الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الله عز وجل بقوله: {يَكْذِبُونَ} [10] ما هو أعمُّ من ذلك، وقد تقدم في وصفهم:{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [9]، وهذا مجمل= اقتضت الحكمة أن يفصل
كذبهم ومخادعتهم، خصوصًا والسورة مدنية، وفتنة المنافقين بالمدينة، وذلك يقتضي الإفاضة في شأنهم.
فبيَّن الله عز وجل كذبهم ومخادعتهم، وأفاض في شأنهم إلى تمام عشرين آية من السورة (11 - 20).
ثم وجَّه الله عز وجل الخطاب إلى عامة الناس ــ الشامل للثلاث الفرق ــ بالأمر بعبادته، أي: وحده، كما يدل عليه السياق، ونبهنا على حكمة عدم التصريح به في الفوائد
(1)
.
وبيَّن مقتضيات إفراده بالعبادة في آيتي (21 - 22)، ثم قال:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا .. } [23 - 24]. وهذا مع اتصاله بما قبله مرتبط بأول السورة: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [1 - 2].
[3/أ] وهذا
من عجائب القرآن:
تجد السورة كالشجرة لها أصل ولها فروع، فإذا طال فرع من الفروع، وانتهى منه، وأراد الشروع في فرعٍ آخر= لم يكتف بالرجوع إلى الأصل، بل يربط أول الفرع الثاني بآخر الفرع الأول؛ فيكون الارتباط من جهتين.
ولما جاء في آية (24): {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} ، وكان فيه تفصيل لما أجمل سابقًا من عذاب الكفار والمنافقين
(1)
لم نجدها في الأصل.
في قوله: {عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، {عَذَابٌ أَلِيمٌ} = اقتضى الحال أن يفصل أيضًا نعيم
المؤمنين الذي أجمل بقوله في أول السورة: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، ففصله في آية (25)، وذكر فيها ثمر الجنة وتشابهه والأزواج المطهرة؛ ليرتبط بما بعده من قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا
…
} [آيتي: 26 - 27]؛ [3/ب] فإن الثمرة وتشابهها، والأزواج وطهارتها، يصدق عليهما أنهما مثل لنعيم الجنة.
قال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35].
هذا مع أن قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا} موجه بالذات إلى إنكار المنافقين المثلين المتقدمين فيهم في أول السورة ــ كما جاء عن ابن مسعود وجماعة من الصحابة
(1)
ــ ولكن لم يكتف بهذا الربط لما قدمنا.
وعبر في آية (26) بقوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} ولم يقل: (نافقوا)، وإن كان السياق يبين أنهم المراد؛ لأمرين:
الأول: الإشارة إلى أن الكفار المصرحين قد يشاركون المنافقين في ذلك.
(1)
انظر: "تفسير الطبري"(شاكر 1/ 398).
الثاني: أن يربط الآيتين بآية: (28)، وهي قوله:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} ، ولم يكتف بارتباطها بما قبل ذلك لما تقدم.
وقال في هذه الآية: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ
…
}، اختار هذه الأوصاف ليربط الآية [4/أ] بآية (29) قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ
…
} [29]، مع أن هذه الآية مرتبطة بقوله في آية (22):{جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} .
ثم قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً
…
} [30]، وهذا مرتبط بما قبله من حيث خلق الناس، وخلق السماء والأرض.
ثم أفاض في قصة خلق آدم إلى آية: (39)، وجاء في آيتي (38 - 39) ما هو من تمام القصة، ويصلح للارتباط بما بعده، وهو قوله:{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
وبعده: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ
…
(40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} [40 - 41]. وارتباط ذلك بما قبله ظاهر؛ فإن بني إسرائيل ممن دخل تحت قسم الكفار الماضي أول السورة ثم المتكرر ــ كما بينَّا ــ إلى أن ذكر متصلًا بهذه الآية.
وأيضًا، فقد مر أول السورة في صفة المتقين:{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [4].
وأيضًا، فإن في صفة الجنة ما يتعلق بأهل الكتاب، فإنهم زعموا أن ليس فيها أكل ولا شرب ولا نكاح.
وكذا في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا
…
} [26] إلخ؛ ففي "إنجيل متى" إصحاح (13): "10: فتقدم التلاميذ وقالوا له: لماذا تكلمهم بأمثال؟ 11: فأجاب، وقال: لأنه قد أُعطي لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السماوات، وأما لأولئك فلم يُعطَ. 12: فإنَّ من له سيُعطى ويزاد، وأما من ليس له فالذي عنده سيؤخذ منه".
وكذا في قصة خلق آدم ما يتعلق بأهل الكتاب، فإن القصة في كتابهم، وقد بدَّلوا فيها وحرَّفوا، ففيما تقدم تصديق القرآن ما معهم، مع إصلاح ما ضلُّوا عنه.
ومع هذا، فقوله هنا:{وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ} في وصف الكتاب؛ فهو مرتبط بأول السورة.
وهنا احتمالان:
الأول: أن يكون قسم الكفار المتقدم شاملًا لأهل الكتاب، ثم خصَّهم بذكر هنا وفيما سيأتي، لما يختصُّ بهم من العبر.
الثاني: أن يكون المراد بالكفار سابقًا المشركون خاصة، وأخَّر ذكر أهل الكتاب إلى هنا.
وعلى كل حال، فقد تمت الأقسام العقلية بالنسبة إلى الإيمان بالكتاب، وهي أربعة:
مصدق ظاهرًا وباطنًا، وهم المؤمنون.
مرتاب ظاهرًا وباطنًا، وهم المشركون.
مصدق ظاهرًا فقط، وهم المنافقون.
مصدق باطنًا فقط، وهم أهل الكتاب. والله أعلم.
ثم أفاض في شأن بني إسرائيل، [4/ب] والارتباط ظاهر، إلى آية (103).
وأما آية (104): {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} فارتباطها ببني إسرائيل أن العرب تستعمل هذه الكلمة بمعنى: انظرنا، وهي بلسان اليهود شَتْم؛ فكان الصحابة ربما خاطبوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها، بمعنى"انظرنا"، فاهتبلها اليهود، فكانوا يخاطبونه هم بها مُسرِّين في أنفسهم معنى الشتم، فنهى الله تعالى المؤمنين عن مخاطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها أصلًا؛ ليقطع دسيسة اليهود.
آية (105) ارتباطها بأهل الكتاب ظاهر. وأما بالآية قبلها فلأن إنزال الله تعالى الأمر بترك {رَاعِنَا} واستبدالها بـ {انْظُرْنَا} خير أنزله الله، ولا بد أن يكرهه أهل الكتاب لحسمه دسيستهم.
ولما كان الحكم عامًّا ضمَّ إلى أهل الكتاب المشركين.
وفي الآية تمهيد لنسخ القبلة؛ فإن استقبال الكعبة من الخير والرحمة الذي اختص الله تعالى به المسلمين.
[5/أ](106) قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ
مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: ارتباطها بالذي قبلها من
جهة أن المنع من قول {رَاعِنَا} نسخ في الجملة، فإن قولها كان جائزًا قبل ذلك؛ بدليل إقرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليها مدة، ثم نسخ ذلك بالآية المتقدمة (104)، وذلك لمَّا اتخذها اليهود وصلة إلى الاستهزاء.
ولها ارتباط بالآية التي قبلها؛ لما قدمنا أن فيها تمهيدًا لنسخ القبلة.
ولها تعلق بالفرع، وهو شأن بني إسرائيل، من حيث إن فيها ردًّا عليهم لأنهم ينكرون النسخ.
وهي مع ذلك متعلقة بأصل السورة، قوله تعالى:{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [1 - 2].
وفيها تمهيد لما يأتي من نسخ القبلة، وجعلت قبل ذلك بمدة حتى لا ينزل نسخ القبلة إلا وقد استقر في نفوس المسلمين حكم النسخ، واطمأنوا به، فلا يرد عليهم نسخ القبلة بغتة، فينفروا منه، والله أعلم.
فأما تمام الآية، وهو قوله تعالى:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، فالذي يحضرني أنه يظهر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه رضي الله عنهم شقَّ عليهم النسخ؛ لأنه يفتح للكفار من أهل الكتاب والمشركين باب الشغب والطعن في القرآن، كما يشير إليه ربط الآية بأول السورة، وربما يكون ذلك سببًا لامتناع جماعة عن الإسلام، أو ارتداد جماعة من المسلمين. فسلَّى الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وآله وسلم[5/ب] بقوله:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، أي: فهو يقدر على هداية الناس جميعًا، ويقدر على منعهم من الشغب، ويقدر على إقامة
البرهان على بطلان شغبهم، ويقدر على دفع ما خشيته من كون النسخ ربما يمنع
جماعة من الإسلام أو حمل بعض المسلمين على الارتداد.
وأكد ذلك بآية (107)، وقال في آخرها:{وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} . علاقتها بما قبلها أن من جملة ما خشوه أن يشغب عليهم الكفار، وأن يمتنع جماعة من الإسلام، ولو أسلموا لكثر المسلمون وتقوَّوا بهم؛ وأن يرتدّ بعض المسلمين، فيقلَّ المسلمون ويذلُّوا. فأخبرهم تعالى أنه ليس لهم ولي ولا نصير غيره، وإذًا فلا معنى لخشيتهم أن لا يكثر أولياؤهم وأنصارهم.
وعبَّر بضمير الجمع في هذا على معنى: لك ولأصحابك. وبذلك تتصل الآية بما بعدها.
آية (108): {أَمْ تُرِيدُونَ} خطابٌ للصحابة لتضمن قوله: {لَكُمْ} إياهم.
ففي الآية هذه اللطيفة، وهو أنه بخطاب واحد وجَّهَ ما يناسب حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليه، وما يناسب حاله وحال الصحابة إليهم جميعًا، وما يناسب أصحابه فقط إليهم فقط، وميَّز بين الأخيرين بالقرائن.
{أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} تشبيه السؤال بالسؤال في مطلق كون كل منهما سؤالًا فيه جرأة على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. فالسؤال الذي أنكره الله على المسلمين يتناول أن [6/أ] يسألوه أن لا يقع في الشرع نسخ في القرآن ولا في الأحكام؛ لخشيتهم الأمور السابقة. وبهذا ظهر علاقة الآية بما قبلها.
وقوله تعالى في آخرها: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} مرتبط بما قبله من جهتين:
الأولى: الإشارة إلى أن الإصرار على السؤال المذكور بعد أن نهى الله تعالى عنه كفر.
والثاني: تحذير الضعفاء أن يقع في أنفسهم ارتياب بسبب النسخ.
(109)
{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا} هذا يبين ما قدمنا أن الكفار طعنوا في القرآن والإسلام بسبب النسخ ليردُّوا المسلمين عن دينهم.
وإخبار الله عز وجل المسلمين بهذا يحملهم على بغض أهل الكتاب وحب الانتقام منهم، فعقبه تعالى بقوله:{فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، فيقدر على أن يهديهم أو يهلكهم أو يسلطكم عليهم.
(110)
{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ [6/ب] مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ارتباطها بما قبلها أن المعنى ــ والله أعلم ــ: أعرضوا عن أهل الكتاب، واشتغلوا عنهم بما كُلِّفتم؛ فإن اشتغالكم بذلك ــ مع ما فيه من الخير الذاتي ــ يغيظ أهل الكتاب ويحزنهم؛ لأنهم يكرهون لكم الخير، ويودون أن يردوكم عن دينكم، كما تقدم في آيتي (105) و (109).
وقوله: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ
…
}
(1)
تمهيد للرد على أهل الكتاب فيما ادعوه في آية (111). وبذلك علم الربط.
أما (112) ظاهر
(2)
.
(113)
ارتباطها بما قبلها ظاهر أيضًا، وبيَّن بها اختلاف اليهود والنصارى تمهيدًا لما يأتي في شأن القبلة؛ فإن القبلة مما اختلفوا فيه، والمراد بالذين لا يعلمون: المشركون.
(114)
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} [7/أ] ارتباطها بما قبلها أننا قدمنا أن في الآية التي قبلها إشارة إلى شأن القبلة، وذكر المساجد في هذه الآية إشارة إلى المسجد الحرام. فقد ثبت أن استقباله وحجّه من شريعة إبراهيم وموسى، ولكن اليهود والنصارى لكونهم بني إسحاق حسدوا بني أخيه إسماعيل، فحرفوا آيات التوراة وبدَّلوها، وبذلك منعوا قومهم أن يحجوه فيذكروا الله فيه، وأن يستقبلوه. وسعوا في خرابه، أي بإنكارهم أن يكون له فضل أو مزية.
وَبَّخَهم سبحانه على جحدهم فضيلة المسجد الحرام، وحجه، واستقباله، بإشارة لا يتحققها إلا من قرأ التوراة، كرمًا منه تعالى؛ للمعنى الذي تقدم في آية (109) من الأمر بالعفو عنهم والصفح.
(1)
في الأصل: "وما تعملوا من خير
…
"، وهو سهو.
(2)
كذا في الأصل دون فاء الجواب. وانظر: "شواهد التوضيح والتصحيح" لابن مالك (136).
وقد بيَّن الله تعالى هذا في عدة آيات، منها قوله: {
…
وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [المائدة: 1].
ومع هذا فالآية تشمل المشركين في إخراج المسلمين من مكة ومنعهم المسجد، وقد نبَّه على ذلك بذكر المشركين في الآية التي قبلها كما مر، والله أعلم.
فلما أمكن أن يقول أهل الكتاب، أو من قرأ التوراة من غيرهم، أو من أوغل في تدبر القرآن: فما بال محمد وأصحابه مع هذا يستقبل بيت المقدس؟ = [7/ب] قال تعالى:
آية (115): {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي: فاستقبال موضع مخصوص ليس أمرًا مقصودًا لذاته، وإنما يتعيَّن الموضع المخصوص إذا عيَّنه الله عز وجل، فتجب طاعته. وقد أمر محمدًا وأصحابه باستقبال بيت المقدس لحكمةٍ يعلمها، فكان هو قبلتهم حينئذ طاعة لله تعالى، وذلك لا يقدح في كون الكعبة هي القبلة الأصلية. وبهذا علم الارتباط.
ويؤيد التفسير المذكور آية (142) من هذه السورة.
(116)
{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} : القائلون هم اليهود والنصارى في عزير، والنصارى في عيسى، والمشركون في الملائكة.
وقد مر ذكر الثلاث الفرق في آية (113)؛ فإن المراد بالذين لا يعلمون: المشركون. والله أعلم. وبهذا علم الارتباط.
(117)
ظاهر.
(118)
المراد بالذين لا يعلمون: المشركون، كما تقدم، وبالذين من قبلهم: اليهود، وكذا النصارى. والله أعلم. وبهذا علم الارتباط.
(119)
الآية ردٌّ عليهم في قولهم في الآية السابقة، وإرشادٌ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يحرص على إحداث آية، ومثله في القرآن كثير، والارتباط ظاهر.
[8/أ](120) ظاهر.
(121)
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ
…
} ارتباطها بما قبلها ظاهر، والآية إشارة إلى كتمانهم شأن الكعبة ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم.
(122)
و (123) مناشدة لأهل الكتاب أن لا يكتموا شأن الكعبة ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم.
(123)
إلى (141): بعد أن لاطفهم الله عز وجل فيما تقدم بأن عاتبهم في شأن ما يعلمونه في الكعبة ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم بكلام لا يكاد يفهمه غيرهم، كما هي الطريقة المحمودة في النصيحة أن تكون سرًّا= لم ينجع ذلك فيهم، فتعين أن يصارحهم ويكشف الغطاء عن حقيقة الأمر؛ فكان ذلك في هذه الآية وما بعدها. فظهر تمام الارتباط بحمد الله تعالى.
وذكر الفاضل المعلِّم عبد الحميد الفراهي في كتابه "الرأي الصحيح في مَن هو الذبيح" ــ وهو كتاب نفيس ــ أن في الآيات إشارة إلى أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام، [8/ب] وأن الله تعالى لم يصرِّح بذلك عفوًا عن أهل الكتاب ــ كما قدمناه ــ وكراهية أن يؤدي التصريح به إلى فتح باب المناقشة في أمرٍ غيرُه أهمُّ منه. انظر التفصيل في الكتاب المذكور
(1)
.
(1)
(ص 90 - 105).
(142)
{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} : ارتباطها بما قبلها ظاهر مما ذكرناه، فقد مهَّد الله تعالى للقبلة فيما قبل ــ ونبهنا على ذلك في آية (105) و (106) وغير ذلك بما ذكرناه ــ إلى أن أتم التمهيد بقصة إبراهيم عليه السلام.
وقوله في الآية: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ظاهر في أنَّ الكعبة هي القبلة الأصلية.
وسيأتي في هذه السورة، وفي هذا السياق، عدة أحكام مما بدله أهل الكتاب، أو اختلفوا فيه، أو كان مشدَّدًا عليهم وخُفِّف عن هذه الأمة، أو نحو ذلك
(1)
.
وربما يذكر مع بعضها ما يناسبه مما بدَّله المشركون من شريعة إبراهيم عليه السلام
(2)
.
وذكر في أوائل هذا الباب هذه الجملة: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [142]، وفي آخره:{فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [213]. وهذا كالتفصيل لقوله أول السورة: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [2].
وبهذا علم ارتباط الفاتحة بسورة البقرة، وعلم صحة تفسير المغضوب
(1)
انظر تحت الآيات (178، 183، 189).
(2)
انظر تحت الآيات (189 - 203).
عليهم والضالين باليهود والنصارى. والله أعلم.
(143)
أولها بيان لاستحقاق هذه الأمة الهداية إلى الصراط المستقيم، وآخرها بيان لحكمة أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولًا باستقبال بيت المقدس، مع أن الكعبة هي القبلة الأصلية.
وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي: ومنه صلاتكم إلى بيت المقدس.
(144)
الحكم باستقبال الكعبة، وفضيحة أهل الكتاب [9/أ] بأنهم يعلمون أنه الحق.
(145)
الارتباط ظاهرٌ.
(146)
إيضاح لمعرفة أهل الكتاب بأن استقبال الكعبة هو الحق.
(147)
ظاهرٌ.
(148)
يريد ــ والله أعلم ــ: {وَلِكُلٍّ} من المسلمين {وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} في استقبال المسجد الحرام، فالشرقيُّ وجهته الغرب، والغربيُّ وجهته الشرق، وهكذا، فأنتم سواء في استقبال المسجد الحرام، وتختلفون بالأعمال، {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} .
فتضمن هذا أمرين:
الأول: تفرقهم في البلاد.
الثاني: اجتماعهم في استقبال موضعٍ واحد.
فقال تعالى: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} أي ــ والله أعلم ــ:
أنكم متفرقون في البلاد، وقد جمعكم بتوجهكم إلى المسجد الحرام، وسيجمعكم بذواتكم يوم القيامة {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
وذكر الجمع الأخروي ههنا لمناسبة التفرق والجمع الحكمي وللحض على استباق الخيرات، فظهر الارتباط في الآية.
(149)
و (150) الارتباط ظاهرٌ.
[9/ب](151) أي ــ والله أعلم ــ جعلنا لكم قبلة في بلادكم {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا} بلسانكم.
(152)
{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} أي: فإن النعم المتقدمة تستدعي منكم ذكري وشكري، على أن ذكركم وشكركم لا أخليه عن ثوابٍ جديد، ولا أكتفي بكونه لي في مقابل تلك النعم.
بيَّن هذا بقوله: {أَذْكُرْكُمْ} ، واستغنى به وبآيات آخر عن أن يقول:"واشكروني أزدكم".
(153)
يريد ــ والله أعلم ــ: استعينوا على الذكر والشكر المأمور بهما في الآية السابقة. وفي الحديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لمعاذ: "إني أحب لك ما أحب لنفسي، فلا تترك أن تقول عند كل صلاة: اللهم أعِنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"
(1)
أو كما قال.
(1)
أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في الاستغفار (1522)، والنسائي في كتاب السهو، باب نوع آخر من الدعاء (1303)، وأحمد (36/ 430، 443) برقم (22119، 22125)، والحاكم (1010) وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
ومناسبته للآية ظاهر
(1)
.
فأما الاستعانة بالصبر فظاهر، وأما الاستعانة بالصلاة فلأن من شرائطها وأركانها ما يساعد على ذلك. وأيضًا، فقد أخبر الله تعالى أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر.
ولما أمرهم في هذه الآية بالصبر، وأخبر أنه مع الصابرين، ضرب لهم مثلًا لتلك المعية، وجعل المثل في أشرف مواطن الصبر وأشرف المعيَّات، وهو آية (154)، فالربط ظاهر.
(155)
فصل فيها مواطن الصبر، وبيَّن فيها وفي آية (156) صفة الصبر الظاهرة، وهي الاسترجاع [10/أ] عند المصيبة.
وليس المراد ــ والله أعلم ــ قول هذه الكلمة مجرَّدًا، بل قولها مع استحضار معناها ورسوخه في القلب، وأن لا يعمل ما يخالفه، إلا ما أذن فيه الشرع مما يغلب الإنسان من البكاء بغير نَوح ولا صوت ولا شكوى.
(157)
ذكر فيها أجر الصابرين.
(158)
قد مضى ذكر استقبال البيت الحرام، وآخر آية فيها ذكره (150). ثم فرع عن ذلك الامتنان بهذه النعمة، وذكر نعمٍ أخرى تشابهها وتتصل بها. ثم نبههم على شكر ذلك، وبيَّن لهم طريق الشكر، على حسب ما قدمنا. وفي هذه الآية (158) رجع إلى ما يناسب استقبال البيت ويتصل
(1)
كذا في الأصل.
به ويشبهه في كتمان بني إسرائيل إياه، وتبديلهم له، وهدى الله سبحانه المسلمين إلى صراط
مستقيم. راجع الكلام على آية (242). وهذا الأمر هو شأن الصفا والمروة. وقد حقق هذا البحث المعلِّم عبد الحميد الفراهي في كتاب "الرأي الصحيح"، فانظره
(1)
.
وقد مر قبل آيات ذكر إبراهيم عليه السلام، وفيها ذكر المناسك.
(159)
ذكر فيها إثم الذين يكتمون ما أنزل من البينات والهدى. وعلاقتها بما قبلها ما قدمنا أن أمر الصفا والمروة مما كتموه.
[10/ب](160) تتمة ما قبلها.
(161)
هي في معنى التعليل للآيتين قبلها؛ فإن في اللتين قبلها لعن الكاتمين لما أنزل إلا من تاب، وفي هذه أن من كفر ولم يتب بأن مات كافرًا استحق اللعن والخلود في العذاب.
فكأنه قال: إن الكتمان المذكور كفرٌ، والإصرار عليه إلى الموت موت على الكفر، ومن كفر ومات على الكفر فهذا جزاؤه.
(162)
تتمة لما قبلها.
(163)
علاقتها بما قبلها أن الشر كفرٌ، وقد مضى فيما قبلها ذكر الكفر وجزائه، وأبطل في هذه بعض أنواع الكفر، وهو الشرك.
ولها علاقة أمتن من هذه، وهو الإشارة إلى بني إسرائيل بأنهم لم يكتفوا من الكفر بكتمان ما أنزل الله، بل كفروا أيضًا بالشرك.
(1)
انظر: "الرأي الصحيح في من هو الذبيح"(ص 54، 97).
وقد بين تعالى هذا المعنى في آية (165) أي: عقب هذه الآية وتتمتها.
(164)
تتمة للتي قبلها.
(165)
بيان لنوع من الشرك، وهو شرك بني إسرائيل، كما صرح به تعالى في قوله:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]. [11/أ] وقال تعالى لرسوله أن يقول لهم: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64].
وفسَّر الصحابة وغيرهم هذه الآية ــ أعني (165) من البقرة ــ بمثل تفسير الآيتين المذكورتين: أن المراد بالأنداد المتبوعون من البشر، المطاعون في شرع الدين، ولا ينبغي أن يطاع فيه إلا الله تعالى
(1)
. وجاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تفسير اتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابًا بنحو ذلك
(2)
.
ويدل عليه آية (166) فإنها مبينة أن الأنداد هم المتبوعون.
وكذا آية (167)؛ فإنها تتمة للتي قبلها.
(168)
قد تبين أنّ في الآيات التي قبلها بيان أن طاعة غير الله تعالى في شرع الدين شرك. وفي هذه الآية النهي عن نوع من ذلك وقع فيه العرب وغيرهم وبدَّلوا شرع إبراهيم، كما بدل أهل الكتاب ما في الكتاب؛ وهو: تحريم ما أحل الله تعالى بغير سلطانٍ منه؛ وبيان أن ذلك من اتباع خطوات
(1)
انظر: "تفسير الطبري"(شاكر 3/ 280).
(2)
انظر: "تفسير الطبري"(شاكر 14/ 209 - 211).
الشيطان أي: واتباعه في ذلك عبادة له، كما كان اتباع بني إسرائيل لأحبارهم
ورهبانهم في نحو ذلك عبادة لهم. راجع الكلام على آية (142).
(169)
تتمة للتي قبلها.
(170)
بيان لتمام مشابهة المشركين لليهود، فإن المشركين يعرضون عما أنزل الله اتباعًا لآبائهم، كما أن اليهود [11/ب] يعرضون عما أنزل الله اتباعًا لآبائهم وأحبارهم.
(171)
بيانٌ لجهل المشركين في ذلك الفعل، وهو الإعراض عما أنزل الله تعالى مع دعاء الرسول إليه اتباعًا لآبائهم.
(172)
تحذير للمؤمنين أن يصنعوا كما صنع الكفار من تحريم ما أحل الله تعالى، وبيان أن ذلك شرك.
(173)
تفصيل لما حرمه الله؛ ليقف المؤمنون عنده فلا يحرموا غيره بغير سلطان من الله تعالى.
(174)
وعيدٌ للذين يكتمون ما أنزل الله تعالى في الكتاب من الحلال والحرام وغيره، وهو شاملٌ لأهل الكتاب وغيرهم. وكأن أهل الكتاب ــ والله أعلم ــ كانوا يعلمون من الكتاب بطلان تحريم ما حرمه المشركون ويكتمونه.
وثَمَّ ارتباط أقوى من هذا، وهو أنه عدَّ في الآية السابقة في المحرمات لحم الخنزير، والنصارى يستحلونه، مع أنه حرامٌ في التوراة والإنجيل، وكأنهم كانوا يكتمون ذلك.
(175)
تتمة التي قبلها.
(176)
تعليل لما تقدم بأن الله نزل الكتاب بالحق، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا
الضَّلَالُ} [يونس: 32]
(1)
، وبيان ضلال أهل الكتاب الذين اختلفوا فيه.
ومما اختلفوا فيه: الحلال والحرام، كلحم الخنزير ــ الماضي قريبًا ــ فهدى الله الذين آمنوا إلى صراط مستقيم. وفي ذلك تحذير للمسلمين من مثل فعلهم.
(177)
ارتباط الآية بالتي قبلها أن مسألة القبلة مما اختلف فيه أهل الكتاب، فهدى الله الذين آمنوا إلى صراط مستقيم.
وهي مع ذلك منبهة للمسلمين أن لا يغتروا بكون الله تعالى هداهم للقبلة الحق، فيقصروا في البر وعمل الخير.
[12/أ](178) فيها حكم القصاص. وارتباطها بما قبلها: أن حكم القصاص كان مشددًا على بني إسرائيل، والآيات السابقة متعلقة بهم كما علمت.
وقد نبه الله تعالى على ذلك بقوله: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} أي ــ والله أعلم ــ تخفيفًا
(2)
بالنسبة إلى ما كان عليه الحكم في بني إسرائيل، من تعيُّن القَوَد. صح هذا عن ابن عباس وغيره
(3)
. انظر الكلام على آية (142).
(179)
تتمة للتي قبلها.
(180)
…
(4)
.
(1)
في الأصل بين القوسين: " وماذا
…
"، وهو سهو.
(2)
كذا في الأصل.
(3)
انظر: "تفسير الطبري"(شاكر 3/ 373).
(4)
بياض في الأصل بقدر ثمانية أسطر.
[12/ب](183) إلى (187) حكم الصيام مما كان ثابتًا على بني إسرائيل، وقد نصَّ الله تعالى على ذلك بقوله: {
…
كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}. وهو مما اختلفوا فيه، فهدى الله الذين آمنوا إلى صراط مستقيم. راجع الكلام على آية (142).
(188)
علاقة الآية بآيات الصيام أن الصيام منعٌ موقَّت عن أكل الطعام مطلقًا، وهذا منعٌ مؤبد عن أكل الأموال بالباطل.
وهذا يشبه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "المسلم من سَلِم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمِنَه الناس على دمائهم وأموالهم، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه"
(1)
. وأمثلة ذلك في الحديث كثيرة. فكأنه قيل هنا: الصائم من صام عن أموال الناس بالباطل.
وعلاقتها ببني إسرائيل أن الرشوة كانت فاشيةً فيهم.
(189)
أحكام الأهلَّة مما بدله بنو إسرائيل. وفي "الزبور" الذي بأيدي اليهود والنصارى الآن، مزمور (81) فقرة 3 - 4: "انفخوا في رأس الشهر بالبُوق عند الهلال لِيوم عِيدِنا؛ لأن هذا فريضة لإسرائيل [حكمٌ لإله
(1)
قوله: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" أخرجه البخاري في كتاب الإيمان من حديث عبد الله بن عمرو (10)، واقتصر مسلم على الجزء الأول منه (42).
وقوله: "المسلم
…
وأموالهم" أخرجه أحمد (14/ 499) والترمذي في أبواب الإيمان، (2762) انظر: "تحفة الأحوذي" (7/ 317)، والنسائي في كتاب الإيمان باب صفة المسلم من حديث أبي هريرة. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
يعقوب]
(1)
، جعله شهادةً في يوسف عند خروجه على أرض مصر".
ومن مزمور (104) فقرة 19: "صَنَع [الربُّ]
(2)
القمرَ للمواقيت".
وهذان النصان ظاهران في أن حكم شريعتهم اعتبار الشهور بالهلال نفسه، كما هو عند المسلمين، ولكنهم بدلوا ذلك وتأولوا.
ومما بدَّله المشركون
(3)
من شريعة إبراهيم عليه السلام، والتبديل أخو التبديل، فهدى الله الذين آمنوا إلى صراط مستقيم. انظر الكلام على آية (142).
وقوله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ
…
} إلخ: الصحيح أنه في شأن الحج، كان الأنصار إذا
(4)
.
[13/أ](190) الآية في القتال في الأشهر الحرم.
(191)
إلى (194): كما منع عن الاعتداء في الأشهر الحرم، فكذلك نهى عنه في المسجد الحرام.
(195)
مر في الآيات السابقة الأمر بالقتال في الجملة، فنبه على أمرٍ لا بد منه فيه.
(1)
زيادة منّي من المزمور المذكور، للإيضاح.
(2)
زيادة من المؤلف.
(3)
سياق الكلام: أحكام الأهلة مما بدّله بنو إسرائيل
…
ومما بدّله المشركون.
(4)
كتب بعدها: "أحرم أحدهم"، ثم ضرب عليه ولم يكمل. ولعله أراد أن ينقل ما أخرجه البخاري (1803) عن البراء يقول: "
…
كانت الأنصار إذا حجُّوا فجاؤوا لم يدخلوا من قبل أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها. فجاء رجل من الأنصار، فدخل من قبل بابه، فكأنه عُيِّر بذلك، فنزلت:{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} . وانظر الحديث برقم (4512) أيضًا.
(196)
إلى (203): قد بيَّن في آية (189) أن الأهلة مواقيت للناس في الحج، فبيَّن في الآيات السابقة من أحكامها ما بدله المشركون في شأن الأشهر الحرم. وبيَّن في هذه الآيات أحكام الحج؛ لأنه مما بدله أهل الكتاب، وبدل المشركون بعض أحكامه.
(204)
إلى (207): هذه الآيات كالتكملة للتقسيم المذكور في آية (200)؛ فإنه أمر فيها بذكر الله تعالى عند قضاء المناسك، ثم قال:{فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا} [البقرة: 200 - 202].
[13/ب] والأول حال المشركين الذين لا يرجون الآخرة، فكانوا إذا دعوا الله تعالى دعوه لدنياهم، والثاني شأن المؤمنين.
وهو تقسيم تامٌّ بالنسبة للدعاء.
ولكن التقسيم بحسب الدعاء يتحول إلى التقسيم المطلق، والتقسيم المطلق أن يقال مثلًا: منهم كافر صريح، ومنهم منافق، ومنهم مؤمن يحب الدنيا، ومنهم مؤمن لا يبالي بها.
فالمنافق لم يدخل في آية (200) أصلًا؛ لأنها مبنيَّة على دعاء المرء بينه وبين ربه، والنفاق عن هذا بمعزل.
وأما المؤمن الذي لا يبالي بالدنيا، فإنه وإن دخل فيها لأنه أيضًا يقول:{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} ، إلا أنه كالخارج عنها؛ لما يوهمه ظاهرها من استواء الدنيا والآخرة عند الداعي.
فبدأ الله عز وجل بما يتعلق بالسياق من أحكام الحج، [14/أ] لأنه الأولى، ولأن الكلام على شأن المنافق يستدعي إطالة.
والكلام على المؤمن الذي لا يبالي بالدنيا، الأنسب أن يكون بعد حال المنافق؛ ليتبين فضله، كما يقال: ما يعرف قدر النعمة إلا من قاسى الشدائد قبلها.
ثم بين سبحانه وتعالى شأن المنافق في آية (204) إلى (206)، وبيَّن حال المؤمن الذي لا يبالي بالدنيا في آية (207).
(208)
: (السَّلْم)
(1)
: الإسلام، و (كافة) حال منه. أي: ادخلوا في جميع شرائعه.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباسٍ قال في الآية: "يعني مؤمني أهل الكتاب؛ فإنهم كانوا مع الإيمان بالله مستمسكين ببعض أمر التوراة والشرائع التي أنزلت فيها. يقول: ادخلوا في شرائع دين محمد، ولا تدعوا منها شيئًا
…
"
(2)
.
وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال: "نزلت في ثعلبة وعبدالله بن سلام و
…
، وكلهم من يهود، قالوا: يا رسول الله! يوم السبت كنا نعظمه، فدعنا
فَلْنُسْبِتْ فيه، وإن التوراة كتاب الله، فدعنا فلنقم بها بالليل. فنزلت"
(3)
. انظر
(1)
كذا ضبط المؤلف (السَّلْم) بفتح السين، وهي قراءة نافع وابن كثير والكسائي من السبعة. وقرأ الباقون بكسرها. انظر:"الإقناع في القراءات السبع" لابن الباذش (608).
(2)
"تفسير ابن أبي حاتم"(1981، 1982).
(3)
"تفسير الطبري"(شاكر 4/ 256).
الكلام على آية (213).
ذكرهما في "الدر المنثور"
(1)
، وذكر آثارًا أخرى توافق ذلك وتوضحه، منها
…
(2)
.
قد يقال: لا مانع من بقاء الآية على عمومها، ويكون الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم[14/ب] من أهل الكتاب داخلين فيها دخولًا أوّليًّا بمعونة السياق؛ فإن الأحكام السابقة كلها لها علاقة بأهل الكتاب، كما قدمناه، وسيأتي ذكرهم قريبًا وبيان أنهم بدَّلوا نعمة الله كفرًا.
وبهذا ظهر الارتباط.
(209)
و (210) تتمة لما قبلهما.
(211)
قد تقدم ذكر بني إسرائيل، ولم يزل الكلام متصلًا بهم إلى هنا، كما قدمنا.
والمراد بالآيات ما يعمُّ ما تقدَّم تفصيله، فكأنه قال: هذه الآيات التي تقدمت من جملة الآيات التي آتيناهم إياها، وأنعم الله عليهم بها، فبدَّلوا نعمة الله كفرًا.
(212)
هي بيانٌ لسبب ما تقدم في الآية قبلها، من تبديل بني إسرائيل نعمة الله كفرًا.
(213)
هذا الكلام جامعٌ لما تقدم تفصيله وغيره مما كان من جنسه، فقد تقدم أن بعض الأشياء بدلت من شريعة إبراهيم عليه السلام فمن بعده
(1)
(1/ 579).
(2)
ترك المؤلف هنا بياضًا.
من الأنبياء عليهم السلام.
والمراد بقوله في هذه الآية: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} آدم عليه السلام وذريته؛ فإنهم كانوا كل الناس، وكانوا أمة واحدة مؤمنة، إلى مدة من الزمان، الله أعلم بها.
وقوله: {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ
…
} يريد ــ والله أعلم ــ: فاختلفوا، فبعث الله
…
كما يدل عليه تعليله [15/أ] بقوله: {لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} وقوله: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} أي في الكتاب، كما هو ظاهر. كأنه قال ــ والله أعلم ــ: فاختلفوا في الكتاب، {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ} وهم بنو إسرائيل، {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} محمدًا وأمته {لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} أي: بنو إسرائيل {مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . انظر ما تقدم من الكلام على آية (142).
وقد تقدم في الكلام على آية (208) أن الذين أسلموا من اليهود استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يسبتوا، فنهاهم الله عز وجل.
وفي "الدر المنثور"
(1)
: "وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي هريرة في قوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ
مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: نحن الأولون والآخرون. الأولون يوم القيامة، وأول الناس دخولًا الجنة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم؛ فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق. وهذا يومهم الذي اختلفوا
(1)
(1/ 583).
فيه، فهدانا الله؛ فالناس [15/ب] لنا فيه تبع، فغدًا لليهود وبعد غدٍ للنصارى".
والحديث في "الصحيح"
(1)
من طريق عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن همام بن منبه، أخي وهب بن منبه، قال: هذا ما حدثنا [به] أبو هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة" فذكره بمعناه.
وهو ثابت في "الصحيح"
(2)
أيضًا من طرق أخرى عن أبي هريرة. وثبت في "الصحيح"
(3)
أيضًا عن حذيفة.
[16/أ] وفي التوراة التي بأيدي أهل الكتاب الآن ما يشهد لمعناه، وإن كان غنيًّا عن الشهادة. وهكذا في الأناجيل التي بأيدي النصارى الآن بشارة بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته وأنهم الآخرون الأولون.
وهذا مبسوط في موضع آخر مع بسط معنى الحديث، والمقصود هنا بيان الارتباط.
(214)
تعلقها بما قبلها ظاهر، ولها نظر إلى الآيات التي ذكر فيها القتال
(190 - 195). بيَّن الله عز وجل بالآيات المتقدمة هدايته هذه الأمة إلى ما اختلف فيه من قبلهم، ثم أعقبه بأن هذه الهداية إنما ثمرتها دخول الجنة، ولكن دخول الجنة لابد له من سعي، وكان مقتضى ذلك أن يكون السعي أعظم من سعي الذين قبلنا؛ لأن الهداية التي منحت لنا أعظم من الهداية التي
(1)
البخاري: كتاب الأيمان والنذور، باب قول الله تعالى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (6624).
(2)
البخاري: كتاب الوضوء، باب البول في الماء الدائم (238)، ومواضع أخرى.
(3)
مسلم: كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة (856).
كانت لهم، ولكن الله عز وجل خفف عن هذه الأمة فلم يبتلهم بأعظم مما كان على من قبلها، بل جعله مثله.
(215)
ذكر الله عز وجل في الآية السابقة الابتلاء بالبأساء والضراء وزلزال الخوف، [16/ب] ثم عقبه في هذه بنوعٍ من الابتلاء بالبأساء والضراء وهو إنفاق المال.
ولذلك ــ والله أعلم ــ أعرض عن إجابتهم ببيان المقدار الذي ينفقونه، وبين لهم المصرف، فكأنه أحال التقدير إلى اختيارهم؛ لأن ذلك أظهر في الابتلاء. ألا ترى أن الابتلاء بعمل معين، إذا عمله العبد، لا يظهر به إلا امتثاله.
فأما محبته لسيده وتفانيه في رضاه، فإنه لا يظهر إلا بأن يرغبه في عملٍ ويدع له فيه طرقًا للاعتذار إن لم يوفه. فإنه إن لم يكن صادق المحبة لسيده، والتفاني في رضاه، لم يبالغ في الشق على نفسه، بل يتكل على أن له معاذير. وإن وفى ذلك العمل، وبالغ فيه جهده، ولم يجنح إلى ما يلوح له من الرخصة، فهو الغاية.
وأنت إذا تأملت وجدت هذا الابتلاء بهذه الصفة من أشد الابتلاء.
فإن قلت: فماذا صنع الصحابة؟
قلت: [17/أ] في "الدر المنثور"
(1)
: "أخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس: أنَّ نفرًا من الصحابة حين أمروا بالنفقة في سبيل الله أتوا النبي
(1)
(1/ 607).
- صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا، فما ننفق منها؟ فأنزل الله:{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219]، وكان قبل ذلك ينفق ماله حتى ما يجد ما يتصدق به ومالا يأكل
(1)
، حتى يتصدق عليه".
وفيه
(2)
: "وأخرج عبد بن حميد عن الحسن في قوله: {قُلِ الْعَفْوَ} ، قال: ذلك أن لا تجد (كذا)
(3)
مالك، ثم تقعد تسأل الناس".
وأخرج الشيخان
(4)
وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول".
وفي رواية لمسلم
(5)
وغيره: "أفضل الصدقة ما ترك غنًى، واليد العليا
خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول" تقول المرأة: إما أن تطعمني وإما أن تطلقني، ويقول العبد: أطعمني واستعملني، ويقول الابن: أطعمني، إلى من تدعني؟
(1)
كذا في الأصل وفي "الدر المنثور"، وصوابه:"ولا ما يأكل" كما في "تفسير ابن أبي حاتم"(2048).
(2)
"الدر المنثور"(1/ 607).
(3)
صوابه: "أن لا تجهد"، كما في "تفسير ابن كثير"(1/ 243) عن عبد بن حميد.
(4)
البخاري: كتاب الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى (1426). ولم يخرجه مسلم عن أبي هريرة وإنما أخرجه عن حكيم بن حزام في كتاب الزكاة، باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى (1034).
(5)
بل في رواية البخاري: كتاب النفقات، باب وجوب النفقة على الأهل والعيال (5355). وقوله: "تقول المرأة
…
إلى من تدعني" ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم بل هو من كلام أبي هريرة رضي الله عنه.
[17/ب] وهذه الآية، أعني:{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} تأتي بعد ثلاث آيات؛ فعلم بذلك أن الصحابة رضي الله عنهم بعد نزول آية (215) بذلوا أقصى مجهودهم، حتى كان أحدهم ينفق جميع ماله ولا يدع لنفسه وأهله شيئًا. وبذلك ظهر حبهم لله عز وجل، وتفانيهم في رضاه، وتمَّ لهم النجاح في ذلك الابتلاء، ولذلك ردهم الله عز وجل إلى الاعتدال ثانية، والله أعلم.
(216)
ذكر في هذه الآية ما يتعلق بالابتلاء بزلزال الخوف، وهو وجوب القتال المارُّ في آية (214).
(217)
هي كالتتمة للتي قبلها، مع إيضاح الابتلاء، ولكن أن يكون بيان حكم القتال في الشهر الحرام على هذا الأسلوب فيه ابتلاءٌ أيضًا؛ فإنه قال:{قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} أي: مفسدة كبيرة، {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} يريد ــ والله أعلم ــ أن هاتين المفسدتين متعارضتان، وهما: ابتداء المسلمين القتال في الشهر الحرام، واستمرار المشركين على الصد عن سبيل الله وما معه. ففي هذا التنبيهُ على حلِّ القتال في الشهر الحرام؛ لأنه وإن كان معه مفسدة ففي تركه مفسدة أكبر.
ولكن بقي مجالٌ للتكاسل عن القتال فيه، بأن يقال: قد أخبر الله تعالى أنه كبير. وأما مفسدة استمرار المشركين على ما هم عليه، فإنها وإن كانت أكبر إلا أنه بعد انقضاء الشهر الحرام يكون السعي في دفعها.
(218)
هي تتمة للتي قبلها. وفيها تعرض لبيان ثواب الثابتين، وفي التي قبلها جزاء المرتدين.
[18/أ](219) أولها في شأن الخمر والميسر، قال تعالى:{قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} . وهذا ابتلاء أيضًا، وحاله كحال القتال في الشهر الحرام، فقد بيَّن هناك أن في القتال فيه مفسدة، وفي عدم القتال مفسدة أكبر، وترك هناك طريقًا للعذر.
وكذا هنا، بيَّن أن في الخمر والميسر منافع للناس، وفيهما إثم كبير. وكان محتملًا أن المراد بالإثم فيهما الإثم في مجرد تعاطيهما، أو المتوقع مما يؤديان إليه من العداوة والبغضاء والصد عن الصلاة وغير ذلك. ويمكن الترخُّص بأن يقول قائل: سأتعاطاهما مع الاحتراز عما ينشأ عنهما مما فيه إثم.
وبذلك اتضح لك ما قدَّمناه من الابتلاء في شأنهم، وأنه كالابتلاء بالقتال في الشهر الحرام.
وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} هذا متعلق بالابتلاء في النفقة المتقدمة، [18/ب] وقد مرَّ البيان في الكلام على آية (215).
وأخره إلى هنا إشارة إلى تأخر نزوله مدة؛ ليظهر أن الابتلاء استمر مدة غير قصيرة، وأنهم تماروا فيه. ولذلك لما لم يطل الابتلاء بتقديم الصدقة بين يدي النجوى عقب الأمر بها بنسخه. وليكون فيه تنبيه على ما ينبغي للمؤمنين
من الثبات عند الابتلاء، كأن قال: إني ابتليتكم في النفقة فوفيتم وأبلغتم، فلما تحملتم ذلك فرَّجتُ عنكم وخفَّفتُ، فكذلك ينبغي أن تعملوا في الابتلاءات الأخرى، فلا تجنحوا إلى جانب الرخصة، فإنكم إن لم تجنحوا أمكن أن يخفف الله عنكم شيئًا ما، كما خفف عنكم في النفقة.
ولهذا عقب هذا بقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} .
ويمكن أن يكون في جعلها ــ أعني قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} في هذا الموضع ابتلاء آخر؛ فإن المائل إلى الرخصة قد يتشبث بها قائلًا: إن الله تعالى يريد منا اليسر، ولهذا لما شددنا على أنفسنا في النفقة لم يرض لنا ذلك، بل ردَّنا إلى الاعتدال، فكذلك ينبغي أن لا نشدد في القتال في الشهر الحرام، وفي الخمر والميسر.
فإن قلت: فهل نجحوا في الابتلاء في القتال في الشهر الحرام، وفي الخمر والميسر، كما نجحوا في الابتلاء بالإنفاق؟
[19/أ] قلت: الذي يظهر لي أنهم نجحوا في شأن القتال، ونجح غالبهم في شأن الخمر والميسر.
فإن قلت: فهل خفَّف الله عنهم، كما وعدهم بوضعه آية العفو عقب الابتلاء؟
قلت: أما في شأن القتال في الشهر الحرام فنعم، فقد جاء في الروايات أنهم قاتلوا فيه، ثم نزلت بعد ذلك آيات النهي عن القتال في الشهر الحرام، بعضها في سورة التوبة، وبعضها في سورة المائدة، وكان نزولها بعد هذا.
وأما في الخمر والميسر فلم يخفف. والسبب في ذلك ــ والله أعلم ــ أولًا:
أن بعضهم ترخَّص في الخمر بعد ذلك، ولعل بعضهم ترخَّص في الميسر أيضًا.
وثانيًا: أن الذين لم يترخصوا تبيَّن لهم عظمُ المفسدة في الخمر والميسر، فحرصوا بأنفسهم على أن يحرِّمهما الله عز وجل البتة، كما ثبت
ذلك عن عمر وغيره
(1)
، والله أعلم.
وليس فيما قدمنا ما ينافي الحكمة المشهورة في تحريم الخمر؛ فإن الله تعالى حرمه تدريجًا، فأنزل أولًا الآية المذكورة، ولم يصرح فيها بالتحريم، إلى آخر ما تبين به هذه الحكمة، وعدم المنافاة ظاهرٌ بأدنى تأمل، والله أعلم.
(220)
أولها متعلق بالتي قبلها، وقوله:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} الآية رخصة أخرى تشبه التي قبلها.
أخرج أبو داود
(2)
والنسائي
(3)
[19/ب] وابن جرير
(4)
وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما أنزل الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] و {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى} الآية [النساء: 10] انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له، حتى يأكله أو يفسد، فيرمى به. فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنزلت".
(221)
هي متعلقة بآية (217) أعني قوله: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} ؛ لأن مناكحة المشركين مما يدعو إلى الردة، وقد علل تعالى النهي عن المناكحة بذلك، إذ قال:{أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} .
(1)
انظر: "إرشاد الساري"(7/ 301).
(2)
في كتاب الوصايا، باب مخالطة اليتيم في الطعام (2871).
(3)
في كتاب الوصايا، باب ما للوصي من مال اليتيم إذا قام عليه (3671).
(4)
نشرة شاكر (4/ 350).
أما علاقتها بالتي قبلها ــ أعني (220) ــ فهي والله الأعلم ــ أن في آية (220) الإذن بمخالطة اليتامى، وتعليلها بقوله:{فَإِخْوَانُكُمْ} أي: في الدين. وفي هذه ــ أعني آية (221) ــ النهي عن مناكحة المشركين، والمناكحة تقتضي المخالطة، وعللها بكونهم يدعون إلى النار؛ فالعلاقة كعلاقة أحد الضدين بالآخر، [20/أ] كما في السماء والأرض، والأبيض والأسود، ونحو ذلك.
(222)
علاقتها بالتي قبلها ظاهرة، ولها نظر إلى الأمور التي اختلف فيها أهل الكتاب، كما تقدم الكلام عليه؛ فإن مخالطة الحائض مما اختلفوا فيه، وشَدَّد فيه اليهود أو شُدِّد عليهم.
(223)
علاقتها بالتي قبلها ظاهرةٌ، من حيث خصوص قربان النساء، ومن حيث الهداية لما اختلف فيه أهل الكتاب، كما يعلم من سبب النزول.
(224)
علاقتها بالتي قبلها ظاهرة. فهذه ــ أعني آية (224) ــ كالمقدمة للتي بعدها، أي آية (225)، وعلاقة هذه بآية (223) واضحة.
(225 - 237) ارتباط الآيات بما قبلها، والارتباط بينها واضح. ولآيات الطلاق نظرٌ إلى ما تقدم من الأحكام التي اختلف فيها أهل الكتاب، فهدى الله الذين آمنوا الصراط المستقيم فيها؛ فإن الطلاق مما اختلفوا فيه.
[20/ب](238 - 239) في الآية الثانية صلاة الخوف، وإنما يكون ذلك في الجهاد؛ فلها نظرٌ إلى آية (218) وما قبلها التي في شأن الجهاد، والأولى كالمقدمة لها.
ثم علاقة الأمر بالصلاة بأحكام النكاح: أولًا: ما يظهر من آخر الآية الثانية: {كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} ، كأنه قال: فكما علمكم الله تعالى من
أحكام النكاح ما فيه صلاحكم، ولم تكونوا تعلمون ذلك، وهداكم لما اختلف فيه الذين من قبلكم= فاشكروه، وأعظم الشكر المحافظة على الصلاة.
وفي "الصحيح"
(1)
: "ما تقرَّب إليَّ عبدي بأفضل من أداء ما افترضته عليه".
وفيه
(2)
: "خير أعمالكم الصلاة".
وثانيًا: أن في آيات الطلاق والنكاح بيان العدل في معاملة النساء، وفي بعضها التخفيف عنهن، وفي بعضها تشديد ما، ولكن الباري عز وجل يرشدنا إلى العفو.
ثم في آية (237): {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ، وفي (239) بيان عفو الله عز وجل عنا بأن لم يكلِّفنا ما يشقُّ علينا من المحافظة على صفة الصلاة في حال الخوف. وأما آية (238) فهي كالمقدمة للتي بعدها، كما مر.
فكأنه تعالى يقول: كما عفوت عنكم فاعفوا أنتم أيضًا، وكما خففت عنكم فخففوا أنتم أيضًا. وبهذا عُلِمَ وجهٌ لتوسيط
(3)
هاتين الآيتين بين أحكام الطلاق وما معه ممَّا يتعلق بالأزواج.
[21/أ] وهاهنا نكتة لطيفة لتوسيط هاتين الآيتين، مع ما يظهر من بعد المناسبة. وهي الإشارة إلى عظم شأن الصلاة، لأن عادة الناس أن المتكلم
(1)
صحيح البخاري: كتاب الرقاق، باب التواضع (6502) من حديث أبي هريرة.
(2)
أخرجه أحمد (22378) وابن ماجه (277) وابن حبان (1037) وغيره من حديث ثوبان رضي الله عنه، ولم أجده في "الصحيح".
(3)
كذا في الأصل.
إذا كان في أثناء كلامٍ مهمٍّ، أن يحرص على اتصاله، فلا يقطعه بكلام آخر، ثم يعود، إلا إذا كان ذلك الكلام الآخر أعظم أهمية.
(240 - 242) من تمام أحكام الأزواج، وقد تقدم وجه توسيط آيتي (238 - 239). ولهاتين ارتباط بهما أيضًا، من جهة أن في تينك إرشادًا إلى شكر تلك النعمة ــ كما مر ــ وفي هاتين نوع من الشكر، وهو الوصية للأزواج، وتمتيع من طلق منهن. وفي تينك ذكر القتال عند الخوف، وفي هاتين ذكر الوفاة
(1)
.
(243 - 252) هذه الآيات مرتبطة بآية (239)، ثم بالآيات المتقدمة في شأن الجهاد. ولها نظرٌ إلى شأن بني إسرائيل، كما لا يخفى.
وقوله تعالى (251): {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} تنبيه على حكمة الجهاد. قد علم الله عز وجل ما سيحدث من طعن بعض الملحدين في الجهاد، وعلم أن منهم [21/ب] من لا يؤمن بالأنبياء، فأجابه بما ذكر؛
وأن منهم من يدعي الإيمان بالأنبياء، ويطعن على المسلمين في الأمر بالجهاد، فأجابه سبحانه وتعالى بأن الأنبياء الذين يدعي الإيمان بهم كانوا يجاهدون أيضًا.
وأوضح هذا بقوله في آخر آية (252): {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} أي: فلا بدع أن تؤمر بمثل ما أُمِروا به.
وكما أن في هذا ردًّا على الطاعنين، ففيه تحريض للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمته على الجهاد، كما لا يخفى.
(1)
وانظر الرسالة الآتية في ارتباط الآيتين (238 - 239).
وعلم سبحانه وتعالى أن الطاعنين ربما يقولون: إن الجهاد في شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أوسع مما كان أمر به الأنبياء الأولون عليهم السلام، فأجابهم تعالى بقوله:
(253)
: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ .. } كأنه تعالى يقول: فإن فضلك الله تعالى بشيء، كالرسالة إلى الخلق كافة، والأمر بجهاد جميع الأمم؛ فلا بدع في ذلك، فإنه تعالى كذلك فضَّل بين الأنبياء السابقين في الشرائع والأحكام والآيات.
[22/أ] وعلم عز وجل أن الطاعنين ربما يقولون: سلمنا ظهور الحكم في مشروعية جهاد الوثنيين، فأي حجة لمشروعية جهاد أتباع الأنبياء السابقين؟
فأجابهم تعالى بقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} ، فكأنه تعالى يقول: إن المنتسبين إلى الأنبياء، كاليهود والنصارى، قد قاتل بعضهم بعضًا، وحجتهم أن المؤمنين منهم قاتلوا الكافرين منهم أيضًا، فتبين بهذا اعتراف من
يدعي الإيمان منهم بوجوب قتال من كفر منهم. فثبت بذلك صحة قتال محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته لمن ثبت لديهم كفره من أهل الكتاب، وقد ثبت أن كل من لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم منهم فهو كافر.
وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} فيه رد على الطاعنين في الجهاد، مع اعترافهم بربوبية الله عز وجل؛ فإن اعترافهم بربوبيته تعالى يتضمن اعترافهم بأن اقتتال أهل الكتاب كان بقضائه وقدره، لحكمة يعلمها عز وجل. وإذا كان كذلك فاستبعادهم أن يأمر بالقتال مع
ظهور
…
(1)
، كيف وهو سبحانه عز وجل يفعل ما يريد؟
[22/ب](254) علاقتها بما قبلها ظاهرة؛ لأن ما قبلها في شأن الجهاد، وهي في الإنفاق في الجهاد وإن شملت الإنفاق في غيره.
ولها ارتباط بآخر الآية التي قبلها، أعني قوله:{وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} ؛ فإن هذا كالتمهيد لقوله في آية (254): {يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} .
والمراد ــ والله أعلم ــ خلة وشفاعة تخالف ما يريد الله تعالى. دل عليه السياق، وقوله في الآية التي بعدها:{إِلَّا بِإِذْنِهِ} ، وآيات أخرى.
ثم إنّ نفي الخلة والشفاعة (أي: بالقيد المذكور) عامٌّ في حقِّ المؤمنين وغيرهم. أما المؤمنون فالخطاب لهم، وأما غيرهم فنبه الله تعالى عليه بقوله:{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} .
وتضمنت هذه الجملة ردًّا على الطاعنين في الجهاد أيضًا، فإنهم يزعمون أنه ظلم، فبين تعالى أن الكافرين هم الظالمون بإلجائهم المسلمين إلى قتالهم.
وتضمنت أيضًا الحض على الإنفاق، وأن البخل بالمال عن سبيل الله هو من شأن الكافرين، فلا ينبغي للمؤمنين.
(255)
آية الكرسي علاقتها بما قبلها أن في تلك نفي الخلة والشفاعة
(1)
هنا كلمات لم تظهر في الأصل.
التي يرجوها المشركون، كما علمت؛ وفي هذه ــ آية الكرسي ــ البرهان على انقضائها.
[23/أ] وقوله في أولها: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} وإن كان المشركون لا يعترفون به، فإنه لم يلتفت إلى إنكارهم؛ لأنه عقبه بالبرهان على ذلك.
وقوله: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} الآية مما يعترف به المشركون، كما نص تعالى عليه في آيات أخرى، وبسطناه في موضعه.
وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} مما يعترف به المشركون، كما بينه تعالى بقوله:{قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 88 - 89].
ولهذا ــ والله أعلم ــ ذكره في آية الكرسي بالاستفهام.
ولعل في هذا إشارة إلى حقِّيِّة جهادهم؛ لأنه ظهر به أنه لا عذر لهم في البقاء على الشرك.
وهذا لا يشمل أهل الكتاب، ولكن قد بيَّن في آيات أخر ما يماثله في حق
أهل الكتاب، بل هو أقوى منه. وذلك قوله تعالى فيما تقدم من هذه السورة: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ
…
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ
…
} [البقرة: 144 - 146].
وقوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} الضمير للشفعاء المفهومين مما
سبق، وخصه ابن عباس ثم مقاتل بالملائكة
(1)
؛ لأمور:
الأول: أن المشركين إنما يرجون شفاعة الملائكة.
الثاني: أن نظائره في القرآن هي في شأن الملائكة؛ كقوله تعالى: [23/ب]{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 26 - 28].
الثالث: قوله تعالى: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} ، وهذا دفع لما يتوهم أنه محتاج إلى من يعينه على حفظهما، وإنما يتوهم احتياجه في حفظهما إلى الملائكة.
وقد يكون في قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} إشارة إلى معنى يدفع شبهات الطاعنين على الجهاد؛ لأن فيها بيان إحاطة علمه تعالى، وقصور علم ملائكته، فضلًا عن غيرهم.
فكأنه يقول: هَبُوا يا معشر الطاعنين أنكم لم تفهموا حكمة الجهاد وعدله، فذلك لا يدل على عدم الحكمة والعدل فيه؛ لأن علمكم قاصر، وعلم الله تعالى ــ وهو شارع الجهاد ــ محيط. فينبغي لكم أن تنظروا في الأدلة الأخرى القاضية بأن هذا الجهاد من أمر الله تعالى، وتقنعوا بذلك، وإن لم يظهر لكم حكمة الجهاد وعدله في نفسه.
(1)
انظر: "الدر المنثور"(2/ 10)، و"زاد المسير"(1/ 302).
(256)
{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ
…
} قد علمت مما تقدم في الكلام على الآيات المتقدمة، من آية (243) إلى هنا، أنها تدور على بيان حكمة الجهاد، ودفع المطاعن التي ربما تورد عليه.
وأيضًا، [24/أ] فهذه قرينة توجب حمل هذه الجملة {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} على ما لا ينافي الجهاد، ما دام يمكن حملها على ذلك، ولو بنوعٍ من التجوُّز. هذه هي القاعدة العقلية المطردة في فهم الكلام، ولا ينكرها أحد من العقلاء.
وأيضًا، الكلام بعد هذه الجملة كله مما يؤيد الأمر بالجهاد، كما يأتي إن شاء الله. وهاك تفصيل ذلك:
أولًا: حكمة الجهاد التي تقدمت في آية (215).
2 -
ما تقدم من كونه كان مشروعًا في الشرائع المتقدمة.
3 -
ما تقدمت الإشارة إليه في آية (254).
4، 5 - ما تقدمت إليه الإشارة في الكلام على آية الكرسي (255).
6 -
قوله تعالى عقب هذه الجملة: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
7 -
قوله تعالى عقب ذلك: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا}
(1)
على ما يأتي إيضاحه أيضًا إن شاء الله تعالى.
(1)
في الأصل: "
…
فقد هدي إلى صراط مستقيم"، وهو سهو.
8 -
قوله تعالى عقب ذلك: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257] على ما يأتي إيضاحه أيضًا إن شاء الله تعالى.
[24/ب] 9 - الآيات الآتية في الأمر بالإنفاق، وهي في هذا السياق، كما يأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى.
وختام العشرة: ختام هذه السورة: {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}
(1)
[البقرة: 286].
وهناك وجوه أخرى تدل على ما قدمناه، أو على تخصيص الجملة المذكورة، أو نسخها؛ فيترجح دلالتها على المعنى الأول لموافقته بقية الأدلة.
منها: أن نزول سورة البقرة كان عقب الهجرة، وقد نزل بعدها سور وآيات في الأمر بالجهاد، وجاهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه، واستمر حكم الجهاد إلى وفاته صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه عند وفاته كان قد جهز جيشًا مع أسامة بن زيد، ولم يزل يحض على تنفيذه إلى آخر رمق. دع جهاد الصحابة وإجماعهم ــ والأمة من بعدهم ــ على الجهاد.
إذا علمت ما تقدم
(2)
فاعلم أن المفسرين متفقون ــ فيما أعلم ــ على أن المعنى: لا إكراه على الدخول في الدين.
واختار الصاوي في "حواشيه على الجلالين" بأن
(3)
(في) بمعنى (على)،
(1)
في الأصل: "وانصرنا
…
"، وهو أيضًا سهو.
(2)
الكلام من "فاعلم" إلى "نتكلم على هذا المعنى" ألحقه المؤلف في أعلى الأوراق (24/ب- 32/أ).
(3)
كذا "بأن" في الأصل.
كما في قوله: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]
(1)
؛ فالمعنى: لا إكراه على الدين. ولكن من يقول بأن استعمال (في) موضع (على) لا يكون إلا لنكتة يطلب النكتة هنا، ولم أستحضر نكتة.
وعندي أن في الكلام تضمينًا، ضمن الإكراه معنى الإدخال لتؤدي الكلمة المعنيين معًا، ونبه على ذلك بتعدية الإكراه بـ (في) التي يعدى بها الإدخال، فصار المعنى: لا إدخال في الدين بالإكراه. والتضمين كثير في القرآن وغيره.
والمراد بالنفي عندي ظاهر
(2)
، أي: لا يمكن الإدخال في الدين بالإكراه.
والمراد بالدين هنا الإيمان، بدليل قوله في السياق: {فَمَنْ يَكْفُرْ
بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ
…
} [البقرة: 256]. ودليل ثانٍ وهو: أن الإيمان هو الذي لا يمكن الإدخال فيه بالإكراه. ودليل ثالث وهو قوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] كما يأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى.
ولك أن تبقي كلمة "الدين" على عمومها الشامل للإيمان والإسلام
(1)
"حاشية الصاوي"(1/ 121) فسره الجلال بمعنى "على الدخول فيه"، وقال الصاوي:"والمعنى: لا يكره أحد أحدًا على الدخول في الإسلام" دون التصريح بأن "في" بمعنى "على" والاستشهاد بقوله تعالى: {فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} .
(2)
في الأصل: "ظاهرة".
والإحسان، كما في حديث جبريل
(1)
. والإيمان هو الأعظم. مع أن الإسلام والإحسان لا يمكن الإدخال فيه بالإكراه؛ لأن تحققه متوقف على الإيمان، فغير المؤمن لا يمكن أن يصلي أو يصوم أو يحج أو يعمل شيئًا من الأعمال الدينية؛ لأنه إذا عمل الأعمال التي تسمى في الظاهر صلاةً لم تكن أعماله تلك صلاة شرعية التي هي من الدين. وهكذا.
وأيضًا، فالأعمال الدينية يتوقف الاعتداد بها من الدين على النية، والنية لا يمكن تحصيلها بالإكراه.
فإن قلت: فما وجه ارتباط هذه الجملة بما قبلها؟
فالجواب: أن الله عز وجل لما قدم بيان حكمة الجهاد، وكونه حقًّا من عنده ــ كما تقدم بيانه ــ وبيَّن وضوح الحق وسقوط أعذار الكفار، وأنهم هم الظالمون= كان ذلك مظنة لأن يحمل المسلمين على الغلو في الجهاد حبًّا للحق ورغبة في قبول الناس به، فدفع الله تعالى هذا ببيانه أن الدين لا يحصل بالإكراه.
فدل بذلك على أن الجهاد ليس المقصود منه الإكراه على الدين، وإنما المقصود منه حكم أخرى بيَّن الله تعالى بعضها فيما سبق، وبعضها يفهمه العقلاء، وباقيها يعلمها الله تعالى، كما تقدمت الإشارة إليه في آية الكرسي.
فإذا كان كذلك فعلى المسلمين أن يقتصروا من الجهاد على ما شرعه الله تعالى، ولا يغلوا فيه؛ فإن الغلو إنما يبعثهم عليه الرغبة في دخول الناس
(1)
البخاري: كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان (50)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام (9، 10).
في الدين، ودخول الناس في الدين لا يحصل بالجهاد.
وقوله تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} كأنه ــ والله أعلم ــ جوابٌ عن سؤال مقدر، كأن المسلمين قالوا: فكيف نصنع في حمل الناس على الحق؟ فأجابهم تعالى بذلك، أي: إنه ليس عليكم إلا البلاغ.
وقوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ
…
} من تتمة الجواب، أي إن من قبل الإيمان برضاه واختياره، فنفسَه نَفَعَ، ومن أبى فنفسه ضرَّ. والله أعلم.
ويمكن بيان الارتباط بأكثر من هذا، ولكن يحتاج إلى إطالة، وفي هذا كفاية إن شاء الله تعالى.
فإن قال قائل: أنا لا أسلِّم أن معنى {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} : لا إكراه على الدين ــ كما قلت ــ وإن اتفق عليه المفسرون، بل الظاهر عندي أن المعنى: ليس في أحكام الدين حكم بالإكراه. أي أعم من أن يكون إكراهًا على الإيمان أو على عملٍ ما من الأعمال مطلقًا.
قلت: السياق يأبى هذا، ولاسيما قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ
بِاللَّهِ}، وقوله في آية يونس:{أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} .
ومع ذلك، فلا بأس أن نتكلم على هذا المعنى
(1)
، فأقول: المتبادر إلى
(1)
هنا تم اللحق الذي بدأ في أعلى الورقة (24/ب).
الأذهان أن الإكراه ظلمٌ مذموم؛ فلو قيل لك: إن في إقليم كذا ملكًا يكره الناس، [25/أ] تبادر إلى ذهنك أنه ظالم.
فإذا وافقت على هذا ساغ لنا أن ندعي أن الإكراه الحقيقي هو ما يكون ظلمًا، بدليل التبادر المذكور. فلا يشمل ما يسمى إكراهًا وليس بظلم، كإكراه المريض على الدواء، والصبي على التعليم.
ولو قيل لك ــ بدل المثال المتقدم ــ: إن في بلد كذا ملكًا يكره الأطفال على التعلم، ويكره العامَّة على تعلُّم الصنائع المفيدة، ويكره الرعية على القيام بما تتوقف عليه مصلحة شرف الأمة واستقلالها من النفقات، ويُكره الصالحين للقتال على القتال في الدفاع عن الأمة وشرفها، وأشباه ذلك= لم يتبادر إلى ذهنك من هذه الصفات أن الملك ظالم، بل بالعكس نفهم أن الواصف يصفه بالحكمة والعدل.
فإن سلمت هذا، قلنا: إن الإكراه في الآية المراد به الإكراه الحقيقي، وهو ما يكون ظلمًا.
[25/ب] وإن بقي في نفسك شيء من هذا، فلا بأس أن نفرض أن الإكراه يشمل الضربين حقيقة، ولكن نقول: أريد منه هاهنا الضرب الأول خاصة، بمعونة القرائن والأدلة التي قدمناها، وذلك على سبيل
المجاز، لما كان الضرب الثاني المقصود منه المصلحة والعدل والمنفعة مما يحسِّنه العقل، فكان ينبغي للناس أن يقبلوه برضاهم واختيارهم، ولا يلجئوا المصلح إلى إكراههم عليه. ولذلك صح تخصيص الإكراه بالضرب الأول، وكان الثاني غير معتدٍّ به ولا منظورٍ إليه.
وعليه فالمعنى: وليس في أحكام الدين إكراه يكون ظلمًا. وهذا صحيح، بل ليس فيها ظلمٌ البتة، والحمد لله. وقوله تعالى:{قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} الآية يؤيد ذلك
(1)
.
(1)
هنا انتهت مسودة هذه الرسالة.