْ فَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُم جَوَازَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ فِي أَوَائِلِ الدَّوْلَةِ السَّلْجُوقِيَّةِ أَفْتَى طَائِفَةٌ مِن الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ بِجَوَازِ ذَلِكَ، وَحَكَى أَبُو مُحَمَّدِ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِهِ إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ.

(1)

لعل الصواب: (زواج).

(2)

الجهات السلطانية: الكُلَف أو المكس أو الضرائب المحرمة، وكان هذا يقصد به في ذاك الزمان.

ص: 533

وَمَن فَعَلَ مَا يَعْتَقِدُ حُكْمَهُ مُتَأَوِّلًا تَأْوِيلًا سَائِغًا -لَا سِيَّمَا مَعَ حَاجَتِهِ-: لَمْ يُجْعَلْ فَاسِقًا بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ.

لَكِنْ بِكُلِّ حَالٍ: فَالْوَلِيُّ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مُوَلِّيَتَهُ مِمَن يَتَنَاوَلُ مِثْل هَذَا الرّزْقِ الَّذِي يَعْتَقِدُهُ حَرَامًا، لَا سِيَّمَا أَنَّ رِزْقَهَا مِنْهُ، فَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ يُطْعِمُهَا مَن غَيْرِهِ أَو تَأْكُلُ هِيَ مَن غَيْرِهِ: فَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ مُتَأَوِّلًا فِيمَا يَأْكُلُهُ. [32/ 59 - 60]

* * *

‌(هل يجوز للرجل أَنْ يُنْكِحَ مُوَلِّيَتَة رافضيًّا

؟)

4363 -

الرَّافِضَةُ الْمَحْضَةُ

(1)

: هُم أَهْلُ أَهْوَاءٍ وَبِدَعٍ وَضَلَالٍ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ اُّنْ يُزَوِّجَ مُوَلِّيَتَهُ مِن رافضي.

وَإِن تَزَوَّجَ هُوَ رافضية: صَحَّ النِّكَاحُ إنْ كَانَ يَرْجُو أَنْ تَتُوبَ، وَإِلَّا فَتَرْكُ نِكَاحِهَا أَفْضَلُ؛ لِئَلَّا تُفْسِدَ عَلَيْهِ وَلَدَة. [32/ 61]

4364 -

لَا يَجُوزُ لِأَحَد أَنْ يُنْكِحَ مُوَلِّيَتَهُ رافضيًّا وَلَا مَن يَتْرُكُ الصَّلَاةَ، وَمَتَى زَوَّجُوهُ عَلَى أَنَّهُ سُنِّيّ فَصَلَّى الْخَمْسَ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ رافضي لَا يُصَلِّي، أو عَادَ إلَى الرَّفْضِ وَتَرَكَ الصَّلَاةَ: فَإِنهُم يَفْسَخُونَ النِّكَاحَ. [32/ 61]

* * *

(1)

أي: الخالصة، المتمسكون بعقيدتهم والأصول التي في كتب أئمتهم.

وهذا احتراز من الرافضة غير المحضة، وهم الذين ينتسبون للمذهب، ولكن يُصلون مع المسلمين، ولا يعتقدون الكفريات التي في أصول دينهم.

وغالب الرافضة في هذا الزمان رافضة محضة، لا يدينون بدين المسلمين، ولا يصلون مثل صلاتهم، ويتوسلون ويستغيثون بالأموات، فهم مشركون مُحادون لدين الإسلام وأهله، وها هم اليوم يُحاربون المسلمين في الكثير من بلدان المسلمين، وخاصة في سوريا، حيث تحالفوا مع الدولة الشيوعية الكافرة روسيا، وسمحوا لطائراتهم بأن تُقلع من أراضيهم في إيران، وهم جنبًا إلى جنب معهم في حصار أهلنا في مدن سوريا وخاصة في حلب.

فهل هؤلاء مسلمون؟

والشيخ له قولان في جواز تزويج الرجل مُوَلِّيَتَهُ من رافضيّ، ولا يخفى أنّ الفتوى الثانية المانعة من تزويجهم أصح وأولى، وهو الذي عليه العمل في هذا الزمن ومنذ زمن بعيد.

ص: 534

(باب المحرمات في النكاح)

4365 -

تحرم بنته من الزنا، قال الإمام أحمد في الرجل يزني بامرأة فتلد منه ابنة فيتزوجها: فاستعظم ذلك، وقال: يتزوج ابنته! عليه القتل بمنزلة المرتد.

قال أبو العباس: كلام أحمد يقتضي أنه أوجب عليه حد المرتد لاستحلال ذلك، لا حد الزاني، وذلك أنه استدل بحديث البراء

(1)

، وهذا يدل على أن استحلال هذا كفر عنده. [المستدرك 4/ 159]

4366 -

الوطء الحرام لا يؤثر تحريم المصاهرة.

واعتبر أبو العباس في موضع آخر التوبة، حتى في اللواط. [المستدرك 4/ 160]

4367 -

تحريم المصاهرة لا يثبت بالرضاع، فلا يحرم على الرجل نكاح أم زوجته وابنتها من الرضاع، ولا يحرم على المرأة نكاح أبي زوجها وابنه

(2)

من الرضاع. [المستدرك 4/ 160]

4368 -

من وُطئت بشبهة: حرم نكاحها على غير الواطئ في عدتها منه، لا عليه فيها إن لم تكن لزمته عدة من غيره، وهو رواية عن الإمام أحمد واختارها المقدسي. [المستدرك 4/ 160]

4369 -

تحرم بنت الربيبة؛ لأنها ربيبة، وبنت الربيب أيضًا، نصَّ عليهما الإمام أحمد في رواية صالح.

قال أبو العباس: ولا أعلم في ذلك نزاعًا.

ولا تحرم زوجة الربيب نصَّ عليه أحمد في رواية ابن مشيش، وكذا في الربيب يتزوج امرأةْ رابه؛ لأنه ليس من الأبناء. [المستدرك 4/ 161]

4370 -

للأب تزويج ابنته في عدة النكاح الفاسد عند أكثر العلماء كأبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور عنه. [المستدرك 4/ 161]

(1)

وهو ما رواه أهل السنن عن البراء بن عازب رضي الله عنه[أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بعث خاله إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده؛ أن يضرب عنقه] صححه الألباني رحمه الله.

(2)

هكذا في الأصل، وكذلك في الفتاوى الكبرى لابن تيمية 5/ 458، والمثبت في الإنصاف 8/ 114.

ص: 535

4371 -

لو قتل رجلٌ رجلًا ليتزوج امرأته حرمت على القاتل مع حلها لغيره. [المستدرك 4/ 161]

* * *

(المحرمات إلى أمد)

4372 -

خالف الشيخ تقي الدين في الرضاع فلم يحرم الجمع مع الرضاع. [المستدرك 4/ 161]

4373 -

ويحرم الجمع بين الأختين في الوطء بملك اليمين؛ كقول جمهور العلماء.

قيل لأحمد في رواية ابن منصور: الجمع بين المملوكتين أتقول إنه حرام؟ قال: لا أقول إنه حرام، ولكن ينهى عنه. قال القاضي: ظاهر هذا أنه لا يحرم الجمع وإنما يكره. قال أبو العباس: الإمام أحمد لم يقل ليس حرامًا، وإنما قال: لا أقول هو حرام.

وكانوا يكرهون فيما لم يرد فيه نصُّ تحريم أن يقال: هو حرام، ويقولون: يُنهى عنه، وَيكرهون أن يقولوا: هو فرض، ويقولون: يؤمر به.

وهذا الأدب في الفتوى مأثور عن جماعة من السلف، وذلك إما لتوقف في التحريم، أو تهيب لهذه الكلمة، كما يهابون لفظ الفرض إِلَّا فيما علم وجوبه.

فإذا كان المفتي يمتنع أن يقول هو فرض إما لتوقفه أو لكون الفرض ما ثبت وجوبه بالقاطع، أو لأنه لم يبين وجوبه في الكتاب فكذلك الحرام.

وأما أن يُجعل عن أحمد أنه لا يحرم بل يكره: فهذا غلط عليه، ومرجعه إلى الغفلة عن دلالة الألفاظ ومراتب الكلام. [المستدرك 4/ 161 - 162]

4374 -

قال أبو محمد المقدسي في "المغني": إذا تزوج كافر أختين ودخل بهما ثم أسلم وأسلمتا معه فاختار إحداهما لم يطأها حتى تنقضي عدة أختها، لئلا يكون واطئًا لإحدى الأختين في عدة الأخرى.

ص: 536

قال أبو العباس: وفي هذا نظر؛ فإن ظاهر السُّنَّة يخالف ذلك حيث لم يذكر فيها هذا الشرط. [المستدرك 4/ 163 - 164]

4375 -

من حرم نكاحها حرم وطؤها بملك اليمين، وجوَّزه شيخنا كأَمَة كتابية. [المستدرك 4/ 165]

4376 -

قال أبو العباس بعد أن حكى عن علي رضي الله عنه أنه فرق بين رجل وامرأته وقد زنى بها قبل أن يدخل بها: وعن جابر بن عبد اللّه والحسن والنخعي: أنه يفرق بينهما.

ويؤيد هذا من أصلنا أن له أن يعضل الزانية حتى تختلع منه، وأن الكفاءة إذا زالت في أثناء العقد فإن لها الفسخ في أحد الوجهين. [المستدرك 4/ 165]

4377 -

يُمنع الزاني من تزوج العفيفة حتى يتوب. [المستدرك 4/ 165]

4378 -

لو خبَّب امرأةً على زوجها حتى طلقها ثم تزوجها: وجب أن يعاقب هذا عقوبة بليغة، وهذا النكاح باطل في أحد القولين في مذهب مالك وأحمد وغيرهما، ويجب التفريق بين هذا الظالم المعتدي وبين هذه المرأة الظالمة. [المستدرك 4/ 166]

4379 -

يكره نكاح الحرائر الكتابيات مع وجود الحرائر المسلمات قاله القاضي وأكثر العلماء، كما يكره أن يجعل أهل الكتاب ذباحين مع كثرة ذباحين مسلمين؛ ولكن لا يحرم. [المستدرك 4/ 166]

4380 -

ولو كان أبَوَاها

(1)

غير كتابيين واختارت هي دين أهل الكتاب فظاهر كلام المصنف التحريم رواية واحدة.

وقيل عنه: لا تحرم، وجزم به في "المغني" والشرح على الرواية الثانية، واختاره الشيخ تقي الدين رحمه الله اعتبارًا بنفسه. [المستدرك 4/ 166 - 167]

(1)

في الأصل والإنصاف (8/ 137): (أبويها)، وهو خطأ؛ لأنه اسم كان، واسم كان مرفوع كما هو معلوم.

ص: 537

4381 -

لو خشي القادر على الطول على نفسه الزنى بأَمَة غيره لمحبته لها ولم يبذلها. سيدها له بملك: أُبيح له نكاحها، وهو مروي عن الحسن البصري وغيره من السلف. [المستدرك 4/ 167]

4382 -

تباح الأمَة لواجد الطول غير خائف العنت إذا شرط على السيد عتق كلِّ من يُولد منها، وهو مذهب الليث؛ لامتناع مفسدة إرقاق ولده.

وكذا لو تزوج أَمَةً كتابية شرط على سيدها عتق ولدها منه.

والآية إنما دلت على تحريم غير المؤمنات بالمفهوم، ولا عموم له؛ بل يصدق بصورة. [المستدرك 4/ 167]

4383 -

المنع من النكاح في أرض الحرب عام في المسلمة

(1)

والكافرة. وقيل: يحرم نكاح الحربية من أهل الكتاب مطلقًا.

وقيل: يكره، واختاره القاضي والشيخ تقي الدين، وقال: هو قول أكثر العلماء؛ كذبائحهم بلا حاجة. [المستدرك 4/ 167 - 168]

4384 -

اختار الشيخ تقي الدين جواز وطء إِمَاء غير أهل الكتاب، وذكره ابن أبي شيبة في كتابه عن سعيد بن المسيب وعطاء وطاوس وعمرو بن دينار، فلا يصح ادعاء الإجماع مع مخالفة هؤلاء

(2)

. [المستدرك 4/ 168]

4385 -

إذا أحب امرأة في الدنيا ولم يتزوجها وتصدق بمهرها وطلب من الله تعالى أن تكون له زوجة في الآخرة: رُجي له ذلك من الله تعالى. [المستدرك 4/ 168]

4386 -

لا يحرم في الآخرة ما يحرم في الدنيا من التزوج بأكثر من أربع، والجمع بين الأختين، ولا يمنع من أن يجمع المرأة وبنتها هناك. [المستدرك 4/ 168]

* * *

(1)

لأنها قد تؤسر فيأخذها الكفار، وربما تعلق قلبه بالزوجة ونكل عن الجهاد.

(2)

حكي الإجماع على أنه لا يجوز وطء إماء غير أهل الكتاب كالمجوسيات والبوذيات.

ص: 538

(قَاعِدَةٌ فِي الْمُحَرَّمَاتِ فِي النِّكَاحِ نَسَبًا وَصِهْرًا)

4387 -

أَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ بِالنَّسَبِ فَالضَّابِطُ فِيهِ: أَنَّ جَمِيعَ أَقَارِبِ الرَّجُلِ مِن النَّسَبِ حَرَامٌ عَلَيْهِ إلَّا بَنَاتَ أَعْمَامِهِ وَأَخْوَالِهِ وَعَمَّاتِهِ وَخَالَاتِهِ.

وَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ بِالصِّهْرِ فَيَقُولُ

(1)

: كُلُّ نِسَاءِ الصِّهْرِ حَلَالٌ لَهُ إِلَّا أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ، بِخِلَافِ الْأقَارِبِ، فَأَقَارِبُ الْإِنْسَانِ كُلُّهُنَ حَرَامٌ إِلَّا أَرْبَعَةُ أصْنَافٍ.

وَأُقَارِبُ الزَوْجَيْنِ كُلُّهُنَّ حَلَالٌ إِلَّا أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ: وَهُنَّ:

أ - حَلَائِلُ الْآبَاءِ.

ب - وَالأَبْنَاءِ.

ج - وَأُمُّهَاتُ النِّسَاءِ.

د - وَبَنَاتُهُنَّ.

فَيَحْرُمُ عَلَى كُلِّ مِن الزَّوْجَيْنِ أُصُولُ الْآخَرِ وَفُرُوعُهُ.

وَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ أُمُّ امْرَأَتِهِ، وَأُمُّ أمِّهَا وَأبِيهَا وَإِن عَلَتْ.

وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ بِنْتُ امْرَأتِهِ وَهِيَ الرَّبِيبَة، وَبِنْتُ بِنْتِهَا وَإِن سَفَلَتْ، وَبِنْتُ الرَّبِيبِ أَيْضًا حَرَامٌ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْمَشْهُورُونَ: الشَّافِعِيُّ وَأحْمَد وَغَيْرُهُمَا، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا.

وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ وَإِن عَلَا، وَامْرَأَةِ ابْنِهِ وَإِن سَفَلَ. فَهَؤُلَاءِ الْأرْبَعَةُ هُنَّ الْمُحَرَّمَاتُ بِالْمُصَاهَرَةِ فِي كِتَابِ اللهِ.

وَكُلٌّ مِن الزَّوْجَيْنِ يَكُونُ أَقَارِبُ الْآخَرِ أَصْهَارًا لَهُ، وَأَقَارِبُ الرَّجُلِ أَحْمَاءُ الْمَرْأَةِ، وَأَقَارِبُ الْمَرْأَةِ أَخْتَانُ الرَّجُلِ.

وَهَؤُلَاءِ الْأَصْنَافُ الْأَرْبَعَةُ يَحْرُمْنَ بِالْعَقْدِ إِلَّا الرَّبِيبَةَ، فَإِنَهَا لَا تَحْرُمُ حَتَّى يَدْخُلَ بِأُمِّهَا، فَإِن اللهَ لَمْ يَجْعَلْ هَذَا الشَرْطَ إِلَّا فِي الرَّبِيبَةِ، وَالْبَوَاقِي أَطْلَقَ فِيهِنَّ التَّحْرِيمَ.

(1)

لعله: فنقول.

ص: 539

فَلِهَذَا قَالَ الصَّحَابَةُ: أَبْهِمُوا مَا أَبْهَمَ اللّهُ، وَعَلَى هَذَا الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ.

وَأَمَّا بَنَاتُ هَاتَيْنِ

(1)

وَأُمَّهَاتُهُمَا: فَلَا يَحْرُمْنَ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَ امْرَأَةِ أَبِيهِ وَابْنِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ مِن حَلَائِلِ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ.

فَإِنَّ الْحَلِيلَةَ هِيَ الزَّوْجَةُ، وَبِنْتُ الزَّوْجَةِ وَأُمُّهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً.

بِخِلَافِ الرَّبِيبَةِ: فَإِنَّ وَلَدَ الرَّبِيبِ رَبِيبٌ، كَمَا أَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ وَلَدٌ، وَكَذَلِكَ أُمُّ أمِّ الزَّوْجَةِ أُمٌّ لِلزَّوْجَةِ، وَبِنْتُ أُمِّ الزَّوْجَةِ لَمْ تَحْرُمْ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ أُمًّا.

فَلِهَذَا قَالَ مَن قَالَ مِن الْفُقَهَاءِ: بَنَاتُ الْمُحَرَّمَاتِ مُحَرَّمَاتٌ، إِلَّا:

أ - بَنَاتُ الْعَمَّاتِ.

ب - وَالْخَالَاتِ.

ج - وَأمَّهَاتُ النِّسَاءِ.

د - وَحَلَائِلُ الْآبَاءِ وَالْأبْنَاءِ.

فَجَعَلَ بِنْتَ الرَّبِيبَةِ مُحَرَّمَةً دُونَ بَنَاتِ الثَّلَاثَةِ، وَهَذَا مِمَّا لَا أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا. [32/ 62 - 66]

* * *

‌(حكم مَن تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يُقَدِّر لَهَا مَهْرًا، أو شرطَ نَفْي الْمَهْرِ

؟)

4388 -

اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أنْ مَن تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يُقَدِّرْ لَهَا مَهْرًا: صَحَّ النِّكَاحُ، وَوَجَبَ لَهَا الْمَهْرُ إذَا دَخَلَ بِهَا، وَإِن طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَيْسَ لَهَا مَهْرٌ؛ بَل لَهَا الْمُتْعَةُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَإِن مَاتَ عَنْهَا فَفِيهَا قَوْلَانِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ بروع بِنْتِ وَاشِقٍ الَّتِي اُسْتُفْتِيَ عَنْهَا ابْنُ مَسْعُودِ شَهْرًا، ثُمَّ قَالَ: أقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي؛ فَإِنْ يَكُن صَوَابًا فَمِن اللهِ، وَإِن يَكُن خَطَأً فَمِنِّي وَمِن الشَّيْطَانِ وَاللهُ وَرَسولُهُ بَرِيئَانِ مِنْه: لَهَا مَهْرُ نِسَائِهَا لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَهَا

(1)

أي: امرأة الأب وامرأة الابن.

ص: 540

الْمِيرَاثُ، فَقَامَ رِجَالٌ مِن أَشْجَعَ فَقَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّ رَشولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي بروع بِنْتِ وَاشِقٍ بِمِثْل مَا قَضَيْت بِهِ فِي هَذِهِ

(1)

.

وَتَنَازَعوا فِي النِّكَاحِ إذَا شُرِطَ فِيهِ نَفْيُ الْمَهْرِ هَل يَصِحُّ النكَاحُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ:

أَحَدُهُمَا؛ يَبْطُلُ النِّكَاحُ كَقَوْلِ مَالِكٍ.

والثَّاني: يَصِحُّ وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ.

وَالْأوّلُونَ يَقُولُونَ: هُوَ نِكَاحُ الشّغَارِ الَّذِي أبْطَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ لِأنَهُ نَفَى فِيهِ الْمَهْرَ وَجَعَلَ الْبُضْعَ مَهْرًا لِلْبُضْعِ.

وَهَذَا تَعْلِيلُ أحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِن كَلَامِهِ، وَهَذَا تَعْلِيلُ أَكْثَرِ قُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ.

وَالْآخَرُونَ: مِنْهُم مَن يُصَحِّحُ نِكَاحَ الشِّغَارِ كَأَبِي حَنيفَةَ.

وَقَوْلُهُ أَقْيَسُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّهُم أَبْطَلُوا نِكَاحَ الشِّغَارِ.

وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِالنَّصِّ وَالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ. [32/ 62 - 64]

* * *

‌(حكم مَن وَطِئَ امْرَأَةً بمَا يَعْتَقِدُهُ نِكَاحًا، أو اعْتَقَدَ أَنَّه لَيْسَ حَرَامًا وَهُوَ حَرَامٌ

؟)

4389 -

مَن وَطِئَ امْرَأَةً بِمَا يَعْتَقِدُهُ نِكَاحًا: فَإِنَّهُ يَلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ، وَيَثْبُتُ فِيهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ فِيمَا أَعْلَمُ، وَإِن كَانَ ذَلِكَ النِّكَاحُ بَاطِلًا عِنْدُ اللّهِ وَرَسُولِهِ.

مِثْلُ الْكَافِرِ إذَا تَزَوَّجَ نِكَاحَا مُحَرَّمَا فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ هَذَا يَلْحَقُهُ فِيهِ

(1)

رواه أبو داود (2116)، والترمذي (1145)، والنسائي (3354).

ص: 541

النَّسَبُ، وَتَثْبُتُ بِهِ الْمُصَاهَرَةُ، فَيَحْرُمُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُصُولُ الْآخَرِ وَفُرُوعُهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.

وَكَذَلِكَ كُلُّ وَطْءٍ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَيْسَ حَرَامَا وَهُوَ حَرَامٌ؛ مِثْل مَن تَزَوَّجَ امْرَأَةً نِكَاحًا فَاسِدًا وَطَلَّقَهَا، وَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ لِخَطَئِهِ أَو لِخَطَأِ مَن أَفْتَاهُ، فَوَطِئَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَجَاءَهُ وَلَدٌ: فَهُنَا يَلْحَقُهُ النَّسَبُ، وَتَكُونُ هَذِهِ مَدْخُولًا بِهَا فَتَحْرُمُ، وَإِنْ كَانَت لَهَا أُمٌّ لَمْ يَدْخُلْ بِأُمِّهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.

فَالْكُفَّارُ إذَا تَزَوَّجَ أَحَدُهُم امْرَأَةً نِكَاحًا يَرَاه فِي دِينِهِ وَأَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ ابْنُهُ: فَهَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِامْرَأَةِ ابْنِهِ، وَإِن كَانَ نِكاحُهَا

(1)

فَاسِدًا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.

فَالنَّسَبُ: يَتْبَعُ بِاعْتِقَادِ

(2)

الْوَطْءِ لِلْحِلِّ وَإِن كَانَ مُخْطِئًا فِي اعْتِقَادِهِ.

وَالْمُصَاهَرَةُ: تَتْبَعُ النَسَبَ، فَإِذَا ثَبَتَ النَّسَبُ فَالْمُصَاهَرَةُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. [32/ 66 - 67]

* * *

‌(لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي النكاح أو التَّسَرِّي، ومتى يزول التحريم

؟)

4390 -

لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْأخْتَيْنِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ؛ وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَلَا بَيْنَ الْمَرْاةِ وَخَالَتِهَا، لَا تُنْكحُ الْكُبْرَى عَلَى الصُّغْرَى، وَلَا الصُّغْرَى عَلَى الْكُبْرَى، فَإِنَّهُ قَد ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَن ذَلِكَ.

والضَّابِطُ فِي هَذَا: أَنَّ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ بَيْنَهُمَا رَحِمٌ مُحَرَّمٌ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، بِحَيْثُ لَو كَانَت إحْدَاهُمَا ذَكَرًا لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّزَوُّجُ بِالْأُخْرَى؛ لِأَجْلِ النَّسَبِ.

(1)

أي: وإن كان نكاح الابن لزوجته فاسدًا، فلا يلزم من فساد نكاحه جواز نكاح الأب زوجته لو طلقها.

(2)

لعله: اعْتِقَادَ.

ص: 542

فَإِنَّ الرَّحِمَ الْمُحَرَّمَ لَهَا أَرْبَعَة أَحْكَامٍ: حُكْمَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، وَحُكْمَانِ مُتَنَازَعٌ فِيهِمَا، فَلَا يَجُوزُ مِلْكُهُمَا بِالنِّكَاحِ وَلَا وَطْؤُهُمَا.

فَلَا يَتَزَوَّجُ الرَّجُلُ ذَاتَ رَحِمه الْمُحَرَّم وَلَا يَتَسَرَّى بِهَا، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ؛ بَل هُنَا يَحْرُمُ مِن الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِن النَّسَبِ، فَلَا تَحِلُّ لَهُ بِنِكَاح، وَلَا مِلْكِ يَمِين، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي مِلْكِ النِّكاحِ، فَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا.

وَهَذَا أَيْضًا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَمْلِكَهُمَا، لَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَسَرَّاهُمَا، فَمَن حَرَّمَ جَمْعَهُمَا فِي النِّكَاحِ حَرَّمَ جَمْعَهُمَا فِي التَّسَرِّي، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَسَرَّى الْأخْتَيْنِ وَلَا الْأَمَةَ وَعَمَّتَهَا، وَالْأَمَةَ وَخَالَتَهَا.

وَهَذَا هُوَ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ قَوْلُ أكْثَرِ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ.

قَالُوا: وَإِذَا كَانَ تَحْرِيمُ جَمْعِ الْعَدَدِ إنَّمَا حَرُمَ لِوُجُوب الْعَدْلِ فِي الْقَسْمِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ فِي الْمَمْلُوكَةِ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَسَرَّى بِأَكْثَرِ مِن أَرْبَع، بِخِلَافِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا كَانَ دَفْعًا لِقَطِيعَةِ الرَّحِمِ بَيْنَهُمَا، وَهَذا الْمَعْنَى مَوْجُود بَيْنَ الْمَمْلُوكَتَيْنِ، كَمَا يُوجَدُ فِي الزَّوْجَتَيْنِ، فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِالتَّسَرِّي حَصَلَ بَيْنَهُمَا مِن التَّغَايُرِ مَا يَحْصُلُ إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ فَيُفْضِي إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ.

وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُؤَثِّرَ فِي الشَرْعِ: جَازَ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمَرْأتَيْنِ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا حُرْمَةٌ بِلَا نَسَبٍ، أَو نَسَبٌ بِلَا حُرْمَةٍ.

فَالْأَوَّلُ: مِثْل أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَابْنَةِ زَوْجِهَا

(1)

.

وَأَمَّا إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا رَحِمٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ؛ مِثْل بِنْتِ الْعَمِّ وَالْخَالِ: فَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.

(1)

تزوج رجل وله بنت من امرأة مطلقة أو متوفاة، ثم توفي، وجاء رجل وتزوج هذه المرأة المتوفى عنها، ثم تزوج بنت هذا المتوفى عنه؛ فجمع بين المرأتين اللتين بينهما حرمة بلا نسب.

ص: 543

وَتَحْرِيمُ الْجَمْع: يَزُولُ بِزَوَالِ النِّكَاحِ، فَإِذَا مَاتَتْ إحْدَى الْأرْبَعِ أَو الْأُخْتَيْنِ أَو طَلَّقَهَا أو انفَسَخَ نِكَاحُهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا: كَانَ لَهُ أنْ يَتَزَوَّجَ رَابِعَةً، وَيَتَزَوَّجَ الْأخْتَ الْأخْرَى بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.

وَإِن طَلَّقَهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا: لَمْ يَكُن لَهُ تَزَوُّجُ الْأخْرَى عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ: الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ.

وَقَد رَوَى عبيدة السلماني قَالَ: لَمْ يَتَّفِقْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى شَيْءٍ كَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْخَامِسَةَ لَا تُنْكَحُ فِي عِدَّةِ الرَّابِعَةِ، وَلَا تُنْكَحُ الْأُخْتُ فِي عِدَّةِ أخْتِهَا؛ وَذَلِكَ لِأنَّ الرَّجْعِيَّةَ بِمَنْزِلَةِ الزَّوْجَةِ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَرِثُ الْآخَرَ، لَكِنَّهَا صَائِرَةٌ إلَى الْبَيْنُونَةِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ كَوْنَهَا زَوْجَةً.

وَأَمَّا إذَا كَانَ الطَّلَاق بَائِنًا: فَهَل يَتَزَوَّجُ الْخَامِسَةَ فِي عِدَّةِ الرَّابِعَةِ؟

وَالْأُخْتَ فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا؟ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَالْجَوَازُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَالتَّحْرِيمُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأحْمَد. [32/ 68 - 73]

* * *

(حكم الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَةِ أَبيهَا أو أُمِّهَا، أَو عَمَّةِ أَبِيهَا أو أُمِّهَا)

4391 -

الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأةِ وَخَالَةِ أَبِيهَا، وَخَالَةِ أُمِّهَا، أَو عَمَّةِ أَبِيهَا، أو عَمَّةِ أُمِّهَا: كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا عِنْدَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِهِمْ.

وَإِذَا تَزَوَّجَ إحْدَاهُمَا بَعْدَ الْأُخْرَى: كَانَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ بَاطِلًا، لَا يَحْتَاجُ إلَى طَلَاقٍ، وَلَا يَجِبُ بِعَقْدِهِ مَهْرٌ وَلَا مِيرَاثٌ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ الدُّخُولُ بِهَا، وَإِن دَخَلَ بِهَا فَارَقَهَا كَمَا تُفَارَقُ الْأَجْنَبِيَّةُ، فَإِنْ أرَادَ نِكَاحَ الثَّانِيَةَ فَارَقَ الْأولَى، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا تَزَوَّجَ الثَّانِيَةَ. [32/ 76]

* * *

ص: 544

(حكم وطء الابن الأَمَة بعد وطء أبيه)

4392 -

لَا يَجُوز لِلِابْنِ أَنْ يَطَأَهَا [أي: الأَمَة] بَعْدَ وَطْءِ أَبِيهِ. وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ وَطْئِهَا بِالنِّكَاحِ وَبَيْنَ وَطْئِهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ. [32/ 77]

* * *

(حكم من نُكِحَتْ فِي عِدَّتِهَا)

4393 -

فِي حَدِيثِ طليحة: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ فِي عِدَّتِهَا فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا الثَّانِي أَتَمَّتْ عِدَّةَ زَوْجِهَا، وَإِن دَخَلَ بِهَا أَتَمَّتْ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا لِلْأَؤَلِ ثُم اعْتَدَّتْ لِلثَّانِي.

وَكَذَلِكَ عَن عَلِيٍّ: أَنَّهُ قَضَى أَنَّهَا تَأْتِي بِبَقِيَّةِ عِدَّتِهَا لِلْأَوَّلِ ثُمَّ تَأْتِي لِلثَّانِي بِعِدَّة مُسْتَقْبَلَةٍ، فَإذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَإِنْ شَاءَتْ نَكَحَتْ وَإِن شَاءَتْ لَمْ تَنْكِح.

الَّذِي قَضَى بِهِ عَلِي: أَنَّ الثَّانِيَ لَا يَنْكِحُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْهُ: هُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد.

وَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيّ فَيَجُوزُ عِنْدَة لِلثَّانِي أَنْ يَنْكِحَهَا فِي عِدَّتِهَا مِنْهُ، كَمَا يَجُوزُ لِلْوَاطِئِ بِشُبْهَة أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَوْطُوءَةَ فِي عِدَّتِهَا مِنْهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَن نَكَحَ امْرَأةً نِكَاحًا فَاسِدًا لَهُ أنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي عِدَّتِهَا مِنْهُ.

وَأحْمَد لَهُ فِي هَذَا الْأَصْلِ رِوَايَتَانِ:

إحْدَاهُمَا: لَا يَجُوزُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ؛ لِيُمَيِّزَ بَيْنَ مَاءِ وَطْءِ الشُّبْهَةِ وَمَاءِ الْمُبَاحِ الْمَحْضِ.

وَالثَّانِي: يَجُوزُ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَاحِقٌ فِي كِلَيْهِمَا.

وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَمِن أصْحَابِ أَحْمَد مَن جَوَّزَ لِلثَّانِي أَنْ يَنْكِحَهَا فِي عِدَّتِهَا مِنْهُ كَمَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيّ، كَمَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِكُلِّ مُعْتَدَّةٍ مِن نِكَاح فَاسِدٍ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ. [32/ 348 - 351]

ص: 545

4394 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن مُطَلَّقَةٍ ادَّعَتْ وَحَلَفَتْ أَنَّهَا قَضَتْ عِدَّتَهَا، فَتَزَوَّجَهَا زَوْجٌ ثَانٍ، ثُمَّ حَضَرَت امْرَأَةٌ أُخْرَى وَزَعَمَتْ أَنَّهَا حَاضَتْ حَيْضَتَيْنِ، وَصَدَّقَهَا الزَّوْجُ عَلَى ذَلِكَ؟

فَأَجَابَ: إذَا لَمْ تَحِضْ إلَّا حَيْضَتَيْنِ فَالنِّكَاحُ الثَّانِي بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ مُصَدِّقًا لَهَا وَجَبَ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، فَتُكْمِلَ عِدَّةَ الْأَوَّلِ بِحَيْضَة، ثُمَّ تَعْتَدُّ مِن وَطْءِ الثَّانِي عِدَّةً كَامِلَةً، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ شَاءَ الثَّانِي أَنْ يَتَزَوَّجَهَا تَزَوَّجَهَا

(1)

. [32/ 79]

* * *

‌(حكم الوفاء بالنَّذْر الْمُعَلَّق بِالشَّرْطِ

؟)

4395 -

أَمَّا النَّذْرُ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ: فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ وُجُودَ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ: إنْ شَفَى اللهُ مَرِيضِي، أَو سَلَّمَ مَالِي الْغَائِبَ: فَعَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ، أَو الصَّدَقَةُ بِمِائَةِ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ.

وَتَنَازَعُوا فِيمَا إذَا لَمْ يَكُن مَقْصُودُهُ وُجُودَ الشَّرْطِ؛ بَل مَقْصُودُة عَدَمُ الشَّرْطِ، وَهُوَ حَالِفٌ بِالنَّذْرِ، كَمَا إذَا قَالَ: لَا أُسَافِرُ، هاِن سَافَرْت فَعَلَيَّ الصَّوْمُ، أَو الْحَجُّ، أَو الصَّدَقَةُ، أَو عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ وَنَحْو ذَلِكَ

(2)

، عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَالصَّحَابَةُ وَجُمْهُورُ السَّلَفِ عَلَى أَنَهُ يَجْزِيهِ كَفارَةُ يَمِينٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد، وَهُوَ آخِرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَن أبِي حَنيفَةَ.

وَأَمَّا إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْته فَعَلَيَّ إذًا عِتْقُ عَبْدِي: فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ الْعِتْقُ بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ، لَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعِتْقُ

(3)

، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكِ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَبِي حَنِيفَةَ.

(1)

وذكر الشيخ أن لها أنْ تتزَوَّجَ مَن شَاءَتْ بِنِكَاحٍ جَدِيدِ، وَوَلَدُ الزوج الثاني وَلَدٌ حَلَالٌ يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ، وإن كَانَ قَد وُلدَ بِوَطْء فِي عَقْدٍ فَاسِدٍ لَا يعْلَمُ فَسَادهُ. (32/ 79)

(2)

ومثله: إن فعلت كذا فعلى حق، أو على ذبيحة، فالراجح أن عليه كفارة اليمين إذا لم يفعل ما قال.

(3)

وإنما وجب عليه العتق لأنه وعد بأن يعتق، والله تعالى أمر بالوفاء بالعقود.

ص: 546

وَقِيلَ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِن التَّابِعِينَ وَقَوْلُ دَاوُد وَابْنِ حَزْمٍ.

وَقِيلَ: عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَهُوَ قَوْلُ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد، وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ التَّكْفِيرِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى الْمَشْهُورِ عَنْهُمَا.

وَلَمْ يُنْقَلْ عَن الصَّحَابَةِ شَيْءٌ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ فِيمَا بَلَغَنَا بَعْدَ كَثْرَةِ الْبَحْثِ وَتَتَبُّعِ كُتُبِ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين

(1)

؛ بَل الْمَنْقُولُ عَنْهُم إمَّا ضَعِيفٌ؛ بَل كَذِبٌ مِن جِهَةِ النَّقْلِ، وَإِمَّا أَلَّا يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ، فَإِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَحْلِفُونَ بِالطَّلَاقِ عَلَى عَهْدِهِمْ، وَلَكِنْ نُقِلَ عَن طَائِفَةٍ مِنْهُم فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ أنْ يَجْزِيَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، كمَا إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ. [32/ 83 - 85]

* * *

(نِكَاح الْمُتْعَةِ خَيْرٌ مِن نِكَاحِ التَّحْلِيلِ مِن ثَلَاثَةِ أَوْجهٍ)

4396 -

إِنَّ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ خَيْرٌ مِن نِكَاحِ التَّحْلِيلِ مِن ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَانَ مُبَاحًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ بِخِلَافِ التَّحْلِيلِ.

الثانِي: أَنَّهُ رَخَّصَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَطَائِفَةٌ مِن السلَفِ، بِخِلَافِ التَّحْلِيلِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُرَخِّصْ فِيهِ أَحَدٌ مِن الصَّحَابَةِ.

الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ لَهُ رَغْبَة فِي ألْمَرْأَةِ، وَللْمَرْأَةِ رَغْبَةٌ فِيهِ إلَى أَجَلٍ، بِخِلَافِ الْمُحَلِّلِ، فَإِنَّ الْمَرْأةَ لَيْسَ لَهَا رَغْبَةٌ فِيهِ بِحَال، وَهُوَ لَيْسَ لَهُ رَغْبَةٌ فِيهَا؛ بَل فِي أَخْذِ مَا يُعْطَاهُ، وَإِن كَانَ لَهُ رَغْبَة فَهِيَ مِن رَغْبَتِهِ فِي الْوَطْءِ، لَا فِي اتِّخَاذِهَا زَوْجَةً، مِن جِنْسِ رَغْبَةِ الزَّانِي.

فَنِكَاحٌ تَنَازَعَ السَّلَفُ فِي جَوَازِهِ: أَقْرَبُ مِن نِكاحٍ أجْمَعَ السَّلَفُ عَلى تَحْرِيمِهِ.

(1)

صيغة الحلف بالطلاق: أن يقول لزوجته: إن فعلت كذا فأنت طالق، ونحوها من العبارات.

ص: 547

وَإِذَا تَنَازَعَ فِيهِ الْخَلَفُ

(1)

: فَإِنَّ أُولَئِكَ أَعْظَمُ عِلْمًا وَدِينًا.

وَمَا أَجْمَعُوا عَلَى تَعْظِيمِ تَحْرِيمِهِ: كَانَ أَمْرُة أَحَقَّ مِمَّا اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَإِن اشْتَبَهَ تَحْرِيمُهُ عَلَى مَن بَعْدَهُمْ. [32/ 93 - 97]

4397 -

يُوجَدُ فِي نِكاحِ التَّحْلِيلِ مِن الْفَسَادِ أَعْظَمُ مِمَّا يُوجَدُ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ؛ إذ الْمُتَمَتِّعُ قَاصِدٌ لِلنِّكَاحِ إلَى وَقْتٍ، وَالْمُحَلِّلُ لَا غَرَضَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَكُلُّ فَسَادٍ نُهِيَ عَنْهُ الْمُتَمَتِّعُ فَهُوَ فِي التَّحْلِيلِ وَزِيادَةٌ؛ وَلهَذَا تُنْكِرُ قُلُوبُ النَّاسِ التَّحْلِيلَ أَعْظَم مِمَّا تُنْكِرُ الْمُتْعَةَ.

وَالْمُتْعَةُ أُبِيحَتْ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ وَتَنَازَعَ السَّلَفُ فِي بَقَاءِ الْحِلِّ، وَنِكَاحُ التَّحْلِيلِ لَمْ يُبَحْ قَطُّ، وَلَا تَنَازَعَ السَّلَفُ فِي تَحْرِيمِهِ.

وَمَن شَنَّعَ عَلَى الشِّيعَةِ بِإِبَاحَةِ الْمُتْعَةِ مَعَ إبَاحَتِهِ لِلتَّحْلِيلِ فَقَد سَلَّطَهُم عَلَى الْقَدْحِ فِي السُّنَّةِ، كَمَا تَسَلَّطَت النَّصَارَى عَلَى الْقَدْحِ فِي الْإِسلَامِ بِمِثْل إبَاحَةِ التَّحْلِيلِ، حَتَّى قَالُوا: إنَّ هَؤُلَاءِ قَالَ لَهُم نَبِيُّهُم: إذَا طَلَّقَ أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَزْنِيَ!

وَذَلِكَ أَنَّ نِكَاحَ التَّحْلِيلِ سِفَاحٌ كَمَا سَمَّاهُ الصَّحَابَةُ بِذَلِكَ. [30/ 223 - 224]

* * *

‌(حكم نكاح التحليل

؟)

4398 -

التَّحْلِيلُ الَّذِي يَتَوَاطَئُونَ فِيهِ مَعَ الزَّوْجِ - لَفْظًا أَو عُرْفًا - عَلَى أنْ يُطَلِّقَ الْمَرْأَةَ أَو يَنْوِيَ الزوْجُ ذَلِكَ: مُحَرَّمٌ

(2)

، لَعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاعِلَهُ فِي أَحَادِيثَ مُتَعَدِّدَةٍ، وَسَمَّاهُ التَّيْسَ الْمُسْتَعَارَ، وَقَالَ:"لَعَنَ اللهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ"

(3)

.

(1)

وهو نكاح التحليل.

(2)

وذكر الشيخ أنه باطل باتفاق الأمة. (32/ 152)

وقال: وَاتَّفَقَ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالتَّابِعُونَ لَهُم بِإِحْسَانِ. (32/ 155)

(3)

رواه أبو داود (2076)، وابن ماجه (1936).

ص: 548

وَكَذَلِكَ مِثْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ لَهُم بِذَلِكَ آثَارٌ مَشْهُورَةٌ، يُصَرِّحُونَ فِيهَا بِأَنَّ مَن قَصَدَ التَّحْلِيلَ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُحَلِّلٌ، وَإِن لَمْ يَشْتَرِطْهُ فِي الْعَقْدِ، وَسَمَّوْهُ سِفَاحًا.

وَلَا تَحِلُّ لِمُطَلِّقِهَا الْأَوَّلِ بِمِثْل هَذَا الْعَقْدِ، وَلَا يَحِلُّ لِلزَّوْجِ الْمُحَلِّلِ إمْسَاكُهَا بِهَذَا التَّحْلِيلِ؛ بَل يَجِبُ عَلَيْهِ فِرَاقُهَا.

لَكِنْ إذَا كَانَ قَد تبَيَّنَ بِاجْتِهَاد أَو تَقْلِيدٍ جَوَازُ ذَلِكَ، فَتَحَلَّلَتْ وَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ تَحْرِيمُ ذَلِكَ: فَالْأقْوَى أنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِرَاقُهَا؛ بَل يُمْنَعُ مِن ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَقَد عَفَا اللهُ فِي الْمَاضِي عَمَّا سَلَفَ

(1)

. [32/ 151 - 152]

وَإِذَا تَزَوَّجَتْ بِالْمُحَلِّلِ ثُمَّ طَلَّقَهَا: فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ؛ إذ غَايَتُهَا أَنْ تَكُونَ مَوْطُوءَةً فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنْهُ. [32/ 153]

4399 -

التحليل محرم لا يحلها، لكن من قلد فيه المجوِّز له، أو فعله باجتهاد، ثم يتبين له تحريم ذلك فتاب إلى اللّه: فالأقوى أنه لا يجب فراقها؛ بل يمتنع عن ذلك في المستقبل، وقد عفا الله عما مضى

(2)

. [المستدرك 4/ 174]

4400 -

لَمْ يَكن عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَبِي بَكْرٍ وَلَا عُمَرَ وَلَا عُثْمَانَ وَلَا عَلِيٍّ نِكَاحُ تَحْلِيلِ ظَاهِرٌ تَعْرِفُهُ الشُّهُودُ وَالْمَرْأَةُ وَالْأوْليَاءُ، وَلَمْ يَنْقُلْ أحَدٌ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ أَنَّهُم أَعَادُوا الْمَرْاةَ عَلَى زَوْجِهَا بِنِكَاحِ تَحْلِيلٍ، فَإِنَّهُم إنَّمَا كَانوا يُطَلِّقُونَ فِي الْغَالِبِ طَلَاقَ السُّنَّةِ.

وَلَمْ يَكُونُوا يَحْلِفُونَ بِالطَّلَاقِ؛ وَلهَذَا لَمْ يُنْقَلْ عَن الصَّحَابَةِ نَقْلٌ خَاصٌّ فِي الْحَلِفِ، وَإِنَّمَا نُقِلَ عَنْهُم الْكَلَامُ فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ لَا فِي الْحَلِفِ بِهِ. [33/ 36]

* * *

(1)

هذه العبارة فيها إشكال، والعبارة التي بعدها أوضح وأصح.

(2)

مختصر الفتاوى (433) هذا أوضح مما في المجموع (32/ 152)(الجامع).

قال الشيخ رحمه الله: وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُن فِيهِ قَصْدُ تَحْلِيل وَلَا شَرْطٌ أَصْلًا: فَهَذَا نِكَاحٌ مِن الْأَنْكِحَةِ. (32/ 148)

ص: 549

(مِن شَعَائِرِ النِّكَاحِ: إعْلَانُهُ)

4401 -

مِن شَعَائِرِ النِّكَاحِ: إعْلَانُهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"أَعْلِنُوا النِّكَاحَ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ"

(1)

، وَلهَذَا يَكْفِي فِي إعْلَانِهِ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِن الْعُلَمَاءِ وَطَائِفَة أُخْرَى تُوجِبُ الْإِشْهَادَ وَالْإِعْلَانَ؛ فَإِذَا تَوَاصَوْا بِكِتْمَانِهِ بَطَلَ. [32/ 94]

* * *

‌(حكم نكاح السر؟ وحكم الإشهاد على النكاح

؟)

4402 -

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: عَن رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مُصَافَحَةً

(2)

، عَلَى صَدَاقٍ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ. فَهَل يَصِحُّ النِّكَاحُ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ: إذَا تَزَوَّجَهَا بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ وَكَتَمَا النِّكَاحَ: فَهَذَا نِكَاحٌ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ؛ بَل الَّذِي عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ أنَّهُ "لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيِّ"

(3)

، "وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ"

(4)

.

وَكِلَا هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ مَأْثُورٌ فِي السُّنَنِ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِن السَّلَفِ: لَا نِكَاحَ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ.

وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد.

وَمَالِكٌ يُوجِبُ إعْلَانَ النِّكَاحِ.

وَنِكَاحُ السِّرِّ: هُوَ مِن جِنْسِ نِكَاحِ الْبَغَايَا.

(1)

رواه الترمذي (1089)، وقال: هذا حديث غريب حسن.

(2)

المصافحة هو نكاح السر.

(3)

رواه أبو داود (2085)، والترمذي (1101)، وابن ماجه (1880)، والدارمي (2228)، وأحمد (2260).

(4)

رواه أبو داود (3083)، والترمذي (1102)، وابن ماجه (1879)، والدارمي (2230)، وأحمد (24205). وقال الترمذي: هذا حديث حسن.

ص: 550

لَكِنْ إن اعْتَقَدَ هَذَا نِكَاحًا جَائِزًا كَانَ الْوَطْءُ فِيهِ وَطْءَ شُبْهَةٍ يُلْحَقُ الْوَلَدُ فِيهِ وَيَرِثُ أَبَاهُ. [32/ 102 - 103]

فَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَضْرِبُ عَلَى النِّكَاحِ السِّرِّ، فَإِنَّ نِكَاحَ السِّرِّ مِن جِنْسِ اتِّخَاذِ الْأَخْدَانِ شَبِيهٌ بهِ، لَا سِيَّمَا إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ وَكَتَمَا ذَلِكَ، فَهَذَا مِثْلُ الَّذِي يَتَّخِذُ صَدِيقَةً، لَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ ظَاهِرٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ يَتَمَيَّزُ بِهِ عَن هَذَا، فَلَا يَشَاءُ مَن يَزْنِي بِامَرَأةٍ صَدِيقَةٍ لَهُ إلَّا قَالَ: تَزَوَّجْتهَا، وَلَا يَشَاءُ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ لِمَن تَزَوَّجَ فِي السِّرّ: إنَّهُ يَزْنِي بِهَا إلَّا قَالَ ذَلِكَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَرْقٌ مُبِينٌ.

فَإِذَا ظَهَرَ لِلنَّاسِ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ قَد أَحْصَنَهَا: تَمَيَّزَتْ عَن الْمُسَافِحَاتِ وَالْمُتَّخِذَاتِ أَخْدَانًا. كَمَا أَنَّهُ إذَا كَتَمَ نِكَاحَهَا فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَحَدٌ لَمْ تَتَمَيَّزْ مِن الْمُتَّخِذَاتِ أَخْدَانًا.

وَقَد اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ هَذَا عَن هَذَا:

فَقِيلَ: الْوَاجِبُ الْإِعْلَانُ فَقَطْ، سَوَاءٌ أَشْهَدَ أَو لَمْ يُشْهِدْ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَكَثِيرٍ مِن فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ.

وَقِيلَ: الْوَاجِبُ الْإِشْهَادُ، سَوَاء أَعْلَنَ أَو لَمْ يُعْلِنْ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٍ عَن أَحْمَد.

وَقِيلَ: يَجِبُ الأمْرَانِ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَن أَحْمَد.

وَقِيلَ: يَجِبُ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الرِّوَايَةُ الرَّابِعَةُ عَن أَحْمَد.

وَاشْتِرَاطُ الْإِشْهَادِ وَحْدَهُ ضَعِيفٌ، لَيْسَ لَهُ أَصْل فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ حَدِيثٌ.

وَمِن الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَفْعَلُهُ الْمُسْلِمُونَ دَائِمًا لَهُ شُرُوطٌ لَمْ يُبَيِّنْهَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى

(1)

، فَجَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ يَحْتَاجُونَ إلَى مَعْرِفَةِ هَذَا.

(1)

وهكذا يُقال في كل حكم شرعي لم يثبت تخصيصه وتقييده، كأحكام الحيض والسفر ونحوها، =

ص: 551

وَإِذَا كَانَ هَذَا شَرْطًا: كَانَ ذِكْرُهُ أَوْلَى مِن ذِكْرِ الْمَهْرِ وَغَيْرِهِ مِمَّا لَمْ يَكُن لَهُ ذِكْرٌ فِي كِتَابِ اللّهِ وَلَا حَدِيثٍ ثَابِتٍ عَن رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم.

فَتَبيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا أوْجَبَهُ اللّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي مَنَاكِحِهِمْ.

قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِن أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ: لَمْ يَثْبُتْ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْإِشْهَادِ عَلَى النكَاحِ شَيْءٌ.

ثُمَّ مِن الْعَجَب أَنَّ اللّهَ أمَرَ بِالْإِشْهَادِ فِي الرَّجْعَةِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ فِي النِّكَاحِ، ثُمَّ يَأْمُرُونَ بِهِ فِي النِّكَاحِ وَلَا يُوجِبُهُ أَكْثَرُهُم فِي الرَّجْعَةِ!

وَاللّهُ أَمَرَ بِالْإِشْهَادِ فِي الرَّجْعَةِ؛ لِئَلَّا يُنْكِرَ الزَّوْجُ وَيَدُوم مَعَ امْرَأَتِهِ، فَيُفْضِي إلَى إقَامَتِهِ مَعَهَا حَرَامًا، وَلَمْ يَأمُرْ بِالْإِشْهَادِ عَلَى طَلَاقٍ لَا رَجْعَةَ مَعَهُ لِأنَّهُ حِينَئِذٍ يُسَرِّحُهَا بِإِحْسَانٍ عقيب الْعِدَّةِ فَيَظْهَرُ الطَّلَاقُ.

وَلهَذَا قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ مِمَّا يَعِيبُ بِهِ اهْلَ الرَّأيِ: أَمَرَ اللّه بِالْإِشْهَادِ فِي الْبَيْعِ دُونَ النكَاحِ، وَهُم أَمَرُوا بِهِ فِي النكَاحِ دُونَ الْبَيْعِ!

وَهُوَ كَمَا قَالَ.

وَالْإِشْهَادُ فِي الْبَيْعِ إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ، وَقَد دَلَّ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ.

وَأَمَّا النِّكَاحُ فَلَمْ يَرِد الشَّرْعُ فِيهِ بِإِشْهَاد وَاجِبٍ وَلَا مُسْتَحَبٍّ؛ وَذَلِكَ أَنَّ النِّكَاحَ أُمِرَ فِيهِ بِالْإِعْلَانِ، فَأَعْنَى إعْلَانُهُ مَعَ دَوَامِهِ عَن الْإِشْهَادِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَكونُ عِنْدَ الرَّجُلِ وَالنَّاسُ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ، فَكَانَ هَذَا الْإِظْهَارُ الدَّائِمُ مُغْنِيًا عَن الْإِشْهَادِ كَالنَّسَبِ، فَإِنَّ النَّسَبَ لَا يُحْتَاجُ إلَى أَنْ يُشْهِدَ فِيهِ أَحَدًا عَلَى وِلَادَةِ امْرَأَتِهِ؛ بَل هَذَا يَظْهَرُ وَيُعْرفُ أَنَّ امْرَأَتَه وَلَدَتْ هَذَا فَأَغْنَى هَذَا عَن الْإِشْهَادِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ فَإِنَّهُ قَد يجْحَدُ وَيَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ.

= وهي مما تعم بها البلوى، فكيف يكون لها شروط -عدا ما جاء به النص الصحيح الصريح- ولم يُبَيِّنْهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟

ص: 552

وَلهَذَا إذَا كَانَ النِّكَاحُ فِي مَوْضِع لَا يَظْهَرُ فِيهِ: كَانَ إعْلَانُهُ بِالْإِشْهَادِ.

فَالْإِشْهَادُ قَد يَجِبُ فِي النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ بِهِ يُعْلَنُ وَيَظْهَرُ، لَا لِأَنَّ كُلَّ نِكَاحٍ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ؛ بَل إذَا زَوَّجَهُ وَلِيَّتَهُ ثُمَّ خَرَجَا فَتَحَدَّثَا بِذَلِكَ وَسَمِعَ النَّاسُ، أَو جَاءَ الشُّهُودُ وَالنَّاسُ بَعْدَ الْعَقْدِ فَأَخْبَرُوهُم بِأنَّهُ تَزَوَّجَهَا: كَانَ هَذَا كَافِيًا.

وَهَكَذَا كَانَت عَادَة السَّلَفِ، لَمْ يَكونُوا يُكَلِّفُونَ إحْضارَ شَاهِدَيْنِ، وَلَا كِتَابَةَ صَدَاقٍ.

فَالَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ: أَنَ النِّكَاحَ مَعَ الْإِعْلَانِ: يَصِحُّ وَإِن لَمْ يَشْهَدْ شَاهِدَانِ.

وَأَمَّا مَعَ الْكِتْمَانِ وَالْإِشْهَادِ: فَهَذَا مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ.

وَإِذَا اجْتَمَعَ الْإِشْهَادُ وَالْإِعْلَانُ: فَهَذَا الَّذِي لَا نِزَاعَ فِي صِحَّتِهِ.

وَإِن خَلَا عَن الْإِشْهَادِ وَالْإِعْلَانِ: فَهُوَ بَاطِل عِنْدَ الْعَامَّةِ.

وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَلِيِّ فَإِنَّهُ قَد دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَالسُّنَّةُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَهُوَ عَادَةُ الصَّحَابَةِ إنَّمَا كَانَ يُزَوِّجُ النِّسَاءَ الرِّجَالُ، لَا يُعْرَفُ أَنَّ امْرَأَةً تُزَوِّجُ نَفْسَهَا، وَهَذَا مِمَّا يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ النِّكَاحِ وَمُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ. [32/ 126 - 131]

* * *

‌(حكم نكاح الحامل

؟)

4403 -

وَسُئِلَ: عَن رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَلَا أَصَابَهَا، فَوَلَدَتْ بَعْدَ شَهْرَيْنِ، فَهَل يَصِحُّ النِّكَاحُ؟ وَهَل يَلْزَمُهُ الصَّدَاقُ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ: لَا يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ لَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ الْمَهْرُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.

لَكِنْ لِلْعُلَمَاءِ فِي الْعَقْدِ قَوْلَانِ:

أَصَحُّهُمَا: أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ؛ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا.

ص: 553

وَحِينَئِذٍ فَيَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا، وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ وَلَا نِصْفَ مَهْرٍ وَلَا مُتْعَةَ كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ إذَا حَصَلَت الْفُرْقَةُ فِيهَا قَبْلَ الدُّخُولِ.

لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا حَاكِمٌ يَرَى فَسَادَ الْعَقْدِ؛ لِقَطْعِ النِّزَاعِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ، ثُمَّ لَا يَحِلُّ لَهُ الْوَطْءُ حَتَّى تَضَعَ؛ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَقِيلَ: يَجُوزُ لَهُ الْوَطْءُ قَبْلَ الْوَضْعِ؛ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ.

فَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ.

لَكِنْ هَذَا النِّزَاعُ إذَا كَانَت حَامِلًا مِن وَطْءِ شُبْهَةٍ أَو سَيِّدٍ أَو زَوْجٍ؛ فَإِنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ إذَا فَارَقَ قَبْلَ الدُّخُولِ.

وَأَمَّا الْحَامِلُ مِن الزنى فَلَا كَلَامَ فِي صِحَّةِ نِكَاحِهَا

(1)

.

وَالنِّزَاعُ فِيمَا إذَا كَانَ نَكَحَهَا طَائِعًا، وَأَمَّا إذَا نَكَحَهَا مُكْرَهًا فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا

(2)

. [32/ 105 - 106، 34/ 17 - 18]

* * *

(حكم نِكَاح الزَّانِيَةِ)

4404 -

نِكَاحُ الزَّانِيَةِ: حَرَامٌ حَتَّى تَتُوبَ، سَوَاءٌ كَانَ زَنَى بِهَا هُوَ أَو غَيْرُهُ، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ بِلَا رَيْبٍ.

وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِن السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى جَوَازِهِ وَهُوَ قَوْلُ الثَّلَاثَةِ، لَكِنْ مَالِكٌ يَشْتَرِطُ الاِسْتِبْرَاءَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يُجَوِّزُ الْعَقْدَ قَبْلَ الاِسْتِبْرَاءِ إذَا كَانَت حَامِلًا، لَكِنْ إذَا كَانَت حَامِلًا لَا يَجُوزُ وَطْؤُهَا حَتَّى تَضَعَ، وَالشَّافِعِيُّ يُبِيحُ الْعَقْدَ وَالْوَطْءَ

(1)

وعلى هذا؛ فلو أن رجلًا زنى بامرأة وحملت منه فتزوجها: فيصح النكاح، وهل يُنسب الولد له؟ فيه خلاف بين أهل العلم.

(2)

هذه الفتوى يظهر لي أنّ فيها نقصًا.

ص: 554

مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ مَاءَ الزَّانِي غَيْرُ مُحْتَرَمٍ وَحُكْمُهُ لَا يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ، هَذَا مَأْخَذُهُ.

وَمَالِكٌ وَأَحْمَد يَشْتَرِطَانِ الاِسْتِبْرَاءَ وَهُوَ الصَّوَابُ، لَكِنْ مَالِكٌ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ يَشْتَرِطَانِ الاِسْتِبْرَاءَ بِحَيْضَةِ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَن أحْمَد. أَنَّهُ لَا بُدَّ مِن ثَلَاثِ حِيَضٍ، وَالصَّحِيحُ: أنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا الاِسْتِبْرَاءُ فَقَطْ، فَإِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ زَوْجَةً يَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةٌ.

وَقَد ثَبَتَ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَصَرِيحِ السُّنةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ: أَنَ الْمُخْتَلِعَةَ لَيْسَ عَلَيْهَا إلَّا الاِسْتِبْرَاءُ بِحَيْضَة، لَا عِدَّة كَعِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ.

وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، فَإِذَا كَانَت الْمُخْتَلِعَةُ لِكَوْنِهَا لَيْسَتْ مُطَلَّقَةً لَيْسَ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ؛ بَل الاِسْتِبْرَاءُ -وَيُسَمَّى الاِسْتِبْرَاءُ عِدَّةً- فَالْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَة أَوْلَى، وَالزَّانِيَةُ أَوْلَى.

وَعَلَى هَذَا: فَالْعِدَّةُ لَا تَكُونُ إلَّا مِن طَلَاقٍ، لَكِنَّ هَذَا أَيْضًا قَوْلٌ ضَعِيفٌ، وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَالاِعْتِبَارُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَكونُ إلَّا رَجْعِيًّا، وَأَنَّ كُلَّ فُرْقَةٍ مُبَايِنَةٍ فَلَيْسَتْ مِن الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ حَتَّى الْخُلْع.

وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ فِي نِكَاحِ الزَّانِيَةِ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

إحْدَاهُمَا: فِي اسْتِبْرَائِهَا، وَهُوَ عِدَّتُهَا، وَقَد تَقَدَّمَ قَوْلُ مَن قَالَ: لَا حُرْمَةَ لِمَاءِ الزَّانِي، يُقَالُ لَهُ: الاِسْتِبْرَاءُ لَمْ يَكُن لِحُرْمَةِ مَاءِ الْأَوَّلِ؛ بَل لِحُرْمَةِ مَاءِ الثَّانِي؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَلْحِقَ وَلَدًا لَيْسَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَسْتَبْرِئْهَا وَكَانَت قَد عُلِّقَتْ مِن الزَّانِي.

وَأَيْضًا: فَفِي اسْتِلْحَاقِ الزَّانِي وَلَدَهُ إذَا لَمْ تَكُن الْمَرْأَةُ فِرَاشًا قَوْلَانِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَللْعَاهِرِ الْحَجَرُ"

(1)

فَجَعَلَ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ دُونَ الْعَاهِرِ.

(1)

رواه البخاري (2053)، ومسلم (1457).

ص: 555

فَإِذَا لَمْ تَكُن الْمَرْأَةُ فِرَاشًا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْحَدِيثُ، وَعُمَرُ أَلْحَقَ أَوْلَادًا وُلِدُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِآبَائِهِمْ.

وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهَا لَا تَحِلُّ حَتَّى تَتُوبَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالاِعْتِبَارُ.

وَالْمَشْهُورُ فِي ذَلِكَ آيَةُ النُّورِ قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)} [النور: 3].

وَالَّذِينَ لَمْ يَعْمَلُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ ذَكَرُوا لَهَا تَأوِيلًا وَنَسْخًا:

أَمَّا التَّأْوِيلُ: فَقَالُوا الْمُرَادُ بِالنِّكَاحِ الْوَطْءُ، وَهَذَا مِمَّا يَظْهَرُ فَسَادُهُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ.

أَمَّا أَوَّلًا: فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ لَفْظُ نِكَاحٍ إلَّا وَلَا بُدَّ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْعَقْدُ، وَإِن دَخَلَ فِيهِ الْوَطْءُ أيْضًا.

فَأَمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ مُجَرَّدُ الْوَطْءِ فَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي كِتَابِ اللهِ قَطُّ.

وَثَانِيهَا: أَنَ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ إنَّمَا هُوَ اسْتِفْتَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي التَّزَوُّجِ بِزَانِيَةٍ، فَكَيْفَ يَكُونُ سَبَبُ النُّزُولِ خَارِجًا مِن اللَّفْظِ؟

الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: الزَّانِي لَا يَطَأُ إلَّا زَانِيَةً، أو الزَّانِيَةُ لَا يَطَؤُهَا إلَّا زَانٍ؛ كَقَوْلِهِ: الْآكِلُ لَا يَأْكُلُ إلَّا مَأْكُولًا، وَالْمَأْكُولُ لَا يَأْكُلُهُ إلَّا آكِلٌ، وَالزَّوْجُ لَا يَتَزَوَّجُ إلَّا بِزَوْجَةٍ، وَالزَّوْجَةُ لَا يَتَزَوَّجُهَا إلَّا زَوْجٌ، وَهَذَا كَلَامٌ يُنَزَّهُ عَنْهُ كَلَامُ اللهِ.

الرَّابِعُ: أَنَّ الزَّانِيَ قَد يَسْتَكْرِهُ امْرَأَةً فَيَطَؤُهَا فَيَكُونُ زَانِيًا وَلَا تَكُونُ زَانِيَةً، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ قَد تَزْنِي بِنَائِمٍ وَمُكْرَهٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَلَا يَكُونُ زَانِيًا.

وَقَوْلُ مَن قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] فِي غَايَةِ الضَّعْفِ.

ص: 556

فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3]؟

قِيلَ: الْمُتَزَوِّجُ بِهَا إنْ كَانَ مُسْلِمًا فَهُوَ زَانٍ، وَإِن لَمْ يَكُن مُسْلِمًا فَهُوَ كَافِرٌ.

فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِن تَحْرِيمِ هَذَا وَفَعَلَهُ: فَهُوَ زَانٍ، وَإِن لَمْ يَكُن مُؤْمِنًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَهُوَ مُشْرِكٌ، كَمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، كَانُوا يَتَزَوَّجُونَ الْبَغَايَا.

يَقُولُ: فَإِنْ تَزَوَّجْتُمْ بِهِنَّ كَمَا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ مِن غَيْرِ اعْتِقَادِ تَحْرِيمِ ذَلِكَ فَأَنْتُمْ مُشْرِكُونَ، وَإِنْ اعْتَقَدْتُمْ التَّحْرِيمَ فَأَنْتُمْ زُنَاةٌ

(1)

. [32/ 109 - 117]

* * *

(كما تدين تدان)

4405 -

إذَا كَانَ [أي: الزوج] يَزْنِي بِنِسَاءِ النَّاسِ كَانَ هَذَا مِمَّا يَدْعُو الْمَرْأَةَ إلَى أَنْ تُمَكنَ مِنْهَا غَيْرَهِ، كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ كَثِيرًا، فَلَمْ أرَ مَن يَزْنِي بِنِسَاءِ النَّاسِ أَو ذُكْرَانٍ إلَّا فَيَحْمِل امْرأتَهُ عَلَى أَنْ تَزْنِيَ بِغَيْرِهِ مُقَابَلَةً عَلَى ذَلِكَ وَمُغَايَظَةً.

وأيْضًا فَإِذَا كَانَ عَادَتُهُ الزنى اسْتَغْنَى بِالْبَغَايَا فَلَمْ يَكْفِ امْرَأَتَهُ فِي الْإِعْفَافِ فَتَحْتَاجُ إلَى الزنَا. [32/ 120]

* * *

(تفسير {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ})

4406 -

{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} [المائدة: 5] الْحَرَائِر، وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ: هُنَّ الْعَفَائِفُ.

(1)

قال الشيخ فىِ موضع آخر: إِنَّ {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} عَقْدَا وَوَطْئًا، وَمَتَى وَطِئَهَا مَعَ كَوْيهَا زَانيَةً كَانَ دَيُّوثًا. اهـ. (32/ 143)

ومعنى: عقدًا؛ أي: يعقد على امرأة زانية فيتزوجها.

ومعنى: وطئًا؛ أي: يُجامع زوجته أو أمته بعد علمه بأنها تزني.

ص: 557

فَقَد نُقِلَ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرُ {الْمُحْصَنَاتِ} بِالْحَرَائِرِ وَبِالْعَفَائِفِ، وَهَذَا حَقٌّ.

وَلَفْظُ الْمُحْصَنَاتِ إنْ أُرِيدَ بِهِ الْحَرَائِرُ: فَالْعِفَّةُ دَاخِلَةٌ فِي الْإِحْصَانِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ فَإِنَّ أَصْلَ الْمُحْصَنَةِ هِيَ الْعَفِيفَةُ الَّتِي أحْصِنَ فَرْجُهَا، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [التحريم: 12].

ثمَّ عَادَةُ الْعَرَبِ أَنَّ الْحُرَّةَ عِنْدَهُم لَا تُعْرَفُ بِالزِّنَا، وَإِنَّمَا تعْرَفُ بِالزنى الْإِمَاءُ، وَلهَذَا لَمَّا بَايَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هِنْدَ امْرَأةَ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى أَلَّا تَزْنِيَ قَالَتْ: أَوَ تَزْنِي الْحُرَّةُ؟

فَهَذَا لَمْ يَكُن مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ.

وَالْحُرَّةُ خِلَاف الْأَمَةِ صَارَتْ فِي عُرْفِ الْعَامَّةِ أَنَّ الْحُرَّةَ هِيَ الْعَفِيفَةُ؛ لِأنَّ الْحُرَّةَ الَّتِي لَيْسَتْ أَمَةً كانت مَعْرُوفَةً عِنْدَهُم بِالْعِفَّةِ، وَصَارَ لَفْظُ الْإِحْصَانِ يَتَنَاوَلُ الْحُرّيَّةَ مَعَ الْعِفَّةِ؛ لِأَنَّ الْإِمَاءَ لَمْ يمُنْ عَفَائِفَ. [32/ 121 - 122]

* * *

‌(حكم زواج الرجل من ابنته من الزِّنَا

؟)

4407 -

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة رحمه الله: عَن بِنْتِ الزِّنَا: هَل تزَوَّجُ بِأَبِيهَا؟

فَأَجَابَ: مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِن الْعُلَمَاءِ أَنَهُ لَا يَجُوزُ التَّزْوِيجُ بِهَا، وَهُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ، حَتَّى تَنَازَعَ الْجُمْهُورُ: هَل يُقْتَلُ مَن فَعَلَ ذَلِكَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.

وَالصَّحِيحُ: أَنَّ الْمُتَأَوّلَ الْمَعْذُورَ لَا يَفْسُقُ؛ بَل وَلَا يَأْثَمُ.

فَإِذَا كَانَ يَحْرمُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَنْكِحَ بِنْتَهُ مِن الرِّضَاعِ، وَلَا يَثْبُتَ فِي حَقِّهَا شَيْءٌ مِن أَحْكَامِ النَّسَبِ -سِوَى التَّحْرِيمِ وَمَا يَتْبَعُهَا مِن الْحُرْمَةِ-: فَكَيْفَ يُبَاحُ لَهُ نِكَاحُ بِنْتٍ خُلِقَتْ مِن مَائِهِ؟ وَأَيْنَ الْمَخْلُوقَةُ مِن مَائِهِ مِن الْمُتَغَذِّيَةِ بِلَبَنٍ دُرَّ بِوَطْئِهِ؟ [32/ 134 - 136]

* * *

ص: 558

(بِنْتُ الْمُلَاعَنَةِ لَا تُبَاحُ لِلْملَاعِنِ)

4408 -

بِنْتُ الْمُلَاعَنَةِ: لَا تُباحُ لِلْملَاعِنِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا نِزَاغ شَاذٌّ، مَعَ أَنَّ نَسَبَهَا يَنْقَطِعُ مِن أَبِيهَا، وَلَكِنْ لَو اسْتَلْحَقَهَا لَلَحِقَتْهُ، وَهُمَا لَا يَتَوَارَثَانِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ النَّسَبَ تَتَبَعَّضُ أَحْكَامُهُ، فَقَد يَكُونُ الرَّجُلُ ابْنًا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ دُونَ بَعْضٍ، فَابْنُ الْمُلَاعَنَةِ لَيْسَ بِابْن، لَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ، وَهُوَ ابْنٌ فِي بَابِ النِّكَاحِ. [32/ 139]

* * *

(حكم نكاح الزَّانِيَةَ)

4409 -

الدَّيُّوثُ: الَّذِي لَا غَيْرَهَ لَهُ.

وَلهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ مِن قَوْلَي الْعُلَمَاءِ: أَنَّ الزَّانِيَةَ لَا يَجُوزُ تَزَوُّجُهَا إلَّا بَعْدَ التَّوْبَةِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَت الْمَرْأَة تَزْنِي لَمْ يَكُن لَهُ أَنْ يُمْسِكَهَا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ؛ بَل يُفَارِقُهَا وَإِلَّا كَانَ دَيُّوثًا. [32/ 141]

* * *

(باب الشروط والعيوب في النكاح)

4410 -

لو شرطت أنه يطؤها في وقت دون وقت: ذكر القاضي ذلك في الجامع أنه من الشروط الفاسدة.

ونصَّ الإمام أحمد في الأَمَة: يجوز أن يشترط أهلها أن تخدمهم نهارًا ويرسلوها ليلًا: يتوجه منه صحة هذا الشرط

(1)

إن كان فيه غرض صحيح؛ مثل أن يكون لها بالنهار عمل فتشترط ألا يستمتع بها إِلَّا ليلًا ونحو ذلك. [المستدرك 4/ 169]

4411 -

شرط عدم النفقة فاسد، ويتوجه صحته، لا سيما إذا قلنا: إنه إذا أعسر الزوج ورضيت الزوجة به لم تملك المطالبة بالنفقة بعد. [المستدرك 4/ 169]

(1)

وهو أنه يطؤها في وقت دون وقت.

ص: 559

4412 -

إذا اشترطت ألا تسلِّم نفسها إلا في وقت بعينه فهو نظير تأخير التسليم في البيع والإجارة، وقياس المذهب صحته، وذكر أصحابنا أنه لا يصح. [المستدرك 4/ 169]

4413 -

لو شرطت زيادة في النفقة فقياس المذهب وجوب الزيادة، وكذلك إذا اشترطت زيادة في المنفعة التي يستحقها بمطلق العقد، مثل أن تشترط ألا يترك الوطء إلا شهرًا، أو ألا يسافر عنها أكثر من شهر: فإن أصحابنا القاضي وغيره قالوا في تعليل المسألة: لأنها شرطت عليه شرطًا لا يمنع المقصود بعقد النكاح، ولها فيه منفعة فيلزم الزوج الوفاء به.

وهذا التعليل يقتضي صحة كلِّ شرط لها فيه منفعة ولا يمنع مقصود النكاح

(1)

. [المستدرك 4/ 169]

4414 -

في مفردات ابن عقيل: ذكر أبو بكر فيما إذا شرط ألا يطأ، أو

(2)

لا ينفق، أو إن فارق رجع بما أنفق: روايتين.

يعني: في صحة العقد.

قال الشيخ تقي الدين: ويحتمل صحة شرط عدم النفقة. واختار فيما إذا شرط أن لا مهر: فساد العقد، وأنه قول أكثر السلف.

واختار أيضا الصحة فيما إذا شرط عدم الوطء كشرط ترك ما تستحقه.

ونقل الأثرم توقفه

(3)

في الشرط. [المستدرك 4/ 170]

4415 -

إذا شرط الزوج للزوجة في العقد، أو اتفقا قبله ألا يُخرجها من دارها، أو بلدها، أو لا يتزوج، أو لا يتسوى عليها، أو إن تزوج عليها فلها تطليقها: صح الشرط، وهو مذهب الإمام أحمد.

(1)

وهذا هو الضابط المطرد في جواز الشروط في عقود المعاوضات والنكاح. بشرط ألا يُخالف الشرط نصًّا شرعيًّا.

(2)

في الأصل: بالواو، والتصويب من الإنصاف (8/ 165).

(3)

أي: الإمام أحمد.

ص: 560

وإذا أراد أن يتزوج عليها أو يتسرى، وقد شرط لها عدم ذلك: فقد يُفهم من إطلاق أصحابنا جوازه بدون إذنها، لكونهم إنما ذكروا أن لها الفسخ ولم يتعرضوا للمنع.

وما أظنهم قصدوا ذلك.

وظاهر الأثر والقياس يقتضي منعه كسائر الشروط الصحيحة.

وقال أيضًا: لو شرط ألا يخرجها من منزل أبويها فمات الأب: فالظاهر أن الشرط باطل، ويحتمل ألا يخرجها من منزل أمها إلا أن تتزوج الأم.

ولو تعذر سكن المنزل لخراب أو غيره فهل يسقط حقها من الفسخ بنقلها عنه؟ أفتيت بأنه إن نقلها إلى منزل ترتضيه هي فلا فسخ.

وإن نقلها إلى منزل لا ترتضيه فلها الفسخ، ولم أقف فيه على نقل

(1)

. [المستدرك 4/ 171 - 172]

4416 -

لا يصح نكاح المحلل، ونية ذلك كشرطه.

وإذا ادعى الزوج الثاني أنه نوى التحليل أو الاستمتاع: فينبغي ألا يقبل منه في بطلان نكاح المرأة، إلا أن تصدقه، أو تقوم بيِّنَة إقرار على التواطؤ قبل العقد.

ولا ينبغي أن يُقبل على الزوج الأول، فتحل في الظاهر بهذا النكاح إلا أن يصدق على إفساده.

فأما إن كان الزوج الثاني ممن يعرف بالتحليل: فينبغي أن يكون ذلك تقدم اشتراطه، إلا أن يصرح قبل العقد بأنه نكاح رغبة.

وأما الزوج الأول: فإن غلب على ظنِّه صدق الزوج الثاني حرمت عليه فيما بينه وبين الله تعالى.

(1)

هذا الجواب يتفق مع السؤال بخلاف ما في المجموع (31/ 168)(الجامع).

قلت: الصواب (32/ 168).

ص: 561

ولو تقدم شرط عرفي أو لفظي بنكاح التحليل، وادعى أنه قصد نكاح الرغبة: قُبل في حق المرأة إن صححنا هذا العقد، وإلا فلا.

وإن ادعاه بعد المفارقة: ففيه نظر، وينبغي ألا يقبل قوله؛ لأن الظاهر خلافه.

ولو صدقت الزوجة أن النكاح الثاني كان فاسدًا فلا تحل للأول، لاعترافها بالتحريم عليه. [المستدرك 4/ 173 - 174]

4417 -

إن شرط الزوجان أو أحدهما فيه

(1)

خِيارًا صح العقد والشرط

(2)

. [المستدرك 4/ 175]

4418 -

لو شرط عليها أن تحافظ على الصلوات الخمس وتلزم الصدق والأمانة فيما بعد العقد فتركته فيما بعد: ملك الفسخ، كما لو شرطت عليه ترك التسري فتسرى. [المستدرك 4/ 175]

4419 -

إن شرطها بكرًا أو جميلة فهل له الخيار؟ على وجهين: أحدهما: له الخيار واختاره الشيخ تقي الدين.

قال شيخنا: ويرجع على الغار. [المستدرك 4/ 175]

4420 -

وإذا أعتقت الأمة تحت عبد ثبت الخيار لها اتفاقًا، وكذلك تحت حر، وهو رواية عن الإمام أحمد ومذهب أبي حنيفة.

ولو شرط عليها سيدها دوام النكاح تحت حر أو عبد فرضيت: لزمها ذلك، ومذهب الإمام أحمد يقتضيه؛ فإنه يجوز العتق بشرط.

* * *

(1)

أي: في النكاح.

(2)

والمشهور من مذهب الحنابلة أنّ شرط الخيار بَاطلٌ، وَيصحّ النِّكَاحُ؛ كأن يشترط الزوج أو الزوجة الخيار لمدة شهر.

ص: 562

‌(هل الشرط الفاسد يُبطل النكاح

؟)

4421 -

الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ فِي النِّكَاحِ كَثِيرَةٌ: كَنِكَاحِ الشِّغَارِ، وَالْمُحَلِّلِ، وَالْمُتْعَةِ، وَمِثْل أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَلَّا مَهْرَ لَهَا، أَو عَلَى مَهْرٍ مُحَرَّمٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِن الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ.

وَللْعُلَمَاءِ فِيهَا أَقْوَالٌ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ.

وَالثانِي: يَصِحُّ النِّكَاحُ وَيَبْطُلُ الشرْطُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ فِي الْجَمِيعِ.

والْقَوْلُ الثَّالِثُ فِي الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ: أَنَّهُ يَبْطُلُ نِكَاحُ الشِّغَارِ وَالْمُتْعَةِ وَنِكَاحُ التَّحْلِيلِ الْمَشْرُوطُ فِي الْعَقْدِ، وَيَصِحُّ النِّكَاحُ مَعَ الْمَهْرِ الْمُحَرَّمِ وَمَعَ نَفْيِ الْمَهْرِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.

وَقَد احْتَجَّ الْأَكْثَرُونَ عَلَى هَؤُلَاءِ بِالنُّصُوصِ الثَّابِتَةِ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بِنَهْيِهِ عَن نِكَاحِ الشِّغَار، وَعَن نِكَاحِ التَّحْلِيلِ؛ كَنَهْيِهِ عَن نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَالنَّهْيُ عَن النِّكَاحِ يَقْتَضِي فَسَادَهُ؛ كَنَهْيِهِ عَن النِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ، وَالنِّكَاحِ بِلَا وَليٍّ وَلَا شُهُودٍ.

وَبِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَبْطَلُوا هَذِهِ الْعُقُودَ، فَفَرَّقُوا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي نِكَاحِ الشِّغَارِ، وَجَعَلُوا نِكَاحَ التَّحْلِيلِ سِفَاحًا، وَتَوَعَّدُوا الْمُحَلِّلَ بِالرَّجْم، وَمَنَعُوا مِن غَيْرِ نِكَاحِ الرَّغْبَةِ. فَتَبَيَّنَ بِالنُّصُوصِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَسَادُ هَذِهِ الْأَنْكِحَةِ.

وَلِأَنَّ الشُّرُوطَ فِي النِّكَاحِ أَوْكَدُ مِنْهَا فِي الْبَيْعِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ

(1)

: "إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ"

(2)

، ثُمَّ

(1)

رواه أبو داود (2139)، والترمذي (1127)، والنسائي (3281)، والدارمي (2249)، وأحمد (17302).

(2)

قال الشيخ في موضع آخر: دَلَّ النَّصُّ عَلَى أَنَّ الْوَفَاءَ بِالشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ أَوْلَى مِنْهُ بِالْوَفَاءِ =

ص: 563

الْبَيْعُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالتَّرَاضِي؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، فَالنِّكَاحُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالتَّرَاضِي بِطَرِيقِ الْأوْلَى وَالْأَحْرَى.

وَالْعَقْدُ الْفَاسِدُ لَمْ يَرْضَ بِهِ الْعَاقِدُ إلَّا عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، فَإِلْزَامُهُ بِدُونِ تِلْكَ الصِّفَةِ إلْزَامٌ بِعَقْدٍ لَمْ يَرْضَ بِهِ، وَهُوَ خِلَافُ النُّصُوصِ وَالْأصُولِ.

وَأَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي هَذَا الْبَابِ: أَنَّ الْأمْرَ إلَيْهَا:

- فَإِنْ رَضِيَتْ بِدُونِ ذَلِكَ الشَّرْطِ كَانَ زَوْجًا، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْنَافِ عَقْدٍ.

- وَإِن لَمْ تَرْضَ بِهِ لَمْ يَكن زَوْجًا؛ كَالنِّكَاحِ الْمَوْقُوفِ عَلَى إجَازَتِهَا، وَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ عَلَى مَهْرٍ لَمْ يُسلَّمْ لَهَا؛ لِتَحْرِيمِهِ، أَو اسْتِحْقَاقِهِ، فَإِنْ شَاءَتْ أَنْ تَرْضَى بِهِ زَوْجًا بِمَهْر آخَرَ كَانَ ذَلِكَ، وَإِن شَاءَتْ أَنْ تُفَارِقَهُ فَلَهَا ذَلِكَ، وَلَيْسَ قَبْلَ رِضَاهَا نِكَاحٌ لَازِمٌ. [32/ 157 - 164]

* * *

‌(هل يصح أن تشترط المرأة عِنْدَ النِّكَاحِ ألا يَتَزَوَّج عَلَيْهَا

؟)

4422 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ فَشُرِطَ عَلَيْهِ عِنْدَ النِّكَاحِ أَنَّهُ لَا يَتَزَوَّجُ عَلَيْهَا وَلَا يَنْقُلُهَا مِن مَنْزِلِهَا، وَكَانَت لَهَا ابْنَة فَشُرِطَ عَلَيْهِ أَنْ تَكونَ عِنْدَ أُمِّهَا. فَهَل يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ؟

فَأَجَابَ: نَعَمْ تَصِحُّ هَذِهِ الشُّرُوطُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ؛ كَعُمَر بْنِ الْخَطَّابِ وَعَمْرِو بْنِ العاص رضي الله عنهما، وشريح الْقَاضِي وَالْأوْزَاعِي وَإِسْحَاق.

وَمَذْهَبُ مَالِك إذَا شُرِطَ أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ عَلَيْهَا أَو تَسَرَّى أنْ يَكُونَ أمْرُهَا

= بِالشُّرُوطِ فِي الْبَيْعِ، فَإِذَا كَانَت الشرُوطُ الْفَاسِدَةُ فِي الْبَيْعِ لَا يَلْزَمُ الْعَقْدُ بِدُونِهَا، بَل إِمَّا أنْ يَبْطُلَ الْعَقْدُ وَإِمَّا أنْ يَثْبُتَ الْخِيَارُ لِمَن فَاتَ غَرَضُهُ بِالاِشْتِرَاطِ إذَا بَطَلَ الشَّرْطُ، فَكَيْفَ بِالْمَشْرُوطِ فِي النِّكَاحِ؟ ا هـ. (34/ 125)

ص: 564

بِيَدِهَا وَنَحْو ذَلِكَ: صَحَّ هَذَا الشَّرْطُ أَيْضًا وَمَلَكَت الْفُرْقَة بِهِ، وَهُوَ فِي الْمَعْنَى نَحْوُ مَذْهَبِ أَحْمَد فِي ذَلِكَ.

لِمَا أَخْرَجَاهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ"

(1)

عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُّوجَ". [32/ 164]

* * *

‌(حكم من تزوج وشُرِط عليه في العقد أن كل امرأة يتزوجها فهي طالق وكل جارية يتسرى بها تعتق عليه؛ ثم إنه تزوج وتسرى

؟)

4423 -

الْأَقْوَالُ فِي هَذه الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَة:

أَحَدُهَا: يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ.

والثَّانِي: لَا يَقَعُ بِهِ وَلَا تَمْلِكُ امْرَأَتُهُ فِرَاقَهُ.

والثَّالِثُ -وَهُوَ أعْدَلُ- الْأقْوَالِ: أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاق وَلَا عِتَاق، لَكِنْ لِامْرَأَتِهِ مَا شَرَطَ لَهَا، فَإِنْ شَاءَتْ تُقِيمُ مَعَهُ؛ وَإِن شَاءَتْ أَنْ تُفَارِقَهُ. وَهَذَا أَوْسَطُ الأَقْوَالِ. [32/ 169]

* * *

‌(هل الفسخ المختلف فيه يفتقر إلى حاكم

؟)

4424 -

الْأَقْوَى أَنَّ الْفَسْخَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ كَالْعُنَّةِ: لَا يَفْتَقِرُ إلَى حُكْمِ حَاكِمٍ، لَكِنْ إذَا رُفِعَ إلَى حَاكِمٍ يَرَى فِيهِ إمْضَاءَهُ أَمْضَاهُ، وَإِن رَأَى إبْطَالَهُ أَبْطَلَهُ. [32/ 165]

* * *

(بَاب الْعُيُوبِ فِي النِّكَاحِ)

4425 -

إذَا ظَهَرَ بِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ جُنُونٌ أو جُذَامٌ أَو بَرَصٌ: فَلِلْآخَرِ فَسْخُ

(1)

البخاري (2721)، ومسلم (1418).

ص: 565

النِّكَاحِ، لَكِنْ إذَا رَضِيَ بَعْدَ ظُهُورِ الْعَيْبِ فَلَا فَسْخَ لَهُ، وَإِذَا فَسَخَتْ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ شَيْئًا مِن جِهَازِهَا، وَإِن فَسَخَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ مَهْرُهَا، وَإِن فَسَخَتْ بَعْدَهُ لَمْ يَسْقُطْ. [32/ 171]

4426 -

خرج الشيخ تقي الدين جواز الفسخ بلا حكم في الرضى بعاجز عن الوطء كعاجز عن النفقة، قال في القاعدة الثالثة والستين: ورجح الشيخ تقي الدين أن جميع الفسوخ لا تتوقف على حكم حاكم. [المستدرك 4/ 177]

4427 -

السُّنَّة المعتبرة في التأجيل هي الهلالية، وهذا هو المفهوم من كلام العلماء؛ لكن تعليلهم بالفصول يوهم خلاف ذلك؛ لكن ما بينهما متقارب.

ويتخرج إذا علمت بعنته أو اختارت المقام معه على عسرته هل لها الفسخ؟ على روايتين.

ولو خُرِّج هذا في جميع العيوب لتوجه. [المستدرك 4/ 177 - 178]

4428 -

ترد المرأة بكل عيب ينفر عن كمال الاستمتاع. [المستدرك 4/ 178]

4429 -

لو بان الزوج عقيمًا: فقياس قولنا: ثبوتُ

(1)

الخيار للمرأة؛ لأن

(2)

لها حقًّا في الولد؛ ولهذا قلنا: لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها، وعن الإمام أحمد ما يقتضيه، وروي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضًا.

ولو قيل: إن الفسخ يثبت بتراضيهما تارة، وبحكم الحاكم أخرى، أو بمجرد فسخ المستحق، ثم الآخر إن أمضاه وإلا أمضاه الحاكم: لتوجه، وهو الأقوى.

ومتى أذن الحاكم أو حكم لأحد باستحقاق عقد أو فسخ مأذون له: لم

(1)

في الأصل: (بثبوت)، والتصويب من الاختيارات (319).

(2)

في الأصل: (أنَّ)، والتصويب من الاختيارات (319).

ص: 566

يحتج بعد ذلك إلى حكم بصحته بلا نزاع، لكن لو عقد الحاكم أو فسخ: فهو فعله والأصح أنه حكم.

وإذا اعتبر تفريق الحاكم ولم يكن في الموضع حاكم يفرق: فالأشبه أن لها الامتناع، وكذلك تملك الانتقال من منزله؛ فإن من ملك الفسخ للعقد ملك الامتناع من التسليم، وينبغي أن تملك النفقة في هذه المدة لأنَّ المانع منه. [المستدرك 4/ 178 - 179]

4430 -

إذا دخل النقصُ على الزوج؛ لعيب المرأة، أو

(1)

فوات صفة، أو شرط صحيح أو باطل: فإنه ينقص من المسمى بنسبة ما نقص، وهذا النقص من مهر المثل.

وإذا كان الذي نقص هو المرأة

(2)

، بأن يكون الزوج هو المعيب، أو

(3)

تكون قد اشترطت فيه صفة أو شرطًا صحيحًا أو فاسدًا: فالواجب هنا أن ينسب ما نقص هذا الفائت من مهر المثل لولا وجوده

(4)

فيزاد على المسمى بنسبته.

فيقال: كم مهر المثل لو لم يسلم لها ما شرطته، أو كان الزوج معيبًا؟ فيقال: ألف درهم، وإذا سلَّم لها ذلك أو كان الزوج سليمًا فيقال: ثمانمائة درهم، فيكون فوات الصفة والعيب قد نقصها من مهر المثل الخمس؛ فينقصها من المسمى بحسب ذلك.

فيكون بقيَّتَه

(5)

مالٌ ذهب منه خمسه، فيزاد عليه مثل ربعه، فإذا كان

(1)

في الأصل: (بالعطف)، والمثبت من الاختيارات (321).

(2)

أي: دخل النقصُ على المرأة لا على الزوج.

(3)

في الأصل: (لا)، والمثبت من الاختيارات (322).

(4)

في الأصل: (لا لوجوده)، والمثبت من الاختيارات (322).

(5)

في الأصل: (بقيمته)، والمثبت من الاختيارات (322).

ص: 567

ألفين: استحقت

(1)

ألفين وخمسمائة.

وهذا هو المهر الذي رضيت به لو كان الزوج معيبًا أو لم يشترط صفة، وهذا هو العدل، ويرجع الزوج المغرور بالصداق على من غرَّه من المرأة أو الولي في أصح قولي العلماء. [المستدرك 4/ 179]

* * *

‌(هل الاستحاضة الدائمة عيب يُفسخ به النكاح

؟)

4431 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِكْرًا فَوَجَدَهَا مُسْتَحَاضَةً لَا يَنْقَطِعُ دَمُهَا مِن بَيْتِ أُمِّهَا، وَأَنَّهُم غَرُّوهُ، فَهَل لَهُ فَسْخُ النِّكاحِ وَيَرْجِعُ عَلَى مَن غَرَّهُ بِالصَّدَاقِ؟.

فَأَجَابَ: هَذَا عَيْبٌ يَثْبُتُ بِهِ فَسْخُ النِّكَاحِ فِي أَظْهَر الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ؛ لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ الْوَطْءُ مَعَهُ إلَّا بِضَرَر يَخَافُهُ وَأَذًى يَحْصُلُ لَهُ.

وَالثَّانِي: أَنَّ وَطْءَ الْمُسْتَحَاضَةِ عِنْدَ أَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ لَا يَجُوزُ إلَّا لِضَرُورَة.

وَمَا يَمْنَعُ الْوَطْءَ حِسًّا؛ كَاسْتِدَادِ الْفَرْجِ، أَو طَبْعًا؛ كَالْجُنُونِ وَالْجُذَامِ: يُثْبِتُ الْفَسْخَ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد، كَمَا جَاءَ عَن عُمَرَ.

وَأَمَّا مَا يَمْنَعُ كَمَالَ الْوَطْءِ كَالنَّجَاسَةِ فِي الْفَرْجِ: فَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ، وَالْمُسْتَحَاضَةُ أَشَدُّ مِن غَيْرِهَا.

وَإِذَا فُسِخَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ.

وَإِن فُسِخَ بَعْدَهُ؟ قِيلَ: إنَّ الصَّدَاقَ يَسْتَقِرُّ بِمِثْل هَذِهِ الْخَلْوَةِ، وَإِن كَانَ قَد وَطِئَهَا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ عَلَى مَن غَرَّهُ.

(1)

في الأصل: (استحق)، والمثبت من الاختيارات (322).

ص: 568

وَقِيلَ: لَا يَسْتَقِرُّ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَهُ أَنْ يُحَلِّفَ مَن ادَّعَى الْغُرُورَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَغُرَّهُ.

وَلَهُ الْخِيَارُ مَا لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرضى بِقَوْلٍ أَو فِعْلٍ.

فَإِنْ وَطِئَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا خِيَارَ لَهُ، إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الْجَهْلَ، فَهَل لَهُ الْخِيَارُ؟

فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ، وَالْأظْهَرُ ثُبُوتُ الْفَسْخِ. [32/ 172 - 173]

* * *

‌(هل لمن تزوج بكرًا فبانت ثيبًا فسخ النكاح

؟)

4432 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأة عَلَى أنَّهَا بِكْرٌ فَبَانَتْ ثَيِّبًا، فَهَل لَهُ فَسْخُ النِّكَاحِ وَيَرْجعُ عَلَى مَن غَرَّهُ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ: لَهُ فَسْخُ النِّكَاحِ، وَلَه أَنْ يُطَالِبَ بِأَرْشِ الصَّدَاقِ -وَهُوَ تَفَاوُتُ مَا بَيْنَ مَهْرِ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ- فَيُنْقِصُ بِنِسْبَتِهِ مِن الْمُسَمَّى، وَإِذَا فَسَخَ قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ الْمَهْرُ. [32/ 173]

* * *

‌(حكم النكاح في الْجَاهِلِيَّةِ؟ وحكم مناكح أهل الشرك

؟)

4433 -

النِّكَاحُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ صَحِيحٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَنَاكِحِ أَهْلِ الشِّرْكِ الَّتِي لَا تَحْرُمُ فِي الْإِسْلَامِ، وَيَلْحَقُهَا أَحْكَامُ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ: مِن الْإِرْثِ وَالْإِيلَاءِ وَاللِّعَانِ وَالظهَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. [32/ 174]

* * *

(باب نكاح الكفار)

4434 -

الصواب: أن أنكحتهم المحرمة في دين الإسلام: حرام مطلقًا، إذا لم يسلموا عُوقبوا عليها.

وإن أسلموا: عفي لهم عن ذلك؛ لعدم اعتقادهم تحريمه.

ص: 569

واختلف في الصحة والفساد. والصواب: أنها صحيحة من وجه فاسدة من وجه

(1)

:

- فإن أريد بالصحة إباحة التصرف: فإنما يباح لهم بشرط الإسلام.

- وإن أريد نفوذه وترتيب أحكام الزوجية عليه: من حصولِ الحلّ به للمطلِّق ثلاثًا، ووقوعِ الطلاق فيه، وثبوتِ الإحصان به: فصحيح. [المستدرك 4/ 180]

4435 -

يحتمل أن يقال في أنكحة الكفار التي نقضي بفسادها: إن كان حصل بها دخول استقرت، وإن لم يكن حصل دخول فرق بينهما.

وإن أسلم الكافر أو ترافعوا إلينا والمهر فاسد، وقبضته الزوجة ودخل بها الزوج: استقر.

وإن لم يكن دخل وقبضته فرض لها مهر المثل، ونصَّ عليه الإمام أحمد. [المستدرك 4/ 180 - 182]

4436 -

إن أسلمت الزوجة والزوج كافر ثم أسلم قبل الدخول أو بعد الدخول: فالنكاح باق ما لم تنكح غيره، والأمر إليها، ولا حكم له عليها، ولا حق لها عليه؛ لأن الشارع لم يفصل، وهو مصلحة محضة، وكذا إن أسلم قبلها، وليس له حبسها، فمتى أسلمت ولو قبل الدخول أو بعده فهي امرأته إن اختار.

ونقل عنه

(2)

ابن منصور في نصراني تزوج نصرانية على قلة تمر ثم أسلما: فإن دخل بها فهو جائز، وإن لم يدخل بها فلها صداق مثلها.

(1)

في الأصل: (من وجهين)، والمثبت من الاختيارات (322)، والإنصاف (8/ 206).

(2)

أي: عن الإمام أحمد.

ص: 570

وظاهر هذا: أنه قبل الدخول يجب مهر المثل بكل حال وإن قبضت المحرم.

قال أبو العباس: وهو قوي؛ إذ تقابض الكفار إنما يمضي على المشهور إذا وجد عن الطرفين، وهنا البضع لم يقبض.

وكذا إن ارتد الزوجان أو أحدهما ثم أسلما أو أحدهما. [المستدرك 4/ 182 - 183]

4437 -

قياس المذهب فيما أراه أن الزوجة إذا أسلمت قبل الزوج فلا نفقة لها؛ لأن الإسلام سبب يوجب البينونة.

والأصل عدم إسلامه في العدة، فإذا لم يسلم حتى انقضت العدة تبينا وقوع البينونة بالإسلام، ولا نفقة عندنا للبائن، وإن أسلم قبل انقضائها فههنا [قد]

(1)

يُخَرَّج وجهًا له. [المستدرك 4/ 183]

4438 -

لو تزوج المرتدُ كافرةً مرتدةً كانت أو غيرها، أو تزوج المرتدةَ كافرٌ ثم أسلما: فالذي ينبغي أن يقال هنا: إنا نقرهم على نكاحهم أو مناكحهم؛ كالحربي إذا نكح نكاحًا فاسدًا ثم أسلما فإن المعنى واحد.

وهذا جيد في القياس إذا قلنا: إن المرتد لا يؤمر بقضاء ما تركه في الردة من العبادات، لكن طرده: أنه لا يحد على ما ارتكبه في الردة من المحرمات، وفيه خلاف في المذهب. وإن كان المنصوص أنه يحد.

ومما يدخل في هذا: كل عقود المرتدين إذا أسلموا قبل التقابض أو بعده.

(1)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (326).

ص: 571

وهذا باب واسع يدخل فيه جميع أحكام أهل الشرك في النكاح وتوابعه، والأموال وتوابعها لو استولوا على مال مسلم أو تقاسموا ميراثًا ثم أسلموا بعد ذلك، والدماء وتوابعها. [المستدرك 4/ 185]

4439 -

قوله: وإن أسلم الزوجان معًا فهما على نكاحهما. قال الشيخ تقي الدين: يدخل في المعية لو شرع الثاني قبل أن يفرغ الأول. [المستدرك 4/ 185]

4440 -

وإن كانت الردة بعد الدخول: فهل تتعجل الفرقة أو تقف على انقضاء العدة؟ على روايتين. واختار الشيخ تقي الدين هنا مثل اختياره فيما إذا أسلم أحدهما بعد الدخول كما تقدم. [المستدرك 4/ 185]

* * *

‌(حكم نكاح الكتابية

؟)

4441 -

نِكَاحُ الْكِتَابِيَّةِ جَائِزٌ بالْآيَةِ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ، قَالَ تَعَالَى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]، وَهَذَا مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِن الْأئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَد رُوِيَ عَن ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ نِكَاحَ النَّصْرَانِيَّةِ، وَقَالَ: لَا أَعْلَمُ شُرَكَاءَ أَعْظَمَ مِمَن تَقُولُ: إنَّ رَبَّهَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَهُوَ الْيَوْم مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِن أَهْلِ الْبِدَعِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَقَد وَصَفَهُم بِالشِّرْكِ بِقَوْلِهِ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: 31].

قِيلَ: إنَّ أَهْلَ الْكِتَاب لَيْسَ فِي أَصْلِ دِينِهِمْ شِرْكٌ؛ فَإِنَّ اللهَ إنَّمَا بَعَثَ الرُّسُلَ بِالتَّوْحِيدِ، فَكُلُّ مَن آمَنَ بِالرُّسُلِ وَالْكُتُبِ لَمْ يَكُن فِي أَصْلِ دِينِهِمْ شِرْكٌ، وَلَكِنَّ النَّصَارَى ابْتَدَعُوا الشِّرْكَ كَمَا قَالَ:{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)}

ص: 572

فَحَيْثُ وَصَفَهُم بِأَنَّهُم أَشْرَكُوا فَلِأَجْلِ مَا ابْتَدَعُوهُ مِن الشرْكِ الَّذِي لَمْ يَأْمُر اللهُ بِهِ. [32/ 178 - 179]

* * *

‌(حكم وَطْء الْإِمَاءِ الْكِتَابِيَّاتِ والمجوسيات

؟)

4442 -

وَطْءُ الْإِمَاءِ الْكِتَابِيَّاتِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ أَقْوَى مِن وَطْئِهِنَّ بِمِلْكِ النِّكاحِ عِنْدَ عَوَامِّ أَهْلِ الْعِلْمِ مِن الْأَئِمَّةِ الْأرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَمْ يُذْكَرْ عَن أَحَدٍ مِن السَّلَفِ تَحْرِيم ذَلِكَ كَمَا نُقِلَ عَن بَعْضِهِمْ الْمَنْعُ مِن نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ.

وَأَمَّا الْأَمَةُ الْمَجُوسِيَّةُ: فَالْكَلَامُ فِيهَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ نِكَاحَ الْمَجُوسِيَّاتِ لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْوَثَنِيَّاتِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد عَن خَمْسَةٍ مِن الصَّحَابَةِ فِي ذَبَائِحِهِمْ وَنِسَائِهِمْ، وَجَعَلَ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ مِن جِنْسِ خِلَافِ أَهْلِ الْبِدَعِ.

والْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَن لَا يَجُوزُ نِكَاحُهُنَ لَا يَجُوزُ وَطْؤُهُنَّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ كَالْوَثَنِيَّاتِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِك وَالشَّافِعِيِّ وَأحْمَد وَغَيْرِهِمْ.

وَحُكِيَ عَن أَبِي ثَوْرٍ: أَنَّهُ قَالَ: يُبَاحُ وَطْءُ الْإِمَاءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ عَلَى أَيِّ دِينٍ كُنَّ.

فَقَد تبَيَّنَ أَنَّ فِى وَطْءِ الْأمَةِ الْوَثَنِيَّةِ نِزَاعًا.

وَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ: الدَّلِيل عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ التَّسَرِّي بِهِنَّ وُجُوهٌ:

أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَصْلَ الْحِلُّ، وَلَمْ يَقُمْ عَلَى تَحْرِيمِهِنَّ دَلِيلٌ مِن نَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ وَلَا قِيَاسٍ، فَبَقِيَ حِلُّ وَطْئِهِنَّ عَلَى الْأَصْلِ.

الثانِي: أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)} [المؤمنون: 5، 6]، يَقْتَضِي عُمُومَ جَوَازِ الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ مُطْلَقًا إلَّا مَا استَثْنَاهُ الدَّليلُ. [32/ 181 - 183]

* * *

ص: 573

(المجوس ليسوا أهل كتاب)

4443 -

وَأَمَّا الْمَجُوسِيَّةُ فَقَد ذَكَرْنَا أَنَّ الْكَلَامَ فِيهَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَجُوسَ لَا تَحِل ذَبَائِحُهُم وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا وُجُوهٌ:

أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ: لَيْسُوا مِن أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَن لَمْ يَكُن مِن أَهْلِ الْكِتَابِ لَمْ يَحِلَّ طَعَامُهُ وَلَا نِسَاؤُهُ.

وَأَيْضًا: فَفِي حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّة وَغَيْرِهِ مِن التَّابِعِينَ: أَنَّ

النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِن الْمَجُوسِ وَقَالَ: "سُنُوا بِهِم سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرَ

نَاكِحِي نِسَائِهِمْ، وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ"

(1)

وَهَذَا مُرْسَلٌ.

وَعَن خَمْسَةٍ مِن الصَّحَابَةِ تُوَافِقُهُ، وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْهُم خِلَافٌ.

وَقَد عَمِلَ بِهَذَا الْمُرْسَلِ عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَالْمُرْسَلُ: فِي أَحَدِ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ حُجَّة؛ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.

وَفِي الْآخَرِ: هُوَ حُجَّة إذَا عَضَّدَهُ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ،

أَو أُرْسِلَ مِن وَجْهٍ آخَرَ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.

فَمِثْلُ هَذَا الْمُرْسَلِ حُجَّة بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.

وَهَذَا الْمُرْسَلُ نَصٌّ فِي خُصُوصِ الْمَسْأَلَةِ.

فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ عَن عَلِيٍّ: أَنَّهُ كَانَ لَهُم كِتَابٌ فَرُفِعَ.

قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ قَد ضَعَّفَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ، وَإِن صَحَّ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَهُم كِتَابٌ فَرُفِعَ، لَا أَنَّهُ الْآنَ بِأَيْدِيهِمْ كِتَابٌ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَصِحُّ أَنْ

(1)

رواه مالك (756). دون زيادة: غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ، وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ.

ص: 574

يَدْخُلُوا فِي لَفْظِ: (أَهْلِ الْكِتَابِ)؛ إذ لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ كِتَابٌ لَا مُبَدَّلٌ وَلَا غَيْرُ مُبَدَّلٍ، وَلَا مَنْسُوخٌ وَلَا غَيْرُ مَنْسُوخٍ. [32/ 187 - 189]

* * *

(بَابُ الصَّدَاقِ)

4444 -

السُّنَّةُ: تَخْفِيفُ الصَّدَاقِ وَأَلَّا يَزِيدَ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَنَاتِهِ، فَقَد رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"إِنَّ أَعْظَمَ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُنَّ مَئُونَةً"

(1)

.

وَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُصْدِقَ الْمَرْأَةَ صَدَاقًا يَضُرُّ بِهِ إنْ نَقَدَهُ، وَيَعْجِزُ عَن وَفَائِهِ إنْ كَانَ دَينًا.

وَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْجَفَاءِ وَالْخُيَلَاءِ وَالرِّيَاءِ مِن تَكْثِيرِ الْمَهْرِ لِلرِّيَاءِ وَالْفَخْرِ، وَهُم لَا يَقْصِدُونَ أَخْذَهُ مِن الزَّوْجِ، وَهُوَ يَنْوِي أَلَّا يُعْطِيَهُم إيَّاهُ: فَهَذَا مُنْكَرٌ قَبِيحٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ، خَارِجٌ عَن الشَّرِيعَةِ.

وَإِن قَصَدَ الزَّوْجُ أَنْ يُؤَدِّيَهُ وَهُوَ فِي الْغَالِبِ لَا يُطِيقُة: فَقَد حَمَّلَ نَفْسَهُ، وَشَغَلَ ذِمَّتَه، وَتَعَرَّضَ لِنَقْصِ حَسَنَاتِهِ، وَارْتهَانِهِ بِالدَّيْنِ، وَأَهْلُ الْمَرْاةِ قَد آذَوْا صِهْرَهُم وَضَرُّوهُ.

وَالْمُسْتَحَبُّ فِي الصَّدَاقِ مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْيَسَارِ: أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ لَا يَزِيدُ عَلَى مَهْرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا بَنَاتِهِ، وَكَانَ مَا بَيْنَ أَرْبَعِمِائَةٍ إلَى خَمْسِمِائَةٍ بِالدَّرَاهِمِ الْخَالِصَةِ نَحْوًا مِن تِسْعَةَ عَشَرَ دِينَارًا، فَهَذِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَن فَعَلَ ذَلِكَ فَقَد اسْتَنَّ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّدَاقِ.

قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: قُلْت لِعَائِشَةَ: كَمْ كَانَ صَدَاقُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: كَانَ صَدَاقُهُ لِأَزْوَاجِهِ ثِنْتَيِّ عَشْرَةَ أُوقِيَّة وَنَشًّا.

(1)

رواه أحمد (25119).

ص: 575

قَالَتْ: أَتَدْرِي مَا النَّشُّ؟ قلْت: لَا، قَالَتْ: نِصْفُ أُوقِيَّةٍ، فَذَلِكَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَم. رَوَاة مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ".

وَقَد تَقَدَّمَ عَن عُمَرَ أَنَّ صَدَاقَ بَنَاتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ نَحْوًا مِن ذَلِكَ.

فَمَن دَعَتْهُ نَفْسُهُ إلَى أَنْ يَزِيدَ صَدَاقَ ابْنَتِهِ عَلَى صَدَاقِ بَنَاتِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم اللَّوَاتِي هُنَ خَيْرُ خَلْقِ اللهِ فِي كُلِّ فَضِيلَةٍ، وَهُنَّ أَفْضَلُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ فِي كُلِّ صِفَةِ: فَهُوَ جَاهِلٌ أَحْمَقُ.

وَهَذَا مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْيَسَارِ، فَأمَّا الْفَقِيرُ وَنَحْوُهُ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُصْدِقَ الْمَرْأَةَ إلا مَا يَقْدِرُ عَلَى وَفَائِهِ مِن غَيْرِ مَشَقَّةٍ.

وَالْأوْلَى تَعْجِيلُ الصَّدَاقِ كُلِّهِ لِلْمَرْأَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ إذَا أَمْكَنَ، فَإِنْ قَدَّمَ الْبَعْضَ وَأخَّرَ الْبَعْضَ: فَهُوَ جَائِزٌ، وَقَد كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ الطَّيِّبُ يُرَخِّصُونَ الصَّدَاقَ.

فَتَزَوَّجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى وَزْنِ نَوَاةِ مِن ذَهَبٍ.

قَالُوا: وَزْنُهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ.

وَزَوَّجَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ بِنْتَه عَلَى دِرْهَمَيْنِ وَهِيَ مِن أَفْضَلِ أَيِّمٍ مِن قُرَيْشٍ، بَعْدَ أَنْ خَطَبَهَا الْخَلِيفَةُ لِابْنِهِ فَأَبَى أَنْ يُزَوِّجَهَا بِهِ.

وَالَّذِي نُقِلَ عَن بَعْضِ السَّلَفِ مِن تَكْثِيرِ صَدَاقِ النِّسَاءِ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأنَّ الْمَالَ اتَّسَعَ عَلَيْهِمْ، وَكَانُوا يُعَجِّلُونَ الصَّدَاقَ كُلَّهُ قَبْلَ الدُّخُولِ، لَمْ يَكُونُوا يُؤَخرُونَ مِنْهُ شَيْئًا.

وَمَن كَانَ لَهُ يَسَارٌ وَوَجَدَ فَأَحَبَّ أَنْ يُعْطِيَ امْرَأَتَهُ صَدَاقًا كَثِيرًا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20].

أَمَّا مَن يَشْغَلُ ذِمَّتَهُ بِصَدَاق لَا يُرِيدُ أَنْ يُؤَدِّيَهُ، أَو يَعْجِزُ عَن وَفَائِهِ: فَهَذَا مَكْرُوهٌ.

ص: 576

وَكَذَلِكَ مَن جَعَلَ فِي ذِمَّتِهِ صَدَاقًا كَثِيرًا مِن غَيْرِ وَفَاءِ لَهُ: فَهَذَا لَيْسَ بِمَسْنُون. [32/ 192 - 195]

4445 -

مَا يُقَدِّمُهُ الزَّوْجُ لِلْمَرْأَةِ مِن النَّقْدِ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَيْهِ -غَيْرَ الصَّدَاقِ الَّذِي يُكْتَبُ فِي الْكِتَابِ- إذَا أَعْطَاهَا الزَّوْجُ ذَلِكَ أَو بَعْضَهُ أَو بَدَلَهُ: فَإِنَّهُ لَا يُحْسَبُ عَلَيْهَا مِن الصَّدَاقِ الْمَكْتُوبِ؛ بَل لَو لَمْ يُعْطِهَا ذَلِكَ لَكَانَ لَهَا أَنْ تَطْلُبَهُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ، وَكَانَ مِن الصَّدَاقِ الَّذِي يَسْتَقِرُّ بِالْمَوْتِ تَأْخُذُهُ كُلُّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنَّهَا إذَا رَضِيَتْ بِأَنْ يَكونَ لَهَا مُقَدَّمٌ وَمُؤَخَّرٌ -يُسَمِّيهِ السَّلَفُ: عَاجِلًا وَآجِلًا- وَشَارَطَتْهُ عَلَى أَنْ يُقَدِّمَ لَهَا كَذَا وَيُؤَخِّرَ كَذَا - وَإِن لَمْ تَذْكُرْ حِينَ الْعَقْدِ - فَالشَّرْطُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى الْعَقْدِ إذَا لَمْ يُفْسَخْ حِينَ عَقْدِ الْعَقْدِ كَالْمَشْرُوطِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ. إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: أَنَّهُ إذَا دَخَلَ بِهَا يُعْطِيهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا لَمْ تَسْتَحِقَّ مَا شَرَطَ لَهَا تَعْجِيلَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ. [32/ 195 - 196]

4446 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَن رَجُلِ اعْتَقَلَتْهُ زَوْجَتُهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ عَلَى الصَّدَاقِ مُدَّةَ شَهْرَيْنِ، وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَوْجُودٌ، فَهَل يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أنْ يُبْقِيَهُ أَو يُطْلِقُهُ؟

فَأَجَابَ: إذَا لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَالٌ: حَلَّفَهُ الْحَاكِمُ عَلَى إعْسَارِهِ وَأَطْلَقَهُ، وَلَمْ يَجُزْ حَبْسُهُ وَتَكْلِيفُهُ الْبَيِّنَةَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ فِي الْمَذَاهِبِ الْأرْبَعَةِ. [32/ 197]

4447 -

وَسُئِلَ: رحمه الله: عَن امْرَأَةٍ بكْرٍ تَزَوَّجَهَا رَجُلٌ وَدَخَلَ بِهَا، ثُمَّ ادَّعَى أنَّهَا كَانَت ثَيِّبًا، وَتَحَاكَمَا إلَى حَاكِمٍ: فَأَرْسَلَ مَعَهَا امْرَأَتَيْنِ وَجَدُوهَا كانت بِكْرًا فَأَنْكَرَ، وَنَكَلَ عَن الْمَهْرِ، مَا يَجِبُ عَلَيْهِ؟

فَأَجَابَ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ بَل عَلَيْهِ كَمَالُ الْمَهْرِ.

وَقَضَى الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالْأئِمَّةُ الْمَهْدِيُّونَ: أَنَّ مَن أَغْلَقَ الْبَابَ وَأَرْخَى السِّتْرَ فَقَد وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْعِدَّةُ وَالْمَهْرُ. [32/ 197]

ص: 577

4448 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَن رَجُلٍ خَطَبَ امْرَأَةً فَاتَّفَقُوا عَلَى النِّكَاحِ مِن غَيْرِ عَقْدٍ، وَأَعْطَى أَبَاهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ شَيْئًا فَمَاتَتْ قَبْلَ الْعَقْدِ، هَل لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا أَعْطَى؟

فَأَجَابَ: إذَا كَانُوا قَد وَفَّوْا بِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يَمْنَعُوهُ مِن نِكَاحِهَا حَتَّى مَاتَتْ: فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرْجِعَ مَا أَعْطَاهُمْ، كَمَا أَنَّهُ لَو كَانَ قَد تَزَوَّجَهَا اسْتَحَقَّتْ جَمِيعَ الصَّدَاقِ؛ وَذَلِكَ لأنَّهُ إنَّمَا بَذَلَ لَهُم ذَلِكَ لِيُمَكِّنُوهُ مِن نِكَاحِهَا وَقَد فَعَلُوا ذَلِكَ، وَهَذَا غَايَةُ الْمُمْكِنِ. [32/ 198]

4449 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ كَانَ لَهَا زَوْجٌ فَفَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا، فَهَل لَهَا مَهْر؟

فَأَجَابَ: إذَا عَلِمَتْ أَنَّهَا مُزَوَّجَةٌ وَلَمْ تَسْتَشْعِرْ لَا مَوْتَهُ وَلَا طَلَاقَهُ: فَهَذِهِ زَانِيَةٌ مُطَاوِعَة لَا مَهْرَ لَهَا.

وَإِذَا اعْتَقَدَتْ مَوْتَهُ [أو]

(1)

طَلَاقَهُ: فَهُوَ وَطْءُ شُبْهَةِ بِنِكَاح فَاسِدٍ، فَلَهَا الْمَهْرُ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد وَمَالِكٍ أَنَّ لَهَا الْمُسَمَّى، وَعَن أَحْمَد رِوَايَةٌ أُخْرَى كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ. [32/ 198]

4450 -

إذَا خَلَا الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ فَمَنَعَتْهُ نَفْسَهَا مِن الْوَطْءِ وَلَمْ يَطَأُهَا: لَمْ يَسْتَقِرَّ مَهْرُهَا فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ من الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ: مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ.

وَإِذَا اعْتَرَفَتْ بِأَنَّهَا لَمْ تُمَكِّنْهُ مِن وَطْئِهَا: لَمْ يَسْتَقِرَّ مَهْرُهَا بِاتِّفَاقِهِمْ.

وَلَا يَجِبُ لَهَا عَلَيْهِ نَفَقَةٌ مَا دَامَتْ كَذَلِكَ بِاتِّفَاقِهِمْ.

وَإِذَا كَانَت مُبْغِضَةً لَهُ مُخْتَارَةً سِوَاهُ: فَإِنَّهَا تَفْتَدِي نَفْسَهَا مِنْهُ. [32/ 201]

(1)

في الأصل بالعطف، والتصويب من الفتاوى الكبرى ومختصر الفتاوى المصرية.

ص: 578

4451 -

يتقرر المهر بالخلوة وإن منعته الوطء، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية حرب

(1)

. [المستدرك 4/ 199]

4452 -

تَزَوُّجُ الْعَبْدِ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ إذَا لَمْ يُجْزِهِ السَّيِّدُ: بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. لَكِنْ إذَا أَجَازَهُ السَّيِّد بَعْدَ الْعَقْدِ صَحَّ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الأُخْرَى.

وَإِذَا طَلَبَ النِّكَاحَ فَعَلَى السَّيّدِ أَنْ يُزَوِّجَهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32]. [32/ 201 - 202]

4453 -

لو قيل: إنه يكره جعل الصداق دينًا، سواء كان مؤخر الوفاء وهو حال أو كان مؤجلًا لكان متوجهًا؛ لحديث الواهبة نفسها للنبي. [المستدرك 4/ 186]

4454 -

الصداق المقدم إذا كثر وهو قادر على ذلك لم يكره، إلا أن يقترن بذلك ما يوجب الكراهة من معنى المباهاة ونحو ذلك.

فأما إن كان عاجزًا عن ذلك: فيكره، بل يحرم إذا لم يتوصل إليه إلا بمسألة أو غيرها من الوجوه المحرمة.

فأما إن كثر وهو مؤخر في ذمته: فينبغي أن يكره هذا كله؛ لما فيه من تعريض نفسه لشغل الذمة. [المستدرك 4/ 186]

4455 -

لو تزوجها على مائة مقدمة ومائة مؤجلة صح، ولا تستحق المطالبة بالمؤجلة إلا بموت أو فرقة

(2)

، نص عليه الإمام أحمد. [المستدرك 4/ 186]

4456 -

جاء عن ابن سيرين عن شريح "أن رجلًا تزوج امرأة على عاجل

(1)

هذا مُخالف لكلامه السابق.

(2)

وفي الإنصاف 8/ 244: وقال الشيخ تقي الدين: الأظهر أنهم أرادوا بالفرقة البينونة. (الجامع).

ص: 579

وآجل إلى الميسرة، فقدمته إلى شريح فقال: لنا على ميسرة فآخذه لك".

وقياس المذهب أن هذا الشرط صحيح؛ لأن الجهالة فيه أقل من جهالة الفرقة، وكان هذا الشرط في الحقيقة مقتضى العقد.

ولو قيل بصحته في جميع الآجال لكان متوجهًا

(1)

. [المستدرك 4/ 186 - 187]

4457 -

لو تزوجها على أن يعطيها في كل سنة تبقى معه مائة درهم: فقد يؤخذ من كلام كثير من أصحابنا أن هذه تسمية فاسدة لجهالة المسمى، وتتوجه صحته، بل هو الأشبه بأصولنا، كما لو باعه الصبرة كل قفيز بدرهم، أو أكراه الدار كل شهر بدرهم، ولأن تقدير المهر بمدة النكاح بمنزلة تأجيله بمدة النكاح؛ إذ لا فرق بين جهالة القدر وجهالة الأجل.

وعلى هذا: لو تزوجها على أن يخيط لها كل شهر ثوبًا: صح أيضًا؛ إذ لا فرق بين الأعيان والمنافع.

وإن تزوجها على منفعة داره أو عبده ما دامت زوجته: فهنا قد تبطل المنفعة

(2)

قبل زوال النكاح، فإن شرط لها مثل ذلك إذا تلفت: فهنا ينبغي أن يصح.

وإن لم يشترط: ففيه نظر. [المستدرك 4/ 187]

4458 -

إن تزوجها على أن يعلمها أو يعلم غلامها صنعة صح، ذكره القاضي، والأشبه جوازه أيضًا ولو كان المعلِّم أخاها أو ابنها أو أجنبيًّا. [المستدرك 4/ 188]

4459 -

الأوجه أنه إذا تزوج بنية أن يعطيها صداقًا محرمًا، أو لا يوفيها الصداق: أن الفرج لا يحل له؛ فإن هذا لم يستحل الفرج بماله.

(1)

قال ابن عثيمين رحمه الله في حاشية الاختيارات (331): نعم هو متوجه، وقد أرسل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إلى رجل قدم له بزٌّ من الشام أن يبيع عليه ثوبين إلى ميسرة، فأرسل إليه فامتنع.

(2)

أي: منفعة داره أو عبده.

ص: 580

فلو تاب من هذه النية: ينبغي أن يقال: حكمه حكم ما لو تزوجها بعين محرمة والمرأة لا تعلم تحريمها. [المستدرك 4/ 189]

4460 -

لو شرط [الأب] جميع المهر له صح كشعيب عليه السلام، وشَرَط عدم الإجحاف القاضي في المجرد. قال الشيخ تقي الدين: وهذا ضعيف ولا يتصور الإجحاف لعدم ملكها له. [المستدرك 4/ 189]

4461 -

إن لم يحصل للمرأة ما أصدقها: لم يكن النكاح لازمًا، ولو أُعطيت بدله كالبيع، وإنما يلزم ما ألزم به الشارع أو التزمه المكلف.

فإن أصدقها شيئًا معينًا وتلف قبل قبضه: ثبت للزوجة فسخ النكاح.

وإن كان الشرط باطلًا ولم يعلم المشترط ببطلانه: لم يكن العقد لازمًا؛ بل إن رضي بدون الشرط وإلا فله الفسخ. [المستدرك 4/ 190]

4462 -

لو قيل في كل موضع تبرعت المرأة بالصداق ثم وقع الطلاق وهو باق بعينه أنه يرجع بالنصف على من هو في يده -وكذلك في جميع الفسوخ-: لم يبعد، بخلاف ما لو خرج بمعاوضة. [المستدرك 4/ 197]

4463 -

النقد المتقدم محسوب من الصداق وإن لم يكتب في الصداق إذا تواطئوا عليه، ويطالب بنصفه عند الفرقة قبل الدخول؛ لأن الشرط المتقدم كالمقارن. [المستدرك 4/ 197]

4464 -

إذا أبرأت المرأة زوجها من صداقها ثم طلقها: فهل لها الرجوع إذا كان يمكنها؛ لكون مثل هذا الإبراء لا يصدر في العادة إلا على أن يمسكها أو خوفًا من أن يطلقها أو يتزوج عليها أو نحو ذلك؟ فيه قولان هما روايتان عن أحمد.

وأما إذا كانت نفسها قد طابت بالإبراء مطلقًا وهو أن يكون ابتداء منها لا بسبب منه ولا عوض: فهنا لا ترجع بلا ريب. [المستدرك 4/ 197]

ص: 581

4465 -

من أعطى قومًا شيئًا واتفقوا على أن يزوجوه بنتهم فماتت البنت: لم يكن له أن يرجع عليهم بشيء مما أعطاهم، وإن كانوا لم يفوا له بما طلبه منهم فله الرجوع. [المستدرك 4/ 198]

4466 -

قد كتبت عن الإمام أحمد فيما إذا أهدى لها

(1)

هدية بعد العقد: فإنها ترد ذلك إليه إذا زال العقد الفاسد، فهذا يقتضي أن ما وهبه لها بسبب النكاح فإنه يبطل إذا زال النكاح، وهو خلاف ما ذكره أبو محمد وغيره.

وهذا المنصوص جار على أصول المذهب الموافق لأصول الشريعة، وهو أن كل من أُهدي له شيء، أو وُهب له شيء بسببٍ:[فإنه يثبت له حكم ذلك السبب، بحيث يستحق مَن يستحق ذلك السبب، و]

(2)

يثبت بثبوته ويزول بزواله، ويحرم بحرمته، ويحل بحله حيث جاز في تولي الهدية مثل من أهدي له للقرض: فإنه يثبت له فيه حكم بدل القرض.

وكذلك من أُهدي له لولاية مشتركة بينه وبين غيره كالإمام وأمير الجيش وساعي الصدقات: فإنه يثبت في الهدية حكم ذلك الاشتراك.

ولو كانت الهدية قبل العقد، وقد وعدوه بالنكاح فزوجوا غيره: رجع بها. [المستدرك 4/ 198]

4467 -

ما قبض بسبب النكاح فكمهر

(3)

. [المستدرك 4/ 198]

4468 -

لو صالحت عن صداقها المسمى بأقل جاز؛ لأنه إسقاط لبعض حقها.

(1)

أي: أهدى الزوج لزوجتِه، الذي عقد عليها بعقد فاسد.

(2)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (334).

(3)

فإذا أهدى الزوج لزوجته قبل الدخول فيُحسب من المهر.

ص: 582

ولو صالحته على أكثر من ذلك: بطل الفضل؛ لأن في ذلك ربًا؛ لأنه زيادة على حقها.

وقياس المذهب: جوازه؛ لأنه زيادة على المهر بعد العقد وذلك جائز، وصححنا أنه يصح أن يصطلحا على مهر المثل باقل منه وأكثر، مع أنه واجب بالعقد. [المستدرك 4/ 199]

4469 -

لا تقبل دعوى

(1)

عدم علمه بها، والمنصوص: ولو أنه أعمى؛ لأن العادة أنه لا يخفى عليه ذلك، فقد قدم أصحابنا هنا العادة على الأصل، فكذا دعوى إنفاقه

(2)

؛ فإن العادة هناك

(3)

أقوى قاله شيخنا

(4)

. [المستدرك 4/ 200]

4470 -

لا بد من اعتبار العصر في مهر المثل؛ فإن الزمان إن كان زمان رخص رخص وإن زادت المهور، وإن كان زمن غلاء وخوف نقص، وقد تعتبر عادة البلد والقبيلة في زيادة المهر ونقصه.

وينبغي أيضًا اعتبار الصفات المعتبرة في الكفاءة، فإن كان أبوها

موسرًا

(5)

ثم افتقر، أو ذا صنعة جيدة، ثم تحول إلى دونها، أو كانت له رئاسة وملك ثم زالت عنه تلك الرئاسة والملك: فيجب اعتبار مثل هذا.

وكذلك لو كان أهلها لهم عزُّ في أوطانهم ورئاسة فانقلبوا إلى بلد ليس لهم فيه عز ولا رئاسة، فإن المهر يختلف بذلك في العادة. [المستدرك 4/ 200]

4471 -

الشرط المتقدم كالمقارن، والإطراد العرفي كاللفضي

(6)

. [المستدرك 4/ 200]

(1)

أي: دعوى الزوج بعد أن خلا بزوجته.

(2)

على زوجتِه المقيم معها.

(3)

أي: في الإنفاق.

(4)

والمشهور من المذهب أن القول في عدم الإنفاق قولُها بيمينها؛ لأنه الأصل.

(5)

في المطبوع: (موسرٌ) بالرفع، وهو خطأ.

(6)

في الأصل: (كالمقتضي)، والتصويب من الاختيارات (342).

ص: 583

4472 -

إن اختلفا في قبض المهر

(1)

: فالمتوجه [أنه]

(2)

إن كانت العادة الغالبة جارية بحصول القبض في هذه الديون أو الأعيان فالقول قول من يوافق العادة، وهو جار على أصولنا وأصول مالك في تعارض الأصل والعادة، والظاهر: أنه يرجح

(3)

.

وفرق بين دلالة الحال المطلقة العامة وبين دلالة الحال المقيدة المخصوصة. [المستدرك 4/ 201]

4473 -

من عُرفت أنها زوجة فلان وأنه تزوجها ولم يسم لها صداقًا، فمات: فلها المطالبة بمهر المثل، ولو لم يكن لها بينة بمقدار الصداق، وعليها اليمين أنها لم تُبْرؤه

(4)

، ولم تقبض صداقها. [المستدرك 4/ 201]

4474 -

الأب هو الذي بيده عقدة النكاح، وهو رواية عن الإمام أحمد، وقاله طائفة من العلماء.

وليس في كلام الإمام أحمد أن عفوه صحيح لأن بيده عقدة النكاح، بل لأن له أن يأخذ من مالها ما شاء.

وتعليل الامام أحمد بالأخذ من مالها ما شاء يقتضي جواز العفو بعد الدخول على الصداق كله. وكذلك سائر الديون. [المستدرك 4/ 201]

4475 -

الأشبه في مسألة الزوجة الصغيرة: أنه يستحق وليها المطالبة لها بنصف الصداق، والنصف الآخر لا يطالب به إلا إذا مكنت من نفسها؛ لأن النصف مستحق بإزاء الحبس، وهو حاصل بالعقد، والنصف الآخر بإزاء الدخول، فلا تستحقه إلا ببذل نفسها. [المستدرك 4/ 201 - 202]

(1)

قبل الدخول أو بعده.

(2)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (343).

(3)

والمذهب: أن الْقَوْلَ قَوْلُهَا؛ لأنّ الأصل عدم القبض، ولعموم حديث:"واليمين على من أنكر"، لكن الشيخ هنا قدم العادة على الأصل.

(4)

الصواب إملائيًّا: تُبرئه.

ص: 584

4476 -

تجب المتعة لكل مطلقة، وهو رواية عن الإمام أحمد نقلها حنبل، وهو ظاهر دلالة القرآن.

واختار أبو العباس في الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة أن لكل مطلقة متعة إلا التي لم يدخل بها وقد فرض لها، وهو رواية عن الإمام أحمد وقاله عمر.

وتكون نفقته الرجعية مغنية عن متاع آخر بحيث لا يجب لها كسوتان. [المستدرك 4/ 202]

4477 -

قال أصحابنا وغيرهم: يجب مهر المثل للموطوءة بشبهة.

وينبغي أنه إذا أمكن أن يكون في وطء الشبهة مسمى فيكون هو الواجب.

فإن كان الاشتباه عليه فقط: فينبغي ألا يجب لها مهر.

وإن كان عليها فقط: فإن اعتقدت أنه زوجها فلا يبعد أن يجب لها المهر المسمى. [المستدرك 4/ 203]

4478 -

قوله: ويجب مهر المثل للموطوءة بشبهة.

وظاهر كلام الشيخ تقي الدين: أنه لا يجب لها مهر؛ لأنه قال: البضع إنما يتقوم على زوج أو شبهه فيملكه. [المستدرك 4/ 204]

4479 -

ولا يجب المهر للمكرهة على الزنى. وهو رواية عن أحمد ومذهب أبي حنيفة. [المستدرك 4/ 204]

4480 -

متى خرجت منه زوجته بغير اختياره؛ بإفسادها، أو بإفساد غيرها، أو بيمينه لا تفعلي شيئًا ففعلته: فله مهره

(1)

، وهو رواية عن الإمام أحمد؛

(1)

في الأصل: (مهرها)، والتصويب من الاختيارات (345).

ص: 585

كالمفقود؛ بناء على الصحيح أن خروج البضع من ملك الزوج متقوم. [المستدرك 4/ 204]

4481 -

الفرقة إن كانت من جهتها: فهي كإتلاف البائع [المبيعَ]

(1)

؛ فيخير على المشهور بين مطالبتها بمهر المثل وضمان المسمى لها وبين إسقاط المسمى. [المستدرك 4/ 205]

* * *

(بَاب وَلِيمَةِ الْعُرْسِ)

4482 -

أَمَّا وَليمَةُ الْعُرْسِ: فَهِيَ سُنَّةٌ وَالْإِجَابَةُ إلَيْهَا مَأْمُورٌ بِهَا.

وَأَمَّا وَليمَةُ الْمَوْتِ: فَبِدْعَة مَكْرُوةٌ فِعْلُهَا وَالْإِجَابَة إلَيْهَا.

وَأمَّا وَليمَةُ الْخِتَانِ: فَهِيَ جَائِزَةٌ، مَن شَاءَ فَعَلَهَا وَمَن شَاءَ تَرَكَهَا.

وَكَذَلِكَ وَليمَةُ الْوِلَادَةِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَد عَقَّ عَن الْوَلَدِ؛ فَإِنَّ الْعَقِيقَةَ عَنْهُ سُنَّة. [32/ 206]

4483 -

الوليمة تختص بطعام العرس في مقتضى كلام أحمد في رواية المروذي. [المستدرك 4/ 205]

4484 -

تستحب الوليمة بالعقد. وقال الشيخ تقي الدين: تستحب بالدخول.

ووقت الوليمة في حديث زينب وصفته تدل على أنه عقب الدخول. [المستدرك 4/ 205]

4485 -

الإجابة إليها واجبة، وقيل: مستحبة، واختاره الشيخ تقي الدين رحمه الله. [المستدرك 4/ 205]

4486 -

قال أبو داود: قيل لأحمد: تجيب دعوة الذمي؟ قال: نعم.

(1)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (345).

ص: 586

قال الشيخ تقي الدين: قد يحمل كلامه على الوجوب. [المستدرك 4/ 206]

4487 -

الدعاء إلى الوليمة إذن في الأكل والدخول، قاله في المغني.

وقال في "المحرر": لا يباح الأكل إلا بصريح إذن أو عرف، وكلام الشيخ عبد القادر يوافقه.

وما قالاه مخالف لما عليه عامة الأصحاب. [المستدرك 4/ 206]

4488 -

أعدل الأقوال: أنه إذا حضر الوليمة وهو صائم:

- إن كان ينكسر قلب الداعي بترك الأكل: فالأكل أفضل.

- وإن لم ينكسر قلبه: فإتمام الصوم أفضل.

ولا ينبغي لصاحب الدعوة الإلحاح في تناول الطعام للمدعو إذا امتنع، فإن كلا الأمرين جائز.

ولا ينبغي للمدعو إذا رأى أنه يترتب على امتناعه مفاسد أن يمتنع؛ فإن فطره جائز.

فإن كان ترك الجائز مستلزمًا لأمورٍ محذورة: ينبغي أن يفعل ذلك الجائز، وربما يصير واجبًا. [المستدرك 4/ 206]

4489 -

الأشبه جواز الإجابة لا وجوبها إذا كان في مجلس الوليمة من يُهجَر.

والحضور مع الإنكار المزيل على قول عبد القادر: هو حرام، وعلى قول القاضي والشيخ أبي محمد: هو واجب

(1)

.

والأقيس بكلام الإمام أحمد في التخيير عند المنكر المعلوم غير المحسوس أن يخيّر بينهما أيضًا، وإن كان الترك أشبه بكلامه؛ لزوال المفسدة بالحضور والإنكار، لكن لا يجب؛ لما فيه من تكليف الإنكار، ولأن الداعي أسقط حرمته باتخاذه المنكر.

(1)

قولان متناقضان، وهذا من الغرائب.

ص: 587

ونظير

(1)

هذا: إذا مر بمتلبس بمعصية هل يسلم عليه [ويُنكر]

(2)

، أو يترك التسليم؟ [المستدرك 4/ 207]

4490 -

رجح أبو العباس في موضع آخر عدم الدخول في بيعة فيها صور، وأنها كالمسجد على القبر. [المستدرك 4/ 208]

4491 -

يحرم شهود عيد ليهود أو نصارى لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72]، نقله مهنا.

وفيه تنبيه على المنع أن يفعل كفعلهم قاله شيخنا، لا البيع لهم فيها نقله مهنا، وحرمه شيخنا.

وأن مثلها مهاداتهم لعيدهم.

وجزم غيره بكراهة التجارة والسفر إلى أرض كفر ونحوه.

وقال شيخنا أيضًا: لا يمنع منه إذا لم يلزموه بفعل محرم أو ترك واجب، وينكر ما يشاهده من المنكر بحسبه.

قال: ويحرم بيع ما يعملونه كنيسةً أو تمثالًا ونحوه.

قال: وكل ما فيه تخصيص لعيدهم وتمييز له: فلا أعلم خلافًا أنه من التشبه، والتشبه بالكفار منهي عنه.

بل ليس لمسلم أن يحضر مواسمهم بشيء مما يخصونها به، وليس لمسلم أن يجيب دعوة مسلم في ذلك، ويحرم الأكل والذبح ولو أنه فعله لأنه اعتاده وليفرح أهله، ويعزر إن عاد. [المستدرك 4/ 208 - 209]

4492 -

نصَّ الإمام أحمد على أن الرجل إذا شهد الجنازة فرأى فيها منكرًا يقدر على إزالته أنه لا يرجع، ونصَّ على أنه إذا دعي إلى وليمة عرس فرأى فيها منكرًا لا يقدر على إزالته أنه يرجع.

(1)

في الأصل: (ونظر)، والتصويب من الاختيارات (347).

(2)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (347).

ص: 588

فسألت شيخنا عن الفرق فقال: لأن الحق في الجنازة للميت، فلا يترك حقه لما فعله الحي من المنكر، والحق في الوليمة لصاحب البيت، فإذا أتى فيها بالمنكر فقد أسقط حقه من الإجابة. [المستدرك 4/ 209]

4493 -

قال المروذي: سألت أبا عبد الله عن الجوز ينثر؟ فكرهه. وقال: يعطون أو يقسم عليهم، وقال في رواية إسحاق بن هانئ: لا يعجبني انتهاب الجوز وأن يؤكل منه والسُّكر كذلك.

وقول الإمام أحمد: هذه نهبة، يقتضي التحريم، وهو قوي.

وأما الرخصة المحضة فتبعد جدًّا. [المستدرك 4/ 209]

4494 -

كسب المغني خبيث باتفاق الأئمة، والمغني خارج عن العدالة. [المستدرك 4/ 209]

* * *

(آداب الأكل والشرب)

4495 -

ذكر الأصحاب وغيرهم: أن سماع المحرم بدون استماعه -وهو قصد السماع-: لا يحرم، وذكر الشيخ تقي الدين أيضًا وزاد: باتفاق المسلمين. [المستدرك 4/ 210]

4496 -

لم نعلم أحدًا استحب الوضوء للأكل إلا إذا كان الرجل جنبًا. [المستدرك 4/ 210]

4497 -

أكل النساء الأجانب مع الرجل: لا يفعل إلا لحاجة: من ضيق المكان، أو قلة الطعام، ومع ذلك فلا تكشف وجهها للأجانب، ولا يلقمها الأجنبي، ولا تلقمه. [المستدرك 4/ 210]

4498 -

يقول عند الأكل: باسم الله. فإن زاد "الرحمن الرحيم" كان حسنًا؛ فإنه أكمل، بخلاف الذبح فإنه قد قيل: إن ذلك لا يناسب.

ص: 589

وقال ابن أبي موسى: وَإذا أكلت أو شربت فواجب عليك أن تقول: باسم اللّه، وتتناول بيمينك. [المستدرك 4/ 211]

4499 -

كلام الإمام أحمد رحمه الله في مسألة تقبيل المصحف يدل على عدم التقبيل، وهو ظاهر كلام الشيخ تقي الدين؛ فإنه ذكر أنه لا يشرع تقبيل الجمادات إلا ما استثناه الشرع. [المستدرك 4/ 211]

4500 -

ويكره القران في التمر.

قال الشيخ تقي الدين: وعلى قياسه: قران كل ما العادة جارية بتناوله أفرادًا. [المستدرك 4/ 211 - 212]

4501 -

قال ابن الجوزي: ولا يكثر النظر إلى المكان الذي يخرج منه الطعام؛ فإنه دليل منه على الشره.

وهذا منه يدل على أنه لا ينبغي فعل ما يدل على الشره، ومنه الأكل الكثير الذي يخرج به عن العادة في ذلك الوقت.

ولهذا كان الشيخ تقي الدين رحمه الله إذا دُعي أَكَل ما يكسر نَهْمَته قبل ذهابه. [المستدرك 4/ 212]

4502 -

يُسن أن يصغر اللقم، ويجيد المضغ.

قال الشيخ تقي الدين: إلا أن يكون هناك ما هو أهم من إطالة الأكل.

وقال أيضًا: هو نظير ما ذكره الإمام أحمد من استحباب تصغير الأرغفة. [المستدرك 4/ 212]

4503 -

كره شيخنا أكله حتى يتخم، وحرمه أيضًا، وحرم أيضًا الإسراف، وهو مجاوزة الحد

(1)

.

(1)

فروع (5/ 302)، والإنصاف (8/ 330).

وقد جزما بتحريم الأكل حتى يتخم.

قال المرداوي: وهو الصَّوَابُ.

ص: 590

واختلف كلام أبي العباس في أكل الإنسان حتى يتخم: هل يكره، أو يحرم؟ وجزم أبو العباس في موضع آخر بتحريم الإسراف وفسَّره بمجاوزة الحد

(1)

. [المستدرك 4/ 212]

4504 -

يأكل الإنسان من بيت صديقه وقريبه بغير إذنه إذا لم يُحْرزه عنه. [المستدرك 4/ 213]

4505 -

يأكل الضيف على ملك صاحب الطعام على وجه الإباحة، وليس ذلك بتمليك. [المستدرك 4/ 213]

4506 -

يستدل على كراهة الاغتسال بالأقوات بأن ذلك يفضي إلى خلطها بالأدناس والأنجاس فنهي عنه كما ينهى عن إزالة النجاسة بها، والملح ليست قوتًا وإنما يصلح به القوت.

نعم، يُنهى في الاستنجاء عن قوت الآدميين والبهائم للإنس والجن، هذا لا يستنجي بالنخالة وإن غسل يده بها، فأما إن دعت الحاجة إلى استعمال القوت مثل الدبغ بدقيق الشعير أو التطبب للجرب باللبن والدقيق ونحو ذلك فينبغي أن يرخص فيه، كما رخص في قتل دود القز بالتشميس لأجل الحاجة؛ إذ لا يكون حرمة القوت أعظم من حرمة الحيوان.

وعلى هذا فيستدل بهذا الأصل الشرعي على المنع من إهانتها بوضع الإدام فوقها.

ودليل آخر: وهو أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أمر بلعق الأصابع والصحفة وأخذ اللقمة الساقطة وإماطة الأذى عنها كل ذلك [كيلا]

(2)

يضيع شيء من القوت. والتدلك به إضاعة له لقيام غيره مقامه، وهو من أنواع التبذير الذي هو من فعل الشيطان. [المستدرك 4/ 213]

(1)

اختيارات (243).

(2)

ما بين المعقوفتين من الآداب الشرعية (3/ 202).

ص: 591

4507 -

عن أنس رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم جَاءَ إلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَجَاءَ بِخُبْزٍ وَزيتٍ فَأَكَلَ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "أَفْطَرَ عِنْدَكُم الصَّائِمُونَ، وَأَكَلَ طَعَامَكُم الأَبْرَارُ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُم الْمَلَائِكَةُ"

(1)

.

وكلامه في الترغيب يقتضي أنه جعل هذا الكلام دعاء، واسْتَحبَّ الدعاء به لكل من أكل طعامه.

وعلى قول الشيخ عبد القادر إنما يقال هذا إذا أفطر عنده فيكون خبرًا.

قال الشيخ تقي الدين: وهو الأظهر. [المستدرك 4/ 214]

* * *

(باب العشرة)

4508 -

كلام القاضي في التعليق يقتضي أن التمكين من القُبْلة ليس بواجب على الزوجة.

قال أبو العباس: وما أراه صحيحًا؛ بل تجبر على تمكينه من جميع أنواع الاستمتاع المباحة. [المستدرك 4/ 215]

4509 -

قال ابن القيم رحمه الله: وقد اختلف الفقهاء: هل يجب على الزوج مجامعة امرأته؟

فقالت طائفة: لا يجب عليه ذلك.

إلى أن قال: وقالت طائفة: يجب عليه وطؤها في العمر مرة واحدة ليستقر لها بذلك الصداق.

(1)

رواه أبو داود (3856)، وأحمد (12177)، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع الصغير (8806) و غيره.

ورواه ابن ماجة (1747) من طريق عبد الله بن الزُّبَير قال: أفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند سعد بن معاذ فقال ..

قال الألباني: صحيح دون قوله أفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ.

ص: 592

وقالت طائفة ثالثة: بل يجب عليه أن يطأها بالمعروف، كما ينفق عليها ويكسوها ويعاشرها بالمعروف؛ بل هذا عمدة المعاشرة ومقصودها، وقد أمر الله سبحانه وتعالى أن يعاشرها بالمعروف؛ فالوطء داخل في هذه المعاشرة ولا بد.

قالوا: وعليه أن يشبعها وطأ إذا أمكنه ذلك، كما عليه أن يشبعها قوتًا.

وكان شيخنا رحمه الله تعالى يرجح هذا القول ويختاره. [المستدرك 4/ 215]

4510 -

إذا احتاجت أَمَته إلى النكاح فإما أن يطأها أو يزوجها. [المستدرك 4/ 216]

4511 -

يتخرج من نصِّ الإمام أحمد أنه يجوز أن يتزوج الأَمَة لحاجته إلى الخدمة، لا إلى الاستمتاع. [المستدرك 4/ 216]

4512 -

لو شرط الزوج أن يتسلم الزوجة وهي صغيرة ليحضنها

(1)

: فقياس المذهب على إحدى الروايتين اللتين خرجهما أبو بكر أنها إذا استثنت بعض منفعتها المستحقة عليها بمطلق العقد أو اشترطت عليه زيادة على ما تستحقه بمطلق العقد أنه يصح هذا الشرط.

وإذا كان موجب العقد من التقابض مرده إلى العرف: فليس العرف أن المرأة تسلم إليه صغيرة، ولا يستحق ذلك لعدم التمكن من الانتفاع، ولا تجب عليه النفقة، فإنه إذا لم يكن عليه حق في بدنها لعدم تمكنه فلا نفقة لها، إذ النفقة تتبع الانتفاع

(2)

. [المستدرك 4/ 216]

4513 -

يحرم وطء الحائض. وإذا تكرر من الزوج الوطء في الفرج لم ينزجر فُرِّق بينهما كما قلنا إذا وطئها في الدبر ولم ينزجر.

ولو تطاوع الزوجان على الوطء في الدبر: فرق بينهما، وقاله أصحابنا.

وعلى قياسه: المطاوعة على الوطء في الحيض. [المستدرك 4/ 216]

* * *

(1)

في الأصل: (ليحصنها)، والتصويب من الاختيارات (352).

(2)

في الأصل: (الحق البدني)، والتصويب من الاختيارات (352).

ص: 593

(وجوب طاعة الزوجة لزوجها، وطاعة زوجها أوجب من طاعة والديها)

4514 -

قَوْلُهُ: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34] يَقْتَضِي وُجُوبَ طَاعَتِهَا لِزَوْجِهَا مُطْلَقًا: مِن خِدْمَةٍ وَسَفَرٍ مَعَهُ وَتَمْكِينٍ لَهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ الْجَبَلِ الْأَحْمَرِ، وَفِي السُّجُودِ

(1)

وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ كَمَا تَجِبُ طَاعَةُ الْأَبَوينِ؛ فَإِنَّ كُلَّ طَاعَةٍ كَانَت لِلْوَالِدَيْنِ انْتَقَلَتْ إلَى الزَّوْجِ، وَلَمْ يَبْقَ لِلْأَبَوَيْنِ عَلَيْهَا طَاعَةٌ، تِلْكَ وَجَبَتْ بِالْأَرْحَامِ، وَهَذِهِ وَجَبَتْ بِالْعُهُودِ. [32/ 260 - 261]

4515 -

الْمَرْأَةُ إذَا تَزَوَّجَتْ كَانَ زَوْجُهَا أَمْلَكَ بِهَا مِن أَبَوَيْهَا، وَطَاعَةُ زَوْجِهَا عَلَيْهَا أَوْجَبُ. [32/ 261]

4516 -

قَالَ زيدُ بْنُ ثَابِتٍ: الزَّوْجُ سَيِّدٌ فِي كتَابِ اللهِ، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى:{وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف: 25].

وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: النِّكَاحُ رِقٌّ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ عِنْدَ مَن يُرِقُّ كَرِيمَتَهُ.

وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ

(2)

عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: "اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّمَا هُنُّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ".

فَالْمَرْأَةُ عِنْدَ زَوْجِهَا تُشْبِهُ الرَّقِيقَ وَالْأَسِيرَ، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ مِن مَنْزِلِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ، سَوَاءٌ أَمَرَهَا أَبُوهَا أَو أُمُّهَا أَو غَيْرُ أَبَوَيْهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ.

وَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى مَكَانٍ آخَرَ مَعَ قِيَامِهِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَحِفْظِ حُدُودِ اللهِ فِيهَا وَنَهَاهَا أَبُوهَا عَن طَاعَتِهِ فِي ذَلِكَ: فَعَلَيْهَا أَنْ تُطِيعَ زَوْجَهَا دُونَ أَبَوَيْهَا؛ فَإِنَّ الْأَبَوينِ هُمَا ظَالِمَانِ، لَيْسَ لَهما أَنْ يَنْهَيَاهَا عَن طَاعَةِ مِثْل هَذَا

(1)

وهو قول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لَو كُنْتُ أمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لأحَدٍ لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا".

رواه الترمذي (1159) وغيره.

(2)

رواه الترمذي (1163)، وابن ماجه (1851).

ص: 594

الزَّوْجِ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطِيعَ أُمَّهَا فِيمَا تَأْمُرُهَا بِهِ مِن الاِخْتِلَاعِ مِنْهُ، أَو مضاجرته حَتَّى يُطَلِّقَهَا؛ مِثْل أَنْ تُطَالِبَهُ مِن النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ وَالصَّدَاقِ بِمَا تَطْلُبُهُ لِيُطَلِّقَهَا، فَلَا يَحِلُّ لَهَا أنْ تُطِيعَ وَاحِدًا مِن أَبَوَيْهَا فِي طَلَاقِهِ إذَا كَانَ مُتَّقِيًا للهِ فِيهَا. [32/ 263 - 264]

* * *

(حكم وَطْء الْمَرْأَةِ فِي دُبرِهَا)

4517 -

وَطْءُ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا: حَرَامٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ؛ بَل هُوَ اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرَى، وَقَد ثَبَتَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"إنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي مِن الْحَقِّ لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ"

(1)

. [32/ 266]

4518 -

اللهُ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ إتْيَان الْحَائِضِ، مَعَ أنَّ النَّجَاسَةَ عَارِضَة فِي فَرْجِهَا، فَكَيْفَ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ النَّجَاسَةُ الْمُغَلَّظَةُ؟ [32/ 268]

* * *

(حكم النظر إلى الصبي)

4519 -

النَّظَرُ إلَى المردان ثَلَاثَة أَقْسَامٍ:

أَحَدُهَا: مَا تَقْتَرِنُ بِهِ الشَّهْوَةُ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ بِالاتِّفَاقِ.

والثَّانِي: مَا يُجْزَمُ أَنَّهُ لَا شَهْوَةَ مَعَهُ؛ كَنَظَرِ الرَّجُلِ الْوَرعِ إلَى ابْنِهِ الْحَسَنِ وَابْنَتِهِ الْحَسَنَةِ وَأُمِّهِ الْحَسَنَةِ، فَهَذَا لَا يَقْتَرِنُ بِهِ شَهْوَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مِن أَفْجَرِ النَّاسِ، وَمَتَى اقْتَرَنَتْ بِهِ الشَّهْوَةُ حَرُمَ.

وَعَلَى هَذَا نَظَرُ مَن لَا يَمِيلُ قَلْبُهُ إلَى المردان، كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ وَكَالْأمَمِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ هَذ الْفَاحِشَةَ، فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِن هَؤُلَاءِ لَا يُفَرِّقُ مِن هَذَا الْوَجْهِ

(1)

رواه ابن ماجه (1924)، والدارمي (1181)، وأحمد (21858)، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع (1852).

ص: 595

بَيْنَ نَظَرِهِ إلَى ابْنِهِ وَابْنِ جَارِهِ وَصَبِيٍّ أَجْنَبِيٍّ، لَا يَخْطُرُ بِقَلْبِهِ شَيءٌ مِن الشَّهْوَةِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَعْتَدْ ذَلِكَ، وَهُوَ سَلِيمُ الْقَلْبِ مِن قَبْلِ ذَلِكَ، وَقَد كَانَتِ الْإِمَاءُ عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ يَمْشِينَ فِي الطُّرُقَاتِ مُنْكْشِفَاتِ الرُّؤُوسَ وَيَخْدِمْنَ الرِّجَالَ مَعَ سَلَامَةِ الْقُلُوبِ، فَلَو أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَتْرُكَ الْإِمَاءَ التُّرْكِيَّاتِ الْحِسَانَ يَمْشِينَ بَيْنَ النَّاسِ فِي مِثْل هَذِهِ الْبِلَادِ وَالْأوْقَاتِ كَمَا كَانَ أُولَئِكَ الْإِمَاءُ يَمْشِينَ كَانَ هَذَا مِن بَابِ الْفَسَادِ.

وَكَذَلِكَ المردان الْحِسَانُ، لَا يَصْلُحُ أَنْ يَخْرُجُوا فِي الْأَمْكِنَةِ وَالأزِقَّةِ الَّتِي يُخَافُ فِيهَا الْفِتْنَةُ بِهِم إلَّا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، فَلَا يُمَكَّنُ الْأَمْرَدُ الْحَسَنُ مِن التَّبَرُّجِ، وَلَا مِن الْجُلُوسِ فِي الْحَمَّامِ بَيْنَ الْأجَانِبِ، وَلَا مِن رَقْصِهِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ فِتْنَةٌ لِلنَّاسِ وَالنَظَرُ إلَيْهِ كَذَلِكَ.

وَإِنَّمَا وَقَعَ النِّزَاعُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي:

الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِن النَّظَرِ: وَهُوَ النَّظَرُ إلَيْهِ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ؛ لَكنْ مَعَ خَوْفِ ثَوَرَانِهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ.

والثَّانِي: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْأصْلَ عَدَمُ ثَوَرَانِهَا؛ فَلَا يَحْرُمُ بِالشَّكِّ بَل قَد يُكْرَهُ.

وَالْأَوَّلُ هُوَ الرَّاجِحُ، كَمَا أَنَ الرَّاجِحُ فِي مَذهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنْ النَّظَرَ إلَى وَجْهِ الْأجْنَبِيَّةِ مِن غَيْرِ حَاجَةٍ لَا يَجُوزُ وَإِن كَانَت الشَّهْوَةُ مُنْتَفِيَةً؛ لَكِنْ لِأَنَّهُ يَخَافُ ثَوَرَانَهَا؛ وَلهَذَا حَرُمَ الْخَلْوَة بِالأجْنَبِيَّةِ؛ لِأنَّهُ مَظِنَّةُ الْفِتْنَةِ.

وَالْأَصْلُ: أَن كُلَّ مَا كَانَ سَبَبًا لِلْفِتنَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ.

وَلهَذَا كَانَ النَّظَرُ الَّذِي قَد يُفْضِي إلَى الْفِتْنَةِ مُحَرَّمّا إلَّا إذَا كَانَ لِحَاجَةٍ رَاجِحَةٍ؛ مِثْل نَظَرِ الْخَاطِبِ وَالطَّبِيبِ وَغَيْرِهِمَا فَإِنَّهُ يُبَاحُ النَّظَرُ لِلْحَاجَةِ مَعَ عَدَمِ الشَّهْوَةِ.

وَأَمَّا النَّظَرُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ إلَى مَحَلّ الْفِتْنَةِ فَلَا يَجُوزُ.

ص: 596

وَمَن كَرَّرَ النَّظَرَ إلَى الْأَمْرَدِ وَنَحْوِهِ وَأَدَامَهُ وَقَالَ: إِنِّي لَا أَنْظُرُ لِشَهْوَةٍ كَذبَ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُن لَهُ دَاعٍ يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى النَّظَرِ لَمْ يَكُن النَّظَرُ إلَّا لِمَا يَحْصلُ فِي الْقَلْبِ مِن اللَّذَّةِ بِذَلِكَ.

وَأَمَّا نَظَرُ الْفَجْأةِ فَهُوَ عَفْوٌ إذَا صَرَفَ بَصَرَهُ.

وَلهَذَا يُقَالُ: إنَّ غَضَّ الْبَصَرِ عَن الصُّورَةِ الَّتِي يُنْهَى عَن النَّظَرِ إلَيْهَا: كَالْمَرْأَةِ وَالْأمْرَدِ الْحَسَنِ يُورِثُ ذَلِكَ ثَلَاثَ فَوَائِدَ جَلِيلَةِ الْقَدْرِ:

أَحَدُهَا: حَلَاوَةُ الإِيمَانِ وَلَذَّتُهُ، الَّتِي هِيَ أَحْلَى وَأَطْيَبُ مِمَّا تَرَكَهُ للهِ، فَإِنَّ مَن تَرَكَ شَيْئًا للهِ عَوَّضَهُ اللهُ خَيْرًا مِنْهُ.

وَأَمَّا الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ فِي غَضِّ الْبَصَرِ: فَهُوَ نُورُ الْقَلْبِ وَالْفِرَاسَةِ قَالَ تَعَالَى عَن قَوْمِ لُوطٍ: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)} [الحجر: 72]، فَالتَّعَلُّقُ بِالصُّوَرِ يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْلِ وَعَمَى الْبَصِيرَةِ وَسُكرَ الْقَلْبِ بَل جُنُونَهُ.

وَذَكَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ آيةَ النُّورِ عَقِيبَ آيَاتِ غَضِّ الْبَصَرِ فَقَالَ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35].

الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: قُوَّةُ الْقَلْبِ وَثَبَاتُهُ وَشَجَاعَتُهُ، فَيَجْعَلُ اللّهُ لَهُ سُلْطَانَ الْبَصِيرَةِ مَعَ سُلْطَانِ الْحُجَّةِ.

وَلهَذَا يُوجَدُ فِي الْمُتَّبعِ هَوَاهُ مَن ذُلِّ النَفْسِ وَضَعْفِهَا وَمَهَانَتِهَا مَا جَعَلَهُ اللهُ لِمَن عَصَاهُ، فَإِنَّ اللهَ جَعَلَ الْعِزَّةَ لِمَن أَطَاعَهُ وَالذِّلَّةَ لِمَن عَصَاهُ. [15/ 417 - 426]

4520 -

التَّلَذُّذُ بِمَسِّ الْأَمْرَدِ كَمُصَافَحَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا يَحْرُمُ التَّلَذُّذُ بِمَسِّ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ وَالْمَرْأَةِ الْأجْنَبِيَّةِ؛ بَل الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ إثْمًا مِن التَلَذذِ بِالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ، كَمَا أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ عُقُوبَةَ اللُّوطِيِّ أَعْظَمُ مِن عُقوبَةِ الزنى بِالْأَجْنَبِيَّةِ.

وَالنَّظَرُ إلَى وَجْهِ الْأَمْرَدِ لِشَهْوَةٍ كَالنَّظَرِ إلَى وَجْهِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ بِالشَّهْوَةِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الشَّهْوَةُ شَهْوَةَ الْوَطْءِ أَو شَهْوَةَ التَّلَذُّذِ

ص: 597

بِالنَّظَرِ

(1)

، فَلَو نَظَرَ إلَى أمِّهِ وَأخْتِهِ وَابْنَتِهِ يَتَلَذَّذُ بالنَّظَرِ إلَيْهَا كَمَا يَتَلَذَّذُ بِالنَّظَرِ إلَى وَجْهِ الْمَرْأةِ الْأجْنَبِيَّةِ: كَانَ مَعْلُومًا لِكُلِّ أحَدٍ أَنَّ هَذَا حَرَامٌ فَكذَلِكَ النَّظَرُ إلَى وَجْهِ الْأَمْرَدِ بِاتِّفَاقِ الْأئِمَّةِ.

وَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ النَّظَرَ إلَى وَجْهِ الْأَمْرَدِ عِبَادَةٌ كَقَوْلِهِ: إنَّ النَّظَرَ إلَى وُجُوهِ النِّسَاءِ أَو النَّظَرِ إلَى وُجُوهِ مَحَارِمِ الرَّجُلِ: عِبَادَةٌ! وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَن جَعَلَ هَذَا النَّظَرَ الْمُحَرَّمَ عِبَادَةً كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَن جَعَلَ الْفَوَاحِشَ عِبَادَةً؛ بَل مَن جَعَلَ مِثْل هَذَا النَّظَرَ عِبَادَةَ

(2)

فَإِنَّهُ كَافِرٌ مُرْتَدٌ يَجِبُ أنْ يُسْتَتَابَ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. [21/ 243 - 246]

4521 -

يحرم النظر بشهوة إلى النساء والمردان، ومن استحله كفر إجماعًا. [المستدرك 4/ 141]

4522 -

يحرم النظر مع خوف ثوران الشهوة، وهو منصوص عن الإمام أحمد والشافعي رحمهما الله. [المستدرك 4/ 141]

4523 -

من كرر النظر إلى الأمرد ونحوه وقال: لا أنظر بشهوة: كذب في دعواه، وقاله ابن عقيل. [المستدرك 4/ 141]

4524 -

كل قسم متى كان معه شهوة كان حرامًا بلا ريب، سواء كانت شهوة تمتع بنظر، أو نظر لشهوة الوطء، واللمس كالنظر وأولى. [المستدرك 4/ 142]

4525 -

الصَّبِيُّ الْأمْرَدُ الْمَلِيحُ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأةِ الْأجْنَبِيَّةِ فِي كَثِيرٍ مِن الْأُمُورِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْبِيلُهُ عَلَى وَجْهِ اللَّذَّةِ؛ بَل لَا يُقَبِّلُهُ إلا مَنْ يُؤْمَنُ عَلَيْهِ؛ كَالأبِ وَالْإِخْوَةِ.

(1)

وهذا يحدث كثيرًا، فينظر بعضهم -وخاصةً الشباب- إلى بعض ذوات محارمه، أو العكس، أو ينظر الرجل إلى الأمرد نظر إعجاب واستحسان لجمال وجهه وهيئته، ولا يخطر في باله الفاحشة، لكن هذا النظر قد يجر إليها، فلذلك شدّد الشيخ وغيرُه في هذا الباب.

(2)

بزعمه أنه يتفكر في مخلوقات الله، فيزداد محبة لله! وهذا من تزيين إبليس اللعين، أعاذنا الله منه.

ص: 598

وَلَا يَجُوزُ النَّظَرُ إلَيْهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ؛ بَل يَحْرُمُ عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ النَّظَرُ إلَيْهِ عِنْدَ خَوْفِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُنْظَرُ إلَيْهِ لِحَاجَة بِلَا رِيبَةٍ؛ مِثْل مُعَامَلَتِهِ وَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَمَا يُنْظَرُ إلَى الْمَرْأَةِ لِلْحَاجَةِ. [32/ 247]

* * *

(بَاب الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ)

4526 -

يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَدْلُ بَيْنَ الزَّوْجَتَيْنِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي "السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ" عَن أَبِي هُرَيْرَةَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَن كَانَتْ لَهُ امْرَأتانِ فَمَالَ إِلَى إحْدَاهُمَا دُونَ الأُخْرَى جَاء يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَحَدُ شِقَّيْهِ مَائِلٌ"

(1)

.

فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ فِي الْقَسْمِ، فَإِذَا بَاتَ عِنْدَهَا لَيْلَةً أَو لَيْلَتَيْنِ أَو ثَلَاثًا بَاتَ عِنْدَ الْأُخْرَى بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَلَا يُفَضِّلُ إحْدَاهُمَا فِي الْقَسْمِ.

لَكِنْ إنْ كَانَ يُحِبُّهَا أَكْثَرَ وَيَطَؤُهَا أَكْثَرَ: فَهَذَا لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَفِيهِ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى:{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129]؛ أَيْ: فِي الْحُبِّ وَالْجِمَاعِ، وَفِي "السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ" عَن عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ وَيَعْدِلُ فَيَقُولُ: "هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْني فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ"

(2)

؛ يَعْنِي: الْقَلْبَ.

وَأَمَّا الْعَدْلُ فِي النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ فَهُوَ السُّنَّةُ أَيْضًا اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُ كَانَ يَعْدِلُ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ فِي النَّفَقَةِ كَمَا كَانَ يَعْدِلُ فِي الْقِسْمَةِ، مَعَ تَنَازُعِ النَّاسِ فِي الْقَسْمِ: هَل كَانَ وَاجبًا عَلَيْهِ؟ أَو مُسْتَحَبًّا لَهُ؟

وَتَنَازَعُوا فِي الْعَدْلِ فِي النَّفَقَةِ: هَل هُوَ وَاجِبٌ؟ أَو مُسْتَحَبٌّ؟ وَوُجُوبُهُ أَقْوَى وَأَشْبَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

(1)

رواه أبو داود (2133)، وابن ماجة (1969)، والدارمي (2252)، وأحمد (7936)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.

(2)

رواه أبو داود (2134)، وضعَّفه الألباني في ضعيف أبي داود.

ص: 599

وَهَذَا الْعَدْلُ مَأْمُورٌ به مَا دَامَتْ زَوْجَةً، فَإِنْ أرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ إحْدَاهُمَا فَلَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ اصْطَلَحَ هُوَ وَالَّتِي يُرِيدُ طَلَاقَهَا عَلَى أَنْ تُقِيمَ عِنْدَهُ بِلَا قَسْمٍ وَهِيَ رَاضِيَةٌ بِذَلِكَ جَازَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128]، وَفِي "الصَّحِيحِ" عَن عَائِشَةَ قَالَتْ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمَرْأَةِ تَكونُ عِنْدَ الرَّجُلِ فَتَطُولُ صُحْبَتُهَا فَيُرِيدُ طَلَاقَهَا فَتَقُولُ: لَا تُطَلِّقْنِي وَامْسِكنِي وَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِن يَوْمِي، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ

(1)

. [32/ 269 - 270]

4527 -

يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَطَأَ زَوْجَتَهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ مِن أَوْكَدِ حَقِّهَا عَلَيْهِ، أَعْظَمُ مِن إطْعَامِهَا.

وَالْوَطْءُ الْوَاجِبُ: قِيلَ: إنَّهُ وَاجِبٌ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُر مُرَّةً، وَقِيلَ: بِقَدْرِ حَاجَتِهَا وَقُدْرَتِهِ؛ كَمَا يُطْعِمُهَا بِقَدَرِ حَاجَتِهَا وَقُدْرَتهِ. وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ. [32/ 271]

4528 -

قال أصحابنا: لا يجوز أن تأخذ الزوجة عوضًا عن حقها من المبيت. وكذا الوطء.

قال أبو العباس: وقياس المذهب عندي جواز أخذ العوض عن سائر حقوقها من القسم وغيره؛ لأنه إذا جاز للزوج أن يأخذ العوض عن حقه منها جاز لها أن تأخذ العوض عن حقها منه؛ لأن كلًّا منهما منفعة بدنية.

وقد نصَّ الإمام أحمد في غير موضع: أنه يجوز أن تبذل المرأة العوض ليصير أمرها بيدها.

ولأنها تستحق حبس الزوج كما يستحق الزوج حبسها، وهو نوع من الرق فيجوز أخذ العوض عنه.

(1)

رواه البخاري (5206)، ومسلم (3021).

ص: 600

وقد تشبه هذه المسألة الصلح عن الشفعة وحد القذف. [المستدرك 4/ 217]

4529 -

يتوجه أن لا يتقدر قسم الابتداء

(1)

الواجب، كما لا يتقدر الوطء؛ بل يكون بحسب الحاجة. فإنه قد يقال: جواز التزوج بأربع لا يقتضي أنه إذا تزوج بواحدة يكون لها حال الانفراد ما لها حال الاجتماع.

وعلى هذا فتحمل قصة كعب بن سوار

(2)

على أنه تقدير شخص لا نوعيّ

(3)

، كما لو فرض النفقة. [المستدرك 4/ 217]

4530 -

قول أصحابنا: يجب على الرجل المبيت عند امرأته ليلة من أربع. فهذا المبيت يتضمن شيئين: أحدهما: المجامعة في المنزل، والثانية؛ في المضجع وقوله تعالى:{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] مع قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تهجر إلا في المضجع"

(4)

دليل على وجوب المبيت في المضجع، ودليل على أنه لا يهجر المنزل.

(1)

قال في المغني (7/ 302 - 303): يَجِبُ قَسمُ الاِبْتِدَاءِ، وَمَعْنَاهُ: أنَّهُ إذَا كَانَت لَهُ امْرَأَةٌ، لَزِمَهُ الْمَبيتُ عِنْدَهَا لَيْلَةً مِن كُلِّ أرْبَعِ لَيَالٍ، مَا لَمْ يَكُن عُذرٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ نِسَاءٌ فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ لَيْلَةٌ مِن كُلِّ أَرْبَعٍ.

وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأبُو ثَوْرٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجِبُ قَسْمُ الاِبْتَدَاءِ بِحَالٍ؛ لِأنَّ الْقَسْمَ لِحَقِّهِ، فَلَمْ يَجبْ عَلَيْهِ. اهـ.

(2)

وهو أنه كَانَ جَالِسًا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَجَاءَت امْرَأةٌ، فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤمِنِينَ، مَا رَأَيْت رَجُلًا قَطُّ أَفْضَلَ مِن زَوْجِي، وَاللهِ إنَّهُ لَيَبِيت لَيْلَهُ قَائِمًا، وَيَظَلُّ نَهَارَهُ صَائِمًا. فَاستَغْفَرَ لَهَا، وَأَثْنَى عَلَيهَا. وَاسْتَحْيَتْ الْمَرْأَةُ، وَقَامَتْ رَاجِعَةً، فَقَالَ كَعْبٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤمِنِينَ، هَلَّا أَعْدَيْت الْمَرْأَةَ عَلَى زَوْجِهَا؟ فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ فَقَالَ إنَّهَا جَاءَت تَشْكُوهُ، إذَا كَانَت حَالُهُ هَذِهِ فِي الْعِبَادَةِ، مَتَى يَتَفَرَّغُ لَهَا؟ فَبَعَثَ عُمَرُ إلَى زَوْجِهَا، فَجَاءَ، فَقَالَ لَكَعْبٍ: اقْضِ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّك فَهِمْت مِن أَمْرِهِمَا مَا لَمْ أفْهَمْ. قَالَ: فَإِنِّي أَرَى كَأنَّهَا امْرَأة عَلَيْهَا ثَلَاثُ نِسْوُةٍ، هِيَ رَابِعَتُهُنَّ، فَأَقْضِي لَهُ بِثَلَاثَةِ أيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ يَتَعَبَّدُ فِيهِنَّ، وَلَهَا يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ. فَقَالَ عُمَرُ: وَاللهِ مَا رَأْيُك الْأَوَّلُ بِأَعْجَبَ إلَيَّ مِن الْآخِرِ، اذْهَبْ فَأَنْتَ قَاضٍ عَلَى أهْلِ الْبَصْرَةِ وَفِي رِوَايَةٍ، فَقَالَ عُمَرُ: نِعْمَ الْقَاضِي أَنْتَ. قال في المغني (7/ 303): وَهَذ قَضِيَّةٌ انْتَشَرَتْ فَلَمْ تُنْكَرْ، فَكَانَت إجْمَاعًا. اهـ.

(3)

في الأصل: (يراعي)، والتصويب من الاختيارات (354).

(4)

رواه أبو داود (2142)، بلفظ:"ولا تهجر إلا في البيت"، وقال الألباني: حسن صحيح.

ص: 601

ونصَّ أحمد في الذي يصوم النهار ويقوم الليل: يدل على وجوب المبيت في المضجع، وكذا ما ذكروه في النشوز إذا نشزت هجرها في المضجع: دليل على أنه لا يفعله بدون ذلك. [المستدرك 4/ 217 - 218]

4531 -

حصول الضرر للزوجة بترك الوطء مقتضٍ

(1)

للفسخ بكل حال، سواء كان بقصد من الزوج أو بغير قصد، أوسواء كان مع عجزه أو قدرته]

(2)

كالنفقة وأولى

(3)

.

وعلى هذا: فالقول في امرأة الأسير والمحبوس ونحوهما ممن تعذر انتفاع امرأته به إذا طلبت فرقته؛ كالقول في امرأة المفقود بالإجماع كما قاله أبو محمد المقدسي. [المستدرك 4/ 218]

4532 -

قال أصحابنا: ويجب وطء المعيبة كالبرصاء والجذماء إذا لم يجز الفسخ، وكذلك يجب عليها تمكين الأبرص والأجذم.

والقياس وجوب ذلك، وفيه نظر؛ إذ من الممكن أن يقال: عليها وعليه في ذلك ضرر، لكن إذا لم تمكنه فلا نفقة لها.

وإذا لم يستمتع بها فلها الفسخ، ويكون المثبت للفسخ هنا عدم وطئه، فهذا يعود إلى وجوبه .. [المستدرك 4/ 218]

4533 -

ينفق على المجنون المأمون وليُّه.

والأشبه: أنه من يملك الولاية على بدنه؛ لأنه يملك الحضانة؛ فالذي يملك تعليمه وتأديبه الأب ثم الوصي .. [المستدرك 4/ 219]

(1)

في الأصل: (مقتضي)، وهو خطأ، والتصويب من الاختيارات (355).

(2)

في الأصل والاختيارات (355): (ولو مع قدرته وعجزه)، والتصويب من الإنصاف (9/ 70).

(3)

في الأصل والاختيارات (355) بعد نهاية الجملة هذه العبارة: للفسخ بتعذره في الايلاء إجماعًا.

ولا أرى لها موضعا مناسبًا هنا، ولم يظهر لي معناها. ولذلك لم يذكرها المرداوي في الإنصاف (9/ 171).

ص: 602

4534 -

قال أصحابنا: ويأثم إن طلق إحدى زوجتيه وقت قسمها.

وتعليلهم يقتضي: أنه إذا طلقها قبل مجيء نوبتها كان له ذلك.

ويتوجه: أن له الطلاق مطلقًا؛ لأن القسم إنما يجب ما دامت زوجة كالنفقة، وليس هو شيء مستقر في الذمة قبل مضي وقته حتى يقال هو دين.

نعم: لو لم يقسم لها حتى خرجت الليلة التي لها: وجب عليه القضاء، فلو طلقها قبله كان عاصيًا.

ولو أراد أن يقضيها عن ليلة من ليالي الشتاء [كان فوَّتها عليها]

(1)

ليلة من ليالي الصيف: كان لها الامتناع لأجل تفاوت ما بين الزمانين .. [المستدرك 4/ 219]

4535 -

للزوج منع الزوجة من الخروج من منزله، فإذا نهاها لم تخرج لعيادة مريضِ مَحْرمٍ لها أو شهود جنازته.

فأما عند الإطلاق: فهل لها أن تخرج لذلك إذا لم يأذن ولم يمنع كعمل الصناعة، أو لا تفعل إلا بإذن كالصيام؟ تردد فيه أبو العباس .. [المستدرك 4/ 219]

4536 -

كلام الإمام أحمد يدل على أنه يُنهى عن الإذن للذمية بالخروج إلى الكنيسة والبيعة، بخلاف الإذن للمسلمة إلى المسجد، فإنه مأمور بذلك.

وكذا قال في "المغني": إن كانت زوجته ذمية فله منعها من الخروج إلى الكنيسة.

إن كانت مسلمة: فقال القاضي: له منعها من الخروج إلى المسجد.

وظاهر الحديث يمنعه من منعها. [المستدرك 4/ 220]

4537 -

لو سافر بإحداهن بغير قرعة: قال أصحابنا: يأثم ويقضي.

والأقوى: أنه لا يقضي، وهو قول الحنفية والمالكية. [المستدرك 4/ 220]

(1)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (356).

ص: 603

4538 -

عليه أن يسوِّي بين نسائه في القسم.

وقال الشيخ تقي الدين: يجب عليه التسوية فيهما أيضًا (النفقة والكسوة). [المستدرك 4/ 220]

4539 -

ذَكَرَ الْقَاضِي: أَنَّهُ إذَا وَفَّى الثَّانِيَةَ نِصْفَهَا من حَقِّهَا، وَنِصْفَهَا من حَقِّ الْأُخْرَى: فَيَثْبُتُ لِلْجَدِيدَةِ في مُقَابَلَةِ ذلك نِصْفُ لَيْلَةٍ بِإِزَاءِ ما حَصَلَ لِكلِّ وَاحِدَةٍ من ضَرَّتَيْهَا. قال في "الْفُرُوعِ": وَاخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رحمه الله لَا يَبِيتُ نِصْفَهَا بَل لَيْلَةٌ كَامِلَةً؛ لِأَنَّهُ حَرَجٌ. [المستدرك 4/ 220 - 221]

* * *

(الإبراء)

4540 -

اختار الشيخ تقي الدين جواز وطء البكر

(1)

ولو كانت كبيرة، والآيسة، إذا

(2)

أخبره صادق أنه لم يطأها أو أنه استبرأ.

وعنه: لا يلزمه الاستبراء إن ملكها من طفل أو امرأة.

قلت: وهو مقتضى قواعد الشيخ تقي الدين

(3)

. [المستدرك 5/ 58]

4541 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن امْرَأَةٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثَلَاثًا وَأَبْرَأَت الزَّوْجَ مِن حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ قَبْلَ عِلْمِهَا بِالْحَمْلِ، فَلَمَّا بَانَ الْحَمْلُ طَالَبَت الزَّوْجَ بِفَرْضِ الْحَمْلِ، فَهَل يَجُوزُ لَهَا ذَلِكَ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ: إذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذُكِرَ لَمْ تَدْخُلْ نَفَقَةُ الْحَمْلِ فِي الْإِبْرَاءِ، وَكَانَ لَهَا أَنْ تَطْلُبَ نَفَقَةَ الْحَمْلِ.

وَلَو عَلِمَتْ بِالْحَمْلِ وَأَبْرَأَتْهُ مِن حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ فَقَطْ: لَمْ يَدْخُلْ فِي ذَلِكَ

(1)

المسبية.

(2)

في الأصل عطف (وإذا) والصواب المثبت.

(3)

الإنصاف (9/ 316).

ص: 604

نَفَقَة الْحَمْل؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بَعْدَ زَوَالِ النِّكَاحِ وَهِيَ وَاجِبَة لِلْحَمْلِ فِي أَظْهَرْ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ؛ كَأُجْرَةِ الرَّضَاعِ.

وَفِي الآخَرِ

(1)

: هِيَ لِلزَّوْجَةِ مِن أَجْلِ الْحَمْلِ، فَتَكُونُ مِن جِنْسِ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ.

وَالصَّحِيحُ: أَنَّهَا مِن جِنْسِ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ كَأُجْرَةِ الرَّضَاعِ.

اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِبْرَاءُ بِمُقْتَضَى أَنَّهُ لَا تَبْقَى بَيْنَهُمَا مُطَالَبَةٌ بَعْدَ النِّكَاح أَبَدًا، فَإِذَا كَانَ الْأمْرُ كَذَلِكَ وَمَقْصُودُهُمَا الْمُبَارَأَة، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لِلْآخَر

(2)

مُطَالَبَة بِوَجْهِ: فَهَذَا يَدْخُل فِيهِ الْإِبْرَاءُ مِن نَفَقَةِ الْحَمْلِ. [32/ 361 - 362]

* * *

‌(هل يصح إبراء المُكره

؟)

4542 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَن رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ فَحَلَفَ أَبُوهَا أَنَّهُ مَا يُخَلِّيهَا مَعَهُ وَضَرَبَهَا، وَقَالَ لَها أَبُوهَا: أَبْرِئِيهِ، فَأَبْرَأَتْهُ وَطَلَّقَهَا طَلْقَةً، ثُمَّ ادَّعَتْ أَنَّهَا لَمْ تُبْرِهِ إلا خَوْفًا مِن أَبِيهَا، فَهَل تَقَعُ عَلَى الزَّوْجَةِ الطَّلْقَةُ؟

فَأَجَابَ: إنْ كَانَت أَبْرَأَتْهُ مُكْرَهَةً بِغَيْرِ حَقٍّ لَمْ يَصِحَّ الْإِبْرَاءُ، وَلَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ بِهِ، وَإِن كَانَت تَحْتَ حِجْرِ الْأَبِ وَقَد رَأَى الْأَبُ أَنَّ ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي أَحَدِ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ كَمَا فِي مَذْهَبِ مَالِكِ وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد. [32/ 355]

* * *

(1)

أي: في القول الآخر للعلماء.

(2)

في الأصل: (لِلآخَرِة)، والمثبت من الفتاوى الكبرى (3/ 362)، ومختصر الفتاوى المصرية (454)، وهو الصواب.

ص: 605