المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الدليل الثالث: دليل الاختصاص: - حجج الأشاعرة العامة على ما نفوه من الصفات والعلو والجواب عن أدلتهم العقلية

[عبد المجيد بن محمد الوعلان]

الفصل: ‌الدليل الثالث: دليل الاختصاص:

‌الدليل الثالث: دليل الاختصاص:

ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذا الدليل يمكن ارجاعه إلى الدليل الأول الذي هو دليل الأعراض

(1)

.

وخلاصة هذا الدليل أن كل جسم فهو متناه، وكل متناه فله شكل معين ومقدار معين، وحيز معين، قالوا وكل ما له شكل ومقدار وحيز معين فلا بد له من مخصص يخصصه به. وشرحوا ذلك بأن كل جسم يعلم بالضرورة أنه لا يجوز أن يكون على مقدار أكبر أو أصغر مما هو عليه، أو شكل غير شكله، أو حيز غير حيزه إما متيامنا عنه أو متياسرا.

وإذا كان كذلك فلا بد له من مخصص يخصصه بما يخصص به. ثم قالوا: كل مفتقر إلى المخصص فهو محدث، وبيان ذلك أن المخصص لا بد أن يكون فاعلا مختارا، وأن يكون ما يخصصه حادثا

(2)

.

وغرضهم من هذا الدليل أن يقولوا: إن اختصاص الله تعالى بجهة العلو، والاستواء، وأنه مباين للعالم، يفتقر إلى مخصص، وهو محال على الله.

وقد رد عليهم شيخ الإسلام من خلال ما يلي:

1 -

أن الآمدي نفسه - الذي أورد هذا الدليل - قد ضعفه فقال: "وهذا المسلك ضعيف أيضا، إذ لقائل أن يقول: المقدمة الأولى وإن كانت مسلمة غير أن المقدمة الثانية وهي أن كل مفتقر إلى المخصص محدث، ممنوعة"

(3)

واحتج بجواز أن تكون الصفات متعاقبة على الجواهر والأجسام إلى غير النهاية، وقد علق شيخ الإسلام على هذا بأن هذا المسلك أضعف من مسلك الحركة والسكون، لأن هذا يفتقر إلى ما يفتقر إليه ذاك من غير عكس، ثم إن كليهما مفتقر إلى بيان امتناع حوادث متعاقبة دائمة

(4)

.

(1)

انظر: الدرء (7/ 141).

(2)

انظر: درء التعارض (3/ 351 - 354).

(3)

انظر: المصدر السابق (3/ 354)، وانظر أيضا (4/ 269).

(4)

انظر: المصدر نفسه (3/ 354 - 355).

ص: 19

2 -

أن قولهم لا بد له من قدر، أكثر العقلاء سلموا به، أما قولهم لا بد له من اجتماع وافتراق فهو مبني على مسألة الجوهر الفرد، وأكثر العقلاء ينكرونه.

ثم بعد ذلك يقال في مسألة "القدر" ما يقال في مسألة الصفات، لأن القدر صفة من صفات ذي القدر، كلونه وحياته وقدرته وسمعه وبصره وغيرها، "فإذا قال القائل: كل ذي قدر يمكن أن يكون قدره على خلاف ما هو عليه، كان بمنزلة أن يقول: كل موصوف يمكن أن يكون موصوفا بخلاف صفته، فإذا عرضنا على عقولنا ما نعلمه من الموجودات التي لها أقدار وصفات، كان تجويزنا لكونها على خلاف أقدارها كتجويزنا لها أن تكون عل خلاف صفاتها، بل القدر من الصفات"

(1)

.

وهذه مسألة واضحة، لأن كل موجود لا بد له من قدر وصفة، فما يقال في أحدهما يقال في الآخر. والأشاعرة الذين فرقوا بينهما لأجل أن القدر يلزم منه نوع تجسيم إنما هذا تصور منهم، وإلا فلا فرق بينه وبين الصفة، فلو سلمت حجتهم في القدر لسلمت حجة الفلاسفة والمعتزلة في الصفات وأنه يلزم منها التجسيم.

ولهذا لم يفرق الرازي في إثبات الصانع بين القدر وغيره

(2)

.

3 -

أن قول القائل: كل ذي قدر يمكن أن يكون أكبر أو أصغر، أو أن كل ذي وصف يمكن أن يكون بخلاف ذلك الوصف، ونحو ذلك. يقال له: أتريد الإمكان الذهني، أو الإمكان الخارجي؟ والفرق بينهما أن الإمكان الذهني معناه عدم العلم بالامتناع، والإمكان الخارجي معناه: العلم بالإمكان في الخارج.

"فإن قال: أريد به الإمكان الذهني، لم ينفعه ذلك، لأن غايته عدم العلم بامتناع كون تلك الصفة واجبة. وإن قال: أريد الإمكان الخارجي، وهو أني أعلم أن كل موصوف بصفة، أو كل ذي قدر يمكن أن يكون بخلاف ذلك، كان مجازفا في هذا الكلام؛ لأن هذه قضية كلية تتناول من الأفراد ما لا يحصيه إلا الله تعالى، وليس معه دليل يدل على إمكان ذلك في الخارج يتناول جميع هذه الأفراد. غايته أنه رأى بعض الموصوفات والمقدرات يقبل خلاف ما هو عليه، فإذا قاس الغائب على الشاهد كان هذا من أفسد القياس لاختلاف الحقائق.

ولأن هذا ينعكس عليه فيقال له: لم نر إلا ما له صفة وقدر، فيقاس الغائب على الشاهد.

(1)

انظر: درء التعارض (3/ 356).

(2)

انظر: المصدر السابق (3/ 358).

ص: 20

ويقال: كل قائم بنفسه فله صفة وقدر، وهذا إلى المعقول أقرب من قياسهم، فإن هذا لا يعلم انتقاضه، وأما قول القائل: كل ما له صفة وقدر فيقبل خلاف ذلك فلا يعلم اطراده، فأين القياس الذي لا يعلم انتقاضه من القياس الذي لا يعلم اطراده؟ . والناس متفقون على أنهم لم يروا موجودا إلا له قدر وصفة، وليسوا متفقين على أن كل ما رأوه يمكن وجوده على خلاف صفاته وقدره"

(1)

.

ويلاحظ هنا أن نتيجة مقالتهم هذه في إنكار القدر يؤدي إما إلى إنكار الخالق، أو إنكار أي صفة له، وملاحدة الصوفية الذين قالوا بوحدة الوجود إنما قالوا بذلك لما رأوا تناقض هؤلاء، مثل قولهم: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، وإنكار علو الله وبينونته عن خلقه.

وقولهم في "القدر" معارض بالحقائق في نفسها وصفاتها اللازمة لها، فإنه يمكن "أن يقال: كل موجود له حقيقة تخصه يمتاز بها عن غيره، فاختصاص ذلك الموجود بتلك الحقيقة دون غيرها من الحقائق يفتقر إلى مخصص. ويقال أيضا: كل موجود له صفات لازمة تخصه فاختصاصه بتلك الصفات دون غيرها يفتقر إلى مخصص"

(2)

.

4 -

أن قولهم هذا يلزم في إثبات واجب الوجود، لأنه إذا كان من المعلوم بضرورة العقل واتفاق العقلاء أن هناك:

- واجب الوجود بنفسه، قديم أزلي.

- وممكن الوجود، محدث.

فإذا كان كلاهما موجودا، وواجب الوجود يختص بما لا يشركه فيه غيره، بل له ذات وحقيقة تخصه لا يشركه فيها غيره، فعلى قاعدة هؤلاء أن كل مختص يفتقر إلى مخصص مباين له - يلزم أن يقال هذا في واجب الوجود، ويقال: اختصاص واجب الوجود بما اختص به لا بد له من مخصص. فيلزم تعطيل وجود الخالق وأن تكون الموجودات كلها ممكنة. وهذا ظاهر الفساد ضرورة

(3)

.

"وبالجملة اختصاص الشيء بما هو عليه من خصائصه، كاختصاصه بنفسه ووجوده، وصفاته كلها، لازمها وعارضها، فقول القائل: كل مختص لا بد له من مخصص مباين له، كقوله: كل موجود فلا بد له من موجد مباين له، وكل حقيقة فلا بد لها من محق مباين لها، وكل قائم بنفسه فلا بد له من مقوم مباين، وأمثال ذلك"

(4)

.

(1)

انظر: درء التعارض (3/ 359 - 360).

(2)

انظر: المصدر السابق (3/ 360).

(3)

انظر: المصدر نفسه (3/ 360 - 364).

(4)

انظر: درء التعارض (3/ 365).

ص: 21

5 -

إن هؤلاء متناقضون، لأنهم في مسألة وجود المحدثات والكائنات بعد أن لم توجد، إذا قيل لهم: لِمَ لمْ توجد قبل وقت وجودها، أو لِمَ لمْ تكن أكبر أو أصغر مما هي عليه، أجابوا وقالوا: القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مخصص. وحينئذ فيقال لهم:

"هذا مع بطلانه يوجب تناقضكم؛ فإنكم قلتم: لا بد للتخصيص من مخصص، ثم قلتم: كل الممكنات مخصصة ووجدت بدون مخصص، بل رجح أحد المتماثلين على الآخر من غير مخصص.

وإذا جوزتم في الممكنات وجود المخصصات بدون مخصص، مع أن نسبة القادر إليها نسبة واحدة، فالموجود بنفسه أولى أن يستغنى عن مخصص مما اختص به من ذاته وصفاته"

(1)

.

وهذا تناقض ومحل إلزام لا محيد لهم عنه، فإن النصوص إذا وردت بإثبات صفاته وأنه على العرش استوى، وأنه في جهة العلو بائن من خلقه، وجب إثبات ذلك، فإذا اعترضوا بأن هذا يلزم منه أن يكون له قدر، واختصاصه بهذا القدر لا بد له من مخصص، كان هذا متناقضا مع قولهم في وجود المخلوقات وأنها لم توجد أكبر أو أصغر مما هي عليه بدون مخصص.

6 -

ومن أعظم تناقض المنكرين لعلو الله تعالى وصفاته الفعلية القائمة به في هذا الباب، تناقضهم في مسألة الصفات حين حدوده بسبع - أو ثمان - فإنه يقال لهم - كما يقول الشهرستاني نفسه - "بم تنكرون على من يقول: إن القادر الذي اختص به نهاية وحد، واجب له لذاته، فلا يحتج إلى مخصص. والمقادير التي هي في الخلق إنما احتاجت إلى مقدر لأنها جائزة، وذلك لأن الجواز في الجائزات إنما يعرف بتقدير القدرة، فلما كانت المقادير الخلقية مقدورة عرف جوازها، واحتاج الجواز إلى مرجح لها، فإذا لم يكن فوق الباري سبحانه قادر عليه لم تكن إضافة الجواز وإثبات الاحتياج له. ألسنا اتفقنا على أن الصفات ثمان؟ أفهي واجبة له على هذا العدد، أم جائز أن توجد صفة أخرى؟

فإن قلتم: يجب الانحصار في هذا العدد، كذلك نقول: الاختصاص بالحد المذكور واجب له، إذ لا فرق بين مقدار الصفات عددا وبين مقدار في الذات حدا. فإن قلتم جائز أن توجد صفة أخرى، فما الموجب للانحصار في هذا الحد والعدد، فيحتاج إلى مخصص حاصر"

(2)

.

وقد أجاب الشهرستاني عن ذلك بذكر الخلاف في مسألة انحصار الصفات بثمان هل تسمى بالعدد أم لا، وبمسألة أخص وصف الإله، وكل ذلك ليس فيه جواب عن الإلزام والمعارضة التي أوردها لأن "اختصاص الصفات بعدد من الأعداد كاختصاص الذات بقدر من الأقدار، وإذا كان المسمى لا يسمى ذلك عددا، فمنازعه لا يسمى الآخر قدرا، وليس الكلام في الإطلاقات اللفظية، بل في المعاني العقلية. "

(3)

ثم إنه على كل قول من الأقوال فيما زاد على الثمانية

(4)

"فالمعارضة بالصفات ثاتبة على كل قول من الأقوال الثلاثة؛ إذ لا بد فيها من اختصاص، فإن كان كل مختص يفتقر إلى مخصص مباين، لزم افتقار صفات الله تعالى إلى مباين له"

(5)

.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

(1)

انظر: المصدر السابق (3/ 370)، وأيضا (4/ 269 - 272).

(2)

نهاية الأقدام (ص: 106)، وقارن بدرء التعارض (3/ 373 - 374).

(3)

انظر: درء التعارض (3/ 378).

(4)

وهي ثلاثة: إثبات ما زاد كالرضى والغضب واليدين والوجه والاستواء وغيرهما، والثاني نفي هذه الصفات والاقتصار على الثمان، وقول ثالث بالوقف. انظر: درء التعارض (3/ 380 - 383).

(5)

انظر: درء التعارض (3/ 385).

ص: 22