المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب النفقات ‌ ‌(نفقة الزوجة) 4543 - لو أنفق الزوج على الزوجة وكساها - تقريب فتاوى ابن تيمية - جـ ٥

[أحمد بن ناصر الطيار]

فهرس الكتاب

‌كتاب النفقات

(نفقة الزوجة)

4543 -

لو أنفق الزوج على الزوجة وكساها مدة ثم ادعى الولي عدم إذنه وأنها تحت حجره لم يسمع قوله إذا كان الزوج قد تسلمها التسليم الشرعي، وقد نصَّ على ذلك أئمة العلماء، وخالف فيه شذاذ من الناس.

وإقرار الولي لها عنده مع حاجتها إلى النفقة والكسوة إذن عرفي. [المستدرك 5/ 60]

4544 -

ذكر أصحابنا من الصور المسقطة لنفقة الزوجة: صوم النذر الذي في الذمة، والصوم للكفارة، وقضاء رمضان قبل ضيق وقته إذا لم يكن ذلك في إذنه

(1)

.

قال أبو العباس: قضاء اللّه والكفارة عندنا على الفور، فهو كالمتعين، وصوم القضاء يشبه الصلاة في أول الوقت.

ثم ينبغي في جميع صور الصوم أن تسقط نفقة النهار فقط، فإن هذا مثل أن تنشز يومًا وتجيء يومًا، فإنه لا يمكن أن يقال في هذا كما قيل في الإجارة أن منع تسليم بعض المنفعة يسقط الجميع؛ إذ ما مضى من النفقة لا يسقط، ولو أطاعت في المستقبل استحقت [المستدرك 5/ 60 - 61]

4545 -

النفقة والسكن تجب للمتوفى عنها في عدتها، ويشترط فيها مقامها في بيت الزوج، فإن خرجت فلا جناح [عليها]

(2)

إذا كان أصلح لها.

(1)

وهذا قول فيه نظر، وسيرد عليه الشيخ.

(2)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (412).

ص: 5

والمطلقة البائن الحامل تجب لها النفقة من أجل الحمل وللحمل، وهو مذهب مالك وأحد القولين في مذهب أحمد والشافعي [المستدرك 5/ 61]

4546 -

وإذا تزوجت المرأة ولها ولد فغصبت

(1)

الولد، فذهبت به إلى بلد آخر: فليس لها أن تطالب الأب بنفقة الولد [المستدرك 5/ 61]

4547 -

إن اختلفا في نشوزها أو تسليم النفقة لها: فالقول قولها مع يمينها، واختار الشيخ تقي الدين في النفقة أن القول قول من يشهد له العرف. [المستدرك 5/ 62]

4548 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللّهُ تَعَالَى-: عَن رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ وَلَهُ مُدَّةُ سَبْعِ سِنِينَ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا لِأَجْلِ مَرَضِهَا، فَهَل تَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ نَفَقَةً أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ: نَعَمْ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ فِي مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. [34/ 98]

4549 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللّهُ تَعَالَى-: عَن امْرَأَةٍ تَطْعَمُ مِن بَيْتِ زَوْجِهَا بِحُكْمِ أَنَّهَا تَتْعَبُ فِيهِ؟

فَأَجَابَ: تَطْعَمُ بِالْمَعْرُوفِ؛ مِثْل الْخُبْزِ وَالطَّبِيخِ وَالْفَاكِهَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا جَرَت الْعَادَةُ بِإِطْعَامِهِ. [34/ 101]

4550 -

الْمُزَوَّجَةُ الْمُحْتَاجَةُ نَفَقَتُهَا عَلَى زَوْجِهَا وَاجِبَةٌ مِن غَيْرِ صَدَاقِهَا، وَأَمَّا صَدَاقُهَا الْمُؤَخَّرُ فَيَجُوزُ أَنْ تُطَالِبَهُ، وَإِن أَعْطَاهَا فَحَسَنٌ، وَإِن امْتَنَعَ لَمْ يُجْبَرْ حَتَّى يَقَعَ بَيْنَهُمَا فُرْقَةٌ بِمَوْتٍ أَو طَلَاقٍ أَو نَحْوِهِ. [34/ 76]

4551 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلٍ حَبَسَتْهُ زَوْجَتُهُ عَلَى كِسْوَتِهَا وَصَدَاقِهَا وَبَقِيَ مُدَّةً، فَهَل لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِنَفَقَتِهَا مُدَّةَ إقَامَتِهِ فِي حَبْسِهَا أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ: إنْ كَانَ مُعْسِرًا فَحَبَسَتْهُ كَانَت ظَالِمَة لَهُ مَانِعَةً لَهُ مِن التَّمَكُّنِ مِنْهَا: فَلَا تَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ نَفَقَةً.

(1)

في الأصل: (فغضب)، والتصويب من حاشية ابن قاسم على الروض (7/ 133).

ص: 6

وَإِن كَانَ لَهَا حَقٌّ وَاجِبٌ حَالٌّ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَدَائِهِ فَمَنَعَهُ بَعْدَ الطَّلَبِ الشَّرْعِيِّ: كَانَ ظَالِمًا، فَإِذَا كَانَت مَعَ هَذَا بَاذِلَةً مَا يَجِبُ عَلَيْهَا وَجَبَتْ لَهَا النَّفَقَةُ. [34/ 97]

4552 -

قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِهِنْد: "خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ"

(1)

فَإِنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ لِلزَّوْجَةِ وَللْوَلَدِ حَقٌّ ظَاهِرٌ لَا يُمْكِنُ أَبَا سُفْيَانَ جَحْدُهُ

(2)

. [30/ 150]

* * *

‌(هل القول قول الزوج في إنفاقه على زوجته وكسوته لها

؟)

4553 -

إذَا كَانَت الْمَرْأَةُ مُقِيمَةً فِي بَيْتِ زَوْجِهَا مُدَّةً تَأْكُلُ وَتَشْرَبُ وَتَكْتَسِي كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، ثُمَّ تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَتْ هِيَ: أَنْتَ مَا أَنْفَقْت عَلَيَّ وَلَا كَسَوْتَنِي؛ بَل حَصَلَ ذَلِكَ مِن غَيْرِك.

وَقَالَ هُوَ: بَل النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ كَانَت مِنِّي: فَفِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ:

أَحَدُهُمَا: الْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ.

وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يُصْدِقَهَا تَعَلُّمَ صِنَاعَةٍ وَتَتَعَلَّمُهَا، ثُمَّ يَتَنَازَعَانِ فِيمَن عَلَّمَهَا فَيَقُولُ هُوَ: أَنَا عَلَّمْتهَا، وَتَقُولُ هِيَ: أَنَا تَعَلَّمْتهَا مِن غَيْرِهِ: فَفِيهَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد، وَالصَّحِيحُ مِن هَذَا كُلّهِ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَن يَشْهَدُ لَهُ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ.

(1)

رواه البخاري (5364).

(2)

فجاز لها أن تأخذ من ماله بقدر ما لها من حق؛ لأن حق أبي سفيان عليها ظاهر معلوم وجوبُه، لا يُمكنه جحدُه، أما إذا كان الحق خفيًّا فلا يجوز أخذه بدون إذن صاحبه؛ لِمَا يجر على الآخر من التهمة والشر، كما قَيل للنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: إنَ لَنَا جِيرَانًا لَا يَدَعُونَ لَنَا شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً إلَّا أَخَذُوهَا، فَإِذَا قَدَرْنَا لَهُم عَلَى شَيء أفَنَأخُذُهُ؛ فَقَالَ:"أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَن ائْتَمَنَك وَلَا تَخنْ مَن خَانَك".

قال شيخ الإسلام: لِأنَّ الْحَق هُنَا خَفِيٌّ لَا يَفُوتُهُ الظُّلْمُ، فَإِذَا أَخَذَ شَيْئًا مِن غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ ظَاهِرٍ كَانَ خِيَانَةً. (30/ 150)

ص: 7

وَالصَّوَابُ: أَنَّهُ يُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، فَإِذَا كَانَت الْعَادَةُ أَنَّ الرَّجُلَ يُنْفِقُ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهِ وَيَكْسُوهَا، وَادَّعَتْ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا يَسُوغُ غَيْرُهُ لِأَوْجُهِ:

أَحَدُهَا: أَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ لَمْ يُعْلَمْ مِنْهُم امْرَأَةٌ قُبِلَ قَوْلُهَا فِي ذَلِكَ.

الثَّانِي: أَنَّهُ لَو كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا لَمْ ئقْبَل قَوْلُ الرَّجُلِ إلَّا بِبَيِّنَة، فَكَانَ يَحْتَاجُ إلَى الْإِشْهَادِ عَلَيْهَا كُلَّمَا أَطْعَمَهَا وَكَسَاهَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ مُسْلِمٌ عَلَى عَهْدِ السَّلَفِ.

الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِشْهَادَ فِي هَذَا مُتَعَذِّرٌ أَو مُتَعَسِّرٌ، فَلَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ كَالْإِشْهَادِ عَلَى الْوَطءِ.

وَلَا يُكَلَّفُ النَّاسُ الْإِشْهَادَ عَلَى إعْطَاءِ النَّفَقَةِ؛ فَإِنَّ هَذَا بِدْعَةٌ فِي الدِّينِ، وَحَرَجٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَاتِّبَاعٌ لِغَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ.

الرَّابعُ: أَنَّ الْعُلَمَاءَ مُتَنَازِعُونَ: هَل يَجِبُ تَمْلِيكُ النَّفَقَةِ؛ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَالْأَظْهَرُ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ، وَلَا يَجِبُ أَنْ يَفْرِضَ لَهَا شَيْئًا بَل يُطْعِمُهَا وَيَكْسُوهَا بِالْمَعْرُوفِ. هَذِهِ عَادَةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ، لَا يُعْلَمُ قَطُّ أَنَّ رَجُلًا فَرَضَ لِزَوْجَتِهِ نَفَقَةً؛ بَل يُطْعِمُهَا وَيَكْسُوهَا.

وَكَذَلِكَ لَو أَخَذَت الْمَرْأَةُ نَفَقَتَهَا مِن مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَادَّعَتْ أَنَّهُ لَمْ يُعْطِهَا نَفَقَةً: قُبِلَ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ؛ لِأَنَّ الشَّارعَ سَلَّطَهَا عَلَى ذَلِكَ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِهِنْد: "خُذِي مَما يَكْفِيكْ وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ" لَمَّا قَالَتْ: إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، وَإِنَّهُ لَا يُعْطِينِي مِن النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي

(1)

.

وَكَذَلِكَ لَو كَانَ الزَّوْجُ مُسَافِرًا عَنْهَا مُدَّةً وَهِيَ مُقِيمَةٌ فِي بَيْتِ أَبِيهَا وَادَّعَتْ

(1)

رواه البخاري (5364).

ص: 8

أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ لَهَا نَفَقَةً وَلَا أَرْسَلَ إلَيْهَا بِنَفَقَةٍ: فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ.

فَلَا بُدَّ مِن التَّفْصِيلِ فِي الْمَاضِي مُطْلَقًا فِي هَذَا الْبَابِ.

وَهَذِهِ الْمَعَانِي مَن تَدَبَّرَهَا تَبَيَّنَ لَهُ سِرُّ هَذِهِ الْمَسْألَةِ؛ فَإِنَّ قَبُولَ قَوْلِ النِّسَاءِ فِي عَدَمِ النَّفَقَةِ فِي الْمَاضِي فِيهِ مِن الضَّرَرِ وَالْفَسَادِ، مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا رَبُّ الْعِبَادِ.

الْوَجْهُ الْخَامِسُ. أَنَّ الْأَصْلَ الْمُسْتَقِرَّ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْيَمِينَ مَشْرُوعَةٌ فِي جَنَبَةِ أَقْوَى الْمُتَدَاعِيَيْنِ، سَوَاءٌ تَرَجَّحَ ذَلِكَ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، أَو الْيَدِ الْحِسِّيَّةِ، أَو الْعَادَةِ الْعَمَلِيَّةِ؛ وَلهَذَا إذَا تَرَجَّحَ جَانِبُ الْمُدَّعِي كَانَت الْيَمِينُ مَشْرُوعَةً فِي حَقِّهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد؛ كَالْأَيْمَانِ فِي الْقَسَامَةِ، وَكَمَا لَو أَقَامَ شَاهِدا عَدْلًا فِي الْأَمْوَالِ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ لَهُ بِشَاهِدٍ وَيمِينٍ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جعَلَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُن مَعَ الْمُدَّعِي حُجَّةٌ تُرَجِّحُ جَانِبَه.

وَأَمَّا تَقْدِيرُ الْحَاكِمِ النَّفَقَةَ وَالْكِسْوَةَ فَهَذَا يَكُونُ عِنْدَ التّنازُعِ فِيهَا كَمَا يُقَدِّرُ مَهْرَ الْمِثْل إذَا تَنَازَعَا فِيهِ. [34/ 77 - 83]

* * *

(نفقة الزوجة مرجعها إلى العرف، وحكم خدمة الزوجة لزوجها)

4554 -

الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ مَرْجِعُهَا إلَى الْعُرْفِ، وَلَيْسَتْ مُقَدَّرَةً بِالشَّرْعِ؛ بَل تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْبِلَادِ وَالْأَزْمِنَةِ وَحَالِ الزَّوْجَيْنِ وَعَادَتِهِمَا؛ فَإِنَّ اللّهَ تَعَالَى قَالَ:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19].

4555 -

قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232]: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَو رَضِيَتْ بِغَيْرِ الْمَعْرُوفِ لَكَانَ لِلْأَوْليَاءِ الْعَضْلُ، وَالْمَعْرُوفُ تَزْوِيجُ الْكُفْءِ.

ص: 9

فَهَذَا الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الْوَاجِبُ: الْعَدْلُ فِي جَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالنِّكَاحِ مِن أُمُورِ النِّكَاحِ وَحُقُوقِ الزَّوْجَيْنِ، فَكَمَا أَنَّ مَا يَجِبُ لِلْمَرْأَةِ عَلَيْهِ مِن الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ هُوَ بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ الْعُرْفُ الَّذِي يَعْرِفُهُ النَّاسُ فِي حَالِهِمَا نَوْعًا وَقَدْرًا وَصِفَةً، وَإِن كَانَ ذَلِكَ يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ حَالِهِمَا مِن الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَالزَّمَانِ؛ كَالشّتَاءِ وَالصَّيْفِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْمَكَانِ، فَيُطْعِمُهَا فِي كُلِّ بَلَدٍ مِمَّا هُوَ عَادَةُ أَهْلِ الْبَلَدِ وَهُوَ الْعُرْفُ بَيْنَهُم.

وَكَذَلِكَ مَا يَجِبُ لَهَا عَلَيْهِ مِن الْمُتْعَةِ وَالْعِشْرَةِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَبِيتَ عِنْدَهَا وَيَطَأهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ حَالِهَا وَحَالِهِ.

وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ فِي الْوَطْءِ الْوَاجِبِ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْمَعْرُوفِ لَا بِتَقْدِير مِن الشَّرْعِ.

وَالْمِثَالُ الْمَشْهُورُ هُوَ النَّفَقَةُ، فَإِنَّهَا مُقَدَّرَة بِالْمَعْرُوفِ تَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ حَالِ الزَّوْجَيْنِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ.

وَمِنْهُم مَن قَالَ: هِيَ مُقَدَّرَة بِالشَّرْعِ نَوْعًا وَقَدْرًا.

وَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ مَا عَلَيْهِ الْأمَّةُ عِلْمًا وَعَمَلًا قَدِيمًا وَحَدِيثًا؛ فَإِنَّ الْقرْآنَ قَد دَلَّ عَلَى ذَلِكَ.

وَإِذَا كَانَ الْوَاجِبُ هُوَ الْكِفَايَة بِالْمَعْرُوفِ: فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكِفَايَةَ بِالْمَعْرُوفِ تَتَنَوَّعُ بِحَالَةِ الزَّوْجَةِ فِي حَاجَتِهَا، وَبِتَنَوُّعِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَبِتَنَوُّعِ حَالِ الزَّوْجِ فِي يَسَارِهِ وَإِعْسَاره، وَلَيْسَتْ كِسْوَةُ الْقَصيرَةِ الضَّئِيلَةِ كَكسْوَةِ الطَّوِيلَةِ الْجَسِيمَةِ، وَلَا كِسْوَةُ الشّتَاءِ كَكِسْوَةِ الصَّيْفِ.

وَأَمَّا الْإِنْفَاقُ فَقَد قِيلَ: إنَّ الْوَاجِبَ تَمْلِيكَهَا النَّفَقَةَ وَالْكِسْوَةَ، وَقِيلَ: لَا يَجِبُ التَّمْلِيكُ، وَهُوَ الصَّوَابُ؛ فَإِنَ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ الْمَعْرُوفَ؛ بَل عُرْفُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمِينَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا أَنَّ الرَّجُلَ يَأتِي بِالطَّعَامِ إلَى مَنْزِلِهِ فَيَأكُلُ هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَمَمْلُوكهُ: تَارَةً جَمِيعًا وَتَارَةً أَفْرَادًا.

ص: 10

‌فَصْلٌ

وَكَذَلِكَ "قَسْمُ الاِبْتِدَاءِ وَالْوَطْءِ وَالْعِشْرَةِ وَالْمُتْعَةِ": وَاجِبَانِ. وَمَن شَكَّ فِي وُجُوبِ ذَلِكَ فَقَد أَبْعَدَ تَأَمُّلَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالسِّيَاسَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ

(1)

.

‌فصْل

وَكَذَلِكَ مَا عَلَيْهَا مِن مُوَافَقَتِهِ فِي الْمَسْكَنِ وَعِشْرَتِهِ وَمُطَاوَعَتِهِ فِي الْمُتْعَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهَا بِالاِتِّفَاقِ، عَلَيْهَا أَنْ تَسْكُنَ مَعَهُ فِي أَيِّ بَلَدٍ أَو دَارٍ إذَا كَانَ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَمْ تَشْتَرِطْ خِلَافَهُ، وَعَلَيْهَا أَنْ لَا تُفَارِقَ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ إلَّا لِمُوجِبٍ شَرْعِيٍّ، فَلَا تَنْتَقِلُ وَلَا تُسَافِرُ وَلَا تَخْرُجُ مِن مَنْزِلِهِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ إلَّا بِإِذْنِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"فَإِنَّهُنَّ عَوَان عِنْدَكُمْ"

(2)

بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ وَالْأَسِيرِ، وَعَلَيْهَا تَمْكينُهُ مِن الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا إذَا طَلَبَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِالْمَعْرُوفِ غَيْرِ الْمُنْكَرِ.

فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ اسْتِمْتَاعًا يَضُرُّ بِهَا، وَلَا يُسْكِنَهَا مَسْكَنًا يَضُرُّ بِهَا، وَلَا يَحْبِسَهَا حَبْسًا يَضُرُّ بِهَا.

‌فَصْلٌ

وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ: هَل عَلَيْهَا أَنْ تَخْدِمَهُ فِي مِثْل فِرَاشِ الْمَنْزِلِ، وَمُنَاوَلَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْخُبْزِ، وَالطَّحْنِ وَالطَّعَامِ لِمَمَالِيكِهِ وَبَهَائِمِهِ؟ فَمِنْهُم مَن قَالَ: لَا تَجِبُ الْخِدْمَةُ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ؛ كَضَعْفِ قَوْلِ مَن قَالَ: لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْعِشْرَةُ وَالْوَطْءُ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مُعَاشَرَةً لَهُ بِالْمَعْرُوفِ.

وَقِيلَ -وَهُوَ الصَّوَابُ-: وُجُوبُ الْخِدْمَةِ؛ فَإِنَ الزَّوْجَ سَيِّدُهَا فِي كِتَاب اللّهِ، وَهِيَ عَانِيَةٌ عِنْدَهُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَى الْعَانِي وَالْعَبْدِ الْخِدْمَةُ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ.

(1)

تعبير لطيف بديع، فسياسة النفوس والأهل والأصدقاء أولى وأهم من سياسة الحكم.

(2)

رواه الترمذي (1163)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

ص: 11

ثُمَّ مِن هَؤُلَاءِ مَن قَالَ: تَجِبُ الْخِدْمَةُ الْيَسِيرَةُ، وَمِنْهُم مَن قَالَ: تَجِبُ الْخِدْمَةُ بِالْمَعْرُوفِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، فَعَلَيْهَا أَنْ تَخْدِمَهُ الْخِدْمَةَ الْمَعْرُوفَةَ مِن مِثْلِهَا لِمِثْلِهِ، وَيَتَنَوَّعُ ذَلِكَ بِتَنَوُّعِ الْأَحْوَالِ، فَخِدْمَةُ الْبَدَوِيَّةِ لَيْسَتْ كَخِدْمَةِ الْقَرَوِيَّةِ، وَخِدْمَةُ الْقَوِيَّةِ لَيْسَتْ كَخِدْمَةِ الضَّعِيفَةِ.

‌فَصْلٌ

وَالْمَعْرُوفُ فِيمَا لَهُ وَلَهَا هُوَ مُوجَبُ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ. فَالْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ؛ فَإِنَّ مُوجِبَاتِ الْعُقُودِ تتلَقَّى مِن اللَّفْظِ تَارَةً، وَمِن الْعُرْفِ تَارَةً أُخْرَى.

لَكِنْ كِلَاهُمَا مُقَيَّدٌ بِمَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللّهُ وَرَسُولُهُ. [34/ 84 - 91]

* * *

(إذَا طَلَّقَ الرجل زوْجَتَة طَلْقَةً وَاحِدَة وَكَانَت حَامِلًا فأَلْقَتْ سِقْطًا انْقَضَتْ بِهِ الْعِدَّةُ وَسَقَطَتْ بِهِ النَّفَقَةُ)

4556 -

وَسُئِلَ رحمة اللهُ: عَن رَجُل طَلَّقَ زَوْجَتَهُ طَلْقَةً وَاحِدَةً وَكَانَت حَامِلًا فَأَسْقَطَتْ، فَهَل تَسْقُطُ عَنْهُ النَّفَقَةُ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ: نَعَمْ، إذَا أَلْقَتْ سِقْطًا انْقَضَتْ بِهِ الْعِدَّة وَسَقَطَتْ بِهِ النَّفَقَةُ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَد نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ أَمْ لَا إذَا كَانَ قَد تَبَيَّنَ فِيهِ خَلْقُ الْإِنْسَانِ، فَإِنْ لَمْ يَتبيَّنْ فَفِيهِ نِزَاعٌ. [34/ 98]

* * *

(نفقة الأبناء)

4557 -

سُئِلَ رحمة اللهُ: عَن رَجُلٍ مَاتَتْ زَوْجَتُهُ وَخَلَّفَتْ لَهُ ثَلَاثَ بَنَاتٍ، فَأَعْطَاهُم لِحَمِيهِ وَحَمَاتِهِ وَقَالَ: رُوحُوا بِهِم إلَى بَلَدِكُمْ حَتَّى أَجِيءَ إلَيْهِمْ، فَغَابَ عَنْهُم ثَلَاثَ سِنِينَ، فَهَل عَلَى وَالِدِهِمْ نَفَقَتُهُم وَكِسْوَتُهُم فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ أَمْ لَا؟

ص: 12

فَأَجَابَ: مَا أَنْفَقُوهُ عَلَيْهِم بِالْمَعْرُوفِ بِنِيَّةِ الرُّجُوعِ بِهِ عَلَى وَالِدِهِمْ فَلَهُم الرُّجُوعُ بِهِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مِمَن تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ. [34/ 99]

4558 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللّهُ تَعَالَى-: عَن رَجُلٍ عَاجِزٍ عَن نَفَقَةِ بِنْتِهِ وَكَانَ غَائِبًا، وَهِيَ عِنْدَ أُمِّهَا، وَجَدَّتُهَا تُنْفِقُ عَلَيْهَا، مَعَ أَنَّهَا مُوسرَةٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ فَرْضٌ، فَهَل لَهَا أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّفَقَةِ الْمُدَّةَ الَّتِي كَانَ عَاجِزًا عَن النَّفَقَةِ فِيهَا؟

فَأَجَابَ: أَمَّا الْمُدَّةُ الَّتِي كَانَ عَاجِزًا عَن النَّفَقَةِ فِيهَا فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ، وَلَا رُجُوعَ لِمَن أَنْفَقَ فِيهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ بِغَيْرِ نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ.

وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِيمَا إذَا أَنْفَقَ مُنْفِق بِدُونِ إذْنِهِ مَعَ وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَبِ: فَقِيلَ: يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ غَيْرَ مُتَبَرِّعٍ كَمَا هوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي قَوْلٍ.

وَلَا يَجُوز حَبْسُهُ عَلَى هَذِهِ النَّفَقَةِ، وَلَا عَلَى الرُّجُوعِ بِهَا حَتَّى يَثْبُتَ الْوُجُوبُ بِيَسَارِهِ.

فَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الْيَسَارِ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَالٌ: فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ.

وَإِذَا كَانَ مُقِيمًا فِي غَيْرِ بَلَدِ الْأُمِّ: فَالْحَضَانَةُ لَهُ لَا لِلْأمِّ، وَإِن كَانَت الْأُمُّ أَحَقَّ بِالْحَضَانَةِ فِي الْبَلَدِ الْوَاحِدِ، وَهَذَا أَيْضًا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. [34/ 103]

* * *

(عَلَى الْأَب إذَا كَانَ مُوسِرًا أَنْ ينْفِقَ عَلَى ابنِه وَعَلَى زَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ الْمُحْتَاجِينَ وَالْعَاجِزِينَ عَن الْكَسْبِ)

4559 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللّهُ تَعَالَى-: عَن امْرَأَةٍ تُوُفِّيَتْ وَخَلَّفْت مِن الْوَرَثَةِ وَلَدًا ذَكَرًا، وَقَد ادَّعَى عَلَى أَبِيهِ بِالصَّدَاقِ وَالْكِسْوَةِ، فَهَل يَلْزَمُ الزَّوْجَ الْكِسْوَةُ الْمَاضِيَةُ قَبْلَ مَوْتِهَا وَالاِبْنُ مُحْتَاجٌ؟

فَأَجَابَ: إذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرَ فَعَلَى الْأَبِ أَنْ يُوَفِّيَهُ مَا يَسْتَحِقُّهُ.

بَل لَو لَمْ يَكُن لِلِابْنِ مِيرَاثٌ وَكَانَ مُحْتَاجًا عَاجِزًا عَن الْكِسْوَةِ: فَعَلَى

ص: 13

الْأَبِ إذَا كَانَ مُوسِرًا أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ وَعَلَى زَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ الْمُحْتَاجِينَ وَالْعَاجِزِينَ عَن الْكسْبِ. [34/ 95]

4560 -

إِذَا لَمْ يُمْكِن الْإِنْفَاقُ عَلَى الْوَلَدِ إلَّا بِإِجَارَةِ مَا هوَ مُتَعَطِّلٌ فِي عَقَارِهِ، وَبِعِمَارَةِ مَا يُمْكِنُ عِمَارَتُهُ مِنْهُ، أَو يُمْكِنُ الْوَلَدُ مِن أَنْ يُؤَجِّرَ وَيعمرَ مَا يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ: فَعَلَى الْوَالِدِ ذَلِكَ.

بَل مَن كَانَ لَهُ عَقَارٌ لَا يَعْمُرُهُ وَلَا يُؤَجِّرُهُ: فَهُوَ سَفِيهٌ مُبَذّرٌ لِمَالِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ لِئَلَّا يَضِيعَ مَالُهُ

(1)

.

فَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ وَلَدٌ: يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ لِأَجْلِ مَصْلَحَتِهِ وَمَصْلَحَةِ وَلَدِهِ. [34/ 105]

* * *

‌(التعبير بلَفْظ: {الْمَوْلُودِ لَهُ} أَجْوَدُ مِن لَفْظِ "الْوَالِدِ

")

4561 -

قَالَ اللّهُ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] فَلَفْظُ: {الْمَوْلُودِ لَهُ} أَجْوَدُ مِن لَفْظِ "الْوَالِدِ"؛ لِوُجُوهِ:

أ- أَنَّهُ يَعُمُّ الْوَالِدَ وَسَيّدَ الْعَبْدِ.

ب - وَأَنَّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الْوَلَدَ لِأَبِيهِ لَا لِأُمِّهِ، فَيُفِيدُ هَذَا أَنَّ الْوَلَدَ لِأَبِيهِ، كَمَا نَقُولُهُ نَحْنُ مِن أَنَّ الْأَبَ يَسْتَبِيحُ مَالَ وَلَدِهِ وَمَنَافِعَهُ.

ج - وَأَنَّه يُبَيّنُ جِهَةَ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ وَهُوَ كَوْنُ الْوَلَدِ لَهُ لَا لِلْأُمِّ.

د - وَأَنَّ الْأُمَّ هِيَ الَّتِي وَلَدَتْهُ حَقِيقَةً دُونَ الْأَبِ.

فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ.

وَلهَذَا يُقَالُ: وُلدَ لِفُلَانٍ مَوْلُودٌ، وُلدَ لِي وَلَدٌ.

(1)

وهذا كثير في هذا الزمان، يكون للرجل أو للورثة عقاراتٌ وأملاك مهجورة، ويمتنع هو أو ورثته من البيع أو التأجير، بل بعضهبم طُلب منه أن يبيع عقاره لتوسعة الجامع المجاور له فرفض ذلك" ومثل هذا كما قال الشيخ: سَفِيه مُبَذِّز لِمَالِهِ والواجب الأخذ على يده والله المستعان.

ص: 14

وَهَذِهِ الْآيَةُ تُوجِبُ رِزْقَ الْمُرْتَضِعِ عَلَى أَبِيهِ لِقَوْلِهِ: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] فَأوْجَبَ نَفَقَتَهُ حَمْلًا وَرَضِيعًا بِوَاسِطَةِ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ رِزْقُهُ بِدُونِ رِزْقِ حَامِلِهِ وَمُرْضِعِهِ.

فَسُئِلْت: فَأَيْنَ نَفَقَة الْوَلَدِ عَلَى أَبِيهِ بَعْدَ فِطَامِهِ؟

فَقُلْت: دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ تَنْبِيهًا؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ فِي حَالِ اخْتِفَائِهِ وَارْتضَاعِهِ أَوْجَبَ نَفَقَةَ مَن تَحْمِلُهُ وَتُرْضِعُهُ -إذ لَا يُمْكِنُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ إلَّا بِذَلِكَ-: فَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ بَعْدَ فِصَالِهِ إذَا كَانَ يُبَاشِرُ الاِرْتزَاقَ بِنَفْسِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى.

وَهَذَا مِن حُسْنِ الاِسْتِدْلَالِ.

فَقَد تَضَمَّنَ الْخِطَابُ التَّنْبِيهَ بِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَسْكُوتِ أَوْلَى مِنْهُ فِي الْمَنْطُوقِ.

وَتَضَمَّنَ تَعْلِيلَ الْحُكْمِ بِكَوْنِ النَّفَقَةِ إنَّمَا وَجَبَتْ عَلَى الْأَبِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي لَهُ الْوَلَدُ دُونَ الْأُمّ، وَمَن كَانَ الشَّيءُ لَهُ كَانَت نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ؛ وَلذَا سُمِّيَ الْوَلَدُ كَسْبًا فِي قَوْلِهِ:{وَمَا كَسَبَ} [المسد: 2]، وَفِي قَوْلِهِ:"إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِن كسْبِهِ؛ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِن كسْبِه"

(1)

[34/ 105 - 106]

* * *

(عَلَى الْوَلَدِ الْمُوسِرِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى أَبيهِ وإخْوَتِهِ إذَا كَانُوا عَاجِزِينَ عَن الْكَسْبِ)

.

4562 -

عَلَى الْوَلَدِ الْمُوسِرِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى أَبِيهِ وَزَوْجَةِ أَبِيهِ وَعَلَى إخْوَتِهِ الصِّغَارِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كَانَ عَاقُّا لِأَبِيهِ، قَاطِعًا لِرَحِمِهِ، مُسْتَحِقًّا لِعُقُوبَةِ اللهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

(1)

رواه الإمام أحمد (24032)، وأبو داود (3528)، وابن ماجة (2137) وصححه الألباني.

ص: 15

وَكَذَلِكَ إخْوَتُهُ إذَا كَانُوا عَاجِزِينَ عَن الْكَسْبِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِم إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ، وَلأَبِيهِ أَنْ يَأخُذَ مِن مَالِهِ مَا يَحْتَاجُهُ بِغَيْرِ إذْنِ الاِبْنِ، وَلَيْسَ لِلِابْنِ مَنْعُهُ. [34/ 101 - 102]

* * *

(نفقة الأقارب)

4563 -

يجب على القريب افتكاك قريبه من الأسر، وإن لم يجب عليه استنفاذه من الرق، وهو أولى مِن حمل العقل

(1)

.

4564 -

تجب النفقة لكل وارث، ولو كان مقاطعًا من ذوي الأرحام وغيرهم، ولأنه من صلة الرحم، وهو عام كعموم الميراث في ذوي الأرحام، وهو رواية عن أحمد، والأوجه وجوبها مرتَّبًا. [المستدرك 5/ 62]

4565 -

إن كان الموسر القريب ممتنعًا: فينبغي أن يكون كالمعسر، كما لو كان للرجل مال وحيل بينه وبينه لغصب أو بعد، لكن ينبغي أن يكون الواجب هنا القرض رجاء الاسترجاع.

وعلى هذا: فمتى وجبت عليه النفقة وجب عليه القرض إذا كان له وفاء. [المستدرك 5/ 63]

4566 -

إرضاع الطفل واجب على الأم بشرطان يكون مع الزوج، وهو قول ابن أبي ليلى وغيره من السلف، ولا تستحق أجرة المثل زيادة على نفقتها وكسوتها، وهو اختيار القاضي في "المجرد" وقول الحنفية؛ لأن اللّه تعالى يقول:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] فلم يوجب لهن إلا الكسوة والنفقة بالمعروف، وهو الواجب بالزوجية، وما عساه يتجرد من زيادة خاصة

(1)

هي دية شبه العمد، يتحملها عاقلة الرجل، وهو أقرباؤه.

ص: 16

للمرتضع، كما قال في الحامل:{وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] فدخلت نفقة الولد في نفقة أمه؛ لأنه يتغذى بها، وكذلك المرتضع، وتكون النفقة هنا واجبة بشيئين، حتى لو سقط الوجوب بأحدهما ثبت الآخر، كما لو نشزت وأرضعت ولدها فلها النفقة للإرضاع لا للزوجية، فأما إذا كانت بائنًا وأرضعت له ولده فإنها تستحق أجرها بلا ريب، كما قال اللّه تعالى:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]، وهذا الأجر هو النفقة والكسوة، وقاله طائفة منهم: الضحاك وغيره. [المستدرك 5/ 63 - 64]

4567 -

إذا كانت المرأة قليلة اللبن وطلقها زوجها: فله أن يكتري مرضعة لولده، وإذا فعل ذلك فلا فرض للمرأة بسبب الولد، ولها حضانته. [المستدرك 5/ 64]

4568 -

إنْ كَانَ مَالُ الْإِنْسَانِ لَا يَتَّسِعُ لِلْأَقَارِبِ وَالْأَبَاعِدِ: فَإِنَّ نَفَقَةَ الْقَرِيبِ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، فَلَا يُعْطي الْبَعِيدَ مَا يَضُرُّ بِالْقَرِيبِ.

وَأَمَّا الزَّكَاةُ وَالْكَفَّارَةُ: فَيَجُوزُ أَنْ يُعْطي مِنْهَا الْقَرِيبَ الَّذِي لَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ. وَالْقَرِيبُ أَوْلَى إذَا اسْتَوَت الْحَالَةُ. [34/ 107]

* * *

(مَن تبرعَ لأحدٍ ومات قبل التسليم لا يُعتبر دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ يُؤْخَذُ مِن تَرِكَتِهِ)

4569 -

مَا عَلِمْت أَنَ أَحَدًا مِن الْعُلَمَاءِ قَالَ: إنَّ نَفَقَةَ الْقَرِيبِ تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ لِمَا مَضَى مِن الزَّمَانِ، إلَّا إذَا كَانَ قَد اسْتَدَانَ عَلَيْهِ النَّفَقَة بِاِذْنِ حَاكِمٍ أَو أَنْفَقَ بِغَيْرِ إذْنِ حَاكِمٍ غَيْرَ مُتَبَرِّعٍ وَطَلَبَ الرُّجُوعَ بِمَا أَنْفَقَ: فَهَذَا فِي رُجُوعِهِ خِلَافٌ.

فَأَمَّا اسْتِقْرَارُهَا فِي الذِّمَّةِ بِمُجَرَّدِ الْفَرْضِ -إمَّا بِإِنْفَاقِ مُتَبَرِّعٍ أَو بِكَسْبِهِ كَمَا يُقَالُ مِثْلُهُ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ- فَمَا عَلِمْت لَهُ قَائِلًا، فَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ مُخَالِفًا

ص: 17

لِلْإِجْمَاعِ لَمْ يُلْزَمْ بِحُكْمِ حَاكِمٍ، وَلمَن أَخَذَ مِنْهُ الْمَالَ بِغَيْرِ حَق أَنْ يَرْجِعَ بِمَا أَخَذَهُ.

وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ وإِن قَضَى بِهَا الْقَاضِي، إلَّا أَنْ يَأْذَنَ الْقَاضِي فِي الاِسْتِدَانَةِ؛ لِأَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةً عَامَّة فَصَارَ كَإِذْنِ الْغَائِبِ.

وَكَذَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ مُوسِرًا وَتَمَرَّدَ وَامْتَنَعَ عَن الْإِنْفَاقِ فَطَلَبَت الْمَرْأَةُ

(1)

أَنْ يَأْمُرَهَا بِالاِسْتِدَانَةِ

(2)

فَأَمَرَهَا الْقَاضِي بِذَلِكَ وَتَرْجِعُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْقَاضِي كَأمْرِه. [34/ 93 - 94]

* * *

‌(من وَطِئَ أَجْنَبِيَّة وحَمَلَتْ مِنْهُ، ثُمَّ تَزَوَّجَ بِهَا، فَهَل يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ

؟)

4570 -

وَسُئِلَ رحمة اللهُ: عَن رَجُلٍ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً حَمَلَتْ مِنْهُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَزَوَّجَ بِهَا، فَهَل يَجِبُ عَلَيْهِ فَرْضُ الْوَلَدِ فِي تَرْبِيَتِهِا؟

فَأَجَابَ: الْوَلَدُ وَلَدُ زِنا، لَا يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ؛ فَإِنَّهُ يَتِيمٌ مِن الْيَتَامَى، وَنَفَقَةُ الْيَتَامَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ مُؤَكَّدَة. [34/ 100]

* * *

(المماليك)

4571 -

لو لم تلائم أخلاق العبد أخلاق سيده لزمه إخراجه عن ملكه. [المستدرك 5/ 64]

* * *

(1)

من القاضي.

(2)

عَلَى الزَّوْجِ؛ أي: تستدين ما تحتاجه إليه على ذمة زوجها.

والحكمة من ذلك كما قال الشيخ: لِئَلَّا يَبْطُلَ حَقُّهَا فِي النَّفَقَةِ بمَوْتِ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَ النَّفَقَةَ تَسْقُط بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا، فَكَانَت فَائِدَةُ الْأمْرِ بِالاِسْتِدَانَةِ لِتَأْكِيدِ حَقِّهَا فِي النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ مَأمُورٌ بِإِيصَالِ الْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ. (34/ 94)

ص: 18

‌(هل يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ النَّظَرُ إلَى شَيْءٍ مِن بَدَنِ امْرَأَتِهِ

؟)

4572 -

لَا يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ النَّظَرُ إلَى شَيءٍ مِن بَدَنِ امْرَأَتِهِ وَلَا لَمْسُهُ، لَكِنْ يُكْرَهُ النَّظَرُ إلَى الْفَرْجِ، وَقِيلَ: لَا يُكْرَهُ، وَقِيلَ: لَا يُكْرَهُ إلَّا عِنْدَ الْوَطْءِ. [32/ 272]

* * *

‌(هل للزوجة أن ترضع غير ولدها دون إذن زوجها

؟)

4573 -

لَيْسَ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تُرْضِعَ غَيْرَ وَلَدِهَا إلَّا بِإِذْنِ الزَّوْجِ. [32/ 273]

* * *

(بَاب النُّشوزِ)

4574 -

فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إلَّا بِإذْنِهِ، وَلَا تَأذَنَ فِي بَيْتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ"

(1)

.

فَإِذَا كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَد حَرَّمَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ تَطَوُّعًا إذَا كَانَ زَوْجُهَا شَاهِدًا إلَّا بِإِذْنِهِ، فَتَمْنَع بِالصَّوْمِ بَعْضَ مَا يَجِبُ لَهُ عَلَيْهَا، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُهَا إذَا طَلَبَهَا فَامْتَنَعَتْ؟

وَقَد قَالَ اللّهُ تَعَالَى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34] فَالْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ هِيَ الَّتِي تَكُونُ قَانِتَةً؛ أَيْ: مُدَاوِمَةً عَلَى طَاعَةِ زَوْجِهَا.

فَمَتَى امْتَنَعَتْ عَن إجَابَتِهِ إلَى الْفِرَاشِ كَانَت عَاصيَةً نَاشِزَة، وَكَانَ ذَلِكَ يُبِيحُ لَهُ ضَرْبَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} [النساء: 34].

(1)

رواه البخاري (5195)، ومسلم (1026).

ص: 19

وَلَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ بَعْدَ حَقّ اللهِ وَرَسُولِهِ أَوْجَبُ مِن حَقِّ الزَّوْجِ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"لَو كُنْتُ آمِرًا لِأَحَد أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَد لَأَمَرْت الْمَرْأةَ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا؛ لِعِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا"

(1)

. [32/ 274 - 275]

4575 -

وَسُئِلَ رحمة الله: عَمَّن لَهُ زَوْجَة لَا تُصَلِّي: هَل يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَهَا بِالصَّلَاةِ؟

فَأَجَابَ: نَعَمْ، عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَهَا بِالصَّلَاةِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ.

بَل يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأمُرَ بِذَلِكَ كُلَّ مَن يَقْدِرُ عَلَى أَمْرِهِ بِهِ إذَا لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ بِذَلِكَ.

وَيَنْبَغِي مَعَ ذَلِكَ الْأَمْرِ أَنْ يَحُضَّهَا عَلَى ذَلِكَ بِالرَّغْبَةِ كَمَا يَحُضُّهَا عَلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا

(2)

، فَإِنْ أَصَرَّتْ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَذَلِكَ وَاجِبٌ فِي "الصَّحِيحِ". [32/ 276 - 277]

4576 -

النُّشُوزُ فِي قَوْله تَعَالَى: {تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] هُوَ أَنْ تَنْشُزَ عَن زَوْجِهَا فَتَنْفِرُ عَنْهُ بِحَيْثُ لَا تُطِيعُهُ إذَا دَعَاهَا لِلْفِرَاشِ، أَو تَخْرُجُ مِن مَنْزِلِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَنَحْو ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ امْتِنَاعٌ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهَا مِن طَاعَتِهِ. [32/ 277]

4577 -

وَسُئِلَ رحمة اللهُ: عَمَّا يَجِبُ عَلَى الزوْجِ إذَا مَنَعَتْهُ مِن نَفْسِهَا إذَا طَلَبَهَا؟ فَأَجَابَ: لَا يَحِلُّ لَهَا النّشُوزُ عَنْهُ، وَلَا تَمْنَعُ نَفْسَهَا مِنْهُ؛ بَل إذَا امْتَنَعَتْ مِنْهُ وَأَصَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَا تَسْتَحِقُّ نَفَقَةً وَلَا قَسْمًا. [32/ 279]

وَكَذَلِكَ إذَا طَلَبَ مِنْهَا أَنْ تُسَافِرَ مَعَهُ فَلَمْ تَفْعَلْ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا كُسْوَةَ.

(1)

رواه الترمذي (1159)، وابن ماجه (1852)، والدارمي (1505)، وأحمد (12614)، وصحَّحه الألباني في صحيح الترمذي.

(2)

وفي جامع المسائل: (عليه)، ولعله أصوب.

ص: 20

فَحَيْثُ كَانَت نَاشِزًا عَاصِيَةً لَهُ فِيمَا يَجِبُ لَهُ عَلَيْهَا مِن طَاعَتِهِ: لَمْ يَجِبْ لَهَا نَفَقَةٌ وَلَا كُسْوَةٌ. [32/ 281]

4578 -

قال ثعلب: العرب تقول: صبرك على أذى من تعرفه خير لك من استحداث من لا تعرفه.

وكان شيخنا يقول هذا المعنى. [المستدرك 4/ 221]

4579 -

تهجر المرأة زوجها في المضجع لحق اللّه؛ بدليل قصة الذين خلفوا في غزوة تبوك.

وينبغي أن تملك النفقة في هذه الحال؛ لأن المنع منه، كما لو امتنع من أداء الصداق. [المستدرك 4/ 221]

4580 -

إذا ادعت الزوجة أو وليها أن الزوخ يظلمها، وكان الحاكم وليها، وخاف ذلك نصب الحاكم مشرفًا.

وقال القاضي: متى ظهر للحاكم أنه يظلمها نصب مشرفًا.

وفيه نظر.

ومسألة نصب المشرف لم يذكرها الخرقي والقدماء، ومقتضى كلامه: إذا وقعت العداوة وخيف الشقاق بعث الحكمان من غير احتياج إلى مشرف. [المستدرك 4/ 221]

4581 -

قال أصحابنا: ويجوز أن يكون الحكمان أجنبيين، ويستحب أن يكونا من أهلهما.

ووجوب كونهما من أهلهما: هو مقتضى قول الخرقي؛ فإنه اشترطه كما اشترط الأمانة، وهذا أصح؛ فإنه نص القرآن، ولأن الأقارب أخبر بالعلل الباطنة، وأقرب إلى الأمانة والنظر في المصلحة.

وأيضًا: فإنه نظر في الجمع والتفريق، وهو أولى من ولاية عقد النكاح،

ص: 21

لا سيما إن جعلناهما حاكمين كما هو الصواب، ونصَّ عليه الإمام أحمد في إحدى الروايتين، وهو قول علي بن أبي طالب وابن عباس وغيرهما، وهو مذهب مالك.

وهل للحكمين -إذا قلنا: هما حاكمان

(1)

لا وكيلان- أن يطلقا ثلاثًا، أو يفسخا كما في المولي؟ قالوا هناك:

(2)

لمَّا قام الوكيل مقام الزوج في الطلاق: مَلَك ما يملكه من واحدة وثلاث فيتوجه هنا كذلك إذا قلنا هما حاكمان.

وإن قلنا وكيلان: لم يملكا إلا ما وكلا فيه.

وأما الفسخ هنا: فلا يتوجه؛ لأن الحكم ليس حاكمًا أصليًّا. [المستدرك 4/ 222]

* * *

(بَاب الْخُلْعِ)

4582 -

الْخُلْغ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ كَارِهَةً لِلزَّوْجِ تُرِيدُ فِرَاقَهُ، فَتُعْطِيهِ الصَّدَاقَ أَو بَعْضَهُ فِدَاءَ نَفْسِهَا، كَمَا يُفْتَدَى الْأَسِيرُ.

وَأَمَّا إذَا كَانَ كُل مِنْهُمَا مُرِيدًا لِصَاحِبِهِ: فَهَذَا الْخُلْعُ مُحْدَثٌ فِي الْإِسْلَامِ. [32/ 282]

4583 -

التحقيق: أنه يصح ممن يصح طلاقه بالملك أو الوكالة أو الولاية كالحاكم في الشقاق.

وكذا لو فعله الحاكم في الإيلاء أو العنة أو الأعسار أو غيرها من المواضع التي يملك الحاكم فيها الفرقة. [المستدرك 4/ 222]

(1)

في الأصل: (حكمان)، والتصويب من الاختيارات (358).

(2)

في الأصل: (أقوال هناك)، والتصويب من الاختيارات (358).

ص: 22

4584 -

يصح الخلع بغير عوض، وتقع به البينونة إما طلاقًا وإما فسخًا على إحدى القولين.

وهذا مذهب مالك المشهور عنه في رواية ابن القاسم، وهو الرواية الأخرى عن الإمام أحمد، اختارها الخرقي.

وهذا القول له مأخذان:

أحدهما: أن الرجعة حق للزوجين، فإذا تراضيا على إسقاطها سقطت.

والثاني: أن ذلك فرقة بعوض؛ لأنها رضيت بترك النفقة والسكن ورضي هو بترك استرجاعها.

وكما أن له أن يجعل العوض إسقاط ما كان ثابتًا لها من الحقوق كالدين: فله أن يجعله إسقاط ما ثبت لها بالطلاق، كما لو خالفها على نفقة الولد.

وهذا قول قوي، وهو أدخل في الفقة

(1)

من غيره. [المستدرك 4/ 223]

4585 -

لا يصح الخلع إلا بعوض في إحدى الروايتين، والأخرى يصح بغير عوض، وجعله الشيخ تقي الدين كعقد البيع حتى في الإقالة، وأنه لا يجوز إن كان فسخا بلا عوض إجماعًا. [المستدرك 4/ 223]

4586 -

اختلف كلام أبي العباس في وجوب الخلع لسوء العشرة بين الزوجين، وإن كانت مبغضة له لِخُلُقِه أو لغير ذلك من صفاته وهو يحبها: فكراهة الخلع في حقّ هذه

(2)

تتوجه. [المستدرك 4/ 224]

4587 -

عبارة الخرقي ومن تابعه أجود من عبارة صاحب المحرر ومن تابعه فإن صاحب المحرر وغيره قال: الخلع لسوء العشرة بين الزوجين جائز،

(1)

في الأصل: (داخل في النفقة)، والتصويب من الاختيارات (362).

(2)

في الأصل: (حقّه)، والتصويب من الاختيارات (359).

ص: 23

فإن قولهم: لسوء العشرة بين الزوجين فيه نظر؛ فإن النشوز قد يكون من الرجل فتحتاج هي أن تقابله. [المستدرك 4/ 224]

4588 -

لو عضلها لتفتدي نفسها منه ولم تكن تزني: حرم

(1)

عليه. قال ابن عقيل: العوض مردود والمرأة بائن.

قال أبو العباس: وله وجه حسن، ووجهه

(2)

قويٌّ إذا قلنا: الخلع يصح بلا عوض؛ فإنه بمنزلة من خالع على مال مغصوب أو خنزير ونحوه، وتخريج الروايتين هنا قوي جدًّا. [المستدرك 4/ 224]

4589 -

للمختلعة مع زوجها أحد عشر حالًا:

الأول: أن تكون كارهة له مبغضة لخَلْقه وخُلُقه أو لغير ذلك من صفاته، وتخشى ألا تقوم حدود الله في حقوقه الواجبة عليها؛ فالخلع في هذه الحال مبال أو مستحب.

الثالثة: كالأولى، ولكن للرجل ميل إليها ومحبة، فهذه أدخلها القاضي في المباح كما تقدم، وقال الشيخ تقي الدين: وكراهة الخلع في حق هذه متوجهة.

السادس: أن يظلمها أو يعضلها لتفتدي فتفدي فأكثر الأصحاب على صحة الخلع، وقال الشيخ تقي الدين: لا يحل له ولا يجوز.

التاسع: أن يضربها ويؤذيها لتركها فرضًا أو لنشوز فتخالعه كذلك.

فقال في "الكافي": يجوز.

قال الشيخ تقي الدين: تعليل القاضي وأبي محمد - يعني: المصنف - يقتضي أنها لو نشزت عليه جاز له أن يضربها لتفتدي نفسها منه، وهذا صحيح. [المستدرك 4/ 224 - 225]

(1)

في الأصل: (حرمت)، والتصويب من الاختيارات (359).

(2)

في الأصل: (ووجه)، والتصويب من الاختيارات (359).

ص: 24

4590 -

خلع الحيلة

(1)

: لا يصح على الأصح، كما لا يصح نكاح المحلل؛ لأنه ليس المقصود به الفرقة، وإنما يقصد به بقاء المرأة مع

(2)

زوجها، كما يقصد بنكاح المحلل أن يطلقها لتعود إلى الأول، والعقد لا يقصد به نقيض

(3)

مقصوده، وإذا لم [يصح]

(4)

لم تَبِنْ به الزوجة. [المستدرك 4/ 225]

4591 -

إذا خالعته على [الإبراء]

(5)

مما يعتقدان وجوبه باجتهاد أو تقليد؛ مثل أن يخالعها على قيمة كلب أتلفته

(6)

، معتقدين وجوب القيمة: فينبغي أن يصح.

ولو تزوجها على قيمة كلب له في ذمتها فينبغي أن [لا]

(7)

تصح التسمية؛ لأن وجوب هذا نوع غرر، والخلع يصح على الغرر، بخلاف الصداق. [المستدرك 4/ 226]

4592 -

إِنْ كَانَ أُكْرِهَ [أي: الزوج] بِالضَّرْبِ أَو الْحَبْسِ وَهُوَ مُحْسِنٌ لِعِشْرَتِهَا [أي: عشرة زوجته] حَتَّى فَارَقَهَا: لَمْ تَقَع الْفُرْقَةُ؛ بَل إذَا أَبْغَضَتْهُ وَهُوَ مُحْسِن إلَيْهَا فَإِنَّه يُطْلَبُ مِنْهُ الْفرْقَةُ مِن غَيْرِ أَنْ يُلْزَمَ بِذَلِكَ، فَإِنْ فَعَلَ وَإِلَّا أُمِرَت الْمَرْأَةُ بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُن مَا يُبِيحُ الْفَسْخَ. [32/ 283]

4593 -

لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْضُلَ الْمَرْأَةَ: بِأَنْ يَمْنَعَهَا وَيُضَيِّقَ عَلَيْهَا حَتَّى تُعْطِيَهُ بَعْضَ الصَّدَاقِ وَلَا أَنْ يَضْرِبَهَا لأجْلِ ذَلِكَ؛ لَكِنْ إذَا أَتَتْ بِفَاحِشَةٍ مُبَيّنَةٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَعْضُلَهَا لِتَفْتَدِي مِنْهُ؛ وَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا. هَذَا فِيمَا بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ اللهِ. [32/ 283 - 284]

(1)

في الأصل: (الحبلى)، والتصويب من الاختيارات (359).

(2)

في الأصل: (تبع)، والتصويب من الاختيارات (359).

(3)

في الأصل: (نقض)، والتصويب من الاختيارات (359).

(4)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (359).

(5)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (363)، وفي الأصل:(ما يعتقدان).

(6)

قال ابن عثيمين في حاشية الاختيارات (363)، لعله:(أتلفه).

(7)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (363).

ص: 25

4594 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللّهُ تَعَالَى-: عَن امْرَأَةٍ أبْرَأَتْ زَوْجَهَا مِن جَمِيعِ صَدَاقِهَا

(1)

، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَشْهَدَ الزَّوْجُ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الْمَذْكُورَةَ عَلَى الْبَرَاءَةِ؟

فَأَجَابَ: إنْ كَانَا قَد تَوَاطَآ عَلَى أَنْ تَهَبَهُ الصَّدَاقَ وَتُبْرِيهِ عَلَى أَنْ يُطَلّقَهَا فَأَبْرَأَتْهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا: كَانَ ذَلِكَ طَلَاقًا بَائِنًا

(2)

.

وَكَذَلِكَ لَو قَالَ لَهَا: أَبْرِئِينِي وَأَنَا أُطَلِّقُك، أَوْ: إنْ أبرأتيني طَلَّقْتُك، وَنَحْو ذَلِكَ مِن عِبَارَاتِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ الَّتِي يُفْهَمُ مِنْهَا أَنَّهُ سَالَ الْإِبْرَاءَ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا.

وَأَمَّا إنْ كَانَت أَبْرَأَتْهُ بَرَاءَةً لَا تَتَعَلَّقُ بِالطَّلَاقِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ: فَالطَّلَاقُ رَجْعِيٌّ، وَلَكِنْ هَل لَهَا أَنْ تَرْجِعَ فِي الْإِبْرَاءِ إذَا كَانَ يُمْكِنُ؛ لِكَوْنِ مِثْل هَذَا الْإِبْرَاءِ لَا يَصْدُرُ فِي الْعَادَةِ إلَّا لِأَنْ يُمْسِكَهَا، أَو خَوْفًا مِن أَنْ يُطَلِّقَهَا أَو يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا أَو نَحْو ذَلِكَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَن أَحْمَد.

وَأَمَّا إذَا كَانَت قَد طَابَتْ نَفْسُهَا بِالْإِبْرَاءِ مُطْلَقًا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءً مِنْهَا، لَا بِسَبَب مِنْهُ وَلَا عِوَضٍ: فَهُنَا لَا تَرْجِعُ فِيهِ بِلَا ريبٍ. [32/ 286]

4595 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَن رَجُلٍ. قَالَ لِلزَّوْجِ: إنْ أَبْرَأَتْك امْرَأَتُك تُطَلِّقُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأتَى بِهَا فَقَالَ لَهَا الزَّوْجُ: إنْ أبرأتيني مِن كتَابِك وَمِن الْحُجَّةِ الَّتِي لَك عَلَيَّ فَأَنْتِ طَالِقٌ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، وَانْفَصَلَا، وَطَلَعَ الزَّوْجُ إلَى بَيْتِ جِيرَانِهِ فَقَالَ: هِيَ طَالِق ثَلَاثًا؟

فَأَجَابَ: إذَا كَانَ إبْرَاؤُهَا عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ لَيْسَ مُطْلَقًا؛ بَل

(1)

أي: صداقها المؤخر، وكان تأخير الصداق شائعًا في الماضي، فهذه المرأة أبرأت زوجها من الصداق المؤخر؛ أي: تنازلت عنه.

(2)

لأنه في حقيقته خلع، ولو لم يُسموا ذلك خلعًا، فالعبرة بالحقيقة لا بالصورة. ولو طلقها بعد ذلك فلا عبرة به؛ لأنه ليس زوجًا لها.

ص: 26

بِشَرْطِ أَنْ يُطَلِّقَهَا: بَانَتْ مِنْهُ، وَلَمْ يَقَعْ بِهَا بَعْدَ هَذَا طَلَاقٌ، وَالشَّرْطُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى الْعَقْدِ كَالشَّرْطِ الْمُقَارنِ، وَالشَّرْطُ الْعُرْفِىُّ كَاللَّفْظِىِّ. [32/ 287]

4596 -

إِنَّ اللَّفْظَ إذَا كَانَ صَرِيحًا فِي بَابٍ وَوُجِدَ مُعَادًا فِيهِ: لَمْ يَكُن كِنَايَةً فِي غَيْرِهِ؛ وَلهَذَا لَو نَوَى بِلَفْظِ الظِّهَارِ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعَلَى هَذَا دَلَّ الْكِتَابُ وَالسنَّةُ.

وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَحْمَدَ: لَو نَوَى بِلَفْظِ الْحَرَامِ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ؛ لِأَنَهُ صَرِيحٌ فِي الظِّهَارِ، لا سيما عَلَى أَصْلِ أَحْمَدَ.

وَأَلْفَاظُ الْخُلْعِ وَالْفَسْخِ وَالْفِدْيَةِ مَعَ الْعِوَضِ صَرِيحَةٌ فِي الْخُلْعِ

(1)

، فَلَا يَكُونُ كِنَايَةً فِي الطَّلَاقِ، فَلَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ بِحَال. [32/ 295]

4597 -

لَمْ يَتَنَازَعْ الْعُلَمَاءُ [في]

(2)

أَنَّ لَفْظَ الْخُلْع بِلَا عِوَضٍ وَلَا سُؤَالٍ: لَا يَكُونُ فَسْخًا، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِيمَا إذَا طَلَبَت الْمَرْأَةُ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلْقَةً بَائِنَةً بِلَا عِوَضٍ: هَل تَمْلِكُ ذَلِكَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. [32/ 303]

4598 -

إِذَا وَصَلَ لَفْظَ الطَّلَاق بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ بِأَلْف، فَقَالَتْ: قَبِلْت، أَو قَالَتْ: طَلِّقْنِي بِأَلْف، فَقَالَ: طَلَّقْتُك: كَانَ هَذَا طَلَاقًا مُقَيَّدًا بِالْعِوَضِ، وَلَمْ يَكُن هُوَ الطَّلَاقَ الْمُطْلَقَ فِي كِتَاب اللهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ جَعَلَهُ اللهُ رَجْعِيًّا، وَجَعَلَ فِيهِ تَرَبُّصَ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، وَجَعَلَهُ ثَلَاثًا، فأثْبَت لَهُ ثَلَاثَةَ أَحْكَامٍ.

وَهَذَا لَيْسَ بِرَجْعِيٍّ بِدَلَالَةِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَلَا تَتَرَبَّصُ فِيهِ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةَ فرُوءٍ بِالسُّنَّةِ، فَلِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ لَا يُجْعَلَ مِن الثَّلَاثِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا لَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الطَّلَاقِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ مَعَ قَيْدٍ، كَمَا يُسَمَّى الْحَلِفُ بِالنَّذْرِ: نَذْر اللَّجَاج وَالْغَضَبِ، فَيُسَمَّى نَذْرًا مُقَيَّدًا، لِأَنَّ لَفْظَهُ لَفْظُ النَّذْرِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مِن الْأَيْمَانِ لَا مِن النُّذُورِ عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ السَّلَفِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا.

(1)

أما بدون العوض فهي كناية كما تقدم.

(2)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، ولعل وجودها أنسب.

ص: 27

وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْمَاءِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَا يَتَنَاوَلُ الْمَنِيَّ، وَإِن كَانَ يُسَمَّى مَاءً مَعَ التَّقْيِيدِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6)} [الطارق: 6]. [32/ 305]

4599 -

فِي حَدِيثِ فَيْرُوزَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "طَلِّقْ أيَّتَهمَا شِئْت"

(1)

لَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ: الطَّلَاق الْمَعْدُود عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا؛ بَل الْمُرَادُ مِنْهُ: فِرَاقًا لَيْسَ مِن الطَّلَاقِ الْمَعْدُودِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا بِنَصِّ الطَلَاقِ الْمَعْدُودِ؛ بَل يُفَارِقُهَا عِنْدَهُم بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ.

وَالْخلْعُ مِن هَذَا الْبَابِ، فَقَد رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ"

(2)

عَن ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَت النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعِيبُ عَلَيْهِ في

(3)

خلُقٍ وَلَا دِينٍ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أترُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ " قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم:"اقْبَل الْحَدِيقَةَ وَطلِّقْهَا تَطْلِيقَة".

وَقَد ثَبَتَ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَغَيْرِهِمَا: أَنَّهُم لَمْ يَكُونُوا يَجْعَلُونَ الْخُلْعَ مِن الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ. [32/ 318 - 322]

4600 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللّهُ تَعَالَى-: عَن رَجُلٍ لَهُ امْرَأَةٌ كَسَاهَا كُسْوَة مُثَمَّنَةً. خَارِجًا عَن كسْوَةِ الْقِيمَةِ، وَطَلَبَتْ مِنْهُ الْمُخَالَعَةَ وَعَلَيْهِ مَالٌ كَثِيرٌ مُسْتَحَقٌّ لَهَا عَلَيْهِ، وَطَلَبَ حِلْيَةً مِنْهَا لِيَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى حَقِّهَا أَو عَلَى غَيْرِ حَقِّهَا فَأَنْكَرَتْهُ، وَيَعْلَمُ أَنَّهَا تَحْلِفُ وَتَأخُذُ الَّذِي ذَكَرَهُ عِنْدَهَا وَالثَّمَنُ يَلْزَمُهُ، وَلَمْ يَكُن لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَيْهَا؟

فَأَجَابَ: إنْ كَانَ قَد أَعْطَاهَا ذَلِكَ الزَّائِدَ عَن الْوَاجِبِ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ لَهَا فَقَد مَلَكَتْهُ، وَلَيْسَ لَهُ إذَا طَلَّقَهَا هُوَ ابْتِدَاءً أَنْ يُطَالِبَهَا بِذَلِكَ، لَكِنْ إنْ كَانَت

(1)

رواه أبو داود (2243)، وابن ماجة (1951)، وأحمد (18040)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.

(2)

(5273).

(3)

في الأصل: (من)، والتصويب من صحيح البخاري.

ص: 28

[هي]

(1)

الْكَارِهَةَ لِصُحْبَتِهِ وَأَرَادَت الاِخْتِلَاع مِنْهُ: فَلْتُعْطِهِ مَا أَعْطَاهَا مِن ذَلِكَ وَمِن الصَّدَاقِ الَّذِي سَاقَهُ إلَيْهَا وَالْبَاقِي فِي ذِمَّتِهِ؛ لِيَخْلَعَهَا كَمَا مَضَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ حَيْثُ أَمَرَهَا بِرَدِّ مَا أَعْطَاهَا.

وَإِن كَانَ قَد أَعْطَاهَا لِتَتَجَمَّلَ بِهِ كَمَا يُرْكِبُهَا دَابَّتَهُ وَيُحْذِيهَا غُلَامَة وَنَحْو ذَلِكَ، لَا عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ لِلْعَيْنِ: فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ مَتَى شَاءَ، سَوَاءٌ طَفَقَهَا أَو لَمْ يُطَلِّقْهَا.

وَإِن تَنَازَعَا هَل أَعْطَاهَا عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ أَو عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ، وَلَمْ يَكُن هُنَاكَ عُرْفٌ يَقْضِي بِهِ: فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ لَمْ يُمَلِّكْهَا ذَلِكَ.

وَإِن تَنَازَعَا هَل أَعْطَاهَا شَيْئًا أَو لَمْ يُعْطِهَا وَلَمْ يَكُن حُجَّة يَقْضِي لَهُ بِهَا، لَا شَاهِدٌ وَاحِدٌ وَلَا إقْرَار وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ: فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا أَنَّهُ لَمْ يُعْطِهَا. [32/ 356 - 357]

4601 -

مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِىِّ وَأَحْمَد فِي الْمَنْصُوصِ الْمَعْرُوفِ عَنْهُمْ: أَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَب أَنْ يُخَالِعَ عَلَى شَيء مِن مَالِ ابْنَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَت مَحْجُورًا عَلَيْهَا أَو لَمْ يكُنْ؛ لِأَنًّ ذَلِكَ تبَرُّعٌ بِمَالِهَا فَلَا يَمْلِكُهُ، كَمَا لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ سَائِرِ دُيُونِهَا.

وَمَذْهَبُ مَالِكٍ: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُخَالِعَ عَن ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ بِكْرًا كانت أَو ثَيِّبًا؛ لِكَوْنِهِ يَلِي مَالَهَا، وَرُوِيَ عَنْهُ: أَنَّ لَهُ أَنْ يُخَالِعَ عَن ابْنَتِهِ الْبِكْرِ مُطْلَقًا؛ لِكَوْنِهِ يُجْبِرُهَا عَلَى النِّكَاحِ. [32/ 358]

* * *

‌(هل الخلع فسخ للنكاح، أم هو من الطلقات الثلاث

؟)

4602 -

ذَهَبَ كَثِيرٌ مِن السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ لِلنِّكَاحِ، وَلَيْسَ هُوَ مِن الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ؛ كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمَا؛

(1)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل ولعل إضافته أنسب.

ص: 29

لِأَنَّ الْمَرْأَةَ افْتَدَتْ نَفْسَهَا مِن الزَّوْجِ كَافْتِدَاءِ الْأَسِيرِ، وَلَيْسَ هُوَ مِن الطَّلَاقِ الْمَكْرُوهِ فِي الْأَصْلِ، وَلهَذَا يُبَاحُ فِي الْحَيْضِ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ.

وَأمَّا إذَا عَدَلَ هُوَ عَن الْخُلْعِ وَطَلَّقَهَا إحْدَى الثَّلَاتِ بِعِوَض فَالتَّفْرِيطُ مِنْهُ.

[وَإِذْا]

(1)

كَانَ الْخُلْعُ رَفْعًا لِلنِّكَاحِ، وَلَيْسَ هُوَ مِن الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ: فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الْمَبْذُولُ مِن الْمَرْأَةِ أَو مِن أَجْنَبِيٍّ. [32/ 91 - 92]

4603 -

ظاهِرُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ: أَنَّهُ [أي: الخلع] فُرْقَةٌ بَائِنَةٌ وَفَسْخٌ لِلنِّكَاحِ، وَلَيْسَ مِن الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ.

فَلَو خَلَعَهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِعَقْد جَدِيدٍ قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَي الشَّافِعِيِّ. وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ؛ كَإِسْحَاقِ بْنِ رَاهَوَيْه وَأَبِي ثَوْرٍ ودَاوُد وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَابْنِ خُزَيْمَة، وَهُوَ ثَابِتٌ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ؛ كطاوس وَعِكْرِمَةَ.

والْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ طَلَاقٌ بَائِنٌ مَحْسُوبٌ مِن الثَّلَاثِ، وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِن السَّلَفِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ. وَيُنْقَلُ ذَلِكَ عَن عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِىٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ، لَكِنْ ضَعَّفَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِن أَئِمَّةِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ؛ كَابْنِ الْمُنْذِرِ وَابْنِ خُزَيْمَة وَالْبَيْهَقِي وَغَيْرِهِمْ النَّقْلَ عَن هَؤُلَاءِ، وَلَمْ يُصَحّحُوا إلَّا قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ إنَهُ فَسْخٌ وَلَيْسَ بِطَلَاق.

وَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 229، 230] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَد ذَكَرَ اللّهُ تَعَالَى الْفِدْيَةَ

(1)

في الأصل: (وإذ)؛ ولعل المثبت هو الأقرب للصواب.

ص: 30

بَعْدَ الطَّلَاقِ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} ، وَهَذَا يَدْخُلُ فِي الْفِدْيَةِ خُصُوصًا وَغَيْرِهَا عُمُومًا، فَلَو كَانَت الْفِدْيَةُ طَلَاقًا لَكَانَ الطَّلَاقُ أَرْبَعًا، وَأَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ هُوَ وَمَن تَقَدَّمَ اتبعُوا ابْنَ عَبَّاسٍ.

وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِن أَهْلِ الْعِلْمِ بِالنَّقْلِ صَحَّحَ مَا نُقِلَ عَن الصَّحَابَةِ مِن أَنَّهُ طَلَاقٌ بَائِنٌ مَحْسُوبٌ مِن الثَّلَاثِ.

وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي الْمُخْتَلعَةِ: هَل عَلَيْهَا عِدَّةُ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ؛ أَو تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَة؛ عَلَى قَوْلَيْنِ: هُمَا رِوَايَتَانِ عَن أَحْمَدَ:

إحْدَاهُمَا: تُسْتَبْرأ بِحَيْضَة، وَهَذَا قَوْلُ عُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ فِي آخِرِ رِوَايَتَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِن السَّلَفِ، وَمَذْهَبُ إسْحَاقَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمَا، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي السُّنَنِ مِن وُجُوهٍ حَسَنَةٍ.

قَالُوا: وَلَو كَانَ الْخُلْعُ طَلَاقًا لَمَا جَازَ فِي الْحَيْضِ؛ فَإِنَّ اللّهَ حَرَّمَ طَلَاقَ الْحَائِضِ، وَقَد سَلَّمَ لَنَا الْمُنَازِعُونَ أَو أَكْثَرُهُم أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْحَيْضِ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَة إلَيْهِ فِي الْحَيْضِ.

ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ: هَل مِن شَرْطِ كَوْنِهِ فَسْخًا أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ وَنيَّتِهِ؛ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ وَنيَّتِهِ، فَمَن خَالَعَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ أَو نَوَاهُ فَهُوَ مِن الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ.

وَالثَّانِى: أَنَّهُ إذَا كَانَ بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ كَلَفْظِ الْخُلْعِ وَالْمُفَادَاةِ وَالْفَسْخِ فَهُوَ فَسْخٌ، سَوَاءٌ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ أَو لَمْ يَنْوِ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ فَسْخ بِأَيِّ لَفْظٍ وَقَعَ، وَلَيْسَ مِن الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ.

وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ لَمْ يَشْتَرِطُوا لَفْظًا مُعَيَّنًا وَلَا عَدَمَ نِيَّةِ الطَّلَاقِ، وَهَذَا هُوَ الْمَنْقُولُ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ، وَفوَ الْمَنْقُولُ عَن أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَقُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ.

ص: 31

فَتَبَيَّنَ أَنَّ الاِعْتِبَارَ عِنْدَهُم بِبَذْلِ الْمَرْأَةِ الْعِوَضَ وَطَلَبِهَا الْفُرْقَةَ.

وَأَهْلُ الْيَمَنِ إلَى الْيَوْمِ تَقُولُ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا: طَلّقْنِي، فَيَقُولُ لَهَا: اُبْذُلِي لِي، فَتَبْذُلُ لَهُ الصَّدَاقَ أَو غَيْرَهُ فَيُطَلّقُهَا، فَهَذَا عَامَّةُ طَلَاقِهِمْ.

وَقَد أَفْتَاهُم ابْنُ عَبَّاسٍ بِأَنَّ هَذَا فِدْيَةٌ وَفِرَان وَلَيْسَ بِطَلَاق، وَرَدَّ امْرَأَة عَلَى زَوْجِهَا بَعْدَ طَلْقَتَيْنِ وَفِدَاءٍ مَرَّةً، فَهَذَا نَقْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفُتْيَاهُ وَاسْتِدْلَالُة بِالْقُرْآنِ بِمَا يُوَافِقُ هَذَا الْقَوْلَ.

وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ مُقْتَضَى نُصُوصِ أَحْمَد وَأصُوله: فَهُوَ مُقْتَضَى أُصُولِ الشَّرْعِ وَنُصُوصِ الشَّارعِ؛ فَإِنَّ الاِعْتِبَارَ فِي الْعُقُودِ بِمَقَاصِدِهَا وَمَعَانِيهَا، لَا بِأَلْفَاظِهَا، فَإِذَا كَانَ الْمَقْصُود بِاللَّفْظَيْنِ وَاحِدًا لَمْ يَجُز اخْتِلَافُ حُكْمِهِمَا.

وَأَيْضًا: فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَجْعَل الشَّارعُ لَهُ لَفْطا مُعَيَّنًا؛ بَل إذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ بِأَيِّ لَفْظٍ يَحْتَمِلُهُ وَقَعَ عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ وَعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ

(1)

، لَمْ يُنَارعْ فِي ذَلِكَ إلَّا بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الشِّيعَةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ، وَلَا يُعْرَفُ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ عَن السَّلَفِ.

فَإِذَا قَالَ: فَارَقْتُك، أَو: سَرَّحْتُك، أَوْ: سَيَّبْتك، وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ: وَقَعَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْكِنَايَاتِ، فَإِذَا أَتَى بِهَذِهِ الْكِنَايَاتِ مَعَ الْعِوَضِ؛ مِثْل أَنْ تَقُولَ لَهُ: سَرّحْنِي، أَو: سَيِّبْنِي بِألْف، أَو: فَارِقْنِي بِأَلْف، أَو: خَلِّنِي بِأَلْفِ، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ أَنْ تَقُولَ: فادني بِأَلْف، أَو: اخْلَعْنِي بِألْف، أَو: افْسَخْ نِكَاحِي بِألْف؟!

وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَلْفَاظِ الْكِنَايَاتِ.

مَعَ أنَّ لَفْظَ الْخُلْعِ وَالْفَسْخِ إذَا كَانَ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَنَوَى بِهِمَا الطَّلَاقَ: وَقَعَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، فَهُمَا مِن أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ فِي الطَّلَاقِ، فَأيُّ فَرْقٍ فِي أَلْفَاظِ الْكِنَايَاتِ بَيْنَ لَفْظٍ وَلَفْظٍ؟!.

(1)

أما إذا كَانَ اللَّفْظ صَرِيحًا فِي بَابٍ: لَمْ يَكُن كِنَايَةً فِي غَيْرِهِ؛ كما لَو نَوَى بِلَفْظِ الظَّهَارِ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ.

ص: 32

وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِن أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ تَبِينُ بِهِ الْمَرْأَةُ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ: هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ تَدُلُّ النُّصُوصُ وَالْأُصُولُ.

وَعَلَى هَذَا: فَإِذَا فَارَقَ الْمَرْأَةَ بِالْعِوَضِ عِدَّةَ مَرَّاتٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، سَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ أَو غَيْرِهِ.

وَإِذَا قِيلَ: الطَّلَاقُ صَرِيحٌ فِي إحْدَى الثَّلَاثِ فَلَا يَكُونُ كِنَايَةً فِي الْخُلْعِ.

قِيلَ: إنَّمَا الصَّرِيحُ اللَّفْظُ الْمُطْلَقُ، فَأمَّا الْمُقَيَّدُ بِقَيْدِ يُخْرِجُهُ عَن ذَلِكَ: فَهُوَ صَرِيحٌ فِي حُكْمِ الْمُقَيَّدِ، كَمَا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِق مِن وَثَاقٍ، أَو مِن الْهُمُومِ وَالْأحْزَانِ؛ فَإِنَّ هَذَا صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ، لَا فِي الطَّلَاقِ مِن النَّكَاحِ.

وَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِق بِأَلْف، فَقَالَتْ: قَبِلْت، فَهُوَ مُقَيَّدٌ بِالْعِوَضِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْخُلْعِ، لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِن الثَّلَاثِ أَلْبَتَّةَ، فَإِذَا نَوَى أَنْ يَكونَ مِن الثلَاثِ فَقَد نَوَى بِاللَّفْظِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ، كَمَا لَو نَوَى بِالْخلْعِ أَنْ تُحَرَّمَ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، فَنيَّتهُ هَذَا الْحُكْمَ بَاطِلٌ.

كَذَلِكَ نِيّتهُ أَنْ يَكُونَ مِن الثَّلَاثِ بَاطِلٌ.

وَكَذَلِكَ لَو نَوَى بِالظِّهَارِ الطَّلَاقَ، أَو نَوَى بِالْإِيلَاءِ الطَّلَاقَ مُؤَجَّلًا، مَعَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَعُدُّونَ الظِّهَارَ طَلَاقًا وَالْإِيلَاءَ طَلَاقًا، فَأَبْطَلَ اللّهُ وَرَسُولُهُ ذَلِكَ، وَحَكَمَ فِي الْإِيلَاءِ بِأَنْ يُمْسِكَ بِمَعْرُوف أَو يُسَرِّحَ بِإِحْسَان مَعَ تَرَبُّصِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ.

وَحَكَمَ فِي الظِّهَارِ بِأَنَّهُ إذَا عَادَ كَمَا قَالَ: كَفَّرَ قَبْلَ الْمُمَاسَّةِ وَلَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ. [32/ 289 - 309]

وَهَذَا الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَآثَارُ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ -كَعُثْمَان وَغَيْرِهِ- مِن أَنَّ عِدَّةَ الْمُخْتَلَعَة حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ: يَزُولُ بِهِ الْإِشْكَالُ فِي مَسْأَلَةِ تَدَاخُلِ الْعِدَّتَيْنِ؛ كَمَا إذَا تَزَوَّجَت الْمَرْأَةُ فِي عِدَّتِهَا بِمَن أَصَابَهَا

(1)

؛ فَإنَّ الْمَأثُورَ عَن

(1)

بنكاح أو زنى.

ص: 33

الصَّحَابَةِ كَعُمَر وَعَلِيٍّ: أَنَّهَا تُكْمِلُ عِدَّةَ الْأوَّلِ ثُمَّ تَعْتَدُّ مِن وَطْءِ الثَّانِي، فَعَلَيْهَا تَمَامُ عِدَّةِ الْأَوَّلِ وَعِدَّةٌ لِلثَّانِي، وَبِهِ أَخَذَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاء؛ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد.

وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَعِنْدَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا إلَّا عِدَّةٌ وَاحِدَةٌ مِن الثَّانِي، وَتَدْخلُ فِيهَا بَقِيَّةُ عِدَّةِ الْأَوَّلِ.

وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَقَالُوا: الْعِدَّةُ فِيهَا حَقَّ لِآدَمِيٍّ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب: 49]

قَالُوا: فَقَد نَفَى اللّهُ أَنْ يَكونَ لِلرّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ عِدَّةٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَيْسَ هُنَا عِدَّة لِغَيْرِ الرِّجَالِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْعِدَّةَ فِيهَا حَقٌّ لِلرِّجَالِ حَيْثُ وَجَبَتْ؛ إذ لَو لَمْ يَكُن كَذَلِكَ لَمْ يَكُن فِي نَفْيِ أَنْ يَكُونَ لِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَ عِدَّة مَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ للّهِ عِدَّةٌ، فَلَو كَانَت الْعِدَّةُ حَقّا مَحْضًا للّهِ لَمْ يَقُلْ:{فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} إذ لَا عِدَّةَ لَهُم لَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَا غَيْرِهِ

وَلَو كَانَت الْعِدَّةُ نَوْعَيْنِ نَوْعًا للهِ وَنَوْعًا فِيهِ حَقٌّ لِلْأَزْوَاجِ: لَمْ يَكُن فِي نَفْيِ عِدَّةِ الْأَزْوَاجِ مَا يَنْفِي الْعِدَّةَ الْأُخْرَى.

فَدَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ حَيْثُ وَجَبَتْ فَفِيهَا حَقٌّ لِلْأَزْوَاجِ، وَحِينَئِذٍ فَإِذَا كَانَت الْعِدَّةُ فِيهَا حَقّ لِرَجُلَيْنِ لَمْ يَدْخُلْ حَقُّ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ؛ فَإِنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ لَا تَتَدَاخَلُ، كَمَا لَو كَانَ لِرَجُلَيْنِ دَيْنَانِ عَلَى وَاحِدٍ، أَو كَانَ لَهُمَا عِنْدَهُ أَمَانَةٌ أَو غَصْبٌ؛ فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ كُلَّ ذِي حَقّ حَقَّهُ. [32/ 344 - 346]

* * *

(متى يُشرع الاِسْتِبْرَاء)

4604 -

الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ النَّصُّ أَنَّ الاِسْتِبْرَاءَ مَشْرُوعٌ حَيْثُ أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِالاِسْتِبْرَاءِ الْحَامِلَ وَالْحَائِضَ مِن الْمَسْبِيَّاتِ اللَّاتِي لَا تُعْلَمُ حَالُهُنَّ، فَأَمَّا مَعَ الْعِلْمِ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ فَلَا مَعْنَى لِلِاسْتِبْرَاءِ.

ص: 34

وَالْقُرْآنُ لَيْسَ فِيهِ إيجَابُ الْعِدَّةِ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ إلَّا عَلَى الْمُطَلَّقَاتِ، لَا عَلَى مَن فَارَقَهَا زَوْجُهَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ، وَلَا عَلَى مَن وُطِئَتْ بِشُبْهَة، وَلَا عَلَى الْمَزْنِيِّ بِهَا.

فَإِذَا مَضَت السُّنَّةُ بِأَنَّ الْمُخْتَلعَةَ إنَّمَا عَلَيْهَا الاِعْتِدَادُ بِحَيْضَة، الَّذِي هُوَ اسْتِبْرَاءٌ، فَالْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَة، وَالْمَزْنِيُّ بِهَا: أَوْلَى بِذَلِكَ كَمَا هُوَ أَحَدُ الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمَد فِي الْمُخْتَلعَةِ؛ وَفي الْمَزْنِيِّ بِهَا، وَالْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَةِ دُونَ الْمَزْنِيِّ بِهَا؛ وَدُونَ الْمُخْتَلَعَة. فَبِأَيِّهِمَا أُلْحِقَتْ لَمْ يَكن عَلَيْهَا إلَّا الاِعْتِدَادُ بِحَيْضَةِ كَمَا هُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ. [32/ 340]

* * *

‌(هل الْمُطَلَّقَة ثَلَاثًا عَلَيْهَا الاِسْتِبْرَاءُ أو الاِعْتِدَادُ بِثَلَاثِ حِيَضٍ

؟)

4605 -

ثَبَتَ عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ أَمَرَ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ لَمَّا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ أَنْ تَعْتَدَّ، وأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، ثُمَّ أَمَرَهَا بِالاِنْتِقَالِ إلَى بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ.

وَالْحَدِيثُ وَإِنْ لَمْ يَكُن فِي لَفْظِهِ أَنْ تَعْتَدَّ ثَلَاثَ حِيَضٍ فَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ مَن بَلَغَنَا قَوْلُهُ مِن الْعُلَمَاءِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا إجْمَاعًا فَهُوَ الْحَقُّ، وَالْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ.

وَإِن كَانَ مِن الْعُلَمَاءِ مَن قَالَ: إنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا إنَّمَا عَلَيْهَا [إلَّا]

(1)

الاِسْتِبْرَاءُ لَا الاِعْتِدَادُ بِثَلَاثِ حِيَضٍ: فَهَذَا لَهُ وَجْةٌ قَوِيٌّ، بِأَنْ يَكُونَ طُول الْعِدَّةِ فِي مُقَابَلَةِ اسْتِحْقَاقِ الرَّجْعَةِ، وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي كَوْنِهَا جُعِلَتْ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ.

فَمَن لَا رَجْعَةَ عَلَيْهَا: لَا تَتَرَبَّصُ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ، وَلَيْسَ فِي ظَاهِرِ الْقُرْآنِ إلَّا مَا يُوَافِقُ هَذَا الْقَوْلَ لَا يُخَالِفُهُ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ فِي ظَاهِرِهِ إلَّا مَا يُوَافِقُ الْقَوْلَ الْمَعْرُوفَ لَا يُخَالِفُهُ.

(1)

لعل الصواب حذف أداة الاستثناء، ومن غير المعروف دخولها على أداة الحصر (إنما). واللّه أعلم.

ص: 35

فَأَيُّ الْقَوْلَيْنِ قَضَت السُّنَّةُ كَانَ حَقًّا مُوَافِقًا لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ. وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ هُوَ الْأوَّلُ، بِخِلَافِ الْمُخْتَلعَةِ.

وَالْمَعَانِي الْمُفَرِّقَةُ بَيْنَ الاِعْتِدَادِ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ وَالاِسْتِبْرَاءِ: إنْ عَلِمْنَاهَا وَإِلَّا فَيَكْفِينَا اتِّبَاعُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ الظاهِرَةُ الْمَعْرُوفَةُ. [32/ 341 - 342]

* * *

(متى عَقَدَ القاضي عَقْدًا أَو فَسَخَ فَسْخًا جَازَ فِيهِ الاِجْتِهَادُ: لَمْ يَكن لِغَيْرِهِ نَقْضُهُ)

4606 -

إذَا خَالَعَهَا عَلَى أَنْ تُبْرِئَهُ مِن حُقُوقِهَا وَتَأْخُذَ الْوَلَدَ بِكَفَالَتِهِ وَلَا تُطَالِبَهُ بِنَفقَةٍ: صَحَّ ذَلِكَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ؛ كَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ مِن مَذْهَبِهِ وَغَيْرِهِمَا؛ فَإِنَّهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ يَصِحُّ الْخُلْعُ بِالْمَعْدُومِ الَّذِي يُنْتَظَرُ وُجُودُهُ، كَمَا تَحْمِلُ أَمَتُهَا وَشَجَرُهَا.

وَأَمَّا نَفَقَةُ حَمْلِهَا وَرِضَاعُ وَلَدِهَا وَنَفَقَتُهُ: فَقَد انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُودِهِ وَجَوَازِهِ.

وَكَذَلِكَ إذَا قَالَتْ لَهُ: طَلِّقْنِي وَأَنَا أَبْرَأتُك مِن حُقُوقِي وَأَنَا آخُذُ الْوَلَدَ بِكَفَالَتِهِ، وَأَنَا أَبْرَأتُك مِن نَفَقَتِهِ وَنَحْو ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ.

وإِذَا خَالَعَ بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ مَن يَرَى صِحَّةَ مِثْل هَذَا الْخُلْعِ -كَالْحَاكِمِ الْمَالِكِىِّ-: لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ أنْ يَنْقُضَهُ وَإِن رَآهُ فَاسِدًا، وَلَا يَجُوزَ لَهُ أَنْ يَفْرِضَ لَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ هَذَا نَفَقَةً لِلْوَلَدِ؛ فَإِنْ فَعَلَ الْحَاكِمُ الْأَوَّلُ كَذَلِكَ حَكَمَ فِي أَصَحِّ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ.

وَالْحَاكِمُ متى عَقَدَ عَقْدًا سَاغَ فِيهِ الاِجْتِهَادُ، أَو فَسَخَ فَسْخًا جَازَ فِيهِ الاِجْتِهَادُ: لَمْ يَكُن لِغَيْرِهِ نَقْضُهُ. [32/ 353 - 354]

* * *

(حكم اشْتِرَاطِ الزِّيَادَةِ عَلَى مُطْلَقِ الْعَقْدِ وَاشْتِرَاطِ النَّقْصِ)

4607 -

إِنَّ الْعَقْدَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي مِلْكَ الاِسْتِمْتَاعِ الْمُطْلَقِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعُرْفُ حَيْثُ شَاءَ وَمَتَى شَاءَ، فَيَنْقُلُهَا إلَى حَيْثُ شَاءَ إذَا لَمْ يَكُن فِيهِ ضَرَرٌ، إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ مِن الاِسْتِمْتَاعِ الْمُحَرَّمِ، أَو كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ؛ فَإِنَّ الْعُرْفَ لَا يَقْتَضِيهِ،

ص: 36

وَيَقْتَضِي مِلْكًا لِلْمَهْرِ الَّذِي هُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَمِلكَهَا لِلِاسْتِمْتَاعِ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِنَّهُ لَو كَانَ مَجْبُوبًا أَو عِنِّينًا ثَبَتَ لَهَا الْفَسْخُ عِنْدَ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ الْمَشَاهِيرِ.

وَلَو آلَى مِنْهَا: ثَبَتَ لَهَا فِرَاقُهُ إذَا لَمْ يَفِئْ بِالْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ.

وَإِن كَانَ مِن الْفُقَهَاءِ مَن لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْوَطْءَ وَقَسمَ الاِبْتِدَاء؛ بَل يَكْتَفِي بِالْبَاعِثِ الطَّبِيعِيِّ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٍ عَن أَحْمَد؛ فَإِنَّ الصَّحِيحَ مِن وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَطْءُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَآثَارُ الصَّحَابَةِ وَالاِعْتِبَارُ.

وَالصَّحِيحُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَكْثَرُ نُصُوصِ أَحْمَد وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ السَّلَفِ: أَنَّ مَا يُوجِبُهُ الْعَقْدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِن الزَّوْجَيْنِ عَلَى الآخَرِ كَالنَّفَقَةِ وَالاِسْتِمْتَاعِ وَالْمَبِيتِ لِلْمَرْأَةِ وكالاستمتاع لِلزَّوْجِ: لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ؛ بَل الْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعُرْفِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فِي مِثْل قَوْله تَعَالَى:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]، وَالسُّنَةِ فِي مِثْل قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِهِنْدِ:"خُذِي مَا يَكفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوف"

(1)

.

وَإِذَا تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ فِيهِ: فَرَضَ الْحَاكِمُ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهِ، كَمَا فَرَضَت الصَّحَابَةُ مِقْدَارَ الْوَطْءِ لِلزَّوْجِ بِمَرَّاتٍ مَعْدُودَةٍ.

وَكَذَلِكَ يُوجِبُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: سَلَامَتَهَا مِن مَوَانِعِ الْوَطْءِ كَالرَّتقِ وَسَلَامَتَهَا مِن الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ، وَكَذَلِكَ سَلَامَتهُمَا مِن الْعُيُوبِ الَّتِي تَمْنَعُ كَمَاله؛ كَخُرُوجِ النَّجَاسَاتِ مِنْهُ أَو مِنْهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ، دُونَ الْجَمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَمُوجِبُهُ: كَفَاءَةُ الرَّجُلِ أَيْضًا دُونَ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ.

ثُمَّ لَو شَرَطَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي الْآخَرِ صِفَةً مَقْصُودَةً كَالْمَالِ وَالْجِمَالِ وَالْبَكَارَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: صَحَّ ذَلِكَ، وَمَلَكَ الْمُشْتَرِطُ الْفَسْخَ عِنْدَ فَوَاتِهِ فِي أَصَحِّ الرّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمَد، وَأَصَحّ وَجْهَي الشَّافِعِيّ وَظَاهِر مَذْهَبِ مَالِكٍ.

(1)

رواه البخاري (5364).

ص: 37

سَوَاءٌ كَانَ الْمُشْتَرِطُ هُوَ الْمَرْأَةَ فِي الرَّجُلِ أَو الرَّجُلَ فِي الْمَرْأَةِ؛ بَل اشْتِرَاطُ الْمَرْأَةِ فِي الرَّجُلِ أَوْكَدُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ مِن أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ.

وَكَذَلِكَ لَو اشْتَرَطَ نَقْصَ الصِّفَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ مِثْل أَنْ يَشْتَرِطَ الزَّوْجُ أَنَّهُ مَجْبُوبٌ أَو عِنِّينٌ أَو الْمَرْأَةُ أَنَّهَا رَتْقَاءُ أَو مَجْنُونَة صَحَّ هَذَا الشَّرْطُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.

وَكَذَلِكَ يُجَوِّزُ أَكْثَرُ السَّلَفِ -أَو كَثِيرٌ مِنْهُم- وَفُقَهَاءُ الْحَدِيثِ وَمَالِكٌ -فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ-: أَنْ يَنْقُصَ مِلْكُ الزَّوْجِ، فَتَشْتَرِطُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَنْقُلَهَا مِن بَلَدِهَا أَو مِن دَارِهَا، وَأَنْ يَزِيدَهَا عَلَى مَا تَمْلِكُهُ بِالْمُطْلَقِ؛ فَيُؤخَذُ عَلَيْهِ نَفْسُهُ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا وَلَا يَتَسَرَّى.

وَالْقِيَاسُ الْمُسْتَقِيمُ فِي هَذَا الْبَابِ الَّذِي عَلَيْهِ أُصُولُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِن فقَهَاءِ الْحَدِيثِ: أَنَّ اشْتِرَاطَ الزِّيَادَةِ عَلَى مُطْلَقِ الْعَقْدِ وَاشْتِرَاطَ النَّقْصِ: جَائِزٌ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ الشَّرْعُ. [29/ 173 - 176]

* * *

(حكم نكاح الشغار)

4608 -

نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَن نِكَاحِ الشّغَارِ، وَأَبْطَلَهُ الصَّحَابَةُ؛ فَإِنَّهُم أَشْغَرُوا النِّكَاحَ عَن مَهْرٍ، هَذَا هُوَ الْعِلَّةُ فِي نُصُوصِ أَحْمَد الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ

(1)

.

وَعِنْدَ طَائِفَةٍ مِن أَصْحَابِهِ: الْعِلَّةُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِي وَهُوَ التَّشْرِيكُ فِي الْبُضعِ.

وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ، فَإِنَّ الْبُضْعَ لَمْ يَحْصلْ فِيهِ اشْتِرَاكٌ؛ بَل

(1)

وذكر الشيخ في موضع آخر أنَّ الصَّوَابَ مَذْهَبُ أهْلِ الْمَدِينَةِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَن أَحْمَد فِي عَامَّةِ أجْوِبَتِهِ، وَعَامَّة أَكْثَرِ قُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ: أَنَ الْعِلَّةَ فِي إفْسَادِهِ بِشَرْطِ إشْغَارِ النِّكَاحِ عَن الْمَهْرِ، وَأَنَّ النِّكَاحَ لَيْسَ بِلَازِم إذَا شُرِطَ فِيهِ نَفْيُ الْمَهْرِ، أَو مَهْرٌ فَاسِدٌ؛ فَإِنَّ اللهَ فَرَضَ فِيهِ الْمَهْرَ، فَلَمْ يَحِلَّ لِغَيْرِ الرَّسُولِ النِّكَاحُ بِلَا مَهْرٍ. اهـ. (34/ 126)

ص: 38

كلٌّ مِن الزَّوْجَيْنِ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ بِلَا شَرِكَةٍ، وَإِن كَانَ قَد جَعَلَ صَدَاقَهَا بُضْعَ الْأُخْرَى، فَالْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ لَمْ تَمْلِكْ بُضْعَ الْمَرْأةِ وَلَا يُمْكِن هَذَا؛ فَإِنَّ امْرَأَةً لَا تتَزَوَّجُ امْرَأَةً.

وَلَكِنْ جَعَلَتْ لِوَلِيِّهَا مَا تَسْتَحِقُّهُ مِن الْمَهْرِ، فَوَلِيُّهَا هُوَ الَّذِي مَلَكَ الْبُضْعَ، وَجَعَلَ صَدَاقَهَا مِلْكَ وَليِّهَا الْبُضْعَ وَهِيَ لَمْ تَمْلِكْ شَيْئًا؛ فَلِهَذَا كَانَ شِغَارًا، وَالْمَكَانُ الشَّاغِرُ الْخَالِي، وَشَغَرَتْ هَذِهِ الْجِهَةُ؛ أَيْ: خَلَتْ.

وَمَن أُصْدقَتْ شَيْئًا وَلَمْ يَحْصُلْ لَهَا مَا أصْدقَتْهُ: لَمْ يَكُن النِّكَاحُ لَازِمًا، وَأُعْطِيَتْ بَدَلَهُ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَأَوْلَى، "فَإِنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوَفُّوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوج"

(1)

.

وَمَن الْتَزَمَتْ بِالنّكَاحِ مِن غَيْرِ أَنْ تُحَصِّلَ مَا رَضِيَتْهُ فَقَد الْتَزَمَتْ بِالنِّكَاحِ الَّذِي لَمْ تَرْضَ بِهِ، وَهَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِذَا كَانَ مِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي النّكَاحِ أَوْلَى. [29/ 343]

* * *

(النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِدُونِ تقدير الْمَهْرِ، لَا أَنَّهُ يَنْعَقِدُ مَعَ نَفْيِهِ)

4609 -

الَّذِي يَثْبُتُ بِالْكِتَاب وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ النّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِدُونِ فَرْضِ الْمَهْرِ؛ أَيْ: بِدُونِ تَقْدِيرِهِ، لَا أنَّهُ يَنْعَقِدُ مَعَ نَفْيِهِ.

فَلَابدَّ مِن مَهْرٍ مُسَمًّى مَفْرُوضٍ أَو مَسْكُوتٍ عَن فَرْضِهِ، ثُمَّ إنْ فُرِضَ مَا تَرَاضَيَا بِهِ وَإِلَّا فَلَهَا مَهْرُ نِسَائِهَا، كَمَا قَضَى بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بروع بِنْتِ وَاشِقٍ. [29/ 344]

* * *

(1)

رواه البخاري (2721)، ومسلم (1418).

ص: 39

(الْأَصْلَ فِي الشُّرُوطِ الصِّحَّةُ وَاللُّزُومُ إلَّا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ)

4610 -

الْقَاعِدَة: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الشُّرُوطِ الصِّحَّةُ وَاللُّزُومُ إلَّا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ، وَقَد قِيلَ: بَل الْأَصلُ فِيهَا عَدَمُ الصحَّةِ إلَّا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ؛ فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ قَد دَلَّا عَلَى الْوَفَاءِ بِالْعُقودِ وَالْعُهُودِ وَذَمِّ الْغَدْرِ والنّكث.

فَإِذَا كَانَ الْمَشْرُوطُ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللّهِ وَشَرْطِهِ كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلًا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:"مَن اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ"

(1)

.

فَإِنَّ قَوْلَهُ: "مَن اشْتَرَطَ شَرْطًا"؛ أَيْ: مَشْروطًا، وَقَوْلَهُ:"لَيْسَ فِي كِتَابِ اللّهِ"؛ أَيْ: لَيْسَ الْمَشْرُوطُ فِي كِتَاب اللّهِ فَلَيْسَ هُوَ مِمَّا أَبَاحَهُ اللّهُ. وَلهَذَا قَالَ: "كِتَابُ اللهِ أَحَق وَشَرْطُ اللّهِ أَوْثَقُ"

(2)

، وَهَذَا إنَّمَا يُقَالُ: إذَا كَانَ الْمَشْرُوطُ يُنَاقِضُ كِتَابَ اللّهِ وَشَرْطَهُ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُ كِتَابِ اللّهِ وَشَرْطِهِ، وَيُقَالُ:"كتَابُ اللّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللّهِ أَوْثَقُ".

وَأَمَّا إذَا كَانَ نَفْسُ الشَّرْطِ وَالْمَشْرُوطِ لَمْ يَنُصَّ اللّهُ عَلَى حِلِّهِ؛ بَل سَكَتَ عَنْهُ: فَلَيْسَ هُوَ مُنَاقِضًا لِكِتَابِ اللّهِ وَشَرْطِهِ حَتَّى يُقَالَ: "كتَابُ اللهِ أَحَقُّ وَشَرْطُهُ أَوْثَقُ".

وَالْأَصْلُ الثانِي: أنَّ الشَرْطَ الْمُخَالِفَ لِكِتَابِ اللهِ إذَا لمْ يَرْضَيَا إلَّا بِهِ فَقَد الْتَزَمَا مَا حَرَّمَهُ اللهُ، فَلَا يَلْزَمُ، كَمَا لَو نَذَرَ الْمَعْصِيَةَ، وَسَوَاءٌ كَانَا عَالِمَيْنِ أَو جَاهِلَيْنِ.

وَإِن اشْتَرَطَهُ أحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ يَعْتَقِدُ جَوَازَهُ فَلَمْ يَرْضَ إلَّا بِهِ: فَلَا يَلْزَمُهُ الْعَقْدُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْتَزَمَهُ للهِ فَيَلْزَمُهُ مَا كَانَ للّهِ، دُونَ مَا لَمْ يَكُنْ؛ كَالنَّذْرِ وَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تتفَرَّقُ فِيهِ الصَّفْقَةُ.

(1)

رواه البخاري (2155).

(2)

رواه البخاري (2168)، ومسلم (1504).

ص: 40

وَإِن عَرَفَ أَنَّهُ حَرَامٌ وَشَرَطَهُ: فَهُوَ كَشَرْطِ أَهْلِ بَرِيرَةَ: شَرْطُهُ بَاطِل وَلَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ.

وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن الْعُقُودِ

(1)

.

فمِن الْفُقَهَاءِ مَن أَبْطَلَ شُرُوطًا كَثِيرَةً فِي النِّكَاحِ بِلَا حُجَّةٍ، ثُمَّ الشَّرْطُ الْبَاطِلُ فِي النِّكَاحِ قَالُوا: يَبْطُلُ وَيَصِحُّ النِّكَاحُ بِدُونهِ، وَالْمُشْتَرِطُ لِلنِّكَاح لَمْ يَرْضَ إلَّا بِهِ

(2)

، وَالشُّرُوطُ فِي النِّكَاحِ أَوْكَدُ مِنْهَا فِي الْبَيْعِ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:"إنَّ أحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوَفُّوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ".

فَلَزِمَهُم مِن مُخَالَفَةِ النُّصُوصِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَإِلْزَامُ الْخَلْقِ بِشَيْءٍ لَمْ يَلْتَزِمُوهُ وَلَا أَلْزَمَهُم اللّهُ بِهِ، فَأوْجَبُوا عَلَى النَّاسِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللّهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ قَد يَتَوَسَّعُونَ فِي الطَّلَاقِ الَّذِي يُبْغِضُهُ اللّه فَيُحَرِّمُونَ عَلَى النَّاسِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ يُبِيحُونَ ذَلِكَ بِالْعُقُودِ الْمَشْرُوطَةِ فِيهَا الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ فَيُحَلِّلُونَ مَا لَمْ يُحَلِّلْهُ اللّهُ وَرَسُولُهُ.

مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ شَرْطَ التَّحْلِيلِ فِي الْعَقْدِ شَرْطٌ حَرَامٌ بَاطِلٌ بِالاِتِّفَاقِ إذَا شَرَطَ أَنَّهُ يُطَلّقُهَا إذَا أَحَلَّهَا، وَكَذَلِكَ شَرْطُ الطَّلَاقِ بَعْدَ أَجَلٍ مُسَمًّى

(3)

، فَشَرْطُ الطَّلَاقِ فِي النّكَاحِ إذَا مَضَى الْأَجَلُ أَو بَعْدَ التَّحْلِيلِ: شَرْطٌ بَاطِلٌ بِالاِتِّفَاقِ، مَعَ الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِ الْمُتْعَةِ؛ فَإِنَّ اللّهَ لَمْ يُبع النِّكَاحَ إلَى أَجَلٍ، وَلَمْ يُبحْ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ.

(1)

فلو شرط الرجل أو المرأة في النكاح شرطًا مُخالفًا للشريعة، فلا يخلو من حالتين:

الأولى: أن يكون الشارط عالمًا بالحكم: فيبطل الشرط ويصح النكاح، ولا خيار.

الثاني: أن لا يكون عالِمًا بِبُطْلَانِهِ: فلا يَكُون الْعَقْدُ لَازِمًا، بَل إنْ رَضِيَ بِدُونِ الشَّرْطِ وَإِلَّا فَلَهُ الْفَسْخُ.

(2)

فكيف يُبطلون الشرط ويُلزمونه بالنكاح، وهو لم يرض نكاحًا إلا بهذا الشرط؟

مثال ذلك: رجل فقير تزوج امرأةً غنيّةً بشرط ألا يُعطيها مهرًا، وهو لا يعلم بشرط المهر في النكاح، فوافقت على ذلك، فلما تزوجا رفعت الأمر للقاضي وقالت: لم يُعطني مهرًا، فلو ألزمه القاضي بالمهر، لدفع مهر مثلها، وهو لا يستطيع ربعه.

وهذا الرجل لو علم بوجوب المهر لَمَا تزوجَّها.

(3)

وهو نكاح المتعة.

ص: 41

فَقَالَ طَائِفَة مِن الْفُقَهَاءِ: يَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ، كَمَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَيَكُونُ الْعَقْدُ لَازِمًا.

وَلَو شَرَطَ الْخِيَارَ فِي النِّكَاح. فَالْأَظْهَرُ فِي هَذَا الشَّرْطِ: أَنَّهُ يَصِحُّ، وَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِهِ: لَمْ يَكُن الْعَقْدُ لَازِمًا بِدُونهِ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرْطِ الْوَفَاءُ، وَشَرْطُ الْخِيَارِ مَقْصُود صَحِيحٌ لَا سِيَّمَا فِي النِّكَاحِ.

وَهَذَا يُبْنَى عَلَى أَصْل وَهُوَ: أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ: هَل الْأَصْلُ صِحَّتُهُ أَو الْأَصْلُ بُطْلَانُهُ؟ فَالْأَوَّلُ قَوْلُ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ.

وَكَذَلِكَ تَعْلِيقُ النّكَاحِ عَلَى شَرْطٍ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ.

وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ مُقْتَضَى الْأُصُولِ وَالنُّصُوصِ: أَنَّ الشَّرْطَ يَلْزَمُ إلَّا إذَا خَالَفَ كِتَابَ اللهِ، وَإِذَا كَانَ لَازِمًا لَمْ يَلْزَم الْعَقْدُ بِدُونهِ؛ فَالْمُسْلِمُونَ كُلُّهُم يُجَوّزُونَ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي الْمَهْرِ شَيْئًا مُعَيَّنًا؛ مِثْلُ هَذَا الْعَبْد وَهَذِهِ الْفَرَس وَهَذِهِ الدَّار، لَكِنْ يَقُولُونَ: إذَا تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْمَهْرِ لَزِمَ بَدَلُهُ، فَلَمْ يَمْلِك الْفَسْخَ، وَإِن كَانَ الْمَنْعُ مِن جِهَتِهِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ.

وَإِن كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلًا وَلَمْ يَعْلَم الْمُشْتَرِطُ بِبُطْلَانِهِ: لَمْ يَكن الْعَقْدُ لَازِمًا؛ بَل إنْ رَضِيَ بِدُونِ الشَّرْطِ وإِلَّا فَلَهُ الْفَسْخُ.

هَذَا هُوَ الْأَصْلُ.

وَأَمَّا إلْزَامُهُ بِعَقْدٍ لَمْ يَرْضَ بهِ وَلَا أَلْزَمَهُ الشَّارعُ أَنْ يَعْقِدَهُ: فَهَذَا مُخَالِفٌ لِأصُولِ الشَّرْعِ، وَمُخَالِفٌ لِلْعَدْلِ الًّذِي أَنْزَلَ اللّهُ بِهِ الْكِتَابَ وَأَرْسَلَ بِهِ الرُّسُلَ. [29/ 346 - 352]

* * *

(حال من مات وهو لم يتزوج)

4611 -

مَن مَاتَ مِن النِّسَاءِ وَلَمْ يَتَزَوَّجْنَ فَإِنَّهَا تُزَوَّجُ فِي الْآخِرَةِ، وَكَذَلِكَ مَن مَاتَ مِن الرِّجَالِ فَإِنَّهُ يَتَزَوَّجُ فِي الآخِرَةِ. [4/ 310]

* * *

ص: 42

(في تحريم كتابة المهر في الحرير وجهان)

4612 -

في تحريم كتابة المهر [فيه]

(1)

وجهان:

أحدهما: لا يحرم بل يكره وهو الصحيح.

والوجه الثاني: يحرم في الأقيس قاله في "الرعاية الكبرى"، واختاره ابن عقيل والشيخ تقي الدين.

فإن استوى [الحرير] وما نسج معه فعلى وجهين. والوجه الثاني: يحرم، قال الشيخ تقي الدين في شرح العمدة: الأشبه أنه يحرم لعموم الخبر. [المستدرك 3/ 71]

* * *

(1)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، والتصويب من الفروع (1/ 310) وقال: لو قيل بالإباحة لكان له وجه. اهـ.

وقوله فيه؛ أي: في الحرير.

ص: 43

‌كِتَابُ الطَلَاقِ

4613 -

يصح الطلاق من الزوج، وعن الإمام أحمد رواية: ومن والد الصبي والمجنون وسيدهما.

والذي يجب أن يسوَّى في هذا الباب بين العقد والفسخ، فكل من ملك العقد عليه: ملك الفسخ عليه. [المستدرك 5/ 5]

4614 -

يجب على الزوج أمر زوجته بالصلاة، فإن لم تصلِّ وجب عليه فراقها في الصحيح.

وقال أبو العباس في موضع آخر: إذا دُعِيَتْ إلى الصلاة وامتنعت:

انفسخ نكاحها في أحد قولي العلماء، ولا ينفسخ في الآخر؛ إذ ليس كل من وجب عليه فراقها ينفسخ نكاحها بلا فعله.

فإن كان عاجزًا عن طلاقها لثقل مهرها

(1)

: كان مسيئًا بتزوجه بمن لا تصلي، وعلى هذا الوجه: فيتوب إلى الله تعالى من ذلك، وينوي أنه إذا قدر على أكثر من ذلك فعله. [المستدرك 5/ 5]

4615 -

قال له

(2)

رجل: لي جارية وأمي تسألني أن أبيعها؟

قال: تتخوف أن تتبعها نفسك؟

قال: نعم.

(1)

لكون المهر كله أو بعضه مؤخرًا، أو مقدمًا ولا يستطيع تحصيل مهر ينكح به زوجة أخرى، مع حاجته للزواج.

(2)

أي: الإمام أحمد رحمة اللهُ.

ص: 44

قال: لا تبعها.

قال: إنها تقول: لا أرضى عنك أو تبيعها!

قال: إنْ خفت على نفسك فليس لها ذلك.

قال الشيخ تقي الدين: لأنه إذا خاف على نفسه يبقى إمساكها واجبًا، أو لأن عليه في ذلك ضررًا. [المستدرك 5/ 6]

4616 -

"لا طلاق ولا عتاق في إغلاق"

(1)

، وحقيقة الإغلاق: أن يغلق على الرجل قلبه فلا يقصد الكلام أو لا يعلم به كأنه انغلق عليه قصده وإرادته.

والغضب على ثلاثة أقسام:

أحدها: ما يزيل العقل فلا يشعر صاحبه بما قال، وهذا لا يقع طلاقُه بلا نزاع.

الثاني: ما يكون في مبادئه بحيث لا يمنع صاحبه من تصور ما يقول وقصده، فهذا يقع طلاقه بلا نزاع.

الثالث: أن يستحكم ويشتد به فلا يزيل عقله بالكلية، ولكن يحول بينه وبين نيته بحيث يندم على ما فرط منه إذا زال، فهذا محل نظر.

وفي "إعلام الموقعين": وقسم يشتد بصاحبه ولا يبلغ به زوال عقله؛ بل يمنعه من التثبت والتروي ويخرجه عن حال اعتداله، فهذا محل اجتهاد. [المستدرك 5/ 6]

وقال الشيخ تقي الدين أيضًا: إنْ غَيَّرَه الغضبُ ولم يُزِلْ عقله لم يقع الطلاق؛ لأنه ألجأه وحمله عليه فأوقعه وهو يكرهه ليستريح منه فلم يبق له قصد صحيح فهو كالمكره، ولهذا لا يجاب دعاؤه على نفسه وماله ولا يلزمه نذر الطاعة فيه. [المستدرك 5/ 7]

(1)

رواه أبو داود (2193)، وابن ماجة (2046) عن عائشة رضى الله عنها وحسنه الألباني في الإرواء (2047).

ص: 45

4617 -

لا يقع طلاق السكران ولو بسكر محرم، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها أبو بكر. [المستدرك 5/ 7]

4618 -

إذا كان السبب الذي به زوال العقل محظورًا لم يكن السكران معذورًا، وإن كان لا يحكم بكفره في أصح القولين، كما لا يقع طلاقه في أصح القولين. [10/ 60]

4619 -

قصد إزالة العقل بلا سبب شرعي: محرم.

ولو ادعى الزوج أنه كان حين الطلاق زائل العقل لمرض أو غشي: قال أبو العباس: أفتيت أنه إذا كان هناك سبب يمكن معه صدقه فالقول قوله مع يمينه.

ومن شرب ما يزيل عقله لغير حاجة ففي صحة طلاقه روايتان واختار الشيخ تقي الدين أنه كالسكران. [المستدرك 5/ 7]

4620 -

مما يُلحق بالبنج: الحشيشة الخبيثة، وأبو العباس يرى أن حكمها حكم الشراب المسكر حتى في إيجاب الحد، وفرق أبو العباس بينها وبين البنج: بأنها تُشتهى، فهي كالخمر، بخلاف البنج. [المستدرك 5/ 8]

4621 -

قال الشيخ تقي الدين: إنَّ طلاق الفضولي كبيعه. [المستدرك 5/ 8]

4622 -

لا يقع طلاق المكره، والإكراه يحصل: إما بالتهديد، وإما أن يغلب على ظنّه أنه يضرّه في نفسه أو ماله بلا تهديد.

وقال أبو العباس في موضع آخر: كونه يغلب على ظنه تحقق تهديده: ليس بجيد؛ بل الصواب: أنه لو استوى انطرفان لكان إكراهًا.

وأما إن خاف وقوع التهديد وغلب على ظنه عدمه: فهو محتمل في كلام أحمد وغيره.

ولو أراد المكره إيقاع الطلاق وتكلم به: وقع، وهو رواية حكاها أبو الخطاب في الانتصار، وإن سحره ليطلق فإكراه.

ص: 46

قال أبو العباس: تأملت المذهب فوجدت الإكراه يختلف باختلاف المكره عليه، فليس الإكراه المعتبر في كلمة الكفر كالإكراه المعتبر في الهبة ونحوها، فإن أحمد نصَّ في غير موضع على: أن الإكراه على الكفر لا يكون إلا بتعذيب من ضرب أو قيد، ولا يكون الكلام إكراهًا.

وقد نصَّ على أن المرأة لو وهبت زوجها صداقها بمسألته لها

(1)

: فلها أن ترجع، بناء على أنها لا تهب له إلا إذا خافت أن يطلقها أو يسيء عشرتها، فجعل خوف الطلاق أو سوء العشرة إكراهًا في الهبة، ولفظه في موضع آخر: لأنه أكرهها.

ومثل هذا لا يكون إكراهًا على الكفر، فإن الأسير إذا خشي من الكفار أن لا يزوجوه وأن يحولوا بينه وبين امرأته: لم يبح له التكلم بكلمة الكفر.

ومثل هذا لو كان له عند رجل حق من دين أو وديعة فقال: لا أعطيك حتى تبيعني أو تهبني، فقال مالك: هو إكراه، وهو قياس قول أحمد ومنصوصه في مسألة ما إذا منعها حقها لتختلع منه، وقال القاضي تبعًا للحنفية والشافعية: ليس إكراهًا.

قال شيخنا: أو ظنَّ أنه يضره بلا تهديد في نفسه أو أهله أو ماله: لم يقع

(2)

. [المستدرك 5/ 8 - 9]

4623 -

من سُحر فبلغ به السحر ألا يعلم ما يقول فلا طلاق له. [المستدرك 5/ 9]

4624 -

إذا أكره على اليمين بغير حق؛ مثل أن يكون باعه إلى أجل ثم بعد لزوم العقد قال له: إن لم تحلف لي أنك تعطيني حقي يوم كذا وإلا لزمك

(1)

أي: طلب منها أن تهب له مهرها.

وفي الأصل: (أو مسكنها)، والتصويب من الاختيارات (367).

(2)

أي: الطلاق.

ص: 47

الطلاق، فإن لم تحلف أخذت السلعة منك، وذلك بعد أن أدى المشتري الكلفة السلطانية، فإن هذه اليمين لا تنعقد، ولا طلاق عليه إذا لم يعط، ولو قال: كنت استثنيت فقلت: إن شاء اللّه تعالى، فقال: لم تقل شيئًا، فالقول قول الحالف في هذه الحال أنه استثنى لأنه مظلوم، والمظلوم له الاستثناء، وله التعريض والقول قوله في ذلك. [المستدرك 5/ 9]

4625 -

إن أطلق ثلاثًا مجموعة قبل رجعة واحدة طلقت ثلاثًا وإن لم ينوها على الصحيح من المذهب، نصَّ عليه مرارًا، وعليه الأصحاب، بل الأئمة الأربعة رحمهم الله وأصحابهم في الجملة.

وأوقَع الشيخ تقي الدين مِن ثلاث مجموعةٍ أو متفرقةٍ قَبْل رجعة: طلقةً واحدة، وقال: لا نعلم أحدًا فرَّق بين الصورتين

(1)

.

وإن طلقها ثلاثًا متفرقة بعد أن راجعها طلقت ثلاثًا بلا نزاع في المذهب وعليه الأصحاب منهم الشيخ تقي الدين. [المستدرك 5/ 10]

4626 -

الْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُولِيَ مُخَيَّرٌ: إمَّا أَنْ يَفِيءَ وَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَ.

فَإِذَا فَاءَ لَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَاقُ؛ بَل عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْحِنْثِ إذَا قِيلَ بِأَنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ فِيهِ الْكَفَّارَةُ؛ فَإِنَّ الْمُولِيَ بِالْحَلِفِ بِاللّهِ إذَا فَاءَ لَزِمَتْة كَفَّارَةُ الْحِنْثِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَفِيهِ قَوْلٌ شَاذٌّ: أَنَّهُ لَا شَيءَ عَلَيْهِ بِحَال، وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ أَصَحُّ؛ فَإِنَّ اللّهَ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَن حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَن يَمِينِهِ". [33/ 53]

(1)

قال العلَّامة القرطبي رحمة الله في تفسيره (3/ 129): قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَاتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْفَتْوَى عَلَى لُزُومِ إِيقَاع الطَّلَاقِ الثلَاثِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ.

وَشَذَّ طَاوُسٌ وَبَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ إِلَى أن طَلَاقَ الثَّلَاثِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يقع واحدة.

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُوقِعَ ثَلَاثًا مُجْتَمِعَةً فِي كَلِمَةٍ أَوْ مُتَفَرِّقَة فِي كَلِمَاتٍ. اهـ.

ص: 48

4627 -

الْوَعْدُ بِالطَّلَاقِ لَا يَقَعُ وَلَو كَثُرَتْ أَلْفَاظُهُ، وَلَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَذَا الْوَعْدِ وَلَا يُسْتَحَبُّ.

وَأَمَّا إذَا أَوْقَعَ بِهَا الطَّلَاقَ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ: اذْهَبِي إلَى بَيْتِ أُمِّك وَأَرَادَ يَذْكُرُ أَنَّهُ يُطَلِّقُهَا لَا أَنَّهُ سَيُطَلِّقُهَا: فَهَذَا يَقَعُ بِهِ طَلْقَة وَاحِدَةٌ إذَا لَمْ يَنْوِ أَكْثَرَ، وَلَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ بِلَا رِضَاهَا وَبِلَا وَليٍّ وَلَا مَهْرٍ. [33/ 111]

4628 -

وَسُئِلَ: عَن امْرَأَةٍ دَايَنَتْ زَوْجَهَا ثُمَّ قَالَتْ لَهُ: إنِّي أَخَافُ أَنَّك لَا تُوَفِّينِي، فَقَالَ لَهَا: إنْ لَمْ أوفِّيك إلَى آخِرِ شَهْرِ رَمَضَانَ هَذَا وَإِلَّا فَأنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَالزَّوْجُ غَائِبٌ فِي قوص، وَمَا وَكَّلَ أَحَدًا، فَهَل إذَا أَبْرَأَت الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا مِن الدِّينِ وَمَضَى الشَهْرُ يَقَعُ الطَّلَاقُ أَمْ لَا؟

فَأجَابَ: أَمَّا إذَا أَبْرَأَتْهُ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَ كَثيرٍ مِن الْفُقَهَاءِ.

وَكَذَلِكَ إذَا وَفَّى الدَّيْنَ عَنْهُ مُوَفٍّ: فَقَد بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِن الدَّيْنِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، كَمَا يَبْرَأُ بِالْإِبْرَاءِ. فَقَد جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَضَاءَ الدَّيْنِ عَلَى الْغَرِيمِ كَقَضَائِهِ حَيْثُ قَالَ:"أَرَأَيْت لَو كَانَ عَلَى أمِّك دَيْن فقضيتيه عَنْهَا أَكَانَ يُجْزِئُ عَنْهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: اللهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ"

(1)

. [33/ 115]

4629 -

لَيْسَ فِي كِتَابِ اللّهِ طَلَاقٌ بَائِنٌ إلا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَإِذَا انْقَضَت الْعِدَّةُ، فَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَقَد حَرُمَتْ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ الْبَيْنُونَةُ الْكُبْرَى، وَهِيَ إنَّمَا تَحْصُلُ بِالثَّلَاثِ لَا بِطَلْقَةٍ وَاحِدَة مُطْلَقَةٍ، لَا يَحْصُلُ بِهَا لَا بَيْنُونَة كُبْرَى وَلَا صُغْرَى. [33/ 156]

4630 -

اللّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ الطَّلَاق والْيَمِين والظِّهَار والْإِيلَاء والاِفْتِدَاء وَهُوَ الْخُلْعُ، وَجَعَلَ لِكُل وَاحِدٍ حُكْمًا، فَيَجِبُ أَنْ نَعْرِفَ حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَنُدْخلَ فِي الطَّلَاقِ مَا كَانَ طَلَاقًا، وَفِي الْيَمِينِ مَا كَانَ يَمِينًا، وَفِي

(1)

رواه البخاري (1852)، ومسلم (1148).

ص: 49

الْخُلْعِ مَا كَانَ خُلْعًا، وَفِي الظِّهَارِ مَا كَانَ ظِهَارًا، وَفِي الْإيلَاءِ مَا كَانَ إيلَاءً.

وَهَذَا هُوَ الثَّابِتُ عَن أَئِمُّةِ الصَّحَابَةِ وَفُقَهَائِهِمْ وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإحْسَانِ.

وَمِن الْعُلَمَاء مَن اشْتَبَهَ عَلَيْهِ بَعْضُ ذَلِكَ بِبَعْض، فَيَجْعَلُ مَا هُوَ ظِهَار طَلَاقًا؛ فَيَكْثُر بِذَلِكَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ الَّذِي يُبْغِضُهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَيَحْتَاجُونَ إمَّا إلَى دَوَامِ الْمَكْرُوه، وَإِمَّا إلَى زَوَالِهِ بِمَا هُوَ أكْرَهُ الَى اللهِ وَرَسولِهِ مِنْهُ وَهُوَ نِكَاحُ التَّحْلِيلِ.

وَأَمَّا الطَّلَاق الَّذِي شَرَعَهُ اللهُ وَرَسُولهُ فَهُوَ أنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ إذَا أَرَادَ طَلَاقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ، أَو كَانَت حَامِلًا قَد اسْتَبَانَ حَمْلُهَا، ثُمَّ يَدَعُهَا تَتَرَبَّصُ ثَلَاثَةَ قُرُوءِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ غَرَضٌ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ، وَإِن لَمْ يَكُن لَهُ فِيهَا غَرَضٌ سَرُّحَهَا بِإحْسَانٍ، ثُمَّ إنْ بَدَا لَهُ بَعْدَ هَذَا إرْجَاعهَا: يَتَزَوَّجُهَا بِعَقْد جَدِيدٍ، ثُمَّ إذَا أَرَادَ ارْتجَاعَهَا أَو تَزَوُّجَهَا، وَإِن أرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلَّقَهَا، فَهَذَا طَلَاقُ السُّنَّةِ الْمَشْرُوعِ.

وَمَن لَمْ يُطَلِّقْ إلُّا طَلَاقَ السُّنَّةِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ مِن نِكَاحِ التَّحْلِيلِ وَغَيْرِهِ. [33/ 156 - 157]

4631 -

وَسُئِلَ شَيْخُ الإسْلَامِ رحمة الله: عَن رَجُلٍ قَالَ لِحَمَاتِهِ: إنْ لَمْ تَبِيعِينِي جَارِيَتَك وَإِلَّا ابْنَتُك طَالِق ثَلَاثًا، فَقَالُوا: مَا نَبِيعُك الْجَارِيةَ، فَقَالَ: ابْنَتُكُمْ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَنيَّتُهُ: إنْ لَمْ تُعْطِينِي الْجَارَيةَ؟

فَأَجَابَ: إنْ كَانَ قَد نَوَى الشَّرْطَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَقْصِد الطَّلَاقَ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا أنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ. [33/ 168 - 169]

4632 -

وَسُئِلَ: عَن رَجُل حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أنَّهُ مَا يُزَوِّجُ ابْنَتَهُ لِرَجُل مُعَيَّنٍ، ثُمَّ إنَّهُ زَوَّجَهَا بِغَيْرِهِ، ثمَّ بَانَتْ مِن الثَّانِي بِالثَّلَاثِ، فَهَل لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا لِلرَّجُلِ الَّذِي كَانَ قَد حَلَفَ عَلَيْهِ؟

ص: 50

فَأَجَابَ: إنْ كَانَ نِيَّةُ الْحَالِفِ أَو سَبَبُ الْيَمِينِ يَقْتَضِي الْحَلِفَ عَلَى ذَلِكَ التَّزْوِيجِ خَاصَّةً: جَازَ أَنْ يُزَوِّجَهَا الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ، مِثْل أَنْ يَكُونَ قَد امْتَنَعَ لِتَزْوِيجِهِ لِكَوْنِهِ طَلَبَ مِنْهُ جِهَازًا كَثِيرًا، ثمَّ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ قَنِعَ بِهَا بِلَا جِهَازٍ.

وَأَمَّا إنْ كَانَ السَّبَبُ بَاقِيًا: حَنِثَ. [33/ 230]

4633 -

إِذَا قَالَ [لامرأتِه]: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللّهُ، وَقَصَدَ حَقِيقَةَ التَّعْلِيقِ: لَمْ يَقَعْ إلَّا بِتَطْلِيقٍ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إذَا قَصَدَ تَعْلِيقَهُ لِئَلَّا يَقَعَ الْآنَ.

وَأَمَّا إنْ قَصَدَ إيقَاعَهُ الْآنَ وَعَلَّقَهُ بِالْمَشِيئَةِ تَوكِيدًا وَتَحْقِيقًا: فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ. [13/ 44]

4634 -

مَن قَالَ أَنَّ السَّرَاحَ وَالْفِرَاقَ صَرِيحٌ فِي الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ وَرَدَ بِذَلِكَ، وَجَعَلَ الصَّرِيحَ مَا اسْتَعْمَلَهُ الْقُرْآنُ فِيهِ كَمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ وَالْقَاضِي وَغَيْرُهُمَا مِن الْأَصْحَابِ: فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ. [15/ 449]

* * *

(صريح الطلاق وكنايته)

4635 -

أنت طالق ومطلقة وما شاكل ذلك من الصيغ: هي إنشاء من حيث إنها أثْبتت الحكم وبها تمّ

(1)

، وهي إخبار لدلالتها على المعنى الذي في النفس. [المستدرك 5/ 11]

4636 -

لا يقع الطلاق بالكناية إلا بنية، إلا

(2)

مع قرينةِ إرادةِ الطلاق.

فإذا قرنت الكنايات بلفظ يدل على أحكام الطلاق، مثل أن يقول: فسخت النكاح، وقطعت الزوجية، ورفعت العلاقة بيني وبين زوجتي. [المستدرك 5/ 12]

(1)

في الأصل والفتاوى الكبرى (5/ 489): (هي إثبات للحكم وشهادتهم)، والتصويب من الاختيارات (368).

(2)

في الأصل: (وإلا) بالعطف، والتصويب من الاختيارات (369).

ص: 51

4637 -

لو ادعى الزوج أنه رجع قبل إيقاع الوكيل الطلاق: لم يقبل قوله إلا ببينة، نص عليه الإمام أحمد. [المستدرك 5/ 13]

4638 -

من حلف بالحرام ألا يخرج فلانة من بيته

(1)

فخرجت: فمذهب أحمد أنه لا طلاق عليه وإن نوى الطلاق؛ بل تجزئه كفارة يمين في قوله، وكفارة ظهار في آخر، وكفارة اليمين أظهر. [المستدرك 5/ 13]

* * *

(الاستثناء في الطلاق)

4639 -

الفصل بين المستثنى والمستثنى منه بكلام الغير والسكوت: لا يكون فصلًا مانعًا من صحة الاستثناء. [المستدرك 5/ 14]

* * *

(باب الطلاق في الماضي والمستقبل)

4640 -

سئلت عمن قال: الطلاق يلزمني ما دام فلان في هذا البلد.

فأجبت: أنه إذا قصد به الطلاق إلى حين خروجه فقد وقع ولغا التوقيت، وهذا هو الوضع اللغوي.

وإن قصد: أنت طالق إن دام فلان، فإن خرج قبل اليمين لم يحنث وإلا حنث، وهذا نظير أنت طالق إلى شهر. [المستدرك 5/ 15 - 16]

4641 -

إن قال: عجلت ما علقته لم يتعجل، هذا المذهب؛ لأنه علقه فلم يملك تغييره.

وقيل: يتعجل إذا عجله، وهو ظاهر بحث الشيخ تقي الدين فإنه قال: فيما قاله الجمهور نظر. [المستدرك 5/ 17]

(1)

بأن قال: عليّ أو يلزمني الحرام، أو تحرمين علي، أو أنت عليَّ حرام إن خرجت من البيت.

تنبيه: لعل الصواب: (تخرج)؛ لأنه الضمير عائد إلى مؤنث، وهو الزوجة.

ص: 52

4642 -

إذا علَّق الطلاق على شرط: لزم وليس له إبطاله.

وقال الشيخ تقي الدين رحمة الله: لو قال: إن أعطيتني، أو: إذا أعطيتني، أو: متى أعطيتني ألفًا فأنت طالق: أن الشرط ليس بلازم من جهته. [المستدرك 5/ 18]

* * *

(حكم من طلق زوجته قبل الدخول عليها)

4643 -

إذَا طَلَّقَهَا

(1)

قَبْلَ الدُّخُولِ: فَلِلْأَبِ أَنْ يَعْفُوَ عَن نِصْفِ الصَّدَاقِ إذَا قِيلَ: هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، كَمَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.

وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ؛ وَلَيْسَ الصَّدَاقُ كَسَائِرِ مَالِهَا؛ فَإِنَّهُ وَجَبَ فِي الْأَصْلِ نِحْلَةً، وَبُضْعُهَا عَادَ إلَيْهَا مِن غَيْرِ نَقْصٍ، وَكَانَ إلْحَاقُ الطَّلَاقِ بالفسوخ، فَوَجَبَ أَلَّا يَتَنَصَّفَ

(2)

، لَكنَّ الشَّارعَ جَبَرَهَا بِتَنْصِيفِ الصَّدَاقِ؛ لِمَا حَصَلَ لَهَا مِن الاِنْكِسَارِ بِهِ، وَلهَذَا جُعِلَ ذَلِكَ عِوَضًا عَن الْمُتْعَةِ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ، فَأَوْجَبُوا الْمُتْعَةَ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ، إلَّا لِمَن طُلّقَتْ بَعْدَ الْفَرْضِ وَقَبْلَ الدُّخُولِ وَالْمَسِيسِ فَحَسْبُهَا مَا فُرِضَ لَهَا.

لَكِنْ يُقَالُ عَلَى هَذَا: فَالْقَوْلُ الثَّالِث أَصَح، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَن أَحْمَد: أَنَّ كُلَّ مُطَلَّقَةٍ لَهَا مُتْعَةٌ؛ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَعُمُومُهُ حَيْثُ قَالَ: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241].

وَأَيْضًا: فَإِذَا كَانَ سَبَبُ الْمُتْعَةِ هُوَ الطَّلَاقَ: فَسَبَبُ الْمَهْرِ هُوَ الْعَقْد.

فَالْمُفَوَّضَةُ الَّتِي لَمْ يُسَمّ لَهَا مَهْرًا يَجِبُ لَهَا مَهْرُ الْمِثْل بِالْعَقْدِ، وَيَسْتَقِرُّ

(1)

أي: إذا طلق الرجل امرأته.

(2)

ويعود المهر كاملًا إلى الزوج، كما عاد بضع المرأة إليها دون أن يُمس.

ص: 53

بِالْمَوْتِ عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ بروع بِنْتِ وَاشِقٍ الَّتِي تَزَوَّجَتْ وَمَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ لَهَا مَهْرٌ، وَقَضَى لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ لَهَا مَهْرَ امْرَأَةٍ مِن نِسَائِهَا لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ.

لَكِنْ هَذِهِ لَو طلّقَتْ قَبْلَ الْمَسِيسِ: لَمْ يَجِبْ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ؛ لِكَوْنِهَا لَمْ تَشْتَرِطْ مَهْرًا مُسَمًّى، وَالْكَسْرُ الَّذِي حَصَلَ لَهَا بِالطَّلَاقِ انْجَبَرَ بِالْمُتْعَةِ. [32/ 26 - 28]

4644 -

إذَا طَلَّقَهَا [أي: المرأة] قَبْلَ الدُّخُولِ: فَهُوَ كَمَا لَو طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَيَدْخُلُ بِهَا، فَإِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ

(1)

: لَمْ تَحِلَّ لِلْأَوَّلِ. [32/ 80، 33/ 116]

* * *

(الطلاق رحمة من اللّه على عبيده)

4645 -

لَوْلَا أَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى الطَّلَاقِ: لَكَانَ الدَّلِيلُ يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآثَارُ وَالْأُصُولُ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى أَبَاحَهُ رَحْمَةً مِنْهُ بِعِبَادِهِ؛ لِحَاجَتِهِمْ إلَيْهِ أَحْيَانًا. [32/ 89]

* * *

(لا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي النِّكَاحِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ إلا إذَا اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ)

4646 -

وَسُئِلَ: عَن رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ بِوِلَايَةِ أَجْنَبِيٍّ، وَوَليُّهَا فِي مَسَافَةٍ دُونَ الْقَصْرِ؛ مُعْتَقِدًا أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ حَاكمٌ، وَدَخَلَ بِهَا وَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ أَرَادَ رَدَّهَا قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، فَهَل لَهُ ذَلِكَ لِبُطْلَانِ النِّكَاحِ الْأوَّلِ؟

فَأَجَابَ: لَا يَجِبُ فِي هَذَا النِّكَاحِ حَدٌّ إذَا اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ؛ بَل يَلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ وَيَجِبُ فِيهِ الْمَهْرُ، وَلَا يَحْصُلُ الْإِحْصَانُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ

(2)

.

(1)

أي: طلقها الثاني قبل الجماع.

(2)

فلو زنت المرأة المتزوجة بعقد فاسد فلا تُرجم؛ لأنها غير محصنة.

ص: 54

وَيَقَعُ الطَّلَاقُ فِي النِّكَاحِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ إذَا اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ

(1)

.

وإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُزَوِّجَ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ بِحَال فَفَارَقَهَا الزَّوْجُ حِينَ عَلِمَ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا: لَمْ يَقَعْ طَلَاقٌ وَالْحَالُ هَذِهِ

(2)

، وَلَه أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مِن غَيْرِ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. [32/ 98 - 99]

4647 -

الطَّلَاقُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ [يقع]

(3)

عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا مِن الْأَئِمَّةِ، وَالنِّكَاحُ بِوِلَايَةِ الْفَاسِقِ: يَصحُّ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأَئِمَّةِ. [32/ 101]

* * *

‌(حكم الزواج بنية الطلاق

؟)

4648 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلٍ رَكَّاضٍ، يَسِيرُ فِي الْبِلَادِ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ شَهْرًا أَو شَهْرَيْنِ، وَيَعْزِلُ عَنْهَا، وَيَخَافُ أَنْ يَقَعَ فِي الْمَعْصِيَةِ، فَهَل لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ فِي مُدَّةِ إقَامَتِهِ فِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ، وَإِذَا سَافَرَ طَلَّقَهَا وَأَعْطَاهَا حَقَّهَا؟

فَأَجَابَ: لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ، لَكِنْ يَنْكِحُ نِكَاحًا مُطْلَقًا، لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ تَوْقِيتًا، بِحَيْثُ يَكُونُ إنْ شَاءَ مَسَكَهَا وَإِن شَاءَ طَلَّقَهَا.

وَإِن نَوَى طَلَاقَهَا حَتْمًا عِنْدَ انْقِضاءِ سَفَرِهِ كُرِهَ فِي مِثْل ذَلِكَ.

وَفِي صِحَّةِ النِّكَاح نِزَاعٌ.

وَلَو نَوَى أَنَّهُ إذَا سَافَرَ وَأَعْجَبَتْهُ أَمْسَكَهَا وَإِلَّا طَلَّقَهَا جَازَ ذَلِكَ.

فَأَمَّا أَنْ يَشْتَرِطَ التَّوْقِيتَ: فَهَذَا نِكَاحُ الْمُتْعَةِ الَّذِي اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُم عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَإِنْ كَانَ طَائِفَة يُرَخِّصُونَ فِيهِ: إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا لِلْمُضْطَرّ كَمَا قَد كَانَ ذَلِكَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، فَالصَّوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ، كَمَا ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ"

(4)

أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أَنْ رَخَّصَ لَهُم فِي الْمُتْعَةِ عَامَ الْفَتْحِ قَالَ: "إنَّ اللهَ قَد حَرَّمَ الْمُتْعَةَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".

(1)

هذه قاعدة مهمة.

(2)

لأنه لم يعتقد صحة النكاح.

(3)

ما بين المعقوفتين ليس موجودًا في الأصل، ولا يستقيم المعنى إلا بها.

(4)

رواه مسلم (1406).

ص: 55

وَإِذَا اشْتَرَطَ الْأَجَلَ قَبْلَ الْعَقْدِ: فَهُوَ كَالشَّرْطِ الْمُقَارِنِ فِي أَصَحِّ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ، وَكَذَلِكَ فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ.

وَأَمَّا إذَا نَوَى الزَّوْجُ الْأجَلَ وَلَمْ يُظْهِرْهُ لِلْمَرْأَةِ: فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ: يُرَخِّصُ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، وَيَكْرَهُهُ مَالِكٌ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا، كَمَا أَنَّهُ لَو نَوَى التَّحْلِيلَ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ وَجَعَلُوهُ مِن نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ؛ لَكِنَّ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ شَرٌّ مِن نِكَاحِ الْمُتْعَةِ؛ فَإِنَّ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ لَمْ يُبَحْ قَطُّ؛ إذْ لَيْسَ مَقْصُودُ الْمُحَلِّلَ أَنْ يَنْكِحَ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ أَنْ يُعِيدَهَا إلَى الْمُطَلِّقِ قَبْلَهُ، فَهُوَ يُثْبِتُ الْعَقْدَ ليُزِيلَهُ، وَهَذَا لَا يَكُونُ مَشْرُوعًا بِحَال، بِخِلَافِ الْمُسْتَمْتِعِ فَإِنَّ لَهُ غَرَضًا فِي الاِسْتِمْتَاعِ، لَكِنَّ التَّأجِيلَ

(1)

يُخِلُّ بِمَقْصُودِ النِّكَاحِ مِن الْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ وَالسَّكَنِ، وَيَجْعَلُ الزَّوْجَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، فَلِهَذَا كَانَت النِّيَّةُ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ أَخَفَّ مِن النِّيَّةِ فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ، وَهُوَ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ كَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ وَكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ.

وَأَمَّا الْعَزْلُ: فَقَد حَرَّمَهُ طَائِفَةٌ مِن الْعُلَمَاءِ، لَكِنَّ مَذْهَبَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ بِإِذْنِ الْمَرْأَةِ. [32/ 106 - 108]

4649 -

وَأَمَّا نِكَاحُ الْمُتْعَةِ: إذَا قَصَدَ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا إلَى مُدَّةٍ ثُمَّ يُفَارِقُهَا؛ مِثْل الْمُسَافِرِ الَّذِي يُسَافِرُ إلَى بَلَدٍ يُقِيمُ بِهِ مُدَّةً فَيَتَزَوَّجُ، وَفِي نِيَّتِهِ إذَا عَادَ إلَى وَطَنِهِ أَنْ يُطَلّقَهَا، وَلَكِنَّ النِّكَاحَ عَقَدَهُ عَقْدًا مُطْلَقًا: فَهَذَا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد:

قِيلَ: هُوَ نِكَاحٌ جَائِزٌ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.

وَقِيلَ: إنَّهُ نِكَاحُ تَحْلِيلٍ لَا يَجُوزُ، وَرُوِيَ عَن الأوزاعي.

وَقيلَ: هُوَ مَكْرُوهٌ، وَلَيْسَ بِمُحَرَّم.

(1)

بأن يقول للمرأة: تزوجتك مدة أسبوع أو شهر، وينتهي الزواج بانتهاء المدة، وهذا هو نكاح المتعة المحرم.

ص: 56

وَالصَّحِيحُ: أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِنِكَاحِ مُتْعَةٍ، وَلَا يَحْرُمُ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَاصِدٌ لِلنِّكَاحِ وَرَاغِبٌ فِيهِ، بِخِلَافِ الْمُحَلّلِ، لَكِنْ لَا يُرِيدُ دَوَامَ الْمَرْأَةِ مَعَهُ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَرْط؛ فَإِنَّ دَوَامَ الْمَرْأَةِ مَعَهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ بَل لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا، فَإِذَا قَصَدَ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ مُدَّة فَقَد قَصَدَ أَمْرًا جَائِزًا، بِخِلَافِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ فَإِنَّهُ مِثْلُ الْإِجَارَةِ، تَنْقَضِي فِيهِ بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، وَلَا مِلْكَ لَهُ عَلَيْهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأجَلِ.

وَأَمَّا هَذَا فَمِلْكُهُ ثَابِتٌ مُطْلَقٌ، وَقَد تَتَغَيَّرُ نِيِّتُهُ فَيُمْسِكُهَا دَائِمًا، وَذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ، كَمَا أَنَّهُ لَو تَزَوَّجَ بِنِيَّةِ إمْسَاكِهَا دَائِمًا ثُمَّ بَدَا لَهُ طَلَاقُهَا جَازَ ذَلِكَ.

وَلَو تَزَوَّجَهَا بِنِيَّةِ أَنَّهَا إذَا أَعْجَبَتْهُ امْسَكهَا وَإِلَّا فَارَقَهَا: جَازَ، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِي الْعَقْدِ.

وَقَد كَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ كَثِيرَ الطَّلَاقِ، فَلَعَلَّ غَالِبَ مَن تَزَوَّجَهَا كَانَ فِي نِيَّتِهِ أنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ مُدَّةٍ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّ ذَلِكَ مُتْعَةٌ.

وَهَذَا أَيْضًا لَا يَنْوِي طَلَاقَهَا عِنْدَ أَجَلٍ مُسَمًّى؛ بَل عِنْدَ انْقِضَاءِ غَرَضِهِ مِنْهَا وَمِن الْبَلَدِ الَّذِي أَقَامَ بِهِ، وَلَو قُدِّرَ أَنَّهُ نَوَاهُ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ فَقَد تَتَغَيَّرُ نِيَّتُهُ، فَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يُوجِبُ تَأْجِيلَ النِّكَاحِ، وَجَعْلَهُ كَالْإِجَارَةِ الْمُسَمَّاةِ.

وَعَزْمُ الطَّلَاقِ لَو قُدِّرَ بَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ: لَمْ تُبْطِلْهُ وَلَمْ يُكرَهْ مُقَامُهُ مَعَ الْمَرْأَةِ -وَإِن نَوَى طَلَاقَهَا- مِن غَيْرِ نِزَاعٍ نَعْلَمُهُ فِي ذَلِكَ.

وَالطَّلَاقُ بَعْدَ مُدَّةٍ أَمْرٌ جَائِرٌ، لَا يُنَاقِضُ مَقْصُودَ الْعَقْدِ إلَى حِينِ الطَّلَاقِ، بِخِلَافِ الْمُحَلِّلِ، فَإِنَّة لَا رَغْبَةَ لَهُ فِي نِكَاحِهَا أَلْبَتَّةَ، بَل فِي كَوْنِهَا زَوْجَةَ الْأَوَّلِ، وَلَو أَمْكَنَهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ تَحْلِيل لَمْ يُحِلَّهَا هَذَا.

وَإِن كَانَ مَقْصُودُهُ الْعِوَضَ: فَلَو حَصَلَ لَهُ بِدُونِ نِكَاحِهَا لَمْ يَتَزَوَّجْ.

وَإِن كَانَ مَقْصُودُهُ هُنَا وَطْأهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ: فَهَذَا مِن جِنْسِ الْبَغِيِّ الَّتِي يَقْصِدُ وَطْأهَا يَوْمًا أَو يَوْمَيْنِ، بِخِلَافِ الْمُتَزَوِّجِ الَّذِي يَقْصِدُ الْمُقَامَ، وَالْأَمْرُ بِيَدِهِ وَلَمْ يَشْرِطْ عَلَيْهِ أَحَدٌ أَنْ يُطَلِّقَهَا كَمَا شُرِطَ عَلَى الْمُحَلِّلِ.

ص: 57

فَإِنْ قُدّرَ مَن تَزَوَّجَهَا نِكَاحًا مُطْلَقًا لَيْسَ فِيهِ شَرْطٌ وَلَا عِدَةٌ، وَلَكِنْ كَانَت نِيَّتُهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا أَيَّامًا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا، لَيْسَ مَقْصُودُهُ أَنْ تَعُودَ إلَى الْأَوَّلِ: فَهَذَا هُوَ مَحَلُّ الْكَلَامِ، وَإِن حَصَلَ بِذَلِكَ تَحْلِيلُهَا لِلْأَوَّلِ فَهُوَ لَا يَكُونُ مُحلًّا إِلَّا إذَا قَصَدَهُ أَو شَرَطَ عَلَيْهِ شَرْطًا لَفْظِيًّا أَو عُرْفِيًّا، سَوَاءٌ كَانَ الشَّرْطُ قَبْلَ الْعَقْدِ أَو بَعْدَهُ.

وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُن فِيهِ قَصْدُ تَحْلِيلٍ وَلَا شَرْطٌ أَصْلًا: فَهَذَا نِكَاحٌ مِن الْأَنْكِحَةِ. [32/ 147 - 148]

* * *

(أقوال العلماء في طلاق البائن)

4650 -

إِنَّ الْعُلَمَاءَ تَنَازَعُوا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ:

أ - فَقِيلَ: إنْ شَاءَ الزَّوْجُ طَلَّقَ طَلَاقًا بَائِنًا وَإِن شَاءَ طَلَّقَ طَلَاقًا رَجْعِيًّا؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ حَقٌّ لَهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَرِوَايَةً عَن أَحْمَد.

ب - وَقِيلَ: لَا يَمْلِكُ الطَّلَاقَ الْبَائِنَ ابْتِدَاءَ؛ بَل إذَا طَلَبَتْ مِنْهُ الإِبَانَةَ مَلَكَ ذَلِكَ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ عَن مَالِكٍ وَرِوَايَةٌ عَن أَحْمَد اخْتَارَهَا الخرقي.

ج - وَقِيلَ: لَا يَمْلِكُ إبَانَتَهَا بِلَا عِوَضٍ؛ بَل سَوَاءٌ طَلَبَتْ ذَلِكَ أَو لَمْ تَطْلُبْهُ، وَلَا يَمْلِكُ إبَانَتَهَا إلَّا بِعِوَض، وَهَذَا مَذْهَبُ أَكْثَرِ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ قَوْلُ إسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَابْنِ خُزَيْمَة ودَاوُد وَغَيْرِهِمْ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ النُّقُولِ الثَّابِتَةِ عَن أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَدُلُّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ؛ فَإِنَّ اللّهَ لَمْ يَجْعَل الطَّلَاقَ إلَّا رَجْعِيًّا، وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ طَلَاقٌ بَائِنٌ مِن الثَّلَاثِ إلَّا بِعِوَضٍ، لَا بِغَيْرِ عِوَضٍ؛ بَل كُلُّ فُرْقَةٍ يَكُونُ بَائِنَةً فَلَيْسَتْ مِن الثَّلَاثِ. [32/ 304]

* * *

ص: 58

(وطء الْمَرْأَة الْمُطَلَّقَة فِي الدُّبُرِ لا يجعلها حلالًا لِزَوْجِهَا الأول)

4651 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَمَّن قَالَ: إنَّ الْمَرْأَةَ الْمُطَلَّقَةَ إذَا وَطِئَهَا الرَّجُلُ فِي الدُّبُرِ تَحِلُّ لِزَوْجِهَا، هَل هُوَ صَحِيحٌ أَمْ لَا؟

فَأجَابَ: هَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْمَشْهُورِينَ وَغَيْرِهِمْ مِن أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا: "لَا، حَتَّى تَذُوقي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَك"

(1)

، وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهُ لَا بُدَّ مِن الْعُسَيْلَةِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ بِالدُّبُرِ، وَلَا يُعْرَفُ فِي هَذَا خِلَافٌ. [32/ 109]

* * *

(حكم طلاق المرتد ونكاحه)

4652 -

إذَا ارْتَدَّ وَلَمْ يَعُدْ إلَى الْإِسْلَامِ حَتى انْقَضَتْ عِدَّةُ امْرَأَتِهِ: فَإِنَّهَا تَبِينُ مِنْهُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ.

وَإِذَا طَلَّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ: فَقَد طَلَّقَ أَجْنَبِيَّةً فَلَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ.

فَإِذَا عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا.

وَإِن طَلَّقَهَا فِي زَمَنِ الْعِدَّةِ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ إلَى الْإِسْلَامِ: فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ. [32/ 190 - 191]

* * *

‌بَابٌ طَلَاقِ السُّنَّةِ وَطلَاقِ الْبدْعَةِ

‌(ما يَحِلُّ مِن الطَّلَاقِ وَيَحْرُمُ وَهَل يَلْزَمُ الْمُحَرَّمُ

؟)

(2)

4653 -

الطَّلَاقُ مِنْهُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَمِنْهُ مَا لَيْسَ

(1)

رواه البخاري (2639)، ومسلم (1433).

(2)

هذه رسالة تُسمى: البغدادية فيما يحل من الطلاق ويحرم، وقد جزأت أهم ما جاء فيها في هذه الفقرات.

قال المرداوي في الإنصاف (8/ 448): قَوْلُهُ (أي: المصنف): "السُّنَّةُ أنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً =

ص: 59

بِمُحَرَّمٍ؛ فَالطَّلَاقُ الْمُبَاحُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ هُوَ أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ طَلْقَةً وَاحِدَةً إذَا طَهُرَتْ مِن حَيْضَتِهَا بَعْدَ أَنْ تَغْتَسِلَ وَقَبْلَ أَنْ يَطَأَهَا، ثُمَّ يَدَعَهَا فَلَا يُطَلِّقَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا.

وَهَذَا الطَّلَاقُ يُسَمَّى: طَلَاقَ السُّنَّةِ.

فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ: فَلَهُ ذَلِكَ بِدُونِ رِضَاهَا وَلَا رضى وَليِّهَا وَلَا مَهْرٍ جَدِيدٍ.

وَإِن تَرَكَهَا حَتَّى تَقْضِيَ الْعِدَّةَ: فَعَلَيْهِ أَنْ يُسَرِّحَهَا بِإِحْسَان فَقَد بَانَتْ مِنْهُ.

فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ، لَكِنْ يَكُونُ بِعَقْدٍ، كَمَا لَو تَزَوَّجَهَا ابْتِدَاءً، أَو تَزَوَّجَهَا غَيْرُهُ، ثُمَّ ارْتَجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ، أَو تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ وَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا، فَإِنَّهُ يُطَلّقُهَا كَمَا تَقَدَّمَ.

ثُمَّ إذَا ارْتَجَعَهَا، أَو تَزَوَّجَهَا مَرَّةً ثَانِيَةً وَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَإِنَّهُ يُطَلِّقُهَا كَمَا تَقَدَّمَ.

فَإِذَا طَلَّقَهَا الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ: حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ كَمَا حَرَّمَ اللهُ ذَلِكَ وَرَسُولُهُ.

وَحِينَئِذٍ فَلَا تُبَاحُ لَهُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا غَيْرُهُ النِّكَاحَ الْمَعْرُوفَ الَّذِي يَفْعَلُهُ النَّاسُ إذَا كَانَ الرَّجُلُ رَاغِبًا فِي نِكَاحِ الْمَرْأَةِ ثُمَّ يُفَارِقُهَا.

فَأَمَّا إنْ تَزَوَّجَهَا بِقَصْدِ أَنْ يَحِلَّهَا لِغَيْرِهِ: فَإِنَّهُ مُحَرَّمٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَمَا نُقِلَ عَن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان وَغَيْرِهِمْ، وَكَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ النُّصُوصُ النَّبَوِيَّةُ وَالْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّة.

= في طُهْرِ لم يُصِبْهَا فيه ثُمَّ يَدَعَهَا حتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا" وَهَذَا بِلَا نِزَاعٍ.

وَلَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا في ثَلَاثَةِ أطْهَارٍ كان حُكمُ ذلك حُكمَ جَمْعِ الثَّلَاثِ في طُهْرِ وَاحِدٍ.

قال الْإِمَامُ أحْمَدُ رحمه الله: طَلَاقُ السُّنَّةِ وَاحِدَةٌ ثُمَّ يَتْرُكُهَا حتى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ. ا هـ.

ص: 60

وَإِن كَانَت الْمَرْأَةُ مِمَّا لَا تَحِيضُ لِصِغَرِهَا أَو كِبَرِهَا: فَإِنَّهُ يُطَلِّقُهَا مَتَى شَاءَ، سَوَاءٌ كَانَ وَطِئَهَا أَو لَمْ يَكُن يَطَؤُهَا؛ فَإِنَّ هَذِهِ عِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، فَفِي أيِّ وَقْتٍ طَلَّقَهَا لِعِدَّتِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْتَدُّ بِقُرُوء وَلَا بِحَمْل.

وَإِنْ طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ أَو طَلَّقَهَا بَعْدَ أَنْ وَطِئَهَا وَقَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا: فَهَذَا الطَّلَاقُ مُحَرَّمٌ، وَيُسَمَّى: طَلَاقَ الْبِدْعَةِ، وَهُوَ حَرَامٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.

وَإِنْ كَانَ قَد تبَيَّنَ حَمْلُهَا وَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا: فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا.

وَهَل يُسَمَّى هَذَا طَلَاقَ سُنَّةٍ؟ أَو لَا يُسَمَّى طَلَاقَ سُنَّةٍ وَلَا بِدْعَةٍ؛ فِيهِ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ.

وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَو كَلِمَاتٍ؛ مِثْل أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، أَو أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ، أَو أَنْتِ طَالِقٌ ثمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ، أَو يَقُولُ: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَو يَقُولُ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، أَو عَشْرَ طَلْقَاتٍ أَو مِائَةَ طَلْقَةٍ، أو ألْفَ طَلْقَةٍ، وَنَحْو ذَلِكَ مِن الْعِبَارَاتِ: فَهَذَا لِلْعُلَمَاءِ مِن السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، سَوَاءٌ كَانَت مَدْخُولًا بِهَا أَو غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا. وَفِيهِ قَوْلٌ رَابِعٌ مُحْدَثٌ مُبْتَدعٌ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ طَلَاقٌ مُبَاحٌ لَازِمٌ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْقَدِيمَةِ عَنْهُ اخْتَارَهَا الخرقي.

الثَّانِي: أَنَّهُ طَلَاقٌ مُحَرَّمٌ لَازِمٌ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَنْهُ.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ مُحَرَّمٌ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَنْقُولٌ عَن طَائِفَةٍ مِن السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِن أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

.

(1)

ظاهرُ من كلام الشيخ رحمه الله أنه لا يرى وقوع طلاق الثلاث، سواء تلفظ بها بكلمة واحدة كقوله: أنت طالق ثلاثًا، أو تلفظ بها بكلمات متفرقة، كقوله: أنت طالق أنت طالق أنت طالق، =

ص: 61

وَأَمَّا الْقَوْلُ الرَّابِعُ الَّذِي قَالَهُ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالشِّيعَةِ: فَلَا يُعْرَفُ عَن أَحَدٍ مِن السَّلَفِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ.

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ؛ فَإِنَّ كُلَّ طَلَاقٍ شَرَعَهُ اللهُ فِي الْقُرْآنِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا إنَّمَا هُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ، لَمْ يُشَرِّعْ اللّهُ لِأَحَد أَنْ يُطَلِّقَ الثَّلَاثَ جَمِيعًا، وَلَمْ يُشَرِّع لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ الْمَدْخُولَ بِهَا طَلَاقًا باينًا - وَلَكِنْ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا بَانَتْ مِنْهُ- فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا

(1)

بَانَتْ مِنْهُ.

= وهذا ما رجحه الشيخ السعدي رحمه الله، والشيخ ابن عثيمين رحمه الله.

واختاروا أن الطلاق لا يقع إِلَّا بعد رجعة أو عقد، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:"والقول الراجح في هذه المسائل كلها: أنه ليس هناك طلاق ثلاث أبدًا، إِلَّا إذا تخلله رجعة، أو عقد، وإلا فلا يقع الثلاث، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو الصحيح". انتهى من الشرح الممتع (13/ 94).

وعلى هذا: فلو تلفظ الزوج بالطلاق الثاني والثالث أثناء عدة الطلاق الأول الذي لم يراجع فيه زوجته: فلا يقع غير الطلاق الأول، وله أن يراجع زوجته ما دامت في العدة.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: الطَّلَاقُ بَعْدَ الرَّجْعَةِ يَقَعُ. اهـ. (33/ 14)

لأنه إذا راجعها قطع وأنهى عدتها، فلو طلقها ثانية فقد طلقها في غير عدتها، ولكن بشرط ألا يطأها، فيكون قد طلقها في طهر جامعها فيه.

وقال الشيخ رحمه الله كذلك: لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يُوجِبُ الْإِلْزَامَ بِالثَّلَاثِ بِمَن أوْقَعَهَا جُمْلَةً بِكَلِمَةٍ أو كَلِمَاتٍ بِدُونِ رَجْعَةٍ أو عَقْد، بأَنْ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ يُرَاجِعَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ يُرَاجِعَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا، وَهَذَا طَلَاقٌ سُنِّيٌّ وَاقِعٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَعْنَى الطَّلَاقِ ثَلَاثًا. اهـ. (33/ 17، 77)

وعلى هذا: فلا يجوز أن يُطَلِّقهَا الثَّانِيةَ وَالثَّالِثةَ قَبْلَ الرَّجْعَةِ، ولو فَرّقَ الطَّلَاقَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَطْهَارِ، فَيُطَلِّقَهَا فِي كُلِّ طُهْرٍ طَلْقَةً. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ السَّلَفِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأصحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَن أحْمَد الَّتِي اخْتَارَهَا أَكْثَرُ أصْحَابِهِ. اهـ. (33/ 76)

وإذا وطِئها لم يحلَّ لهُ أنْ يُطلِّقهَا حتَّى يتبيَّنَ حملُها أو تَطْهُرَ الطُّهرَ الثَّاني.

ووافق العلَّامة ابن باز رحمه الله في الصورة الأولى دون الثَّانية، فيرى وقوع الطلاق الثلاث إذا تلفظ بها بكلمات متفرقة.

لكن قال شيخ الإسلام رحمه الله: ويقع من ثلاث مجموعة أو مفرقة بعد الدخول واحدة، ولا أعلم أحدًا فرَّق بين الصورتين. اهـ. الفتاوى المصرية (5/ 489).

وقال القرطبي رحمه الله: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أنْ يُوقِعَ ثَلَاثًا مُجْتَمِعَةً فِي كَلِمَةٍ أو مُتَفَرِّقَةً فِي كَلِمَاتٍ. اهـ. تفسير القرطبي (3/ 129).

(1)

أي: الْمَدْخُول بِهَا، التي طلقها زوجها.

ص: 62

فَالطَّلَاقُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ:

أ - الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ، وَهُوَ الَّذِي يُمْكِنُهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فِيهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا، وَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا فِي الْعِدَّةِ وَرِثَهُ الْآخَرُ.

ب - وَالطَّلَاقُ الْبَائِنُ، وَهُوَ مَا يَبْقَى بِهِ خَاطِبًا مِن الْخِطَابِ، لَا تُبَاحُ لَهُ إلَّا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ.

ج - والطَّلَاقُ الْمُحَرِّمُ لَهَا، لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَهُوَ فِيمَا إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ كَمَا أَذِنَ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَهُوَ أن يُطَلِّقَهَا ثُمَّ يَرْتَجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ

(1)

، أَو يَتَزَوَّجَهَا

(2)

، ثُمَّ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ يَرْتَجِعَهَا، أَو يَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ، فَهَذَا الطَّلَاقُ الْمُحَرّمُ لَهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.

وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا طَلَاقٌ بَائِنٌ يُحْسَبُ مِن الثَّلَاثِ.

وَلهَذَا كَانَ مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْحَدِيث: أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ لِلنِّكَاحِ وَفُرْقَة بَائِنَةٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ لَا يُحْسَبُ مِن الثَّلَاثِ، وَهَذَا هُوَ الثَّابِتُ عَن الصَّحَابَةِ كَابْنِ عَبَّاس.

وَكَذَلِكَ ثَبَتَ عَن عُثْمَانَ بْنِ عفان وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا: أنَّ الْمُخْتَلِعَةَ لَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، وَإِنَّمَا عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَة.

والْخُلْعُ: أَنْ تَبْذُلَ الْمَرْأَةُ عِوَضًا لِزَوْجِهَا لِيُفَارِقَهَا.

(1)

بشرط أن يكون ذلك عن رغبة، وأما إذا راجعها غيرَ راغب بها، بل كارهٍ لها، وإنما أراد استعجال وقوع الطلاق المحرِّم فلا يصح ارتجاعه والله أعلم.

وهذا جار على أصل شيخ الإسلام، فالعبرة بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ، وقد قال رحمه الله كما سيأتي -: الصحيح أن خلع اليمين لا يصح، كالمحلل؛ لأنه ليس المقصود به الفرقة.

ومثال خلع اليمين: أن يقول: إن سافرت الى البلد الفلاني فأنت طالق، فأراد السفر، فخالع امرأته ليبر بيمينه.

وهكذا من قال: راجعت امرأتي، ولم يقصد حقيقة الارتجاع، بل قصد سرعة الخلاص منها: لم يكن هذا ارتجاعًا لا في اللغة ولا في العرف ولا في الشرع.

(2)

إذا تركها حتى انتهت عدّتها.

ص: 63

قَالَ اللهُ قَالَ: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} بَيَّنَ أَنَّ الطَّلَاقَ الَّذِي ذَكَرَهُ

(1)

هُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ أَحَقَّ بِرَدِّها: هُوَ مَرَّتَانِ، مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، كَمَا إذَا قِيلَ لِلرَّجُلِ: سَبِّحْ مَرَّتَيْنِ، أَو سَبِّحْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَ اللّهِ سُبْحَانَ اللهِ، حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْعَدَدَ.

فَلَو أَرَادَ أَنْ يُجْمِلَ ذَلِكَ فَيَقُولُ: سُبْحَانَ اللّهِ مَرَّتَيْنِ أَو مِائَةَ مَرَّةٍ لَمْ يَكُن قَد سَبَّحَ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَاللهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: الطَّلَاقُ طَلْقَتَانِ؛ بَل قَالَ: {مَرَّتَانِ} ، فَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ أَو ثَلَاثًا أَو عَشْرًا أَو أَلْفًا: لَمْ يَكُن قَد طَلَّقَهَا إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً.

وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأُمِّ الْمُؤمِنِينَ جُوَيْرِيَّةَ: "لَقَد قُلْت بَعْدَك أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ لَو وُرنَتْ بِمَا قُلْته مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ اللهِ زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحَانَ اللهِ رضى نَفْسِهِ، سُبْحَانَ اللهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ"

(2)

.

فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَسْتَحِقُّ التَّسْبِيحَ بِعَدَدِ ذَلِكَ؛ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا وَمِلْءَ مَا شِئْت مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ"، لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ سَبَّحَ تَسْبِيحًا بِقَدْرِ ذَلِكَ؛ فَالْمِقْدَارُ تَارَةً يَكُونُ وَصْفًا لِفِعْلِ الْعَبْدِ، وَفِعْلُهُ مَحْصُورٌ، وَتَارَةً يَكُونُ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ فَذَاكَ الَّذِي يَعْظُمُ قَدْرُهُ، وَإِلَّا فَلَوْ قَالَ الْمُصَلِّي فِي صَلَاتِهِ: سُبْحَانَ اللهِ عَدَدَ خَلْقِهِ لَمْ يَكُنْ قَدْ سَبَّحَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَمَا شَرَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُسَبَّحَ دُبُرَ كُلّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَيُحَمَّدَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَيُكَبَّرَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَلَوْ قَالَ: سُبْحَانَ اللّهِ وَالْحَمْدُ للهِ وَاللّهُ أَكْبَرُ عَدَدَ خَلْقَهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ سَبَّحَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَة.

وَلَا نَعْرِفُ أَنَّ أَحَدًا طَلَّقَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَلْزَمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالثَّلَاثِ، وَلَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَلَا حَسَنٌ، وَلَا

(1)

في الآيات التي قبلها.

(2)

(2726).

ص: 64

نَقَلَ أَهْلُ الْكُتُبِ الْمُعْتَدِّ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ شَيْئًا؛ بَل رُوِيتْ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ كُلُّهَا ضَعِيفَة بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ بَل مَوْضُوعَةٌ.

بَل الَّذِي فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" وَغَيْرِهِ مِن "السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ" عَن طَاوُوسٍ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِن خِلَافَةِ عُمَرَ: طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً، فَقَالَ عُمَرُ: إنَّ النَّاسَ قَد اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَت لَهُم فِيهِ أَنَاةٌ، فَلَو أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ، فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ

(1)

.

وَقَد قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} [النساء: 59] فَأمَرَ الْمُؤمِنِينَ عِنْدَ تَنَازُعِهِمْ بِرَدِّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ، فَمَا تَنَازَعَ فِيهِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ وَجَبَ رَدُّهُ إلَى الْكِتَاب وَالسُّنَّةِ.

وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يُوجِبُ الْإِلْزَامَ بِالثَّلَاثِ بِمَن أَوْقَعَهَا جُمْلَةً بِكَلِمَة أَو كَلِمَاتٍ بِدُونِ رَجْعَةٍ أَو عُقْدَةٍ

(2)

؛ بَل إنَّمَا فِي الْكتَابِ وَالسُّنَّةِ الإِلْزَامُ بِذَلِكَ مَن طَلَّقَ الطَّلَاقَ الَّذِي أَبَاحَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَعَلَى هَذَا يَدُلُّ الْقِيَاسُ وَالاِعْتِبَارُ بِسَائِرِ أُصُولِ الشَّرْعِ؛ فَإِنَّ كُلَّ عَقْدٍ يُبَاحُ تَارَةً وَيَحْرُمُ تَارَةً -كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ- إذَا فُعِلَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُحَرَّمِ لَمْ يَكُن لَازِمًا نَافِذًا كَمَا يَلْزَمُ الْحَلَالُ الَّذِي أَبَاحَهُ اللّهُ وَرَسُولُهُ.

وَهَذَا بِخِلَافِ مَا كَانَ مُحَرَّم الْجِنْسِ؛ كَالظِّهَارِ وَالْقَذْفِ وَالْكَذِبِ وَشَهَادَةِ الزُّورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا يَسْتَحِقُّ مَن فَعلَه الْعُقُوبَةَ بِمَا شَرَعَهُ اللّهُ مِن الْأحْكامِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَكونُ تَارَةً حَلَالًا وَتَارَةً حَرَامًا حَتَّى يَكُونَ تَارَةً صَحِيحًا

(1)

رواه مسلم (1472).

(2)

لعل الصواب: (عَقْد)، وجاء هكذا في جامع المسائل (1/ 392): وكذلك المطلِّق ثلاثًا بكلمة أو كلماتٍ بدون رجعةٍ أو عقدٍ قد أتَى بمنكرٍ من القول، فيجب أن لا يقع به. اهـ.

ص: 65

وَتَارَة فَاسِدًا

(1)

.

وَفِي "الصَّحِيحِ" وَ"السُّنَنِ" وَ"الْمَسَانِيدِ" عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَذَكَرَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ انْ شَاءَ بَعْدُ أَمْسَكَهَا، وَإِن شَاءَ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَهَا، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ"

(2)

وَفِي رِوَايَةٍ فِي "الصَّحِيحِ"

(3)

: أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُطَلّقَهَا طَاهِرًا أَو حَامِلًا".

وَفِي رِوَايَةٍ فِي "الصَّحِيحِ": قَرَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1].

وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِن الصَّحَابَةِ: الطَّلَاقُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:

وَجْهَانِ حَلَالٌ، وَوَجْهَانِ حَرَامٌ:

فَأَمَّا اللَّذَانِ هُمَا حَلَالٌ:

(1)

قال الشيخ في موضع آخر: وَالَّذِينَ لَا يَرَوْنَ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ لَازِمًا يَقُولُونَ: هَذَا هُوَ الْأصْلُ الَّذِي عَلَيْهِ أئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ؛ كَمَالِك وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ: أنَّ إيقَاعَاتِ الْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ لَا تَقَعُ لَازِمَةً؛ كَالْبَيْعِ الْمُحَرَّمِ وَالنِّكَاحِ الْمُحَرَّمِ وَالْكتَابَةِ الْمُحَرَّمَةِ؛ وَلهَذَا أبْطَلُوا نِكَاحَ الشَّغَارِ وَنِكَاحَ الْمُحَلِّلِ، وَأَبْطَلَ مَالِكٌ وَأحْمَد الْبَيْعَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عِنْدَ النِّدَاء.

وَهَذَا بِخِلَافِ الظِّهَارِ الْمُحَرَّمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَفْسَهُ مُحَرَّمٌ، كَمَا يَحْرُمُ الْقَذْفُ وَشَهَادَةُ الزُّورِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ وَسَائِرُ الْأَقْوَالِ الَّتِي هِيَ نَفْسُهَا مُحَرَّمَةٌ، فَهَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْقَسِمَ إلَى صَحِيحِ وَغَيْرِ صَحِيحٍ، بَل صَاحِبُهَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ بِكُلِّ حَالٍ، فَعُوقِبَ الْمُظَاهِرُ بِالْكَفَّارَةِ، وَلَمْ يَحْصُلْ مَا قَصَدَهُ بِهِ مِن الطَّلَاقِ؛ فَإِنَّهُم كَانُوا يَقْصِدُونَ بِهِ الطَّلَاقَ وَهُوَ مُوجِبُ لَفْظِهِ، فَأَبْطَلَ الشَّارعُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَوْلٌ مُحَرَّمٌ، وَأوْجَبَ فِيهِ الْكَفَّارَةَ.

أمَّا الطَّلَاق فَجِنْسُهُ مَشْرُوعٌ؛ كَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ، فَهُوَ يَحِلُّ تَارَةً وَيَحْرُمُ تَارَةً، فَيَنْقَسِمُ إلَى صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ، كَمَا يَنقَسِمُ الْبَيْعُ وَالنِّكَاحُ، وَالنَّهْيُ فِي هَذَا الْجِنْسِ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.

وَلَمَّا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُطَلِّقُونَ بِالظِّهَارِ فَأَبْطَلَ الشَّارعُ ذَلِكَ لِأنَّهُ قَوْلٌ مُحَرَّمٌ: كَانَ مُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ قَوْلٍ مُحَرَّمٍ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ، وَإِلَّا فَهُم كَانُوا يَقْصِدُونَ الطَّلَاقَ بِلَفْظِ الظِّهَارِ كَلَفْظِ الْحَرَامِ، وَهَذَا قِيَاسُ أصْلِ الْأئِمَّةِ؛ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. اهـ. (33/ 89 - 90).

(2)

رواه البخاري (5251).

(3)

مسلم (1471).

ص: 66

أ - فَأَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَة طَاهِرًا فِي غَيْرِ جِمَاعٍ.

ب - أَو يُطَلِّقَهَا حَامِلًا قَد اسْتَبَانَ حَمْلُهَا.

وَأَمَّا اللَّذَانِ هُمَا حَرَامٌ:

أ - فَأَنْ يُطَلِّقَهَا حَائِضًا.

ب - أَو يُطَلِّقَهَا بَعْدَ الْجِمَاعِ لَا يَدْرِي اشْتَمَلَ الرَّحِمُ عَلَى وَلَدٍ أَمْ لَا.

رَوَاهُ الدارقطني وَغَيْرُهُ.

وَقَد بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا إِلَّا إذَا طَهُرَتْ مِن الْحَيْضِ قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَهَا، وَهَذَا هُوَ الطَّلَاقُ لِلْعِدَّةِ؛ أَيْ: لِاسْتِقْبَالِ الْعِدَّةِ فَإِنَّ ذَلِكَ الطُّهْرَ أَو الْعِدَّةَ.

فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْعِدَّةِ يَكُونُ قَد طَلَّقَهَا قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي أَذِنَ اللّهُ فِيهِ، وَيَكُونُ قَد طَوَّلَ عَلَيْهَا التَّرَبُّصَ، وَطَلَّقَهَا مِن غَيْرِ حَاجَةٍ بِهِ إلَى طَلَاقِهَا.

فَإِذَا طَلَّقَهَا لَمْ تَزَلْ فِي الْعِدَّةِ مُتَرَبِّصَةً ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ، وَهُوَ مَالِكٌ لَهَا يَرِثُهَا وَتَرِثُهُ، وَلَيْسَ لَهُ فَائِدَةٌ فِي تَعْجِيلِ الطَّلَاقِ قَبْلَ وَقْتِهِ

(1)

.

وَلهَذَا جَوَّزَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ الْخُلْعَ فِي الْحَيْضِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى قَوْلِ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ لَيْسَ بِطَلَاق؛ بَل فُرْقَةٌ بَائِنَةٌ، وَهُوَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمْ تُسْتَبْرأُ بِحَيْضَة، لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا؛ وَلِأَنَّهَا تَمْلِكُ نَفْسَهَا بِالاِخْتِلَاعِ، فَلَهُمَا فَائِدَةٌ فِي تَعْجِيلِ الْإِبَانَةِ لِرَفْعِ الشَّرِّ الَّذِي بَيْنَهُمَا، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ فَإِنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي تَعْجِيلِهِ قَبْلَ وَقْتِهِ؛ بَل ذَلِكَ شَرٌّ بِلَا خَيْرٍ.

وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِابْنِ عُمَرَ: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا" مِمَّا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ فِي مُرَادِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:

(1)

فليس له في ذلك فائدة سوى شفاء كيظه، وقهر المرأة والتنغيص عليها في الغالب.

ص: 67

فَفَهِمَ مِنْهُ طَائِفَةٌ مِن الْعُلَمَاءِ: أَنَّ الطَّلَاقَ قَد لَزِمَهُ فَأمَرَ أَنْ يَرْتَجِعَهَا، ثمَّ يُطَلِّقَهَا فِي الطُّهْرِ إنْ شَاءَ.

وَفَهِمَ طَائِفَةٌ أُخْرَى: أَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا فَارَقَهَا بِبَدَنِهِ كَمَا جَرَت الْعَادَةُ مِن الرَّجُلِ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ اعْتَزَلَهَا بِبَدَنِهِ وَاعْتَزَلَتْهُ ببَدَنِهَا، فَقَالَ لِعُمَرِ:"مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا"، وَلَمْ يَقُلْ:"فَلْيَرْتَجِعْهَا"، وَالْمُرَاجَعَةَ مُفَاعَلَةٌ مِن الْجَانِبَيْنِ؛ أَيْ: تَرْجِعُ إلَيْهِ بِبَدَنِهَا فَيَجْتَمِعَانِ كَمَا كَانَا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَلْزَمْهُ، فَإِذَا جَاءَ الْوَقْتُ الَّذِي أَبَاحَ اللّهُ فِيهِ الطَّلَاقَ طَلَّقَهَا حِينَئِذٍ إنْ شَاءَ.

قَالَ هَؤُلَاءِ: وَلَو كَانَ الطَّلَاقُ قَد لَزِمَ لَمْ يَكُن فِي الْأَمْرِ بِالرَّجْعَةِ لِيُطَلِّقَهَا طَلْقَةً ثَانِيَهً فَائِدَةٌ؛ بَل فِيهِ مَضَرَّة عَلَيْهِمَا؛ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ فِي الطَّلَاقِ مَعَ الْأَوَّلِ تَكْثِيرُ الطَّلَاقِ، وَتَطْوِيلُ الْعِدَّةِ، وَتَعْذِيبُ الزَّوْجَيْنِ جَمِيعًا.

وَقَوْلُ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ أَشْبَهُ بِالْأصُولِ وَالنُّصُوصِ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُتَنَاقِضٌ؛ إذ الْأصْلُ الَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْفُقَهَاءُ: أَنَّ الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُودَ الْمُحَرَّمَةَ إذَا فُعِلَتْ عَلَى الْوَجْهِ الْمُحَرَّمِ لَمْ تَكُنْ لَازِمَةً صَحِيحَة، وَهَذَا وَإِن كَانَ نَازَعَ فِيهِ طَائِفَة مِن أَهْلِ الْكلَامِ، فَالصَّوَابُ مَعَ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَانِ كَانُوا يَسْتَدِلُّونَ عَلَى فَسَادِ الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُوبَةِ

(1)

بِتَحْرِيمِ الشَّارعِ لَهَا، وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ عَنْهُمْ.

وَأَيْضًا: فَإِنْ لَمْ يَكن ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى فَسَادِهَا لَمْ يَكُن عَن الشَّارعِ مَا يُبَيِّنُ الصَّحِيحَ مِن الْفَاسِدِ، فَإِنَّ الَّذِينَ قَالُوا: النَّهْيُ لَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ قَالُوا: نَعْلَمُ صِحَّةَ الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُودِ وَفَسَادَهَا بِجَعْلِ الشَارعِ هَذَا شَرْطًا أَو مَانِعًا وَنَحْو ذَلِكَ.

(1)

هكذا في جميع المصادر، ولا معنى لها، ولعل الصواب: والعقودِ.

ص: 68

وَالسَّلَفُ أَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ وَالْجُمْهُورُ يُسَلِّمُونَ أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ، وَلَا يَذْكُرُونَ فِي الاِعْتِذَارِ عَن هَذِهِ الصُّورَةِ فَرْقًا صَحِيحًا؛ بَل هَذَا الْأَصْلُ أَصْل عَظِيمٌ عَلَيْهِ مَدَارُ كَثِيرٍ مِن الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَلَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ بِقَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ لَيْسَ مَعَهُم نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ؛ بَل الْأصُولُ وَالنُّصُوصُ لَا تُوَافِقُ بَل تُنَاقِضُ قَوْلَهُمْ.

وَمَن تَدَبَّرَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ اللهَ لَمْ يُشَرِّعْ الطَّلَاقَ الْمُحَرِّمَ

(1)

جُمْلَةً قَطُّ، وَأَمَّا الطَّلَاقُ الْبَائِنُ فَإِنَّهُ شَرَّعَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. [33/ 5 - 30]

وَلَكِن الَّذِينَ خَالَفُوا قِيَاسَ أُصُولِهِمْ فِي الطَّلَاقِ خَالَفُوهُ لِمَا بَلَغَهُم مِن الْآثَارِ، فَلَمَّا ثَبَتَ عِنْدَهُم عَن ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ اعْتَدَّ بِتِلْكَ التَّطْلِيقَةِ الَّتِي طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ قَالُوا: هُم أَعْلَمُ بِقِصَّتِهِ فَاتَّبَعُوهُ فِي ذَلِكَ، وَمَن نَازَعَهُم يَقُولُ: مَا زَالَ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ يَرْوُونَ أَحَادِيثَ وَلَا تَأْخُذُ الْعُلَمَاءُ بِمَا فَهِمُوهُ مِنْهَا؛ فَإِنَّ الاِعْتِبَارَ بِمَا رَوَوْهُ لَا بِمَا رَأَوْهُ وَفَهِمُوة.

وَقَد تَرَكَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي فَسَّرَ بِهِ قَوْلَهُ: "فَاقْدُرُوا لَهُ".

وَتَرَكَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمَا تَفْسِيرَهُ لِحَدِيثِ: "الْبَيِّعَيْنِ بِالْخِيَارِ"، مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ هُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ.

وَتَرَكَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ تَفْسِيرَهُ لِقَوْلِهِ: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} ، وَقَوْلِهِ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَذَا

(2)

.

(1)

أي: الْمُحَرّم على الزوج الرجوع إلى زوجته حتى تنكح زوجًا غيره.

(2)

يُشير إلى ما رواه البخاري في صحيحه (4527)، عَن ابْنِ عُمَرَ في قوله تعالىْ قَالَ:{فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] يَأْتِيهَا فِي .. هكذا فعل البخاري، لم يُكمل الحديث، ربما تنزهًا، وربما هكذا وصلت إليه. وقد صح =

ص: 69

وَكَذَلِكَ إذَا خَالَفَ الرَّاوِي مَا رَوَاهُ، كَمَا تَرَكَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُم قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا، مَعَ أَنَّهُ رَوَى حَدِيثَ بَرِيرَةَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَيَّرَهَا بَعْدَ أَنْ بِيعَتْ وَعَتَقَتْ، فَإِنَّ الاِعْتِبَارَ بِمَا رَوَوْهُ لَا مَا رَأَوْهُ وَفَهِمُوهُ. [33/ 90]

4654 -

الطَّلَاقُ نَوْعَانِ:

أ - نَوْعٌ أَبَاحَهُ اللّهُ.

ب - وَنَوْعٌ حَرَّمَهُ.

فَالَّذِي أَبَاحَهُ: أَنْ يُطَلّقَهَا إذَا كَانَت مِمَن تَحِيضُ بَعْدَ أَنْ تَطْهُرَ مِن الْحَيْضِ قَبْلَ أَنْ يَطَأَهَا، وَيُسَمَّى طَلَاقَ السُّنَّةِ.

فَإِنْ كَانَت مِمَن لَا تَحِيضُ: طَلَّقَهَا أَيَّ وَقْتٍ شَاءَ، أَو يُطَلِّقُهَا حَامِلًا قَد تَبَيَّنَ حَمْلُهَا.

فَإِنْ طَلَّقَهَا بِالْحَيْضِ أَو فِي طُهْرٍ بَعْدَ أَنْ وَطِئَهَا: كَانَ هَذَا طَلَاقًا مُحَرَّمًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي وُقُوعِهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ.

وَطَلَاقُ السُّنَّةِ الْمُبَاح:

أ - إمَّا أَنْ يُطَلّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً وَيَدَعَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ فَتَبِينُ.

ب - أَو يُرَاجِعُهَا فِي الْعِدَّةِ.

فَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، أَو طَلَّقَهَا الثَّانِيَةَ، أَو الثَّالِثَةَ فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ: فَهَذَا حَرَامٌ، وَفَاعِلُهُ مُبْتَدِعٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ.

= التصريح بذلك عند الطبري وغيره عن نَافِع أنه نَقَلَ عَن ابْن عُمَرَ أَنَّهُ لَمَّا قَرَأ عَلَيْهِ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} قَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: إنَّهَا نَزَلَتْ فِي إتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَ.

والشيخ جزم هنا أنّ هذا هو رأي ابن عمر، وكان قد تردد في موضع آخر، حيث قال: وَمِن النَّاسِ مَن يَقُولُ: ابْنُ عُمَرَ هُوَ الَّذِي غَلِطَ فِي فَهْمِ الْآيَةِ. وَاللّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ. اهـ. (32/ 266).

ص: 70

وَكَذَلِكَ إذَا طَلَّقَهَا الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ قَبْلَ الرَّجْعَةِ أَو الْعَقْدِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَغَيْرِهِمَا.

وَلَكنْ هَل يَلْزَمُهُ وَاحِدَةٌ أَو ثَلَاثٌ؟ فِيهِ قَوْلَانِ:

قِيلَ: يَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.

وَقيلَ: لَا يَلْزَمُهُ إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِن السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَظْهَرُ.

وَفِي "مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَد"

(1)

بِإِسْنَاد جَيِّدٍ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ركانة بْنَ عَبْدِ يَزِيدَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"هِيَ وَاحِدَةٌ". وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِإِسْنَاد ثَابِتٍ أَنَّهُ أَلْزَمَ بِالثَّلَاثِ لِمَن طَلَّقَهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً.

وَحَدِيثُ ركانة الَّذِي يَرْوِي فِيهِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَألَهُ وَقَالَ:"مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً": ضَعِيفٌ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، ضَعَّفَهُ أَحْمَد وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ حَزْمٍ؛ بِأَنَّ رُوَاتَهُ لَيْسُوا مَوْصُوفِينَ بِالْعَدْلِ وَالضَّبْطِ.

وَبَيَّنَ أَحْمَد: أَنَّ الصَّحِيحَ فِي حَدِيثِ ركانة: أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَجَعَلَهَا وَاحِدَةً. [32/ 66 - 67، 33/ 72 - 73]

* * *

‌({لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا

(1)})

4655 -

قَالَ تَعَالَى: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)} [الطلاق: 1] قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْعُلَمَاءِ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ هُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ، فَإِنَّهُ لَو شَرَعَ إيقَاعَ الثَّلَاثِ عَلَيْهِ لَكَانَ

(1)

(2387).

ص: 71

الْمُطَلِّقُ يَنْدَمُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَلَا سَبِيلَ إلَى رَجْعَتِهَا، فَيَحْصُلُ لَهُ ضَرَرٌ بِذَلِكَ، وَاللهُ أَمَرَ الْعِبَادَ بِمَا يَنْفَعُهُم وَنَهَاهُم عَمَّا يَضُرُّهُمْ؛ وَلهَذَا قَالَ تَعَالَى أَيْضًا بَعْدَ ذَلِكَ:{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ لَا يَكُونُ فِي الثَّلَاثِ وَلَا فِي الْبَائِنِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] فَأَمَرَ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الرَّجْعَةِ، وَالْإِشْهَادُ عَلَيْهَا مَأْمُورٌ بِهِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ.

وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْإِشْهَادِ حِينَ قَال: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} وَالْمُرَادُ هُنَا بِالْمُفَارَقَةِ: تَخْلِيَةُ سَبِيلِهَا إذَا قَضَت الْعِدَّةَ، وَهَذَا لَيْسَ بِطَلَاق وَلَا بِرَجْعَة وَلَا نِكَاحٍ.

وَالْإِشْهَادُ فِي هَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، فَعُلِمَ أَنَّ الْإِشْهَادَ إنَّمَا هُوَ عَلَى الرَّجْعَةِ.

وَمِن حِكْمَةِ ذَلِكَ: أَنَّهُ قَد يُطَلّقُهَا وَيَرْتَجِعُهَا فَيُزَيِّنُ لَهُ الشَّيْطَان كِتْمَانَ ذَلِكَ حَتَّى يُطَلّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ طَلَاقًا مُحَرِّمًا وَلَا يَدْرِي أَحَدٌ، فَتَكُونُ مَعَهُ حَرَامًا، فَأَمَرَ اللهُ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الرَّجْعَةِ؛ لِيُظْهِرَ أَنَّهُ قَد وَقَعَتْ بِهِ طَلْقَةٌ، كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَن وَجَدَ اللُّقَطَةَ انْ يُشْهِدَ عَلَيْهَا؛ لِئَلَّا يُزَيِّنَ الشَّيْطَانُ كِتْمَانَ اللُّقَطَةِ.

وَهَذَا بِخِلَافِ الطَّلَاقِ، فَإِنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا وَلَمْ يُرَاجِعْهَا؛ بَل خَلَّى سَبِيلَهَا فَإِنَّهُ يَظْهَرُ لِلنَّاسِ أنَّهَا لَيْسَت امْرَأَتَهُ؛ بَل هِيَ مُطَلَّقَةٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَقِيَتْ زَوْجَةً عِنْدَهُ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي النَّاسُ أطَلَّقَهَا أَمْ لَمْ يُطَلِّقْهَا. [33/ 33 - 34]

* * *

ص: 72

(بَابُ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ)

4656 -

الْأَيْمَانُ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا النَّاسُ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَيْمَانُ الْمُسْلِمِينَ.

والثَّاني: أَيْمَانُ الْمُشْرِكِينَ.

فَالْقِسْمُ الثَّانِي الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ؛ كَالْحَلِفِ بِالْكَعْبَةِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْمَشَايِخِ وَالْمُلُوكِ وَالْآبَاءِ وَالسيْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْلِفُ بِهَا كَثِيرٌ مِن النَّاسِ، فَهَذِهِ الْأَيْمَانُ لَا حُرْمَةَ لَهَا؛ بَل هِيَ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَى مَن حَنِثَ فِيهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَل مَن حَلَفَ بِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُوَحِّدَ اللّهَ تَعَالَى، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَن حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ: وَاللَّاتِ وَالْعُزى فَلْيَقُلْ: لَا إلَهَ إلَّا اللّهُ"

(1)

.

وَالنَّذْرُ لِلْمَخْلُوقَاتِ أَعْظَمُ مِن الْحَلِفِ بِهَا، فَمَن نَذَرَ لِمَخْلُوق لَمْ يَنْعَقِدْ نَذْرُهُ، وَلَا وَفَاءَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ؛ مِثْل مَن يُنْذِرُ لِمَيِّت مِن الْأنْبِيَاءِ وَالْمَشَايخِ وَغَيْرِهِمْ.

وَأَمَّا الْحَلِفُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ أَيْضًا مَنْهِي عَنْهُ وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِ الْيَمِينُ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ، هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَعَنْهُ تَنْعَقِدُ بِهِ الْيَمِينُ.

النَّوْعُ الثَّانِي: أَيْمَانُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ حَلَفَ بِاسْمِ اللّهِ فَهِيَ أَيْمَانٌ مُنْعَقِدَةٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَفِيهَا الْكَفَّارَةُ إذَا حَنِثَ.

وَإِذَا حَلَفَ بِمَا يَلْتَزِمُهُ للّهِ؛ كَالْحَلِفِ بِالنَّذْرِ وَالظّهَارِ وَالْحَرَامِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ؛ مِثْل أَنْ يَقُولَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ عَشْرُ حِجَجٍ، أَو فَمَالِي صَدَقَةٌ،

(1)

رواه البخاري (4860)، ومسلم (1647).

ص: 73

أَو عَلَيَّ صِيَامُ شَهْرٍ، أَو فَنِسَائِي طَوَالِقُ، أَو عَبِيدِي أَحْرَارٌ، أَو يَقُولُ: الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ لَا أَفْعَلُ كَذَا، أَو الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا، أَو إلَّا فَعَلْت كَذَا، وَإِن فَعَلْت كَذَا فَنِسَائِي طَوَالِقُ، أَو عَبِيدِي أَحْرَارٌ وَنَحْو ذَلِكَ: فَهَذِهِ الْأَيْمَانُ أَيْمَانُ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَهِيَ أَيْمَانٌ مُنْعَقِدَةٌ.

وَقَالَ طَائِفَةٌ: بَل هُوَ مِن جِنْسِ الْحَلِفِ بِالْمَخْلُوقَاتِ فَلَا تَنْعَقِدُ.

وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَهُوَ قَوْلُ الصَّحَابَةِ.

فَقَوْلُ الْقَائِلِ: للّهِ عَلَيَّ أَنْ أَفْعَلَ كَذَا: إنْ قَصَدَ بِهِ الْيَمِينَ فَهُوَ يَمِينٌ، كَمَا لَو قَالَ: للّهِ عَلَيَّ كَذَا، أَو أنْ أَقْتُلَ فُلَانًا: فَعَلَيه كَفَّارَةٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ.

وَالصَّحِيحُ: أَنَّ هَذِهِ الْأَيْمَانَ كُلّهَا فِيهَا كَفَّارَةٌ إذَا حَنِثَ، وَلَا يَلْزَمُهُ إذَا حَنِثَ لَا نَذْرٌ وَلَا طَلَاقٌ وَلَا عَتَاقٌ وَلَا حَرَامٌ.

فَلِلْعُلَمَاءِ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ أَكْثَرُ مِن أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:

أ - قِيلَ: يَلْزَمُهُ مُطْلَقًا؛ كَقَوْلِ الْأَرْبَعَةِ.

ب - وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُهُ مُطْلَقًا؛ كَقَوْلِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّافِعِيّ وَابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِمَا.

ج - وَقِيلَ: إنْ قَصَدَ بِهِ الْيَمِينَ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الصَّحَابَةِ: الْيَمِينُ.

فَفِي لُزُومِ الْكَفَّارَةِ قَوْلَانِ: أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ إذَا كَانَت الْيَمِينُ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ.

فَإِنْ كَانَت الْيَمِينُ عَلَى مَاضٍ أَو حَاضِرٍ قَصْدُهُ بِهِ الْخَبَرَ -لَا الْحَضَّ وَالْمَنْعَ-؛ كَقَوْلِهِ: وَاللّهِ لَقَد فَعَلْت كَذَا، أَو لَمْ أَفْعَلْة، وَقَوْلُهُ: الطَّلَاقُ

ص: 74

يَلْزَمُنِي لَقَد فَعَلْت كَذَا، أَو لَمْ أَفْعَلْهُ، أَو الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ لَقَد فَعَلْت كَذَا: فَهَذَا:

أ - إمَّا أَنْ يَكُونَ مُعْتَقِدًا صِدْقَ نَفْسِهِ.

ب - أَو يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ.

فَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ صِدْقَ نَفْسِهِ: فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَيْمَانِ، وَهَذَا أَظْهَرُ قَوْلَي الشَّافِعِيّ، وَالرّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَن أَحْمَد.

فَمَن حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ أَو غَيْرِهِمَا عَلَى شَيءٍ يَعْتَقِدُهُ؛ كَمَا لَو حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ: فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ.

فَإِذَا كَانَت الْيَمِينُ غَمُوسًا -وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ كَاذِبًا عَالِمًا بِكَذِبِ نَفْسِهِ- فَهَذِهِ الْيَمِينُ يَأْثَمُ بِهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللهَ مِنْهَا، وَهِيَ كَبِيرَةٌ مِن الْكَبَائِرِ، لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَن حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَاجِرةٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ"

(1)

.

ثُمَّ إنْ كَانَت مِمَّا يُكَفّرُ: فَفِيهَا كَفَّارَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ، وَأَمَّا الْأَكْثَرُونَ فَقَالُوا: هَذِهِ أَعْظَمُ مِن أَنْ تُكَفَّرَ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ.

قَالُوا: وَالْكَبَائِرُ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا، كَمَا لَا كَفَّارَةَ فِي السَّرِقَةِ وَالزنى وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَكَذَلِكَ قَتْلُ الْعَمْدِ لَا كَفَارَةَ فِيهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.

(1)

رواه البخاري (2357)، ومسلم (138).

ص: 75

وَإِذَا حَلَفَ بِالْتِزَامِ يَمِينٍ غَمُوسٍ؛ مِثْل أَنْ يَقُولَ: الْحِلُّ عَلَيْهِ حَرَامٌ مَا فَعَلْت كَذَا، أَو الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي مَا فَعَلْت كَذَا، أَو إنْ فَعَلْت كَذَا فَمَالِي صَدَقَةٌ، أَو فَعَلَيَّ الْحَجُّ، أَو فَنِسَائِي طَوَالِقُ، أَو عَبِيدِي أَحْرَارٌ:

أ - فَقِيلَ: تَلْزَمُهُ هَذِهِ اللَّوَازِمُ.

ب - وَالْقَوْلُ الثانِي: أَنَّ هَذَا كَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ بِاللّهِ هِيَ مِن الْكَبَائِرِ وَلَا يَلْزَمُهُ مَا الْتَزَمَهُ مِن النَّذْرِ وَالطَّلَاقِ وَالْحَرَامِ، وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ.

وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَكُلُّ مَن لَمْ يَقْصِدْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ نَذْرٌ وَلَا طَلَاقٌ وَلَا عَتَاقٌ وَلَا حَرَامٌ، سَوَاءٌ كَانَت الْيَمِينُ مُنْعَقِدَةً، أَو كَانَت غَمُوسًا، أَو كَانَت لَغْوًا

(1)

.

وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالنَّذْرُ لِمَن قَصَدَ ذَلِكَ.

فَإِنَ التَّعْلِيقَ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يُقْصَدُ بِهِ وُقُوعُ الْجَزَاءِ إذَا وَقَعَ الشَّرْطُ: فَهَذَا تَعْلِيق لَازِمٌ، فَإِذَا عَلَّقَ النَّذْرَ أَو الطَّلَاقَ أَو الْعَتَاقَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَزِمَهُ.

فَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إذَا تَطَهَّرْت مِن الْحَيْضِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَو إذَا تَبَيَّنَ حَمْلُك فَأَنْتِ طَالِق: وَقَعَ بِهَا الطَّلَاقُ عِنْدَ الصِّفَةِ، وَكَذَلِكَ إذَا عَلَّقَهُ بِالْهِلَالِ، وَكَذَلِكَ لَو نَهَاهَا عَن أَمْرٍ وَقَالَ: إنْ فَعَلْته فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَهُوَ إذَا فَعَلَتْهُ يُرِيدُ أَنْ يُطَلِّقَهَا: فَإِنَّهُ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَنَحْو هَذَا، [بِخِلَافِ]

(2)

مِثْل أَنْ يَنْهَاهَا عَن فَاحِشَةٍ

(1)

وعامة أيمان الناس بالطلاق والحرام ونحوه لا يقصدون ما الْتزموا به، فلا يجب عليهم سوى كفارة اليمين عند الحنث، فمن قال: علي الطلاق أني ما فعلت كذا، وهو في الحقيقة قد فعله: فلا يجب عليه إِلَّا الكفارة؛ لأنه لم يقصد إيقاع الطلاق.

ومن قال: علي الحرام، أو زوجتي حرام علي، أو لله على أن أصوم أو أنحر جزورًا أن تأكل عندي، فلم يأكل الرجل عنده، أو قال: أني فعلت كذا وهو كاذب: فليس عليه إِلَّا كفارة اليمين.

أما لو قال: لله عليّ أن أصوم أو أنحر جزورًا إن شفى الله مريضي: فشُفي: فيجب الوفاء بالنذز؛ لأنه قصد ما الْتزمه.

(2)

هكذا في الأصل والنسخ الأخرى، والذي يظهر أنها مقحمة، فلا يصح المعنى بها، وما ذكره بعدُ ليس مُخالفًا لما قبل.

ص: 76

أَو خِيَانَةٍ أَو ظُلْمٍ فَيَقُولُ: إنْ فعلتيه أَنْتِ طَالِقٌ، فَهُوَ وَإِنْ كَانَ يَكْرَهُ طَلَاقَهَا، لَكِنْ إذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ الْمُنْكَرَ كَانَ طَلَاقُهَا أَحَبَّ إلَيْهِ مِن أَنْ يُقِيمَ مَعَهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ.

فَقَد ثَبَتَ عَن الصَّحَابَةِ: أَنَّهُم أَوْقَعُوا الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ إذَا كَانَ قَصْدُهُ وُقُوعَهُ عِنْدَ الشَّرْطِ، كَمَا أَلْزَمُوهُ بِالنَّذْرِ.

بِخِلَافِ مَن كَانَ قَصْدُهُ الْيَمِينَ، وَالَّذِي قَصْدُهُ الْيَمِينُ هُوَ مِثْل الَّذِي يَكرَهُ الشَّرْطَ وَيَكْرَهُ الْجَزَاءَ وَإِن وَقْعَ الشَّرْطُ؛ مِثْل أَنْ يَقُولَ: إنْ سَافَرْت مَعَكمْ فَنِسَائِي طَوَالِقُ، وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ، وَمَالِي صَدَقَة، وَعَلَيَّ عَشْرُ حِجَجٍ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِن دِينِ الْإِسْلَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا مِمَّا يُعْرَفُ قَطْعًا أَنَهُ لَا يُرِيدُ أَنْ تَلْزَمَهُ هَذِهِ الْأمُورُ وَإِن وُجِدَ الشَّرْطُ، فَهَذَا هُوَ الْحَالِفُ. [33/ 122 - 130]

وَهَكَذَا كُلُّ مَن حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَو غَيْرِهِ إنَّمَا يَقْصِدُ بِيَمِينِهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ لِفَرْطِ بُغْضِهِ لَهُ، وَبِهَذَا فَرَّقَ الْجُمْهُورُ بَيْنَ نَذْرِ التَّبَرُّرِ ونَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ، قَالُوا: لِأنَّ الْأَوَّلَ قَصْدُهُ وُجُودُ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، بِخِلَافِ الثَّانِي.

فَإِذَا قَالَ: إنْ شَفَى اللهُ مَرِيضِي فَعَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ، أَو فَعَبْدِي حُرّ: لَزِمَهُ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ.

وَأَمَّا إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ، أَو فَعَبْدِي حُرٌّ، وَقَصْدُهُ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ: فَهَذَا مَوْضِعُ النِّزَاعِ. مَعَ أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَن الْأَئِمَّةِ الْأرْبَعَةِ وُقُوعُ الْعِتْقِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ سَبْعَةَ مِن الصَّحَابَةِ: مِثْل ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَحَفْصَةَ، وَزينَبَ رَبِيبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَجَلُّ مِن أَرْبَعَةٍ

(1)

مِن

(1)

يقصد الأئمة الأربعة: أبا حنيفة ومالكٌ والشافعيّ وأحمدَ رضي الله عنهم.

وتأمل كلامه تجده في غاية الصواب والحق.

ص: 77

عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا قَالُوا هُم وَأَئِمَّةُ التَّابِعِينَ: إنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ الْمَحْلُوفُ بِهِ بَل يُجْزِيه كَفَّارَةُ يَمِينٍ: كَانَ هَذَا الْقَوْلُ - مَعَ دَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ.

فَكَيْفَ يَسُوغُ لِمَن هُوَ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ أَنْ يُلْزِمَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِالْقَوْلِ الْمَرْجُوحِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْأَقْيِسَةِ الصَّحِيحَةِ الشَّرْعِيَّةِ، مَعَ مَا لَهُم مِن مَصْلَحَةِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مِن صِيَانَةِ أَنْفُسِهِمْ وَحَرِيمِهِمْ وَأَمْوَالمْ وَأَعْرَاضِهِمْ وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ وَصِلَةِ أَرْحَامِهِمْ وَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى طَاعَةِ اللّهِ وَرَسُولِهِ؛ وَاسْتِغْنَائِهِمْ عَن مَعْصِيَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ: مَا يُوجِبُ تَرْجِيحَهُ لِمَن لَا يَكُونُ عَارِفًا بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَكَيْفَ بِمَن كَانَ عَارِفًا بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. [33/ 137 - 139]

* * *

(الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَبَيْنَ الْحَلِفِ بِالنَّذْرِ)

4657 -

الْفَرْقُ ظَاهِرٌ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَبَيْنَ الْحَلِفِ بِهِ، كَمَا يُعْرَفُ الْفَرْقُ بَيْنَ النَّذْرِ وَبَيْنَ الْحَلِفِ بِالنَّذْرِ:

- فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ يَطْلُبُ مِن اللهِ حَاجَةً فَقَالَ: إنْ شَفَى اللهُ مَرَضِي، أَو قَضَى دَيْنِي، أَو خَلَّصَنِي مِن هَذ الشِّدَّةِ، فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، أَو أَصُومَ شَهْرًا، أَو أَعْتِقَ رَقَبَةً، فَهَذَا تَعْلِيقُ نَذْرٍ، يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.

- وَإِذَا علّقَ النَّذْرَ عَلَى وَجْهِ الْيَمِينِ فَقَالَ: إنْ سَافَرْت مَعَكُمْ، إنْ زَوَّجْت فُلَانًا، أَنْ أَضْرِبَ فُلَانًا.

إنْ لَمْ أُسَافِرْ مِن عِنْدِكمْ: فَعَلَيَّ الْحَجُّ، أَو: فَمَالِي صَدَقَةٌ، أَو: فَعَلَيَّ عِتْقٌ، فَهَذَا عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ هُوَ حَالِفٌ بِالنَّذْرِ لَيْسَ بِنَاذِر، فَإِذَا لَمْ يَفِ بِمَا الْتَزَمَهُ أَجْزَأَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ.

ص: 78

- وَكَذَلِكَ أَفْتَى الصَّحَابَةُ فِيمَن قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ؛ أَنَّهُ يَمِينٌ، يَجْزِيه فِيهَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ. [33/ 36 - 37]

* * *

(المفاسد المترتبة على القول بوقوع الطلاق لمن حلف به وحنث، والطَّلَاق الْمُحَرَّم، وجَمْع الثَّلَاثِ، وطَلاق السَّكْرَانِ والْمُكْرَهِ)

4658 -

لَمَّا حَدَثَ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَاعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِن الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْحَانِثَ يَلْزَمُهُ مَا أَلْزَمَهُ نَفْسَهُ، وَلَا تُجْزِيه كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَاعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنْهُم أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ يَلْزَمُ، وَاعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنْهُم أَنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ لَيْسَ بِمُحَرَّمِ، وَاعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنْهُم أَنَّ طَلَاقَ السَّكْرَانِ يَقَعُ، وَاعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنْهُم أَنَّ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ يَقَعُ، وَكَانَ بَعْضُ هَذ الْأَقْوَالِ مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ الصَّحَابَةُ، وَبَعْضُهَا مِمَّا قِيلَ بَعْدَهُمْ: كَثُرَ اعْتِقَادُ النَّاسِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ مَعَ مَا يَقَعُ مِن الضَّرَرِ الْعَظِيمِ وَالْفَسَادِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا بِمُفَارَقَةِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ.

فَصَارَ الْمُلْزِمُونَ بِالطَّلَاقِ فِي هَذ الْمَوَاضِعِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا حِزْبَيْنِ:

أ - حِزْبًا اتَّبَعُوا مَا جَاءَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ فِي تَحْرِيمِ التَّحْلِيلِ فَحَرَّمُوا هَذَا، مَعَ تَحْرِيمِهِمْ لِمَا لَمْ يُحَرِّمْهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مِن تِلْكَ الصُّوَرِ، فَصَارَ فِي قَوْلِهِمْ مِن الْأَغْلَالِ وَالْآصَارِ وَالْحَرَجِ الْعَظِيمِ الْمُفْضي إلَى مَفَاسِدَ عَظِيمَةٍ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا أُمُورٌ مِنْهَا:

أ - رِدَّةُ بَعْضِ النَّاسِ عَن الْإِسْلَامِ لَمَّا أُفْتِيَ بِلُزُومِ مَا الْتَزَمَهُ.

ب - وَمِنْهَا سَفْكُ الدَّمِ الْمَعْصُومِ.

ج - وَمِنْهَا زَوَالُ الْعَقْلِ.

د - وَمِنْهَا الْعَدَاوَةُ بَيْنَ النَّاسِ.

هـ - وَمِنْهَا تَنْقِيصُ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ.

ص: 79

إلَى كَثيرٍ مِن الْآثَامِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِن الْأُمُورِ الْعِظَامِ.

ب - وَحِزْبًا رَأَوْا أَنْ يُزِيلُوا ذَلِكَ الْحَرَجَ الْعَظِيمَ بِأَنْوَاعٍ مِن الْحِيَلِ الَّتِي بِهَا تَعُودُ الْمَرْأةُ إلَى زَوْجِهَا

(1)

. [33/ 38]

4659 -

قَوْلُ الْقَائِلِ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ هَذَا الْعَامَ: بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: وَاللّهِ إنْ فَعَلْت كَذَا لَأَحُجَّن هَذَا الْعَامَ.

وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: وَاللهِ إنْ فَعَلْت كَذَا لَيَقَعَن بِي الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ، وَلَأُوقِعَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ، وَهُوَ إذَا فَعَلَة لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ إلَّا إذَا لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ، وَإِذَا لَمْ يُوقِعْهُ لَمْ يَقَعْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْحِنْثِ؛ لِأَنَّ الْحِنْثَ مُعَلَّق بِشَرْطَيْنِ

(2)

.

وَقَد تَقَدَّمَ أَنَّ الرَّجُلَ الْمُعَلِّقَ إنْ كَانَ قَصْدُهُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ وَقَعَ.

وَأَمَّا إذَا كَانَ قَصْدُة الْحَلِفَ وَهُوَ يَكْرَهُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ فَهَذَا حَالِفٌ. [33/ 55 - 56]

4660 -

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: الطَّلَاقُ عَن وَطَرٍ، وَالْعِتْقُ مَا اُبْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللّهِ. ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ".

بَيَّنَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الطَّلَاقَ إنَّمَا يَقَعُ بِمَن غَرَضُهُ أَنْ يُوقِعَهُ، لَا لِمَن يَكْرَهُ وُقُوعَهُ كَالْحَالِفِ بِهِ وَالْمُكرَهِ عَلَيْهِ. [33/ 61]

* * *

(1)

إلى هنا انتهى ما انتقيتُه من الرسالة البغدادية.

(2)

وهما: الأول: إذا فَعَلَت ما نهاها عنه.

الثاني: إذا أوقعَ الطَّلَاقَ أو الْعَتَاقَ.

ص: 80

(ما الحكم إذَا حَلَفَ باللِّه أَو الطَّلَاقِ أَو النَّذْرِ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا فَفَعَلَهُ نَاسِيًا لِيَمِينِهِ أَو جَاهِلًا بِأَنَّهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ)

4661 -

تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا حَلَفَ بِاللّهِ أَو الطَّلَاقِ أَو الظِّهَارِ أَو الْحَرَامِ أَو النَّذْرِ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا فَفَعَلَهُ نَاسِيًا لِيَمِينِهِ أَو جَاهِلًا بِأَنَّهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ: فَهَل يَحْنَثُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِلشَافِعِيِّ وَإِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَن أَحْمَد؟

أَوْ لَا يَحْنَثُ بِحَال؟

(1)

.

أَو يُفَرَّقُ بَيْنَ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ وَغَيْرِهِمَا كَالرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ عَن أَحْمَد؛ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَرْجِعُ فِي الْيَمِينِ إلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ إذَا احْتَمَلَهَا لَفْظُهُ، وَلَمْ يُخَالِف الظَّاهِرَ، أَو خَالَفَهُ وَكَانَ مَظْلُومًا.

وَتَنَازَعوا: هَل يَرْجِعُ إلَى سَبَبِ الْيَمِينِ وَسِيَاقِهَا وَمَا هَيَّجَهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَمَذْهَبُ الْمَدَنِيِّينَ كَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِ أَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى ذَلِكَ، وَالْمَعْرُوفُ فِي مَذْهَب أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ، لَكِنْ فِي مَسَائِلِهِمَا مَا يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ

(2)

. [32/ 86 - 87]

* * *

(أنواع الأيمان وصيغُه)

4662 -

أما الْكَلَامُ الْمُتَعَلِّقُ بِالطَّلَاقِ فَهُوَ:

أ - إمَّا صِيغَةُ تَنْجِيزٍ.

ب - وَإِمَّا صِيغَة تَعْلِيقٍ.

ج - وَإِمَّا صِيغَةُ قَسَمٍ.

(1)

وهو الراجح والعلم عند الله.

(2)

هذا يدل على اطلاع الشيخ على كتب العلماء وأصحاب المذاهب، وسبره لها.

ص: 81

أمَّا صِيغَةُ التَّنْجِيزِ: فَهُوَ إيقَاعُ الطَّلَاقِ مُطْلَقًا مُوْسَلًا مِن غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِصِفَةٍ وَلَا يَمِينٍ؛ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَو مُطَلَّقَةٌ.

وَأَمَّا صِيغَةُ الْقَسَمِ: فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، أَو لَا أَفْعَلُ كَذَا، فَيَحْلِفُ بِهِ عَلَى حَضٍّ لِنَفْسِهِ أَو لِغَيْرِهِ، او مَنْع لِنَفْسِهِ أَو لِغَيْرِهِ، أَو عَلَى تَصْدِيقِ خَبَرٍ أَو تَكْذِيبِهِ، فَهَذَا يَدْخُلُ فِي مَسَائِلِ الطَّلَاقِ وَالْأَيْمَانِ؛ فَإِنَّ هَذَا يَمِين بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ؛ فَإِنَّهَا صِيغَةُ قَسَمٍ، وَهُوَ يَمِينٌ أَيْضًا فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ لَمْ يَتَنَارعُوا فِي أَنَّهَا تُسَمَّى يَمِينًا.

وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي حُكْمِهَا.

وَكَذَلِكَ تَنَازَعُوا فِيمَا إذَا حَلَفَ بِالنَّذْرِ فَقَالَ: إذَا فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَو صَوْمُ شَهْرٍ أَو مَالِي صَدَقَةٌ، لَكِنَّ هَذَا النَّوْعَ اُشْتُهِرَ الْكَلَامُ فِيهِ عَن السَّلَفِ مِن الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالُوا: إِنَّهُ أَيْمَان تُجْزِي فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ؛ لِكَثْرَةِ وُقُوعِ هَذَا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ، بِخِلَافِ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ فِيهِ إنَّمَا عُرِفَ عَن التَّابِعِينَ وَمَن بَعْدَهُمْ، وَتَنَازَعُوا فِيهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ.

وَالثَّالِثُ: صِيغَةُ تَعْلِيق؛ كَقَوْلِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَيُسَمَّى هَذَا طَلَاقًا بِصِفَة.

فَهَذَا:

أ - إمَّا أَنْ يَكُونَ قَصْدُ صَاحِبِهِ الْحَلِفَ، وَهُوَ يَكْرَهُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ إذَا وُجِدَت الصِّفَة.

ب - وَإِمَّا أنْ يَكُونَ قَصْدُهُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الصِّفَةِ.

فَالْأوَّلُ: حُكْمُهُ حُكْمُ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.

وَلَو قَالَ: إنْ حَلَفْتُ يَمِينًا فَعَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ، وَحلفَ بِالطَّلَاقِ: حَنِثَ بِلَا نِزَاع نَعْلَمُهُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ.

ص: 82

وَالثانِي: وَهوَ أَنْ يَكُونَ قَصدَ إيقَاع الطَّلَاقِ عِنْدَ الصِّفَةِ، فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ إذَا وُجِدَت الصِّفَةُ كَمَا يَقَعُ الْمُنجِّزُ عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَكَذَلِكَ إذَا وَقَّتَ الطَّلَاقَ بِوَقْت؛ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِق عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ.

وَقَد ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى وُقُوعِ هَذَا الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ وَلَمْ يَعْلَمْ فِيهِ خِلَافًا قَدِيمًا.

لَكِن ابْنُ حَزْمٍ زَعَمَ أَنَهُ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ، وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِيَّةِ، مَعَ أَنَّ ابْنَ حَزْمٍ ذَكَرَ فِي كِتَابِ "الْإِجْمَاعِ" إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَذَكَرَ أَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ: هَل يَقَعُ الطَّلَاقُ أَو لَا يَقَعُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؟ أَو يَكونُ يَمِينًا مُكَفّرَةً؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، كَمَا أَنَّ نَظَائِرَ ذَلِكَ مِن الْأَيْمَانِ فِيهَا هَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ.

وَهَذَا الضَّرْبُ وَهُوَ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ بِصِفَةٍ يَقْصِدُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عِنْدَهَا، وَلَيْسَ فِيهَا مَعْنَى الْحَضّ وَالْمَنْعِ؛ كَقَوْلِهِ: إنْ طَلَعَت الشَّمْسُ فَأَنْتِ طَالِقٌ: هَل هُوَ يَمِينٌ؟ فِيهِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: هُوَ يَمِينٌ؛ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد.

الثَّافي: أَنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَالْقَوْلِ الْآخَرِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد.

وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ شَرْعًا وَلُغَةً، وَأَمَّا الْعُرْفُ فَيَخْتَلِفُ.

‌فَصْلٌ

وَأَمَّا أَنْوَاعُ الْأَيْمَانِ الثَّلَاثَةِ:

أ - فَالْأوَّلُ: أَنْ يَعْقِدَ الْيَمِينَ بِاللهِ.

ب - والثَّانِي: أَنْ يَعْقِدَهَا للهِ.

ج - وَالثَّالِثُ: أَنْ يَعْقِدَهَا بِغَيْرِ اللهِ أَو لِغَيْرِ اللهِ.

ص: 83

فَأمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ الْحَلِفُ بِاللّهِ، فَهَذِهِ يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ مُكَفِّرَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.

وَأمَّا الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَعْقِدَهَا بِمَخْلُوق أَو لِمَخْلُوق؛ مِثْل: أَنْ يَحْلِفَ بِالطَّوَاغِيتِ أَو بِأَبِيهِ أَو الْكَعْبَةِ أَو غَيْرِ ذَلِكَ مِن الْمَخْلُوقَاتِ: فَهَذِهِ يَمِينٌ غَيْرُ مُحْتَرَمَةٍ لَا تَنْعَقِدُ، وَلَا كَفَّارَةَ بِالْحِنْثِ فِيهَا بِاتّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.

لَكِنَّ نَفْسَ الْحَلِفِ بِهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْحَلِفُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، إلَّا أَنَّ فِي الْحَلِفِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد.

وَقَوْل الْجُمْهُورِ: أَنَّهَا يَمِينٌ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا.

وَأَمَّا عَقْدُهَا لِغَيْرِ اللهِ: فَمِثْل أَنْ ينْذرَ لِلْأَوْثَانِ وَالْكَنَائِسِ، أَو يَحْلِفَ بِذَلِكَ فَيَقُولُ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ لِلْكَنِيسَةِ كَذَا، أَو لِقَبْرِ فُلَانٍ كَذَا وَنَحْو ذَلِكَ، فَهَذَا إنْ كَانَ نَذْرًا فَهُوَ شِرْكٌ وَإِن كَانَ يَمِينًا فَهُوَ شِرْكٌ، إذَا كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ، كَمَا يَقُولُ الْمُسْلِمُ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ هَدْيٌ.

وَأَمَّا إذَا قَالَهُ عَلَى وَجْهِ الْبُغْضِ لِذَلِكَ، كَمَا يَقُولُ الْمُسْلِمُ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ أَو نَصْرَانِيٌّ، فَهَذَا لَيْسَ مُشْرِكًا.

وَمَا كَانَ مِن نَذْرِ شِرْكٍ أَو يَمِينِ شِرْكٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ إلَى اللّهِ مِن عَقْدِهَا، لَيْسَ فِيهَا وَفَاءٌ وَلَا كَفَّارَةٌ، إنَّمَا ذَلِكَ فِيمَا كَانَ للّهِ أَو بِاللّهِ.

وَأَمَّا الْمَعْقُودُ للّهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ التَّقَرُّبَ إلَى اللّهِ، لَا مُجَرَّد أَنْ يَحُضَّ أَو يَمْنَعَ، وَهَذَا هُوَ النَّذْرُ، فَإِنَّهُ قَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ"

(1)

عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ".

(1)

مسلم (1645).

ص: 84

وَثَبَتَ عَنْهُ أَنْ قَالَ: "مَن نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَن نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللهَ فَلَا يَعْصِهِ"

(1)

.

فَإِذَا كَانَ قَصْدُ الْإِنْسَانِ أَنْ يَنْذُرَ للّهِ طَاعَة فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ.

وَإِنْ نَذَرَ مَا لَيْسَ بِطَاعَةٍ لَمْ يَكُن عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ.

وَمَا كَانَ مُحَرَّمًا لَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهِ.

لَكِنْ إذَا لَمْ يُوفِ بِالنَّذْرِ للّهِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَ أَكْثَرِ السَّلَفِ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ الْحَضَّ أَو الْمَنْعَ أَو التَّصْدِيقَ أَو التَّكْذِيبَ

(2)

، فَهَذَا هُوَ الْحَلِفُ بِالنَّذْرِ وَالطَّلَاق وَالْعَتَاق وَالظِّهَار وَالْحَرَام؛ كَقَوْلِهِ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ، وَصَوْمُ سَنَةٍ، وَمَالِي صَدَقَةٌ، وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ، وَنِسَائِي طَوَالِقُ.

فَهَذَا الصِّنْفُ يَدْخُلُ فِي مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ، وَيَدْخُلُ فِي مَسَائِلِ الطَّلَاقِ وَالْعتَاقِ وَالنَذْرِ وَالظِّهَارِ.

وَللْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ مَا حَلَفَ بِهِ إذَا حَنِثَ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: هَذِهِ يَمِين غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ فَلَا شَيْءَ فِيهَا إذَا حَنِثَ، لَا كَفَّارَةَ وَلَا وُقُوعَ؛ لِأنَّ هَذَا حَلِفٌ بِغَيْرِ اللّهِ.

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ أَيْمَان مُكَفّرَةٌ إذَا حَنِثَ فِيهَا كَغَيْرِهَا مِن الْأَيْمَانِ.

والْقَوْلُ الثَّالِثُ: هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَةُ وَالاِعْتِبَارُ، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ أَقْوَالِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْجُمْلَةِ.

(1)

رواه البخاري (6696).

(2)

قال الشيخ في موضع آخر: إِنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ:

أ - إمَّا جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ، فَيَكُونُ مَقْصُودُ الْحَالِفِ التَّصْدِيقَ وَالتَّكذِيبَ.

ب - وَإِمَّا جُمْلَةٌ طَلَبِيَّةٌ، فَيَكُونُ مَقْصُودُ الْحَالِفِ الْحَض وَالْمَنْعَ. اهـ. (33/ 231 - 232)

ص: 85

وَذَلِكَ أَنَّ اللّهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] وَهَذَا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ.

وَالْحِلْف بِالْمَخْلُوقَاتِ شِرْكٌ لَيْسَ مِن أَيْمَانِهِمْ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَن حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَد أَشْرَكَ" رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ

(1)

. [33/ 44 - 51]

4663 -

مَن حَلَفَ بِإِيمَانِ الشِّرْكِ؛ مِثْل أَنْ يَحْلِفَ بِتُرْبَةِ أَبِيهِ أَو الْكعْبَةِ أَو نِعْمَةِ السُّلْطَانِ أَو حَيَاةِ الشَّيْخِ أَو غَيْرِ ذَلِكَ مِن الْمَخْلُوقَاتِ: فَهَذِهِ الْيَمِينُ غيْرُ مُنْعَقِدَةٍ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا إذَا حَنثَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ. [33/ 59]

(الفرق بَيْنَ التَّعْلِيقِ الَّذِي يُقْصَدُ بهِ الْإِيقَاعُ وَالَّذِي يقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ)

4664 -

فَصْلٌ: فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ التَّعْلِيقِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْإِيقَاعُ وَالَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ:

فَالْأوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِلْجَزَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ وَإِن كَانَ الشَّرْطُ مَكْرُوهًا لَهُ.

فَهَذَا مُوقِعٌ لِلطَّلَاقِ عِنْدَ الصِّفَةِ لَا حَالِف، وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي مِثْل هَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَن الصَّحَابَةِ؛ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَعَن التَّابِعِينَ وَسَائِرِ الْعُلَمَاءِ، وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِن السَّلَفِ قَالَ فِي مِثْل هَذَا: إنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ، وَلَكِنْ نَازَعَ فِي ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِن الشِّيعَةِ وَطَائِفَةٌ مِن الظَّاهِرِيَّةِ.

وَهَذَا لَيْسَ بِحَالِف، وَلَا يَدْخلُ فِي لَفْظِ الْيَمِينِ الْمُكَفّرَةِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

وَلَكِنْ مِن النَّاسِ مَن سَمَّى هَذَا حَالِفًا، كَمَا أَنَ مِنْهُم مَن يُسَمِّي كُلَّ مُعَلّقٍ حَالِفًا، وَمِن النَّاسِ مَن يُسَمِّي كُلَّ مُنْجِّزٍ لِلطَّلَاقِ حَالِفًا.

وَهَذِهِ الاِصْطِلَاحَاتُ الثَّلَاثَةُ لَيْسَ لَهَا أَصْل فِي اللُّغَةِ، وَلَا فِي كَلَامِ الشَّارعِ وَلَا كَلَامِ الصَّحَابَةِ.

(1)

رواه أبو داود (3251)، وأحمد (5375)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.

ص: 86

وَإِنَّمَا سُمِّيَ ذَلِكَ يَمِينًا لِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَمِينِ مِن الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ عِنْدَ الْمسَمَّى، وَهُوَ ظَنُّهُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عِنْدَ الصِّفَةِ.

وَأَمَّا التَّعْلِيقُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ. فَيَقُولُ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، أَو عَبِيدِي أَحْرَارٌ، أَو عَلَيَّ الْحَجُّ وَنَحْو ذَلِكَ، أَو يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ: إنْ زَنَيْت أَو سَرَقْت أَو خُنْت فَأَنْتِ طَالِقٌ يَقْصِدُ زَجْرَهَا أَو تَخْوِيفَهَا بِالْيَمِينِ لَا إيقَاعَ الطَّلَاقِ إذَا فَعَلَتْ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُرِيدًا لَهَا وَإِن فَعَلَتْ ذَلِكَ؛ لِكَوْنِ طَلَاقِهَا أَكْرَهَ إلَيْهِ مِن مُقَامِهَا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَهُوَ عَلَّقَ بِذَلِكَ لِقَصْدِ الْحَظْرِ وَالْمَنْعِ، لَا لِقَصْدِ الْإِيقَاعِ، فَهَذَا حَالِفٌ لَيْسَ بِمُوقِع.

وَهَذَا هُوَ الْحَالِفُ فِي الْكتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهُوَ الَّذِي تُجْزِئُهُ الْكَفَّارَةُ.

وَالنَّاسُ يَحْلِفُونَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ، وَقَد يَحْلِفُونَ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ الَّتِي فِي مَعْنَاهَا؛ فَإِن علمَ هَذَا وَهَذَا سَوَاءٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. [33/ 64 - 66]

(الحلف بغير الله، والحلف بالأمانة)

4665 -

ليس لأحد أن يحلف لا بملك ولا نبي ولا غير ذلك من المخلوقات، ولا يحلف إِلَّا باسم من أسماء اللّه، أو صفة من صفاته. وقد روي:"من حلف بالأمانة فليس منا"

(1)

فمن حلف بالأمانة لا يدري ما حلف به أو عنى به مخلوقًا فقد أساء، وإن أراد بها صفة من صفات الله نحو: وأمانة اللّه، أو عظمته؛ جاز ذلك.

وهل الحلف بغير اللّه محرم، أو مكروه؟ على قولين: الأول أصح.

وكان السلف يعزرون من يحلف بالطلاق. [المستدرك 1/ 28]

* * *

(1)

رواه أبو داود (3253)، وأحمد (22980)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.

ص: 87

(قد يستحب الحلف)

4666 -

كثرة الحلف مكروه، ولكن قد يستحب إذا كان فيه مصلحة شرعية، كما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم:{قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53]، {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [4667] [التغابن: 7]، {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3]. [المستدرك 1/ 28]

* * *

(الْألفَاظُ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا النَّاسُ فِي الطَّلَاقِ ثَلَاثَة أَنْوَاعٍ)

4667 -

الْأَلْفَاظُ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا النَّاسُ فِي الطَّلَاقِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:

أ - صِيغَةُ التَّنْجِيزِ وَالْإِرْسَال؛ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَو مُطَلَّقَةٌ، فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.

الثَّانِي: صِيغَة قَسَمٍ؛ كَقَوْلِهِ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأفْعَلَن كَذَا، أَو لَا أَفْعَلُ كَذَا، فَهَذَا يَمِين بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَاتِّفَاقِ طَوَائِفِ الْفُقَهَاءِ وَاتِّفَاقِ الْعَامَّةِ وَاتِّفَاقِ أَهْلِ الْأَرْضِ.

الثَّالِثُ: صِيغَةُ تَعْلِيقٍ؛ كَقَوْلِهِ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ: فَهَذِهِ إنْ كَانَ قَصْدُهُ بِهِ الْيَمِينَ، وَهُوَ الَّذِي يَكْرَهُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ مُطْلَقًا كَمَا يَكْرَهُ الاِنْتِقَالَ عَن دِينِهِ إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ، أَو يَقُولُ الْيَهُودِيُّ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا مُسْلِمٌ: فَهُوَ يَمِينٌ، حُكْمُهُ حُكْمُ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.

فَإِنَّ الْيَمِينَ هِيَ مَا تَضَمَّنَتْ حَضًّا أَو مَنْعًا أَو تَصْدِيقًا أَو تَكْذِيبًا بِالْتِزَامِ مَا يَكْرَهُ الْحَالِفُ وُقُوعَهُ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ.

فَالْحَالِفُ لَا يَكُون حَالِفًا إلَّا إذَا كَرِهَ وُقُوعَ الْجَزَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ.

وَإِن قَصَدَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عِنْدَ وُجُودِ الْجَزَاءِ كَقَوْلِهِ: إنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِق، وَإِذَا طَهُرْت فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِذَا زَنَيْت فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَقَصْدُة إيقَاعَ الطَّلَاقِ عِنْدَ الْفَاحِشَةِ، لَا مُجَرَّدُ الْحَلِفِ عَلَيْهَا: فَهَذَا لَيْسَ بِيَمِين، وَلَا كَفَارَّةَ فِي هَذَا عِنْدَ أَحَدٍ مِن الْفُقَهَاءِ فِيمَا عَلِمْنَاهُ؛ بَل يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ إذَا وُجدَ الشَّرْطُ عِنْدَ

ص: 88

السَّلَفِ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ

(1)

.

فَالْيَمِينُ الَّتِي يَقْصِدُ بِهَا الْحَضَّ أَو الْمَنْعَ أَو التَّصْدِيقَ أَو التَّكْذِيبَ - بِالْتِزَامِهِ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ مَا يَكْرَهُ وُقُوعَهُ- سَوَاءٌ كَانت بِصِيغَةِ الْقَسَمِ، أَو بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ: يَمِينٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْخَلْقِ مِن الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ. [33/ 140 - 142]

* * *

(حكم جَمْع الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ)

4668 -

وَأَمَّا جَمْعُ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ: فَفِيهِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: مُحَرَّمٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَن بَعْدَهُمْ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَاخْتَارَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ، وَقَالَ أَحْمَد: تَدَبَّرْت الْقُرْآنَ فَإِذَا كُلُّ طَلَاقٍ فِيهِ فَهُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ - يَعْنِي: طَلَاقَ الْمَدْخُولِ بِهَا- غَيْرَ قَوْلِهِ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230].

وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَهَل لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ قَبْلَ الرَّجْعَةِ، بِأَنْ يُفَرِّقَ الطَّلَاقَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ، فَيُطَلِّقَهَا فِي كُل طُهْرٍ طَلْقَةً؟ فِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَن أَحْمَد:

إحْدَاهُمَا: لَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلٌ طَائِفَةٍ مِن السَّلَفِ، وَمَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ.

وَالثَّانِيَةُ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ السَّلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأصَحُّ الرَّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمَد الَّتِي اخْتَارَهَا أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ.

وَالْقَوْلُ الثانِي: أَنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ لَيْسَ بِمُحَرَّم؛ بَل هُوَ تَرْكُ الْأَفْضَلِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَن أَحْمَد، اخْتَارَهَا الخرقي.

(1)

قال الشيخ: وَلَمْ يَكُن هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ حَالِفًا، بَل هُوَ مُعَلِّقٌ لِلطَّلَاقِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ بِصِيغَةِ الْقَسَم، وَمَعْنَى كَلَامِهِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْإِيقَاعُ، فَيَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ هُنَا عِنْدَ الْحِنْثِ فِي اللَّفْظِ الَّذِي هُوَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ، وَمَقْصُودُهُ مَقْصُودُ التَّعْلِيقِ. اهـ. (33/ 151)

ص: 89

وَاحْتَجُّوا:

أ - بِأَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا أَبُو حَفْصِ بْنُ الْمُغِيرَةِ ثَلَاثًا.

ب - وَبِأَنَّ امْرَأَةَ رِفَاعَةَ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثَلَاثًا.

ج - وَبِأَنَّ الْمُلَاعِنَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا.

وَلَمْ يُنْكِر النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ.

وَأَجَابَ الْأَكْثَرُونَ بِأَنَّ حَدِيثَ فَاطِمَةَ وَامْرَأَةِ رِفَاعَةَ إنَّمَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا مُتَفَرِّقَاتٍ، هَكَذَا ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّ الثَّالِثَةَ آخِرُ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ، لَمْ يُطَلِّقْ ثَلَاثًا لَا هَذَا وَلَا هَذَا مُجْتَمَعَاتٍ.

وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ: طَلَّقَ ثَلَاثًا يَتَنَاوَلُ مَا إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا مُتَفَرِّقَاتٍ، بِأَنْ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ يُرَاجِعَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ يُرَاجِعَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا، وَهَذَا طَلَاقٌ سُنِّيٌّ وَاقِعٌ بِاتَّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَعْنَى الطَّلَاقِ ثَلَاثًا.

وَأَمَّا جَمْعُ الثَّلَاثِ بِكَلِمَة فَهَذَا كَانَ مُنْكرًا عِنْدَهُمْ، إنَّمَا يَقَعُ قَلِيلًا، فَلَا يَجُوزُ حَمْلُ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْقَلِيلِ الْمُنْكَرِ دونَ الْكَثِيرِ الْحَقِّ.

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يُطَلِّق مُجْتَمِعَاتٍ لَا هَذَا وَلَا هَذَا؛ بَل هَذَا قَوْلٌ بِلَا دَلِيلٍ؛ بَل هُوَ بِخِلَافِ الدَّلِيلِ.

وَأَمَّا الْمُلَاعنُ فَإِنَّ طَلَاقَهُ وَقَعَ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ، أَو بَعْدَ وُجُوبِ الْإِبَانَةِ الَّتِي تَحْرُمُ بِهَا الْمَرْأَةُ أَعْظَمُ مِمَّا يَحْرُمُ بِالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ، فَكَانَ مُؤَكِّدًا لِمُوجَبِ اللِّعَانِ. [33/ 76 - 78]

وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ هُوَ مِمَّا كَانُوا يُعَاقِبُونَ بِهِ أَحْيَانًا: إمَّا مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ وَإِمَّا بِدُويهِ، فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرَّقَ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا وَبَيْنَ نِسَائِهِمْ حَتَّى تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ، وَالْمُطَلِّقُ ثَلَاثًا حَرُمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُة حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ عُقُوبَةً لَهُ لِيَمْتَنِعَ عَن الطَّلَاقِ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَمَنْ وَافَقَهُ كَمَالِك وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ حَرَّمُوا الْمَنْكُوحَةَ فِي الْعِدَّةِ عَلَى النَّاكِحِ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ

ص: 90

اسْتَعْجَلَ مَا أَحَلَّهُ اللهُ، فَعُوقِبَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، وَالْحُكْمَانِ لَهُمَا عِنْدَ أَكْثَرِ السَّلَفِ أَنْ يُفَرِّقَا بَيْنَهُمَا بِلَا عِوَضٍ إذَا رَأَيَا الزَّوْجَ ظَالِمًا مُعْتَدِيًا؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَنْعِهِ مِن الظُّلْمِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَن الزَّوْجَةِ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالآثَارُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعيِّ وَأَحْمَد ..

[وعامةُ الآثار]

(1)

الْمَنْقُولَة عَن الصَّحَابَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَلْزَمُوا بِالثَّلَاثِ لِمَنْ عَصَى اللّهَ بِإِيقَاعِهَا جُمْلَةً، فَأَمَّا مَنْ كَانَ يَتَّقِي اللّهَ فَإِنُّ اللّهَ يَقُولُ:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]، فَمَنْ لَا يَعْلَمُ التَّحْرِيمَ حَتَّى أَوْقَعَهَا ثُمَّ لَمَّا عَلِمَ التَّحْرِيمَ تَابَ وَالْتَزَمَ أَنْ لَا يَعُودَ إلَى الْمُحَرَّمِ: فَهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعَاقَبَ.

وَلَيْسَ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ: الْكِتَابِ وَالِسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ مَا يُوجِبُ لُزُومَ الثَّلَاثِ لَهُ، وَنِكَاحُهُ ثَابِتٌ بِيَقِين، وَامْرَأتُهُ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْغَيْرِ بِيَقِين، وَفِي إلْزَامِهِ بِالثَّلَاثِ إبَاحَتُهَا لِلْغَيْرِ مَعَ تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ، وَذَرِيعَةٌ إلَى نِكَاحِ التَّحْلِيلِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ.

ونِكَاحُ التَّحْلِيلِ لَمْ يَكُن ظَاهِرًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ قَطُّ أَنَّ امْرَأَةً أُعِيدَتْ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ عَلَى عَهْدِهِمْ إلَى زَوْجِهَا بِنِكَاحِ تَحْلِيلٍ؛ بَل لَعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ، ولَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ.

وَلَمْ يَذْكُرْ فِي التَّحْلِيلِ الشُّهُودَ وَلَا الزَّوْجَةَ وَلَا الْوَلِيَّ؛ لِأَنَّ التَّحْلِيلَ الَّذِي كَانَ يُفْعَلُ كَانَ مَكْتُومًا بِقَصْدِ الْمُحَلِّلِ، أَو يَتَوَاطَأُ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُطَلِّقُ الْمُحَلَّلُ لَهُ، وَالْمَرْأَةُ وَوَليُّهَا لَا يَعْلَمُونَ قَصْدَهُ، وَلَو عَلِمُوا لَمْ يَرْضَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهُ؛ فَإِنَّهُ مِن أَعْظَمِ الْمُسْتَقْبَحَاتِ وَالْمُنْكَرَاتِ عِنْدَ النَّاسِ، وَلِأَنَّ عَادَاتِهِمْ لَمْ تَكنْ بِكِتَابَةِ الصَّدَاقِ فِي كِتَاب وَلَا إشْهَادٍ عَلَيْهِ؛ بَل كَانُوا يَتَزَوَّجُونَ وَيُعْلِنُونَ النِّكَاحَ، وَلَا يَلْتَزِمُونَ أَنْ يُشْهِدُوا عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ وَقْتَ الْعَقْدِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.

(1)

في الأصل: (وَقدْ ذُكِرَتُ الْأَلْفَاظُ الْمَنْقُولَة) .. والتصويب من جامع المسائل (1/ 360).

ص: 91

وَلَيْسَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْإِشْهَادِ عَلَى النّكَاحِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، هَكَذَا قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ.

فَلَمَّا لَمْ يَكُن عَلَى عَهْدِ عُمَرَ رضي الله عنه تَحْلِيل ظَاهِرٌ، وَرَأى فِي إنْفَاذِ الثَّلَاثِ زَجْرًا لَهُم عَن الْمحَرَّمِ: فَعَلَ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهِ.

أَمَّا إذَا كَانَ الْفَاعِلُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ، وَإِنْفَاذُ الثَّلَاثِ يُفْضِي إلَى وُقُوعِ التَّحْلِيلِ الْمُحَرَّمِ بِالنَّصّ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ والاعتبار

(1)

وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن الْمَفَاسِدِ: لم يَجُزْ أن تزالَ

(2)

مفَسدة حقيقيّة بمفاسدَ أغلظَ منها؛ بل جَعْلُ الثلاثِ واحدةً في مثل هذه الحال -كما كان على عهد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر أولى.

وبالجملة: فما شرَعَه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم شرعًا لازمًا دائمًا: لا يمكن تغييره؛ لأنه لا يُمكن نسخ بعد رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن يُظَنَّ بأحدٍ من علماء المسلمين أنه

(3)

يَقصِد هذا، لا سيما الصحابة، لا سيما الخلفاء الراشدين.

وَلَو قُدّرَ أَنَّ أَحَدًا فَعَلَ ذَلِكَ: لَمْ يُقِرّهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذَا إقْرَارٌ عَلَى أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ، وَالْأُمَّة مَعْصُومَة أَنْ تَجْتَمِعَ عَلَى مِثْل ذَلِكَ، وَقَد نُقِلَ عَن طَائِفَةٍ كَعِيسَى بْنِ أَبَانَ وَغَيْرِهِ مِن أهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ مِن الْمُعْتَزِلَةِ وَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ أَنَّ الْإِجْمَاعَ يُنْسَخُ بِهِ نُصوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ! وَكُنَّا نَتَأَوَّلُ كَلَامَ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُم أَنَّ الْإِجْمَاعَ يَدُلُّ عَلَى نَصٍّ نَاسِخٍ، فَوَجَدْنَا مَن ذُكِرَ عَنْهُم أَنَّهُم يَجْعَلُونَ الْإِجْمَاعَ نَفْسَهُ نَاسِخًا، فَإِنْ كَانُوا أَرَادُوا ذَلِكَ فَهَذَا قَوْلٌ يُجَوِّزُ تَبْدِيلَ الْمُسْلِمِينَ دِينَهُم بَعْدَ نَبِيِّهِمْ، كَمَا تَقُولُ النَّصَارَى مِن أَنَّ الْمَسِيحَ سَوَّغَ لِعُلَمَائِهِمْ أَنْ يُحَرِّمُوا مَا رَأَوْا تَحْرِيمَهُ مَصْلَحَةً، وَيُحِلُّوا مَا رَأَوْا تَحْلِيلَةُ مَصْلَحَةً، وَلَيْسَ هَذَا دِينُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا كَانَ الصَّحَابَةُ يُسَوِّغُونَ ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ.

(1)

في الأصل: (وَالاِعْتِقَادِ)، ولا معنى لهذه الكلمة هنا، والتصويب من جامع المسائل (1/ 363).

(2)

في الأصل: (يُزالَ)، والتصويب من جامع المسائل (1/ 363).

(3)

في الأصل: (أنْ)، والتصويب من جامع المسائل (1/ 363).

ص: 92

وَمَا شَرَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَرْعًا مُعَلَّقًا بِسَبَب: إنَّمَا يَكونُ مَشْرُوعًا عِنْدَ وُجُودِ السَّبَبِ؛ كَإِعْطَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ؛ فَإِنَّهُ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

وَبَعْضُ النَّاسِ ظَنَّ أَنَّ هَذَا نُسِخَ؛ لِمَا رُوِيَ عَن عُمَرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَ اللّهَ أَغْنَى عَن التَّأَلُّفِ، فَمَن شَاءَ فَلْيُومِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ، وَهَذَا الظَّنُّ غَلَطٌ، وَلَكِنْ عُمَرُ اسْتَغْنَى فِي زَمَنِهِ عَن إعْطَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُم فَتَرَكَ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، لَا لِنَسْخِهِ، كَمَا لَو فُرِضَ أَنَّهُ عُدِمَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ابْنُ السَّبِيلِ وَالْغَارِمُ وَنَحْوُ ذَلِكَ.

ومُتْعَة الْحَجِّ: قَد رُوِيَ عَن عُمَرَ: أَنَّهُ نَهَى عَنْهَا، وَكَانَ ابْنُهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ يَقُولُونَ: لَمْ يُحَرِّمْهَا، وَإِنَّمَا قَصَدَ أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ بِالْأَفْضَلِ، وَهُوَ أَنْ يَعْتَمِرَ أَحَدُهُم مِن دويرة أَهْلِهِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْعُمْرَةَ أَفْضَلُ مِن عُمْوَةِ الْمُتَمَتِّعِ وَالْقَارِنِ بِاتِّفَاقِ الْأئِمَّةِ، حَتَّى إنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد مَنْصُوصٌ عَنْهُ: أَنَّهُ إذَا اعْتَمَرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجّ وَأَفْرَدَ الْحَجَّ فِي أَشْهُرِهِ: فَهَذَا أَفْضَلُ مِن مُجَرَّدِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، مَعَ قَوْلِهِمَا بِأَنَّهُ أَفْضَلُ مِن الْإِفْرَادِ الْمُجَرَّدِ.

وَالَّذِي يُحْمَلُ عَلَيْهِ أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ:

أ - إِمَّا أَنَّهُم رَأَوْا ذَلِكَ مِن بَابِ التَّعْزِيرِ الَّذِي يَجُوزُ فِعْلُهُ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ؛ كَالزِّيَادَةِ عَلَى أَرْبَعِينَ فِي الْخَمْرِ.

ب - وَإِمَّا لِاخْتِلَافِ اجْتِهَادِهِمْ، فَرَأَوْهُ لَازِمًا، وَتَارَةً غَيْرَ لَازِمٍ.

وَأَمَّا الْقَوْلُ بِكَوْنِ لُزُومِ الثَّلَاثِ شَرْعًا لَازِمًا كَسَائِرِ الشَّرَائِعِ: فَهَذَا لَا يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ.

وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الرَّاجِحِ لِهَذَا الْمُوْقِعِ أَنْ يَلْتَزِمَ طَلْقَةً وَاحِدَةً وَيُرَاجِعَ امْرَأَتَهُ، وَلَا يَلْزَمُه شَيءٌ لِكَوْنِهَا كَانَت حَائِضًا إذَا كَانَ مِمَن اتَّقَى اللهَ وَتَابَ مِن الْبِدْعَةِ. [33/ 88 - 98]

* * *

ص: 93

(بَاب طَلَاقِ السَّكْرَانِ وَنَحْوه)

4669 -

لَا تَنْعَقِدُ يَمِينُ السَّكْرَانِ، وَلَا يَقَعُ بِهِ طَلَان إذَا طَلَّقَ، وَهَذَا ثَابِت عَن أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عفان، وَلَمْ يَثْبُتْ عَن الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ فِيمَا أَعْلَمُ، وَهُوَ قَوْلُ كثِيرٍ مِن السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.

وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ؛ فَإِنَّهُ قَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" عَن مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ لَمَّا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يستنكهوه؛ لِيَعْلَمُوا هَل هُوَ سَكْرَانُ أَمْ لَا؟ فَإِنْ كَانَ سَكْرَانَ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ عُلِمَ أَنَّ أَقْوَالَهُ بَاطِلَةٌ كَأَقْوَالِ الْمَجْنُونِ.

وَلِأَنَّ السَّكْرَانَ وَإِن كَانَ عَاصِيًا فِي الشُّرْبِ فَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ، وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ مَا يَقُولُ لَمْ يَكُن لَهُ قَصْدٌ صَحِيحٌ

(1)

، وَإِنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَصَارَ هَذَا كَمَا لَو تَنَاوَلَ شَيْئًا مُحَرَّمًا جَعَلَهُ مَجْنُونًا؛ فَإِنَّ جُنُونَهُ وَإِنْ حَصَلَ بِمَعْصِيَة فَلَا يَصِحُّ طَلَاقهُ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِن أَقْوَالِهِ. [33/ 102 - 103]

* * *

(حكم طلاق المكره)

4670 -

إذَا أُكْرِهَ بِغَيْرِ حَقٍّ عَلَى الطَّلَاقِ لَمْ يَقَعْ بِهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ؛ كَمَالِك وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَن أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم كَعُمَر بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ

(2)

.

وَإِذَا كَانَ حِينَ الطَّلَاقِ قَد أَحَاطَ بِهِ أَقْوَامٌ يُعْرَفُونَ بِأَنَّهُم يُعَادُونَهُ أَو

(1)

قال الشيخ: وَالْمُرَادُ هُنَا بِالْقَصْدِ: الْقَصْدُ الْعَقْلِيِّ الَّذِي يَخْتَصُّ بِالْعَقْلِ، فَأمَّا الْقَصْدُ الْحَيَوَانِيُّ الَّذِي يَكُونُ لِكُلِّ حَيَوَانٍ فَهَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي وُجُودِ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ مِن الْألْفَاظِ وَالْأفْعَالِ، وَهَذَا وَحْدَهُ غَيْرُ كَافٍ فِي صِحَّةِ الْعُقُودِ وَالْأقْوَالِ. (33/ 105)

(2)

ومن أمثلة الإكراه بغير حق: قال الشيخ: "إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْيَمِينِ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ بِأَنْ يَكُونَ عَاجِزًا عَن وَفَاءِ الدِّيْنِ وَأكْرِهَ عَلَى الْيَمِينِ وَإِلَّا حُبِسَ وَضُرِبَ: لَمْ يَنْعَقِدْ يَمِينُهُ وَلَا حِنْثَ فِيهَا". (33/ 236)

ص: 94

يَضْرِبُونَهُ، وَلَا يُمْكِنُهُ إذ ذَاكَ أَنْ يَدْفَعَهُم عَن نَفْسِهِ وَادَّعَى أَنَّهُم أَكْرَهُوهُ عَلَى الطَّلَاقِ: قُبِلَ قَوْلُهُ. [33/ 110]

* * *

‌(هل من البر طاعة الوالدين في الطلاق

؟)

4671 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَن رَجُلٍ مُتَزَوِّجٍ وَلَهُ أَوْلَادٌ، وَوَالِدَتُهُ تَكْرَهُ الزَّوْجَةَ وَتُشِيرُ عَلَيْهِ بِطَلَاقِهَا، هَل يَجُوزُ لَهُ طَلَاقُهَا؟

فَأَجَابَ: لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِقَوْلِ أُمِّهِ؛ بَل عَلَيْهِ أَنْ يَبَرَّ أُمَّهُ، وَلَيْسَ تَطْلِيقُ امْرأتِهِ مِن بَرِّهَا. [33/ 112]

4672 -

إذَا تَزَوَّجَتْ [أي: المرأة] لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا أَنْ تُطِيعَ أَبَاهَا وَلَا أُمَّهَا فِي فِرَاقِ زَوْجِهَا وَلَا فِي زِيَارَتهِمْ

(1)

، وَلَا يَجُوزُ فِي نَحْوِ ذَلِكَ؛ بَل طَاعَةُ زَوْجِهَا عَلَيْهَا إذَا لَمْ يَأْمُرْهَا بِمَعْصِيَةِ اللّهِ أَحَقُّ مِن طَاعَةِ أَبَوَيْهَا، "وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا رَاضٍ دَخَلَتْ الْجَنَّةَ"

(2)

.

وَإِذَا كَانَت الْأُمُّ تُرِيدُ التَّفْرِيقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا فَهِيَ مِن جِنْسِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، لَا طَاعَةَ لَهَا فِي ذَلِكَ وَلَو دَعَتْ عَلَيْهَا.

اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَا مُجْتَمِعَيْنِ عَلَى مَعْصِيَةٍ، أَو يَكُونَ أَمْرُهُ لِلْبِنْتِ بِمَعْصِيَةِ اللهِ وَالْأُمُّ تَأْمُرُهَا بِطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ الْوَاجِبَةِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ. [33/ 112 - 113]

* * *

‌(حكم من نوى طلاق زوجته

؟)

4673 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَن رَجُلٍ نَوَى أَنْ يُطَلِّقَ زَوْجَتَهُ إذَا حَاضَتْ وَلَمْ يَتَلَفَّظْ بِطَلَاق؟

(1)

أي؛ زيارة والدِيها.

(2)

رواه الترمذي (1161)، وابن ماجه (1854)، وضعَّفه الألباني في ضعيف الترغيب (1211).

ص: 95

فَأَجَابَ: أَمَّا إذَا نَوَى أَنَّهُ سَيُطَلِّقُهَا إذَا حَاضَتْ: فَهَذَا لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ؛ بَل لَا بُدَّ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ.

فَإِذَا لَمْ يُطَلِّقْهَا بَعْدَ ذَلِكَ: لَمْ يَقَعْ طَلَاقٌ.

وَإِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ تِلْكَ النِّيَّةَ طَلَاقٌ فَأَقَرَّ أَنَّهُ طَلَّقَهَا بِتِلْكَ النِّيَّةِ: لَمْ يَقَعْ بِهَذَا الْإِقْرَارِ فِي الْبَاطِنِ، وَلَكِنْ يُؤْخَذُ بِهِ فِي الْحُكْمِ.

وَإِذَا لَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ: فَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى زَوْجِيَّتِهِ فِي الْبَاطِنِ. [33/ 113]

* * *

(حكم تطليق من لا يصح أن يقع الطلاق عليه)

4674 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللّهُ تَعَالَى-: عَن رَجُل لَهُ زَوْجَةٌ، وَأُمُّهُ مَا تُرِيدُ الزَّوْجَةَ، فَطَلَّقَ الزَّوْجَةَ ثُمَّ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا مِن هَذِهِ الْمَدِينَةِ الَّتِي دَاخِلِ السُّورِ: لَا امْرَأَتُهُ وَلَا غَيْرْهَا

(1)

. فَإِنْ رَاجَعَ امْرَأَتَهُ أَو تَزَوَّجَ غَيْرَهَا مِن الْمَدِينَةِ يَكُونُ الْعَقْدُ صَحِيحًا؟

فَأَجَابَ: بَل يَتَزَوَّجُ إنْ شَاءَ مِن الْمَدِينَةِ وَإِن شَاءَ مِن غَيْرِهَا، وَيَكُونُ الْعَقْدُ صَحِيحًا

(2)

. [33/ 114]

* * *

(حكم من طلَّق بِالثَّلَاثِ مِن غَيْرِ قَصْدٍ)

4675 -

إذَا سَبَقَ لِسَانُهُ بِالثَّلَاثِ مِن غَيْرِ قَصْدٍ، وَإِنَّمَا قَصَدَ وَاحِدَةً: لَمْ يَقَعْ بِهِ إلَّا وَاحِدَة؛ بَل لَو أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: طَاهِرٌ، فَسَبَقَ لِسَانُهُ بِطَالِق: لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ. [33/ 114]

* * *

(1)

يظهر أن فيه نقصًا، وتمامه: فهي طالق.

(2)

لأنه طلق من لا يصح أن يقع الطلاق عليه.

ص: 96

‌(هل تحريم الزوجة يُعتبر طلاقًا

؟)

4676 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَن رَجُلٍ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ أَمْلِكُهُ عَلَيَّ حَرَامٌ، فَهَل تَحْرُمُ امْرَأَتُهُ وَأَمَتُهُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ: أَمَّا غَيْرُ الزَّوْجَةِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَأمَّا الزَّوْجَةُ فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهَا نِزَاعٌ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ. [33/ 117]

* * *

(الوكالة في الطلاق)

4677 -

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله: عَن رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ وَلَهَا أَوْلَادٌ وَبَنَاتٌ مِنْهُ، وَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا، ثُمَّ إنَّهُ كَتَبَ وَكَالَةً لِزَوْجَتِهِ الْجَدِيدَةِ وَقَالَ: مَتَى رَدَدْت أُمَّ أَوْلَادِي كَانَ طَلَاقُهَا بِيَدِك، وَوَكَّلَهَا فِي طَلَاقِهَا مُدَّةَ عَشَرَةِ سِنِينَ، وَقَد طَلَّقَ الَّتِي بِيَدِهَا الْوَكَالَة، فَهَل تَصِحُّ هَذِهِ الْوَكَالَةُ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَد يَظُنُّ مَن يَظُنُّ أَنَّ الْوَكَالَةَ بِحَالِهَا؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إذَا وَكَّلَ امْرَأَتَهُ فِي بَيْعِ وَنَحْوه ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَمْ تَبْطُل الْوَكَالَةُ بِالتَّطْلِيقِ كَمَا ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ، لَكنْ هَذِهِ لَيْسَتْ تِلْكَ.

وَالصَّوَابُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْمَسْؤُولِ عَنْهَا أَنَّهَا تَبْطُل بِالتَّطْلِيقِ؛ لِأنَّهُ هُنَا لَمْ يُرِدْ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَقَد اسْتَنَابَ غَيْرَهُ فِي ذَلِكَ كَمَا يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَ مَتَاعَهُ فَيُوكِلُ شَخْصًا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ تَمْكينُهَا هِيَ مِن الطَّلَاقِ لِيَكُونَ أَمْرُهَا بِيَدِ هَذِهِ الزَّوْجَةِ، فَإِنْ شَاءَتْ طَلَّقَتْ وَإِنْ شَاءَتْ لَمْ تُطَلِّقْهَا.

فَالْمَقْصُودُ: أَنِّي لَا أَتَزَوَّجُهَا إلَّا بِرِضَاك، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنِّي لَا أَجْمَعَ بَيْنَك وَبَيْنَهَا؛ لِمَا تَكْرَهُ الْمَرْأَةُ مِن الضَّرَّةِ. [33/ 118]

* * *

ص: 97

(اللَّفْظَ الَّذِي يَحْتَمِل الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ إِذَا قُصِدَ بِهِ الطَّلَاقُ فَهُوَ طَلَاقٌ، وَإن قُصِدَ بِهِ غَيْرُ الطَّلَاقِ لَمْ يَكن طَلَاقًا)

4678 -

السَّلَفُ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُم بإِحْسَان، وَجَمَاهِيرُ الْخَلَفِ مِن أَتْبَاع الْأئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ: مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّفظَ الَّذِي يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ إذَا قصِدَ بِهِ الطَّلَاقُ فَهُوَ طَلَاقٌ، وَإِنْ قُصِدَ بِهِ غَيْرُ الطَّلَاقِ لَمْ يَكُن طَلَاقًا.

وَلَيْسَ لِلطَّلَاقِ عِنْدَهُم لَفْظ مُعَيَّن؛ فَلِهَذَا يَقُولُونَ: إِنَّهُ يَقَعُ بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ.

وَلَفْظُ الصَّرِيحِ عِنْدَهُم كَلَفْظِ الطَّلَاقِ، لَو وَصَلَهُ بِمَا يُخْرِجُهُ عَن طَلَاقِ الْمَرْأَةِ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ، كَمَا لَو قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ مِن وَثَاقِ الْحَبْسِ، أَو مِن الزَّوْجِ الَّذِي كَانَ قَبْلِي وَنَحْو ذَلِكَ. [33/ 152]

* * *

‌(ماذا يترتب على من حَلَفَ بِالْحَرَامِ

؟)

4679 -

إذَا حَلَفَ بِالْحَرَامِ فَقَالَ: الْحَرَامُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا، أَو الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ لَا أَفْعَلُ كَذَا، أَو مَا أَحَلَّ اللّهُ عَلَيَّ حَرَامٌ إنْ فَعَلْت كَذَا، أَو مَا يَحِلُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَحْرُمُ عَلَيَّ إنْ فَعَلْت كَذَا، أَو نَحْو ذَلِكَ وَلَهُ زَوْجَة، فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، لَكِنَّ الْقَوْلَ الرَّاجِحَ أَنَّ هَذِهِ يَمِينٌ لَا يَلْزَمُهُ بِهَا طَلَاقٌ، وَلَو قَصَدَ بِذَلِكَ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد الْمَشْهُورُ عَنْهُ.

حَتَّى لَو قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَهُ.

وَلَو قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَقَصَدَ بِهِ الطَّلَاقَ: فَإِنَّ هَذَا لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللهُ الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُم كَانُوا يَعُدُّونَ الظِّهَارَ طَلَاقًا وَالْإِيلَاءَ طَلَاقًا، فَرَفَعَ اللّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَجَعَلَ فِي الظِّهَارِ الْكَفَّارَةَ الْكُبْرَى، وَجَعَلَ الْإِيلَاءَ يَمِينًا يَتَرَبَّصُ فِيهَا الرَّجُلُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِمَّا أَنْ يُمْسِكَ بِمَعْرُوفٍ أَو يُسَرِّحَ بِإِحْسَانٍ.

وَكَذَلِكَ قَالَ كَثِيرٌ مِن السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: إنَّهُ إذَا كَانَ مُزَوّجًا فَحَرَّمَ امْرَأَتَهُ، أَو حَرَّمَ الْحَلَالَ مُطْلَقًا: كَانَ مُظَاهِرًا وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد.

ص: 98

وَإِذَا حَلَفَ بِالظِّهَارِ أَو الْحَرَامِ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَحَنِثَ فِي يَمِينِهِ: أَجْزَأَتْهُ الْكَفَّارَةُ فِي مَذْهَبِهِ.

لَكِنْ قِيلَ: إنَّ الْوَاجِبَ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ، سَوَاءٌ حَلَفَ أَو أَوْقَعَ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَن أَحْمَد، وَقِيلَ: بَل إنْ حَلَفَ بِهِ أَجْزَأَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وإِن أَوْقَعَهُ لَزِمَهُ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ، وَهَذَا أَقْوَى وَأَقْيَسُ عَلَى أَصْلِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ.

فَالْحَالِفُ بِالْحَرَامِ تُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، كَمَا تُجْزِئُ الْحَالِفَ بِالنَّذْرِ إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَو فَمَالِي صَدَقَةٌ. [33/ 160 - 161]

4680 -

أَمَّا قَوْلُهُ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ: فَإِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا فَفَعَلَهُ: فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ.

وَإِن لَمْ يَحْلِفْ بَل حَرَّمَهَا تَحْرِيمًا: فَهَذَا عَلَيْهِ كَفَّارَة ظِهَارٍ، وَلَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِن أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ: يَقُولُونَ: إنَّ الْحَرَامَ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ إذَا لَمْ يَنْوِهِ

(1)

. [33/ 167]

* * *

(الفتيا الدمشقية)

4681 -

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ، الشُّجَاعُ الْمِقْدَامُ، لَيْثُ الْحُرُوبِ وَأَسَدُ السُّنَّةِ، الصَّابِرُ فِي ذَاتِ اللّهِ عَلَى الْمِحْنَةِ، الْعَلَمُ الْحُجَّةُ، أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّة رحمه الله رَبُّ الْبَرِيَّةِ: عَن رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنَّ الْقُرْآنَ صَوْتٌ وَحَرْفٌ، وَأَنَّ الرَّحْمَنَ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، عَلَى مَا يُفِيدُهُ الظَّاهِرُ، وَيَفْهَمُهُ النَّاسُ مِن ظَاهِرِهِ، هَل يَحْنَثُ فِي هَذَا؟

فَأَجَابَ -رَحِمَهُ اللّهُ تَعَالَى-: إنْ كَانَ مَقْصودُ هَذَا الْحَالِفِ أَنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ وَالْمِدَادِ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ حُرُوفَ الْقُرْآنِ قَدِيمَةٌ أَزَليَّةٌ: فَقَد حَنِثَ فِي يَمِينِهِ، وَمَا

(1)

وسبق أن رجح الشيخ أن الطلاق لا يقع وَلو نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ.

ص: 99

عَلِمْت أَحَدًا مِن النَّاسِ يَقُولُ ذَلِكَ، وَإِن كَانَ قَد يُكْرَهُ تَجْرِيدُ الْكَلَامِ فِي الْمِدَادِ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ، وَفِي صَوْتِ الْعَبْدِ؛ لِئَلَّا يُتَذَرَّع بِذَلِكَ إلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ.

وَمِن النَّاسِ مَن تَكَلَّمَ فِي صَوْتِ الْعَبْدِ، وَإِن كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي نَقْرَؤُهُ هُوَ كَلَامُ اللّهُ حَقِيقَةً لَا كَلَامُ غَيْرِهِ، وَأَنَّ الَّذِي بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ هُوَ كَلَامُ اللّهِ حَقِيقَةً.

وَلَكِن الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم زَيْغٌ مِن أَهْلِ الْأَهْوَاءِ لَا يَفْهَمُونَ مِن كَلَامِ اللّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ وَكَلَامِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلينَ وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَانٍ فِي بَابِ صِفَاتِ اللّهِ إلَّا الْمَعَانِيَ الَّتِي تَلِيقُ بِالْخَلْقِ لَا بِالْخَالِقِ.

وَإِنْ كَانَ مقصُودُ الْحَالِفِ أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم هُوَ هَذِهِ الْمِائَةُ وَالْأَرْبَعَ عَشْرَةَ سُورَةً، حُرُوفُهَا وَمَعَانِيهَا، وَأَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ هُوَ الْحُرُوفُ دُونَ الْمَعَانِي، وَلَا الْمَعَانِي دُونَ الْحُرُوفِ؛ بَل هُوَ مَجْمُوعُ الْحُرُوفِ وَالْمَعَانِي، وَأَنَّ تِلَاوَتَنَا لِلْحُرُوفِ وَتَصَوُّرَنَا لِلْمَعَانِي لَا يُخْرِجُ الْمَعَانِيَ وَالْحُرُوفَ عَن أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً قَبْلَ وُجُودِنَا: فَهَذَا مَذْهَبُ الْمُسْلِمِينَ وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ.

وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي يقرؤه الْمُسْلِمُونَ وَيَكتُبُونَهُ فِي مَصَاحِفِهِمْ هُوَ كَلَامُ اللّهِ سُبْحَانَهُ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا.

وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مُرَادُ الْحَالِفِ بِذِكْرِ الصَّوْتِ: التَّصْدِيقَ بِالْآثَارِ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وصَحَابَتِهِ وَتَابِعِيهِمْ الَّتِي وَافَقَت الْقُرْآنَ وَتَلَقَّاهَا السَّلَفُ بِالْقَبُولِ؛ مِثْل مَا خَرَّجَا فِي "الصحِيحَيْنِ" عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِن أَنَّ اللّهَ يُنَادِي آدَمَ بِصَوْت.

وَلَا يُنْقَلُ عَن أَحَدٍ مِن عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَلَا قَالَ خِلَافَهُ؛ بَل كَانَت الْآثَارُ مَشْهُورَة بَيْنَهُم مُتَدَاوَلَةً فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ؛ بَل أَنْكَرَ ذَلِكَ شَخْصٌ فِي وَقْتِ الْإِمَامِ أَحْمَد - وَهُوَ أَوَّلُ الْأَزْمِنَةِ الَّتِي نَبَغَتْ فِيهَا الْبِدَع بِإِنْكَارِ ذَلِكَ عَلَى النُّصُوصِ -.

فَإِنْ أَرَادَ الْحَالِفُ مَا هُوَ مَنْقُولٌ عَن السَّلَفِ نَقْلًا صَحِيحًا فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا حَلِفُهُ أَنَّ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى عَلَى مَا يُفِيدُهُ الظَّاهِرُ وَيَفْهَمُهُ

ص: 100

النَّاسُ مِن ظَاهِرِهِ: فَلَفْظَة "الظَّاهِرِ" قَد صَارَتْ مُشْتَرَكَةً؛ فَإِنَّ الظَّاهِرَ فِي الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ وَاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَالدِّينِ الْقَيِّمِ وَلسَانِ السَّلَفِ غَيْرُ الظَّاهِرِ فِي عُرْفِ كَثِيرٍ مِن الْمُتَأَخّرِينَ.

فَإِنْ أَرَادَ الْحَالِفُ بِالظَّاهِرِ شَيْئًا مِن الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ مِن خَصَائِصِ الْمُحْدثِينَ، أَو مَا يَقْتَضِي نَوْعَ نَقْصٍ، بِأَنْ يَتَوَهَّمَ أَنَّ الاِسْتِوَاءَ مِثْل اسْتِوَاءِ الْأَجْسَامِ عَلَى الْأَجْسَامِ، أو كَاسْتِوَاءِ الْأَرْوَاحِ إنْ كَانَتْ لَا تَدْخُلُ عِنْدَهُ فِي اسْمِ الْأَجْسَامِ: فَقَد حَنِثَ فِي ذَلِكَ وَكَذَبَ، وَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا يَقُولُ ذَلِكَ.

وَإِن أَرَادَ الْحَالِفُ بِالظَّاهِرِ مَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي فِطَرِ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ ظُهُورِ الْأَهْوَاءِ وَتَشَتُّتِ الْآرَاءِ، وَهُوَ الظَاهِرُ الَّذِي يَلِيقُ بِجَلَالِهِ سبحانه وتعالى.

كَمَا أَنَّ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي سَائِرِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ مِن أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ وَالْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْغَضَبِ وَالرِّضَا.

فَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ مِمَّن فِي عُرْفِ خِطَابِهِ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ مَا هُوَ مُمَاثِلٌ لِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ: فَقَد حَنِثَ.

وَإِن كَانَ فِي غرْفِ خِطَابِهِ أَنَّ ظَاهِرَهَا هُوَ مَا يَلِيقُ بِاللهِ تَعَالَى: لَمْ يَحْنَثْ.

وَإِن لَمْ يَعْلَمْ عُرْفَ أَهْلِ نَاحِيَتِهِ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَلَمْ يَكُن سَبَبٌ يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى مُرَادِهِ وَتَعَذَّرَ الْعِلْمُ بِنِيَّتِهِ: فَقَد جَازَ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ مَعْنًى صَحِيحًا، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ مَعْنًى بَاطِلًا فَلَا يَحْنَثُ بِالشَّكِّ.

وَهَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِ مَن يَقُولُ: إنَّ مَن حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ حَنِثَ.

وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَن لَمْ يُحَنِّثْهُ فَالْحُكْمُ فِي يَمِينِهِ ظَاهِرٌ

(1)

. [33/ 169 - 182]

* * *

(1)

والقول الثاني هو الذي اختاره الشيخ رحمه الله كما سيأتي في باب الأيمان.

ص: 101

4682 -

الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ الْمُنَجِّزَانِ لَا يَدْخلَانِ فِي مُسَمَّى الْيَمِينِ وَالْحَلِفِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، بِخِلَافِ الْحَلِفِ عَلَى الْحَضِّ وَالْمَنْعِ وَالتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ فَإِنَّهُ يَمِينٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. [33/ 197]

4683 -

نَذْرُ التَّبَرُّرِ: مِثْل أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُ النَّاذِرِ حُصُولَ الشَّرْطِ وَيَلْتَزِمُ فِعْلَ الْجَزَاءِ شُكْرًا للّهِ تَعَالَى؛ كَقَوْلِهِ: إنْ شَفَى اللّهُ مَرِيضِي فَعَلَيَّ أَنْ أَصُومَ كَذَا، أَو أَتَصَدَّقَ بِكَذَا، أَو نَحْو ذَلِكَ: فَهَذَا النَّذْرُ عَلَيْهِ أَنْ يُوفِيَ بِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَن نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَن نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللّهَ فَلَا يَعْصِهِ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

(1)

.

وَأَمَّا نَذْرُ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ: فَقَصْدُ النَّاذِرِ أَنْ لَا يَكُونَ الشَّرْطُ وَلَا الْجَزَاءُ؛ مِثْل أَنْ يُقَالَ لَهُ: سَافِرْ مَعَ فُلَانٍ، فَيَقُولُ: إنْ سَافَرْت فَعَلَيَّ صَوْمُ كَذَا وَكَذَا، أَو عَلَيَّ الْحَجُّ؛ فَمَقْصُودُهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ الشَّرْطَ وَلَا الْجَزَاءَ. [33/ 199]

* * *

(قَوَاعِد في مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ بالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْيَمِينِ باللِّه تَعَالَى وَالنَّذْرِ وَالحَرَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ)

4684 -

غَالِبُ مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْيَمِينِ بِاللّهِ تَعَالَى وَالنَّذْرِ وَالْحَرَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى قَوَاعِدَ:

الْقَاعِدَةُ الْأُولَى: إذَا حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا فَفَعَلَهُ نَاسِيًا لِيَمِينِهِ أَو جَاهِلًا بِأَنَّهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ: فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: لَا يَحْنَثُ بِحَال فِي جَمِيعِ الْأَيْمَانِ.

[والْقَوْلْ الثَّاني]: الْفَرْقُ بَيْنَ الْيَمِينِ الْمُكَفَّرَةِ؛ كَالْيَمِينِ بِاللهِ تَعَالَى وَالظِّهَارِ وَالْحَرَامِ، وَالْيَمِينِ الَّتِي لَا تُكَفَّرُ، وَهِيَ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ.

والْقَوْلُ الثَّالِث: أَنَّهُ يَحْنَثُ فِي جَمِيعِ الْأَيْمَانِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ عَنْهُ.

(1)

(6696).

ص: 102

وَالْقَوْلُ الْأوّلُ أَصَحُّ.

وَقَد اسْتَقَرَّ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ مَن فَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ نَاسِيًا أَو مُخْطِئًا فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَلَا يَكُونُ عَاصِيًا مُخَالِفًا، فَكَذَلِكَ مَن فَعَلَ الْمَحْلُوفَ نَاسِيًا أَو مُخْطِئًا فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ حَانِثًا مُخَالِفًا لِيَمِينِهِ.

وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَن فَعَلَهُ مُتَأَوِّلًا، أَو مُقَلِّدًا لِمَن أَفْتَاهُ، أَو مُقَلِّدًا لِعَالِمٍ مَيِّتٍ، أَو مُجْتَهِدًا مُصِيبًا أَو مُخْطِئًا.

فَحَيْثُ لَمْ يَتَعَمَّد الْمُخَالَفَةَ، وَلَكِن اعْتَقَدَ أَنَّ هَذَا الَّذِي فَعَلَهُ لَيْسَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِلْيَمِينِ: فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ حَانِثًا.

وَيَدْخُلُ فِي هَذَا: إذَا خَالَعَ وَفَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مُعْتَقِدًا أَنَّ الْفِعْلَ بَعْدَ الْخُلْعِ لَمْ تَتَنَاوَلْهُ يَمِينُهُ، فَهَذِهِ الصُّورَةُ تَدْخُلُ فِي يَمِينِ الْجَاهِلِ الْمُتَأَوِّلِ عِنْدَ مَن يَقُولُ: إنَّ هَذَا الْخُلْعَ خُلْعُ الْأَيْمَانِ بَاطِلٌ، وَهُوَ أَصَحُّ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ.

الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ: إذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ: فَهَذَا أَوْلَى بِعَدَمِ التَّحْنِيثِ مِن مَسْأَلَةِ فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ نَاسِيًا أَو جَاهِلًا.

وَعَلَى هَذَا: فَالْحَالِفُ بِالطَّلَاقِ عَلَى أَمْرٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ: لَا يَحْنَثُ إذَا لَمْ يَحْنَث النَّاسِي وَالْجَاهِلُ فِي الْمُسْتَقْبَل.

وَهَكَذَا ذَكَرَ الْمُحَقِّقُونَ مِن الْفُقَهَاءِ. [33/ 208 - 214]

* * *

‌(حكم من حَلَفَ عَلَى من يعتقد أنه يُطِيعُهُ وَيَبرُّ يَمِينَهُ فَتَبَيَّنَ لَهُ الْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ

؟)

4685 -

وَسُئِلَ: عَمَّن حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ صِهْرَ أَخِيهِ، وَحَلَفَ بِالثلَاثِ مَا يَدْخلُ مَنْزِلَهُ، ثُمَّ دَخَلَ بِغَيْرِ رِضَاهُ؟

فَأَجَابَ: إذَا كَانَ الْحَالِفُ قَد اعْتَقَدَ أَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ يُطِيعُهُ وَيَبَرُّ يَمِينَهُ وَلَا يَدْخُلُ إذَا حَلَفَ عَلَيْهِ، فَتَبَيَّنَ لَهُ الْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَلَو عَلِمَ أَنَّهُ كَذَلِكَ لَمْ

ص: 103

يَحْلِفْ: فَفِي حِنْثِهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَالْأقْوَى أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ. [33/ 225]

* * *

(حكم من حلف أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى صِفَةٍ فَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ)

4686 -

إِنْ اعْتَقَدَ الْحَالِفُ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى صِفَةٍ فَتَبَيَّنَ الْأمْرُ بِخِلَافِهِ: فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِن الْعُلَمَاءِ

(1)

.

وَكَذَلِكَ لَو اعْتَقَدَ أَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ قَادِرٌ عَلَى الْفِعْلِ الْمَطْلُوبِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَاجِزٌ: فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ أَحْسَنُ الْقَوْلَيْنِ وَأَقْوَاهُمَا فِي الشَّرْعِ.

وَكَذَلِكَ لَو اعْتَقَدَ أَنَّهُ خَانَ أَو سَرَقَ مَالًا، فَحَلَفَ عَلَى إعَادَتِهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَخُنْ وَلَمْ يَسْرِقْ: فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ فِي أَصَحِّ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ. [33/ 228]

* * *

(حكم من حلف على مُعَيَّنٍ لسبب، ثم زال ذلك السبب)

4687 -

إِنَ مَن حَلَفَ عَلَى مُعَيَّنٍ لِسَبَب؛ كَأنْ يَحْلِفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْبَلَدَ لِظُلْم رَآهُ فِيهِ ثُمَّ يَزُولُ الظُّلْمُ، أَو لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا ثُمَّ يَزُولُ الْفِسْقُ وَنَحْوُ ذَلِكَ: فَفِي حِنْثِهِ حِينَئِذٍ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ، أَظْهَرُهُمَا أَنَّهُ لَا حِنْثَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَضَّ وَالْمَنْعَ فِي الْيَمِينِ كَالْأَمْرِ وَالنَّهْي؛ فَالْحَلِفُ على نَفْسِهِ أَو غَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ النَّاهِي عَن الْفِعْلِ.

(1)

وقد ثبت في الصحيحين البخاري (27)، ومسلم: 150) أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أعْطَى رَهْطًا وَسَعْد بْن أَبِي وَقَّاصٍ جَالِسٌ فِيهِمْ، قَالَ سَعْدْ: فَتَرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُعْطِهِ، وَهُوَ أعْجَبُهُمْ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَكَ عَن فُلَانِ؟ فَوَاللهِ إِني لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَوْ مُسْلِمًا، إِنِّي لَأُعْطى الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهُ، خَشْيَةَ أنْ يُكَبَّ: فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ".

قال القرطبي رحمه الله: قول سعد رضي الله عنه: "والله إني لأراه مؤمنًا"؛ يعني: أظنُّه، وهو من سعد حلفٌ على ما ظنه، فكانت هذه اليمين لاغية، ولذلك لم ينكرها عليه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، ولا أمره بكفارة عنها، فكان فيه دليل على جواز الحلف على الظنِّ، وأنَّهَا هي اللاغية، وهو قول مالك والجمهور. المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (1/ 367).

ص: 104

وَمَن نَهَى عَن دُخُولِ بَلَدٍ أَو كَلَامٍ شُخِّصَ لِمَعْنَى ثُمَّ زَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى: زَالَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، كَمَا إذَا امْتَنَعَ أَنْ يَبْدَأَ رَجُلًا بِالسَّلَامِ؛ لِكَوْنِهِ كَافِرًا فَأَسْلَمَ.

وَأَنْ لَا يَدْخُلَ بَلَدًا لِكَوْنِهِ دَارَ حَرْبٍ فَصَارَ دَارَ إسْلَامٍ، وَنَحْو ذَلِكَ.

فَإِنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَثَ بِعِلَّةٍ زَالَ بِزَوَالِهَا.

فَالرَّجُلُ إذَا حَلَفَ لَا يُوَاقِعُ امْرَأَتَهُ: إذَا كَانَ قَصْدُهُ عُقُوبَتَهَا لِكَوْنِهَا تُمَاطِلُهُ وَتَنْشُزُ عَلَيْهِ إذَا طَلَبَ ذَلِكَ، فَإِذَا تَابَتْ مِن ذَلِكَ وَصَارَتْ مُطِيعَةً مُوَافِقَةً زَالَ سَبَبُ الْهَجْرِ الَّذِي عَلَّقَهَا بِهِ، كَمَا لَو هَجَرَهَا لِنُشُوزٍ ثُمَّ زَالَ. [33/ 234 - 235]

* * *

‌بَابُ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالشُّرُوطِ

4688 -

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله: عَن رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ ثُمَّ اسْتَثْنَى بَعْدَ هُنَيْهَةٍ بِقَدْرِ مَا يُمْكِنُ فِيهِ الْكَلَامُ؟

فَأجَابَ: لَا يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَالْحَالُ هَذِهِ، وَلَو قِيلَ لَهُ: قُلْ: إنْ شَاءَ اللّهُ: يَنْفَعُهُ ذَلِكَ أَيْضًا، وَلَو لَمْ يَخْطُرْ لَهُ الاِسْتِثْنَاءُ إلَّا لِمَا قِيلَ لَهُ. [33/ 238]

4689 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلٍ حَنقَ مِن زَوْجَتِهِ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، قَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ: قُل السَّاعَةَ، قَالَ: السَّاعَةَ، وَنَوَى الاِسْتِثْنَاءَ؟

فَأَجَابَ: إنْ كَانَ اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ إذَا قَالَ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي إنْ شَاءَ اللهُ: أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ، وَمَقْصُودُهُ تَخْوِيفُهَا بِهَذَا الْكَلَامِ، لَا إيقَاعُ الطَّلَاقِ: لَمْ يَقَع الطَّلَاقُ.

فَإِنْ كَانَ قَد قَالَ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ: إنْ شَاءَ اللّهُ: فَإِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيّ أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ بِالْمَشِيئَةِ لَا يَقَعُ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد يَقَعُ، كَمَا رُوِيَ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ.

لَكِنَّ هَذَا لَمَّا كَانَ مَقْصُودُهُ وَاعْتِقَادهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ صَارَ الْكَلَامُ عِنْدَهُ كَلَامًا لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ فَلَمْ يَقْصِدِ التَّكَلُّمَ بِالطَّلَاقِ.

ص: 105

وَإِذَا قَصَدَ الْمُتَكَلِّمُ بِكَلَام لَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ؛ مِثْل مَا لَو تَكَلَّمَ الْعَجَمِيُّ بِلَفْظ وَهُوَ لَا يَفْهَمُ مَعْنَاة: لَمْ يَقَعْ.

وَطَلَاقُ الْهَازِلِ: وَقَعَ لأنَّ قَصْدَ الْمُتَكَلِّمِ الطَّلَاقُ

(1)

وَإِن لَمْ يَقْصِدْ إيقَاعَهُ.

وَهَذَا لَمْ يَقْصِدْ لَا هَذَا وَلَا هَذَا، وَهُوَ يُشْبِهُ مَا لَو رَأَى امْرَأَةً فَقَالَ: أَنْتِ طَالِق يَظُنُّهَا أَجْنَبِيَّةً، فَبَانَت امْرَأَتُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ عَلَى الصَّحِيحِ. [33/ 239]

* * *

(الْمَسْأَلَةُ السريجية)

4690 -

الْمَسْأَلَةُ السريجية بَاطِلَةٌ فِي الْإِسْلَامِ، مُحْدَثَة لَمْ يُفْتِ بِهَا أَحَدٌ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَا تَابِعِيهِمْ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا طَائِفَةٌ مِن الْفُقَهَاءِ بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِم جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ الصَّوَابُ؛ فَإِنَّ مَا قَالَهُ أُولَئِكَ يَظْهَرُ فَسَادُهُ مِن وُجُوهٍ: مِنْهَا أَنَّهُ قَد عُلِمَ بِالاِضْطِرَارِ مِن دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ اللهَ أَبَاحَ الطَّلَاقَ كَمَا أَبَاحَ النِّكَاحَ، وَأَنَّ دِينَ الْمُسْلِمِينَ مُخَالِفٌ لِدِينِ النَّصَارَى الَّذِينَ لَا يُبِيحُونَ الطَّلَاقَ، فَلَو كَانَ فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ مَا يَمْتَنِعُ مَعَهُ الطَّلَاقُ لَصَارَ دِينُ الْمُسْلِمِينَ مِثْل دِينِ النَّصَارَى.

وَشُبْهَةُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُم قَالُوا: إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إذَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ طَلَاقًا مُنَجَّزًا: لَزِمَ أَنْ يَقَعَ الْمُعَلَّقُ، وَلَو وَقَعَ الْمُعَلَّقُ يَقَعُ الْمُنَجَّزُ، فَكَانَ وُقُوعُهُ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ وُقُوعِهِ فَلَا يَقَعُ، وَهَذَا خَطَأٌ، فَإنَّ قَوْلَهُم: لَو وَقَعَ الْمُنَجَّزُ لَوَقَعَ الْمُعَلَّقُ إِنَّمَا يَصِحُّ لَو كَانَ التَّعْلِيقُ صَحِيحًا، فَأَمَّا إذَا كَانَ التَّعْلِيقُ بَاطِلًا لَا يَلْزَمُ وُقُوعُ التَّعْلِيقِ، وَالتَّعْلِيقُ بَاطِلٌ.

لَكِنْ إذَا اعْتَقَدَ الْحَالِفُ صِحَّةَ هَذَا الْيَمِينِ بِاجْتِهَاد أَو تَقْلِيدٍ وَطَلَّقَ بَعْدَ ذَلِكَ

(1)

في مختصر الفتاوى المصرية (1/ 437): لأنه قَصَدَ التكلم بالطلاق .. وهي أوضح.

ص: 106

مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ: لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِد التَّكَلُّمَ بِمَا يَعْتَقِدُهُ طَلَاقًا.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ لَو قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: إنْ طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِق قَبْلَهُ ثَلَاثًا فَطَلَّقَهَا وَقَعَ الْمُنَجَّزُ عَلَى الرَّاجِحِ وَلَا يَقَعُ مَعَهُ الْمُعَلَّقُ. [33/ 240 - 243]

* * *

(الطَّلَاق الْمُحَرَّمُ)

4691 -

الطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ: كَالطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ وَفِي طُهْرٍ قَد أَصَابَهَا فِيهِ: حَرَامٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَكَالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ تَعَدٍّ لِحُدُودِ اللّهِ، وَفَاعِلُهُ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ كَمَا ذَكَرَ اللّهُ تَعَالَى:{وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1].

وَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ إذَا تَابَ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)} [النساء: 110][النساء: 110]، فَهُوَ إذَا اسْتَغْفَرَهُ غَفَرَ لَهُ وَرَحِمَهُ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مِن الْمتَّقِينَ، فَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3].

وَالَّذِينَ أَلْزَمَهُم عُمَرُ وَمَن وَافَقَهُ بِالطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ

(1)

: كَانُوا عَالِمِينَ بِالتَّحْرِيمِ، وَقَد نُهُوا عَنْهُ فَلَمْ يَنْتَهُوا فَلَمْ يَكُونُوا مِن الْمُتَّقِينَ، فَهُم ظَالِمُونَ لِتَعَدِّيهِم الْحُدُودَ مُسْتَحِقُّونَ لِلْعُقُوبَةِ.

وَلذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِبَعْضِ الْمُسْتَفْتِينَ: إنَّ عَمَّك لَمْ يَتَّقِ اللّهَ فَلَمْ يَجعَلْ لَهُ فَرَجًا وَلَا مَخْرَجًا، وَلَو اتَّقَى اللهَ لَجَعَلَ لَهُ فَرَجًا وَمُخْرَجًا.

(1)

ثبت في صحيح مسلم (1472) أنه قيل لِابْنِ عَبَّاسٍ: "أَلَمْ يَكُنِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأبِي بَكْرٍ وَاحِدَةً"؟ فَقَالَ: "قَد كَانَ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ فِي عَهْدِ عُمَرَ تَتَايَعَ النَّاسُ فِي الطَّلَاقِ، فَأَجَازَهُ عَلَيْهِمْ".

قوله: تَتَايَعَ؛ أي: تتابع وهما بمعنى واحد، ومعناه: أكثروا منه وأسرعوا إليه.

ص: 107

وَهَذَا إنَّمَا يُقَالُ لِمَن عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ وَفَعَلَهُ، فَأَمَّا مَن لَا يَعْلَمُ بِالتَّحْرِيمِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ وَلَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا، فَإِنَّهُ إذَا عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ تَابَ مِن عَوْدِهِ إلَيْهِ وَالْتَزَمَ أَلَّا يَفْعَلَهُ.

وَالَّذِينَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْعَلُ ثَلَاثَتَهُم وَاحِدَةً فِي حَيَاتِهِ: كَانُوا يَتُوبُونَ، وَكَذَلِكَ مَن طَلَّقَ فِي الْحَيْضِ كَمَا طَلَّقَ ابْنُ عُمَرَ، فَكَانُوا يَتُوبُونَ فَيَصِيرُونَ مُتَّقِينَ، وَمَن لَمْ يَتُبْ فَهُوَ الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ كَمَا قَالَ:{وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)} [الحجرات: 11]، فَحَصَرَ الظُّلْمَ فِيمَن لَمْ يَتُبْ، فَمَن تَابَ فَلَيْسَ بِظَالِمٍ فَلَا يُجْعَلُ مُتَعَدِّيًا لِحُدُودِ اللهِ؛ بَل وُجُودُ قَوْلِهِ كَعَدَمِهِ، وَمَن لَمْ يَتُبْ فَهُوَ مَحَلُّ اجْتِهَادٍ

(1)

.

فَعُمَرُ عَاقَبَهُم بِالْإِلْزَامِ وَلَمْ يَكُن هُنَاكَ تَحْلِيلٌ، فَكَانُوا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ النِّسَاءَ يَحْرُمْنَ عَلَيْهِم لَا يَقَعُونَ فِي الطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ، فَانْكَفُّوا بِذَلِكَ عَن تَعَدِّي حُدُودِ اللّهِ، فَإِذَا صَارُوا يُوقِعُونَ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ ثُمَّ يَرُدُّونَ النِّسَاءَ بِالتَّحْلِيلِ الْمُحَرَّمِ: صَارُوا يَفْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ مَرَّتَيْنِ وَيَتَعَدَّوْنَ حُدُودَ اللّهِ مَرَّتَيْنِ؛ بَل ثَلَاثًا؛ بَل أَرْبَعًا.

فَلَمْ يَحْصُلْ بِالاِلْتِزَامِ فِي هَذِهِ الْحَالِ انْكِفَافٌ عَن تَعَدِّي حُدُودِ اللّهِ؛ بَل زَادَ التَّعَدِّي لِحُدُودِ اللهِ فَتَرْكُ الْتِزَامِهِمْ بِذَلِكَ -وَإِن كَانُوا ظَالِمِينَ غَيْرَ تَائِبِينَ- خَيْرٌ مِن إلْزَامِهِمْ بِهِ.

أمَّا إذَا كَانُوا يَتقُونَ اللّهَ وَيَتُوبُونَ: فَلَا رَيْبَ أَنَّ تَرْكَ الْإِلْزَامِ -كَمَا كَانَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ- خَيْرٌ.

(1)

فلا يقع طلاقه لامرأته وهي حائض ولا في طهر جامعها فيه إذا تاب، ولا يقع ما زاد على الثلاث، أما إذا لم يتب فقال الشيخ: هو محل اجتهاد؛ يعني: ينبغي حصر الخلاف في وقوع الطلاق في هذه الحالات إذا لم يتب المطلق طلاقًا بدعيًّا، والشيخ رحمه الله تعالى نصر القول بعدم وقوعه مطلقًا؛ لِمَا سيذكره بعد ذلك من الحجج والبراهين.

ص: 108

وَإِنْ كَانُوا لَا يَنْتَهُونَ إلَّا بِإِلْزَامٍ فَيَنْتَهُونَ حِينَئِذٍ وَلَا يُوقِعُونَ الْمُحَرَّمَ وَلَا يَحْتَاجُونَ إلَى تَحْلِيلِ: فَهَذَا هُوَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي فَعَلَهَا فِيهِمْ عُمَرُ.

وَالثَّالِثَةُ: أَنْ يَحْتَاجُوا إلَى التَّحْلِيلِ الْمُحَرَّمِ: فَهُنَا تَرْكُ الْإِلْزَامِ خَيْرٌ.

وَالرَّابِعَةُ: أَنَّهُم لَا يَنْتَهُونَ؛ بَل يُوقِعُونَ الْمُحَرَّمَ وَيُلْزَمُونَ بِهِ بِلَا تَحْلِيلٍ: فَهُنَا لَيْسَ فِي إلْزَامِهِمْ بِهِ فَائِدَةٌ إلَّا آصَارٌ وَأَغْلَالٌ لَمْ تُوجِبْ لَهُم تَقْوَى اللّهِ وَحِفْظَ حُدُودِهِ؛ بَل حَرُمَتْ عَلَيْهِ

(1)

نِسَاؤُهُم وَخَرِبَتْ دِيَارُهُم فَقَطْ.

وَالشَّارعُ لَم يُشَرِّعْ مَا يُوجِبُ حُرْمَةَ النِّسَاءِ وَتَخْرِيبَ الدِّيَارِ؛ بَل تَرْك إلْزَامَهُم بِذَلِكَ أَقَلُّ فَسَادًا، وَإِنْ كَانُوا أَذْنَبُوا فَهُم مُذْنِبُونَ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، لَكِنَّ تَخْرِيبَ الدِّيَارِ أَكْثَرُ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ.

وَأَمَّا تَرْكُ الْإِلْزَامِ فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ أَذْنَبَ ذَنْبًا بِقَوْلِهِ وَلَمْ يَتبْ مِنْهُ، وَهَذَا أَقَلُّ فَسَادًا مِن الْفَسَادِ الَّذِي قَصَدَ الشَّارعُ دَفْعَهُ وَمَنْعَهُ بِكُلِّ طَرِيقٍ. [29/ 421 - 424]

* * *

(صيغ الطلاق)

4692 -

ثَبَتَ عَن الصَّحَابَةِ وَأكَابِرِ التَّابِعِينَ فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ؛ بَل تُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ؛ فَالْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.

وَهَذَا بِخِلَافِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ، فَإِنَّهُ إذَا وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ وَقَعَ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ، وَلَمْ تَكُنْ فِيهِ كَفَّارَة بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ؛ بَل لَا كَفَّارَةَ فِي الْإِيقَاعِ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا الْكَفَّارَةُ خَاصَّةً فِي الْحَلِفِ.

فَإِذَا تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي مَسْأَلَةٍ وَجَبَ رَدُّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ، فَأَيُّ الْقَوْلَيْنِ دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ؛ كَقَوْلِ مَن فَرَّقَ

(1)

لعل الصواب: (عَلَيْهِم)؛ لأن الضمائر قبل وبعد: ضمائر جمع لا مفرد.

ص: 109

بَيْنَ النَّذْرِ وَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ وَبَيْنَ الْيَمِينِ بِذَلِكَ

(1)

؛ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ وَالْقِيَاسُ.

وَالصِّيَغُ

(2)

ثَلَاثَةٌ:

أ - صِيغَةُ إيقَاعٍ؛ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِق، فَهَذِهِ لَيْسَتْ يَمِينًا بِاتِّفَاقِ النَّاسِ.

ب - وَصِيغَةُ قَسَمٍ؛ كَقَوْلِهِ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لأفْعَلَن كَذَا، فَهَذِهِ صِيغَةُ يَمِينٍ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ.

ج - وَصِيغَةُ تَعْلِيقٍ كَقَوْلِهِ: إنْ زَنَيْت فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَهَذَا إنْ قَصَدَ بِهِ الْإِيقَاعَ عِنْدَ وُجُودِ الصِّفَةِ بِأَنْ يَكُونَ يُرِيدُ إذَا زَنَتْ إيقَاعَ الطَّلَاقِ وَلَا يُقِيمُ مَعَ زَانِيَةٍ فَهَذَا إيقَاعٌ وَلَيْسَ بِيَمِينِ، وَإِن قَصَدَ مَنْعَهَا وَزَجْرَهَا وَلَا يُرِيدُ طَلَاقَهَا إذَا زَنَتْ فَهَذَا يَمِينٌ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ. [20/ 12 - 13]

* * *

(الحلف بالطلاق)

4693 -

قال ابن القيم رحمه الله: قال شيخ الإسلام: والقول بأنه يمين مكفرة هو مقتضى المنقول عن الصحابة في الحلف بالعتق بل بطريق الأولى؛ فإنهم إذا أفتوا من قال: إن لم أفعل كذا فكل مملوك لي حر بأنه يمين تكفر فالحالف بالطلاق أولى.

قال: وقد علَّق القول به أبو ثور، فقال: إن لم تجمع الأمة على لزومه فهو يمين تكفر.

وقد بيَّن أن الأمة لم تجمع على لزومه، وحكاه شيخ الإسلام عن جماعة من العلماء الذين سمت هممهم وشرفت نفوسهم فارتفعت عن حضيض التقليد

(1)

أي: الفرق بين من نذر أو أعتق أو طلّق، وبين من حلف بأحدها، بأن قال: امرأتي طالق إن لم تأكل عندي.

(2)

أي: صيغ الطلاق.

ص: 110

المحض إلى أوج النظر والاستدلال، ولم يكن مع خصومه ما يردون به عليه أقوى من الشكاية إلى السلطان. [المستدرك 5/ 18]

* * *

(تعليقه بالحلف)

4694 -

قال جماعة: اليمين المطلقة إنما تنصرف إلى الحلف باللّه.

قال شيخنا: إن قصد اليمين حنث بلا نزاع أعلمه، قال: وكذا ما علق لقصد اليمين. [المستدرك 5/ 22]

* * *

(تعليقه بالكلام)

4695 -

إن حلف على غيره ليكلمن فلانًا: ينبغي أن لا يبر إِلَّا بالكلام الطيب؛ كالكلام بالمعروف ونحوه، دون السبّ ونحوه، فإن اليمين في جانب النفي أعم من اللفظ اللغوي، وفي جانب الإثبات أخص، كما قلنا فيمن حلف ليتزوجن ونظائره فإنه لا يبر إِلَّا بكمال المسمى.

ولو علق الطلاق على كلام زيد: فهل كتابته أو رسالته الحاضرة؛ كالإشارة فيجيء فيها الوجهان، أو يحنث بكل حال؟

تردد فيه أبو العباس. [المستدرك 5/ 22]

4696 -

إذا قال: إن عصيت أمري فأنت طالق ثم أمرها بشيء أمرًا مطلقًا فخالفت: حنث، وإن تركته ناسية أو جاهلة أو عاجزة ينبغي ألا يحنث؛ لأن الترك ليس عصيانًا. [المستدرك 5/ 23]

* * *

(تعليقه بالإذن)

4697 -

لو قال: إن خرجت بغير إذني فأنت طالق، فهو على كل مرة؛ لأن خرجت فعل والفعل نكرة وهي في سياق الشرط تعم نحو قوله تعالى:{وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 8].

ص: 111

وإن علَّق الطلاق على خروجها بغير إذن ثم أذن لها مرة فخرجت مرة أخرى بغير إذن: طلقت، وهو مذهب أحمد؛ لأن خرجت فعل، والفعل نكرة، وهي في سياق الشرط تقتضي العموم.

وإن أذن لها فقالت: لا أخرج، ثم خرجت الخروج المأذون لها فيه، قال أبو العباس: سئلت عن هذه المسألة؛ ويتوجه فيه ألا يحنث؛ لأن امتناعها من الخروج لا يُخرج الإذن عن أن يكون إذنًا؛ لكن هو إذا قالت: لا أخرج، فلما اطمأن إلى أنها لا تخرج ولم تشعره بالخروج فقد خرجت بلا علم، والإذن علم وإباحة. [المستدرك 5/ 23 - 25]

4698 -

ظاهر كلام أبي العباس: إذا حلف ليقضينه حقه في وقت عينه فأبرأه قبله لا يحنث، وهو قول أبي حنيفة ومحمد، وقول في مذهب أحمد وغيره. [المستدرك 5/ 25]

* * *

(تعليقه بالمشيئة)

4699 -

للعلماء في الاستثناء النافع قولان:

أحدهما: لا ينفعه حتى ينويه قبل فراغه من المستثنى منه، وهو قول الشافعي.

والثاني: ينفعه وإن لم يُرِدْه إِلَّا بعد الفراغ، حتى لو قال له بعض الحاضرين: قل إن شاء اللّه، فقال: إن شاء الله، نفعه، وهذا هو مذهب أحمد الذي يدل عليه كلامه، وعليه متقدمو أصحابه، واختيار أبي محمد وغيره، وهو مذهب مالك، وهو الصواب.

ولا يعتبر

(1)

قصد الاستثناء، فلو سبق على لسانه عادة أو أتى به تبركًا: رفع حكم اليمين.

(1)

في الأصل: (بعد: ولا يعتبر: مقارنة)، والأرجح حذفها كما نبه على ذلك محقق كتاب الاختيارات (384).

ص: 112

وكذلك قوله: إذا أراد اللّه، وقصد بالإرادة مشيئة اللّه، لا محبته وأمره.

ومن شك في الاستثناء وكان من عادته الاستثناء: فهو كما لو علم أنه استثنى؛ كالمستحاضة تعمل بالعادة والتمييؤ ولا تجلس أقل الحيض، والأصل وجوب العبادة في ذمتها.

ومن حلف بالطلاق فقيل له: استثن فقال: إن شاء اللّه فلا حنث عليه، بخلاف الذي أوقع الطلاق، وقال: إن شاء الله، فإن ذلك لا يرفعه، سواء كان نوى الاستثناء قبل فراغه من اليمين أو بعده، هذا هو الصحيح الذي دل عليه كلام الإمام أحمد وكثير من السلف وسُنَّة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.

وقوله للعباس: (إِلَّا الإذخر)، واستثناء سهيل بن بيضاء وغيره تدل على أن اليمين تنحل بالاستثناء المقارن لليمين. [المستدرك 5/ 27 - 28]

4700 -

قال ابن القيم رحمه الله: إذا استُحلف على شيء فأحب أن يحلف ولا يحنث: فالحيلة أن يحرك لسانه بقول: إن شاء اللّه، وهل يشترط أن يسمعها نفسه؛ فقيل: لا بد أن يسمع نفسه.

وقال شيخنا: هذا لا دليل عليه؛ بل متى حرك لسانه بذلك كان متكلمًا وإن لم يسمع نفسه، وهكذا حكم الأقوال الواجبة. [المستدرك 5/ 28]

4701 -

تأملت نصوص كلام الإمام أحمد فوجدته يأمر باعتزال الرجل زوجته في كل يمين حلف الرجل عليها بالطلاق وهو لا يدري أبارٌّ فيها أم حانث حتى يستيقن أنه بار، فإن لم يعلم أنه بارٌّ [عتزلها أبدًا، وإن علم أنه بارٌّ]

(1)

في وقت وشك في وقت: اعتزالها وقت الشك، نص على فروع هذا الأصل في مواضع:

إذا قال لامرأته: إن كنت حاملًا فأنت طالق، فإنه نص على أنه يعتزلها حتى يتبين أنها ليست بحامل. [المستدرك 5/ 30]

(1)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (372).

ص: 113

4702 -

اختار شيخنا العمل بعرف المتكلم وقصده في مسمى اليمين، وأنه موجب أصول أحمد ونصوصه. [المستدرك 5/ 32 - 33]

* * *

(باب التأويل في الحلف)

4703 -

إن حلف بالطلاق كاذبًا يعلم كذب نفسه

(1)

: لا تطلق زوجته، ولا يلزمه كفارة يمين. [المستدرك 5/ 33]

4704 -

لو قيل: زنت امرأتك، أو خرجت من الدار فغضب، وقال: فهي طالق، لم تطلق. [المستدرك 5/ 33]

4705 -

اختار الشيخ تقي الدين رحمه الله: فيمن حلف على غيره ليفعلنه فخالفه: لم يحنث إن قصد إكرامه لا إلزامه؛ لأنه كالأمر، ولا يجب؛ لأمره صلى الله عليه وسلم لأبي بكر بوقوفه في الصف ولم يقف، ولأن أبا بكر أقسم ليخبرنه بالصواب والخطأ لما فسر الرؤيا فقال: لا تقسم؛ لأنه علم أنه لم يقصد الإقسام عليه مع المصلحة المقتضية للكتم. [المستدرك 5/ 34]

4706 -

إن لم يعلم المحلوف عليه بيمينه فكالناسي. [المستدرك 5/ 34]

4707 -

إذا حلف بالطلاق ليعطينه كذا فعجز عنه: فلا حنث عليه إذا كانت نيته أن يعطيه مع القدرة. [المستدرك 5/ 34]

4708 -

من رأى معجنة طين فقال: علي الطلاق ما تكفي، فكفت، فلا يعود الى مثل هذا اليمين فإن فيها خلافًا، لكن الأظهر أنه لا يحنث. [المستدرك 5/ 34]

4709 -

إن حلف على زوجته لا تفعل شيئًا ولم تعلم أنه حلف، أو علمت فنسيت ففعلته: فلا حنث عليه، وله أن يصدقها إن كانت صادقة عنده. [المستدرك 5/ 35]

(1)

كأن يقول: الطلاق يلزمني، أو امرأتي طالق إذا لم أكن سافرت، وهو قد سافر.

ص: 114

4710 -

من حلف على زوجته بالطلاق الثلاث لا تفعل كذا ففعلت، وزعمت أنها حين فعلته اعتقدت أنه غير المحلوف عليه: فالصحيح في مثل ذلك أنه لا يقع طلاقه؛ بناء على أنه إذا فعل المحلوف عليه ناسيًا ليمينه أو جاهلًا لم يقع به طلاق في أحد قولي الشافعي وأحمد. [المستدرك 5/ 35]

4711 -

إذا فعلت الزوجة المحلوف عليها، عالمة بالمخالفة: فهذا فيه نزاع آخر غير النزاع المعروف، فأصل الحلف بالطلاق هل يقع به الطلاق، أو لا يقع؛ فإنَّ النزاع في ذلك بين السلف والخلف.

ثم إذا وقع به الطلاق بفعلها، أو حصلت فرقة بفعلها بعد الدخول فهل يرجع عليها بالمهر؛ فهو مبني على أن إخراج البضع من ملك الزوج هل هو متقوم؛ فلو شهد شهود بالطلاق ثم رجعوا، هل يضمنون الصداق؛ فيه قولان مشهوران هما روايتان عن أحمد، والصحيح أنه متقوم.

ثم مالك يقول: هو مضمون بالمسمى وهو منصوص عن أحمد، والشافعي يقول: هو مضمون بمهر المثل وهو وجه لأحمد.

وكذلك: لو أفسد رجل نكاح امرأة قبل الدخول بها وبعده: فللمرأة قبل الدخول نصف الصداق، ولها جميعه بعده، ويرجع الزوج به على المفسد في الصورتين عند من يقول خروج البضع متقوم، وهو المنصوص عن أحمد، وهو مقدار ما يرجع به على القولين، ومن يقول: لا يتقوم يقول: لا يرجع، وهذا القول الآخر في مذهب أحمد.

والدليل على أنه متقوم: جواز الخلع عليه، وأيضا ما ذكره الله سبحانه وتعالى في الممتحنة حيث قال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} إلى قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)} [الممتحنة: 10] نزلت باتفاق المسلمين في قضية الصلح الذي كان بين النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم-

ص: 115

وبين أهل مكة صلح الحديبية لما شرط عليهم أن يرد المسلمون من جاءهم مسلمًا، وأن لا يرد أهل مكة من ذهب إليهم مرتدًّا، فهاجر نسوة كأم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، فنسخ الله تعالى الرد في النساء، وأمر برد المهر عوضًا عن رد المرأة، فذلك قوله تعالى:{وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} فأمر أن يؤتي الأزواجُ الكفار ما أنفقوا على المرأة الممتحنة التي لا ترد، والذي أنفقوا هو المسمى {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ} فشرع للمؤمنين أن يسألوا الكفار ما أنفقوا على النسوة اللاتي ارتددن إليهم، وأن يسأل الكفار ما أنفقوا على النساء المهاجرات، فلما حكم اللّه سبحان وتعالى بذلك دل على أن خروج البضع متقوم، وأنه بالمهر المسمى، ودلت الآية على أن المرأة إذا أفسدت نكاحها رجع عليها زوجها بالمهر.

فإذا حلف عليها فخالفته وفعلت المحلوف عليه: كانت عاصية ظالمة متلفة للبضع عليه، فيجب عليها ضمانه: إما بالمسمى على أصح قولي العلماء، وإما بمهر المثل.

يوضح ذلك: ما كان من امرأة قيس بن شماس حين أبغضته وقالت: إني أكره الكفر بعد الإيمان فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترد عليه حديقته؛ لأن الفرقة جاءت من جهتها.

فتبين أنه يجوز أن يأخذ صداقها إذا كان سبب الفرقة من جهتها.

وهذا كله يقرر أنه يجوز أن يَرجع إليه الصداق، إذا فعل ما يوجب الضمان مثل: ما إذا أفسدته عليه بالهجرة، أو الردة. [المستدرك 5/ 37 - 39]

4712 -

إذا حلف بالطلاق الثلاث: أن أحدًا من أرحام المرأة لا يطلع إلى بيته، فطلع في غيبته: فإن كان يعتقد أنه إذا حلف عليهم امتنعوا من الصعود فحلف ظنًّا أنهم ممن يطيعونه فتبين الأمر بخلاف ذلك، ففي حنثه نزاع بين العلماء، الأظهر أنه لا يحنث، كمن رأى امرأة يظنها أجنبية فقال: أنت طالق،

ص: 116

ثم تبين أنها امرأته ونحو ذلك من المسائل التي يتعارض فيها تعيين الظاهر والقصد؛ فإن الصحيح اعتبار القصد. [المستدرك 5/ 39]

4713 -

إذا حلف على زوجته بالطلاق أنها لا تخرج إِلَّا إلى الحمام فخرجت إلى بيت أهل الزوج وقالت: لم أظن أنك أردت منعي من أهلك، فعرف صدقها في ذلك لم يقع به طلاق، وإن عرف كذبها لم يقبل قولها، وإن شك في صدقها وكذبها لم يحكم بوقوع الطلاق؛ فإن النكاح ثابت بيقين فلا يزول بالشك. [المستدرك 5/ 39 - 40]

4714 -

إذا حلف على أخت زوجته لا تدخل بيته إِلَّا بإذنه، فدخلت بغير إذنه، ولم تكن علمت باليمين، ثم علمت فاعتقدت أن اليمين انحلت بالحنث، وأنه لم يبق عليها يمين، فاستمرت على الدخول: فلا حنث على الحالف؛ لأن الدخول الأول لم تكن عالمة باليمين، وبعد ذلك اعتقدت أنها انحلت وأنه لم يبق عليه يمين. [المستدرك 5/ 40]

4715 -

إذا علل الطلاق بعلة ثم تبيَّن انتفاؤها: فمذهب أحمد أنه لا يقع بها الطلاق، وعند شيخنا لا يشترط ذكر التعليل بلفظه، ولا فرق عنده بين أن يطلقها لعلةٍ مذكورةٍ في اللفظ أو غير مذكورة، فإذا تبين انتفاؤها لم يقع الطلاق، وهذا هو الذي لا يليق بالمذهب غيره، ولا تقتضي قواعد الأئمة غيره. [المستدرك 5/ 40]

4716 -

إذا حلف: لا يسكن بيت أبيه فزارهم وجلس عندهم أيامًا: لم يحنث؛ لأن الزيارة ليست سكنًا باتفاق الأئمة. [المستدرك 5/ 40]

4717 -

من حلف على ابن أخت زوجته أن لا يعمل عند إنسان لكونه يظلمه، ثم بلغ وخرج عن أمره واستقل بنفسه وأجر نفسه لذلك الرجل: لم يحنث ذلك الحالف. [المستدرك 5/ 40]

ص: 117

4718 -

إذا حلف لا يفعل شيئًا لسبب فزال السبب أو أكره على فعل المحلوف عليه: لم يحنث.

وإن كان السبب باقيًا وأراد فعل المحلوف، فخالع زوجته خلعًا صحيحًا ثم فعله بعد أن بانت بالخلع: لم يحنث، وإن كان الخلع لأجل اليمين ففيه نزاع مشهور.

والصحيح أن خلع اليمين

(1)

لا يصح؛ كالمحلل؛ لأنه ليس المقصود به الفرقة.

وهل يقع بخلع اليمين طلقة رجعية أم لا يقع به شيء؟ فيه نزاع مشهور، والصحيح أنه لا يقع به شيء بحال.

لكن إذا أفتاه مفت به وفعله معتقدًا أن النكاح قد زال وأنه لا حنث عليه لأنه لم يقصد مخالفة يمينه: فلا حنث عليه، وأكثر العلماء يقولون إن يمينه باقية، منهم: مالك وأبو حنيفة وأحمد في المشهور والشافعي في أحد قوليه.

وفي القول الآخر: أن اليمين تنحل إذا حصل بينه وبين زوجته بينونة.

ويجوز للمستفتي أن يستفتي في مثل هذه المسائل

(2)

من يفتيه بأن لا حنث عليه.

ولا يجب على أحد أن يطيع أحدًا

(3)

في كل ما يأمر به وينهى عنه إِلَّا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.

وإذا أفتاه من يجوز استفتاؤه: جاز أن يعمل بفتواه ولو كان ذلك القول لا يوافق المذهب الذي ينتسب هو إليه، وليس بلازم أن يلتزم قول إمام بعينه في جميع أيمانه. [المستدرك 5/ 40 - 41]

(1)

مثال: أن يقول: إن سافرت إلى البلد الفلاني فأنت طالق، فأراد السفر، فخالع امرأته ليبر بيمينه.

(2)

مسائل الأيمان ومثله مسائل الطلاق، ولا يُعتبر ذلك من تتبع الرّخص.

(3)

كالمفتي ونحوه.

ص: 118

4719 -

الاحتياط أحسن ما لم يفض بصاحبه إِلَّا مخالفة السنَّة، فإذا أفضى إلى ذلك فالاحتياط ترك هذا الاحتياط. [المستدرك 5/ 41]

* * *

(باب الرجعة)

4720 -

قال شيخنا: لا يُمَكَّن من الرجعة إِلَّا من أراد إصلاحًا وأمسك بمعروف

(1)

، فلو طلق إذًا

(2)

: ففي تحريمه الروايات.

وقال: القرآن يدل على أنه لا يملكه

(3)

، وأنه لو أوقعه لم يقع كما لو طلَّق البائن، ومن قال: إن الشارع ملَّك الإنسان ما حرَّمه عليه فقد تناقض. [المستدرك 5/ 42]

4721 -

ألزم شيخنا بإعلان الرجعة والتسريح أو الإشهاد؛ كالنكاح والخلع عنده، لا على ابتداء الفرقة؛ لقوله:{أَشْهِدُوا} [الطلاق: 2] ولئلا يكتم طلاقها.

4722 -

أبو حنيفة يجعل الوطء رجعة.

والشافعي لا يجعله رجعة.

ومالك يجعله رجعة مع النية .. فيبيح وطء الرجعية إذا قصد به الرجعة، وهذا أعدل الأقوال وأشبهها بالأصول. [المستدرك 5/ 43]

4723 -

لا تصلح الرجعة مع الكتمان بحال، وذكره أبو بكر في الشافي، وروي عن أبي طالب قال: سألت أحمد عن رجل طلق امرأته وراجعها واستكتم الشهود حتى انقضت العدة؟ قال: يفرق بينهما ولا رجعة له عليها. [المستدرك 5/ 43]

(1)

أي: أمسك زوجته بمعروف، راغبًا بها، مُحبًّا الإقامة معها.

(2)

أي؛ إذا طلَّقها بعد أنْ ارتجعها دون أن يُمسكها بمعروف، وغير قاصدٍ الإصلاح.

(3)

أي: لا يملك هذا الطلاق.

ص: 119

4724 -

قال أصحابنا: ومن غابت مطلقتُه المحرمة ثم ذكرت أنها تزوجت من أصابها وانقضت عدتها منه، وأمكن ذلك: فله نكاحها إذا غلب على ظنه صدقها وإلا فلا.

وقد تضمنت هذه المسألة: أن المرأة إذا ذكرت أنه كان لها زوج فطلقها وانقضت عدتها فإنه يجوز تزوجها وتزويجها، وإن لم يثبت أنه طلقها.

ولا يقال: إن ثبوت إقرارها بالنكاح يوجب تعلق حق الزوج بها فلا يجوز نكاحها حتى يثبت زواله. [المستدرك 5/ 43]

4725 -

قال أحمد في رواية ابن منصور: فإن طلقها ثلاثًا ثم جحد تفتدي نفسها منه بما تقدر عليه، فإن أجبرت على ذلك فلا تتزين له ولا تقربه وتهرب إن قدرت.

وقال في رواية أبي طالب: تهرب ولا تتزوج حتى يظهر طلاقها ويعلم ذلك.

فإن لم يقر بطلاقها ومات لا ترث؛ لأنها تأخذ ما ليس لها، وتفر منه، ولا تخرج من البلد ولكن تختفي في بلدها. [المستدرك 5/ 44]

4726 -

قطع جمهور أصحابنا بحل المطلقة ثلاثًا بوطء المراهق، والذمي إن كانت ذمية.

قال أبو العباس: النكاح الذي يبيحها له [الذميُّ ينبغي أن يكون]

(1)

: هو النكاح الذي ينبغي أن يُقَرَّان عليه بعد الإسلام، أو

(2)

المجيء به إلينا للحكم

(3)

.

(1)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (393).

(2)

في الأصل بالعطف، والتصويب من الاختيارات (393).

(3)

في الأصل؛ (بعد: للحكم: صحيح)، والأرجح حذفها كما نبه على ذلك محقق كتاب الاختيارات (393).

ص: 120

فعلى هذا: يحلها النكاح بلا ولي ولا شهود، وكذلك لو تزوجها على أخت ثم ماتت الأخت قبل مفارقتها.

فأما لو تزوجها في عدة، أو على أخت ثم طلقها مع قيام المفسد: فهنا موضع نظر، فإن هذا النكاح لا يثبت به التوارث، ولا نحكم نحن فيه بشيء من أحكام النكاح، فينبغي أن لا تحل له. [المستدرك 5/ 45]

4727 -

يلزمها

(1)

ترك حناء وزينة نهاها عنه الزوج. [المستدرك 5/ 45]

* * *

(1)

الرجعية. (الجامع).

ص: 121

‌كتَابُ الظِّهَارِ

إِلَى قِتَالِ أَهْلِ الْبَغي

‌بَابُ الظِّهَارِ

4728 -

إن قال لأجنبية: أنت علي كظهر أمي: لم يطأها حتى يكفر.

وقيل: لا يصح كالطلاق، وذكره الشيخ تقي الدين رحمه الله رواية. [المستدرك 5/ 47]

4729 -

لو عزم على الوطء: فأصح القولين لا تستقر الكفارة إِلَّا بالوطء. [المستدرك 5/ 47]

4730 -

ما يخرج في الكفارة المطلقة: غير مقيد بالشرع؛ بل بالعرف قدرًا أو نوعًا من غير تقدير ولا تمليك، وهو قياس المذهب في الزوجة والأقارب والمملوك والضيف، والأجير المستأجر بطعامه.

والإدام يجب إن كان يطعم أهله بإدام، وإلا فلا. [المستدرك 5/ 48]

4731 -

عادة الناس تختلف في ذلك في الرخص والغلاء، واليسار والإعسار وتختلف بالشتاء والصيف. [المستدرك 5/ 48]

4732 -

سُئِلَ -رَحِمَهُ اللّهُ تَعَالَى-: عَن رَجُلٍ حَنِقَ مِن زَوْجَتِهِ فَقَالَ: إنْ بَقِيت أَنْكِحُك أَنْكِحُ أُمِّي تَحْتَ سُتُورِ الْكَعْبَةِ، هَل يَجُوزُ أَنْ يُصَالِحَهَا؟

فَأَجَابَ: إذَا نَكَحَهَا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ: عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَلَا يَمَسُّهَا حَتَّى يُكَفِّرَ. [34/ 6]

4733 -

إنْ أَرَادَ [أي: الزوج] بِقَوْلِهِ: إنَّهَا [أي: زوجته] مِثْلُ أُمِّي أَنَّهَا

ص: 122

تَسْتُرُ عَلَيَّ وَلَا تَهْتِكُنِي وَلَا تَلُومُنِي كَمَا تَفْعَلُ الْأُمُّ مَعَ وَلَدِهَا: فَإِنَّهُ يُؤَدَّبُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ.

وَإِنْ أَرَادَ بِهَا عِنْدِي مِثْلُ أُمِّي؛ أَيْ: فِي الاِمْتِنَاعِ عَن وَطْئِهَا وَالاِسْتِمْتَاعِ بِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْرُمُ مِن الْأُمِّ، فَهِيَ مِثْلُ أُمِّي الَّتِي لَيْسَتْ مَحَلًّا لِلِاسْتِمْتَاعِ بِهَا: فَهَذَا مُظَاهِرٌ، يَجِبٌ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُظَاهِرِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا حَتَّى يُكَفّرَ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ، فَيَعْتِقَ رَقَبَة، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامٌ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا.

وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ حَل لَهُ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.

إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيَّ كَأُمِّيِّ: فَهَذَا يَكُونُ مُظَاهِرًا فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد، وَحُكِيَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ نِزَاعٌ فِي ذَلِكَ: هَل يَقَعُ بِهِ الثَّلَاثُ أَمْ لَا؟

وَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ الْوَطْءُ حَتَّى يُكَفِّرَ بِاتِّفَاقِهِمْ، وَلَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ بِذَلِكَ. [34/ 7]

4734 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُل قَالَتْ لَهُ زَوْجَتهُ: أَنْتَ عَلَيَّ حَرَامٌ مِثْل أَبِي وَأُمِّي، وَقَالَ لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ مِثْل أُمِّي وَأُخْتِي، فَهَل يَجِبُ عَلَيْهِ طَلَاقٌ؟

فَأَجَابَ: لَا طَلَاقَ بِذَلِكَ

(1)

، وَلَكِنْ إن اسْتَمَرَّ عَلَى النِّكَاحِ فَعَلَى كُل مِنْهُمَا كَفَّارَةُ ظِهَارٍ قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَا وَهِيَ عِتْقُ رَقَبَةٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؛ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِينًا. [34/ 9]

4735 -

الواجبات المقدَّرة

(2)

في الشرع على ثلاثة أنواع:

تارة: تقدر الصدقة الواجبة ولا يقدر من يعطاها كالزكاة.

(1)

لأن التحريم من الألفاظ الصريحة للظهار، وسبق أن قرر الشيخ أنه لا يصح إطلاقه على كيره، كالطلاق، ولو نوى به الطلاق.

(2)

في الأصل: (المقدَّرات)، والتصويب من الاختيارات (396).

ص: 123

وتارة: يقدر المُعطى، ولا يقدر المال كالكفارات.

وتارة: يقدر هذا وهذا كفدية الأذى.

وذلك لأن سبب وجوب الزكاة هو المال فقدر فيها المال الواجب.

وأما الكفارات فسببها فعل بدنه؛ كالجماع واليمين والظهار فقدر فيها المُعطَى كما قدر العتق والصيام.

وما يتعلق بالحج ففيه بدن، ومال، فعبادته بدنية ومالية فلهذا قدر فيه هذا وهذا. [المستدرك 5/ 48]

4736 -

إن أخرج القيمة أو غدى المساكين أو عشاهم لم يجزئه، وعنه: يجزئه إذا كان قدر الواجب.

واختار الشيخ تقي الدين الإجزاء ولم يعتبر القدر الواجب، وهو ظاهر نقل أبي داود وغيره، فإنه قال: أشبعهم قال: ما أطعمهم؟ قال: خبزًا ولحمًا إن قدرت، أو من أوسط طعامكم. [المستدرك 5/ 48 - 49]

* * *

(اللعان)

4737 -

لو لم يقل الزوج في أيمانه: فيما رميتها به، فقياس المذهب صحته، كما إذا اقتصر الزوج في النكاح على قوله: قبلت. [المستدرك 5/ 49]

4738 -

إذا جوزنا إبدال لفظ الشهادة، والسخط، و"اللعن" فلأن نجوِّزه بغير العربية أولى. [المستدرك 5/ 49]

* * *

(بَابُ مَا يَلْحَقُ مِن النَّسَبِ)

4739 -

إذَا وَلَدَتْ لِأَكْثَر مِن سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِن حِينِ دَخَلَ بِهَا وَلَو بِلَحْظَة: لَحِقَهُ [أي: الزوج] الْوَلَدُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ.

ص: 124

وَاسْتَدَلَّ الصَّحَابَةُ عَلَى إمْكَانِ كَوْنِ الْوَلَدِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] مَعَ قَوْلِهِ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233]، فَإِذَا كَانَ مُدَّةُ الرَّضَاعِ مِن الثَّلَاثِينَ حَوْلَيْنِ: يَكُونُ الْحَمْلُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَجَمَعَ فِي الْآيَةِ أَقَلَّ الْحَمْلِ وَتَمَامَ الرَّضَاعِ وَلَو لَمْ يَسْتَلْحِقْهُ، فَكَيْفَ إذَا اسْتَلْحَقَهُ وَأَقَرَّ بِهِ؟

بَل لَو اسْتَلْحَقَ مَجْهُولَ النَّسَبِ وَقَالَ إنَّهُ ابْنِي: لَحِقَهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ إذَا كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا وَلَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ أَنَّهُ ابْنُهُ: كَانَ بَارًّا فِي يَمِينِهِ وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ. [34/ 10]

4740 -

إِنَّ الْمُسْلِمِينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ كُلَّ نِكَاحٍ اعْتَقَدَ الزَّوْجُ أَنَّهُ نِكَاحٌ سَائِغ إذَا وَطِئَ فِيهِ فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ فِيهِ وَلَدُهُ وَيَتَوَارَثَانِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ النِّكَاحُ بَاطِلًا فِي نَفْسِ الْأمْرِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، سَوَاءٌ كَانَ النَّاكِحُ كَافِرًا أَو مُسْلِمًا.

وَالْيَهُودِيُّ إذَا تَزَوَّجَ بِنْتَ أَخِيهِ: كَانَ وَلَدُهُ مِنْهُ يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ وَيَرِثُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ النِّكَاحُ بَاطِلًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.

فَإِنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ بَل الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ"

(1)

.

فَمَن طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا وَوَطِئَهَا يَعْتَقِدُ أَنَهُ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ؛ إمَّا لِجَهْلِهِ وَإِمَّا لِفَتْوَى مُفْتٍ مُخْطِئٍ قَلَّدَهُ الزَّوْجُ وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ: فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ النَّسَبُ وَيَتَوَارَثَانِ بِالاِتِّفَاقِ؛ بَل وَلَا تُحْسَبُ الْعِدَّةُ إلَّا مِن حِينِ تَرَكَ وَطْأَهَا، فَإِنَّهُ كَانَ يَطَؤُهَا يَعْتَقِدُ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ، فَهِيَ فِرَاشٌ لَهُ فَلَا تَعْتَدُّ مِنْهُ حَتَّى تَتْرُكَ الْفِرَاشَ. [34/ 13 - 14]

(1)

رواه البخاري (2053)، ومسلم (1457).

ص: 125

4741 -

نقل حرب فيمن طلق قبل الدخول وأتت بولد فأنكره ينتفي بلا لعان، فأخذ الشيخ تقي الدين خلفهُ من هذه الرواية أن الزوجة لا تكون فراشًا إِلَّا بالدخول، واختاره هو وغيره من المتأخرين. [المستدرك 5/ 50]

4742 -

تتبعض الأحكام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "احتجبي يا سودة"

(1)

وعليه نصوص أحمد. [المستدرك 5/ 50]

4743 -

لو أدخلت المرأة لزوجها أمتها: إن ظن جوازه لحقه الولد، وإلا فروايتان، ويكون حرامًا على الصحيح إن ظن حلها بذلك.

وإن وطئ المرتهن الأمة المرهونة بإذن الراهن وظن جواز ذلك: لحقه الولد وانعقد حرًّا. [المستدرك 5/ 52]

4744 -

يلحقه الولد بوطء الشبهة؛ كعقدٍ، نص عليه، وذكره الشيخ تقي الدين إجماعًا

(2)

. [المستدرك 5/ 52]

4745 -

اختار شيخنا: أنه إن استلحق ولده من زنى ولا فراش لحقه

(3)

. [المستدرك 5/ 52]

4746 -

إن تداعيا بهيمة أو فصيلًا فشهد القائف أن دابة هذا تنتجها: ينبغي أن يقضي بهذه الشهادة، وتقدم على اليد الحسية.

ويتوجه أن يُحكم بالقيافة

(4)

في الأموال كلها كما حكمنا بذلك في الرف المقلوع إذا كان له موضع في الجدار، وكما حكمنا في الاشتراك في اليد الحسية بما يظهر من اليد العرفية، فأعطينا كل واحد من الزوجين ما يناسبه في

(1)

رواه البخاري (2533).

(2)

إنصاف (9/ 269)، فـ (2/ 328) هذا أصرح مما في المجموع. (الجامع).

(3)

فروع (5/ 526) وإنصاف (9/ 269) هنا جزم وتوضيح. (الجامع).

مثال ذلك: رجل زنى بامرأة ليس لها زوج، فحملت منه وجاءت بولد، واعترف الرجل بأن الولد منه، فإنه يُنسب له ويُلحق به.

(4)

في الأصل: (بالقافة)، والتصويب من الاختيارات (401).

ص: 126

العادة، وكل واحد من الصانعين ما يناسبه، وكما حكمنا بالوصف في اللقطة إذا تداعاها اثنان، وهذا نوع قافة أو شبيه به.

وكذلك لو تنازعا غراسًا أو ثمرًا في أيديهما فشهد أهل الخبرة أنه من هذا البستان، ويرجع إلى أهل الخبرة حيث يستوي المتداعيان، كما رجع إلى أهل الخبرة بالنسب.

وكذلك لو تنازع اثنان لباسًا أو نعلًا من لباس أحدهما دون الآخر.

وسواء كان المُدَّعَى في أيديهما أو في يد ثالث.

وأما إن كانت اليد لأحدهما دون الآخر: فالقافة المعارضة لهذا كالقافة المعارضة للفراش، فإن قلنا بتقديم القافة في صورة الرجحان فقد نقول ههنا كذلك.

ومثل أن يدعي أنه ذهب من ماله شيء ويثبت ذلك، فيقص القائف أثر الوطء من مكان آخر، فشهادة القائف أن المال دخل إلى هذا الموضع توجب أحد الأمرين:

- إما الحكم به.

- وإما أن يكون لوْثًا فيحكم به مع اليمين للمدعي، وهو الأقرب؛ فإن هذه الأمارة ترجح جانب المدعي، واليمين مشروعة في أقوى الجانبين. [المستدرك 5/ 52 - 53]

4747 -

لو مات الطفل قبل أن تراه القافة قال المزي: يوقف ماله، وما قاله ضعيف، وإنما قياس المذهب القرعة، ويحتمل الشركة، ويحتمل أن يرث واحد منهما.

4748 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلٍ ادَّعَتْ عَلَيْهِ مُطَلَّقَتُهُ بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ بِبِنْت، وَبَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَتْ بِزَوْج آخَرَ؛ فَأَلْزَمَهُ بَعْضُ الْحُكَّامِ بِالْيَمِينِ.

فَأَجَابَ: عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَنَّهَا لَمْ تَلِدْهَا فِي الْعِدَّةِ، أَو أَنَّهَا لَمْ تَلِدْهَا عَلَى فِرَاشِهِ، أَو أَنَّهَا لَمْ تَلِدْهَا فِي بَيْتِهِ؛ بِحَيْثُ أَمْكَنَ لُحُوْق النَّسَبِ بِهِ.

ص: 127

فَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِهِ وَأَمْكَنَ أنَّهَا وَلَدَتْهَا مِن الثَّانِي: فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَنَّهَا لَمْ تَلِدْهَا.

وَإِذَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ: لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ. [34/ 16 - 17]

* * *

(بَابُ الْعِدَدِ)

4749 -

الصواب أن يقال: إنَّ عدةَ الوفاة هي حَرَمٌ لانقضاء النكاح، ورعايةٌ لحق الزوج، ولهذا تُحِدُّ المتوفى عنها في عدة الوفاة رعايةً لحق الزوج فجعلت العدة تحريمًا لحق هذا العقد الذي له خطر وشأن، فيحصل بهذه فصل بين. نكاح الأول ونكاح الثاني ولا يتصل النكاحان.

ألا ترى أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لما عظم حقه حرم نساؤه بعده؟. [المستدرك 5/ 54]

4750 -

لو قُتل المرتد في عدة امرأته فإنها تستانف عدة الوفاة، نص عليه في رواية ابن منصور.

لو أسلمت امرأة كافر ثم مات قبل انقضاء العدة: فإنها تنتقل إلى عدة الوفاة في قياس التي قبلها ذكره الشيخ تقي الدين رحمه الله. [المستدرك 5/ 55]

4751 -

إن شربت ما تحيض به فلها ذلك؛ كمن لها غرض في قصر عدتها لارتفاع الحيض بعارض. [المستدرك 5/ 55]

4752 -

المطلقة البائن وإن لم تلزمه نفقتها إن شاء أسكنها في مسكنه أو غيره إن صلح لها ولا محذور؛ تحصينًا لمائه، وأنفق عليها فله ذلك، وكذلك الحامل من وطء الشبهة أو النكاح الفاسد: لا يجب على الواطئ نفقتها إن قلنا بالنفقة لها، إِلَّا أن يسكنها في منزل يليق بها تحصينًا لمائه فيلزمها ذلك، وتجب لها النفقة. [المستدرك 5/ 55]

4753 -

من طلق ثلاثًا وألزمها بوفاء العدة في مكانها فخرجت منه قبل أن

ص: 128

توفي عدتها: فلا نفقة لها، وليس لها أن تطالب بنفقة الماضي في مثل هذه العدة في مذهب الأربعة. [المستدرك 5/ 55]

4754 -

من ارتفع حيضها ولا تدري ما رفعه: إن علمت عدم عوده: فتعتد بالأشهر، وإلا اعتدت بسنة. [المستدرك 5/ 56]

4755 -

قال ابن القيم رحمه الله: والصواب الذي دل عليه القرآن وسيرة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في السبايا، والقياس: أن النكاح ينفسخ بسباء المرأة مطلقًا، فإنها قد صارت ملكًا للسابي، وزالت العصمة عن ملك الزوج لها، كما زالت عن ملكه لرقبتها ومنافعها، وهذا اختيار أبي الخطاب وشيخنا وهو مذهب الشافعي. [المستدرك 5/ 56]

4756 -

قال الشَّيْخ تَقِيُّ الدِّينِ رحمه الله في مَيِّتِ عن امْرَأَةٍ شَهِدَ قَوْمٌ بِطَلَاقِهِ ثَلَاثًا مع عِلْمِهِمْ عَادَةً بِخَلْوَتِهِ بها: لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُمْ يَقْدَحُ فِيهِمْ. [المستدرك 5/ 56]

4757 -

الصواب في امرأة المفقود: مذهب عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة وهو أنها تتربص أربع سنين ثم تعتد للوفاة، ويجوز لها أن تتزوج بعد ذلك، وهي زوجة الثاني ظاهرًا وباطنًا، ثم إذا قدم زوجها الأول بعد تزوجها: خُيِّر بين امرأته وبين مهرها، ولا فرق بين ما قبل الدخول وبعده، وهو ظاهر مذهب أحمد.

وعلى الأصح لا يعتبر الحاكم، فلو مضت المدة والعدة تزوجت بلا حكم، قال أبو العباس، وكنت أقول: إن هذه شبه اللقطة من بعض الوجوه، ثم رأيت ابن عقيل قد ذكر ذلك ومثَّل بذلك؛ وهذا لأن المجهول في الشرع كالمعدوم، وإذا عُلم بعد ذلك: كان التصرف في أهله وماله موقوفًا على إذنه.

ووقف التصرف في حق الغير على إذنه: يجوز عند الحاجة عندنا بلا نزاع، وأما مع عدم الحاجة ففيه روايتان، كما يجوز التصرف في اللقطة بعدم

ص: 129

العلم لصاحبها، فإذا جاء المالك كان تصرف الملتقط موقوفًا على إجازته، وكان تربصها أربع سنين كالحول في اللقطة.

وبالجملة: فكل صورة فرِّق فيها بين الرجل وامرأته بسبب يوجب الفرقة ثم تبين انتفاء ذلك السبب فهو شبيه بالمفقود، والتخيير فيه بين المرأة والمهر هو أعدل الأقوال.

ولو ظنت المرأة أن زوجها طلقها فتزوجت فهو كما لو ظنت موته، ولو قدر أنها كتمت الزوج فتزوجت غيره ولم يعلم الأول حتى دخل بها الثاني فهنا الزوجان مشهوران بخلاف المرأة، لكن إن اعتقدت جواز ذلك بان تعتقد أنه عاجز عن حقها أو مفرط فيه وأنه يجوز لها الفسخ والتزوج بغيره فتشبه امرأة المفقود.

وأما إذا علمت التحريم فهي زانية، لكن المتزوج بها كالمتزوج بامرأة المفقود وأنها طلقت نفسها فأجازه. [المستدرك 5/ 56 - 57]

4758 -

قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ:

- الْمَوْطُوءَة بِشُبْهَةٍ تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةٍ، وَهُوَ وَجْهٌ فِي الْمَذْهَبِ.

- وَتَعْتَدُّ الْمَزْنِيُّ بِهَا بِحَيْضَةٍ، وَهُوَ رِوَايَة عَن أَحْمَدَ.

- وَالْمُخْتَلِعَةُ يَكْفِيهَا الاِعْتِدَادُ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ رِوَايَة عَن أَحْمَدَ وَمَذْهَب عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَغَيْرِهِ.

- وَالْمَفْسُوخُ نِكَاحُهَا كَذَلِكَ، وَأَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ.

- وَالْمُطَلَّقَةُ [آخر]

(1)

ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ عِدَّتُهَا حَيْضَة وَاحِدَةٌ.

قُلْت: عَلَّقَ أَبُو الْعَبَّاسِ مِن الْفَوَائِدِ بِذَلِكَ [أن لا يكون الإجماع على خلافه، وقد حكى القاضي أبو الحسين ابن الفراء القول بذلك]

(2)

عَن

(1)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (406).

(2)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (406).

ص: 130

ابْنِ اللَبَّانِ

(1)

. [المستدرك 5/ 57 - 58]

4759 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن امْرَأَةٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا فِي الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِن رَبِيعٍ الْأَؤَلِ، وَأَنَ دَمَ الْحَيْضِ جَاءَهَا مَرَّةً، ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِن جُمَادَى الآخِرِ مِن السَّنَةِ، وَادَّعَتْ أَنَّهَا حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ وَلَمْ تَكُنْ حَاضَتْ إلَّا مَرَّةً، فَلَمَّا عَلِمَ الزَّوْجُ الثَّانِي طَلَّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً ثَانِيًا فِي الْعَشْرِ مِن شَعْبَانَ مِن السَّنَةِ، ثُمَّ أَرَادَتْ أَنْ تُزَوَّجَ بِالْمُطَلِّقِ الثَّانِي وَادَّعَتْ أَنَّهَا آيِسَةٌ، فَهَل يُقْبَلُ قَوْلُهَا وَهَل يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا؟

فَأَجَابَ: الْإِيَاسُ لَا يَثْبُتُ بِقَوْلِ الْمَرْأَةِ، لَكِنْ هَذِهِ إذَا قَالَتْ إنَّهُ ارْتَفَعَ لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ فَإِنَّهَا تُؤَجَّلُ سَنَةً، فَإِنْ لَمْ تَحِضْ فِيهَا زوِّجَتْ.

وَإِذَا طَعَنَتْ فِي سِنّ الْإِيَاسِ فَلَا تَحْتَاجُ إلَى تَأْجِيلٍ.

وَإِن عُلِمَ أَنَّ حَيْضَهَا ارْتَفَعَ بِمَرَضٍ أَو رَضَاعٍ: كَانَت فِي عِدِّةٍ حَتَّى يَزُولَ الْعَارِضُ.

فَهَذِهِ الْمَرْأَةُ كَانَ عَلَيْهَا عِدَّتَانِ: عِدَّة لِلْأَوَّلِ، وَعِدَّة مِن وَطْءِ الثَّانِي.

وَنِكَاحُهُ فَاسِدٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى طَلَاقٍ.

فَإِذَا لَمْ تَحِضْ إلَّا مَرَّةً وَاسْتَمَرَّ انْقِطَاعُ الدَّمِ: فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ الْعِدَّتَيْنِ بِالشُّهُورِ: سِتَّةَ أَشْهُرٍ

(2)

بَعْدَ فِرَاقِ الثَّانِي إذَا كَانَت آيِسَةً.

وَإِذَا كَانَت مُسْتَرِيبَةً

(3)

: كَانَ سَنَة وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ. [34/ 19 - 20]

4760 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَهَا عِنْدَهُ أَرْبَعُ سِنِينَ لَمْ تَحِضْ، وَذَكَرَتْ أَنَّ لَهَا أرْبَعَ سِنِينَ قَبْلَ زَوَاجِهَا لَمْ تَحِضْ، فَحَصَلَ مِن زَوْجِهَا الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ، فَكَيْفَ يَكُونُ تَزْوِيجُهَا بِالزَّوْجِ الْآخَرِ؟ وَكَيْفَ تَكُونُ الْعِدَّةُ وَعُمْرُهَا خَمْسُونَ سَنَةً؟

(1)

الاختيارات (282).

(2)

ثلاثة للأول، وثلاثة للثاني.

(3)

وهي الَّتِي لَا تَدْرِي مَا رَفَعَ حَيْضَهَا.

ص: 131

فَأَجَابَ: هَذِهِ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْآيِسَاتِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ فِي أَظْهَرِ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ؛ فَإِنَّهَا قَد عَرَفَتْ أَنَّ حَيْضَهَا قَد انْقَطَعَ، وَقَد عَرَفَتْ أَنَّهُ قَد انْقَطَعَ انْقِطَاعًا مُسْتَمِرًّا، بِخِلَافِ الْمُسْتَرِيبَةِ الَّتِي لَا تَدْرِي مَا رَفَعَ حَيْضَهَا: هَل هُوَ ارْتِفَاعُ إيَاسٍ؟ أَو ارْتِفَاعُ لِعَارِض ثُمَّ يَعُودُ كَالْمَرَضِ وَالرَّضَاعِ؟

فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ

(1)

.

فَمَا ارْتَفَعَ لِعَارِضٍ كَالْمَرَضِ وَالرَّضَاعِ فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ زَوَالَ الْعَارِضِ بِلَا رَيْبٍ.

وَمَتَى ارْتَفَعَ لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ: فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَنْصُوصِ عَنْهُ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ: أَنَّهَا تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْآيِسَاتِ بَعْدَ أَنْ تَمْكُثَ مُدَّةَ الْحَمْلِ كَمَا قَضَى بِذَلِكَ عُمَرُ.

وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيّ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهَا تَمْكثُ حَتَّى تَطْعَنَ فِي سِن الْإِيَاسِ فَتَعْتَدَّ عِدَّةَ الْآيِسَاتِ، وَفِي هَذَا ضَرَرٌ عَظِيمٌ عَلَيْهَا

(2)

[المستدرك 34/ 20 - 21]

4761 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن امْرَأَةٍ فَسَخَ الْحَاكِمُ نِكَاحَهَا عَقِبَ الْوِلَادَةِ .. وَبَعْدَ ثَلَاثَةِ شُهُورٍ مِن فَسْخِ النِّكَاحِ رَغِبَ فِيهَا مَن يَتَزَوَّجُهَا، فَهَل يَجُوزُ أَنْ تَعْتَدَّ بِالشُّهُورِ؟

فَأَجَابَ: بَل تَبْقَى فِي الْعِدَّةِ حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ، وَإِن تَأَخَّرَ ذَلِكَ إلَى انْقِضَاءِ مُدَّةِ الرَّضَاعِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَبِذَلِكَ قَضَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَلَمْ يُخَالِفْهُمَا أَحَدٌ.

(1)

الأول: الآيسة، وعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أشْهُرٍ بنص القرآن.

الثاني: إذا انْقَطَعَ انْقِطَاعًا مُسْتَمِرًّا، بحيث تَعْلَمُ أنَّ الدَّمَ لَا يَأْتِي فِيمَا بَعْدُ، فهذه عِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أشْهُرٍ كعدة الآيسة.

الثالث: إذا ارْتفَع لِعَارِض ثُمَّ يَعُودُ كَالْمَرَضِ وَالرَّضَاع، فهذه تعتد سنة.

(2)

وقد رجح الشيخ القول الأول في باب العدد، وعليه: فتمكث سنة ثم تتزوج.

ص: 132

فَإِنْ أَحَبَّت الْمَرْأَةُ أَنْ تَسْتَرْضِعَ لِابْنِهَا مَن يُرْضِعُهُ لِتَحِيضَ أَو تَشْرَبَ مَا تَحِيضُ بِهِ: فَلَهَا ذَلِكَ. [34/ 22 - 23]

4762 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللّهُ تَعَالَى-: عَن رَجُلٍ مَرِضَ مَرضًا مُتَّصِلًا بِمَوْتِهِ وَلَهُ زَوْجَةٌ فَأَمَرَهَا أَنْ تَخْرُجَ مِن دَاخِلِ الدَّارِ إلَى خَارِجِهَا فَتَوَقَّفَتْ عَن الْخُرُوجِ فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ .. فَهَل يَلْزَمُهَا الطَّلَاقُ أَمْ عِدَّةُ الْوَفَاةِ؟

فَأَجَابَ: عَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ مَعَ عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَلَهَا الْمِيرَاثُ

(1)

.

هَذَا إنْ كَانَ عَقْلُهُ حَاضِرًا حِينَ تَكَلَّمَ بِالطَّلَاقِ، إِنْ كَانَ عَقْلُهُ غَائِبًا: لَمْ يَلْزَمْهَا إلَّا عِدَّة الْوَفَاةِ. [34/ 25]

4763 -

الْمُعْتَدَّةُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَتَجْتَنِبُ الزِّينَةَ وَالطِّيبَ فِي بَدَنِهَا وَثيَابِهَا، وَلَا تَتَزَيَّنُ وَلَا تَتَطَيَّبُ وَلَا تَلْبَسُ ثِيَابَ الزِّينَةِ، وَتَلْزَمُ مَنْزِلَهَا فَلَا تَخْرُجُ بِالنَّهَارِ إلَّا لِحَاجَة، وَلَا بِاللَّيْلِ إلَّا لِضَرُورَةِ، وَيَجُوزُ لَهَا أَنْ تَأْكُلَ كُلَّ مَا أَبَاحَهُ اللّهُ.

وَيَجُوزُ لَهَا أَنْ تَلْبَسَ ثِيَابَ الْقُطْنِ وَالْكتَّانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَبَاحَهُ اللهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَصْنَعَ ثِيَابًا بَيْضَاءَ أَو غَيْرَ بِيضٍ لِلْعِدَّةِ؛ بَل يَجُوزُ لَهَا لبْسُ الْمُقَفَّصِ

(2)

، لَكِنْ لَا تَلْبَسُ مَا تتزَيَّنُ بِهِ الْمَرْأَةُ؛ مِثْل الْأحْمَرِ وَالْأصْفَرِ وَالْأخْضَرِ الصَّافِي وَالْأَزْرَقِ الصَّافِي وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَا تَلْبَس الْحُلِيَّ مِثْل الْأَسْوِرَةِ وَالْخَلَاخِلِ والقلايد، وَلَا تَخْتَضِبُ بِحِنَّاء وَلَا غَيْرِهِ، وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا عَمَلُ شُغْلٍ مِن الْأَشْغَالِ الْمُبَاحَةِ.

وَيَجُوزُ لَهَا سَائِرُ مَا يُبَاحُ لَهَا فِي غَيْرِ الْعِدَّةِ؛ مِثْل كَلَامِ مَن تَحْتَاجُ إلَى كَلَامِهِ مِن الرّجَالِ إذَا كَانَت مُسْتَتِرَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ. [34/ 27 - 28]

(1)

أي: عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ أبْعَدَ الْأجَلَيْنِ: مِن عِدَّةِ الطَّلَاقِ أو عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وليس المعنى أنْ تعتد عدة طلاق، وإذا انتهت شرعت في عدة الوفاة أو العكس.

(2)

أي: المُخَطَّط كهيئةِ القَفَصِ.

ص: 133

4764 -

الْعِدَّةُ انْقَضَتْ بِمُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا مِن حِينِ الْمَوْتِ وَلَا تُقْضَى الْعِدَّةَ.

فَإِنْ كَانَت خَرَجَتْ لِأَمْر يُحْتَاجُ إلَيْهِ وَلَمْ تَبِتْ إلَّا فِي مَنْزِلِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَت قَد خَرَجَتْ لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَبَاتَتْ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهَا لِغَيْرِ حَاجَةٍ، أَو بَاتَتْ فِي غَيْرِ ضَرُورَة أَو تَرَكَت الْإِحْدَادَ: فَلْتَسْتَغْفِر اللّهَ وَتَتُوبُ إلَيْهِ مِن ذَلِكَ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهَا. [34/ 28]

4765 -

لَيْسَ لَهَا [أي: المرأة الْمُتوفى عنها زوجها] أَنْ تُسَافِرَ فِي الْعِدَّةِ عَن الْوَفَاةِ إلَى الْحَجِّ فِي مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. [34/ 29]

* * *

(بَابُ الرَّضَاعِ)

4766 -

الرضاع المحرم في الحولين فقط مطلقًا، وقال شيخنا: قبل الفطام، وقال: أو كبير لحاجة نحو جعله محرمًا، خمس رضعات. [المستدرك 5/ 59]

4767 -

أَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ بِالرَّضَاعِ: فَقَد قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "يَحْرُمُ مِن الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِن النَّسَبِ"

(1)

، وَفِي لَفْظٍ:"يَحْرُمُ مِن الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِن الْوِلَادَةِ"

(2)

، وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ، لَا أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمَعْرُوفِينَ

(3)

.

فَإِذَا ارْتَضَعَ الطِّفْلُ مِن امْرأؤ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فِي الْحَوْلَيْنِ قَبْلَ الْفِطَامِ صَارَ وَلَدَهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَصَارَ الرَّجُلُ الَّذِي دَرَّ اللَّبَنُ بِوَطْئِهِ أَبًا لِهَذَا الْمُرْتَضِعِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ، وَهَذَا يُسَمَّى لَبَنُ الْفَحْلِ.

(1)

رواه البخاري (2645)، ومسلم (1445).

(2)

رواه مسلم (1444).

(3)

وقال الشيخ: حَدِيثُ عَائِشَةَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ، وَهُوَ مُتَلَقى بالْقَبُولِ؛ فَإِنَّ الْأئِمَّةَ اتَّفَقُوا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ. (34/ 36).

ص: 134

وَإِذَا صَارَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالِدَيْ الْمُرْتَضِعِ: صَارَ كُلٌّ مِن أَوْلَادِهِمَا إخْوَةَ الْمُرْضِعِ، سَوَاءٌ كَانُوا مِن الْأَبِ فَقَطْ، أَو مِن الْمَرْأَةِ، أَو مِنْهُمَا، أَو كَانُوا أَوْلَادًا لَهُمَا مِن الرَّضَاعَةِ، فَإِنَّهُم يَصِيرُونَ إخْوَةً لِهَذَا الْمُرْتَضِعِ مِن الرَّضَاعَةِ، حَتَّى لَو كَانَ لِرَجل امْرَأَتَانِ فَأَرْضَعَتْ هَذِهِ طِفْلًا وَهَذِهِ طِفْلَةً: كَانَا أَخَوَيْنِ، وَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدِهِمَا التَّزَوُّجُ بِالْآخَرِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ.

وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ سُئِلَ عَنْهَا ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: اللِّقَاحُ وَاحِدٌ؛ يَعْنِي: الرَّجُلُ الَّذِي وَطِئَ الْمَرْأَتَيْنِ حَتَّى دَرَّ اللَّبَنَ وَاحِدٌ.

وَلَا فَرْقَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَ أَوْلَادِ الْمَرْأَةِ الَّذِينَ رَضَعُوا مَعَ الطِّفْلِ وَبَيْنَ مَن وُلدَ لَهَا قَبْلَ الرَّضَاعَةِ وَبَعْدَ الرَّضَاعَةِ.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَجَمِيعُ أَقَارِبِ الْمَرْأَةِ أَقَارِبُ لِلْمُرْتَضِعِ مِن الرَّضَاعَةِ: أَوْلَادُهَا إخْوَتُهُ، وَأَوْلَادُ أَوْلَادِهَا أَوْلَادُ إخْوَتِهِ، وَآبَاؤُهَا وَأُمَّهَاتُهَا أَجْدَادُهُ، وَإِخْوَتُهَا وَأَخَوَاتُهَا أَخْوَالُهُ وَخَالَاتُهُ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ حَرَامٌ عَلَيْهِ.

وَأَقَارِبُ الرَّجُلِ أَقَارِبُهُ مِن الرَّضَاعِ: أَوْلَادُ إخْوَتِهِ وَأَوْلَادُهُم أَوْلَادُ إخْوَتِهِ، وَإِخْوَتُهُ أَعْمَامُهُ وَعَمَّاتُهُ، وَهُنَّ حَرَامٌ عَلَيْهِ.

وَأَوْلَادُ الْمُرْتَضِعِ بِمَنْزِلَتِهِ

(1)

، كَمَا أَنَّ أَوْلَادَ الْمَوْلُودِ بِمَنْزِلَتِهِ، فَلَيْسَ لِأَوْلَادِهِ مِن النَّسَبِ وَالرَّضَاعِ أَنْ يَتَزَوَّجُوا إخْوَتَهُ وَلَا إخْوَةَ أَبِيهِ لَا مِن نَسَبٍ وَلَا رَضَاعٍ؛ لِأَنَّهُم أَعْمَامُهُم وَعَمَّاتُهُم وَأَخْوَالُهُم وَخَالَاتُهُمْ.

وَأَمَّا إخْوَةُ الْمُرْتَضِعِ مِن نَسَبٍ أَو رَضَاع غَيْرِ رَضَاعِ هَذِهِ الْمُرْضِعَةِ: فَهُم أَجَانِبُ مِنْهَا وَمِن أَقَارِبِهَا، فَيَجُوزُ لِإِخْوَةِ هَؤُلَاءِ أَنْ يَتَزَوَّجُوا أَوْلَادَ الْمُرْضِعَةِ؛ كَمَا إذَا كَانَ أَخ لِلرَّجُلِ مِن أَبِيهِ وَأُخْت مِن أُمِّهِ، وَبِالْعَكْسِ: جَازَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَحَذهُمَا الْآخَرَ، وَهُوَ نَفْسُهُ لَا يَتَزَوَّجُ وَاحِدًا مِنْهُمَا، فَكَذَلِكَ الْمُرْتَضِعُ هُوَ نَفْسُهُ

(1)

أي: الْمُرْتَضِعِ.

ص: 135

لَا يَتَزَوَّجُ وَاحِدًا مِن أَوْلَادِ مُرْضِعِهِ، وَلَا أَحَدًا مِن أَوْلَادِ وَالِدَيْهِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ إخْوَتُهُ مِن الرَّضَاعِ، وَهَؤُلَاءِ إخْوَتُهُ مِن النَّسَبِ.

وَيَجُوزُ لِإِخْوَتِهِ مِن الرَّضَاعِ أَنْ يَتَزَوَّجُوا إخْوَتَهُ مِن النَّسَبِ، كَمَا يَجُوزُ لِإِخْوَتِهِ مِن أَبِيهِ أَنْ يَتَزَوَّجُوا إخْوَتَهُ مِن أُمِّهِ، وَهَذَا كُلُّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. [34/ 31 - 33]

4768 -

إذَا ارْتَضَعَ الرَّضِيعُ مِن الْمَرْأَةِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فِي الْحَوْلَيْنِ صَارَت الْمَرْأَةُ أُمَّهُ، وَصَارَ زَوْجُهَا الَّذِي جَاءَ اللَّبَنُ بِوَطْئِهِ أَبَاهُ، فَصَارَ ابْنًا لِكُلٍّ مِنْهُمَا مِن الرَّضَاعَةِ.

وَحِينَئِذٍ فَيَكونُ جَمِيعُ أَوْلَادِ الْمَرْأَةِ مِن هَذَا الرَّجُلِ وَمِن غَيْرِهِ، وَجَمِيعُ أَوْلَادِ الرَّجُلِ مِنْهَا وَمِن غَيْرِهَا: إخْوَةً لَهُ، سَوَاءٌ وُلدُوا قَبْلَ الرَّضَاعِ أَو بَعْدَهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ.

وَإِذَا كَانَ أَوْلَادُهُمَا إخْوَتَهُ كَانَ أَوْلَادُ أوْلَادِهِمَا أَوْلَادَ إخْوَتِهِ.

وَإِخْوَةُ الْمَرْأَةِ وَأَخَوَاتُهَا أَخْوَالُهُ وَخَالَاتُهُ مِن الرَّضَاعِ.

وَأَبُوهَا وَأمُّهَا أَجْدَادهُ وَجَدَّاتُهُ مِن الرَّضَاعِ.

وَإِخْوَةُ الرَّجُلِ أَعْمَامُهُ وَعَمَّاتُهُ، وَأَبُو الرَّجُلِ وَأمَّهَاتُهُ أَجْدَادُهُ وَجَدَّاتُهُ.

وَأَمَّا إخْوَةُ الْمُرْتَضِعِ مِن النَّسَبِ وَأَبُوهُ مِن النَّسَبِ وَأُمُّهُ مِن النَّسَبِ: فَهُم أَجَانِب [عن]

(1)

أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَإِخْوَتِهِ مِن الرَّضَاعِ، لَيْسَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ صِلَة وَلَا نَسَبٌ وَلَا رَضَاعٌ.

وَأَمَّا أُمُّ أَخِيهِ مِن الرَّضَاعَةِ فَلَيْسَتْ أُمَّهُ وَلَا امْرَأَةَ أَبِيهِ؛ لِأَنَّ زَوْجَهَا صَاحِبَ اللَّبَنِ لَيْسَ أَبَا لِهَذَا لَا مِن النَّسَبِ وَلَا مِن الرَّضَاعَةِ. [34/ 37 - 40]

(1)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، والمثبت من مختصر الفتاوى المصرية (450)، وهو الصواب.

ص: 136

4769 -

إذَا شُكَّ: هَل دَخَلَ اللَّبَنُ فِي جَوْفِ الصَّبِيِّ أَو لَمْ يَحْصُلْ؟ فَهُنَا لَا نَحْكُمُ بِالتَّحْرِيمِ بِلَا رَيْبٍ.

وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ حَصَلَ فِي فَمِهِ: فَإِنَّ حُصُولَ اللَّبَنِ فِي الْفَمِ لَا يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. [34/ 45]

4770 -

إذَا وَطِئَهَا [أي: المرأةَ] زَوْجٌ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ ثَابَ لَهَا لَبَنٌ: فَهَذَا اللَّبَنُ يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ.

وَلَو قُدِّرَ أَنَّ هَذَا اللَّبَنَ ثَابَ لِامْرَأَةٍ لَمْ تَتَزَوَّجْ قَطُّ: فَهَذَا يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَن أَحْمَد، وَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ. [34/ 51]

4771 -

وَسُئِلَ شَيْخ الْإِسْلَامِ رحمه الله: عَن رَجُلٍ خَطَبَ قَرِيبَتَهُ فَقَالَ وَالِدُهُ

(1)

: هِيَ رَضَعَتْ مَعَك وَنَهَاهُ عَن التَّزْوِيجِ بِهَا فَلمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهُ تَزَوَّجَ بِهَا وَكَانَ الْعُدُولُ شَهِدُوا عَلَى وَالِدَتِهَا أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْكرَتْ وَقَالَتْ: مَا قُلْت هَذَا الْقَوْلَ إِلَّا لِغَرَضٍ: فَهَل يَحِلُّ تَزْوِيجُهَا؟

فَأَجَابَ: إنْ كَانَت الْأُمُّ مَعْرُوفَةً بِالصِّدْقِ وَذَكَرَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ: فَإِنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي ذَلِكَ، فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا إذَا تَزَوَّجَهَا فِي أَصَحِّ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ؛ كَمَا ثَبَتَ فِي "صَحِيح الْبُخَارِيِّ"

(2)

أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أمَرَ عُقْبَةَ بْنَ الْحَارِثِ أَنْ يُفَارِقَ امْرَأَتَهُ لَمَّا ذَكَرَت الْأَمَةُ السَّوْدَاءُ أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُمَا.

وَأَمَّا إذَا شَكَّ فِي صِدْقِهَا أَو فِي عَدَدِ الرَّضَعَاتِ: فَإِنَّهَا تَكُونُ مِن الشُّبُهَاتِ، فَاجْتِنَابُهَا أَوْلَى، وَلَا يُحْكَمُ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا إلَّا بِحُجَّةٍ تُوجِبُ ذَلِكَ.

وَإِذَا رَجَعَتْ عَن الشَّهَادَةِ قَبْلَ التَّزْوِيجِ: لَمْ تَحْرُم الزَّوْجَةُ، لَكِنْ إنْ عُرِفَ

(1)

في الأصل: (وَالِدُهَا)، والمثبت من الفتاوى الكبرى (3/ 163)، وهو الصواب.

(2)

(2660).

ص: 137

أَنَّهَا كَاذِبَةٌ فِي رُجُوعِهَا وَأَنَّهَا رَجَعَتْ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهَا حَتَّى كَتَمَت الشَّهَادَةَ: لَمْ يَحِلَّ التَّزْويجُ. [34/ 52]

4772 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَة، وَوُلِدَ لَهُ مِنْهَا أَوْلَادٌ عَدِيدَةٌ، فَلَمَّا كَانَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ حَضَرَ مَن نَازَعَ الزَّوْجَةَ، وَذَكَرَ لِزَوْجِهَا أَنَّ هَذِهِ الزَّوْجَةَ [التي]

(1)

فِي عِصْمَتِك شَرِبَتْ مِن لَبَنِ أُمّك؟

فَأَجَابَ: إنْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ مَعْرُوفًا بِالصِّدْقِ وَهُوَ خَبِيرٌ بِمَا ذَكَرَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهَا رَضَعَتْ مِن أُمِّ الزَّوْجِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فِي الْحَوْلَيْنِ: رُجِعَ إلَى قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ، وَإِلَّا لَمْ يَجِب الرُّجُوعُ، وَإِن كَانَ قَد عَايَنَ الرَّضَاعَ. [34/ 53]

4773 -

الْكَبِيرُ إذَا ارْتَضَعَ مِن امْرَأَتِهِ أَو مِن غَيْرِ امْرَأَتِهِ: لَمْ تنْشرْ بِذَلِكَ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ؛ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ مُخْتَصٌّ عِنْدَهُم بِذَلِكَ؛ لِأَجْلِ أَنَّهُم تبَنَّوْهُ قَبْلَ تَحْرِيمِ التَّبَنِّي. [34/ 55]

4774 -

الرَّضْعَةُ: أَنْ يَلْتَقِمَ الثَّدْيَ فَيَشْرَبَ مِنْهُ ثُمَّ يَدَعُهُ، فَهَذِهِ رَضْعَةٌ.

فَإِذَا كَانَ فِي كَرَّةٍ وَاحِدَةٍ قَد جَرَى لَهُ خَمْسُ مَرَّاتٍ: فَهَذِهِ خَمْسُ رَضَعَاتٍ.

وَإِنْ جَرَى ذَلِكَ خَمْسَ مَرَّاتٍ فِي كَرَّتَيْنِ فَهُوَ أَيْضًا خَمْسُ رَضَعَاتٍ.

وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالرَّضْعَةِ مَا يَشْرَبُهُ فِي نَوْبَةٍ وَاحِدَةٍ فِي شُرْبِهِ؛ فَإِنَّهَا قَد تُرْضِعُهُ بِالْغَدَاةِ ثُمَّ بِالْعَشِيِّ وَيَكُونُ فِي كُل نَوْبَةٍ قَد أَرْضَعَتْهُ رَضَعَاتٍ كَبِيرَةً. [34/ 57]

* * *

(الرَّضَاعُ الْمُحَرِّمُ)

4775 -

الرَّضَاعُ الْمُحَرِّمُ: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مَشْهُورَةٍ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَن أَحْمَد:

(1)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، والمثبت من الفتاوى الكبرى (3/ 170).

ص: 138

أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُحَرِّمُ كَثِيرُهُ وَقَلِيلُهُ، وَهِيَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِإِطْلَاقِ الْقُرْآنِ.

وَالثَّانِي: لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَالرَّضْعَتَانِ وَيُحَرِّمُ مَا فَوْقَ ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم في "الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ":"لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَالرَّضْعَتَانِ"

(1)

، فَنَفَى التَّحْرِيمَ عَنْهُمَا وَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَى الْعُمُومِ وَالْمَفْهُومِ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يُحَرِّمُ إلَّا خَمْسُ رَضَعَاتٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَظَاهِر مَذْهَبِ أَحْمَد؛ لِحَدِيثَيْنِ صَحِيحَيْنِ:

أ - حَدِيثِ عَائِشَةَ: "إنَ مِمَّا نَزَلَ عِن الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ ثُمَّ نسخن بِخَمْس مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ"

(2)

.

ب - وَلأَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم لِامْرَأَةِ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عتبة بْنِ رَبِيعَةَ أَنْ تُرْضِعَ سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَة بْنِ رَبِيعَةَ خَمْسَ رَضَعَاتٍ لِيَصِيرَ مَحْرَمًا لَهَا بِذَلِكَ

(3)

.

وَعَلَى هَذَا: فَالرَّضْعَةُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد لَيْسَتْ هِيَ الشِّبْعَةُ، وَهُوَ أَنْ يَلْتَقِمَ الثَّدْيَ ثُمَّ يسيبه ثُمَّ يَلْتَقِمَهُ ثُمَّ يسيبه حَتَّى يَشْبَعَ؛ بَل إذَا أَخَذَ الثَّدْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَهِيَ رَضْعَةٌ، سَوَاءٌ شَبعَ بِهَا أَو لَمْ يَشْبَعْ إلَّا بِرَضَعَات. [34/ 35 - 36]

* * *

(حكم إرضاع الكبير)

4776 -

الرَّضَاعُ الْمُحَرِّمُ مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ؛ فَإِنَّ تَمَامَ الرَّضَاعِ حَوْلَانِ كَامِلَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]، وَمَا كَانَ بَعْدَ تَمَامِ الرَّضَاعَةِ فَلَيْسَ مِن الرَّضَاعَةِ؛ وَلهَذَا كَانَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُم عَلَى أنَّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ، وَاحْتَجّوا بِمَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ"

(4)

عَن عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

رواه مسلم (1451).

(2)

رواه مسلم (1452).

(3)

رواه مسلم (1453).

(4)

البخاري (2647)، ومسلم (1455).

ص: 139

وَعِنْدِي رَجُلٌ، فَقَالَ:"مَن هَذَا يَا عَائِشَةُ؟ " قُلْت: أَخِي مِن الرَّضَاعَةِ، قَالَ:"يَا عَائِشَةُ اُنْظُرْنَ مَن إخْوَانُكُنَّ؟ إنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِن الْمَجَاعَةِ".

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ

(1)

عَن أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَحْرُمُ مِن الرَّضَاعَةِ إلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ في الثَّدْيِ وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ".

وَمَعْنَى قَوْلِهِ فِي "الثَّدْيِ"؛ أَيْ: وَقْتُهُ وَهُوَ الْحَوْلَانِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ:"إنَّ ابْني إبْرَاهِيمَ مَاتَ فِي الثَّدْيِ"

(2)

؛ أَيْ: وَهُوَ فِي زَمَنِ الرَّضَاعِ.

وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا رَضَاعَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ وَلَا بَعْدَ الْفِطَامِ وَإِن كَانَ الْفِطَامُ قَبْلَ تَمَامَ الْحَوْلَيْنِ.

وَقَد ذَهَبَ طَائِفَة مِن السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى أَنَّ إرْضَاعَ الْكَبِيرِ يُحَرِّمُ، وَاحْتَجُّوا بِمَا فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ"

(3)

وَغَيْرِهِ عَن زينَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ لِعَائِشَةَ: إِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْكِ الْغُلَامُ الْأَيْفَعُ الَّذِي مَا أُحِبُّ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيَّ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَمَا لَكِ فِي رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أُسْوَة؟ إِنَّ امْرَأَةَ أَبِي حُذَيْفَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ، إِنَّ سَالِمًا يَدْخُلُ عَلَيَّ وَهُوَ رَجُلٌ، وَفِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْهُ شَيْءٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَرْضِعِيهِ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْكِ".

وَفِي رِوَايَةٍ لِمَالِك فِي "الْمُوَطَّأِ"

(4)

قَالَ: "أَرْضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ"، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِهِ مِن الرَّضَاعَةِ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخَذَتْ بِهِ عَائِشَةُ، وَأَبَى غَيْرُهَا مِن أَزْوَاج النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْخُذْنَ بِهِ، مَعَ أَنَّ عَائِشَةَ رَوَتْ عَنْهُ [أنه]

(5)

قَالَ: "الرَّضَاعَةُ مِن المَجَاعَةِ".

لَكِنَّهَا رَأَت الْفَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ رَضَاعَةً أَو تَغْذِيَةً، فَمَتَى كَانَ الْمَقْصُودُ الثَّانِي لَمْ يُحَرِّمْ إلَّا مَا كَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ، وَهَذَا هُوَ إرْضَاعُ عَامَّةِ النَّاسِ.

(1)

(1152).

(2)

رواه مسلم (2316).

(3)

(1453).

(4)

(1775).

(5)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، ولعله أصوب.

ص: 140

وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَيَجُوزُ إن اُحْتِيجَ إلَى جَعْلِهِ ذَا مَحْرَمٍ، وَقَد يَجُوزُ لِلْحَاجَةِ مَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهَا، وَهَذَا قَوْلٌ مُتَوَجِّهٌ.

وَلَبَنُ الْآدَمِيَّاتِ طَاهِرٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. [34/ 59 - 60]

* * *

(بَابُ الْحَضَانَةِ)

4777 -

قَوْله تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]، يَدُلُّ عَلَى أنَّ هَذَا تَمَامُ الرَّضَاعَةِ، وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غِذَاءٌ مِن الْأَغْذِيَةِ.

وَبِهَذَا يَسْتَدِلُّ مَن يَقُولُ: الرَّضَاعُ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ بِمَنْزِلَةِ رَضَاعِ الْكَبِيرِ.

وَقَوْلُهُ: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ "الْحَوْلَيْنِ" يَقَعُ عَلَى حَوْلٍ وَبَعْضِ آخَرَ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِهِمْ، يُقَالُ: لِفُلَان عِشرُونَ عَامًا، إذَا أَكْمَلَ ذَلِكَ.

قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُمَا: لَمَّا جَازَ أَنْ يَقُولَ: "حَوْلَيْنِ" وَيُرِيدُ أَقَلَّ مِنْهُمَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} [البقرة ة 203]، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يَتَعَجَّلُ فِي يَوْمٍ وَبَعْضِ آخَرَ وَتَقُولُ: لَمْ أَرَ فُلَانًا يَوْمَيْنِ، وَإِنَّمَا تُرِيدُ يَوْمًا وَبَعْضَ آخَرَ: قَالَ: "كَامِلَيْنِ" لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْقُصَ مِنْهُمَا.

وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْله تَعَالَى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] فَإِنَّ لَفْظَ "الْعَشَرَةِ" يَقَعُ عَلَى تِسْعَةٍ وَبَعْضِ الْعَاشِرِ، فَيُقَالُ: أَقَمْت عَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَإِنْ لَمْ يُكْمِلْهَا.

فَقَوْلُهُ هُنَاكَ: {كَامِلَةٌ} [البقرة: 196]، بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ هُنَا:{كَامِلَيْنِ} .

وذَكَرَ ابُو الْفَرَجِ هَل هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْوَالِدَاتِ؟ أَو يَخْتَصُّ بِالْمُطَلَّقَاتِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.

قَالَ الْقَاضِي: وَلهَذَا نَقُولُ: لَهَا أَنْ تُؤَجِّرَ نَفْسَهَا لِرِضَاعِ وَلَدِهَا، سَوَاءٌ كَانَت مَعَ الزَّوْجِ أَو مُطَلَّقَةً.

ص: 141

قُلْت: الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّهَا أَوْجَبْت لِلْمُرْضِعَاتِ رِزْقَهُنَّ وَكِسْوَتَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، لَا زِيادَةَ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ يَقُولُ: تُؤَجّرُ نَفْسَهَا بِأُجْرَةِ غَيْرِ النَّفَقَةِ!

وَالْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى هَذَا؛ بَل إذَا كَانَت الْآيَةُ عَامَّةً دَلَّتْ عَلَى أَنَّهَا تُرْضِعُ وَلَدَهَا مَعَ إنْفَاقِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا، كَمَا لَو كَانَت حَامِلًا فَإِنَّهُ يُنْفِقُ عَلَيْهَا، وَتَدْخُلُ نَفَقَةُ الْوَلَدِ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتَغَذَّى بِغِذَاءِ أُمِّهِ، وَكَذَلِكَ فِي حَالِ الرَّضَاعِ، فَإِنَّ نَفَقَةَ الْحَمْلِ هِيَ نَفَقَةُ الْمُرْتَضِعِ.

وَعَلَى هَذَا: فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ؛ فَالَّذِينَ خَصُّوهُ بِالْمُطَلَّقَاتِ أَوْجَبُوا نَفَقَةً جَدِيدَةً بِسَبَبِ الرَّضَاعِ كَمَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِالْمُطَلَّقَةِ.

وقَوْله تَعَالَى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} قَدّ عُلِمَ أَنَّ مَبْدَأَ الْحَوْلِ مِن حِينِ الْوِلَادَةِ، وَالْكَمَالَ إلَى نَظِيرِ ذَلِكَ.

فَإِذَا كَانَ مِن عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ كَانَ الْكَمَالُ فِي عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ فِي مِثْل تِلْكَ السَّاعَةِ؛ فَإِنَّ الْحَوْلَ الْمُطْلَقَ هُوَ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِن الشَّهْرِ الْهِلَالِيِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ} [التوبة: 36].

وَهَكَذَا مَا ذَكَرَهُ مِن الْعِدَّةِ أَرْبَعَة أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، أَوَّلُهَا مِن حِينِ الْمَوْتِ، وَآخِرُهَا إذَا مَضَتْ عَشْرٌ بَعْدَ نَظِيرِهِ؛ فَإِذَا كَانَ فِي مُنْتَصَفِ الْمُحَرَّمِ فَآخِرُهَا خَامِس عَشَرَ الْمُحَرَّمِ.

وَكَذَلِكَ الْأَجَلُ الْمُسَمَّى فِي الْبُيُوعِ وَسَائِرِ مَا يُؤَجَّلُ بِالشَّرْعِ وَبِالشَّرْطِ.

وَللْفُقَهَاءِ هُنَا قَوْلَانِ آخَرَانِ ضَعِيفَانِ:

أَحَدُهُمَا: قَوْلُ مَن يَقُولُ: إذَا كَانَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ كَانَ جَمِيعُ الشُّهُورِ بِالْعَدَدِ، فَيَكُونُ الْحَوْلَانِ ثَلَثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ.

وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَزِيدُ الْمُدَّةُ اثْنَي عَشَرَ يَوْمًا" وَهُوَ غَلَطُ بَيِّنٌ.

والْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ مَن يَقُولُ: مِنْهَا وَاحِدٌ بِالْعَدَدِ، وَسَائِرُهَا بِالْأَهِلَّةِ.

ص: 142

وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلَى الْأُمّ إرْضَاعَهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {يُرْضِعْنَ} خَبَرٌ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ، وَهِيَ مَسْأْلَةُ نِزَاعٍ؛ وَلهَذَا تَأَوَّلَهَا مَن ذَهَبَ إلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ.

فَيُقَالُ: بَل الْقرْآنُ دَلَّ عَلَى أَنَّ لِلِابْنِ عَلَى الْأُمّ الْفِعْلَ، وَعَلَى الْأَبِ النَّفَقَةَ.

وَلَو لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهَا تَعَيَّنَ عَلَيْهَا وَهِيَ تَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ، وَالْأَجْنَبِيَّةُ تَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ وَلَو لَمْ يُوجَدْ غيْرُهَا.

وقَوْله تَعَالَى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] دَلِيل عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ

(1)

أَنْ يُرِيدَ إتْمَامَ الرَّضَاعِ، وَيَجُوزُ الْفِطَامُ قَبْلَ ذَلِكَ إذَا كَانَ مَصْلَحَةً، وَقَد بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّة لَا يُفْصَلُ إلَّا بِرِضَا الْأَبَوَيْنِ، فَلَو أَرَادَ أَحَدُهُمَا الْإِتْمَامَ وَالْآخَرُ الْفِصَالَ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ لِمَن أَرَادَ الْإِتْمَامَ.

وقَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]، وَلَمْ يَقُلْ:"وَعَلَى الْوَالِدِ" كَمَا قَالَ {وَالْوَالِدَاتُ} ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ هِيَ الَّتِي تَلِدُهُ، وَأَمَّا الْأَبُ فَلَمْ يَلِدْهُ؛ بَل هُوَ مَوْلُودٌ لَهُ، لَكِنْ إذَا قُرِنَ بَيْنَهُمَا قِيلَ:{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36]، فَأَمَّا مَعَ الْإِفْرَادِ فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ تَسْمِيَتُهُ وَالِدًا بَل أَبًا.

وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْوَلَدَ وُلدَ لِلْأَبِ لَا لِلْأُمِّ؛ وَلهَذَا كَانَ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ حَمْلًا وَأُجْرَةَ رَضَاعِهِ.

وَهَذَا يُوَافِق قَوْله تَعَالَى: فِيَهَمُي {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49)} [الشورى: 49]، فَجَعَلَهُ مَوْهُوبًا لِلْأَبِ.

وَجَعَلَ بَيْتَهُ بَيْتَهُ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور: 61].

(1)

هكذا في الأصل، وهي النسخة التي طبعها مجمع الملك فهد، وفي الكتب الأخرى لشيخ الإسلام بالنفي: لَا يَجُوزُ، والصواب المثبت.

ص: 143

وَإِذَا كَانَ الْوَلَدُ لِلْأَبِ وَهُوَ زَرْعُهُ: كَانَ هَذَا مُطَابِقًا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك"

(1)

، وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:"إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِن كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِن كَسْبِهِ"

(2)

، فَقَد حَصَلَ الْوَلَدُ مِن كَسْبِهِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَة؛ فَإِنَّ الزَّرْعَ الَّذِي فِي الْأَرْضِ كَسْبُ الْمُزْدَرَعِ لَهُ الَّذِي بَذَرَهُ وَسَقَاهُ، وَأَعْطَى أُجْرَةَ الْأَرْضِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ أَعْطَى الْمَرْأَةَ مَهْرَهَا، وَهُوَ أَجْرُ الْوَطْءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الممتحنة: 10]، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)} [المسد: 2]، وَقَد فُسِّرَ {وَمَا كَسَبَ} بِالْوَلَدِ.

فَالْأُمُّ هِيَ الْحَرْثُ، وَهِيَ الْأَرْضُ الَّتِي فِيهَا زَرْعٌ، وَالْأَبُ اسْتَأْجَرَهَا بِالْمَهْرِ، كَمَا يَسْتَأْجِرٌ الْأَرْضَ، وَأَنْفَقَ عَلَى الزَّرْعِ بِإِنْفَاقِهِ لَمَّا كَانَت حَامِلًا، ثُمَّ أَنْفَقَ عَلَى الرَّضِيعِ كَمَا يُنْفِقُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ إذَا كَانَ مَسْتُورًا وَاِذَا بَرَزَ؛ فَالزَّرْعُ هوَ الْوَلَدُ، وَهُوَ مِن كَسْبِهِ.

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَأْخُذَ مِن مَالِهِ مَا لَا يَضُرُّ بِهِ كَمَا جَاءَت بِهِ السُّنَّةُ، وَأَنَّ مَالَهُ لِلْأَبِ مُبَاحٌ، وَإِن كَانَ مِلْكًا لِلِابْنِ فَهُوَ مُبَاح لِلْأَبِ أَنْ يَمْلِكَهُ وَإِلَّا بَقِيَ لِلِابْنِ، فَإِذَا مَاتَ وَلَمْ يَتَمَلَّكْهُ وَرِثَ عَن الاِبْنِ

(3)

.

(1)

رواه ابن ماجه (2291)، وأحمد (6902)، وصحَّحه الألباني في الإرواء (838).

(2)

رواه أبو داود (3528)، والنسائي (4449)، وابن ماجة (2137)، وأحمد (24032)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.

(3)

جاءت الأدلة على أنّ للأب على ابنه حقًّا في مالِه، ومن هذه الأدلة:

1 -

ما جاء عند أبي داود (3530)، وابن ماجة (2292)، عَنْ عَمْرِو بْن شُعَيْبٍ عَنْ أَبيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ أَبِي اجْتَاحَ مَالِي، فَقَالَ:"أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ" وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أوْلَادَكُمْ مِنْ أطْيَبِ كَسْبِكُمْ، فَكُلُوا مِنْ أمْوَالِهِمْ".

2 -

قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ، وقَوْله تَعَالَى:{يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} ، وقَوْله تَعَالَى:{وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} .

ووجه الدلالة منها ذكره شيخ الإسلام رحمه الله.

وقد أخذ الحنابلة بهذه الأدلة على إطلاقها، وقالوا: للأب أن يأخذ من مال ولده ولو من =

ص: 144

وَللْأَبِ أَيْضًا أَنْ يَسْتَخْدِمَ الْوَلَدَ مَا لَمْ يَضُرَّ بِهِ.

وَفِي هَذَا وُجُوبُ طَاعَةِ الْأبِ عَلَى الاِبْنِ إذَا كَانَ الْعَمَلُ مُبَاحًا لَا يَضُرُّ بِالاِبْنِ.

وَدَلَّ مَا ذَكَرَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَطَأَ حَامِلًا مِن غَيْرِهِ، وَأَنَّهُ إذَا وَطِئَهَا كَانَ كَسَقْيِ الزرْعِ يَزِيدُ فِيهِ وَيُنَمِّيهِ، وَيَبْقَى لَهُ شركَة فِي الْوَلَدِ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ اسْتِعْبَادُ هَذَا الْوَلَدِ فَلَو مَلَكَ أَمَةَ حَامِلًا مِن غَيْرِهِ وَوَطِئَهَا حَرُمَ اسْتِعْبَادُ هَذَا الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ سَقَاهُ؛ وَلقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:"كَيْفَ يَسْتَعْبِدُهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ؟ وَكَيْفَ يُوَرِّثُهُ -أَيْ: يَجْعَلُهُ مَوْرُوثًا مِنْهُ- وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ؟ "

(1)

.

وَمَن ظَنَّ أَنَّ الْمُرَادَ: كَيْفَ يَجْعَلُهُ وَارِثًا فَقَد غَلِطَ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْمَرْأَةَ كَانَت أَمَةً لِلْوَاطِئِ، وَالْعَبْدُ لَا يُجْعَلُ وَارِثًا، إنَّمَا يُجْعَلُ مَوْرُوثًا.

فَأَمَّا إذَا اُسْتُبْرِئَت الْمَرْأَةُ عُلِمَ أَنَّهُ لَا زَرْعَ هُنَاكَ.

= غير حاجة، لكن بشرط ألا يجحف بمال الولد، وألا يأخذ من مال ولده ويعطي ولدًا آخر.

فحَقّ الأب مقدّمَ عَلَى حَقِّهِ، ولَا يعني ذلك بأنَّ حَقّه منفيٌّ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالْوَلَدُ أَحَقُّ مِن الْأب بِمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ حَاجَتُهُ.

وذهب جمهور العلماء أن الأب إذا كان في كفاية فلا يحق له أن يأخذ شيئًا من مال ولده بغير رضاه.

وقال ابن قدامة رحمه الله، المغني (6/ 63): وَلِأَبٍ أنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ مَا شَاءَ، وَيَتَمَلَّكَهُ، مَعَ حَاجَةِ الْأب إلَى مَا يَأْخُذُهُ، وَمَعَ عَدَمِهَا، صَغِيرًا كَانَ الْوَلَدُ أَوْ كَبيرًا، بِشَرْطَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يُجْحِفَ بالاِبْن، وَلَا يَضُزَ بهِ، وَلَا يَأْخُذَ شَيْئًا تَعَلَّقَتْ بِهِ حَاجَتُهُ.

الثَّانِي: أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْ مَالٍ وَلَدِهِ فَيُعْطِيَهُ الآخَرَ.

وَقَالَ أبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَاخُذَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ إِلَّا بِقَدْرِ حَاجَتِهِ؛ لِأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. اهـ.

(1)

وأصل الحديث ما رواه أبو الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ أَتَى بِامْرَأةٍ -أي: مر عليها في بعض أسفاره- مُجِحٍّ -هي الحامل التي قربت ولادتها- عَلَى بَابِ فُسْطَاطٍ، فَقَالَ:"لَعَلَّهُ يُرِيدُ أنْ يُلِمَّ بِهَا؟ " -أي: يطؤها وكانت حاملًا مسبية لا يحل جماعها حتى تضع-، فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَقَد هَمَمْتُ أنْ أَلْعَنَهُ لَعْنًا يَدْخُلُ مَعَهُ قَبْرَهُ، كَيْفَ يُوَرِّثُهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ؟ كَيْفَ يَسْتَخْدِمُهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ؟ ". رواه مسلم (1441).

ص: 145

وَلَو كَانَت بِكرًا أَو عِنْدَ مَن لَا يَطَؤُهَا فَفِيهِ نِزَاعٌ، وَالْأَظْهَرُ جَوَازُ الْوَطْءِ؛ لِأَنَّهُ لَا زَرْعَ هُنَاكَ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ، وَقَالَ تَعَالَى فِي تِلْكَ الْآيَةِ:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَجْرَ هُوَ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ إذَا لَمْ يَكُن بَيْنَهُمَا مُسَمُّى تَرْجِعَانِ إلَيْهِ.

وَأجْرَةُ الْمِثْلِ: إنَّمَا تُقَدَّرُ بِالْمُسَمَّى إذَا كَانَ هُنَاكَ مُسَمًّى يَرْجِعَانِ إلَيْهِ، كَمَا فِي الْبَيْعٍ وَالْإِجَارَةِ، لَمَّا كَانَ السِّلْعَةُ هِيَ أَو مِثْلُهَا بِثَمَن مُسَمًّى وَجَبَ ثَمَنُ الْمِثْل إذَا أُخِذتْ بغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَن أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ العَبْدِ قُوِّمَ العَبْدُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ العَبْدُ، وَإِلَّا فَقَد عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ"

(1)

.

فَهُنَاكَ أُقِيمَ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّهُ وَمِثْلَهُ يُبَاعُ فِي السُّوقِ، فَتُعْرَفُ الْقِيمَةُ الَّتِي هِيَ السِّعْرُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَذَلِكَ الْأَجِيرُ وَالصَّانِعُ.

وَقَد كَانَ مِن النَّاسِ مَن يَخِيطُ بِالْأُجْرَةِ عَلَى عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم فَيَسْتَحِقُّ هَذَا الْخَيَّاطُ مَا يَسْتَحِقُّهُ نُظَرَاؤُهُ، وَكَذَلِكَ أَجِيرُ الْخِدْمَةِ يَسْتَحِقُّ مَا يَسْتَحِقُّهُ نَظِيرُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ النَّاسِ.

وَأَمَّا الْأُمُّ الْمُرْضِعَةُ فَهِيَ نَظِيرُ سَائِرِ الْأمَّهَاتِ الْمُرْضِعَاتِ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَلَيْسَ لَهُنَّ عَادَةٌ مُقَدَّرَةٌ إلَّا اعْتِبَارُ حَالِ الرَّضَاعِ بِمَا ذُكِرَ، وَهِيَ إذَا كَانَت حَامِلًا مِنْهُ وَهِيَ مُطَلَّقَةٌ اسْتَحَقَّتْ نَفَقَتَهَا وَكِسْوَتَهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ نَفَقَةٌ عَلَى الْحَمْلِ.

وَهَذَا أظْهَرُ قَوْلِي الْعُلَمَاءِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6].

(1)

رواه البخاري (2522)، ومسلم (1501).

ص: 146

وَلِلْعُلَمَاءِ هُنَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ النَّفَقَةَ نَفَقَةُ زَوْجَةٍ مُعْتَدَّةٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا أَو حَائِلًا، وَهَذَا قَوْلُ مَن يُوجِبُ النَّفَقَةَ لِلْبَائِنِ كَمَا يُوجِبُهَا لِلرَّجْعِيَّةِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُنْفِقُ عَلَيْهَا نَفَقَةَ زَوْجَةٍ لِأجْلِ الْحَمْلِ .. وَهَذَا قَوْلٌ مُتَنَاقِضٌ؛ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ نَفَقَةَ زَوْجَةٍ فَقَد وَجَبَ لِكَوْنِهَا زَوْجَةً لَا لِأَجْلِ الْوَلَدِ، وَإِن كَانَ لِأجْلِ الْوَلَدِ فَنَفَقَةُ الْوَلَدِ تَجِبُ مَعَ غَيْرِ الزَّوْجَةِ.

والْقَوْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ الصَّحِيحُ: أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ لِلْحَمْلِ، وَلَهَا مِن أجْلِ الْحَمْلِ؛ لِكَوْنِهَا حَامِلًا بِوَلَدِهِ، فَهِيَ نَفَقَةٌ عَلَيْهِ لِكوْنِهِ أَبَاهُ لَا عَلَيْهَا لِكَوْنِهَا زَوْجَةٌ.

وَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ نَفَقَةَ الْحَمْلِ وَالرَّضَاعِ مِن بَابِ نَفَقَةِ الْأبِ عَلَى ابْنِهِ، لَا مِن بَابِ نَفَقَةِ الزوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ. [34/ 63 - 74]

4778 -

لا حضانة إِلَّا لرجل من العصبة أو لامرأة وارثة أو مدلية بعصبة أو بوارث، فإن عدموا فالحاكم.

وقيل: إن عدموا تثبت لمن سواهم من الأقارب ثم للحاكم. [المستدرك 5/ 64]

4779 -

العمة أحق من الخالة، وكذا نساء الأب أحق يقدمن على نساء الأم؛ لأن الولاية للأب وكذا أقاربه، صاانما قدمت الأم على الأب لأنه لا يقوم مقامها هنا في مصلحة الطفل.

وإنما قدم الشارع عليه الصلاة والسلام خالة بنت حمزة على عمتها صفية: لأن صفية لم تطلب، وجعفر طلب نائبًا عن خالتها، فقضى لها بها في غيبتها. [المستدرك 5/ 64]

4780 -

ضعف البصر يمنع من كمال ما يحتاج إليه المحضون من المصالح. [المستدرك 5/ 65]

4781 -

أما الجارية إذا بلغت: فنقل عن مالك: الوالد أحق بضمها إليه

ص: 147

حتى تزوج ويدخل بها الزوج، ثم هي أحق بنفسها وتسكن حيث شاءت إِلَّا أن يخاف منها هوى أو ضيعة أو سوء موضع فيمنعها الأب بضمها إليه.

وفي مذهب أحمد ثلاثة أقوال ذكرها في المحرر روايتين ووجهًا:

أحدها: أنها تكون عند الأب حتى تتزوج ويدخل بها الزوج، وهذا هو الذي نصره القاضي وغيره في كتبهم، وقالوا: إن الجارية إذا بلغت وكانت بكرًا فعليها أن تكون مع أبيها حتى تتزوج ويدخل بها الزوج، ولم يذكروا فيه نزاعًا.

والرواية الثانية عن أحمد: تكون عند الأم.

وأما القول الثالث في "مذهبه": وهو أنها إذا بلغت تكون حيث شاءت كالغلام، فهذا يجيء على قول من يخيرها كما يخير الغلام، فمن خير الغلام قبل بلوغه كان بعد البلوغ أمره إلى نفسه كما قال الشافعي وأحمد وغيرهما.

لكن أبو البركات حكى هذه الأقوال الثلاثة في محرره في البالغة، وهي مطابقة للأقوال الثلاثة التي ذكرناها في غير البالغة، فإنه على المشهور عند أصحاب أحمد أنها إذا كانت قبل البلوغ عند الأب فهي بعد البلوغ أولى أن تكون عند الأب منها عند الأم، فإن أبا حنيفة وأحمد في رواية ومالكًا يجعلونها قبل البلوغ للأم، وبعد البلوغ جعلوها عند الأب، وهذا يدل على أن الأب أحفظ لها وأصون وأنظر في مصلحتها، فإذا كان كذلك فلا فرق بين ما قبل البلوغ وما بعده في ذلك.

فتبيَّن أن هذا القول -وهو جعل البنت المميزة عند الأب-: أرجح من غيره. [المستدرك 5/ 87 - 88]

4782 -

إذَا تَزَوَّجَت الْأُمُّ فَلَا حَضَانَةَ لَهَا، وَإِذَا سَافَرَتْ سَفَرَ نُقْلَةٍ فَالْحَضَانَةُ لِلْجَدِّ دُونَهَا، وَمَن حَضَنَتْهُ وَلَمْ تَكُن الْحَضَانَةُ لَهَا وَطَالَبَتْ بِالنَّفَقَةِ لَمْ يَكُن لَهَا ذَلِكَ؛ فَإِنَّهَا ظَالِمَةٌ بِالْحَضَانَةِ، فَلَا تَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِالنَّفَقَةِ، وَإِن كَانَ الْجَدُّ عَاجِزًا عَن نَفَقَةِ ابْنِ ابْنِهِ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ. [34/ 107]

ص: 148

4783 -

الْيَتِيمُ فِي الْآدَمِيِّينَ: مَن فَقَدَ أَبَاهُ؛ لِأَنَّ أَبَاهُ هُوَ الَّذِي يُهَذِّبُهُ، وَيَرْزُقُهُ، وَيَنْصُرُهُ بِمُوجَب الطَّبْعِ الْمَخْلُوقِ؛ وَلهَذَا كَانَ تَابِعًا فِي الدِّينِ لِوَالِدِهِ، وَكَانَ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ، وَحَضَانَتهُ عَلَيْهِ.

وَالْإِنْفَاقُ هُوَ الرّزْقُ، والْحَضَانَةُ هِيَ النَّصْرُ؛ لِأَنَّهَا الْإِيوَاءُ وَدَفْعُ الْأَذَى.

فَإِذَا عُدِمَ أبُوهُ طَمِعَت النُّفُوسُ فِيهِ .. ؛ فَلِهَذَا أَعْظَمَ اللهُ أَمْرَ الْيَتَامَى فِي كِتَابِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ. [34/ 109]

4784 -

مَا دَامَ الْوَلَدُ عِنْدَهَا [أي: عند الأم] وَهِيَ تُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَد أَخَذَتْهُ عَلَى أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهِ مِن عِنْدِهَا وَلَا تَرْجِعَ عَلَى الْأَبِ: لَا نَفَقَةَ لَهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ؛ أَيْ: لَا تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا أَنْفَقَتْ هَذِهِ الْمُدَّةَ، لَكِنْ لَو أَرَادَتْ أَنْ تَطْلُبَ بِالنَّفَقَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلِلْأَبِ أَنْ يَأْخُذَ الْوَلَدَ مِنْهَا أَيْضًا، فَإِنَّهُ لَا يُجْمَعُ لَهَا بَيْنَ الْحَضَانَةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَمُطَالَبَةِ الْأَبِ بِالنَّفَقَةِ مَعَ مَا ذَكَرْنَا بِلَا نِزَاعٍ.

لَكِنْ لَو اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ: فَهَل يَكُونُ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا لَازِمًا؟ هَذَا فِيهِ خِلَافٌ، وَالْمَشْهُورُ مِن مَذْهَبِ مَالِكٍ هُوَ لَازِمٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا ضَرَرَ لِلْأَب فِي هَذَا الاِلْتِزَامِ. [34/ 110]

* * *

(الراجح في حَضَانَةِ الصَّغِيرِ الْمُمَيِّزِ)

4785 -

فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِن الْعُلَمَاءِ فِي حَضَانَةِ الصَّغِيرِ الْمُمَيِّزِ هَل هِيَ لِلْأَبِ أَو لِلْأُمِّ أَو يُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا؟ فَإِنَّ كَثِيرًا مِن كُتُب أَصْحَابِ أَحْمَد إنَّمَا فِيهَا أَنَّ الْغلَامَ إذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ خُيّرَ بَيْنَ أَبَوَيْهِ

(1)

، وَأَمَّا الْجَارِيةُ فَالْأَبُ أَحَقُّ بِهَا.

وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرُوا هَذَا كالخرقي وَغَيْرِهِ بَلَغَهُم بَعْضُ نُصُوصِ أَحْمَد فِي

(1)

وبهذا يُفتي الشيخ. يُنظر: (34/ 133).

ص: 149

هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يَبْلُغْهُم سَائِرُ نُصُوصِهِ؛ فَإِنَّ كَلَامَ أَحْمَد كَثِيرٌ مُنْتَشِرٌ جِدًّا، وَقَلَّ مَن يَضْبِطُ جَمِيعَ نُصُوصِهِ فِي كثِيرٍ مِن الْمَسَائِلِ لِكَثْرَةِ كَلَامِهِ، وَانْتِشَارِهِ، وَكَثْرَةِ مَن كَانَ يَأْخُذُ الْعِلْمَ عَنْهُ.

وَأَبُو بَكرٍ الْخَلَّالُ قَد طَافَ الْبِلَادَ وَجَمَعَ مِن نُصُوصِهِ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ نَحْو أَرْبَعِينَ مُجَلَّدًا، وَفَاتَهُ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ لَيْسَتْ فِي كُتُبِهِ.

وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبي طَالِبٍ: وَالْأَبُ أَحَقُّ بالْغُلَام إذَا عَقَلَ وَاسْتَغْنَى عَن الأُمِّ.

وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ النِّزَاعَ عَنْهُ مَوْجُودٌ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ كِلْتَاهُمَا فِي مَسْأَلَةِ الْبِنْتِ، وَفِي مَسْألَةِ الاِبْنِ، وَعَنْهُ فِي الاِبْنِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ مَعْرُوفَةٍ.

وَمِمَن ذَكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي تَعْلِيقِهِ نقلَ عَن أَحْمَد فِي الْغُلَامِ: أُمُّهُ أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا، ثُمَّ الْأَبُ أَحَقُّ بِهِ .. وَهَذَا الَّذِي نَقَلَهُ هُوَ الْمَنْقُولُ عَن أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: إذَا أَكَلَ وَحْدَهُ وَلَبِسَ وَحْدَهُ وَتَوَضَّأَ وَحْدَهُ فَالأَبُ أَحَقُّ بِهِ.

وَأَمَّا الْمَشْهُورُ عَن أحْمَد وَهُوَ تَخْيِيرُ الْغُلَامِ بَيْنَ أَبَوَيْهِ: فَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَإِسْحاقِ بْنِ رَاهَوَيْه.

وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَن أَحْمَد: أَنَّ الْأمَّ أَحَقُّ بِالْغُلَامِ مُطْلَقًا كَمَذْهَبِ مَالِكٍ.

وَأَمَّا حَضَانَةُ الْبِنْتِ إذَا صَارَتْ مُمَيِّزَةً: فَوَجَدْنَا عَنْهُ رِوَايَتَيْنِ مَنْصُوصَتَيْنِ:

إحْدَاهُمَا: أَنَّ الْأَبَ أَحَقُّ بِهَا.

والثَّانِيَة: أَنَّ الْأُمَّ أَحَقُّ بِهَا، قَالَ فِي رِوَايَةِ إسحقَ بْنِ مَنْصُورٍ: يُقْضى بِالْجَارِيةِ لِلْأُمِّ وَالْخَالَةِ حَتَّى إذَا احْتَاجَتْ إلَى التَّزْوِيجِ فَالْأَبُ أَحَقُّ بِهَا، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مَهْنَا بْنِ يَحْيىَ: إنَّ الْأمَّ وَالْجَدَّةَ أَحَقُّ بِالْجَارِيَةِ حَتَّى تتَزَوَّجَ.

وَعَنْهُ: الْأُمُّ أَحَقُّ بِهَا حَتَّى تَحِيضَ.

ص: 150

وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ نَحْو مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، فَفِي الْمُدَوَّنَةِ: مَذْهَب مَالِكٍ: أَنَّ الْأُمَّ أَحَقُّ بِالْوَلَدِ مَا لَمْ يَبْلُغْ، سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَو أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَ وَهُوَ أُنْثَى نُظِرتْ: فَإِذَا كَانَت الْأُمُّ فِي حِرزٍ

(1)

وَمَنَعَةٍ وَتَحَصُّنٍ فَهِيَ أَحَقُّ بِهَا أَبَدًا مَا لَمْ تَنْكحْ، وَإِن بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ سَنَةً.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْأُمُّ وَالْجَدَّةُ أَحَقُّ بِالْجَارِيَةِ حَتَّى تَحِيضَ، وَمَن سِوَى الْأُمِّ وَالْجَدَّةِ أَحَقُّ بِهَا حَتَّى تَبْلُغَ حَدًّا تُشْتَهَى.

وَأَمَّا التَّخْيِيرُ فِي الْجَارِيَةِ: فَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَلَمْ أَجِدْهُ مَنْقُولًا لَا عَن أَحْمَد وَلَا عَن إسْحَاقَ كمَا نُقِلَ عَنْهُمَا التَّخْيِيرُ فِي الْغُلَامِ.

وَالتَّخْيِيرُ فِي الْغلَامِ [هوَ مَذْهَبُ]

(2)

الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَإِسْحَاقَ؛ لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ حَيْثُ "خَيَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غُلَامًا بَيْنَ أَبَوَيْهِ"

(3)

، وَهِيَ قَضِيَّةٌ مُعَيَّنَةٌ، وَلَمْ يَرِدْ عَنْهُ نَصٌّ عَامٌّ فِي تَخْيِيرِ الْوَلَدِ مُطْلَقًا.

وَالْحَدِيثُ الْوَارِدُ فِي تَخْيِيرِ الْجَارَيةِ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِهِمْ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَخْيِيرِ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ: أَنَّ هَذَا التَّخْيِيرَ تَخْيِيرُ شَهْوَةٍ لا تَخْيِيرَ

(4)

رَأيٍ وَمَصْلَحَةٍ؛ كَتَخْيِيرِ مَن يَتَصَرَّفُ لِغَيْرِهِ كَالْإِمَامِ وَالْوَلِيِّ.

وَلَكِنْ مَعْنَى قَوْلِنَا: "تَخْيِيرٌ" أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ فِعْلُ وَاحِدٍ مِن هَذِهِ الْأُمُورِ فِي كُلِّ وَقْتٍ؛ بَل قَد يَتَعَيَّن فِعْلُ هَذَا تَارَة وَهَذَا تَارَةً، وَقَوْلُهُ فِي الْقُرْآنِ:{فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] يَقْتَضِي فِعْلَ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ تَغْيِيرَ هَذَا فِي حَالٍ وَهَذَا فِي حَال.

(1)

في الأصل: (حوز)، والمثبت من جامع المسائل (3/ 403).

(2)

في الأصل (ومذهب): والتصويب من مختصر الفتاوى المصرية (617).

(3)

رواه الترمذي (1357)، وصحَّحه الألباني في صحيح الترمذي.

(4)

في الأصل: (وَتَخْييرُ)، وهو خطأ يُغير المعنى، والتصويب من مختصر الفتاوى المصرية (618)، وجامع المَسائل (3/ 405)، والمستدرك على فتاوى ابن تيمية (1/ 52).

ص: 151

وَلهَذَا كَانَ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ قَوْله تَعَالَى فِي الْمُحَارِبِينَ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] لَا يَقْتَضِي أَنَّ الْإِمَامَ يُخَيَّرُ تَخْيِيرَ مَشِيئَةٍ.

وَمِن هَذَا الْبَابِ "تَخْيِيرُ الْإِمَامِ فِي الْأَرْضِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً" بَيْنَ جَعْلِهَا فَيْئًا وَبَيْنَ جَعْلِهَا غَنِيمَةً كَمَا هُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ؛ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، فَإِنَّهُم قَالُوا: إنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ جَعْلَهَا غَنِيمَةً قَسَمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ، وَإِن رَأَى أَنْ لَا يَقْسِمَهَا جَازَ كَمَا لَمْ يَقْسِم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ مَعَ أَنَّهُ فَتَحَهَا عَنْوَةً.

شَهِدَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، وَالسِّيرَةُ الْمُسْتَفِيضَةُ؛ وَلِأنَّ خُلَفَاءَة بَعْدَهُ -أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ- فَتَحُوا مَا فَتَحُوا مِن أَرْضِ الْعَرَبِ وَالرُّومِ وَفَارِسَ؛ كَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ وَخُرَاسَانَ، وَلَمْ يَقْسِمْ أَحَدٌ مِن الْخُلَفَاءِ شَيْئًا مِن الْعَقَارِ الْمَغْنُومِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ: لَا السَّوَادَ وَلَا غَيْرَ السَّوَادِ؛ بَل جَعَلَ الْعَقَارَ فَيْئًا لِلْمسْلِمِينَ دَاخِلًا فِي قَوْلِهِ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر: 7].

وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ أَعْدَلُ الْأَقَاوِيلِ وَأَشْبَهُهَا بِالْكتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْأُصُولِ، وَهُم الَّذِينَ قَالُوا: يُخيَّر الْإِمَامُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ تَخْيِيرَ رَأيِ وَمَصْلَحَةٍ لَا تَخْيِيرَ شَهْوَةٍ وَمَشِيئَةٍ، وَهَكَذَا سَائِرُ مَا يخَيَّرُ فِيهِ وُلَاةُ الْأَمْرِ.

وَمَن تَصَرَّفَ لِغَيْرِهِ بِوِلَايَة؛ كَنَاظِرِ الْوَقْفِ، وَوَصِيِّ الْيَتِيمِ، وَالْوَكِيلِ الْمُطْلَقِ: لَا يُخَيَّرُونَ تَخْيِيرَ مَشِيئَةٍ وَشَهْوَةٍ؛ بَل تَخْيِيرَ اجْتِهَادٍ وَنَظَرٍ وَطَلَبٍ وتحري للأصلح

(1)

.

(1)

في الأصل: (الْجَوَازِ الْأصْلَحِ)، وفي جامع المسائل (3/ 409)، ومختصر الفتاوى المصرية (618): وَيُجزى للأصلح، والمثبت من المستدرك على فتاوى شيخ الإسلام (1/ 55).

ص: 152

وَهَذَا بِخِلَافِ مَن خُيِّرَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ أَيَّهمَا شَاءَ؛ كَالْمُكَفِّرِ إذَا خُيِّرَ بَيْنَ الْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ وَالْعِتْقِ فَإِنَّهُ وَإِن كَانَ أَحَدُ الْخِصَالِ أفْضَلَ فَيَجُوزُ لَهُ فِعْلُ الْمَفْضُولِ.

وَفِي كَفَّارَةِ الْمَجَامِعِ فِي رَمَضَانَ هَل هِيَ عَلَى التَّخْيِيرِ أَو عَلَى التَّرْتِيبِ؟ فِيهَا قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَن أَحْمَد، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهَا عَلَى التَّرْتِيبِ، لَكِنَّ التَّرْتِيبَ فِيهَا ثَبَتَ بِحِكَايَةِ الْمَجَامِعِ لَا بِلَفْظٍ عَامٍّ

(1)

؛ فَلِهَذَا أَقْدَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنْ أَلْزَمَ بَعْضَ الْمُلُوكِ بِالصَّوْمِ عَيْنًا، وَأَنَّ التَّرْتِيبَ فِيهَا لَيْسَ شَرْعًا عَامًّا؛ بَل هُوَ مِن بَابِ تَنْقِيح الْمَنَاطِ، وَقَدَّمَ الْعِتْقَ فِي حَقِّ مَن يَكُونُ عِنْدَهُ أَصْعَبَ مِن الصِّيَامِ كَالْأَعْرَابِ، وَأَمَّا مَن كَانَ الْعِتْقُ أَسْهَلَ عَلَيْهِ فَلَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ.

وَأَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ يخَيَّرُ تَخْيِيرَ شَهْوَةٍ حَيْثُمَا كَانَ كُلٌّ مِن الْأَبَوَيْنِ نَظِيرَ الْآخَرِ، وَلَمْ يُضْبَطْ فِي حَقِّهِ حَكَمٌ عَامٌّ لِلْأَبِ أَو لِلْأُمِّ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: كُلُّ أَب فَهُوَ أَصْلَحُ لِلْمُمَيِّزِ مِن الْأُمِّ، وَلَا كُلُّ أُمٍّ هِيَ أَصْلَحُ لَهُ مِن الْأَبِ؛ بَل قَد يَكونُ بَعْضُ الْآبَاءِ أَصْلَحَ، وَبَعْضُ الْأُمَّهَاتِ أَصْلَحَ، وَقَد يَكُونُ الْأَبُ أَصْلَحَ فِي حَالٍ، وَالْأمُّ أَصْلَحَ فِي حَالٍ، فَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُعَيَّنَ أَحَدُهُمَا فِي هَذَا.

بِخِلَافِ الصَّغِيرِ

(2)

، فَإِنَّ الْأُمَّ أَصْلَحُ لَهُ مِن الْأَبِ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ أَرْفَقُ بِالصَّغِيرِ وَأَخْبَرُ بِتَغْذِيَتهِ وَحَمْلِهِ، وَأَصْبَرُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَرْحَم بِهِ، فَهِيَ أَقْدَرُ وَأَخْبَرُ وَأَرْحَمُ وَأَصْبَرُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَعُيِّنَت الْأُمُّ فِي حَقِّ الطِّفْلِ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ بِالشَّرْعِ.

(1)

جاء في الصحيحين البخاري (1936)، ومسلم (1111)، عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، إذ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ هَلَكْتُ. قَالَ: "مَا لَكَ؟ "، قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"هَل تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ:"فَهل تَسْتَطِيعُ أنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ"، قَالَ: لَا، فَقَالَ:"فَهَل تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكينًا". قَالَ: لَا .. الحديث.

(2)

الذي دون سنّ التمييز.

ص: 153

وَلَكِنْ يَبْقَى تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ: هَل عَيَنَهُنَّ الشَّارعُ لِكَوْنِ قَرَابَةِ الْأُمّ مُقَدَّمَةً عَلَى قَرَابَةِ الْأَبِ فِي الْحَضَانَةِ؟ أَو لِكَوْنِ النِّسَاءِ أَقْوَمَ بِمَقْصُودِ الْحَضَانَةِ مِن الرِّجَالِ فَقَطْ؟

وَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، يَظْهَرُ أَمْرُهُمَا فِي تَقْدِيم نِسَاءِ الْعَصَبَةِ عَلَى أَقَارِبِ الْأُمِّ؛ مِثْل أُمِّ الْأُمّ وَأُمِّ الْأَبِ، وَالْأُخْتِ مِن الْأُمِّ وَالْأُخْتِ مِن الْأَبِ، وَمِثْل الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ وَنَحْو ذَلِكَ، هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَن أَحْمَد، وَأَرْجَحُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْحُجَّةِ تَقْدِيمُ نِسَاءِ الْعَصَبَةِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الخرقي فِي مُخْتَصَرِهِ فِي الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ.

وَعَلَى هَذَا: أُمُّ الْأَبِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى أُمِّ الْأُمّ، وَالْأخْتُ مِن الْأَبِ مُقَدَّمَة عَلَى الْأُخْتِ مِن الْأُمِّ، وَالْعَمَّةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْخَالَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَقَارِبُ الْأَبِ مِن الرِّجَالِ عَلَى أَقَارِبِ الْأُمِّ، وَالْأَخُ لِلْأَب أَوْلَى مِن الْأَخِ لِلْأُمِّ، وَالْعَمُّ أَوْلَى مِن الْخَالِ.

بَل قَد قِيلَ: إنَّهُ لَا حَضَانَةَ لِلرِّجَالِ مِن أَقَارِبِ الْأمِّ بِحَال.

لِأنَّ مُجْمَعَ أُصُولِ الشَّرْعِ إنَّمَا يُقَدَّمُ أَقَارِبَ الْأَبِ فِي الْمِيرَاثِ، وَالْعَقْدِ، وَالنَّفَقَةِ، وَوِلَايَةِ الْمَوْتِ، وَالْمَالِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَمْ يُقَدِّم الشَّارعُ قَرَابَةَ الْأُمِّ فِي حُكْمٍ مِن الْأَحْكَامِ، فَمَن قَدَّمَهُنَّ فِي الْحَضَانَةِ فَقَد خَالَفَ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ.

وَلَكِنْ قَدَّمَ الْأُمَّ لِأنَّهَا امْرأة، وَجِنْسُ النِّسَاءِ فِي الْحَضَانَةِ مُقَدَّمَاتٌ عَلَى الرِّجَالِ.

وَهَذَا يَقْتَضِي تَقْدِيمَ الْجَدَّةِ أُمِّ الْأَبِ عَلَى الْجَدِّ، كَمَا قُدّمَ الْأمُّ عَلَى الْأَبِ، وَتَقْدِيمُ أَخَوَاتِهِ عَلَى إخْوَتِهِ، وَعَمَّاتِهِ عَلَى أَعْمَامِهِ، وَخَالَاتِهِ عَلَى أَخْوَالِهِ، هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ وَالاِعْتِبَارُ الصَّحِيحُ.

وَأَمَّا تَقْدِيمُ جِنْسِ نِسَاءِ الْأُمِّ عَلَى نِسَاءِ الْأَبِ فَمُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ وَالْعُقُولِ،

ص: 154

وَلهَذَا كَانَ مَن قَالَ هَذَا [في]

(1)

مَوْضِعٍ يَتَنَاقَضُ وَلَا يَطَّرِدُ أَصْلُهُ؛ وَلِهَذَا تَجِدُ لِمَن لَمْ يَضْبِطْ أَصْلَ الشَّرْعِ وَمَقْصُوده فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا مُتَنَاقِضَةً، حَتَّى تُوجَدَ فِي الْحَضَانَةِ مِن الْأَقْوَالِ الْمُتَنَاقِضَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يُوجَدُ فِي غَيْرِهَا مِن هَذَا الْجِنْسِ

(2)

.

وَإِنَ الَّذِينَ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْأمَّ قُدِّمَتْ لِتَقَدُّمِ قَرَابَةِ الْأُمِّ: لَمَّا كَانَ أَصْلُهُم ضَعِيفًا كَانَت الْفُرُوعُ اللَّازِمَةُ لِلْأَصْلِ الضَّعِيفِ ضَعِيفَةً، وَفَسَادُ اللَّازِمِ يَسْتَلْزِمُ فَسَادَ الْمَلْزُومِ.

بَل الصَّوَابُ بِلَا رَيْبٍ أَنَّهَا قُدِّمَتْ لِكَوْنِهَا امْرَأَةً، فَتَكُونُ الْمَرْأَةُ أحَقَّ بِحَضَانَةِ الصَّغِيرِ مِن الرَّجُلِ، فَتُقَدَّمُ الْأمُّ عَلَى الْأَبِ، وَالْجَدَّةُ عَلَى الْجَدِّ، وَالْأُخْتُ عَلَى الْأَخِ، وَالْخَالَةُ عَلَى الْخَالِ، وَالْعَمَّةُ عَلَى الْعَمِّ.

فَتَخْيِيرُ الصَّبِيِّ الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ السنَّةُ أَوْلَى مِن تَعْيِينِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ لَهُ .. وَالتَّخْيِيرُ تَخْيِيرُ شَهْوَةٍ؛ وَلهَذَا قَالُوا: إذَا اخْتَارَ الْأَبَ مُدَّةً ثُمَّ اخْتَارَ الْأُمَّ فَلَهُ ذَلِكَ، حَتَّى قَالُوا: مَتَى اخْتَارَ أَحَدَهُمَا ثُمَّ اخْتَارَ الْآخَرَ نُقِلَ إلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إن اخْتَارَ ابَدًا.

وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الْقَائِلِينَ بِالتَّخْيِيرِ: الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد بْنُ

(1)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، والمثبت من جامع المسائل (3/ 412)، ومختصر الفتاوى المصرية (623) وهو الصواب.

(2)

ويظهر التناقض في قول صاحب الزاد في باب الحضانة: الأَحَقُّ بِهَا أُمٌّ، ثُمَّ أُمَّهَاتُهَا الْقُرْبَى فَالْقُرْبَى، ثُمَّ أَبٌ، ثُمَّ أُمَّهَاتُهُ كَذلِكَ، ثُمَّ جَدٌّ، ثُمَّ أمَّهَاتُهُ كَذلِكَ ثُمَّ أُخْتٌ لأَبَوَيْنِ ثُمَّ لأَمٍّ، ثُمَّ لأَبٍ، ثُمَّ خَالَةٌ لِأبَوَيْنِ، ثُمَّ لِأمٍّ، ثُمَّ لِأبٍ، ثُمَّ عَمَّاتٌ كَذلِكَ، ثُمَّ خَالَاتُ أُمِّهِ، ثُمَّ خَالَاتُ أَبِيهِ، ثُمَّ عَمَّاتُ أَبِيهِ.

ولذلك قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله: وهذا الترتيب الذي ذكره المولف ليس مبنيًّا على أصل من الدليل، ولا من التعليل، وفيه شيء من التناقض، والنفس لا تطمئن إليه، ولهذا اختلف العلماء في الترتيب في الحضانة على أقوال متعددة، ولكنها كلها ليس لها أصل يعتمد عليه، لذلك ذهب شيخ الإسلام رحمه الله: إلى تقديم الأقرب مطلقًا، سواء كان الأب، أو الأم، أو من جهة الأب، أو من جهة الأم، فإن تساويا قدمت الأنثى، فإن كانا ذكرين أو أنثيين فإنه يقرع بينهما في جهة واحدة، وإلّا تقدم جهة الأبوة. الشرح الممتع (13/ 535).

ص: 155

حَنْبَلٍ، وَقَالُوا: إذَا اخْتَارَ الْأُمَّ كَانَ عِنْدَهَا لَيْلًا، وَأَمَّا بِالنَّهَارِ فَيَكُونُ عِنْدَ الْأَبِ لِيُعَلِّمَهُ ويُؤَدِّبَهُ.

فَأَمَّا الْبِنْتُ إذَا خُيِّرَتْ فَكَانَت عِنْدَ الْأُمِّ تَارَةً وَعِنْدَ الْأَبِ تَارَةً: أَفْضَى ذَلِكَ إلَى كَثْرَةِ بُرُوزِهَا وَتَبَرُّجِهَا وَانْتِقَالِهَا مِن مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ، وَلَا يَبْقَى الْأَث مُوَكَّلًا بِحِفْظِهَا، وَلَا الْأُمُّ مُوَكَّلَةً بِحِفْظِهَا، وَقَد عُرِفَ بِالْعَادَةِ أَنَّ مَا يَتَنَاوَبُ النَّاسُ عَلَى حِفْظِهِ ضَاعَ، وَمِن الْأَمْثَالِ السَّائِرَةِ:"لَا يَصْلُحُ الْقِدْرُ بَيْنَ طَبَّاخَيْنِ".

وَأَيْضًا: فَاخْتِيَارُ أَحَدِهِمَا يُضْعِفُ رَغْبَةَ الْآخَرِ فِي الْإِحْسَانِ وَالصِّيَانَةِ، فَلَا يَبْقَى الْأَبُ تَامَّ الرَّغْبَةِ، وَلَا الْأمُّ تَامَّةَ الرَّغْبَةِ فِي حِفْظِهَا، وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى كَمَا قَالَت امْرَأَةُ عِمْرَانَ .. وَهَذَا أَمْرٌ مَعْرُوفٌ بِالتَّجْرِبَةِ: أَنَّ الْمَرْأَةَ تَحْتَاجُ مِن الْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الصَّبِيُّ.

فَكَانَ الْأَصْلَحُ لَهَا أَنْ تُجْعَلَ عِنْدَ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ مُطْلَقًا، لَا تُمَكَّنُ مِن التَّخْيِيرِ، كَمَا قَالَ ذَلِكَ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ: مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمْ.

وَلَيْسَ فِي تَخْيِيرِهَا نَصٌّ وَلَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ.

وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ بَيْنَ تَخْيِيرِهَا وَتَخْيِيرِ الِابْنِ، لَا سِيَّمَا وَالذَّكَرُ مَحْبُوبٌ مَرْغُوبٌ، وَالْبِنْتُ مَزْهُودٌ فِيهَا، فَأَحَدُ الْوَالِدَيْنِ قَد يَزْهَدُ فِيهَا مَعَ رَغْبَتِهَا فِيهِ، فَكَيْفَ مَعَ زُهْدِهَا فِيهِ؟ فَالْأَصْلَحُ لَهَا لُزُومُ أَحَدِهِمَا لَا التَّرَدُّدُ بَيْنَهُمَا.

ثُمَّ هُنَاكَ يَحْصُلُ الِاجْتِهَادُ فِي تَعْيِينِ أَحَدِهِمَا: فَمَن عَيَّنَ الْأمَّ كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ لَا بُدَّ أَنْ يُرَاعُوا مَعَ ذَلِكَ صِيَانَةَ الْأمِّ لَهَا.

وَأَحْمَد وَأَصْحَابُهُ إنَّمَا يُقَدِّمُونَ الْأَبَ إذَا لَمْ يَكُن عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ حِرْز.

فَكُلُّ مَن قَدَّمْنَاهُ مِن الْأَبَوَيْنِ إنَّمَا نُقَدِّمُهُ إذَا حَصَلَ بِهِ مَصْلَحَتُهَا، أَو انْدَفَعَتْ بِهِ مَفْسَدَتُهَا.

فَأَمَّا مَعَ وُجُودِ فَسَادِ أَمْرِهَا مَعَ أَحَدِهِمَا: فَالْآخَرُ أَوْلَى بِهَا بِلَا ريبٍ، حَتَّى

ص: 156

الصَّغِيرُ إذَا اخْتَارَ أَحَدَ أَبَوَيْهِ وَقَدَّمْنَاهُ إنَّمَا نُقَدِّمُهُ بِشَرْطِ حُصُولِ مَصْلَحَتِهِ وَزَوَالِ مَفْسَدَتِهِ.

بَل كُلُّ مَن لَمْ يَقُمْ بِالْوَاجِبِ فِي وِلَايَتِهِ: فَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ؛ بَل إمَّا تُرْفَعُ يَدُهُ عَن الْوِلَايَةِ وَيُقَائم مَن يَفْعَلُ الْوَاجِبَ، وَإِمَّا أَنْ نَضُمَّ إلَيْهِ مَن يَقُومُ مَعَهُ بِالْوَاجِبِ.

فَإِذَا كَانَ مَعَ حُصُولِهِ عِنْدَ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ لَا تَحْصُلُ طَاعَةُ اللهِ وَرَسُولِهِ فِي حَقِّهِ وَمَعَ حُصُولِهِ عِنْدَ الْآخَرِ تَحْصُلُ: قُدِّمَ الْأَوَّلُ قَطْعًا.

وَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْأَبَ تَزَوَّجَ ضَرَّةً وَهِيَ تُتْرَكُ عِنْدَ ضَرَّةِ أُمِّهَا لَا تَعْمَلُ

(1)

مَصْلَحَتَهَا بَل تُؤْذِيهَا أَو تُقَصِّرُ فِي مَصْلَحَتِهَا، وَأُمُّهَا تَعْمَلُ

(2)

مَصْلَحَتُهَا وَلَا تُؤْذِيهَا: فَالْحَضَانَةُ هُنَا لِلْأُمِّ.

وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الشَّارعَ لَيْسَ لَهُ نَصّ عَالم فِي تَقْدِيمِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ مُطْلَقًا، وَلَا تَخْيِيرِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ مُطْلَقًا، وَالْعُلَمَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا مُطْلَقًا؛ بَل مَعَ الْعُدْوَانِ وَالتَّفْرِيطِ لَا يُقَدَّمُ مَن يَكُونُ كَذَلِكَ عَلَى الْبَرِّ الْعَادِلِ الْمُحْسِنِ الْقَائِمِ بِالْوَاجِبِ. [34/ 111 - 132]

* * *

‌(إذَا كَانَ الابْنُ فِي حَضَانَةِ أُمِّهِ فَأَنْفَقَتْ عَلَيْهِ تَنْوِي بذَلِكَ الرُّجُوعَ عَلَى الْأَبِ فَهل لَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَلَى الْأَبِ

؟)

4786 -

إذَا كَانَ الِابْنُ فِي حَضَانَةِ أمِّهِ فَأنْفَقَتْ عَلَيْهِ تَنْوِي بِذَلِكَ الرُّجُوعَ عَلَى الْأَبِ فَلَهَا أَنْ تَرْجعَ عَلَى الْأَبِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ الَّذِي عَلَيْهِ قُدَمَاءُ أَصْحَابِهِ؛ فَإِنَّ مِن أَصْلِهِمَا أَنَّ مَن أَدَّى عَن غَيْرِهِ وَاجِبًا رَجَعَ عَلَيْهِ، وَإِن فَعَلَهُ بِغَيْرِ إذْنٍ؛ مِثْل أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ .. وَقَد قَالَ

(1)

في المستدرك على فتاوى ابن تيمية (ص 67): تعلْم، وهو أقرب.

(2)

في المستدرك على فتاوى ابن تيمية (ص 67): تعلْم، وهو أقرب.

ص: 157

تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]، فَأَمَرَ بِإِيتَاءِ الْأجْرِ بِمُجَرَّدِ الْإرْضَاعِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَقْدًا وَلَا إذْنًا.

فَإِنْ تبَرَّعَتْ بِذَلِكَ لَمْ يَكُن لَهَا أَنْ تَرْجِعَ.

فَإِذَا شَرَطَ عَلَيْهَا أنَّهَا إنْ سَافَرَتْ بِالْبِنْتِ لَمْ يَكُن لَهَا نَفَقَةٌ وَرَضِيَتْ بِذَلِكَ فَسَافَرَتْ بِهَا لَمْ يَكُن لَهَا نَفَقَةٌ، وَلَو نَوَت الرُّجُوعَ؛ لِأَنَّهَا ظَالِمَةٌ مُتَعَدِّيَةٌ بِالسَّفَرِ بِهَا؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهَا أنْ تُسَافِرَ بِهِ بِغَيْرِ إذْنِ أبِيهَا. [34/ 134]

* * *

ص: 158

‌كتَابُ الجِنَايَاتِ

4787 -

العقوبات الشرعية إنما شرعت رحمة من الله بعباده، فهي صادرة عن رحمة الله بالخلق، وإرادة الإحسان إليهم، ولهذا ينبغي لمن يعاقب الناس على ذنوبهم أن يقصد بذلك الإحسان إليهم والرحمة لهم، كما يقصد الوالد تأديب ولده، وكما يقصد الطبيب معالجة المريض. [المستدرك 5/ 93]

4788 -

ليست التوبة بعد الجرح أو بعد الرمي قبل الإصابة مانعة من وجوب القصاص. [المستدرك 5/ 93]

4789 -

إمساك الحيات جناية محرمة

(1)

. [المستدرك 5/ 93]

4790 -

إسقاؤه سمًّا لا يعدم به .. فإن عدم آكله به وهو بالغ عاقل أو خلطه بطعام نفسه فأكله إنسان بغير إذنه فلا ضمان عليه، وقال الشيخ تقي الدين: إذا كان مميزًا ففي ضمانه نظر. [المستدرك 5/ 93]

4791 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَمَّن قَالَ: أنَا ضَارِبُهُ وَاللهُ قَاتِلُهُ؟

فَأَجَابَ: هَذَا يُؤَاخَذُ بِإِقْرَارِهِ وَيجِبُ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ. [34/ 148]

4792 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَن رَجُلٍ رَاكِبِ فَرَسٍ، مَرَّ بِهِ دبَّاب

(2)

وَمَعَهُ دُبٌّ، فَجَفَلَ الْفَرَسُ وَرَمَى رَاكِبَهُ ثُمَّ هَرَبَ وَرَمَى رَجُلًا فَمَاتَ؟

فَأَجَابَ: لَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِ الْفَرَسِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، لَكِن الدبّاب عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ. [34/ 149]

(1)

وقد تساهل بعض الناس في هذا الزمان بذلك، وأصبح إمساكُ الحيات السامة لعبة أو مهنةً لكسب المال أو الشهرة.

(2)

أي: مربي الدببة.

ص: 159

4793 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَن رَجُلٍ أُخِذَ لَهُ مَالٌ فَاتَّهَمَ بِهِ رَجُلًا مِن أَهْلِ التُّهَمِ، ذَكَرَ ذَلِكَ عِنْدَهُ، فَضَرَبَهُ عَلَى تَقْرِيرِهِ فَأَقَرَّ ثُمَّ أنْكَرَ، فَضَرَبَهُ حَتَّى مَاتَ فَمَا عَلَيْهِ؟

فَأَجَابَ: عَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً كَفَّارَةً، وَتَجِبُ دِيَةُ هَذَا الْمَقْتُولِ، إلَّا أَنْ يُصَالِحَ وَرَثَتَهُ عَلَى أَقَلّ مِن ذَلِكَ.

وَلَو كَانَ قَد فَعَلَ بِهِ فِعْلًا يَقْتُلُ غَالِبًا بِلَا حَقٍّ وَلَا شُبْهَةٍ لَوَجَبَ الْقَوَدُ، وَلَو كَانَ بِحَق لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ. [34/ 149]

4794 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن سُفَّارٍ جَاءَتْهُم حَرَامِيَّةٌ فَقَاتَلُوهُمْ، فَقَتَلَ الْحَرَامِيَّةُ مِن السُّفَّارِ رَجُلًا، ثُمَّ إنَّ ابْنَ عَمِّ الْمَقْتُولِ اتَّبَعَ الْحَرَامِيَّةَ هُوَ وَنَاسٌ مِن قَوْمِهِ فَلَحِقَهُم وَقَبَضَهُم وَسَأَلَ عَن الْقَاتِلِ فَعَيَّنَ الْحَرَامِيَّةُ شَخْصًا مِنْهُم وَقَالُوا: هَذَا قَتَلَ ابْنَ عَمِّك فَقَتَلَهُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ طَلَعَ الْقَاتِلُ أَخَا ذَلِكَ الشَّخْصِ الَّذِي عَيَّنَهُ الْحَرَامِيَّةُ؟

فَأَجَابَ: أَمَّا الْمُسَافِرُ الْمَقْتُولُ ظُلْمًا فَيَجِبُ عَلَى مَن قَتَلَهُ مِن الْحَرَامِيَّةِ الْقَوَدُ بِشُرُوطِهِ.

وَأَمَّا الشَّخْصُ الثَّانِي الْمَقْتُولُ ظُلْمًا إذَا كَانَ مَعْصُومًا:

- فَإِنْ كَانَ الدَّالُّ عَلَيْهِ مُتَعَمِّدًا الْكذِبَ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ.

- وَإِن كَانَ مُخْطِئًا وَجَبَت الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ إنْ كَانَ لَهُ عَاقِلَة، وَإِلَّا فَعَلَيْهِ.

وَأَمَّا قَاتِلُهُ

(1)

: فَإِنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ قَتْلَهُ؛ بَل أَخْطَأَ فِيهِ: فَلِلْوَرَثَةِ أَنْ يُطَالِبُوا بِالدِّيَةِ لَهُ أو لِعَاقِلَتِهِ، لَكِنْ إذَا ضَمِنَ الدِّيَةَ رَجَعَ بِهَا عَلَى الدَّالِّ

(2)

أَو عَاقِلَتِهِ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُضَافُ إلَيْهِ الْقَتْلُ فِي مِثْل هَذَا؛ وَلهَذَا يَجِبُ قَتْلُهُ إذَا تَعَمَّدَ

(1)

المباشر.

(2)

الذي دل أولياء المقتول على رجل زعم أنه القاتل.

ص: 160

الْكَذِبَ، كَمَا يَجِبُ الْقَتْلُ عَلَى الشُّهُودِ إذَا رَجَعُوا عَن الشَّهَادَةِ وَقَالُوا تَعَمَّدْنَا الْكَذِبَ. [34/ 156 - 157]

4795 -

وَسُئِلَ -قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ-: عَن رَجُلٍ رَأَى رَجُلًا قَتَلَ ثَلَاثَةً مِن الْمُسْلِمِينَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَلَحِسَ السَّيْفَ بِفَمِهِ، وَأَنَّ وَليَّ الْأَمْرِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ لِيُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَأَنَّ الَّذِي رَآهُ قَد وَجَدَهُ فِي مَكَانٍ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَسْكِهِ، فَهَل لَهُ أَنْ يَقْتُلَ الْقَاتِلَ الْمَذْكُورَ بِغَيْرِ حَقٍّ؟

فَأَجَابَ: إنْ كَانَ قَاطِعَ طَرِيقٍ قَتَلَهُم لِأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ: وَجَبَ قَتْلُهُ وَلَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ.

وَإِن كَانَ قَتَلَهُم لِغَرَضٍ خَاصٍّ مِثْل خُصُومَةٍ بَيْنَهُم أو عَدَاوَةٍ: فَأَمْرُهُ إلَى وَرَثَةِ الْقَتِيلِ: إنْ أَحَبُّوا قَتْلَهُ قَتَلُوهُ وَإِن أحَبُّوا عَفَوْا عَنْهُ وَإِن أَحَبُّوا أخَذوا الدِّيَةَ، فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ إلَّا بِإِذْنِ الْوَرَثَةِ الْآخَرِينَ.

وَأَمَّا إنْ كَانَ قَاطِعَ طَرِيقٍ: فَقِيلَ: بِإِذْنِ الْإِمَامِ؛ فَمَن عَلِمَ انَّ الْإِمَامَ أَذِنَ فِي قَتْلِهِ بِدَلَائِلِ الْحَالِ جَازَ أَنْ يَقْتُلَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَعْرِفَ أنَّ وُلَاةَ الْأُمُورِ يَطْلُبُونَهُ لِيَقْتُلُوهُ، وَأَنَّ قَتْلَهُ وَاجِبٌ فِي الشَّرْعِ.

وَإِذَا وَجَبَ قَتْلُهُ كَانَ قَاتِلُهُ مَأْجُورًا فِي ذَلِكَ. [34/ 167]

4796 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلَيْنِ قَبَضَ أَحَدُهُمَا عَلَى وَاحِدٍ، وَالْآخَرُ ضَرَبَهُ فَشُلَّتْ يَدُهِ؟

فَأَجَابَ: هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الِاثْنَيْنِ الْقَوَدُ إنْ وَجَبَ، وَإِلَّا فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمَا. [34/ 167]

4797 -

شَلَلُ الْيَدِ فِيهِ دِيَةُ الْيَدِ. [34/ 170]

4798 -

يَجِبُ فِي الْأَسْنَانِ فِي كُلِّ سِنٍّ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ.

وَيجِبُ فِي تَحْوِيلِ الْحَنَكِ الْأَرْشُ، يُقَوَّمُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ عَبْدٌ سَلِيمٌ، ثُمَّ يُقَوَّمُ وَهُوَ عَبْدٌ مَعِيبٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ تَفَاوُتُ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ فَيَجِبُ بِنِسْبَتِهِ مِن الدِّيَةِ.

ص: 161

وَإِذَا كَانَت الضَّرْبَةُ مِمَّا تَقْلَعُ الْأَسْنَانَ فِي الْعَادَةِ فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَهُوَ أَنْ يَقْلَعَ لَهُ مِثْل تِلْكَ الْأَسْنَانِ مِن الضَّارِبِ. [34/ 171]

4799 -

قَاتِلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ عَلَيْهِ حَقَّانِ:

أ- حَقٌّ للهِ بِكَوْنِهِ تَعَدَّى حُدُودَ اللهِ وَانْتَهَكَ حُرُمَاتِهِ، فَهَذَا الذَّنْبُ يَغْفِرُهُ اللهُ بِالتَّوْبَةِ الصَّحِيحَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53]؛ أَيْ: لِمَن تَابَ.

ب- وَالْحَقُّ الثَّاني: حَقُّ الْآدَمِيِّينَ، فَعَلَى الْقَاتِلِ أَنْ يُعْطِيَ أَوْليَاءَ الْمَقْتُولِ حَقَّهُم فَيُمَكِّنَهُم مِن الْقِصَاصِ، أَو يُصَالِحَهُم بِمَال، أَو يَطْلُبَ مِنْهُم الْعَفْوَ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَد أَدَّى مَا عَلَيْهِ مِن حَقّهِمْ وَذَلِكَ مِن تَمَامِ التَّوْبَةِ. [34/ 171 - 172]

4800 -

حَقُّ الْمَظْلُومِ: لَا يَسْقُطُ بِاسْتِغْفَارِ الظَّالِمِ الْقَاتِلِ، لَا فِي قَتْلِ النَّفْسِ، وَلَا فِي سَائِرِ مَظَالِمِ الْعِبَادِ؛ فَإِنَّ حَقَّ الْمَظْلُومِ لَا يَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِغْفَارِ، لَكِنْ تُقْبَل تَوْبَةُ الْقَاتِلِ وَغَيْرِهِ مِن الظَّلَمَةِ، فَيَغْفِرُ اللهُ لَهُ بِالتَّوْبَةِ الْحَقَّ الَّذِي لَهُ.

وَأَمَّا حُقُوقُ الْمَظْلُومِينَ: فَإِنَّ اللهَ يُوَفِّيهِمْ إيَّاهَا: إمَّا مِن حَسَنَاتِ الظَّالِمِ وَإِمَّا مِن عِنْدِهِ. [34/ 173]

4801 -

قال الشيخ تقي الدين: من صور القتل عمدًا، الموجب للقصاص: مَن شهدت بينة بالردة فقتل بذلك ثم رجعوا وقالوا: عمدنا قتله.

قال: وفي هذا نظر؛ لأن المرتد إنما يقتل إذا لم يتب، فيُمْكِنُ المشهودُ عليه التوبة، كما يُمْكِنُه التخلص من النار إذا أُلقي فيها. [المستدرك 5/ 93]

4802 -

لو رجع الوالي والبينةُ ضمنه الوالي وحده على الصحيح من المذهب، وقال القاضي وأصحابه: يضمنه الوالي والبينة معًا كمشترِك.

واختار الشيخ تقي الدلِن: أن الوالي يلزمه القود إن تعمد وإلا الدية، وأن الآمر لا يرث. [المستدرك 5/ 94]

ص: 162

4803 -

(شبه العمد): الثاني أن يَقتل في دار الحرب من يظنه حربيًّا

قال الشيخ تقي الدين: محل هذا في المسلم الذي هو بين الكفار معذور؛ كالأسير، والمسلم الذي لا يمكنه الهجرة والخروج من صفهم، فأما الذي يقف في صف قتالهم باختياره فلا يضمن

(1)

بحال. [المستدرك 5/ 94]

4804 -

قال في المحرر: لو أمر به -يعني: القتل- سلطانٌ عادل أو جائر ظلمًا مَن لم يَعرف ظلمه فيه فقتله: فالقود والدية على الآمر.

قال أبو العباس: هذا بناء على وجوب طاعة السلطان في القتل المجهول، وفيه نظر؛ بل لا يطاع حتى يعلم جواز قتله.

وحينئذ: فتكون الطاعة له معصية، لا سيما إذا كان معروفًا بالظلم، فهنا الجهل بعدم الحلِّ كالعلم بالحرمة.

وقياس المذهب: أنه إذا كان المأمور ممن يطيعه غالبًا في ذلك أنه يجب القتل عليهما، وهو أولى من الحاكم والشهود. [المستدرك 5/ 94]

* * *

(مسائل مهمة في الْقِصَاص)

4805 -

الْقِصَاصُ ثَابِت بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ، يُقْتَصُّ لِلْهَاشِمِيِّ الْمُسْلِمِ مِن الْحَبَشِيِّ الْمُسْلِمِ، وَللْحَبَشِيِّ الْمُسْلِمِ مِن الْهَاشِمِيِّ الْمُسْلِمِ فِي الدِّمَاءِ وَالْأمْوَالِ وَالْأعْرَاضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، بِحَيْثُ يَجُوزُ الْقِصَاصُ فِي الْأعْرَاضِ .. فَإِذَا قَالَ لَهُ الْهَاشِمِيُّ: يَا كَلْب، قَالَ لَهُ: يَا كَلْب، وَإِذَا قَالَ: لَعَنَك اللهُ، قَالَ لَهُ: لَعَنَك اللهُ، وَهَذَا مِن مَعْنَى قَوْله تَعَالَى:{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)} [الشورى: 41].

وَلَو كَذَبَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُن لَهُ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ مَن لسَبَّ أبَا رَجُلٍ

(1)

قاتِلُه.

ص: 163

فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسُبَّ أَبَاهُ، سَوَاءٌ كَانَ هَاشِمِيًّا أَو غَيْرَ هَاشِمِيٍّ؛ فَإِنَّ أَبَا السَّابِّ لَمْ يَظْلِمْهُ، وَإِنَّمَا ظَلَمَهُ السَّابُّ {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164].

وَلَكنْ إنْ سَبَّ مُسْلِمٌ أَبَا مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ عَلَى ذَلِكَ.

وَمَن سَبَّ أَبَا هَاشِمِيٍّ غُزِّرَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يُجْعَلُ ذَلِكَ سَبًّا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَو سَبَّ أَبَاهُ وَجَدَّهُ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فَإِنَّ اللَّفْظَ لَيْسَ ظَاهِرًا فِي ذَلِكَ، إذ الْجَدُّ الْمُطْلَقُ هُوَ أَبُو الْأَبِ.

وَسَبُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُوجِبُ الْقَتْلَ.

فَلَا يَزُولُ الْإِيمَانُ الْمُتَعَيِّنُ بِالشَّكِّ، وَلَا يُبَاحُ الدَّمُ الْمَعْصُومُ بِالشَّكِّ. [34/ 135 - 136]

* * *

(باب شروط وجوب القصاص)

4806 -

الذي ينبغي ألا يعاقب المجنون بقتل ولا قطع، لكن يضرب على فعله لينزجر، وكذا الصبي المميز يعاقب على الفاحشة، ويعزر تعزيرًا بليغًا. [المستدرك 5/ 95]

4807 -

لا يقتل مسلم بذمي، إلا أن يقتله غيلة لأخذ ماله، وهو مذهب مالك. [المستدرك 5/ 95]

4808 -

السُّنَّة إنما جاءت "لا يقتل والد بولده"

(1)

؛ فإلحاق الجد بذلك وأبي الأم بعيد. [المستدرك 5/ 95]

4809 -

قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: ليس في الْعَبْدِ نُصُوصٌ صَرِيحَةٌ صَحِيحَةٌ تَمْنَعُ قَتْلَ الْحُرِّ بِهِ، وَقَوَّى أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ، وقال: هذا الرَّاجِحُ، وَأَقْوَى على قَوْلِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رحمه الله. [المستدرك 5/ 95]

* * *

(1)

رواه أحمد (346).

ص: 164

(باب استيفاء القصاص)

4810 -

الجماعة المشتركون في استحقاق دم المقتول الواحد: إما أن يثبت لكل واحد منهم بعض الاستيفاء، فيكونون كالمشتركين في عقد أو خصومة، وتعيين الإمام قوي، كما يؤجر عليهم لنيابته عن الممتنع. [المستدرك 5/ 95 - 96]

4811 -

القرعة إنما شرعت في الأصل إذا كان كل واحد مستحقًّا أو كالمستحق.

ويتوجه أن يقدم الأكثر حقًّا أو الأفضل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سهل في قصة قتل أخيه عبد الله بن سهل الأنصاري: (كبِّر)، وكالأولياء في النكاح. [المستدرك 5/ 96]

4812 -

إذا كان المقتول رضي بالاستيفاء أو بالدية

(1)

: فينبغي أن يتعين، كما لو عفا، وعليه تخرج قصة علي مع قاتله عبد الرحمن بن ملجم الخارجي، إذا لم تخرج على كونه مرتدًّا أو مفسدًا في الأرض أو قاتل الأئمة. [المستدرك 5/ 96]

4813 -

مطالبة المقتول بالقصاص توجب تحتمه، فلا يمكن الورثة بعد ذلك من العفو. [المستدرك 5/ 96]

4814 -

سألت شيخنا أبا العباس ابن تيمية قدس الله روحه عن القتل بالحال، هل يوجب القصاص؟ فقال: للولي أن يقتله بالحال كما قتل به. [المستدرك 5/ 96]

4815 -

يحتمل أن يجوز الاستيفاء بغير حضور السلطان إذا كان القصاص في النفس، واختاره الشيخ تقي الدين

(2)

. [المستدرك 5/ 96]

(1)

قبل موته.

(2)

وعليه العمل.

ص: 165

4816 -

يفعل بالجاني على النفس مثل ما فعل بالمجني عليه، ما لم يكن محرمًا في نفسه، أو يقتله بالسيف إن شاء، وهو رواية عن أحمد.

ولو كوى شخصًا بمسمار: كان للمجني عليه أن يكويه مثل ما كواه إن أمكن، وقال: هذا أشبه بالكتاب والسُّنَّة والعدل. [المستدرك 5/ 97]

4817 -

وولاية القصاص والعفو عنه ليست عامة لجميع الورثة؛ بل تختص بالعصبة وهو مذهب مالك، وتخرج رواية عن أحمد. [المستدرك 5/ 97]

4818 -

كل من ورث المال ورث القصاص على قدر ميراثه من المال، حتى الزوجين وذوي الأرحام.

وعنه: يختص العصبةُ، ذكرها ابن البناء، وخرجها الشيخ تقي الدين رحمه الله واختارها. [المستدرك 5/ 97]

* * *

(باب العفو عن القصاص)

4819 -

اختار الشيخ تقي الدين أن العفو لا يصح في قتل الغيلة؛ لتعذر الاحتراز [منه]؛ كالقتل في المحاربة

(1)

. [المستدرك 5/ 97]

4820 -

استيفاء الإنسان حقه من الدم عدل، والعفو إحسان، والإحسان هنا أفضل، لكن هذا الإحسان لا يكون إحسانًا إلا بعد العدل، وهو ألا يحصل بالعفو ضرر، فماذا حصل به ضرر كان ظلمًا من العافي إما لنفسه وإما لغيره فلا يشرع. [المستدرك 5/ 97]

4821 -

إن مات القاتل وجبت الدية في تركته، واختار الشيخ تقي الدين: أنها تسقط بموتِه وقتلِه، وخرجه وجهًا، وسواء كان معسرًا أو موسرًا، وسواء قلنا: الواجب القصاص عينًا أو أحد شيئين

(2)

.

(1)

في الأصل: (لتعذر الاحتراز؛ كالقتل مكابرة)، والتصويب من الاختيارات (422).

(2)

إنصاف (10/ 6، 7).

ص: 166

ويتوجه إذا قلنا: ليس للولي أخذ الدية إلا برضا الجاني: أن يسقط حقه بموته، كما لو مات العبد الجاني، أو المكفول به، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية أبي ثواب وابن القاسم وأبي طالب، ويتوجه ذلك.

وإن قلنا: الواجب القود عينًا أو أحد شيئين؛ لأن الدية عديل العفو، فأما الدية مع الهلاك فلا

(1)

. [المستدرك 5/ 98]

* * *

(باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس)

4822 -

لا يستوفى القود في الطرف إلا بحضرة السلطان. [المستدرك 5/ 98]

4823 -

لا يجوز أن يكذب على من كذب عليه، ولا يشهد بزور على من شهد عليه بزور، ولا يُكَفِّره بباطل كما كفَّره بالباطل، ولا يقذفه كذبًا كما قذفه كذبًا، ولا يفجر إذا خاصمه كما فجر هو.

وكذلك لا يجوز أن يغرر في عقد عقده بينهما لأجل كونه غرَّر به، فلا يخونه كما خانه، والشارع نهى عن الخيانة لمن خانه، ولم يجعل ذلك قصاصًا، فلا يأخذ من ماله بغير علمه بقدر ما أخذه هو، وهذا أصح قولي العلماء. [المستدرك 5/ 98]

4824 -

وقوله: الله أكبر عليك؛ كالدعاء عليه، وشتمه بغير فرية نحو: يا كلب، فله قوله له أو تعزيره، ولو لعنه فهل له أن يلعنه؛ ينبني على جواز لعن المعين. [المستدرك 5/ 99]

4825 -

من لعن نصرانيًّا أدب أدبًا خفيفًا، إلا أن يكون صدر من النصراني ما يقتضي ذلك. [المستدرك 5/ 99]

4826 -

قال الإمام أحمد رحمه الله: الدعاء قصاص، ومن دعا على ظالمِه فما صبر. [المستدرك 5/ 99]

* * *

(1)

اختيارات (292).

ص: 167

‌(هَل تجب الْكَفَّارَة على الْقَاتِلِ عَمْدًا أَو خَطَأً

؟)

4827 -

قَتْلُ الْخَطَأِ: لَا يَجِبُ فِيهِ إلَّا الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ وَلَا إثْمَ فِيهِ.

وَأمَّا الْقَاتِلُ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْإِثْمُ، فَإِذَا عفا عَنْهُ أَوْليَاءُ الْمَقْتُولِ أَو أَخَذُوا الدِّيَةَ: لَمْ يَسْقُطْ بِذَلِكَ حَق الْمَقْتُولِ فِي الْآخِرَةِ.

وَإِذَا قَتَلُوهُ: فَفِيهِ نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد، وَالْأظْهَرُ أَنْ لَا يَسْقُطَ، لَكِنَّ الْقَاتِلَ إذَا كَثُرَتْ حَسَنَاتُة أخِذَ مِنْهُ بَعْضُهَا مَا يَرْضَى بِهِ الْمَقْتُولُ، أَو يُعَوِّضُهُ اللهُ مِن عِنْدِهِ إذَا تَابَ الْقَاتِلُ تَوْبَةً نَصُوحًا.

وَقَاتِلُ الْخَطَأِ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَاتِّفَاقِ الْأمَّةِ.

وَالدِّيَةُ تَجِبُ لِلْمُسْلِمِ وَالْمُعَاهَدِ كَمَا قَد دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَهُوَ قَوْلُ السَّلَفِ وَالْأئِمَّةِ، وَلَا يُعْرَفُ فِيهِ خِلَافٌ مُتَقَدِّمٌ، لَكنَّ بَعْضَ مُتَأَخِّرِي الظَّاهِرِيَّةِ زَعَمَ أَنَّ الذمي

(1)

لَا دِيَةَ لَهُ.

وَامَّا الْقَاتِلُ عَمْدًا: فَفِيهِ الْقَوَدُ، فَإِن اصْطَلَحُوا عَلَى الدِّيَةِ جَازَ ذَلِكَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، فَكَانَت الدِّيَةُ مِن مَالِ الْقَاتِلِ، بِخِلَافِ الْخَطَاِ فَإِنَّ دِيَتَهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ.

وَأمَّا الْكَفَّارَةُ: فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ: قَتْلُ الْعَمْدِ أَعْظَمُ مِن أنْ يُكَفَّرَ، كَذَلِكَ قَالُوا فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ، هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ.

كَمَا اتَّفَقُوا كُلُّهُم عَلَى أَنَّ الزِّنَى أَعْظَمُ مِن أَنْ يُكَفَّرَ؛ فَإِنَّمَا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ بِوَطْءِ الْمُظَاهِرِ وَالْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأخْرَى: بَل تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي الْعَمْدِ وَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ.

(1)

في الأصل وجميع كتب الشيخ: "أنَّهُ الَّذِي"، والمثبت من:"المسائل والأجوبة" للشيخ (ص 139)، وهو أصوب.

ص: 168

وَاتَّفَقوا عَلَى أَنَّ الْإِثْمَ لَا يَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ الْكَفَّارَةِ

(1)

. [34/ 138]

* * *

(هل تُقتل الجماعة إذا اشتركوا في قتل رجل؟ وَهل تُقبل مُوَافَقَة وَلِيُّ الصِّغَارِ عَلَى الْقَتْلِ مَعَ الْكِبَارِ)

4828 -

إذَا اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِهِ [أي: قتل المسلم] وَجَبَ الْقَوَدُ عَلَى جَمِيعِهِمْ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَللْوَرَثَةِ أَنْ يَقْتُلُوا، وَلَهُم أَنْ يَعْفُوا.

فَإِذَا اتَّفَقَ الْكِبَارُ مِن الْوَرَثَةِ عَلَى قَتْلِهِمْ فَلَهُم ذَلِكَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ؛ كَأبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.

وَكَذَا إذَا وَافَقَ وَليُّ الصِّغَارِ الْحَاكِمُ أَو غَيْر عَلَى الْقَتْلِ مَعَ الْكبَارِ فَيقْتلُونَ. [34/ 140]

4829 -

إذَا قَامَت الْبَيِّنَةُ عَلَى مَن ضَرَبَهُ [أي: مَن ضرب رجلًا] حَتَّى مَاتَ وَاحِدًا كَانَ أَو أَكْثَرَ: فَإِنَّ لِأَوْليَاءِ الدَّمِ أَنْ يَقْتُلُوهُم كُلَّهُمْ، وَلَهُم أَنْ يَقْتُلُوا بَعْضَهُمْ.

وَإِن لَمْ تُعْلَمْ عَيْنُ الْقَاتِلِ: فَلِأَوْليَاءِ الْمَقْتُولِ أَنْ يَحْلِفوا عَلَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ أَنَّهُ قَتَلَهُ وَيُحْكَمُ لَهُم بِالدَّمِ. [34/ 142]

4830 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَمَّن اتَّفَقَ عَلَى قَتْلِهِ أَوْلَادُهُ وَرَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ، فَمَا حُكْمُ اللهِ فِيهِمْ؟

فَأَجَابَ: إذَا اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِهِ: جَازَ قَتْلُهُم جَمِيعُهُمْ، وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ لَيْسَ لِلْمُشَارِكِينَ فِي قَتْلِهِ؛ بَل لِغَيْرِهِمْ مِن وَرَثَتِهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ كَانوا هُم أَوْليَاءَهُ، وَكَانُوا أَيْضًا الْوَارِثينَ لِمَالِهِ؛ فَإِنَّ الْقَاتِلَ لَا يَرِثُ الْمَقْتُولَ.

(1)

وإثمه عظيم، لكنه لا يصل إلى الكفر، قال الشيخ: وَلَا يُكَفِّرُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةٍ وَإِنَمَا يُكَفِّرُ بِمِثْل هَذَا الْخَوَارجُ، وَلَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ مِن أَهْلِ التَّوْحِيدِ أَحَدٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. اهـ. (34/ 137)

ص: 169

وَلَيْسَ لِلسُّلْطَانِ حَقٌّ لَا فِي دَمِهِ وَلَا فِي مَالِهِ؛ بَل الْإِخْوَةُ لَهُم الْخِيَارُ:

أ- إنْ شَاؤُوا قَتَلُوا جَمِيعَ الْمُشْتَرِكِينَ فِي قَتْلِهِ الْبَالِغِ مِنْهُمْ.

ب- وَإِن شَاؤُوا قَتَلُوا بَعْضَهُمْ.

وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأرْبَعَةِ.

وَامَّا الْمُبَاشِرُونَ لِقَتْلِهِ فَيَجُوزُ قَتْلُهُم بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ.

وَأَمَّا الَّذِينَ أَعَانُوا بِمِثْل إدْخَالِ الرَّجُلِ إلَى الْبَيْتِ وَحِفْظِ الْأَبْوَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَفِي قَتْلِهِمْ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَيجُوزُ قَتْلُهُم فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ.

وَالْمُمْسِكُ يُقْتَلُ فِىِ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَلَا مِيرَاثَ لَهُمَا.

وَإِن كَانَ الصِّغَارُ مِن أَوْلَاده أَعَانُوا أَيْضًا عَلَى قَتْلِهِ: لَمْ يَكُن دَمُهُ إلَيْهِم وَلَا إلَى وَليِّهِمْ؛ بَل إلَى الْإِخْوَةِ.

وَأَمَّا مِيرَاثُهُم مِن مَالِهِ فَفِيهِ نِزَاعٌ، وَالْمَشْهُورُ مِن مَذْهَب الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنَّهُم لَا يَرِثُونَ مِن مَالِهِ، وَالصِّغَارُ يُعَاقَبُونَ بِالتَّأْدِيبِ وَلَا يُقْتَلُونَ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ: الصِّغَارُ يَرِثُونَ مِن مَالِهِ. [34/ 143 - 144]

* * *

‌(حكم من قُتِلَ وزوجته حامل، فهل للورثة أن يقتصُّوا من القاتل قبل وضع الحمل

؟)

4831 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلٍ قَتَلَ رَجُلًا عَمْدًا، وَللْمَقْتُولِ بِنْتٌ عُمْرُها خَمْسُ سِنِينَ، وَزَوْجَتُهُ حَامِلٌ مِنْهُ، وَأَبْنَاءُ عَمٍّ، فَهَل يَجُوزُ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ قَبْلَ بُلُوغِ الْبِنْتِ وَوَضْحِ الْحَمْلِ؟

فَأَجَابَ: لَيْسَ لِسَائِرِ الْوَرَثَةِ قَبْلَ وَضْعِ الْحَمْلِ أَنْ يَقْتَصُّوا مِنْهُ إلَّا عِنْدَ مَالِكٍ فَإِنَّ عِنْدَهُ لِلْعَصَبَةِ أَنْ يَقْتَصُّوا مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ.

ص: 170

أَمَّا إنْ وَضَعَتْ بِنْتًا أَو بِنْتَيْنِ بِحَيْثُ يَكُونُ لِبَنِي الْعَمِّ نَصِيبٌ مِن الترِكَةِ: كَانَ لِلْعَصَبَةِ أَنْ يَقْتَصَّوا قَبْلَ بُلُوغِ الْبَنَاتِ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ، وَلَمْ يَجُزْ لَهُن الْقِصَاصُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. [34/ 141]

* * *

(الْفِعْل الَّذِي يَقْتُل غَالِبًا يَجِبُ بِهِ الْقَوَدُ)

4832 -

الْفِعْلُ الَّذِي يَقْتُلُ غَالِبًا يَجِبُ بِهِ الْقَوَدُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَصَاحِبَي أَبِي حَنِيفَةَ

(1)

: مِثْل مَا لَو ضَرَبَهُ فِي أُنْثَيَيْهِ حَتَّى مَاتَ فَيَجِبُ الْقَوَد، وَلَو خَنَقَهُ حَتَّى مَاتَ وَجَبَ الْقَوَدُ، فَكَيْفَ إذَا اجْتَمَعَا؟. [34/ 145]

وَلَو ادَّعَى أَنَّ هَذَا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا: لَمْ يُقْبَل مِنْهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ. [34/ 144]

* * *

‌(هل يُقتَل المسلم بالكافر

؟)

4833 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَن رَجُلٍ يَهُودِيٍّ قَتَلَهُ مُسْلِمٌ، فَهَل يُقْتَلُ بِهِ؟

فَأَجَابَ: لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَجُوزُ قَتْلُ الذِّمِّيِّ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ فَإِنَّهُ قَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"لَا يُقْتَلُ مُسْلِم بِكَافِر"

(2)

.

وَلَكِنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ.

وَعَلَى كُلِّ حَالٍ تَجِبُ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ أَيْضًا. [34/ 146]

* * *

(1)

وهو الذي يُفتي به الشيخ كما في نفس المصدر.

(2)

رواه البخاري (111).

ص: 171

‌(هل يُقتل شارب الخمر إذا قتل

؟)

4834 -

إنْ كَانَ الَّذِي شَرِبَ الْخَمْرَ يَعْلَمُ مَا يَقولُ: فَهَذَا إذَا قَتَلَ فَهُوَ قَاتِلٌ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ وَعُقُوبَةُ قَاتِلِ النَّفْسِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.

وَأَمَّا إنْ كَانَ قَد سَكِرَ بِحَيْثُ لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ أَو أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ وَقَتَلَ: فَهَل يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ وَيُسَلَّمُ إلَى أَوْليَاءِ الْمَقْتُولِ لِيَقْتُلُوهُ إنْ شَاؤُوا؟: هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَن أَحْمَد، لَكِنَّ أَكْثَرَ الْفُقَهَاءِ مِن أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَكَثِيرٍ مِن أَصْحَابِ أَحْمَد يُوجِبُونَ عَلَيْهِ الْقَوَدَ، كَمَا يُوجِبُونَهُ عَلَى الصَّاحِي.

فَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ بِالْقَتْلِ إلَّا وَاحِدٌ: لَمْ يُحْكَمْ بِهِ إلَّا أَنْ يَحْلِفَ مَعَ ذَلِكَ أَوْليَاءُ الْمَقْتُولِ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَهَذَا إذَا مَاتَ بِضَرْبِهِ، وَكَانَ ضَرْبُهُ عُدْوَانًا مَحْضًا.

فَأَمَّا إنْ مَاتَ مَعَ ضَرْبِ الْآخَرِ: فَفِي الْقَوَدِ نِزَاعٌ، وَكَذَلِكَ إنْ ضَرَبَهُ دَفْعًا لِعُدْوَانِهِ عَلَيْهِ أَو ضَرْبِهِ مِثْل مَا ضَرَبَهُ سَوَاءٌ مَاتَ بِسَبَب آخَرَ أَو غَيْرِهِ. [34/ 151 - 152]

* * *

(الْوَارِثُ كَالْأَب وَغَيْرِهِ إذَا قَتَلَ مُوّرِّثَهُ عَمْدًا لَا يَرِثُه)

4835 -

الْوَارِثُ كَالْأَبِ وَغَيْرِهِ إذَا قَتَلَ مُوّرِّثَهُ عَمْدًا فَإِنَّهُ لَا يَرِثُ شَيْئًا مِن مَالِهِ وَلَا دِيَيهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ؛ بَل مجُونُ دِيَتُهُ كَسَائِرِ مَالِهِ يُحْرَمُهَا الْقَاتِلُ أَبًا كَانَ أَو غَيْرَهُ، وَيرِثُهَا سَائِرُ الْوَرَثَةِ غَيْرِ الْقَاتِلِ. [34/ 153]

* * *

(حكمُ جِنَايَةِ المَّصَّبِيّ)

4836 -

سُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَن صَبِيٍّ دُونَ الْبُلُوغِ جَنَى جِنَايَةً يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهَا دِيَةٌ؟.

فَأَجَابَ: أَمَّا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ خَطَأً: فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِلَا ريبٍ كَالْبَالِغ وَأَوْلَى.

ص: 172

وَإِن فَعَلَ عَمْدًا: فَعَمْدُهُ خَطَأُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.

وَأَمَّا الْعَاقِلَةُ الَّتِي تَحْمِلُ: فَهُم عَصَبَتُهُ كَالْعَمِّ وَبَنِيهِ وَالْإِخْوَةِ وَبَنِيهِمْ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.

وَأَمَّا أَبُو الرَّجُلِ وَابْنُهُ: فَهُوَ مِن عَاقِلَتِهِ أَيْضًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَفي الزوَايَةِ الْأُخْرَى وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: أَبُوهُ وَابْنُهُ لَيْسَا مِن الْعَاقِلَةِ.

وَاَلَّذِي تَحَمَّلَهُ الْعَاقِلَةُ بِالِاتّفَاقِ: مَا كَانَ فَوْقَ ثُلُثِ الدِّيَةِ؛ مِثْل قَلْعِ الْعَيْنِ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ.

وَأَمَّا دُونَ الثُّلُثِ؛ كَدِيَةِ السِّنِّ وَهُوَ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَدِيَةِ الْأُصْبُعِ وَهِيَ عُشْرُ الدِّيَةِ: فَهَذَا لَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد.

وَإِذَا وَجَبَ عَلَى الصَّبِيِّ شَيْءٌ وَلَمْ يَكن لَهُ مَالٌ: حَمَلَهُ عَنْهُ أَبُوهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمَد، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأخْرَى وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّهُ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَيْسَ عَلَى أَبِيهِ شَيْءٌ. [34/ 158 - 159]

* * *

(كفارةُ إسقاط الحمل)

4837 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلٍ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَسْقِطِي مَا فِي بَطْنِك وَالْإِثْمُ عَلَيَّ .. ؟

فَأَجَابَ: إنْ فَعَلَتْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِمَا كَفَّارَةُ عِتْقِ رَقَبَةٍ مُؤمِنَةٍ

(1)

، فَإِنْ لَمْ يَجِدَا

(1)

هذا إذا كان الجنين قد نُفخ فيه الروح.

قَالَ أبُو عُمَرَ بن عبد البرّ رحمه الله: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْغُرَّةَ تَجِبُ فِي الْجَنينِ الَّذِي يَسْقُطُ مِن بَطْنِ أمُهِ مَيِّتًا وَهِيَ حَيَّةٌ فِي حِينِ سُقُوطِهِ وَأنَّ الذَّكَرَ وَالْأنْثَى فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْغُرَّةُ. اهـ. الاستذكار (8/ 74).

ص: 173

فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، وَعَلَيْهِمَا غُرَّةٌ: عَبْدٌ أَو أَمَةٌ

(1)

لِوَارِثهِ الَّذِي لَمْ يَقْتُلْهُ، لَا لِلْأَبِ؛ فَإِنَّ الْأَبَ هُوَ الْآمِرُ بِقَتْلِهِ فَلَا يَسْتَحِق شَيْئًا

(2)

. [34/ 159]

4838 -

إسْقَاطُ الْحَمْلِ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مِن الْوَأْدِ الَّذِي قَالَ اللهُ فِيهِ:{وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)} [التكوير: 8، 9].

وَلَو قُدِّرَ أنَ الشَّخْصَ أَسْقَطَ الْحَمْلَ خَطَأً مِثْل أَنْ يَضْرِبَ الْمَرْأةَ خَطَأً فَتَسْقُطُ: فَعَلَيْهِ:

أ- غُرَّةٌ: عَبْدٌ أَو أَمَةٌ؛ بِنَصِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَتَكونُ قِيمَةُ الْغُرَّةِ بِقَدْرِ عُشْرِ دِيَةِ الْأُمِّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاء.

ب- كَذَلِكَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. [34/ 160]

* * *

(الْقِصَاصُ فِي اللَّطْمَةِ وَالضَّرْبَةِ والسَّبِّ)

4839 -

أَمَّا الْقِصَاصُ فِي اللَّطْمَةِ وَالضَّرْبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَمَذْهَبُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ أنَّ الْقِصَاصَ ثَابِتٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.

وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِن الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّهُ لَا يَشْرَعُ فِي ذَلِكَ قِصَاصٌ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِيهِ مُتَعَذِّرَةٌ فِي الْغَالِبِ.

وَالْأوَّلُ أَصَحُّ.

وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي هَذ الْجِنَايَةِ مُتَعَذِّرَةٌ.

فَيُقَالُ: لَا بُدَّ لِهَذِهِ الْجِنَايَةِ مِن عُقُوبَةٍ: إمَّا قِصَاصٌ وَإِمَّا تَعْزِيرٌ، فَإذَا جُوِّزَ أَنْ يعَزَّزَ تَعْزِيرًا غَيْرَ مَضْبُوطِ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ، فَلَأَنْ يُعَاقَبَ إلَى مَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى الضَّبْطِ مِن ذَلِكَ أَوْلَى وَأَحْرَى.

(1)

الْغُرَّةُ: العبْد نَفْسُه أَوِ الْأمَةُ، كما فى النهاية في غريب الحديث، مادة:(غرر).

وتكونُ قِيمةُ الْغُرَّةِ بقَدْرِ عُشرِ دِيةِ الأُمِّ.

(2)

ولا للأم كذلك؛ لأنها وافقته على ذلك.

ص: 174

وَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يَسُبَّهُ كَمَا يَسُبُّهُ؛ مِثْل أَنْ يَلْعَنَهُ كَمَا يَلْعَنُهُ.

فَأمَّا إذَا كَانَ مُحَرَّمَ الْجِنْسِ مِثْل تَكْفِيرِهِ أَو الْكَذِبِ عَلَيْهِ لَمْ يَكُن لَهُ أَنْ يُكَفِّرَهُ وَلَا يَكْذِبَ عَلَيْهِ، وَإِذَا لَعَنَ أَبَاهُ لَمْ يَكُن لَهُ أَنْ يَلْعَنَ أَبَاهُ؛ لِأَنَّ أَبَاهُ لَمْ يَظْلِمْهُ. [34/ 162 - 163]

* * *

‌(هل على السيد شيء إذا جنى عبده وهرب

؟)

4840 -

إنْ جَنَى الْعَبْدُ وَهَرَبَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ سَيّدُهُ تَسْلِيمَهُ: فَلَيْسَ عَلَى السَّيِّدِ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ. [34/ 165]

* * *

(حكم قتلِ الرجل امرأته الزانية والذي زنى بها)

4841 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَن رَجُل وَجَدَ عِنْدَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَجْنَبِيًّا فَقَتَلَهَا؟.

فَأَجَابَ: إنْ كَانَ قَد وَجَدَهُمَا يَفْعَلَانِ الْفَاحِشَةَ وَقَتَلَهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَب أَحْمَد، وَإِن كَانَ يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ عَن وَطْئِهَا بالْكَلَام، كَمَا ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْن"

(1)

عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّه قَالَ: "لَو أَنَّ رَجُلًا اطَّلعَ فِي بَيْتِك فَفَقَأْت عَيْنَهُ مَا كَانَ عَليْك شَيْءٌ" .. وَقَد كَانَ يُمْكِن دَفْعُهُ بِالْكَلَامِ.

وَأَمَّا إنْ كَانَ الرَّجُلُ لَمْ يَفْعَلْ بَعْدُ فَاحِشَةً، وَلَكِنْ وَصَلَ لِأَجْلِ ذَلِكَ: فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ، وَالْأَحْوَطُ لِهَذَا أَنْ يَتُوبَ مِن الْقَتْلِ مِن مِثْل هَذِهِ الصُّورَةِ.

وَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ نِزَاعٌ، فَإِذَا كَفَرَ فَقَد فَعَلَ الْأَحْوَطَ؛ فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ، وَأَمَّا قَتْلُ الْعَمْدِ فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَالِكٍ وَأَبِي

(1)

البخاري (6888)، ومسلم (2158).

ص: 175

حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى.

وَإِذَا مَاتَ مَن عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَلَمْ يُكَفِّرْ فَلْيُطْعِمْ عَنْهُ وَلَيُّهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، فَإِنَّه بَدَلُ الصِّيَامِ الَّذِي عَجَزَتْ عَنْهُ قوَّتُهُ، فَإِذَا أَطْعَمَ عَنْهُ فِي صِيَامِ رَمَضَانَ فَهَذَا أَوْلَى. [34/ 168 - 170]

* * *

ص: 176

‌كتاب الديات

4842 -

المعروف أن الحر يضمن بالإتلاف، لا باليد، إلا الصغير ففيه روايتان كالروايتين في سرقته.

فإذا كان الحر قد تعلق برقبته حق لغيره مثل أن يكون عليه حق قود أو في ذمته مال أو منفعة أو عنده أمانات أو غصوب تلفت بتلفه؛ مثل أن يكون حافظًا عليها وإذا تلف زال الحفظ: فينبغي أنه إن أتلف فما ذهب بإتلافه من عين أو منفعة مضمونة ضمنت كالقود، فإنه مضمون.

وأما إذا تلف تحت اليد العادية فالمتوجه أن يضمن ما تلف بذلك من مال أو بدل قود، بحيث يقال: إذا كان عليه قود فحال بين أهل الحق وبين القود حتى مات ضمن لهم الدية. [المستدرك 5/ 100]

* * *

(باب العاقلة وما تحمله)

4843 -

النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَهُم: الَّذِينَ يَنْصُرُونَ الرَّجُلَ ويُعِينُونَهُ، وَكَانَتِ الْعَاقِلَةُ عَلَى عَهْدِهِ هُم عَصَبَتُهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ جَعَلَهَا عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ؛ وَلهَذَا اخْتَلَفَ فِيهَا الْفُقَهَاءُ فَيُقَالُ: أَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَاقِلَةَ هُم مَحْدُودُونَ بِالشَّرْعِ، أَو هُم مَن يَنْصُرُهُ وَيُعِينهُ مِن غَيْرِ تَعْيِينٍ.

فَمَن قَالَ بِالْأوَّلِ لَمْ يَعْدِلْ عَنِ الْأَقَارِبِ؛ فَإِنَّهُم الْعَاقِلَةُ عَلَى عَهْدِهِ.

وَمَن قَالَ بِالثَّانِي جَعَلَ الْعَاقِلَةَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ مَن يَنْصُرُ الرَّجُلَ وَيُعِينُهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ.

ص: 177

فَلَمَّا كَانَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا يَنْصُرُهُ وَيُعِينُهُ أَقَارِبُهُ كَانُوا هُمُ الْعَاقِلَةَ؛ إذ لَمْ يَكُن عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دِيوَانٌ وَلَا عَطَاءٌ، فَلَمَّا وَضَعَ عُمَرُ الدِّيوَانَ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ جُنْدَ كُلِّ مَدِينَةٍ يَنْصُرُ بَعْضهُ بَعْضًا، ويُعِينُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَإِن لَمْ يَكُونُوا أَقَارِبَ فَكَانُوا هُمُ الْعَاقِلَةَ.

وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ، وَأَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأحْوَالِ. [19/ 255 - 256]

4844 -

الْعَاقِلَةُ

(1)

إنَّمَا تَحْمِلُ الْخَطَأَ لَا تَحْمِلُ الْعَمْدَ بِلَا نِزَاع، وَفِي شِبْهِ الْعَمْدِ نِزَاعٌ، وَالْأظْهَرُ أَنَّهَا لَا تَحْمِلُهُ، وَالْخَطَأْ مِمَّا يُعْذَرُ فِيهِ الْإِنْسَانُ، فَإِيجَابُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ بِهِ مِن غَيْرِ ذَنْبٍ تَعَمَّدَهُ، وَلَا بُدَّ مِن إيجَابِ بَدَلِ الْمَقتُولِ.

فَالشَّارعُ أَوْجَبَ عَلَى مَن عَلَيْهِم مُوَالَاةُ الْقَاتِلِ وَنَصْرُهُ أَنْ يُعِينُوهُ عَلَى ذَلِكَ، فَكَانَ هَذَا كَإِيجَابِ النَّفَقَاتِ الَّتِي تَجِبُ لِلْقَرِيبِ، أَو تَجِبُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَإِيجَابِ فِكَاكِ الْأَسِيرِ مِن بَلَدِ الْعَدُوِّ؛ فَإِنَّ هَذَا أَسِيرٌ بِالدِّيَةِ الَّتِي تَجِبُ عَلَيْهِ، وَهِيَ لَمْ تَجِبْ بِاخْتِيَارِ مُسْتَحِقِّهَا وَلَا بِاخْتِيَارِهِ كَالدُّيُونِ الَّتِي تَجِبُ بِالْقَرْضِ وَالْبَيْعِ، وَلَيْسَتْ أَيْضًا قَلِيلَةً فِي الْغَالِبِ كَإِبْدَالِ الْمُتْلَفَاتِ، فَإِنَّ إتْلَافَ مَالٍ كَثِيرٍ بِقَدْرِ الدِّيَةِ خَطَأً نَادِرٌ جِدًّا، بِخِلَافِ قَتْلِ النَّفْسِ خَطَأً فَمَا سَبَبُهُ الْعَمْدُ فِي نَفْسٍ أَو مَالٍ فَالْمُتْلِفُ ظَالِمٌ مُسْتَحِقٌّ فِيهِ لِلْعُقُوبَةِ، وَمَا سَبَبُهُ الْخَطَأُ فِي الْأَمْوَالِ فَقَلِيلٌ فِي الْعَادَةِ بِخِلَافِ الدِّيَةِ. [20/ 553]

4845 -

يتوجه أن يعقل ذوو الأرحام عند عدم العصبة إذا قدنا: تجب النفقة عليهم. [المستدرك 5/ 101]

4846 -

المرتد يجب أن يَعقل عنه من يرثه من المسلمين، أو أهل الدين الذي انتقل إليه. [المستدرك 5/ 101]

(1)

عاقلة الإنسان: عصبته، وهم الأقرباء من جهة الأب كالأعمام وبنيهم، والإخوة وبنيهم.

ص: 178

4847 -

تؤخذ الدية من الجاني خطأ عند تعذر العاقلة في أصح قولي العلماء. [المستدرك 5/ 101]

* * *

(باب القسامة)

(1)

4848 -

نقل الميموني عن الإمام أحمد أنه قال: أذهب إلى القسامة إذا كان ثَمَّ لَطْخ، وإذا كان سببٌ بيِّن، وإذا كان ثَمَّ عداوة، وإذا كان مثل المُدَّعى عليه يفعل هذا.

فذكر الإمام أحمد أربعة أمور:

أ- اللطخ، وهو التكلم في عرضه كالشهادة المردودة.

ب- والسبب البيِّن؛ كالتفرق عن قتيل.

ج- والعداوة.

د- وكون

(2)

المطلوب من المعروفين بالقتل.

وهذا هو الصواب، واختاره ابن الجوزي.

فإذا كان ثَمَّ لوْث يغلب على الظن أنه قَتَل من اتّهم بقتله: جاز لأولياء المقتول أن يحلفوا خمسين يمينًا ويستحقوا دمه. [المستدرك 5/ 102]

(1)

صفة القسامة: أن يدير قومٌ أن مورِّثَهم قتله فلانٌ، ويحلفون على أنه هو القاتل، ويكررون الأيمان، فإذا فعلوا ذلك وتمت شروط القسامة أعطي المدَّعَى عليه لهؤلاء يقتلونه، فليس فيها بيِّنة، وإنما فيها هذه الأيمان فقط.

ويظهر تعريفها بالمثال:

أدَّعى ورثة زيد على شخص بأنه هو الذي قتل مورثهم، فقال الشخص: لم أقتله، وقالوا: بل أنت القاتل، ثم تحاكموا إلى القاضي، فقال لهم: أتحلفون على هذا أنّه قتل مُورِّثكم؟ قالوا: نعم نحلف، فإذا حلفوا خمسين يمينًا على هذا الرجل أنه قاتل مورثهم، أُخذ وقتل. يُنظر: الشرح الممتع (14/ 193).

(2)

في الأصل: (كون) بلا واو، والمثبت من الاختيارات (425).

ص: 179

4849 -

وعنه: أنه

(1)

ما يدل على أنه ما يغلب على الظن صحة الدعوى به؛ كتفرق جماعة عن قتيل، ووجود قتيل عند من معه سيف ملطخ بدم، وشهادة جماعة ممن لا يثبت القتل بشهادتهم كالنساء والصبيان، وعدل واحد، وفَسَقةٍ ونحو ذلك، واختار هذه الرواية أبو محمد الجوزي وابن رزين والشيخ تقي الدين وغيرهم

(2)

. [المستدرك 5/ 102]

4850 -

قال في الترغيب في القسامة: من قضي عليه بنكوله بالدية ففي ماله كإقرار.

واختار الشيخ تقي الدين: أن المدعي يحلف ابتداء مع اللوث. [المستدرك 5/ 103]

* * *

‌(متى تشْرَعُ الْقَسَامَة

؟)

4851 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن طَائِفَةٍ .. يَكْثُرُ الْقَتْلُ بَيْنَهُم وَلَا يُبَالُونَ بِهِ .. فَإِذَا رَأَى وَليُّ الْأَمْرِ وَضْعَ دِيَةِ الْمَقْتُولِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ قَاتِلُهُ مِن الطَّوَائِفِ الَّذِين أَثْبَتَ أَسْمَاءَهُم فِي الدِّيوَانِ عَلَى جَمِيعِ الطَّوَائِفِ مِنْهُمْ، لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ أَو رَأَى وَضْع ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ مَحَلَّةِ الْقَاتِلِ؟.

فَأَجَابَ -أَيَّدَهُ اللهُ-: أَمَّا إذَا عُرِفَ الْقَاتِلُ فَلَا تُوضَعُ الدّيَةُ عَلَى أهْلِ مَكَانِ الْمَقْتُولِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ.

وَأَمَّا إذَا لَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ لَا بِبَينّةَ وَلَا إقْرَارٍ: فَفِي مِثْل هَذَا تَشْرَعُ القَسَامَةُ.

فَإِذَا كَانَ هُنَاكَ لَوْثٌ

(3)

: حَلَفَ الْمُدَّعُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ:

(1)

أي: اللَّوْثُ، وهو الْعداوةُ الظَّاهرةُ.

(2)

إنصاف (10/ 140) هذا جامع. (الجامع).

(3)

قال نهاية غريب الحديث، مادة:(لَوثَ): اللَّوْث هُوَ أنْ يَشْهَد شاهِدٌ وَاحِدٌ عَلَى إقْرار المَقْتول قَبْلَ أنْ يَمُوتَ أنَّ فُلانًا قَتَلَني، أَو يَشْهد شاهِدانِ عَلَى عَداوةٍ بَيْنَهُمَا، أَو تَهْديدٍ مِنْهُ لَهُ، أَو نَحْوِ ذَلِكَ. =

ص: 180

مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد كَمَا ثَبَتَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قِصَّةِ الْقَتِيلِ الَّذِي وُجِدَ بِخَيْبَر، فَإِنْ لَمْ يَحْلِفُوا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.

وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِم أَوَّلًا؛ فَإِنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ الْيَمِينَ لَا تَكُونُ إلَّا فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ: هِيَ فِي جَنْبِ أَقْوَى الْمُتَدَاعِيَيْنِ.

فَأَمَّا إذَا عُرِفَ الْقَاتِلُ:

- فَإِنْ كَانَ قَتَلَهُ لِأَخْذِ مَالٍ: فَهُوَ مُحَارَبٌ، يَقْتُلُهُ الْإِمَامُ حَدًّا، وَلَيْسَ لِأَحَد أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، لَا أَوْليَاءُ الْمَقْتُولِ وَلَا غَيْرُهُمْ.

- وَإِن قَتَلَ لِأَمْر خَاصٍّ: فَهَذَا أَمْرُهُ إلَى أَوْليَاءِ الْمَقْتُولِ، فَإِنْ شَاؤُوا عَفَوْا عَنْهُ.

وَللْإِمَامِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنْ يَجْلِدَهُ مِائَةً وَيحْبِسَهُ سَنَةً. [34/ 146 - 148]

4852 -

إذَا شَهِدَ لِأَوْليَاءِ الْمَقْتُولِ شَاهِدَانِ وَلَمْ يَثْبُتْ عَدَالَتُهُمَا: فَهَذَا لَوْثٌ، إذَا حَلَفَ مَعَهُ الْمُدَّعُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا -أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ- عَلَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ حُكِمَ لَهُم بِالدَّمِ.

وَإِن أَقْسَمُوا عَلَى أَكْثَر مِن وَاحِدٍ: فَفِي الْقَوَدِ نِزَاعٌ.

وَأَمَّا إن ادَّعَوْا أَن الْقَتْلَ كَانَ خَطَأً أَو شِبْهَ عَمْدٍ مِثْل أَنْ يَضْرِبُوهُ بِعَصَا ضَرْبًا لَا يَقْتُلُ مِثْلَهُ غَالِبًا: فَهُنَا إذَا ادَّعَوْا عَلَى الْجَمَاعَةِ أَنَّهُم اشْتَرَكُوا فِي ذَلِكَ فَدَعْوَاهُم مَقْبُولَةٌ وَيسْتَحِقُّونَ الدِّيَةَ. [34/ 151]

= وَهُوَ مِنَ التَلَوُّث: التَّلُّطخ. "يقَالُ: لَاثَهُ في التراب، ولَوَّثَهُ. اهـ.

ويشهد لقوله ما سيأتي من قول الشيخ: إذَا شَهِدَ لِأوْليَاءِ الْمَقْتُولِ شَاهِدَانِ وَلَمْ يَثْبُتْ عَدَالَتُهُمَا: فَهَذَا لَوْثٌ.

وعرَّفه الشيخ بقوله: هُوَ مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَن أَنَّهُ قَتَلَهُ. اهـ. (34/ 154)

وذكر العلَّامة ابن عثيمين أن اللوث هو العداوة الظاهرة بين القاتل والمقتول، سواء كانت بين القبائل، أو بين الأفراد، ولكن لا بد أن تكون العداوة ظاهرة. يُنظر: الشرح الممتع (14/ 197).

ص: 181

4853 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَمَّا إذَا قَالَ الْمَضْرُوبُ: مَا قَاتِلِي إلَّا فُلَانٌ، فَهَل يُقْبَلُ قَوْلُهُ؟

فَأَجَابَ: لَا يُؤخَذُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ بِلَا نِزَاعٍ، وَلَكِنْ هَل يَكُونُ قَوْلُهُ لَوثًا يَحْلِفُ مَعَهُ أوْليَاءُ الْمَقْتُولِ خَمْسِينَ يَمِينًا وَيسْتَحِقُّونَ دَمَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ؟

عَلَى قَوْلَيْنِ مَذْكُورينِ لِلْعُلَمَاءِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِلَوْثٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ.

والثانى: أَنَّهُ لَوْث وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ

(1)

. [34/ 151]

4854 -

إنْ كَانَ هُنَاكَ لَوْث -وَهُوَ مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ قَتَلَة-: جَازَ لِأَوْليَاءِ الْمَقْتُولِ أَنْ يَحْلِفُوا خَمْسِينَ يَمِينًا وَيَسْتَحِقُّونَ دَمَهُ [أي: دم المتهم].

وَأَمَّا ضَرْبُهُ لِيُقِرَّ: فَلَا يَجُوزُ إلَّا مَعَ الْقَرَائِنِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَتَلَهُ، فَإِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ جَوَّزَ تَقْرِيرَهُ بِالضَّرْبِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَبَعْضهُم مَنَعَ مِن ذَلِكَ مُطْلَقًا. [34/ 154]

(1)

هذا الخلاف يجري إذَا كانَ بِالمقتول أثَرُ الْقَتْلِ -كَجُرْحٍ أَو أثَرِ ضَرْبٍ أو كدمات-، وكانت بينهما عداوة سابقة.

وَلَو كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ عند جمهور العلماء، وفي أصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَن مَالِكٍ. يُنظر:(34/ 154).

أما من ادُّعي عليه القتلُ من غير لوث: فإنه يحلف يمينًا واحدة ويبرأ، وتكون دعواه كسائر الدعاوي، مثاله: رجل ادعى أن فلانًا قتل مورِّثه، وليس هناك لوث، فقال المدعى عليه: ما قتلت، فنقول للمدعي: هل لك بينة؟ فإن قال: نعم، قلنا: أحضرها، وعملنا بما تقتضيه البينة، وإن قال: لا، قلنا للمدعى عليه: احلف مرة واحدة، والله ما قتلت هذا الرجل، ثم يبرأ. يُنظر: الشرح الممتع (14/ 199).

ومن الواضح أن شيخ الإسلام رحمه الله يرى أن اللَّوْث كل ما يَغْلُب على الظن القتل بسببه؛ لأن علة القسامة معلومة، وهي غلبة الظن بوقوع القتل، وما دام أنه قد ثبتت غلبة الظن بالقتل فإنه يؤخذ بها.

وهذا اختيار العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله. الشرح الممتع (14/ 198).

ص: 182

4855 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: مَن اُتُّهِمُوا بِقَتِيل فَضَرَبُوهُم وَاعْتَرَفَ وَاحِدٌ مِنْهُم بِالْعُقُوبَةِ، فَهَل يَسْرِي عَلَى الْبَاقِي؟

فَأجَابَ: إنْ أَقَرَّ وَاحِدٌ عَدْلٌ أَنَّهُ قَتَلَهُ كَانَ لَوْثًا، فَلِأَوْليَاءِ الْمَقْتُولِ أَنْ يَحْلِفُوا خَمْسِينَ يَمِينًا وَيسْتَحِقُّوا بِهِ الدَّمَ.

وَأَمَّا إذَا أَقَرَّ مُكْرَهًا وَلَمْ يَتَبَيَّنْ صِدْقُ إقْرَارِهِ: فَهُنَا لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ وَلَا يُؤخَذُ هُوَ بِهِ وَلَا غَيْرُهُ. [34/ 156]

* * *

ص: 183

‌كتاب الحدود

4856 -

خَاطَبَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ خِطَابًا مُطْلَقًا كَقَوْلِهِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38]، وَقَوْلِهِ:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2] .. لَكِنْ قَد عُلِمَ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِالْفِعْلِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَيْهِ، وَالْعَاجِزُونَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، وَقَد عُلِمَ أَنَّ هَذَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ.

والْقُدْرَةُ: هِيَ السُّلْطَانُ؛ فَلِهَذَا وَجَبَ إقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى ذِي السُّلْطَانِ وَنُوَّابِهِ.

وَالسُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ إمَامٌ وَاحِدٌ، وَالْبَاقُونَ نُوَّابُهُ، فَإِذَا فُرِضَ أَنَّ الْأُمَّةَ خَرَجَتْ عَن ذَلِكَ لِمَعْصِيَةٍ مِن بَعْضِهَا وَعَجْزٍ مِن الْبَاقِينَ، أَو غَيْرِ ذَلِكَ فَكَانَ لَهَا عِدَّةُ أَئِمَّةٍ: لَكَانَ يَجِبُ عَلَى كُلِّ إمَامٍ أَنْ يُقِيمَ الْحُدُودَ وَيسْتَوْفِيَ الْحُقُوقَ.

وَكَذَلِكَ لَو فُرِضَ عَجْزُ بَعْضِ الْأُمَرَاءِ عَن إقَامَةِ الْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ أَو إضَاعَتِهِ لِذَلِكَ: لَكَانَ ذَلِكَ الْفَرْضُ عَلَى الْقَادِرِ عَلَيْهِ.

وَقَوْلُ مَن قَالَ: "لَا يُقِيمُ الْحُدُودَ إلَّا السُّلْطَانُ وَنُوَّابُهُ": إذَا كَانُوا قَادِرِينَ فَاعِلِينَ بِالْعَدْلِ، كَمَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ: الْأَمْرُ إلَى الْحَاكِمِ إنَّمَا هُوَ الْعَادِلُ الْقَادِرُ، فَإِذَا كَانَ مُضَيِّعًا لِأَمْوَالِ الْيَتَامَى أَو عَاجِزًا عَنْهَا: لَمْ يَجِبْ -تَسْلِيمُهَا إلَيْهِ مَعَ إمْكَانِ حِفْظِهَا بِدُونهِ، وَكَذَلِكَ الْأَمِيرُ إذَا كَانَ مُضَيِّعًا لِلْحُدُودِ أَو عَاجِزًا عَنْهَا لَمْ يَجِبْ تَفْوِيضُهَا إلَيْهِ مَعَ إمْكَانِ إقَامَتِهَا بِدُونهِ.

وَالْأَصْلُ أَنَّ هَذ الْوَاجِبَاتِ تُقَامُ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، فَمَتَى أَمْكَنَ إقَامَتهَا

ص: 184

مِن أَمِيرٍ لَمْ يُحْتَجْ إلَى اثْنَيْنِ، وَمَتَى لَمْ تُقَمْ

(1)

إلَّا بِعَدَد وَمِن غَيْرِ سُلْطَانٍ أقِيمَتْ، إذَا لَمْ يَكُن فِي إقَامَتِهَا فَسَادٌ يَزِيدُ عَلَى إضَاعَتِهَا؛ فَإِنَّهَا مِن بَاب الْأمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَن الْمُنْكَرِ، فَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مِن فَسَادِ وُلَاةِ الْأَمْرِ أَو الرَّعِيَّةِ مَا يَزِيدُ عَلَى إضَاعَتِهَا لَمْ يُدْفَعْ فَسَاد بِأَفْسَدَ مِنْهُ

(2)

. [34/ 175 - 176]

4857 -

وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]؛ فَإِنَ الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ يَكونُ فِي الْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ، وَهُمَا قِسْمَانِ:

فَالْقِسْمُ الْأوَلُ: الْحُدُودُ وَالْحُقُوقُ الَّتِي لَيْسَتْ لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ؛ بَل مَنْفَعَتُهَا لِمُطْلَقِ الْمُسْلِمِينَ أَو نَوْعٍ مِنْهُمْ، وَكُلُّهُم مُحْتَاج إلَيْهَا، وَتُسَمَّى حُدُودَ اللهِ وَحُقُوقَ اللهِ، مِثْل حَدِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَالسُّرَّاقِ وَالزُّنَاةِ وَنَحْوِهِمْ، وَمِثْل الْحُكْم فِي الْأَمْوَالِ السُّلْطَانِيَّةِ وَالْوُقُوفِ وَالْوَصَايَا الَّتِي لَيْسَتْ لِمُعَيَّنٍ، فَهَذِهِ مِن أَهَمِّ امُورِ الْوِلَايَاتِ.

وَهَذَا الْقِسْمُ يَجِبُ عَلَى الْوُلَاةِ الْبَحْثُ عَنْهُ وَإِقَامَتُهُ مِن غَيْرِ دَعْوَى أَحَدٍ بِهِ، وَكَذَلِكَ تُقَامُ الشَّهَادَةُ فِيهِ مِن غَيْرِ دَعْوَى أَحَدٍ بِهِ.

وَهَذَا الْقِسْمُ يَجِبُ إقَامَتُهُ عَلَى الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ وَالضَّعِيفِ، وَلَا يَحِلُّ تَعْطِيلُهُ لَا بِشَفَاعَة وَلَا بِهَدِيَّة وَلَا بِغَيْرِهِمَا، وَلَا تَحِلُّ الشَّفَاعَةُ فِيهِ، وَمَن عَطَّلَهُ لِذَلِكَ -وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إقَامَتِهِ- فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا، وَهُوَ مِمَّن اشْتَرَى بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا.

رَوَى مَالِكٌ فِي "الْمُوَطَّأ": أَنَّ جَمَاعَةً أَمْسَكوا لِصًّا لِيَرْفَعُوة إلَى عُثْمَانَ رضي الله عنه فَتَلَقَّاهُم الزُّبَيْرُ فَشَفَعَ فِيهِ فَقَالُوا: إذَا رُفِعَ إلَى عُثْمَانَ فَاشْفَعْ فِيهِ عِنْدَهُ فَقَالَ: "إذَا بَلَغَت الْحُدُودُ السُّلْطَانَ فَلَعَنَ اللهُ الشَّافِعَ وَالْمُشَفَّعَ".

(1)

أي: الواجبات.

تنبيه: في الأصل: (يَقُمْ)، ولعل المثبت هو الصواب.

(2)

كلامٌ يُكتب بماء الذهب، فليس من الحكمة إقامة الحدود، وتطبيق كامل الشريعة إذا ترتب على ذلك فساد كبير.

ص: 185

يَعْنِي: الَّذِي يَقْبَلُ الشَّفَاعَةَ.

وَلهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ -فِيمَا أَعْلَمُ- عَلَى أَنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ وَاللِّصَّ وَنَحْوَهُمَا إذَا رُفِعُوا إلَى وَليِّ الْأمْرِ ثُمَّ تَابُوا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَسْقُط الْحَدُّ عَنْهُمْ؛ بَل تَجِبُ إقَامَتُهُ وَإِن تَابُوا، فَإِنْ كَانُوا صَادِقِينَ فِي التَّوْبَةِ كَانَ الْحَدُّ كَفَّارَةً لَهُمْ، وكَانَ تَمْكِينُهُم مِن ذَلِكَ مِن تَمَامِ التَّوْبَةِ، بِمَنْزِلَةِ رَدِّ الْحُقُوقِ إلَى أَهْلِهَا، وَالتَّمْكِينُ مِن اسْتِيفَاء الْقَصَّاصِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ.

هَذَا إذَا كَانَ قَد ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ بِإِقْرَارٍ وَجَاءَ مُقِرًّا بِالذَّنْبِ تَائِبًا: فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

وَظَاهِرُ مَذْهَب أَحْمَد: أَنَّهُ لَا تَجِبُ إقَامَةُ الْحَدِّ فِي مِثْل هَذِهِ الصُّورَةِ؛ بَل إنْ طَلَبَ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ أُقِيمَ، وَإِن ذَهَبَ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ حَدٌّ.

وَعَلَى هَذَا حُمِلَ حَدِيثُ مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ لَمَّا قَالَ: فَهَلَّا تَرَكْتُمُوهُ، وَحَدِيثُ الَّذِي قَالَ:"أَصَبْت حَدًّا فَأقِمْهُ" مَعَ آثَارٍ أُخَرَ.

وَهَذَا الْقِسْمُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِن الْحُكْمِ فِي حُدُودِ اللهِ وَحُقُوقِهِ، مَقْصُودُهُ الْأَكْبَرُ: هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَن الْمُنْكَرِ.

فَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ: مِثْل الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ مَعَ الْأَهْلِ وَالْجِيرَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَالْوَاجِبُ عَلَى وَليِّ الْأَمْرِ أَنْ يَأْمُرَ بِالصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ جَمِيعَ مَن يَقْدِرُ عَلَى أَمْرِهِ، وَيُعَاقِبَ التَّارِكَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. [28/ 297 - 307]

4858 -

أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ تَعْطِيلَ الْحَدِّ بِمَال يُؤخَذُ أَو غَيْرِهِ: لَا يَجُوزُ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَالَ الْمَأْخُوذَ مِن الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَالشَّارِبِ وَالْمُحَارِبِ وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِتَعْطِيلِ الْحَدِّ مَالٌ سُحْتٌ خَبِيثٌ. [28/ 303]

4859 -

أَمَّا السَّارِقُ فَيَجِبُ قَطْعُ يَدِهِ الْيُمْنَى بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ .. وَلَا يَجُوزُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَدِّ بِالْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ أَو بِالْإِقْرَارِ تَأْخِيرُهُ، لَا بِحَبْس وَلَا مَالٍ

ص: 186

يَفْتَدِي بِهِ وَلَا غَيْرِهِ؛ بَل تُقْطَعُ يَدُهُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمُعَظَّمَةِ وَغَيْرِهَا؛ فَإِنَّ إقَامَةَ الْحَدّ مِن الْعِبَادَاتِ؛ كَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ. [28/ 329]

4860 -

يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ إقَامَةَ الْحُدُودِ رَحْمَة مِن اللهِ بِعِبَادِهِ، فَيَكُونُ الْوَالِي شَدِيدًا فِي إقَامَةِ الْحَدِّ، لَا تَأْخُذُهُ رَأفَةٌ فِي دِينِ اللهِ فَيُعَطِّلُهُ، وَيَكونُ قَصْدُهُ رَحْمَةَ الْخَلْقِ بِكَفِّ النَّاسِ عَن الْمُنْكَرَاتِ، لا شْفَاء غَيْظِهِ، وَإِرَادَة الْعُلُوِّ عَلَى الْخَلْقِ؛ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ إذَا أَدَّبَ وَلَدَهُ؛ فَإِنَّهُ لَو كَفَّ عَن تَأْدِيبِ وَلَدِهِ -كَمَا تُشِيرُ بِهِ الْأُمُّ رِقَّةً وَرَأفَةً- لَفَسَدَ الْوَلَدُ، وَإِنَّمَا يُؤَدِّبُهُ رَحْمَةً بِهِ وَإِصْلَاحًا لِحَالِهِ؛ مَعَ أَنَّهُ يَوَدُّ ويُؤْثِرُ أَنْ لَا يَحُوجَهُ إلَى تَأْدِيبٍ.

فَهَكَذَا شُرِّعَت الْحُدُودُ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ نِيَّةُ الْوَالِي فِي إقَامَتِهَا، فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ قَصْدُهُ صَلَاحَ الرَّعِيَّةِ وَالنَّهْيَ عَن الْمُنْكَرَاتِ بِجَلْبِ الْمَنْفعَةِ لَهُم وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْهُم وَابْتَغَى بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ تَعَالَى وَطَاعَةَ أَمْرِهِ: أَلَانَ اللهُ لَهُ الْقُلُوبَ، وَتَيَسَّرَتْ لَهُ أَسْبَابُ الْخَيْرِ، وَكَفَاهُ الْعُقُوبَةَ الْبَشَرِيَّةَ، وَقَد يَرْضَى الْمَحْدُودُ إذَا أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَأَمَّا إذَا كَانَ غَرَضُهُ الْعُلُوَّ عَلَيْهِم وَإِقَامَةَ رَياسَتِهِ لِيُعَظِّمُوهُ أَو ليَبْذُلُوا لَهُ مَا يُرِيدُ مِن الْأمْوَالِ انْعَكَسَ عَلَيْهِ مَقْصُودُهُ. [28/ 329]

4861 -

قَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ عَلَى الْمُنْتَهِبِ وَلَا عَلَى الْمُخْتَلِسِ وَلَا الْخَائِنِ قَطْعٌ"

(1)

؛ فَالْمُنْتَهِبُ الَّذِي يَنْهَبُ الشَّيْءَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ، وَالْمُخْتَلِسُ الَّذِي يَجْتَذِبُ الشَّيْءَ فَيُعْلَمُ بِهِ قَبْلَ أَخْذِهِ.

وَأَمَّا الطَّرَّارُ وَهُوَ الْبَطَّاطُ الَّذِي يَبطُّ الْجُيُوبَ وَالْمَنَادِيلَ وَالْأَكْمَامَ وَنَحْوَهَا فَإِنَّهُ يُقْطَعُ عَلَى الصَّحِيحِ. [28/ 333]

4862 -

الْمُحْصَنُ مَن وَطِئَ -وَهُوَ حُرُّ مُكَلَّفٌ- لِمَن تَزَوَّجَهَا نِكَاحًا صَحِيحًا فِي قُبُلِهَا وَلَو مَرَّةً وَاحِدَةً.

(1)

رواه الدارمي (2356).

ص: 187

وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَرْأَةِ إذَا وُجِدَتْ حُبْلَى وَلَمْ يَكُن لَهَا زَوْجٌ وَلَا سَيِّدٌ وَلَمْ تَدَّع شُبْهَةً فِي الْحَبَلِ: فَفِيهَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ، قِيلَ: لَا حَدَّ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَبِلَتْ مُكْرَهَةً أَو بِتَحَمُّل أَو بِوَطْءِ شُبْهَةٍ، وَقِيلَ: بَل تُحَدُّ، وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِأْصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؛ فَإِنَّ الِاحْتِمَالَاتِ النَّادِرة لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا، كَاحْتِمَالِ كَذِبِهَا وَكَذِبِ الشُّهُودِ.

وَأَمَّا اللِّوَاطُ فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَن يَقُولُ: حَدُّهُ كَحَدِّ الزّنَا، وَقَد قِيلَ: دُونَ ذَلِكَ، وَالصَّحِيح الَّذِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ: أَنْ يُقْتَلَ الِاثْنَانِ الْأَعْلَى وَالْأسْفَلُ، سَوَاءٌ كَانَا مُحْصَنَيْنِ أَو غَيْرَ مُحْصَنَيْنِ.

وَلَمْ تَخْتَلِفِ الصَّحَابَةُ فِي قَتْلِهِ وَلَكِنْ تَنَوَّعُوا فِيهِ، فَرُوِيَ عَنِ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه أَنَّهُ أَمَرَ بِتَحْرِيقِه .. وَعَن بَعْضِهِمْ: أَنَّهُ يُرْفَعُ عَلَى أَعْلَى جِدَارٍ فِي الْقَرْيَةِ وُيرْمَى مِنْهُ ويُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ كَمَا فَعَلَ اللهُ بِقَوْمِ لُوطٍ، وَهَذِهِ رِوَايَة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالرِّوَايَة الْأُخْرَى قَالَ: يُرْجَمُ، وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ السَّلَفِ، قَالُوا لِأَنَّ اللهَ رَجَمَ قَوْمَ لُوطٍ، وَشَرَعَ رَجْمَ الزَّانِي تَشْبِيهًا بِرَجْمِ قَوْمِ لُوطٍ، فَيُرْجَمُ الِاثْنَانِ سَوَاءٌ كَانَا حُرَّيْنِ أَو مَمْلُوكَيْنِ، أَو كَانَ أَحَدُهُمَا مَمْلُوكًا وَالْآخَرُ حُرًّا إذَا كَانَا بَالِغَيْنِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا غَيْرَ بَالِغٍ عُوقِبَ بِمَا دُونَ الْقَتْلِ، وَلَا يُرْجَمُ إلَّا الْبَالِغُ. [28/ 334 - 335]

4863 -

ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ ضَرَبَ فِي الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ أَرْبَعِينَ، وَضَرَبَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه أَرْبَعِينَ، وَضَرَبَ عُمَرُ فِي خِلَافَتِهِ ثَمَانِينَ.

فَأَمَّا مَعَ قِلَّةِ الشَّارِبِينَ وَقُرْبِ أَمْرِ الشَّارِبِ فَتَكْفِي الْأَرْبَعُونَ، وَهَذَا أَوْجُهُ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. [28/ 336 - 337]

4864 -

الْخَمْرُ الَّتِي حَرَّمَهَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِجَلْدِ شَارِبِهَا: كُلُّ شَرَابٍ مُسْكِرٍ مِن أَيِّ أَصْلٍ.

ص: 188

وَكَانُوا يَشْرَبُونَ النَّبِيذَ الْحُلْوَ، وَهُوَ أَنْ يُنْبَذَ فِي الْمَاءِ تَمْرٌ وَزَبِيبٌ؛ أَيْ: يُطْرَحُ فِيهِ، وَالنَّبذُ الطَّرْحُ؛ لِيَحْلُوَ الْمَاءُ لَا سِيَّمَا كَثِيرٌ مِن مِيَاهِ الْحِجَازِ، فَإِنَّ فِيهِ مُلُوحَةً، فَهَذَا النَّبِيذُ حَلَالٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْكِرُ.

فَسَمِعَ طَائِفَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَشْرَبُونَ النَّبِيذَ فَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ الْمُسْكِرُ فَتَرَخَّصُوا فِي شُرْبِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْأَشْرِبَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ، وَتَرَخَصُوا فِي الْمَطْبُوخِ مِن نَبِيذِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ إذَا لَمْ يُسْكِر الشَّارِبَ.

وَالصَّوَابُ مَا عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ: أَنَّ كُلَّ مُسْكِر خَمْرٌ، يُجْلَدُ شَارِبُهُ وَلَو شَرِبَ مِنْهُ قَطْرَةً وَاحِدَةً لِتَدَاوٍ أَو غَيْرِ تَدَاوٍ.

وَالْحَدُّ وَاجِبٌ إذَا قَامَتِ الْبَيِّنةُ أَو اعْتَرَفَ الشَّارِبُ.

فَإِنْ وُجِدَتْ مِنْة رَائِحَة الْخَمْرِ أَو رُئيَ وَهُوَ يتقيؤها وَنَحْو ذَلِكَ: فَقَد قِيلَ: لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ.

وَقِيلَ: بَل يُجْلَدُ إذَا عُرفَ أنَّ ذَلِكَ مُسْكِرٌ، وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ؛ كَعُثْمَان وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الَّذِي يَصْلُحُ عَلَيْهِ النَّاسُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي غَالِبِ نُصُوصِهِ وَغَيْرِهِمَا.

وَالْحَشِيشَةُ الْمَصْنُوعَةُ مِن وَرَقِ الْعِنَبِ حَرَامٌ أَيْضًا

(1)

، يُجْلَدُ صَاحِبُهَا كَمَا يُجْلَدُ شَارِبُ الْخَمْرِ، وَهِى أَخْبَثُ مِن الْخَمْرِ مِن جِهَةِ أَنَّهَا تُفْسِدُ الْعَقْلَ وَالْمِزَاجَ حَتَّى يَصِيرَ فِي الوَّجُلِ تَخَنُّثٌ وَدِيَاثَةٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْفَسَادِ.

وَالْخَمْرُ أَخْبَثُ مِن جِهَةِ أَنَّهَا تُفْضِى إلَى الْمُخَاصَمَةِ وَالْمُقَاتَلَةِ وَكِلَاهُمَا يَصُدُّ عَن ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى وَعَنِ الصَّلَاةِ. [28/ 337 - 339]

4865 -

أَمَّا الْمَعَاصِي الَّتِي لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ وَلَا كَفَّارَةٌ؛ كَاَلَّذِي يُقَبِّلُ

(1)

قال الشيخ: قِيلَ: هِيَ نَجِسَةٌ كَالْخَمْرِ الْمَشْرُوبَةِ وَهَذَا هُوَ الِاعْتِبَارُ الصَّحِيحُ. (28/ 340)

ص: 189

الصَّبِيَّ وَالْمَرْأَةَ الْأَجْنَبِيَّةَ، أَو يُبَاشِرُ بِلَا جِمَاعٍ .. فَهَؤُلَاءِ يُعَاقَبُونَ تَعْزِيرًا وَتَنْكِيلًا وَتَأْدِيبًا بِقَدْرِ مَا يَرَاهُ الْوَالِي عَلَى حَسَبِ كَثْرَةِ ذَلِكَ الذَّنْبِ فِي النَّاسِ وَقِلَّتِهِ، فَإِذَا كَانَ كَثيرًا زَادَ فِي الْعُقُوبَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ قَلِيلًا.

وَعَلَى حَسَبِ حَالِ الْمُذْنِبِ، فَإِذَا كَانَ مِنَ الْمُدْمِنِينَ عَلَى الْفُجُورِ زِيدَ فِي عُقُوبَتِهِ، بِخِلَافِ الْمُقِلِّ مِن ذَلِكَ.

وَعَلَى حَسَبِ كِبَرِ الذَّنْبِ وَصِغَرِهِ، فَيُعَاقِبُ مَن يَتَعَرَّضُ لِنِسَاءِ النَّاسِ وَأَوْلَادِهِمْ بِمَا لَا يُعَاقَبُ مَن لَمْ يَتَعَرَّضْ إلَّا لِمَرْأَةٍ وَاحِدَةٍ أَو صَبِيٍّ وَاحِدٍ.

وَلَيْسَ لِأَقَلِّ التَّعْزِيرِ حَدٌّ؛ بَل هُوَ بِكُلِّ مَا فِيهِ إيلَامُ الْإِنْسَانِ مِن قَوْلٍ وَفِعْلٍ، وَتَرْكِ قَوْلٍ وَتَرْكِ فِعْلٍ، فَقَد يُعَزَّرُ الرَّجُلُ بِوَعْظِهِ وَتَوْبِيخِهِ وَالْإِغْلَاظِ لَهُ، وَقَد يُعَزَّرُ بِهَجْرِهِ وَتَرْكِ السَّلَامَ عَلَيْهِ حَتَّى يَتُوبَ إذَا كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمَصْلَحَة، كَمَا هَجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ خُلِّفُوا، وَقَد يُعَزَّرُ بِعَزْلِهِ عَن وِلَايَتِهِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ يُعَزِّرُونَ بِذَلِكَ.

وَأمَّا أَعْلَاهُ: فَقَد قِيلَ: "لَا يُزَاد عَلَى عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ". وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ لَا يَبْلُغُ بِهِ الْحَدَّ.

وَجِمَاعُ ذَلِكَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: عَلَى ذَنْبٍ مَاضٍ جَزَاءً بِمَا كَسَبَ نَكَالًا مِنَ اللهِ؛ كَجَلْدِ الشَّارِبِ وَالْقَاذِفِ، وَقَطْعِ الْمُحَارِبِ وَالسَّارِقِ.

وَالثَّانِي: الْعُقُوبَةُ لِتَأْدِيَةِ حَقٍّ وَاجِب وَتَرْكِ مُحَرَّمٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ كَمَا يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ حَتَّى يُسْلِمَ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَكَمَا يُعَاقَبُ تَارِكُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَحُقُوق الْآدَمِيِّينَ حَتَى يُؤَدُّوهَا.

فَالتَّعْزِيرُ فِي هَذَا الضَّرْبِ أَشَدُّ مِنْهُ فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ، وَلهَذَا يَجُوزُ أَنْ يُضْرَبَ مَرَّةٌ بَعْد مَرَّةٍ حَتى يُؤَدِّيَ الصَّلَاةَ الْوَاجِبَةَ، أَو يُؤَدِّيَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ.

ص: 190

وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِي "الصَّحِيحَيْنِ"

(1)

عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إلَّا فِي حَدٍّ مِن حُدُودِ اللهِ": قَد فَسَّرَهُ طَائِفَة مِن أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِحُدُودِ اللهِ: مَا حَرُمَ لِحَقّ اللهِ؛ فَإِنَّ الْحُدُودَ فِي لَفْظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُرَادُ بِهَا الْفَصْلُ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَام، مِثْل آخِرِ الْحَلَالِ وَأَوَّلَ الْحَرَامِ، فَيُقَالُ فِي الْأَوَّلِ:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229]، ويُقَالُ فِي الثَّانِي:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187].

وَأمَّا تَسْمِيَةُ الْعُقُوبَةِ الْمُقَدَّرَةِ حَدًّا فَهُوَ عُرْفٌ حَادِثٌ، وَمُرَادُ الْحَدِيثِ: أَنَّ مَن ضَربَ لِحَقِّ نَفْسِهِ كَضَرْبِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ فِي النُّشُوزِ لَا يَزِيدُ عَلَى عَشْرِ جَلَدَاتٍ. [28/ 343 - 348]

4866 -

إِنَّ الْفُقَهَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَو شَهِدَ شَاهِدٌ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَكَانَ قَدِ اسْتَفَاضَ عَنْهُ نَوْعٌ مِن أَنْوَاعِ الْفُسُوقِ الْقَادِحَةِ فِي الشَّهَادَةِ: فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ قَبُولُ شَهَادَتِهِ، وَيجُوزُ لِلرَّجُلِ أنْ يَجْرَحَهُ بِذَلِكَ وَإِن لَمْ يَرَهُ، فَقَد ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَة فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ:"وَجَبَتْ وَجَبَتْ، ثُمَّ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَة فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ: وَجَبَتْ وَجَبَتْ، فَسَألُوهُ عَن ذَلِكَ فَقَالَ: هَذِهِ الْجِنَازَةُ أثنَيْتُمْ عَلَيْهَا خَيْرًا فَقُلْت وَجَبَتْ لَهَا الْجَنَّةُ، وَهَذِهِ الْجِنَازَةُ أثنَيْتُمْ عَلَيْهَا شَرًّا فَقُلْت وَجَبَتْ لَهَا النَّارُ، أَنتُمْ شُهَدَاؤُ اللهِ: في الْأَرْضِ"

(2)

.

مَعَ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَانِهِ امْرَأَةٌ تُعْلِنُ الْفُجُورَ فَقَالَ: لَو كُنْت رَاجِمًا أَحَدًا بِغَيْرِ بَينةٍ لَرَجَمْت هَذِهِ

(3)

.

فَالْحُدُودُ لَا تُقَامُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ، وَأَمَّا الْحَذَرُ مِن الرَّجُلِ فِي شَهَادَتِهِ وَأَمَانَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْمُعَايَنَةِ؛ بَل الِاسْتِفَاضَةُ كَافِيَةٌ فِي ذَلِكَ، وَمَا هُوَ دُونَ

(1)

رواه البخاري (6848)، ومسلم (1708).

(2)

رواه البخاري (1367).

(3)

رواه البخاري (5310)، ومسلم (1497).

ص: 191

الِاسْتِفَاضَةِ، حَتَّى أَنَّهُ ئسْتَدلُّ عَلَيْهِ بِأَقْرَانِهِ، كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ:"اعْتَبِرُوا النَّاسَ بِأَخْدَانِهِمْ"، فَهَذَا لِدَفْعِ شَرِّهِ مِثْل الِاحْتِرَازِ مِن الْعَدُوِّ.

وَقَد قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: "احْتَرِسُوا مِنَ النَّاسِ بِسُوءِ الظَّنّ"، فَهَذَا أَمْرُ عُمَرَ مَعَ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ عُقُوبَةُ الْمُسْلِمِ بِسُوءِ الظَّنِّ.

[28/ 371 - 372]

4867 -

الْقِصَاصُ فِي الْجِرَاحِ أَيْضًا ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ بِشَرْطِ الْمُسَاوَاةِ.

وَإِذَا لَمْ تُمْكِنْ الْمُسَاوَاةُ: مِثْل أَنْ يَكْسِرَ لَهُ عَظْمًا بَاطِنًا، أَو يَشُجَّهُ دُونَ الْمُوضحَةِ فَلَا يُشْرَعُ الْقِصَاصُ؛ بَل تَجِبُ الدِّيَةُ الْمَحْدُودَةُ أَو الْأَرْشُ.

وَأَمَّا الْقِصَاصُ فِي الضَّرْبِ بِيَدِهِ أَو بِعَصَاه أَو سَوْطِهِ مِثْل أَنْ يَلْطِمَهُ أَو يَلْكُمَهُ أَو يَضْرِبَهُ بِعَصَا وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَقَد قَالَتْ طَائِفَةٌ مِن الْعُلَمَاءِ: إنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيهِ؛ بَل فِيهِ التَّعْزِيرُ؛ لِأنَّهُ لَا تُمْكِن الْمُسَاوَاةُ فِيهِ.

وَالْمَأْثُورُ عَن الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: أَنَّ الْقِصَاصَ مَشْرُوعٌ فِي ذَلِكَ وَهُوَ نَصُّ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِن الْفُقَهَاءِ وَبِذَلِكَ جَاءَت سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الصَّوَابُ. [28/ 379]

4868 -

الْقِصَاصُ فِي الْأَعْرَاضِ مَشْرُوعٌ: وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا لَعَنَ رَجُلًا أَو دَعَا عَلَيْهِ فَلَه أَنْ يَفْعَلَ بِهِ كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إذَا شَتَمَهُ بشَتْمَة لَا كَذِبَ فِيهَا. وَالْعَفْوُ أَفْضَلُ. قَالَ اللهُ تَعَالَى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)} [الشورى: 40، 41].

ويُسَمَّى هَذَا الِانْتِصَارُ.

وَالشَّتِيمَةُ الَّتِي لَا كَذِبَ فِيهَا: مِثْل الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِمَا فِيهِ مِن الْقَبَائِحِ، أَو تَسْمِيَتِهِ بِالْكَلْبِ أَو الْحِمَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

فَأَمَّا إنِ افْتَرَى عَلَيْهِ: لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَفْتَرِيَ عَلَيْهِ، وَلَو كَفَّرَهُ أَو فَسَّقَهُ بِغَيْرِ

ص: 192

حَقٍّ لَم يَحِلَّ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَهُ أَو يُفَسِّقَهُ بِغَيْرِ حَق، وَلَو لَعَنَ أَبَاهُ أَو قَبِيلَتَهُ أَو أَهْلَ بَلَدِهِ وَنحْو ذَلِكَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّى عَلَى أُولَئِكَ فَإِنَّهُم لَمْ يَظْلِمُوهُ.

فَإِنْ كَانَ الْعُدْوَانُ عَلَيْهِ فِي الْعِرْضِ مُحَرَّمًا لَحِقّه؛ لِمَا يَلْحَقُهُ مِن الْأَذَى: جَازَ الِاقْتِصَاصُ مِنْهُ بِمِثْلِهِ كَالدُّعَاءِ عَلَيْهِ بِمِثْل مَا دَعَاة.

وَأَمَّا إذَا كَانَ مُحَرَّمًا لِحَقِّ اللهِ تَعَالَى كَالْكَذِبِ: لَمْ يَجُزْ بِحَال.

وَهَكَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِن الْفُقَهَاءِ: إذَا قَتَلَه بِتَحْرِيق أَو تَغْرِيقٍ أَو خَنقٍ أَو نَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُفْعَلُ بِهِ كَمَا فَعَلَ مَا لَمْ يَكُن الْفِعْلُ مُحَرَّمًا فِي نَفْسِهِ كَتَجْرِيعِ الْخَمْرِ وَاللِّوَاطِ بِهِ.

وَمِنْهُم مَن قَالَ: لَا قَوَدَ عَلَيْهِ إلَّا بِالسَّيْفِ.

وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْعَدْلِ. [28/ 380 - 381]

4869 -

"من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم ففقؤوا عينه فلا دية له ولا قصاص"

(1)

: قال ابن القيم رحمه الله بعد كلام سبق: وكذلك من اطلع في بيت قوم من ثقب أو شق في الباب بغير إذنهم فنظر حريمه أو عورة فلهم حذفه وطعنه في عينه، فإن انقلعت عينه فلا ضمان عليهم، وساق الأحاديث ثم قال: وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقال: هذا ليس من باب دفع الصائل بل من باب عقوبة المعتدي المؤذي. [المستدرك 1/ 226]

4870 -

مِن الْحُقُوقِ: الْأَبْضَاعُ؛ فَالْوَاجِبُ الْحُكْمُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِمَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِن إمْسَاكٍ بِمَعْرُوف أَو تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانٍ.

فَيَجِبُ عَلَى كُل مِن الزَّوْجَيْنِ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى الْآخَرِ حُقُوقَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ وَانْشِرَاحِ صَدْرٍ؛ فَإِنَّ لِلْمَرْأَةِ عَلَى الرَّجُلِ حَقًّا فِي مَالِهِ وَهُوَ الصَّدَاقُ وَالنَّفَقَةُ بِالْمَعْرُوفِ، وَحَقًّا فِي بَدَنِهِ وَهُوَ الْعِشْرَةُ وَالْمُتْعَةُ؛ بِحَيْثُ لَو آلَى مِنْهَا اسْتَحَقَّت

(1)

رواه النسائي (4860)، وأحمد (8997)، وصحَّحه الألباني في صحيح النسائي.

ص: 193

الْفُرْقَةَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ لَو كَانَ مَجْبُوبًا أَو عِنِّينًا لَا يُمْكِنُهُ جِمَاعُهَا فَلَهَا الْفرْقَةُ، وَوَطْؤُهَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. [28/ 383]

* * *

(بَابُ حَدِّ الزِّنَا)

4871 -

مَن زَنَى بِأُخْتِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ: وَجَبَ قَتْلُهُ، وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ قَالَ: مَرَّ بِي خَالِي أَبُو بُرْدَةَ وَمَعَهُ رَايَة فَقُلْت: أَيْنَ تَذْهَب يَا خَالِي؟ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ وَأُخَمِّسَ مَالَهُ

(1)

. [34/ 177]

4872 -

الْوَاجِبُ عَلَى أَوْلَادِهَا وَعُصْبَتِهَا [أي: الزانية] أَنْ يَمْنَعُوهَا مِن الْمُحَرَّمَاتِ، فَإِنْ لَمْ تَمْتَنِعْ إلَّا بِالْحَبْسِ حَبَسُوهَا، وَإِن احْتَاجَتْ إلَى الْقَيْدِ قَيَّدُوهَا.

وَمَا يَنْبَغِي لِلْوَلَدِ أَنْ يَضْرِبَ أُمَّهُ

(2)

.

وَأَمَّا بِرُّهَا فَلَيْسَ لَهُم أَنْ يَمْنَعُوهَا بِرَّهَا، وَلَا يَجُوزَ لَهُم مُقَاطَعَتُهَا بِحَيْثُ تَتَمَكَّنُ بِذَلِكَ مِن السُّوءِ؛ بَل يَمْنَعُوهَا بِحَسَبِ قُدْرَتهِمْ، وَإِن احْتَاجَتْ إلَى رِزْقٍ وَكِسْوَةٍ رَزَقُوهَا وَكَسَوْهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهُم إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهَا بِقَتْل وَلَا غَيْرِهِ

(3)

، وَعَلَيْهِم الْإِثْمُ فِي ذَلِكَ. [34/ 178]

4873 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَمَّن حَلَفَ لِوَلَدِهِ أَنَّهُ إنْ فَعَلَ مُنْكَرًا يُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ، فَأَقَرَّ لِوَالِدِهِ فَضَرَبَهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ وَبَقِيَ تَغْرِيبُ عَامٍ، فَهَل يَجُوزُ فِي تَغْرِيبِ الْعَامِ كَفَّارَةٌ أَمْ لَا؟

(1)

رواه الإمام أحمد (18626)، وأبو داود (4457)، والنسائي (3332) وغيرهم وصححه الألباني.

(2)

مع أنها زانية ويُنتهك عرضها! فحق الأم على الأبناء عظيم، ولا يُسقط حقّها في البر والإحسان فجورُها بل ولا شركها.

(3)

لأنه إقامة الحدود مرجعُها إلى ولي الأمر.

ص: 194

فَأَجَابَ: إذَا غَرَّبَهُ فِي الْحَبْسِ وَلَو فِي دَارِ الْأبِ: بَرَّ فِي يَمِينِهِ، وَإِن كَانَ مُطْلَقًا غَيْرَ مقَيَّدٍ فِي مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَيْدُ وَلَا جَعْلُهُ فِي مَكانٍ مُظْلِمٍ. [34/ 179]

4874 -

إنْ تَابَ مِن الزنى وَالسَّرِقَةِ أَو شُرْبِ الْخَمْرِ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ إلَى الْإِمَامِ: فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحَدِّ يَسْقُطُ عَنْهُ كَمَا يَسْقُطُ عَن الْمُحَاربِينَ بِالْإِجْمَاعِ إذَا تَابُوا قَبْلَ الْقُدْرَةِ. [34/ 180]

* * *

‌(لماذا يُذمُّ ولد الزنا

؟)

4875 -

إِنَّمَا يُذَمُّ وَلَدُ الزِّنَا؛ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا خَبِيثًا كَمَا يَقَعُ كَثِيرًا، كَمَا تُحْمَدُ الْأَنْسَابُ الْفَاضِلَةُ؛ لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ عَمَلِ الْخَيْرِ.

فَأَمَّا إذَا ظَهَرَ الْعَمَلُ: فَالْجَزَاءُ عَلَيْهِ، وَأَكْرَمُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاهُمْ. [4/ 312]

* * *

(عقوبة اللِّواط)

4876 -

أَمَّا الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ بِهِ فَيَجِبُ قَتْلُهُمَا رَجْمًا بِالْحِجَارَةِ، سَوَاءٌ كَانَا مُحْصَنَيْنِ أَو غَيْرَ مُحْصَنَيْنِ؛ لِمَا فِي السُّنَنِ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"مَن وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ"

(1)

، وَلِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اتَّفَقوا عَلَى قَتْلِهِمَا.

وَعَلَيْهِمَا الِاغْتِسَالُ مِن الْجَنَابَةِ، وَتَرْتَفِعُ الْجَنَابَةُ مِن الِاغْتِسَالِ، لَكِنْ لَا يَطْهُرَانِ مِن نَجَاسَةِ الذَّنْبِ إلَّا بِالتَّوْبَةِ. [34/ 182]

* * *

(1)

رواه أبو داود (4462)، والترمذي (1456)، وابن ماجه (2561)، وأحمد (2732)، وقال الألباني في صحيح أبي داود: حسن صحيح.

ص: 195

(بَاب حَدِّ الْقَدْفِ)

4877 -

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله: عَن رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِن أَهْلِ الْخَيْرِ، وَلَهُ مُطَلَّقَة، وَشَرَطَ إنْ رَدَّ مُطَلَّقَتَهُ كَانَ الصَّدَاقُ حَالًّا، ثُمَّ إنَّهُ رَدَّ الْمُطَلَّقَةَ وَقَذَفَ هُوَ وَمُطَلَّقَتُهُ عِرْضَ الزَّوْجَةِ وَرَمَوْهَا بِالزِّنَا؟ وَطَلَّقَهَا بَعْدَ دُخُولِهِ بِهَا، فَمَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِمَا؟

فَأَجَابَ: أَمَّا مُطَلَّقَتُهُ فَتُحَدُّ عَلَى قَذْفِهَا ثَمَانِينَ جَلْدَةً إذَا طَلَبَتْ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْمَقْذُوفَةُ، وَلَا تُقْبَلُ لَهَا شَهَادَة أَبَدًا؛ لِأَنَّهَا فَاسِقَةٌ.

وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ ثَمَانُونَ جَلْدَةً إذَا طَلَبَت الْمَرْأَةُ ذَلِكَ وَلَا تُقْبَلُ لَهُ شَهَادَة أَبَدًا وَهُوَ فَاسِقٌ إذَا لَمْ يَتبْ.

وَهَل لَهُ إسْقَاطُ الْحَدِّ بِاللّعَانِ؟ فِيهِ لِلْفُقَهَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ.

وَصَدَاقُهَا بَاقٍ عَلَيْهِ لَا يَسْقُطُ بِاللِّعَانِ كَمَا سَنَّ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا كُلُّهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، إلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ مِن جَوَازِ اللِّعَانِ فَفِيهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ:

أَحدُهَا: لَا يُلَاعِنُ؛ بَل يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ وَتَسْقُطُ شَهَادَتُهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَد فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.

والثَّاني: يُلَاعِنُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنيفَةَ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ.

والثالِثُ: إنْ كَانَ هُنَاكَ حَمْلٌ لَاعَنَ لِنَفْيِهِ وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَة عَن أَحْمَد. [34/ 183 - 184]

4878 -

إذَا قَذَفَة [أي: قَذَفَ رَجُلًا] بِالزنى أَو اللِّوَاطِ، وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ حُرًّا مُسْلِمًا لَمْ يُشْتَهَرْ عَنْهُ ذَلِكَ: فَعَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ إذَا طَلَبَهُ الْمَقْذُوفُ، وَهُوَ ثَمَانُونَ جَلْدَةً إنْ كَانَ الْقَاذِفُ حُرًّا، وَأَرْبَعُونَ إنْ كَانَ رَقِيقًا، عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأرْبَعَةِ. [34/ 185]

* * *

ص: 196

(بَابُ حَدِّ الْمُسْكِرِ)

4879 -

الصحيح في حد الخمر: أحد

(1)

الروايتين الموافقة لمذهب الشافعي وغيره: أن الزيادة على الأربعين إلى الثمانين ليست واجبة على الإطلاق، ولا محرمة على الإطلاق؛ بل يرجع فيها إلى اجتهاد الإمام، كما جوزنا له الاجتهاد في صفة الضرب فيه بالجريد والنعال وأطراف الثياب بخلاف بقية الحدود.

ويقتل شارب الخمر في الرابعة عند الحاجة إلى قتله إذا لم ينته الناس بدونه. [المستدرك 5/ 110]

4880 -

إذا شككت في المطعوم والمشروب هل يسكر أو لا؟ لم يحرم عليك بمجرد الشك، ولم يقم الحد على شاربه، ولا ينبغي إباحته للناس إذا كان يجوز أن يكون مسكرًا؛ لأن إباحة الحرام مثل تحريم الحلال. [المستدرك 5/ 110 - 111]

4881 -

رخص أكثر العلماء فيما يكره عليه من المحرمات لحق الله كأكل الميتة وشرب الخمر وهو ظاهر مذهب أحمد رحمه الله.

4882 -

مَذْهَبُ جُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ: الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ لَهُم بِإِحْسَانٍ وَسَائِرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلَّ خَمْرٍ حَرَامٌ، وَمَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ، وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابِهِ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ اخْتِيَارُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ صَاحِبِ أَبِي حَنيفَةَ.

وَذَهَبَ طَائِفَة مِن الْعُلَمَاءِ مِن أَهْلِ الْكُوفَةِ كَالنَّخْعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَشَرِيكٍ وَغَيْرِهِمْ إلَى أَنَّ مَا أَسْكَرَ مِن غَيْرِ الشَّجَرَتَيْنِ -النَّخْلِ وَالْعِنَبِ- كَنَبِيذِ

(1)

في المطبوع: (إحدى)، وهو خطأ.

ص: 197

الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ وَالْعَسَلِ وَلَبَنِ الْخَيْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَحْرُمُ مِنْهُ الْقَدْرُ الَّذِي يُسْكِرُ، وَأَمَّا الْقَلِيلُ الَّذِي لَا يُسْكِرُ فَلَا يَحْرُمُ.

وَأَمَّا عَصِيرُ الْعِنَبِ الَّذِي إذَا غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ فَهُوَ خَمْرٌ يَحْرُمُ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.

والْقَوْلُ الْأَوَّلُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ.

فَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ-صلى الله عليه وسلم: "أَيُّهَا النَّاسُ إنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِن خَمْسَةٍ: مِن الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ"

(1)

.

وَقَد اسْتَفَاضَت الْأَحَادِيثُ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَهُوَ حَرَامٌ، كَمَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ"

(2)

عَن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَن الْبِتْعِ- وَهُوَ نَبِيذُ الْعَسَلِ -وَكَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَشْرَبُونَهُ فَقَالَ: "كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ" .. وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ"

(3)

وَغَيْرِهِ عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ"

(4)

.

وَلَكِنَّ عُذْرَ مَن خَالَفَهَا مِن أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهَا لَمْ تَبْلُغْهُمْ، وَسَمِعُوا أَنَّ مِن الصَّحَابَةِ مَن شَرِبَ النَّبِيذَ، وَبَلَغَتْهُم فِي ذَلِكَ آثَارٌ، فَظَنُّوا أَنَّ الَّذِي شَرُبوهُ كَانَ مُسْكِرًا، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي تَنَازَعَ فِيهِ الصَّحَابَةُ هُوَ مَا نبِذَ فِي الْأوْعِيَةِ الصُّلْبَةِ.

فَلَمَّا سَمِعَ طَائِفَةٌ مِن عُلَمَاءِ الْكوفَةِ أَنَّ مِن السَّلَفِ مَن شَرِبَ النَّبِيذَ ظَنُّوا

(1)

رواه البخاري (4619)، ومسلم (3032).

(2)

رواه البخاري (5585)، ومسلم (2001).

(3)

(2003).

(4)

قال الشيخ في موضع آخر: هَذَا يُبَيِّنُ أنَّهُ أَرَادَ كُلَّ شَرَاب كَانَ جِنْسُهُ مُسْكِرًا حَرَامٌ، سَوَاءٌ سَكِرَ مِنْهُ أو لَمْ يَسْكَرْ، كَمَا فِي خَمْرِ الْعِنَبِ، وَلَو أَرَادَ بِالْمُسْكِرِ الْقَدَحَ الْأخِيرَ فَقَطْ لَمْ يَكُن الشرَابُ كُلُّهُ حَرَامًا، وَلَكَانَ بَيَّنَ لَهُم فيَقُولُ: اشْرَبُوا مِنْهُ وَلَا تَسْكَرُوا. (34/ 194)

ص: 198

أَنَّهُم شَرِبُوا الْمُسْكِرَ فَقَالَ طَائِفَة مِنْهُمْ: كَالشَّافِعِيِّ

(1)

وَالنَّخْعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَشَرِيكٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَغَيْرِهِمْ: يَحِلُّ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُم فِي ذَلِكَ مُجْتَهِدُونَ قَاصِدُونَ لِلْحَقِّ، وَقَد قَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ"

(2)

.

بَل النَّبِيذُ الَّذِي شَرِبَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةُ هُوَ أَنَّهُم كَانُوا يَنْبِذُونَ التَّمْرَ أَو الزَّبِيبَ أَو نَحْو ذَلِكَ فِي الْمَاءِ حَتَّى يَحْلُوَ، فَيَشْرَبُهُ أَوَّلَ يَوْمٍ وَثَانِيَ يَوْمٍ وَثَالِثَ يَوْمٍ، وَلَا يَشْرَبُهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ؛ لِئَلَّا تَكُونَ الشِّدَّةُ قَد بَدَتْ فِيهِ، وَإِذَا اشْتَدَّ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يُشْرَبْ. [34/ 186 - 189، 195]

* * *

(حكم الحشيشة)

4883 -

كُلُّ شَرَابٍ مُسْكِرٍ فَهُوَ خَمْرٌ، فَهُوَ حَرَامٌ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ.

وَهَذَا مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ الْأَئِمَّةِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمْ، وَهَذَا الْمُسْكِرُ يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَى شَارِبِهِ، وَهُوَ نَجِسٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ.

وَكَذَلِكَ الْحَشِيشَةُ الْمُسْكِرَةُ يَجِبُ فِيهَا الْحَدُّ

(3)

، وَهِيَ نَجِسَةٌ فِي أَصَحِّ الْوُجُوهِ .. ، لِأَنَّهَا تُسْكِرُ بِالِاسْتِحَالَةِ كَالْخَمْرِ النَّيءِ، بِخِلَافِ مَا لَا يُسْكِرُ بَل يُغَيِّبُ الْعَقْلَ كَالْبَنْجِ، أَو يُسْكِرُ بَعْدَ الِاسْتِحَالَةِ كَجَوْزَةِ الطِّيبِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِنَجِسِ.

(1)

الصواب: أنه الشعبي لا الشافعي، ولعله خطأ من الناسخ، فإن الشيخ ذكر أن مذهب الشافعي التحريم وفاقًا للجمهور، وذكر أنّ مذهب الشعبي الجواز.

(2)

رواه أبو داود (3574)، والترمذي (1326)، والنسائي (5381)، وابن ماجه (2314)، وأحمد (17774)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.

(3)

قال الشيخ في موضع آخر: يُجْلَدُ الْحَدِّ ثَمَانينَ سَوْطًا أَو أرْبَعِينَ، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ. (34/ 214)

ص: 199

وَمَن ظَنَّ أَنَّ الْحَشِيشَةَ لَا تُسْكِرُ وَإِنَّمَا تُغَيِّبُ الْعَقْلَ بِلَا لَذَّةٍ فَلَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ أَمْرِهَا؛ فَإِنَّهُ لَوْلَا مَا فِيهَا مِن اللَّذَّةِ لَمْ يَتَنَاوَلُوهَا وَلَا أَكَلُوهَا، بِخِلَافِ الْبَنْجِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا لَذَّةَ فِيهِ.

وَالشَّارعُ فَرَّقَ فِي الْمُحَرَّمَاتِ بَيْنَ مَا تَشْتَهِيهِ النُّفوسُ وَمَا لَا تَشْتَهِيهِ، فَمَا لَا تَشْتَهِيهِ النُّفُوسُ كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ اُكْتُفِيَ فِيهِ بِالزَّاجِرِ الشَّرْعِيِّ، فَجَعَلَ الْعُقُوبَةَ فِيهِ التَّعْزِيزُ.

وَأَمَّا مَا تَشْتَهِيهِ النُّفُوسُ فَجَعَلَ فِيهِ مَعَ الزَّاجِرِ الشَّرْعِيِّ زَاجِرًا طَبِيعِيًّا وَهُوَ الْحَدُّ، وَالْحَشِيشَةُ مِن هَذَا الْبَابِ. [34/ 197 - 198]

4884 -

أَمَّا الْحَشِيشَةُ الْمَلْعُونَةُ الْمُسْكِرَةُ: فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهَا مِن الْمُسْكِرَاتِ، وَالْمُسْكِرُ مِنْهَا حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ؛ بَل كُلّ مَا يُزِيلُ الْعَقْلَ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ أَكْلُهُ وَلَو لَمْ يَكُن مُسْكِرًا كَالْبَنْجِ؛ فَإِنَّ الْمُسْكرَ يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ وَغَيْرَ الْمُسْكِرِ يَجِبُ فِيهِ التَّعْزِيرُ.

وَأَمَّا قَلِيلُ الْحَشِيشَةِ الْمُسْكِرَةِ فَحَرَامٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ كَسَائِرِ الْقَلِيلِ مِن الْمُسْكِرَاتِ.

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْكِرُ مَأكُولًا أَو مَشْرُوبًا، أَو جَامِدًا أَو مَائِعًا، فَلَو اصْطَبَغَ كَالْخَمْرِ كَانَ حَرَامًا.

وَنَبِيُّنا صلى الله عليه وسلم بُعِثَ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، فَإِذَا قَالَ كَلِمَةً جَامِعَةً: كَانَت عَامَّة فِي كُل مَا يَدْخُلُ فِي لَفْظِهَا وَمَعْنَاهَا، سَوَاءٌ كَانَت الْأَعْيَانُ مَوْجُودَةً فِى زَمَانِهِ أَو مَكَانِهِ أَو لَمْ تكُنْ

(1)

.

فَلمَّا قَالَ: "كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ": تَنَاوَلَ ذَلِكَ مَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ مِن خَمْرِ التَّمْرِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ يَتَنَاوَلُ مَا كَانَ بِأَرْضِ الْيَمَنِ مِن خَمْرِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْعَسَلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

(1)

هذه قاعدةٌ عامة مهمة، يجب العمل بها في جميع نصوص الكتاب والسُّنَة.

ص: 200

وَهَذِهِ الْحَشِيشَةِ فَإِنَّ أَوَّلَ مَا بَلَغَنَا أَنَّهَا ظَهَرَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَوَاخِرِ الْمِائَةِ السَّادِسَةِ وَأَوَائِلِ السَّابِعَةِ، حَيْثُ ظَهَرَتْ دَوْلَةُ التتر، وَكَانَ ظُهُورُهَا مَعَ ظُهُورِ سَيْفِ جنكسخان لَمَّا أَظْهَرَ النَّاسُ مَا نَهَاهُم اللهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ مِن الذُّنُوبِ سَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِم الْعَدُوَّ

(1)

، وَكَانَت هَذِهِ الْحَشِيشَةُ الْمَلْعُونَةُ مِن أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ، وَهِيَ شَرٌّ مِن الشَّرَابِ الْمُسْكِرِ مِن بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَالْمُسْكِرُ شَرٌّ مِنْهَا مِن وَجْهٍ آخَرَ، فَإِنَّهَا مَعَ أَنَّهَا تُسْكِرُ آكِلَهَا: تُورِثُ التَّخْنِيثَ والديوثة، وَتُفْسِدُ الْمِزَاجَ، وَتُوجِبُ كَثْرَةَ الْأَكْلِ، وَتُورِثُ الْجُنُونَ، وَكَثِيرٌ مِن النَّاسِ صَارَ مَجْنُونًا بِسَبَبِ أَكْلِهَا.

وَمَن كَانَ يَسْتَحِلُّ ذَلِكَ جَاهِلًا .. فَإِنَّهُ مَا يَعْرِفُ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ وَالسُّكْرُ مِنْهَا حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِذَا عَرَفَ ذَلِكَ وَلَمْ يُقِرَّ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ كَافِرًا مُرْتَدًّا. [34/ 204 - 205، 211]

4885 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَن جَمَاعَةٍ مِن الْمُسْلِمِينَ رِجَالٍ كُهُولٍ وَشُبَّانٍ وَهُم حُجَّاجٌ مُوَاظِبُونَ عَلَى أَدَاءِ مَا اُفْتُرِضَ عَلَيْهِم مِن صَوْم وَصَلَاةٍ وَعِبَادَةٍ .. وَقَد اجْتَمَعَتْ عُقُولُهُم وَأَذْهَانُهُم وَرَأيُهُم عَلَى أَكْلِ الْغُبَيْرَاء

(2)

، وَكَانَ قَوْلُهُم وَاعْتِقَادُهُم فِيهَا أَنَّهَا مَعْصِيَةٌ وَسَيِّئَةٌ .. غَيْرَ أَنَّ لَهُم وِرْدًا بِاللَّيْلِ وَتَعَبُّدَاتٍ وَيزْعُمُونَ أَنَّهَا إذَا حَصَلَتْ نَشْوَتُهَا بِرُؤُوسِهِمْ تَأَمُرُهُم بِتِلْكَ الْعِبَادَةِ وَلَا تَأَمُرُهُم بِسُوء وَلَا فَاحِشَةٍ .. أَفْتُونَا.

فَأَجَابَ: يَجِبُ عَلَى آكِلِهَا حَدُّ شَارِبِ الْخَمْرِ، وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ ضُلَّالٌ جُهَّالٌ عُصَاةٌ للهِ وَلرَسُولِهِ، وَكَفَى بِرَجُلٍ جَهْلًا أَنْ يَعْرِفَ بِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مُحَرَّمٌ، وَأَنَّهُ

(1)

وهذه سُنَّة الله تعالى في عباده، وما نراه اليوم من ذلِّ المسلمين وتفرقِهم وتسلُّطِ الأعداء عليهم تقتيلًا وتشريدًا واحتلالًا لأراضيهم، وسرقة أموالهم، والتحكم بقراراتهم: إنما بسبب تخليهم عن دينهم والاعتزاز به، وعدمِ الأخذِ بأسباب القوة والنصر.

(2)

هو شَرَابٌ تَتَّخِذُهُ الْحَبَشُ مِنَ الذُّرَةِ يُسْكِرُ. يُنظر: النهاية في غريب الحديث، ومختار الصحاح، مادة:(غَبَرَ).

ص: 201

مَعْصِيَة للهِ وَلرَسُولِهِ ثُمَّ يَقُولُ: إنَّهُ تَطِيبُ لَه الْعِبَادَةُ! وَتَصْلُحُ لَهُ حَالُهُ!

ويحُ هَذَا الْقَائِلِ!!

(1)

أَيَظُنُّ أَنَّ اللهَ سبحانه وتعالى وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ عَلَىْ الْخَلْقِ مَا يَنْفَعُهُم وَيُصْلِحُ لَهُم حَالَهُمْ؟!!

نَعَمْ، قَد يَكُونُ فِي الشَّيءِ مَنْفَعَةٌ وَفِيهِ مَضَرَّةٌ أَكْثرُ مِن مَنْفَعَتِهِ، فَيُحَرِّمُهُ اللهُ سبحانه وتعالى؛ لِأَنَّ الْمَضَرَّةَ إذَا كَانَت أَكْثَرَ مِن الْمَنْفَعَةِ بَقِيَت الزّيَادَةُ مَضَرَّةً مَحْضَةً.

وَلهَذَا تَجُودُ النُّفُوسُ فِي السَّمَاعِ الْمُحَرَّمِ وَالْعِشْرَةِ الْمُحَرَّمَةِ بِالْأَمْوَالِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ بِمَا لَا تَجُودُ بِهِ فِي الْحَقِّ

(2)

.

وَمَا هَذَا بِاَلَّذِي يُبِيحُ تِلْكَ الْمَحَارِمِ، أَو يَدْعُو الْمُؤْمِنَ إلَى فِعْلِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ لِأَنَّ الطَّبْعَ لَمَّا أَخَذَ نَصِيبَهُ مِن الْحَظّ الْمُحَرَّمِ: لَمْ

(3)

يُبَالِ بِمَا بَذَلَهُ عِوَضًا عَن ذَلِكَ.

وَلَيْسَ فِي هَذَا مَنْفَعَةٌ فِي دِينِ الْمَرْءِ وَلَا دُنْيَاهُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لَذَّةُ سَاعَةٍ، بِمَنْزِلَةِ لَذَّةِ الزَّانِي حَالَ الْفِعْلِ، وَلَذَّةِ شِفَاءِ الْغَضَبِ حَالَ الْقَتْلِ، وَلَذَّةِ الْخَمْرِ حَالَ النَّشْوَةِ، ثُمَّ إذَا صَحَا مِن ذَلِكَ وَجَدَ عَمَلَهُ بَاطِلًا، وَذُنُوبَهُ مُحِيطَة بِهِ، وَقَد نَقَصَ عَلَيْهِ عَقْلُهُ وَدِينُهُ وَخُلُقُهُ

(4)

.

(1)

هذا الأسلوب في التغليظ من النادر ما يستخدمُه الشيخ رحمه الله.

(2)

ولذلك تجد الرجل والمرأة يُعامل أحدهما الآخر في الحرام بالخلق الحسن والكرم والبشاشة والتضحية، ما لا يفعل رُبْعَه في الحلال؛ لأن الشيطان يأزهم على الحرام أزًا، بخلاف الحلال، فإنه يثبط صاحبه عن فعل ما يجمل، ويَحُثُّه على فعل ما يقبح، حتى يُكدر عليه ما هو فيه من مباح أو طاعة، وينقله إلى الحرام والضلال، ثم يُزيّنه في نفسِه. فلْيتنبه العاقل من مكائد الشيطان وحبائِله التي يصيد بها ضعفاء العقول والعلم والإرادة، وقد يصيد بها أصحاب العقول الصحيحة والإرادة الصادقة، لكن سرعان ما يرجعون إلى عقولهم ورشدهم وربهم.

(3)

في الأصل: (وَلَمْ) بالعطف، ولعل المثبت هو الصواب.

(4)

وهكذا لذائذ المعاصي لحظات، ويعقبها الآلام والحسرات، وتُورث الأمراض الحسية، والآلام النفسية، وحرمان البركة والعلم والعمل، ناهيك عن العذاب الأليم يوم القيامة إنْ لم يتب صاحبها، فهل "يقدم عاقلٌ على معصيةٍ تُورث هذا كلّه؟

ص: 202

وَأيْنَ هَؤُلَاءِ الضُّلَّالُ مِمَّا تُورِثُهُ هَذِهِ الْمَلْعُونَةُ مِن قِلَّةِ الْغَيْرَةِ، وَزَوَالِ الْحَمِيَّةِ، حَتَّى يَصِيرَ آكِلُهَا إمَّا دَيُّوثًا

(1)

وَإِمَّا مَأْبُونا

(2)

وَإِمَّا كِلَاهُمَا.

وَتُفْسِدُ الْأَمْزِجَةَ حَتَّى جَعَلَتْ خَلْقًا كَثِيرًا مَجَانِينَ، وَمَن لَمْ يُجَنَّ مِنْهُم فَقَد أَعْطَتْهُ نَقْصَ الْعَقْلِ، وَلَو صَحَا مِنْهَا فإِنَّه لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي عَقْلِهِ خَبَل

(3)

.

ثُمَّ إنَّ كَثِيرَهَا يُسْكِرُ حَتَّى يَصُدَّ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَن الصَّلَاةِ، وَهِيَ وَإِن كَانَت لَا تُوجِبُ قُوَّةَ نَفْسِ صَاحِبِهَا حَتَّى يُضَارِبَ ويُشَاتِمَ

(4)

، فَكَفَى بِالرَّجُلِ شَرًّا أَنَّهَا تَصُدُّهُ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَن الصَّلَاةِ إذَا سَكِرَ مِنْهَا.

وَقَلِيلُهَا وَإِن لَمْ يُسْكِرْ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَلِيلِ الْخَمْرِ.

ثُمَّ إنَّهَا تُورِثُ مِن مَهَانَةِ آكِلِهَا، وَدَنَاءَةِ نَفْسِهِ، وَانْفِتَاحِ شَهْوَتِهِ مَا لَا يُورِثُهُ الْخَمْرُ.

فَفِيهَا مِن الْمَفَاسِدِ مَا لَيْسَ فِي الْخَمْرِ، وَإِن كَانَ فِي الْخَمْرِ مَفْسَدَة لَيْسَتْ فِيهَا وَهِيَ الْحِدَّةُ، فَهِيَ بِالتَّحْرِيمِ أَوْلَى مِن الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ آكِلِ الْحَشِيشَةِ عَلَى نَفْسِهِ أشَدُّ مِن ضَرَرِ الْخَمْرِ، وَضَرَرَ شَارِبِ الْخَمْرِ عَلَى النَّاسِ أَشَدُّ .. وَإِنَّمَا حَرَّمَ اللهُ الْمَحَارِمَ لِأَنَّهَا تَضُرُّ أصْحَابَهَا. [34/ 221 - 224]

* * *

‌(حكم شرب الخمر وحدُّه، وهل يُقتل إذا شرب في الرابعة

؟)

4886 -

أَمَّا شَارِبُ الْخَمْرِ فَيَجِبُ بِاتِّفَاقِ الأئِمَّةِ أنْ يُجْلَدَ الْحَدَّ إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَحَدُّهُ أَرْبَعُونَ جَلْدَةً أَو ثَمَانُونَ جَلْدَة، فَإِنْ جَلَدَهُ ثَمَانِينَ جَازَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَإِن اقْتَصَرَ عَلَى الْأرْبَعِينَ فَفِي الْإِجْزَاءِ نِزَاعٌ.

(1)

الدَّيُّوثُ: هُوَ القَوّادُ على أَهْلِه، وَالَّذِي لَا يَغَارُ على أهْلِه، مأْخُوذ من قَوْلهم: بَعِيرٌ مُدَيَّثٌ؛ أَي: مذَلَّل؛ لكونِه لَا غَيْرَةَ لَهُ، كأَنَّه ذُلِّل حَتى صَار كالبَعِير المُنْقادِ المُرَوَّضِ، لَا يَصْعُب عَلَيْهِ الأمرُ. يُنظر: تاج العروس مادة: (ديث).

(2)

المَأَبون: هو مَن تُفْعل فيه الفاحشةُ والعياذ بالله تعالى.

(3)

وهذا أمرٌ مشاهد معروف، وتُورث آكلها الوسوسة والشك حتى في عرض أهله والعياذ بالله.

(4)

كما في الخمر.

ص: 203

وَقَد رُوِيَ مِن وُجُوهٍ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَن شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إنْ شَرِبَهَا فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إنْ شَرِبَهَا فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إنْ شَرِبَهَا فِي الثَّالِثَةِ أَو الرَّابِعَةِ فَاقْتُلُوهُ"

(1)

، فَأَمَرَ بِقَتْلِ الشَّارِبِ فِي الثَّالِثَةِ أَو الرَّابِعَةِ.

وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ لَا يُوجِبُونَ الْقَتْلَ؛ بَل يَجْعَلُونَ هَذَا الْحَدِيث مَنْسُوخًا وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِن مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ.

وَطَائِفَة يَقُولُونَ: إذَا لَمْ يَنْتَهُوا عَن الشُّرْبِ إلَّا بِالْقَتْلِ جَازَ ذَلِكَ.

وَالْحَقُّ مَا تَقَدَّمَ

(2)

، وَقَد ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ

(3)

أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُدْعَى حَمَّارًا وَهُوَ كَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، فَكَانَ كُلَّمَا شَرِبَ جَلَدَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلَعَنَهُ رَجُل فَقَالَ: لَعَنَهُ اللهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤتَى بِهِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"لَا تَلْعَنْهُ؛ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ"، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ جُلِدَ مَعَ كَثْرَةِ شُرْبِهِ. [34/ 216 - 217]

* * *

(بَابُ التَّعْزِير)

4887 -

من قال: الله أكبر عليك: فهو من نحو الدعاء عليه، فإن لم يكن بحق وإلا كان ظالمًا له، يستحق الانتصار منه لذلك، إما بمثل قوله، أو تعزيره. [المستدرك 5/ 112]

4888 -

من قذف رجلًا بأنه ينظر إلى حريم الناس وهو كذاب عزر على افترائه بما يزجره وأمثاله إذا طالبه المقذوف بذلك، وكذلك إذا شتمه بأنه فاسق أو أنه يشرب الخمر، وهو كاذب عليه يعزر. [المستدرك 5/ 112]

4889 -

من اعتاد الكذب فصار إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا

(1)

قال الشيخ: وَهُوَ مَرْوِيٌّ مِن وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَهُوَ ثَابِتٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ ..

وَقَد رَوَاهُ أحْمَد وَالتِّرْمِذِي وَغَيْرُهُمَا وَلَا أَعْلَمُ أحَدًا قَدَحَ فِيهِ. (34/ 219)

(2)

وهو أنه لا يُقتل ولو شرب مرارًا، والحديث منسوخ.

(3)

البخاري (6780).

ص: 204

ائتمن خان: فهو منافق والمنافق شر من الكافر، فإذا قال رجل للذي يكذب: النصراني خير منك، وقصد أن النصراني الذي لا يكذب خير من هذا الكذاب مع أن دين الإسلام هو الحق فلا شيء عليه؛ فإن الكذب أساس النفاق، ومن لا يكذب خير ممن يكذب. [المستدرك 5/ 112]

4890 -

ومن التعزير الذي جاءت به السُّنَّة ونص عليه أحمد والشافعي: نفي المخنث، وحَلَق عمر رأس نصر بن حجاج ونفاه لما افتتن به النساء، فكذلك من افتتن به الرجال من المردان؛ بل هو أولى. [المستدرك 5/ 112]

4891 -

لا يُقَدَّر التعزير؛ بل بما يردع المعزَّر، وقد يكون بالعزل والنيل من عرضه؛ مثل أن يقال له: يا ظالم، يا معتدي، وبإقامته من المجلس.

والذين قدروا التعزير من أصحابنا: إنما هو فيما إذا كان تعزيرًا على ما مضى من فعل أو ترك.

فإن كان تعزيرًا لأجل ترك ما هو فاعل له: فهو بمنزلة قتل المرتد والحربي وقتال الباغي والعادي، وهذا تعزير غير مقدر؛ بل قد ينتهي إلى القتل، كما في الصائل لأخذ المال يجوز أن يمنع من الأخذ ولو بالقتل.

وعلى هذا: فإذا كان المقصودُ دفعَ الفساد ولم يندفع إلا بالقتل قتل، وحينئذ فمن تكرر منه فعل الفساد، ولم يرتدع بالحدود المقدرة؛ بل استمر على ذلك الفساد هو كالصائل الذي لا يندفع إلا بالقتل فيقتل.

ويمكن أن يُخَرَّج قتل الشارب في الرابعة على هذا. [المستدرك 5/ 113]

4892 -

يقتل الجاسوس الذي تكرر منه التجسس على المسلمين لعدوهم.

وهو أصل عظيم في إصلاح الناس.

وكذلك تارك الواجب، فلا يزال يعاقب حتى يفعله.

ومن فر إلى بلاد العدو ولم يندفع ضرره إلا بقتله قتل. [المستدرك 5/ 113]

ص: 205

4893 -

التعزير بالمال سائغ، إتلافًا وأخذًا وهو جار على مذهب أحمد؛ لأنه لم يختلف أصحابه أن العقوبات في الأموال غير منسوخة كلها.

وقول الشيخ أبي محمد المقدسي: لا يجوز أخذ ماله؛ يعني: المعزَّر، فإشارة منه إلى ما يأخذه الولاة الظلمة. [المستدرك 5/ 113]

4894 -

التعزير يكون على فعل المحرمات وترك الواجبات.

فمِن ترك الواجبات: مَن كتم ما يجب بيانه؛ كالبائع المدلس

(1)

، والمؤجر المدلس، والناكح وغيرهم من المُعامِلين

(2)

، وكذا الشاهد والمخبر، والمفتي والحاكم ونحوهم، فإن كتمان الحق مشبه بالكذب.

وينبغي أن يكون سببًا للضمان، كما أن الكذب سبب للضمان.

فإن ترك الواجبات عندنا في الضمان كفعل المحرمات، حتى قلنا: من قدر على إنجاء شخص بإطعام أو سقي فلم يفعل فمات ضمنه.

فعلى هذا: فلو كتم شهادة كتمانًا أبطل بها حق مسلم ضمنه، مثل أن يكون عليه حق ببينة وقد أداه حقَّه، وله بينة بالأداء، فكتم الشهادة حتى ضمن ذلك الحق، وكما لو كانت وثائق لرجل فكتمها أو جحدها حتى فات الحق، ولو قال: أنا أعلمها ولا أؤديها، فوجوب الضمان ظاهر.

وقد يكون التعزير على ترك المستحب، كما يعزر العاطس الذي لم يحمد الله بترك تشميته.

وقال أبو العباس في موضع آخر: والتعزير على الشيء دليل على تحريمه.

ومن هذا الباب ما ذكره أصحابنا وأصحاب الشافعي من قتل الداعية من

(1)

في المبيع بإخفاء عيب ونحوه.

(2)

في الأصل: (العالمين)، والتصويب من الاختيارات (433)، وكشاف القناع (6/ 125).

ص: 206

أهل البدع، كما قتل الجعد بن درهم، والجهم بن صفوان، وغيلان القدري.

وقتل هؤلاء له مأخذان:

أحدهما: كون ذلك كفرًا؛ كقتل المرتد ردة مجردة أو مغلظة، وهذا المعنى يعم الداعي إليها وغير الداعي، وإذا كفروا فيكون قتلهم من باب قتل المرتد.

والمأخذ الثاني: لما في الدعاء إلى البدعة من إفساد دين الناس، ولهذا كان أصل الإمام أحمد وغيره من فقهاء الحديث وعلمائهم، أنهم يفرقون بين الداعي إلى البدعة وغير الداعي في رد الشهادة، وترك الرواية عنه، والصلاة خلفه، وهجره، ولهذا ترك أصحاب الكتب الستة وأحمد في مسنده الرواية عن مثل عمرو بن عبيد ونحوه، ولم يتركوا الرواية عن القدرية الذين ليسوا بدعاة.

وعلى هذا المأخذ: فقتلهم من باب قتل المفسدين المحاربين؛ لأن المحاربة باللسان كالمحاربة باليد

(1)

.

ويشبه قتلُ المحاربين للسُّنَّة بالرأي: قتلَ المحاربين لها بالرواية، وهو قتل من يتعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قتل النبي صلى الله عليه وسلم الذي كذب عليه في حياته، وهو حديث جيد، لما فيه من تغيير سُنَّته.

وقرر أبو العباس هذا مع نظائر له في "الصارم المسلول، على شاتم الرسول"؛ كقتل الذي يتعرض لحرَمه أو يسبه ونحو ذلك، وكما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل المفرق بين جماعة المسلمين لما فيه من تفريق الجماعة.

ومن هذا الباب قتل الجاسوس المسلم الذي يخبر العدو بعورات المسلمين.

ومنه الذي يكذب بلسانه أو خطه، أو يأمر بذلك حتى يقتل به أعيان

(1)

كمن يُحرض على الخروج على ولي الأمر المسلم، ويدعو إلى عصيانِه وتأجيج الفتن.

ص: 207

الأمة: علماؤها وأمراؤها، فيحصل بكذبه أنواع كثيرة من الفساد، فهذا متى لم يندفع فساده إلا بقتله فلا ريب في قتله، وإن جاز أن يندفع وجاز ألا يندفع: قتل أيضًا.

وعلى هذا جاء قوله تعالى {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 32]، وقوله:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33].

وأما إن اندفع الفساد الأكبر بقتله، لكن بقي فساد دون ذلك، فهو محل نظر.

قال أبو العباس: وأفتيت أميرًا مقدمًا على عسكر كبير في الحربية

(1)

إذا نهبوا أموال المسلمين ولم ينزجروا إلا بالقتل أن يقتل من يكفون بقتله ولو أنهم عشرة؛ إذ هو من باب دفع الصائل.

قال: وأمرت أميرًا خرج لتسكين الفتنة الثائرة بين قيس ويمن قد قتل منهم ألفان أن يقتل من يحصل بقتله كف الفتنة، ولو أنهم مائة.

قال: وأفتيت ولاة الأمور في شهر رمضان، سنة أربع وسبع مائة بقتل من أمسك في سوق المسلمين وهو سكران وقد شرب الخمر مع أهل الذمة وهو مجتاز بشقة لحم يذهب بها إلى ندمائه، وكنت أفتيهم قبل هذا: بأنه يعاقب عقوبتين عقوبة على الشرب، وعقوبة على الفطر في نهار رمضان، فقالوا: ما مقدار التعزير؟ فقلت: هذا يختلف باختلاف الذنب، وحال المذنب، وحال الناس، وتوقفت عن القتل، فكبر هذا على الأمراء والناس حتى خفت أنه إن لم يقتل ينحلُّ نظام الإسلام لجرأة الناس على انتهاك المحارم في نهار رمضان، فأفتيت بقتله فقتل، ثم ظهر فيما بعد أنه كان يهوديًّا وأنه أظهر الإسلام. [المستدرك 5/ 113 - 116]

(1)

هكذا في الأصل، وفي الاختيارات (437): الحرامية.

ص: 208

4895 -

المطلوب

(1)

: له ثلاث أحوال:

أحدها: براءته في الظاهر، فهل يحضره الحاكم؟ على روايتين.

وذكر أبو العباس في موضع آخر: أن المدعي حيث ظهر كذبه في دعواه بما يؤذي به المدعى عليه عزر لكذبه ولأذاه، وأن طريقة القاضي رد هذه الدعوى على الروايتين، بخلاف ما إذا كانت ممكنة، ونص أحمد في رواية عبد الله فيما إذا عُلم بالعرف المطرد أنه لا حقيقة للدعوى لا يعدّيه

(2)

، وفيما لم يعرف واحد من الأمرين يعدّيه

(3)

، كما في رواية الأثرم، وهذا التفريق حسن.

والحال الثاني: احتمال الأمرين، وأنه يحضره بلا خلاف.

والحال الثالث: تهمته، وهو قيام سبب يوهم أن الحق عنده، فإن الاتهام افتعال من الوهم، وحبسه هنا بمنزلة حبسه بعد إقامة البينة وقبل التعزير، أو بمنزلة حبسه بعد شهادة أحد الشاهدين.

والمقصود: أنه إذا استحق التعزير وكان متهفا بما يوجب حقًّا واحدًا

(4)

؛ مثل أن يثبت عليه هتك الحرز ودخوله ولم يقر بأخذ المال وإخراجه ويثبت عليه المحاربة لخروجه بالسلاح وشهره له، ولم يثبت عليه القتل والأخذ، فهذا يعزر لما فعله من المعاصي، وهل يجوز أن يجْعل

(5)

ذلك أيضًا امتحانًا لا غير، فيجمع بين المصلحتين؟ هذا قوي في حقوق الآدميين.

فأما حدود الله تعالى عند الحاجة إلى إقامتها فيحتمل، ويقوى ذلك إذا أنكر الجميع ثم قامت البينة ببعض ما أنكر فإنه يصير لوثًا. [المستدرك 5/ 116 - 117]

(1)

الذي طُلب للقضاء.

(2)

في الأصل: (يعذبه)، والتصويب من الاختيارات (438).

(3)

في الأصل: (يعذبه)، والتصويب من الاختيارات (438).

(4)

في هامش (أ): (لعله: أو حدًّا). (الجامع).

(5)

في الأصل: (يفعل)، والتصويب من الاختيارات (439).

ص: 209

4896 -

ذكر أبو العباس: أن المرتد إذا قبلت توبته ساغ تعزيره بعد التوبة. [المستدرك 5/ 120]

4897 -

إذا كانت المعصية لا حد فيها ولا كفارة، وفعلها: فإنه يعزر.

وقد يفعل معصية لا كفارة فيها ولا حد ولا تعزير أيضًا كما لو شتم نفسه أو سبَّها قاله القاضي، ومال الشيخ تقي الدين إلى وجوب التعزير. [المستدرك 5/ 120]

4898 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَن رَجُلٍ لَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ فَاتُّهِمَ وَضُرِبَ بِالْمَقَارعِ، وَخَسِرَ وَالِدُهُ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ وُجِدَت السَّرِقَةُ، فَجَاءَ صَاحِبُ السَّرِقَةِ وَصَالَحَ المتهوم عَلَى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَهَل يَصِحُّ مِنْهُ

(1)

إبْرَاءٌ بِغَيْرِ رِضَى وَالِدِهِ إذَا كَانَ تَحْتَ الْحَجْر؟

فَأَجَابَ: إذَا كَانَ الْمَضْرُوبُ تَحْتَ حَجْرِ أَبِيهِ: لَمْ يَصِحَّ صُلْحُهُ وَلَا إبْرَاؤُهُ

(2)

.

وَمَا غَرِمَهُ أَبُوهُ بِسَبَبِ هَذِهِ التُّهْمَةِ الْبَاطِلَةِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى مَن غَرَّمَهُ إيَّاهُ بِعُدْوَانِهِ، سَوَاءٌ أَبْرَأَهُ الِابْنُ أَو لَمْ يُبْرِئْهُ؛ فَالْمَضْرُوبُ يَسْتَحِقُّ أَنْ يَضْرِبَ مَن طَلَبَ ضَرْبَهُ مِن الْمُتَّهِمِينَ لَهُ مِثْل مَا ضَرَبَهُ إذَا لَمْ يُعْرَفْ بِالشَّرِّ قَبْلَ ذَلِكَ، هَكَذَا ذَكَرَهُ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ اللهِ وَرَسُولِهِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ، فَإِنَّهُ قَالَ لِقَوْم طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَضْرِبَ رَجُلًا عَلَى تُهْمَةٍ: إنْ شِئْتُمْ ضَرَبْته لَكمْ، فَإِنْ ظَهَرَ مَا لَكُمْ عِنْدَهُ وَإِلَّا ضَرَبْتُكُمْ مِثْل مَا ضَرَبْته، فَقَالُوا: هَذَا حُكْمُك؟ فَقَالَ: هَذَا

(1)

أي: من الصبي المضروب.

(2)

وقد نصّ الفقهاء على أنه لَا يَصِحُّ تَصَرُّفُ صَبِيٍّ وَسَفِيهٍ بِغَيْرِ إِذْنِ وَليٍّ، حتى وإن كان مراهقًا له أربع عشرة سنة، وكان حاذقًا جيدًا في البيع والشراء، فإنه لا يصح بيعه؛ لأنه صغير لم يبلغ.

والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]، فاشترط الله لدفع أموالهم شرطين: بلوغ النكاح وذلك بالبلوغ، والرشد. يُنظر: الشرح الممتع (8/ 111).

ص: 210

حُكْمُ اللهِ وَرَسُولِهِ

(1)

.

وَهَذَا فِي ضَرْبِ مَن لَمْ يُعْرَفْ بِالشَّرِّ، وَأَمَّا ضَرْبُ مِن عُرِفَ بِالشَّرِّ فَذَاكَ مَقَامٌ آخَرُ. [34/ 231 - 232]

4899 -

مَن فَعَلَ مُحَرَّمًا أَو تَرَكَ وَاجِبًا اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُقَدَّرَةً بِالشَّرْعِ كَانَ تَعْزِيرًا يَجْتَهِدُ فِيهِ وَلي الْأَمْرِ، فَيُعَاقِبُ الْغَنِيَّ الْمُمَاطِلَ بِالْحَبْسِ، فَإِنْ أَصَرَّ عُوقِبَ بِالضَّرْبِ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْوَاجِبَ، وَقَد نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْفقَهَاءُ مِن أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ رضي الله عنهم، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. [28/ 279]

* * *

(واجب الرجل تجاه الخدم والعمال)

4900 -

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ: عَن رَجُل مِن أُمَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ لَهُ مَمَالِيكُ وَعِنْدَهُ غِلْمَانٌ، فَهَل لَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى أَحَدِهِمْ حَدًّا إذَا ارْتكَبَهُ؟

فَأَجَابَ: الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَهُم كُلَّهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُم عَن الْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، وَأَقَلُّ مَا يَفْعَلُ: أَنَّهُ إذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا مِنْهُم يَشْتَرِطُ عَلَيْهِ ذَلِكَ كَمَا يَشْتَرِطُ عَلَيْهِ مَا يَشْتَرِطُهُ مِن الْأَعْمَالِ، وَمَتَى خَرَجَ وَاحِدٌ مِنْهُم عَن ذَلِكَ طَرَدَهُ

(2)

.

وَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى عُقُوبَتِهِمْ بِحَيْثُ يُقِرُّهُ السُّلْطَانُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْعُرْفِ الَّذِي اعْتَادَ النَّاسُ، وَغَيْرُهُ لَا يُعَاقِبُهُم عَلَى ذَلِكَ لِكَوْنِهِمْ تَحْتَ حِمَايَتِهِ وَنَحْو ذَلِكَ: فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَزِّرَهُم عَلَى ذَلِكَ إذَا لَمْ يُؤَدُّوا الْوَاجِبَاتِ وَيتْرُكُوا الْمُحَرَّمَاتِ إلَّا بِالْعُقُوبَةِ، وَهُوَ الْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ حِينَئِذٍ، فَإِنَّهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَيْهِ.

فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُقِيمَ هُوَ الْوَاجِبَ وَلَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ بِالْوَاجِبِ: صَارَ الْجَمِيعُ

(1)

رواه النسائي في الكبرى (7320) وقَال: هَذَا حَدِيث مُنْكَز لَا يُحْتَجُّ بِمِثْلِهِ، وَإِنَّمَا أخْرَجْتُهُ لِيُعْرَفَ.

(2)

وهكذا يجب على كل من استقدم عاملًا في هذا الزمان، أن يَأمُرَهُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُ عَن الْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، وَمَتَى لم يلتزم ذلك مع كثرة النصح والموعظة الحسنة: طَرَده.

ص: 211

مُسْتَحِقِّينَ الْعُقُوبَةَ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوُا الْمُنْكرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُم اللهُ بِعِقَاب مِنْهُ"

(1)

.

فَمِن الْقَبِيحِ أنْ يُعَاقِبَهُم عَلَى حُقُوقِهِ وَلَا يُعَاقِبَهُم عَلَى حُقُوقِ اللهِ

(2)

!

وَالتَّأْدِيبُ يَكُونُ بِسَوْطٍ مُعْتَدِلٍ، وَضَرْبٍ مُعْتَدِلٍ، وَلَا يَضْرِبُ الْوَجْهَ وَلَا الْمَقَاتِلَ. [34/ 225 - 226]

* * *

(عقوبةُ من شَتَمَ أَبَاهُ)

4901 -

إذَا شَتَمَ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَاعْتَدَى عَلَيْهِ: فَإِنَّهُ يَجِبُ أنْ يُعَاقَبَ عُقُوبَةً بَلِيغَةً تَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ عَن مِثْل ذَلِكَ؛ بَل وَأَبْلَغُ مِن ذَلِكَ أَنَّهُ قَد ثَبَتَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي "الصَّحِيحَيْنِ"

(3)

أَنَّهُ قَالَ: "مِن الْكَبَائِرِ أَنْ يَسُبَّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ! " قَالُوا: وَكَيْفَ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: "يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَباهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُب أمَّهُ".

فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَد جَعَلَ مِن الْكَبَائِرِ أَنْ يَسبَّ الرَّجُلُ أَبَا غَيْرِهِ لِئَلَّا يَسُبَّ أَبَاهُ، فكَيْفَ إذَا سَبَّ هُوَ أَبَاه مُبَاشَرَةً؟. [34/ 226]

* * *

(حكم الِاسْتِمنَاء)

4902 -

أَمَّا الِاسْتِمْنَاء بِالْيَدِ فَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَكَذَلِكَ يُعَزَّزُ مَن فَعَلَهُ.

وَفي الْقَوْلِ الْآخَرِ هُوَ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، وَأَكْثَرُهُم لَا يُبِيحُونَهُ لِخَوْفِ الْعَنَتِ وَلَا غَيْرِهِ.

(1)

رواه ابن ماجه (4005)، وأحمد (1)، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع (1974).

(2)

وهكذا يقبح بالوالدين أن يُعاقبوا أبناءهم على انتهاك حقوقهم، ومُخالفة أوامرهم، ولَا يُعاقِبوهمْ على انتهاكِ حُقُوقِ اللهِ.

(3)

البخاري (5973)، ومسلم (90).

ص: 212

وَنُقِلَ عَن طَائِفَةٍ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّهُم رَخَّصوا فِيهِ لِلضَّرُورَةِ؛ مِثْل أَنْ يَخْشَى الزنا فَلَا يُعْصَمُ مِنْهُ إلَّا بِهِ، وَمِثْل أَنْ يَخَافَ إنْ لَمْ يَفْعَلْهُ أَنْ يَمْرَضَ، وَهَذَا قَوْلُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ.

وَأَمَّا بِدُونِ الضَّرُورَةِ فَمَا عَلِمْت أَحَدًا رَخَّصَ فِيهِ. [34/ 229 - 230]

* * *

(بَاب الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ)

4903 -

نصابها ثلاثة دراهم خالصة ومغشوشة. [المستدرك 5/ 121]

4904 -

اللّص الذي غرضه سرقة أموال الناس، ولا غرض له في شخص معين: فإنَّ قطع يده واجب، ولو عفا عنه رب المال. [المستدرك 5/ 121]

4905 -

لا يشترط في القطع في السرقة مطالبة المسروق منه بماله، وهي رواية عن أحمد، ومذهب مالك؛ كإقرار بالزنا بأمة غيره. [المستدرك 5/ 121]

4906 -

من سرق ثمرًا أو كثرًا أو ماشية من غير حرز: أضعفت عليه القيمة وهو مذهب أحمد، وكذا غيرها، وهو رواية عنه.

وأما غير الشجر والنخل والماشية إذا سرقه من غير حرز: فلا يضمن عوضها إلا مرة واحدة.

وعنه: أن ذلك كالثمر والماشية، اختاره أبو بكر، والشيخ تقي الدين. [المستدرك 5/ 121 - 122]

4907 -

قال في الفروع: وقياس قول شيخنا -يعني به: الشيخ تقي الدين-: أن السارق كالشارب في الرابعة يقتل عنده إذا لم يتب بدونه. [المستدرك 5/ 122]

4908 -

اختار تعزير مدَّعِ سرقةٍ ونحوها على من تُعلم براءته. [المستدرك 5/ 122]

ص: 213

4909 -

خَبَرُ مَن قَالَ لَهُ جِنِّيٌّ بِأَنَّ فُلَانًا سَرَقَ كَذَا: كَخَبَرِ إنْسِيٍّ مَجْهُولٍ فَيُفِيدُ تُهْمَةً. [إقامة الدليل على إبطال التحليل 436]

* * *

‌(أَصْنَافُ النَّاس فِي التُّهَمِ، وهل يجوز حبس المتهم دون قيام البيِّنة على ذلك

؟)

4910 -

أَمَّا التُّهَمُ فِي السَّرِقَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ [أي: الوالي] أَنْ يُفَوِّضَهَا إلَى مَن يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَظْلِمُ فِيهَا، مَعَ إمْكانِ أَنْ يُقِيمَ فِيهَا مِن الْعُدُولِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ.

وَذَلِكَ أَنَ النَّاسَ فِي التُّهَمِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ:

أ- صِنْفٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ بِالدّينِ وَالْوَرَعِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِن أَهْلِ التُّهَمِ، فَهَذَا لَا يُحْبَسُ وَلَا يُضْرَبُ؛ بَل وَلَا يُسْتَحْلَفُ فِي أَحَدِ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ؛ بَل يُؤَدَّبُ مَن يَتَّهِمُهُ فِيمَا ذَكَرَهُ كَثيرٌ مِنْهُمْ.

ب- والثانِي: مَن يَكُونُ مَجْهُولَ الْحَالِ لَا يُعْرَفُ بِبِرٍّ وَلَا فُجُورٍ، فَهَذَا يُحْبَسُ حَتَّى يُكْشَفَ عَن حَالِهِ.

وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْر أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم حَبَسَ فِي تُهْمَةٍ

(1)

.

وَقَد نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْأئِمَّةُ؛ وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَو ادَّعَى عَلَيْهِ مُدَّعٍ، فَإِنَّهُ يَحْضُرُ مَجْلِسَ وَليِّ الْأَمْرِ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا، وَإِن كَانَ فِي ذَلِكَ تَعْوِيقُهُ عَن أَشْغَالِهِ فَكَذَلِكَ تَعْوِيقُ هَذَا إلَى أَنْ يُعْلَمَ أَمْرُهُ، ثُمَّ إذَا سَأَلَ عَنْهُ وَوُجِدَ بَارًّا أُطْلِقَ، وَإِن وُجِدَ فَاجِرًا كَانَ مِن:

ج- الصِّنْفِ الثالِثِ، وَهُوَ الْفَاجِرُ الَّذِي قَد عُرِفَ مِنْهُ السَّرِقَةُ قَبْلَ ذَلِكَ،

(1)

رواه الترمذي (1417)، وأبو داود (3630)، والنسائي (4875)، وحسَّنه الترمذيُّ والألبانيّ.

ص: 214

أَو عُرِفَ بِأسْبَابِ السَّرِقَةِ؛ مِثْل أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِالْقِمَارِ وَالْفَوَاحِشِ الَّتِي لَا تَتَأَتَّى إلَّا بالْمَالِ، وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذَا لَوْثٌ فِي التُّهْمَةِ

(1)

؛ وَلهَذَا قَالَتْ طَائِفَةٌ مِن الْعُلَمَاءِ إنَّ مِثْل هَذَا يُمْتَحَنُ بِالضَّرْبِ يَضْرِبُهُ الْوَالِي وَالْقَاضِي .. حَتَّى يُقِرَّ بِالْمَالِ

(2)

.

ثُمَّ الْمُتَوَلِّي لَهُ أَنْ يَقْصِدَ بِضَرْبِهِ مَعَ تَقْرِيرِهِ: عُقُوبَتَهُ عَلَى فُجُورِهِ الْمَعْرُوفِ فَيَكُونُ تَعْزِيرًا وَتَقْرِيرًا.

وَلَيْسَ عَلَى الْمُتَوَلِّي أَنْ يُرْسِلَ جَمِيعَ المتهومين

(3)

حَتَّى يَأْتِيَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَن سَرَقَ

(4)

؛ بَل قَد أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ فِي قِصَّةٍ كَانَت تُهْمَةً فِي سَرِقَةٍ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)} [النساء: 105] .. إلَى آخِرِ الْآيَاتِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْمًا يُقَالُ لَهُم بَنُو أبيرق سَرَقُوا لِبَعْضِ الْأَنْصَارِ طَعَامًا وَدِرْعَيْنِ، فَجَاءَ

(1)

أي: قرينةٌ وشبه دلالة، ولم تصل إلى حدِّ البينة التامة.

(2)

أو بما اتُّهم به.

(3)

التُّهْمة فُعْلة مِنَ الوَهْم وهو الظن، وَالتَّاءُ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ، وعلماء اللغة ذكروا هذه اللفظة في باب (وهم)، لا في باب؛ (تهم)، كما فعل ذلك صاحب تاج العروس، والنهاية في غريب الحديث.

واسم المفعول: مُتّهم، ولم أجد من قال: متهوم.

وبعد البحث وجدت ما يعضد كلامي والحمد لله ربِّ العالمين، جاء في معجم الصواب اللغوي دليل المثقف العربي (4376): مثال: فلانٌ مَتْهومٌ في قضية كبرى.

الرأي: مرفوضة عند الأكثرين.

السبب: لأن الفعل الثلاثي "تَهِم" لم يرد بهذا المعنى في المعاجم، ولا اسم المفعول منه كذلك.

الصواب والرتبة: -فلانٌ مُتَّهمٌ في قضية كبرى [فصيحة]- فلانٌ مَتْهومٌ في قضية كبرى [مقبولة].

التعليق: الموجود في المعاجم استخدام الفعل "اتّهم"، لمعنى أدخل "التُهْمة" واسم المفعول منه "مُتَّهَمٌ". ولكن يبدو أن من استخدم اسم المفعول "متهوم" قد اشتقه من الفعل (تهم) على توهم أصالة التاء.

(4)

أي: لا يحق له أن يُطلقهم حتى يأتي أصحاب الأموال بالبينة على صحة اتهامهم، وقد استدل الشيخ على كلامه بأدلة صحيحة مقنعة.

ص: 215

صَاحِبُ الْمَالِ يَشْتَكِي إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ قَوْمٌ يُزَكُّونَ الْمُتَّهَمِينَ بِالْبَاطِلِ، فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ظَنَّ صِدْقَ الْمُزَكِّينَ، فَلَامَ صَاحِبَ الْمَالِ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَلَمْ يَقُل النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِصَاحِبِ الْمَالِ: أَقِم الْبَينةَ، وَلَا حَلَّفَ الْمُتَّهَمِينَ؛ لِأَنَّ أُولَئِكَ الْمُتَّهَمِينَ كَانُوا مَعْرُوفِينَ بِالشَّرِّ، وَظَهَرَت الرِّيبَةُ عَلَيْهِمْ.

وَهَكَذَا حَكَمَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِالْقَسَامَةِ فِي الدّمَاءِ إذَا كَانَ هُنَاكَ لَوْثٌ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُ الْمُدَّعِينَ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ مِن الْحُدُودِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، لَيْسَتْ مِن الْحُقُوقِ الْخَاصَّةِ.

فَلَوْلَا الْقَسَامَةُ فِي الدِّمَاءِ لَأَفْضَى إلَى سَفْكِ الدّمَاءِ فَيَقْتُلُ الرَّجُلُ عَدُوَّهُ خُفْيَةً، وَلَا يُمْكِنُ أَوْليَاءُ الْمَقْتُولِ إقَامَة الْبَيِّنةِ.

وَالْيَمِينُ عَلَى الْقَاتِلِ وَالسَّارِقِ وَالْقَاطِعِ: سَهْلَةٌ؛ فَإِنَّ مَن يَسْتَحِلُّ هَذِهِ الْأمُورَ لَا يَكْتَرِثُ بِالْيَمِينِ.

وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لَو يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُم لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ"

(1)

: هَذَا فِيمَا لَا يُمْكِنُ مِن الْمُدَّعِي حُجَّةٌ غَيْرَ الدَّعْوَى، فَإِنَّهُ لَا يُعْطَى بِهَا شَيْئًا، وَلَكِنْ يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.

فَأمَّا إذَا أَقَامَ شَاهِدًا بِالْمَالِ: فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَد حَكَمَ فِي الْمَالِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ وَأهْلِ الْحَدِيثِ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ.

وَإِذَا كَانَ فِي دَعْوَى الذَمِ لَوْثٌ: فَقَد قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لِلْمُدَّعِينَ: "أتحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ "

(2)

.

كَذَلِكَ أَمْرُ قُطَّاع الطَّرِيقِ وأَمْرُ اللُّصُوصِ، وَهُوَ مِن الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي لَيْسَتْ مِن الْحُقُوقِ الْخَاصَّةِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَا يَأَمَنُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فِي

(1)

رواه مسلم (1711)، وأصله في الصحيحين.

(2)

رواه مسلم (1669).

ص: 216

الْمَسَاكِنِ وَالطُّرُقَاتِ إلَّا بِمَا يَزْجُرُهُم فِي قَطْعِ هَؤُلَاءِ، وَلَا يَزْجُرُهُم أَنْ يَحْلِفَ كُلٌّ مِنْهُم؛ وَلهَذَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَ قَاطِعَ الطَّرِيقِ لِأَخْذِ الْمَالِ يُقْتَل حَتْمًا وَقَتْلُهُ حَدٌّ للهِ، وَلَيْسَ قَتْلُهُ مُفَوَّضًا إلَى أَوْليَاءِ الْمَقْتُولِ.

قَالُوا: لِأَنَّ هَذَا لَمْ يَقْتُلْهُ لِغَرَضٍ خَاصٍّ مَعَهُ

(1)

، إنَّمَا قَتَلَهُ لِأَجْلِ الْمَالِ، فَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ هَذَا الْمَقْتُولِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، فَقَتْلُهُ مَصلَحَةٌ عَامَّةٌ، فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُقِيمَ ذَلِكَ.

وَكَذَلِكَ السَّارِقُ لَيْسَ غَرَضُهُ فِي مَالٍ مُعَيَّنٍ، وَإِنَّمَا غَرَضُة أَخْذُ مَالِ هَذَا وَمَالِ هَذَا، كَذَلِكَ كَانَ قَطْعُة حَقًّا وَاجِبًا للهِ لَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ؛ بَل رَبُّ الْمَالِ يَأُخُذُ مَالَهُ وَتُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ، حَتَّى لَو قَالَ صَاحِب الْمَالِ: أَنَا أُعْطِيهِ مَالِي لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْقَطْعُ، كَمَا قَالَ صَفْوَانُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَا أَهَبُهُ رِدَائِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"فَهَلَّا فَعَلْت قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ بِهِ".

وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا: مَن ظَهَرَ عِنْدَهُ مَالٌ يَجِبُ عَلَيْهِ إحْضَارُهُ؛ كَالْمَدِينِ إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ غَيَّبَ مَالَهُ وَأَصَرَّ عَلَى الْحَبْسِ، وَكَمَنَ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ وَلَمْ يَرُدَّهَا إلَى مُسْتَحِقِّهَا ظَهَرَ كَذِبُهُ فَإِنَّهُ لَا يَحْلِفُ، لَكِنْ يُضْرَبُ حَتَّى يُحْضِرَ الْمَالَ الَّذِي يَجِبُ إحْضَارُهُ، أَو يُعَرِّفُ مَكَانَهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ عَامَ خَيْبَرٍ فِي عَمِّ حيي بْنِ أَخْطَبَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَالَحَهُم عَلَى أَنَّ لَهُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، فَقَالَ لِهَذَا الرَّجُلِ:"أَيْنَ كنْزُ حيي بْنِ أَخْطَبَ؟ "، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَذْهَبَتْهُ النَّفَقَاتُ وَالْحُرُوبُ، فَقَالَ:"الْمَالُ كثِيرٌ وَالْعَهْدُ أَحْدَثُ مِن هَذَا"، ثُمَّ قَالَ:"دُونَك هَذَا"، فَمَسَّهُ بِشَيْء مِن الْعَذَابِ فَدَلَّهُم عَلَيْهِ فِي خَرِبَةٍ هُنَاكَ

(2)

.

فَهَذَا لَمَّا قَالَ أذْهَبَتْهُ النَّفَقَاتُ وَالْحُرُوبُ، وَالْعَادَةُ تكَذِّبُهُ فِي ذَلِكَ: لَمْ

(1)

أي: أن القاتل لم يقتل المقتول لعداوة بينهما.

(2)

رواه ابن حبان (5199)، والبيهقي (18387)، وحسَّنه الألباني في التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان (5176).

ص: 217

يَلْتَفتْ إلَيْهِ؛ بَل أَمَرَ بِعُقُوبَتِهِ حَتَّى دَلَّهُم عَلَى الْمَالِ، فَكَذَلِكَ مَن أَخَذَ مِن أَمْوَالِ النَّاسِ وَادَّعَى ذَهَابَهَا دَعْوَى تكذِّبُهُ فِيهَا الْعَادَةُ كَانَ هَذَا حُكْمهُ. [34/ 236 - 240]

4911 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَمَّن كَانَ لَهُ ذَهَبٌ مَخِيطٌ فِي ثَوْبِهِ فَأعْطَاهُ لِلْغَسَّالِ نِسْيَانًا، فَلَمَّا رَدَّهُ الْغَسَّالُ إلَيْهِ بَعْدَ غَسْلِهِ وَجَدَ مَكَانَ الذَّهَبِ مُفَتَّقًا وَلَمْ يَجِدْهُ، فَمَا الْحُكْمُ فِيهِ؟

الْجَوَابُ: إمَّا أَنْ يَحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا يُبرِّيهِ، وَإِمَّا أَنْ يَحْلِفَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ أَخَذَ الذَّهَبَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيضْمَنُهُ، فَإِنْ كَانَ الْغَسَّالُ مَعْرُوفًا بِالْفُجُورِ وَظَهَرَت الرِّيبَةُ بِظُهُورِ الْفَتْقِ جَازَ ضَرْبُهُ وَتَعْزِيرُهُ. [34/ 240]

* * *

(بَابُ حَدِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ)

4912 -

أَجَمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ مُقَاتَلَةِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَقَد ثَبَتَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"مَن قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شهِيدٌ"

(1)

.

فَالْقُطَّاعُ إذَا طَلَبُوا مَالَ الْمَعْصُومِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُم شَيْئًا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ؛ بَل يَدْفَعُهُم بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ، فَإِنْ لَمْ يَنْدَفِعُوا إلَّا بِالْقِتَالِ فَلَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ، فَإِنْ قُتِلَ كَانَ شَهِيدًا، وَإِن قَتَلَ وَاحِدًا مِنْهُم عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ دَمُهُ هَدَرًا.

وَكَذَلِكَ إذَا طَلَبُوا دَمَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُم وَلَو بِالْقَتْلِ إجْمَاعًا، لَكِنَ الدَّفْعَ عَن الْمَالِ لَا يَجِبُ؛ بَل يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُم الْمَالَ وَلَا يُقَاتِلَهُمْ.

وَأَمَّا الدَّفْعُ عَن النَّفْسِ فَفِي وُجُوبِهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَن أَحْمَد. [34/ 242]

4913 -

وَسُئِلَ -رفع الله منزلته في الفردوس الأعلى

(2)

-: عَن ثَلَاثَةٍ مِن

(1)

رواه البخاري (2480)، ومسلم (141).

(2)

آمين، وجمعنا به في دار كرامته.

ص: 218

اللُّصُوصِ أَخَذَ اثْنَانِ مِنْهُم جِمَالًا، وَالثَّالِثُ قَتَلَ الْجَمَّالَ، هَل تُقْتَلُ الثَّلَاثَةُ؟ فَأجَابَ: إذَا كَانَ الثَّلَاثَةُ حَرَامِيَّةً اجْتَمَعُوا لِيَأْخُذُوا الْمَالَ بِالْمُحَارَبَةِ قُتِلَ الثَّلَاثَةُ وإِن كَانَ الَّذِي بَاشَرَ الْقَتْلَ وَاحِدًا مِنْهُمْ. [34/ 244]

4914 -

المحاربون في المصر والصحراء حكمهم واحد، وهو قول مالك في المشهور عنه والشافعي وأكثر أصحابنا. [المستدرك 5/ 122]

* * *

‌الكفارات

4915 -

حَلِفُ كُلِّ وَاحِدٍ أَنَّ أَفْضَلَ الْمَذَاهِبِ مَذْهَبُ فُلَانٍ: إنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُم يَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا: لَا يَحْنَثُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ.

وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَن حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُة كَمَا لَو حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ. [20/ 205 - 206]

4916 -

قِيلَ: الصَّيْدُ هو مِن بَابِ ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ كَدِيَةِ الْمَقْتُولِ، بِخِلَافِ الطّيبِ وَاللّبَاسِ فَإِنَّهُ مِن بَابِ التَّرَفُّهِ، وَكَذَلِكَ الْحَلْقُ وَالتَّقْلِيمُ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مِن بَابِ التَّرَفُّهِ لَا مِن بَابِ مُتْلَي لَهُ قِيمَةٌ فَإِنَّه لَا قِيمَةَ لِذَلِكَ؛ فَلِهَذَا كَانَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ أَنْ لَا كَفَّارَةَ فِي شَيْءٍ مِن ذَلِكَ إلَّا فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ.

وَطَرْدُ هَذَا أَنَّ مَن فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ نَاسِيًا لَا يَحْنَثُ، سَوَاءٌ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَو الْعَتَاقِ أَو غَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّ مَن فَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ نَاسِيًا لَمْ يَعْصِ وَلَمْ يُخَالِفْ، وَالْحِنْثُ فِي الْأَيْمَانِ؛ كَالْمَعْصِيَةِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.

وَكَذَلِكَ مَن بَاشَرَ النَّجَاسَةَ فِي الصَّلَاةِ نَاسِيًا فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِن بَابِ فِعْلِ الْمَحْظُورِ، بِخِلَافِ تَرْكِ طَهَارَةِ الْحَدَثِ فَإِنَّهُ مِن بَابِ الْمَأمُورِ [20/ 570]

* * *

ص: 219

‌كتاب الأطعمة

4917 -

هِيَ [أي: لُحُومِ الْخَيْلِ]: حَلَالٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ؛ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَصَاحِبَي أَبِي حَنِيفَةَ وَعَامَّةِ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ، وَقَد ثَبَتَ أَنَّهُم نَحَرُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا وَأَكَلَ لَحْمَهُ. [35/ 208]

4918 -

إذَا تَوَلَّدَ الْبَغْلُ بَيْنَ فَرَسٍ وَحِمَارِ وَحْشٍ، أَو بَيْنَ أَتَانٍ وَحِصَانٍ: جَازَ أَكْلُهُ، وَهَكَذَا كُلُّ مُتَوَلِّدٍ بَيْنَ أَصْلَيْنِ مُبَاحَيْنِ، وَإِنَّمَا حَرُمَ مَا تَوَلَّدَ مِن بَيْنِ حَلَالٍ وَحَرَام؛ كَالْبَغْلِ الَّذِي أَحَدُ أَبَوَيْهِ حِمَارٌ أَهْلِيٌّ. [35/ 208]

4919 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَن نَعْجَةٍ وَلَدَتْ خَرُوفًا نِصْفُهُ كَلْبٌ وَنصْفُهُ خَرُوفٌ وَهُوَ نِصْفَانِ بِالطُّولِ، هَل يَحِلُّ أَكْلُهُ؟

فَأَجَابَ: لَا يُؤكَلُ مِن ذَلِكَ شَيْءٌ؛ فَإِنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِن حَلَالٍ وَحَرَامٍ وَإِن كَانَ ممَيَّزًا؛ لِأَنَّ الْأَكْلَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ التَّذْكِيَةِ، وَلَا يَصِحُّ تَذْكِيَةُ مِثْل هَذَا لِأَجْلِ الِاختِلَاطِ. [35/ 209]

4920 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَن رَجُلٍ: نَزَلَ عِنْدَ قَوْمِ وَلَمْ يَكُن مَعَهُ مَا يَأْكُلُ هُوَ وَلَا دَابَّتُهُ، وَامْتَنَعَ الْقَوْمُ أَنْ يَبِيعوهُ وَأَنْ يُضِيفُوهُ، فَحَصَلَ لَهُ ضَرَرٌ وَلدَابَّتِهِ، فَهَل لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُم مَا يَكْفِيهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ؟

فَأَجَابَ: إذَا اضْطَرَّ هُوَ وَدَابَّتُهُ وَعِنْدَهُم مَالٌ يَطْعَمُونَهُ وَلَمْ يَطْعَمُوهُ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ كِفَايَتَهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ وَيُعْطِيَهُم ثَمَنَ الْمِثْلِ.

وَإِن كَانَ فِي سَفَرٍ وَجَبَ عَلَيْهِم أَنْ يُضِيفُوهُ إنْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى ضِيَافَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يُضِيفُوهُ أَخَذَ ضِيَافَتَهُ بِغَيْرِ اخْتيَارِهِمْ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا رَجُلٍ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِم أَنْ يَقْرُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُ فَلَهُ أَنْ يُعَاقِبَهُم بِمِثْل قِرَاهُ مِن

ص: 220

زَرْعِهِمْ وَمَالِهِمْ"

(1)

.

4921 -

أما الضبع فإنها مباحة في مذهب مالك والشافعي وأحمد، وحرام في مذهب أبي حنيفة؛ لأنها من ذوات الأنياب، والأولون استدلّوا بقوله صلى الله عليه وسلم:"إنها صيد وأمر بأكلها" رواه أهل السنن وصححه الترمذي

(2)

.

قالوا: ليس لها ناب؛ لأن أضراسها صفيحة لا ناب فيها. [المستدرك 5/ 132]

4922 -

في كلب الماء نزاع، الأولى تركه. [المستدرك 5/ 132]

4923 -

وما يستخبث؛ أي: تستخبثه العرب، وقال الشيخ تقي الدين: وعند الإمام أحمد وقدماء أصحابه لا أثر لاستخباث العرب، وإن لم يحرمه الشرع حل. [المستدرك 5/ 133]

4924 -

من اضطر إلى محرم حل منه ما يسد رمقه؛ يعني: ويجب عليه أكل ذلك على الصحيح من المذهب نص عليه، وذكره الشيخ تقي الدين وفاقًا. [المستدرك 5/ 133]

4925 -

يجب تقديم السؤال

(3)

على أكل المحرم على الصحيح من المذهب، وقال الشيخ تقي الدين: إنه يجب ولا يأثم، وأنه ظاهر المذهب. [المستدرك 5/ 134]

4926 -

المضطر إلى طعام الغير:

- إن كان فقيرًا: فلا يلزمه عوض؛ إذ إطعام الجائع وكسوة العاري فرض كفاية، ويصيران فرض عين على المعين إذا لم يقم به غيره.

(1)

رواه أبو داود (4604)، وأحمد (17174)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.

(2)

رواه أبو داود (3801)، والترمذي (851)، والنسائي (2836)، وابن ماجه (3236)، والدارمي (1984)، وأحمد (14165)، وصحَّحه الألباني في صحيح النسائي.

(3)

أي: سؤال الناس المال والطعام.

ص: 221

- وإن كان غنيًّا: لزمه العوض؛ إذ الواجب معاوضته. [المستدرك 5/ 134]

4927 -

إذا وجد المضطر طعامًا لا يعرف مالكه وميتة: فإنه يأكل الميتة إذا لم يعرف مالك الطعام وأمكن رده إليه بعينه، أما إذا تعذر رده إلى مالكه، بحيث يجب أن يصرف إلى الفقراء؛ كالمغصوب والأمانات التي لا يعرف مالكها: فإنه يقدم ذلك على الميتة. [المستدرك 5/ 134]

4928 -

الضِّيَافَة قَدْرَ كِفَايَتِهِ مع الْأُدْمِ على الصَّحِيحِ من الْمَذْهَبِ، وَأَوْجَبَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى الْمَعْرُوفَ عَادَةً؛ كَزَوْجَةٍ وَقَرِيبٍ وَرَقِيقٍ. [الإنصاف 10/ 382]

4929 -

يأكل الضيف على ملك صاحب الطعام على وجه الإباحة، وليس ذلك بتمليك. [المستدرك 5/ 135]

4930 -

يكره ذبح الفرس الذي ينتفع به في الجهاد بلا نزاع. [المستدرك 5/ 135]

4931 -

أَكْلُ الشَّوَى والشريح جَائِزٌ، سَوَاءٌ غَسَلَ اللَّحْمَ أَو لَمْ يَغْسِلْ؛ بَل غَسْل لَحْمِ الذَّبِيحَةِ بِدْعَة

(1)

. [21/ 522]

4932 -

وسُئل شيخ الإسلام رحمه الله عَن رَجُلٍ نَقَلَ عَن بَعْضِ السَّلَفِ مِن الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ قَالَ: أَكْلُ الْحَلَالِ مُتَعَذَّرٌ لَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ؟

فَأَجَابَ رضي الله عنه: هَذَا الْقَائِلُ الَّذِي قَالَ: أَكْلُ الْحَلَالِ مُتَعَذّرٌ لَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ غالط مُخْطِئٌ فِي قَوْلِهِ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّ مِثْل هَذِهِ الْمَقَالَةِ كَانَ يَقُولُهَا بَعْضُ أَهْلِ الْبِدَع وَبَعْضُ أَهْلِ الْفِقْهِ الْفَاسِدِ وَبَعْضُ أَهْلِ النُّسُكِ الْفَاسِدِ، فَأَنْكَرَ الْأَئِمَّةُ ذَلِكَ، حَتَّى الْإِمَامُ أَحْمَد فِي وَرَعِهِ الْمَشْهُورِ كَانَ يُنْكِرُ مِثْل هَذِهِ الْمَقَالَةِ.

(1)

إذا كان تديُّنًا، أما إذا كان لأمر آخر؛ كأن يُصيبها وسخ ونحوه فلا بأس.

ص: 222

وَهَؤلَاءِ يَحْكُونَ فِي الْوَرَعِ الْفَاسِدِ حِكَايَاتٍ بَعْضُهَا كَذِبٌ مِمَن نقِلَ عَنْهُ وَبَعْضُهَا غَلَطٌ، كَمَاْ يَحْكُونَ عَن الْإِمَامِ أحْمَد: أَنَّ ابْنَهُ صَالِحًا لَمَّا تَوَلَّى الْقَضَاءَ لَمْ يَكُن يَخْبِزُ فِي دَارِهِ، وَأَنَّ أَهْلَهُ خَبَزُوا فِي تَنُّورِهِ فَلَمْ يَأَكُل الْخُبْزَ؛ فَأَلْقَوْهُ فِي دِجْلَة فَلَمْ يَكُن يَأْكُلُ مِن صَيْدِ دِجْلَة!

وَهَذَا مِن أَعْظَمِ الْكَذِبِ وَالْفِرْيَةِ عَلَى مِثْل هَذَا الْإِمَامِ، وَلَا يَفْعَلُ مِثْل هَذَا إلَّا مَن هُوَ مِن أَجْهَلِ النَّاسِ أَو أَعْظَمِهِمْ مَكْرًا بِالنَاسِ وَاحْتِيَالًا عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَقَد نَزَّهَهُ اللهُ عَن هَذَا وَهَذَا.

وَكُلُّ عَالِمٍ يَعْلَمُ أَنَّ ابْنَهُ لَمْ يَتَوَلَّ الْقَضَاءَ فِي حَيَاتِهِ وَإِنَّمَا تَوَلَّاهُ بَعْدَ مَوْتِهِ.

وَلَكِنْ كَانَ الْخَلِيفَةُ الْمُتَوَكِّلُ قَد أَجَازَ أَوْلَادَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ جَوَائِزَ مِن بَيْتِ الْمَالِ، فَأَمَرَهُم أَبُو عَبْدِ اللهِ أَنْ لَا يَقْبَلُوا جَوَائِزَ السُّلْطَانِ فَاعْتَذَرُوا إلَيْهِ بِالْحَاجَةِ فَقَبِلَهَا مَن قَبِلَهَا مِنْهُم فَتَرَكَ الْأَكْلَ مِن أَمْوَالِهِمْ، وَالِانْتِفَاعَ بِنِيرَانِهِمْ فِي خُبْزٍ أَو مَاءٍ، لِكَوْنِهِمْ قَبِلُوا جَوَائِزَ السُّلْطَانِ.

وَسَأَلُوهُ عَن هَذَا الْمَالِ: أَحَرَامٌ هُوَ؟ فَقَالَ: لَا.

فَقَالُوا: أَنَحُجُّ مِنْهُ؛ فَقَالَ: نَعَمْ.

وَبَيَّنَ لَهُم أَنَّهُ إنَّمَا امْتَنَعَ مِنْهُ لِئَلَّا يَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى أَنْ يُدَاخِلَ الْخَلِيفَةَ فِيمَا يُرِيدُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"خُذ الْعَطَاءَ مَا كَانَ عَطَاءً، فَإِذَا كَانَ عِوَضًا عَن دِينِ أَحَدِكمْ فَلَا يَأْخُذْهُ"

(1)

. [29/ 311 - 313]

4933 -

لَمْ يُرَغِّب النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أَكْلِ الْبِطّيخِ، وَجَمِيعُ مَا يُرْوَى مِن هَذَا الْجِنْسِ فَهُوَ كَذِبٌ.

وَأَمَّا أَكْلُ الْبِطّيخِ بِالرُّطَبِ فَهُوَ كَأَكْلِ الْقِثَّاءِ بِالرُّطَبِ، وَالْحَدِيثُ بِذَلِكَ أَصَحُّ، وَالْمُرَادُ بِهِ حَلَاوَةُ هَذَا وَرُطُوبَةُ هَذَا.

(1)

رواه أبو داود (2958)، وضعَّفه الألباني في ضعيف أبي داود.

ص: 223

وَكَانَ أَحَبَّ الشَّرَابِ إلَيْهِ صلى الله عليه وسلم الْحُلْوُ الْبَارِدُ. [32/ 213]

* * *

(بَابٌ الذَّكَاة)

4934 -

لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى أَحَدٍ أَكَلَ مِن ذَبِيحَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَلَا يُحَرِّمَ ذَبْحَهُم لِلْمُسْلِمِينَ، وَمَن أَنْكَرَ ذَلِكَ فَهُوَ جَاهِلٌ مُخْطِئٌ، مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ لَا يَسُوغُ فِيهَا الْإِنْكَارُ إلَّا بِبَيَانِ الْحُجَّةِ وَإِيضَاحِ الْمَحَجَّةِ، لَا الْإِنْكَارُ الْمُجَرَّدُ الْمُسْتَنِدُ إلَى مَحْضِ التَّقْلِيدِ؛ فَإِنَّ هَذَا فِعْلُ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالْأَهْوَاءِ

(1)

.

كَيْفَ وَالْقَوْلُ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَقَبْلَهُ قَوْلٌ ضَعِيفٌ جِدًّا مُخَالِفٌ لِمَا عُلِمَ مِن سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلمَا عُلِمَ مِن حَالِ أَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَانٍ؟.

فَاِنْ قِيلَ: هَذ الْآيَةُ مُعَارَضَة بِقَوْلِهِ: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة ة 221]، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10].

قِيلَ: الْجَوَابُ مِن ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ الشِّرْكَ الْمُطْلَقَ فِي الْقُرْآنِ لَا يَدْخُل فِيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُونَ فِي الشِّرْكِ الْمُقَيَّدِ، قَالَ تَعَالَى:{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: 1]، فَجَعَلَ الْمُشْرِكِينَ قِسْمًا غَيْرَ أَهْلِ الْكِتَابِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: إذَا قُدِّرَ أَنَ لَفْظَ "الْمُشْرِكَاتِ" و"الْكَوَافِرِ" يَعُمُّ الْكِتَابِيَّاتِ:

(1)

إذن؛ فالإنكار على بعض الدعاة أو المشايخ المجتهدين، أو غيرهم من أهل الإصلاح بمحض الذوق والرأي أو التقليد لعالم أو التعصب له: هو من فعل أهل الجهل والأهواء، وغالب الإنكار والردود اليوم هو من هذا القبيل.

وهذا لا يجوز إلا إذا كان الإنكار مستندًا إلى دليلٍ صحيح سالم من المعارض القوي.

ص: 224

فَآيَة الْمَائِدَةِ خَاصَّةٌ وَهِيَ مُتَأَخِّرَة نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالْمُمْتَحِنَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ:"الْمَائِدَةُ مِن آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا فَأَحِلُّوا حَلَالَهَا وَحَرِّمُوا حَرَامَهَا"، وَالْخَاصُّ الْمُتَأَخِّرُ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ الْمُتَقَدّمِ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، لَكِنَّ الْجُمْهُورَ يَقُولُونَ: إنَّه مُفَسِّرٌ لَهُ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ صُورَةَ التَّخْصِيصِ لَمْ تَرِدْ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: إذَا فَرَضْنَا النَّصَّيْنِ خَاصَّيْنِ، فَأَحَدُ النَّصَّيْنِ حَرَّمَ ذَبَائِحَهُم وَنِكَاحَهُمْ، وَالْآخَرُ أَحَلَّهُمَا: فَالنَّصُّ الْمُحَلِّلُ لَهُمَا هُنَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ هِيَ الْمُتَأَخِّرَةُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، فَتَكُونُ نَاسِخَة لِلنَّصِّ الْمُتَقَدِّمِ.

الْوَجْهُ الثانِي: أَنَّهُ قَد ثَبَتَ حِلُّ طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَالْكَلَامُ فِي نِسَائِهِمْ كَالْكَلَامِ فِي ذَبَائِحِهِمْ، فَإِذَا ثَبَتَ حِلُّ أَحَدِهِمَا ثَبَتَ حِل الْآخَرِ، وَحِلُّ أَطعِمَتِهِمْ لَيْسَ لَهُ مُعَارِضٌ أَصْلًا.

وَيدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِن الصَّحَابَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُم كَانُوا مُجْتَمِعِينَ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ. [35/ 212 - 216]

4935 -

الْقَوْلُ بِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْقُرْآنِ هُم مَن كَانَ دَخَلَ جَدُّهُ فِي ذَلِكَ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ.

بَل الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّ كَوْنَ الرَّجُلِ كِتَابِيًّا أو غَيْرَ كِتَابِيٍّ: هُوَ حُكْمٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ لَا بِنسبةٍ، وَكُل مَن تَدَيَّنَ بِدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَهُوَ مِنْهُمْ، سَوَاءٌ كَانَ أَبُوهُ أَو جَدُّهُ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ أَو لَمْ يَدْخُلْ. وَسَوَاءٌ كَانَ دُخُوُلهُ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ أَو بَعْدَ ذَلِكَ.

وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالْمَنْصُوصُ الصَّرِيحُ عَن أَحْمَد، وَإِن كَانَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الثَّابِت عَن الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَلَا أَعْلَمُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ نِزَاعًا.

ص: 225

وَقَد عُلِمَ بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ الْمُسْتَفِيضِ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ كَانَ فِيهِمْ يَهُودٌ كَثِيرٌ مِن الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِن بَنِي كِنَانَةَ وَحِمْيَرَ وَغَيْرِهِمَا مِن الْعَرَبِ؛ وَلهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ: "إنَّك تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كتَابٍ"

(1)

، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِن كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَو عَدْلَهُ معافريًّا، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَن دَخَلَ أَبُوهُ قَبْلَ النَّسْخِ أَو بَعْدَهُ، وَكَذَلِكَ وَفْدُ نَجْرَانَ وَغَيْرِهِمْ مِن النَّصَارَى الَّذِينَ كَانَ فِيهِمْ عَرَبٌ كَثِيرُونَ أَقَرَّهُم بِالْجِزْيَةِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِن الْعَرَبِ لَمْ يُفَرِّقْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ولَا أَحَدٌ مِن خُلَفَائِهِ وَأَصْحَابِهِ بَيْن بَعْضِهِمْ وَبَعْضٍ؛ بَل قَبِلُوا مِنْهُم الْجِزْيَةَ وَأَبَاحُوا ذَبَائِحَهُم وَنِسَاءَهُمْ، وَكَذَلِكَ نَصَارَى الرُّومِ وَغَيْرُهُم لَمْ يُفَرّقُوا بَيْنَ صِنْفٍ وَصِنْفٍ.

وَمَن تَدَبَّرَ السِّيرَةَ -النَّبَوِيَّةَ عَلِمَ كُلَّ هَذَا بِالضَّرُورَةِ، وَعَلِمَ أَنَّ التَّفْرِيقَ قَوْلٌ مُحْدَثٌ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ. [35/ 223 - 226]

4936 -

تَجُوزُ ذَكَاةُ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ وَتَذْبَحُ الْمَرْأَةُ وَإِن كَانَت حَائِضًا؛ فَإِنَّ حَيْضَتَهَا لَيْسَتْ فِي يَدِهَا. وَذَكَاةُ الْمَرْأَةِ جَائِزَةٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. [35/ 234]

4937 -

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله: عَن الدَّابَّةِ كَالْجَامُوسِ وَغَيْرِهِ فِي الْمَاءِ فَيُذْبَحُ وَيمُوتُ فِي الْمَاءِ، هَل يُؤْكَلُ؟

فَأَجَابَ: إذَا كَانَ الْجُرْحُ غَيْرَ مُوحٍ

(2)

وَغَابَ رَأْسُ الْحَيَوَانِ فِي الْمَاءِ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ؛ فَإِنَّهُ اشْتَرَكَ فِي حُكْمِهِ الْحَاضِرُ وَالْمُبِيحُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ:"إنْ خَالَطَ كَلْبَك كِلَابٌ فَلَا تَأْكُلْ؛ فَإِنَّك إنَّمَا سَمَّيْت عَلَى كلْبك وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ"

(3)

.

وَإِن كَانَ بَدَنُهُ فِي الْمَاءِ وَرَأسُهُ خَارجَ الْمَاءِ لَمْ يَضُرَّ ذَلِكَ شَيْئًا.

(1)

رواه أبو داود (1584)، والترمذي (625)، والنسائي (2435)، وابن ماجه (1783)، والدارمي (1655)، وأحمد (2071)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.

(2)

أي: غير قاتل له.

(3)

رواه النسائي (4263).

ص: 226

وَإِن كَانَ الْجُرْحُ مُوحِيًا فَفِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُفٌ. [35/ 234]

4938 -

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} عَائِدٌ إلَى مَا تَقَدَّمَ مِن الْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ وَأَكِيلَةِ السَّبُعِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ؛ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي حَنيفَةَ وَغَيْرِهِمْ، فَمَا أَصَابَهُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ أُبِيحَ.

لَكِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا يُذَكَّى مِن ذَلِكَ .. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ إذَا كَانَ حَيًّا فَذُكِّيَ حَلَّ أَكْلُهُ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ حَرَكَةُ مَذْبُوحٍ؛ فَإِنَّ حَرَكَاتِ الْمَذْبُوحِ لَا تَنْضَبِطُ؛ بَل فِيهَا مَا يَطُولُ زَمَانُهُ وَتَعْظُمُ حَرَكَتُهُ، وَقَد قَالَ صلى الله عليه وسلم:"مَا أنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ فَكُلُوا"

(1)

، فَمَتَى جَرَى الدَّمُ الَّذِي يَجْرِي مِن الْمَذْبُوحِ الَّذِي ذُبحَ وَهُوَ حَيٌّ حَلَّ أَكْلُهُ

(2)

. [35/ 236 - 237]

4939 -

مَا وَقَعَ فِي بِئْرٍ وَنَحْوِهَا وَلَمْ يُوصَلْ إلَى مَذْبَحِهِ فَتُجْرَحُ حَيْثُ أَمْكَنَ مِثْلُ الطَّعْنِ فِي فَخْذِهَا كَمَا يُفْعَلُ بِالصَّيْدِ الْمُمْتَنِعِ وَتُبَاحُ بِذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْغلَمَاءِ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَعَانَ عَلَى مَوْتِهَا سَبَبٌ آخَرُ: مِثْلُ أَنْ يَكونَ رَأسُهَا غَاطِسًا فِي الْمَاءِ فَتَكُونُ قَد مَاتَتْ بِالْجُرْحِ وَالْغَرَقِ؛ فَلَا تُباحُ حِينَئِذٍ. [35/ 236]

4940 -

التَّسْمِيَةُ عَلَى الذَّبِيحَةِ مَشْرُوعَةٌ، لَكِنْ قِيلَ: هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَقِيلَ: وَاجِبَة مَعَ الْعَمْدِ وَتَسْقُطُ مَعَ السَّهْوِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَقِيلَ: تَجِبُ مُطْلَقًا، فَلَا تُوكَلُ الذَّبِيحَةُ بِدُونهَا، سَوَاءٌ

(1)

رواه البخاري (2488)، ومسلم (1968).

(2)

فعلامة حياة الحيوان وأنه ليس ميتة: أن يجري منه الدم الأحمر الحار، فإذا سال منه الدم الأحمر الحار وإن لم يتحرك فهو حي فيحل، وإن لم يسل منه، أو سال منه دم أسود بارد فإنه قد مات.

قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله: وهذا هو الذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو الصحيح؛ لأنه إذا خرج الدم الأحمر الحار فقد أنهر الدم فيكون حلالًا. اهـ. الشرح الممتع (15/ 103).

ص: 227

تَرَكهَا عَمْدًا أَو سَهْوًا كَالرِّوَايَةِ الْأخْرَى عَن أَحْمَد .. وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِن السَّلَفِ، وَهَذَا أَظْهَرُ الْأقْوَالِ؛ فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ قَد عَلَّقَ الْحلَّ بِذِكْرِ اسْمِ اللهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ؛ كَقَوْلِهِ:{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4] .. وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ"

(1)

أَنَّهُ قَالَ: "مَا أنهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ فَكُلُوا".

وَلَكنْ إذَا وَجَدَ الْإِنْسَانُ لَحْمًا قَد ذَبَحَهُ غَيْرُهُ جَازَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ وَيذْكُرَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ، لِحَمْلِ أَمْرِ النَّاسِ عَلَى الصِّحَّةِ وَالسَّلَامَةِ، كَمَا ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّ قَوْمًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ نَاسًا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ يَأْتُونَ بِاللَّحْم وَلَا نَدْرِي أَذَكَرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ أَمْ لَمْ يَذْكُرُوا؟ فَقَالَ: "سَمُّوا أَنْتُمْ وَكلُوا"

(2)

. [35/ 139 - 140]

4941 -

يكره أن يجعل أهل الكتاب ذباحين، مع كثرة ذباحين مسلمين، ولكن لا يحرم. [المستدرك 5/ 136]

4942 -

يحرم ما ذبحه الكتابي لعيده أو ليتقرب به إلى شيء يعظمه، وهو رواية عن أحمد. [المستدرك 5/ 136]

4943 -

إذا لم يقصد المذكي الأكل؛ بل قصد مجرد حلّ يمينه: لم تبح الذبيحة. [المستدرك 5/ 136]

4944 -

قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة"

(3)

ففي هذا دليل على أن الإحسان واجب على كل حال، حتى حال إزهاق النفس: ناطقها وبهيمها، فعلى الإنسان أن يحسن القتلة للآدميين، والذبحة للبهائم. [المستدرك 5/ 136]

4945 -

فيما يشترط قطعه من الحيوان عند الذبح أقوال.

(1)

البخاري (2507)، ومسلم (1968).

(2)

رواه ابن ماجه (3174)، والدارمي (2019)، وصحَّحه الألباني في صحيح ابن ماجه (2587).

(3)

رواه مسلم (1955).

ص: 228

والأقوى إن قطع ثلاثة من الأربع يبيح، سواء كان فيها الحلقوم أو لم يكن؛ فإن قطع الودجين أبلغ من قطع الحلقوم، وأبلغ في إنهار الدم. [المستدرك 5/ 136 - 137]

* * *

(باب الصيد)

4946 -

الصيد للحاجة فإنه جائز

وأما الصيد الذي هو للهو واللعب: فمكروه، فإن كان فيه تعد على زرع الناس، وأموالهم فهو حرام. [المستدرك 5/ 137]

4947 -

المقتول بالبندق حرام باتفاق المسلمين، وأن أدرك حيًّا وذكي فحلال. [المستدرك 5/ 138]

4948 -

إذا جرح الصيد فغاب وليس فيه إلا سهمه فإنه يحل له على الصحيح من أقوالهم، وبه أفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأله عدي بن حاتم:"إنا نرمي الصيد فنقتفي أثره اليومين والثلاثة، ثم نجده ميتًا وفيه سهمه؟ فقال: إن رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به الا أثر سهمك فكل"

(1)

.

وفي حديث أبي ثعلبة الخشني: "إذا رميت بسهمك فغاب ثلاثة أيام وأدركته فكل ما لم ينتن"

(2)

.

فهذان الحديثان الصحيحان، الأول في البخاري والثاني في مسلم عليهما اعتمد العلماء، فإن كلاهما أفتى به النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أفتى بغير ذلك فلم يبلغه الحديث.

وأما إذا أنتن: فيكره أكله. [المستدرك 5/ 138]

4949 -

التحقيق أن المرجع في تعليم الفهد إلى أهل الخبرة، فإن قالوا:

(1)

رواه البخاري (5484).

(2)

رواه مسلم (1931).

ص: 229

إنه من جنس تعليم الصقر بالأكل أُلحق به، وإن قالوا: إنه يُعلَّم

(1)

بترك الأكل كالكلب ألحق به. [المستدرك 5/ 138]

4950 -

إذا أكل الكلب بعد تعلمه: لم يحرم ما تقدم من صيده، ولم يبح ما أكل منه.

وما أكل منه الكلب: لا يؤكل في أصح قولي العلماء، ولا يحرم على ما تقدم في أصح قولي العلماء أيضًا. [المستدرك 5/ 138]

* * *

(حكم التنفس فِي الشُّرْبِ ثَلَاثًا، وحكم التنفس فِي الْإِنَاءِ)

4951 -

الْأَفْضَلُ أَنْ يَتَنَفَّسَ فِي الشُّرْبِ ثَلَاثًا، وَيَكُونُ نَفَسُهُ فِي غَيْرِ الْإِنَاءِ؛ فَإِنَّ التّنفُّسَ فِي الْإِنَاءِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَإِن لَمْ يَتَنَفَّسْ وَشَرِبَ بِنَفَسٍ وَاحِد جَازَ؛ فَإِنَّ فِي "الصَّحِيحِ"

(2)

عَن أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَنَفَّسُ فِي الشَّرَابِ ثَلَاثًا يَقُولُ: "إنَّهُ أَرْوَى وَأَمْرَى". فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ التّنَفُّسِ ثَلَاثًا.

وَفِي "الصَّحِيحِ"

(3)

عَن أَبِي قتادة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَفَّسْ في الْإِنَاءِ"، فَهَذَا فِيهِ النَّهْيُ عَن التّنَفُّسِ فِي الْإِنَاءِ.

وَعَن أَبِي سَعِيدٍ الخدري: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَن التّنَفُسِ فِي الشَّرَابِ فَقَالَ الرَّجُلُ: الْقَذَاةُ أَرَاهَا فِي الْإِنَاءِ؟ فَقَالَ: "أَهرِقْهَا"، قَالَ: فَإِنِّي لَا أَرْوَى عَن نَفَسٍ وَاحِدٍ، قَالَ:"فَأَبِن الْقَدَحَ عَن فِيك". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ

(4)

.

فَلَمْ يَنْهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَن الشُّرْبِ بِنَفَسٍ وَاحِدٍ.

وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِن الْأَئِمَّةِ أَوْجَبَ التَّنَفُّسَ وَحَرَّمَ الشُّرْبَ بِنَفَسٍ وَاحِدٍ.

وَفِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ. [32/ 208 - 209]

* * *

(1)

في الأصل: (تعلم)، والتصويب من الاختيارات (470).

(2)

رواه مسلم (2028).

(3)

البخاري (153)، ومسلم (267).

(4)

(1887).

ص: 230

(حكم الشُّرْبُ قَائِمًا)

4952 -

أَمَّا الشُّرْبُ قَائِمًا: فَقَد جَاءَت أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ بِالنَّهْيِ وَأَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ بِالرُّخْصَةِ، وَلهَذَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ، وَذُكِرَ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَن أَحْمَد، وَلَكِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ أَنْ تُحْمَلَ الرُّخْصَةُ عَلَى حَالِ الْعُذْرِ.

فَأَحَادِيثُ النَّهْيِ مِثْلهَا فِي "الصَّحِيحِ"

(1)

عَن قتادة عَن أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم زَجَرَ عَن الشُّرْبِ قَائِمًا.

قَالَ قتادة: فَقُلْنَا: الْأَكْلُ؟ فَقَالَ: ذَاكَ شَرٌّ وَأَخْبَثُ.

وَأَحَادِيثُ الرُّخْصَةِ مِثْل حَدِيثِ مَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ"

(2)

عَن عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: شَرِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا مِن زَمْزَمَ.

فَيَكُونُ هَذَا وَنَحْوُهُ مُسْتَثْنًى مِن ذَلِكَ النَّهْيِ.

وَهَذَا جَارٍ عَن أَحْوَالِ الشَّرِيعَةِ: أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ يُبَاحُ عِنْدَ الْحَاجَةِ؛ بَل مَا هُوَ أَشَدُّ مِن هَذَا يُبَاحُ عِنْدَ الْحَاجَةِ؛ بَل الْمُحَرَّمَاتُ الَّتِي حُرِّمَ أَكْلُهَا وَشُرْبُهَا كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ تُباحُ لِلضَّرُورَةِ.

وَأَمَّا مَا حُرّمَ مُبَاشَرَتُهُ طَاهِرًا -كَالذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ- فَيُبَاحُ لِلْحَاجَةِ. [32/ 209 - 210]

* * *

(كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم لَا يَرُدُّ مَوْجُودًا، وَلَا يَتَكَلَّف مَفْقُودًا)

4953 -

كَانَ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ فَاكِهَةَ بَلَدِهَ، مَا قُدِّمَتْ لَهُ فَاكِهَةٌ: فَتَرَكَ أَكْلَهَا، لَا عَلَى سَبِيلِ الزُّهْدِ الْفَاسِدِ، وَلَا عَلَى سَبِيلِ الْوَرَعِ الْفَاسِدِ؛ بَل كَانَ لَا يَرُدُّ مَوْجُودًا، وَلَا يَتَكَلَّفُ مَفْقُودًا، وَيَتَّبعُ قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ

(1)

مسلم (2024).

(2)

البخاري (5617)، ومسلم (2027).

ص: 231

طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)} [البقرة: 172]، فَأَمَرَ بِالْأَكْلِ وَالشُّكْرِ.

فَمَن حَرَّمَ الطَّيّبَاتِ عَلَيْهِ وَامْتَنَعَ مِن أَكْلِهَا بِدُونِ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ: فَهُوَ مَذْمُومٌ مُبْتَدِعٌ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87]، وَمَن أَكَلَهَا بِدُونِ الشُّكْرِ الْوَاجِبِ فِيهَا فَهُوَ مَذْمُومٌ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)} [التكاثر: 8]؛ أَيْ: شكْرِ النَّعِيمِ.

وَمَن أَكَلَ بِنِيَّةِ الِاسْتِعَانَةِ عَلَى عِبَادَةٍ: كَانَ مَأْجُورًا عَلَى ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ مَا يُنْفِقُهُ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي "الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ":"نَفَقَةُ الْمُسْلِمِ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا صَدَقَةً"

(1)

. [32/ 211 - 212]

* * *

(حكم الأكل ممن أكثرُ ماله من الحرام)

4954 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَن رَجُلٍ مَعَهُ مَالٌ مِن حَلَالٍ وَحَرَامٍ، فَهَل يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْكُلَ مِن عَيْشِهِ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ: إنْ عَرَفَ الْحَرَامَ بِعَيْنِهِ لَمْ يَأْكُلْ حَتْمًا، وَإِن لَمْ يَعْرِفْ عَيْنَهُ لَمْ يَحْرُم الْأَكْلُ مِنْهُ، لَكِنْ إذَا كَثُرَ الْحَرَامُ كَانَ مَتْرُوكًا وَرَعًا

(2)

. [32/ 215]

* * *

(1)

رواه البخاري (55)، ومسلم (1002).

(2)

أي: يترك الأكل تورعًا، لا لأنه حرام.

ص: 232

‌كتابُ الأيمانُ والنُّذُورُ

4955 -

إِنَّمَا نَهَى عَنْهُ صلى الله عليه وسلم[أي: النذر]؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ إلَّا الْتِزَامُ مَا الْتَزَمَهُ، وَقَد لَا يَرْضَى بِهِ فَيَبْقَى آثِمًا.

وَإِذَا فَعَلَ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ بِلَا نَذْرٍ كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَالنَّاسُ يَقْصِدُونَ بِالنَّذْرِ تَحْصِيلَ مُطَالِبِهِمْ.

وَاللهُ سُبْحَانَهُ لَا يَقْضِي تِلْكَ الْحَاجَةَ بِمُجَرَّدِ تِلْكَ الْعِبَادَةِ الْمَنْذُورَةِ؛ بَل يُنْعِمُ عَلَى عَبْدِهِ بِذَلِكَ الْمَطلُوبِ لِيَبْتَلِيَهُ أَيَشْكُرُ أَمْ يَكْفُرُ؟ وَشُكْرُهُ يَكُونُ بِفِعْلِ مَا أَمَرَهُ بِهِ وَتَرْكِ مَا نَهَاهُ عَنْهُ. [10/ 420]

4956 -

إذَا كَانَ النَّذْرُ لِغَيْرِ اللهِ فَهُوَ كَمَن يَحْلِفُ بِغَيْرِ اللهِ وَهَذَا شِرْكٌ، فَيَسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْهُ وَلَيْسَ فِي هَذَا وَفَاءٌ وَلَا كَفَّارَةٌ. [11/ 504]

4957 -

لَيْسَ فِي الْقِرَاءَةِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فَضِيلَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ يُقَدِّمُ بِهَا الْقِرَاءَة فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، أَو بَعْدَ الْفَجْرِ، وَنَحْو ذَلِكَ مِن الْأَوْقَاتِ، فَلَا قُرْبَةَ فِي تَخْصِيصِ مِثْل ذَلِكَ بِالْوَقْتِ.

وَلَو نَذَرَ صَلَاةً أَو صِيَامًا أَو قِرَاءَةً أَو اعْتِكَافًا فِي مَكَانٍ بِعَيْنِهِ:

أ- فَإِنْ كَانَ لِلتَّعْيِينِ مَزِيَّةٌ فِي الشَّرْعِ؛ كَالصَّلَاةِ وَالِاعْتِكَافِ فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ: لَزِمَ الْوَفَاءُ بِهِ.

ب- وَإِن لَمْ يَكُن لَهُ مَزِيَّةٌ؛ كَالصَّلَاةِ وَالِاعْتِكَافِ فِي مَسَاجِدِ الْأَمْصَارِ: لَمْ يَتَعَيَّنْ بِالنَّذْرِ الَّذِي أَمَرَ اللهُ بِالْوَفَاءِ بِهِ.

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَن نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَن نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللهَ

ص: 233

فَلَا يَعْصِهِ"

(1)

.

فَإِذَا كَانَ النَّذْرُ الَّذِي يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ لَا يَجِبُ أَنْ يُوَفَّى بِهِ إلَّا مَا كَانَ طَاعَةً بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، فَلَا يَجِبُ أَنْ يُوَفَّى مِنْهُ بِمُبَاحٍ، كَمَا لَا يَجِبُ أَنْ يُوَفَّى مِنْهُ بِمُحَرَّمٍ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ فِي الصُّورَتَيْنِ.

وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي لُزُومِ الْكَفَارَةِ. [31/ 50 - 51]

4958 -

الْمَسَاجِدُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي بَنَتْهَا الْأَنْبِيَاءُ عليه السلام وَشُرعَ لِلنَّاسِ السَّفَرُ إلَيْهَا وَوَجَبَ السَّفَرُ إلَيْهَا بِالنَّذْرِ: لَا يَجُوزُ إبْدَالُ عَرْصَتِهَا بِغَيْرِهَا؛ بَل يَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِيهَا وَإِبْدَالُ التَّأْلِيفِ وَالْبِنَاءِ بِغَيْرِهِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا فَإِنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ لِلنَّذْرِ، وَلَا يُسَافِرُ إلَيْهِ، فَيَجُوزُ إبْدَالُهُ لِلْمَصْلَحَةِ. [31/ 233]

4959 -

النذر مكروه .. وتوقف الشيخ تقي الدين في تحريمه. [المستدرك 5/ 144]

4960 -

الأحكام تتعلق بما أراده الناس بالألفاظ الملحونة؛ كقوله: حلفت بالله رفعًا ونصبًا، والله باصوم، أو باصلي ونحوه، وكقول الكافر: أشهد أن محمدًا رسول الله برفع الأول ونصب الثاني، وأوصيت لزيدٍ بمائة وأعتقت سالم، ونحو ذلك، وأن من رام جعل الناس كلهم في لفظ واحد بحسب عادة قوم بعينهم فقد رام ما لا يمكن عقلًا ولا يصلح شرعًا. [المستدرك 5/ 139]

4961 -

الحالف لا بد له من شيئين:

أ- من كراهة الشرط.

ب- وكراهة الجزاء عند الشرط.

ومن لم يكن كذلك: لم يكن حالفًا، سواء كان قصده الحظ والمنع، أو لم يكن. [المستدرك 5/ 139]

(1)

رواه البخاري (6696).

ص: 234

4962 -

قال أصحابنا: فإن حلف باسم من أسماء الله تعالى التي قد يسمى بها غيره وإطلاقه ينصرف إلى الله تعالى فهو يمين إن نوى به الله أو أطلق، وإن نوى غيره فليس بيمين.

قال أبو العباس: هذا من التأويل؛ لأنه نوى خلاف الظاهر، فإذا كان ظالمًا لم تنفعه وتنفع المظلوم. [المستدرك 5/ 139]

4963 -

يحرم الحلف بغير الله تعالى، وهو ظاهر المذهب، وعن ابن مسعود وغيره: لَأنْ أحلف بالله كاذبًا أحب إليّ من أن أحلف بغيره صادقًا.

قال أبو العباس: لأن حسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الكذب أسهل من سيئة الشرك. [المستدرك 5/ 140]

4964 -

ولو حلف لا يغدر: فغدر، كفر للقسم لا لغدره، مع أن الكفارة لا ترفع إثمه. [المستدرك 5/ 140]

4965 -

اختلف كلام أبي العباس في الحلف بالطلاق، فاختار في موضع التحريم وتعزيره، وهو قول مالك ووجه لنا.

واختار في موضع آخر، أنه لا يكره وأنه قول غير واحد من أصحابنا؛ لأنه لم يحلف بمخلوق، ولم يلتزم لغير الله شيئًا، وإنما التزم لله كما يلتزم بالنذر، والالتزام لله أبلغ من الالتزام به، بدليل النذر له، واليمين به، ولهذا لم تنكر الصحابة على من حلف بذلك كما أنكروا على من حلف بالكعبة. [المستدرك 5/ 140 - 141]

4966 -

اختار شيخنا فيمن حلف بعتق أو طلاق وحنث: يخيَّر بين أن يوقعه أو يكفر كحلفه بالله ليوقعنه، وذكر أن الطلاق يلزمني ونحوه: حلف باتفاق العقلاء والأمم والفقهاء، وخرجه على نصوص لأحمد. [المستدرك 5/ 141]

4967 -

لو قال: أنا بريء من رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كلمته، فحنث: فعليه كفارة يمين. [المستدرك 5/ 142]

ص: 235

4968 -

يلزمه إبرار قسم في الأصح؛ كإجابة سؤال بالله، وقال شيخنا: إنما يجب على معين، فلا تجب إجابة سائل يقسم على الناس. [المستدرك 5/ 142]

4969 -

لا يجوز التعريض لغير ظالم، وهو قول بعض العلماء .. ؛ لأنه تدليس كالتدليس في المبيع، وقد كره أحمد التدليس، وقال: لا يعجبني، ونصه: لا يجوز التعريض مع اليمين. [المستدرك 5/ 143]

4970 -

من كرَّر أيمانًا قبل التكفير فروايات، ثالثها وهو الصحيح: إن كانت على فعل فكفارة وإلا فكفارتان.

ومثل ذلك الحلف بنذور مكفرة وطلاق مكفر. [المستدرك 5/ 143]

4971 -

قَوْلُهُ: أَحْلِفُ بِاللهِ أَو بِكَذَا: فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: أَعْقِدُهُ بِهِ وَأُلْصِقُهُ بِهِ؛ وَلهَذَا يُسَمَّى الْمُصَاحِبُ "حَلِيفًا" .. وَلهَذَا قِيلَ: إنَّ الْبَاءَ لِإِلْصَاقِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ بِالْمَحْلُوفِ بِهِ، وَإِنَّمَا أتَى بِلَامِ الْقَسَمِ تَوْكِيدًا ثَانِيًا، كَأَنَّهُ قَالَ: أُلْصِقُ وَأَعْتَقِدُ بِاللهِ مَضْمُونَ قَوْلِي لَأَفْعَلَنَّ، وَلهَذَا سُمِّيَ التَّكْفِيرُ قَبْلَ الْحِنْثِ "تَحِلَّةً"؛ لِأنَّهُ يَحِلُّ هَذَا الْعَقْدَ الَّذِي عُقِدَ بِالْمَحْلُوفِ بِهِ، مِثْل فَسْخِ الْبَيْعِ الَّذِي يَحِلُّ مَا بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي مِن الِانْعِقَادِ.

فَالشَّارعُ جَعَلَ الْأيْمَانَ مِن بَابِ الْعُقُودِ الْجَائِزةِ بِهَذَا الْبَدَلِ، لَا مِن اللَّازِمَةِ مُطْلَقًا، كَمَا كَانَ الْعَقْدُ بَيْنَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَالْمَحْلُوفِ بِهِ، وَهُوَ اللهُ سُبْحَانَهُ. [35/ 321]

4972 -

كَانَ نَظَرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ إلَى مَعْنَى الصِّيغَةِ وَمَقْصُودِ الْمُتَكَلِّم سَوَاءً كَانت بِصِيغَةِ الْمُجَازَاتِ أَو بِصِيغَةِ الْقَسَمِ. فَإِذَا كَانَ مَقْصُودُهُ [الْحَضَّ]

(1)

أو الْمَنْعَ جَعَلُوهُ يَمِينًا وَإِن كَانَ بِصِيغَةِ الْمجَازَاتِ وَإِن كَانَ مَقْصُودُهُ التَّقَرُّبَ

(1)

في الأصل: (الحظ)، والمثبت هو الصواب.

ص: 236

إلَى اللهِ جَعَلُوهُ نَاذِرًا وَإِن كَانَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ؛ وَلهَذَا جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النَّاذِرَ حَالِفًا؛ لأنَّهُ مُلْتَزِمٌ لِلْفِعْلِ بِصِيغَةِ الْمُجَازَاةِ. فَإِنْ كَانَ الْمَنْذُورُ مِما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَمَرَهُ بِهِ وَإِلَّا جَعَلَ عَلَيْهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ. وَكَذَلِكَ الْحَالِفُ إنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يُكَفّرَ يَمِينَهُ إذَا حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا اعْتِبَارًا بِالْمَقْصُودِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيرْضَاهُ أُمِرَ بِهِ وَهُوَ النَّذْرُ الَّذِي يُوَفَّى بِهِ وَإِن كَانَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ. وَإِن كَانَ غَيْرُهُ أَحَبَّ إلَى اللهِ وَأَرْضَى مِنْهُ أُمِرَ بِالْأَحَبِّ الْأَرْضَى للهِ وَإِن كَانَ بِصِيغَةِ النَّذْرِ وَأمِرَ بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ.

وَهَذَا كُلُّهُ تَحْقِيقًا لِطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ وَأَنَّ كُلَّ يَمِينٍ أَو نَذْرٍ أَو عَقْدٍ أَو شَرْطٍ تَضَمَّنَ. مَا يُخَالِفُ أَمْرَ اللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ لَازِمًا بَل يَجِبُ تَقْدِيمُ أَمْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ عَلَى كُل ذَلِكَ.

قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة: 224]، وَقَد تَوَاتَرَت الْآثَارُ عَن الصحابة وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ بِأَنَّ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ أحَدُكمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَبَرّ وَلَا يَتَّقِي اللهَ وَلَا يَصِل رَحِمَهُ، فَإِذَا أمِرَ بِذَلِكَ قَالَ: أَنَا قَد حَلَفْت بِاللهِ، فَيَجْعَلُ الْحَلِفَ بِاللهِ مَانِعًا لَهُ مِن طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ.

فَإِذَا كَانَ قَد نَهَى سُبْحَانَهُ أَنْ يُجْعَلَ اللهُ [أَي: الْحَلِفُ بِاللهِ]: مَانِعًا مِن طَاعَةِ اللهِ، فَغَيْرُ ذَلِكَ أَوْلَى أَنْ يُنْهَى عَن كَوْنِهِ مَانِعًا مِن طَاعَةِ اللهِ.

وَالْأَيْمَانُ الشَرْعِيَّةُ الْمُوجِبَةُ لِلْكَفَّارَةِ كُلُّهَا تَعُودُ إلَى الْحَلِفِ بِاللهِ كَمَا سَنُنَبه عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.

وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ بَعْضِ الْآثَارِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأثْرَمُ فِي سُنَنِهِ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللهِ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ يُسْأَلُ عَن رَجُلٍ قَالَ: مَا لهُ فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ قَالَ: كَفَّارَةُ يَمِينٍ.

وَقَالَ الْأَثْرَمُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ رَجَاءٍ، أَخْبَرْنَا عِمْرَانُ، عَن قتادة، عَن

ص: 237

زرارة بْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَت ابْنَ عَبَّاسٍ: أَنَّ امْرَأَةً جَعَلَتْ بُرْدَهَا عَلَيْهَا هَدْيًا إنْ لَبِسَتْهُ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَفِي غَضَبٍ أَمْ فِي رِضًا؟ قَالُوا: فِي غَضَبٍ، قَالَ: إنَّ اللهَ تبارك وتعالى لَا يُتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِالْغَضبِ، لِتُكَفِّر عَن يَمِينِهَا.

قُلْت: ابْنُ عَبَّاسٍ اسْتَفْسَرَ النَّذْرَ هَل مَقْصُودُهَا التَّقَرُّبُ بِالْمَنْذُورِ، كَمَا قَد يَقُولُ الْقَائِلُ: إنْ سَلِمَ مَالِي تَصَدَّقْت بِهِ، أَو مَقْصُودُهَا الْحَلِفُ أَنَّهَا لَا تَلْبَسُهُ، فَيَكُونُ عَلَيْهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ، فَقَالَ: أَفِي غَضَبٍ أَمْ رِضًا؟ فَلَمَّا قَالُوا: فِي غَضبٍ عَلِمَ أَنَّهَا حَالِفَةٌ لَا نَاذِرَةٌ؛ وَلهَذَا سَمَّى الْفُقَهَاءُ هَذَا "نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ"، فَهُوَ يَمِينٌ وَإِن كَانَ صِيغَتُهُ صِيغَةَ الْجَزَاءِ. [35/ 336 - 340]

4973 -

مَا وَجَبَ بِالشَّرْعِ إذَا نَذَرَهُ الْعَبْدُ، أَو عَاهَدَ اللهَ عَلَيْهِ، أَو بَايَعَ عَلَيْهِ الرَّسُولَ أَو الْإِمَامَ، أَو تَحَالَفَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ: فَإِنَّ هَذِهِ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ تَقْتَضِي لَهُ وُجُوبًا ثَانِيًا غَيْرَ الْوُجُوبِ الثَّابِتِ بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ، فَتَكُونُ وَاجِبَةً مِن وَجْهَيْنِ، بِحَيْثُ يَسْتَحِقُّ تَارِكُهَا مِن الْعُقُوبَةِ مَا يَسْتَحِقُّهُ نَاقِضُ الْعُهُودِ وَالْمِيثَاقِ، وَمَا يَسْتَحِقُّهُ عَاصِي اللهِ وَرَسُولِهِ، هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ. [35/ 345 - 346]

4974 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلٍ حَلَفَ عَلَى وَلَدِهِ لَا يَدْخُلُ الدَّارَ حَتَّى يُعْطِيَهُ الْكِسَاءَ الَّذِي أَخَذَهُ، ثُمَّ تبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا، فَهَل يَحْنَثُ إذَا دَخَلَ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ: إذَا دَخَلَ مَنْزِلَهُ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ إذَا كَانَت الْحَالَةُ مَا ذُكِرَ؛ لِكَوْنِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ مُمْتَنِعًا لِذَاتِهِ، كَمَا لَو حَلَفَ لَيَشْرَبَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْإِنَاءِ وَلَيْسَ فِيهِ مَاءٌ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ؛ وَلأَنَّهُ إنَّمَا حَلَفَ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ ابْنَهُ أَخَذَهُ وَتَبَيَّنَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَمِثْلُ هَذَا فِيهِ أَيْضًا نِزَاعٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا حِنْثَ فِيهِ فَصَارَ غَيْرَ حَانِثٍ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ.

وَالْمَسْأَلَةُ الْمَشْهُورَةُ: إذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ: فَإِنَّ هَذَا جَهْلٌ بِالْمَحْلوفِ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ جَهْلٌ بِصِفَةِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ. [35/ 347 - 348]

ص: 238

4975 -

العهود والعقود: متقاربة المعنى أو متفقة:

- فإذا قال: أعاهد الله أني أحج العام: فهو نذر وعهد ويمين.

- وإن قال: لا أكلم زيدًا: فيمين وعهد، لا نذر.

فالأيمان إن تضمنت معنى النذر وهو أن يلتزم لله قربة لزمه الوفاء بها: فهي عقد وعهد ومعاهدة لله؛ لأنه التزم لله ما يطلبه الله منه.

وإن تضمنت معنى العقود التي بين الناس، وهو أن يلتزم كلٌّ مِن المتعاقدين للآخر ما اتفقا عليه: فمعاقدة ومعاهدة، يلزم الوفاء بها إن كان العقد لازمًا، وإن لم يكن لازمًا خير، وهذه أيمان بنص القرآن، ولم يعرض لها ما يحل عقدتها إجماعًا. [المستدرك 5/ 144]

4976 -

من نذر صوم الدهر أو صوم يوم الخميس والاثنين: فله صوم يوم وإفطار يوم كالمكان. [المستدرك 5/ 144]

4977 -

لو قال: إن فعلت كذا فعلي ذبح ولدي أو معصيةٌ غير ذلك أو نحوه وقصد اليمين

(1)

: فيمين، وإلا فنذر معصية، فيذبح في مسألة الذبح كبشًا.

ولو فعل المعصية: لم تسقط عنه الكفارة ولو في اليمين. [المستدرك 5/ 145]

4978 -

لو نذر طاعة حالفًا بها أجزأ كفارة يمين بلا خلاف عن الإمام أحمد، فكيف لا يجزئه إذا نذر معصية حالفًا بها. [المستدرك 5/ 145]

4979 -

من نذر صومًا معينا فله الانتقال إلى زمن أفضل منه.

واستحب أحمد لمن نذر الحج مفردًا أو قارنًا أن يتمتع؛ لأنه أفضل، لأمر النبي أصحابه بذلك في حجة الوداع. [المستدرك 5/ 146]

4980 -

قول القائل: لئن ابتلاني الله لأصبرن، ولئن لقيت عدوًّا

(1)

بأن كان قصده الحض أو المنع، أو التصديق أو التكذيب.

ص: 239

لأجاهدن، ولو علمت أي عمل أحب إلى الله لعملته: فهو نذر معلق بشرط؛ كقول الله تعالى: {لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [التوبة: 75] الآية [التوبة: 75]. [المستدرك 5/ 148]

4981 -

الصواب على أصلنا أن يقال

(1)

في جميع العبادات والكفارات؛ بل وسائر الواجبات التي هي من جنس الجائز: أنه يجوز تقديمها إذا وجد سبب الوجوب، ولا يتقدم على سببه.

فعلى هذا إذا قال: إن شفى الله مريضي فلِلَّه

(2)

علي صوم شهر: فله تعجيل الصوم قبل الشفاء لوجود النذر. [المستدرك 5/ 149]

4982 -

يلزم الوفاء بالوعد، وهو وجه في مذهب أحمد، ويخرج رواية عنه من تعجيل العارية والصلح على عوض المتلف بمؤجل. [المستدرك 5/ 149]

4983 -

إن نذر أن يهب: برَّ بالإيجاب كيمينه

(3)

. [المستدرك 5/ 149]

4984 -

فِي "الصَّحِيحَيْنِ"

(4)

عَن عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَن نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَن نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللهَ فَلَا يَعْصِهِ"، فَإِذَا كَانَ الْمَنْذورُ الَّذِي عَاهَدَ اللهَ يَتَضَمَّنُ ضَرَرًا غَيْرَ مُبَاحٍ يُفْضِي إلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَو فِعْلِ مُحَرَّمٍ: كَانَ هَذَا مَعْصِيَةً لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ؛ بَل لَو نَذَرَ عِبَادَةً مَكْرُوهَةً مِثْل قِيَامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ، وَصِيَامِ النَّهَارِ كُلِّهِ لَمْ يَجِب الْوَفَاءُ بِهَذَا النَّذْرِ.

ثُمَّ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ: هَل عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَظْهَرُهُمَا: أَنَّ عَلَيْهِ

(1)

في الأصل: (بعد: يقال: مثل هذا)، والأنسب حذفها كما في الاختيارات (476).

(2)

في الأصل: (فله)، والتصويب من الاختيارات (476).

(3)

والمعنى: من نذر أن يهب لفلان: برَّ من حين الإيجاب للهبة، سواء قبل الموهوب له أو لا، كما لو حلف ليهبن له فأوجب له الهبة فإنه يبر مطلقًا.

تنبيه: في الأصل: (ليمينه)، والتصويب من الاختيارات 479، ومنتهى الإرادات (3/ 458).

(4)

البخاري (6696)، ولم أجده عند مسلم بهذا اللفظ.

ص: 240

كَفَّارَةَ يَمِينٍ؛ لِمَا ثَبَتَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم-فِي "الصَّحِيحِ"

(1)

أَنَّهُ قَالَ: "كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينٍ".

وَأَمَّا إذَا عَجَزَ عَن فِعْلِ الْمَنْذُورِ، أَو كَانَ عَلَيْهِ فِيهِ مَشَقَّةٌ: فَهُنَا يُكَفِّرُ وَيَأْتِي بِبَدَلٍ عَن الْمَنْذُورِ، كَمَا فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ أُخْتَهُ لَمَّا نَذَرْت أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَة قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إنَّ اللهَ لَغَنِي عَن تَعْذِيبِ أُخْتِك نَفْسَهَا مُرْهَا فَلْتَرْكَبْ وَلْتُهْدِ -وَرُوِيَ: وَلْتَصُمْ-"

(2)

.

فَهَذَا الرَّجُلُ

(3)

الَّذِي عَقَدَ مَعَ اللهِ تَعَالَى صَوْمَ نِصفِ الدَّهْرِ وَقَد أَضَرَّ ذَلِكَ بِعَقْلِهِ وَبَدَنِهِ عَلَيْهِ أَنْ يُفْطِرَ وَيَتَنَاوَلَ مَا يُصْلِحُ عَقْلَهُ وَبَدَنَهُ، ويُكَفرَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، وَيَكونُ فِطْرُهُ قَدْرَ مَا يَصْلُحُ بِهِ عَقْلُهُ وَبَدَنُهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَحْتَمِلُهُ حَالُهُ: إمَّا أَنْ يُفْطِرَ ثُلْثَي الدَّهْرِ، أَو ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ أَو جَمِيعَهُ.

فَإِذَا أَصْلَحَ حَالَهُ: فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْعَوْدُ إلَى صَوْمِ يَوْم وَفِطْرِ يَوْمٍ بِلَا مَضَرَّةٍ وَإِلَّا صَامَ مَا يَنْفَعُهُ مِن الصَّوْمِ، وَلَا يَشْغَلُة عَمَّا هُوَ أَحَبُّ إلى اللهِ مِنْهُ، فَاللهُ لَا يُحِبُّ أَنْ يُتْرَكَ الْأَحَبّ إلَيْهِ بِفِعْلِ مَا هُوَ دُونَهُ، فَكَيْفَ يُوجبُ ذَلِكَ؟

وَأَمَّا النُّورُ الَّذِي وَجَدَهُ بِهَذَا الصَّوْمِ: فَمَعْلُومٌ أَنَّ جِنْسَ الْعِبَادَاتِ لَيْسَ شَرًّا مَحْضًا؛ بَل الْعِبَادَاتُ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا تَشْتَمِلُ عَلَى مَنْفَعَةٍ وَمَضَرَّةٍ، وَلَكِنْ لَمَّا تَرَجَّحَ ضَرَرُهَا عَلَى نَفْعِهَا نَهَى عَنْهَا الشَّارعُ، كَمَا نَهَى عَن صِيَام الدَّهْرِ، وَقِيَامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ دَائِمًا، وَعَن الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ، مَعَ أنَّ خَلْقًا يَجِدُونَ فِي

(1)

مسلم (1645).

(2)

صحَّحه الألباني في صحيح الجامع (5862).

(3)

الذي سئل الشيخ عن حكم كثرة عباداته من صيام وقيام حتى أثرَ مَجْمُوعُ ذَلِكَ خَللًا فِي ذهْنهِ مِن ذُهُولٍ وَصُدَاعٍ يَلْحَقُهُ فِي رَأَسِهِ وَبَلَادَةٍ فِي فَهْمِهِ، بِحَيْثُ أَنَّهُ لَا يُحِيط بِمَعْنَى الْكَلَامِ إذَا سَمِعَهُ، وَظَهَرَ أَثَرُ الْيُبْسِ فِي عَيْنَيْهِ حَتَّى كَادَتَا أَنْ تَغُورًا، وَقَد وَجَدَ فِي هَذَا الِاجْتِهَادِ شَيْئًا مِن الْأنْوَارِ، وَهُوَ لَا يَتْرُكُ هَذَا الصِّيَامَ لِعَقْدِهِ الَّذِي عَقَدَهُ مَعَ اللهِ تَعَالَى لِخَوْفِهِ أنْ يَذْهَبَ النُّورُ الَّذِي عِنْدَهُ، فَإِذَا نَهَاهُ أحَدٌ مِن أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ يَتَعَلَّل وَيقُولُ: أَنَا أُرِيدُ أَنْ أقْتُلَ نَفْسِي فِي اللهِ.

ص: 241

الْمُوَاصَلَةِ الدَّائِمَةِ نُورًا بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْجُوعِ، وَذَلِكَ مِن جِنْسِ مَا يَجِدُهُ الْكُفَّارُ مِن أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْأُمِّيِّينَ مِثْلُ الرُّهْبَانِ وَعُبَّادِ الْقُبُورِ.

كَمَا قَد رَأَيْنَا مِن هَؤُلَاءِ خَلْقًا كَثِيرًا آلَ بِهِم الْإِفْرَاطُ فِيمَا يُعَانُونَهُ مِن شَدَائِدِ الْأَعْمَالِ إلَى التَّفْرِيطِ وَالتَّثْبِيطِ وَالْمَلَلِ وَالْبَطَالَةِ، وَرُبَّمَا انْقَطَعُوا عَن اللهِ بالْكُلِّيَّةِ، أَو بِالْأَعْمَالِ الْمَرْجُوحَةِ عَن الرَّاجِحَةِ، أَو بِذَهَابِ الْعَقْلِ بِالْكُلِّيَّةِ، أَو بِحُصُولِ خَلَلٍ فِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَ أَعْمَالِهِمْ وَأَسَاسَهَا عَلَى غَيْرِ اسْتِقَامَةٍ وَمُتَابَعَةٍ

(1)

.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: أُرِيدُ أَنْ أَقْتُلَ نَفْسِي فِي اللهِ: فَهَذَا كَلَامٌ مُجْمَلٌ، فَإِنَّهُ إذَا فَعَلَ مَا أَمَرَهُ اللهُ بِهِ فَأفْضَى ذَلِكَ إلَى قَتْلِ نَفْسِهِ فَهَذَا مُحْسِنٌ فِي ذَلِكَ؛ كَاَلَّذِي يَحْمِلُ عَلَى الصَّفِّ وَحْدَهُ حَمْلًا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَقَد اعْتَقَدَ أَنَّهُ يُقْتَلُ فَهَذَا حَسَنٌ

(2)

، وَفِي مِثْلِهِ أَنْزَلَ الله قَوْلَهُ:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)} [البقرة: 207].

وَأَمَّا إذَا فَعَلَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ حَتَّى أَهْلَكَ نَفْسَهُ: فَهَذَا ظَالِمٌ مُتَعَدّ بِذَلِكَ.

وَقَتْلُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ حَرَامٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي "الصّحَاحِ" أَنَّهُ قَالَ:"مَن قتلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"

(3)

.

وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ: أَنَّ اللهَ لَيْس رِضَاهُ أَو مَحَبَّتُهُ فِي مُجَرَّدِ عَذَابِ

(1)

فلا يُمكن أن ينتكس أحد عن الدين والاستقامة وهو مستقيم ومتابع للشرع ظاهرًا وباطنًا، بل لا بد أن يكون عنده خلل في ذلك وخاصةً الباطن، من حب الشهرة، أو العجب، أو ازدراء الآخرين ونحو ذلك.

(2)

استدل بهذا من يُجيز قتل نفسه ويقتل معها الكثير من الأعداء والكفار المحاربين، ويُسمون ذلك: بالعمليات الاستشهاديّة، وفيه نظر، فالذي انغمس في العدو لم يقتل نفسه بنفسِه، بل قتله الكفار، وأما من يقوم بهذه العمليات فهو يُباشر قتل نفسِه، ولذلك حرمها أعلام هذا العصر: الألباني وابن باز وابن عثيمين رحمهم الله تعالى.

وكلام الشيخ الآتي ينقض فهمهم واسْتدلالهم.

(3)

البخاري (6047)، ومسلم (110).

ص: 242

النَّفْسِ وَحَمْلِهَا عَلَى الْمَشَاقِّ، حَتَّى يَكُونَ الْعَمَلُ كُلَّمَا كَانَ أَشَقَّ كَانَ أَفْضَلَ، كَمَا يَحْسَبُ كَثِيرٌ مِن الْجُهَّالِ أَنَّ الأجْرَ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لَا، وَلَكِنَّ الْأَجْرَ عَلَى قَدْرِ مَنْفَعَةِ الْعَمَلِ وَمَصْلَحَتِهِ وَفَائِدَتِهِ، وَعَلَى قَدْرِ طَاعَةِ أَمْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ.

فَأَيُّ الْعَمَلَيْنِ كَانَ أَحْسَنَ وَصَاحِبُهُ أَطْوَعَ وَأَتْبَعَ كَانَ أَفْضَلَ، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ لَا تَتَفَاضَلُ بِالْكَثْرَةِ، وَإِنَّمَا تَتَفَاضَلُ بِمَا يَحْصُلُ فِي الْقُلُوبِ حَالَ الْعَمَلِ.

وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ اللهَ لَمْ يَأْمُرْنَا إلَّا بِمَا فِيهِ صَلَاحُنَا، وَلَمْ يَنْهَنَا إلَّا عَمَّا فِيهِ فَسَادُنَا؛ وَلهَذَا يُثْنِي اللهُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَيأْمُرُ بِالصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ وَينْهَى عَن الْفَسَادِ.

فَالأمْرُ الْمَشْرُوعُ الْمَسْنُونُ جَمِيعُهُ مَبْنَاهُ عَلَى:

أ- الْعَدْلِ.

ب- وَالِاقْتِصَادِ.

ج- وَالتَّوَسُّطِ الَّذِي هُوَ خَيْرُ الْأُمُورِ وَأَعْلَاهَا؛ كَالْفِرْدَوْسِ فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ، فَمَن كَانَ كَذَلِكَ فَمَصِيرُهُ إلَيْهِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.

هَذَا فِي كُلِّ عِبَادَةٍ لَا تُقْصَدُ لِذَاتِهَا مِثْل الْجُوعِ وَالسَّهَرِ وَالْمَشْيِ.

وَأَمَّا مَا يُقْصَدُ لِنَفْسِهِ مِثْلُ مَعْرِفَةِ اللهِ وَمَحَبَّتِهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ: فَهَذِهِ شُرعَ فِيهَا الْكَمَالُ، لَكِنْ يَقَعُ فِيهَا سَرَفٌ وَعُدْوَانٌ بِإِدْخَالِ مَا لَيْسَ مِنْهَا فِيهَا، مِثْلُ أَنْ يُدْخِلَ تَرْكَ الْأَسْبَابِ الْمَأمُورِ بِهَا فِي التَّوَكلِ. [25/ 276 - 284]

4985 -

مَن ظَنَّ أَنَّ حَاجَتَهُ إنَّمَا قُضِيَتْ بِالنَّذْرِ فَقَد كَذَبَ عَلَى اللهِ وَرَسُولِهِ. [25/ 314]

* * *

ص: 243

(النذر أعظم من الحلف)

4986 -

النَّذْرُ أَعْظَمُ مِن الْحَلِفِ، وَلهَذَا لَو نَذَرَ لِغَيْرِ اللهِ فَلَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ بِاتِّفَاقٍ الْمُسْلِمِينَ؛ مِثْلُ أَنْ يَنْذِرَ لِغَيْرِ اللهِ صَلَاةً أَو صَوْمًا أَو حَجًّا أَو عُمْرَةً أَو صَدَقَةً.

وَلَو حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ شَيْئًا: لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَهُ، قِيلَ: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُكَفرَ عَن الْيَمِينِ وَلَا يَفْعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَن حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَن يَمِينِهِ"

(1)

.

وَقَد ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ

(2)

عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَن النَّذْرِ وَقَالَ: "إنَّهُ لَا يَأْتي بِخَيْر، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِن الْبَخِيلِ"، فَإِذَا كَانَ النَّذْرُ لَا يَأْتِي بِخَيْر، فَكَيْفَ بِالنَذْرِ لِلْمَخْلُوقِ؟

وَلَكِنَّ النَذْرَ للهِ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ إذَا كَانَ فِي طَاعَةٍ، وَإِذَا كَانَ مَعْصِيَةً لَمْ يَجُز الْوَفَاءُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. [1/ 81]

* * *

(مقدمات نَافِعَةٌ جِدًّا في باب الْأَيْمَانِ وَالنّذُورِ)

4987 -

مُقَدِّمَاتٌ نَافِعَة جِدًّا فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ:

الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: أَن الْيَمِينَ تَشْتَمِلُ عَلَى جُمْلَتَيْنِ:

أ- جُمْلَةٌ مُقْسَمٌ بِهَا.

ب- وَجُمْلَةٌ مُقْسَمٌ عَلَيْهَا.

وَمَسَائِلُ الْأَيْمَانِ:

أ- إمَّا فِي حُكْمِ الْمَحْلُوفِ بِهِ.

ب- وَإِمَّا فِي حُكْمِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ.

(1)

رواه مسلم (1650).

(2)

مسلم (1639).

ص: 244

فَأَمَّا الْمَحْلُوفُ بِهِ: فَالْأَيْمَانُ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ مِمَّا قَد يَلْزَمُ بِهَا حُكمٌ "سِتَّةُ أَنْوَاعٍ" لَيْسَ لَهَا سَابعٌ:

أَحَدُهَا: الْيَمِينُ بِاللهِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِمَّا فِيهِ الْتِزَامُ كُفْرٍ عَلَى تَقْدِيرِ الْخَبَرِ؛ كَقَوْلِهِ: هُوَ يَهُودِيٌّ أَو نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا، عَلَى مَا فِيهِ مِن الْخِلَافِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.

الثانِي: الْيَمِينُ بِالنَّذْرِ الَّذِي يُسَمَّى "نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ"؛ كَقَوْلِهِ: عَلِيَّ الْحَجُّ لَا أَفْعَلُ كَذَا، أَو إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ، أَو مَالِي صَدَقَةٌ إنْ فَعَلْت كَذَا وَنَحْو ذَلِكَ.

الثالِثُ: الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ.

الرَّابعُ: الْيَمِينُ بِالْعِتَاقِ.

الْخَامِسُ: الْيَمِينُ بِالْحَرَامِ؛ كَقَوْلِهِ: عَلِيَّ الْحَرَامُ لَا أَفْعَلُ كَذَا.

السَّادِسُ: الظِّهَارُ؛ كَقَوْلِهِ: أَنْتَ عَلِيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إنْ فَعَلْت كَذَا.

فَهَذَا مَجْمُوعُ مَا يَحْلِفُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ مِمَّا فِيهِ حُكْمٌ.

فَأمَّا الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ؛ كَالْحَلِفِ بِالْكَعْبَةِ، أَو قَبْرِ الشَّيْخِ، أَو بِنِعْمَةِ السُّلْطَانِ، أَو بِجَاه أَحَدٍ مِن الْمَخْلُوقِينَ: فَمَا أَعْلَمُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا أَنَّ هَذِهِ الْيَمِينَ مَكْرُوهَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَأَنَّ الْحَلِفَ بِهَا لَا يُوجِبُ حِنْثًا وَلَا كَفَّارَةً.

وَهَل الْحَلِفُ بِهَا مُحَرَّمٌ أَو مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ؟ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ: أَصَحُّهُمَا أَنَّه مُحَرَّمٌ.

وَأَمَّا أَيْمَانُ الْبَيْعَةِ فَقَالُوا: أَوَّلُ مَن أَحْدَثَهَا الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ الثَّقَفِيُّ، وَكَانَت السُّنَّةُ أَنَّ النَّاسَ يُبَايِعُونَ الْخُلَفَاءَ كَمَا بَايَعَ الصَّحَابَةُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يَعْقِدُونَ الْبَيْعَةَ كَمَا يَعْقِدُونَ عَقْدَ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهَا.

وَإمَّا أَنْ يَذْكُرُوا الشُّرُوطَ الَّتِي يُبَايِعُونَ عَلَيْهَا، ثُمَّ يَقُولُونَ: بَايَعْنَاك عَلَى ذَلِكَ، كَمَا بَايَعَتِ الْأَنْصَارُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ.

ص: 245

فَلَمَّا أَحْدَثَ الْحَجَّاجُ مَا أَحْدَثَ مِن الْعَسْفِ كَانَ مِن جُمْلَتِهِ أَن حَلَّفَ النَّاسِ عَلَى بَيْعِهِمْ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ وَالْيَمِينِ بِاللهِ وَصَدَقَةِ الْمَالِ.

الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ هَذِهِ الْأَيْمَانَ يُحْلَفُ بِهَا:

- تَارَةً بِصِيغَةِ الْقَسَمِ.

- وَتَارَةً بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ.

لَا يُتَصَوَّرُ أَنَّ تَخْرُجَ الْيَمِينُ عَن هَاتَيْنِ الصِّيغَتَيْنِ.

فَالْأوَّلُ: كَقَوْلِهِ: وَاللهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا، أَو الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي أَنْ أَفْعَلَ كَذَا، أَو عَلَيَّ الْحَرَامُ لَا أَفْعَل كَذَا، أَو عَلَيَّ الْحَجُّ لَا أَفْعَلُ.

وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ أَو نَصْرَانِيٌّ، أَو بَرِيءٌ مِن الْإِسْلَامِ، أَو إنْ فَعَلْت كَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، أَو إنْ فَعَلْت كَذَا فَامْرَأَتِي حَرَامٌ، أَو فَهِيَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، أَو إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ، أَو فَمَالِي صَدَقَةٌ

(1)

.

ثُمَّ هَذَا التَّقْسِيمُ لَيْسَ مِن خَصَائِصِ الْأَيْمَانِ الَّتِىِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللهِ؛ بَل غَيْرُ ذَلِكَ مِن الْعُقُودِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الْآدَمِيِّينَ:

(1)

قال الشيخ في موضع آخر: وَأَمَّا صِيغَةُ الْقَسَمِ: فَهُوَ أنْ يَقُولَ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأفْعَلَنَّ كَذَا، أَو لَا أَفْعَلُ كَذَا، فَيَحْلِفُ بِهِ عَلَى حَضٍّ لِنَفْسِهِ أَو لِغَيْرِهِ، أو مَنْعِ لِنَفْسِهِ أَو لِغَيْرِهِ، أو عَلَى تَصْدِيقِ خَبَرٍ أو تَكْذِيبِهِ، فَهَذَا يَدْخُلُ فِىِ مَسَائِلِ الطَّلَاقِ وَالْأيْمَانِ؛ فَإِنَّ هَذَا يَمِينٌ باتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ؛ فَإِنَّهَا صِيغَةُ قَسَمٍ، وَهُوَ يَمِين أيْضًا فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي أَنَّهَا تُسَمَّى يَمِينًا. وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي حُكْمِهَا ..

وَكَذَلِكَ تَنَازَعُوا فِيمَا إذَا حَلَفَ بِالنَّذْرِ فَقَالَ: إذَا فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ أو صَوْمُ شَهْرٍ أَو مَالِي صَدَقَةٌ، لَكِنَّ هَذَا النَّوْعَ اُشْتُهِرَ الْكَلَامُ فِيهِ عَن السَّلَفِ مِن الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالُوا: إنَّهُ أَيْمَانٌ تَجْزِي فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ؛ لِكَثْرَةِ وُقُوعِ هَذَا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ، بِخِلَافِ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ، فَإِن الْكلَامَ فِيهِ إنَّمَا عُرِفَ عَن التَّابِعِينَ وَمَن بَعْدَهُمْ، وَتَنَازَعُوا فِيهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. اهـ. يُنظر باب:(أنواع الأيمان وصيغُه) من هذا الكتاب.

ص: 246

- تَارَةً تكُونُ بِصِيغَةِ التَّعْلِيقِ الَّذِي هُوَ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ؛ كَقَوْلِهِ فِي الْجَعَالَةِ: مَن رَدَّ عَبْدِي الْآبِقَ فَلَهُ كَذَا، وَقَوْلِهِ فِي السَّبْقِ: مَن سَبَقَ فَلَهُ كَذَا.

وَتَارَةً بِصِيغَةِ التَنْجِيزِ:

- إمَّا صِيغَةُ خَبَرٍ؛ كَقَوْلِهِ: بِعْت وَزَوَّجْت.

- وَإِمَّا صِيغَةُ طَلَب؛ كَقَوْلِهِ: بِعْنِي وَاخْلَعْنِي.

الْمُقَدِّمَةُ الثالِثَة -وَفِيهَا يَظْهَرُ سِرُّ مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ وَنَحْوِهَا-: أَنَّ صِيغَةَ التَّعْلِيقِ الَّتِي تُسَمَّى "صِيغَةَ الشَّرْطِ وَصِيغَةَ الْمُجَازَاةِ" تَنْقَسِمُ إلَى سِتَّةِ أَنْوَاعٍ؛ لِأنَّ الْحَالِفَ:

أ- إمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْصُوبٌ وُجُودَ الشَّرْطِ فَقَطْ.

ب- أَو وُجُودَ الْجَزَاءِ فَقَطْ.

ج - أَو وَجُودَهُمَا.

د- وَإِمَّا أَنْ لَا يَقْصِدَ وُجُودَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ بَل يَكُونُ مَقْصُودُهُ عَدَمَ الشَّرْطِ فَقَطْ.

هـ - أَو الْجَزَاءِ فَقَطْ.

و- أَو عَدَمُهُمَا.

فَالْأوَّلُ: بِمَنْزِلَةِ كَثِيرٍ مِن صُوَرِ الْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ وَنَذْرِ التَّبَرُّرِ وَالْجَعَالَةِ وَنَحْوِهَا؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْت طَالِق أَو فَقَد خَلَعْتُك، أَو قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ أَدَّيْت أَلْفًا فَأَنْت حُرٌّ، أَو قَالَ: إنْ رَدَدْت عَبْدِي الْآبِقَ فَلَك أَلْفٌ، أَو قَالَ: إنْ شَفَى اللهُ مَرِيضِي أَو سَلِمَ مَالِي الْغَائِبُ: فَعَلَيَّ عِتْقُ كَذَا وَالصَّدَقَةُ بِكَذَا.

فَالْمُعَلِّقُ قَد لَا يَكُونُ مَقْصُوده إلَّا أَخْذَ الْمَالِ وَرَدَّ الْعَبْدِ وَسَلَامَةَ الْعِتْقِ وَالْمَالِ، وَإِنَّمَا الْتَزَمَ الْجَزَاءَ عَلَى سبِيلِ الْعِوَضِ؛ كَالْبَائِعِ الَّذِي إنَّمَا مَقْصُودُهُ أَخْذُ الثَّمَنِ وَالْتَزَمَ رَدَّ الْمَبِيعِ عَلَى سَبِيلِ الْعِوَضِ.

ص: 247

فَهَذَا الضَّرْبُ شَبِيهٌ بِالْمُعَاوَضَةِ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ.

وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ قَد جَعَلَ الطَّلَاقُ عُقُوبَةً لَهَا؛ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: إذَا ضَرَبْتِ أُمِّي فَأنْت طَالِقٌ، أَو إنْ خَرَجْت مِن الدَّارِ فَأَنْت طَالِقٌ.

وَأمَّا الثَّانِي: فَمِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ: إذَا طَهُرْت فَأنْت طَالِقٌ، أَو يَقُولَ لِعَبْدِهِ: إذَا مُتّ فَأَنْت حُرٌّ، وَنَحْو ذَلِكَ مِن التَّعْلِيقِ الَّذِي هُوَ تَوْقِيتٌ مَحْضٌ.

فَهَذَا الضَّرْبُ بِمَنْزِلَةِ الْمُنَجَّزِ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَصَدَ الطَّلَاقَ وَالْعِتَاقَ، وَإِنَّمَا أَخَّرَهُ إلَى الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ بِمَنْزِلَةِ تَأجِيلِ الدَّيْنِ.

وَأمَّا الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ وُجُودَهُمَا جَمِيعًا: فَمِثْلُ الَّذِي قَد آذَتْهُ امْرَأَتُهُ حَتَّى أَحَبَّ طَلَاقَهَا وَاسْتِرْجَاعَ الْفِدْيَةِ مِنْهَا فَيَقُولُ: إنْ أبرأتيني مِن صَدَاقِك أَو مِن نَفَقَتِك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَهُوَ يُرِيدُ كُلًّا مِنْهُمَا.

وَأمّا الرَّابعُ: وَهُوَ أَنْ يَكونَ مَقْصُودُهُ عَدَمَ الشَّرْطِ لَكِنَّهُ إذَا وُجِدَ لَمْ يَكْرَه الْجَزَاءَ؛ بَل يُحِبُّهُ، أَو لَا يُحِبُّهُ وَلَا يَكْرَهُهُ: فَمِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ زَنَيْت فَأنْت طَالِقٌ، أَو إنْ ضَرَبْت أُمِّي فَأَنْت طَالِقٌ وَنَحْو ذَلِكَ مِن التَّعْلِيقِ الَّذِي يقْصدُ فِيهِ عَدَمَ الشَّرْطِ، وَيقْصِدُ وُجُودَ الْجَزَاءِ عِنْدَ وُجُودِهِ؛ بِحَيْثُ تَكُونُ إذَا زَنَتْ أَو إذَا ضَرَبَتْ أُمَّهُ يُحِبُّ فِرَاقُهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لَهُ، فَهَدا فِيهِ مَعْنَى الْيَمِينِ وَمَعْنَى التَّوْقِيتِ.

وَأمّا الْخَامِسُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ عَدَمَ الْجَزَاءِ، وَتَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ لِئَلَّا يُوجَدَ، وَلَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي عَدَمِ الشَّرْطِ: فَهَذَا قَلِيلٌ

(1)

، كَمَن يَقُولُ: إنْ أَصَبْتَ مِائَةَ رَمْيَةٍ أَعْطَيْتُك كَذَا.

وَأمَّا السَّادِسُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودهُ عَدَمَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ الْجَزَاءُ بِالشَّرْطِ لِيَمْتَنِعَ وَجُودُهُمَا فَهُوَ مِثْلُ نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ، وَمِثْلُ الْحَلِفِ

(1)

لأنه أشبه بالشرط التعجيزي.

ص: 248

بِالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ عَلَى حَضٍّ أَو مَنْعٍ أَو تَصْدِيقٍ أَو تَكْذِيبٍ: مِثْلُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: تَصَدَّقْ، فَيَقُولُ: إنْ تَصَدَّقَ فَعَلَيْهِ صِيَامُ كَذَا وَكَذَا، أَو فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ أَو فَعَبِيدُهُ أَحْرَارٌ، أَو يَقُولَ: إنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا فَعَلَيَّ نَذْرُ كَذَا، أَو امْرَأَتِي طَالِقٌ أَو عَبْدِي حُرٌّ، أَو يَحْلِفُ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ مِمَن يَقْصِدُ مَنْعَهُ -كَعَبْدِهِ وَنَسِيبِهِ وَصَدِيقِهِ مِمَن يَحُضُّهُ عَلَى طَاعَتِهِ- فَيَقُولُ لَهُ: إنْ فَعَلْت أَو إنْ لَمْ تَفْعَلْ: فَعَلَيَّ كَذَا، أَو فَامْرأتِي طَالِقٌ

(1)

، وَنَحْو ذَلِكَ: فَهَذَا نَذْرُ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ.

وَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِن الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ يُخَالِفُهُ فِي الْمَعْنَى نَذْرُ التَّبَرُّرِ وَالتَّقَرُّبِ وَمَا أَشْبَهَهُ مِن الْخُلْعِ والْكتَابَةِ؛ فَإِنَّ الَّذِي يَقُولُ: إنْ سَلَّمَنِي اللهُ أَو سَلَّمَ مَالِي مِن كَذَا، أَو إنْ أَعْطَانِي اللهُ كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ أَو أَصُومَ أَو أَحُجَّ: قَصْدُهُ حُصُولَ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ الْغَنِيمَةُ أَو السَّلَامَةُ، وَقَصَدَ أَنْ يَشْكُرَ اللهَ عَلَى ذَلِكَ بِمَا نَذَرَهُ لَهُ.

وَكَذَلِكَ الْمُخَالِعُ وَالْمكَاتِبُ: قَصْدُهُ حُصُولُ الْعِوَضِ وَبَذْلُ الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ عِوَضًا عَن ذَلِكَ.

وَأَمَّا النَّذْرُ فِي اللَّجَاج وَالْغَضَبِ إذَا قِيلَ لَهُ: افْعَلْ كَذَا فَامْتَنَعَ مِن فِعْلِهِ ثُمَّ قَالَ: إنْ فَعَلْته فَعَلَيَّ الْحَجُّ او الصِّيَامُ، فَهُنَا مَقْصُودُهُ أَنْ لَا يَكُونَ الشَّرْطُ، ثُمَّ إنَّهُ لِقُوَّةِ امْتِنَاعِهِ ألْزَمَ نَفْسَهُ إنْ فَعَلَهُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الثَّقِيلَةِ عَلَيْهِ؛ لِيَكونَ لُزُومُهَا لَهُ إذَا فَعَلَ مَانِعًا لَهُ مِن الْفِعْلِ.

وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْته فَامْرَأَتِي طَالِقٌ؛ أَو فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ؛ إنَّمَا مَقْصُودُهُ الِامْتِنَاعُ، وَالْتَزَمَ بِتَقْدِيرِ الْفِعْلِ مَا هُوَ شَدِيدٌ عَلَيْهِ مِن فِرَاقِ أَهْلِهِ وَذَهَابِ مَالِهِ، لَيْسَ غَرَضُ هَذَا أَنْ يَتَقَرَّبَ إلَى اللهِ بِعِتْقٍ أَو صَدَقَةٍ، وَلَا أَنْ يُفَارِقَ امْرَأَتَهُ.

وَلهَذَا سَمَّى الْعُلَمَاءُ هَذَا "نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ " مَأخُوذٌ مِن قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

(1)

وكان يقول: إذا لم تأكل عندي فامرأتي طالق.

ص: 249

فِيمَا أَخْرَجَاهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ"

(1)

: "وَاللهِ لَأَنْ يَلَجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ: فِي أَهْلِهِ، آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللهِ مِن أَنْ يُعْطيَ كفَّارَتَهُ الَّتي فَرَضَ الله"

(2)

.

وَاللَّجَاجُ: التَّمَادِي فِي الْخُصُومَةِ؛ وَمِنْهُ قِيلُ: رَجُلٍ لَجُوج إذَا تَمَادَى فِي الْخُصُومَةِ؛ وَلهَذَا تُسَمِّي الْعُلَمَاءُ هَذَا "نَذْر اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ" فَإِنَّهُ يَلِجُّ حَتَّى يَعْقِدَهُ، ثُمَّ يَلِجُّ فِي الِامْتِنَاعِ مِن الْحِنْثِ.

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ اللَّجَاجَ بِالْيَمِينِ أَعْظَمُ إثْمًا مِن الْكَفَّارَةِ، وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأيْمَانِ.

فَصُورَةُ هَذَا النَّذْرِ صُورَةُ نَذْرِ التَّبَرُّرِ فِي اللَّفْظِ

(3)

، وَمَعْنَاهُ شَدِيدُ الْمُبَايَنَةِ لِمَعْنَاهُ.

وَمِن هنا نَشَأَت الشُّبْهَةُ عَلَى طَائِفَةٍ مِن الْعُلَمَاءِ، وَيتَبَيَّنُ فِقْهُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم الَّذِينَ نَظَرُوا إلَى مَعَانِي الْأَلْفَاظِ لَا إلَى صُوَرِهَا.

(1)

البخاري (6625)، ومسلم (1655).

(2)

لجَّ في الْأَمر: لَازمه وأبى أَن ينْصَرف عَنهُ.

قال ابن حجر رحمه الله: قَوْلُهُ: "وَاللهِ لَأَنْ يَلِجَّ" بِفَتْحِ اللَّامِ، وَهِيَ اللَّامُ الْمُؤَكدَةُ لِلْقَسَمِ، وَيَلِجَّ بِكَسْرِ اللَّامِ وَيجُوزُ فَتْحُهَا مِنَ اللَّجَاج، وَهُوَ أَنْ يَتَمَادَى فِي الْأمْرِ وَلَو تَبَيَّنَ لَهُ خَطَؤُهُ، وَأصْلُ اللَّجَاجِ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْإِصْرَارُ عَلَى الشَّيْءِ مُطْلَقًا. اهـ. فتح الباري (11/ 519).

وقال الإمام النووي رحمه الله: مَعْنَى الْحَدِيثِ أنَّ مَن حَلَفَ يَمِينًا تتَعَلَّقُ بِأَهْلِهِ بحَيْث يَتَضَرَّرُونَ بِعَدَمِ حِنْثِهِ فِيهِ فَيَنْبَغِي أنْ يَحْنَثَ فَيَفْعَلَ ذَلِكَ الشَّيْءَ ويُكفرَ عَن يَمِينِهِ فَإِنْ قَالَ لَاَ أَحْنَثُ بَل أَتَوَرَّعُ عَنِ ارْتكَابِ الْحِنْثِ خَشْيَةَ الْإِثْمِ فَهُوَ مُخْطِئٌ بِهَذَا الْقَوْلِ بَلِ اسْتِمْرَار عَلَى عَدَم الْحِنْثِ وَإقَامَةِ الضرَرِ لِأَهْلِهِ أَكْثَرُ إِثْمًا مِنَ الْحِنْثِ وَلَا بُدَّ مِن تَنْزِيلِهِ عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْحِنْث لَا مَعْصِيَةَ فِيهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ آثَمُ بِصِيغَةِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ فَهُوَ لِقَصْدِ مُقَابَلَةِ اللَّفْظِ عَلَى زَعْمِ الْحَالِفِ أَو تَوَهُّمِهِ فَإِنَّهُ يُتَوَهَّمُ أَن عَلَيْهِ إِثْمًا فِي الْحِنْثِ مَعَ أَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ فَيُقَالُ لَهُ الْإِثْمُ فِي اللَّجَاجِ أكْثَرُ مِنَ الْإِثْمِ فِي الْحِنْثِ. اهـ. فتح الباري (11/ 519).

(3)

فمن قال: عليّ صدقة بألف ريال إن شفى الله زوجتي، ومن قال: عليّ صدقة بألف ريال إن خرجت زوجتي من الدار بدون إذني: الصورة واحدة كما قال الشيخ، لكن بينهما فرق كبير، فالأول: قَصْدُهُ حُصُول الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ السَّلَامَةُ، وَقَصَدَ أَنْ يَشْكُرَ اللهَ عَلَى ذَلِكَ بِمَا نَذَرَهُ لَهُ. والثاني: مَقْصُودُهُ أَنْ لَا يَكُونَ الشَّرْطُ، ولَيْسَ غَرَضُهْ أَنْ يَتَقَرَّبَ إلَى اللهِ بالصَّدَقَة.

ص: 250

إذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْأَنْوَاعُ الدَّاخِلَةُ فِي قِسْمِ التَّعْلِيقِ: فَقَد عَلِمْت أَنَّ بَعْضَهَا مَعْنَاهُ مَعْنَى الْيَمِينِ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ، وَبَعْضَهَا لَيْسَ مَعْنَاهُ ذَلِكَ.

فَمَتَى كَانَ الشَّرْطُ الْمَقْصُودُ: حَضًّا عَلَى فِعْلٍ، أَو مَنْعًا مِنْهُ، أَو تَصْدِيقًا لِخَبَرِ، أو تَكْذِيبًا: كَانَ الشَّرْطُ مَقْصُودَ الْعَدَمِ هُوَ وَجَزَاؤُهُ؛ كَنَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ عَلَى وَجْهِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ. [35/ 242 - 250، 278]

* * *

(قَاعِدة فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ)

4988 -

إنَّ الْحَالِفَ بِاللهِ سبحانه وتعالى قَد بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى حُكْمَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89].

وَكَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَا مَخْرَجَ لَهُم مِن الْيَمِينِ قَبْلَ أَنْ تُشْرَعَ الْكَفَّارَةُ .. ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِاللهِ عَقْدٌ بِاللهِ، فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ كَمَا يَجِبُ بِسَائِرِ الْعُقودِ وَأَشَدُّ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَحْلِفُ بِاللهِ، أَو أُقْسِمُ بِاللهِ، وَنَحْو ذَلِكَ: فِي مَعْنَى قَوْلِهِ أَعْقِدُ بِاللهِ؛ وَلهَذَا عُدِّيَ بِحَرْفِ الْإِلْصَاقِ

(1)

الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِي الرَّبْطِ وَالْعَقْدِ، فَيَنْعَقِدُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ بِاللهِ كمَا تَنْعَقِدُ إحْدَى الْيَدَيْنِ بِالْأُخْرَى فِي الْمُعَاقَدَةِ؛ وَلهَذَا سَمَّاهُ اللهُ عَقْدًا فِي قَوْلِهِ:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} ، فَإِذَا كَانَ قَد عَقَدَهَا بِاللهِ كَانَ الْحِنْثُ فِيهَا نَقْضًا لِعَهْدِ اللهِ وَمِيثَاقِهِ، لَوْلَا مَا فَرَضَهُ اللهُ مِن التَّحِلَةِ، وَلهَذَا سُمِّيَ حَلُّهَا حِنْثًا.

والْحِنْثُ: هُوَ الْإِثْمُ فِي الْأَصْلِ؛ فَالْحِنْثُ فِيهَا سَبَبٌ لِلْإِثْمِ، لَوْلَا الْكَفَّارَة الْمَاحِيَةُ، فَإِنَّمَا الْكَفَّارَةُ مَنَعَتْهُ أَنْ يُوجِبَ إثْمًا

(2)

.

(1)

وهو الباء.

(2)

فمن حلف على شيء ولو كان مُباحًا فلا حرج عليه أن يحنث بشرط أن يكفر عن يمينه.

ص: 251

فَأَمَّا الْحَلِفُ بِالنَّذْرِ الَّذِي هُوَ "نَذْرُ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ"؛ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ، أَو فَمَالِي صَدَقَةٌ، أَو فَعَلَيَّ صِيَامٌ، يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَمْنَعَ نَفْسَهُ عَن الْفِعْلِ، أَو أَنْ يَقُولَ: إنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ وَنَحْوَهُ: فَمَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ مِن أَهْلِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ، وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد، وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ.

ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ، فَأَكْثَرُهُم قَالُوا: هُوَ مُخَيَّر بَيْنَ الْوَفَاءِ بِنَذْرِهِ وَبَيْنَ كَفَّارَةِ يَمِينٍ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالْمَشْهُورُ عَن أَحْمَد. وَمِنْهُم مَن قَالَ: بَل عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ عَيْنًا كَمَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي الْيَمِينِ بِاللهِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأبُو حَنِيفَةَ فِي الرِّوَايَةِ الْأخْرَى وَطَائِفَةٌ: بَل يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَذَا النَّذْرِ.

وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَالدَّليلُ عَلَيْهِ.

وَأَيْضًا: فَإِنَّا نَقُولُ: إنَّ مُوجَبَ صِيغَةِ الْقَسَمِ مِثْلُ مُوجَبِ صِيغَةِ التَّعْلِيقِ.

وَالنَّذْرُ نَوْعٌ مِن الْيَمِينِ، وَكُلُّ نَذْرٍ فَهُوَ يَمِينٌ، فَقَوْلُ النَّاذِرِ: للهِ عَلَيَّ أَنْ أَفْعَلَ، بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَحْلِفُ بِاللهِ لَأَفْعَلَنَّ، مُوجَبُ هَذَيْنَ الْقَوْلَيْنِ الْتِزَامُ الْفِعْلِ مُعَلَّقًا بِاللهِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "النَّذْرُ حَلِفٌ"

(1)

. فَقَوْلُهُ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجّ للهِ: بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَوَاللهِ لَأَحُجَّنَّ.

(1)

لم أجده بهذا اللفظ، وأقرب لفظ له: ما رواه الإمام أحمد (17340)، عن عُقْبَةَ بْنِ عَامِر

قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "اِنمَا النَّذْرُ يَمِينٌ، كَفَّارَتُهَا كفَّارَةُ الْيَمِينِ".

قال العلَّامة الألباني: رجاله ثقات غير ابن لهيعة، وهو سيء الحفظ، ولكني وجدت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله جزم بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم مستدلًا به على أن كل نذر يمين، فقال في الفتاوى (3/ 358): والدليل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: النذر حلف".

فإن كان شيخ الإسلام وقف للحديث على طريق أخرى غير هذه فهو قوي، وإلا فلا، والاحتمال الأول أقرب، لأن اللفظ الذي رواه هو غير هذا، والله أعلم.

نعم جاء الحديث في صحيح مسلم وغيره عن عقبة مختصرًا بلفظ: "كفارة النذر كفارة يمين"، فهو شاهد قوي للحديث. اهـ. سلسلة الأحاديث الصحيحة (2860).

ص: 252

وَطَرْدُ هَذَا: أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ بِرًّا لَزِمَهُ فِعْلُهُ، وَلَمْ يَكُن لَهُ أَنْ يُكَفّرَ؛ فَإِنَّ حَلِفَهُ لَيَفْعَلَنَّه نَذْرٌ لِفِعْلِهِ.

وَكَذَلِكَ طَرْدُ هَذَا: أَنَّهُ إذَا نَذَرَ لَيَفْعَلَنَّ مَعْصِيَةً أَو مُبَاحًا فَقَد حَلَفَ عَلَى فِعْلِهَا، بِمَنْزِلَةِ مَا لَو قَالَ: وَاللهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا.

وَلَو حَلَفَ بِاللهِ لَيَفْعَلَنَّ مَعْصِيَةً أَو مُبَاحًا لَزِمَتْه كَفَّارَةُ يَمِينٍ.

فَأَمَّا الْيَمِينُ "بِالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ" فِي اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ؛ مِثْلُ أَنْ يَقْصِدَ بِهَا حَضًّا أَو مَنْعًا، أَو تَصْدِيقًا أَو تَكْذِيبًا؛ كَقَوْلِهِ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، أَو لَا فَعَلْت كَذَا، وَإِن فَعَلْت كَذَا فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ، أَو إنْ لَمْ أَفْعَلْهُ فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ، فَمَن قَالَ مِن الْفُقَهَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ: إنَّ نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ يَجِبُ فِيهِ الْوَفَاءُ فَإِنَّهُ يَقُولُ: هُنَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ أَيْضًا.

وَأَمَّا الْجُمْهُورُ الَّذِينَ قَالُوا فِي نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ تُجْزئُهُ الْكَفَّارَةُ فَاخْتَلَفُوا هُنَا فِي الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ: فَمِنْهُم مَن فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَمِينِ بِالنَّذْرِ وَقَالُوا: إنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ بِالْحِنْثِ وَلَا تُجْرئُهُ الْكَفَّارَةُ، بِخِلَافِ الْيَمِينِ بِالنَّذْرِ

(1)

. [35/ 250 - 267]

* * *

(أحوال من حلف لفعل طاعة، أو معصية، أو أمر مباح)

4989 -

الْأَفْعَالُ "ثَلَاثَةٌ": إمَّا طَاعَة وَإِمَّا مَعْصِيَة وَإِمَّا مُبَاحٌ.

فَإِذَا حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ مُبَاحًا أَو لَيَتْرُكَنَّهُ: فَهَاهُنَا الْكَفَّارَةُ مَشْرُوعَةٌ بِالْإِجْمَاعِ.

وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِعْلَ مَكْرُوهٍ أَو تَرْكَ مُسْتَحَبٍّ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ (224)} [البقرة: 224].

(1)

ورجح الشيخ هنا وفي مواضع أخرى عدم الفرق بين الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ وَبَيْنَ الْيَمِينِ بِالنَّذْر وقال: وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْأثَرُ وَالِاعْتِبَارُ. ثم شرع في ذكرها وأطال في ذلك. يُنظر إليها (35/ 268 - 305).

ص: 253

وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِعْلَ وَاجِبٍ أَو تَرْكَ مُحَرَّمٍ: فَهَاهُنَا لَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِالِاتِّفَاقِ؛ بَل يَجِبُ التَّكْفِيرُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. [35/ 253]

* * *

(انْقَسَمَت الْأُمَّة فِي دُخُولِ الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ فِي حَدِيثِ الاِسْتِثْنَاءِ عَلَى ثلَاثَةِ أَقْسَامٍ)

4990 -

اعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ انْقَسَمَتْ فِي دُخُولِ الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ فِي حَدِيثِ الِاسْتِثْنَاءِ

(1)

عَلَى ثَلَاَثةِ أقسَامٍ:

فَقَوْمٌ قَالُوا: يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ أَنْفُسُهُمَا، حَتَّى لَو قَالَ: أَنْت طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللهُ، وَأَنْت حُرٌّ إنْ شَاءَ اللهُ: دَخَلَ ذَلِكَ فِي عُمُومِ الْحَدِيثِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا.

وَقَوْمٌ قَالُوا: [لَا]

(2)

يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ، لَا إيقَاعُهُمَا وَلَا الْحَلِفُ بِهِمَا، بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ وَلَا بِصِيغَةِ الْقَسَمِ، وَهَذَا أَشْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَإِحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمَد.

والْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ إيقَاعَ الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ لَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ؛ بَل يَدْخُلُ فِيهِ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَن أَحْمَد.

وهَذَا الْقَوْلُ الثَّالِثُ هُوَ الصَّوَابُ الْمَأْثُورُ مَعْنَاهُ عَن أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ؛ كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ، لَمْ يَجْعَلُوا فِي الطَّلَاقِ اسْتِثْنَاءً، وَلَمْ يَجْعَلُوهُ مِن الْأَيْمَانِ. [35/ 283 - 284]

* * *

(1)

وهو مَا رَوَاه ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَن حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللهُ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ". رَوَاهُ أَحْمَد وَالنَّسَائي وَابْنُ مَاجَه وَالتِّرْمِذِي.

(2)

في الأصل: (يدخل)، وهو خلاف السياق، كما نبه عليه صاحب كتاب: صيانة فتاوى شيخ الإسلام (ص 228).

ص: 254

(مُوجَبُ نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ)

4991 -

مُوجَبُ نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ عِنْدَنَا أَحَدُ شَيْئَيْنِ عَلَى الْمَشْهُورِ:

أ- إمَّا التَّكْفِيرُ.

ب- وَإِمَّا فِعْلُ الْمُعَلَّقِ.

وَلَا ريبَ أَنَّ مُوجَبَ اللَّفْظِ فِي مِثْل قَوْلِهِ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ، أَو صَدَقَةُ أَلْفٍ، أَو فَعَلَيَّ الْحَجُّ، أَو صَوْمُ شَهْرٍ: هُوَ الْوُجُوبُ عِنْدَ الْفِعْلِ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ هَذَا الْوُجُوبِ وَبَيْنَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، فَإِذَا لَمْ يَلْتَزِمُ الْوُجُوبَ الْمُعَلَّقَ ثَبَتَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ.

وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ عِتْقُ هَذَا الْعَبْدِ، أَو تَطْلِيقُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ، أَو عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ أَو أَهْدِيَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْعَبْدِ لِلْإِعْتَاقِ، وَالْمَالِ لِلتَّصَدُّقِ، وَالْبَدَنَةِ لِلْهَدْيِ. [35/ 305]

* * *

(إذَا حَلَفَ بِالظِّهَارِ أَو بِالْحَرَامِ يُكفركفارة يمين)

4992 -

إذَا حَلَفَ بِالظّهَارِ أَو بِالْحَرَامِ عَلَى [حَضٍّ]

(1)

أَو مَنْعٍ؛ كَقَوْلِهِ: إنْ فَعَلْت هَذَا فَأَنْت عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَو حَرَامٌ، أَو الْحَرَامٌ يَلْزَمُنِي، أَو الظّهَارُ

(2)

لَا أَفْعَلُهُ أَو لَأَفْعَلَنَّهُ: فَهَذَا أَصْحَابُنَا فِيهِ إذَا حَنِثَ بِالظِّهَارِ كَمَا أَنَّهُ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ؛ وَلهَذَا قَالُوا فِي أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ: مِنْهَا الظِّهَارُ.

وَكُنْت أُفْتِي بِهَذَا تَقْلِيدًا .. وَأَفْتَيْت بَعْدَ هَذَا أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ عَدَمَ الْفِعْلِ وَعَدَمَ التَّحْرِيمِ، كَمَا قُلْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ:"نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ"، وَكَمَا قُلْنَاهُ فِي قَوْلِهِ: هُوَ يَهُودِيٌّ أَو نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا، وَقَوْلِهِ: هُوَ يَسْتَحِلُّ الْخَمْرَ وَالْمَيْتَةَ إنْ فَعَلَ كَذَا.

(1)

في الأصل: (الحظ)، والمثبت هو الصواب.

(2)

أي: يَلْزَمُنِي.

ص: 255

فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُن مَقْصُودُهُ الْحُكْمَ عِنْدَ الشَّرْطِ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ الِامْتِنَاعُ مِن فِعْلٍ: فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ إنْ فَعَلَ كَذَا، وَلَيْسَ غَرَضُهُ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ عِنْدَ الْفِعْلِ، وَإِنَّمَا غَرَضُهُ الِامْتِنَاعُ مِن الْفِعْلِ، وَذكَر الْتِزَامَ ذَلِكَ تَقْدِيرًا تَحْقِيقًا لِلْمَنْعِ.

بِخِلَافِ مَا لَو أَرَادَ ثُبُوتَ التَّحْرِيمِ عُقُوبَةً لَهَا؛ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لَهَا أَو لِأُمِّهَا: إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنْت عَلَيَّ حَرَامٌ، فَهُنَا يَكُونُ مَقْصُودُهُ ثُبُوتَ التَّحْرِيمِ، كَمَا أَنَّ فِي "نَذْرِ التَّبَرُّرِ" مَقْصُودُهُ ثُبُوتُ الْوُجُوبِ، وَكَمَا فِي "الْخُلْعِ" مَقْصُودُهُ أَخْذُ الْعِوَضِ وَنَحْو ذَلِكَ.

ثُمَّ إن طَرَدْنَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ -كَمَا يَتَخَرَّجُ عَلَى أُصُولِنَا، وَكَمَا يُؤْثَرُ عَن الصَّحَابَةِ جُعِلَ الْعِتْقُ دَاخِلًا فِي نَذْرِ اللَّجَاجِ .. -: فَهُوَ مُتَوَجِّهٌ، وَهُوَ أَقْوَى إنْ شَاءَ اللهُ. [35/ 319 - 323]

* * *

(كفارة اليمين)

4993 -

كَفَّارَةُ الْيَمِينِ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ قَالَ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} ، فَمَتَى كَانَ وَاجِدًا فَعَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّرَ بِإِحْدَى الثَّلَاثِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَإِذَا اخْتَارَ أَنْ يُطْعِمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ فَلَهُ ذَلِكَ.

وَمِقْدَارُ مَا يُطْعِمُ: مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ إطْعَامَهُمْ: هَل هُوَ مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ؟ أَو بِالْعُرْفِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، مِنْهُم مَن قَالَ: هُوَ مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ مُقَدَّرٌ بِالْعُرْفِ لَا بِالشَّرْعِ، فَيُطْعِمُ أَهْلَ كُلِّ بَلَدٍ مِن أَوْسَطِ مَا يُطْعِمُونَ أَهْلِيهِمْ قَدْرًا وَنَوْعًا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ.

وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُد وَأَصْحَابِهِ مُطْلَقًا، وَالْمَنْقولُ عَن أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ هَذَا الْقَوْلُ؛ وَلهَذَا كَانُوا يَقُولُونَ: الْأَوْسَطُ خُبْزٌ وَلَبَنٌ، خُبْزٌ وَسَمْنٌ، خُبْزٌ وَتَمْرٌ، وَالْأَعْلَى خُبْزٌ وَلَحْمٌ.

ص: 256

وَقَد بَسَطْنَا الْآثَارَ عَنْهُم فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ، وَهُوَ قِيَاسُ مَذْهَبِ أَحْمَد وَأُصُولِهِ؛ فَإِنَّ أَصْلَهُ أَنَّ مَا لَمْ يُقَدِّرْهُ الشَّارعُ فَإِنَّهُ يُرْجَعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ، وَهَذَا لَمْ يُقَدِّرْهُ الشَّارعُ فَيُرْجَعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ، لَا سِيَّمَا مَعَ قَوْله تَعَالَى:{مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89].

وَقَد تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْأُدْمِ: هَل هُوَ وَاجِبٌ أَو مُسْتَحَبٌّ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إنْ كَانَ يُطْعِمُ أَهْلَهُ بِأُدُم أطْعَمَ الْمَسَاكِينَ بِأُدُمِ، وَإِن كَانَ إنَّمَا يُطْعِمُ بِلَا أُدْم لَمْ يَكُن لَهُ أَنْ يُفَضِّلَ الْمَسَاكِينَ عَلَى أَهْلِهِ؛ بَل يُطْعِمُ الْمَسَاكِينَ مِن أَوْسَطِ مَا يُطْعِمُ أَهْلَهُ.

وَإِذَا جَمَعَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ وَعَشَّاهُم خُبْزًا وَأُدْمًا مِن أَوْسَطِ مَا يُطْعِمُ أَهْلَهُ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أكْثَرِ السَّلَفِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فِي الدَّلِيلِ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ بِإِطْعَامِ، لَمْ يُوجِب التَّمْلِيكَ، وَهَذَا إطْعَامٌ حَقِيقَةً

(1)

.

وَأَمَّا التَّصَرُّفُ بِمَا شَاءَ فَاللهُ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ إنَّمَا أَوْجَبَ فِيهَا التَّمْلِيكَ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهَا بِاللَّامِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60]، وَلهَذَا حَيْثُ ذَكَرَ اللهُ التَّصَرُّفَ بِحَرْفِ الظَّرْفِ؛ كَقَوْلِهِ:{وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60]، {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60]: فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّمْلِيكُ؛ بَل يَجُوزُ أَنْ يُعْتِقَ مِن الزَّكَاةِ وَإِن لَمْ يَكُن ذَلِكَ تَمْلِيكًا لِلْمُعْتَقِ، وَيجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهَا سِلَاحًا يُعِينُ بِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَغَيْرَ ذَلِكَ. [35/ 349 - 353]

* * *

(1)

بخلاف الزكاة على الفقراء والمساكين، فلا يجوز ذلك؛ لأن الواجب فيها التمليك.

ص: 257

(بَابُ الْقَضَاءُ)

4994 -

كُلُّ مَن حَكَمَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَهُوَ قَاضٍ، سَوَاءٌ كَانَ صَاحِبَ حَرْبٍ، أَو مُتَوَلِّي دِيوَانٍ، أَو مُنْتَصِبًا لِلِاحْتِسَابِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَن الْمُنْكَرِ، حَتَّى الَّذِي يَحْكُمُ بَيْنَ الصِّبْيَانِ فِي الْخُطُوطِ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَعُدُّونَهُ مِنَ الْحُكَّامِ. [18/ 170]

4995 -

لَو شَرَطَ الْإِمَامُ عَلَى الْحَاكِمِ، أَو شَرَطَ الْحَاكِمُ عَلَى خَلِيفَتِهِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَب مُعَيَّنٍ: بَطَلَ الشَّرْطُ، وَفِي فَسَادِ الْعَقْدِ وَجْهَانِ.

وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا إذَا أَمْكَنَ الْقُضَاةُ أَنْ يَحْكُمُوا بِالْعِلْمِ وَالْعَدْلِ مِن غَيْرِ هَذَا الشَّرْطِ

(1)

فَعَلُوا.

فَأَمَّا إذَا قُدِّرَ أَنَّ فِي الْخُرُوجِ عَن ذَلِكَ مِن الْفَسَادِ جَهْلًا وَظُلْمًا أَعْظَمَ مِمَّا فِي التَّقْدِيرِ: كَانَ ذَلِكَ مِن بَابِ دَفْعِ أَعْظَمِ الفسادين بِالْتِزَامِ أَدْنَاهُمَا، وَلَكِنْ هَذَا لَا يُسَوِّغُ لِوَاقِفٍ أَنْ لَا يَجْعَلَ النَّظَرَ فِي الْوَقْفِ إلَّا لِذِي مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ دَائِمًا مَعَ إمْكَان، إلَّا أَنْ يَتَوَلَّى فِي ذَلِكَ الْمَذْهَبِ، فَكَيْفَ إذَا لَمْ يُشْرَطْ ذَلِكَ؟.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَالْحَاكِمُ عَلَى أَيِّ مَذْهَبٍ كَانَ إذَا كَانَت وِلَايَتُهُ تَتَنَاوَلُ النَّظَرَ فِي هَذَا الْوَقْفِ: كَانَ تَفْوِيضُهُ سائغًا، وَلَمْ يَجُزْ لِحَاكِم آخَرَ نَقْضُ مِثْل هَذَا، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ فِي التَّفْوِيضِ إلَيْهِ مِن الْمَصْلَحَةِ فِي الْمَالِ وَمُسْتَحِقِّهِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهِ. [31/ 73 - 74]

4996 -

الواجب اتخاذ ولاية القضاء دينًا وقربة، فإنها من أفضل القربات، وإنما فسد حال الأكثر لطلب الرئاسة والمال بها، ومن فعل ما يمكنه لم يلزمه ما يعجز عنه. [المستدرك 5/ 155]

4997 -

الولاية لها ركنان: القوة والأمانة؛ فالقوة في الحكم ترجع إلى

(1)

وهو أن يشترطَ الْوَاقِفُ أن يكون النَّظْرُ على الوقف إلى حَاكِمٍ بمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ.

ص: 258

العلم والعدل في تنفيذ الحكم، والأمانة ترجع إلى خشية الله تعالى. [المستدرك 5/ 155]

4998 -

أما سؤال الولاية فقد ذمه النبي صلى الله عليه وسلم، وأما سؤال يوسف قوله:{اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} [يوسف: 55] فلأنه كان طريقًا إلى أن يدعوهم إلى الله، ويعدل بين الناس، ويرفع عنهم الظلم، ويفعل من الخير ما لم يكونوا يفعلوه، مع أنهم لم يكونوا يعرفون حاله، وقد علم بتأويل الرؤيا ما يؤول إليه حال الناس، ففي هذه الأحوال ونحوها ما يوجب الفرق بين مثل هذه الحال وبين ما نهى عنه.

وأيضًا: فليست هذه إمارة محضة إنما هي أمانة.

وقد يقال: هذا شرع من قبلنا. [المستدرك 5/ 155]

4999 -

من باشر القضاء مع عدم الأهلية المسوغة للولاية وأصر على ذلك عاملًا بالجهل والظلم: فهو فاسق، ولا يجوز أن يولى خطبة، ولا تنفذ أحكامه ولا عقوده كما تنفذ أحكام العالم العادل.

بل من العلماء من يردها كلها، وهو قول أكثر أصحاب الشافعي وأحمد.

ومن العلماء من ينفذ ما وافق الحق لمسيس الحاجة، ولما يلحق الناس من الضرر، والحق يجب اتباعه سواء قام به البر والفاجر، وهذا هو المشهور من مذهب أبي حنيفة ومالك وطائفة من أصحاب أحمد وهو الراجح. [المستدرك 5/ 156]

5000 -

يشترط في القاضي أن يكون ورعًا. [المستدرك 5/ 156]

5001 -

يجب تولية الأمثل فالأمثل. [المستدرك 5/ 157]

5002 -

أَكْثَرُ من تَمَيَّزَ في الْعِلْمِ من الْمُتَوَسِّطِينَ إذَا نَظَرَ وَتَأَمَّلَ أَدِلَّةَ الْفَرِيقَيْنِ بِقَصْدٍ حَسَنٍ، وَنَظَرٍ تَامٍّ: تَرَجَّحَ عِنْدَهُ أَحَدُهُمَا، لَكِنْ قد لَا يثق بِنَظَرِهِ؛ بَل يَحْتَمِلُ أَنَّ عِنْدَهُ مالا يَعْرِفُ جَوَابَهُ، وَالْوَاجِبُ على مِثْل هذا مُوَافَقَتُهُ لِلْقَوْلِ الذي

ص: 259

تَرَجَّحَ عِنْدَهُ بِلَا دَعْوَى منه لِلِاجْتِهَادِ؛ كَمُجْتَهِدٍ في أَعْيَانِ الْمُفْتِينَ وَالْأَئِمَّةِ إذَا تَرَجَّحَ عِنْدَ أَحَدِهِمَا قَلَّدَهُ [الفروع 6/ 377]

5003 -

مَا يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَى مَعْرِفَتِهِ: فَإِنَّ اللهَ نَصَبَ عَلَى الْحَقِّ فِيهِ دَلِيلًا. [الاختيارات 482، والفروع 6/ 377]

5004 -

النَّبِيه إذا سمع اختلاف العلماء وأدلتهم في الجملة: عنده ما يعرف به رجحان القول. [المستدرك 5/ 157]

5005 -

ليس لحاكمٍ وغيره أن يبتدئ

(1)

الناس بقهرهم على ترك ما يسوغ وإلزامهم برأيه واعتقاده اتفاقًا، ولو جاز هذا لجاز لغيره مثله، وأفضى إلى التفرق والاختلاف. [المستدرك 5/ 157]

5006 -

لا تشترط الحرية في الحاكم، واختاره أبو الخطاب وابن عقيل. [المستدرك 5/ 158]

5007 -

ولاية القضاء يجوز تبعيضها، ولا يجب أن يكون عالمًا بما في ولايته؛ فإن منصب الاجتهاد ينقسم، حتى لو ولاه في المواريث لم يجب أن يعرف إلا الفرائض والوصايا وما يتعلق بذلك.

وإن ولاه عقد الأنكحة وفسخها لم يجب أن يعرف إلا ذلك.

وعلى هذا: فقُضاة الأطراف يجوز أن لا يقضوا في الأمور الكبار والدماء والقضايا المشكلة.

وعلى هذا: فلو قال: اقض فيما تعلم، كما يقول له: أفت فيما تعلم: جاز، ويبقى ما لا يعلم خارجًا عن ولايته. [المستدرك 5/ 159]

5008 -

الوكالة يصح قبولها على الفور والتراخي بالقول والفعل، والولاية نوع منها. [المستدرك 5/ 160]

(1)

في الأصل: (يبتدأ)، والمثبت أصح إملائيًّا.

ص: 260

5009 -

لا يجوز التقليد في معرفة الحكم اتفاقًا، وقبله لا يجوز على المشهور إلا أن يضيق الوقت ففيه وجهان، فإن عجز عن معرفة الحق بتعارض الأدلة ففيه وجهان، فهذه أربع مسائل.

والعجز قد يعني به: العجز الحقيقي، وقد يعني به: المشقة العظيمة، والصحيح الجواز في هذين الموضعين. [المستدرك 5/ 160]

5010 -

إذا استناب الحاكم في الحكم من غير مذهبه، إن كان لكونه أرجح فقد أحسن، وإلا لم تجز الاستنابة. [المستدرك 5/ 160]

5011 -

القضاة ثلاثة: من يصلح، ومن لا يصلح، والمجهول.

فلا يرد من أحكام من يصلح إلا ما علم أنه باطل، ولا ينفذ من أحكام من لا يصلح إلا ما علم أنه حق.

واختاره صاحب المغني وغيره، وإن كان لا يجوز توليته ابتداء

(1)

.

وأما المجهول فينظر فيمن ولاه، فإن كان لا يولي إلا الصالح جعل صالحًا، وإن كان يولي هذا تارة وهذا تارة نفذ ما كان حقًّا، ورد الباطل، والباقي موقوف. [المستدرك 5/ 161]

5012 -

يجوز اجتهاد الرأي للقاضي والمفتي إذا لم يجد في الحادثة نصًّا من الكتاب أو السُّنَّة؛ كقول جماهير السلف وأئمة الفقهاء؛ كمالك والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد وغيرهم.

وقد تكون تلك الحكومة في الكتاب والسُّنَّة على وجه خفي لم يدركه، أو تكون مركبة من مقدمتين من الكتاب والسُّنَّة لكنه لم يتفطن لذلك فيجوز له أن يجتهد برأيه حينئذ لكونه لم يجد تلك الحكومة في الكتاب ولا في السُّنَّهَ وإن كانت فيهما. [المستدرك 5/ 161 - 162]

* * *

(1)

العبارة في الأصل: (واختار صاحب المغني وغيره: إن كانت توليته ابتداء).

والتصويب من الاختيارات (488).

ص: 261

(الْمَقْصُودُ مِن الْقَضَاءِ)

5013 -

الْمَقْصُودُ مِن الْقَضَاءِ:

أ - وُصُولُ الْحُقُوقِ إلَى أَهْلِهَا.

ب - وَقَطْعُ الْمُخَاصَمَةِ.

فَوُصُولُ الْحُقُوقِ: هُوَ الْمَصْلَحَةُ.

وَقَطْعُ الْمُخَاصَمَةِ: إزَالَةُ الْمَفْسَدَةِ.

فَالْمَقْصُودُ هُوَ جَلْبُ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ وَإِزَالَةُ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ.

فَالْأَقسَامُ أَرْبَعَةٌ:

أ - إمَّا فَصْلٌ بِصُلْح

(1)

، فَهَذَا هُوَ الْغَايَةُ.

ب - وَإِمَّا فَصْلٌ بِحُكْم مَرَّ، فَقَد حَصَلَ مَعَهُ وُصُولُ الْحَقِّ وَقَطْعُ الْخُصُومَةِ، وَلَمْ يَحْصُلْ مَعَهُ صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ.

ج - وَإِمَّا صُلْحٌ عَلَى تَرْكِ بَعْضِ مَا يَدَّعِي أَنَّهُ حَقٌّ، فَهَذَا أَيْضًا قَد حَصَلَ مَقْصُودُ الصُّلْحِ وَقَطع النِّزَاعِ، وَلَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُ وُصُولِ الْحُقُوقِ، لَكِنْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِن التَّرْكِ.

وَمِن هُنَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْحُكْمَ بِالصُّلْحِ أَحْسَنُ مِن الْحُكْمِ بِالْفَصْلِ الْمُرِّ؛ لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي دَفْعِ الْخُصُومَةِ، وَامْتَازَ ذَلِكَ بِصَلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ مَعَ تَرْكِ أَحَدِهِمَا لِحَقِّهِ، وَامْتَازَ الآخَرُ بِأَخْذِ الْمُسْتَحِقِّ حَقَّهُ مَعَ ضَغَائِنَ.

د - وَأَمَّا لَا فَصْلَ وَلَا صُلْحَ: فَهَذَا لَا يَصْلُحُ، يَحْصُلُ بِهِ مَفْسَدَةُ تَرْكِ الْقَضَاءِ.

وَإِن كَانَ الْحَقُّ فِي يَدِ صَاحِبِهِ كَالْوَقْفِ وَغَيْرِهِ يَخَافُ إنْ لَمْ يُحْفَظْ بِالْبَيِّنَاتِ أَنْ يُنْسِيَهُ شَرْط وَيَجْحَد وَلَا يَأْتِيهِ وَنَحْو ذَلِكَ؛ فَهُنَا فِي سَمَاعِ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ

(1)

أي: فصلٌ بين الخصمين وفض النزاع بينهما، مقرونًا بالصلح والرضا.

ص: 262

مِن غَيْرِ خَصْمٍ حِفْظُ الْحَقِّ الْمَجْحُودِ عَن خَصْمٍ مُقَدَّرٍ وَهَذَا أَحَدُ مَقْصُودَي الْقَضَاءِ فَلِذَلِكَ يُسْمَعُ ذَلِكَ. [35/ 355 - 356]

* * *

(وجوب تحكيم شرع الله، وقتال من خرج عنه)

5014 -

عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ أَنْ يُحَكمُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، وَأَفْضَلَ الْمُرْسَلِينَ، وَأَكْرَمَ الْخَلْقِ عَلَى اللهِ، لَيْسَ لِأَحَد أَنْ يَخْرُجَ عَن حُكْمِهِ فِي شَيْءٍ، سَوَاءٌ كَانَ مِن الْعُلَمَاءِ أَو الْمُلُوكِ أَو الشُّيُوخِ أَو غَيْرِهِمْ.

وَلَو أَدْرَكَهُ مُوسَى أَو عِيسَى وَغَيْرُهُمَا مِن الرُّسُلِ كَانَ عَلَيْهِم اتِّبَاعُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81]

(1)

.

وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى النَّبِيِّ الْمُتَقَدِّمِ أَنْ يُصَدِّقَ مَن يَأْتِي بَعْدَهُ، وَعَلَى النَّبِيِّ الْمُتَأَخِّرِ أَنْ يُصَدِّقَ مَن كَانَ قَبْلَهُ؛ وَلهَذَا لَمْ تَخْتَلِف الْأَنْبِيَاءُ؛ بَل دِينُهُم وَاحِدٌ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي "الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ":"إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ".

فَدِينُ الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدٌ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، كُلُّهُم مُسْلِمُونَ مُؤْمِنُونَ، لَكِنَّ بَعْضَ الشَّرَائِعِ تَتَنَوَّعُ، فَقَد يُشَرِّعُ فِي وَقْتٍ أَمْرًا لِحِكْمَة، ثُمَّ يُشَرِّعُ فِي وَقْتٍ آخَرَ أَمْرًا آخَرَ لِحِكْمَة؛ كَمَا شَرَعَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ الصَّلَاةَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ وَأَمَرَ بِالصَّلَاةِ إلَى الْكَعْبَةِ، فَتَنَوَّعَت الشَّرِيعَةُ وَالدِّينُ وَاحِدٌ، وَكَانَ اسْتِقْبَالُ الشَّامِ ذَلِكَ الْوَقْتَ مِن دِينِ الْإِسْلَامِ، وَكَذَلِكَ السَّبْتُ لِمُوسَى مِن دِينِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ لَمَّا نُسِخَ صَارَ دِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ النَّاسِخَ، وَهُوَ الصَّلَاةُ إلَى الْكَعْبَةِ.

(1)

فالله تعالى أخذ الميثاق وهو العهد الغليظ على صفوة خلقه أن ينصروا محمدًّا صلى الله عليه وسلم، ويجب كذلك على الحكام والعلماء نصرة سنته وشريعته، فمن أوجب واجباتهم نصرة دين النبي صلى الله عليه وسلم والدفاع عنه.

ص: 263

فَمَن تَمَسَّكَ بِالْمَنْسُوخِ دُونَ النَّاسِخِ فَلَيْسَ هُوَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَلَا هُوَ مُتَّبعٌ لِأَحَدٍ مِن الْأَنْبِيَاءِ، وَمَن بَدَّلَ شَرْعَ الْأَنْبِيَاءِ وَابْتَدَعَ شَرْعًا فَشَرْعُهُ بَاطِلٌ لَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ كَمَا قَالَ:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21].

وَلهَذَا كَفَرَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لِأَنَّهُم تَمَسَّكُوا بِشَرْع مُبَدَّلٍ مَنْسُوخٍ.

وَاللهُ أَوْجَبَ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِجَمِيعِ كُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم خَاتَمُ الرُّسُلِ، فَعَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ اتِّبَاعُهُ، وَاتِّبَاعُ مَا شَرَعَهُ مِن الدِّينِ، وَهُوَ مَا أَتَى بِهِ مِن الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

وَسُيُوفُ المُسْلِمِينَ تَنْصُرُ هَذَا الشَّرْعَ وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ؛ كَمَا قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ نَضْرِبَ بِهَذَا - يَعْنِي: السَّيْفَ - مَن خَرَجَ عَن هَذَا - يَعْنِي: الْمُصْحَفَ -".

قَالَ تَعالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)} [الحديد: 25]، فَبَيَّنَ سبحانه وتعالى أَنَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَأَنْزَلَ الْعَدْلَ وَمَا بِهِ يُعْرَفُ الْعَدْلُ؛ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، وَأَنْزَلَ الْحَدِيدَ.

فَمَن خَرَجَ عَن الْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ قُوتِلَ بِالْحَدِيدِ؛ فَالْكتَابُ وَالْعَدْلُ مُتَلَازِمَانِ، وَالْكِتَابُ هُوَ الْمُبَيِّنُ لِلشَّرْع؛ فَالشَّرْعُ هُوَ الْعَدْلُ، وَالْعَدْلُ هُوَ الشَّرْعُ، وَمَن حَكَمَ بِالْعَدْلِ فَقَد حَكَمَ بِالشَّرْعِ

(1)

.

وَقَد يَقُولُ كَثِيرٌ مِن عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ كَالْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ أَقْوَالًا بِاجْتِهَادِهِمْ، فَهَذِهِ يَسُوغُ الْقَوْلُ بِهَا، وَلَا يَجِبُ عَلَى كُل مُسْلِمٍ أَنْ يَلْتَزِمَ إلَّا قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَهَذَا

(1)

وقال الشيخ: عَلَى الْحُكَّامِ أنْ لَا يَحْكُمُوا إلَّا بِالْعَدْلِ، وَالْعَدْلُ هُوَ مَا أنْزَلَ اللهُ. (35/ 361)

ص: 264

شَرْعٌ دَخَلَ فِيهِ التَّأْوِيلُ وَالِاجْتِهَادُ، وَقَد يَكُونُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ الْمُنَزَّلِ، فَيَكُونُ لِصَاحِبِهِ أَجْرَانِ، وَقَد لَا يَكونُ مُوَافِقًا لَهُ، لَكِنْ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا، فَإِذَا اتَّقَى الْعَبْدُ اللهَ مَا اسْتَطَاعَ آجَرَهُ اللهُ عَلَى ذَلِكَ وَغَفَرَ لَهُ خَطَأَهُ.

وَمَن كَانَ هَكَذَا لَمْ يَكُن لِأَحَدٍ أَنْ يَذُمَّهُ وَلَا يَعِيبَهُ وَلَا يُعَاقِبَهُ، وَلَكِنْ إذَا عُرِفَ الْحَقُّ بِخِلَافِ قَوْلِهِ لَمْ يَجُزْ تَرْكُ الْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ رَسُولَهُ لِقَوْل أَحَدٍ مِن الْخَلْقِ، وَذَلِكَ هُوَ الشَّرْعُ الْمُنَزَّلُ مِن عِنْدِ اللهِ، وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَهُوَ دِينُ اللهِ وَرَسُولِهِ، لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَيكُونَ الدِّينُ كُلُّة للهِ.

لَا يُجَاهِدُونَ عَلَى قَوْلِ عَالِمٍ وَلَا شَيْخٍ وَلَا مُتَأَوّلٍ؛ بَل يُجَاهِدُونَ لِيُعْبَدَ اللهُ وَحْدَهُ، وَيكُونَ الدِّينُ لَهُ كَمَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ"

(1)

عَن أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ رَياءً، فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فَقَالَ:"مَن قَاتَلَ لِتكُونَ كلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ".

فَالْمَقْصُودُ بِالْجِهَادِ أَنْ لَا يُعْبَدَ أَحَدٌ إلَّا اللهُ؛ فَلَا يَدْعُو غَيْرَهُ وَلَا يُصَلِّي لِغَيْرِهِ وَلَا يَسْجُدُ لِغَيْرِهِ. [35/ 363 - 368]

* * *

(هل حكم الحاكم يرفع الخلاف؟ وواجب الحكام تجاه اختلاف المسلمين والعلماء)

5015 -

فَصْلٌ: فِيمَا جَعَلَ اللهُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ، وَمَا لَمْ يَجْعَلْ لِوَاحِدٍ مِن الْمَخْلُوقِينَ الْحُكْمَ فِيهِ؛ بَل الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ للهِ تَعَالَى وَلرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، لَيْسَ لِأَحَد مِن الْحُكَّامِ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَو كَانَ ذَلِكَ الشَّخْصُ مِن آحَادِ الْعَامَّةِ.

(1)

البخاري (123)، ومسلم (1904).

ص: 265

وَهَذَا مِثْلُ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ جَمِيعَ الْخَلْقِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهَا وَيعْمَلُوا بِهَا، وَقَد بَيَّنَهَا فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ، أَو تَنَازَعَت الْأُمَّةُ فِيهِ: إذَا وَقَعَ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْحُكَّامِ وَبَيْنَ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ مِن الْعُلَمَاءِ أَو الْجُنْدِ أَو الْعَامَّةِ أَو غَيْرِهِمْ: لَمْ يَكُن لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ فِيهَا عَلَى مَن يُنَازِعُهُ، وَيُلْزِمَهُ بِقَوْلِهِ، وَيمْنَعَهُ مِن الْقَوْلِ الآخَرِ، فَضْلًا عَن أَنْ يُؤْذِيَهُ أَو يُعَاقِبَهُ؛ مِثْلُ أَنْ يَتَنَازَعَ حَاكِمٌ أَو غَيْرُ حَاكِمٍ فِي قَوْلِهِ:{أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] هَل الْمُرَادُ بِهِ الْجِمَاعُ؟ كَمَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ وَقَالُوا: إنَّ مَسَّ الْمَرْأَةِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ لَا لِشَهْوَةٍ وَلَا لِغَيْرِ شَهْوَةٍ، أَو الْمُرَادُ بِهِ اللَّمْسُ بِجَمِيعِ الْبَشَرَةِ إمَّا لِشَهْوَةٍ وَإِمَّا مُطْلَقًا؟.

وَكَذَلِكَ تَنَازَعُوا فِي كَثِيرٍ مِن مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ، وَفِي كَثِيرٍ مِن مَسَائِلِ الطَّلَاقِ وَالْإِيلَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَثِيرٍ مِن مَسَائِلِ الْعِبَادَاتِ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ، وَفِي مَسَائِلِ زِيَارَاتِ الْقُبُورِ، مِنْهُم مِن كَرِهَهَا مُطْلَقًا، وَمِنْهُم مَن أَبَاحَهَا، وَمِنْهُم مَن اسْتَحَبَّهَا إذَا كَانَت عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ.

وَتَنَازَعُوا فِي بَعْضِ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: هَل ثَبَتَتْ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ أَو لَمْ تَثْبُتْ؟

فَهَذِهِ الْأُمُورُ الْكُلِّيَّةُ لَيْسَ لِحَاكِم مِن الْحُكَّامِ كَائِنًا مَن كَانَ -وَلَو كَانَ مِن الصَّحَابَةِ- أَنْ يَحْكُمَ فِيهَا بقَوْلِهِ عَلَى مَن نَازَعَهُ فِي قَوْلِهِ، فَيَقُولُ: أَلْزَمْته أَنْ لَا يَفْعَلَ وَلَا يُفْتِيَ إلَّا بِالْقَوْلِ اَلَّذِي يُوَافِقُ لِمَذْهَبِي؛ بَل الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ للهِ وَرَسُولِهِ.

وَالْحَاكِمُ وَاحِدٌ مِن الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ تَكَلَّمَ بِمَا عِنْدَهُ، وَإِذَا كَانَ عِنْدَ مُنَازِعِهِ عِلْمٌ تَكَلَّمَ بِهِ، فَإِنْ ظَهَرَ الْحَقُّ فِي ذَلِكَ وَعُرِفَ حُكْمُ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجَبَ عَلَى الْجَمِيعِ اتِّبَاعُ حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَإِن خَفِيَ ذَلِكَ أُقِرَّ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى قَوْلِهِ، أُقِرَّ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى

ص: 266

مَذْهَبِهِ، وَلَمْ يَكُن لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَمْنَعَ الْآخَرَ إلَّا بِلِسَانِ الْعِلْمِ وَالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ، فَيَقُولُ مَا عِنْدَهُ مِن الْعِلْمِ.

وَأَمَّا بِالْيَدِ وَالْقَهْرِ: فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ إلَّا فِي الْمُعَيَّنَةِ الَّتِي يُتَحَاكَمُ فِيهَا إلَيْهِ؛ مِثْلُ مَيِّتٍ مَاتَ وَقَد تَنَازَعَ وَرَثَتُهُ فِي قَسْمِ تَرِكَتِهِ، فَيُقَسِّمُهَا بَيْنَهُم إذَا تَحَاكَمُوا إلَيْهِ، وَإِذَا حَكَمَ هُنَا بِأَحَدِ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ أَلْزَمَ الْخَصْمَ بِحُكْمِهِ.

وَلَمْ يَكُن لَهُ أَنْ يَقُولَ: أَنَا لَا أَرْضَى حَتَّى يَحْكُمَ بِالْقَوْلِ الْآخَرِ. فَإِنَّ الْحَاكِمَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ. [35/ 357 - 360]

5016 -

مَا تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ لَيْسَ لِأَحَد مِن الْقُضَاةِ أَنْ يَفْصِلَ النِّزَاعَ فِيهِ بِحُكْم، وَإِذَا لَمْ يَكُن لِأَحَد مِن الْقُضَاةِ أَنْ يَقُولَ: حَكَمْت بِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الصَّحِيحُ، وَأَنَّ الْقَوْلَ الْآخَرَ مَرْدُودٌ عَلَى قَائِلِهِ؛ بَل الْحَاكِمُ فِيمَا تَنَازَعَ فِيهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ أو أَجْمَعُوا عَلَيْهِ: قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ كَقَوْلِ آحَادِ الْعُلَمَاءِ إنْ كَانَ عَالِمًا، وَإِن كَانَ مُقَلِّدًا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعَامَّةِ الْمُقَلِّدِينَ.

وَالْمَنْصِبُ وَالْوِلَايَةُ لَا يَجْعَلُ مَن لَيْسَ عَالِمًا مُجْتَهِدًا عَالِمًا مُجْتَهِدًا.

وَلَو كَانَ الْكَلَامُ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ بِالْوِلَايَةِ وَالْمَنْصِبِ: لَكَانَ الْخَلِيفَةُ وَالسُّلْطَانُ أَحَقَّ بِالْكَلَامِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَبِأَنْ يَسْتَفْتِيَهُ النَّاسُ وَيرْجِعُوا إلَيْهِ فِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِم فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ.

فَإِذَا كَانَ الْخَلِيفَةُ وَالسُّلْطَانُ لَا يَدَّعِي ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَلَا يَلْزَمُ الرَّعِيَّةَ حُكمُهُ فِي ذَلِكَ بِقَوْل دُونَ قَوْلٍ إلَّا بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ: فَمَن هوَ دُونَ السُّلْطَانِ فِي الْوِلَايَةِ أَوْلَى بِأَنْ لَا يَتَعَدَّى طُورَهُ.

فَكُلُّ مَن كَانَ أَعْلَمَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ أَوْلَى بِالْكَلَامِ فِيهَا مِن غَيْرِهِ وَإِن لَمْ يَكُن حَاكِمًا، وَالْحَاكِمُ لَيْسَ لَهُ فِيهَا كَلَامٌ لِكَوْنِهِ حَاكِمًا؛ بَل إنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ تَكَلَّمَ فِيهَا كَآحَادِ الْعُلَمَاءِ. [27/ 296 - 297]

5017 -

لَيْسَ الْمُرَادُ بِالشَّرْعِ اللَّازِمِ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ حُكْمُ الْحَاكِمِ، وَلَو كَانَ

ص: 267

الْحَاكِمُ أَفْضَلَ أَهْلِ زَمَانِهِ؛ بَل حُكْمُ الْحَاكِمِ الْعَالِمِ الْعَادِلِ يُلْزِمُ قَوْمًا مُعَيَّنِينَ تَحَاكَمُوا إلَيْهِ فِي قَضِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، لَا يُلْزِمُ جَمِيعَ الْخُلُقِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى عَالِمٍ مِن عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَلِّدَ حَاكِمًا لَا فِي قَلِيلٍ وَلَا فِي كَثِيرٍ إذَا كَانَ قَد عَرَفَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ؛ بَل لَا يَجِبُ عَلَى آحَادِ الْعَامَّةِ تَقْلِيدُ الْحَاكِمِ فِي شَيْءٍ؛ بَل لَهُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ مَن يَجُوزُ لَهُ اسْتِفْتَاؤُهُ، وَإِن لَمْ يَكن حَاكِمًا.

وَمَتَى تَرَكَ الْعَالِمُ مَا عَلِمَهُ مِن كِتَاب اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَاتَّبَعَ حُكْمَ الْحَاكِمِ الْمُخَالِفِ لِحُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ كَانَ مُرْتًدًّا كَافِرًا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)} [الأعراف: 3].

وَلَو ضُرِبَ وَحُبسَ وَأُوذِيَ بِأَنْوَاعِ الْأَذَى لِيَدَعَ مَا عَلِمَهُ مِن شَرْعِ اللهِ وَرَسُولِهِ الَّذِي يَجِبُ اتباعُهُ وَاتَّبَعَ حُكْمَ غَيْرِهِ: كَانَ مُسْتَحِقًّا لِعَذَابِ اللهِ؛ بَل عَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ وَإِن أُوذِيَ فِي اللهِ، فَهَذِهِ سُنَّةُ اللهِ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ قَالَ اللهُ تَعَالَى:{الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت: 1 - 3].

وَهَذَا إذَا كَانَ الْحَاكِمُ قَد حَكَمَ فِي مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ قَد تَنَازَعَ فِيهَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ، فَحُكْمُ الْحَاكِمِ بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ سُنَّةٌ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تُخَالِفُ مَا حَكَمَ بِهِ: فَعَلَى هَذَا أَنْ يَتَّبعَ مَا عَلِمَ مِن سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَيَأْمُرَ بِذَلِكَ ويُفْتِيَ بِهِ، وَيَدْعُوَ إلَيْهِ وَلَا يُقَلِّدَ الْحَاكِمَ.

هَذَا كُلُّهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.

وَإِن تَرَكَ الْمُسْلِمُ عَالِمًا كَانَ أَو غَيْرَ عَالِمٍ مَا عَلِمَ مِن أَمْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِ غَيْرِهِ: كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْعَذَاب قَالَ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النور: 63].

وَإِن كَانَ ذَلِكَ الْحَاكِمُ قَد خَفِيَ عَلَيْهِ هَذَا النَّصُّ - مِثْل كَثِيرٍ مِن الصَّحَابَةِ

ص: 268

وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ تَكَلَّمُوا فِي مَسَائِلَ بِاجْتِهَادِهِمْ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ سُنَّةٌ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تُخَالِفُ اجْتِهَادَهُم -: فَهُم مَعْذُورُونَ لِكَوْنِهِمْ اجْتَهَدُوا و {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].

وَلَكِنْ مَن عَلِمَ سُنَّةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ عَن السُّنَّةِ إلَى غَيْرِهَا، قَالَ تَعَالَى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} [الأحزاب: 36].

وَمَن اتَّبَعَ مَا بَعَثَ اللهُ بِهِ رَسُولَهُ كَانَ مَهْدِيًّا مَنْصُورًا بِنُصْرَةِ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)} [غافر: 51]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} [الصافات: 171 - 173].

وَإِذَا أَصَابَت الْعَبْدَ مُصِيبَةٌ كَانَت بِذَنْبِهِ لَا بِاتَّبَاعِهِ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم؛ بَل بِاتِّبَاعِهِ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم يُرْحَمُ وَيُنْصَرُ وَبِذُنُوبِهِ يُعَذَّبُ وَيُخْذَلُ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30].

فَالشَّرْعُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَّبِعَهُ وَيجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ نَصْرُهُ وَالْجِهَادُ عَلَيْهِ هُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.

وَأَمَّا حُكْمُ الْحَاكِمِ فَذَاكَ يُقَال لَهُ قَضَاءُ الْقَاضِي، لَيْسَ هُوَ الشَّرْعَ الَّذِي فَرَضَ اللهُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ طَاعَتُهُ؛ بَل الْقَاضِي الْعَالِمُ الْعَادِلُ يُصِيبُ تَارَةً وَيُخْطِئُ تَارَةً، وَلَو حَكَمَ الْحَاكِمُ لِشَخْصٍ بِخِلَافِ الْحَقِّ فِي الْبَاطِنِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُهُ وَلَو كَانَ الْحَاكِمُ سَيِّدَ الْأَوَّلِينَ والآخرين، كَمَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ ألحَنُ بِحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ بِنَحْو مِمَّا أَسْمَعُ، فَمَن قَضَيْت لَهُ مِن حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُدُهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِن النَّارِ"

(1)

، فَهَذَا سَيِّدُ الْحُكَّامِ وَالْأُمَرَاءِ

(1)

رواه البخاري (2680)، ومسلم (1713).

ص: 269

وَالْمُلُوكِ يَقُولُ: إذَا حَكَمْت لِشَخْصٍ بِشَيْءٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ فَلَا يَأْخُذُهُ. [35/ 372 - 377]

5018 -

فَرَضَ اللهُ عَلَى وُلَاةِ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ اتِّبَاعَ الشَّرْعِ الَّذِي هُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَإِذَا تَنَازَعَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ فِي شَيْءٍ مِن مَسَائِلِ الدِّينِ وَلَو كَانَ الْمُنَارعُ مِن آحَادِ طَلَبَةِ الْعِلْمِ: لَمْ يَكُن لِوُلَاةِ الْأُمُورِ أَنْ يُلْزِمُوهُ بِاتبُاعِ حُكْمِ حَاكِمٍ

(1)

؛ بَل عَلَيْهِم أَنْ يُبَيِّنُوا لَهُ الْحَقَّ كَمَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ لِلْجَاهِلِ الْمُتَعَلِّمُ

(2)

.

فَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ رَسُولَهُ، وَظَهَرَ وَعَانَدَهُ بَعْدَ هَذَا: اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ.

وَأَمَّا مَن يَقُولُ: إنَّ الَّذِي قُلْتُه هُوَ قَوْلِي، أَو قَوْلُ طَائِفَةٍ مِن الْعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَد قُلْته اجْتِهَادًا أَو تَقْلِيدًا: فَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ لَا تَجُوزُ عُقُوبَتُهُ، وَلَو كَانَ قَد أَخْطَأَ خَطَأً مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

وَلَو عُوقِبَ هَذَا لَعُوقِبَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّهُ مَا مِنْهُم مِن أَحَدٍ إلَّا وَلَهُ أَقْوَالٌ اجْتَهَدَ فِيهَا، أَو قَلَّدَ فِيهَا وَهُوَ مُخْطِئٌ فِيهَا، فَلَو عَاقَبَ اللهُ الْمُخْطِئَ لَعَاقَبَ جَمِيعَ الْخَلْقِ.

فَالْمُفْتِي وَالْجُنْدِيُّ وَالْعَامِّيُّ إذَا تَكلَّمُوا بِالشَّيْءِ بِحَسَب اجْتِهَادِهِمْ اجْتِهَادًا أَو تَقْلِيدًا قَاصِدِينَ لِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ بِمَبْلَغِ عِلْمِهِمْ: لَا يَسْتَحِقُّونَ الْعُقوبَةَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ

(3)

، وَإِن كَانُوا قَد أَخْطَؤوا خَطَأً مُجْمَعًا عَلَيْهِ.

وَإِذَا قَالُوا: إنَّا قُلْنَا الْحَقَّ، وَاحْتَجُّوا بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ: لَمْ يَكُن لِأَحَد مِن الْحُكَّامِ أَنْ يُلْزِمَهُم بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ، وَلَا يَحْكُمَ بِأَنَّ الَّذِي قَالَهُ هُوَ الْحَقُّ دُونَ قَوْلِهِمْ؛ بَل يَحْكُمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُم الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.

(1)

ولا بقول عالم.

(2)

أي: كما يُبَيِّنُ الْمُتَعَلِّمُ الْحَقَّ لِلْجَاهِلِ.

(3)

ولا يستحقون الذم والقدح والتشهير بهم، بل يُرد خطؤهم، ويُناصحون برفق وبلا فضيحة.

ص: 270

وَالْحَقُّ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ رَسُولَهُ لَا يُغَطَّى؛ بَل يُظْهَرُ، فَإِنْ ظَهَرَ رَجَعَ الْجَمِيعُ إلَيْهِ، وَإِن لَمْ يَظْهَرْ سَكَتَ هَذَا عَن هَذَا، وَسَكَتَ هَذَا عَن هَذَا.

وَعَلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ أَنْ يَمْنَعُوهُم مِن التَّظَالُم، فَإِذَا تَعَدَّى بَعْضُهُم عَلَى بَعْضٍ مَنَعُوهُم الْعُدْوَانَ، وَهُم قَد أُلْزِمُوا بِمَنْعِ ظُلْمِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَأَنْ يَكونَ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ فِي بِلَادِهِمْ إذَا قَامَ بِالشُّرُوطِ الْمَشْرُوطَةِ عَلَيْهِم لَا يُلْزِمُهُ أَحَدٌ بتَرْكِ دِينِهِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ دِينَهُ يُوجِبُ الْعَذَابَ، فَكَيْفَ يَسُوغُ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ أَنْ يُمَكِّنُوا طَوَائِفَ الْمُسْلِمِينَ مِن اعْتِدَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ؟ وَحُكْمِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِقَولِهِ وَمَذْهَبِهِ؟

هَذَا مِمَّا يُوجِبُ تَغَيُّرَ الدُّوَلِ وَانْتِقَاضِهَا؛ فَإِنَّهُ لَا صَلَاحَ لِلْعِبَادِ عَلَى مِثْل هَذَا.

وَهَذَا إذَا كَانَ الْحُكَّامُ قَد حَكَمُوا فِي مَسْأَلَةٍ فِيهَا اجْتِهَادٌ وَنِزَاعُ مَعْرُوفٌ.

فَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ الَّذِي قَد حَكَمُوا بِهِ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِن أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا هُوَ مَذْهَبُ أَئِمَّتِهِم الَّذِينَ يَنْتَسِبُونَ إلَيْهِمْ، وَلَا قَالَهُ أَحَدٌ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَلَا فِيهِ آيَةٌ مِن كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم؛ بَل قَوْلُهُم يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الْأَئِمَّةِ: فَكَيْفَ يَحِلُّ مَعَ هَذَا أَنْ يُلْزَمَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ بِاتِّبَاعِ هَذَا الْقَوْلِ، وَينْفُذُ فِيهِ هَذَا الْحُكْمُ الْمُخَالِفُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَأَنْ يُقَالَ: الْقَوْلُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَأَقْوَالُ السَّلَفِ لَا يُقَالُ وَلَا يُفْتَى بِهِ؛ بَل يُعَاقَبُ ويُؤْذَى مَن أَفْتَى بِهِ وَمَن تَكَلَّمَ بِهِ وَغَيْرُهُم، ويُؤْذَى الْمُسْلِمُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ لِكَوْنِهِم اتَّبَعُوا مَا عَلِمُوهُ مِن دِينِ الْإِسْلَامِ، وَإِن كَانَ قَد خَفِيَ عَلَى غَيْرِهِمْ؟

وَهُمْ

(1)

يَعْذِرُونَ مَن خَفِيَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَا يُلْزِمُونَ بِاتِّبَاعِهِمْ، وَلَا يَعْتَدُونَ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ يُعَانُ مَن لَا يَعْرِفُ الْحَقَّ؛ بَل يُحْكَمُ بِالْجَهْلِ وَالظُّلْمِ، وَيُلْزَمُ مَن

(1)

أهل السُّنَّة والجماعة.

ص: 271

عَرَفَ مَا عَرَفَهُ مِن شَرِيعَةِ الرَّسُولِ أَنْ يَتْرُكَ مَا عَلِمَهُ مِن شَرْعِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لِأَجْلِ هَذَا؟

لَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى وَعِنْدَ مَلَائِكَتِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَعِبَادِهِ، وَاللهُ لَا يَغْفُلُ عَن مِثْل هَذَا. [35/ 378 - 381]

5019 -

لَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكمَ بِأَنَّ هَذَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّ هَذَا الْعَمَلَ طَاعَةٌ أَو قُرْبَةٌ، أَو لَيْسَ بِطَاعَة وَلَا قُرْبَةٍ، وَلَا بِأَنَّ السَّفَرَ إلَى الْمَسَاجِدِ وَالْقُبُورِ وَقَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُشْرَعُ أَو لَا يُشْرَعُ، لَيْسَ لِلْحُكَّامِ فِي هَذَا مَدْخَلٌ، إلَّا كَمَا يَدْخُلُ فِيهِ غَيْرُهُم مِن الْمُسْلِمِينَ؛ بَل الْكَلَامُ فِي هَذَا لِجَمِيعِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَمَن كَانَ عِنْدَهُ عِلْم تَكَلَّمَ بِمَا عِنْدَهُ مِن الْعِلْمِ.

وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى عَالِمٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ

(1)

؛ بَل يُبَيِّنُ لَهُ أَنَّهُ قَد أَخْطَأَ:

- فَإِنْ بَيَّنَ لَهُ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي يَجِبُ قَبُولُهَا أَنَّهُ قَد أَخْطَأَ، وَظَهَرَ خَطَؤُهُ لِلنَّاسِ وَلَمْ يَرْجِعْ بَل أَصَرَّ عَلَى إظْهَارِ مَا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالدُّعَاءَ إلَى ذَلِكَ: وَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِن ذَلِكَ وَيُعَاقَبَ إنْ لَمْ يَمْتَنِعْ.

- وَأَمَّا إذَا لَمْ يُبَيِّنْ لَهُ ذَلِكَ بالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ: لَمْ تَجُزْ عُقُوبَتُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا مَنْعُهُ مِن ذَلِكَ الْقَوْلِ

(2)

.

فَإِنَّ اللهَ إنَّمَا أَوْجَبَ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعَ الرَّسُولِ وَطَاعَتَهُ، وَاتِّبَاعَ حُكْمِهِ وَأَمْرِهِ وَشَرْعِهِ وَدِينِهِ، وَهُوَ حُجَّةُ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَهُوَ الَّذِي فَرَّقَ اللهُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَالرَّشَادِ وَالْغَيِّ. [35/ 382 - 383]

5020 -

عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَد قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ: "إنَّهُ قَد كانَ فِي

(1)

لا القضاة ولا الحكام، وهذا بإجماع العلماء كما ذكره الشيخ رحمه الله، بل خطأ العالم يُواجه بالحجة والبرهان، لا بالقوة والتخويف والتهديد والسجن.

(2)

كالدروس والمحاضرات والخطب والإفتاء.

ص: 272

الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ، فَإِنْ يَكُن فِي أمّتي أَحَدٌ فَعُمَرُ"

(1)

، وَمَعَ هَذَا فَمَا كَانَ يُلْزِمُ أَحَدًا بِقَوْلِهِ، وَلَا يَحْكُمُ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ؛ بَل كَانَ يُشَاوِرُ الصَّحَابَةَ ويُرَاجَعُ

(2)

؛ فَتَارَةً يَقُولُ قَوْلًا فَتَرُدُّهُ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ فَيَرْجِعُ إلَيْهَا .. وَقَالَ: امْرَأَة أَصَابَتْ وَرَجُلٌ أَخْطَأَ.

وَكَانَ فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ مِثْل مَسائِلِ الْفَرَائِضِ وَالطَّلَاقِ يَرَى رَأْيًا، وَيرَى عَلِي بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَأْيًا، وَيَرَى عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَأْيًا، وَيرَى زيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَأْيًا، فَلَمْ يُلْزِمْ أَحَدًا أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِهِ؛ بَل كُلٌّ مِنْهُم يُفْتِي بِقَوْلِهِ، وَعُمَرُ رضي الله عنه إمَامُ الْأُمَّةِ كُلُّهَا وَأَعْلَمُهُم وأدينهم وَأَفْضَلُهُمْ، فَكَيْفَ يَكونُ وَاحِدٌ مِن الْحُكَّامِ خَيْرًا مِن عُمَرَ!!

وَاللهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ وَاحِدٍ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إذَا خِيفَ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمَا؛ فَإِنَّهُ لَا يُعْلَمُ أَيُّهُمَا الظَّالِمُ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ؛ بَل أَمَرَ بِحُكْمَيْنِ، وَأَلَا يَكُونَا مُتَّهَمَيْنِ؛ بَل حَكَمًا مِن أَهْلِ الرَّجُلِ وَحَكَمًا مِن أَهْلِ الْمَرْأَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا} [النساء: 35]؛ أَيْ: الْحَكَمَيْنِ، {يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35]؛ أَيْ: بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ.

فَإِنْ رَأَيَا الْمَصْلَحَةَ أَنْ يَجْمَعَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ جَمَعَا، وَإِن رَأَيَا الْمَصْلَحَةَ أَنْ يُفَرِّقَا بَيْنَهُمَا فَرَّقَا.

فَهُنَا لَمَّا اشْتَبَهَ الْحَقُّ لَمْ يَجْعَل اللهُ الْحُكْمَ لِوَاحِد، وَهُوَ فِي قَضِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ

(1)

رواه مسلم (2398).

(2)

أي: يُردُّ عليه، فإذا كان هذا حال الفاروق مع رعيَّته، فغيره من باب أولى.

والمشاورة أمان للأسر والدول من التفكك والتناحر، وبعض كبار الأسر سنًّا أو منصبًا، يأنف من الرد عليه إذا رأى رأيًا، وفاروق الأمة وحاكمها وكبيرها وعالمها لا يأنف من ذلك، بل لا يُقدم على أمر حتى يُشاور، مع أنه الملهم والمحدَّث، فيكف لغيره أن يزهد بالشورى؟

ص: 273

بَيْنَ زَوْجَيْنِ

(1)

.

وَلَو حَكَمَ حَاكِمٌ وَاحِدٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي أَمْرٍ ظَاهِرٍ لَمْ ينفذْ حُكْمُهُ بِاتّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، فَكيْفَ بِأُمُورِ الدِّينِ وَالْعِبَادَاتِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ، وَقَد اشْتَبَهَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِن النَّاسِ؟

هَذَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ لَا يَحْكُمُ فِيهِ إلَّا اللهُ وَرَسُولُهُ، فَمَن كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بَيَّنَهُ وَأَوْضَحَهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالْمُسْلِمُونَ إذَا عَرَفُوا شَرْعَ نَبِيِّهِمْ لَمْ يَعْدِلُوا عَنْهُ.

وَإِن كَانَ كلُّ قَوْمٍ يَقُولُونَ: عِنْدَنَا عِلْمٌ مِن الرَّسُولِ، وَلَمْ يَكُن هُنَاكَ أَمْرٌ ظَاهِرٌ يُجْمَعُونَ فِيمَا تَنَازَعُوا فِيهِ: كَانَ أَحَدُ الْحِزْبَيْنِ لَهُم أَجْرَانِ وَالْآخَرُونَ لَهُم أَجْرٌ وَاحِدٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78، 79].

وَوَليُّ الْأَمْرِ:

- إنْ عَرَفَ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ: حَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ بِهِ.

- وَإِن لَمْ يَعْرِفْهُ وَأَمْكنَهُ أَنْ يَعْلَمَ مَا يَقُولُ هَذَا وَمَا يَقُولُ هَذَا حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ: حَكَمَ بِهِ.

- وَإِن لَمْ يُمْكِنْهُ لَا هَذَا وَلَا هَذَا: تَرَكَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا هُم عَلَيْهِ، كُلٌّ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَسَبِ اجْتِهَادِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَ أَحَدًا بِقَبُولِ قَوْلِ غَيْرِهِ وَإِن كَانَ حَاكِمًا.

وَإِذَا خَرَجَ وُلَاةُ الْأُمُورِ عَن هَذَا: فَقَد حَكَمُوا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ، وَوَقَعَ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَا حَكَمَ قَوْمٌ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إلَّا وَقَعَ بَأْسُهُم

(1)

فكيف يتحكم واحد بشعب بأكمله، أو بأسرة أو مجموعةٍ؟.

ص: 274

بَيْنَهُم"

(1)

، وَهَذَا مِن أَعْظَمِ أَسْبَابِ تَغْيِيرِ الدُّوَلِ، كَمَا قَد جَرَى مِثْلُ هَذَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فِي زَمَانِنَا وَغَيْرِ زَمَانِنَا.

وَمَن أَرَادَ اللهُ سَعَادَتَهُ: جَعَلَهُ يَعْتَبِرُ بِمَا أَصَابَ غَيْرَهُ، فَيَسْلُكُ مَسْلَكَ مَن أَيَّدَهُ اللهُ وَنَصَرَهُ، وَيجْتَنِبُ مَسْلَكَ مَن خَذَلَهُ اللهُ وَأَهَانَهُ؛ فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} [الحج: 40، 41]، فَقَد وَعَدَ اللهُ بِنَصْرِ مَن يَنْصُرُهُ، وَنَصْرُهُ هُوَ نَصْرُ كِتَابِهِ وَدِينِهِ وَرَسُولِهِ، لَا نَصْرُ مَن يَحْكُمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ، وَيتَكَلَّمُ بِمَا لَا يَعْلَمُ.

فَإِنَّ الْحَاكِمَ إذَا كَانَ دَيِّنًا لَكِنَّهُ حَكَمَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ مِن أَهْلِ النَّارِ، وَإِن كَانَ عَالِمًا لَكِنَّهُ حَكَمَ بِخِلَافِ الْحَقِّ الَّذِي يَعْلَمُهُ كَانَ مِن أَهْلِ النَّارِ، وَإِذَا حَكَمَ بِلَا عَدْلٍ وَلَا عِلْمٍ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مِن أَهْلِ النَّارِ.

وَهَذَا إذَا حَكَمَ فِي قَضِيَّةٍ مُعَيّنةٍ لِشَخْصِ.

وَأَمَّا إذَا حَكَمَ حُكْمًا عَامًّا فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ فَجَعَلَ الْحَقَّ بَاطِلًا وَالْبَاطِلَ حَقًّا، وَالسُّنَّةَ بِدْعَةً وَالْبِدْعَةَ سُنَةً، وَالْمَعْرُوفَ مُنْكَرًا وَالْمُنْكَرَ مَعْرُوفًا، وَنَهَى عَمَّا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَأَمَرَ بِمَا نَهَى اللهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ: فَهَذَا لَوْنٌ آخَرُ، يَحْكُمُ فِيهِ رَبُّ الْعَالَمِينَ. [35/ 384 - 388]

5021 -

الْأُمَّةُ إذَا تَنَازَعَتْ -فِي مَعْنَى آيَةٍ أَو حَدِيثٍ أَو حُكْمٍ خَبَرِيٍّ أَو طَلَبِيٍّ-: لَمْ يَكُن صِحَّةُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَفَسَادُ الْآخَرِ ثَابِتًا بِمُجَرَّدِ حُكْمِ حَاكِمٍ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُنَفَّذُ حُكْمُهُ فِي الْأُمُورِ الْمُعَيَّنةِ دُونَ الْعَامَّةِ.

وَلَو جَازَ هَذَا لَجَازَ أَنْ يَحْكُمَ حَاكِمٌ بِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] هُوَ الْحَيْضُ وَالْأَطْهَارُ، وَيكُونُ هَذَا حُكْمًا يلزمُ جَمِيعَ النَّاسِ قَوْلُهُ .. وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ.

(1)

رواه ابن ماجه (4019)، وحسَّنه الألباني.

ص: 275

وَاَلَّذِي عَلَى السُّلْطَانِ فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ:

أ - إمَّا أَنْ يَحْمِلَهُم كُلَّهُم عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59].

وَإِذَا تَنَازَعُوا فَهِمَ كلَامهُم إنْ كَانَ مِمَن يُمْكِنُهُ فَهْمُ الْحَقِّ، فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ دَعا النَّاسَ إلَيْهِ.

ب - وَأَنْ يُقِرَّ النَّاسَ عَلَى مَا هُم عَلَيْهِ، كَمَا يُقِرَّهُم عَلَى مَذَاهِبِهِم الْعَمَلِيَّةِ. فَأَمَّا إذَا كَانَت الْبِدْعَةُ ظَاهِرَةً -تَعْرِفُ الْعَامَّةُ أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلشَّرِيعَةِ- كَبِدْعَةِ الْخَوَارجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْقَدَرَيَّةِ وَالْجَهْمِيَّة: فَهَذِهِ عَلَى السُّلْطَانِ إنْكَارُهَا؛ لِأَنَّ عِلْمَهَا عَامٌّ.

كَمَا عَلَيْهِ الْإِنْكَارُ عَلَى مَن يَسْتَحِلُّ الْفَوَاحِشَ وَالْخَمْرَ وَتَرْكَ الصَّلَاةِ وَنَحْو ذَلِكَ.

وَمَعَ هَذَا فَقَدَ يَكْثُرُ أَهْلُ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ فِي بَعْضِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ حَتَّى يَصِيرَ بِسَبَبِ كَثْرَةِ كَلَامِهِمْ مُكَافِئًا -عِنْدَ الْجُهَّالِ- لِكَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ، حَتَّى يَشْتَبِهَ الْأَمْرُ عَلَى مَن يَتَوَلَّى أَمْرَ هَؤُلَاءِ، فَيَحْتَاجُ حِينَئِذٍ إلَى مَن يَقُومُ بِإِظْهَارِ حُجَّةِ اللهِ وَتَبْيِينِهَا حَتَّى تَكُونَ الْعُقُوبَةُ بَعْدَ الْحُجَّةِ.

وَإِلَّا فَالْعُقُوبَةُ قَبْلَ الْحُجَّه لَيْسَتْ مَشْرُوعَة، قَالَ تَعَالَى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء: 15].

وَأَمَّا إلْزَامُ السُّلْطَانِ فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ بِالْتِزَامِ قَوْلٍ بِلَا حُجَّةٍ مِن الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: فَهَذَا لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُفِيدُ حُكْمُ حَاكِمٍ بِصِحَّةِ قَوْلٍ دُونَ قَوْلٍ فِي مِثْل ذَلِكَ، إلَّا إذَا كَانَ مَعَهُ حُجَّةٌ يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَيْهَا، فَيَكُونُ كَلَامُهُ قَبْلَ الْوِلَايَةِ وَبَعْدَهَا سَوَاءً، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْكُتُبِ الَّتِي يُصَنِّفُهَا فِي الْعِلْمِ.

نَعَمْ، الْوِلَايَةُ قَد تُمَكِّنُهُ مِن قَوْلِ حَقٍّ وَنَشْرِ عِلْمٍ قَد كَانَ يَعْجِزُ عَنْهُ بِدُونِهَا، وَبَابُ الْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ غَيْرُ بَابِ الِاسْتِحْقَاقِ وَعَدَمِهِ.

ص: 276

نَعَمْ، لِلْحَاكِمِ إثْبَاتُ مَا قَالَهُ زَيْدٌ أَو عَمْرٌو، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ كَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ مُخْتَصًّا بِهِ كَانَ مِمَّا يَحْكُمُ فِيهِ الْحُكَّامُ.

وَإِن كَانَ مِن الْأَقْوَالِ الْعَامَّةِ كَانَ مِن بَابِ مَذَاهِبِ النَّاسِ.

فَأَمَّا كَوْنُ هَذَا الْقَوْلِ ثَابِتًا عِنْدَ زَيْدٍ بِبَيِّنَةٍ أَو إقْرَارٍ أَو خَطٍّ: فَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُكَّامِ. [3/ 238 - 241]

* * *

(باب آداب القاضي)

5022 -

أجمع المسلمون على أن الحاكم ليس له أن يقبل الرشوة، سواء حكم بحق أو بباطل، ولا يحكم لنفسه. [المستدرك 5/ 163]

5023 -

ليس للحاكم أن يكون له وكيل يُعْرَف أنه وكيله يتجر له في بلاد عمله، وإذا عُرف أن الحاكم بهذه المثابة فإنه يُنهى عن ذلك، فإن انتهى وإلا استبدل به من هو أصلح منه إن أمكن. [المستدرك 5/ 163]

5024 -

إذا فصلَ الحكومةَ بينَهُ وبين غريمِهِ حاكِمٌ نافذُ الحكمِ في الشرع لعلمه ودينه: لم يكن لغريمه أن يحاكم عند حاكم آخر. [المستدرك 5/ 163]

5025 -

من ادعى أن بعض الحكام أخذ منه شيئًا وكان الرجل معروفًا بالصدق: فله على الحاكم اليمين.

وإن كان غيره من الصادقين، وقد قال مثل قوله: لم ترد أخبار الصادقين؛ بل ينبغي عزل الحاكم.

وإن كان الحاكم معروفًا بالأمانة والرجل فاجرًا: لم يلتفت إلى قوله وعزر.

وإن كان كل منهما متهمًا: فله تحليفه ولا يعزر. [المستدرك 5/ 163]

5026 -

الأشبه أنه لا يكره للحاكم شراء ما يحتاجه، ما لم يكن في شرائه

ص: 277

مظنة المحاباة والاستغلال والتبذّل

(1)

. [المستدرك 5/ 163]

5027 -

قال القاضي في التعليق: قاس المخالف القاضي على المفتي في مباشرة البيع، قال القاضي: أما المفتي فإنه لا يحابى في العادة، والقاضي بخلافه، ولا يكره له البيع في مجلس فتياه، ولا يكره له قبول الهدية بخلاف القاضي.

قال أبو العباس: هذا فيه نظر وتفصيل؛ فإن العالم شبيه في هديته ومعاملته بالقاضي [من بعض الوجوه]

(2)

.

والعالم لا يعتاض عن

(3)

تعليمه. [المستدرك 5/ 163 - 164]

5028 -

لا يمضي حكم العدو على عدوه، كما لا تقبل شهادته عليه؛ بل يترافعان إلى حاكم آخر. [المستدرك 5/ 164]

5029 -

ليس للحاكم منع الناس مما أباحه الله ورسوله مثل: أن يمنع أن يزوج المرأة وليها، أو يمنع الشهود أو غيرهم من كتابة مهرها.

وإذا منع القاضي ذلك ليصل إليه منافع هذه الأمور: كان هذا من المكس، نظير من يستأجر حانوتًا في القرية على ألا يبيع غيره. [المستدرك 5/ 164]

5030 -

إذا حبست زوجها على الحق: فله عديها ما كان يجب قبل الحبس من إسكانها حيث شاء ومنعها الخروج، فإذا أمكن حبسه في مكان تكون هي عنده تمنعه من الخروج فعل ذلك، فإنه ليس للغريم منع المحبوس من حوائجه إذا احتاج؛ بل يخرجه ويلازمه مثل: غسل الجنابة، نحوه، والزوج له منعها مطلقًا. [المستدرك 5/ 164 - 165]

(1)

العبارة في الأصل: (الأشبه ألا يكون للحاكم شراء ما يحتاجه في مظنة المحاباة والاستغلال والتبدل).

وهي كما ترى غير واضحة وغير مفيدة.

وقد جاء الاختيارات (487)، تصحيح لبعض الجملة.

(2)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (488).

(3)

في الأصل: (على)، والتصويب من الاختيارات (488).

ص: 278

5031 -

فعل الحاكم حكم في أصح الوجهين في مذهب أحمد وغيره. [المستدرك 5/ 166]

5032 -

خبره في غير محل ولايته كخبره في غيره زمن ولايته.

ونظير إخبار القاضي بعد عزله إخبار أمير الغزو أو الجهاد بعد عزله بما فعله. [المستدرك 5/ 166]

5033 -

يجوز للحنفي الحاكم أن يستنيب شافعيًّا يحكم باجتهاده، وإن خالف اجتهاد مستنيبه، ولو شرط عليه أن يحكم بقول مستنيبه لم يجز هذا الشرط.

وأيضًا: إذا رأى المستنيب قول بعض الأئمة أرجح من بعض لم يجز له أن يحكم بالمرجوح؛ بل عليه أن يحكم بالراجح، فكيف لا يكون له أن يستنيب من يحكم بالراجح، وإن خالف قول إمامه؟ وليس على الخلق لا القضاة ولا غيرهم أن يطيعوا أحدًا في كل ما يأمر به وينهى عنه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن سواه من الأئمة فإنه يؤخذ من قوله ويترك، فيجوز لكل من الحكام أن يستنيب من يخالفه في مذهبه ليحكم بما أنزل الله. [المستدرك 5/ 166 - 167]

5034 -

قال أصحابنا: ولا ينقض الحاكم حكم نفسه ولا غيره إلا أن يخالف نصًّا أو إجماعًا.

قال أبو العباس: ويفرق في هذا بين ما إذا استوفى المحكوم له الحق الذي ثبت له من المال، أو لم يستوف، فإن استوفى فلا كلام، وإن لم يستوف: فالذي ينبغي نقض حكمه نفسه والإشارة على غيره بالنقض. [المستدرك 5/ 167]

5035 -

إذا رفع إليه الخصمان عقدًا فاسدًا عنده فقط، وأقَرَّا

(1)

بأنَّ نافِذَ

(1)

في الأصل: (وأقر)، بالإفراد، والتصويب من الفروع (6/ 428).

ص: 279

الحكم حَكَم بصحته: فله إلزامهما بذلك وردُّه، والحكم بمذهبه، وقال شيخنا: قد يقال: قياس المذهب أنه كالبينة، ثم ذكر أنه كبينة إن عيَّنَا الحاكم. [المستدرك 5/ 169]

5036 -

إذا حكم أحد الخصمين على خصمه: جاز؛ لقصة ابن مسعود؛ وكذا إذا حكم مفت في مسألة اجتهادية.

وهل يفتقر ذلك إلى تعيين الخصمين أو حضورهما، أو يكفي وصف القصة له؟ الأشبه أنه لا يفتقر؛ بل إذا تراضيا بقوله في قضية موصوفة مطابقة لقضيتهم فقد لزمه، فإن أراد أحدهما الامتناع فإن كان قبل الشروع فينبغي جوازه، وإن كان بعد الشروع لم يملك الامتناع؛ لأنه إذا استشعر بالغلبة امتنع فلا يحصل المقصود. [المستدرك 5/ 169]

5037 -

إن حكما بينهما من يصلح للقضاء: نفذ حكمه، وهو كحاكم الإمام، وعنه: ينفذ في قود وحد قذف ولعان ونكاح، وظاهر كلامه ينفذ في غير فرج، واختار شيخنا نفوذ حكمه بعد حكم حاكم لا إمام، وأنه إن حكَّم أحدهما خصمه أو حكمًا مفتيًا في مسألة اجتهادية: جاز. [المستدرك 5/ 169]

* * *

(باب طريق الحكم وصفته)

5038 -

ظاهر قوله: "فإذا أحضرها سمعها الحاكم وحكم": أن الشهادة لا تسمع قبل الدعوى، فإن كان الحق لآدمي معين فالصحيح من المذهب أنها لا تسمع قبل الدعوى .. قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: تسمع ولو كان في البلد. [المستدرك 5/ 170 - 171]

5039 -

"والوصية مثل الوكالة"، قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: الوكالة إنما تُثبت استيفاء حق أو إبقاءه. [المستدرك 5/ 171]

5040 -

تُسمع البيِّنة قبل الدعوى في كل حق لآدمي غير معين: كالوقف

ص: 280

على الفقراء، أو على مسجد، أو رباط، أو وصية لأحدهما، قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: وكذا عقوبة كذاب مفتر على الناس، والمتكلم فيهم. [المستدرك 5/ 171]

5041 -

قال الشيخ تقي الدين رحمه الله في حفظ وقف وغيره بالثبات عن خصم مقدر: تسمع الدعوى والشهادة فيه بلا خصم. [المستدرك 5/ 171]

5042 -

قال ابن القيم رحمه الله: [النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ الْيَمِينَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي إذَا أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا، لِقُوَّةِ جَانِبِهِ بِالشَّاهِدِ، وَمَكَّنَهُ مِن الْيَمِينِ بِغَيْرِ بَذْلِ خَصْمِهِ وَرِضَاهُ، وَحَكَمَ لَهُ بِهَا مَعَ شَاهِدِهِ، فَلَأَنْ يُحْكمَ بِهِ بِالْيَمِينِ الَّتِي يَبْذُلُهَا خَصْمُهُ مَعَ قُوَّةِ جَانِبِهِ بِنكُولِ خَصْمِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى.

وَهَذَا مِمَّا لَا يَشُكُّ فِيهِ مَن لَهُ حَوْضٌ فِي حُكْمِ الشَّرِيعَةِ وَعِلَلِهَا وَمَقَاصِدِهَا.

وَلهَذَا شُرِعَت الْأَيْمَانُ فِي الْقَسَامَةِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي، لِقُوَّةِ جَانِبِهِ بِاللَّوْثِ.

وَهَذِهِ هِيَ الْمَوَاضِعُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي اسْتَثْنَاهَا مُنْكِرُو الْقِيَاسِ]

(1)

.

وَلَمَّا كَانَت أَفْهَامُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فَوْقَ أَفْهَامِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَعِلْمُهمْ بِمَقَاصِدِ نَبِيِّهِمْ صلى الله عليه وسلم وَقَوَاعِدِ دِينِهِ وَشَرْعِهِ، أَتَمَّ مِن عِلْمِ كُلِّ مَن جَاءَ بَعْدَهُمْ: عَدَلُوا عَن ذَلِكَ إلَى غَيْرِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ، وَحَكَمُوا بِالرَّدِّ مَعَ النُّكُولِ فِي مَوْضِعٍ، وَبِالنُّكُولِ وَحْدَهُ فِي مَوْضِعٍ.

وَهَذَا مِن كَمَالِ فَهْمِهِمْ وَعِلْمِهِمْ بِالْجَامِعِ وَالْفَارِقِ وَالْحِكَمِ وَالْمُنَاسَبَاتِ، وَلَمْ يَرْتَضوا لِأَنْفُسِهِمْ عِبَارَاتِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَاصْطِلَاحَاتهمْ وَتَكَلُّفَاتِهِمْ، فَهُم كَانُوا أَعْمَقَ الْأُمَّةِ عِلْمًا، وَأَقَلَّهُم تَكَلُّفًا.

(1)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل.

ص: 281

وَالْمُتَأَخِّرُونَ عَكْسُهُم فِي الْأَمْرَيْنِ.

فَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ قَالَ لِابْنِ عُمَرَ: "احْلِف بِاللهِ لَقَد بِعْت الْعَبْدَ وَمَا بِهِ دَاءٌ عَلِمْتَهُ"، فَأَبَى.

فَحَكَمَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، وَلَمْ يَرُدَّ الْيَمِينَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى الْمُدَّعِي، وَيقُولُ لَهُ: احْلِفْ أَنْتَ أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْلَمَهُ الْمُدَّعِي، وَيُمْكِنُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعْرِفَتُهُ، فَإِذَا لَمْ يَحْلِف الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ يُكَلَّف الْمُدَّعِي الْيَمِينَ.

فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ قَد بَاعَهُ بِالْبَرَاءَةِ مِن الْعُيُوبِ، وَهُوَ إنَّمَا يَبْرَأُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالْعَيْبِ، فَقَالَ لَهُ:"احْلِفْ أَنَّكَ بِعْتَهُ وَمَا بِهِ عَيْبٌ تَعْلَمُهُ".

وَهَذَا مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهِ دُونَ الْمُدَّعِي، فَإِنَّهُ قَد تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ: أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِالْعَيْبِ، وَأَنَّهُ كَتَمَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ.

وَأَمَّا أَثَرُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقَوْلُ الْمِقْدَادِ: "احْلِفْ أَنَّهَا سَبْعَةُ آلَافٍ"، فَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ، فَلَمْ يَحْكُمْ لَهُ بِنُكُولِ عُثْمَانَ: فَوَجْهُهُ: أَنَّ الْمُقْرِضَ إنْ كَانَ عَالِمًا بِصِدْقِ نَفْسِهِ وَصِحَّةِ دَعْوَاهُ: حَلَفَ وَأَخَذَهُ، وَإِن لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ: لَمْ تَحِلَّ لَهُ الدَّعْوَى بِمَا لَا يَعْلَمُ صِحَّتَهُ، فَإِذَا نَكَلَ عَن الْيَمِينِ لَمْ يَقْضِ لَهُ بِمُجَرَّدِ نُكُولِ خَصْمِهِ؛ إذ خَصْمُهُ قَد لَا يَكُونُ عَالِمًا بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ، فَإِذَا قَالَ لِلْمُدَّعِي: إنْ كُنْتَ عَالِمًا بِصِحَّةِ دَعْوَاكَ فَاحْلِفْ وَخُذْ: فَقَد أَنْصَفَهُ جدّ الْإِنْصَافِ.

فَلَا أَحْسَنَ مِمَّا قَضَى بِهِ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم، وَهَذَا التَّفْصِيلُ فِي الْمَسْأَلَةِ هُوَ الْحَقُّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِنَا قَدَّسَ اللهُ رَوْحَهُ. [المستدرك 5/ 173 - 174]

5043 -

الخط كاللفظ إذا ثبت أنه كان عنده على سبيل الوديعة، أو أنه قبضه أخذ بالخط، كما لو تلفظ بذلك، ولو أن يأخذ منه ما أخذه إذا كانت الوديعة قد تلفت بغير تفريط. [المستدرك 5/ 174]

5044 -

ظاهر كلام أبي العباس صحة الدعوى على المبهم؛ كدعوى

ص: 282

الأنصار على اليهود قتل صاحبهم ودعوى المسروق منه على بني أبيرق وغيرهم. [المستدرك 5/ 175]

5045 -

يُقْبل في الترجمة والجرح والتعديل والتعريف والرسالة: قول عدل واحد، وهو رواية عن أحمد.

ويُقبل الجرح والتعديل: باستفاضة. [المستدرك 5/ 177]

5046 -

للمحكوم عليه أن يطالب الحاكم عليه بتسمية البينة؛ ليتمكن من القدح فيها بالاتفاق. [المستدرك 5/ 178]

5047 -

يلزم الحاكم أن يكتب للمدَّعى عليه إذا ثبتت براءته محضرًا بذلك إن تضرر بتركه. [المستدرك 5/ 178]

5048 -

اختلفت الرواية عن أحمد فيما لو حكم الحاكم بما يرى المحكوم له تحريمه فهل يباح له بالحكم؟ على روايتين، والتحقيق في هذا: أنه ليس للرجل أن يطلب من الإمام ما يرى أنه حرام، ومن فعل هذا فقد فعل ما يعتقد تحريمه، وهذا لا يجوز لكن لو كان الطالب غيره، أو ابتدأ الإمام بحكمه أو قسمه فهنا يتوجه القول بالحل. [المستدرك 5/ 178]

5049 -

العمل بالخط مذهب قوي؛ بل هو قول جمهور السلف، وإذا رأى الرجل بخط أبيه حقًّا له وهو يعلم صدقه جاز له أن يدعيه ويحلف عليه. [المستدرك 5/ 179]

5050 -

إذا أمكن القاضي أن يرسل إلى الغائب رسولًا، ويكتب إليه الكتاب والدعوى، ويجاب عن الدعوى بالكتاب والرسول: فهذا هو الذي ينبغي، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بمكاتبة اليهود لما ادعى الأنصار عليهم قتل صاحبهم، وكاتبهم ولم يحضرهم.

وهكذا ينبغي أن يكون في كل غائب طلب إقراره أو إنكاره إذا لم يُقم الطالب بينة، وإن أقام بينة فمن الممكن أيضًا أن يقال: إذا كان الخصم في

ص: 283

البلد لم يجب عليه حضور مجلس الحاكم؛ بل يقول: أرسلوا إلي من يعلمني بما يدعي به علي.

واذا كان لا بد للقاضي من رسول إلى الخصم يبلغه الدعوى ويحضره: فيجوز أن يقام مقامه رسول؛ فإن المقصود من حضور الخصم سماع الدعوى ورد الجواب بإقرار أو إنكار. [المستدرك 5/ 180]

* * *

(باب كتاب القاضي إلى القاضي)

5051 -

يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في الحدود والقصاص. [المستدرك 5/ 181]

5052 -

المحكوم به إن كان عينًا في بلد الحاكم: فإنه يسلمه إلى المدعي، ولا حاجة إلى كتاب. [المستدرك 5/ 181]

وأما إن كان دينًا أو عينًا في بلد أخرى: فهنا يقف على الكتاب.

5053 -

لو قيل: إنما نحكم على الغائب إذا كان المحكوم به حاضرًا؛ لأن فيه فائدة وهي تسليمه، وأما إذا كان المحكوم به غائبًا فينبغي أن يكاتب الحاكم بما ثبت عنده من شهادة الشهود حتى يكون الحكم في بلد التسليم: لكان متوجها. [المستدرك 5/ 181]

5054 -

من عرف خطه بإقرار أو إنشاء أو عقد أو شهادة: عمل به كالميت، فإن حضر وأنكر مضمونه: فكاعترافه بالصوت وإنكاره مضمونه. [المستدرك 5/ 182]

5055 -

اتفق العلماء على أنه يشهد على الشخص إذا عرف صوته مع إمكان الاشتباه، وجوز الجمهور كمالك وأحمد الشهادة على الصوت من غير

ص: 284

رؤية المشهود عليه، والشهادة على الخط أضعف، لكن جوازه قوي أقوى من منعه، وكتابه في غير عمله أو بعد عزله كخبره. [المستدرك 5/ 182]

* * *

(أقسام الدعاوى، ومعنى البيِّنة)

5056 -

الدَّعَاوَى قِسْمَانِ:

أ - دَعْوَى تُهْمَةٍ.

ب - وَغَيْرِ تُهْمَةٍ.

فَدَعْوَى التُّهْمَةِ: أَنْ يَدَّعِيَ فِعْلًا يَحْرُمُ عَلَى الْمَطْلُوبِ، يُوجِبُ عُقُوبَتَهُ؛ مِثْل قَتْلٍ، أَو قَطْعِ طَرِيقٍ، أَو سَرِقَةٍ، أَو غَيْرِ ذَلِكَ مِن أَنْوَاعِ الْعُدْوَانِ الْمُحَرَّمِ؛ كَاَلَّذِي يَسْتَخْفِي بِهِ بِمَا يَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنةِ عَلَيْهِ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ فِي الْعَادَةِ.

وَغَيْرُ التُّهْمَةِ: أَنْ يَدَّعِيَ دَعْوَى عَقْدٍ مِن بَيْعٍ، أَو قَرْضٍ، لَا يَكُونُ فِيهَا سَبَبُ فِعْلٍ مُحَرَّمٍ.

فَكُلُّ مِن الْقِسْمَيْنِ:

أ - قد يَكُونُ دَعْوَى حَدٍّ

(1)

للهِ عز وجل مَحْضٌ كَالشُّرْبِ وَالزِّنَا.

ب - وَقَد يَكُونُ حَقًّا مَحْضًا لِآدَمِيِّ كَالْأَمْوَالِ.

ج - وَقَد يَكُونُ فِيهِ الْأَمْرَانِ كَالسَّرِقَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ.

فَهَذَانِ الْقِسْمَانِ إذَا أَقَامَ الْمُدَّعِيَ فِيهِ حُجَّةً شَرْعِيَّةً وَإِلَّا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ" عَن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَو يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُم لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالِهِمْ؛ وَلَكِنَّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ"

(2)

.

(1)

لعل الصواب: (حقّ)؛ ليستقيم المعنى.

(2)

رواه البخاري (4552)، ومسلم (1711).

ص: 285

فَهَذَا الْحَدِيثُ نَصَّ أَنَّ أَحَدًا لَا يُعْطَى بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ.

وَنَصَّ فِي أَنَّ الدَّعْوَى الْمُتَضَمِّنَةَ لِلْإِعْطَاءِ تَجِبُ فِيهَا الْيَمِينُ ابْتِدَاءً عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.

وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ الدَّعَاوَى الْمُوجِبَةَ لِلْعُقُوبَاتِ لَا تُوجِبُ إلَّا الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ

(1)

.

وَقَد ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ"

(2)

عَن ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِشَاهِد وَيمِينٍ.

[وَابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ الَّذِي رَوَى عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أنَّهُ قَضَى بِالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ" وَهُوَ الَّذِي: رَوَى أَنَّهُ "قَضَى بِالْيَمِينِ وَالشَّاهِدِ" وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ؛ بَل هَذَا فِي دَعْوَى، وَهَذَا فِي دَعْوَى]

(3)

.

وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْفُقَهَاءِ: "الْبَيِّنَةُ عَلَى مَن ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَن أَنْكَرَ"

(4)

: فَهَذَا قَد رُوِيَ، وَلَكِنْ لَيْسَ إسْنَادُهُ فِي الصَّحَّةِ وَالشُّهْرَةِ مِثْل غَيْرِهِ، وَلَا رَوَاهُ عَامَّةُ أَصْحَابِ السُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ، وَلَا قَالَ بِعُمُومِهِ أَحَدٌ مِن عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ، إلَّا طَائِفَةٌ مِن فُقَهَاءِ الْكوفَةِ، مِثْل أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّهُم يَرَوْنَ الْيَمِينَ دَائِمًا فِي جَانِبِ الْمُنْكِرِ، حَتَّى فِي الْقَسَامَةِ، يُحَلِّفُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَا يَقْضُونَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَلَا يَرُدُّونَ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي عِنْدَ النُّكُولِ، وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ هَذَا الْحَدِيثِ.

(1)

ومن المعلوم في القسامة أن المدعين يحلفون خمسين يمينًا، مع أنهم هم المدعون.

(2)

(1712).

(3)

ما بين المعقوفتين من كتاب الطرق الحكمية لابن القيِّم (83)، الذي نُقل كلام الشيخِ منه، وفي الأصل: وَابْنُ عَبَّاسٍ الَّذِي يَرْوِي عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "أَنَّهُ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ"، وَأنَّ هَذَا قَضَى بِهِ فِي دَعَاوَى، وَقَضَى بِهَذَا فِي دَعَاوَى.

والمثبت أصوب وأوضح.

(4)

صحَّحه الألباني في الإرواء (2685).

ص: 286

وَأَمَّا سَائِرُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ -مِن أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالشَّامِ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ، مِثْل ابْنِ جُرَيْجٍ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَاللَّيْثِ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ-: فَتَارَةً يُحَلِّفُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، كَمَا جَاءَت بِذَلِكَ السُّنَّةُ.

وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمْ: أَنَّ الْيَمِينَ مَشْرُوعَةٌ فِي أَقْوَى الْجَانِبَيْنِ.

وَأَجَابُوا عَن ذَلِكَ الْحَدِيثِ: تَارَةً بِالتَّضْعِيفِ، وَتَارَةً بِأَنَّهُ عَامٌّ، وَأَحَادِيثُهُم خَاصَّةً، وَتَارَةً بِأَنَّ أَحَادِيثَهُم أَصَحُّ وَأَكْثَرُ، فَالْعَمَلُ بِهَا عِنْدَ التَّعَارُضِ أَوْلَى.

وَقَد ثَبَتَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّهُ طَلَبَ الْبَيِّنَةَ مِن الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينَ مِن الْمُنْكِرِ" فِي حُكُومَاتٍ مُعَيَّنَةٍ، لَيْسَتْ مِن جِنْسِ دَعَاوَى التُّهَمِ، مِثْل مَا خَرَّجَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ"

(1)

عَن الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ قَالَ: "كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ حُكُومَةٌ فِي بِئْرٍ، فَاخْتَصَمْنَا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "شَاهِدَاكَ أَو يَمِينُهُ" .. وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالَ: "بَيِّنَتُكَ إنَّهَا بِئْرُكَ، وَإِلَّا فَيَمِينُهُ"

(2)

.

وَعَن وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ مِن حَضْرَ مَوْتَ، وَرَجُلٌ مِن كِنْدَةَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ الَّذِي مِن حَضْرَمَوْتَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنَّ هَذَا غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ كَانَت لِأَبِي، فَقَالَ الْكِنْدِيُّ؛ هِيَ أَرْضِي فِي يَدِي أَزْرَعُهَا، لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "ألكَ بَيِّنَةٌ؟ " قَالَ: لَا، قَالَ: "فَلَكَ يَمِينُهُ لا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ الرَّجُلُ فَاجِرٌ لَا يُبَالِي مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِن شَيْءٍ، فَقَالَ:"لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إلَّا ذَلِكَ"، فَلَمَّا أَدْبَرَ الرَّجُلُ لِيَحْلِفَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَمَا لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا لَيَلْقَيَنَّ اللهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ""

(3)

. رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(4)

.

فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ عَلَى الْمَطْلُوبِ إلَّا الْيَمِينَ، مَعَ ذِكْرِ الْمُدَّعِي لِفُجُورِهِ، وَقَالَ:"لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إلَّا ذَلِكَ".

(1)

البخاري (2516)، ومسلم (138).

(2)

رواه أحمد (21848).

(3)

يا له من وعيد شديد، وعقاب عظيم لمن يأخذ حق غيره ويحلف بالله كاذبًا.

(4)

(139).

ص: 287

وَفِي حَدِيثِ الْقَسَامَةِ أَنَّ الْأَنْصَارَ: قَالُوا: كَيْفَ نَقْبَلُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ

(1)

؟

وَهَذَا الْقَسَمُ لَا أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا: أَنَّ الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ، إذ لَمْ يَأْتِ الْمُدَّعِي بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَهِيَ الْبَيِّنَةُ.

لَكِنَّ الْبَيِّنَةَ الَّتِي هِيَ الْحُجَّة الشَّرْعِيَّةُ:

أ - تَارَةً تَكُونُ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ ذَكَرَيْنِ.

ب - وَتَارَةً تَكُونُ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ.

ج - وَتَارَةً أَرْبَعَةُ رِجَالٍ.

د - وَتَارَةً ثَلَاثَةٌ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِن الْعُلَمَاءِ، وَذَلِكَ فِي دَعْوَى إفْلَاسِ مَن عُلِمَ لَهُ مَالٌ مُتَقَدِّمٌ، كَمَا ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ"

(2)

مِن حَدِيثِ قَبِيصةَ بْنِ مُخَارِقٍ قَالَ: "لَا تَحِلُّ الْمَسْأَلةُ إلَّا لِأَحَدِ ثَلَاَثةٍ: رَجُل تَحَمَّلَ حَمَالَةً، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتى يُصِيبَهَا، ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ، حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِن عَيْشٍ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ، حَتَّى يَقُومَ ثَلَاَثَةُ مِن ذَوِي الْحِجَا مِن قَوْمِهِ يَقُوُلونَ: لَقَد أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِن عَيْشٍ، فَمَا سِوَاهُنَّ يَا قَبِيصَةُ سُحْتًا يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا".

فَهَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِي بَيِّنَةِ الْإِعْسَارِ أَقَلُّ مِن ثَلَاثَةٍ، وَهُوَ الصَّوَابُ الَّذِي يَتَعَيَّنُ الْقَوْلُ بِهِ: وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.

قَالُوا: وَلِأَنَّ الْإِعْسَارَ مِن الْأُمُورِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي تَقْوَى فِيهَا التُّهْمَةُ بِإِخْفَاءِ الْمَالِ، فَرُوعِيَ فِيهَا الزِّيَادَةُ فِي الْبَيِّنَةِ، وَجُعِلَتْ بَيْنَ مَرْتَبَةِ أَعْلَى الْبَيِّنَاتِ وَمَرْتَبَةِ أَدْنَى الْبَيِّنَاتِ.

هـ - وَتَارَةً تَكُونُ الْحُجَّةُ شَاهِدًا وَيمِينُ الطَّالِبِ.

(1)

وفيه أن الرجل قال عن المدعى عليه بأنه فاجر، وهذا قدح فيه، ومع ذلك لم يُنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن مقام الدعاوى والشكاوى من المواضع التي تجوز فيها الغيبة بشروطها.

(2)

(1044).

ص: 288

و- وَتَارَةً تَكُونُ الحجةُ نساءً، إما امْرَأَةً وَاحِدَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَإِما امْرَأَتَيْنِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ، وَإما أَرْبَعَ نِسْوَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ.

ز- وَتَارَةً تَكُونُ رَجُلًا وَاحِدًا فِي دَاءِ الدَّابَّةِ، وَشَهَادَةِ الطَّبِيبِ، إذَا لَمْ يُوجَدَ اثْنَانِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ.

ح - وَتَارَةً تَكُونُ لَوْثًا وَلَطْخًا وشبهةً مَعَ أَيْمَانِ الْمُدَّعِينَ، كَمَا فِي الْقَسَامَةِ، وَامْتَازَتْ بِكَوْنِ الْأَيْمَانِ فِيهَا خَمْسِينَ: تَغْلِيظًا لِشَأْنِ الدَّمِ، كَمَا امْتَازَ اللِّعَانُ بِكَوْنِ الْأَيْمَانِ فِيهِ أَرْبَعًا.

وَالْقَسَامَةُ يَجِبُ فِيهَا الْقَوَدُ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَتُوجِبُ الدِّيَةَ فَقَطْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا أَهْلُ الرَّأْي: فَيُحَلِّفُونَ فِيهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ خَاصَّةً، وَيوجِبُونَ عَلَيْهِ الدِّيَةَ مَعَ تَحْلِيفِهِ

(1)

.

(1)

قال ابن القيِّم رحمه الله في الطرق (ص 85):

وَتَارَةً تَكُونُ الْحُجَّةُ نُكُولًا فَقَطْ مِن غَيْرِ رَدِّ الْيَمِينِ.

وَتَارَةً تَكُونُ يَمِينًا مَرْدُودَةً، مَعَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، كَمَا قَضَى الصَّحَابَةُ بِهَذَا وَهَذَا.

وَتَارَةً تَكُونُ عَلَامَاتٍ يَصِفُهَا الْمُدَّعِي، يُعْلَمُ بِهَا صِدْقُهُ، كَالْعَلَامَاتِ الَّتِي يَصِفُهَا مَن سَقَطَتْ مِنْهُ لُقَطَةً لِوَاجِدِهَا، فَيَجِبُ حِينَئِذٍ الدَّفْعُ إلَيْهِ بالصِّفَةِ عِنْدَ الْإِمَام أحْمَدَ وَغَيْرِهِ.

وَتَارَةً تَكُونُ شَبَهًا بَيِّنًا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ النَّسَب، فَيَجِبُ إلْحَاقُ النَّسَبِ بِهِ عِنْدَ جُمْهُورٍ مِن السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، كَمَا فِي الْقَافَةِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا رَسُولُ اللهِ، وَحَكمَ بِهَا الصَّحَابَةُ مِن بَعْدِهِ.

وَتَارَةً تَكُونُ عَلَامَاتٍ يَخْتَصُّ بِهَا أحَدُ الْمُتَدَاعِيَيْنِ، فَيُقَدَّمُ بِهَا، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُكْرِي وَالْمُكتَرِي يَتَدَاعَيَانِ دَفِينًا فِي الدَّارِ، فَيَصِفُهُ أَحَدُهُمَا، فَيَكونُ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ.

وَتَارَةً تَكُونُ عَلَامَاتٍ فِي بَدَنِ اللَّقِيطِ يَصِفُهُ بِهِ أَحَدُ الْمُتَدَاعِيَيْنِ، فَيُقَدَّمُ بِهَا، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ.

وَتَارَةً تَكُونُ قَرَائِنَ ظَاهِرَةً يُحْكَمُ بِهَا لِلْمُدَّعِي مَعَ يَمِينِهِ، كَمَا إذَا تَنَازَعَ الْخَيَّاطُ وَالنَّجَّارُ فِي آلَاتِ صِنَاعَتِهِمَا: حُكِمَ بِكُلِّ آلَةٍ لِمَن تَصْلُحُ لَهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَكَذَلِكَ إذَا تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ، حُكِمَ لِلرَّجُلِ بِمَا يَصْلُحُ لَهُ، وَللْمَرْأَةِ بِمَا يَصْلُحُ لَهَا، وَلَمْ يُنَازعْ فِي ذَلِكَ إلَّا الشَّافِعِيُّ. ا هـ.

ص: 289

الْقِسْمُ الثَّانِي مِن الدَّعَاوَى: "دَعَاوَى التُّهَمِ": وَهِيَ دَعْوَى الْجِنَايَةِ وَالْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ؛ كَدَعْوَى الْقَتْلِ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالْقَذْفِ، وَالْعُدْوَانِ.

فَهَذَا يَنْقَسِمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِيهِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ، فَإِنَّ الْمُتَّهَمُ:

أ - إمَّا أَنْ يَكُونَ بَرِيئًا لَيْسَ مِن أَهْلِ تِلْكَ التُّهْمَةِ.

ب - أَو فَاجِرًا مِن أَهْلِهَا.

ج - أَو مَجْهُولَ الْحَالِ لَا يَعْرِفُ الْحَاكِمُ حالَه.

فَإِنْ كَانَ بَرِيئًا: لَمْ تَجُزْ عُقُوبَتهُ اتِّفَاقًا، وَاخْتَلَفُوا فِي عُقُوبَةِ الْمُتَّهَمِ لَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ يُعَاقَبُ صِيَانَةً لِتَسَلُّطِ أَهْلِ الشَرِّ وَالْعُدْوَانِ عَلَى أَعْرَاضِ الْبُرَآءِ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُون الْمُتَّهَمُ مَجْهُولَ الْحَالِ، لَا يُعْرَفُ بِبِرٍّ وَلَا فُجُورٍ: فَهَذَا يُحْبَسُ حَتَّى يَنْكَشِفَ حَالُهُ عِنْدَ عَامَّةِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ، وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ: أَنَّهُ يَحْبِسُهُ الْقَاضِي وَالْوَالِي، هَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، وَهُوَ مَنْصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمُحَقِّقِي أَصْحَابِهِ، وَذَكَرَهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَقَالَ الْإِمَام أَحْمَدُ: قَد حَبَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي تُهْمَةٍ، قَالَ أَحْمَدُ: وَذَلِكَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لِلْحَاكِمِ أَمْرُهُ، وَقَد رَوَى أَبُو دَاوُد فِي "سُنَنِهِ" وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا مِن حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَن أَبِيهِ، عَن جَدِّهِ:"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَبَسَ فِي تُهْمَةٍ"

(1)

.

وَالْأُصُولُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ تُوَافِقُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُم مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ إذَا طَلَبَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، الَّذِي يَسُوغُ إحْضَارُهُ: وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ إحْضَارُهُ إلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ، حَتَّى يَفْصِلَ بَيْنَهُمَا، ويُحْضِرُهُ مِن مَسَافَةِ الْعَدْوَى -

(1)

رواه أبو داود (3630)، والترمذي (1417)، النسائي (4875)، وحسَّنه الألباني في صحيح أبي داود.

ص: 290

الَّتِي هِيَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ بَرِيدٌ- وَهُوَ مَا لَا يُمْكِنُ الذَّهَابُ إلَيْهِ وَالْعَوْدُ فِي يَوْمِهِ، كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَن أَحْمَدَ، وَعَن بَعْضِهِمْ يُحْضِرُهُ مِن مَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَهِيَ مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ، كَمَا هِيَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَن أَحْمَدَ.

ثُمَّ إنَّ الْحَاكِمَ قَد يَكُونُ مَشْغُولًا عَن تَعْجِيلِ الْفَصْلِ، وَقَد تَكُونُ عِنْدَهُ حُكُومَاتٌ سَابِقَةٌ، فَيَكُونَ الْمَطْلُوبُ مَحْبُوسًا مَعُوقًا مِن حِينِ يُطْلَبُ إلَى أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ، وَهَذَا حَبْسٌ بِدُونِ التُّهْمَةِ، فَفِي التُّهْمَةِ أَوْلَى؛ فَإِنَّ الْحَبْسَ الشَّرْعِيَّ لَيْسَ هُوَ السِّجْنُ فِي مَكَان ضَيِّقٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعْوِيقُ الشَّخْصِ وَمَنْعُهُ مِن التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي بَيْتٍ أَو مَسْجِدٍ، أَو كَانَ بِتَوْكِيلِ نَفْسِ الْخَصْمِ أَو وَكِيلِهِ عَلَيْهِ، وَمُلَازَمَتُهُ لَهُ.

وَلَمَّا كَانَ حُضُورُ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ مِن جِنْسِ الْحَبْسِ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ: هَل يَحْضُرُ الْخَصْمُ الْمَطْلُوبُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى أَو لَا يَحْضُرُ حَتَّى يُبَيِّنَ الْمُدَّعِي أَنَّ لِلدَّعْوَى أَصْلًا، عَلَى قَوْلَيْنِ، هُمَا رِوَايَتَانِ عَن أَحْمَدَ، وَالْأَوَّلُ: قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَالثَّانِي: قَوْلُ مَالِكٍ

(1)

.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُتَّهَمُ مَعْرُوفًا بِالْفُجُورِ؛ كَالسَّرِقَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَالْقَتْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِذَا جَازَ حَبْسُ الْمَجْهُولِ فَحَبْسُ هَذَا أَوْلَى.

وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِن أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُ: إنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الدَّعَاوَى يَحْلِفُ، وُيرْسَلُ بِلَا حَبْسٍ وَلَا غَيْرِهِ، فَلَيْسَ هَذَا -عَلَى إطْلَاقِهِ- مَذْهَبًا لِأَحَدٍ مِن الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ مِن الْأَئِمَّةِ، وَمَن زَعَمَ أَنَّ هَذَا -عَلَى إطْلَاقِهِ وَعُمُومِهِ- هُوَ الشَّرْعُ: فَقَد غَلِطَ غَلَطًا فَاحِشًا مُخَالِفًا لِنُصُوصِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ.

(1)

فجمهور العلماء على أنَّ الْخَصْمَ الْمَطْلُوبَ يَحْضُرُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى.

ص: 291

وَيَسُوغُ ضَرْبُ هَذَا النَّوْعِ مِن الْمُتَّهَمِينَ، كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الزُّبَيْرَ بِتَعْذِيبِ الْمتَّهَمِ الَّذِي غَيَّبَ مَالَهُ حَتَّى أَقَرَّ بِهِ، فِي قِصَّةِ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ.

وَاخْتَلَفُوا فِيهِ: هَل الَّذِي يَضْرِبُهُ الْوَالِي دُونَ الْقَاضِي، أَو كِلَاهُمَا أَو لَا يُسَوَّغُ ضَرْبُهُ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَضْرِبُهُ الْوَالِي وَالْقَاضِي.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَضْرِبُهُ الْوَالِي دُونَ الْقَاضِي.

وَوَجْهُ هَذَا: أَنَّ الضَّرْبَ الْمَشْرُوعَ هُوَ ضَرْبُ الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرَاتِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ ثُبُوتِ أَسْبَابِهَا وَتَحَقُّقِهَا.

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُحْبَسُ وَلَا يُضْرَبُ.

وَنَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُبْتَدِعِ الَّذِي لَمْ يَنْتَهِ عَن بِدْعَتِهِ: أَنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يَمُوتَ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُحْبَسُ إلَى الْمَوْتِ.

وَأَمَّا عُقُوبَةُ مَن عُرِفَ أَنَّ الْحَقَّ عِنْدَهُ، وَقَد جَحَدَهُ: فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، لَا نِزَاعَ بَيْنَهُم أَنَّ مَن وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ مِن عَيْنٍ أَو دَيْنٍ -وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَدَائِهِ- وَامْتَنَعَ مِنْهُ، أَنَّهُ يُعَاقَبُ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ، وَنَصُّوا عَلَى عُقُوبَتِهِ بِالضَّرْبِ، ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ مِن الطَّوَائِفِ الْأَرْبَعَةِ.

وَفِي "السُّنَنِ" عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَطْلُ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ"

(1)

، وَالْعُقُوبَةُ لَا تَخْتَصُّ بِالْحَبْسِ؛ بَل هِيَ فِي الضَّرْبِ أَظْهَرُ مِنْهَا فِي الْحَبْسِ، وَثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ"

(2)

وَالظَّالِمُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ شَرْعًا.

وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ التَّعْزِيرَ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ، لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ، وَهِيَ نَوْعَانِ:

(1)

رواه أبو داود (3628)، والنسائي (4689)، وحسَّنه الألباني في صحيح أبي داود.

(2)

رواه البخاري (2287)، ومسلم (1564).

ص: 292

أ- تَرْكُ وَاجِبٍ.

ب- أَو فِعْلُ مُحَرَّمٍ.

فَمَن تَرَكَ الْوَاجِبَاتِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، كَقَضَاءِ الدُّيُونِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ: مِن الْوَكَالَاتِ، وَالْوَدَائِعِ، وَأَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَالْوُقُوفِ، وَالْأَمْوَالِ السُّلْطَانِيَّةِ، وَرَدِّ الْغُصُوبِ، وَالْمَظَالِمِ: فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ حَتَّى يُؤَدِّيَهَا.

وَكَذَلِكَ مَن وَجَبَ عَلَيْهِ إحْضَارُ نَفْسٍ لِاسْتِيفَاءِ حَقٍّ وَجَبَ عَلَيْهَا؛ مِثْل: أَنْ يَقْطَعَ الطَّرِيقَ، وَيلْتَجِئَ إلَى مَن يَمْنَعُهُ وَيَذُبَّ عَنْهُ؛ فَهَذَا يُعَاقَبُ حَتَّى يُحْضِرَهُ.

وَأَمَّا إذَا كَانَ الْإحْضَارُ إلَى مَن يَظْلِمُهُ، أَو إحْضَارُ الْمَالِ إلَى مَن يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ" حَقٍّ: فَهَذَا لَا يَجِبُ وَلَا يَجُوزُ، فَإِنَّ الْإِعَانَةَ عَلَى الظُّلْمِ ظُلْمٌ.

وَالْمَعَاصِي ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:

نَوْعٌ فِيهِ حَدٌّ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ؛ كَالزنا وَالسَّرِقَةِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَالْقَذْفِ. فَهَذَا يَكْفِيهِ الْحَدُّ عَن الْحَبْسِ وَالتَّعْزِيرِ.

وَنَوْعٌ فِيهِ كَفَّارَةٌ، وَلَا حَدَّ فِيهِ؛ كَالْجِمَاعِ فِي الْإِحْرَامِ وَنَهَارِ رَمَضَانَ، وَوَطْءِ الْمُظَاهِرِ مِنْهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ، فَهَذَا تُغْنِي فِيهِ الْكَفَّارَةُ عَن الْحَدِّ.

وَهَل تَكْفِي عَن التَّعْزِيرِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ، وَهُمَا لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ.

وَنَوْعٌ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ وَلَا حَدَّ، كَسَرِقَةِ مَا لَا قَطْعَ فِيهِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالنَّظَرُ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا يَسُوغُ فِيهِ التَّعْزِيرُ وُجُوبًا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَجَوَازًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ.

ثُمَّ إنْ كَانَ الضَّرْبُ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ، مِثْل أَنْ يَضْرِبَهُ لِيُؤَدِّبَ بِهِ: فَهَذَا لَا يَتَقَدَّرُ بَل يَضْرِبُ يَوْمًا، فَإِنْ فَعَلَ الْوَاجِبَ وَإِلَّا ضُرِبَ يَوْمًا آخَرَ بِحَسَبِ مَا يَحْتَمِلُة، وَلَا يَزِيدُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ عَلَى مِقْدَارِ أَعْلَى التَّعْزِيرِ.

ص: 293

وَقَد اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِقْدَارِ التَّعْزِيرِ عَلَى أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، وَعَلَى قَدْرِ الْجَرِيمَةِ، فَيَجْتَهِدُ فِيهِ وَليُّ الْأَمْرِ.

الثَّانِي -وَهُوَ أَحْسَنُهَا-: أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ فِي مَعْصِيَةٍ قَدْرَ الْحَدِّ فِيهَا، فَلَا يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ عَلَى النَّظَرِ وَالْمُبَاشَرَةِ حَدَّ الزِّنَا، وَلَا عَلَى السَّرِقَةِ مِن غَيْرِ حِرْزٍ حَدَّ الْقَطْعِ، وَلَا عَلَى الشَّتْمِ بِدُونِ الْقَذْفِ حَدَّ الْقَذْفِ. وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِن أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ.

وَالْقَوْلُ الثَّالِث: أَنَّهُ يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ أَدْنَى الْحُدُودِ: إمَّا أَرْبَعِينَ، وَإِمَّا ثَمَانِينَ وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِن أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ.

وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَا يُزَادُ فِي التَّعْزِيرِ عَلَى عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ.

وَالْمَنْقُولُ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وخُلَفَائِهِ رضي الله عنهم يُوَافِقُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ فَإِنَّ "النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم: أَمَرَ بِجَلْدِ الَّذِي وَطِئَ جَارَيةَ امْرَأَتِهِ -وَقَد أَحَلَّتْهَا لَهُ- مِائَةً"

(1)

.

وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما: "أَمَرَا بِجَلْدِ مَن وُجِدَ مَعَ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ فِي فِرَاشٍ مِائَةَ جَلْدَةٍ".

وَأَمَّا ضَرْبُ الْمُتَّهَمِ إذَا عُرِفَ أَنَّ الْمَالَ عِنْدَهُ -وَقَد كَتَمَهُ وَأَنْكَرَهُ- فَيُضْرَبُ لِيُقِرَّ بِهِ. فَهَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ.

فَإِنَّهُ ضَرْبٌ لِيُؤَدِّيَ الْوَاجِبَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى وَفَائِهِ. [35/ 389 - 407]

5057 -

قال ابن القيم رحمه الله: وقد ذكر أصحاب مالك القسامة في الأموال، وذلك فيما إذا أغار قوم على بيت رجل وأخذوا ما فيه والناس ينظرون إليهم ولم يشهدوا على معاينة ما أخذوا، ولكن علم أنهم أغاروا

(1)

رواه أحمد (18426).

ص: 294

وانتهبوا، فقال ابن القاسم وابن الماجشون: القول قول المنتهب مع يمينه، وقال مطرف وابن كنانة وابن حبيب: القول قول المنهوب منه مع يمينه فيما يشبه، وقد تقدم ذلك، وذكرنا أنه اختيار شيخ الإسلام. [المستدرك 5/ 188]

5058 -

يجب أن يفرق بين فسق المدعى عليه وعدالته، فليس كل مدعى عليه يُرضى منه باليمين، ولا كل مدع يطالَب بالبينة.

ويرجع

(1)

باليد العرفية إذا استويا في الحسية

(2)

أو عدمها. [المستدرك 5/ 188]

5059 -

إن كانت العين بيد أحدهما: فمَن شاهِدُ الحال معه: كان ذلك لوْثًا فيحكم له بيمينه. [المستدرك 5/ 188]

5060 -

إذا نكل المدعى عليه عن اليمين: ردت على المدعي، وقيل: لا ترد؛ بل يحكم عليه بنكوله، وقيل: إن كان المدعَى عليه هو العالم بالمدعي، دون المدعِي؛ مثل أن يدعي الورثة أو الوصي على غريمٍ للميت دعوى فينكرها: فهنا لا يحلف المدعي؛ بل إذا نكل المنكر قضي عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تضطروا الناس في أيمانهم إلى ما لا يعلمون"

(3)

.

وإذا كان المدعي هو العالم؛ مثل: أن يدعي على ورثة الميت حقًّا عليه يتعلق بتركته: فهنا لهم رد اليمين عليه، فإذا لم يحلف لم يأخذ، وأما إذا كان المدعي يدعي العلم والمنكر يدعي العلم فهنا يتوجه القولان. [المستدرك 5/ 189]

5061 -

الدعوى في التهمة كسرقة يعاقب المدعي عليه الفاجر، وأنه لا يجوز إطلاقه، ويحبس المستور.

وذكر الشيخ تقي الدين رحمه الله الأول قول أكثر العلماء، واختار تعزير مدع

(1)

لعله يرجح. (الجامع).

(2)

في الأصل: (الخشية)، والتصويب من الاختيارات (510).

(3)

رواه أبو داود في المراسيل (445)، وضعَّفه الألباني في الإرواء (2688).

ص: 295

بسرقة ونحوها على من يعلم براءته، واختار بأن خبر من له رائي جني بأن فلانًا سرق كذا كخبر إنسي مجهول فيفيد تهمة. [المستدرك 5/ 189 - 190]

5062 -

قال الإمام أحمد في: في الرجل يقيم الشهود أيستقيم للحاكم أن يقول: احلف؟ فقال: قد فعل ذلك علي بن أبي طالب.

وقال في رواية إبراهيم بن الحارث في رجل جاء بشهود على حق فقال المدعى عليه استحلفه: لم يلزم المدعي اليمين.

حمل أبو العباس الرواية الأولى على أن للحاكم أن يفعل ذلك إذا أراد مصلحةً لظهور ريبة في الشهود، لا أنه يجب مطلقًا، والثانية على أنه لا يجب مطلقًا، فلا منافاة بين الروايتين. [المستدرك 5/ 190]

5063 -

قصة أبي قتادة

(1)

وخزيمة

(2)

تقتضي الحكم بالشاهد [الواحد] في الأموال.

وقد يقال: اليمين مع الشاهد الواحد حق للمستحلف، وللإمام فله أن يسقطها، وهذا أحسن. [المستدرك 5/ 190 - 191]

5064 -

ولو قيل: إنه يحكم بشهادة امرأة واحدة مع يمين الطالب في الأموال: لكان متوجهًا، لأنهما [إنما]

(3)

أقيما مقام الرجل في التحمل. [المستدرك 5/ 191]

(1)

وهو ما رواه البخاري (4321)، ومسلم (4667)، عَن أبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه أنه قتل رجلًا في غزوة حُنَيْنٍ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انتهاء المعركة:"مَن قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ". قَالَ: فَقُمْتُ فَقُلْت: مَن يَشْهَدُ لِي، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْم: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَعْطاه إِيَّاهُ.

(2)

وهو ما رواه الإمام أحمد (21883) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اشترى فَرَسًا مِن أَعْرَابِيٍّ، فَاسْتَتْبَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِيَقْضِيَهُ ثَمَنَ فَرَسِهِ، فلما رجع جحد أنه باعه.

فَقَال الْأَعْرَابِيُّ: هَلُمَّ شَهِيدًا يَشْهَدُ أَنِّي بَايَعْتُكَ.

حَتَّى جَاءَ خُزَيْمَةُ فقَالَ: أَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ قَد بَايَعْتَهُ.

فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى خُزَيْمَةَ فَقَالَ: "بِمَ تَشْهَدُ؟ " فَقَالَ: بِتَصْدِيقِكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ.

(3)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (525).

ص: 296

5065 -

تثبت الوكالة ولو في غير المال بشاهد ويمين، وهو رواية عن أحمد. [المستدرك 5/ 191]

5066 -

الإقرار بالشهادة بمنزلة الشهادة؛ بدليل الأمة السوداء في الرضاع، فإن عقبة بن الحارث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم "أن المرأة أخبرته أنها أرضعتهما"

(1)

فنهاه عنها من غير سماع من المرأة، وقد احتج به الأصحاب في قبول شهادة المرأة الواحدة في الرضاع، فلولا أن الإقرار بالشهادة بمنزلة الشهادة ما صحت الحجة. [المستدرك 5/ 191]

5067 -

قال ابن القيم رحمه الله في شهادة الرهن بقدر الدين: إذا اختلف الراهن والمرتهن في قدره: فالقول قول المرتهن مع يمينه، ما لم يدَّع أكثر من قيمة الرهن عند مالك وأهل المدينة، وخالفه الأكثرون ومذهبه أرجح، واختاره شيخنا رحمه الله. [المستدرك 5/ 191]

* * *

(باب اليمين في الدعاوي)

5068 -

قال أصحابنا: ومن تغليظ اليمين بالمكان: اليمين عند صخرة بيت المقدس.

وليس له أصل في كلام أحمد ولا غيره من الأئمة؛ بل السُّنَّة أن تغليظ اليمين فيها كتغليظها في سائر المساجد عن المنبر. [المستدرك 5/ 213]

5069 -

لا يحلف المدعى عليه بالطلاق وفاقًا. [المستدرك 5/ 213]

5070 -

مال الشيخ تقي الدين وصاحب النكت إلى وجوب التغليظ إذا رآه الحاكم وطلبه. [المستدرك 5/ 214]

(1)

روى البخاري (2659)، عن عُقْبَة بْن الْحَارِثِ رضي الله عنه أنَّهُ تَزَوَجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إِهَابٍ قَالَ: فَجَاءَت أَمَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: قَد أَرْضَعْتُكُمَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فقَالَ: وَكَيْفَ وَقَد زَعَمَتْ أَنَّهَا قَد أرْضَعَتْكُمَا، فنهَاهُ عَنْهَا.

ص: 297

ونقل المجد من تعليق القاضي: تغليظ اليمين على المجوس بالله الذي بعث إدريس رسولًا؛ لأنهم يعتقدون أنه الذي جاء بالنجوم التي يعتقدون تعظيمها.

ويغلظ على الصابئ "بالله الذي خلق النار"؛ لأنهم يعتقدون تعظيم النار.

قال الشيخ تقي الدين: هذا بالعكس؛ لأن المجوس تعظم النار، والصابئة تعظم النجوم. [المستدرك 5/ 214]

5071 -

لو أبى من وجبت عليه اليمين التغليظ: لم يصر ناكلًا، قال الشيخ تقي الدين: قصة مروان مع زيد تدل على أن القاضي إذا رأى التغليظ فامتنع من الإجابة أدى ما ادعي به ولو لم يكن كذلك لم يكن في التغليظ زجر قط.

وقال الشيخ تقي الدين أيضًا: متى قلنا هو مستحب، فينبغي إنه إذا امتنع منه الخصم يصير ناكلًا. [المستدرك 5/ 214]

* * *

(يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يحَكِّمُوا الله وَرَسُولَهُ فِي كلِّ مَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ)

5072 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَن رَجُلٍ تَوَلَّى حُكُومَةً عَلَى جَمَاعَةٍ مِن رُمَاةِ الْبُنْدُقِ وَيَقُولُ: هَذَا شَرْعُ الْبُنْدُقِ؟.

فَأَجَابَ: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ أَحَدٍ مِن خَلْقِ اللهِ، لَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا الْكُفَّارِ، وَلَا الْفِتْيَانِ، وَلَا رُمَاةِ الْبُنْدُقِ

(1)

، وَلَا الْجَيْشِ، وَلَا الْفُقَرَاءِ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ، إلَّا بِحُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ.

وَمَن ابْتَغَى غَيْرَ ذَلِكَ: تَنَاوَلَهُ قَوْله تَعَالَى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ

(1)

ومثله تحكيم القوانين الوضعية في الملاعب ونحوها، فالأصل وجوب القصاص من اللاعب الذي تعمد إصابة آخر، لا طرده وتغريمُه ونحو ذلك.

ص: 298

مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 50]، وقَوْله تَعَالَى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65].

فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُحَكِّمُوا اللهَ وَرَسُولَهُ فِي كُلِّ مَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ.

وَمَن حَكَمَ بِحُكْمِ الْبُنْدُقِ وَشَرْعِ الْبُنْدُقِ أَو غَيْرِهِ مِمَّا يُخَالِفُ شَرْعَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَحُكْمَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ ذَلِكَ: فَهُوَ مِن جِنْسِ التَّتَارِ الَّذِينَ يُقَدِّمُونَ حُكْمَ "الياسق" عَلَى حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَن تَعَمَّدَ ذَلِكَ فَقَد قَدَحَ فِي عَدَالَتِهِ وَدِينِهِ. [35/ 407 - 408]

* * *

ص: 299

‌كتابُ الشَّهَادَات

5073 -

يجب على من طلبت منه الشهادة أداؤها؛ بل إذا امتنع الجماعة من الشهادة أثموا كلهم باتفاق العلماء، وقدح ذلك في دينهم وعدالتهم. [المستدرك 5/ 195]

5074 -

الطلب العرفي أو مقتضى الحاد في طلب الشهادة: كاللفظي، علمها المشهود له أو لا؟ وهو ظاهر الخبر.

وخبر "يشهد ولا يستشهد"

(1)

محمول على شهادة الزور. [المستدرك 5/ 195]

5075 -

إذا غلب على ظن الشاهد أنه يُمتحن فيدعى إلى القول المخالف للكتاب والسُّنَّة أو إلى محرم: فلا يسوغ له أداء الشهادة وفاقًا، اللَّهُمَّ إلا أن يظهر قولًا يريد به مصلحة عظيمة. [المستدرك 5/ 195]

5076 -

يجوز أخذ الأجرة على أداء الشهادة وتحملها، ولو تعينت إذا كان محتاجًا، وهو قول في مذهب أحمد، ويحرم كتمها ويقدح في عدالته. [المستدرك 5/ 195]

5077 -

الشهادة سبب موجب للحق، وحيث امتنع أداء الشهادة امتنعت كتابتها في ظاهر كلام أبي العباس والشيخ أبي محمد المقدسي. [المستدرك 5/ 196]

(1)

روى الترمذي (2165) مرفوعًا: "أوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم، ثُمَّ يَفْشُو الكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَلَا يُسْتَخلَفُ، وَيشْهَدَ الشَّاهِدُ وَلَا يُسْتَشْهَدُ".

ص: 300

5078 -

يجب على الشاهد أداء الشهادة إذا طلبت منه ولو كان الشهود أكثر من نصاب الشهادة.

وأما إن كان المطلوب لا يتم النصاب إلا به فقد تعينت عليه إجماعًا، إلا أن تكون الشهادة بجور أو كذب ونحوه فلا يجوز أن يعان الظالم على ذلك لا بشهادة ولا غيرها. [المستدرك 5/ 196]

5079 -

اشتراط لفظ الشهادة لا أصل له في كتاب الله ولا سُنَّة رسوله ولا قول أحد من الصحابة، ولا يتوقف لفظ الشهادة لغةً على ذلك.

ولا يشترط في أداء الشهادة لفظةُ أشهد، وهو مقتضى قول أحمد، قال علي بن المديني، أقول: إن العشرة في الجنة، ولا أشهد، فقال أحمد: متى قلت فقد شهدت. [المستدرك 5/ 196]

5080 -

يُعَرِّض في الشهادة إذا خاف الشاهد من إظهار الباطن ظلم المشهود عليه، وكذلك التعريض في الحكم إذا خاف الحاكم من إظهار الأمر وقوع الظلم عليه، وكذلك التعريض في الفتوى والرواية كاليمين وأولى؛ إذ اليمين خبر وزيادة. [المستدرك 5/ 197]

5081 -

إذا شهد أن العين كانت ملكه حين خرجت من يده بغير حق حكم له بها.

وأما إن شهد أنها كانت ملكه فقط فهل يحكم له بذلك؟ على وجهين في مذهب أحمد، وقولين للشافعي. [المستدرك 5/ 197]

5082 -

إن شهد بسبب الملك وظهوره مثل: أن يشهد أنه ابتاعه، أو ورثه أو حكم له به الحاكم الفلاني، فإن الحاكم هنا يحكم باستصحاب الحال إذا لم يثبت معارض راجح، والشاهد لا يشهد بناء على استصحاب الحال، ولا أعلم في الأولى خلافًا أن الحاكم يحكم باستصحاب الحال باتفاق العلماء.

وأما صورة الخلاف فإن البينة لما شهدت بالملك في الماضي وسكتت

ص: 301

عنه في الحال كان هذا ريبة تجوز أن البينة علمت بالزوال وسكتت عن ذلك، وأما إذا شهدت بسبب الملك لم يكن فيه ريبة، والأصل بقاء الملك، وإذا شهدت أنه لم يزل ملكه إلى أن غصبت منه أو استعيرت أو زالت يده عنه بغير حق، كما لو شهدت له أنه لم يزل ملكه عنه إلى أن مات فإنه يحكم به للورثة حتى تقوم حجة بما يخالف ذلك.

وكذلك هناك يحكم للذي كان حائزًا إلى حين زوال حوزه؛ كزوال الملك، ولا أعلم في هذا خلافًا، ولا ينبغي أن يكون فيه خلاف؛ فإن الغاصب والمستعير وغيرهما إذا جحدوا ملك غيرهم فشهدت البينة أنه لم يزل ملكه إلى حين الغصب مثلًا: احتاجوا إلى إثبات الانتقال إليهم، وإلا فالأصل بقاء الملك، وقد علم أن زوال اليد بالعدوان فلا يقبل أن اليد يده إذا عرف من مستندها ما يصلح مستندًا له من زوال اليد المحققة والانتقال إلى يد عادية، أما هذه البينة أو غيرها فلا يكلف رب البينة بقاء الملك إلى حين الدعوى لتعذر ذلك أو لعسره وفيه معونة عظيمة لكل سارق وناهب.

يوضح ذلك أن الحاكم يحكم باستصحاب اليد وبغيرها من الطرق التي تفيد غالب الظن، والشاهد لا يشهد إلا بالعلم؛ لأن الحاكم لا بد له من فصل الحكومة فيفصلها لأقوى الجانبين حجة. [المستدرك 5/ 197 - 198]

5083 -

تجوز شهادة الأعمى على من سمع صوته وعرفه وإن لم يعرف اسمه ونسبه ويؤديها عليه إذا سمع صوته. [المستدرك 5/ 199]

5084 -

ويشهد بالاستفاضة ولو عن واحد تسكن نفسه إليه، اختاره الجد. [المستدرك 5/ 199]

5085 -

قال القاضي: لا تصح الشهادة بمجهول ولا لمجهول.

قال أبو العباس: وفي هذا نظر؛ بل تصح الشهادة بالمجهول ويقضي له بالمتيقن، وللمجهول يصح في مواضع كثيرة. [المستدرك 5/ 200]

ص: 302

5086 -

قال شيخنا في الذمي إذا زنى بالمسلمة: قتل، ولا يرفع عنه القتل الإسلام، ولا يشترط فيه أداء الشهادة على الوجه المعتبر في المسلم؛ بل يكفي استفاضة ذلك واشتهاره. [المستدرك 5/ 201]

5087 -

إذا حضر الموت وليس عنده مسلم فله أن يشهد من حضره من أهل الذمة في الوصية ويحلفوا إذا شهدوا وهذا قول جمهور السلف وهو قول إمام الأئمة أحمد وأبي عبيد، وعليه يدل القرآن والسُّنَّة.

وهذا مبني على أصل وهو أن الشهادة عند الحاجة يجوز فيها مثل شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال.

وهل تعتبر عدالة الكافرين في الشهادة بالوصية في دينهما؟ عموم كلام الأصحاب يقتضي أنها لا تعتبر، وإن كنا إذا قبلنا شهادة بعضهم على بعض اعتبرنا عدالتهم في دينهم. [المستدرك 5/ 201 - 202]

5088 -

شهادة الفاسق مردودة بنص القرآن واتفاق المسلمين، وقد يجيز بعضهم الأمثل فالأمثل، من الفساق عند الضرورة إذا لم يجد عدول ونحو ذلك، وأما قبول شهادة الفاسق فهذا لم يقله أحد من المسلمين. [المستدرك 5/ 202]

5089 -

قوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] يقتضي أنه يقبل في الشهادة على حقوق الآدميين من رضوه شهيدًا بينهم ولا ينظر إلى عدالته، كما يكون مقبولًا عليهم فيما ائتمنوه عليه.

وقوله تعالى في آية الرجعة والوصية: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106]{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ولم يصف الرجلين نفسهما بأنهما عدل؛ بل وصفهما بأنهما ذوا عدل؛ أي: صاحبا عدل.

والعدل في المقال هو الصدق والبيان، الذي هو ضد الكذب والكتمان،

ص: 303

كما بينه تعالى في قوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 102]، والعدل في كل زمان ومكان وفي كل طائفة بحسبها، فيكون الشهيد في كل قوم مَن كان ذا عدل فيهم، وإن كان لو كان في غيرهم لكان عدله على وجه آخر.

وبهذا يمكن الحكم بين الناس، وإلا فلو اعتبر في شهود كل طائفة ألا يشهد عليهم إلا من يكون قائمًا بأداء الواجبات وترك المحرمات كما كان الصحابة رضي الله عنهم لبطلت الشهادات كلها أو غالبها.

وقال أبو العباس في موضع آخر: إذا فسر الفاسق في الشهادة بالفاجر وبالمتهم فينبغي أن يفرق بين حال الضرورة وعدمها كما قلنا في الكفار.

وقال أبو العباس في موضع آخر: ويتوجه أن تقبل شهادة المعروفين بالصدق، وإن لم يكونوا ملتزمين للحدود عند الضرورة؛ مثل: الجند، وجفاة البدو، وأهل القرية الذين لا يوجد فيهم عدل.

وله أصول، منها: قبول شهادة أهل الذمة في الوصية في السفر إذا لم يوجد غيرهم، وشهادة بعضهم على بعض في قول، وشهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال، وشهادة الصبيان فيما لا يطلع عليه الرجال.

ويظهر ذلك بالمحتضر في السفر إذا حضره اثنان كافران واثنان مسلمان يصدقان، وليس بملتزمين للحدود، أو اثنان مبتدعان، فهاذان خير من الكافرين.

والشروط التي في القرآن إنما هي في تحمل الشهادة، لا في الأداء.

وينبغي أن نقول في الشهود ما نقول في المحدثين، وهو أنه من الشهود من تقبل شهادته في نوع دون نوع، أو شخص دون شخص، كما أن في المحدثين كذلك.

ونبأ الفاسق ليس بمردود بل هو موجب للتبيُّن والتثبُّت كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا

ص: 304

فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)} [الحجرات: 6]، وفي القراءة الأخرى:{فتثبتوا} فعلينا التبين والتثبت عند خبر الفاسق الواحد، ولم نؤمر به عند خبر الفاسقين، وذلك أن خبر الاثنين يوجب من الاعتقاد ما لا يوجبه خبر الواحد، أما إذا علم أنهما لم يتواطئا فهذا قد يحصل به العلم.

[المستدرك 5/ 202 - 204]

5090 -

ترد الشهادة بالكذبة الواحدة، وإن لم نقل هي كبيرة، وهي رواية عن الإمام أحمد. [المستدرك 5/ 204]

5091 -

ومن شهد على إقرار كذب مع علمه بالحال، أو تكرر منه النظر إلى الأجنبيات، والقعود في مجالس تنتهك فيها المحرمات الشرعية: قدح ذلك في عدالته. ولا يستريب أحد فيمن صلى محدثًا أو إلى غير القبلة، أو بعد الوقت أو بلا قراءة أنها كبيرة. [المستدرك 5/ 204]

5092 -

من ترك الجماعة: فليس عدلًا، ولو قلنا هي سُنَّة. [المستدرك 5/ 204]

5093 -

تحرم محاكاة الناس على وجه السخرية المضحكة، ويعزر فاعلها هو ومن يأمره بها؛ لأنه أذى. [المستدرك 5/ 205]

5094 -

تقبل شهادة الكافر على المسلم في الوصية في السفر إذا لم يوجد غيره، وهو مذهب أحمد، ولا تعتبر عدالتهم [في دينهم، واستحلافهم حقٌّ للمشهود عليه، فإن شاء حلّفهم]

(1)

، وإن شاء لم يحلفهم، [ليست حقًّا لله]

(2)

.

وقول أحمد: أقبل شهادة أهل الذمة إذا كانوا في سفر ليس فيه غيرهم: هذه ضرورة.

يقتضي هذا التعليل قبولها في كل ضرورة، حضرًا، وسفرًا، وصية، وغيرها وهو متجه. [المستدرك 5/ 205]

(1)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (519).

(2)

العبارة في الأصل: (بسبب حق الله)، والتصويب من الاختيارات (519).

ص: 305

5095 -

لو حكم حاكم بخلاف آية الوصية ينقض حكمه؛ فإنه إنما خالف نص الكتاب بتأويلات سمجة. [المستدرك 5/ 205]

5096 -

الصحيح قبول شهادة النساء في الرجعة؛ فإن حضورهن عندها أيسر من حضورهن عند كتابة الوثائق في الديون.

وعن أحمد في شهادة الكفار في كل موضع ضرورة غير المنصوص عليه روايتان، لكن التحليف هنا لم يتعرضوا له، فيمكن أن يقال: لا تحليف؛ لأنهم إنما يحلفون حيث تكون شهادتهم بدلًا من

(1)

التحمل، بخلاف ما إذا كانوا أصولًا قد علموا من غير تحمل.

وقال أبو العباس في موضع آخر: ولو قيل: تقبل شهادتهم مع أيمانهم في كل شيء عدم فيه المسلمون: لكان وجهًا، وتكون شهادتهم بدلًا مطلقًا.

وإذا قبلنا شهادة الكفارة في الوصية في السفر: فلا يعتبر كونهم من أهل الكتاب، وهو ظاهر القرآن.

وتقبل شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض، وهو رواية عن أحمد.

ولو قيل: إنهم يحلفون مع شهادة بعضهم على بعض كما يحلفون على شهادتهم على المسلمين، في وصية السفر لكان متوجهًا. [المستدرك 5/ 206]

5097 -

الواجب في العدو أو الصديق ونحوهما: أنه إن علم منهما العدالة الحقيقية قبلت شهادتهما، وأما إن كانت عداوتهما ظاهرة مع إمكان أن يكون الباطن بخلافه: لم تقبل، ويتوجه هذا في الأب ونحوه. [المستدرك 5/ 206]

5098 -

لا تشترط الحرية في الشهادة، وهو رواية في مذهب أحمد.

وظاهر كلام أبي العباس: ولو في الحدود والقصاص، وهو مذهب أحمد. [المستدرك 5/ 207]

(1)

العبارة في الأصل: (في)، والتصويب من الاختيارات (519).

ص: 306

5099 -

قال أبو العباس في قوم [في ديوان]

(1)

أجروا شيئًا: لا تقبل شهادة أحد منهم على المستأجر لأنهم وكلاء أو أولياء. [المستدرك 5/ 207]

5100 -

الشهادة في مصرف الوقف مقبولة، وإن كان مستندها الاستفاضة في أصح القولين. [المستدرك 5/ 207]

5101 -

ما لا يطلع عليه الرجال؛ كعيوب النساء تحت الثياب، والرضاع، والاستهلال، والبكارة والثيوبة، والحيض ونحوه: فيقبل فيه شهادة امرأة واحدة .. قال الشيخ تقي الدين قال أصحابنا: والاثنتان أحوط من المرأة الواحدة. [المستدرك 5/ 207]

5102 -

نقل جماعة: من ترك الوتر ليس عدلًا، وقاله شيخنا في الجماعة على أنها سُنَّة، لأنه يسمى ناقص الإيمان. [المستدرك 5/ 208]

5103 -

ويعتبر أيضًا اجتناب المحارم بأن لا يأتي كبيرة .. وهي ما فيه حد في الدنيا أو وعيد نص عليه، وعند شيخنا، أو غضب أو لعنة أو نفي الإيمان، قال: ولا يجوز أن يقع نفي الإيمان لأمر مستحب؛ بل لكمال واجب. [المستدرك 5/ 208]

5104 -

من أخذ بالرخص فنصّه: يفسق، وذكره ابن عبد البر إجماعًا، وقال شيخنا كرهه العلماء. [المستدرك 5/ 208]

5105 -

من قصد خروج الريح منه ليضحك الجماعة: فإنه يعزر على ذلك، وترد شهادته، فقد ذكر العلماء أن هذا عمل قوم لوط، ومن لا يستحيي من الناس لا يستحيي من الله.

والمصرُّ على ذلك فاسق، مسلوب الولاية، مردود الشهادة. [المستدرك 5/ 209]

(1)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (521).

ص: 307

5106 -

قال ابن القيم رحمه الله في الحكم بالتواتر: وإن لم يكن المخبرون عدولًا ولا مسلمين.

قال شيخنا: وهذا يقتضي أن القاضي إذا حصل له العلم بشهادة الشهود لم يحتج إلى تزكية. [المستدرك 5/ 209]

5107 -

لو زكوا الشهود ثم ظهر فسقهم ضمن المزكون.

وكذلك يجب في الولاية لو أراد الإمام أن يولي قاضيًا أو واليًا لا يعرفه فيسأل عنه فزكّاه أقوام ووصفوه بما يصلح معه للولاية ثم رجعوا أو ظهر بطلان تزكيتهم: فينبغي أن يضمنوا ما أفسده الوالي والقاضي، وذلك لو أشاروا عليه وأمروا بولايته.

لكن الذي لا ريب في ضمانه هو من تعهد المعصية منه مثل الخيانة، مثل من يعلم منه الخيانة أو العجز ويخبر عنه بخلاف ذلك، أو يأمر بولايته، أو يكون لا يعلم حاله ويزكيه أو يشير به.

فأما إن اعتقد صلاحه وأخطأ فهذا معذور، والسبب ليس محرمًا.

وعلى هذا: فالمزكي للعامل من المقترض والمشتري والوكيل كذلك. [المستدرك 5/ 212]

5108 -

شاهد الزور إذا تاب بعد الحكم فيما لا يبطل برجوعه: فهنا قد يتعلق به حق آدمي، ثم تارة يجيء إلى الإمام تائبًا فهذا بمنزلة قاطع الطريق إذا تاب قبل القدرة عليه، وتارة يتوب بعد ظهور تزويره فهنا لا ينبغي أن يسقط عنه التعزير. [المستدرك 5/ 212]

5109 -

من شهد بعد الحكم شهادة تنافي شهادته الأولى: فكرجوعه عن الشهادة الأولى وأولى. [المستدرك 5/ 213]

5110 -

يغرم الشاهد ما غرمه الوكيل من الزيادة بسببه، تعمد الكذب أو أخطا كالرجوع. [المستدرك 5/ 213]

ص: 308

5111 -

أَمَّا الشهَادَةُ بِالْإِعْسَارِ: فَإِذَا شَهِدُوا

(1)

أَنَّهُ مُعْسِرٌ عَمَّا لَزِمَه مِن الدَّيْنِ، وَعَرَفُوا قَدْرَة: صَحَّت الشَّهَادَةُ، لَكِنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ قُدْرَتَهُ عَلَى وَفَاءِ بَعْضِهِ.

وَتَصِحُّ الشَّهَادَةُ بِذَلِكَ وَإِن لَمْ يَعْرِفُوا قَدْرَهُ إذَا شَهِدُوا بِأنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى وَفَاءِ شَيءٍ، لَكِنَّ الْعِلْمَ بِهَذَا مُتَعَذِّرٌ فِي الْغَالِبِ.

وَلَكِنْ إذَا كَانَ الدَّيْنُ عَن مُعَاوَضَةٍ -كثَمَنِ بَيْعٍ وَبَدَلِ قَرْضٍ- وَكَانَ لَهُ مَالٌ مَعْرُوفٌ، فَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ بِذَهَابِ مَالِهِ: صَارَ بِمَنْزِلَةِ مَن لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَالٌ، وَفِي مِثْل هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ مُعْسِرٌ عَاجِزٌ عَن وَفَاءِ مَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ إن ادَّعَى الْعَجْزَ عَن وَفَاءِ قَلِيلٍ أَو كَثِيرٍ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ، وَحَصَلَ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ، وَإِن ادَّعَى أَنَهُ لَيْسَ لَهُ إلَّا كَذَا حَلَفَ عَلَيْهِ.

وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْبَيِّنَةُ الشَّاهِدَةُ بِعُسْرَتِهِ ثَلَاثَةً إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ؛ لِلْخَبَرِ الْمَأثُورِ فِي ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا لَو شَهِدَتْ بِتَلَفِ مَالِهِ بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ.

وَالْحَدِيثُ حَدِيثُ قَبِيصَةَ بْنِ مخارق الْهِلَالِيِّ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ"

(2)

عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: "لَا تَحِلُّ الْمَسْألةُ إلَّا لِثَلَاَثةٍ: .. وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلَاَثة مِن ذَوِي الحجى مِن قَوْمِهِ فَيَقُولُونَ: لَقَد أَصَابَ فُلَانًا فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْألةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِن عَيْشٍ". [35/ 410 - 411]

5112 -

لَا تُقْبَلُ شَهَادَة الضَّرَّةِ فِيمَا يُبْطِلُ نِكَاحَ ضَرَّتِهَا، لَا بِرِضَاع وَلَا غَيْرِهِ. [35/ 412]

5113 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَن الشَّهَادَةِ عَلَى الْعَاصِي وَالْمُبْتَدِعِ: هَل تَجُوزُ بِالِاسْتِفَاضَةِ وَالشُّهْرَةِ؟ أَمْ لَا بُدَّ مِن السَّمَاعِ وَالْمُعَايَنَةِ؟.

(1)

أي: الشُّهُودُ.

(2)

(1044).

ص: 309

فَأَجَابَ: مَا يُجْرَحُ بِهِ الشَّاهِدُ وَغَيْرُهُ مِمَّا يَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِ وَدِينِهِ فَإِنَّهُ يَشْهَدُ بِهِ إذَا عَلِمَهُ الشَّاهِدُ بِهِ بِالِاسْتِفَاضَةِ، ويكُونُ ذَلِكَ قَدْحًا شَرْعِيًّا، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ طَوَائِفُ الْفُقَهَاءِ مِن الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ فِي كُتُبِهِم الْكِبَارِ وَالصّغَارِ، صَرَّحُوا فِيمَا إذَا جُرِحَ الرَّجُلُ جَرْحًا مُفْسِدًا أَنَّهُ يَجْرَحُهُ الْجَارحُ بِمَا سَمِعَهُ مِنْهُ، أَو رَآهُ وَاسْتَفَاضَ.

وَمَا أَعْلَمُ فِي هَذَا نِزَاعًا بَيْنَ النَّاسِ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُم يَشْهَدُونَ فِي وَقْتِنَا فِي مِثْل عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَأَمْثَالِهِمَا مِن أَهْلِ الْعَدْلِ وَالدِّينِ بِمَا لَمْ يَعْلَمُوهُ إلَّا بِالِاسْتِفَاضَةِ.

ويشْهَدُونَ فِي مِثْل الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ وَالْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ وَعَمْرُو بْنِ عُبَيْدٍ وَغَيْلَانَ الْقَدَرِيِّ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَبَإِ الرافضي وَنَحْوِهِمْ مِن الظُّلْمِ وَالْبِدْعَةِ بِمَا لَا يَعْلَمُونَهُ إلَّا بِالِاسْتِفَاضَةِ.

وَقَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ"

(1)

عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَة فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ: "وَجَبَتْ"، وَمُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَة فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ:"وَجَبَتْ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَا قَوْلُك: وَجَبَتْ وَجَبَتْ؟

قَالَ: "هَذِهِ الْجِنَازَةُ أثنَيْتُمْ عَلَيْهَا خَيْرًّا فَقُلْت: وَجَبَتْ لَهَا الْجَنَّةُ، وَهَذِهِ الْجِنَازَةُ أثنَيْتُمْ عَلَيْهَا شَرًّا فَقُلْت: وَجَبَتْ لَهَا النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ".

هَذَا إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ تَفْسِيقَهُ لِرَدِّ شَهَادَتِهِ وَوِلَايَتِهِ.

وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ التَّحْذِيرَ مِنْهُ وَاتّقَاءَ شَرِّهِ فَيُكْتَفَى بِمَا دُونَ ذَلِكَ؛ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: اعْتَبِرُوا النَّاسَ بِأَخْدَانِهِمْ.

فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ مُخَالِطًا فِي السَّيْرِ لِأَهْلِ الشَّرِّ يُحَذَّرُ عَنْهُ

(2)

.

(1)

البخاري (1367)، ومسلم (949).

(2)

فكيف إذا خالطهم في اجتماعاتهم واستراحاتهم، وجَعَلهم أصدقاءه؟ فالتحذير منه من باب أولى.

ص: 310

والدَّاعِي إلَى الْبِدْعَةِ: مُسْتَحِقٌّ الْعُقُوبَةَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.

وَعُقُوبَتُهُ تكُونُ:

أ - تَارَةً بِالْقَتْلِ.

ب - وَتَارَةً بِمَا دُونَهُ.

كَمَا قَتَلَ السَّلَفُ جَهْمَ بْنَ صَفْوَانَ وَالْجَعْدَ بْنَ دِرْهَمٍ وَغَيْلَانَ الْقَدَرِيَّ وَغَيْرَهُمْ.

وَلَو قُدّرَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ، أَو لَا يُمْكِنُ عُقُوبَتُهُ: فَلَا بُدَّ مِن بَيَانِ بِدْعَتِهِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْهَا

(1)

؛ فَإِنَّ هَذَا مِن جُمْلَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَن الْمُنْكَرِ الَّذِي أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ.

والْبدْعَةُ الَّتِي يُعَدُّ بِهَا الرَّجُلُ مِن أَهْلِ الْأَهْوَاءِ: مَا اشْتَهَرَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ مُخَالَفَتُهَا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ كَبِدْعَةِ الْخَوَارجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ.

فَإِنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ الْمُبَارَكِ وُيوسُفَ بْنَ أَسْبَاطٍ وَغَيْرَهُمَا قَالُوا: أُصُولُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً هِيَ أَرْبَعٌ: الْخَوَارجُ وَالرَّوَافِضُ وَالْقَدَرِّيَةُ وَالْمُرْجِئَةُ.

قِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ: فالْجَهْمِيَّة؟ قَالَ: لَيْسَت الْجَهْمِيَّة مِن أُمَّةِ محَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

والْجَهْمِيَّة: نفاة الصِّفَاتِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ، وَإِنَّ اللهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يُعْرَجْ بِهِ إلَى اللهِ، وَإِنَّ اللهَ لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ وَلَا حَيَاةَ وَنَحْو ذَلِكَ، كَمَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ والمتفلسفة وَمَن اتَّبَعَهُمْ.

وَقَد قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيّ: هُمَا صِنْفَانِ فَاحْذَرْهُمَا: الْجَهْمِيَّة وَالرَّافِضَةُ.

(1)

لكن بشرط أن تثبت شرعًا أنها بدعة، وسوف يبين الشيخ ما هي البدعة التي يجب التحذير منها ومن الداعي لها.

ص: 311

فَهَذَانِ الصِّنْفَانِ: شِرَارُ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَمِنْهُم دَخَلَت الْقَرَامِطَةُ الْبَاطِنِيَّةُ؛ كالْنُّصَيْرِيَّة والْإِسْمَاعِيلِيَّة، وَمِنْهُم اتَّصَلَت الِاتّحَادِيَّةُ؛ فَإِنَّهُم مِن جِنْسِ الطَّائِفَةِ الْفِرْعَوْنِيَّةِ.

والرَّافِضَةُ فِي هَذ الْأَزْمَانِ مَعَ الرَّفْضِ جهمية قَدَرِيَّةٌ؛ فَإِنَّهُم ضَمُّوا إلَى الرَّفْضِ مَذْهَبَ الْمُعْتَزِلَةِ، ثُمَّ قَد يَخْرُجُونَ إلَى مَذْهَبِ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَنَحْوٍ مِن أَهْلِ الزَّنْدَقَةِ وَالِاتِّحَادِ. [35/ 412 - 415]

5114 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَن شُهُودٍ شَهِدُوا بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ

(1)

وَلَمَّا شَخَصَ

(2)

قَالُوا: غَلِطْنَا وَرَجَعُوا، فَهَل يُقْبَلُ رُجُوعُهُمْ؟

فَأَجَابَ: نَعَمْ، إذَا رَجَعَ عَن شَهَادَتِهِ قَبْلَ الْحُكْمِ بِهَا لَمْ يُحْكَمْ بِهَا، وَإِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ قَد غَلِطَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ، وَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي دِينِهِ وَلَا عَدَالَتِهِ. [35/ 415]

5115 -

قول من قال: لا تجوز شهادة أهل الذمة على المسلمين بحال: ليس معهم بذلك نص ولا قياس، ولكن كثير من الناس يغلطون، لأنهم يجعلون الخاص من الشارع عامًّا، والله أمر بإشهاد المسلمين على المسلمين إذا أمكن، فظن من ظن أن هذا يقتضي أن لا يشهد غيرهم ولو لم يوجد مسلم.

وباب الشهادات مبناها على الفرق بين حال القدرة وحال العجز؛ ولهذا قُبِلَتْ

(3)

شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال، وقد نص أحمد على شهادتين في الجواح وغيرها إذا اجتمعن ولم يكن عندهن رجال، مثل اجتماعهن في الحمامات والأعراس ونحو ذلك.

وهذا هو الصواب؛ فإنه لا نص ولا إجماع ولا قياس يمنع شهادة النساء

(1)

على المشهود عليه.

(2)

أي: مَثُل أمامهم ورأوه.

(3)

في الأصل: (قُبِلَ) والتصويب من جامع المسائل (2/ 247).

ص: 312

في مثل ذلك، وليس في الكتاب والسّنَّة ما يمنع

(1)

شهادة النساء في العقوبات مطلقًا. [المستدرك 5/ 166]

* * *

(بَابُ الْقِسمَةُ)

5116 -

ما لا يمكن قسمة عينه إذا طلب أحد الشركاء بيعه وقسم ثمنه: بيع وقسم ثمنه. [المستدرك 5/ 183]

5117 -

لو طلب أحد الشريكين الإجارة: أُجبر الآخر عليها، ذكره الأصحاب ولو في الوقف، ولو طلب أحدهم العلو لم يجب؛ بل يكرى عليهما على مذهب جماهير العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد.

وإذا أوجبنا على الشريك أن يؤاجر مع صاحبه فأجر أحد الشريكين العين المؤجرة، بدون إذن شريكه مدة: فينبغي أن يستحق أكثر الأمرين من أجرة المثل والأجرة المسماة؛ لأن الأجرة المسماة إذا كانت أكثر فالمستأجر رضي أن ينتفع بها.

وعلى قياس ذلك: كل من اكترى مال غيره بغير إذنه. [المستدرك 5/ 184]

5118 -

ليس لأحدهما أن يفسخ حتى ينقضي الدور ويستوفي كل منهما حقه منه.

ولو استوفى أحدهما نوبته ثم تلفت المنافع في مدة الإجارة: فإنه يرجع على الأول ببدل حصته من تلك المدة التي استوفاها ما لم يكن قد رضي بمنفعته في الزمن المتأخر على أي حال كان، جعلًا للتالف قبل القبض؛ كالتالف في الإجارة. [المستدرك 5/ 184 - 185]

5119 -

إذا طلب أحد الشركاء القسمة فيما ينقسم: لزم الحاكم إجابته، ولو لم يثبت عنده ملكه كبيع المرهون والجاني. [المستدرك 5/ 185]

(1)

في الأصل: (منع)، والتصويب من جامع المسائل (2/ 227).

ص: 313

5120 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَن رَجُلَيْنِ بَيْنَهُمَا دَارٌ مُشْتَرَكَةٌ، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ فَامْتَنَعَ شَرِيكُهُ مِن الْمُقَاسَمَةِ، فَهَل يُجْبَرُ عَلَى الْقِسْمَةِ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ: إنْ كَانَت تَقْبَل الْقِسْمَةَ مِن غَيْرِ ضَرَرٍ، بِحَيْثُ لَا تَنْقُصُ فِي الْبَيْعِ: أُجْبِرَ الْمُمْتَنِعُ عَلَى الْقِسْمَةِ، وَإِلَّا كَانَ لِطَالِب الْقِسْمَةِ أَنْ يَطْلُبَ الْبَيْعَ.

قَد يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ وَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا الثَّمَنُ.

وَالْإِجْبَارُ عَلَى الْقِسْمَةِ الْمَذْكُورَةِ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ.

وَالْإِجْبَارُ عَلَى الْبَيْعِ الْمَذْكُورِ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْإِمَامِ أَحْمَد. [35/ 416]

5121 -

إذَا طَلَبَ الشَّرِيكُ أَنْ يُؤَجِّرُوا الْعَيْنَ، وَيُقسِّمُوا الْأُجْرَةَ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ، أَو يهايئوه

(1)

فَيَقْتَسِمُوا الْمَنْفَعَةَ: وَجَبَ عَلَى الشُّرَكَاءِ أَنْ يُجِيبُوهُ إلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ.

فَإِنْ أَجَابُوهُ إلَى الْمُهَايَأةِ وَطَلَبُوا تَطْوِيلَ الدَّوْرِ الَّذِي يَأخُذُ فِيهِ نَصِيبَهُ وَطَلَبَ هُوَ تَقْصِيرَ الدَّوْرِ: وَجَبَتْ إجَابَتُهُ دُونَهُمْ؛ فَإِنَّ الْمُهَايَأَةَ بِالزَّمَانِ فِيهَا تَأخِيرُ حُقُوقِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ عَن بَعْضٍ، فَكُلَّمَا كَانَ الِاسْتِيفَاءُ أَقْرَبَ كَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ اسْتِيفَاءِ الشُّرَكَاءِ جَمِيعِهِمْ حُقُوقَهُمْ، وَالتَّأخِيرُ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ، فَكُلَّمَا قَلَّ زَمَنُ التَّأخّرِ كَانَ أَوْلَى. [35/ 418]

5122 -

أَمَّا قِسْمَةُ اللَّحْمِ بِالْقِيمَةِ: فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ فَإِنَّ الْقِسْمَةَ إفْرَازٌ بَيْنَ الْأَنْصِبَاءِ، لَيْسَتْ بَيْعًا عَلَى الصَّحِيحِ.

وَهَكَذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُقَاسِمُ أَهْلَ خَيْبَرَ خَرْصًا فَيَخْرُصُ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ مَا عَلَى النَّخْلِ فَيُقَسِّمُهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ.

وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الرُّطَبِ خَرْصًا.

(1)

هي قسمة المنافع.

وهو الاتفاق بين اثنين في تناوب منفعة معينة.

ص: 314

وَكَذَلِكَ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَنْحَرُونَ الْجُزُرَ ويُقَسِّمُونَهَا بَيْنَهُم بِلَا مِيزَانٍ، كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم. وَكَذَلِكَ جَمِيعُ هَذَا الْبَابِ، يَجُوزُ قِسْمَةُ التِّينِ وَالْعِنَبِ بِغَيْرِ كَيْلٍ وَلَا وَزْنٍ، وَتَجُوزُ قِسْمَةُ الرُّمَّانِ عَدَدًا، وَكَذَلِكَ الْبِطِّيخُ وَالْخِيَارُ.

هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَعْدُودَاتِ كلِّهَا أَنَّهَا تُقَسَّمُ بِالْقِيمَةِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْقِسْمَةُ بَيْعًا، لَكِنَّ تَعْدِيلَ الْأَجْزَاءِ مُعْتَبَرٌ فِيهِ الْخِبْرَةُ.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تُعَدَّلَ الْأَنْصَابُ بمَا

(1)

يُمْكِنُ: إمَّا مِن كَيْلٍ أَو وَزْنٍ إنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا بِالْخَرْصِ وَالتَّقْوِيمِ، لَيْسَ هَذَا مِثْل الْبَيْعِ؛ فَإِنَّ الْقِسْمَةَ جَائِزَةٌ فِي جَمِيعِ الْمَالِ، وَيجُوزُ قِسْمَةُ التَّمْرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ. [35/ 419]

* * *

(بَابُ الإقْرَارُ)

5123 -

التحقيق أن يقال: إن المخبر إن أخبر بما على نفسه فهو مقر، وإن أخبر بما على غيره لنفسه فهو مدّع، وإن أخبر بما على غيره لغيره، فإن كان مؤتمنًا عليه فهو مخبر، وإلا فهو شاهد؛ فالقاضي والوكيل والمكاتب والوصي والمأذون له كل هؤلاء ما أدّوه فهم مؤتمنون فيه، فإخبارهم بعد العزل ليس إقرارًا، وإنما هو خبر محض. [المستدرك 5/ 215]

5124 -

إن قال: أنا مقر، أو خذها، أو اتزنها، أو اقبضها، أو أحرزها، أو هي صحاح - فعلى وجهين:

أحدهما: يكون مقرًّا، واختاره الشيخ تقي الدين. [المستدرك 5/ 215]

5125 -

الشَّاهِدُ يَشْهَدُ بِمَا سَمِعَهُ مِن كَلَامِ الْمُقِرّ، وَالْإِقْرَارُ يَصِحُّ بِالْمَعْلُومِ وَالْمَجْهُولِ، وَالْمُتَمَيّزِ وَغَيْرِ الْمُتَمَيِّزِ.

(1)

في الأصل: (ما)، والتصويب من منسق الكتاب للموسوعة الشاملة أسامة بن الزهراء.

ص: 315

وَإِذَا قَامَتْ بَيّنَةٌ أُخْرَى بِتَعْيِينِ مَا دَخَلَ فِي اللَّفْظِ: جَازَ ذَلِكَ وَعُمِلَ بِمُوجِبِ شَهَادَتِهِمْ. [35/ 421]

5126 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَخَلَّفَتْ أَوْلَادًا .. وَأَنَّهَا أَقَرَّتْ فِي مَرَضِهَا الْمُتَّصِلِ بِالْمَوْتِ لِأَوْلَادِهَا الْأَشِقَّاءِ بِأَنَّ لَهُم فِي ذِمَّتِهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ.

فَأجَابَ: إذَا كَانَت كَاذِبَةً فِي هَذَا الْإِقْرَارِ فَهِىَ عَاصِيَة للهِ وَرَسُولِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.

وَأَمَّا إنْ كَانَت صَادِقَةً فَهِيَ مُحْسِنَة فِي ذَلِكَ مُطِيعَةٌ للهِ وَلرَسُولِهِ، وَمَن أَعَانَهَا عَلَى ذَلِكَ لِأَجْلِ اللهِ تَعَالَى.

وَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ: فَأكْثَرُ الْعُلَمَاءِ لَا يَقْبَلُونَ هَذَا الْإِقْرَارَ كَأبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ التُّهْمَةَ فِيهِ ظَاهِرَةٌ وَلِأَنّ حُقُوقَ الْوَرَثَةِ تَعَلَّقَتْ بِمَالِ الْمَيِّتِ بِالْمَرَضِ، فَصَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فِي حَقّهِمْ، لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَبَرّعَ لِأَحَدِهِمْ بِالْإِجْمَاعِ.

وَمِن الْعُلَمَاءِ مَن يَقْبَلُ الْإِقْرَارَ كَالشَّافِعِيِّ؛ بِنَاءً عَلَى حُسْنِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ، وَأَنَّهُ عِنْدَ الْمَوْتِ لَا يَكْذِبُ وَلَا يَظْلِمُ.

وَالْوَاجِبُ عَلَى مَن عَرَفَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ وَنَحْوِهَا أَنْ يُعَاوِنُوا عَلَى الْبِرّ وَالتَّقْوَى لَا يُعَاوِنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَينْبَغِي الْكَشْفُ عَن مِثْل هَذِهِ الْقَضِيَّةِ. [35/ 425 - 427]

5127 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلٍ مَاتَ وَخَلَّفَ رَجُلَيْنِ وَامْرَأَةً

(1)

، فَعَوَّضَا الْمَرْأَةَ مَا يَخُصُّهَا مِن مِيرَاثِ وَالِدِهَا، وَأَبْرَأَتْ إخْوَتَهَا الْبَرَاءَةَ الشَّرْعِيَّةَ بِالْعُدُولِ

(2)

عَمَّا بَقِيَ بِأيْدِيهِمْ مِن مُدَّةٍ تَزِيدُ عَلَى سِتّينَ سَنَة، وَهِيَ مُقِيمَةٌ مَعَهُم بِالنَّاحِيَةِ، وَلَمْ يَكُن لَهَا مَعَهُم تَعَلُّق بِطُولِ هَذِهِ الْمُدَّةِ.

(1)

أي: ترك ابنين وبنتًا.

(2)

أي: أحضرت رجالًا عدولًا فشهدوا بأنها أبرأتهم من أي حق لها.

ص: 316

فَلَمَّا توُفِّيَ إخْوَتُهَا وَتَحَقَّقَت الْمَرْأَةُ مَوْتَ الْعُدُولِ: أَنْكَرَت الْمَشْهُودَ عَلَيْهَا، وَادَّعَتْ عَلَى وَارِثِ إخْوَتِهَا [أنَّ]

(1)

مَا يَخُصُّهَا مِن مِيرَاثِ وَالِدِهَا بَاقٍ مَعَ إخْوَتِهَا، وَأَثْبَتَ لَهَا الْحَاكِمُ مَا ادَّعَتْهُ، وَقَامَت الْبَيِّنَةُ عَلَيْهَا بِالْبَرَاءَةِ بِطَرِيقِهَا، فَهَل يَنْدَفِعُ مَا أَثْبَتَ لَهَا الْحَاكِمُ؟

فَأجَابَ: إذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ شَرْعِيَّةٌ عَلَى إقْرَارِهَا بالْقَبْضِ وَالْإِبْرَاءِ الشَّرْعِيِّ: كَانَت دَعْوَى وَرَثَتِهَا

(2)

بَاطِلَةً

(3)

.

وَلَو أَقَامُوا

(4)

بَيِّنةً وَأَثْبَتُوا

(5)

ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ: كانت بَيِّنَةُ الْإِقْرَارِ بِالْقَبْضِ وَالْإِبْرَاءِ مُقَدَّمَةً؛ لِأَنَّ مَعَهَا مَزِيدَ عِلْمٍ.

اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَدَّعِيَ أَنَّهَا أَقَرَّتْ مُكْرَهَةً، أَو حَيَاءً، أَو أَقَرَّتْ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَمْ يُوجَد الْمُقَرُّ بِهِ، فَلَهَا تَحْلِيفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّ بَاطِنَ الْإِقْرَارِ كَظَاهِرِهِ، أَو أَنَهُم لَا يَعْلَمُونَ بِذَلِكَ الْإِقْرَارِ.

وَإِذَا كَانَ شُهُودُ الْإِبْرَاءِ قَد مَاتُوا وَخُطُوطُهُم مَعْرُوفَة: شَهِدَ بِذَلِكَ مَن يَعْرِفُ خُطُوطَهُمْ، وَحَكَمَ بِهِ مَن يَرَى مِن الْعُلَمَاءِ.

مَعَ أَنَّ دَعْوَاهَا بِحَقِّهَا بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ مِن غَيْرِ مَانِعٍ يَعُوقُ: لَا يُقْبَلُ فِي أَحَدِ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ. [35/ 427 - 428]

5128 -

إذَا أَقَرَّ [أي: الزوج] أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي بَيْتِهِ مِلْكٌ لِزَوْجَتِهِ إلَّا السِّلَاحَ وَالدَّوَابَّ وَآلَةَ الْخَيْلِ: كَانَ هَذَا إقْرَارًا صَحِيحًا يُعْمَلُ بِمُوجَبِهِ بِلَا خِلَافٍ، وإذَا كَانَ مُسْتَنَدُهُ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ أَنَّه ملَّك لِزَوْجَتِهِ تَمَلّكًا شَرْعِيًّا لَازِمًا كَانَ الْإِقْرَارُ صَحِيحًا بَاطِنًا وَظَاهِرًا. [35/ 429]

(1)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، ولكنَّ السياق يقتضيه.

(2)

والذي يظهر أن يُقال: دعواها؛ لأنها هي المدعية لا ورثتها.

(3)

الجواب ليس مطابقًا للسؤال من كل وجه، فجواب الشيخ على أن من أنكر المشهود عليه ورثة المرأة، التي هي أخت الرجلين، والسؤال صريح بأنّ الذي أنكر المرأة لا ورثتها.

(4)

والذي يظهر أن يُقال: أقامت.

(5)

والذي يظهر أن يُقال: أثبتت.

ص: 317

5129 -

لا يجوز تلقين الإقرار لمن لا يعلم أنه صادق فيه، ولا الشهادة عليه، إلا إذا علم أنه كاذب في ذلك؛ كالعقود المحرمة. [المستدرك 5/ 215]

5130 -

إذا خلف رجل مالًا بينه وبين آخر فأنكر الورثة حتى أبرأ وأخذوا منه بعض شيء: لم يصح إبراؤهم؛ لأنهم مكرهون، وكذلك إذا قال: ما لكم عندي، غير كذا فأبرؤه، ثم ظهر أن لهم عنده غير ما أقر لهم به فلا يصح إبراؤهم من الزائد الذي كتمه. [المستدرك 5/ 216]

5131 -

إذا كان الإنسان ببلد سلطان ظالم أو قطاع طريق ونحوهم من الظلمة، فخاف أن يؤخذ ماله، أو المال الذي يتركه لورثته، أو المال الذي بيده للناس، إما بحجة أنه ميت لا وارث له، أو بحجة أنه مال غائب، أو بلا حجة أصلًا: فيجوز له الإقرار بما يدفع عنه هذا الظلم ويحفظ هذا المال لصاحبه؛ مثل أن يقر لحاضر: أنه ابنه، أو يقر أن له عليه كذا وكذا، أو يقر أن المال الذي بيده لفلان، ويتأول في إقراره بأنه يعني بقوله:"ابني" كونه صغيرًا، أو بقوله:"أخي" أخوة الإسلام، وأن المال الذي بيده له؛ أي: لأنه قبضه لكوني قد وكلته في إيصاله إلى مستحقه، لكن يشترط أن يكون المقر له أمينًا.

والاحتياط أن يشهد على المقر له أيضًا: أن هذا الإقرار تلجئه، تفسيره كذا وكذا. [المستدرك 5/ 216]

5132 -

وإن أقر من عليه ولاء بنسب وارث لم يقبل إقراره إلا أن يصدقه مولاه، وخرج في المحرر وغيره يقبل إقراره، واختاره الشيخ تقي الدين. [المستدرك 5/ 217]

5133 -

إن أقر من شك في بلوغه وذكر أنه لم يبلغ فالقول قوله بلا يمين، قطع به في المغني والمحرر لعدم تكليفه.

ويتوجه أن يجب عليه اليمين، لأنه إن كان لم يبلغ لم يضره، وإن كان قد بلغ حجر عليه فأقر بالحق. [المستدرك 5/ 217]

ص: 318

5134 -

إذا أقر المريض مرض الموت المخوف لوارث: فيحتمل أن يجعل إقراره لوارث كالشهادة فترد في حق من ترد شهادته له كالأب، بخلاف من لا ترد.

ثم هذا هل يحلف المقر له معه كالشاهد؟ وهل تعتبر عدالة المقر؟ ثلاث احتمالات.

ويحتمل أن يفرق مطلقًا بين العدل وغيره؟ فإن العدل معه من الدين ما يمنعه من الكذب ويُحوجه إلى

(1)

براءة ذمته، بخلاف الفاجر.

ولو حلف المقر له مع هذا تأكد؛ فإن في قبول الإقرار مطلقًا فساد عظيم، كذلك في رده أيضًا. [المستدرك 5/ 218]

5135 -

لا تقبل الدعوى بما يناقض إقراره، إلا أن يذكر شبهة تجري بها العادة. [المستدرك 5/ 219]

5136 -

إذا أنكر زوجية امرأته قدام الحاكم فلما أبرأته الزوجة بعد ذلك اعترف بالزوجية وطلق على مائتي درهم: لم يبطل حقها؛ بل هو باق في ذمته لها أخذه منه. [المستدرك 5/ 219]

5137 -

إن الرجوع عن الدعوى مقبول، والرجوع عن الإقرار غير مقبول. [المستدرك 5/ 220]

5138 -

الإقرار الذي لم يتعلق به حق لله ولا حق لآدمي هو من باب الدعاوي فيصح الرجوع عنه. [المستدرك 5/ 220 - 221]

5139 -

من أقر بقبض ثمن أو غيره ثم أنكر وقال: ما قبضت، وسأل إحلاف خصمه: فله ذلك في أصح قولي العلماء. [المستدرك 5/ 221]

5140 -

لا يشترط في صحة الإقرار كون المُقَرّ به بيد المُقِرّ.

(1)

في الأصل: (ونحوه في)، والتصويب من الاختيارات (529).

ص: 319

5141 -

الإقرار قد يكون بمعنى الإنشاء؛ كقوله تعالى: {قَالُوا أَقْرَرْنَا} [آل عمران: 81] ولو أقر به وأراد إنشاء تمليكه صح. [المستدرك 5/ 221]

5142 -

إن قال: غصبت هذا المال من زيد لا بل من عمرو: لزمه دفعه إلى زيد ويغرم قيمته لعمرو .. وقيل: لا إقرار

(1)

مع استدراك متصل، واختاره الشيخ تقي الدين. [المستدرك 5/ 221]

5143 -

من أقر بملك ثم ادعى شراءه قبل إقراره: لا يقبل ما يناقض إقراره إلا مع شبهة معتادة. [المستدرك 5/ 222]

5144 -

لو قال الرجل: أنا لا أكذب فلانًا: لم يكن مصدقًا له؛ فالمتوجه أنه مجرد نفى للإنكار، إن لم ينضم إليه قرينة بأن يكون المدعَى مما يعلمه المطلوب، أو قد

(2)

ادعى عليه علمه، وإلا لم يكن إقرارًا. [المستدرك 5/ 222]

5145 -

الصواب في الإقرار المعلق بشرط: أنَّ نفس الإقرار لا يتعلق، وإنما يتعلق المقر به؛ لأن المقر به قد يكون معلقًا بسبب قد يوجبه، أو يوجب أداءه دليل يظهره. [المستدرك 5/ 223]

5146 -

إذا أقرَّ العامي بمضمون محض وادعى عدم العلم بدلالة اللفظ ومثله يجهله قبل منه على المذهب. [المستدرك 5/ 223]

5147 -

إذا أقرَّ لغيره بعين له فيها حق لا يثبت إلا برضا المالك؛ كالرهن والإجارة ولا بينة، قال الأصحاب: لم يقبل.

ويتوجه أن يكون القول قوله؛ لأن الإقرار ما تضمن ما يوجب تسليم العين أو المنفعة، فما أقر بما يوجب التسليم كما في قوله:"كان له علي ألف وقضيته"، ولأنا نجوز مثل هذا الاستثناء في الإنشاءات في البيع ونحوه فكذلك في الإقرارات. والقرآن يدل على ذلك في آية الدين، وكذا لو أقر بفعل فعله وادعى إذن المالك. [المستدرك 5/ 223]

(1)

في الأصل: (بإقرار)، والتصويب من الإنصاف (12/ 197).

(2)

في الأصل: (بالعطف)، والتصويب من الاختيارات (533).

ص: 320

5148 -

الاستثناء يمنع دخول المستثني في اللفظ، لا أنه يخرجه بعدما دخل في الأصح. [المستدرك 5/ 224]

5149 -

يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ ما دُونَ النِّصْفِ.

وَظَاهِرُ كَلَامِهِ في الْمُسْتَوْعِبِ أَنَّهُ كَالِاسْتِثْنَاءِ في الْيَمِينِ على ما تَقَدَّمَ في كِتَابِ الْأَيْمَانِ، وَذَكَرَهُ

(1)

الشَّيْخُ تَقِيُّ الدّينِ رحمه الله وقال: مِثْلُهُ كُلُّ صِلَةِ كَلَامٍ مُغَيِّرٍ له، وَاخْتَارَ أَنَّ الْمُتَقَارِبَ مُتَوَاصِلٌ

(2)

. [المستدرك 5/ 224 - 225]

5150 -

إِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ وَهَبَ أو رَهَنَ وَأَقْبَضَ، أو أَقَرَّ بِقَبْضِ ثَمَنٍ أو غَيْرِهِ ثُمَّ أنْكَرَ، وقال: ما قَبَضْت وَلَا أَقْبَضْت وَسَأَلَ إحْلَافَ خَصْمِهِ: فَهَل يَلْزَمُهُ الْيَمِينُ على وَجْهَيْنِ .. إحْدَاهُمَا: يَلْزَمُهُ الْيَمِينُ.

وهو الْمَذْهَبُ .. وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رحمه الله. [الإنصاف 12/ 195]

5151 -

يعتبر في الكلام عرف المتكلم، فيحمل مطلق كلامه على أقل محتملاته. [المستدرك 5/ 226]

* * *

(الاشتقاق)

5152 -

قال ابن القيم رحمه الله: قلت يومًا لشيخنا أبي العباس ابن تيمية قدس الله روحه: قال ابن جنين: مكثت برهة إذ ورد علي لفظ آخذ معناه من نفس حروفه وصفاتها وجرسه وكيفية تركيبه، ثم أَكْشِفُه فإذا هو كما ظننته أو قريبًا منه، فقال لي رحمه الله: وهذا كثير ما يقع لي.

ثم ذكر لي فصلًا عظيم النفع في التناسب بين اللفظ والمعنى ومناسبة الحركات لمعنى اللفظ، وأنهم في الغالب يجعلون الضمة التي هي أقوى

(1)

في الأصل: (وَذَكَرَ)، والتصويب من الإنصاف (12/ 171).

(2)

وفي الاختيارات وفي كل صلة كلام معتبرة له للاستثناء وغير المتقارب فيها متواصل. اهـ. وما في الإنصاف أصح. (الجامع).

ص: 321

الحركات للمعنى الأقوى، والفتحة خفيفة للمعنى الخفيف، والمتوسطة للمتوسط، فيقولون:"عزَّ يعَزُّ" بفتح العين إذا صلب، "وأرض عزاز" صلبة، ويقولون:"عزَّ يعِزُّ" بكسرها إذا امتنع، والممتنع فوق الصلب، فقد يكون الشيء صلبًا ولا يمتنع على كاسره، ثم يقولون:"عزَّه يعُزُّه" إذا غلبه، قال الله تعالى في قصة داود:{وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)} [ص: 23]، والغلبة أقوى من الامتناع؛ إذ قد يكون الشيء ممتنعًا في نفسه، متحصنًا عن عدوه، ولا يغلب غيره؛ فالغالب أقوى من الممتنع فأعطوه أقوى الحركات، والصلب أضعف من الممتنع فأعطوه أقوى الحركات، والصلب أضعف من الممتنع فأعطوه أضعف الحركات، والممتنع المتوسط بين المرتبتين فأعطوه حركة الوسط. [المستدرك 5/ 227 - 228]

* * *

(علم النفس)

5153 -

قال ابن القيم رحمه الله في أقسام النفوس وطبائعها وانقسام الناس بالنسبة إليها، وسألت يومًا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذه المسألة وقطع الآفات والأشغال بتنقية الطريق وبتنظيفها.

فقال لي جملة كلامه: النفس مثل الباطوس -وهو جبُّ القَذَر-

(1)

كلما نبشته ظهر وخرج، ولكن إن أمكنك أن تسقف عليه وتعبره وتجوزه فافعل، ولا تشتغل بنبشه، فإنك لن تصل إلى قراره، وكلما نبشت شيئًا ظهر غيره.

فقلت: سألت عن هذه المسألة بعض الشيوخ، فقال لي: مثل آفات النفس مثل الحيات والعقارب التي في طريق المسافر، فإن أقبل على تفتيش الطريق عنها والاشتغال بقتلها انقطع ولم يمكنه السير قط ولكن لتكن همتك المسير والإعراض عنها وعدم الالتفات إليها، فإذا عرض لك فيها ما يعوقك عن المسير فاقتله ثم امض على سيرك.

(1)

أي: المكان في الأرض تُرمى فيها فضلات الناس.

ص: 322

فاستحسن شيخ الإسلام ذلك جدًّا وأثنى على قائله. [المستدرك 5/ 228 - 229]

5154 -

قال ابن القيم رحمه الله بعد أن ذكر الخلاف في السمع والبصر: أيهما أشرف؟

قال شيخ الإسلام تقي الدين قدس الله روحه ونوَّر ضريحه: وفصل الخطاب: أن إدراك السمع أعم وأشمل، وإدراك البصر أتم وأكمل، فهذا له التمام والكمال، وذاك له العموم والشمول، فقد ترجح كل منهما بما اختص. [المستدرك 5/ 229]

5155 -

قال ابن القيم رحمه الله: سمعت رجلًا يقول لشيخنا: إذا خان الرجل في نقد الدراهم سلبه الله معرفة النقد، أو قال: نسيه، فقال الشيخ: هكذا من خان الله تعالى ورسوله في مسائل العلم. [المستدرك 5/ 229]

* * *

ص: 323

‌كِتَابُ قِتَالِ أَهلِ البَغْيِ إِلي نِهَايَةِ الإقرَارِ

(باب الخلافة والملك)

5156 -

أوجب النبي صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر فهو تنبيه على أنواع الاجتماع. [المستدرك 5/ 123]

5157 -

استماع كلام المبتدع للرد عليه من جنس الجهاد

(1)

. [المستدرك 5/ 124]

5158 -

هذه المحن والفتن إذا لم يطلبها المرء ولم يتعرض لها؛ بل ابتلي بها ابتداء: أعانه الله تعالى عليها بحسب حال ذلك العبد عنده؛ لأنه لم يكن منه في طلبها فعل ولا قصد، حتى يكون ذلك ذنبًا يعاقب عليه، ولا كان منه كبر واختيال مثل دعوى قوة أو ظن كفاية بنفسه حتى يخذل بترك توكله ويوكل إلى نفسه؛ فإن العبد يُؤتَى من ترك ما أمر به

(2)

. [المستدرك 5/ 124]

5159 -

المبتلى من غير تعرض

(3)

: قد يفرط بترك المأمور وفعل المحظور، حتى يخذل ولا يعان، فيؤتى من ذنوبه، لا من نفس ما ابتلي به، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران: 155].

فأما المؤمنون الذين لم يكن منهم تفريط ولا عدوان: فإذا ابتلوا أُعينوا.

وقد تبيَّن أن التعرض للفتن بالإيجاب والتحريم بالعهود والنذور وطلب

(1)

يُشترط في المستمع للمبتدعة أن يكون عنده علم يرد به الشبهات.

(2)

فقد يكون عند الإنسان علم وعبادة، ولكن عنده كبر واحتقار لمن هم أقل منه علمًا أو عبادةً، فيُعاقبه الله بالانتكاسة أو نحوها.

(3)

للفتن.

ص: 324

الولاية وتمني لقاء العدو ونحو ذلك: هو من الذنوب. [المستدرك 5/ 125]

5160 -

لا يُعلم العدل والظلم إلا بالعلم، فصار الدين كله: العلم والعدل، وضد ذلك الظلم والجهل، قال الله تعالى:{وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} [الأحزاب: 72]. [المستدرك 5/ 125]

5161 -

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، قَالَ الْعُلَمَاءُ: الرَّدُّ إلَى اللهِ هُوَ الرَّدُّ إلَى كِتَابِهِ، وَالرَّدُّ إلَى الرَّسُولِ بَعْدَ مَوْتِهِ هُوَ الرَّدُّ إلَى سُنَّتِهِ. [المستدرك 35/ 6]

5162 -

قَالَ اللهُ تَعَالَى {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213] جَعَلَ اللهُ الْكِتَابَ الَّذِي أَنْزَلَهُ هُوَ الَّذِي يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. [35/ 6]

5163 -

فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ"

(1)

عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تناصحوا مَن وَلَّاهُ اللهُ أَمْرَكُمْ".

وَفِي "السُّنَنِ" مِن حَدِيثِ ابْنِ مَسْعودٍ رضي الله عنه وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ إلَى مَن لَمْ يَسْمَعْهُ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَن هُوَ أفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ، ثَلَاثٌ لَا يَغلُّ عَلَيْهنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إخْلَاصُ الْعَمَلِ للهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأُمُورِ، وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإنَّ دَعْوَتَهُم تُحِيطُ مِن وَرَائِهِمْ"

(2)

.

وَيغَلُّ: بِالْفَتْحِ هُوَ الْمَشْهُورُ، وَيُقَالُ: غَلَى صَدْرَهُ فَغَلَّ: إذَا كَانَ ذَا غِشِّ وَضَغَنٍ وَحِقْدٍ؛ أَيْ: قَلْبُ الْمُسْلِمِ لَا يَغلُّ عَلَى هَذِهِ الْخِصَالِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ

(1)

(1715).

(2)

رواه أبو داود (3660)، والترمذي (2656)، وابن ماجه (230)، والدارمي (235)، وأحمد (16738)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.

ص: 325

الثَّلَاثَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي قَوْلِهِ: "إنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تناصوا مَن وَلَّاهُ اللهُ أَمْرَكُمْ".

فَإِنَّ اللهَ إذَا كَانَ يَرْضَاهَا لنَا: لَمْ يَكُن قَلْبُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يُحِبُّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ يَغِلُّ عَلَيْهَا يُبْغِضُهَا وَيكْرَهُهَا، فَيَكُونُ فِي قَلْبِهِ عَلَيْهَا غِلٌّ؛ بَل يُحِبُّهَا قَلْبُ الْمُؤْمِنِ وَيَرْضَاهَا. [35/ 7 - 8]

5164 -

مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِن طَاعَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَمُنَاصَحَتِهِمْ وَاجِبٌ عَلَى الْإِنْسَانِ وَإِن لَمْ يُعَاهِدْهُم عَلَيْهِ، وَإِن لَمْ يَحْلِفْ لَهُم الْأَيْمَانَ الْمُؤَكَّدَةَ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالزَّكَاةُ وَالصّيَامُ وَحَجُّ الْبَيْتِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِن الطَّاعَةِ، فَإِذَا حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ تَوْكِيدًا وَتَثْبِيتًا لِمَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِن طَاعَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَمُنَاصَحَتِهِمْ. [35/ 9]

* * *

‌ولاة الأمور

5165 -

وُلَاةِ الْأُمُورِ فِينَا هُم خُلَفَاءُ الرَّسُولِ. [19/ 117]

5166 -

الْأُمَرَاءُ الَّذِينَ كَانُوا يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَن وَقْتِهَا وَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَن قِتَالِهِمْ: إِنْ قِيلَ: -وَهُوَ الصَّحِيحُ- إنَّهُم كَانُوا يُفَوِّتُونَهَا فَقَد أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْأُمَّةَ بِالصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ، وَقَالَ:"اجْعَلُوا صَلَاَتكُمْ مَعَهُم نَافِلَةً"، وَنَهَى عَن قِتَالِهِمْ كَمَا نَهَى عَن قِتَالِ الْأَئِمَّةِ إذا اسْتَأثَرُوا وَظَلَمُوا النَّاسَ حُقُوقَهُمْ، وَاعْتَدَوْا عَلَيْهِمْ، وَإِن كَانَ يَقَعُ مِن الْكَبَائِرِ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ مَا يَقَعُ.

وَمُؤَخِّرُهَا عَن وَقْتِهَا فَاسِقٌ، وَالْأَئِمَّة لَا يُقَاتَلُونَ بِمُجَرَّدِ الْفِسْقِ، وَإِن كَانَ الْوَاحِدُ الْمَقْدُورُ قَد يُقْتَلُ لِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْفِسْقِ؛ كَالزنا وَغَيْرِهِ.

فَلَيْسَ كُلُّ مَا جَازَ فِيهِ الْقَتْلُ جَازَ أَنْ يُقَاتَلَ الْأَئِمَّةُ لِفِعْلِهِمْ إيَّاهُ؛ إذ فَسَادُ الْقِتَالِ أَعْظَمُ مِن فَسَادِ كَبِيرَةٍ يَرْتَكِبُهَا وَليُّ الْأَمْرِ. [22/ 61]

ص: 326

5167 -

مِن الْعِلْمِ وَالْعَدْلِ الْمَأمُورِ بِهِ: الصَّبْرُ عَلَى ظُلْمِ الْأَئِمَّةِ وَجَوْرِهِمْ، كَمَا هُوَ مِن أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَكَمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ لَمَّا قَالَ: لا إنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أثَرَة فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلَقَّوْنِي عَلَى الْحَوْضِ"

(1)

، وَقَالَ:"مَن رَأَى مِن أَمِيرِهِ شيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ"

(2)

، إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ.

وَنُهُوْا عَن قِتَالِهِمْ مَا صَلَّوْا؛ وَذَلِكَ:

أ - لِأَنَّ مَعَهُم أَصْلُ الدِّينِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ تَوْحِيدُ اللهِ وَعِبَادَتُهُ.

ب - وَمَعَهُم حَسَنَاتٌ وَتَرْكُ سَيِّئَاتٍ كَثِيرَةٍ.

وَأَمَّا مَا يَقَعُ مِن ظُلْمِهِمْ وَجَوْرِهِمْ بِتَأوِيلٍ سَائِغٍ أَو غَيْرِ سَائِغٍ: فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُزَالَ؛ لِمَا فِيهِ مِن ظُلْمٍ وَجَوْرٍ كَمَا هُوَ عَادَةُ أَكْثَرِ النُّفُوسِ تُزِيلُ الشَّرَّ بِمَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، وَتُزِيلُ الْعُدْوَانَ بِمَا هُوَ أَعْدَى مِنْهُ.

فَالْخُرُوج عَلَيْهِم يُوجِبُ مِن الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ أَكْثَرَ مِن ظُلْمِهِمْ، فَيُصْبَرُ عَلَيْهِ كَمَا يُصْبَرُ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْمَعْوُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنْكَرِ عَلَى ظُلْمِ الْمَأمُورِ وَالْمَنْهِيِّ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ؛ كَقَوْلِهِ:{وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17].

وينْدَرجُ فِي ذَلِكَ وُلَاةُ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ عَلَيْهِم مِن الصَّبْرِ وَالْحِلْمِ مَا لَيْسَ عَلَى غَيْرِهِمْ، كَمَا أَنَّ عَلَيْهِم مِن الشَّجَاعَةِ وَالسَّمَاحَةِ مَا لَيْسَ عَلَى غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ الْإِمَارَةِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِذَلِكَ. [28/ 179 - 180]

5168 -

هَذِهِ رِسَالَةٌ

(3)

مُخْتَصَرَةٌ فِيهَا جَوَامِعُ مِن السِّيَاسَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْآيَاتِ النَبّوَيَّةِ لَا يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا الرَّاعِي وَالرَّعِيَّةُ.

(1)

رواه البخاري (3793)، ومسلم (1061).

(2)

رواه البخاري (7054)، ومسلم (1849).

(3)

قال ابن قاسم في الحاشية: تُسمى السياسة الشرعية، كتبها في ليلة لَمَّا سأله الإمام أن يُعلّق له شيئًا من أحكام الرعايا وما ينبغي للمتولي.

قلت: وتقع من (ص 244) إلى (ص 397)، من الجزء الثامن والعشرين.

ص: 327

وَهَذِهِ الرِّسَالَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى آيَتَيْنِ فِي كِتَابِ اللهِ؛ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} [النساء: 58، 59].

قَالَ الْعُلَمَاءُ: نَزَلَت الآيَةُ الْأُولَى فِي وُلَاةِ الْأُمُورِ، عَلَيْهِم أَنْ يُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمُوا بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ، وَنَزَلَتْ الثَّانِيَةُ فِي الرَّعِيَّةِ مِن الْجُيُوشِ وَغَيْرِهِمْ، عَلَيْهِم أَنْ يُطِيعُوا أُولي الْأَمْرِ الْفَاعِلِينَ لِذَلِكَ فِي قَسْمِهِمْ وَحُكْمِهِمْ وَمَغَازِيهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَأمُرُوا بِمَعْصِيَةِ اللهِ، فَإِذَا أَمَرُوا بِمَعْصِيَةِ اللهِ فَلَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، فَإِنْ تَنَازَعُوا فِي شَيءٍ رَدُّوهُ إلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.

وَإِذَا كَانَت الآيَةُ قَد أَوْجَبَتْ أَدَاءَ الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَالْحُكْمَ بِالْعَدْلِ: فَهَذَانِ جِمَاعُ السِّيَاسَةِ الْعَادِلَةِ وَالْوِلَايَةِ الصَّالِحَةِ.

أَمَّا أَدَاءُ الْأَمَانَاتِ فَفِيهِ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا الْوِلَايَاتُ: وَهُوَ كَانَ سَبَبَ نُزُولِ الآيَةِ، فَإِنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ وَتَسَلَّمَ مَفَاتِيحَ الْكَعْبَةِ مِن بَنِي شَيْبَةَ طَلَبَهَا مِنْهُ الْعَبَّاسُ لِيَجْمَعَ لَهُ بَيْنَ سِقَايَةِ الْحَاجِّ وَسِدَانَةِ الْبَيْتِ فَأنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ فَدَفَعَ مَفَاتِيحَ الْكَعْبَةِ إلَى بَنِي شَيْبَةَ.

فَيَجِبُ عَلَى وَليِّ الْأَمْرِ أَنْ يُوَلّيَ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ مِن أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ أَصْلَحَ مَن يَجِدُهُ لِذَلِكَ الْعَمَلِ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَن وَلِيَ مِن أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا فَوَلَّى رَجُلًا وَهُوَ يَجِدُ مَن هُوَ أَصْلَحُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْهُ فَقَد خَانَ اللهَ وَرَسُولَهُ".

فَيَجِبُ عَلَى كُلّ مَن وَلِيَ شَيْئًا مِن أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ .. أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِيمَا تَحْتَ يَدِهِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ أَصْلَحَ مَن يَقْدِرُ عَلَيْهِ. [28/ 244 - 247]

ص: 328

5169 -

يَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ الْأَصْلَحَ فِي كُل مَنْصِبٍ؛ فَإنَّ الْوِلَايَةَ لَهَا رُكْنَانِ: الْقُوَّةُ وَالْأَمَانَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)} [القصص: 26].

وَالْقُوَّةُ فِي كُلّ وِلَايَةٍ بِحَسْبِهَا؛ فَالْقوَّةُ فِي إمَارَةِ الْحَرْبِ تَرْجِعُ إلَى شَجَاعَةِ الْقَلْبِ وَإِلَى الْخِبْرَةِ بِالْحُرُوبِ وَالْمُخَادَعَةِ فِيهَا؛ فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ، وإلَى الْقُدْرَةِ عَلَى أَنْوَاعِ الْقِتَالِ: مِن رَمْىٍ وَطَعْنٍ وَضَرْبٍ وَرُكُوبٍ وَكَرٍّ وَفَرٍّ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَالْقُوَّةُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ تَرْجِعُ إلَى الْعِلْمِ بِالْعَدْلِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِلَى الْقُدْرَةِ عَلَى تَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ.

وَالْأَمَانَةُ تَرْجِعُ إلَى خَشْيَةِ اللهِ، وَأَلَّا يَشْتَرِيَ بِآيَاتِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، وَتَرْكِ خَشْيَة النَّاسِ، وَهَذِهِ الْخِصَالُ الثَّلَاثُ الَّتِي أَخَذَهَا اللهُ عَلَى كُلِّ مَن حَكَمَ عَلَى النَّاسِ فِي قَوْله تَعَالَى:{فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} [المائدة: 44]. [28/ 253 - 234]

5170 -

الْقَاضِي: اسْمٌ لِكُلِّ مَن قَضَى بَيْنَ اثْنَيْنِ وَحَكَمَ بَيْنَهُمَا، سَوَاءٌ كَانَ خَلِيفَةً أَو سُلْطَانًا أَو نَائِبًا أَو وَالِيًا، أَو كَانَ مَنْصُوبًا لِيَقْضِيَ بِالشَّرْعِ، أَو نَائِبًا لَهُ، حَتَّى مَن يَحْكُم بَيْنَ الصِّبْيَانِ فِي الْخطُوطِ إذَا تَخَايَرُوا، هَكَذَا ذَكَرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ ظَاهِرٌ. [28/ 234]

5171 -

إِذَا تَعَيَّنَ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ أَمَانَةً وَالْآخَرُ أَعْظَمُ قُوَّةً: قُدِّمَ أَنْفَعُهُمَا لِتِلْكَ الْوِلَايَةِ وَأَقَلُّهُمَا ضَرَرًا فِيهَا، فَيُقَدَّمُ فِي إمَارَةِ الْحُرُوبِ الرَّجُلُ الْقَوِيّ الشُّجَاعُ وَإِن كَانَ فِيهِ فُجُورٌ عَلَى الرَّجُلِ الضَّعِيفِ الْعَاجِزِ وَإِن كَانَ أَمِينًا.

وَلهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَعْمِلُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى الْحَرْبِ مُنْذُ أَسْلَمَ وَقَالَ: "إنَّ خَالِدَ سَيْف سَلَّهُ اللهُ عَلَى الْمُشْرِكينَ"

(1)

، مَعَ أَنَّهُ أَحْيَانًا قَد كَانَ يَعْمَلُ مَا يُنْكِرُهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

(1)

صحَّحه الألباني في صحيح الجامع (3207).

ص: 329

وَهَكَذَا أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه خَلِيفَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا زَالَ يَسْتَعْمِل خَالِدًا فِي حَرْب أَهْلِ الرِّدَّةِ وَفِي فُتُوحِ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ، وَبَدَتْ مِنْهُ هَفَوَاتٌ كَانَ لَهُ فِيهَا تَأوِيلٌ، وَقَد ذُكِرَ لَهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ فِيهَا هَوًى، فَلَمْ يَعْزِلْهُ مِن أَجْلِهَا بَل عَاتَبَهُ عَلَيْهَا؛ لِرُجْحَانِ الْمَصْلَحَةِ عَلَى الْمَفْسَدَةِ فِي بَقَائِهِ، وَأَنَّ غَيْرَهُ لَمْ يَكُن يَقُومُ مَقَامَهُ؛ لِأَنَّ الْمُتَوَلّيَ الْكَبِيرَ إذَا كَانَ خُلُقُهُ يَمِيلُ إلَى اللِّينِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خُلُقُ نَائِبِهِ يَمِيلُ إلَى الشِّدَّةِ، وَإِذَا كَانَ خُلُقُهُ يَمِيلُ إلَى الشِّدَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خُلُقُ نَائِبِهِ يَمِيلُ إلَى اللِّينِ؛ لِيَعْتَدِلَ الْأَمْرُ.

وَلهَذَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصدِّيق رضي الله عنه يُؤثِرُ اسْتِنَابَةَ خَالِدٍ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يُؤْثِرُ عَزْلَ خَالِدٍ وَاسْتِنَابَةَ أَبِي عُبَيْد بْنِ الْجَرَّاحِ رضي الله عنه؛ لِأَنَّ خَالِدًا كَانَ شَدِيدًا كَعُمَر بْنِ الْخَطَّابِ، وَأَبَا عُبَيْدَةَ كَانَ لَيِّنًا كَأَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ الْأَصْلَحُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يُوَلِّيَ مَن وَلَّاهُ؛ لِيَكُونَ أَمْرُهُ مُعْتَدِلًا.

وَإِذَا كَانَت الْحَاجَةُ فِي الْوِلَايَةِ إلَى الْأَمَانَةِ أَشَدَّ قُدِّمَ الْأَمِينُ: مِثْلُ حِفْظِ الْأَمْوَالِ وَنَحْوِهَا. [28/ 254 - 258]

5172 -

يَجُوزُ تَوْلِيَةُ غَيْرِ الْأَهْلِ لِلضَّرُورَةِ إذَا كَانَ أَصْلَحَ الْمَوْجُودِ، فَيَجِبُ مَعَ ذَلِكَ السَّعْيُ فِي إصْلَاحِ الْأَحْوَالِ حَتى يَكْمُل فِي النَّاسِ مَا لَا بُدَّ لَهُم مِنْهُ مِن أمُورِ الْوِلَايَاتِ وَالْإِمَارَاتِ وَنَحْوِهَا. [28/ 259]

5173 -

الْمَقْصُودُ الْوَاجِبُ بِالْوِلَايَاتِ:

أ - إصْلَاحُ دِينِ الْخَلْقِ الَّذِي مَتَى فَاتَهُم خَسِرُوا خُسْرَانًا مُبِينًا وَلَمْ يَنْفَعْهُم مَا نَعِمُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا.

ب - وَإِصْلَاحُ مَا لَا يَقُومُ الدِّينُ إلَّا بِهِ مِن أَمْرِ دُنْيَاهُمْ، وَهُوَ نَوْعَانِ:

أ - قَسْمُ الْمَالِ بَيْنَ مُسْتَحِقِّيهِ.

ب - وَعُقُوبَاتُ الْمُعْتَدِينَ.

فَمَن لَمْ يَعْتَدِ أَصْلَحَ لَهُ دِينَهُ وَدُنْيَاهُ.

ص: 330

فَالْمَقْصُودُ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ، وَأَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا.

وَكَلِمَةُ اللهِ: اسْمٌ جَامِعٌ لِكَلِمَاتِهِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا كِتَابُهُ. [28/ 262 - 263]

5174 -

لَيْسَ لِلرَّعِيَّةِ أَنْ يَطْلُبُوا مِن وُلَاةِ الْأَمْوَالِ مَا لَا يَسْتَحِقُّونَهُ، فَيَكُونُونَ مِن جِنْسِ مَن قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)} [التوبة: 58].

وَلَا لَهُم أَنْ يَمْنَعُوا السُّلْطَانَ مَا يَجِبُ دَفْعُهُ إلَيْهِ مِن الْحُقُوقِ وَإِن كَانَ ظَالِمًا؛ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا ذُكِرَ جَوْرُ الْوُلَاةِ فَقَالَ: "أَدُّوا إلَيْهِم الَّذِي لَهُم؛ فَإنَّ اللهَ سَائِلُهُم عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ"

(1)

.

وَلَيْسَ لِوُلَاةِ الْأمُورِ أَنْ يَقْسِمُوهَا بِحَسَبِ أَهْوَائِهِمْ كَمَا يَقْسِمُ الْمَالِكُ مِلْكَهُ؛ فَإِنَّمَا هُم أُمَنَاءُ وَنُوَّابٌ وَوُكَلَاءُ، لَيْسُوا مُلَّاكًا؛ كَمَا قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"إنِّي - وَاللهِ- لَا أُعْطِي أَحَدًا وَلَا أَمْنَعُ أَحَدًا؛ وَإِنَّمَا أنا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْت". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

فَهَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَد أَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمَنْعُ وَالْعَطَاءُ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الْمَالِكُ الَّذِي أُبِيحَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ، وَكَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الْمُلُوكُ الَّذِينَ يُعْطُونَ مَن أَحَبُّوا وَيمْنَعُونَ مَن أَبْغَضُوا، وَإِنَّمَا هُوَ عَبْدُ اللهِ، يَقْسِمُ الْمَالَ بِأَمْرِهِ، فَيَضَعُهُ حَيْثُ أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى. [28/ 266 - 268]

5175 -

مَتَى اهْتَمَّتِ الْوُلَاةُ بِإِصْلَاحِ دِينِ النَّاسِ: صَلُحَ لِلطَّائِفَتَيْنِ فىِ دِينُهُم وَدُنْيَاهُمْ، وَإِلَّا اضْطَرَبَت الْأُمُورُ عَلَيْهِمْ.

وَمِلَاكُ ذَلِكَ كُلِّهِ: صَلَاحُ النّيَّةِ لِلرَّعِيَّةِ، وإخْلَاصُ الدِّينِ كُلِّهِ للهِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْإِخْلَاصَ وَالتَّوَكُّلَ جِمَاعُ صَلَاحِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، كَمَا أَمَرَنَا أَنْ نَقُولَ فِي صَلَاتِنَا:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5].

(1)

رواه البخاري (3455)، ومسلم (1842) بلفظ:"فوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم؛ فإن الله سائلهم عما استرعاهم".

ص: 331

وَأَعْظَمُ عَوْنٍ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ خَاصَّة وَلغَيْرِهِ عَامَّةً ثَلَاثَةُ أُمُورٍ:

أَحَدُهَا: الْإِخْلَاصُ للهِ وَالتوَكُّلُ عَلَيْهِ بِالدُّعَاءِ وَغَيْرِهِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الصَّلَوَاتِ بِالْقَلْبِ وَالْبَدَنِ.

الثَّانِي: الْإِحْسَانُ إلَى الْخَلْقِ بِالنَّفْعِ وَالْمَالِ الَّذِي هُوَ الزَّكَاةُ.

الثَّالِثُ: الصَّبْرُ عَلَى أَذَى الْخَلْقِ وَغَيْرِهِ مِن النَّوَائِبِ. [28/ 361]

5176 -

لَيْسَ حُسْنُ النِّيَّةِ بِالرَّعِيَّةِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِم: أَنْ يَفْعَلَ مَا يَهْوُونَهُ وَيتْرُكَ مَا يَكْرَهُونَهُ، فَقَد قَالَ اللهُ تَعَالَى:{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71].

وَإِنَّمَا الْإِحْسَانُ إلَيْهِم فِعْلُ مَا يَنْفَعُهُم فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَلَو كَرِهَهُ مَن كَرِهَهُ، لَكِنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرْفُقَ بِهِم فِيمَا يَكْرَهُونَهُ، فَفِي "الصَّحِيحَيْنِ"

(1)

عَن النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيءٍ إلا زَانَهُ وَلَا كَانَ الْعُنْفُ فِي شَيءٍ إلَّا شَانَهُ".

وَهَكَذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا أَتَاهُ طَالِبُ حَاجَةٍ لَمْ يَرُدَّهُ إلَّا بِهَا أَو بِمَيْسُور مِن الْقَوْلِ.

وإذَا حَكَمَ عَلَى شَخْصٍ فَإِنَّهُ قَد يَتَأذَّى، فَإِذَا طَيَّبَ نَفْسَهُ بِمَا يَصْلُحُ مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ كَانَ ذَلِكَ تَمَامَ السِّيَاسَةِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا يُعْطِيهِ الطَّبِيبُ لِلْمَرِيضِ مِنَ الطِّبِّ الَّذِي يُسوغُ الدَّوَاء الْكَرِيه، وَقَد قَالَ اللهُ لِمُوسَى عليه السلام لَمَّا أَرْسَلَهُ إلَى فِرْعَوْنَ-:{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)} [طه: 44].

وَهَذَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الرَّجُلُ فِي سِيَاسَةِ نَفْسِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَرَعِيَّتِهِ؛ فَإِنَّ النُّفُوسَ لَا تَقْبَلُ الْحَقَّ إلَّا بِمَا تَسْتَعِينُ بِهِ مِن حُظُوظِهَا الَّتِي هِيَ مُحْتَاجَةٌ إلَيْهَا، فَتَكُونُ تِلْكَ الْحُظُوظُ عِبَادَةً للهِ وَطَاعَةً لَهُ مَعَ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ. [28/ 364 - 366]

(1)

رواه البخاري (6030)، ومسلم (2594) واللفظ لمسلم.

ص: 332

5177 -

ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ: أَنَّ الْعَدَالَةَ هِيَ الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ، وَالْمُرُوءَةُ بِاسْتِعْمَالِ مَا يُجَمِّلُهُ وَيزينُهُ، وَتَجَنُّبِ مَا يُدَنِّسُهُ وَيَشِينُهُ. [28/ 368]

5178 -

لَا غِنَى لِوَلِيِّ الْأَمْرِ عَن الْمُشَاوَرَةِ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ بِهَا نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ تَعَالَى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)} [آل عمران: 159] .. فَغَيْرُهُ صلى الله عليه وسلم أَوْلَى بِالْمَشُورَةِ.

وَإِذَا اسْتَشَارَهُم فَإِنْ بَيَّنَ لَهُ بَعْضُهُم مَا يَجِبُ اتبَاعُهُ مِن كِتَابِ اللهِ أَو سُنَّةِ رَسُولِهِ أَو إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَعَلَيْهِ اتبَاعُ ذَلِكَ، وَلَا طَاعَةَ لِأَحَد فِي خِلَافِ ذَلِكَ وَإِن كَانَ عَظِيمًا فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا.

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].

وإن كَانَ أَمْرًا قَد تَنَازَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَخْرِجَ مِن كُل مِنْهُم رَأيَهُ وَوَجْهَ رَأيِهِ، فَأيُّ الْآرَاءِ كَانَ أَشْبَهَ بِكتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ عَمِلَ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} [النساء: 59].

وَأُولُو الْأَمْرِ صِنْفَانِ: الْأُمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ، وَهُم الَّذِينَ إذَا صَلَحُوا صَلَحَ النَاسُ.

فَعَلَى كُلّ مِنْهُمَا أَنْ يَتَحَرَّى بِمَا يَقُولُهُ وَيفْعَلُهُ طَاعَةَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتِّبَاعَ كِتَابِ اللهِ، وَمَتَى أَمْكَنَ فِي الْحَوَادِثِ الْمُشْكِلَةِ مَعْرِفَةُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَانَ هُوَ الْوَاجِبُ، وإن لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ لِضِيقِ الْوَقْتِ أَو عَجْزِ الطَّالِبِ أَو تَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ عِنْدَهُ أَو غَيْرِ ذَلِكَ: فَلَهُ أَنْ يُقَلِّدَ مَن يَرْتَضِي عِلْمَهُ وَدِينَهُ، هَذَا أَقْوَى الْأَقْوَالِ، وَقَد قِيلَ: لَيْسَ لَهُ التَّقْلِيدُ بِكلِّ حَالٍ، وَقِيلَ: لَهُ التَّقْلِيدُ بِكُلِّ حَالٍ. [28/ 386 - 388]

5179 -

يَجِبُ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ وِلَايَةَ أَمْرِ النَّاسِ مِن أَعْظَمِ وَاجِبَاتِ الدِّينِ؛ بَل

ص: 333

لَا قِيَامَ لِلدِّينِ وَلَا لِلدُّنْيَا إلَّا بِهَا، فَإِنَّ بَنِي آدَمَ لَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهُم إلَّا بِالِاجْتِمَاعِ لِحَاجَةِ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ، وَلَا بُدَّ لَهُم عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ مِن رَأسٍ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إذَا خَرَجَ ثَلَاَثةٌ في سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ"

(1)

.

وَلهَذَا كَانَ السَّلَفُ -كالْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمَا- يَقُولُونَ: لَو كَانَ لَنَا دَعْوَةٌ مُجَابَةٌ لَدَعَوْنَا بِهَا لِلسُّلْطَانِ. [28/ 390 - 391]

5180 -

إِن انْفَرَدَ السُّلْطَانُ عَن الدِّينِ، أَو الدِّينُ عَن السُّلْطَانِ: فَسَدَتْ أَحْوَالُ النَّاسِ

(2)

. [28/ 394]

5181 -

لَمَّا غَلَبَ عَلَى كَثِير مِن وُلَاةِ الْأُمُورِ إرَادَةُ الْمَالِ وَالشَّرَفِ، وَصَارُوا بِمَعْزِل عَن حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ فِي وِلَايَتِهِمْ: رَأَى كَثِيرٌ مِن النَّاسِ أَنَّ الْإِمَارَةَ تُنَافِي الْإِيمَانَ وَكَمَالَ الدِّينِ، ثمَّ مِنْهُم مَن غَلَّبَ الدِّينَ وَأَعْرَضَ عَمَّا لَا يَتِمُّ الدِّينُ إلَّا بِهِ مِن ذَلِكَ، وَمِنْهُم مَن رَأَى حَاجَتَهُ إلَى ذَلِكَ، فَأخَذَهُ مُعْرضًا عَن الدِّينِ؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ مُنَافٍ لِذَلِكَ، وَصَارَ الدِّينُ عِنْدَهُ فِي مَحَلّ الرَّحْمَةِ وَالذُّلِّ، لَا فِي مَحَل الْعُلُوّ وَالْعِزِّ.

وَكَذَلِكَ لَمَّا غَلَبَ عَلَى كَثِيرٍ مِن أَهْلِ الدِّينِ الْعَجْزُ عَن تَكْمِيلِ الدِّينِ وَالْجَزَعُ لِمَا قَد يُصِيبُهُم فِي إقَامَتِهِ مِن الْبَلَاءِ: اسْتَضْعَفَ طَرِيقَتَهُم وَاسْتَذَلَّهَا مَن رَأَى أَنَّهُ لَا تَقُومُ مَصْلَحَتُهُ وَمَصْلَحَةُ غَيْرِهِ بِهَا، وَهَاتَانِ السَّبِيلَانِ الْفَاسِدَتَانِ:

أ- سَبِيلُ مَن انْتَسَبَ إلَى الّدين وَلَمْ يُكَمِّلْهُ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنَ السُّلْطَانِ وَالْجِهَادِ وَالْمَالِ.

ب- وَسَبِيلُ مَن أَقْبَلَ عَلَى السُّلْطَانِ وَالْمَالِ وَالْحَرْبِ وَلَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ إقَامَةَ الدِّينِ. [28/ 394 - 395]

(1)

رواه أبو داود (2608)، وقال الألباني في صحيح أبي داود: حسن صحيح.

(2)

أي: إذا كان السلطان بمعزل عن الدين وعلماء الإسلام، وأقام حكمه على قوانين وضعية، أو كان العلماء بمعزل عن السلطان، ولا يأتونه للنصح والتوجيه: فسدت أحوال الناس.

ص: 334

5182 -

لَا تَجُوزُ مَعْصِيَةُ الْإِمَامِ بَرًّا كَانَ أَو فَاجِرًا، إلَّا أَنْ يَأمُرَهُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ، وَحُكْمُهُ أَو قَسْمُهُ إذَا وَافَقَ الْحَقَّ نَافِذٌ، بَرًّا كَانَ أَو فَاجِرًا. [28/ 587]

5183 -

إِنَّ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ مِن أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبِعَةِ .. وَغَيْرِهِمْ مِن الْأَئِمَّةِ .. وَمَن قَبْلَهُم مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَو هَدَمَ كُلَّ كَنِيسَةٍ بِأَرْضِ الْعَنْوَةِ؛ كَأَرْضِ مِصْرَ وَالسَّوَادِ بِالْعِرَاقِ وَبَرِّ الشَّامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، مُجْتَهِدًا فِي ذَلِكَ، وَمُتَّبِعًا فِي ذَلِكَ لِمَن يَرَى ذَلِكَ: لَمْ يَكُن ذَلِكَ ظُلْمًا مِنْهُ؛ بَل تَجِبُ طَاعَتُهُ فِي ذَلِكَ وَمُسَاعَدَتُهُ فِي ذَلِكَ مِمَن يَرَى ذَلِكَ، وإِن امْتَنَعُوا عَن حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ لَهُم كَانُوا نَاقِضِينَ الْعَهْدَ، وَحَلَّتْ بِذَلِكَ دِمَاؤُهُم وَأَمْوَالُهُمْ. [28/ 634]

5184 -

لَا يُشِيرُ عَلَى وَليِّ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ بِمَا فِيهِ إظْهَارُ شَعَائِرِهِمْ

(1)

فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، أَو تَقْوِيَةُ أَمْرِهِمْ -بِوَجْه مِن الْوُجُوهِ- إلَّا:

أ - رَجُلٌ مُنَافِقٌ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَهُوَ مِنْهُم فِي الْبَاطِنِ.

ب - أَو رَجُلٌ لَهُ غَرَضٌ فَاسِدٌ؛ مِثْل أَنْ يَكُونُوا بَرْطَلُوهُ

(2)

وَدَخَلُوا عَلَيْهِ بِرَغْبَةٍ أَو رَهْبَةٍ.

ج - أَو رَجُلٌ جَاهِلٌ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ لَا يَعْرِفُ السِّيَاسَةَ الشَّرْعِيَّةَ الْإِلَهِيَّةَ الَّتِي تَنْصُرُ سُلْطَانَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَعْدَائِهِ وَأَعْدَاءِ الدِّينِ

(3)

. [28/ 642]

5185 -

يَقُولُ تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42] حُكَّامُ السُّوءِ يَقْبَلُونَ الْكَذِبَ مِمَن لَا يَجُوزُ قَبُولُ قَوْلِهِ مِن مُخْبِرٍ أَو شَاهِدٍ،

(1)

أي: النصارى وغيرهم من الكفار.

(2)

أي: رشوه، والبِرْطِيلَ؛ أي: الرِّشْوةَ، وبَرْطَلَ فُلانًا: إِذا رَشاه، فَتَبَرْطَلَ؛ أي: فارْتَشَى، وَكَذَلِكَ بُرْطِلَ: إِذا رُشِيَ. يُنظر النهاية في غريب الحديث: مادة برطل.

(3)

ولهذا رأينا في هذه الأزمان دولًا إسلامية سمحت ببناء كنائس النصارى، وأخرى ببناء معابد الرافضة، في بلاد لا يدين أهلُها إلا بدين الإسلام الصحيح السنيّ، وهذا لا يجوز.

ص: 335

وَيَأكُلُونَ السُّحْتَ مِن الرِّشَا وَغَيْرِهَا، وَمَا أَكْثَرُ مَا يَقْتَرِنُ هذان. [25/ 131]

5186 -

كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيز رضي الله عنه -وَهُوَ خَلِيفَةُ اللهِ عَلَى الْأَرْضِ -قَد وَكَّلَ أَعْوَانًا يَمْنَعُونَ الدَّاخِلَ مِن تَقْبِيلِ الْأَرْضِ ويُؤَدِّبُهُم إذَا قَبَّلَ أَحَد الْأَرْضَ. [27/ 93]

5187 -

الْأُمُورُ الْمُتَعَلّقَةُ بِالْإِمَامِ مُتَعَلِّقَة بِنُوَّابِهِ -أي: الإمام- فَمَا كَانَ إلَى الْحُكامِ فَأمْرُ الْحَاكِمِ الَّذِي هُوَ نَائِبُ الْإِمَامِ فِيهِ كَأمْرِ الْإِمَامِ؛ مِثْل تَزْوِيجِ الْأَيَامَى، وَالنَّظَرِ فِي الْوُقُوفِ وَإِجْرَائِهَا عَلَى شُرُوطِ وَاقِفِيهَا، وَعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ وَوُقُوفِهَا، حَيْثُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ فِعْلُ ذَلِكَ، فَمَا جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ جَازَ لِنَائِبِهِ فِيهِ.

وَإِذَا كَانَت الْمَسْأَلَةُ مِن مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي شَاعَ فِيهَا النّزَاعُ: لَمْ يَكُن لِأَحَدٍ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى الْإِمَامِ وَلَا عَلَى نَائِبِهِ مِن حَاكِمٍ وَغَيْرِهِ، وَلَا يَنْقُضَ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ وَنُوَّابُهُ مِن ذَلِكَ. [30/ 407]

5188 -

يَجُوزُ تَسْمِيَةُ مَن بَعْدَ الْخلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ: خُلَفَاءَ، وإن كَانُوا مُلُوكًا وَلَمْ يَكُونُوا خُلَفَاءَ الْأَنْبِيَاءِ، بِدَلِيلِ مَا رَوَاة الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي "صَحِيحَيْهِمَا"

(1)

عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كانَت بَنُو إسْرَائِيلَ يَسُوسُهُم الأنبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَتَكُونُ خُلَفَاءُ فَتَكْثُرُ، قَالُوا: فَمَا تَأمُرُنَا؟ قَالَ: فُوا بِبَيْعَةِ الْأوَّلِ فَالْأوَّلِ، ثُمَّ أَعْطُوهُم حَقَّهُمْ؛ فَإِنَّ اللهَ سَائِلُهُم عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ".

فَقَوْلُهُ: "فَتَكْثُرُ" دَلِيلٌ عَلَى مَن سِوَى الرَّاشِدِينَ فَإِنَّهُم لَمْ يَكُونُوا كَثِيرًا. [35/ 20]

* * *

(1)

البخاري (3455)، ومسلم (1842).

ص: 336

(ولاة الأمر يجب عليهم نصر الدين وإنكار المنكرات)

5189 -

وُلَاةُ الْأَمْرِ أَحَقُّ النَّاسِ بِنَصْرِ دِينِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَمَا جَاءَ بِهِ مِن الْهُدَى وَدِيقِ الْحَقِّ، وبِإِنْكَارِ مَا نَهَى عَنْهُ وَمَا نُسِبَ إلَيْهِ بِالْبَاطِلِ مِنَ الْكَذِبِ وَالْبِدَعِ؛ إمَّا جَهْلًا مِن نَاقِلِهِ وَإِمَّا عَمْدًا.

فَإِنَّ أَصْلَ الدّينِ هُوَ الْأمْرُ بالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَرَأسُ الْمَعْرُوفِ هُوَ التَّوْحِيدُ وَرَأسُ الْمُنْكَرِ هُوَ الشِّرْكُ.

فَمَن أَرَادَ أَنْ يَأمُرَ بِمَا نَهَى عَنْهُ، وَينْهَى عَمَّا أَمَرَ بِهِ، وَيُغَيِّرَ شَرِيعَتَهُ وَدِينَهُ إمَّا جَهْلًا وَقِلَّةَ عِلْمٍ إمَّا لِغَرَض وَهَوًى: كَانَ السّلْطَانُ أَحَقَّ بِمَنْعِهِ بِمَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَكَانَ هُوَ أَحَقَّ بِإِظْهَارِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ.

فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَا بُدَّ أَنْ يَنْصُرَ رَسُولَهُ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ، فَمَن كَانَ النَّصْرُ عَلَى يَدَيْهِ كَانَ لَهُ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِلَّا جَعَلَ اللهُ النَّصْرَ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ، وَجَازَى كلَّ قَوْمٍ بِعَمَلِهِمْ وَمَا رَبُّك بِظَلَّام لِلْعَبِيدِ.

وَاللهُ سُبْحَانَهُ قَد وَعَدَ أَنَّهُ لَا يَزَالُ هَذَا الدِّينُ ظَاهِرًا، وَلَا يَظْهَرُ إلَّا بِالْحَقِّ، وَأَنَّهُ مَن نَكَلَ عَنِ الْقِيَامِ بِالْحَقِّ استَبْدَلَ مَن يَقُومُ بِالْحَق فَقَالَ تَعَالَى:{إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)} [التوبة: 39].

وَقَد أَرَى اللهُ النَّاسَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَالآفَاقِ مَا عَلِمُوا بِهِ تَصْدِيقَ مَا أَخْبَرَ بِهِ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} [فصلت: 53]. [27/ 442 - 443]

* * *

ص: 337

(أهمية طاعة ولاة الأمر، والرد على من زعم أن ما يأخذه من الدولة إنما يأخذه بِمُجَرَّدِ الِاسْتِيلَاءِ)

5190 -

ثَبَتَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِن الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي يَأمُرُ فِيهَا بِطَاعَةِ وُلَاةِ الْأمُورِ مَعَ جَوْرِهِمْ مَا يُبَيِّنُ أَنَّهُم إذَا أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَجَبَتْ طَاعَتُهُم وَإِن كَانُوا ظَالِمِينَ، فَإذَا حَكمَ حُكمًا عَادِلَا وَقَسَمَ قَسْمَا عَادِلًا: كَانَ هَذَا مِن الْعَدْلِ الَّذِي تَجِبُ طَاعَتُهُم فِيهِ؛ فَالظَّالِمُ لَو قَسَمَ مِيرَاثًا بَيْنَ مُسْتَحِقِّيهِ بِكِتَابِ اللهِ كَانَ هَذَا عَدْلًا بِإجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.

فَأمَّا إذَا كَانَ فِي الْقِسْمَةِ ظُلْمٌ؛ مِثْل أَنْ يُعْطَى بَعْضُ النَّاسِ فَوْقَ مَا يَسْتَحِقُّ، وَبَعْضهُم دُونَ مَا يَسْتَحِق: فَهَذَا هُوَ الِاسْتِيثَارُ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قَالَ: "عَلَى الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِي عُسْرِهِ ويُسْرِهِ، وَمَنْشَطِهِ وَمَكرَهِهِ وَأثَرَةٍ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةِ"

(1)

.

وَمَعْلُومٌ أَن هَذَا مَا زَالَ فِي الْإِسْلَامِ مِن وُلَاةِ الْأمُورِ وَمَن دَخَلَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ

(2)

، وَإِنَّمَا يُسْتَثْنَى فِي الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَمَن اتَّبَعَهُمْ.

فَإذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ: فَالْمُعْطَى إذَا أُعْطِيَ قَدْرَ حَقِّهِ أو دُونَ حَقِّهِ: كَانَ لَهُ ذَلِكَ بِحُكْمِ قِسْمَةِ هَذَا الْقَاسِمِ، كَمَا لَو قَسَمَ الْمِيرَاثَ وَأَعْطَى بَعْضَ الْوَرَثَةِ حَقَّهُ، كَانَ ذَلِكَ بِحُكْمِ هَذَا الْقَاسِمِ، وَكَمَا لَو حَكَمَ لِمُسْتَحِقٍّ بِمَا اسْتَحَقَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأخُذَ ذَلِكَ بِمُوجَبِ هَذَا الْحُكْمِ.

وَلَيْسَ لِقَائِل أَنْ يَقُولَ: أَخَذَهُ بِمُجَرَّدِ الِالسْتِيلَاءِ كَمَا لَو لَمْ يَكُن حَاكِمٌ وَلَا قَاسِمٌ

(3)

، فَإنَّهُ عَلَى نُفُوذِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ تَبْطُلُ الْأَحْكَامُ وَالْأَعْطِيَةُ الَّتِي فَعَلَهَا وُلَاةُ الْأمُورِ جَمِيعُهُم -غَيْرُ الْخُلَفَاءِ-.

(1)

رواه مسلم (1839).

(2)

أي: أنهم يستأثرون بالأموال التي هي حقُّ للرعيّة، ويقتسمون كثيرًا منها بأهوائهم لا بالسويّة.

(3)

أي: أنه ما وصله من مال من ولي الأمر إنما أخَذَهُ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِيلَاءِ، فكأن الحاكم غاصبٌ =

ص: 338

وَحِينَئِذٍ: فَتَسْقُطُ طَاعَةُ وُلَاةِ الْأمُورِ؛ إذ لَا فَرْقَ بَيْنَ حُكمٍ وَقَسْمٍ وَبَيْنَ عَدَمِهِ!

وَفِي هَذَا الْقَوْلِ مِن الْفَسَادِ فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي لُبٍّ؛ فَإِنَّهُ لَو فُتحَ هَذَا الْبَاب أَفْضَى مِن الْفَسَادِ إلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِن ظُلْم الظَّالِم.

ثُمَّ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ يَظُنُّ أَنَّ مَا يَأخُذُهُ قَدْرُ حَقِّهِ، وَكُلُّ وَاحَدٍ إنَّمَاَ يَشْهَدُ اسْتِحْقَاقَ نَفْسِهِ دُونَ اسْتِحْقَاقِ بَقِيَّةِ النَّاسِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مِقْدَارَ الْأَمْوَالِ الْمُشْتَرَكَةِ.

وَهَل يجْعَلُ لَهُ مِنْهَا بِالْقِيمَةِ هَذَا أَو أَقَلُّ؟

وَالْإِنْسَانُ لَيْسَ لَهُ أنْ يَكُونَ حَاكِمًا لِنَفْسِهِ وَلَا شَاهِدًا لِنَفْسِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ قَاسِمًا لِنَفْسِهِ؟

وَالشَّرِيعَةُ جَاءَت بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا، وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا، وَرَجَّحَتْ خَيْرَ الْخَيْرَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا؟ وَهَذَا مِن فَوَائِدِ نَصْبِ وُلَاةِ الأُمُورِ، وَلَو كَانَ عَلَى مَا يَظُنُّهُ الْجَاهِلُ لَكَانَ وُجُودُ السُّلْطَانِ كَعَدَمِهِ، وَهذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ فَضْلًا عَن أَنْ يَقُولَهُ مُسْلِمٌ.

بَل قَد قَالَ الْعُقَلَاءُ: سِتّونَ سَنَةً مِن سُلْطَانٍ ظَالِمٍ خَيْرٌ مِن لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِلَا سُلْطَانٍ.

وَمَا أَحْسَنَ قَوْل عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُبَارَكِ:

لَوْلَا الْأَئِمَّةُ لَمْ يَأمَن لَنَا سُبُلُ

وَكَانَ أَضْعَفُنَا نَهْبًا لِأقْوَانَا [30/ 134 - 136]

* * *

= لأموال الدولة، فإذا وصله شيء من هذا المال فإنما يأخذه لا لأنه أخذ حقه، بل استولى عليه، ولو استطاع أن يسرق من مال الدولة مالًا لسرقه معتقدًا حلّه، وهذا منهج الخوارج.

ص: 339

(عدم الخروج على ولاة الأمور وغشِّهم)

5191 -

وَأَمَّا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْفَضْلِ فَلَا يُرَخّضونَ لِأَحَدٍ فِيمَا نَهَى اللهُ عَنْهُ مِن مَعْصِيَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَغِشِّهِمْ وَالْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ: بِوَجْهِ مِن الْوُجُوهِ كَمَا عُرِفَ مِن عَادَاتِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالدِّينِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا وَمِن سِيرَةِ غَيْرِهِمْ. [35/ 12]

5192 -

طَاعَةُ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاجِبَةٌ عَلَى كل أَحَدٍ، وَطَاعَةُ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَاجِبَةٌ لِأَمْرِ اللهِ بِطَاعَتِهِمْ، فَمَن أَطَاعَ اللهَ وَرَسُولَهُ بِطَاعَةِ وُلَاةِ الْأَمْرِ للهِ فَأجْرُهُ عَلَى اللهِ، وَمَن كَانَ لَا يُطِيعُهُم إلَّا لِمَا يَأخُذُهُ مِن الْوِلَايَةِ وَالْمَالِ فَإِنْ أعْطَوْهُ أَطَاعَهُمْ، وإن مَنَعُوهُ عَصَاهُمْ: فَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن خَلَاقٍ. [35/ 16 - 17]

* * *

(مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ: تَرْكُ الْخُرُوجِ بِالْقِتَالِ عَلَى الْمُلُوكِ الْبُغَاةِ)

5193 -

وَلهَذَا كَانَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ: تَرْكَ الْخُرُوجِ بِالْقِتَالِ عَلَى الْمُلُوكِ الْبُغَاةِ، وَالصَّبْرَ عَلَى ظُلْمِهِمْ، إلَى أَنْ يَسْتَرِيحَ بَرُّ أو يُسْتَرَاحُ مِن فَاجِرٍ.

وَقَد يَكُونُ هَذَا مِن أَسْرَارِ الْقُرْآنِ فِي كَوْنِهِ لَمْ يَأمُرْ بِالْقِتَالِ ابْتِدَاءً، وإنَّمَا أَمَرَ بِقِتَالِ الطَّائِفَة الْبَاغِيَةِ بَعْدَ اقْتِتَالِ الطَّائِفَتَيْنِ، وَأَمَرَ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمَا. [4/ 444]

* * *

‌(شرح حديث: "خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثُونَ سَنَةً

")

5194 -

قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ يُؤْتِي اللهُ مُلْكهُ -أَو الْمُلْكَ- مَن يَشَاءُ"

(1)

.. وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ عَن سَفِينَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ.

وَاسْتُدلَّ بِهِ عَلَى مَن تَوَقَّفَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ، مِن أَجْلِ افْتِرَاقِ النَّاسِ عَلَيْهِ؛

(1)

رواه أبو داود (4646)، والترمذي (2226)، وأحمد (21919)، وقال الألباني في صحيح أبي داود: حسن صحيح.

ص: 340

حَتَّى قَالَ أَحْمَد: مَن لَمْ يُرَبِّعْ بِعَلِيّ فِي الْخِلَافَةِ فَهُوَ أَضَلُّ مِن حِمَارِ أَهْلِهِ، وَنَهَى عَن مُنَاكَحَتِهِ.

وَهُوَ مُتَّفَق عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَعُلَمَاءِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصَوُّفِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْعَامَّةِ.

وَإِنَّمَا يُخَالِفُهُم فِي ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ.

وَوَفَاةُ النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَت فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ إحْدَى عَشْرَةَ مِن هِجْرَتِهِ، وَإِلَى عَامِ ثَلَاثِينَ سَنَةَ كَانَ إصْلَاحُ ابْنِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ السَّيِّدِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِن الْمُؤْمِنِينَ بِنُزُولِهِ عَن الْأَمْرِ عَامَ إحْدَى وَأَرْبَعِينَ فِي شَهْرِ جُمَادَى الْأُولَى، وَسُمّيَ "عَامَ الْجَمَاعَةِ"؛ لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ عَلَى مُعَاوَيةَ، وَهُوَ أَوَّلُ الْمُلُوكِ.

وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

: "سَتَكُونُ خِلَافَةُ نُبُوَّةٍ وَرَحْمَةٍ، ثُمَّ يَكُونُ مُلْكٌ وَرَحْمَةٌ، ثُمَّ يَكُونُ مُلْكٌ وَجَبْرِيَّةٌ، ثمَّ يَكُونُ مُلكٌ عَضُوضٌ".

وَالْغَرَضُ هُنَا بَيَانُ جِمَاعِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيئاتِ الْوَاقِعَةِ بَعْدَ خِلَافَةِ النُّبُوَّةِ فِي الْإِمَارَةَ وَفِي تَرْكِها؛ فَإنَّهُ مَقَامُ خَطَرٍ؛ وَذَلِكَ أنَّ خَبَرَهُ بِانْقِضَاءِ خِلَافَةِ النُّبُوَّةِ فِيهِ الذَّمُّ لِلْمَلِكِ وَالْعَيْبِ لَهُ.

* * *

‌(هل الخلافة واجبة؟ وحكم من لَا يَتَأَتَّى لَهُ فِعْلُ الْحَسَنَةِ الرَّاجحَةِ إلَّا بِسَيِّئَةٍ دُونَهَا فِي الْعِقَابِ

؟)

5195 -

هُنَا طَرَفَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَن يُوجِبُ ذَلِكَ [أي: الخلافة] فِي كُلِّ حَالٍ وَزَمَانٍ، وَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَيَذُمُّ مَن خَرَجَ عَن ذَلِكَ مُطْلَقًا أَو لِحَاجَة، كَمَا هُوَ حَالُ أَهْلِ الْبِدَعِ مِن

(1)

لم أجده عند مسلم، وهو عند الدارمي (2146).

ص: 341

الْخَوَارج وَالْمُعْتَزِلَةِ

(1)

.

وَالثَّاني: مَن يُبِيحُ الْمُلْكَ مُطْلَقًا، مِن غَيْرِ تَقَيُّدٍ بِسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ، كَمَا هُوَ فِعْلُ الظَّلَمَةِ وَالْإِبَاحِيَّةِ وَأَفْرَادِ الْمُرْجِئَةِ

(2)

.

وَهَذَا تَفْصِيل جَيِّدٌ.

وتَحْقِيقُ الْأَمْرِ أَنْ يُقَالَ: انْتِقَالُ الْأَمْرِ عَن خِلَافَةِ النبوَّةِ إلَى الْمُلْكِ:

أ - إمَّا أَنْ يَكُونَ لِعَجْزِ الْعِبَادِ عَن خِلَافَةِ النُّبُوَةِ.

ب - أَو اجْتِهَادٍ سَائِغٍ.

ج - أَو مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ عِلْمًا وَعَمَلًا.

فَإِنْ كَانَ مَعَ الْعَجْزِ عِلْمًا أَو عَمَلًا: كَانَ ذُو الْمُلْكِ مَعْذُورًا فِي ذَلِكَ، وَإِن كَانَت خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ وَاجِبَةً مَعَ الْقُدْرَةِ، كَمَا تَسْقُطُ سَائِرُ الْوَاجِبَاتِ مَعَ الْعَجْزِ؛ كَحَالِ النَّجَاشِيّ لَمَّا أَسْلَمَ وَعَجَزَ عَن إظْهَارِ ذَلِكَ فِي قَوْمِهِ؛ بَل حَالُ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ تُشْبِهُ ذَلِكَ مِن بَعْضِ الْوُجُوهِ، لَكِنَّ الْمُلْكَ كَانَ جَائِزًا لِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ كدَاوُد وَسُلَيْمَانَ ويُوسُفَ.

وَإِن كَانَ مَعَ الْقُدْرَةِ عِلْمًا وَعَمَلًا وَقُدِّرَ أَنَّ خِلَافَةَ النُّبُوَّةِ مُسْتَحَبَّةٌ لَيْسَتْ وَاجِبَةً، وَأَنَّ اخْتِيَارَ الْمُلْكِ جَائِزٌ فِي شَرِيعَتِنَا كَجَوَازِهِ فِي غَيْرِ شَرِيعَتِنَا: فَهَذَا التَّقْدِيرُ إذَا فرِضَ أَنَّهُ حَقٌّ فَلَا إثْمَ عَلَى الْمَلِكِ الْعَادِلِ أَيْضًا.

وَأَمَّا إذَا كَانَت خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ وَاجِبَةً وَهِيَ مَقْدُورَةٌ وَقَد تُرِكَتْ: فَتَرْكُ الْوَاجِبِ سَبَبٌ لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ.

(1)

وهذا ما شاهدناه من خوارج هذا العصر، حيث خرجوا على أمة الإسلام وحكامها وعلمائها ومُجاهديها في بعض بلاد المسلمين، وأعلنوا الخلافة وحاربوا كل من لم يدخل تحت لوائهم.

(2)

ذكر الشيخ حكم الْفلْكِ: هَل هُوَ جَائِزٌ فِي شَرِيعَتِنَا وَلَكِن خِلَافَةَ النُّبُوّةِ مُسْتَحَبَّة وَأفْضَلُ مِنْهُ؟ أَمْ خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ وَاجِبَةٌ؟ وإِنَّمَا تَجْوِيزُ تَرْكِهَا إلَى الْمُلْكِ لِلْعُذْرِ كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ؟

لكنه قال في موضع آخر: وَأَمَّا فِي شَرْعِ مَن قَبْلَنَا فَإِنَّ الْمُلْكَ جَائِزٌ؛ كَالْغِنَى يَكُونُ لِلْأَنْبِيَاءِ تَارَةً وَللصَّالِحِينَ أُخْرَى. (35/ 33)

ص: 342

ثُمَّ هَل تَرْكُهَا كَبِيرَةٌ أَو صَغِيرَةٌ؟

إنْ كَانَ صَغِيرَةً لَمْ يَقْدَحْ فِي الْعَدَالَةِ، وَإِن كَانَ كَبِيرَةً فَفِيهِ الْقَوْلَانِ.

لَكِنْ يُقَالُ هُنَا: إذَا كَانَ الْقَائِمُ بِالْمُلْكِ وَالْإِمَارَةِ يَفْعَلُ مِن الْحَسَنَاتِ الْمَأمُورِ بِهَا ويتْرُكُ مِن السَّيّئَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا مَا يَزِيدُ بِهِ ثَوَابُهُ عَلَى عُقُوبَةِ مَا يَتْرُكُهُ مِن وَاجِبٍ أَو يَفْعَلُهُ مِن مَحْظُورٍ: فَهَذَا قَد تَرَجَّحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيئِّاَتِهِ.

فَإِذَا كَانَ غَيْرُهُ مُقَصِّرًا فِي هَذِهِ الطَّاعَةِ الَّتِي فَعَلَهَا مَعَ سَلَامَتِهِ عَن سَيِّئَاتِهِ: فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: إمَّا أَنْ يَكُونَ الْفَاضِلُ مِن حَسَنَاتِ الْأَمِيرِ أَكْثَرَ مِن مَجْمُوعِ حَسَنَاتِ هَذَا أَو أَقَلَّ.

فَإِنْ كَانَت فَاضِلَةً أَكْثَرَ: كَانَ أَفْضَلَ.

وإن كَانَ أَقَلَّ: كَانَ مَفْضُولًا.

وَإِن تَسَاوَيا: تَكَافَآ.

هَذَا مُوجَبُ الْعَدْلِ، وَمُقْتَضَى نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.

وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ مَن يَعْتَبِرُ الْمُوَازَنَةَ وَالْمُقَابَلَةَ فِي الْجَزَاءِ وَفِي الْعَدَالَةِ أَيْضًا.

وَأَمَّا مَن يَقُولُ: إنَّهُ بِالْكَبِيرَةِ الْوَاحِدَةِ يَسْتَحِقُّ الْوَعِيدَ وَلَو كَانَ لَهُ حَسَنَاتٌ كَثِيرَةٌ عَظِيمَةٌ، فَلَا يَجِيءُ هَذَا، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِن الْعُلَمَاءِ فِي الْعَدَالَةِ.

وَالْأوَّلُ أَصَحُّ عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ النُّصُوصُ.

وَيتَفَرَّعُ مِن هُنَا مَسْأَلَةٌ، وَهُوَ مَا إذَا كَانَ لَا يَتَأَتَّى لَهُ فِعْلُ الْحَسَنَةِ الرَّاجِحَةِ إلَّا بِسَيِّئةٍ دُونَهَا فِي الْعِقَابِ: فَلَهَا صُورَتَانِ:

إحْدَاهُمَا: إذَا لَمْ يُمْكِنْ إلَّا ذَلِكَ، فَهُنَا لَا يَبْقَى سَيِّئَةٌ؛ فَإِنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ أَو الْمُسْتَحَبُّ إلَّا بِهِ: فَهُوَ وَاجِبٌ أَو مُسْتَحَبٌّ.

ص: 343

ثُمَّ إنْ كَانَ مَفْسَدَتُهُ دُونَ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ: لَمْ يَكُن مَحْظُورًا؛ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِن الْأُمُورِ الْمَحْظُورَةِ الَّتِي تُبِيحُهَا الْحَاجَاتُ كَلُبْسِ الْحَرِيرِ فِي الْبَرْدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَهَذَا بَابٌ عَظِيمٌ

(1)

.

فَإِنَّ كَثِيرًا مِن النَّاسِ يَسْتَشْعِرُ سُوءَ الْفِعْلِ، وَلَا يَنْظُرُ إلَى الْحَاجَةِ الْمُعَارِضةِ لَهُ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا مِن ثَوَابِ الْحَسَنَةِ مَا يَرْبُو عَلَى ذَلِكَ؛ بِحَيْثُ يَصِيرُ الْمَحْظُورُ مُنْدَرِجًا فِي الْمَحْبُوبِ، أَو يَصِيرُ مُبَاحًا إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ إلَّا مُجَرَّدُ الْحَاجَةِ.

كَمَا أَنَّ مِن الأمُورِ الْمُبَاحَةِ بَل وَالْمَأمُورِ بِهَا إيجَابًا أَو اسْتِحْبَابًا: مَا يُعَارِضُهَا مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ تَجْعَلُهَا مُحَرَّمَةَ أَو مَرْجوحَةً؛ كَالصِّيَامِ لِلْمَرِيضِ، وَكَالطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ لِمَن يُخَافُ عَلَيْهِ الْمَوْتُ، كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:"قَتَلُوهُ قَتَلَهُم اللهُ، هَلَّا سَألوا إذَا لَمْ يَعْلَمُوا؟ فَإنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ"

(2)

.

وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُبْنَى جَوَازُ الْعُدُولِ أَحْيَانًا عَن بَعْضِ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ، كَمَا يَجُوزُ تَرْكُ بَعْضِ وَاجِبَاتِ الشَّرِيعَةِ وَارْتكَابُ بَعْضِ مَحْظُورَاتِهَا لِلضَّرُورَةِ؛ وَذَلِكَ فِيمَا إذَا وَقَعَ الْعَجْزُ عَن بَعْضِ سُنَتِهِمْ، أَو وَقَعَت الضَّرُورَةُ إلَى بَعْضِ مَا نَهَوْا عَنْهُ؛ بِأنْ تكونَ الْوَاجِبَاتُ الْمَقْصُودَةُ بِالْإِمَارَةِ لَا تَقُومُ إلَّا بِمَا مَضَرَّتُهُ أَقَلُّ.

وَهَكَذَا مَسْألَةُ التَّرْكِ كَمَا قلْنَاهُ أَوَّلا، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يُخَالِفُهُ إلَّا أَهْلُ الْبِدَعِ وَنَحْوُهُم مِن أَهْلِ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ.

وَالصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: إذَا كَانَ يُمْكِنُ فِعْلُ الْحَسَنَاتِ بِلَا سَيِّئَةٍ، لَكِنْ بِمَشَقَّة لَا تُطِيعُهُ نَفْسُهُ عَلَيْهَا، أَو بِكَرَاهَة مِن طَبْعِهِ؛ بِحَيْثُ لَا تُطِيعُهُ نَفْسُهُ إلَى فِعْلِ تِلْكَ

(1)

صدق رحمه الله، وينبني عليه من المصالح أو المفاسد العظيمة ما لا يُحصى، فبحسب إعمال الأفراد والمجتمعات والحكومات لهذه القاعدة تزداد المصالح وتقل المفاسد، ويعظم الخير، ويتقلص الشر.

(2)

رواه أبو داود (336)، وابن ماجه (572)، والدارمي (779)، وأحمد (3056)، وقال الألباني في ضعيف أبي داود: حسن دون قوله: "إنما كان يكفيه".

ص: 344

الْحَسنَاتِ الْكِبَارِ الْمَأمُورِ بِهَا إيجَابًا أَو اسْتِحْبَابًا إنْ لَمْ يَبْذُلْ لِنَفْسِهِ مَا تُحِبُّهُ مِن بَعْضِ الْأمُورِ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا الَّتِي إثْمُهَا دُونَ مَنْفَعَةِ الْحَسَنَةِ.

فَهَذَا الْقِسْمُ كَثُرَ فِي دُوَلِ الْمُلُوكِ .. وَبِسَبَبِهِ نَشَأَتِ الْفِتَنُ بَيْنَ الْأمَّةِ، فَأَقْوَامٌ نَظَرُوا إلَى مَا ارْتكَبُوهُ مِن الْأمُورِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا فَذَمُّوهُم وَأَبْغَضُوهُمْ.

وَأَقْوَامٌ نَظَرُوا إلَى مَا فَعَلُوهُ مِن الْأُمُورِ الْمَأمُورِ بِهَا فَأحَبُّوهُمْ.

ثُمَّ الْأَوَّلُونَ رُبَّمَا عَدُّوا حَسَنَاتِهِمْ سَيِّئَاتٍ، وَالْآخَرُونَ رُبَّمَا جَعَلُوا سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ.

فَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْحَسَنَاتِ حَسَنَاتٌ، وَالسَّيِّئَاتِ سَيِّئَات، وَهُم خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيّئًا، وَحُكْمُ الشَّرِيعَةِ أَنَّهُم لَا يُؤْذَنُ لَهُم فِيمَا فَعَلُوهُ مِن السَّيئَاتِ وَلَا يُؤمَرُونَ بِهِ.

وَلَا يُجْعَلُ حَظُّ أَنْفُسِهِمْ عُذْرًا لَهُم فِي فِعْلِهِمْ إذَا لَمْ تكُن الشَّرِيعَةُ عَذَرَتْهُمْ.

لَكِنْ يُؤمَرُونَ بِمَا فَعَلُوهُ مِن الْحَسَنَاتِ وَيُحَضُّونَ عَلَى ذَلِكَ، وَيُرَغَّبُونَ فِيهِ، وَإِن عُلِمَ أَنَّهُم لَا يَفْعَلُونَهُ إلَّا بِالسَّيِّئَاتِ الْمَرْجُوحَةِ؛ كَمَا يُؤمَرُ الْأُمَرَاءُ بالْجِهَادِ، وَإن عُلِمَ أَنَّهُم لَا يُجَاهِدُونَ إلَّا بِنَوْع مِن الظُلْمِ الَّذِي تَقِلُّ مَفْسَدَتُهُ بِالنَّسْبَةِ إلَى مَصْلَحَةِ الْجِهَادِ.

ثُمَّ إذَا عُلِمَ أَنَّهُم إذَا نُهُواْ عَن تِلْكَ السَّيئاتِ تَرَكُوا الْحَسَنَاتِ الرَّاجِحَةَ الْوَاجِبَةَ: لَمْ يُنْهَوْا عَنْهَا؛ لِمَا فِي النَّهْيِ عَنْهَا مِن مَفْسَدَةِ تَرْكِ الْحَسَنَاتِ الْوَاجِبَةِ، إلا أَنْ يُمْكِنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَيُفْعَلُ حِينَئِذٍ تَمَامُ الْوَاجِبِ، كَمَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسْتَعْمِلُ مَن فِيهِ فجُور؛ لِرُجْحَانِ الْمَصْلَحَةِ فِي عَمَلِهِ، ثُمَّ يُزِيلُ فُجُورَهُ بِقُوَّتِهِ وَعَدْلِهِ.

ويكُونُ تَرْكُ النَّهْيِ عَنْهَا حِينَئِذٍ: مِثْل تَرْكِ الْإِنْكَارِ بِالْيَدِ أَو بِالسِّلَاحِ إذَا كَانَ فِيهِ مَفْسَدَة رَاجِحَةٌ عَلَى مَفْسَدَةِ الْمُنْكرِ

(1)

.

(1)

فليس كل منكر يجوز إنكارُه، بل يجب مراعاة المصالح والمفاسد في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ص: 345

فَإِذَا كَانَ النَّهْيُ مُسْتَلْزِمًا فِي الْقَضِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ لِتَرْكِ الْمَعْرُوفِ الرَّاجِحِ: كَانَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَلْزِمًا لِفِعْلِ الْمُنْكَرِ الرَّاجِحِ؛ كَمَن أَسْلَمَ عَلَى أَنْ لَا يُصَلِّيَ إلَّا صَلَاتَيْنِ، كَمَا هُوَ مَأثُورٌ عَن بَعْضِ مَن أَسْلَمَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَو أَسْلَمَ بَعْضُ الْمُلُوكِ الْمُسَلَّطِينَ وَهُوَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، أَو يَفْعَلُ بَعْضَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَلَو نُهي عَن ذَلِكَ ارْتَدَّ عَن الْإِسْلَامِ

(1)

.

فَفَرْقٌ بَيْنَ:

أ - تَرْكِ الْعَالِمِ أَو الْأَمِيرِ لِنَهْيِ بَعْضِ النَّاسِ عَن الشَّئِ إذَا كَانَ فِي النَّهْيِ مَفْسَدَة رَاجِحَةٌ.

ب - وَبَيْنَ إذْنِهِ فِي فِعْلِهِ

(2)

.

وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، فَفِي حَالٍ أُخْرَى يَجِبُ إظْهَارُ النَّهْيِ: إمَّا لِبَيَانِ التَّحْرِيم، وَاعْتِقَادِهِ، وَالْخَوْفِ مِن فِعْلِهِ، أَو لِرَجَاءِ التَّرْكِ، أَو لِإِقَامَةِ الْحجَّةِ بِحَسَبِ الأَحْوَالِ؛ وَلهَذَا تَنَوَّعَ حَالُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَجِهَادِهِ وَعَفْوِهِ وَإِقَامَتِهِ الْحُدُودَ وَغِلْظَتِهِ وَرَحْمَتِهِ. [35/ 18 - 32]

* * *

(لَا يُزَال الْمُنْكَرُ بِمَا هُوَ أنْكَرُ مِنْهُ)

5196 -

لَا يُزَالُ الْمُنْكَرُ بِمَا هُوَ أَنْكَرُ مِنْهُ، بِحَيْثُ يُخْرَجُ عَلَيْهِم [أي: الأمراء] بِالسِّلَاحِ، وَتُقَامُ الْفِتَنُ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِن أصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ النَّبوِيَّةُ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِن الْفَسَادِ الَّذِي يَرْبُو

(1)

وهذا من باب التدرج في تطبيق الشريعة، للمصلحهَ الراجحة، قال الشيخ العلَّامة ابن عثيمين: جاءت الشريعة الإسلامية بالتدرج في التشريع شيئًا فشيئًا، وهكذا المنكر لا بد أن نأخذ الناس فيه بالمعالجة حتى يتم الأمر. اهـ. مجموع فتاوى ابن عثيمين (5/ 210).

(2)

فالسكوت عن قول الحق شيء، وقول الباطل والتدليس وتحريف النصوص شيء آخر، فالثاني لا يُباح بحال، بخلاف الأول، فيجوز للمصلحة الراجحة.

ص: 346

عَلَى فَسَادِ مَا يَكُونُ مِن ظُلْمِهِمْ؛ بَل يُطَاعُ اللهُ فِيهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ، وَيُفْعَلُ مَا أَمَرَ بِهِ ويُتْرَكُ مَا نَهَى عَنْهُ. [35/ 21] * * *

‌(شرح حديث: "عَلَيْكُمْ بسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِن بَعْدِي تَمَسَّكوا بِها وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ

")

5197 -

قَوْله صلى الله عليه وسلم: "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِن بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ"

(1)

: فَهَذَا أَمْرٌ وَتَحْضِيضٌ عَلَى لُزُومِ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ، وَأَمْرٌ بِالِاسْتِمْسَاكِ بِهَا، وَتَحْذِيرٌ مِن الْمُحْدَثَاتِ الْمُخَالِفَةِ لَهَا، وَهَذَا الْأَمْرُ مِنْهُ وَالنَّهْيُ: دَليلٌ بَيِّنٌ فِي الْوُجُوبِ.

ثُمَّ اخْتَصَّ مِن ذَلِكَ قَوْلُهُ: "اقْتَدُوا بالذين مِن بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ" فَهَذَانِ أُمِرَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمَا، وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ أُمِرَ بِلُزومِ سُنَّتِهِمْ.

وَفِي هَذَا تَخْصِيصٌ لِلشَّيْخَيْنِ مِن وَجْهيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ السُّنَّةَ مَا سَنُّوهُ لِلنَّاسِ، وَأَمَّا الْقُدْوَةُ فَيَدْخُلُ فِيهَا الِاقْتِدَاءُ بِهِمَا فِيمَا فَعَلَاهُ مِمَّا لَمْ يَجْعَلُوهُ سُنَّةً.

الثَّانِي: أَنَّ السُّنَّةَ أَضَافَهَا إلَى الْخُلَفَاءِ، لَا إلَى كُلّ مِنْهُمْ.

فَقَد يُقَالُ: إمَّا ذَلِكَ فِيمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ دُونَ مَا انْفَرَدَ بِهِ بَعْضُهُم وَأَمَّا الْقُدْوَةُ فَعَيَّن الْقُدْوَة بِهَذَا وَبِهَذَا، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ نَظَرٌ.

وَيُسْتَفَادُ مِن هَذَا: أَنَّ مَا فَعَلَهُ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ مِن الِاجْتِهَادِ الَّذِي سَبَقَهُمَا بِمَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَدَلَّت النُّصُوصُ وَمُوَافَقَةُ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ عَلَى رُجْحَانِهِ، وَكَانَ سَبَبَهُ افْتِرَاقُ الْأمَّةِ: لَا يُؤْمَرُ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمَا فِيهِ، إذ لَيْسَ ذَلِكَ

(1)

رواه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42)، والدارمي (96)، وأحمد (17142)، وصحَّحه الألباني في صلاة التراويح (86).

ص: 347

مِن سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ سَاسَا الْأمَّةَ بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ، وَسَلِمَا مِن التَّأوِيلِ فِي الدِّمَاءِ وَالْأمْوَالِ.

وَعُثْمَانَ رضي الله عنه غَلَّبَ الرَّغْبَةَ وَتَأَوَّلَ فِي الْأَمْوَالِ.

وَعَلِيٌّ غَلَّبَ الرَّهْبَةَ وَتَأَوَّلَ فِي اْلدِّمَاءِ.

وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ كَمُلَ زُهْدُهُمَا فِي الْمَالِ وَالرِّيَاسَةِ.

وَعُثْمَانُ كَمُلَ زُهْدُهُ فِي الرِّيَاسَةِ.

وَعَلِيٌّ كَمُلَ زُهْدُهُ فِي الْمَالِ. [35/ 22 - 23]

* * *

(النَّبِيِّ لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ)

5198 -

التَّحْقِيقُ أَن مِن النُّبُوَّةِ مَا يَكُونُ مُلْكًا؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:

أ - إمَّا أَنْ يُكذَّبَ وَلَا يتَّبعَ وَلَا يُطَاعَ: فَهُوَ نَبِيٌّ لَمْ يُؤتَ مُلْكًا.

ب - وَإِمَّا أَنْ يُطَاعَ، فَنَفْسُ كَوْنِهِ مُطَاعًا هُوَ مُلْكٌ.

لَكِنْ إنْ كَانَ لَا يَأمُرُ إلَّا بِمَا أُمِرَ بِهِ: فَهُوَ عَبْدٌ رَسُولٌ لَيْسَ لَهُ مُلْكٌ.

وَهُوَ حَالُ نَبِيِّنَا فَإِنَّهُ كَانَ عَبْدًا رَسُولًا، مُؤَيَّدًا مُطَاعًا مَتْبُوعًا، فَأُعْطِيَ فَائِدَةَ كَوْنِهِ مُطَاعًا مَتْبُوعًا لِيَكُونَ لَهُ مِثْل أَجْرِ مَن اتَّبَعَهُ، وَليَنْتَفِعَ بِهِ الْخَلْقُ ويُرْحَمُوا بِهِ، ويُرْحَمُ بِهِمْ.

وَلَمْ يَخْتَرْ أَنْ يَكُونَ مَلَكًا لِئَلَّا يُنْقَصَ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِن الِاسْتِمْتَاعِ بِالرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ عَن نَصِيبِهِ فِي الْآخِرَةِ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ الرَّسُولَ أَفْضَلُ عِنْدَ اللهِ مِن النَّبِيِّ الْمَلَكِ.

وَإِن كَانَ يَأمُرُ بِمَا يُرِيدُهُ مُبَاحًا لَهُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَلكِ كَمَا قِيلَ لِسُلَيْمَانَ: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)} [ص: 39] فَهَذَا نَبِيٌّ مَلكٌ. [35/ 34]

* * *

ص: 348

(قاعدة في مواضع الأئمة في مجامع الأمة)

5199 -

لَنْ يَقُومَ الدِّينُ إلَّا بِالْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ وَالْحَدِيدِ: كِتَابٌ يَهْدِي بِهِ، وَحَدِيدٌ يَنْصُرُهُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25].

فَالْكِتَابُ: بِهِ يَقُومُ الْعِلْمُ وَالدِّينُ.

وَالْمِيزَانُ: بِهِ تَقُومُ الْحُقوقُ فِي الْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ والقبوض.

وَالْحَدِيدُ: بِهِ تَقُومُ الْحُدُودُ عَلَى الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ.

وَلهَذَا كَانَ فِي الْأَزْمَانِ الْمُتَأَخِّرَةِ:

أ - الْكِتَابُ لِلْعُلَمَاءِ وَالْعِبَادِ.

ب - وَالْمِيزَانُ لِلْوُزَرَاءِ وَالْكُتَّابِ وَأَهْلِ الدّيوَانِ.

ج - وَالْحَدِيدُ لِلْأُمَرَاءِ وَالْأجْنَادِ.

وَالْكِتَابُ لَهُ الصَّلَاةُ، وَالْحَدِيدُ لَهُ الْجِهَادُ؛ وَلهَذَا كَانَ أَكْثَرُ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ النَّبوِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ.

وَلهَذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي مَوَاضِعَ مِن الْقُرْآنِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الحجرات: 15]. وَالصَّلَاةُ أَوَّلُ أَعْمَالِ الْإِسْلَامِ، وَأَصْلُ أَعْمَالِ الْإِيمَانِ؛ وَلهَذَا سَمَّاهَا إيمَانًا فِي قَوْلِهِ:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]؛ أَيْ: صَلَاتَكُمْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، هَكَذَا نُقِلَ عَن السَّلَفِ.

وَفِي "الصَّحِيحِ" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "إيمَانٌ بِاللهِ وَجِهَادٌ في سَبِيلِهِ"

(1)

.

(1)

البخاري (2518).

ص: 349

مَعَ قَوْلِهِ فِي "الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ" لَمَّا سَأَلَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "الصَّلَاةُ فِي وَقْتِهَا"، قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: "بِرُّ الْوَالِدَيْنِ"، قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: "الْجِهَادُ: سَبِيلِ اللهِ"

(1)

.

فَإن قَوْلَهُ: "إيمَانٌ بِاللهِ" دَخَلَ فِيهِ الصَّلَاةُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَوَّلِ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ؛ إذ لَيْسَ لِكُلِّ أَحَدٍ وَالِدَانِ.

فَالْأوَّلُ مُطْلَقٌ، وَالثَّاني مُقَيَّدٌ بِمَن لَهُ وَالِدَانِ.

وَلهَذَا كَانَت سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَسَائِرِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَمَن سَلَكَ سَبِيلَهُم مِن وُلَاةِ الْأُمُورِ -فِي الدَّوْلَةِ الْأمَوِيَّةِ وَالْعَبَّاسِيَّةِ- أَنَّ الْإِمَامَ يَكُونُ إمَامًا فِي هَذَيْنَ الْأَصْلَيْنِ جَمِيعًا: الصَّلَاةُ وَالْجِهَادُ؛ فَاَلَّذِي يَؤُمُّهُم فِي الصَّلَاةِ يَؤُمُّهُم فِي الْجِهَادِ، وَأَمْرُ الْجِهَادِ وَالصَّلَاةِ وَاحِدٌ فِي الْمُقَامِ وَالسَّفَرِ.

‌فصْلٌ

وَكَانَت مَوَاضِعُ الْأَئِمَّةِ وَمَجَامِعُ الْأُمَّةِ هِيَ الْمَسَاجِدَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَسَّسَ مَسْجِدَهُ الْمُبَارَكَ عَلَى التَّقْوَى، فَفِيهِ الصَّلَاةُ وَالْقِرَاءَةُ وَالذِّكْرُ، وَتَعْلِيمُ الْعِلْمِ وَالْخُطَبُ، وَفِيهِ السِّيَاسَةُ وَعَقْدُ الْأَلْوِيَةِ وَالرَّايَاتِ وَتَأمِيرُ الْأمَرَاءِ وَتَعْرِيفُ الْعُرَفَاءِ، وَفِيهِ يَجْتَمِعُ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَهُ لِمَا أهَمَّهُم مِن أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ.

وَكَانَ الْخُلَفَاءُ وَالْأُمَرَاءُ يَسْكُنُونَ فِي بُيُوتِهِمْ كَمَا يَسْكُنُ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ فِي بُيُوتِهِمْ، لَكِنَّ مَجْلِسَ الْإِمَامِ الْجَامِعَ هُوَ الْمَسْجِدُ الْجَامِعُ.

فَلَمَّا كَانَت إمَارَة مُعَاوِيَة احْتَجَبَ لمَّا خَافَ أَنْ يُغْتَالَ كَمَا اُغْتِيلَ عَلَيَّ، وَاتّخذَ الْمَقَاصِير فِي الْمَسَاجِدِ لِيُصَلِّيَ فِيهَا ذُو السُّلْطَانِ وَحَاشِيَته وَاتَّخَذَ الْمَرَاكِبَ، فَاسْتَنَّ بِهِ الْخُلَفَاءُ الْمُلُوك بِذَلِكَ، فَصَارُوا مَعَ كَوْنِهِمْ يَتَوَلَّوْنَ الْحَرْبَ وَالصَّلَاةَ بِالنَّاسِ وَيُبَاشِرُونَ الْجُمْعَة وَالْجَمَاعَة وَالْجِهَاد وَإِقَامَة الْحُدُودِ: لَهُم قُصُور يَسْكُنُونَ فِيهَا وَيَغْشَاهُم رُؤُوس النَّاسِ فِيهَا.

(1)

رواه البخاري (2782)، ومسلم (85).

ص: 350

‌فصْلٌ

فِي الْخِلَافَةِ وَالسُّلْطَانِ وَكَيْفِيَّةِ كَوْنِهِ ظِلَّ اللهِ فِي الْأَرْضِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] .. وَقَوْلُهُ: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] يَعُمُّ آدَمَ وَبَنِيهِ، لَكِنَّ الِاسْمَ مُتَنَاوِلٌ لِآدَمَ عَيْنًا؛ كقَوْلِهِ:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)} [التين: 4]، وَقَوْلُهُ:{خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14)} [الرحمن: 14]، وَقَوْلُهُ:{وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)} [السجدة: 7، 8] إلَى أَمثَالِ ذَلِكَ.

وَالْخَلِيفَةُ: هُوَ مَن كَانَ خَلَفًا عَن غَيْرِهِ، فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ، كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا سَافَرَ يَقُولُ:"اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ في الْأَهْلِ"

(1)

.

وَالْمُرَادُ بِالْخَلِيفَةِ: أَنَّهُ خَلَفَ مَن كَانَ قَبْلَهُ مِن الْخَلْقِ.

وَقَد ظَنَّ بَعْضُ الْقَائِلِينَ الغالطين -كَابْنِ عَرَبِيِّ- أَن الْخَلِيفَةَ هُوَ الْخَلِيفَةُ عَن اللهِ، مِثْل نَائِبِ اللهِ، وَزَعَمُوا أَنَّ هَذَا بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ الْأِنْسَانُ مُسْتَخْلَفًا.

وَاللهُ لَا يَجُوزُ لَهُ خَلِيفَةٌ؛ وَلهَذَا لَمَّا قَالُوا لِأَبِي بَكْرٍ: يَا خَلِيفَةَ اللهِ، قَالَ: لَسْت بِخَلِيفَةِ اللهِ، وَلَكِنِّي خَلِيفَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَسْبِي ذَلِكَ.

بَل هُوَ سُبْحَانَهُ يَكُونُ خَلِيفَةً لِغَيْرِهِ .. ؛ وَذَلِكَ لِأنَّ اللهَ حَي شَهِيدٌ مُهَيْمِنٌ قَيُّومٌ رَقِيب حَفِيظ غَنِيٌّ عَن الْعَالَمِينَ، لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ وَلَا ظَهِيرٌ، وَلَا يَشْفَعُ أَحَدٌ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ.

وَالْخَلِيفَةُ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ عَدَمِ الْمُسْتَخْلَفِ بِمَوْت أَو غَيْبَةٍ، وَيَكُونُ لِحَاجَةِ الْمُسْتَخْلِفِ إلَى الِاسْتِخْلَافِ.

وَأَمَّا الْحَدِيثُ النَّبَوِيُّ: "السّلْطَانُ ظِلُّ اللهِ فِي الْأَرضِ يَأوِي إلَيْهِ كُلُّ

(1)

رواه مسلم (1342).

ص: 351

ضَعِيفٍ وَمَلْهُوف"

(1)

: وَهَذَا صَحِيحٌ؛ فَإِنَّ الظِّلَّ مُفْتَقِرٌ إلَى آوٍ .. فَالسُّلْطَانُ عَبْدُ اللهِ مَخْلُوقٌ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَفِيهِ مِن الْقُدْرَةِ وَالسُّلْطَانِ وَالْحِفْظِ وَالنُّصْرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن مَعَانِي السُّؤْدُدِ وَالصَّمَدِيَّةِ الَّتِي بِهَا قِوَامُ الْخَلْقِ مَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ظِلَّ اللهِ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ أَقْوَى الْأسْبَاب الَّتِي بِهَا يُصْلِحُ أمُورَ خَلْقِهِ وَعِبَادِهِ، فَإِذَا صَلَحَ ذُو السُّلْطَانِ صَلَحَتْ أُمُورُ النَّاسِ، وَإِذَا فَسَدَ فَسَدَتْ بِحَسَبِ فَسَادِهِ، وَلَا تَفْسُدُ مِن كُلِّ وَجْهٍ؛ بَل لَا بُدَّ مِن مَصَالِحَ، إذ هُوَ ظِلُّ اللهِ، لَكِنَّ الظِّلَّ تَارَةً يَكُونُ كَامِلًا مَانِعًا مِن جَمِيعِ الْأَذَى، وَتَارَةً لَا يَمْنَعُ إلَّا بَعْضَ الْأَذَى.

وَأَمَّا إذَا عُدِمَ الظِّلُّ: فَسَدَ الْأَمْرُ؛ كَعَدَمِ سِرِّ الرُّبُوبِيَّةِ الَّتِي بِهَا قِيَامُ الْأمَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ. [35/ 36 - 46]

* * *

‌(بم ثبتت خِلَافَةُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه

-)

5200 -

حَكَى أَصْحَابُنَا عَن الْإِمَامِ أحْمَد فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ: هَل ثَبَتَتْ بِاخْتِيَارِ الْمُسْلِمِينَ لَهُ؟ أَو بِالنصِّ الْخَفِيِّ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَو الْبَيِّنِ؟

أَحَدُهُمَا: بِالِاخْتِيَارِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْمُتَكَلِّمِين؛ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ.

والثَّانِيَةُ: بِالنَصِّ الْخَفِيِّ وَهُوَ قَوْلُ طَوَائِفَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْمُتَكَلِّمِين، ويُرْوَى عَن الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.

وَبَعْضُ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ يَقُولُونَ بِالنَّصِّ الْجَلِيِّ.

وَامَّا قَوْلُ الْإِمَامِيَّةِ إنَّهَا ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ الْجَلِيِّ عَلَى عَلِيٍّ، وَقَوْلُ: "الزَّيْدِيَّةِ الجارودية إنَّهَا بِالنَّصِّ الْخَفِيِّ عَلَيْهِ، وَقَوْلُ الراوندية إنَّهَا بِالنَّصِّ عَلَى الْعَبَّاسِ: فَهَذِهِ أَقْوَالٌ ظَاهِرَةُ الْفَسَادِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ.

(1)

ضغفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1663).

ص: 352

وَإِنَّمَا يَدِينُ بِهَا: إمَّا جَاهِلٌ، وَإِمَّا ظَالِمٌ، وَكَثِيرٌ مِمَن يَدِينُ بِهَا زِنْدِيقٌ

(1)

.

وَالتَّحْقِيقُ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ أَحْمَد: أَنَّهَا انْعَقَدَتْ بِاخْتِيَارِ الصَّحَابَةِ وَمُبَايَعَتِهِمْ لَهُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ بِوُقُوعِهَا عَلَى سَبيلِ الْحَمْدِ لَهَا وَالرِّضَا بِهَا، وَأَنَّهُ أَمَرَ بِطَاعَتِهِ وَتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إلَيْهِ، وَأَنَّهُ دَلَّ إلْأَمَّةَ وَأَرْشَدَهُم إلَى بَيْعَتِهِ.

فَهَذِهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ: الْخَبَرُ وَالْأَمْرُ وَالْإِرْشَادُ ثَابِتٌ مِن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

الْأوَّلُ: كَقَوْلِهِ: "رَأَيْت كَأَنِّي عَلَى قَلِيبٍ أَنْزِعُ مِنْهَا فَأتَى ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ فَنَزَعَ ذَنُوبًا أَو ذنوبين"

(2)

.. الْحَدِيثُ.

وَكَقَوْلِهِ: "اُدْعِي لِي أبَاك وَأَخَاك حَتَّى أكتُبَ لِأَبِي بَكرٍ كِتَابًا لَا يَخْتَلِفُ عَلَيْهِ النَّاسُ مِن بَعْدِي"، ثُمَّ قَالَ:"يَأبَى اللهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إلَّا أبَا بَكْرٍ"

(3)

. فَهَذَا إخْبَارٌ مِنْهُ بِأَنَّ اللهَ وَالْمُؤمِنِينَ: لَا يَعْقِدُونَهَا إلَّا لِأبِي بَكْرٍ الَّذِي همَّ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ.

وَأمَّا الْأمْرُ: فَكَقَوْلِهِ: "اقْتَدَوْا بالذين مِن بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ"

(4)

..

وَقَوْلِهِ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي سَأَلَتْهُ إنْ لَمْ أَجِدْك؟ قَالَ: "فَأتِي أبَا بَكْرٍ"

(5)

.

والثَّالِثُ: تَقْدِيمُهُ لَهُ فِي الصَّلَاةِ. [35/ 47 - 49]

* * *

(باب قتل أهل البغي)

5201 -

هم الخارجون على الإمام بتأويل سائغ. [المستدرك 5/ 127]

5202 -

عامةُ الفتن التي وقعت من أعظم أسبابها: قلة الصبر؛ إذ الفتنة لها سببان:

(1)

كحال أكثر علماء وساسة الرافضة في هذا الزمان، فقد ظهر جليًّا زندقتهم، من خلال عبارات الكفر والشرك والغلو في الصالحين والأولياء، وموالاة النصارى وعداوتهم لأهل السُّنَّة، وذبحهم وتهجيرهم.

(2)

رواه البخاري (3634)، ومسلم (2393).

(3)

رواه مسلم (2387).

(4)

رواه الترمذي (3662)، وأحمد (23245)، وصحَّحه الألباني في صحيح الترمذي.

(5)

رواه البخاري (3659)، ومسلم (2386).

ص: 353

أ - إما ضعف العلم.

ب - وإما ضعف الصبر.

فإن الجهل والظلم أصل الشر، وفاعل الشر إنما يفعله لجهله بأنه شر، وتكون نفسه تريده؛ فبالعلم يزول الجهل، وبالصبر يحبس الهوى والشهوة فتزول تلك الفتنة. [المستدرك 5/ 127]

5203 -

الأفضل ترك قتال أهل البغي حتى يبدؤه

(1)

. [المستدرك 5/ 128]

5204 -

ذكر ابن عبد البر في كتابه "بهجة المجالس" قال رجل لابن سيرين: إني وقعت فيك فاجعلني في حل، قال: لا أحب أن أحل لك ما حرم الله عليك.

وقال شيخنا: إن في الآية المذكورة: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)} [الشورى: 39] فائدة عظيمة، وهو أن حمدهم على أنهم ينتصرون عند البغي عليهم، كما أنهم هم يعفون عند الغضب، ليسوا مثل الذي ليس له قوة الانتصار وفعله؛ لعجزهم، أو كسلهم، أو وهنهم، أو ذلهم، أو حزنهم؛ فإن أكثر من يترك الانتصار بالحق إنما يتركه لهذه الأمور وأشباهها، وليسوا مثل الذي إذا غضب لا يغفر ولا يعفو؛ بل يتعدى أو ينتقم حتى يُكَفَّ مِن خارج، كما عليه أكثر الناس إذا غضبوا أو قدروا، لا يقفون عند العدل، فضلًا عن الإحسان.

فحمدهم على أنهم هم ينتصرون وهم يعفون، ولهذا قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون أن يُستذلوا، فإذا قدروا عفوا. [المستدرك 5/ 128]

5205 -

إن اقتتلت طائفتان لعصبية أو رئاسة فهما ظالمتان، وتضمن كل واحدة ما أتلفته على الأخرى.

ولكن قال الشيخ تقي الدين: إن جهل قدر ما نهبته كل طائفة من الأخرى تساوتا، كمن جهل قدر المحرم من ماله أخرج نصفه والباقي له. [المستدرك 5/ 129]

* * *

(1)

أي: الإمام. وفي حاشية الروض المربع: حتى يبدؤوا [الخوارج] الإمام. (13/ 347).

ص: 354

(أقوال أَهْل الْأَهْوَاءِ فِي قِتَالِ عَلِيٍّ وَمَن حَارَبَهُ)

5206 -

أَهْلُ الْأَهْوَاءِ فِي "قِتَالِ عَلِيٍّ وَمَن حَارَبَهُ" عَلَى أَقْوَالٍ: أَمَّا الْخَوَارجُ: فَتُكَفِّرُ الطَّائِفَتَانِ الْمُقْتَتِلَانِ

(1)

جَمِيعًا.

وَأَمَّا الرَّافِضَةُ: فَتكَفِّرُ مَن قَاتَلَ عَلِيًّا، مَعَ الْمُتَوَاتِرِ عَنْهُ مِن أَنَّهُ حَكَمَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنَعَ مِن تَكفِيرِهِمْ.

فَفِي الْجُمْلَةِ: أَهْلُ الْبِدَعِ مِن الْخَوَارجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ: يَجْعَلُونَ الْقِتَالَ مُوجِبًا لِكُفْر أَو لِفِسْق.

وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ: فَمُتَّفِقُونَ عَلَى عَدَالَةِ الْقَوْمِ.

ثُمَّ لَهُم فِي التَّصْوِيبِ وَالتَّخْطِئَةِ مَذَاهِبُ لِأَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ:

أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُصِيبَ عَلِيٌّ فَقَطْ.

والثَّانِي: الْجَمِيعُ مُصِيبُونَ.

والثَّالِثُ: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ لَا بِعَيْنِهِ.

والرَّابعُ: الْإِمْسَاكُ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُم مُطْلَقًا، مَعَ الْعِلْمِ بِأنَّ عَلِيًّا وَأَصْحَابَهُ هُم أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ؛ كَمَا فِي حَدِيث أَبِي سَعِيدٍ لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِن الْمُسْلِمِينَ فَيَقْتُلُهُم أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ"

(2)

.

وَهَذَا فِي حَرْبِ أَهْلِ الشَّامِ، وَالْأَحَادِيثُ تَدُلّ عَلَى أَنَّ حَرْبَ الْجَمَلِ فِتْنَةٌ، وَأَنَّ تَرْكَ الْقِتَالِ فِيهَا أَوْلَى، فَعَلَى هَذَا نُصُوصُ أَحْمَد وَأَكْثَرُ أَهْلِ السُّنَّةِ.

(1)

جاء في الحاشية لابن قاسم: لغة في المثنى؛ يعني بذلك: أن المثنى يلزم حالة واحدة وهي الألف رفعًا ونصبًا وجرًّا.

ولا يظهر أن هذا صواب -إن صحت نسبة هذه الحاشية لابن قاسم- فالشيخ لم يستعمل هذه العبارة في أي موضع من كتبه، وكما أن صواب العبارة على هذه اللغة أيضًا هو (الطائفتين المقتتلتان) لا (المقتتلان).

فالذي يترجح لي أن هناك تصحيف في الكلمة، وصوابها: الطائفتين المقتتلتين.

(2)

رواه مسلم (1065).

ص: 355

وَذَلِكَ الشِّجَارُ بِالْأَلْسِنَةِ وَالْأَيْدِي

(1)

: أَصْلٌ لِمَا جَرَى بَيْنَ الْأُمَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا.

فَلْيَعْتَبِرِ الْعَاقِلُ بِذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. [35/ 50 - 51]

* * *

(خطورة قتال المسلم، وعظم إثمه)

5207 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن طَائِفَتَيْنِ مِن الْفَلَّاحِينَ اقْتَتَلَتَا فَكَسَرَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، وَانْهَزَمَتِ الْمَكْسُورَةُ وَقُتِلَ مِنْهُم بَعْدَ الْهَزِيمَةِ جَمَاعَةٌ: فَهَل يُحْكَمُ لِلْمَقْتُولِينَ مِن الْمَهْزُومِينَ بِالنَّارِ؟

فَأَجَابَ: إنْ كَانَ الْمُنْهَزِمُ قَد انْهَزَمَ بِنِيَّةِ التَّوْبَةِ عَن الْمُقاتَلَةِ الْمُحَرَّمَةِ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِالنَّارِ؛ فَإِنَّ اللهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَن عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَن السَّيِّئَات.

وَأَمَّا إنْ كَانَ انْهِزَامُهُ عَجْزًا فَقَطْ وَلَو قَدَرَ عَلَى خَصْمِهِ لَقَتَلَهُ فَهُوَ فِي النَّارِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ"

(2)

.

فَالْمَقْتُولُ قَد يُقَالُ: إنَّهُ بِمُصِيبَةِ الْقَتْلِ قَد يُخَفَّفُ عَنْهُ الْعَذَابُ وَإِن كَانَ مِن أَهْلِ النَّارِ، وَمُصِيبَةُ الْهَزِيمَةِ دُونَ مُصِيبَةِ الْقَتْلِ.

فَظَهَرَ أَنَّ الْمَهْزُومَ أَسْوأُ حَالًا مِن الْمَقْتُولِ إذَا كَانَ مُصِرًّا عَلَى قَتْلِ أخِيهِ، وَمَن تَابَ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. [35/ 51 - 52]

* * *

(الفرق بَيْنَ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ وَبَيْنَ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ)

5208 -

جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْخَوَارجِ الْمَارِقِينَ وَبَيْنَ أَهْلِ الْجَمَلِ وصفين، وَغَيْرِ أَهْلِ الْجَمَلِ وصفين مِمَن يُعَدُّ مِن الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلينَ.

(1)

الذي حصل بين الصحابة.

(2)

رواه البخاري (31)، ومسلم (2888).

ص: 356

وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَن الصَّحَابَةِ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِين، وَعَلَيْهِ نُصُوصُ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ وَأَتْبَاعِهِمْ مِن أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ.

وَكَانَ عَلِيٌّ رضي الله عنه مَسْرُورًا لِقِتَالِ الْخَوَارجِ وَيَرْوِي الْحَدِيثَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ، وَأَمَّا قِتَالُ صَفِّينَ فَذُكِرَ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ فِيهِ نَصٌّ، وَإِنَّمَا هُوَ رَأْيٌ رَآهُ، وَكَانَ أَحْيَانًا يَحْمَدُ مَن لَمْ يَرَ الْقِتَالَ.

وَقَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَسَنِ: "إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَسَيُصْلِحُ اللهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِن الْمُسْلِمِينَ"

(1)

، فَقَد مَدَحَ الْحَسَنَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِإِصْلَاحِ اللهِ بِهِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ: أَصْحَابِ عَلِيٍّ وَأَصْحَابِ مُعَاوِيةَ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ تَرْكَ الْقِتَالِ كَانَ أَحْسَنَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُن الْقِتَالُ وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا.

وَقِتَالُ الْخَوَارجِ قَد ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ بهِ وَحَضَّ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ يُسَوَّى بَيْنَ مَا أَمَرَ بِهِ وَحَضَّ عَلَيْهِ وَبَيْنَ مَا مَدَحَ تَارِكَهُ وَأَثْنَىَ عَلَيْهِ؟. [35/ 54 - 56]

5209 -

أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الطَّائِفَةَ الْمَارِقَةَ يَقْتُلُهَا أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ، فَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمَن مَعَهُ هُم الَّذِينَ قَاتَلُوهُم، فَدَلَّ كَلَامُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّهُم أَدْنَى إلَى الْحَقِّ مِن مُعَاوِيَةَ وَمَن مَعَهُ مَعَ إيمَانِ الطَّائِفَتَيْنِ. [25/ 306]

* * *

(حكم من لَعَنَ أَحَدًا مِن أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ومعنى الصحبة ودرجاتها)

5210 -

مَن لَعَنَ أَحَدًا مِن أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم -كمعاوية بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَعَمْرِو بْنِ العاص وَنَحْوِهِمَا .. - فَإِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ الْبَلِيغَةِ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الدِّينِ.

وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ: هَل يُعَاقَبُ بِالْقَتْلِ أَو مَا دُونَ الْقَتْلِ؟

(1)

رواه البخاري (2704).

ص: 357

وَكُلُّ مَن رَأَى رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم مُؤْمِنًا بَهْ: فَلَهُ مِن الصُّحْبَةِ بِقَدْرِ ذَلِك، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"يَغْزُو جَيْشٌ، فَيَقُولُ: هَل فِيكُمْ مَن صَحِبَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ ثمْ، ثُمَّ يَغْزُو جَيْشٌ فَيَقُولُ: هَل فِيكُمْ مَن رَأَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَيَقُولُونَ، نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ"

(1)

وَذَكَرَ الطَّبَقَةَ الثَّالِثَةَ.

فَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِرُؤْيَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا عَلَّقَهُ بِصُحْبَتِهِ

(2)

.

وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ "الصُّحْبَهِ" فِيهِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ: كَانَ مَن اخْتَصَّ مِن الصَّحَابَةِ بِمَا يَتَمَيَّزُ بَهْ عَن غَيْرِهِ يُوصَفُ بِتِلْكَ الصُّحْبَةِ، دُونَ مَن لَمْ يَشْرَكْهُ فِيهَا.

قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَقَدِّمِ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ لَمَّا اخْتَصَمَ هُوَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ: "يَا خَالِدُ لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَاَلَّدِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَو أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْل أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ"

(3)

.

فَإِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ هُوَ وَأَمْثَالُهُ مِن السَّابِقِينَ الْأَوَّلينَ مِن الَّذِينَ أَنْفَقُوا قَبْلَ الْفَتْحِ فَتْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَغَيْرُهُ مِمَن أَسْلَمَ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَنْفَقُوا وَقَاتَلُوا دُونَ أولَئِكَ، قَالَ تَعَالَى:{لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10]، وَالْمُرَادُ بِالْفَتْح: فَتْحُ الْحُدَيْبِيَةِ لَمَّا بَايَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَكَانَ الَّذِينَ بَايَعُوهُ أَكْثَرَ مِن أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَهُم الَّذِينَ فَتَحُوا خَيْبَرَ.

(1)

رواه البخاري (3594)، ومسلم (2532).

(2)

بنى الشيخ كلامه على الحديث الذي ذكره، ولم أجده بهذا اللفظ، بل الذي في صحيح مسلم (2532)، عَن أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: فِيكُمْ مَن رَأَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ، ثُمَّ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: فِيكُمْ مَن رَأَى مَن صَحِبَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ، ثُمَّ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: هَل فِيكمْ مَن رَأَى مَن صَحِبَ مَن صَحِبَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ فَيُفْتَحُ لَهُمْ".

(3)

رواه البخاري (3673)، ومسلم (2540).

ص: 358

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَحِبُوهُ قَبْلَ الْفَتْحِ اخْتَصُّوا مِن الصُّحْبَةِ بِمَا اسْتَحَقُّوا بِهِ التَّفْضِيلَ عَلَى مَن بَعْدَهُمْ.

وَلَمَّا كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه مِن مَزِيَّةِ الصُّحْبَةِ مَا تَمَيَّزَ بَهْ عَلَى جَمِيعِ الصَّحَابَةِ خَصَّهُ بِذَلِك فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَن أَبِي الدَّرْدَاءِ، أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ كَلَامٌ، فَطَلَبَ أَبُو بَكْرٍ مِن عُمَرَ أَنَّ يَسْتَغْفِرَ لَهُ فَامْتَنَعَ عُمَرُ، وَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ لَهُ مَا جَرَى، ثُمَّ إنَّ عُمَرَ نَدِمَ، فَخَرَجَ يَطْلُبُ أَبَا بَكْرٍ فِي بَيْتِهِ، فَذُكِرَ لَهُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا جَاءَ عُمَرُ أَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَغْضَبُ لِأَبِي بَكْرٍ؛ وَقَالَ:"أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي جِئْت إلَيْكُمْ فَقُلْت: إنِّي رَسُولُ اللهِ إلَيْكُمْ، فَقُلْتُمْ: كَذَبْت، وَقَالَ أَبُو بَكرٍ: صَدَقْت، فَهَل أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي فَهَل أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي"

(1)

؟

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الصُّحْبَةَ فِيهَا خُصُوصٌ وَعُمُومٌ، وَعُمُومُهَا يَنْدَرِجُ فِيهِ كُلُّ مَن رَآهُ مُؤْمِنًا بَهْ، وَلهَذَا يُقَال: صَحِبْته سَنَةً، وَشَهْرًا، وَسَاعَةً، وَنَحْو ذَلِك.

ومُعَاوِيةُ وَعَمْرُو بْنُ العاص وَأَمْثَالُهُم مِن الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَتَّهِمْهُم أَحَدٌ مِن السَّلَفِ بِنِفَاق.

وَأَيْضًا: فَعَمْرُو بْنُ العاص وَأَمْثَالُهُ مِمَّن قَدِمَ مُهَاجِرًا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ هَاجَرُوا إلَيْهِ مِن بِلَادِهِمْ طَوْعًا لَا كَرْهًا، وَالْمُهَاجِرُونَ لَمْ يَكُن فِيهِمْ مُنَافِقٌ، وَإِنَّمَا كَانَ النِّفَاقُ فِي بَعْضِ مَن دَخَلَ مِن الْأَنْصَارِ.

وَأَمَّا مُعَاوِيةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَأَمْثَالُهُ مِن الطُّلَقَاءِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ؛ كَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، هَؤُلَاءِ وَغَيْرُهُم مِمَن حَسُنَ إسْلَامُهُم بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُتَّهَمْ أَحَدٌ مِنْهُم بَعْدَ ذَلِك بِنِفَاقِ.

(1)

رواه البخاري (3661).

ص: 359

وَمُعَاوِيَةُ قَد اسْتَكْتَبَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: "اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ وَالْحِسَابَ، وَقِه الْعَذَابَ"

(1)

.

وَكَانَ أَخُوهُ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ خَيْرًا مِنْهُ وَأَفْضَلَ، وَهُوَ أَحَدُ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ بَعَثَهُم أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه فِي فَتْحِ الشَّامِ. [35/ 58 - 65]

* * *

(الْحَسَنَة الْعَظِيمَة يَغْفِرُ الله بِهَا السَّيِّئَةَ الْعَظِيمَةَ)

5211 -

فِي "الصَّحِيحِ"

(2)

عَن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَهُ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، وَقَالَ لَهُمَا: ائْتِيَا رَوْضَةَ خاخ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً، وَمَعَهَا كِتَابٌ، قَالَ عَلِيٌّ: فَانْطَلَقْنَا تَتَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى لَقِينَا الظَّعِينَةَ، فَقُلْنَا: أَيْنَ الْكِتَابُ؟ فَقَالَتْ: مَا مَعِي كِتَابٌ، فَقُلْنَا لَهَا: لتخرجن الْكِتَابَ أَو لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ، قَالَ: فَأَخْرَجَتْهُ مِن عِقَاصِهَا، فَأتَيْنَا به النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَإِذَا كِتَابٌ مِن حَاطِبٍ إلَى بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ يُخْبِرُهُم بِبَعْضِ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَا هَذَا يَا حَاطِبُ؟ "، فَقَالَ: وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا فَعَلْت هَذَا ارْتدَادًا عَن دِينِي، وَلَا رِضَاءً بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنْ كُنْت امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ، وَلَمْ أَكُنْ مِن أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَن مَعَك مِن الْمُسْلِمِينَ لَهُم قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهِم أَهَالِيهمْ بِمَكَّةَ، فَأَحْبَبْت إذ فَاتَنِي ذَلِك مِنْهُم أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُم يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي.

وَفِي لَفْظٍ: وَعَلِمْت أَن ذَلِك لَا يَضُرُّك؛ يَعْنِي: لِأَنَّ اللهَ يَنْصُرُ رَسُولَهُ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا.

فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إنَّهُ قَد شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيك أَنَّ اللهَ قَد اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ لَهُمْ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَد غَفَرْت لَكُمْ".

(1)

رواه أحمد (17152)، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (3227): إسناده حسن في الشواهد.

(2)

البخاري (3007).

ص: 360

فَهَذِهِ السَّيِّئَةُ الْعَظِيمَةُ غَفَرَهَا اللهُ لَهُ بِشُهُودِ بَدْرٍ.

فَدَلَّ ذَلِك عَلَى أَنَّ الْحَسَنَةَ الْعَظِيمَةَ يَغْفِرُ اللهُ بِهَا السَّيئةَ الْعَظِيمَةَ

(1)

. [35/ 67 - 68]

* * *

(لَا يُشْهَدُ لِمُعَيَّن بِالْجَنَّةِ إلَّا بِدَلِيل خَاصٍّ، وَلَا يُشْهَدُ عَلَى معَيَّنٍ بِالنَّارِ إلَّا بِدَلِيل خَاصٍّ)

5212 -

لَا يُشْهَدُ لِمُعَيَّن بِالْجَنَّةِ إلَّا بِدَلِيل خَاصٍّ، وَلَا يُشْهَدُ عَلَى مُعَيَّنٍ بِالنَّارِ إلَّا بِدَلِيل خَاصٍّ، وَلَا يُشْهَدُ لَهُم بِمُجَرَّدِ الظَّنِّ مِن انْدِرَاجِهِمْ فِي الْعُمُومِ؛ لِأَنَّهُ قَد يَنْدَرجُ فِي العمومين فَيَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7، 8].

وَإِنَّمَا يَقُولُ بِحُبُوطِ الْحَسَنَاتِ كُلِّهَا بِالْكَبِيرَةِ الْخَوَارجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِتَخْلِيدِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ.

وَسَائِرُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَئِمَّةُ الدِّينِ لَا يَعْتَقِدُونَ عِصْمَةَ أَحَدٍ مِن الصَّحَابَةِ وَلَا الْقَرَابَةِ وَلَا السَّابِقِينَ وَلَا غَيْرِهِمْ؛ بَل يَجُوزُ عِنْدَهُم وُقُوعُ الذُّنُوبِ مِنْهُمْ، وَاللهُ تَعَالَى يَغْفِرُ لَهُم بِالتَّوْبَةِ، وَيَرْفَعُ بِهَا دَرَجَاتِهِمْ، وَيَغْفِرُ لَهُم بِحَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ، أَو بِغَيْرِ ذَلِك مِن الْأَسْبَابِ.

وَلَكِنَّ الْأَنْبِيَاءَ رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ هُم الَّذِينَ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إنَّهُم مَعْصُومُونَ مِن الْإِصْرَارِ عَلَى الذُّنُوبِ، فَأَمَّا الصِّدِّيقونَ، وَالشُّهَدَاءُ، وَالصَّالِحُونَ: فَلَيْسُوا بِمَعْصُومِينَ، وَهَذَا فِي الذُّنُوبِ الْمُحَقَّقَةِ.

(1)

فلا ينبغي لمن قارف كبيرة أو موبقة أن يقنط أو يكسل عن الطاعة، فإذا علم أن من الطاعات ما يُكفر بها السيئات ولو عظمت ازداد نشاطًا وإقبالًا على فعل الخير.

ص: 361

وَأَمَّا مَا اجْتَهَدُوا فِيهِ: فَتَارَةً يُصِيبُونَ، وَتَارَةً يُخْطِئُونَ.

فَإِذَا اجْتَهَدُوا فَأَصَابُوا فَلَهُم أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدُوا وَأَخْطَؤُوا فَلَهُم أَجْرٌ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ، وَخَطَؤُهُم مَغْفُورٌ لَهُمْ.

وَأَهْلُ الضَّلَالِ يَجْعَلُونَ الْخَطَأَ وَالْإِثْمَ مُتَلَازِمَيْنِ: فَتَارَةً يَغْلُونَ فِيهِمْ وَيَقُولُونَ: إنَّهُم مَعْصُومُونَ.

وَتَارَةً يَجْفُونَ عَنْهُم وَيَقُولُونَ: إنَّهُم بَاغُونَ بِالْخَطَأِ.

وَأَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ لَا يَعْصِمُونَ وَلَا يُؤَثِّمون.

وأما الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ: "إنَّ عَمَّارًا تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ"

(1)

: لَيْسَ فِي كَوْنِ عَمَّارٍ تَقْتُلهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ مَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَاهُ، فَإِنَّهُ قَد قَالَ اللهُ تَعَالَى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 9، 10]، فَقَد جَعَلَهُم مَعَ وُجُودِ الِاقْتِتَالِ وَالْبَغْيِ مُؤْمِنِينَ إخْوَةً؛ بَل مَعَ أَمْرِهِ بِقِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ جَعَلَهُم مُؤْمِنِينَ. وَلَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ بَغْيًا وَظُلْمًا أَو عُدْوَانًا يُخْرِجُ عُمُومَ النَّاسِ عَن الْإِيمَانِ، وَلَا يُوجِبُ لَعْنَتَهُمْ، فَكَيْفَ يُخْرِجُ ذَلِك مَن كَانَ مِن خَيْرِ الْقُرُونِ؟

وَكُلُّ مَن كَانَ بَاغِيًا، أَو ظَالِمًا، أَو مُعْتَدِيًا، أَو مُرْتَكِبًا مَا هُوَ ذَنْبٌ فَهُوَ قِسْمَانِ:

أ- مُتَأَوِّلٌ.

ب- وَغَيْرُ مُتَأَوِّلٍ.

فَالْمُتَأَوِّلُ الْمُجْتَهِدُ؛ كَأَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، الَّذِينَ اجْتَهَدُوا، وَاعْتَقَدَ بَعْضُهُم حِلَّ أُمُورٍ، وَاعْتَقَدَ الْآخَرُ تَحْرِيمَهَا، كَمَا اسْتَحَلَّ بَعْضُهُم بَعْضَ أَنْوَاعِ الْأَشْرِبَةِ،

(1)

رواه البخاري (447)، ومسلم (2916).

ص: 362

وَبَعْضُهُم بَعْضَ الْمُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ، وَبَعْضُهُم بَعْضَ عُقُودِ التَّحْلِيلِ وَالْمُتْعَةِ، وَأَمْثَالُ ذَلِك، فَقَد جَرَى ذَلِك وَأَمْثَالُهُ مِن خِيَارِ السَّلَفِ.

فَهَؤُلَاءِ الْمُتَأَوِّلُونَ الْمُجْتَهِدُونَ غَايَتُهُم أَنَّهُم مُخْطِئُونَ، وَقَد قَالَ اللهُ تَعَالَى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] وَقَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ"

(1)

أَنَّ اللهَ اسْتَجَابَ هَذَا الدُّعَاءَ.

وَقَد أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَن دَاوُد وَسُلَيْمَانَ عليه السلام أنَّهُمَا حَكَمَا فِي الْحَرْثِ، وَخَصَّ أَحَدَهُمَا بِالْعِلْمِ وَالْحُكْمِ، مَعَ ثَنَائِهِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْعِلْمِ وَالْحُكْمِ.

وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِذَا فَهِمَ أَحَدُهُم مِن الْمَسْأْلَةِ مَا لَمْ يَفْهَمْهُ الْآخَرُ لَمْ يَكُن بِذَلِك مَلُومًا وَلَا مَانِعًا لِمَا عُرِفَ مِن عِلْمِهِ وَدِينِهِ

(2)

، وَإِن كَانَ ذَلِك مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُكْمِ يَكُون إثْمًا وَظُلْمًا، وَالْإِصْرَارُ عَلَيْهِ فِسْقًا؛ بَل مَتَى علِمَ تَحْرِيمهُ ضَرُورَةً كَانَ تَحْلِيلُهُ كُفْرًا؛ فَالْبَغْيُ هُوَ مِن هَذَا الْبَابِ.

أَمَا إذَا كَانَ الْبَاغِي مُجْتَهِدًا وَمُتَأَوِّلًا، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّهُ بَاغٍ؛ بَل اعْتَقَدَ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ وَإِن كَانَ مُخْطِئًا فِي اعْتِقَادِهِ: لَمْ تَكُنْ تَسْمِيَتُهُ بَاغِيًا مُوجِبَةً لِإِثْمِهِ، فَضْلًا عَن أَنْ تُوجِبَ فِسْقَهُ.

وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ بِقِتَالِ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلينَ يَقُولُونَ: مَعَ الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ قِتَالُنَا لَهُم لِدَفْعِ ضَرَرِ بَغْيِهِمْ لَا عُقُوبَةً لَهُمْ؛ بَل لِلْمَنْعِ مِن الْعُدْوَانِ.

وَيَقُولُونَ: إنَّهُم بَاقُونَ عَلَى الْعَدَالَةِ لَا يُفَسَّقُونَ.

وَيَقُولُونَ: هُم كَغَيْرِ الْمُكَلَّفِ، كَمَا يُمْنَعُ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ وَالنَّاسِي وَالْمغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمُ مِن الْعُدْوَانِ أَنْ لَا يَصْدُرَ مِنْهُمْ؛ بَل تُمْنَعُ الْبَهَائِمُ مِن الْعُدْوَانِ.

(1)

مسلم (125).

(2)

وعلى هذا؛ فلا ينبغي لمن علم الحق والصواب في مسألة أن يرد بعنف ويُثرب على من اجتهد وأخطأ من العلماء أو طلاب العلم فيها.

ص: 363

ثُمَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْبَغْيُ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ: يَكُون ذَنْبًا، وَالذُّنُوبُ تَزُولُ عُقُوبَتُهَا بِأَسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ: بِالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ، وَالْمَصَائِبِ الْمُكَفِّرَةِ، وَغَيْرِ ذَلِك.

ثُمَّ إنَّ عَمَّارًا تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ لَيْسَ نَصًّا فِي أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لمعاوية وَأَصْحَابِهِ؛ بَل يُمْكِنُ أنَّهُ أُرِيدَ بَهْ تِلْكَ الْعِصَابَةُ الَّتِي حَمَلَتْ عَلَيْهِ حَتَّى قَتَلَتْهُ، وَهِيَ طَائِفَةٌ مِن الْعَسْكَرِ، وَمَن رَضِيَ بِقَتْلِ عَمَّارٍ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَهَا.

وَمِن الْمَعْلُومِ أَنَّهُ كَانَ فِي الْعَسْكَرِ مَن لَمْ يَرْضَ بِقَتْلِ عَمَّارٍ؛ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاص وَغَيْرِهِ؛ بَل كُلُّ النَّاسِ كَانُوا مُنْكرِينَ لِقَتْلِ عَمَّارٍ، حَتَّى مُعَاوِيةُ، وَعَمْرٌو.

وَالْفُقَهَاءُ لَيْسَ فِيهِمْ مَن رَأْيه الْقِتَالُ مَعَ مَن قَتَلَ عَمَّارًا، لَكِنْ لَهُم قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِمَا أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ:

أ- مِنْهُم مَن يَرَى الْقِتَالَ مَعَ عَمَّارٍ وَطَائِفَتِهِ.

ب- وَمِنْهُم مَن يَرَى الْإِمْسَاكَ عَن الْقِتَالِ مُطْلَقًا.

وَفِي كُلٍّ مِن الطَّائِفَتَيْنِ طَوَائِفُ مِن السَّابِقِينَ الْأَوَّلينَ.

فَفِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: عَمَّارٌ، وَسَهْلُ بْنُ حنيف، وَأَبُو أَيُّوبَ.

وَفِي الثَّانِي: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مسلمة، وَأُسَامَةُ بْنُ زيدٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ وَنَحْوُهُمْ.

وَلَعَلَّ أَكْثَرَ الْأَكَابِرِ مِن الصَّحَابَةِ كَانُوا عَلَى هَذَا الرَّأْيِ، وَلَمْ يَكن فِي الْعَسْكَرَيْنِ بَعْدَ عَلِيٍّ أَفَضْلُ مِن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَكَانَ مِن الْقَاعِدِينَ.

وحَدِيثُ عَمَّارٍ: قَد يَحْتَجُّ بِهِ مَن رَأَى الْقِتَالَ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ قَاتِلُوهُ بُغَاةً؛ فَاللهُ يَقُول: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} .

والمتمسكون يَحْتَحُّونَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أَنَّ الْقُعُودَ عَن الْفِتْنَةِ خَيْرٌ مِن الْقِتَالِ فِيهَا، وَتَقُولُ: إنَّ هَذَا الْقِتَالَ وَنَحْوَهُ هُوَ قِتَالُ الْفِتْنَةِ؛ كَمَا

ص: 364

جَاءَت أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ تُبَيِّنُ ذَلِك، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لمْ يَأْمُرْ بِالْقِتَالِ، وَلَمْ يَرْضَ بِهِ، وَإِنَّمَا رَضِيَ بِالصُّلْحِ، وَإِنَّمَا أَمَرَ اللهُ بِقِتَالِ الْبَاغِي، وَلَمْ يَأْمُرْ بِقِتَالِهِ ابْتِدَاءً.

بَل غَالِبُ النَّاسِ لَا يَخْلُو مِن ظُلْمٍ وَبَغْي، وَلَكِنْ إذَا اقْتَتَلَتْ طَائِفَتَانِ مِن الْمُؤْمِنِينَ فَالْوَاجِبُ الْإِصْلَاحُ بَيْنَهُمَا، وَإِن لَمْ تَكُنْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا مَأْمُورَةً بِالْقِتَالِ، فَإِذَا بَغَت الْوَاحِدَةُ بَعْدَ ذَلِك قُوتِلَتْ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَتْرُكِ الْقِتَالَ؛ وَلَمْ تُجِبْ إلَى الصُّلْحِ، فَلَمْ يَنْدَفِعْ شَرُّهَا إلَّا بِالْقِتَالِ، فَصَارَ قِتَالُهَا بِمَنْزِلَةِ قِتَالِ الصَّائِلِ الَّذِي لَا يَنْدَفِعُ ظُلْمُهُ عَن غَيْرِهِ إلَّا بِالْقِتَالِ. [35/ 68 - 78]

وَإِذَا كَانَ كَذَلِك: فَالْوَاجِبُ أَنْ يُسْعَى بَيْنَ هَاتِينَ الطَّائِفَتَيْنِ بِالصُّلْحِ الَّذِي أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَيُقَالَ لِهَذِهِ: مَا تَنْقِمُ مِن هَذِهِ؟ وَلهَذِهِ: مَا تَنْقِمُ مِن هَذِهِ؟ فَإِنْ ثَبَتَ عَلَى إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا اعْتَدَتْ عَلَى الْأُخْرَى بِإِتْلَافِ شَيْءٍ مِن الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ: كَانَ عَلَيْهَا ضَمَانُ مَا أَتْلَفَتْهُ.

وَإِن كَانَ هَؤُلَاءِ أَتْلَفوا لِهَؤُلَاءِ، وَهَؤُلَاءِ أَتْلَفُوا لِهَؤُلَاءِ تَقَاصُّوا بَيْنَهُمْ، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى} [البقرة: 178]. [35/ 81]

وَالْإِصْلَاحُ لَهُ طُرُقٌ:

أ- مِنْهَا: أَنْ تُجْمَعَ أَمْوَالُ الزَّكَوَاتِ وَغَيْرُهَا حَتَّى يُدْفَعَ فِي مِثْل ذَلِك، فَإِنَّ الْغُرْمَ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ يُبِيحُ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَ مِن الزَّكَاةِ بِقَدْرِ مَا غَرِمَ.

ب- وَمِن طُرُقِ الصُّلْحِ: أَنْ تَعْفُوَ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَو كِلَاهُمَا عَن بَعْضِ مَالِهَا عِنْدَ الْأُخْرَى مِن الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ.

ج- وَمِن طُرُقِ الصُّلْحِ: أَنْ يَحْكمَ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ، فَيُنْظَر مَا أَتْلَفَتْهُ كُلُّ طَائِفَةٍ مِن الْأُخْرَى مِن النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ، فَيَتَقَاصَّانِ {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} ، وَإِذَا فَضَلَ لِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إلَيْهِ بِإِحْسَانِ.

ص: 365

فَإِنْ كَانَ يَجْهَلُ عَدَدَ الْقَتْلَى، أَو مِقْدَارَ الْمَالِ: جَعَلَ الْمَجْهُولَ كَالْمَعْدُومِ.

وَإِذَا ادَّعَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى بِزِيَادَة: فَإِمَّا أَنْ تُحَلِّفَهَا عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ تُقِيمَ الْبَيِّنَةَ، وَإِمَّا تَمْتَنِعُ عَن الْيَمِينِ فَيُقْضَى بِرَدِّ الْيَمِينِ أَو النُّكُولِ.

فَإِنْ كَانَت إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ تَبْغِي؛ بِأَنْ تَمْتَنِعَ عَن الْعَدْلِ الْوَاجِبِ، وَلَا تُجِيبَ إلَى أَمْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَتُقَاتِلَ عَلَى ذَلِك، أَو تَطْلُبَ قِتَالَ الْأُخْرَى وَإِتْلَافَ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ، كَمَا جَرَتْ عَادَتُهُم بِهِ.

فَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى كَفِّهَا إلَّا بِالْقَتْلِ قُوتِلَتْ حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللهِ.

وَإِن أَمْكَنَ أَنْ تُلْزَمَ بِالْعَدْلِ بِدُونِ الْقِتَالِ مِثْلُ أَنْ يُعَاقِبَ بَعْضَهُمْ، أَو يَحْبِسَ، أَو يَقْتُلَ مَن وَجَبَ قَتْلُهُ مِنْهُمْ، وَنَحْو ذَلِك: عَمِلَ ذَلِك، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْقِتَالِ. [35/ 85 - 87]

5213 -

ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَيْضًا فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّهُ قَالَ عَن الْحَسَنِ ابْنِهِ: "إنَّ ابْنِي هَذَا سَيدٌ، وَسَيصْلِحُ اللهُ بِهِ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِن الْمُسْلِمِينَ"

(1)

، فَأَصْلَحَ اللهُ بِهِ بَيْنَ شِيعَةِ عَلِيٍّ وَشِيعَةِ مُعَاوِيةَ.

وَأَثْنَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْحَسَنِ بِهَذَا الصُّلْحِ الَّذِي كَانَ عَلَى يَدَيْهِ، وَسَمَّاهُ سَيِّدًا بِذَلِك؛ لِأَجْلِ أَنَّ مَا فَعَلَهُ الْحَسَن يُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَيَرْضَاهُ اللهُ وَرَسُولُهُ.

وَلَو كَانَ الِاقْتِتَالُ الَّذِي حَصَلَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ هُوَ الَّذِي أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ لَمْ يَكُن الْأَمْرُ كَذَلِك؛ بَل يَكُونُ الْحَسَنُ قَد تَرَكَ الْوَاجِبَ، أَو الْأَحَبَّ إلَى اللهِ.

وَهَذَا النَّصُّ الصَّحِيحُ الصَّرِيحُ يُبَيِّنُ أَنَّ مَا فَعَلَهُ الْحَسَنُ مَحْمُودٌ، مَرْضِيٌّ للهِ وَرَسُولِهِ. [35/ 70 - 71]

* * *

(1)

رواه البخاري (2704).

ص: 366

‌(هل نازع معاوية عليًّا الخلافة؟ وما عذر الفريقين في قتالهم

؟)

5214 -

مُعَاوِيةُ لَمْ يَدَّعِ الْخِلَافَةَ، وَلَمْ يُبَايَعْ لَهُ بِهَا حَيْنَ قَاتَلَ عَلِيًّا، وَلَمْ يُقَاتِلْ عَلَى أَنَّهُ خَلِيفَةٌ، وَلَا أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْخِلَافَةَ، وَيُقِرُّونَ لَهُ بِذَلِك، وَقَد كَانَ مُعَاوِيةُ يُقِرُّ بِذَلِك لِمَن سَأَلَهُ عَنْهُ، وَلَا كَانَ مُعَاوِيَةُ وَأَصْحَابُهُ يَرَوْنَ أَنْ يَبْتَدُوا عَلِيًّا وَأَصْحَابَهُ بِالْقِتَالِ وَلَا يَعْلُوَا.

بَل لَمَّا رَأَى عَلِيٌّ رضي الله عنه وَأَصْحَابُهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِم طَاعَتُهُ وَمُبَايَعَتهُ، إذ لَا يَكُون لِلْمُسْلِمِيْنِ إلَّا خَلِيفَةٌ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُم خَارِجُونَ عَن طَاعَتِهِ يَمْتَنِعُونَ عَن هَذَا الْوَاجِبِ، وَهُم أَهْلُ شَوْكَةٍ: رَأَى أَنْ يُقَاتِلَهُم حَتَّى يُؤَدُّوا هَذَا الْوَاجِبَ، فَتَحْصُلَ الطَّاعَةُ وَالْجَمَاعَةُ.

وَهُم قَالُوا: إنَّ ذَلِك لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّهُم إذَا قُوتِلُوا عَلَى ذَلِك كَانُوا مَظْلُومِينَ، قَالُوا: لِأَنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ مَظْلُومًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَتَلَتُهُ فِي عَسْكَرِ عَلِيٍّ، وَهُم غَالِبُونَ لَهُم شَوْكَةٌ، فَإِذَا امْتَنَعْنَا ظَلَمُونَا وَاعْتَدَوْا عَلَيْنَا.

وَعَلِيٌّ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُمْ، كَمَا لَمْ يُمْكِنْهُ الدَّفْعُ عَن عُثْمَانَ، وَإِنَّمَا عَلَيْنَا أَنْ نُبَايِعَ خَلِيفَةً يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنْصِفَنَا وَيَبْذُلَ لنَا الْإِنْصَافَ.

* * *

‌(الإمساك عما شجر بين الصحابة والحكمة فيه، وعدم تعيين المصيب إلا

)

5215 -

مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ: أَنَّهُ وَإِن كَانَ الْمُخْتَارُ الْإِمْسَاكَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَالِاسْتِغْفَارَ لِلطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعًا وَمُوَالَاتَهُمْ: فَلَيْسَ مِن الْوَاجِبِ اعْتِقَادُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِن الْعَسْكَرِ لَمْ يَكُن إلَّا مُجْتَهِدًا مُتَأَوِّلًا كَالْعُلَمَاءِ؛ بَل فِيهِم الْمُذْنِبُ وَالْمُسِيءُ، وَفِيهِم الْمُقَصِّرُ فِي الِاجْتِهَادِ لِنَوْعٍ مِن الْهَوَى.

لَكِنْ إذَا كَانَت السَّيِّئَةُ فِي حَسَنَاتٍ كَثِيرَةٍ: كَانَت مَرْجُوحَةً مَغْفُورَةً. [4/ 434]

5216 -

نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التفضيل بين الأنبياء، وعن تفضيله على يونس،

ص: 367

ونحو ذلك من الكلام الذي وإن كان حقًّا في نفس الأمر فقد يفضي إلى فتنة في القلب. وإذا كان الأموات على الإطلاق لا ينبغي لنا ألا نخير بينهم إلا لحاجة؛ فالصحابة الذين أُمرنا بالاستغفار لهم، وبمسألة ألا تجعل في قلوبنا غلَّا لهم أولى، والكلام فيما شجر بينهم يفضي إلى الغل المذموم.

ونحن وإن علمنا بالنوع أن أحد المختلفين مخطئ: فليس علينا أن نَعْلمه بالشخص، إلا في مسألة تتعلق بنا.

فأما اثنان اختلفا في مسألة تختص بأعيانهما: فلا حاجة بنا إلى الكلام في عين المخطئ، وهذا أصل مستمر

(1)

. [المستدرك 2/ 236]

* * *

‌(هل يزيد بن معاوية نَكَتَ رأس الحسين بالقضيب

؟)

5217 -

تَبَيَّنَ أَنَّ الْقِصَّةَ الَّتِي يَذْكُرُونَ فِيهَا حَمْلَ رَأْسِ الْحُسَيْنِ إلَى يَزِيدَ وَنَكْتَهُ إيَّاهَا بِالْقَضِيبِ كَذَبُوا فِيهَا، وَإِن كَانَ الْحَمْلُ إلَى ابْنِ زِيادٍ -وَهُوَ الثَّابِتُ بِالْقِصَّةِ- فَلَمْ يُنْقَلْ بِإِسْنَاد مَعْرُوفٍ أَنَّ الرَّأْسَ حُمِلَ إلَى قُدَّامِ يَزِيدَ، وَلَمْ أَرَ فِي ذَلِكَ إلَّا إسْنَادًا مُنْقَطِعًا، قَد عَارَضَهُ مِن الرِّوَايَاتِ مَا هُوَ أَثْبَتُ مِنْهُ وَأَظْهَرُ، نَقَلُوا فِيهَا أَنَّ يَزِيدَ لَمَّا بَلَغَهُ مَقْتَلُ الْحُسَيْنِ أَظْهَرَ التَّأَلُّمَ مِن ذَلِكَ وَقَالَ: لَعَنَ اللهُ أَهْلَ الْعِرَاقِ، لَقَد كُنْت أَرْضَى مِن طَاعَتِهِمْ بِدُونِ هَذَا، وَقَالَ فِي ابْنِ زِيَادٍ: أَمَا إنَّهُ لَو كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُسَيْنِ رَحِمٌ لَمَا قَتَلَهُ، وَأَنَّهُ ظَهَرَ فِي دَارِهِ النَّوْحُ لِمَقْتَلِ الْحُسَيْنِ، وَأَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أَهْلُهُ وَتَلَاقَى النِّسَاءُ تَبَاكَيْنَ، وَأَنَّهُ خَيَّرَ ابْنَهُ عَلِيًّا بَيْنَ الْمُقَامِ عِنْدَهُ وَالسَّفَرِ إلَى الْمَدِينَةِ فَاخْتَارَ السَّفَرَ إلَى الْمَدِينَةِ، فَجَهَّزَهُ إلَى الْمَدِينَةِ جَهَازًا حَسَنًا.

فَهَذَا وَنَحْوَهُ مِمَّا نَقَلُوهُ بِالْأَسَانِيدِ الَّتِي هِيَ أَصَحُّ وَأَثْبَتُ مِن ذَلِكَ الْإِسْنَادِ

(1)

فليست هذه القاعدة مختصة وقاصرة على ما حصل بين الصحابة، بل يجب إعمالها في كل خلاف حصل بين عالمين، فلا حاجة بنا إلى أن نعرف أعيان المردود عليهم من المجتهدين.

ص: 368

الْمُنْقَطِعِ الْمَجْهُولِ تُبَيِّنُ أَنَّ يَزِيد لَمْ يُظْهِرِ الرضا بِقَتْلِ الْحُسَيْنِ وَأَنَّهُ أَظْهَرَ الْأَلَمَ لِقَتْلِهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِسَرِيرَتِهِ.

وَقَد عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِهِ ابْتِدَاءً لَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ مَا انْتَقَمَ مِن قَاتِلِيهِ وَلَا عَاقَبَهُم عَلَى مَا فَعَلُوا؛ إذ كَانُوا قَتَلُوهُ لِحِفْظِ مُلْكِهِ الَّذِي كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِ مِن الْحُسَيْنِ وَأَهْلِ الْبَيْت رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ.

وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ نَقْلَ رَأْسِ الْحُسَيْنِ إلَى الشَّامِ لَا أَصْلَ لَهُ فِي زَمَنِ يَزِيدَ، فَكَيْفَ بِنَقْلِهِ بَعْدَ زَمَنِ يَزِيدَ؟ وَإِنَّمَا الثَّابِتُ: هُوَ نَقْلُهُ مِن كَرْبَلَاءَ إلَى أَمِيرِ الْعِرَاقِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زَيادٍ بِالْكوفَةِ، وَاَلَّذِي ذَكَرَ الْعُلَمَاءَ أَنَّهُ دُفِنَ بِالْمَدِينَةِ. [27/ 479 - 480]

* * *

‌(هل قتل الحجاج أحدًا من بني هاشم

؟)

5218 -

وقد عَلِمَ أَهْلُ النَّقْلِ كُلُّهُم أَنَّ الْحَجَّاجَ لَمْ يَقْتُلْ أَحَدًا مِن بَنِي هَاشِمٍ، كَمَا عَهِدَ إلَيْهِ خَلِيفَتُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَأَنَّهُ لَمَّا تَزَوَّجَ بِنْتَ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ وَغَيْرِهِمْ مِن قُرَيْشٍ وَرَأَوْهُ لَيْسَ بِكُفْءٍ لَهَا، وَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى فَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا.

بَل بَنُو مَرْوَانَ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَمْ يَقْتُلُوا أَحَدًا مِن بَنِي هَاشِمٍ لَا آلِ عَلِيٍّ وَلَا آلِ الْعَبَّاسِ، إلَّا زيدَ بْنَ عَلِيٍّ الْمَصْلُوبَ بِكُنَاسَةِ الْكوفَةِ وَابْنَهُ يَحْيَى. [27/ 481]

* * *

(فضائل مسلمة الفتح)

5219 -

إيمَانُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنه ثَابِتٌ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ وَإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ؛ كَإِيمَانِ أَمْثَالِهِ مِمَن آمَنَ عَامَ فَتْحِ مَكةَ؛ مِثْل أَخِيهِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَمِثْل سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ،

ص: 369

وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَأَبِي أَسَدِ

(1)

بْنِ أَبِي العاص بْنِ أُمَيَّةَ، وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُسَمَّوْنَ الطُّلَقَاءَ.

وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ مِن أَحْسَنِ النَّاسِ إسْلَامًا وَأَحْمَدُهُم سِيرَةً.

وَقَد اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبَا شفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ -أَبَا مُعَاوِيةَ- عَلَى نَجْرَانَ نَاثِبًا لَهُ، وَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو سُفْيَانَ عَامِلَهُ عَلَى نَجْرَان.

وَكَانَ مُعَاوِيةُ أَحْسَنَ إسْلَامًا مِن أَبِيهِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ، كَمَا أَنَّ أَخَاهُ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ وَمِن أَبِيهِ.

وَكَانَ عَمْرُو بْنُ العاص أَحَدَ الْأُمَرَاءِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ أَيْضًا.

وَقَدَّمَ عَلَيْهِم خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ لِشَجَاعَتِهِ وَمَنْفَعَتِهِ فِي الْجِهَادِ.

فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ وَلَّى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَبَا عُبَيْدَةَ أَمِيرًا عَلَى الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ عمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه كَانَ شَدِيدًا فِي اللهِ، فَوَلَّى أَبَا عُبَيْدَةَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَيِّنًا.

وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه لَيِّنًا وَخَالِدٌ شَدِيدًا عَلَى الْكُفَّارِ، فَوَلَّى اللَّيِّنَ الشَّدِيدَ وَوَلَّى الشَّدِيدَ اللَّيّنَ لِيَعْتَدِلَ الْأَمْرُ، وَكِلَاهُمَا فَعَلَ مَا هُوَ أَحَبُّ إلَى اللهِ تَعَالَى فِي حَقِّهِ؛ فَإِنَّ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم أَكْمَلُ الْخَلْقِ، وَكَانَ شَدِيدًا عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، وَنَعَتَهُ اللهُ تَعَالَى بِأَكْمَلِ الشَّرَائِعِ؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي نَعْتِ أُمَّتِهِ:{أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [افتح: 29].

فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَاسْتُخْلَفَ أَبَا بَكْرٍ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ مِن الشِّدَّةِ مَا لَمْ يَكُن فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ، حَتَّى فَاقَ عُمَرَ فِي ذَلِكَ، حَتَّى قَاتَلَ أَهْلَ الرِّدَّةِ بَعْدَ أَنْ جَهَّزَ جَيْشَ أُسَامَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ تَكْمِيلًا لَهُ لِكَمَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي صَارَ خَلِيفَةً لَهُ.

وَلَمَّا اسْتَخْلَفَ عُمَرَ جَعَلَ اللهُ فِيهِ مِن الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ مَا لَمْ يَكُن فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ تَكْمِيلًا لَهُ، حَتَّى صَارَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلهَذَا اسْتَعْمَلَ هَذَا خَالِدًا، وَهَذَا أَبَا عُبَيْدَةَ.

(1)

لم أجد من هذه كنيته من الطلقاء، ولعله: عَتَّاب بْن أُسيدِ.

ص: 370

وَكَانَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى الشَّامِ إلَى أَنْ وُلِّيَ عُمَرُ، فَمَاتَ يَزِيدُ بْنُ أبِي سُفْيَانَ، فَاسْتَعْمَلَ عُمَرُ مُعَاوَيةَ مَكَانَ أَخِيهِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَبَقِيَ مُعَاوَيَةُ عَلَى وِلَايَتِهِ تَمَامَ خِلَافَتِهِ، وَعُمَرُ وَرَعِيَّتُهُ تَشْكُرُهُ وَتَشْكُرُ سِيرَتَهُ فِيهِمْ، وَتُوَالِيهِ وَتُحِبُّهُ لِمَا رَأَوْا مِن حُلْمِهِ وَعَدْلِهِ، حَتَّى أَنَّهُ لَمْ يَشْكُهُ مِنْهُم مُشْتَكٍ، وَلَا تظلَّمه مِنْهُم مُتَظَلِّمٌ.

وَيَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيةَ لَيْسَ مِن أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا وُلدَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ يَزِيدَ بَاسِمِ عَمِّهِ مِن الصَّحَابَةِ.

وَقَد شَهِدَ مُعَاوِيَةُ، وَأَخُوهُ يَزِيدُ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَغَيْرُهُم مِن مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةَ حنين، وَدَخَلُوا فِي قَؤله تَعَالَى:{ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)} [التوبة: 26].

وَهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ دَخَلُوا فِي قَوْله تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10]؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الطُّلَقَاءَ مُسْلِمَةُ الْفَتْحِ هُم مِمَن أَنْفَقَ مِن بَعْدِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ، وَقَد وَعَدَهُم اللهُ الْحُسْنَى؛ فَإِنَّهُم أَنْفَقُوا بحنين وَالطُّائِفِ، وَقَاتَلُوا فِيهِمَا رضي الله عنهم.

وَقَد أَسْلَمَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ: خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَعَمْرُو بْنُ العاص، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ الحجبي وَغَيْرُهُمْ.

وَأسْلَمَ بَعْدَ الطُّلَقَاءِ: أَهْلُ الطَّائِفِ، وَكَانُوا آخِرَ النَّاسِ إسْلَامًا، وَكَانَ مِنْهُم عُثْمَانُ بْنُ أَبِي العاص الثَّقَفِي الَّذِي أَمَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ، وَكَانَ مِن خِيَارِ الصَّحَابَةِ، مَعَ تَأَخُّرِ إسْلَامِهِ.

فَقَد يَتَأَخَّرُ إسْلَامُ الرَّجُلِ وَيَكُونُ أَفْضَلَ مِن بَعْضِ مَن تَقَدَّمَهُ بِالْإِسْلَامِ، كَمَا إسْلَامُ عُمَر، فَإِنَّهُ يُقَالُ: إنَّهُ أَسْلَمَ تَمَامَ الْأَرْبَعِينَ، وَكَانَ مِمَن فَضَّلَهُ اللهُ

ص: 371

عَلَى كَثِيرٍ مِمَن أَسْلَمَ قَبْلَهُ، وَكَانَ عُثْمَانُ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَسَعْدٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَسْلَمُوا قَبْلَ عُمَر عَلَى يَدِ أَبِي بَكْرٍ، وَتَقَدَّمَهُم عُمَر.

وَأَوَّلُ مَن أَسْلَمَ مِن الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ أَبُو بَكْر، وَمِن الْأَحْرَارِ الصِّبْيَانِ عَلِيٌّ، وَمِن الْمَوَالِي زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَمِن النِّسَاءِ خَدِيجَةُ أَم الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَالصُّحْبَة: اسْمُ جِنْسٍ، تَقَعُ عَلَى مَن صَحِبَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَلِيلًا أَو كَثِيرًا، لَكِنْ كُلٌّ مِنْهُم لَهُ مِن الصُّحْبَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ، فَمَن صَحِبَهُ سَنَةً أَو شَهْرًا أَو يَوْمًا أَو سَاعَةً أَو رَآهُ مُؤْمِنًا فَلَهُ مِن الصُّحْبَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ. [4/ 453 - 464]

* * *

(عَلِيٌّ وَأَصْحَابهُ وَمُعَاوِيَةُ وَأَصْحَابهُ كلاهما عَلَى حَقٍّ، ولكنّ عَلِيًّا وَأَصْحَابَهُ كَانُوا أَقْرَبَ إلَى الْحَقِّ مِن مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ)

5220 -

ثَبَتَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي "الصَّحِيحَيْنِ"

(1)

مِن حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخدري أَنَّهُ قَالَ: "تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِن النَّاسِ، فَتَقْتُلُهُم أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ"، وَفِي لَفْظٍ:"فَتَقْتُلُهُم أَدْنَاهُم إلَى الْحَقِّ"، فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ المُقْتَتِلَتَيْنِ -عَلِي وَأَصْحَابُهُ وَمُعَاوِيةُ وَأَصْحَابُهُ- عَلَى حَقٍّ، وَأَنَّ عَلِيًّا وَأَصْحَابَهُ كانُوا أَقْرَبَ إلَى الْحَقِّ مِن مُعَاوِيةَ وَأَصْحَابِهِ.

فَإِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ هُوَ الَّذِي قَاتَلَ الْمَارِقِينَ، وَهُم الْخَوَارِجُ الحرورية الَّذِينَ كَانُوا مِن شِيعَةِ عَلِيٍّ، ثُمَّ خَرَجُوا عَلَيْهِ وَكَفَّرُوهُ وَكَفَّرُوا مَن وَالَاهُ، وَنَصَبُوا لَهُ الْعَدَاوَةَ وَقَاتَلُوهُ وَمَن مَعَهُ. [4/ 467]

* * *

(1)

سبق تخريجه.

ص: 372

(الصواب مع عليٍّ في قتاله معاوية)

5221 -

عَلِي وَأَصْحَابُهُ أَوْلَى بِالْحَقِّ وَأَقْرَبَ إلَى الْحَقِّ مِن مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ، كَمَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن أَبِي سَعِيدٍ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فِرْقَةٍ مِن الْمُسْلِمِينَ فَتَقْتُلُهُم أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ"

(1)

.

وَكَانَ سَبُّ عَلِيٌّ وَلَعْنُهُ: مِن الْبَغْيِ الَّذِي اسْتَحَقَّتْ بهِ الطَّائِفَةُ أَنْ يُقَالَ لَهَا: الطَّائِفَةُ الْبَاغِيَةُ؛ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(2)

عَن أَمْ سَلَمَةَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "تَقْتُلُ عَمَّارًا الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ".

وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى:

أ- صِحَّةِ إمَامَةِ عَلِيٍّ.

ب- وَوُجُوبِ طَاعَتِهِ.

ج- وَأَنَّ الدَّاعِيَ إلَى طَاعَتِهِ دَاعٍ إلَى الْجَنَّةِ.

د- وَالدَّاعِي إلَى مُقَاتَلَتِهِ دَاعٍ إلَى النَّارِ -وَإِن كَانَ مُتَأَوِّلًا-.

هـ- وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُن يَجُوزُ قِتَالُ عَلِيٍّ.

وَعَلَى هَذَا: فَمُقَاتِلُة مُخْطِئٌ وَإِن كَانَ مُتَأَوِّلًا أَو بَاغٍ بِلَا تَأْوِيلٍ، وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ لِأَصْحَابِنَا، وَهُوَ الْحُكْمُ بِتَخْطِئَةِ مَن قَاتَلَ عَلِيًّا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْفقَهَاءِ الَّذِينَ فَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ قِتَالَ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلينَ.

يَبْقَى أَنْ يُقَالَ: فَاللهُ تَعَالَى قَد أَمَرَ بِقِتَالِ الطَّائِفَةِ الْبَاغِيَةِ، فَيَكُونُ قِتَالُهَا كَانَ وَاجِبًا مَعَ عَلِيٍّ، وَاَلَّذِينَ قَعَدُوا عَن الْقِتَالِ هُم خمْلَةُ أَعْيَانِ الصَّحَابَةِ؛ كَسَعْد، وَزيْدٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأُسَامَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ مسلمة، وَأَبِي بَكْرَةَ، وَهُم يَرْوُونَ النُّصُوصَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْقُعُودِ عَن الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ، وَقَوْلهُ صلى الله عليه وسلم:"الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِن الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِن السَّاعِي"

(3)

.

(1)

رواه مسلم (1065).

(2)

(2916).

(3)

جاء في الأصل: (وَالسَّاعِي فِيهَا خَيْرٌ مِن الْموْضِعِ). =

ص: 373

وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَعَامَّةِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ، حَتَّى قَالَ

(1)

: لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّ قُعُودَ عَلِيٍّ عَن الْقِتَالِ كَانَ أَفْضَلَ لَهُ لَو قَعَدَ، وَهَذَا ظَاهِرٌ مِن حَالِهِ فِي تَلَوُّمِهِ فِي الْقِتَالِ، وَتبَرُّمِهِ بِهِ، وَمُرَاجَعَةِ الْحَسَنِ ابْنِهِ لَهُ فِي ذَلِكَ.

وَهَذَا يُعَارِضُ وُجُوبَ طَاعَتِهِ.

وَبِهَذَا احْتَجُّوا عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَد فِي تَرْكِ التَّرْبِيعِ بِخِلَافَتِهِ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا أَظْهَرَ ذَلِكَ قَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: إذَا قُلْت: كَانَ إمَامًا وَاجِبَ الطَّاعَةِ فَفِي ذَلِكَ طَعْنٌ عَلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، حَيْثُ لَمْ يُطِيعَاهُ بَل قَاتَلَاهُ.

فَقَالَ لَهُم أَحْمَد: إنِّي لَسْت مِن حَرْبِهِم فِي شَيْءٍ.

يَعْنِي: أنَّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ عَلِيٌّ وَإِخْوَانُهُ لَا أَدْخُلُ بَيْنَهُم فِيهِ؛ لِمَا بَيْنَهُم مِن الِاجْتِهَادِ وَالتَّأْوِيلِ الَّذِي هُم أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِن مَسَائِلِ الْعِلْمِ الَّتِي تَعْنِينِي حَتَّى أَعْرِفَ حَقِيقَةَ حَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَأَنَا مَأْمُورٌ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ، وَأنْ يَكُونَ قَلْبِي لَهُم سَلِيمًا، وَمَأْمُورٌ بِمَحَبَّتِهِمْ وَمُوَالَاتِهِمْ، وَلَهُم مِن السَّوَابِقِ وَالْفَضَائِلِ مَا لَا يُهْدَرُ، وَلَكِنَّ اعْتِقَادَ خِلَافَتِهِ وَإِمَامَتِهِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ، وَمَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ، وَإِن كَانَ بَعْضُ الْأَكَابِرِ تَرَكَهُ

(2)

. [4/ 437 - 438]

* * *

(مذاهب العلماء في يزيد بن معاوية، والراجح عند الشيخ)

5222 -

افْتَرَقَ النَّاسُ فِي يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ ثَلَاثُ فِرَقٍ: طَرَفَانِ وَوَسَطٌ:

= ولم يروها أحد من أصحاب الكتب الستة، وقد جاء عند الحاكم (8362)، والضياء في المختارة (1009) -والشيخ ينقل عنه ويعتمد تصحيحه في أحاديث كثيرة-:"وَالسَّاعِي فِيهَا خَيرٌ مِنَ الرَّاكِب، والراكب فِيهَا خير من الْمُوضع".

(1)

لا أعرف من اَلقائل! إلا أن يكون من الناقل لفتوى الشيخ.

(2)

أسهب الشيخ بعد ذلك في ذكر خلاف العلماء في الْقِتَالِ مَعَ عَلِيٍّ رضي الله عنه، هل هو واجبٌ أو مكروه، وذكر أدلة الفريقين.

ثم رجح الشيخ عدم القتال.

ص: 374

فَأَحَدُ الطَّرَفَيْنِ قَالُوا: إنَّه كَانَ كَافِرًا مُنَافِقًا.

وَالطَّرَفُ الثَّانِي: يَظُنُّونَ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا، وَإِمَامَ عَدْلِ، وَأَنَّهُ كَانَ مِن الصَّحَابَةِ.

وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ عِنْدَ مَن لَهُ أَدْنَى عَقْل وَعِلْمِ بِالْأُمُورِ وَسَيْر الْمُتَقَدِّمِينَ.

وَلهَذَا لَا يُنْسَبُ إلَى أَحَدٍ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ الْمَعْرُوفِينَ بِالسُّنَّةِ وَلَا إلَى ذِي عَقْلٍ مِن الْعُقَلَاءِ الَّذِينَ لَهُم رَأْيٌ وَخِبْرَةٌ.

وَالْقوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ مَلِكًا مِن مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ، لَهُ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ، وَلَمْ يُولَدْ إلَّا فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَلَمْ يَكُن كَافِرًا، وَلَكِنْ جَرَى بِسَبَبِهِ مَا جَرَى مِن مَصْرَعِ الْحُسَيْنِ، وَفِعْلِ مَا فُعِلَ بِأَهْلِ الْحَرَّةِ، وَلَمْ يَكُن صَاحِبًا وَلَا مِن أَوْليَاءِ اللهِ الصَّالِحِينَ.

وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.

ثُمَّ افْتَرَقُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ لَعَنَتْهُ، وَفِرْقَةٌ أَحَبَّتْهُ، وَفِرْقَةٌ لَا تَسُبُّهُ وَلَا تُحِبُّهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَن الْإِمَامِ أَحْمَد، وَعَلَيْهِ الْمُقْتَصِدُونَ مِن أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ مِن جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.

قَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَد: قُلْت لِأَبِي: إنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ إنَّهُم يُحِبُّونَ يَزِيدَ؟

فَقَالَ: يَا بُنَيَّ وَهَل يُحِبُّ يَزِيدَ أَحَدٌ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؟

فَقُلْت: يَا أَبَتِ فَلِمَاذَا لَا تَلْعَنُهُ؟

فَقَالَ: يَا بُنَيَّ وَمَتَى رَأَيْت أَبَاك يَلْعَنُ أَحَدًا؟.

وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي لَمَّا سُئِلَ عَن يَزِيدَ: فِيمَا بَلَغَنِي لَا يُسَبُّ وَلَا يُحَبُّ.

وَبَلَغَنِي أَيْضًا أَنَّ جَدَّنَا أَبَا عَبْدِ اللهِ ابْنَ تَيْمِيَّة سُئِلَ عَن يَزِيدَ: فَقَالَ: لَا تَنْقُصْ وَلَا تَزِدْ.

ص: 375

وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ فِيهِ وَفِي أَمْثَالِهِ وَأَحْسَنِهَا.

أَمَّا تَرْكُ سَبِّهِ وَلَعْنَتِهِ:

- فَبِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِسْقُهُ الَّذِي يَقْتَضِي لَعْنَهُ.

- أَو بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ الْمُعَيَّنَ لَا يُلْعَنُ بِخُصُوصِهِ، إمَّا تَحْرِيمًا وَإِمَّا تَنْزِيهًا.

وَهَذَا كَمَا أَنَّ نُصُوصَ الْوَعِيدِ عَامَّةٌ فِي أَكَلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالزَّانِي وَالسَّارِقِ، فَلَا نَشْهَدُ بِهَا عَامَّةً عَلَى مُعَيَّنٍ بِأَنَّهُ مِن أَصْحَابِ النَّارِ؛ لِجَوَازِ تَخَلُّفِ الْمُقْتَضِي عَن الْمُقْتَضَى لِمُعَارِضٍ رَاجِحٍ؛ إمَّا تَوْبَةٍ، وَإِمَّا حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ، وَإِمَّا مَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ، وَإِمَّا شَفَاعَةٍ مَقْبُولَةٍ، وَإِمَّا غَيْرِ ذَلِكَ.

وَلتَرْكِ الْمَحَبَّةِ مَأْخَذَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ مِن الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَا يُوجِبُ مَحَبَّتَهُ، فَبَقِيَ وَاحِدًا مِن الْمُلُوكِ الْمُسَلَّطِينَ، وَمَحَبَّةُ أَشْخَاصِ هَذَا النَّوْعِ لَيْسَتْ مَشْرُوعَةً، وَهَذَا الْمَأْخَذُ وَمَأْخَذُ مَن لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ فِسْقُهُ اعْتَقَدَ تَأْوِيلًا.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ صدَرَ عَنْهُ مَا يَقْتَضِي ظُلْمَهُ وَفِسْقَهُ فِي سِيرَتِه.

وَأَمَّا الَّذِينَ لَعَنُوهُ مِن الْعُلَمَاءِ؛ كَأَبِي الْفَرَجِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ وإلكيا الْهَرَّاسِي وَغَيْرِهِمَا: فَلِما صَدَرَ عَنْهُ مِن الْأَفْعَالِ الَّتِي تُبِيحُ لَعْنَتَهُ.

وَأَمَّا الَّذِينَ سَوَّغُوا مَحَبّتَهُ أَو أَحَبُّوهُ كَالْغَزَالِيِّ والدستي فَلَهُم مَأْخَذَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُسْلِمٌ وُلِّيَ أَمْرَ الْأُمَّةِ عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ وَتَابَعَهُ بَقَايَاهُمْ، وَكَانَت فِيهِ خِصَالٌ مَحْمُودَةٌ، وَكَانَ مُتَأَوِّلًا فِيمَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ مِن أَمْرِ الْحَرَّةِ وَغَيْرِهِ، فَيَقُولُونَ: هُوَ مُجْتَهِدٌ مُخْطِئٌ.

وَالْمَأْخَذُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَد ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيُّ" عَن ابْنِ عُمَر أَنَّ

ص: 376

رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَوَّلُ جَيْشٍ يَغْزُو الْقُسطَنْطينيّةَ مَغْفُورٌ لَهُ"

(1)

، وَأَوَّلُ جَيْشٍ غَزَاهَا كَانَ أَمِيرُهُ يَزِيدَ.

وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَسُوغُ فِيهِمَا الِاجْتِهَادُ؛ فَإِنَّ اللَّعْنَةَ لِمَن يَعْمَلُ الْمَعَاصِيَ مِمَّا يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَاد، وَكَذَلِكَ مَحَبَّةُ مَن يَعْمَلُ حَسَنَاتٍ وَسَيِّئَاتٍ؛ بَل لَا يَتَنَافَى عِنْدَنَا أَنْ يَجْتَمِعَ فِي الرَّجُلِ الْحَمْدُ وَالذَّم، وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، كَذَلِكَ لَا يَتَنَافَى أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْعَى لَهُ، وَأَنْ يُلْعَنَ وَيُشْتَمَ أَيْضًا بِاعْتِبَارِ وَجْهَيْنِ

لَكِنَّ الْحَالَ الْأَوَّلَ أَوْسَطُ وَأَعْدَلُ.

وَبِذَلِكَ أَجَبْت مقدم المغل بولاي، لَمَّا قَدِمُوا دِمَشْقَ فِي الْفِتْنَةِ الْكَبِيرَةِ، وَجَرَتْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مُخَاطَبَاتٌ، فَسَأَلَنِي فِيمَا سَأَلَنِي: مَا تَقُولُونَ فِي يَزِيدَ؟

فَقُلْت: لَا نَسُبُّهُ وَلَا نُحِبُّهُ؛ فَاِنَّهُ لَمْ يَكُن رَجُلًا صَالِحًا فَنُحِبُّهُ، وَنَحْنُ لَا نَسُبُّ أَحَدًا مِن الْمُسْلِمِينَ بِعَيْنِهِ.

فَقَالَ: أَفَلَا تَلْعَنُونَهُ؟ أَمَا كَانَ ظَالِمًا؟ أَمَا قَتَلَ الْحُسَيْنَ؟

فَقُلْت لَهُ: نَحْنُ إذَا ذُكِرَ الظَّالِمُونَ كَالْحَجَّاج بْنِ يُوسُفَ وَأَمْثَالِهِ: نَقُولُ كَمَا قَالَ اللهُ فِي الْقُرْآنِ: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)} [هود: 18]، وَلَا نُحِبُّ أَنْ نَلْعَنَ أَحَدًا بِعَيْنِهِ، وَقَد لَعَنَهُ قَوْم مِن الْعُلَمَاءِ، وَهَذَا مَذْهَبٌ يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، لَكِنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ أَحَبُّ إلَيْنَا وَأَحْسَنُ.

وَأمَّا مَن قَتَلَ الْحُسَيْنَ أو أَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ أَو رَضِيَ بِذَلِكَ: فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا.

قَالَ: فَمَا تُحِبُّونَ أَهْلَ الْبَيْتِ؟

(1)

سبق تخريجه.

ص: 377

قُلْت: مَحَبّتهُم عِنْدَنَا فَرْضٌ وَاجِبٌ يُؤْجَرُ عَلَيْهِ.

قَالَ مُقَدَّمٌ: فَمَن يُبْغِضُ أَهْلَ الْبَيْتِ؟

قُلْت: مَن أَبْغَضَهُم فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا.

ثُمَّ قُلْت لِلْوَزِيرِ الْمَغُولِيِّ: لِأَيِّ شَيْءٍ قَالَ عَن يَزِيدَ، وَهَذَا تتري؟

قَالَ: قَد قَالُوا لَهُ: إنَّ أَهْلَ دِمَشْقَ نَوَاصِبُ!

قُلْت بِصَوْتٍ عَالي: يَكْذِبُ الَّذِي قَالَ هَذا، وَمَن قَالَ هَذَا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ.

وَاللهِ مَا فِي أَهْلِ دِمَشْقَ نَوَاصِبُ، وَمَا عَلِمْت فِيهِمْ ناصبيًّا، وَلَو تَنَقَّصَ أَحَدٌ عَلِيًّا بِدِمَشْقَ لَقَامَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ، لَكِنْ كَانَ -قَدِيمًا لَمَّا كَانَ بَنُو أُمَيَّةَ وُلَاةَ الْبِلَادِ- بَعْضُ بَنِي أُمَيَّةَ يَنْصِبُ الْعَدَاوَةَ لِعَلِيّ وَيَسُبُّهُ، وَأَمَّا الْيَوْمُ فَمَا بَقِيَ مِن أُولَئِكَ أَحَدٌ. [4/ 481 - 488]

5223 -

وَلهَذَا كَانَ الْمُقْتَصِدُونَ مِن أَئِمَّةِ السَّلَفِ يَقُوُلونَ فِي يَزِيدَ وَأَمْثَالِهِ: إنَّا لَا نَسُبُّهُم وَلَا نُحِبُّهُمْ؛ أَيْ: لَا نُحِبُّ مَا صَدَرَ مِنْهُم مِن ظُلْمٍ، وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ يَجْتَمِعُ فِيهِ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ، وَطَاعَاتٌ وَمَعَاصٍ، وَبِرٌّ وَفُجُورٌ وَشَرٌّ، فَيُثِيبُهُ اللهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ، وَيُعَاقِبُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ إنْ شَاءَ، أَو يَغْفِرُ لَهُ، وَيُحِبُّ مَا فَعَلَهُ مِن الْخَيْرِ ويُبْغِضُ مَا فَعَلَهُ مِن الشَّرِّ. [4/ 475]

5224 -

الْحُسَيْنُ رضي الله عنه -وَلُعِنَ مَن قَتَلَهُ وَرَضِيَ بِقَتْلِهِ- قُتِلَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ عَامَ وَاحِدٍ وَسِتِّينَ.

وَكَانَ الَّذِي حَضَّ عَلَى قَتْلِهِ الشِّمْرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ، صَارَ يَكْتُبُ فِي ذَلِكَ إلَى نَائِبِ السُّلْطَانِ عَلَى الْعِرَاقِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِيادٍ، وَعُبَيْدُ اللهِ هَذَا أَمَرَ -بِمُقَاتَلَةِ الْحُسَيْنِ- نَائِبَهُ عُمَرَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، بَعْدَ أَنْ طَلَبَ الْحُسَيْنُ مِنْهُم مَا طَلَبَهُ آحَادُ الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يَجِئْ مَعَهُ مُقَاتِلَةٌ، فَطَلَبَ مِنْهُم أَنْ يَدَعُوهُ إلَى أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْمَدِينَةِ، أَو يُرْسِلُوهُ إلَى يَزِيدَ بْنِ عَمِّهِ، أَو يَذْهَبَ إلَى الثَّغْرِ يُقَاتِلُ الْكُفَّار،

ص: 378

فَامْتَنَعُوا إلَّا أَنْ يَسْتَأْسِرَ لَهُمْ، أَو يُقَاتِلُوهُ، فَقَاتَلُوهُ حَتَّى قَتَلُوهُ وَطَائِفَةً مِن أَهْلِ بَيْتِهِ وَغَيْرِهِمْ.

ثُمَّ حَمَلُوا ثِقْلَهُ وَأَهْلَهُ إلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيةَ إلَى دِمَشْقَ وَلَمْ يَكُن يَزِيدُ أَمَرَهُم بِقَتْلِهِ وَلَا ظَهَرَ مِنْهُ شرُورٌ بِذَلِكَ وَرِضًا بِهِ؛ بَل قَالَ كَلَامًا فِيهِ ذَمٌّ لَهُمْ.

لَكنَّهُ مَعَ هَذَا لَمْ يُقِمْ حَدَّ اللهِ عَلَى مَن قَتَلَ الْحُسَيْنَ رضي الله عنه، وَلَا انْتَصَرَ لَهُ؛ بَل قَتَلَ أَعْوَانَهُ لِإِقَامَةِ مُلْكِهِ. [4/ 505 - 506]

* * *

(مصيبة مقتل الْحُسَيْن رضي الله عنه، وأين دُفن، وأين موضع رأسِه؟ مع بيان عدم صحة نسبة القبور المشهورة لأصحابها)

5225 -

الْحُسَيْنُ رضي الله عنه: قُتِلَ بِكَرْبَلَاءَ قَرِيبٌ مِن الْفُرَاتِ، وَدُفِنَ جَسَدُهُ حَيْثُ قُتِلَ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ إلَى قُدَّامِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِيَادٍ بِالْكُوفَةِ، هَذَا الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ" وَغَيْرُهُ مِن الْأَئِمَّةِ.

وَأَمَّا حَمْلُهُ إلَى الشَّامِ إلَى يَزِيدَ: فَقَد رُوِيَ ذَلِكَ مِن وُجُوهِ مُنْقَطِعَةٍ لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْهَا؛ بَل فِي الرِّوَايَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِن الْكَذِبِ الْمُخْتَلَقِ.

وَاَلَّذِي رَجَّحَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَوْضِعِ رَأسِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنهما هُوَ مَا ذَكَرَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بكار فِي كِتَابِ "أَنْسَابِ قُرَيْشٍ" -وَالزُّبَيْرُ بْنُ بكار هُوَ مِن أَعْلَمِ النَّاسِ وَأَوْثَقِهمْ فِي مِثْل هَذَا- ذَكَرَ أَنَّ الرَّأْسَ حُمِلَ إلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ وَدُفِنَ هُنَاكَ، وَهَذَا مُنَاسِبٌ؛ فَإِنَّ هُنَاكَ قَبْرَ أَخِيهِ الْحَسَنِ، وَعَمِّ أَبِيهِ الْعَبَّاسِ، وَابْنِهِ عَلِيٍّ، وَأَمْثَالِهِمْ.

وَالْحُسَيْنِ رضي الله عنه أَكْرَمَهُ اللهُ تَعَالَى بِالشَّهَادَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ

(1)

، وَأَهَانَ بِذَلِكَ مَن قَتَلَهُ، أَو أَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ، أَو رَضِيَ بِقَتْلِهِ، وَلَهُ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ بِمَن سَبَقَهُ مِن

(1)

العاشر من محرم.

ص: 379

الشُّهَدَاءِ، فَإِنَّهُ وَأَخُوهُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَكَانَا قَد تَرَبَّيَا فِي عِزِّ الْإِسْلَامِ، لَمْ يَنَالَا مِن الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى فِي اللهِ مَا نَالَهُ أَهْل بَيْتِهِ، فَأَكْرَمَهُمَا اللهُ تَعَالَى بِالشَّهَادَةِ تَكْمِيلًا لِكَرَامَتِهِمَا، وَرَفْعًا لِدَرَجَاتِهِمَا، وَقَتْلُهُ مُصِيبَةٌ عَظِيمَةٌ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ قَد شَرَعَ الِاسْتِرْجَاعَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)} [البقرة: 155، 156].

وَمِن أَحْسَنِ مَا يُذْكَرُ هُنَا: أَنَّهُ قَد رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَد

(1)

وَابْنُ مَاجَه

(2)

عَن فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ، عَن أَبِيهَا الْحُسَيْنِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَن أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ، فَذَكَرَ مُصِيبَتَهُ، فَأَحْدَثَ اسْتِرْجَاعًا، وَإِن تَقَادَمَ عَهْدُهَا، كَتَبَ اللهُ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَهُ يَوْمَ أُصِيبَ".

هَذَا حَدِيثٌ رَوَاهُ عَن الْحُسَيْنِ ابْنَتُهُ فَاطِمَةُ الَّتِي شَهِدَتْ مَصْرَعَهُ.

وَقَد علِمَ أَنَّ الْمُصِيبَةَ بِالْحُسَيْنِ تُذْكَرُ مَعَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ، فَكَانَ فِي مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ أَنْ بَلَّغَ هُوَ هَذِهِ السُّنَّةَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ أَنَّهُ كُلَّمَا ذُكِرَتْ هَذِهِ الْمُصِيبَةُ يُسْتَرْجَعُ لَهَا، فَيَكُونُ لِلْإِنْسَانِ مِن الْأَجْرِ مِثْلُ الْأَجْرِ يَوْمَ أُصِيبَ بِهَا الْمُسْلِمُونَ.

وَأَمَّا مَن فَعَلَ مَعَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ بِهَا مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ حَدَثَانِ الْعَهْدِ بِالْمُصِيبَةِ: فَعُقُوبَتُهُ أَشَدُّ؛ مِثْل لَطْمِ الْخُدُودِ، وَشَقِّ الْجُيُوبِ، وَالدُّعَاءِ بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ.

فَكَيْفَ إذَا انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ ظُلْمُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَعْنُهُمْ، وَسَبُّهُمْ، وَإِعَانَةُ أَهْلِ الشِّقَاقِ وَالْإِلْحَادِ عَلَى مَا يَقْصِدُونَهُ لِلدِّينِ مِن الْفَسَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْصِيه إلَّا اللهُ تَعَالَى.

(1)

(1734).

(2)

(1600)، واللفظ له.

قال في مجمع الزوائد (3946): فِيهِ هِشَامُ بْنُ زَيادٍ أَبُو الْمِقْدَامِ وَهُوَ ضَعِيفٌ.

وضعَّفه محققو المسند، والألباني في ضعيف الجامع الصغير (5434).

ص: 380

وَقَوْمٌ مِن الْمُتَسَنِّنَةِ رَوَوْا وَرُوِيَتْ لَهُم أَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ بَنَوْا عَلَيْهَا مَا جَعَلُوهُ شِعَارًا فِي هَذَا الْيَوْمِ يُعَارِضونَ بِهِ شِعَارَ ذَلِكَ الْقَوْمِ، فَقَابَلُوا بَاطِلًا بِبَاطِل، وَرَدُّوا بِدْعَةً بِبِدْعَة، وَإِن كَانَت إحْدَاهُمَا أَعْظَمَ فِي الْفَسَادِ وَأَعْوَنَ لِأَهْلِ الْإِلْحَادِ.

وَلَمْ يَسْتَحِبَّ أَحَدٌ مِن أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الِاغْتِسَالَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَلَا الْكحْلَ فِيهِ وَالْخِضابَ، وَأَمْثَالَ ذَلِكَ، وَلَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ مِن عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِم وَيُرْجَعُ إلَيْهِم فِي مَعْرِفَةِ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ.

وَلَيْسَ الْكَذِبُ فِي هَذَا "الْمَشْهَدِ" وَحْدَهُ؛ بَل الْمَشَاهِدُ الْمُضَافَةُ إلَى الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ كَذِبٌ:

- مِثْل الْقَبْرِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ قَبْرُ نُوحٍ، قَرِيبٌ مِن بَعْلَبَكَّ فِي سَفْحِ جَبَلِ لُبْنَانَ.

- وَمِثْل الْقَبْرِ الَّذِي فِي قِبْلَةِ مَسْجِدِ جَامِعِ دِمَشْقَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ قَبْرُ هُودٍ، فَإِنَّمَا هُوَ قَبْرُ مُعَاوِيةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ.

- وَمِثْل الْقَبْرِ الَّذِي فِي شَرْقِيِّ دِمَشْقَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ قَبْرُ أبي بْنِ كَعْبٍ؛ فَإِنَّ أبيًّا لَمْ يَقْدَمْ دِمَشْقَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.

- وَكَذَلِكَ مَا يُذْكَرُ فِي دِمَشْقَ مِن قُبُورِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّمَا توُفِّينَ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوَيَّةِ.

- وَكَذَلِكَ مَا يُذْكَرُ فِىِ مِصْرَ مِن قَبْرِ عَلِيِّ بْنِ الْخسَيْنِ، أَو جَعْفَرٍ الصَّادِقِ، أَو نَحْوِ ذَلِكَ: هُوَ كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ فَإِنَّ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ وَجَعْفَرًا الصَّادِقَ إنَّمَا تُوُفِّيَا بِالْمَدِينَةِ.

وَقَد قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْكِنَانِيُّ: لَيْسَ فِي قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ مَا ثَبَتَ إلَّا قَبْرُ "نَبِيِّنَا".

قَالَ غَيْرُهُ: وَقَبْرُ "الْخَلِيلِ" أَيْضًا.

ص: 381

وَسَبَبُ اضْطِرَابِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَمْرِ الْقُبُورِ: أَنَّ ضَبْطَ ذَلِكَ لَيْسَ مِن الدِّينِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَد نَهَى أَنْ تُتَّخَذَ الْقُبُورُ مَسَاجِدَ، فَلَمَّا لَمْ يَكُن مَعْرِفَةُ ذَلِكَ مِن الدِّينِ لَمْ يَجِبْ ضَبْطُهُ. [4/ 507 - 516]

* * *

(لَيس في خلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ وَبَنِي الْعَبَّاسِ زنْديق أو مُنافق)

5226 -

لَمْ يَكُن مِن الْخُلَفَاءِ الَّذِينَ لَهُم وِلَايَةٌ عَامَّةٌ مِن خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَبَنِيَّ الْعَبَّاسِ: أَحَدٌ يُتَّهَمُ بِالزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ، وَبَنُو أُمَيَّةَ لَمْ يُنْسَبْ أَحَدٌ مِنْهُم إلَى الزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ، وَإِن كَانَ قَد يُنْسَبُ الرَّجُلُ مِنْهُم إلَى نَوْعٍ مِن الْبِدْعَةِ، أو نَوْعٍ مِن الظُّلْمِ، لَكِنْ لَمْ يُنْسَبْ أَحَدٌ مِنْهُم مِن أَهْلِ الْعِلْمِ إلَى زَنْدَقَةِ وَنِفَاقٍ. [4/ 477]

* * *

(اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَي أَنَّ مُعَاوِيَةَ أَفْضَلُ مُلُوكِ هَذِهِ الْأُمَّةِ)

5227 -

اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أنَّ مُعَاوَيةَ أَفْضَلُ مُلُوكِ هَذِهِ الْأُمَّةِ؛ فَإِنَّ الْأَرْبَعَةَ قَبْلَهُ كَانُوا خُلَفَاءَ نُبُوَّةٍ، وَهُوَ أَوَّلُ الْمُلُوكِ، كَانَ مُلْكُهُ مُلْكًا وَرَحْمَةً؛ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ:"يَكُونُ الْمُلْكُ نُبُوَّةً وَرَحْمَةً، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ وَرَحْمَةٌ، ثُمَّ يَكُونُ مُلْكٌ وَرَحْمَةٌ، ثُمَّ مُلْكٌ وَجَبْريَّةٌ، ثُمَّ مُلْكٌ عَضُوضٌ".

وَكَانَ فِي مُلْكِهِ مِن الرَّحْمَةِ وَالْحُلْمِ وَنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ خَيْرًا مِن مُلْكِ غَيْرِهِ.

وَأَمَّا مَن قَبْلَهُ فَكَانُوا خُلَفَاءَ نُبُوَّةٍ؛ فَإِنَّهُ قَد ثَبَتَ عَنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "تَكُونُ خِلَافَةُ النَّبُوَّةِ ثَلَاِثينَ سَنَةً ثُمَّ تَصِيرُ مُلْكًا"

(1)

. [4/ 478]

* * *

(1)

رواه أبو داود (4646)، وقال الألباني في صحيح أبي داود: حسن صحيح.

ص: 382

(لم يصحّ حديثٌ فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ)

5228 -

الْمُصَنِّفُونَ فِي الْأَحْكَامِ: يَذْكُرُونَ قِتَالَ الْبُغَاةِ وَالْخَوَارجِ جَمِيعًا، وَلَيْسَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ حَدِيثٌ، إلَّا حَدِيثَ كَوْثَرِ بْنِ حَكِيمٍ عَن نَافِعٍ وَهُوَ مَوْضُوعٌ.

وَأَمَّا كُتُبُ الْحَدِيثِ الْمُصَنَّفَةُ؛ مِثْلُ "صَحِيحِ الْبُخَارِيُّ" وَ"السُّنَنِ": فَلَيْسَ فِيهَا إلَّا قِتَالُ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَالْخَوَارِجِ، وَهُم أَهْلُ الْأَهْوَاءِ.

وَكَذَلِكَ كُتُبُ السُّنَّةِ الْمَنْصُوصَةِ عَن الْإِمَامِ أَحْمَد وَنَحْوِهِ.

وَكَذَلِكَ -فِيمَا أَظُنُّ

(1)

- كُتُبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ: لَيْسَ فِيهَا بَابُ قِتَالِ الْبُغَاةِ.

وَإِنَّمَا ذَكَرُوا أَهْلَ الرّدَّةِ وَأَهْلَ الْأَهْوَاءِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الثَّابتُ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقِتَالِ لِمَن خَرَجَ عَن الشَّرِيعَةِ وَالسُّنًّةِ، فَهَذَا الَّذِي أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

وَأَمَّا الْقِتَالُ لِمَن لَمْ يَخْرُجْ إلَّا عَن طَاعَةِ إمَامٍ مُعَيَّنٍ فَلَيْسَ فِي النُّصُوصِ أَمْرٌ بِذَلِكَ. [4/ 451]

* * *

‌({فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة:

178])

5229 -

قَالَ تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} وَالْعَفْوُ: الْفَضْلُ، فَإِذَا فَضَلَ لِوَاحِدَة مِن الطَّائِفَتَيْنِ شَيْءٌ عَلَى الْأُخْرَى {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178] وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ يُؤَدِّيهِ بِإِحْسَانٍ، وَإِن تَعَذَّرَ انْ تَضْمَنَ وَاحِدَةٌ لِلْأُخْرَى. [35/ 81]

* * *

(1)

هذا دليل على أنّ الشيخ أملى هذه الفتوى من حفظه، وهكذا الحال في أغلب فتاويه ومؤلّفاتِه.

ص: 383

(السعي لإصلاح ذات البين)

5230 -

الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ قَادِرٍ أَنَّ يَسْعَى فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُم وَيأْمُرَهُم بِمَا أَمَرَ اللهُ بِهِ مَهْمَا أَمْكَنَ. [35/ 81]

* * *

(عقوبة الباغي والظالم)

5231 -

مَن كَانَ مِن الطَّائِفَتَيْنِ يَظُنُّ أَنَّهُ مَظْلُومٌ مَبْغِيٌّ عَلَيْهِ فَإِذَا صَبَرَ وَعَفَا أَعَزَّهُ اللهُ وَنَصَرَهُ؛ كَمَا ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إلَّا عِزًّا"

(1)

، وَقَالَ تَعَالَى:{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} [الشورى: 42، 43]؛ فَالْبَاغِي الظَّالِمُ يَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَإِنَّ الْبَغْيَ مَصْرَعُهُ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَلَو بَغَى جَبَلٌ عَلَى جَبَلٍ لَجَعَلَ اللهُ الْبَاغِيَ مِنْهُمَا دَكًّا، وَمِن حِكْمَةِ الشِّعْرِ:

قَضَى اللهُ أَنَّ الْبَغْيَ يَصْرَعُ أَهْلَهُ

وَأَنَّ عَلَى الْبَاغِي تَدُورُ الدَّوَائِرُ

وَيَشْهَدُ لِهَذَا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ} [يونس: 23].

وَقَد قَالَ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ فِي حَقِّ عَدُوِّهِمْ: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120].

فَمَن اتَّقَى اللهَ مِن هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ بِصِدْقٍ وَعَدْلٍ، وَلَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ، وَصَبَرَ عَلَى أَذَى الْآخَرِ وَظُلْمِهِ: لَمْ يَضُرَّهُ كَيْدُ الْآخَرِ؛ بَل يَنْصُرُهُ اللهُ عَلَيْهِ. [35/ 82 - 83]

* * *

(1)

رواه مسلم (2588).

ص: 384

(لَمْ يُؤَاخِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ مُهَاجِرٍ وَمُهَاجِرٍ، وَأَنْصَارِيٍّ وَأَنْصَارِيٍّ)

5232 -

مَا يَذْكُرُ بَعْضُ الْمُصنِّفِينَ فِي السِّيرَةِ مِن أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم آخَى بَيْنَ عَلِيٍّ وَأبِي بَكْرٍ، وَنَحْو ذَلِكَ: فَهَذَا بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِحَدِيثِهِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُؤَاخِ بَيْنَ مُهَاجِرٍ وَمُهَاجِرٍ، وَأَنْصَارِيٍّ وَأَنْصَارِيٍّ، وَإِنَّمَا آخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَكَانَت الْمُؤَاخَاةُ وَالْمُحَالَفَةُ يَتَوَارَثُونَ بِهَا دُونَ أَقَارِبِهِمْ، حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] فَصَارَ الْمِيرَاثُ بِالرَّحِمِ دُونَ هَذِهِ الْمُؤَاخَاةِ وَالْمُحَالَفَةِ. [35/ 93]

* * *

‌الكفر والردة

5233 -

الْكفْرُ: هُوَ عَدَمُ الْإِيمَانِ، سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ تَكْذِيبٌ، أَو اسْتِكْبَارٌ، أَو إبَاءٌ، أَو إعْرَاضٌ، فَمَن لَمْ يَحْصُلْ فِي قَلْبِهِ التَّصْدِيقُ وَالِانْقِيَادُ فَهُوَ كَافِرٌ. [7/ 639]

5234 -

أَبُو حَنِيفَةَ رَأَى أَنَّ الْكُفْرَ مُطْلَقًا إنَّمَا يُقَاتَلُ صَاحِبُهُ لِمُحَارَبَتِهِ، فَمَن لَا حِرَابَ فِيهِ لَا يُقَاتَلُ، وَلهَذَا يَأْخُذُ الْجِزْيَةَ مِن غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ الْعَرَبِ وَإِن كَانُوا وَثَنِيِّينَ.

وَقَد وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ مَالِكٌ وَأَحْمَد فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَمَعَ هَذَا يَجُوزُ الْقَتْلُ تَعْزِيرًا وَسِيَاسَةً فِي مَوَاضِعَ

(1)

.

وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَعِنْدَهُ نَفْسُ الْكُفْرِ هُوَ الْمُبِيحُ لِلدَّمِ، إلَّا أَنَّ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ

(1)

وقد ذكر الشيخ أَنَّ أبا حنيفةَ لَا يُوجِبُ قَتْلَ أحَدٍ عَلَى تَرْكِ وَاجِبِ أَصْلًا حَتى الْإيمَانِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقْتُلُ إلَّا الْمُحَارِبَ لِوُجُودِ الْحِرَابِ مِنْهُ، وَهُوَ فِعْلُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَيُسَوِّي بَيْنَ الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ وَالطَّارِئِ، فَلَا يَقْتُلُ الْمُرْتَدَّ لِعَدَمِ الْحِرَابِ مِنْهُ، وَلَا يَقْتُلُ مَن تَرَكَ الصَّلَاةَ أو الزَّكَاةَ إلَّا إذَا كَانَ فِي طَائِفَةٍ مُمْتَنِعَةٍ فيقَاتِلُهُم لِوُجُودِ الْحِرَابِ، كَمَا يُقَاتِلُ الْبُغَاةَ.

وَأَمَّا الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فَيَقْتُلُ الْقَاتِلَ وَالزَّانيَ الْمُحْصَنَ وَالْمُحَارِبَ إذَا قتَلَ. (20/ 99 - 100)

ص: 385

تُرِكُوا لِكَوْنِهِمْ مَالًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَيُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ لِوُجُودِ الْكُفْرِ وَامْتِنَاعِ سَبَبِهَا عِنْدَهُ مِنَ الْكُفْرِ بِلَا مَنْفَعَةٍ.

وَأَمَّا أَحْمَد فَالْمُبِيحُ عِنْدَهُ أَنْوَاعٌ:

أ- أَمَّا الْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ فَالْمُبِيحُ عِنْدَهُ هُوَ وُجُودُ الضَّرَرِ مِنْهُ، أَو عَدَمُ النَّفْعِ فِيهِ.

أمَّا الْأَوَّلُ: فَالْمُحَارَبَةُ بِيَدٍ أَو لِسَانٍ، فَلَا يُقْتَلُ مَن لَا مُحَارَبَةَ فِيهِ بِحَالٍ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالرُّهْبَانِ وَالْعُمْيَانِ وَالزَّمْنَى وَنَحْوِهِمْ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ.

ب- وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَالْمُبِيحُ عِنْدَهُ هُوَ الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَهُوَ نَوْعٌ خَاصٌّ مِنَ الْكُفْرِ، فَإِنَّهُ لَو لَمْ يُقْتَلْ ذَلِكَ لَكَانَ الدَّاخِلُ فِي الدِّينِ يَخْرُجُ مِنْهُ، فَقَتْلُهُ حِفْظ لِأَهْلِ الدِّينِ وَللدِّينِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ النَّقْصِ، وَيَمْنَعُهُم مِنَ الْخرُوجِ عَنْهُ بِخِلَافِ مَن لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ.

ج- وَأَمَّا تَارِكُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِذَا قُتِلَ كَانَ عِنْدَهُ مِن قِسْمِ الْمُرْتَدِّينَ. [20/ 101 - 102]

5235 -

مَا تَرَكَهُ الْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ مِن وَاجِبٍ؛ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ: فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَقِدْ وُجُوبَهُ، سَوَاءٌ كَانَتِ الرِّسَالَةُ قَد بَلَغَتْهُ أَو لَمْ تَكُنْ بَلَغَتْهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ كُفْرُهُ جُحُودًا، أَو عِنَادًا، أَو جَهْلًا.

وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ؛ بِخِلَافِ مَا عَلَى الذِّمِّيِّ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي أَوْجَبَتِ الذِّمَّةُ أَدَاءَهَا؛ كَقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَرَدِّ الْأَمَانَاتِ، والغصوب، فَإِنَّ هَذِهِ لَا تَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ، لَا لِالْتِزَامِهِ وُجُوبَهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ.

وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ الْمَحْضُ فَلَمْ يَلْتَزِمْ وُجُوبَ شَيْءٍ لِلْمُسْلِمِينَ، لَا مِنَ الْعِبَادَاتِ وَلَا مِنَ الْحُقُوقِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ شَيْءٍ لَا مِن حُقُوقِ اللهِ، وَلَا مِن حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِن كَانَ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهَا لَو لَمْ يُسْلِمْ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ.

ص: 386

وَكَذَلِكَ مَا فَعَلَهُ الْكَافِرُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الَّتِي يَسْتَحِلُّهَا فِي دِينِهِ؛ كَالْعُقُودِ والقبوض الْفَاسِدَةِ، كَعَقْدِ الرِّبَا، وَالْمَيْسِرِ، وَبَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَالنِّكَاحِ بِلَا وَليٍّ وَلَا شُهُودٍ، وَقَبْضِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ بِالْقَهْرِ، وَالِاسْتِيلَاءِ

(1)

، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْمُحَرَّمَ يَسْقُطُ حُكْمُهُ بِالْإِسْلَامِ.

وَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ: فَإِنَّهُ لَا يُعَاقَبُ عَلَى مَا فَعَلَهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مِن مُحَرَّمٍ، سَوَاءٌ كَانَ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ أَو لَمْ يَعْتَقِدْ، فَلَا يُعَاقَبُ عَلَى قَتْلِ نَفْسٍ، وَلَا رِبًا، وَلَا سَرِقَةٍ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ، سَوَاءٌ فَعَلَ ذَلِكَ بِالْمُسْلِمِينَ أَو بِأَهْلِ دِينِهِ.

فَأَمَّا الْمُرْتَدُّ: فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا تَرَكَهُ فِي الرِّدَّةِ مِن صَلَاةٍ وَزَكَاةٍ وَصِيَامٍ فِي الْمَشْهُورِ، وَلَزِمَهُ مَا تَرَكَهُ قَبْلَ الرِّدَّةِ فِي الْمَشْهُورِ.

وَأَمَّا الْمُسْلِمُ: إذَا تَرَكَ الْوَاجِبَ قَبْلَ بُلُوغ الْحُجَّةِ، أَو مُتَأَوِّلًا .. فَهَل يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ هَذِهِ الْوَاجِبَاتِ؟ عَلَى قَؤْلَيْنِ فِي الْمَذهَبِ.

وَأَصْلُهَا: أَنَّ حُكْمَ الْخِطَابِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ هَل يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ قَبْلَ بُلُوغِهِ؟

وإذَا عُفِيَ لِلْكَافِرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ عَمَّا تَرَكَهُ مِنَ الْوَاجِبَاتِ لِعَدَمِ الِاعْتِقَادِ - وَإِن كَانَ اللهُ قَد فَرَضَهَا عَلَيْهِ، وَهُوَ مُعَذَّبٌ عَلَى تَرْكِهَا- فَلَأَنْ يَعْفُوَ لِلْمُسْلِمِ عَمَّا تَرَكَهُ مِنَ الْوَاجِبَاتِ لِعَدَمِ اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ غَيْرُ مُعَذِّبِهِ عَلَى التَّرْكِ لِاجْتِهَادِهِ، أَو تَقْلِيدِهِ، أَو جَهْلِهِ الَّذِي يُعْذَرُ بِهِ: أَوْلَى وَأَحْرَى.

وَكَمَا أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ؛ فَالتَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهَا.

وَكَذَلِكَ مَا فَعَلَهُ مِنَ الْعُقُودِ والقبوض الَّتِي لَمْ يَبْلُغْهُ تَحْرِيمَهَا لِجَهْلٍ يُعْذَرُ بِهِ، أَو تَأْوِيلٍ .. فَإِنَّهُ يُقَرُّ عَلَى مَا قَبَضَهُ بِهَذِهِ الْعُقُودِ، وَيقَرُّ عَلَى النِّكَاح الَّذِي مَضَى مُفْسِدُهُ.

(1)

أي: مَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ حال الْحَرْبِ مِن أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَسْلَم.

ص: 387

وَشُبْهَة الْخَالِفِ نَظَرُهُ إلَى أَنَّ هَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ وَجَعَلَ الْمُسْلِمِينَ جِنْسًا وَاحِدًا، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمُتَأَوِّلِ وَغَيْرِهِ.

وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: مَا أَتْلَفَهُ أَهْلُ الْبَغْيِ الْمُتَأَوِّلُونَ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ مِنَ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ، هَل يَضْمَنُونَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ:

إحْدَاهُمَا: يَضْمَنُونَهُ؛ جَعَلَا لَهُم كَالْمُحَارِبِينَ، وَكَقِتَالِ الْعَصَبِيَّةِ الَّذِي لَا تَأْوِيلَ فِيهِ.

وَهَذَا نَظِيرُ مَن يَجْعَلُ الْعُقُودَ والقبوض الْمُتَأَوَّلَ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَا تَأْوِيلَ فِيهِ.

والثانية: لَا يَضْمَنُونَهُ، وَعَلَى هَذَا اتَّفَقَ السَّلَفُ، كَمَا قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُتَوَافِرُونَ، فَأَجْمَعُوا أَنَّ كُلَّ دَمٍ أَو مَالٍ أَو فَرْجٍ أُصِيبَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَلَا ضَمَانَ فِيهِ.

وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْته فِيمَا تَرَكَهُ الْمُسْلِمُ مِن وَاجِبٍ، أَو فَعَلَهُ مِن مُحَرَّمٍ بِتَأْوِيلِ اجْتِهَادٍ أَو تَقْلِيدٍ: وَاضِحٌ عِنْدِي، وَحَالُهُ فِيهِ أَحْسَنُ مِن حَالِ الْكَافِرِ الْمُتَأَوِّلِ.

وَهَذَا لَا يَمْنَعُ أَنْ أُقَاتِلَ الْبَاغِيَ الْمُتَأَوِّلَ، وَأَجْلِدَ الشَّارِبَ الْمُتَأَوِّلَ، وَنَحْو ذَلِكَ؛ فَإِنَّ التَّأْوِيلَ لَا يَرْفَعُ عُقُوبَةَ الدُّنْيَا مُطْلَقًا، إذ الْغَرَضُ بِالْعُقُوبَةِ دَفْعُ فَسَادِ الِاعْتِدَاءِ، كَمَا لَا يَرْفَعُ عُقُوبَةَ الْكافِرِ.

وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي قَضَاءِ مَا تَرَكَهُ مِن وَاجِبٍ، وَفِي الْعُقُودِ والقبوض الَّتِي فَعَلَهَا بِتَأْوِيلٍ، وَفِي ضَمَانِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ الَّتِي اسْتَحَلَّهَا بِتَأْوِيلٍ، كَمَا اسْتَحَلَّ أُسَامَةُ قَتْلَ الَّذِي قَتَلَهُ بَعْدَمَا قَالَ: لَا إلهَ إلَّا اللهُ.

وَكَذَلِكَ لَا يُعَاقَبُ عَلَى مَا مَضَى إذَا لَمْ يَكُن فِيهِ زَجْرٌ عَنِ الْمُسْتَقْبِلِ.

وَلَكِنَّ النَّظَرَ فِي فَصْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: مَن تَرَكَ الْوَاجِبَ، أَو فَعَلَ الْمحَرَّمَ لَا بِاعْتِقَاد وَلَا بجَهْل يُعْذَرُ فِيهِ، وَلَكِنْ جَهْلًا وَإِعْرَاضًا عَن طَلَبِ الْعِلْمِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ، أَو

ص: 388

أَنَّهُ سَمِعَ إيجَابَ هَذَا وَتَحْرِيمَ هَذَا، وَلَمْ يَلْتَزِمْة إعْرَاضًا لَا كُفْرًا بِالرِّسَالَةِ .. فقَد يُقَالُ: هَذَا عَاصٍ ظَالِم بِتَرْكِ التَّعَلُّمِ وَالِالْتِزَامِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْعَفْوِ عَنِ الْمُخْطِئِينَ فِي تَأْوِيلِهِ الْعَفْوُ عَن هَذَا.

وَقَد يُقَالُ -وَهُوَ أَظْهَرُ فِي الدَّلِيلِ وَالْقِيَاسِ-: لَيْسَ هَذَا بِأَسْوَأ حَالٍ مِنَ الْكَافِرِ الْمُعَانِدِ الَّذِي تَرَكَ الْقُرْآنَ كِبْرًا وَحَسَدًا وَهَوًى، أَو سَمِعَة وَتَدَبَّرَهُ وَاسْتَيْقَنَتْ نَفْسُهُ أَنَّهُ حَقٌّ مِن عِنْدِ اللهِ، وَلَكِنْ جَحَدَ ذَلِكَ ظُلْمًا وَعُلُوًّا كَحَالِ فِرْعَوْنَ، وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ لَا يُكَذِّبُونَك، وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحدُونَ.

وَالتَّوْبَةُ كَالْإِسْلَامِ، فَإِنَّ الَّذِي قَالَ:"الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ"

(1)

هُوَ الَّذِي قَالَ: "التَّوْبَةُ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا" وَذَلِكَ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ.

وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَن تَرَكَ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ عَامِدًا: هَل يَقْضِيهِ؟ .. وَقَد ثَبَتَ عَنِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: عَنِ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَن وَقْتِهَا: "فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، وَاجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُم نَافِلَةً"

(2)

.

وَدَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتِّفَاقُ السَّلَفِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ مَن يُضَيِّعُ الصَّلَاةَ فَيُصَلِّيهَا بَعْدَ الْوَقْتِ، وَالْفَرْق بَيْنَ مَن يَتْرُكُهَا، وَلَو كَانَت بَعْدَ الْوَقْتِ لَا تَصِحُّ بِحَالٍ لَكَانَ الْجَمِيعُ سَوَاءً؛ لَكِنَّ الْمُضَيِّعَ لِوَقْتِهَا كَانَ مُلْتَزِمًا لِوُجُوبِهَا، وَإِنَّمَا ضيَّعَ بَعْضَ حُقُوقِهَا وَهُوَ الْوَقْتُ، وَأَتَى بِالْفِعْلِ

(3)

.

واخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْإِمَامِ إذَا أَخَذَ الزَّكَاةَ قَهْرًا: هَل تُجْزِئُهُ فِي الْبَاطِنِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، مَعَ أَنَّهَا لَا تُسْتَعَادُ مِنْهُ:

أَحَدِهِمَا: لَا تجْزِيهِ لِعَدَمِ النِّيَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا.

(1)

رواه مسلم (121).

(2)

رواه مسلم (648).

(3)

انْتَصَر الشيخ لقول الجمهور، والمشهور عنه أنه يرى الرأي الثاني، كما في (22/ 40 - 41).

ص: 389

وَالثَّانِي: أَنَّ نِيَّةَ الْإِمَامِ تَقُومُ مَقَامَ نِيَّةِ الْمُمْتَنِعِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ نَائِبُ الْمُسْلِمِينَ فِي أَدَاءِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِمْ.

وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْخُذُهَا مِنْهُم بِإِعْطَائِهِمْ إيَّاهَا، وَقَد صَرَّحَ الْقُرْآنُ بِنَفْيِ قَبُولِهَا؛ لِأنَّهُم يُنْفِقُونَ وَهُم كَارِهُونَ.

فَعُلِمَ أَنَّهُ إنْ أَنْفَقَ مَعَ كَرَاهَةِ الْإِنْفَاقِ لَمْ تُقْبَل مِنْهُ، كَمَن صَلَّى رِيَاءً.

لَكِنْ لَو تَابَ الْمُنَافِقُ وَالْمُرَائِي: فَهَل تَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ الْإِعَادَةُ، أَو تَنْعَطِفُ تَوْبَتُهُ عَلَى مَا عَمِلَهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَيُثَابَ عَلَيْهِ، أَو لَا يُعِيدُ وَلَا يُثَابُ؟

أَمَّا الْإِعَادَةُ: فَلَا تَجِبُ عَلَى الْمُنَافِقِ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ قَد تَابَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ جَمَاعَةٌ عَنِ النِّفَاقِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْهُم بِالْإِعَادَةِ.

وَأَمَّا الْمُرَائِي إذَا تَابَ مِنَ الرِّيَاءِ مَعَ كَوْنِهِ كَانَ يَعْتَقِدُ الْوُجُوبَ: فَهُوَ شَبِيهٌ بِالْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَتَكلَّمُ فِيهَا، وَهِيَ مَسْأَلَةُ مَن لَمْ يَلْتَزِمْ أَدَاءَ الْوَاجِبِ، وَإِن لَمْ يَكُن كَافِرًا فِي الْبَاطِنِ، فَفِي إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ تَنْفِيرٌ عَظِيمٌ عَنِ التَّوْبَةِ.

فَإِنَّ الرَّجُلَ قَد يَعِيشُ مُدَّةً طَوِيلَةً يُصَلِّي وَلَا يُزَكِّي، وَقَد لَا يَصُومُ أَيْضًا، وَلَا يُبَالِي مِن أَيْنَ كَسَبَ الْمَالَ: أَمِن حَلَالٍ أَمْ مِن حِرَامٍ؟ وَلَا يَضْبِطُ حُدُودَ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَهُوَ فِي جَاهِلِيَّةٍ، إلَّا أَنَّهُ مُنْتَسِبٌ إلَى الْإِسْلَامِ.

فَإِذَا هَدَاهُ اللهُ وَتَابَ عَلَيْهِ: فَإِنْ أُوْجِبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ جَمِيعِ مَا تَرَكَهُ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، وَأُمِرَ بِرَدِّ جَمِيعِ مَا اكْتَسَبَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ

(1)

، وَالْخُرُوجِ عَمَّا يُحِبُّهُ مِنَ الْأبْضَاعِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ: صَارَتِ التَّوْبَةُ فِي حَقِّهِ عَذَابًا، وَكَانَ الْكُفْرُ حِينَئِذٍ أَحَبَّ إلَيْهِ مِن ذَلِكَ الْإِسْلَامِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ تَوْبَتَهُ مِنَ الْكُفْرِ رَحْمَةٌ، وَتَوْبَتَهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ عَذَابٌ.

(1)

ولو كانت حرامًا، كمن كان يُرابي أو يُقامر، فنقول: ما بيدك فهو ملك لك حلال، إلا إذا أخذتَ مالًا غصبًا أو سرقةً فيجب عليك ردّه.

ص: 390

وَأَعْرِفُ طَائِفَةً مِن الصَّالِحِينَ مَن يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ كَافِرًا لِيُسْلِمَ فَيُغْفَرَ لَهُ مَا قَد سَلَفَ؛ لأنَّ التَّوْبَةَ عِنْدَهُ مُتَعَذِّرَةٌ عَلَيْهِ أَو مُتَعَسِّرَةٌ عَلَى مَا قَد قِيلَ لَهُ وَاعْتَقَدَهُ مِن التَّوْبَةِ.

ثُمَّ هَذَا مُنَفِّرٌ لِأَكْثَرِ أَهْلِ الْفُسُوقِ عَن التَّوْبَةِ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِالْمُؤَيِّسِ لِلنَّاسِ مِن رَحْمَةِ اللهِ.

فَإِنَّ كُفْرَ الْكَافِرِ لَمْ يُسْقِطْ عَنْهُ مَا تَرَكَهُ مِن الْوَاجِبَاتِ، وَمَا فَعَلَهُ مِن الْمُحَرَّمَاتِ: لِكَوْنِ الْكَافِرِ كَانَ مَعْذُورًا .. وَإِنَّمَا غُفِرَ لَهُ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ تَوْبَةٌ، وَالتَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا.

فَيُشْبِهُ -وَاللهُ أَعْلَمُ- أَنْ يُجْعَلَ حَالُ هَؤُلَاءِ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ كَحَالِ غَيْرِهِمْ

(1)

. [22/ 7 - 22]

5236 -

اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَن اسْتَخَفَّ بِالْمُصْحَفِ؛ مِثْل أَنْ يُلْقِيَهُ فِي الْحُشِّ أَو يَرْكُضَهُ بِرِجْلِهِ إهَانَةً لَهُ: أنَّهُ كَافِرٌ مُبَاحُ الدَّمِ. [8/ 425]

5237 -

مَن أَنْكَرَ تَحْرِيمَ شَيْءٍ مِن الْمُحَرَّمَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ كَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْفَوَاحِشِ أَو شَكَّ فِي تَحْرِيمِهِ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ وَيُعَرَّفُ التَّحْرِيمَ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَكَانَ مُرْتَدًّا عَن دِينِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُدْفَنْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. [28/ 218]

5238 -

اَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ السَّلَفِ أَنَّ مَن جَحَدَ رُؤْيَةَ اللهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَهُوَ كَافِرٌ، فَإِنْ كَانَ مِمَّن لَمْ يَبْلُغْهُ الْعِلْمُ فِي ذَلِكَ عُرّفَ ذَلِكَ كَمَا يُعَرَّفُ مَن لَمْ تَبْلُغْهُ شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الْجُحُودِ بَعْدَ بُلُوغِ الْعِلْمِ لَهُ فَهُوَ كَافِرٌ. [6/ 486]

(1)

يتبين من كلامه رحمه الله شدة التيسير والرحمة التي يتحلى بها، ومراعاته للمصالح والمفاسد ومقاصد الشريعة، وكيف أنّ خِلطته بالناس وتلمس واقعهم أثّر في آرائه وفتاويه.

وهكذا يجب أن يكون المفتي والداعي إلى الله تعالى، لا أنْ يكون منعزلًا ويُصدر الأحكام والفتاوى والبحوث.

ص: 391

5239 -

جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا تَبِينُ مِنْهُ زَوْجَتُهُ إلَّا إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَلَمْ يَرْجِعْ إلَى الْإِسْلَامِ. [23/ 17]

* * *

(حُكْمُ الْمُرْتَدِّ)

5240 -

المرتد:

أ- من أشرك بالله تعالى.

ب- أو كان مبغضًا للرسول صلى الله عليه وسلم ولمَا جاء به اتفاقًا.

ج- أو ترك إنكار منكر بقلبه.

د- أو توهم أن أحدًا من الصحابة أو التابعين أو تابعيهم قاتل مع الكفار، أو أجاز ذلك.

هـ- أو أنكر مجموعًا عليه إجماعًا قطعيًّا.

و- أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم.

ز- ومن شك في صفة من صفات الله تعالى ومثله لا يجهلها فمرتد، وإن كان مثله يجهلها فليس بمرتد؛ ولهذا لم يكفر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الشاك في قدرة اللّه على إعادته؛ لأنه لا يكون إلا بعد الرسالة. [المستدرك 5/ 129]

5241 -

التنجيم كالاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية من السحر، ويحرم إجماعًا. [المستدرك 5/ 130]

5242 -

نصوصه صريحة في عدم تكفير الخوارج والقدرية والمرجئة وغيرهم وإنما كفر الجهمية لا أعيانهم .. ومذاهب الأئمة: الإمام أحمد وغيره رحمهم الله مبنية على التفصيل بين النوع والعين. [المستدرك 5/ 130 - 131]

5243 -

لا يضمن المرتد ما أتلفه بدار الحرب، أو في جماعة مرتدة ممتنعة، وهو رواية عن أحمد. [المستدرك 5/ 131]

ص: 392

5244 -

لو مات أبو الطفل أو الحمل أو المميز، أو مات أحدهما في دارنا فهو مسلم، وعنه: لا يحكم بإسلامه، قال ابن القيم في أحكام أهل الذمة: وهو قول الجمهور، وربما ادُّعي فيه إجماع معلوم متيقن، واختاره شيخنا. [المستدرك 5/ 131]

* * *

(بيانُ أَنَّ عُقُوبَةَ الْمُرْتَدِّ أَعْظَمُ مِن عُقُوبَةِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ)

5245 -

اسْتَقَرَّت السُّنَّةُ بِأَنَّ عُقُوبَةَ الْمُرْتَدِّ أَعْظَمُ مِن عُقُوبَةِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ مِن وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ:

أ- مِنْهَا: أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَل بِكُلِّ حَالٍ، وَلَا يُضْرَبُ عَلَيْهِ جِزْيَةٌ وَلَا تُعْقَدُ لَهُ ذِمَّةٌ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ.

ب- وَمِنْهَا: أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ وَإِن كَانَ عَاجِزًا عَن الْقِتَالِ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي لَيْسَ هُوَ مِن أَهْلِ الْقِتَالِ، فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد؛ وَلهَذَا كَانَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد.

ج- وَمِنْهَا: أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَرِثُ وَلَا يُنَاكحُ، وَلَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ.

إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِن الْأَحْكَامِ.

وَإِذَا كَانَت الرِّدَّةُ عَن أَصْلِ الدِّينِ أَعْظَمَ مِن الْكُفْرِ بِأَصْلِ الدِّينِ: فَالرِّدَّةُ عَن شَرَائِعِهِ أَعْظَمُ مِن خُرُوجِ الْخَارجِ الْأَصْلِيِّ عَن شَرَائِعِهِ؛ وَلهَذَا كَانَ كُلُّ مُؤْمِنٍ يَعْرِفُ أَحْوَالَ التِّتَارِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ فِيهِمْ مِن الْفُرْسِ وَالْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ شَرٌّ مِن الْكُفَّارِ الْأَصْلِيِّينَ مِن التُّرْكِ وَنَحْوِهِمْ، وَهُم بَعْدَ أَنْ تَكلَّمُوا بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ تَرْكِهِمْ لِكثِير مِن شَرَائِعِ الدِّينِ خَيْرٌ مِن الْمُرْتَدِّينَ مِن الْفُرْسِ وَالْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ.

ص: 393

وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مَن كَانَ مَعَهُم مِمَّن كَانَ مُسْلِمَ الْأَصْلِ هُوَ شَرٌّ مِن التُّرْكِ الَّذِينَ كَانُوا كُفَّارًا؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ الْأَصْلِيَّ إذَا ارْتَدَّ عَن بَعْضِ شَرَائِعِهِ كَانَ أَسْوَأَ حَالًا مِمَّن لَمْ يَدْخُلْ بَعْدُ فِي تِلْكَ الشَّرَائِعِ، مِثْل مَانِعِي الزَّكَاةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِمَّن قَاتَلَهُم الصِّدِّيقُ.

وَإِن كَانَ الْمُرْتَدُّ عَن بَعْضِ الشَّوَائِعِ مُتَفَقِّهًا أَو مُتَصَوِّفًا أَو تَاجِرًا أَو كَاتِبًا أَو غَيْرَ ذَلِكَ، فَهَؤُلَاءِ شَرٌّ مِن التُّرْكِ الَّذِينَ لَمْ يَدْخُلُوا فِي تِلْكَ الشَّرَائِعِ وَأَصَرُّوا عَلَى الْإِسْلَامِ.

وَلهَذَا يَجِدُ الْمُسْلِمُونَ مِن ضَرَرِ هَؤُلَاءِ عَلَى الدّينِ مَا لَا يَجِدُونَهُ مِن ضَرَرِ أُولَئِكَ، وَيَنْقَادُونَ لِلْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ وَطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ أَعْظَمُ مِن انْقِيَادِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَن بَعْضِ الدِّينِ وَنَافَقُوا فِي بَعْضِهِ، وَإِن تَظَاهَرُوا بِالِانْتِسَابِ إلَى الْعِلْمِ وَالدِّينِ.

وَنَحْنُ عَلَيْنَا أَنْ نُقَاتِلَ الْعَسْكَرَ جَمِيعَهُ؛ إذ لَا يَتَمَيَّزُ الْمُكْرَهُ مِن غَيْرِهِ.

وَقَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ"

(1)

عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "يَغْزُو هَذَا الْبَيْتَ جَيْشٌ مِن النَّاسِ فَبَيْنَمَا هُم بِبَيْدَاءَ مِن الْأَرْضِ إذ خُسِفَ بِهِم، فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ: إنَّ فِيهِمْ الْمُكْرَهَ، فَقَالَ: يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ".

فَاللهُ تَعَالَى أَهْلَكَ الْجَيْشَ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَنْتَهِكَ حُرُمَاتِهِ -الْمُكْرَهُ فِيهِمْ وَغَيْرُ الْمُكْرَهِ- مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمْ، مَعَ أَنَّهُ يَبْعَثُهُم عَلَى نِيَّاتِهِمْ، فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُجَاهِدِينَ أَنْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ الْمُكْرَهِ وَغَيْرِهِ وَهُم لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟

بَل لَو ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّهُ خَرَجَ مُكْرَهًا لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ.

بَل لَو كَانَ فِيهِمْ قَوْمٌ صَالِحُونَ مِن خِيَارِ النَّاسِ وَلَمْ يُمْكِنْ قِتَالُهُم إلَّا بِقَتْلِ هَؤُلَاءِ لَقُتِلُوا أَيْضًا؛ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْكفَّارَ لَو تَتَرَّسُوا بِمُسْلِمِينَ وَخِيفَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إذَا لَمْ يُقَاتِلُوا: فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ نَرْمِيَهُم وَنَقْصِدَ الْكُفَّارَ.

(1)

رواه البخاري (2118)، ومسلم (2882)، واللفظ لمسلم.

ص: 394

وَلَو لَمْ نَخَفْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ: جَازَ رَمْيُ أُولَئِكَ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا فِي أَحَدِ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ.

وَمَن قُتِلَ لِأَجْلِ الْجِهَادِ الَّذِي أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ -هُوَ فِي الْبَاطِنِ مَظْلُومٌ- كَانَ شَهِيدًا وَبُعِثَ عَلَى نِيَّتِهِ، وَلَمْ يَكُن قَتْلُهُ أَعْظَمَ فَسَادًا مِن قَتْلِ مَن يُقْتَلُ مِن الْمُؤْمِنِينَ الْمُجَاهِدِينَ. [28/ 534 - 538]

5246 -

إِنَّ الْنُصَيْرِيَّة مِن أَعْظَمِ النَّاسِ كُفْرًا .. وَهُم مُرْتَدُّونَ مِن أَسْوَأِ النَّاسِ رِدَّةً، تُقْتَلُ مُقَاتِلَتُهُمْ، وَتَغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ.

وَسَبْيُ الذُّرِّيَّةِ فِيهِ نِزَاعٌ، لَكِنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ تُسْبَى الصِّغَارُ مِن أَوْلَادِ الْمُرْتَدِّينَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ سِيرَةُ الصِّدِّيقِ فِي قِتَالِ الْمُرْتَدِّينَ.

وَكَذَلِكَ قَد تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي اسْتِرْقَاقِ الْمُرْتَدّةِ: فَطَائِفَةٌ تَقُولُ: إنَّهَا تُسْتَرَقُّ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَطَائِفَةٌ تَقُولُ: لَا تُسْتَرَقُّ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد.

وَالْمَعْرُوفُ عَن الصحَابَةِ هُوَ الْأَوَّلُ، وَأَنَّهُ تُسْتَرَقُّ مِنْهُ الْمُرْتَدَّاتُ نِسَاءُ الْمُرْتَدِّينَ؛ فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ الَّتِي تَسَرَّى بِهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أُمَّ ابْنِهِ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ مِن سَبْيِ بَنِي حَنِيفَةَ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ قَاتَلَهُم أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه وَالصَّحَابَةُ لَمَّا بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَليدِ فِي قِتَالِهِمْ.

وَأَمَّا إذَا لَمْ يُظْهِرُوا الرَّفْضَ .. وَامْتَنَعُوا: فَإِنَّهُم يُقَاتَلُونَ أَيْضًا، لَكِنْ يُقَاتَلُونَ كَمَا يُقَاتَلُ الْخَوَارِجُ الْمَارِقُونَ.

وَلَا تُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ، وَلَا تُغْنَمُ أَمْوَالُهُم الَّتِي لَمْ يَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى الْقِتَالِ.

وَمَن كَانَ دَاعِيًا مِنْهُم إلَى الضَّلَالِ لَا يَنْكَفُّ شَرُّهُ إلَّا بِقَتْلِهِ: قُتِلَ أَيْضًا، وَإِن أَظْهَرَ التَّوْبَةَ، وَإِن لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ؛ كَأَئِمَّةِ الرَّفْضِ الَّذِينَ يُضِلُّونَ النَّاسَ، كَمَا قَتَلَ الْمُسْلِمُونَ غَيْلَانَ الْقَدَرِيَّ، وَالْجَعْدَ بْنَ دِرْهَمٍ، وَأَمْثَالَهُمَا مِن الدُّعَاةِ. [28/ 553 - 555]

* * *

ص: 395

‌(هَل يُحَاسَبُ الْكُفَّار يَوْمَ الْقِيَامَةِ

؟)

5247 -

سُئِلَ رحمه الله عَن الْكُفَّارِ: هَل يُحَاسَبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تتازَعَ فِيهَا الْمُتَأَخِّرُونَ مِن أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ.

وَفَصْلُ الْخِطَابِ: أَنَّ الْحِسَابَ:

أ- يُرَادُ بِهِ عَرْضُ أَعْمَالِهِمْ عَلَيْهِم وَتَوْبِيخُهُم عَلَيْهَا.

ب- وَيُرَادُ بِالْحِسَابِ مُوَازَنَةُ الْحَسَنَاتِ بِالسَّيِّئَاتِ.

فَإِنْ أُرِيدَ بِالْحِسَابِ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ: فَلَا ريبَ أَنَّهُم يُحَاسَبُونَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.

وَإِن أُرِيدَ الْمَعْنَى الثَّانِي:

- فَإِنْ قُصِدَ بِذَلِكَ أنَّ الْكُفَّارَ تَبْقَى لَهُم حَسَنَاتٌ يَسْتَحِقُّونَ بِهَا الْجَنَّةَ فَهَذَا خَطَأٌ ظَاهِرٌ.

- وَإِن أُريدَ أَنَّهُم يَتَفَاوَتُونَ فِي الْعِقَابِ: فَعِقَابُ مَن كَثُرَتْ سَيِّئَاتُهُ أَعْظَمُ مِن عِقَابِ مَن قَلَّتْ سَيِّئَاتُهُ، وَمَن كَانَ لَهُ حَسَنَاتٌ خُفِّفَ عَنْهُ الْعَذَابُ؛ كَمَا أَنَّ أَبَا طَالِبِ أَخَفُّ عَذَابًا مِن أبِي لَهَب. [4/ 305 - 306]

* * *

(التحذير من التكفير بلا حجة)

5248 -

إِنَّ تَسْلِيطَ الْجُهَّالِ عَلَى تَكْفِيرِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِن أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ، وَإِنَّمَا أَصْلُ هَذَا مِن الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِمَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُم أَخْطَؤُوا فِيهِ مِن الدِّينِ.

وَقَد اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَجُوزُ تَكْفِيرُهُم بِمُجَرَّدِ الْخَطَأِ الْمَحْضِ؛ بَل كُلُّ أَحَدٍ يُؤْخَذُ مِن قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

ص: 396

وَلَيْسَ كُلُّ مَن يُتْرَكُ بَعْضُ كَلَامِهِ لِخَطَأ أَخْطَاهُ يكفرُ ولا يفسُقُ، بل ولا يَأْثَمُ؛ فإن الله تعالى قال في دُعَاءِ المؤمنين:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] وفي "الصَّحِيحِ"

(1)

عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أن اللهَ تَعَالَى قَالَ: قَد فَعَلْت.

وَاتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكَفَّرُ أَحَدٌ مِن عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْمُنَازِعِينَ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَاَلَّذِينَ قَالُوا: إنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِم الصَّغَائِرُ وَالْخَطَأُ وَلَا يُقَرُّونَ عَلَى ذَلِكَ ولَمْ يُكَفَّرْ أَحَدٌ مِنْهُم بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. [35/ 100 - 101]

ومِن الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَنْعَ مِن تَكْفِيرِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي هَذَا الْبَابِ؛ بَل دَفْعُ التَّكْفِيرِ عَن عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَإِن أَخْطَؤُوا: هُوَ مِن أَحَقِّ الْأَغْرَاضِ الشَّرْعِيَّةِ. [35/ 104]

* * *

(حكم من كفَّر المجتهد اجتهادًا سائغًا، وحكم من شاق الرسول)

5249 -

وَمِثْل هَذَا

(2)

يُبَيَّنُ لَهُ الصَّوَابَ، وَأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَكَانَ عَلَيْهِ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِن الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَعَلَيْهِ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، ثُمَّ أَصَرَّ عَلَى مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ وَاتِّبُاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ: فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ.

وَكَذَلِكَ إذَا تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَيْسَ بِكُفْر؛ بَل هُوَ مِمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أنَّهُ قَوْلٌ سَائِغٌ، وَقَائِلُهُ مُجْتَهِدٌ مَأْجُورٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ، سَوَاءٌ أصَابَ أَو أَخْطَأَ، فَإِذَا أَصَرَّ عَلَى تَكْفِيرِ مَن تَبَيَّنَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّة وَالْإِجْمَاعِ أَنَّهُ لَا يَكفُرُ، وَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ يَكْفُرُ: فَأَصَرَّ عَلَى مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ وَاتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. [27/ 233 - 234]

(1)

مسلم (126).

(2)

يعني: من جَعَلَ الْمُطِيعَ للهِ وَرَسُولهِ الَّذِي رَضِيَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَأَنْبِيَاؤُهُ عَمَلَهُ مُجَاهِرًا لَهُمْ بِالْعَدَاوَةِ مُعَانِدًا لَهُمْ، فكفَّر مَنْ حَكَمَ اللهُ وَرَسُولُهُ بِإِيمَانِهِ.

ص: 397

5250 -

هُم فِي مِثْل هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْعَظِيمَةِ يَتَكَلَّمُونَ بِأَنْوَاع مِن الْكَلَامِ صَاحِبُهَا إلَى الِاسْتِتَابَةِ وَالتَّعْزِيرِ وَالتَّعْلِيمِ وَالتَّفْهِيمِ أَحْوَجُ مِنْهُ إلَى الرَّدِّ عَلَيْهِ وَالْمُنَاظَرَةِ لَهُ، كَمَا يُوجَدُ فِي جهَّالِ أَهْلِ الْبِدَع مِن الرَّافِضَةِ وَالْخَوَارجِ وَغَيْرِهِمْ مَن يُسَارعُ إلَى تَكْفِيرِ مَن اتَّبَعَ الرَّسُولَ مِنَ السَّلَفِ؛ لِقِلَّةِ عِلْمِهِ وَسُوءِ فَهْمِهِ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، فَهُم مُبْتَدِعُونَ بِدْعَةً بِجَهْلِهِمْ وَيُكَفِّرُونَ مَن خَالفَهُمْ. [27/ 238]

* * *

(حكم قتل تارك الصلاة)

5251 -

يَجِبُ قَتْلُ كُلِّ مَن لَمْ يُصَلِّ إذَا كَانَ بَالِغًا عَاقِلًا عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد.

وَكَذَلِك تُقَامُ عَلَيْهِم الْحُدُودُ.

وَإِن كَانُوا طَائِفَةً مُمْتَنِعَةً ذَاتَ شَوْكَةٍ: فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهُم حَتَّى يَلْتَزِمُوا أَدَاءَ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْمُتَوَاتِرَةِ؛ كَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ، وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ؛ كَالزِّنَا، وَالرِّبَا، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَمَن لَمْ يُقِرَّ بِوُجُوبِ الصَّلَاة وَالزَّكَاةِ فَإِنَّهُ كَافِرٌ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. [35/ 90]

* * *

‌(حكم تارك الصلاة، وحكم تارك جنس العمل

؟)

5252 -

مَن لَمْ يَعْتَقِدْ وُجُوبَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَصِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَحَجَّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، وَلَا يُحَرِّمْ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ مِن الْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ وَالشِّرْكِ وَالْإِفْكِ: فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَا يُسْتَتَابُ فَاِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ بِاتِّفَاقِ أَئِمةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُغْنِي عَنْهُ التَّكَلُّمُ بِالشَّهَادَتَيْنِ.

وَإِن قَالَ: أَنَا أُقِرُّ بِوُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيَّ، وَأَعْلَمُ أَنَّهُ فَرْضٌ، وَأَنَّ مَن تَرَكَهُ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِذَمِّ اللهِ وَعِقَابِهِ، لَكِنِّي لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ: فَهَذَا أَيْضًا مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ

ص: 398

فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَجِبُ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.

وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ: يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ، فَإِنْ لَمْ يُصَلِّ وَإِلَّا قُتِلَ.

فَإِذَا أَصَرَّ عَلَى الْجُحُودِ حَتَّى قُتِلَ كَانَ كَافِرًا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ.

وَمَن قَالَ: إنَّ كُلَّ مَن تَكَلَّمَ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَلَمْ يُؤَدِّ الْفَرَائِضَ وَلَمْ يَجْتَنِب الْمَحَارِمَ: يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَا يُعَذَّبُ أَحَدٌ مِنْهُم بِالنَّارِ: فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ، يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ.

بَل الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِالشَّهَادَتَيْنِ أَصْنَاف، مِنْهُم مُنَافِقُونَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِن النَّارِ .. وَقَد قَالَ تَعَالَى:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)} [الماعون: 4، 5]، قَالَ الْعُلَمَاءُ:"السَّاهُونَ عَنْهَا" الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَهَا عَن وَقْتِهَا وَاَلَّذِينَ يُفَرِّطُونَ فِي وَاجِبَاتِهَا.

فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُصَلُّونَ الْوَيْلُ لَهُم فَكَيْفَ بِمَن لَا يُصَلِّي؟. [35/ 105 - 106]

* * *

(بيان كفر الْحَلَّاج)

5253 -

الْحَلَّاجُ قُتِلَ عَلَى الزَّنْدَقَةِ الَّتِي ثَبَتَتْ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ وَبِغَيْرِ إقْرَارِهِ، وَالْأَمْرُ الَّذِي ثَبَتَ عَلَيْهِ بِمَا يُوجِبُ الْقَتْلَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.

وَكَانَ يُظْهِرُ عِنْدَ كُلِّ قَوْمٍ مَا يَسْتَجْلِبُهُم بِهِ إلَى تَعْظِيمِهِ، فَيُظْهِرُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ سنِّيٌّ، وَعِنْدَ أَهْلِ الشِّيعَةِ أَنَّهُ شِيعِيٌّ، وَيَلْبَسُ لِبَاسَ الزُّهَّادِ تَارَةً، وَلبَاسَ الْأَجْنَادِ تَارَةً

(1)

. [35/ 108 - 111]

* * *

(1)

وأمثال من يتصف بهذا كثير، وفي هذا الزمان ظهر للعيان أمثاله، نسأل الله السلامة والعافية.

ص: 399

(لَو كَانَ غَيْرُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم معْصُومًا: لَكَانَ حُكْمُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمَ الرَّسُولِ)

5254 -

لَو كَانَ غَيْرُ الرَّسُولِ مَعْصُومًا فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ: لَكَانَ حُكْمُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمَ الرَّسُولِ، وَالنَّبِيُّ الْمَبْعُوثُ إلَى الْخَلْقِ رَسُولٌ إلَيْهِمْ، بِخِلَافِ مَن لَمْ يُبْعَثْ إلَيْهِمْ، فَمَن كَانَ آمِرًا نَاهِيًا لِلْخَلْقِ مِن إمَامٍ وَعَالِمٍ وَشَيْخٍ وَأُولي أَمْرٍ غَيْرَ هَؤُلَاءِ مِن أَهْلِ الْبَيْتِ أَو غَيْرِهِمْ وَكَانَ مَعْصُومًا: كَانَ بِمَنزِلَةِ الرَّسُولِ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ مَن أَطَاعَهُ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَمَن عَصَاهُ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، كَمَا يَقُولُهُ الْقَائِلُونَ بِعِصمَةِ عَلِيٍّ أَو غَيْرِهِ مِن الْأَئِمَّةِ؛ بَل مَن أَطَاعَهُ يَكُونُ مُؤْمِنًا، وَمَن عَصَاهُ يَكُون كَافِرًا، وَكَانَ هَؤُلَاءِ كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ، فَلَا يَصِحُّ حِينَئِذٍ قَوْلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم:"لَا نَبِيَّ بَعْدِي"

(1)

. [35/ 122 - 123]

* * *

(أبو بكر وعمر أعلم الصحابة)

5255 -

إِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَعْلَمُ مِن سَائِرِ الصَّحَابَةِ وَأَعْظَمُ طَاعَةً للهِ وَرَسُولِهِ مِن سَائِرِهِمْ وَأَوْلَى بِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ مِنْهُم وَقَد ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ الصَّحِيحِ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكرٍ ثُمَّ عُمَرُ"

(2)

، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ مِن نَحْوِ ثَمَانِينَ وَجْهًا.

بَل أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لَا يُحْفَظُ لَهُ فُتْيَا أَفْتَى فِيهَا بِخِلَافِ نَصِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَد وُجِدَ لِعَلِيِّ وَغَيْرِهِ مِن الصَّحَابَةِ مِن ذَلِكَ أَكْثَرُ مِمَّا وُجِدَ لِعُمَر. [35/ 124]

* * *

(ندمُ عليٍّ رضي الله عنه على قتاله في الجمل وصفين)

5256 -

كَانَ الْحَسَنُ فِي أَمْرِ الْقِتَالِ يُخَالِفُ أَبَاهُ رضي الله عنهما وَيَكْرَهُ كَثِيرًا مِمَّا يَفْعَلُهُ وَيَرْجِعُ عَلِيٌّ رضي الله عنه فِي آخِرِ الْأَمْرِ إلَى رَأْيِهِ وَكَانَ يَقُولُ:

(1)

رواه البخاري (3455)، ومسلم (1842).

(2)

رواه أحمد (880).

ص: 400

لَئِنْ عَجَزْت عجزة لَا أَعْتَذِرْ

سَوْفَ أُكِيسُ بَعْدَهَا وَأَسْتَمِرُّ

وَتَبَيَّنَ لَهُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ أَنْ لَو فَعَلَ غَيْرَ الَّذِي كَانَ فَعَلَهُ لَكَانَ هُوَ الْأَصْوَبَ. [35/ 125 - 126]

* * *

(بيانُ عدمِ صحةِ نسبِ الدولةِ العبيدية)

5257 -

كَيْفَ تَكُون الْعِصْمَةُ فِي ذُرِّيَّةِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحِ مَعَ شُهْرَةِ النِّفَاقِ وَالْكَذِبِ وَالضَّلَالِ؟

فَكَيْفَ يَدَّعِي الْعِصْمَةَ مَن ظَهَرَتْ عَنْهُ الْفَوَاحِشُ وَالْمُنْكَرَاتُ وَالظُّلْمُ وَالْبَغْيُ وَالْعُدْوَانُ، وَالْعَدَاوَةُ لِأَهْلِ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى مِن الْأُمَّةِ، وَالِاطْمِئْنَانُ لِأَهْلِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، فَهُم مِن أَفْسَقِ النَّاسِ، وَمِن أَكْفَرِ النَّاسِ، وَمَا يَدَّعِي الْعِصْمَةَ فِي النِّفَاقِ وَالْفُسُوقِ إلَّا جَاهِلٌ مَبْسُوطُ الْجَهْلِ، أَو زِنْدِيقٌ يَقُولُ بِلَا عِلْمٍ.

وَمِن الْمَعْلُومِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ أَنَّ مَن شَهِدَ لَهُم بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى أَو بِصِحَّةِ النَّسَب فَقَد شَهِدَ لَهُم بِمَا لَا يَعْلَمُ، وَقَد قَالَ الله تَعَالَى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36].

وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ يَشْهَدُ عَلَيْهِم عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَجَمَاهِيرُهَا أَنَّهُم كَانُوا مُنَافِقِينَ زَنَادِقَة، يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ.

وَكَذَلِكَ النَّسَبُ قَد عُلِمَ أَنَّ جُمْهُورَ الْأُمَّةِ تَطْعَنُ فِي نَسَبِهِمْ، وَيَذْكُرُونَ أَنَّهُم مِن أَوْلَادِ الْمَجُوسِ أَو الْيَهُودِ.

هَذَا مَشْهُورٌ مِن شَهَادَةِ عُلَمَاءَ الطَّوَائِفِ مِن الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَهْلِ الْحَدِيثِ، وَأَهْلِ الْكلَامِ، وَعُلَمَاءِ النَّسَبِ، وَالْعَامَّةِ وَغَيْرِهِمْ.

وَهَذَا أَمْرٌ قَد ذَكَرَهُ عَامَّةُ الْمُصَنِّفِينَ لِأَخْبَارِ النَّاسِ.

حَتَّى صَنَّفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَشْفِ أَسْرَارِهِمْ وَهَتْكِ أَسْتَارِهِمْ، كَمَا صَنَّفَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَانِي كِتَابَهُ الْمَشْهُورَ فِي كَشْفِ أَسْرَارِهِمْ وَهَتْكِ أَسْتَارِهِمْ،

ص: 401

وَذَكَرَ أَنَّهُم مِن ذُرِّيَّةٍ الْمَجُوسِ، وَذَكَرَ مِن مَذَاهِبِهِم مَا بَيَّنَ فِيهِ أَنَّ مَذَاهِبَهُم شَرٌّ مِن مَذَاهِبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ بَل وَمِن مَذَاهِبِ الْغَالِيَةِ الَّذِينَ يَدَّعُونَ إلَهِيَّةَ عَلِيٍّ أَو نُبُوَّتَة، فَهُم أَكْفَرُ مِن هَؤُلَاءِ.

بَل مَا ظَهَرَ عَنْهُم مِن الزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ وَمُعَادَاةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ نَسَبِهِم الْفَاطِمِيِّ؛ فَإِنَّ مَن يَكُونُ مِن أَقَارِب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْقَائِمَيْنِ بِالْخِلَافَةِ فِي أُمَّتِهِ لَا تَكُونُ مُعَادَاتُهُ لِدِينِهِ كَمُعَادَاةِ هَؤُلَاءِ؛ فَلَمْ يُعْرَفْ فِي بَنِي هَاشِمٍ وَلَا وَلَدِ أَبِي طَالِبٍ وَلَا بَنِي أُمَيَّةَ مَن كَانَ خَلِيفَة وَهُوَ مُعَادٍ لِدِينِ الْإِسْلَامِ، فَضْلًا عَن أَنْ يَكونَ مُعَادِيًا كَمُعَادَاةِ هَؤُلَاءِ؛ بَل أَوْلَادُ الْمُلُوكِ الَّذِينَ لَا دِينَ لَهُم فَيَكُونُ فِيهِمْ نَوْعُ حَمِيَّةٍ لِدِينِ آبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ، فَمَن كَانَ مِن وَلَدِ سَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ الَّذِي بَعَثَهُ اللهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ كَيْفَ يُعَادِي دِينَهُ هَذِهِ الْمُعَادَاةَ؟ وَلهَذَا نَجِدُ جَمِيعَ الْمَأْمُونِينَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا مُعَادِينَ لِهَؤُلَاءِ إلَّا مَن هُوَ زِنْدِيقٌ عَدُوٌّ للهِ وَرَسُولِهِ، أَو جَاهِلٌ لَا يَعْرِفُ مَا بُعِثَ بِهِ رَسُولُهُ.

وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى كفْرِهِمْ وَكَذِبِهِم فِي نَسَبِهِمْ.

وَكَانَ فِي أَثْنَاءِ دَوْلَتِهِمْ يَخَافُ السَّاكِنُ بِمِصْر أَنْ يَرْوِيَ حَدِيثًا عَن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَيُقْتَلُ، كَمَا حَكَى ذَلِكَ إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ الْحَبَّالُ صَاحِبُ عَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ سَعِيدٍ، وَامْتَنَعَ مِن رِوَايَةِ الْحَدِيثِ خَوْفًا أَنْ يَقْتُلُوهُ، وَكَانُوا يُنَادُونَ بَيْنَ الْقَصْرَيْنِ: مَن لَعَنَ وَسَبَّ فَلَهُ دِينَارٌ وَإِرْدَبٌّ.

وَكَانَ بِالْجَامِعِ الْأَزْهَرِ عِدَّةُ مَقَاصِيرَ يُلْعَنُ فِيهَا الصَّحَابَةُ؛ بَل يُتَكَلَّمُ فِيهَا بِالْكُفْرِ الصَّرِيحِ، وَكَانَ لَهُم مَدْرَسَةٌ بِقُرْبِ الْمَشْهَدِ الَّذِي بَنَوْهُ وَنَسَبُوهُ إلَى الْحُسَيْنِ، وَلَيْسَ فِيهِ الْحُسَيْنُ وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.

وَلأَجْلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِن الزَّنْدَقَةِ وَالْبِدْعَةِ بَقِيَت الْبِلَادُ الْمِصْرِيَّةُ مُدَّةَ دَوْلَتِهِمْ نَحْو مِائَتَيْ سَنَةٍ قَد انْطَفَأَ نُورُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، حَتَّى قَالَتْ فِيهَا الْعُلَمَاءُ: إنَّهَا كَانَت دَارَ رِدَّةٍ وَنفَاقٍ كَدَارِ مُسَيْلِمَةِ الْكَذَّابِ.

ص: 402

وَالْقَرَامِطَةُ الْخَارِجِينَ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ الَّذِينَ كَانُوا سَلَفًا لِهَؤُلَاءِ الْقَرَامِطَةِ ذَهَبُوا مِن الْعِرَاقِ إلَى الْمَغْرِبِ، ثُمَّ جَاؤُوا مِن الْمَغْرِبِ إلَى مِصْرَ؛ فَإِنَّ كُفْرَ هَؤُلَاءِ وَرِدَّتَهُم مِن أَعْظَمِ الْكُفْرِ وَالرّدَّةِ، وَهُم أَعْظَمُ كُفْرًا وَرِدَّةً مِن كُفْرِ أَتْبَاعِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ وَنَحْوِهِ مِن الْكَذَّابِينَ؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ لَمْ يَقُولُوا فِي الْإِلَهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ وَالشَّرَائِعِ مَا قَالَهُ أَئِمَّةُ هَؤُلَاءِ.

وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُم فِي الْبَاطِنِ كَافِرُونَ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ، يُخْفُونَ ذَلِكَ وَيَكْتُمُونَهُ عَن غَيْرِ مَن يَثِقُونَ بِهِ، لَا يُظْهِرُونَهُ كَمَا يُظْهِرُ أَهْلُ الْكِتَابِ دِينَهُمْ؛ لِأَنَّهُم لَو أَظْهَرُوهُ لَنَفَرَ عَنْهُم جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْأَرْضِ مِن الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَهُم يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَقَالَتِهِمْ وَمَقَالَةِ الْجُمْهُورِ؛ بَل الرَّافِضَةُ الَّذِينَ لَيْسُوا زَنَادِقَةً كُفَّارًا

(1)

يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَقَالَتِهَا وَمَقَالَةِ الْجُمْهُورِ، وَيَرَوْنَ كِتْمَانَ مَذْهَبِهِمْ، وَاسْتِعْمَالَ التَّقِيَّةِ، وَقَد لَا يَكُونُ مِن الرَّافِضَةِ مَن لَهُ نَسَبٌ صَحِيحٌ مُسْلِمًا فِي الْبَاطِنِ وَلَا يَكُونُ زِنْدِيقًا، لَكِنْ يَكُونُ جَاهِلًا مُبْتَدِعًا.

وَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ مَعَ صِحَّةِ نَسَبِهِم وَإِسْلَامِهِمْ يَكْتمُونَ مَا هُم عَلَيْهِ مِن الْبِدْعَةِ وَالْهَوَى لَكِنَّ جُمْهُورَ النَّاسِ يُخَالِفُونَهُمْ: فَكَيْفَ بِالْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ الَّذِينَ يُكَفِّرُهُم أَهْل الْمِلَلِ كلِّهَا مِن الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؟. [35/ 127 - 141]

* * *

(كفر النصيرية والدروز وضلالهم)

5258 -

هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الْمُسَمَّوْنَ بالْنُّصَيْرِيَّة هُم وَسَائِرُ أَصْنَافِ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ أَكْفَرُ مِن الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ بَل وَأَكْفَرُ مِن كَثِيرٍ مِن الْمُشْرِكِينَ، وَضَرَرُهُم عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَعْظَمُ مِن ضَرَرِ الْكُفَّارِ الْمُحَارِبِينَ، مِثْل كُفَّارِ التَّتَارِ والفرنج وَغَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَتَظَاهَرُونَ عِنْدَ جُهَّالِ الْمُسْلِمِينَ بِالتَّشَيُّعِ وَمُوَالَاةِ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَهُم فِي الْحَقِيقَةِ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِرَسُولِهِ وَلَا بِكِتَابِهِ، وَلَا بِأَمْرٍ وَلَا

(1)

هذا نص منه على عدم كفر الرافضة.

ص: 403

نَهْيٍ، وَلَا ثَوَابٍ وَلَا عِقَابٍ، وَلَا جَنَّةٍ وَلَا نَارٍ، وَلَا بِأَحَد مِن الْمُرْسَلِينَ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَلَا بِمِلَّة مِن الْمِلَلِ السَّالِفَةِ.

وَلَهُم فِي مُعَادَاةِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وَقَائِعُ مَشْهُورَةٌ، وَكتُبٌ مُصَنَّفَةٌ، فَإِذَا كَانَت لَهُم مُكْنَةٌ سَفَكُوا دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ؛ كَمَا قَتَلُوا مَرَّةً الْحُجَّاجَ وَأَلْقَوْهُم فِي بِئْرِ زَمْزَمَ، وَأَخَذُوا مَرَّةً الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَبَقِيَ عِنْدَهُم مُدَّةً، وَقَتَلُوا مِن عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَمَشَايِخِهِمْ مَا لَا يُحْصِي عَدَدَهُ إلَّا اللهُ تَعَالَى.

وَمِن الْمَعْلُومِ عِنْدَنَا أَنَّ السَّوَاحِلَ الشَّامِيَّةَ إنَّمَا اسْتَوْلَى عَلَيْهَا النَّصَارَى مِن جِهَتِهِمْ، وَهُم دَائِمًا مَعَ كُلِّ عَدُوّ لِلْمُسْلِمِينَ، فَهُم مَعَ النَّصَارَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ.

وَمِن أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ عِنْدَهُمْ: فَتْحُ الْمُسْلِمِينَ لِلسَّوَاحِلِ، وَانْقِهَارُ النَّصَارَى؛ بَل وَمِن أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ عِنْدَهُم انْتِصَارُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى التَّتَارِ، وَمِن أَعْظَمِ أَعْيَادِهِمْ إذَا اسْتَوْلَى -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى- النَّصَارَى عَلَى ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ.

وَلَهُم أَلْقَابٌ مَعْرُوفَة عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ: تَارَةً يُسَمَّوْنَ الْمَلَاحِدَةَ، وَتَارَةً يُسَمَّوْنَ، الْقَرَامِطَةَ، وَتَارَة يُسَمَّوْنَ، الْبَاطِنِيَّةَ، وَتَارَةً يُسَمَّوْنَ، الْإِسْمَاعِيلِيَّة، وتَارَةً يُسَمَّوْنَ، الْنُصَيْرِيَّة، وَتَارَةً يُسَمَّوْنَ، الخرمية، وَتَارَةً يُسَمَّوْنَ، الْمُحَمِّرَةَ.

وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ مِنْهَا مَا يَعُمُّهُمْ، وَمِنْهَا مَا يَخُصُّ بَعْضَ أَصْنَافِهِمْ، كَمَا أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ يَعُم الْمُسْلِمِينَ، وَلبَعْضِهِمْ اسْمٌ يَخُصُّهُ، إمَّا لِنَسَب، وَإِمَّا لِمَذْهَب، وَإِمَّا لِبَلَدٍ، وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ.

وَهُم كَمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ فِيهِمْ: ظَاهِرُ مَذْهَبِهِم الرَّفْضُ وَبَاطِنُهُ الْكُفْرُ الْمَحْضُ.

وَقَد دَخَلَ كَثِيرٌ مِن بَاطِلِهِمْ عَلَى كَثِيرٍ مِن الْمُسْلِمِينَ وَرَاجَ عَلَيْهِمْ، حَتَّى صَارَ ذَلِكَ فِي كُتُبِ طَوَائِفَ مِن الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَإِن كَانُوا لَا يُوَافِقُونَهُم عَلَى أَصْلِ كُفْرِهِمْ.

وَقَد اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا تَجُوزُ مُنَاكَحَتُهُمْ، وَلَا يَجُوزُ

ص: 404

أَنْ يَنْكحَ الرَّجُلُ مَوْلَاتِهِ مِنْهُمْ، وَلَا يَتَزَوَّجَ مِنْهُم امْرَأَةً، وَلَا تُبَاحُ ذَبَائِحُهُمْ.

وَأَمَّا أَوَانِيهمْ وَمَلَابِسُهُمْ: فَكَأَوَانِي الْمَجُوسِ وَمَلَابِسِ الْمَجُوسِ عَلَى مَا عُرِفَ مِن مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ.

وَالصَّحِيح فِي ذَلِكَ أَنَّ أَوَانِيَهُم لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا بَعْدَ غَسْلِهَا؛ فَإِنَّ ذَبَائِحَهُم مَيْتَةٌ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُصِيبَ أَوَانِيَهُم الْمُسْتَعْمَلَةَ مَا يَطْبُخُونَهُ مِن ذَبَائِحِهِمْ فَتَنْجُسُ بِذَلِكَ.

فَأَمَّا الْآنِيَةُ الَّتِي لَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ وُصُولُ النَّجَاسَةِ إلَيْهَا فَتُسْتَعْمَلُ مِن غَيْرِ غَسْلٍ؛ كَآنِيَةِ اللَّبَنِ الَّتِي لَا يَضَعُونَ فِيهَا طَبِيخَهُمْ، أَو يَغْسِلُونَهَا قَبْلَ وَضْعِ اللَّبَنِ فِيهَا، وَقَد تَوَضَّأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه مِن جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ.

فَمَا شُكَّ فِي نَجَاسَتِهِ لَمْ يُحْكَمْ بِنَجَاسَتِهِ بِالشَّكِّ.

وَلَا يَجُوزُ دَفْنُهُم فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُصَلَّى عَلَى مَن مَاتَ مِنْهُمْ؛ فَإِنَّ اللهَ سبحانه وتعالى نَهَى نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم عَن الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ؛ كَعَبْدِ اللهِ ائن أُبيّ وَنَحْوِهِ، وَكَانُوا يَتَظَاهَرُونَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْجِهَادِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُظْهِرُونَ مَقَالَةً تُخَالِفُ دِينَ الْإِسْلَام، لَكِنْ يُسِرُّونَ ذَلِكَ فَقَالَ اللهُ:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)} [التوبة: 84]، فَكَيْفَ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُم مَعَ الزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ يُظْهِرُونَ الْكفْرَ وَالْإِلْحَادَ؟

وَأَمَّا اسْتِخْدَامُ مِثْل هَؤُلَاءِ فِي ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ أَو حُصُونِهِمْ أَو جُنْدِهِمْ فَإِنَّهُ مِن الْكَبَائِرِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَن يَسْتَخْدِمُ الذِّئَابَ لِرَعْيِ الْغَنَمِ.

وَالْوَاجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ قَطْعُهُم مِن دَوَاوِينِ الْمُقَاتِلَةِ

(1)

، فَلَا يُتْرَكُونَ فِي ثَغْرٍ وَلَا فِي غَيْرِ ثَغْرٍ؛ فَإِنَّ ضَرَرَهُم فِي الثَّغْرِ أَشَدُّ.

(1)

أما سائر الأعمال كالوظائف الحكومية المعتادة ونحوها فيجوز لولي الأمر تمكينهم من ذلك كما هو الحال اليوم.

ص: 405

بَل إذَا كَانَ وَليُّ الْأَمْرِ لَا يَسْتَخْدِمُ مَن يَغُشُّهُ وَإِن كَانَ مُسْلِمًا: فَكَيْفَ بِمَن يَغُشُّ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ؟

وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَأْخِيرُ هَذَا الْوَاجِبِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ؛ بَل أَيُّ وَقْتٍ قَدَرَ عَلَى الِاسْتِبْدَالِ بِهِم وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ.

وَأَمَّا إذَا اُسْتُخْدِمُوا وَعَمِلُوا الْعَمَلَ الْمَشْرُوطَ عَلَيْهِمْ: فَلَهُم إمَّا الْمُسَمَّى وَإِمَّا أُجْرَةُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُم عوقدوا عَلَى ذَلِكَ.

فَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا: وَجَبَ الْمُسَمَّى، وَإِن كَانَ فَاسِدًا: وَجَبَتْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَإِن لَمْ يَكُن اسْتِخْدَامُهُم مِن جِنْسِ الْإِجَارَةِ اللَّازِمَةِ فَهِيَ مِن جِنْسِ الْجَعَالَةِ الْجَائِزَةِ؛ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَجُوزُ اسْتِخْدَامُهُم فَالْعَقْدُ عَقْدٌ فَاسِدٌ فَلَا يَسْتَحِقُّونَ إلَّا قِيمَةَ عَمَلِهِمْ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا عَمِلُوا عَمَلًا لَهُ قِيمَةٌ فَلَا شَيْءَ لَهُمْ؛ لَكِنْ دِمَاؤُهُم وَأَمْوَالُهُم مُبَاحَةٌ.

وَإِذَا أَظْهَرُوا التَّوْبَةَ فَفِي قَبُولِهَا مِنْهُم نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ:

- فَمَن قَبِلَ تَوْبَتَهُم إذَا الْتَزَمُوا شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ أَقَرَّ أَمْوَالَهُم عَلَيْهِمْ.

- وَمَن لَمْ يَقْبَلْهَا لَمْ تُنْقَلْ إلَى وَرَثَتِهِمْ مِن جِنْسِهِمْ؛ فَإِنَّ مَالَهُم يَكُونُ فَيْئًا لِبَيْتِ الْمَالِ.

لَكِنَّ هَؤُلَاءِ

(1)

إذَا أُخِذُوا: فَإِنَّهُم يُظْهِرُونَ التَّوْبَةَ؛ لِأَنَّ أَصْلَ مَذْهَبِهِم التَّقِيَّةُ وَكِتْمَانُ أَمْرِهِمْ، وَفِيهِمْ مَن يُعْرَفُ وَفِيهِمْ مَن قَد لَا يُعْرَفُ.

فَالطَّرِيقُ فِي ذَلِكَ: أَنْ يُحْتَاطَ فِي أَمْرِهِمْ، فَلَا يُتْرَكُونَ مُجْتَمِعِينَ، وَلَا يُمَكَّنُونَ مِن حَمْلِ السِّلَاحِ، وَلَا أَنْ يَكُونُوا مِن الْمُقَاتِلَةِ، وَيَلْزَمُونَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ مِن الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَيُتْرَكُ بَيْنَهُم مِن يُعَلِّمُهُم دِينَ الْإِسْلَامِ، وَيُحَالُ بَيْنَهُم وَبَيْنَ مُعَلِّمِهِمْ

(2)

.

(1)

من النصيرية والرافضة الغالية والإسماعيلية.

(2)

أي: ساداتهم وعلماءهم.

ص: 406

فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه وَسَائِرَ الصَّحَابَةِ لَمَّا ظَهَرُوا عَلَى أَهْلِ الرِّدَّةِ وَجَاؤُوا إلَيْهِ قَالَ لَهُم الصِّدِّيقُ: اخْتَارُوا إمَّا الْحَرْبَ الْمُجْلِيَةَ، وَإِمَّا السِّلْمَ الْمُخْزِيَةَ؟

قَالُوا: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ هَذِهِ الْحَرْبُ الْمُجْلِيَةُ قَد عَرَفْنَاهَا فَمَا السِّلْمُ الْمُخْزِيَةُ؟

قَالَ: تَدُون قَتْلَانَا وَلَا ندي قَتْلَاكُمْ، وَتَشْهَدُونَ أَنَّ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ، وَنقسمُ مَا أَصَبْنَا مِن أَمْوَالِكُمْ، وَتَرُدُّونَ مَا أَصَبْتُمْ مِن أَمْوَالِنَا، وَتُنْزَعُ مِنْكُمْ الْحَلَقَةُ وَالسِّلَاحُ، وَتُمْنَعُونَ مِن رُكُوب الْخَيْلِ، وَتُتْرَكُونَ تَتَّبِعُونَ أَذْنَابَ الْإِبِلِ، حَتَّى يُري اللهُ خَلِيفَةَ رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنَيْنِ أَمْرًا بَعْدَ رِدَّتِكُمْ

(1)

.

فَوَافَقَهُ الصَّحَابَةُ فِي ذَلِكَ، إلَّا فِي تَضْمِينِ قَتْلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ لَهُ: هَؤُلَاءِ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ، فَأُجُورُهُم عَلَى اللهِ.

يَعْنِي: هُم شُهَدَاءُ فَلَا دِيَةَ لَهُمْ، فَاتَّفَقُوا عَلَى قَوْلِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ.

وَهَذَا الَّذِي اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ هُوَ مَذْهَبُ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَاَلَّذِي تَنَازَعُوا فِيهِ تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ، فَمَذْهَبُ أَكْثَرِهِمْ أَنَّ مَن قَتَلَهُ الْمُرْتَدُّونَ الْمُجْتَمِعُونَ الْمُحَارِبُونَ لَا يُضْمَنُ كَمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ آخِرًا.

وَلَا ريبَ أَنَّ جِهَادَ هَؤُلَاءِ وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ عَلَيْهِم مِن أَعْظَمِ الطَّاعَاتِ وَأَكْبَرِ الْوَاجِبَاتِ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِن جِهَادِ مَن لَا يُقَاتِلُ الْمُسْلِمِينَ مِن الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ؛ فَإِنَّ جِهَادَ هَؤُلَاءِ مِن جِنْسِ جِهَادِ الْمُرْتَدِّينَ، وَالصِّدِّيقُ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ بَدَؤوا بِجِهَادِ الْمُرْتَدِّينَ قَبْلَ جِهَادِ الْكُفَّارِ مِن أَهْل الْكِتَابِ؛ فَإِنَّ جِهَادَ هَؤُلَاءِ حِفْظ لِمَا فُتِحَ مِن بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ يَدْخُلَ فِيهِ مَن أَرَادَ الْخُرُوجَ عَنْهُ، وَجِهَادَ مَن لَمْ يُقَاتِلْنَا مِن الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ مِن زِيَادَةِ إظْهَارِ الدِّينِ، وَحِفْظ رَأسِ الْمَالِ مُقَدَّمٌ عَلَى الرِّبْحِ.

(1)

رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (28945)، والبيهقي في السنن الكبرى (17632).

ص: 407

وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٌ أَنْ يَقُومَ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِن الْوَاجِبِ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَد أَنْ يَكتُمَ مَا يَعْرِفُة مِن أَخْبَارِهِمْ؛ بَل يُفْشِيهَا وَيُظْهِرُهَا لِيَعْرِفَ الْمُسْلِمُونَ حَقِيقَةَ حَالِهِمْ

(1)

، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَد أَنْ يُعَاوِنَهُم عَلَى بَقَائِهِمْ فِي الْجُنْدِ والمستخدمين، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَد السُّكُوتُ عَن الْقِيَامِ عَلَيْهِم بِمَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَد أَنَّ يَنْهَى عَن الْقِيَامِ بِمَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ؛ فَإِنَّ هَذَا مِن أَعْظَمِ أَبْوَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى؛ وَقَد قَالَ اللهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التحريم: 9]، وَهَؤُلَاءِ لَا يَخْرُجونَ عَن الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ.

وَالْمُعَاوِنُ عَلَى كَفِّ شَرّهِمْ وَهِدَايَتِهِمْ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ لَهُ مِن الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللهُ تَعَالَى؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ هُوَ هِدَايَتُهُمْ.

فَالْمَقْصُودُ بِالْجِهَادِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَن الْمُنْكَرِ: هِدَايَةُ الْعِبَادِ لِمَصَالِحِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، فَمَن هَدَاهُ اللهُ سَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَن لَمْ يَهْتَدِ كَفَّ اللهُ ضَرَرَهُ عَن غَيْرِهِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجِهَادَ وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَن الْمُنْكَرِ: هُوَ أَفْضَل الْأَعْمَالِ؛ كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: "رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودةُ الصَّلَاةُ وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى"

(2)

. [35/ 149 - 160]

5259 -

الدُّرْزِيَّةُ والْنُّصَيْرِيَّة: كُفَّارٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، لَا يَحِلُّ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ وَلَا نِكاحُ نِسَائِهِمْ؛ بَل وَلَا يُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ؛ فَإِنَّهُم مُرْتَدُّونَ عَن دِينِ الْإِسْلَامِ لَيْسُوا مُسْلِمِينَ وَلَا يَهُودَ وَلَا نَصَارَى، لَا يُقِرُّونَ بِوجُوبِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَلَا وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ، وَلَا وُجُوبِ الْحَجِّ، وَلَا تَحْرِيمِ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ

(1)

ومما يُثلج الصدر: قيام كثير من أهل الخير والدعاة والقنوات بإفشاء أخبارهم وضلالهم، ونشر دجل وزيف علمائهم.

(2)

رواه الترمذي (2616)، وأحمد (22016)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

ص: 408

مِن الْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِهِمَا، وَإِن أَظْهَرُوا الشَّهَادَتَيْنِ مَعَ هَذِهِ الْعَقَائِدِ فَهُم كُفَّارٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. [35/ 161]

* * *

(حكم أصحاب الفترات)

5260 -

فِي أَوْقَاتِ الْفَتَرَاتِ وَأَمْكِنَةِ الْفَتَرَاتِ: يُثَابُ الرَّجُلُ عَلَى مَا مَعَهُ مِن الْإِيمَانِ الْقَلِيلِ، وَيَغْفِرُ اللهُ فِيهِ لِمَن لَمْ تَقُمْ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا لَا يَغْفِرُ بِهِ لِمَن قَامَت الْحُجَّةُ عَلَيْهِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ:"يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَعْرِفُونَ فِيهِ صَلَاةَّ وَلَا صِيَامًا وَلَا حَجًّا وَلَا عُمْرَةً إلَّا الشَّيْخَ الْكَبِيرَ وَالْعَجُوزَ الْكَبِيرَةَ، وَيَقُولُونَ: أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا وَهُم يَقُولُونَ لَا إلهَ إلَّا اللهُ".

فَقِيلَ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ: مَا تُغْنِي عَنْهُم لَا إلهَ إلَّا اللهُ؟

فَقَالَ: تُنْجِيهِمْ مِن النَّارِ

(1)

. [35/ 165]

* * *

(شروط التكفير)

5261 -

إِنَّ الْإِيمَانَ مِن الْأَحْكَامِ الْمُتَلَقَّاةِ عَن اللهِ وَرَسُولِهِ، لَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يَحْكُمُ فِيهِ النَّاسُ بِظُنُونِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ، وَلَا يَجِبُ أَنْ يُحْكَمَ فِي كُلِّ شَخْصٍ قَالَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَافِرٌ حَتَّى يَثْبُتَ فِي حَقِّهِ شُرُوطُ التَّكْفِيرِ وَتَنْتَفِي مَوَانِعُهُ. [35/ 165]

* * *

(ضابط في تكفير عوام أتباع المذاهب الضَّالَّة المنحرفة)

5262 -

أَمَّا الْمُنْتَسِبُونَ إلَى الشَّيْخِ يُونُسَ: فَكَثِيرٌ مِنْهُم كَافِرٌ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، لَا يُقِرُّونَ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ الْخَمْسِ، وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، وَلَا

(1)

وعلى هذا؛ فلا يجوز تكفير المنتسبين للقبلة بالعموم، ولا تكفير الشيعة أو الصوفية أو المعتزلة بالعموم، بل يُكفر من قامت عليه الحجة.

ص: 409

يُحَرِّمونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ؛ بَل لَهُم مِن الْكَلَامِ فِي سَبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ مَا يَعْرِفُهُ مَن عَرَفَهُمْ.

وَأَمَّا مَن كَانَ فِيهِمْ مِن عَامَّتِهِمْ لَا يَعْرِفُ أَسْرَارَهُم وَحَقَائِقَهُمْ: فَهَذَا يَكُونُ مَعَهُ إسْلَامُ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، الَّذِي اسْتَفَادَهُ مِن سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ لَا مِنْهُمْ. [2/ 106 - 107]

* * *

(معنى العرَّاف)

5263 -

الْعَرَّافُ: قَد قِيلَ: إنَّهُ اسْمٌ عَامٌّ لِلْكَاهِنِ وَالْمُنَجِّمِ وَالرِّمَالِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّن يَتَكَلَّمُ فِي تَقَدُّمِ الْمَعْرِفَةِ بِهَذِهِ الطُّرُقِ.

وَلَو قِيلَ: إنَّهُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِبَعْضِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ، فَسَائِرُهَا يَدْخُلُ فِيهِ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ الْمَعْنَوِيِّ، كَمَا قِيلَ فِي اسْمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَنَحْوِهِمَا. [35/ 173]

* * *

(حكم التنجيم ومعناه)

5264 -

صِنَاعَةُ التَّنْجِيمِ الَّتِي مَضْمُونُهَا الْأَحْكَامُ وَالتَّأْثِيرُ، وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْحَوَادِثِ الْأَرْضِيَّةِ بالْأَحْوَالِ الْفَلَكِيَّةِ، وَالتَّمْزِيجِ بَيْنَ الْقُوَى الْفَلَكِيِّة وَالْقَوَابِلِ الْأَرْضِيَّةِ: صِنَاعَة مُحَرَّمَةَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ؛ بَل هِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى لِسَان جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ فِي جَمِيعِ الْمِلَلِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)} [طه: 69].

وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَن قَبِيصَةَ بْنِ مخارق عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْعِيَافَةُ وَالطَّرْقُ وَالطِّيرَةُ مِن الْجِبْت"

(1)

قَالَ عَوْفٌ رَاوِي الْحَدِيثِ: الْعِيَافَةُ زَجْرُ الطَّيْرِ، وَالطَّرْقُ الْخَطُّ يُخَطُّ فِي الْأَرْضِ.

(1)

رواه أحمد (20604).

ص: 410

فَإِذَا كَانَ الْخَطُّ وَنَحْوُهُ الَّذِي هُوَ مِن فُرُوعِ النَّجَّامَةِ مِن الْجِبْتِ، فَكَيْفَ بِالنَّجَّامَةِ؟

وَرَوَى أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَغَيْرُهُم بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَن ابْنِ عَبَّاسِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَن اقْتَبَسَ عِلْمًا مِن النُّجُومِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِن السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ"

(1)

، فَقَد صَرَّحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ عِلْمَ النُّجُومِ مِن السِّحْرِ، وَقَد قَالَ اللهُ تَعَالَى:{وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)} ، وَهَكَذَا الْوَاقِعُ؛ فَإِنَّ الِاسْتِقْرَاءَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ النُّجُومِ لَا يُفْلِحُونَ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ. وَرَوَى أَحْمَد وَمُسْلِمٌ فِي "الصَّحِيحِ"

(2)

عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَن أَتَى

عَرَّافًا فَسَأَلهُ عَن شَيْءٍ لَمْ تُقْبَل لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا"، وَالْمُنَجِّمُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْعَرَّافِ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ هُوَ فِي مَعْنَاهُ.

فَإِذَا كَانَت هَذِهِ حَالَ السَّائِلِ فَكَيْفَ بِالْمَسْؤُولِ.

وَرَوَى أَيْضًا فِي "صَحِيحِهِ" عَن مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِي قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ قَوْمًا مِنَّا يَأْتُونَ الْكُهَّانَ، قَالَ:"فَلَا تَأْتُوهُمُ"

(3)

.

فَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَن إتْيَانِ الْكُهَّانِ، وَالْمُنَجِّمُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْكَاهِنِ عِنْدَ الخطابي وَغَيْرِهِ مِن الْعُلَمَاءِ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَن الْعَرَبِ، وَعِنْدَ آخَرِينَ هُوَ مِن جِنْسِ الْكَاهِنِ وَأَسْوَأُ حَالًا مِنْهُ، فَلَحِقَ بِهِ مِن جِهَةِ الْمَعْنَى. [35/ 192 - 194]

* * *

‌(حكم سبّ الشريف؟ وهل تقبل شهادة العدو على عدوّه

؟)

5265 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَمَّن قَالَ لِشَرِيفٍ: يَا كَلْبُ يَا ابْنَ الْكَلْبِ .. فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُ شَرِيفٌ! فَقَالَ: لَعَنَهُ اللهُ وَلَعَنَ مَن شَرَّفَة؟

فَأَجَابَ: لَا تُقْبَل شَهَادَةُ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ وَلَو كَانَ عَدْلًا، وَلَيْسَ هَذَا الْكَلَامُ

(1)

رواه أبو داود (3905)، وابن ماجه (3726)، وأحمد (2000).

(2)

رواه مسلم (2230)، وأحمد (16638).

(3)

رواه مسلم (537).

ص: 411

بِمُجَرَّدِهِ مِن بَابِ السَّبِّ الَّذِي يُقْتَلُ صَاحِبُهُ؛ بَل يُسْتَفْسَرُ عَن قَوْلِهِ: "مَن شَرَّفه". فَإِنْ ثَبَتَ بِتَفْسِيرِهِ أَو بِقَرَائِنَ حَالِيَّةٍ أَو لَفْظِيَّةٍ أَنَّهُ أَرَادَ لَعْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَجَبَ قَتْلُهُ.

وَإِن لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ أَو ثَبَتَ بِقَرَائِنَ حَالِيَّةٍ أَو لَفْظِيَّةٍ أَنَّهُ أَرَادَ غَيْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلُ أَنْ يُرِيدَ لَعْنَ مَن يُعَظِّمُهُ أو يُبَجِّلُهُ أَو لَعْنَ مَن يَعْتَقِدُهُ شَرِيفًا: لَمْ يَكُن ذَلِكَ مُوجِبًا لِلْقَتْلِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.

لَا يُظَنُّ بِاَلَّذِي لَيْسَ بِزِنْدِيق أَنَّهُ يَقْصِدُ لَعْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

فَمَن عُرفَ مِن حَالِهِ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ لَيْسَ بِزِنْدِيق: كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِد النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.

وَلَا يَجِبُ قَتْلُ مُسْلِمٍ بِسَبِّ أَحَدٍ مِن الْأَشْرَافِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، إنَّمَا يُقْتَلُ مَن سَبَّ الْأَنْبِيَاءَ.

وَلَكِنْ مَن ثَبَتَ عَلَيْهِ أَنَّهُ اعْتَدَى بِقَوْلِهِ أَو فِعْلِهِ عَلَى شَرِيفٍ أَو غَيْرِهِ عُوقِبَ عَلَى عُدْوَانِهِ: إمَّا بِالْقِصَاصِ بِمَا يَكُونُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ، وَإِمَّا التَّعْزِيزُ بِمَا يَمْنَعُهُ مِن الْعُدْوَانِ، وَإِمَّا بِحَدِّ الْقَذْفِ إنْ كَانَ الْعُدْوَانُ قَذْفًا يُوجِبُ الْحَدَّ. [35/ 197 - 198]

* * *

‌(حكم من قال: لَو جَاءَنِي محَمَّد بْن عَبْدِ الله في شفاعة فلان ما قبلت

؟)

5266 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَن رَجُلٍ أَرَادَ أَنْ يَشْتَكِيَ عَلَى رَجُلٍ فَشَفَعَ فِيهِ جَمَاعَةٌ، فَقَالَ: لَو جَاءَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ فِيهِ مَا قَبِلْت!

فَأَجَابَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: إْذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَامُ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَو تَابَ بَعْدَ رَفْعِهِ إلَى الْإِمَامِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْقَتْلُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ

(1)

.

(1)

ثبت في صحيح البخاري (5283)، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَن زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا يُقَالُ لَهُ =

ص: 412

وَلَكِنْ إنْ تَابَ قَبْلَ رَفْعِهِ إلَى الْإِمَامِ سَقَطَ عَنْهُ الْقَتْلُ فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ، وَإِن عُزِّرَ بَعْدَ التَّوْبَةِ كَانَ سَائِغًا. [35/ 199]

* * *

‌(حكم من لعن التوراة

؟)

5267 -

لَيْسَ لِأَحَد أَنْ يَلْعَنَ التَّوْرَاةَ؛ بَل مَن أَطْلَقَ لَعْنَ التَّوْرَاةِ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ.

وَإِن كَانَ مِمَّن يَعْرِفُ أَنَّهَا مَنْزِلَةٌ مِن عِنْدِ اللهِ وَأَنَّهُ جبُ الْإِيمَانُ بِهَا: فَهَذَا يُقْتَلُ بِشَتْمِهِ لَهَا، وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ.

وَأَمَّا إنْ لَعَنَ دِينَ الْيَهُودِ الَّذِي هُم عَلَيْهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَلَا بَأْسَ بِهِ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُم مَلْعُونُونَ هُم وَدِينُهُمْ.

وَكَذَلِكَ إنْ سَبَّ التَّوْرَاةَ الَّتِي عِنْدَهُم بِمَا يُبَيِّنُ أَنَّ قَصْدَهُ ذِكْرُ تَحْرِيفِهَا؛ مِثْلُ أَنْ يُقَالَ: نُسَخُ هَذِهِ التَّوْرَاةِ مُبَدَّلَةٌ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِمَا فِيهَا، وَمَن عَمِلَ الْيَوْمَ بِشَرَائِعِهَا الْمُبَدَّلَةِ وَالْمَنْسُوخَةِ فَهُوَ كَافِرٌ: فَهَذَا الْكَلَامُ وَنَحْوُهُ حَقٌّ لَا شَيْءَ عَلَى قَائِلِهِ. [35/ 200]

* * *

= مُغِيثٌ، كَأنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لها:"لَو رَاجَعْتِهِ"، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ تَأْمُرُنِي؟ قَالَ؟ "إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ" قَالَتْ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ.

فهذا فيه أنه لا يجب قبول شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ووساطته.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: وَإِنَّمَا قَالَتْ: "أَتَأْمُرُنِي؟ " وَقَالَ: "إِنَّمَا أَنَا شَافِعٌ"، لِمَا اسْتَقَرَّ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَن طَاعَةَ أَمْرِهِ وَاجِبَةٌ بِخِلَافِ شَفَاعَتِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ قَبُولُ شَفَاعَتِهِ؛ وَلهَذَا لَمْ يَلُمْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى تَرْكِ قَبُولِ شَفَاعَتِهِ، فَشَفَاعَةُ غَيْرِهِ مِن الْخَلْقِ أَوْلَى أَنْ لَا يَجِبَ قَبُولُهَا. اهـ. (1/ 317)

فقد يكون هذا الرجل إنما قصد أن قبول الشفاعة لا تجب، وأراد أنه من شدة امتناعه من قبول الواسطهَ لن يقبل بشفاعة النبي كما لم تقبلها بريرة.

فيحتمل أنه لا يُقتل من قال مثل ذلك، لكن يُؤدب لسوء أدبه مع النبي صلى الله عليه وسلم، لكنَّ سوءَ أدبه لم يصل إلى حدِّ الاستهزاء والتنقص الموجبين للقتل. والله تعالى أعلم.

ص: 413

(الْمُرْتَدّ إذَا أَسْلَمَ عَصَمَ بِإِسْلَامِهِ دَمَهُ وَمَالَهُ)

5268 -

الْأَئِمَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا أَسْلَمَ عَصَمَ بِإِسْلَامِهِ دَمَهُ وَمَالَهُ، وَإِن لَمْ يَحْكُمْ بِذَلِكَ حَاكِمٌ.

وَلَا كَلَامَ لِوَلِيِّ بَيْتِ الْمَالِ فِي مَالِ مَن أَسْلَمَ بَعْدَ رِدَّتِهِ؛ بَل مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد أَيْضًا فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ أَنَّ مَن شَهِدَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِالرِّدَّةِ فَأنْكَرَ وَتَشَهَّدَ الشَّهَادَتَيْنِ المعتبرتين حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يُقِرَّ بِمَا شَهِدَ بِهِ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ عَدْلٌ؟

(1)

فَإِنَّهُ مِن هَذِهِ الصُّورَةِ لَا يَفْتَقِرُ الْحُكْمُ بِعِصْمَةِ دَمِهِ وَمَالِهِ إلَى إقْرَارِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.

وَلَو قُدِّرَ أَنَّ كُفْرَ الْمُرْتَدِّ كُفْرُ سَبٍّ فَلَيْسَ فِي الْحُكامِ بِمَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ مَن يَحْكُمُ بِأَنَّ مَالَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ بَعْدَ إسْلَامِهِ، إنَّمَا يَحْكُمُ مَن يَحْكُمُ بِقَتْلِهِ لِكَوْنِهِ يُقْتَل حَدًّا عِنْدَهُم عَلَى الْمَشْهُورِ.

وَمَن قَالَ: يُقْتَلُ لِزَنْدَقَتِهِ فَإِنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِمِثْل هَذَا الْإِقْرَارِ.

وَأَيْضًا: فَمَالُ الزِّنْدِيقِ عِنْدَ أَكْثَرِ مَن قَالَ بِذَلِكَ لِوَرَثَتِهِ مِن الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانُوا إذَا مَاتُوا وَرِثَهُم الْمُسْلِمُونَ مَعَ الْجَزْمِ بِنِفَاقِهِمْ؛ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَمْثَالِهِ مِمَّن وَرِثَهُم وَرَثَتُهُم الَّذِينَ يَعْلَمُونَ بِنِفَاقِهِمْ، وَلَمْ يَتَوَارَثْ أَحَدٌ مِن الصَّحَابَةِ غَيْرَ مِيرَاثِ مُنَافِقٍ.

وَالْمُنَافِقُ هُوَ الزِّنْدِيقُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ.

وَأَيْضًا: فَحُكْمُ الْحَاكِمِ إذَا نُفِّذَ فِي دَمِهِ الَّذِي قَد يَكُونُ فِيهِ نِزَاعٌ نُفِّذَ فِي مَالِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ إذ لَيْسَ فِي الْأُمَّةِ مَن يَقُولُ: يُؤْخَذُ مَالُهُ وَلَا يُبَاحُ دَمُهُ، فَلَو قِيلَ بِهَذَا كَانَ خِلَافَ الْإِجْمَاعِ. [35/ 205 - 206]

(1)

بل شهد عَلَيْهِ فاسق أوخصم له؟

ص: 414

‌بعض شمائل وأخلاق ابن تيمية

(من أخلاق ابن تيمية)

5269 -

قال

(1)

: الدرجة الثانية: أن تقرب من يقصيك وتكرم من يؤذيك، وتعتذر إلى من يجني عليك سماحة لا كظمًا، ومودة لا مصابرة إلى أن قال: ومن أراد فهم هذه الدرجة كما ينبغي فلينظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس يجدها هذه بعينها، ولم يكن كمال هذه الدرجة لأحد سواه ثم للورثة منها بحسب سهامهم من التركة.

وما رأيت أحدًا قط أجمع لهذه الخصال من شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه- وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه.

وما رأيته يدعو على أحد منهم قط، وكان يدعو لهم.

وجئت يومًا مبشرًا له بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة وأذى له، فنهرني وتنكر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم، وقال: إني لكم مكانه ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، ونحو هذا الكلام فسروا به، ودعوا له، وعظموا هذه الحال منه. فرحمه الله ورضي عنه

(2)

. [المستدرك 1/ 121]

* * *

(1)

أي: صاحب المنازل.

(2)

مدارج السالكين (2/ 345).

ص: 415

(حبُّ ابن تيمية لآل محمد)

5270 -

قدَّس الله روح القائل وهو شيخ الإسلام إذ يقول:

إن كان نصبًا حب آل محمد

فليشهد الثقلان أني ناصبي [المستدرك 1/ 120]

* * *

(شيخ الإسلام يستقل علمه وعمله، وظهور ذله وانكساره وافتقاره واعتماده على ربه)

5271 -

قال ابن القيم: وبَعَثَ إِلَيَّ رحمه الله فِي آخِرِ عُمُرِهِ قَاعِدَةً فِي التَّفْسِيرِ بِخَطِّهِ، وَعَلَى ظَهْرِهَا أَبْيَاتٌ بِخَطِّهِ مِن نَظْمِهِ:

أَنَا الْفَقِيرُ إِلَى رَبِّ الْبَرِيَّاتِ

أَنَا الْمُسَيْكِينُ فِي مَجْمُوعِ حَالَاتِي

أنَا الظَّلُوم لِنَفْسِي وَهِيَ ظَالِمَتِي

وَالْخَيْرُ إِنْ يَأْتِنَا مِن عِنْدِهِ يَأْتِي

لَا أَسْتَطِيعُ لِنَفْسِي جَلْبَ مَنْفَعَةٍ

وَلَا عَنِ النَّفْسِ لِي دَفْعُ الْمَضَرَّاتِ

وَلَيْسَ لِي دُونَهُ مَوْلًى يُدَبِّرُنِي

وَلَا شَفِيعٌ إِذَا حَاطَتْ خَطِيئَاتِي

إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ الرَّحْمَنِ خَالِقِنَا

إِلَى الشَّفِيعِ كَمَا قَد جَاءَ فِي الْآيَاتِ

وَلَسْتُ أَمْلِكُ شَيْئًا دُونَهُ أَبَدًا

وَلَا شَرِيكٌ أَنَا فِي بَعْضِ ذَرَّاتِ

وَلَا ظُهَيْرٌ لَهُ كَيْ يَسْتَعِينَ بِهِ

كَمَا يَكُونُ لِأَرْبَابِ الْوِلَايَاتِ

وَالْفَقْرُ لِي وَصْفُ ذَاتِ لَازِمٍ أَبَدًا

كَمَا الْغِنَى أَبَدًا وَصْفٌ لَهُ ذَاتِي

وَهَذِهِ الْحَالُ حَالُ الْخَلْقِ أَجْمَعِهِمْ

وَكُلُّهُم عِنْدَهُ عَبْدٌ لَهُ آتِي

فَمَن بَغَى مَطْلَبًا مِن غَيْرِ خَالِقِهِ

فَهوَ الْجَهُولُ الظَّلُومُ الْمُشْرِكُ الْعَاتِي

وَالْحَمْدُ للهِ مِلْءَ الْكَوْنِ أَجْمَعِهِ

مَا كَانَ مِنْهُ وَمَا مِن بَعْدُ قَد يَاتِي [المستدرك 1/ 144]

ص: 416

(الفرح بالله، ودخول جنته في الدنيا، جنة ابن تيمية وطيب حياته)

5272 -

قال ابن القيم رحمه الله: ورأيت شيخ الإسلام -قدَّس الله روحه- في المنام وكأني ذكرت له شيئا من أعمال القلوب. وأخذت في تعظيمه ومنفعته - لا أذكره الآن- فقال: أما أنا فطريقتي: الفرح بالله والسرور به أو نحو هذا من العبارة.

وهكذا كانت حاله في الحياة يبدو ذلك على ظاهره، وينادي به عليه حاله.

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.

وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.

وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت لهم ملء هذه القلعة ذهبًا ما عدل عندي شكر هذه النعمة، أو قال: ما جزيتهم على ما تسبَّبوا لي فيه من الخير ونحو هذا.

وكان يقول في سجوده وهو محبوس: "اللَّهُمَّ أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" ما شاء الله.

وقال لي مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه.

ولما أدخل إلى القلعة وصار داخل السور نظر إليه وقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)} [الحديد: 13].

وعلم الله ما رأيت أحدًا أطيب عيشًا منه قط مع ما كان فيه من ضيق

ص: 417

العيش وخلاف الرفاهية والنعيم؛ بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشًا وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وأسرَّهم نفسًا، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه: فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحًا، وقوة ويقينًا وطمأنينة.

فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل فأتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها.

قال ابن القيم رحمه الله: وحدثني بعض أقارب شيخ الإسلام رحمه الله قال: كان في بداية أمره يخرج أحيانًا إلى الصحراء يخلو عن الناس لقوة ما يرد عليه، فتبعته يومًا فلما أصحر تنفس الصعداء، ثم جعل يتمثل بقول الشاعر، وهو لمجنون ليلى في قصيدته الطويلة:

وأخرج من بين البيوت لعلني

أحدث عنك النفس بالسر خاليًا

وزاد مرعي بن يوسف الكرمي: وكان يتمثل كثيرًا:

عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى

وصوت إنسان فكدت أطير [المستدرك 1/ 153 - 155]

* * *

(قراءة هذه الآية على الدابة إذا استعصت، وقوة ابن تيمية)

5273 -

قال يونس بن عبيد: ليس رجل يكون على دابة صعبة فيقول في أذنها: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)} [آل عمران: 83] إلا وقفت بإذن الله. قال شيخنا - قدس الله روحه-: وقد فعلنا ذلك فكان كذلك. [المستدرك 1/ 158]

قال ابن القيم: رحمه الله: الحادية والستون

(1)

أنَّ الذكر يعطي الذاكر قوة حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لا يطيق فعله بدونه.

(1)

من فضائل الذكر التي عددها ابن القيِّم. (الجامع).

ص: 418

وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- في مشيته وكلامه وإقدامه وكتابته أمرًا عجيبًا، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة أو أكثر. وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمرًا عظيمًا، إلى أن قال: وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إليَّ وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغد هذا الغداء لسقطت قوتي، أو كلامًا قريبًا من هذا.

وقال لي مرة: لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها لأستعد بتلك الراحة لذكر آخر. أو كلامًا هذا معناه. [المستدرك 1/ 158 - 159]

* * *

(لا بد في الدنيا من كدر)

وكان الشيخ تقي الدين يتمثل كثيرًا بهذين البيتين:

بينا يُرى الإنسان فيها مخبرًا

حتى يُرى خبرًا من الأخبار

طبعت على كدر وأنت تريدها

صفوًا من الأقذار والأكدار [المستدرك 1/ 163]

* * *

ص: 419

‌كلام شيخ الإسلام في العلماء ومناهجهم وبعض أخطائهم

(كلامه على بعض العلماء والكتب)

5274 -

قَالَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيِّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالْكَامِلِ فِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ -وَلَمْ يُصَنَّفْ فِي فَنهِ مِثْلُهُ-. [1/ 271]

(تناقض ابْنِ الْجَوْزِيِّ في باب الأسماء والصفات):

5275 -

إنَّ أَبَا الْفَرَجِ ابْنَ الْجَوْزِيِّ نَفْسَهُ مُتَنَاقِضٌ فِي هَذَا الْبَابِ [أي: باب الأسماء والصفات]: لَمْ يَثْبُتْ عَلَى قَدَمِ النَّفْيِ وَلَا عَلَى قَدَمِ الْإِثْبَاتِ؛ بَل لَهُ مِن الْكَلَامِ فِي الْإِثْبَاتِ نَظْمًا وَنَثْرًا مَا أَثْبَتَ بِهِ كَثِيرًا مِن الصِّفَاتِ الَّتِي أَنْكرَهَا فِي هَذَا الْمُصَنَّفِ.

فَهُوَ فِي هَذَا الْبَابِ مِثْلُ كَثِيرٍ مِن الْخَائِضِينَ فِي هَذَا الْبَابِ مِن أَنْوَاعِ النَّاسِ، يُثْبِتُونَ تَارَةً وَيَنْفُونَ أُخْرَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِن الصِّفَاتِ؛ كَمَا هُوَ حَالُ أَبِي الْوَفَاءِ بْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ. [4/ 169]

(مُقارنةٌ بين ابن حزم والأشعري):

5276 -

أَبُو مُحَمَّدٍ بنُ حَزْمٍ فِيمَا صَنَّفَهُ مِن الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ إنَّمَا يُسْتَحْمَدُ بِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ؛ مِثْل مَا ذَكَرَهُ فِي مَسَائِلِ الْقَدَرِ وَالْإِرْجَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا انْفَرَدَ بِهِ مِن قَوْلِهِ فِي التَّفْضِيلِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ.

وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ فِي بَابِ الصِّفَاتِ، فَإِنَّهُ يُسْتَحْمَدُ فِيهِ بِمُوَافَقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ

ص: 420

وَالْحَدِيثِ؛ لِكَوْنِهِ يُثْبِتُ

(1)

فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ.

وَيُعَظِّمُ السَّلَفَ وَأَئِمَّةَ الْحَدِيثِ، وَيَقُولُ إنَّهُ مُوَافِقٌ لِلْإِمَامِ أَحْمَد فِي مَسْأْلَةِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهَا، وَلَا ريبَ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لَهُ وَلَهُم فِي بَعْضِ ذَلِكَ.

لَكِنَّ الْأَشْعَرِيَّ وَنَحْوَهُ أَعْظَمُ مُوَافَقَة لِلْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَمَن قَبْلَهُ مِن الْأَئِمَّةِ فِي الْقُرْآنِ وَالصِّفَاتِ، وَإِن كَانَ أَبُو مُحَمَّدٍ بنُ حَزْم فِي مَسَائِلِ الْإِيمَانِ وَالْقَدَرِ أَقْوَمَ مِن غَيْرِهِ، وَأَعْلَمَ بِالْحَدِيثِ، وَأَكْثَرَ تَعْظِيمًا لهُ وَلِأَهْلِهِ مَن غَيْرِهِ.

لَكِنْ قَد خَالَطَ مِن أَقْوَالِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي مَسَائِلِ الصِّفَاتِ مَا صَرَفَهُ عَن مُوَافَقَةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي مَعَانِي مَذْهَبِهِم فِي ذَلِكَ، فَوَافَقَ هَؤُلَاءِ فِي اللَّفْظِ وَهَؤُلَاءِ فِي الْمَعْنَى.

وَبِمِثْل هَذَا صَارَ يَذُمُّهُ مَن يَذُمُّهُ مِن الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِين وَعُلَمَاءِ الْحَدِيثِ بِاتِّبَاعِهِ لِظَاهِر لَا بَاطِنَ لَهُ، كَمَا نَفَى الْمَعَانِيَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالِاشْتِقَاقِ، وَكَمَا نَفَى خَرْقَ الْعَادَاتِ وَنَحْوَهُ مِن عِبَادَاتِ الْقُلُوبِ.

مَضْمُومًا إلَى مَا فِي كَلَامِهِ مِنْ:

أ- الْوَقِيعَةِ فِي الْأَكَابِرِ.

ب- وَالْإِسْرَافِ فِي نَفْيِ الْمَعَانِي.

ج- وَدَعْوَى مُتَابَعَةِ الظَّوَاهِرِ.

وَإِن كَانَ لَهُ مِن الْإِيمَانِ وَالدِّينِ وَالْعُلُومِ الْوَاسِعَةِ الْكَثِيرَةِ مَا لَا يَدْفَعُهُ إلَّا مُكَابِرٌ، وَيُوجَدُ فِي كُتُبِهِ مِن كَثْرَةِ الِاطِّلَاع عَلَى الْأَقْوَالِ وَالْمَعْرِفَةِ بِالْأَحْوَالِ، وَالتَّعْظِيمِ لِدَعَائِمِ الْإِسْلَامِ وَلجَانِبِ الرِّسَالَةِ مَا لَا يَجْتَمِعُ مِثْلُهُ لِغَيْرِهِ.

فَالْمَسْألَةُ الَّتِي يَكونُ فِيهَا حَدِيث يَكُونُ جَانِبُهُ فِيهَا ظَاهِرَ التَّرْجِيحِ، وَلَهُ مِن

(1)

أي: يُثبت الصِّفَاتِ التي جاءت في السُّنَّة، ولا يُؤولها أو يرّدها.

ص: 421

التَّمْيِيزِ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالضَّعِيفِ وَالْمَعْرِفَةِ بِأَقْوَالِ السَّلَفِ مَا لَا يَكَادُ يَقَعُ مِثْلُهُ لِغَيْرِهِ مِن الْفُقَهَاءِ. [4/ 18 - 20]

(مقارنة بين ابن حزم والجويني):

5277 -

لِطَرِيقَةِ أَبِي الْمَعَالِي كَانَ أَبو مُحَمَّدٍ يَتْبَعُهُ فِي فِقْهِهِ وَكَلَامِهِ، لَكِنْ أَبُو مُحَمَّدٍ كَانَ أَعْلَمَ بِالْحَدِيثِ وَأَتْبَعَ لَهُ مِن أَبِي الْمَعَالِي وَبِمَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ.

وَأَبُو الْمَعَالِي أَكْثَرُ اتِّبَاعًا لِلْكَلَامِ، وَهُمَا فِي الْعَرَبِيَّةِ مُتَقَارِبَانِ. [4/ 88]

‌(مقارنة بين ابْنِ عَبَّاسٍ وأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما

-)

5278 -

هَذَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، حَبْرُ الْأُمَّةِ وَتُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ، مِقْدَارُ مَا سَمِعَهُ مِن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا يَبْلُغُ نَحْو الْعِشْرِينَ حَدِيثًا الَّذِي يَقُولُ فِيهِ:"سَمِعْت وَرَأَيْت".

وَسَمِعَ الْكَثِيرَ مِن الصَّحَابَةِ، وَبُورِكَ لَهُ فِي فَهْمِهِ وَالِاسْتِنْبَاطِ مِنْهُ، حَتَّى مَلَأَ الدُّنْيَا عِلْمًا وَفِقْهًا.

قَالَ أَبو مُحَمَّدٍ بْنُ حَزْمٍ: "وَجُمِعَتْ فَتْوَاهُ فِي سَبْعَةِ أَسْفَارٍ كِبَارٍ".

وَهِيَ بِحَسَبِ مَا بَلَغَ جَامِعُهَا، وَإِلَّا فَعِلْمُ ابْنِ عَبَّاسٍ كَالْبَحْرِ، وَفِقْهُهُ وَاسْتِنْبَاطُهُ وَفَهْمُهُ فِي الْقُرْآنِ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي فَاقَ بِهِ النَّاسَ، وَقَد سَمِعُوا مَا سَمِعَ، وَحَفِظُوا الْقُرْآنَ كَمَا حَفِظَهُ، وَلَكِنَّ أَرْضَهُ كَانَت مَن أَطْيَبِ الْأَرَاضي، وَأَقْبَلِهَا لِلزَّرْعِ، فَبَذَرَ فِيهَا النُّصُوصَ، فَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)} [الحديد: 21].

وَأَيْنَ تَقَعُ فَتَاوَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَفْسِيرُهُ وَاسْتِنْبَاطُهُ مِن فَتَاوَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَتَفْسِيرِهِ؟ وَأَئو هُرَيْرَةَ أَحْفَظُ مِنْهُ؛ بَل هُوَ حَافِظُ الْأُمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، يُؤَدِّي الْحَدِيثَ كَمَا سَمِعَهُ، وَيَدْرُسُهُ بِاللَّيْلِ دَرْسًا، فَكَانَت هِمَّتُهُ مَصْرُوفَةً إلَى الْحِفْظِ وَتَبْلِيغِ مَا حَفِظَهُ كَمَا سَمِعَهُ.

وَهِمَّةُ ابْنِ عَبَّاسٍ مَصْرُوفَةٌ إلَى التَّفَقُّهِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، وَتَفْجِيرِ النُّصُوصِ، وَشَقِّ الْأَنْهَارِ مِنْهَا، وَاسْتِخْرَاجِ كُنُوزِهَا.

ص: 422

وَهَكَذَا وَرَثَتُهُم مِن بَعْدِهِمْ: اعْتَمَدُوا فِي دِينِهِمْ عَلَى اسْتِنْبَاطِ النُّصُوصِ، لَا عَلَى خَيَالٍ فَلْسَفِيٍّ، وَلَا رَأيٍ قِيَاسِيٍّ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِن الْآرَاءِ الْمُبْتَدَعَاتِ.

لَا جَرَمَ كَانَت الدَّائِرَةُ وَالثَّنَاءُ الصِّدْقُ وَالْجَزَاءُ الْعَاجِلُ وَالْآجِلُ لِوَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ التَّابِعِينَ لَهُم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَإِنَّ الْمَرْءَ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]. [4/ 93 - 94]

* * *

5279 -

إِنَّ الخرقي نَسَجَ عَلَى مِنْوَالِ الْمُزَني، والمزني نَسَجَ عَلَى مِنْوَالِ مُخْتَصَرِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَإِن كَانَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ التَّبْوِيبِ وَالتَّرْتِيبِ. [4/ 450 - 451]

5280 -

فقد تبيَّن أن من ظن التوكل من مقامات عامة أهل الطريق، فقد غلط غلطًا شديدًا، وإن كان من أعيان المشايخ كصاحب علل المقامات وهو من أجل المشايخ، وأخذ ذلك عنه صاحب محاسن المجالس وظهر ضعف حجة من قال ذلك. [10/ 35]

5281 -

صارَ أَصْحَابُ الْخَلَوَاتِ فِيهِمْ مَن يَتَمَسَّكُ بِجِنْسِ الْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ: الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ.

وَأَكْثَرُهُم يَخْرُجُونَ إلَى أَجْنَاسٍ غَيْرِ مَشْرُوعَةٍ، فَمِن ذَلِكَ طَرِيقَةُ أَبِي حَامِدٍ وَمَن تَبِعَهُ وَهَؤُلَاءِ يَأْمُرُونَ صَاحِبَ الْخَلْوَةِ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى الْفَرْضِ لَا قِرَاءَةً وَلَا نَظَرًا فِي حَدِيثٍ نَبَوِيٍّ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ؛ بَل قَد يَأْمُرُونَهُ بِالذِّكْرِ، ثُمَّ قَد يَقُولُونَ مَا يَقُولُهُ أَبُو حَامِدٍ: ذِكْرُ الْعَامَّةِ: "لَا إلهَ إلَّا اللهُ"، وَذِكْرُ الْخَاصَّةِ:"الله الله"، وَذِكْرُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ:"هُوَ""هُوَ".

وَالذِّكْرُ بِالِاسْمِ الْمُفْرَدِ مُظْهَرًا وَمُضْمَرًا بِدْعَةٌ فِي الشَّرْعِ وَخَطَأٌ فِي الْقَوْلِ وَاللُّغَةِ فَإِنَّ الِاسْمَ الْمُجَرَّدَ لَيْسَ هُوَ كَلَامًا لَا إيمَانًا وَلَا كُفْرًا.

وَأَبُو حَامِدٍ يُبَالِغُ فِي مَدْحِ الزُّهْدِ وَهَذَا مِن بَقَايَا الْفَلْسَفَةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمُتَفَلْسِفَةَ كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ يَزْعُمُونَ أَنَّ كُلَّ مَا يَحْصُلُ فِي الْقلُوبِ مِن الْعِلْمِ

ص: 423

لِلْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّمَا هُوَ مِن الْعَقْلِ الْفَعَّالِ؛ وَلهَذَا يَقُولُونَ: النُّبُوَّةُ مُكْتَسَبَة فَإِذَا تَفَرَّغَ صَفَا قَلْبُهُ -عِنْدَهُم- وَفَاضَ عَلَى قَلْبِهِ مِن جِنْسِ مَا فَاضَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ.

وَعِنْدَهُم أَنَّ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ صلى الله عليه وسلم كُلِّمَ مِن سَمَاءِ عَقْلِهِ؛ لَمْ يَسْمَعْ الْكَلَامَ مِن خَارِجٍ، فَلِهَذَا يَقُولُونَ: إنَّهُ يَحْصُلُ لَهُم مِثْلُ مَا حَصَلَ لِمُوسَى وَأَعْظَمُ مِمَّا حَصَلَ لِمُوسَى.

وأَبُو حَامِدٍ يَقُولُ: إنَّهُ سَمِعَ الْخِطَابَ كَمَا سَمِعَهُ مُوسَى عليه السلام، وَإِن لَمْ يَقْصِدْ هُوَ بِالْخِطَابِ، وَهَذَا كُلُّهُ لِنَقْصِ إيمَانِهِمْ بِالرُّسُلِ، وَأَنَّهُم آمَنُوا بِبَعْضِ مَا جَاءَت بِهِ الرُّسُلُ وَكَفَرُوا بِبَعْضِ، وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ بَاطِلٌ. [10/ 396 - 398]

5282 -

الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ

(1)

وَنَحْوُهُ مِن أَعْظَمِ مَشَايِخِ زَمَانِهِمْ أمْرًا بِالْتِزَامِ الشَّرْعِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَتَقْدِيمِهِ عَلَى الذَّوْقِ وَالْقَدَرِ، وَمِن أَعْظَمِ الْمَشَايِخِ أَمْرًا بِتَرْكِ الْهَوَى وَالْإِرَادَةِ النَّفْسِيَّةِ. [10/ 488]

5283 -

إنَّك تَجِدُ كَثِيرًا مِن الشُّيُوخِ إنَّمَا يَنْتَهِي إلَى ذَلِكَ الْجَمْعِ وَهُوَ "تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ" وَالْفِنَاءُ فِيهِ، كَمَا فِي كَلَامِ صَاحِبِ "مَنَازِلِ السَّائِرِينَ" مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِ مَعَ أَنَّهُ قَطْعًا كَانَ قَائِمًا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْمَعْرُوفَيْنِ لَكِنْ قَد يَدَّعُونَ أَنَّ هَذَا لِأَجْلِ الْعَامَّةِ

(2)

. [10/ 498]

5284 -

كِتَابُ قُوتِ الْقُلُوبِ، وكِتَابُ الْإِحْيَاءِ تَبَعٌ لَهُ فِيمَا يَذْكُرُهُ مِن أَعْمَالِ الْقُلُوبِ: مِثْل الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ وَالْحُبِّ وَالتَّوَكُّلِ وَالتَّوْحِيدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَأَبُو طَالِبٍ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ وَالْأَثَرِ وَكَلَامِ أَهْلِ عُلُومِ الْقُلُوبِ مِن الصُّوفِيَّةِ

(1)

الجيلاني.

(2)

تأمل كيف ثثني على الجيلاني والهروي، وقد صدر منهما زلات في باب السلوك والعقيدة، ومع ذلك يُحْسِن الظن بهما، ويحمل كلامهما على أحسن محمل.

ولو وُجد أمثالهما في زماننا فكيف سيتعامل معهما من لم يحتمل مشايخ ودعاة السُّنَّة، الذين بدر منهم أمور لم تمس العقيدة، والذين ليس عندهم نزعة صوفية، بل لهم اجتهادات فقهية ودعوية، وحديث في قضايا الأمة ونحو ذلك!

ص: 424

وَغَيْرِهِمْ مِن أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ، وَكَلَامُهُ أَسَدُّ وَأَجْوَدُ تَحْقِيقًا وَأَبْعَدُ عَن الْبِدْعَةِ، مَعَ أَنَّ فِي "قُوتِ الْقُلُوبِ" أَحَادِيثَ ضَعِيفَةً وَمَوْضُوعَةً وَأَشْيَاءَ كَثِيرَةً مَرْدُودَةً.

وَأَمَّا مَا فِي (الْإِحْيَاءِ) مِن الْكَلَامِ فِي "الْمُهْلِكَاتِ" مِثْلُ الْكَلَامِ عَلَى الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَالرِّيَاءِ وَالْحَسَدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَغَالِبُهُ مَنْقُولٌ مِن كَلَامِ الْحَارِثِ الْمُحَاسَبِيِّ فِي الرِّعَايَةِ، وَمِثْهُ مَا هُوَ مَقْبُولٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ مَرْدُودٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ مُتَنَازَعٌ فِيهِ.

و"الْإِحْيَاءُ" فِيهِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ؛ لَكِنْ فِيهِ مَوَادُّ مَذْمُومَةٌ، فَإِنَّهُ فِيهِ مَوَادُّ فَاسِدَة مِن كَلَامِ الْفَلَاسِفَةِ تَتَعَلَّقُ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ، فَإِذَا ذَكَرَ مَعَارِفَ الصُّوفِيَّةِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَن أَخَذَ عَدُوًّا لِلْمُسْلِمِينَ أَلْبَسَهُ ثِيَابَ الْمُسْلِمِينَ.

وَقَد أَنْكَرَ أَئِمَّةُ الدِّينِ عَلَى "أَبِي حَامِدٍ" هَذَا فِي كُتُبِهِ، وَقَالُوا: مَرَّضَهُ "الشِّفَاءُ"؛ يَعْنِي: شِفَاءَ ابْنِ سِينَا فِي الْفَلْسَفَةِ.

وَفِيهِ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ ضعِيفَةٌ؛ بَل مَوْضُوعَةٌ كَثِيرَةٌ.

وَفِيهِ أَشْيَاءُ مِن أَغَالِيطِ الصُّوفِيَّةِ وَتُرَّهَاتِهِمْ.

وَفِيهِ مَعَ ذَلِكَ مِن كَلَامِ الْمَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ الْعَارِفِينَ الْمُسْتَقِيمِينَ فِي أَعْمَالِ الْقُلُوبِ الْمُوَافِقِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمِن غَيْرِ ذَلِكَ مِن الْعِبَادَاتِ وَالْأَدَبِ مَا هُوَ مُوَافِقٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِمَّا يَرِدُ مِنْهُ فَلِهَذَا اخْتَلَفَ فِيهِ اجْتِهَادُ النَّاسِ وَتَنَازَعُوا فِيهِ. [10/ 551 - 552]

5285 -

الِاسْمُ الْمُفْرَدُ "مُظْهَرًا مِثْل: "اللهُ" "اللهُ". أَو "مُضْمَرًا" مِثْل: "هُوَ" "هُوَ": لَيْسَ بِمَشْرُوع فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا هُوَ مَأْثُورٌ أَيْضًا عَن أَحَدٍ مِن سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا عَن أَعْيَانِ الْأُمَّةِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ، وَإِنَّمَا لَهِجَ بِهِ قَوْمٌ مِن ضُلَّالِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَرُبَّمَا اتَّبَعُوا فِيهِ حَالَ شَيْخٍ مَغْلُوبٍ فِيهِ مِثْلَمَا يُرْوَى عَن الشِّبْلِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "اللهُ اللهُ"، فَقِيلَ لَهُ: لِمَ لَا تَقُولُ لَا إلهَ إلَّا اللهُ؟ فَقَالَ: أَخَافُ أَنْ أَمُوتَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ.

وَهَذِهِ مِن زَلَّاتِ الشِّبْلِيِّ الَّتِي تُغْفَرُ لَهُ لِصِدْقِ إيمَانِهِ وَقُوَّةِ وَجْدِهِ وَغَلَبَةِ

ص: 425

الْحَالِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ كَانَ رُبَّمَا يُجَنُّ وَيُذْهَبُ بِهِ إلَى الْمَارَسْتَانِ وَيَحْلِقُ لِحْيَتَهُ، وَلَهُ أَشْيَاءُ مِن هَذَا النَّمَطِ الَّتِي لَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِيهَا، وَإِن كَانَ مَعْذُورًا أَو مَأْجُورًا

(1)

. [10/ 556 - 557]

5286 -

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله: عَمَّا ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ القشيري فِي بَابِ الرضا عَن الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: الرضا أَلَّا يَسْأَلَ اللهَ الْجَنَّةَ وَلَا يَسْتَعِيذَ مِن النَّارِ، فَهَل هَذَا الْكَلَامُ صَحِيحٌ؟

فَأَجَابَ: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِن وَجْهَيْنِ:

أَحَدِهِمَا: مِن جِهَةِ ثُبُوتِهِ عَن الشَّيْخِ.

وَالثَّانِي مِن جِهَةِ صِحَّتِهِ فِي نَفْسِهِ وَفَسَادِهِ.

أَمَّا "الْمَقَامُ الْأَوَّلُ" فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْأُسْتَاذَ أَبَا الْقَاسِمِ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا عَن الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ بِإِسْنَادٍ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ مُرْسَلًا عَنْهُ.

وَمَا يَذْكُرُهُ أَبُو الْقَاسِمِ فِي رِسَالَتِهِ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْمَشَايِخِ وَغَيْرِهِمْ تَارَةً يَذْكُرُهُ بِإِسْنَادٍ وَتَارَةً يَذْكُرُهُ مُرْسَلًا -وَكَثِيرًا مَا يَقُولُ: وَقِيلَ كَذَا-.

ثُمَّ الَّذِي يَذْكُرُهُ بِإِسْنَادٍ تَارَةً يَكُونُ إسْنَادُهُ صَحِيحًا وَتَارَةً يَكُونُ ضعِيفًا، بَل مَوْضُوعًا، وَمَا يَذْكُرُهُ مُرْسَلًا وَمَحْذُوف الْقَائِلِ أَوْلَى، وَهَذَا كَمَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي مُصَنَّفَاتِ الْفُقَهَاءِ.

فَإِنَّهُ قَد ذَكَرَ آثَارًا حَسَنَةً بِأَسَانِيدَ حَسَنَةٍ؛ مِثْلُ مَا رَوَاهُ عَن الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ الداراني أَنَّهُ قَالَ: "إذَا سَلَا الْعَبْدُ عَن الشَّهَوَاتِ فَهُوَ رَاضٍ".

وَذكَرَ عَن الشَّيْخِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْت النَّصْرَ آبَادِي يَقُولُ: "مَن أَرَادَ أَنْ يَبْلُغَ مَحَلَّ الرضا فَلْيَلْزَمَ مَا جَعَلَ اللهُ رِضَاهُ فِيهِ" فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِي

(1)

هذا من إنصافه وعدله والْتماسه الأعذار لزلات العلماء والصالحين، وهكذا يجب على المسلم تجاه ما يراه من زلات المسلمين الصالحين.

ص: 426

غَايَةِ الْحُسْنِ

(1)

.

وَالْكُتُبُ الْمُسْنَدَةُ فِي أَخْبَارِ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ وَكَلَامِهِمْ مِثْل كِتَابِ حِلْيَةِ الْأَوْليَاءِ لِأَبِي نُعَيْمٍ وَ"طَبَقَاتِ الصُّوفِيَّةِ" لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَصَفْوَةِ الصَّفْوَةِ لِابْنِ الْجَوْزِيِّ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ لَمْ يَذْكُرُوا فِيهَا هَذِهِ الْكَلِمَةَ عَن الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ، أَلَا تَرَى الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ مُسْنَدًا حَيْثُ قَالَ: قَالَ لِأحْمَدَ بْنِ أَبِي الْحَوَارِيِّ: يَا أَحْمَد لَقَد أُوتيت مِن الرضا نَصِيبًا لَو أَلْقَانِي فِي النَّارِ لَكُنْت بِذَلِكَ رَاضِيًا، فَهَذَا الْكَلَامُ مَأْثُورٌ عَن أَبِي سُلَيْمَانَ بِالْإِسْنَادِ.

وَيُشْبِهُ -وَاللهُ أَعْلَم- أَنَّ أَبَا سُلَيْمَانَ لَمَّا قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ: -لَو أَلْقَانِي فِي النَّارِ لَكُنْت بِذَلِكَ رَاضِيًا- أَنْ يَكُونَ بَعْضُ النَّاسِ حَكَاهُ بِمَا فَهِمَهُ مِن الْمَعْنَى أَنَّهُ قَالَ: الرضا أَنْ لَا تَسْأَلَ اللهَ الْجَنَّةَ وَلَا تَسْتَعِيذَهُ مِن النَّارِ.

وَتِلْكَ الْكَلِمَةُ الَّتِي قَالَهَا أَبُو سُلَيْمَانَ مَعَ أَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى رِضَاهُ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ تَدُلُّ عَلَى عَزْمِهِ بِالرضا بِذَلِكَ، فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْعَزْمَ لَا يَسْتَمِرُّ بَل يَنْفَسِخُ، وَإِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ كَانَ تَرْكُهَا أَحْسَنَ مِن قَوْلِهَا؛ وَأَنَّهَا مُسْتَدْرَكَةٌ

(2)

. [10/ 678 - 693]

5287 -

كَانَ الْجُنَيْد رضي الله عنه سَيِّدَ الطَّانِفَةِ وَمِن أَحْسَنِهِمْ تَعْلِيمًا وَتَأْدِيبًا وَتَقْوِيمًا

(3)

. [10/ 686]

5288 -

الرَّازِي مِن أَعْظَمِ النَّاسِ طَعْنًا فِي الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ، حَتَّى ابْتَدَعَ قَوْلًا مَا عُرِفَ بِهِ قَائِلٌ مَشْهُور غَيْرَهُ، وَهُوَ أَنَّهَا لَا تُفِيدُ الْيَقِينَ! [13/ 141]

(1)

لم يحكم على الكتاب كله بأنه ضار وفاسد، مع كثرة الآثار والأحاديث الباطلة، والتي تحمل فكر التصوف، وما فيها من مخالفاتٍ لمنهج السلف الصالح.

وهذا بخلاف واقع بعض المنتسبين لمنهج السلف في هذا الزمان، حيث يذمون كتبًا لعلماء ومفكرين إسلاميين، ويصفونها بأبشع الأوصاف، وليتهم يمتلكون إنصاف هذا الإمام، فيمدحون ما فيها من خير، ويذمون ما فيها من شر.

(2)

هذا من الْتماس الأعذار لأخطاء العلماء، وحمل كلامهم على أحسن محمل، وغاية ما يُقال عن خطئهم: أنه مُستدركٌ عليهم.

(3)

يُثني على شيخ الطائفة الصوفية؛ لأنه رأى أن أكثر كلامه ومنهجه صوابٌ وموافقٌ للسُّنَّة.

ص: 427

5289 -

صَنَّفَ الرَّازِي كِتَابًا فِي عِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ وَعَمَلِ السِّحْرِ سَمَّاهُ "السِّرُّ الْمَكْتُومُ فِي السِّحْرِ وَمُخَاطَبَةِ النُّجُومِ" وَيُقَالُ: إنَّهُ صَنَّفَهُ لِأُمِّ السُّلْطَانِ عَلَاءِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ لَكْشِ بْنِ جَلَالِ الدِّينِ خَوَارِزْم شاه، وَكَانَ مِن أَعْظَمِ مُلُوكِ الْأَرْضِ، وَكَانَ للرازي بِهِ اتِّصَالٌ قَوِيٌّ، حَتَّى أَنَّهُ وَصَّى إلَيْهِ عَلَى أَوْلَادِهِ، وَصَنَّفَ لَهُ كِتَابًا سَمَّاهُ "الرِّسَالَة الْعَلَائِيَّة فِي الِاخْتِيَارَاتِ السَّمَاوَّيةِ"، وَهَذِهِ الِاخْتِيَارَاتُ لِأهْلِ الضَّلَالِ بَدَلُ الِاسْتِخَارَةِ الَّتِي عَلَّمَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمِينَ.

وَذَكَرَ فِيهِ الِاخْتِيَارَ لِشُرْبِ الْخَمْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا ذَكَرَ فِي "السِّرّ الْمَكْتُوم" فِي عِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَدَعْوَتِهَا مَعَ السُّجُودِ لَهَا وَالشِّرْكِ بِهَا وَدُعَائِهَا، مِثْل مَا يَدْعُو الْمُوَحِّدُونَ رَبَّهُم بَل أَعْظَمَ، وَالتَّقَرُّبِ إلَيْهَا بِمَا يُظَنُّ أَنَّهُ مُنَاسِبٌ لَهَا مِن الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ يَتَقَرَّبُ إلَى الزُّهْرَةِ بِفِعْلِ الْفَوَاحِشِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْغِنَاءِ وَنَحْو ذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ. [13/ 181]

5290 -

صَاحِبُ "مَنَازِلِ السَّائِرِينَ" يَذْكُرُ فِي كُلِّ بَابِ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ؛ فَالْأُولَى: وَهِيَ أَهْوَنُهَا عِنْدَهُم تُوَافِقُ الشَّرْعَ فِي الظَّاهِرِ، وَالثَّانِيَةُ: قَد تُوَافِقُ الشَّرْعَ وَقَد لَا تُوَافِقُ، وَالثَّالِثَةُ فِي الْأَغْلَبِ: تُخَالِفُ، لَا سِيَّمَا فِي التَّوْحِيدِ، والْفَنَاءِ، والرَّجَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا الَّذِي ابْتَدَعُوهُ هُوَ أَعْظَمُ عِنْدَهُم مِمَّا وَافَقوا فِيهِ الرُّسُلَ. [13/ 229]

5291 -

جَمَعَ أَبُو الْفَضْلِ الْفَلَكِيُّ كِتَابًا مِن كَلَامِ أَبِي يَزِيدَ البسطامي سَمَّاهُ "النُّور مِن كَلَامِ طيفور" فِيهِ شَيْءٌ كَثِيرٌ لَا ريبَ أَنَّهُ كَذِبٌ عَلَى أَبِي يَزِيدَ البسطامي، وَفِيهِ أَشْيَاءُ مِن غَلَطِ أَبِي يَزِيدَ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-، وَفِيهِ أَشْيَاءُ حَسَنَةٌ مِن كَلَامِ أَبِي يَزِيدَ، وَكُلُّ أَحَدٍ مِن النَّاسِ يُؤْخَذُ مِن قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم. [13/ 257]

5292 -

مُجَاهِدٌ إمَامُ التَّفْسِيرِ، قَالَ الثَّوْرِيُّ: إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَن مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ. [13/ 285]

5293 -

أَبُو حَامِدٍ يَجْعَلُ الْحِجَاجَ صَنْعَةَ الْكَلَامِ وَيَجْعَلُ عِمَارَةَ الطَّرِيقِ عِلْمَ الْفِقْهِ، وَيَجْعَلُ أَخْبَارَ الْأنْبِيَاءِ عِلْمَ الْقَصَصِ وَيَقُولُ: إنَّ الْكَلَامَ وَالْجَدَلَ لَيْسَ فِيهِ

ص: 428

بَيَانُ حَقٍّ بِدَلِيل؛ بَل إنَّمَا فِيهِ دَفْعُ الْبِدَعِ بِبَيَانِ تَنَاقُضِهَا، وَيَجْعَلُ أَهْلَهُ مِن جِنْسِ خُفَرَاءِ الْحَجِيجِ، وَيَجْعَلُ عِلْمَ الْفِقْهِ لَيْسَ غَايَتُهُ إلَّا مَصْلَحَةَ الدُّنْيَا، وَهَذَا مِمَّا نَازَعَهُ فِيهِ أَكْثَرُ النَّاسِ وَتَكَلَّمُوا فِيهِ بِكَلَامِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ، كَمَا تَكَلَّمُوا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْكِتَاب (جَوَاهِرِ الْقُرْآنِ) وَغَيْوِهِ مِن كُتُبِهِ مِن مَعَانِي الْفَلْسَفَةِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ هُوَ بَاطِنَ الْقُرْآَنِ، وَكَلَامُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى رَدِّ هَذَا أَكْثَرُ مِن كَلَامِهِمْ عَلَى رَدِّ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا فِيهِ مِمَّا يُنَاقِضُ مَقْصُودَ الرَّسُولِ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ، كَمَا تَكَلَّمُوا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي النَّبُوَّةِ بِمَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْفَلَاسِفَةِ فِيهَا.

وَأَمَّا جَعْلُ عِلْمِ الْفِقْهِ خَارِجًا عَن الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَجَعْلُ عِلْمِ الْأَدِلَّةِ وَالْحِجَجِ خَارِجًا عَن الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَهَذَا مَرْدُودٌ عِنْدَ جَمَاهِيرَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. [17/ 121]

5294 -

ابْنُ قُتَيْبَةَ هُوَ مِن الْمُنْتَسِبِينَ إلَى أَحْمَد وَإِسْحَاقَ، وَالْمُنْتَصِرِينَ لِمَذَاهِبِ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ.

قَالَ فِيهِ صَاحِبُ كِتَابِ "التَّحْدِيثِ بِمَنَاقِبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ": وَهُوَ أَحَدُ أَعْلَامِ الْأَئِمَّةِ، وَالْعُلَمَاءِ وَالْفُضَلَاءِ، أَجْوَدُهُم تَصْنِيفًا، وَأَحْسَنُهُم تَرْصِيفًا، لَهُ زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةِ مُصَنَّفٍ، وَكَانَ يَمِيلُ إلَى مَذْهَبِ أَحْمَد وَإِسْحَاقَ، وَكَانَ مُعَاصِرًا لِإِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي، وَكَانَ أَهْلُ الْمَغْرِبِ يُعَظِّمُونَهُ وَيَقُوُلونَ: مَنْ اسْتَجَازَ الْوَقِيعَةَ فِي ابْنِ قُتَيْبَةَ يُتَّهَمُ بِالزَّنْدَقَةِ، وَيَقُولُونَ: كُلُّ بَيْتٍ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِن تَصْنِيفِهِ فَلَا خَيْرَ فِيهِ.

قُلْت: وَيُقَالُ هُوَ لِأَهْلِ السُّنَّةِ مِثْل الْجَاحِظِ لِلْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّهُ خَطِيبُ السُّنَّةِ، كَمَا أَنَّ الْجَاحِظَ خَطِيبُ الْمُعْتَزِلَةِ. [17/ 391 - 392]

5295 -

أَبُو نُعَيْمٍ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ اللهِ الأَصبهاني صَاحِبُ كِتَابِ "حِلْيَةِ الْأَوْليَاءِ""وَتَارِيخِ أصبهان""وَالْمُسْتَخْرَجِ عَلَى الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ". وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن الْمُصَنَّفَاتِ: مِن أَكْبَرِ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ وَمِن أَكْثَرِهِمْ تَصْنِيفَاتٍ، وَمِمَّن انْتَفَعَ النَّاسُ

ص: 429

بِتَصَانِيفِهِ، وَهُوَ أَجَلُّ مِن أَنْ يُقَالَ لَهُ: ثِقَةٌ؛ فَإِنَّ دَرَجَتَهُ فَوْقَ ذَلِكَ، وَكِتَابَهُ "كِتَابُ الْحِلْيَةِ" مِن أَجْوَدِ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ فِي أَخْبَارِ الزُّهَّادِ، وَالْمَنْقُولُ فِيهِ أَصَحُّ مِن الْمَنْقُولِ فِي رِسَالَةِ القشيري وَمُصَنَّفَاتِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي شَيْخِهِ وَمَنَاقِبِ الْأَبْرَارِ لِابْنِ خَمِيسٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ أَبَا نُعَيْمٍ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ وَأَكْثَرُ حَدِيثًا وَأَثْبَتُ رِوَايَة وَنَقْلًا مِن هَؤُلَاءِ، وَلَكِنْ كِتَابُ الزُّهْدِ لِلْإِمَامِ أَحْمَد وَالزُّهْدِ لِابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَمْثَالِهِمَا أَصَحُّ نَقْلًا مِن الْحِلْيَةِ.

وَهَذِهِ الْكُتُبُ وَغَيْرُهَا لَا بُدَّ فِيهَا مِن أَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ وَحِكَايَاتٍ ضَعِيفَةٍ بَل بَاطِلَةٍ، وَفِي الْحِلْيَةِ مِن ذَلِكَ قطعٌ، وَلَكِنَّ الَّذِي فِي غَيْرِهَا مِن هَذِهِ الْكُتُبِ أَكْثَرُ مِمَّا فِيهَا؛ فَإِنَّ فِي مُصَنَّفَاتِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي وَرِسَالَةِ القشيري وَمَنَاقِبِ الْأَبْرَارِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِن الْحِكَايَاتِ الْبَاطِلَةِ؛ بَل وَمِن الْأَحَادِيثِ الْبَاطِلَةِ مَا لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي مُصَنَّفَاتِ أَبِي نُعَيْمٍ، وَلَكِنْ "صَفْوَةُ الصَّفْوَةِ" لِأَبِي الْفَرَجِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ نَقَلَهَا مِن جِنْسِ نَقْلِ الْحِلْيَةِ، وَالْغَالِبُ عَلَى الْكِتَابَيْنِ الصِّحَّةُ، وَمَعَ هَذَا فَفِيهِمَا أَحَادِيثُ وَحِكَايَاتٌ بَاطِلَةٌ.

وَأَمَّا الزُّهْدُ لِلْإِمَامِ أَحْمَد وَنَحْوهُ فَلَيْسَ فِيهِ مِن الْأَحَادِيثِ وَالْحِكَايَاتِ الْمَوْضُوعَةِ مِثْلُ مَا فِي هَذِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَذْكُرُ فِي مُصَنَّفَاتِهِ عَمَّن هُوَ مَعْرُوفٌ بِالْوَضْعِ؛ بَل قَد يَقَعُ فِيهَا مَا هُوَ ضَعِيفٌ بِسُوءِ حِفْظِ نَاقِلِهِ، وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الْمَرْفُوعَةُ لَيْسَ فِيهَا مَا يُعْرَفُ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ قُصِدَ الْكَذِبُ فِيهِ، كَمَا لَيْسَ ذَلِكَ فِي مُسْنَدِهِ، لَكِنْ فِيهِ مَا يُعْرَفث أَنَّهُ غَلَطٌ كَلِطَ فِيهِ رُوَاتُهُ، وَمِثْلُ هَذَا يُوجَدُ فِي غَالِبِ كُتُبِ الْإِسْلَامِ، فَلَا يَسْلَمُ كِتَابٌ مِن الْغَلَطِ إلَّا الْقُرْآنُ.

وَأَجَلُّ مَا يُوجَدُ فِي الصِّحَّةِ "كِتَابُ الْبُخَارِيِّ" وَمَا فِيهِ مَتْنٌ يُعْرَفُ أَنَّهُ غَلَطٌ عَلَى الصَّاحِبِ، لَكِنْ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ مَا هُوَ غَلَطٌ وَقَد بَيَّنَ الْبُخَارِيُّ فِي نَفْسِ صَحِيحِهِ مَا بَيَّنَ غَلَطَ ذَلِكَ الرَّاوِي كَمَا بَيَّنَ اخْتِلَافَ الرُّوَاةِ فِي ثَمَنِ بَعِيرِ جَابِرٍ وَفِيهِ عَن بَعْضِ الصَّحَابَةِ مَا يُقَالُ: إنَّهُ غَلَطٌ كَمَا فِيهِ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ

ص: 430

رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ"، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَكْثَرِ النَّاسِ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا حَلَالًا، وَفِيهِ عَن أُسَامَةَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَلِّ فِي الْبَيْتِ"، وَفِيهِ عَن بِلَالٍ: أَنَّهُ صلَّى فِيهِ، وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدَ الْعُلَمَاء.

وَأَمَّا مُسْلِمٌ فَفِيهِ أَلْفَاظٌ عُرِفَ أَنَّهَا غَلَطٌ، كَمَا فِيهِ:"خَلَقَ اللهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ"، وَقَد بَيَّنَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ هَذَا غَلَطٌ، وَأَنَّ هَذَا مِن كَلَامِ كَعْبٍ، وَفِيهِ أَنَّ "النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الْكُسُوفَ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ فِي كُل رَكْعَةٍ"، وَالصَّوَابُ: أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ الْكُسُوفَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَة، وَفِيهِ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ سَأَلَهُ التَّزَوُّجَ بِأُمِّ حَبِيبَةَ وَهَذَا غَلَطٌ، وَهَذَا مِن أَجَلِّ فُنُونِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ يُسَمَّى: عِلْمَ "عِلَلِ الْحَدِيثِ".

وَأَمَّا كِتَابُ حِلْيَةِ الْأَوْليَاءِ فَمِن أَجْوَدِ مُصَنَّفَاتِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي أَخْبَارِ الزُّهَّادِ، وَفِيهِ مِن الْحِكَايَاتِ مَا لَمْ يَكُن بهِ حَاجَةٌ إلَيْهِ، وَالْأَحَادِيثُ الْمَرْوِيَّةُ فِي أَوَائِلِهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ ضَعِيفَةٌ بَل مَوْضُوعَةٌ. [18/ 71 - 73]

5296 -

إنَّ كِتَابَ "تَنَقُّلَاتِ الْأَنْوَارِ" الْمَنْسُوبُ إلَى "أَحْمَد بْنِ عَبْدِ اللهِ الْبَكْرِيِّ" مِن أَعْظَمِ الْكتُبِ كَذِبًا وَافْتِرَاءً عَلَى اللهِ وَرَسُولِهِ وَعَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم. [18/ 351]

5297 -

إسْحَاق بْن رَاهَويه قَرِينُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ، وَيُوَافِقُهُ فِي الْمَذْهَبِ: أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ وَقَوْلُهمَا كَثِيرًا مَا يُجْمَعُ بَيْنَهُ.

وَالْكَوْسَجُ سَأَلَ مَسَائِلَهُ لِأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، وَكَذَلِكَ حَرْبٌ الكرماني سَأَلَ مَسَائِلَهُ لِأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمَا؛ وَلهَذَا يَجْمَغ التِّرْمِذِيُّ قَوْلَ أَحْمَد وَإِسْحَاقَ، فَإِنَّهُ رَوَى قَوْلَهُمَا مِن مَسَائِلِ الْكَوْسَجِ.

وَكَذَلِكَ أَبُو زُرْعَةَ وَأَبُو حَاتِمٍ وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُ هَؤلَاءِ مِن أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَالسُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ، وَكَانُوا يَتَفَقَّهُونَ عَلَى مَذْهَبِ أَحْمَد وَإِسْحَاقَ، يُقَدِّمُونَ قَوْلَهُمَا عَلَى أَقْوَالِ غَيْرِهِمَا، وَأَئِمَّةُ الْحَدِيثِ؛ كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِي وَغَيْرِهِمْ هُم أَيْضًا مِن أَتْبَاعِهِمَا وَمِمَن يَأْخُذُ الْعِلْمَ وَالْفِقْهَ عَنْهُمَا، ودَاوُد مِن أَصْحَابِ إسْحَاقَ.

ص: 431

وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ وَأَئو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَمُحَمَّدُ بْن نَصْرٍ الْمَرْوَزِي ودَاوُد بْنُ عَلِيٍّ وَنَحْوُ هَؤُلَاءِ كُلُّهُم فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ. [25/ 232 - 233]

5298 -

وَهُوَ [أي: الشَّهْرَستَانِي] مِن أَخْبَرِ النَّاسِ بِالْمِلَلِ وَالنِّحَلِ وَالْمَقَالَاتِ فِي نِهَايَةِ الْإِقْدَامِ. [33/ 172]

5299 -

وَهُمَا [أي: الخطابي وَالْخَطِيبُ] إمَامَانِ مِن أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، مُتَّفَقٌ عَلَى عِلْمِهِمَا بِالنَّقْلِ وَعِلْمِ الخطابي بِالْمَعَانِي. [33/ 177]

5300 -

أَبُو طَالِب لَهُ أَحْيَانًا غَلَطَاتٌ فِي فَهْمِ مَا يَرْوِيه [أي: عن الإمام أحمد] .. مَعَ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ ثِقَة، وَالْغَالِبُ عَلَى رِوَايَتِهِ الصِّحَّةُ، وَلَكِنْ رُبَّمَا غَلِطَ فِي اللَّفْظِ. [33/ 169]

5301 -

إِنَّ كَلَامَ أَحْمَد كَثِيرٌ مُنْتَشِرٌ جِدًّا، وَقَلَّ مَن يَضْبِطُ جَمِيعَ نُصُوصِهِ فِي كَثيرٍ مِن الْمَسَائِلِ لِكَثْرَةِ كَلَامِهِ، وَانْتِشَارِهِ، وَكثْرَةِ مَن كَانَ يَأْخُذُ الْعِلْمَ عَنْهُ. [34/ 111]

5302 -

وَأَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ قَد طَافَ الْبِلَادَ وَجَمَعَ مِن نُصُوصِهِ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ نَحْو أَرْبَعِينَ مُجَلَّدًا وَفَاتَهُ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ لَيْسَتْ فِي كتُبِهِ. [34/ 111]

5303 -

مُوَافَقَتُهُ [أي: الإمام أَحْمَد] لِلشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ أَكْثَرُ مِن مُوَافَقَتِهِ لِغَيْرِهِمَا، وَأُصُولُهُ بِأُصُولِهِمَا أَشْبَهُ مِنْهَا بِأُصُولِ غَيْرِهِمَا، وَكَانَ يُثْنِي عَلَيْهِمَا وَيُعَظِّمُهُمَا، وَيُرَجِّخ اصُولَ مَذَاهِبِهِمَا عَلَى مَن لَيْسَتْ أُصُولُ مَذَاهِبِهِ كَأُصُولِ مَذَاهِبِهِمَا، وَمَذْهَبُهُ أَنَّ أُصُولَ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ أَصَحُّ مِن أُصُولِ غَيْرِهِمْ، وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَقُ هُمَا عِنْدَهُ مِن أَجَلّ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ فِي عَصْرِهِمَا. [34/ 113]

5304 -

زُفَرُ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْإِمْعَانِ فِي طَرْدِ قِيَاسِهِ إلَى الْأَصْلِ الثَّابِتِ فِي الَّذِي قَاسَ عَلَيْهِ، وَمِن عِلَّةِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ جَوَابُ سُؤَالِ الْمُطَالَبَةِ، فَمَن أَحْكَمَ هَذَا الْأَصْلَ اسْتَقَامَ قِيَاسُهُ. [34/ 125]

ص: 432

5305 -

كَانَ طَائِفَةٌ مِن أَئِمَّةِ الْمُصَنِّفِينَ لِلسُّنَنِ عَلَى الْأَبْوَابِ إذَا جَمَعُوا فِيهَا أَصْنَافَ الْعِلْمِ: ابْتَدَأَهَا بِأصْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، كَمَا ابْتَدَأَ الْبُخَارِيُّ صَحِيحَهُ بِبَدْءِ الْوَحْيِ وَنزُولهِ، فَأَخْبَرَ عَن صِفَةِ نُزُولِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ عَلَى الرَّسُولِ أَوَّلًا، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِكِتَابِ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ الْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ بِهِ، ثُمَّ بِكِتَابِ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ مَعْرِفَةُ مَا جَاءَ بِهِ، فَرَتَّبهُ التَّرْييبَ الْحَقِيقِيَّ.

وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ الدارمي صَاحِبُ "الْمُسْنَدِ": ابْتَدَأَ كِتَابَهُ بِدَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ طَرَفًا صَالِحًا.

وَهَذَانِ الرَّجُلَانِ: أَفْضَلُ بِكَثِيرٍ مِن مُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِي وَنَحْوِهِمَا؛ وَلهَذَا كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يُعَظِّمُ هَذَيْنِ وَنَحْوَهُمَا؛ لِأنَّهُم فُقَهَاءُ فِي الْحَدِيثِ أُصُولًا وَفُرُوعًا. [2/ 4]

5306 -

أَبُو مُحَمَّدٍ

(1)

مَعَ كَثْرَةِ عِلْمِهِ وَتَبَحُّرِهِ وَمَا يَأْتِي بِهِ مِن الْفَوَائِدِ الْعَظِيمَةِ: لَهُ مِن الْأَقْوَالِ الْمُنْكَرَةِ الشَّاذَّةِ مَا يُعْجَبُ مِنْهُ، كَمَا يُعْجَبُ مِمَّا يَأْتِي بِهِ مِن الْأَقْوَالِ الْحَسَنَةِ الْفَائِقَةِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: إنَّ مَرْيَمَ نَبِيَّة وَإِنَّ آسِيَةَ نَبِيَّةٌ وَإِنَّ أَمْ مُوسَى نَبِيَّةٌ.

وَقَد ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَأَبُو الْمَعَالِي وَغَيْرُهُم الْإِجْمَاع عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي النِّسَاءِ نَبِيِّهُ، وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّة دَلَّا عَلَى ذَلِكَ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف: 109]. [4/ 396]

5307 -

اَلَّذِي رَجَّحَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَوْضِعِ رَأْسِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنهما هُوَ مَا ذَكَرَة الزُّبَيْرُ بْنُ بكار فِي كِتَابِ "أَنْسَابِ قُرَيْشٍ"، وَالزُّبَيْرُ بْنُ بكار هُوَ مِن أَعْلَمِ النَّاسِ وَأَوْثَقِهِم فِي مِثْل هَذَا ذَكَرَ أنَّ الرَّأسَ حُمِلَ إلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ وَدُفِنَ هُنَاكَ.

وَالزُّبَيْرُ أَعْلَمُ أَهْلِ النَّسَبِ، وَأَفْضَلُ الْعُلَمَاءِ بِهَذَا السَّبَبِ. [4/ 509]

5308 -

الْحَافِظُ أَبُو بَكرٍ البيهقي، مَعَ تَوَلِّيهِ لِلْمُتَكَلِّمِينَ مِن أَصْحَابِ أبِي

(1)

ابن حزم.

ص: 433

الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَذَبِّهِ عَنْهُمْ: قَالَ فِي كِتَابِهِ "الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ": بَابُ مَا جَاءَ فِي إثْبَاتِ الْيَدَيْنِ صِفَتَيْنِ -لَا مِن حَيْثُ الْجَارِحَةِ-. [5/ 87]

5309 -

الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ محَمَّدُ بْن الطَّيِّبِ الْبَاقِلَانِي الْمُتَكَلِّمُ، وَهُوَ أَفْضَلُ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْأَشْعَرِيِّ، لَيْسَ فِيهِمْ مِثْلُهُ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ. [5/ 98]

5310 -

مَن يَقُولُ: هُوَ -سبحانه- فَوْقَ الْعَرْشِ وَهُوَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَيَقُولُ: أَنَا أُقِرُّ بِهَذِهِ النُّصُوصِ، وَهَذِهِ لَا أَصْرِفُ وَاحِدًا مِنْهَا عَن ظَاهِرِهِ: وَهَذَا قَوْلُ طَوَائِفَ ذَكَرَهُم الْأَشعَرِيُّ فِي "الْمَقَالَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ"، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ طَائِفَةٍ مِن السالمية وَالصُّوفِيَّةِ.

وَيُشْبِهُ هَذَا مَا فِي كَلَامِ أَبِي طَالِب الْمَكِّيِّ وَابْنِ برجان وَغَيْرِهِمَا، مَعَ مَا فِي كَلَامِ أَكْثَرِهِمَا مِن التَّنَاقُضِ؛ وَلهَذَا لَمَّا كَانَ أَبُو عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيُّ -الَّذِي صَنَّفَ "مَثَالِبَ ابْنِ أَبِي بِشْرٍ" وَرَدَّ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ عَسَاكِرَ- هُوَ مِن السالمية، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ "الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ": أَنَّ جَمَاعَةً أَنْكَرُوا عَلَى أَبِي طَالِبٍ كَلَامَهُ فِي الصِّفَاتِ.

فَكُلُّ مَن قَالَ: إنَّ اللهَ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا، مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِمَا فَطَرَ اللهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ وَلصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَللْأَدِلَّةِ الْكَثِيرَةِ.

وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ أَقْوَالًا مُتَنَاقِضَةً، يَقُوئونَ: إنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَيَقُولُونَ: نَصِيبُ الْعَرْشِ مِنْهُ كَنَصِيبِ قَلْبِ الْعَارِفِ، كَمَا يَذْكُرُ مِثْل ذَلِكَ أَبُو طَالِبٍ وَغَيْرُهُ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَلْبَ الْعَارِفِ نَصِيبُهُ مِنْهُ الْمَعْرِفَةُ وَالْإِيمَانُ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ، فَإِنْ قَالُوا: إنَّ الْعَرْشَ كَذَلِكَ نَقَضُوا قَوْلَهُم: إنَّهُ نَفْسُهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَإِن قَالُوا بِحُلُولِهِ بِذَاتِهِ فِي قُلُوبِ الْعَارِفِينَ كَانَ هَذَا قَوْلًا بِالْحُلُولِ الْخَالِصِ، وَقَد وَقَعَ فِي ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِن الصُّوفِيَّةِ، حَتَّى صَاحِبُ "مَنَازِلِ السَّائِرِينَ" فِي تَوْحِيدِهِ الْمَذْكُورِ فِي آخِرِ الْمَنَازِلِ فِي مِثْل هَذَا الْحُلُولِ؛ وَلهَذَا كَانَ أَئِمَّة الْقَوْمِ يُحَذِّرُونَ مِن مِثْل هَذَا. [5/ 229 - 230]

ص: 434

5311 -

أَبُو طَالِبٍ رحمه الله هُوَ وَأَصْحَابُهُ السالمية أَتْبَاعُ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ سَالِمٍ، صَاحِبِ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللهِ التستري: لَهُم مِن الْمَعْرِفَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالزُّهْدِ وَاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي عَامَّةِ الْمَسَائِلِ الْمَشْهُورَةِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ مَا هُم مَعْرُوفُونَ بِهِ، وَهُم مُنْتَسِبُونَ إلَى إمَامَيْنِ عَظِيمَيْنِ فِي السُّنَّةِ: الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ، وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللهِ التستري، وَمِنْهُم مَن تَفَقَّهَ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكِ بْنِ أَنَس كَبَيْتِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِمْ وَفِيهِمْ مَن هُوَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.

فَاَلَّذِينَ يَنْتَسِبُونَ إلَيْهِم أَو يُعَظِّمُونَهُم وَيَقْصِدُونَ مُتَابَعَتَهُمْ: أَئِمَّةُ هُدًى رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ، وَهُم فِي ذَلِكَ كَأَمْثَالِهِمْ مِن أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.

وَقَل طَائِفَةٌ مِن الْمُتَأَخِّرِينَ إلَّا وَقَعَ فِي كَلَامِهَا نَوْعُ غَلَطٍ لِكَثْرَةِ مَا وَقَعَ مِن شُبَهِ أَهْلِ الْبِدَع.

وَهَؤُلَاءِ وَقَعَ فِي كَلَامِهِمْ أَشْيَاءُ، أَنْكَرُوا بَعْضَ مَا وَقَعَ مِن كَلَامِ أَبِي طَالِب فِي الصِّفَاتِ -مِن نَحْوِ الْحُلُولِ وَغَيْرِهِ- أَنْكَرَهَا عَلَيْهِم أَئِمَّةُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَنَسَبُوهُم إلَى الْحُلُولِ مِن أَجْلِهَا؛ وَلهَذَا تَكَلَّمَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِر فِي أَبِي عَلِئ الْأَهْوَازِيِّ، لَمَّا صَنَّفَ هَذَا مَثَالِبَ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَهَذَا مَنَاقِبَهُ، وَكَانَ أَبُو عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيُّ مِن السالمية، فَنَسَبَهُم طَائِفَةٌ إلَى الْحُلُولِ.

وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى لَهُ كِتَابٌ صَنَّفَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى السالمية.

وَهُم فِيمَا يُنَازِعُهُم الْمُنَازِعُونَ فِيهِ -كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِ وَكَأَصْحَابِ الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِمْ مَن يُنَازِعُهُم- مِن جِنْسِ تَنَازُعِ النَّاسِ: تَارَةً يُرَدُّ عَلَيْهِم حَقٌّ وَبَاطِلٌ، وَتَارَةً يُرَدُّ عَلَيْهِم حَقٌّ مِن حَقِّهِمْ، وَتَارَةً يُرَدُّ بَاطِل بِبَاطِل، وَتَارَةً يُرَدُّ بَاطِلٌ بِحَقِّ.

وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي تَارِيخِهِ أَنَّ جَمَاعَةً مِن الْعُلَمَاءِ أَنْكرُوا بَعْضَ مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ أَبِي طَالِبٍ فِي الصِّفَاتِ.

وَمَا وَقَعَ فِي كَلَامِ أَبِىِ طَالِبٍ مِن الْحُلُولِ سَرَى بَعْضُهُ إلَى غَيْرِهِ مِن الشُّيُوخِ الَّذِينَ أَخَذُوا عَنْهُ كَأَبِي الْحَكَمِ بْنِ برجان وَنَحْوِهِ.

ص: 435

وَأَمَّا أَبُو إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيُّ صَاحِبُ "مَنَازِلِ السَّائِرِينَ" فَلَيْسَ فِي كَلَامِهِ شَيْءٌ مِن الْحُلُولِ الْعَامِّ، لَكِنْ فِي كَلَامِهِ شَيْءٌ مِن الْحُلُولِ الْخَاصِّ فِي حَقِّ الْعَبْدِ الْعَارِفِ الْوَاصِلِ إلَى مَا سَمَّاهُ هُوَ:"مَقَامُ التَّوْحِيدِ". وَقَد بَاحَ مِنْهُ بِمَا لَمْ يَبُحْ بِهِ أَبُو طَالِبٍ. لَكنْ كَنَى عَنْهُ.

وَأَمَّا "الْحُلُولُ الْعَامُّ" فَفِي كَلَامِ أَبِي طَالِبٍ قِطْعَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْهُ، مَعَ تَبِرِّيهِ مِن لَفْظِ الْحُلُولِ؛ فَإِنَّهُ ذَكَرَ كَلَامًا كَثِيرًا حَسَنًا فِي التَّوْحِيدِ. [5/ 483 - 485]

5312 -

مُقَاتِل بْن حَيَّانَ: ثِقَةٌ فِي التَّفْسِيرِ، لَيْسَ بِمَجْرُوح كَمَا جُرِحَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ. [5/ 496]

5313 -

فِي جُمَلِ مَقَالَاتِ الطَّوَائِفِ وَمَوَادِّهِم:

أَمَّا بَابُ الصِّفَاتِ وَالتَّوْحِيدِ: فَالنَّفْيُ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ قَوْلُ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِن الْجَهْمِيَّة.

وَالْإِثْبَاتُ فِي الْجُمْلَةِ مَذْهَبُ الصفاتية مِن الْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ والكَرَّامِيَة، وَأَهْلِ الْحَدِيثِ، وَجُمْهُورِ الصُّوفِيَّةِ، وَالْحَنْبَلِيَّةِ، وَأَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، إلَّا الشَّاذَّ مِنْهُمْ، وَكَثِيرٍ مِن الْحَنَفِيَّةِ أَو أَكْثَرِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ [السَّلَفِيَّةِ]

(1)

.

لَكِنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْإِثْبَاتِ إلَى حَدِّ التَّشْبِيهِ هُوَ قَوْلُ الْغَالِيَةِ مِن الرَّافِضَةِ وَمِن جُهَّالِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَبَعْضِ الْمُنْحَرِفِينَ.

وَبَيْنَ نَفْيِ الْجَهْمِيَّة وَإِثْبَاتِ الْمُشَبِّهَةِ مَرَاتِبُ:

فَالْأَشْعَريَّةُ وَافَقَ بَعْضُهُم فِي الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ، وَجُمْهُورُهُم وَافَقَهُم فِي الصِّفَاتِ الحديثية.

وَأَمَّا فِي الصِّفَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فَلَهُم قَوْلَانِ:

- فَالْأَشْعَرِيُّ والْبَاقِلَانِي وَقُدَمَاؤُهُم يُثْبِتُونَهَا وَبَعْضُهُم يُقِرُّ بِبَعْضِهَا، وَفِيهِمْ

(1)

لعله: السالمية؛ لأن السلفية يدخلون في مذهب أهل الحديث.

ص: 436

تَجَهُّم مِن جِهَةٍ أُخْرَى؛ فَإِنَّ الْأَشْعَرِيَّ شَرِبَ كَلَامَ الجبائي شَيْخِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَنِسْبَتُهُ فِي الْكَلَامِ إلَيْهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا عِنْدَ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ، وَابْنُ الْبَاقِلَانِي أَكْثَرُ إثْبَاتًا بَعْدَ الْأَشْعَرِيِّ فِي الْإِبَانَةِ، وَبَعْدَ ابْنِ الْبَاقِلَاني ابْنُ فورك فَإِنَّهُ أَثْبَتَ بَعْضَ مَا فِي الْقُرْآنِ.

وَأَمَّا الجُوَيْنِي وَمَن سَلَكَ طَرِيقَتَهُ: فَمَالُوا إلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ؛ فَإِنَّ أَبَا الْمَعَالِي كَانَ كَثِيرَ الْمُطَالَعَةِ لِكُتُبِ أَبِي هَاشِمٍ -الجبائي-، قَلِيلَ الْمَعْرِفَةِ بِالْآثَارِ، فَأَثَّرَ فِيهِ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ.

وَأَمَّا الْحَنْبَلِيَّةُ: فَأَبُو عَبْدِ اللهِ بْنُ حَامِدٍ قَوِيٌّ فِي الْإِثْبَاتِ جَادُّ فِيهِ يَنْزِعُ لِمَسَائِلِ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ.

وَسَلَكَ طَرِيقَهُ صَاحِبُهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، لَكِنَّهُ أَلْيَنُ مِنْهُ، وَأَبْعَدُ عَن الزِّيَادَةِ فِي الْإِثْبَاتِ.

وَأَمَّا أَبُو عَبْدِ اللهِ بْنُ بَطَّةَ: فَطَرِيقَتُهُ طَرِيقَةُ الْمُحَدِّثِينَ الْمَحْضَةِ؛ كَأَبِي بَكْرٍ الآجري فِي الشَّرِيعَةِ، واللالكائي فِي السُّنَنِ، وَالْخَلَّالُ مِثْلُهُ قَرِيبٌ مِنْهُ، وَإِلَى طَرِيقَتِهِ يَمِيلُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ

(1)

وَمُتَأَخِّرُو الْمُحَدِّثِينَ.

[وَأَمَّا التَّمِيمِيُّونَ؛ كَأَبِي الْحَسَنِ، وَابْنِ أَبِي الْفَضْلِ، وَابْنِ رِزْقِ اللهِ]

(2)

: فَهُم أَبْعَدُ عَن الْإِثْبَاتِ، وَأَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَةِ غَيْرِهِمْ وَأَلْيَنُ لَهُمْ؛ وَلهَذَا تَتْبَعُهُم الصُّوفِيَّةُ، وَيَمِيلُ إلَيْهِم فُضَلَاءُ الْأَشْعَرِيَّةِ؛ كالْبَاقِلَانِي وَالْبَيْهَقِي؛ فَإِنَّ عَقِيدَةَ أَحْمَد الَّتِي كَتَبَهَا أَبُو الْفَضْلِ هِيَ الَّتِي اعْتَمَدَهَا البيهقي، مَعَ أَنَّ الْقَوْمَ مَاشُونَ عَلَى السُّنَّةِ.

وَأَمَّا ابْنُ عَقِيلٍ: فَإِذَا انْحَرَفَ وَقَعَ فِي كَلَامِهِ مَادَّةٌ قَوِيَّةٌ مُعْتَزِلِيَّةٌ فِي الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَكَرَامَاتِ الْأَوْليَاءِ؛ بِحَيْثُ يَكُونُ الْأَشْعَرِيُّ أَحْسَنَ قَوْلًا مِنْهُ وَأَقْرَبَ إلَى السُّنَّةِ.

(1)

يعني: ابن قدامة.

(2)

قال صاحب كتاب: صيانة فتاوى شيخ الإسلام (56): صوابه: (أما التميميون: كأبي الحسن، وابنه أبي الفضل، وابن ابنه رزق الله).

ص: 437

فَإِنَّ الْأَشْعَرِيَّ: مَا كَانَ يَنْتَسِبُ إلَّا إلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَإِمَامهمْ عَنْهُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ.

وَقَد ذَكَرَ أَبُو بَكْرِ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَغَيْرُهُ فِي مُنَاظَرَاتِهِ: مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ عِنْدَهُ مِن مُتَكَلِّمِي أَهْلِ الْحَدِيثِ، لَمْ يَجْعَلْهُ مُبَايِنًا لَهُمْ، وَكَانُوا قَدِيمًا مُتَقَارِبِينَ، إلَّا أَنَّ فِيهِمْ مَن يُنْكِرُ عَلَيْهِ مَا قَد يُنْكِرُونَهُ عَلَى مَن خَرَجَ مِنْهُم إلَى شَيْءٍ مِن الْكَلَامِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِن الْبِدْعَةِ، مَعَ أَنَّهُ فِي أَصْلِ مَقَالَتِهِ لَيْسَ عَلَى السُّنَّةِ الْمَحْضَةِ؛ بَل هُوَ مُقَضرٌ عَنْهَا تَقْصِيرًا مَعْرُوفًا.

وَالْأَشْعَرِيَّة فِيمَا يُثْبِتُونَهُ مِن السُّنَّةِ فَرْعٌ عَلَى الْحَنْبَلِيَّةِ، كَمَا أَنَّ مُتَكَلِّمَةَ الْحَنْبَلِيَّةِ -فِيمَا يَحْتَجُّونَ بِهِ مِن الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ- فَرْعٌ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا وَقَعَت الْفُرْقَةُ بِسَبَبِ فِتْنَةِ القشيري.

وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْأَشْعَرِيَّةَ الخراسانيين كَانُوا قَد انْحَرَفُوا إلَى التَّعْطِيلِ.

وَكَثِيرٌ مِن الْحَنْبَلِيَّةِ زَادُوا فِي الْإِثْبَاتِ.

فَابْنُ عَقِيلٍ: إنَّمَا وَقَعَ فِي كَلَامِهِ الْمَادَّةُ الْمُعْتَزِلِيَّةُ بِسَبَبِ شَيْخِهِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ الْوَلِيدِ، وَأَبِي الْقَاسِمِ بْنِ التَّبَّانِ المعتزليين؛ وَلهَذَا لَهُ فِي كِتَابِهِ "إثْبَاتِ التَّنْزِيهِ" وَفِي غَيْرِهِ كَلَامٌ يُضَاهِي كَلَامَ المريسي وَنَحْوِهِ، لَكِنْ لَهُ فِي الْإِثْبَاتِ كَلَامٌ كَثِيرٌ حَسَن، وَعَلَيْهِ اسْتَقَرَّ أَمْرُهُ فِي كِتَابِ "الْإِرْشَادِ"، مَعَ أَنَّهُ قَد يَزِيدُ فِي الْإِثْبَاتِ، لَكِنْ مَعَ هَذَا فَمَذْهَبُهُ فِي الصِّفَاتِ قَرِيبٌ مِن مَذْهَبِ قُدَمَاءِ الْأَشْعَرِيَّةِ والْكلَّابِيَة فِي أَنَّهُ يُقِرُّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْفرْآنُ وَالْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ، وَيَتَأَوَّلُ غَيْرَهُ.

وَالْغَزَالِيُّ فِي كَلَامِهِ مَادَّةٌ فَلْسَفِيَّةٌ كَبِيرَةٌ بِسَبَبِ كَلَامِ ابْنِ سِينَا فِي "الشفا" وَغَيْرِهِ وَ"رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا" وَكَلَامِ أَبِي حَيَّانَ التَّوْحِيدِيِّ.

وَأَمَّا الْمَادَّةُ الْمُعْتَزِلِيَّةُ فِي كَلَامِهِ فَقَلِيلَةٌ أَو مَعْدُومَةٌ، كَمَا أَنَّ الْمَادَّةَ الْفَلْسَفِيَّةَ فِي كَلَامِ ابْنِ عَقِيلٍ قَلِيلَةٌ أَو مَعْدُومَةٌ.

وَكَلَامُهُ فِي "الْإِحْيَاءِ": غَالِبُهُ جَيِّدٌ، لَكِنَّ فِيهِ مَوَادَّ فَاسِدَةً: مَادَّةٌ فَلْسَفِيَّةٌ،

ص: 438

وَمَادَّةٌ كَلَامِيَّةٌ، وَمَادَّةٌ مِن تُرَّهَاتِ الصُّوفِيَّةِ، وَمَادَّةٌ مِن الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ.

وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ عَقِيلٍ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ مِن جِهَةِ تَنَاقُضِ الْمَقَالَاتِ فِي الصِّفَاتِ؛ فَإِنَّهُ قَد يُكَفِّرُ فِي أَحَدِ الصِّفَاتِ بِالْمَقَالَةِ الَّتِي يَنْصُرُهَا فِي الْمُصَنَّفِ الْآخَرِ، وَإِذَا صَنَّفَ عَلَى طَرِيقَةِ طَائِفَةٍ غَلَبَ عَلَيْهِ مَذْهَبُهَا.

وَأَمَّا ابْنُ الْخَطِيبِ: فَكَثِيرُ الِاضْطِرَابِ جِدًّا، لَا يَسْتَقِرُّ عَلَى حَالٍ، وَإِنَّمَا هُوَ بَحْثٌ وَجَدَلٌ، بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يَطْلُبُ وَلَمْ يَهْتَدِ إلَى مَطْلُوبِهِ.

بِخِلَافِ أَبِي حَامِدٍ: فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَسْتَقِرُّ.

وَالْأَشْعَرِيَّةُ: الْأَغْلَبُ عَلَيْهِم أَنَّهُم مُرْجِئَةٌ فِي "بَابِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ"، جَبْرِيَّةٌ فِي "بَابِ الْقَدَرِ".

وَأَمَّا فِي الصِّفَاتِ فَلَيْسُوا جهمية مَحْضَةً؛ بَل فِيهِمْ نَوْعٌ مِن التَّجَهُّمِ.

وَالْمُعْتَزِلَةُ: وَعِيدِيَّة فِي "بَابِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكامِ"، قَدَرِيَّةٌ فِي "بَابِ الْقَدَرِ"، جهمية مَحْضَةٌ -وَاتَّبَعَهُم عَلَى ذَلِكَ مُتَأَخِّرُو الشِّيعَةِ، وَزَادُوا عَلَيْهِم الْإِمَامَةَ وَالتَّفْضِيلَ، وَخَالَفُوهُم فِي الْوَعِيدِ-، وَهُم أَيْضًا يَرَوْنَ الْخُرُوجَ عَلَى الْأَئِمَّةِ.

وَأَمَّا "الْأَشْعَرِيَّةُ" فَلَا يَرَوْنَ السَّيْفَ مُوَافَقَةَ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ، وَهُم فِي الْجُمْلَةِ أَقْرَبُ الْمُتَكَلِّمِينَ إلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ.

وَ"الْكُلَّابِيَة" وَكَذَلِكَ "الكَرَّامِيَة": فِيهِمْ قُرْبٌ إلَى أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ، وَإِن كَانَ فِي مَقَالَةِ كُلٍّ مِن الْأَقْوَالِ مَا يُخَالِفُ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ.

وَأَمَّا "السالمية": فَهُم وَالْحَنْبَلِيَّةُ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ، إلَّا فِي مَوَاضِعَ مَخْصُوصَةٍ تَجْرِي مَجْرَى اخْتِلَافِ الْحَنَابِلَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَفِيهِمْ تَصَوُّفٌ.

وَمَن بَدَّع مِن أَصْحَابِنَا هَؤُلَاءِ: يُبَدِّع أَيْضًا التَّسَمِّيَ فِي الْأُصُولِ بِالْحَنْبَلِيَّةِ وَغَيْر ذَلِكَ، وَلَا يَرَى أَنْ يَتَسَمَّى أَحَدٌ فِي الْأُصُولِ إلَّا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

ص: 439

وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ جَيِّدَةٌ، لَكِنَّ هَذَا مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ؛ فَإِنَّ مَسَائِلَ الدَّقِّ فِي الْأُصُولِ لَا يَكَادُ يَتَّفِقُ عَلَيْهَا طَائِفَةٌ؛ إذ لَو كَانَ كَذَلِكَ لَمَا تَنَازَعَ فِي بَعْضِهَا السَّلَفُ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَقَد يُنْكَرُ الشَّيْءُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، وَعَلَى شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ

(1)

. [6/ 51 - 56]

5314 -

أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ نَصَرَ قَوْلَ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ، مَعَ أَنَّهُ نَصَرَ الْمَشْهُورَ عَن أَهْلِ السُّنَّةِ مِن أَنَّهُ يَسْتَثْنِي فِي الْإِيمَانِ فَيَقُولُ: أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللهُ؛ لِأَنَّهُ نَصَرَ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ أَحَدٌ مِن أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وَلَا يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ، وَتُقْبَلُ فِيهِم الشَّفَاعَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ.

وَهُوَ دَائِمًا يَنْصُرُ -فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي فِيهَا النِّزَاعُ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ- قَوْلَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَكُن خَبِيرًا بِمَآخِذِهِمْ، فَيَنْصُرُهُ عَلَى مَا يَرَاهُ هُوَ مِن الْأُصُولِ الَّتِي تَلَقَّاهَا عَن غَيْرِهِمْ، فَيَقَعُ فِي ذَلِكَ مِن التَّنَاقُضِ مَا يُنْكِرُهُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، كَمَا فَعَلَ فِي مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ وَنَصَرَ فِيهَا قَوْل جَهْمٍ مَعَ نَصْرِهِ لِلِاسْتِثْنَاءِ. [7/ 120]

5315 -

ابْنُ عَقِيلٍ لَمَّا كَانَ فِي كَثِيرٍ مِن كَلَامِهِ طَائِفَةٌ مِن كَلَامِ الْمُعْتَزِلَةِ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك لَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِك، فَقَالَ: يَا هَذَا هَبْ أَنَّ لَهُ وَجْهًا أَفَتَتَلَذَّذُ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ.

وَهَذَا اللَّفْظُ مَأْثُورٌ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاة النَّسَائِي وَغَيْرُهُ عَن عَمَّارٍ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [8/ 355]

5316 -

"الشَّيْخُ أَئو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي" فِي "كِتَابِ تَارِيخِ أَهْلِ الصُّفَّةِ" جَمَعَ ذِكْرَ مَن بَلَغَهُ أَنَّهُ كَانَ مِن "أَهْلِ الصُّفَّةِ" وَكَانَ مُعْتَنِيًا بِذِكْرِ أَخْبَارِ النُّسَّاكِ وَالصُّوفِيَّةِ؛ وَالْآثَارِ الَّتِي يَسْتَنِدُونَ إلَيْهَا وَالْكَلِمَاتِ الْمَأْثُورَةِ عَنْهُمْ؛ وَجَمَعَ أَخْبَارَ

(1)

انظر إلى معرفة الشيخ بهذه الفرق وعقائد ومناهج هؤلاء العلماء، وقد ذكر أربعين فرقة وعالمًا! وهذا يدل على سعة علمه وإحاطته بالفرق والمذاهب وأهلها.

ص: 440

زُهَّادِ السَّلَفِ، وَأَخْبَارَ جَمِيعِ مَن بَلَغَهُ أَنَّهُ كَانَ مِن أَهْلِ الصُّفَّةِ وَكَمْ بَلَغُوا، وَأَخْبَارَ الصُّوفِيَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ، وَجَمَعَ أَيْضًا فِي الأَبْوَابِ: مِثْل حَقَائِقِ التَّفْسِيرِ، وَمِثْل أَبْوَابِ التَّصَوُّفِ الْجَارِيَةِ عَلَى أَبْوَابِ الْفِقْهِ، وَمِثْل كَلَامِهِمْ فِي التَّوْحِيدِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَمَسْأَلَةَ السَّمَاعِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِن الْأَحْوَالِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِن الْأَبْوَابِ، وَفِيمَا جَمَعَهُ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ، وَمَنَافِعُ جَلِيلَةٌ.

وَهُوَ فِي نَفْسِهِ رَجُلٌ مِن أَهْلِ الْخَيْرِ وَالدِّينِ وَالصَّلَاحِ وَالْفَضْلِ، وَمَا يَرْوِيه مِن الْآثَارِ فِيهِ مِن الصَّحِيحِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَيَرْوِي أَحْيَانًا أَخْبَارًا ضَعِيفَةً بَل مَوْضُوعَةٌ، يَعْلَمُ الْعُلَمَاءُ أَنَّهَا كَذِبٌ، وَقَد تَكَلَّمَ بَعْضُ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ فِي سَمَاعِهِ، وَكَانَ البيهقي إذَا رَوَى عَنْهُ يَقُولُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِن أَصْلِ سَمَاعِهِ، وَمَا يُظَنُّ بِهِ وَبأَمْثَالِهِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَمُّدُ الْكَذِبِ، لَكِنْ لِعَدَمِ الْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ يَدْخُلُ عَلَيْهِم الْخَطَأُ فِي الرِّوَايَةِ، فَإِنَّ النُّسَّاكَ وَالْعُبَّادَ مِنْهُم مَن هُوَ مُتْقِنٌ فِي الْحَدِيثِ؛ مِثْلُ ثَابِتٍ البناني والْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ وَأَمْثَالِهِمَا، وَمِنْهُم مَن قَد يَقَعُ فِي بَعْضِ حَدِيثِهِ غَلَطٌ، وَضَعُفَ مِثْلُ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ وَفَرْقَدٍ السبخي وَنَحْوِهِمَا، وَكَذَلِكَ مَا يَأْثَرُهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَن بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الطَّرِيقِ أَو يَنْتَصِرُ لَهُ مِن الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَحْوَالِ فِيهِ مِن الْهُدَى وَالْعِلْمِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَفِيهِ -أَحْيَانًا- مِن الْخَطَأِ أَشْيَاءُ، وَبَعْضُ ذَلِكَ يَكُونُ عَن اجْتِهَادٍ سَائِغٍ، وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ قَطْعًا؛ مِثْلُ مَا ذُكِرَ فِي حَقَائِقِ التَّفْسِيرِ قِطْعَةٌ كَبِيرَةٌ عَن جَعْفَرٍ الصَّادِقِ وَغَيْرِهِ مِن الآثَارِ الْمَوْضُوعَةِ، وَذَكَرَ عَنْهُ بَعْضُ طَائِفَةٍ أَنْوَاعًا مِن الْإِشَارَاتِ الَّتِي بَعْضُهَا أَمْثَالٌ حَسَنَةٌ، وَاسْتِدْلَالَاتٌ مُنَاسِبَةٌ، وَبَعْضُهَا مِن نَوْعِ الْبَاطِلِ وَاللَّغْوِ.

فَاَلَّذِي جَمَعَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَنَحْوُهُ فِي تَارِيخِ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَأَخْبَارِ زُهَّادِ السَّلَفِ وَطَبَقَاتِ الصُّوفِيَّةِ يُسْتَفَادُ مِنْهُ فَوَائِدُ جَلِيلَةٌ، وَيُجْتَنَبُ مِنْهُ مَا فِيهِ مِن الرِّوَايَاتِ الْبَاطِلَةِ، وَيُتَوَقَّفُ فِيمَا فِيهِ مِن الرِّوَايَاتِ الضَّعِيفَةِ، وَهَكَذَا كَثِيرٌ مِن أَهْلِ الرِّوَايَاتِ وَمِن أَهْلِ الْآرَاءِ وَالْأَذْوَاقِ مِغ الْفُقَهَاءِ وَالزُّهَّادِ وَالْمُتَكَلِّمِين وَغَيْرِهِمْ يُوجَدُ فِيمَا يَأْثُرُونَهُ عَمَّن قَبْلَهُم وَفِيمَا يَذْكُرُونَة مُعْتَقِدِينَ لَهُ شَيْءٌ كَثِيرٌ وَأَمْرٌ عَظِيمٌ

ص: 441

مِن الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ رَسُولَهُ، وَيُوجَدُ -أَحْيَانًا- عِنْدَهُم مِن جِنْسِ الرِّوَايَاتِ الْبَاطِلَةِ أَو الضَّعِيفَةِ وَمِن جِنْسِ الْآرَاءِ وَالْأَذْوَاقِ الْفَاسِدَةِ أَو الْمُحْتَمَلَةِ شَيْءٌ كَثِيرٌ. [11/ 42 - 43]

5317 -

ظَنَّ طَائِفَةٌ غالطة أَنَّ "خَاتَمَ الْأَوْليَاءِ" أَفْضَل الْأَوْليَاءِ قِيَاسًا عَلَى خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ مِن الْمَشَايِخِ الْمُتَقَدِّمِينَ بِخَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ إلَّا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فَإِنَّهُ صَنَّفَ مُصَنَّفًا غَلِطَ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ. [11/ 223]

5318 -

إِنَّ الْجُنَيْد -قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ- كَانَ مِن أَئِمَّةِ الْهُدَى. [11/ 240]

5319 -

تكَلَّمَ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ "خَتْمِ الْوِلَايَةِ": بِكَلَام مَرْدُودٍ مُخَالِفٍ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ، حَيْثُ غَلَا فِي ذِكْرِ الْوِلَايَةِ وَمَا ذَكَرَهُ مِن خَاتَمِ الْأَوْليَاءِ وَعِصْمَةِ الْأَوْليَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُقَدِّمَةٌ لِضَلَالِ ابْنِ عَرَبِيٍّ وَأَمْثَالِهِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي هَذَا الْبَابِ بِالْبَاطِلِ وَالْعُدْوَانِ. [11/ 373]

5320 -

سُئل -شيخ الإسلام رحمه الله عَن "الْمُرْشِدَةِ" كَيْفَ كَانَ أَصْلُهَا وَتَأْلِيفُهَا؟ وَهَل تَجُوزُ قِرَاءَتُهَا أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- قَائِلًا: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَصْلُ هَذِهِ: أَنَّهُ وَضَعَهَا أَبُو عَبْدِ اللهِ محَمَّد بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ التومرت الَّذِي تَلَقَّبَ بِالْمَهْدِيِّ وَكَانَ قَد ظَهَرَ فِي الْمَغْرِبِ فِي أَوَائِلِ الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ مِن نَحْوِ مِائَتَيْ سَنَةٍ، وَكَانَ قَد دَخَلَ إلَى بِلَادِ الْعِرَاقِ وَتَعَلَّمَ طَرَفًا مِن الْعِلْمِ، وَكَانَ فِيهِ طَرَفٌ مِن الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ.

وَلَمَّا رَجَعَ إلَى الْمَغْرِبِ صَعِدَ إلَى جِبَالِ الْمَغْرِبِ إلَى قَوْمٍ مِن الْبَرْبَرِ وَغَيْرُهُمْ: جُهَّالٍ لَا يَعْرِفُونَ مِن دِينِ الْإِسْلَامِ إلَّا مَا شَاءَ اللهُ فَعَلَّمَهُم الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصِّيَامَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِن شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَاسْتَجَازَ أَنْ يُظْهِرَ لَهُم أَنْوَاعًا مِن المخاريق لِيَدْعُوَهُم بِهَا إلَى الدِّينِ، فَصَارَ يَجِيءُ إلَى الْمَقَابِرِ يَدْفِنُ بِهَا أَقْوَامًا

ص: 442

وَيُوَاطِئُهُم عَلَى أَنْ يُكَلِّمُوهُ إذَا دَعَاهُم، وَيَشْهَدُوا لَهُ بِمَا طَلَبَهُ مِنْهُم؛ مِثْل أَنْ يَشْهَدُوا لَهُ بِأَنَّهُ الْمَهْدِيُّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمَهُ وَاسْمُ أَبِيهِ اسْمَ أَبِيهِ، وَأَنَّهُ الَّذِي يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا، وَأَنَّ مَن اتَّبَعَهُ أَفْلَحَ وَمَن خَالَفَهُ خَسِرَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِن الْكَلَامِ، فَإِذَا اعْتَقَدَ أُولَئِكَ الْبَرْبَرُ أَنَّ الْمَوْتَى يُكَلِّمُونَهُ وَيَشْهَدُونَ لَهُ بِذَلِكَ عَظُمَ اعْتِقَادُهُم فِيهِ وَطَاعَتُهُم لِأَمْرِهِ، ثُمَّ إنَّ أُولَئِكَ الْمَقْبُورِينَ يَهْدِئم عَلَيْهِم الْقُبُورَ لِيَمُوتُوا وَلَا يُظْهِرُوا أَمْرَهُ وَاعْتَقِدَ أَنَّ دِمَاءَ أُولَئِكَ مُبَاحَةٌ بِدُونِ هَذَا وَأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ إظْهَارُ هَذَا الْبَاطِلِ لِيَقُومَ أُولَئِكَ الْجُهَّالُ بِنَصْرِهِ وَاتِّبَاعِهِ.

وَصَاحِبُ "الْمُرْشِدَةِ" كَانَت هَذِهِ عَقِيدَتَهُ كَمَا قَد صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي كِتَابِ لَهُ كَبِيرٍ شَرَحَ فِيهِ مَذْهَبَهُ فِي ذَلِكَ، ذَكَرَ فِيهِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى وُجُودٌ مُطْلَقٌ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ ابْنُ سِينَا وَابْنُ سَبْعِينَ وَأَمْثَالُهُمْ.

وَلهَذَا لَمْ يَذْكرْ فِي "مُرْشِدَتِهِ" الِاعْتِقَادَ الَّذِي يَذْكُرُهُ أَئِمَّةُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ مِن أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ وَالْكلَامِ وَغَيْرِهِمْ مِن أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ.

وَالتَّوْحِيدُ هُوَ مَا بَيَّنَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: 1 - 4].

فنفاة الْجَهْمِيَّة مِن الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ سَمَّوْا نَفْيَ الصِّفَاتِ تَوْحِيدًا .. وَصَاحِبُ الْمُرْشِدَةِ لَقَّبَ أَصْحَابَهُ مُوَحِّدِينَ اتِّبَاعًا لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا تَوْحِيدًا مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهِ مِن سُلْطَانٍ، وَأَلْحَدُوا فِي التَّوْحِيدِ الَّذِي أَنْزَلَ اللهُ بِهِ الْقُرْآنَ. [11/ 476 - 491]

5321 -

الشَّهْرَستَانِي مَعَ تَصْنِيفِهِ فِي الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ يَذْكرُ فِي مَسْأْلَةِ الْكَلَامِ وَالْإِرَادَةِ وَغَيْرِهِمَا أَقْوَالًا لَيْسَ فِيهَا الْقَوْلُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسنَّةُ وَإِن كَانَ بَعْضُهَا أَقْرَبَ.

ص: 443

وَقَبِلَهُ أَبُو الْحَسَنِ كِتَابُهُ فِي اخْتِلَافِ الْمُصَلِّينَ مِن أَجْمَعِ الْكُتُبِ، وَقَد اسْتَقْصَى فِيهِ أَقَاوِيلَ أَهْلِ الْبِدَع، وَلَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ ذَكَرَهُ مُجْمَلًا غَيْرَ مُفَصَّلٍ، وَتَصَرَّفَ فِي بَعْضِهِ فَذَكَرَهُ بِمَا اعْتَقَدَهُ هُوَ أَنَّهُ قَوْلُهُم مِن غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَنْقُولًا عَن أَحَدٍ مِنْهُمْ.

وَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ إلَيْهِ قَوْلُ ابْن كِلَابٍ.

فَأمَّا ابْنُ كِلَابٍ فَقَوْلُهُ مَشُوبٌ بِقَوْلِ الْجَهْمِيَّة، وَهُوَ مُرَكَّبٌ مِن قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَقَوْلِ الْجَهْمِيَّة.

وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ فِى الصِّفَاتِ، وَأَمَّا فِى الْقَدَرِ وَالْإِيمَانِ فَقَوْلُهُ قَوْلُ جَهْمٍ.

وَأَمَّا مَا حَكَاهُ عَن أهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَقَالَ: "وَبِكُلٍّ مَا ذَكَرْنَا مِن قَوْلِهِمْ نَقُولُ وَإِلَيْهِ نَذْهَبُ"، فَهُوَ أَقْرَبُ مَا ذَكَرَهُ.

وَبَعْضُهُ ذَكَرَهُ عَنْهُم عَلَى وَجْهِهِ وَبَعْضُهُ تَصَرَّفَ فِيهِ وَخَلَطَهُ بِمَا هُوَ مِن أَقْوَالِ جَهْمٍ فِي الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ، إذ كَانَ هُوَ نَفْسُهُ يَعْتَقِدُ صِحَّةَ تِلْكَ الْأُصُولِ، وَهُوَ يُحِبُّ الِانْتِصَارَ لأهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَمُوَافَقَتَهُمْ، فَأَرَادَ أَنْ يَجْمَعُ بَيْنَ مَا رَآهُ مِن رَأْيِ أُولَئِكَ وَبَيْنَ مَا نَقَلَهُ عَن هَؤُلَاءِ.

وَالطَّائِفَتَانِ -أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَهْمِيَّة- يَقُولُونَ إنَّهُ تَنَاقُضٌ، لَكِنَّ السُّنِّيَّ يَحْمَدُ مُوَافَقَتهُ لِأهْلِ الْحَدِيثِ، وَيُذَمُّ مُوَافَقَتهُ للجهمية.

وَلهَذَا كَانَ مُتَأَخِّرُو أَصْحَابِهِ كَأَبِي الْمَعَالِي وَنَحْوِهِ أَظْهَرَ تَجَهُّمًا وَتَعْطِيلًا مِن مُتَقَدِّمِيهِمْ.

وَهِيَ مَوَاضِعُ دَقِيقَةٌ يَغْفِرُ اللهُ لِمَن أَخْطَأَ فِيهَا بَعْدَ اجْتِهَادِهِ.

لَكِنَّ الصَّوَابَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ، فَلَا يَكُونُ الْحَقُّ فِي خِلَافِ ذَلِكَ قَطُّ وَاللهُ أَعْلَمُ. [16/ 307 - 309]

5322 -

قَوْلُهُ تعالى: {أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ} [البقرة: 210] كَانَ جَمَاعَةٌ مِن

ص: 444

السَّلَفِ يُمْسِكُونَ عَن مِثْل هَذَا، وَقَد ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى عَن أَحْمَد أَنَّهُ قَالَ: الْمُرَادُ بِهِ قُدْرَتُهُ وَأَمْرُهُ.

قَالَ: وَقَد بَيَّنَهُ فِي قَوْلِهِ: {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} [النحل: 33].

قُلْت: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ أَنَّ حَنْبَلًا نَقَلَهُ عَن أَحْمَد فِي كِتَابِ "الْمِحْنَةِ" أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي الْمُنَاظَرَةِ لَهُم يَوْمَ الْمِحْنَةِ لَمَّا احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: "تَجِيءُ الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ".

قَالُوا: وَالْمَجِيءُ لَا يَكُونُ إلَّا لِمَخْلُوق، فَعَارَضَهُم أَحْمَد بِقَوْلِهِ:{وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22]، {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام: 158]، وَقَالَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: "تَجِيءُ الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ": ثَوَابُهُمَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَجَاءَ رَبُّكَ} أَمْرُهُ وَقُدْرَتُهُ.

وَقَد اخْتَلَفَ أَصْحَابُ أحْمَد فِيمَا نَقَلَهُ حَنْبَلٌ.

فَإِنَّهُ لَا ريبَ أَنَّهُ خِلَافُ النُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَن أَحْمَد فِي مَنْعِهِ مِن تَأْوِيلِ هَذَا، وَتَأْوِيلِ النُّزُولِ وَالِاسْتِوَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِن الْأَفْعَالِ.

وَحَنْبَلٌ يَنْفَرِدُ بِرِوَايَاتِ يُغَلِّطُهُ فِيهَا طَائِفَةٌ كَالْخَلَّالِ وَصَاحِبِهِ.

قَالَ أَبُو إسْحَاقَ ابْن شاقلا: هَذَا غَلَطٌ مِن حَنْبَلٍ لَا شَكَّ فِيهِ.

وَكَذَلِكَ نُقِلَ عَن مَالِكٍ رِوَايَةٌ أَنَّهُ تَأَوَّلَ "يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا" أَنَّهُ يَنْزِلُ أَمْرُهُ، لَكِنَّ هَذَا مِن رِوَايَةِ حَبِيبٍ كَاتِبِهِ وَهُوَ كَذَّابٌ بِاتِّفَاقِهِمْ. [16/ 404 - 405]

5323 -

أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ شُكْرٍ: سَرِيغ إلَى تَكْفِيرِ مَن يُخَالِفُهُ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِن السُّنَّةِ، وَقَد يَكُونُ مُخْطِئًا فِيهِ؛ إمَّا لِاحْتِجَاجِهِ بِأَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ أَو بِأَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ لَكِنْ لَا تَدُلُّ عَلَى مَقْصُودِهِ، وَمَا أَصَابَ فِيهِ مِن السُّنَّةِ لَا يَجُوزُ تَكْفِيرُ كُلِّ مَن خَالَفَ فِيهِ.

فَلَيْسَ كُلُّ مُخْطِئٍ كَافِرًا لَا سِيَّمَا فِي الْمَسَائِلِ الدَّقِيقَةِ الَّتِي كَثُرَ فِيهَا نِزَاعُ الْأَمَةِ.

ص: 445

وَكَذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيُّ لَهُ مُصَنَّفٌ فِي الصِّفَاتِ قَد جَمَعَ فِيهِ الْغَثَّ وَالسَّمِينَ.

وَكَذَلِكَ مَا يَجْمَعُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ منده مَعَ أَنَّهُ مِن أَكْثَرِ النَّاسِ حَدِيثًا، لَكِنْ يَرْوِي شَيْئًا كَثِيرًا مِن الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالضَّعِيفِ، وَرُبَّمَا جَمَعَ بَابًا، وَكُلُّ أَحَادِيثِهِ ضَعِيفَةٌ، كَأَحَادِيثِ أَكْلِ الطِّينِ وَغَيْرِهَا.

وَهُوَ يَرْوِي عَن أَبِي عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيِّ، وَقَد وَقَعَ مَا رَوَاهُ مِن الْغَرَائِبِ الْمَوْضُوعَةِ إلَى حَسَنِ بْنِ عَدِيٍّ، فَبَنَى عَلَى ذَلِكَ عَقَائِدَ بَاطِلَةً وَادَّعَى أَن اللهَ يُرَى فِي الدُّنْيَا عِيَانًا. [16/ 434 - 435]

5324 -

مَسَائِلُ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ: مِن أَجَلِّ مَسَائِلِ أَحْمَد، وَقَد شَرَحَهَا أَبُو إسحَاقَ إبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ الجوزجاني فِي كِتَابِهِ الْمُتَرْجِمِ، وَكَانَ خَطِيبًا بِجَامِعِ دِمَشْقَ هُنَا، وَلَهُ عَن أَحْمَد مَسَائِلُ، وَكَانَ يقْرَأُ كُتُب أَحْمَد إلَيْهِ عَلَى مِنْبَرِ جَامِعِ دِمَشْقَ.

وَمَسَائِلُ إسْمَاعِيلَ عَن أَحْمَد بَعْدَ مَسَائِلِ مُحَمَّد بْن الْحَكَمِ؛ فَإِنَّ ابْنَ الْحَكَمِ صَحِبَ أَحْمَد قَدِيمًا، وَمَاتَ

(1)

قَبْلَ مَوْتِهِ بِنَحْوِ عِشْرِينَ سَنَةً.

وَأَمَّا إسْمَاعِيلُ فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى مَذْهَب أَهْلِ الرَّأْيِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَسَأَلَ أَحْمَد مُتَأَخِّرًا، وَسَأَلَ مَعَهُ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد الْهَاشِمِيّ وَغَيْرَهُ مِن عُلَمَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ.

وَسُلَيْمَانُ كَانَ يُقْرَنُ بِأَحْمَدَ، حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيّ: مَا رَأَيْت بِبَغْدَادَ أَعْقَلَ مِن رَجُلَيْنِ: أَحْمَد بْن حَنْبَلٍ وَسُلَيْمَان بْن دَاوُد الْهَاشِمِيّ. [30/ 403 - 404]

(1)

أي: محمد بن الحكم.

ص: 446

5325 -

ابْنُ الْقَاسِمِ كَثِيرًا مَا يَرْوِي عَن أَحْمَد الْأَقْوَالَ الْمُتَأَخِّرَةَ الَّتِي رَجَعَ إلَيْهَا. [32/ 335]

5326 -

الْحَلَّاجُ قُتِلَ عَلَى الزَّنْدَقَةِ الَّتِي ثَبَتَتْ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ وَبِغَيْرِ إقْرَارِهِ، وَالْأَمْرُ الَّذِي ثَبَتَ عَلَيْهِ بِمَا يُوجِبُ الْقَتْلَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.

وَمَن قَالَ إنَّهُ قُتِلَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَهُوَ إمَّا مُنَافِقٌ مُلْحِدٌ، وَإِمَّا جَاهِلٌ ضَالٌّ.

وَاَلَّذِي قُتِلَ بِهِ مَا اسْتَفَاضَ عَنْهُ مِن أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَبَعْضُهُ يُوجِبُ قَتْلَهُ فَضلًا عَن جَمِيعِهِ.

وَلَمْ يَكُن مِن أَوْليَاءِ اللهِ الْمتَّقِينَ؛ بَل كَانَ لَهُ عِبَادَاتٌ وَرِياضَاتٌ وَمُجَاهَدَاتٌ، بَعْضُهَا شَيْطَانِيٌّ، وَبَعْضُهَا نَفْسَانِيٌّ، وَبَعْضُهَا مُوَافِقٌ لِلشَّرِيعَةِ مِن وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَلَبَّسَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ.

وَكَانَ قَد ذَهَبَ إلَى بِلَادِ الْهِنْدِ وَتَعَلَّمَ أَنْوَاعًا مِن السِّحْرِ وَصَنَّفَ كِتَابًا فِي السِّحْرِ مَعْرُوفًا وَهُوَ مَوْجُودٌ إلَى الْيَوْمِ وَكَانَ لَهُ أَقْوَالٌ شَيْطَانِيَّةٌ ومخاريق بُهْتَانِيَة. [35/ 108]

5327 -

أبو إسماعيل عبد الله بن محمد بن علي الهروي المتوفى (481).

وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: علمه خير من عمله. [المستدرك 5/ 229]

5328 -

كتاب الرد على الجهمية، والنقض على بشر المريسي.

وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يوصي بهذين الكتابين أشد الوصية ويعظمهما جدًّا. [المستدرك 5/ 230]

* * *

ص: 447

‌المواضع التي خالف فيها البعلي وغيره ما في "مجموع الفتاوى

"

(1)

‌ مسألة جواز المسح على الخف الذي دون الكعب

- قال المرداوي: اختار الشيخ تقي الدين أيضًا جواز المسح على الملبوس ولو كان دون الكعب. اهـ. [1/ 179]

قلت: هذا ظاهر في أنَّ شيخ الإسلام رحمه الله تعالى لا يرى أن من شروط المسح على الخفّين أن يكونا ساترين لمحل الفرض.

وقد نسب ابن عثيمين رحمه الله "مجموع فتاوى ابن عثيمين"(11/ 165) هذا القول للشيخ.

وقد جاء في "مجموع الفتاوى"(21/ 185 - 192) ما يُخالف ذلك، حيث قال شيخ الإسلام: وَالْخِفَافُ قَد اُعْتِيدَ فِيهَا أَنْ تُلْبَسَ مَعَ الْفَتْقِ وَالْخَرْقِ وَظُهُورِ بَعْضِ الرِّجْلِ.

وَأَمَّا مَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ فَذَاكَ لَيْسَ بِخُفِّ أَصْلًا، وَلهَذَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ لُبْسُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّعْلَيْنِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ.

فَإِنَّمَا أَمَرَ بالْقَطْعِ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ رُخْصَةَ الْبَدَلِ لَمْ تَكُنْ شُرِعَتْ، فَأَمَرَهُم بِالْقَطْعِ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْطُوعَ يَصِيرُ كَالنَّعْلَيْنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِخُفِّ، وَلهَذَا لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي إذْنِهِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. اهـ.

وقد ذهب جماهير العلماء إلى أنّ من شروط المسح على الخفين: أن يكون ساترًا لمحل فرض الغسل -الكعبان مع القدم- فإن لم يستر الكعبين لم يصح المسح عليهما، قياسًا على الوضوء؛ ولأن ما ظهر فرضه الغسل، وما ستر فرضه المسح، ولا يمكن أن يجمع بين البدل والمبدل منه في عضو واحد.

واختار ابن حزم والأوزاعي فيما روي عنه وابن عثيمين والألباني

ص: 448

رحمهم الله جواز المسح على الخف الذي لا يستر الكعبين؛ لأنه خف يمكن متابعة المشي فيه، فأشبه الساتر.

قال ابن حزم رحمه الله: "فإن كان الخفان مقطوعين تحت الكعبين؛ فالمسح جائز عليهما، وهو قول الأوزاعي، روي عنه أنه قال: يمسح المحرم على الخفين المقطوعين تحت الكعبين، وقال غيره لا يمسح عليها إلا أن يكونا فوق الكعبين.

قال: قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر بالمسح على الخفين، وأنه مسح على الجوربين، ولو كان ههنا حد محدود لما أهمله عليه السلام ولا أغفله فوجب أن كل ما يقع عليه اسم خف أو جورب أو لبس على الرجلين فالمسح عليه جائز .. ". اهـ.

* * *

(2)

‌ مسألة: هل يَتَيمَّمُ قَبْلَ الْوَقْتِ وَيَبْقَى بَعْدَ الْوَقْتِ وَيصَلِّي بِهِ مَا شَاءَ كَالْمَاءٍ

- قال شيخ الإسلام رحمه الله في "مجموع الفتاوى": تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّيَمُّمِ: هَل يَقُومُ مَقَامَ الْمَاءِ فَيَتَيَمَّمُ قَبْلَ الْوَقْتِ، كَمَا يَتَوَضَّأُ قَبْلَ الْوَقْتِ وَيُصَلِّي بِهِ مَا شَاءَ مِن فُرُوضٍ وَنَوَافِلَ، كَمَا يُصَلِّي بِالْمَاءِ وَلَا يَبْطُلُ بِخُرُوج الْوَقْتِ، كَمَا لَا يَبْطُلُ الْوُضُوءُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورينِ .. فَمَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ أنَّهُ يَتَيَمَّمُ قَبْلَ الْوَقْتِ وَيَبْقَى بَعْدَ الْوَقْتِ وَيُصَلِّي بِهِ مَا شَاءَ كَالْمَاءِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَتيمَّمُ قَبْلَ الْوَقْتِ وَلَا يَبْقَى بَعْدَ خُرُوجِهِ.

وَلنا أَنَّهُ قَد ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: أَنَّ التُّرَابَ طَهُورٌ كَمَا أَنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ.

إلى أن قال: وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ طَهُورًا قَبْلَ الْوَقْتِ وَبَعْدَ الْوَقْتِ وَفِي الْوَقْتِ، كَمَا كَانَ الْمَاءُ طَهُورًا فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَائَةِ، وَلَيْسَ بَيْنَ هَذَا فَرْق مُؤَثِّرٌ إلَّا إذَا قَدَرَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَمَن أَبْطَلَهُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ فَقَد خَالَفَ مُوجِبَ الدَّلِيلِ.

ص: 449

وجاء في "الفتوى الكبرى"(2/ 309): التيمم لوقت كل صلاة إلى أن يدخل وقت الصلاة الأخرى أعدل الأقوال.

* * *

(3)

‌ مسألة: حكم الْوُضُوءُ مِنَ الْحَدَثِ الدَّائِمِ لِكُلِّ صَلَاةٍ

جاء في "مجموع الفتاوى"[20/ 524 - 527]: وَأَمَّا الْوُضُوءُ مِنَ الْحَدَثِ الدَّائِمِ لِكُلِّ صَلَاةٍ فَفِيهِ أَحَادِيثُ مُتَعَدِّدَةٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَدّ صَحَّحَ بَعْضَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، فَقَوْلُ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يُوجِبُونَ الْوُضُوءَ لِكلِّ صَلَاةٍ أَظْهَرُ، وَهُوَ مَذْهبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد.

وجاء كذلك (21/ 106 - 107): وَأَمَّا مَن بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ -وَهُوَ أَنْ يَجْرِيَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ لَا يَنْقَطِعُ- فَهَذَا يَتَّخِذُ حِفَاظًا يَمْنَعُهُ.

فَإِنْ كَانَ الْبَوْلُ يَنْقَطِعُ مِقْدَارَ مَا يَتَطَهَّرُ وَيُصَلِّي، وَإِلَّا صَلَّى، وَإِن جَرَى الْبَوْلُ -كَالْمُسْتَحَاضَةِ- تتوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ.

وجاء خلاف ذلك في "الاختيارات"(27)، و"الفتاوى الكبرى" (2/ 306): الأحداث اللازمة كدم الاستحاضة وسلس البول لا تنقض الوضوء ما لم يوجد المعتاد وهو مذهب مالك.

(4)

‌ إذَا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ يؤَذِّن وَهُوَ فِي صَلَاةٍ فهل يردّد معه

؟

- قال شيخ الإسلام رحمه الله في "مجموع الفتاوى"(22/ 72): إذَا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ يُؤَذِّنُ وَهُوَ فِي صَلَاةٍ فَإِنَّهُ يُتِمُّهَا وَلَا يَقُولُ مِثْل مَا يَقُولُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.

وَأَمَّا إذَا كَانَ خَارِجَ الصَّلَاةِ فِي قِرَاءَةٍ أَو ذِكْرٍ أَو دُعَاءٍ: فَإِنَّهُ يَقْطَعُ ذَلِكَ وَيَقُولُ مِثْل مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ؛ لِأَنَّ مُوَافَقَةَ الْمُؤَذِّنِ عِبَادَةٌ مُؤَقَّتَةٌ يَفُوتُ وَقْتُهَا، وَهَذِهِ الْأَذْكَارُ لَا تَفُوتُ.

وجاء في "الإنصاف"(1/ 426): وقال الشيخ تقي الدين: يستحب أن يجيبه ويقول مثل ما يقول ولو في الصلاة. اهـ.

ص: 450

فهذا يُخالف ما قرره في الفتاوى.

* * *

(5)

‌ مسألة: اختلاف المطالع

- قال شيخ الإسلام رحمه الله في "مجموع الفتاوى": مَسْأَلَةُ رُؤْيَةِ بَعْضِ الْبِلَادِ رُؤْيةٌ لِجَمِيعِهَا: فِيهَا اضْطِرَابٌ، فَإِنَّهُ قَد حَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِيمَا يُمْكِنُ اتِّفَاقُ الْمَطَالِعِ فِيهِ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِثْل الْأَنْدَلُسِ وَخرَاسَانَ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ.

وَاَلَّذِينَ قَالُوا: لَا تَكُونُ رُؤَيةً لِجَمِيعِهَا كَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مِنْهُم مَن حَدَّدَ ذَلِكَ بِمَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَمِنْهُم مَن حَدَّدَ ذَلِكَ بِمَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَطَالِعُ؛ كَالْحِجَازِ مَعَ الشَّامِ، وَالْعِرَاقِ مَعَ خُرَاسَانَ، وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ

(1)

؛ فَإِنَّ مَسَافَةَ الْقَصْرِ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْهِلَالِ.

وَأَمَّا الْأَقَالِيمُ فَمَا

(2)

حَدَّدَ ذَلِكَ؟ ثُمَّ هَذَانِ خَطَأٌ مِن وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرُّؤْيَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ التَّشْرِيقِ وَالتَّغْرِيبِ، فَإِنَّهُ مَتَى رُئِيَ فِي الْمَشْرِقِ وَجَبَ أَنْ يُرَى فِي الْمَغْرِبِ وَلَا يَنْعَكِسُ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَخَّرُ غُرُوبُ الشَّمْسِ بِالْمَغْرِبِ عَن وَقْتِ غُرُوبِهَا بِالْمَشْرِقِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا اعْتَبَرْنَا حَدًّا كَمَسَافَةِ الْقَصْرِ أَو الْأَقَالِيمَ فَكَانَ رَجُلٌ فِي آخِرِ الْمَسَافَةِ وَالْإِقْلِيمِ: فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ وَيُفْطِرَ وَيَنْسُكَ، وَآخَرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ غَلْوَةُ

(3)

سَهْمٍ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِن ذَلِكَ! وَهَذَا لَيْسَ مِن دِينِ الْمُسْلِمِينَ.

فَالصَّوَابُ فِي هَذَا -وَاللهُ أَعْلَمُ- مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: "صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ"، فَإِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِن شَعْبَانَ أَنَّهُ رَآهُ بِمَكَان مِن الْأَمْكِنَةِ قَرِيبٍ أَو بَعِيدٍ: وَجَبَ الصَّوْمُ.

(1)

أي: التحديد بمسافة القصر، والتحديد بما تختلف فيه المطالع.

(2)

لعل الصواب: (فمن).

(3)

الغَلْوَة: قَدْرٌ رَمْيَة بِسَهْمٍ.

ص: 451

وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَ بِالرُّؤْيَةِ نَهَارَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ إلَى الْغُرُوبِ: فَعَلَيْهِم إمْسَاكُ مَا بَقِيَ، سَوَاءٌ كَانَ مِن إقْلِيمٍ أَو إقْلِيمَيْنِ.

وَالِاعْتِبَارُ بِبُلُوغِ الْعِلْمِ بِالرُّؤْيَةِ فِي وَقْتٍ يُفِيدُ، فَأَمَّا إذَا بَلَغَتْهُم الرُّؤْيةُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَالْمُسْتَقْبَلَ يَجِبُ صَوْمُهُ بِكُلِّ حَالٍ.

لَكِنَّ الْيَوْمَ الْمَاضِيَ: هَل يَجِبُ قَضَاؤُهُ؟ فَإِنَّهُ قَد يَبْلُغُهُم فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ أَنَّهُ رُئِيَ بِإِقْلِيمٍ آخَرَ وَلَمْ يُرَ قَرِيبًا مِنْهُمْ؟

الْأَشْبَهُ: أَنَّهُ إنْ رئيَ بِمَكَانٍ قَرِيبٍ -وَهُوَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَبْلُغَهُم خَبَرُهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ- فَهُوَ كَمَا لَو رُئِيَ فِي بَلَدِهِمْ وَلَمْ يَبْلُغْهُمْ.

وَأَمَّا إذَا رُئِيَ بِمَكَانٍ لَا يُمْكِنُ وُصُولُ خَبَرِهِ إلَيْهِم إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ الْأَوَّلِ: فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ صَوْمَ النَّاسِ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يَصُومُونَهُ، وَلَا يُمْكنُ أَنْ يَصُومُوا إلَّا الْيَوْمَ الَّذِي يُمْكِنُهُم فِيهِ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ، وَهَذَا لَمْ يَكُن يُمْكنُهُم فِيهِ بُلُوغُهُ فَلَمْ يَكُن يَوْمَ صَوْمِهِمْ، وَكَذَلِكَ فِي الْفِطْرِ وَالنُّسُكِ.

فَالضَّابِطُ: أَنَّ مَدَارَ هَذَا الْأَمْرِ عَلَى الْبُلُوغِ؛ لِقَوْلِهِ: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ"، فَمَن بَلَغَهُ أَنَّهُ رُئِيَ ثَبَتَ فِي حَقِّهِ مِن غَيْرِ تَحْدِيدٍ بِمَسَافَةٍ أَصْلًا، وَهَذَا يُطَابِقُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي أَنَّ طَرَفَيْ الْمَعْمُورَةِ لَا يَبْلُغُ الْخَبَرُ فِيهِمَا إلَّا بَعْدَ شَهْرٍ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ، بِخِلَافِ الْأَمَاكِنِ الَّذِي يَصِلُ الْخَبَرُ فِيهَا قَبْلَ انْسِلَاخِ الشَّهْرِ فَإِنَّهَا مَحَلُّ الِاعْتِبَارِ.

وَلهَذَا قَالُوا: إذَا أَخْطَأَ النَّاسُ كُلُّهُم فَوَقَفُوا فِي غَيْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ أَجْزَأَهُم اعْتِبَارًا بِالْبُلُوغِ، وَإِذَا أَخْطَأَهُ طَائِفَةٌ مِنْهُم لَمْ يُجْزِئْهُم لِإِمْكَانِ الْبُلُوغِ؛ فَالْبُلُوغُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ سَوَاءٌ كَانَ عَلِمَ بِهِ لِلْبُعْدِ أَو لِلْقِلَّةِ.

فَتَلَخَّصَ:

أ- أَنَّهُ مَن بَلَغَهُ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُؤَدِّي بِتِلْكَ الرُّؤْيَةِ الصَّوْمَ أَو

ص: 452

الْفِطْرَ أَو النُّسُكَ وَجَبَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ بِلَا شَكٍّ، وَالنُّصُوصُ وَآثَارُ السَّلَفِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.

وَمَن حَدَّدَ ذَلِكَ بِمَسَافَةِ قَصْرٍ أَو إقْلِيمٍ فَقَولهُ مُخَالِفٌ لِلْعَقْلِ وَالشَّرْعِ.

ب- وَمَن لَمْ يَبْلُغْهُ إلَّا بَعْدَ الْأَدَاءِ وَهُوَ مِمَّا لَا يُقْضَى كَالْعِيدِ الْمَفْعُولِ وَالنُّسُكِ: فَهَذَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ، وَعَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ الَّذِي حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.

ج- وَأَمَّا إذَا بَلَغَهُ فِي أثْنَاءِ الْمُدَّةِ: فَهَل يُؤَثِّرُ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ وَفِي بِنَاءِ الْفِطْرِ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ فِي بَقِيَّةِ الْأَحْكَامِ: مِن حُلُولِ الدَّيْنِ وَمُدَّةِ الْإِيلَاءِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالْقَضَاء؟

يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ، وَفِي بِنَاءِ الْفِطْرِ عَلَيْهِ نَظَرٌ.

فَهَذَا مُتَوَسِّطٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَمَا مِن قَوْلٍ سِوَاهُ إلَّا وَلَهُ لَوَازِمُ شَنِيعَةٌ. اهـ

(1)

.

قلت: ما قرره الشيخ هنا وهو أنه يُضعّف فيه الاعتبار باتفاق المطالع: يُخالف ما نسبه البعلي (158)، والمرداوي في "الإنصاف"(3/ 273) للشيخ من اعتباره لاتفاق المطالع في لزوم الصوم، فإذا اختلفت المطالع فلا يلزم الصوم بهذه الرؤية سوى من اتفقت مطالعهم فحسب.

* * *

(6)

‌ هل يَجِبُ عَلَى الْمُقْتَرِضِ أَنْ يُوَفِّي الْمُقْرِضَ فِي الْبَلَدِ الَّذِي اقْتَرَضَ فِيهِ

؟

قال شيخ الإسلام رحمه الله في "مجموع الفتاوى": يَجِبُ عَلَى الْمُقْتَرِضِ أَنْ يُوَفِّيَ الْمُقْرِضَ فِي الْبَلَدِ الَّذِي اقْتَرَضَ فِيهِ، وَلَا يُكَلِّفهُ شَيْئًا مِن مُؤْنَةِ السَّفَرِ وَالْحَمْلِ.

(1)

(25/ 103 - 113).

ص: 453

فَإِنْ قَالَ: مَا أُوَفِّيك إلَّا فِي بَلَدٍ آخَرَ غَيْر هَذَا: كَانَ عَلَيْهِ ضَمَانُ مَا يُنْفِقُهُ بِالْمَعْرُوفِ. اهـ

(1)

.

قلت: خالف الشيخ رحمه الله تعالى هنا المذهب الحنبلي في هذه المسألة، قال في الزاد:"وَإنْ أقْرَضَهُ أَثْمَانًا فَطَالَبَهُ بِهَا بِبَلَدٍ آخَرَ لَزِمَتْهُ، وَفِيمَا لِحَمْلِهِ مُؤونَةٌ قِيمَتُهُ"، ولم يذكر الشيخ ابن عثيمين رحمه الله قولًا آخر، ولم يُشر إلى رأي شيخ الإسلام. [يُنظر:"الشرح الممتع"(9/ 115)].

ونقل البعلي في اختياراته (44) عن الشيخ ما يُوافق المذهب فقال: واختار جواز اشتراط الاستيفاء في بلدٍ غير بلد القرض. اهـ.

* * *

(7)

‌ هل تصح الصلاة خَلْفَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَخَلْفَ أَهْلِ الْفجُورِ

؟

قال شيخ الإسلام رحمه الله في "مجموع الفتاوى": الصَّلَاةُ خَلْفَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَخَلْفَ أَهْلِ الْفُجُورِ: فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ، لَكِنْ أَوْسَطُ الْأَقْوَالِ فِي هَؤُلَاءِ أَنَّ تَقْدِيمَ الْوَاحِدِ مِن هَؤُلَاءِ فِي الْإِمَامَةِ لَا يَجُوزُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى غَيْرِهِ.

فَإِنَّ مَن كَانَ مُظْهِرًا لِلْفُجُورِ أَو الْبِدَعِ يَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَنَهْيُهُ عَن ذَلِكَ، وَأَقَلُّ مَرَاتِبِ الْإِنْكَارِ هَجْرُهُ لِيَنْتَهِيَ عَن فُجُورِهِ وَبِدْعَتِهِ.

وَلهَذَا فَرَّقَ جُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ بَيْنَ الدَّاعِيَةِ وَغَيْرِ الدَّاعِيَةِ؛ فَإِنَّ الدَّاعِيَةَ أَظْهَرَ الْمُنْكَرَ فَاسْتَحَقَّ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ السَّاكِتِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَن أَسَرَّ بِالذَّنْبِ فَهَذَا لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ، فَإِنَّ الْخَطِيئَةَ إذَا خَفِيَتْ لَمْ تَضُرَّ إلَّا صَاحِبَهَا وَلَكِنْ إذَا أُعْلِنَتْ فَلَمْ تُنْكَرْ ضَرَّت الْعَامَّةَ؛ وَلهَذَا كَانَ الْمُنَافِقُونَ تُقْبَلُ مِنْهُم عَلَانِيَتَهُم وَتُوكَلُ سَرَائِرُهُم إلَى اللهِ تَعَالَى بِخِلَافِ مَن أَظْهَرَ الْكُفْرَ.

(1)

(29/ 530).

ص: 454

فَإِذَا كَانَ دَاعِيَةً: مُنِعَ مِن وِلَايَتِهِ وَإِمَامَتِهِ وَشَهَادَتِهِ وَرِوَايَتِهِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِن النَّهْيِ عَن الْمُنْكَرِ، لَا لِأَجْلِ فَسَادِ الصَّلَاةِ أَو اتِّهَامِهِ فِي شَهَادَتِهِ وَرِوَايَتِهِ. اهـ

(1)

.

قلت: هذا صريح بصحة الصلاة خَلْفَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَع وَخَلْفَ أَهْلِ الْفجُورِ، وهذا بخلاف ما نقله البعلي رحمه الله (ص 107) أن الشيخ يرى عدم صحة الصلاة خلفهم مع القدرة، وقد يكون فهم ذلك من العبارة السابقة:"الصَّلَاةُ خَلْفَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَخَلْفَ أَهْلِ الْفُجُورِ: فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ، لَكِنْ أَوْسَطُ الْأَقْوَالِ فِي هَؤُلَاءِ أَنَّ تَقْدِيمَ الْوَاحِدِ مِن هَؤُلَاءِ فِي الْإِمَامَةِ لَا يَجُوزُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى غَيْرِهِ". اهـ.

وفرق بين منع تقديمهم في الإمامة وبين عدم صحة الصلاة خلفهم لو قُدموا.

* * *

(8)

‌ حكم تلقين الميت بعد دفنه

قال في "مختصر الفتاوى"(168): تلقين الميت بعد دفنه، قيل: مباح، وقيل: مستحب، وقيل: مكروه.

وفعله واثلة بن الأسقع وأبو أمامة، والأظهر أنه مكروه؛ لأنه لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم؛ بل المستحب الدعاء له، كما في "سنن أبي داود"

(2)

أنه كان إذا مات رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم النبي صلى الله عليه وسلم على قبره فيقول: "اسألوا له التثبيت فإنه الآن يُسأل". اهـ.

قلت: وهذا بخلاف ما جاء في "مجموع الفتاوى"(24/ 298)، حيث رجح الجواز فقال: فَالْأَقْوَالُ فِيهِ ثَلَاثَةٌ: الِاسْتِحْبَابُ وَالْكَرَاهَةُ وَالْإِبَاحَةُ، وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ. اهـ.

(1)

(23/ 343).

(2)

(3221)، وصحَّحه الألباني.

ص: 455

وقال كذلك في "مجموع الفتاوى"(24/ 299): وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ جَائِزٌ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ رَاتِبَةٍ. اهـ.

* * *

(9)

‌ مَا يَأْخُذُهُ ولَاةُ الْأُمُورِ بِغَيْرِ اسْمِ الزَّكَاةِ هل يعْتَدُّ بِهِ مِن الزَّكَاةِ

جاء في "مجموع الفتاوى"(25/ 93): سُئِلَ: هَل يُجْزِئُ الرَّجُلَ عَن زَكَاتِهِ مَا يُغَزمُهُ وُلَاةُ الْأُمُورِ فِي الطُّرُقَاتِ؟

فَأجَابَ: مَا يَاخُذُهُ وُلَاةُ الْأمُورِ بِغَيْرِ اسْمِ الزَّكَاةِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ مِن الزَّكَاةِ. ا هـ.

وجاء ما يُؤيد هذه الفتوى في "مختصر الفتاوى المصرية"(1/ 275): ما يأخذ العدَّاد: فإن كان هو من أهل الزكاة أجزأت عن صاحبها عند الأئمة، وإن كان من الكُلَف

(1)

التي وضعها الملوك فإنها لا تجزئ عن الزكاة.

وجاء في "الاختيارات"(ص 155) ما يُخالف ذلك حيث قال: وما يأخذه الإمام باسم المكس جاز دفعه بنية الزكاة، وتسقط وإن لم تكن على صفتها.

* * *

(10)

‌ مسألة التورق

قال في "الاختيارات"(122)، "الإنصاف" (4/ 337): تحرم مسالة التورق، وهو رواية عن أحمد. ا هـ.

ولم أجد لشيخ الإسلام -رحمة الله- تصريحًا بتحريمها؛ بل كان يكرهها.

(1)

أي: الضرائب.

ص: 456

فقد قال مرة عن بيع التورق: مَذْمُومٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ، (29/ 302 - 303)، وقال مرة: وَالْأقْوَى كَرَاهَتُهُ. (29/ 302)، وقال: مَكْرُوهٌ فِي أَظْهَرِ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ. (303/ 29)، ويُنظر كذلك:[29/ 431]

وأصرح ما رأيت: ما قال ابن القيم -رحمة الله-: كان شيخنا -رحمة الله- يمنع من مسألة التورق، وروجع فيها مرارًا وأنا حاضر فلم يرخص فيها، وقال: المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود فيها بعينه مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها، والخسارة فيها؛ فالشريعة لا تحرم الضرر الأدنى وتبيح ما هو أعلى منه. اهـ. [أعلام الموقعين 2/ 164]

وهذا ليس صريحًا بالتحريم.

* * *

(11)

‌ هَل يُشْتَرطُ الْحُلول في صَرْف الْفُلُوسِ النَّافِقَةِ بِالدَّرَاهِمِ

؟

قال في "مجموع الفتاوى"(29/ 468 - 469): هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ صَرْفُ الْفُلُوسِ النَّافِقَةِ بِالدَّرَاهِمِ هَل يُشْتَرَطُ فِيهَا الْحُلُولُ؟ أَمْ يَجُوز فِيهَا النسأ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورينِ.

وَالْأَظْهَرُ الْمَنْعُ مِن ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْفُلُوسَ النَّافِقَةَ يَغْلِبُ عَلَيْهَا حُكْمُ الْأَثْمَانِ وَتُجْعَلُ مِعْيَارُ أَمْوَالِ النَّاسِ. اهـ.

وجاء في "الاختيارات"(189): لا يشترط الحلول والتقابض في صرف الفلوس النافقة بأحد النقدين.

وهذا مناقض لما في الفتاوى.

قال العلامة ابن عثيمين -رحمة الله- في تعليقه على الاختيارات: وقوله بالمنع أظهر من قوله بالجواز؛ لقوة تعليلِه.

* * *

ص: 457

(12)

‌ هَل تجب الزكاة في الدينِ المؤجَّل، أو على معسر، أو مماطل

؟

جاء في "مجموع الفتاوى"(25/ 45 - 46): لَا بُدَّ فِي الزَّكَاةِ مِنَ الْمِلْكِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْيَدِ، فَلَهُم فِي زَكَاةِ مَا لَيْسَ فِي الْيَدِ كَالدَّيْنِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهَا تَجِبُ فِي كُلِّ دَيْنٍ وَكُل عَيْنٍ وَإِن لَمْ تكُنْ تَحْتَ يَدِ صَاحِبِهَا؛ كَالْمَغْصُوبِ وَالضَّالِّ، وَالدَّيْنِ الْمَجْحُودِ وَعَلَى مُعْسِرٍ أَو مُمَاطِلٍ، وَأَنَّهُ يَجِبُ تَعْجِيلُ الْإِخْرَاجِ مِمَّا يُمْكِنُ قَبْضُهُ كَالدَّيْنِ عَلَى الْمُوسِرِ، وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَي الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَقْوَاهُمَا. اهـ.

وجاء فيها (25/ 47 - 48): وَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ قَوْلُ مَن لَا يُوجِبُ فِيهِ شَيْئًا بِحَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ، أَو يُوجِبُ فِيهِ زَكَاةً وَاحِدَةً عِنْدَ الْقَبْضِ، فَهَذَا الْقَوْلُ لَهُ وَجْهٌ وَهَذَا وَجْةٌ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٌ، وَكِلَاهُمَا قِيل بِهِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد. اهـ.

وجاء في "الاختيارات"(98)، و"الفروع " (2/ 251): لا تجب

(1)

في دينٍ مؤجَّل، أو على معسر، أو مماطل، أو جاحد، ومغصوب، ومسروق، وضال، وما دفنه ونسيه، أو جهل عند من هو، ولو حصل في يده، وهو رواية عن أحمد، واختارها وصححها طائفة من أصحابه، وهو قول أبي حنيفة.

وهذا مناقض لما في الفتاوى.

* * *

(1)

يعني: الزكاة.

ص: 458

(13)

‌ هَل تُكَفَّرُ الْكَبَائِر بغير توبة

؟

جاء في "مجموع الفتاوى"(7/ 487 - 501): دَلَّتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: عَلَى أَنَ غقُوبَةَ الذُّنُوبِ تَزُولُ عَن الْعَبْدِ بِنَحْوِ عَشَرَةِ أَسْبَابٍ، وذكر منها:

الْحَسَنَاتُ الْمَاحِيَةُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:"الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إلَى رَمَضَانَ مُكَفِّوَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إذَا اُجْتُنِبَت الْكَبَائِرُ"

(1)

.

وَسُؤَالُهُم عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَقُولُوا: الْحَسَنَاتُ إنَّمَا تُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ فَقَطْ، فَأَمَّا الْكَبَائِرُ فَلَا تُغْفَرُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ؛ كَمَا قَد جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ:"مَا اُجْتُنِبَت الْكَبَائِرُ".

فَيُجَابُ عَن هَذَا بِوُجُوه:

أَحَدُهَما: أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ جَاءَ فِي الْفَرَائِضِ؛ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعَةِ وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]؛ فَالْفَرَائِضُ مَعَ تَرْكِ الْكَبَائِرِ مُقْتَضِيَة لِتَكْفِيرِ السَّيئّاَتِ، وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الزَّائِدَةُ مِن التَّطَوُّعَاتِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهَا ثَوَابٌ آخَرُ؛ فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7، 8].

الثَّانِي: أَنَّهُ قَد جَاءَ التَّصْرِيحُ فِي كَثِيرٍ مِن الْأَحَادِيثِ بِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ قَد تَكُونُ مَعَ الْكَبَائِرِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "غُفِرَ لَهُ وَإِن كَانَ فَرَّ مِن الزحْفِ"

(2)

.

(1)

رواه مسلم (233).

(2)

رواه أبو داود (1517)، والترمذي (3577)، وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

ص: 459

الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ لِأَهْلِ بَدْرٍ وَنَحْوِهِمْ: "اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَد غَفَرْت لَكُمْ"

(1)

: إنْ حُمِلَ عَلَى الصَّغَائِرِ أَو عَلَى الْمَغْفِرَةِ مَعَ التَّوْبَةِ لَمْ يَكُن فَرْقٌ بَيْنَهُم وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ.

فَكَمَا لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى الْكفْرِ؛ لِمَا قَد عُلِمَ أَنَّ الْكُفْرَ لَا يُغْفَرُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ: لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى مُجَرَّدِ الصَّغَائِرِ الْمُكَفَّرَةِ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ.

الرَّابعُ: أَنَّهُ قَد جَاءَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ: "أَنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ مِن عَمَلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الصَّلَاةُ، فَإنْ أكمَلَها وَإِلَّا قِيلَ: اُنْظُرُوا هَل لَهُ مِن تَطَوُّعٍ، فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ أُكْمِلَت بِهِ الْفَرِيضَةُ، ثُمَّ يُصْنَعُ بِسَائِرِ أَعْمَالِهِ كَذَلِكَ"

(2)

.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ النَّقْصَ الْمُكَمَّلَ لَا يَكُونُ لِتَرْكِ مُسْتَحَبٍّ؛ فَإِنَّ تَرْكَ الْمُسْتَحَبِّ لَا يَحْتَاجُ إلَى جبران، وَلأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ الْمُسْتَحَبِّ الْمَتْرُوكِ وَالْمَفْعُولِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ يَكْمُلُ نَقْصُ الْفَرَائِضِ مِن التَّطَوُّعَاتِ. اهـ.

وجاء في "الآداب الشرعية"(1/ 147، 148): ذكر الشيخ تقي الدين رضي الله عنه: أن الحسنة تعظم ويكثر ثوابها بزيادة الإيمان والإخلاص حتى تقابل جميع الذنوب، وذكر حديث:"فثقلت البطاقة وطاشت السجلات"

(3)

، وحديث:"البغي التي سقت الكلب فشكر الله لها ذلك فغفر لها"

(4)

، وحديث:"الذي نحى غصن شوك عن الطريق فشكر الله له ذلك فغفر له" رواه

(1)

رواه البخاري (3007)، ومسلم (2429).

(2)

رواه ابن ماجه (1425)، والترمذي (413)، وأبو داود (864)، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع الصغير (2020 - 892).

(3)

رواه الترمذي (2639)، وابن ماجه (4300)، وأحمد (6994)، وصحَّحه الألبانى فى صحيح الترمذي.

(4)

رواه البخاري (3467)، ومسلم (2245).

ص: 460

البخاري

(1)

ومسلم

(2)

من حديث أبي هريرة. ا هـ.

وهذا ظاهرٌ أن شيخ الإسلام -رحمة الله- يرى أنّ الْحَسَنَات قد تُكَفِّرُ الْكَبَائِر.

وجاء خلاف ذلك في "الفتاوى المصرية"(105): صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صيام يوم عرفة يكفر سنتين، وصيام يوم عاشوراء يكفر سنة"

(3)

لكن إطلاق القول بأنه يكفر لا يوجب أن يكفر الكبائر بلا توبة فإنه صلى الله عليه وسلم قال في: "الجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر"

(4)

، ومعلوم أنَّ الصلاةَ هي أفضل من الصيام، وصيام رمضان أعظم من صيام يوم عرفة، ولا يكفر السيئات إلا باجتناب الكبائر كما قيده النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يظن أن صوم يوم أو يومين تطوعًا يكفِّر الزنا والسرقة وشرب الخمر، والميسر، والسحر، ونحوه؟ فهذا لا يكون.

وتكفير الطهارة والصلاة وصيام رمضان وعرفة وعاشوراء للصغائر فقط، وكذا الحج؛ لأن الصلاة ورمضان أعظم منه.

* * *

(14)

‌ هل يصح البيع بغير صفة

؟

جاء في "مجموع الفتاوى"(29/ 222)، (29/ 306 - 307): إذا لم ير المبيع ولم يوصف له: فالبيع باطل، وعليه رده بمثله أو قيمته.

وجاء ما يُخالف ذلك، حيث جاء في "الفتاوى الكبرى" (5/ 387): اختار أبو العباس صحة البيع بغير صفة، وهو بالخيار إذا رآه، وهو رواية عن أحمد ومذهب الحنفية.

وضعفه في موضع آخر. اهـ.

(1)

(652).

(2)

(1914)

(3)

رواه مسلم (1162).

(4)

رواه مسلم (233).

ص: 461

قلت: وهو ما ذكره في المجموع، والله أعلم، ولعل للشيخ قولين في المسألة.

* * *

(15)

‌ من باع ربويًّا بنسيئة هل يحرم أخذه عن ثمن ما لا يباع به نسيئة

؟

جاء في "مجموع الفتاوى"(29/ 300 - 301): سُئِلَ -رحمة الله-: عَن رَجُلٍ بَاعَ قَمْحًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ لَمْ يَكُن عِنْدَ الْمَدِينِ إلَّا قَمْحًا، فَهَل لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ قَمْحًا؟

فَأَجَابَ: نَعَمْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ قَمْحًا، وَلَيْسَ ذَلِكَ رِبًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ: كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ مِن أَصْحَابِ أَحْمَد.

وَإِذَا كَانَ أَخْذُ الْقَمْحِ أَرْفَقَ بِالْمَدِينِ مِن أَنْ يُكَلّفَهُ بَيْعَهُ وَإِعْطَاءَ الدَّرَاهِمِ فَالْأَفْضَل لِلْغَرِيمِ أَخْذُ الْقَمْحِ.

وجاء في "مجموع الفتاوى" كذلك (29/ 449): مَن بَاعَ مَالًا رِبَوِيًّا كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَغَيْرِهِمَا إلَى أَجَلٍ: لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْتَاضَ عَن ثَمَنِهِ بِحِنْطَةٍ أَو شَعِيرٍ أَو غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُبَاعُ بِهِ نَسِيئَةً، لِأَنَّ الثَّمَنَ لَمْ يُقْبَضْ، فَكَانَّهُ قَد بَاعَ حِنْطَة أَو شَعِيرًا بِحِنْطَةٍ أَو شَعِيرٍ إلَى أَجَلٍ مُتَفَاضِلًا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ

(1)

.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ: هَذَا يَجُوزُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي محَمَّدٍ المقدسي مِن أَصْحَابِ أَحْمَد؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الثَّمَنَ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي وَبِهِ اشْتَرَى، فَأَشْبَهَ مَا لَو قَبَضَهُ ثُمَّ اشْتَرَى مِن غَيْرِهِ.

وَأَمَّا إنْ بَاعَ مَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي مِن حِنْطَةٍ أَو شَعِيرٍ وَاسْتَوْفَى حَقَّهُ مِن الثَّمَنِ: فَذَلِكَ جَائِزٌ بِلَا ريبٍ.

(1)

نسب الشيخ هذا القول للْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَنْصُوصِ عَنْهُ.

ص: 462

وَإِذَا كَانَ الْبَائِعُ قَد أَخَذَ الْحِنْطَةَ أَو الشَّعِيرَ بِدُونِ قِيمَتِهِ: فَذَلِكَ أَخَفُّ.

وجاء في "تهذيب سنن أبي داود"(2/ 169): إذا باعه ما يجري فيه الربا كالحنطة مثلًا بثمن مؤجل فحل الأجل فاشترى بالثمن حنطة أو مكيلًا آخر من غير الجنس مما يمتنع ربا النسيئة بينهما -فهل يجوز ذلك؟ - فيه قولان:

أحدهما: المنع وهو المأثور عن ابن عمر وسعيد بن المسيب وطاوس، وهو مذهب مالك وإسحاق.

والثاني: الجواز، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وابن المنذر وبه قال جابر بن زيد وسعيد بن جبير وعلي بن الحسين، وهو اختيار صاحب المغني وشيخنا. ا هـ.

وجا تقييد ذلك بالحاجة في "الفتاوى الكبرى"(5/ 391)، و"الإنصاف" (4/ 337): من باع ربويًّا بنسيئة حرم أخذه عن ثمن ما لا يباع به نسيئة، ما لم تكن حاجة، وهو توسط بين الإمام أحمد في تحريمه، والشيخ أبي مقدس في حله. ا هـ.

قلت: هذه أربعة مواضع لشيخ الإسلام في هذه المسألة، ففي الموضع الأول: نُقل عنه أنّه يرى الجواز عند الحاجة، وقد نسب ابن عثيمين كما تقدم لشيخ الإسلام ذلك، وفي الموضع الثاني أفتى بالتحريم، وفي الموضع الثالث اْفتى بالجواز مطلقًا، وفي الموضع الرابع نقل عنه تلميذُه ابن القيم أنه يرى الجواز مطلقًا كذلك.

* * *

(16)

‌ هل للجار تعلية بنائه ولو أفضى إلي سد الهواء عن جاره

؟

جاء في "مجموع الفتاوى"(30/ 5 - 6): سُئِلَ -رحمة الله-: عَن دَارَيْنِ بَيْنَهُمَا شَارعٌ، فَأَرَادَ صَاحِبُ أَحَدِ الدَّارَيْنِ أَنْ يعْمرَ عَلَى دَارِهِ غُرْفَةً تُفْضِي إلَى سَدّ الْفَضَاءِ عَن الدَّارِ الْأُخْرَى، فَهَل يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟

ص: 463

فَأَجَابَ: إنْ كَانَ فِي ذَلِكَ إضْرَارٌ بِالْجَارِ؛ مِثْل أَنْ يُشْرِفَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مَا يَمْنَعُ مُشَارَفَتَهُ الْأسْفَلَ، فَإِذَا لَمْ يَكُن فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْجَارِ بِأَنْ يَبْنِيَ مَا يَمْنَعُ الْإِشْرَافَ عَلَيْهِ أَو لَا يَكُونُ فِيهِ إشْرَافٌ عَلَيْهِ: لَمْ يُمْنَعْ مِن الْبِنَاءِ.

وجاء خلاف ذلك في "الاختيارات"(199): له تعلية بنائه ولو أفضى إلى سد الهواء عن جاره، وفيه على قاعدة أبي العباس نظر. اهـ

(1)

.

قلت: لعل البعلي فهم ذلك من فتوى الشيخ هذه، فإنْ كانت عبارة البعلي مأخوذةً من هذه الفتوى فلا يظهر لي وجه تنظيره، ولعل شيخ الإسلام يقصد بقاعدته: أنه لا يجوز أن يُضر بجاره، وحينئذ يظهر وجه التنظير، ولكن شيخ الإسلام اشترط ألا يكون في ذلك ضرر على الجار، وحينئذ لا يكون تنظيره له وجه، والله أعلم.

(17)

‌ لمن يكون الربح الحاصل من مال لم يأذن مالكه في التجارة فيه

؟

جاء في "مجموع الفتاوى"(30/ 127 - 131، 378): إِنَّ الْإِقْطَاعَ نَوْعَانِ:

أ- إقْطَاعُ تَمْلِيكٍ كَمَا يقْطَعُ الْمَوَاتُ لِمَن يُحْيِيهِ بِتَمَلُّكِهِ.

ب- وَإِقْطَاعُ اسْتِغْلَالٍ، وَهُوَ إقْطَاعُ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ لِمَن يَسْتَغِلُّهَا إنْ شَاءَ أَنْ يَزْرَعَهَا، وَإِن شَاءَ أَنْ يُؤَجِّرَهَا، وَإِن شَاءَ أَنْ يُزَارعَ عَلَيْهَا.

(1)

بشرط الحاجة وعدم قصد ضر الجار.

قال في الفروع: ويتوجه من قول أحمد: لا ضرر ولا ضرار: منعُه.

قال في الإنصاف (5/ 261): وهو الصواب.

وقال البعلي في الاختيارات (199): وفيه على قاعدة أبي العباس نظر. اهـ.

ص: 464

وَإِذَا عُرفَ هَذَا: فَإِذَا انْفَسَخَ الْإقْطَاعُ فِي أَثْنَاءِ الْأَمْرِ؛ إمَّا لِمَوْتِ الْمُقْطَعِ وَإِمَّا لِغَيْرِهِ وَأُقْطِعَ لِغَيْرِهِ: كَانَت الْمَنْفَعَةُ الْحَادِثَةُ لِلْمُقْطَعِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ؛ بِحَيْثُ لَو كَانَ الْمُقْطَعُ الْأَوَّلُ قَد أَجَّرَ الْأَرْضَ الْمُقْطَعَةَ ثُمَّ انْفَسَخَ إقْطَاعُهُ انْفَسَخَتْ تِلْكَ الْإِجَارَةُ، كَمَا تَنْفَسِخُ إجَارَةُ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ إذَا انْتَقَلَ الْوَقْفُ إلَى الْبَطْنِ الثَّانِي فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ.

ثُمَّ إنَّ الْمُقْطَعَ الْأَوَّلَ لَمَّا ازْدَرَعَهُ بِعَمَلِهِ وَبَذْرِهِ وَبَقَرِهِ، وَصَارَ بَعْضُ الْمَنْفَعَةِ مُسْتَحَقًّا لِغَيْرِهِ صَارَ مُزْدَرِعًا فِي أَرْضِ الْغَيْرِ، لَكِنْ لَيْسَ هُوَ غَاصِبًا يَجُوزُ إتْلَافُ زَرْعِهِ؛ بَل زَرْعُة زَرْعٌ مُحْتَرَمٌ كَالْمُسْتَأْجِرِ وَأَوْلَى، فَهُنَا لِلْفُقَهَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ لِلْمُزْدَرعِ وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْل لِمَنْفَعَةِ الثَّانِي.

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَعَلَيْهِ مَا أَنْفَقَة الْأوَّلُ عَلَى زَرْعِهِ.

وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ.

وَفِيْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُ ثَالِثٌ هُوَ الَّذِي حَكَمَ بِهِ أَهْلُ الدِّيوَانِ، وَهُوَ الَّذِي قَضَى بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي نَظِيرِ ذَلِكَ وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ؛ فَإِنَّهُ كَانَ قَد اجْتَمَعَ عِنْدَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ مَالٌ لِلْمُسْلِمِينَ يُرِيدُ أَنْ يُرْسِلَهُ إلَى عُمَرَ فَمَرَّ بِهِ ابْنَا عُمَرَ، فَقَالَ: إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُعْطِيَكمَا شَيْئًا، وَلَكِنْ عِنْدِي مَالٌ أُرِيدُ حَمْلَهُ إلَيْهِ، فَخُذَاهُ اتَّجِرَا بِهِ وَأَعْطُوهُ مِثْل الْمَالِ، فَتَكُونَانِ قَد انْتَفَعْتُمَا، وَالْمَالُ حَصَلَ عِنْدَهُ مَعَ ضَمَانِكمَا لَهُ، فَاشْتَرَيَا بِهِ بِضَاعَةً، فَلَمَّا قَدِمَا إلَى عُمَرَ قَالَ: أَكُلَّ الْعُشْرِ أَقَرَّهُم مِثْل مَا أَقَرَّكمَا؟ فَقَالَا: لَا، فَقَالَ: ضَعَا الرِّبْحَ كُلَّهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَسَكَتَ عَبْدُ اللهِ، وَقَالَ لَهُ عُبَيْدُ اللهِ: أَرَأَيْت لَو ذَهَبَ هَذَا الْمَالُ أَمَا كَانَ عَلَيْنَا ضَمَانُهُ؟ فَقَالَ: بَلَى، قَالَ: فَكَيْفَ يَكُونُ الرِّبْحُ لِلْمُسْلِمِينَ وَالضمَانُ عَلَيْنَا؟

فَوَقَفَ عُمَرُ، فَقَالَ لَهُ الصَّحَابَةُ: اجْعَلْهُ مُضَارَبَةً بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، لَهُمَا نِصْفُ الرِّبْحِ وَللْمُسْلِمِينَ النِّصْفُ، فَعَمِلَ عُمَرَ بِذَلِكَ.

وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ الَّتِي تَنَازَعَهَا الْفُقَهَاءُ فِي مَسْألَةِ التِّجَارَةِ بِالْوَدِيعَةِ

ص: 465

وَغَيْرِهَا مِن مَالِ الْغَيْرِ؛ فَإِنَّ فِيهَا أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ هَل الرّبْحُ لِبَيْتِ الْمَالِ؟ أَو الرِّبْحُ لِلْعَامِلِ؟ أو يَقْتَسِمَاه بَيْنَهُمَا كَالْمُضَارَبَةِ؟

وَهَذَا الرابعُ الَّذِي فَعَلَهُ عُمَرَ، وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ مَن اعْتَمَدَ مِن الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ الْمُضَارَبَةِ. اهـ.

وقال عن هذا القول في "المجموع"(30/ 323): وَهُوَ الْعَدْلُ؛ فَإِنَّ النَّمَاءَ حَصَلَ بِمَالِ هَذَا وَعَمَلِ هَذَا، فَلَا يَخْتَصُّ أَحَدُهُمَا بِالرّبْحِ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِم الصَّدَقَةُ بِالنَّمَاءِ؛ فَإِنَّ الْحَقَّ لَهُمَا لَا يَعْدُوهُمَا؛ بَل يُجْعَلُ الرّبْحُ بَيْنَهُمَا، كَمَا لَو كَانَا مُشْتَرِكَيْنِ شَرِكَةَ مُضَارِبَةٍ. اهـ.

وجاء فيه كذلك (30/ 87): تَنْفَسِخُ الْمُضَارَبَةُ بِمَوْتِ الْمَالِكِ، ثُمَّ إذَا عَلِمَ الْعَامِلُ بِمَوْتِهِ وَتَصَرَّفَ بِلَا إذْن الْمَالِكِ لَفْظًا أَو عُرْفًا وَلَا وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ: فَهُوَ غَاضِبٌ.

وَقَد اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الرِّبْح الْحَاصِلِ فِي هَذَا: هَل هُوَ لِلْمَالِكِ فَقَطْ كَنَمَاءِ الْأَعْيَانِ؟ أَو لِلْعَامِلِ فَقَطْ لِأَنَّ عَلَيْهِ الضَّمَانَ؟ أَو يَتَصَدَّقَانِ بِهِ لِأَنَّهُ رِبْحٌ خَبِيثٌ؟ أَو يَكُونُ بَيْنَهُمَا؟

عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: أَصَحُّهَا الرَّابعُ، وَهُوَ أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا، كَمَا يَجْرِي بِهِ الْعُرْفُ فِي مِثْل ذَلِكَ، وَبِهَذَا حَكَمَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فِيمَا أَخَذَهُ بَنُوهُ مِن مَالِ بَيْتِ الْمَالِ فَاتَّجَرُوا فِيهِ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ فَجَعَلَهُ مُضَارَبَةً، وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ الْفُقَهَاءُ فِي "بَابِ الْمُضَارَبَةِ"؛ لِأَنَّ الرّبْحَ نَمَاءٌ حَاصِلٌ مِن مَنْفَعَةِ بَدَنِ هَذَا وَمَالِ هَذَا، فَكَانَ بَيْنَهُمَا كَسَائِرِ النَّمَاءِ الْحَادِثِ مِن أَصْلَيْنِ. اهـ.

وجاء فيه كذلك (30/ 139): وَسُئِلَ-رحمة الله-: عَن رَجُلٍ مَعَهُ دَرَاهِمُ حَرَامٌ، فَدَفَعَهَا إلَى وَالِدِهِ وَأَخَذَ مِنْهُ عِوَضَهَا مِن دَرَاهِمِهِ الْحَلَالِ، وَاشْتَرَى مِنْهَا شَيْئًا يَعُودُ مِنْهُ مَنْفَعَةٌ: إمَّا نَتَاجُ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ، وَإِمَّا زَرْعُ أَرْضٍ، وَاسْتَعْمَلَهَا، هَل هِيَ حَرَامٌ؟

ص: 466

فَأَجَابَ: مَتَى اعْتَاضَ عَن الْحَرَامِ عِوَضًا بِقَدْرِهِ فَحُكْم الْبَدَلِ حُكْم الْمُبْدَلِ مِنْهُ.

فَإِنْ كَانَ قَد نَمَّى بِفِعْلِهِ نَمَاء مِن رِبْحٍ أَو كَسْب أَو غَيْر ذَلِكَ فَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ، وَأَعْدَل الْأَقْوَالِ أَنْ يُقْسَمَ النَّمَاء بَيْنَ مَنْفَعَةِ الْمَالِ وَبَيْنَ مَنْفَعَةِ الْعَامِلِ

(1)

بِمَنْزِلَةِ الْمُضَارَبَةِ؛ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فِي الْمَالِ الَّذِي اتَّجَرَ مِنْهُ أَوْلَاده مِن بَيْتِ الْمَالِ.

وَهَكَذَا كُلُّ نَمَاءٍ بَيْنَ أَصْلَيْنِ إذَا بِيعَ الْأَصْلُ.

وجاء خلاف ذلك في "الإنصاف"(5/ 427)، و"الفتاوى الكبرى" (5/ 403): الربح الحاصل من مال لم يأذن مالكه في التجارة فيه: فقيل: هو للمالك فقط؛ كنماء الأعيان.

وقيل: للعامل فقط؛ لأن عليه الضمان.

وقيل: يتصدقان به؛ لأنه ربح خبيث.

وقيل: يكون بينهما على قدر النفعين بحسب معرفة أهل الخبرة، وهو أصحهما، وبه حكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ إلا أن يتجر به في غير وجه العدوان مثل أن يعتقد أنه مال نفسه فيتبين أنه مال غيره فهنا يقتسمان الربح بلا ريب.

وذكر أبو العباس في موضع آخر: أنه إذا كان عالمًا بأنه مال الغير فهنا يتوجه قول من لا يعطيه شيئًا؛ لأنه حصل بفعل محرم فلا يكون سببًا للإباحة.

فإذا تاب: سقط حق الله بالتوبة وأبيح له حينئذ بالقسمة.

فأما إذا لم يتب: ففي حله نظر.

(1)

فالمال جاء عن طريق الحرام، فمنفعته لا تكون له، بل يتصدق به بنية التخلص، وأما ما قام به من العمل فهو مِلْكه، وهو حلال عليه.

ص: 467

قلت: لم أقف على هذا الموضع، فإن صح أنه كان رأيًا له: فيكون له قولان في المسألة.

(18)

‌ هل يرث المسلم الكافر

؟

جاء في "مجموع الفتاوى"(32/ 35 - 36): لَا يُزَوِّجُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَةَ، سَوَاءٌ كَانَت بِنْتَه أَو غَيْرَهَا، وَلَا يَرِثُ كَافِرٌ مُسْلِمًا، وَلَا مُسْلِمٌ كَافِرًا.

وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَصْحَابِهِم مِن السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.

وجاء في أحكام أهل الذمة لابن القيم: 2/ 853: يرث المسلم الكافر دون العكس، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، قالوا: نرثهم ولا يرثوننا، كما ننكح نساءهم ولا ينكحون نساءَنا. اهـ.

* * *

(19)

‌ إذَا خَلَا الرَّجُلُ بالْمَرْأَةِ فَمَنَعَتْهُ نَفْسَهَا مِن الْوَطْءِ وَلَمْ يَطأْهَا: هل يَسْتَقِرَّ مَهْرُهَا

؟

جاء في "مجموع الفتاوى"(32/ 201): إذَا خَلَا الرَّجُلُ بِالمَرْأَةِ فَمَنَعَتْهُ نَفْسَهَا مِن الْوَطْءِ وَلَمْ يَطَأهَا: لَمْ يَسْتَقِرَّ مَهْرُهَا فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ من الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ: مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ.

وَإِذَا اعْتَرَفَتْ بِأَنَّهَا لَمْ تُمَكنْهُ مِن وَطْئِهَا: لَمْ يَسْتَقِرَّ مَهْرُهَا بِاتِّفَاقِهِمْ.

وَلَا يَجِبُ لَهَا عَلَيْهِ نَفَقَةٌ مَا دَامَتْ كَذَلِكَ بِاتِّفَاقِهِمْ.

وَإِذَا كَانَت مُبْغِضَة لَهُ مُخْتَارَةً سِوَاهُ: فَإِنَّهَا تَفْتَدِي نَفْسَهَا مِنْهُ.

وجاء في "الفتاوى الكبرى"(2/ 468): يتقرر المهر بالخلوة وإن منعته الوطء، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية حرب. اهـ.

وهذا مُخالف لكلامه السابق.

* * *

ص: 468

‌ولشيخ الإسلام قولان في بعض المسائل، منها:

1 -

‌ الوضوء بمعتصر الشجر:

اختار في موضع أنَّ المياه المعتصرة طاهرة، ويجوز بها رفع الحدث. [الاختيارات 8]

واختار في موضع آخر أن المياه المعتصرة طاهرة لا يجوز بها رفع الحدث. [مختصر الفتاوى المصرية 14]

2 -

‌ استعمال الْجِلْد النَّجِس إذَا قيل: لَا يَطْهُرُ بِالدَّبْغِ:

اختار في موضع أنه يباح استعماله في اليابسات مع القول بالنجاسة، قال-رحمة الله-: وَفِي اسْتِعْمَالِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ -إذَا لَمْ يُقلْ بِطَهَارَتهَا- فِي الْيَابِسَاتِ رِوَايَتَانِ: أَصَحُّهُمَا جَوَازُ ذَلِكَ، وَإِن قِيلَ إنَّهُ يُكْرَهُ؛ فَالْكَرَاهَةُ تَزُولُ بِالْحَاجَةِ. [المجموع 21/ 610]

وفي "شرح العمدة" اختار أنه لا تباح. [الإنصاف 1/ 88]

ولذلك قال في "الفروع"(1/ 73) بعد أن ساق كلام صاحب الفائق: فَخَالَفَ هُنَا ظاهر ما قَالَهُ في "شَرْحِ الْعُمْدَةِ". اهـ.

3 -

‌ هل تتوقف مدة المسح في حق المسافر

؟

اختار في موضع أنّ المسافر يمسح كالجبيرة. [الإنصاف 1/ 176]

وقال في "الاختيارات": ولا تتوقف مدة المسح في حق المسافر الذي يشق اشتغاله بالخلع واللبس؛ كالبريد المجهز في مصلحة المسلمين. [الاختيارات 27]

4 -

‌ حكم الوضوء من أكل لحم الإبل

؟

اختار في أحد أقواله أنه يستحب الوضوء من أكل لحم الإبل ولا يجب. [الإنصاف 1/ 216]

ص: 469

وفي المسائل: يجب الوضوء من لحم الإبل؛ لحديثين صحيحين لعله آخر ما أفتى به. [الاختيارات 28]

5 -

‌ حكم الوضوء من مَسِّ النِّسَاءِ والأمرد لشهوة:

اختار في أحد أقواله أنه لَا ينْقُضُ الْوُضوءَ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ مِنْه. [مجموع الفتاوى 21/ 222]

واختار مرةً أنه ينْقُضُ الْوُضُوءَ. [مجموع الفتاوى 15/ 411 - 412]

والأول: هو الذي استقر عليه رأيه، قال في "الاختيارات": ومال أبو العباس أخيرًا إلى استحباب الوضوء دون الوجوب من مس النساء والأمرد إذا كان لشهوة.

6 -

‌ إذَا أَحْدَثَ الْمُصَلِّي قَبْلَ السَّلَامِ فهل تبطل صلاُته

؟

قال-رحمة الله-: مَن سَبَقَهُ الْحَدَثُ: فَإِنَّهُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ -كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ- يَتَوَضَّأُ ويبْنِي عَلَى مَا مَضَى إذَا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ بِكَلَامٍ عَمْدٍ وَنَحْوِهِ، وَهَذَا مَأثُورٌ عَن أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ. [مجموع الفتاوى 21/ 143]

وقال في موضع آخر: إذَا أَحْدَثَ الْمُصَلِّي قَبْلَ السَّلَامِ بَطَلَتْ، مَكْتُوبَةً كَانَت أَو غَيْرَ مَكْتُوبَةٍ. [مجموع الفتاوى 22/ 613]

7 -

‌ حكم بَيْع دَيْنٍ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ يَسْقُطُ إذَا بِيعَ بِدَيْنٍ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ يَسْقُطُ

؟

قال -رحمة الله- في "مجموع الفتاوى"(29/ 429): إذَا اشْتَرَى قَمْحًا بِثَمَنٍ إلَى أَجَلٍ ثُمَّ عَوَّضَ الْبَائِعَ عَن ذَلِكَ الثَّمَنِ سِلْعَةً إلَى أَجَلٍ: لَمْ يَجُزْ؛ فَإِنَّ هَذَا بَيْعُ دَيْنٍ بِدَينِ.

ص: 470

وقال كذلك (20/ 512): بَيْع الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَامٌّ وَلَا إجْمَاعٌ، وَإِنَّمَا وَرَدَ النَّهْيُ عَن بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، وَالْكَالِئُ هُوَ الْمُؤَخَّرُ الَّذِي لَمْ يُقْبَضْ بِالْمُؤَخَّرِ الَّذِي لَمْ يُقْبَضْ، وَهَذَا كَمَا لَو أَسْلَمَ شَيْئًا فِي شَيْءٍ فِي الذِّمَّةِ وَكِلَاهُمَا مُؤَخَّرٌ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ، وَهُوَ بَيْعُ كَالِئٍ بِكَالِئ.

وقال في موضع آخر (29/ 472): نَهَى صلى الله عليه وسلم "عَن بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ"، وَهُوَ الْمُؤَخَّرُ بِالْمُؤَخَّرِ، وَلَمْ يَنْهَ عَن بَيْعِ دَيْنٍ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ يَسْقُطُ إذَا بِيعَ بِدَيْنٍ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ يَسْقُطُ؛ فَإِنَّ هَذَا الثَّانِيَ يَقْتَضِي تَفْرِيغَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الذِّمَّتَيْنِ وَلهَذَا كَانَ هَذَا جَائِزًا فِي أَظْهَرِ قَوْلَي الْعُلَمَاءِ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا.

8 -

‌ هل يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَن دَيْنِ السَّلَمِ بِغَيْرِهِ

؟

جاء في "مجموع الفتاوى"(503 - 517): سُئِلَ: عَن رَجُلٍ أَسْلَفَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا فِي رِطْلِ حَرِير إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ جَاءَ الْأَجَلُ فَتَعَذَّرَ الْحَرِيرُ، فَهَل يَخوزُ أَنْ يَأْخُذَ قِيمَةَ الْحَرِيرِ أَو يَأْخُذَ عِوَضَهُ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ؟

فَأَجَابَ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا رِوَايَتَانِ عَن الْإِمَامِ أَحْمَد:

إحْدَاهُمَا: لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَن دَيْنِ السَّلَمِ بِغَيْرِهِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: "مَن أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ فَلَا يَصْرِفْهُ إلَى غَيْرِهِ"، وَهَذ الرِّوَايَةُ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَهِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا الخرقي وَغَيْرُهُ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ ذَلِكَ كَمَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ دَيْنِ السَّلَمِ، وَفِي الْمَبِيعِ مِن الْأَعْيَانِ وَهوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَقَد نَصَّ أَحْمَد عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَجَعَلَ دَيْنَ السَّلَمِ كَغَيْرِهِ مِن الْمَبِيعَاتِ.

ص: 471

وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ وَهُوَ قِيَاسُ أُصُولِ أَحْمَد؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ دَيْنَ السَّلَمِ مَبِيعٌ.

وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد: أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الدَّيْنِ مِمَّن هُوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا فِي الذمَّةِ مَقْبُوضٌ لِلْمَدِينِ.

لَكِنْ إنْ بَاعَهُ بِمَا لَا يُبَاعُ بِهِ نَسِيئَةً شْتَرَطَ فِيهِ الْحُلُولَ وَالْقَبْضَ لِئَلَّا يَكُونَ رِبًا.

وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهُ بِمَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ.

وَإِن بَاعَهُ بِغَيْرِهِمَا: فَفِيهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: لَا يُشْتَرَطُ كَمَا لَا يُشْتَرَطُ فِي غَيْرِهِمَا.

وَالثَّانِي: يُشْتَرَطُ لِأَنَّ تَأَخِيرَ الْقَبْضِ نَسِيئَةٌ كَبَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ. ويُنظر كذلك: [29/ 518 - 519]

وقد أفتى الشيخ -رحمة الله- في مواضع من "مجموع الفتاوى" بالتحريم، (29/ 500 - 501)(29/ 526)، ومن ذلك قوله: لَا يَجُوزُ بَيْعُ دَيْنِ السَّلَمِ قَبْلَ قَبْضِهِ وَلَا بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ: فَهَذَا حَرَامٌ مِن وَجْهَيْنِ.

والشيخ صحح في جميع فتاويه عدا هذين الموضعين جواز الاعتياض عن دين السلم كالحنطة بغيره كالشعير.

وقد كان -رحمة الله- يُفتي قبل ذلك بالمنع، وينسب ذلك إلى الأئمة الأربعة، ومن ذلك قوله (29/ 500): لَا يَجُوزُ بَيْعُ هَذَا الدَّيْنِ الَّذِي هُوَ دَيْنُ السَّلَمِ قَبْلَ قَبْضِهِ لَا مِن الْمُسْتَلِفِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ فِي مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ؛ بَل هَذَا يَدْخُلُ فِيمَا نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ، وَقَدْ يَدْخُلُ فِي رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنْ.

ص: 472

وقد يكون اعتمد على قول ابن قدامة -رحمة الله-، قبل أن يطّلع على قول مالك رحمه، ومن ثَمّ استدرك على ابن قدامة كما تقدّم.

9 -

‌ حكم الحلف بالطلاق

؟

جاء في "الفروع"(6/ 304)، و"الفتاوى الكبرى" (5/ 551): اختلف كلام أبي العباس في الحلف بالطلاق، فاختار في موضع التحريم وتعزيره، وهو قول مالك ووجه لنا.

واختار في موضع آخر، أنه لا يكره وأنه قول غير واحد من أصحابنا؛ لأنه لم يحلف بمخلوق، ولم يلتزم لغير الله شيئًا، وإنما التزم لله كما يلتزم بالنذر، والالتزام لله أبلغ من الالتزام به، بدليل النذر له، واليمين به، ولهذا لم تنكر الصحابة على من حلف بذلك كما أنكروا على من حلف بالكعبة. اهـ.

10 -

‌ مَن تَرَكَ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ عَامِدًا: هَل يَقْضِيهِ

؟

قال في "المجموع"(22/ 19): اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَن تَرَكَ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ عَامِدًا: هَل يَقْضِيهِ؟ وَقَد ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ عَنِ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَن وَقْتِهَا: "فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، وَاجْعَلُوا صَلَاَتكمْ مَعَهُم نَافِلَةً"

(1)

.

وَدَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتِّفَاقُ السَّلَفِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ مَن يُضَيِّعُ الصَّلَاةَ فَيُصَلِّيهَا بَعْدَ الْوَقْتِ، وَالْفَرْق بَيْنَ مَن يَتْرُكُهَا، وَلَو كَانَت بَعْدَ الْوَقْتِ لَا تَصِحُّ بِحَالٍ لَكَانَ الْجَمِيعُ سَوَاءً؛ لَكِنَّ الْمُضَيَّعَ لِوَقْتِهَا كَانَ مُلْتَزِمًا لِوُجُوبِهَا، وإِنَّمَا ضَيَّعَ بَعْضَ حُقُوقِهَا وَهُوَ الْوَقْتُ، وَأَتَى بِالْفِعْلِ. اهـ.

(1)

رواه مسلم (648).

ص: 473

فالشيخ هنا انْتَصَر لقول الجمهور.

وجاء في "المجموع" كذلك (22/ 40 - 41): تَارِكُ الصَّلَاةِ: إنْ لَمْ يَكُن مُعْتَقِدًا لِوُجُوبِهَا فَهوَ كَافِرٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، لَكِنْ إذَا أَسْلَمَ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ، أَو وُجُوبَ بَعْضِ أَرْكَانِهَا .. : فَهَذَا لَيْسَ بِكَافِرٍ.

لَكِنْ إذَا عَلِمَ الْوُجُوبَ: هَل يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: قِيلَ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ.

وَقِيلَ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. اهـ.

11 -

‌ هل الْخَضِر في الْأَحْيَاءِ

؟

جاء في "مجموع الفتاوى"(4/ 337): سُئِلَ -رحمة الله-: عَن الْخَضِرِ وَإلْيَاسَ: هَل هُمَا مُعَمَّرَانِ؟

فَأَجَابَ: إنَّهُمَا لَيْسَا فِي الْأَحْيَاءِ وَلَا مُعَمَّرَانِ، وَقَد سَأَلَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَن تَعْمِيرِ الْخَضِرِ وَإِلْيَاسَ وَأَنَّهُمَا بَاقِيَانِ يَرَيَانِ ويُرْوَى عَنْهُمَا، فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: مَن أَحَالَ عَلَى غَائِبٍ لَمْ يُنْصِفْ مِنْهُ، وَمَا أَلْقَى هَذَا إلَّا شَيْطَانٌ.

وَسُئِلَ الْبُخَارِيُّ عَن الْخَضرِ وَإِلْيَاسَ: هَل هُمَا فِي الْأَحْيَاءِ؟ فَقَالَ: كَيْفَ يَكُونُ هَذَا وَقَد قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَبْقَى عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ مِمَّن هُوَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ"؟. اهـ.

وجاء فيه كذلك (27/ 100 - 101): وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقّقُونَ أَنَّهُ مَيِّتٌ، وَأَنَّهُ لَمْ يُدْرِك الْإِسْلَامَ، وَلَو كَانَ مَوْجُودًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ ويُجَاهِدَ مَعَهُ كَمَا أَوْجَبَ اللهُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ.

ثُمَّ لَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِ وَأَمْثَالِهِ حَاجَةٌ لَا فِي دِينِهِمْ وَلَا فِي دُنْيَاهُم؛ فَإِنَّ دِينَهُم أَخَذُوة عَن الرَّسُولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي عَلَّمَهُم الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ.

ص: 474

وَإِذَا كَانَ الْخَضِرُ حَيًّا دَائِمًا فَكَيْفَ لَمْ يَذْكُر النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ قَطُّ؟ وَلَا أَخْبَرَ بِهِ أُمَّتَهُ وَلَا خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ؟

وجاء ما يُخالف ذلك في (4/ 338 - 340): وسُئِلَ الشَّيْخُ -رحمة الله-: هَلْ كَانَ الْخَضِرُ عليه السلام نَبِيًّا أَوْ وَليًّا؟ وَهَلْ هُوَ حَيٌّ إلَى الْآنَ؟ وَإِنْ كَانَ حَيًّا فَمَا تَقُولُونَ فِيمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّه قَالَ: "لَوْ كَانَ حَيًّا لَزَارَنِي" هَلْ هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ: أَمَّا نُبُوَّتُهُ: فَمِنْ بَعْدِ مَبْعَثِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُوحَ إلَيْهِ وَلَا إلَى غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ وَأَمَّا قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي نبوَّتِهِ.

وَأَمَّا حَيَاتُة: فَهُوَ حَيٌّ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ لَا أَصْلَ لَه، وَلَا يُعْرَفُ لَهُ إسْنَادٌ؛ بَل الْمَرْوِيُّ فِي مُسْنَدِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ اجْتَمَعَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمَنْ قَالَ إنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعْ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ قَالَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ؛ فَإِنَّهُ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي لَا يُحَاطُ بِهِ.

وَمَن احْتَجَّ عَلَى وَفَاتِهِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَرَأَيْتُكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّهُ عَلَى رَأسِ مِائَةِ سَنَةٍ لَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهَا الْيَوْمَ أَحَدٌ"، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْخَضِرُ إذْ ذَاكَ عَلَى وَجْهِ الْأرْضِ، وَلأَنَّ الدَّجَّالَ -وَكَذَلِكَ الْجَسَّاسَةُ- الصَّحِيحُ أَنَّه كَانَ حَيًّا مَوْجُودًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بَاقٍ إلَى الْيَوْمِ لَمْ يَخْرُجْ، وَكَانَ فِي جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ.

فَمَا كَانَ مِن الْجَوَابِ عَنْهُ كَانَ هُوَ الْجَوَابَ عَن الْخَضِرِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْأَرْضِ لَمْ يَدْخلْ فِي هَذَا الْخَبَرِ، أَوْ يَكُونُ أَرَادَ صلى الله عليه وسلم الْآدَمِيِّينَ الْمَعْرُوفِينَ، وَأَمَّا مَنْ خَرَجَ عَن الْعَادَةِ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْعُمُومِ، كَمَا لَمْ تَدْخُل الْجِنُّ، وَإِنْ كَانَ لَفْظًا يَنْتَظِمُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ، وَتَخْصِيصُ مِثْلِ هَذَا مِنْ مِثْلِ هَذَا الْعُمُومِ كَثِيرٌ مُعْتَادٌ. اهـ.

قال عبد الرحمن بن قاسم -رحمة الله- جامع الفتاوى: (هكذا وجدت هذه الرسالة. ا هـ.

وكأنه شكَّك في صحة نسبة الفتوى لشيخ الإسلام ابن تيمية-رحمة الله-.

ص: 475

وتشكيكُه في محلّه، فهي تخالف ما قرره الشيخ -رحمة السلام- في مواضع من أن الخضر قد مات كما هو مُوضّح في كلامه السابق لهذه الفتوى، وفي غيرها من المواضع، ومنها:(1/ 249): وقد قال في "المنهاج"(4/ 93): والذي عليه سائر المحققون أنه مات. اهـ.

ومما يدل على ذلك: أنّ كبار تلاميذه إنما نسبوا عن شيخ الإسلام القول بأنّ الخضر ميّت، منهم ابن القيم رحمه الله كما في "المنار المنيف"(68)، وابن عبدالهادي رحمه الله كما في. [العقود الدرية 70]

* * *

12 -

‌ حكم سفر المرأة بلا محرم:

جاء في "الفتاوى الكبرى"(5/ 381 - 382): تحج كل امرأة آمنة مع عدم محرم، قال أبو العباس: وهذا متوجه في سفر كل طاعة.

وصحح أبو العباس في "الفتاوى المصرية" أنَّ المرأة لا تسافر للحج إلا مع زوج أو ذي محرم. اهـ.

* * *

13 -

‌ هل يصلح أن يشترط رب المال زكاة رأس المال أو بعضه من الربح

؟

قال في الفروع: لا يصح أن يشترط ربُّ المال زكاة رأس المال أو بعضه من الربح؛ لأنه قد يحيط بالربح، فهو كشرط فضل دراهم، سأله المروذي: يشترط المضارب على رب المال أن الزكاة من الربح؟ قال: لا، الزكاة على رب المال، وصححه شيخنا، كما يختص بنفعه في المساقاة إذا لم يثمر الشجر

(1)

، وركوب الفرس في الجهاد إذا لم يغنموا

(2)

.

(1)

وفي نسخة: إذا لم يثمر عن ربح الشجر. (الجامع).

(2)

الفروع (2/ 338).

ص: 476

وقال في "الاختيارات": ويصح أن يشترط رب المال زكاة رأس المال أو بعضه من الربح، ولا يقال بعدم الصحة ونقله المروذي عن أحمد لأن الزكاة قد تحيط بالربح فيختص رب المال بعمله؛ لأنا نقول: لا يمتنع ذلك، كما يختص بنفعه في المساقاة إذا لم يثمر الشجر وبركوب الفرس في الجهاد إذا لم يغنموا

(1)

.

* * *

(1)

الاختيارات (98).

قال جامع المستدرك (3/ 151): هذا خلاف ما في الفروع، ولعل ما فيه أصح.

ص: 477

‌فوائد متفرّقة

‌الْمَنَازِلُ الْعَالِيَةُ لَا تُنَالُ إلَّا بِالْبَلَاءِ:

5329 -

الْمَنَازِلُ الْعَالِيَةُ لَا تُنَالُ إلَّا بِالْبَلَاءِ، كَمَا قَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا سُئِلَ: أَيُّ الناسِ أَشَدُّ بَلَاء فَقَالَ: "الْأنبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي بَلَائِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفّفَ عَنْهُ، وَلَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى الْأَرْضِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ

(1)

. [25/ 302]

* * *

‌الكلمات والأمر والإرادة والإذن والكتاب والحكم والقضاء والتحريم ونحو ذلك نوعان: ديني موافق لمحبة الله ورضاه وأمره الشرعي، وكوني موافق لمشيئه الكونية:

5330 -

في "الصحيحين"

(2)

عن علي بن أبي طالب قال: كنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَأَتَانَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ، وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ فَنَكَّسَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ، ثُمَّ قَالَ:"مَا مِنْكمْ مِنْ أحَدٍ، مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ، اِلَّا وَقَدْ كَتَبَ اللهُ مَكَانَهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإِلا وَقَدْ كُتِبَتْ شَقيةً أَوْ سَعِيدَةً" قَالَ فَقَالَ: رَجَلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ أَفَلَا نَمْكُثُ عَلَى كِتَابِنَا، وَنَدَع الْعَمَلَ؟ فَقَالَ: "مَنْ

(1)

رواه الإمام أحمد (1481)، والترمذي (2398) وابن ماجه (4023). وقال البخاري: بَابٌ: أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاء الأَنْبِيَاء، ثُمَّ الأمْثَلُ فَالأمْثَلُ.

ولم يرو الحديث لأنه ليس على شرطِه.

(2)

البخاري (4948)، ومسلم (2647).

ص: 478

كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ، فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ" فَقَالَ:"اعْمَلُوا فَكلٌّ مُيَسَّرٌ، أمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأمّا أَهْلُ الشَّقَاوةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوةِ"، ثُمَّ قَرَأَ:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل: 5 - 10].

فبيَّن صلى الله عليه وسلم أن تقدم العلم والكتاب بالسعيد والشقي لا ينافي أن تكون سعادة هذا بالأعمال الصالحة، وشقاوة هذا بالأعمال السيئة، فإنه سبحانه يعلم الأمور على ما هي عليه، وكذلك يكتبها، فهو يعلم أن السعيد يسعد بالأعمال الصالحة، والشقي يشقى بالأعمال السيئة، فمن كان سعيدًا ييسر للأعمال الصالحة التي تقتضي السعادة، ومن كان شقيًّا ييسر للأعمال السيئة التي تقتضي الشقاوة، وكلاهما ميسر لما خلق له، وهو ما يصير إليه من مشيئة الله العامة الكونية التي ذكرها الله سبحانه في كتابه في قوله تعالى:{وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118، 119].

وأما ما خلقوا له من محبة الله ورضاه وهو إرادته الدينية التي أمروا بموجبها فذلك مذكور في قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56].

والله سبحانه قد بيَّن في كتابه في كل واحدة: من [الكلمات] و [الأمر] و [الإرادة] و [الإذن] و [الكتاب] و [الحكم] و [القضاء] و [التحريم] ونحو ذلك ما هو ديني موافق لمحبة الله ورضاه وأمره الشرعي، وما هو كوني موافق لمشيئته الكونية.

مثال ذلك: أنه قال في الأمر الديني: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90].

وقال في الكوني: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)}

ص: 479

[يس: 82]، وكذلك قوله:{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)} [الإسراء: 16] على إحدى الأقوال في هذه الآية.

وقال في الإرادة الدينية: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].

وقال في الإرادة الكونية: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)} [البقرة: 253]، وقال:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125].

وقال تعالى في الإذن الديني: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)} [الحشر: 5].

وقال تعالى في الكوني: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 152].

وقال تعالى في القضاء الديني: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23]؛ أي: أمر.

وقال تعالى في الكوني: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 12].

وقال تعالى في الحكم الديني: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)} [المائدة: 1].

وقال تعالى في الكوني عن ابن يعقوب: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)} [يوسف: 80].

وقال تعالى في التحريم الديني: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3].

وقال تعالى في التحريم الكوني: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 26].

ص: 480

وقال تعالى في الكلمات الدينية: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124].

وقال تعالى في الكونية: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف: 137]، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم المستفيض عنه من وجوه في "الصحاح" و"السنن" و"المسانيد" أنه كان يقول في استعاذته:" أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بَرٌّ ولا فاجر".

ومن المعلوم أن هذا هو الكوني الذي لا يخرج منه شيء عن مشيئته وتكوينه.

وأما الكلمات الدينية فقد خالفها الفجار بمعصيته. [10/ 23 - 26]

* * *

‌هل يجوز وصف الله بالعزم:

- هُوَ سُبْحَانَهُ يُقَدّرُ الْأَشْيَاءَ وَيَكْتُبُهَا ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَخْلُقُهَا، فَهُوَ إذَا قَدَّرَهَا عَلِمَ مَا سَيَفْعَلُهُ وَأَرَادَ فِعْلَة فِي الْوَقْتِ الْمُسْتَقْبَلِ، لَكِنْ لَمْ يُرِدْ فِعْلَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ، فَإِذَا جَاءَ وَقْتُهُ أَرَادَ فِعْلَهُ، فَالْأوَّلُ عَزْمٌ وَالثَّانِي قَصْدٌ.

‌وَهَلْ يَجُوزُ وَصْفُهُ بِالْعَزْمِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ كَقَوْلِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى.

وَالثَّانِي: الْجَوَازُ وَهُوَ أَصَحُّ، فَقَدْ قَرَأَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ "فَإِذَا عَزَمْتُ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ" بِالضمِّ. وَفي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ

(1)

مِنْ حَدِيثِ أُمّ سَلَمَةَ: "ثُمَّ عَزَمَ اللهُ لِي".

(1)

رواه مسلم (918).

ص: 481

وَكَذَلِكَ فِي خُطْبَةِ مُسْلِمٍ: "فَعَزَمَ لِي"

(1)

.

وَسَوَاءٌ سُمِّيَ عَزْمًا أَوْ لَمْ يُسَمَّ: فَهُوَ سُبْحَانَهُ إذَا قَدَّرَهَا عَلِمَ أَنَّهُ سَيَفْعَلُهَا فِي وَقْتِهَا وَأَرَادَ أَنْ يَفْعَلَهَا فِي وَقْتِهَا، فَإِذَا جَاءَ الْوَقْتُ فَلَا بُدَّ مِنْ إرَادَةِ الْفِعْلِ الْمُعَيَّنِ وَنَفْسِ الْفِعْلِ، وَلَا بُدَّ مِنْ عِلْمِهِ بِمَا يَفْعَلُهُ. [16/ 303 - 304]

‌فصل الربيع وفصل الشتاء:

5331 -

الفصل الذي ينزل فيه أول المطر تسميه العرب الربيع، لنزول المطر الذي ينبت الربيع فيه، وغيرهم يسمي الربيع الفصل الذي يلي الشتاء، فإن فيه تخرج الأزهار التي تخلق منها الثمار، وتنبت الأوراق على الأشجار. [10/ 103]

* * *

‌الموت المثبت في القرآن غير الموت المنفي:

5332 -

القلب إذا كان حيًّا فمات الإنسان بفراق روحه بدنه كان موت النفس فراقها للبدن، ليست هي في نفسها ميتة بمعنى زوال حياتها عنها.

ولهذا قال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} [البقرة: 154]، مع أنهم موتى داخلون في قوله:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185].

(1)

يعني خطبة الإمام مسلم في قوله في مقدمة صحيحه: "وَللَّذِي سَأَلْتَ أكْرَمَكَ اللهُ حِينَ رَجَعْت إِلَى تَدَبُّرِهِ، وَمَا تَؤُولُ بِهِ الْحَالُ إِنْ شَاءَ اللهُ عَاقِبَةٌ مَحْمُودَةٌ وَمَنْفَعَةٌ مَوْجُودَةٌ، وَظَنَنْتُ حِينَ سَألْتَنِي تَجَشُّمَ ذَلِكَ أنْ لَوْ عُزِمَ لِي عَلَيْهِ، وَقُضِيَ لِي تَمَامُهُ، كَانَ أَوَّلُ مِنْ يُصِيبُهُ نَفْعُ ذَلِكَ إِيَّايَ خَاصَّةً قَبْلَ غَيْرِي مِنَ النَّاسِ لِأَسْبَابٍ كَثيَرَةٍ يَطُولُ بِذِكْرِهَا الْوَصْفُ

". اهـ.

فقوله: (لو عُزِم لي)؛ أي: لو عَزَمَ الله تعالى لي.

والعَزْمُ في اللغة: الجد وإرادة الفعل، ونثبت هذا الصفة لله تعالى على وجه يليق بجلاله وعظمته، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .

ص: 482

فالموت المثبت غير الموت المنفي، المثبت: هو فراق الروح البدن، والمنفي: زوال الحياة بالجملة عن الروح والبدن. [10/ 110]

* * *

‌متى يكون مَعْرِفَةُ الْحَقِّ عَذَابًا عَلَى صَاحِبِهِ

؟

5333 -

الْمَعْرِفَةُ بِالْحَقِّ إذَا كَانَت مَعَ الِاسْتِكْبَارِ عَن قَبُولِهِ وَالْجَحْدِ لَهُ: كَانَ عَذَابًا عَلَى صَاحِبِهِ. [10/ 155]

* * *

‌الطَّمَعُ فَقْرٌ، وَالْيَأْسُ غِنًى:

5334 -

يُرْوَى عَن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه؛ أَنَّهُ قَالَ: الطَّمَعُ فَقْرٌ، وَالْيَأْسُ غِنًى، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ إذَا يَئسَ مِن شَيْءٍ اسْتَغْنَى عَنْهُ.

وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ مِن نَفْسِهِ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ الَّذِي يَيْأَسُ مِنْهُ لَا يَطْلُبُهُ وَلَا يَطْمَعُ بِهِ، وَلَا يَبْقى قَلْبُهُ فَقِيرًا إلَيْهِ، وَلَا إلَى مَن يَفْعَلُهُ، وَأَمَّا إذَا طَمِعَ فِي أَمْرٍ مِن الْأُمُورِ وَرَجَاهُ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِهِ فَصَارَ فَقِيرًا إلَى حُصُولِهِ؛ وَإِلَى مَن يَظُنُّ أَنَهُ سَبَبٌ فِي حُصُولِهِ وَهَذَا فِي الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالصّوَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. [10/ 181]

* * *

‌فضيلة الإخلاص لله تعالى:

5335 -

قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ يُوسُفَ: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24} [يوسف: 24]؛ فَاللهُ يَصْرِفُ عَن عَبْدِهِ مَا يَسُوءُهُ مِن الْمَيْلِ إلَى الصُّوَرِ

(1)

وَالتَّعَلُّقِ بِهَا، وَيَصْرِفُ عَنْهُ الْفَحْشَاءَ بِإِخْلَاصِهِ للهِ.

وَلهَذَا يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَذُوقَ حَلَاوَةَ الْعُبُودِيَّةِ للهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ تَغْلِبُهُ نَفْسُهُ

(1)

المقصود بالصور في كلام شيخ الإسلام وابن القيِّم رحمهما الله تعالى صورة الآدمي الحي، كالنسوان والمردان، ولا يقصدان الصور المرسومة أو المجسّمة.

ص: 483

عَلَى اتِّبَاعِ هَوَاهَا، فَإِذَا ذَاقَ طَعْمَ الْإِخْلَاصِ وَقَوِيَ فِي قَلْبِهِ انْقَهَرَ لَهُ هَوَاهُ بِلَا عِلَاجٍ. [10/ 188]

* * *

‌الذي لَا يَحْتَاجُ الْعَبْدُ إلَيْهِ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَلِّقَ قَلْبَهُ بِه:

5336 -

وَهَكَذَا أَيْضًا طَالِبُ الْمَالِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَعْبِدُهُ ويسْتَرِقُّهُ وَهَذِهِ الْأُمُورُ نَوْعَانِ:(مِنْهَا) مَا يَحْتَاجُ الْعَبْدُ إلَيْهِ كَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِن طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَمَسْكَنِهِ ومنكحه وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذَا يَطْلُبُهُ مِن اللهِ وَيرْغَبُ إلَيْهِ فِيهِ، فَيَكُون الْمَالُ عِنْدَهُ يَسْتَعْمِلُه فِي حَاجَتِهِ بِمَنْزِلَةِ حِمَارِهِ الَّذِي يَرْكَبُهُ، وَبِسَاطِهِ الَّذِي يَجْلِسُ عَلَيْهِ؛ بَل بِمَنْزِلَةِ الْكَنِيفِ الَّذِي يَقْضِي فِيهِ حَاجَتَهُ مِن غَيْرِ أَنْ يَسْتَعْبِدَهُ فَيَكُونُ هَلُوعًا إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا؛ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا.

وَمِنْهَا: مَا لَا يَحْتَاجُ الْعَبْدُ إلَيْهِ، فَهَذِهِ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَلِّقَ قَلْبَهُ بِهَا، فَإِذَا تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِهَا صَارَ مُسْتَعْبَدًا لَهَا، وَرُبَّمَا صَارَ مُعْتَمِدًا عَلَى غَيْرِ اللهِ فَلَا يَبْقَى مَعَهُ حَقِيقَةُ الْعِبَادَةِ للهِ، وَلَا حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ؛ بَل فِيهِ شعْبَةٌ مِن الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللهِ وَشُعْبَةٌ مِن التَّوَكُّلِ عَلَى غيْرِ اللهِ. [10/ 189 - 190]

* * *

‌الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم لم تكن تَغِيبَ عُقُولُهُمْ، ولم يَحْصُلَ لَهُم غَشْيٌ أَو صَعْقٌ أَو سُكْرٌ أَو فَنَاءٌ أَو وَلَهٌ أَو جُنُونٌ:

5337 -

الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم كَانُوا أَكْمَلَ وَأَقْوَى وَأَثْبَتَ فِي الْأَحْوَالِ الْإِيمَانِيَّةِ مِن أَنْ تَغِيبَ عُقُولُهُمْ، أَو يَحْصُلَ لَهُم غَشْيٌ أَو صَعْقٌ أَو سُكْرٌ أَو فَنَاءٌ أَو وَلَةٌ أَو جُنُونٌ. [10/ 220]

* * *

ص: 484

ما هو تقدير الضمير في قَوْل الْقَارِئِ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؟

5338 -

قَوْلُ الْقَارِئِ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} تَقْدِيرُهُ: قِرَاءَتِي بِسْمِ اللهِ؛ أَو أَقْرَأُ بِسْمِ اللهِ.

وَمِن النَّاسِ مَن يُضْمِرُ فِي مِثْل هَذَا ابْتِدَائِي بِسْمِ اللهِ، أو ابْتَدَأتُ بِسْمِ اللهِ. وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ كُلَّهُ مَفْعُولٌ بِسْم اللهِ لَيْسَ مُجَرَّدُ ابْتِدَائِهِ، كَمَا أَظْهَرَ الْمُضْمَرَ فِي قَوْلِهِ:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)} [العلق: 1]. [10/ 231]

* * *

‌معنى الِاسْتِغْنَاء وَالِاسْتِعْفَاف:

5339 -

الِاسْتِغْنَاءُ أَنْ لَا يَرْجُوَ بِقَلْبِهِ أَحَدًا فَيَتَشَرَّفَ إلَيْهِ وَالِاسْتِعْفَافُ أَلَّا يَسْأَلَ بِلِسَانِهِ أَحَدًا. [10/ 259]

* * *

‌حَمْلُ كَلَامِ الإمَامِ عَلَى مَا يُصَدِّق بَعْضُهُ بَعْضًا أَوْلَى مِن حَمْلِهِ عَلَى التَّنَاقُضِ:

5340 -

حَمْلُ كَلَامِ الْإِمَامِ عَلَى مَا يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا أَوْلَى مِن حَمْلِهِ عَلَى التَّنَاقُضِ، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْقَوْلُ الْآخَرُ مُبْتَدَعًا لَمْ يُعْرَفْ عَن أَحَدٍ مِن السَّلَفِ، وَأَحْمَد يَقُولُ: إيَّاكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةٍ لَيْسَ لَك فِيهَا إمَامٌ، وَكَانَ فِي الْمِحْنَةِ يَقُولُ: كَيْفَ أَقُولُ مَا لَمْ يُقَلْ؟ [10/ 320 - 321]

* * *

‌طَرِيقُ الْمُوَازَنَةِ وَالْمُعَادَلَةِ في التعامل مع الإنسان الذي فيه الخير والشرّ:

5341 -

كثِيرًا مَا يَجْتَمِعُ فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ أَو فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ الْأَمْرَانِ [أي: الخير والشر]؛ فَالذَّمُّ وَالنَّهْيُ وَالْعِقَابُ قَد يَتَوَجَّهُ إلَى مَا تَضَمَّنَهُ أَحَدُهُمَا، فَلَا يُغْفَلُ عَمَّا فِيهِ مِن النَّوْعِ الْآخَرِ، كَمَا يَتَوَجَّهُ الْمَدْحُ وَالْأَمْرُ وَالثَّوَابُ إلَى مَا تَضَمَّنَهُ أَحَدُهُمَا، فَلَا يُغْفَلُ عَمَّا فِيهِ مِن النَّوْعِ الْآخَرِ.

ص: 485

وَقَد يُمْدَحُ الرَّجُلُ بِتَرْكِ بَعْضِ السَّيِّئاتِ الْبِدْعِيَّةِ والفجورية، لَكِنْ قَد يُسْلَبُ مَعَ ذَلِكَ مَا حُمِدَ بِهِ غَيْرُهُ عَلَى فِعْلِ بَعْضِ الْحَسَنَاتِ السُّنيةِ الْبَرّيَّةِ.

فَهَذَا طَرِيقُ الْمُوَازَنَهِ وَالْمُعَادَلَةِ، وَمَن سَلَكَهُ كَانَ قَائِمًا بِالْقِسْطِ الَّذِي أَنْزَلَ اللهُ لَهُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ. [10/ 366]

* * *

‌نقصُ من لَمْ يُحِطْ عِلْمًا بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ:

5342 -

الْمَرْءُ مَا لَمْ يُحِطْ عِلْمًا بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَحْتَاج إلَيْهَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ حَسَكَةٌ. [10/ 368]

* * *

‌أنواع الذنوب:

5343 -

مَا عَادَ مِن الذُّنُوبِ بِإِضْرَارِ الْغَيْرِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ فَعُقُوبَتُنَا لَهُ فِي الدُّنْيَا أَكْبَرُ.

وَأَمَّا مَا عَادَ مِن الذُّنُوبِ بِمَضَرَّةِ الْإِنْسَانِ فِي نَفْسِهِ فَقَد تَكُونُ عُقُوبَتُهُ فِي الْآخِرَةِ أَشَدَّ، وَإِن كُنَّا نَحْنُ لَا نُعَاقِبُهُ فِي الدُّنْيَا.

وَإِضْرَارُ الْعَبْدِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ هُوَ ظلْمُ النَّاسِ؛ فَالظُّلْمُ لِلْغَيْرِ يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا لَا مَحَالَةَ لِكَفِّ ظُلْمِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ عَن بَعْضٍ.

وَلهَذَا يُعَاقَبُ الدَّاعِيَةُ إلَى الْبِدَعِ بِمَا لَا يُعَاقَبُ بِهِ السَّاكِتُ، وَيُعَاقَبُ مَن أَظْهَرَ الْمُنْكَرَ بِمَا لَا يُعَاقَبُ بِهِ مَن اسْتَخْفَى بِهِ، وَنُمْسِكُ عَن عُقُوبَةِ الْمُنَافِقِ فِي الدِّينِ وَإِن كَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِن النَّارِ. [10/ 373 - 374]

* * *

‌متى تكون الْمُخَالَطَة نافعة ومتى تكون ضارّة

؟

5344 -

الْمُخَالَطَة إنْ كَانَ فِيهَا تَعَاوُنٌ عَلَى الْبِرّ وَالتَّقْوَى فَهِيَ مَأمُورٌ بِهَا،

ص: 486

وَإِن كَانَ فِيهَا تَعَاوُنٌ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ فَهِيَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا؛ فَالِاخْتِلَاطُ بِالْمُسْلِمِينَ فِي جِنْسِ الْعِبَادَاتِ: كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ هُوَ مِمَّا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ.

وَكَذَلِكَ الِاخْتِلَاطُ بِهِم فِي الْحَجِّ وَفِي غَزْوِ الْكُفَّارِ وَالْخَوَارجِ الْمَارِقِينَ، وَإِن كَانَ أَئِمَّة ذَلِكَ فُجَّارًا، وَإِن كَانَ فِي تِلْكَ الْجَمَاعَاتِ فُجَّارٌ.

وَكَذَلِكَ الِاجْتِمَاعُ الَّذِي يَزْدَادُ الْعَبْدُ بِهِ إيمَانًا: إمَّا لِانْتِفَاعِهِ بِهِ وَإِمَّا لِنَفْعِهِ لَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَلَا بُدَّ لِلْعَبْدِ مِن أَوْقَاتٍ يَنْفَرِدُ بِهَا بِنَفْسِهِ فِي دُعَائِهِ وَذِكْرِهِ وَصَلَاتِهِ وَتَفَكُّرِهِ وَمُحَاسَبَةِ نَفْسِهِ وَإِصْلَاحِ قَلْبِهِ وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِن الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَشْرَكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ، فَهَذِهِ يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى انْفِرَادِهِ بِنَفْسِهِ. [10/ 425 - 426]

* * *

‌هل يُكْتَبُ لِلْمَجْنُونِ حَالَ جُنُونِهِ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَل فِي حَالِ إفَاقَتِهِ

؟

5345 -

لَا يُكْتَبُ لِلْمَجْنُونِ حَالَ جُنُونِهِ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ، كَمَا لَا يَكُونُ مِثْلُ ذَلِكَ لِسَيِّئَاتِهِ فِي زَوَالِ عَقْلِهِ بِالْأَعْمَالِ الْمُسْكِرَةِ وَالنَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَيْسَ لَهُ قَصْدٌ صَحِيحٌ.

وَلَكِنْ فِي "الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ" عَن أَبِي موسَى عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَو سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِن الْعَمَلِ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ"

(1)

..

فَهَؤُلَاءِ كَانُوا قَاصِدِينَ لِلْعَمَلِ الَّذِي كَانوا يَعْمَلُونَهُ رَاغِبِينَ فِيهِ لَكِنْ عَجَزُوا فَصَارُوا بِمَنْزِلَةِ الْعَامِلِ، بِخِلَافِ مَن زَالَ عَقْلُهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ قَصْدٌ صَحِيحٌ وَلَا عِبَادَهٌ أَصْلًا، بِخِلَافِ أُولَئِكَ فَإِنَّ لَهُم قَصْدًا صَحِيحًا يُكْتَبُ لَهُم بِهِ الثوَابُ.

وَلَا يَكُونُ زَوَالُ عَقْلِهِ سَبَبًا لِمَزِيدِ خَيرِهِ وَلَا صَلَاحِهِ وَلَا ذَنْبِهِ، وَلَكنَّ

(1)

أخرجه ابن حبان في صحيحه (2929).

ص: 487

الْجُنُونَ يُوجِبُ زَوَالَ الْعَقْلِ، فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِن خَيْرٍ وَشَرٍّ، لَا أَنَّهُ يَزِيدُهُ وَلَا يَنْقُصُهُ، لَكِنَّ جُنُونَهُ يَحْرِمُهُ الزِّيَادَةَ مِن الْخَيْرِ، كَمَا أَنَّهُ يَمْنَعُ عُقوبَتَهُ عَلَى الشَّرِّ. [10/ 440 - 441]

* * *

‌الرُّسُلُ بُعِثُوا بِتَكْمِيلِ الْفِطْرَةِ لا تَغْيِيرِهَا:

5346 -

الرُّسُل إنَّمَا تَأْتِي بِتَذْكِيرِ الْفِطْرَةِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ لَهَا، وَتَقْوِيَتِهِ وإِمْدَادِهِ وَنَفْيِ الْمُغَيِّرِ لِلْفِطْرَةِ.

فَالرُّسُلُ بُعِثُوا بِتَقْرِيرِ الْفِطْرَةِ وَتَكْمِيلِهَا، لَا بِتَغْيِيرِ الْفِطْرَةِ وَتَحْوِيلِهَا، وَالْكَمَالُ يَحْصُلُ بِالْفِطْرَةِ الْمُكَمَّلَةِ، بِالشّرْعَةِ الْمُنَزَّلَةِ. [16/ 348]

5347 -

الرُّسُلُ -صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِم وَسَلَامُهُ- بُعِثُوا بِتَكْمِيلِ الْفِطْرَةِ وَتَقْرِيرِهَا، لَا بِتَحْوِيلِ الْفِطْرَةِ وَتَغْيِيرِهَا. [10/ 466]

* * *

‌هل الْعَبْد يَكُونُ مَعَ اللهِ كَالْمَيِّتِ مَعَ الْغَاسِلِ

؟

5348 -

قَوْلُ مَن قَالَ: "إنَّ الْعَبْدَ يَكُونُ مَعَ اللهِ كَالْمَيِّتِ مَعَ الْغَاسِلِ" لَا يَصِحُّ وَلَا يَسُوغُ عَلَى الْإِطْلَاقِ عَن أَحَدٍ مِن الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ. [10/ 485]

* * *

‌النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكن يَنْتَقِمُ لنفسِه:

5349 -

وَأَمَّا لِحَظِّ نَفْسِهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَكُن يُعَاقِبُ وَلَا يَنْتَقِمُ بَل يَسْتَوْفِي حَقَّ رَبِّهِ، وَيَعْفُو عَن حَظِّ نَفْسِهِ.

وَفِي حَظِّ نَفْسِهِ يَنْظُرُ إلَى الْقَدَرِ فَيَقُولُ: "لَو قُضِيَ شَيْءٌ لَكَانَ"، وَفِي حَق اللهِ يَقومُ بِالْأَمْرِ فَيَفْعَلُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ، وَيُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَكْمَلَ الْجِهَادِ الْمُمْكِنِ.

ص: 488

فَجَاهَدَهُم أَوَّلًا بِلِسَانِهِ بالْقُرْآنِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52} [الفرقان: 51، 52]

(1)

.

ثُمَّ لَمَّا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ وَأُذِنَ لَهُ فِي الْقِتَالِ جَاهَدَهُم بِيَدِهِ

(2)

. [10/ 504 - 505]

* * *

‌الرُّؤْيَا، ومَا يُلْقَى فِي نَفْسِ الإنْسَانِ، والْمُكَاشَفَةِ عَلَى ثَلَاَثةِ أَقْسَامٍ:

5350 -

إِذَا كَانَت الرُّؤْيا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

رُؤْيَا مِن اللهِ.

وَرُؤْيَا مِن حَدِيثِ النَّفْسِ.

وَرُؤْيَا مِن الشَّيْطَانِ.

فَكَذَلِكَ مَا يُلْقَى فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ فِي حَالِ يَقَظَتِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: رَحْمَانِيُّ، وَنَفْسَانِيٌّ، وَشَيْطَانِيٌّ.

وَمَا يَحْصُلُ مِن نَوْعِ الْمُكَاشَفَةِ وَالتَّصَرُّفِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: مَلَكيٌّ، وَنَفْسِيٌّ، وَشَيْطَانِيٌّ.

فَإِنَّ الْمَلَكَ لَهُ قُوَّةٌ، وَالنَّفْسَ لَهَا قُوَّةٌ، وَالشَّيْطَانَ لَهُ قُوَّةٌ، وَقَلْبَ الْمُؤْمِنِ لَهُ قُوَّةٌ.

فَمَا كَانَ مِن الْمَلَكِ وَمِن قَلْبِ الْمُؤْمِنِ فَهُوَ حَقٌّ، وَمَا كَانَ مِن الشَّيْطَانِ وَوَسْوَسَةِ النَّفْسِ. [10/ 612 - 613]

* * *

(1)

ونحن مأمورون بالاقتداء به، فنجاهد المنافقين وغيرهم بالقرآن والموعظة والنصيحة، وهذا من الجهاد كما سمّاه ذلك ربّنا تبارك وتعالى.

(2)

وهكذا يجب أن تفعل أمته من بعده، فإذا تمكنوا، وكانت لهم شوكةٌ ومَنَعة، ولهم رايةٌ شرعية واضحةٌ، جاهدوا الأعداء بالسيف.

ص: 489

‌اشتباه بعض العبادات بغيرِها:

5351 -

كَثِيرًا مَا يَشْتَبِهُ الزُّهْدُ بِالْكَسَلِ وَالْعَجْزِ وَالْبِطَالَةِ عَن الْأَوَامِرِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَكَثِيرًا مَا تَشْتَبِهُ الرَّغْبَةُ الشَّرْعِيَّةُ بِالْحِرْصِ وَالطَّمَعِ وَالْعَمَلِ الَّذِي ضَلَّ سَعْيُ صَاحِبِهِ. [10/ 617]

* * *

‌هل الثَّوَاب عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ

؟

5352 -

قَوْلُ بَعْضِ النَّاسِ: الثَّوَابُ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ.

وَأَمَّا الْأَجْرُ عَلَى قَدْرِ الطَّاعَةِ فَقَد تَكُونُ الطَّاعَةُ للهِ وَرَسْولِهِ فِي عَمَلٍ مُيَسَّرٍ، كَمَا يَسَّرَ اللهُ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ "الْكَلِمَتَيْنِ" وَهُمَا أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ.

وَلَو قِيلَ: الْأَجْرُ عَلَى قَدْرِ مَنْفَعَةِ الْعَمَلِ وَفَائِدَتِهِ لَكَانَ صَحِيحًا اتِّصَافُ الْأَوَّلِ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهِ بِالْأَمْرِ، وَالثَّانِي بِاعْتِبَارِ صِفَتِهِ فِي نَفْسِهِ.

وَلَكِنْ قَد يَكُونُ الْعَمَلُ الْفَاضِلُ مُشِقًّا، فَفَضْلُهُ لِمَعْنَى غَيْرِ مَشَقَّتِهِ، وَالصَّبْرُ عَلَيْهِ مَعَ الْمَشَقَّةِ يَزِيدُ ثَوَابَهُ وَأَجْرَهُ، فَيَزْدَادُ الثَّوَابُ بِالْمَشَقَّةِ، كَمَا أَنَّ مَن كَانَ بُعْدُهُ عَن الْبَيْتِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَكْثَرَ يَكُونُ أَجْرُهُ أَعْظَمَ مِن الْقَرِيبِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَائِشَةَ فِي "الْعُمْرَةِ:"أَجْرُك عَلَى قَدْرِ نَصَبِك"

(1)

؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ عَلَى قَدْرِ الْعَمَلِ فِي بعْدِ الْمَسَافَةِ، وَبِالْبُعْدِ يَكْثُرُ النَّصَبُ فَيَكْثُرُ الْأَجْرُ.

فَكَثِيرًا مَا يَكْثُرُ الثَّوَابُ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ وَالتَّعَبِ، لَا لِأَنَّ التَّعَبَ وَالْمَشَقَّةَ مَقْصُودٌ مِن الْعَمَلِ؛ وَلَكِنْ لِأَنَّ الْعَمَلَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمَشَقَّةِ وَالتَّعَبِ. [10/ 620 - 622]

* * *

(1)

متفق عليه.

ص: 490

لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ: كلِمَةُ اسْتِعَانَةٍ، لَا كَلِمَةُ اسْتِرْجَاعٍ:

5353 -

قَالَ الشِّبْلِيُّ بَيْنَ يَدَيِ الْجُنَيْد: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ، فَقَالَ الْجُنَيْد: قَوْلُك ذَا ضِيقُ صَدْرٍ، وَضِيقُ الصَّدْرِ لِتَرْكِ الرضا بِالْقَضَاءِ.

فَإِنَّ هَذَا مِن أَحْسَنِ الْكَلَامِ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ كَلِمَةُ اسْتِعَانَةٍ، لَا كَلِمَةُ اسْتِرْجَاعٍ، وَكَثِيرٌ مِن النَّاسِ يَقُولُهَا عِنْدَ الْمَصَائِبِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِرْجَاعِ، وَيَقُولُهَا جَزَعًا لَا صَبْرًا؛ فالْجُنَيْد أَنْكَرَ عَلَى الشِّبْلِيِّ حَالَهُ فِي سَبَبِ قَوْلِهِ لَهَا، إذ كَانَت حَالًا يُنَافِي الرِّضَا، وَلَو قَالَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ. [10/ 686 - 687]

* * *

‌حُبُّ الشَّيْءِ وَإِرَادَتُهُ يَسْتَلْزِمُ بُغْضَ ضِدِّهِ وَكَرَاهَتَه مَعَ الْعِلْم بِالتَّضَادِّ:

5354 -

حُبُّ الشَّيءِ وَإِرَادَتُهُ يَسْتَلْزِمُ بُغْضَ ضِدِّهِ وَكَرَاهَتَهُ مَعَ الْعِلْمِ بِالتَّضَادِّ؛ وَلهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] وَالْمُوَادَّةُ مِن أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِاللهِ يَسْتَلْزِمُ مَوَدَّتَهُ وَمَوَدَّةَ رَسُولِهِ، وَذَلِكَ يُنَاقِضُ مُوَادَّةَ مَن حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ. [10/ 752 - 753]

* * *

‌هَل تُسَمَّى إرَادَةُ اللهِ لِما يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَزْمًا

؟

5355 -

وَقَد تَنَازَعُوا هَل تُسَمَّى إرَادَة اللهِ لِمَا يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَزْمًا؟ وَهُوَ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ. [10/ 764]

* * *

‌معنى الْفَقْرِ فِي الْكِتَاب وَالسُّنَةِ وَكَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ:

5356 -

لَا ريبَ أَنًّ لَفْظَ "الْفَقْرِ" فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ لَمْ يَكُونُوا يُرِيدُونَ بِهِ نَفْسَ طَرِيقِ اللهِ وَفِعْلَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَتَرْكَ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَالْأَخْلَاقَ الْمَحْمُودَةَ وَلَا نَحْو ذَلِكَ؛ بَل الْفَقْرُ عِنْدَهُم ضِدُّ الْغِنَى. [11/ 27]

* * *

ص: 491

ممن يخالف دينه وشريعته وسُنَّته يُمَوِّه باطله ويزخرفه بما يفتريه على أهل بيته:

5357 -

لما كان لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم به اتصال النسب والقرابة، وللأولياء الصالحين منهم ومن غيرهم به اتصال الموالاة والمتابعة، صار كثير ممن يخالف دينه وشريعته وسُنَّته يُمَوِّه باطله ويزخرفه بما يفتريه على أهل بيته وأهل موالاته ومتابعته. [11/ 55]

* * *

‌الكلام عن أهل الصفة:

5358 -

الْعَشْرَةُ [أي: المبشرون بالجنة] لَمْ يَكُن فِيهِمْ مَن هُوَ مِن أَهْلِ الصُّفَّةِ إلَّا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، فَقَد قِيلَ: إنَّهُ أَقَامَ بِالصُّفَّةِ مَرَّةً، وَأَمَّا أَكَابِرُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَلَمْ يَكونُوا مِن أَهْلِ الصُّفَّةِ؛ بَل عَامَّةُ أَهْلِ الصُّفَّةِ إنَّمَا كَانُوا مِن فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ؛ لِأَنَّ الْأَنْصَارَ كَانوا فِي دِيَارِهِمْ. وَلَمْ يَكُن أَحَدٌ يُنْذِرُ لِأَهْلِ الصُّفَّةِ وَلَا لِغَيْرِهِمْ. [11/ 57]

5359 -

إِنَّ أَهْلَ الصُّفَّةِ لَمْ يَكُن لَهُم مَكَانٌ يُسْتَأْذَنُ عَلَيْهِم فِيهِ، إنَّمَا كَانَت الصُّفَّةُ فِي شَمَالِيِّ مَسْجِدِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْوِي إلَيْهَا مَن لَا أَهْلَ لَهُ مِن الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ يَكُن يُقِيمُ بِهَا نَاسٌ مُعَيّنونَ بَل يَذْهَبُ قَوْمٌ ويجِيءُ آخَرُونَ. [11/ 71]

* * *

‌للحَقِّ عَلَامَات يُعرف بها:

5360 -

جَعَلَ عَلَى الْحَقِّ آيَاتٍ وَعَلَامَاتٍ وَبَرَاهِينَ. [11/ 77]

* * *

‌الْمُؤَاخَاةُ لم تكن بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ:

5361 -

وَأَمَّا "الْمُؤَاخَاةُ" بَيْنَ الْمُهَاجرِينَ كَمَا يُقَالُ: إنَّهُ آخَى بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَإِنَّهُ آخَى عَلِيًّا وَنَحْو ذَلِكَ فَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ، وَإِن كَانَ بَعْضُ النَّاسِ ذَكَرَ أَنَّهُ

ص: 492

فَعَلَ بِمَكَّةَ، وَبَعْضُهُم ذَكَرَ أَنَّهُ فَعَلَ بِالْمَدِينَةِ وَذَلِكَ نَقْل ضَعِيفٌ: إمَّا مُنْقَطِعٌ وَإِمَّا بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ. وَمَن تَدَبَّرَ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ وَالسِّيرَةَ النَّبَوِيَّةَ الثَّابِتَةَ تَيَقَّنَ أَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ. [11/ 100]

* * *

‌معنى الأثر: حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ:

5362 -

سُئِلَ -رحمة الله- عَن مَعْنَى قَوْلِ مَن يَقُولُ: "حُبُّ الدُّنْيَا رَأسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ".

فَأَجَابَ: لَيْسَ هَذَا مَحْفُوظًا عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَكِنْ هُوَ مَعْرُوفٌ عَن جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ البجلي مِن الصَّحَابَةِ.

وَأَمَّا حُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ: فَاَلَّذِي يُعَاقَبُ الرَّجُلُ عَلَيْهِ الْحُبُّ الَّذِي يَسْتَلْزِمُ الْمَعَاصِيَ: فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الظُّلْمَ وَالْكَذِبَ وَالْفَوَاحِشَ، وَلَا ريبَ أَنَّ الْحِرْصَ عَلَى الْمَالِ وَالرِّئَاسَةِ يُوجِبُ هَذَا كَمَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ" أَنَّهُ قَالَ:"إيَّاكُمْ وَالشُّحِّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَن كَانَ قَبْلَكُمْ أَمَرَهُم بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا وأَمَرَهُم بِالظُّلْمِ فَظَلَمُوا وَأَمَرَهُم بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا".

فَأَمَّا مُجَرَّدُ الْحُبِّ الَّذِي فِي الْقَلْب إذَا كَانَ الْإِنْسَانُ يَفْعَلُ مَا أَمَرَهُ اللهُ بِهِ ويتْرُكُ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ. ويخَافُ مَقَامَ رَبِّهِ وَيَنْهَى النَّفْسَ عَن الْهَوَى فَإِنَّ اللهَ لَا يُعَاقِبُهُ عَلَى مِثْل هَذَا إذَا لَمْ يَكن مَعَهُ عَمَلٌ، وَجَمْعُ الْمَالِ إذَا قَامَ بِالْوَاجِبَاتِ فِيهِ وَلَمْ يَكْتَسِبْهُ مِن الْحَرَامِ لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ؛ لَكِنَّ إخْرَاجَ فُضُولِ الْمَالِ وَالِاقْتِصَارَ عَلَى الْكِفَايَةِ أَفْضَلُ وَأسْلَمُ وَأَفْرَغُ لِلْقَلْبِ وَأَجْمَعُ لِلْهَمِّ وَأَنْفَعُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. [11/ 107 - 108]

* * *

‌الْمُهَاجِرُونَ أفضَلُ مِن الْأنصَارِ:

5363 -

الْغَالِبُ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ الْفَقْر، وَالْغَالِبُ عَلَى الْأَنْصَارِ الْغِنَى،

ص: 493

وَالْمُهَاجِرُونَ أَفْضَلُ مِن الْأَنْصَارِ، وَكَانَ فِي الْمُهَاجِرِينَ أغنياؤهم مِن أَفْضَلِ الْمُهَاجِرِينَ، مَعَ أَنَّهُم بِالْهِجْرَةِ تَرَكُوا مِن أَمْوَالِهِمْ مَا صَارُوا بِهِ فقَرَاءَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ. [11/ 132]

* * *

‌أَصْلُ الْوِلَايَةِ الْمَحَبَّةُ وَالْقُرْبُ، وَأَصْلُ الْعَدَاوة الْبُغْضُ وَالْبُعْدُ:

" الْوِلَايَةُ" ضِدُّ الْعَدَاوَةِ، وَأَصْلُ الْوِلَايَةِ الْمَحَبَّةُ وَالْقُرْبُ، وَأَصْلُ الْعَدَاوَةِ الْبُغْضُ وَالْبُعْدُ

(1)

.

وَقَد قِيلَ: إنَّ الْوَلِيَّ سُمِّيَ وَليًّا مِن مُوَالَاتِهِ لِلطَّاعَاتِ؛ أَيْ: مُتَابَعَتِهِ لَهَا وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.

وَالْوَلِيُّ الْقَرِيبُ فَيُقَالُ: هَذَا يَلِي هَذَا؛ أَيْ: يَقْرُبُ مِنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:"ألْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا أَبْقَتْ الْفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ"؛ أَيْ: لِأَقْرَبِ رَجُل إلَى الْمَيِّتِ. وَأَكَّدَهُ بِلَفْظِ "الذَّكَرِ" لِيُبَيّنَ أَنَّهُ حُكْمٌ يَخْتَصُّ بِالذُّكُورِ وَلَا يَشْتَرِكُ فِيهَا الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ.

فَإِذَا كَانَ وَليُّ اللهِ هُوَ الْمُوَافِقُ الْمُتَابعُ لَهُ فِيمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَيُبْغِضُهُ ويُسْخِطُهُ وَيَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ كَانَ الْمُعَادِي لِوَلِيّهِ مُعَادِيًا لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1]، فَمَن عَادَى أَوْليَاءَ اللهِ فَقَد عَادَاهُ، وَمَن عَادَاهُ فَقَد حَارَبَهُ، فَلِهَذَا قَالَ:"وَمَن عَادَى لِي وَليًّا فَقَدَ بَارَزَني بِالمُحَارَبِة". [11/ 160 - 161]

* * *

‌الأحاديث الواردة في عِدَّةِ الْأَوْليَاءِ وَالْأَبْدَالِ وغيرهم:

5364 -

كُلُّ حَدِيثٍ يُرْوَى عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي عِدَّةِ "الْأَوْليَاءِ" وَ"الْأَبْدَالِ"

(1)

هذا يدل على أنّ من والى الكفار في الظاهر دون الباطن أنه لا يكفر.

ص: 494

وَ"النُّقَبَاءِ" وَ"النُّجَبَاءِ وَ"الْأَوْتَادِ" وَ"الْأَقْطَابِ" مِثْلُ أَرْبَعَةٍ أَو سَبْعَةٍ أَو اثْنَي عَشَرَ أَو أَرْبَعِينَ أَو سَبْعِينَ أَو ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ، أَو الْقُطْبَ الْوَاحِدَ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ صَحِيحٌ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَنْطِق السَّلَفُ بِشَيْءٍ مِن هَذِهِ الْأَلْفَاظِ إلَّا بِلَفْظِ "الْأَبْدَالِ".

وَرُوِيَ فِيهِمْ حَدِيثُ أَنَّهُم أَرْبَعُونَ رَجُلًا وَأَنَّهُم بِالشَّامِ، وَهُوَ فِي "الْمُسْنَدِ" مِن حَدِيثِ عَلِي رضي الله عنه، وَهُوَ حَدِيثٌ مُنْقَطِعٌ لَيْسَ بِثَابِتِ. [11/ 167]

* * *

‌من هو أَرِسْطُو

؟

5365 -

كَانَ أَرِسْطُو قَبْلَ الْمَسِيحِ عليه السلام بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَانَ وَزِيرًا لِلْإِسْكَنْدَرِ بْنِ فَيَلْبَس الْمَقْدُونيِّ، وَهُوَ الَّذِي تُؤَرَّخُ بِهِ تَوَارِيخُ الرُّومِ وَالْيُونَانِ، وَتُؤَرّخُ بِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؛ وَلَيْسَ هَذَا هُوَ ذُو الْقَرْنَيْنِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ. [11/ 171]

* * *

‌الفرق بين النَّبِيِّ الْمَلِك والْعَبْد الرَّسُول وأيهما أفضل:

5366 -

النَّبِيُّ الْمَلِكُ يَفْعَلُ مَا فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِ ويتْرُكُ مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ ويتَصَرَّفُ فِي الْوِلَايَةِ وَالْمَالِ بِمَا يُحِبُّهُ ويخْتَارُ مِن غَيْرِ إثْمٍ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْعَبْدُ الرَّسُولُ فَلَا يُعْطِي أَحَدًا إلَّا بِأَمْرِ رَبِّهِ وَلَا يُعْطِي مَن يَشَاءُ ويحْرِمُ مَن يَشَاءُ. [11/ 181]

وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْعَبْدَ الرَّسُولَ هُوَ أَفْضَلُ مِن النَّبِيِّ الْمَلِكِ، كَمَا أَنَّ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدًا عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَفْضَلُ مِن يُوسُفَ وداوُد وَسُلَيْمَانَ عليه السلام، كَمَا أَنَّ الْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ أَفْضَلُ مِن الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ الَّذِينَ لَيْسُوا مُقَرَّبِينَ سَابِقِينَ، فَمَن أَدَّى مَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْهِ وَفَعَلَ مِن الْمُبَاحَاتِ مَا يُحِبُّهُ فَهُوَ مِن هَؤُلَاءِ، وَمَن كَانَ إنَّمَا يَفْعَلُ مَا يُحِبُّهُ اللهُ ويرْضَاهُ وَيَقْصِدُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِمَا أُبِيحَ لَهُ عَلَى مَا أَمَرَهُ اللهُ فَهُوَ مِن أُولَئِكَ. [11/ 182]

* * *

ص: 495

‌الْأنبيَاءُ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِم يُخْبِرُونَ بمَحَارَاتِ الْعُقُول لَا بمُحَالَاتِ الْعُقُوَلِ:

5367 -

الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِم يُخْبِرُونَ بِمَا تَعْجِزُ عُقُولُ النَّاسِ عَن مَعْرِفَتِهِ؛ لَا بِمَا يَعْرِفُ النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ أَنَّهُ مُمْتَنِعٌ فَيُخْبِرُونَ بِمَحَارَاتِ الْعُقُولِ لَا بِمُحَالَاتِ الْعُقُولِ ويمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي إخْبَارِ الرَّسُولِ مَا يُنَاقِضُ صَرِيحَ الْعُقُولِ وَيمْتَنِعُ أَنْ يَتَعَارَضَ دَلِيلَانِ قَطْعِيَّانِ: سَوَاءٌ كَانَا عَقْلِيَّيْنِ أَو سَمْعِيَّيْنِ أَو كَانَ أَحَدُهُمَا عَقْلِيًّا وَالْآخَرُ سَمْعِيًّا.

فَكَيْفَ بِمَن ادَّعَى كَشْفا يُنَاقِضُ صَرِيحَ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ؟. وَهَؤُلَاءِ قَد لَا يَتَعَمَّدُونَ الْكذِبَ

(1)

.

لَكِنْ يُخَيَّلُ لَهُم أَشْيَاءُ تَكُونُ فِي نُفُوسِهِمْ وَيظُنُّونَهَا فِي الْخَارجِ وَأَشْيَاءَ يَرَوْنَهَا تَكُونُ مَوْجُودَةً فِي الْخَارجِ لَكِنْ يَظُنُّونَهَا مِن كَرَامَاتِ الصَّالِحِينَ وَتَكُونُ مِن تَلْبِيسَاتِ الشَّيَاطِينِ. [11/ 243 - 244]

* * *

‌الفرق بين الْكَلِمَاتِ الْكَوْنِيَّةِ والدِّينِيَّة:

5368 -

وَأَمَّا لَفْظُ "الْكَلِمَاتِ" فَقَالَ فِي الْكَلِمَاتِ الْكَوْنِيَّةِ: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} [التحريم: 12].

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ الَّتي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرّ وَلَا فَاجِرٌ مِن شَرٍّ مَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ وَمِن شَرّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمِن شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمِن شَرِّ كُلِّ طَارقٍ إلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرِ يَا رَحْمَنُ"

(2)

.

وَ"كَلِمَاتُ اللَّهِ التَّامَّاتُ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ" هِيَ الَّتِي كَوَّنَ بِهَا الْكَائِنَاتِ فَلَا يَخْرُجُ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ عَن تكْوِينهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتهِ.

(1)

هذا من إنصاف الشيخ على عادته رحمه الله.

(2)

صحَّحه الألباني في صحيح الجامع (74).

ص: 496

وَأَمَّا "كَلِمَاتُهُ الدِّينِيَّةُ" وَهِيَ كُتُبُهُ الْمُنَزَّلَةُ وَمَا فِيهَا مِن أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ فَأَطَاعَهَا الْأَبْرَارُ وَعَصَاهَا الْفُجَّارُ. [11/ 270 - 271]

* * *

‌سُلْطَانُ الْحَالِ وَالْقَلْبِ كَسُلْطَانِ الْمُلْكِ وَالْيَدِ:

5369 -

سُلْطَانُ الْحَال وَالْقَلْبِ كَسُلْطَانِ الْمُلْكِ وَالْيَدِ إلَّا أَنَّ أَسْبَابَ هَذَا بَاطِنَةٌ رُوحَانِيَّةٌ وَأَسْبَابَ هَذَا ظَاهِرَةٌ جثْمَانِيَّةٌ

(1)

. [11/ 327]

* * *

لطيفة في الْأَمْر وَالنَّهْي الشَّرْعِيّينِ:

5370 -

اللهُ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْ عِبَادَهُ لِحَاجَتِهِ إلَى خِدْمَتِهِمْ وَلَا هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى أَمْرِهِمْ وَإِنَّمَا أَمَرَهُم إحْسَانًا مِنْهُ وَنعْمَةً أَنْعَمَ بِهَا.

وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ الشَّرْعِيَّانِ لَمَّا كَانَا نِعْمَةً وَرَحْمَة عَامَّةً لَمْ يَضُرَّ ذَلِكَ عَدَمُ اثْتِفَاعِ بَعْضِ النَّاسِ بِهِمَا مِن الْكُفَّارِ كَإِنْزَالِ الْمَطَرِ وَإِنْبَاتِ الرّزْقِ هُوَ نِعْمَة عَامَّة وّإِنَّ تَضَرَّرَ بِهَا بَعْضُ النَّاسِ لِحِكْمَةٍ أخرَى. [11/ 356 - 357]

* * *

‌حكم من يَزْعُمُ سُقُوطَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَنْه بِالْكُلِّيَّةِ:

5371 -

إنَّ الْمُتَمَسّكِينَ بِجُمْلَةِ مَنْسُوخَةٍ فِيهَا تَبْدِيلٌ خَيْرٌ مِن هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ سُقُوطَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَنْهُم بِالْكُلّيَّةِ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ خَارِجُونَ فِي هَذه الْحَالِ عَن جَمِيع الْكُتُبِ وَالشَّرَائِعِ وَالْمِلَلِ، لَا يَلْتَزِمُونَ للهِ أَمْرًا وَلَا نَهْيًا بِحَال؛ بَل هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِن الْمُشْرِكِينَ الْمُسْتَمْسِكِينَ بِبَقَايَا مِن الْمِلَلِ، كَمُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا مُسْتَمْسِكِينَ بِبَقَايَا مِن دِينِ إبْرَاهِيمَ عليه السلام، فَإِنَّ أُولَئِكَ مَعَهُم نَوْعٌ مِن

(1)

وصدق رحمه الله، ولذا تجد أهل العلم والمعرفة أغنى الناس قلبًا، وأقنعهم مالًا وحالًا، يُحتاج إليهم أكثر من احتياجهم للناس، ويشعرون بالأمن والثقة بالله أعظم من أمن وثقة الملوك بملكهم وجنودهم.

ص: 497

الْحَقِّ يَلْتَزِمُونَهُ، وَإِن كَانُوا مَعَ ذَلِكَ مُشْرِكِينَ، وَهَؤُلَاءِ خَارِجُونَ عَن الْتِزَامِ شَيْءٍ مِن الْحَقِّ بِحَيْثُ يَظُنُّونَ أَنَّهُم قَد صَارُوا سُدًى لَا أَمْرٌ عَلَيْهِم وَلَا نَهْيٌ

(1)

. [11/ 402]

* * *

‌حُكمُ الْحَاكِم لَا يُغَيِّرُ الْبَاطِنَ:

5372 -

عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأُمَّةِ لَو حَكَمَ الْحَاكِمُ بِعَقْدٍ أَو فَسْخِ نِكَاحٍ أَو طَلَاقٍ وَبَيْعٍ فَإِنَّ حُكْمَهُ لَا يُغَيِّرُ الْبَاطِنَ عِنْدَهُمْ، وَإِن كَانَ مِنْهُم مَن يَقُولُ: حُكمُهُ يُغَيِّرُ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لِأنَّ لَهُ وِلَايَةَ الْعُقُودِ والفسوخِ.

فَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَسَائِرِ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْحَدِيثِ وَكَثِيرٍ مِن فقَهَاءِ الْعِرَاقِ. [11/ 430]

* * *

‌الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالِاسْتِمَاعِ لَا بِمُجَرَّدِ السَّمَاعِ:

5373 -

أما ما لم يقصده الإنسان من الاستماع، فلا يترتب عليه لا نهي ولا ذم باتفاق الأئمة؛ ولهذا إنما يترتب الذم والمدح على الاستماع لا على السماع؛ فالمستمع للقرآن يثاب عليه والسامع له من غير قصد وإرادة لا يثاب على ذلك؛ إذ الأعمال بالنيات، وكذلك ما ينهى عن استماعه من الملاهي لو سمعه السامع بدون قصده لم يضره ذلك، فلو سمع السامع بيتًا يناسب بعض حاله فحرك ساكنه المحمود وأزعج قاطنه المحبوب أو تمثل بذلك ونحو ذلك لم يكن هذا مما ينهى عنه، وكان المحمود الحسن حركة قلبه التي يحبها الله ورسوله إلى محبته التي تتضمن فعل ما يحبه الله وترك ما يكرهه الله؛ كالذىِ اجتاز بيتًا فسمع قائلًا يقول:

(1)

ينطبق هذا على الذين لا يدينون بدين، بل يفعلون ما يهوونه ويُحبونه.

ص: 498

كلُّ يومٍ تتَلَوَّن

غيرُ هذا بك أجمل

فأخذ منه إشارة تناسب حاله، فإن الإشارات من باب القياس والاعتبار وضرب الأمثال. [10/ 78]

5374 -

الْأمْرُ وَالنَّهْيُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالِاسْتِمَاعِ، لَا بِمُجَرَّدِ السَّمَاعِ، كَمَا فِي الرُّؤْيةِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِقَصْدِ الرُّؤْيَةِ لَا بِمَا يَحْصُلُ مِنْهَا بِغَيْرِ الِاخْتِيَارِ.

كَمَن اجْتَازَ بِطَريِقٍ فَسَمِعَ قَوْمًا يَتَكَلَّمُونَ بِكَلَامٍ مُحَرَّمٍ فَسَدَّ أذُنَيْهِ كَيْلَا يَسْمَعَهُ، فَهَذَا حَسَنٌ، وَلَو لَمْ يَسُدَّ أُذُنَيْهِ لَمْ يَأثَمْ بِذَلِكَ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي سَمَاعِهِ ضَرَرٌ دِينِيٌّ لَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِالسَّدِّ. [11/ 566 - 567]

* * *

‌أنواع الْألفَاظ:

5375 -

مِن الْأصُولِ الْكُلِّيَّةِ أنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْألْفَاظَ نَوْعَانِ:

نَوْعٌ جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يُقِرَّ بِمُوجَبِ ذَلِكَ، فَيُثْبِتُ مَا أثْبَتَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَيَنْفِي مَا نَفَاهُ اللهُ وَرَسُولُهُ.

فَاللَّفْظُ الَّذِي أثْبَتَهُ اللهُ أَو نَفَاهُ حَق؛ فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ الْحَق وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ، وَالْأَلْفَاظُ الشَّرْعِيَّةُ لَهَا حُرْمَةٌ.

وَمِن تَمَامِ الْعِلْمِ أَنْ يَبْحَثَ عَن مُرَادِ رَسُولِهِ بِهَا لِيُثْبتَ مَا أَثْبَتَهُ وَينْفِيَ مَا نَفَاهُ مِن الْمَعَانِي، فَإِنَّه يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُصَدِّقَهُ فِي كُلِّ مَا أخبَرَ، وَنُطِيعَهُ فِي كُلِّ مَا اُّوْجَبَ وَأَمَرَ، ثُمَّ إذَا عَرَفْنَا تَفْصِيلَ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ مِن زِيادَةِ الْعِلْمِ وَالْأِيمَانِ، وَقَد قَالَ تَعَالَى:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11].

وَأَمَّا الْألْفَاظُ الَّتِي لَيْسَتْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى نَفْيِهَا أو إثْبَاتِهَا فَهَذ لَيْسَ عَلَى أحَدٍ أَنْ يُوَافِقَ مَن نَفَاهَا اُّو أَثْبَتَهَا حَتَّى يَسْتَفْسِرَ عَن مُرَادِهِ، فَإِنْ أَرَادَ بِهَا مَعْنَى يُوَافِقُ خَبَرَ الرَّسُولِ أَقَرَّ بِهِ، وَإِن أَرَادَ بِهَا مَعْنَى يُخَالِفُ خَبَرَ الرَّسُولِ أَنْكَرَهُ.

ص: 499

ثُمَّ التَّعْبِيرُ عَن تِلْكَ الْمَعَانِي إنْ كَانَ فِي أَلْفَاظِهِ اشْتِبَاهٌ أَو إجْمَالٌ عُبِّرَ بِغَيْرِهَا، أَو بَيَّنَ مُرَادَهُ بِهَا، بِحَيْثُ يَحْصُلُ تَعْرِيفُ الْحَقِّ بِالْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ.

فَإِنَّ كَثِيرًا مِن نِزَاعِ النَّاسِ سَبَبُهُ أَلْفَاظٌ مُجْمَلَة مُبْتَدَعَة وَمَعَانٍ مُشْتَبِهَة، حَتَّى تَجِدَ الرَّجُلَيْنِ يَتَخَاصمَانِ وَيتَعَادَيَانِ عَلَى إطْلَاقِ أَلْفَاظٍ وَنَفْيِهَا، وَلَو سُئِلَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَن مَعْنَى مَا قَالَهُ لَمْ يَتَصَوَّرْهُ فَضْلًا عَن أَنْ يَعْرِفَ دَلِيلَهُ، وَلَو عَرَفَ دَلِيلَهُ لَمْ يَلْزَمْ أَنَّ مَن خَالَفَهُ يَكُونُ مُخْطِئًا؛ بَل يَكُونُ فِي قَوْلِهِ نَوْعٌ مِن الصَّوَابِ، وَقَد يَكُونُ هَذَا مُصِيبًا مَن وَجْهٍ وَهَذَا مُصِيبًا مِن وَجْهٍ، وَقَد يَكونُ الصَّوَابُ فِي قَوْلٍ ثَالِثٍ

(1)

. [12/ 113 - 114]

* * *

‌الْعُقَلَاءُ الْكَثِيرُونَ لَا يَتَّفِقونَ عَلَى الْكَذِبِ وَجَحْدِ الضَّرُورَاتِ مِن غَيْرِ تَوَاطُؤِ وَاتِّفَاقٍ:

5376 -

الْعُقَلَاءُ الْكَثِيرُونَ لَا يَتَّفِقُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَجَحْدِ الضَّرُورَاتِ مِن غَيْرِ تَوَاطُؤٍ وَاتِّفَاقٍ، كَمَا فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ.

وَأَمَّا مَعَ التَّوَاطُؤِ فَقَد يَتَّفِقُونَ عَلَى الْكَذِبِ عَمْدًا، وَقَد يَتَّفِقُونَ عَلَى جَحْدِ الضَّرُورَاتِ، وَإِن لَمْ يَعْلَمْ كُلّ مِنْهُم أَنَّهُ جَاحِدٌ لِلضَّرُورَةِ، وَلَو لَمْ يَفْهَمْ حَقِيقَةَ الْقَوْلِ الَّذِي يَعْتَقِدُهُ لِحُسْنِ ظَنِّهِ فِيمَن يُقَلِّدُ قَوْلَهُ، وَلمَحَبَّتِهِ لِنَصْرِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، كَمَا اتَّفَقَتْ النَّصَارَى وَالرَّافِضَةُ وَغَيْرُهُم مِن الطَّوَائِفِ عَلَى مَقَالَاتٍ يُعْلَمُ فَسَادُهَا بِالضرُورَةِ. [12/ 122]

* * *

(1)

وقد قال رحمه الله في ختام بحثه هذا الطويل، الذي يقع في مائةٍ وعشر صفحات، وحشد فيها الأدلة الطويلة، والردود القوية، والاستدراكات الكثيرة:"هَذَا الْجَوَابُ كُتِبَ وَصَاحِبُهُ مُسْتَوْفِزٌ فِي قَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ". المجموع (12/ 116).

وأعجب من ذلك أنه كتب فتوى طويلة تقع في مائةٍ وسبعين صفحة (12/ 323 - 501) في جلسة واحدة حيث قال: لَكِنْ هَذَا الْمَوْضِعُ فِيهِ اشْتِبَاهٌ وَإِشْكالٌ لَا تَحْتَمِلُ تَحْرِيرَهُ وَبَسْطَهُ هَذه الْفَتْوَى؛ لِأنَّ صَاحِبَهَا مُسْتَوْفِزٌ عَجْلَانُ يُرِيدُ أَخْذَهَا!! المجموع (12/ 416).

ص: 500

‌الْوَاجِبُ أَمْرُ الْعَامَّةِ بِالْجُمَلِ الثَّابِتَةِ بِالنَّصِّ وَالإجْمَاع، وَمَنْعُهُم مِن الْخَوْضِ فِي التَّفْصِيلِ:

5377 -

الْوَاجِبُ أَمْرُ الْعَامَّةِ بِالْجُمَلِ الثَّابِتَةِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَمَنْعُهُم مِن الْخَوْضِ فِي التَّفْصِيلِ الَّذِي يُوقِعُ بَيْنَهُم الْفُرْقَةَ وَالِاخْتِلَافَ، فَإِنَّ الْفُرْقَةَ وَالِاخْتِلَافَ مِن أَعْظَمِ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ. [12/ 237]

* * *

‌إِذَا ادَّعَى النُّبُوَّةَ مَن لَيْسَ بنَبِيٍّ مِن الْكُفَّارِ وَالسَّحَرَةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْلُبَهُ اللهُ مَا كَانَ مَعَهُ مِن ذلك:

5378 -

إِذَا ادَّعَى النُّبُوَّةَ مَن لَيْسَ بِنَبِيٍّ مِن الْكُفَّارِ وَالسَّحَرَةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْلُبَهُ اللهُ مَا كَانَ مَعَهُ مِن ذَلِكَ، وَأَنْ يُقَيِّضَ لَهُ مَن يُعَارِضُهُ، وَلَو عَارَضَ وَاحِدٌ مِن هَؤُلَاءِ النَّبِيِّ لَأَعْجَزَهُ اللهُ. [13/ 90]

* * *

‌هل التوراة التي بين أيدي اليهود مبدلة، أم التبديل والتحريف وقع في التأويل لا في التنزيل

؟

5379 -

قال ابن القيم -رحمة الله-: وقد اختلفت أقوال الناس في التوراة التي بين أيديهما

(1)

هل هي مبدلة أم التبديل والتحريف وقع في التأويل لا في التنزيل؟ على ثلاثة أقوال: طرفين، ووسط، فأفرطت طائفة وزعمت أنها كلها مبدلة مغيرة

إلخ.

وغلا بعضهم فجوز الاستجمار بها من البول.

وقابلهم طائفة أخرى من أئمة الحديث والفقه والكلام فقالوا: التبديل وقع في التأويل لا في التنزيل، إلى أن قال: وتوسطت طائفة ثالثة، وقالوا: قد زيد

(1)

أي: اليهود.

ص: 501

فيها، وغُيِّر ألفاظٌ يسيرة، ولكن أكثرها باق على ما أنزل عليه، وممن اختار هذا القول شيخنا في كتابه "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" قال: وهذا كما في التوراة عندهم أن الله تعالى قال لإبراهيم عليه السلام: "اذبح ولدك بكرك ووحيدك إسحاق" فإسحاق زيادة منهم في لفظ التوراة. [إغاثة اللهفان 2/ 354]

5380 -

مِن هَؤُلَاءِ مَن زَعَمَ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّا فِي التَّوْرَاةِ أَو الْإِنْجِيلِ بَاطِلٌ لَيْسَ مِن كَلَامِ اللهِ، وَمِنْهُم مَن قَالَ: بَل ذَلِكَ قَلِيلٌ.

وَقِيلَ: لَمْ يُحَرِّفْ أَحَدٌ شَيْئًا مِن حُرُوفِ الْكُتُبِ، وَإِنَّمَا حَرَّفُوا مَعَانِيَهَا بِالتَّأْوِيلِ.

وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ قَالَ كُلًّا مِنْهُمَا كَثِيرٌ مِن الْمُسْلِمِينَ.

وَالصَّحِيحُ الْقَوْلُ الثَّالِثُ، وَهُوَ أَنَّ فِي الْأَرْضِ نُسَخًا صَحِيحَةً، وَبَقِيَتْ إلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَنُسَخًا كَثِيرَةً مُحَرَّفَةً.

وَالْقُرْآنُ يَأْمُرُهُم أَنْ يَحْكُمُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ويُخْبِرُ أنَّ فِيهِمَا حُكْمَهُ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ خَبَرٌ أنَّهُم غَيَّرُوا جَمِيعَ النُّسَخِ.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَقُولُ: هُوَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} [المائدة: 47] وَمَا أَنْزَلَهُ اللهُ هُوَ مَا تَلَقَّوْهُ عَن الْمَسِيحِ، فَأَمَّا حِكَايَتُهُ لِحَالِهِ بَعْدَ أَنْ رُفِعَ فَهُوَ مِثْلُهَا فِي التَّوْرَاةِ ذَكَرَ وَفَاةَ مُوسَى عليه السلام، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الَّذِي فِي التوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِن الْخَبَرِ عَن مُوسَى وَعِيسَى بَعْدَ تَوَفِّيهِمَا لَيْسَ هُوَ مِمَّا أنْزَلَهُ اللهُ، وَمِمَّا تَلَقَّوْهُ عَن مُوسَى وَعِيسَى. [13/ 104]

* * *

‌عَامَّةُ مَا يُضْطَرُّ إلَيْهِ عُمُومُ النَّاسِ مِن الِاخْتِلَافِ مَعْلُومٌ بَل مُتَوَاتِرٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ أَو الْخَاصَّةِ:

5381 -

نَحْنُ نَعْلَمُ اَنَّ عَامَّةَ مَا يُضْطَرُّ إلَيْهِ عُمُومُ النَّاسِ مِن الِاخْتِلَافِ مَعْلُومٌ بَل مُتَوَاتِرٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ أَو الْخَاصَّةِ، كَمَا فِي عَدَدِ الصَّلَوَاتِ وَمَقَادِيرِ رُكُوعِهَا

ص: 502

وَمَوَاقِيتِهَا، وَفَرَائِضِ الزَّكَاةِ وَنُصُبِهَا، وَتَعْيِينِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَالطَّوَافِ وَالْوُقُوفِ وَرَمْيِ الْجِمَارِ وَالْمَوَاقِيتِ وغَيْرِ ذَلِكَ. [13/ 343]

* * *

‌الْعَبْد لَيْسَ لَهُ مِن نَفْسِهِ خَيْرٌ أَصْلًا؛ بَل مَا بِنَا مِن نِعْمَةٍ فَمِن اللهِ:

5382 -

الْإِنْسَانُ بَل وَجَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ عِبَادٌ للهِ تَعَالَى، فُقَرَاءُ إلَيْهِ، مَمَالِيكُ لَهُ، وَهُوَ رَبُّهُم وَمَلِيكُهُم وَإِلهُهُمْ، لَا إلهَ إلَّا هُوَ؛ فَالْمَخْلُوقُ لَيْسَ لَهُ مِن نَفْسِهِ شَيْءٌ اُّصْلًا؛ بَل نَفْسُهُ وَصِفَاتُهُ وَأَفْعَالُهُ وَمَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَو يَسْتَحِقُّهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ مِن خَلْقِ اللهِ، وَاللهُ عز وجل رَبُّ ذَلِكَ كُلِّهِ وَمَلِيكُهُ وَبَارِئُهُ وَخَالِقُهُ وَمُصَوِّرُهُ.

وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ مِن نَفْسِهِ خَيْرٌ أَصْلًا؛ بَل مَا بِنَا مِن نِعْمَةٍ فَمِن اللهِ، وَإِذَا مَسَّنَا الضُّرُّ فَإِلَيْهِ نَجْأَرُ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْهِ، كَمَا قَالَ:{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]. [14/ 15 - 17]

* * *

‌سَبَبُ عَدَمِ النَّظَرِ وَالِاسْتِمَاعِ للحق:

5383 -

سَبَبُ عَدَمِ النَّظَرِ وَالِاسْتِمَاعِ

(1)

:

- إمَّا عَدَمُ الْمُقْتَضِي

(2)

، فَيَكُونُ عَدَمًا مَحْضًا.

- وَإِمَّا وُجُودُ مَانِع مِن الْكِبْرِ أَو الْحَسَدِ فِي النَّفْسِ

(3)

{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ

(1)

أي: النظر والاستماع للحق.

(2)

أي: ليس عنده رغبةٌ في قبول الحق، بل هو منشغلٌ باللهو واللعب والباطل.

(3)

وهذا أعظم من الأول، وصاحبُه لا يقر له قرار إلا إذا عارض الحق وأهله، ورأى الباطل يعلو على الحق، بخلاف الأول، فقد لا يعنيه خذلان الحق، بقدر ما يعنيه استمتاعه بلهوه وغيّه.

ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يُداري هؤلاء، ويتقي شرهم بالكلمة الطيبة والرفق، فإن جنس هؤلاء يكون أعداءً في الظاهر والباطن إذا نيل منهم، أو قوبلوا بالعنف والشدة.

ص: 503

مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)} [الحديد: 23]، وَهُوَ تَصَوُّرٌ بَاطِلٌ، وَسَبَبُهُ: عَدَمُ غِنَى النَّفْسِ بِالْحَقِّ، فَتَعْتَاضُ عَنْهُ بِالْخَيَالِ الْبَاطِلِ. [14/ 23]

* * *

‌الله تعالى يَدْخُلُ فِي الْغَيْبِ الَّذِي يُؤْمَنُ بِهِ وَلَيْسَ هُوَ بِغَائِب:

5384 -

سُبْحَانَهُ شَهِيدٌ عَلَى الْعِبَادِ، رَقِيبٌ عَلَيْهِم مُهَيْمِنٌ عَلَيْهِم، لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، فَلَيْسَ هُوَ غَائِبًا، وَإِنَّمَا لَمَّا لَمْ يَرَهُ الْعِبَادُ كَانَ غَيْبًا؛ وَلهَذَا يَدْخُلُ فِي الْغَيْبِ الَّذِي يُؤْمَنُ بِهِ وَلَيْسَ هُوَ بِغَائِب؛ فَإِنَّ الْغَائِبَ اسْمُ فَاعِل مِن قَوْلِك: غَابَ يَغِيبُ فَهُوَ غَائِبٌ، وَاللهُ شَاهِدٌ غَيْرُ غَائِبٍ وَأَمَّا الْغَيْبٌ فَهُوَ مَصْدَرُ غَابَ يَغِيبُ غَيْبًا، وَكَثِيرًا مَا يُوضَعُ الْمَصْدَرُ مَوْضِعَ الْفَاعِلِ؛ كَالْعَدْلِ وَالصَّوْمِ وَالزُّورِ، وَمَوْضِعَ الْمَفْعُولِ؛ كَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَدِرْهَمِ ضَرْبِ الْأَمِيرِ. [14/ 52]

* * *

‌فُرِّقَ فِي الْأَسْمَاءِ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ:

5385 -

فُرِّقَ فِي الْأَسْمَاءِ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْي، وَالْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ، فَإِذَا أَمَرَ بِالشَّيءِ اقْتَضَى كَمَالِهِ، وَإِذَا نَهَى عَنْهُ اقْتَضَى الَنَّهْيَ عَن جَمِيعِ أَجْزَائِهِ، وَلهَذَا حَيْثُ أَمَرَ اللهُ بِالنِّكَاحِ- كَمَا فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَكَمَا فِي الْإِحْصَانِ- فَلَا بُدَّ مِن الْكَمَالِ بِالْعَقْدِ وَالدُّخُولِ، وَحَيْثُ نَهَى عَنْهُ كَمَا فِي ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ فَالنَّهْيُ عَن كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد الْمَنْصُوصُ عَنْهُ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَيَتَزَوَّجَن لَمْ يَبَرَّ إلَّا بِالْعُقْدَةِ وَالدُّخُولِ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِالْعُقْدَةِ.

وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا حَنِثَ بِفِعْلِ بَعْضِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَيَفْعَلَنهُ، فَإِنَّ دَلَالَةَ الِاسْمِ عَلَى كُلٍّ وَبَعْضٍ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ.

ص: 504

وَلهَذَا لَمَّا أَمَرَ اللهُ بِالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجّ كَانَ الْوَاجِبُ الْإِتْمَامَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124]، وَقَالَ:{وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)} [النجم: 37].

وَلَمَّا نَهَى عَن الْقَتْلِ وَالزنى وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ كَانَ نَاهِيًا عَن أَبْعَاضِ ذَلِكَ؛ بَل وَعَن مُقَدِّمَاتِهِ أَيْضًا وَإِن كَانَ الِاسْمُ لَا يَتَنَاوَلُهُ فِي الْإِثْبَاتِ. [14/ 97]

* * *

‌النَّفْسُ مَشْحُونَةٌ بِحبِّ الْعُلُوِّ وَالرِّيَاسَةِ بِحَسَبِ إمْكَانِهَا:

5386 -

لَوْلَا أَنَّ فِي نُفُوسِ النَّاسِ مِن جِنْسِ مَا كَانَ فِي نُفُوسِ الْمُكَذِّبينَ لِلرُّسُلِ -فِرْعَوْنَ وَمَن قَبْلَهُ- لَمْ يَكُن بِنَا حَاجَةٌ إلَى الِاعْتِبَارِ بِمَن لَا نُشْبِهُهُ قَطُّ. وَلَكِنَّ الْأَمْرَ كما قَالَ تَعَالَى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت: 43]، وَقَالَ:{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)} [الذاريات: 52] .. وَلهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَتَسْلُكُنَّ سَنَنَ مَن كانَ قَبْلَكمْ حَذْوَ الْقُذةِ بِالْقُذَّةِ حَتَى لَو دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ. قَالُوا: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ؟ ".

قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَا مِن نَفْسٍ إلَّا وَفِيهَا مَا فِي نَفْسِ فِرْعَوْنَ غَيْرَ أَنَّ فِرْعَوْنَ قَدَرَ فَأَظْهَرَ، وَغَيْرَهُ عَجَزَ فَأَضْمَرَ.

وَذَلِكَ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا اعْتَبَرَ وَتَعَرَّفَ نَفْسَة وَالنَّاسَ وَسَمِعَ أَخْبَارَهُمْ: رَأَى الْوَاحِدَ مِنْهُم يُرِيدُ لِنَفْسِهِ أَنْ تُطَاعَ وَتَعْلُو بِحَسَبِ قُدْرَتهِ.

فَالنَّفْسُ مَشْحُونَةٌ بِحُبّ الْعُلُوِّ وَالرِّيَاسَةِ بِحَسَبِ إمْكَانِهَا، فَتَجِدُ أَحَدَهُم يُوَالِي مَن يُوَافِقُهُ عَلَى هَوَاهُ، وَيُعَادِي مَن يُخَالِفُهُ فِي هَوَاهُ، وَإِنَّمَا مَعْبُودُهُ: مَا يَهْوَاهُ وَيُرِيدُهُ. قَالَ تَعَالَى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)} [الفرقان: 43].

ص: 505

وَالْوَاحِدُ مِن هَؤُلَاءِ: يُرِيدُ أَنْ يُطَاعَ أَمْرُهُ بِحَسَبِ إمْكَانِهِ، لَكِنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِمَّا تَمَكَّنَ مِنْهُ فِرْعَوْنُ: مِن دَعْوَى الْإلَهِيَّةِ وَجُحُودِ الصَّانِعِ.

وَكَثِيرٌ مِن النَّاسِ مِمَن عِنْدَهُ بَعْضُ عَقْلٍ وَإِيمَانٍ لَا يَطْلُبُ هَذَا الْحَدَّ؛ بَل يَطْلُبُ لِنَفْسِهِ مَا هُوَ عِنْدَهُ.

فَإِنْ كَانَ مُطَاعًا مُسْلِمًا: طَلَبَ انْ يُطَاعَ فِي أَغْرَاضِهِ وَإِن كَانَ فِيهَا مَا هوَ ذَنْبٌ وَمَعْصِيَةٌ للهِ، وَيكُونُ مَن أطَاعَهُ فِي هَوَاهُ: أَحَبُّ إلَيْهِ وَأعَزُّ عِنْدَهُ مِمَّن أَطَاعَ اللهَ وَخَالَفَ هَوَاهُ، وَهَذِهِ شعْبَة مِن حَالِ فِرْعَوْنَ، وَسَائِرِ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ.

وَإِن كَانَ عَالِمًا أَو شَيْخًا: أَحَبَّ مَن يُعَظِّمُهُ دُونَ مَن يُعَظِّمُ نَظِيرَهُ، حَتَّى لَو كَانَا يَقْرَآنِ كِتَابًا وَاحِدًا كَالْقُرْآنِ، أَو يَعْبُدَانِ عِبَادَةً وَاحِدَةً مُتَمَاثِلَانِ فِيهَا كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، فَإِنَّهُ يُحِبُّ مَن يُعَظِّمُهُ بِقَبُولِ قَوْلِهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ أَكْثَرَ مِن غَيْرِهِ، وَرُبَّمَا أَبْغَضَ نَظِيرَهُ وَأَتْبَاعَهُ حَسَدًا وَبَغْيًا، كَمَا فَعَلَتِ الْيَهُودُ لَمَّا بَعَثَ اللهُ مُحَمدًا صلى الله عليه وسلم يَدْعُو إلَى مِثْل مَا دَعَا إلَيْهِ مُوسَى. [14/ 322 - 325]

* * *

‌مَن لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ فِي الدُّنْيَا اُمْمُّحِنَ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ إلَّا مَن اتبعَ الشَّيْطَانَ:

5387 -

مَن لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ فِي الدُّنْيَا اُمْتُحِنَ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ إلَّا مَن اتَّبَعَ الشَّيْطَانَ، فَمَن لَا ذَنْبَ لَهُ لَا يَدْخُلَ النَّارَ، وَلَا يُعَذبُ اللهُ بِالنَّارِ أَحَدًا إلَّا بَعْدَ أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِ رَسُولًا، فَمَن لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ رَسُولٍ إلَيْهِ كَالصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَيِّتِ فِي الْفَتْرَةِ الْمَحْضَةِ فَهَذَا يُمْتَحَنُ فِي الْآخِرَةِ كَمَا جَاءَت بِذَلِكَ الْآثَارُ. [14/ 477]

* * *

ص: 506

‌يُوصِي الْعَارِفُونَ وَالشّيُوخُ بِحِفْظِ السِّرِّ مَعَ اللهِ تَعَالَى:

5388 -

كمْ مِن صَاحِب قَلْبٍ وَجَمْعِيَّةٍ

(1)

وَحَالٍ مَعَ اللهِ تَعَالَى قَد تَحَدَّثَ بِهَا وَأَخْبَرَ بِهَا فَسَلَبَهُ إيَّاهَا الْأغيَارُ؛ وَلهَذَا يُوصِي الْعَارِفُونَ وَالشُّيُوخُ بِحِفْظِ السِّرِّ مَعَ اللهِ تَعَالَى، وَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَالْقَوْمُ أعْظَمُ شَيْئًا كِتْمَانًا لِأَحْوَالِهِمْ مَعَ اللهِ عز وجل

(2)

، وَمَا وَهَبَ اللهُ [لهم]

(3)

مِن مَحَبَّتِهِ وَالْأنْسِ بِهِ وَجَمْعِيَّةِ الْقَلْبِ [عليه]

(4)

، وَلَا سِممَا لِلْمُهْتَدِي والسَّالِكِ

(5)

.

فَإِذَا تَمَكَّنَ أَحَدُهُم وَقَوِيَ وَثَبَتَتْ

(6)

أصُولُ تِلْكَ الشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ، الَّتِي أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ فِي قَلْبِهِ، -بِحَيْثُ لَا يُخْشَى عَلَيْهِ مِن الْعَوَاصِفِ، فَإِنَّهُ إذَا أَبْدَى حَالَهُ مَعَ اللهِ تَعَالَى لِيُقْتَدَى بِهِ ويُؤتَمَّ بِهِ-: لَمْ يُبَالِ

(7)

.

وَهَذَا بَابٌ عَظِيمُ النَّفْعِ إنَّمَا يَعْرِفُهُ أَهْلُهُ. [15/ 18]

* * *

‌من طرق إقناع النصارى:

5389 -

كُنْت أَتَنَزَّلُ مَعَ عُلَمَاءِ النَّصَارَى إلَى أَنْ أطَالِبَهُم بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسِيحِ وَغَيْرِهِ مِن جِهَةِ الْإِلَهِيَّةِ، فَلَا يَجِدُونَ فَرْقًا؛ بَل أُبَيِّنُ لَهُم أَنَ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى مِن الْآيَاتِ أَعْظَمُ، فَإِنْ كَانَ حُجَّةً فِي دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ فَمُوسَى أحَقُّ، وَأَمَّا وِلَادَتُهُ مِن غَيْرِ أَب فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى قُدْرَةِ الْخَالِقِ، لَا عَلَى أَنَّ الْمَخْلُوقَ أَفْضَلُ مِن غَيْرِهِ. [15/ 228]

* * *

(1)

أي: اجتماع قلبه وفكره، وعدم تشتته في هموم الدنيا ومتاعها.

(2)

قال ابن القيِّم رحمه الله: إظهار الحال للناس عند الصادقين: حمق وعجز، وهو من حظوظ النفس والشيطان، وأهل الصدق والعزم لها أستر وأكتم من أرباب الكنوز من الأموال لأموالهم.

(3)

ما بين المعقوفتين من بدائع الفوائد لابن القيم (3/ 847)، ولا يتم ويصح المعنى إلا به.

(4)

ما بين المعقوفتين من بدائع الفوائد لابن القيم (3/ 847)، ولا يتم ويصح المعنى إلا به.

(5)

في الأصل: (وَلَا سِيَّمَا فِعْلهُ لِلْمُهْتَدِي السَّالِكِ)، والمثبت من بدائع الفوائد، وهو أصوب.

(6)

في الأصل: (وَثَبَّتَ)، والمثبت من بدائع الفوائد، وهو أصوب.

(7)

أي: لم يُبال كتمان حاله وإظهاره للمصلحة الراجحة، كان يُقتدى به في ذلك.

ص: 507

‌صَلَاحُ بَني آدَمَ: الإيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَلَا يُخْرِجُهُم عَن ذَلِكَ إلَّا شَيْئَانِ:

5390 -

إِنَّ أَصْلَ الْفِطْرَةِ الَّتِي فُطِرَ النَّاسُ عَلَيْهَا إذَا سَلِمَتْ مِن الْفَسَادِ: إذَا رَأَتِ الْحَقَّ اتَّبَعَتْهُ وَأَحَبَّتْهُ.

وَمِن الْمَعْلُومِ أَنَّ اللهَ خَلَقَ فِي النُّفوسِ مَحَبَّةَ الْعِلْمِ دُونَ الْجَهْلِ، وَمَحَبَّةَ الصِّدْقِ دُونَ الْكَذِبِ، وَمَحَبَّةَ النَّافِعِ دونَ الضَّارِّ، وَحَيْثُ دَخَلَ ضِدُّ ذَلِكَ فَلِمُعَارِضٍ مِن هَوَى وَكِبْرٍ وَحَسَدٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ كَمَا أَنَّهُ فِي صَالِحِ الْجَسَدِ خَلَقَ اللهُ فِيهِ مَحَبَّةَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الْمُلَائِمِ لَهُ دُونَ الضَّارِّ، فَإِذَا اشْتَهَى مَا يَضُرُّهُ أَو كَرِهَ مَا يَنْفَعُهُ فَلِمَرَضٍ فِي الْجَسَدِ

(1)

.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَصَلَاحُ بَنِي آدَمَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ وَلَا يُخْرِجُهُم عَن ذَلِكَ إلَّا شَيْئَانِ:

أَحَذهُمَا: الْجَهْلُ الْمُضَادُّ لِلْعِلْمِ فَيَكُونُونَ ضُلَّالًا.

وَالثَّانِي: اتِّبَاعُ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ اللَّذَيْنِ فِي النَّفْسِ، فَيَكُونونَ غوَاةً مَغْضُوبًا عَلَيْهِم؛ وَلهَذَا قَالَ:{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)} [النجم: 1].

وَهُم فِي الصَّلَاحِ عَلَى ضَرْبَيْنِ:

أ- تَارَة يَكُونُ الْعَبْدُ إذَا عَرَفَ الْحَقَّ وَتَبَيَّنَ لَهُ اتَّبَعَهُ وَعَمِلَ بِهِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُدْعَى بِالْحِكْمَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَذَكَّرُ وَهُوَ الَّذِي يُحْدِثُ لَهُ الْقرْآنُ ذِكْرًا.

ب- وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ لَهُ مِن الْهَوَى وَالْمُعَارِضِ مَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى الْخَوْفِ الَّذِي يَنْهَى النَّفْسَ عَن الْهَوَى؛ فَهَذَا يُدْعَى بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ. [15/ 241 - 243]

* * *

(1)

وهذا يدل على أنّ انتكاس الفطرة ليس من نشأة الإنسان، بل خلقه الله تعالى مُحبًّا للصدق والحق، وشغوفًا للبحث عمَّا ينفعه في دينه ودنياه، ولكنه إذا نشأ على عقيدة باطلة صعب عليه مُخالفة عادته، وقبول الحق، وهو غير مُستعد أصلًا لذلك.

ص: 508

‌مُشَابَهَةَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَيْسَتْ مَحْذورًا إلَّا فِيمَا خَالَفَ دِينَ الإسْلَامِ وَنُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةَ وَالإِجْمَاعَ:

5391 -

إنَّ مُشَابَهَةَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَيْسَتْ مَحْذُورًا إلَّا فِيمَا خَالَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ وَنُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ.

وَإِلَّا فَمَعْلُومٌ أَنَّ دِينَ الْمُرْسَلِينَ وَاحِدٌ، وَأَنَّ التَّوْرَاةَ

(1)

وَالْقُرْآنَ خَرَجَا مِن مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ.

وَقَدِ اسْتَشْهَدَ اللهُ بِأَهْلِ الْكِتَاب فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ حَتَّى قَالَ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف: 10]، فَإِذَا أَشْهَدَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَى مِثْل قَوْلِ الْمُسْلِمِينَ: كَانَ هَذَا حُجَّةً وَدَلِيلًا، وَهُوَ مِن حِكْمَةِ إقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ.

فَيُفْرَحُ بِمُوَافَقَةِ الْمَقَالَةِ الْمَأخُوذَةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِمَا يَأُثُرُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ عَنِ الْمُرْسَلِينَ قَبْلَهُمْ

(2)

، وَيَكُونُ هَذَا مِن أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ، وَمِن حُجَجِ الرِّسَالَةِ، وَمِن الدَّلِيلِ عَلَى اتفَاقِ الرُّسُلِ. [16/ 214]

* * *

‌متى يُذم ويُحمد الحزن

؟

5392 -

فِي حَدِيثٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الصَّمْتِ، دَائِمَ الْفِكْرِ، مُتَوَاصِلَ الْأَحْزَانِ.

وَأَمَّا الْحُزْنُ فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْحُزْنَ الَّذِي هُوَ الْأَلَمُ عَلَى فَوْتِ مَطْلُوبٍ أَو حُصُولِ مَكْرُوهٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلَمْ يَكُن مِن حَالِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الِاهْتِمَامَ وَالتَيّقُّظَ لِمَا يَسْتَقْبِلُهُ مِن الْأمُورِ

(3)

. [16/ 221]

* * *

(1)

قبل التحريف.

(2)

أي: أن المسلم يفرح إذا وجد ما في التوراة مُوافقةً لِمَا في الكتاب والسُّنَّة.

(3)

وعلى هذا: فمن كان حزنُه على مصاب المسلمين تألُّمًا: فهو حزن منهيٌّ عنه، وإن كان حزنه=

ص: 509

‌الِاسْم نَفْسهُ يُسَبَّحُ وَيُذْكرُ وَيُرَادُ بِذَلِكَ الْمُسَمَّى:

5393 -

إِن الِاسْمَ نَفْسَهُ يُسَبَّحُ وَيُذْكرُ ويُرَادُ بِذَلِكَ الْمُسَمَّى، وَالِاسْمُ نَفْسُهُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا لَا إكْرَامًا وَلَا غَيْرَهُ، وَلهَذَا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ إضَافَةُ شَيءٍ مِن الْأفْعَالِ وَالنِّعَمِ إلَى الِاسْمِ، وَلَكِنْ يُقَالُ:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} [الأعلى: 1]، {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} [الرحمن: 78] وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَإِنَّ اسْمَ اللهِ مُبَارَكٌ تُنَالُ مَعَهُ الْبَرَكَةُ، وَالْعَبْدُ يُسَبِّحُ اسْمَ رَبِّهِ الْأعْلَى فَيَفولُ:"سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى" وَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} قَالَ: "اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ"، فَقَالُوا: سبحان ربي الأعلى، فَكَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يَقُولُ:"سُبْحَانَ اسْمِ رَبى الْأَعْلَى".

لَكِن قَوْلَهُ: "سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى" هُوَ تَسْبِيحٌ لِاسْمِهِ يُرَادُ بِهِ تَسْبِيحُ الْمُسَمَّى لَا يُرَادُ بِهِ تَسْبِيحُ مُجَرَّدِ الِاسْمِ.

وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ مَن قَالَ مِن أَهْلِ السنَّةِ: إنَّ الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى، أَرَادُوا بِهِ أنَّ الِاسْمَ إذَا دُعِيَ وَذُكِرَ يُرَادُ بِهِ الْمُسَمَّى، فَإِذَا قَالَ الْمُصَلِّي:"اللهُ أَكْبَرُ" فَقَد ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ وَمُرَادُهُ الْمُسَمَّى، لَمْ يُرِيدُوا بِهِ أَنَّ نَفْسَ اللَّفْظِ هُوَ الذَّاتُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْخَارج. [16/ 322 - 323]

* * *

‌حُبُّ الرِّيَاسَةِ والْمَالِ وَالصُّورَةِ كَامِنٌ في النفس لَا يَشْعُرُ بِهِ الإنسان:

5394 -

مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَد يَخْفَى عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِن أحْوَالِ نَفْسِهِ فَلَا يَشْعُرُ بِهَا أَنَّ كَثيرَا مِن النَّاسِ يَكُونُ فِي نَفْسِهِ حُبُّ الرِّيَاسَةِ

(1)

كَامِن لَا يَشْعُرُ بِهِ؛ بَل إنَّهُ مُخْلِصٌ فِي عِبَادَتِهِ وَقَد خَفِيَتْ عَلَيْهِ عُيُوبُهُ.

وَلهَذَا سُمِّيَتْ هَذِهِ "الشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ" .. فَهِيَ خَفِيَّة تَخْفَى عَلَى النَّاسِ، وَكَثِيرًا مَا تَخْفَى عَلَى صَاحِبِهَا.

= تيقّظًا واهتمامًا بهم: فهو محمود.

(1)

أي: الرئاسة الدنيوية أو الدينية، وحب التصدر وأنْ يُشار إليه.

ص: 510

بَل كَذَلِكَ حُبُّ الْمَالِ وَالصُّورَةِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَد يُحِبُّ ذَلِكَ وَلَا يَدْرِي؛ بَل نَفْسُهُ سَاكِنَةٌ مَا دَامَ ذَلِكَ مَوْجُودًا، فَإِذَا فَقَدَهُ ظَهَرَ مِن جَزَعِ نَفْسِهِ وَتَلَفِهَا مَا دَلَّ عَلَى الْمَحَبَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. [16/ 346 - 347]

* * *

‌الشَّارعُ حَكِيمٌ، لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ وَلَا يُسَوِّي بَيْنَ مُخْتَلِفَيْنِ:

5395 -

الشَّارعُ حَكِيمٌ، لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ إلَّا لِاخْتِصَاصِ أحَدِهِمَا بِمَا يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ، وَلَا يُسَوِّي بَيْنَ مُخْتَلِفَيْنِ غَيْرِ مُتَسَاوَييْنِ؛ بَل قَد أَنْكَرَ سُبْحَانَهُ عَلَى مَن نَسَبَهُ إلَى ذَلِكَ وَقَبَّحَ مَن يَحْكُمُ بِذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى:{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} [ص: 28]. [17/ 127]

* * *

‌الْحِكْمَةُ النَّاشِئَةُ مِن الْأَمْرِ ثَلَاَثةُ أَنْوَاعٍ:

5396 -

الْحِكْمَةُ النَّاشِئَةُ مِن الأمْرِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعِ:

أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ فِي نَفْسِ الْفِعْلِ -وَإِن لَمْ يُؤمَرْ بِهِ- كَمَا فِي الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ وَنَحْوِهِمَا مِنَ الْمَصَالِحِ الْحَاصِلَةِ لِمَن فَعَلَ ذَلِكَ وَإِن لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ، وَاللهُ يَأُمُرُ بِالصَّلَاحِ وَينْهَى عَن الْفَسَادِ.

وَالنَّوْعُ الثَّانِي: أَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ صَارَ مُتَّصِفًا بِحُسْن اكْتَسَبَهُ مِنَ الْأَمْرٍ وَقُبْحٍ اكْتَسَبَهُ مِنَ النَّهْيِ؛ كَالْخَمْرِ الَّتِي كَانَت لَمْ تُحَرَّمُ ثُمَّ حُرِّمَتْ فَصَارَتْ خَبِيثَةً.

فَإِنْ قِيلَ: الْخَمْرُ قَبْلَ التَّحْرِيمِ وَبَعْدَهُ سوَاءٌ، فَتَخْصِيصُهَا بِالْخُبْثِ بَعْدَ التَّحْرِيمِ تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ؟

قِيلَ: لَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَل إنَّمَا حَرَّمَهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَتِ الْحِكْمَةُ تَقْتَضِي تَحْرِيمَهَا، وَلَيْسَ مَعْنَى كَوْنِ الشَّيءِ حَسَنًا وَسَيِّئًا مِثْل كَوْنِهِ أَسْوَدَ وَأَبْيَضَ؛ بَل هُوَ

ص: 511

مِن جِنْسِ كَوْنِهِ نَافِعًا وَضَارًّا، وَمُلَائِمًا ومُنَافِرًا، وَصِدِّيقًا وَعَدُوًّا، وَنَحْو هَذَا مِنَ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِالْمَوْصُوفِ الَّتِي تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ، فَقَد يَكُونُ الشَّيءُ نَافِعًا فِي وَقْتٍ ضَارًّا فِي وَقْتٍ، وَالشَّيْءُ الضَّارُّ قَد يُتْرَكُ تَحْرِيمُهُ إذَا كَانَت مَفْسَدَةُ التَّحْرِيمِ أَرْجَحَ، كَمَا لَو حُرِّمَتْ الْخَمْرُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّ النُّفُوسَ كَانَت قَد اعْتَادَتْهَا عَادَة شَدِيدَةً، وَلَمْ يَكُن حَصَلَ عِنْدَهُم مِن قُوَّةِ الْإِيمَانِ مَا يَقْبَلُونَ ذَلِكَ التَّحْرِيمَ، وَلَا كَانَ إيمَانُهُم وَدِينُهُم تَامًّا حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهِ نَقْصٌ إلَّا مَا يَحْصُلُ بِشرْبِ الْخَمْرِ مِن صَدِّهَا عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَن الصَّلَاةِ، فَلِهَذَا وَقَعَ التَّدْرِيجُ فِي تَحْرِيمِهَا

(1)

.

وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْحِكْمَةُ نَاشِئَةً مِن نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَيْسَ فِي الْفِعْلِ أَلْبَتَّةَ مَصْلَحَةٌ، لَكِنَّ الْمَقْصُودَ ابْتِلَاءُ الْعَبْدِ هَل يُطِيعُ أَو يَعْصِي، فَإذَا اعْتَقَدَ الْوُجُوبَ وَعَزَمَ عَلَى الْفِعْلِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالْأَمْرِ، فَيُنْسَخُ حِينَئِذٍ؛ كَمَا جَرَى لِلْخَلِيلِ فِي قِصَّةِ الذَّبْحِ

(2)

. [17/ 201 - 203]

* * *

‌الرُّوحُ عَيْنٌ قَائِمَة بِنَفْسِهَا، تُفَارِقُ الْبَدَنَ، وَتُنَعَّمُ وَتُعَذَّبُ:

5397 -

مَذْهَبُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَانٍ وَسَائِرِ سَلَفِ الْأمَّةِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ: أَنَّ الرُّوحَ عَيْن قَائِمَة بِنَفْسِهَا، تُفَارِقُ الْبَدَنَ، وَتُنَعَّمُ وَتعَذَّبُ، لَيْسَتْ هِيَ الْبَدَنَ، وَلَا جُزْءًا مِن أَجْزَائِهِ كَالنَفَسِ الْمَذْكُورِ. [17/ 341]

* * *

(1)

وهذا الجواب السديد الحكيم يُقال في الحكمة من تحريم المتعة بعد جوازها، وبما قرره الشيخ يزول الإشكال الذي قد يُطرح: لو كانت المتعة خبيثة وشبيهة بالزنى لما أبيحت في الإسلام.

(2)

وهذا القسم الثالث لا وُجود له بعد اكتمال الدين، ووفاة رسول ربِّ العالمين صلى الله عليه وسلم.

ص: 512

‌حكم الرَّمْي بِالْقَوْسِ الْفَارِسِيَّةِ:

5398 -

رُوَيتْ آثَارٌ فِي كَرَاهَةِ الرَّمْي بِالْقَوْسِ الْفَارِسِيَّةِ عَن بَعْضِ السَّلَفِ؛ لِكَوْنِهَا كَانت شِعَارَ الْكُفَّارِ، فَأَمَّا بَعْدَ أَنْ اعْتَادَهَا الْمُسْلِمُونَ وَكَثُرَتْ فِيهِمْ

(1)

وَهِيَ فِي أَنْفُسِهَا أَنْفَعُ فِي الْجِهَادِ مِن تِلْكَ الْقَوْسِ: فَلَا تُكْرَهُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ أَو قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ. [17/ 487 - 488]

* * *

‌الْفَرْقُ بَيْنَ الإلْهَامِ الْمَحْمُودِ وَبَيْنَ الْوَسْوَسَةِ الْمَذْمُومَةِ:

5399 -

إِذَا كَانَ مَا يُوحِيهِ صلى الله عليه وسلم إلَى عِبَادِهِ تَارَةً يَكُونُ بِوَسَاطَةِ مَلَكٍ وَتَارَةً بِغَيْرِ وَسَاطَةٍ فَهَذَا لِلْمُؤْمِنِينَ كُلّهِمْ مُطْلَقًا لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، قَالَ تَعَالَى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7]، وَإِذَا كَانَ قَد قَالَ:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68]، فَذَكَرَ أَنَّهُ يُوحِي إلَيْهِمْ؛ فَإِلَى الْإِنْسَانِ أَوْلَى.

وَقَد قَالَ تَعَالَى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7، 8] فَهُوَ سُبْحَانَهُ يُلْهِمُ الْفُجُورَ وَالتَّقْوَى لِلنَّفْسِ، وَالْفُجُورُ يَكُونُ بِوَاسِطَةِ الشَّيْطَانِ، وَهُوَ إلْهَامُ وَسْوَاسٍ، وَالتَّقْوَى بِوَاسِطَةِ مَلَكٍ، وَهُوَ إلْهَامُ وَحْيٍ.

وَقَد صَارَ فِي الْعُرْفِ لَفْظُ الْإِلْهَامِ إذَا أُطْلِقَ لَا يُرَادُ بِهِ الْوَسْوَسَةُ، وَهَذِهِ الْآيَة مِمَّا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ إلْهَامِ الْوَحْي وَبَيْنَ الْوَسْوَسَةِ.

فَالْمَأْمُورُ بِهِ إنْ كَانَ تَقْوَى اللهِ فَهُوَ مِن إلْهَامِ الْوَحْيِ، وَإِن كَانَ مِنَ الْفُجُورِ فَهُوَ مِن وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ.

فَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِلْهَامِ الْمَحْمُودِ وَبَيْنَ الْوَسْوَسَةِ الْمَذْمُومَةِ هُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا أُلْقِيَ فِي النَّفْسِ مِمَّا دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى أَنَّهُ تَقْوَى للهِ

(1)

هذا قيدٌ هامٌ في التشبه بالكفار والفساق، فمتى اعْتَادَ الْمُسْلِمُونَ أمرًا كان يختص بالكفار أو الفساق وكَثُرَ فِيهِمْ لم يحرم، وهذا في أمور العادات والمباحات، لا في العبادات والعقائد.

ص: 513

فَهُوَ مِنَ الْإِلْهَامِ الْمَحْمُودِ، وَإِن كَانَ مِمَّا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ فُجُورٌ فَهُوَ مِنَ الْوَسْوَاسِ الْمَذْمُومِ، وَهَذَا الْفَرْقُ مُطَّرِد لَا يَنْتَقِضُ. [17/ 528 - 529]

* * *

"‌

‌ لَوْ": تُسْتَعْمَلُ عَلَى وَجْهَيْنِ:

5400 -

" لَوْ": تُسْتَعْمَلُ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: عَلَى وَجْهِ الْحُزْنِ عَلَى الْمَاضِي وَالْجَزَعِ مِنَ الْمَقْدُورِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قَالَ:"وَإِن أَصَابَك شيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَو أَنِّي فَعَلْت لَكَانَ كذَا وَكلذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ الله وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَو تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ"

(1)

؛ أَيْ: تَفْتَحُ عَلَيْك الْحُزْنَ وَالْجَزَعَ، وَذَلِكَ يضُرِّ وَلَا يَنْفَعُ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: "لَو" لِبَيَانِ عِلْمٍ نَافِعٍ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].

وَلبَيَانِ مَحَبَّةِ الْخَيْرِ وإرَادَتِهِ؛ كَقَوْلِهِ: "لَو أَنَّ لِي مِثْل مَا لِفُلَانِ لَعَمِلْت مِثْل مَا يَعْمَلُ" وَنَحْوُهُ جَائِزٌ.

وَقَوْلُ النَّبِيِّ-صلى الله عليه وسلم: "وَدِدْت لَو أَنَّ مُوسَى صَبَرَ لِيَقُصَّ اللهُ عَلَيْنَا مِن خَبَرِهِمَا" هُوَ مِن هَذَا الْبَاب .. فَإِنَّ نَبِيَّنَا صلى الله عليه وسلم أَحَبَّ أَنْ يَقُصَّ اللهُ خَبَرَهُمَا فَذَكَرَهُمَا لِبَيَانِ مَحَبَّتِهِ لِلصَّبْرِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ فَعَرَّفَهُ مَا يَكُونُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَنْفَعَةِ، وَلَمْ يَكُن فِي ذَلِكَ جَزَعٌ وَلَا حُزْنٌ وَلَا تَرْكٌ لِمَا يُحِبُّ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى الْمَقْدُورِ. [18/ 347 - 349]

* * *

‌لَمْ يُخصَّ الْعَرَب دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ بِأَحْكَامٍ شَرْعِيَّةٍ:

5401 -

أُرْسِلَ صلى الله عليه وسلم إلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ: الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، فَلَمْ يَخُصَّ الْعَرَبَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ بِأَحْكَامٍ شَرْعِيَّةٍ، وَلَكِنْ خَصَّ قُرَيْشًا بِأَنَّ الْإِمَامَةَ فِيهِمْ،

(1)

مسلم (2664).

ص: 514

وَخَصَّ بَنِي هَاشِمٍ بِتَحْرِيمِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِمْ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ جِنْسَ قُرَيْشٍ لَمَّا كَانُوا أَفْضَلَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْإِمَامَةُ فِي أفْضَلِ الْأجْنَاسِ مَعَ الْإِمْكَانِ، وَلَيْسَتْ الْإِمَامَةُ أَمْرًا شَامِلًا لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا يَتَوَلَّاهَا وَاحِدٌ مِنَ النَّاسِ.

وَأمَّا تَحْرِيمُ الصَّدَقَةِ فَحَرَّمَهَا عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ تَكْمِيلًا لِتَطْهِيرِهِمْ، وَدَفْعًا لِلتُّهْمَةِ عَنْهُ. [19/ 30]

* * *

‌الإنْسَانُ إذَا فَسَدَتْ نَفْسُهُ أَو مِزَاجُهُ: يَشْتَهِي مَا يَضُرُّهُ وَيَلْتَذُّ بِهِ:

5402 -

الْإِنْسَانُ إذَا فَسَدَتْ نَفْسُهُ أَو مِزَاجُهُ يَشْتَهِي مَا يَضُرُّهُ وَيَلْتَذُّ بِهِ؛ بَل يَعْشَقُ ذَلِكَ عِشْقًا يُفْسِدُ عَقْلَهُ وَدِينَهُ وَخُلُقَهُ وَبَدَنَهُ وَمَالَهُ. [19/ 34]

* * *

‌أنواع النزاع بين الناس:

5403 -

كَثِيرًا مَا يَكونُ النّزَاعُ فِي الْمَعْنَى نِزَاعَ تَنَوُّعٍ لَا نِزَاعَ تَضَادٍّ وَتَنَاقُضٍ، فَيُثْبِتُ أَحَدُهُمَا شَيْئا وينْفِي الْآخَرُ شَيْئًا آخَرَ، ثُمَّ قَد لَا يَشْتَرِكَانِ فِي لَفظٍ مَا نَفَاهُ أَحَدُهُمَا وَأَثْبَتَهُ الْآخَرُ، وَقَد يَشْتَرِكَانِ فِي اللَّفْظِ فَيَكُونُ التّنَاقُضُ وَالِاخْتِلَافُ فِي اللَّفْظِ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلَا يَخْتَلِفَانِ فِيهِ وَلَا يَتَنَاقَضَانِ.

ثُمَّ قَد يَكُونَانِ مُتَّفِقَيْنِ عَلَيْهِ يَقُولُهُ كُلٌّ مِنْهُمَا، وَقَد يَكُونُ أَحَدُهُمَا قَالَهُ أَو يَقُولُهُ، وَالْآخَرُ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ بِإِثْبَاتِ وَلَا نَفْيٍ.

وَقَد يَكُونُ النِّزَاعُ اللَّفْظِيُّ مَعَ اتّحَادِ الْمَعْنَى لَا تَنَوُّعِهِ، وَكَثِيرٌ مِن تَنَازُعِ الْأُمَّةِ فِي دِينِهِمْ هُوَ مِن هَذَا الْبَابِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

مِثَالُ التَّنَوُّعِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا: الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الْإِسْلَامُ، وَيَقُولُ الْآخَرُ: هُوَ السُّنَّةُ وَالْجَمَاعَةُ، وَيَقُولُ الْآخَرُ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَيَقُولُ الْآخَرُ: هُوَ طَرِيقُ الْعُبُودِيَّةِ.

ص: 515

فَإِنَّ هَذَا تَنَوُّعٌ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ الَّتِي يُبَيِّنُ بِهَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، بِمَنْزِلَةِ أَسْمَاءِ اللهِ وَأَسْمَاءِ رَسُولِهِ وَكِتَابِهِ، وَلَيْسَ بَيْنَهَا تَضَادٌّ لَا فِي اللَّفْظِ وَلَا فِي الْمَعْنَى.

وَمِثَالُ التَّنَوُّعِ الَّذِي فِيهِ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ لِأَجْلِ اشْتِرَاكِ اللَّفْظِ -كَمَا قِيلَ: أَكْثَرُ اخْتِلَافِ الْعُقَلَاءِ مِن جِهَةِ اشْتِرَاكِ الْأَسْمَاءِ-: تَنَازَعَ قَوْمٌ فِي أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّه فِي الدُّنْيَا أَو فِي الْآخِرَةِ؟ [19/ 139 - 140]

فَقَالَ قَوْمٌ: رَآهُ فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهُ رَآهُ قَبْلَ الْمَوْتِ.

وَقَالَ آخَرُونَ: بَل فِي الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّهُ رَآهُ وَهُوَ فَوْقُ السَّمَوَاتِ وَلَمْ يَرَهُ وَهُوَ فِي الْأَرْضِ.

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ لَفْظَ "الْآخِرَةِ" يُرَادُ بِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْحَيَاةَ الْآخِرَةَ، ويُرَادُ بِهِ الدَّارَ الدُّنْيَا وَالدَّارَ الْآخِرَةِ، وَمُحَمَّد رَأَى رَبَّهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ.

* * *

‌جِنْس فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَعْظَمُ مِن جِنْسِ تَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ:

5404 -

قَاعِدَةٌ فِي أَنَّ جِنْسَ فِعْلِ الْمَأمُورِ بِهِ أَعْظَمُ مِن جِنْسِ تَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَأنَّ جِنْسَ تَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَعْظَمُ مِن جِنْسِ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَأَنَّ مَثُوبَةَ بَنِي آدَمَ عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ أَعْظَمُ مِن مَثُوبَتِهِمْ عَلَى تَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَأَنَّ عُقُوبَتَهُم عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ أَعْظَمُ مِن عُقُوبَتِهِمْ عَلَى فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مِن وُجُوهٍ

(1)

:

أَحَدُهَا: أَنَّ أَعْظَمَ الْحَسَنَاتِ هُوَ الْإِيمَانُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَأَعْظَمَ السَّيّئَاتِ الْكُفْرُ، وَالْإِيمَانُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ، فَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤمِنًا ظَاهِرًا حَتَّى يُظْهِرَ أَصْلَ

(1)

ذكر اثنين وعشرين وجهًا تُؤيد ما قرره!!

ص: 516

الْإِيمَانِ وَهُوَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وَشَهَادَةُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللهِ، وَلَا يَكُونُ مُؤمِنًا بَاطِنًا حَتَّى يُقِرَّ بِقَلْبِهِ بِذَلِكَ، فَيَنْتَفِي عَنْهُ الشَّكُّ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، مَعَ وُجُودِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ.

وَالْكُفْرُ: عَدَمُ الْإِيمَانِ بِاتِّفَاقِ الْمسْلِمِينَ، سَوَاءٌ اعْتَقَدَ نَقِيضَهُ وَتَكَلَّمَ بِهِ أَو لَمْ يَعْتَقِدْ شَيْئًا وَلَمْ يَتَكَلَّمْ.

وَإِذَا كَانَ أَصْلُ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْقرَبِ وَالْحَسَنَاتِ وَالطَّاعَاتِ: فَهُوَ مَأمُورٌ بِهِ، وَالْكفْرُ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ وَالسَّيِّئَاتِ وَالْمَعَاصِي: تَرْكَ هَذَا الْمَأْمُورِ بِهِ، سَوَاءٌ اقْتَرَنَ بِهِ فِعْلٌ مَنْهِي عَنْهُ مِنَ التَّكْذِيبِ أَو لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ شَيْءٌ بَل كَانَ تَرْكًا لِلْإِيمَانِ فَقَطْ: عُلِمَ أَنَّ جِنْسَ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَعْظَمُ مِن جِنْسِ تَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ أَوَّلَ ذَنْبٍ عُصِيَ اللهُ بِهِ كَانَ مِن أَبِي الْجِنِّ وَأَبِي الْإِنْسِ، أَبَوَيِ الثَّقَلَيْنِ الْمَأُمُورينِ، وَكَانَ ذَنْبُ أَبِي الْجِنِّ أَكْبَرَ وَأَسْبَقَ وَهُوَ تَرْكُ الْمَأمُورِ بِهِ وَهُوَ السُّجُودُ إبَاءً وَاسْتِكْبَارًا، وَذَنْبُ أَبِي الْإِنْسِ كَانَ ذَنْبًا صَغِيرًا {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37] وَهُوَ إنَّمَا فَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَهُوَ الْأَكْلُ مِنَ الشَّجَرَةِ.

وَإِن كَانَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْعِلْمِ يَزْعُمُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِذَنْبٍ.

وَهَذَا الْقَوْلُ يَقُولُهُ طَوَائِفُ مِن أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْكَلَام وَالشِّيعَةِ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَبَعْضُ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرُهُم مِمَن يُوجِبُ عِصْمَةَ الأَنْبِيَاءِ مِن الصَّغَائِرِ، وَهَؤُلَاءِ فَرُّوا مِن شَيْءٍ وَوَقَعُوا فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ فِي تَحْرِيفِ كَلَامِ اللهِ عَن مَوَاضِعِهِ.

فَإِنْ قُلْت: فَالذُّنُوبُ تَنْقَسِمُ إلَى تَرْكِ مَأُمُورٍ بِهِ وَفِعْلِ مَنْهِيٍّ عَنْهُ.

قُلْت: لَكِنَّ الْمَأمُورَ بِهِ إذَا تَرَكَهُ الْعَبْدُ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُؤمِنًا بِوُجُوبِه أَو لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَ مُؤمِنًا بِوُجُوبِهِ تَارِكًا لِأَدَائِهِ: فَلَمْ يَتْرُكِ الْوَاجِبَ كُلَّهُ؛ بَل أَدَّى بَعْضَة وَهُوَ الْإيمَانُ بِهِ وَتَرَكَ بَعْضَهُ وَهُوَ الْعَمَلُ به.

ص: 517

وَكَذَلِكَ الْمُحَرَّمُ إذَا فَعَلَهُ؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُؤُمِنًا بِتَحْرِيمِهِ أَو لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَ مُؤُمِنًا بتَحْرِيمِهِ فَاعِلًا لَهُ: فَقَد جَمَعَ بَيْنَ أَدَاءِ وَاجِبٍ وَفِعْلِ مُحَرَّمٍ، فَصَارَ لَهُ حَسَنَةٌ وَسَيِّئَةٌ، وَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِيمَا لَا يُعْذَرُ بِتَرْكِ الْإِيمَانِ بِوُجُوبِهِ وَتَحْرِيمِهِ مِنَ الْأمُورِ الْمُتَوَاتِرَةِ.

وَأَمَّا كَوْنُ تَرْكِ الْإِيمَانِ بِهَذِهِ الشَّرَائِعِ كُفْرًا، وَفِعْلُ الْمُحَرَّمِ الْمُجَرَّدِ لَيْسَ كُفْرًا: فَهَذَا مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ، وَقَد دَلَّ عَلَى ذَلِكَ كِتَابُ اللهِ فِي قَوْلِهِ:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّين} [التوبة: 11] إذِ الْإِقْرَارُ بِهَا مُرَادٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَفِي تَرْكِ الْفِعْلِ نِزَاعٌ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] فَإِنَّ عَدَمَ الْإِيمَانِ بِوُجُوبِهِ وَتَرْكِهِ كُفْرٌ، وَالْإِيمَانُ بِوُجُوبِهِ وَفِعْلِهِ يَجِبُ أَنْ يَكونَ مُرَادًا مِن هَذَا النَّصِّ، كَمَا قَالَ مَن قَالَ مِنَ السَّلَفِ:"هُوَ مَن لَا يَرَى حَجَّهُ بِرًّا وَلَا تَرْكَهُ إثْمًا"، وَأَمَّا التَّرْكُ الْمُجَرَّدُ فَفِيهِ نِزَاعٌ.

وإذَا تَأَمَّلْت أَهْلَ الضَّلَالِ وَالْخَطَأِ مِن هَذِهِ الْأْمَّةِ تَجِدُ الْأَصْلَ: تَرْكَ الْحَسَنَاتِ لَا فِعْلَ السَّيِّئاتِ، وَأَنَّهُم فِيمَا يُثْبِتُونَهُ أَصْلُ أَمْرِهِمْ صَحِيحٌ، وَإِنَّمَا أُتُوا مِن جِهَةِ مَا نَفَوْهُ، وَالْإِثْبَاتُ فِعْلُ حَسَنَةٍ، وَالنَّفْيُ تَرْكُ سَيِّئَةٍ، فَعُلِمَ أَنَّ تَرْكَ الْحَسَنَاتِ أَضَرُّ مِن فِعْلِ السَّيِّئَاتِ وَهُوَ أَصْلُهُ.

مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ الوعيدية مِنَ الْخَوَارجِ وَغَيْرِهِمْ فِيمَا يُعَظّمُونَهُ مِن أَمْرِ الْمَعَاصِي وَالنَّهْي عَنْهَا وَاتِّبَاعِ الْقُرْآنِ وَتَعْظِيمِهِ: أَحْسَنُوا، لَكنْ إنَّمَا اتُوا مِن جِهَةِ عَدَمِ اتِّبَاعِهِمْ لِلسُّنَّةِ، وَإِيمَانِهِمْ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنَ الرَّحْمَةِ لِلْمُؤمِنِ وَإِن كَانَ ذَا كَبِيرَةٍ.

وَكَذَلِكَ الْمُرْجِئَةُ فِيمَا أَثْبَتُوهُ مِن إيمَانِ أَهْلِ الذُّنُوبِ وَالرَّحْمَةِ لَهُمْ: أَحْسَنُوا، لَكِنْ إنَّمَا أَصْلُ إسَاءَتِهِمْ مِن جِهَةِ مَا نَفَوْهُ مِن دُخُولِ الْأَعْمَالِ فِي الْإِيمَانِ وَعُقُوبَاتِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ.

ص: 518

فَالْأَوَّلُونَ: بَالَغُوا فِي النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَقَصَّرُوا فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ.

وَهَؤُلَاءِ: قَصَّرُوا فِي النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَفِي الْأَمْرِ بِكَثِيرِ مِنَ الْمَعْرُوفِ.

وَكَذَلِكَ الْقَدَرِّيَةُ هُم فِي تَعْظِيمِ الْمَعَاصِي وَذَمِّ فَاعِلِهَا وَتَنْزِيهِ اللهِ تَعَالَى عَنِ الظُّلْمِ وَفِعْلِ الْقَبِيحِ مُحْسِنُونَ، وَإِنَّمَا أَسَاؤُوا فِي نَفْيِهِمْ مَشِيئَةَ اللهِ الشَّامِلَةَ وَقُدْرَتَهُ الْكَامِلَةَ وَعِلْمَهُ الْقَدِيمَ أيْضًا. [20/ 85 - 111]

* * *

‌الصَّبْرُ عَلَى أَدَاءِ الطَّاعَاتِ: أَكْمَلُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى اجْتِنَاب الْمُحَرَّمَاتِ وَأَفْضَلُ:

5405 -

الصَّبْرُ عَلَى أَدَاءِ الطَّاعَاتِ: أَكْمَلُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى اجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ وَأَفْضَلُ؛ فَإِنَّ مَصْلَحَةَ فِعْلِ الطَّاعَةِ أَحَبُّ إِلَى الشَّارعِ مِن مَصْلَحَةِ تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ، وَمُفْسِدَةُ عَدَمِ الطَّاعَةِ: أَبْغَضُ إِلَيْهِ وَأَكْرَهُ مِن مَفْسَدَةِ وُجُودِ الْمَعْصِيَةِ. [1/ 144 - 145]

* * *

‌هل الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَن ضِدِّهِ

؟

5406 -

يَقُولُ الْفُقَهَاءُ: الْأَمْرُ بِالشَّيءِ نَهْيٌ عَن ضِدِّهِ.

وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ مَنْهِي عَنْهُ بِطَرِيقِ اللَّازِمِ، وَقَد يَقْصِدُهُ الْآمِرُ وَقَد لَا يَقْصِدُهُ.

وَأَمَّا الْمَطْلُوبُ بِالنَّهْيِ فَقَد قِيلَ: إنَّهُ نَفْسُ عَدَمِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَقِيلَ: لَيْسَ كَذَلِكَ.

وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ مَقْصُودَ النَّاهِي قَد يَكُونُ نَفْسَ عَدَمِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَقَد يَكُونُ فِعْلَ ضِدّهِ. [30/ 118]

* * *

ص: 519

‌الْحَسَنَاتُ والسَّيِّئاتُ تُعَلَّلُ بِعِلَّتَيْنِ:

5407 -

الْحَسَنَاتُ تُعَلَّلُ بِعِلَّتَيْنِ:

إحْدَاهُمَا: مَا تتَضَمَّنُهُ مِن جَلْبِ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَنْفَعَةِ.

وَالثانِيَةُ: مَا تتضَمَّنُهُ مِن دَفْعِ الْمَفْسَدَةِ وَالْمَضَرَّةِ.

وَكَذَلِكَ السَّيِّئاتُ تُعَلَّلُ بِعِلَّتَيْنِ:

إحْدَاهُمَا: مَا تتَضَمَّنُهُ مِن الْمَفْسَدَةِ وَالْمَضَرَّةِ.

وَالثَّانِيَةُ: مَا تتضَمَّنُهُ مِنَ الصَّدِّ عَنِ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَصْلَحَةِ.

مِثَالُ ذَلِكَ: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45]، فَبَيَّنَ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا فَقَوْلُهُ:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} بَيَانٌ لِمَا تَتَضَمَّنُهُ مِن دَفْعِ الْمَفَاسِدِ وَالْمَضَارِّ، فَإِنَّ النَفْسَ إذَا قَامَ بِهَا ذِكْرُ اللهِ وَدُعَاؤُهُ -لَا سِيَّمَا عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ- أَكْسَبَهَا ذَلِكَ صِبْغَةً صَالِحَةً تَنْهَاهَا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ كَمَا يُحِسُّهُ الْإِنْسَانُ مِن نَفْسِهِ.

وَقَولُهُ: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} بَيَانٌ لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَصْلَحَةِ؛ أَيْ: ذِكْرُ اللهِ الَّذِي فِيهَا أَكْبَرُ مِن كَوْنِهَا نَاهِيَةً عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ لِنَفْسِهِ.

وَمَن ظَنَّ أَنَّ الْمَعْنَى: "وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ مِنَ الصَّلَاةِ" فَقَد أَخْطَأَ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ مِنَ الذِّكْرِ الْمُجَرَّدِ بِالنَّصّ وَالْإِجْمَاعِ. [20/ 192 - 193]

* * *

‌التَّعَاوُن نَوْعَانِ:

5408 -

إِنَّ التَّعَاوُنَ نَوْعَانِ:

الْأوّلُ: تَعَاوُنٌ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى مِن الْجِهَادِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ وَإِعْطَاءِ الْمُسْتَحقِّينَ، فَهَذَا مِمَّا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ.

ص: 520

وَمَن أَمْسَكَ عَنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ مِن أَعْوَانِ الظَّلَمَةِ فَقَد تَرَكَ فَرضًا عَلَى الْأَعْيَانِ أَو عَلَى الْكِفَايَةِ؛ مُتَوَهِّمًا أَنَّهُ مُتَوَرِّعٌ.

وَمَا أَكْثَرَ مَا يَشْتَبِهُ الْجُبْنُ وَالْفَشَلُ بِالْوَرَعِ؛ إذ كُلٌّ مِنْهُمَا كَفُّ وإمْسَاكٌ.

وَالثَّانِي: تَعَاوُن عَلَى الْإِثْمِ وَالْعدْوَانِ .. فَهَذَا الَّذِي حَرَّمَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ.

نَعَمْ، إذَا كَانَت الْأَمْوَالُ قَد أُخِذَتْ بِغَيْرِ حَقّ، وَقَد تَعَذَّرَ رَدُّهَا إلَى أَصْحَابِهَا؛ كَكَثِير مِن الْأَمْوَالِ السُّلْطَانِيَّةِ: فَالْإِعَانَةُ عَلَى صَرْفِ هَذِهِ الْأَمْوَالِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَسَدَادِ الثُّغُورِ وَنَفَقَةِ الْمُقَاتِلَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: مِن الْإِعَانَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى؛ إذ الْوَاجِبُ عَلَى السُّلْطَانِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ -إذَا لَمْ يُمْكِنْ مَعْرِفَةُ أَصْحَابِهَا وَرَدُّهَا عَلَيْهِم وَلَا عَلَى وَرَثَتِهِمْ- أَنْ يَصْرِفَهَا -مَعَ التَّوْبَةِ إنْ كَانَ هُوَ الظَّالِمُ- إلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَن غَيْرِ وَاحِدٍ مِن الصَّحَابَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّت الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ.

وَإِن كَانَ غَيْرُهُ قَد أَخَذَهَا: فَعَلَيْهِ هُوَ أَنْ يَفْعَلَ بِهَا ذَلِكَ.

كَذَلِكَ لَو امْتَنَعَ السُّلْطَانُ مِن رَدِّهَا: كَانَت الْإِعَانَةُ عَلَى إنْفَاقِهَا فِي مَصَالِحِ أَصْحَابِهَا أَوْلَى مِن تَرْكِهَا بِيَدِ مَن يُضَيِّعُهَا عَلَى أَصْحَابِهَا وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ.

فَإِنَّ مَدَارَ الشَّرِيعَةِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} .

وَعَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ تَحْصِيلُ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلُهَا، وَتَعْطِيلُ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلُهَا، فَإِذَا تَعَارَضَتْ: كَانَ تَحْصِيلُ أَعْظَمِ الْمَصْلَحَتَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا وَدَفْعُ أَعْظَمِ الْمَفْسَدَتَيْنِ مَعَ احْتِمَالِ أَدْنَاهَا: هُوَ الْمَشْرُوعُ.

وَالْمُعِينُ عَلَى الْإِثْم وَالْعُدْوَانِ: مَن أَعَانَ الظَّالِمَ عَلَى ظُلْمِهِ، أَمَّا مَن أَعَانَ الْمَظْلُومَ عَلَى تَخْفِيفِ الظَّلْمِ عَنْهُ أَو عَلَى أَدَاءِ الْمَظْلِمَةِ: فَهُوَ وَكِيلُ الْمَظْلُومِ، لَا وَكِيلُ الظَّالِمِ. [28/ 283 - 285]

* * *

ص: 521

‌النَّاس في غضبهم ثَلَاَثةُ أقسَامٍ:

5409 -

إِن النَّاسَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:

أ- قِسْمٌ يَغْضَبُونَ لِنُفُوسِهِمْ وَلرَبِّهِمْ.

ب- وَقِسْمٌ لَا يَغْضَبُونَ لِنفُوسِهِمْ وَلَا لِرِّبهِمْ.

ج- وَالثَّالِثُ -وَهُوَ الْوَسَطُ- الَّذِي يَغْضَبُ لِرَّبِّهِ لَا لِنَفْسِهِ.

د- فَأَمَّا مَن يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ لَا لِرِّبهِ، أَو يَأْخُذُ لِنَفْسِهِ وَلَا يُعْطِي غَيْرَهُ: فَهَذَا الْقِسْمُ الرَّابعُ شَرُّ (الْخَلْقِ)

(1)

، لَا يَصْلُحُ بِهِم دِينٌ وَلَا دُنْيَا.

كَمَا أَنَّ الصَّالِحِينَ أَرْبَابَ السِّيَاسَةِ الْكَامِلَةِ:

أ- هُم الَّذِينَ قَامُوا بِالْوَاجِبَاتِ وَتَرَكُوا الْمُحَرَّمَاتِ.

ب- وَهُم الَّذِينَ يُعْطُونَ مَا يُصْلِحُ الدِّينَ بِعَطَائِهِ وَلَا يَأْخُذُونَ إلَّا مَا أُبِيحَ لَهُمْ.

ج- وَيغْضَبُونَ لِرَبِهِم إذَا اُنْتُهِكَتْ مَحَارِمُة وَيَعْفُونَ عَن حُقُوقِهِمْ.

وَهَذِهِ أَخْلَاقُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَذْلِهِ وَدَفْعِهِ وَهِيَ أَكْمَلُ الْأُمُورِ.

وَكُلَّمَا كَانَ إلَيْهَا أَقْرَبُ كَانَ أَفْضَلَ، فَلْيَجْتَهِد الْمُسْلِمُ فِي التَّقَرُّبِ إلَيْهَا بِجُهْدِهِ، ويسْتَغْفِرُ اللهَ بَعْدَ ذَلِكَ مِن قُصُورٍ أَو تَقْصِيرِهِ بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَ كَمَالَ مَا بَعَثَ اللهُ تَعَالَى بِهِ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم مِن الدِّينِ. [28/ 295 - 296]

* * *

‌النَّاسُ بالنسبة لجدالهم ثَلَاَثَةُ أَقْسَامٍ:

5410 -

النَّاسُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:

أ- إمَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِالْحَقِّ وَيَتَّبِعَهُ: فَهَذَا صَاحِبُ الْحِكْمَةِ.

(1)

في الأصل: (الحلق)، ولعل الصواب ما هو مثبت؛ لأن السياق يقتضي ذلك.

ص: 522

ب- وَإِمَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ، لَكِنْ لَا يَعْمَلُ بِهِ: فَهَذَا يُوعَظُ حَتَّى يَعْمَلَ.

ج- وَإِمَّا أَنْ لَا يَعْتَرِفَ بِهِ: فَهَذَا يُجَادَلُ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ؛ لِأَنَّ الْجِدَالَ فِي مَظِنَّةِ الْإِغْضَابِ، فَإِذَا كَانَ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ: حَصَلَتْ مَنْفَعَتُهُ بِغَايَةِ الْإِمْكَانِ كَدَفْعِ الصَّائِلِ. [2/ 45]

* * *

‌(حكم التَّشَبُّه بِالْبَهَائِمِ

؟)

5411 -

التَّشَبُّهُ بِالْبَهَائِمِ فِي الْأُمُورِ الْمَذْمُومَةِ فِي الشَّرْعِ مَذْمُومٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي أَصْوَاتِهَا وَأَفْعَالِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ مِثْلُ: أَنْ يَنْبَحَ نَبِيحَ الْكِلَابِ، أَو يَنْهَقَ نَهِيقَ الْحَمِيرِ وَنَحْو ذَلِكَ. وَذَلِكَ لِوُجُوهِ:

أَحَدُهَا: أَنَّا قَرَّرْنَا فِي اقْتِضَاءِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ نَهْيَ الشَّارع عَن التَّشَبُّهِ بِالْآدَمِيِّينَ الَّذِينَ جِنْسُهُم نَاقِصٌ؛ كَالتَّشَبُّهِ بِالْأَعْرَابِ وَبِالْأَعَاجِمِ وَبِأَهْلِ الْكِتَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي أمُور مِن خَصَائِصِهِمْ، وَبَيَّنَّا أَنَّ مِن أَسْبَاب ذَلِكَ أَنَّ الْمُشَابهَةَ تُورِثُ مُشَابَهَةَ الْأَخْلَاقِ .. بَل هَذِهِ الْقَاعِدَةُ تَقْتَضِي بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ النَّهْيَ عَن التَّشَبُّهِ بِالْبَهَائِمِ مُطْلَقًا فِيمَا هُوَ مِن خَصَائِصِهَا وَإِن لَمْ يَكُن مَذْمُومًا بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدْعُو إلَى فِعْلِ مَا هُوَ مَذْمُومٌ بِعَيْنِهِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ كَوْنَ الْإِنْسَانِ مِثْل الْبَهَائِمِ مَذْمُومٌ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)} [الأعراف: 179].

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ إنَمَا شَبَّهَ الْإِنْسَانَ بِالْكَلْبِ وَالْحِمَارِ وَنَحْوِهِمَا فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لَهُ كَقَوْلِهِ: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ} [الأعراف: 176].

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُشَابِهَ لِلشَّيْءِ لَا بُدَّ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ مِن أَحْكَامِهِ بِقَدْرِ الْمُشَابَهَةِ،

ص: 523

فَإِذَا نبحَ نِبَاحَهَا كَانَ فِي ذَلِكَ مِن مُقَارَنَةِ الشَّيَاطِينِ وَتَنْفِيرِ الْمَلَائِكَةِ بِحَسَبِهِ، وَمَا يَسْتَدْعِي الشَّيَاطِينَ وَيُنَفِّرُ الْمَلَائِكَةَ: لَا يُبَاحُ إلَّا لِضَرُورَة؛ وَلهَذَا لَمْ يُبَح اقْتِنَاءُ الْكَلْبِ إلَّا لِضَرُورَةٍ، لِجَلْبِ مَنْفَعَةٍ كَالصَّيْدِ، أَو دَفْعِ مَضَرَّةٍ عَن الْمَاشِيَةِ وَالْحَرْثِ حَتَّى قَالَ صلى الله عليه وسلم:"مَن اقْتَنَى كلْبًا إلَّا كلْبَ مَاشِيَةٍ أَو حَرْثٍ أَو صَيْدٍ نَقَصَ عَمَلِهِ كلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ"

(1)

. [32/ 256 - 259]

* * *

‌دَلَالَةُ الْعُمُومِ الْمَعْنَوِيِّ الْعَقْلِيِّ واللَّفْظِيُّ:

5412 -

دَلَالَةُ الْعُمُومِ الْمَعْنَوِيِّ الْعَقْلِيِّ: مَا أَنْكَرَهُ أَحَدٌ مِن الْأُمَّةِ فِيمَا أَعْلَمُهُ؛ بَل وَلَا مِن الْعُقَلَاءِ.

وَأَمَّا الْعُمُومُ اللَّفْظِيُّ: فَمَا أَنْكَرَهُ أَيْضًا إمَامٌ وَلَا طَائِفَة لَهَا مَذْهَبٌ مُسْتَقِر فِي الْعِلْمِ، وَلَا كَانَ فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ مَن يُنْكِرُهُ. [6/ 440 - 441]

* * *

‌الْكفَّارُ وَأَهْلُ الْجَرَائِم وَالذُّنُوب وَأَهْلُ الشَّهَوَاتِ يُحَاسَبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى النِّعَمِ الَّتِي تنعَّمُوَا بِهَا:

5413 -

كل مَقْصُودٍ: إمَّا أَنْ يُقْصَدَ لِنَفْسِهِ، وإِمَّا أَنْ يُقْصَدَ لِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ مُنْتَهَى مَقْصُودِهِ وَمُرَادِهِ عِبَادَةَ اللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهُوَ إلَهُهُ الَّذِي يَعْبُدُهُ لَا يَعْبُدُ شَيْئًا سِوَاهُ، وَهُوَ أَحَبُّ إلَيْهِ مِن كُلِّ مَا سِوَاهُ: فَإِنَّ إرَادَتَة تَنْتَهِي إلَى إرَادَتِهِ وَجْهَ اللهِ، فَيُثَابُ عَلَى مُبَاحَاتِهِ الَّتِي يَقْصِدُ الِاسْتِعَانَةَ بِهَا عَلَى الطَّاعَةِ؛ كَمَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ"

(2)

عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: "نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا صَدَقَةً" .. وَإِن كَانَ أَصْلُ مَقْصُودِهِ عِبَادَةَ غَيْرِ اللهِ: لَمْ تَكُن الطَّيِّبَاتُ مُبَاحَةً لَهُ؛ فَإِنَّ اللهَ أَبَاحَهَا لِلْمُؤْمِنِينَ مِن عِبَادِهِ؛ بَل الْكفَّارُ وَأَهْلُ الْجَرَائِمِ وَالذُّنُوبِ وَأَهْلُ

(1)

رواه البخاري (2323)، ومسلم (1574). وفي رواية:"نقص من عمله كل يوم قيراطان".

(2)

البخاري (4006)، ومسلم (1002).

ص: 524

الشَّهَوَاتِ يُحَاسَبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى النِّعَمِ الَّتِي تَنَعَّمُوا بِهَا، فَلَمْ يَذْكُرُوهُ وَلَمْ يَعْبُدُوهُ بِهَا، وَيُقَالُ لَهُم:{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف: 20].

وَقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)} [التكاثر: 8]؛ أَيْ: عَن شُكْرِهِ، وَالْكَافِرُ لَمْ يَشْكُرْ عَلَى النَّعِيمِ الَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ بِهِ فَيُعَاقِبُهُ عَلَى ذَلِكَ.

وَلهَذَا لَمْ تَكُنْ أَمْوَالُهُم مَمْلُوكَةً لَهُم مِلْكًا شَرْعِيًّا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ الشَّرْعِيَّ هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّصَرُّفِ الَّذِي أَبَاحَهُ الشَّارعُ صلى الله عليه وسلم، وَالشَّارعُ لَمْ يُبِحْ لَهُم تَصَرُّفًا فِي الْأَمْوَالِ إلا بِشَرْطِ الْإِيمَانِ، فَكَانَت أَمْوَالُهُم عَلَى الْإِبَاحَةِ.

فَإِذَا قَهَرَ طَائِفَةٌ مِنْهُم طَائِفَةً قَهْرًا يَسْتَحِلُّونَهُ فِي دِينِهِمْ

(1)

وَأَخَذُوهَا مِنْهُمْ: صَارَ هَؤُلَاءِ فِيهَا كَمَا كَانَ أولَئِكَ.

وَالْمُسْلِمُونَ إذَا اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا، فَغَنِمُوهَا: مَلَكُوهَا شَرْعًا؛ لِأَنَّ اللهَ أَبَاحَ لَهُم الْغَنَائِمَ وَلَمْ يُبِحْهَا لِغَيْرِهِمْ.

وَيجُوزُ لَهُم أَنْ يُعَامِلُوا الْكُفَّارَ فِيمَا أَخَذَهُ بَعْضُهُم مِن بَعْضٍ بِالْقَهْرِ الَّذِي يَسْتَحِلّونَهُ فِي دِينِهِمْ، وَيجوزُ أَنْ يَشتَرِيَ مِن بَعْضِهِمْ مَا سَبَاهُ مِن غَيْرِهِ؛ لِأنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ اسْتِيلَائِهِ عَلَى الْمُبَاحَاتِ؛ وَلِهَذَا سَمَّى اللهُ مَا عَادَ مِن أَمْوَالِهِمْ إلَى الْمُسْلِمِينَ "فَيْئًا"؛ لِأَنَّ اللهَ أَفَاءَهُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ، أَيْ: رَدَّهُ إلَى الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، الَّذِينَ يَعْبُدُونَه وَيَسْتَعِينُونَ بِرِزْقِهِ عَلَى عِبَادَتِهِ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِيَعْبُدُوهُ، وَإِنَّمَا خَلَقَ الرِّزْقَ لَهُم لِيَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى عِبَادَتِهِ.

وَلَفْظُ "الْفَيءِ" قَد يَتَنَاوَلُ "الْغَنِيمَةَ"؛ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَنَائِمِ حنين:

(1)

هذا قيد مهم، فإذا كان القهر ظلمًا وجورًا ولم يكن له مُستند في دينهم: فلا يحلّ الاستيلاء عليهم، ولا شراؤهم، والله أعلم.

ص: 525

"لَيْسَ لِى مِمَّا أفَاءَ اللهُ عَلَيْكُمْ إلَّا الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُود عَليْكُمْ"

(1)

.

لَكِنَّهُ لَمَّا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6] صَارَ لَفْظُ "الْفَيءِ" إذَا أُطْلِقَ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ: فَهُوَ مَا أُخِذَ مِن مَالِ الْكُفَّارِ بِغَيْرِ إيجَافِ خَيْل وَلَا رِكَابٍ، وَالْإيجَافُ نَوْعٌ مِن التَّحْرِيكِ. [7/ 43 - 48]

* * *

(قَول مُوسَى لِلْخَضِرِ: {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77]: سُؤَالٌ مِن جِهَةِ الْمَعْنَى)

5414 -

قَالَ مُوسَى لِلْخَضِرِ: {قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} وَهَذَا سُؤَالٌ مِن جِهَةِ الْمَعْنَى؛ فَإِنَّ السُّؤَالَ وَالطَّلَبَ قَد يَكُونُ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ؛ كَمَا تَقُولُ: لَو نَزَلْت عِنْدَنَا لَأَكْرَمْنَاك، وَإِن بِتّ اللَّيْلَةَ عِنْدَنَا أَحْسَنْت إلَيْنَا، وَمِنْهُ قَوْلُ آدَمَ:{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، وَقَوْلُ نُوحٍ:{رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47]، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ. [7/ 175]

* * *

(الاِسْم الْوَاحِد يُنْفَى وَيُثْبَتُ بِحَسَبِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ)

5415 -

جِمَاعُ الْأَمْرِ: أَنَّ الِاسْمَ الْوَاحِدَ يُنْفَى ويُثْبَتُ بِحَسَبِ الْأحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ، فَلَا يَجِبُ إذَا أُثْبِتَ أو نُفِيَ فِي حُكْم أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَحْكامِ، وَهَذَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَسَائِرِ الْأُمَمِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى مَفْهُومٌ.

مِثَالُ ذَلِكَ .. : الْأنْسَابُ؛ مِثْل كَوْنِ الْإِنْسَانِ أَبًا لِآخَرَ أَو أَخَاهُ، يَثْبُتُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ دُونَ بَعْضٍ، فَإِنَّهُ قَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ"

(2)

عَن عَائِشَةَ رضي الله عنها

(1)

رواه أبو داود (2694)، والنسائي (3688)، ومالك (1319)، وأحمد (6729)، وحسَّنه الألباني في صحيح أبي داود.

(2)

البخاري (2053)، ومسلم (1457).

ص: 526

قَالَتْ: كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ ابْنَ وَليدَةِ زَمْعَةَ مِنِّي فَاقْبِضْهُ، قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ عَامَ الفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَقَالَ: ابْنُ أَخِي قَد عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ، فَقَامَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فَقَالَ: أَخِي وَابْنُ وَليدَةِ أَبِي وُلدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَتَسَاوَقَا

(1)

إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، ابْنُ أَخِي كَانَ قَد عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ، فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِي، وَابْنُ وَليدَةِ أَبِي، وُلدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ"، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ-صلى الله عليه وسلم:"الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ" ثُمَّ قَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ -زَوْجِ النَّبِيِّ-صلى الله عليه وسلم: "احْتَجِبِي مِنْهُ" لِمَا رَأَى مِن شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِيَ اللهَ.

فَقَد جَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ابْنَ زمعة لِأَنَّهُ وُلدَ عَلَى فِرَاشِهِ، وَجَعَلَهُ أَخًا لِوَلَدِهِ بِقَوْلِهِ:"فَهُوَ لَك يَا عَبْدُ بْنُ زمعة".

وَقَد صَارَتْ سَوْدَةُ أُخْتَه يَرِثُهَا وَتَرِثُهُ؛ لِأَنَّهُ ابْن أَبِيهَا زمعة وُلدَ عَلَى فِرَاشِهِ.

وَمَعَ هَذَا فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَحْتَجِبَ مِنْة: لِمَا رَأَى مِن شَبَهِهِ الْبَيِّنِ بعتبة.

فَإِنَّهُ قَامَ فِيهِ دَلِيلَانِ مُتَعَارِضَانِ:

أ- الْفِرَاشُ.

ب- وَالشَّبَهُ.

وَالنَّسَبُ فِي الظَّاهِرِ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ أَقْوَى.

وَلَمَّا كَانَ احْتِجَابُهَا مِنْهُ مُمْكِنًا مِن غَيْرِ ضَرَرٍ: أَمَرَهَا بِالِاحْتِجَابِ لِمَا ظَهَرَ مِن الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ أَخَاهَا فِي الْبَاطِنِ.

فَتَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْمَ الْوَاحِدَ يُنْفَى فِي حُكْمٍ وَيَثْبُتُ فِي حُكْمٍ.

فَهُوَ أَخٌ فِي الْمِيرَاثِ، وَلَيْسَ بِأَخٍ فِي المحرمية.

(1)

أي: ذهبا إليه يسوق كلّ منهما الآخر ليترافعا عنده.

ص: 527

وَكَذَلِكَ وَلَدُ الزنا عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَابْنُ الْمُلَاعَنَةِ عِنْدَ الْجَمِيعِ إلَّا مَن شَذَّ: لَيْسَ بِوَلَدٍ فِي الْمِيرَاثِ وَنَحْوِهِ، وَهُوَ وَلَدٌ فِي تَحْرِيمِ النكَاحِ والمحرمية.

وَلَفْظُ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ فِي الْأَمْرِ: يَتَنَاوَلُ الْكَامِلَ، وَهُوَ الْعَقْدُ وَالْوَطْءُ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]، وَقَوْلُهُ:{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230].

وَفِي النَّهْي: يَعُمُّ النَّاقِصَ وَالْكامِلَ، فَيَنْهَى عَن الْعَقْدِ مُفْرَدًا وَإِن لَمْ يَكُن وَطْءٌ؛ كَقَوْلِهِ:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22]؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْآمِرَ مَقْصُودُهُ تَحْصِيلُ الْمَصْلَحَةِ، وَتَحْصِيلُ الْمَصْلَحَةِ إنَّمَا يَكُونُ بِالدُّخُولِ.

وَالنَّاهِي مَقْصودُة دَفْعُ الْمَفْسَدَةِ، فَيَدْخُلُ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ مَفْسَدَةٌ.

وَكَذَلِكَ النَّسَبُ وَالْمِيرَاثُ مُعَلَّق بِالْكَامِلِ مِنْهُ، وَالتَّحْرِيمُ مُعَلَّق بِأَدْنَى سَبَبٍ حَتَّى الرَّضَاعِ.

وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يَكُونُ لَهُ مُبْتَدَأٌ وَكَمَالٌ: يُنْفَى تَارَةً بِاعْتِبَارِ انْتِفَاءِ كَمَالِهِ، وَيثْبُتُ تَارَةً بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ مَبْدَئِهِ

(1)

.

فَلَفْظُ الرِّجَالِ يَعمُّ الذُّكُورَ وَإِن كَانُوا صِغَارًا فِي مِثْل قَوْلِهِ: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176].

وَلَا يَعُمُّ الصّغَارَ فِي مِثْل قَوْلِهِ: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} [النساء: 75].

فَإِنَّ بَابَ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ عَمَلٌ يَعْمَلُهُ الْقَادِرُونَ عَلَيْهِ، فَلَو اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِن الرِّجَالِ لَظُنَّ أَنَّ الْوِلْدَانَ غَيْرُ دَاخِلِينَ لِأَنَّهُم لَيْسُوا مَن أَهْلِهِ، وَهُم ضعَفَاءُ، فَذَكَرَهُم بِالِاسْمِ الْخَاصِّ لِيُبَيِّنَ غذْرَهُم فِي تَرْكِ الْهِجْرَةِ وَوُجُوبِ الْجِهَادِ.

(1)

هذه قاعدة عظيمة النفع، يندفع بها أمورٌ كثيرةٌ تُشكل على بعض الناس.

ص: 528

وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ لَهُ مَبْدَأٌ وَكَمَالٌ، وَظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ، فَإِذَا عُلِّقَتْ بِهِ الْأَحْكَامُ الدُّنْيَوِيَّةُ مِن الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ كَحَقْنِ الدَّمِ وَالْمَالِ وَالْمَوَارِيثِ وَالْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ عُلِّقَتْ بِظَاهِرِهِ، لَا يُمْكِنُ غَيْرُ ذَلِكَ؛ إذ تَعْلِيقُ ذَلِكَ بِالْبَاطِنِ مُتَعَذّرٌ، وَإِن قُدِّرَ أَحْيَانًا فَهُوَ مُتَعَسِّرٌ عِلْمًا وَقُدْرَةً، فَلَا يُعْلَمُ ذَلِكَ عِلْمًا يَثْبُت بِهِ فِي الظَّاهِرِ، وَلَا يُمْكِنُ عُقُوبَةُ مَن يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ فِي الْبَاطِنِ. [7/ 418 - 422]

* * *

‌أُصُولُ الإِسْلَامِ تَدُورُ عَلَى ثَلَاَثةِ أَحَادِيثَ:

5416 -

أصُولُ الْإِسْلَامِ تَدُورُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ:

أ- قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئِ مَا نَوَى"

(1)

.

ب- وَقَوْلُهُ: "مَن عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ"

(2)

.

ج- وَقَوْلُهُ: "الْحَلَالُ بَيِّن وَالْحَرَامُ بَيّنٌ وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ"

(3)

. [25/ 324]

5417 -

أَكْثَرُ مَا يُفْسِدُ الْمُلْكَ وَالدُّوَلَ طَاعَةُ النّسَاءِ. [25/ 324]

‌متى يجب الصلاة على النبي؟ وحكم ابتداء السلام

؟

5418 -

أَمَّا السَّلَامُ الْمُطْلَقُ الْعَامُّ فَالْأَمْرُ بِهِ مِن خَصَائِصِهِ، كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ مِن خَصَائِصِهِ، وَإِن كَانَ فِي الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى غَيْرِهِ عُمُومًا، وَفِي الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِهِ خصُوصًا نِزَاعٌ، وَقَد عَدَّى بَعْضُهُم ذَلِكَ إلَى السَّلَامِ فَجَعَلَهُ مُخْتَصًّا بِهِ كَمَا اخْتَصَّ بِالصَّلَاةِ، وَحُكيَ هَذَا عَن أَبِي مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِي، لَكِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ السَّلَامَ لَا يَخْتَصُّ بِهِ.

وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَفِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ، وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ فِي كِتَابِهِ

(1)

رواه البخاري (1)، ومسلم (1907).

(2)

رواه مسلم (1718).

(3)

رواه البخاري (52)، ومسلم (1599).

ص: 529

بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} [الأحزاب: 56] فَهُنَا أَخْبَرَ وَأَمَرَ.

وَأَمَّا فِي حَقِّ عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ فَأَخْبَرَ وَلَمْ يَأْمُرْ فَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} [الأحزاب: 43].

وَلهَذَا إذَا ذَكَرَ الْخُطَبَاءُ ذَلِكَ قَالُوا: إنَّ اللهَ أَمَرَكُمْ بِأَمْر بَدَأَ فِيهِ بِنَفْسِهِ، وَثَنَّى بِمَلَائِكَتِهِ، وَأَيَّهَ بِالْمُومِنِينَ مِن بَرِيَّتِهِ؛ أَيْ: قَالَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأحزاب: 49]

(1)

.

فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَعَالَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بَدَأَ فِيهَا بِنَفْسِهِ وَثَنَّى بِمَلَائِكَتِهِ لَكِنْ لَمْ يُؤَيِّهْ فِيهَا بِالْمُؤْمِنِينَ مِن بَرِيَّتهِ.

وَقَد اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّه تُشْرَعُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلَاةِ قَبْلَ الدُّعَاءِ وَفِي غَيْرِ الصَّلَاةِ.

وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ وَفِي الْخُطَبِ، فَأوْجَبَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ، وَلَمْ يُوجِبْهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ، وَعَن الْإِمَامِ أَحْمَد رِوَايَتَانِ.

وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ أَنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ مَعَ الدُّعَاءِ، فَلَا نَدْعُو حَتَّى نَبْدَأَ بِهِ-صلى الله عليه وسلم

(2)

، وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ مَأُمُورٌ بِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ فِي التَّشَهُّدِ.

(1)

هذا يدل على أن هذه الصيغة مشهورة منذ زمن ابن تيمية أو قبله، سوى الجملة الأخيرة:(وأيّه .. )، فهي لا يَكاد يَقُولها الخطباء.

(2)

هذه من الترجيحات الغريبة، التي لم أقف على أحد وافقه عليه.

ولعل من الأدلة التي تُؤيد كلام الشيخ ما رواه فَضَالَةُ بْن عُبَيْدِ رضي الله عنه أنّ رَسُولَ اللهِ-صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ لَمْ يُمَجِّدِ اللهَ تَعَالَى، وَلَمْ يُصَل عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"عَجِلَ هَذَا" ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: -أو لِغَيْرِهِ- "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ، فَلْيَبْدَأ بِتَمْجِيدِ رَبِّهِ جَلَّ وَعَزَّ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يَدْعُو بَعْدُ بِمَا شَاءَ". روأه أبو داود (1481)، والترمذي (3477) وقال؛ هَذَا حَدِيث حَسَنٌ صَحِيحٌ. وصحَّحه الألباني. =

ص: 530

وَلَا نِزَاعَ أَنَّهُ هُوَ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 153] وَكَمَا ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ"

(1)

أَنَّهُ قَالَ: "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى".

وَأَيْضًا: لَا نِزَاعَ أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَى آلِهِ تبَعًا، كَمَا عَلَّمَ أُمَّتَهُ أَنْ يَقُولُوا:"اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ .. "

(2)

.

وَأَمَّا صَلَاةُ غَيْرِهِ عَلَى غَيْرِهِ مُنْفَرِدًا مِثْلُ أَنْ يُقَالَ: صَلَّى اللهُ عَلَى أبِي بَكْرٍ أَو عُمَرَ أَو عُثْمَانَ أو عَلِيٍّ: فَفِيهَا قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ.

وَالثَّانِي: الْمَنْعُ مِن ذَلِكَ .. وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ جَدُّنَا ابُو الْبَرَكَاتِ فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ، لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ، وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَن ابْنِ عَبَّاسِ قَالَ: لَا أَعْلَمُ الصَّلَاةَ تَنْبَغِي مِن أَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ إلَّا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسِ: فَهَذَا ذَكَرَهُ لَمَّا صَارَ أَهْلُ الْبِدَع يَخُصُّونَ بِالصَّلَاةِ عَلِيًّا او غَيْرَهُ وَلَا يُصَلُّونَ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَهَذَا بِدْعَةٌ بِالِاتِّفَاقِ.

= لكن هذا الحديث ورد في الصلاة، ويحتمل أنه في التشهد الأخير، فهو الذي فيه الصلاة على النبي، وشحبقها التمجيد والثناء. وهو ما يدل على تأكد الصلاة في هذا الموضع، وجوبه أيضًا عند بعض العلماء.

وقد يُستدل على كلامه بما رواه الترمذي (486)، عَن عُمَرَ بْنِ الخَظاب أنه قَالَ: إِن الدُّعَاءَ مَوْقُوفٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لَا يَصْعَدُ مِنْهُ شَيءٌ، حَتى تصَلّيَ عَلَى نَبِيِّكَ صلى الله عليه وسلم.

وهو أصرح وأدل على المطلوب، لكن الألباني ضعَّفه كما في مشكاة المصابيح (938 - (20)).

فالذي يظهر أنه لا يجب الصلاة على النَّبيّ عند الدعاء.

قال العلَّامة ابن باز رحمه الله: وأما الدعاء فهي -أي: الصلاة على النبي- مستحبة في الدعاء، لكن ليس شرطًا في القبول، لو دعا ولم يصل على النبي-صلى الله عليه وسلم يرجى قبول دعائه، ولكن الأفضل أن يصلي على النبي-صلى الله عليه وسلم قبل الدعاء، وبعد الدعاء. اهـ. يُنظر الموقع الرسمي له على هذا الرابط: http//cuttus/uA 72 g.

(1)

البخاري (1497)، ومسلم (1578).

(2)

رواه البخاري (3370)، ومسلم (405).

ص: 531

وَلَمَّا كَانَ اللهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ مَن قَالَ: إنَّ الصَّلَاةَ عَلَى غَيْرِهِ مَمْنُوعٌ مِنْهَا طَرَدَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْهُم أَبُو مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِي فَقَالُوا: لَا يُسَلَّمُ عَلَى غَيْرِهِ!

وَهَذَا لَمْ يُعْرَفْ عَن أَحَدٍ مِن الْمُتَقَدِّمِينَ، وَأَكْثَرُ الْمُتَأخِّرِينَ أَنْكرُوهُ، فَإِنَّ السَّلَامَ عَلَى الْغَيْرِ مَشْرُوعٌ، سَلَام التَّحِيَّةِ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إذَا لَقِيَهُ .. وَالرَّدُّ وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ: إمَّا عَلَى الْأَعْيَانِ وَاِمَّا عَلَى الْكِفَايَةِ.

وَقَد كَانَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ إذَا زَارُوا الْقُبُورَ أَنْ يُسَلِّمُوا عَلَيْهِم فَيَقُولُوا: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِن الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ"

(1)

.

فَاَلَّذِينَ جَعَلُوا السَّلَامَ مِن خَصَائِصِهِ لَا يَمْنَعُونَ مِن السَّلَامِ عَلَى الْحَاضِرِ، لَكِنْ يَقُولُونَ: لَا يُسَلَّمُ عَلَى الْغَائِبِ، فَجَعَلُوا السَّلَامَ عَلَيْهِ مَعَ الْغَيْبَةِ مِن خَصَائِصِهِ.

وَهَذَا حَق، لَكِنَّ الْأَمْرَ بِذَلِكَ وإيجَابَهُ هُوَ مِن خَصَائِصِهِ، كَمَا فِي التَّشَهُّدِ، فَلَيْسَ فِيهِ سَلَامٌ عَلَى مُعَيَّنٍ إلَّا عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ.

وَهَذَا يُويّدُ أَنَّ السَّلَامَ كَالصَّلَاةِ كِلَاهمَا وَاجِبٌ لَهُ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا.

وَغَيْرُهُ

(2)

فَلَيْسَ وَاجِبًا إلَّا سَلَامُ التَّحِيَّةِ عِنْدَ اللِّقَاءِ فَإِنَّهُ مُؤَكَّد بِالِاتِّفَاقِ.

وَهَل يَجِبُ أَو يُسْتَحَبُّ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ معروفيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ، وَاَلَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ النُّصُوصُ أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَقَد رَوَى مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ"

(3)

عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "خَمْسٌ تَجِبُ لِلْمُسْلِمِ علَى الْمُسْلِمِ: يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إذَا لَقِيَهُ، ويَعُوده إذَا مَرِضَ، ويُشَيِّعُهُ إذَا مَاتَ، وَيُجِيبُهُ إذَا دَعاه".

وَقَد أَوْجَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ.

(1)

هذا استدلال بجواز السلام على الغائب.

(2)

أي: غير النبي صلى الله عليه وسلم.

(3)

(2162).

ص: 532

وَالصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ بِإِجْمَاعِهِمْ، وَالسَّلَامُ عِنْدَ اللِّقَاءِ أَوْكَدُ مِن إجَابَةِ الدَّعْوَةِ، وَكَذَلِكَ عِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَالشَّرُّ الَّذِي يَحْصُلُ إذَا لَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلَمْ يَعُدْهُ إذَا مَرِضَ أَعْظَمُ مِمَّا يَحْصُلُ إذَا لَمْ يُجِبْ دَعْوَتَهُ، وَالسَّلَامُ أَسْهَلُ مِن إجَابَةِ الدَّعْوَةِ وَمِن الْعِيَادَةِ. [27/ 407 - 412]

* * *

‌(هل يُمدح ويُذم الإنسان لنسبه؟ وهل عَلَّقَت الشَّرِيعَة بِالنَّسَبِ أَحْكامًا

؟)

5419 -

إنَّ تَعْلِيقَ الشَّرَفِ فِي الدِّينِ بِمُجَرَّدِ النَّسَبِ هُوَ حُكْمٌ مِن أَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِينَ اتَّبَعَتْهُم عَلَيْهِ الرَّافِضَةُ وَأَشْبَاهُهُم مِن أَهْلِ الْجَهْلِ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].

وَلهَذَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ آيَةٌ وَاحِدَةٌ يَمْدَحُ فِيهَا أَحَدًا بِنَسَبِهِ، وَلَا يَذُمُّ أَحَدًا بِنَسَبِهِ، وَإِنَّمَا يَمْدَحُ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، وَيَذُمُّ بِالْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، وَقَد ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي "الصَّحِيحِ"

(1)

أَنَّهُ قَالَ: "أَرْبَعٌ مِن أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي أُمَّتِي لَنْ يَدَعُوهُنَّ: الْفَخْرُ بِالْأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الْأنسَابِ، وَالنِّيَاحَةُ، وَالِاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ". فَجَعَلَ الْفَخْرَ بِالْأَحْسَابِ مِن أمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ.

وَالشَّرِيعَةُ إنَّمَا عَلَّقَتْ بِالنَّسَبِ أَحْكَامًا؛ مِثْل كَوْنِ الْخِلَافَةِ مِن قُرَيْشٍ، وَكَوْنِ ذَوِي الْقُرْبَى لَهُم الْخُمْسُ، وَتَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأنَّ النَّسَبَ الْفَاضِلَ مَظِنَّة أَنْ يَكُونَ أَهْلُهُ أَفْضَلَ مِن غَيْرِهِمْ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ-صلى الله عليه وسلم:"النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ خِيَارُهُم فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُم في الإسْلَامِ إذَا فَقِهُوا"

(2)

.

(1)

مسلم (634).

(2)

رواه مسلم (2637).

ص: 533

وَالْمَظِنَّةُ يُعَلَّقُ الْحُكْم بِهَا إذَا خَفِيَت الْحَقِيقَةُ أَو انْتَشَرَتْ

(1)

.

فَأَمَّا إذَا ظَهَرَ دِينُ الرَّجُلِ الَّذِي بِهِ تَتَعَلَّقُ الْأَحْكَامُ، وَعَرَفَ نَوْعَ دِينِهِ وَقَدْرَهُ: لَمْ يَتَعَلَّقْ بِنَسَبِهِ الْأَحْكامُ الدِّينِيَّةُ؛ وَلهَذَا لَمْ يَكن لِأَبِي لَهَبٍ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ لَمَّا عَرَفَ كُفْرَهُ كَانَ أَحَقَّ بِالذَّمِّ مِن غَيْرِهِ؛ وَلهَذَا جُعِلَ لِمَن يَأتِي بِفَاحِشَةٍ مِن أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ضِعْفَانِ مِن الْعَذَابِ، كَمَا جُعِلَ لِمَن يَقْنُتُ مِنْهُنَّ للهِ وَرَسُولِهِ أَجْرَيْنِ مِن الثَّوَابِ.

فَذَوُو الْأَنْسَابِ الْفَاضِلَةِ إذَا أَسَاؤُوا كَانَت إسَاءَتُهُم أَغْلَظَ مِن إسَاءَةِ غَيْرِهِمْ، وَعُقُوبَتُهُم أَشَدُّ عُقُوبَةً مِن غَيْرِهِمْ. [35/ 230 - 231]

* * *

(يجب تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر وسائر أنواع الاجتماع)

5420 -

قال صاحب المحرر في أحكامه: (باب وجوب نصب ولاية القضاء والإمارة وغيرهما): وذكر هذه الأخبار

(2)

وقال حفيده

(3)

: فأوجب صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر؛ تنبيهًا بذلك على سائر أنواع الاجتماع. [المستدرك 3/ 219]

* * *

(1)

العبارة هكذا في الأصل: وَالْمَظِنَّةُ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِمَا إذَا خَفِيَتْ الْحَقِيقَةُ أو انْتَشَرَتْ، ولعل الصواب المثبت؛ لأن هذه العبارة لا معنى لها فيما يظهر لي، بخلاف المثبت، فإنها عبارةٌ مشهورة بين الأصوليين والفقهاء.

والشيخ رحمه الله نص عليها في شرح عمدة الفقه (1/ 354) فقال: الحكمة إذا كانت غالبة غير منضبطة علق الحكم بالمظنة وأقيمت مقام الحقيقة لوجودها معها غالبًا ولعدم انضباطها كما أقيم النوم مقام الحدث.

(2)

التي فيها وجوب نصب هذه الولايات. (الجامع).

(3)

أي: ابن تيمية.

ص: 534

‌مَن أَتَاهُ الرَّسُولُ فَخَالَفَهُ فَقَد وَجَب عَلَيْه الْعَذَابُ:

5421 -

قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الاسراء: 15]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} [الزمر: 71] الْآيَاتِ، وَقَالَ تَعَالَى:{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا} [الملك: 8] الْآيَتَيْنِ.

فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى أَنَّ مَن أَتَاهُ الرَّسُولُ فَخَالَفَهُ فَقَد وَجَبَ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَإِن لَمْ يَأُتِهِ إمَامٌ وَلَا قِيَاسٌ، وَأَنَّهُ لَا يُعَذَّبُ أَحَدٌ حَتَّى يَأْتِيَهُ الرَّسُولُ وَإِن أَتَاهُ إمَامٌ أَو قِيَاسٌ

(1)

.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [االنساء: 69].

وَقَد ذَكَرَ سُبْحَانَهُ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، فَبَيَّنَ أَنَّ طَاعَةَ اللهِ وَرَسُولِهِ مُوجِبَةٌ لِلسَّعَادَةِ، وَأَنَّ مَعْصِيَةَ اللهِ مُوجِبَة لِلشَّقَاوَةِ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ مَعَ طَاعَةِ اللهِ وَرَسْولِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى طَاعَةِ إمَامٍ أَو قِيَاسٍ، وَمَعَ مَعْصِيَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ لَا يَنْفَعُ طَاعَةُ إمَامٍ أَو قِيَاسٍ.

وَفِي الْحَقِيقَةِ فَالْوَاجِبُ فِي الْأَصْلِ إنَّمَا هُوَ طَاعَةُ اللهِ،؛ لَكِنْ لَا سَبِيلَ إلَى الْعِلْمِ بِمَأُمُورِهِ وَبِخَبَرِهِ كُلِّهِ إلَّا مِن جِهَةِ الرُّسُلِ.

وَالْمُبَلِّغُ عَنْهُ:

أ- إمَّا مُبَلِّغٌ أَمْرَهُ وَكَلِمَاتِهِ فَتَجِبُ طَاعَتُهُ وَتَصْدِيقُهُ فِي جَمِيعِ مَا أَمَرَ وَأَخْبَرَ.

ب- وَإِمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ فَإِنَّمَا يُطَاعُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ؛ كَالْأمَرَاءِ الَّذِينَ

(1)

لعل صواب العبارة أن يُقال: "فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى أن مَن أتَاهُ الرَّسُولُ فَخَالَفَهُ فَقَد وَجَبَ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَإِن أَتَاهُ إمَامٌ أَو قِيَاسٌ، وَأَنَّهُ لَا يُعَذبُ أحَدٌ حَتَّى يَأُتِيَهُ الرَّسُولُ وَإِن لَمْ يَأُتِهِ إمَامٌ وَلَا قِيَاسٌ".

ويدل على ذلك ما ذكر في آخر الكلام.

ص: 535

تَجِبُ طَاعَتُهُم فِي مَحَلِّ وِلَايَتهِمْ مَا لَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةِ اللهِ، وَالْعُلَمَاءِ الَّذِينَ تَجِبُ طَاعَتُهُم عَلَى الْمُسْتَفْتِي وَالْمَأْمُورِ فِيمَا أَوْجَبُوهُ عَلَيْهِ مُبَلِّغِينَ عَنِ اللهِ أَو مُجْتَهِدِينَ اجْتِهَادًا تَجِبُ طَاعَتُهُم فِيهِ عَلَى الْمُقَلِّدِ، وَيدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَشَايخُ الدّينِ وَرُؤَسَاءُ الدُّنْيَا حَيْثُ أمِرَ بِطَاعَتِهِمْ؛ كَاتِّبَاعِ أَئِمَّةِ الصَّلَاةِ فِيهَا، وَاتبَاعِ أَئِمَّةِ الْحَجّ فِيهِ، وَاتِّبَاعِ أُمَرَاءِ الْغَزْوِ فِيهِ، وَاتِّبَاعِ الْحُكَامِ فِي أَحْكَامِهِمْ، وَاتِّبَاعِ الْمَشَايخِ الْمُهْتَدِينَ فِي هَدْيِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ. [19/ 67 - 69]

* * *

‌لماذا سُمّي الإنْسُ إنْسًا

؟

5422 -

الْإِنْسُ سُمُّوا إنْسًا لِأَنَّهُم يُؤْنَسُونَ، أَيْ: يُرَوْنَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [طه: 15]؛ أَيْ: رَأَيْتهَا، وَالْجِنُّ سُمُّوا جِنا لِاجْتِنَانِهِمْ، يَجْتَنُّونَ عَن الْأَبْصَارِ؛ أَيْ: يَسْتَتِرُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْل} [الأنعام: 76]؛ أَي: اسْتَوْلَى عَلَيْهِ فَغَطَّاهُ وَسَتَرَهُ. [17/ 465]

* * *

‌الفرق بين الْحَمْدُ والشُّكْرُ:

5423 -

" الْحَمْدُ" يَتَضَمَّنُ الْمَدْحَ وَالثَّنَاَءَ عَلَى الْمَحْمُودِ بِذِكْرِ مَحَاسِنِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْإِحْسَانُ إلَى الْحَامِدِ أَو لَمْ يَكُنْ.

وَالشُّكْرُ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى إحْسَانِ الْمَشْكُورِ إلَى الشَّاكِرِ، فَمِن هَذَا الْوَجْهِ الْحَمْدُ أَعَمُّ مِن الشُّكْرِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ عَلَى الْمَحَاسِنِ وَالْإِحْسَانِ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يُحْمَدُ عَلَى مَا لَهُ مِن الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالْمَثَلِ الْأَعْلَى وَمَا خَلَقَهُ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى.

وَأَمَّا الشُّكْرُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى الْإِنْعَامِ، فَهُوَ أَخَصُّ مِن الْحَمْدِ مِن هَذَا الْوَجْهِ؛ لَكِنَّهُ يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَالْيَدِ وَاللّسَانِ.

وَلهَذَا قَالَ تَعَالَى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبا: 13].

ص: 536

وَالْحَمْدُ إنَّمَا يَكُونُ بِالْقَلْب وَاللِّسَانِ، فَمِن هَذَا الْوَجْهِ الشُّكْرُ أَعَمُّ مِن جِهَةِ أنْوَاعِهِ، وَالْحَمْدُ أَعَمُّ مِن جِهَةِ أَسْبَابِهِ. [11/ 133 - 134]

* * *

5424 -

كَانَ ابْنُ سِينَا وَأَهْلُ بَيْتِهِ مِن أَهْلِ دَعْوَتِهِمْ قَالَ

(1)

: وَبِسَبَبِ ذَلِكَ اشْتَغَلْتُ فِي الْفَلْسَفَةِ. اهـ.

وَكَانَ مَبْدَأُ ظُهُورِهِمْ

(2)

مِن حِينِ تَوَلَّى الْمُقْتَدِرُ، وَلَمْ يَكُن بَلَغَ بَعْدُ، وَهُوَ مَبْدَأُ انْحِلَالِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ؛ وَلهَذَا سُمّيَ حِينَئِذٍ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْأُمَوِيُّ الَّذِي كَانَ بِالْأَنْدَلُسِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ وَيَقُولُ: لَا يَكونُ لِلْمُسْلِمِينَ خَلِيفَتَانِ، فَلَمَّا وَليَ الْمُقْتَدِرُ قَالَ: هَذَا صَبِيٌّ لَا تَصِحُّ وِلَايَتُهُ، فَسُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ. [13/ 177 - 178]

5425 -

الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ النَّاسِ أَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ يَمُوتُونَ حَتَّى الْمَلَائِكَةُ وَحَتَّى عِزْرَائِيلُ مَلَكُ الْمَوْتِ. [16/ 34]

5426 -

لَا تَعْجَزْ عَن مَأمُورٍ، وَلَا تَجْزَعْ مِن مَقْدُورٍ. [16/ 38]

5427 -

إنَّ الْإِنْسَانَ إذَا رَجَعَ إلَى نَفْسِهِ عَسُرَ عَلَيْهِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ عِلْمِهِ بِأَنَّ الرَّسُولَ صَادِقٌ، وَبَيْنَ تَصْدِيقِ قَلْبِهِ تَصْدِيقًا مُجَرَّدًا عَن انْقِيَادٍ وَغَيْرِهِ مِن أَعْمَالِ الْقَلْبِ بِأَنَّهُ صَادِقُ. [7/ 400]

5428 -

أول أركان الإسلام ومبانيه الخمسة قولًا وفعلًا وعملًا في حق كل مكلف: الشهادتان

(3)

نطقًا إن أمكن، واعتقادًا جازمًا بموجبهما ومقتضاهما.

ثم الصلاة، ولا تصح بدون طهارة شرعية مع القدرة عليها، ولا يجب تحصيل شرط الوجوب والإيجاب؛ بل يجب تحصيل شرط أداء ما وجب؛

(1)

أي: ابْنُ سِينَا.

(2)

أي: الفلاسفة.

(3)

في الأصل: (الشهادتين)، والتصويب من المسودة (459).

ص: 537

كالوضوء والغسل وإزالة النجاسة والتيمم ونحو ذلك للصلاة الواجبة عليه قبل ذلك. [المستدرك 2/ 253 - 254]

5429 -

قَلَّ طَائِفَةٌ مِن الْمُتَأَخِّرِينَ إلَّا وَقَعَ فِي كَلَامِهَا نَوْعُ غَلَطٍ؛ لِكَثْرَةِ مَا وَقَعَ مِن شُبَهِ أهْلِ الْبِدَعِ؛ وَلهَذَا يُوجَدُ فِي كَثِيرٍ مِن الْمُصَنَّفَاتِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَأُصُولِ الدّينِ وَالْفِقْهِ وَالزُّهْدِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ مَن يَذْكُرُ فِي الْأَصْلِ الْعَظِيمِ عِدَّةَ أَقْوَالٍ، وَيحْكِي مِن مَقَالَاتِ الَّناسِ أَلْوَانًا، وَالْقَوْلُ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ رَسُولَهُ لَا يَذْكُر؛ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِهِ، لَا لِكَرَاهَتِهِ لِمَا عَلَيْهِ الرَّسُولُ

(1)

. [5/ 484]

5430 -

لَمْ يَأْمُر اللهُ قَطُّ أَحَدًا أَنْ يُصَلِّيَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، لَا مُوسَى وَلَا عِيسَى وَلَا غَيْرَهُمَا

(2)

. [7/ 668]

5431 -

إِخْبَارُ الرَّجُلِ بِصِفَتِهِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا جَائِزٌ وَإِن كَانَت مَدْحًا

(3)

.

(1)

هذا من إحسان ظن الشيخ بالعلماء والمصنفين، وهكذا يجب على المؤمن أن يُحسن الظن بأخطاء أهل الصلاح والخير، وأن يعزو ما فعلوه أو قالوه من الباع أو الأخطاء إلى عدم علمهم بالصواب، لا أن يدعي أنهم يقصدون الخطأ والبدع ومُخالفة الشريعة.

(2)

اتخذ بنو إسرائيل بيتَ المقدس قبلة لا عن وحيِ من الله، بل شرع لهم ذلك بعض أحبارهم.

وقبلتهم إنما هي الكعبة، وقد جزم بذلك الزمخشري والبيضاوي. تفسير الزمخشري (2/ 364)، تفسير البيضاوي (2/ 122).

وقد روى أبو داود في الناسخ والمنسوخ عن خالد بن يزيد بن معاوية قال: لم تجد اليهود فى التوراة القبلة، ولكن تابوت السكينة كان على الصخرة، فلما غضب الله على بني إسرائيل رفعه، وكانت صلاتهم إلى الصخرة عن مشورة منهم.

قال البغوي في قوله تعالى: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس: 87]، معناه: واجعلوا وجوه بُيُوتَكُمْ إِلَى الْقِبْلَةِ.

وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَتِ الْكَعْبَةُ قِبْلَةَ مُوسَى وَمَن مَعَهُ. اهـ. وقال النسفي فى تفسيره (2/ 37) عند هذه الآية: اجعلوا بيوتكم مساجد متوجهة إلى القبلة وهي الكعبة، وكان موسى ومن معه يصلون إلى الكعبة.

(3)

وقد يحرم ذلك وقد يجب وقد يُسنّ.

فيحرم: إذا كان ذلك على سبيل التعالي والغرور وازدراء الآخرين.

ويجب: إذا كان ذلك لابعاد التهمة عن نفسِه، كان يُتهم أنه لا يُصلي أو لا يعدل مع أهله ونحو ذلك.

ص: 538

5432 -

مَا صَدَقَ اللهَ عَبْدٌ إلَّا صُنِعَ لَهُ. [22/ 309]

5433 -

وَسُئِلَ: عَن رَجُلٍ مُبْتَلًى سَكَنَ فِي دَارٍ بَيْنَ قَوْمٍ أَصِحَّاءَ فَقَالَ بَعْضُهُم: لَا يُمْكِنُنَا مُجَاوَرَتُك وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُجَاوِرَ الْأَصِحَّاءَ فَهَل يَجُوزُ إخْرَاجُهُ؟

فَأَجَابَ: نَعَمْ لَهُم أَنْ يَمْنَعُوهُ مِن السَّكَنِ بَيْنَ الْأصِحَّاءِ، فَإِنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا يُورَد مُمَرَّضٌ عَلَى مُصِحٍّ"

(1)

فَنَهَى صَاحِبَ الْإِبِلِ الْمِرَاضِ أَنْ يُورِدَهَا عَلَى صَاحِبِ الْإِبِلِ الصِّحَاحِ، مَعَ قَوْلِهِ:"لَا عَدْوَى وَلَا طيَرَةَ"

(2)

. [24/ 284 - 285]

5434 -

إِنَّ السَّنَةَ الْقَمَرِيَّةَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَأَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ يَوْمًا وَبَعْضُ يَوْمٍ: خُمُسٌ أَو سُدْسٌ.

وَإِنَّمَاْ يقَالُ فِيهَا ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ يَوْمًا جَبْرًا لِلْكَسْرِ فِي الْعَادَةِ -عَادَةِ الْعَرَبِ فِي تَكْمِيلِ مَا يَنْقُصُ مِن التَّارِيخِ فِي الْيَوْمِ وَالشَهْرِ وَالْحَوْلِ-.

وَأَمَّا الشَّمْسِيَّةُ فَثَلَائمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ. وَسِتُّونَ يَوْمًا وَبَعْضُ يَوْمِ: رُبْعُ يَوْمٍ.

وَلهَذَا كَانَ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا إلَّا قَلِيلًا.

تَكُونُ فِي كُلِّ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَثُلْثِ سَنَةٍ: سَنَةٌ، وَلهَذَا قَالَ تَعَالَى:{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)} [الكهف: 25]، قِيلَ: مَعْنَاهُ ثَلَاثُمِائَةٍ سَنَةً شَمْسِيَّة، {وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف: 25] بِحِسَابِ السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ.

وَمُرَاعَاة هَذَيْنِ عَادَةُ كَثِيرٍ مِن الْأُمَمِ مِن أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ بِسَبَبِ تَحْرِيفِهِمْ، وَأَظُنُّهُ كَانَ عَادَةَ الْمَجُوسِ أَيْضًا. [25/ 138]

= ويُسن: إذا كان مقصده من ذلك تشجيع الآخرين، ورفع هممهم، والاقتداء بعمله. ومدار ذلك: على الإخلاص والصدق مع الله تعالى، وإرادة وجهه سبحانه.

(1)

رواه مسلم (2221).

(2)

رواه البخاري (5707)، ومسلم (2220).

ص: 539

5435 -

وَجَبَ عَلَى مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ حِفْظُ جَمِيعِ الْكِتَابِ وَجَمِيعِ السُّنَنِ الْمُتَعَلِّقَةِ بالمستحبات وَالرَّغَائِبِ وَإِن لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ عَلَى آحَادِهَا.

وَلهَذَا أَوْجَبَ عَلَى الْأُمَّةِ مِن تَحْصِيلِ الْمُسْتَحَبَّاتِ الْعَامَّةِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى الْأَفْرَادِ وَتَحْصِيلُهُ لِنَفْسِهِ. [25/ 175]

5436 -

أَهْلُ الْكوفَةِ كَانَ فِيهِمْ طَائِفَتَانِ:

طَائِفَةٌ رَافِضَة يُظْهِرُونَ مُوَالَاةَ أَهْلِ الْبَيْتِ وَهُم فِي الْبَاطِنِ إمَّا مَلَاحِدَةٌ زَنَادِقَةٌ، وَإِمَّا جُهَّالٌ وَأَصْحَابُ هَوًى.

وَطَائِفَةٌ نَاصِبَةٌ تبْغِضُ عَلِيًّا وَأَصْحَابَهُ لَمَّا جَرَى مِن الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ مَا جَرَى.

وَقَد ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ"

(1)

عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "سَيَكُونُ فِي ثَقِيفَ كَذَّاب وَمُبِيرٌ" فَكَانَ الْكَذَّابُ هُوَ الْمُخْتَارَ بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ الثَّقَفِيَّ، وَكَانَ يُظْهِرُ مُوَالَاةَ أَهْلِ الْبَيْتِ وَالِانْتِصَارَ لَهُمْ.

وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَهُوَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ الثَّقَفِيُّ، وَكَانَ مُنْحَرِفًا عَن عَلِيٍّ وَأَصْحَابِهِ.

فَكَانَ هَذَا مِن النَّوَاصِبِ، وَالْأَوَّلُ مِن الرَّوَافِضِ. [25/ 301]

5437 -

كَمَالُ النَّفْسِ لَيْسَ فِي مُجَرَّدِ الْعِلْمِ؛ بَلْ لَا بُدَّ مَعَ الْعِلْمِ بِاللهِ مِنْ مَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ، فَهَذَا عَمَلُ النَّفْسِ وَإِرَادَتُهَا وَدَالُّ عِلْمِهَا وَمَعْرِفَتِهَا. [2/ 95]

5438 -

لَا يَسْتَطِيعُ بَنُو آدَمَ أَنْ يَصْنَعُوا مِثْل مَا يَخْلُقُهُ اللهُ، وَإِنَّمَا غَايَتُهُم أَنْ يُشَبِّهُوا مِن بَعْضِ الْوُجُوهِ فَيُصَفِّرُونَ وَيَنْقلُونَ، مَعَ اخْتِلَافِ الْحَقَائِقِ. [29/ 369]

5439 -

نَعُوذُ بِاللهِ مِن الْعَمَى فِي الْبَصِيرَةِ أَو حَوَلٍ يَرَى الْوَاحِدَ اثْنَيْنِ؛ فَإِنَّ

(1)

(2545).

ص: 540

الْأَعْمَى أَسْلَمُ حَالًا فِي إدْرَاكِهِ مِن الْأَحْوَلِ إذَا كَانَ مُقَلِّدًا لِلْبَصِيرِ وَالْبَصِيرُ صَحِيحُ الْإِدْرَاكِ. [3/ 106]

5440 -

مِن أَعْظَمِ التَّقْصِيرِ: نِسْبَةُ الْغَلَطِ إلَى مُتَكَلّمٍ مَعَ إمْكَانِ تَصْحِيحِ كَلَامِهِ، وَجَرَيَانِهِ عَلَى أَحْسَنِ أَسَاليبِ كَلَامِ النَّاسِ. [31/ 114]

5441 -

مِن آيَاتِ مَا بُعِثَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ إذَا ذُكِرَ مَعَ غَيْرِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُبِينِ ظَهَرَ النُّورُ وَالْهُدَى عَلَى مَا بُعِثَ بِهِ، وَعُلِمَ أَنَّ الْقَوْلَ الْآخَرَ دُونَهُ؛ فَإِن خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَقَد قَالَ سبحان الله وتعالى:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} [الإسراء: 88]، وَهَذَا التَّحَدِّي وَالتَّعْجِيزُ ثَابِتٌ فِي لَفْظِهِ وَنَظْمِهِ وَمَعْنَاهُ. [33/ 42]

5442 -

يَوْم خَيْبَرَ كَانَ تَحْرِيمُ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَأَمَّا تَحْرِيمُ الْمُتْعَةِ فَإِنَّهُ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي "الصَّحِيحِ"، وَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهَا حُرِّمَتْ ثُمَّ أُبِيحَتْ ثُمَّ حُرِّمَتْ، فَظَنَّ بَعْضُهُم أَنَّ ذَلِكَ ثَلَاثًا وَلَيْسَ الْأمْرُ كذلك. [33/ 96]

5443 -

إنَّ الْأَنْسَابَ الْمَشْهُورَةَ أَمْرُهَا ظَاهِرٌ مُتَدَارَكٌ مِثْلُ الشَّمْسِ، لَا يَقْدِرُ الْعَدُوُّ أَنْ يُطْفِئَهُ، وَكَذَلِكَ إسْلَامُ الرَّجُلِ وَصِحَّةُ إيمَانِهِ بِاللهِ وَالرَّسُولِ أَمْرٌ لَا يَخْفَى، وَصَاحِبُ النَّسَبِ وَالدِّينِ لَو أَرَادَ عَدُوَّهُ أنْ يُبْطِلَ نَسَبَهُ وَدِينَهُ وَلَهُ هَذِهِ الشُّهْرَةُ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَّفِقَ عَلَى ذَلِكَ أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ. [35/ 130]

5444 -

كُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ النَّصَارَى أَعْظَمُ الْملَلِ جَهْلًا وَضَلَالَة، وَأَبْعَدُهُم عَن مَعْرِفَةِ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ، وَأَكْثَرُ اشتِغَالًا بِالْمَلَاهِي وَتَعَبُّدًا بِهَا.

وَالْفَلَاسِفَةُ مُتَّفِقُونَ كُلُّفم عَلَى أَنَّهُ مَا قَرَعَ الْعَالَمَ نَامُوسُ أَعْظَمُ مِن النَّامُوسِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وَأُمَّتُهُ أَكْمَلُ عَقْلًا وَدِينًا وَعِلْمًا بِاتِّفَاقِ الْفَلَاسِفَةِ، حَتَّى فَلَاسِفَةُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَإِنَّهُم لَا يَرْتَابُونَ فِي أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ عَقْلًا وَدِينًا.

ص: 541

وَإِنَّمَا يَمْكُثُ أَحَدُهُم عَلَى دِينِهِ:

أ- إمَّا اتِّبَاعَّا لِهَوَاهُ وَرِعَايَةً لِمَصْلَحَةِ دُنْيَاهُ فِي زَعْمِهِ.

ب- وَإِمَّا ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بأَيِّ مِلَّةٍ كَانَتْ، وَأَنَّ الْمِلَلَ شَبِيهَةٌ بِالْمَذَاهِبِ الْإِسْلَامِيَّةِ؛ فَإِنَّ جُمْهُورَ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُنَجِّمِينَ وَأَمْثَالَهُم يَقُولُونَ بِهَذَا، وَيَجْعَلُونَ الْمِلَلَ بِمَنْزِلَةِ الدُّوَلِ الصَّالِحَةِ وَإِن كَانَ بَعْضُهَا أَفْضَلَ مِن بَعْضِ. [35/ 187 - 188]

5445 -

لَا يَنْفَقُ الْبَاطِلُ فِي الْوُجُودِ إلَّا بِشَوْبٍ مِن الْحَقِّ؛ كَمَا أَنَّ أَهْل الْكِتَابِ لبّسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ بِسَبَبِ الْحَقِّ الْيَسِيرِ الَّذِي مَعَهُمْ، يُضِلُّونَ خَلْقَا كَثِيرًا عَن الْحَقِّ الَّذِي يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ، وَيَدْعُونَهُ إلَى الْبَاطِلِ الْكَثِيرِ الَّذِي هُم عَلَيْهِ.

وَكَثِيرًا مَا يُعَارِضُهُم مِن أَهْلِ الْإِسْلَامِ مَن لَا يُحْسِنُ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَلَا يُقِيمُ الْحُجَّةَ الَّتِي تدحضُ بَاطِلَهُمْ، وَلَا يُبَيِّنُ حُجَّةَ اللهِ الَّتِي أَقَامَهَا بِرُسُلِهِ فَيَحْصُلُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِتْنَةٌ

(1)

. [35/ 190]

* * *

(1)

كما هو الواقع في كثير من المناظرات بين أهل الإسلام والمبتدعة من الرافضة ونحوهم، واليهود والنصارى وغيرهم من الملل، حيث يُناظرهم رجل ليس متمكنًا من العلم، آداب وفنون الحوار والإقناع.

ص: 542

التنبيه على الأخطاء والأوهام في "مجموع الفتاوى" و"المستدرك" مع تصحيحها)

‌أولًا: تصحيح أخطاء وأوهام "مجموع الفتاوى

"

هذا تصويب وتصحيح ما وقفت عليه مِمَّا جاء في الفتاوى، علمًا أني تركت تصويب الأخطاء في الطبعة القديمة المتوفرة إذا صُوّبت في النسخةِ التي طبعها مجمع الملك فهد، وهي كثيرة؛ بل هناك سقط في أكثر من موضع، يصل إلى قرابة ثلاثين صفحة، فبما أنها صُحِّحت فلا داعي للتنبيه عليها.

1 -

وَهَذَا كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: إنَّ سُجُودَ الْكارِهِ: ذُلُّهُ

(1)

وَانْقِيَاده لِمَا يُرِيدُهُ اللهُ مِنْهُ مِن عَافِيَةٍ وَمَرَضٍ وَغِنًى وَفَقْرٍ. [1/ 47]

2 -

قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ} [آل عمران: 146] يقتضي كثرة ذلك، وهذا لا يعرف أن أنبياء كثيرون

(2)

قتلوا في الجهاد. [1/ 59]

3 -

قَد قِيلَ فِي: {رِبِّيُّونَ} [آل عمران: 146] هُنَا: إنَّهُم الْعُلَمَاءُ، [وهؤلاء جعلوا لفظ "الرِّبِّي"؛ كلفظ "الربَّاني"]

(3)

، وَعَن ابْنِ زيدٍ: هُم الْأَتْبَاعُ؛ كَأَنَّهُ جَعَلَهُم المربوبين. [1/ 61]

(1)

في الأصل وجميع المصادر التي وقفت عليها بالعطف: (وَذُلَّهُ)، وهذا يقتضي أنه وما بعده معطوف على أسم إنّ، والخبر لم يُذكر! ولعل المثبت هو الصواب، ويكون قوله:"ذُلُّه" وما بعده الخبر.

(2)

في جامع المسائل (3/ 60): (كثيرين)، وهو الصواب.

(3)

ما بين المعقوفتين من جامع المسائل (3/ 62)، وفي الأصل:(فَلَمَّا جَعَلَ هَؤُلَاءِ هَذَا كَلَفْظِ الرَّبَّانِيِّ)، ويظهر أنَّ المثبت هو الصواب.

ص: 543

4 -

وَمَن غَابَ عَن هَذَا الْمَشْهَدِ وَعَن الْمَشْهَدِ الْأَوَّلِ وَرَأَى قِيَامَ اللهِ عز وجل عَلَى جَمِيعِ الْأشْيَاءِ وَهُوَ الْقِيَامُ عَلَى كُل نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَتَصَرُّفَهُ فِيهَا وَحُكْمَهُ عَلَيْهَا فَرَأَى الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا مِنْهُ صَادِرَةً عَن نَفَاذِ حُكْمِهِ وَإِرَادَتِهِ الْقَادِرَةِ فَغَابَ بِمَا لَاحَظَ عَن التَّمْيِيزِ وَالْفَرْقِ وَعَطَّلَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالنُّبُوَّاتِ وَمَرَقَ

(1)

مِن الْإِسْلَامِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِن الرَّمِيَّةِ. [1/ 90]

5 -

وَكَذَلِكَ الاسْتعانة

(2)

أَيْضًا فِيهَا مَا لَا يَصْلُحُ إلَّا للهِ، وَهِيَ الْمُشَارُ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]، فَإِنَّهُ لَا يُعِينُ عَلَى الْعِبَادَةِ الْإِعَانَةَ الْمُطْلَقَةَ إلا اللهُ. [1/ 113]

6 -

فَيَقُولُ لَهُ أَبُوهُ: فَالْيَوْمَ لَا أَعْصِيك، فَيَقُولُ إبْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ أَنْتَ وَعَدْتنِي أَنْ لَا تُخْزِيَنِي

(3)

يَوْمَ يُبْعَثُونَ. [1/ 146]

7 -

مَا أَظُنُّ عُقَلَاؤُهُمْ

(4)

كَانُوا يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا وَصَفُوا الْوِلَادَةَ الْعَقْلِيَّةَ الرُّوحَانِيَّةَ. [2/ 443]

8 -

وَإِذَا كَانَت أَلْفَاظُ الْوَعِيدِ الْمُتَنَاولَةُ لَهُ لَا يَجِبُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا الْمُتَأَوِّلُ، والتائب

(5)

، وَذُو الْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ. [3/ 179]

9 -

وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تُعَدَّلَ الْأنْصَابُ بمَا

(6)

يُمْكِنُ: إمَّا مِن كَيْلٍ أَو وَزْنٍ إنْ أَمْكَنَ. [35/ 419]

(1)

لعل الصواب: (مَرَقَ)، بدون عطف.

(2)

في الأصل: (الِاسْتِغَاثَةُ)، والتصويب من كتاب الرد على البكري (1/ 422).

(3)

في الأصل: (تُخْزِنِي)، والتصويب من صحيح البخاري، وقد ذكر الشيخ هذا الحديث في موضع آخر (27/ 262) وأثبت لفظة البخاري.

(4)

هكذا في جميع النسخ التي وقفتُ عليها، ولعل الصواب بالنصب: عُقَلَاءَهُمْ؛ لأنها مفعول ظن.

(5)

في الأصل: (والقانت)، والتصويب من العقود الدرية (ص 247).

(6)

في الأصل: (ما)، والتصويب من منسق الكتاب للموسوعة الشاملة أسامة بن الزهراء.

ص: 544

10 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن رَجُلٍ مَاتَ وَخَلَّفَ رَجُلَيْنِ وَامْرَأَةً، فَعَوَّضَا الْمَرْأَةَ مَا يَخُصُّهَا مِن مِيرَاثِ وَالِدِهَا، وَأبْرَأتْ إخْوَتَهَا الْبَرَاءَةَ الشَّرْعِيَّةَ بِالْعُدُولِ عَمَّا بَقِيَ بِأيْدِيهِمْ مِن مُدَّةٍ تَزِيدُ عَلَى سِتِّينَ سَنَةً، وَهِيَ مُقِيمَةٌ مَعَهُم بِالنَّاحِيَةِ، وَلَمْ يَكُن لَهَا مَعَهُم تَعَلُّقٌ بِطُولِ هَذِهِ الْمُدَّةِ.

فَلَمَّا تُوُفِّيَ إخْوَتُهَا وَتَحَقَّقَت الْمَرْأَةُ مَوْتَ الْعُدُولِ: أَنْكَرَت الْمَشْهُودَ عَلَيْهَا، وَادعَتْ عَلَى وَارِثِ إخْوَتِهَا [أنَّ]

(1)

مَا يَخُصُّهَا مِن مِيرَاثِ وَالِدِهَا بَاقٍ مَعَ إخْوَتِهَا، وَأَثْبَتَ لَهَا الْحَاكِمُ مَا ادَّعَتْهُ، وَقَامَت الْبَيِّنةُ عَلَيْهَا بِالْبَرَاءَةِ بِطَرِيقِهَا، فَهَل يَنْدَفِعُ مَا أَثْبَتَ لَهَا الْحَاكِمُ؟

فَأَجَابَ: إذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ شَرْعِيَّةٌ عَلَى إقْرَارِهَا بالْقَبْضِ وَالْإِبْرَاءِ الشَّرْعِيِّ: كَانَت دَعْوَى وَرَثَتِهَا

(2)

بَاطِلَةً

(3)

.

وَلَو أَقَامُوا

(4)

بَيِّنَةً وَأَثْبَتُوا

(5)

ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ: كانت بَيِّنَةُ الْإِقْرَارِ بِالْقَبْضِ وَالْإِبْرَاءِ مُقَدَّمَة؛ لِأَنَّ مَعَهَا مَزِيدَ عِلْمٍ. [35/ 427 - 428]

11 -

وَقَد نَقَلَ طَائِفَةٌ [من المتأخرين]

(6)

أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ أَنَّ الظَّاهِرَ غَيْر مُرَادٍ. [3/ 207]

12 -

وَأمَّا غَيْرُهُ إذَا قَالَ هَذَا صَوَابٌ أَو خَطَأٌ: فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ بِمَا يَجِبُ بِهِ اتِّبَاعُهُ: [لم يجب اتباعه]

(7)

. [3/ 245]

(1)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، ولكنَّ السياق يقتضيه.

(2)

والذي يظهر أن يُقال: دعواها؛ لأنها هي المدعية لا ورثتها.

(3)

الجواب ليس مطابقًا للسؤال من كل وجه، فجواب الشيخ على أنّ من أنكر المشهود عليه ورثة المرأة، التي هي أخت الرجلين، والسؤال صريح بأنه الذي أنكر المرأة لا ورثتها.

(4)

والذي يظهر أن يُقال: أقامت.

(5)

والذي يظهر أن يُقال: أثبتت.

(6)

في الأصل بياض، والمثبت لا يستقيم المعنى إلا به.

(7)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، والسياق يقتضيه، وقد نبه عليها صاحب كتاب: مباحث الأمر التي انتقدها شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (12).

ص: 545

13 -

وَأَشَرْت بِتَرْكِ الْمَخَافَةِ

(1)

وَلينِ الْجَانِبِ وَأَنَا مُجِيبٌ إلَى هَذَا كُلِّهِ. [3/ 250]

14 -

وهذا الحكم مخالفًا

(2)

لشرع الله اْلذي أجمع المسلمون عليه. [3/ 254]

15 -

وَهَذِهِ مَسَائِلُ شَرِيفَةٌ مَعْرُوفَةٌ قَد بَيَّنَهَا الْعُلَمَاءُ وَذَكَرُوا الْفَرْقَ بَيْنَ حُقُوقِ اللهِ الَّتِي يَخْتَصّ بِهَا [دُونَ]

(3)

الرُّسُلِ. [3/ 173]

16 -

فَالْكِتَابُ: [هو]

(4)

الْكِتَابُ

(5)

. [3/ 316]

17 -

الَّذِينَ يردون

(6)

الْمَقَالَاتِ الْمُجْمَلَةَ إلَى مَا جَاءَ بِهِ مِن الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ. [3/ 346]

18 -

قَالَ طَائفَةٌ مِن السَّلَفِ: "إذَا كَتَمَ النَّاسُ الْعِلْمَ. فَعُمِلَ بِالْمَعَاصِي احْتَبَسَ الْقَطْرُ فَتَقُولُ الْبَهَائِمُ: اللَّهُمَّ [الْعَنْ]

(7)

عُصَاةَ بَنِي آدَمَ". [4/ 42]

19 -

وَإِذَا كَانَت سَمَاءُ الدُّنْيَا فَوْقَ الْأرْضِ مُحِيطَةٌ بِهَا فَالثَّانِيَةُ كُرَوِيَّة

(8)

وَكَذَا الْبَاقِي. [5/ 150]

20 -

وَرَوَاهُ أَبُو عَمْرو الزَّاهِدُ

(9)

بِإِسْنَادٍ آخَرَ لَمْ يَحْضُرْنِي لَفْظُهُ. [6/ 402]

(1)

لعل الصواب: (المخالفة) أو (الْمُحاقة).

(2)

هكذا في الأصل، ولعل الصواب بالرفع: مخالفٌ؛ لأن موقعه خبر، ولا وجه لنصبه.

(3)

ما بين معقوفتين غير موجود في المطبوع وقد نبه عليه أسامة بن الزهراء منسق الكتاب للموسوعة الشاملة.

(4)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، والمثبت من كتاب: درء تعارض العقل والنقل (1/ 57).

(5)

أي: هو الكتاب المعروف.

(6)

في الأصل: (يَرْوُونَ)، ولعل الصواب المثبت.

(7)

ما بين المعقوفتين غير موجود في المطبوع وقد نبه عليه أسامة بن الزهراء منسق الكتاب للموسوعة الشاملة.

(8)

في الأصل: (كريّة)، والتصويب من النسخة التي حققها: أنور الباز، عامر الجزار.

(9)

الذي يظهر: أنه أبو عمر، وليس أبا عمرو، كما نص على ذلك في موضع آخر. (6/ 415).=

ص: 546

21 -

الثَّانِي: أَنَّ الْحُكْمَ إذَا كَانَ عَامًّا: ففِي

(1)

تَخْصِيصِ بَعْضِهِ بِاللَّفْظِ خُرُوجٌ عَن الْقَوْلِ الْجَمِيلِ. [6/ 504]

22 -

مَن قَالَ مِن السَّلَفِ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ: أَرَادَ قَوْلَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَعَمَلَ الْقَلْبِ وَالْجَوَارحِ.

وَمَن [أَرَادَ]

(2)

الِاعْتِقَادَ: رَأَى أَنَّ لَفْظَ الْقَوْلِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إلَّا الْقَوْلُ الظَّاهِرُ، أَو خَافَ ذَلِكَ فَزَادَ الِاعْتِقَاد بِالْقَلْبِ. [7/ 171]

23 -

وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ"

(3)

عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَا مِن مُسْلِمِ يَدْعُو، لَيْسَ بِإِثْمٍ وَلَا بِقَطِيعَةِ رَحِم، إِلَّا أَعْطَاة إِحْدَى ثَلَاث: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا"، قَالَوا: إِذًا نُكثِرُ، قَالَ:"اللهُ أَكثَرُ". [8/ 193]

24 -

فَقَد أَخْبَرَتْ هَذِهِ النُّصُوصُ أَنَّ الرُّوحَ تُنَعَّمُ مَعَ الْبَدَنِ الَّذِي فِي الْقَبْرِ -إذَا شَاءَ اللهُ-، [وَأنها]

(4)

تُنَعَّمُ فِي الْجَنَّةِ وَحْدَهَا وَكِلَاهُمَا حَقٌّ. [4/ 295]

25 -

وَلَفْظُ التَّوَفِّي: لَا يَقْتَضِي

(5)

تَوَفِّيَ الرُّوحِ دُونَ الْبَدَنِ، وَلَا تَوَفيَهُمَا جَمِيعًا إلَّا بِقَرِينَةٍ مُنْفَصِلَةٍ. [4/ 323]

= وقد ترجم له الذهبي بقوله: الإِمَامُ الأوْحدُ العلَّامة الفغَوِيُّ المُحَدِّثُ، أَبُو عُمَرَ مُحَمَدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ بنِ أبِي هَاشمِ البَغْدَادِيُّ الزاهِدُ، المَعْرُوف بِغُلَامِ ثَعْلَبٍ.

وُلدَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّيْنَ وَمائَتَيْنِ.

وَلَازم ثَعْلبًا فِي العَرَبِيَّة، فَأَكْثَرَ عَنْهُ إِلَى الغَايَة، وَهُوَ فِي عِدَاد الشُّيُوْخ فِي الحَدِيْثِ لَا الحُفَّاظ، وَإِنَّمَا ذكرتُهُ لِسَعَة حفظه للسان العرب، وصدقه، وعلوّ إسناده ..

قال: كَانَ جَمَاعَة مِن أَهْل الأدب لَا يوثقون أبَا عُمَرَ فِي عِلْم اللغة ..

فأمَّا الحَدِيْث فرَأيْتُ جمِيعً شُيُوْخِنَا يوثِّقونَه فِيْهِ ..

(1)

في الأصل: (فِي)، ولعل الصواب هو المثبت؛ ليستقيم المعنى.

(2)

هكذا في جميع النسخ التي وقفت عليها، ولعل الصواب: زَادَ؛ لأن المعنى لا يستقيم إلا بذلك.

(3)

هذا الحديث ليس في الصحيحين.

(4)

في الأصل: (وَإنَّمَا)، ولعل المثبت هو الصواب؛ ليستقيم المعنى.

(5)

في الأصل بعد هذه الكلمة: (نَفْسهُ)، ولعلها مقحمة، ولا يستقيم المعنى بوجودها.

ص: 547

26 -

سُئِلَ الشَّيْخُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: هَل صَحَّ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ اللهَ تبارك وتعالى أَحْيَا لَهُ أَبَوَيْهِ حَتَّى أَسْلَمَا عَلَى يَدَيْهِ ثُمَّ مَاتَا بَعْدَ ذَلِكَ؟

فَأَجَابَ: لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ عَن أَحَدٍ مِن أَهْلِ الْحَدِيثِ؛ بَل أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ. [4/ 324]

27 -

وَهَل مَن يَحُدُّ

(1)

الشَّمْسَ مِثْل هَذَا الْحَدِّ وَنَحْوهُ إلَّا مِن أَجْهَلِ النَّاسِ؟ [9/ 158]

28 -

هاتان السورتان:- {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1]- كان النبي-صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما في صلاة التطوع كركعتي الطواف، وسُنَّة الفجر، وهما متضمنتان للتوحيد.

فأما {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} فهي متضمنة للتوحيد العملي الإرادي، وهو إخلاص الدين لله بالقصد والإرادة.

وأما سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} : فمتضمنة للتوحيد القولي العملي

(2)

. [10/ 54]

29 -

والْمُتَصَبِّرُ هُوَ الَّذِي (لَا)

(3)

يَتَكَلَّفُ الصَّبْرَ. [10/ 575]

30 -

مِن تَمَامِ نِعْمَةِ اللهِ عَلَى عِبَاده الْمُؤمِنِينَ أَنْ يُنْزِلَ بِهِم الشّدَّةَ وَالضُّرَّ: مَا

(4)

يُلْجِئُهُم إلَى تَوْحِيدِهِ فَيَدْعُونَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ. [10/ 333]

(1)

في الأصل: (يَجِدُ)، والمثبت من كتاب: الرد على المنطقيين لشيخ الإسلام، وهو أصل هذه المادة التي لخصها السيوطي، وابن قاسم نقلها منه.

(2)

هكذا في جميع النسخ التي اطلعت عليها، ولعل الصواب:(العملي)، كما عبّر به تلميذه ابن القيِّم في كتابه: اجتماع الجيوش الإسلامية (2/ 94) حيث قال: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} [الكافرون: 1]، متضمنة للتوحيد العملي الإرادي، وسورة:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1] متضمنة للتوحيد الخبري العلمي.

(3)

هكذا في الأصل! ولعل الصواب حذفها.

(4)

في الأصل: (وما) والمثبت من كتاب: المستدرك على فتاوى ابن تيمية. جمع: ابن قاسم (1/ 7)، وهو أصح.

ص: 548

31 -

قال زيد بن عمرو بن نفيل:

أربًّا واحدًا أم ألف رب

أَدين إذا انقسمت

(1)

الأمور. [10/ 599]

32 -

قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الْبَسْ مِن الثِّيَابِ مَا يَخْدِمُك، وَلَا تَلْبَسْ مِنْهَا مَا تكُنْ

(2)

أَنْتَ تَخْدِمُهُ وَهِيَ كَالْبِسَاطِ الَّذِي تَجْلِسُ عَلَيْه. [10/ 597]

33 -

فَإِنَّ الشَّيْخَ أَبَا سُلَيْمَانَ مِن أَجِلَّاءِ الْمَشَايخِ وَسَادَاتِهِمْ وَمِن أتبعهم لِلشَّرِيعَةِ حَتَّى إنَّهُ قَالَ: إنَّهُ لَيَمُرُّ بِقَلْبِي النُّكْتَةُ مِن نُكَتِ الْقَوْمِ فَلَا أَقْبَلُهَا إلَّا بِشَاهِدَيْنِ: الْكِتَابِ وَالسُّنَةِ.

فَمَن لَا يَقْبَلُ نُكَتَ قَلْبِهِ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ يَقُولُ هَذَا مِثْل الْكَلَامِ؟

(3)

[10/ 694]

34 -

ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِم"

(4)

عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ لَيَالٍ: "إنَّ مَن أمنّ الناسِ عَلَيَّ: في صُحْبَتِهِ وَذَاتِ يَدِهِ أَبُو

(5)

بَكرٍ". [11/ 290]

35 -

رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ" عَن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُعْطِيت فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمَ سُورَة الْبَقَرَةِ مِن كَنْنرٍ تَحْتَ الْعَرْشِ"

(6)

. [12/ 490]

36 -

وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِن السَّلَفِ إنَّ نَفْسَ الْكَلَامِ الْمُعَيَّنِ قَدِيمًا

(7)

. [12/ 567]

37 -

فَلَمَّا سَمِعَ ابْنُ عُمَرَ وَنَحْوُهُ هَذِهِ النُّصُوصَ الْخَاصَّةَ رَجَعْوا وَعَلِمُوا حِينَئِذٍ أَنَّهُ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ دَلِيل أَقْوَى مِن الدَّلِيلِ الَّذِي يَسْتَصْحِبُوهُ

(8)

وَلَمْ يَعْلَمُوا بِهِ. [13/ 112]

(1)

الصواب: (تقُسِّمتِ).

(2)

لعل الصواب: (تكون).

(3)

لعل الصواب: (يَقُولُ مِثْل هَذَا الْكَلَامِ؟)

(4)

(2382).

(5)

هكذا في الأصل، والذي في البخاري:(أبا بكر)، بالنصب، وهو أصوب؛ لأن أبا بكر اسم إن مؤخر.

(6)

لم أجده في البخاري، بل رواه ابن حبان وغيره.

(7)

لعل الصواب بالرفع: (قديمٌ)؛ لأنه خبر إنّ.

(8)

لعله: (يَسْتَصْحِبُونه).

ص: 549

38 -

وَقِيَامُهُ بِالْقِسْطِ مَقْرُونٌ بِأَنَّهُ لَا إلهَ إلَّا هُوَ؛ فَذَكَرَ

(1)

ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمَاثِلُهُ أَحَدٌ فِي شَيْءٍ مِن أُمُورِهِ وَالْمُعْتَزِلَةُ تَجْعَلُ الْقِسْطَ مِنْهُ مِثْل الْقِسْطِ مِن الْمَخْلُوقِينَ؛ فَمَا كَانَ عَدْلًا مِن الْمَخْلُوقِينَ كَانَ عَدْلًا مِن الْخَالِقِ وَهَذَا تَسْوِيَةٌ مِنْهم بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ؛ وَذَلِكَ قَدْحٌ فِي أَنَّهُ لَا إلهَ إلَّا هُوَ. [14/ 182]

39 -

وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَّنهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ هُنَا شَيْئَانِ

(2)

. [15/ 180]

40 -

حَتَّى بَعْضُ الْمُتَدَيِّنِينَ إذَا ظُلِمُوا أَو رأوا

(3)

مُنْكَرًا فَلَا هُم يَنْتَصِرُونَ وَلَا يَصْبِرُونَ؛ بَل يَعْجِزُونَ وَيجْزَعُونَ. [16/ 38]

41 -

ثُمَّ إنَّ فِي تَوَلّي مَالِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا نِزَاعٌ

(4)

. [15/ 300]

42 -

يَا مُتْقِنًا عِلْمَ الْحَدِيثِ وَمَن رَوَى

سُنَنَ النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى الْمُخْتَارِ

أَصْبَحْت فِي الْإِسْلَامِ طَوْدًا رَاسِخًا

يَهْدِي بِهِ وَعُدِدْت فِي الْأَحْبَارِ

هذي مَسَائِلُ أُشْكِلَتْ فَتَصَدَّقُوا

بِبَيَانِهَا يَا نَاقِلِي الْأَخْبَارِ

فَالْمُسْتَعَانُ عَلَى الْأمُورِ بِأهْلِهَا

إنْ أَشْكلَتْ قَد جَاءَ فِي الْآثَارِ

وَلَكُمْ كَأجْرِ الْعَامِلِينَ بِسُنَّتِهِ

حِينَ سُئِلْتُمُو يَا أُولي الْأَبْصَارِ

(5)

43 -

وَمَا يَرْوُوهُ

(6)

عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "اتَّخِذُوا مَعَ الْفُقَرَاءِ أَيَادِي فَإِنَّ لَهُم في غَد دَوْلَةً وَأَيُ دَوْلَةٍ". [18/ 122]

(1)

الذي يظهر أنه: فدل، وسياق الكلام يدل عليه.

(2)

لعل الصواب: (شيئين)؛ لأنها مفعول به.

(3)

في الأصل: (أَرَادُوا)، ولعل المثبت هو الصواب؛ ليستقيم المعنى.

(4)

لعل الصواب: (نزاعًا)؛ لأنها اسم إن مؤخر.

(5)

الأبيات من الكامل، والبيت الأخير مكسور، قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد في حاشيته: وهذا البيت من الكامل، وهو مكسور، ولعله:

وَلَكُمْ كَأَجْرِ الْعَامِلِينَ بِسُنَةٍ

حِينَ الْسُؤَالِ يَا أُولي الْأَبْصَارِ

قلت: وقد أصاب في الشطر الأول، وأما الشطر الثاني فلا يستقيم تصحيحه إلا بإشباع لام السؤال فيكون: السؤالي، ولا يصح لغة.

(6)

لعل الصواب: (يروونه) بالرفع؛ لأنه من الأفعال الخمسة، وترفع بثبوت النون، وهو مرفوع.

ص: 550

44 -

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَأُولي الْأَمْرِ مِنَّا، وَأَمَرَ إنْ تَنَازَعْنَا فِي شَيْءٍ أَنْ نَرُدَّهُ إلَى اللهِ وَالرَّسُولِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا تَنَازَعَ الْمُؤْمِنُونَ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَعَلَيْهِم أَنْ يَرُدُّوهُ إلَى اللهِ وَالرَّسُولِ، وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ يُعْدَمُ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُم إذَا لَمْ يَتَنَازَعُوا لَمْ يَكُن هَذَا الْأَمْرُ ثَابِتًا، وَكَذَلِكَ إنَّمَا يَكونُ لِأَنَّهُم إذَا لَمْ يَتَنَازَعُوا كَانُوا عَلَى هُدًى وَطَاعَةٍ للهِ وَرَسُولِهِ، فَلَا يَحْتَاجُوا حِينَئِذٍ أَنْ يَأْمُرُوا

(1)

بِمَا هُم فَاعِلُونَ مِن طَاعَةِ اللهِ وَالرَّسُولِ. [19/ 91]

45 -

وَلهَذَا قِيلَ: لَا مُرُوءَةَ لِكَذُوب وَلَا رَاحَةَ لِحَسُود وَلَا إخَاءَ لِمَلُوكِ

(2)

وَلَا سُؤْدُدَ لِبَخِيل. [20/ 74]

46 -

وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ لِلَّفْظِ مَدْلُولَانِ

(3)

حَقِيقِي وَمَجَازِيٌّ فَالْأَصْلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ. [20/ 473]

47 -

وَإِذَا لَمْ يَكُن مِمَّن يُنْظِر الْحَمَّامَي، وَلَمْ يَجِدْ مَا يَرْهَنُهُ عِنْدَهُ، وَلَمْ يَقْبَل مِنْهُ، فَهَل عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ بِالْأُجْرَةِ الْمُؤَجَّلَةِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: هُمَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد.

وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ إذَا كَانَ (عَادَةُ إظْهَارِ)

(4)

الحمامي: لَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي الْحَمَّامِ كَالْعَادَةِ. [21/ 444]

48 -

وَأَمَّا الْمُتَمَيِّزَةُ

(5)

: فَتَجْلِسُ غَالِبَ الْحَيْضِ. [21/ 631]

(1)

لعله: (يُؤمَرُوا)؛ لأنهم هم المأمورون بطاعة الله ورسوله لا الآمرون.

(2)

الذي يظهر: لملول، وهذا المثل مشهور في كتب الأدب، ونُسب لعلي بن أبي طالب وغيره. ولا معنى لملوك.

(3)

لعله: (مدلولين).

(4)

لعل صواب العبارة: (عَادَته إنظار).

(5)

هكذا في النسخ التي وقفت عليها، وهو خطأ بلا شك، الصواب: في الأصل: (الْمُتَحَيِّرَة)، ولذلك صححت في طبعة مجمع الملك فهد.

ص: 551

49 -

فالمحافظ عليها: الذي يصليها في مواقيتها، كما أمر الله تعالى، والذي

(1)

يؤخرها أحيانًا عن وقتها، أو يترك واجباتها، فهذا تحت مشيئة الله تعالى. [22/ 49]

50 -

وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ"

(2)

عَن ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: "صَلَاةُ السَّفَرِ رَكعَتَانِ فَمَن خَالَفَ السُّنَّةَ كفَرَ". [22/ 225]

51 -

فَإِنَّ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ حَقِيقَةُ

(3)

التَّسْوِية بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ. [22/ 332]

52 -

عَن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه كَانَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، ويصْنَعُ مِثْل ذَلِكَ إذَا قَضَى قِرَاءَتَهُ، وَإِذَا أَرَادَ

(4)

أَنْ يَرْكَعَ، ويصْنَعُهُ إذَا رَفَعَ مِن الرُّكُوعِ. [22/ 453]

53 -

حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي لَيْلَى قَالَ: لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ فَقَالَ: أَلَا أُهْدِي لَك هَدِيَّةً؟ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا: قَد عَرَفْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْك فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْك؟ قَالَ: قُولُوا: "اللَّهُمَّ صَل عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ -وَفِي لَفْظٍ- وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كمَا بَارَكت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ

(5)

، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ".

رَوَاهُ أَهْلُ "الصِّحَاحِ" وَ"السُّنَنِ" وَ"الْمَسَانِيدِ"؛ كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ. فَهَذِهِ الْأحَادِيث الَّتِي فِي "الصِّحَاحِ": لَمْ أَجِدْ فِيهَا وَلَا فِيمَا نُقِلَ لَفْظَ "إبْرَاهِيمَ وَآلِ إبْرَاهِيمَ"

(6)

. [22/ 454 - 456]

(1)

في الأصل: (والذي ليس)، وهو خطأ.

(2)

ليس في مسلم.

(3)

لعل الصواب: (حَقِيقَتُهُ).

(4)

الصواب: (وأراد)، كما في سنن الترمذي وغيره.

(5)

لفظ البخاري (3370): "كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ" في كِلا الموضعين.

(6)

تقدم التنبيه على أنها موجودة في رواية البخاري، وقد يكون الشيخ لم يطلع حينها على صحيح البخاري، أو كانت عنده نسخة لا يُوجد فيها هذا اللفظ.

ص: 552

54 -

وَالثَّانِي: يَقُولُهَا خَمْسًا وَعِشْرِينَ، ويضُمُّ إلَيْهَا "لَا إلهَ إلَّا اللهُ" وَقَد رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

. [22/ 494]

55 -

رُوِيَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" أَنَّهُ يَقُولُ: كُلَّ وَاحِدٍ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ وَيزِيدُ فِيهَا التَّهْلِيلَ

(2)

. [22/ 509]

56 -

فَإِنَّ مُرَاءَاةَ النَّاسِ فِي الْعِبَادَاتِ الْمُخْتَصَّةِ

(3)

؛ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالذّكْرِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مِن أَعْظَمِ الذُّنُوبِ.

وَأَمَّا الْمُرَائِي بِنَوَافِلِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالذِّكْرِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ: فَلَا يَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّهُ يُكْتَفَى فِيهِ بِحُبوطِ عَمَلِهِ فَقَطْ بِحَيْثُ يَكُونُ لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ؛ بَل هُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلذَّمّ وَالْعِقَابِ عَلَى قَصْدِهِ شُهْرَةَ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ، إذ هِيَ عِبَادَاتٌ مُخْتَصَّةٌ

(4)

. [22/ 506 - 507]

57 -

دَلَّ كِتَابُ اللهِ عز وجل عَلَى مَن كَبُرَ عَلَيْهِ مَا يُحِبُّهُ اللهُ: أَنّهُ

(5)

مَذْمُومٌ بِذَلِكَ فِي الدِّينِ، مَسْخُوطٌ مِنْهُ ذَلِكَ. [22/ 565]

58 -

فَمَن لَمْ يَسْكُنْ فِيهَا لَمْ يَأتِ بِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَن أَهْوَى إلَى الْقُعُودِ وَلَمْ يَأتِ بِهِ، كَمَنْ

(6)

مَدَّ يَدَهُ إلَى الطَّعَامِ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ، أَو وَضَعَه عَلَى فِيهِ وَلَمْ يَطْعَمْهُ.

59 -

وَأَمَّا الْوَسْوَاسُ الَّذِي يَكُونُ غَالِبًا عَلَى الصَّلَاةِ فَقَد قَالَ طَائِفَة-

(1)

رواه النسائي (1350)، وصحَّحها الألباني ولم أجده في مسلم.

(2)

تقدم التنبيه أنه روي عند النسائي لا في الصحيحين أو أحدهما.

(3)

لعل الصواب: المحضة، ولا معنى لكلمة: مختصة، بل المشهور من كلام الشيخ وغيره من العلماء إطلاق عبارة:"محضة وغير محضة" للعبادات والمصالح والمفاسد ونحوها، وقد أطلقها في مواضع لا تُحصى، ولم أر الشيخ استعمل "مختصة" في مثل ذلك.

(4)

تقدم التنبيه أن الذي يظهر أنها: المحضة.

(5)

في الأصل وجميع النسخ التي وقفتُ عليها: (وَأَنهُ) بالعطف، ولا يظهر صواب الجملة واستقامتها بالواو. والله أعلم.

(6)

هكذا في الأصل وجميع النسخ بدون واو العطف، ولعل الأصوب وضعها لتستقيم الجملة.

ص: 553

مِنْهُم أَبُو عَبْدِ اللهِ بْنُ حَامِدٍ وَأَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ -وَغَيْرُهُمَا: أَنَّهُ يُوجِبُ الْإِعَانَةَ أيْضًا لِمَا أَخْرَجَاهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ"

(1)

عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ فَإِذَا قُضِيَ التَّأْذِينَ أَقْبَلَ فَإِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ فَإِذَا قَضَى التَّثْوِيبَ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ فَيَقُولُ: اُذْكُرْ كَذَا اُذْكُرْ كذَا لِمَا لَمْ يَكُن يَذْكُرُ حَتَّى يَظَل الرَّجُلُ لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ".

وَقَد صَحَّ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "الصَّلَاةُ مَعَ الْوَسْوَاسِ مُطْلَقًا". وَلَمْ يُفَرِّقْ ينَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ

(2)

. [22/ 604]

60 -

وَهَذَا قَوْلُ الْجَمَاعَةِ وَإِن شَرَعَ فِي الثَّانِيَةِ. إمَّا فِي قِرَاءَتِهَا عِنْدَهُم وَإِمَّا فِي رُكُوعِهَا عَلَى قَوْلِ [الْجَمَاعَةِ. وَإِن شَرَعَ فِي الثَّانِيَةِ إمَّا فِي وِقِرَاءَتِهَا عِنْدَهُم وَإِمَّا فِي رُكُوعِهَا عَلَى قَوْلِ]

(3)

مَالِكٍ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَلْغُو.

وَلَكِنْ سَجْدَتَا السُّجُودِ

(4)

يُشْبِهَانِ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ. [23/ 47]

والنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ أَنَّ طُولَ الْقُنُوتِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ

(5)

، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْقُنُوتَ فِي حَالِ السُّجُودِ وَحَالِ الْقِيَامِ

(6)

.

(1)

البخاري (608)، ومسلم (389).

(2)

يظهر في العبارة خلل وسقط، والدليل ليس حجة لمن يُبطل الصلاة بالوسواس، بل حجة للذي لا يُبطلها، كما فعل ذلك ابن القيم، وكذلك الشيخ في مواضع.

فلعل القول الثاني سقط وبقي دليله.

وقوله صح .. لعل الصواب: (صحح النبيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ مَعَ الْوَسْوَاسِ مُطْلَقًا وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالكَثيرِ).

(3)

ما بين المعقوفتين مكرر كما هو ظاهر.

(4)

كذا في الأصل، وهو كذلك في جميع النسخ، ولعل الصواب:(السّهو).

(5)

روى مسلم (756)، عَن جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ".

(6)

وفيه ردّ على قول النووي صلى الله عليه وسلم: الْمُرَادُ بِالْقُنُوتِ هُنَا الْقِيَامُ بِاتِّفَاقِ العلماء فيما عَلِمْتُ. اهـ. شرح النووي لصحيح مسلم (6/ 36).

ص: 554

وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، وَأَنَّ

(1)

تَطْوِيلَ الصَّلَاةِ قِيَامًا وَرُكُوعًا وَسُجُودًا أَوْلَى مِن تَكْثِيرِهَا قِيَامًا وَرُكُوعًا وَسُجُودًا. [23/ 71]

61 -

وَإِنْ

(2)

كَانَ يُصَلِّيهِمَا جَالِسًا؛ لِأَنَّ وِتْرَ اللَّيْلِ دُونَ وِتْرِ النَّهَارِ، فَيَنْقُصُ عَنْه فِي الصِّفَةِ. [23/ 98]

62 -

وَهَذَا مُتَنَاوِلٌ الْآيَاتِ

(3)

الَّتِي لَيْسَ فِيهَا سُجُودٌ. [23/ 149]

63 -

وَهَذَا أَصْل لِأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ: فِي أَنَّ مَا كَانَ مِن "بَابِ سَدِّ الذَّرِيعَةِ" إنَّمَا يُنْهَى عَنْهُ إذَا لَمْ يُحْتَجْ إلَيْهِ، وَأَمَّا مَعَ الْحَاجَةِ لِلْمَصْلَحَةِ الَّتِي لَا تَحْصُلُ إلَّا بِهِ: وقد

(4)

يُنْهَى عَنْهُ. [23/ 214]

64 -

قَالَ: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)} [الأعراف: 204]. وَذَكَرَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ، وَذَكَرَ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْمَأْمُومِ حَالَ الْجَهْرِ.

ثمَّ يقُولُ

(5)

: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)} [الأعراف: 204]، لَفْظٌ عَامٌّ: فَإِفَا أَنْ يَخْتَصَّ

(6)

الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ أَو فِي الْقِرَاءَةِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَو يَعُمُّهُمَا.

وَالثَّانِي بَاطِلٌ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِن الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ يَجِبُ الِاسْتِمَاعُ خَارجَ الصَّلَاةِ وَلَا يَجِبُ فِي الصَّلَاةِ.

وَلِأَنَّ اسْتِمَاعَ الْمُسْتَمِعِ إلَى قِرَاءَةِ الْإِمَامِ الَّذِي يَأْتَمُّ بِهِ وَيجِبُ عَلَيْهِ مُتَابَعَتُهُ أَوْلَى مِن اسْتِمَاعِهِ إلَى قِرَاءَةِ مَن يَقْرَأُ خَارجَ الصَّلَاةِ

(7)

، دَاخِلَةٌ فِي الْآيَةِ إمَّا عَلَى سَبِيلِ الْخُصُوصِ وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ. [23/ 269 - 270]

(1)

لعل الأصوب: (وَهو أَنَّ).

(2)

لعله: (وإنما)؛ ليستقيم المعنى.

(3)

لعل الصواب: (للآيات).

(4)

لعل الصواب: (فلا).

(5)

لعل الصواب: (نقُولُ)؛ لأنه لم يذكر عن أحدٍ قولًا، وليس من عادته أن يقول: ثم يقول.

(6)

لعل الصواب: (في القراءةِ).

(7)

يظهر بأن فيه سقطًا قبل هذه الجملة.

ص: 555

65 -

[الصحيح]

(1)

مِن قَوْلِ الْعُلَمَاءِ: أَنَّهُ لَا تَصِحُّ صَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ خَلْفَ الصَّفِّ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ حَدِيثَيْنِ عَن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَمَرَ الْمُصَلِّيَ خَلْفَ الصَّفِّ بِالْإِعَادَةِ. [23/ 393]

66 -

ونظير ذلك ألا يجد الرجل موقفًا إلا خلف الصف، فهذا فيه نزاع بين المبطلين لصلاة المنفرد، وإلا ظهر

(2)

صحة صلاته في هذا الموضع. [23/ 396]

67 -

فَإِنْ كَانُوا قَصَدُوا مَا قَصَدَهُ عُثْمَانُ مِن أَنَّ هَذَا لَا يَزَالُ يَسِيرُ فِي مَكَانٍ [لَا]

(3)

يُحْمَلُ فِيهِ الزَّادُ وَالْمَزَادُ فَهُوَ كَالْمُقِيمِ فَقَد وَافَقُوا عُثْمَانَ. [24/ 116]

68 -

لَا يَنْبَغِي الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا -أي: {الم (1) تَنْزِيلُ} [السجدة: 1، 2] وَ {هَلْ أَتَى} [الإنسان: 1]، فِي فَجْرِ الْجُمُعَةِ- بِحَيْثُ يَتَوَهَّمُ الْجُهَّالُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَأَنَّ تَارِكَهَا مُسِيءٌ؛ بَل يَنْبَغِي تَرْكُهَا أَحْيَانا لِعَدَمِ [اعتقاد]

(4)

وُجُوبِهَا. [24/ 204 - 205]

69 -

إذَا اجْتَمَعَ الْجُمُعَةُ وَالْعِيدُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَلِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى مَن شَهِدَ الْعِيدَ كَمَا تَجِبُ سَائِرُ الْجُمَعِ؛ للعمومات الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْجُمُعَةِ.

وَالثَّاني: تَسْقُطُ عَن أَهْلِ الْبِرِّ مِثْل أَهْلِ الْعَوَالِي وَالسّوَاد

(5)

. [24/ 210]

(1)

ما بين الْمعقوفتين ليست في الأصل، ولا في النسخ الأخرى ولا الفتاوى الكبرى! والذي يظهر أن السياق يقتضيها.

(2)

لعل الصواب: (وَالَأظهَرُ).

(3)

ما بين معقوفتين سقطٌ نبّه عليه أسامة بن الزهراء - منسق الكتاب للموسوعة الشاملة.

(4)

ما بين المعقوفتين يقتضيه السياق.

(5)

في الأصل: (وَالشَّوَاذِّ)، ولعل الصواب المثبت، ويدل عليه قول الشيخ في جوابه للسؤال الذي بعده: وَالثَّاني: أَنَّ الْجُمُعَةَ سَقَطَتْ عَن السَّوَادِ الْخَارجِ عَن الْمِصْرِ.

ص: 556

70 -

وهذا جاء في عدة آثار

(1)

، أن الأرواح تكون في أفنية القبور. [24/ 365]

71 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن صَدَاقِ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا تَمُرُّ عَلَيْهِ السُّنُونَ الْمُتَوَالِيَةُ لَا يُمْكِنُهَا مُطَالَبَتُهُ بِهِ .. فَهَل تَجِبُ زَكَاةَ السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ؟

فأجاب: الْحَمْدُ للهِ، هَذِهِ الْمَسْألَةُ فِيهَا لِلْعُلَمَاءِ أَقْوَالٌ:

قِيلَ: يَجِبُ تَزْكِيَةُ السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ مُوسِرًا أَو مُعْسِرًا.

وَقِيلَ: يَجِبُ مَعَ يَسَارِهِ وَتَمَكُّنِهَا مِن قَبْضِه

(2)

دُونَ مَا إذَا لَمْ يُمْكِنْ تَمْكِينُهُ مِن الْقَبْضِ. [25/ 47]

72 -

وَاَلَّذِينَ قَالُوا: لَا تَكونُ رُؤَيةً لِجَمِيعِهَا كَأكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مِنْهُم مَن حَدَّدَ ذَلِكَ بِمَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَمِنْهُم مَن حَدَّدَ ذَلِكَ بِمَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَطَالِعُ؛ كَالْحِجَازِ مَعَ الشَّامِ، وَالْعِرَاقِ مَعَ خُرَاسَانَ، وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ مَسَافَةَ الْقَصْرِ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْهِلَالِ.

وَأَمَّا الْأَقَالِيمُ فَمَا

(3)

حَدَّدَ ذَلِكَ؟ ثُمَّ هَذَانِ خَطَأٌ مِن وَجْهَيْنِ. [25/ 104]

73 -

والذين لم يثبتوا هذا الحديث لم يبلغهم من وجه يعتمدونه، وقد أشاروا إلى عليه

(4)

، وهو انفراد عيسى بن يونس. [25/ 222]

74 -

قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا"

(5)

.

وَقَالَ: "إنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إلَّا غَلَبَهُ فَاسْتَعِينُوا

(1)

لعل صواب العبارة: هذا وجاء في عدة آثار .. وهي هكذا في النسخة التي حققها: أنور الباز، عامر الجزار.

(2)

في الأصل: (قَبْضِها)، ولعل الصواب المثبت؛ لأن الضمير عائد إلى الصداق، وهو مذكر. وفي الفتاوى المصرية (281): بالتذكير.

(3)

لعل الصواب: (فمن).

(4)

لعل الصواب: (علّتِه)، وهي هكذا في النسخة التي حققها: أنور الباز، عامر الجزار.

(5)

رواه أحمد (22963).

ص: 557

بِالْغَدْو وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِن الدُّلْجَةِ وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا" وَكِلَاهُمَا فِي الصَّحِيحِ

(1)

. [25/ 272]

75 -

فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهَا الْعَوْدُ: فَغَايَة مَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَخَّصَ لَهَا فِيهِ أَنَّهَا تَكُونُ كَالْمُحْصَرَةِ، تحلل

(2)

مِن إحْرَامِهَا بِهَدْيِ. [26/ 247]

76 -

رَوَى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعَمٍ أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى فِيهِ أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِن لَيْلٍ أَو نَهَارٍ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ"

(3)

.

وَهُوَ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُخْتَارَ لِمَن قَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَسُوقَ الْهَدْيَ و

(4)

يتَمَتَّعَ تَمَتُّعَ قَارِبٍ. أَو لَا يَسُوقُ الْهَدْيَ وَيتَمَتَّعُ بِعُمْرَةِ وَيحِلُّ مِنْهَا. [26/ 285]

77 -

وَفِي "الصَّحِيحِ" عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الإشْرَاكَ بِاللهِ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ"

(5)

. [27/ 162]

78 -

وَإِذَا كَانَ أَصْلُ هَذَا الْمَشْهَدِ الْقَاهِرِيِّ: مَنْقُولٌ

(6)

عَن ذَلِكَ الْمَشْهَدِ الْعَسْقَلَانِيِّ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ. [27/ 456]

79 -

وَمِن ذَلِكَ: أَنَّهَا خِيرَةُ اللهِ مِن الْأَرْضِ، وأَنَّ

(7)

أَهْلَهَا خِيرَةُ اللهِ وَخِيَارُ أَهْلِ الْأَرْضِ. [27/ 508]

(1)

الحديث الأول لم يروه البخاري ولا مسلم.

(2)

لعل الأصوب: (تتحلل)؛ لأنه الضمير يعود لمؤنث.

(3)

لم يروه مسلم في صحيحه.

(4)

في الأصل: (أَوْ)، ولعل المثبت هو الصواب؛ لأنه ذكر أمرين، وإذا جعلناها (أو) أصبحت ثلاثة أمور، ولا يستقيم المعنى بها أيضًا.

(5)

لم يروه البخاري ولا مسلم.

(6)

هكذا في الأصل، ولعل الصواب:(منقولًا)؛ لأنه خبر كان.

(7)

في الأصل: (إنّ)، وفي النسخة التي حققها: أنور الباز وعامر الجزار: (أوْ)، وفي ولعل المثبت هو الصواب.

ص: 558

80 -

قِيلَ لسمرة بْنِ جُنْدُبٍ: إنَّ ابْنَك مَاتَ

(1)

الْبَارِحَةَ، فَقَالَ: لَو مَاتَ لَمْ أُصَلِّ عَلَيْهِ. [28/ 218]

81 -

كَمَا قَالَتْ هِنْدُ: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ يُعْطِينِي مِن النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ"، كَمَا

(2)

قَالَ صلى الله عليه وسلم: "لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ". [25/ 229]

82 -

قَالَ أَبُو فرَاسٍ: خَطَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَذَكَرَ حَدِيثًا قَالَ فِيهِ: أَلَا إنِّي وَاللهِ مَا أُرْسِلُ عُمَّالِي إلَيْكُمْ لِيَضْرِبُوا أَبْشَارَكُمْ وَلَا لِيَأخُذُوا أَمْوَالَكُمْ؛ وَلَكِنْ أُرْسِلُهُم إلَيْكُمْ لِيُعَلِّمُوكُمْ دِينكُمْ وَسُنَّةَ نَبِيِّكُمْ. فَمَن فُعِلَ بِهِ سِوَى ذَلِكَ فَلْيَرْفَعْهُ إلَيَّ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إذًا لَأقُصَّنَّهُ مِنْهُ.

فَوَثَبَ عَمْرُو بْنُ العاص فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤمِنِينَ: إنْ كَانَ رَجُلٌ مِن الْمسْلِمِينَ أُمِّرَ عَلَى رَعِيَّةٍ فَأَدَّبَّ رَعِيَّتَهُ أَإِنَّك لَتَقُصَّهُ مِنْه؟

قَالَ: إي وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ

(3)

بِيَدِهِ. [28/ 380]

83 -

وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ قَوْمًا يَكُونُونَ فِي أُمَّتِهِ: يَخْرُجُونَ فِي فِرْقَةٍ مِن النَّاسِ سِيمَاهُم التَّحْلِيقُ، قَالَ: هُم شَرُّ الْخَلْقِ أَو مِن شَرِّ الْخَلْقِ تَقْتُلُهُم أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ.

وَهَذِهِ السِّيمَا: سِيمَا أَوَّلهِمْ كَمَا كَانَ ذُو الثدية؛ لِأَنَّ

(4)

هَذَا وَصْفٌ لَازِمٌ لَهُمْ. [28/ 497]

84 -

لَكِنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَبَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَد: أَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَغْنِيَاءِ

(1)

القصة مكررة في الفتاوى، وكلها بلفظ: بشم، وهو التخمة، وهو الصواب.

(2)

لعله: (وكما).

(3)

لعل الصواب: (عمر)، وهو كذلك في مسند الإمام أحمد (286) وغيره.

(4)

لعل الصواب: (لا أنَّ .. )، وهو اللائق من السياق.

ص: 559

الَّذِينَ لَا مَنْفَعَةَ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِم فِيهِ حَقٌّ، إذَا

(1)

فَضَلَ الْمَالُ وَاتَّسَعَ عَن حَاجَاتِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْن الْخَطَّابِ رضي الله عنه لَمَّا كَثُرَ الْمَالُ أَعَطَا مِنْهُم عَامَّةَ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ لِجَمِيعِ أَصْنَافِ الْمُسْلِمِينَ فَرْضٌ فِي دِيوَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ؛ غَنِيُّهُم وَفَقِيرُهُمْ. [28/ 567]

85 -

فَمَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ مَأمُورٌ بِهِ كَيْفَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ عِبَادَةٌ؟

وَمَا لَمْ يَثْبُتْ مِن الْعَادَاتِ

(2)

أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ كَيْفَ يُحْكَمُ عَلَى أَنَّهُ مَحْظورٌ؟ [29/ 17]

86 -

فَتَلَفُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِن الْجِذَاذِ كَتَلَفِ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِن اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَفِى الْإِجَارَةِ يَتْلَفُ مِنْ

(3)

ضَمَانِ الْمُؤَجِّرِ بِالِاتِّفَاقِ. فَكَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ. [29/ 50]

87 -

وَقَد تَأَوَّلَ مَن أَبْطَلَ الْمُزَارَعَةَ وَالْمُسَاقَاةَ ذَلِكَ بِتَأْوِيلَاتٍ مَرْدُودَةٍ.

مِثْل أَنْ قَالَ: كَانَ الْيَهُود .. ، وَمِثْل أَنْ

(4)

قَالَ: هَذِهِ مُعَامَلَةٌ مَعَ الْكُفَّارِ. فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَجُوزَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ. [29/ 97]

88 -

وَذَلِكَ أَنَّ فِي صِحَّةِ هَذَا الْعَقْدِ رِوَايَتَان

(5)

. [29/ 231]

89 -

وَأَمَّا الشِّرَاءُ مِنْهُ -لَا سِيَّمَا مَعَ الْحَاجَةِ- فَلَا يُحْكَمُ بِتَحْرِيمِهِ

(6)

وَلَا يُحْكَمُ بِتَحْرِيمِهِ. [29/ 240 - 241]

(1)

لعل الصواب: (إلا إذا .. )، لاقتضاء السياق له.

(2)

في الأصل: (الْعِبَادَاتِ)؛ وهو هكذا في جميع النسخ التي وقفت عليها، ولعل المثبت هو الصواب؛ ليستقيم المعنى، فقد ذكر قبلُ أنّ الأصْل فِيه الْعَادَات: عَدَمُ الْحَظْرِ، ولا يقال في العبادات: الْأصْل فِيها عَدَمُ الْحَظْرِ، بل يُقال: الأصل فيها المنع حتى يثبت الدليل على مشروعيتها.

(3)

في الفتاوى الكبرى: (ينفك ضمان .. )، وهي أصوب، وإن تحتاج إلى تأمل ونظر.

(4)

هكذا في جميع النسخ في الموضعين، ولعل الصواب: مَنْ.

(5)

لعل الصواب: (روايتين)؛ لأنها اسم أن مؤخر.

(6)

لعل صواب العبارة: (ولا بتحليله)، وقد نبَّه على هذا صاحب كتاب: صيانة فتاوى شيخ الإسلام.

ص: 560

90 -

وَأَمَّا إذَا أَشْهَدَ بِطَلَب الْأَرْشِ: اسْتَحَقَّهُ، كَانَ

(1)

لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا يَسْقُطُ الْأَرْشُ بِتَصَرُّفِهِ. [29/ 366]

91 -

وَمِن أَعْظَمِ حُجَجِ "الْكِيمَاويَّةِ": اسْتِدْلَالُهُم بِالزُّجَاجِ قَالُوا: فَإِنَّ الزُّجَاجَ مَعْمُولٌ مِن الرَّمْلِ وَالْحَصَى وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَقَاسُوا عَلَى ذَلِكَ مَا يَعْمَلُونَهُ مِن الْكِيمْيَاءِ، وَهَذ حُجَّةٌ فَاسِدَةٌ؛ فَإِنَّ اللهَ سبحانه وتعالى يَخْلُقُ

(2)

لِلنَّاسِ زُجَاجًا؛ لَا فِي مَعْدِنٍ وَلَا فِي غَيْرِهِ؛ وَإِنَّمَا الزُّجَاجُ مِن قِسْمِ الْمَصْنُوعَاتِ. [29/ 388]

92 -

فَتَرْكُ التَّصَرُّفِ فِي الْمُضَارَبَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ قَد يَكُونُ أَعْظَمَ ضَرَرًا مِن تَرْكِ عِمَارَةِ الْمَكَانِ المستهدم فِي شَرِكَةِ الْأَمْلَاكِ، وَمِن تَرْكِ بَيْع الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ الْمُشْتَرَكَةِ

(3)

؛ لِأنَّهُ هُنَاكَ يُمْكِنُ الشَّرِيكَ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ وَهُنَا غَرَّهُ وَضَيَّعَ عَلَيْهِ مَنْفَعَةَ مَالِهِ. [29/ 407]

93 -

فَهُنَا لَيْسَ فِي إلْزَامِهِمْ بِهِ فَائِدَةٌ إلَّا آصَارٌ وَأَغْلَالٌ لَمْ تُوجِبْ لَهُم تَقْوَى اللهِ وَحِفْظَ حُدُودِهِ؛ بَل حَرُمَتْ عَلَيْهِ

(4)

نِسَاؤُهُم وَخَرِبَتْ دِيَارُهُم فَقَطْ. [29/ 424]

94 -

فَإِذَا بَاعَ تَمْرًا فِي نَوَاهٍ بِنَوَى، أَو تَمْرًا مَنْزُوعَ النَّوَى

(5)

. [29/ 424]

(1)

الذي يظهر أن صواب العبارة: (وكان)؛ ليستقيم المعنى.

(2)

لعل الصواب: (لم يخلق)؛ ليستقيم المعنى، ولأنه قال بعد ذلك: وَإِذَا تَبَيَّنَ أنَّ الزُّجَاجَ مِن قِسْمِ الْمَصْنُوعَاتِ دُونَ الْمَخْلُوقَاتِ .. فنفى أن يكون الزجاج مخلوقًا، فكيف يُثبه قبل؟

(3)

الجملة في الأصل هكذا: ( .. المستهدم فِي شَرِكَةِ الْأمْلَاكِ).

وَمَن تَرَكَ بَيْعَ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ الْمُشْتَرَكَةِ ..

وهي بهذا لا تكون الجملة مفيدة، وهذا يدل على أهمية وضع علامات الترقيم والفواصل والتشكيل.

(4)

لعل الصواب: (عَلَيْهِم)؛ لأن الضمائر قبل وبعد: ضمائر جمع لا مفرد.

(5)

لعل صواب العبارة: (أو تمرٍ منزوعٍ النوى)؛ لأن الجملة معطوفةٌ على (بنوى)، ووجدت في كتاب:"المسائل والأجوبة" لشيخ الإسلام (1/ 186) بلفظ: "أو بتمرٍ منزوعٍ النوى".

ص: 561

95 -

أحدها: أن يكون المقصود بيع فضة بفضة متفاضلًا، أو بيع ذهب بذهب متفاضلًا، ويضم إلى الأنقص من غير جنسه حيلة

(1)

، فهذا لا يجوز أصلًا.

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بَيْعَ أَحَدِهِمَا وَبَيْعَ عَرَضٍ بِأَحَدِهِمَا وَفِي الْعَرَضِ مَا لَيْسَ مَقْصُودًا: مِثْلُ بَيْعِ السِّلَاحِ بِأَحَدِهِمَا وَفِيهِ حِيْلة

(2)

يَسِيرَةٌ، أَو بَيْعُ عَقَارٍ بِأَحَدِهِمَا وَفِي سَقْفِهِ وَحِيطَانِهِ كَذَلِكَ، مِثْلُ

(3)

بَيْعِ غَنَمٍ ذَاتِ صُوفٍ بِصُوفٍ وَذَاتِ لَبَنٍ بِلَبَنِ فَهَذَا يَجُوزُ. [29/ 463]

96 -

الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي [اشترى]

(4)

مُجَرَّدَ الثَّمَرَةِ فَقَطْ، وَمُؤْنَةُ السَّقْيِ عَلَى الْبَائِعِ، فَهَذِهِ الْمَسأَلَةُ. [29/ 482]

97 -

أَنْ نُسَلِّمَ أَنَّ حَقَّ الْمَظْلُومِ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ مَالِ الظَّالِمِ وَإِن فَاتَت الْعَيْنُ لِكَوْنِ هَذَا بَدَلُ مَالِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي نَزَعَهُ

(5)

.. [29/ 244]

98 -

لو أَرَادَ أَنْ يَجْرِيَ فِي أَرْضِهِ مِن بُقْعَةٍ إلَى بُقْعَةٍ ويُخْرِجَهُ إلَى أَرْضٍ مُبَاحَةٍ أَو إلَى أَرْضِ جَارٍ رَاضٍ مِن غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَلَى رَبِّ الْمَاءِ ضَرَرٌ: لَكِنْ

(6)

يَنْبَغِي أَنْ يَمْلِكَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ شَغْلَ الْمَكَانِ الْفَارغِ، فَكَذَلِكَ تَفْرِيغَ الْمَشْغُولِ. [30/ 17]

(1)

هكذا في المطبوع وفي نسخة الملك فهد.

وفي مختصر الفتاوى المصرية: (حِلْيَةٌ)، وهو الصواب.

(2)

هكذا في المطبوع وفي نسخة الملك فهد.

وفي مختصر الفتاوى المصرية: (حِلْيَةٌ)، وهو الصواب.

(3)

لعل الصواب: (ومثل)؛ لأنه معطوف على ما قبل.

(4)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل ولا في جميع الطبعات، والسياق يقتضيه، وبعد البحث وجدته كذلك في مختصر الفتاوى المصرية والحمد لله. (338)

(5)

وفي طبعة الملك فهد: (فرّعه)، ولعله أصوب.

(6)

هكذا في الأصل، ولعل الصواب:(لَكان)؛ ليستقيم المعنى.

ص: 562

99 -

مَا حَرُمَ عَلَى الرّجلِ

(1)

فِعْلُهُ حَرُمَ عَلَيْهِ أَنْ يُمَكِّنَ مِنْهُ الصَّغِيرَ. [29/ 298]

100 -

وَصَنَّفَ رَجُلٌ كِتَابًا فِي الِاخْتِلَافِ فَقَالَ أَحْمَد: لَا تُسَمّهِ "كِتَابَ الِاخْتِلَافِ"، وَلَكِنْ سَمِّهِ "كِتَابَ السُّنَّةِ"

(2)

. [30/ 79]

101 -

وَهَذِهِ الْقُوَّةُ مَشْرُوطَةٌ عَلَى مَن يَقْبِضُهَا أَنْ يَبْذُرَهَا فِي الْأَرْضِ لَيْسَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ فَقَد جُعِلَتْ قوَّةً فِي الْأَرْضِ يَنْتَفِعُ [بِهَا]

(3)

كُلُّ مَن يَسْتَعْمِلُ الْأَرْضَ مِن مُقْطَعٍ وَعَامِلٍ. [30/ 132]

102 -

فَإِن اعْتَقَدَ بُطْلَانَ هَذَا الْعَقْدِ لَمْ يَخزْ لَهُ أَنْ يُسَلِّمَ الْمُؤَجَّرَ وَلَا يُطَالِبَ بِالأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ وَلَا [يَمْنَعُ]

(4)

الْمُسْتَأْجِرِينَ مِن الْخُرُوجِ. [30/ 178]

103 -

إذَا كَانَ لَهُ جِهَةٌ أُخْرَى حَلَالٌ وَذَكَرَ أَنَّهُ يُعْطِي الْأجْرَةَ مِنْهَا، وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ [جَازَ]

(5)

أَنْ يَأْخُذَ. [30/ 178]

104 -

كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَمَّا أَقْرَضَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ ابْنَيْهِ مِن مَالِ الْفَئءِ مِائَتَي أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَخَضَهُمَا بِهَا دُونَ سَائِر الْمُسْلِمِينَ، وَرَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنَّ ذَلِكَ مُحَابَاةً لَهُمَا لَا تَجُوزُ، وَكَانَ الْمَالُ قَد رَبِحَ رِبْحًا كَثِيرًا، بَلَغَ بِهِ الْمَالُ ثَمَانَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَأَمَرَهُمَا أَنْ يَدْفَعَا الْمَالَ وَرِبْحَهُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ وَأَنَّهُ لَا شَيءَ لَهُمَا مِن الرِّبْحِ لِكَوْنِهِمَا قَبَضَا الْمَالَ بِغَيْرِ حَقٍّ.

(1)

في الأصل: (الرِّجَالِ)، ولعل الصواب المثبت، وقد تقدمت نفس هذه الفتوى بلفظ الأفراد كما في (22/ 143).

(2)

لعل الصواب: (السعة)، كما ذكر ذلك في (14/ 159).

(3)

هذه زيادة لا يستقيم المعنى إلا بها، وقد نبَّه عليها: منسق الكتاب للموسوعة الشاملة أسامة بن الزهراء.

(4)

هذه زيادة لا يستقيم المعنى إلا بها، وقد نبَّه عليها: منسق الكتاب للموسوعة الشاملة أسامة بن الزهراء.

(5)

هذه زيادة لا يستقيم المعنى إلا بها، وقد نبَّه عليها: منسق الكتاب للموسوعة الشاملة أسامة بن الزهراء.

ص: 563

فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللهِ

(1)

: إنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ لَك؛ فَإنَّ الْمَالَ لَو خَسِرَ وَتَلِفَ كَانَ ذَلِكَ مِن ضَمَانِنَا فَلِمَاذَا تَجْعَلُ عَلَيْنَا الضَّمَانَ وَلَا تَجْعَلُ لنا الرِّبْحَ؟. [30/ 323]

105 -

وَالْمُجْتَهِدُ مِن هَؤُلَاءِ الْمُقْطَعِينَ كُلِّهِمْ فِي الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ يَجْزِيهِ اللهُ عَلَى مَا فَعَلَ مِن الْخَيْرِ وَلَا يُعَاقِبُهُ عَلَى مَا عَجَزَ عَنْهُ وَلَا يُؤَاخِذُهُ بِمَا يَأْخُذُ وَيَصْرِفُ إذَا لَمْ يَكُن إلَّا ذَلِكَ [وَ]

(2)

كَانَ تَرْكُ ذَلِكَ يُوجِبُ شَرًّا أَعْظَمَ مِنْهُ. [30/ 360]

106 -

قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف: 199]، هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا جِمَاعُ الْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَعَ النَّاسِ إمَّا أَنْ يَفْعَلُوا مَعَهُ (غَيْرَ)

(3)

مَا يُحِبُّ، أَو مَا يَكْرَهُ. [30/ 370 - 371]

107 -

فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تُبَيِّنُ: أَنَّ حَقَّ الْمَظْلُومِ فِي نَفْسِ الْأمْرِ إذَا كَانَ سَبَبُهُ لَيْسَ ظَاهِرًا، [و]

(4)

أَخَذَهُ خِيَانَةً لَمْ يَكُن لَهُ ذَلِكَ. [30/ 373]

108 -

أَمَّا إذَا [قَصَد]

(5)

مُلْكَ قَبْضهِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَلَا إثْمَ.

وَإِن قَصَدَ أَنَّهُ مَلَكَهُ الْمِلْكَ الْمَعْرُوفَ فَهَذَا كَذِبٌ، لَكِنَّهُ إذَا اعْتَقَدَ جَوَازَ هَذَا لِدَفْعِ الظُّلْمِ، وَفي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةٌ عَن الْكَذِبِ، وَلْيَسْتَغْفِرْ اللهَ مِن ذَلِكَ وَيَتُبْ

(6)

إلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. [30/ 394]

(1)

لعل الصواب: (عُبيد الله)، كما ذكر ذلك في (30/ 130).

(2)

هذه زيادة لا يستقيم المعنى إلا بها، وقد نبَّه عليها: منسق الكتاب للموسوعة الشاملة أسامة بن الزهراء.

(3)

هكذا في الأصل وجميع النسخ، ويظهر أنها زائدة، ويدل عليه قوله: فَأُمِرَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُم مَا يُحِبُّ.

(4)

هذه زيادة لا يستقيم المعنى إلا بها، وقد نبَّه عليها: منسق الكتاب للموسوعة الشاملة أسامة بن الزهراء.

(5)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، والمعنى لا يستقيم إلا به.

(6)

هكذا في النسخة التي حققها: أنور الباز، عامر الجزار، وهي الصواب؛ لأنها معطوفة على =

ص: 564

109 -

وَأَمَّا وُجُوبُ أُجْرَةِ الْمِثْل لِمَن خَلَّصَهُ، فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، أَصَحُّهُمَا وُجُوبُ الْأُجْرَةِ، وَهُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ؛ لِأنَّ هَذَا الْمُخَلِّصَ مُتبرِّعٌ، وَأَصْحَابُ [هذا]

(1)

الْقَوْلِ يَقُولُونَ: إنْ خَلَّصُوهُ للهِ تَعَالَى فَأجْرُهُم عَلَى اللهِ تَعَالَى. [30/ 415]

110 -

بَل إذَا صَارَ مَسْجِدًا وَكَانَ بِحَيْثُ لَا يُصَلِّي فِيهِ أَحَدٌ: جَازَ أَنْ يُنْقَلَ إلَى مَسْجِدٍ يُنْتَفَعُ بِهِ.

بَل [إذَا]

(2)

جَازَ أَنْ يُبَاعَ وَيُصْرَفَ ثَمَنُهُ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ. [31/ 6]

111 -

فَمَن صَرَفَ بَعْضَ الْوَقْفِ عَلَى الْمَشْهَدِ وَأَخَذَ بَعْضَهُ يَصْرِفُهُ فِيمَا لَمْ يَقْتَضِهِ الشَّرْطُ، وَحَرَمَ الذُّرِّيَةَ الدَّاخِلِينَ فِي الشَّرْطِ: فَقَد عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ، وَتَعَدَّى حُدُودَهُ مِن وُجُوبِ أَدَاءِ الْوَقْفِ عَلَى ذُرَّيَّةِ الْوَاقِفِ، [وهو]

(3)

جَائِرٌ بِاتّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْمُجَوِّزِينَ لِلْوَقْفِ، وَهُوَ أَمْرٌ قَدِيمٌ مِن زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. [31/ 11]

112 -

عَمَلٌ يُتَقَرَّبُ

(4)

بِهِ إلَى اللهِ تَعَالَى. [31/ 43]

113 -

قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَتِهِ أَفْضَلُ مِن قِرَاءَةِ مُجْتَمِعِينَ بِصَوْتِ وَاحِدٍ؛ فَإِنَّ هَذِهِ تُسَمَّى "قِرَاءَةَ الْإِرَادَةِ"

(5)

وَقَد كَرِهَهَا طَوَائِفُ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ. [31/ 50]

= مجزوم، وفي نسخة الملك فهد والنسخة القديمة:(ويتوب).

(1)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، والمعنى لا يستقيم إلا به.

(2)

لعل الصواب حذف ما بين المعقوفتين ليستقيم المعنى.

(3)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، والمعنى لا يستقيم إلا به.

(4)

في الأصل: (يَقْتَرِبُ)، ولعل الصواب المثبت، وهذا الكلام مكرر في موضع آخر، باللفظ المثبت. (31/ 58)

(5)

لعل الصواب: (الإدارة)، كما في مختصر الفتاوى المصرية (393)، والفتاوى الكبرى (5/ 342) ومما جاء فيها: وقراءة الإدارة حسنة عند أكثر العلماء، ومِن قراءة الإدارة: قراءتهم مجتمعين بصوت واحد، وللمالكية وجهان في كراهتها، وكرهها مالك، وأما قراءة واحد والباقون يتسمعون له فلا يكره بغير خلاف، وهي مستحبة، وهي التي كان الصحابة يفعلونها؛ كأبي موسى وغيره. اهـ.

ص: 565

114 -

وَسُئِلَ: عَن رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ وَسَأَلَهَا الصُّلْحَ فَصَالَحَهَا، وَكَتَبَ لَهَا دِينَارينِ، فَقَالَ لَهَا: هَبِينِي الدِّينَارَ الْوَاحِدَ، فَوَهَبَتْهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَهَل لَهَا الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ وَالْحَالُ هَذه؟

فَأجَابَ: نَعَمْ، لَهَا أَنْ تَرْجِعَ فِيمَا وَهَبَتْهُ وَالْحَالُ هَذه؛ فَإِنَّهُ سَألَهَا الْهِبَةَ وَطَلَّقَهَا مَعَ ذَلِكَ، وَهِيَ لَمْ تَطْلُبْ

(1)

نَفْسَهَا أَنْ يَأْخُذَ مَالَهَا بِسُؤَالِهَا وَيُطَلِّقَهَا. [31/ 290]

115 -

تَنْعَقِدُ الْوَصِيَّةُ بِكُلّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا إذَا فُهِمَت الْمُخَاطَبَةُ مِن الْمُوصِي، وَيبْقَى قَبُولُ [حُكْمِ]

(2)

الْوَصِيَّةِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهَا مَوْقُوفًا عَلَى قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ لَفْظًا أَو عُرْفًا. [31/ 306]

116 -

وإِن كَانَ لَا يُخْرَجُ مِن ثُلُثِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْوَرَثَةِ إخْرَاجُ مَا زَادَ عَلَى الثلثِ، إلَّا أنْ يَكُونَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، بِحَيْثُ لَا يَحْصُلُ حُجَّةُ الْإسْلَامِ [إلَّا بِهِ]

(3)

. [31/ 331]

117 -

وَسُئِلَ رحمه الله: عَن أَيْتَامٍ تَحْتَ يَدِ وَصِيٍّ وَلَهُم أَخٌ مِن أُمٍّ، وَقَد بَاعَ الْوَصِيُّ حِصَّتَهُ عَلَى إخْوَتِهِ، وَذَكَرَ [أنَّ]

(4)

الْمِلْكَ كَانَ وَاقِعًا.

118 -

وَأَمَّا "الْعُمَرِيّتانِ" فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى أنَّ لِلْأُمِّ الثُّلُثَ مَعَ الأبِ وَالزَّوْجِ؛ بَل إنَّمَا أَعْطَاهَا اللهُ الثُّلُثَ إذْ

(5)

وَرِثَت الْمَالَ هِيَ وَالْأَبُ. [31/ 3]

(1)

لعل الصواب: (تَطِبْ)؛ ليستقيم المعنى.

(2)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، والمعنى لا يستقيم إلا به، وقد نبه عليه: منسق الكتاب للموسوعة الشاملة أسامة بن الزهراء.

(3)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، ولا يتم الكلام إلا به، ثم رأيت منسق الفتاوى نبه على ذلك.

(4)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، والمعنى لا يستقيم إلا به. وقد نبه عليه: منسق الكتاب للموسوعة الشاملة أسامة بن الزهراء.

(5)

في جامع المسائل: (إذا)، ولعله أصوب.

ص: 566

119 -

ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: لَا أَزَالُ أُحِبُّ بَنِي تَمِيمٍ بَعْدَ ثَلَاثٍ سَمِعْتهنَّ مِن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُهَا فِيهِمْ، سَمِعْت رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"هُم أَشَدُّ أمَّتِي عَلَى الدَّجَّالِ"

(1)

. [31/ 377]

120 -

وَإِن كَانَ الْوَقْفُ فِي الصِّحَّةِ: فَهَل يُبَاعُ لِوَفَاءِ الدَّيْنِ؟ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ، وَمَنْعُهُ

(2)

قَوْلٌ قَوِيٌّ. [31/ 204]

121 -

فَمَن كَانَ سَيِّدَ الْأُمِّ: كَانَ أَوْلَادُهَا لَهُ، سَوَاءً وُلدُوا مِن زَوْجٍ

(3)

أَو مِن زِنًا. [32/ 55]

122 -

وَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ بِالصّهْرِ فَيَقُولُ

(4)

: كُلُّ نِسَاءِ الصِّهْرِ حَلَالٌ لَهُ إلَّا أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ، بِخِلَافِ الْأَقَارِبِ، فأَقَارِبُ الْإِنْسَانِ كُلُّهُنَّ حَرَامٌ إلَّا أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ. [32/ 65]

123 -

فَالنَّسَبُ: يَتْبَعُ بِاعْتِقَادِ

(5)

الْوَطْءِ لِلْحِلِّ وَإِن كَانَ مُخْطِئًا فِي اعْتِقَادِهِ. [32/ 67]

124 -

وَإِذْ

(6)

كَانَ الْخُلْعُ رَفْعًا لِلنِّكَاحِ، وَلَيْسَ هُوَ مِن الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ: فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الْمَبْذُولُ مِن الْمَرْأَةِ أَو مِن أَجْنَبِيٍّ. [32/ 91 - 92]

125 -

الطَّلَاقُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ [يقع]

(7)

عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا مِن الْأَئِمَّةِ، وَالنِّكَاحُ بِوِلَايَةِ الْفَاسِقِ: يَصِحُّ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأَئِمَّةِ. [32/ 101]

(1)

في الأصل: (الرِّجَالِ)، وهو خطأ، والتصويب من صحيح البخاري ومسلم.

(2)

لعله: (وبيعه)، ويُؤيّد ذلك الفتوى التي بعدها.

على أنّ كل النسخ باللفظ المثبت، وقد وجدت العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله في حاشية الاختيارات للبعلي (ص 258) استدرك على هذه اللفظة فقال: ولعله: (وبيعه)، كما في مجموع المنقور؛ لأنه هو الموافق للتعليل الذي ذكره. اهـ.

(3)

لعل الصواب: (زواج).

(4)

لعله: (فنقول).

(5)

لعله: (اعْتِقَادَ) ..

(6)

لعل الصواب: (إذا) ..

(7)

ما بين المعقوفتين ليس موجودًا في الأصل، ولا يستقيم المعنى إلا بها.

ص: 567

126 -

فِي الْعِدَّةِ حَقُّ اللهِ

(1)

وَحَقٌّ لِلزَّوْجِ. [32/ 104]

127 -

وَمِن الْقَائِلِينَ بِالْإِيجَابِ مِن اشْتِرَاطِ

(2)

شَاهِدَيْنِ مَسْتُورينِ وَهُوَ لَا يَقْبَلُ عِنْدَ الْأَدَاءِ إلَّا مَن تُعْرَفُ عَدَالَتُهُ: فَهَذَا أَيْضًا لَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ. [32/ 130]

128 -

وَطَلَّقَ عُمَرُ امْرَأَتَهُ

(3)

كَانَتْ. [32/ 186]

129 -

وَقَالَ هَؤُلَاءِ: إنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَقْطَعْ بِأَنَّهُ حَلَالٌ؛ بَل كَرِهَهُ. وَقِيلَ: إنَّهُ قَالَ: لَمْ يَتبيَّنْ إلَيَّ

(4)

تَحْرِيمُهُ. [32/ 240]

130 -

وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ

(5)

مِن اللَّعِبِ بِهَا: فَقَد بُيّنَ سَبَب ذَلِكَ: أَنَّ الْحَجَّاجَ طَلَبَهُ لِلْقَضَاءِ فَلَعِبَ بِهَا؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ قَادِحًا فِيهِ فَلَا يُوَلَّى الْقَضَاءَ. [32/ 245]

131 -

وَمِن الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي فِيهَا [مَا]

(6)

تَحْرِيمُهُ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ وَبِالنُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ. [32/ 250]

132 -

وَالْمَالُ مَادَّةُ الْبَدَنِ، وَالْبَدَنُ تَابمُ الْقَلْبِ، وَ [قد]

(7)

قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "ألَا إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ بِهَا سَائِرُ الْجَسَدِ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ بِهَا سَائِرُ الْجَسَدِ ألَا وَهِيَ الْقَلْبُ". [32/ 231]

(1)

في الفتاوى الكبرى: (حَقُّ لِلَّهِ)، وهو أصوب.

(2)

لعل الصواب: (اشْترَط).

(3)

لعل الصواب: (امْرَأَةَ).

(4)

لعل الصواب: (لي).

(5)

لعل الصواب: (الشَّعْبِيّ)؛ لأمرين:

الأول: أنه نصَّ على ذلك في موضع آخر كما في (32/ 238).

الثاني: أن الشعبي لم تكن بينه وبين الحجاج عداوة ظاهرة، بخلاف سعيد بن جبير، فلا تخفى العداوة الظاهرة بينهما، وقد اختفى عنه سنوات طويلة، وقتله بعد ذلك، فكيف يُوليه القضاء؟

(6)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، ولا يستقيم المعنى إلا به، وقد نبه عليه منسق الموسوعة الشاملة أسامة بن الزهراء.

(7)

ما بين المعكوفين ليس في الأصل، ولعل إضافته أنسب وألْيق بالسياق.

ص: 568

133 -

فَإِذَا جَاءَ هَؤُلَاءِ إلَى صَحِيحِ الْعَقْلِ فَأَفْسَدُوا عَقْلَهُ وَفَهْمَهُ: وَقَدْ

(1)

ضَادُّوا اللهَ وراغموا حُكْمَهُ. [32/ 255]

134 -

وينْبَغِي مَعَ ذَلِكَ الْأَمْرِ أَنْ يَحُضَّهَا عَلَى ذَلِكَ بِالرَّغْبَةِ كَمَا يَحُضُّهَا عَلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا

(2)

. [32/ 277]

135 -

وَقَد اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صِحَّةِ الْخُلْعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: هُمَا رِوَايَتَانِ عَن أَحْمَد:

أَحَدُهُمَاْ [لا يَصِحُّ]

(3)

كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَهِيَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ.

وَالثَّانِيَةُ: يَصِحُّ كَالْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَهِيَ اخْتِيَارُ الخرقي. [32/ 303]

136 -

لَمْ يَتَنَازَع الْعُلَمَاءُ [في]

(4)

أَنَّ لَفْظَ الْخُلْعِ بِلَا عِوَضٍ وَلَا سُؤَالٍ: لَا يَكُونُ فَسْخًا. [32/ 303]

137 -

خِلَافَ مَا يَقُولُهُ مَن يَقُولُهُ مِن أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد: أَنَّهُ إذَا قَالَ لِإِحْدَاهُمَا طَلِّقْهَا

(5)

كَانَ ذَلِكَ اخْتِيَارًا لَهَا. [23/ 302]

138 -

فَإذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَمَقْصُودُهُمَا الْمُبَارَأَةَ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لِلْآخَر

(6)

مُطَالَبَةٌ بِوَجْهِ: فَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ الْإِبْرَاءُ مِن نَفَقَةِ الْحَمْلِ. [32/ 362]

(1)

لعل الصواب: (فقد)؛ ليستقيم المعنى.

(2)

وفي جامع المسائل: (عليه)، ولعله أصوب.

(3)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، ولا يستقيم المعنى إلا به.

(4)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، ولعل وجودها أنسب.

(5)

هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب:(طلّقتُها).

(6)

في الأصل: (لِلْآخَرِة)، والمثبت من الفتاوى الكبرى (3/ 362)، ومختصر الفتاوى المصرية (454)، وهو الصواب.

ص: 569

139 -

لَكِنْ إنْ كَانَت الْكَارِهَةَ [هي]

(1)

لِصُحْبَتِهِ وَأَرَادَت الِاخْتِلَاعَ مِنْهُ: فَلْتُعْطِهِ مَا أعْطَاهَا مِن ذَلِكَ. [32/ 356]

140 -

وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يُوجِبُ الْإِلْزَامَ بِالثَّلَاثِ بِمَن أَوْقَعَهَا جُمْلَةً بِكَلِمَة أَو كَلِمَاتٍ بِدُونِ رَجْعَةٍ أَو عُقْدَةٍ

(2)

. [33/ 17]

141 -

أَمَّا إذَا كَانَ الْفَاعِلُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ، وإِنْفَاذ الثَّلَاثِ يُفْضِي إلَى وُقُوعِ التَّحْلِيلِ الْمُحَرَّمِ بِالنَّصِّ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ والاعتبار

(3)

وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن الْمَفَاسِدِ. [33/ 39]

142 -

وَسُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: عَن رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ، وَأُمُّهُ مَا تُرِيدُ الزَّوْجَةَ، فَطَلَّقَ الزَّوْجَةَ ثُمَّ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا مِن هَذ الْمَدِينَةِ الَّتِي دَاخِلِ السُّورِ: لَا امْرَأَتُهُ وَلَا غَيْرُهَا

(4)

. فَإِنْ رَاجَعَ امْرَأَتَهُ أَو تَزَوَّجَ غَيْرَهَا مِن الْمَدِينَةِ يَكُونُ الْعَقْدُ صَحِيحَا؟. [33/ 114]

143 -

فإنَّ التَّعْلِيقَ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يُقْصَدُ بِهِ وُقُوعُ الْجَزَاءِ إذَا وَقَعَ الشَّرْطُ: فَهَذَا تَعْلِيقٌ لَازِمٌ، فَإِذَا عَلَّقَ النَّذْرَ أَو الطَّلَاقَ أَو الْعَتَاقَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَزِمَهُ.

فَإذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إذَا تَطَهَّرْت مِن الْحَيْضِ فَأَنْتِ طَالِقٌ .. فَإِنَّهُ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَنَحْو هَذَا [بِخِلَافِ]

(5)

مِثْل أَنْ يَنْهَاهَا عَن فَاحِشَةٍ أَو خِيَانَةٍ أَو ظُلْمٍ فَيَقُولُ: إنْ فعلتيه أَنْتِ طَالِقٌ، فَهُوَ وَإِن كَانَ يَكْرَهُ طَلَاقَهَا، لَكِنْ إذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ الْمُنْكَرَ كَانَ طَلَاقُهَا أَحَبَّ إلَيْهِ مِن أَنْ يُقِيمَ مَعَهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ. [33/ 129 - 130]

(1)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، ولعل إضافتها أنسب.

(2)

لعل الصواب: (عَقْد)، وجاء هكذا في جامع المسائل (1/ 392): وكذلك المطلِّق ثلاثًا بكلمة أو كلماتٍ بدون رجعةٍ أو عقدٍ قد أتَى بمنكرٍ من القول، فيجب أن لا يقع به. اهـ.

(3)

في الأصل: (وَالِاعْتِقَادِ)، ولا معنى لهذه الكلمة هنا، والتصوب من جامع المسائل (1/ 363).

(4)

يظهر أن فيه نقصًا، وتمامه: فهي طالق.

(5)

هكذا في الأصل والنسخ الأخرى، والذي يظهر أنها مقحمة، فلا يصح المعنى بها، فما ذكره بعدُ ليس مُخالفًا لما قبل.

ص: 570

144 -

فَإذَا كَانَت الْمَسْألَةُ مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَتَمَسَّكَ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَيحْتَجُّ

(1)

عَلَى قَوْلِهِ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ -كَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ- وَلَيْسَ مَعَ صَاحِبِ الْقَوْلِ الْآخَرِ مِن الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يُبْطِلُ بِهِ قَوْلهُ: لَمْ يَكُن لِهَذَا الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ حُجَّةٌ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ أَنْ يَمْنَعَ ذَلِكَ الَّذِي يَحْتَجُّ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَل [مَنْ]

(2)

جَوَّزَ أَنْ يُمْنَعَ الْمُسْلِمُونَ مِن الْقَوْلِ الْمُوَافِقِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَوْجَبَ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعَ الْقَوْلِ الَّذِي يُنَاقِضُهُ بِلَا حُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ تُوجِبُ عَلَيْهِم اتِّبَاعَ هَذَا الْقَوْلِ وَتُحَرِّمُ عَلَيْهِم اتِّبَاعَ ذَلِكَ الْقَوْلِ: فَإنَّهُ قَد انْسَلَخَ مِن الدِّينِ تَجِبُ اسْتِتَابَتُهُ وَعُقُوبَتُهُ. [33/ 134]

145 -

كُلُّ يَمِينٍ مِن أيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ غَيْرُ الْيَمِينِ بِاللهِ عز وجل: فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهَا نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، سَوَاءٌ حَلَفَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ فَقَالَ: الْحَرَامُ يَلْزَمُنِي، أَو الْعِتْقُ يَلْزَمُنِي، لَأَفْعَلَن كَذَا.

أَو حَلَفَ بِصِيغَةِ الْعِتْقِ

(3)

فَقَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَرَامُ وَنِسَائِي طَوَالِقُ أَو فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ. [33/ 135]

146 -

فَكُلُّ عَقْدٍ وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ بِدُونِ الْيَمِينِ إذَا حَلَفَ عَلَيْهِ كانَت الْيَمِينُ مُوَكِّدَةَ لَهُ، وَلَمْ

(4)

يَجُزْ فَسْخ مِثْل هَذَا الْعَقْدِ. [33/ 146]

147 -

إذَا طَلَعَتْ وَلَمْ يَرَهَا أَو اجْتَمَعَ بِهَا فِي بَيْتِ غَيْرِهِ لَمْ يَحْنَثْ إلَّا أنْ يَكُونَ فِي بَيْتِهِ، أَو [فِي]

(5)

سَبَبِ الْيَمِينِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ. [33/ 162]

(1)

في الأصل وجميع المراجع: (لَمْ يُحتجّ)، والعل الصواب المثبت، والله أعلم؛ ليستقيم المعنى.

(2)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، والمعنى لا يستقيم إلا به.

(3)

هكذا في جميع المصادر التي اطلعت عليها عدا مختصر الفتاوى المصرية ففيها: التعليق، وهو الصواب.

(4)

في الأصل: (وَلَو لم)، ولعل المثبت هو الصواب؛ ليستقيم المعنى.

(5)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، ولا يستقيم المعنى إلا به، وقد نبه عليه منسق الموسوعة الشاملة أسامة بن الزهراء.

ص: 571

148 -

فَإِنَّهُ قَد نَصَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَكُونُ [إلَّا]

(1)

فِي الْيَمِينِ الْمُكَفِّرَةِ. [33/ 191]

149 -

إنْ كَانَت تَعْلَمُ أَنَّ الدَّمَ [لَا]

(2)

يَأتِي فِيمَا بَعْدُ فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَإِن كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ الدَّمُ وَيُمْكِن أَنْ لَا يَعُودَ فَإِنَّهَا تَتَرَبَّصُ بَعْدَ سَنَةٍ ثمَّ تتزَوَّجُ. [35/ 24]

150 -

وَأَمَّا إخْوَةُ الْمُرْتَضِعِ مِن النَّسَبِ وَأَبُوهُ مِن النَّسَبِ وَأُمُّهُ مِن النَّسَبِ: فَهُم أَجَانِب [عن]

(3)

أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَإِخْوَتِهِ مِن الرَّضَاعِ، لَيْسَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ صِلَةٌ وَلَا نَسَبٌ وَلَا رَضَاعٌ. [34/ 38]

151 -

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله: عَن رَجُل خَطَبَ قَرِيبَتَهُ فَقَالَ وَالِدُهُ

(4)

: هِيَ رَضَعَتْ مَعَك وَنَهَاهُ عَن التَّزْوِيجِ بِهَا فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهُ تَزَوَّجَ بِهَا. [34/ 52]

152 -

وَذَكَرَ لِزَوْجِهَا أَنَّ هَذِهِ الزَّوْجَةَ [التي]

(5)

فِي عِصْمَتِك شَرِبَتْ مِن لَبَنِ أمك. [34/ 53]

153 -

أَهْلُ الْأَهْوَاءِ فِي قِتَالِ عَلِيٍّ وَمَن حَارَبَهُ عَلَى أَقْوَالٍ: أَمَّا الْخَوَارجُ: فَتكَفِّرُ الطَّائِفَتَانِ الْمُقْتَتِلَانِ

(6)

جَمِيعًا. [35/ 50]

(1)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، ولا يستقيم المعنى إلا به، وقد نبَّه عليه منسق الموسوعة الشاملة أسامة بن الزهراء.

(2)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، ولا يستقيم المعنى إلا به، وقد نبَّه عليه منسق الموسوعة الشاملة أسامة بن الزهراء.

(3)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، والمثبت من مختصر الفتاوى المصرية (450)، وهو الصواب.

(4)

في الأصل: (وَالِدُهَا)، والمثبت من الفتاوى الكبرى (3/ 163)، وهو الصواب.

(5)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، والمثبت من الفتاوى الكبرى (3/ 170).

(6)

جاء في الحاشية لابن قاسم: لغة في المثنى؛ يعني بذلك: أن المثنى يلزم حالة واحدة وهي الألف رفعًا ونصبًا وجرًّا.

ولا يظهر أن هذا صواب -إن صحت نسبة هذه الحاشية لابن قاسم- فالشيخ لم يستعمل هذه العبارة في أي موضع من كتبه، وكما أن صواب العبارة على هذه اللغة أيضًا هو (الطائفتين المقتتلتان) لا (المقتتلان).=

ص: 572

154 -

مَعَ أَنَّ عَائِشَةَ رَوَتْ عَنْهُ [أنه]

(1)

قَالَ: "الرَّضَاعَةُ مِن المَجَاعَةِ". [34/ 60]

155 -

وقَوْله تَعَالَى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ "يَجُوزُ

(2)

أَنْ يُرِيدَ إتْمَامَ الرَّضَاعِ ويجُوزُ الْفِطَامُ قَبْلَ ذَلِكَ إذَا كَانَ مَصْلَحَةَ". [34/ 66]

156 -

أَمَرَنَا اللهُ تَعَالَى: أَنْ نَقُولَ [في]

(3)

كُلِّ صَلَاةٍ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 6، 7]. [10/ 453]

157 -

فَإِذَا كَانَت الْأُمُّ فِي حِرزٍ

(4)

وَمَنَعَةٍ وَتَحَصُّنٍ فَهِيَ أَحَقُّ بِهَا أَبَدًا مَا لَمْ تَنْكحْ. [34/ 115]

158 -

وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَخْيِيرِ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ: أَنَّ هَذَا التَّخْيِيرَ تَخْيِيرُ شَهْوَةٍ لا تَخْيِيرُ

(5)

رَأْيٍ وَمَصْلَحَةٍ. [34/ 116]

159 -

وَمَن تَصَرَّفَ لِغَيْرِهِ بِوِلَايَةِ؛ كَنَاظِرِ الْوَقْفِ، وَوَصِيِّ الْيَتِيمِ، وَالْوَكِيلِ الْمُطْلَقِ: لَا يُخَيَّرُونَ تَخْيِيرَ مَشِيئَة وَشَهْوَةٍ؛ بَل تَخْيِيرَ اجْتِهَادٍ وَنَظَرٍ وَطَلَب وتحري للأصلح

(6)

. [34/ 119]

= فالذي يتجرح لي أن هناك تصحيف في الكلمة، وصوابها: المقتتلتين.

(1)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، ولعله أصوب.

(2)

هكذا في الأصل، وهي النسخة التي طبعها مجمع الملك فهد، وفي الكتب الأخرى لشيخ الإسلام بالنفي: لَا يَجُوزُ، والصواب المثبت.

(3)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، والمثبت من الفتاوى الكبرى (1/ 180)، وإقامة الدليل على إبطال التحليل (2/ 238).

(4)

في الأصل: (حوز)، والمثبت من جامع المسائل (3/ 403).

(5)

في الأصل: (وَتَخْييرُ)، وهو خطأ يُغير المعنى، والتصويب من مختصر الفتاوى المصرية (618)، وجامع المَسائل (3/ 405)، والمستدرك على فتاوى ابن تيمية (1/ 52).

(6)

في الأصل: (الْجَوَازِ الْأصْلَح)، وفي جامع المسائل (3/ 409)، ومختصر الفتاوى المصرية (618)(ويُجزى للأصلح)، وَالمثبت من المستدرك على فتاوى شيخ الإسلام (1/ 55).

ص: 573

160 -

كالرجل المبتلى بعدوّين وَهُوَ مُضْطَرٌّ إلَى الِابْتِدَاءِ بِأحَدِهِمَا فَيَبْتَدِئُ بِمَالِهِ أَنْفَعَ؛ كَالْإِمَامِ

(1)

فِي تَوْلِيَةِ مَن يُوَلِّيهِ مِن وُلَاةِ الْحَرْبِ وَالْحُكْمِ وَالْمَالِ: يَخْتَارُ الْأَصْلَحَ فَالْأَصْلَحَ لِلْمُسْلِمِينَ. [34/ 120]

161 -

وَأَمَّا تَقْدِيمُ جِنْسِ نِسَاءِ الْأمِّ عَلَى نِسَاءِ الْأبِ فَمُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ وَالْعُقُولِ، وَلهَذَا كَانَ مَن قَالَ هَذَا [في]

(2)

مَوْضِع يَتَنَاقَضُ وَلَا يَطَّرِدُ أَصْلُهُ. [34/ 123]

162 -

ماِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْأَبَ تَزَوَّجَ ضَرَّةً وَهِيَ تتْرَكُ عِنْدَ ضَرَّةِ أُمِّهَا لَا تَعْمَلُ

(3)

مَصْلَحَتَهَا بَل تُؤْذِيهَا أَو تُقَصّرُ فِي مَصْلَحَتِهَا، وَأُمُّهَا تَعْمَلُ

(4)

مَصْلَحَتُهَا وَلَا تُؤذِيهَا: فَالْحَضَانَةُ هُنَا لِلْأمِّ. [34/ 132]

163 -

وَالدِّيَةُ تَجِبُ لِلْمُسْلِمِ وَالْمُعَاهَدِ كَمَا قَد دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَهُوَ قَوْلُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ، وَلَا يُعْرَفُ فِيهِ خِلَافٌ مُتَقَدِّمٌ، لَكِنَّ بَعْضَ مُتَأَخِّرِي الظَّاهِرِيَّةِ زَعَمَ أَنَّ الذمي

(5)

لَا دِيَةَ لَهُ. [34/ 138]

164 -

فَلَمَّا سَمِعَ طَائِفَةٌ مِن عُلَمَاءِ الْكُوفَةِ أَنَّ مِن السَّلَفِ مَن شَرِبَ النَّبِيذَ ظَنُّوا أَنَّهُم شَرِبُوا الْمُسْكِرَ فَقَالَ طَائِفَة مِنْهُمْ؛ كَالشَّافِعِيِّ

(6)

وَالنَّخْعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَشَرِيكٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَغَيْرِهِمْ: يَحِلُّ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ. [34/ 191]

(1)

في مختصر الفتاوى المصرية (621)، وجامع المسائل (3/ 409) بالعطف، (وكالإمام)، وهو أصوب.

(2)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، والمثبت من جامع المسائل (3/ 412)، ومختصر الفتاوى المصرية (623) وهو الصواب.

(3)

في المستدرك على فتاوى ابن تيمية (ص 67): تعلَم، وهو أقرب.

(4)

في المستدرك على فتاوى ابن تيمية (ص 67): تعلَم، وهو أقرب.

(5)

في الأصل وجميعِ كتب الشيخ: (أَنَّهُ الَّذِي)، والمثبت من "المسائل والأجوبة" للشيخ (ص 139)، وهو أصوب.

(6)

الصواب: (أنه الشعبي لا الشافعي)، ولعله خطأ من الناسخ، فإن الشيخ ذكر أن مذهب الشافعي التحريم وفقًا للجمهور.

ص: 574

165 -

وَالْمَظِنَّةُ يُعَلَّقُ الْحُكْم بِهَا إذَا خَفِيَت الْحَقِيقَةُ أَو انْتَشَرَتْ

(1)

. [35/ 230]

166 -

فَكُلٌّ مِن الْقِسْمَيْنِ قَد يَكُونُ دَعْوَى حَدٍّ

(2)

للهِ عز وجل مَحْضٌ كَالشُّرْبِ وَالزِّنَا. وَقَد يَكُونُ حَقًّا مَحْضًا لِآدَمِيِّ؛ كَالْأَمْوَالِ. [35/ 390]

167 -

وَلَو لَمْ يَكُن هَذَا هُوَ الظَّاهِرَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، لَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ سَلَفُ الْأمَّةِ قَالُوا لِلْأُمَّةِ: الظَّاهِرُ الَّذِي تَفْهَمُونَهُ غَيْرُ مُرَادٍ، أوْ

(3)

لَكَانَ أَحَدٌ مِن الْمُسْلِمِينَ اسْتَشْكَلَ هَذِهِ الْآَيَةَ وَغَيْرَهَا. [33/ 180]

168 -

لَا خِلَافَ عَن أَبِي عَبْدِ اللهِ أَنَّ اللهَ كَانَ مُتَكَلِّمًا بِالْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ، وَقَبْلَ كُل الْكَائِنَاتِ [مَوْجُودًا]

(4)

، وَأَنَّ اللهَ فِيمَا لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا كَيْفَ شَاءَ وَكَمَا شَاءَ، وَإِذَا شَاءَ أَنْزَلَ كَلَامَهُ، وَإِذَا شَاءَ لَمْ يُنْزِلْهُ. [8/ 335]

169 -

وَأَمَّا الدُّعَاءُ عَلَى مُعَيَّنِينَ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَلْعَنُ فُلَانًا وَفُلَانًا: فَهَذَا قَد رُوِيَ أَنَّهُ مَنْسُوخ بِقَوْلِهِ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128]؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُعَيَّنَ لَا يُعْلَمُ إنْ رضي الله عنه أَنْ يَهْلِك

(5)

؛ بَل قَد يَكُونُ مِمَّن يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِ.

(1)

العبارة هكذا في الأصل: (وَالْمَظِنَّةُ تَعَلُّقُ الْحُكم بمَا إذَا خَفِيَت الْحَقِيقَةُ أو انْتَشَرَتْ)، ولعل الصواب المثبت؛ لأن هذه العبارة لا معنى لها فيَما يظهر لى، بخلاف المثبت، فإنها عبارةٌ مشهورة بين الأصوليين والفقهاء.

والشيخ رحمه الله عليها في شرح عمدة الفقه (1/ 354) فقال: الحكمة إذا كانت غالبة غير منضبطة علق الحكم بالمظنة وأقيمت مقام الحقيقة لوجودها معها غالبًا ولعدم انضباطها كما أقيم النوم مقام الحدث.

(2)

لعل الصواب: (حقٍّ)؛ ليستقيم المعنى.

(3)

في الأصل: (ولكان)، والمثبت من الفتاوى الكبرى (6/ 470).

(4)

الذي يظهر أن هذه الكلمة مقحمة، والصواب حذفها، والدليل على ذلك أمور منها:

أولًا: أنها لم تُذكر إلا في الفتاوى، فلم تُذكر في العقيدة الأصفهانية المطبوعة التي هي الأصل.

ثانيًا: أنه لا معنى لها في هذا الموضع.

(5)

لم يتضح لي معنى العبارة، ولعل صوابها:(وَذَلِكَ لِأنَّ الْمُعَيَّنَ لَا يعْلَمُ أرَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَو يَهْلِكَ). والله أعلم.

ص: 575

170 -

وَقَد يَكُونُ الْمُقَدَّرُ أَنَّهُ يَحْيَا

(1)

، وَالْجَزْمُ بِأحَدِهِمَا خَطَأٌ. [8/ 531]

171 -

وَإِن أُرِيدَ بِالْعَقْلِ

(2)

الْغَرِيزَةُ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ فِي الْعَبْدِ الَّتِي يَنَالُ بِهَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ: فَاَلَّذِي يَحْصُلُ بِهِ أَفْضَلُ. [9/ 305]

172 -

وَالْقَوْمُ أَعْظَمُ شَيْئًا كِتْمَانًا لِأَحْوَالِهِمْ مَعَ اللهِ عز وجل، وَمَا وَهَبَ اللهُ [لهم]

(3)

مِن مَحَبَّتِهِ وَالْأنْسِ بِهِ وَجَمْعِيَّةِ الْقَلْبِ [عليه]

(4)

، وَلَا سِيَّمَا لِلْمُهْتَدِي والسَّالِكِ

(5)

.

فَإِذَا تَمَكَّنَ احَدُهُم وَقَوِيَ وَثَبَتَتْ

(6)

أُصُولُ تِلْكَ الشَّجَرَةِ الطَّيبة. [15/ 18]

173 -

وَتَأَمَّلْ كَيْفَ قَالَ فِي آيةِ الذِّكْرِ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [الأعراف: 205]

(7)

.

هَذَا غُزورٌ، بل

(8)

الْوَاجِبُ الْخُرُوجُ إلَى أَمْرِ اللهِ عز وجل.

وَلهَذَا [لَا]

(9)

يَصْلُحُ الْمُنْقَطِعُ حَيْثُ يَصْلُحُ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُفَرَّغُ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ:{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ} [الدخان: 56]، ثُمَّ قَالَ: {إِلَّا الْمَوْتَةَ

(1)

في الأصل: (يحيى، بالياء)، والمعروف عند أهل الإملاء أنّ كلَّ اسمٍ، أو فعل ختم بألف قبلها ياء وهو غير علم: كتبت بالألف؛ كاستحيا، يحيا، الدنايا، تزيّا، فإن كان علمًا انقلبت ياء؛ مثاله: يحيى، قال ابن جني رحمه الله: فإن كان قبل آخر المقصور ياء مفتوحة كتبته بالألف لا غير وذلك نحو الحيا وهو الخصب ونحو مستحيا وكذلك مطايا وروايا وزوايا وكتبوا يحيى اسم رجل بالياء فرَّقا بينه وبين يحيا في الفعل. اهـ. الألفاظ المهموزة وعقود الهمز (46).

(2)

في الأصل: (الْعَقْلُ)، ولعل المثبت أصوب.

(3)

ما بين المعقوفتين من بدائع الفوائد لابن القيم (3/ 847)، ولا يتم ويصح المعنى إلا به.

(4)

ما بين المعقوفتين من بدائع الفوائد لابن القيم (3/ 847)، ولا يتم ويصح المعنى إلا به.

(5)

في الأصل: (وَلَا سِيَّمَا فِعْلهُ لِلْمُهْتَدِي السَّالِكِ)، والمثبت من بدائع الفوائد، وهو أصوب.

(6)

في الأصل: (وَثبَّتَ)، والمثبت من بدائع الفوائد، وهو أصوب.

(7)

في الأصل: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا} !

(8)

في الأصل: (بِك)، والتصويب من بدائع الفوائد (3/ 851).

(9)

هكذا في الأصل، ولعل الصواب حذفها؛ والمعنى والأمثلة القادمة تدل على أن الصواب حذفها.

ص: 576

الْأُولَى} [الدخان: 56] فَهَذَا مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّهُ يَحْسُن أَنْ يُقَالَ: (لَا يَذُوقُونَ إلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى). [17/ 440 - 441]

174 -

لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ [لَا]

(1)

يَكُونُ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ اخْتَلَفَ مَعْنَاهُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. [20/ 438]

175 -

فِي قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] الْآيَةَ وَفِيهَا قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقِصَاصَ فِي الْقَتْلَى يَكُونُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ الْمُقْتَتِلَتَيْن قِتَالَ عَصَبِيَّةٍ وَجَاهِلِيَّةٍ، فَيُقْتَلُ مِن هَؤُلَاءِ وَمِن هَؤُلَاءِ، أَحْرَارٌ وَعَبِيدٌ وَنِسَاءٌ، فَأَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِالْعَدْلِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ، بِأَنْ يُقَاصَّ دِيَةُ حُرٍّ بِدِيَةِ حُرٍّ، وَدِيَةُ امْرَأَةٍ بِدِيَةِ امْرَأَةٍ، وَعَبْدٍ بِعَبْدٍ، فَإِنْ فَضَلَ لِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ شَيءٌ بَعْدَ الْمُقَاصَّةِ فَلْتَتْبَعِ الْأخْرَى بِمَعْرُوفِ، وَلْتُؤَدِّ الْأخْرَى إلَيْهَا بِإِحْسَانٍ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْقِصاصَ هُوَ الْقَوَدُ، وَهُوَ أخْذُ الدِّيَةِ بَدَلَ الْقَتْلِ.

وَالْمُرَادُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يُقْتَلَ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى.

وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَقَد ذَكَرَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ.

وَيَحْتَجُّ بِهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد عَلَى أَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ؛ لِقَوْلِهِ: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178]، فَيَنْقُض ذَلِكَ عَلَيْهِ بِالْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ قَالَ:{وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [البقرة: 178]، وَطَائِفَةٌ مِن الْمُفَسِّرِينَ لَمْ يَذْكُرُوا إلَّا هَذَا الْقَوْلَ

(2)

.

(1)

هكذا في الأصل، ولعل الصواب حذفها؛ ومن المعلوم أنّ اللفظ المشترك هو: ما اتحد لفظه، واختلف معناه؛ مثل:(عين الماء) و (عين المال) و (عين السحاب).

(2)

في الأصل خطأ يُخلّ بالمعنى إخلالًا كبيرًا، وهو أنّه جعل القول الأول هو القول الثاني والعكس، ولم أرَ أحدًا نبَّه على هذا.

ص: 577

وعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَإِنَّهُ إذَا جُعِلَ ظَاهِرُ الْآيَةِ لَزِمَتْهُ إشْكَالَاتٌ؛ لَكِنَّ الْمَعْنَى الثَّانِي هُوَ مَدْلُولُ الْآيَةِ وَمُقْتَضَاهُ وَلَا إشْكَالَ عَلَيْهِ؛ [بِخِلَافِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يُسْتَفَادُ مِن دَلَالَةِ الْآيَةِ]

(1)

، كَمَا سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَمَا ذَكَرْنَاهُ يَظْهَرُ مِن وُجُوهٍ. [14/ 73 - 74]

176 -

{ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178]؛ أَيْ: مِن أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ تُودِي

(2)

قَتْلَى الْأُخْرَى. [14/ 74]

177 -

والسلف رضي الله عنهم في تفسيرهم يَذْكرُونَ

(3)

جِنْسَ الْمُرَادِ مِن الْآيَةِ عَلَى التَّمْثِيلِ، كَمَا يَقُولُ التُّرْجُمَانُ لِمَن سَألَهُ عَن الْخبْزِ فَيُرِيهِ رَغِيفًا. [15/ 226]

178 -

لِأَنَّ مَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ مِن فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَرْكِ وَاجِبٍ

(4)

أَعْظَمُ مِمَّا يَحْصُلُ بِفِعْلِهِمُ الْمُنْكَرَ وَالذُّنُوبَ.

179 -

وَيبْترُ أَعْمَالَهُ فَلَا يَسْتَعْمِلُهُا

(5)

فِي طَاعَةٍ. [16/ 526]

180 -

ثُمَّ ذَلِكَ الْمُحَرِّمُ لِلْحَلَالِ وَالْمُحَلِّلُ لِلْحَرَامِ: إنْ كَانَ مُجْتَهِدًا قَصْدُهُ اتِّباعُ الرَّسُولِ، لَكِنْ خَفِيَ عَلَيْهِ الْحَقُّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَقَد اتَّقَى اللهَ مَا اسْتَطَاعَ، فَهَذَا لَا يُؤَاخِذُهُ اللهُ بِخَطَئِهِ؛ بَل يُثِيبُهُ عَلَى اجْتِهَادهِ الَّذِي أَطَاعَ بِهِ رَبَّهُ.

وَلَكِنْ مَن عَلِمَ أَنَّ هَذَا [خَطَأٌ]

(6)

فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ثُمَّ اتَّبَعَهُ عَلَى

(1)

الذي يظهر لي أنّ هذه العبارة مقحمة، ولا معنى لها. والله أعلم.

(2)

في الأصل: (تُؤَدِّي)، ولعل المثبت هو الصواب؛ والمعنى يقتضيه.

(3)

في الأصل: (لَفْظُ السَّلَفِ يَذْكُرُونَ)، والمثبت من تلخيص كتاب الاستغاثة الرد على البكري (2/ 538)، وما في الأصل مأخوذ منه.

(4)

لعل الصواب: (الواجبات).

(5)

في الأصل: (يَسْتَعْمِلُهُ)، ولعل المثبت هو الصواب.

(6)

هكذا في الأصل وجميع النسخ، ولعل الصواب: أخطأ، والمعنى: أنّ الْمُحَرِّم لِلْحَلَالِ وَالْمُحَلِّل لِلْحَرَامِ: إنْ كَان خطؤه عن اجتهادٍ فهو معذور، وَلَكِنْ مَن عَلِمَ أَنَّ المجتهدَ أخَطَأ فِيمَا جَاءَ به الرَّسُولُ، ثُمَّ اتَّبَعَهُ عَلَى خَطَئِهِ؛ تقليدًا، وترك ما جاء به الرسول: فَهَذَا لَهُ نَصِيبٌ مِن هَذَا الشِّرْكِ الَّذِي ذَمَّهُ اللهُ.

ص: 578

خَطَئِهِ، وَعَدَلَ عَن قَوْلِ الرَّسُولِ؛ فَهَذَا لَه نَصِيبٌ مِن هَذَا الشِّرْكِ الَّذِي ذَمَّهُ اللهُ، لَا سِيَّمَا إن اتَّبَعَ فِي ذَلِكَ هَوَاهُ، وَنَصَرَهُ بِاللِّسَانِ وَالْيَدِ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلرَّسُولِ، فَهَذَا شِرْكٌ يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْعُقُوبَةَ عَلَيْهِ. [6/ 71]

181 -

وَفِي لَفْظٍ: "لَا يُفْطِرُ مَنْ قَاءَ، وَلَا مَن احْتَلَمَ، وَلَا مَن احْتَجَمَ"

(1)

. [25/ 223]

182 -

فَإِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ الْمَبِيعَةُ فِيهَا مَنْفَعَةٌ لِلْبَائِعِ أَو غَيْرِهِ كَالشَّجَرِ الَّذِي ثَمَرُهُ ظَاهِرٌ، وَكَالْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ، وَكَالْعَيْنِ الَّتِي اسْتَثْنَى الْبَائِعُ نَفْعَهَا مُدَّةً لَمْ يَكُن مُوجَبُ هَذَا الْعَقْدِ أَنْ يَقْبض

(2)

الْمُشْتَرِي مَا لَيْسَ لَهُ. [20/ 343]

183 -

فَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ مِثْل أَنْ تَكُونَ

(3)

الْعِلَّةُ الَّتِي عُلِّقَ بِهَا الْحُكْمُ فِي الْأصْلِ مَوْجُودَةً فِي الْفَرْعِ. [20/ 505]

184 -

وَاللهُ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، وَجَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْعِبَادِ وهِدايةً لَهُمْ

(4)

. [10/ 428]

185 -

وَهَذَا الْبَابُ: "بَابُ تَفْضِيلِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ عَلَى بَعْضٍ" إنْ لَمْ يُعْرَفْ فِيهِ التَّفْضِيلُ

(5)

، وَأَنَّ ذَلِكَ قَد يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ الْأَحْوَالِ فِي كَثِيرٍ مِن الْأَعْمَالِ وإِلَّا وَقَعَ فِيهَا اضْطِرَابٌ كَثِيرٌ. [34/ 199]

186 -

وَأَمَّا الذُّنُوبُ الَّتِي لَمْ يَتُبْ مِنْهَا مِثْلُ: أَنْ يَكُون

(6)

مُصِرًّا عَلَى ذَنْبٍ

(1)

في الأصل: (لَا يُفْطِرْنَ لَا مَن قَاءَ وَلَا مَن احْتَلَمَ وَلَا مَن احْتَجَمَ)، والتصويب من سنن أبي داود (2376).

(2)

في الأصل: (يَقْتَضِيَ)، وهي كذلك في بحثه المفرد باسم: رِسَالَةٌ فِي صِحَّةِ مَذْهَب أهْلِ

الْمَدِينَةِ، ولعل الصواب المثبت، وهو الذي يصح معه المعنى.

(3)

في الأصل: (يَكُونَ)، والمثبت من كتب ورسائل وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (20/ 505)، وهو أصوب.

(4)

في الأصل: (وَهَدْيًا لَهُمْ)، والمثبت من الفتاوى الكبرى (2/ 163).

(5)

هكذا في الأصل وفي جميع المصادر التي وقفت عليها، ولعل الصواب: التَّفْصيلُ، بالصاد المهملة؛ وسياق الكلام يقتضيه. والله أعلم.

(6)

في الأصل: (يَكُن)، ولعل المثبت هو الصواب؛ لعدم وجود الأداة الجازمة للفعل.

ص: 579

أَو ظُلْمٍ أَو فَاحِشَةٍ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا بِالْإِسْلَامِ. [11/ 701]

187 -

وَمَا يَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِ فِي الدُّنْيَا وَالْبَرْزَخِ وَالْقِيَامَةِ مِنَ الْأَلَمِ

(1)

الَّتِي هِيَ عَذَابٌ. [24/ 369 - 377]

188 -

إِذَا أَمْكَنَ الرَّجُلُ أَو الْمَرْأَةُ أَنْ يَغْتَسِلَ وَيُصَلِّيَ خَارجَ الْحَمَّامِ فَعَلَا ذَلِكَ.

فَإِنْ لَمْ يُمْكن ذَلِكَ؛ مِثْل أَنْ لَا

(2)

يَسْتَيْقِظَ أَوَّلَ الْفَجْرِ، وَإِن اشْتَغَلَ بِطَلَبِ الْمَاءِ خَرَجَ الْوَقْتُ، وَإِن طَلَبَ حَطَبًا يُسَخِّنُ بِهِ الْمَاءَ أَو ذَهَبَ إلَى الْحَمَّامِ فَاتَ الْوَقْتُ: فَإِنَهُ يُصَلِّي هُنَا بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاء.

وَأَمَّا إذَا اسْتَيْقَظَ آخِرَ الْوَقْتِ، وإن

(3)

اشْتَغَلَ بِاسْتِقَاءِ الْمَاءِ مِن الْبِئْرِ خَرَجَ الْوَقْتُ، أَو إنْ ذَهَبَ إلَى الْحَمَّامِ لِلْغُسْلِ خَرَجَ الْوَقْتُ: فَهَذَا يَغْتَسِلُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. [21/ 446 - 447]

189 -

ثُمَّ لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ عز وجل آيَةَ الْحِجَابِ بِقَوْلِهِ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59]، حَجَبَ النِّسَاءَ عَنِ الرِّجَالِ، وَكَانَ ذَلِكَ لَمَّا تَزَوَّجَ زينَبَ بِنْتَ جَحْشٍ فَأَرْخَى السِّتْرَ ومَنَع أنسًا أنْ ينظر

(4)

. [22/ 110]

190 -

إِنَّ كلَّ قَوْمٍ كَانُوا مُسْتَوْطِنِينَ بِبِنَاءٍ مُتَقَارِبٍ لَا يَظْعَنُونَ عَنْهُ شِتَاءً وَلَا صَيْفًا تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ، إذ

(5)

كَانَ مَبْنِيًّا بِمَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُم. [24/ 166]

(1)

هكذا في الأصل، ولعل الصواب:(الآلام)، ويدل عليه ما بعده: الَّتِي هِيَ.

(2)

هكذا في الأصل، ولعل الصواب حذفها ليستقيم المعنى، وقد حُذفت في الفتاوى المصريّة. (1/ 35)

(3)

في الأصل: (أَو إن)، ولعلَّ المثبتَ هو الصواب.

(4)

في الأصل: (وَمَنَعَ النسَاءَ أنْ يَنْظُرْنَ)، والتصويب من كتاب: حجاب المرأة ولباسها في الصلاة لشيخ الإسلام ابن تيمية، الذي حققه: محمد ناصر الدين الألباني (4).

(5)

هكذا في الأصل، ولعل الصواب:(إذا).

ص: 580

191 -

مَن أَخَلَّ بِرُكْنِ الْحَجِّ أَو فَعَل [ما يُفسِده]

(1)

فَحَجُّهُ فَاسِدٌ لَا يَسْقُطُ بِهِ فَرْضٌ. [12/ 473]

192 -

اخْتَلَفُوا فِي [علّةِ]

(2)

تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي الْأصْنَافِ السِّتَّةِ: الذَّهَب وَالْفِضَّةِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ. [29/ 470]

194 -

لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: "مَضَت السُّنَّةُ أَنَّ مَا أَدْرَكَتْهُ الصَّفْقَةُ حَيًّا

(3)

مَجْمُوعًا فَهُوَ مِن مَالِ الْمُشْتَرِي"

(4)

. [30/ 238، 272]

195 -

فجَعَلَهَا لِلْمُلْتَقِطِ إذا تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ صَاحِبِهَا -وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي جَوَازِ صَدَقَتِهِ بِهَا، وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ تَمَلُّكِهِ لَهَا مَعَ الْغِنَى، وَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ- فَكَيْفَ بِمَا يَجْهَل فِيهِ ذَلِكَ؟

(5)

[29/ 262]

196 -

كَذَلِكَ قَرَابَةُ الْأَبِ لَمَّا [صار]

(6)

الْإِخْوَةُ بِهَا عَصَبَة: صَارَ يَنْفَعُهُم تَارَةً وَيَضُرُّهُم أُخْرَى. [31/ 342]

(1)

في الأصل: (يُفسِده)، وفي النسخة القديمة للفتاوى:(مُفْسِدِه)، وفي نسخة:(مُفْسِدٍ)، ولعل المثبت هو الصواب؛ ليستقيم المعنى.

(2)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، ولا تستقيم العبارة إلا به.

(3)

في الأصل: (حَبًّا)، والتصويب من كتب المصادر الحديثية.

(4)

أخرجه البخاريُّ معلقًا بصيغة الجزم في البيوع، باب إذا اشترى متاعًا أو دابة فوضعه عند البائع، دون قوله:"مضت السُّنَّة"؛ ووصله الدارقطني (3006) موقوفًا على ابن عمر رضي الله عنهما، وصحح الحافظ ابن حجر في "تغليق التعليق"(3/ 242) إسناده إليه، وصحح وقفه أبو حاتم كما في "العلل"(1182).

(5)

العبارة في الأصل: فَإِذَا كَانَ فِي اللُّقَطَةِ الَّتِي تَحْرُمُ بِأَنَّهَا سَقَطَتْ مِن مَالِكٍ لَمَّا تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ صَاحِبِهَا جَعَلَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْمُلْتَقِطِ.

وفيها من الغموض ما هو ظاهر، والمثبت من الفتاوى المصرية (334).

(6)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، بل في جامع المسائل (2/ 303)، ولا يستقيم المعنى إلا به.

ص: 581

197 -

إنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا إنَّمَا عَلَيْهَا [إلَّا]

(1)

الِاسْتِبْرَاءُ لَا الِاعْتِدَادُ بِثَلَاثِ حِيَضٍ. [32/ 342]

198 -

فَالصَّوَابُ مَعَ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَانِ كَانُوا يَسْتَدِلُّونَ عَلَى فَسَادِ الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُوبَةِ

(2)

بِتَحْرِيمِ الشَّارعِ لَهَا. [33/ 24]

199 -

وَالْأَصْلُ أَنَّ هَذ الْوَاجِبَاتِ تُقَامُ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، فَمَتَى أَمْكَنَ إقَامَتُهَا مِن أَمِيرٍ لَمْ يُحْتَجْ إلَى اثْنيْنِ، وَمَتَى لَمْ تُقَمْ

(3)

إلَّا بِعَدَد وَمِن غَيْرِ سُلْطَانٍ أُقِيمَتْ. [34/ 176]

200 -

لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ لِأَنَّ الطَّبْعَ لَمَّا أَخَذَ نَصِيبَهُ مِن الْحَظِّ الْمُحَرَّمِ: لَمْ

(4)

يُبَالِ بِمَا بَذَلَهُ عِوَضًا عَن ذَلِكَ. [34/ 223]

* * *

‌ثانيًا: (تصحيح أخطاء وأوهام المستدرك)

1 -

ينبغي أن نقول بوجوب الاستنجاء باليسرى ومسِّ

(5)

الفرج بها؛ لأن النهي في كليهما. [3/ 23]

2 -

وأمَرَ المأمومين بأن يتبعوا الإمام فإذا كبر كبروا وإذا ركع ركعوا وإذا صلى جالسًا صلّوا جلوسًا أجمعين: [منسوخًا بدوام قيامهم في]

(6)

الصلاة

(1)

لعل الصواب حذف أداة الاستثناء، ومن غير المعروف دخولها على أداة الحصر (إنما). والله أعلم.

(2)

هكذا في جميع المصادر، ولا معنى لها، ولعل الصواب:(والعقودِ).

(3)

في الأصل: (يَقُمْ)، ولعل المثبت هو الصواب.

(4)

في الأصل: (وَلَمْ)، بالعطف، ولعل المثبت هو الصواب.

(5)

في الأصل: (ومسح)، والتصحيح من الإنصاف (8/ 326).

(6)

في الأصل: ( .. قياسهم على الصلاة .. ).

والتصويب من جامع المسائل (2/ 188).

قال الجامع في النقط التي في الأصل: كلمة في الأصل غير واضحة ولعلها: (فيطردون). ا هـ.

ص: 582

التي صَلَّوا بعضَها خلفَ إمام قائمِ، وباقِيهَا خلفَ إمامِ قاعدِ. [2/ 145]

3 -

فلما أخبره أنه تيمم تبيَّن أنه لم يكن جنبًا، [فأقَره]

(1)

النبي صلى الله عليه وسلم. [2/ 156]

4 -

فالقاضي في هذا الوقت وإن لم يكن قد سعى في طلب الأحاديث وانتِقَاء طرقها وعرف من لغة الناطق بالشريعة صلى الله عليه وسلم ما لا يعوزه معه معرفة ما يحتاج إليه فيه، وغير ذلك من شروط الاجتهاد؛ فإن ذلك قد فُرغ [له]

(2)

منه، ودَأَب فيه سواه. [2/ 271 - 277]

5 -

وقولُ أحمد: "كنتُ أذهبُ إلى أن الربحَ لصاحبِ المال، ثم استحسنتُ": رجوعٌ منه إلى هذا، وجَعْلُه الربحَ في جميع الصُّوَرِ للمالك يَقتضي أنه يُصَحح تصرف الفضولي إذا أجيْزَ

(3)

، وإلّا كان البيعُ باطلًا. [2/ 160]

6 -

ولهذا ظهر ما استحسنه أحمد ورجع إليه أخيرًا؛ لأنه إذا صار

(4)

بالإجازة

(5)

؛ فالمأذون له وهو لم يعمل إلا بجعل برضا المالك فلا يجوز منعه حقه، [وهذا بناء]

(6)

على أنَّه إذا تصرَّف ابتداءً فالربح كله للمالك. [2/ 161]

7 -

وطائفة قالت كالشافعي وابن القصار ومال إليه أبو العباس أيضًا: أنَّ الآية قُرئت

(7)

بالخفض والنصب. [1/ 33]

8 -

واختاره شيخنا، وأنْ كلامَ أحْمدَ

(8)

يقتضيه ويصير عادة. [3/ 52]

(1)

في الأصل: (يأمره)، والمثبت من جامع المسائل (2/ 212).

(2)

هكذا في الأصل، ولعلها مقحمة.

(3)

في الأصل: (أخبر)، والمثبت من جامع المسائل (2/ 216).

(4)

في الأصل: (جاز)، والمثبت من جامع المسائل (2/ 217).

(5)

في الأصل: (بالإجارة)، والمثبت من جامع المسائل (2/ 217).

(6)

في الأصل: (وهو إما على)، والمثبت من جامع المسائل (2/ 216).

(7)

في الأصل: (قرأت)، والتصويب من الاختيارات (13).

(8)

في الأصل: (الكلام)، والتصويب من الفروع (1/ 267).

ص: 583

9 -

ثم إن ثلاثة قدموا ثلاثة، قدموا: عثمان وعلي

(1)

وعبد الرحمن. [1/ 113]

10 -

وقوله في الحديث الصحيح: "مَن تَرَكَ صَلَاةَ العَصْرِ فَقَدْ

(2)

حَبطَ عَمَلُهُ". [1/ 127]

11 -

في تحريم كتابة المهر [فيه]

(3)

وجهان. [3/ 71]

12 -

وأصل آل أول، فَحُرِّكتِ

(4)

الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا. [3/ 91]

13 -

والمرجئة من الشيعة والأشعرية قابلوا المعتزلة بنقيض قولهم فقالوا: لا نجرم

(5)

بتعذيب أحد من أهل التوحيد. [3/ 96]

14 -

نحو أن يكون المأمومون

(6)

أُمِّيين. [3/ 119]

15 -

وهو الرفع إذا اشتد: كان

(7)

بطون يديه مما يلي وجهه والأرض وظهورهما مما يلي السماء. [3/ 136]

16 -

والصديق رضي الله عنه من أئمة التابعين

(8)

. [1/ 213]

(1)

في مختصر الفتاوى المصرية (1/ 574): وعليًا بالنصب وهو أصوب؛ لأنَّ عليًّا مفعول به منصوب.

(2)

في الأصل: (فقط)، والتصويب من صحيح البخاري ومسلم.

(3)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، والتصويب من الفروع (1/ 310)، وقال: لو قيل بالإباحة لكان له وجه. اهـ.

وقوله فيه؛ أي: في الحرير.

(4)

في الأصل: (فحركة)، وفي الفتاوى الكبرى (2/ 190):(تحركت).

(5)

هكذا في الأصل، وفي النسخة التي في الشاملة: نجزم، وهو الصواب.

(6)

في الأصل: (المأمومين)، والصواب بالرفع لأنها اسم كان. والتصحيح من مختصر الفتاوى المصرية (1/ 55).

(7)

في الأصل: (وكان)، والتصويب من جامع المسائل (4/ 94).

(8)

هكذا في مختصر الفتاوى المصرية (1/ 112)، ولم يتعقبها الجامع، وفي جامع المسائل (4/ 53):(السابقين) وهو أصوب.

ص: 584

17 -

وأكثر ما يبتلى

(1)

الناس بذلك عند الشهوات والشبهات. [1/ 219]

18 -

قال ابن القيم رحمه الله: وأجاز شيخنا ابن تيمية الفطر للتقوي على الجهاد .. وقال: ليس هذا سفرًا طويلًا

(2)

.

وقد أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح بالإفطار ليتقووا على عدوهم، فعلَّل

(3)

ذلك للقوة على العدو لا للسفر. [3/ 170]

19 -

وإذا تعدى أحد على الركب في الطريق أو في مكة فدفعهم الركب عن أنفسهم كالصائل فيجوز الدفع مع الركب؛ بل يجب دفع هؤلاء عن الركب.

وإذا تعدى على أهل مكة أو غيرهم، فلا يعينهم على ذلك

(4)

.

وقال شيخنا: إن تعدى أهل مكة أو غيرهم على الركب، دفع الركب كما يدفع الصائل، وللإنسان أن يدفع مع الركب بل يجب إن احتيج إليه

(5)

. [3/ 191 - 192]

20 -

قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: فَأمَّا الْحَدَثُ الْوَضِيءُ فَلَمْ يَسْتَثْنُوهُ، وفِيهِ

(6)

نَظَرٌ. [3/ 212]

21 -

ولو كان هكذا الوجب

(7)

إذا شهد أربعة على رجل بالزنى أن يعلم الحاكم صدقهم ضرورة. [2/ 66]

(1)

في المطبوع: (يُتبلى).

(2)

في الأصل: (سفر طويل)، بالرفع، والتصويب من بدائع الفوائد (5/ 52).

(3)

في الأصل: (فعَلَ)، والتصويب من بدائع الفوائد (5/ 52).

(4)

الاختيارات (118). (الجامع).

قلت: لم أجده في الاختيارات، ووجدته في مختصر الفتاوى المصرية (575).

(5)

مختصر الفتاوى (575). (الجامع).

قلت: لم أجده فيه. ووجدته في الإنصاف (10/ 169).

(6)

في الأصل وكذلك في الفروع: (فِيهِ)، بدون واو، ولعل زيادتها أصوب.

(7)

لعل الصواب: (لوجب)؛ ليستقيم المعنى.

ص: 585

22 -

وسواء كان المبيع من ضمان المشتري أو لا

(1)

. [4/ 14 - 15]

23 -

يحرم كتم العيب: ذكره الترمذي عن العلماء.

وكذا لو أعلمه به، ولم يُعْلِمه

(2)

قدر عيبه، ذكره شيخنا. [4/ 13]

24 -

وليس من شرط قبول الخبر

(3)

. [2/ 81]

25 -

لا مكان

(4)

الإرسال فيه من بعض أهل الحديث. [2/ 82]

26 -

فيقتضي استواءهما

(5)

في المنع والإذن. [2/ 97]

27 -

سأل رجل أحمد بن حنبل فقال: أجد في كتابي "جُريج" وأنا أعلم أنه "عن ابن جريج" فقال: أصلحه ورووه

(6)

على الصحة. [2/ 99]

28 -

وما خرج عن القوت بالصنعة: فليس بربوي وإلا فجنسٌ بنفسِه

(7)

. [4/ 17]

29 -

وإن كان بعض الفقهاء يقول: بطل العقد فهو بطلان ما لم يتم لا بطلان

(8)

ما تم. [4/ 17 - 18]

30 -

لو تَبَارَآ

(9)

وكان لِأَحَدِهِمَا على الْآخَرِ دَيْنٌ مَكْتُوبٌ. [4/ 19]

(1)

في الأصل: (أولى)، وهو خطأ، والتصويب من الفتاوى الكبرى (5/ 390)، والاختيارات (187).

(2)

في الأصل: (يعلما)، وهكذا في الفروع (4/ 94)، والمثبت من الاختيارات (186)، والفتاوى الكبرى (5/ 390).

(3)

في المطبوع: (الخير)، والصواب المثبت.

(4)

هكذا في الأصل، والصواب:(لإمكان).

(5)

في الأصل: (استواؤهما)، بالرفع، والتصويب من المسودة (285).

(6)

هكذا في الأصل، وفي المسودة:(وأروه)، ولعل الصواب:(وارْوِه).

(7)

في الأصل: (ولا بجنس نفسه)، وهو خطأ، والتصويب من الاختيارات 188، والفروع (4/ 111).

(8)

في الأصل: (ببطلان)، والتصويب من الاختيارات (190).

(9)

في الأصل: (تبارئآ)، والتصويب من الاختيارات (193)، والإنصاف (7/ 130).

ص: 586

31 -

حتى يجب (ردّ المثل)

(1)

على المشهور، وفي

(2)

الأخرى: القيمة. [4/ 20]

32 -

لو أقرض أكَّارَه

(3)

بذرًا أو أمره ببذره وأنه في ذمته كما يفعله الناس فهو فاسد، وله نصيبُ

(4)

المثل. [4/ 20]

33 -

يجوز للإنسان أن يرهن مال نفسه على دين غيره، كما يجوز أن يضمنه وأولى، وهو نظيرُ إعارته للرهن

(5)

. [4/ 21]

34 -

وقال شَيْخُنَا: رِضَاهُ بِقَسْمِهِ هو قِسْمَةُ تَرَاضٍ، وَلَيْسَ إجَازَةً لِعَقْدِ فُضُولِيٍّ

(6)

. [4/ 30]

35 -

قال القاضي في مسألة عزل الوكيل بموت الموكل: فأما إن خرج

(7)

الموكل عن ملكه. [4/ 204]

36 -

قال الأصحاب: ومن ادعى الوكالة في استيفاء حقٍّ فصدقه الغريم: يلزمه الدفع إليه، وإلا اليمين إن كذَّبه

(8)

. [4/ 211]

37 -

ولهم وجه ثالث: إن كان الإجماع مطلق

(9)

لم يعتبر. [2/ 117]

38 -

سر المسألة أن المدرك لا يعتبر وفاته

(10)

. [2/ 117، 2/ 120]

(1)

ليست من المطبوع. محقق الاختيارات (194).

(2)

في الأصل: (في)، والتصويب من الاختيارات (194).

(3)

أي: الحراث.

(4)

في الأصل: (نصف)، وهو خطأ، والتصويب من الاختيارات (194).

(5)

في الأصل: (وهو نظير ظاهر إعارته للرهن)، ويظهر أنه كلمة (ظاهر) مقحمة، والمثبت من الاختيارات (197)، والإنصاف (5/ 149).

(6)

في الأصل: (إجازة بعقد فضولي)، والتصويب من الفروع.

(7)

في الأصل: (أخرج)، والتصويب من الاختيارات (204).

(8)

في الأصل: (لم يلزمه الدفع إليه إن صدقه، ولا اليمين إن كذَّبه)، والتصويب من إحدى نسخ الاختيارات كما أشار إلى ذلك المحقق (211).

(9)

هكذا في الأصل، وفي المسودة:(مطلقًا)، بالنصب، وهو الصواب.

(10)

هكذا في الأصل، وفي المسودة:(وفاقه)، وهو الصواب.

ص: 587

39 -

فإنهم فوقنا في كل علم

(1)

واجتهاد. [2/ 126]

40 -

فإن تكافأت

(2)

الذمم فقياس المذهب في الحوالة على [مَلِيءٍ]

(3)

وجوبها. [4/ 39]

41 -

وإن عمل واحد أكثر ولم يتبرع

(4)

: طالبهم إما بما زاده من العمل وإما بإعطائه زيادة في الأجرة بقدر عمله. [4/ 40]

42 -

يجوز إجارة ماء قناة مدة وماء فائض بركة يراها

(5)

. [4/ 49]

43 -

لأن عمر جبر بني عم مَنْفُوسِ

(6)

على نفقته. [2/ 147]

44 -

قالوا: نستحسن هذا وندع القياس، فيدعون الذي

(7)

يزعمون أنه الحق بالاستحسان. [2/ 138]

45 -

وبيان أن الشريعة ليس فيها تناقض

(8)

أصلًا، والقياس الصحيح لا يكون خلافه إلا تناقضًا

(9)

. [2/ 155]

46 -

فإنه ذُكر عنه روايتين

(10)

كما تقدم. [2/ 155]

47 -

فأي

(11)

إجارة والمشترى له وإلا لزم المشتري. [2/ 160]

(1)

في الأصل: (عام)، والتصويب من المسودة (336).

(2)

في المطبوع: (تكافئت)، والمثبت هو الصواب.

(3)

في الأصل: (ولي اليتيم ونحوه)، وهو خطأ، والتصويب من الاختيارات (214)، والإنصاف (5/ 420).

(4)

في الأصل: (يشترط)، والتصويب من الاختيارات (215).

(5)

في الأصل: (رأياه)، والتصويب من الاختيارات (221).

(6)

في الأصل: (منغوس)، والتصويب من كتب الآثار.

(7)

في الأصل: (الذين)، والمثبت هو الصواب.

(8)

في الأصل (ما نص)، والمثبت من جامع المسائل (2/ 206).

(9)

في الأصل: (مانعًا)، والمثبت من جامع المسائل (2/ 206).

(10)

كذا في الأصل منصوبًا، والأصوب لغة: الرفع، ولكن قد يكون لذلك وجهٌ.

(11)

هكذا في الأصل، والصواب: فإن كما في جامع المسائل (2/ 216).

ص: 588

48 -

فمن قال: لا يجوز ذلك لم يجوِّز

(1)

الإجارة عليها. [4/ 52]

49 -

وهو لم يعمل ليكون الربح للمالك كالمصبغ

(2)

. [2/ 161]

وقيل: يخير المالك بينهما كقول مالك، وهو أصح، بناء على وقفِ التصرُّفاتِ

(3)

. [2/ 161]

50 -

وليس في الكتاب والسُّنَّة ما يمنع

(4)

شهادة النساء في العقوبات مطلقًا. [2/ 166]

51 -

وهذا الباب -بابُ تدبر العموم والخصوص من ألفاظِ الشرع ومعانيه التي هي عِلَلُ الأحكام- هو

(5)

الأصل الذي تُعْرَف منه

(6)

شرائع الإسلام. [2/ 167]

52 -

كوقف علو دار

(7)

أو دار مسجدًا. [4/ 54]

53 -

وكل ما أفضى [إلى المحرم كثيرًا حرَّمَه الشارع]

(8)

إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة. [4/ 233]

54 -

احتج المخالف: بأنه [لمَّا لم يصح]

(9)

دخول الاستثناء عليه فيخرج بعضه ثبت أنه من ألفاظ العموم كالجمع المعرف. [2/ 195]

(1)

في الأصل: (يجز)، والتصويب من جامع المسائل (3/ 133).

(2)

كذا في الأصل، ولم أجد لها أصل في القواميس، وفي جامع المسائل (2/ 218): والمُبْضِع في اللغة: المُزَوِّج، من أبضَعَ المرأةَ؛ أي: زوَّجَها.

لكن قال في الحاشية: ولم يظهر لي وجه الشبه هنا.

(3)

في الأصل: (ذلك النص)، والتصويب من جامع المسائل (2/ 219).

(4)

في الأصل: (منع)، والتصويب من جامع المسائل (2/ 227).

(5)

في الأصل: (هي)، والتصويب من جامع المسائل (2/ 229).

(6)

في الأصل: (الذي تقرر فيه)، والمثبت من جامع المسائل (2/ 229).

(7)

هكذا في الأصل، وفي الإنصاف (6/ 84) والفروع (4/ 354): عُلْوِ رَبْعٍ أو دَارٍ ..

(8)

في الأصل: (كثيره إلى حرمة)، والمثبت من الاختيارات (233).

(9)

هكذا في الأصل، وفي المطبوع:(لم صح)، وفي المسودة: لما صح، وهو الأصح.

ص: 589

55 -

واحتج أن لا شفعة

(1)

لذمي بقوله: "إذا لقيتموهم في طريق فألجئوهم إلى أضيقه". [2/ 199]

56 -

العلة المناسبة مقدمة على غير المناسبة، والمطردة مقدمة على المنقوضة

(2)

إذا قبلت. [2/ 204]

57 -

لا يصح

(3)

تناضلهما على أن السبق لأبعدهما رميًا على الصحيح من المذهب. [4/ 58]

58 -

فَأَمَّا ما أُخِذَ من الْأَمْوَالِ وَالنُّفُوسِ، أو أُتْلِفَ مِنْهُمَا في حَالِ الْجَاهِلِيَّةِ: فَقَد أُقِرَّ قَرَارُهُ، [لا]

(4)

لِأَنَّهُ كان مُبَاحًا؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ عَفَا عنه. [4/ 73]

59 -

يَتَوَجَّهُ فِيمَا إذَا غَصَبَ فَرَسًا وَكَسَبَ عليه مَالًا: أَنْ يُجْعَلَ الْكَسْبُ

(5)

بين الْغَاصِبِ وَمَالِكِ الدَّابَّةِ على قَدْرِ نَفْعِهِمَا. [4/ 73] 60 - ظاهر كلام أبي العباس أن نفس المصيبة لا يؤجر عليها

(6)

،

(1)

في الأصل: (شفقة)، وهو خطأ، والتصويب من المسودة (347).

(2)

في الأصل والمسودة: (المخصوصة)، والمثبت من التحبير.

(3)

في الأصل: (يصح) بالإثبات، والتصويب من الإنصاف (6/ 93).

(4)

ليس في المطبوع، وهي في (ج) و (أ)، حاشية الاختيارات (235).

(5)

في الأصل: (إن جعل)، والمثبت من الإنصاف، وهو الصواب.

(6)

أخذ البعلي ذلك من قول الشيخ في مجموع الفتاوى (30/ 363) الدَّلَائِلُ عَلَى أنَّ الْمَصَائِبَ كَفَّارَاتٌ كَثِيرَةٌ، إذَا صَبَرَ عَلَيْهَا أُثِيبَ عَلَى صَبْرِهِ، فَالثَّوَابُ وَالْجَزَاءُ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْعَمَلِ -وَهُوَ الصَّبْرُ-، وَأَمَّا نَفْسُ الْمُصِيبَةِ فَهِيَ مِن فِعْلِ اللهِ، لَا مِن فِعْلِ الْعَبْدِ، وَهِيَ مِن جَزَاءِ اللهِ لِلْعَبْدِ عَلَى ذَنْبِهِ وَتكْفِيرِهِ ذَنْبَهُ بِهَا. اهـ.

والذي يظهر: أنّ ما يُصيب الْمؤمن من مصائب في بدنه أو قلبه فإنّ الله تعالى بكرمه وجوده يُكفّر بها عن خطاياه، وإنْ لم يحتسب ذلك، بشرط ألا يتسخّطَ ويجزع.

وإنْ لم تكن عنده ذنوبٌ تُكفَّر: أعطاه الله حسناتٍ، لما أَخْرَجَهُ مُسْلِم (2572)، عَن عَائِشَةَ عن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:"مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِن شَوْكةٍ فَمَا فَوْقَهَا إلَّا رَفَعَهُ اللهُ بِهَا دَرَجَةً، أَو حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً". =

ص: 590

وقاله

(1)

أبو عبيدة؛ بل

(2)

إن صبر أثيب على صبره. [4/ 77]

61 -

إذا كان المتلف مما لا يباع [لعذر]

(3)

؛ مثل الثمر والزرع قبل بدو صلاحه: فههنا لا يجوز تقويمه بشرط القطع؛ لأنه مستحقٌّ للإبقاء

(4)

.

[وقد لا يكون له قيمة؛ بل كالجنين في الحيوان.

فههنا:

- إما أن يُقَّوَّم مستحق الإبقاء]

(5)

، وإن لم يجز بيعه.

- وإما أن يُقَوَّم مع الأصل ثم يقوم الأصل بدونه.

وأما أنْ ينظر إلى حالةِ كَمَالِه فَيُقَوَّم بدون نفقة الإبقاء: ففيه نظر؛ لإمكان تلفه قبل ذلك. [4/ 80]

62 -

كان يسوغ أن يُقال: يُحاسب بذلك فيه بقدر حقه من هذا، ويصرف

(6)

إلى غريمه. [4/ 81]

= وهذا ليس شَكًّا مِن الرَّاوِي، بل هو للتَّنْوِيع كما اختاره الحافظ رحمه الله وقال: وَيَكُون الْمَعْنَى: إِلَّا كَتَبَ الله لَهُ بِهَا حَسَنَة إِنْ لَمْ يَكُن عَلَيْهِ خَطَايَا، أَو حَطَّ عَنْهُ خَطَايَا إِنْ كَانَ لَهُ خَطَايَا. اهـ. فتح الباري (10/ 138 - 139).

ونسب النووي رحمه الله هذا القول إلى جَماهِير الْعُلَماءِ وقال: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. شرح النووي 16/ 128).

(1)

في الأصل: (وقالّ)، والمثبت من الاختيارات (242) وهو الصواب.

ويعني بأبي عبيدة: عامر بن الجراح الصحابي الجليل رضي الله عنه.

(2)

في الأصل: (بلى)، قال العلَّامة ابن عثيمين في حاشية الاختيارات: لعله: بل. اهـ. قلت: وقد أثبتها.

(3)

ليس في المطبوع، وهي في (ج) و (أ)، حاشية الاختيارات (235).

(4)

في الأصل: (للبقاء)، والتصويب من الاختيارات.

(5)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل.

(6)

في الأصل: (أو يصرف)، والتصويب من الاختيارات (241).

ص: 591

63 -

للمظلوم الاستعانةُ بمخلوق، فإذا خالَفَه

(1)

: فالأولى له الدعاء على من ظلمه. [4/ 83]

64 -

من ترك دينه باختياره وقد تمكن من استيفائه فلم يستوفه حتى مات. طلب به ورثته. وإن عجز هو وورثته فالمطالبة [يوم القيامة]

(2)

في الأشبه كما في المظالم للخبر. [4/ 84]

65 -

وإذا حابى البائع المشتري بالثمن محاباة خارجة عن العادة: يتوجه ألا يكون [للشريك]

(3)

أخذه إلا بالقيمة، أو أن لا شفعة له؛ فإن المحاباة بمنزلة الهبة من بعض الوجوه. [4/ 85]

66 -

وإن أودعها بلا عذر ضمنًا

(4)

وقراره عليه. [4/ 87]

67 -

ومن هو أسفل منه

(5)

: ولده وولد إخوته وطبقتهم. [4/ 104]

68 -

من وقف وقفًا مستقلًّا

(6)

، ثم ظهر عليه دين ولم يمكن وفاء الدين إلا ببيع شيء من الوقف، وهو في مرض الموت: بيع باتفاق العلماء.

وإن كان الوقف في الصحة: فهل يباع لوفاء الدين؟ فيه خلاف في مذهب أحمد وغيره، ومنعه

(7)

قوي. [4/ 106]

69 -

وإن

(8)

شرط رجوعها إلى المعمر بكسر الميم عند موته. [4/ 109]

(1)

في الأصل: (خافةّ)، والتصويب من الفتاوى الكبرى (5/ 417).

(2)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، وقد ذكر هذه العبارة في غير موضع، وذكر هذه اللفظة.

(3)

في الأصل: (للمشتري)، ولا يستقيم المعنى بذلك.

وجاء في حاشية الاختيارات عند هذه الكلمة: لعله: للشريك. اهـ.

(4)

هكذا في الأصل، والإنصاف (6/ 326)، وفي الفروع (4/ 361):"ضَمِنَهَا" وهو أصح.

(5)

في الأصل: (منهم)، والمثبت من الإنصاف (7/ 50).

(6)

هكذا في الأصل، وفي مجموع الفتاوى (31/ 204):(مسْتَغَلًّا).

(7)

قال العلَّامة ابن عثيمين في حاشية الاختيارات (258): لعله: (وبيعه) كما في مجموع المنقور؛ لأنه هو الموافق للتعليل الذي ذكره. اهـ.

(8)

في الأصل: (وأن)، والتصويب من الإنصاف (7/ 134).

ص: 592

70 -

وقال: الْعَفْوُ عن دَمِ الْعَمْدِ تَمْلِيكٌ أَيْضًا.

[وفي "صَحِيحِ مُسْلِم" أَنَّ أَبَا الْيَسْرِ الصَّحَابِيَّ رضي الله عنه قال لِغَرِيمِهِ]

(1)

: إذَا وَجَدْت قَضَاءً فَاقْضِ وَإِلَّا فَأنْتَ في حِلٍّ.

[وَأَعْلَمَ بِهِ الْوَلِيدَ بن غبَادَةَ بن الصَّامِتِ رضي الله عنه وَابْنَهُ وَهُمَا تَابِعِيَّانِ فلم يُنْكِرَاه]

(2)

. [4/ 109 - 110]

71 -

يجب التعديل في عطية أولاده على حسب ميراثهم، وهو مذهب أحمد، مسلمًا

(3)

كان الولد أو ذميًا. [4/ 111]

72 -

والأشبه أن يقال في هذا: إنه

(4)

يكون بالمعروف. [4/ 112]

73 -

فصارت هذه العلة هي العلة

(5)

الموجبة لتكفير المستحل للخمر. [2/ 208]

74 -

قال أبو عمرو: ولا ينبغي أن يكفي في هذه الأزمان مجرد تصدّيه

(6)

للفتوى واشتهاره بمباشرتها، لا بأهليته لها. [2/ 259]

75 -

ليس معنى المرض المخوف الذي يغلب على القلب

(7)

الموت منه، أو يتساوى في الظن جانب البقاء والموت. [4/ 115]

76 -

ذكر القاضي: أن الموهوب له يقبض

(8)

الهبة ويتصرف فيها مع كونها موقوفة على الإجازة. وهذا ضعيف.

(1)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، ولا يتم المعنى إلا به.

(2)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل.

(3)

في المطبوع: (مسلم)، بالرفع.

(4)

في الأصل: (أنه)، والتصويب من الاختيارات (268).

(5)

في المطبوع: (العة).

(6)

في الأصل: (تصديقه)، والتصويب من أدب المفتي والمستفتي، والمسودة (464).

(7)

هكذا في جميع المصادر، ولعل صواب العبارة: الظن؛ لأنه هو المعتاد في الاستخدام، ولقوله بعدها: أو يتساوى في الظن .. فالعبرة بالظن لا بالقلب.

(8)

في الأصل: (لا يقبض) بالنفي، والتصويب من الاختيارات (276).

ص: 593

والذي ينبغي: أنَّ تسليم الموهوب إلى الموهوب له: يذهب حيث شاء

(1)

. [4/ 116]

77 -

والرجل لم يلتفت إلى ذلك فيخلط

(2)

ما هو مخوف للمتبرع وإن لم يكن مخوفًا عند جمهور الناس. [4/ 116]

78 -

مثل أن يهب ويتصدق

(3)

ويحابي. [4/ 116]

79 -

قِيَاسُ الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ ليس لِلْأَبِ [أَنْ]

(4)

يَتَمَلَّكَ من مَالِ ابْنِهِ في مَرَضِ مَوْتِ الْأبِ. [4/ 117]

80 -

لو جُرِحَ جُرْحًا مُوحِيًا

(5)

: صحت توبته. [4/ 119]

81 -

مثل أن يقول: على أولادي السود وهم بيض أو العشرة وهم اثنا

(6)

عشر. [4/ 120]

82 -

[حُكْمُ ما]

(7)

إذَا أَوْصَى لِوَلَدِه في دُخُولِ وَلَدِ بَنِيهِ: حُكْمُ الْوَقْفِ. [4/ 120]

83 -

إذَا نَمَا

(8)

الْمُوصَى بوقفه بَعْدَ الْمَوْتِ. [4/ 122]

(1)

في الأصل: (لم يذهب لعلة حيث شاء)، والتصويب من الاختيارات (277).

(2)

هكذا في الأصل، وفي الاختيارات (276):(فيلحظ)، وهو الأصوب.

(3)

في الأصل: (بعد قوله: ويتصدق: ويهب)، وهي تكرار، وليست موجودة في الاختيارات (277).

(4)

ليست في الأصل، والتصويب من الإنصاف (7/ 156).

(5)

في الأصل: (موصيًا)، والتصويب من الآداب الشرعية (7/ 170).

والجرح الموحي: هو الذي لا تبقى معه الحياة غالبًا.

(6)

في المطبوع: (اثني)، والصواب المثبت.

(7)

ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، ولا يستقيم الكلام بدونه، والمثبت من الإنصاف (7/ 76).

(8)

في الأصل: (نمى)، والتصويب من الإنصاف (7/ 208).

ص: 594

84 -

إن قلنا بملكه

(1)

بعد الموت اعتبرت قيمته من التركة بسعره يوم الموت على أدنى صفاته من يوم الموت إلى القبول. وإن قلنا بملكه

(2)

من حين القبول. [4/ 122]

85 -

إن نذر أن يهب: برَّ بالإيجاب كيمينه

(3)

. [المستدرك 5/ 149]

86 -

قال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رحمه الله فِيمَن أُوْصِي إلَيْهِ بِإخْرَاجِ حَجَّةٍ: أَنَّ وِلَايَةَ

(4)

إخْرَاجِهَا وَالتَّعْيِينَ لِلنَّاظِرِ الْخَاصِّ إجْمَاعًا، وإِنَّمَا

(5)

للوليّ الْعَامِّ الِاعْتِرَاضُ. [4/ 123]

87 -

قَوْلُهُ: (وَللْأُمِّ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: حَالٌ لها السُّدُسُ وهو مع وُجُودِ الْوَلَدِ أو وَلَدِ الِابْنِ أو اثْنَيْنِ من الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ).

تنبيه: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: (وَحَالٌ رَابعٌ، وَهِيَ إذَا لم يَكُن لِوَلَدِهَا أَبٌ؛ لِكَوْنِهِ وَلَدَ زنا أو مَنْفِيًّا بِلِعَانٍ، فإنه مُنْقَطِعٌ تَعْصِيبُهُ من جِهَةِ مَن نَفَاهُ).

وَعَنْهُ أنها هِيَ عَصَبَتُهُ

(6)

.

اخْتَارَهُ أبو بَكْرٍ وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَصَاحِبُ الْفَائِقِ

(7)

. [4/ 126]

88 -

والصوم الإمساك

(8)

كأنه قيل لنا: أمسكوا من وقت إلى وقت. [2/ 285]

(1)

هكذا في الأصل: (نمى)، وفي الإنصاف (7/ 208):(يملكه)، وهو الصواب.

(2)

هكذا في الأصل: (نمى)، وفي الإنصاف (7/ 208):(يملكه)، وهو الصواب.

(3)

في الأصل: (ليمينه)، والتصويب من الاختيارات (479)، ومنتهى الإرادات (3/ 458).

(4)

في الأصل: (أَو وِلَايَة)، وهو خطأ، والتصويب من الإنصاف (7/ 287).

(5)

في الأصل: (وأنّ)، وهو خطأ، والتصويب من الإنصاف (7/ 287).

(6)

أي: أن الأم إذَا لم يَكُن لِوَلَدِهَا أَبٌ؛ لِكَوْنِهِ وَلَدَ زنى أو مَنْفِيًّا بلِعَانٍ: فهي عصبتُه.

(7)

العبارة في الأصل: (وعنه): أنها عصبة ولد الزنى والمنفي بلَعان: اختاره أبو بكر والشيخ تقي الدين وصاحب الفائق!!

وهذا كما ترى تصرف وحذف يُخل بالمعنى تمامًا.

(8)

في الأصل: (والصوم والإمساك)، والتصويب من المسودة (562).

ص: 595

89 -

لو تزوج في مرض موته مُضَارَّةً لتنقيص إرث غيرها وَأَقَرَّتْ

(1)

به: ورثَتْه. [4/ 131]

90 -

لو أقرّ

(2)

واحدٌ من الورثةِ بالولاء

(3)

أو بالنسب. [4/ 131]

91 -

الأشبه بالمذهب صحة الخيار في الكتابة

(4)

.

ولو قيل بصحة شرط الخيار في الخلع

(5)

: لم يبعد.

وأما شرط الخيار في التعليقات: ففيه نظر

(6)

. [4/ 135]

92 -

وفي الإنصاف: وعلى التراضي

(7)

في ظاهر المذهب؛ لأنه خيار لنقص في المعقود عليه. [4/ 157]

93 -

لو كان الزوج ناقصًا [عنها]

(8)

من وجه آخر [يرضون به، ثم بانَ ناقصًا من وجه آخر]

(9)

؛ مثل أن كان دونها في النسب فرضوا به، ثم بان فاسقًا وهي عدل، فههنا ينبغي ثبوت الخيار. [4/ 158]

94 -

ولو كان أبَوَاها

(10)

غير كتابيين. [4/ 166]

95 -

لو بان الزوج عقيمًا: فقياس قولنا: ثبوتُ

(11)

الخيار للمرأة؛

(1)

في الأصل: (وَأَقَرَّ)، والتصويب من الاختيارات (283)، والفروع (5/ 34).

(2)

في الأصل: (أخبر)، والمثبت من الاختيارات (286)، والفتاوى الكبرى (5/ 446).

(3)

في الأصل: (بالفراش)، والتصويب من الاختيارات (286)، والفتاوى الكبرى (5/ 446).

(4)

في الأصل: (الخيار والكتابة)، والمثبت من الاختيارات (288).

(5)

في الأصل: (الكتابة)، والمثبت من الاختيارات (288).

(6)

في الأصل: (فلا)، والمثبت من الاختيارات (288).

(7)

الذي في الإنصاف (8/ 107): (التراخي).

(8)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (302).

(9)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (302).

(10)

في الأصل والإنصاف (8/ 137): (أبويها)، وهو خطأ؛ لأنه اسم كان، واسم كان مرفوع كما هو معلوم.

(11)

في الأصل: (بثبوت)، والتصويب من الاختيارات (319).

ص: 596

لأن

(1)

لها حقًّا في الولد. [4/ 178]

96 -

إذا دخل النقصُ على الزوج؛ لعيب المرأة، أو

(2)

فوات صفة. [4/ 179]

97 -

إذا دخل النقصُ على الزوج؛ لعيب المرأة، أو

(3)

فوات صفة، أو شرط صحيح أو باطل: فإنه ينقص من المسمى بنسبة ما نقص، وهذا النقص من مهر المثل.

وإذا كان الذي نقص هو المرأة

(4)

، بأن يكون الزوج هو المعيب، أو

(5)

تكون قد اشترطت فيه صفة أو شرطًا صحيحًا أو فاسدًا: فالواجب هنا أن ينسب ما نقص هذا الفائت من مهر المثل لولا وجوده

(6)

فيزاد على المسمى بنسبته.

فيقال: كم مهر المثل لو لم يسلم لها ما شرطته، أو كان الزوج معيبًا؟ فيقال: ألف درهم، وإذا سلم لها ذلك أو كان الزوج سليمًا فيقال: ثمانمائة درهم، فيكون فوات الصفة والعيب قد نقصها من مهر المثل الخمس، فينقصها من المسمى بحسب ذلك.

فيكون بقيَّتَه

(7)

مالٌ ذهب منه خمسه، فيزاد عليه مثل ربعه، فإذا كان ألفين: استحقت

(8)

ألفين وخمسمائة. [4/ 179]

(1)

في الأصل: (أنَّ)، والتصويب من الاختيارات (319).

(2)

في الأصل (بالعطف)، والمثبت من الاختيارات (321).

(3)

في الأصل: (بالعطف)، والمثبت من الاختيارات (321).

(4)

أي: دخل النقصُ على المرأة لا على الزوج.

(5)

في الأصل: (لا)، والمثبت من الاختيارات (322).

(6)

في الأصل: (لا لوجوده)، والمثبت من الاختيارات (322).

(7)

في الأصل: (بقيمته)، والمثبت من الاختيارات (322).

(8)

في الأصل: (استحق)، والمثبت من الاختيارات (322).

ص: 597

98 -

واختلف في الصحة والفساد. والصواب أنها صحيحة من وجه فاسدة من وجه

(1)

. [4/ 180]

99 -

وهذا مما يقوي طريقة من فرَّق بين أن يكون التحريم لعينِ

(2)

المرأة أو لوصف. [4/ 180]

100 -

لأنهم معذورون

(3)

. [4/ 181]

101 -

فلا أقل من أن يملك

(4)

المرأة الفسخ. [4/ 190]

102 -

ومن اعتقت

(5)

عبدها. [4/ 192]

103 -

ولو ادعى الزوج إن

(6)

الصداق تكرر. [4/ 194]

104 -

وهذا المنصوص جار على أصول المذهب الموافق لأصول الشريعة، وهو أن كل من أُهدي له شيء، أو وُهب له شيء بسببٍ:[فإنه يثبت له حكم ذلك السبب، بحيث يستحق مَن يستحق ذلك السبب، و]

(7)

يثبت بثبوته ويزول بزواله. [4/ 198]

105 -

فإن كان أبوها موسرًا

(8)

. [4/ 200]

106 -

الشرط المتقدم كالمقارن، والإطراد العرفي كاللفضي

(9)

. [4/ 200]

107 -

إن اختلفا في قبض المهر: فالمتوجه [أنه]

(10)

إن كانت العادة الغالبة. [4/ 201]

(1)

في الأصل: (من وجهين)، والمثبت من الاختيارات (322)، والانصاف (8/ 206).

(2)

في الأصل: (لغير)، والتصويب من الاختيارات (323).

(3)

في المطبوع: (معذورين)، وهو خطأ.

(4)

هكذا في الأصل، وفي الاختيارات (329):(تملك).

(5)

هكذا في المطبوع، والصواب:(أعتقت).

(6)

هكذا في المطبوع، والصواب:(أنّ).

(7)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (334).

(8)

في المطبوع: موسرٌ، بالرفع، وهو خطأ.

(9)

في الأصل: (كالمقتضي)، والتصويب من الاختيارات (342).

(10)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (343).

ص: 598

108 -

وعليها اليمين أنها لم تُبْرؤه

(1)

. [4/ 201]

109 -

متى خرجت منه زوجته بغير اختياره؛ بإفسادها، أو بإفساد غيرها، أو بيمينه لا تفعلي شيئًا ففعلته: فله مهره

(2)

. [4/ 204]

110 -

الفرقة إن كانت من جهتها: فهي كإتلاف البائع [المبيعَ]

(3)

. [4/ 205]

111 -

فينبغي أن يقول: يجب الاستنجاء باليسرى ومس الفرج بها دون اليمنى. ربما لين

(4)

النهي في كليهما. [4/ 211]

112 -

وأخذ اللقمة الساقطة وإماطة الأذى عنها كل ذلك [كيلا]

(5)

يضيع شيء من القوت. [4/ 213]

113 -

لو شرط الزوج أن يتسلم الزوجة وهي صغيرة ليحضنها

(6)

: فقياس المذهب .. إذ النفقة تتبع الانتفاع

(7)

. [4/ 216]

114 -

فتحمل قصة كعب بن سوار على أنه تقدير شخص لا نوعيّ

(8)

، كما لو فرض النفقة. [4/ 217]

115 -

حصول الضرر للزوجة بترك الوطء مقتضٍ

(9)

للفسخ بكل حال، سواء كان بقصد من الزوج أو بغير قصد، [وسواء كان مع عجزه أو

(1)

الصواب إملائيًّا: تُبرئه.

(2)

في الأصل: (مهرها)، والتصويب من الاختيارات (345).

(3)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (345).

(4)

هكذا في الأصل، وفي الإنصاف (8/ 326): لِأَنَّ .. وهو الصواب.

(5)

ما بين المعقوفتين من الآداب الشرعية (3/ 202).

(6)

في الأصل: (ليحصنها)، والتصوب من الاختيارات (352).

(7)

في الأصل: (الحق البدني)، والتصويب من الاختيارات (352).

(8)

في الأصل: (يراعي)، والتصويب من الاختيارات (354).

(9)

في الأصل: (مقتضي)، وهو خطأ، والتصويب من الاختيارات (355).

ص: 599

قدرته]

(1)

؛ كالنفقة وأولى

(2)

. [4/ 217]

116 -

ولو أراد أن يقضيها عن ليلة من ليالي الشتاء [كان فوَّتها عليها]

(3)

ليلة من ليالي الصيف. [4/ 219]

117 -

وأما هو فصرح في كتبه أن أيمان الحالفين

(4)

. [5/ 19]

118 -

وغي

(5)

بغاية.

119 -

وهل للحكمين -إذا قلنا هما حاكمان

(6)

لا وكيلان- أن يطلقا ثلاثًا، أو يفسخا كما في المولي؟ قالوا هناك:

(7)

لما قام الوكيل مقام الزوج في الطلاق ملك ما يملكه. [4/ 222]

120 -

والذي يقتضيه القياس أنهما

(8)

إذا أطلقا الخلع صح بالصداق، كما لو أطلقا النكاح ثبت صداق المثل، فكذا الخلع وأولى. [4/ 222]

(1)

في الأصل والاختيارات (355): (ولو مع قدرته وعجزه)، والتصويب من الإنصاف (9/ 170).

(2)

في الأصل والاختيارات (355) بعد نهاية الجملة هذه العبارة: للفسخ بتعذره في الإيلاء إجماعًا.

ولا أرى لها موضعًا مناسبًا هنا، ولم يظهر لي معناها. ولذلك لم يذكرها المرداوي في الإنصاف (9/ 171).

(3)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (356).

(4)

في المطبوع: (إيمان)، وهو خطأ.

(5)

هكذا في الأصل، وفي الفتاوى الكبرى (5/ 504)(وَغَيَّا).

(6)

في الأصل: (حكمان)، والتصويب من الاختيارات (358).

(7)

في الأصل: (أقوال هناك)، والتصوب من الاختيارات (358).

(8)

لا يتضح المقصود من الضمير إلا بالكلام الذي بتره الجامع رحمه الله، وهو: والخلع بعوض فسخ بأي لفظ كان ولو وقع بصريح الطلاق وليس من الطلاق الثلاث، وهذا هو المنقول عن عبد الله بن عباس وأصحابه وعن الإمام أحمد وقدماء أصحابه لم يفرق أحد من السلف ولا أحمد بن حنبل ولا قدماء أصحابه في الخلع بين لفظ ولفظ لا لفظ الطلاق ولا غيره بل ألفاظهم كلها صريحة في أنه فسخ بأبي لفظ كان قال عبد الله رأيت أبي يذهب إلى قول ابن عباس وابن عباس صح عنه أنه كلما أجازه المال فليس بطلاق والذي يقتضيه القياس أنهما إذا طلقها النكاح ثبت صداق المثل فهكذا الخلع وأولى. الاختيارات (361).

ص: 600

121 -

وهذا قول قوي، وهو أدخل في الفقة

(1)

من غيره. [4/ 223]

122 -

لو عضلها لتفتدي نفسها منه ولم تكن تزني: حرم

(2)

عليه. [4/ 224]

123 -

خلع الحيلة

(3)

: لا يصح على الأصح، كما لا يصح نكاح المحلل؛ لأنه ليس المقصود به الفرقة، وإنما يقصد به بقاء المرأة مع

(4)

زوجها، كما يقصد بنكاح المحلل أن يطلقها لتعود إلى الأول، والعقد لا يقصد به نقيض

(5)

مقصوده، وإذا لم [يصح]

(6)

تَبِن به الزوجة. [4/ 225]

124 -

إذا خالعته على [الإبراء]

(7)

مما يعتقدان وجوبه باجتهاد أو تقليد؛ مثل أن يخالعها على قيمة كلب أتلفته

(8)

، معتقدين وجوب القيمة: فينبغي أن يصح.

ولو تزوجها على قيمة كلب له في ذمتها فينبغي أن [لا]

(9)

تصح التسمية؛ لأن وجوب هذا نوع غرر. [4/ 226]

125 -

وإذا تزوجت المرأة ولها ولد فغصبت

(10)

الولد، فذهبت به إلى بلد آخر: فليس لها أن تطالب الأب بنفقة الولد. [5/ 61]

126 -

وقد نص على أن المرأة لو وهبت زوجها صداقها بمسألته لها

(11)

: فلها أن ترجع. [5/ 8]

(1)

في الأصل: (داخل في النفقة)، والتصويب من الاختيارات (362).

(2)

في الأصل: (حرمت)، والتصويب من الاختيارات (359).

(3)

في الأصل: (الحبلى)، والتصويب من الاختيارات (359).

(4)

في الأصل: (تبع)، والتصويب من الاختيارات (359).

(5)

في الأصل: (نقض)، والتصويب من الاختيارات (359).

(6)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (359).

(7)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (363)، وفي الأصل: ما يعتقدان.

(8)

قال ابن عثيمين في حاشية الاختيارات (363) لعله: (أتلفه).

(9)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (363).

(10)

في الأصل: (فغضب)، والتصويب من حاشية ابن قاسم على الروض (7/ 133).

(11)

في الأصل: (أو مسكنها)، والتصويب من الاختيارات (367).

ص: 601

127 -

فإن لم يعلم أنه بارٌّ [عتزلها أبدًا، وإن علم أنه بارٌّ]

(1)

في وقت وشك في وقت. [5/ 30]

128 -

ولا يعتبر

(2)

قصد الاستثناء. [5/ 27]

129 -

النكاح الذي يبيحها له [الذميُّ ينبغي أن يكون]

(3)

: هو النكاح الذي ينبغي أن يُقَرَّان عليه بعد الإسلام، أو

(4)

المجيء به إلينا للحكم

(5)

. [5/ 45]

130 -

الواجبات المقدَّرة

(6)

. [5/ 48]

131 -

ويتوجه أن يُحكم بالقيافة

(7)

في الأموال كلها. [5/ 52]

132 -

وَالْمُطَلَّقَةُ [آخر]

(8)

ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ عِدَّتُهَا حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ.

قُلْت: عَلَّقَ أَبُو الْعَبَّاسِ مِن الْفَوَائِدِ بِذَلِكَ [أن لا يكون الإجماع على خلافه، وقد حكى القاضي أبو الحسين ابن الفراء القول بذلك]

(9)

عَن ابْنِ اللَّبَّانِ. [5/ 85]

133 -

فإن خرجت فلا جناح [عليها]

(10)

إذا كان أصلح لها. [5/ 61]

134 -

وكالأولياء في النكاح [وذلك أنهم قالوا هنا: يقدم بالقرعة كما في

(1)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (372).

(2)

في الأصل: (بعد: ولا يعتبر: مفارنة)، والأرجح حذفها كما نبه على ذلك محقق كتاب الاختيارات (384).

(3)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (393).

(4)

في الأصل بالعطف، والتصويب من الاختيارات (393).

(5)

في الأصل: (بعد: للحكم: صحيح)، والأرجح حذفها كما نبَّه على ذلك محقق كتاب الاختيارات (393).

(6)

في الأصل: (المقدَّرات)، والتصويب من الاختيارات (396).

(7)

في الأصل: (بالقافة)، والتصويب من الاختيارات (401).

(8)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (406).

(9)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (406).

(10)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (412).

ص: 602

ولاية النكاح، ومن خرجت له القرعة لم يكن له الاستيفاءُ إلا]

(1)

بإذن الباقين؛ لأن القرعة لم تسقط حقوقهم. [5/ 96]

135 -

اختار الشيخ تقي الدين أن العفو لا يصح في قتل الغيلة؛ لتعذر الاحتراز [منه]؛ كالقتل في المحاربة

(2)

. [5/ 97]

136 -

وإذا بقي من لحيته ما لا جمال فيه فهل يجب القسط، أو كمال الدية، أو حكومة؟ على ثلاثة أوجه، ويتوجه أنْ يجب

(3)

أكثر الأمرين: القسط، أو الحكومة. [5/ 101]

137 -

وكون

(4)

المطلوب من المعروفين بالقتل. [5/ 425]

138 -

ومن وطئ امرأة مشركة

(5)

قدح ذلك في عدالته وأدب. [5/ 113]

139 -

مَن كتم ما يجب بيانه؛ كالبائع المدلس، والمؤجر المدلس، والناكح وغيرهم من المُعامِلين

(6)

. [5/ 113]

140 -

سماع الدعوى والإعذار

(7)

. [5/ 114]

141 -

عسكر كبير في الحربية

(8)

إذا نهبوا أموال المسلمين. [5/ 116]

142 -

لا حقيقة للدعوى لا يعدّيه

(9)

، وفيما لم يعرف واحد من الأمرين يعدّيه

(10)

. [5/ 117]

(1)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (421).

(2)

في الأصل: (لتعذر الاحتراز؛ كالقتل مكابرة)، والتصويب من الاختيارات (422).

(3)

في الأصل: (يكون)، والتصويب من الاختيارات (424).

(4)

في الأصل: (كون)، بلا واو، والمثبت من الاختيارات (425).

(5)

في الاختيارات (433): (مشتركة)، وهو أصح.

(6)

في الأصل: (العالمين)، والتصويب من الاختيارات (433)، وكشاف القناع (6/ 125).

(7)

في الأصل: (والإعداء)، والتصويب من الاختيارات (434).

(8)

هكذا في الأصل، وفي الاختيارات (437):(الحرامية).

(9)

في الأصل: (يعذبه)، والتصويب من الاختيارات (438).

(10)

في الأصل: (يعذبه)، والتصويب من الاختيارات (438).

ص: 603

143 -

وهل يجوز أن يجْعل

(1)

ذلك أيضًا امتحانًا لا غير. [5/ 117]

144 -

وإن قالوا: إنه يُعلَّم

(2)

بترك الأكل كالكلب ألحق به. [5/ 138]

145 -

وفي غيرهما وجهان: إذ الكلام [في]

(3)

المحلوف به كالمحلوف عليه. [5/ 139]

146 -

الصواب على أصلنا أن يقال

(4)

في جميع العبادات والكفارات. [5/ 149]

147 -

إذا قال: إن شفى الله مريضي فلِلَّه

(5)

علي صوم شهر. [5/ 149]

148 -

إن نذر أن يهب: برَّ بالإيجاب كيمينه

(6)

. [5/ 149]

149 -

ليس لحاكم وغيره أن يبتدئ

(7)

الناس بقهرهم. [5/ 157]

150 -

الأشبه أنه لا يكره للحاكم شراء ما يحتاجه، ما لم يكن في شرائه مظنة المحاباة والاستغلال والتبذّل

(8)

. [5/ 163]

151 -

واختاره صاحب المغني وغيره، وإن كان لا يجوز توليته ابتداء

(9)

. [5/ 161]

(1)

في الأصل: (يفعل)، والتصويب من الاختيارات (439).

(2)

في الأصل: (تعلم)، والتصويب من الاختيارات (470).

(3)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (471).

(4)

في الأصل: (بعد: يقال: مثل هذا)، والأنسب حذفها كما فى الاختيارات (476).

(5)

في الأصل: (فله)، والتصويب من الاختيارات (476).

(6)

في الأصل: (ليمينه)، والتصويب من الاختيارات (479)، ومنتهى الإرادات (3/ 458).

(7)

في الأصل: (يبتدأ)، والمثبت أصح إملائيًّا.

(8)

العبارة في الأصل: (الأشبه ألا يكون للحاكم شراء ما يحتاجه في مظنة المحاباة والاستغلال والتبدل).

وهي كما ترى غير واضحة وغير مفيدة.

وقد جاء الاختيارات (487) تصحيح لبعض الجملة.

(9)

العبارة في الأصل: (واختار صاحب المغنى وغيره: إن كانت توليته ابتداء). والتصويب من الاختيارات (488).

ص: 604

152 -

وبين من يصلح ومن لا يصلح إذا [ولّي]

(1)

للضرورة. [5/ 161]

153 -

فإن العالم شبيه في هديته ومعاملته بالقاضي [من بعض الوجوه]

(2)

.

والعالم لا يعتاض عن

(3)

تعليمه. [5/ 164]

154 -

وأخبار الحاكم "أنه ثبت عندي" بمنزلة إخباره

(4)

. [5/ 166]

155 -

إذا رفع إليه الخصمان عقدًا فاسدًا عنده فقط، وأقَرَّا

(5)

بأنَّ نافِذَ الحكم حَكَم بصحته. [5/ 169]

156 -

ومن ادعى على خصمه أن بيده عقار

(6)

استغله مدة معينة. [5/ 176]

157 -

إذا استويا في الحسية

(7)

أو عدمها. [5/ 188]

158 -

قصة أبي قتادة وخزيمة تقتضي الحكم بالشاهد [الواحد]

(8)

في الأموال.

وقال القاضي في التعليق: الحكم بالشاهد الواحد غير ممتنع

(9)

. [5/ 190]

159 -

لكان متوجهًا؛ لأنهما [إنما]

(10)

أقيما مقام الرجل في التحمل. [5/ 191]

(1)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (488).

(2)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (488).

(3)

في الأصل: (على)، والتصويب من الاختيارات (488).

(4)

الصواب في الموضعين: (إخباره).

(5)

في الأصل: (وأقر)، بالإفراد، والتصويب من الفروع (6/ 428).

(6)

في الفروع (6/ 406) بالنصب، وهو الصواب.

(7)

في الأصل: (الخشية)، والتصويب من الاختيارات (510).

(8)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (524).

(9)

في الأصل: (متبع)، والتصويب من الاختيارات (524).

(10)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (525).

ص: 605

160 -

ولا تعتبر عدالتهم [في دينهم، واستحلافهم حقٌّ للمشهود عليه، فإن شاء حلّفهم]

(1)

، وإن شاء لم يحلفهم، [ليست حقًّا لله]

(2)

. [5/ 205]

161 -

حيث تكون شهادتهم بدلًا من

(3)

التحمل. [5/ 205]

162 -

قال أبو العباس في قوم [في ديوان]

(4)

أجروا شيئًا. [5/ 207]

163 -

وقيل: لا إقرار

(5)

مع استدراك متصل. [5/ 221]

164 -

فإن العدل معه من الدين ما يمنعه من الكذب وَيُحوجه إلى

(6)

براءة ذمته. [5/ 218]

165 -

لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ:

أ - أَعْلَمَ الْخَلْقِ بِمَا يَقُولُ.

ب - وَأَنْصَحَ

(7)

الْخَلْقِ فِي بَيَانِ الْعِلْمِ.

ج - وَأَفْصَحَ الْخَلْقِ فِي الْبَيَانِ وَالتَّعْرِيفِ وَالدَّلَالَةِ وَالْإِرْشَادِ. [5/ 26]

166 -

لكن يرجى للمحسن، ويخاف المسيء

(8)

. [1/ 192]

(1)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (519).

(2)

العبارة في الأصل: (بسبب حق الله)، والتصويب من الاختيارات (519).

(3)

العبارة في الأصل: (في)، والتصويب من الاختيارات (519).

(4)

ما بين المعقوفتين من الاختيارات (521).

(5)

في الأصل: (بإقرار)، والتصويب من الإنصاف (12/ 197).

(6)

في الأصل: (ونحوه في)، والتصويب من الاختيارات (529).

(7)

في الأصل: (وَأَفْصَحَ)، والذي يظهر أنّ الصواب: وأنصح لثلاثة أمور:

الأمر الأول: لأنه يسلم من التكرار.

الأمر الثاني: أنّه يُعطي معنى جديدًا، بخلاف "وأفصح" فهو عين الثالث.

الأمر الثالث: أن الشيخ صاغ هذه العبارة باسلوب آخر بلفظ "وأنصح" كقوله: وَمَن عَلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ أعْلَمُ الْخَلْقِ بِالْحَقِّ، وَأفْصَحُ الْخَلْقِ فِي الْبَيَانِ، وَأنْصَحُ الْخَلْقِ لِلْخَلْقِ: عَلِمَ أَنَّهُ قَد اجْتَمَعَ فِي حَقِّهِ كَمَالُ العِلْم بِالْحَق، وَكَمَالُ الْقُدْرَةِ عَلَى بَيَانِهِ، وَكَمَالُ الْإِرَادَةِ لَهُ. اهـ.

والله أعلم.

(8)

هكذا في الأصل: والصواب: (ويخاف المسيء)، كما في موضع آخر (1/ 79).

ص: 606

167 -

فإن الفقيه كل الفقيه الذي لا يؤيس الناس من رحمة اللّه عز وجل، ولا يُجَرِّئُهُمْ

(1)

على معاصي اللّه تعالى. [1/ 165]

168 -

وأعمام النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم الذين بقيت ذريتهم: العباس، [وأبو طالب]

(2)

، والحارث بن عبد المطلب، وأبو لهب.

فمن كان من الثلاثة الأول حرمت عليهم الزكاة، واستحقوا من الخمس باتفاق. [1/ 115 - 116]

169 -

ومن الأحكام ما يختص بِبَني

(3)

هاشم أو بني هاشم مع بني المطلب دون سائر قريش. [1/ 116 - 117]

170 -

الثانِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَقُلْ: {لابتغوا عليه سبيلا} ؛ بَل قَالَ: {لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)} [الإسراء: 42]

(4)

. [1/ 188]

171 -

إن لم ينضم إليه قرينة بأن يكون المدعَى مما يعلمه المطلوب، أو قد

(5)

ادعى عليه علمه. [5/ 22]

172 -

وفصل الخطاب في المسألة: أن صيغة اللزوم والتعدي لفظ مجمل، يراد به اللزوم [الظاهر] والتعدي النحوي اللفظي، ويراد به التَّعدّي الفقهي.

فالأولُ أنْ يُرَادَ باللازم ما لم ينصب المفعول به، ويراد بالمتعدي ما نصب المفعول به، فهذا لا تفرق العرب فيه [بين]"فاعل" و"فعول" في اللزوم [والتعدّي].

(1)

في الأصل: (يجرؤهم)، وهو خطأ إملائيًّا، وقد ذكر شيخ الإسلام هذا الكلام في عدة مواضع من كتبه، وكتبها على نبرة كما هو مثبت.

(2)

ما بين المعقوفتين ليس الأصل، والصواب إثباته كما في الفتاوى المصرية (565).

(3)

في الأصل: (بني)، والتصويب من الفتاوى المصرية (566).

(4)

في الأصل: (لم يقل: {لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} بل قال: {لابتغوا إليه سبيلا})، والتصويب من الجواب الكافي.

(5)

في الأصل: (بالعطف)، والتصويب من الاختيارات (533).

ص: 607

وأما التعدي [الحكمي] الفقهي: فيراد به أنَّ الماء [هو] الذي يُتطهر به في رفع الحدث، بخلاف ما كان [طاهرًا ولم يُتطهّر به] كالأدهان والألبان

(1)

.

قال القاضي أبو يعلى: فائدته: أنه عندنا لا تجوز إزالة النجاسة بغير الماء؛ لاختصاصه بالتطهير، وعندهم يجوز ذلك لمشاركةِ غير الماء له في الطهارة

(2)

. [3/ 5 - 9]

173 -

المسافر ثلاثة أيام بلياليهن، وقيل: يمسح كالجبيرة واختاره الشيخ تقي الدين، قاله

(3)

في الفروع. [3/ 33]

174 -

وأما إذا أخر في الصلاة مع إمكانه حتى قصر القيام

(4)

، أو كان القيام متسعًا ولم يقرأها

(5)

: فهذا تجوز صلاته عند الجماهير. [3/ 101]

175 -

"وكانت خزاعة عَيْبةَ [نُصْحٍ] لرسل اللّه صلى الله عليه وسلم مسلمهم وكافرهم"

(6)

، وقد روي أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:"أمر أن يستطبّ الحارث بن كلدة وكان كافرًا". [3/ 141]

176 -

يتبع الجنازة ولو لأجل أهله فقط؛ إحسانًا إليهم لتألفهم، أو مُكافأةً

(7)

أو غير ذلك. [3/ 145]

177 -

يسن أن يستقبل الحجر الأسود في

(8)

الطواف. [المستدرك 3/ 192]

(1)

ما بين المعقوفات من الاختيارات (6).

(2)

في الأصل: (تجوز لمشاركته غير الماء في الطهارة)، والتصويب من الاختيارات (7).

(3)

في الأصل: (قال)، والتصويب من الإنصاف (1/ 176).

(4)

هكذا في الأصل والفتاوى المصرية ( .. )، وفي الاختيارات (ص 108):(حتى قضى الإمام القيام)، ولعل هذه العبارة أوضح وأصح.

(5)

كأن يشرد ذهنه ولم ينتبه إِلَّا قرب الركوع، أو قرأها ببطء.

(6)

ما بين المعقوفتين من صحيح البخاري، وبها يصح المعنى.

(7)

في الأصل: (مكافئة)، والتصويب من الفتاوى الكبرى (5/ 359).

(8)

في الأصل: (وفي) بالعطف، والتصويب من الاختيارات (175).

ص: 608

178 -

ومن تولى منهم ديوانًا

(1)

للمسلمين ينقض عهده. [المستدرك 3/ 220]

179 -

فأما إن كان في التمثيل السائغ لهم دعاءٌ إلى الإيمان أو زجرٌ لهم عن العدوان فإنه هنا من إقامة الحدود والجهاد المشروع، ولم تكن القضيّة

(2)

في أحد كذلك؛ فلهذا كان الصبر أفضل.

180 -

فأما إن كانت المثلة حقًّا للّه تعالى

(3)

: فالصبر هناك واجب، كما يجب حيث لا يمكن الانتصار، ويحرم الجزع. [المستدرك 3/ 224]

181 -

يجوز قرض المنافع؛ مثل أن يحصد معه يومًا ويحصد معه الآخر يومًا، أو يسكنه دارًا ليسكنه الآخر بدلها، لكن الغالب على المنافع أنها ليست من ذوات الأمثال، حتى يجب [ردّ المثل]

(4)

على المشهور، وفي

(5)

الأخرى: القيمة. [4/ 20]

182 -

وقال أبو العباس: ولا أعلم فيه نزاعًا، لكن لا يُزاد كل يوم على أكثر التعزير

(6)

إن قيل يتقدَّر. [4/ 26]

183 -

لو مات من يتجر لنفسه وليتيمه بماله، وقد اشترى شيئًا لم يُعرف لمن هو: لم يُقسم، ولم

(7)

يُوقف الأمر حتى يصطلحا. [4/ 31]

184 -

ولو قيل: إن النكاح هنا لا يحتمل إِلَّا أن يكون له: لكان له وجهٌ

(8)

. [4/ 36 - 37]

185 -

العامل في المزارعة إذا ترك العمل فقد استولى على الأرض وفوت

(1)

في الأصل: (ديوان) بالرفع، والتصويب من الفتاوى البرى (5/ 537).

(2)

في الأصل: (القصة)، والمثبت من الاختيارات (450)، والفتاوى الكبرى (5/ 537).

(3)

في الفروع (6/ 204): إذَا كان الْمُغَلَّبُ حَقَّ اللهِ تَعَالَى.

(4)

ليست من المطبوع. محقق الاختيارات (194).

(5)

في الأصل: (في)، والتصويب من الاختيارات (194).

(6)

في الأصل: (أكثر من التعزير)، والمثبت من نسخة الشيخ ابن عثيمين في التي علق فيها على الاختيارات.

(7)

في الأصل: (لم) بدون واو، والتصويب من الفتاوى الكبرى (5/ 397).

(8)

في الأصل: (وجهًا) بالنصب، والتصويب من الاختيارات (210).

ص: 609

نفعها: فينبغي [أنْ]

(1)

يضمن ضمان إتلاف أو ضمان إتلاف ويد. [4/ 43]

186 -

فلو جعل السلطان أو أجنبي مالًا لمن يغلب بذلك [لما]

(2)

جاز وإن لم يكن هناك مخاطرة. [4/ 67]

187 -

يمنع التصرف في صبرة الطعام المشتراة جزافًا على إحدى الروايتين وهي اختيار

(3)

الخرقي. [4/ 15]

188 -

من وَهَبَ لِابْنِهِ هِبَةً ثُمَّ تَصَرَّفَ فِيهَا، فادَّعَى أَنَّهَا

(4)

مِلْكُهُ: تَضَمَّن ذلك الرجوعَ؛ لأنه أقر إقرارًا لا يملك إنشاءه. [4/ 110]

189 -

قالوا: نرثهم ولا يرثوننا، كما ننكح نساءهم ولا ينكحون نساءَنا

(5)

. [4/ 129]

190 -

فعلم أن الميراث مداره على النُّصْرة

(6)

الظاهرة. [4/ 130]

191 -

أنت طالق ومطلقة وما شاكل ذلك من الصيغ: هي إنشاء من حيث إنها أثْبتت الحكم وبها تمّ

(7)

. [5/ 11]

192 -

لا يقع الطلاق بالكناية إِلَّا بنية، إِلَّا

(8)

مع قرينة إرادة الطلاق. [5/ 12]

193 -

من حلف بالحرام ألا يخرج فلانة من بيته

(9)

فخرجت: فمذهب أحمد أنه لا طلاق عليه وإن نوى الطلاق. [5/ 13]

(1)

في الأصل: (أن لا)، والتصويب من الاختيارات (218).

(2)

ما بين المعقوفتين من مختصر الفتاوى (532).

(3)

في الأصل: (اختيارات)، والتصويب من الفتاوى الكبرى (5/ 390).

(4)

في الأصل: (أنه)، والتصويب من مجموع الفتاوى (3/ 284).

(5)

في الأصل: (نسائنا)، والتصويب من أحكام أهل الذمة لابن القيم (2/ 853).

(6)

في الأصل: (النظرة)، والتصويب من الفروع لابن مفلح (2/ 37).

(7)

في الأصل والفتاوى الكبرى (5/ 489): (هي إثبات للحكم وشهادتهم)، والتصويب من الاختيارات (368).

(8)

في الأصل: (وإلا) بالعطف، والتصويب من الاختيارات (369).

(9)

بأن قال: عليّ أو يلزمني الحرام، أو تحرمين علي، أو أنت عليَّ حرام إن خرجت من البيت.

تنبيه: لعل الصواب: (تخرج)؛ لأنه الضمير عائد إلى مؤنث، وهو الزوجة.

ص: 610

‌الخاتمة

هذا ما منّ الله تعالى به عليّ من العكوف قُرابةَ عامين، مُتفرغًا فيهما تفرّغًا شبه كامل، في دراسة هذا السفر الكبير، المترامي الأطراف، وكلّفني ذلك الرجوع إلى العديد من المصادر الأخرى، وإيقافَ أكثر أعمالي.

وقد حرصتُ كلَّ الحرص على تيسير مجموع فتاوى شيخ الإسلام والمستدرك عليه، والتعليق على المواضع المهمة، والعبارات اللطيفة، والاستدراك على الأخطاء المطبعيّة ونحوِها، وترتيبِها وتبويبِها، وإبرازِ اللطائف والدُّرر والنفائس من كلامه، المغمورةِ في هذه المجلدّات الكبيرة الكثيرة، المُتوارية بين بحوثه وفتاويه وردودِه الطويلة المسهبة.

وهذا جهدي وطاقتي، فإن كان صوابًا فمن الله تعالى وحده، وإن كان ثمّ نقصٌ وخللٌ وخطأ فمني ومن الشيطان.

ولا أستغني -أخي القارئ- عن ملحوظاتك؛ فالمؤمن مرآةُ أخيه، ورحم الله مَن أهدى إليّ عيوبي.

أسأل الله تعالى أن يبارك في هذا العمل، وأن يغفر ما فيه من النقص والزلل، وأن ينفع به الإسلام والمسلمين، وأن يجمعنا مع شيخ الإسلام ابن تيمية في دار النعيم.

وصلى الله وسلم وبارك على نبيّه محمد، وعلى آلِه وصحبِه أجمعين

فرغت منه يوم الخميس، عام: 1439

والحمد لله ربِّ العالمين

ص: 611

‌طُبِعَ لِلمُؤلِّفِ

1 -

إرْشادُ السَّاجِدِ بأسبابِ الخِلَافِ والتَّقاطعِ في الْمَسَاجِدِ.

2 -

الإِفَاضَةُ في أَحْكَامِ الحَيْضِ والنِّفَاِس والاسْتِحَاضَةِ.

3 -

حَيَاةُ السَّلَفِ بَيْنَ الْقَوْلِ والْعَمَلِ.

4 -

بُيُوتٌ تَئِنُّ مِن الْمَشاكِلِ والخِلافَاتِ، الأسْبَابُ والْعِلاجُ.

5 -

حُقُوقُ الصَّدِيقِ وكَيْفَ تَتَعَامَلُ مَعَهُ.

6 -

كَيْفَ تُرَبِّي أَبْنَاءَكَ؟ ثَلَاثُونَ قَاعِدَةُ تُوصِلُكَ إلى أَحْسَنِ وأَنْجَحِ الطُّرُقِ فِي التَّرْبِيَةِ.

7 -

آدابُ طالِبِ العِلمِ وسُبلُ بِنَائِه ورُسُوخِه.

8 -

الحياةُ الزَّوجيّةُ السّعيدَةُ، قَوَاعِدٌ وَحُقُوقٌ وَعِلاجٌ لِلمُنغِّصاتِ.

9 -

علمُ تَعْبِيرِ الرُّؤَىَ، بَحْثٌ تَأصِيْلِيٌّ عِلْميٌّ تَطبِيقِيّ.

10 -

الْمَعيْنُ الْجَارِي في استنباطِ الفَوَائِدِ واللطَّائِفِ مِن "صَحِيحِ الْبُخَارِي".

11 -

مَنْهَجُ الصَّحَابَةِ والسَّلَفِ الصَّالحِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ فَتَاوَىَ المُفْتِينِ والرَّدِّ عَلَى الْمُخطِئِين.

12 -

تَهْذِيبُ كِتَابِ الْمُوَافَقَاتِ لِلإِمَامِ الشَّاطِبي، مَعَ التَّعْلِيقِ عَلَيْهِ.

13 -

مَجالسُ شَهْرِ رَمَضَانَ.

14 -

قِصَصِي مَعَ الْمُلْحِديْن والمُشَكّكين والْمُوسوِسين، معَ بَيَانِ طُرُقِ إقْنَاعِهم وَهِدايَتِهم.

15 -

الْمَسَائِلُ الْمُهِمَّةُ فِي التَّجْويدِ والأَحْرُفِ السَّبْعةِ.

16 -

عِبَارات أثَّرَت عَلَيَّ وَغَيَّرَتْ في حَيَاتِي.

17 -

عبقرية شَيْخِ الإِسْلَامِ ابْنِ تَيمِيَّةَ رحمه الله (مِن خلَالِ دِراسَةٍ دقيقةٍ لِمَجْموعِ الْفَتَاوَىَ والْمُسْتَدْرَك).

18 -

بَوَّابَةُ الْخُشُوعِ فِي الصَّلَاةِ.

ص: 623

‌أهم أعمال هذا الكتاب

1 -

تقريب مجموع الفتاوى والمستدرك وغيرهما، وإبرازُ أهمّ ما فيها، وتيسيرها لطلاب العلم وغيرِهم.

2 -

الاقتصار على أهم أدلته العقلية والنقلية، وترك ما يُستغنى عنه.

3 -

جمعُ ما تفرق من كلامه في المسألة الواحدة في مكان واحد.

4 -

شرح الغامض من كلامه وألفاظه.

5 -

تخريج الأحاديث.

6 -

التعليقُ على بعض كلامه النفيس، وربطُه بالواقع.

7 -

وضع عناوين للفوائد اللطيفة، والمسائل العامة.

8 -

جعل كلامِه على شكلِ فقرات؛ ليسهل فهم كلامه، والرجوع إلى مسائلِه وكلامِه.

9 -

تصحيح الأخطاء المطبعية ونحوها، وإفرادُها في آخر الكتاب (أكثر من 500 خطأ).

10 -

استقصاءُ المواضعِ التي خالف فيها البعليُّ وغيرُه ما في مجموع الفتاوى (أكثر من 20 موضعًا).

11 -

استقصاءُ المسائلِ التي له فيها قولان (أكثر من 13 مسألة).

ص: 624