المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌المقدمة إن الحمدَ لله، نحمدُهُ، ونستعينُهُ، ونستغفرُهُ، ونعوذُ - اثر عمل القلب على عبادة الصوم

[إبراهيم بن حسن الحضريتي]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

‌المقدمة

إن الحمدَ لله، نحمدُهُ، ونستعينُهُ، ونستغفرُهُ، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا، ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدهِ اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضْلِل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُهُ ورسولُه.

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71].

أما بعد:

فإن لعمل القلب أثره الكبير على العبادات، فإذا حقق العبد عمل القلب، وجاهد نفسه لإصلاح ما في قلبه من أمراض، واستعان بالله على ذلك، وصدق وأخلص، فإن الله وعد بإعانته، كما قال تعالى:

ص: 1

{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} العنكبوت: 69.

وإذا وفق الله العبد لذلك ظهر أثره على عبادته: إقامة لها مع الاتقان، وإخلاصاً فيها، وحرصاً على الاهتداء بالهدي النبوي في أدائها، وظهر أثر ذلك أيضاً على إقبال القلب وحسن حضوره عند أداء العبادة مع الخشوع والخضوع لله.

وسأذكر -إن شاء الله تعالى- سلسلة بعنوان: (أثر عمل القلب على العبادات)، ونسأل الله العظيم أن يرزقنا الإخلاص والصدق والتوفيق والإعانة في هذا العمل، وأن يتفضل علينا بالقبول، والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.

وسأذكر إن شاء الله الآثار العامة على جميع العبادات، وأخصص بعض العبادات بذكر أثر عمل القلب عليها، وسيكون هذا الكتاب بعنوان: أثر عمل القلب على عبادة الصوم، والله الموفق والمعين.

وستكون بإذن الله محاور هذا الموضوع حول العناصر الآتية:

المبحث الأول: ملخص في إثبات أثر عمل القلب، وأهميته، وفيه مطالب.

المطلب الأول: من أدلة الكتاب والسنة في إثبات أثر عمل القلب.

المطلب الثاني: أهمية عمل القلب.

المطلب الثالث: الآثار العامة لعمل القلب على العبادات.

المبحث الثاني: نماذج لبعض أعمال القلوب لها علاقة بصيام رمضان، وفيه تمهيد ومطالب.

التمهيد: الارتباط الوثيق بين عمل القلب والصيام.

المطلب الأول: الإخلاص.

المطلب الثاني: اليقين.

المطلب الثالث: الصبر.

المطلب الرابع: المحبة.

المطلب الخامس: الخوف والخشية.

المطلب السادس: الرجاء.

ص: 2

المبحث الثالث: أثر عمل القلب على الإقبال على الخير في عبادة الصوم في رمضان، وفيه مطالب.

المطلب الأول: أسباب الإقبال على عمل الخير في رمضان، وفيه مسائل.

المسألة الأولى: رغبة المؤمن في الأجر والثواب العظيم الذي أعده الله للصائمين.

المسألة الثانية: ومن أسباب الإقبال على الخير ما يحدث في رمضان من فتح أبواب الجنة، وأغلاق أبواب النار، وتصفيد الشياطين.

المسألة الثالثة: أثر التعاون على البر والتقوى الذي يتجلى في رمضان بشكل واضح في تعاون المسلمين مع بعضهم على الصيام والقيام، وبقية العبادات.

المطلب الثاني: الصيام والتقوى.

المطلب الثالث: الصيام وغرس مراقبة الله وخشيته في الغيب والشهادة.

المطلب الرابع: الصيام والخشوع، وفيه مسائل.

المسألة الأولى: الخشوع في الصلاة

المسألة الثانية: الخشوع عند تلاوة القرآن

المسألة الثالثة: الخشوع عند الدعاء

المسألة الرابعة: الخشوع عند الذكر

المطلب الخامس: الصيام وتعويد المسلم على الإحسان إلى الناس بالجود بالمال وحسن الخلق.

المبحث الرابع: أثر عمل القلب على القصور عن الشر في رمضان، وفيه مطالب.

المطلب الأول: قلة نوازع الشر في النفس في رمضان.

المطلب الثاني: الصيام وضبط الجوارح عن الحرام، وفيه مسائل.

المسألة الأولى: صيام اللسان واليد.

المسألة الثانية: صيام العين والسمع وبقية الجوارح.

المطلب الثالث: الحذر مما يخرق الصوم وينقص الحسنات، وفيه مسائل.

المسألة الأولى: البعد عن قول الزور والجهل.

المسألة الثانية: الحذر من الغيبة والبعد عن مجالسها.

المسألة الثالثة: البعد عن السب والشتم والصخب والرفث.

ص: 3

المطلب الرابع: من أمراض القلوب التي لها خطر على عبادة الصوم، وفيه مسائل.

المسألة الأولى: سوء الخلق، مما له ارتباط بعمل القلب ويؤثر على صوم العبد:

1 -

الشح والبخل.

2 -

الغضب للنفس.

المسألة الثانية: الحسد والبغضاء والشحناء وقطيعة الأرحام.

المسألة الثالثة: الكبر.

المسألة الرابعة: العجب والرياء والسمعة.

ص: 4

المبحث الأول: ملخص في إثبات أثر عمل القلب، وأهميته، وفيه مطالب.

المطلب الأول: من أدلة الكتاب والسنة في إثبات أثر عمل القلب.

المطلب الثاني: أهمية عمل القلب.

المطلب الثالث: الآثار العامة لعمل القلب على العبادات.

ص: 5

‌المبحث الأول: ملخص في إثبات أثر عمل القلب، وأهميته

، وفيه مطالب.

‌المطلب الأول: من أدلة الكتاب والسنة في إثبات أثر عمل القلب

.

لقد اعتنى القرآن العظيم والسنة الشريفة بمسألة عمل القلب وأثره اعتناء كبيراً، فقد جاءت آيات كثيرة في إثبات أثر عمل القلب وتأثره بما يعمل صاحبه، فقد ذكر الله سبحانه وتعالى أن قلوب المؤمنين يصيبها الوجل، وتطمئن بذكره، وأنها تخشع وتخضع لأمره، وغير ذلك كثير، وإذا تقرر هذا في حق المؤمنين، فإن القرآن الكريم قد ذكر في مقابل ذلك حال الكفار والمنافقين وتأثر قلوبهم بما يعملون، وذكر سبحانه وتعالى كذلك أثر أمراض قلوبهم عليهم؛ من الختم والطبع، وما أصابها من مرض النفاق، والزيغ عن الحق، والقسوة

وقد جاءت آيات كثيرة في بيان ذلك. وكذلك جاءت أحاديث كثيرة تثبت أثر عمل القلب، ودونك ملخص لإثبات ذلك:

‌أولاً: أمثلة على إثبات أثر عمل القلب على المؤمن مع ذكر شواهدها من القرآن العظيم

.

1 -

وجل القلب وخوفه من الله، قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية [الأنفال: 2]. وفيها إثبات أثر ذكر الله على القلب بحصول الوَجَل، ومعناه: الخوف من الله

(1)

، ولا شك أن الذكر لا يحدث أثره في حصول وجل القلب من الله تعالى إلا إذا تواطأ القلب مع الحواس.

2 -

طمأنينة القلب، قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، دلت الآية على أثر ذكر الله على قلب المؤمن، فهو يأنس ويطيب ويسكن بذكر الله تعالى

(2)

.

(1)

ينظر: تفسير ابن كثير (5/ 425).

(2)

ينظر: تفسير الطبري (16/ 432).

ص: 6

‌ثانياً: أمثلة على إثبات أثر مرض القلب على صاحبه وردت في آيات الكتاب العزيز

.

1 -

عقوبة الله لأصحاب القلوب التي كفرت بالله بالختم عليها، وزيغ القلوب عن الحق، فقال تعالى عنهم:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 6، 7].

قال البغوي رحمه الله في تفسيره لمعنى الختم على القلوب: "فقال: {خَتَمَ اللَّهُ}: طبع الله {عَلَى قُلُوبِهِمْ} فلا تعي خيرًا ولا تفهمه"

(1)

.

وهذا الختم على القلوب عقوبة لهم بسبب منهم، قال تعالى:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5].

ومن آثار مرض النفاق على القلوب تقييدها عن الخير بما يحدث لها من التردد والتذبذب والشك والحيرة والكسل عن الطاعات وكرهها، قال تعالى:{إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة: 45]. والريب هو الشك، وهو من أثر أمراض النفاق على القلوب، فيتولد منه أثره على القلب بالتردد والتذبذب والكسل عن الطاعة وكرهها، فقال تعالى في بيان أثر النفاق على القلب: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ

(1)

تفسير البغوي (1/ 64 - 65).

ص: 7

3 -

إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 142، 143].

وقال تعالى عن المنافقين: {وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 54].

4 -

وقال تعالى في بيان أثر مرض النفاق على القلب وأن الله سبحانه وتعالى لا يمكِّن صاحبه من العمل، بل يقعده عنه عقوبةً له على ما في قلبه من مرض:{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46].

وإذا وجد العبد أنه يثبَّط عن الطاعات، ويحال بينه وبينها، فليفتِّش عن مرض في قلبه.

5 -

أثر الذنوب على القلب في تغطيته وحجبه عن رؤية الحق، كما في قول الله تعالى:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطفِّفين: 14].

أثبت الله تعالى أن الذنوب تغطي على القلوب، فتحجبها عن رؤية الحق فلا تقبله.

ص: 8

كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ

(1)

فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ

(2)

قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطفِّفين: 14]»

(3)

.

فإذا غطت الذنوب القلب عمي عن رؤية الحق وانطمست بصيرته، كما قال تعالى:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].

‌ثالثاً: وقد ورد في السنة ما يبين مكانة عمل القلب وأثره على صاحبه، ودونك إشارة لذلك:

1 -

أثر عمل القلب على صلاح الجسد أو فساده، ويدل عليه ما رواه النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ» .

وفي الحديث إشارة -كما يقول ابن رجب رحمه الله: "إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه، واجتنابه المحرمات واتقاءه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه، فإذا كان قلبه سليمًا، ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يحبه الله، وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه، صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها، وتوقٍ للشبهات حذرًا من الوقوع في المحرمات.

(1)

أي نُقِطَ نقطة في قلبه.

ينظر: الصحاح (1/ 269)، النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 114) لابن الأثير، مادة (نكت).

(2)

وفي أكثر روايات الحديث: "صُقِلَ" بالصاد، والسقل والصقل بمعنى واحد، أي: جلاه ونظفه وصفاه وذهب عنه أثر الذنب.

ينظر: الصحاح (5/ 1744) مادة (صقل)، مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 1622)، تحفة الأحوذي (9/ 178) للمباركفوري، دار الكتب العلمية بيروت.

(3)

أخرجه أحمد (13/ 333) ح (7952)، والترمذي واللفظ له (5/ 434) ح (3334) وقال الترمذي:"حديث حسن صحيح"، وابن ماجه (2/ 1418) ح (4244)، وابن حبان في صحيحه (3/ 210) ح (930)، الحاكم في مستدركه (2/ 562) ح (3908) وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 271) ح (1620)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيق المسند (13/ 334) ح (7952):"إسناده قوي".

ص: 9

وإن كان القلب فاسدًا، قد استولى عليه اتباع هواه، وطلب ما يحبه، ولو كرهه الله، فسدت حركات الجوارح كلها، وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب اتباع هوى القلب"

(1)

.

2 -

ارتباط التقوى بعمل القلب، يقول صلى الله عليه وسلم:«التَّقْوَى هَاهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ .. الحديث

(2)

وذكر النووي في شرحه للحديث أن التقوى إنما تحصل بما في القلب من الأعمال، فيقول رحمه الله:"إن الأعمال الظاهرة لا يحصل بها التقوى، وإنما تحصل بما يقع في القلب من عظمة الله تعالى وخشيته ومراقبته"

(3)

.

3 -

في بيان أثر مرض الكبر على القلب، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» ، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً! قَالَ: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ: بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ»

(4)

.

وفي الحديث دليل على أثر آفة الكبر على من تلبس بها، وهو من أخطر أمراض القلوب، ومن أعظم ما يصد القلوب عن الهدى.

(1)

جامع العلوم والحكم لابن رجب (1/ 210).

(2)

أخرجه مسلم (4/ 1986) ح (2564).

(3)

شرح النووي على مسلم (16/ 121).

(4)

أخرجه مسلم (1/ 93) ح (91).

ص: 10

‌المطلب الثاني: أهمية عمل القلب

.

وتتضح الدلالة على أهمية عمل القلب من خلال الأمور الآتية:

أولاً: كثرة ذكرها في القرآن العظيم، وقد تقدمت إشارة إلى ذلك.

ثانياً: ويكفي في الدلالة على عظيم مكانة عمل القلب في السنة ماورد في الحديثين الآتيين:

1 -

عَن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ»

(1)

، فالقلوب وأعمالها هي محل نظر الرب سبحانه وتعالى،.

2 -

وقال صلى الله عليه وسلم: «أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ»

(2)

، فصلاح الجوارح مرتبط بصلاح القلب، وهذا له أثره الكبير على خشوع المؤمن في صلاته.

ثالثاً: تحدث ابن القيم عن أهمية عمل القلب، فقال رحمه الله: "فعمل القلب هو روح العبودية ولبها، فإذا خلا عمل الجوارح منه كان كالجسد الموات بلا روح

ومن تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب، وأنها لا تنفع بدونها، وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وهل يميز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كل واحد منهما من الأعمال التي ميزت بينهما؟! وهل يمكن أحد الدخول في الإسلام إلا بعمل قلبه قبل جوارحه؟! وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم، فهي واجبة في كل وقت؛ ولهذا كان الإيمان واجب القلب على الدوام، والإسلام واجب الجوارح في بعض الأحيان"

(3)

.

وأعمال القلوب هي الأصل، وهي فرض على الأعيان باتفاق أهل الإيمان، من تركها بالكلية فهو إما كافر أو منافق، وأعمال الجوارح تابعة ومتممة لأعمال القلوب، فلا تتم إلا بها

(4)

.

(1)

أخرجه مسلم (4/ 1987) ح (2564).

(2)

أخرجه البخاري (1/ 20) ح (52)، ومسلم (3/ 1219) ح (1599).

(3)

بدائع الفوائد (3/ 192 - 193).

(4)

ينظر: مجموع الفتاوى (18/ 184 - 185)، بدائع الفوائد (3/ 187 - 188).

ص: 11

‌المطلب الثالث: الآثار العامة لعمل القلب على العبادات، ونجملها في الآتي:

1 -

قبول الله للعمل، وذلك يكون بشرطين:

أ - مجاهدة النفس على الإخلاص لله تعالى، مما يثمر الحرص على سلامة المقاصد في العبادات من العجب والرياء والسمعة.

ب - مجاهدة النفس على اتباع الهدي النبوي في أداء العبادة والحرص على سلامتها من البدع.

2 -

طهارة القلب من التعلق بغير الله يثمر حضور القلب في العبادة وعدم تشتته في أودية الدنيا، ولايؤدي إلى ضيقه بالعبادة وثقلها عليه؛ لأنه اذا تعلق القلب بالله وحده لا شريك له صفا له قلبه وطهر وصار همه الآخرة، وسلم من التشتت والفتنة التي تضرب بها القلوب المتعلقة بغير الله، فتثبطها عن طاعة الله، كما قال تعالى عن المنافقين:{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46]، وقال صلى الله عليه وسلم:«مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ»

(1)

.

3 -

الحرص على إتقان العبادة وإتمامها، والاجتهاد في الوصول إلى مقام الإحسان في العبادات، كما قال صلى الله عليه وسلم عن مقام الإحسان:«أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»

(2)

.

(1)

أخرجه الترمذي (4/ 642) ح (2465)، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (11/ 266) ح (11690)، وذكره الألباني في السلسة الصحيحة (2/ 633) ح (949)، وصححه في صحيح الجامع (2/ 1109) ح (6505).

وأخرجه ابن ماجه (2/ 1375) ح (4105) بلفظ: «مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ» من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 634) ح (950)، وصححه شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن ابن ماجه (5/ 227) ح (4105).

(2)

أخرجه البخاري (1/ 19) ح (50)، ومسلم (1/ 36) ح (8).

ص: 12

وهذه المرتبة العظيمة لا تحصل إلا إذا سلم القلب لله تعالى، واستحضر عظمة الله ومراقبته له وعلمه واطلاعه عليه، وجاهد العبد نفسه على إصلاح قلبه، وتنقيته من شوائب العجب والرياء والكبر والحسد، ومن بقية الآفات.

ص: 13

المبحث الثاني: نماذج لبعض أعمال القلوب لها علاقة بصيام رمضان، وفيه تمهيد ومطالب.

التمهيد: الارتباط الوثيق بين عمل القلب والصيام.

المطلب الأول: الإخلاص.

المطلب الثاني: اليقين.

المطلب الثالث: الصبر.

المطلب الرابع: المحبة.

المطلب الخامس: الخوف والخشية.

المطلب السادس: الرجاء.

ص: 14

‌المبحث الثاني: نماذج لبعض أعمال القلوب لها علاقة بصيام رمضان، وفيه تمهيد ومطالب

.

التمهيد: الارتباط الوثيق بين عمل القلب والصيام.

وقد وردت إشارات في النصوص إلى ارتباط عمل القلب بالصيام، بل هو أقرب إلى أعمال القلوب منه إلى أعمال الجوارح، ومن النصوص في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ»

(1)

.

قال في التوضيح لشرح الجامع الصحيح: "يريد أنه أمر مخفي عن المخلوقين ولا يطلع عليه إلا الرب جلا جلاله فيعلمه حقيقة ويجازي عليه؛ لأن الحفظة ترى مسكًا عن الطعام، فالنية فيه إلى الله تعالى وبها يصير صائمًا"

(2)

.

وذكر ابن حجر رحمه الله في الفتح أقوالاً عدة في معنى الحديث السابق وقوى بعضها ورد بعضها ومما قواه أن الصوم لا يدخله الرياء، لأنه لا يظهر من العبد بفعله، بل هو من عمل القلب الذي لا يعلمه إلا الله

(3)

، وهناك أعمال قلبية لها ارتباط وثيق بعبادة الصيام فمن ذلك الإخلاص لله تعالى، واليقين،، والصبر، والمحبة، والخوف والرجاء.

ودونك شيء من الخبر باختصار عن هذه الأعمال القلبية بصورة عامة، وفق المطالب الآتية:

المطلب الأول: الإخلاص.

المطلب الثاني: اليقين.

المطلب الثالث: الصبر.

المطلب الرابع: المحبة.

المطلب الخامس: الخوف والخشية.

المطلب السادس: الرجاء.

(1)

وسيأتي تخريجه.

(2)

التوضيح (28/ 166).

(3)

ينظر: فتح الباري (4/ 107 - 108).

ص: 15

‌المطلب الأول: الإخلاص

(1)

.

‌تعريفه:

لقد عرف الإخلاص بتعاريف كثيرة متقاربة، ومن أدقها تعريف الغزالي، فيقول رحمه الله عن الإخلاص بأنه:"تجريد قصد التقرب إلى الله عن جميع الشوائب"

(2)

.

وعرفه ابن القيم رحمه الله بمجموعة من التعريفات من أدقها: "إفراد الحق بالقصد في الطاعة، وقيل: تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين، وقيل: الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق، ومن تزين للناس بما ليس فيه سقط من عين الله"

(3)

.

‌من أدلة الكتاب والسنة على الإخلاص:

لقد جاءت الأدلة الكثيرة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم دالة على هذا العمل القلبي العظيم، ومنها على سبيل المثال:

• قوله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29].

يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله في معنى هذه الآية: "أي: أمركم بالاستقامة في عبادته في محالها، وهي متابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات فيما أخبروا به عن الله تعالى، وما جاءوا به عنه من الشرائع، وبالإخلاص له في عبادته، فإنه تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين: أن يكون صوابًا موافقًا للشريعة، وأن يكون خالصًا من الشرك"

(4)

.

(1)

سيكون التعريف لهذه الأعمال القلبية التعريف الاصطلاحي حرصاً على الاختصار.

(2)

إحياء علوم الدين (4/ 379).

(3)

مدارج السالكين (2/ 91 - 92).

(4)

تفسير ابن كثير (3/ 403).

ص: 16

ويقول السعدي رحمه الله: "أي: قاصدين بذلك وجهه وحده لا شريك له. والدعاء يشمل: دعاء المسألة، ودعاء العبادة، أي: لا تراءوا ولا تقصدوا من الأغراض في دعائكم سوى عبودية الله ورضاه"

(1)

.

• ومن الأدلة على الإخلاص قوله تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 14].

قال السعدي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: "وهذا شامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة، والإخلاص معناه: تخليص القصد لله تعالى في جميع العبادات الواجبة والمستحبة، حقوق الله وحقوق عباده. أي: أخلصوا لله تعالى في كل ما تدينونه به وتتقربون به إليه.

{وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} لذلك، فلا تبالوا بهم، ولا يثنكم ذلك عن دينكم، ولا تأخذكم بالله لومة لائم، فإن الكافرين يكرهون الإخلاص لله وحده غاية الكراهة، كما قال تعالى:{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45] "

(2)

.

• ومن الأدلة على وجوب إخلاص النية لله تعالى في جميع العبادات الظاهرة والباطنة

(3)

قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5].

• ومما ورد في السنة عن عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»

(4)

.

(1)

تفسير السعدي (286).

(2)

تفسير السعدي (734).

(3)

ينظر: فتح القدير للشوكاني (5/ 580)، تفسير السعدي (931).

(4)

أخرجه البخاري (8/ 140) ح (6689)، ومسلم (3/ 1515) ح (1907).

ص: 17

قال ابن رجب رحمه الله: "والنية في كلام العلماء تقع بمعنيين:

أحدهما: بمعنى تمييز العبادات بعضها عن بعض، كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر مثلًا، وتمييز صيام رمضان من صيام غيره، أو تمييز العبادات من العادات، كتمييز الغسل من الجنابة من غسل التبرد والتنظف، ونحو ذلك، وهذه النية هي التي توجد كثيرًا في كلام الفقهاء في كتبهم.

والمعنى الثاني: بمعنى تمييز المقصود بالعمل، وهل هو الله وحده لا شريك له، أم غيره، أم الله وغيره؟ وهذه النية هي التي يتكلم فيها العارفون في كتبهم في كلامهم على الإخلاص وتوابعه، وهي التي توجد كثيرًا في كلام السلف المتقدمين"

(1)

.

• ومما يدل على أن الإخلاص شرط لقبول العمل حديث أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيّ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ، مَا لَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا شَيْءَ لَهُ» ، فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا شَيْءَ لَهُ» ، ثُمَّ قَالَ:«إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ»

(2)

.

• وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَقَدْ ظَنَنْتُ -يَا أَبَا هُرَيْرَةَ- أَنْ لَا يَسْأَلنِي عَنْ هَذَا الحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّل مِنْكَ؛ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ» أَوْ: «نَفْسِهِ»

(3)

.

ودل الحديث على أمور، منها:

- أن الإخلاص في كلمة التوحيد من أعظم أسباب سعادة المؤمن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة

(4)

.

(1)

جامع العلوم والحكم (1/ 65 - 66).

(2)

أخرجه النسائي (6/ 25) ح (3140)، وجوَّد إسناده ابن حجر في الفتح (6/ 28)، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 118) ح (52)، وقال في صحيح سنن النسائي (2/ 383 - 384) ح (3140):"حسن صحيح".

(3)

أخرجه البخاري كتاب العلم، باب الحرص على الحديث (1/ 31) ح (99).

(4)

ينظر: فتح الباري لابن حجر (1/ 194).

ص: 18

- وفي عون المعبود: "وفي قوله في حديث أبي هريرة: «أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله» سر من أسرار التوحيد، وهو أن الشفاعة إنما تنال بتجريد التوحيد، فمن كان أكمل توحيدًا كان أحرى بالشفاعة"

(1)

.

• عن أبي هريرة رضي الله عنه: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ»

(2)

.

والحديث من أعظم الزواجر عن الرياء والسمعة التي هي من نواقض الإخلاص.

‌من أقوال العلماء في الإخلاص:

قال الفضيل بن عياض رحمه الله في معنى قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]: "هو أخلصه وأصوبه"، قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ فقال:"إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة"، ثم قرأ قوله تعالى:

(1)

عون المعبود (13/ 56).

(2)

أخرجه مسلم (3/ 1513) ح (1905).

ص: 19

{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]

(1)

.

وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: "إذا أخلص العبد انقطعت عنه كثرة الوساوس والرياء"

(2)

.

وقال ابن القيم رحمه الله: "العمل بغير إخلاص ولا اقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملًا يثقله ولا ينفعه"

(3)

.

(1)

ينظر: حلية الأولياء (8/ 95)، مدارج السالكين (2/ 88 - 89) مع بعض التصرف.

(2)

مدارج السالكين (2/ 92)، البداية والنهاية (14/ 150).

(3)

الفوائد (49).

ص: 20

‌المطلب الثاني: اليقين

.

‌تعريفه:

يوجد ارتباط وثيق بين معناه في اللغة وفي الاصطلاح، فهو العلم الذي لا شك فيه.

وعرفه الجنيد رحمه الله بقوله: "اليقين هو استقرار العلم الذي لا ينقلب ولا يحول ولا يتغير في القلب"

(1)

.

وعرفه شيخ الإسلام رحمه الله بقوله: "أما اليقين فهو: طمأنينة القلب، واستقرار العلم فيه"

(2)

.

‌من أدلة الكتاب والسنة على اليقين:

لقد اعتنى القرآن الكريم بهذا العمل القلبي العظيم، فذكر اليقين في آيات كثيرة، ومن ذلك:

• جعله الله من صفات عباده المتقين، فقال تعالى:{وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4].

قال السعدي رحمه الله: "والآخرة اسم لما يكون بعد الموت، وخصه بالذكر بعد العموم؛ لأن الإيمان باليوم الآخر أحد أركان الإيمان، ولأنه أعظم باعث على الرغبة والرهبة والعمل، واليقين: هو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك، الموجب للعمل"

(3)

.

• وقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].

وفي تفسير السعدي لقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} : "أي: أفيطلبون بتوليهم وإعراضهم عنك حكم الجاهلية، وهو كل حكم خالف ما أنزل الله على رسوله؟!

(1)

مدارج السالكين (2/ 375).

(2)

مجموع الفتاوى (3/ 329).

(3)

تفسير السعدي (41).

ص: 21

فلا ثَمَّ إلا حكم الله ورسوله أو حكم الجاهلية، فمن أعرض عن الأول ابتلي بالثاني المبني على الجهل والظلم والغي، ولهذا أضافه الله للجاهلية، وأما حكم الله تعالى فمبني على العلم، والعدل والقسط، والنور والهدى، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} فالموقن هو الذي يعرف الفرق بين الحكمين ويميز بإيقانه ما في حكم الله من الحسن والبهاء، وأنه يتعين عقلًا وشرعًا اتباعه. واليقين هو: العلم التام الموجب للعمل"

(1)

.

• وقال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 60].

قال الطبري رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: "يقول تعالى ذكره: {فَاصْبِرْ} يا محمد لما ينالك من أذاهم، وبلِّغهم رسالة ربك، فإن وعد الله الذي وعدك من النصر عليهم والظفر بهم وتمكينك وتمكين أصحابك وتُبَّاعك في الأرض حقّ، {وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} يقول: ولا يستخفنّ حلمك ورأيك هؤلاء المشركون بالله، الذين لا يوقنون بالمعاد، ولا يصدّقون بالبعث بعد الممات، فيثبطوك عن أمر الله والنفوذ لما كلَّفك من تبليغهم رسالته"

(2)

.

• وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].

ومن هذه الآية استنبط شيخ الإسلام رحمه الله أن الإمامة في الدين لا تنال إلا بالصبر واليقين

(3)

.

• وقال تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 2].

(1)

تفسير السعدي (235).

(2)

تفسير الطبري (20/ 120).

(3)

ينظر: مجموع الفتاوى (3/ 358).

ص: 22

قال السعدي رحمه الله: "أي: {هَذَا} القرآن الكريم والذكر الحكيم {بَصَائِرُ لِلنَّاسِ} أي: يحصل به التبصرة في جميع الأمور للناس، فيحصل به الانتفاع للمؤمنين، والهدى والرحمة. {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} فيهتدون به إلى الصراط المستقيم في أصول الدين وفروعه، ويحصل به الخير والسرور والسعادة في الدنيا والآخرة، وهي الرحمة؛ فتزكو به نفوسهم، وتزداد به عقولهم، ويزيد به إيمانهم ويقينهم، وتقوم به الحجة على من أصر وعاند"

(1)

.

• ومما ورد في السنة عن اليقين حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ» .

دل هذا الحديث على أنَّ من شروط كلمة التوحيد اليقينَ.

• وعن شَدَّاد بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ» ، قَالَ:«وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ»

(2)

.

دل هذا الحديث على أن من شروط أثر سيد الاستغفار على صاحبه أن يقوله بيقين.

(1)

تفسير السعدي (777).

(2)

أخرجه البخاري (8/ 67) ح (6306).

ص: 23

‌من أقوال العلماء في اليقين:

عن سفيان الثوري رحمه الله قال: "لو أن اليقين، استقر في القلب كما ينبغي لطار فرحًا وحزنًا وشوقًا إلى الجنة، أو خوفًا من النار"

(1)

.

وقال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله: "حرام على قلب أن يشم رائحة اليقين وفيه سكون إلى غير الله"

(2)

.

وقال ابن القيم رحمه الله: "فإذا باشر القلب اليقين امتلأ نورًا وانتفى عنه كل ريب وشك، وعوفي من أمراضه القاتلة، وامتلأ شكرًا لله وذكرًا له ومحبة وخوفًا"

(3)

.

ويقول أيضًا: "فالعلم أول درجات اليقين، ولهذا قيل: العلم يستعملك، واليقين يحملك، فاليقين أفضل مواهب الرب لعبده، ولا تثبت قدم الرضا إلا على درجة اليقين، قال تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11]، قال ابن مسعود رضي الله عنه:(هو العبد تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من الله، فيرضى ويسلم)

(4)

، فلهذا لم يحصل له هداية القلب والرضا والتسليم إلا بيقينه"

(5)

.

(1)

حلية الأولياء (7/ 17).

(2)

مفتاح دار السعادة (1/ 154).

(3)

مفتاح دار السعادة (1/ 154).

(4)

نسبه ابن جرير إلى علقمة، ينظر: تفسير الطبري (23/ 12).

(5)

مفتاح دار السعادة (1/ 155).

ص: 24

‌المطلب الثالث: الصبر

.

‌تعريفه:

من أدق تعاريفه تعريف الراغب رحمه الله بقوله: "الصَّبْرُ: حبس النّفس على ما يقتضيه العقل والشرع"

(1)

.

والذي يظهر لي أن تعريف الراغب تعريف دقيق؛ لأنه يشمل كل أنواع الصبر، فيكون حبسًا للنفس على الطاعة وترك المعصية، وعلى القدر المؤلم، والله أعلم.

وقيل: هو: "حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش"

(2)

. وهذا التعريف يصلح لنوع من الصبر وهو الصبر على القدر المؤلم

(3)

.

ويقول ابن القيم رحمه الله عن حقيقة الصبر وفائدته: "خلق فاضل من أخلاق النفس، يمتنع به من فعل ما لا يحسن ولا يجمل، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها وقوام أمرها"

(4)

.

‌من أدلة الكتاب والسنة على الصبر:

قال الإمام أحمد رحمه الله: "ذكر الله سبحانه الصبر في القرآن في تسعين موضعًا"

(5)

.

وذكر ابن القيم أن الصبر مذكور في القرآن على ستة عشر نوعًا، وذكرها رحمه الله مع ذكر شواهدها، وأذكر منها على سبيل المثال، الآتي

(6)

:

• الأمر به، نحو قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].

(1)

المفردات في غريب القرآن (474).

(2)

مدارج السالكين (2/ 155).

(3)

ينظر: أعمال القلوب للسبت (2/ 211، 212).

(4)

عدة الصابرين (16).

(5)

نقله ابن القيم عن الإمام أحمد في عدة الصابرين (71)، مدارج السالكين (2/ 151).

(6)

ينظر: مدارج السالكين (2/ 151 - 152).

ص: 25

• النهي عن ضده، كقوله:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف: 35]، وقوله:{فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} [الأنفال: 15]، فإن تولية الأدبار: ترك للصبر والمصابرة.

• الثناء على أهله، كقوله تعالى:{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]، وهو كثير في القرآن.

• محبته سبحانه وتعالى لهم، كقوله:{وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146].

• معيته سبحانه وتعالى لهم، وهي معية خاصة، تتضمن: حفظهم ونصرهم، وتأييدهم كقوله:{وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]، وهي ليست معية عامة، التي تتضمن: معية العلم والإحاطة.

• الجزاء منه سبحانه وتعالى لهم بغير حساب، كقوله تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].

وورد الصبر في السنة في عدة أحاديث منها:

• عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ» الحديث

(1)

.

قال النووي رحمه الله في شرحه لهذا الحديث: "والمراد: أن الصبر محمود ولا يزال صاحبه مستضيئًا مهتديًا"

(2)

.

• وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه: إِنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: «مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ،

(1)

أخرجه مسلم (1/ 203) ح (223).

(2)

شرح النووي على مسلم (3/ 101).

ص: 26

• وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ»

(1)

.

دل الحديث على فضيلة الصبر ومكانته العظيمة، ومن يعالج نفسه على الصبر ويعودها عليه، فإن الله يمكنه من نفسه حتى تنقاد له، وأن الصبر أفضل ما يعطاه المرء لكونه غيرَ محدودٍ جزاؤُه، فيوفيه الله أجره بغير حساب

(2)

، كما قال تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].

‌من أقوال العلماء في الصبر:

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "وجدنا خير عيشنا بالصبر"

(3)

.

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس بار الجسم"، ثم رفع صوته فقال:"ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له"، وقال: "الصبر مطية لا تكبو

(4)

"

(5)

.

وقال الحسن رحمه الله: "الصبر كنز من كنوز الخير، لا يعطيه الله إلا لعبد كريم عنده"

(6)

.

وقال ابن القيم رحمه الله: "وقد أمر الله سبحانه وتعالى في كتابه بالصبر الجميل، والصفح الجميل، والهجر الجميل، فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه ولا معه، والصفح الجميل هو الذي لا عتاب معه، والهجر الجميل هو الذي لا أذى معه"

(7)

.

(1)

أخرجه البخاري (2/ 122) ح (1469)، ومسلم (2/ 729) ح (1053).

(2)

ينظر: فتح الباري لابن حجر (11/ 304).

(3)

الزهد لأحمد بن حنبل (97)، حلية الأولياء (1/ 50).

(4)

أي: دابة لا تعثر ولا تسقط على الوجه أثناء الحركة.

ينظر: الصحاح (6/ 2471)، مقاييس اللغة (5/ 155)، لسان العرب (15/ 213) مادة (كبا).

(5)

ينظر: الصبر والثواب عليه لابن أبي الدنيا (24)، حلية الأولياء (1/ 76)، وهو بهذا اللفظ في عدة الصابرين (95).

(6)

الصبر والثواب عليه لابن أبي الدنيا (28).

(7)

مدارج السالكين (2/ 159).

ص: 27

ويقول أيضًا: "وهو ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على امتحان الله"

(1)

.

‌المطلب الرابع: المحبة

.

‌تعريفها:

عرفها النووي رحمه الله بقوله: "المحبة: مواطأة القلب على ما يرضي الرب سبحانه، فيحب ما أحب ويكره ما كره"

(2)

.

وخلاصة القول كما قال ابن القيم رحمه الله: "لا تحد المحبة بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلا خفاء وجفاء، فحدها وجودها، ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة.

وإنما يتكلم الناس في أسبابها، وموجباتها، وعلاماتها، وشواهدها، وثمراتها، وأحكامها، فحدودهم ورسومهم دارت على هذه الستة، وتنوعت بهم العبارات، وكثرت الإشارات، بحسب إدراك الشخص ومقامه وحاله، وملكه للعبارة"

(3)

.

‌من أدلة الكتاب والسنة على المحبة:

• ذكر سبحانه وتعالى أنه يحب المتقين، ويحب الصابرين، ويحب المتوكلين.

قال تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 76].

وقال تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146].

والآيات في ذلك يصعب حصرها لكثرتها.

(1)

مدارج السالكين (2/ 155).

(2)

شرح النووي على مسلم (2/ 14).

(3)

مدارج السالكين (3/ 11).

ص: 28

• وذكر أيضًا سبحانه وتعالى أنه لا يحب الكافرين، ولا يحب المعتدين، ولا يحب المسرفين، والآيات في ذلك كثيرة، منها قوله تعالى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]، وقوله تعالى وتبارك:{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32].

• وجعل سبحانه وتعالى علامة على محبته اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31].

• وذكر سبحانه وتعالى أن المؤمنين أشد حبًّا لله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165].

• وقال سبحانه وتعالى عن نفسه وعن عباده الصالحين: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54].

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ»

(1)

.

دل الحديث على أن محبة الله ورسوله من أعظم أسباب حلاوة الإيمان، وهي جنة معجلة لمن حقق أسبابها.

‌من أقوال العلماء في المحبة:

وقال ابن القيم رحمه الله: "المحبّة هي حياة القلوب وغذاء الأرواح، وليس للقلب لذّة، ولا نعيم، ولا فلاح، ولا حياة إلّا بها.

(1)

أخرجه البخاري (9/ 20) ح (6941)، ومسلم (1/ 66) ح (43).

ص: 29

وإذا فقدها القلب كان ألمه أعظم من ألم العين إذا فقدت نورها، والأذن إذا فقدت سمعها، والأنف إذا فقد شمّه، واللّسان إذا فقد نطقه، بل فساد القلب إذا خلا من محبّة فاطره وبارئه وإلهه الحقّ أعظم من فساد البدن إذا خلا من الرّوح، وهذا الأمر لا يصدّق به إلّا من فيه حياة"

(1)

.

وقال أيضًا: "المحبّ الصّادق لا بدّ أن يقارنه أحيانًا فرح بمحبوبه، ويشتدّ فرحه به، ويرى مواقع لطفه به، وبرّه به، وإحسانه إليه، وحسن دفاعه عنه، والتّلطّف في إيصاله المنافع والمسارّ والمبارّ إليه بكلّ طريق، ودفع المضارّ والمكاره عنه بكلّ طريق"

(2)

.

وقال ابن قدامة رحمه الله: "علامة المحبّة كمال الأنس بمناجاة المحبوب، وكمال التّنعّم بالخلوة، وكمال الاستيحاش من كلّ ما ينقض عليه الخلوة، ومتى غلب الحبّ والأنس صارت الخلوة والمناجاة قرّة عين تدفع جميع الهموم، بل يستغرق الحبّ والأنس قلبه"

(3)

.

وقال ابن القيم رحمه الله: "فإن المحب الصادق أحب شيء إليه الخبر عن محبوبه وذكره، كما قال عثمان بن عفان رضي الله عنه:(لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله)

(4)

، وقال بعض العارفين: كيف يشبعون من كلام محبوبهم وهو غاية مطلوبهم؟! "

(5)

.

(1)

الجواب الكافي (1/ 545 - 546).

(2)

مدارج السالكين (2/ 339 - 340).

(3)

مختصر منهاج القاصدين (351) ـ.

(4)

ينظر: حلية الأولياء (7/ 272، 300).

(5)

مدارج السالكين (3/ 291).

ص: 30

‌المطلب الخامس: الخوف والخشية

.

التعريف:

عرفهما الراغب رحمه الله بقوله: "الخَوْف: توقّع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة، كما أنّ الرّجاء والطمع توقّع محبوب عن أمارة مظنونة أو معلومة، ويضادّ الخوف الأمن، ويستعمل ذلك في الأمور الدنيوية والأخروية"

(1)

. أما الخشية فقال عنها: "الخَشْيَة: خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه، ولذلك خصّ العلماء بها في قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] "

(2)

.

وقال الجرجاني رحمه الله: "الخوف: توقع حلول مكروه، أو فوات محبوب"

(3)

.

ويقول ابن القيم رحمه الله عن معنى الخشية: "والخشية أخص من الخوف، فإن الخشية للعلماء بالله، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، فهي خوف مقرون بمعرفة"

(4)

.

‌من أدلة الكتاب والسنة على الخوف والخشية:

تنوعت نصوص القرآن الكريم في ذكر الخوف والخشية، فمن ذلك:

1 -

أمر الله به، كما قال تعالى:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]،، وقال تعالى:{فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44].

(1)

المفردات (303).

(2)

المفردات (283).

(3)

التعريفات (101).

(4)

مدارج السالكين (1/ 508).

ص: 31

2 -

وتارة يجعل الله الخوف والخشية من صفات أوليائه وعباده المتقين، كما في قوله تعالى:{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد: 19 - 21].

3 -

ويذكر الله سبحانه وتعالى أنه بسبب خوفهم منه أدخلهم الجنة كما في قوله تعالى: {(45) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [الرحمن: 46]، وكما في قوله تعالى أيضًا:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40، 41].

4 -

وتارة يذكر أن العاقبة في الدنيا لهم كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 14].

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ» وذكرهم، ومنهم:«رَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ إِلَى نَفْسِهَا، قَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ»

(1)

.

ومن أعظم ما يحجز العبد عن المعصية خوفه من الله؛ لما يترتب على ذلك من العقوبة في الآخرة، كما قال تعالى:{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام: 15].

(1)

أخرجه البخاري واللفظ له (1/ 133) ح (660)، ومسلم (2/ 715) ح (1031).

ص: 32

‌من أقوال العلماء في الخوف والخشية:

عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان يمسك لسانه ويقول: "هذا الذي أوردني الموارد"، وقال:"يا ليتني كنت شجرة تعضد ثم تؤكل". وكذلك قال طلحة وأبو الدرداء وأبو ذر رضي الله عنهم

(1)

.

وقال عمر رضي الله عنه: "لو نادى منادي من السماء: أيها الناس، إنكم داخلون الجنة كلكم إلا رجلًا واحدًا، لخفت أن أكون أنا هو"

(2)

.

وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة رضي الله عنه: رأيت عمر بن الخطاب أخذ تبنة من الأرض فقال: "يا ليتني هذه التبنة، ليتني لم أكن شيئًا، ليت أمي لم تلدني، ليتني كنت نسيًا منسيًّا"

(3)

.

وقال ابن عمر رضي الله عنهما: "كان رأس عمر على فخذي في مرضه الذي مات فيه، فقال لي: ضع رأسي، قال: فوضعته على الأرض، فقال: ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربي"

(4)

.

وقال المسور بن مخرمة رضي الله عنه: لما طعن عمر قال: "لو أن لي طلاع الأرض

(5)

ذهبًا، لافتديت به من عذاب الله قبل أن أراه"

(6)

.

وبكى أبو هريرة رضي الله عنه في مرضه، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: "أما إني لا أبكي على دنياكم هذه، ولكن أبكي على بُعدِ سفري وقلة زادي، وإني أمسيت في صعود على جنة أو نار، لا أدري إلى أيتهما يؤخذ بي"

(7)

.

(1)

ينظر هذه الآثار في: حلية الأولياء (1/ 33، 2/ 236)، إحياء علوم الدين (3/ 111)، مختصر منهاج القاصدين (313)، البداية والنهاية (1/ 95).

(2)

حلية الأولياء (1/ 53).

(3)

شرح السنة (14/ 373)، وينظر أيضًا: سير أعلام النبلاء (الخلفاء الراشدون/ 83).

(4)

حلية الأولياء (1/ 52)، شرح السنة (14/ 373).

(5)

قال الأصمعي: "طلاع الأرض: ملؤها". نقله عنه الجوهري في الصحاح (3/ 1254).

(6)

حلية الأولياء (1/ 52)، شرح السنة (14/ 373).

(7)

حلية الأولياء (1/ 383)، شرح السنة (14/ 373).

ص: 33

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه قال به هكذا فطار"

(1)

.

وقال الحسن أيضًا: "لقد مضى بين أيديكم أقوام لو أن أحدهم أنفق عدد هذا الحصى، لخشي أن لا ينجو من عظم ذلك اليوم"

(2)

.

وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: "ما فارق الخوف قلبًا إلا خرب"

(3)

.

وقال ابن القيم رحمه الله: "والخوف المحمود الصادق: ما حال بين صاحبه وبين محارم الله عز وجل، فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط"

(4)

.

قال أبو عثمان رحمه الله: "صِدقُ الخوف هو: الورع عن الآثام ظاهرًا وباطنًا"

(5)

.

ويقول ابن القيم: وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: "الخوف المحمود ما حجزك عن محارم الله"

(6)

.

(1)

البخاري (8/ 68)، والترمذي واللفظ له (4/ 658).

(2)

شرح السنة (14/ 374).

(3)

إحياء علوم الدين (4/ 162)، مدارج السالكين (1/ 509).

(4)

مدارج السالكين (1/ 510).

(5)

مدارج السالكين (1/ 510).

(6)

مدارج السالكين (1/ 511).

ص: 34

‌المطلب السادس: الرجاء

.

‌تعريفه:

عرفه ابن القيم رحمه الله بقوله: "هو النظر إلى سعة رحمة الله"

(1)

.

إذن، الرجاء الطمع في رحمة الله والنظر إلى سعتها.

‌من أدلة الكتاب والسنة على الرجاء:

• أخبر سبحانه وتعالى عن سعة رحمته فقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156]، وقال تعالى:{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7].

• وقال سبحانه وتعالى مخاطبًا من أسرف على نفسه بالمعاصي: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].

دلت الآيات على سعة رحمة الله تعالى، مما يفتح باب الرجاء للعبد، ويحدوه إلى التوبة من ذنوبه، وعليه أن يحذر من اليأس والقنوط من رحمة الله.

وعن أَنَس بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى: يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ

(1)

مدارج السالكين (2/ 37).

ص: 35

السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ

(1)

خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً»

(2)

.

وعنه رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ -أَوْ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ- لَوْ أَخْطَأْتُمْ حَتَّى تَمْلَأَ خَطَايَاكُمْ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتُمُ اللهَ لَغَفَرَ لَكُمْ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ -أَوْ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ-، لَوْ لَمْ تُخْطِئُوا لَجَاءَ اللهُ بِقَوْمٍ يُخْطِئُونَ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُونَ اللهَ، فَيَغْفِرُ لَهُمْ»

(3)

.

دل الحديثان على رحمة الله الواسعة بعباده المذنبين إذا أقبلوا عليه تائبين مستغفرين.

‌من أقوال العلماء في الرجاء:

قال الغزالي رحمه الله: "الرجاء والخوف جناحان بهما يطير المقربون إلى كل مقام محمود، ومطيتان بهما يقطع من طرق الآخرة كل عقبة كؤود"

(4)

.

وقال ابن القيم عليه رحمة الله: "الرجاء حادٍ يحدو القلوب إلى بلاد المحبوب، وهو الله والدار الآخرة، ويطيب لها السير"

(5)

.

(1)

"أي: بما يقارب ملأها" النهاية في غريب الحديث (4/ 34) مادة (قرب).

(2)

أخرجه أحمد (35/ 375) ح (21472) عن أبي ذر رضي الله عنه، والترمذي واللفظ له (5/ 548) ح (3540) من حديث أنس رضي الله عنه وقال:"هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، والحاكم بلفظ مقارب عن أبي ذر رضي الله عنه (4/ 269) ح (7605) وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 250) ح (127)، وحسنه محقق المسند ح (21472).

(3)

أخرجه أحمد في المسند (21/ 146) ح (13493)، ومسند أبي يعلى (7/ 226) ح (4226)، وقال في مجمع الزوائد (10/ 215) ح (17624):"رواه أحمد، وأبو يعلى، ورجاله ثقات"، وقال محقق المسند ح (13493):"صحيح لغيره".

(4)

إحياء علوم الدين (4/ 142).

(5)

مدارج السالكين (2/ 36).

ص: 36

"وقيل: هو الاستبشار بجود وفضل الرب تبارك وتعالى، والارتياح لمطالعة كرمه سبحانه"

(1)

.

وقال شاه الكرماني رحمه الله: "علامة صحة الرجاء حسن الطاعة"

(2)

.

وقال أبو علي الروذباري عليه رحمة الله: "الخوف والرجاء كجناحي الطائر إذا استويا استوى الطير وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت"

(3)

.

(1)

مدارج السالكين (2/ 36).

(2)

مدارج السالكين (2/ 37).

(3)

مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (17/ 89) مدارج السالكين (2/ 37).

ص: 37

المبحث الثالث: أثر عمل القلب على الإقبال على الخير في عبادة الصوم في رمضان، وفيه مطالب.

المطلب الأول: أسباب الإقبال على عمل الخير في رمضان.

المطلب الثاني: الصيام والتقوى

المطلب الثالث: الصيام وغرس مراقبة الله وخشيته في الغيب والشهادة.

المطلب الرابع: الصيام والخشوع.

المطلب الخامس: الصيام وتعويد المسلم على الإحسان إلى الناس بالجود بالمال وحسن الخلق.

المبحث الثالث: أثر عمل القلب على الإقبال على الخير في عبادة الصوم في رمضان، وفيه مطالب.

المطلب الأول: أسباب الإقبال على عمل الخير في رمضان.

المطلب الثاني: الصيام والتقوى

المطلب الثالث: الصيام وغرس مراقبة الله وخشيته في الغيب والشهادة.

المطلب الرابع: الصيام والخشوع.

المطلب الخامس: الصيام وتعويد المسلم على الإحسان إلى الناس بالجود بالمال وحسن الخلق.

ص: 38

‌المبحث الثالث: أثر عمل القلب على الإقبال على الخير في عبادة الصوم في رمضان، وفيه مطالب

.

وإذا حقق العبد أعمال القلب وجاهد نفسه على ذلك، تيسر له الخير في رمضان، لأن أسبابه تيسرت في هذا الشهر المبارك، فإذا جاهد العبد نفسه وتفقد قلبه، سهل عليه الإقبال على الخير، وتنشطت نفسه له، ولذا ينادي المنادي إذا دخل رمضان:" يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ"، كما ورد في الحديث يقول صلى الله عليه وسلم:" إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، وَمَرَدَةُ الجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ "

(1)

.

وهذا ما سيتضح بحول الله وقوته من خلال المطالب الآتية:

‌المطلب الأول: أسباب الإقبال على عمل الخير في رمضان، وفيه مسائل

.

وللنفس إقبال على الخير في شهر رمضان يختلف عن بقية الشهور، وهذا أمر مشاهد محسوس في حياة المسلمين في كل مكان وزمان، ولذلك عدة أسباب نلخصها في المسائل الآتية:

‌المسألة الأولى: رغبة المؤمن في الأجر والثواب العظيم الذي أعده الله للصائمين

.

وقد وردت نصوص كثيرة فيها بيان ما أعده الله للصائمين من جزيل الثواب، ومن ذلك:

1 -

يقول صلى الله عليه وسلم: " إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، وَمَرَدَةُ الجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ ".

2 -

وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلَّا الصِّيَامَ،

(1)

أخرجه أحمد (31/ 93) ح (18795)، والنسائي (4/ 129) ح (2107)، الترمذي (3/ 57) ح (682) واللفظ له، وابن ماجه (1/ 526) ح (1642)، وصححه الحاكم (1/ 582) ح (1532)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 660) ح (3519)، وقال محقق المسند ح (18795):"حديث صحيح".

ص: 39

3 -

فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ "، «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ»، " لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ "

(1)

.

وفي رواية مسلم زيادة: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ عز وجل: إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي"

(2)

.

4 -

قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَدْخُلُ مَعَهُمْ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَدْخُلُونَ مِنْهُ، فَإِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ، أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ "

(3)

.

5 -

وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»

(4)

.

‌المسألة الثانية: ومن أسباب الإقبال على الخير ما يحدث في رمضان من فتح أبواب الجنة، وأغلاق أبواب النار، وتصفيد الشياطين

.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ»

(5)

.

وفي رواية البخاري قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ»

(6)

.

(1)

أخرجه البخاري (3/ 26) ح (1904) واللفظ له، ومسلم (2/ 807) ح (1151).

(2)

مسلم (2/ 807).

(3)

أخرجه صحيح البخاري (3/ 25) ح (1896)، ومسلم (2/ 808) ح (1152).

(4)

أخرجه البخاري (1/ 16) ح (38)، ومسلم (1/ 523) ح (760).

(5)

أخرجه مسلم (2/ 758) ح (1079).

(6)

أخرجه البخاري (3/ 25) ح (1899).

ص: 40

وفي رواية مسلم: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا كَانَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ»

(1)

.

ومن هنا يفهم المقصود بهذا النداء الذي ورد في الحديث" .. وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ ".

لأن أسباب الخير تيسرت، وسهل على النفوس الإقبال على الخير، ولأن أسباب الشر من الشياطين قد قيدت وسلسلت، فلا تخلص إلى نشر الشر كما كانت قبل رمضان، وفي هذا إشارة كما قال بعض أهل العلم: إلى رفع عذر المكلف كأنه يقال له قد كُفّتِ الشياطين عنك، فلا تعتل بهم في فعل المعصية وترك الطاعة

(2)

.

ولهذا يسهل على الصائم فعل الخير والإقبال عليه، ويسهل عليه كذلك ترك المعاصي، وقصر نفسه عن فعل الشر.

‌المسألة الثالثة: أثر التعاون على البر والتقوى الذي يتجلى في رمضان بشكل واضح في تعاون المسلمين مع بعضهم على الصيام والقيام، وبقية العبادات

.

‌المطلب الثاني: الصيام والتقوى

.

بين الصيام والتقوى ارتباط وثيق كما الله تعالى عن الحكمة من مشروعية الصيام: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} البقرة: 183

قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره: "ثم ذكر تعالى حكمته في مشروعية الصيام فقال:

{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى، لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه، فمما اشتمل عليه من التقوى: أن الصائم يترك ما حرم الله عليه من الأكل والشرب والجماع ونحوها، التي تميل إليها نفسه، متقرباً بذلك إلى الله، راجياً بتركها، ثوابه، فهذا من التقوى.

(1)

أخرجه مسلم (2/ 758) ح (1079).

(2)

ينظر: فتح الباري لابن حجر (4/ 114 - 115).

ص: 41

ومنها: أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى، فيترك ما تهوى نفسه، مع قدرته عليه، لعلمه باطلاع الله عليه، ومنها: أن الصيام يضيق مجاري الشيطان، فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، فبالصيام، يضعف نفوذه، وتقل منه المعاصي، ومنها: أن الصائم في الغالب، تكثر طاعته، والطاعات من خصال التقوى، ومنها: أن الغني إذا ذاق ألم الجوع، أوجب له ذلك، مواساة الفقراء المعدمين، وهذا من خصال التقوى"

(1)

.

وقال الشيخ ابن باز رحمه في تعليقه على آية الصوم: " فأوضح سبحانه أنه كتب علينا الصيام لنتقيه سبحانه، فدل ذلك على أن الصيام وسيلة للتقوى، والتقوى هي: طاعة الله ورسوله بفعل ما أمر الله به ورسوله وترك ما نهى الله عنه ورسوله؛ عن إخلاص لله عز وجل ومحبة ورغبة ورهبة، وبذلك يتقي العبد عذاب الله وغضبه، فالصيام شعبة عظيمة من شعب التقوى، ووسيلة قوية إلى التقوى في بقية شئون الدين والدنيا"

(2)

.

(1)

تفسير السعدي (86).

(2)

مجموع فتاوى ابن باز (15/ 39 - 40).

ص: 42

‌المطلب الثالث: الصيام وغرس مراقبة الله وخشيته في الغيب والشهادة

.

قال: صلى الله عليه وسلم "قَالَ اللهُ عز وجل: إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي".

وفي الرواية الأخرى يقول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: "يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي .. ".

وذلك لأن الصوم يربي في النفس مراقبة الله وخشيته في الغيب والشهادة، فمن الذي يمنع الصائم من أن يمد يده إلى الطعام والشراب، وهو لا يراه أحد إلا مراقبته لله وخشيته منه، وشعوره بأن الله مطلع عليه ويقينه بـ ـــ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} آل عمران: 5

وعلمه بيقين بأن الله يعلم سره ونجواه وأنه عليم سميع بصير، قال تعالى:{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} التوبة: 78.

{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} البقرة: 231.

{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} البقرة: 233.

{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} البقرة: 244.

وكما قال تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} يونس: 61.

وكل هذه المعاني العظيمة يربي عليها الصيام الذي يحرص فيه الصائم على حقيقة الصيام التي قال عنها الصحابي الجليل جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ وَبَصَرُكَ وَلِسَانُكَ عَنِ الْكَذِبِ وَالْمَآثِمِ، وَدَعْ أَذَى الْخَادِمِ وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ يَوْمَ صِيَامِكَ، وَلَا تَجْعَلْ يَوْمَ فِطْرِكَ وَيَوْمَ صِيَامِكَ سَوَاءً»

(1)

.

(1)

مصنف ابن أبي شيبة (2/ 271).

ص: 43

‌المطلب الرابع: الصيام والخشوع، وفيه تمهيد ومسائل

.

‌تمهيد:

للصيام أثر على حصول عبادة الخشوع فعندما يقل الطعام تخف النفس ويقبل القلب على الخشوع ويسهل عليه، ولذا يجد الصائم أثر صيامه على زيادة خشوعه، ولأنه في الصوم تكثر الطاعات ويجد العبد نفسه منطلقاً في الخير، وكذلك لأن الشيطان الذي يفسد على العبد خشوعه قد قُيِّد وسلسل في رمضان، فسهلت عبادة الخشوع ووجد الصائم أثرها على عبادات كثيرة، منها المسائل الآتية:

المسألة الأولى: الخشوع في الصلاة.

المسألة الثانية: الخشوع عند تلاوة القرآن.

المسألة الثالثة: الخشوع عند الدعاء.

المسألة الرابعة: الخشوع عند الذكر.

ص: 44

‌المسألة الأولى: الخشوع في الصلاة

.

ومما يسهل على المسلم في رمضان خشوعه في صلاته، بل قد يكون رمضان منطلقاً للمؤمن للتمكن من عبادة الخشوع في الصلاة طوال عمره، إذا وفقه الله لتحقيق أسباب الخشوع في هذا الشهر المبارك وذاق حلاوته ولذته، فإنه يحرص على الاستمرار على ذلك بعد رمضان، ودونك بعض الأسباب المعينة على الخشوع:

الأول: الدعاء.

الثاني: مجاهدة النفس على حضور القلب في الصلاة.

الثالث: وإليك مجموعة من الأحاديث لها أثر على خشوع القلب في الصلاة إذا حقق العبد ما فيها، وجاهد نفسه على ذلك:

أولاً: حديث عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ السُّلَمِيُّ رضي الله عنه الطويل وفيه: قَالَ: فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ فَالْوُضُوءَ حَدِّثْنِي عَنْهُ، قَالَ:«مَا مِنْكُمْ رَجُلٌ يُقَرِّبُ وَضُوءَهُ فَيَتَمَضْمَضُ، وَيَسْتَنْشِقُ فَيَنْتَثِرُ إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ، وَفِيهِ وَخَيَاشِيمِهِ، ثُمَّ إِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ، إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ مِنْ أَطْرَافِ لِحْيَتِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا يَدَيْهِ مِنْ أَنَامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَمْسَحُ رَأْسَهُ، إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا رَأْسِهِ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا رِجْلَيْهِ مِنْ أَنَامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ، فَإِنْ هُوَ قَامَ فَصَلَّى، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَمَجَّدَهُ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، وَفَرَّغَ قَلْبَهُ لِلَّهِ، إِلَّا انْصَرَفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»

(1)

.

من فوائده:

1 -

قوله صلى الله عليه وسلم: «وفرغ قلبه لله» أي: جعله حاضرًا لله، وفرغه من الأشغال الدنيوية

(2)

.

وهذا هو الخشوع أي: حضور القلب بين يدي الله في الصلاة.

2 -

قال ابن كثير رحمه الله: "والخشوع في الصلاة إنما يحصل بمن فرغ قلبه لها، واشتغل بها عما

(1)

أخرجه مسلم (1/ 569) ح (832).

(2)

ينظر: مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (3/ 461)، المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 212).

ص: 45

3 -

عداها، وآثرها على غيرها، وحينئذ تكون راحة له وقرة عين"

(1)

.

4 -

ونقل شيخ الإسلام في عن مجاهد رحمه الله قوله في معنى الآية: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2]: "غض البصر وخفض الجناح، وكان الرجل من العلماء إذا قام إلى الصلاة يهاب الرحمن أن يشذ بصره، أو أن يحدّث نفسه بشيء من أمر الدنيا"

(2)

.

•‌

‌ مما يعين على تفريغ القلب لله في الصلاة

أمور منها:

1 -

دفع كيد الشيطان الذي يسعى لإشغال المسلم في صلاته حتى يفقد حضور قلبه في عبادته، فيذهب منه الخشوع، وهذه بعض الوسائل المعينة على دفع كيد الشيطان:

الاستعاذة منه في موطنين:

الأول: خارج الصلاة؛ وذلك بقول الأذكار والأوراد المشروعة لدفع كيده، ومنها:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ، يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ إِلَّا رَجُلٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْهُ»

(3)

.

والذكر عمومًا من أقوى الحروز من كيد الشيطان

(4)

.

(1)

تفسير ابن كثير (5/ 461 - 462).

(2)

مجموع الفتاوى (7/ 28).

(3)

أخرجه البخاري واللفظ له (4/ 126) ح (3293)، ومسلم (4/ 2071) ح (2691).

(4)

وفي الحديث في سنن الترمذي ت شاكر (5/ 149) وصححه الألباني: "وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ العَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ، كَذَلِكَ العَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ ".

ص: 46

ذكر الخروج من المنزل:

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ -يَعْنِي إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ-: بِسْمِ اللَّهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، يُقَالُ لَهُ: كُفِيتَ، وَوُقِيتَ، وَتَنَحَّى عَنْهُ الشَّيْطَانُ»

(1)

.

ذكر دخول المسجد:

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ:«أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ، مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»

قَالَ: «فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ، قَالَ الشَّيْطَانُ: حُفِظَ مِنِّي سَائِرَ الْيَوْمِ»

(2)

.

الثاني: الاستعاذة منه في داخل الصلاة في موضعين:

أولاً: قبل قراءة الفاتحة في الصلاة، كما قال تعالى:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98].

ثانياً: إذا أتاه الشيطان في صلاته يستعيذ بالله ويتفل عن يساره ثلاثًا:

عن عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي، وَقِرَاءَتِي يَلْبِسُهَا عَلَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ: خنْزَبٌ، فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْهُ، وَاتْفِلْ عَلَى يَسَارِكَ ثَلَاثًا» ، قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللهُ عَنِّي

(3)

.

(1)

أخرجه أبو داود (4/ 325) ح (5095)، وأخرجه الترمذي واللفظ له (5/ 490)(3426)، وقال:"هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 265)(1605)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن أبي داود (7/ 425) ح (5095):"حديث حسن بشواهده".

(2)

أخرجه أبو داود (1/ 127) ح (466)، وقال النووي في الأذكار (85) ح (70):"حديث حسن، رواه أبو داود بإسناد جيد"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 265) ح (1606).

(3)

أخرجه مسلم (4/ 1728) ح (2203).

ص: 47

2 -

ويشعر بعظمة الموقف بين يدي الله في الصلاة، وأن الله مطلع عليه يعلم ما في قلبه، ويسمعه ويراه:

ويحدث هذا المعنى العظيم إذا استشعر القلب معاني الأسماء والصفات، وبالأخص أسماء الله وصفاته: العليم السميع البصير، وحصل في قلبه بأن الله مطلع عليه، لا تخفى منه خافية، يعلم ما في قلبه، ويستحضر في موقفه في صلاته سمع الله له وبصره، فيقف بين يديه وكأنه يرى الله أمامه، فإن لم يكن يراه فإن الله يراه.

قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} [الأحزاب: 51].

وقال تعالى: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [التغابن: 4].

وقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 235].

وقال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [التوبة: 78].

وقال تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: 40].

وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 61].

ص: 48

وقال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1].

وما ورد في هذا المعنى من الآيات كثير في كتاب الله، فحين يستحضر المصلي معاني هذه الآيات، فإنه يشعر بعظمة الموقف بين يدي ربه سبحانه وتعالى العالم بسره ونجواه، والمطلع على ما تخفيه الصدور، والذي أحاط علمًا بكل شيء، الذي يسمعه ويراه، فحضور هذه المعاني العظيمة يحدث في القلب الخشوع في الصلاة والإقبال عليها بوجهه وقلبه، فيخرج إلى الصلاة وهو يستحضر في قلبه هذه المعاني، ويجاهد نفسه على هذا، حتى وهو يمشي إلى الصلاة لا بد أن يلتزم أدب المشي إلى الصلاة، الذي سأشير إليه في الفقرة التالية، وذلك لأنه في مشيه إلى الصلاة فهو في صلاة كما ورد في الحديث يقول صلى الله عليه وسلم:«فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ يَعْمِدُ إِلَى الصَّلَاةِ فَهُوَ فِي صَلَاةٍ» الحديث

(1)

.

3 -

المشي إلى الصلاة بسكينة ووقار:

عن أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا تَمْشُونَ، عَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا»

(2)

. وفي الرواية الأخرى يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «وَلَكِنْ لِيَمْشِ وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ» الحديث

(3)

.

وفي معنى السَّكِينَة وَالْوَقَار قال النووي رحمه الله: "قيل: هما بمعنى

(4)

، وجمع بينهما تأكيدًا، والظاهر أن بينهما فرقًا، وأن السكينة التأني في الحركات، واجتناب العبث، ونحو ذلك، والوقار في الهيئة، وغض البصر، وخفض الصوت، والإقبال على طريقه بغير التفات، ونحو ذلك والله أعلم"

(5)

.

(1)

أخرجه مسلم (1/ 421) ح (602).

(2)

أخرجه البخاري (2/ 7) ح (908)، ومسلم (1/ 420) ح (602).

(3)

أخرجه مسلم (1/ 421) ح (602).

(4)

أي: بمعنى واحد.

(5)

شرح النووي على مسلم (5/ 100).

ص: 49

وفي هذا والله أعلم تنبيه على الشعور بعظمة الموقف بين يدي الله، وان العبد في طريقه إلى الصلاة يهييء نفسه في مشيه إلى الصلاة، فهو في صلاة من حين خروجه لدخول بيت الله وللوقوف بين يديه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«إِذَا ثُوِّبَ لِلصَّلَاةِ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ يَعْمِدُ إِلَى الصَّلَاةِ فَهُوَ فِي صَلَاةٍ»

(1)

.

4 -

وكان السلف يعظمون أمر الأذان لأنه يذكرهم بعظمة الموقف بين يدي الله يوم القيامة:

"وقد روى ابن أبي الدنيا في "كتاب الرقة والبكاء" بإسناده، عن يحيى البكاء، عن الحسن، قال: إذا اذن المؤذن لم تبق دابة بر ولا بحر الا اصغت واستعمت. قال: ثم بكى الحسن بكاء شديداً.

وبإسناده، عن أبي عمران الجوني، انه كان إذا سمع الاذان تغير لونه، وفاضت عيناه.

وعن أبي بكر النهشلي نحو - أيضاً -، وانه سئل عن ذلك، فقال: اشبهه بالصريخ يوم العرض، ثم غشى عليه.

وحكى مثل ذلك من غيره من الصالحين - أيضاً.

وعن الفضيل بن عياض، أنه كان في المسجد، فأذن المؤذن، فبكى حتى بل الحصى، ثم قال: شبهته بالنداء، ثم بكى"

(2)

.

5 -

وكانوا أيضاً يشعرون بعظمة الموقف بين يدي الله في صلاتهم:

كان علي بن الحسين الملقب بزين العابدين إذا توضأ يصفر لونه، فإذا قام إلى الصلاة ارتعد من الخوف، فقيل له في ذلك فقال: ألا تدرون بين يدي من أريد أن أقوم ولمن أناجي؟

(3)

.

(1)

صحيح مسلم (1/ 421) ح (602).

(2)

فتح الباري لابن رجب (5/ 301).

(3)

ينظر: البداية والنهاية (12/ 482).

ص: 50

و"كَانَ عَطَاءٌ السَّلِيمِيُّ إذا فرغ من وضوئه انتفض وارتعد وبكى بكاء شديداً، فيقال له في ذلك فيقول: إني أريد أن أقدم على أمر عظيم أريد أن أقوم بين يدي الله عز وجل"

(1)

.

6 -

التبكير إلى الصلاة والمسارعة إلى ذلك:

من أسباب تفريغ القلب في الصلاة من مشاغل الدنيا التبكير إلى الصلاة، وذلك حينما يبكر العبد إلى صلاته، فيتمكن من إقبال قلبه على صلاته، وصفاء القلب من شواغل الدنيا، والتقرب إلى الله بالأعمال الصالحة بين الأذان والإقامة، كل ذلك مما يعين على الخشوع وحضور القلب، ولهذا جاء الحث على التبكير فقال صلى الله عليه وسلم:«وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ»

(2)

.

قال النووي رحمه الله: "التهجير التبكير إلى الصلاة، أي صلاة كانت"

(3)

.

قال ابن رجب رحمه الله: "وقد ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى التهجير إلى الصلاة، وهو القصد إلى المساجد في الهجير، إما قبل الأذان أو بعده .. وقد كان كثير من السلف يأتي المسجد قبل الأذان، منهم: سعيد بن المسيب، وكان الإمام أحمد يفعله في صلاة الفجر .. وقال بعض السلف في قول الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 10]: إنهم أول الناس خروجًا إلى المسجد، وإلى الجهاد"

(4)

.

7 -

من أسباب تفريغ القلب لله في الصلاة أن يقطع كل ما يشغله في صلاته من الأمور الآتيه:

الأول: من طعام تتعلق به النفس وتشتهيه، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا وُضِعَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ، وَلَا يَعْجَلَنَّ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ»

(5)

.

(1)

حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (6/ 218).

(2)

أخرجه البخاري (1/ 126) ح (615)، ومسلم (1/ 325) ح (437).

(3)

شرح النووي على مسلم (4/ 158).

(4)

فتح الباري لابن رجب (5/ 352)، وينظر: تفسير ابن جرير (22/ 290).

(5)

صحيح مسلم (1/ 392) ح (559).

ص: 51

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا قُدِّمَ العَشَاءُ، فَابْدَءُوا بِهِ قَبْلَ أَنْ تُصَلُّوا صَلَاةَ المَغْرِبِ، وَلَا تَعْجَلُوا عَنْ عَشَائِكُمْ»

(1)

.

وكَانَ ابْنُ عُمَرَ: «يَبْدَأُ بِالعَشَاءِ» وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: «مِنْ فِقْهِ المَرْءِ إِقْبَالُهُ عَلَى حَاجَتِهِ حَتَّى يُقْبِلَ عَلَى صَلَاتِهِ وَقَلْبُهُ فَارِغٌ»

(2)

.

الثاني: ألا يأتي الصلاة وهو يشعر بأحتقان البول أو الغائط في بطنه، بل يقضي حاجته أولاً حتى يتفرغ قلبه لصلاته، ويقول صلى الله عليه وسلم:«لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ، وَلَا هُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ»

(3)

.

والأخبثان: هما البول والغائط.

وقال النووي: " في هذه الأحاديث كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله؛ لما فيه من اشتغال القلب به وذهاب كمال الخشوع، وكراهتها مع مدافعة الأخبثين وهما البول والغائط، ويلحق بهذا ما كان في معناه مما يشغل القلب ويذهب كمال الخشوع "

(4)

.

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَرْقَمِ، أَنَّهُ خَرَجَ حَاجًّا، أَوْ مُعْتَمِرًا وَمَعَهُ النَّاسُ، وَهُوَ يَؤُمُّهُمْ، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَقَامَ الصَّلَاةَ، صَلَاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ قَالَ: لِيَتَقَدَّمْ أَحَدُكُمْ وَذَهَبَ إِلَى الْخَلَاءِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:«إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَذْهَبَ الْخَلَاءَ وَقَامَتِ الصَّلَاةُ، فَلْيَبْدَأْ بِالْخَلَاءِ»

(5)

.

ثانياً: وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: كَانَتْ عَلَيْنَا رِعَايَةُ الْإِبِلِ، فَجَاءَتْ نَوْبَتِي فَرَوَّحْتُهَا بِعَشِيٍّ، فَأَدْرَكْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا يُحَدِّثُ النَّاسَ، فَأَدْرَكْتُ مِنْ قَوْلِهِ:«مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ، إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ»

(6)

.

(1)

صحيح البخاري (1/ 135) ح (672).

(2)

صحيح البخاري (1/ 135).

(3)

صحيح مسلم (1/ 393) ح (560).

(4)

شرح مسلم (5/ 46).

(5)

سنن أبي داود (1/ 22) ح (88)، وصححه الألباني في تحقيقه لسنن أبي داود، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن أبي داود (1/ 65):" إسناده صحيح".

(6)

أخرجه مسلم (1/ 209) ح (234).

ص: 52

قال النووي: "وقد جمع صلى الله عليه وسلم بهاتين اللفظتين أنواع الخضوع والخشوع لأن الخضوع في الأعضاء والخشوع بالقلب"

(1)

.

‌للعبد في صلاته قبلتان:

الأولى: قبلة البدن يتوجه إلى جهة القبلة.

والثانية: قبلة القلب وهو الرب سبحانه وتعالى

(2)

.

ثالثاً: عن عقبة بن عامر يَقُولُ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُسْبِغُ

(3)

الْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُومُ فِي صَلَاتِهِ فَيَعْلَمُ مَا يَقُولُ إِلَّا انْفَتَلَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ مِنَ الْخَطَايَا لَيْسَ عَلَيْهِ ذَنْبٌ»

(4)

.

‌فقوله صلى الله عليه وسلم: " ثُمَّ يَقُومُ فِي صَلَاتِهِ فَيَعْلَمُ مَا يَقُولُ

"

‌1 - وهذا من أسباب الخشوع أن يعلم ما يقوله في صلاته ولا يحصل هذا إلا بحضور القلب والفهم والتركيز على ما يقوله في صلاته من الأمور الآتية:

أ - أن يعلم ما يقوله في صلاته من أذكار فهو يقول في كل ركعة عدة أذكار يلتزم بقولها في كل ركعة منها:

(1)

شرح مسلم (3/ 121).

(2)

ينظر: ص (10) من تطريز كتاب صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للعلامة محمد بن صالح العثيمين، والتطريز شرح مختصر لفضيلة الشيخ الدكتور صالح العصيمي، منقول من الشرح الصوتي، ضمن سلسلة شروح وتطريزات فضيلة الشيخ (82) النسخة الأولى.

(3)

وإسباغ الوضوء: إتمامه وأكماله بغسل العضو الذي يغسل ثلاثًا، وقال ابن عبد البر رحمه الله في معنى الإسباغ:"الإكمال والإتمام من ذلك قول الله عز وجل: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ} [لقمان: 20]، يعني: أتمها عليكم وأكملها، وإسباغ الوضوء أن يأتي بالماء على كل عضو يلزمه غسله مع إمرار اليد، فإذا فعل ذلك مرة وأكمل فقد توضأ مرة".

ينظر: الاستذكار (2/ 302) لابن عبد البر.

(4)

أخرجه الحاكم (2/ 432) ح (3508)، وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 195) ح (190).

ص: 53

ب - قول الله أكبر، وهو أكثر ذكر يردده في صلاته ويسمعه من إمامه إذا كان ممن تجب عليهم صلاة الجماعة.

دعونا نردد هذه التسأولات:

هذا الذكر نردده في صلاة الفريضة أكثر (90) مرة ونسمعه كذلك من الإمام.

ما أثر هذا الذكر علينا في قلوبنا؟! وهل نحن نعلم معنى ما نقول؟!

ت - نقول في الركوع (سبحان ربي العظيم) على الأقل ثلاث مرات في كل ركعة.

فنقوله في الفريضة (51) مرة فما أثره على قلوبنا؟ وهل ندرك معنى ما نقول؟!

ث - نقول في السجود (سبحان ربي الأعلى) على الأقل ثلاث مرات في كل سجدة.

فنقوله في الفريضة (102) مرة ويتكرر نفس السؤال!!!

ج - يقول الإمام والمنفرد حين الرفع من الركوع (سمع الله لمن حمده) في كل ركعة، ويقول الجميع الإمام والمنفرد والمأموم (ربنا ولك الحمد) فهل نعلم ما نقول؟!!

ح - نقول في كل صلاة في الركعة الثانية التحيات كاملة في الثنائية ونقولها في التشهد الأوسط في الثلاثية والرباعية، ونقولها كاملة في التشهد الأخير، فهل نعلم ما نقوله في صلاتنا؟

خ - ثم نختم الصلاة بقول (السلام عليكم ورحمة الله) على اليمين والشمال، فهل نعلم ما نقوله؟

د - وغير ذلك مما نقوله في صلاتنا.

‌2 - ويشعر بقلبه عند تكبيرة الإحرام وفي بقية صلاته بأنه يناجي ربه

، وأن الله قد نصب وجهه الكريم سبحانه وتعالى لوجه المصلي، فلا ينبغي له أن يلتفت عن ربه بلقبه ووجهه:

وبوّب ابن خزيمة فقال رحمه الله: "باب الأمر بالخشوع في الصلاة، إذ المصلي يناجي ربه، والمناجي ربه يجب عليه أن يفرغ قلبه لمناجاة خالقه عز وجل، ولا يشغل قلبه التعلق بشيء من أمور الدنيا يشغله عن مناجاة خالقه"

(1)

.

ومن الأحاديث في ذلك:

(1)

صحيح ابن خزيمة (1/ 270).

ص: 54

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى نُخَامَةً فِي القِبْلَةِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُئِيَ فِي وَجْهِهِ، فَقَامَ فَحَكَّهُ بِيَدِهِ، فَقَالَ:«إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلَاتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ» الحديث

(1)

.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ، فَلَمَّا سَلَّمَ نَادَى رَجُلًا كَانَ فِي آخِرِ الصُّفُوفِ، فَقَالَ:«يَا فُلَانُ، أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ؟! أَلَا تَنْظُرُ كَيْفَ تُصَلِّي؟! إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي إِنَّمَا يَقُومُ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلْيَنْظُرْ كَيْفَ يُنَاجِيهِ، إِنَّكُمْ تَرَوْنَ أَنِّي لَا أَرَاكُمْ، إِنِّي وَاللَّهِ لَأَرَى مِنْ خَلْفِ ظَهْرِي كَمَا أَرَى مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ»

(2)

.

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى بُصَاقًا فِي جِدَارِ القِبْلَةِ، فَحَكَّهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ:«إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي، فَلَا يَبْصُقُ قِبَلَ وَجْهِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ إِذَا صَلَّى»

(3)

.

‌3 - إذا جاهد العبد نفسه في صلاته ليستحضر قلبه ما يتلوه من سورة الفاتحة وأن الله يخاطبه كلما قرأ آية منها زاد خشوعه في صلاته

، واستشعر عظمة خطاب الله له، فكيف يليق بالعبد عن ينصرف عن مناجاة ربه؟!، كما في الحديث الآتي:

‌رابعاً: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ»

ثَلَاثًا غَيْرُ تَمَامٍ. فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ؟ فَقَالَ: اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ؛ فإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «قَالَ اللهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، قَالَ اللهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3]، قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي -وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي-، فَإِذَا قَالَ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] قَالَ: هَذَا بَيْنِي

(1)

أخرجه البخاري (1/ 90) ح (405)، ومسلم (1/ 390) ح (551).

(2)

أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (1/ 271) ح (474)، والحاكم (1/ 361) ح (861) وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 353) ح (541).

(3)

أخرجه البخاري (1/ 90) ح (406)، ومسلم (1/ 388) ح (547).

ص: 55

وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6، 7] قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ»

(1)

.

‌ومن فوائده:

1 -

الحذر من حجب الغفلة بسبب الذنوب التي تعمي القلوب، فتحرمها من لذة المناجاة، وإلى الله المشتكى، {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} الحج: 46]، {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14].

كم مرة يا عبد الله حضر قلبك فسمع خطاب الله له، وشعرت بعظمة الاصطفاء من ربك، وهو يخاطبك مع كل آية تقرؤها من سورة الفاتحة فيقول لك:(حمدني عبدي، أثنى علي عبدي، مجدني عبدي، فوض إلي عبدي، هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل .. )

2 -

قراءة سورة الفاتحة في الصلاة وسماعها من الإمام في الصلاة الجهرية وقراءتها في كل ركعة من الصلوات الفرائض والنوافل في كل يوم، هذا يستلزم أن يكون لهذا التكرار أثره على القلب في حضوره وتدبره لأعظم سورة في القرآن، وذلك يؤدي إلى شعور العبد بلذة قراءة الفاتحة، وكلما أقبل قلب العبد على فهم معاني هذه السورة العظيمة، زاد خشوعه وإقباله بقلبه على ربه في صلاته.

3 -

ومن الفوائد العظيمة حول الدعاء الذي ورد في آخر سورة الفاتحة:

أ - إذا رسخ في قلب العبد أهمية وعظمة هذا الدعاء {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ، وأنه من أعظم الأدعية وأهمها على الإطلاق، حينها يقبل القلب عليه مستشعراً لفقره

(1)

أخرجه مسلم (1/ 296) ح (395).

ص: 56

ب - وحاجته لربه في أن يحقق له مطلبه ويجيب دعوته، والتي متى ما أجيبت نال سعادة الدارين، ولتكرار هذه الدعوة في كل ركعة من الصلاة سر عظيم، اسأل الله ان يوفقني للإشارة إليه في الفقرة الآتية.

ت - فينبغي على المسلم أن يشعر بعظمة هذا الدعاء الذي يردده في كل يوم فقط في الفرائض سبع عشرة مرة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ، وهذا يشعر بعظيم أهميتة في حياة المسلم؛ بل هو من أعظم ما يدعو به في نهاره وليلته؛ لأن هذا الدعاء يتضمن سؤال الله الهداية إلى الصراط المستقيم، وكذلك سؤاله الثبات على الهداية إلى أن يلقى ربه، ويختم له بالحسنى، وهو في هذه الدنيا على خطر عظيم، فالقلب يتقلب، وشياطين الأنس والجن متربصة به تنتظر زلته عن الصراط ليستثمروها، وفي المقابل نفس امّارة بالسوء، والصراط المستقيم على صعوبته، بجواره طرق مزينة مفروشة بالشهوات المحرمة المحببة للنفوس، فالخطر عظيم، فهنا يظهر أهمية وعظمة هذا الدعاء في كل ركعة، والله الموفق والمعين.

ث - وكذلك يحضر قلبه عند التأمين، فهو كلمة بمعنى:"اللهم استجب" أي: استجب هذا الدعاء، وليتذكر وهو يقول:"آمين" حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»

(1)

.

ج - قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: " ولولا احتياجه ليلاً ونهاراً إلى سؤال الهداية لما أرشده الله إلى ذلك؛ فإن العبد مفتقر في كل ساعة وحالة إلى الله تعالى في تثبيته على الهداية، ورسوخه فيها، وتبصره، وازدياده منها، واستمراره عليها، فإن العبد لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله، فأرشده تعالى إلى أن يسأله في كل وقت أن يمده بالمعونة والثبات والتوفيق"

(2)

.

(1)

صحيح البخاري (8/ 85) ح (6402)، وصحيح مسلم واللفظ له (1/ 307) ح (410).

(2)

تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 139).

ص: 57

ح - وقال السعدي رحمه الله: "فهذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعها للعبد ولهذا وجب على الإنسان أن يدعو الله به في كل ركعة من صلاته، لضرورته إلى ذلك"

(1)

.

خ - ولهذا لا يحسن بالمسلم أن يغفل عن ذلك، بسبب تكرار هذا الدعاء، بل ينبغى أن يكون حاضر القلب، يجاهد نفسه على ذلك؛ ليتحقق أثر هذا الدعاء العظيم عليه ثباتًا على الحق إلى أن يلق الله، وصبرًا على ما يلقاه في طريقه إلى الله.

‌خامساً: ومن حديث الحارث الأشعري رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: «فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ» الحديث

(2)

.

‌ومن فوائده:

1 -

قال ابن رجب: "والالتفات نوعان:

أحدهما: التفات القلب إلى غير الصلاة ومتعلقاتها، وهذا يخل بالخشوع فيها.

والثاني: التفات الوجه بالنظر إلى غير ما فيه مصلحة الصلاة"

(3)

.

وكثير يقع الخلل منهم في النوع الأول من الالتفات وهو التفات القلب عن الله، وهو الذي يخل بالخشوع، أما النوع الثاني، وهو التفات الوجه فقليل ما يقع من المصلي.

2 -

وعلى هذا فلا بد من مجاهدة القلب على الحضور في الصلاة وعدم التفاته عن الله، قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].

(1)

تفسير السعدي (39).

(2)

أخرجه أحمد في المسند (28/ 405) ح (17170)، والترمذي واللفظ له (5/ 148) ح (2863) وقال:"حسن صحيح غريب"، وابن خزيمة في صحيحه (2/ 914) ح (1895)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 358) ح (552)، وقال محقق المسند ح (17170)"حديث صحيح".

(3)

فتح الباري (6/ 447) لابن رجب.

ص: 58

3 -

يذكر الذهبي عن ثابت البناني قَالَ: "كَابَدْتُ الصَّلَاةَ عِشْرِيْنَ سَنَةً، وَتَنَعَّمْتُ بِهَا عِشْرِيْنَ سَنَةً"

(1)

.

‌سادساً: عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ دَعَا بِوَضُوءٍ

، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إِنَائِهِ، فَغَسَلَهُمَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الوَضُوءِ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا وَيَدَيْهِ إِلَى المِرْفَقَيْنِ ثَلَاثًا، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ كُلَّ رِجْلٍ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، وَقَالَ:«مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»

(2)

.

‌من فوائده:

وفي هذا الحديث إشارة مهمة إلى أمرين:

الأول: مجاهدة النفس على ما يحصل لها من أمور يستغلها الشيطان، وهي حديث النفس بأمور الدنيا التي يشغله بها الشيطان في صلاته.

الثاني: أن العبد يستطيع أن يتغلب على حديث نفسه بأمور الدنيا في صلاته بحضور القلب، والشعور بعظمة الموقف بين يدي الله، والدعاء الذي يلح فيه على ربه أن يقطع عنه هذه الوساوس النفسية التي يستثمرها الشيطان، ومن جاهد نفسه وجد لذة الصلاة والراحة فيها، قال تعالى:

{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]. ونختم بذكر فائدة تتعلق بما سبق من الأحاديث ذكرها ابن رجب، فيقول رحمه الله: "وكأن مقصود النبي صلى الله عليه وسلم بذكر هذا: أن يستشعر المصلي في صلاته قرب الله منه، وأنه بمرأى منه ومسمع، وأنه مناج له، وأنه يسمع كلامه ويرد عليه جواب مناجاته له، كما في صحيح مسلم عن أبي

(1)

سير أعلام النبلاء ط الرسالة (5/ 224).

(2)

أخرجه البخاري (1/ 44) ح (164)، ومسلم (1/ 204) ح (226).

ص: 59

هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، قَالَ اللهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي» وذكر رده عليه في آيات الفاتحة إلى آخرها.

فمن استشعر هذا في صلاته أوجب له ذلك حضور قلبه بين يدي ربه، وخشوعه له، وتأدبه في وقوفه بين يديه، فلا يلتفت إلى غيره بقلبه ولا ببدنه، ولا يعبث وهو واقف بين يديه، ولا يبصق أمامه، فيصير في عبادته في مقام الإحسان، يعبد الله كأنه يراه"

(1)

.

(1)

فتح الباري لابن رجب (3/ 110 - 111).

ص: 60

‌المسألة الثانية: الخشوع عند تلاوة القرآن

.

وشهر رمضان هو شهر القرآن أنزل فيه القرآن كما تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} البقرة: 185.

وكان جبريل عليه السلام يلقى النبي صلى الله عليه وسلم في كل ليلة من رمضان يدارسه القرآن فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ»

(1)

.

وتلاوة القرآن وتدبره له مكانة خاصة في شهر رمضان، والخشوع عند تلاوته وهو ثمرة من ثمرات تدبره، والقلوب ترق في رمضان وتخشع أكثر من غيره من الشهور، ويزداد خشوعها حين تقبل على تلاوة القرآن متدبرة لآياته متأثرة بمعانيه، قال تعالى في وصف عباده الصالحين مع القرآن وقد خشعت قلوبهم ودمعت عينهم من خشية الله والشعور بعظمة كلامة وشدة تأثيره، قال سبحانه في وصفهم:{وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} الإسراء: 106 - 109.

وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} الزمر: 23.

وقال تعالى في وصفهم: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} مريم: 58.

وقال تعالى وهو يضرب مثلاً بأشد المخلوقات صلابة لعل القلوب تتفكر فتتأثر ثم تقارن حالها بهذا المخلوق الجماد الذي لو نزل عليه القرآن كلام الرحمن الذي خلقه وهو يقدر هذا الكلام حق قدره

(1)

أخرجه البخاري (1/ 8) ح (6)، ومسلم (4/ 1803) ح (2308).

ص: 61

انظر ماذا سيحدث له، فقال سبحانه:{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} الحشر: 21.

ثم نقارن حالنا بحال الجبل وقد أنزل الينا القرآن، فكيف حالنا مع كتابه العظيم؟! إلى الله المشتكى!!

وهذه بعض الوسائل المعينة على التدبر والخشوع عند تلاوة القرآن العظيم في رمضان وفي غيره:

1 -

الدعاء مع الالحاح على الله بأن يرزق العبد التدبر والخشوع عند تلاوة كتابه.

2 -

حضور القلب عند الاستعاذة.

3 -

شعور القلب بعظمة كلام الله الذي لو نزل على الجبال لخشعت وتصدعت من خشية الله وتعظيم كلام الله.

4 -

كثرة الاستغفار والتوبة.

5 -

تكرار الآيات حتى تحدث أثرها في القلب بالخشوع والبكاء من خشية الله، وذلك يكون بالآتي:

أ - أن تحرك قلبك بمعنى الآيات أو الآية التي تكررها، وكأنك تعايش ما تتحدث عنه الآيات فإن كان نعيم عشت مع أجواء النعيم وحركت قلبك بذلك، وإن كانت الآيات تتحدث عن العذاب أو العقاب لمن عصى الله فتحضر قلبك وتتخيل كيف لو كان مكانك في هذا العذاب تتجرع مرارته فتحرك قلبك بذلك ليخشعك ويخضع لعل العين تدمع من هذه المواقف وتستعيذ بالله من عذابه وعقوبته، وان كانت الآيات تتحدث عن عظيم قدرة الله حركت قلبك بالشعور بعظمته وقدرته وقوته وقدرته حق قدره وتدبرت في آثار ودلائل عظيم مخلوقاته التي تدل على عظمته وجلاله وعظيم قدرته وقوته ..

ب لا تستعجل في تلاوة الآيات بل اجعل أعظم همك التأثر والتدبر وأن تحيي موات قلبك بمطر مواعظ آياته، كما قال تعالى عن أثر مواعظه: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ

ص: 62

ت - يَخَافُ وَعِيدِ} ق: 45، وقال تعالى عنه:{كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} الأعراف: 2

وقال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} الذاريات: 55، وعلى رأس الذكرى

القرآن العظيم، وقال تعالى:{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} الأعلى: 9 - 10

وقال تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} يس: 11

وقال تعالى عن أثر القرآن على المؤمنين: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15، 16].

وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9].

وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23].

ص: 63

‌المسألة الثالثة: الخشوع عند الدعاء

.

وللدعاء في شهر رمضان مجال رحب واسع، والخشوع فيه أمر ممكن وذلك ليسر الخير فيه، وإقبال النفس على الطاعات، وتصفيد الشياطين، وقرب الله من عباده الذين يدعونه، وبالذات في شهر الصوم وقد جعل الله آية قربه من الداعين باستجابة دعوتهم بين آيات الصيام، فقال تعالى:

{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} البقرة: 186.

وذلك والله أعلم يدل على أن قرب الله من عبده الداعي وإجابة الدعاء يكون في رمضان أكثر من غيره من الشهور.

والدعاء له مكانة عظيمه قال عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم: «الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ» ثم قرأ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} غافر: 60

(1)

.

وهناك أسباب تعين على الخشوع في الدعاء غير ما ذكر، ومنها:

1 -

أن يشعر الداعي بقرب الله منه ومعيته الخاصة له ويحسن الظن بربه عند دعائه قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: «إِنَّ اللهَ يَقُولُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي»

(2)

.

2 -

إقبال القلب على الله عند الدعاء قال صلى الله عليه وسلم: «ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ»

(3)

.

(1)

أخرجه أحمد في مسنده (30/ 340) ح (18391)، وأبو داود (2/ 76) ح (1479)، والترمذي واللفظ له (5/ 375) ح (3247) وقال:"هذا حديث حسن صحيح"، وابن ماجه (2/ 1258) ح (3828)، والحاكم في المستدرك (1/ 667) ح (1802) وصححه، وأقره الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 641) ح (3407)، وقال محقق المسند ح (18391):"إسناده صحيح".

(2)

أخرجه مسلم (4/ 2067) ح (2067).

(3)

أخرجه أحمد (11/ 235) ح (6655)، والترمذي واللفظ له (5/ 517) ح (3479) وقال:«هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه» ، والحاكم (1/ 670) ح (1817) وقال:"هذا حديث مستقيم الإسناد تفرد به صالح المري، وهو أحد زهاد أهل البصرة، ولم يخرجاه "، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 148) ح (17203):"رواه أحمد، وإسناده حسن". والحديث حسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير (1/ 108) ح (245) وذكره في السلسلة الصحيحة (2/ 141) ح (594).

ص: 64

3 -

الإلحاح على الله في الدعاء مع إظهار فقره وحاجته إلى ربه، ومنه إظهار موسى لفقره إلى ربه في دعائه، قال تعالى:{فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} القصص: 24

والله يحب من عبد أن يتضرع له ويظهر فقره وذله ومسكنته

(1)

، وهذا مما يجعل العبد يخشع في دعائه.

ومن ذلك الإكثار في الدعاء بقولنا: "ياذا الجلال والإكرام"، يَقُولُ صلى الله عليه وسلم:" أَلِظُّوا بِيَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ "

(2)

.

‌المسألة الرابعة: الخشوع عند الذكر

.

ورمضان فرصة عظيمة على إقبال النفس على الذكر والإكثار منه، ولا يخفى على المسلم فضل ذكر الله؛ لكن المقصود هو كيف يخشع المسلم عند ذكره لربه، وكما سبق أكثر من مرة أن رمضان تيسرت فيه أسباب الخشوع في العبادات كلها ومنها الذكر، ودونك بعض الأسباب المعينة على الخشوع في الذكر أجملها في الآتي:

1 -

دعاء الله أن يرزق العبد الخشوع عند ذكره لله تعالى.

2 -

أن يتذكر بقلبه أن الله يذكره في السماء، قال تعالى:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} البقرة: 152.

3 -

أن يتذكر بقلبه أن الله معه حين يذكر ربه كما في الحديث: " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا مَعَ عَبْدِي حَيْثُمَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ"

(3)

.

(1)

ينظر: تفسير السعدي (618).

(2)

أخرجه أحمد (29/ 138) ح (17596)، الترمذي (5/ 540) ح (3525)، وصححه الحاكم (1/ 676) ح (1836) وأقره الذهبي، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/ 51) ح (1536)، وقال محقق المسند ح (17596):"إسناده صحيح، رجاله ثقات".

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه معلقاً بصيغة الجزم (9/ 153)، وهو في مسند أحمد (16/ 572) ح (10976)، وابن ماجه (2/ 1246) ح (3792) وصححه الحاكم (1/ 673) ح (1824) وسكت عنه الذهبي، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 203) ح (1490):"صحيح لغيره"، وقال محقق المسند ح (10976):"إسناده صحيح".

ص: 65

4 -

مجاهدة النفس ليفهم القلب معنى ما يلفظه بلسانه من ذكر، ويحرص على أن يشترك القلب مع اللسان.

5 -

أن يتذكر العبد أن ما رتب على الذكر من أجر عظيم وثواب جزيل مرتبط بحضور القلب، وأن هناك فرق بين ذاكر يحضر قلبه عند ذكره لربه، وآخر يردد باللسان مع غفلة القلب، لا يستوون في الأجر والثواب.

وقول اللسان الخالي من عمل القلب عديم الفائدة قليل النفع، وإن العبد يؤجر عليه إذا كان خيرًا ومعه أصل الإيمان، ولكن الفرق كبير بين قول مجرد وقول حضر معه القلب

(1)

، والله أعلم.

(1)

ينظر: تفسير السعدي (67).

ص: 66

‌المطلب الخامس: الصيام وتعويد المسلم على الإحسان إلى الناس بالجود بالمال وحسن الخلق

.

ولقد جاءت النصوص تبين أن الصوم مدرسة عظيمة لتربية المسلم وتعويد النفس على الجود ببذل المال والجود بحسن الأخلاق.

ومن الأعمال التي لها أثر عظيم على الصيام، ولها أثر كبير في رقة قلب العبد وزيادة خشوعه: الإحسان إلى عباد الله ببذل ما تجود به النفس من المال والخلق الحسن، ودونك إشارة إلى ذلك:

‌أولاً: الحث على الإنفاق في وجوه البر:

وشهر رمضان هو شهر الجود والإحسان، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ» .

وجاءت النصوص في الحث على الإنفاق والبذل والجود عامة، ويخص الصوم بمزيد من الجود الإحسان كما سبق في وصف حال النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان.

قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261].

وقال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274].

وقال تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].

ص: 67

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ»

(1)

.

انظر يارعاك الله كيف جعل الإنفاق على الأهل أعظم أجراً من الإنفاق في بقية مجالات الخير، وكم نحن نغفل عن النية في هذا الأمر، مع أن هذا المجال من الإنفاق من أكثر أبواب الإنفاق نقوم به ولكن منا من يتبرم بهذا الأمر ويستثقله وينسى قضية الاحتساب في ذلك؛ ليحصل على هذا الأجر العظيم، وبالإخص في شهر رمضان الذي تكثر فيه النفقة عند بعض الناس.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «قَالَ اللَّهُ عز وجل: أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ» ، وَقَالَ:«يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لَا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ» ، وَقَالَ:«أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ؟! فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، وَبِيَدِهِ المِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ»

(2)

.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا»

(3)

.

‌ثانيًا: مكانة الخلق الحسن وأثره العظيم على عبادة المسلم:

أما الإحسان إلى الناس بالتعامل معهم بالخلق الحسن فله أثر عظيم على صيام العبد وصلاح القلب؛ لأنه من أعظم القربات إلى الله تعالى، ودونك طرفًا من الأحاديث في بيان مكانة الخلق الحسن وأثره:

عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَثْقَلُ شَيْءٍ فِي الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُلُقٌ حَسَنٌ»

(4)

.

وقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رضي الله عنهما: قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ أَحْسَنَكُمْ أَخْلَاقًا»

(5)

.

(1)

أخرجه مسلم (2/ 692) ح (995).

(2)

أخرجه البخاري واللفظ له (6/ 73) ح (4684)، ومسلم (2/ 690) ح (993).

(3)

أخرجه البخاري (2/ 115) ح (1442)، ومسلم (2/ 700) ح (1010).

(4)

أخرجه أحمد في المسند (45/ 537) ح (27555)، وابن حبان في صحيحه (2/ 230) ح (481)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 89) ح (134)، وقال محقق المسند ح (27555):"حديث صحيح".

(5)

أخرجه البخاري (5/ 28) ح (3759).

ص: 68

وفي رواية أخرى عن عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا»

(1)

.

وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ»

(2)

.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الجَنَّةَ، فَقَالَ:«تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الخُلُقِ» ، وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ، فَقَالَ:«الفَمُ وَالفَرْجُ»

(3)

.

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟» ، فَسَكَتَ الْقَوْمُ، فَأَعَادَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، قَالَ الْقَوْمُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:«أَحْسَنُكُمْ خُلُقًا»

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري وهذا لفظه (8/ 14) ح (6035)، ومسلم (4/ 1810) ح (2321).

(2)

أخرجه أحمد في المسند (42/ 346) ح (25537)، وأبو داود في كتاب الأدب، باب في حسن الخلق (4/ 252) ح (4798)، وابن حبان في صحيحه (2/ 228) ح (480)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 8) ح (2643)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند (42/ 346) ح (25537):"حديث صحيح لغيره".

(3)

أخرجه أحمد في المسند (15/ 47) ح (9096)، والترمذي (4/ 363) ح (2004) وقال:"صحيح غريب"، وابن ماجه (2/ 1418) ح (4246)، وابن حبان في صحيحه (2/ 224) ح (476)، والحاكم في المستدرك (4/ 360) ح (7919) وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 318) ح (1723).

(4)

أخرجه أحمد في المسند (11/ 347) ح (6735)، وابن حبان في صحيحه (2/ 235) ح (485)، وقال في مجمع الزوائد (8/ 21) ح (12666):"رواه أحمد بإسناد جيد"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 10) ح (2650).

ص: 69

ومما يدل على مكانة حسن الخلق وأثره العظيم أنه سبب لدخول الجنة مع قلة النوافل، أو العقوبة بالنار لمن ساء خلقه ولو كثرة نوافله، لكنها لا تنفعه، بسبب سوء خلقه نسأل الله العافية والسلامة، فعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ:«هِيَ فِي النَّارِ» ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنَ الْأَقِطِ، وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ:«هِيَ فِي الْجَنَّةِ»

(1)

.

(1)

أخرجه أحمد في المسند (29/ 33) ح (9674)، وابن حبان في صحيحه (13/ 76) ح (5764)، والحاكم في المستدرك (4/ 183) ح (7304) وصححه ووافقه الذهبي، ولفظه عند الحاكم: إنَّ فُلَانَةَ تُصَلِّي اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ وَفِي لِسَانُهَا شَيْءٌ يُؤْذِي جِيرَانَهَا سَلِيطَةٌ، قَالَ:«لَا خَيْرَ فِيهَا هِيَ فِي النَّارِ» وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ فُلَانَةَ تُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ وَتَتَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ وَلَيْسَ لَهَا شَيْءٌ غَيْرُهُ وَلَا تُؤْذِي أَحَدًا، قَالَ:«هِيَ فِي الْجَنَّةِ» ، وقال في مجمع الزوائد (8/ 169):"رواه أحمد والبزار، ورجاله ثقات"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 682) ح (2560).

ص: 70

المبحث الرابع: أثر عمل القلب على القصور عن الشر في رمضان، وفيه مطالب.

المطلب الأول: قلة نوازع الشر في النفس في رمضان.

المطلب الثاني: الصيام وضبط الجوارح عن الحرام.

المطلب الثالث: الصيام وضبط النفس على البعد عن الجهل وقول الزور.

المطلب الرابع: الحذر مما يخرق الصوم وينقص الحسنات.

المطلب الخامس: من أمراض القلوب التي لها خطر على عبادة الصوم.

ص: 71

‌المبحث الرابع: أثر عمل القلب على القصور عن الشر في رمضان، وفيه مطالب

.

‌تمهيد:

إن أسباب الشر تقل في رمضان كما سبق ذكره، ولكن تبقى بعض النفوس لا تزال نوازع الشر باقية فيها، فهي بحاجة لمجاهدة أكثر للقصور عن الشر في هذا الشهر، ومن أعظم الأسباب المعينة على ذلك تفقد عمل القلب ومجاهدة نوازع الشر فيه، ولا يكون ذلك إلا بالاستعانة بالله تعالى في مجاهدة هذه النوازع للشر المجودة في نفس الإنسان، وليبشر من يجاهد نفسه للقصور عن هذا في هذا الشهر بتوفيق الله له وإعانته وقد وعد سبحانه، فقال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} العنكبوت: 69.

والداعي ينادي كل ليلة من ليالي رمضان: " .. يَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، حَتَّى يَنْقَضِيَ رَمَضَانُ".

ودونك هذه المطالب في هذا الأمر وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.

المطلب الأول: قلة نوازع الشر في النفس في رمضان.

المطلب الثاني: الصيام وضبط الجوارح عن الحرام.

المطلب الثالث: الصيام وضبط النفس على البعد عن الجهل وقول الزور.

المطلب الرابع: الحذر مما يخرق الصوم وينقص الحسنات.

المطلب الخامس: من أمراض القلوب التي لها خطر على عبادة الصوم.

ص: 72

‌المطلب الأول: قلة نوازع الشر في النفس في رمضان

.

ولهذا يستطيع العبد أن يقصر عن الشر في رمضان لقلة نوازعه في هذا الشهر، وقد سبق الإشارة إلى ذلك، ومع ذلك تبقى بعض النفوس نوازع الشر فيها قوية تحتاج إلى مجاهدة أكثر وبذل الأسباب المعينة على ذلك، ومنها:

1 -

شعوره في داخل نفسه بأن شهوات نفسه مسيطرة عليه، وهذا الإحساس يجعل العبد يبحث عن أسباب العلاج لأنه يشعر بالخطر من شر نفسه، أما حين يغفل عن شر نفسه، فإن الشيطان يجد مركباً سهلاً، ويتسلط عليه، ويتمكن منه، ولهذا يقول لأهل النار كما ذكر الله في كتابه:{وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} إبراهيم: 22.

وفي رمضان حين يسلسل الشيطان تبقى النفس الأمّارة بالسوء وشهواتها، تقوم بدور الشيطان في صد الانسان عن الخير، ولهذا هو بحاجة إلى مجاهدة نفسه لتقصر عن الشر في هذا الشهر، ويستمع لنداء الحق الذي ينادي كل ليلة:"يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ ".

2 -

كثرة الدعاء والإلتجاء إلى الله والإلحاح عليه في يعينه على نفسه، ويقيه شرها، ويكثر من الأدعية المرتبطة بذلك، من مثل:

أ - دعاء في الصباح والمساء وعند النوم:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي بِكَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ إِذَا أَصْبَحْتُ، وَإِذَا أَمْسَيْتُ، قَالَ: " قُلْ: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ

ص: 73

نَفْسِي، وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ"، قَالَ: قُلْهَا إِذَا أَصْبَحْتَ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ، وَإِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ "

(1)

.

ب - دعاء عام علمه النبي صلى الله عليه وسلم لحصين رضي الله عنه قبل أن يسلم وبعد أن أسلم: " قُلِ: اللَّهُمَّ قِنِي شَرَّ نَفْسِي، وَاعْزِمْ لِي عَلَى أَرْشِدِ أَمْرِي "

(2)

.

ت - من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهُمَّ أَسْتَهْدِيكَ لِأَرْشَدِ أَمْرِي، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي"

(3)

.

ث - الحرص على البعد عن جلساء السوء الذين يعيقون عن الخير ولا يعينون عليه، قال صلى الله عليه وسلم:" الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِطُ " وفي رواية: " مَنْ يُخَالِلُ"

(4)

.

وللصحبة أثر لا ينكر على الشخص مهما كان حرصه على ألا يتأثر بالصحبة، ولذا يا أخي قرر قراراً لن تندم عليه بترك صحبة الشر في رمضان وغيره، ولكن

(1)

أخرجه أحمد (13/ 341) ح (7961)، وأبو داود (4/ 316) ح (5067)، والترمذي (5/ 467) ح (3392)، وابن حبان (3/ 242) ح (962)، والحاكم (1/ 691) ح (1880) وصححه، وسكت عليه الذهبي، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (6/ 580) ح (2753)، وصحح إسناده محقق المسند ح (7961).

(2)

أخرجه أحمد (33/ 197) ح (19992)، السنن الكبرى للنسائي (9/ 364) ح (10764)، والمعجم الكبير للطبراني (18/ 238) ح (599)، والحاكم (1/ 691) ح (1880) وصححه وأقره الذهبي، وصحح إسناده ابن حجر في الإصابة عند ترجمته لحصين (2/ 76)، وقال في مجمع الزوائد (10/ 181):"رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح"، وقال محقق المسند ح (19992):"إسناده صحيح على شرط الشيخين".

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (6/ 51) ح (29394)، وأحمد (26/ 199) ح (16269)، والمعجم الكبير للطبراني (9/ 53) ح (8369)، وقال في مجمع الزوائد (10/ 177):"رواه أحمد، والطبراني إلا أنه قال: وامرأة من قريش، ورجالهما رجال الصحيح"، وصححه الألباني في التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان (2/ 253) ح (898)، وقال محقق المسند ح (16269):"إسناده صحيح على شرط مسلم".

(4)

أخرجه أحمد (13/ 398) ح (8028)، والحاكم (4/ 189) ح (7320) وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي في شعب الإيمان (12/ 44) ح (8990)، وقال محقق المسند ح (8028):"إسناده جيد".

ص: 74

رمضان آكد، حتى تعين نفسك على القصور عن الشر في هذا الشهر العظيم، وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.

3 -

كثرة التوبة والاستغفار:

لا شك أن للذنوب والمعاصي أثرًا كبيرًا في إفساد القلب، وضررها عظيم عليه، "وأن ضررها في القلوب كضرر السموم في الأبدان، على اختلاف درجاتها في الضرر. وهل في الدنيا والآخرة شر وداء إلا وسببه الذنوب والمعاصي؟! "

(1)

.

وهذا الداء الخطير على القلوب قد جعل الله له علاجًا، وهو الاستغفار والتوبة.

قال تعالى في بيان أثر الاستغفار: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10 - 12].

وقال سبحانه وتعالى في بيان ثمرات الاستغفار والتوبة: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود: 3].

وقال تعالى: {وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52].

والذي يظهر من أقوال المفسرين في زيادة القوة أنها قوة حسية ومعنوية، يجدون أثرها في حياتهم

(2)

.

ولا شك أن الداعية بحاجة ماسة لهذه القوة التي يعينه الله بها على النجاح في دعوته.

(1)

الجواب الكافي (1/ 98).

(2)

ينظر: تفسير الطبري (12/ 445)، تفسير البغوي (4/ 183)، تفسير ابن كثير (4/ 329)، فتح القدير للشوكاني (2/ 573)، تفسير السعدي (383).

ص: 75

وجاء الأمر بالتوبة فقال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].

وينظر الداعية إلى حال القدوة صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع هذا يبذل جهدًا عظيمًا في كثرة الاستغفار والتوبة، وذلك ما يجعل الداعية يسابق وينافس في هذا المضمار لينال ثمرة ذلك في حياته ودعوته.

يقول أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «وَاللَّهِ، إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً»

(1)

.

ويَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إِلَى اللهِ، وَاسْتَغْفِرُوهُ، فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللهِ، وَأَسْتَغْفِرُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَرَّةٍ»

(2)

.

ومن رحمة الله بعباده أن فتح لهم باب التوبة، فعَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ اللهَ عز وجل يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا»

(3)

.

بل الأمر أعظم من ذلك، فالله يفرح بتوبة عبده فرحًا عظيمًا قرّبه النبي صلى الله عليه وسلم بمثال؛ ليظهر منه عظيم فرحة الرب سبحانه وتعالى بتوبة عبده.

(1)

أخرجه البخاري (8/ 67) ح (6307).

(2)

أخرجه أحمد في المسند (30/ 226) ح (18294)، والسنن الكبرى للنسائي (9/ 168) ح (10205)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (3/ 435) ح (1452)، وقال محقق المسند شعيب الأرناؤوط (30/ 226) ح (18294):"حديث صحيح".

(3)

أخرجه مسلم (4/ 2113) ح (2759).

ص: 76

يَقُولُ صلى الله عليه وسلم: «لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنْ رَجُلٍ فِي أَرْضٍ دَوِّيَّةٍ مَهْلِكَةٍ، مَعَهُ رَاحِلَتُهُ، عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ، فَطَلَبَهَا حَتَّى أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ، ثُمَّ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِيَ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ، فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ وَعَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَاللهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ»

(1)

.

وحتى يحصل من التوبة والاستغفار أثرهما على صلاح القلب فا بد من مراعاة أمور، وهي:

1 -

الندم على ما حصل من الذنب.

2 -

العزم على عدم العودة للذنب.

3 -

الإقلاع عن الذنب.

4 -

وإذا كان الذنب في حقوق الآدميين، فلا بد من إرجاعها لهم أو طلب السماح

(2)

.

5 -

حضور القلب عند التوبة والاستغفار، فتكون التوبة والاستغفار باللسان والقلب، فيحدث أثر التوبة في القلب، وهذا الأثر يحدث -والله أعلم- مع كثرة الاستغفار والتوبة؛ لأنه مع التكرار يحضر القلب ويحدث الأثر فيه، ولذا جاءت النصوص بالإكثار من التوبة والاستغفار، كما سبق في الأحاديث من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وحثه لأمته.

6 -

البحث عن جلساء صالحين يعينونه على الخير، والاستمرار على التوبة، كما في حديث قاتل المائة، فقد حثه العالم على الذهاب إلى قرية الصالحين حتى يجد من يعينونه على توبته

(3)

.

(1)

أخرجه مسلم (4/ 2103) ح (2744).

(2)

ينظر: رياض الصالحين (33 - 34).

(3)

وقد دل على هذا حديث أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ، فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ، فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى اللهِ، وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ، فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ، فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ» . أخرجه مسلم (4/ 2118) ح (2766).

ص: 77

‌المطلب الثاني: الصيام وضبط الجوارح عن الحرام، وفيه مسائل

.

ومما أثر عن جابر رضي الله عنه أنه قال: «إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ وَبَصَرُكَ وَلِسَانُكَ عَنِ الْكَذِبِ وَالْمَآثِمِ، وَدَعْ أَذَى الْخَادِمِ وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ يَوْمَ صِيَامِكَ، وَلَا تَجْعَلْ يَوْمَ فِطْرِكَ وَيَوْمَ صِيَامِكَ سَوَاءً»

(1)

.

وهذه الآداب التي ذكرها هذا الصحابي الجليل في وصيته للصائمين لهذا أعظم الأثر على خشوع القلب والانتفاع بالصوم، وزيادة الاقبال على الخير وتمكن الصائم من قصر نفسه عن الشر، لأن البعض من الناس يظن أن الصيام فقط عن الأكل والشرب والجماع وسائر المفطرات المعروفة، ولهذا يجتهد في ذلك، وهذا هو الأصل، لكنه يقصر في حفظ جوارحه عن الحرام من اللسان والعين والسمع .. فيضعف أثر الصوم عليه وربما تتمكن نفسه من إيقاعه في الشر ويضعف أمامها، ولهذا على الصائم أن يحرص على الصيام الحقيقي الذي يبيقي أثره عليه طوال العام، ودونك بعض التنبيهات في ذلك وفق المسائل الآتية:

‌المسألة الأولى: صيام اللسان واليد

.

يَقُولُ جابر رضي الله عنه: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ»

(2)

.

(1)

هذا الأثر عن جابر رضي الله عنه أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (2/ 271).

(2)

أخرجه مسلم (1/ 65) ح (41).

ص: 78

وهذا العمل طوال السنة وهو آكد في رمضان، ولا شك أن خطايا اللسان وأذية المسلمين به وباليد منها ما هو مهلك للعبد به يخسر به دينه ودنياه، ومنها ما هو أقل من ذلك، وأذكر على سبيل المثال على ذلك ما ورد في الأحاديث الآتية:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ:«إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»

(1)

.

أظن أن هذا الحديث كافياً في الحذر من خطايا اللسان واليد.

وقال صلى الله عليه وسلم: " .. وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ" الحديث

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: " .. وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سُخْطِ اللَّهِ، مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللَّهُ عز وجل عَلَيْهِ بِهَا سُخْطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ" الحديث

(3)

.

و قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سُخْطِ اللَّهِ، لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا، فَيَهْوِي بِهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ سَبْعِينَ خَرِيفًا»

(4)

.

(1)

أخرجه مسلم (4/ 1997) ح (2581).

(2)

أخرجه البخاري (8/ 101) ح (6478).

(3)

أخرجه أحمد (25/ 180) ح (15852)، والترمذي (4/ 559) ح (2319) وقال:"حسن صحيح، وابن ماجه (2/ 1312) ح (3969)، والحاكم (1/ 106) ح (136) وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 549) ح (888)، وقال محقق المسند ح (15852): "صحيح لغيره".

(4)

أخرجه أحمد (13/ 339) ح (7958)، والترمذي (4/ 557) ح (2314)، وابن ماجه (2/ 1313) ح (3970)، وابن حبان (13/ 13) ح (5706)، الحاكم (4/ 640) ح (8769) وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (1/ 334) ح (1618)، وقال محقق المسند ح (7958):"حديث صحيح".

ص: 79

‌المسألة الثانية: صيام العين والسمع وبقية الجوارح

.

صيام العين عن رؤية الحرام والأذن عن سماعه وبقية الجوارح عن مقارفة الحرام، مما يزيد في خشوع القلب ولذة عبادة الصيام لأن المعاصي لها أثرها على القلب، قال تعالى في بيان أن العبد مسؤول عن سمعه وبصره وفؤاده:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} الإسراء: 36.

قال ابن الجوزي في تفسيره: "قال المفسرون: الإِشارة إِلى الجوارح المذكورة، يُسأل العبد يوم القيامة فيما إِذا استعملها، وفي هذا زجر عن النظر إِلى ما لا يَحِلُّ، والاستماع إِلى ما يحرم، والعزم على ما لا يجوز"

(1)

.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ الزِّنَا، مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ، وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا، وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ»

(2)

.

وقال النووي رحمه الله: "معنى الحديث: أن بن آدم قدر عليه نصيب من الزنى، فمنهم من يكون زناه حقيقياً بإدخال الفرج في الفرج الحرام، ومنهم من يكون زناه مجازاً بالنظر الحرام أو الاستماع إلى الزنا وما يتعلق بتحصيله، أو بالمس باليد بأن يمس أجنبية بيده أو يقبلها، أو بالمشي بالرجل إلى الزنا أو النظر أو اللمس أو الحديث الحرام مع أجنبية ونحو ذلك، أو بالفكر بالقلب فكل هذه انواع من الزنا المجازي والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه معناه أنه قد يحقق الزنا بالفرج وقد لا يحققه بأن لا يولج الفرج في الفرج وإن قارب ذلك، والله أعلم"

(3)

.

(1)

زاد المسير في علم التفسير (3/ 25).

(2)

أخرجه مسلم (4/ 2047) ح (2657).

(3)

شرح النووي على مسلم (16/ 206).

ص: 80

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "العينان تزنيان بالنظر، والشفتان تزنيان وزناهما التقبيل، واليدان تزنيان وزناهما اللمس، والرجلان تزنيان وزناهما المشي"

(1)

، وقيل: إنما سميت هذه الأشياء زنا لأنها دواعي إليه"

(2)

.

وصيانة السمع والنظر وبقية الجوارح عن الحرام مطلوب من العبد في كل وقت، وهو آكد في رمضان.

قال ابن رسلان في شرحه على سنن أبي داود: " قال المتولي من أصحابنا: يجب على الصائم أن يصوم بعينه فلا ينظر إلى ما لا يحل له، وبسمعه فلا يسمع ما لا يحل له، وبلسانه فلا ينطق بفحش ولا يشتم ولا يكذب ولا يغتب، وهذِه الأشياء وإن حرمت مطلقًا فهي في رمضان أشد تحريمًا.

وقال الحليمي: ينبغي أن يصوم بجميع جوارحه: ببشرته، وبعينه، وبقلبه، وبلسانه، فلا يغتب، ولا يسب، ولا ينظر، ولا يخاصم، ولا يكذب، ولا يفني زمانه بإنشاد الأشعار ورواية الأسمار والمضحكات، والثناء على من لا يستحقه، والمدح والذم بغير حق، ونحو ذلك، وبيده فلا يمدها إلى باطل، وبرجله فلا يمشي بها إلى باطل، وبجميع قوى بدنه فلا يستعملها في باطل. انتهى"

(3)

.

‌المطلب الثالث: الحذر مما يخرق الصوم وينقص أجره، وفيه مسائل

.

‌المسألة الأولى: البعد عن قول الزور والجهل

.

قول الزور هو قول الكذب والباطل، ويشمل أنواعاً كثيرة منها:

1 -

شهادة الزور، فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟» ثَلَاثًا «الْإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ،

(1)

ينظر: تفسير الطبري (22/ 62).

(2)

عمدة القاري (23/ 157).

(3)

شرح سنن أبي داود لابن رسلان (10/ 373).

ص: 81

2 -

وَشَهَادَةُ الزُّورِ - أَوْ قَوْلُ الزُّورِ -» وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُتَّكِئًا، فَجَلَسَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ

(1)

.

3 -

القول على الله بغير علم. حيث قرنه بالشرك في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} الأعراف: 33، كما قرن الشرك بقول الزور في قوله تعالى:{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} الحج: 30

فقرن سبحانه وتعالى الشرك بعبادة الأوثان بقول الزور، وفي أثر موقوف على ابن مسعود رضي الله عنه:" عَدَلَتْ شهادةُ الزور الشركَ بالله، وقرأ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} "

(2)

.

ولقول الزور أنواع كثيرة

(3)

.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ وَالجَهْلَ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»

(4)

.

وفي هذا تحذير شديد للصائم من الوقوع في هذه الأمور الخطيرة من قول الزور وهو الكذب ومن الجهل وهو السفه والعمل بمقتضى ذلك.

وذهب بعض أهل العلم إلى أن هذه الذنوب وما سيأتي ذكره منها تعتبر من مفطرات الصيام، ولكن قول جمهور ذهبوا إلى أنها ليست من المفطرات، قال ابن حجر رحمه الله في توضيح ذلك:

(1)

أخرجه البخاري (3/ 172) ح (2654) ومسلم واللفظ له (1/ 91) ح (87).

(2)

وهذا الأثر عن ابن مسعود ذكره عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه (8/ 327) ورقمه (15395)، ولا يصح رفعه كما قال بعض أهل العلم وقد رواه أهل السنن مرفوعاً، والله أعلم. ينظر: التلخيص الحبير (6/ 3185) ح (6755)، وسلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (3/ 235) ح (1110).

(3)

ينظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (5/ 255 - 256).

(4)

أخرجه البخاري (8/ 17) ح (6057).

ص: 82

" وقد حكي عن عائشة وبه قال الأوزاعي إن الغيبة تفطر الصائم وتوجب عليه قضاء ذلك اليوم، وافرط بن حزم فقال يبطله كل معصية من متعمد لها ذاكر لصومه سواء كانت فعلاً أو قولاً لعموم قوله فلا يرفث ولا يجهل، ولقوله في الحديث الآتي بعد أبواب: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"، والجمهور وإن حملوا النهي على التحريم إلا أنهم خصوا الفطر بالأكل والشرب والجماع"

(1)

.

‌المسألة الثانية: الحذر من الغيبة، والبعد عن مجالسها

.

الغيبة هي كما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم ذكرك أخاك بما يكره في حال غيبته، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟» قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:«ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ» ، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: «إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ»

(2)

.

وبوب الدرامي على الحديث الآتي "باب الصَّائِمِ يَغْتَابُ فَيَخْرِقُ صَوْمَهُ"، ثم أورد الحديث قال صلى الله عليه وسلم:"وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ مَا لَمْ يَخْرِقْهَا"

(3)

، وفسر الخرق بالغيبة

(4)

.

قال في جامع العلوم والحكم: "وقوله: "مَا لَمْ يَخْرِقْهَا" يعني: بالكلام السيئ ونحوه، ولهذا في حديث أبي هريرة المخرج في " الصحيحين " عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث، ولا يفسق، ولا يجهل، فإن امرؤ سابه فليقل: إني امرؤ صائم» .

(1)

فتح الباري لابن حجر (4/ 104).

(2)

أخرجه مسلم (4/ 2001) ح (2589).

(3)

أخرجه أحمد بلفظ أوسع من هذا (3/ 220) ح (1690)، وأخرجه بهذا اللفظ المختصر الدارمي (1/ 562) ح (1755 (، والنسائي (4/ 167) ح (2233)، وحسن إسناده المنذري في الترغيب والترهيب (2/ 94) ح (1643)، وحسن إسناده كذلك محقق المسند ح (1690).

(4)

مسند الدارمي (1/ 562).

ص: 83

وقال بعض السلف: الغيبة تخرق الصيام، والاستغفار يرقعه، فمن استطاع منكم أن لا يأتي بصوم مخرق فليفعل.

وقال ابن المنكدر: الصائم إذا اغتاب خرق، وإذا استغفر رقع.

وخرج الطبراني بإسناد فيه نظر عن أبي هريرة مرفوعاً: «الصيام جنة ما لم يخرقها، قيل: بم يخرقه؟ قال: بكذب أو غيبة»

(1)

.

فالجنة: هي ما يستجن به العبد، كالمجن الذي يقيه عند القتال من الضرب، فكذلك الصيام يقي صاحبه من المعاصي في الدنيا، كما قال عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} البقرة: 183، فإذا كان له جنة من المعاصي، كان له في الآخرة جنة من النار، وإن لم يكن له جنة في الدنيا من المعاصي، لم يكن له جنة في الآخرة من النار"

(2)

.

ومن شدة خطر الغيبة أن الله حذر منها في كتابه وشبهها بصورة تنفر منها النفوس، فقال تعالى:{وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} الحجرات: 12

وحسبك دلالة على خطر الغيبة ما ورد من الأحاديث الآتية:

وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا، -قَالَ غَيْرُ مُسَدَّدٍ: تَعْنِي قَصِيرَةً-، فَقَالَ:«لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ» الحديث

(3)

.

(1)

الحديث ضعيف جداً. ينظر: ضعيف الترغيب والترهيب (1/ 330) ح (658).

(2)

جامع العلوم والحكم (2/ 138 - 139).

(3)

أخرجه أبو داود واللفظ له (4/ 269) ح (4875)، والترمذي (4/ 660) ح (2502) ح (2503) وقال:"حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 77) ح (2834)، وصحح إسناده شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن أبي داود (7/ 237) ح (4875).

ص: 84

قال النووي رحمه الله: "أي: خالطته مخالطة يتغيرُ بها طعمُه أو ريحُه لشدّة نتنها وقبحها. وهذا الحديث من أعظم الزواجر عن الغيبة أو أعظمها، وما أعلم شيئًا من الأحاديث يبلغُ في الذمّ لها هذا المبلغ"

(1)

.

وفي عون المعبود: "أي: لو خلط (بها) أي: على فرض تجسيدها وتقدير كونها مائعًا (البحر) أي: ماؤه (لمزجته) أي: غلبته وغيرته وأفسدته"

(2)

.

وهذا يدل على عظم خطر الغيبة، وإذا كان مجرد الإشارة عن صفية بقصرها عدّها النبي صلى الله عليه وسلم كلمة عظيمة، لو قدر مزج ماء البحر بها لغيرته على عظم البحر واتساعه، وصعوبة تغيره لشدة ملوحته، فكيف بما هو أشد من الإشارة؟!

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ»

(3)

.

وكفى بهذه العقوبة رادعًا وزاجرًا عن هذا الذنب العظيم، لو تخيل المغتاب هذه العقوبة لفر هاربًا هائمًا على وجهه من هذه الخطيئة، أي ألم حسي ونفسي يشعر به هؤلاء المغتابون وهم يجرحون بأظفار من نحاس قوية شديدة الأثر تنغرس في أشرف ما فيهم وجوههم، وإذا الدماء والصراخ والعويل، ثم ينزلون بأظفارهم إلى صدورهم، فيخمشونها ويجرحونها، ثم تستمر العقوبة لا تتوقف عنهم، ومعها الآلام والحسرات، في مشهد تنخلع منه القلوب؟!

(1)

الأذكار (338).

(2)

عون المعبود وحاشية ابن القيم (13/ 151).

(3)

أخرجه أحمد (21/ 53) ح (13340)، أبو داود (4/ 269) ح (4878)، ومعجم الطبراني الأوسط (1/ 7) ح (8)، وصحح إسناده الضياء في المختارة (6/ 265) ح (2286)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 79) ح (2839)، وصحح إسناده محقق المسند ح (13340).

ص: 85

‌المسألة الثالثة: البعد عن السب والشتم والصخب والرفث

.

قال صلى الله عليه وسلم: "وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ ".

ينبغي لمن يريد الحفاظ على أجره في الصوم أن يجتنب هذه الأخلاق في صومه، ومن ذلك السباب والشتم والصياح برفع الصوت، والكلام بمقدمات الجماع مع زوجته في نهار رمضان، وهو صائم،

وإذا تعرض للشتم والسب من أحد فلا يرد عليه إلا بقوله: إني صائم، ليحفظ صومه من النقص ويعود نفسه على ضبط غضبه، وهذه لا يتمكن منها الصائم إذا أصلح فساد قلبه، وحرص على تحقيق عمل القلب، وجاهد نفسه على ذلك.

ص: 86

‌المطلب الرابع: من أمراض القلوب التي لها خطر على عبادة الصوم، وفيه مسائل

.

وقد مر الحديث عن فضيلة الإنفاق في شهر رمضان، وهنا يتم التنبيه على بعض الأخلاق السيئة التي لها ارتباط بالقلب ولها أثر كبير على إفساد صيام العبد، ومنها ما يأتي:

‌المسألة الأولى: سوء الخلق، مما له ارتباط بعمل القلب يؤثر على صوم العبد:

‌1 - الحذر من هذين الخلقين السئين: الشح والبخل

(1)

.

والشح والبخل خلقان ذميمان ينقصان أجر الصائم ويقع بسببهما في الأثم، ودونك بعض النصوص في التحذير منهما:

قال تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} النساء: 128.

وقال السعدي في تفسيره: " أي: جبلت النفوس على الشح، وهو: عدم الرغبة في بذل ما على الإنسان، والحرص على الحق الذي له، فالنفوس مجبولة على ذلك طبعاً، أي: فينبغي لكم أن تحرصوا على قلع هذا الخُلُق الدنيء من نفوسكم، وتستبدلوا به ضده وهو السماحة، وهو بذل الحق الذي عليك؛ والاقتناع ببعض الحق الذي لك.

فمتى وفق الإنسان لهذا الخُلُق الحسن سهل حينئذ عليه الصلح بينه وبين خصمه ومعامله، وتسهلت الطريق للوصول إلى المطلوب. بخلاف من لم يجتهد في إزالة الشح من نفسه، فإنه يعسر عليه الصلح والموافقة، لأنه لا يرضيه إلا جميع ماله، ولا يرضى أن يؤدي ما عليه، فإن كان خصمه مثله اشتد الأمر"

(2)

.

(1)

الشح أشد البخل، فهو بخل مع حرص.

ينظر: مقاييس اللغة (3/ 178)، المفردات في غريب القرآن (446)، لسان العرب (2/ 495) مادة (شح).

وقال الخطابي رحمه الله في التفريق بين البخل والشح: "الشح أبلغ في المنع من البخل، وإنما الشح بمنزلة الجنس والبخل بمنزلة النوع، وأكثر ما يقال البخل إنما هو في إفراد الأمور وخواص الأشياء، والشح عام وهو كالوصف اللازم للإنسان من قبل الطبع والجبلة. وقال بعضهم: البخل أن يضن بمال، والشح أن يبخل بماله وبمعروفه". معالم السنن (2/ 83 - 84).

(2)

تفسير السعدي (207).

ص: 87

وقال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} التغابن: 16.

وقال السعدي عند قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} التغابن: 16: " {وَأَنْفِقُوا} من النفقات الشرعية الواجبة والمستحبة، يكن ذلك الفعل منكم خيرًا لكم في الدنيا والآخرة، فإن الخير كله في امتثال أوامر الله تعالى وقبول نصائحه، والانقياد لشرعه، والشر كله، في مخالفة ذلك.

ولكن ثم آفة تمنع كثيرًا من الناس، من النفقة المأمور بها، وهو الشح المجبولة عليه أكثر النفوس، فإنها تشح بالمال، وتحب وجوده، وتكره خروجه من اليد غاية الكراهة.

فمن وقاه الله شر شح نفسه بأن سمحت نفسه بالإنفاق النافع لها {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} لأنهم أدركوا المطلوب، ونجوا من المرهوب، بل لعل ذلك شامل لكل ما أمر به العبد، ونهي عنه، فإنه إن كانت نفسه شحيحة، لا تنقاد لما أمرت به، ولا تخرج ما قِبلها، لم يفلح، بل خسر الدنيا والآخرة، وإن كانت نفسه نفسًا سمحة، مطمئنة، منشرحة لشرع الله، طالبة لمرضاة، فإنها ليس بينها وبين فعل ما كلفت به إلا العلم به، ووصول معرفته إليها، والبصيرة بأنه مرضٍ لله تعالى، وبذلك تفلح وتنجح وتفوز كل الفوز"

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «وَاتَّقُوا الشُّحَّ؛ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ» الحديث

(2)

.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَلَا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالْإِيمَانُ فِي قَلْبِ عَبْدٍ أَبَدًا» الحديث

(3)

.

(1)

تفسير السعدي (868).

(2)

أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم (4/ 1996) ح (2578).

(3)

أخرجه أحمد (15/ 433) ح (9693)، والنسائي (6/ 13) ح (3110)، وابن حبان في صحيحه (8/ 43) ح (3251)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1262) ح (7616)، وصححه بمجموع طرقه شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند ح (9693).

ص: 88

ويقول صلى الله عليه وسلم: «وَإِيَّاكُمْ والشُّحَّ؛ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، أَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا» الحديث

(1)

.

وكان صلى الله عليه وسلم يتعوذ كثيرًا من مجموعة من الأخلاق السيئة منها البخل، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَبِي طَلْحَةَ: «التَمِسْ غُلَامًا مِنْ غِلْمَانِكُمْ يَخْدُمُنِي حَتَّى أَخْرُجَ إِلَى خَيْبَرَ» ، فَخَرَجَ بِي أَبُو طَلْحَةَ مُرْدِفِي وَأَنَا غُلَامٌ رَاهَقْتُ الحُلُمَ، فَكُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا نَزَلَ، فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ كَثِيرًا يَقُولُ:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَالحَزَنِ، وَالعَجْزِ وَالكَسَلِ، وَالبُخْلِ وَالجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ»

(2)

.

‌2 - أن يجاهد العبد نفسه على ترك الغضب لها

.

الغضب للنفس خلق ذميم جاء الإسلام بتربية النفوس على أن يكون الغضب لله وليس للنفس، ولهذا جاء الحديث الذي سبق مراراً بأن على الصائم أن يضبط نفسه إذا أغضبه أحد بسب وشتم أو مقاتلة أو نحو ذلك مما يستفز الصائم فيجعله يغضب لنفسه، فقال صلى الله عليه وسلم:"وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ ".

ولذا جاءت النصوص محذرة من الغضب لأنه مفتاح للشر عظيم وباب يترصد عنده الشيطان ليوقع العبد في حفرة من حفر النار بسبب غضبه نسأل الله العافية والسلامة.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَوْصِنِي، قَالَ:«لَا تَغْضَبْ» فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ:«لَا تَغْضَبْ»

(3)

.

(1)

أخرجه أحمد (11/ 26) ح (6487)، وأبو داود (2/ 133) ح (1698)، وابن حبان في صحيحه (11/ 579) ح (5176)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 701) ح (2604)، وصحح إسناده شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند ح (6487).

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب من غزا بصبي للخدمة (4/ 36) ح (2893).

(3)

أخرجه البخاري (8/ 28) ح (1616).

ص: 89

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ

(1)

، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ»

(2)

.

‌وهذه بعض الفوائد من شرح ابن رجب وابن حجر على حديث" لاتغضب

".

1 -

قال ابن رجب: " فهذا الرجل طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصيه وصية وجيزة جامعة لخصال الخير، ليحفظها عنه خشية أن لا يحفظها لكثرتها، فوصاه النبي أن لا يغضب، ثم ردد هذه المسألة عليه مرارا، والنبي صلى الله عليه وسلم يردد عليه هذا الجواب، فهذا يدل على أن الغضب جماع الشر، وأن التحرز منه جماع الخير"

(3)

.

2 -

وقال ابن رجب: " والغضب: هو غليان دم القلب طلبا لدفع المؤذي عند خشية وقوعه، أو طلبا للانتقام ممن حصل له منه الأذى بعد وقوعه، وينشأ من ذلك كثير من الأفعال المحرمة كالقتل والضرب وأنواع الظلم والعدوان؛ وكثير من الأقوال المحرمة كالقذف والسب والفحش، وربما ارتقى إلى درجة الكفر، كما جرى لجبلة بن الأيهم، وكالأيمان التي لا يجوز التزامها شرعا، وكطلاق الزوجة الذي يعقب الندم. والواجب على المؤمن أن تكون شهوته مقصورة على طلب ما أباحه الله له، وربما تناولها بنية صالحة، فأثيب عليها، وأن يكون غضبه دفعا للأذى في الدين له أو لغيره وانتقاما ممن عصى الله ورسوله، كما قال تعالى:{قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين - ويذهب غيظ قلوبهم} [التوبة: 14 - 15][التوبة: 14 - 15]. وهذه كانت حال النبي

(1)

وقال في الصحاح (3/ 1243) عن معنى الصرعة: "أي: يصرع الناس كثيرًا".

(2)

أخرجه البخاري (8/ 28) ح (6114)، ومسلم (4/ 2014) ح (2609).

(3)

جامع العلوم والحكم (1/ 361 - 362).

ص: 90

3 صلى الله عليه وسلم، فإنه كان لا ينتقم لنفسه، ولكن إذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء ولم يضرب بيده خادما ولا امرأة إلا أن يجاهد في سبيل الله. «وخدمه أنس عشر سنين، فما قال له: " أف " قط، ولا قال له لشيء فعله: " لم فعلت كذا "، ولا لشيء لم يفعله: " ألا فعلت كذا»

(1)

.

4 -

وقال ابن رجب: "وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا غضبت فاسكت» يدل على أن الغضبان مكلف في حال غضبه بالسكوت، فيكون حينئذ مؤاخذا بالكلام، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر من غضب أن يتلافى غضبه بما يسكنه من أقوال وأفعال، وهذا هو عين التكليف له بقطع الغضب، فكيف يقال: إنه غير مكلف في حال غضبه بما يصدر منه. وقال عطاء بن أبي رباح: ما أبكى العلماء بكاء آخر العمر من غضبة يغضبها أحدهم فتهدم عمر خمسين سنة، أو ستين سنة، أو سبعين سنة، ورب غضبة قد أقحمت صاحبها مقحما ما استقاله. خرجه ابن أبي الدنيا"

(2)

.

5 -

وفي جامع العلوم والحكم: "قال جعفر بن محمد: الغضب مفتاح كل شر. وقيل لابن المبارك: اجمع لنا حسن الخلق في كلمة، قال: ترك الغضب. وكذا فسر الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه حسن الخلق بترك الغضب"

(3)

.

6 -

قال ابن حجر: "لو رأى الغضبان نفسه في حال غضبه لكف غضبه حياء من قبح صورته واستحالة خلقته هذا كله في الظاهر وأما الباطن فقبحه أشد من الظاهر لأنه يولد الحقد في القلب والحسد وإضمار السوء على اختلاف أنواعه بل

(1)

جامع العلوم والحكم (1/ 369 - 370).

(2)

جامع العلوم والحكم (1/ 374).

(3)

جامع العلوم والحكم (1/ 363).

ص: 91

7 -

أولى شيء يقبح منه باطنه وتغير ظاهره ثمرة تغير باطنه وهذا كله أثره في الجسد وأما أثره في اللسان فانطلاقه بالشتم والفحش الذي يستحي منه العاقل ويندم قائله عند سكون الغضب ويظهر أثر الغضب أيضا في الفعل بالضرب أو القتل وإن فات ذلك بهرب المغضوب عليه رجع إلى نفسه فيمزق ثوب نفسه ويلطم خده وربما سقط صريعا وربما أغمي عليه وربما كسر الآنية وضرب من ليس له في ذلك جريمة ومن تأمل هذه المفاسد عرف مقدار ما اشتملت عليه هذه الكلمة اللطيفة من قوله صلى الله عليه وسلم لا تغضب من الحكمة واستجلاب المصلحة في درء المفسدة مما يتعذر إحصاؤه والوقوف على نهايته وهذا كله في الغضب الدنيوي لا الغضب الديني كما تقدم تقريره في الباب الذي قبله"

(1)

.

8 -

وقال ابن حجر: " ويعين على ترك الغضب استحضار ما جاء في كظم الغيظ من الفضل وما جاء في عاقبة ثمرة الغضب من الوعيد وأن يستعيذ من الشيطان كما تقدم في حديث سليمان بن صرد وأن يتوضأ كما تقدمت الإشارة إليه في حديث عطية والله أعلم وقال الطوفي أقوى الأشياء في دفع الغضب استحضار التوحيد الحقيقي وهو أن لا فاعل إلا الله وكل فاعل غيره فهو آلة له فمن توجه إليه بمكروه من جهة غيره فاستحضر أن الله لو شاء لم يمكن ذلك الغير منه اندفع غضبه لأنه لو غضب والحالة هذه كان غضبه على ربه جل وعلا وهو خلاف العبودية قلت وبهذا يظهر السر في أمره صلى الله عليه وسلم الذي غضب بأن يستعيذ من الشيطان لأنه إذا توجه إلى الله في تلك الحالة بالاستعاذة به من الشيطان أمكنه

(1)

فتح الباري (10/ 520 - 521).

ص: 92

9 -

استحضار ما ذكر وإذا استمر الشيطان متلبساً متمكناً من الوسوسة لم يمكنه من استحضار شيء من ذلك، والله أعلم"

(1)

.

‌المسألة الثانية: الحسد والبغضاء والشحناء وقطيعة الأرحام

.

قال صلى الله عليه وسلم: «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الحَسَدُ وَالبَغْضَاءُ، هِيَ الحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ: تَحْلِقُ الشَّعَرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَلِكَ لَكُمْ؟! أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ»

(2)

.

الحسد والبغضاء من أمراض القلوب التي تفتك بعبادة العبد، وتقضي على حسناته، وذلك يحتاج إلى مقاومة ما في النفس من هذه الأمراض حتى لا تضر بصيام العبد كثيراً، وللشحناء والتباغض بين المسلمين، وقطيعة الرحم خطر عظيم عليهم في الدنيا والآخرة، وخطر كبير على صيام العبد، ومن أكثر ما يعيق المسلم عن المنافسة في الخير في شهر رمضان وفي غيره، وجود هذه الخطايا والاستمرار عليها وعدم التوبة منها، ومن النصوص التي تبين خطر هذه الذنوب، وأحب أن أنقل لكم الأحاديث التي وردت في كتاب صحيح الترغيب والترهيب للألباني

(3)

عن الترغيب في صلة الرحم، والترهيب من هذه الخطايا وحرصت على نقل أكثرها لأهميتها ولعظيم الحاجة لذلك

(4)

، تحت عنوانين:

(1)

فتح الباري (10/ 521).

(2)

أخرجه أحمد في المسند (3/ 29) ح (1412)، والترمذي واللفظ له (4/ 664) ح (2510) وذكر أن الحديث مختلف فيه، وجوّد إسناده كل من المنذري في الترغيب والترهيب (3/ 285) ح (4084) والهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 30) ح (12732)، وحسنه لغيره الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 23) ح (2695).

(3)

وأصل الكتاب الترغيب والترهيب للإمام المنذري رحمة الله على الجميع، وقد قمت بحذف التخريج في الغالب إلا ما دعت له الحاجة، واختصرت بعض الأحاديث، وأبقيت على حكم الشيخ على الحديث لأنه مقصود.

(4)

وهنا يحسن التنبيه أن التمعن في قراءة هذه الأحاديث والاطلاع عليها كاملة يجعل القارئ أو السامع يخرج بمعلومة كافية عن خطر هذه الذنوب على المسلم في الدنيا والآخرة.

ص: 93

‌الأول: (الترغيب في صلة الرحم وإنْ قطعت، والترهيب من قطعها)

(1)

.

-[صحيح] وعن أنسٍ رضي الله عنه؛ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:

"مَنْ أحبَّ أنْ يُبْسطَ له في رِزْقِهِ، ويُنَسَّأَ له في أثَرِهِ؛ فلْيَصِلْ رَحِمَهُ".

-[صحيح] وعن عائشة رضي الله عنها؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لها:

"أنَّه مَنْ أُعْطيَ [حظه من] الرفق؛ فقد أُعطِيَ حظَّهُ مِنْ خير الدنيا والآخِرَةِ، وصِلةُ الرَّحِمِ وحسنُ الجِوارِ -أوْ حُسْنُ الخلُقِ- يُعَمِّرانِ الديارَ، ويَزيدانِ في الأَعْمارِ".

-[صحيح] وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله تعالى خَلق الخَلْقَ، حتى إذا فَرغَ منهم قامَتِ الرحِمُ فقالَتْ: هذا مقامُ العائِذِ بكَ مِنَ القَطيعَةِ، قال: نعم، أما تَرضينَ أنْ أصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وأقْطعَ مَنْ قطَعَكِ؟ قالتْ: بلى. قال: فذاك لَكِ". ثم قال رسولَ الله صلى الله عليه وسلم:

"اقْرؤوا إنْ شئْتُم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} محمد: 22 - 23.

-[صحيح] وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله! إنَّ لي قرابةً أَصِلُهم وَيقْطَعوني، وأُحْسِنُ إليهم وُيُسيئون إليَّ، وأحْلُم عليهم وَيجْهَلون عليَّ؟ فقال:" [ولئن] كنتَ كما قلتَ فكأنَّما تُسِفُّهم المَلَّ، ولا يزالُ [معك] مِنَ الله ظهيرٌ عليهِمْ ما دُمْتَ على ذلك".

-[صحيح] وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ما مِنْ ذَنْبٍ أجدَرُ أنْ يعجلَ الله لِصاحِبِه العقوبةَ في الدنيا -مع ما يُدَّخَرُ له في الآخِرَةِ- مِنَ البَغْيِ وقَطيعَةِ الرحِمِ".

-[حسن لغيره] ورواه الطبراني، فقال فيه:

(1)

صحيح الترغيب والترهيب (2/ 666 - 674).

ص: 94

"مِنْ قَطيعَة الرحِمِ، والخِيانَةِ، والكَذب، وإنَّ أَعْجَلَ البِرِّ ثواباً بالصلة الرحِمُ، حتَّى إن أَهْلَ البَيْتِ ليكونون فَجَرَةً، فتنموا أمْوالُهم، ويكثُر عَدَدُهم إذا تَواصَلُوا".

-[حسن لغيره] ورواه ابن حبان في "صحيحه" ففرَّقه في موضعين، ولم يذكر الخيانة والكذب، وزاد في آخره:"وما مِنْ أهلِ بيْتٍ يتَواصَلونَ فَيحْتَاجُونَ".

-

[حسن] وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أعْمالَ بني آدَم تُعْرضُ كلَّ خميسٍ ليلَةَ الجمُعَةِ، فلا يُقْبَل عَمَلُ قاطعِ رَحِمٍ".

-[صحيح] وعن جبير بن مطعمٍ رضي الله عنه؛ أنَّه سمعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يدخُلُ الجنَّة قاطعٌ". قال سفيان: يعني قاطع رحم.

‌العنوان الثاني: (الترهيب من التهاجر والتشاحن والتدابر)

(1)

.

-[صحيح] عن أنسٍ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:

"لا تَقاطَعوا، ولا تَدابَرُوا، ولا تَباغَضوا، ولا تَحاسَدُوا، وكونوا عبادَ الله إِخْواناً، ولا يَحِلُّ لمسْلمٍ أنْ يَهْجُرَ أخاهُ فوْقَ ثلاثٍ".

-[صحيح لغيره] والطبراني، وزاد فيه:"يَلْتَقِيانِ فيُعْرِضُ هذا ويُعْرِضُ هذا، وخيرُهُم الَّذي يَبْدأُ بالسلامِ".

قال مالك: "ولا أَحْسِبُ التدابُرَ إلا الإعْراضَ عنِ المسْلمِ؛ يُدْبِرُ عنه بِوَجْهِهِ".

-

[صحيح] وعن أبي أيوبَ رضي الله عنه؛ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَحِلُّ لمسلمٍ أنْ يَهْجُر أخاه فوقَ ثلاثِ ليالٍ، يَلْتَقِيانِ؛ فيُعْرِضُ هذا، ويُعْرِضُ هذا، وخيرُهما الَّذي يَبْدأُ بالسلامِ".

-[صحيح] وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَحِلُّ لمسلمٍ أنْ يَهْجُر أخاه فوقَ ثلاثٍ، فَمنْ هجَر فوْقَ ثلاثٍ فماتَ؛ دخَل النارَ".

(1)

صحيح الترغيب والترهيب (3/ 49 - 53).

ص: 95

روفي رواية لأبي داود: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحلُّ لمؤمنٍ أن يهجرَ مؤمناً فوق ثلاث، فإن مرت به ثلاث فليلْقَه فليسلمِ عليه، فإن رَدَّ عليه السلام فقد اشتركا في الأجرِ، وإن لم يردّ عليه فقد باء بالإثم، وخرج المسلِّمُ من الهجر".

-

[حسن صحيح] وعن عائشةَ رضي الله عنها؛ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يكونُ لمسْلم أنْ يَهْجُر مسلماً فوقَ ثلاثَةِ أيَّامٍ، فإذا لَقِيَهُ سلَّم عليه ثلاثَ مراتٍ؛ كلُّ ذلك لا يَرُدُّ عليه؛ فقد باءَ بإثْمِهِ".

-

[صحيح] وعن هشام بن عامرٍ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:

"لا يَحِلُّ لمسْلمٍ أنْ يَهْجُرَ مسلِماً فوْقَ ثلاثِ لَيالٍ، فإنَّهُما ناكِبانِ عنِ الحقِّ. ما داما على صِرامِهِما، وأَوَّلُهما فَيْئاً يكونُ سَبْقُه بالْفَيءِ كَفارَةً له، وإنْ سلَّم فلَمْ يَقْبَلْ ورَدَّ عليه سلامَهُ؛ ردَّتِ عليهِ الملائكةُ، وردَّ على الآخَرِ الشيطانُ، فإنْ ماتا على صِرامِهما؛ لَمْ يدخُلا الجنَّة جميعاً أبداً".

رواه أحمد، ورواته محتج بهم في "الصحيح"، وأبو يعلى والطبراني، وابن حبان في "صحيحه"؛ إلا أنه قال:"لم يدخلا الجنة ولم يجتمعا في الجنة".

ورواه أبو بكر بن أبي شيبة؛ إلا أنَّه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:

"لا يَحِلُّ أنْ يَصْطَرِما فوقَ ثلاثٍ، فإنِ اصْطَرما فوقَ ثلاثٍ؛ لَمْ يَجْتَمعا في الجنَّةِ أبَداً، وأيما بدأَ صاحِبَه كُفِّرَتْ ذنوبُه، وإنْ هو سلَّم فلَمْ يَرُدَّ عليه ولَمْ يقبَلْ سلامَهُ؛ ردَّ عليه الملَكُ، ورَدَّ على ذلك الشيْطانُ".

-[صحيح لغيره] وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَحلُّ الهجرُ فوقَ ثلاثةِ أيَّامٍ، فإنِ الْتَقيا فسلَّم أحدُهما فَردَّ الآخَرُ اشْتَركا في الأَجْرِ، وإنْ لمْ يَرُدَّ بَرِئَ هذا مِنَ الإِثْم، وباءَ به الآخَرُ -وأحسبه قال: - وإنْ ماتا وهُما مُتَهاجِرانِ لا يَجْتَمِعانِ في الجنَّةِ".

ص: 96

-[حسن لغيره] وعن فضالة بن عبيدٍ رضي الله عنه؛ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ هَجَر أخاه فوقَ ثلاثٍ فهو في النارِ، إلا أنْ يَتداركَهُ الله برَحْمَتِه".

-[صحيح] وعن أبي حراشٍ حدرد بن أبي حدرد الأسلمي رضي الله عنه؛ أنَّه سمعَ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ هَجر أخاه سَنةً؛ فهو كَسَفْكِ دَمِه".

-[صحيح] وعن جابرٍ رضي الله عنه قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ الشيطانَ قد يَئسَ أنْ يَعْبُدَه المصلُّون في جزيرَةِ العَربِ؛ ولكن في التحريشِ بَيْنَهُم".

(التحريش): هو الإغراء وتغيير القلوب والتقاطع.

-[صحيح] وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أنّ رجلين دخلا في الإسلامِ فاهتجرا؛ لكان أحدُهما خارجاً من الإسلامِ حتى يرجعَ. يعني الظالم منهما".

-[صحيح] وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "تُفْتَح أبوابُ الجنَّةِ يومَ الاثْنَيْنِ والخَميسِ، فيُغْفرُ لِكُلِّ عبدٍ لا يُشرِكُ بالله

شيْئاً، إلا رجلاً كان بينَهُ وبين أخيه شَحْناءُ، فيقالُ: أَنْظِروا هذَيْنِ حتّى يصْطَلِحا، أنْظِروا هذَيْنِ حتى يَصْطَلِحا، أنْظِروا هذين حتّى يَصْطَلِحا".

قال أبو داود: "إذا كانت الهجرة لله فليس من هذا بشيء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم هجر بعض نسائه أربعين يوماً، وابن عمر هجر ابناً له إلى أن مات" انتهى.

-[حسن صحيح] وعن معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "يطَّلعُ الله إلى جَميعِ خَلْقهِ ليلةَ النصْفِ مِنْ شَعْبانَ، فيغْفِرُ لجميعِ خَلْقِه إلا لِمُشْرِكٍ أو مُشاحِنِ".

ص: 97

وترك الحسد وعدم إظهاره إن وجد في القلب، ومجاهدة النفس على السلامة من ذلك، وعدم الغش من أسباب دخول الجنة، فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» ، فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وضُوئِهِ، قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ذَلِكَ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الْأُولَى. فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الْأُولَى، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَبِعَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ: إِنِّي لَاحَيْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ، قَالَ: نَعَمْ. قَالَ أَنَسٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثَ، فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللهَ عز وجل وَكَبَّرَ، حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ. قَالَ عَبْدُ اللهِ: غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا، فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلَاثُ لَيَالٍ وَكِدْتُ أَنْ أَحْقِرَ عَمَلَهُ، قُلْتُ: يَا عَبْدَ اللهِ، إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلَا هَجْرٌ ثَمَّ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَكَ ثَلَاثَ مِرَارٍ:«يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» ، فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلَاثَ مِرَارٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ، فَأَقْتَدِيَ بِهِ، فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ. قَالَ: فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي، فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا، وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ. فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ

(1)

.

(1)

أخرجه أحمد (20/ 124) ح (12697)، وقال المنذري في الترغيب والترهيب (3/ 348) ح (4384):"رواه أحمد بإسناد على شرط البخاري ومسلم والنسائي، ورواته احتج بهم أيضًا إلا شيخه سويد بن نصر، وهو ثقة"، وقال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (1085):"رواه أحمد بإسناد صحيح على شرط الشيخين"، والهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 78 - 79) ح (13048)، وقال:"ورجال أحمد رجال الصحيح"، وقال البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة (6/ 78) ح (5383):"هذا إسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم"، وقال محقق المسند ح (12697):"إسناده صحيح على شرط الشيخين".

ص: 98

‌المسألة الثالثة: الكبر

.

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ:«إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ»

(1)

.

ويدل هذا الحديث على أمور، منها:

1 -

الكبر مرض قلبي خطير يدمر من وجد فيه ويورده المهالك.

2 -

التحذير من الكبر ودواعيه، وبيان مخاطره على العبد من الأمور التي ينبغي أن يعتني بها الناصحون.

3 -

من مظاهر الكبر رد الحق وعدم قبوله بسبب كرهه للحق وأهله، وذلك من أعظم أسباب دخولهم النار، قال تعالى:{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: 74 - 78].

4 -

من مظاهر الكبر احتقار الناس والتعالي عليهم والنظر لهم بازدراء.

5 -

ليس من الكبر جمال الظاهر في اللباس ونحوه بشرط سلامة الباطن من الكبر.

6 -

توعد الله أن يصرف القلوب المتكبرة عن فهم آياته الكونية والمتلوة قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146].

7 -

احتقار الناصح والنفور من نصح الناصحين من دلائل وجود نوع من الكبر في القلب.

(1)

أخرجه مسلم (1/ 93) ح (91).

ص: 99

8 -

التواضع لله سبب لرفعة العبد في الدنيا والآخرة وقال صلى الله عليه وسلم: "

وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ"

(1)

. الحديث.

9 -

من أسباب نفور الناس عن الخير وصدهم عنه، شعورهم بعدم تواضع من يدعوهم إليه.

‌حكم الكبر:

جاءت النصوص بالتحذير والتنفير منه:

• قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146].

• وقال تعالى: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل: 23].

• وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف: 40].

• وقال تعالى: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 72].

• وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].

(1)

أخرجه مسلم (4/ 2001) ح (2588).

ص: 100

• وقال تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35].

وكل هذه الآيات تبين خطورة هذا الذنب العظيم، وقبحه وعظيم حرمته عند الله، وأثره على من يقع فيه.

• قال القرطبي رحمه الله: " {يَطْبَعُ اللَّهُ} أي: يختم {عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} حتى لا يعقل الرشاد ولا يقبل الحق"

(1)

.

• وقال تعالى عن قول قوم صالح لمن آمن منهم: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الأعراف: 76].

وقال السعدي رحمه الله: "حملهم الكبر أن لا ينقادوا للحق الذي انقاد له الضعفاء"

(2)

.

• وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» ، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً! قَالَ: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ» .

• وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْعِزُّ إِزَارُهُ، وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَاؤُهُ، فَمَنْ يُنَازِعُنِي عَذَّبْتُهُ»

(3)

.

(1)

تفسير القرطبي (15/ 313).

(2)

تفسير السعدي (295).

(3)

أخرجه مسلم (4/ 2023) ح (2620).

ص: 101

قال النووي رحمه الله في شرح الحديث: "فالضمير في «إزاره ورداؤه» يعود إلى الله تعالى للعلم به، وفيه محذوف تقديره: قال الله تعالى: «ومن ينازعني ذلك أعذبه» ومعنى «ينازعني»: يتخلق بذلك، فيصير في معنى المشارك، وهذا وعيد شديد في الكبر مصرح بتحريمه"

(1)

.

• وعن حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ؟» قَالُوا: بَلَى، قَالَ صلى الله عليه وسلم:«كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ» ، ثُمَّ قَالَ:«أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؟» قَالُوا: بَلَى، قَالَ:«كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ»

(2)

.

وقال النووي رحمه الله: "أما العُتُل .. فهو الجافي الشديد الخصومة بالباطل، وقيل: الجافي الفظ الغليظ، وأما الجَوَّاظ .. فهو الجموع المنوع، وقيل: كثير اللحم المختال في مشيته، وقيل: القصير البطين .. وأما المتكبر والمستكبر فهو صاحب الكبر، وهو بطر الحق وغمط الناس"

(3)

.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله مفصلًا القول في حكم الكبر: "فالذي في قلبه كبر، إما أن يكون كبرًا عن الحق وكراهة له، فهذا كافر مخلد في النار ولا يدخل الجنة؛ لقول الله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 9]، ولا يحبط العمل إلا بالكفر كما قال تعالى:{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217].

(1)

شرح النووي على مسلم (16/ 173).

(2)

أخرجه مسلم (4/ 2190) ح (2853).

(3)

شرح النووي على مسلم (17/ 188).

ص: 102

وأما إذا كان كبرًا على الخلق وتعاظمًا على الخلق، لكنه لم يستكبر عن عبادة الله، فهذا لا يدخل الجنة دخولًا كاملًا مطلقًا لم يسبق بعذاب؛ بل لا بد من عذاب على ما حصل من كبره وعلوائه على الخلق، ثم إذا طهر دخل الجنة"

(1)

.

وبهذا يتضح أن منه ما هو كفر أكبر يخلد في النار، ومنه ما هو كبيرة من الكبائر وصاحبه على خطر عظيم.

ثالثًا: صور من الكبر عند من ابتلي به:

1 -

رد الحق وعدم قبوله بحجج واهية ظاهرها شيء قد يقبل عند الناس، وباطنها الكبر، منها بحجة أنهم أقل علمًا، أو أصغر سنًّا، أو لا يملكون خبرة كافية ونحو ذلك من الحجج، التي يبرر بها رده للحق.

2 -

احتقار الناس وازدراؤهم، والتعالي عليهم بنسبه أو بمنصبه أو بشهادته العلمية أو بماله ونحو ذلك.

3 -

النفور من مجالسة الفقراء والمساكين وعامة الناس بحجة أن ذلك يسقط هيبته ومكانته العلمية.

رابعًا: خطر الكبر:

1 -

انفضاض الناس من حوله، ونفورهم منه.

2 -

الذل والهوان والخذلان وقلة التوفيق وتسلط الشياطين في الدنيا.

3 -

الذل والهوان في الآخرة ودخول أشد العذاب في النار، كما في الحديث عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ النَّاسِ،

(1)

شرح رياض الصالحين (3/ 541 - 542).

ص: 103

4 -

يَعْلُوهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الصَّغَارِ، حَتَّى يَدْخُلُوا سِجْنًا فِي جَهَنَّمَ، يُقَالُ لَهُ: بُولَسُ، فَتَعْلُوَهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ، يُسْقَوْنَ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ، عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ»

(1)

.

‌المسألة الرابعة: العجب والرياء والسمعة

.

وهذه الآفات القلبية لها خطر عظيم على عبادات المسلم، ومنها عبادة الصوم، وسيكون الحديث عنها في النقاط الآتية:

عن أبي هريرة رضي الله عنه سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ"

(2)

.

(1)

أخرجه أحمد (11/ 260) ح (6677)، والترمذي (4/ 655) ح (2492) وقال:"حديث حسن"، وقال البغوي في شرح السنة (13/ 167) ح (3590):"هذا حديث حسن"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 107) ح (2911) وحسن إسناده شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند ح (6677).

(2)

أخرجه مسلم (3/ 1513) ح (1905).

ص: 104

وكان عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يُحَدِّثُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ سَمَّعَ النَّاسَ بِعَمَلِهِ سَمَّعَ اللهُ بِهِ سَامِعَ خَلْقِهِ، وَصَغَّرَهُ وَحَقَّرَهُ» ، قَالَ: فَذَرَفَتْ عَيْنَا عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ

(1)

.

تابع الحديث وفيه إضافة: " يَوْمَ الْقِيَامَةِ": فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَمَّعَ النَّاسَ بِعَمَلِهِ سَمَّعَ اللهُ بِهِ سَامِعَ خَلْقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَحَقَّرَهُ وَصَغَّرَهُ»

(2)

.

تابع لما سبق من الآفات القلبية المهلكة آفة العجب: قال عنها صلى الله عليه وسلم من حديث أنس رضي الله عنه: «ثلاث مهلكات .. » ، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «وأمّا المهلكاتُ: فَشُحٌّ مطاع، وهوًى متَّبع، وإعجابُ المرءِ بنفِسِه"

(3)

.

وسأقوم بتلخيص ما يتعلق بهذه الآفات المهلكة

(4)

.

‌الرياء

.

‌حكمه:

• الرياء من الشرك الأصغر، وهو أيضًا من الشرك الخفي؛ ولذا كان خطره عظيمًا، وشره مستطيرًا، فلا بد من الحذر منه، والانتباه له ولعظيم ضرره.

ومن الأدلة على ذلك:

(1)

أخرجه أحمد (11/ 430) ح (6839)، وقال في مجمع الزوائد (10/ 222) ح (17660):"رجال أحمد، وأحد أسانيد الطبراني في الكبير رجال الصحيح"، وقال محقق المسند (11/ 430) ح (6839):"إسناده صحيح على شرط الشيخين".

(2)

أخرجه أحمد في المسند (11/ 566) ح (6986)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 117) ح (25)، وقال محقق المسند (11/ 566) ح (6986):"إسناده صحيح على شرط الشيخين".

(3)

أخرجه البزار في مسنده (13/ 114) ح (6491)، والطبراني في المعجم الأوسط (5/ 328) ح (5452)، وحسنه المنذري بمجموع طرقه في الترغيب والترهيب (1/ 174) ح (654)، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 312) ح (453):"حسن لغيره".

(4)

من العجب والرياء والسمعة وهي آفات قلبية مترابطة بينها تداخل ولهذا آثرت الحديث عنها مع بعضها.

ص: 105

أ - قول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].

ب - وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142].

ت - وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} [النساء: 38].

والآيات تدل على عظيم خطر الرياء وأن من تلبس به وأنه من الشرك، ومن صفات المنافقين، وصاحبه الشيطان قرين له فساء قريناً.

ث - قال سفيان الثوري رحمه الله عند قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47]: "ويل لأهل الرياء! ويل لأهل الرياء! هذه آيتهم وقصتهم"

(1)

.

ج - وقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ»

(2)

.

• وذكر الخطابي رحمة الله في معني الحديث: أن من عمل عملًا على غير إخلاص، وإنما يريد أن يراه الناس ويسمعوه، جزاه الله على ذلك بأن يشهره ويفضحه، ويظهر ما كان يبطنه

(3)

.

• وأضاف ابن حجر إلى ما ذكره الخطابي، فقال: "وقيل: من قصد بعمله الجاه والمنزلة عند الناس، ولم يرد به وجه الله، فإن الله يجعله حديثًا عند الناس الذين أراد نيل المنزلة عندهم،

(1)

تفسير القرطبي (15/ 265).

(2)

أخرجه البخاري واللفظ له عن جندب رضي الله عنه (8/ 104) ح (6499)، ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما (4/ 2289) ح (2986).

(3)

ينظر: أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري للخطابي (3/ 2257).

ص: 106

• ولا ثواب له في الآخرة ومعنى «يرائي» : يطلعهم على أنه فعل ذلك لهم لا لوجهه"

(1)

.

ح - وعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ؟ قَالَ:«الرِّيَاءُ؛ إِنَّ اللهَ يَقُولُ يَوْمَ تُجَازَى الْعِبَادُ بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ بِأَعْمَالِكُمْ فِي الدُّنْيَا، فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً؟!»

(2)

.

خ - وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللهُ تبارك وتعالى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»

(3)

.

• وذكر الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله في شرحه على التوحيد أن الرياء على درجتين:

الأولى: رياء المنافقين؛ بأن يظهر الإسلام ويبطن الكفر؛ لأجل رؤية الخلق، وهذا مناف للتوحيد من أصله وكفر أكبر بالله، وقد وصف المنافقين بقوله:{يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142]، فقوله تعالى:{يُرَاءُونَ النَّاسَ} الرياء الأكبر الذي هو إظهار الإسلام وإبطان الكفر.

الثانية: وهو أن يرائي المسلم بعمله أو ببعض عمله، فهذا شرك خفي ينافي كمال التوحيد

(4)

.

صور من الرياء عند من ابتلي به

(5)

:

(1)

فتح الباري (11/ 336).

(2)

أخرجه أحمد (39/ 43 - 44) ح (23636)، وجوّد إسناده المنذري في الترغيب والترهيب (1/ 34) ح (50)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 102) ح (375):"رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 120) ح (32)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند (39/ 44) ح (23636):"إسناده حسن".

(3)

أخرجه مسلم (4/ 2289) ح (2985).

(4)

ينظر: التمهيد (396).

(5)

ينظر: إحياء علوم الدين (3/ 297)، نضرة النعيم (10/ 4553)، الإخلاص حقيقته ونواقضه (336 - 339).

ص: 107

1 -

ينشط في العبادة إذا رآه الناس، ويحسنها ويتقنها من أجل شعوره برؤية الناس له، كما في الحديث عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ، فَقَالَ:«أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ؟» قَالَ: قُلْنَا: بَلَى، فَقَالَ:«الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي، فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ؛ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ»

(1)

.

2 -

يحافظ على البعد عن محارم الله إذا كان الناس يرونه، وإذا خلا بمحارم الله انتهكها؛ لأنه لا ينتهي عن المحارم إلا مخافة من الناس، ولهذا عقوبته عظيمة، كما في الحديث عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عز وجل هَبَاءً مَنْثُورًا» ، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا؛ أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ:«أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا» .

وهذا يحصل من البعض، تجده ينتهك محارم الله إذا خلا بجواله أو جهاز حاسبه أو بالقناة الفضائية التي تعرض ما حرم الله.

3 -

يطلب العلم وهمه أن يرى تعظيم الناس له، وقضاء حاجاته، وتقديمه في المجالس.

4 -

الرّياء بالقول، وهو أن يقوم بهذه الأعمال من أجل الناس، ويكون مهتمًّا بالوعظ والتّذكير والنّطق بالحكمة، وحفظ الأخبار والآثار؛ لإظهار غزارة العلم، ومن ذلك تحريك الشّفتين بالذّكر في محضر النّاس، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أمامهم.

5 -

المراءاة بالأصحاب والزّائرين، كأن يطلب المرائي من عالم أن يزوره ليقال: إنّ فلانًا قد زار فلانًا، ومن ذلك كثرة ذكره للشّيوخ الذين قابلهم وزارهم، ويحرص على إظهار ذلك للناس من خلال الوسائل المتاحة له، لا لأجل الاقتداء ونشر الخير، وإنما لأجل أن يشعر الناس بمكانته.

(1)

أخرجه ابن ماجه (2/ 1406) ح (4204)، والحاكم (4/ 365) ح (7936) وصححه ووافقه الذهبي، وحسن إسناده البوصيري في زوائد ابن ماجه (4/ 236) ح (1505)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 119) ح (30).

ص: 108

‌خطر الرياء

(1)

:

1 -

نفور الناس منه.

2 -

خذلان الله له وقلة توفيقه.

3 -

تسلط الأعداء عليه من شياطين الإنس والجن.

4 -

يحبط أعماله وينزع الله منها البركة.

5 -

لا يسلم المرائي من أن يفضح الله أمره في الدّنيا، ويظهر عيوبه، فيسقط من أعين النّاس وتذهب هيبته، ناهيك عن حسرته يوم القيامة.

6 -

من يرائي بالأعمال الصالحة أول من تسعر به النار، كما في الحديث أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ مُسْلِمٍ حَدَّثَ أَنَّ شُفَيًّا الأَصْبَحِيَّ حَدَّثَهُ أَنَّهُ دَخَلَ المَدِينَةَ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: أَبُو هُرَيْرَةَ، قال فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يُحَدِّثُ النَّاسَ، فَلَمَّا سَكَتَ وَخَلَا قُلْتُ لَهُ: أَسْأَلُكَ بِحَقٍّ وَبِحَقٍّ لَمَا حَدَّثْتَنِي حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَقَلْتَهُ وَعَلِمْتَهُ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَفْعَلُ، لَأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَقَلْتُهُ وَعَلِمْتُهُ، ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً فَمَكَثْنَا قَلِيلًا ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: لَأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا البَيْتِ مَا مَعَنَا أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُهُ، ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ أَفَاقَ فَمَسَحَ وَجْهَهُ فَقَالَ: أَفْعَلُ، لَأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا وَهُوَ فِي هَذَا البَيْتِ مَا مَعَنَا أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُهُ، ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ مَالَ خَارًّا عَلَى وَجْهِهِ فَأَسْنَدْتُهُ عَلَيَّ طَوِيلًا، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: حَدَّثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ يَنْزِلُ إِلَى العِبَادِ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ، فَأَوَّلُ مَنْ يَدْعُو بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ القُرْآنَ، وَرَجُلٌ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ كَثِيرُ المَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَارِئِ: أَلَمْ أُعَلِّمْكَ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عُلِّمْتَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ المَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فُلَانًا قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ، وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ المَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ حَتَّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ؟ قَالَ:

(1)

ينظر: نضرة النعيم (10/ 4567).

ص: 109

7 -

كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ المَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ، وَيُؤْتَى بِالَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: فِي مَاذَا قُتِلْتَ؟ فَيَقُولُ: أُمِرْتُ بِالجِهَادِ فِي سَبِيلِكَ فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ المَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ»، ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رُكْبَتِي فَقَالَ:«يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ» . وَقَالَ الوَلِيدُ أَبُو عُثْمَانَ: فَأَخْبَرَنِي عُقْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ أَنَّ شُفَيًّا هُوَ الَّذِي دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَأَخْبَرَهُ بِهَذَا. قَالَ أَبُو عُثْمَانَ: وَحَدَّثَنِي العَلَاءُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ، أَنَّهُ كَانَ سَيَّافًا لِمُعَاوِيَةَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ، فَأَخْبَرَهُ بِهَذَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: قَدْ فُعِلَ بِهَؤُلَاءِ هَذَا، فَكَيْفَ بِمَنْ بَقِيَ مِنَ النَّاسِ؟! ثُمَّ بَكَى مُعَاوِيَةُ بُكَاءً شَدِيدًا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ هَالِكٌ، وَقُلْنَا: قَدْ جَاءَنَا هَذَا الرَّجُلُ بِشَرٍّ، ثُمَّ أَفَاقَ مُعَاوِيَةُ وَمَسَحَ عَنْ وَجْهِهِ، وَقَالَ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15، 16]

(1)

.

السمعة.

(1)

أخرجه الترمذي (4/ 591) ح (2382)، وقال الترمذي:"هذا حديث حسن غريب"، وابن حبان في صحيحه (2/ 136) ح (408)، والحاكم (1/ 579) ح (1527) وصححه وأقره الذهبي، وابن خزيمة (2/ 1188) ح (2482)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 114) ح (22)، وصحح إسناده شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لصحيح ابن حبان (2/ 137) ح (408).

ص: 110

والفرق بينها وبين الرياء: أن السمعة تتعلق بحاسة السمع

(1)

، والرياء يتعلق بحاسة البصر

(2)

. وكلاهما بمعنى متقارب في نتيجة الحكم عليهما كما سيأتي.

‌حكم السمعة:

‌السمعة

حكمها كحكم الرياء، فكل ما ورد في الرياء من الأدلة يرد فيها، وقد جاء في السنة ما يبين عظيم خطرها، ومن ذلك:

قول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ» .

عن جندب رضي الله عنه: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ القِيَامَة» الحديث

(3)

.

وكان عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يُحَدِّثُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ سَمَّعَ النَّاسَ بِعَمَلِهِ سَمَّعَ اللهُ بِهِ سَامِعَ خَلْقِهِ، وَصَغَّرَهُ وَحَقَّرَهُ» ، قَالَ: فَذَرَفَتْ عَيْنَا عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ

(4)

.

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَمَّعَ النَّاسَ بِعَمَلِهِ سَمَّعَ اللهُ بِهِ سَامِعَ خَلْقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَحَقَّرَهُ وَصَغَّرَهُ»

(5)

.

وحكمها حكم الرياء، وبالذات حينما تقارن العمل.

(1)

أي: الأعمال التي تسمع من تلاوة أو ذكر أو دعاء ونحو ذلك؛ لأجل سماع مدح الناس.

(2)

ينظر: فتح الباري (11/ 336).

(3)

أخرجه البخاري (9/ 64) ح (7152).

(4)

أخرجه أحمد (11/ 430) ح (6839)، وقال في مجمع الزوائد (10/ 222) ح (17660):"رجال أحمد، وأحد أسانيد الطبراني في الكبير رجال الصحيح"، وقال محقق المسند (11/ 430) ح (6839):"إسناده صحيح على شرط الشيخين".

(5)

أخرجه أحمد في المسند (11/ 566) ح (6986)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 117) ح (25)، وقال محقق المسند (11/ 566) ح (6986):"إسناده صحيح على شرط الشيخين".

ص: 111

قال ابن حجر رحمه الله: "والسمعة .. مشتقة من سمع، والمراد بها نحو ما في الرياء، لكنها تتعلق بحاسة السمع، والرياء بحاسة البصر"

(1)

.

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله بعد أن ذكر تعريف الرياء: "ويدخل في ذلك من عمل العمل ليسْمَعَه الناس"

(2)

.

‌ما يستثنى من السمعة:

ويستثنى من السمعة المحرمة ما يعمله الإنسان المقتدى به، فيظهر العمل ليقتدي به الناس، بشرط أن يحرص على سلامة نيته من مقصد السمعة المذمومة، وذلك بحبه لسماع ثناء الناس ومدحهم.

وقال ابن حجر رحمه الله: "وفي الحديث

(3)

استحباب إخفاء العمل الصالح، لكن قد يستحب إظهاره ممن يقتدى به على إرادته الاقتداء به، ويقدر ذلك بقدر الحاجة، قال ابن عبد السلام: يستثنى من استحباب إخفاء العمل من يظهره ليقتدى به، أو لينتفع به ككتابة العلم

(4)

، ومنه حديث سهل الماضي في الجمعة:«لِتَأْتَمُّوا بِي، وَلِتَعَلَّمُوا صَلَاتِي»

(5)

قال الطبري: كان ابن عمر وابن مسعود وجماعة من السلف يتهجدون في مساجدهم ويتظاهرون بمحاسن أعمالهم ليقتدى بهم، قال: فمن كان إمامًا يستن بعمله عالمًا بما لله عليه قاهرًا لشيطانه استوى ما ظهر من عمله وما خفي؛ لصحة قصده، ومن كان بخلاف ذلك، فالإخفاء في حقه أفضل، وعلى ذلك جرى عمل السلف، فمن الأول حديث

(1)

فتح الباري (11/ 336)

(2)

القول المفيد على كتاب التوحيد (2/ 124).

(3)

يقصد ابن حجر رحمه الله حديث: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ» .

(4)

لم أجده بهذا اللفظ فيما تيسر لي من كتب العز بن عبد السلام، ووجدت قريباً منه في كتابي: الفوائد ومقاصد الرعاية له رحمه الله.

ينظر: الفوائد في اختصار المقاصد (125 - 127)، مقاصد الرعاية لحقوق الله (98) كلاهما للعز بن عبد السلام.

(5)

وهو في مسلم (1/ 386)(544).

ص: 112

حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا يقرأ ويرفع صوته بالذكر، فقال:"إِنَّهُ أَوَّابٌ" قال: فإذا هو المقداد بن الأسود أخرجه الطبري

(1)

.

ومن الثاني حديث الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قام رجل يصلي، فجهر بالقراءة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تسمعني، وأسمع ربك» أخرجه أحمد

(2)

، وابن أبي خيثمة، وسنده حسن"

(3)

‌من مظاهر السمعة عند من ابتلي بها

(4)

:

1 -

ما ورد من مظاهر في الرياء وما سيرد في العجب كلها متقاربة.

2 -

كثرة إطراء النفس والحديث عنها.

3 -

التمطيط بقراءة القرآن وإخراجها عن الحد المشروع في القراءة، حتى يخيل لك أنه لا يقرأ وإنما ينشد شعرًا، ويتفاعل مع جماهير السامعين ويردد الآية لا للتدبر، وإنما للتمطيط وزيادة التنغيم والدخول من مقام إلى مقام آخر، حتى يشبع رغبة في نفسه بحب ثناء الناس ومدحهم.

4 -

لا يحب الناصح، ويرى أنه ينزل من قدره.

5 -

إذا ألقى درسًا أو موعظة ولم يلق مدحًا ولا ثناء يغضب في داخل نفسه، وربما لا يواصل درسه أو مواعظه في نفس المكان.

6 -

كثير النقد والاعتراض على الآخرين.

(1)

لم أقف عليه فيما تيسر من مصادر، ولكني وجدت قريبًا منه في مسند أحمد (31/ 306) ح (18971) ولفظه: عَنِ ابْنِ الْأَدْرَعِ قَالَ: كُنْتُ أَحْرُسُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَخَرَجَ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، قَالَ: فَرَآنِي، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَانْطَلَقْنَا، فَمَرَرْنَا عَلَى رَجُلٍ يُصَلِّي يَجْهَرُ بِالْقُرْآنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«عَسَى أَنْ يَكُونَ مُرَائِيًا» ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، يُصَلِّي يَجْهَرُ بِالْقُرْآنِ، قَالَ: فَرَفَضَ يَدِي، ثُمَّ قَالَ:«إِنَّكُمْ لَنْ تَنَالُوا هَذَا الْأَمْرَ بِالْمُغَالَبَةِ» ، قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَأَنَا أَحْرُسُهُ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَمَرَرْنَا عَلَى رَجُلٍ يُصَلِّي بِالْقُرْآنِ، قَالَ: فَقُلْتُ: عَسَى أَنْ يَكُونَ مُرَائِيًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«كَلَّا إِنَّهُ أَوَّابٌ» ، قَالَ: فَنَظَرْتُ، فَإِذَا هُوَ عَبْدُ اللهِ ذُو الْبِجَادَيْن. وقال في مجمع الزوائد (9/ 369) ح (15982):"رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح"، وحسن إسناده الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/ 285) ح (1709)، والحديث ضعف إسناده محقق المسند (31/ 306) ح (18971).

(2)

مسند أحمد (14/ 72) ح (8326).

(3)

فتح الباري (11/ 337).

(4)

الأخلاص حقيقته ونواقضه (368 - 370).

ص: 113

7 -

يتصيد الأخطاء ويفرح بها، ويضخمها وهي صغيرة؛ ليشعر من يسمعه أنه عنده غيرة على الدين.

تنبيه:

أما ما يسمعه الإنسان عنه من ثناء حسن من غير قصد لذلك، وتطلع إليه، فلا يدخل في السمعة المذمومة؛ لأن هذا مما استثناه الحديث، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنَ الْخَيْرِ، وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ:«تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ»

(1)

.

نقل النووي كلام العلماء في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ» فقال رحمه الله: "قال العلماء: معناه: هذه البشرى المعجلة له بالخير وهي دليل على رضاء الله تعالى عنه ومحبته له، فيحببه إلى الخلق كما سبق في الحديث

(2)

، ثم يوضع له القبول في الأرض، هذا كله إذا حمده الناس من غير تعرض منه لحمدهم، وإلا فالتعرض مذموم"

(3)

.

قال السيوطي رحمه الله: "قال: «تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ» أي: هذه البشرى المعجلة دليل للبشرى المؤخرة إلى الآخرة"

(4)

.

‌خطر السمعة:

يقال هنا ما قيل في خطر الرياء لتقارب الآفتين، ويضاف ما ورد في الحديث:«مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ القِيَامَة» الحديث.

(1)

أخرجه مسلم (4/ 2034) ح (2642).

(2)

يشير رحمه الله إلى حديث: «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ العَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحْبِبْهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ القَبُولُ فِي الأَرْضِ» ، وحديث أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، الرَّجُلُ يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ فَيُحِبُّهُ النَّاسُ؟ قَالَ:«تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ» . أخرجه أحمد في المسند (35/ 379) ح (21477)، وصحح إسناده شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لمسند أحمد (35/ 379) ح (21477).

(3)

شرح النووي على مسلم (16/ 189).

(4)

شرح السيوطي على مسلم (5/ 556).

ص: 114

يَقُولُ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَمَّعَ النَّاسَ بِعَمَلِهِ سَمَّعَ اللهُ بِهِ سَامِعَ خَلْقِهِ، وَصَغَّرَهُ وَحَقَّرَهُ» ، قَالَ الراوي: فَذَرَفَتْ عَيْنَا عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ.

ففي هذين الحديثين بيان عقوبة من يقع في السمعة في الدنيا والآخرة.

وذكر أهل العلم

(1)

في شرح هذا الحديث عدة معان تدل على خطورة السمعة، ودونك أهمها:

1 -

أنه إذا عمل يريد سماع ثناء الناس ليكرموه ويعظموه ويعتقدوا خيره سمع الله به يوم القيامة الناس وفضحه.

2 -

يفضحه الله في الدنيا ويظهر ما كان يبطنه ويخفيه عن الناس.

3 -

وقيل: إذا أراد بالسمعة الجاه والمنزلة عند الناس ولم يرد به وجه الله فإن الله يجعله حديثًا عند الناس الذين أراد نيل المنزلة عندهم، ولا ثواب له في الآخرة.

4 -

وقيل: المعنى: من سمع بعيوب الناس وأذاعها أظهر الله عيوبه وسمعه المكروه.

5 -

وقيل: المعنى: من نسب إلى نفسه عملًا صالحًا لم يفعله وادعى خيرًا لم يصنعه، فإن الله يفضحه ويظهر كذبه.

•‌

‌ العُجْبُ

.

‌من أقوال العلماء في معنى العجب:

قال عبد الله بن المبارك رحمه الله عن العجب: "أن ترى أن عندك شيئًا ليس عند غيرك"

(2)

.

وقال الغزالي رحمه الله عن العجب: "استعظام النعمة والركون إليها مع نسيان إضافتها إلى المنعم"

(3)

.

(1)

ينظر في ذلك: شرح النووي على مسلم (18/ 116)، فتح الباري لابن حجر (11/ 336 - 337).

(2)

شعب الإيمان (10/ 514).

(3)

إحياء علوم الدين (3/ 371).

ص: 115

وقال أبو العباس القرطبي: "إعجاب الرجل بنفسه هو ملاحظته لها بعين الكمال والاستحسان مع نسيان منة الله تعالى"

(1)

.

وقال الجرجاني: "العجب: هو عبارة عن تصور استحقاق الشخص رتبة لا يكون مستحقًّا لها"

(2)

.

ومن خلال ما سبق يتضح أن العجب مرتبط بالنفس، وهو أن يرى بأن عنده ما ليس عند غيره، وملاحظته لنفسه بعين الكمال والاستحسان، مع نسيان أن المنعم عليه هو الله تعالى.

‌حكم العجب:

دلت نصوص الكتاب والسنة على تحريم العجب، ومن ذلك:

قال تعالى في وصية لقمان لابنه: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18].

قال السعدي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: " {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} أي: لا تُمِلْهُ وتعبس بوجهك للناس؛ تكبُّرًا عليهم وتعاظمًا. {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} أي: بطرًا، فخرًا بالنعم، ناسيًا المنعم، معجبًا بنفسك. {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ} في نفسه وهيئته وتعاظمه، {فَخُورٍ} بقوله"

(3)

.

(1)

المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم (5/ 406).

(2)

التعريفات (147).

(3)

تفسير السعدي (649).

ص: 116

وعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوْ: قَالَ أَبُو القَاسِمِ صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ، تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ، مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ، إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ»

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم من حديث أنس رضي الله عنه: «ثلاث مهلكات .. » ، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «وأمّا المهلكاتُ: فَشُحٌّ مطاع، وهوًى متَّبع، إعجابُ المرءِ بنفِسِه".

وعَن أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ لمْ تَكُونُوا تُذْنِبُونَ لَخَشِيتُ عَلَيْكُمْ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ: الْعُجْبَ»

(2)

.

وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: ذُكِرَ لِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ -وَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنْهُ- «إِنَّ فِيكُمْ قَوْمًا يَعْبُدُونَ وَيَدْأَبُونَ، حَتَّى يُعْجَبَ بِهِمُ النَّاسُ، وَتُعْجِبَهُمْ نُفُوسُهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ»

(3)

.

ودلت هذه النصوص على أن العجب محرم ومن كبائر الذنوب، بل عده شيخ الإسلام رحمه الله من الشرك، فقال: "وكثيرًا ما يقرن الناس بين الرياء والعجب، فالرياء من باب الإشراك بالخلق، والعجب من باب الإشراك بالنفس، وهذا حال المستكبر، فالمرائي لا يحقق قوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ،

(1)

أخرجه البخاري واللفظ له (7/ 141) ح (5789)، ومسلم (3/ 1654) ح (2088).

(2)

أخرجه البزار في مسنده (13/ 326) ح (6936)، والبيهقي في شعب الإيمان (9/ 399) ح (6868)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 269) ح (17948):"رواه البزار، وإسناده جيد"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2/ 938) ح (5303).

(3)

أخرجه أحمد في المسند (20/ 243 - 244) ح (12886)، وأبو يعلى (7/ 116) ح (4066)، وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها (4/ 519) ح (1895):"وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم"، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لمسند أحمد (20/ 244) ح (12886):"إسناده صحيح على شرط الشيخين"، وقال محقق مسند أبي يعلى (7/ 116) ح (4066):"إسناده صحيح".

ص: 117

والمعجب لا يحقق قوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، فمن حقق قوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} خرج عن الرياء، ومن حقق قوله:{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} خرج عن الإعجاب"

(1)

.

مما يدل على خطر العجب على الأمة، وأثره العظيم في حصول الهزيمة، ما ذكره الله في تعقيبه على غزوة حنين وهو يربي الأمة على الحذر من هذه المسالك، حينما حصل هزيمة في أول المعركة بسبب العجب بالكثرة وتعلق القلب بها، فقال سبحانه:{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25]، وكان من أسباب الخلل والهزيمة العجب الذي أدى إلى ركون القلب إلى الكثرة والاعتداد بها بأنهم لن يهزموا، وغفلوا عن أن النصر من الله، وليس بالكثرة ولا بالقوة المادية، فأصابهم الخذلان، ولم تغن عنهم الكثرة شيئًا، فحصلت الهزيمة والفرار في أول المعركة من هؤلاء، وثبّت الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه، ونصرهم في نهاية المعركة، حيث قال سبحانه وتعالى:{ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 26].

من أقوال السلف في التحذير من العجب:

- قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "الإعجاب ضد الصواب، وآفة الألباب"

(2)

.

(1)

مجموع الفتاوى (10/ 277).

(2)

أدب الدين والدنيا (237).

ص: 118

- وعن كعب رضي الله عنه أنه قال لرجل رآه يتبع الأحاديث: "اتق الله، وارض بالدون من المجلس، ولا تؤذ أحدًا، فإنه لو ملأ علمك ما بين السماء والأرض مع العجب ما زادك الله به إلا سفالًا ونقصانًا"

(1)

.

- وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: "علامة الجهل ثلاث: العجب، وكثرة المنطق فيما لا يعنيه، وأن ينهى عن شيء ويأتيه"

(2)

.

- وعن مسروق رحمه الله قال: "كفى بالمرء علمًا أن يخشى الله، وكفى بالمرء جهلًا أن يعجب بعمله"

(3)

.

- وقال أبو وهب المروزي رحمه الله: "سألت ابن المبارك: ما الكبر؟ قال: أن، تزدري الناس. فسألته عن العجب، قال: أن ترى أن عندك شيئا ليس عند غيرك، لا أعلم في المصلين شيئًا شرًّا من العجب"

(4)

.

- وعن خالد بن يزيد بن معاوية رحمه الله قال: "إذا رأيت الرجل لجوجًا مماريًا معجبًا بنفسه، فقد تمت خسارته"

(5)

.

- وكان يحيى بن معاذ رحمه الله يقول: "إياكم والعجب؛ فإن العجب مهلكة لأهله، وإن العجب ليأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب"

(6)

.

وقيل لعبد الله بن المبارك: ما الذنب الذي لا يغفر؟ قال: "العجب"

(7)

.

(1)

حلية الأولياء (5/ 376).

(2)

جامع بيان العلم وفضله (1/ 569).

(3)

جامع بيان العلم وفضله (1/ 569).

(4)

سير أعلام النبلاء (8/ 407).

(5)

مساوئ الأخلاق (263).

(6)

شعب الإيمان (9/ 395).

(7)

شعب الإيمان (9/ 396).

ص: 119

ويقصد ابن المبارك رحمه الله أن العجب من الكبائر التي لا تغفر إلا بالتوبة.

‌صور من العجب عند المبتلى به

(1)

:

1 -

كثرة الحديث عن نفسه ومنجزاته وأعماله إما تصريحًا أو تلميحًا.

2 -

حبه ونشاطه في الأعمال التي فيها ظهور أمام الجمهور، وفي المقابل البعد أو الكسل عن الأعمال التي لا يراه فيها الناس؛ لأن الظهور أمام الناس يلبي رغبة العجب التي في نفسه.

3 -

يحب من يقدمه ويثني عليه، وينفر من الذين لا يثنون عليه، ولا يحب النشاط في هذه الأماكن التي لا يثنى عليه فيها.

4 -

الضيق والتبرم من النصيحة، والبعد عن الناصحين.

5 -

حبه للتصدر وحرصه عليه قبل أن يتأهل لذلك.

6 -

الفرح بذكر أو سماع عيوب إخوانه؛ مما يؤدي به إلى البحث والتنقيب عن عيوبهم، ونسيان عيوب نفسه، وهو يظن أنه بذلك يظهر قدرته العلمية.

7 -

عدم استشارة أهل العلم، معتدًّا برأيه، ويظن أنه ليس بحاجة إلى استشارة أحد لكمال عقله.

(1)

ينظر: مختصر منهاج القاصدين (234)، مقال بعنوان العجب داء القلوب الخفي في موقع المسلم على الشبكة، الإخلاص حقيقته ونواقضه (486 - 487)، نضرة النعيم (11/ 5380).

ص: 120

‌خطر العجب:

العجب له خطر عظيم عليه في نفسه، وعلى ما يقوم به، ومن ذلك:

1 -

نفور الناس منه.

2 -

سبب للكبر والغرور والتعالي على الناس.

3 -

سبب للرياء والسمعة.

4 -

نسيان الذنوب والتمادي في التقصير، ولا يوفق للتوبة.

5 -

الإصرار على الأخطاء، وعدم سماع العلماء الناصحين اعتدادًا برأيه.

سبب للخذلان وقلة التوفيق.

وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد

ص: 121