المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المقدمة إن الحمدَ لله، نحمدُهُ، ونستعينُهُ، ونستغفرُهُ، ونعوذُ بالله من شرورِ - اثر عمل القلب على عبادة الصلاة

[إبراهيم بن حسن الحضريتي]

فهرس الكتاب

‌المقدمة

إن الحمدَ لله، نحمدُهُ، ونستعينُهُ، ونستغفرُهُ، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا، ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدهِ اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضْلِل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُهُ ورسولُه.

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71].

أما بعد:

فإن لعمل القلب أثره الكبير على العبادات، فإذا حقق العبد عمل القلب، وجاهد نفسه لإصلاح ما في قلبه من أمراض، واستعان بالله على ذلك، وصدق وأخلص، فإن الله وعد بإعانته، كما قال تعالى:

{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} العنكبوت: 69.

ص: 2

وإذا وفق الله العبد لذلك ظهر أثره على عبادته: إقامة لها مع الاتقان، وإخلاصاً فيها، وحرصاً على الاهتداء بالهدي النبوي في أدائها، وظهر أثر ذلك أيضاً على إقبال القلب وحسن حضوره عند أداء العبادة مع الخشوع والخضوع لله.

وسأذكر -إن شاء الله تعالى- سلسلة بعنوان: (أثر عمل القلب على العبادات) وأركز في أول هذه السلسلة على الصلاة، ونسأل الله العظيم أن يرزقنا الإخلاص والصدق والتوفيق والإعانة في هذا العمل، وأن يتفضل علينا بالقبول، وأن يوفقنا للخشوع في صلاتنا، والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.

وستكون بإذن الله‌

‌ محاور هذا الموضوع

وفق العناصر الآتية:

المبحث الأول: ملخص في إثبات أثر عمل القلب، وأهميته، وفيه مطالب.

المطلب الأول: من أدلة الكتاب والسنة في إثبات أثر عمل القلب.

المطلب الثاني: أهمية عمل القلب.

المطلب الثالث: الآثار العامة لعمل القلب على العبادات.

المطلب الرابع: أسباب تخصيص الصلاة بالذكر قبل بقية العبادات

المبحث الثاني: نماذج لبعض أعمال القلوب المتعلقة بالخشوع في الصلاة، وفيه تمهيد ومطالب.

التمهيد: الارتباط الوثيق بين عمل القلب وأثره على الخشوع في الصلاة.

المطلب الأول: الإخلاص.

المطلب الثاني: اليقين.

المطلب الثالث: الصبر.

المطلب الرابع: المحبة.

المطلب الخامس: الخوف والخشية.

المطلب السادس: الرجاء.

ص: 3

المطلب السابع: أثر هذه الأعمال القلبية على عبادة الخشوع في الصلاة، وفيه عدة مسائل:

المسألة الأولى: إذا أحب العبد ربه أحب أن يلتقي به في كل وقت.

المسألة الثانية: إذا حقق العبد في قلبه محبة الله أثمر له ذلك محبة القرب منه.

المسألة الثالثة: إذا حقق العبد في قلبه محبة الله أثمر ذلك حياؤه من الله أن ينصرف بوجهه وقلبه عنه في صلاته.

المسألة الرابعة: الشعور بمناجاته لله وأنه مطلع عليه عالم بسره وجهره يسمعه ويراه.

المبحث الثالث: من آثار عمل القلب على صلاة العبد، وفيه مطالب

المطلب الأول: وجود لذة عبادة الصلاة وحلاوتها، وطمأنينة القلب بها.

المطلب الثاني: أن يعلم بقلبه ما يقوله بلسانه، ويفهمه ويتدبره.

المطلب الثالث: أثر حضور القلب على تدبر سورة الفاتحة في الصلاة من الإمام والمأموم.

المطلب الرابع: تدبر القلب -من الإمام والمأموم- للآيات والسور التي تقرأ في الصلاة عقب الفاتحة.

المطلب الخامس: أثر عمل القلب على عبادة الركوع، وفيه مسائل.

المسألة الأولى: الركوع من أعظم أركان الصلاة.

المسألة الثانية: تعظيم الرب في الركوع:

المسألة الثالثة: من أذكار الركوع:

المسألة الرابعة: أثر عمل القلب على ما يقوله في الرفع من الركوع.

المسألة الخامسة: أثر عمل القلب في عبادة الركوع:

المطلب السادس: أثر عمل القلب على عبادة السجود، وفيه مسائل.

المسألة الأولى: السجود أعظم موقف يقرب فيه العبد من ربه:

المسألة الثانية: من أذكار السجود:

المسألة الثالثة: أثر عمل القلب في عبادة السجود:

ص: 4

المطلب السابع: عمل القلب وأثره على طمأنينة العبد في صلاته، وفيه توطئة ومسائل.

المسألة الأولى: معنى الطمأنينة:

المسألة الثانية: الحكمة من الطمأنينة:

المسألة الثالثة: الأدلة على أن الطمأنينة ركن في جميع الصلاة، وخطورة التساهل فيها:

المطلب الثامن: أثر عمل القلب على التشهد وجلسته، وفيه مسائل:

المسألة الأولى: جلسة التشهد ولفظ التشهد الأول، والثاني.

المسألة الثانية: أدعية ما قبل التسليم:

المسألة الثالثة: أثر عمل القلب في عبادة التشهد، ويتلخص ذلك في الأمور الآتية:

أولاً: ينبغي أن نستصحب المجاهدة لحضور القلب وفهمه لما يقوله المؤمن في صلاته، وعدم الغفلة عن ذلك مع الاستمرار وعدم الانقطاع:

ثانياً: أن يتدبر ويفهم ويفقه معنى التشهد، فيقوله بلسانه وقلبه يدرك معنى ما يقول.

ثالثاً: أن يدرك معاني الصلاة الإبراهيمية:

رابعاً: يتذكر بقلبه حين يقول في تشهده: الصلاة الإبراهيمية أموراً، منها:

الأول: امتثال قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} الأحزاب: 56.

الثاني: فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

خامساً: أن يستحضر قلبه معاني الاستعاذة من هذه الأربع.

المطلب التاسع: حضور القلب عند التسليم من الصلاة، وأذكار ما بعد السلام، وفيه مسائل.

المسألة الأولى: التسليم.

المسألة الثانية: أذكار ما بعد السلام مع ذكر أثر حضور القلب على ذلك.

ص: 5

‌تنبيهات مهمة:

1 -

لم أذكر المراجع في نهاية الكتاب لأن المراجع التي رجعت اليها ونسختُ منها هي المكتبة الشاملة بإصدارها الجديد على موقعها على الشبكة، فلست أرى أن هناك حاجة لذكر المراجع، وقد ذكرتها في الهوامش، ومن أراد التأكد فليرجع إلى المكتبة الشاملة:https://www.shamela.ws

2 -

أرى لزاماً على القارئ الكريم أن يقف وقفات تامل مع النصوص الشرعية من الكتاب والسنة وألا يستعجل عند قراءتها، فإن الأثر والبركة في نفع القارئ والسامع مرتبطة بها، وأما كلام البشر فليس فيه شيء من ذلك إلا بقدر ارتباطه بهذه النصوص مع سلامة المقصد.

3 -

ربما الكثير من الآيات التي أوردتها لم أعلق عليها بذكر أقوال المفسرين إلا في بعض الأحيان القليلة، لأنه في ظني أن الآيات واضحة بينة المعنى في المقصود منها، وهي من آيات المحكم الواضح البين الدلالة.

4 -

وحين يكتب الكاتب في مثل هذه القضايا الدقيقة والشائكة، فذلك يكون من باب معالجة الغير وهو عليل، لا تعفيه علته من معالجة غيره، مع السعي في معالجة نفسه، والله الذي بيده الشفاء.

5 -

لم أتعرض بشكل مفصل عن كل ما يتعلق بالصلاة من ناحية صفتها، لأنه ولله الحمد قد كتب في ذلك الكثير المطول والقصير، ومن أعظم ما كتب في ذلك وهو ورقات قلائل يسهل الاطلاع عليها ما كتبه الشيخ ابن باز، وكذلك الشيخ ابن عثيمين.

ومن المطولات كتاب الشيخ الألباني رحمة الله على الجميع.

6 -

أوردت الكثير من الأدعية في الركوع والسجود وقبل السلام، وهذه لا يتسع ذكرها في الفرائض بل مجالها في النوافل ولها أثر كبير على الخشوع.

ص: 6

المبحث الأول: ملخص في إثبات أثر عمل القلب، وأهميته، وفيه مطالب.

المطلب الأول: من أدلة الكتاب والسنة في إثبات أثر عمل القلب.

المطلب الثاني: أهمية عمل القلب.

المطلب الثالث: الآثار العامة لعمل القلب على العبادات.

المطلب الرابع: أسباب تخصيص الصلاة بالذكر قبل بقية العبادات

ص: 7

‌المبحث الأول: ملخص في إثبات أثر عمل القلب، وأهميته، وفيه مطالب

.

‌المطلب الأول: من أدلة الكتاب والسنة في إثبات أثر عمل القلب

.

لقد اعتنى القرآن العظيم والسنة الشريفة بمسألة عمل القلب وأثره اعتناء كبيراً، فقد جاءت آيات كثيرة في إثبات أثر عمل القلب وتأثره بما يعمل صاحبه، فقد ذكر الله سبحانه وتعالى أن قلوب المؤمنين يصيبها الوجل، وتطمئن بذكره، وأنها تخشع وتخضع لأمره، وغير ذلك كثير، وإذا تقرر هذا في حق المؤمنين، فإن القرآن الكريم قد ذكر في مقابل ذلك حال الكفار والمنافقين وتأثر قلوبهم بما يعملون، وذكر سبحانه وتعالى كذلك أثر أمراض قلوبهم عليهم؛ من الختم والطبع، وما أصابها من مرض النفاق، والزيغ عن الحق، والقسوة

وقد جاءت آيات كثيرة في بيان ذلك. وكذلك جاءت أحاديث كثيرة تثبت أثر عمل القلب، ودونك ملخص لإثبات ذلك:

أولاً: أمثلة على إثبات أثر عمل القلب على المؤمن مع ذكر شواهدها من القرآن العظيم.

1 -

وجل القلب وخوفه من الله، قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية [الأنفال: 2]. وفيها إثبات أثر ذكر الله على القلب بحصول الوَجَل، ومعناه: الخوف من الله

(1)

، ولا شك أن الذكر لا يحدث أثره في حصول وجل القلب من الله تعالى إلا إذا تواطأ القلب مع الحواس.

2 -

طمأنينة القلب، قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، دلت الآية على أثر ذكر الله على قلب المؤمن، فهو يأنس ويطيب ويسكن بذكر الله تعالى

(2)

.

(1)

ينظر: تفسير ابن كثير (5/ 425).

(2)

ينظر: تفسير الطبري (16/ 432).

ص: 8

ثانياً: أمثلة على إثبات أثر مرض القلب على صاحبه وردت في آيات الكتاب العزيز.

1 -

عقوبة الله لأصحاب القلوب التي كفرت بالله بالختم عليها، وزيغ القلوب عن الحق، فقال تعالى عنهم:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 6، 7].

قال البغوي رحمه الله في تفسيره لمعنى الختم على القلوب: "فقال: {خَتَمَ اللَّهُ}: طبع الله {عَلَى قُلُوبِهِمْ} فلا تعي خيرًا ولا تفهمه"

(1)

.

وهذا الختم على القلوب عقوبة لهم بسبب منهم، قال تعالى:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5].

ومن آثار مرض النفاق على القلوب تقييدها عن الخير بما يحدث لها من التردد والتذبذب والشك والحيرة والكسل عن الطاعات وكرهها، قال تعالى:{إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة: 45]. والريب هو الشك، وهو من أثر أمراض النفاق على القلوب، فيتولد منه أثره على القلب بالتردد والتذبذب والكسل عن الطاعة وكرهها، فقال تعالى في بيان أثر النفاق على القلب: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ

(1)

تفسير البغوي (1/ 64 - 65).

ص: 9

3 -

قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 142، 143].

وقال تعالى عن المنافقين: {وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 54].

4 -

وقال تعالى في بيان أثر مرض النفاق على القلب وأن الله سبحانه وتعالى لا يمكِّن صاحبه من العمل، بل يقعده عنه عقوبةً له على ما في قلبه من مرض:{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46].

وإذا وجد العبد أنه يثبَّط عن الطاعات، ويحال بينه وبينها، فليفتِّش عن مرض في قلبه.

5 -

أثر الذنوب على القلب في تغطيته وحجبه عن رؤية الحق، كما في قول الله تعالى:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطفِّفين: 14].

أثبت الله تعالى أن الذنوب تغطي على القلوب، فتحجبها عن رؤية الحق فلا تقبله.

ص: 10

كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ

(1)

فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ

(2)

قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطفِّفين: 14]»

(3)

.

فإذا غطت الذنوب القلب عمي عن رؤية الحق وانطمست بصيرته، كما قال تعالى:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].

ثالثاً: وقد ورد في السنة ما يبين مكانة عمل القلب وأثره على صاحبه، ودونك إشارة لذلك:

1 -

أثر عمل القلب على صلاح الجسد أو فساده، ويدل عليه ما رواه النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: « .. أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ

(1)

أي نُقِطَ نقطة في قلبه.

ينظر: الصحاح (1/ 269)، النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 114) لابن الأثير، مادة (نكت).

(2)

وفي أكثر روايات الحديث: "صُقِلَ" بالصاد، والسقل والصقل بمعنى واحد، أي: جلاه ونظفه وصفاه وذهب عنه أثر الذنب.

ينظر: الصحاح (5/ 1744) مادة (صقل)، مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 1622)، تحفة الأحوذي (9/ 178) للمباركفوري، دار الكتب العلمية بيروت.

(3)

أخرجه أحمد (13/ 333) ح (7952)، والترمذي واللفظ له (5/ 434) ح (3334) وقال الترمذي:"حديث حسن صحيح"، وابن ماجه (2/ 1418) ح (4244)، وابن حبان في صحيحه (3/ 210) ح (930)، الحاكم في مستدركه (2/ 562) ح (3908) وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 271) ح (1620)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيق المسند (13/ 334) ح (7952):"إسناده قوي".

ص: 11

2 -

كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ»

(1)

.

وفي الحديث إشارة -كما يقول ابن رجب رحمه الله: "إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه، واجتنابه المحرمات واتقاءه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه، فإذا كان قلبه سليمًا، ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يحبه الله، وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه، صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها، وتوقٍ للشبهات حذرًا من الوقوع في المحرمات.

وإن كان القلب فاسدًا، قد استولى عليه اتباع هواه، وطلب ما يحبه، ولو كرهه الله، فسدت حركات الجوارح كلها، وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب اتباع هوى القلب"

(2)

.

3 -

ارتباط التقوى بعمل القلب، يقول صلى الله عليه وسلم:«التَّقْوَى هَاهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ .. الحديث

(3)

.

وذكر النووي في شرحه للحديث أن التقوى إنما تحصل بما في القلب من الأعمال، فيقول رحمه الله:"إن الأعمال الظاهرة لا يحصل بها التقوى، وإنما تحصل بما يقع في القلب من عظمة الله تعالى وخشيته ومراقبته"

(4)

.

4 -

في بيان أثر مرض الكبر على القلب، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» ، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً! قَالَ: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ: بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ»

(5)

.

(1)

أخرجه مسلم (4/ 1987) ح (2564).

(2)

جامع العلوم والحكم لابن رجب (1/ 210).

(3)

أخرجه مسلم (4/ 1986) ح (2564).

(4)

شرح النووي على مسلم (16/ 121).

(5)

أخرجه مسلم (1/ 93) ح (91).

ص: 12

وفي الحديث دليل على أثر آفة الكبر على من تلبس بها، وهو من أخطر أمراض القلوب، ومن أعظم ما يصد القلوب عن الهدى.

ص: 13

‌المطلب الثاني: أهمية عمل القلب

.

وتتضح الدلالة على أهمية عمل القلب من خلال الأمور الآتية:

أولاً: كثرة ذكرها في القرآن العظيم، وقد تقدمت إشارة إلى ذلك.

ثانياً: ويكفي في الدلالة على عظيم مكانة عمل القلب في السنة ماورد في الحديثين الآتيين:

1 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ»

(1)

، فالقلوب وأعمالها هي محل نظر الرب سبحانه وتعالى.

2 -

وقال صلى الله عليه وسلم: « .. أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ» ، فصلاح الجوارح مرتبط بصلاح القلب، وهذا له أثره الكبير على خشوع المؤمن في صلاته.

ثالثاً: تحدث ابن القيم عن أهمية عمل القلب، فقال رحمه الله: "فعمل القلب هو روح العبودية ولبها، فإذا خلا عمل الجوارح منه كان كالجسد الموات بلا روح

ومن تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب، وأنها لا تنفع بدونها، وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وهل يميز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كل واحد منهما من الأعمال التي ميزت بينهما؟! وهل يمكن أحد الدخول في الإسلام إلا بعمل قلبه قبل جوارحه؟! وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم، فهي واجبة في كل وقت؛ ولهذا كان الإيمان واجب القلب على الدوام، والإسلام واجب الجوارح في بعض الأحيان"

(2)

.

(1)

أخرجه مسلم (4/ 1987) ح (2564).

(2)

بدائع الفوائد (3/ 192 - 193).

ص: 14

وأعمال القلوب هي الأصل، وهي فرض على الأعيان باتفاق أهل الإيمان، من تركها بالكلية فهو إما كافر أو منافق، وأعمال الجوارح تابعة ومتممة لأعمال القلوب، فلا تتم إلا بها

(1)

.

‌المطلب الثالث: الآثار العامة لعمل القلب على العبادات، ونجملها في الآتي:

1 -

قبول الله للعمل، وذلك يكون بشرطين:

(1)

ينظر: مجموع الفتاوى (18/ 184 - 185)، بدائع الفوائد (3/ 187 - 188).

ص: 15

أ - مجاهدة النفس على الإخلاص لله تعالى، مما يثمر الحرص على سلامة المقاصد في العبادات من العجب والرياء والسمعة.

ب - مجاهدة النفس على اتباع الهدي النبوي في أداء العبادة والحرص على سلامتها من البدع.

2 -

طهارة القلب من التعلق بغير الله يثمر حضور القلب في العبادة وعدم تشتته في أودية الدنيا، ولايؤدي إلى ضيقه بالعبادة وثقلها عليه؛ لأنه اذا تعلق القلب بالله وحده لا شريك له صفا له قلبه وطهر وصار همه الآخرة، وسلم من التشتت والفتنة التي تضرب بها القلوب المتعلقة بغير الله، فتثبطها عن طاعة الله، كما قال تعالى عن المنافقين:{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46]، وقال صلى الله عليه وسلم:«مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ»

(1)

.

(1)

أخرجه الترمذي (4/ 642) ح (2465)، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (11/ 266) ح (11690)، وذكره الألباني في السلسة الصحيحة (2/ 633) ح (949)، وصححه في صحيح الجامع (2/ 1109) ح (6505).

وأخرجه ابن ماجه (2/ 1375) ح (4105) بلفظ: «مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ» من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 634) ح (950)، وصححه شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن ابن ماجه (5/ 227) ح (4105).

ص: 16

3 -

الحرص على إتقان العبادة وإتمامها، والاجتهاد في الوصول إلى مقام الإحسان في العبادات، كما قال صلى الله عليه وسلم عن مقام الإحسان:«أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»

(1)

.

وهذه المرتبة العظيمة لا تحصل إلا إذا سلم القلب لله تعالى، واستحضر عظمة الله ومراقبته له وعلمه واطلاعه عليه، وجاهد العبد نفسه على إصلاح قلبه، وتنقيته من شوائب العجب والرياء والكبر والحسد، ومن بقية الآفات.

(1)

أخرجه البخاري (1/ 19) ح (50)، ومسلم (1/ 36) ح (8).

ص: 17

‌المطلب الرابع: سبب تخصيص الصلاة بالذكر قبل بقية العبادات:

لأهمية الصلاة ومكانتها العظيمة عند الله تعالى وذلك يتجلى في أمرين:

الأول: كثرة ورود ذكرها في القرآن العظيم

(1)

والسنة الشريفة، وذلك يدل دلالة بينة على مكانتها العظيمة.

الثاني: طريقة فرضيتها، فقد فرضت كل العبادات بواسطة جبريل إلا عبادة الصلاة، فقد فرضت فوق السموات، وكلم الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بدون واسطة وفرضها الله عليه وعلى أمته مباشرة في رحلة الإسراء والمعراج:

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ، وَدُونَ الْبَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ» ، قَالَ:«فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ» ، قَالَ:«فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ» ، قَالَ " ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عليه السلام بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ صلى الله عليه وسلم: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنَ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: َ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ، فَرَحَّبَ بِي، وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عليه السلام، فَقِيلَ: مَنَ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِابْنَيْ الْخَالَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ، صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمَا، فَرَحَّبَا وَدَعَوَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنَ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ صلى الله عليه وسلم، إِذَا هُوَ قَدِ اُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ،

(1)

وهذا لا يحتاج إلى كبير جهد مع وجود البحث الآلي من خلال المكتبة الشاملة أو مصحف الملك فهد رحمه الله ..

ص: 18

ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عليه السلام، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قَالَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِإِدْرِيسَ، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، قَالَ اللهُ عز وجل:{وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57]، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِهَارُونَ صلى الله عليه وسلم، فَرَحَّبَ، وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عليه السلام، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى صلى الله عليه وسلم، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى السِّدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ، وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلَالِ "، قَالَ: " فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللهِ مَا غَشِيَ تَغَيَّرَتْ، فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيَّ مَا أَوْحَى، فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلَاةً، قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ "، قَالَ: " فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ، خَفِّفْ عَلَى أُمَّتِي، فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقُلْتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْسًا، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ "، قَالَ: " فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي تبارك وتعالى، وَبَيْنَ مُوسَى عليه السلام حَتَّى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ صَلَاةٍ عَشْرٌ، فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلَاةً، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ

ص: 19

سَيِّئَةً وَاحِدَةً "، قَالَ: " فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ "، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " فَقُلْتُ: قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ "

(1)

.

(1)

أخرجه البخاري (5/ 52) ح (3887)، ومسلم واللفظ له (1/ 145) ح (162).

ص: 20

المبحث الثاني: نماذج لبعض أعمال القلوب المتعلقة بالخشوع في الصلاة، وفيه تمهيد ومطالب.

التمهيد: الارتباط الوثيق بين عمل القلب وأثره على الخشوع في الصلاة.

المطلب الأول: الإخلاص.

المطلب الثاني: اليقين.

المطلب الثالث: الصبر.

المطلب الرابع: المحبة.

المطلب الخامس: الخوف والخشية.

المطلب السادس: الرجاء.

المطلب السابع: أثر هذه الأعمال القلبية على عبادة الخشوع في الصلاة، وفيه عدة مسائل:

المسألة الأولى: إذا أحب العبد ربه أحب أن يلتقي به في كل وقت.

المسألة الثانية: إذا حقق العبد في قلبه محبة الله أثمر له ذلك محبة القرب منه.

المسألة الثالثة: إذا حقق العبد في قلبه محبة الله أثمر ذلك حياؤه من الله أن ينصرف بوجهه وقلبه عنه في صلاته.

المسألة الرابعة: الشعور بمناجاته لله وأنه مطلع عليه عالم بسره وجهره يسمعه ويراه.

ص: 21

‌المبحث الثاني: ملخص نماذج لبعض أعمال القلوب المتعلقة بالخشوع في الصلاة، وفيه تمهيد مطالب

.

‌التمهيد: الارتباط الوثيق بين عمل القلب وأثره على الخشوع في الصلاة:

عبادة الخشوع في الصلاة، مرتبطة بعمل القلب إرتباطاً وثيقاً، قال تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1 - 2]، وذلك لأن الخشوع يكون في القلب ويظهر أثره على الجوارح عند إقامة الصلاة.

يقول ابن رجب رحمه الله: " وأصل الخشوع هو: لين القلب ورقته وسكونه وخضوعه وانكساره وحرقته فَإِذَا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء؛ لأنها تابعة له، كما قال صلى الله عليه وسلم: "أَلَا إِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ"

(1)

.

فَإِذَا خشع القلب خشع السمع والبصر والرأس والوجه، وسائر الأعضاء وما ينشأ منها حتى الكلام"

(2)

.

وقد نقل الطبري عن الحسن البصري في معنى قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} ، قال:"كان خشوعهم في قلوبهم، فغضوا بذلك البصر، وخفضوا به الجناح"

(3)

.

أي: جعلوا أبصارهم في موضع سجودهم، واستحضروا عظمة الوقوف بين يدي الله، فخفضوا الجناح له من هيبته وتعظيمه في قلوبهم.

ونقل ابن أبي شيبة في مصنفه عن مجاهد رحمه الله قال: "كان ابن الزبير إذا قام في الصلاة كأنه عود

(4)

من الخشوع"، قال مجاهد: وَحُدِّثْتُ أن أبا بكر كان كذلك

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري (1/ 20) ح (52)، ومسلم (3/ 1219) ح (1599).

(2)

الذل والانكسار للعزيز الجبار (290).

(3)

تفسير الطبري (17/ 8).

(4)

أي كأنه عود ثابت لا يتحرك من شدة خشوعه، وذكر ابن عساكر في تاريخه: أن ابن الزبير إذا سجد وقعت العصافير على ظهره كأنه قطعة من جدار من خشوعه رضي الله عنه. ينظر: تاريخ دمشق (28/ 170).

(5)

مصنف ابن أبي شيبة (2/ 125) رقم (7245).

ص: 22

وقال ابن كثير رحمه الله: "والخشوع في الصلاة إنما يحصل بمن فرغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، وحينئذ تكون راحة له وقرة عين"

(1)

.

ولعمل القلب أثر عظيم على خشوع العبد في صلاته، وكما نعلم يقيناً أن القلب إذا صلح صلحت سائر الجوارح كما سبق في الحديث:«أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ» ، وعلى هذا فلا سبيل للخشوع إلا بصلاح القلب، نسأل الله أن يصلح قلوبنا، ومن أكثر الأعمال القلبية أثراً على الخشوع في الصلاة: الإخلاص، واليقين، والصبر، والمحبة، والخوف والرجاء؛ وذلك لأن الخشوع في الصلاة مرتبط بالقلب فلا سبيل إليه إلا بالإخلاص لله تعالى ومجاهدة النفس على ذلك، واليقين بما جاءت به نصوص الكتاب والسنة، والصبر على الاستمرار على حضور القلب في الصلاة واستحضار عظمة الموقف بين يدي الله في الصلاة، وهذه الأعمال القلبية لها أثر بيّن في حصول الخشوع في الصلاة، وهي تختلف في شدة تأثيرها على عبادة الخشوع، وعلى رأسها: محبة الله والخوف منه والخشية والرجاء، ودونك شيء من الخبر باختصار عن هذه الأعمال القلبية بصورة عامة، وفق المطالب الآتية:

المطلب الأول: الإخلاص.

المطلب الثاني: اليقين.

المطلب الثالث: الصبر.

المطلب الرابع: المحبة.

المطلب الخامس: الخوف والخشية.

المطلب السادس: الرجاء.

(1)

تفسير ابن كثير (5/ 461 - 462).

ص: 23

‌المطلب الأول: الإخلاص

(1)

.

تعريفه:

لقد عرف الإخلاص بتعاريف كثيرة متقاربة، ومن أدقها تعريف الغزالي، فيقول رحمه الله عن الإخلاص بأنه:"تجريد قصد التقرب إلى الله عن جميع الشوائب"

(2)

.

وعرفه ابن القيم رحمه الله بمجموعة من التعريفات من أدقها: "إفراد الحق بالقصد في الطاعة، وقيل: تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين، وقيل: الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق، ومن تزين للناس بما ليس فيه سقط من عين الله"

(3)

.

من أدلة الكتاب والسنة على الإخلاص:

لقد جاءت الأدلة الكثيرة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم دالة على هذا العمل القلبي العظيم، ومنها على سبيل المثال:

• قوله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29].

يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله في معنى هذه الآية: "أي: أمركم بالاستقامة في عبادته في محالها، وهي متابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات فيما أخبروا به عن الله تعالى، وما جاءوا به عنه من الشرائع، وبالإخلاص له في عبادته، فإنه تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين: أن يكون صوابًا موافقًا للشريعة، وأن يكون خالصًا من الشرك"

(4)

.

(1)

سيكون التعريف لهذه الأعمال القلبية التعريف الاصطلاحي حرصاً على الاختصار.

(2)

إحياء علوم الدين (4/ 379).

(3)

مدارج السالكين (2/ 91 - 92).

(4)

تفسير ابن كثير (3/ 403).

ص: 24

ويقول السعدي رحمه الله: "أي: قاصدين بذلك وجهه وحده لا شريك له. والدعاء يشمل: دعاء المسألة، ودعاء العبادة، أي: لا تراءوا ولا تقصدوا من الأغراض في دعائكم سوى عبودية الله ورضاه"

(1)

.

• ومن الأدلة على الإخلاص قوله تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 14].

قال السعدي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: "وهذا شامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة، والإخلاص معناه: تخليص القصد لله تعالى في جميع العبادات الواجبة والمستحبة، حقوق الله وحقوق عباده. أي: أخلصوا لله تعالى في كل ما تدينونه به وتتقربون به إليه.

{وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} لذلك، فلا تبالوا بهم، ولا يثنكم ذلك عن دينكم، ولا تأخذكم بالله لومة لائم، فإن الكافرين يكرهون الإخلاص لله وحده غاية الكراهة، كما قال تعالى:{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45] "

(2)

.

• ومن الأدلة على وجوب إخلاص النية لله تعالى في جميع العبادات الظاهرة والباطنة

(3)

قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5].

• ومما ورد في السنة عن عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ

(1)

تفسير السعدي (286).

(2)

تفسير السعدي (734).

(3)

ينظر: فتح القدير للشوكاني (5/ 580)، تفسير السعدي (931).

ص: 25

• وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»

(1)

.

قال ابن رجب رحمه الله: "والنية في كلام العلماء تقع بمعنيين:

أحدهما: بمعنى تمييز العبادات بعضها عن بعض، كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر مثلًا، وتمييز صيام رمضان من صيام غيره، أو تمييز العبادات من العادات، كتمييز الغسل من الجنابة من غسل التبرد والتنظف، ونحو ذلك، وهذه النية هي التي توجد كثيرًا في كلام الفقهاء في كتبهم.

والمعنى الثاني: بمعنى تمييز المقصود بالعمل، وهل هو الله وحده لا شريك له، أم غيره، أم الله وغيره؟ وهذه النية هي التي يتكلم فيها العارفون في كتبهم في كلامهم على الإخلاص وتوابعه، وهي التي توجد كثيرًا في كلام السلف المتقدمين"

(2)

.

• ومما يدل على أن الإخلاص شرط لقبول العمل حديث أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيّ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ، مَا لَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا شَيْءَ لَهُ» ، فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا شَيْءَ لَهُ» ، ثُمَّ قَالَ:«إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ»

(3)

.

• وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَقَدْ ظَنَنْتُ -يَا أَبَا هُرَيْرَةَ- أَنْ لَا يَسْأَلنِي عَنْ هَذَا الحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّل مِنْكَ؛ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ» أَوْ: «نَفْسِهِ»

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري (8/ 140) ح (6689)، ومسلم (3/ 1515) ح (1907).

(2)

جامع العلوم والحكم (1/ 65 - 66).

(3)

أخرجه النسائي (6/ 25) ح (3140)، وجوَّد إسناده ابن حجر في الفتح (6/ 28)، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 118) ح (52)، وقال في صحيح سنن النسائي (2/ 383 - 384) ح (3140):"حسن صحيح".

(4)

أخرجه البخاري كتاب العلم، باب الحرص على الحديث (1/ 31) ح (99).

ص: 26

ودل الحديث على أمور، منها:

- أن الإخلاص في كلمة التوحيد من أعظم أسباب سعادة المؤمن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة

(1)

.

- وفي عون المعبود: "وفي قوله في حديث أبي هريرة: «أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله» سر من أسرار التوحيد، وهو أن الشفاعة إنما تنال بتجريد التوحيد، فمن كان أكمل توحيدًا كان أحرى بالشفاعة"

(2)

.

• عن أبي هريرة رضي الله عنه: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ»

(3)

.

والحديث من أعظم الزواجر عن الرياء والسمعة التي هي من نواقض الإخلاص.

(1)

ينظر: فتح الباري لابن حجر (1/ 194).

(2)

عون المعبود (13/ 56).

(3)

أخرجه مسلم (3/ 1513) ح (1905).

ص: 27

من أقوال العلماء في الإخلاص:

قال الفضيل بن عياض رحمه الله في معنى قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]: "هو أخلصه وأصوبه"، قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ فقال:"إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة"، ثم قرأ قوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]

(1)

.

وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: "إذا أخلص العبد انقطعت عنه كثرة الوساوس والرياء"

(2)

.

وقال ابن القيم رحمه الله: "العمل بغير إخلاص ولا اقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملًا يثقله ولا ينفعه"

(3)

.

(1)

ينظر: حلية الأولياء (8/ 95)، مدارج السالكين (2/ 88 - 89) مع بعض التصرف.

(2)

مدارج السالكين (2/ 92)، البداية والنهاية (14/ 150).

(3)

الفوائد (49).

ص: 28

‌المطلب الثاني: اليقين

.

تعريفه:

يوجد ارتباط وثيق بين معناه في اللغة وفي الاصطلاح، فهو العلم الذي لا شك فيه.

وعرفه الجنيد رحمه الله بقوله: "اليقين هو استقرار العلم الذي لا ينقلب ولا يحول ولا يتغير في القلب"

(1)

.

وعرفه شيخ الإسلام رحمه الله بقوله: "أما اليقين فهو: طمأنينة القلب، واستقرار العلم فيه"

(2)

.

من أدلة الكتاب والسنة على اليقين:

لقد اعتنى القرآن الكريم بهذا العمل القلبي العظيم، فذكر اليقين في آيات كثيرة، ومن ذلك:

• جعله الله من صفات عباده المتقين، فقال تعالى:{وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4].

قال السعدي رحمه الله: "والآخرة اسم لما يكون بعد الموت، وخصه بالذكر بعد العموم؛ لأن الإيمان باليوم الآخر أحد أركان الإيمان، ولأنه أعظم باعث على الرغبة والرهبة والعمل، واليقين: هو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك، الموجب للعمل"

(3)

.

• وقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].

(1)

مدارج السالكين (2/ 375).

(2)

مجموع الفتاوى (3/ 329).

(3)

تفسير السعدي (41).

ص: 29

وفي تفسير السعدي لقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} : "أي: أفيطلبون بتوليهم وإعراضهم عنك حكم الجاهلية، وهو كل حكم خالف ما أنزل الله على رسوله؟!

فلا ثَمَّ إلا حكم الله ورسوله أو حكم الجاهلية، فمن أعرض عن الأول ابتلي بالثاني المبني على الجهل والظلم والغي، ولهذا أضافه الله للجاهلية، وأما حكم الله تعالى فمبني على العلم، والعدل والقسط، والنور والهدى، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} فالموقن هو الذي يعرف الفرق بين الحكمين ويميز بإيقانه ما في حكم الله من الحسن والبهاء، وأنه يتعين عقلًا وشرعًا اتباعه. واليقين هو: العلم التام الموجب للعمل"

(1)

.

• وقال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 60].

قال الطبري رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: "يقول تعالى ذكره: {فَاصْبِرْ} يا محمد لما ينالك من أذاهم، وبلِّغهم رسالة ربك، فإن وعد الله الذي وعدك من النصر عليهم والظفر بهم وتمكينك وتمكين أصحابك وتُبَّاعك في الأرض حقّ، {وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} يقول: ولا يستخفنّ حلمك ورأيك هؤلاء المشركون بالله، الذين لا يوقنون بالمعاد، ولا يصدّقون بالبعث بعد الممات، فيثبطوك عن أمر الله والنفوذ لما كلَّفك من تبليغهم رسالته"

(2)

.

(1)

تفسير السعدي (235).

(2)

تفسير الطبري (20/ 120).

ص: 30

• وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].

ومن هذه الآية استنبط شيخ الإسلام رحمه الله أن الإمامة في الدين لا تنال إلا بالصبر واليقين

(1)

.

• وقال تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 2].

قال السعدي رحمه الله: "أي: {هَذَا} القرآن الكريم والذكر الحكيم {بَصَائِرُ لِلنَّاسِ} أي: يحصل به التبصرة في جميع الأمور للناس، فيحصل به الانتفاع للمؤمنين، والهدى والرحمة. {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} فيهتدون به إلى الصراط المستقيم في أصول الدين وفروعه، ويحصل به الخير والسرور والسعادة في الدنيا والآخرة، وهي الرحمة؛ فتزكو به نفوسهم، وتزداد به عقولهم، ويزيد به إيمانهم ويقينهم، وتقوم به الحجة على من أصر وعاند"

(2)

.

• ومما ورد في السنة عن اليقين حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ» .

دل هذا الحديث على أنَّ من شروط كلمة التوحيد اليقينَ.

• وعن شَدَّاد بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ» ، قَالَ: «وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَمَنْ

(1)

ينظر: مجموع الفتاوى (3/ 358).

(2)

تفسير السعدي (777).

ص: 31

• قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ»

(1)

.

دل هذا الحديث على أن من شروط أثر سيد الاستغفار على صاحبه أن يقوله بيقين.

من أقوال العلماء في اليقين:

عن سفيان الثوري رحمه الله قال: "لو أن اليقين، استقر في القلب كما ينبغي لطار فرحًا وحزنًا وشوقًا إلى الجنة، أو خوفًا من النار"

(2)

.

وقال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله: "حرام على قلب أن يشم رائحة اليقين وفيه سكون إلى غير الله"

(3)

.

وقال ابن القيم رحمه الله: "فإذا باشر القلب اليقين امتلأ نورًا وانتفى عنه كل ريب وشك، وعوفي من أمراضه القاتلة، وامتلأ شكرًا لله وذكرًا له ومحبة وخوفًا"

(4)

.

ويقول أيضًا: "فالعلم أول درجات اليقين، ولهذا قيل: العلم يستعملك، واليقين يحملك، فاليقين أفضل مواهب الرب لعبده، ولا تثبت قدم الرضا إلا على درجة اليقين، قال تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11]، قال ابن مسعود رضي الله عنه:(هو العبد تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من الله، فيرضى ويسلم)

(5)

، فلهذا لم يحصل له هداية القلب والرضا والتسليم إلا بيقينه"

(6)

.

(1)

أخرجه البخاري (8/ 67) ح (6306).

(2)

حلية الأولياء (7/ 17).

(3)

مفتاح دار السعادة (1/ 154).

(4)

مفتاح دار السعادة (1/ 154).

(5)

نسبه ابن جرير إلى علقمة، ينظر: تفسير الطبري (23/ 12).

(6)

مفتاح دار السعادة (1/ 155).

ص: 32

‌المطلب الثالث: الصبر

.

تعريفه:

من أدق تعاريفه تعريف الراغب رحمه الله بقوله: "الصَّبْرُ: حبس النّفس على ما يقتضيه العقل والشرع"

(1)

.

والذي يظهر لي أن تعريف الراغب تعريف دقيق؛ لأنه يشمل كل أنواع الصبر، فيكون حبسًا للنفس على الطاعة وترك المعصية، وعلى القدر المؤلم، والله أعلم.

وقيل: هو: "حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش"

(2)

. وهذا التعريف يصلح لنوع من الصبر وهو الصبر على القدر المؤلم

(3)

.

ويقول ابن القيم رحمه الله عن حقيقة الصبر وفائدته: "خلق فاضل من أخلاق النفس، يمتنع به من فعل ما لا يحسن ولا يجمل، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها وقوام أمرها"

(4)

.

من أدلة الكتاب والسنة على الصبر:

قال الإمام أحمد رحمه الله: "ذكر الله سبحانه الصبر في القرآن في تسعين موضعًا"

(5)

.

وذكر ابن القيم أن الصبر مذكور في القرآن على ستة عشر نوعًا، وذكرها رحمه الله مع ذكر شواهدها، وأذكر منها على سبيل المثال، الآتي

(6)

:

(1)

المفردات في غريب القرآن (474).

(2)

مدارج السالكين (2/ 155).

(3)

ينظر: أعمال القلوب للسبت (2/ 211، 212).

(4)

عدة الصابرين (16).

(5)

نقله ابن القيم عن الإمام أحمد في عدة الصابرين (71)، مدارج السالكين (2/ 151).

(6)

ينظر: مدارج السالكين (2/ 151 - 152).

ص: 33

• الأمر به، نحو قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].

• النهي عن ضده، كقوله:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف: 35]، وقوله:{فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} [الأنفال: 15]، فإن تولية الأدبار: ترك للصبر والمصابرة.

• الثناء على أهله، كقوله تعالى:{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]، وهو كثير في القرآن.

• محبته سبحانه وتعالى لهم، كقوله:{وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146].

• معيته سبحانه وتعالى لهم، وهي معية خاصة، تتضمن: حفظهم ونصرهم، وتأييدهم كقوله:{وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]، وهي ليست معية عامة، التي تتضمن: معية العلم والإحاطة.

• الجزاء منه سبحانه وتعالى لهم بغير حساب، كقوله تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].

وورد الصبر في السنة في عدة أحاديث منها:

• عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ» الحديث

(1)

.

قال النووي رحمه الله في شرحه لهذا الحديث: "والمراد: أن الصبر محمود ولا يزال صاحبه مستضيئًا مهتديًا"

(2)

.

(1)

أخرجه مسلم (1/ 203) ح (223).

(2)

شرح النووي على مسلم (3/ 101).

ص: 34

• وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه: إِنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ:«مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ»

(1)

.

دل الحديث على فضيلة الصبر ومكانته العظيمة، ومن يعالج نفسه على الصبر ويعودها عليه، فإن الله يمكنه من نفسه حتى تنقاد له، وأن الصبر أفضل ما يعطاه المرء لكونه غيرَ محدودٍ جزاؤُه، فيوفيه الله أجره بغير حساب

(2)

، كما قال تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].

من أقوال العلماء في الصبر:

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "وجدنا خير عيشنا بالصبر"

(3)

.

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس بار الجسم"، ثم رفع صوته فقال:"ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له"، وقال: "الصبر مطية لا تكبو

(4)

"

(5)

.

وقال الحسن رحمه الله: "الصبر كنز من كنوز الخير، لا يعطيه الله إلا لعبد كريم عنده"

(6)

.

(1)

أخرجه البخاري (2/ 122) ح (1469)، ومسلم (2/ 729) ح (1053).

(2)

ينظر: فتح الباري لابن حجر (11/ 304).

(3)

الزهد لأحمد بن حنبل (97)، حلية الأولياء (1/ 50).

(4)

أي: دابة لا تعثر ولا تسقط على الوجه أثناء الحركة.

ينظر: الصحاح (6/ 2471)، مقاييس اللغة (5/ 155)، لسان العرب (15/ 213) مادة (كبا).

(5)

ينظر: الصبر والثواب عليه لابن أبي الدنيا (24)، حلية الأولياء (1/ 76)، وهو بهذا اللفظ في عدة الصابرين (95).

(6)

الصبر والثواب عليه لابن أبي الدنيا (28).

ص: 35

وقال ابن القيم رحمه الله: "وقد أمر الله سبحانه وتعالى في كتابه بالصبر الجميل، والصفح الجميل، والهجر الجميل، فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه ولا معه، والصفح الجميل هو الذي لا عتاب معه، والهجر الجميل هو الذي لا أذى معه"

(1)

.

ويقول أيضًا: "وهو ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على امتحان الله"

(2)

.

(1)

مدارج السالكين (2/ 159).

(2)

مدارج السالكين (2/ 155).

ص: 36

‌المطلب الرابع: المحبة

.

تعريفها:

عرفها النووي رحمه الله بقوله: "المحبة: مواطأة القلب على ما يرضي الرب سبحانه، فيحب ما أحب ويكره ما كره"

(1)

.

وخلاصة القول كما قال ابن القيم رحمه الله: "لا تحد المحبة بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلا خفاء وجفاء، فحدها وجودها، ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة.

وإنما يتكلم الناس في أسبابها، وموجباتها، وعلاماتها، وشواهدها، وثمراتها، وأحكامها، فحدودهم ورسومهم دارت على هذه الستة، وتنوعت بهم العبارات، وكثرت الإشارات، بحسب إدراك الشخص ومقامه وحاله، وملكه للعبارة"

(2)

.

من أدلة الكتاب والسنة على المحبة:

• ذكر سبحانه وتعالى أنه يحب المتقين، ويحب الصابرين، ويحب المتوكلين.

قال تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 76].

وقال تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146].

والآيات في ذلك يصعب حصرها لكثرتها.

• وذكر أيضًا سبحانه وتعالى أنه لا يحب الكافرين، ولا يحب المعتدين، ولا يحب المسرفين، والآيات في ذلك كثيرة، منها قوله تعالى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]، وقوله تعالى وتبارك:

(1)

شرح النووي على مسلم (2/ 14).

(2)

مدارج السالكين (3/ 11).

ص: 37

{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32].

• وجعل سبحانه وتعالى علامة على محبته اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31].

• وذكر سبحانه وتعالى أن المؤمنين أشد حبًّا لله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165].

• وقال سبحانه وتعالى عن نفسه وعن عباده الصالحين: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54].

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ»

(1)

.

دل الحديث على أن محبة الله ورسوله من أعظم أسباب حلاوة الإيمان، وهي جنة معجلة لمن حقق أسبابها.

من أقوال العلماء في المحبة:

وقال ابن القيم رحمه الله: "المحبّة هي حياة القلوب وغذاء الأرواح، وليس للقلب لذّة، ولا نعيم، ولا فلاح، ولا حياة إلّا بها.

وإذا فقدها القلب كان ألمه أعظم من ألم العين إذا فقدت نورها، والأذن إذا فقدت سمعها، والأنف إذا فقد شمّه، واللّسان إذا فقد نطقه، بل فساد القلب إذا خلا من محبّة فاطره وبارئه

(1)

أخرجه البخاري (9/ 20) ح (6941)، ومسلم (1/ 66) ح (43).

ص: 38

وإلهه الحقّ أعظم من فساد البدن إذا خلا من الرّوح، وهذا الأمر لا يصدّق به إلّا من فيه حياة"

(1)

.

وقال أيضًا: "المحبّ الصّادق لا بدّ أن يقارنه أحيانًا فرح بمحبوبه، ويشتدّ فرحه به، ويرى مواقع لطفه به، وبرّه به، وإحسانه إليه، وحسن دفاعه عنه، والتّلطّف في إيصاله المنافع والمسارّ والمبارّ إليه بكلّ طريق، ودفع المضارّ والمكاره عنه بكلّ طريق"

(2)

.

وقال ابن قدامة رحمه الله: "علامة المحبّة كمال الأنس بمناجاة المحبوب، وكمال التّنعّم بالخلوة، وكمال الاستيحاش من كلّ ما ينقض عليه الخلوة، ومتى غلب الحبّ والأنس صارت الخلوة والمناجاة قرّة عين تدفع جميع الهموم، بل يستغرق الحبّ والأنس قلبه"

(3)

.

وقال ابن القيم رحمه الله: "فإن المحب الصادق أحب شيء إليه الخبر عن محبوبه وذكره، كما قال عثمان بن عفان رضي الله عنه:(لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله)

(4)

، وقال بعض العارفين: كيف يشبعون من كلام محبوبهم وهو غاية مطلوبهم؟! "

(5)

.

(1)

الجواب الكافي (1/ 545 - 546).

(2)

مدارج السالكين (2/ 339 - 340).

(3)

مختصر منهاج القاصدين (351) ـ.

(4)

ينظر: حلية الأولياء (7/ 272، 300).

(5)

مدارج السالكين (3/ 291).

ص: 39

‌المطلب الخامس: الخوف والخشية

.

التعريف:

عرفهما الراغب رحمه الله بقوله: "الخَوْف: توقّع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة، كما أنّ الرّجاء والطمع توقّع محبوب عن أمارة مظنونة أو معلومة، ويضادّ الخوف الأمن، ويستعمل ذلك في الأمور الدنيوية والأخروية"

(1)

. أما الخشية فقال عنها: "الخَشْيَة: خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه، ولذلك خصّ العلماء بها في قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] "

(2)

.

وقال الجرجاني رحمه الله: "الخوف: توقع حلول مكروه، أو فوات محبوب"

(3)

.

ويقول ابن القيم رحمه الله عن معنى الخشية: "والخشية أخص من الخوف، فإن الخشية للعلماء بالله، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، فهي خوف مقرون بمعرفة"

(4)

.

(1)

المفردات (303).

(2)

المفردات (283).

(3)

التعريفات (101).

(4)

مدارج السالكين (1/ 508).

ص: 40

من أدلة الكتاب والسنة على الخوف والخشية:

تنوعت نصوص القرآن الكريم في ذكر الخوف والخشية، فمن ذلك:

1 -

أمر الله به، كما قال تعالى:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]،، وقال تعالى:{فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44].

2 -

وتارة يجعل الله الخوف والخشية من صفات أوليائه وعباده المتقين، كما في قوله تعالى:{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد: 19 - 21].

3 -

ويذكر الله سبحانه وتعالى أنه بسبب خوفهم منه أدخلهم الجنة كما في قوله تعالى: {(45) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [الرحمن: 46]، وكما في قوله تعالى أيضًا:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40، 41].

4 -

وتارة يذكر أن العاقبة في الدنيا لهم كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 14].

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ» وذكرهم، ومنهم:«رَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ إِلَى نَفْسِهَا، قَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ»

(1)

.

(1)

أخرجه البخاري واللفظ له (1/ 133) ح (660)، ومسلم (2/ 715) ح (1031).

ص: 41

ومن أعظم ما يحجز العبد عن المعصية خوفه من الله؛ لما يترتب على ذلك من العقوبة في الآخرة، كما قال تعالى:{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام: 15].

من أقوال العلماء في الخوف والخشية:

عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان يمسك لسانه ويقول: "هذا الذي أوردني الموارد"، وقال:"يا ليتني كنت شجرة تعضد ثم تؤكل". وكذلك قال طلحة وأبو الدرداء وأبو ذر رضي الله عنهم

(1)

.

وقال عمر رضي الله عنه: "لو نادى منادي من السماء: أيها الناس، إنكم داخلون الجنة كلكم إلا رجلًا واحدًا، لخفت أن أكون أنا هو"

(2)

.

وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة رضي الله عنه: رأيت عمر بن الخطاب أخذ تبنة من الأرض فقال: "يا ليتني هذه التبنة، ليتني لم أكن شيئًا، ليت أمي لم تلدني، ليتني كنت نسيًا منسيًّا"

(3)

.

وقال ابن عمر رضي الله عنهما: "كان رأس عمر على فخذي في مرضه الذي مات فيه، فقال لي: ضع رأسي، قال: فوضعته على الأرض، فقال: ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربي"

(4)

.

(1)

ينظر هذه الآثار في: حلية الأولياء (1/ 33، 2/ 236)، إحياء علوم الدين (3/ 111)، مختصر منهاج القاصدين (313)، البداية والنهاية (1/ 95).

(2)

حلية الأولياء (1/ 53).

(3)

شرح السنة (14/ 373)، وينظر أيضًا: سير أعلام النبلاء (الخلفاء الراشدون/ 83).

(4)

حلية الأولياء (1/ 52)، شرح السنة (14/ 373).

ص: 42

وقال المسور بن مخرمة رضي الله عنه: لما طعن عمر قال: "لو أن لي طلاع الأرض

(1)

ذهبًا، لافتديت به من عذاب الله قبل أن أراه"

(2)

.

وبكى أبو هريرة رضي الله عنه في مرضه، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: "أما إني لا أبكي على دنياكم هذه، ولكن أبكي على بُعدِ سفري وقلة زادي، وإني أمسيت في صعود على جنة أو نار، لا أدري إلى أيتهما يؤخذ بي"

(3)

.

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه قال به هكذا فطار"

(4)

.

وقال الحسن أيضًا: "لقد مضى بين أيديكم أقوام لو أن أحدهم أنفق عدد هذا الحصى، لخشي أن لا ينجو من عظم ذلك اليوم"

(5)

.

وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: "ما فارق الخوف قلبًا إلا خرب"

(6)

.

وقال ابن القيم رحمه الله: "والخوف المحمود الصادق: ما حال بين صاحبه وبين محارم الله عز وجل، فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط"

(7)

.

قال أبو عثمان رحمه الله: "صِدقُ الخوف هو: الورع عن الآثام ظاهرًا وباطنًا"

(8)

.

(1)

قال الأصمعي: "طلاع الأرض: ملؤها". نقله عنه الجوهري في الصحاح (3/ 1254).

(2)

حلية الأولياء (1/ 52)، شرح السنة (14/ 373).

(3)

حلية الأولياء (1/ 383)، شرح السنة (14/ 373).

(4)

البخاري (8/ 68)، والترمذي واللفظ له (4/ 658).

(5)

شرح السنة (14/ 374).

(6)

إحياء علوم الدين (4/ 162)، مدارج السالكين (1/ 509).

(7)

مدارج السالكين (1/ 510).

(8)

مدارج السالكين (1/ 510).

ص: 43

ويقول ابن القيم: وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: "الخوف المحمود ما حجزك عن محارم الله"

(1)

.

(1)

مدارج السالكين (1/ 511).

ص: 44

‌المطلب السادس: الرجاء

.

تعريفه:

عرفه ابن القيم رحمه الله بقوله: "هو النظر إلى سعة رحمة الله"

(1)

.

إذن، الرجاء الطمع في رحمة الله والنظر إلى سعتها.

من أدلة الكتاب والسنة على الرجاء:

• أخبر سبحانه وتعالى عن سعة رحمته فقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156]، وقال تعالى:{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7].

• وقال سبحانه وتعالى مخاطبًا من أسرف على نفسه بالمعاصي: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].

دلت الآيات على سعة رحمة الله تعالى، مما يفتح باب الرجاء للعبد، ويحدوه إلى التوبة من ذنوبه، وعليه أن يحذر من اليأس والقنوط من رحمة الله.

وعن أَنَس بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى: يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ

(1)

مدارج السالكين (2/ 37).

ص: 45

ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ

(1)

خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً»

(2)

.

وعنه رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ -أَوْ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ- لَوْ أَخْطَأْتُمْ حَتَّى تَمْلَأَ خَطَايَاكُمْ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتُمُ اللهَ لَغَفَرَ لَكُمْ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ -أَوْ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ-، لَوْ لَمْ تُخْطِئُوا لَجَاءَ اللهُ بِقَوْمٍ يُخْطِئُونَ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُونَ اللهَ، فَيَغْفِرُ لَهُمْ»

(3)

.

دل الحديثان على رحمة الله الواسعة بعباده المذنبين إذا أقبلوا عليه تائبين مستغفرين.

من أقوال العلماء في الرجاء:

قال الغزالي رحمه الله: "الرجاء والخوف جناحان بهما يطير المقربون إلى كل مقام محمود، ومطيتان بهما يقطع من طرق الآخرة كل عقبة كؤود"

(4)

.

وقال ابن القيم عليه رحمة الله: "الرجاء حادٍ يحدو القلوب إلى بلاد المحبوب، وهو الله والدار الآخرة، ويطيب لها السير"

(5)

.

(1)

"أي: بما يقارب ملأها" النهاية في غريب الحديث (4/ 34) مادة (قرب).

(2)

أخرجه أحمد (35/ 375) ح (21472) عن أبي ذر رضي الله عنه، والترمذي واللفظ له (5/ 548) ح (3540) من حديث أنس رضي الله عنه وقال:"هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، والحاكم بلفظ مقارب عن أبي ذر رضي الله عنه (4/ 269) ح (7605) وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 250) ح (127)، وحسنه محقق المسند (35/ 375) ح (21472).

(3)

أخرجه أحمد في المسند (21/ 146) ح (13493)، ومسند أبي يعلى (7/ 226) ح (4226)، وقال في مجمع الزوائد (10/ 215) ح (17624):"رواه أحمد، وأبو يعلى، ورجاله ثقات"، وقال محقق المسند (21/ 146) ح (13493):"صحيح لغيره".

(4)

إحياء علوم الدين (4/ 142).

(5)

مدارج السالكين (2/ 36).

ص: 46

"وقيل: هو الاستبشار بجود وفضل الرب تبارك وتعالى، والارتياح لمطالعة كرمه سبحانه"

(1)

.

وقال شاه الكرماني رحمه الله: "علامة صحة الرجاء حسن الطاعة"

(2)

.

وقال أبو علي الروذباري عليه رحمة الله: "الخوف والرجاء كجناحي الطائر إذا استويا استوى الطير وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت"

(3)

.

(1)

مدارج السالكين (2/ 36).

(2)

مدارج السالكين (2/ 37).

(3)

مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (17/ 89) مدارج السالكين (2/ 37).

ص: 47

‌المطلب السابع: أثر هذه الأعمال القلبية على عبادة الخشوع في الصلاة، وفيه عدة مسائل:

‌المسألة الأولى: إذا أحب العبد ربه أحب أن يلتقي به في كل وقت، وقدر الموقف بين يديه فهاب أن ينصرف عنه بقلبه ووجهه

.

فإذا أحب العبد ربه أحب لقاءه في كل وقت، وقدّر موقفه بين يديه في صلاته حق قدره، وأعد نفسه وهيئها لذلك الموقف العظيم.

ومن أعظم المواقف التي يقف فيها العبد بين يدي ربه في هذه الدنيا موقفه في الصلاة، ولذا فهو يحب ربه ويحب لقاءه، وهو أيضاً يهاب من أن ينصرف عنه في صلاته بوجهه وقلبه، فيزيد ذلك من خشوعه، فيقبل على الله في صلاته بقلبه ووجهه، ويجاهد نفسه في ذلك لينال تلك الجائزة العظيمة، ويفوز الفوز العظيم بجنة النعيم، يقول صلى الله عليه وسلم:" مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ"

(1)

.

لأنه إذا أحب العبد ربه أحب لقاءه في صلاته، واستشعر عظمة الموقف بين يديه في أعظم مقام يقفه في هذه الحياة الدنيا وهو موقفه في الصلاة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:«الصَّلَاةُ قُرْبَانٌ، إِنَّمَا مَثَلُ الصَّلَاةِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَرَادَ مِنْ إِمَامٍ حَاجَةً فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً، إِذَا قَامَ الرَّجُلُ إِلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ فِي مَقَامٍ عَظِيمٍ، وَاقِفٌ فِيهِ عَلَى اللَّهِ يُنَاجِيهِ وَيَرْضَاهُ، قَائِمًا بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ، يَسْمَعُ لِقِيلِهِ، وَيَرَى عَمَلَهُ، وَيَعْلَمُ مَا يُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ، فَلْيُقْبِلْ عَلَى اللَّهِ بِقَلْبِهِ وَجَسَدِهِ، ثُمَّ لِيَرْمِ بِبَصَرِهِ قَصْدَ وَجْهِهِ خَاشِعًا، أَوْ لِيَخْفِضْهُ فَهُوَ أَقَلُّ لِسَهْوِهِ، وَلَا يَلْتَفِتْ وَلَا يُحَرِّكْ شَيْئًا بِيَدِهِ وَلَا بِرِجْلَيْهِ، وَلَا شَيْءٍ مِنْ جَوَارِحِهِ حَتَّى يَفْرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، وَلْيُبْشِرْ مَنْ فَعَلَ هَذَا، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ»

(2)

.

وعن مجاهد رحمه الله، قال في معنى قوله تعالى:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]: "فمن القنوت الركود والخشوع، وغض البصر، وخفض الجناح من رهبة الله عز وجل،

(1)

أخرجه مسلم (1/ 209) ح (234).

(2)

تعظيم قدر الصلاة لمحمد بن نصر المروزي (1/ 185).

ص: 48

كان إذا قام أحدهم يصلي يهاب الرحمن أن يشذ بصره إلى شيء، أو يلتفت، أو يقلب الحصى، أو يعبث بشيء، أو يحدث نفسه من شأن الدنيا إلا ناسياً، ما دام في صلاته "

(1)

.

ونقل شيخ الإسلام عن مجاهد قوله أيضاً في معنى الآية: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2]: "غض البصر وخفض الجناح، وكان الرجل من العلماء إذا قام إلى الصلاة يهاب الرحمن أن يشذ بصره، أو أن يحدّث نفسه بشيء من أمر الدنيا"

(2)

.

ولأجل هذا يقبل العبد على الله بقلبه ووجهه، فيهاب أن ينصرف عن ربه وهو واقف بين يديه في صلاته، لأنه يعبد الله كأنه يراه أمامه بعين رأسه، فان لم يكن يراه بعينه في هذه الدنيا، لكنه على يقين تام أن الله يراه، فيحضر قلبه في هذا الموقف العظيم، ويزيد خشوع قلبه الذي يظهر أثره على جوارحه في عبادة الصلاة، وذلك لأن القلب قد امتلأ بمحبة الله والخوف منه وخشيته فهاب أن ينصرف بقلبه ووجهه عن ربه وقد التقى بمن يحبه ويجله ويقدره في هذا الموقف العظيم.

‌المسألة الثانية: إذا حقق العبد في قلبه محبة الله أحب لقاءه كما سبق ويعد نفسه لذلك، ويترقى به الحال إلى أعلى من هذا إلى محبة القرب منه

.

واستشعر بقلبه عظمة القرب من الله، لأن من أعظم مواقف القرب من الله في الدنيا، موقف العبد في الصلاة وبالأخص في السجود

(3)

قال تعالى:

{وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه الله أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ»

(4)

.

وإذا وقر في قلب العبد أنه في صلاته شديد القرب من الله، وفي سجوده أقرب ما يكون من ربه، فحينئذ يحضر القلب ويخشع، وتخشع الجوارح وتخضع، وإن العبد المحب الصادق في حبه لربه يسارع ويسابق إلى الصلاة أشد المسارعة والمسابقة، لأنه يلتذذ بقربه من ربه، ويأنس

(1)

تعظيم قدر الصلاة لمحمد بن نصر المروزي (1/ 188).

(2)

مجموع الفتاوى (7/ 28).

(3)

وسيأتي مزيد تفصيل لركن السجود.

(4)

أخرجه مسلم (1/ 350) ح (482).

ص: 49

به فتقر عينه به في صلاته، فيجد لذة الصلاة وحلاوتها، ويجد جنة معجلة قبل جنة الآخرة، يسنتشق فيها عبير القرب من الله، ويستمتع بلذة المناجاة، فالصلاة سلوة قلب المؤمن، وملاذ آمن ذو ظلال وارفة يؤي إليه، ليتقي هجير الحياة الدنيا، ويتفيء تلك الظلال الوارفة، يمتّع نفسه في تلك الحدائق الغناء بين آية تتلى وذكر يردد، فيجد المؤمن قرة عينه وراحة نفسه بين يدي ربه قائماً راكعاً ساجداً، ويزداد القرب من الله والتلذذ به أكثر وأكثر في أعظم لحظة للقرب من الله في سجود العبد بين يدي ربه، إنه موقف القرب من الله الذي تعجز العبارات عن التعبير عنه.

‌المسألة الثالثة: إذا حقق العبد في قلبه محبة الله والخشية منه، وتيقن أنه يناجي ربه، أثمر ذلك حياؤه من الله أن ينصرف بوجهه وقلبه عنه في صلاته

.

وإذا حقق العبد محبة الله في قلبه، وازدادت خشيته لله وتيقن أنه في مناجاة مع الله أثمر له ذلك الحياء من أن ينصرف عن ربه بقلبه أو بوجهه، وشعر بقرب الله منه في صلاته، فشعر بمعيته الخاصة له في صلاته فزاد خشوعه وإقباله على ربه بقلبه ووجهه، وشعر بلذة المناجاة لربه، وعظمة الموقف بين يديه فتأدب بأدب المناجاة لربه، فيشعر بقلبه عند تكبيرة الإحرام وفي بقية صلاته بأنه يناجي ربه، وأن الله قد نصب وجهه الكريم سبحانه وتعالى لوجه المصلي، فلا ينبغي له أن يلتفت عن ربه بلقبه ووجهه، بل عليه أن يستحي من ربه أن ينصرف عنه وهو يناجيه.

وبوّب ابن خزيمة فقال رحمه الله: "باب الأمر بالخشوع في الصلاة، إذ المصلي يناجي ربه، والمناجي ربه يجب عليه أن يفرغ قلبه لمناجاة خالقه عز وجل، ولا يشغل قلبه التعلق بشيء من أمور الدنيا يشغله عن مناجاة خالقه"

(1)

.

ومن الأحاديث في ذلك:

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى نُخَامَةً فِي القِبْلَةِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُئِيَ فِي وَجْهِهِ، فَقَامَ فَحَكَّهُ بِيَدِهِ، فَقَالَ:«إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلَاتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ» الحديث

(2)

.

(1)

صحيح ابن خزيمة (1/ 270).

(2)

أخرجه البخاري (1/ 90) ح (405)، ومسلم (1/ 390) ح (551).

ص: 50

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ، فَلَمَّا سَلَّمَ نَادَى رَجُلًا كَانَ فِي آخِرِ الصُّفُوفِ، فَقَالَ:«يَا فُلَانُ، أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ؟! أَلَا تَنْظُرُ كَيْفَ تُصَلِّي؟! إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي إِنَّمَا يَقُومُ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلْيَنْظُرْ كَيْفَ يُنَاجِيهِ، إِنَّكُمْ تَرَوْنَ أَنِّي لَا أَرَاكُمْ، إِنِّي وَاللَّهِ لَأَرَى مِنْ خَلْفِ ظَهْرِي كَمَا أَرَى مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ»

(1)

.

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى بُصَاقًا فِي جِدَارِ القِبْلَةِ، فَحَكَّهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ:«إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي، فَلَا يَبْصُقُ قِبَلَ وَجْهِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ إِذَا صَلَّى»

(2)

.

ومن حديث الحارث الأشعري رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: «فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ» الحديث

(3)

.

قال ابن رجب: "والالتفات نوعان:

أحدهما: التفات القلب إلى غير الصلاة ومتعلقاتها، وهذا يخل بالخشوع فيها.

والثاني: التفات الوجه بالنظر إلى غير ما فيه مصلحة الصلاة"

(4)

.

وكثير يقع الخلل من المصلين في النوع الأول من الالتفات وهو التفات القلب عن الله، وهو الذي يخل بالخشوع، أما النوع الثاني، وهو التفات الوجه فقليل ما يقع.

وعلى هذا فلا بد من مجاهدة القلب على الحضور في الصلاة وعدم التفاته عن الله، قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].

(1)

أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (1/ 271) ح (474)، والحاكم في المستدرك (1/ 361) ح (861) وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 353) ح (541).

(2)

أخرجه البخاري (1/ 90) ح (406)، ومسلم (1/ 388) ح (547).

(3)

أخرجه أحمد في المسند (28/ 405) ح (17170)، والترمذي واللفظ له (5/ 148) ح (2863) وقال:"حسن صحيح غريب"، وابن خزيمة في صحيحه (2/ 914) ح (1895)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 358) ح (552)، وقال محقق المسند شعيب الأرناؤوط (28/ 406) ح (552)"حديث صحيح".

(4)

فتح الباري (6/ 447) لابن رجب.

ص: 51

وقال

(1)

أيضاً رحمه الله معلقًا على هذه الأحاديث: "وكأن مقصود النبي صلى الله عليه وسلم بذكر هذا: أن يستشعر المصلي في صلاته قرب الله منه، وأنه بمرأى منه ومسمع، وأنه مناج له، وأنه يسمع كلامه ويرد عليه جواب مناجاته له، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، قَالَ اللهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي»

(2)

وذكر رده عليه في آيات الفاتحة إلى آخرها.

فمن استشعر هذا في صلاته أوجب له ذلك حضور قلبه بين يدي ربه، وخشوعه له، وتأدبه في وقوفه بين يديه، فلا يلتفت إلى غيره بقلبه ولا ببدنه، ولا يعبث وهو واقف بين يديه، ولا يبصق أمامه، فيصير في عبادته في مقام الإحسان، يعبد الله كأنه يراه"

(3)

.

وأحب هنا أن أنقل كلاماً عظيماً للإمام ابن القيم- فإني أنقله بطوله لأهميته- فيقول رحمه الله: " الالتفات المنهي عنه في الصلاة قسمان:

(أحدهما): التفات القلب عن الله عز وجل إلى غير الله تعالى.

(الثاني): التفات البصر وكلاهما منهي عنه.

ولا يزال الله مقبلاً على عبده ما دام العبد مقبلاً على صلاته، فإذا التفت بقلبه أو بصره أعرض الله تعالى عنه.

وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التفات الرجل في صلاته فقال: «هُوَ اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ العَبْدِ»

(4)

وفي أثر يقول الله تعالى: (إلى خير مني، إلى خير مني؟)

(5)

ومثل من يلتفت في صلاته ببصره أو بقلبه أو مثل رجل قد استدعاه السلطان فأوقفه بين يديه وأقبل يناديه ويخاطبه، وهو في خلال ذلك يلتفت عن السلطان يميناً وشمالاً وقد انصرف قلبه عن السلطان فلا يفهم ما يخاطبه به، لأن قلبه ليس حاضراً معه، فما ظن هذا الرجل أن يفعل

(1)

ابن رجب.

(2)

أخرجه مسلم (1/ 296) ح (395).

(3)

فتح الباري لابن رجب (3/ 110 - 111).

(4)

أخرجه البخاري (1/ 150) ح (751).

(5)

وهذا الأثر لا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ينظر: ضعيف الترغيب والترهيب (1/ 154) ح (289).

ص: 52

به السلطان؟ أفليس أقل المراتب في حقه أن ينصرف من بين يديه ممقوتاً مبعداً قد سقط من عينيه؟

فهذا المصلي لا يستوي والحاضر القلب المقبل على الله تعالى في صلاته الذي قد أشعر قلبه عظمة من هو واقف بين يديه فامتلأ قلبه من هيبته، وذلت عنقه له، واستحى من ربه تعالى أن يقبل على غيره أو يلتفت عنه.

وبين صلاتيهما كما قال حسان عطية: إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة وأن ما بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض، وذلك أن أحدهما مقبل على الله عز وجل والآخر ساه غافل.

فإذا أقبل العبد على مخلوق مثله وبينه حجاب لم يكن إقبالا ولا تقريبا، فما الظن بالخالق عز وجل؟ وإذا أقبل على الخالق عز وجل وبينه وبينه حجاب الشهوات والوساوس والنفس مشغوفة بها ملأى منها فكيف يكون ذلك إقبالاً وقد ألهته الوساوس والأفكار وذهبت به كل مذهب؟ والعبد إذا قام في الصلاة غار الشيطان منه، فإنه قد قام في أعظم مقام وأقربه وأغيظه للشيطان وأشده عليه، فهو يحرص ويجتهد أن لا يقيمه فيه، بل لا يزال به يعده ويمنيه وينسيه ويجلب عليه بخيله ورجله حتى يهون عليه شأن الصلاة فيتهاون بها فيتركها.

فإن عجز عن ذلك منه وعصاه العبد وقام في ذلك المقام أقبل عدو الله تعالى حتى يخطر بينه وبين نفسه، ويحول بينه وبين قلبه، فيذكره في الصلاة ما لم يذكر قبل دخوله فيها، حتى ربما كان قد نسي شئ والحاجة وأيس منها فيذكره إياها في الصلاة ليشغل قلبه بها ويأخذه عن الله عز وجل، فيقوم فيها بلا قلب، فلا ينال من إقبال الله تعالى وكرامته وقربه ما يناله المقبل على ربه عز وجل الحاضر بقلبه في صلاته، فينصرف من صلاته مثل ما دخل فيها بخطاياه وذنوبه وأثقاله لم تخف عنه بالصلاة، فإن الصلاة إنما تكفر سيئات من أدى حقها، وأكمل خشوعها، ووقف بين يدي الله تعالى بقلبه وقابله.

فهذا إذا انصرف منها وجد خفة من نفسه، وأحس بأثقال قد وضعت عنه.

فوجد نشاطاً وراحة وروحاً، حتى يتمنى أنه لم يكن خرج منها، لأنها قرة عينيه ونعيم روحه وجنة قلبه ومستراحه في الدنيا، فلا يزال كأنه في سجن وضيق حتى يدخل فيها فيستريح بها لا منها.

ص: 53

فالمحبون يقولون: نصلي فنستريح بصلاتنا كما قال إمامهم وقدوتهم ونبيهم: "يا بلال أرحنا بالصلاة" ولم يقل أرحنا منها، وقال صلى الله عليه وسلم «جعلت قرة عيني في الصلاة» فمن جعلت قرة عينه في الصلاة كيف تقر عينه صلى الله عليه وسلم بدونها، وكيف يطيق الصبر عنها؟ فصلاة هذا الحاضر بقلبه الذي قرة عينه في الصلاة هي التي تصعد ولها نور وبرهان، حتى يستقبل بها الرحمن عز وجل فتقول حفظك الله تعالى كما حفظتني، وأما صلاة المفرط المضيع لحقوقها وحدودها وخشوعها، فإنها تلف كما يلف الثوب الخلق ويضرب بها وجه صاحبها وتقول ضيعك الله كما ضيعتني، وقد روي في حديث مرفوع رواه بكر بن بشر عن سعيد بن سنان عن أبي الزاهرية عن أبي شجرة عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يرفعه أنه قال «ما من مؤمن يتم الوضوء إلى أمكانه ثم يقوم إلى الصلاة في وقتها فيؤديها لله عز وجل لم ينقص من وقتها وركوعها وسجودها ومعالمها شيئا إلا رفعت له إلى الله عز وجل بيضاء مسفرة يستضيء بنورها ما بين الخافقين حتى ينتهي بها إلى الرحمن عز وجل، ومن قام إلى الصلاة فلم يكمل وضوءها واخرها عن وقتها واسترق ركوعها وسجودها ومعالمها رفعت عنه سوداء مظلمة ثم لا تجاوز شعر رأسه تقول: ضيعك الله كما ضيعتني، ضيعك كما ضيعتني»

(1)

.

فالصلاة المقبولة والعمل المقبول أن يصلي العبد صلاة تليق بربه عز وجل.

فإذا كانت صلاة تصلح لربه تبارك وتعالى وتليق به كانت مقبولة

"

(2)

.

(1)

الحديث لا يصح. ينظر: ضعيف الترغيب والترهيب (1/ 122): ح (221).

(2)

الوابل الصيب من الكلم الطيب (20 - 22).

ص: 54

ومن الأسباب التي تجعل القلب يقبل على الله في الصلاة ويخشع، أن يفرغه العبد في صلاته لله تعالى، كما في حديث عَمْرِو بْن عَبَسَةَ السُّلَمِيِّ في فضل الوضوء قال في آخره عن النبي صلى الله عليه وسلم:«فَإِنْ هُوَ قَامَ فَصَلَّى، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَمَجَّدَهُ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، وَفَرَّغَ قَلْبَهُ لِلَّهِ، إِلَّا انْصَرَفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»

(1)

.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «وفرغ قلبه لله» أي: جعله حاضرًا لله، وفرغه من الأشغال الدنيوية

(2)

.

وهذا هو الخشوع أي: حضور القلب بين يدي الله في الصلاة، فإذا فرغ قلبه لله في صلاته حصل على هذا المكسب العظيم:"إِلَّا انْصَرَفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ".

وتفريغ القلب لله في الصلاة ليس بالأمر الهين، وإنما يحتاج إلى جهد عظيم مستمر، ومجاهدة كبيرة لتفريغه من الأشغال الدنيوية التي تنشغل بها النفس ويشغلها بها الشيطان، فعن حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ دَعَا بِوَضُوءٍ،، ثم ذكر صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، وَقَالَ:«مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»

(3)

.

ومن جاهد نفسه لله في صلاته على ألا يحدث نفسه بأمور الدنيا، وفرغ قلبه لله في صلاته، وشعر بعظمة المناجاة، وصبر على المجاهدة ظفر بالخشوع وحلاوة الصلاة، وقد وعد الله بالإعانة لمن يجاهدون أنفسهم لله ويصبرون على ذلك ويستمرون، فيعينهم الله ويرزقهم الخشوع، قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].

والآية عامة في كل من جاهد في طلب أمر من أمور الخير، فإن الله يهديه إليه، "وروي عن ابن عباس: والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا"

(4)

.

(1)

أخرجه مسلم (1/ 570) ح (832).

(2)

ينظر: مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (3/ 461)، المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 212).

(3)

أخرجه البخاري (1/ 44) ح (164)، ومسلم (1/ 204) ح (226).

(4)

تفسير البغوي (6/ 256).

ص: 55

والذي جاهد نفسه لتفريغ قلبه لله في صلاته وصبر على ذلك واستمر دون كلل ولا ملل رزقه الله الخشوع والتلذذ بصلاته ولو بعد حين من الزمن، قال ثابت البناني رحمه الله: "كابدت

(1)

الصلاة عشرين سنة، وتنعمت بها عشرين سنة"

(2)

.

والذي يظهر لي أن العبد إذا أقبل على مناجاة ربه في صلاته واستشعر عظمة الموقف بين يدي ربه وخشع قلبه وأقبل على صلاته بقلبه ووجهه، وجاهد نفسه في تفريغ قلبه لله بقدر وسعه، فإنه سيجد من اللذة بقدر ذلك وفضل الله عظيم وواسع.

أما أولئك القوم مثل ثابت البناني وغيره من السلف يريدون وجود اللذة الكاملة من أول الصلاة إلى آخرها وفي كل صلاة وهذه مرتبة عالية لا يصل إليها إلا من بذل جهداً عظيماً في حصول الخشوع، والله أعلم.

‌المسألة الرابعة: الشعور بمناجاته لله وأنه مطلع عليه عالم بسره وجهره يسمعه ويراه

.

أولاً: اليقين بأن الله مطلع عليه عالم بسره ونجواه:

إذا رسخ في قلب العبد اليقين بأن الله عالم بسره ونجواه، وأنه يناجي ربه في الصلاة، خاف من ربه وخشي أن يطلع على قلبه، فيراه منشغلاً عنه في أثناء صلاته بغيره، وهذا يجعله يستحي من ربه ويخشى من مقته إذا انصرف إلى غيره في صلاته، وكل ذلك لا شك مما يزيد خشوعه وحضور قلبه في صلاته وتفريغه لله، فهو يعلم يقيناً أن الله مطلع عليه عالم بالسر والنجوى، لا تخفى عليه خافية، ويشعر أنه في أعظم المواقف بين يدي ربه يناجيه في صلاته، وكما في الحديث الذي سبق، يقول صلى الله عليه وسلم:"إنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي إِنَّمَا يَقُومُ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلْيَنْظُرْ كَيْفَ يُنَاجِيهِ".

وهذه بعض الأدلة على إثبات سمعه وعلمه المحيط بكل شيء، قال تعالى:{وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة: 76]. وبقوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} التوبة: 78

(1)

والمكابدة من كابد الأمر إذا قاساه بمشقة. ينظر: الصحاح (2/ 530)، مقاييس اللغة (5/ 153)، لسان العرب (3/ 376) مادة (كبد). أي: بمعنى: جاهد نفسه على بذل أسباب الخشوع فيها.

(2)

حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/ 321)، سير أعلام النبلاء (5/ 224).

ص: 56

{أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} البقرة: 77

{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} البقرة: 235

{ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} المائدة: 97

{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} المائدة: 99

وقال تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 13].

وفي آيات كثيرة يقول سبحانه وتعالى عن نفسه: {السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ، {سَمِيعٌ عَلِيمٌ}

{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} الأنعام: 3

{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} التوبة: 78

{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} النحل: 19

{وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} طه: 7

{قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} الأنبياء: 4

ص: 57

{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} الحج: 70

{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} الأنعام: 59

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} المجادلة: 7

{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} الحديد: 4

وإذا علم العبد يقيناً أن الله مطلع على قلبه يعلم مافيه، زاد خشوعه وحضور قلبه في صلاته، قال تعالى في آيات كثيرة:{عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} .

ومنها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} آل عمران: 119

وقال سبحانه وتعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} الملك: 13 - 14

{وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} القصص: 69

{إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} الأنبياء: 110

ص: 58

{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} الأحزاب: 51

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} آل عمران: 5.

ثانياً: اليقين بأن الله يسمعه ويراه:

وإذا رسخ في قلب العبد اليقين بأن الله يسمعه ويراه، زاد خشوعه وحضر قلبه في صلاته، لأنه يخشى الله ويستحي منه أن يرى قلبه قد انصرف عنه في صلاته، والتفت إلى غيره، ويستحي من ربه وهو يقرأ الفاتحة، ويردد أذكار الصلاة، ويقوم بأفعالها وقلبه بعيد عنه متعلق بالدنيا، وربه مطلع على مافي قلبه يسمع ما يقول، ويرى فعله في صلاته، وينظر إلى قلبه، إن هذه المعاني العظيمة إذا تذكرها العبد في صلاته، وحصل اليقين بها في قلبه، حينها يفرغ قلبه لله، ويحضر قلبه وعقله الذي يدرك به معاني ما يقوله وما يفعله في صلاته، وقد ذكر تعالى عن نفسه في إثبات أنه السميع البصير في أكثر من آية؛ لتثبت آثار الإيمان بسمع الله وبصره المحيط بكل شيء في القلب، فيشعر العبد بمراقبة الله له، فيخشى ويتقي ويستحي من ربه حق الحياء، ويقدره حق التقدير، ويظهر أثر ذلك عليه في كل أحواله وبالأخص في أعظم موقف يقفه في الدنيا بين يدي الله في صلاته:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر: 20].

وفي آيات كثيرة يختم كلامه بقوله سبحانه وتعالى: {السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، {سَمِيعٌ بَصِيرٌ} .

وقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» .

وكما سبق في الحديث قال صلى الله عليه وسلم: «فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ» .

ص: 59

وقَالَ أَبُو ذَرّ ٍرضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَزَالُ اللَّهُ عز وجل مُقْبِلًا عَلَى الْعَبْدِ، وَهُوَ فِي صَلَاتِهِ، مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا الْتَفَتَ انْصَرَفَ عَنْهُ»

(1)

.

وفي فتح الباري لابن رجب: "وروى عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: سمعت أبا هريرة يقول: إذا صلى أحدكم فلا يلتفت؛ فإنه يناجي ربه، أن ربه أمامه، وإنه يناجيه.

قال عطاء: وبلغنا أن الرب عز وجل يقول: «يا بن آدم إلى من تلتفت، أنا خير لك ممن تلتفت إليه» "

(2)

.

(1)

أخرجه أحمد (35/ 400) ح (21508) بلفظ مقارب، وأبو داود (1/ 239) ح (909) وهذا لفظه، وصححه الحاكم (1/ 361) ح (862) ووافقه الذهبي، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لمسند أحمد ط الرسالة (35/ 400) ح (21508) وسنن أبي داود (2/ 177) ح (909):"صحيح لغيره، وهذا إسناد محتمل للتحسين".

(2)

فتح الباري لابن رجب (3/ 110)، وقول عطاء روي عن أبي هريرة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكنه لا يصح رفعه، ينظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (2/ 80).

ص: 60

المبحث الثالث: من آثار عمل القلب على صلاة العبد، وفيه مطالب

المطلب الأول: وجود لذة عبادة الصلاة وحلاوتها، وطمأنينة القلب بها.

المطلب الثاني: أن يعلم بقلبه ما يقوله بلسانه، ويفهمه ويتدبره.

المطلب الثالث: أثر حضور القلب على تدبر سورة الفاتحة في الصلاة.

المطلب الرابع: تدبر القلب للآيات والسور التي تقرأ في الصلاة عقب الفاتحة.

المطلب الخامس: أثر عمل القلب على عبادة الركوع.

المطلب السادس: أثر عمل القلب على عبادة السجود.

المطلب السابع: عمل القلب وأثره على طمأنينة العبد في صلاته.

المطلب الثامن: أثر عمل القلب على التشهد وجلسته.

المطلب التاسع: حضور القلب عند التسليم من الصلاة، وأذكار ما بعد السلام.

ص: 61

‌المبحث الثالث: من آثار عمل القلب على صلاة العبد، وفيه مطالب

.

‌المطلب الأول: وجود لذة عبادة الصلاة وحلاوتها، وطمأنينة القلب بها:

قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، والصلاة يجتمع فيها كل أنواع ذكر الله.

قال عنها صلى الله عليه وسلم: «يَا بِلَالُ، أَقِمِ الصَّلَاةَ أَرِحْنَا بِهَا»

(1)

، وقال صلى الله عليه وسلم:«وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ»

(2)

.

وقال ابن حجر رحمه الله عن الصلاة: "ولا شيء أقر لعين العبد منها، ولهذا جاء في حديث أنس المرفوع: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» أخرجه النسائي وغيره بسند صحيح، ومن كانت قرة عينه في شيء، فإنه يود أن لا يفارقه، ولا يخرج منه؛ لأن فيه نعيمَه، وبه تطيب حياته، وإنما يحصل ذلك للعابد بالمصابرة على النصب، فإن السالك غرضُ الآفات والفتور"

(3)

.

والمعنى والله أعلم: أنه لا تحصل قرة العين في الصلاة إلا بمجاهدة النفس على الخشوع فيها وحضور القلب وإقباله عليها، وذلك يحتاج إلى كبير مجاهدة مع الاستمرار وعدم الانقطاع، وبذلك يحصل المسلم على التلذذ بالصلاة، وأن تكون راحة وقرة عين له.

وقال بعض السلف رحمه الله: "كابدت

(4)

الصلاة عشرين سنة، وتنعمت بها عشرين سنة"

(5)

.

(1)

أخرجه أبو داود (4/ 296) ح (4985)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1307) ح (7892)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن أبي داود (7/ 338) ح (4985)"إسناده صحيح".

(2)

أخرجه أحمد (21/ 433) ح (14037)، والنسائي (7/ 61) ح (3940)، والحاكم (2/ 174) ح (2676) وصححه ووافقه الذهبي، وصحح إسناده ابن حجر في الفتح (11/ 345)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 599) ح (3124).

(3)

فتح الباري (11/ 345).

(4)

والمكابدة من كابد الأمر إذا قاساه بمشقة. ينظر: الصحاح (2/ 530)، مقاييس اللغة (5/ 153)، لسان العرب (3/ 376) مادة (كبد). أي: بمعنى: جاهد نفسه على بذل أسباب الخشوع فيها.

(5)

ذكره في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/ 321)، وسير أعلام النبلاء (5/ 224) عن ثابت البناني رحمه الله.

ص: 62

ولذة الصلاة وحلاوتها انما تحصل بقدر خشوع العبد فيها، وقد سبق الكلام عن التلذذ بالصلاة.

‌المطلب الثاني: أن يعلم بقلبه ما يقوله بلسانه، ويفهمه ويتدبره

.

إذا رسخ في قلب العبد معاني ما يذكره في صلاته من أذكار، وكان يقولها بقلب حاضر يدرك معاني ما يقول أثمر ذلك خشوعه في صلاته، وحصوله على هذا الثواب العظيم الذي جاء في الحديث يقول: صلى الله عليه وسلم «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُسْبِغُ

(1)

الْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُومُ فِي صَلَاتِهِ فَيَعْلَمُ مَا يَقُولُ إِلَّا انْفَتَلَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ مِنَ الْخَطَايَا لَيْسَ عَلَيْهِ ذَنْبٌ»

(2)

.

فقوله صلى الله عليه وسلم: " ثُمَّ يَقُومُ فِي صَلَاتِهِ فَيَعْلَمُ مَا يَقُولُ " أي: أنه والله أعلم يجاهد نفسه في حضور عقله في صلاته حتى يعلم بقلبه معنى ما يقوله لسانه.

وإذا رسخ في قلب العبد اليقين بمعاني ما يذكره في صلاته من أذكار، وكان يقوله بقلب حاضر يدرك ويعلم معاني ما يقول، وجاهد نفسه على الاستمرار والصبر على حضور قلبه؛ ليعقل وليفهم ويعلم ما يقوله في صلاته، أثمر ذلك خشوعه في صلاته وحصوله على ذلك الأجر الثواب العظيم، ولنأخذ على ذلك مثلاً ذكر " الله أكبر"، وهو أكثر ذكر يقوله ويسمعه المؤمن فييومه وليلته، ويذكره في انتقاله بين أركان صلاته.

والسؤال المهم: ما أثر قولنا لهذا الذكر كثيراً في صلاتنا على خشوع قلوبنا؟

كم مرة قلت في صلاتك الله أكبر وقلبك حاضر يدرك معنى ما تقوله؟!

ونحن نكرر الليل والنهار (الله أكبر، والله أكبر، الله أكبر) سؤال نسال به أنفسنا متى أحدثت هذا الذكر أثراً في قلوبنا؟ فشعرنا بأن الله أكبر من كل شيء، فزادت خشيتنا له،

(1)

وإسباغ الوضوء: إتمامه وإكماله بغسل العضو الذي يغسل ثلاثًا، وقال ابن عبد البر رحمه الله في معنى الإسباغ:"الإكمال والإتمام من ذلك قول الله عز وجل: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ} [لقمان: 20]، يعني: أتمها عليكم وأكملها، وإسباغ الوضوء أن يأتي بالماء على كل عضو يلزمه غسله مع إمرار اليد، فإذا فعل ذلك مرة وأكمل فقد توضأ مرة".

الاستذكار (2/ 302) لابن عبد البر.

(2)

أخرجه مسلم بنحوه (1/ 570) ح (832)، والحاكم واللفظ له (2/ 432) ح (3508)، وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 195) ح (190).

ص: 63

وزادت هيبتنا منه، وزادت عظمته في قلوبنا فقدّرناه حق قدره وعظّمناه حق التعظيم، وخشعت قلوبنا من هيبته وجلاله وعظمته، إنه الله جل جلاله مالك الملك مدبر الأمر مصرف الكون، بيده ملكوت كل شيء، وهو على كل شيء قدير، هو وحده الذي يرزق ويعطي من يشاء ويمنع من يشاء، يمسك السموات فلا تقع على الأرض إلا بإذنه، يرفع السماء بغير عمد نراها، قال تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} الزمر: 67

{مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)} الحج: 74

{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} الأنبياء: 104

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} هود: 66

{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} فاطر: 2 - 3

{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} فاطر: 41

{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} الأنعام: 18

ص: 64

{يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} غافر: 16

ومن أعظم أسباب الخشوع أن يعلم ما يقوله في صلاته، ولا يحصل هذا إلا بحضور القلب والفهم والتركيز على ما يقوله في صلاته، فيدرك ويعلم ما يقوله في صلاته من أذكار، فهو يقول عدة أذكار يلتزم بقولها في كل ركعة، ومنها:

أ - قول: (الله أكبر)، وهو أكثر ذكر يردده في صلاته ويسمعه من إمامه إذا كان ممن تجب عليهم صلاة الجماعة.

دعونا نردد هذه التسأولات:

هذا الذكر نردده في صلاة الفريضة أكثر (90) مرة ونسمعه كذلك من الإمام.

ما أثر هذا الذكر علينا في قلوبنا؟! وهل نحن نعلم معنى ما نقول؟!

ب - نقول في الركوع (سبحان ربي العظيم) على الأقل ثلاث مرات في كل ركعة.

فنقوله في الفريضة (51) مرة فما أثره على قلوبنا؟ وهل ندرك معنى ما نقول؟!

ت - نقول في السجود (سبحان ربي الأعلى) على الأقل ثلاث مرات في كل سجدة.

فنقوله في الفريضة (102) مرة ويتكرر نفس السؤال!!!

ث - يقول الإمام والمنفرد حين الرفع من الركوع (سمع الله لمن حمده) في كل ركعة، ويقول الجميع الإمام والمنفرد والمأموم (ربنا ولك الحمد) فهل نعلم ما نقول؟!!

ج - نقول في كل صلاة في الركعة الثانية التحيات كاملة في الثنائية ونقولها في التشهد الأوسط في الثلاثية والرباعية، ونقولها كاملة في التشهد الأخير، فهل نعلم ما نقوله في صلاتنا؟

ح - ثم نختم الصلاة بقول (السلام عليكم ورحمة الله) على اليمين والشمال، فهل نعلم ما نقوله؟

خ - تكرار تلاوة سورة الفاتحة في كل ركعة وما يعقبها من سور وآيات، وهذا ما سيكون الحديث عنه فيما يأتي.

ص: 65

‌المطلب الثالث: أثر حضور القلب على تدبر سورة الفاتحة في الصلاة

.

وإذا جاهد العبد نفسه في صلاته ليستحضر قلبه ما يتلوه من سورة الفاتحة ويعلم يقيناً أن الله يخاطبه كلما قرأ آية منها زاد خشوعه في صلاته، واستشعر عظمة خطاب الله له، فكيف يليق بالعبد أن ينصرف عن مناجاة ربه؟!

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ» ثَلَاثًا غَيْرُ تَمَامٍ. فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ؟ فَقَالَ: اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ؛ فإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «قَالَ اللهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، قَالَ اللهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3]، قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي -وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي-، فَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6، 7] قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ»

(1)

.

وفوائد هذا الحديث المتعلقة بأمر الخشوع في الصلاة كثيرة نجمل أهمها في الآتي:

1 -

الحذر من حجب الغفلة بسبب الذنوب التي تعمي القلوب، فتحرمها من لذة المناجاة، وإلى الله المشتكى، {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14].

وحجب الذنوب دواؤها في كثرة الاستغفار الصادق والتوبة الصادقة، الذي يتواطؤ فيه القلب مع اللسان: مع ندم من الذنب، وإقلاع عنه، وعزم على عدم العودة.

(1)

أخرجه مسلم (1/ 296) ح (395).

ص: 66

وهنا حق لنا أن نسأل أنفسنا ونحن نتلوا سورة الفاتحة في كل ركعة من صلاتنا، فكم مرة يا عبد الله حضر قلبك فسمع خطاب الله له؟ وشعرت بعظمة الاصطفاء من ربك، وهو يخاطبك مع كل آية تقرؤها من سورة الفاتحة، فيقول لك:(حمدني عبدي، أثنى علي عبدي، مجدني عبدي، فوض إلي عبدي، هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل .. )!!!

هل ندرك عظمة هذا الخطاب الموجه لنا من ربنا سبحانه وتعالى (عبدي .. عبدي .. عبدي .. )؟!

كم أنت محظوظ أيها المسلم المقبل على ربه في صلاته، وملك الملوك يصطفيك من بين خلقه؛ ليثني عليك بهذا الخطاب العظيم، ويدور بينك وبينه هذه المناجاة وهذا الحوار العظيم، لماذا غفلت القلوب عن هذا؟ لماذا نسيت هذا المقام العظيم، وهذا الاصطفاء الكبير من الله جل جلاله؟

لولا الحجب الكثيفة على قلوبنا من الذنوب لطارت فرحاً وشوقاً للتلذذ بهذا الخطاب الرباني العظيم، ولشعر المؤمن بخشوع عجيب في صلاته وهو يتلذذ بذلك، ولشعر بعظمة المناجاة بينه وبين الله العظيم.

2 -

تكرار قراءة سورة الفاتحة في الصلاة وسماعها من الإمام في الصلاة الجهرية وقراءتها في كل ركعة من صلاة الفرض والنفل في كل يوم، وهذا التكرار يستلزم أن يكون له أثره على القلب في حضوره وتدبره لأعظم سورة في القرآن، وذلك يؤدي إلى شعور العبد بلذة قراءة الفاتحة ولذة المناجاة بها، وكلما أقبل قلب العبد على فهم معاني هذه السورة العظيمة، زاد خشوعه وإقباله بقلبه على ربه في صلاته.

3 -

وهذه بعض الفوائد العظيمة حول الدعاء الذي ورد في آخر سورة الفاتحة:

أ - إذا رسخ في قلب العبد أهمية هذا الدعاء وعظيم الحاجة إليه {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ، وأنه من أعظم الأدعية وأهمها على الإطلاق، حينها يقبل القلب عليه مستشعراً لفقره وحاجته لربه في أن يحقق له مطلبه ويجيب دعوته، والتي متى ما أجيبت نال سعادة الدارين، ولتكرار هذه الدعوة في كل ركعة من الصلاة سر عظيم، اسأل الله ان يوفقني للإشارة إليه في الفقرة الآتية.

ص: 67

ب - فينبغي على المسلم أن يشعر بعظمة هذا الدعاء الذي يردده في كل يوم فقط في الفرائض سبع عشرة مرة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ، وهذا يشعر بعظيم أهميتة في حياة المسلم؛ بل هو من أعظم ما يدعو به في نهاره وليلته؛ لأن هذا الدعاء يتضمن سؤال الله الهداية إلى الصراط المستقيم، وكذلك سؤاله الثبات على الهداية إلى أن يلقى ربه، ويختم له بالحسنى.

والعبد المؤمن في هذه الدنيا على خطر عظيم، فالقلب كثير التقلب، وشياطين الأنس والجن متربصة به تنتظر زلته عن الصراط ليستثمروها، وفي المقابل نفس امّارة بالسوء، والصراط المستقيم على صعوبته، بجواره طرق مزينة مفروشة بالشهوات المحرمة المحببة للنفوس، فالخطر عظيم، وفتن الشبهات والشهوات تعرض على القلوب في كل وقت، فهنا يظهر أهمية وعظمة هذا الدعاء وجاجة الماسة إلى الدعاء به في كل ركعة، والله الموفق والمعين.

قال تعالى عن خطر الشياطين وتعاونهم على إضلال بني آدم: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} الأنعام: 112 – 113.

وذكر الله في كتابه دعاء المؤمنين الراسخين في العلم فقال سبحانه وتعالى: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} آل عمران: 8.

وهذا يدل على أن القلب كثير الزيغ إذا لم يثبته الله، وجاء إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من الدعاء بتثبيت القلوب على الدين؛ ليدل على كثرة تقلبها بسبب كثرة أمراضها، وهذا يجعل المؤمن مهتمًّا بالإكثار من هذا الدعاء متفهماً لحاجته له؛ لخوفه على قلبه من التقلب، فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» ، فَقُلْتُ:

ص: 68

يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟! قَالَ:«نَعَمْ، إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ، يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ»

(1)

.

وقَالَ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ: لَا أَقُولُ فِي رَجُلٍ خَيْرًا وَلَا شَرًّا حَتَّى أَنْظُرَ مَا يُخْتَمُ لَهُ، يَعْنِي بَعَدَ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قِيلَ: وَمَا سَمِعْتَ؟ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " لَقَلْبُ ابْنِ آدَمَ أَشَدُّ انْقِلَابًا مِنَ الْقِدْرِ إِذَا اجْتَمَعَتْ غَلْيًا "

(2)

.

وكل ما سبق يدل دلالة قوية على عظيم أهمية هذا الدعاء {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} الذي نكرره في كل ركعة، ولكن حجب الذنوب الكثيفة على القلوب أفقدت القلب الشعور بحاجته الشديدة والماسة جداً لتكرار هذا الدعاء في كل ركعة، وإلى الله المشتكى.

ت - وكذلك يحضر قلبه عند التأمين، فهو كلمة بمعنى:"اللهم استجب" أي: استجب هذا الدعاء، وليتذكر وهو يقول:"آمين" حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»

(3)

.

ث - قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره عن هذا الدعاء العظيم: " ولولا احتياجه ليلاً ونهاراً إلى سؤال الهداية لما أرشده الله إلى ذلك؛ فإن العبد مفتقر في كل ساعة وحالة إلى الله تعالى في تثبيته على الهداية، ورسوخه فيها، وتبصره، وازدياده منها، واستمراره عليها، فإن العبد لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله، فأرشده تعالى إلى أن يسأله في كل وقت أن يمده بالمعونة والثبات والتوفيق"

(4)

.

(1)

مسند أحمد ط الرسالة (19/ 160) ح (12107)، سنن الترمذي (4/ 448) ح (2140) وقال الترمذي:"هذا حديث حسن"، سنن ابن ماجه (2/ 1260) ح (3834)، حكم الألباني بصحته في مشكاة المصابيح (1/ 37) ح (102)، قال محقق المسند (19/ 160):"إسناده قوي على شرط مسلم".

(2)

أخرجه أحمد (39/ 239) ح (23816)، والحاكم (2/ 317) ح (3142) وصححه ووافقه الذهبي، وقال محقق المسند (39/ 239):" حديث حسن"، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/ 374) ح (1772).

(3)

صحيح البخاري (8/ 85) ح (6402)، وصحيح مسلم واللفظ له (1/ 307) ح (410).

(4)

تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 139).

ص: 69

ج - وقال السعدي رحمه الله: "فهذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعها للعبد ولهذا وجب على الإنسان أن يدعو الله به في كل ركعة من صلاته، لضرورته إلى ذلك"

(1)

.

ح - ولهذا لا يحسن بالمسلم أن يغفل عن ذلك، بسبب تكرار هذا الدعاء، بل ينبغى أن يكون حاضر القلب، يجاهد نفسه على ذلك؛ ليتحقق أثر هذا الدعاء العظيم عليه ثباتًا على الحق إلى أن يلق الله، وصبرًا على ما يلقاه في طريقه إلى الله

(2)

.

(1)

تفسير السعدي (39).

(2)

وأنقل هنا كلاماً مهماً لابن رجب رحمه الله في تعليقه على هذه الأحاديث التي سبق ذكرها في مسألة إثبات معية الله الخاصة لعبده في صلاته، كما قال بها السلف الصالح، وقد سبق نقل بعض كلامه، واعتذر من طول النقل لكنه مهم في بابه، فيقول رحمه الله: " وكأن مقصود النبي صلى الله عليه وسلم بذكر هذا: أن يستشعر المصلي في صلاته قرب الله منه، وأنه بمرأى منه ومسمع، وانه مناج له وانه يسمع كلامه ويرد عليه جواب مناجاته له.

كما في ((صحيح مسلم))، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:((أن العبد إذا قال: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي)) - وذكر رده عليه في آيات الفاتحة إلى آخرها.

فمن استشعر هذا في صلاته أوجب له ذلك حضور قلبه بين يدي ربه، وخشوعه له، وتأدبه في وقوفه بين يديه، فلا يلتفت إلى غيره بقلبه ولا ببدنه، ولا يعبث وهو واقف بين يديه، ولا يبصق أمامه، فيصير في عبادته في مقام الإحسان، يعبد الله كأنه

يراه، كما فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان بذلك في سؤال جبريل عليه السلام له ..

وخرج النسائي من حديث ابن عمر، قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ببعض جسدي، فقال:" اعْبُدِ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ" وقد كان ابن عمر قبل هذه الوصية وامتثلها، فكان يستحضر في جميع أعماله وعباداته قرب الله منه واطلاعه عليه.

وكان عروة بن الزبير قد لقيه مرة في الطواف بالبيت فخطب إليه ابنته سودة، فسكت ابن عمر ولم يرد عليه شيئاً، ثم لقيه بعد ذلك بعدما تقدم المدينة، فاعتذر له عن سكوته عنه، بأنا كنا في الطواف نتخايل الله بين أعيننا.

وقد أخبر الله تعالى بقربه ممن دعاه، وإجابته له، فقال:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186] ..

وقد خرج البخاري في ((الدعوات)) حديث أبي موسى، أنهم رفعوا أصواتهم بالتكبير، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:"إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا".

وفي رواية: ((أنه أقرب إليكم من أعناق رواحلكم)).

ولم يكن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يفهمون من هذه النصوص غير المعنى الصحيح المراد بها، يستفيدون بذلك معرفة عظمة الله وجلاله، وإطلاعه على عباده وإحاطته بهم، وقربه من عابديه، وإجابته لدعائهم، فيزدادون به خشية لله وتعظيماً وإجلالاً ومهابة ومراقبة واستحياء، ويعبدونه كأنهم يرونه.

ثم حدث بعدهم من قل ورعه، وساء فهمه وقصده، وضعفت عظمة الله وهيبته في صدره، وأراد أن يري الناس امتيازه عليهم بدقة الفهم وقوة النظر، فزعم أن هذه النصوص تدل على أن الله بذاته في كل مكان، كما يحكى ذلك عن طوائف من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وهذا شيء ما خطر لمن كان قبلهم من الصحابة رضي الله عنهم.

وهؤلاء ممن يتبع ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته منهم في حديث عائشة الصحيح المتفق عليه.

وتعلقوا أيضاً بما فهموه بفهمهم القاصر مع قصدهم الفاسد بآيات في كتاب الله، مثل قوله تعالى:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7]، فقال من قال من علماء السلف حينئذ: إنما أراد أنه معهم بعلمه، وقصدوا بذلك إبطال ما قاله أولئك، مما لم يكن أحد قبلهم قاله ولا فهمه من القرآن.

وممن قال: أن هذه المعية بالعلم مقاتل بن حيان، وروي عنه أنه رواه عن عكرمة، عن ابن عباس.

وقاله الضحاك، قال: الله فوق عرشه، وعلمه بكل مكان.

وروي نحوه عن مالك وعبد العزيز الماجشون والثوري وأحمد وإسحاق وغيرهم من أئمة السلف.

وروى الإمام أحمد: ثنا عبد الله بن نافع، قال: قال مالك: الله في السماء، وعلمه بكل مكان.

وروي هذا المعنى عن علي وابن مسعود أيضاً.

وقال الحسن في قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} [الإسراء: 60]، قال: علمه بالناس.

وحكى ابن عبد البر وغيره إجماع العلماء من الصحابة والتابعين في تأويل قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] أن المراد علمه.

وكل هذا قصدوا به رد قول من قال: أنه تعالى بذاته في كل مكان

" أ. هـ. بطوله مع بعض الاختصار من شرح صحيح البخاري المسمى: فتح الباري لابن رجب (3/ 110 - 114)، وتعليقه على هذه المسألة طويل، لكنه مهم فمن أراد أن يطلع عليه كاملاً فليرجع إلى المصدر المذكور.

ص: 70

‌المطلب الرابع: تدبر القلب للآيات والسور التي تقرأ في الصلاة عقب الفاتحة

.

إن سماع السور والآيات وتلاوتها في الصلوات السرية، وتكرار ذلك يجعل العبد المؤمن يدرك عظمة القرآن وأثره على القلب والجوارح، وأنت أيها المؤمن في كل يوم تسمع القرآن في ثلاث صلوات جهرية، ويزيد الاستماع في صلاة الجمعة في كل أسبوع، وفي صلاة التراويح في رمضان، وتقرأه في الصلوات السرية، ولا شك أن لذلك تأثيره العظيم على قلب العبد المؤمن وجوارحه، وذلك كلما صفا القلب وتطهر من أوساخ الذنوب، قال تعالى في معرض بيان سبب عدم تدبر القرآن من بعض القلوب:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].

وفي تفسير الطبري: "يقول تعالى ذكره: أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون مواعظ الله التي يعظهم بها في آي القرآن الذي أنزله على نبيه عليه الصلاة والسلام، ويتفكرون في حججه التي بينها لهم في تنزيله فيعلموا بها خطأ ما هم عليه مقيمون {أم على قلوب أقفالها} [محمد: 24] يقول: أم أقفل الله على قلوبهم فلا يعقلون ما أنزل الله في كتابه من المواعظ والعبر"

(1)

.

وقال تعالى في وصف القرآن الكريم: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء: 174].

وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52].

ولذا جاءت أكثر من آية تحث على تدبر القرآن الكريم؛ ليجد المؤمن أثره عليه، فقال تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].

(1)

تفسير الطبري (21/ 215).

ص: 71

وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].

وتدبر القرآن الكريم الذي هو الحكمة من نزوله يعنى: التفكر في آياته، وفهمها والتأمل في معانيها

(1)

بتكرار ذلك، وإقامة حروفه وحدوده بالعمل به

(2)

، واستحضار عظمة قائله، وتدبره هو الذي يثمر في القلب ثمرته، فينزل في القلب أثره، فينفع صاحبه، كما يقول ابن مسعود رضي الله عنه

(3)

.

إنه الكتاب العظيم الكريم الذي قال الله عنه: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 10].

{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف: 43، 44].

وقال تعالى في بيان آثاره العظيمة: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [إبراهيم: 1، 2].

(1)

ينظر: تفسير البغوي (7/ 88)، تفسير ابن كثير (1/ 6)، تفسير السعدي (712).

(2)

ونقل ابن كثير في تفسيره (7/ 64) عن ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قوله: "والله، ما تَدَبَّره بحفظ حروفِهِ وإضاعةِ حدودهِ، حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كله ما يُرى له القرآن في خُلُق ولا عمل".

(3)

وكما في صحيح مسلم (1/ 563) ح (822) قال ابن مسعود رضي الله عنه لذلك الرجل الذي يقرأ المفصل في ركعة في بيان الخطأ الذي وقع فيه: "هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ! إِنَّ أَقْوَامًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ فَرَسَخَ فِيهِ نَفَعَ"، والعبرة والمطلوب هو العمل والتدبر الذي يجعل الآيات تنزل إلى القلب، فينتفع بها.

ص: 72

وقال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21].

وقال تعالى عن أثر القرآن على المؤمنين: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15، 16].

وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9].

وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23].

وقال تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 106 - 109].

ص: 73

وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58].

وفي نهاية هذا المطلب أذكر نفسي وأخواني الأئمة الفضلاء وهم يصلون بالناس ويسمعونهم القرآن في كل يوم في الصلوات الجهرية، أن يحرصوا -في أنفسهم- على تدبر الآيات التي يتلونها على المأمومين، وأن يذكروا أنفسهم ومن خلفهم بالله من خلال آيات القرآن كما قال الله تعالى:{فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} ق: 45، وقال تعالى عنه:{كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} الأعراف: 2

وقال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} الذاريات: 55، وعلى رأس الذكرى

القرآن العظيم، وقال تعالى:{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} الأعلى: 9 - 10

وقال تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} يس: 11

ص: 74

‌المطلب الخامس: أثر عمل القلب على عبادة الركوع، وفيه مسائل

.

‌المسألة الأولى: الركوع من أعظم أركان الصلاة:

وهو من أعظم المواقف في الصلاة بدليل أن الله يذكره ويريد به الصلاة كاملة لأهميته واعتباره من أعظم أركان الصلاة، قال تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43]، وقال تعالى:{يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} [آل عمران: 43]، وقال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} [المرسلات: 48].

وعبر عن الصلاة بجزء منها، وهو الركوع، باعتبار أن الركوع من أهم أركانها، فهو من باب التعبير بالجزء عن الكل

(1)

.

قال ابن رجب رحمه الله: "الركوع، وهو ذل بظاهر الجسد، ولهذا كانت العرب تأنف منه ولا تفعله، حتى بايع بعضهم النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا يخر إلا قائماً يعني: أن يسجد من غير ركوع.

كذا فسره الإمام أحمد رحمه الله تعالى والمحققون من العلماء.

وقال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} .

وتمام الخضوع في الركوع: أن يخضع القلب لله ويذل له، فيتم بذلك خضوع العبد بباطنه وظاهره لله عز وجل "

(2)

.

(1)

ينظر: التفسير الوسيط لطنطاوي (15/ 242).

(2)

تفسير ابن رجب الحنبلي (2/ 23).

ص: 75

‌المسألة الثانية: تعظيم الرب في الركوع:

قال صلى الله عليه وسلم: " .. فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عز وجل .. "

(1)

، ومعنى ذلك:

وذلك بأن يقول في ركوعه سبحان العظيم، كما ذكر حذيفة عن صلى الله عليه وسلم، فقال رضي الله عنه: ثُمَّ رَكَعَ، فَجَعَلَ يَقُولُ:«سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ»

(2)

.

ويكرر في كل ركعة في صلاته (سبحان ربي العظيم) على الأقل ثلاث مرات، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول إذَا رَكَعَ:«سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ

(3)

.

وقال الترمذي رحمه الله: "والعمل على هذا عند أهل العلم: يستحبون أن لا ينقص الرجل في الركوع والسجود من ثلاث تسبيحات، وروي عن ابن المبارك أنه قال: «أستحب للإمام أن يسبح خمس تسبيحات لكي يدرك من خلفه ثلاث تسبيحات»، وهكذا قال إسحاق بن إبراهيم"

(4)

.

‌المسألة الثالثة: من أذكار الركوع:

ذكر الشيخ الألباني رحمه الله في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم أذكار الركوع ومنها:

" سبحان ربي العظيم (ثلاث مرات)

وكان - أحياناً - يكررها أكثر من ذلك"

(5)

.

" (مسلم وأبو عوانة) " سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ".

(البخاري ومسلم)"سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي"، وكان يكثر منه في ركوعه وسجوده يَتَأَوَّلُ القُرْآنَ).

(1)

أخرجه مسلم (1/ 348) ح (479).

(2)

أخرجه مسلم (1/ 536) ح (772).

(3)

أخرجه ابن ماجه (1/ 287) ح (888) وصححه الألباني في تحقيقه لسنن ابن ماجه ح (888).

(4)

سنن الترمذي (2/ 47).

(5)

صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (132).

ص: 76

(مسلم وأبو عوانة والطحاوي والدارقطني)«اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، أَنْتَ رَبِّي، خَشَعَ سَمْعِي وَبَصَرِي، وَدَمِي وَلَحْمِي، وَعَظْمِي وَعَصَبِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالِمِينَ» .

(أبو داود والنسائي بسند صحيح)«سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ» ، وهذا قاله في صلاة الليل"

(1)

.

‌المسألة الرابعة: أثر عمل القلب على ما يقوله في الرفع من الركوع

.

ثم يرفع من الركوع إن كان إماماً ومنفرداً قائلاً: (سمع الله لمن حمده)، ويقول الجميع بعد الرفع من الركوع:(ربنا ولك الحمد) وهذا هو الواجب فإن زاد كل منهم بعد ذلك فحسن: (حمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ) وإن زادوا فكذلك فقد ورد به النص (مِلْءُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ، اللهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ).

وقد جاءت بذلك النصوص:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِذَا قَالَ الإِمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ المَلَائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"

(2)

.

وعَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ، قَالَ:" كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي وَرَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ "، قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ:«مَنِ المُتَكَلِّمُ» قَالَ: أَنَا، قَالَ:«رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلُ»

(3)

.

وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ: " رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ

(1)

صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (133).

(2)

أخرجه البخاري (1/ 158) ح (796)، صحيح مسلم (1/ 306) ح (409).

(3)

أخرجه البخاري (1/ 159) ح (799) بهذا اللفظ، ومسلم (1/ 419) ح (600).

ص: 77

وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ، اللهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ "

(1)

.

وهذه الأذكار إذا قالها المصلي بقلب حاضر متدبر يدرك معاني ما يقول أحدثت أثرها في قلبه تعظيماً وإجلالاً لله تعالى، واستشعر بقلبه عظيم نعم الله المحيطة به، فهو يحمد الله على هذا النعم {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} النحل:53.

وقال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} النحل: 18.

ويتذكر قول الله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} إبراهيم: 7.

‌المسألة الخامسة: أثر عمل القلب في عبادة الركوع:

قال صلى الله عليه وسلم: " .. فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عز وجل .. "، فتعظيم الرب في الركوع عمل قلبي تشترك فيه الجوارح، فإذا نطق اللسان بقول: سبحان ربي العظيم، وركع المؤمن بجسده معظماً لله، وحضر القلب، وعلم العبد معاني ما يقوله في ركوعه، وفرغ قلبه لله من الانشعال بغيره وهو في هذا الموقف العظيم، وكرر سبحان ربي العظيم وهو يدرك بقلبه، ويشعر بعظمة الله حاضرة في قلبه ونفسه، كأنه يراه فإن لم يكن يراه فهو يؤمن حقيقة أن الله يراه، كما في حديث الإحسان:«أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنَّكَ إِنْ لَا تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» ، فهو يقدر الله حق قدره ويعظمه حق تعظيمه بقلبه وجوارحه، يدرك معنى عظمة الله فهو يتدبر بقلب حاضر وإحساس صادق معنى (سبحان ربي العظيم) ويدرك عظمة الله من خلال حديثه عن نفسه تبارك وتعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} الزمر: 67

وقال تعالى: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} الحج: 74

(1)

أخرجه مسلم (1/ 347) ح (477).

ص: 78

وقال تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} الأنبياء: 104

وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)} هود: 66

وقال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} الأنعام: 18 وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} فاطر: 41

وقال تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} غافر: 15 - 16

وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَ حَبْرٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَوْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ، فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الْمَلِكُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَعَجُّبًا مِمَّا قَالَ الْحَبْرُ، تَصْدِيقًا لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]

(1)

.

وقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " يَقْبِضُ اللهُ تبارك وتعالى الْأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ؟ "

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري (6/ 126) ح (4811)، ومسلم واللفظ له (4/ 2147) ح (2786).

(2)

أخرجه مسلم (4/ 2148) ح (2787).

ص: 79

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " يَطْوِي اللهُ عز وجل السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ. ثُمَّ يَطْوِي الْأَرَضِينَ بِشِمَالِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ "

(1)

.

وعَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِقْسَمٍ، أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ كَيْفَ يَحْكِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" يَأْخُذُ اللهُ عز وجل سَمَاوَاتِهِ وَأَرَضِيهِ بِيَدَيْهِ، فَيَقُولُ: أَنَا اللهُ - وَيَقْبِضُ أَصَابِعَهُ وَيَبْسُطُهَا - أَنَا الْمَلِكُ " حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلِ شَيْءٍ مِنْهُ، حَتَّى إِنِّي لَأَقُولُ: أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟

(2)

.

ومن الأدلة على عظمة الله، عظمة مخلوقاته، ومن ذلك قال تعالى:{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} غافر: 57

وقال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} الواقعة: 75 - 76

وقال النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ، إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِ مِائَةِ عَامٍ»

(3)

.

وقَالَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ مَعَ الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، وَفَضْلُ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ الْفَلَاةِ عَلَى الْحَلْقَةِ"

(4)

.

(1)

أخرجه مسلم (4/ 2148) ح (2788).

(2)

أخرجه مسلم (4/ 2148) ح (2788).

(3)

أخرجه أبو داود (4/ 232) ح (4727)، وقال ابن كثير في تفسيره (8/ 212):" وهذا إسناد جيد، رجاله ثقات"، وقال الذهبي في العلو للعلي الغفار (97) ح (234):"إسناده صحيح"، وفي فتح الباري لابن حجر (8/ 665):"إسناده على شرط الصحيح"، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 282) ح (151).

(4)

أخرجه محمد ابن أبي شيبة في العرش (432) ح (58)، وابن حبان في صحيحه (2/ 76) ح (361)، وابن بطة في الإبانة الكبرى (7/ 181) ح (136)، وفي فتح الباري لابن حجر (13/ 411):"وفي حديث أبي ذر الطويل الذي صححه بن حبان .. وله شاهد عن مجاهد أخرجه سعيد بن منصور في التفسير بسند صحيح عنه"، وصححه الألباني بمجموع طرقه في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 226) ح (109).

ص: 80

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ:«مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرَضُونَ السَّبْعُ فِي يَدِ اللَّهِ إِلَّا كَخَرْدَلَةٍ فِي يَدِ أَحَدِكُمْ»

(1)

.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " فالسموات السبع والأرضين السبع في كفه تعالى كخردلة في كف أحدكم، يعني: السموات السبع على عظمها والأرضين السبع مثلما لو وضع الإنسان في يده خردلة -وهي حبة الخردل التي بكبر حبة السمسم- وهذا أيضا تمثيل على سبيل التقريب، وإلا فالله تعالى أعظم وأجل، فكل المخلوقات بالنسبة له تعالى ليست بشيء"

(2)

.

‌المطلب السادس: أثر عمل القلب على عبادة السجود، وفيه مسائل

.

‌المسألة الأولى: السجود أعظم موقف يقرب فيه العبد من ربه:

قال تعالى {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} العلق: 19، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ» ، وقال صلى الله عليه وسلم:«فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عز وجل، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ»

(3)

.

والسجود أعظم ما يظهر فيه ذل العبد لربه عز وجل، حيث يجعل أشرف ما فيه من الأعضاء وأعزها عليه وأعلاها حقيقة أوضع ما يمكنه، فيضعه في التراب متعفرًا، ويتبع ذلك انكسار القلب وتواضعه وخشوعه لله عز وجل

(4)

.

(1)

تفسير الطبري ط هجر (20/ 246).

(2)

تفسير العثيمين لسورة سبأ (171).

(3)

أخرجه مسلم (1/ 348) ح (479).

(4)

ينظر: الذل والانكسار للعزيز الجبار، وهو ضمن مجموع رسائل ابن رجب (304).

ص: 81

‌المسألة الثانية: من أذكار السجود:

ويكرر في كل سجدة (سبحان ربي الأعلى) على الأقل ثلاث مرات

وفي حديث حذيفة في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل قال رضي الله عنه: ثُمَّ سَجَدَ، فَقَالَ:«سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى» .

وعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ إِذَا رَكَعَ:«سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَإِذَا سَجَدَ قَالَ «سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

وفي صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للشيخ الألباني رحمه الله: " وكان صلى الله عليه وسلم يقول في هذا الركن أنواعاً من الأذكار والأدعية تارة هذا وتارة هذا:

- (أحمد وأبو داود وابن ماجه والدارقطني): (سبحان ربي الأعلى (ثلاث مرات).

و (كان أحياناً يكررها أكثر من ذلك).

وبالغ في تكرارها مرة في صلاة الليل حتى كان سجوده قريباً من قيامه وكان قرأ فيه ثلاثة سور من الطوال: البقرة والنساء وآل عمران يتخللها دعاء واستغفار ..

- (مسلم وأبو عوانة): " سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ".

- (البخاري ومسلم): "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي "، وكان يكثر منه في ركوعه وسجوده يَتَأَوَّلُ القُرْآنَ.

- (مسلم وأبو عوانة): «اللهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ [وأنت ربي]، سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ، وَصَوَّرَهُ [فأحسن صوره]، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، [ف] تَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ» .

- (مسلم وأبو عوانة): «اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ دِقَّهُ، وَجِلَّهُ، وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ وَعَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ» .

- (أبو داود والنسائي بسند صحيح): «سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ» ، وهذا وما بعده كان يقوله في صلاة الليل.

- (ابن شيبة والنسائي وصححه الحاكم): «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ» .

ص: 82

- (مسلم وأبو عوانة): «اللهُمَّ اجْعَلْ لِي فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي لِسَانِي نُورًا، وَفِي سَمْعِي نُورًا، وَفِي بَصَرِي نُورًا، وَمِنْ فَوْقِي نُورًا، وَمِنْ تَحْتِي نُورًا، وَعَنْ يَمِينِي نُورًا، وَعَنْ شِمَالِي نُورًا، وَمِنْ بَيْنِ يَدَيَّ نُورًا، وَمِنْ خَلْفِي نُورًا، وَاجْعَلْ فِي نَفْسِي نُورًا، وَأَعْظِمْ لِي نُورًا» .

- (مسلم وأبو عوانة): «[اللهُمَّ] [إني] أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، [وَأَعُوذُ] بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» "

(1)

.

‌المسألة الثالثة: أثر عمل القلب في عبادة السجود:

قال صلى الله عليه وسلم: « .. وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» .

والسجود ذل وخضوع لله في القلب يظهر أثره على الجوارح، " فيضع أشرف شيء فيه وهو وجهه على التراب خشوعاً لربه واستكانة وخضوعاً لعظمته وذلا لعزته قد انكسر له قلبه وذل له جسمه وخشعت له جوارحه"

(2)

، فحين يضع العبد وجهه على الأرض بين يدي ربه يذكره ويدعوه وهو قريب من القريب الذي قال عن نفسه:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} البقرة: 186

وقَالَ صلى الله عليه وسلم: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ» ، والسجود والدعاء من أعظم مواقف الذل والخضوع لله المؤدي إلى خشوع القلب الذي يظهر أثره على الجوارح.

وإذا قال العبد المؤمن في سجوده (سبحان ربي الأعلى) وكررها وقلبه حاضر وهو يدرك معنى ما يقول، وفرغ قلبه لله، وتذكر قربه من ربه في هذا الموقف، وشهد بعين قلبه علو الله على جميع خلقه، وهو أقرب ما يكون إلى عبده في موقف السجود، شعر بذله بين يدي الله وخضوعه له، فناسب في هذا الحال من خضوع العبد لربه في حال سجوده أن يكرر سبحان ربي الأعلى، ليغرس في قلبه مع كثرة التكرار الشعور بعلو الله تعالى على جميع مخلوقاته علو

(1)

ينظر: صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم الألباني (145 - 146).

(2)

مفتاح دار السعادة (2/ 3).

ص: 83

الذات وعلو القدر والشأن وعلو القهر، كما قال تعالى عن نفسه في آيات كثيرة تثبت علو الله سبحانه، ومنها قوله تعالى:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} الأعلى: 1

وقال تعالى: {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} الليل: 20

وقال تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} البقرة: 255

وقال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} الحج: 62

وقال تعالى: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} غافر: 12

وقال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} الأنعام: 18

وقال تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} آل عمران: 55

وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} فاطر: 10

والآيات في إثبات علو الله أكثر من أن تحصر.

والأحاديث كثيرة جداً منها حديث المعراج وفرضية الصلاة فوق السموات، وقد سبق.

وكذلك من الآثار العظيمة للدعاء في هذا الموقف العظيم في حال سجود العبد وقربه من ربه القريب ممن دعاه، وهو أقرب ما يكون منه في سجوده بين يدي ربه كما سبق، فإذا حضرت في القلب هذه المعاني العظيمة تعلق بالله وأظهر فقره لله وشدة حاجته إليه وألح على الله في دعائه وحاجته وانكسر القلب وذل بين يدي ربه وأقبل على الله بحضور قلب، فإن هذه المعاني القلبية من أعظم أسباب استجابة الدعاء؛ لأن غفلة القلب عن الله في الدعاء تجعله لا

ص: 84

يقبله، وقال صلى الله عليه وسلم:«ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ»

(1)

.

‌المطلب السابع: عمل القلب وأثره على طمأنينة العبد في صلاته، وفيه توطئة ومسائل

.

توطئة:

الطمأنينة في الصلاة، وبالأخص في الركوع والسجود ركن عظيم من أركان الصلاة له أثره الكبير على صلاة العبد، فيجد لذتها وأثرها عليه في سلوكه وأخلاقه، كما قال الله تعالى:

{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} العنكبوت: 45

‌المسألة الأولى: معنى الطمأنينة:

ومعنى الطمأنينة في اللغة بمعنى السكون والاستقرار والثبات

(2)

، والمعنى الشرعي قريب من المعنى اللغوي، فهو كما قال ابن القيم رحمه الله:"وحقيقة الطمأنينة: السكون والاستقرار"

(3)

والمقصود بها في الصلاة كما يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "والأصح: أن الطمأنينة بقدر القول الواجب في الركن، وهي مأخوذة من اطمأن إذا تمهل واستقر، فكيف يقال لشخص لما رفع من الركوع قال: سمع الله لمن حمده، ثم كبر للسجود، كيف يقال: هذا

(1)

أخرجه أحمد (11/ 235) ح (6655)، والترمذي واللفظ له (5/ 517) ح (3479) وقال:«هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه» ، والحاكم (1/ 670) ح (1817) وقال:"هذا حديث مستقيم الإسناد تفرد به صالح المري، وهو أحد زهاد أهل البصرة، ولم يخرجاه "، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 148) ح (17203):"رواه أحمد، وإسناده حسن". والحديث حسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير (1/ 108) ح (245) وذكره في السلسلة الصحيحة (2/ 141) ح (594).

(2)

ينظر: المعجم الوسيط (2/ 566).

(3)

إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 76).

ص: 85

مطمئن؟ كيف يقال لشخص لما رفع من السجود قال: الله أكبر، ثم سجد السجدة الثانية، يعني: سكن لحظة، هذا مطمئن؟ "

(1)

‌المسألة الثانية: الحكمة من الطمأنينة:

وقال رحمه الله

(2)

: "والحكمة من الطمأنينة: أن الصلاة عبادة، يناجي الإنسان فيها ربه، فإذا لم يطمئن فيها صارت كأنها لعب.

فهل نحن متعبدون بأن نأتي بحركات مجردة؟ لا والله، ولو كانت الصلاة مجرد حركات وأقوال لخرجنا منها بمجرد إبراء الذمة فقط، أما أن تعطي القلب حياة ونوراً؛ فهذا لا يمكن أن يحصل بصلاة ليس فيها طمأنينة، والنبي عليه الصلاة والسلام قال:«الصَّلَاةُ نُورٌ»

(3)

نور في القلب، والوجه، والقبر، فهي على اسمها، هي كلها نور، فهل نحن إذا انصرفنا من صلاتنا على هذا الوجه نجد نوراً في قلوبنا؟

إذا لم نجد؛ فالصلاة فيها نقص بلا شك.

ولهذا يذكر عن بعض السلف

(4)

قال: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده من الله إلا بعداً» ، لأنه لو صلى الصلاة الكاملة للزم أن تنهاه عن الفحشاء والمنكر، لأن الله يقول:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] فهذا خبر من الله مؤكد بـ «إن» .

فإذا صليت صلاة لا تجد قلبك منتهياً عن الفحشاء والمنكر، فاعلم أنك لم تصل إلا صلاة تبرأ بها الذمة فقط، وكم تشاهدون الإنسان يدخل في صلاته ويخرج منها كما هو لا يجد أثراً؟ وإذا منّ الله عليه يوماً من الأيام، وصار قلبه حاضراً واطمأن وتمهل وتدبر ما يقول

(1)

الشرح الممتع (3/ 308)، ويدل كلام الشيخ رحمه الله على أن هذا لم يطمئن، لأنه لم يأت بالذكر الواجب.

(2)

أي الشيخ ابن عثيمين.

(3)

أخرجه مسلم (1/ 203) ح (223)

(4)

أثر عن ابن مسعود رضي الله عنه. ينظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (2/ 258) ح (3558).

ص: 86

ويفعل؛ خرج على خلاف ما دخل، ووجد أثراً وطعماً يتطعمه، ولو بعد حين، يتذكر تلك الصلاة التي كان فيها حاضر القلب مطمئناً.

الحاصل: أن الطمأنينة لا بد منها، فهي والخشوع روح الصلاة في الحقيقة"

(1)

.

‌المسألة الثالثة: الأدلة على أن الطمأنينة ركن في جميع الصلاة، وخطورة التساهل فيها:

والطمأنينة في جميع أركان الصلاة من أهم العلامات الدالة على خشوع العبد لربه، وشعوره بأن الله يراه، فهو يستحي من ربه ولذلك يحرص على الطمأنينة في جميع صلاته، ولهذا جاءت نصوص السنة ببيان أهميتها وخطر التساهل فيها، ومن ذلك:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ المَسْجِدَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ، فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَرَدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عليه السلام، فَقَالَ:«ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» ، فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» ثَلَاثًا، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، فَمَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي، قَالَ:«إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا»

(2)

.

وأحب أن أنقل لكم الأحاديث التي وردت في كتاب صحيح الترغيب والترهيب للألباني

(3)

عن التحذير من عدم الطمأنينة في الركوع والسجود وحرصت على نقل أكثرها لأهميتها ولعظيم الحاجة لذلك

(4)

، تحت عنوان:

(1)

الشرح الممتع على زاد المستقنع (3/ 308 - 309).

(2)

أخرجه البخاري (1/ 158) ح (793)، ومسلم (1/ 298) ح (397).

(3)

وأصل الكتاب الترغيب والترهيب للإمام المنذري رحمة الله على الجميع، وقد قمت بحذف التخريج وبعض الأحاديث اختصاراً، وأبقيت على حكم الشيخ على الحديث لأنه مقصود.

(4)

وهنا يحسن التنبيه أن التمعن في قراءة هذه الأحاديث والاطلاع عليها كاملة يجعل القاريء أو السامع يخرج بمعلومة كافية عن أهمية الطمأنينة في الصلاة.

ص: 87

(الترهيب من عدم إتمام الركوع والسجود، إقامة الصُّلْب

(1)

بينهما، وما جاء في الخشوع).

-[صحيح] عن أبي مسعودٍ البدريّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُجزئ صلاةُ الرجلِ حتى يُقِيمَ ظَهرَه في الركوعِ والسجودِ".

-[صحيح لغيره] وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسوأُ الناسِ سرقةً الذي يَسرقُ من صلاتِه".

قالوا: يا رسول اللهِ! كيف يَسرقُ من صلاته؟ قال: "لا يتمُّ رُكوعَها ولا سجودهَا. أو قال: لا يقيمُ صُلبَه في الركوع والسجود".

-[صحيح] وعن علي بن شَيبان رضي الله عنه قال: خرجنا حتى قَدِمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعناه، وصلَّينا خلفه، فَلَمَحَ بِمُؤَخّرِ عينه رجلاً لا يقيم صلاته يعني صُلبَه في الركوع، فلما قضى النبيُّ صلى الله عليه وسلم صلاتَه قال:"يا معشرَ المسلمين! لا صلاةَ لمن لا يقيمُ صُلبَه في الركوعِ والسجود".

-[حسن صحيح] وعن طَلْق بن عليّ الحَنَفيّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينظر اللهُ إلى صلاة عبدٍ لا يُقيمُ فيها صُلبَه بين ركوعِها وسجودها".

-[حسن] وعن أبي عبد الله الأشعريّ: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً لا يُتِمُّ ركوعَه، وَينْقُرُ في سجودِه، وهو يصلّي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو مات هذا على حاله هذه؛ مات على غيرِ مِلَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ".

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثَل الذي لا يُتمُّ ركوعَه، ويَنْقرُ في سجودِهِ مثَلُ الجائع؛ يأْكُلُ التمرةَ والتمرتين؛ لا يُغنِيان عنه شيئاً".

(1)

الصلب: الظهر العمود الفقري.

ص: 88

قال أبو صالح: "قلت لأبي عبد الله: مَنْ حدَّثك بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أمراءُ الأجناد: عَمرُو بنُ العاصي، وخالدُ بنُ الوليد، وشُرَحْبيلُ بن حسَنة، سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

-[حسن] وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرجلَ ليصلِّي سِتينَ سنةً وما تُقبلُ له صلاةٌ، لعلّه يُتمَّ الركوعَ، ولا يُتمُّ السجودَ، ويُتمُّ السجودَ ولا يُتمَّ الركوع".

-[صحيح لغيره] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينظر اللهُ إلى عبدٍ لا يُقيم صُلْبَهُ بين ركوعِه وسجودِه".

-[صحيح] وعن رفاعةَ بن رافعٍ رضي الله عنه قال: كنتُ جالساً عندَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، إذْ جاءهُ رجلٌ فدخل المسجدَ فصلّى. فذكر الحديث .... ثم يكبِّر ويركع، فيضع كفيه على ركبتيه حتى تطمئن مفاصلُه وتسترخي، ثم يقول: سمع الله لمن حمدَه، ويستوي قائماً حتى يأخذَ كلُّ عظمٍ مأْخذه، وُيقيمَ صُلبَه، ثم يكبِّر، فيسجدُ، وُيمكِّنُ جبهتَه من الأرضِ، حتى تطمئنَّ مفاصلُه وتسترخي، ثم يكبِّر فيرفع رأسَه، ويستوي قاعداً على مَقْعدته، ويقيم صُلبه، فوصف الصلاة هكذا حتى فرغ ثم قال: لا تتم صلاةُ أحدِكُم حتى يفعلَ ذلك" الحديث.

وقال في آخره: "فإذا فعلتَ ذلك؛ فقد تمّت صلاتُك، وإنِ انتقصتَ منها شيئاً؛ انتقصتَ من صلاتك".

-[حسن] وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ الرجلَ لينصرفُ وما كُتِبَ له إلا عُشرُ صلاتِه، تُسعُها، ثُمنها، سُبعها، سُدسها، خُمسها، رُبعها، ثُلْثها، نِصفها".

-[حسن صحيح] وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصلاةُ ثلاثةُ أثلاثٍ، الطُّهورُ ثلثٌ، والركوع ثُلثٌ، والسجود ثلثٌ، فمَن أدّاها بحقِّها قُبلَتْ منه، وقُبل منه سائرُ عَمَلِه، ومَن رُدَّت عليه صلاتُه، رُدَّ عليه سائرُ عَمَلِه".

ص: 89

-[صحيح لغيره] وعن حُرَيْثِ بنِ قَبِيصةَ قال: قَدِمتُ المدينةَ وقلت: اللهم ارزقني جليساً صالحاً، قال: فجلست إلى أبي هريرة، فقلت: إني سألتُ اللهَ أن يرزقني جليساً صالحاً، فحدِّثْني بحديثٍ سمعتَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعل الله أن ينفعني به، فقال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ أوَّل ما يحاسبُ به العبدُ يومَ القيامةِ من عملهِ صلاتُه، فإنْ صَلَحَتْ فقد أفلحَ وأنجحَ، وإن فسدتْ فقد خاب وخسر، وإنِ انتقصَ من فريضتِه قال الله تعالى: انظروا هل لعبدي من تطوعٍ يُكمَلُ به ما انتُقصَ من الفريضة؟ ثم يكون سائرُ عملِه على ذلك".

[حسن] رواه مسلم والنسائي، وابن خزيمة في "صحيحه"، ولفظه: قال: صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهرَ، فلما سَلَّم، نادى رجلاً كان في آخرِ الصفوف، فقال:"يا فلان ألا تَتَّقي اللهَ! ألا تَنْظر كيف تُصلِّي؟ إنَّ أحدَكم إذا قام يصلِّي إنَّما يقوم يناجي رَبَّهُ، فلينظرْ كيف يناجيه، إنكم ترون أني لا أَراكم، إنّي واللهِ لأرى مِنْ خَلفِ ظهري، كما أرى مِنْ بين يديّ".

_[حسن صحيح] وعن أبي الدرداءِ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أولُ شيءٍ يُرفَع من هذه الأمةِ الخشوعُ، حتى لا ترى فيها خاشعاً".

-[صحيح] وعن مُطرَّفٍ عن أبيه رضي الله عنه قال:

رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي، وفي صدرِه أزيزٌ كأَزيزِ الرُّحى

(1)

، من البكاءِ.

رواه أبو داود والنسائي، ولفظه:

رأيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصلِّي ولجوفه أزيزٌ كأزيزِ المِرْجَلِ

(2)

. يعني يبكي.

ورواه ابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما" نحو رواية النسائي، إلا أنّ ابن خزيمة قال:"ولصدره".

(1)

(أزيز الرحى) هو صوت الرحي عند الطحن.

(2)

(المرجل) هو القِدْر، يعني أنَّ لجوفه حنيناً كصوت غليان القدر.

ص: 90

-[صحيح] وعن عليَّ رضي الله عنه قال: ما كان فينا فارسٌ يومَ بدرِ غيرَ المِقدادِ، ولقد رأيتُنا وما فينا إلا نائمٌ، إلا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تحت شجرةٍ، يُصلي ويبكي، حتى أصبح.

-[صحيح] وعن عقبةَ بنِ عامرٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم يتوضَّأُ فَيُسبغُ الوضوء، ثم يقومُ في صلاتِه، فيعلم ما يقول؛ إلا انْفَتَلَ وهو كيومَ ولَدَتْهُ أمُّه"

(1)

.

‌المطلب الثامن: أثر عمل القلب على التشهد وجلسته، وفيه مسائل:

‌المسألة الأولى: جلسة التشهد ولفظ التشهد الأول، والثاني

.

فإذا جلس المؤمن للتشهد"شرع له أن يجلس .. جلسة المتخشع المتذلل المستكين جاثياً على ركبتيه"

(2)

حاضر القلب يدرك معنى ما يقوله في صلاته، وقد جاهد نفسه على تفريغ قلبه لله في صلاته، فجلس للتشهد بأدب بين يدي ربه مقبلاً عليه بوجهه وقلبه، يعلم ما يقوله بلسانه من ألفاظ التشهد يتدبر المعنى بقلبه، فيقول:"التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، فَإِذَا قَالَهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ"

(3)

.

وهذا التشهد الأول في الثلاثية والرباعية، وفي التشهد الآخر يضيف الصلاة الإبراهمية، ولها عدة صيغ من أشهرها:"اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ "

(4)

.

(1)

ينظر: صحيح الترغيب والترهيب (1/ 345 355).

(2)

الصلاة وأحكام تاركها لابن القيم (150).

(3)

أخرجه البخاري (8/ 51) ح (6230)، ومسلم (1/ 301) ح (402).

(4)

أخرجه البخاري (4/ 146) ح (3370).

ص: 91

وقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ مِنْ أَرْبَعٍ يَقُولُ: اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ "

(1)

.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " وفي التعوّذ من هذه الأربع قولان:

القول الأول: أنه واجب، وهو رواية عن الإمام أحمد، لما يلي:

1 ـ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بها.

2 ـ ولشدَّة خطرها وعظمها.

والقول الثاني: أنه سُنَّة، وبه قال جمهور العلماء.

ولا شَكَّ أنه لا ينبغي الإخلالُ بها، فإن أخلَّ بها فهو على خَطَرٍ من أمرين:

1 ـ الإثم.

2 ـ ألا تصح صلاته، ولهذا كان بعضُ السَّلف

(2)

يأمر مَنْ لم يتعوَّذ منها بإعادة الصَّلاة"

(3)

.

‌المسألة الثانية: أدعية ما قبل التسليم:

ثم يدعو بما أحب قال صلى الله عليه وسلم: "ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ، فَيَدْعُو "

(4)

.

وقد ورد في السنة أدعية كثيرة تقال قبل السلام، وليست بواجبة، منها:

1 -

" .. اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ"

(5)

.

(1)

أخرجه مسلم (1/ 412) ح (588)، وهذا لفظه، وفي لفظ صحيح عند ابن ماجه (1/ 294) ح (909) وغيره: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ: مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ ".

(2)

أثر عن طاووس رحمه الله. ينظر: المحلى بالآثار (2/ 302)، المجموع شرح المهذب (3/ 470).

(3)

الشرح الممتع على زاد المستقنع (3/ 199 - 200).

(4)

صحيح البخاري (1/ 167) ح (835).

(5)

أخرجه البخاري (1/ 166) ح (834) ومسلم (4/ 2078) ح (2705).

ص: 92

2 -

«اللهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ»

(1)

.

3 -

«اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، إِنِّي أَسْأَلُكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ: «تَدْرُونَ بِمَا دَعَا؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ، الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى»

(2)

.

4 -

"اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِاللهِ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ الصَّمَدِ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ "، قَالَ: فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " قَدْ غُفِرَ لَهُ، قَدْ غُفِرَ لَهُ، قَدْ غُفِرَ لَهُ " ثَلَاثَ مِرَارٍ

(3)

.

وغير ذلك من الأدعية التي وردت في السنة، والموطن من مواطن الدعاء.

‌المسألة الثالثة: أثر عمل القلب في عبادة التشهد، ويتلخص ذلك في الأمور الآتية:

أولاً: ينبغي أن يستصحب المجاهدة لحضور القلب وفهمه لما يقوله المؤمن في صلاته، وعدم الغفلة عن ذلك مع الاستمرار وعدم الانقطاع:

ونتذكر أحاديث الحث على حضور القلب في الصلاة التي سبق ذكرها وأعيدها لأهمية التذكير بها، ويجاهد نفسه على تذكر هذه الأمور في سائر صلاته من أولها إلى آخرها، وإليك ما سبق ذكره من الأحاديث التي لا ينبغي أن تغيب عن ذهن المصلي، فإذا حصل شيء من

(1)

أخرجه مسلم (1/ 535) ح (771).

(2)

أخرجه أحمد (20/ 61) ح (12611)، والنسائي (3/ 52) ح (1300)، وصححه الألباني في تخريجه لسنن النسائي ح (1300)، وقال محقق المسند (20/ 61):"حديث صحيح، وهذا إسناد قوي".

(3)

أخرجه أحمد (31/ 310) ح (18974)، وأبو داود (2/ 229) ح (985)، وصححه الحاكم (1/ 400) ح (985) ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في تحقيقه لسنن أبي داود ح (985)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن أبي داود (2/ 230) ح (985):" إسناده صحيح".

ص: 93

القصور أثناء صلاته وانصرف القلب بسبب طبيعة النفس البشرية، وسوسة الشيطان له، عاد سريعاً إلى التذكر والانتباه؛ لأنه في مجاهدة مع الشيطان الذي يريد يخرجه من صلاته بأقل المكاسب.

قال صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ ".

وقال صلى الله عليه وسلم: «فَإِنْ هُوَ قَامَ فَصَلَّى، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَمَجَّدَهُ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، وَفَرَّغَ قَلْبَهُ لِلَّهِ، إِلَّا انْصَرَفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» .

وقال صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُومُ فِي صَلَاتِهِ فَيَعْلَمُ مَا يَقُولُ إِلَّا انْفَتَلَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ مِنَ الْخَطَايَا لَيْسَ عَلَيْهِ ذَنْبٌ» .

وقال صلى الله عليه وسلم: «لَا يَزَالُ اللَّهُ عز وجل مُقْبِلًا عَلَى الْعَبْدِ، وَهُوَ فِي صَلَاتِهِ، مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا الْتَفَتَ انْصَرَفَ عَنْهُ» .

وقال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي إِنَّمَا يَقُومُ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلْيَنْظُرْ كَيْفَ يُنَاجِيهِ".

والتشهد دعاء وفي آخره موطن دعاء، فلا بد أن يتذكر العبد أهمية حضور القلب في دعائه، وكما سبق في الحديث يقول صلى الله عليه وسلم:«ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ» .

ثانياً: أن يتدبر ويفهم ويفقه معنى التشهد، فيقوله بلسانه وقلبه يدرك معنى ما يقول.

وإليك ملخصاً لمعاني التشهد مع بيان أثر عمل القلب على ذلك:

1 -

" التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ " يقوله بلسانه متدبراً بقلبه معاني ما يقوله:

- "التحيات لله": أي أنك بهذه التحيات تحيي الله وتعظمه تعظيماً يليق بجلاله وعظمته، وتحضر قلبك وذهنك وتشعر بعظمة الموقف وأنت بين يديه سبحانه وتعالى تناجيه وتوجه له هذه التحيات، وكم يفرح من الناس من إذا قابل عظيماً من البشر فحياه وسلم عليه!

ص: 94

- "والصلوات": لله خالصة وهو المستحق لها وحده لا شريك له، وذلك صلاة الفرض والنفل، ويدخل في ذلك الدعاء لأنه يقال للصلاة في اللغة دعاء.

- "والطيبات": لله وتشمل ما يتعلق بالله وما يتعلق بفعل العبد، فالله طيب في ذاته وصفاته وأفعاله وأقواله لا يقبل من العبد إلا الطيب من القول والفعل، كما في الحديث يقول رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)} المؤمنون: 51، وَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} البقرة: 172، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟ "

(1)

.

فالله طيب لا يليق به إلا الطيب من الأفعال والأقوال الصادرة من الخلق، فلا يرفع إلى الله من عمل العبد أو قوله إلا ما كان طيباً قال تعالى:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} فاطر: 10

واما ضد الطيب فهو الخبيث أو ما ليس بخبيث ولا طيب، وكل ذلك الله منزه عنه، لأنه سبحانه له الأوصاف العليا {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الروم: 27، فلا يمكن أن يكون في أوصافه أو أفعاله أو أقواله ما ليس بطيب ولا خبيث، بل كل أفعاله وأقواله وصفاته كلها طيبة.

(1)

أخرجه مسلم (2/ 703) ح (1015).

ص: 95

أما ما يصدر من الخلق؛ فمنه ما هو طيب، ومنه ما هو خبيث، ومنه ما ليس كذلك، والله لا يقبل إلا الطيب، وما ليس بطيب فهو إلى الأرض لا يصعد إلى السماء

(1)

.

2 -

" السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ ":

والمؤمن في صلاته يوجه هذا السلام إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كأنه أمامه يستحضر بقلبه نبيه وحبيبه وقرة عينه صلى الله عليه وسلم، وإن كان صلى الله عليه وسلم ليس حاضراً عنده بل هو في الحقيقة حاضر في قلبه، كما يقول ابن تيمية رحمه الله:" والمسلمون يقولون في صلاتهم: " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته " وليس هو حاضراً عندهم ولكنه حاضر في قلوبهم"

(2)

.

وملخص معناه: دعاء من المصلي لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يسلمه الله ويرحمه وينزل عليه بركاته.

وقال ابن رجب رحمه الله: "وفي تفسير (السلام على فلان) قولان:

أحدهما: أن المراد بالسلام اسم الله، يعني: فكأنه يقول: اسم الله عليك.

والثاني: أن المراد: سلّم الله عليك تسليماً وسلاماً، ومن سلّم عليه الله فقد سلم من الآفات كلها ثم أقرهم أن يسلموا على النبي بخصوصه ابتداءً؛ فإنه أشرف المخلوقين وأفضلهم، وحقه على الأمة أوجب من سائر الخلق؛ لأن هدايتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة كان بتعليمه وإرشاده صلى الله عليه وسلم تسليماً، وجزاه عنا أفضل ما جزى نبياً عن أمته"

(3)

.

والمراد بالسلام: اسم الله عز وجل كما قال الله تعالى عن نفسه: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ} الحشر: 23، ومعنى سلام الله على الرسول، أي بالحفظ، والكلاءة، والعناية،

(1)

ينظر: الشرح الممتع على زاد المستقنع (3/ 148).

(2)

منهاج السنة النبوية (3/ 368).

(3)

فتح الباري لابن رجب (7/ 328).

ص: 96

فكأننا نقول: الله عليك، أي: رقيب حافظ معتنٍ بك، حافظ لك من الآفات، وما أشبه ذلك.

وقيل: السلام بمعنى التسليم، أي: ندعو له بالسلامة والنجاة من كل آفة في الدنيا والآخرة، وهذا واضح في حال حياته صلى الله عليه وسلم، لكن بعد مماته، كيف يناسب أن ندعو له بالسلامة؟ والجواب ليس الدعاء بالسلامة مقصوراً في حال الحياة، فهناك أهوال يوم القيامة؛ ولهذا كان دعاء الرسل أثناء عبور الناس الصراط:"اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ"

(1)

، فالمرء لا ينتهي من المخاوف والآفات بمجرد موته.

وقد يكون السلام بمعنى أعم؛ وهو السلام على شرعه وسنته وسلامتها من أن تنالها أيدي العابثين

(2)

.

ويتذكر بقلبه حين يقول في تشهده: " السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ " أموراً، منها:

الأول: يتذكر فضله صلى الله عليه وسلم العظيم عليه بعد فضل الله في دلالته له على طريق الجنة وتحذيره من طرق النار، فما من خير يسعدها في الدنيا والآخرة إلا وقد دل أمته عليه، ولا من شر يشقيها في الدنيا والآخرة إلا وحذرها منه، قال تعالى في وصفه وبيان حرصه صلى الله عليه وسلم على أمته وشفقته ورحمته العظيمة بها:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].

(1)

أخرجه البخاري (1/ 160) ح (806)، ومسلم (1/ 163) ح (182).

(2)

ينظر: الشرح الممتع على زاد المستقنع (3/ 150 - 153)، والخشوع في الصلاة في ضوء الكتاب والسنة (314 - 315) مع بعض التصرف.

ص: 97

وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه؛ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليسَ مِنْ عمَلٍ يُقرِّبُ مِنَ الجنَّةِ إلا قد أمْرتُكم به، ولا مِنْ عَملٍ يقرِّبُ إلى النارِ إلا وقد نهْيتُكُم عنه .. " الحديث

(1)

.

الثاني: يتذكر بقلبه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عليه السلام»

(2)

.

وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الْأَرْضِ يُبَلِّغُونِي مِنْ أُمَّتِي السَّلَامَ»

(3)

.

الثالث: فضل السلام عليه: صلى الله عليه وسلم

امتثال قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} الأحزاب: 56.

وفي الحديث أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ وَالْبُشْرَى فِي وَجْهِهِ، فَقُلْنَا: إِنَّا لَنَرَى الْبُشْرَى فِي وَجْهِكَ، فَقَالَ: " إِنَّهُ أَتَانِي الْمَلَكُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ رَبَّكَ يَقُولُ: أَمَا

(1)

أخرجه الحاكم (2/ 5) ح (2136)، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 311) ح (1700):"صحيح لغيره".

(2)

أخرجه أحمد (16/ 477) ح (10815)، وأبو داود (2/ 218) ح (2041)، وقال في فتح الباري لابن حجر (6/ 488):" ورواته ثقات"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 293) ح (1666)، وقال محقق المسند:" إسناده حسن".

(3)

أخرجه أحمد (6/ 183) ح (3666)، والنسائي (3/ 43) ح (1282) وصححه الحاكم (2/ 456) ح (3576) ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 292) ح (1664)، وقال محقق المسند:" إسناده صحيح على شرط مسلم".

ص: 98

يُرْضِيكَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْكَ أَحَدٌ إِلَّا صَلَّيْتُ عَلَيْهِ عَشْرًا، وَلَا يُسَلِّمُ عَلَيْكَ أَحَدٌ، إِلَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ عَشْرًا "

(1)

.

3 -

" السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، فَإِذَا قَالَهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ "

فهو يطلب بهذا الدعاء السلامة من كل شر له ولجميع عباد الله الصالحين من الأنس والجن والملائكة وعلى رأس هؤلاء الرسل والأنبياء، فإذا قال ذلك أصابت كل عبد لله صالح في السماء والأرض.

فهو يبدأ بنفسه بالدعاء ويثنّي بعباد الله الصالحين، وفي هذا دلالة على الارتباط بين المؤمن وإخوانه من عباد الله الصالحين في السماء والأرض، وهذا مما يزيد المؤمن ثباتاً على الحق، وهو يتذكر بقلبه أن معه على الحق من عباد لله الصالحين كثير لا يحصون من كثرتهم في السموات والأرض، فهو يدعو لنفسه ولهم، كما أنهم يدعون لأنفسهم وله.

والمراد بالعبد الصالح كما يقول أهل العلم كما ذكر شيخ الإسلام: "قال الزجاج وغيره: الصالح: "القائم بحقوق الله وحقوق عباده"

(2)

، ولفظ الصالح خلاف الفاسد؛ فإذا أطلق فهو الذي أصلح جميع أمره، فلم يكن فيه شيء من الفساد، فاستوت سريرته وعلانيته، وأقواله وأعماله على ما يرضى ربه"

(3)

.

(1)

أخرجه أحمد (26/ 280 - 281) ح (16361)، والنسائي (3/ 44) ح (1283)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 75) ح (71) وحسنه فيه مرة أخرى (1/ 438) ح (2198)، وقال في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 291) ح (1661) عن رواية أحمد:"حسن صحيح"، وقال محقق المسند (26/ 281):"حسن لغيره".

(2)

ذكره الزجاج في كتابه معاني القرآن وإعرابه (1/ 407) بلفظ: " الصالح الذي يؤَدي إِلى اللَّه ما عليه، ويؤَدي إلى

الناس حقوقهم".

(3)

الإيمان لابن تيمية (50).

ص: 99

4 -

" أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ":

ومعنى"أشهد أن لا إله إلا الله" أي: ينطق لساني ويقر قلبي، وأعلم يقيناً، أنه لا معبود بحق إلا الله وحده لا شريك له، والشاهدة هي الخبر القاطع، فهي أبلغ من مجرد الخبر؛ لأن الخبر قد يكون عن سماع، والشهادة تكون عن قطع، كأنما يشاهد الإنسان بعينيه ما شهد به.

ومعنى «لا إله إلا الله» : أي: لا معبود حق إلا الله،

و «لا إله إلا الله» كلمة التوحيد التي بعث الله بها جميع الرسل كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} الأنبياء: 25

(1)

، فهي الكلمة التي أرسل الله بها رسله وأنزل بها كتبه، ولأجلها خلقت الدنيا والآخرة والجنة والنار، وفي شأنها تكون الشقاوة والسعادة، وبها تؤخذ الكتب باليمين أو الشمال، ويقل الميزان أو يخف، وبها النجاة من النار بعد الورود، وبعدم إلتزامها البقاء في النار، وبها أخذ الله الميثاق، وعليها الجزاء والمحاسبة، وعنها السؤال يوم التلاق، وهي أعظم نعمة أنعم الله عز وجل بها على عباده أن هداهم إليها، وهي كلمة الشهادة ومفتاح دار السعادة، وهي أصل الدين وأساسه ورأس أمره وساق شجرته وعمود فسطاطه، وبقية أركان الدين وفرائضه متفرعة عنها، متشعبة منها، مكملات لها، مقيدة بالتزام معناها والعمل بمقتضاها، فهي العروة الوثقى، وهي الحسنى، وهي كلمة الحق، وهي كلمة التقوى، ولها فضائل كثيرة تجل عن الحصر، وقد ذكر العلامة حافظ حكمي طرفاً حسناً منها مع أدلتها في كتابه معارج القبول

(2)

.

(1)

ينظر: الشرح الممتع لابن عثيمين (3/ 156).

(2)

ينظر: معارج القبول (2/ 410 - 414).

ص: 100

5 -

"وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ"

ويشهد بلسانه مقراً بقلبه وهو عالم بما يقوله بأن محمداً صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله، فهو يشهد له بالعبودية لله تعالى وأنه مرسل من الله تعالى، وهذه الشهادة تقتضي أموراً، منها:

1 -

الإقرار بعبودية النبي صلى الله عليه وسلم لربه، فهو عبد لله بشر من البشر ليس له شراكة مع الله، وتميز بما أعطاه الله من الوحي، وبما جبله الله عليه من العبادة، والأخلاق العظيمة، قال تعالى عنه:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} الكهف: 110

وقال تعالى في الثناء على خُلُقِه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} القلم: 4

وأمره الله أن يقول: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} الأنعام: 50

وقال تعالى في آية أخرى عنه: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} الجن: 21 - 22

2 -

محبته صلى الله عليه وسلم محبة تفوق محبة النفس والوالد والولد والمال، وجميع الناس.

3 -

طاعته فيما أمر.

4 -

تصدقيه فيما أخبر.

5 -

ألا يعبد الله إلا بما شرع.

6 -

الحذر من الوقوع في الغلو فيه صلى الله عليه وسلم وذلك برفعه فوق منزلة العبودية والرسالة، وجعل شيء له من خصائص الله تعالى، ولهذا حذر الله من ذلك كما سبق، وحذر صلى الله عليه وسلم أمته

ص: 101

7 -

فقال: «لَا تُطْرُونِي، كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ، وَرَسُولُهُ»

(1)

.

ثالثاً: أن يدرك معاني الصلاة الإبراهيمية:

"اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ".

1 -

ومعنى" اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ":

وهذا دعاء أن يصلي الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وصلاة الله على نبيه معناها: ثناء الله على رسوله في الملأ الأعلى

(2)

.

"وعلى آل محمد": وهم قرابته الذين لا تحل لهم الصدقة

(3)

، ويدخل فيهم زوجاته رضي الله عنهن

(4)

.

2 -

" كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ ":

أي صلي على نبيك محمد وآله كما تفضلت بالصلاة على إبراهيم وآله.

3 -

" اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ ":

وهذا دعاء بأن ينزل الله البركة على محمد وآله كما تفضل بها على إبراهيم وآله، والبركة: كثرة الخير والكرامة مع الثبات والاستمرار

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري (4/ 167) ح (3445).

(2)

كما رواه البخاري (6/ 120) عن أبي العالية معلقاً بصيغة الجزم ولفظه: " صَلَاةُ اللَّهِ: ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ المَلَائِكَةِ".

(3)

ينظر: فتح الباري لابن حجر (11/ 160).

(4)

مجموع الفتاوى (22/ 461).

(5)

ينظر: شرح النووي على مسلم (4/ 125)، الشرح الممتع على زاد المستقنع (3/ 167).

ص: 102

4 -

" إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ":

" «حميد» : فعيل بمعنى فاعل، وبمعنى مفعول، فهو حامد ومحمود، حامد لعباده وأوليائه الذين قاموا بأمره، ومحمود يُحمدُ عز وجل على ما له من صفات الكمال، وجزيل الإنعام.

وأما «المجيد» : فهي فعيل بمعنى فاعل، أي: ذو المجد. والمجدُ هو: العظمة وكمالُ السُّلطان"

(1)

.

رابعاً: يتذكر بقلبه حين يقول في تشهده: الصلاة الإبراهيمية أموراً، منها:

الأول: امتثال قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} الأحزاب: 56.

الثاني: فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم:«مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى الله عَلَيْهِ عَشْرًا»

(2)

.

وفي الحديث الآخر أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ وَالْبُشْرَى فِي وَجْهِهِ، فَقُلْنَا: إِنَّا لَنَرَى الْبُشْرَى فِي وَجْهِكَ، فَقَالَ:" إِنَّهُ أَتَانِي الْمَلَكُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ رَبَّكَ يَقُولُ: أَمَا يُرْضِيكَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْكَ أَحَدٌ إِلَّا صَلَّيْتُ عَلَيْهِ عَشْرًا، وَلَا يُسَلِّمُ عَلَيْكَ أَحَدٌ، إِلَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ عَشْرًا ".

وقال صلى الله عليه وسلم: " .. وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَصَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي "

(3)

الحديث.

ويبلّغه صلى الله عليه وسلم صلاة أمته عليه وسلامهم الملائكة المخصصون بذلك كما سبق في الحديث: قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الْأَرْضِ يُبَلِّغُونِي مِنْ أُمَّتِي السَّلَامَ» ، فتذكر هذا بقلبك أيها المصلي في صلاتك أو خارجها حين تصلي وتسلم عليه صلى الله عليه وسلم.

(1)

الشرح الممتع على زاد المستقنع (3/ 168).

(2)

أخرجه مسلم (1/ 306) ح (408).

(3)

أخرجه أحمد (14/ 403) ح (8804)، وأبو داود (3/ 385) ح (2042)، وصحح إسناده النووي في الأذكار (115) ح (333)، وصحح سنده ابن حجر في فتح الباري (6/ 488)، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 293) ح (1665):"صحيح لغيره"، وقال محقق سنن أبي داود (3/ 385) ح (2042):"صحيح لغيره".

ص: 103

وللصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فوائد عظيمة وثمرات مباركة ذكر منها الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه القيم أكثر من ثلاثين فائدة، ومن أراد التوسع فليرجع للكتاب المذكور.

خامساً: أن يستحضر قلبه معاني الاستعاذة من هذه الأربع:

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ: مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ "، ويدرك أهمية الاستعاذة منها وكبير خطرها، وهذه بعض التنبيهات حول هذا الدعاء العظيم الذي ينبغي أن يذكر بلسان وقلب حاضر في التشهد الأخير من كل صلاة:

1 -

قرب الله من عبده الداعي، قال تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} البقرة: 186

2 -

وقال صلى الله عليه وسلم: «ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ» .

3 -

أهمية هذا الدعاء وعظيم الحاجة إليه، فقد جمع الاستعاذة بالله من أعظم الفتن وأشدها خطراً على العبد في الدنيا والآخرة.

4 -

ومعنى "فتنة المحيا والممات":

أي: اختبار المرء في دينه في حياته، وفي مماته، وأصل الفتنة: الامتحان والاختبار، وفتنة المحيا ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا وشهواتها، والجهالات، أو الابتلاء مع زوال الصبر ونحو ذلك، وهي فتنة عظيمة وشديدة، وقلّ من يتخلَّص منها إلا من شاء الله، وهي تدور على شيئين: شبهات، وشهوات.

أما الشبهات فسببها الجهل فتعرض للإنسان يلتبس عليه الحق بالباطل، فيرى الباطل حقاً، والحق باطلاً، وإذا رأى الحق باطلاً تجنبه، وإذا رأى الباطل حقاً فعله، وهذه فتنة عظيمة؛ فما أكثر الذين يرون الربا حقاً فينتهكونه، وما أكثر

ص: 104

الذين يرون غش الناس في البيع والشراء شطارة وجودة، وما أكثر الذين يرون النظر إلى النساء تلذذاً وتمتعاً بالحرام.

وأما الشهوات فمنشؤها الهوَى، فإن الإنسان يعرف الحق لكن لا يريده فله هوى مخالف لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فأنت تسأل الله العافية من أمراض القلوب التي هي أمراض الشبهات، وأمراض الشهوات.

وأما فتنة الممات فيراد بها ما يكون عند الموت في آخر الحياة، وما يكون بعد الموت مباشرة من سؤال الملكين للميت في قبره عن ربه، ودينه، ونبيِّه، والإنسان عند موته ووداع العمل صائر إمَّا إلى سعادة، وإمَّا إلى شقاوة، ضعيف النفس، ضعيف الإرادة، ضيق الصدر، فيأتيه الشيطان ليغويه؛ لأن هذا وقت المغنم للشيطان، حتى أنه - كما قال أهل العلم - فقد يعرض الشيطان لبعض الناس الأديان اليهودية والنصرانية، نسأل الله العافية والسلامة

(1)

، وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "أما عرض الأديان على العبد وقت الموت فليس هو أمراً عاماً لكل أحد، ولا هو أيضاً منتفياً عن كل أحد، بل من الناس من تعرض عليه الأديان قبل موته؛ ومنهم من لا تعرض عليه، وقد وقع ذلك لأقوام.

وهذا كله من فتنة المحيا والممات التي أمرنا أن نستعيذ منها في صلاتنا

ووقت الموت أحرص ما يكون الشيطان على إغواء بني آدم"

(2)

.

5 -

وأما بقية الفتن، فمعناها واضح وخطرها بينّ عظيم شديد، وإن كان بعضها يندرج تحت فتنة المحيا والممات إلا أنها خصت بالاستعاذة

(3)

؛ لعظيم خطرها على العبد.

(1)

ينظر: الخشوع في الصلاة في ضوء الكتاب والسنة (325 - 326)، الشرح الممتع (3/ 185 - 189).

(2)

مجموع الفتاوى (4/ 255) مع تصرف يسير.

(3)

فتنة الدجال، وعذاب القبر.

ص: 105

سادساً: أن يعي ويدرك بقلبه معاني الدعاء قبل السلام:

يدعو بلسان وقلب حاضر يعلم ما يقوله وآخر الصلاة موطن دعاء، وقد سبق من الكلام على هذه المسألة ما يغني عن إعادته.

‌المطلب التاسع: حضور القلب عند التسليم من الصلاة، وأذكار ما بعد السلام، وفيه مسائل

.

‌المسألة الأولى: التسليم:

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ»

(1)

.

ومعنى" وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ": قال ابن الأثير رحمه الله في النهاية في غريب الحديث: " أي صار المصلي بالتسليم يحل له ما حرم عليه فيها بالتكبير من الكلام والأفعال الخارجة عن كلام الصلاة وأفعالها، كما يحل للمحرم بالحج عند الفراغ منه ما كان حراماً عليه"

(2)

.

‌المسألة الثانية: أذكار ما بعد السلام مع ذكر أثر حضور القلب على ذلك:

خلاصة من الأذكار بعد السلام:

أولاً: الاستغفار ثلاثاً عقب التسليم، ثم يقول: اللهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ

(3)

.

(1)

أخرجه أحمد (2/ 322) ح (1072)، وأبو داود (1/ 16) ح (61)، والترمذي (1/ 8) ح (3)، وابن ماجه (1/ 101) ح (275)، والحاكم (1/ 223) ح (457) وصححه ووافقه الذهبي، وصحح إسناده النووي في المجموع شرح المهذب (3/ 289)، وقال ابن حجر في فتح الباري (2/ 322):" أخرجه أصحاب السنن بسند صحيح".

(2)

النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 429).

(3)

أخرجه مسلم (1/ 414) ح (591) ولفظه: عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا وَقَالَ:«اللهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» قَالَ الْوَلِيدُ: فَقُلْتُ لِلْأَوْزَاعِيِّ: " كَيْفَ الْاسْتِغْفَارُ؟ قَالَ: تَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ، أَسْتَغْفِرُ اللهَ ".

ص: 106

من آثار حضور القلب عند نطق اللسان بالاستغفار بعد الصلاة:

1 -

شعور العبد بالندم على تقصيره في صلاته.

2 -

يذهب أثر العُجْب بالعمل، لأنه يشعر بتقصيره العظيم في صلاته.

3 -

يقوي رغبة العبد في إصلاح الخلل في صلاته.

ثانياً: التهليل دبر الصلوات بهذه التهليلات:

- لَا إِلَهَ إِلَاّ الله وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَاّ بِاللهِ، لَا إِلَهَ إِلَاّ اللهُ، وَلَا نَعْبُدُ إِلَاّ إِيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الحَسَنُ، لَا إِلَهَ إِلَاّ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ

(1)

.

- لَا إِلَهَ إِلَاّ الله وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ

(2)

.

من آثار حضور القلب عند التهليل دبر الصلوات، إدراك معاني هذا التهليل وأثره، وهو يردده بلسانه بعد كل صلاة؛ لترسخ تلك المعاني في القلب، ومنها:

أ - " لَا إِلَهَ إِلَاّ الله وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ "، " لَا إِلَهَ إِلَاّ اللهُ، وَلَا نَعْبُدُ إِلَاّ إِيَّاهُ "، " لَا إِلَهَ إِلَاّ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ"

ربط القلب بتوحيد الله وإفراده بالعبادة وإخلاصها لله ولو كره الكافرون ذلك، لأن الكفار يحبون الشرك مع الله ويكرهون التوحيد وأهله العاملين به الذين يدعون إليه ويخلصون فيه لله رب العالمين.

(1)

أخرجه مسلم (1/ 415) ح (594).

(2)

أخرجه البخاري (8/ 72) ح (6330)، ومسلم (1/ 414) ح (593).

ص: 107

ب - " لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "، " لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الحَسَنُ".

الاعتراف بالقلب واللسان بأن الملك لله وله التدبير ومطلق التصرف في الدنيا والآخرة، وهو علي كل شيء قدير لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.

ت - "اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ".

الاعتراف لله بالقلب واللسان بأنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع كما قال تعالى:

{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} يونس: 107

وقال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فاطر: 2

وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} الأنعام: 17

وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: " .. وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ"

(1)

.

(1)

أخرجه الترمذي (4/ 667) ح (2516) وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (3/ 1459) ح (5302).

ص: 108

ث - ومعنى" لَا يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ": أي لا ينفع صاحب الغنى والحظ منك غناه، فالخلق كلهم مفتقرون إليك، ولا يستغني أحد منهم عن فضلك

(1)

.

ثالثاً: إدراك معاني بقية الأذكار ويستحضر آثارها وهو يرددها بلسانه، و لا يكون ذلك إلا بحضور القلب عند نطق اللسان:

1 -

يسبح الله ثلاثاً وثلاثين ويحمده مثل ذلك، ويكبره مثل ذلك، ويقول تمام المائة: لَا إِلَهَ إِلَاّ الله وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وذكر صلى الله عليه وسلم فائدته بقوله:" مَنْ سَبَّحَ اللهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَحَمِدَ اللهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبَّرَ اللهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَتْلِكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، وَقَالَ: تَمَامَ الْمِائَةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ "

(2)

.

2 -

ويقرأ آية الكرسي، وذكر صلى الله عليه وسلم فائدة ذلك بقوله: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ إِلَّا أَنْ يَمُوتَ»

(3)

.

(1)

ينظر: أعلام الحديث (شرح صحيح البخاري) للخطابي (1/ 551)، شرح النووي على مسلم (5/ 90).

(2)

أخرجه مسلم (1/ 418) ح (597).

(3)

أخرجه النسائي في السنن الكبرى (9/ 44) ح (9848)، والطبراني في كتاب الدعاء (214) ح (675)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 258) ح (1595).

ص: 109

3 -

ويقرأ بعد كل صلاة المعوذات: قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس

(1)

مرة واحدة، وسميت بالمعوذات تغليباً

(2)

.

4 -

عشر مرات بعد الفجر وبعد المغرب: لا إِلهَ إِلَاّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ يُحْيي وَيُمِيتُ وَهُوَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِير ٌ، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم فائدة ذلك بقوله:" مَنْ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ وَيَثْنِيَ رِجْلَهُ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، وَالصُّبْحِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ، كُتِبَ لَهُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ، وَرُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ، وَكَانَتْ حِرْزًا مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ، وَحِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَلَمْ يَحِلَّ لِذَنْبٍ يُدْرِكُهُ إِلَّا الشِّرْكَ، وَكَانَ مِنْ أَفْضَلِ النَّاسِ عَمَلًا، إِلَّا رَجُلًا يَفْضُلُهُ، يَقُولُ أَفْضَلَ مِمَّا قَالَ "

(3)

.

(1)

أخرجه أبو داود (2/ 631) ح (1523)، والنسائي (3/ 68) ح (1336) ولفظه: عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ:«أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَقْرَأَ الْمُعَوِّذَاتِ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ» ، وابن خزيمه في صحيحه (1/ 393) ح (755)، والحاكم (1/ 383) ح (929) وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 256) ح (1159).

(2)

ينظر: فتح الباري لابن حجر (9/ 62).

(3)

أخرجه أحمد (29/ 512) ح (17990)، وقال محقق المسند:"حسن لغيره"، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 108) ح (16956):"رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح غير شهر بن حوشب، وحديثه حسن"، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 323) ح (477):"حسن لغيره".

ص: 110