المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم ‌ ‌المقدمة الحمد للَّه رب العالمين، حمدا طيبا - حدائق الأولياء - جـ ١

[ابن الملقن]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

‌المقدمة

الحمد للَّه رب العالمين، حمدا طيبا طاهرا مباركا فيه، حمدا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، لك الحمد يا ربي على ما تكرمت به علينا وأوليت من نعمة الإسلام، وتمام الدين بأن بعثت لنا خير خلقك؛ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بخير رسالة وأكرم دعوة، فكان نبينا صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء، فأكملت به الرسالات، وكان دين الإسلام هو دين اللَّه؛ فقال تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19].

وقد كَمُلَ الإسلام وتم على خير وجه رضي عنه الجليل بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

فصلى عليك اللَّه يا علم الهدى. سيدي وحبيبي. أفضل صلاة وأتم تسليم، فقد أبلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة، وكشف اللَّه بك الغمة، وتركتنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يحيد عنها إلا هالك.

وقد حمل الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أمانة تبليغ الرسالة، فقاموا بها خير قيام، ومن بعدهم قام السلف الصالح من علماء الأمة بأمر الدين فصنفوا العلوم المختلفة من علوم القرآن والسنة؛ فمن التفسير إلى الحديث إلى علوم الفقه إلى كتب اللغة حتى يمكن كل موحد من أمة الإسلام أن يشق طريقه إلى المعرفة بأمور دينه، فعلى مدار القرون لم يتوقف هؤلاء العلماء عن القيام بدورهم في إخراج المصنفات المختلفة التي كان لها الأثر الأكبر في شرح وبيان أحكام الشريعة المختلفة.

وكان لهذا الكتاب الذي بين أيدينا دور كبير في الإلمام بفروع شتى؛ فقد احتوى على مجالس عدة قال المصنف إنها أربع وثلاثون ومائة مجلس في جميع فروع المعرفة، وقد وجدته أكثر من هذا العدد عند تحقيق هذا الكتاب. وإذا نظرت إلى جملة المجالس وجدت تنوعا عظيما؛ فقد بدأ بمجلس في الحمد للَّه تعالى، ثم الصلاة على رسول اللَّه، ثم مجلس الإخلاص، ثم التوبة ثم الصدق ثم العلم، ثم الصبر، ثم المراقبة، واستمر إلى آخر المجالس، وهي جملة من المجالس المتنوعة في التفسير وغيره.

وفي كل مجلس بدأ بكتاب اللَّه فيذكر الآيات الدالة على المجلس مع شرح

ص: 3

وتلميحات وإشارات في بيان معنى ومغزى هذه الآيات.

ثم يبدأ في سرد الأحاديث النبوية من كتب الصحاح الستة ومعها بعض الكتب الأخرى، إلا أنه قد ركز على كتب الصحاح الستة، وبدأ بالصحيحين ثم السنن الأربعة: أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، ثم ينتقل إلى ذكر حكايات عن الصالحين متخللة للنوادر والأشعار والفوائد، وقد وصل عدد الأحاديث المذكورة نحوًا من ألفي حديث، ومن الحكايات نحو ستمائة، مع النوادر والأشعار والآثار.

وكل ذلك في سرد جميل ورائع ومفيد ليتمكن المتناول الموضوع من الإحاطة به من شتى جوانبه.

‌التعريف بالمصنف:

قال في معجم المؤلفين (7/ 297):

الإمام عمر بن علي بن أحمد بن محمد بن عبد اللَّه الأنصاري الوادياشي الأندلسي التكروري الأصل الوادباشي الأندلسي المصري الشافعي، ويعرف بابن الملق سراج الدين أبي حفص، فقيه أصولي محدث حافظ مؤرخ مشارك في بعض العلوم.

ولد في القاهرة في ربيع الأول سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة، وتوفي في ستة عشر ربيع الأول سنة أربع وثمانمائة، ودفن بحوش الصوفية خارج باب النصر -رحمه اللَّه تعالى- وجعل الجنة مثواه

(1)

.

‌مؤلفاته:

تدل مؤلفاته العديدة على سعة علمه في جميع المعارف والعلوم، فأولى علومه الحديث ثم الفقه، وقد أخذ عن شيوخ عصره ومهر فيها ووصفه فضلاء عصره بالحفظ ونحوه من الصفات العلمية، ودخل دمشق سنة سبعين وسبعمائة، فمن مصنفاته الكثيرة: الإشارات إلى ما وقع في المنهاج للنووي، ومختصر مسند أحمد، وشرح ألفية ابن مالك في النحو، وشرح الوصول إلى علم الأصول، وإذا أردت المزيد فانظر مقدمة المؤلف والتي تصدرت الكتاب، وقد تعرضت لترجمة قيمة له، وأظنها من المخطوط الذي في القرون التالية، وأكثر ظني في القرن الحادي عشر عند كتابة هذا المخطوط، كما هو مذكور في آخر المخطوط.

‌خطة العمل بالكتاب:

1.

تفسير الآيات القرآنية الواردة فيه.

(1)

ترجمته: معجم المؤلفين (7/ 297)، الضوء اللامع (6/ 100)، إيضاح المكنون (1/ 153)، شذرات الذهب (7/ 44)، حسن المحاضرة (1/ 249)، طبقات الشافعية (90، 91).

ص: 4

2 -

تخريج الأحاديث الواردة بالنص مع شرح بعضها، واعتمدنا بدرجة كبيرة على شرح مسلم للإمام النووي.

3 -

ترجمة بعض الرجال مع نبذة مختصرة عنهم ومصادر ترجمتهم.

4 -

توضيح معاني الكلمات الغريبة الواردة في الأشعار والحكايات والنوادر وغيرها.

5 -

التعليق على على بعض الحكايات الواردة، وخاصة الواردة عن الأولياء، وخاصة الصوفية منهم؛ لأن في بعض الحكايات لهم شطحات، قال ابن قيم الجوزية في شرح كتاب الهروي (ص 20): هذه الشطحات أوجبت فتنة على طائفتين من الناس؛ أحدهما حجب عن محاسن هذه الطائفة، ولطف نفوسهم وصدق معاملاتهم، فأهدروها لأجل هذه الشطحات وأنكروها غاية الإنكار وأساءوا الظن بها مطلقا، وهذا عدوان وإسراف، فلو كان من أخطأ أو غلط تُرِكَ جملة وأهدرت محاسنه لفسدت العلوم والصناعات والحكم وتعطلت معالمها.

والثانية: حجبوا بما رأوه من محاسن القوم، وصفاء قلوبهم وصحة عزائمهم وحسن معاملتهم على عيوب شطحاتهم ونقصانها، فسحبوا عليها ذيل المحاسن وأجروا عليها حكم القبول والانتصار، وهؤلاء معتدون مفرطون.

وقال ابن القيم أيضا: ويجب على أهل العدل والإنصاف الذين أعطاهم اللَّه الفهم أن يعطوا كل ذي حق حقه من بيان خطأ أهل الشطحات، وأن ينزلوا لكل ذي منزلة منزلته؛ فلا يحكموا للصحيح بحكم السقيم المعلول، ولا للمعلول السقيم بحكم الصحيح.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (11/ 17):

الصوفيون قد يكونون من أجل الصديقين بحسب زمانهم فهم من أكمل صديقي زمانهم، والصديق في العصر الأول أكمل منهم، والصديقون درجات وأنواع. ثم يقول بعد ذلك:

ولأجل ما يقع في كثير من الاجتهاد والتنازع فيه، تنازع الناس في طريقهم فطائفة ذمت الصوفية والتصوف، وقالوا: إنهم مبتدعون خارجون عن السنة، وطائفة غالت فيهم وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء، وكلا طرفي هذه الأمور ذميم، والصواب أنهم مجتهدون في طاعة اللَّه كما اجتهد غيرهم من أهل الطاعة.

فالصوفية الحقة أناس مجتهدون في طاعة اللَّه كما غيرهم من أهل الطاعة ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، وفي كل

ص: 5

من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب.

وأهل السنة يؤمنون بكرامة الأولياء وما يجري على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات، انتهى كلام ابن تيمية.

وقد ألمحنا إلى رأي هذين الإمامين الجليلين: ابن تيمية وابن القيم لما ستجدونه في بعض الحكايات من خوارق العادات والأمور التي قد تعتبرها من الشطحات الخارجة عن المنطق والمعقول.

‌الختام

وفي الختام أسأل اللَّه تعالى أن يتقبل منا صالح أعمالنا وأن يجعل ما قمنا به في ميزان حسناتنا يوم يقوم الناس لرب العالمين. أهدي عملي هذا إلى روح والديَّ. رحمهما اللَّه. ودائما ما أذكر وأردد قول المولى عز وجل: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24] سائلا اللَّه تعالى أن يجعل مثواهم الجنة، وأن يلحقنا بهم على الإيمان والإسلام، وعلى الكتاب والسنة، ويتوفنا وهو راضٍ عنا، إنه نعم المولى ونعم النصير.

كما لا أنسى أن أتقدم بخالص الشكر والتقدير لكل من قدم لنا العون والمساعدة في إنجاز هذا العمل، وخاصة شريكة العمر؛ الزوجة الصالحة، لما وفرته لنا من الراحة والهدوء وتوفير كل متطلبات العمل ومراعاة البيت والأسرة، فلها مني الدعاء إلى اللَّه تعالى أن يكرمها في الدنيا والآخرة، وأن يجعلها من الذين رضي عنهم ورضوا عنه.

كما أهدي عملي هذا إلى فلذات الأكباد؛ أولادي الأعزاء، الكبرى رنا بالمرحلة الثانوية، وأخويها: أحمد بالإعدادية، والأخ الصغير محمد بمراحل تعليمه الأولى، راجيا من اللَّه تعالى أن يكونوا له طائعين موحدين، وبكتابه متمسكين مهديين، ولسنة نبيه متبعين وعاملين، إنه على كل شيء قدير.

{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127].

وصلى اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.

المحقق السيد يوسف أحمد

القاهرة. المطرية. عزبة النخل الغربية

في 21 من ذي القعدة سنة 1427 هجرية

الموافق 12 من ديسمبر سنة 2006 ميلادية

ص: 6

‌ترجمة المصنف

(1)

هذه ترجمة المؤلف -رحمه اللَّه تعالى- أذكرها مختصرة على حسب المحل والوقت.

هو: عمر بن علي بن أحمد بن محمد بن عبد اللَّه، الشيخ الإمام العالم العلامة عمدة المصنفين سراج الدين أبو حفص الأنصاري، الأندلسي الأصل المغربي، المعروف بابن الملقن.

كان أبوه عالمًا نحويًا معروفًا بالتقدم في ذلك، ومات والده، فرباه زوج أمه الشيخ عيسى المغربي الملقن، فعُرف به.

ميلاده -رحمه اللَّه تعالى- في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة.

وسمع الحديث الكثير، حتى ذكر بعضهم أنه سمع ألف جزء حديثية.

ودخل دمشق سنة سبعين وسبعمائة، واشتهر بعلوم ومهر فيها.

وأولى علومه الحديث، وتخرج فيه بالشيخ زين الدين الرحبي، وبالشيخ علاء الدين (. . . . . .)

(2)

، وكتب عنهما الكثير، وأكثر من تحصيل الأجزاء، وسمع الكتب الكبار، وعني بالفقه، وأخذ عن شيوخ عصره ومهر فيه.

ووصفه فضلاء عصره في طبقات السماع بالحفظ، ونحوه من الصفات العلمية.

وشرح البخاري في عشرين مجلدًا، وشرح زوائد مسلم، ثم زوائد أبي داود، ثم زوائد الترمذي، ثم زوائد النسائي، ثم زوائد ابن ماجه.

ومن تصانيفه (الرافعي)

(3)

سماه البدر المنير في ست مجلدات، واختصره في نحو عشرة، وسماه الخلاصة، ثم اختصره في تصنيف لطيف.

وتخريج أحاديث المهذب، وتخريج أحاديث الوسيط، وشرح العمدة سماه:"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" وسيد الأنام، وتلخيص مسند الإمام أحمد، وصحيح ابن حبان، والاعتراض على مستدرك الحاكم، واختصر تهذيب الكمال للمزي، واختصر الكتب الستة الزائدة على ذلك: مسند أحمد، وصحيحي ابن خزيمة وابن

(1)

أظنها ترجمة من وضع الناسخ وليس المصنف.

(2)

بياض بالأصل قدر كلمة.

(3)

كذا بالأصل.

ص: 7

حبان، ومستدرك الحاكم، والدارقطني. والمقنع في علوم الحديث، ومختصر دلائل النبوة، وطبقات المحدثين، وطبقات الشافعية، وطبقات الصوفية، وتاريخ دولة الترك.

وله شرح المنهاج المسمى بالعمدة في ثمان مجلدات، والعجالة شرح مختصر في ثلاث مجلدات، والاعتراضات على المنهاج في مجلد واحد، وشرح التنبيه الكبير المسمى بغنية الفقيه، وله شرح ثان متوسط (. . . .)

(*)

نحو الزنكلوني، وآخر صغير، والأمنية على أسلوب نكت النسائي.

ومن محاسن تصانيفه: شرح الحاوي، وتحرير (. . .)

(*)

و وله كتاب تحفة المحتاج في أدلة المنهاج، وكتاب الإشارات في لغات المنهاج، وله نكت المنهاج في شرح كتاب (. . .)

(*)

من غاية أبي سراج عبد ربه نسخه.

وله كتاب غاية السول في خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم، وشرح التنبيه، وشرح منهاج البيضاوي، وشرح مختصر ابن الحاجب، وعمل الأشباه والنظائر.

وجمع في الفقه كتابًا سماه (الكآبة)

(1)

من النقول الغريبة، وله -رحمه اللَّه تعالى- الكتاب الجليل الشأن لم أر في الدقائق مثله

(2)

، وله مصنفات أُخر، قال بعضهم: بلغت نحو الثلاثمائة.

وكان رحمه الله فريد الدهر في كثرة التصانيف وحسنها.

وكان منقطعًا عن الناس جدًا، وكان من أعذب الناس صوتًا، وأحسنهم خلقًا، وأجملهم صورة، كثير الأدب والتواضع.

وكان موسَّعًا عليه، كثير الكتب جدًا، ثم احترق غالبها، وذلك قبل موته، فحجبه ولده إلى أن مات في سنة أربع وثمانمائة، ودفن بحوش الصوفية خارج باب النصر، رحمه اللَّه تعالى، وجعل الجنة مثواه، وأعاد عليَّ من بركاته، وحشرني في زمرته إلى دار كرامته بمحمد وآله وصحبه، والحمد للَّه وحده.

وصلى اللَّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

(*) بياض بالأصل قدر كلمة.

(1)

وجدناها بالأصل منفصلة بينهما بياض كذا (الكا. . . . بة).

(2)

أظنه يقصد الكتاب الذي بين أيدينا.

ص: 8

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى اللَّه على سيدنا محمد وآله وسلم

قال الشيخ الإمام العلامة وحيد دهره وفريد عصره، شيخ الإسلام ومفتي الأنام سراج الدين عمر بن الملقن الشافعي:{رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)}

(1)

أحمد اللَّه على ما أنعم، وأشكره على ما ألهم، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه الملك الأعظم، وأن محمدًا عبده ورسوله المبجل المكرم، وبعد:

فهذا كتاب الحدائق يشتمل على نحو ألفي حديث، ومن حكايات الصالحين نحو ستمائة، خلا الآثار والأشعار والنوادر.

جعله اللَّه خالصًا لوجهه بمنه وكرمه موجبًا للفوز لديه، ونفع به مؤلفه وكاتبه وقارئه ومن نظر فيه، وجميع المسلمين. آمين.

‌محتوى الكتاب:

(2)

1 -

الحمد للَّه تعالى - أحاديث عديدة.

2 -

في الصلاة على رسول اللَّه - عدة أحاديث، وست وعشرون حكاية.

3 -

الإخلاص - اثنا عشر حديثًا، وسبع حكايات.

4 -

التوبة - اثنا عشر حديثًا، وست حكايات.

5 -

الصدق - ستة أحاديث.

6 -

العلم - فيه أحاديث.

7 -

الصبر - تسعة وعشرون حديثًا، وحكايات.

8 -

المراقبة - تسعة أحاديث، وعدة حكايات.

9 -

التقوى - خمسة أحاديث، وعشر حكايات.

10 -

اليقين والتوكل - أحد عشر حديثًا، وثلاث وعشرون حكاية.

11 -

الاستقامة - عدة أحاديث.

(1)

سورة الكهف [10].

(2)

هذا العنوان من وضعنا ليتوافق مع النص.

ص: 9

12 -

التفكر - عدة أحاديث.

13 -

المبادرة إلى الخيرات - ثمانية أحاديث، وأربع وثلاثون حكاية.

14 -

المجاهدة - سبعة عشر حديثًا، واثنتا عشرة حكاية.

15 -

الحث على الازدياد في الخير في أواخر العمر - خمسة أحاديث.

16 -

الحب في اللَّه والحث عليه - أحاديث عدة، وثلاث عشرة حكاية.

17 -

الوفاء بالعهد - ستة أحاديث، وست حكايات.

18 -

الاقتصاد في العبادة - أحد عشر حديثًا.

19 -

المحافظة على الأعمال - أربعة أحاديث.

20 -

الأمر بالمحافظة على السنة وآدابها - أحد عشر حديثًا، وفصول عديدة.

21 -

الدلالة على الخير - وفيه أحاديث.

22 -

التعاون على البر والتقوى - أربعة.

23 -

الأمر بالمعروف - ثلاثة عشر.

24 -

تغليظ عقوبة من خالفه - واحد.

25 -

الأمر بأداء الأمانة - اثنان.

26 -

تعظيم الحرمات - ثمانية عشر حديثًا.

27 -

ستر العورة - أربعة.

28 -

قضاء الحوائج - اثنان.

29 -

الشفاعة - اثنان.

30 -

الإصلاح - أربعة.

31 -

الملاطفة - ثلاثة عشر.

32 -

النساء.

(1)

33 -

حق الزوج على امرأته - ثمانية.

34 -

النفقة على العيال - ثمانية.

35 -

الإنفاق مما تحب - واحد.

36 -

أمر الأهل بالطاعة - خمسة.

37 -

حق الجار - تسعة.

(1)

كذا بالأصل بدون ذكر أي عدد بجوارها.

ص: 10

38 -

بر الوالدين - خمسة وعشرون حديثًا، وثلاث حكايات.

39 -

العقوق - خمسة.

40 -

بر أصدقاء الأب - أربعة.

41 -

إكرام بنت الرسول صلى الله عليه وسلم اثنان.

42 -

الزهد - أربعة وعشرون حديثًا، وعشر حكايات.

43 -

الدعاء - تسعة وعشرون حديثًا.

44 -

الدعاء بظهر الغيب - واحد.

45 -

مسائل منه -أي من الدعاء- ثماني عشرة حكاية.

46 -

الصمت - واحد وأربع حكايات.

47 -

الغيبة ومتعلقاتها - خمسة وعشرون حديثا، وست عشرة حكاية.

48 -

النميمة - واحد.

49 -

ذم ذي الوجهين - اثنان.

50 -

تحريم الكذب - خمسة.

51 -

التثبت فيما يحكيه - اثنان.

52 -

شهادة الزور - واحد.

53 -

المنهيات - مائتان وستون حديثًا.

54 -

الصدقة - ست وعشر حكايات.

55 -

الجد في العمل - اثنان.

56 -

السخاء - حديث، وعشر حكايات.

57 -

إكرام الضيف - أربعة أحاديث، وحكايات مثلها.

58 -

فضل الجوع - واحد وثلاثون حديثًا.

59 -

القناعة - أحد عشر.

60 -

جواز الأخذ - واحد.

61 -

عمل اليد - أربعة.

62 -

التنافس في الآخرة - اثنان.

63 -

فضل الغنيّ الشاكر - ثلاثة.

64 -

الكرم - ثمانية عشر حديثًا.

65 -

البخل - حديث واحد.

ص: 11

66 -

الورع - ثمانية.

67 -

العزلة - خمسة.

68 -

الكبر - ثمانية.

69 -

حسن الخلق - عشرة.

70 -

الحلم - تسعة.

71 -

العفو - أربعة.

72 -

احتمال الأذى - واحد.

73 -

الغضب - أربعة.

74 -

الرفق - ستة.

75 -

الولي العادل - أربعة.

77 -

(1)

وجوب الطاعة - أحد عشر.

78 -

سؤال الإمارة - ثلاثة.

79 -

الوزير الصالح - ثلاثة.

80 -

التولية - واحد

81 -

الحياء - أربعة.

82 -

حفظ السر - أربعة.

83 -

المحافظة على الخير - واحد.

84 -

طيب الكلام - ثلاثة.

85 -

بيانه -أي الكلام- اثنان.

86 -

إصغاء الجليس - واحد.

87 -

الوعظ - أربعة.

88 -

السكينة - ثلاثة.

89 -

التهنئة - أربعة.

90 -

الوداع - خمسة.

91 -

الاستخارة - واحد.

92 -

اليمين - سبعة.

(1)

كذا بالأصل لا يوجد رقم [76].

ص: 12

93 -

آداب الطعام - تسعة وعشرون.

94 -

السراب - اثنان وعشرون.

95 -

اللباس - ثلاثة وثلاثون.

96 -

آداب النوم والمجلس - اثنان وعشرون.

97 -

الرؤيا - سبعة.

98 -

السلام - أربعة وعشرون.

99 -

الاستئذان - ستة.

100 -

التشميت - ستة.

101 -

المصافحة ونحوها - ثمانية.

102 -

العيادة والجنائز - خمسة وستون حديثًا.

103 -

فضل يوم الجمعة - اثنا عشر.

104 -

آداب السفر - خمسة وثلاثون.

105 -

فضل قراءة القرآن - إحدى وثلاثون.

106 -

فضل الصلاة ومتعلقاتها - مائة وثلاثة وعشرون حديثًا، وست عشرة حكاية.

107 -

الحج نحو مائة حديث، وخمسين حكاية.

108 -

تحريم الظلم - ثمانية عشر.

109 -

النصيحة - ثلاثة، وإحدى عشرة حكاية.

110 -

التواضع - ثمانية، وخمس عشرة حكاية.

111 -

الخوف - ستة عشر حديثًا، وست عشرة حكاية.

112 -

الرجاء - واحد وثلاثون، وسبع حكايات.

113 -

الجمع بينهما - ثلاثة أحاديث، وعشر حكايات.

114 -

تكثرة طرق الخير - خمسة وعشرون.

115 -

الاشتغال باللَّه - واحد، وثماني عشرة حكاية.

116 -

الفرج بعد الشدة - سبع حكايات.

117 -

البكاء من الخشية - عشرة.

118 -

الجهاد - اثنان وسبعون حديثًا، وثلاث حكايات.

119 -

الزكاة - تسعة.

120 -

الصوم - اثنان وخمسون، وأربع حكايات.

ص: 13

121 -

السواك - عشرة.

122 -

الاعتكاف - ثلاثة.

123 -

الضَّعفة والفقراء - ثمانية.

124 -

توقير الكبار - تسعة.

125 -

صحبة أهل الخير - اثنا عشر.

126 -

ذم الدنيا وذكر الموت - ثمانية وعشرون حكاية.

127 -

زيارة القبور - ستة.

128 -

تمني الموت - ثلاثة.

129 -

الدجال ومتعلقاته - ستون حديثًا.

130 -

منثورات ومِلَح ومواعظ وزهد ورقائق وغير ذلك.

131 -

العبادة في الهرج - واحد.

132 -

الذكر وفضله - سبعة وسبعون، وآثار، وسبع حكايات.

133 -

كرامات الأولياء - اثنا عشر حديثًا، فضائلهم - عشرون، وآثار، التحذير من إيذائهم - ثلاثة أحاديث.

134 -

الاستغفار - أحد عشر حديثًا.

جملة المجالس مائة وأربعة وثلاثون.

وفي آخره مجالس تعلمنا فيها على آيات.

مجموع ما ذكر فيه من الأحاديث نحو ألفي حديث، ومن حكايات الصالحين نحو ستمائة، خلا الآثار والأشعار والنوادر.

وعلى اللَّه الاعتماد، وإليه التفويض والاستناد.

ص: 14

‌مجلس في الحمد للَّه تعالى وشكره

أفضل ما أفاء به اللسان، واستفتح به الإنسان كلام الواحد المنان.

أعوذ باللَّه السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم اللَّه الرحمن الرحيم، الحمد للَّه رب العالمين، وهو الثناء على المحمود بجميل صفاته، والشكر بإنعامه، قال تعالى:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)}

(1)

.

وقال: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}

(2)

.

ففائدته قيد الموجود وصيد المفقود.

وقال: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} .

(3)

وقال: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

(4)

فهو شأن أهل الجنة وختام دعواهم، فختامها مسك، وإنما قدمت آية الشكر للاهتمام به، فلا تجد الناس أكثرهم شاكرين، كما حرص عليه الشيطان

(5)

نعوذ باللَّه من الخذلان.

وروينا في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنهما: "أنه صلى الله عليه وسلم أتى ليلة أسري به بقدحين من خمر ولبن، فنظر إليهما فأخذ اللبن، فقال جبريل: الحمد للَّه الذي هداك للفطرة؛ لو أخذت الخمر غوت أمتك"

(6)

.

فمن أهله الروح الأمين جبريل، ومحله التوفيق والهداية الربانية للخيرات الدينية، وصفته الحمد للَّه، لهو المحل الأعلى.

فالمحب من يحبه على إحنانه، والعارف يخبر به.

(1)

سورة البقرة [152].

روى البخاري في صحيحه [7405] كتاب التوحيد، عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول اللَّه تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم. . . " الحديث.

(2)

سورة إبراهيم [7].

(3)

سورة الإسراء [111].

(4)

سورة يونس [10].

(5)

وذلك في قوله تعالى: {قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)} الأعراف [15 - 17].

(6)

أخرجه مسلم في صحيحه [272 - (168)] كتاب الإيمان، [74] باب الإسراء برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفرض الصلوات.

ص: 15

وروينا في سنن أبي داود وغيره بإسناد حسن من حديث أبي هريرة أيضًا مرفوعًا: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد للَّه فهو أقطع".

(1)

فترك الابتدائية يفوت الجمال والنفع والتمام، فيصير أقطع عديم البركة.

وروينا في جامع الترمذي محسنًا من حديث أبي موسى مرفوعًا: "إذا مات ولد العبد قال اللَّه لملائكته. قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجعك، فيقول اللَّه: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة، وسموه بيت الحمد"

(2)

.

فمن مهمات محاله المعظمة لثوابه الحمد للَّه في المطايب ونزول النوائب.

وروينا في صحيح مسلم من حديث أنس مرفوعًا: "إن اللَّه ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها".

(3)

ومن مهمات الحمد في النعم الرضوان من اللَّه -تعالى- أكبر شيء.

نعوذ باللَّه من حرمانه.

فمدار هذه الأحاديث على بيان صفة الحمد وأهله، ومحاله وما يفوت بتركه وما ينجلب بفعله، كما أبدينا.

(4)

والحاصل أن محل الحمد حصول لكل ديني، وبدأة كل ذي بال، وختام كل مهم، وعقد كل محنة وبلية، وألم وثواب محبوب وكل محنة ونعمة ولذة وسرور، واندفاع ألم ومكروه، ألهمه اللَّه لنا على الدوام، وأيقظنا من سنة النَّوام.

(1)

أخرجه أبو داود [4840] كتاب الأدب [21] باب الهدي في الكلام، والنسائي [494] في عمل اليوم والليلة، وأحمد في مسنده [2/ 359]، وابن ماجه [1894] في النكاح، [19] باب خطبة النكاح، والبيهقي في السنن الكبرى [3/ 208 - 209].

(2)

أخرجه الترمذي [1021] كتاب الجنائز، باب فضل المصيبة إذا احتسبت، والتبريزي في مشكاة المصابيح [1736]، وابن حبان في صحيحه [726 - الموارد]، والمنذري في التركيب والترهيب [4/ 337]، وابن المبارك في الزهد [2/ 27]، والسيوطي في الدر المنثور [1/ 157].

(3)

أخرجه مسلم [89 - (2734)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [24] باب استحباب حمد اللَّه تعالى بعد الأكل والشرب، والترمذي [1816] كتاب الأطعمة، ما جاء في الحمد على الطعام إذا فرغ منه، وأحمد في مسنده [3/ 100 - 117]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 148]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [4100]، وابن السني [480].

(4)

قال النووي في الحديث المتقدم: "وفيه استحباب حمد اللَّه -تعالى- عقب الأكل والشرب، وقد جاء في البخاري صفة التحميد الحمد للَّه حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا، وجاء غير ذلك، ولو اقتصر على الحمد للَّه حصل أصل السنة" النووي في شرح مسلم [17/ 42] طبعة دار الكتب العلمية.

ص: 16

‌مجلس في الصلاة على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

-

قال اللَّه - تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}

(1)

الآية، وهي مفخمة لأمره، أمر اللَّه المؤمنين كافة بعد ندائهم بخطابه الشفاهي بما ذكر من الصلاة والتسليم مؤنسًا بأن اللَّه وملائكته تفعل ذلك، أي أن أمركم به ليس لحاجة إليه إلى ذلك، بل لقصد تشريفكم لما آمنتم به بأمر توافقون فيه مالك الملك الأعظم -تعالى- وخواص عباده المكرمين، مع أنه النبي الذي هداكم اللَّه به إليه، وأرشدكم على لسانه إلى كل ما يزلف لديه، فعليه منا كما أمرنا وأهلنا له أكمل صلاة وأفضلها وأدومها وأعمها وسلَّم.

شعر:

صلوا على الهادي البشير محمد

تحظوا من الرحمن بالغفران

اللَّه قد صلى عليه مصرّحًا

في محكم الآيات والقرآن

اللَّه زاد محمدًا تكريمًا

وحباه فضلًا من لدنه عظيمًا

واختاره في المرسلين كريما

ذا رأفة بالمؤمنين رحيما

صلوا عليه وسلموا تسليمًا

(2)

يا أمة الهادي خصصتم بالوفاء

بين الورى والصدق أيضًا والصفا

صلوا على هذا النبي المصطفى

فاللَّه قد صلى عليه قديما

صلوا عليه وسلموا تسليما

فمتى رأى الحادي يبشر باللقا

ويضُمُّنا باب المحصَّب والنقا

وأرى ضريح المصطفى قد أشرقا

مولا رسولا لن يزال رحيمًا

(1)

سورة الأحزاب [56].

روى أبو داود في سننه [4856] عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا اللَّه فيه، ولم يصلوا على نبيهم، إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم".

(2)

روى أحمد في مسنده [2/ 527] عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أحد يسلم عليّ إلا ردّ اللَّه عليّ روحي حتى أرد علبه السلام".

ص: 17

صلوا عليه وسلموا تسليمًا

ثم الرضا عن آله الكرما

وكذاك عن أصحابه الخلفا

فهو (أمم)

(1)

ديني وعقد ولاء

قوم تراهم في المعاد نجوما

صلوا عليه وسلموا تسليما

وروينا في صحيح مسلم من حديث عمرو بن العاص: "من صلى عليَّ صلاة صلى اللَّه عليه بها عشرًا"

(2)

.

وهذا تعظيم لجنابه، ورفع لشأنه.

ومن يقدر صلاة الرب جل جلاله أو يحيط به -تعالى كماله- فيا سعادة من ملأ جوفه منها، وأذاب نفسه فيها، فإنه يفاض عليه سبب العطاء، ويجازى بأكمل الجزاء، ويدفع عنه بها أشد الشدائد وتجزل لديه العوائد.

وقد قال عليه الصلاة والسلام: "إذًا تُكفَى همك"

(3)

فاملأ من هذا همك.

وما أربح هذه التجارة، وأعظم من يجازي على هذه البضاعة.

شعر:

من عامل اللَّه لم تخسر تجارته

وكل قلب خراب بالتقى عمدة

وما تصلي على المختار واحدة

إلا عليك يصلي ربه عشرة

فاغنم صلاتك يا هذا عليه تفز

بالربح عند إله زاد من شكره

رواه أنس مرفوعًا بزيادة: "وحطت عنه عشر خطيات، ورفعت له عشر درجات"

(4)

.

رواه النسائي، وابن حبان والحاكم، وقال: صحيح الإسناد.

(1)

كذا بالأصل، وأظنها (إمام).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [70 - (408)] كتاب الصلاة، [17] باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد، وأبو داود [1530]، والترمذي [485]، والنسائي [3/ 50 - المجتبى]، وأحمد في مسنده [2/ 168]، والحاكم [1/ 550]، والطبراني في المعجم الصغير [1/ 209]، وابن أبي شيبة في مصنفه [2/ 517].

(3)

أخرجه الترمذي [2457] كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، وقال حسن صحيح، والحاكم في المستدرك [2/ 421]، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين [5/ 51].

(4)

أخرجه النسائي [3/ 50 - المجتبى]، وفي عمل اليوم والليلة [61 - 62]، والحاكم في المستدرك [1/ 550]، وابن حبان في صحيحه [2390 - الموارد]، وأحمد في مسنده [3/ 102، 261]، وابن أبي شيبة في مصنفه [2/ 517]، [11/ 505]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [922].

ص: 18

ورواه النسائي أيضًا من حديث عمير الأنصاري بمعناه، وزيادة:"وكتب له بها عشر حسنات".

وله من طريق آخر عن أنس أيضًا: "من ذكرت عنده فليصل عليّ".

وروينا في جامع الترمذي، وقال: حسن، وصححه ابن حبان من حديث ابن مسعود مرفوعًا:"أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاة"

(1)

.

أي أولاهم بشفاعتي وأقربهم مني مجلسًا وأحقهم بالإضافة من أنواع الخيرات ودفع المكروهات.

وروينا في سنن أبي داود من حديث أوس بن أوس مرفوعًا: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، وان صلاتكم معروضة عليَّ" قالوا: يا رسول اللَّه وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ يقولون بليت، فقال:"إن اللَّه حرم على الأرض أجساد الأنبياء"

(2)

.

ومعنى معروضة عليَّ؛ موصولة إليَّ توصل الهدايا، وقد كان أشد الناس مكافأة، فماذا يكافئ هذا.

وروينا في جامع الترمذي وقال: حسن من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليَّ".

(3)

أي أنه مدعو عليه أو مخبر بلزوم ذُلِّ وصغار لا يطاق.

وروينا في سنن أبي داود بإسناد صحيح عنه مرفوعًا: "لا تجعلوا قبري عيدًا وصلوا عليَّ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم".

(4)

أي فالبعد كالقرب، فلا تقلل زيارته كالعيد ولا تتغالى في تعظيمه كالوثن يعبد ولا تتخذ العود إليه دينًا تتكلف به المهمات.

ولا شك أن زيارته أقرب القرب، ربنا لا تحرمناها.

(1)

أخرجه الترمذي [484]، وابن حبان في صحيحه [2389 - الموارد]، والشجري في أماليه [1/ 130]، والسيوطي في الدر المنثور [5/ 218]، والعجلوني في كشف الخفا [1/ 314].

(2)

أخرجه أبو داود [1047] كتاب الصلاة، باب في فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة، والنسائي [3/ 91 - المجتبى]، وابن ماجه [1085، 1636]، والحاكم في المستدرك [1/ 278، 4/ 560].

(3)

أخرجه الترمذي [3545] كتاب الدعوات، باب قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"رغم أنف رجل"، وأحمد في مسنده [2/ 254]، والحاكم في المستدرك [1/ 549]، والشجري في أماليه [1/ 129]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [9275]، والمنذري في الترغيب والترهيب [2/ 508]، وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح [11/ 168].

(4)

أخرجه أبو داود [2542] كتاب المناسك، باب زيارة القبور، عن أبي هريرة.

ص: 19

وروينا فيه أيضًا عنه بإسناد صحيح: "ما من أحد يسلم عليَّ إلا رد اللَّه عليَّ روحي حتى أرد عليه السلام".

(1)

فأطلق ذلك لكل أحد ورده بركة لا يقدر قدرها، وهو ظاهر في استمرار حياته، لأنه يستحيل عادة أن يخلو الوجود كله من أحد يسلم عليه في ليل أو نهار، والمراد بالروح هنا النطق مجازًا، ومن لازمه وجود الروح.

وروينا في جامع الترمذي وقال: حسن صحيح من حديث على مرفوعًا: "البخيل من ذكرت عنده فلم يصل عليّ".

(2)

أي لأنه سيد الأحباب.

وذكر المحبوب يؤذن بالإقبال، فالمعرض عنه مئذن بالبخل وعدم الاتصال.

وروينا من حديث أنس مرفوعًا: "من صلى عليَّ في يوم ألف مرة لم يمت حتى يرى مقعده من الجنة".

(3)

ذكره الضياء في كتابه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال لا أعرفه إلا من حديث الحكم بن عطية، قال أحمد: لا بأس به، وقال يحيى بن معين: ثقة، وأي مهيح ومعز مثل ذلك.

وروينا في سنن ابن ماجه من حديث ابن عباس مرفوعًا: "من نسى الصلاة عليَّ خطئ طريق الجنة".

(4)

وفي إسناده جبارة بن المغلس، وهو ضعيف، لكن رواه إسماعيل القاضى من غير وجه، عن أبي يعفر محمد بن علي الباقر مرسلا، فيقوى.

ورواه الطبراني من حديث الحسن بن على مرفوعًا: "من ذكرت عنده فخطئ الصلاة عليَّ أخطأ طريق الجنة".

(5)

(1)

أخرجه أبو داود [2041] كتاب المناسك، باب زيارة القبور، وأحمد في مسنده [2/ 527]، والبيهقي في السنن الكبرى [5/ 245] والهيثمي في مجمع الزوائد [10/ 162]، والمنذري في التركيب والترهيب [2/ 499].

(2)

أخرجه الترمذي [3546] كتاب الدعوات، باب قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"رغم أنف رجلا" وأحمد في مسنده [1/ 201]، والطبراني في المعجم الكبير [3/ 137]، والهيثمي في مجمع الزوائد [10/ 164] وابن حبان في صحيحه [2388 - الموارد]، والمنذري فى الترغيب والترهيب [2/ 510].

(3)

ذكره الزبيدي في إتحاف السادة المتقين [3/ 389].

(4)

أخرجه ابن ماجه في سننه [908] كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، [25] باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والبيهقي في السنن الكبرى [9/ 286]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [6/ 276]، والطبراني في المعجم الكبير [12/ 180].

(5)

أخرجه الطبراني في المعجم الكبير [3/ 138]، والهيثمي في مجمع الزوائد [1/ 137]، [10/ =

ص: 20

وفي رواية: "من ذكرت عنده فنسي الصلاة عليَّ خطئ طريق الجنة".

(1)

شعر:

إن شئت من بعد الضلالة تهتدي

صلي على الهادي البشير محمد

يا فوز من صلى عليه فإنه

يحوي الأماني بالنعيم السرمدي

يا قومنا صلوا عليه تظفروا

بالبشر والعيش الهنيء الأرغد

صلوا عليه وارفعوا أصواتكم

يغفر لكم من يومكم قبل الغد

ويخصُّكم رب الأنام بفضله

والفوز بالجنان يوم الموعد

صلى عليه اللَّه جل جلاله

ما لاح في الآفاق نجم الغرقد

وروى محمد بن حمدان المروزي بإسناده من حديث ابن مسعود مرفوعًا: "من لم يصل عليَّ فلا دين له".

(2)

وروى عبد الرزاق في مصنفه، وللطبراني نحوه، عن جابر مرفوعًا:"لا تجعلوني كقدح الراكب؛ إذا أراد أن ينطلق علق معالقه، وملأ قدحًا ماء، فإن كانت له حاجة في أن يتوضأ توضأ، أو أن يشرب شرب وإلا أهرقه، فاجعلوني في أول الدعاء وفي وسطه وفي آخره"

(3)

.

وروى ابن خزيمة عن أبي رافع مرفوعًا: "إذا طنت أذن أحدكم فليذكرني، فليصل عليَّ وليقل ذكر اللَّه من ذكرني بخير".

(4)

وعن ابن عباس مرفوعًا: "من صلى عليَّ في كتاب لم تزل الصلاة جارية له بدوام اسمي في ذلك الكتاب".

(5)

وفي كتاب الترمذي: الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء

= 164]، والمنذري في الترغيب والترهيب [2/ 508].

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه [11/ 508]، والمنذري في الترغيب والترهيب [2/ 508].

(2)

ذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة [214]، وذكره ابن أبي شيبة في الإيمان [47] بلفظ:"من لم يصل فلا دين له".

(3)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه [3117]، والهيثمي في مجمع الزوائد [10/ 155]، وابن حجر في المطالب العالية [3316].

(4)

أخرجه الطبراني في المعجم الكبير [1/ 301]، وفي المعجم الصغير [2/ 120]، والهيثمي في مجمع الزوائد [10/ 138]، وابن السني في عمل اليوم والليلة [163]، والشجري في أماليه [1/ 129]، والزبيدي في الإتحاف [5/ 105]، والعجلوني في كشف الخفا [1/ 70].

(5)

أخرجه الألباني في إرواء الغليل [2/ 177]، وابن كثير في تفسيره [6/ 462].

ص: 21

حتى تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم.

(1)

شعر:

ولأحمد فضل لا يعد ولا يحصى

وما شابه بين الورى أبدًا نقصًا

هو القرشي الهاشمي الذي سرى

به من المسجد الأسنى إلى المسجد الأقصى

نبي دنا من قاب قوسين

(2)

مذ دنا

فسبحان من وصَّى إليه بما وصى

عليه صلاة لا انتهاء لوصفها

من اللَّه ربي لا تعد ولا تحصى

وروينا في سنن أبي داود، وجامع الترمذي وقال: حسن صحيح من حديث فضالة بن عبيد قال: سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجلًا يدعو في صلاته فلم يمجد اللَّه ولم يصل على نبيه فقال: "عجل هذا"، ثم دعاه فقال لنا أو لغيره:"إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه جل وعز والثناء عليه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو بعد بما شاء".

(3)

وفيه بيان أن الصلاة من المحال المهمة للصلاة عليه. والأمر للوجوب.

وروينا في الصحيحين من حديث كعب بن عجرة قال: "خرج علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقلنا: قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: "قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد".

(4)

وفي نحوه من حديث أبي مسعود البدري، وفيه ذكر إبراهيم في الأول،

(1)

أخرجه الترمذي [486] في الصلاة، باب ما جاء في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

(2)

روى مسلم في صحيحه [280 - (174)] كتاب الإيمان، [76] باب في ذكر سدرة المنتهى، عن ابن مسعود في قوله تعالى:{فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)} [النجم: 9] قال ابن مسعود: "إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح".

(3)

أخرجه أبو داود في سننه [1481] كتاب الصلاة، باب الدعاء، والترمذي في سننه [3476] كتاب الدعوات، والنسائي في السهو، باب التهجد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والحاكم في المستدرك [1/ 30]، وأحمد في مسنده [6/ 18]، وابن خزيمة في صحيحه [710]، وابن حبان [510 - الموارد]، والبيهقي في السنن الكبرى [2/ 148].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [4/ 178، 6/ 151]، ومسلم في صحيحه [66 - (406)] كتاب الصلاة، [17] باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد، وأحمد في مسنده [4/ 118، 241]، وابن أبي شيبة في مصنفه [2/ 507، 508]، وعبد الرزاق في مصنفه [3105، 3106، 3107]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [4/ 356، 373]، والطبراني في المعجم الصغير [1/ 85].

ص: 22

وآل إبراهيم في الثاني.

(1)

وفي الصحيحين من حديث أبي حميد

(2)

مثل الأول إلا ذكر آل محمد، فبدلا منه: وعلى أزواجه وذريته وبقيت كيفيات أخر لا نطول بذكرها.

وفي فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من طريق أبي بردة في النسائي وأبي طلحة الأنصاري في مسند أحمد، وصحيحي ابن حبان والحاكم، وعبد الرحمن بن عوف في صحيح الحاكم، وعامر بن ربيعة عند أحمد وابن ماجه، وأبي بن كعب في جامع الترمذي مصححًا، ومسند أحمد ومستدرك الحاكم.

وأبي هريرة في الأربعة، وصحيح ابن حبان، وجابر عند النسائي، وأبي الدرداء عند الطبراني الكبير، وغير ذلك مما يطول ذكره.

(3)

شعر:

صلوا على خير الأنام محمد

إن الصلاة عليه نور يعقد

من كان صلى قائما يغفر له

قبل القعود وللمثاب تجدد

وكذاك إن صلى عليه قاعدًا

يغفر له قبل القيام ويرشد

‌فصل

عن ابن بنان الأصفهاني قال: "رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت له: هل نفعت ابن عمك الشافعي بشيء، أو خصصته بشيء؟

قال: نعم؛ سألت ربي أن لا يحاسبه.

فقلنا: بم؟.

قال: إنه كان يصلي عليَّ

(4)

صلاة لم يصل عليّ بمثلها.

قلت: وما هي؟، قال: "كان يقول اللهم صل على محمد كما ذكره الذاكرون

(1)

انظر البخاري [4/ 178، 6/ 151]، وفي مسلم [65 - (405)] كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد.

(2)

انظر مسلم [69 - (407)] كتاب الصلاة، [17] باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد.

(3)

انظر: أبو داود [4856]، والترمذي [3377]، والنسائي [404] في عمل اليوم والليلة، والحاكم في المستدرك [1/ 492]، وابن حبان في صحيحه [2322 - الموارد]، وفي الإحسان [853]، وأحمد في مسنده [4/ 8]، وابن ماجه [1085، 1636].

(4)

قال النووي: "اختلف العلماء في الحكمة في قوله: "اللهم صلي على محمد كما صليت على إبراهيم"، مع أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم صلى الله عليه وسلم؛ قال القاضي عياض: أظهر الأقوال أن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم سأل ذلك لنفسه ولأهل بيته، ليتم النعمة عليهم، كما أتمها على إبراهيم وعلى آله، وقيل: بل سأل ذلك لأمته، وقيل: بل ليبقى ذلك له دائمًا إلى يوم القيامة، ويجعل له به لسان صدق في الآخرين كإبراهيم صلى الله عليه وسلم" النووي في شرح مسلم [4/ 107] طبعة دار الكتب العلمية.

ص: 23

وغفل عن ذكره الغافلون"، وروي هذا عن الشافعي من أوجه أُخر.

فروينا عن ابن عبد الحكم قال: "رأيت الشافعي في النوم، فقلت: ما فعل اللَّه بك؟ قال: نعمني وغفر لي، وزففت في الجنة كما تزف العروس، ونثر عليَّ كما ينثر على العروس. فقلت: بم بلغت هذا الحال؟ قال: بقولي في كتاب الرسالة: وصلى اللَّه على محمد عدد ما ذكره الذاكرون، وعدد ما غفل عن ذكره الغافلون".

وروى البيهقي في مناقبه وعن أبي الحسن الشافعي

(1)

قال: "رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: يا رسول اللَّه بم جزي الشافعي عنك حيث يقول في كتاب الرسالة: صلى اللَّه على محمد كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون؟ قال: جزي عني أنه لا يوقف للحساب".

وعن بعض الصالحين قال: رأيت الشافعي في المنام فقلت: ما فعل اللَّه بك؟ قال: غفر لي، قلت: بماذا؟ قال: بخمس كلمات أصلي بهن على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. فقيل: وما هي؟ قال: كنت أقول: "اللهم صلي على محمد عدد من يصلي عليه، وصل على محمد بعدد من لم يصل عليه، وصل على محمد كما أمرت أن يصلى عليه، وصلى على محمد كما تحب الصلاة عليه، وصل على محمد كما ينبغي أن يصلى عليه".

وحكي أنه كان شاب يطوف بالبيت ويشتغل بالصلاة على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقيل له: هل عندك في هذا شيء؟ قال: نعم؛ خرجت أنا وأبي حاجين، فمرض أبي في بعض المنازل ومات، فاسود وجهه، وازرقت عيناه، وانتفخ بطنه، فبكيت وقلت:"إنا للَّه وإنا إليه راجعون، مات أبي في غربته هذه الموتة، فلما كان الليل غلبني النوم فرأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعليه ثياب بيض ورائحته طيبة عطرة، فدنا من أبي ومسح على وجهه فصار أشد بياضًا من الليل، ثم مسح على بطنه فصار كما كان، ثم أراد الانصراف، وإذا هو رسول اللَّه، وقال: إن أباك كان يكثر المعاصي والذنوب، وكان يكثر من الصلاة عليَّ، فلما نزل به ما نزل استغاثني فأغثته، وأنا غياث لمن أكثر الصلاة عليَّ في دار الدنيا".

(1)

الشافعي: هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي، الإمام العلم أبو عبد اللَّه الشافعي المكي المطلبي الفقيه، نسيب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال يحيى بن أكثم: كنا عند محمد بن الحسن في المناظرة، وكان الشافعي رجلا قرشي العقل والفهم والذهن، صافي العقل والفهم والدماغ، سريع الإصابة، ولو كان أكثر سماعًا للحديث لاستغنى أمة محمد صلى الله عليه وسلم به عن غيره من الفقهاء. انظر تاريخ الإسلام للذهبي [201 - 210].

ص: 24

وروى ابن عساكر، عن جعفر بن عبد اللَّه قال:"رأيت أبا زرعة في المنام وهو في السماء يصلي بالملائكة، فقلت له: بما نلت هذا؟ فقال: كتبت بيدي ألف ألف حديث، وإذا ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم أصلي عليه، وقد قال: "من صلى عليَّ مرة صلى اللَّه بها عليه عشرًا".

(1)

وروى ابن بشكوال: "أن أبا بكر بن مجاهد قام يومًا للشبلي فقال له أصحابه: أنت لا تقوم لعلي بن عيسى الوزير، وتقوم لهذا؟ فقال: ألا أقوم لمن يعظمه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: يا أبا بكر إذا كان في غد فسيدخل عليك رجل من أهل الجنة، فإذا دخل عليك فأكرمه، فلما كان بعد ليلتين جاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا بكر أكرمك اللَّه كما أكرمت رجلًا من أهل الجنة، فقلت: يا رسول اللَّه بم استحق الشبلي هذا منك؟ قال: هذا رجل يصلي خمس صلوات يذكرني في كل صلاة، ويقرأ:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ}

(2)

ذلك منذ ثلاثين سنة، ألا أكرم من يفعل هذا؟ " وفي رواية الحافظ عبد الغني هذا يقرأ بعد صلاته {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ} [التوبة: 128] الآية، ويتبعها بالصلاة عليَّ.

شعر:

هنيئا لعين قد رأت وجه أحمد

وفازت جهارًا منه بالحسن والرؤيا

وقد أسعد الرحمن عبدًا دعا له

فأضحى سعيدًا في الممات والمحيا

وبدَّل بعد الشرك بالنور والهدى

وبلغ ما يهوى من الدين والدنيا

وفاز برؤيا المصطفى سيد الورى

نبي حباه اللَّه بالرتبة العليا

عليه صلاة اللَّه ما طاف طائف

بمكة بيت اللَّه قصدًا أتى سعيا

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [70 - (408)] كتاب الصلاة [17] باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد، والترمذي [484، 485]، وأبو داود [1530]، وأحمد في مسنده [3/ 102، 261]، والنسائي [3/ 50] المجتبى.

(2)

سورة التوبة [128].

يقول تعالى ممتنًا على المؤمنين بما أرسل إليهم رسولا من أنفسهم أي من جنسهم، وعلى لغتهم، كما قال إبراهيم عليه السلام:{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [البقرة: 129] أي منكم بلغتكم، كما قال معمر بن أبي طالب رضي الله عنهما للنجاشي، والمغيرة بن شعبة لرسول كسرى: إن اللَّه بعث فينا رسولا منا نعرف نسبه وصفته ومدخله ومخرجه وصدقه وأمانته، وذكر الحديث. وقوله:{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ} [التوبة: 128] أي يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته ويشق عليها. تفسير ابن كثير [2/ 412].

ص: 25

وصلى عليه اللَّه

(1)

ما سرت الصبا

وما من مشتاق برؤياه واللقيا

صلاة شذاها عطر الكون جهرة

فمن قاسها بالمسك يوما فما استحيا

وهذه حكايات أخر مما نحن فيه:

الأولى: رؤي مسطاح الصوفي بعد موته وكان ماجنا، فقيل له: ما فعل اللَّه بك؟ قال: غفر لي. قيل: بأي شيء؟ قال: استمليت على بعض المحدثين مسندًا، فصلى الشيخ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فصليت أنا ورفعت صوتي، فصلى أهل المجلس عليه، فغفر لنا في ذلك اليوم.

الثانية: روى ابن بشكوال أن بعضهم رأى أبا إسحاق الكاغدي بعد وفاته، وكان سيدًا كبيرًا، فقال: ما فعل اللَّه بك؟ قال: رحمني وغفر لي، وأدخلني الجنة. فقيل بماذا؟ قال: لما وقفت بين يديه أمر الملائكة فحسبوا ذنوبي وحسبوا صلاتي على المصطفى صلى الله عليه وسلم فوجدوها أكثر، فقال لهم جلت قدرته: حسبكم يا ملائكتي، لا تحاسبوه واذهبوا به إلى جنتي.

الثالثة: روى أبو نعيم، عن سفيان الثوري قال: بينما أنا حاج إذ دخل عليَّ شاب لا يرفع قدمًا ولا يضع قدمًا إلَّا ويقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد. فقلت له: أتعلم قبول هذا؟ قال: نعم، من أنت؟ قلت: سفيان الثوري. قال: سفيان العراقي؟ قلت: نعم. قال: هل عرفت اللَّه؟ قلت: نعم. قال: كيف عرفته؟ قلت: بأنه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، ويصور الولد في الرحم. قال: يا سفيان

(2)

ما عرفت اللَّه حق معرفته. قلت: كيف تعرفه أنت؟ قال: بفسخ العزم والهمم، ونقض العزيمة؛ هممت ففسخ همتي، وعزمت فنقض عزمي، فعرف أن لي ربًا يدبرني. قال: قلت: فصلاتك على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: كنت حاجًا ومعي والدتي، فسألتني أن أدخلها البيت، فوقعت وتوَرَّم بطنها واسود وجهها، فجلست عندها وأنا حزين، فرفعت يدي نحو السماء فقلت: يا رب هكذا تفعل بمن دخل بيتك؟ فإذا أنا بغمامة قد ارتفعت من قبل تهامة، وإذا رجل عليه ثياب بيض قد دخل البيت فأمرَّ يده على وجهها، فابيض، وأمرَّ يده على بطنها فسكن الورم، ثم مضى ليخرج، فتعلقت بثوبه فقلت: من أنت الذي فرَّجت عني؟ قال: أنا نبيك

(1)

قال اللَّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} [الأحزاب: 56].

(2)

سفيان بن سعيد بن مسروق، أبو عبد اللَّه الثوري الكوفي، ثقة حافظ فقيه عابد إمام حجة، وكان ربما دلس، أخرج له الستة، توفي سنة [161 أو 164].

ص: 26

محمد. قلت: يا رسول اللَّه أوصني. قال: لا ترفع قدمًا ولا تضع أخرى إلا وأنت تقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد.

الرابعة: قال أبو الحسن البغدادي: رأيت منصور بن عمار في النوم، فقلت له: ما فعل اللَّه بك؟ قال: أوقفني بين يديه وقال: أنت منصور بن عمار؟ قلت: بلى يا رب. قال: أنت الذي كنت تُزهد الناس في الدنيا وتُرغب فيها؟ قال: قلت: قد كان ذلك، ولكني ما اتخذت مجلسًا إلا وبدأت بالثناء عليك

(1)

، وثنيت بالصلاة على نبيك، وثلثت بالنصيحة لعبادك. قال: صدقت، ضعوا له كرسيًا في سمائي يمجدني بين ملائكتي كما مجدني في أرضي بين عبادي. قلت: سبحان الملك المجيد الفعال لما يريد، لا إله سواه، ولا نعبد إلا إياه، وصل اللَّه على محمد وعلى آل محمد وسلم.

الخامسة: لما مات أبو العباس أحمد بن منصور رحمه الله قال رجل من أهل شيراز: رأيته في المنام البارحة وعليه حلة، وعلى رأسه تاج مكلل بالجوهر، فقلت: ما فعل اللَّه بك؟ قال: غفر لي وأكرمني وتوجني وأدخلني الجنة. فقلت: بماذا؟ قال: بكثرة صلاتي على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

السادسة: روي أن رجلا يقال له محمد بن مالك قال: مضيت إلى بغداد لأقرأ على أبي بكر بن مجاهد المقري، فكنا نقرأ عليه يومًا من الأيام إذ دخل عليه شيخ وعليه عمامة رثَّة وقميص ورداء رث، فقام الشيخ أبو بكر له وأجلسه مكانه واستخبره عن حاله وحال صبيانه، فقال الرجل: وُلد لي اليوم مولود وطلبوا مني سمنًا وعسلًا، ولم أملك ذرَّة، قال: فنمت وأنا حزين القلب، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في منامي، فقال لي: ما هذا الحزن؟ اذهب إلى علي بن عيسى وزير الخليفة واقرأ عليه السلام، وقل له بعلامة أنك لا تنام كل ليلة جمعة إلا بعد أن تصلي عليَّ ألف مرة، وهذه ليلة الجمعة صليت عليَّ سبعمائة مرة، فجاءك رسول الخليفة فدعاك، فمضيت معه ورجعت فما نمت حتى أتممت ألفًا، فبهذه العلامة سلِّم إلى هذا الرجل مائة دينار، فقام أبو بكر بن مجاهد المقري مع الشيخ ومضينا إلى دار الوزير وأجلسه مكانه فقص عليه الرجل قصته، فأمر الغلام بإخراج بَدْرَة

(2)

فوزن منها مائة دينار، وقال:

(1)

روى أبو داود في سننه [1481] عن فضالة بن عبيد قال: سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجلًا يدعو في صلاته لم يمجد اللَّه، ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم:"عجل هذا" ثم دعاه فقال له أو لغيره: "إذا صلى أحدكم، فليبدأ بتمجيد ربه والثناء عليه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو بما شاء".

(2)

البَدْرَة: كيس فيه مقدار من المال يتعامل به، ويقدم في العطايا، ويختلف باختلاف العهود، جمعها: بِدَر.

ص: 27

أيها الشيخ صدقت، هذا كان سرًا بيني وبين اللَّه تعالى، فخذ هذه المائة لأنك رسول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ووزن مائة أخرى وقال: هذه بشارتك بأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم علم بأني أُصلي عليه، ووزن مائة أيضًا، وقال: هذه من أجل أنك تعنيت وجئت إليَّ مهنئًا، وجعل يزن مائة مائة حتى كمل ألفًا فقال له رجل: إني لا آخذ إلا ما أمرني به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

السابعة: يحكى أنه كان بمدينة بلخ رجل تاجر، وكان كثير المال، وله ابنان، فتوفي والدهما فقسَّم ابناه المال بينهما نصفين، وكان في الميراث ثلاث شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

فأخذ كل واحد منهما واحدة، وبقيت بينهما واحدة، فقال أكبرهما لأخيه الأصغر: نجعل الشعرة الباقية نصفين، فقال الآخر: لا واللَّه بل هو أجل من أن يقطع شعره صلى الله عليه وسلم فقال الكبير: تأخذ هذه الشعرة بقسطك في الميراث؟ قال: نعم، فأخذ الكبير جميع المال، وأخذ الصغير الشعرات، وجعلها في جبينه، وكلما شاهدها صلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد أيام فنى مال الكبير، وكثر مال الصغير، فلما توفي الصغير رآه بعض الصالحين في النوم، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: قل للناس: من كانت له إلى اللَّه عز وجل حاجة فليأت قبر فلان، فكان الناس يقصدون قبره حتى بلغ إلى أن صار كل من مرَّ على قبره راكبًا ينزل ويمشي راجلًا، وذلك من فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

الثامنة: روي أن امرأة جاءت إلى الحسن البصري

(2)

فقالت: يا شيخ، توفيت لي ابنة، وأريد أن أراها في النوم، فقال الحسن: صلي أربع ركعات واقرئي في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وسورة ألهاكم مرة وذلك بعد صلاة العشاء الآخرة، ثم اضطجعي وصلي على النبي صلى الله عليه وسلم حتى ترقدي، ففعلت فرأتها في المنام، وهي في العقوبة وعليها لباس من قطران

(3)

ويداها مغلولة ورجلاها مسلسلة بسلاسل من نار، فلما انتبهت

(1)

روى الترمذي في سننه [3635] كتاب المناقب، باب ما جاء في صفة النبي صلى الله عليه وسلم عن البراء قال:"ما رأيت من ذي لمة في حلة حمراء أحسن من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ له شعر يضرب منكبيه. . . . " الحديث.

(2)

الحسن بن يسار أبو سعيد البصري، الأنصاري، فقيه، ثقة فاضل مشهور، وكان يرسل كثيرًا ويدلس، قال البزار: كان يروي عن جماعة لم يسمع منهم فيتجوز ويقول حدثنا وخطبنا، يعني قومه الذين حدثوه وخطبوا بالبصرة، اخرج له الستة، وتوفي سنة [110] وقد قارب الـ (90) سنة.

(3)

قال تعالى: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} قال ابن كثير: وقوله {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} [إبراهيم: 49، 50] أي ثيابهم التي يلبسونها من قطران، وهو الذي تهنأ به الإبل -أي تطلى- وكان ابن عباس يقول: القطران هو النحاس المذاب، وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة. تفسير ابن كثير [2/ 561].

ص: 28

جاءت إلى الحسن البصري وأخبرته بالقصة، فقال: تصدقي عنها لعل اللَّه أن يعفو عنها، ثم في تلك الليلة رأى الحسن البصري كأنه في روضة من رياض الجنة، ورأى سريرًا منصوبًا وعليه جارية حسناء جميلة، وعلى رأسها تاج من النور، فقالت له: يا حسن أتعرفني؟ فقال: لا. فقالت: أنا ابنة تلك المرأة التي أمرتها بالصلاة. فقال الحسن: بغير هذا وصفت لي حالك. فقالت: هو كما قالت. قال: فبما إذًا بلغت هذه المنزلة؟ فقالت: كنا سبعين ألف نفس في العقوبة، كما وصفت لك والدتي، فعبر واحد من الصالحين على قبورنا، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم مرة واحدة، وجعل ثوابها لنا، فأعتقنا اللَّه -تعالى- من العقوبة ببركته، وبلغ نصيبي ما قد شاهدته فهذا من جملة بركة الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم.

التاسعة: روى الفاكهاني في كتابه الفجر المنير، عن الشيخ موسى الضرير رحمه الله أنه ركب في مركب في البحر المالح، قال: فثارت علينا ريح تسمى الأقلانية، قلَّ من ينجو منها من الغرق، قال: فنمت، فرأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يقول: قل لأهل المركب يقولون ألف مرة: اللهم صل على محمد صلاة تنجينا بها من جميع الأهوال والآفات، وتقضي لنا بها جميع الحاجات وتطهرنا بها من جميع السيئات، وترفع لنا بها عندك أعلى الدرجات، وتبلغنا بها أقصى الغايات من جميع الخيرات في الحياة وبعد الممات. قال: فاستيقظت، وأخبرت أهل المركب بالرؤيا وصلينا على النبي صلى الله عليه وسلم نحو ثلاثمائة مرة ففرج اللَّه عنا تلك الشدة.

العاشرة: رُوي عن الإمام العالم أبي حفص عمر بن الحسن السمرقندي قال: سمعت الأستاذ قدس اللَّه روحه قال: سمعت رجلًا يقول: حججت في سنة كذا، فرأيت رجلًا في الحرم لم يزل يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان في الحرم والبيت وعرفة ومنى، فقلت: أيها الرجل لكل مقام مقال، فما بالك لا تشتغل بالدعاء ولا بالصلاة إلا أنك تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم لا غير؟ فقال له الرجل: خرجت من خراسان حاجًا إلى بيت اللَّه الحرام، ومعي والدي، فبلغنا الكوفة، فاعتل أبي هناك، فتوفي، فغطيت وجهه بإزار، فلما كشفت عن وجهه رأيت صورة كصورة الحمار، فحزنت لذلك حزنًا شديدًا، فقلت: كيف أظهر للناس هذا الحال، وقد صار والدي في هذه الصورة، فنعست ساعة، فرأيت في منامي كأنه دخل علينا رجل وكشف عن وجهه وقال لي: ما هذا الغم العظيم؟ فقلت له: وكيف لا أغتم مع هذه المحنة العظيمة؟! فقال: إن اللَّه عز وجل قد أزال عنك هذا الغم، فانطلقت إلى والدي فكشفت عن وجهه فإذا هو كالقمر الطالع يلوح، قال: فقلت لذلك الرجل: من أنت؟ قال: أنا المصطفى، فلويت طرف ردائه وقلت له: بحق اللَّه إلا ما أخبرتني بالقصة، فقال لي:

ص: 29

والدك كان يأكل الربا، وإن من حكم اللَّه عز وجل أن من أكل الربا أن يجعل صورته صورة الحمار، إما في الدنيا وإما في الآخرة

(1)

، ولكن كان من عادة والدك أن يصلي عليَّ في كل ليلة قبل أن يضطجع مائة مرة، فلما أن عرضت له هذه الحالة جاءني الملك الذي يعرض عليّ أعمال أمتي فأخبرني بحاله، فسألت اللَّه -تعالى- فشفعني فيه.

الحادية عشرة: روي عن سفيان الثوري -رحمه اللَّه تعالى- أنه قال: رأيت رجلا من الحجاج يكثر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: هذا موضع الثناء، فقال لي: ألا أخبرك أني كنت في بيتي، وكان لي أخ قد حضرته الوفاة، فاسود وجهه، وكان البيت مظلمًا، فدخل علينا رجل كان وجهه السراج، فمسح بيده على وجهه، فصار وجه أخي كالقمر، فقلت: من أنت الذي منّ اللَّه علينا بك؟ فقال: أنا الملك الموكل

(2)

بمن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم أفعل به هكذا.

فائدة: روى أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل الأصفهاني رحمه الله في كتابه الترغيب والترهيب عن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أنه قال: "الصلاة على النبي أفضل من عتق الرقاب، وإن حب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أفضل من بذل مهج الأنفس، أو قال من ضرب السيوف في سبيل اللَّه".

(3)

الثانية عشر: روى الإمام أبو القاسم القشيري: أن عمرو بن الليث أحد ملوك خراسان رؤي في المنام بعد وفاته فقيل له: ما فعل اللَّه بك؟ فقال: غفر لي. فقيل: بماذا؟ قال: صعدت ذروة الجبل يومًا، فأشرفت على جندي وعسكري، فأعجبني كثرتهم، وتمنيت أني حضرت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأعنته ونصرته، فجعلت أصلي عليه، فشكر اللَّه لي ذلك فغفر لي.

(1)

روى السيوطي في "الدر المنثور"[1/ 364] بلفظ: "من أكل الربا بعثه اللَّه يوم القيامة مجنونا يتخبط".

(2)

روى النسائي [3/ 43 - المجتبى] عن ابن مسعود مرفوعًا: "إن للَّه ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام".

(3)

رواه العجلوني في كشف الخفاء [2/ 39] وقال: رواه التيمي في ترغيبه، وعنه أبو القاسم بن عساكر، عن أبي بكر الصديق من قوله، ورواه النميري، وابن بشكوال وغيرهما بلفظ "السلام" بدل الصلاة، قال في المقاصد: وأما قول شيخنا -يعني الحافظ ابن حجر- في بعض فتاويه عن هذا: إنه كذب مختلق، فمراد به إضافته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، زاد النجم: وإلا فهو ثابت عن أبي بكر موقوفًا، وأخرجه أيضًا القاري في "الأسرار المرفرعة"[235 - 236]، والفتني في "تذكرة الموضوعات"[89]، والسيوطي في "الدرر المنتثرة"[103].

ص: 30

فائدة: روى أبو القاسم الأصفهاني في كتاب الترغيب والترهيب عن يزيد بن مسلم الجريري قال: سمعت وهب بن منبه يقول: "الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عبادة".

الثالثة عشر: روى أبو القاسم المذكور أيضًا بسنده عن محمد بن الحسين الحرَّاني قال: قال لي رجل من حران يقال له الفضل، وكان كثير الصوم والصلاة: كنت أكتب الحديث ولا أصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، فرأيته في المنام فقال: إذا كتبت أو ذكرت لم لا تصلي عليَّ؟ قال: ثم رأيته صلى الله عليه وسلم مرة أخرى فقال: ما تبلغني صلاتك عليَّ، فإذا صليت عليَّ أو ذكرت فقل: صلى الله عليه وسلم.

فائدة: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "وكَّل اللَّه برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ملكًا فلا يذكر عند عبد ولا يصلي عليه إلا قال ذلك الملك: لا غفر اللَّه لك، فتقول الملائكة: آمين.

الرابعة عشر: روي أن رجلا هرب من السلطان، وخط في الأرض خطًا وسماه قبر النبي صلى الله عليه وسلم وتطهر وصلى عنده، وصلى عليه ألف مرة، ثم قال: اللهم إني جعلت هذا القبر شفيعي إليك فآمن روعي من هذا الظالم بحق المصطفى، فهتف به هاتف وقال له: نعم الشفيع محمد صلى الله عليه وسلم قد آمنا روعك، وأهلكنا ظالمك، وغفرنا ذنبك.

فائدتان: الأولى: روي أن آدم صلى الله عليه وسلم نام فرأى حواء

(1)

عليها السلام جالسة عند رأسه، فمد يده إليها فقال جبريل عليه السلام: لا تمسها حتى تعطي مهرها. قال: وما مهرها؟ قال: الصلاة على محمد بن عبد اللَّه خير خلق اللَّه صلى الله عليه وسلم.

الثانية: روي أن اللَّه تبارك وتعالى يقول: يا محمد من صلى عليك أمرت جبريل وسبعين ألف ملك أن يصلوا عليه ولا يموت حتى يرى مقعده من الجنة، فأكثروا من الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.

الخامسة عشر: روي أن أبا الحسن عليًا الميموني قال: رأيت الشيخ أبا الحسن ابن عيينة رحمه الله في المنام بعد موته كأن على أصابع يديه شيئًا مكتوبًا بلون الذهب، أو بلون الزعفران، فسألته عن ذلك، فقلت: يا أستاذ أرى على أصابع يديك شيئًا مليحًا مكتوبًا ما هو؟ قال: يا بني هذا بكتابتي لحديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أو قال:

(1)

يقال: إن خلق حواء كان بعد دخول الجنة، كما قال السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: أخرج إبليس من الجنة وأسكن آدم الجنة، فكان يمشي فيها وحيشًا ليس له زوج يسكن إليه، فنام نومة فاستيقظ، وعند رأسه امرأة قاعدة، خلقها اللَّه من ضلعه، فسألها: ما أنت؟ قالت: امرأة. قال: ولم خلقت؟ قالت: لتسكن إليّ، قالت له الملائكة ينظرون ما بلغ من علمه: ما اسمها يا آدم؟ قال: حواء، قالوا: ولم حواء؟ قال: إنها خلقت من شيء حي. تفسير ابن كثير [1/ 79].

ص: 31

لكتابتي "صلى الله عليه وسلم" في حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

فائدة: روى الأصفهاني في كتابه الترغيب والترهيب: أن أبا الحسن النهاوندي الزاهد في ديار المغرب قال: لقي رجل الخضر

(1)

صلى الله عليه وسلم فقال له: أفضل الأعمال اتباع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والصلاة عليه، وأفضل الصلاة ما كان عند نشر حديثه.

فائدة ثانية: روى الأصفهاني أيضًا بإسناده إلى أبى محمد إسماعيل الزاهد قال: سمعت أبا علي الحسن يقول: علامة أهل السنة كثرة الصلاة على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

فائدة ثالثة: روى الأصفهاني أيضًا بإسناده إلى أبي الحسن الحراني قال: كان أبو عروة الحرَّاني لا يترك أحدًا يقرأ عليه الأحاديث إلا أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يقول بركة الحديث كثرة الصلاة على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

فائدة رابعة: روي أن ثابتًا والد أبي حنيفة

(2)

رأى في المنام كأن أبا حنيفة دخل قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجمع عظامه ثم خرج بها، فقص رؤياه على ابن سيرين، فقال: إنه يجمع علم النبي صلى الله عليه وسلم ويحيي سنته، فكان كذلك.

السادسة عشر: روي أن أم الفضل

(3)

كانت كثيرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فرأت في المنام أن بضعة من جسد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وضعت في حجرها، فقالت ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "خيرًا رأيت؛ فاطمة تلد إن شاء اللَّه غلامًا

(1)

قال النووي: جمهور العلماء على أنه حي موجود بين أظهرنا، وذلك متفق عليه عند الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة، وحكاياتهم في رؤيته والاجتماع به والأخذ عنه وسؤاله وجوابه ووجوده في المواضع الشريفة ومواطن الخير، أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تستر. وقال الشيخ أبو عمرو بني الصلاح: هو حي عند جماهير العلماء والصالحين، والعامة معهم في ذلك، قال: وإنما شذّ بعض المحدثين، قال الحبري المفسر، وأبو عمر: وهو نبي، واختلفوا في كونه مرسلا، وقال القشيري وكثيرون: هو ولي. النووي في شرح مسلم [15/ 111] طبعة دار الكتب العلمية.

(2)

أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي الإمام العلم أبو حنيفة الكوفي الفقيه مولى بني تيم اللَّه بن ثعلبة، ولد سنة (80)، ورأى أنس بن مالك غير مرة بالكوفة إذ قدمها أنس، قاله ابن سعد، وروى أبو حنيفة عن عطاء بن أبي رباح وقال: ما رأيت أفضل منه، وغيره الكثير، وبرع في الرأي، وساد أهل زمانه في التفقه وتفريع المسائل، وتصدر للاشغال وتخرج به الأصحاب، وتوفي رحمه الله سنة (150). تاريخ الإسلام، وفيات [141 - 150].

(3)

لبابة بنت الحارث أم الفضل الهلالية، زوج العباس بن عبد المطلب، وأخت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أخرج لها أصحاب الكتب الستة، وتوفيت في خلافة عثمان. ترجمتها: تهذيب التهذيب [12/ 449]، الثقات [3/ 361]، أسد الغابة [7/ 253]، أعلام النساء [4/ 170، 272]، الإصابة [8/ 97]، تجريد أسماء الصحابة [2/ 301].

ص: 32

فيوضع في حجرك" فولدت فاطمة الحسن رضي الله عنهما فوضع في حجرها.

(1)

السابعة عشر: روي أن فتى من الأنصار دخل على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر جالس إلى جانبه، فأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ثم أقبل بوجهه عليه إلى أن انصرف، ثم أقبل على الصديق، وقال:"يا أبا بكر لعلك عزَّ عليك" قال أبو بكر رضي الله عنهما: إنه شق عليَّ أن يكون بيني وبينك أحد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن هذا يصلي عليَّ صلاة لا يصليها أحد من أمتي" قال الصديق: كيف يقول يا رسول اللَّه؟ قال: "يقول اللهم صل على محمد عدد من يصلي عليه، وصل على محمد عدد من لم يصل عليه، وصل على محمد كما تحب الصلاة عليه، اللهم صل على محمد الذي من نوره الأنوار، وأشرق بشعاع وجهه الأقطار، وصل على محمد المختار، وصل على أهل بيته الأبرار".

الثامنة عشر: روي أن رجلًا أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وادعى أن رجلا سرق

(2)

بعيرًا له وأحضر شاهدان، وشهدا عليه، فهم النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يده، فقال المدعى عليه: يا رسول اللَّه تأمر بإحضار البعير تسأله عن من سرقه، فإني أرجو من اللَّه -تعالى- أن ينطق ببراءتي يا رسول اللَّه، فأحضره النبي صلى الله عليه وسلم وقال:"يا بعير من أنا؟ " فقال البعير بلسان فصيح: أنت رسول اللَّه حقًا حقًا، لا تقطع يده فإن مدعيه منافق والشاهدان منافقان، توافقا على قطع يده عنادًا وعداوة لك يا رسول اللَّه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"بأي شيء أجارك اللَّه من قطع يدك؟ " فقال: يا رسول اللَّه مالي من كثير عمل غير أني لا أقوم ولا أقعد إلا أُصلي عليك، فقال صلى الله عليه وسلم:"سر على ذلك، فإن اللَّه -تعالى- يبرئك من نار جهنم كما برأك من قطع يدك في الدنيا".

التاسعة عشر: روي عن عبد اللَّه بن سلام

(3)

قال: أتيت أخي عثمان لأسلم

(1)

أخرجه ابن ماجه في سننه [3923] كتاب: تعبير الرؤيا، [10] باب: تعبير الرؤيا، وأحمد في مسنده [6/ 339]، وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق [4/ 316].

(2)

قال القاضي عياض: صان اللَّه -تعالى- الأموال بإيجاب القطع على السارق، ولم يجعل ذلك في غير السرقة كالاختلاس والانتهاب والغصب، لأن ذلك قيل بالنسبة إلى السرقة، ولأنه لا يمكن استرجاع هذا النوع بالاستدعاء إلى ولاة الأمور، وتسهيل إقامة البينة عليه، بخلاف السرقة فإنه تندر إقامة البينة عليها، فعظم أمرها، واشتدت عقوبتها ليكون أبلغ في الزجر عنها، وقد أجمع المسلمون على قطع السارق في الجملة وإن اختلفوا في فروع منه. النووي في شرح مسلم [11/ 151] طبعة دار الكتب العلمية.

(3)

عبد اللَّه بن سلام بن الحارث أبو يوسف الإسرائيلي النسب، حليف الأنصار، أسلم عند قدوم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان اسمه الحصين فسماه عبد اللَّه، وشهد له بالجنة، توفي سنة (43)، =

ص: 33

عليه، فقال: مرحبًا يا أخي، رأيت النبي صلى الله عليه وسلم الليلة في المنام فناولني دلوًا فيه ماء فشربت حتى رويت، وإني لأجد برده، فقلت: بماذا نلت هذا؟ فقال: بكثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

العشرون: روي عن أحمد بن عطاء قال: سمعت عبد اللَّه بن صالح يقول: رؤي بعض أصحاب الحديث في المنام، فقيل له: ما فعل اللَّه بك؟ فقال: غفر لي. فقيل: بماذا؟ فقال: بصلاتي في كتبي على النبي صلى الله عليه وسلم.

الحادية بعد العشرين: روي أن ابن الموفق حج عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وكان يكثر الصلاة عليه، قال: فرأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال لي: يا ابن الموفق حججت عني؟ قلت: نعم. قال: ولبيت عني؟ قلت: نعم. قال: فإني كافيك بها يوم القيامة آخذ بيدك في الموقف وأدخلك الجنة، والخلائق في كرب الحساب.

الثانية بعد العشرين: روى أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله أن امرأة كانت تحب النبي صلى الله عليه وسلم حبًا شديدًا، وكانت تكثر الصلاة عليه، فقصدت زيارته، فلما وصلت المدينة نزلت في بيت عائشة، فسألت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت عائشة: مات، فصرخت وأكثرت الصراخ، وقالت: أريني قبره، فأتت به إليه، فقالت لها اكشفي لي عنه ما نشر عليه، فألصقت جسدها بالقبر، وصاحت صيحة فماتت، وأتى أبو بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين، وجمع من الصحابة فرأوها وهي ملصقة جسدها بالقبر وهي ميتة فأعظموا أمرها وتحققوا محبتها فيه، وغسَّلوها وكفنوها وصلوا عليها، وكان يومًا مشهودًا لم ير لغيرها.

الثالثة بعد العشرين: روي عن أبي محمد الجزري قال: دخل علينا الرباط فقير بعد صلاة العصر، شاب مصفر اللون أشعث الشعر، حاسر الرأس، حافي القدم، فجدد الوضوء وصلى ركعتين، ثم جلس ووضع رأسه على خشبة إلى المغرب، فلما صلى معنا المغرب جلس كذلك يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا رسول الخليفة يستدعينا في دعوة، فقمت إلى الشاب وقلت له: هل لك إلى دار الخليفة؟ فرفع رأسه وقال:

= وشهد فتح بيت المقدس مع عمر، وقيل إنه من ذرية يوسف عليه السلام وكان من الأحبار، وروى عنه أنس بن مالك، وزرارة بن أوفى، وأبو سعيد المقبري، وأبو سلمة، وأبو بردة، وابناه يوسف ومحمد ابنا عبد اللَّه، وجماعة. تاريخ الإسلام، وفيات سنة [43].

قال المالكية: لا يجوز له أن ينيب من يحج عنه، سواء كان صحيحًا أو مريضًا ترجى صحته، في حجة الفريضة، وأما حج التطوع فالإجارة مكروهة لكنها تصح. وقال الحنفية: من عجز عن الحج بنفسه وجب عليه أن، يستنيب غيره ليحج عنه بشرط عجزه المستمر إلى الموت، فإن حج عنه وانتهى عجزه فقد سقط عنه حج الفرض، والشافعية توجب الحج إذا أناب ثم برأ من مرضه. انظر الفقه على المذاهب الأربعة [1/ 612].

ص: 34

ليس لي (رغبة)

(1)

إلى دار الخليفة، ولكني أشتهي عصيدة

(2)

حارة، فاطرحت قوله حيث لم يوافق الجماعة، وقلت في نفسي: هذا قريب عهد بالطريقة لم يتأدب بعد فتركته، ومضيت إلى دار الخليفة، فأكلنا وسمعنا وتفرقنا آخر الليل، فلما دخلت الرباط رأيته على تلك الحال، فجلست على سجادتي، فلهجت عيناي بالنوم، وإذا بجماعة وقائل يقول: هذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والأنبياء عليهم السلام فدنوت وسلَّمت عليه، فولى بوجهه عني معرضًا، فكررت ذلك وهو يعرض عني، فخفت من ذلك وقلت: يا رسول اللَّه: ما الذي أذنبت حتى تعرض عني؟ فقال: فقير من أمتي اشتهى عليك شهوة فتهاونت به، فاستيقظت مرعوبًا، وقمت نحو الفقير فلم أره، فسمعت صوت الباب، فخرجت في إثره، فإذا هو خارج، فناديته: يا فتى نحضر شهوتك، فالتفت إليَّ وقال: إذا اشتهى فقير عليك شهوة لا توصلها إليه حتى يشفع إليك مائة وأربعة وعشرون ألف نبي، فلا حاجة إليها، ثم تركني وذهب.

الرابعة بعد العشرين: روي عن عبد الواحد بن زيد

(3)

قال: كان لنا خادم يخدم السلطان، وهو معروف بالفساد والغفلة عن اللَّه -تعالى- فرأيته الليلة في المنام ويده في يد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول اللَّه إن هذا العبد السوء من المعرضين عن اللَّه -تعالى- فكيف وضعت يدك في يده؟ فقال صلى الله عليه وسلم: قد عرفت ذلك، وها أنا ماض به لأشفع له عند اللَّه -تعالى-، فقلت: يا رسول اللَّه، فبأي وسيلة بلغ ذلك منك؟ قال: بكثرة صلاته عليَّ، فإنه في كل ليلة يأوي إلى فراشه يصلي عليَّ ألف مرة، وإني لأرجو أن اللَّه -تعالى- يقبل شفاعتي فيه، قال عبد الواحد

(4)

: فلما أصبحت فإذا أنا بذلك

(1)

بالأصل (فلت) وأثبتناها هكذا لتوافق النص.

(2)

العصيدة: دقيق يُلت بالسمن ويطبخ، جمعها: عصائد.

(3)

عبد الواحد بن زيد، أبو عبيدة البصري العابد القدوة شيخ الصوفية بالبصرة، روى عن عطاء والحسن وعبادة بن نسي وجماعة سواهم، وعنه وكيع ومحمد بن السماك وزيد بن الحباب وأبو سليمان الداراني وجماعة، وهو ضعيف الحديث، توفي بعد سنة (150). ترجمته: تاريخ البخاري الكبير [6/ 62]، الجرح والتعديل [6/ 107]، ميزان الاعتدال [2/ 672]، الثقات [7/ 124]، سير الأعلام [7/ 178].

(4)

قال ابن الأعرابي: قال عبد الواحد بالمحبة على مذاهب أهل الخصوص، ولو صدق نفسه لاضطره قوله بالمحبة، إلى القول بالسنة والكتاب، ولكنه سامح نفسه، وتكلم في الشوق والغرق والأنس، وجميع فروع المحبة التي قال بها أهل الإثبات، وأن اللَّه يحب من أطاعه، وأن الطاعة والاتباع أوجب المحبة من اللَّه -تعالى- ومن قول السنة: إن اللَّه أحب قومًا فوفقهم لطاعته، فكانت محبته لهم واختياره، لما سبق من علمه لا لكسبهم، فكانت محبته لهم قبل عملهم وقبل خلقهم. تاريخ الإسلام، وفيات [151 - 160].

ص: 35

الخادم قد دخل المسجد باكيًا، وكنت في ذكر ما رأيته له أقص على أصحابي، فلما دخل سلَّم وجلس بين يدي، وقال: يا عبد الواحد مُدَّ يدك، فقد أرسلني إليك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأتوب على يديك وذكر لي ما جرى بينك وبينه الليلة في شأني، فلما تاب سألته عن رؤياه، فقال: أتاني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخد بيدي وقال: لأشفعن لك إلى ربي لأجل صلاتك عليَّ، فلما انطلقت معه شفع لي، وقال لي: فأت عبد الواحد وتب على يديه، واستقم.

الخامسة بعد العشرين: روي عن علي بن عيسى الوزير أنه قال: كنت أكثر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فلما صرفت عن الوزارة رأيت في المنام كأني راكب حمارًا، ورأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فترجلت له فقال لي: ارجع إلى مكانك، فأصبحت وقلدت الوزارة ببركة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.

السادسة بعد العشرين: روي عن ابن جعفر الحدَّاد -رحمه اللَّه تعالى- أنه قال: جعت مرة بالمدينة ولم أجد طعامًا منذ خمسة عشر يومًا، فألصقت بطني بحائط قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأكثرت من الصلاة عليه، وقلت: يا رسول اللَّه أشبع ضيفك فقد أضعفه الجوع عن خدمة اللَّه تعالى، قال: فغلبني النوم، فرأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقد دفع إليَّ رغيفًا، وأنا آكله فاستيقظت وأنا شبعان، وبيدي نصفه.

فوائد: الأولى: عن أبي عمران الواسطي قال: خرجت من مكة أريد زيارة القبر المشرف

(1)

فلما خرجت من الحرم أصابني عطش شديد حتى آيست من نفسي، فجلست تحت شجرة أم غيلان آيسًا، وإذا بفارس قد أقبل على فرس أخضر، وكل آلاته خضر، وفي يده قدح أخضر فيه شراب أخضر فدفعه إليَّ وقال: اشرب، فشربت ثلاثًا، والقدح بحاله، فقال لي: أين تريد؟ قلت: المدينة لأسلم على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه. فقال لي: إذا وصلت وسلمت فقل رضوان يقرئكم السلام.

الثانية: عن إبراهيم الخواص قال: عطشت في بعض أسفاري إلى المدينة، فإذا أنا بماء يرش على وجهي ففتحت عيني، فإذا أنا برجل حسن الوجه، راكب على دابة شهباء، فسقاني وقال: كن رديفي فما لبثت إلا يسيرًا إذ رأيت المدينة، فقال: انزل

(1)

زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم القرب وأجلها شانًا، وقد بين الفقهاء آداب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إذا توجه لزيارة المصطفى صلى الله عليه وسلم يكثر من الصلاة والسلام عليه مدة الطريق، ويصلي في المساجد التي يمر بها، وإن عاين حيطان المدينة يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: اللهم هذا حرم نبيك فاجعله وقاية لي من النار، وأمانًا من العذاب وسوء الحساب، ويغتسل قبل الدخول وبعده إن أمكنه، ويتطيب ويلبس أحسن ثيابه. . . . إلى آخر الآداب. انظر الفقه على المذاهب الأربعة [1/ 615].

ص: 36

وقل: الخضر يقرئك السلام.

الثالثة: عن أبي الخير الأقطع قال: قدمت مدينة الرسول، فأقمت خمسة أيام فأذقت فيها ذواقًا فتقدمت إلى القبر الشريف، وسلَّمت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وعلى صاحبيه

(1)

، وقلت: يا رسول اللَّه أنا ضيفك الليلة، وتنحيت ونمت خلف القبر، فرأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المنام وعليّ بين يديه، فحركني علي وقال: قم قد جاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقمت إليه وقبَّلت بين عينيه، فدفع إليّ رغيفًا فأكلت نصفه، وانتبهت وفي يدى نصفه.

وقد سبق مثلها.

وحكاية العتبي مشهورة في كتب أصحابنا نذكرها إن شاء اللَّه -تعالى- آخر مجلس الحج بزيادات فيها.

شعر:

أحن إلى نوح الحمام

(2)

إذا غنى

وأشتاق للوادي وأصبو إلى المعنى

ويعجبني مر النسيم لأنه

يحدث عن نجد الصبا حديثًا له معنى

ويخبر عن زوار ليلي بأنهم

رأوا عند بانات النقا وجهها الأسنى

بعيشك إن جئت الخيام فقف بها

وقل لمليح الحي إني به مفنى

وعرض بذكري عنده فلعله

يرق لمشتاق إلى ربعه حنَّا

متى بقيا يقضي لنا منه عاشق

ويدفن في سلع ويمسي له سكنى

تمكن قلبي حب من سكن الحما

فقلبي يهواه وعقلي به جُنَّا

تكامل معناه فأصبح فاتنا

أياله بدرا حوى الحسن والحسنى

(1)

يقول الزائر لقبره صلى الله عليه وسلم: السلام عليك يا رسول اللَّه، من فلان يتشفع بك إلى ربك فاشفع له ولجميع المسلمين، ثم يقف عند وجهه مستدبرًا القبلة ويصلي عليه ما شاء، ويتحول قدر ذراع حتى يحاذي رأس الصديق -رضي اللَّه تعالى عنه- ويقول: السلام عليك يا خليفة رسول اللَّه، السلام عليك يا صاحب رسول اللَّه في الغار، السلام عليك يا رفيقه في الأسفار، السلام عليك يا أمينه في الأسرار، جزاك اللَّه عنا أفضل ما جزى إماما عن أمة نبيه، ويتحول إلى قبر عمر ويقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين، السلام عليك يا مظهر الإسلام، السلام عليك يا مكسر الأصنام جزاك اللَّه عنا أفضل الجزاء. . . . إلى آخره. المرجع السابق [1/ 616].

(2)

ناحت الحمامة نوحًا ونواحًا: سجعت، فهي نائحة ونوَّاحة، والمرأة على الميت: بكت عليه بجزع وعويل.

ص: 37

عليه صلاة اللَّه

(1)

ما لاح بارق

وما ناح طير في الغصون وما غنى

شعر:

بجاه النبي المصطفى أتوسل

وما لي سواه في الممات موئل

ومن ذا الذي أرجو لإدراك بغية

النهاية دون الورى أتوصل

إذا نابني أمرا فليس لي

على غيره دون الأنام معول

إذا قيل هذا يرتجى فضل جاء منه

فجاه رسول اللَّه أعلى وأفضل

ومن يرتجى في الحشر والرسل قد جُنَّت

من الخوف يرجى غيره أو يؤمل

إذا زل بالآمال غيري فإنني

لغير رسول اللَّه لا (اتدنك)

(2)

(1)

في كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم روى مسلم في صحيحه [65 - (405)] كتاب الصلاة، [17] باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد، عن أبي مسعود الأنصاري، وفيه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما قد علمتم".

قال النووي: قال العلماء: معنى البركة هنا الزيادة من الخير والكرامة، وقيل: هو بمعنى التطهير والتزكية، واختلف العلماء في الحكمة من قوله:"اللهم صل على محمد كما صليت على إبراهيم" مع أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم صلى الله عليه وسلم قال القاضي عياض: أظهر الأقوال أن نبينا صلى الله عليه وسلم سأل ذلك لنفسه ولأهل بيته ليتم النعمة عليهم كما أتمها على إبراهيم وعلى آله.

وقيل: بل سأل ذلك لأمته، وقيل: بل ليبقى ذلك له دائمًا إلى يوم القيامة، ويجعل له به لسان صدق في الآخرين كإبراهيم صلى الله عليه وسلم. النووي في شرح مسلم [4/ 107] طبعة دار الكتب العلمية.

(2)

كذا بالأصل.

ص: 38

‌مجلس في الإخلاص وإحضار النية في جميع الأعمال والأقوال والأحوال البارزة والخفية

فيه آيات: قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}

(1)

الآية.

وقال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا}

(2)

.

وقال تعالى: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ}

(3)

ومعنى الإخلاص: التصفية مما سوى الرب جل جلاله، وشغل القلب به.

وأما الأحاديث فكثيرة، نذكر منها اثني عشر حديثًا، أولها: حديث: "إنما الأعمال بالنيات"

(4)

وهو قاعدة الدين، وأساس السالكين، وشرعت لتمييز العبادات عن العادات، ورتب العبادات، وفرق بين النية والأمنية.

رضوا بالأمانى وابتلوا بحظوظهم

وخاضوا بحار الحب دعوى فما ابتلوا

وهو حديث أخرجه الشيخان، وغيرهما في صحيحيهما من حديث عمر بن الخطاب، ولم يصح إلا من طريقه

(5)

.

(1)

سورة البينة [5].

وذلك كقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} [الأنبياء: 25] ولهذا قال {حُنَفَاءَ} [الحج: 31] أي متحنفين عن الشرك إلى التوحيد، {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} [البقرة: 3] وهي أشرف عبادات البدن، {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [المائدة: 55] وهي الإحسان إلى الفقراء والمحاويج. تفسير ابن كثير [4/ 537].

(2)

سورة الحج [37].

(3)

سورة آل عمران [29].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [1] كتاب بدء الوحي، [1] باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، عن عمر بن الخطاب، وأبو داود في سننه [2201]، والترمذي [1647] كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء فيمن يقاتل رياء وللدنيا، والنسائي [1/ 58، 6/ 158 - المجتبى]، وابن ماجه [4227]، وأحمد في مسنده [1/ 25]، والبيهقي في السنن الكبرى [1/ 41، 215، 2/ 14، 6/ 331]، والمنذري في الترغيب والترهيب [1/ 56]، وابن خزيمة في صحيحه [242، 455]، وأبو نعيم في الحلية [6/ 342، 8/ 42]، والحميدي في مسنده [28].

(5)

قال النووي: أجمع المسلمون على عظم موقع هذا الحديث وكثرة فوائده وصحته، قال الشافعي وآخرون: هو ثلث الإسلام، وقال الشافعي: يدخل في سبعين بابًا من الفقه، وقال آخرون: هو ربع الإسلام، وقال عبد الرحمن بن مهدي وغيره: ينبغي لمن صنف كتابًا أن يبدأ فيه بهذا =

ص: 39

ثانيها: حديث عائشة مرفوعا: "يغزوا جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم، ثم يبعثون على نياتهم"

(1)

.

أخرجاه وهو دالٌّ على أن كل أحد يحفظ على قدر نيته، والخسف بالصالح ونحوه ليس خزيًا له، بل لفراغ أجله، كما في حديث البيهقي.

وهذا الحديث والذي قبله لتمييز الأعمال والأشخاص.

ثالثها: حديثها أيضًا مرفوعا: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية"

(2)

أخرجاه أيضًا، أي هجرة من مكة أو كاملة.

وهو دال على ديمومية النية، وأنها قرينة الجهاد.

رابعها: حديث جابر مرفوعا: "إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم؟ حبسهم المرض".

(3)

أخرجه مسلم، وأخرجه البخاري من حديث أنس.

خامسها: حديث أبي يزيد معن بن يزيد بن الأخنس الصحابيون قال: "كان أبي يزيد أخرج دنانير يتصدق بها، فوضعها عند رجل في المسجد، فجئت فأخذتها، فأتيته بها فقال: واللَّه ما إياك أردت، فخاصمته إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "لك ما

= الحديث تنبيهًا للطالب على تصحيح النية، ونقل الخطابي هذا عن الأئمة مطلقًا، وقد فعل ذلك البخاري وغيره. النووي في شرح مسلم [13/ 47] طبعة دار الكتب العلمية.

(1)

أخرجه البخاري تعليقًا في كتاب الحج [49] باب هدم الكعبة، ومسلم في صحيحه [4 - (2882)] كتاب الفتن وأشراط الساعة، [2] باب الخسف بالجيش الذي يؤم البيت، والنسائي [5/ 206 - المجتبى]، والمنذري في الترغيب والترهيب [1/ 57]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [5/ 11]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [2720].

(2)

أخرجه البخاري [4309، 4310] كتاب المغازي، [54] باب مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة زمن الفتح، ومسلم [86 - (1864)] كتاب الإمارة، [20] باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير، وبيان معنى "لا هجرة بعد الفتح"، والترمذي [1590] كتاب السير، باب ما جاء في الهجرة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وأبو داود في سننه [2480]، وأحمد بن حنبل في مسنده [1/ 316]، والنسائي [7/ 146 - المجتبى]، والبيهقي في السنن الكبرى [5/ 195، 9/ 16]، والدارمي [2/ 239]، والحاكم في المستدرك [2/ 257 و 3/ 18].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [159 - (1911)] كتاب الإمارة، [48] باب ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر آخر، وابن ماجه [2764]، وأحمد في مسنده [3/ 103]، والبيهقي في السنن الكبرى [9/ 24]، وابن حبان في صحيحه [1623 الموارد]، وابن أبى شيبة في مصنفه [14/ 546]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [3815، 3816]، وعبد الرزاق في مصنفه [9547]، والبيهقي في دلائل النبوة [5/ 267]، والزبيردي في الإتحاف [10/ 7]، والعراقي في المغني [4/ 352].

ص: 40

نويت يا يزيد، ولك ما أخذت يا معن"".

(1)

أخرجه البخاري.

سادسها: عن أبي إسحاق سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المشهود لهم بالجنة في قصة مرضه مرفوعًا "إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه اللَّه إلا أجرت بها حتى ما تجعل في في امرأتك"

(2)

.

أخرجاه، وهو دال على قلب العادة عبادة بالنية، والمباح قربة، وناهيك بهذا الإكسير.

سابعها: حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إن اللَّه لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم".

(3)

أخرجه مسلم.

وهو دال على أن محلها القلب الذي هو محل نظر الجليل جل جلاله، فبحسنها يصير صاحبها جميلًا.

وهو وما قبله دالان على قلب الأعمال أعيانًا، وعلوًا بعد تسفل، وهذا هو الإكسير.

ثامنها: حديث أبي موسى الأشعري قال: "سئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن رجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل اللَّه؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة اللَّه هي العليا، فهو في سبيل اللَّه"".

(4)

أخرجاه.

(1)

أخرجه البخاري [1422] كتاب الزكاة، [17] باب إذا تصدق على ابنه وهو لا يشعر، وأحمد في مسنده [5/ 133، 470]، والمنذري في الترغيب والترهيب [1/ 60]، والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 34]، والطبراني في المعجم الكبير [19/ 441].

(2)

أخرجه البخاري [6733] كتاب الفرائض، [6] باب ميراث البنات، عن سعد بن أبي وقاص، ومسلم [5 - (1628)] كتاب الوصية، [1] باب الوصية بالثلث، والترمذي في سننه [2116] كتاب الوصايا باب ما جاء في الوصية بالثلث، وقال الترمذي: حسن صحيح، وأبو داود في سننه في الوصايا، باب [2]، وأحمد في مسنده [1/ 179]، والبيهقي في السنن الكبرى [6/ 268، 269]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 62].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [33 - (2564)]، [34] كتاب البر والصلة، [10] باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله، وابن ماجه [4143]، وأحمد في مسنده [2/ 285، 539]، والطبراني في المعجم الكبير [3/ 338]، والهيثمي في مجمع الزوائد [10/ 231]، والشجري في أماليه [2/ 204]، وابن المبارك في الزهد [540]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [4/ 98، 7/ 124].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [7458] كتاب التوحيد، [27] باب ما جاء في تخليق السماوات والأرض وغيرهما من الخلائق، ومسلم في صحيحه [149 - (1904)، 150، 151] كتاب الإمارة، [42] باب من قاتل لتكون كلمة اللَّه هي العليا فهو في سبيل اللَّه، والترمذي [1646] =

ص: 41

وهو بيّن لجد الأعمال ورديئها، ونافعها عند الرب جل جلاله.

تاسعها: حديث أبي بكرة مرفوعًا: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار" قلت: يا رسول اللَّه، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال:"إنه كان حريصًا على قتل صاحبه"

(1)

أخرجاه، وهو بيان لفساد النية وإفسادها.

عاشرها: حديث أبي هريرة مرفوعًا: "صلاة الرجل جماعة تزيد على صلاته في بيته وسوقه بضعًا وعشرين درجة

(2)

، وذلك أن أحدكم إذا توضأ فأحسن الوضوء لا يريد إلا الصلاة لا ينهزه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، حتى يدخل المسجد، فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة هي تحبسه، والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه، يقولون: اللهم ارحمه، اللهم اغفر له، اللهم تب عليه، ما لم يؤذ فيه ما لم يحدث فيه".

(3)

أخرجاه، وهو دال على أن نية المقاصد تحرز جزاء وسائلها وتوابعها وتفاصيلها.

ومنه حديث: "من احتبس فرسا في سبيل اللَّه. . . . الحديث".

(4)

= كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء فيمن يقاتل رياء وللدنيا، والنسائي [6/ 23 - المجتبى]، وابن ماجه [2783]، وأحمد في مسنده [4/ 392، 397]، والحاكم في المستدرك [2/ 109]، والبيهقي في السنن الكبرى [9/ 167، 168]، والمنذري في الترغيب والترهيب [2/ 296].

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [7083] كتاب الفتن، [10] باب إذا التقى المسلمان بسيفيهما، ومسلم في صحيحه [14 - (2888)] كتاب الفتن وأشراط الساعة، [4] باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، والنسائي [7/ 125 - المجتبى]، وابن ماجه في سننه [3964]، والبيهقي في السنن الكبرى [8/ 190]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [3538]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [3/ 303، 6/ 262].

(2)

قال النووي: المراد صلاته في بيته وسوقه منفردًا، هذا هو الصواب، ؤقيل فيه غير هذا، وهو قول باطل نبهت عليه لئلا يغتر به، والبضع: بكسر الباء وفتحها وهو من الثلاثة إلى العشرة، هذا هو الصحيح. النووي في شرح مسلم [5/ 141] طبعة دار الكتب العلمية.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [647] كتاب الأذان، [30] باب فضل صلاة الجماعة، ومسلم في صحيحه [272 - (649)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، [49] باب فضل صلاة الجماعة وانتظار الصلاة، وأبو داود في سننه [559] كتاب الصلاة، باب ما جاء في فضل المشي إلى الصلاة، وابن ماجه [786، 788، 790]، والدارمي في سننه [1/ 192]، وابن حبان في صحيحه [431 - الموارد].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [2853] كتاب الجهاد والسير، [45] باب من احتبس فرسًا لقوله تعالى:{وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60]، والنسائي [6/ 225 - المجتبى]، وأحمد في مسنده =

ص: 42

الحادي عشر: حديث ابن عباس، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى:"إن اللَّه كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها اللَّه عنده حسنة كاملة، فإن هم بها فعملها كتبها اللَّه عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها اللَّه عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها اللَّه سيئة واحدة"

(1)

أخرجاه، وهو من المبشرات.

الثاني عشر: حديث ابن عمر مرفوعًا في قصة أصحاب الغار الثلاثة، وأن الصخرة انفرجت عنهم، وخرجوا يمشون" أخرجاه

(2)

، وهو دال على أن من أخلص للَّه العبادة ولو عملا واحدا استجيب دعاؤه حتى في المهمات، ويكون من عباده المخلصين.

‌وأما الحكايات:

فالأولى: قال السيد محمد بن واسع: أقمت أربعين ليلة، كل ليلة أشتهي كبدًا مشويًا قلت: أخرج إلى الجهاد، فلعل يقع في سهمي شاة فآكل منها شهوتي، فخرجت إليه فقتلنا وغنمنا، وأخذت في سهمي شاة، فسألت بعض أصحابي أن

= [2/ 374]، والبيهقي في السنن الكبرى [10/ 16]، والحاكم في المستدرك [2/ 92]، والمنذري في الترغيب والترهيب [2/ 258]، والسيوطي في الدر المنثور [3/ 197]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [3868].

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [6491] كتاب الرقاق، [31] باب من هم بحسنة أو بسيئة، ومسلم في صحيحه [207 - (131)] كتاب الإيمان، [59] باب إذا هم العبد بحسنة كتبت، وإذا هم بسيئة لم تكتب، وأحمد في مسنده [1/ 310، 360، 361]، والمنذري في الترغيب والترهيب [1/ 56، 59]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [2374]، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين [7/ 293، 9/ 179].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [3465] في أحاديث الأنبياء. [55] باب حديث الغار [5974] كتاب الأدب، [5] باب إجابة دعاء من بر والديه، ومسلم في صحيحه [100 - (2743)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [27] باب قصة أصحاب الغار الثلاثة، والتوسل بصالح الأعمال. وقال النووي: استدل أصحابنا بهذا على أنه يستحب للإنسان أن يدعو في حال كربه، وفي دعاء الاستسقاء وغيره بصالح عمله ويتوسل إلى اللَّه -تعالى- به؛ لأن هؤلاء فعلوه فاستجيب لهم، وذكره النبي صلى الله عليه وسلم في معرض الثناء عليهم، وجميل فضائلهم، وفي هذا الحديث فضل بر الوالدين، وفضل خدمتهما، وإيثارهما عمن سواهما من الأولاد والزوجة وغيرهم، وفيه فضل العفاف والانكفاف عن المحرمات لاسيما بعد القدرة عليها والهم بفعلها ويترك للَّه -تعالى- خالصًا، وفيه جواز الإجارة وفضل حسن العهد وأداء الأمانة والسماحة في المعاملة، وفيه إثبات كرامات الأولياء، وهو مذهب أهل الحق. النووي في شرح مسلم [17/ 47] طبعة دار الكتب العلمية.

ص: 43

يشوي لي كبدها، فأخذتني هجعة فنمت، فرأيت ملائكة نزلوا من السماء فكتبوا: فلان خرج للجهاد، وفلان للغنيمة، وفلان للمفاخرة، ثم وقفوا عليَّ وقالوا شهواني مسكين؛ اشتهى كبدًا مشويًا، فقلت: باللَّه لا تفعلوا، فأنا تائب إلى اللَّه، ثم قلت: يا رب لا أعود، يا رب لا أعود، أنا تائب إليك من سائر الشهوات.

(1)

الثانية: عن الشيخ أبي الحسن المعاوري قال كنت عدة سنين معاورًا بالحرب، وعدة أخرى بالسياحة أدخل بلاد الكفار لأُمور أُؤمر بالدخول لأجلها، وحجابي بحكمي إن أردت رأوني، وإلا فلا.

فورد عليَّ أمر من جهة الرب -تعالى- بأن أدخل إلى بلادهم لأجتمع فيها برجل صديق، فدخلتها وأريتهم نفسي، فأخذوني أسيرًا، وخرج بي من أخذني، وكتفني وجاء بي إلى السوق ليبيعني، وكان هذا هو الطريق المقصود الذي أُمرت به.

فاشتراني رجل معتبر منهم، ووقفني على الكنيسة لأكون خادما فيها، فباشرت خدمتها أياما، وإذا بهم قد أحضروا بسطًا كثيرة ومباخر وطيبا كثيرا.

فقلت لهم: ما الخبر؟ قالوا: الملك عادته زيارة الكنيسة يومًا في السنة، فقد جاء وقت زيارته، فنحن نهيئها له ونحليها، ولا يبقى فيها أحد حتى يدخل وحده يتعبد فيها، فلما أغلقوها وبقيت أنا فيها احتجبت عنهم فلم يروني، وإذ بالملك قد جاء ففتحوها له ودخلها وحده، وأغلقوا عليه الباب، فدار بالكنيسة يفتشها، وأنا أنظر إليه، وهو لا يراني إلى أن اطمأن، فدخل المذبح الذي فيها وتوجه إلى القبلة، وكبَّر بالصلاة، فقيل لي هذا الذي أردنا لك الاجتماع به فتطهرت ووقفت وراءه حتى سلم من الصلاة، ثم التفت فرآني فقال: ما تكون؟ فقلت: مسلم مثلك. قال: وما جاء بك هنا؟ قلت: أنت، فأقبل عليَّ وسألني عن أمري، فأخبرته بما أمرت به من الاجتماع، ولم يكن لي طريق إلى ذلك إلا بصورة ما جرى من الأسر والبيع، واتخاذهم لي خادمًا للكنيسة، وتمكيني لهم من نفسي، جميع ذلك ليقع الاجتماع.

ففرح بي وكاشفني وكاشفته، ووجدته من كبار الصديقين، فقلت له: كيف حالك بين هؤلاء الكفار في باطن الأمر؟ فقال: يا أبا الحجاج لي فؤاد بينهم لا أبلغ مثلها لو كنت بين المسلمين، قلت له: صف لي، قال: توحيدي وإسلامي وأعمالي خالصة للَّه، ما لأحد اطلاع عليها، وآكل حلالًا (فيساو)

(2)

ما فيه شبهة، وأنفع المسلمين

(1)

وذلك في حديث: "من قاتل لتكون كلمة اللَّه هي العليا فهو في سبيل اللَّه" وهو في البخاري [7458] ومسلم في الإمارة [149، 150، 151] وتقدم من قبل فانظره.

(2)

كذا بالأصل.

ص: 44

نفعًا، لو كنت أكبر ملوكهم ما بلغته من الدفع عنهم، وأدفع عنهم أذى الكفار، وأفعل في الكفار من القتل وشبهه ما لو كنت أعظم ملوك الإسلام ما فعلت، وسأريك بعض تصرفي فيهم، ثم ودعني وودعته، وقال لي: ارجع إلى حالتك، وأخفيت نفسي واحتجبت، فخرج الملك وقعد على باب الكنيسة، وقال: ائتوني بكل من يختص بالكنيسة، فأحضروا له جماعة وعرضوهم عليه، وقالوا هذا بطريقها

(1)

، وهذا شمَّاسها

(2)

، وهذا راهبها

(3)

، وهذا مشارف أوقافها، وهذا جابي ريعها، قال: فمن يخدمها؟ قالوا فلان اشترى أسيرًا، ووقفه على خدمتها، فأظهر غضبًا عظيمًا، وقال: تكبرتم الجميع على خدمة بيت الرب، وجعلتم رجلا من غير الملة نجسًا يخدم بيت الرب، فاستدعى بالسيف، وجعل يضرب رقاب الجميع في حجة الغيرة على بيت الرب، وأمر بإحضاري فقال: هذا يستحق في مقابلة الخدمة الإكرام والتعظيم والخلع والمركوب وإطلاقه إلى وطنه وأهله، ففعلوا بي ذلك، وانصرفت عنه.

الثالثة: عن محمد بن يعقوب الخراساني قال: خرجت من بلدي على نية السياحة

(4)

والتوكل، فلم أزل على ذلك إلى أن أتيت بيت المقدس، ثم وقفت في مغارة (بنية)

(5)

بني إسرائيل، فمكثت أياما لم أطعم طعامًا، ولم أشرب شرابًا حتى أشرفت على الموت، فبينا أنا كذلك إذ رأيت راهبين يسيران أشعثان أغبران، فملت إليهما، وسلمت عليهما، وقلت لهما: أين تريدان؟ فقالا: لا ندري، قلت: أتدريان أين أنتما؟ قالا: نعم؛ نحن في مملكته وبين يديه، قال: فأقبلت على نفسي بالملامة وحالهما مع كفرهما، ثم استأذنتهما في الصحبة وسرنا، فلما أمسينا قاما إلى صلاتهما ومعبودهما، وقمت إلى صلاتي ومعبودي، فصليت المغرب بالتيمم، فنظرا إليَّ متبسمين ضاحكين، وبحث أحدهما الأرض وإذا بالماء قد ظهر كأنه اللؤلؤ على الصفا، فبُهت، ثم إذا بطعام موضوع عن يمينه، فتعجبت، فقال مم تعجبك، تقدم وتناول من الطعام الحلال، واشرب من بارد هذا الزلال، واعبد ربك الكريم ذا الجلال، فأكلت وشربت وتوضأت، وأعدت الصلاة، ثم غار الماء كأنه لم يكن، ثم صلينا إلى الصباح، ثم سرنا إلى الليل، فتقدم الراهب الثاني، وصلى ودعا بدعوات

(1)

البطريق: القائد من قواد الروم، ويطلق على رئيس رؤساء الأساقفة.

(2)

الشماس: من يقوم بخدمة الكنيسة، ومرتبته دون القسيس.

(3)

الراهب: المتعبد من النصارى في صومعة يتخلى فيها عن أشغال الدنيا وملاذها.

(4)

السائحون: قال ابن كثير: الصائمون، وقال ابن عباس: كل ما ذكر اللَّه في القرآن السياحة هم الصائمون انظر تفسير ابن كثير [2/ 400].

(5)

كذا بالأصل.

ص: 45

خفية ثم بحث الأرض، فإذا الماء والطعام موضوع عن يمينه، فأكلنا وشربنا، فلما كانت الليلة الثالثة قالا لي: يا محمدي الليلة ليلتك، والنوبة نوبتك، فاستحييت، وقلت: يكون خيرًا إن شاء اللَّه -تعالى- ثم عدلت عنهما إلى جانب آخر وقلت بعد صلاة ركعتين: اللهم سيدي ومولاي إنك تعلم أن ذنوبي كثيرة بذي الجاه الجسيم محمد عليه أفضل صلاة وأعظم تسليم أن لا تخجلني بينهما

(1)

ثم التفتُّ فإذا بعين ماء جارية، وطعام عن يميني موضوع، فأكلنا وشربنا وحمدنا اللَّه، فلم نزل على ذلك إلى النوبة الثانية فدعوت بمثل ذلك فحصل مثل ذلك، فلما كان في الثالثة إذا طعام اثنين وشراب اثنين، فانكسر قلبي، فقالا: يا محمدي من أين دخل عليك؟ أما ترى هذا التقصير؟ فقلت لهما: الحكم حكمة عسر ويسر، وشدة ورخاء، ومنع وعطاء ليبلونا فقالا: صدقت يا محمدي، إن هذا رب عظيم، ودين سليم، فأسلما، وأقاما ببيت المقدس، وأنا معهما نرزق من حيث لا نحتسب إلى أن قضيا نحبهما.

الرابعة: عن إبراهيم الخواص أنه كان إذا أراد سفرًا لم يُعلم أحدًا، وإنما يأخذ ركوته ويمشي، ففعل ذلك يوما، قال أبو حامد الأسود: فتبعته، فقال لي: إلى أين؟ قلت: معك، قال: أنا أريد مكة، قلت: وأنا أريد ذلك، ثم انضم إلينا شاب نصراني فسأله فقال: ادعت نفسي أنها أحكمت حال التوكل فلم أصدقها فيما ادعت حتى أخرجها إلى هذه الفلاة التي ليس فيها موجود غير المعبود؛ أُثير ساكني، وأمتحن خاطري، فقام إبراهيم ومشى وقال: دعه يكون معك، فأتينا بطن بئر، فخلع إبراهيم خلقانه فطهرها بالماء، ثم جلس وقال له: ما اسمك؟ قال: عبد المسيح، فقال: يا عبد المسيح هذا دهليز مكة، ولا يدخله كافر

(2)

فإياك أن تدخلها، فينكر عليك، فتركناه ودخلنا مكة، فبينا نحن بالموقف إذ به أقبل علينا وهو محرم، فقبل رأس

(1)

فيما رواه الترمذي [3573] من حديث توسل فاقد البصر في دعائه الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه إلى ربي بك أن يكشف لي عن بصري، شفعه فيّ. . . . الحديث، قال الشوكاني في تحفة الذاكرين ص 138: وفي الحديث دليل على جواز التوسل برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى اللَّه عز وجل مع اعتقاد أن الفاعل هو اللَّه سبحانه وتعالى وأنه المعطى والمانع، ما شاء اللَّه كان، وما لم لا لم يكن.

(2)

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] أمر اللَّه -تعالى- عباده المؤمنين الطاهرين دينًا وذاتًا بنفي المشركين الذين هم نجس دينا عن المسجد الحرام، وأن لا يقربوه بعد نزول هذه الآية، وكان نزولها في سنة تسع، ولهذا بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عليّا صحبة أبي بكر عامئذ وأمره أن ينادي في المشركين أن لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، فأتم اللَّه ذلك وحكم به شرعًا وقدرًا. تفسير ابن كثير [2/ 354].

ص: 46

إبراهيم، فقال له: ما وراءك يا عبد المسيح؟ فقال: هيهات أنا اليوم عبد من المسيح عبده، فقال: كيف حالك؟ قال: تنكرت ودخلت، فلما رأيت الكعبة اضمحل عندي كل دين إلا الإسلام، فأسلمت واغتسلت وأحرمت، فالتفت إليَّ إبراهيم وقال: يا أبا حامد انظر إلى صدق نيته في النصرانية كيف هداه إلى الإسلام؟ إ! ثم صحبنا حتى مات.

شعر:

سلام على السادات من كل صادق

له مسرح في معزل ومراح

صفاء ثم صفى فهو صوفي مخيم

على باب سعدي ليس عنه براح

يلاقي صغار النفس في نيل وصلها

ومن دونها بيض حمت ورماح

على حد سيف الصدق يسعون للعلا

لتجلي لهم بيض هناك صباح

سقتهم حميا الوصل من كرم

إذا سمها أهل الصبابة صاحوا

وناحوا وساحوا ثم باحو بنشرها

عبيرا ومكتوم المحبة باحوا

الخامسة: عن إبراهيم الخواص أيضا قال: دخلت البادية مرة، فرأيت نصرانيًا على وسطه زنار

(1)

فسألني الصحبة، فمشينا سبعة أيام، ثم قال لي: يا راهب الحنفية هات ما عندك فقد جعنا، فقلت: إلهي لا تفضحني مع هذا الكافر، فرأيت طبقًا عليه خبز وشواء ورطب وماء، فأكلنا وشربنا، ومشينا سبعة أيام، ثم بادرت وقلت: يا راهب النصرانية هات ما عندك فقد انتهت النوبة إليك، قال: فأعلى عصاه ودعا، وإذا بطبقين عليهما أضعاف ما كان على طبقي، فتحيرت وتغيرت وأبيت أن آكل، فألحَّ عليَّ فلم أجب.

فقال: كل فإني أبشرك ببشارتين: أحدها: إسلامي وحل الذمة، والأخرى: قلت: اللهم إن كان لهذا العبد خاطر عندك فافتح عليَّ، فأكلنا ومشينا، وحج وأقمنا سنة ومات، فدفن بالبطحاء.

السادسة: حكي أن ثلاثة نفر خرجوا يستسقون في زمن داود صلى الله عليه وسلم فقال أحدهم: اللهم إنك أمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا

(2)

، وقد ظلمنا أنفسنا فاعف عنا:

تعاليت ربي أنت ذا قد أمرتنا

بعفو وصفح عن مسي لنا ظلم

(1)

الزُّنَّار: حزام يشده النصراني على وسطه، وجمعها: زنانير.

(2)

روى مسلم في صحيحه [69 - (2588)] كتاب البر والصلة والآداب، [19] باب استحباب العفو والتواضع، عن أبي هريرة، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"ما نقصت صدقة من مال، وما زاد اللَّه عبدًا بعفو إلا عزًا، وما تواضع أحد للَّه إلا رفعه اللَّه" وقال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم: "وما زاد اللَّه عبدًا بعفو إلا عزًا" فيه أيضًا وجهان: أحدهما: أنه على ظاهره، وأن من عرف بالعفو والصفح =

ص: 47

وها نحن ربي قد ظلمنا نفوسنا

وأنت الذي بالعفو أولى وبالكرم

وقال الثاني: اللهم إنك قد أمرتنا أن نعتق عبيدنا إذا شابوا في خدمتنا، وقد شبنا في خدمتك، فتفضل علينا بعتفنا:

إن الملوك إذا شابت عبيدهم

في رقهم عتقوهم عتق أبرار

فأنت أولى بذا يا سيدي كرمًا

قد شبت في رقك اعتقني من النار

وقال الثالث: اللهم إنك أمرتنا أن لا نرد المساكين إذا وقفوا ببابنا وها نحن مساكين قد وقفنا ببابك، فجد علينا بفضلك وإحسانك وعظيم امتنانك.

أتيناك نرجوا الفضل فامنن

علينا وجد يا ذا المكارم والعلا

فأنت الذي ترجى ويكثر فضله

إذا انسدت الأبواب وانقطع الرجا

السابعة: عن محمد بن الصباح قال: خرجنا نستسقي بالبصرة، فلما أصحرنا إذا نحن بسعدون المجنون قاعدًا على الطريق، فلما رآني قام وقال لي: إلى أين؟ قلت: نستسقي، قال: بقلوب سماوية أم بقلوب خاوية؟ قلت: سماوية، قال: اجلسوا ها هنا، فجلسنا حتى ارتفع النهار، وما تزداد السماء إلا صحوًا، ولا الشمس إلا حرًا، فنظر إلينا وقال: يا بطالون لو كانت قلوبكم سماوية لسقيتم، ثم توضأ وصلى ركعتين، ولحظ السماء بطرفه، وتكلم بكلام لم أفهمه، فواللَّه ما استتم كلامه حتى رعدت وبرقت ومطرت مطرًا جيدًا.

(1)

فسألناه عن الكلام الذي تكلم به، فقال: إليكم عني، إنما هي قلوب حنَّت، فرنت، فعاينت، فعلمت، فعملت، وعلى ربها توكلت، ثم أنشأ يقول:

أعرض عن الهجران والتمادي

وارحل لمولى منعم جوادي

ما العيش إلا فى جوار قوم

قد شربوا من صافي الوداد

= ساد وعظم في القلوب، وزاد عزة وكرامة، والثاني: أن المراد أجره في الآخرة، وعزه هناك. النووي في شرح مسلم [16/ 116] طبعة دار الكتب العلمية.

(1)

أجمع العلماء على أن الاستسقاء سنة، واختلفوا هل تسن له صلاة أم لا؟ فقال أبو حنيفة: لا تسن له صلاة، بل يستقى بالدعاء بلا صلاة، وقال سائر العلماء من السلف والخلف، الصحابة والتابعون فمن بعدهم: تسن الصلاة، ولم يخالف فيه إلا أبو حنيفة، وتعلق بأحاديث الاستسقاء التي ليس فيها صلاة، واحتج الجمهور بالأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى للاستسقاء ركعتين، وأما الأحاديث التي ليس فيها ذكر الصلاة فبعضها محمول على نسيان الراوي، وبعضها كان في خطبة الجمعة، وبتعقبه الصلاة للجمعة، فاكتفي بها، ولو لم يصل أصلًا كان بيانًا لجواز الاستسقاء بالدعاء بلا صلاة، ولا خلاف في جوازه، وتكون الأحاديث المثبتة للصلاة مقدمة، لأنها زيادة علم ولا معارضة بينهما. النووي في شرح مسلم [6/ 165] طبعة دار الكتب العلمية.

ص: 48

‌مجلس في التوبة وهي الرجوع إلى الرب جل جلاله

عن الاسترسال في القطيعة، وهو واجبة من كل ذنب، وشرطها الإقلاع والندم والعزم على عدم العود، ورد ظلامة الآدمي واستحلالها.

وفيها آيات: قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا}

(1)

الآية.

وقال: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ}

(2)

.

وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا}

(3)

أي خالصة.

وقال: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}

(4)

.

وقال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}

(5)

.

وقال: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}

(6)

.

وقال: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ}

(7)

الآية.

وقال: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}

(8)

.

وقال: {فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}

(9)

.

وقال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ}

(10)

.

وقال: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ}

(11)

الآية.

وقال: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}

(12)

.

(1)

سورة النور [31].

(2)

سورة هود [90].

(3)

سورة التحريم [8]. التوبة النصوح: أي الصادقة الجازمة تمحو ما قبلها من السيئات، وتلم شعث التائب وتجمعه وتكفه عما كان يتعاطاه من الدناءات. تفسير ابن كثير [4/ 391].

يقول تعالى ممتنًا على عباده بقبول توبتهم إليه إذا تابوا ورجعوا إليه: إنه من كرمه وحلمه أنه يعفو ويصفح، ويستر ويغفر كقوله عز وجل:{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)} . تفسير ابن كثير [4/ 114].

(4)

سورة الشورى [25].

(5)

سورة آل عمران [128].

(6)

سورة آل عمران [128].

(7)

سورة النساء [17].

(8)

سورة الأنفال [38].

(9)

سورة التوبة [3].

(10)

سورة التوبة [5]، [11].

(11)

سورة التوبة [102].

(12)

سورة التوبة [104].

ص: 49

وقال: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}

(1)

.

وقال: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ}

(2)

.

وقال: {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ}

(3)

.

وقال: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ}

(4)

الآية.

وقال: {ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ}

(5)

.

وقال: {ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}

(6)

.

وقال: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا}

(7)

.

وقال: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ}

(8)

.

وقال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)}

(9)

.

وقال: {وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ}

(10)

.

وقال: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا}

(11)

.

وقال: {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ}

(12)

.

وقال: {وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}

(13)

.

وقال: {وَقَابِلِ التَّوْبِ}

(14)

.

وقال: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا}

(15)

.

وقال: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}

(16)

.

وقال: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ}

(17)

وقال: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ}

(18)

الآية.

وأما الأحاديث: فكثيرة نذكر منها اثني عشر حديثًا. أحدها: حديث أبي

(1)

سورة التوبة [104].

(2)

سورة التوبة [27].

(3)

سورة التوبة [106].

(4)

سورة التوبة [117].

(5)

سورة التوبة [126].

(6)

سورة النحل [119].

(7)

سورة الإسراء [25].

(8)

سورة طه [82].

(9)

سورة آل عمران [89].

(10)

سورة النور [10].

(11)

سورة الفرقان [70].

(12)

سورة الأحقاف [15].

(13)

سورة الأحزاب [73].

(14)

سورة غافر [3].

(15)

سورة غافر [7].

(16)

سورة التحريم [4].

(17)

سورة البقرة [54].

(18)

سورة البقرة [54].

ص: 50

هريرة: "واللَّه إني لأستغفر اللَّه وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة"

(1)

رواه البخاري.

وهو دال على أنها من سنن الأكابر، وشيم المآثر.

ثانيها: حديث الأغر بن يسار

(2)

: "يا أيها الناس توبوا إلى اللَّه، فإني أتوب إلى اللَّه في اليوم مائة مرة"

(3)

رواه مسلم.

وهو دال على الأمر بها مع الحمل على الاقتداء والتأسي.

ثالثها: حديث أنس: "للَّه أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في الأرض فلاة"

(4)

أخرجاه.

وفي مسلم: "وعليها طعامه وشرابه، فآيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح"

(5)

وهو دال على أنها

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [6307] كتاب الدعوات، [3] باب استغفار النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم والليلة، وأحمد في مسنده [2/ 341]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [7/ 325]، والألباني في السلسلة الصحيحة [3/ 436].

(2)

الأغر بن اليسار، البصري المزني، ويقال الجهني الغفاري، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم، وأبو داود، والنسائي، صحابي. ترجمته: تهذيب التهذيب [1/ 365]، تقريب التهذيب [1/ 82]، الكاشف [1/ 137]، الجرح والتعديل [2/ 308]، ميزان الاعتدال [1/ 273]، لسان الميزان [1/ 464]، تجريد أسماء الصحابة [1/ 25]، أسد الغابة [1/ 199، 132]، الإصابة [1/ 97]، الوافي بالوفيات [9/ 194]، الثقات [3/ 15].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [42 - (2702)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [12] باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه، وابن ماجه [78، 1081]، وأحمد بن حنبل في مسنده [4/ 211، 260]، وابن أبي شيبة في مصنفه [10/ 229]، والشجري في أماليه [2/ 294].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [6309] كتاب الدعوات، [4] باب التوبة، ومسلم في صحيحه [8 - (2747)] كتاب التوبة، [1]، باب الحض على التوبة والفرح بها، وأحمد في مسنده [2/ 500، 3/ 83]، والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 104، 105]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [2358].

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [7 - (2747)] كتاب التوبة، [1]، باب في الحض على التوبة والفرح بها. قال النووي: للتوبة ثلاثة أركان: الإقلاع، والندم على فعل تلك المعصية، والعزم على أن لا يعود إليها أبدًا، فإن كانت المعصية لحق آدمي فلها ركن رابع، وهو التحلل من صاحب ذلك الحق، وأصلها الندم، وهو ركنها الأعظم، واتفقوا على أن التوبة من جميع المعاصي واجبة، وأنها واجبة على الفور لا يجوز تأخيرها، سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة، والتوبة من مهمات الإسلام وقواعده المتأكدة، ووجوبها عند أهل السنة بالشرع، وعند المعتزلة بالعقل. النووي في شرح مسلم [17/ 50] طبعة دار الكتب العلمية.

ص: 51

أفرح إلى الرب من جميع المفرحات، وإن تعاظم حتى أدهش الألباب، وطيش الأحلام.

رابعها: حديث أبي موسى: "إن اللَّه تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسئ النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها"

(1)

أخرجه مسلم أيضًا.

خامسها: حديث أبي هريرة: "من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب اللَّه عليه"

(2)

أخرجه مسلم أيضًا.

سادسها: حديث ابن عمر: "إن اللَّه يقبل توبة العبد ما لم يغرغر"

(3)

رواه الترمذي وحسنه.

سابعها: حديث زر بن حبيش

(4)

، عن صفوان:"المرء مع من أحب يوم القيامة، وإن باب التوبة مفتوح لا يغلق حتى تطلع الشمس منه، والباب يسير الراكب في عرضه أربعين أو سبعين عاما" رواه الترمذي

(5)

وقال حسن صحيح.

ثامنها: حديث أبي سعيد الخدري: "كان في من كان قبلكم رجل قتل تسعة

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [31 - (2759)] كتاب التوبة، [5] باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة، وأحمد في مسنده [4/ 395]، والبيهقي في السنن الكبرى [8/ 136، 10/ 188]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [2329]، والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 88].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [43 - (2703)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [12] باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه، وأحمد في مسنده [2/ 275، 395]، والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 88]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [2331].

(3)

أخرجه الترمذي [3537]، وأحمد في مسنده [2/ 132، 3/ 425]، والحاكم في المستدرك [4/ 257]، والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 93]، والشجري في أماليه [1/ 198]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [5/ 190]، والتبريزي في مكاة المصابيح [2343]، وابن حبان في صحيحه [2449 - الموارد]، والقضاعي في مسند الشهاب [1085].

(4)

زر بن حبش بن حباشة بن أوس بن بلال، أبو مريم الأسدي الكوفي الغاضري، ثقه جليل، أخرج له أصحاب الكتب الستة وتوفي سنة [81 أو 82 أو 83]. ترجمته: تهذيب التهذيب [3/ 321]، تقريب التهذيب [1/ 259]، الكاشف [1/ 321]، تاريخ البخاري الكبير [3/ 447]، الجرح والتعديل [3/ 2817]، والوافي بالوفيات [14/ 190]. البداية والنهاية [9/ 66]، الإصابة [1/ 577]، سير الأعلام [4/ 166]، الثقات [4/ 269].

(5)

أخرجه الترمذي [3535] كتاب الدعوات، باب في فضل التوبة والاستغفار، وما ذكر من رحمة اللَّه لعباده.

ص: 52

وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا، فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله، فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل، فقال إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينك وبين التوبة

(1)

انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها ناسًا يعبدون اللَّه -تعالى- فاعبد اللَّه معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء.

فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه ملك الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلا بقلبه إلى اللَّه تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط.

فأتاهم ملك في صورة آدمي فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيهما كان أدنى، فهو له، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة"

(2)

أخرجاه.

وفي رواية في الصحيحين: "فكان إلى القرية الصالحة أقرب بشبر فجعل من أهلها".

وفي أخرى فيه: " فأوحى اللَّه -تعالى- إلى هذه أن تباعدي، وإلى هذه أن تقربي أقرب".

وفي أخرى: "فنأى بصدره نحوها".

وهو دال على العناية بالتائب حتى تخرق العادة بالتقريب.

تاسعها: حديث كعب

(3)

في الثلاثة المتخلفين، ونزلت فيهم الآية

(4)

أخرجاه مطولا.

(1)

قال النووي: مذهب أهل العلم وإجماعهم على صحة توبة القاتل عمدًا، ولم يخالف أحد منهم إلا ابن عباس، وأما ما نقل عن بعض السلف من خلاف هذا، فمراد قائله الزجر عن سبب التوبة لا أنه يعتقد بطلان توبته، وهذا الحديث ظاهر فيه، وهو وإن كان شرعًا لمن قبلنا، وفي الاحتجاج به خلاف، فليس موضع الخلاف، وإنما موضعه إذا لم يرد شرعنا بموافقته وتقريره، فإن ورد كان شرعًا لنا بلا شك. النووي في شرح مسلم [17/ 69] طبعة دار الكتب العلمية.

(2)

أخرجه البخاري [3470] كتاب أحاديث الأنبياء، [56]، باب منه، ومسلم في صحيحه [46 - (2766)] كتاب التوبة، [8]، باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله.

وأحمد في مسنده [3/ 72]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [3/ 102].

(3)

كعب بن مالك بن أبي كعب واسمه عمرو بن القين بن كعب بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة، أبو عبد اللَّه، أبو عبد الرحمن، أبو محمد الأنصاري السلمي المدني الشاعر الخزرجي، صحابي مشهور، وهو أحد الثلاثة الذين خلفوا، أخرج له: أصحاب الكتب الستة، وتوفي في خلافة علي. ترجمته: تهذيب التهذيب [8/ 440]، تقريب التهذيب [2/ 135]، الكاشف [3/ 9]، تاريخ البخاري الكبير [7/ 219]، الثقات [3/ 350]، أسد الغابة [4/ 487]، الإصابة [4/ 610]، سير الأعلام [2/ 523].

(4)

أخرجه البخاري [4677] كتاب تفسير القرآن سورة براءة، [118] باب {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى =

ص: 53

وهو دال على أن الصادق في الإيمان يحرص على التوبة، ولو يجد فيها أشد الشدائد، وأن ضيق النفس والأرض بما رحبت مفتاح التوبة والفرج.

عاشرها: حديث عمران بن حصين في قصة الزانية المرجومة: "لقد تابت توبة لو قسمت على أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جاءت بنفسها للَّه"

(1)

أخرجه مسلم.

حادي عشر: حديث ابن عباس: "لو أن لابن آدم واديا من ذهب أحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب اللَّه على من تاب"

(2)

أخرجاه.

الثاني عشر: حديث أبي هريرة: "يضحك اللَّه سبحانه وتعالى إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة، يقاتل هذا في سبيل اللَّه فيقتل، ثم يتوب اللَّه على القاتل فيسلم فيستشهد"

(3)

أخرجاه أيضًا.

= إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ} [التوبة: 118] الآية، ومسلم في صحيحه [53 - (2769)] كتاب التوبة، [9]، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [24 - (1696)] كتاب الحدود، [5]، باب من اعترف على نفسه بالزنى، وأبو داود في الحدود باب المرأة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمها من جهينة، والترمذي [1435] كتاب الحدود، باب تربص الرجم بالحبلى حتى تضع، والنسائي في الجنائز [4/ 63 - المجتبى]، وأحمد في مسنده [4/ 440]، والطبراني في المعجم الصغير [1/ 193]، والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 100]، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين [8/ 581].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [6436 - 6437] كتاب الرقاق، [10]، باب ما يتقى من فتنة المال، وقول اللَّه تعالى:{أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]، ومسلم في صحيحه [118 - (1049)] كتاب الزكاة، [39] باب لو أن لابن آدم واديين لابتغى ثالثًا، كلاهما عن ابن عباس، والترمذي [3793] كتاب المناقب، عن أبي بن كعب، وابن ماجه [4235]، وأحمد في مسنده [1/ 370، 3/ 76، 192، 238]، والطبراني في المعجم الكبير [8/ 295]، والهيثمي في مجمع الزوائد [10/ 244]، وابن عبد البر في التمهيد [4/ 274]، والسيوطي في الدر المنثور [6/ 378].

(3)

أخرجه البخاري [2826] كتاب الجهاد والسير، [28]، باب الكافر يقتل المسلم ثم يسلم فيسدد بعد ويقتل، ومسلم في صحيحه [128 - (1890)] كتاب الإمارة، [35]، باب ببان الرجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة، والنسائي [6/ 139 - المجتبى]، وأحمد في مسنده [2/ 464]، والبيهقي في السنن الكبرى [9/ 165]، والحاكم في المستدرك [1/ 26]، وقال النووي: قال القاضي: الضحك هنا استعارة في حق اللَّه -تعالى- لأنه لا يجوز عليه -سبحانه- الضحك المعروف في حقنا؛ لأنه إنما يصح من الأجسام وممن يجوز عليه تغير الحالات، واللَّه -تعالى- منزه عن ذلك، وإنما المراد به الرضا بفعلهما، والثواب عليه وحمد فعلهما، ومحبته وتلقي رسل اللَّه لهما بذلك، لأن الضحك من أحدنا إنما يكون عند موافقته ما يرضاه، وسروره وبره لمن يلقاه، قال: ويحتمل أن يكون المراد هنا ضحك ملائكة اللَّه -تعالى- الذين يوجههم لقبض روحه =

ص: 54

وهو دال على أن الرب -تعالى- يقبل التوبة ولو كانت السيئة الكفر، وقتل النفس الصالحة، ويضحك لها، وهو توكيد لعموم من تاب اللَّه عليه.

لا عذر لي قد أتى الشيب

فليت شعري بني أتوب

ومن رأى هول قبر

ساكنه مفرد غريب

ولست أدري إذا أتاني

رسول ربي بما أجيب

هل أنا عند الجواب مني

أُخطئ في القول أم أُصيب

أم أنا يوم الحساب ناج

أم لي في ناره نصيب

يا رب جد لي على رجائي

بمثله منك لا أجيب

وأما الحكايات فست:

الأولى: عن بعضهم أنه قال في آخر مجلس: اللهم اغفر لفتانًا قلبا، وأجمدنا عينا، وأقربنا بالمعصية عهدًا، فقام رجل (مونث)

(1)

فقال: ها أنا ذا أعده عليَّ، فادع اللَّه كي يتوب عليَّ، فرأيت في الليلة الثانية، كأني واقف بين يدي الرب جل جلاله، وهو يقول لي: سرني حين أوقعت الصلح بيني وبين عبدي، وقد غفرت لك وله ولأهل المجلس أجمعين من أخطأ ومن ندما.

يا رب قد تبت فاغفر زلتي كرمًا

وارحم بعفوك يا خير من رحما

لا عدت أفعل ما قد كنت أفعله

عمري فخذ بيدي يا خير من رحما

هذا مقام ظلوم خائف وجل

لم يظلم الناس لكن نفسه ظلما

واصفح بفضلك عمن جاء معتذرًا

واغفر ذنوب مسيء طالما اجترما

إبليس قد غواني

ومسني منهما الذنوب

إذا انقضى للشقاء ذنب

تجدد من بعده ذنوب

الثانية: عن ذي النون

(2)

قال: بينما أنا أمشي على شاطئ النيل إذ رأيت عقربًا

= وإدخاله الجنة، كما يقال: قتل السلطان فلانًا أي أمر بقتله. النووي في شرح مسلم [13/ 32] طبعة دار الكتب العلمية.

(1)

كذا بالأصل.

(2)

ذو النون المصري الزاهد اسمه ثوبان بن إبراهيم، ويقال أبو الفيض بن أحمد، ويقال ابن إبراهيم أبو الفيض، ويقال أبو الفياض الأخميمي، وأبوه نوبي، روى عن الإمام مالك والليث بن سعد وابن لهيعة، وفضيل بن عياض وسفيان بن عيينة وسلم الخواص وجماعة، وعنه أحمد بن صبيح وربيعة بن محمد الطائي ورضوان بن محيميد ومقدام بن داود والجنيد بن محمد وغيرهم وغيرهم. انظر تاريخ الإسلام، وفيات [241، 250].

ص: 55

تدب، فأخذت حجرًا فأردت قتلها، فهربت مسرعة، فوقفت على شاطئ النيل، فوثبت العقرب عليها، فغدت بها إلى ذلك فتبعتها، ونزلت عن ظهرها وإذا بنائم سكران أقبل عليه ثعبان ليلدغه، فلدغتها العقرب فتقطع الثعبان قطعًا، فأيقظت الرجل فقام فزعًا، فلما رأى الثعبان ولى هاربًا.

فقلت له: لا تخف كفيت أمره، وقصصت عليه القصة، فأطرق برأسه ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: يا رب هكذا تفعل بمن عصاك، فكيف تفعل بمن أطاعك، وعزتك وجلالك لا أعصيك بعدها أبدًا، ثم ولى باكيًا وهو يقول:

يا راقدًا والجليل يحرسه

من كل سوء يدن في الظلم

كيف تنام العيون عن ملك

تأتيك منه فوائد النعم

سبحان من خلق الأشياء وقدرها

ومن يجود على العاصي ويستره

يخفي القبيح ويبدي كل صالحة

ويغمد العبد إحسانا ويشكره

ويغفر الذنب للعاصي ويقبله

إذا أناب وبالغفران يجبره

ومن يلوذ به في دفع نائبة

يعطيه من فضله عزًا وينصره

ولا يضيع مثقالًا لمجتهد

في ماله بل يربيه ويؤخره

ومن يكن قلبه من ذنبه دنسًا

فبالمدافع والتقوى يطهره

وليس للعبد تصريف وأن له

مولى يغنيه أو إن شاء يفقره

فلا الحذار ينجي العبد من قدر

يريده اللَّه أو أمر يدبره

ونسأل اللَّه حقًا حسن خاتمة

عند الممات وصفوًا لا يكدره

الثالثة: حكي أن إبراهيم بن أدهم

(1)

مر بسكران مطروح على قارعة الطريق، وقد طفح سكره من فمه، فنظر إليه إبراهيم وقال: أي لسان أصابته هذه الآفة وقد ذكر اللَّه به، فدنا منه وغسل فمه فلما أفاق أُخبر بفعل إبراهيم فخجل، فتاب فحسنت توبته، فرأى إبراهيم فيما يرى النائم كان قائلا يقول له: طهرت لأجلنا فمه، فطهرنا لأجلك قلبه.

(1)

إبراهيم بن أدهم بن منصور بن يزيد بن جابر، أبو إسحاق العجلي، وقيل التميمي البلخي الزاهد، أحد الاعلام، يروي عن أبيه ومنصور ومحمد زياد الجمحي وأبي إسحاق وأبي جعفر الباقر ومالك بن دينار والأعمش وجماعة، وعنه الثوري وشقيق البلخي وأبو إسحاق الفزاري وبقية وضمرة بن ربيعة ومحمد بن حمير وخلف بن تميم. انظر تاريخ الإسلام، وفيات [161 - 170].

ص: 56

الرابعة: حكي أن بشرًا كان في زمن لهوه في دار، وعنده ندماء يطيبون، فاجتاز منهم رجل صالح فدق الباب، فخرجت إليه جارية، فقال لها: صاحب هذه الدار حر أم عبد؟ قالت: بل حر قال: صدقت؛ لو كان عبدًا لاستعمل أدب العبودية، وترك اللهو والطرب، فسمع بشر

(1)

محاورته لها، فسارع إلى الباب حافيًا حاسرًا، وقد ولى الرجل، فقال لها: ويحك من كلمك، فأخبرته بما قال، فتبعه بشر حتى لحقه، وقال له: يا سيدي أعد على كلامك، فأعاده، فمرغ بشر خده في الأرض، وقال: بل عبد، عبد، عبد، ثم هام على وجهه حافيًا حاسرًا حتى عُرف بالحافي، فقيل له: لم لا تلبس نعلين؟ فقال: لأني ما صالحت مولاي إلا وأنا حاف، فلا أزال عليها حتى أموت، وحكي عنه أنه سئل عن بدء أمره، وشهرة اسمه بين الناس فقال: هذا من فضل اللَّه، كنت رجلًا عبارًا صاحب عصبية، فوجدت قرطاسًا في الطريق فرفعته، فإذا فيه البسملة، فمسحته وجعلته في جيبي، وكان عندي درهمان لا أملك غيرهما، فشريت بهما غالية، وطيبت بها القرطاس، فرأيت في المنام تلك الليلة كأن قائلًا يقول: يا بشر لأطيبن اسمك في الدنيا والآخرة:

(2)

تتوب من الذنوب إذا مرضت

وترجع للذنوب إذا برئتا

إذا ما الضر مسك أنت باك

وأخبث ما تكون إذا قويتا

فكم من كربة نجاك منها

وكم كشفت البلاء إذا بليتا

(1)

بشر بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء بن هلال، أبو نصر المروزي المعروف بالحافي الزاهد البغدادي، ثقة قدوة، أخرج له أبو داود في مسائله، والنسائي في مسند علي، توفي سنة [227]. ترجمه: تهذيب التهذيب [1/ 444]، تقريب التهذيب [1/ 98]، تاريخ البخاري الكبير [2/ 85]؛ الجرح والتعديل [2/ 356]، ميزان الاعتدال [1/ 328]، العبر [1/ 399]، الذيل على الكاشف [125]، طبقات الصوفية [39]، مجمع الزوائد [7/ 5]، الحلية [8/ 336]، طبقات ابن سعد [1/ 295]، سير الأعلام [10/ 469]، وفيات الأعيان [1/ 274].

(2)

قريبًا من ذلك ذكر الذهبي في تاريخ الإسلام: كان بشر بن الحارث شاطرًا يجرح بالحديد، وكان سبب توبته أنه وجد قرطاسًا في أتون حمام فيه "بسم اللَّه الرحمن الرحيم" فعظم ذلك عليه، ورفع طرفه إلى السماء وقال: سيدي اسمك هنا ملقى، فرفعه، وقلع عنه السحاة التي هو فيها، وأعطى عطارًا درهمًا فاشترى له غالية لم يكن مع سواه، ولطخ بها تلك السحاة وأدخله شق حائط وانصرف إلى زجاج كان يجالسه، فقال له الزجاج: واللَّه يا أخي لقد رأيت لك في هذه الليلة رؤيا ما أقولها حتى تحدثني ما فعلت بينك وبين اللَّه، فذكر له شأن الورقة، فقال: رأيت كأن قائلًا يقول لي في المنام: قل لبشر: ترفع لنا اسمًا من الأرض إجلالًا أن يداس، لننوهن باسمك في الدنيا والآخرة.

تاريخ الإسلام، وفيات [221 - 230].

ص: 57

وكم غطاك في ذنب وعنه

مدى الأيام جهرًا قد نهيتا

أما تخشى بأن تأتي المنايا

وأنت على الخطايا قد ذهبتا

وتنسى فضل رب جاد لطفا

عليك ولا ارعويت ولا خثئتا

وكم عاهدت ثم نقضت عهدا

وأنت لكل معروف نسيتا

فدارك قبل نقلك عن ديارك

إلى قبر إليه قد نعيتا

الخامسة: حكي عن بعضهم أنه رؤي بعد موته في المنام فقيل له: ما فعل اللَّه بك؟ قال: أعطاني كتابي بيميني، فمررت بزلة فاستحييت أن أذكرها، فقلت: إلهي لا تفضحني، فقال: حين عملتها ولم تستحي مني لم أفضحك، أفأفضحك وأنت تستحي مني، قد غفرت لك زلتك، وأدخلتك الجنة برحمتي وكرمي.

فسبحان من أبدى جميل جماله

على عبده لطفًا وجود جواد

وأخفى المساوئ والعيوب تكرمًا

وحلما تعالى ساتر العباد

السادسة: مر عليّ رضي الله عنهما ببعض شوارع البصرة، فإذا هو بحلقة كبيرة، والناس حولها يمدون الأعناق ويشخصون إليها بالأحداق، فمضى إليهم لينظر ما سبب اجتماعهم، وإذا فيهم شاب حسن الشباب نقي الثياب، عليه هيئة الوقار، وسكينة الأخيار، وهو جالس على كرسي، والناس يأتونه بقوارير من الماء، وهو ينظرها ويصف لهم ما يوافق من أنواع الدواء، فتقدم إليه وقال: السلام عليك أيها الطبيب

(1)

ورحمة اللَّه وبركاته، هل عندك شيء من أدوية الذنوب، فقد أعيا الناس دواءها فأطرق برأسه ولم يتكلم، فناداه ثانية وثالثة كذلك، فرفع الطبيب رأسه بعد ما رد السلام وقال: أوتعرف أدوية الذنوب، بارك اللَّه فيك؟ قال: صف وباللَّه التوفيق، قال: تعمد إلى بستان الإيمان، فتأخذ منه عروق النية، وحب الندامة، وورق التدبير، وبذر الورع، وثمر العفة، وأغصان اليقين، ولب الإخلاص، وقشور الاجتهاد، وعروق التوكل، وأكمام الاعتبار، وسيسبان الإنابة، وترياف التواضع، تأخذ هذه الأدوية بقلب حاضر، وفهم واقد، بأنامل التصريف، وكف التوفيق، ثم تضعها في طبق التحقيق، ثم تغسلها بماء الدموع، ثم تصفيها في قدر الرجاء، ثم توقد عليها

(1)

في مرض ابن مسعود الذي توفي فيه فعاده عثمان بن عفان فقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي، قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي، قال: ألا آمر لك بطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني، قال: ألا آمر لك بعطاه؟ قال: لا حاجة لي فيه، قال: يكون لبناتك من بعدك، قال: أتخشى على بناتي الفقر؟ إني أمرت بناتي بقرآن كل ليلة سورة الواقعة، إني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدًا". تفسير ابن كثير [4/ 281].

ص: 58

بنار الشوق حتى ترعى زبد الحكمة، ثم تفرغها في صحاف الرضا، ثم تروح عليها بمرواح الاستغفار

(1)

، ينعقد لك من ذلك شربة جدة، ثم تشربها في مكان لا يراك فيه أحد إلا مولاك، فإن ذلك يزيل عنك الذنوب، فلا يبقى عليك ذنب، ثم أنشأ يقول:

يا طالب الحوراء في حسنها

شمر فتقوى اللَّه من مهرها

وكن مجدًا وانيا

وجاهد النفس على صبرها

ثم شهق شهقة فارق الدنيا، فقال عليّ: واللَّه إنك لطبيب الدنيا والآخرة. قال ذو النون: إن للَّه عبادا نصبوا أشجار الخطايا نصب أعينهم، وسقوها بماء التوبة، فأثمرت ندما وحزنا، فجنوا من غير جنون، وإنهم لهم العارفون

(2)

باللَّه ورسوله، ثم شربوا بكأس الصفا، فوزنوا الصبر على طول البلاء، ثم تولهت قلوبهم في الملكوت، وجالت فكرتهم بين سرايا حجب الجبروت، واستظلوا تحت رواق الندم، فقرأوا صحيفة الخطايا، فأورثوا أنفسهم الجزع حتى وصلوا إلى علو الزهد بسلم الورع، فاستعذبوا مرارة الترك للدنيا، واستلانوا خشونة المضجع حتى ظفروا بجبل النجاة، وعروة السلامة وسرحت أرواحهم في العلا حتى أناخوا في رياض النعيم، وخاضوا في بحر الحياة، وردموا خنادق الجزع، وعبروا جسور الهوى حتى نزلوا بفناء العلم، واستقوا من غدير الحكمة، وركبوا في سفينة العصمة، وأقلعوا بريح النجاة في بحر السلامة حتى وصلوا إلى رياض الرَّاحة، ومعدن العز والكرامة.

ركب المحب إلى الحبيب سفينة

تجري من الخطرات في أمواج

في (سرسر)

(3)

الشر سرا أقلعت

في لج بحر زاخر عجَّاج

يا حسنها تجري به متفردا

بعلومه في جنح ليل داج

فالقلب مشكاة وفيه زجاجة

قد علقت بسلاسل المنهاج

(1)

روى أبو داود في سننه [1518] عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من لزم الاستغفار جعل اللَّه له من كل ضيق مخرجًا، ومن كل هم فرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب".

(2)

لما سأل المتوكل ذا النون فقال: يا أبا الفيض صف لي أولياء اللَّه. قال: يا أمير المؤمنين هم قوم ألبسهم اللَّه النور الساطع من محبته، وجللهم بالبهاء من أردية كرامته، ووضع على مفارقهم تيجان مسرته، ونشر لهم المحبة في قلوب خليقته، ثم أخرجهم وقد ودع القلوب ذخائر الغيوب، فهي معلمة بمواصلة المحبوب، فقلوبهم إليه سائرة، وأعينهم إلى عظيم جلاله ناظرة، ثم أجلسهم بعد أن أحسن إليهم على كراسي طلب المعرفة بالدواء، وعرفهم منابت الأدواء، وجعل تلاميذهم أهل الورع والتقى. . . إلى آخر كلامه. تاريخ الإسلام، وفيات [241 - 250].

(3)

كذا بالأصل.

ص: 59

متوقد بالنور من زيتونة

تسقي سراجًا فاق كل سراج

غيره:

واخجلة العبد من إحسان سيده

يا حيرة القلب من ألطاف

(1)

معناه

واحسرة الطرف

(2)

لم ينظر لجانبه

من المعاصي ولا يرضى بها اللَّه

وكم أسأت وبالإحسان عاملني

وأخجلني وأحناي حين ألقاه

وكم له من أياد غير واحدة

وافت إليّ لعلمي أنه اللَّه

بلطفه وبفضل منه عرفتني

في حبه كيف أرجوه وأخشاه

يا نفس كم بخفي اللطف عاملني

وقد رآني على ما ليس يرضاه

يا نفس توبي من العصيان وانزجري

(3)

فقد كفى ما جرى لي حسبي اللَّه

غيره:

يا نفس توبي فإن الموت قد حانا

واعصي الهوى فالهوى ما زال فتانا

أما ترى للمنايا

(4)

كيف تلقطنا

لقطا وتلحق أخرانا بأولانا

في كل يوم لنا ميت نشيعه

نفسي مصرعة آثار موتانا

يا نفس ما لي والأموال أتركها

خلفي وأخرج من دنياي عريانا

ما بالنا نتعامى عن مصائرنا

ننسى بغفلتنا من ليس ينسانا

كم قد رأينا أناسا صالحين مضوا

موتى وقد سلبوا دينا وإيمانا

فاستبدلوا الكفر بالإيمان

(5)

وانقلبوا

بسوء خاتمة في الموت إعلانا

(1)

اللطف: الهدية، جمعها ألطاف.

(2)

طرف البصر طرفًا، تحرك جفناه وعييه وبهما: حرك جفنيه.

(3)

زجر: الكلب وغيره وزجر به زجرًا، كفه، وفلانًا عن كذا: منعه ونهاه وانتهره.

(4)

المنية: الموت، جمعها منايا.

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [11 - (2651)] كتاب القدر، [1] باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه، عن أبي هريرة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة، ثم يختم له عمله بعمل أهل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار، ثم يختم له عمله بعمل أهل الجنة"، وقال النووي: إن هذا قد يقع في نادر الناس لا أنه غالب فيهم، ثم إنه من لطف اللَّه -تعالى- وسعة رحمته انقلاب الناس من الشر إلى الخير في كثرة، وأما انقلابهم من الخير إلى الشر ففي غاية الندور ونهاية القلة، وهو نحو قوله تعالى:(إن رحمتي سبقت غضبي وغلبت غضبي). النووي في شرح مسلم [16/ 158] طبعة دار الكتب العلمية.

ص: 60

أبعد خمسين قد قضيتها لعبًا

قد آن تقصيرها قد آن قد آنا

أين الملوك وأبناء الملوك ومن

كانت تخر له الأذقان إذعانا

صاحت بهم حادثات الدهر فانقلبوا

مستبدلين من الأوطان أوطانا

اخلوا منازل كان العز مفرشها

واستفرشوا حفرًا غرًّا وقيعانا

يا راكضا في ميادين الهوى مرحًا

ورافلا

(1)

في ثياب الغي نشوانا

مضى الزمان وولى العمر في لعب

يكفيك ما قد مضى قد كان ما كانا

(1)

رفل رفلًا ورفولًا: جرَّ ذيله وتبختر في سيره فهو رافل وهي رافلة.

ص: 61

‌مجلس في الصدق وهو حصول الحقيقة على التمام والكمال

والفرق بينه وبين الإخلاص لائح للرجال، فكم من (مصفى)

(1)

لا قوة فيه، وهو عماد الأمر، وبه تمامه، وفيه نظامه، وهو ثاني درجة النبوة، في قوله:{فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ}

(2)

الآية.

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)}

(3)

.

وقال تعالى: {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ}

(4)

.

وقال تعالى: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ}

(5)

.

وقال: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ}

(6)

.

وقال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)}

(7)

.

وقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ}

(8)

.

وقال: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ}

(9)

.

وقال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)}

(10)

.

وقال: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}

(11)

.

وقال: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ}

(12)

.

وقال: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ}

(13)

.

وقال: {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}

(14)

.

وقال: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا}

(15)

.

(1)

كذا بالأصل.

(2)

سورة النساء [69].

(3)

سورة التوبة [119].

(4)

سورة الأحزاب [35].

(5)

سورة محمد [21].

(6)

سورة المائدة [119].

(7)

سورة الشعراء [84].

(8)

سورة مريم [54].

(9)

سورة الأحزاب [8].

(10)

سورة الزمر [33].

(11)

سورة الأحزاب [23].

(12)

سورة الأحزاب [24].

(13)

سورة آل عمران [17].

(14)

سورة الحجرات [15].

(15)

سورة العنكبوت [3].

ص: 62

وأما الأحاديث الواردة في الباب فنذكر منها ستة:

أولها: حديث ابن مسعود مرفوعًا: "إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقًا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند اللَّه كذابًا"

(1)

متفق عليه.

ثانيها: حديث الحسن بن علي مرفوعًا: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة"

(2)

رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح.

ومعناه اترك ما تشك في حله إلى ما لا تشك.

ثالثها: حديث أبي سفيان صخر

(3)

في حديثه الطويل في قصة هرقل، قال هرقل: فماذا يأمركم؟ -ويعني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: يقول اعبدوا اللَّه وحده لا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.

(4)

متفق عليه، فجعله ربع الدين وبه قوام الباقي.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [6094] كتاب الأدب، [69] باب قول اللَّه تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة: 119] وما ينهى عن الكذب، ومسلم في صحيحه [103 - (2607)] كتاب البر والصلة والآداب، [29] باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله، وأحمد في مسنده [1/ 384، 432]، والبيهقي في السنن الكبرى [10/ 196، 243] والدارمي في سننه [2/ 299]، والحاكم في المستدرك [1/ 127]، والسيوطي في الدر المنثور [3/ 290]، والزبيدي في الإتحاف [7/ 519، 10/ 67]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [8/ 378].

(2)

أخرجه الترمذي في سننه [2518]، والنسائي في الأشربة باب [48]، والبيهقي في السنن الكبرى [5/ 335]، والحاكم في المستدرك [2/ 13، 4/ 99]، والهيثمي في مجمع الزوائد [1/ 238]، وابن حبان في صحيحه [512 - الموارد]، والطبراني في المعجم الصغير [1/ 102]، والطبراني في الكبير [3/ 75]، والمنذري في الترغيب والترهيب [2/ 558، 3/ 188، 589]، والزيلعي في نصب الراية [2/ 471]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [6/ 352، 8/ 264]، والزبيدي في الإتحاف [1/ 157، 158]، والعجلوني في كشف الخفا [1/ 489].

(3)

أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، أبو سفيان أبو حنظلة الأموي الصحابي الشهير القرشي، صحابي شهير، أسلم عام الفتح، وتوفي سنة [31 أو 32 أو 34]، وأخرج له: الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي. ترجمته: التهذيب [4/ 410]، التقريب [1/ 365] الكاشف [2/ 26]، التاريخ الكبير للبخاري [4/ 312]، الجرح والتعديل [4/ 1880]، ميزان الاعتدال [2/ 308]، سير الأعلام [7/ 410]، والوافي بالوفيات [16/ 288]، الثقات [6/ 473].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [7] كتاب بدء الوحي، ومسلم في صحيحه [74 - (1773)] كتاب الجهاد والسير [26]، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام.

ص: 63

رابعها: حديث سهل بن حنيف مرفوعًا: "من سأل اللَّه -تعالى- الشهادة بصدق بلغه اللَّه -تعالى- منازل الشهداء، وإن مات على فراشه"

(1)

رواه مسلم.

خامسها: حديث أبي هريرة مرفوعًا: "غزا نبي من الأنبياء، فقال لقومه: لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة، وهو يريد أن يبني بها، ولمَّا يبن بها، ولا أحد بنى بيوتًا لم يرفع سقفها، ولا أحد اشترى غنمًا أو خَلِفاتٍ وهو ينتظر ولادها، فغزا، فدنا من القرية صلاة العصر، أو قريبًا من ذلك، فقال للشمس إنك مأمورة، وأنا مأمور، اللهم احبسها لنا، فحبست حتى فتح اللَّه عليه

(2)

فجمع الغنائم، فجاءت -يعني النار- لتأكلها، فلم تطعمها، فقال: إن فيكم غلولًا فليبايعني من كل قبيلة رجل، فلزقت يد رجل بيده، فقال: فيكم الغلول فليبايعني قبيلتك، فلزقت يد رجلين أو ثلاثة بيده، فقال: فيكم الغلول، فجاءوا برأس مثل رأس البقرة من ذهب، فوضعوها فجاءت النار فأكلتها

(3)

فلم تحل الغنائم لأحد قبلنا، ثم أحل اللَّه لنا الغنائم؛ رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا"

(4)

متفق عليه، وهو ظاهر في أن الغازي بصدق يفتح اللَّه على يديه،

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [157 - (1909)] كتاب الإمارة، [46]، باب استحباب طلب الشهادة في سبيل اللَّه تعالى، والترمذي [1653]، كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء فبمن سأل الشهادة، والنسائي [6/ 37 - المجتبى]، وابن ماجه [2779]، وأبو داود في الدعاء، باب [4]، وأحمد في مسنده [5/ 244]، والبيهقي في السنن الكبرى [9/ 170]، والمنذري في الترغيب والترهيب [2/ 275].

(2)

قال القاضي: اختلف في حبس الشمس المذكور هنا، فقيل: ردت على أدراجها، وقيل: وقفت ولم تدر، وقيل أبطئ بحركتها، وكل ذلك من معجزات النبوة، قال: ويقال إن الذي حبست عليه الشمس يوشع بن نون، قال القاضي: وقد روي أن نبينا صلى الله عليه وسلم حبست له الشمس مرتين: إحداهما يوم الخندق حين شغلوا عن صلاة العصر ثم غربت فردها اللَّه عليه حتى صلى العصر، ذكر ذلك الطحاوي وقال: رواته ثقة. والثانية: صبيحة الإسراء حين انتظر العير التي أخبر بوصولها مع شروق الشمس، ذكره يونس بن بكير في زيادته على سيرة ابن إسحاق. النووي في شرح مسلم [12/ 46] طبعة دار الكتب العلمية.

(3)

هذه كانت عادة الأنبياء -صلوات اللَّه وسلامه عليهم- في الغنائم أن يجمعوها فتجئ نار من السماه فتأكلها، فيكون ذلك علامة لقبولها وعدم الغلول، فلما جاءت هذه المرة فأبت أن تأكلها علم أن فيهم غلولًا، فلما ردوه جاءت فأكلتها، وكذلك كان أمر قربانهم إذا تقبل جاءت نار من السماء فأكلته. شرح مسلم للنووي [12/ 47] طبعة دار الكتب العلمية.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [3124] كتاب فرض الخمس، [8] باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"أحلت لكم الغنائم" وقال اللَّه تعالى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح: 20]، ومسلم [32 - (1747)] كتاب الجهاد والسير، [11]، باب تحليل الغنائم لهذه الأمة خاصة، وأحمد في مسنده [2/ 318]، والبيهقي في السنن الكبرى [6/ 290]، وعبد الرزاق في مصنفه [9492].

ص: 64

ولذلك لم يستفد من له (لفتة يشعث)

(1)

صدقه كذبه، وأن الداعي بصدق يحبس اللَّه له الشمس، فالعمل الصادق هو النافع، وما سواه باطل غير نافع.

سادسها: حديث حكيم بن حزام مرفوعًا: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما"

(2)

متفق عليه أيضًا.

(1)

كذا بالأصل.

(2)

أخرجه البخاري [2110] كتاب البيوع، [44]، باب البيعان بالخيار ما لم يفترقا، وهو بألفاظ أخرى في أرقام [2107، 2108، 2109، 2111، 2112، 2113، 2116]، ومسلم في صحيحه [47 - (1532)] كتاب البيوع، [11]، باب الصدقة في البيع والبيان، والترمذي في سننه [1246] كتاب البيوع، باب ما جاء في البيعين بالخيار ما لم يتفرقا، وأبو داود في سننه [3457، 3459]، وابن ماجه [2182 - 2183]، وأحمد بن حنبل في مسنده [2/ 9، 73، 3/ 402، 403]، والدارمي في سننه [2/ 250]، والحاكم ني المستدرك [2/ 16]، والبيهقي في السنن الكبرى [5/ 269، 270]، وابن أبي شيبة في مصنفه [7/ 124، 125].

ص: 65

‌مجلس في العلم

قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}

(1)

.

وكفى به شرفًا أن يكرم الجليل تعالى أكرم خلقه وأحبهم إليه وأقربهم لديه، أن يطلب الاستزادة منه، قال الأئمة: لم يأمر اللَّه نبيه أن يطلب المزيد في شيء إلا فيه.

وقال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}

(2)

.

وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}

(3)

.

وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}

(4)

والآيات فيه كثيرة.

وروينا في الصحيحين من حديث معاوية مرفوعًا: "من يرد اللَّه به خيرًا يفقهه في الدين"

(5)

والفقه فهم ما يدق ويغمض ويخفيه الإنسان حتى يفقه عنه، وتفتح به الأذهان، وقد قال تعالى:{لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية: 5].

وقال: {لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 98].

فالفقه في الدين

(6)

فهم وحكم كل شيء منه مع لطائفه وأسراره وحكمته وغايته وشروطه وأركانه وسننه وآدابه ومكملاته وسوابقه ولواحقه، وكل مفسد له، ومحبط

(1)

سورة طه [114].

(2)

سورة الزمر [9].

أي هل يستوي هذا والذي قبله ممن جعل للَّه أندادًا ليضل عن سبيله - ويقصد قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)} [الزمر: 8].

(3)

سورة المجادلة [11].

(4)

سورة فاطر [28].

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه [71] كتاب العلم، [14]، باب من يرد اللَّه به خيرًا يفقهه في الدين، ومسلم [1750] كتاب الإمارة، [53]، باب قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم"، والترمذي [2645]، كتاب العلم، [1] باب إذا أراد اللَّه بعبد خيرًا فقهه في الدين.

(6)

قال أبو المظفر الوزير: معنى فقه الرجل غاص على استخراج معنى القول؛ من قولهم: فقأت عينه إذا أنخستها فجعلت باطنها ظاهرها، فمعنى الفقه على هذا التأويل هو استخراج الغوامض والاطلاع على أسرار الكلام. انظر اختلاف الأئمة العلماء [1/ 19] من تحقيقنا، طبعة دار الكتب العلمية.

ص: 66

لأجله من موانع قبوله وغير ذلك من أسبابه وأهله ومحله كما يحرفه أهله، وافهم قوله:"من يرد اللَّه به خيرًا يفقهه" ضد عكسه، وأنه لا يراد به خير، وكفى به حسرة وشقاء.

وروينا من حديث ابن مسعود رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين؛ رجل آتاه اللَّه مالًا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه اللَّه الحكمة، فهو يقضي بها ويعلمها"

(1)

أخرجاه.

والمراد بالحسد الغبطة

(2)

، وهو أن يتمنى مثله، والمراد بالحكمة هنا الفقه في الدين كما فسرها به، والقضاء والتعليم هو فائدة الحكمة واليقين والفقه في الدين.

وروينا فيها من حديث أبي موسى قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مثل ما بعثني اللَّه به من الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب أرضا، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء

(3)

وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع اللَّه بها الناس؛ فشربوا منا وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من فقه في دين اللَّه، ونفعه ما بعثني اللَّه به فلعم وعلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدي اللَّه الذي أرسلت به"

(4)

.

قلت: فالأول: العالم علم الدراية.

والثاني: رواية كالأجداب.

والثالث: من لا علم له.

(1)

أخرجه البخاري [73]، كتاب العلم، [16]، باب الاغتباط في العلم والحكمة، ومسلم في صحيحه [268 - (816)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، [47]، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه، والترمذي [1936]، وابن ماجه [4208]، والمنذري في الترغيب والترهيب [1/ 980]، وابن عبد البر في التمهيد [6/ 120]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [7/ 363]، والحميدي في مسنده [7/ 6]، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين [1/ 116، 9/ 665].

(2)

قوله صلى الله عليه وسلم "لا حسد إلا في اثنتين. . . " قال العلماء: الحسد قسمان؛ حقيقي ومجازي، فالحقيقي تمني زوال النعمة عن صاحبها، وهذا حرام بإجماع الأمة مع النصوص الصحيحة، وأما المجازي فهو الغبطة، وهو أن يتمنى مثل النعمة التي على غيره من غير زوالها عن صاحبها، فإن كانت من أمور الدنيا كانت مباحة، وإن كانت طاعة فهي مستحبة، والمراد بالحديث لا غبطة محبوبة إلا في هاتين الخصلتين، وما في معناهما. النووي في شرح مسلم [6/ 84، 85] طبعة دار الكتب العلمية.

(3)

في البخاري: فكان منها نقية قبلت الماء.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [79] كتاب العلم، [21] باب فضل من علم وعلّم، والمنذري في الترغيب والترهيب [1/ 99]، والسيوطي في الدر المنثور [3/ 54]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [150]، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار [1/ 12].

ص: 67

وروينا من حديث سهل بن ساعد الساعدي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي:"فواللَّه لأن يهدي اللَّه بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم"

(1)

أخرجاه.

وروينا من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار"

(2)

أخرجه البخاري.

وهو إذن كريم لمن علم شيئًا، وإن قلّ أن يبلغه، ففيه بشرى كونه وارث النبي صلى الله عليه وسلم وقائمًا مقامه في بعض التبليغات.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل اللَّه له طريقًا إلى الجنة"

(3)

أخرجه مسلم.

ويحتمل أن يكون المراد الطريق الحسية والمعنوية، وهو الطرق الموصلة من تكرير وحفظ، ومطالعة ومراجعة، ومذاكرة ومدارسة، ونحو ذلك.

وروينا من حديثه أيضًا مرفوعًا: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا"

(4)

أخرجه مسلم. وفيه بشرى بالنجاة

(1)

أخرجه البخاري [3701]، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم[9] باب مناقب علي بن أبي طالب، ومسلم [34 - (2406)] كتاب فضائل الصحابة، [4] باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، قال النووي: هي الإبل الحمر وهي أنفى أموال العرب يضربون بها المثل في نفاسة الشيء وأنه ليس هناك أعظم منه، وتشبيه أمور الآخرة بأعراض الدنيا إنما هو للتقريب من الأفهام، وإلا فذرّة من الآخرة الباقية خير من الأرض بأسرها وأمثالها معها لو تصورت، وفي هذا بيان فضيلة العلم والدعاء إلى الهدى وسن السنن الحسنة. انظر النووي في شرح مسلم [15/ 145] طبعة دار الكتب العلمية.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [3461]، كتاب أحاديث الأنبياء، [52] باب ما ذكر عن بني إسرائيل، والترمذي في سننه [2669] كتاب العلم، باب ما جاء في الحديث عن بني إسرائيل، والدارمي في سننه [1/ 136]، وأحمد في مسنده [2/ 159]، والقضاعي في مسند الشهاب [662]، والخطيب في تاريخ بغداد [13/ 157]، والشجري في أماليه [1/ 10، 65]، وعبد الرزاق في مصنفه [10157].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [38 - (2699)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [11] باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، والترمذي [2646، 2682، 2945]، وأبو داود [3614]، وابن ماجه [223، 225].

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [16 - (2674)] كتاب العلم، [6]، باب من سن سنة حسنة أو سيئة، ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، وأبو داود في السنة، باب [6]، والترمذي في سننه [2674]، وابن ماجه في سننه [206]، وأحمد في مسنده [2/ 397]، والدارمي في سننه [1/ 131]، والمنذري في الترغيب والترهيب [1/ 120].

ص: 68

لمن هذا حاله.

وروينا من حديثه أيضًا مرفوعًا: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"

(1)

أخرجه مسلم، والعلم المنتفع به يشمل المؤلفات وغيرها.

وروينا من حديثه أيضا مرفوعا: "الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر اللَّه وما والاه، وعالمًا ومتعلما"

(2)

رواه الترمذي وحسنه.

وقوله: وما والاه: أي طاعة اللَّه؛ إذ السلامة من اللعن، أي الإبعاد من الرحمة خير كثير، وهو أحد الفضلين: الغنيمة والسلامة.

وروينا من حديث أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من خرج في طلب العلم، فهو في سبيل اللَّه حتى يرجع"

(3)

رواه الترمذي وحسنه.

يعني أن رجوعه طاعة مكتوبة، ومن كان هذا حاله فهو مرضي عنه.

وروينا من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا: "لن يشبع مؤمن من خير حتى يكون منتهاه الجنة"

(4)

رواه الترمذي وحسنه.

فمن شبع فليس بمؤمن، وناهيك به منقذًا من القناعة في العلم، وسره. {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].

وروينا من حديث أبي أمامة

(5)

مرفوعًا: "فضل العالم على العابد كفضلي على

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [14 - (1631)] كتاب الوصية، [3]، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، والترمذي في سننه [1376]، والزيلعي في نصب الراية [3/ 159]، والزبيدي في الإتحاف [1/ 114، 5/ 22، 9/ 87]، والمنذري في الترغيب والترهيب [1/ 99، 110]، ابن حجر في التلخيص [3/ 68].

(2)

أخرجه الترمذي في سننه [2332]، كتاب الزهد، باب [14]، منه ما جاء في هوان الدنيا على اللَّه عز وجل، وابن ماجه [4112]، في الزهد، باب مثل الدنيا، والمنذري في الترغيب والترهيب [1/ 98]، والشجري في أماليه [2/ 161]، والزبيدي في الإتحاف [8/ 80]، والسيوطي في الدر المنثور [4/ 256].

(3)

أخرجه الترمذي [2647]، كتاب العلم، باب فضل طلب العلم، والمنذري في الترغيب والترهيب [1/ 105]، والطبراني في المعجم الصغير [1/ 136]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [220].

(4)

أخرجه الترمذي في سننه [2686]، كتاب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، والتبريزي في مشكاة المصابيح [2220]، والعجلوني في كشف الخفا [2/ 295، 398].

(5)

أخرجه الترمذي في سننه [2685] كتاب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، والشجري في أماليه [1/ 54]، والسيوطي في الدر المنثور [5/ 251]، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار [1/ 11]، والطبراني في المعجم الكبير [8/ 278].

ص: 69

أدناكم" ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير" رواه الترمذي وحسنه.

وروينا من حديث أبي الدرداء مرفوعًا

(1)

: "من سلك طريقًا يبتغي فيه علمًا سهل اللَّه له طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاء لطالب العلم، وإن العام ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهما، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر" رواه أبو داود والترمذي وصححه وابن حبان.

والجليل وملائكته يعظم طالب العلم، فكيف العالم، ونور العلم يزيد على نور العبادة، كما مثله بالقمر بالنسبة إلى باقي الكواكب.

وروينا من حديث ابن مسعود مرفوعًا

(2)

: "نضر اللَّه امرأ سمع منا شيئًا فبلَّغه كما سمعه، فرب مبلِّغ أوعى من سامع". رواه الترمذي وقال حسن صحيح.

فنضرة النعيم فضل عميم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22، 23].

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من سئل عن علم فكتمه أُلجم يوم القيامة بلجام من نار"

(3)

رواه الترمذي وحسنه. فليحذر العالم من ذلك، والمراد ما يجب بذله.

{وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)}

(4)

.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه [3641] كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم، والترمذي [2682] كتاب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، وابن ماجه في سننه [223، 225] في المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، وابن حبان في صحيحه [80 - الموارد].

(2)

أخرجه الترمذي [2657] كتاب العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع، وابن ماجه [232، 242] في المقدمة، باب من بلغ علمًا، وأحمد في مسنده [1/ 437، 5/ 83]، والطبراني في المعجم الكبير [5/ 158]، وبلفظ آخر أخرجه أبو داود [3660]، في العلم، باب فضل نشر العلم.

(3)

أخرجه الترمذي في سننه [2649] كتاب العلم، باب ما جاء في كتمان العلم، وابن ماجه [264] في المقدمة، باب من سئل عن علم فكتمه، وأحمد في مسنده [2/ 263، 305]، والطبراني في المجمع الكبير [8/ 401، 10/ 125]، والهيثمي لي مجمع الزوائد [1/ 163]، وهو في أبي داود في العلم، باب كراهية منع العلم.

(4)

سورة الضحى [10].

ص: 70

قال بعضهم: من نهر السائل رده بلا جوب.

وروينا عنه مرفوعًا: "من تعلم علمًا مما يبتغي به وجه اللَّه لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة - يعني ريحها"

(1)

رواه أبو داود بإسناد صحيح.

وهو أبلغ زجر وردع عن نية غير صالحة.

وروينا من حديث ابن عمر مرفوعًا: "إن اللَّه لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا"

(2)

أخرجاه.

وهو محذر من الرياسة والإفتاء بغير علم، وفيه غير ذلك من الأحاديث، وقد أفردت بالتأليف، وهذا القدر كاف منها.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه في كتاب العلم، باب [12]، وابن ماجه في سننه [252]، وأحمد في مسنده [2/ 338]، والحاكم في المستدرك [1/ 85]، والمنذري في الترغيب والترهيب [1/ 115]، وابن أبي شيبة في مصنفه [8/ 543]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [227]، وابن حبان في مصنفه [89 - الموارد]، والزبيدي في الإتحاف [1/ 181].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [100]، كتاب العلم [35] باب كيف يقبض العلم، ومسلم في صحيحه [13 - (2673)] كتاب العلم، [5]، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان، والترمذي في سننه [2652]، وابن ماجه [9]، وأحمد في مسنده [2/ 162، 190].

والدارمي في سننه [1/ 77]، والحميدي في مسنده [581]، والهيثمي في مجمع الزوائد [1/ 201]، وابن حجر في التلخيص [4/ 185]، وأبو نعيم في الحلية [2/ 181].

ص: 71

‌مجلس في الصبر

وهو مسك النفس وحبسها عما يكره الرب -تعالى- وتنشأ من تعظيم أمره، وإيثار رضوانه، والحذر من مقته. ويترتب عليه الثبات -إن شاء اللَّه- إلى الممات.

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا}

(1)

والصبر شامل، والمصابرة فرد من أفراده.

والعطف للعناية، لينال بها في الجهاد إلى أشرف غاية.

وقال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}

(2)

.

وقال: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)}

(3)

أي المهمات منها.

وقال: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} .

(4)

فالالتجاء بهما عند حلول البليات يجزل الصلات.

وقال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ}

(5)

فيعز المرء إذ ذاك أو يهان، فبالاختبار تظهر الرجال.

والآيات في الأمر بالصبر كثيرة مشهورة غزيرة، ولنذكر جملة من الأحاديث الثابتة في فوائده، ومستهلات منازله، وبيان وقته وأهله وما ينافيه، وتنوع حكمته، والزجر عن تمني موجبه، فإنما هو للضرورة في شكر العافية أغنى عنه، وصبر السَّراء أفضل من صبر الضَّراء

(6)

، ويحضرنا منها تسعة وعشرون حديثًا.

(1)

سورة آل عمران [200].

قال الحسن البصري: أمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه اللَّه لهم وهو الإسلام فلا يدعوه لسراء ولا لضراء، ولا لشدة ولا لرخاء، حتى يموتوا مسلمين، وأن يصابروا الأعداء الذين يكتمون دينهم، وكذلك قال غير واحد من علماء السلف. تفسير ابن كثير [1/ 444].

(2)

سورة الزمر [10].

قال الأوزاعي: ليس يوزن لهم ولا يكال لهم، إنما يغرف لهم غرفًا، وقال ابن جريج: بلغني أنه لا يحسب عليهم ثواب عملهم قط، ولكن يزادون على ذلك، وقال السدي:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] يعني في الجنة. تفسير ابن كثير [4/ 48].

(3)

سورة الشورى [43].

(4)

سورة البقرة [45].

(5)

سورة محمد [31].

(6)

قال النووي: الصبر المحبوب في الشرع هو الصبر على طاعة اللَّه -تعالى- والصبر على معصيته =

ص: 72

أولها: حديث أبي مالك الحارثي الأشعري الطويل، وفيه:"والصبر ضياء"

(1)

أخرجه مسلم.

إذا وجد حصل الفرج والوضأة، وإثابة سبل السلامة، واندار مهاوي الردى.

ثانيها: حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا: "ومن يتصبر يصبره اللَّه، وما أعطى أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر"

(2)

متفق عليه.

وإذا حصل الوسع، فأي ضيق أو ضيم يوجد معه؟!!

ثالثها: حديث أبي يحيى صهيب بن سنان مرفوعا: "عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيرًا له"

(3)

رواه مسلم.

فكأنه يقلب ضرَها ونفعها، وأعظم بذلك وصفًا ووضعًا.

رابعها: حديث أنس: "لما ثقل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه الكرب، فقالت فاطمة: واكرب أباه، فقال: "ليس على أبيك كرب بعد اليوم"

(4)

رواه البخاري.

= والصبر أيضًا على النائبات وأنواع المكاره في الدنيا، والمراد أن الصبر محمود لا يزال صاحبه مستضيئًا مهتديًا مستمرًا على الصواب، قال إبراهيم الخواص: الصبر هو الثبات على الكتاب والسنة، وقال ابن عطاء: الصبر الوقوف مع البلاء بحسن الأدب، وقال الأستاذ أبو علي الدقاق - رحمه اللَّه تعالى: حقيقة الصبر أن لا يعترض على المقدور. النووي في شرح مسلم [3/ 86] طبعة دار الكتب العلمية.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [1 - (223)] كتاب الطهارة، [1] باب فضل الوضوء، والترمذي [3517]، كتاب الدعوات، والنسائي في عمل اليوم والليلة، باب نوع آخر ذكر حديث كعب بن عجرة في المعجمات [ص 71]، وابن ماجه [280]، وأحمد في مسنده [5/ 342، 343]، والبيهقي في السنن الكبرى [1/ 42]، وأبو عوانة في مسنده [1/ 223]، وابن أبي عاصم في السنة [2/ 523]، وابن حبان في صحيحه [2336 - الموارد]، والسيوطي في الدر المنثور [1/ 12]، والزبيدي في الإتحاف [2/ 304، 5/ 15].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [1469] كتاب الزكاة، [52] باب الاستعفاف عن المسألة، ومسلم في صحيحه [124 - (1053)] كتاب الزكاة، [42] باب فضل التعفف والصبر، وأبو داود في الزكاة، باب [29]، والترمذي في سننه [2024] كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الصبر، وأحمد في مسنده [3/ 12، 93].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [64 - (2999)] كتاب الزهد والرقائق، [13] باب المؤمن أمره كله خير، والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 278]، والزبيدي في الإتحاف [9/ 140]، والشجري في أماليه [2/ 279]، وأحمد في مسنده [5/ 24]، والدارمي في السنن [2/ 318].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [4462]، كتاب المغازي، [85]، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، وقول اللَّه تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)} ، والتبريزي =

ص: 73

وهو دال على بدء الشدائد، وإفضال العوائد.

خامسها: حديث أسامة: "أرسلت بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إن ابني قد احتضر، فأرسل إليها فلتصبر ولتحتسب

(1)

متفق عليه.

فليس للعبد سوى الصبر، لينال الرحمة والثواب في المحيا والممات.

سادسها: حديث صهيب في قصة الغلام مع الساحر والراهب.

(2)

أخرجه مسلم بطوله.

وهو دال على أن من كان على الحق لا يضره نبال ولا منشار ولا نار بقدرة الجبار.

سابعها: حديث أنس: "مر صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر، وفي لفظ على صبي لها، فقال: "اتقي اللَّه واصبري" فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمثل مصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه رسول اللَّه، فأتت بابه فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى".

(3)

متفق عليه.

وهو دال على بيان أهم أوقات الاعتناء به، والشارع أقرَّها على قولها: إليك عني، وما أقواه من تجني.

ثامنها: حديث أبي هريرة مرفوعا: "يقول اللَّه -تعالى- ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفته من أهل الدنيا، ثم احتسبه إلا الجنة"

(4)

رواه البخاري.

= في مشكاة المصابيح [5961].

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [1284] كتاب الجنائز، [32] باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته"، ومسلم في صحيحه [11 - (923)] كتاب الجنائز، [6] باب البكاء على الميت، والنسائي في الجنائز باب [21]، وأحمد في مسنده [5/ 204]، والبيهقي في السنن الكبرى [4/ 65]، وعبد الرزاق في مصنفه [6670]، والبخاري في الأدب المفرد [512]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [1723].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [73 - (3005)] كتاب الزهد والرقائق، [17] باب قصة الأخدود والساحر والراهب والغلام، عن صهيب.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [1283]، كتاب الجنائز، [31]، باب زيارة القبور، ومسلم في صحيحه [15 - (626)] كتاب الجنائز، [8]، باب في الصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى، قال النووي: معناه الصبر الكامل الذي يترتب عليه الأجر الجزيل لكثرة المشقة فيه، وأصل الصدم الضرب في شيء صلب، ثم استعمل مجازًا في كل مكروه حصل بغتة.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [6424] كتاب الرقاق، [6] باب العمل الذي يبتغي به وجه اللَّه -تعالى- وأحمد في مسنده [2/ 417]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [1731].

ص: 74

والصفي: هو الابن أو الحميم، أو الحبيب.

تاسعها: حديث عائشة مرفوعًا في الطاعون: "إنه كان عذابًا يبعثه اللَّه -تعالى- على من يشاء، فجعله اللَّه رحمة للمؤمنين، فليس من عبد يقع في بلدة الطاعون، فيمكث في بلده صابرًا محتسبًا يعلم أنه ما يصيبه إلا ما كتب اللَّه له إلا كان له مثل أجر الشهيد"

(1)

رواه البخاري.

عاشرها: حديث أنس مرفوعًا: "إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر، عوضته منهما في الجنة"

(2)

يريد عينيه. رواه البخاري.

الحادي عشر: حديث ابن عباس في المرأة التي تُصرع وتنكشف، وأنها سألت الدعاء من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال:"إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت اللَّه أن يعافيك" فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف، فادع اللَّه أن لا أنكشف، فدعا لها.

(3)

الثاني عشر: حديث ابن مسعود: "كأني أنظر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"

(4)

.

الثالث عشر: حديث أبي سعيد وأبي هريرة مرفوعا: "ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفَّر اللَّه بها من خطاياه"

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [5734] كتاب الطب، [31] باب أجر الصابر في الطاعون، وأحمد في مسنده [6/ 64].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [5653] كتاب المرضى والطب، [7]، باب فضل من ذهب بصره، والبيهقي في السنن الكبرى [3/ 375]، والزبيدي في الإتحاف [6/ 361، 9/ 28].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [5652] كتاب المرض والطب، [6]، باب فضل من يصرع من الريح، ومسلم في صحيحه [54 - (2576)] كتاب البر والصلة والآداب، [14]، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك، وأحمد في مسنده [1/ 347]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [2/ 71، 6/ 180]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [1577]، والبيهقي في دلائل النبوة [6/ 156].

(4)

أخرجه البخاري [4/ 214]، ومسلم [105 - (1792)] في الجهاد، وأحمد في مسنده [1/ 441]، والهيثمي في مجمع الزوائد [6/ 117]، والمنذري في الترغيب [3/ 419]، والقاضي عياض في الشفا [1/ 222]، والطبراني في المعجم الكبير [6/ 146].

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه [5641، 5642] كتاب المرضى والطب، [1] باب ما جاء في كفارة المرض، ومسلم في صحيحه [52 - (2573)] كتاب البر والصلة والآداب.

ص: 75

الرابع عشر: حديث ابن مسعود: "دخلت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يوعك، فقلت: يا رسول اللَّه، إنك توعك وعكًا شديدا، قال: "أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم" قلت: ذلك أن لك أجرين؟ قال: "أجل، ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى، شوكة فما فوقها إلا كفر اللَّه بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها""

(1)

متفق عليهن - أعني الأربعة.

شعر:

قد ينعم اللَّه بالبلوى وإن عظمت

ويبتلي اللَّه بعض القوم بالنعم

الخامس عشر: حديث أنس مرفوعًا: "لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه، فإن كان لا بد فاعلا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي"

(2)

متفق عليه أيضًا.

ووجه النهي أنه مناف للصبر الذي تركه محبط للأجر.

السادس عشر: حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من يرد اللَّه به خيرًا يصب منه"

(3)

رواه البخاري.

وهو من تسهيل التخلق بالصبر.

السابع عشر: حديث خباب بن الأرت

(4)

مرفوعًا: "قد كان من قبلكم يؤخذ

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [5648] كتاب المرضى والطب، [3] باب أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأول فالأول، ومسلم في صحيحه [45 - (2571)] كتاب البر والصلة والآداب، [14] باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك.

(2)

أخرجه البخاري [6351] كتاب الدعوات، [30] باب الدعاء بالموت والحياة، ومسلم في صحيحه [10 - (2680)] كتاب الذكر والدعاء، [4] باب كراهة تمني الموت لضر نزل به، وأبو داود في الجنائز باب [13]، والترمذي في سننه [971] كتاب الجنائز، باب ما جاء في النهي عن التمني للموت، والنسائي [4/ 3 - المجتبى]، وابن ماجه في سننه [4265]، وأحمد في مسنده [3/ 103]، والحاكم في المستدرك [3/ 443].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [5645] كتاب المرضى والطب، [1] باب ما جاء في كفارة المرض، وأحمد بن حنبل في مسنده [2/ 237]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [1536]، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين [6/ 296، 9/ 142]، ومالك في الموطأ [941].

(4)

خباب بن الأرت بن جندلة بن سعد، أبو عبد اللَّه أبو يحيى التميمي الزهري الخزاعي، صحابي جليل مشهور، أخرج له أصحاب الكتب الستة، توفي سنة [37]. ترجمته: تهذيب التهذيب [3/ 133]، تقريب التهذيب [1/ 222]، الكاشف [1/ 277]، تاريخ البخاري الكبير [3/ 215]، تاريخ البخاري الصغير [1/ 78]، الجرح والتعديل [3/ 1817]، أسد الغابة [2/ 114]، سير الأعلام [2/ 323]، الثقات [3/ 106]، أسماء الصحابة الرواة [89].

ص: 76

الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه"

(1)

الحديث، رواه البخاري.

فالتبرم مناف للصبر، مخوف لعدم كشف الضر.

الثامن عشر: حديث ابن مسعود مرفوعا: لما قيل له، وقد قسم: واللَّه إن هذه قسمة ما عدل فيها، وما أريد فيها وجه اللَّه، فتغير وجهه عليه الصلاة والسلام حين بلغه، حتى كان كالصِّرف

(2)

، ثم قال:"فمن يعدل إذا لم يعدل اللَّه ورسوله، يرحم اللَّه موسى؛ لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر"

(3)

متفق عليه.

وهو دال على أن هذه الأمور غير منافية للصبر ولا مفوتة للأجر، والأسى يذهب الأسى، عملًا بقوله:"لقد أوذي. . . إلى آخره".

التاسع عشر: حديث أنس مرفوعًا: "إذا أراد اللَّه بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد اللَّه بعبده الشرَّ أمسك عنه بذنبه حتى يوافيه به يوم القيامة".

وقال صلى الله عليه وسلم عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن اللَّه -تعالى- إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط"

(4)

رواه الترمذي وحسنه.

فالبلاء دليل إرادة الخير، إذ عقوبة الذنب، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فمن عظم بلاؤه عظم أجره، وهو دال على محبة اللَّه لعبده إذا عجل عقوبته في الدنيا وآجره في العقبى.

العشرون: حديثه أيضًا في قصة أم سليم مع أبي طلحة في موت الولد وإخفائه حتى واقعها، فبارك لهما في ليلتهما، فحصل ولد ومنه تسعة أولاد، كلهم قد قرأ القرآن.

(5)

متفق عليه.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [9/ 26]، وأبو داود [2649]، والطبراني في المعجم الكبير [4/ 72].

(2)

الصرف: صبغ أحمر يصبغ به الجلود، قال ابن دريد: وقد يسمى الدم أيضًا صرفًا.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [3405] كتاب أحاديث الأنبياء، ومسلم في صحيحه [140 - (1062)] كتاب الزكاة، [46] باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام، وتصبر من قوى إيمانه، وأحمد في مسنده [1/ 411]، والبيهقي في دلائل النبوة [5/ 184].

(4)

أخرجه الترمذي في سننه [2396] كتاب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء، وابن ماجه في سننه [4031] كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، والحاكم في المستدرك [4/ 608]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [1565]، وأحمد في مسنده [4/ 87].

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه [1301] كتاب الجنائز، [41] باب من لم يظهر حزنه عند المصيبة، =

ص: 77

فكل ما عند الشخص عارية، والحق لا يشق إلا على أحمق، والخلف عند الرب -تعالى- عاجلا أعظم وأكثر مما فات، يؤتكم خيرًا مما أُخذ منكم.

الحادي بعد العشرين: حديث أبي هريرة مرفوعًا: "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"

(1)

الثاني بعد العشرين: حديث سليمان بن صرد: أنه صلى الله عليه وسلم قال للذي احمر وجهه عند السب: "إني أعرف كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، أعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم" فتعوذ

(2)

. متفق عليهما.

الثالث بعد العشرين: حديث معاذ بن أنس مرفوعًا: "من كظم غيظًا وهو قادر على أن ينفذه، دعاه اللَّه عز وجل على رءوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور ما شاء"

(3)

رواه أبو داود والترمذي وحسنه.

فيا سعادة من وقع له ذلك بين الأمم، فيه يغبط ويسر، ويصرف كل ألم.

الرابع بعد العشرين: حديث أبي هريرة: "أن رجلا قال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: "لا تغضب"، فردد عليه مرارًا، قال: "لا تغضب"".

(4)

رواه البخاري.

= ومسلم في صحيحه [107 - (2144)] كتاب فضائل الصحابة، [20] باب من فضائل أبي طلحة الأنصاري، وأحمد في مسنده [3/ 196]، والبيهقي في السنن الكبرى [4/ 66]، وابن حبان في صحيحه [735 - المواد]، وأبو نعيم في حية الأولياء [2/ 58]، والشجري في أماليه [1/ 301].

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [6114] كتاب الأدب، [76] باب الحذر من الغضب، ومسلم في صحيحه [107 - (2609)] كتاب البر والصلة والآداب، [30] باب فضل من يملك نفسه عند الغضب، وبأي شيء يذهب الغضب، وأحمد في مسنده [2/ 236، 268]، والبيهقي في السنن الكبرى [10/ 235].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [6115] كتاب الأدب، [76] باب الحذر من الغضب، ومسلم في صحيحه [109 - (2610)] كتاب البر والصلة والآداب، [30] باب فضل من يملك نفسه عند الغضب، كلاهما عن سليمان بن صرد، ولم يذكر البخاري ومسلم هذه الكلمة الأخيرة "فتعوذ" ولكن قال في آخره:"فقام إلى الرجل رجل ممن سمع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتدري ما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم آنفًا؟ قال: "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذا عنه؛ أعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم" فقال الرجل: أمجنونًا تراني؟ ".

(3)

أخرجه أبو داود [4777] كتاب الأدب، باب من كظم غيظًا، والترمذي [2021] كتاب البر والصلة، باب في كظم الغيظ، وابن ماجه في سننه [4186]، في الزهد، باب الحلم، وأحمد في مسنده [3/ 440]، والبيهقي في السنن الكبرى [8/ 161]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 449].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [6116] كتاب الأدب، [76] باب الحذر من الغضب، والترمذي =

ص: 78

أي لا تعمل بمقتضاه، فيخفف مؤنة الصبر وتأباه.

الخامس بعد العشرين: حديثه أيضًا مرفوعًا: "ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى اللَّه -تعالى- وما عليه خطيئة"

(1)

رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

فهو صارف لمشقته، ومنه حديث:"مثل المؤمن كخامة الزرع"

(2)

وتسهيل لتناوله.

السادس بعد العشرين: حديث ابن عباس: أن عيينة بن حصن قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما: فواللَّه ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل، فغضب عمر حتى هم أن يقع به، فقال له: الحرُّ يا أمير المؤمنين، إن اللَّه -تعالى- قال لنبيه:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199} [الأعراف: 199]، وإن هذا من الجاهلين، واللَّه ما جاوزها عمر، "وكان وقَّافًا عند كتاب اللَّه". رواه البخاري

(3)

.

وهو من صوارف المشقات، وتسهيل المعضلات.

السابع بعد العشرين: حديث ابن مسعود مرفوعًا: "إنه ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها" قالوا: يا رسول اللَّه، فماذا تأمرنا؟ قال:"تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون اللَّه الذي لكم".

(4)

فالأثرة من مجاري الصبر، والسؤال ليحمل الصبر وتصرف المشقة.

الثامن بعد العشرين: حديث أسيد بن حضير: "أن رجلًا من الأنصار قال: يا

= في سننه [2020] كتاب البر والصلة، باب ما جاء في كثرة الغضب.

(1)

أخرجه الترمذي [2399] كتاب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء، وابن ماجه في سننه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، والحاكم في المستدرك [4/ 314]، والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 286]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [7/ 91]، والعجلوني في كشف الخفا [2/ 275، 422].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [8/ 168]، وأحمد في مسنده [3/ 454، 5/ 142].

(3)

أخرجه البخاري [4642] كتاب تفسير القرآن، سورة الأعراف، [6] باب {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199} [الأعراف: 199].

(4)

أخرجه البخاري [3603] كتاب المناقب، [25] باب علامات النبوة في الإسلام، ومسلم في صحيحه [45 - (1843)] كتاب الإمارة، [10] باب وجوب الوفاء ببيعة الخفاء الأول فالأول.

وقال النووي: هذا من معجزات النبوة وقد وقع هذا الإخبار متكررًا، ووجد مخبره متكررًا، وفيه الحث على السمع والطاعة، وان كان المتولي ظالمًا عسوفًا فيعطى حقه من الطاعة ولا يخرج عليه ولا يخلع، بل يتضرع إلى اللَّه -تعالى- في كشف أذاه ودفع شره واصلاحه. النووي في شرح مسلم [12/ 195] طبعة دار الكتب العلمية.

ص: 79

رسول اللَّه، ألا تستعملني كما استعملت فلانًا؟ قال:"إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض"".

(1)

وهو مسهل للصبر على الأثرة، وصارف للمشقة، كما قيل:

كلما فات في الليالي المواضي

فهو في ذمة الليل البواقي

التاسع بعد العشرين: حديث ابن أبي أوفى مرفوعًا: "يا أيها الناس: لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا اللَّه العافية"

(2)

الحديث، متفق عليهن - أعني الثلاثة.

فتمني ذلك قد يحمل على تمني البلايا والنوازل، فالصبر أجمل طريق؛ إذ به يحصل الجزاء على التحقيق.

ونذكر من الحكايات الائقة بذلك ما حضر:

فالحكاية الأولى: ما حكي عن بعضهم أنه رأى مبتلى يقول: الحمد للَّه الذي أنعمت عليَّ وفضلتني على كثير من خلقك تفضيلًا

(3)

، فقيل: على أي نعمة تحمده؟ أم على أي فضل تشكره؟ فواللَّه ما أرى شيئًا من البلاء إلا هو بك!! فقال: ألا ترى ما قد صنع اللَّه بي، فواللَّه لو أرسل السماء على نار فأحرقتني، وأمر الجبال فدكتني، والبحار فأغرقتني، ما ازددت له إلا حمدًا وشكرًا؛ فإن لي إليك حاجة، كانت لي بنت تخدمني وتتعاهدني عند إفطاري، فانظر هل هي موجودة فتطلبها بين تلك الرمال، فإذا السبع قد أكلها، فأخبرته بذلك، فقال: الحمد للَّه الذي لم يخرجني من الدنيا وفي قلبي منها شيء، ثم شهق شهقة ومات، فجهزته ودفنته، فرأيته في المنام

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [3792] كتاب مناقب الأنصار، [8] باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار:"اصبروا حتى تلقوني على الحوض"، وعن ابن مسعود أخرجه مسلم في صحيحه [139 - (1061)] كتاب الزكاة، [46] باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام، وتصبر من قوي إيمانه، والنسائي [8/ 225] المجتبى، وأحمد في مسنده [3/ 111، 167]، والبيهقي في السنن الكبرى [6/ 339]، وابن حبان في صجحه [2298 - الموارد]، وابن أبي شيبة [11/ 442، 14/ 533].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [3025] كتاب الجهاد والسير، [156] باب لا تمنوا لقاء العدو، ومسلم في صحيحه [20 - (1742)] كتاب الجهاد والسير، [6] باب كراهة تمني لقاء العدو والأمر بالصبر عند اللقاء، وأبو داود [2613]، والحاكم في المستدرك [2/ 78]، والبيهقي في السنن الكبرى [9/ 152]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [3930]، وعبد الرزاق في مصنفه [9514]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [8/ 260].

(3)

روى الترمذي في سننه [3431] كتاب الدعوات، باب ما يقول إذا رأى مبتلى، عن عمر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"من رأى صاحب بلاء فقال: الحمد للَّه الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلًا إلا عوفي من ذلك البلاء كائنًا ما كان ما عاش".

ص: 80

في روضة خضراء عليه حلتان خضراوتان، وهو قائم يتلو القرآن، فقلت: ألست صاحبي بالأمس؟ قال: بلى، قلت: فما صيرك إلى ما أرى؟!! قال: وردت مع الصابرين على درجة لم ينالوها إلا بالصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء.

الثانية: عن معروف الكرخي

(1)

أنه توفي له ولد فلم يحزن عليه، فقيل له في ذلك، فقال: رأيت جوار اللَّه وثوابه خيرًا له مني.

الثالثة: عن أبي علي الرازي قال: صحبت الفضيل بن عياض ثلاثين سنة، فما رأيته ضاحكًا إلا يوم أن مات ولده، فقيل له في ذلك، فقال: إن اللَّه أحب أمرًا فأحببته.

الرابعة: عن المعافي بن عمران قال: دخلت على فتح الموصلي فرأيته قاعدًا في الشمس، وصبية له عريانة، وابن له مريض، فقلت: ائذن لي حتى أكسو هذه الصبية، قال: لا، قلت: ولم؟ قال: دعها حتى يرى اللَّه صبرها وصبري عليها فيرحمني، قال: فجاوزت إلى الصبي، وقعدت عند رأسه فقلت: أتشتهي شيئًا؟ قال: ومن أنت؟ قلت: المعافي، فرفع رأسه إلى السماء، فقال مني الصبر، ومنك البلاء.

الخامسة: عن ذي النون المصري قال: رأيت بعض أصحابي في المنام، فقلت: ما فعل بك؟ قال: غفر لي ببركتك، ومحبتي فيك، فأدخلني الجنة، وعرض على منازلي فيها، قال ذلك ووجهه حزين، قلت: مالي أراك حزينًا؟ فتنفس الصعداء، ثم قال: لا أزال حزينًا إلى يوم القيامة، قلت: ولم؟ قال: لما رأيت منازلي في الجنة رفعت لي مقامات في عليين، فلما رأيتها فرحت وهممت بدخولها، فناداني مناد من فوقها: اصرفوه عنها، فليس هذه له، إنما هي لمن أمضى في سبيل اللَّه - يعني كلما أصابه شيء من أمور الدنيا، قال: في سبيل اللَّه، ثم لا يرجع فيه، فلو كنت أمضيت

(1)

معروف الكرخي، هو زاهد العراف، وشيخ الوقت أبو محفوظ معروف بن الفيرزان، وقيل: ابن فيروز من أهل كرخ بغداد، وقيل: كنيته أبو الحسن، وكان أبوه من أعمال واسط من الصابئة، وقد ذكر معروف عند أحمد بن حنبل فقالوا: قصير العلم، فقال للقائل: أمسك، وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف؟ ومن قول معروف: إذا أراد اللَّه بعبد شرًا أغلق عنه باب العمل، وفتح عليه باب الجدل، توفي سنة [200]. تاريخ الإسلام للذهبي، وفيات [191 - 200]. فتح المولى، هو فتح بن محمد بن وشاح الأزدي الموصلي الزاهد أحد العارفين، ذكر المعافي ابن عمران شيخ الموصل أنه لقي ثمانمائة شيخ ما فيهم أعقل من فتح، وكان مشهورًا بالعبادة والفضل، وهو فتح الموصلي الكبير لا فتح الصغير، وكان كثير البكاء من خشية اللَّه، ملازمًا لقيام الليل، أرسل إليه المعافي بألف درهم فردها وأخذ منها درهمًا واحدًا مع شدة فاقة أهله، توفي سنة [165]. تاريخ الإسلام، وفيات [161 - 170].

ص: 81

السبيل لأمضينا لك الدخول فيها.

السادسة: عن عبد الواحد بن زيد قال: خرجت إلى ناحية (الخريبة)

(1)

فإذا أن بشاب أسود مجذوم قد تقطعت أوصاله، وعمي، وأقعد، وإذا صبيان يرجمونه حتى أدموا وجهه، فرأيته يحرك شفتيه، فدنوت منه فإذا به يقول: يا سيدي إنك تعلم أنك لو قرضت لحمي بالمقاريض، ونشرت عظامي بالمناشير، ما ازددت لك إلا حبا، واصنع بي ما شئت.

السابعة: روي أن يونس

(2)

صلى الله عليه وسلم قال لجبريل "دلني على أعبد أهل الأرض، فأتى به إلى رجل قد قطع الجذام يديه ورجليه، وهو يقول: متعتني بهما حيث شئت، وسلبتهما حيث شئت، وأبقيت لي فيك الأمل يا بار يا غفور، فقال يونس: يا جبريل سألتك أن تريني صواما قواما، فقال قد كان قبل البلاء هكذا، وقد أمرت أن أسلبه بصره، فأشار إلى عينيه فسالتا، فقال: متعتني بهما حيث شئت، وسلبتهما حيث شئت، وأبقيت لي فيك الأمل يا بار يا غفور، فقال جبريل: هل تدعو وندعوا معك، ويرد اللَّه عليك يديك ورجليك وبصرك، وتعود إلى العبادة التي كنت عليها؟ فقال: ما أحب ذلك، قال: ولم؟!! قال: إذا كانت محبته في هذا، فمحبته أحب إليَّ، فقال يونس: ما رأيت أحدًا أعبد من هذا، فقال جبريل: هذا طريق لا يوصل إلى اللَّه بأفضل منه، وأنشدوا:

قالت لطيف الخيال زارها ومضى

باللَّه صفة ولا تنقص ولا تزد

فقال خلقته لو مات من ظمإ

وقلت قف عن ورود الماء لم يرد

قالت صدقت الوفا في الحب عادته

يا برد ذاك الذي قالت على كبدي

الثامنة: عن أبي الحسن السراج قال: حججت فبينا أنا أطوف فإذا أنا بامرأة قد أضاء حسن وجهها، فما رأيت مثل ذلك، وما ذاك إلا لقلة الهم والحزن، فسمعت ذلك القول مني فقالت: أعده فواللَّه إني لوثيقة بالأحزان، مكلومة الفؤاد بالهموم

(1)

كذا بالأصل.

(2)

فيما روى مسلم [167 - (2377)] في الفضائل، [43] باب في ذكر يونس صلى الله عليه وسلم عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى" قال النووي: هذه الأحاديث تحتمل وجهين: أحدهما أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا قبل أن يعلم أنه أفضل من يونس، فلما علم ذلك قال:"أنا سيد ولد آدم"، والثاني: أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا زجرًا عن أن يتخيل أحد من الجاهلين شيئًا من حط مرتبة يونس صلى الله عليه وسلم من أجل ما في القرآن العزيز من قصته، قال العلماء: وما جرى ليونس صلى الله عليه وسلم لم يحطه من النبوة مثقال ذرة، وخص يونس بالذكر لما ذكرناه من ذكره في القرآن بما ذكر. النووي في شرح مسلم [15/ 109] طبعة دار الكتب العلمية.

ص: 82

والأشجان، ما يشركني فيها أحد، قلت: وكيف ذاك؟ قالت: ذبح زوجي شاة وضحى بها، ولي ولدان صغيران يلعبان، وعلى ثديي طفل يرضع، فقمت لأصنع لهم طعاما، إذ قال ابني الكبير للصغير: ألا أريك كيف صنع أبي الشاة؟ قال: بلى، فأضجعه وذبحه، وخرج هاربًا نحو الجبل، فأكله ذئب، فانطلق أبوه في طلبه، فأدركه العطش فمات، فوضعت الطفل وخرجت إلى الباب أنظر ما فعل أبوهم، فدب الطفل إلى البرمة، وهي على النار، فألقى يده فيها وصبها على نفسه، وهي تغلي، فانتثر لحمه عن عظمه، فبلغ ذلك ابنة لي كانت عند زوجها، فرمت بنفسها إلى الأرض، فوافت أجلها، فأفردني الدهر من بينهم، فقلت لها: كيف صبرك على هذه المصائب العظيمة؟ فقالت: ما من أحد (يبر)

(1)

الصبر والجزع إلا وجد منهاجًا متفاوتًا، فأما الصبر فحسن العلانية، محمود العاقبة، وأما الجزع فصاحبه غير مفوض، ثم أعرضت وهي تقول:

صبرت فكان الصبر خير معول

وهل جزع يجدي إليَّ فأجزع

صبرت على ما لو تحمل بعضه

جبال غرورًا أصبحت تتصدع

ملكت دموع العين حتى رددتها

إلى ناظري فالعين في القلب تدفع

(1)

كذا بالأصل.

ص: 83

‌مجلس في المراقبة

وهي مراقبة العبد الرب جل جلاله والحذر من السخط منه، وشهود دوام جلاله واطلاعه، وذوق قربه. ويترتب عليه التحفظ والاعتبار وانتظار ما تقتضيه الأوقات والأحوال، لينتهز فرصة البدار، وينجو من دار البوار، وما أحسن من فسرها بمراعاة السرّ، وملاحظة الحق مع كل خطرة.

قال تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}

(1)

.

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)}

(2)

.

وقال: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)}

(3)

أي يترقب كل قول وفعل.

وقال: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)}

(4)

.

وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} إلى قوله: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ}

(5)

.

والآيات فيه كثيرة معلومة.

ولنذكر من الأحاديث تسعة:

أحدهما: حديث عمر الثابت في الصحيح في حديث جبريل، وفيه:"أن تعبد اللَّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"

(6)

.

(1)

سورة الحديد [4].

أي رتيب عليكم شهيد على أعمالكم حيث كنتم وأين كنتم من بر أو بحر في ليل أو نهار، في البيوت أو في القفار، الجميع في علمه على السواء، وتحت بصره وسمعه، فيسمع كلامكم ويرى مكانكم، ويعلم سركم ونجواكم. تفسير ابن كثير [4/ 304].

(2)

سورة آل عمران [5].

(3)

سورة الفجر [14].

(4)

سورة غافر [19].

يخبر عز وجل عن علمه التام المحيط بجميع الأشياء؛ جليلها وحقيرها، صغيرها وكبيرها، دقيقها ولطيفها ليحذر الناس علمه فيهم فيستحيوا من اللَّه -تعالى- حق الحياء، ويتقوه حق تقواه، ويراقبوه مراقبة من يعلم أنه يراه، وأنه عز وجل يعلم العين الخائنة وإن أبدت أمانة، ويعلم ما تنطوي عليه خبايا الصدور من الضمائر والسرائر. تفسير ابن كثير [4/ 75].

(5)

سورة المجادلة [7].

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه [50] كتاب الإيمان، [38] باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان =

ص: 84

ثانيها: حديث أبي ذر ومعاذ مرفوعًا: "اتق اللَّه حيث ما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن". رواه الترمذي

(1)

وحسنه.

ثالثها: حديث ابن عباس مرفوعًا: "يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ اللَّه يحفظك، احفظ اللَّه تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل اللَّه، وإذا استعنت فاستعن باللَّه، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه اللَّه لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه اللَّه عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف"

(2)

رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح.

وفي رواية غير الترمذي، بعد "احفظ اللَّه تجده أمامك":"تعرف إلى اللَّه في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكبن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا".

ومعنى تجده تجاهك: أي يرفع لك أعلام التوحيد، فتستقبله كما تستقبل الأعلام، والنفع الضر بيده، والسؤال إليه، والاستعانة به.

الحديث الرابع: عن أنس قال: "إنكم لتعملون أعمالًا هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا نعدها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات".

(3)

وهي من باب تحسبونه هينًا وهو عند اللَّه عظيم.

الخامس: عن أبي هريرة مرفوعًا: "إن اللَّه -تعالى- يغار، وغيرة اللَّه أن يأتي المرء ما حرم اللَّه عليه"

(4)

متفق عليه.

= والإسلام والإحسان، ومسلم في صحيحه [1 - (8)] كتاب الإيمان، [1] باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، والترمذي في سننه [2610] كتاب الإيمان، باب ما جاء في وصف جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم الإيمان والإسلام، والنسائي [8/ 99، 102 - المجتبى]، وابن ماجه [63]، وأحمد في مسنده [1/ 51، 530، 2/ 426].

(1)

أخرجه الترمذي [1987] كتاب البر والصلة، باب ما جاء في معاشرة الناس، وأحمد في مسنده [5/ 153]، والحاكم في المستدرك [1/ 54]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [4/ 378]، والزبيدي في الإتحاف [5/ 512، 8/ 518]، والسيوطي في الدر المنثور [2/ 76]، والدارمي في سننه [2/ 323].

(2)

أخرجه الترمذي [2516] كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، والحاكم في المستدرك [3/ 541]، وأحمد في مسنده [1/ 293، 307]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [1/ 314]، والطبراني في المعجم الكبير [12/ 238]، والشجري في أماليه [2/ 194، 198]، والآجري في الشريعة [198 - 199].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [6492] كتاب الرقاق، [32] باب ما يتقى من محقرات الذنوب، والتبريزي في مشكاة المصابيح [5355]، والهيثمي في مجمع الزوائد [10/ 231].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [5223] كتاب النكاح، [108] باب الغيرة، ومسلم في صحيحه =

ص: 85

السادس: عن أبي هريرة مرفوعًا: في قصة الأبرص والأقرع والأعمى: الطويل في الصحيحين.

(1)

فمراقبته في كل حال متعينة.

السابع: عن شداد بن أوس مرفوعًا: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على اللَّه الأماني"

(2)

رواه الترمذي وقال: حسن.

ومعنى دان: حاسب، وفعل غير ذلك صارف عن المراقبة.

الثامن: عن أبي هريرة مرفوعًا: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"

(3)

رواه الترمذي، وهو حسن؛ ففيه تنفير عن الشواغل بما لا يفيد، فالفضول من أكبر الصوارف عن المراقبة:{بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا}

(4)

.

التاسع: عن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: "لا يسأل الرجل فيما ضرب امرأته"

(5)

رواه أبو داود وسره دوام حسن الظن والمراقبة بالإعراض عن الاعتراض.

ولنذكر من الحكايات ما يليق بذلك فنقول:

سُئل حاتم الأصم، فيما أفنيت عمرك؟ فقال: في أربعة أشياء: علمت أني لا أخلو من نظر اللَّه طرفة عين فاستحييت أن أعصيه، وعلمت أن لي رزقًا لا يجاوزني

= [36] كتاب التوبة، والترمذي في سننه [1168] كتاب الرضاع، باب ما جاء في الغيرة، وأحمد في مسنده [2/ 387]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 242].

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [3464] كتاب أحاديث الأنبياء، [53] باب حديث أبرص وأقرع وأعمى في بني إسرائيل، ومسلم في صحيحه [10 - (2964)] كتاب الزهد والرقائق، في مقدمته.

(2)

أخرجه الترمذي في سننه [2459] كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، وابن ماجه في سننه: كتاب الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له، وأحمد في مسنده [4/ 24]، والبيهقي في السنن الكبرى [3/ 369]، والحاكم في المستدرك [1/ 57، 4/ 251]، والطبراني في المعجم الكبير [7/ 338]، والزبيدي في الإتحاف [7/ 44، 8/ 428]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [1/ 267، 8/ 174]، والعجلوني في كشف الخفا [2/ 196]، والطبراني في المعجم الصغير [2/ 36]، وابن المبارك في الزهد [56]، والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 252].

(3)

أخرجه الترمذي في سننه [2318] كتاب الزهد، باب منه [11] فيمن تكلم بكلمة يضحك بها الناس، وابن ماجه في الفتن، باب كف اللسان في الفتنة، وأحمد في مسنده [1/ 20]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [10/ 171]، والهيثمي في مجمع الزوائد [8/ 18]، وعبد الرزاق في مصنفه [20617].

(4)

سورة المؤمنون [63].

(5)

أخرجه أبو داود في سننه [2147] كتاب النكاح، باب ضرب النساء، وابن ماجه في سننه [1986]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [3268]، والسيوطي في الدر المنثور [2/ 156]، والعجلوني في كشف الخفا [2/ 521]، والألباني في إرواء الغليل [7/ 98].

ص: 86

وقد ضمنه اللَّه لي فوثقت به وقعدت عن طلبه، وعلمت أن لي فرضًا لا يؤديه غيري فاشتغلت به، وعلمت أن لي أجلا يبادرني فبادرته.

وقال ابن عباس: يا صاحب الذنب لا تأمن سوء عافبتك، وضحكك أعظم من ذنبك، وكذا فرحك به وحزنك عليه إذا فات، وكذا خوفك من الريح إذا حركت ستر بابك وأنت مقبل عليه.

وروي أن عمر رضي الله عنهما كان يعسّ

(1)

المدينة، فمشى حتى أعيي، فاتكأ إلى جدار، فإذا امرأة تقول لابنة لها صغيرة: قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء، فقالت: يا أماه أوما علمت ما كان من عزمة أمير المؤمنين اليوم؟ قالت: وما كان من عزمته؟ قالت: إنه أمر مناديه فنادى أن لا يشاب اللبن، فقالت: امذقيه، فإنك بمكان لا يراك فيه عمر، ولا مناديه، فقالت: فإن اللَّه -تعالى- يراني، واللَّه ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء، فزوجها عمر أحد أولاده

(2)

، ومن ذريتها عمر بن عبد العزيز

(3)

.

وعن ذي النون قال: حججت سنة فضللت عن الطريق، ولم يكن معي ماء ولا زاد، فأشرفت على الهلكة، فلاحت لي أشجار كثيرة ومحراب، فطرحت نفسي في فيء شجرة، فلما غربت الشمس إذا شاب متغير اللون، نحيل الجسم يؤم ذلك المحراب، فوكز برجله ربوة من الأرض، فظهرت عين تنض ماء عذبًا، فشرب وتوضأ وقام إلى محرابه، فقمت إلى العين فشربت ماء عذبا، وتوضأت وقمت أصلي بصلاته حتى برق عمود الفجر، فلما رأى الصبح وثب قائمًا على قدميه، ونادى بأعلى صوته: ذهب الليل بما فيه، وأقبل النهار بدواميه، ولم أقض من خدمتك وطرأ، خسر من أتعب لغيرك بدنه، وألجأ إلى سواك همه، فلما أراد أن ينصرف ناديته بالذي منجك لذيذ الرغب، وأذهب عنك ملال التعب إلا خفضت لي جناح الرحمة، فإني غريب أريد بيت اللَّه الحرام، وقد ضللت عن الطريق، فقال: يا بطال تحت أرجلنا، حتى رأيت المحجة، وسمعت ضجة، فقال: هؤلاء رفقتك، ثم أنشأ يقول:

من عامل اللَّه بتقواه

وكان في الخلوة يرعاه

(1)

عسَّ فلان عسًّا: طاف بالليل يكشف عن أهل الريبة، فهو عاس، جمعها: عسس وعساس.

(2)

زوجها عمر رضي الله عنهما بابنه عاصم بن عمر بن الخطاب، فأنجب بنتًا تزوجها عبد العزيز بن مروان، فأنجبت الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز أشج بني أمية.

(3)

عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، أمير المؤمنين أبو حفص القرشي الأموي رضي الله عنهما، ولد بالمدينة سنة ستين، وأمه هي أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وتوفي سنة إحدى ومائة.

ص: 87

سقاه كأسا من صفاء حبه

سلبه عن لذة مرآه

وأبعد الخلق وأقصا منهم

وانفرد العبد بمولاه

وعن العباس بن أحمد قال: قال لي أبو سعيد: كان لي معلم يختلف إليّ يعلمني الخوف، ثم ينصرف، فقال لي يومًا: إني معلمك خوفًا يجمع لك كل شيء، قلت: ما هو؟ قال: مراقبة اللَّه.

(1)

وعن عبد اللَّه بن الأحنف قال: خرجت من مصر أريد الرملة لزيارة الروزباري، فرآني عيسى بن يونس المصري، فقال لي: هل أدلك؟ قلت: نعم، قال: عليك بصور فإن بها شيخًا وشابًا قد اجتمعا على حال المراقبة للَّه، فلو نظرت إليهما نظرة لأغنتك باقي عمرك، قال: فدخلت عليهما، وأنا جائع عطشان، وليس عليّ ما يسترني من الشمس، فوجدتهما مستقبلي القبلة، فسلمت عليهما، وكلمتهما، فلم يكلماني، فقلت: أقسمت عليكما باللَّه إلا كلمتماني، فرفع الشيخ رأسه وقال: يا ابن الأحنف، ما أقل شغلك، حتى تفرغ لنا، فأقمت بين يديهما حتى صليا الظهر والعصر فذهب عني الجوع والعطش، فقلت للشاب: عظني بشيء أنتفع به، فقال: تحب المصائب ليس لنا لسان العظة، فاْقمت عندهما ثلاثة أيام بلياليها لم نأكل فيها ولم نشرب، فلما كان في الثالثة قلت: لا بد من سؤالهما في وصية أنتفع باقي عمري بها، فرفع الشاب رأسه وقال: عليك بصحبة من يذكر اللَّه، تنظره يعطك بلسان فعله لا بلسان قوله، ثم التفت فلم أرهما.

وعن الجنيد قال: رأيت إبليس في المنام وهو عريان، فقلت له: أما تستحي من الناس؟!! فقال: أهؤلاء عندك من الناس؟ قلت: نعم، قال: لو كانوا منهم ما تلاعبت بهم تلاعب الأكرة، ولكن الناس قوم في مسجد (الشونيرية)

(2)

قد أضنوا جسدي وأحرقوا كبدي، كلما هممت بهم أشاروا إليَّ، فأكاد أحترق، فلما استيقظت، أتيت ذلك المسجد، فإذا أنا بثلاثة رجال رؤوسهم في مرقعاتهم، فلما أحسوا بي أخرج أحدهم رأسه وقال: يا أبا القاسم لا يغرنك حديث الخبيث، وأنشدوا:

(1)

قوله صلى الله عليه وسلم: "الإحسان أن تعبد اللَّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" قال النووي: هذا من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم لأنا لو قدرنا أن أحدنا قام في عبادة وهو يعاين ربه سبحانه وتعالى لم يترك شيئًا مما يقدر عليه من الخضوع والخشوع وحسن السمت واجتماعه بظاهره وباطنه على الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها إلا أتى به، فقال صلى الله عليه وسلم:"اعبد اللَّه في جميع أحوالك كعبادتك في حال العيان". النووي في شرح مسلم [1/ 141]، طبعة دار الكتب العلمية.

(2)

كذا بالأصل.

ص: 88

عبيد لمولاهم تعالى وغرهم

عبيد الهوى بين الفريقين كالثرى

وعلو الثرايا في ارتفاع مقامهم

بهم يرفع اللَّه البلايا عن الورى

وعن بعضهم قال: كنت في جبل (لكام)

(1)

أطلب الزهاد والعباد، فرأيت رجلا عليه مرقعة جالسًا على حجر مطرفًا إلى الأرض، فقلت له: يا شيخ، ما تصنع هاهنا؟ قال: أنظر وأرعى، فقلت له: ما أرى بين يديك إلا الحجارة، فتغير لونه، ثم نظر إليّ مغضبًا وفال: أنظر خواطر قلبي، وأرعى أوامر ربي، فبحق الذي أظهرك عليّ إلا رحت عني، فقلت له: كلمني بشيء أنتفع به حتى أمضي، فقال: من لزم الباب أثبت من الخدم، ومن أكثر الذنوب أعقبه الندم، ومن استعنى باللَّه أمن من العدم، ثم تركني ومضى.

وعن بعضهم قال: خرجت في بعض حوائجي، فبينما أنا في فلاة من الأرض، إذا برجل يدور بشجرة شوك، ويأكل من رطبها، فسلمت عليه، فقال: وعليكم السلام، تقدم وكل، فنزلت عن ناقتي، وتقدمت إلى الشجرة، فكلما أخذت منها رطبًا عاد شوكا، فتبسم الرجل وقال: هيهات، لو أطعت اللَّه في الخلوات، أطعمك الرطب في الفلوات.

وعن إبراهيم بن أدهم

(2)

قال: أتيت بعض البلاد فنزلت في مسجد، فلما كان العشاء الآخرة وصلينا، أتى إمام المسجد بعد انصراف الناس وقال: قم فاخرج حتى أغلق الباب، فقلت: أنا رجل غريب ههنا، وذكر حكاية الزبال بطولها - وقد ذكرت في طبقات الصوفية فراجعها.

وحكي أن رجلا تعلق بامرأة ببغداد، فأبت تمكينه وكل من جاء ليخلصها منه طعنه بسكين، وكان شديدًا، فمر عليه بشر

(3)

ودنا منه، وحك كتفه بكتفه، فوقع على الأرض وهدأت المرأة، ومضى بشر، فدنا الناس من الرجل، فإذا هو يرشح عرقًا كثيرًا، فسألوه عن حاله، فقال: حكَّ كتفي شيخ، وقال: إن اللَّه ناظر إليك، وإلى عملك وما تعمل، فأصغيت لقوله وهبته، ولا أدري من هو، فقيل: إنه بشر

(1)

كذا بالأصل.

(2)

قال ابن مسنده بسنده عن يونس بن سليمان البلخي: كان إبراهيم بن أدهم من الأشراف وكان أبوه شريفا كثير المال والخدم والجنائب والبزاة، بينما إبراهيم يأخذ كلابه وبزاته للصيد وهو على فرسه يركضه، إذا هو بصوت من فوقه: يا إبراهيم ما هذا العبث {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون: 115] اتق اللَّه وعليك بالزاد ليوم الفاقة، قال: فنزل عن دابته، ورفض الدنيا.

تاريخ الإسلام، وفيات [161 - 170].

(3)

بشر هو الحافي، يأتي الكلام عنه.

ص: 89

الحافي

(1)

، فحمَّ وقال: واسوأتاه، كيف ينظر إليَّ بعد اليوم، فحمّ من يومه ومات يوم سابعه.

وعن عبد الواحد بن زيد قال: سألت اللَّه ثلاث ليال أن يريني رفيقي في الجنة، فقيل له: رفيقتك فيها ميمونة السوداء، قلت: وأين هي؟ فقيل لي: في بني فلان بالكوفة، فخرجت إليها وسألت عنها، فقالوا: هي مجنونة ترعى غنيمات، فقلت: أريد أن أراها، قالوا: اخرج إلى الجبال، فخرجت، فإذا هي قائمة تصلي، فإذا بين يديها عكاز، وعليها جبة صوف مكتوب عليها: لا تباع ولا تشترى، وإذا الغنم مع الذئاب، فلا الذئاب تأكل الغنم، ولا الغنم تخاف الذئاب، فلما رأتني أوجزت في صلاتها، ثم قالت: ارجع يا ابن زيد، ليس الموعد هاهنا، إنما الموعد ثَمَّ، فقلت لها: من أعلمك بي؟!! فقالت: أما علمت أن "الأرواح جنود مجندة"

(2)

الحديث.

فقلت لها: عظيني، فقالت: واعجبًا لواعظ يوعَظ، إنه بلغني أنه ما من عبد أعطى من الدنيا شيئًا فابتغى إليه ثانيًا إلا سلبه اللَّه حُب الخلوة معه، وأبدله بعد القرب بعدًا، وبعد الأنس وحشة، ثم أنشأت تقول:

يا واعظا قام لاحتساب

يرجو توبا من الذنوب

تنهى وأنت السقيم حقًا

هذا من المنكر العجيب

لو كنت أصلحت قبل هذا

عيبك أو تبت من قريب

كان لما قلت يا حبيبي

موقع صدق من القلوب

تنهى عن الغي والتمادي

وأنت في النهي كالمريب

فقلت لها: إني أرى هذه الذئاب مع الغنم متفقة، فأي شيء هذا؟ قالت: إني أصلحت ما بيني وبينه فأصلحهم.

(1)

بشر بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء، أبو نصر المروزي البغدادي الزاهد الكبير المعروف ببشر الحافي، كان عديم النظير، زهدًا وورعًا وصلاحًا، كثير الحديث، إلا أنه كان يكره الرواية ويخاف من شهوة النفس في ذلك، حتى إنه دفن كتبه، وقال أبو بكر المروزي: سمعت بشرًا يقول: الجوع يصفي الفؤاد ويميت الهوى ويورث العلم الدقيق. تاريخ الإسلام، وفيات [221 - 230].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [4/ 162]، ومسلم في صحيحه [159، 160] في البر والصلة، وأبو داود في سننه [4834]، وأحمد في مسنده [2/ 295، 527]، والطبراني في المعجم الكبير [6/ 323]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [1/ 198، 4/ 167] والخطيب في تاريخ بغداد [2/ 329، 4/ 351]، والبخاري في الأدب المفرد [900]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [5003، 5004]، والزبيدي في الإتحاف [1/ 74، 6/ 181].

ص: 90

‌مجلس في التقوى

وهي مجانبة ما يبعد عن اللَّه بالحذر منه، ومن حققها هون على قلبه الإعراض عن الدنيا، وزال الاعتراض.

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}

(1)

.

أي واجب تقواه، فيطاع ولا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، ولا تأخذه فيه لومة لائم، ويقوم بالقسط ولو على أبيه وابنه.

وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}

(2)

.

وهذه الآية مبينة للمراد من الأولى، أي بالغوا في التقوى، فلا تتركوا من المستطاع منها شيئًا.

وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)}

(3)

.

أي قاصدًا إلى الحق.

وقال: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}

(4)

.

وقال: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}

(5)

.

وقال: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)}

(6)

.

وقال: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}

(7)

.

وقال: {اتَّقُوا رَبَّكُمُ}

(8)

.

(1)

سورة آل عمران [102].

قال ابن أبي حاتم بسنده عن عبد اللَّه بن مسعود {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] قال: أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، وقد ذهب سعيد بن جبير وأبو العالية والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم والسدي وغيرهم إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وقال ابن عباس: لم تنسخ ولكن {حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] أن يجاهدوا في سبيله حق جهاده، ولا تأخذهم في اللَّه لومة لائم، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم. انظر تفسير ابن كثير [1/ 387، 388].

(2)

سورة التغابن [16].

(3)

سورة الأحزاب [70].

(4)

سورة البقرة [24].

(5)

سورة آل عمران [133].

(6)

سورة آل عمران [179].

(7)

سورة آل عمران [186].

(8)

سورة النساء [1].

ص: 91

وقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ}

(1)

.

وقال: {وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}

(2)

.

وقال: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}

(3)

.

وقال: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}

(4)

.

وقال: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}

(5)

.

وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}

(6)

.

وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُم}

(7)

.

وقال: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً}

(8)

الآية.

وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}

(9)

الآية.

أي نصرًا وظهورًا وانتشار صيت، أو مخرجا من الشبهات، وتوفيقا، أو مرتقًا على أهل الأديان وفضلا في الدنيا والآخرة.

وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}

(10)

.

وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}

(11)

.

وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)}

(12)

.

وقال: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}

(13)

.

وقال: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ}

(14)

.

وقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)}

(15)

.

وقال: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)}

(16)

.

وقال: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا}

(17)

.

(1)

سورة البقرة [194، 196، 203، 223، 231، 233].

(2)

سورة النساء [128].

(3)

سورة النساء [131].

(4)

سورة المائدة [2].

(5)

سورة المائدة [27].

(6)

سورة المائدة [35].

(7)

سورة الأنفال [1].

(8)

سورة الأنفال [25].

(9)

سورة الأنفال [29].

(10)

سورة التوبة [4، 7].

(11)

سورة التوبة [123].

(12)

سورة التوبة [119].

(13)

سورة يوسف [90].

(14)

سورة النحل [2].

(15)

سورة النحل [128].

(16)

سورة مريم [63].

(17)

سورة مريم [72].

ص: 92

وقال: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)}

(1)

.

وقال: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}

(2)

.

وقال: {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}

(3)

.

وقال: {وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ}

(4)

.

وقال: {أَفَلَا تَتَّقُونَ}

(5)

.

وقال: {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ}

(6)

.

وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}

(7)

.

وقال: {وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)}

(8)

.

وقال: {اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا}

(9)

.

وقال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ}

(10)

.

وقال: {اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَة}

(11)

.

وقال: {يَاعِبَادِ فَاتَّقُون}

(12)

.

وقال: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا}

(13)

.

وقال: {وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِين}

(14)

.

وقال: {إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَاعِبَادِ}

(15)

.

وقال: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ}

(16)

.

وقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}

(17)

.

وقال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}

(18)

.

(1)

سورة مريم [85].

(2)

سورة البقرة [187].

(3)

سورة الحج [32].

(4)

سورة الحج [37].

(5)

سورة يونس [31].

(6)

سورة الشعراء [184].

(7)

سورة التوبة [123].

(8)

سورة فصلت [18].

(9)

سورة لقمان [33].

(10)

سورة الأحزاب [1].

(11)

سورة الزمر [10].

(12)

سورة الزمر [16].

(13)

سورة الزمر [61].

(14)

سورة الزخرف [35].

(15)

سورة الزخرف [67]، [68].

(16)

سورة محمد [36].

(17)

سورة الحجرات [1].

(18)

سورة الحجرات [13].

ص: 93

وقال: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}

(1)

.

وقال: {اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ}

(2)

.

وقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}

(3)

.

وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}

(4)

الآية.

وقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ}

(5)

.

وقال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}

(6)

.

أي من غموم الدنيا والآخرة، ومن شبهات الدنيا، ومن غمرات الموت، ومن أهوال القيامة، وهي آية لو أخذ الناس بها لكفتهم، كما ورد في الحديث.

وقال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا}

(7)

.

وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ}

(8)

.

وقال: {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}

(9)

.

وقال: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3)}

(10)

.

وقال: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا}

(11)

.

وقال: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَة}

(12)

.

وقال: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17)}

(13)

.

وقال: {أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12)}

(14)

.

وأما الأحاديث فنذكر منها خمسة:

أولها: عن أبي هريرة قال: "قيل: يا رسول اللَّه من أكرم الناس؟ قال: "أتقاهم" قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: "فيوسف نبي اللَّه، ابن نبي اللَّه، ابن نبي اللَّه، ابن خليل اللَّه" قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: "فعن معادن العرب

(1)

سورة النجم [32].

(2)

سورة الحديد [28].

(3)

سورة المائدة [96].

(4)

سورة الحشر [18].

(5)

سورة المائدة [88].

(6)

سورة الطلاق [2].

(7)

سورة الطلاق [5].

(8)

سورة المائدة [100].

(9)

سورة البقرة [278].

(10)

سورة نوح [3].

(11)

سورة المزمل [17].

(12)

سورة المدثر [56].

(13)

سورة النحل [17].

(14)

سورة العلق [12].

ص: 94

تسألوني؟ خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا""

(1)

متفق عليه.

وأتقى: أفعل تفضيل، وهو صريح في التفاوت في درجاته، فتقوى العامة من الشرك والعدل من المعاصي، والصالحين من الشبهات، والمريدين من الشهوات، والخواص من التوسل بالأعمال، والأولياء مما سوى الحق، والأنبياء منه إليه. وقد قال تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}

(2)

.

وصح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "الحسب المال والكرم التقوى"

(3)

.

الحديث الثاني: عن أبي سعيد الخدري مرفوعا: "إن الدنيا حلوة خضرة، وإن اللَّه مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء"

(4)

رواه مسلم.

الحديث الثالث: عن ابن مسعود مرفوعًا: كان يقول: "اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى"

(5)

رواه مسلم أيضًا.

(1)

أخرجه البخاري [3383] كتاب أحاديث الأنبياء، [19] باب قول اللَّه تعالى:{لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)} [يوسف: 7]، ومسلم [168 - (2378)] كتاب الفضائل، [44] باب من فضائل يوسف عليه السلام قال النووي: قال العلماء: وأصل الكرم كثرة الخير، وقد جمع يوسف صلى الله عليه وسلم مكارم الأخلاق مع شرف النبوة مع شرف النسب، وكونه نبيًا ابن ثلاثة أنبياء متناسلين، ثم قال: قال العلماء: لما سئل صلى الله عليه وسلم أي الناس أكرم؟ أخبر بأكمل الكرم وأعمه فقال: "أتقاهم للَّه" وقد ذكرنا أن أصل الكرم كثرة الخير، ومن كان متقيًا كان كثير الخير وكثير الفائدة في الدنيا وصاحب الدرجات العليا في الآخرة، فلما قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال:"يوسف" الذي جمع خيرات الآخرة والدنيا وشرفهما، فلما قالوا: ليس عن هذا نسأل، فهم عنهم أن مرادهم قبائل العرب، قال:"خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا". النووي في شرح مسلم [15/ 110] طبعة دار الكتب العلمية.

(2)

سورة الحجرات [13].

(3)

أخرجه الترمذي [3271] كتاب تفسير القرآن، باب من سورة الحجرات، وابن ماجه في الزهد، باب الورع والتقوى رقم [4218، 4219]، وأحمد في مسنده [5/ 1]، والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 136]، والحاكم في المستدرك [2/ 163، 4/ 325]، والزبيدي في الإتحاف [8/ 352].

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [99 - (2742)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [26] باب أكثر أهل الجنة الفقراء، وأكثر أهل النار النساء، والترمذي في سننه [2191]، وابن ماجه [4000]، وأحمد في مسنده [6/ 364]، والبيهقي في سننه [7/ 369].

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [72 - (2721)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [18] باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل، والترمذي في سننه [3489] كتاب الدعوات، وابن ماجه في سننه، كتاب الدعاء، باب دعاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأحمد في مسنده [1/ 416، 434، =

ص: 95

الرابع: عن عدي بن حاتم مرفوعا: "من حلف على يمين ثم رأى أتقى للَّه منها فليات التقوى"

(1)

رواه مسلم أيضا. وليتحلل يمينه مرجحًا ما هو أتقى للَّه، كما قال:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُم}

(2)

الآية.

الخامس: عن أبي أمامة مرفوعًا: "اتقوا اللَّه وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا إذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم"

(3)

رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح.

فالجنة من ثمرات التقوى وفوائدها، وناهيك بذلك عظمًا وفخرًا.

وصح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي"

(4)

.

وقال: "المسجد بيت كل تقي"

(5)

.

‌فصل فيما أعده اللَّه للمتقين

وكان من حقنا أن نختم به الكتاب، لكنا ذكرناه هنا مسارعة للثواب.

قال تعالى: {يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68)} [الزخرف: 68] الآية، وما أبدعها من آية، وأجمعها للإيمان والإسلام، وهذا الجزاء العظيم من أنواع الخدم والمستلذات الشهية، والمناظر البهية مع الدوام، فالكم والكيف لا يوصف.

وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا} إلى قوله:

= 437]، وابن أبي شيبة في مصنفه [10/ 208].

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [15 - (1651)] كتاب الأيمان، [3] باب ندب من حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها أن يأتي الذي هو خير ولكفر عن يمينه، وأحمد في مسنده [2/ 211، 212]، والبيهقي في السنن الكبرى [10/ 51، 53]، والهيثمي في مجمع الزوائد [4/ 183].

(2)

سورة البقرة [224].

(3)

أخرجه أحمد في مسنده [5/ 251، 262]، والحاكم في مستدركه [1/ 9، 389، 473]، والطبراني في المعجم الكبير [8/ 181، 205]، والخطيب في تاريخ بغداد [6/ 191]، وابن حبان في صحيحه [795 - الموارد]، والبخاري في التاريخ الكبير [4/ 326]، والسيوطي في الدر المنثور [2/ 176]، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة [867].

(4)

أخرجه أحمد في مسنده [3/ 38]، والحاكم في المستدرك [4/ 128]، والدارمي في سننه [2/ 103]، والزبيدي في الإتحاف [4/ 128].

(5)

أخرجه الطبراني في المعجم الكبير [6/ 313]، والهيثمي في مجمع الزوائد [2/ 22]، والمنذري في الترغيب والترهيب [1/ 220]، والعجلوني في كشف الخفا [2/ 287، 411]، والسيوطي في الدر المنثور [3/ 216]، والألباني في السلسلة الصحيحة [716].

ص: 96

{بِمُخْرَجِينَ}

(1)

.

وما أحسن هذه الدار؛ معقل السلامة من كل آفة وعرض.

وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51)}

(2)

إلى آخر السورة.

فيا لها من ملابس وأزواج، ومزوج جليل.

وقال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)}

(3)

الآية.

وروينا من حديث جابر رضي الله عنهما مرفوعًا: "يأكل أهل الجنة فيها ويشربون، ولا يتغوطون ولا يتمخطون ولا يبولون، ولكن طعامهم ذاك جشاء كرشح المسك، يلهمون التسبيح والحمد، كما تلهمون النفس"

(4)

أخرجه مسلم.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا قال: "قال اللَّه - تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فاقرؤوا إن شئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] "

(5)

وأخرجاه، ولا أبلغ منه.

وروينا من حديثه أيضًا مرفوعًا: "أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتفلون ولا يتمخطون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة (الأنجوج)

(6)

عود الطيب، وأزواجهم الحور العين، على خلق رجل واحد، على سورة أبيهم آدم؛ ستون ذراعًا في السماء"

(7)

أخرجاه.

(1)

سورة الحجر [45 - 48]. والآيات {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)} .

(2)

سورة الدخان [51].

(3)

سورة المطففين [22].

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [19 - (2835)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، [7] باب في صفات الجنة وأهلها وتسبيحهم فيها بكرة وعشيًا، والترمذي في سننه [2563]، وأبو داود في السنة، باب [22]، وأحمد في مسنده [3/ 364]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [5620].

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه [3244] كتاب بدء الخلق، [8] باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، ومسلم في صحيحه [2 - (2824)] كتاب الجنة، وصفة نعيمها وأهلها، في مقدمته، وأحمد في مسنده [2/ 438]، والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 251، 557]، والحميدي في مسنده [1133]، والزبيدي في الإتحاف [8/ 568، 10/ 535].

(6)

كذا بالأصل، والألوة: في النهاية: الألوة هو العود الذي يتبخر به العود الهندي.

(7)

أخرجه البخاري في صحيحه [3245، 3246] كتاب بدء الخلق، [8] باب ما جاء في صفة الجنة، وأنها مخلوقة، ومسلم في صحيحه [15، 16] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، [6]، باب أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والترمذي في سننه [2522]، وابن =

ص: 97

وفي رواية لهما "آنيتهم فيها الذهب، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد، يسبحون اللَّه بكرة وعشيًا"

(1)

.

وروينا من حديث المغيرة مرفوعًا: "سأل موسى ربه ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: رجل يجيء بعد ما أُدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي رب كيف، وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل مُلكِ ملْك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب، فيقول: لك ذلك ومثله ومثله ومثله

(2)

فقال في الخامسة: رضيت يا رب، فيقول هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك، فيقول: رضيت يا رب، قال: رب فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر، قال: ومصداقه في كتاب اللَّه عز وجل: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} الآية" أخرجه مسلم

(3)

.

وروينا من حديث ابن مسعود مرفوعًا: "إني لأعلم آخر أهل النار خروجًا منها، وآخر أهل الجنة دخولًا الجنة؛ رجل يخرج من النار حبوًا، فيقول اللَّه تبارك وتعالى له: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها، فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا

= ماجه في سننه [4333]، والحاكم في المستدرك [3/ 228]، وابن المبارك في الزهد [549].

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [3245] كتاب بدء الخلق، [8] باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، ومسلم في صحيحه [17 - (2834)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، [7] باب في صفات الجنة وأهلها وتسبيحهم فيها بكرة وعشيًا، وقال النووي: مذهب أهل السنة وعامة المسلمين أن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ويتنعمون بذلك وبغيره من ملاذ وأنواع نعيمها تنعمًا دائمًا لا آخر له ولا انقطاع أبدًا. النووي في شرح مسلم [17/ 143] طبعة دار الكتب العلمية.

(2)

قال النووي: في رواية: "فيقول اللَّه - تعالى: أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها" وفي الرواية الأخرى "أترضى أن يكون لك مثل مُلك ملك من ملوك الدنيا، فيقول رضيت رب، فيقول: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله ومثله، فقال في الخامسة: رضيت رب، فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله"، قال النووي: المراد بالأولى أن يقال له أولًا: لك الدنيا ومثلها ثم يزاد على تمام عشرة أمثالها كما بينه في الرواية الأخيرة، وأما الأخيرة فالمراد بها أن أحد ملوك الدنيا لا ينتهي ملكه إلى جميع الأرض، بل يملك بعضًا منها، ثم منهم من يكثر البعض الذي يملكه، ومنهم من يقل بعضه فيعطي هذا الرجل مثل أحد ملوك الدنيا خمس مرات، وذلك كله قدر الدنيا كلها، ثم يقال: لك عشرة أمثال هذا فيعود معنى هذه الرواية إلى موافقة الروايات المتقدمة، وللَّه الحمد وهو أعلم. النووي في شرح مسلم [3/ 37] طبعة دار الكتب العلمية.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [312 - (189)] كتاب الإيمان، [84] باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها.

ص: 98

رب وجدتها ملأى، فيقول اللَّه تبارك وتعالى له: اذهب فادخل الجنة، قال: فيأتيها، فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع، فيقول: يا رب وجدتها ملأى، فيقول اللَّه له: اذهب فادخل الجنة، فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها، أو إن لك عشرة أمثال الدنيا، قال: فيقول: أتسخر بي -أو أتضحك بي- وأنت الملك؟!! - قال: لقد رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه

(1)

- قال: فكان يقال: ذاك أدنى أهل الجنة منزلة"

(2)

أخرجاه، وما ألذه وأطربه!!

وروينا من حديث أبي موسى مرفوعًا: "إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها ستون ميلا، للمؤمن فيها أهلون، يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضًا"

(3)

أخرجاه، وما ألذه وأطربه.

وروينا من حديث أبى سعيد الخدري مرفوعًا: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة سنة لا يقطعها"

(4)

.

وعنه مرفوعا:

(5)

"أن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم" قالوا: يا رسول اللَّه، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال:"بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا باللَّه وصدقوا المرسلين" أخرجاه.

(1)

قال أبو العباس ثعلب وجماهير العلماء من أهل اللغة وغريب الحديث وغيرهم: المراد بالنواجذ هنا الأنياب، وقيل المراد هنا الضواحك، وقيل المراد بها الأضراس، وهذا هو الأشهر في إطلاق النواجذ في اللغة، ولكن الصواب.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [6571] كتاب الرقاق، [51] باب صفة الجنة والنار، ومسلم في صحيحه [308 - (186)] كتاب الإيمان، [83] باب آخر أهل النار خروجًا.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [6571] كتاب بدء الخلق، [8] باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، ومسلم في صحيحه [23 - (2838)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، [9] باب في صفة خيام الجنة وما للمؤمنين فيها من الأهلين، والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 116، 515]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [5616].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [6553] كتاب الرقاق، [51] باب صفة الجنة والنار، ومسلم [8 - (2828)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، [1] باب أن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، وابن ماجه [4335]، والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 519، 520]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [9/ 30]، وأحمد في مسنده [2/ 404]، وعبد الرزاق في مصنفه [20876، 20877].

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه [3256] كتاب بدء الخلق، [8] باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، ومسلم [11 - (2831)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، [3] باب ترائي أهل الجنة أهل الغرف، كما يرى الكوكب الدري في السماء.

ص: 99

وروينا من حديث أبي هريرة أيضًا: "لقاب قوس من الجنة خير مما تطلع عليه الشمس أو تغرب"

(1)

أخرجاه.

وروينا من حديث أنس مرفوعًا: "إن في الجنة لسوقًا يأتوها كل جمعة، فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم، فيزدادون حسنًا وجمالًا، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنًا وجمالا، فيقول لهم أهلوهم: واللَّه لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالًا، فيقولون: وأنتم واللَّه لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالًا"

(2)

أخرجه مسلم. وما أحسن هذه البضاعة المربحة.

وروينا من حديث سهل بن سعد مرفوعًا: "إن أهل الجنة ليتراءون الغرفة في الجنة كما تراءون الكوكب في السماء"

(3)

أخرجاه، وما أعلاها من منزل وأطيبها للنازل!!

وروينا عنه قال: "شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم مجلسًا وصف فيه الجنة حتى انتهى، ثم قال في آخر حديثه: "فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" ثم قرأ هذه الآية: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} ".

رواه البخاري

(4)

، وما أعظم ذلك وانفسه.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [3253] كتاب بدء الخلق، [8] باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، وابن ماجه في سننه، في كتاب الجهاد، باب ما جاء في فضل الغدو والرواح في سبيل اللَّه، والترمذي في سننه [1651] كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الغدو والرواح في سبيل اللَّه، وأحمد في مسنده [2/ 571، 3/ 153]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [6/ 137]، والمنذري في الترغيب والترهيب [2/ 268، 4/ 532]، والزبيدي في الإتحاف [10/ 542].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [13 - (2833)] كتاب الجة وصفة نعيمها وأهلها، [5] باب في سوق الجنة، والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 544]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [5618]، والشجري في أماليه [2/ 113]، والخطيب في تاريخ بغداد [1/ 226].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [6555] كتاب الرقاق، [51] باب صفة الجنة والنار، ومسلم في صحيحه [10 - (2830)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، [3] باب ترائي أهل الجنة أهل الغرف، والترمذي في سنه [2556] كتاب صفة الجنة، باب ما جاء في ترائي أهل الجنة في الغرف، وأحمد في مسنده [5/ 340]، والطبراني في المعجم الكبير [6/ 196، 206].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [3244] كتاب بدء الخلق، [8] باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوفة، وبلفظه في مسلم [5 - (2825)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، في مقدمته، وأحمد في مسنده [5/ 334]، والحاكم في المستدرك [2/ 413]، والطبراني في المعجم الكبير [6/ 190، 247]، والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 558].

ص: 100

وروينا من حديث أبي سعيد وأبي هريرة مرفوعًا: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، نادى مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدًا" أخرجه مسلم

(1)

.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إن أدنى مقعد أحدكم من الجنة أن يقول له: تمن، فيتمنى ويتمنى، فيقول له: هل تمنيت؟ فيقول: نعم، فيقول له: فإن لك ما تمنيت ومثله معه" أخرجه مسلم

(2)

.

ومن حديث أبي سعيد مرفوعًا: "إن اللَّه عز وجل يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك؟!! فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟!! فيقول: أُحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا" أخرجاه

(3)

.

وما ألذ هذا الخطاب الشفاهي، وأعظم هذا الإفضال.

روينا من حديث جرير قال: "كنا عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر وقال: "إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا القمر، لا تضاهون في رؤيته""

(4)

أخرجاه، وما ألذه!!

وروينا من حديث صهيب مرفوعًا: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال: يقول اللَّه

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [22 - (2837)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، [8] باب في دوام نعيم أهل الجنة.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [301 - (182)] كتاب الإيمان، [81] باب معرفة طريق الرؤية، وأحمد في مسنده [2/ 315]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [5627]، وأبو عوانة في مسنده [1/ 170].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [6549] كتاب الرقاق، [51] باب صفة الجنة والنار، ومسلم في صحيحه [9 - (2829)] كتاب الجنة وصفة نعيمها، [2] باب إحلال الرضوان على أهل الجنة فلا يسخط عليهم أبدًا، والترمذي [2552]، وأحمد في مسنده [3/ 88]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [5626]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [6/ 138، 342]، والزبيدي في الإتحاف [9/ 649]، والسيوطي في الدر المنثور [3/ 257].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [1/ 145]، [6/ 173]، ومسلم في صحيحه [211 - (633)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، [37] باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما، والحاكم في المستدرك [1/ 82]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [5/ 132]، وابن حبان في صحيحه [2647 - الموارد]، والسيوطي في الدر المنثور [3/ 257].

ص: 101

تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجينا من النار؟ فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم"

(1)

أخرجه مسلم.

ولنختم ذلك بحكايات لائقة به

الأولى: عن بعض الصالحين أنه عبد اللَّه أربعين سنة، فلما كان في بعض الليالي أخذته دالة على اللَّه -تعالى- فقال: إلهي، أرني ما أعددت لي في الجنة، وما أعددت لي من الحور الحسان، فما استتم الكلام حتى انشق المحراب، وخرجت منه حورية لو خرجت إلى الدنيا لفتنتها، فقال لها: إنسية أنت؟!! فأنشأت تقول:

شكوت إلى المولى وقد علم الشكوى

وأعطاك ما ترجو وقد كشف البلوى

وأرسلني إنسًا إليك وإنني

أناجيك طول الليل لو تسمع الشكوى

فقال: يا جارية لمن أنت؟ فقالت: أنا لك، فقال: كم لي مثلك حوراء؟ قالت: مائة حوراء، ولكل حوراء مائة خادمة، ولكل خادمة مائة وصيف، ولكل وصيف مائة قهرمانة، ففرح وقال: يا حوراء، هل أعطي أحد أكثر مني؟ قالت: يا مسكين عطاؤك عطاء البطالين الذين يقولون: أستغفر اللَّه، فيغفر لهم، ثم يستغفرون فيغفر لهم

(2)

.

ثم أنشأت تقول:

وله خصائص مصطفون لحبه

اختارهم في سالف الأزمان

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [297 - (181)] كتاب الإيمان، [80] باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى والحاكم في المستدرك [1/ 82]، وابن حبان في صحيحه [2647 - الموارد]، والسيوطي في الدر المنثور [3/ 257]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [5/ 132]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [6565].

قال النووي: اعلم أن مذهب أهل السنة بأجمعهم أن رؤية اللَّه -تعالى- ممكنة غير مستحيلة عقلا، وأجمعوا أيضًا على وقوعها في الآخرة، وأن المؤمنين يرون اللَّه -تعالى- دون الكافرين، وزعمت طائفة من أهل البدع المعتزلة والخوارج وبعض المرجئة أن اللَّه -تعالى- لا يراه أحد من خلقه، وأن رؤيته مستحيلة عقلًا. وهذا الذي قالوه خطأ صريح وجهل قبيح. النووي في شرح مسلم [3/ 14] طبعة دار الكتب العلمية.

(2)

روى مسلم في صحيحه [29 - (2758)] كتاب التوبة، [5] باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال:"أذنب عبد ذنبًا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي. . . " الحديث.

ص: 102

اختارهم من قبل فطرة خلقه

فهم ودائع حكمة وبيان

وأنشدت أيضًا:

نشرت لهم أعلام حب حبيبهم

فتتابعوا وتناهموا الأعلاما

فيا حسنهم في ظل عرش مليكهم

كل يقود من النجيب زمانًا

حتى إذا صاروا بحضرة قدسه

كشف المليك حجابه إكرامًا

فهم الملوك العارفون بربهم

والدائبون ببابه خدَّامًا

من ذاك ياقوت وزاهي جوهر

يلقون نورًا يسكنون خيامًا

ومع الحسان الحور عين لو بدت

ليلًا

(1)

أنارت بالجمال ظلامًا

ولعطرت كل الوجود وزخرفت

ولمات كلٌّ بالجمال غراما

يا حسنها بين الحواري عندما

تمشي لتلقى قادمين كراما

يُجزون غرفات بها فوق المنا

وتحية يلقونها وسلامًا

حكاية ثانية: عن بعض عباد عبادان قال: ملح الماء عندنا نيفًا وستين سنة، وكان عندنا رجل من أهل الساحل له قصر، ولم يكن بقي في الصهاريج شيء، وحضرت المغرب، فهبطت لأتوضأ من ذلك البئر وذلك في شهر رمضان في حر شديد، فإذا به يقول: يا سيدي أرضيت عني حتى أثني عليك؟ أرضيت عني حتى أسألك سيدي غسالة الحمام لمن عصاك كثيرا؟ سيدي لولا أني أخاف غضبك لم أذق الماء، ثم أخذ بكفه وشرب شرابا صالحًا، فتعجبت من صبره على ملوحته، ثم أخذت من الموضحع الذي أخذ منه، فإذا هو مثل السكر، فشربت حتى رويت، قال: وأخبرني أنه رأى في المنام كأن قائلًا يقول: قد فرغنا من بناء دارك، فلو رأيتها قرت عيناك، وقد أمرنا بتجديدها والفراغ منها إلى سبعة أيام، واسمها دار السرور، فأبشر بخير، فلما كان السابع، وهو يوم الجمعة بكَّر للوضوء، فنزل في النهر فزلق فغرق، فأخرجناه بعد الصلاة ودفناه، فرأيته في المنام بعد ثلاثة أيام وعليه حلل خضر، فسألته عن حاله، فقال: أنزلني الكريم في دار السرور، فماذا أعد لي فيها!! فقلت له: صفه لي، فقال: هيهات، يعجز الواصفون عن وصف ما فيها، فليت عيالي يعلمن أنه قد هيئ لهم منازل معي، فيها ما اشتهت أنفسهم، نعم وإخواني وأنت منهم.

(1)

روى البخاري في صحيحه [6568] كتاب الرقاق، [51] باب صفة الجنة والنار، عن أنس، وفي آخره "ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأت ما بينهما ريحًا، ولنصيفها -يعني الخمار- خير من الدنيا وما فيها".

ص: 103

ولريحانة شعر:

بوجهك لا تعذبني فإني

أؤمل أن أفوز بخير دار

وأنت مجاور الأبرار فيها

فيا طوبى في ذا الجوار

ثالثة: عن بعض السلف قال: بينما عيسى صلى الله عليه وسلم يسيح فى بعض البلاد بالشام، واشتد به المطر والرعد والبرق، فجعل يطلب كُنًّا، فرفعت له خيمة من بعيد، فأتاها فإذا هو بامرأة فحاد عنها، فإذا هو بكهف في جبل، فأتاه، فإذا في الكهف سبع، فوضع يده عليه ثم قال: إلهي جعلت لكل شيء مأوى، ولم تجعل لي مأوى، فأجابه الجليل: مأواك عندي في مستقر رحمتي، لأزوجنك يوم القيامة مائة حوراء خلقتها بيدي، ولأطعمن في عرسك أربعة آلاف عام؛ يوم فيها كعمر الدنيا، ولآمرن مناديًا ينادي: أين الزهاد في الدنيا، احضروا عرس عيسى ابن مريم.

رابعة: قال أحمد الخلاسي: كانت لي أم صالحة، فقالت لي يومًا وقد عضنا الفقر والحال: يا بني إلى متى نكون في هذه الشدة، فلما كان وقت السحر

(1)

قلت: اللهم إن كان لي عندك في الآخرة شيء، فعجل لي منه إلى الدنيا، فرأيت نورًا في زاوية البيت (المعمور)

(2)

، فقمت إلى البيت فرأيت رجل سرير من ذهب مرصَّع بالجوهر، فقلت لها: خذي، وخرجت إلى الجانع أُحدث نفسي، إلى من أدفعه من أصحاب الجوهر، وكيف العمل به؟ فلما رجعت قالت لي: يا بني، اجعلني في حل، فإنك لما خرجت نمت، فرأيت كأني دخلت الجنة، فرأيت قصرًا على بابه مكتوب لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه، هذا لأبي أحمد الخلاسي، قلت: هذا لابني؟ قال لي قائل: نعم، فدخلت ودرت في بيوته، فرأيت في بيت منها أسرَّة، بينهم سرير مكبوب، فقلت: ما أسمح هذا السرير من بين الأسرّة، فقال لي قائل: أنت أخذت رجله، فقلت: ردوها إلى موضعها، فانتبهت وقد غابت عني، وللَّه الحمد.

خامسها: عن سفيان: أن أصحابه كلموه لما رأوا ما هو عليه من شدة الخوف، وكثرة المجاهدة والجهد، فقالوا له: يا شيخ، لو نقصت عن هذه المجاهدة التي نراها بك؛ نلت مقصودك ومرادك إن شاء اللَّه، فقلت لهم: كيف لا أجتهد كل الاجتهاد، وقد بلغني أن أهل الجنة يكونون في منازلهم، فيتجلى لهم نور عظيم تضيء له الجنان الثمان من شدة ضيائه وحسن بهائه، فيظنون أن ذلك نور من قبل الرحمن، فيخرون ساجدين، فينادي مناد: ارفعوا رؤوسكم، ليس الذي تظنون، إنما هو نور

(1)

السَّحر: آخر الليل قبيل الفجر، جمعها: أسحار.

(2)

كذا بالأصل.

ص: 104

حورية تبسمت في وجه زوجها، فظهر من تبسمها هذا النور، فليس يا إخوتي يلام من اجتهد في طلب الحور الحسان، فكيف لمن طلب المولى الرحمن؟!! ثم أنشأ يقول:

ما ضر من كانت الفردوس

(1)

منزله

ماذا تحمل من بؤس وإقتار

تراه يمشي نحيلًا خائفًا وجلا

إلى المساجد يسعى بين أطماري

سادسة: قال بعض الصالحين: رأيت سفيان الثوري بعد موته في المنام، فقلت له: كيف حالك يا سفيان؟ فأنشأ يقول:

نظرت إلى ربي عيانا فقال لي

هنيئًا رضاي عنك يا ابن سعيد

لقد كنت قوَّمًا إذا أظلم الدجى

بعبرة مشتاق وقلب عميد

فدونك فاختر أي قصر تريده

وزدني فإني عنك غير بعيد

سابعة: عن بعض أصحاب الإمام أحمد قال: لما مات أحمد رأيته في المنام وهو يمشي ويتبختر في مشيته، فقلت له: يا أخي، أي مشية هذه؟ قال: مشية الخدام في دار السلام، قلت: ما فعل اللَّه بك؟ قال: غفر لي وألبسني نعلين من ذهب، وقال لي: هذا جزاؤ قولك القرآن كلام اللَّه مُنزَّل غير مخلوق

(2)

، وقال: يا أحمد قم حيث شئت، فدخلت الجنة، فإذا بسفيان الثوري له جناحان أخضران يطير بهما من نخلة إلى نخلة، وهو يقرأ هذه الآية:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ}

(3)

الآية، فقلت: له: إيش خبر عبد الرزاق

(4)

؟ قال: تركته في بحر من النور، يراد به الملك

(1)

قال مجاهد: الفردوس هو البستان بالرومة، وقال كعب والسدي والضحاك. هو البستان الذي فيه شجر الأعناب، وقال أبو أمامة: الفردوس سرة الجنة، وقال قتادة: الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها وفي الصحيحين: "إذا سألتم اللَّه الجنة فاسألوه الفردوس؛ فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة". تفسير ابن كثير [3/ 111].

(2)

ما زال المسلمون على قانون السلف من أن القرآن كلام اللَّه -تعالى- ووحيه وتنزيله غير مخلوق حتى نبتت المعتزلة والجهمية فقالوا بخلق القرآن، متسترين بذلك في دولة الرشيد، ثم إن المأمون نظر في الكلام وباعث المعتزلة، وبقى يقدم رجلًا ويؤخر أخرى في دعاء الناس إلى القول بخلق القرآن إلى أن قوي عزمه على ذلك في السنة التي مات فيها، ثم كان ما كان من أمر الإمام أحمد ابن حنبل من صموده ضد من قال ذلك إلى أن رفع اللَّه هذه المحنة في عهد المتوكل.

(3)

سورة الزمر [74].

(4)

عبد الرزاق بن همام بن نافع، أبو بكر الحميدي مولاهم الصنعاني الإمام اليماني، ثقة، حافظ، مصنف شهير، عمي في آخره فتغير، وكان يتشيع، توفي سنة [211] وله [85] سنة. ترجمته: تهذيب التهذيب [6/ 310]، تقريب التهذيب [1/ 505]، الكاشف [2/ 194]، تاريخ البخاري =

ص: 105

الغفور، فقلت: ما فعل بشر بن الحارث؟ فقال: بخ بخ، ومن مثل بشر!!

(1)

تركته بين يدي الجليل -سبحانه- وهو مقبل عليه، وهو يقول: كل يا من لم يأكل، واشرب يا من لم يشرب، وانعم يا من لم ينعم.

الثامنة: قال بعضهم: رأيت معروفًا الكرخي في النوم، كأنه تحت العرش، والجليل يقول لملائكته: من هذا؟ قالوا: أنت أعلم يا رب، قال: هذا معروف الكرخي؛ سكر من حبي، فلم يفق إلا بلقائي.

التاسعة: قال الربيع بن سليمان

(2)

: رأيت الشافعي في النوم بعد وفاته فقلت: ما فعل اللَّه بك؟ قال: أجلسني على كرسي من ذهب، ونثر عليّ اللؤلؤ الرطب.

شاردة: قال ذو النون المصري: بينا أنا في بعض البراري إذا بشاب (كما خط)

(3)

عارضاه، فلما رآني ارتعد واصفرّ لونه، وولى هاربا، فقلت له: إنسي أم جني؟ قال: إنسي مثلك، فقلت: لم تهرب؟!! فقال: وهل الهرب إلا من مثلك؟ قال: فلحقته، وأقسمت عليه أن يقف لي، فوقف، فقلت له: أراك في هذه البرية وحدك، ما معك أنيس، أما تفزع؟ فقال: بلى؛ إن معي أنيسًا، فقلت: أين هو؟ فقال: عن يميني وشمالي وأمامي وخلفي، فقلت له: ما معك زاد؟ قال: بلى، فقلت: لا بد لك من شيء تستعين به على قيام الليل وصيام النهار، وخدمة العليم العلام، وأكثرت عليه، فولى وهو يقول:

ولي اللَّه لا تؤويه دار

ويكره أن يكون له عقار

يفر من القفار إلى جبال

فتبكي حين تفقده القفار

= الكبير [2/ 320]، الجرح والتعديل [6/ 204]، ميزان الاعتدال [2/ 609]، سير الأعلام [9/ 563]، الثقات [8/ 412]، البداية والنهاية [1/ 265، 326].

(1)

بشر بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء أبو نصر المروزي ثم البغدادي الزاهد الكبير المعروف ببشر الحافي، وهو ابن عم علي بن خشرم المحدث، سمع إبراهيم بن سعد وحماد بن زيد وأبا الأحوص وشريكًا ومالكًا والفضيل بن عياش، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وخالد بن عبد اللَّه الطحان والمعافي بن عمران وعبد اللَّه بن المبارك وغيرهم، وعنه: أحمد الدورقي ومحمد بن يوسف الجوهري، ومحمد بن المثنى السمسار وسري السقطي وعمر بن موسى الجلاد وإبراهيم ابن هانئ وخلق غيرهم. تاريخ الإسلام، وفيات [121 - 230].

(2)

الربيع بن سليمان الجيزي أبو محمد الأزدي مولاهم الأعرج، سمع ابن وهب والشافعي وإسحاق بن بكر وعبد اللَّه بن يوسف، وعنه: أبو داود والنسائي وأبو بكر بن أبي داود وأبو جعفر الطحاوي وجماعة، وكان حسن الحديث صدوقًا، توفي سنة [256]. تاريخ الإسلام، وفيات [251 - 260].

(3)

كذا بالأصل.

ص: 106

صبورا في قيام الليل جدا

وصوَّاما إذا طلع النهار

يقول لنفسه جدّي وكدّي

فما في خدمة الرحمن عار

يناجي ربه والدمع جار

إلهي إن قلبي مستطار

إلهي ما مناي منك دارًا

من الياقوت تسكنها الحوار

ولا جنات عدن يا إلهي

ولا شجر تزينه الثمار

ولكن وجهك الباقي مناي

به فامنن ففي ذاك الفخار

ص: 107

‌مجلس في اليقين والتوكل

وحقيقته الاعتماد على اللَّه لشهوده تفرده بالتدبير والتأثير، وأن لا حول ولا قوة إلا به، ويترتب عليه التفويض دون الإضاعة، وخلع الأسباب دون إسقاطها، والثقة باللَّه دون الغرة به عجزًا وحمقًا، والسكون إلى اللَّه دون مساكنة السبب، ومناولة الرضا بالقدر

(1)

، والاتصاف بذلك كله حالًا وذوقًا، ودعاء الاستخارة

(2)

جامع لوظائف المتوكل الثلاث، وهي: العلم، والحال، والعمل، فليحتفل به.

قال تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)}

(3)

.

فلما رأوا الوقائع قوي إيمانهم، وأناطت الدوافع.

وقال: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ}

(4)

الآية.

فلما سمعوا التهويل زادهم، وألهجهم بالحسبلة والتسليم، فعقب ذلك الجميل.

وقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ}

(5)

.

(1)

مذهب أهل الحق إثبات القدر، ومعناه أن اللَّه تبارك وتعالى قدر الأشياء في القدر وعلم -سبحانه- أنها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه وتعالى وعلى صفات مخصوصة، فهي تقع على حسب ما قدرها سبحانه وتعالى وأنكرت القدرية هذا وزعمت أنه سبحانه وتعالى لم يقدرها ولم يتقدم علمه سبحانه وتعالى بها، وأنها مستأنفة العلم، أي إنما يعلمها سبحانه وتعالى بعد وقوعها، وكذبوا على اللَّه سبحانه وتعالى وجل عن أقوالهم الباطلة علوًا كبيرًا. النووي في شرح مسلم [1/ 138]. طبعة دار الكتب العلمية.

(2)

دعاء الاستخارة رواه البخاري [1162، 6382] وفيه عن جابر قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: "إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني استخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري -أو قال عاجل أمري وآجله- فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري -أو قال: في عاجل أمري وآجله- فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به" قال: ويسمي حاجته".

(3)

سورة الأحزاب [22].

(4)

سورة آل عمران [173].

(5)

سورة الفرقان [58].

ص: 108

وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}

(1)

أي لا يتوكلون على غيره.

وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}

(2)

.

وقال: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}

(3)

فأُمر به.

وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}

(4)

.

وقال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}

(5)

أي كافيه.

وقال: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}

(6)

فالتوكل شأنهم.

وقال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}

(7)

.

وقال: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا}

(8)

.

وقال: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}

(9)

.

وقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)}

(10)

.

وقال: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}

(11)

.

وقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}

(12)

.

وقال: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}

(13)

.

وقال: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا}

(14)

الآية.

وقال: {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا}

(15)

.

وأما الأحاديث فكثيرة، نذكر منها أحد عشر حديثًا:

أولها: حديث ابن عباس: "يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفًا بغير حساب ولا عذاب" قيل: ومن هم؟ قال: "الذين لا يكتوون، ولا يسترقون، وعلى ربهم

(1)

سورة آل عمران [160]، المائدة [11]، التوبة [51].

(2)

سورة المائدة [23].

(3)

سورة آل عمران [159].

(4)

سورة آل عمران [159].

(5)

سورة الطلاق [3].

(6)

سورة الأنفال [2]، النحل [42]، العنكبوت [59].

(7)

سورة الأنفال [49].

(8)

سورة يونس [84، 85].

(9)

سورة يوسف [67].

(10)

سورة الشعراء [217].

(11)

سورة النمل [79].

(12)

سورة الأحزاب [3].

(13)

سورة الزمر [38].

(14)

سورة الممتحنة [4].

(15)

سورة المزمل [9].

ص: 109

يتوكلون"

(1)

أخرجاه.

ثانيها: حديثه أيضًا: أنه عليه السلام كان يقول: "اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، اللهم إني أعوذ بعزتك، لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون"

(2)

أخرجاه أيضًا.

ثالثها: حديث جابر في الأعرابي الذي اخترط

(3)

السيف، وقال: من يمنعك مني؟ قال: "اللَّه"، زاد الإسماعيلي في صحيحه: فسقط السيف من يده، فأخذه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال:"ومن يمنعك مني؟ " فقال: كن خير آخذ، قال:"تشهد أن لا إله إلا اللَّه وأني رسول اللَّه" فقال: لا، ولكني أعاهدك أني لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلى سبيله، فأتى أصحابه وقال: جئتكم من عند خير الناس.

(4)

رابعها حديث ابن عباس قال: حسبنا اللَّه ونعم الوكيل، قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا: حسبنا اللَّه ونعم الوكيل. رواه البخاري

(5)

.

وفي رواية له: إنها آخر كلمة قالها إبراهيم حين ألقي في النار.

(6)

.

خامسها: حديث أبي هريرة مرفوعًا: "يدخل الجنة من أمتي أقوام أفئدتهم مثل

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [6541] كتاب الرقاق، [50] باب يدخل الجنة سبعون ألفًا بغير حساب، ومسلم في صحيحه [371 - (218)] كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [7385] كتاب التوحيد، باب قول اللَّه تعالى:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 73]، ومسلم في صحيحه [68 - (2717)] كتاب الذكر والدعاء، [18] باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل، وأحمد في مسنده [3/ 302، 308]، والبيهقي في السنن الكبرى [3/ 2]، والطبراني في المعجم الكبير [11/ 43، 45، 51].

(3)

اخترط السيف: استله من غمده.

(4)

أخرجه أحمد في مسنده [3/ 365]، والحاكم في المستدرك [3/ 39]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [5305]، وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح [7/ 426].

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه [4563] كتاب تفسير القرآن، [13] باب {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173] الآية، وأحمد في مسنده [1/ 326]، والطبراني في المعجم الكبير [12/ 128]، والسيوطي في الدر المنئور [2/ 101، 5/ 338]، والخطيب في تاريخ بغداد [11/ 86]، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة [1079].

(6)

أخرجه البخاري [4564] كتاب تفسير القرآن، [13] باب {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173] الآية.

ص: 110

أفئدة الطير"

(1)

رواه مسلم.

قيل معناه متوكلون، وقيل: قلوبهم رقيقة، فشبّه فؤاد المتوكل بأفئدة الطير، لخلوها من الاهتمام بالرزق، ومحله القلب.

سادسها: حديث عمر مرفوعًا: "لو أنكم تتوكلون على اللَّه حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير؛ تغدوا خماصًا

(2)

وتروح بطانا". رواه الترمذي

(3)

وحسنه.

ومعناه تذهب أول النهار ضامرة البطون من الجوع، وتروح بطانًا أي ترجع مليئة البطون.

سابعها: حديث البراء مرفوعًا: "إذا أويت إلى فراشك فقل: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وألجأت ظهري إليك، وفوضت أمري إليك رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت، فإن مت ليلتك مت على الفطرة، وإن أصبحت أصبت خيرًا"

(4)

أخرجاه، وفي رواية لهما:"واجعلهما آخر ما تقول".

ثامنها: حديث الصديق رضي الله عنهما: "نظرت إلى أقدام المشركين، ونحن في الغار، وهم على رؤوسنا، فقلت: يا رسول اللَّه، لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: "ما ظنك يا أبا بكر باثنين اللَّه ثالثهما" أخرجاه

(5)

.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [27 - (2840)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، [11] باب يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير، وأحمد في مسنده [2/ 331]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [5625]، والقرطبي في تفسيره [13/ 115].

(2)

خمص الجوع فلانًا خمصًا وخموصًا: أدخل بطنه في جوفه، وخمُصَ بطنُهُ خمصًا: خلا وضمر.

(3)

أخرجه الترمذي في سننه [2344] كتاب الزهد، باب التوكل على اللَّه، وأحمد في مسنده [1/ 30]، وابن المبارك في الزهد [196]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [5299]، والسيوطي في الدر المنثور [6/ 234]، والزبيدي في الإتحاف [9/ 388]، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة [310].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [6313] كتاب الدعوات، [7] باب ما يقول إذا نام، ومسلم في صحيحه [56 - (2710)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [17] باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، وأبو داود في سننه [1448]، وابن ماجه في سننه [1244]، والبيهقي في السنن الكبرى [2/ 197، 198]، وأحمد في مسنده [2/ 239، 255]، والزبيدي في الإتحاف [7/ 486].

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه [3653] كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، [2] باب مناقب المهاجرين وفضلهم، ومسلم في صحيحه [1 - (2381)] كتاب فضائل الصحابة، [1] باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وأحمد في مسنده [1/ 4]، وابن أبي شيبة في مصنفه [14/ 333]، والزبيدي في الإتحاف [7/ 68].

ص: 111

تاسعها: حديث أم سلمة: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من بيته قال: بسم اللَّه توكلت على اللَّه، اللهم إني أعوذ بك أن أَضل أو أُضَلَّ، أو أذل أو أذل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل عليَّ"

(1)

رواه أبو داود والترمذي وصححه.

عاشرها: حديث أنس مرفوعًا: "من قال -يعني إذا خرج من بيته- بسم اللَّه توكلت على اللَّه ولا حول ولا قوة إلا باللَّه، يقال له: كُفيت ووُقيت، وتنحى عنه الشيطان" رواه أبو داود والترمذي وصححه.

(2)

.

وفي أبي داود: "فيقول -يعني الشيطان- لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي؟ ".

الحادي عشر: حديثه أيضًا قال: "كان أخوان على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فكان أحدهما يأتي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والآخر يحترف، فشكى المحترف أخاه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: "لعلك ترزق به"

(3)

رواه الترمذي بإسناد على شرط مسلم.

ولنذكر من الحكايات ما يليق بهذا الموطن:

الأولى: عن عبد الواحد بن زيد قال: كنا في مركب، فطرحتنا الريح إلى جزيرة، وإذا فيها رجل يعبد صنمًا، فقلنا له: من تعبد؟ فأومأ إليه، فقلنا: إن إلهك هذا مصنوع، عندنا من يصنع مثله، ما هذا بإله يُعبد، فقال: أنتم من تعبدون؟ قلنا: نعبد الذي في السماء عرشه، وفي الأرض بطشه، وفي الأحياء والأموات قضاؤه، تقدست أسماؤه، وجلت عظمته وكبرياؤه، قال: وما علمكم بهذا؟ قلنا: وَجَّه إلينا الملك رسولا كريمًا فأخبرنا بذلك، قال: فما فعل الرسول؟ قلنا: لما أدى الرسالة قبضه الملك إليه، واختار له ما لديه، قال: فهل ترك عندكم من علامة؟ قلنا: نعم؛ ترك عندنا كتاب الملك، قال: فأروني كتابه، فإنه ينبغي أن تكون كتب الملوك حسانًا، فأتيناه بالمصحف، فقال: ما أعرف هذا، فقرأنا عليه سورة، فلم يزل يبكي حتى ختمناها، فقال: ينبغي لصاحب هذا الكلام أن لا يُعصى، ثم أسلم وحسن إسلامه، وعلمناه شرائع الدين وسورًا من القرآن، فلما كان الليل صلينا العشاء،

(1)

أخرجه أبو داود في سننه [5094، 5095]، والترمذي [3427]، وابن ماجه [3885]، وأحمد في مسنده [6/ 306، 318]، والبيهقي في السنن الكبرى [5/ 251]، والحاكم في المستدرك [4/ 281، 519].

(2)

أخرجه أبو داود في سننه [5095]، والترمذي [3426]، والبيهقي في السنن الكبرى [5/ 251]، والزبيدي في الإتحاف [4/ 326].

(3)

أخرجه الترمذي في سننه [2345]، والحاكم في المستدرك [1/ 94]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [5308]، وابن حجر في تلخيص الحبير [2/ 97].

ص: 112

وأخذنا مضاجعنا، فقال: يا قوم هذا الملك الذي دللتموني عليه ينام إذا جنَّهُ الليل؟ قلنا: لا، هو حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، قال: فبئس العبيد أنتم؛ تنامون ومولاكم لا ينام، فأعجبنا كلامه، فلما قدمنا عبادان، قلت لأصحابي: هذا قريب العهد بالإسلام، فجمعنا له دراهم وأعطيناه، فقال: ما هذا، لا إله إلا اللَّه، دللتموني على طريق لم تسلكوها، إذا كنت في جزيرة من جزائر البحر أعبد صنما من دونه، فلم يضيعني، وأنا لا أعرفه، أفيضيعني الآن وأنا أعرفه؟!! فلما كان بعد ثلاثة أيام قيل لي: إنه في الموت فأتيته، فقلت له: هل لك من حاجة؟ قال: قد قضى حوائجي من جاء بكم إلى الجزيرة، فغلبتني عيني، فرأيت روضة خضراء بها قبة، وفي القبة سرير وعليه جارية حسناء لم يُر أحسن منها، وهي تقول: باللَّه إلا ما عجلتم به إليّ، فقد اشتد شوقي إليه، فاستيقظت فإذا به قد فارق الدنيا، فغسلته وكفنته وواريته في التراب، فلما كان الليل رأيته في منامي في تلك القبة، وهو إلى جانب الجارية، وهو يقرأ هذه الآية:{وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} [الرعد: 23] الآية.

الثانية: قال عبد اللَّه بن أبي نوح: لقيت رجلا من العبَّاد في بعض الجزائر منفردًا، فقلت: يا أخي ما تصنع هنا وحدك، أما تستوحش؟ فقال: الوحشة في غير هذا الموضع أعم، قلت: كم أنت هاهنا؟ قال: منذ ثلاثين سنة، قلت: من أين المطعم؟ قال: من عند المنعم، قلت: فما هنا بالقرب منك شيء تعول عليه إذا احتجت إلى المطعم، ورجعت إليه؟ قال: ما همك بما قد كفيته، وضُمن لك؟ قلت: أخبرني بأمرك؟ قال: ما لي أمر غير ما ترى؛ أظل في هذا الليل، وهذا النهار متوكلا على من لا تأخذه سنة ولا نوم، ثم صاح صيحة أفزعتني فوثبت، وسقط مغشيًا عليه، فتركته على تلك الحالة ومضيت، رحمه اللَّه تعالى، ونفعنا به.

وأنشدوا في هذا المعنى:

حقيقة العبد عندي في توكله

سكوت أحشائه عن كل مطلوب

وإن تراه لكل الخلق مُطَّرحًا

يصون أسراره عن كل محبوب

الثالثة: حكى الأصمعي -رحمه اللَّه تعالى- قال: أقبلت ذات يوم من المسجد الجامع بالبصرة، فبينا أنا في بعض سككها إذ طلع أعرابي على قعود متقلدًا سيفه، وبيده قوس، فدنا وسلم، وقال لي: من الرجل؟ قلت: من بني الأصمع، قال: أنت الأصمعي؟ قلت: نعم، قال: ومن أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن، قال: وللرحمن كلام يتلوه الآدميون؟! قلت: نعم، قال: اتل عليَّ شيئًا منه، فقلت له: انزل عن قعودك، فنزل، فابتدأت سورة والذاريات، حتى انتهيت إلى قوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ

ص: 113

وَمَا تُوعَدُونَ (22)}

(1)

قال: يا أصمعي، هذا كلام الرحمن عز وجل؟ قلت: إي والذي بعث محمدا صلى الله عليه وسلم للخلق، إنه لكلام الرحمن، أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فقال: حسبك، ثم قام إلى راحلته فنحرها، وقطعها بجلدها، وقال: أعني على تفريقها، ففرقناها على من أقبل وأدبر، ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرها، وجعلهما تحت الرمل، وولى مدبرًا نحو البادية وهو يقول:{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)}

(2)

فأقبلت على نفسي باللوم وقلت: لم لا تنتبهي لما انتبه له الأعرابي، فلما حججت مع الرشيد دخلت مكة، فبينا أنا طائف بالكعبة، إذا هتف بي هاتف بصوت رقيق، فالتفت فإذا بالأعرابي نحيل مصفار، فسلم عليّ، وأخذ بيدي وأجلسني من وراء المقام، وقال لي: اتل كلام الرحمن، فأخذت في سورة والذاريات، فلما انتهيت إلى قوله:{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)} [الذاريات: 22] صاح الأعرابي، وقال: وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا، ثم قال: وغير هذا، قلت: نعم؛ يقول اللَّه عز وجل: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)}

(3)

فصاح الأعرابي: من أغضب الجليل حتى حلف، ألم يصدقوه حتى ألجأوه إلى اليمين؟!! قالها ثلاثا، فخرجت نفسه - رحمه اللَّه تعالى.

الرابعة: عن بشر الحافي رحمه الله أنه جاء نفر فسلموا عليه، فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن من الشام، جئنا نسلم عليك، ونريد الحج، فقال: شكر اللَّه لكم، فقالوا: نخرج معك لنحج في صحبتك، فأبى، فألحوا عليه، فقال: إذا عزمتم على ذلك فيكون بثلاثة شروط، قالوا: وما تلك الشروط؟ قال: لا نحمل معنا شيئًا، ولا نسأل أحدًا شيئًا، وإن أعطينا لا نقبل، قالوا: لا نستطيع ذلك، فقال: كأنكم خرجتم من بيوتكم متوكلين على مزاود الحجاج، لا متوكلين على اللَّه، دعوني وحالي، وروحوا إلى أشغالكم، ثم قال: أحسن الفقر ثلاثة: فقير لا يسأل، وإن أعطي لا يأخذ، فذاك من الروحانيين، أو قال: مع الروحانيين، وفقير يسأل وإن أعطي لا يأخذ، قيل قدر الكفاية، فكفايته صدقة، وفقير لا يسأل، وإن أعطي قبل فذاك من الذين يوضع لهم موائد في حضرة القدس.

فائدة: قيل: دخل جماعة على أبي القاسم الجنيد

(4)

-رحمه اللَّه تعالى- فقالوا

(1)

سورة الذاريات [22].

(2)

سورة الذاريات [22].

(3)

سورة الذاريات [23].

(4)

الجنيد بن محمد بن الجنيد، أبو القاسم النهاوندي الأصل البغدادي القواريري الخزاز، وقيل كان أبوه قواريريًا يعني زجاجًا، وكان هو خزازًا، كان شيخ العارفين وقدوة السائرين وعلم الأولياء في زمانه -رحمة اللَّه عليه- ولد ببغداد بعد [220] فيما أحسب أو قبلها، ونفقه على أبي ثور، واختص بصحبة السري السقطي والحرمي وأبي حمزة البغدادي، وأتقن العلم، وتوفي سنة [298]. تاريخ الإسلام، وفيات [291 - 300].

ص: 114

له: نطلب أرزاقنا؟ فقال: إن علمتم أين هي فاطلبوها، فقالوا: نسأل اللَّه ذلك، فقال: إن علمتم أنه ينساكم فاذكروه، فقالوا ندخل بيوتنا ونتوكل، فقال: التجربة مع اللَّه شك، قالوا: فما الحيلة؟ قال: ترك الحيلة.

الخامسة: عن بعضهم قال: رأيت فتى في طريق مكة يتبختر في مشيته، كأنه في صحن داره، فقلت له: ما هذه المشية؟ فقال: مشية الفتيان؛ خُدَّام الرحمن.

وأنشدوا:

أتيه بك افتخارًا غير أني

أتيه من المهابة عند ذكرك

ولو أني قدر لمُت شوقًا

وإجلالا لأجل عظيم قدرك

فقلت: أين زادك وراحلتك؟ فنظر إليَّ منكرًا لقولي، ثم قال: يا هذا رأيت عبدًا ضعيفًا قصد مولى كريمًا، ثم حمل إلى بيته طعاما، أيجمل به ذلك لو فعل ذلك لأمر الخدَّام بطرده عن بابه؛ إن المولى -جلّت قدرته- لما دعاني إلى المقصد إليه، رزقني حُسن التوكل عليه، ثم غاب عني، فما رأيته بعد ذلك رحمة اللَّه عليه.

السادسة: حكي أن عابدًا اعتكف في مسجد، ولم يكن له معلوم، فقال له الإمام: لو اكتسبت لكان خيرًا لك وأفضل، فلم يجبه حتى أعاد عليه القول ثلاثًا، فقال له في الرابعة: بجوار المسجد رجل يهودي قد ضمن لي في كل يوم رغيفين، فقال: إن كان صادقًا في ضمانه فقعودك في المسجد خير لك، فقال: يا هذا، لو لم تكن إماما بين اللَّه -تعالى- وبين عباده مع هذا النقص في التوحيد لكان خيرًا لك؛ تفضل ضمان اليهودي على ضمان اللَّه عز وجل وأنشدوا في هذا المعنى لعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما:

لتطلب رزق اللَّه من عند غيره

وتصبح من خوف العواقب آمنًا

وترضى بصراف وإن كان مشركا

ضمينا ولا ترضى بربك ضامنا

السابعة: عن علي بن عبدان رحمه الله قال: كان عندنا مجنون يُجنُّ بالنهار، ويفيق بالليل، ويصلي وينادي ربه إلى الصباح، فقلت له يومًا: منذ كم جننت؟ قال: مذ عرفته، ثم أنشد يقول:

أنا الذي ألبسني سيدي

لما تعريت لباس الوداد

فصرت لا آوي إلى مؤنس

إلا إلى ممالك رزق العباد

قال: فخرجت فإذا به ذاهب العقل، فدخل وقال:{آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا}

(1)

، فقلت: إنه جائع، فقدمت له طعاما، فأكل ثم شرب، فأنشأ يقول:

(1)

سورة الكهف [62].

ص: 115

عليك اتكالي لا على الناس كلهم

وأنت بحالي عالم ليس تعلم

وأقسمت أني كلما جعت سيدي

ستفتح لي بابًا فأُسقى وأطعم

فقلت له: أوصني بوصية، فأنشأ يقول:

الزم الخوف مع الحزن

وتقوى اللَّه تربح

واترك الدنيا جميعًا

إن تقوى اللَّه أرجح

واجتهد في ظلمة الليل

(1)

إذا ما الليل أجنح

واقرع الباب إليه

فلعل الباب يفتح

الثامنة: قال بنان الحمال -رحمه اللَّه تعالى-: كنت في طريق مكة ومعي زاد، فجاءتني امرأة وقالت: يا بنان أنت حمال تحمل على ظهرك، وتظن أنه لا يرزقك؟ قال: فرميت بزادي، ثم أتى عليّ ثلاثة أيام لم آكل، فوجدت خلخالا في الطريق، فقلت في نفسي: أحمله حتى تأتي صاحبته، فربما تعطيني شيئًا، فإذا بتلك المرأة فقالت: أنت تاجر تقول: حتى تجيء صاحبته، وآخذ منها شيئًا، ثم رمت إليّ بشيء من الدراهم وقالت: انفقها، فاكتفيت بها إلى قريب مصر.

وأنشدوا:

كم من قوي قوى في تقلبه

مميز الرأي عنه الرزق منحرف

وكم ضعيف ضعيف في تقلبه

كأنه من ملح البحر يغترف

هذا دليل على أن الإله له

في الخلق سرٌّ خفي ليس ينكشف

التاسعة: حكي عن الشيخ أبي يعقوب البصري -رحمه اللَّه تعالى- أنه قال: جُعت مرة في الحرم عشرة أيام، فوجدت ضعفًا، فحدثتني نفسي أن أخرج إلى الوادي، لعلي أجد شيئًا يسكن به ضعفي، فخرجت فإذا سلجمة مطروحة فأخذتها، فوجدت منها في قلبي وحشة، وكأن قائلا يقول لي: جعت عشرة أيام فآخره يكون حظك سلجمة

(2)

مطروحة متغيرة، فرميت بها ودخلت المسجد، فقعدت فإذا برجل جاء فجلس بين يدي، فوضع قمطرة وقال: هذا لك، فقلت: كيف خصصتني بها؟ قال: اعلم أنا كنا في البحر منذ عشرة أيام، فاشرفت السفينة على الغرق، فنذر كل

(1)

روى مسلم في صحيحه [166 - (757)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، [23] باب في الليل ساعة متجاب فيها الدعاء، عن جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن في الليل لساعة لا يرافقها رجل مسلم يسأل اللَّه خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه، إياه وذلك كل ليلة".

(2)

السَّلجم: اللّفت، واحدته سلجمة.

ص: 116

واحد منا نذرًا إن خلصنا اللَّه أن نتصدق بها أول من يقع بصري عليه من المجاورين، وأنت أول من لقيته، قلت: افتحها، فإذا فيها كعك من سميد

(1)

مصر، وقلب لوز وسكر، فقبضت قبضة من ذا وقبضة من ذا، وقلت: رد الباقي إلى صبيانك هدية مني إليهم، وقد قبلتها، ثم قلت في نفسي: رزقك يسير إليك منذ عشرة أيام، وأنت تطلبه من الوادي؟!!

وأنشدوا:

لقد علمت وما الإشراف من خلقي

إن الذي هو رزقي سوف يأتيني

أسعى له فيعنيني تطلبه

ولو قعدت أتاني لا يعنيني

العاشرة: حكي أن عابدا من عباد الحرم كان يأتيه رجل كل ليلة بقرصين يفطر عليهما ولا يشتغل بغير اللَّه عز وجل فقالت له نفسه: سكنت في القوت إلى هذا المخلوق، ونسيت رازق المخلوقين، ما هذه الغفلة!! فلما أتاه الرجل بالقرصين ردهما عليه، وانصرف عنه، وبقي الفقير ثلاثة أيام لم يفتح عليه بشيء من القوت، فشكى ذلك إلى ربه عز وجل فرأى تلك الليلة في النوم أنه واقف بين يدي اللَّه تعالى، فقال: يا عبدي، لم رددت ما أرسلت به إليك مع عبدي؟ فقال: يا رب، لما قام في نفسي من السكون إلى غيرك، فقال: يا عبدي، فمن أرسله إليك؟ قال: أنت يا رب، قال: وكنت تأخذ من مَنْ؟ قال: منك، قال: خذ ولا تعد، ثم رأى الرجل المتصدق كأنه واقف بين يدي اللَّه سبحانه وتعالى فقال له: يا عبدي، لم منعت عبدي قوته؟ قال: يا رب قد علمت ذلك، قال: يا عبدي، أنت لمن تعطي؟ قال: لك يا رب، قال: فأجري الفقير على عادته وأبقه على عادتك، وثوابك الجنة.

وأنشدوا:

وكل جميل أو جمال فجوده

وصنعته عن حكمة ذات إتقان

فلا نعمة إلا ومن عنده أتت

إليك وإن جاءتك من عند إنسان

الحادية عشر: عن إبراهيم بن بشار

(2)

-رحمه اللَّه تعالى- قال: كنت مع إبراهيم بن أدهم رحمه الله في سفره وليس معنا شيء نفطر عليه، ولا لنا حيلة،

(1)

السّميد: السميذ، وهو لباب الدقيق.

(2)

إبراهيم بن بشار الخراساني الصوفي، صاحب إبراهيم بن أدهم طال عمره، وبقي إلى بعد الثلاثين ومائتين، روي عن إبراهيم بن أدهم وحماد بن زيد والفضيل بن عياض، روى عنه: أحمد بن عون البزوري، وإبراهيم بن نصر المنصوري، وأبو العباس السراج، وذكره ابن حبان في الثقات، قال الدارقطني: تأخرت وفاته. انظر تاريخ الإسلام، وفيات [231 - 240].

ص: 117

قال: فرآني الشيخ مغتمًا حزينًا فقال: يا ابن بشار، ماذا أنعم اللَّه على الفقراء والمساكين من النعم والراحة في الدنيا والآخرة؛ لا يسألهم اللَّه يوم القيامة عن زكاة ولا عن حج، ولا عن صدقة ولا عن صلة رحم ولا عن مواساة، إنما يُسأل ويُحاسب عن هذا هؤلاء المساكين -يعني الأغنياء- قال: إن الأغنياء في الدنيا فقراء في الآخرة

(1)

، أعزة في الدنيا أذلة في الآخرة، لا تغتم ولا تحزن؛ فرزق اللَّه مضمون سيأتيك، نحن واللَّه الملوك والأغنياء؛ تعجلنا الراحة في الدنيا والآخرة، ولا نبالي على أي حال أصبحنا وأمسينا، إذا أطعنا اللَّه تعالى، ثم قام إلى صلاته، وقمت إلى صلاتي، فما لبثنا إلا ساعة، وإذا نحن برجل قد جاء بثمانية أرغفة وتمر كثير، فوضعه بين أيدينا وقال: كلوا رحمكم اللَّه. فسلم إبراهيم من صلاته وقال: كل يا مغموم يا حزين، فمر بنا سائل فقال: اْطعموني شيئًا لوجه اللَّه -تعالى- فأعطاه إبراهيم ثلاثة أرغفة وتمرًا، وأعطاني ثلاثة أرغفة وتمرًا، وأكل هو رغيفين وقال: المواساة من أخلاق المؤمنين رحمهم الله.

الثانية عشرة: عن الشيخ أبي الحسن الديلمي رحمه الله قال: وصف لي إنسان أسود بأنطاكية يتكلم على القلوب فقصدته، فلما رأيته أبصرت معه شيئا من المباحات يريد بيعه، فساومته وقلت: بكم هذا؟ فنظر إليّ ثم قال: اقعد حتى أبيعه وأعطيك شيئًا من ثمنه؛ فإنك جائع منذ يومين، قال: وكنت جائعا منذ يومين. فتغافلت كأني لم أسمع ما قال، وذهبت عنه وساومت غيره، ثم عدت إليه وقلت: بكم هذا؟ فنظر إليّ وقال: اقعد فإنك جائع منذ يومين، حتى إذا بعنا أعطيناك شيئًا، قال: فوقع في قلبي منه هيبة، فلما باع أعطاني شيئًا، ومضى فمضيت خلفه لعلي أستفيد منه شيئًا بقوله، فالتفت إليّ وقال: إذا عرضت لك حاجة فاتركها للَّه إلا أن يكون لنفسك فيها حظ، فتحجب عن اللَّه، ومن علم أن اللَّه كافيه

(2)

لا يستوحش

(1)

روى البخاري في صحيحه [6546] كتاب الرقاق، [51] باب صفة الجنة والنار، عن عمران بن الحصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء"، وروى أحمد في مسنده [2/ 296، 451]: "يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام".

(2)

روى الترمذي [2516] كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، عن ابن عباص قال:"كنت خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوما فقال: "يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ اللَّه يحفظك، احفظ اللَّه تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل اللَّه، وإذا استعنت فاستعن باللَّه، واعلم أن الأمة لو اجمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه اللَّه لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه اللَّه عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف"".

ص: 118

من إعراض الخلق عنه، ولا بإقبال الخلق عليه، ثقة بأن الذي قُسم له لا يفوته، وإن أعرضوا عنه، والذي لم يقسم له لا يصل إليه، وإن أقبلوا عليه.

الثالثة عشر: عن بعض الشيوخ قال: دخلت أنا وعشرة نفر في جبل ركام، فسرنا فيه، فإذا نحن بواد على حافتيه أشجار مثمرة فيها من كل لون من الثمر، فرأينا من بعيد على شاطئ النهر كُركيًّا

(1)

قائما، فقربنا منه، فإذا هو مطموس العينين، فبقينا نتعجب من أمره، فبينما نحن قيام إذ أقبلت نحلة سوداء خلفها نحل كثير، فلما وصلت إلى الكركي دنت منه ففتح منقاره، فوضعت النحلة فيه عسلا، فلم يزل النحل يدخل واحدة بعد واحدة، ويصبنّ العسل في فيه حتى لم يبقى منه شيء، فامتلأ فمه عسلًا فأطبق عليه منقاره فسقط منه شيء من العسل وأخذته وأكلته وانصرفنا.

الرابعة عشر: قيل: خرج إنسان من أهل الخير يطلب الرزق في وقت حصاد الزرع، فأصابه المطر فآوى إلى كهف فوجد فيه عقابًا أعمى، فبقي متفكرًا، من أين يأكل ذلك العقاب؟!! وإذا بحمامة دخلت الكهف تستكن من المطر، فوقعت فوق العقاب، فأمسكها العقاب وأكلها، فرجع ذلك الإنسان إلى مكانه، وتوكل على اللَّه عز وجل.

الخامسة عشرة: عن بعض الشيوخ قال: خرجت أنا وأبو علي البليدي نريد زيارة أخ من إخواننا، فدخلنا البرية، فأصابنا جوع، فإذا بثعلب يحفر الأرض، ويخرج كمامة منها ويرمي بها إلينا، فأخذنا منها حاجتنا، ثم سرنا، وإذا نحن بسبع عظيم قائم، فلما قربنا منه إذا به أعمى، فوقفنا عليه نتعجب منه، وإذا بغراب معه قطعة لحم كبير، فضرب بجناحه على أذن السبع ففتح فمه فطرح فيه قطعة اللحم، فقال لي أبو علي: هذه الآية لنا ليست للسبع، فسرنا في تلك البرية أياما، فإذا بكوخ فيها فقصدناه، فإذا فيه عجوز كبيرة ليس عندها شيء، وعلى باب الكوخ حجر منقوب، فسلمنا وجلسنا عندها، فإذا هي مشغولة بعبادة ربها، فلما غابت الشمس خرجت من الكوخ بعد أن صلت المغرب، ومعها رغيفان عليهما قطعة تمر، فقالت: ادخلا الكوخ فخذا ما لكما فيه، فدخلنا، فإذا نحن باربعة أرغفة وقطعتين تمرًا، وما في ذلك الموضع نخل ولا تمر فأكلنا، فلما كان بعد ساعة جاءت سحابة فأمطرت على الحجر حتى امتلأ، ولم يسقط خارج منه قطرة واحدة، فقلنا لها: كم لك هاهنا؟

(1)

الكركي: طائر كبير أغبر اللون طويل العنق والرجلين أبتر الذنب قليل اللحم، يأوي إلى الماء أحيانًا، جمعها: كراكيّ.

ص: 119

قالت: سبعون سنة؛ حالي مع مولاي في أكلي وشربي كما ترون، فقلنا: هذا الماء على هذه الحالة كل ليلة؟ قالت: نعم كل ليلة تجيء هذه السحابة في الصيف والشتاء، وهذان الرغيفان والتمر، ثم قالت: أين تريدان؟ قالا: أبا نصر السمرقندي نزوره، فقالت: رجل صالح أبا نصر نقال إلى القوم، فإذا أبو نصر قائم عندنا، فسلم علينا وسلمنا عليه، ثم قالت: إذا أطاع العبد مولاه أطاعه مولاه.

السادسة عشر: عن أبي جعفر الفرغاني -رحمه اللَّه تعالى- قال: كنت عند بعض إخواننا من الصوفية بالديثور، فجاء قوم من الأكراد ليشتري لهم متاعًا، ثم قالوا له: لو علمت لمن نشتري هذا المتاع لسارعت إلى شرائه، فقال لهم: حدثوني، فقالوا: نعم، ثم أومأوا إلى رئيس لهم كانوا معه فقالوا: هذا سيد الحي، وكانت له زوجة فولدت له عدة من البنات، فقال لها وهي حامل: إن ولدت بنتًا فأنت طالق، وقُضي أنا رحلنا رحلة للشتاء نريد نحو المراغة ونواحيها، فبينما نحن نسير ذات يوم، إذ ضرب المرأة الطلق فأخذت ماء كأنها تتوضأ، فولدت جارية، فأخذتها ولفتها في خرقة وتركتها عند كهف جبل، وجاءت وأظهرت أن ذلك الحمل إنما كان ريحا وقد أنفش، ثم غبنا عن ذلك الموضع ستة أشهر، ثم رجعنا فنزلنا بذلك المكان، فأخذت المرأة ماء ومضت نحو الكهف الذي تركت الصبية فيه، فلما قربت منه، إذا غزالة قائمة عند الصبية وهي ترضع، فلما نظرتها الغزالة استوحشت وذهبت، وجاءت الأم إلى الصبية، فأخذتها فبكت وشهقت، فوضعتها وتنحت عنها، فرجعت الغزالة، فلم تزل ترضعها وهي ساكنة، فجاءت المرأة إلى الحي فأخبرتهم بذلك، فجاءوا بأجمعهم إلى الكهف فرأوا الغزالة ترضع الصبية، فلما أحست بهم تنحت، فبكت الصبية، فأخذها النساء، ولم يزلن يرفقن بها حتى سكنت وأنست بهم، وجاءوا بها إلى الحي، وبقيت الغزالة تنظر من بعيد حتى رحلنا، وهذا المتاع الذي نريد نشتريه جهازها، وقد زوجها أبوها.

السابعة عشر: قال بعض الصالحين: رأيت في سياحتي

(1)

أعرابية صغيرة السن، فقلت لها: أين تنزلون؟ قالت: بالبادية، قلت لها: أما تستوحشون؟ قالت: يا بطال، وهل يستوحش مع اللَّه من أنس به؟!! فقلت لها: من أين تأكلون؟ قالت: اللَّه يعلم من اْين يرزق عباده؛ هو سبحانه يرزق من جحده، فكيف لا يرزق من وحّده، ثم قلت: قلوب عاشت بمعرفته، فطاشت بوحدانيته، وتلاشت في محبته، غذاؤهم

(1)

ساح فلان في الأرض سياحة: ذهب وسار فهو سائح، وسيّاح، والسائح: المتنقل في البلاد للتنزه أو للاستطلاع والبحث والكشف ونحو ذلك، جمعها: سُيَّاح.

ص: 120

الأنس باللَّه، والمشاهدة للَّه، ربانيون روحانيون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون

(1)

رحمهم الله جميعا.

الثامنة عشر: حكي عن ملك كرمان أنه خطب ابنة الشيخ شاة الكرماني رحمه الله فاستمهله ثلاثة أيام، ثم أقبل شاة يطوف المساجد، فرأى غلامًا يحسن صلاته، فلما فرغ قال: يا غلام ألك زوجة؟ قال: لا، قال: فهل لك في زوجة تقرأ القرآن وتصلي وتصوم، وهي جميلة نظيفة؟ قال: ومن يزوجني؟ قال شاة: أنا أزوجك، فخذ بدرهم خبزًا، وبدرهم أدمًا، وبدرهم طيبًا، والأمر مفروغ منه، فعقد عليها، فلما دخلت إلى بيت الغلام رأت رغيفًا يابسًا على رأس جرة، فلما رأت ذلك قالت: ما هذا؟ قال: رغيف بقي معي من أمس، فتركته لأفطر عليه، فلما سمعت ذلك ولَّت راجعة، فقال الشاب: قد علمت أنك بنت شاة لا تقنعي بفقري، ولا ترضى بي لها بعلًا

(2)

فقالت: إن بنت شاة ليس خروجها من منزلك لفقرك، بل لضعف يقينك، ولست أعجب منك؛ إنما أعجب من أبي كيف قال: زوجتك من شاب عفيف؛ كيف وصف بالعفة من لا يعتمد على اللَّه -تعالى- إلا مع ادخار رغيف، فقال الشاب: أنا عن هذا معتذر، فقالت: أما العذر فأنت أعرف بشأنك، وأما أنا فلا أقيم في بيت فيه رغيف ولا معلوم، فإما أن أخرج أنا وإما أن يخرج الرغيف من البيت، فتصدق الشاب بالرغيف.

وأنشدوا:

ولو كان النساء كمن ذكرنا

لفضلت النساء على الرجال

فما التأنيث لاسم الشمس عيب

ولا التذكير فخر للهلال

التاسعة عشر: روي أن عطاء الأزرق دفعت إليه امرأته درهمين وقالت له: اشتر لنا دقيقًا، فخرج إلى السوق فرأى مملوكًا يبكي فقال: لم تبكي؟ فقال: إن مولاي دفع لي

(1)

قال تعالى: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)} [فصلت].

(2)

روى الترمذي في سننه [1084] كتاب النكاح، باب ما جاء "إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه"، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض"، وفي رواية عن أبي حاتم المزني رقم [1085] " قالوا: يا رسول اللَّه وإن كان فيه؟ قال: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فانكحوه" ثلاث مرات" وفي اختيار الزوجة الصالحة روى الترمذي عن جابر [1086] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن المرأة تنكح على دينها ومالها وجمالها، فعليك بذات الدين تربت يداك"، وقال أبو عيسى: حسن صحيح.

ص: 121

درهمين أشتري بهما شيئًا فسقطا مني، وأخاف أن يضربني، فدفع إليه عطاء الدرهمين ومضى يصلي إلى وقت المساء، وانتظر شيئًا يفتح عليه، فلم يفتح له بشيء، فقعد على دكان صديق له نجار، فقال له: خذ من هذه النشارة لعلكم تحتاجون إليها تحمون بها التنور

(1)

فليس لي شيء أواسيك به، وأخذ ذلك في جرابه ورجع إلى بيته، وفتح الباب وطرح الجراب في البيت ومضى إلى المسجد فصلى فيه العشاء، وقعد حتى مضى شيء من الليل رجاء أن ينام أهله لئلا يخاصموه، ثم جاء إلى البيت فوجدهم يخبزون الخبز، فقال: من أين لكم الدقيق، قالت: من الذي حملته من المجراب، ولا تعد تشتري لنا إلا من عند الذي اشخريت منه هذا الدقيق، فقال: أفعل إن شاء اللَّه - تعالى.

العشرون: حكي أن حبيبًا العجمي كان له زوجة سيئة الخلق، فقالت له يومًا: إذا لم يفتح عليك بشيء فأجّر نفسك، فخرج إلى الجبّانة وصلى العشاء، ثم أتى بيته خجلا من توبيخها، مشغول القلب من شرها، فقالت: أين أُجرتك؟ فقال لها: الذي استأجرني كريم؛ استحييت من استعجاله، فمكث كذلك أياما يصلي في الجبانة إلى الليل، وتقول له: أين أجرتك، فيقول لها: استأجرني كريم فخفت من استعجاله، فلما طال عليها الحال قالت له: اطلب أجرتك من هذا، أو أخر نفسك من غيره، فوعدها أن يطلب الأجرة، وخرج إلى عادته، فلما أمسى الليل عاد إلى منزله خائفًا منها، فرأى في بيته دخانًا، ومائدة منصوبة وزوجته مستبشرة فرحة، فقالت: لقد بعث لنا الذي استأجرك ما يبعث الكرام، وقال رسوله لي: قل لحبيب يجد في العمل ويعلم أنَّا لم نؤخر أجرته بخلا بها، ولا عدما فيقر عينًا ويطيب قلبًا، ثم أرته أكياسًا مملوءة دنانير، فبكى حبيب وقال لزوجته: هذه الأجرة من كريم، هذه خزائن السماوات والأرض.

(2)

فلما رأت ذلك تابت إلى اللَّه -تعالى- وأقسمت أنا لا تعود إلى ما تابت عنه.

الحادية بعد العشرين: حكي أن إبراهيم الخواص -رحمه اللَّه تعالى- قال: كان لي وقت، وحرت مرة، فكنت أخرج كل يوم إلى نهر كبير كان حوله خوص، فكنت أقطع شيئا من الخوص وأعمله قفافًا وأطرحه في ذلك النهر وأتسلى بذلك، وكأني كنت مطالبًا به، فجرى وقتي على ذلك أيامًا كثيرة، ففكرت يومًا وقلت: أمضى خلف ما أطرحه من القفاف في الماء لأنظر أين يذهب، فمشيت على شاطئ النهر ساعة ولم

(1)

التَّنور: الفرن يخبز فيه، جمعها تنانير.

(2)

قال تعالى: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [المنافقون: 7].

ص: 122

أعمل ذلك اليوم شيئًا، فإذا عجوز قاعدة على شاطئ النهر تبكي، فقلت لها: ما لك تبكين؟ فقالت: لي خمسة من الأيتام، مات أبوهم، وأصابتني فاقة وشدة بعده، فأتيت هذا الماء يومًا، فجاء على رأس الماء قفاف من الخوص، فأخذتها وبعتها وأنفقتها عليهم، وأتيت اليوم الثاني والثالث والقفاف تجئ على رأس الماء، فكنت آخذها وأبيعها، واليوم ما جاءت، قال إبراهيم: فوفعت يدي إلى السماء وقلت: اللهم لو علمت أن لك خمسة من العيال لزدت في العمل، ثم قلت للعجوز: لا تغتمي، فأنا الذي كنت أعمل ذلك، ثم مضيت معها ورأيت موضعها، وكانت فقيرة، فقمت بأمرها وأمر عيالها سنين، أو كما قال.

الثانية بعد العشرين: حكي عن بعض الفقراء قال: كنت يومًا متفكرًا في نفقة العيال، فاشتغل قلبي ساعة، فنمت لأستريح، فرأيت في منامي كأني في جزيرة في وسط بحر، فقلت: من أين يصل إليّ ما آكل وما أشرب في هذا المكان؟ فهتف بي هاتف وقال لي: يا هذا لو كان رزقك خلف سبعة أبحر لأتاك، فانتبهت مسرورًا، وزال عني ما كنت أجد، وبعد ذلك جاءتني رسالة على يد بعض الأصحاب من رجل لم يخطر لي ببال، فقلت: صدق اللَّه عز وجل في قوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} .

(1)

وحكى سيدي الشيخ الإمام عبد اللَّه اليافعي قال: كنا جماعة في بعض الأسفار، جمعت بيننا في الطريق الأقدار، فمررنا في بعض الأيام بقرية فنزلنا فيها، وأرسل للجماعة حتى دخلوها إلا واحدًا منهم، فاستعار بُرمة فعصدوا فيها عصيدة وأكلوها إلا واحدًا؛ فإنه غاب عنها ولم ينادوه يأكل معهم منها ومعه قليل من الدقيق لم يجد من يصنعه له من معروف أو صديق، فخرج يدور بدقيقه بين البيوت ليجد من يصنع له ذلك القوت، فبينما هو كذلك يدور، وإذا هو بشخص ضعيف مضرور جمعت القدرة بينهما بواسطة اللطف الخفي من غير وعد، ونادى لسان حال الحكمة الإلهية، هذا رزق هذا الضعيف، ورزقك يأتي بعد، فدفع إليه رزقه ورجع إلى رفقته بلا غذاء، فبينما هو غائب عن علم الغيب، وإذا باللطف الخفي قد بدا.

قيض اللَّه إنسانًا دعاه من بين الجماعة فأطعمه ثريدًا ولحمًا وسمنًا في تلك الساعة حتى شبع وقوي على المشي الكثير، فسبحان الكريم اللطيف الخبير، أيتها النفس الهلوعة الضعيفة اليقين، أما تصدقين، ويحك بوعد الحق المبين؟ أما تتيقن، ويلك بضمان خير ضمين؟ أما توقني بقول أصدق القائلين: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو

(1)

سورة الطلاق [2، 3].

ص: 123

الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)}

(1)

.

{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}

(2)

.

{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}

(3)

.

{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)}

(4)

.

ثم أتبع ذلك بقسم عظيم، أقسم به رب العالمين، مع أن قوله حق، ووعده صدق، لا يحتاج إلى يمين، فقال عز من قائل:{فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)}

(5)

.

أما تعلمين أن وعده الوفي، ولطفه الخفي قد ضُمن للعباد في جميع البلاد، بسط أيادي الجود في جميع الموجود، وساق مطايا الأرزاق من خزائن رحمة الرزاق، القدر السابق في القدم بسوط القدرة، وقادها بزمام اللطف والكرم، حتى دخلت في باب الأسماء من بعد ما خرجت من باب العدم، وسارت في الوجود إلى أن وصلت إلى سرادقات عالم التقريب والتمكين، فبركت في مبارك البركات بالمواهب الجليلة من المقامات العلية، فحط عنها تحف الفوائد، وطرف العوائد الجميلة، ثم حمل تلك الطرف والتحف خُذَام القدرة، ودخل بها إلى حضرة أهل الحضرة، فناولوا بتلك المواهب أعز المواهب من المقامات العالية، والمعارف الغالية، خضهم بها المولى الكريم {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)}

(6)

.

وأنشدوا في المعنى:

(1)

سورة الذاريات [58].

معنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم؛ فهو خالقهم ورازقهم. وروي أحمد في مسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعني "قال اللَّه تعالى: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلًاا ولم أسد فقرك" تفسير ابن كثير [4/ 238].

(2)

سورة هود [6].

(3)

سورة سبأ [39].

(4)

سورة الذاريات [22].

(5)

سورة الذاريات [23]. يقسم -تعالى- بنفسه الكريمة أن ما وعدهم به من أمر القيامة والبعث والجزاء كائن لا محالة، وهو حق لا مرية فيه، فلا تشكوا فيه كما لا تشكون في نطقكم حين تنطقون، وكان معاذ رضي الله عنه إذا حدث بالشيء يقول لصاحبه: إن هذا لحق كما أنك ههنا. تفسير ابن كثير [4/ 235].

(6)

سورة الحديد [21]. =

ص: 124

تبارك من عم الوجود بجوده

ومن منه يفيض الفضل للخلق يغمر

ومن خص أهل القرب صفوة خلقه

بفضل عظيم وصفه ليس يحضر

فللقوم أعلام الولايات أُعلمت

بمحمد وخلعات الكرامات تزهر

وحكي أنه خرج بعض المريدين في طلب الرزق، فسعى حتى تعب، فوجد خربة فجلس يستريح فيها، فبينما هو يتصفح الجدران، فنظر في بعضها لوحًا من رخام أخضر مكتوب فيه بخط أبيض هذه الأبيات:

لما رأيتك جالسا مستقبلا

أيقنت أنك للهموم قرين

ما لا يكون فلا يكون بحيلة

أبدًا وما هو كائن سيكون

سيكون ما هو كائن في وقته

وأخو الجهالة متعب محزون

فلعل ما تخشاه ليس بكائن

ولعل ما ترجوه سوف يكون

يسعى الحريص فلا ينال بحرصه

حظًا ويحظى عاجز ومهين

فارفض لها وتعرَّ من أثوابها

إن كان عندك للقضاء يقين

هون عليك وكن بربك واثقًا

فأخو التوكل شأنه التهوين

طرح الأذى عن نفسه في رزقه

لما تيقن أنه مضمون

قال: فقرأها ورجع إلى منزله، ولم يهتم في الرزق بعدها - رحمه اللَّه تعالى.

= أي هذا الذي أهلهم اللَّه له هو من فضله ومنه عليهم وإحسانه إليهم، وروي في الصحيح أن فقراء المهاجرين قالوا: يا رسول اللَّه، ذهب أهل الدثور بالأجور بالدرجات العلى والنعيم المقيم، قال:"ما ذاك؟ " قالوا: يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون ولا نتصدق ويعتقون ولا نعتق، قال:"أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين" قال: فرجعوا فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال ما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء".

ص: 125

‌مجلس في الاستقامة

وهي لزوم الطاعة، وهي من جوامع الكلم ونظام الأمور.

قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}

(1)

.

أي من إخلاص وصدق قولا وعملا واعتقادًا.

وقال: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}

(2)

الآية.

وبشارة الملائكة لهم، إما عند الموت أو في القبر أو المحشر، أو كل موطن بما لا يحيط به الوصف.

وقال: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)}

(3)

.

وثبت في صحيح مسلم من حديث سفيان بن عبد اللَّه قال: قلت: يا رسول اللَّه، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدًا غيرك، قال:"قل آمنت باللَّه ثم استقم"

(4)

.

وفيه أيضًا من حديث أبى هريرة مرفوعًا: "قاربوا وسددوا واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله" قالوا: يا رسول اللَّه ولا أنت؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني اللَّه برحمة منه وفضل"

(5)

.

(1)

سورة هود [112].

يأمر تعالى رسوله وعباده المؤمنين بالثبات والدوام على الاستقامة، وذلك من أكبر العون على النصر على الأعداء ومخالفة الأضداد، ونهي عن الطغيان وهو البغي، فإنه مصرعه حتى ولو كان على مشرك، وأعلم -تعالى- أنه بصير بأعمال العباد لا يغفل عن شيء ولا يخفى عليه شيء. تفسير ابن كثير [2/ 472، 473].

(2)

سورة فصلت [30].

(3)

سورة الأحقاف [13].

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [62 - (38)] كتاب الإيمان، [13] باب جامع أوصاف الإسلام، وأحمد في مسنده [3/ 413، 4/ 385]، والزبيدي في الإتحاف [7/ 450، 10/ 27]، والطبراني في المعجم الكير [7/ 79]، والسيوطي في الدر المنثور [2/ 220، 5/ 363]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [15]، والبخاري في التاريخ الكبير [5/ 100]، والخطيب في تاريخ بغداد [2/ 370، 9/ 454].

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [76 - (2816)] كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، [17] باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة اللَّه - تعالى. وأحمد في مسنده [2/ 264، 319، 344]، =

ص: 126

والمقاربة: القصد الذي لا غلو فيه ولا تقصير، والسداد: الاستقامة والإصابة، يتغمدني: يلبسني ويسترني.

شعر:

يا ويح من ضل سبيل الهدى

وفاته منك بلوغ المرام

ومن أتى حصنك آوتيه

فركنه في عزة لا يضام

كم صالح قد صف أقدامه

نفى الليل يبكي بالدموع السجام

وما له حظ سوى أنه

أشقاه مولاه بطول القيام

وكم قريب خاب سعيًا وما

نال سوى التعذيب والانتقام

وكم بعيد نال ما يرتجى

ونال في عقباه أعلى مقام

يا أيها اللوام كفوا فمن

دليله حيرة لا يلام

من لم يكن الوصف أهلا فما

يفيده القرب ولا الاعتصام

فسطوة الإقدام لا تقتدى

فانتبهوا من نومكم يا نيام

يا أيها المذنب قم واعتذر

وتب من الذنب وكسب الآثام

إلى متى أنت ترى غاديا

ورائحا في اللهو طوع الغرام

أنب إلى اللَّه وتب واستقم

من قبل أن تشرب كأس الحمام

وإن تجف قبح ذنوب مضت

فلذ بخير الخلق مولى الأنام

= والبيهقي في السنن الكبرى [3/ 18]، والطبراني في المعجم الكبير [7/ 369]، والترمذي [3168]، وابن ماجه [4201]، وابن أبي شيبة في مصنفه [3/ 230]، والسيوطي في الدر المنثور [4/ 343]، وذكره الحافظ في الفتح [11/ 391].

قال النووي: اعلم أن مذهب أهل السنة أنه لا يثبت بالعقل ثواب ولا عقاب ولا إيجاب ولا تحريم ولا غيرهما من أنواع التكليف، ولا تثبت هذه كلها ولا غيرها إلا بالشرع، ومذهب أهل السنة أيضًا أن اللَّه -تعالى- لا يجب عليه شيء -تعالى اللَّه- بل العالم ملكه والدنيا والآخرة في سلطانه يفعل فيهما ما يشاء؛ فلو عذب المطيعين والصالحين أجمعين وأدخلهم النار كان عدلًا منه، وإذا أكرمهم ونعمهم وأدخلهم الجنة فهو فضل منه، ولو نعم الكافرين وأدخلهم الجنة كان له ذلك، ولكنه أخبر -وخبره صدق- أنه لا يفعل هذا، بل يغفر للمؤمنين ويدخلهم الجنة برحمته، ويعذب المنافقين ويخلدهم في النار عدلا منه، أما المعتزلة، فيثبتون الأحكام بالعقل ويوجبون ثواب الأعمال، ويوجبون الأصلح، ويمنعون خلاف هذا في خبط طويل لهم -تعالى اللَّه عن اختراعاتهم الباطلة المنابذة لنصوص الشرع- وفي ظاهر هذه الأحاديث دلالة لأهل الحق أنه لا يستحق أحد الثواب والجنة بطاعته. النووي في شرح مسلم [17/ 131، 132] طبعة دار الكتب العلمية.

ص: 127

محمد المختار من هاشم

أفضل من حج ولبى وصام

صلى عليه اللَّه ما أشرقت

طلائع الصبح وولى الظلام

غيره

تعطف بفضل منك يا مالك الورى

فأنت ملاذي سيدي ومعيني

لئن أبعدتني عن حماك خطيئتي

فإن رجائي شافعي ويقيني

ص: 128

‌مجلس في التفكير

في عظيم المخلوقات وفناء الدنيا وأهوال الآخرة وسائر أمورها، وتقصير النفس وتهذيبها وحملها على الاستقامة.

وحاصله تلمس البصيرة لاستدراك البغية، وتمرنه العلم والعمل.

قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا}

(1)

.

أي فتزول عنكم رقدة الغفلة، وورطة الفترة.

وقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} إلى قوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}

(2)

.

وقال: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)}

(3)

الآية.

وقال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ}

(4)

الآية.

والآيات كثيرة.

ومن الأحاديث:

الحديث السالف: "الكيس من دان نفسه"

(5)

أي ناظرًا في صلاحها وفسادها،

(1)

سورة سبأ [46].

يقول تبارك وتعالى: قل يا محمد لهؤلاء الزاعمين أنك مجنون {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} [سبأ: 46] أي إنما آمركم بواحدة وهي {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ: 46] أي تقوموا قيامًا خالصًا للَّه عز وجل من غير هوى ولا عصبية، فيسأل بعضكم بعضًا هل بمحمد من جنون؟ فينصح بعضكم بعضًا {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ: 46] أي ينظر الرجل لنفسه في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ويسأل غيره من الناس عن شأنه إن أشكل عليه ويتفكر في ذلك. تفسير ابن كثير [3/ 560].

(2)

سورة آل عمران [190 - 191].

(3)

سورة الغاشية [17].

(4)

سورة يوسف [109]، الحج [46]، غافر [82].

(5)

أخرجه الترمذي في سننه [2459] كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، وأحمد في مسنده [4/ 24]، والبيهقي في السنن الكبرى [3/ 369]، والحاكم في المستدرك [1/ 57، 4/ 251]، والطبراني في المعجم الكبير [7/ 338، 341]، والزبيدي في الإتحاف [7/ 44]، 8/ 428، والطبراني في المعجم الصغير [2/ 36]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [5289]، والمنذري في =

ص: 129

وطالبًا تزكيتها.

وفي صحيح البخاري في قصة العنبر: وإن ضلعها كذا، وأكل منها كذا وكذا.

وفي جامع الترمذي من حديث العباس وقال: حسن غريب، في السحابة وأنها المزن والعنان أيضًا. ثم قال صلى الله عليه وسلم:"أتدرون كم بعد ما بين السماء والأرض؟ " قالوا: لا، قال:"فإن بعد ما بينهما إما واحدة أو اثنتان أو ثلاث سبعون سنة، والسماء التي فوقها كذلك" حتى عدهن سبع سماوات كذلك. ثم قال: "فوق السابعة بحر ما بين أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء، وفوق ذلك ثمانية أعوال ما بين أظلافهن وركبهن ما بين سماء إلن سماء، واللَّه -تعالى- فوق ذلك"

(1)

.

وقد حكى ابن عباس في حملة العرش ما يهيم، وقد ساقه البغوي وغيره في تفسيره في قوله تعالى:{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ}

(2)

وإن ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدمه مسيرة خمسمائة عام.

ويحكى أن أقدامهم في تخوم الأرض، والأرضون والسماوات إلى حجزتهم وهم يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان الحي الذي لا يموت.

وقال ابن أبي عروبة: أرجلهم في الأرض السفلى، ورؤوسهم تحت العرش.

ويروى أن ملكا من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه بمسيرة سبعمائة عام.

= الترغيب والترهب [4/ 252]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [1/ 267]، والعجلوني في كشف الخفا [2/ 196].

(1)

أخرجه الترمذي في سننه [3320] كتاب تفسير القرآن، باب من سورة الحاقة، وأبو داود في سننه، كتاب السنة، باب في الجهمية، وابن ماجه في المقدمة، باب فيما أنكرت الجهمية، وأحمد في مسنده [1/ 206، 2/ 370]، والزبيدي في الإتحاف [10/ 217].

(2)

سورة غافر [7].

يخبر تعالى عن الملائكة المقربين من حملة العرش الأربعة، ومن حوله من الملائكة الكروبيين بأنهم يسبحون بحمد ربهم، أي يتقربون بين التسبيح الدال على نفي النقائص والتحميد المقتضي لإثبات صفات المدح. تفسير ابن كثير [4/ 71].

ص: 130

‌مجلس في المبادرة إلى الخيرات

وحثَّ من توجه إلى الخير إلى الإقبال عليه بالجد من غير تردد.

قال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}

(1)

أي لتنالوا الدرجات والمنازل العاليات.

وقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ}

(2)

الآية.

أما الأحاديث فثمانية:

أحدها: حديث أبي هريرة مرفوعًا: "بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم؛ يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا؛ يبيع دينه بعرض من الدنيا"

(3)

رواه مسلم.

ثانيها: حديث عقبة بن الحارث: أنه صلى الله عليه وسلم صلى العصر ثم قام مسرعًا فرأى أنهم عجبوا من سرعته، قال:"ذكرت شيئًا من تبر كان عندنا من الصدقة، فكرهت أن أُبيته، أمرت بقسمته"

(4)

رواه البخاري.

ثالثها: حديث جابر قال: "قال رجل لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم أحد: أرأيت إن قُتلت فأين أنا؟ قال: "في الجنة" فألقى تمرات كُنَّ في يده ثم قاتل حتى قتل" أخرجاه

(5)

.

(1)

سورة البقرة [148].

(2)

سورة آل عمران [133].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [186 - (118)] كتاب الإيمان، باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن، والترمذي في سننه [2195] كتاب الفتن، باب ما جاء ستكون فتن كقطع الليل المظلم، وأحمد في مسنده [2/ 304، 523]، وابن حبان في صحيحه [1868 - الموارد]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [5883]، والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 248]، وأبو عوانة في مسنده [1/ 50].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [1430] كتاب الزكاة، [2] باب المنان بما أعطى، والبيهقي في السنن الكبرى [2/ 349]، وأحمد في مسنده [4/ 8]، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين [7/ 98]، وذكره العراقي في المغني عن حمل الأسفار [2/ 354].

(5)

أخرجه البخاري [4046] كتاب المغازي، [17] باب غزوة أحد، ومسلم في صحيحه [143 - (1899)] كتاب الإمارة، [41] باب ثبوت الجنة للشهيد، وأحمد في مسنده [3/ 308]، والبيهقي في السنن الكبرى [9/ 3، 99]، والحاكم في المستدرك [2/ 93]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [3937]، والزبيدي في الإتحاف [8/ 567]، والهيثمي في مجمع الزوائد [1/ 161]، =

ص: 131

وهذا من باب {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84].

رابعها: حديث أبي هريرة: "جاء رجل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه أي الصدقة أعظم أجرًا؟ قال: "أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل، حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، ألا وقد كان لفلان"" أخرجاه

(1)

.

خامسها: حديث أنس: "أنه صلى الله عليه وسلم أخذ سيفًا يوم أحد فقال: "من يأخذ مني هذا؟ " فبسطوا أيديهم، كل إنسان منهم يقول: أنا أنا، قال: "فمن يأخذه بحقه؟ " قال: فألجم القوم، فقال سماك بن خرشة أبو دجانة

(2)

: أنا آخذه بحقه، قال: فأخذه ففلق به هام المشركين"

(3)

رواه مسلم.

سادسها: حديث الزبير بن عدي قال: "أتينا أنس بن مالك، فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج، فقال: "اصبروا فإنه لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم" سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم" رواه البخاري

(4)

.

سابعها: حديث أبي هريرة مرفوعًا: "بادروا بالأعمال سبعًا، هل تنظرون إلا

= والسيوطي في الدر المنثور [2/ 99، 4/ 168]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [7/ 309]، وابن أبي عاصم في السنة [1/ 94].

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [1419] كتاب الزكاة، [12] باب أي الصدفة أفضل وصدقة الشحيح الصحيح، ومسلم في صحيحه [92 - (1032)] كتاب الزكاة، [31] باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح، والنسائي [5/ 68 - المجتبى]، وأبو داود [2865]، وابن ماجه [2706]، وأحمد في مسنده [2/ 231، 415]، والبيهقي في السنن [4/ 190]، والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 329]، وابن خزيمة في صحيحه [2454].

(2)

أبو دجانة سماك بن خرشة بن لوزان بن عبد ود بن زيد الساعدي، كانت عليه يوم بدر عصابة حمراء، قيل آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين عتبة بن غزوان، وقال الواقدي: وثبت أبو دجانة يوم أحد مع النبي صلى الله عليه وسلم وبايعه على الموت، وهو ممن شارك في قتل مسيلمة وقتل يومئذ. تاريخ الإسلام للذهبي، وفيات سنة [12].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [128 - (2470)] كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي دجانة، وابن أبي شيبة في مصنفه [14/ 398]، وأحمد في مسنده [3/ 123]، والحاكم في المستدرك [3/ 23]، والهيثمي في مجمع الزوائد [6/ 109، 9/ 124]، والطبراني في المعجم الكبير [9/ 1]، والبيهقي في دلائل النبوة [3/ 232].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [7068] كتاب الفتن، باب لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه، والترمذي في سننه [2206] في الفتن، باب منه ما جاء في أشراط الساعة، والبيهقي في السنن الكبرى [6/ 144]، وأحمد في مسنده [3/ 111]، والطبراني في المعجم الكبير [1/ 173]، وابن حبان في صحيحه [2297 - الموارد]، والزبيدي في الإتحاف [7/ 505].

ص: 132

فقرًا منسيا، أو غنى مطغيا، أو مرضا مفسدا، أو هرما مفندًا أو موتًا مجهدًا، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر" رواه الترمذي

(1)

وحسنه.

ثامنها: حديثه -أيضًا-: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: "لأعطين هذه الراية رجلًا يحب اللَّه ورسوله، يفتح اللَّه على يديه" قال عمر بن الخطاب: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ، قال: فتساورت لها رجاء أن أُدعى لها، قال: فدعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، فأعطاه إياها وقال:"امش ولا تلتفت حتى يفتح اللَّه عليك" قال: فسار علي شيئا، ثم وقف ولم يلتفت، فصرخ: يا رسول اللَّه، على ماذا أقاتل الناس؟ قال:"قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على اللَّه"

(2)

رواه مسلم.

ولنذكر جملة من الحكايات اللائقة بما نحن فيه.

والذي حضرنا منها أربع وثلاثون حكاية:

ونقدم عليها قصة سلمان الفارسي

(3)

، وتردده من شخص إلى شخص إلى أن جاء إلى نبينا - عليه أفضل الصلاة والسلام، وظهر له براهين نبوته، وشهد معه الخندق فما بعدها، وهو مشهور مطول.

وكذا رواه ابن سعد من قصة ذي البجادين، وأنه كان يتيما لا مال له، فكفله عمه، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة تاقت نفسه إلى الإسلام، فنهاه عمه لأجل ما بيده من المال، فتركه، فجاء إلى أمه، فقطعت بجادًا لها باثنين، فاتزر بواحد وارتدى بالآخر، ثم حضر تبوكًا وسأل الشهادة، فقال صلى الله عليه وسلم:"اللهم إني أحرم دمه على الكفار" فقال: ليس هذا أردت.

فقال: "إنك إذا خرجت غازيًا فأخذتك الحمى فقتلتك فأنت شهيد.

(1)

أخرجه الترمذي في سننه [2206] كتاب باب الفتن، والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 250]، والسيوطي في الدر المنثور [6/ 137].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [33 - (2405)] كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والترمذي في سننه [3724] كتاب الفضائل، باب فضائل علي بن أبي طالب، وابن ماجه [121]، وأحمد في مسنده [4/ 25]، والبيهقي في السنن الكبرى [9/ 131]، وابن حجر في تلخيص الحبير [4/ 98].

(3)

انظر قصة إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه في تاريخ الإسلام للذهبي، وفيات سنة [36]، وقد روى البخاري في صحيحه [3946] كتاب مناقب الأنصار، [53] باب إسلام سلمان الفارسي، عن سلمان الفارسي أنه تداوله بضعة عشر من رب إلى رب.

ص: 133

وإن وقصتك دابتك فأنت شهيد"

(1)

فأقاموا بتبوك أياما، فتوفي، فلما هيء اللحد قال:"اللهم إني أمسيت راضيا عنه فارض عنه" قال ابن مسعود: فليتني كنت أنا هو.

وكذا ما رواه أيضا: أن أم زيد بن حارثة زارت قومها، وزيد معها، فأغارت خيل بني القين في الجاهلية، فمروا على أبيات بني معد، فاحتملوا زيدًا وهو يومئذ غلام يفع، فوافوا به السوق فعرضوه للبيع، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بأربعمائة، فلما تزوجها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهبته له، وكان أبوه حارثة حين فقده قال:

بكيت على زيد

(2)

ولم أدر ما فعل

فهل حيّ فيرجى أم أتى دونه الأجل

فيا ليت شعري هل لك الدهر رجعة

فحسبي من الدنيا رجوعك إلى جبل

تذكرنيه الشمس عند طلوعها

ويعرض ذاكره إذا قارب الظلل

وإن هبت الأرياح هيَّجْنَ ذكره

فيا طول ما حزني عليه وما وجل

سأعمل نص العيس

(3)

في الأرض جامعة

فلا أسأم التطواف أو تنام الإبل

حياتي أو تأتي عليّ منيتي

فكل امرئ فان وإن عزه الأمل

وأوصي به قيسًا وعمرًا كلاهما

فأوصي يزيدًا ثم من بعده جبل

(1)

روى البخاري في صحيحه [1/ 167، 184، 4/ 29]، ومسلم في صحيحه [164 - (1914)] في الإمارة، [51] باب بيان الثسهداء، عن أبي هريرة، عنه صلى الله عليه وسلم:"الشهداء خمسة: المطعون والمبطون والغرق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل اللَّه عز وجل"، قال النووي: قال العلماء: وإنما كانت هذه الموتات شهادة بتفضل اللَّه -تعالى- بسبب شدتها وكثرة آلمها، وقد جاء في حديث آخر في الصحيح:"من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد"، وفي حديث آخر صحيح:"من قتل دون سيفه فهو شهيد" قال العلماء: المراد بشهادة هؤلاء كلهم غير المقتول في سبيل اللَّه، أنهم يكون لهم في الآخرة ثواب الشهداء، وأما في الدنيا فيغسلون ويصلى عليهم، وقد سبق أن الشهداء ثلاثة أقام: شهيد في الدنيا والآخرة، وهو المقتول في حرب الكفار، وشهيد في الآخرة دون أحكام الدنيا، وهم هؤلاء المذكورون هنا، وشهيد في الدنيا دون الآخرة، وهو من غل في الغنيمة آو قتل مدبرًا. النووي في شرح مسلم [13/ 54، 55] طبعة دار الكتب العلمية.

(2)

زيد بن حارثة بن شراحيل، أبو أسامة الكلبي مولى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم القضاعي الكعبي اليماني الهاشمي، صحابي مشهور، من أول الناس إسلامًا، استشهد يوم مؤتة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أخرج له: النسائي وابن ماجه. ترجمته: تهذيب التهذيب [3/ 401]، تقريب التهذيب [1/ 273]، الكاشف [1/ 337]، الجرح والتعديل [3/ 559]، أسد الغابة [2/ 281]، الإصابة [2/ 98]، الاستيعاب [2/ 542].

(3)

العيس: كرام الإبل.

ص: 134

يعني جبل بن حارثة، أخا زيد، ويزيد أخو زيد لأمه.

فحج ناس من كعب قرأوا زيدًا فعرفهم وعوفوه، وانطلقوا إذ أعلموا أباه، فخرج حارثة وكعب ابنا شراحيل بفدائه، فقدما مكة فسألا عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقيل: هو في المسجد، فدخلا عليه، فقالا: يا ابن هاشم، يا ابن سيد قومه أنتم أهل حرم اللَّه وجيرانه، تفكون العاني وتطعمون الأسير، جئناك في ابننا زيد، فمُنَّ علينا به، وأحسن إلينا في فدائه، فإنا سندفع لك من الفداء، قال صلى الله عليه وسلم:"فهلا غير ذلك" قالوا: وما هو؟ قال: "ادعوه فخيروه، فإن اختاركما فهو لكما بغير فداء، وإن اختارني فواللَّه ما أختار على من اختارني أحدًا"

(1)

قالوا: قد زدتنا على النصف وأحسنت، فدعاه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال:"هل تعرف هذين؟ " قال: نعم؛ هذا أبي، وهذا عمي، قال:"قد علمت صحبتي لك، فاخترني أو اخترهما" فقال زيد: ما أنا بالذي يختار عليك أحدًا يا رسول اللَّه، أنت مني بمكانهما، فقالا: ويحك يا زيد؛ أتختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك؟!! فقال: نعم؛ إني قد رأيت من هذا الرجل شيئًا ما أنا بالذي أختار عليه أحدًا أبدًا، فلما رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذلك أخرجه إلى الحجر وقال:"يا معشر من حضر اشهدوا أن زيدًا ابني أرثه ويرثني"

(2)

فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت أنفسهما، فدُعي زيد بن محمد، حتى جاء اللَّه بالإسلام فزوجه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش، فلما طلقها تزوجها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقيل: تزوج امرأة ابنه، فأنزل اللَّه:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ}

(3)

ونزل: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ}

(4)

فقالوا: زيد بن حارثة.

(1)

روى البخاري في صحيحه [4782] كتاب تفسير القرآن، سورة الأحزاب، [1] باب {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5] عن ابن عمر أن زيد بن حارثة مولى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد، حتى نزل القرآن {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5].

(2)

قال النووي: قال العلماء: كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبنى زيدًا ودعاه ابنه، وكانت العرب تفعل ذلك؛ يتبنى الرجل مولاه أو غيره فيكون ابنًا له يوارثه وينتسب إليه حتى نزلت الآية، فرجع كل إنسان إلى نسبه إلا من لم يكن له نسب معروف فيضاف إلى مواليه كما قال اللَّه - تعالى:{فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5]. النووي في شرح مسلم [15/ 158] طبعة دار الكتب العلمية.

(3)

سورة الأحزاب [40].

(4)

سورة الأحزاب [5].

قال ابن كثير في تفسيره: هذا أمر ناسخ لما كان في ابتداء الإسلام من جواز ادعاء الأبناء الأجانب، وهم الأدعياء، فأمر تبارك وتعالى برد نسبهم إلى آبائهم في الحقيقة، وأن هذا هو العدل والقسط والبر، ولهذا لما نسخ هذا الحكم أباح تبارك وتعالى زوجة الدعي، وتزوج =

ص: 135

وكذا ما روى عيد الواحد بن أبي عون قال:

كان الطفيل الدوسي رجلا شريفًا شاعرًا، قدم مكة فلقيه رجال من قريش، فقالوا: إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وإن قوله كالسحر؛ يفرق بين الرجل وزوجته وبين الرجل وابنه، وإنا نخشى عليك وعلى قومك منه، فواللَّه ما زالوا بي حتى أجمعت على أن لا أسمع منه شيئًا، فلا أكلمه، فغدوت إلى المسجد وقد حشوت أذني قطنا -فكان يقال له ذو القطنتين

(1)

- فإذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، فقمت قريبًا منه، فسمعت بعض قوله، فقلت في نفسي: إني رجل لبيب شاعر، ما يخفى علي الحسن من القبيح، فما يمنعنى أن أسمع من هذا شيئًا، فإن كان حسنًا قبلته وإن كان قبيحًا تركته، فمكثت حتى انصرف إلى بيته فدخل، فدخلت معه فقلت: إن قومك قالوا لي كذا وكذا، فاعرض عليَّ أمرك، فعرض عليَّ الإسلام، وتلى عليَّ القرآن، فقلت: واللَّه ما سمعت قولا قط أحسن من هذا، ولا أمرًا أعدل منه، فأسلمت وقلت: يا نبي اللَّه، إني امرئ مطاع في قومي، وإني راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام، فادع اللَّه أن يجعل لي آية تكون لي عونًا عليهم، فقال:"اللهم اجعل له آية" فخرجت إلى قومي حتى إذا كنت قريبًا منهم وقع نور بين عينيَّ مثل المصباح، فقلت: اللهم في غير وجهي؛ فإني أخشى أن يظنوها مُثْلَة وقعت في وجهي لفراق دينهم، فتحول النور في رأس سوطي، فجعل الحاضرون يتراءون ذلك النور في سوطي كالقنديل المعلق، فأتاني أبي فقلت: إليك عني، فإنك لست مني ولست منك، فقال: ولم يا بني؟!! قلت: إني أسلمت واتبعت دين محمد، قال: بنيّ، ديني دينك، قلت: اذهب فاغتسل، وطهر ثيابك، ففعل ثم جاء، فعرضت عليه الإسلام، ثم أتتني صاحبتي فقلت: إليك عني لست منك ولست مني، قالت: لم؟!! قلت: فرَّق بيني وبينك الإسلام، إني أسلمت وتابعت محمدًا، قالت: ديني دينك، وأسلمت، ثم دعوت دوسًا إلى الإسلام، فابطأوا عليَّ، فجئت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقلت: قد غلبتني دوس، فادع اللَّه عليهم، فقال: "اللهم اهد

= رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش مطلقة زيد بن حارثة رضي الله عنهما. تفسير ابن كثير [3/ 482].

(1)

الطفيل بن عمرو الدوسي الأزدي، كان يسمى ذا القطنتين، وقدم المدينة في خلافة أبي بكر، وغزا اليمامة فاستشهد هو وابنه، وكان شريفًا شاعرًا لبيبًا، وقد طول ابن عبد البر ترجمة الطفيل، وساق قصة إسلامه بمكة في آخر الخبر قال: فلما بعث الصديق بعثه إلن مسيلمة قال: خرجت ومعي ابني عمرو فرأيت كان رأسي حلق وخرج من فمي طائر، وكان امرأة أدخلتني فرجها، فأولتها؛ حلق رأسي قطعه، وأما الطائر فروحي، وأما المرأة فالأرض أدفن فيها، فاستشهد يوم اليمامة. انظر تاريخ الإسلام للذهبي، وفيات سنة [12].

ص: 136

دوسًا"

(1)

وقال: "اخرج إلى قومك فادعهم وارفهق بهم" فخرجت أدعوهم حتى هاجر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ومضت بدر والخندق، ثم قدمت بمن أسلم منهم ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بخيبر، فأسهم لنا مع المسلمين، وقلنا: يا رسول اللَّه، اجعلنا في ميمنتك، واجعل شعارنا "مبرور"، ففعل، فلم أزل مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى فتح مكة، فقلت: ابعثني يا رسول اللَّه إلى ذي الكفين أحرقه، فبعثه إليه فأحرقه، فلما أحرقه بان لمن كان يتمسك به أنه ليس على شيء، فأسلموا جميعًا، ورجع الطفيل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فكان معه حتى مات.

وأما الحكايات، فنذكر منها:

الحكاية الأولى: حكي عن الشبلي أنه خرج ذات يوم على أصحابه، وكانوا أربعين رجلًا فقال لهم: يا قوم إن اللَّه قد تكفل بأرزاق العباد، فقال عز من قائل:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}

(2)

الآية، فتوكلوا على اللَّه، وتوجهوا إليه، ولا تتوجهوا إلى سواه، ثم تركهم ومضى، فأقاموا ثلاثة أيام لم يفتح عليهم بشيء، فلما كان اليوم الرابع دخل عليهم فقال: يا قوم، إن اللَّه -تعالى- قد أباح التسبب للعباد، فقال تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ}

(3)

.

فانظروا إلى أصدقكم نية فليخرج، عسى أن يأتيكم بشيء من القوت، فاختاروا منهم فقيرًا، فخرج ومشى في جانبي بغداد، فلم يفتح له بشيء، فأخذه الجوع وأعياه المشي، فجلس عند دكان طبيب نصراني عليه خلق كثير، وهو يصف لهم الأدوية، فنظر إليه فقال: ما بك؟ وما علتك؟ فكره أن يشكو الجوع إلى نصراني، فمد يده إليه فجسها وقال: علتك هذه أنا أعرفها وأعرف دواءها، ثم التفت إلى غلامه وقال: امض إلى السوق فأتني برطل خبز ورطل شواء ورطل حلوى، فمضى إلى السوق وأتاه بذلك، فأخذه النصراني وناوله الفقير وقال: هذا دواء مرضك عندي، فقال له الفقير: إن كنت صادقًا في حكمتك، فهذه العلة بأربعين رجلا، فقال النصراني لغلامه: ارجع إلى

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [4/ 54، 5/ 250]، ومسلم [197 - (2524)] كتاب فضائل الصحابة، [47] باب من فضائل غفار وأسلم وجهينة وأشجع ومزينة وتميم ودوس وطيئ، عن أبي هريرة.

وأحمد في مسنده [2/ 243، 448]، والتبريزي في المشكاة [5996].

(2)

سورة الطلاق [2].

أي ومن يتق اللَّه فيما أمره به وترك ما نهاه عنه يجعل له من أمره مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب أي من جهة لا تخطر بباله.

(3)

سورة الملك [15].

ص: 137

السوق مسرعًا، وأتني بأربعين مثل ما أتيت به، فأسرع الغلام وأتاه بذلك جميعه، فأعطاه الفقير، وأمر حمّالًا أن يحمل معه إلى موضعه، وقال للفقير اذهب به إلى الأربعين الذين ذكرت، فذهب الفقير والحمّال معه إلى أن وصل إلى أصحابه، والنصراني يتبعه من بعيد ليختبر صدقه، فلما دخل الدويرة التي فيها أصحابه وقف النصراني خارج الباب خلف طاق، فوضع الغلام الطعام، ونادى الشبلي وقدم الطعام بين يديه، فشال الشيخ يده منه وقال: يا فقراء سر عجيب في هذا الطعام، ثم أقبل على الفقير الذي أتى بالطعام وقال: أخبرني عن قصة هذا الطعام، فحكى له القصة بكاملها، فقال لهم عند ذلك: أترضون أن تأكلوا طعام نصراني وصلكم به ولم تكافئوه؟ قالوا: وما مكافأته؟ قال: تدعون له قبل أن تأكلوا طعامه، فدعوا له وهو يسمع، فلما رأى النصراني إمساكهم عن الطعام مع حاجتهم إليه، وسمع ما قال لهم الشيخ، قرع الباب ففتحوا له، فدخل وقطع زناره وقال: يا شيخ، مدّ يدك؛ فانا أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه، فأسلم النصراني وحسن إسلامه، وصار من جملة أصحاب الشبلي.

الحكاية الثانية: قيل لحذيفة المرعشي

(1)

: ما أعجب ما رأيت من إبراهيم بن أدهم؟ قال: بقينا في طريق أيامًا لم نجد طعامًا، ثم دخلنا الكوفة، فأوينا إلى مسجد خراب، فنظر إليّ إبراهيم بن أدهم وقال: يا حذيفة، أرى بك جوعًا، قلت: هو ما رأى الشيخ، فقال: إليّ بدواة وقرطاس، فجئت به، فكتب بعد البسملة: أنت المقصود بكل حال، والمشار إليه بكل معنى.

أنا حامد أنا شاكر أنا ذاكر

أنا جائع أنا خاضع أنا عاري

هي ستة وأنا الضمين لنصفها

فكن الضمين لنصفها يا باري

مدحى لغيرك لهب نار خضعتها

فأجر عُبيْدك من دخول النار

ثم دفع إليَّ الرقعة وقال: أخرج ولا تعلق قلبك إلا باللَّه تعالى، فادفع الرقعة إلى أول من تلقاه، قال: فخرجت فأول من لقيني رجل على بغلة فناولته الرقعة فأخذها، فلما وقف عليها بكى وقال: وأين صاحب هذه الرقعة؟ قلت: في المسجد الفلاني، فدفع إليّ صُرّة فيها ستمائة دينار، وأُخبرت أنه نصراني، فجئت إلى

(1)

حذيفة بن قتادة المرعشي الزاهد القدوة صاحب سفيان الثوري، له قدم في العبادة وكلام نافع، وهو القائل: إن لم تخش أن يعذبك اللَّه على أفضل عملك فأنت هالك. قلت يعني: لما يعتوره من الآفات، وقال: لو وجدت من يبغضني في اللَّه لأوجبت على نفسي حبه.

تاريخ الإسلام، وفيات [201 - 210].

ص: 138

إبراهيم

(1)

فأخبرته بذلك فقال: لا تمسَّها فإنه يجيء الساعة، فلما كان بعد ساعة جاء، وأكب على إبراهيم وأسلم، وللَّه در القائل:

يكون أجاجًا دونكم فإذا انتهى

إليكم يلقى طيبكم فيطيب

الحكاية الثالثة: عن الجنيد: قال السري

(2)

لي: تكلم على الناس، وكان في قلبي (حتمة)

(3)

من الكلام، وكنت أتهم نفسي في استحقاق ذلك، فرأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المنام ليلة الجمعة فقال لي: تكلم على الناس، فانتبهت، وأتيت باب السري قبل أن يصبح فدققت عليه الباب، فقيل لي: لم تصدقنا حتى قيل لك، فقعد للناس في الجامع بالغداة، فانتشر في الناس أن الجنيد قد تكلم، فوقف عليه غلام نصراني متنكر وقال: أيها الشيخ، ما معنى حديث:"اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللَّه"

(4)

فأطرق الجنيد ثم رفع رأسه وقال: أسلم فقد حان وقت إسلامك، فأسلم وحسن إسلامه.

الحكاية الرابعة: عن إبراهيم الخواص قال: كنت ببغداد وهناك جماعة من الفقراء، فأقبل شاب ظريف طيب الرائحة حسن الوجه، فقلت لأصحابي: يقع لي أنه يهودي، فكره الأصحاب قولي، فخرجت وخرج الشاب، ثم رجع إليهم وقال: إيش قال الشيخ؟ فاحتشموا، فألح عليهم، فأخبروه بما قال الشيخ، فأسلم على يديه، فقيل له في ذلك، فقال: نجد في كتبنا أن الصدِّيق لا تخطئ فراسته

(5)

، فقلت في

(1)

من أقواله: أخاف ألا يكون لي أجر في تركي أطيب الطعام؛ لأني لا أشتهيه. وكان إذا جلس على طعام طيب رمى إلى أصحابه، وقغ بالخبز والزيتون، وعن إبراهيم أيضًا قال: كل ملك لا يكون عادلًا فهو واللص سواء، وكل عالم لا يكون ورعًا فهو والذئب سواء، وكل من يخدم سوى اللَّه فهو والكلب بمنزلة واحدة. تاريخ الإسلام، وفيات [161 - 170].

(2)

السري بن المغلس أبو الحسن السقطي البغدادي الزاهد، علم الأولياء في زمانه، صحب معروفًا الكرخي، وحدث عن الفضيل بن عياض وهشيم وأبي بكر بن عياش وعلي بن غراب ويزيد بن هارون، وعنه: أبو العباس بن مسروق، والجنيد، وأبو الحسن النوري، وإبراهيم بن عبد اللَّه المخزومي، وقال عنه الفرجاني: سمعت الجنيد يقول: ما رأيت أعبد للَّه من السري؛ أتت عليه ثمان وتسعون سنة ما رُئي مضطجعًا إلا في علة الموت. تاريخ الإسلام للذهبي، وفيات [251 - 260].

(3)

كذا بالأصل.

(4)

أخرجه الترمذي في سننه [3127] كتاب تفسير القرآن، من سورة الحجر، والطبراني في المعجم الكبير [8/ 121]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [4/ 94، 6/ 118]، والزبيدي في الإتحاف [6/ 544]، والذهبي في الميزان [8098]، والعجلوني في كشف الخفا [1/ 42].

(5)

من كرامة الصديق رضي الله عنهما أنه كان يأكل هو وأضيافه من القصعة، فلا يأكلون لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها، فشبعوا وهي أكثر مما كان فيها قبل أن يأكلوا، وكان من فراسته قوله لعائشة في مرضه =

ص: 139

نفسي: أمتحن المسلمين فإن كان فيهم صدّيق ففي هذه الطائفة يوجد، لأنهم يقولون: إنه من يترك ما سوى اللَّه فعرفت صديقية هذا الشيخ بذلك، وصار هذا الشاب من كبار الصوفية.

الحكاية الخامسة: عن بعض الصالحين أنه كان يتكلم في الناس ويعظهم، فمر عليه في بعض الأيام يهودي وهو يخوفهم، ويقرأ قوله تعالى:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}

(1)

فقال اليهودي: إن كان هذا الكلام حقًا، فنحن وأنتم سواء، فقال له الشيخ: لا، ما نحن سواء؛ نحن نرد ونصدر، وأنتم تردون ولا تصدرون، ننجوا نحن منها بالتقوى، وتبقون أنتم بها جثيًا بالظلم، وقرأ الآية الثانية:{ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)}

(2)

فقال اليهودي: نحن المتقون، فقال الشيخ: كلا نحن، وتلا قوله تعالى:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} إلى قوله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ}

(3)

.

= الذي مات فيه في وصيته لها، وذكر لها أختها ولم يكن لها أخت إلا أسماء وزوجته حامل، فإذا بها تلد بنتًا كما قال الصديق رضي الله عنه.

(1)

سورة مريم [71].

روى أحمد في مسنده عن أبي سمية قال: اختلفنا في الورود، فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن، وقال بعضهم: يدخلونها جميعًا، ثم ينجي اللَّه الذين اتقوا، فلقيت جابر بن عبد اللَّه فقلت له: إنا اختلفنا في الورود، فقال: يردونها جميعًا. تفسير ابن كثير [3/ 136].

(2)

سورة مريم [72].

{ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم: 72] أي إذا مر الخلائق كلهم على النار وسقط فيها من سقط من الكفار والعصاة ذوي المعاصي بحسبهم، نجى اللَّه -تعالى- المؤمنين المتقين منها بحسب أعمالهم، فجوازهم على الصراط وسرعتهم بقدر أعمالهم التي كانت في الدنيا، ثم يشفعون في أصحاب الكبائر من المؤمنين، فيشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون، فيخرجون خلقًا كثيرًا قد أكلتهم النار إلا دارات وجوههم، وهي مواضع السجود، وإخراجهم إياهم من النار بحسب ما في قلوبهم من الإيمان، فيخرجون أولًا من كان في قلبه مثقال دينار، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه حتى يخرجوا من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، ثم يخرج اللَّه من النار من قال بومًا من الدهر: لا إله إلا اللَّه. المرجع السابق [3/ 138].

(3)

سورة الأعراف [156، 157].

قوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] آية عظيمة الشمول والعموم، روى أحمد في مسنده [4/ 312]، وروى أبو داود في سننه [4885] عن جندب أن أعرابيًا جاء فأناخ راحلته ثم عقلها، ثم صلى خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلما صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أتى راحلته فأطلق عقالها، ثم ركبها، ثم نادى: اللهم ارحمني ومحمدًا ولا تشرك في رحمتنا أحدًا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أتقولون هذا أضل أم بعيره؟ ألم تسمعوا ما قال؟! قالوا: بلى، قال: "لقد حظرت رحمة واسعة، إن اللَّه عز وجل خلق مائة رحمة، فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق، جنها وإنسها وبهائمها، =

ص: 140

فقال اليهودي: هات برهانًا على صدق هذا، فقال الشيخ: البرهان حاضر، يراه كل ناظر، وهو أن تطرح ثيابي وثيابك في النار، فمن سلمت ثيابه فهو الناجي منها، ومن احترقت ثيابه فهو الباقي فيها، فنزعا ثيابهما، ورمى بالجميع في النار، ثم دخل النار وأخذ الثياب وخرج من الجانب الآخر، ثم فتحت الثياب فإذا ثياب الشيخ سالمة بيضاء نظيفة، وثياب اليهودي محترقة، وكانت مستورة بثياب الشيخ، فلما رأى ذلك أسلم.

الحكاية السادسة: حكي أنه كان في الأمم الماضية ملك متمرد على ربه، فغزاه المسلمون، وأخذوه أسيرًا فقالوا: بأي قتلة نقتله؟ فاجمع رأيهم على أن يجعلوا له قُمقُمًا عظيمًا ويمجعلوه فيه، ويوقدوا تحته النار حتى يذيقوه طعم العذاب، ففعلوا ذلك، فجعل يدعو آلهته واحدًا بعد واحد: يا فلان بما كنت أعبدك أنقذني مما أنا فيه، فلما رأى الآلهة لا تغني عنه شيئًا رفع رأسه إلى السماء وقال: لا إله إلا اللَّه، ودعا مخلصًا فصبّ اللَّه عليه مبعث ماء من السماء فأطفأ تلك النار، وجاءت ريح فاحتملت ذلك القمقم، وجعلت تدور به بين السماء والأرض، وهو يقول: لا إله إلا اللَّه، فقذفته إلى قوم يعبدون اللَّه عز وجل وهو يقول: لا إله إلا اللَّه، فاستخرجوه وقالوا: ويحك، مالك؟ قال: أنا ملك بني فلان، كان من أمري وجندي كيت وكيت، وقص عليهم القصة، فآمنوا كلهم - رحمة اللَّه عليه.

الحكاية السابعة: حكي أن بعض ملوك الأمم السالفة بنى مدينة وتغالى في حسنها وزينتها، ثم صنع طعاما ودعا الناس.

وأجلس أناسًا على أبوابها يسألون كل من خرج هل رأيتم عيبًا؟ فيقولون: لا، حتى جاء أناس في آخر الناس عليهم أكسية، فسألوهم هل رأيتم عيبًا؟ قالوا: عيبين اثنين، فحبسوهم ودخلوا على الملك فأخبروه بما قالوا، فقال: ما كنت راضيًا بعيب واحد، فأتوني بهم، فأدخلوهم عليه فسألهم عن العيبين ما هما؟ قالوا: تخرب ويموت صاحبها، قال: أفتعلمون دارًا لا تخرب ولا يموت صاحبها؟! قالوا: نعم، فذكروا له الجنة ونعيمها

(1)

وشوقوه إليها، وذكروا له النار وعذابها وخوفوه منها،

= وأخَّر عنده تسعًا وتسعين رحمة، أتقولون هو أضل أم بعيره؟ " واللفظ لأحمد.

(1)

في ذكر نعيم الجنة، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"قال اللَّه عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، مصداق ذلك في كتاب اللَّه: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة:17] "، انظر البخاري [3244] في بدء الخلق، ومسلم [1 - (2822)] في كتاب الجنة وصفة نعيمها.

ص: 141

ودعوه إلى عبادة اللَّه عز وجل فأجابهم إلى ذلك، وخرج من ملكه هاربًا تائبًا إلى اللَّه سبحانه وتعالى رحمة اللَّه عليه.

الحكاية الثامنة: روي أنه تحارب ملكان من ملوك اليمن في قديم الزمان، فغلب أحدهما صاحبه وقتله، وشرد أصحابه، وهيأت له السرر، وزينت له دار الملك، وتلقاه الناس ليدخل، فبينما هو فى بعض السكك يقصد دار الملك، فوقف له رجل يُنسب إلى الجنون

(1)

، فأنشده:

تسمع من الأيام إن كنت حازما

فإنك فيها بين ناه وآمر

وكم ملك قد ركم التراب فوقه

وعهدي به بالأمس فوق المنابر

إذا كنت في الدنيا بصيرًا فإنما

بلاغك منها مثل زاد المسافر

إذا أبقت الدنيا على المرئ دينه

فما فاته منها فليس لصائر

فقال له: صدقت، ونزل عن فرسه، وفارق أصحابه، ورقى الجبل، وأقسم على أصحابه أن لا يتبعه أحد، فكان آخر العهد به.

الحكاية التاسعة: عن شاة الكرماني: أنه خرج إلى العبيد وهو ملك كرمان، فأمعن في الطلب حتى وقع في برية مقفرة وحده، وإذا هو بشاب راكب على سبع وحوله سباع، فلما رأته ابتدرت نحوه، فزجرها الشاب، فلما دنا منه سلّم عليه وقال: يا شاة، ما هذه الغفلة عن اللَّه تعالى؟ اشتغلت بدنياك عن آخرتك، وبلذاتك وهواك عن خدمة مولاك، إنما أعطاك الدنيا لتستعين بها على خدمته فجعلتها ذريعة إلى الاشتغال عنه.

فبينما هو يحدثه، إذ خرجت عجوز بيدها شربة ماء، فناولتها الشاب، فشرب، ودفع باقيه إلى شاة

(2)

فشربه وقال: ما شربت شيئًا ألذّ منه، ولا أبرد، ثم غابت، فقال الشاب: هذه الدنيا، وكّلها اللَّه بخدمتي، فما احتجت لشيء إلا أحضرته لي

(1)

هناك في عقلاء المجانين الكثير منهم كلما ذكر الذهبي البهلول بن عمرو أبو وهب الصيرفي الكوفي، كان جيًا في دولة الرشيد، وسوس في عقله، وما اْظنه اختلط أو قد كان يصحو في وقت، فهو معدود في عقلاء المجانين، له كلام حسن وحكايات، وتأتي ترجمته بأوسع من ذلك قريبًا.

(2)

شاة بن شجاع أبو الفوارس الكرماني الزاهد، قال السلمي: كان من أولاد الملوك فتزهد وصحب أبا تراب النخشبي وغبره، ومات قبل الثلاثمائة، وقال أبو نعيم: كان من أبناء الملوك فتشمر للسلوك، فعنه قال: من عرف ربه طمع في عفوه، ورجا فضله، وقال إسماعيل بن مخلد: كان شاة بن شجاع حاد الفراسة قل ما أخطأت فراسته. تاريخ الإسلام، وفيات [291 - 300].

ص: 142

حين يخطر ببالي، أما بلغك أن اللَّه -تعالى- لما خلق الدنيا قال لها: يا دنيا من خدمني فاخدميه، ومن خدمك فاستخدميه، فلما رأى ذلك تاب، وكان منه ما كان، وأنشدوا:

خُدِمت لما أن صرت في خدمك

ودار عني السرور من نعمك

وكانت الحادثات تطرقني

فاحتشمتني إذ صرت من حشمك

الحكاية العاشرة: عن مالك بن دينار

(1)

أنه سُئل عن سبب توبته، قال: كنت شرطيًا، وكنت منهمكًا على شرب الخمر، ثم إني شريت جارية نفيسة وقعت مني أحسن موقع، فولدت لي بنتًا فشغفت بها، فلما دبت ازداد حبها في قلبي، فكنت إذا وضعت المسكر، جاءت إليّ وجاذبتني إياه وهرقته على ثوبي، فلما تم لها سنتان ماتت، فأكمدني حزنها، فلما كانت ليلة النصف من شعبان، وكانت ليلة جمعة، بت ثملا من الخمر ولم أُصل العشاء، فرأيت كأن أهل القبور خرجوا وحُشر الخلائق وأنا معهم. فسمعت حسًا من ورائي، فالتفت فإذا أنا بتنين أعظم ما يكون، أسود أزرق، قد فتح فاه مُسرعًا نحوي، فمررت بين يديه فزعا مرعوبا هاربًا منه، فمررت في طريقي بشيخ نقي الثياب طيب الرائحة، فسلمت عليه، فردّ علي السلام، فقلت له: أجرني وأغثني، فقال: أنا ضعيف، وهذا أقوى مني ولا أقدر عليه، ولكن مرَّ وأسرع، فلعل اللَّه يسبب لك ما ينجيك منه، فوليت هاربًا

(2)

، فصعدت على شرف من شرف القيامة، فأشرفت على طباق النيران، فنظرت إلى هولها، فكدت أهوي فيها من فزع التنين، وهو في طلبي، فصاح بي صائح: ارجع فلست من أهلها، فاطمأننت إلى قوله، فأتيت الشيخ فسألته، فلم يفعل وبكى وقال: أنا ضعيف، ولكن سر إلى هذا الجبل، فإن فيه ودائع المسلمين، وإن كان لك فيه وديعة فتنصرك، فنظرت إلى جبل مستدير، فيه كوى مخرقة وستور معلقة، على كل خوخة وكوة مصراعان من الذهب الأحمر مفصلة بالياقوت، مكللات بالدرّ، وعلى كل مصراع ستر من الحرير، فلما نظرت إلى الجبل هربت إليه، وهو ورائي، فلما قرِبت منه صاح بعض الملائكة: ارفعوا

(1)

مالك بن دينار أبو يحيى أبو هاشم السلمي الناجي البصري الزاهد القرشي، صدوق عابد، أخرج له البخاري تعليقًا، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وتوفي سنة [123، 124، 125، 126]. ترجمته: تهذيب التهذيب [10/ 14]، تقريب التهذيب [2/ 224]، التاريخ الكبير [7/ 309]، الجرح والتعديل [8/ 916]، ميزان الاعتدال [3/ 426].

(2)

قال سلم الخواص: قال مالك بن دينار: خرج أهل الدنيا من الدنيا ولم يذوقوا أطيب شيء فيها. قيل: وما هو؟ قال: معرفة اللَّه -تعالى- وقال مالك: منذ عرفت الناس لم أفرج بمدحهم، ولم أكره مذمتهم لأن حامدهم مفرط وذامهم مفرط. تاريخ الإسلام للذهبي، وفيات [121 - 130].

ص: 143

الستور وافتحوا المصاريع

(1)

وأشرفوا، فلعل لهذا البائس فيكم وديعة تجيره من عدوه.

فإذا الستور

(2)

قد رفعت، والمصاريع قد فتحت، فأشرفت على أطفال بوجوه كالأقمار، وقرب التنين مني فتحيرت في أمري، فصاح بعض الأطفال: ويحكم أشرفوا كلكم فقد قرب عدوه منه، فأشرفوا فوجًا بعد فوج، وإذا بابنتي التي ماتت أشرفت معهم

(3)

فلما رأتني بكت وقالت: أبي واللَّه، ثم وثبت في كفة من نور كرمية السهم حتى مثلت بين يدي، فمدت يدها الشمال إلى يدي اليمين فتعلقت بها، ومدت اليمين إلى التنين فولى هاربًا.

ثم أجلستني وقعدت في حجري، وضربت ببدها اليمنى إلى لحيتي وقالت: يا أبت {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}

(4)

فبكيت وقلت: يا بنية، وأنتم تعرفون القرآن؟ فقالت: يا أبت نحن أعرف به منكم، قلت: فأخبريني عن التنين الذي أراد هلاكي؟ قالت: ذاك كملك السوء، قويته فأراد أن يغرقك في نار جهنم، قلت: فأخبريني عن الشيخ الذي مررت به في طريقي؟ قالت: ذاك عملك الصالح، أضعفته حتى لم يكن له طاقة بعملك السوء، قلت: وما تصنعون بهذا الجبل؟ قالت: نحن أطفال المسلمين، قد أُسكنَّا فيه إلى أن تقوم الساعة ننتظركم، تقدمون علينا فنشفع لكم، فانتبهت فزعًا، فلما أصبحت فارقت ما كنت عليه، وتبت إلى اللَّه وهذا سبيل توبتي.

(1)

المصارع: مصراع الباب أحد جزأيه، وهما مصراعان: أحدهما: إلى اليمين. والآخر: إلى اليسار، ومن بيت الشعر نصفه، وجمعها: مصاريع.

(2)

الستار: ما يستر به وما أسدل على نوافذ البيت وأبوابه حجبًا للنظر، جمعها: سُتر، والستار جمعها: أستار، وستور.

(3)

روى الأصمعي عن أبيه قال: مر المهلب بن أبي صفرة على مالك بن دينار وهو يتبختر في مشيته، فقال مالك: أما علمت أن هذه المشية تكره إلا بين الصفين؟ فقال له المهلب: أما تعرفني؟ قال: أعرفك؛ أولك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة، وأنت بينهما تحمل العذرة، فقال المهلب: الآن عرفتني حق المعرفة. تاريخ الإسلام للذهبي، وفيات [121 - 130].

(4)

سورة الحديد [16].

يقول تعالى: أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر اللَّه أي تلين عند الذكر والموعظة وسماع القرآن، فتفهمه وتنقاد له وتسمع له وتطيعه، قال ابن المبارك بسنده، عن ابن عباس أنه قال: إن اللَّه استبطأ قلوب المؤمنين، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن فقال:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16] وروى مسلم في صحيحه [24 - (3027)] كتاب التفسير، [1] باب قوله تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16] عن ابن مسعود قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا اللَّه بهذه الآية {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16] إلا أربع سنين.

ص: 144

الحكاية الحادية عشرة: عن أحمد بن عبد اللَّه المقدسي قال: صحبت إبراهيم بن أدهم فسألته عن بداية أمره، وما كان سبب بدأة أمره من المُلك الفاني إلى الباقي؟ قال: يا أخي، كنت جالسًا يومًا في أعلى قصر في ملكي، والخواص قيام على رأسي، فأشرفت من الطاق فوجدت رجلا من الفقراء جالسًا بفناء القصر، بيده رغيف يابس قد بله بالماء، وأكله بملح جريش، وأنا أنظر إليه إلى أن فرغ من أكله، ثم شرب من الماء وحمد اللَّه وأثنى عليه، ونام في فناء القصر، فألهمني اللَّه الفكر فيه، فقلت لبعض مماليكي: إذا قام ذلك الفقير فأتني به، فلما استيقظ من نومه دُعي فقال: بسم اللَّه ولا حول ولا قوة إلا باللَّه

(1)

وجاء، فلما نظر إليَّ سلم، فرددت عليه السلام وأمرته بالجلوس فجلس، فلما اطمأن قلت له: يا فقير، أكلت الرغيف وأنت جائع فشبعت؟ فقال: نعم، قلت: وشربت الماء سجاوة فرويت؟ قال: نعم، قلت: ثم نمت طيبًا بلا هم ولا غم فاسترحت؟ قال: نعم، قلت في نفسي وأنا أعتبها: يا نفس ما أصنع بالدنيا، والنفس تقنع بما سمعت ورأت، فعقدت التوبة في تلك الساعة مع اللَّه -تعالى- فلما انصرف النهار وأقبل الليل، لبست مسحًا من شعر وقلنسوة من صوف، وخرجت سائحًا حافيًا إليه، فلحقني رجل حسن الوجه والثياب طيب الرائحة، فتقدمت إليه وصافحته وسلمت عليه، فردّ عليّ السلام وقال: يا إبراهيم أين تريد؟ فقلت: هربت منه إليه، فقال لي: أنت جائع؟ قلت: نعم، فقام الشيخ وصلى ركعتين خفيفتين وقال لي: قم وصل كما صليت، ففعلت ذلك، فالتفت فإذا عن يمينه طعام موضوع وماء بارد، فقال لي: تقدم وكل من فضل اللَّه واشكر ربك على ذلك، فأكلت منه كفايتي، وهو باق على حاله، وشربت وحمدت اللَّه، فقال: يا إبراهيم اعقل وافهم ولا تستعجل في أمورك؛ فإن العجلة من الشيطان، واعلم أن اللَّه إذا أراد بعبده خيرًا صطفاه لنفسه وجعل في قلبه سراجًا من نور

(1)

روى البخاري في صحيحه [6384] عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قل لا حول ولا قوة إلا باللَّه فإنها كنز من كنوز الجنة" قال النووي: قال العلماء: سبب ذلك أنها كلمة استسلام وتفويض إلى اللَّه -تعالى- واعتراف بالإذعان له وأنه لا صانع غيره ولا راد لأمره، وأن العبد لا يملك شيئًا من الأمر، ومعنى الكنز هنا أنه ثواب مدخر في الجنة، وهو ثواب نفيس كما أن الكنز أنفس أموالكم، قال أهل اللغة: الحول الحركة والحيلة، أي لا حركة ولا استطاعة ولا جلة إلا بمشيئة اللَّه -تعالى- وقيل: معناه لا حول في دفع شر ولا قوة في تحصيل خير إلا باللَّه. وقيل: لا حول عن معصية اللَّه إلا بعصمته ولا قوة على طاعته إلا بمعونة، وحكي هذا عن ابن مسعود رضي الله عنهما وكله متقارب. قال أهل اللغة: ويعبر عن هذه الكلمة بالحوقلة، وبالأول جزم الأزهري والجمهور، وبالثاني جزم الجوهري، ويقال أيضًا: لا حيل ولا قوة في لغة غريبة حكاها الجوهري وغيره. النووي في شرح مسلم [17/ 22] طبعة دار الكتب العلمية.

ص: 145

قدسه، يفرق به بين الحق والباطل، ويبصر به عيوب نفسه، وإني أريد أن أعلمك اسم اللَّه الأعظم

(1)

فإذا أنت جعت أو عطشت فادع اللَّه به، فإنه سيشبعك ويرويك، يا ابن أدهم إذا جالست الأخيار والفقراء فكن لهم أرضًا يطئونك، ولا تغضبهم؛ فإن اللَّه عز وجل يغضب لغضبهم، ويرضى لرضاهم، قال: ثم علمني الاسم الأعظم

(2)

ثم قال: أستودعك الحي الذي لا يموت، ثم حجب عني، فأخذت الطريق، فإذا أنا بفتى حسن الوجه طيب الرائحة، مليح (الترة)

(3)

، فسلمت عليه، فرد السلام وقال: ما حاجتك يا ابن أدهم؟ ومن لقيت في سفرك هذا؟ فقلت: لقيت شيخًا من صفته كذا وكذا، وعلمني كذا وكذا، فبكى الفتى وأبكاني، فقلت له: يا سيدي أقسمت عليك باللَّه -تعالى- من ذلك الشيخ، ومن أنت؟ فقال: أما الشيخ فأخي إلياس، وأنا أبو العباس الخضر

(4)

، قال: ففرحت فرحًا شديدًا، وألزمته إلى صدري وقبلته بين عينيه وصافحته وسألته الدعاء فدعا لي بالثبات والعصمة، ثم غاب عليّ فلم أدر أين ذهب. وهذه القصة حالي في ابتداء أمري.

وهذه رواية، والمشهور أن بدأته أنه طرح يومًا يصطاد، فأثار ثعلبًا أو أرنبًا، فبينما هو في طلبه، إذ هتف به هاتف: ألهذا خلقت، أم بهذا أمرت، ثم هتف به من قربوس

(5)

سرجه كذلك، فنزل عن مركوبه، وصادف راعيًا لأبيه، فأخذ جبته -وهي

(1)

روى أبو داود في سننه [1493]، والترمذي في سننه [3475] عن بريدة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت اللَّه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، فقال:"لقد سألت اللَّه باسمه الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب".

(2)

روى أبو داود في سننه [1496] عن أسماء بنت يزيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اسم اللَّه الأعظم في هاتين الآيتين {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} [البقرة: 163] وفاتحة آل عمران {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} " وكذا رواه الترمذي [3472] وقال: حسن صحيح.

(3)

كذا بالأصل.

(4)

جمهور العلماء على أنه حي موجود بين أظهرنا، وذلك تفق عليه عند الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة، وحكاياتهم في رؤيته والاجتماع به والأخذ عنه وسؤاله وجوابه ووجوده في المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن يحصر، وأشهر من أن يستر، وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: هو حي عند جماهير العلماء والصالحين، والعامة معهم في ذلك، قال: وإنما شذ بإنكاره بعض المحدثين، قال الحبري المفسر وأبو عمر: وهو نبي، واختلفوا في كونه مرسلا، وقال القشيري وكثيرون: هو ولي، وحكى الماوردي في تفسيره ثلاثة أقوال؛ أحدها: نبي، والثاني: ولي، والثالث: أنه من الملائكة، وهذا غربب باطل. النووي في شرح مسلم [15/ 111] طبعة دار الكتب العلمية.

(5)

القربوس: الجزء المرتفع المقوس من السرج، جمعها قرابيس.

ص: 146

صوف - فلبسها، وأعطاه فرسه وما معه، ثم دخل البادية وكان من أمره ما كان.

الحكاية الثانية عشر: عن محمد بن المبارك قال: كان موسى بن محمد الهاشمي من أنعم بني أمية عيشًا، وأرخاهم بالًا؛ يعطي نفسه شهوتها من صنوف اللذات في المأكل

(1)

والمشرب والملبس والطيب والجواري والغلمان، ليست له همة ولا فكرة إلا في الذي هو فيه من عيشه ولذته، وكان شابًا جميلًا وجهه كاستدارة القمر، وكان ذا مال يدخل كل حول نحوًا من ثلاثمائة ألف وثلاثة آلاف درهم، يصرفه كله في النعيم، وكان له مستشرف عال يقعد فيه العشاء ويشرف على الناس، له أبواب على الجادة وأخرى على بستانه، وقد ضرب فيه قبة عاج مضيئة بالفضة مطلية بالذهب، وهو على سرير عليه غلالة قصب، وعلى رأسه عمامة مكللة باللآلئ ومعه في القبة ندماؤه وإخوانه، وقد وقف على رأسه الخدم، والقينات في مجلس آخر خارج القبة، يُمسكن تارة ويندفعن أخرى بإشارته.

هذا دأبه ليلا ونهارًا في اللعب والتيه، حتى مضى له سبع وعشرون سنة، فبينما هو ذات ليلة في قبته، إذ سمع نغمة من صوت شجي خلاف ما سمعه من مطربته، فأخذ بقلبه فأحضره، وإذا هو شاب نحيل ذبل شعث ضمر، وعليه طمران، حافي، قائم في المسجد يناجي ربه، فقال: أيها الشاب أسمعني ما كنت تقول، فتعوذ وقال:{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)} إلى قوله: {بِهَا الْمُقَرَّبُونَ}

(2)

، ثم وعظه (وذكر)

(3)

صحن

(1)

روى ابن حبان في صحيحه [1349 - الموارد، حديث "حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه" وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح [10/ 128] بلفظ "حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه"، وذكره ابن الجوزي في تلبيس إبليس [214] بلفظ "حسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا بد فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه".

(2)

سورة المطففين [22 - 28].

أي في نعيم يوم القيامة هم في نعيم مقيم وجنات فيها فضل عميم {عَلَى الْأَرَائِكِ} وهي السرر تحت الحجال {يَنْظُرُونَ} قيل: ينظرون في ملكهم وما أعطاهم اللَّه من الخير والفضل الذي لا ينقضي ولا يبيد {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24)} أي تعرف إذا نظرت إليهم في وجوههم نضرة النعيم أي صفة الترافة والحشمة والسرور والدعة والرياسة مما هم فيه من النعيم العظيم، {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25)} أي من خمر الجنة، والرحيق من أسماء الخمر قاله ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والحسن {خِتَامُهُ مِسْكٌ} أي خلطة مسك {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} أي وفي مثل هذا الحال فليتفاخر المتفاخرون وليتباهى ويكاثر ويستبق إلى مثله المستبقون {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27)} أي من شراب تسنيم، وهو أشرف شراب أهل الجنة يشربها المقربون.

مختصرًا عن تفسير ابن كثير [4/ 487].

(3)

كذا بالأصل.

ص: 147

داره، وجلس مع الشاب على الحصير ينوح على شبابه، ويندب على نفسه، والشاب يعظه إلى أن أصبح، وقد عاهد اللَّه أن لا يعود إلى معصيته أبدًا، فلما أصبح أظهر توبته، ولزم المسجد والعبادة، وأمر بالجواهر والملابس فبيعت، وتصدق بها، ورد الضياع المقتلعة، وباع ضياعه وخدمه، وأعتق من اختار العتق، وتصدق به أجمع، ولبس الصوف الخشن، وأكل الشعير، وكان يحيي الليل ويصوم النهار، حتى كان يزوره الصالحون والأخيار ويقولون له: ارفق بنفسك، فإن المولى كريم يشكر اليسير، ويثيب على الكثير، فيقول: يا قوم أنا أعرف بنفسي منكم؛ إن جرمي عظيم، عصيت

(1)

ربي ليلا ونهارًا، ويكثر البكاء، ثم خرج حاجًا حافيًا راجلا عليه خيشته وركوة وجراب، فقدم مكة فأقام بها إلى أن مات، وكان يدخل الحجر

(2)

ليلا وينوح على نفسه ويقول: سيدي كم أُراقبك في خلوتي، سيدي ذهبت شهوتي وبقيت تبعاتي، فالويل لي يوم ألقاك والويل لي، ثم الويل من صحيفتي إذا نشرت مملوءة من فضائحي وخطاياي، بل كل الويل من سبِّك إياي، وتوبيخك لي، وإحسانك إليّ، ومقابلة نعمتك بالمعاصي، وأنت مطلع على فعالي.

سيدي إلى من أهرب إلا إليك؟ إلى من ألتجئ، وعلى من أعتمد إلا عليك؟ إني لا (استاهل)

(3)

أن أسألك الجنة، بل أسألك بجودك وكرمك وبفضلك أن تغفر لي، فإنك أهل التقوى وأهل المغفرة

(4)

.

شعر:

عصيتك جاهلا يا ذا المعالي

ففرج ما ترى من سوء حالي

(1)

مذهب أهل السنة وما عليه أهل الحق من السلف والخلف أن من مات موحدًا دخل الجنة قطعًا، وأما من كانت له معصية كبيرة ومات من غير توبة فهو في مشيئة اللَّه -تعالى- فإن شاء عفا عنه وأدخله الجنة أو لا، وإن شاء عذبه القدر الذي يريده سبحانه وتعالى ثم يدخله الجنة فلا يخلد في النار أحد مات على التوحيد، ولو عمل من المعاصي ما عمل، كما أنه لا يدخل الجنة أحد مات على الكفر، ولو عمل من أعمال البر ما عمل. النووي في شرح مسلم [1/ 192، 193] طبعة دار الكتب العلمية.

(2)

الحجر: هو جانب الكعبة من جهة الشمال.

(3)

كذا بالأصل.

(4)

قوله تعالى: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر: 56] أي هو أهل أن يخاف منه، وهو أهل أن يغفر ذنب من تاب إليه وأناب، قاله قتادة. وروى أحمد في مسنده [3/ 142] عن أنس بن مالك قال: قرأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هذه الآية {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر: 56] وقال: "قال ربكم أنا أهل أن أتقي فلا يجعل معي إله، فمن اتقى أن يجعل معي إلهًا كان أهلا أن أغفر له".

ص: 148

إلى من يرجع المملوك إلا

إلى مولاه يا مولى الموالي

فإنك أهل مغفرة وعفو

(1)

وتواب ومفضال النوالي

الثالثة عشر: حكي أن شابًا كان يحضر مجلس بعض علماء السلف الوعاظ، وكان الشاب إذا سمع الوعاظ يقول: يا ستار، يهتز كما تهتز السعفة، فقيل له في ذلك، فقال: اعلموا أني كنت أخرج في زي النساء، وأحضر كل موضع فيه عرس أو عزاء تجتمع فيه النساء، فحضرت يومًا عرسًا لبنت بعض الملوك، فسرق عقد لبنت الملك، فصاحوا: أن أغلقوا الأبواب، وفتشوا النساء، ففتشوهن واحدة واحدة حتى لم يبقى إلا امرأة واحدة وأنا، فدعوت اللَّه -تعالى- وأخلصت التوبة وقلت: إن نجوت من هذه الفضيحة لا أعود لمثل هذا أبدًا، فوجدوا العقد مع المرأة التي بقيت، فقالوا: أطلقوا المرأة الأخرى -يعنونني- فأطلقوني وحالي مستور، فمن حينئذ إذا سمعت ذكر الستار أذكر ستره علي ويأخذني ما رأيتم من الاهتزاز.

الحكاية الرابعة عشر: حكي عن الشيخ أبي إسحاق الفزاري

(2)

رحمه الله قال: كان رجل يكثر الجلوس إلينا، ونصف وجهه مغطى، فقلت له: إنك تكثر الجلوس إلينا ونصف وجهك مغطى، أطلعني على هذا، قال: وتعطيني الأمان؟ قلت: نعم، قال: كنت شابًا فدُفنت امرأة، فأتيت قبرها حتى وصلت إلى (اللبن)

(3)

فنزعته، ثم ضربت بيدي إلى الرداء، ثم إلى اللفافة، فمددتها، وجعلت تمدها هي، فقلت: أتراها تغلبني، فجثيت على ركبتي وجرَّدت اللفافة، فرفعت يدها ولطمتني، وكشف عن وجهه فإذا أثر خمسة أصابع في وجهه، قلت له: ثئم مه، قال: ثم رددت عليها لفافتها وإزارها، ثم رددت التراب، وجعلت على نفسي أن لا أنبش ما عشت، وهذه سبب توبتي.

(1)

روى البخاري في صحيحه [6306] عن شداد بن أوس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيد الاستغفار أن يقول: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، وأبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فإن قالها في النهار مؤمنًا بها فمات في يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو مؤمن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة".

(2)

الإمام إبراهيم بن محمد الحارث بن أسماء بن خارجة بن حصن، أبو إسحاق الشامي الفزاري الكوفي الإمام المصيصي، ثقة حافظ له تصانيف، توفي سنة [185، 186]. ترجمته: تهذيب التهذيب [1/ 151]، تقريب التهذيب [1/ 41]، الكاشف [1/ 89]، الثقات [6/ 23]، تاريخ البخاري الكبير [1/ 321]، الأعلام [1/ 59]، الجرح والتعديل [2/ 402]، الوافي بالوفيات [6/ 104]، سير الأعلام [8/ 539]، طبقات الحفاظ [117].

(3)

أظنه يقصد الطين اللبن الذي يوضع لسد اللحد.

ص: 149

الخامسة عشر: عن بعض الأكراد ممن كان يقطع الطريق، وينهب الأموال قال: بينما أنا وجماعة من أصحابي جلوس وقد خرجنا لقطع الطريق

(1)

فانتهينا إلى مكان فيه ثلاث نخلات، واحدة منهن ليس فيها تمر، وإذا بعصفور يحمل رطبة من نخلة مثمرة إلى رأس تلك النخلة التي ليس فيها تمر حتى تكرر منه ذلك عشر مرات وأنا أنظر، فخطر في نفسي أن أقوم وأنظر، فصعدت النخلة فإذا في رأسها حية عمياء فاتحة فاها، والعصفور يضع الرطب فيه، فبكيت وقلت: سيدي هذه حية أمر نبيك صلى الله عليه وسلم بقتلها، لمَّا أعميتها أقصت لها عصفورا يقوم لها بالكفاية، وأنا عبدك أُقرُّ بأنك واحد أقمتني لقطع الطريق وإخافة السبيل، فوقع بقلبي: يا فلان بابي مفتوح، فكسرت سيفي ووضعت التراب على رأسي وصحت: الإقالة الإقالة، وإذا بهاتف يقول: قد أقلناك، قد أقلناك، فأتيت رفاقي فقالوا: مالك؟ قد أزعجتنا، فقلت: كنت مهجورًا وقد صولحت، وحكيت لهم القصة فقالوا: ونحن أيضًا نصالح.

فرمينا ثيابنا وسلاحنا وأحرمنا وقصدنا مكة، وأقمنا نمشي ثلاثة أيام في البرية، ثم دخلنا قرية، فإذا نحن بعجوز عمياء مررنا عليها، فسألتنا أفيكم فلان الكردي؟ قلنا: نعم، فأخرجت ثيابًا إلينا وقالت: مات ولدي وخلف هذه الثياب، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم ثلاث ليال يقول: أعطي هذه الثياب فلانًا الكردي، قال: فأخذتها فاكتسيت بها أنا وأصحابي، ثم مضينا إلى أن أتينا مكة.

السادسة عشر: عن ذي النون

(2)

المصري -رحمه اللَّه تعالى- أنه قال وقد سئل عن أصل توبته قال: خرجت من مصر إلى بعض القرى، فنمت في الطريق وانتبهت وفتحت عيني، فإذا أنا بقبَّرة

(3)

عمياء سقطت من شجرة، فانشقت الأرض، فخرج منها (سكرجتان)

(4)

إحداهما من ذهب، والأخرى من فضة، في أحديهما سمسم،

(1)

قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] الآية، المحاربة هي المضادة والمخالفة، وهي صادقة على الكفر وعلى قطع الطريق وإخافة السبيل، وكذا الإفساد في الأرض يطلق على أنواع من الشر حتى قال كثير من السلف منهم سعيد بن المسيب: إن قبض الدراهم والدنانير هن الإفساد في الأرض. تفسير ابن كثير [2/ 49].

(2)

ذو النون المصري الزاهد -رحمة اللَّه عليه- اسمه ثوبان بن إبراهيم، وبقال: أبو الفيض بن أحمد، ويقال: ابن إبراهيم أبو الفيض، ويقال: أبو الفياض الأخميمي، وأبوه نوبي، وقال الدارقطني: روى عن مالك أحاديث فيها نظر، وكان واعظًا، وقال ابن يونس: كان عالمًا فصيحًا حكيمًا أصله من النوبة. تاريخ الإسلام للذهبي، وفيات [241 - 250].

(3)

القُبَّرة: جنس من الطيور، من فصيلة القبريات.

(4)

كذا بالأصل، ومعنى والسكرجة: الإناء الصغير.

ص: 150

والأخرى ماء ورد -أو قال: ماء- فأكلت من هذه وشربت من هذه، فقلت: حسبي، ولزمت الباب إلى أن قُبلت.

(1)

السابعة عشر: عن بعضهم قال: ركبت في مركب في البحر ومعي رفيق، فلما سار المركب سكنت، فطلبوا مرسًا وقربوا المركب من الساحل، وكان إلى جنبي شاب حسن الوجه، فنزل إلى الساحل، ودخل بين أشجار على شط البحر ثم رجع إلى المركب، فلما غابت الشمس قال لي ولصاحبي: إني ميت الساعة، ولي إليكما حاجة، قلنا: ما هي؟ قال: إذا أنا مت فكفناني مما في هذه الرزمة، وخذا هذه الثياب التي عليّ، فإذا دخلتما مدينة صور، فأول من يلقاكما ويقول لكما: هاتا الأمانة، فادفعوها إليه.

فلما صلينا المغرب حركنا الرجل، فإذا هو قد مات، فحملناه إلى الشط، وأخذنا في غسله، وفتحنا الرزمة، فإذا فيها ثوبان أخضران مكتوبان بالذهب، وثوب أبيض فيه صرة فيها شيء كأنه الكافور، ورائحته كرائحة المسك، فغسلناه وكفناه في ذلك الكفن، وحنطناه بما كان في الصُرَّة من الطيب، وصلينا عليه ودفناه، فلما دخلنا مدينة صور استقبلنا غلام أمرد حسن الوجه، عليه ثوب (شرب)

(2)

وعلى رأسه منديل ديبقي، فسلم علينا وقال: هاتا الأمانة، فقلما له: نعم وكرامة، ولكن ادخل معنا هذا المسجد نسألك عن مسألة، قال: نعم، فدخل معنا المسجد فقلنا له: أخبرنا من الميت ومن أنت؟ ومن أين له ذلك الكفن؟ فقال: أما الميت فكان من البدلاء

(3)

من الأربعين، فأنا بدله، وأما الكفن فإنه جاء به الخضر صلى الله عليه وسلم

(4)

وعرَّفه أنه ميت، ثم لبس الثياب التي كانت معنا، ودفع لنا الثياب التي كانت عليه، وقال: بيعاها وتصدقا

(1)

ذكره الذهبي في ترجمة ذي النون المصري.

(2)

كذا بالأصل.

(3)

الأبدال إحدى طبقات الصوفية، ويزعمون أنه إذا ذهب بدل من الأبدال حل محله آخر.

(4)

قال المازري: اختلف العلماء في الخضر هل هو نبي أو لا، واحتج من قال بنبوته بقوله {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82] فدل على أنه نبي أوحي إليه، وبأنه أعلم من موسى ويبعد أن يكون ولي أعلم من نبي، وأجاب الآخرون بأنه يجوز أن يكون قد أوحى اللَّه إلى نبي في ذلك العصر أن يأمر الخضر بذلك، وقال الثعلبي المفسر: الخضر نبي معمر على جميع الأقوال محجوب عن الأبصار -يعني عن أبصار أكثر الناس- قال: وقيل: إنه لا يموت إلا في آخر الزمان حين يرفع القرآن، وذكر الثعلبي ثلاثة أقوال في أن الخضر كان من زمن إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم أم بعده بقليل أم بكثير، وكنية الخضر أبو العباس، واسمه بليا -بموحدة مفتوحة ثم لام ساكنة ثم مثناة تحت- بن ملكان -بفتح الميم وإسكان اللام- وقيل: كليان. النووي في شرح مسلم [15/ 111] طبعة دار الكتب العلمية.

ص: 151

بثمنها إن لم تحتاجا إلى لبسها، فأخذناها ودفعنا السراويل إلى مناد يبيعه، فلم نشعر إلا والمنادي قد جاء ومعه جماعة، وأخذونا إلى دار كبيرة، وإذا فيها جماعة، وإذا بشيخ يبكي وصراخ النساء في الدار، فلما وصلنا إلى الشيخ سألنا عن السراويل والتكة، فحدزناه الحديث، فخرَّ ساجدًا للَّه رب تعالى، ثم رفع وقال: الحمد للَّه الذي أخرج من صلبي مثله، ثم صاح لأمه وقال لنا: حدثاها الحديث، فحدثناها، فقال لها الشيخ: احمدي اللَّه الذي رزقك بمثله، فلما كان بعد سنين بينما أنا واقف بعرفات إذ أنا بشاب حسن الوجه، عليه مطرف خز

(1)

فسلم عليّ وقال: أتعرفني؟ قلت: لا، قال: أنا صاحب الأمانة الصوري، ثم ودعني وقال: لولا أن أصحابي ينتظرونني لأقمت معك، فمضى وتركني، فإذا أنا بشيخ خلفي من أهل المغرب كنت أعرفه يحج كل سنة، فقال لي: من أين تعرف هذا الشاب؟ فقلت: هذا يقال له أنه من الأربعين، فقال: هو اليوم من العشرة وبه يغاث الناس والعباد.

الثامنة عشر: عن الجنيد

(2)

-رحمه اللَّه تعالى- أنه قال: كنت في المسجد مرة، فإذا رجل قد دخل إلينا وصلى ركعتين، ثم امتد ناحية من ناحية المسجد وأشار إليّ، فلما جئته قال لي: يا أبا القاسم، إنه قد حان لقاء اللَّه -تعالى- ولقاء الأحباب، فإذا فرغت من أمري فسيدخل عليك شاب مُغنِّي، فادفع إليه مرقعتي وعصاي وركوتي، فقلت: إلى مغني؟!!

(3)

وكيف يكون ذلك؟!! قال: إنه قد بلغ رتبة القيام بخدمة اللَّه في مقامي، قال الجنيد: فلما قضى الرجل نحبه، وفرغنا من مواراته، إذا نحن بشاب مصري قد دخل علينا وسلّم وقال: أين الوديعة يا أبا القاسم؟ فقلت: وكيف ذلك؟ أخبرنا بحالك، قال: كنت في مشربة

(4)

بني فلان، فهتف بي هاتف: أن قم إلى الجنيد وتسلم ما عنده، وهو كيت وكيت، فإنك قد جعلت مكان فلان الفلاني من الأبدال، قال الجنيد: فدفعت إليه ذلك، فنزع ثيابه واغتسل، ولبس المرقعة وخرج على وجهه نحو الشام

(5)

.

(1)

الخزُّ من الثياب: ما ينسج من صوف وحرير خالص، جمعها: خزوز.

(2)

قال الجنيد: كنت بين يدي السري السقطي ألعب وأنا ابن صغ سنين، وبين يديه جماعة يتكلمون في الشكر، فقال: يا غلام ما الشكر؟ فقال: أن لا بعصى اللَّه بنعمه، فقال: أخشى أن يكون حظك من اللَّه لسانك، قال الجنيد: فلا أزال أبكي على هذه الكلمة التي قالها لي.

(3)

مُغنِّي: محترف الغناء.

(4)

المشرب: الموضع الذي يشرب منه، ومشرب الرجل: ميله وهراه، يقال: هم قوم اختلفت مشاربهم.

(5)

قال المتوكل لذي النون: يا أبا الفيض صف لي أولياء اللَّه، قال: يا أمير المؤمنين هم قوم ألبسهم اللَّه النور الساطع من محبته، وجللهم بالبهاء من أردية كرامته، ووضع على مفارقهم =

ص: 152

التاسعة عشر: عن الحسن الفارسي رحمه الله أنه قال: بلغنا أن رجلا من أصحاب ذي النون أُصيب بعقله، وكان يطوف ويقول: أين قلبي؟ أين قلبي؟ ومن وجد قلبي؟ والصبيان قد ولعوا به يرمونه من كل جانب، فقضى أن دخل يوما في بعض سكك مصر، وقد هرب من الصبيان، فجلس يستريح ساعة، إذ سمع بكاء صبي تضربه والدته، ثم أخرجته من الدار وأغلقت دونه الباب، فجعل الصبي يلتفت يمينًا وشمالًا، لا يدري أين يذهب؟ ولا أين يقصد؟ فلما سكن ما به، عاد ناكصًا على عقبيه حتى رجع إلى باب دار والدته

(1)

فوضع رأسه على عتبة الباب، فذهب به النوم ثم انتبه، فجعل يبكي ويقول: يا أماه من يفتح لي الباب إذا أغلقت بابك عني؟ ومن يُدنيني من نفسه إذا طردتيني من نفسك؟ ومن الذي يدنيني بعد إذ غضبت عليّ

(2)

، قال: فرحمته أمه وقامت فنظرت من داخل الباب فوجدت ولدها تجري الدموع على خديه، متمعكًا في التراب، ففتحت الباب ووضعته في حجرها وجعلت تقبله وتقول: يا ولدي يا قرة عيني يا عزيز نفسي أنت الذي حملتني على نفسك، وأنت الذي تعرضت لما حل بك لو كنت أطعتني ما تلق مني مكروها، قال: فتواجد الفتى وصاح حتى اجتمعت عليه الخلق، فقالوا: ما الذي أصابك؟ فقال: وجدت

= تيجان مسرته، ونشر لهم المحبة في قلوب خليقته، ثم أخرجهم وقد ودع القلوب ذخائر الغيوب فهي معلمة بمواصلة المحبوب، فقلوبهم إليه سائرة، وأعينهم إلى عظيم جلاله ناظرة، ثم أجلسهم بعد أن أحسن إليهم على كراسي طلب المعرفة بالدواء، وعرفهم منابت الأدواء، وجعل تلاميذهم أهل الورع والتقى، وضمن لهم الإجابة عند الدعاء، وقال: يا أوليائي لو أتاكم عليل من فرقي فداووه، أو مريض من إرادتي فعالجوه، أو مجروح بتركي إياه فلاطفوه، أو فارّ مني فرغبوه، أو خائف مني فأمّنوه، أو مستوصف نحوي فأرشدوه، أو مسيء فعاتبوه، أو استغاث بكم ملهوف فأغيثوه. . . . إلى آخره.

انظر تاريخ الإسلام، وفيات [241 - 250].

(1)

روى مسلم في صحيحه [1 - (2675)] كتاب التوبة [1] باب في الحض على التوبة والفرح بهما، عن أبي هريرة، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"قال اللَّه عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حبث يذكرني، واللَّه للَّه أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة، ومن تقرب إليَّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، ومن تقرب إليَّ ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإذا أقبل إليَّ يمشي أقبلت إليه أهرول".

(2)

ق ال النووي: للتوبة ثلاثة أركان: الإقلاع والندم على فعل تلك المعصية، والعزم على أن لا يعود إليها أبدًا، فإن كانت المعصية لحق آدمي فلها ركن رابع، وهو التحلل من صاحب ذلك الحق، وأصلها الندم وهو ركنها الأعظم، واتفقوا على أن التوبة من جميع المعاصي واجبة، وأنها واجبة على الفور لا يجوز تأخيرها سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة. النووي في شرح مسلم [17/ 50] طبعة دار الكتب العلمية.

ص: 153

قلبي، وجدت قلبي، فلما أبصر ذا النون قال: يا أبا الفضل، وجدت قلبي في مكان كذا وكذا عند فلانة وسماها، ثم لم يزل إذا تواجد يقول ذلك.

العشرون: عن بهلول

(1)

-رحمة اللَّه عليه- قال: بينما أنا ذات يوم في شوارع البصرة، وإذا بصبيان يلعبون بالجوز واللوز، وإذا بصبي ينظر إليهم ويبكي، فقلت: هذا صبي يتحسّر على ما في أيدي الصبيان، ولا شيء معه يلعب به، فقلت له: أي بني، ما يبكيك؟ أشتري لك من الجوز واللوز ما تلعب به مع الصبيان؟ فرفع بصره إليَّ وقال: يا قليل العقل؛ ما للعب خلقنا، فقلت: أي بني، فلماذا خلقنا؟ قال: للعلم والعبادة، قلت: من أين لك هذا؟ بارك اللَّه فيك، قال: من قول اللَّه عز وجل: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)}

(2)

فقلت: أي بني، أراك حكيمًا فعظني وأوجز، فأنشأ يقول:

أرى الدنيا تجهز بانطلاقي

مشمرة على قدم وساق

فلا الدنيا بباقية لحي

ولا حي على الدنيا بباق

فيا مغرور بالدنيا رويدًا

ومنها خذ لنفسك بالوثاق

ثم رمق السماء بعينه، وأشار إليها بكفه ودموعه تنحدر على خديه، وأنشأ يقول:

يا من إليه المبتهل

يا من عليه المتكل

يا من إذا ما آمل

يرجوه لم يخطئ الأمل

قال: فلما تم كلامه خرّ مغشيًا عليه

(3)

فرفعت رأسه إلى حجري ونفضت التراب

(1)

بهلول بن عمرو، أبو وهب الصيرفي الكوفي، وسوس في عقله وما أظنه اختلط، أو قد كان يصحو في وقت، فهو معدود في عقلاء المجانين، له كلام حسن وحكايات، وقد حدث عن عمرو بن دينار، وعاصم بن بهدلة، وأيمن بن نابل، وما تعرضوا له بجرح ولا تعديل، ولا كتب عنه الطلبة، كان حيا في دولة الرشيد، ويروي أن البهلول مر به الرشيد فقام وناداه ووعظه، فأمر له بمال فقال: ما كنت لأسود وجه الموعظة. تاريخ الإسلام، وفيات [181 - 190].

(2)

سورة المؤمنون [115].

أي أفظننتم أنكم مخلوقون عبثًا بلا قصد ولا إرادة منكم ولا حكمة لنا، وقيل للعبث، أي لتلعبوا وتعبثوا كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب، وإنما خلقناكم للعبادة وإقامة أوامر اللَّه عز وجل {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] أي لا تعودون في الدار الآخرة كما قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)} [القيامة: 36]. تفسير ابن كثير [3/ 267].

(3)

روى مسلم في صحيحه [29 - (2758)] كتاب التوبة، [5] باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال "أذنب عبد ذنبا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب =

ص: 154

عن وجهه بكمي، فلما أفاق قلت له: أي بني ما نزل بك، وأنت صبي صغير لم يكتب عليك ذنب؟ قال: إليك عني يا بهلول إني رأيت والدتي توقد النار بالحطب الكبار، فلا يوقد إلا بالصغار، وأنا أخشى أن أكون من صغار حطب جهنم، قلت: أي بني، أراك حكيما فعظني، فأنشأ يقول:

أنعم جسمي باللباس ولينه

وليس لجسمي من لباس البلاء يد

كأني به قد مُدّ في برزخ البلاء

ومن فوقه ردم ومن تحته لحد

وقد ذهبت من المحاسن وانمحت

ولم يبق فوق العظم لحم ولا جلد

أرى العمر قد ولى ولم أدرك المنى

وليس معي زاد وفي سفري بعد

وقد كنت جاهرت المهيمن

(1)

عاصيًا

وأحدثت أحداثًا وليس بها رد

وأرخيت خوف الناس سترًا من الحيا

وما من سر فيَّ غدا عنده يبدو

بلى خفته لكن وثقت بحلمه

وأن ليس يعفو غيره فله الحمد

فلو لم يكن شيئًا سوى الموت والبلا

ولو لم يكن منه وعيد ولا وعد

لكان لنا في الموت شغل وفي البلا

عن اللهو لكن زال عن رأينا الرشد

عسى غافر الزلات يغفر زلتي

فقد يغفر المولى إذا أذنب العبد

أنا عبد سوء خنت مولاي عهده

تذلل عن السوء ليس له عهد

فكيف إذا أحرقت بالنار جثتي

ونارك لا يقوى لها الحجر الصلد

(2)

أنا الفرد عند الموت والفرد في البلا

وأُبعث فردا فارحم الفرد يا فرد

(3)

= ذنبًا فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك" قال النووي: وهذه الأحاديث ظاهرة في الدلالة لها، وأنه لو تكرر الذنب مائة مرة أو ألف مرة أو أكثر، وتاب في كل مرة قبلت توبتة وسقطت ذنوبه، ولو تاب عن الجميع توبة واحدة بعد جميعها صحت توبته.

(1)

المهيمن: هو القائم على خلقه بأعمالهم وأرزاقهم وآجالهم، وقيامه عليها باطلاعه واستيلائه وحفظه، فكل مطلع على كنه الأمر مستول عليه، حافظ له، فهو مهيمن عليه. سلاح المؤمن لابن الإمام [ص 259].

(2)

قال تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24].

(3)

فيما رواه مسلم في صحيحه [5 - (2677)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [2] باب في أسماء اللَّه -تعالى- عن أبي هريرة، وفيه:"إن اللَّه وتر يحب الوتر" قال النووي: الوتر الفرد، ومعناه في حق اللَّه -تعالى- الواحد الذي لا شريك له ولا نظير، ومعنى يحب الوتر: تفضيل الوتر في الأعمال وكثير من الطاعات، فجعل الصلاة خمسًا والطهارة ثلاثًا والطواف سبعًا والسعي سبعًا =

ص: 155

قال بهلول: فلما فرغ من كلامه وقعت مغشيًا عليّ، وانصرف الصبي، فلما أفقت نظرت إلى الصبيان فلم أره معهم، فقلت لهم: من يكون ذلك الغلام؟ قالوا: وما عرفته؟ قلت: لا، قالوا: ذلك من أولاد الحسين بن علي بن أبي طالب

(1)

، قلت: قد عجبت من أين تكون هذه الثمرة إلا من تلك الشجرة!!

الحادية بعد العشرين: عن بعض الصالحات

(2)

وهي شعوانة -رحمها اللَّه- قالت: رزقت ولدًا فربيته أحسن تربية، فلما كبر قال لي: يا أماه سألتك باللَّه إلا ما وهبتيني للَّه -سبحانه- فقلت له: يا بني، لا يصلح أن يهدي للملوك الرؤساء إلا أهل الأدب والتقى، وأنت يا ولدي عر ما تعرف ما يراد بك، ولم يأن لك ذلك، فأمسك عني ولم يقل شيئًا. فلما كان ذات يوم خرج إلى الجبل ليحتطب، ومعه دابة، فلما توسط الجبل نزل عن الدابة وأقبل يحتطب، ويحمل في حبله، حتى جمع حرمة وربطها، وجاء ليطلب الدابة ليحمل عليها، فوجد السبع قد افترسها، فجعل يده في رقبة السبع وقال: يا كلب اللَّه، وحق سيدي لأُحملنَّك الحطب كما تعديت على دابتي، فحمل على ظهره الحطب، وجعل يقوده وهو طائع لأمره، حتى وصل إلى داره، فقرع الباب، فقلت: من بالباب؟ فقال: ولدك الفقير إلى رب الأرباب، ففتحت له الباب، فلما رأيت الحطب على ظهر الأسد قلت: يا بني، ما هذا؟!! فحكى لي القصة فسررت لذلك، وعلمت أن اللَّه جل جلاله قد عني به واصطفاه لخدمته

= ورمي الجمار سبعًا وأيام التشريق ثلاثًا والاستنجاء ثلاثًا وكذا الأكفان، وفي الزكاة خمسة أوسق. . . إلى آخر كلامه، ثم قال: وقيل: إن معناه منصرف إلى صفة من يعبد اللَّه بالوحدانية والتفرد مخلصًا له، واللَّه أعلم. النووي في شرح مسلم [17/ 6] طبعة دار الكتب العلمية.

(1)

الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو عبد اللَّه الهاشمي رضي الله عنهما ريحانة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وابن بنته فاطمة، السعيد الشهيد، استشهد بكربلاء وله ست وخمسون سنة، وقد حفظ عن جده صلى الله عليه وسلم، وروى عنه وعن أبويه وخاله هند بن أبي هالة، روى عنه أخوه الحسن وابنه علي وابن ابنه محمد بن علي الباقر وبنته فاطمة بنت الحسين وعكرمة والشعبي والفرزدق همام وطلحة بن عبيد اللَّه العقيلي، قال ابن سعد والزبير بن بكار: مولده في خاص شعبان سنة أربع. تاريخ الإسلام، وفيات [61 - 70].

(2)

للصلاح والولاية شروط صنفها الشوكاني فقال في كتاب قطر الولي على حديث الولي [ص 37]: ليس لمنكر أن ينكر على أولياء اللَّه ما يقع منهم من المكاشفات الصادفة الموافقة للواقع، فهذا باب قد فتحه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم-كما ثبت في الصحيحين [البخاري (3689) ومسلم في فضائل الصحابة (23)] عنه صلى الله عليه وسلم قال:"قد كان في الأمم قبلكلم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد منهم فعمر منهم"، ثم قال الشوكاني: حق على الولي إن بلغ في الولاية إلى أعلى مقام وأرفع مكان أن يكون مقتديا بالكتاب والسنة وازنا لأفعاله وأقواله بميزان هذه الشريعة المطهرة، واقفا على الحد الذي رسم فيها غير زائغ عنها في شيء من أموره.

ص: 156

وقلت له: أما الآن يا بني، فقد صلحت لخدمة الملوك، اذهب فقد وهبتك للَّه عز وجل وأنت وديعتي إياه، فودعته وودعها، وشيعته بالدعاء، ثم أنشأت تقول:

جعل الرضا لسباقه ميدانًا

فجرى وأطلق من يديه عنانا

(1)

فتقدم السباق في غسق الدجى

يطوي القفار

(2)

ويطلب الأوطانا

هجر الخلائق والعلائق في الرضا

محبوبه وتجنب الإخوانا

شرب الظمأ حتى تعطش قلبه

فغدا وراح من الظمأ ريّانا

الثانية بعد العشرين: عن ذي النون

(3)

المصري -رحمه اللَّه تعالى- قال: كنت في البادية قاصدًا مكة، فغلبني العطش، فملت إلى حي من بني مخزوم، فرأيت جارية صغيرة حسناء، وهي تترنم بالأشعار، فعجبت منها لصدور ذلك عنها، وهي من جملة الصغار، فقلت لها: يا هذه الجارية، أما فيك حياء؟ فقالت: صه يا ذا النون إني شربت البارحة بكأس الحب مسرورة، فأصبحت اليوم من حب المولى مخمورة، فقلت لها: يا جارية، أراك حكيمة فأوصيني بوصية، فقالت: يا ذا النون عليك بالسكوت والرضا في الدنيا بالقوت حتى تزور في الجنة الحيَّ الذي لا يموت. فقلت لها: هل عندك ماء؟ فقالت: أنا أدلك على الماء، فظننت أنها تدلني على بئر أو عين، فقالت: إن الناس يسقون يوم القيامة على أربع مراتب: فرقة تسقيهم الملائكة، قال اللَّه عز وجل:{بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46)}

(4)

.

وفرقة يسقيهم رضوان خازن الجنة، قال اللَّه عز وجل:{وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27)}

(5)

.

وفرقة يسقيهم المولى عز وجل وهم الخواص من عباده، قال تعالى:{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا}

(6)

فلا تعطى بترك الدنيا غير مولاك، حتى يسقيك مولاك في عقباك،

(1)

العنان: سير اللجام الذي تمسك به الدابة، جمعها: أعنة.

(2)

القفر: الخلاء من الأرض لا ماء فيه ولا ناس ولا كلأ، ويقال: دار قفر، وجمعها: قِفار.

(3)

من أقوال ذي النون: الاستغفار اسم جامع لمعان كثيرة، أولهن: الندم على ما مضى، والثاني: العزم على ترك الرجوع، والثالث: أداء كل فرض ضيعته فيما بينك وبين اللَّه، والرابع: رد المظالم في الأموال والأعراض والمصالحة عليها، والخامس: إذابة كل لحم ودم نبت على الحرام، والسادس: إذاقة البدن ألم الطاعة كما وجدت حلاوة المعصية.

(4)

سورة الصافات [46].

(5)

سورة المطففين [27].

(6)

سورة الإنسان [21].

أي طهر بواطنهم من الحسد والحقد والغل والأذى وسائر الأخلاق الرديئة، كما روينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنهما أنه قال:"إذا انتهى أهل الجنة إلى باب الجنة وجدوا هنالك عينين فكأنما ألهموا ذلك، فشربوا من إحداهما، فأذهب اللَّه ما في بطونهم من أذى، ثم اغتسلوا من الأخرى، فجرت عليهم نضرة النعيم". تفسير ابن كثير [4/ 456].

ص: 157

ولعل -واللَّه أعلم- بالفرقة الرابعة يسقيهم الولدان، قال تعالى:{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18)}

(1)

.

الحكاية الثالثة بعد العشرين: روي أنه اجتاز بعض الأمراء على باب الشيخ حاتم الأصم

(2)

-رحمة اللَّه عليه- فاستقى ماء، فلما شرب رمى إليهم شيئًا من المال، ووافقه أصحابه، ففرح أهل الدار سوى بنت صغيرة لحاتم فإنها بكت، فقيل لها: ما يبكيك؟ فقالت: نظر إلينا مخلوق فاستغنينا، فكيف لو نظر إلينا الخالق؟

(3)

الحكاية الرابعة بعد العشرين: عن أبي كثير، عن أبي هريرة رضي الله عنهما أنه قال: ما خلق اللَّه مؤمنًا يسمع بي ولا رآني إلا أحبني. قلت: وما علمك بذلك يا أبا هريرة؟ قال: إن أمي كانت مشركة، وكنت أدعوها إلى الإسلام، فأسمعتني في رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما أكره، فذكرت ذلك له وقلت: ادع اللَّه أن يهدي أم أبي هريرة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"اللهم اهد أم أبي هريرة"

(4)

فخرجت أبشرها بدعاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فلما أتيت الباب إذا هو مجاف، فسمعت خضخضة الماء، فسمعت أمي خشخشة رجلي فقالت: يا أبا هريرة كما أنت، ثم فتحت الباب، وقد لبست درعها، وعجلت عن خمارها، فقالت: إني أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا عبده ورسوله

(5)

، فخرجت

(1)

سورة الواقعة [17، 18].

(2)

حاتم الأصم أبو عبد الرحمن البلخي الزاهد الناطق بالحكمة، له كلام عجيب في الزهد والوعظ، وكان يقال له: لقمان هذه الأمة، وكان قد صحب شقيقًا البلخي وتأدب بآدابه، قال السلمي: هو حاتم بن عنوان، ويقال ابن يوسف، ويقال حاتم بن عنوان بن يوسف، روى عن شقيق البلخي وسعيد بن عبد اللَّه الماهاني، روى عنه: عبد اللَّه بن سهل الرازي وأحمد بن خضرويه البلخي الزاهد، ومحمد بن فارس البلخي، توفي سنة سبع وثلاثين ومائتين. تاريخ الإسلام، وفيات [231 - 240].

(3)

قال أبو تراب: سمعت حاتما الأصم يقول: لي أربع نسوة، وتسعة أولاد، ما طمع شيطان أن يوسوس لي في شيء من أرزاقهم، وقال: المؤمن لا يغيب عن خمسة أشياء: عن اللَّه، والقضاء، والرزق، والموت، والشيطان. انظر تاريخ الإسلام للذهبي، وفيات [231 - 240].

(4)

قال أبو هريرة: "نشأت يتيمًا، وهاجرت مسكينًا، وكنت أجيرًا لبسرة بنت غزوان بطعام بطني وعقبة رجلي، وكنت أخدم إذا نزلوا، وأحدوا إذا ركبوا، فزوجنيها اللَّه، فالحمد للَّه الذي جعل الدين قوامًا، وجعل أبا هريرة إمامًا.

(5)

قال النووي: إذا أراد الكافر الإسلام بادر به ولا يؤخره للاغتسال، ولا يحل لأحد أن يأذن له في تأخيره بل يبادر به، ثم يغتسل، ومذهبنا أن اغتساله واجب إن كان عليه جنابة في الشرك، سواء كان اغتسل منها أم لا، وقال بعض أصحابنا: إن كان اغتسل أجزأه وإلا وجب، وقال بعض أصحابنا وبعض المالكية: لا غسل عليه ويسقط حكم الجنابة بالإسلام كما تسقط الذنوب، وضعفوا هذا بالوضوء، فإنه يلزمه بالإجماع ولا يقال يسقط أثر الحدث بالإسلام، هذا كله إذا =

ص: 158

إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فبكيت من الفرح كما بكيت من الحزن، فقلت: يا رسول اللَّه أبشرك، فقد استجاب اللَّه دعاءك، وقد هدى أم أبي هريرة فادع اللَّه أن يحببني إلى عباده المؤمنين، فقال:"اللهم حبب عبدك هذا إلى عبادك المؤمنين" فما خلق اللَّه مؤمنًا يسمع بي ولا يراني إلا يحبني

(1)

.

الحكاية الخامس بعد العشرين: عن ربيعة بن عثمان، وقدامة -رحمهما اللَّه- قالا: لا نعلم قرشية خرجت من بين أبويها مسلمة مهاجرة إلا أم كلثوم

(2)

؛ قالت: كنت أخرج إلى بادية لنا فيها أهلي، فأقيم بها الثلاث والأربع، ثم أرجع إلى أهلي فلا ينكرون ذهابي في البادية حتى جمعت في السير، فخرجت يومًا من مكة، كأنني أريد البادية، فلقيت رجلا من خزاعة، فلما ذكر خزاعة

(3)

اطمأننت؛ لدخول خزاعة في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعقده، فقلت: إني امرأة من قريش، فإني أريد اللحوق برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولا علم لي بالطريق، فقال: أنا صاحبك حتى أدلك على المدينة، ثم جاءني ببعير فركبته، وكان يقود لي البعير فواللَّه ما كلمني بكلمة، فإذا أناخ البعير تنحى عني، فإذا نزلت جاء إلى البعير قيده بالشجرة، ثم تنحى إلى شجرة، حتى إذا

= كان أجنب في الكفر، أما إذا لم يجنب أصلًا، ثم أسلم فالغسل مستحب له وليس بواجب، هذا مذهبنا ومذهب مالك وآخرين. وقال أحمد وآخرون: يلزمه الغسل. النووي في شرح مسلم [12/ 76] طبعة دار الكتب العلمية.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [158 - (2491)]: كتاب فضائل الصحابة [35] باب من فضائل أبي هريرة الدوسي رضي الله عنهما، والحاكم في المستدرك (2/ 621)، وأحمد في مسنده (20/ 32)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (6204)، وابن كثير في البداية والنهاية (8/ 105).

(2)

أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط الأموية، أسلمت قديمًا، وهي أخت عثمان لأمه، صحابية لها أحاديث، ماتت في خلافة علي رضي الله عنهما، وأخرج لها البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. ترجمتها: تهذيب التهذيب [12/ 477]، تقريب التهذيب [2/ 624]، تاريخ الإسلام، وفيات [31/ 40].

(3)

لما كان صلح الحديبية بين رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وبين قريش، كان فيما شرطوا لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وشرط لهم أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعهده فليدخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه، فدخلت بنو بكر في عقد قريش، ودخلت خزاعة في عقد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مؤمنها وكافرها، فلما كانت الهدنة اغتنمها بنو الديل أحد بني بكر، وأرادوا أن يصيبوا ثأرًا من خزاعة، وأمدتهم قريش بالسلاح، وخرج نوفل بن معاوية الديلي في قومه إلى خزاعة فاقتتلوا وحازوا خزاعة إلى الحرم، فقال قوم نوفل بن معاوية الديلي: اتق إلهك ولا تستحل الحرم، فقال: لا إله لي اليوم، واللَّه يا بني كنانة إنكم لتسرقون في الحرم أفلا تصيبون ثأركم؟ فقتلوا رجلا من خزاعة، ولجأت خزاعة إلى دار بديل بن ورقاء الخزاعي ودار رافع مولى خزاعة، فلما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة كان ذلك نقضًا للهدنة، وكان ما كان من فتح مكة.

ص: 159

كان الرواح خرج بالبعير فقرَّبه إليّ وولى عني، فإذا ركبت أخذ برأسه، ولم يلتفت وراءه حتى أنزل، فلم يزل كذلك حتى قدمنا المدينة، فجزاه اللَّه من صاحب خيرًا، فدخلت على أم سلمة وأنا متنقبة، فما عرفتني حتى انتسبت، فلما كشفت النقاب التزمتني، وقالت: هاجرت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قلت: نعم، وإني أخاف أن يردني كما رد أبا جندل

(1)

وحال الرجال ليس كحال النساء، وقد طالت غيبتي عن قومي، ولي خمسة أيام منذ فارقتهم، وهم يتحينون قدر ما كنت أغيب، ثم يطلبوني، فإن لم يجدوني رحلوا، فدخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على أم سلمة فأخبرته خبر أم كلثوم، فرحب بها، فقالت: إني فررت إليك بديني، فامنعني ولا تردني إليهم يفتنوني ويعذبوني، ولا صبر لي على العذاب، إنما أنا امرأة، وضعف النساء إلى ما تعرف، فقال:"إن اللَّه عز وجل قد نقض العهد في النساء، وحكم بحكم رضوه كلهم"

(2)

وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرد النساء، فقدم أخوها الوليد وعمارة من الغد فقالا: أوف لنا بشرطنا وما عاهدتنا عليه، فقال:"قد نقض اللَّه ذلك" فانصرفا، وكانت أم كلثوم عاتقًا حينئذ، فتزوجها زيد بن حارثة، فلما قتل عنها تزوجها الزبير، فولدت له زينب، ثم تزوجها عبد الرحمن بن عوف

(3)

فولدت له إبراهيم وحميدًا، ثم تزوجها عمرو بن العاص، فماتت عنده.

الحكاية السادسة بعد العشرين: عن الحسن البصري -رحم اللَّه تعالى- قال: كانت امرأة بغيّ في زمن بني إسرائيل لها ثلث الحُسن لا تمكن من نفسها إلا بمائة دينار، وإنه أبصرها عابد فأعجبته، فذهب يعمل بيده، وعالج حتى جمع مائة دينار،

(1)

أبو جندل بن سهيل بن عمرو، اسمه العاص من خيار الصحابة، وهو الذي جاء يوم صلح الحديبية يرسف في قيوده، وكان أبوه قيده لما أسلم، فقال أبوه للنبي صلى الله عليه وسلم: هذا أول ما أقاضيك عيه أن ترده، فرده. له صحبة وجهاد، توفي بطاعون عمواس، وقتل أخوه عبد اللَّه يوم اليمامة، وكان بدريًا. تاريخ الإسلام، وفيات سنة [18].

(2)

كان ذلك كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] قال ابن عباس: لما سئل على امتحان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم النساء، قال: "كان يمتحنهن: باللَّه ما خرجت من بغض زوج؟ وباللَّه ما خرجت رغبة من أرض إلى أرض؟ وباللَّه ما خرجت التماس دنيا؟ وباللَّه ما خرجت إلا حبًا للَّه ولرسوله؟.

(3)

عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب، أبو محمد القرشي الزهري، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وأحد الستة أصحاب الشورى، كان اسمه في الجاهلية عبد عمرو، وكان مولده بعد الفيل بعشر سنين، وتوفي سنة [32].

ص: 160

ثم جاء إليها وقال: إنك أعجبتيني، فانطلقت فعملت بيدي وعالجت

(1)

حتى جمعت مائة دينار، فقالت له: ادخل، وكان لها سريرًا من ذهب فجلست على سريرها ثم قالت: هلم، فلما جلس منها مجلس الرجل من المرأة، ذكر مقامه بين يدي اللَّه -تعالى- فأخذته رعدة فقال لها: اتركيني أخرج ولك المائة دينار، فقالت: ما بدا لك، وقد زعمت أني أعجبتك، فلم قدمت على فعلك الذي فعلت؟ فقال: فرقا من اللَّه، ومن مقامي بين يديه، وقد بغضك اللَّه إليّ، فأنت أبغض الناس إليَّ

(2)

قالت: إن كنت صادقًا فمالي زوج غيرك، فقال: دعيني أخرج، قالت: لا إلا أن تجعل لي أنك تتزوج بي، قال: فلعل تقنع بتوبة، وخرج إلى بلده فارتحلت نادمة على ما كان منها، حتى قدمت بلده، فسألت عن اسمه ومنزله، فدُلَّت عليه، وكانت تُعرف بالملكة، فقيل له: إن الملكة قد جاءتك، فلما رآها شهق شهقة فمات رحمه الله قال: فسقط في يدها وقالت: أما هذا فقد فاتني، فهل له من قريب؟ قالوا: أخوه رجل فقير، قالت: وأنا أتزوج به حبًا لأخيه، فتزوجته، فنسل اللَّه منهما سبعة أبناء.

الحكاية السابعة بعد العشرين: عن رجاء بن عمرو النخعي قال: كان في الكوفة فتى جميل الوجه، شديد التعبد والاجتهاد، وكان أحد الزهاد فنزل في جوار قوم من النخع، فنظر إلى جارية جميلة فهويها، فهام بها عقله، ونزل بها مثل الذي نزل به، فأرسل يخطبها من أبيها، فأخبره أبوها أنها مسماة لابن عمها، فاشتد عليهما ما يقاسيان من ألم الهوى، فأرسلت إليه: قد بلغني شىرة محبتك لي، وقد اشتد بلائي بك

(3)

فإن شئت زرتك، وإن شئت سهلت لك إلى أن تأتيني إلى منزلي، فقال للرسول: لا واحدة من هاتين الخصلتين {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}

(4)

.

(1)

عالج الشيء معالجة: زاوله ومارسه.

(2)

قال تعالى في قصة يوسف. عليه السلام: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24] كذا يفعل اللَّه بعباده الطائعين المجتنبين للمعاصي والمطهرين المختارين المصطفين الأخيار من صفوة خلقه، وعلى رأسهم الأنبياء ثم الأولياء والصالحون.

(3)

في السبعة الذين يظلهم اللَّه في ظله يوم لا ظل إلا ظله كما ورد في صحيح مسلم [91 - (1031)] كتاب الزكاة، [30] باب فضل إخفاء الصدقة، عن أبي هريرة، وفيه عنه صلى الله عليه وسلم:"ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف اللَّه".

(4)

سورة الأنعام [15]، يونس [15]، الزمر [13].

وقال النووي في حديث السبعة المتقدم قبل هذا: قال القاضي: يحتمل قوله أخاف اللَّه باللسان، ويحتمل قوله في قلبه ليزجر نفسه، وخص ذات المنصب والجمال لكثرة الرغبة فيها، وعسر حصولها وهي جامعة للمنصب والجمال لا سيما، وهي داعية إلى نفسها طالبة لذلك، قد =

ص: 161

أخاف نارًا لا يخبو سعيرها، ولا يخمد لهبها، فلما انصرف الرسول إليها وأخبرها بما قال قالت: وأراه مع ذلك زاهدًا يخاف اللَّه، فقالت: واللَّه ما أحد أحق بهذا الأمر مني، وإن العباد فيه لمشتركون، ثم انخلعت من الدنيا، وألقت علائقها خلف ظهرها، ولبست المسوح وجعلت تتعبد، وهي مع ذلك تذوب وتنحل وتزداد حبًا للفتى وأسفًا عليه حتى ماتت، فكان الفتى يأتي إلى قبرها، فرآها في منامه، وكأنها في أحسن منظر، فقال: كيف أنت وما لقيتي؟ قالت: المحبة يا أخي محبتك حبًا يقود إلى خير وإحسان، فقال لها: على إثر ذلك إلام صرت؟ قالت: إلى نعيم وعيش لا زوال له في جنة الخلد مُلك ليس بالفاني، فقال لها: أذكرتيني هناك، فإني لست أنساك؟ فقالت: ولا أنا واللَّه أنساك، ولقد سألت ربي مولاي ومولاك فأعني على ذلك بالاجتهاد، ثم ولت مدبرة، فقال لها: متى أراك؟ قالت: ستأتينا عن قريب، ولم يعش الفتى بعد الرؤيا إلا سبع ليال.

الحكاية الثامنة بعد العشربن: عن بعض السلف -رحمة اللَّه عليه- قال: كان لقمان عبدًا حبشيًا لرجل جاء به إلى السوق يبيعه، فكان لقمان كلما جاء إنسان يشتريه قال له: ما تصنع بي؟ فإذا قال: أصنع بك كذا وكذا وكذا، قال: حاجتي إليك أن لا تشتريني حتى جاء رجل فقال لقمان:

(1)

ما تصنع بي؟ قال: أصيرك بوابًا على بابي، قال: فاشترني، فاشتراه وجاء به إلى داره، وكان له ثلاث بنات يبغين في القرية، فأراد أن يخرج إلى ضيعة له، فقال له: إني أدخلت إليهن طعاما وما يحتجن إليه، فإذا خرجت فأغلق الباب واقعد من ورائه ولا تفتحه حتى أجئ، فلما خرج فعل ما أمره به مولاه، فقال له البنات: افتح الباب، فأبى عليهن، فشججنه، فغسل الدم وجلس، فلما قدم سيده لم يخبره بشيء، ثم أراد سيده الخروج أيضًا فقال: إني قد أدخلت إليهن ما يحتجن إليه، فلا تفتح الباب، فلما خرج سيده خرجن إليه، وقلن له: افتح الباب فأبى، فشججنه، فغسل الدم وجلس، فلما أن جاء مولاه لم يخبره

= أغنت عن مشاق التوصل إلى مراودة ونحوها، فالصبر عنها لخوف اللَّه -تعالى- وقد دعت إلى نفسها مع جمعها المنصب والجمال - من أكمل المراتب وأعظم الطاعات. النووي في شرح مسلم [7/ 109] طبعة دار الكتب العلمية.

(1)

اختلف السلف في لقمان؛ هل كان نبيًا أو عبدًا صالحًا من غير نبوة على قولين: الأكثرون على الثاني، وقال سفيان الثوري عن الأشعث، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:"كان لقمان عبدًا حبشيًا نجارًا"، وقال قتادة: عن عبد اللَّه بن الزبير، قلت لجابر بن عبد اللَّه: ما انتهى إليكم من شأن لقمان؟ قال: كان قصيرًا أفطس الأنف من النوبة، وقال يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب قال: كان لقمان من سودان مصر ذو مشافر، أعطاه اللَّه الحكمة ومنعه النبوة. تفسير ابن كثير [3/ 458، 459].

ص: 162

بشيء، فقالت الكبيرة منهن: ما بال هذا العبد الحبشي أولى بطاعة اللَّه مني، واللَّه لأتوبن، فتابت، فقالت الصغرى: ما بال هذا العبد الحبشي، وهذه الكبرى أولى بطاعة اللَّه مني، واللَّه لأتوبن

(1)

فتابت، فقالت الوسطى: ما بال هذا العبد الحبشي وهاتين أولى بطاعة اللَّه مني، فتابت، فقالت غواة القرية: ما بال هذا العبد الحبشي وبنات فلان أولى بطاعة اللَّه منا، واللَّه لنتوبن، فتاب الجميع وصاروا عبَّاد القرية.

الحكاية التاسعة بعد العشرين: عن بعضهم قال: كنا نمشي على شاطئ الإيلة في الليل والقمر طالع، فمررنا بقصر لجندي، وفيه جارية تضرب بالعود، وإلى جانب القصر فقير عليه خرقتان، فسمع الجارية وهي تقول:

في سبيل اللَّه ود

كان مني إليك يبذل

كل يوم تتلون

غير هذا بك أجمل

فصاح الفقير وقال: اعبديه يا جارية، فهذا حالي مع اللَّه -تعالى- فنظر صاحب الجارية إليه وقال لها: اتركي العود وأقبلي عليه فإنه صوفي، فأخذت تقول والفقير يقول: هذا حالي مع اللَّه -تعالى- والجارية تردد إلى أن صاح الفقير صيحة وخرّ مغشيًا عليه، فحركناه فإذا هو ميت، فنزل صاحب القصر، فأدخله القصر فاغتممنا وقلنا: هذا يكفنه بكفن غير طيب، فصعد الجندي وكسر كل ما كان بين يديه، فقلنا: ما بعد هذا الأخير، ومضينا إلى الإيلة، وأعلمنا الناس.

فلما أصبحنا رجعنا إلى القصر، فإذا الناس يقبلون من كل وجه إلى الجنازة، كأنما نودي للبصرة حتى خرج القضاة والعدول وغيرهم، والجندي يمشي خلف الجنازة حافيا حاسرًا حتى دفن، فلما هم الناس بالانصراف، قال الجندي للقاضي والشهود: اشهدوا أن كل جارية لي حرة لوجه اللَّه -تعالى- وكل ضياعي وعقاراتي في سبيل اللَّه، ولي في صندوق كذا وكذا أربعة الآف دينار، وهي في سبيل اللَّه

(2)

ثم

(1)

للتوبة ثلاثة أركان: الإقلاع، والندم على فعل تلك المعصية، والعزم على أن لا يعود إليها أبدًا، فإن كانت المعصية لحق آدمي فلها ركن رابع وهو: التحلل من صاحب ذلك الحق، وأصلها الندم، وهو ركنها الأعظم، واتفقوا على أن التوبة من جميع المعاصي واجبة، وأنها واجبة على الفور لا يجوز تأخيرها، سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة. النووي في شرح مسلم [17/ 50] طبعة دار الكتب العلمية.

(2)

الهبة: كل ما من شأنه أن يقرب من قلوب الناس ويغرس فيها المحبة ويؤكد فيها روابط الود، مطلوب في نظر الشريعة الإسلامية، ويتفاوت طلبه بتفاوت حاجة الناس إليه، فما كان لازمًا ضروريًا لحياتهم كان القيام به فرضًا لازمًا على كل فرد من الأفراد كزكاة الأموال التي فرضها اللَّه -تعالى- بقوله:{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 25] لأن مما لا بد =

ص: 163

نزع الثوب الذي كان عليه فرمى به، وبقي في سراويله، فأعطي ثوبين اتزر بواحد واتشح بالآخر، وهام على وجهه، فكان بكاء الناس عليه أكثر من بكائهم على الميت.

الحكاية الثلاثون: عن أبي هاشم -رحمة اللَّه عليه- قال: أردت البصرة، فجئت إلى سفينة أكتريها

(1)

وفيها رجل ومعه جارية، فقال الرجل: ليس هاهنا موضع، فسألته الجارية أن يحملني ففعل، فلما سرنا دعا الرجل بالغداء فوضع، فقال: ادع ذلك المسكين ليتغذى معنا، فجئت على أني مسكين، فلما تغدينا قال: يا جارية، هاتي شرابك، فشرب وأمرها أن تسقيني فقلت: يرحمك اللَّه، إن للضيف حقًا، فتركني، فلما دب فيه النبيذ قال: يا جارية، هاتي عودك، وهاتي ما عندك، فأخذت العود وغنت وهي تقول:

وكنا كغصني بانة

(2)

ليس واحد

تزول على الحالات عن رأي واحد

تبدل بي خلًّا فخاللت غيره

وخليته لما رأيت تباعدي

فلو أن كفي لم تردني أبنتها

فلم تصحبنها بعد ذلك ساعدي

ألا قبح الرحمن كل ممازق

بكون أخا في الخفض لا في الشدائد

فالتفت الرجل إلى وقال: أتحسن مثل هذا؟ فقلت: أحسن خيرًا منه، فقرأت {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3)}

(3)

فجعل الشيخ يبكي، فلما انتهيت إلى قوله تعالى {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)}

(4)

قال: يا جارية: اذهبي فأنت حرة لوجه اللَّه، وألقى ما معه من الشراب في الماء، ثم عاد إلى فاعتنقني وقال: يا أخي، أترى أن اللَّه يقبل توبتي؟

(5)

فقلت له: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ

= منه في هذه الحياة الدنيا، أن يوجد أفراد بين الناس عاجزون عن سلوك سبيل الحياة وتحصيل الضروري من القوت، فمن المفروض إنقاذ هؤلاء وإعطاؤهم ما يدفع عنهم غائلة الجوع والعري. الفقه على المذاهب الأربعة [3/ 267].

(1)

اكترى الدار: استأجرها، وأكرى الدار أو الدابة آجرها، والكراء: أجر المستأجر.

(2)

البان: ضرب من الشجر سبط القوام لين ورقه كورق الصفصاف، واحدته: بانة، وتشبه به الحسان في الطول واللين.

(3)

سورة التكوير [1 - 3].

(4)

سورة التكوير [10].

(5)

قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى: 25]، وقال تعالى:{فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة: 39] الآية، وقال تعالى:{أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)} [الأنعام: 54].

ص: 164

الْمُتَطَهِّرِينَ}

(1)

ثم آخيته، فاصطحبنا بعد ذلك أربعين سنة حتى مات، فرأيته في المنام فقلت: إلام صرت؟ قال: إلى الجنة، قلت: بماذا؟ قال: بقرائتك عليّ {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)} .

وأنشدوا:

بادر الى التوبة الخلصاء مجتهدًا

فالموت ويحك لم يمدد إليك يدًا

فإنما المرء في الدنيا على خطر

إن لم يكن ميتا اليوم مات غدًا

الحادية بعد الثلاثين: عن إسماعيل بن عبد اللَّه الخزاعي رحمه الله قال: قدم رجل من المهابة من البصرة أيام البرامكة

(2)

في حوائج له، فلما فرغ منها انحدر إلى البصرة ومعه غلام له وجارية، فلما صار في دجلة إذا بفتى على ساحل دجلة عليه جبة صوف، وبيده عكاز ومزود، فسأل الملاح أن يحمله إلى البصرة، ويأخذ من الكرى، فأشرف المهلبي، فلما رآه رق له فقال للملاح: قَرِّب واحمله معك على الظلال

(3)

، فحمله فلما كان وقت الغداء، دعا بالسفرة وقال للملاح: قل للفتى يتغدى معنا، فأبى عليه، فلم يزل يطلبه حتى أتى، فأكلوا حتى إذا فرغوا ذهب الفتى ليقوم فمنعه الرجل، ثم دعا بشراب فشرب قدحًا، ثم سقى الجارية، ثم عرض على الفتى فأبى، فسقى الجارية وقال: هاتي ما عندك، فأخرجت جمودًا لها في غشاء فهيأته وأصلحته، ثم غنت، فقال: يا فتى، أتحسبن مثل هذا؟ قال: أُحسن ما هو أحسن من هذا، فافتتح الفتى: بسم اللَّه الرحمن الرحيم {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا

(4)

(77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}

(5)

وكان الفتى

(1)

سورة البقرة [222].

(2)

كان سبب هلاك البرامكة أن الرشيد كان لا يصبر عن جعفر وعن أخته عباسة بنت المهدي، قال: وكان يحضرها مجلس الشراب فقال: أزوجكها على أن لا تمسها، فكانا يثملان من الشراب وهما شابان ويقوم الرشيد، فوثب جعفر عليها فولدت منه غلامًا، فخافت الرشيد، فوجهت بالطفل مع حواضن إلى مكة واختفى الأمر، ثم ضربت جارية لها، فوشت بها إلى الرشيد، ثم كان ما كان من قتل جعفر وسائر البرامكة. انظر تاريخ الإسلام، وفيات [181 - 190].

(3)

كذا بالأصل.

(4)

الفتيل: الخيط الذي في شق النواة، يقال: ما أغنى عنه فتيلًا أي شيئًا.

(5)

سورة النساء [77، 78]. أي آخرة المتقي خير من دنياه {وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 77] أي من أعمالكم بل توفونها أتم الجزاء، وهذه تسلية لهم عن الدنيا، وترغيب لهم في الآخرة، وتحريض لهم على الجهاد، وقوله {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] أي أنتم صائرون إلى الموت لا محالة ولا ينجو منه أحد منكم كما قال تعالى {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)} [الرحمن: 26] الآية، وقال تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]، =

ص: 165

حسن الصوت، فرمى الرجل بالقدح في الماء، وقال: أشهد أن هذا أحسن مما سمعت، فهل غير هذا؟ قال: نعم {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)}

(1)

.

فوقعت من قلبه موقعًا، فرمى ظرف الشراب بما فيه، وكسر العود، ثم قال: يا فتى ههنا فرج؟ قال: نعم {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)}

(2)

فصاح صيحة وخر مغشيا عليه، فنظروا إليه فإذا هو فارق الدنيا، وكان رجلا معروفًا، فحمل إلى منزله واجتمع الناس، فما رأيت جنازة أكثر جمعًا منه.

قال: وبلغني أن الجارية المغنية تدرعت الشعر فوق الصوف، وجعلت تصوم النهار وتقوم الليل، فمكثت أربعين ليلة، ثم مرت بهذه الآية في بعض الليالي

(3)

{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)}

(4)

فلما كان الصبح وجدوها ميتة.

الثانية بعد الثلاثين: عن مالك بن دينار -رحمة اللَّه عليه- أنه كان يومًا ماشيًا في أزقة البصرة، فإذا هو بجارية من جواري الملوك راكبة ومعها الخدم، فلما رأى

= وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء: 34] والمقصود أن كل أحد صائر إلى الموت لا محالة ولا ينجيه من ذلك شيء سواء جاهد أو لم يجاهد فإن له أجلًا محتومًا ومقامًا مقسومًا. تفسير ابن كثير [1/ 526].

(1)

سورة الكهف [29].

(2)

سورة الزمر [53].

هذه الآيات دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة وإخبار بأن اللَّه تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب منها ورجع عنها وإن كانت مهما كانت وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر، ولا يصح حمل هذه على غير توبة لأن الشرك لا يغفر لمن لم يتب منه. تفسير ابن كثير [4/ 58].

(3)

يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: وقل يا محمد للناس: هذا الذي جئتكم به من ربكم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} هذا من باب التهديد والوعيد الشديد، ولهذا قال:{إِنَّا أَعْتَدْنَا} أي أرصدنا {لِلظَّالِمِينَ} وهم الكافرون باللَّه ورسوله وكتابه {نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} أي سورها {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} قال ابن عباس: المهل الماء الغليظ مثل دردي الزيت. تفسير ابن كثير [3/ 83، 84].

(4)

سورة الكهف [29].

ص: 166

مالك نادى: أيتها الجارية، أيبيعك مولاك؟ قالت: ولو باعني، كان مثلك يشتريني؟ قال: نعم وخيرًا منك؟ فضحكت، وأمرت به أن يحمل به إلى دارها، فحُمل، فدخلت إلى مولاها فأخبرته، فضحك وأمر أن يدخل به إليه، فأُدخل فأُلقيت له الهيبة في قلب السيد قال: ما حاجتك؟ قال: بعتي جاريتك، قال: أو تطيق ثمنها؟ قال: فثمنها عندي نواتان مسوستان، فضحكوا، قال: كيف ثمنها عندك هذا؟ قال: لكثرة عيوبها، قال: وما عيوبها؟ قال: إن لم تتعطر زفرت، وإن تستك (نجرت)

(1)

، وإن لم تمتشط وتدهن قملت وتشعَّثت، وإن تعمد عن قليل هرمت، ذات حيض وبول وأقذار، وحزن وغم وأكدار، ولعلها لا تودك إلا نفسها، ولا تحبك إلا لنعيمهما، لا تفي بعهدك، ولا تصدق في وعدك، ولا تخلف عليها أحد بعدك إلا رأته مثلك، وأنا آخذ بدون ما سألتك في جاريتك من الثمن جارية خلقت من الكافور، ومن المسك والجوهر والنور، لو مزج بريقها أجاج لطاب، ولو دعي بكلامها ميت لأجاب، ولو بدا معصمها للشمس لأظلمت دونه وكسفت

(2)

ولو بدا في الظلماء لأنارت به وأشرقت، ولو واجهت الآفاق بحليها وحللها لتعطرت بها وتزخرفت، نشأت بين رياض المسك والزعفران، وقضبان الياقوت والمرجان، وقصرت في خيام النعيم

(3)

وغُذيت بماء التسنيم، لا يخلف وعدها، ولا يبدل وُدُّها، فأيهما أحق بدفع الثمن؟ قال: التي وصفتَ، قال: فإنها الموجودة الثمن، القريبة الخطب في كل زمن، قال: فما ثمنها - رحمك اللَّه؟

قال: اليسير المبذول، الخطير المأمول، أن تتفرغ ساعة في ليلك، تصلي ركعتين تُخلصهما لربك، وأن يوضع طعامك، فتذكر جائعك فتؤثر اللَّه عز وجل على شهوتك، وأن ترفع حجرًا أو قذرًا عن الطريق

(4)

، وأن تقطع أيامك بالبلغة والقلة،

(1)

كذا بالأصل.

(2)

روى البخاري في صحيحه [2796] كتاب الجهاد والسير، [6] باب الحور العين وصفتهن، عن أنس بن مالك مرفوعًا وفيه:"ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحًا، ولنصيفها -يعني خمارها- على رأسها خير من الدنيا وما فيها".

(3)

في قوله تعالى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72)} [الرحمن: 72]، وقال هناك:{فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} [الرحمن: 56] ولا شك أن التي قد قصرت طرفها بنفسها أفضل ممن قُصرت وإن كان الجميع مخدرات، وقوله:{فِي الْخِيَامِ} [الرحمن: 72]، فروى البخاري ومسلم من حديث عبد اللَّه بن قيس أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة طولها عرضها ستون ميلا في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين يطوف عليهم المؤمنون" تفسير ابن كثير [4/ 280].

(4)

روى مسلم في صحيحه [58 - (35)] كتاب الإيمان، [12] باب بيان عدد شعب الإيمان =

ص: 167

وترفع همك عن دار الغرور والغفلة، فتعيش في الدنيا بعز القناعة، وتأتي إلى موقف الكرامة آمنًا غدًا، وتنزل في الجنة دار النعيم في جوار المولى الكريم مخلدًا

(1)

فقال الرجل: يا جارية، أسمعت ما قال شيخنا هذا؟ قال: نعم، قال: أفصدق أم كذب؟ قالت: بل صدق وبرّ ونصح، قال: فأنت إذن حرة للَّه -تعالى- وضيعة كذا وكذا صدقة عليك، وأنتم أيها الخدام أحرار، وضيعة كذا وكذا وهذه الدار بما فيها صدقة مع جميع مالي في سبيل اللَّه، ثم مدَّ يده إلى ستر خيش كان على بعض أبوابه فاجتذبه، وخلع جميع ما كان عليه، واستتر بالستر، فقال الجارية: لا عيش لي بعدك يا مولاي، فرمت بكسوتها، ولبست ثوبًا خشنًا، وخرجت معه، فودعهما مالك بن دينار ودعا لهما، وأخذا طريقًا غيره، فتعبدا جميعًا حتى جاء الموت، فنقلهما على حال العبادة - رحمة اللَّه عليهما.

الثالثة بعد الثلاثين: عن بعض أهل العلم قال: كانت تختلف إليّ في بعض الأحيان جارية لها وضاءة، وعليها خفارة

(2)

فتسألني عن شرائع الإسىلام وأمور الدين، وأجيبها وألطف بها، وكان حالها يميل إلى السر والكتمان

(3)

، وكان يعجبني

= وأفضلها وأدناها، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا اللَّه، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم: "وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" أي تنحيته وإبعاده، والمراد بالأذى كل ما يؤذي من حجر أو مدر أو شوك أو غيره. انظر شرح مسلم [2/ 6] طبعة دار الكتب العلمية.

(1)

في حديث مسلم [40 - (2849)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، عن أبي سعيد مرفوعًا:"يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح. . . . الحديث" إلى أن قال: "فيؤمر به فيذبح" قال: "ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت. . . . الحديث"، قال النووي: قال المازري: الموت عند أهل السنة عرض يضاد الحياة، وقال بعض المعتزلة: ليس بعرض بل معناه عدم الحياة، وهذا خطأ لقوله تعالى:"خلق الموت والحياة" فأثبت الموت مخلوقًا، وعلى المذهبين ليس الموت بجسم في صورة كبش أو غيره، فيتأول الحديث على أن اللَّه يخلق هذا الجسم، ثم يذبح مثالًا لأن الموت لا يطرأ على أهل الآخرة. النووي في شرح مسلم [17/ 153] طبعة دار الكتب العلمية.

(2)

خفرت المرأة خفرًا: اشتد حياؤها، فهي خفرة.

(3)

فيما روى من حديث: "سبعة يظلهم اللَّه في ظله يوم لا ظل إلا ظله" وفيه "ورجل ذكر اللَّه -تعالى- خاليًا ففاضت عيناه" وفيه فضيلة البكاء من خشية اللَّه -تعالى- وفضل طاعة السر لكمال الإخلاص فيها، انظر الحديث في مسلم [91 - (1031)] كتاب الزكاة، [30] باب فضل إخفاء الصدقة، عن أبي هريرة.

ص: 168

سمتها وحالها، فبينما أنا بعد مدة مارًا بالسوق، إذ رأيت الجارية وقد قبض على يدها إنسان وهو ينادي عليها: من يشتري هذه الجارية بعيبها، فقلت لها: ألست التي كنت تسأليني عن أمور وشرائع الإسلام؟ فأطرقت، فبينما أنا أتكلم معها إذا بسيدها قد أقبل، فتقدمت إليه وقلت له: صف صفة جاريتك، واذكر لي ما الذي تكره منها، فقال: أخبر الشيخ أن البعيد مجوسي

(1)

يعبد النار والنور، وكنت قد استحسنت هذه الجارية لما رأيت من جمالها وعقلها، فاشتريتها بثمن جزيل، وكنت أراها كثيرة العبادة والتعظيم لمعبودنا، محبة طائعة لآلهتنا، وقد كانت ليلة من الليالي، فمر بنا رجل متن أهل ملتكم، وقرأ شيئًا من كتابكم، فما هو إلا أن سمعت ما قرأه، صاحت صيحة فدهشنا، وأنشدت:

طرق السمع يا أهيل المحلى

خير منكم فزاد اشتياقي

حكم النقل قد روته ثقات

مسند بالدواة والاتفاق

عندما شمت بارقًا من حماكم

حن قلبي إلى لذيذ التلاقي

وكتمت الوشاة ما بي من الوجد

ومن لوعتي واحتراقي

أنا أفنى بكم وتبلى عظامي

ورسل الغرام في القلب باقي

قال: فدهشنا وهي باهتة نسألها، فلا ترد جوابًا، إلا أنها تركت عبادة آلهتنا، وأبت أن تأكل طعامنا، وإذا جن عليها الليل صلَّت إلى قبلتكم، وكم نهيناها فلم تنته، وقد ذهبت نضارتها وغيرت حالتها، ولم يحصل لنا بها انتفاع، ولم نستطع أن نردها عن ما هي عليه، وقد عزمت على بيعها، قال: فقلت لها: الأمر كذلك؟ فأشارت برأسها: نعم، فقلت في نفسي: إنما عابها من جهلها، فأنشدت:

يعيبون ما لو أنهم فطنوا به

لكانوا أشذ الناس جيئًا لما عابوا

فقلت لها: أي آية قرئت عليك؟ قالت: قول ربك: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)}

(2)

الآية، فمنذ سمعتها عزمت (صبري)

(3)

وظهر لي ما ترى من أمري، وأنشدت:

ما بين منعرج اللوى والوادي

يا صاحبي ضحى عدمت فؤادي

ورجعت ذو وله وكم من عاشق

مقتول عشق ما له من فادي

يا أهل نجد ارحموا ذا لوعة

ما بين أطناب الخيام ينادي

(1)

المجوس: عقيدتهم في تقديس الكواكب والنار.

(2)

سورة الذاريات [50].

(3)

كذا بالأصل.

ص: 169

ولهان لا يصغي لعذل عوازل

ظمآن من ماء التواصل صادي

ما هبت لي منكم نسيم مخبر

بالوصل فيه منايح الإسعادي

ألا سعيت مبادرًا للقاكم

ومنعت عيني من لذيذ رقاذي

وإذا نطقت بذكر غزلان النقا

(1)

أو زينب أو (علوة)

(2)

وسعادي

فلأنتم قصدي وغاية مطلبي

ولأنتم دون الجميع مرادي

لا شيء يشبهكم تعالى ذكركم

عن قول ذي زيغ وذي إلحاد

(3)

قال: فقلت لها: لو أسمعتك تمام الآيات؟ فقالت: إن كنت تحسنها فاقرأ عليّ، فقرأت عليها حتى انتهيت إلى قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)}

(4)

.

فقالت: أحسنت، حسبك ما ضمنه الإله المعبود، ثم قلت لسيدها: هل لك أن تقبض ثمنها مني؟ قال: إن ثمنها جزيل،. ولي ابن عم قد تعلق بها وقصدني فيها يريد أن يرجعها عن ما هي عليه من الخاطر الذي قد اعتراها، وهو مجوسي من الملة، قال: فبينما هو يخاطبني، إذ أقبل ابن عمه، فقال: أنا أردّها عما هي عليه، فدفعها إليه، فلمّا علمت بذلك قالت لي: يا شيخ، ألا تسمع كلامه ليكونن لي وله شأن عظيم يطلعك الملك عليه، فلمّا كان بعد مدة، رأيت سيدها المجوسي ذهب بها يصلي معنا في المسجد، فقلت له: ألست سيد الجارية؟ قال: بلى، قلت: كيف كان الخبر؟ قال: خبر خير، مضيت بها إلى منزلي، وخرجت لحاجتي، فلما رجعت وجدتها قد نصبت كرسيًا وجلست عليه، وجعلت تذكر اللَّه وتوحده، وتُحذّر أهلي

(1)

النّقا: الكثيب من الرمال، ونقي الشيء نقاوة ونقاء: نظف، فهو نقي وهي نقية.

(2)

كذا بالأصل.

(3)

ألحد فلان: عدل عن الحق وأدخل فيه ما ليس منه، وفي الدين: طعن، وفي القرآن الكريم {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [فصلت: 40].

(4)

سورة الذاريات [56 - 58].

أي إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي لا لاحتياجي إليهم، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: إلا ليعبدون أي إلا ليقروا بعبادتي طوعًا أو كرهًا، وهذا اختيار ابن جرير، وقال ابن جريج: إلا ليعرفون، وقال الربيع بن أنس:{إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] أي إلا للعبادة، وأنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم. تفسير ابن كثير [4/ 238].

ص: 170

وتنهاهم عن عبادة النار، وتصف لهم الجنة، فخشيت أن تفسد علينا ديننا، فقلت: أخذت هذه الجارية طمعا أن نفسد عليها دينها فإذا هي تفسد علينا ديننا، فقصصت قصتها على صاحب لي وقلت له: ما تشير عليّ أن أفعل؟ قال: أودعها مالًا وخذه من ورائها، واطلبه منها لتثبت عليها الحجة، ثم اضربها، قال: فأودعتها كيسا فيه خمسمائة دينار، فاشتغلت على عادتها في عبادتها، فأخذت الكيس وهي لا تشعر، فطلبته منها، فوثبت إلى الموضع الذي وضعته فيه، فإذا بالكيس في موضعه، فناولتني إياه، فعجبت من ذلك، وقلت في نفسي: أنا أخذت الكيس، وهذا آخر ولا شك بعد العيان، هذا يدل على قدرة إلهها الذي تعبده، فآمنت بإلهها وأسلمت أنا وصاحبي وأهلي كلهم، وأطلقت سبيلها بهما اختارت -رحمها اللَّه تعالى- ما زالت تكتم الغرام حتى أظهر اللَّه حالها للأنام كما أنشد لسان حالها:

كتمت الوشاة

(1)

غرامي بكم

وحبكم في حشا أضلعي

وموهت

(2)

عنكم بوادي التقى

وسكان رامة والأجرع

ولولاكم ما ذكرت اللوى

ولا حن قلبي إلى لعلعي

(3)

الرابعة بعد الثلاثين: عن سبري السقطي

(4)

-رحمه اللَّه تعالى- قال: سهرت ليلة من الليالي، وقلقت قلقًا شديدًا، فلم أطق الغمض، مع ما حرمته من التهجد، فلما صليت الصبح خرجت، لا يقَرّ بي قرار، فوقعت في الجامع أسمع بعض القصص لعلي أجد لقلبي راحة، فوجدت قلبي لا يزداد إلا قساوة، فمضيت، ووقفت ببعض الوعاظ، فوجدت قلبي لا يزداد إلا قساوة، فقلت: أمضي إلى بعض أطباء القلوب، ومن يدل المحبب على المحبوب؟ فمضيت، فوجدت قلبي لا يزداد إلا

(1)

وشى به إلى السلطان: نمَّ به وسعى، فهو واش، وجمعها: وُشَاة.

(2)

موه الشيء: أي طلاه بفضة أو ذهب إذا لم يكن جوهره منهما، وموه الحق: لبسه بالباطل، ويقال موه الحديث زخرفه ومزجه من الحق والباطل، وموه عليه الخبر: أخبره بخلاف ما سأله عنه.

(3)

اللعلعة: بصيص، والسراب: تلألأ، وتلعلع من الجوع والعطش: تضور.

(4)

السري بن المغلس أبو الحسن السقطي البغدادي الزاهد، علم الأولياء في زمانه، صحب معروفًا الكرخي، وحدث عن الفضيل بن عياض وهشيم وأبي بكر بن عياش وعلي بن غراب ويزيد بن هارون. وعنه: أبو العباس بن مسروق والجنيد وغيرهم، قال السلمي: السري أول من أظهر ببغداد لسان التوحيد، وتكلم في علوم الحقائق، وهو إمام البغداديين في الإشارات، وقال الجنيد له في مرض موته: أوصني، قال: لا تصحب الأشرار ولا تشغلن عن اللَّه بمجالسة الأخيار، وقال عنه أيضًا: ما رأيت أعبد للَّه من السري؛ أتت عليه ثمان وتسعون سنة ما رُئي مضطجعًا إلا في علة الموت، توفي سنة [257]، وقيل [53]، وقيل [251]. تاريخ الإسلام، وفيات [251 - 260].

ص: 171

قساوة، فمضيت إلى الشرطة، لعلي أعتبر بمن يعاقب في الدنيا، فوجدت قلبي لا يزداد إلا قساوة، فقلت: أمضي إلى المارستان لعلي أرتعد وأنزجر بمن ابتلي، فلما ولجت المارستان

(1)

وجدت قلبي قد انفسح، وصدري قد انشرح.

وإذا أنا بجارية من أنضر الناس وجهًا، عليها أطمار

(2)

حسنة رفيعة، وشممت منها رائحة عطرة، عفيفة المنظر، وسيمة الخطر

(3)

، وهي مقيدة الرجلين، مغلولة اليدين، فلما رأتني تغرغرت عيناها بالدموع، وأنشأت تقول:

أعندك أن تغل يدي

بغير جريرة سبقت

تغل يدي إلى عنقي

وما خانت وما سرقت

وبين جوانحي كبدًا

حنَّ بها قد احترقت

وحقك يا منى قلبي

يمينا برة صدقت

فلو قطتهما قطعًا

وحقك عنك ما رجعت

قال السري: فلما سمعت كلامها قلت لصاحب المارستان: ما هذه الجارية؟ قال: مملوكة اختل

(4)

عقلها فحبسها مولاها لعلها تنصلح، فلما سمعت كلام القيم تشرَّفت

(5)

بدموعها وجعلت تقول:

معشر الناس ما جننت ولكن

أنا سكرانة وقلبي صاحي

أغللتم يدي ولم آت ذنبا

غير جهدي في حبه وافتضاحي

أنا مفتونة بحب حبيب

لست أبغي من بابه من براحي

فصلاحي الذي زعمتم فسادي

وفسادى الذي زعمتم صلاحي

ما على من أحب مولى الموالي

وارتضاه لنفسه من جناحي

قال: سمعت كلامًا أقلقني وأشجاني

(6)

وأحرفني وأبكاني، فلما رأت دموعي قالت: يا سري هذا بكاؤك على صفته، فكيف لو عرفته حق معرفته؟! ثم أغمي عليها ساعة، فلما أفاقت جعلت تقول:

(1)

المارستان: المصحة أو المستشفى.

(2)

الطمر: الثوب الخلق البالي، جمعها: أطمار.

(3)

الخَطْر: اهتز وتبختر فهو خاطر.

(4)

اختل العقل: تغير واضطرب.

(5)

تشرَّفت: رفعت بصرها تنظر إليه.

(6)

أشجن الأمر فلانًا: أحزنه، والشجن: الهم والحزن، وجمعها: شجون وأشجان.

ص: 172

ألبستني ثوب وصل طاب ملبسه

فأنت مولى الورى حقًا ومولاي

كانت لقلبي أهواء مفرقة

فاستجمعت مُذْ رأتك العين مولاي

من غصَّ

(1)

داوى بشرب الماء غُصَّتَهُ

فكيف يصنع من قد غص بالماء

قلبي حزين على ما فات من زللي

والنفس في جسدي من أعظم الداء

والشوق في خاطري مني وفي كبدي

والحب مني مصون في سويدائي

إليك مني قصدت الباب معتذرًا

فأنت تعلم ما ضمته أحشائي

فقلت لها: يا جارية، قالت: لبيك يا سري، قلت: من أين عرفتيني؟ قالت: ما جهلتك مذ عرفت، ولا فترت مذ خدمت ولا انقطعت مذ وصلت، وأهل الدرجات يعرف بعضهم بعضًا، قلت: أسمعك تذكرين المحبة، فمن تحبين؟ قالت: لمن تعرَّف إلينا بنعمائه، وجاد علينا بجزيل عطائه، فهو قريب إلى القلوب، محب لطلب المحبوب، سميع عليم بديع حكيم، جواد كريم، غقور رحيم، فقلت لها: من حبسك ههنا؟ قالت: يا سيدي حاسدون تعاونوا وتعاقدوا وتراسلوا، ثم شهقت حتى ظننت أنها فارقت الحياة، ثم أفاقت وأنشأت تقول:

قلبي أراه أني إلى الأحباب مرتاحا

سكران في حب من هو بالهوى باحا

يا عين جودي بدمع خوف هجرهم

فربَّ دمع أتى للخير مفتاحًا

ورب عين رآها اللَّه باكية

بالخوف منه تنال الروح والراحا

للَّه عبد جنى ذنبًا فأحزنه

فبات يبكي بدر الدمع سفاحا

مستوحش

(2)

خائف مستيقن فطن

كأن في قلبه للنور مصباحًا

قال السري: فقلت لقيِّم

(3)

المارستان: أطلقها، ففعل، فقلت: اذهبي حيث شئت، قالت: يا سيدي إلى أين أذهب؟ ومالي عنه مذهب، إن حبيب قلبي قد ملَّكني لبعض مماليكه، فإن رضي مالكي ذهبت، وإلا صبرت واحتسبت، فقلت: واللَّه هذه أعقل مني، فبينما هي تخاطبني إذ دخل مولاها فقال للقيم: أين تُحفة؟ فقال: هي داخل المارستان

(4)

، وعندها السري السقطي، قال: ففرح ودخل وسلَّم عليَّ،

(1)

غصَّ: بالماء غصًّا وغصصًا: وقف الماء في حلقه فلم يكد يبتلعه، فهو غاصٌّ وغصَّان، والغُصَّة: ما اعترض في الحلق من طعام أو شراب، جمعها غُصُص.

(2)

استوحش: فلان وجد الوحشة، ومنه لم يأنس به.

(3)

القيِّم: من يقوم بالأمر ويسوسه ومن يتولى أمر المحجور عليه، وكتاب قيِّم: ذو قيمة.

(4)

المارستان: المصحة أو المستشفى.

ص: 173

ورحب بي وعظمني، فقلت له: هي أولى بالتعظيم مني؛ فما الذي تكره منها؟ فقال: أمور كثيرة: لا تأكل ولا تشرب، ذاهلة

(1)

العقل مدهوشة اللب، لا تنام ولا تدعنا ننام، كثيرة الفكرة، سريعة الدمعة، ذات زفرة وحنين وبكاء وأنين، وهي بضاعتي اشتريتها بكل مالي؛ بعشرين ألف درهم، وقلت: أنا أربح فيها مثل ثمنها لحسن صنعتها، قلت: وما صنعتها؟ قال: مطربة، قلت: ومنذ كم كان بها هذا الداء؟ قال: منذ سنة، قلت: وما كان بدؤه؟ قال: بينما العود في حجرها وهي تغني وتقول:

وحقك لا نقضت الدهر عهدا

ولا كدَّرت بعد الصفو ودًّا

ملأت جوانحي

(2)

والقلب وجدا

فكيف ألَذُّ وأسلو وأهدى

فيا من ليس لي مولى سواه

تُرَاكَ رضيتني في الناس عبدا

ثم كسرت العود وقامت وبكت، فاتهمتها بمحبة إنسان، فَكَشَفْتُ عن ذلك فلم أجد له أثرًا، فقلت لها: هكذا كان الحديث، فأجابتني بلسان طلق وقلب محزون وهي تقول:

خاطبني الحق من جناني

فكان وعظي على لساني

قربني منه بعد بُعد

وخصني اللَّه واصطفاني

أجيب لما دعيت طوعًا

ملبيا للذي دعاني

وحققت مما جنيت قدما

فوقع الحب بالأماني

قال السري: فقلت له: على الثمن وأزيدك، فصاح وقال: وافقداه من أين لك ثمن هذه وأنت رجل فقير؟!! فقلت له: لا تعجل عليَّ تكون في المارستان حتى آتي بثمنها، ثم ذهبت باكي العين حزين القلب، وواللَّه ما عندي من ثمنها درهم، وبقيت طول الليل أتضرع، فلم أغمض، وأقول: يا رب إنك تعلم سري وجهري، وقد عودتني على فضلك فلا تفضحني، فبينما أنا في المحراب إذا بقارع يقرع الباب، فقلت: من بالباب؟ فقال: حبيب من الأحباب؟ جاء في سبب من الأسباب، بأمر الملك والوهاب، ففتحت الباب، وإذا برجل معه أربعة غلمان وشمعة، فقال: يا أستاذ تأذن لي بالدخول؟ فقلت: ادخل، فدخل، فقلت له: من أنت؟ قال: أحمد بن المثنى قد أعطاني من إذا أعطى لا يبخل بالعطاء، كنت الليلة نائمًا، فهتف بي هاتف

(1)

ذهل الأمر وعنه ذهلًا وذهولًا: نسيه وغفل عنه، وذهل ذهولًا: تدلَّه وغاب عن رشده، وأذهله الأمر: جعله يذهل.

(2)

الجانحة: الضلع القصيرة مما يلي الصدر، وجمعها جوانح.

ص: 174

وقال لي: خذ خمس بدرات

(1)

إلى السري يطيب بها نفسه، ويشتري بها تحفة، فإن لنا بها عناية، فسجدت شكرًا للَّه على ما أولاني من نعمة، وجعلت أتوقع الفجر، فلما صليت الصبح خرجت وأخذت بيد أحمد ومضيت إلى المارستان، فإذا بالموكل بها يتلفت يمينًا وشمالًا، فلما رآني قال: مرحبًا اُدخل فإن لها عند اللَّه عناية؛ هتف بي البارحة هاتف وهو يقول:

إنها منا تنال

ليس تخلو من نوال

ثم ترقَّت وعلت

في كل حال

قال السري: فلما رأتني تحفة تغرغرت عيناها بالدموع وقالت: شهرتني بين المخلوقين، ثم أنشأت تقول:

قد تصبرت حتى

عيل

(2)

في حبك صبري

ضاق من عليَّ وقيدي

وامتهاني فيك صدري

ليسى يخفى عنك أمري

يا مُنَى سُؤْلي وذُخْري

قال: فبينما نحن جلوس إذ دخل مولاها باكي العين حزين القلب متغير اللون، فقلت له: لا تَبْكِ فقد جئناك بما وزنت، وربح خمسة آلاف، قال: لا واللَّه، قلت: وربح عشرة آلاف، قال: لا واللَّه، قلت: وربح المثل، قال لو أعطيتني الدنيا ما قبلت، هي حرة لوجه اللَّه تعالى، فقلت له: ما القصة؟ فقال: وُبِّختُ

(3)

البارحة، أُشهدك أني قد خرجت من جميع مالي، اللهم ركن لي بالسعة كفيلًا، وبالرزق جميلا، فالتفت إلى ابن المثنى، فرأيته يبكي، قلت: ما يبكيك؟ قال: كأن الحق ما رضيني لمَّا ندبني إليه، أشهدك أني قد تصدقت بجميع ما لي لوجه اللَّه - تعالى.

فقامت تحفة ونزعت ما كان عليها ولبست مِدْرَعةً

(4)

من شعر وهي تبكي، فقلنا لها: قد أطلقك اللَّه فما يبكيك؟ فأنشأت تقول:

هربت منه إليه

بكيت فيه عليه

وحقه فهو سُؤلي

لا زلت بين يديه

ومتى أنال وأحظى

بما رجوت لديه؟

قال: ثم خرجنا من الباب، فلما صرنا في بعض الطريق فطلبناها فلم نجدها،

(1)

البدرة: كيس فيه مقدار من المال يتعامل به ويقدم في العطايا، ويختلف باختلاف العهود، وجمعها: بِدَر.

(2)

عِيلَ صبره: نفد: فهو معول.

(3)

وبَّخه: لامه وعذله.

(4)

الدُّرَّاعة: ثوب من صوف.

ص: 175

ومات ابن المثنى في الطريق، ودخلت أنا ومولاها مكة، فبينما نحن فى الطواف إذ سمعت كلام مجروح من كبد مقروح وهو يقول:

محب اللَّه في الدنيا سقيم

تطاول سقمه فدواه رآه

سقاه من محبته بكأس

فأرواه المهيمن

(1)

إذ سقاه

فهام بحبه وسما إليه

فليس يريد محبوبًا سواه

كذاك من ادعى شوقًا إليه

يهيم بحبه حتى يراه

فتقدمت إليها، فلما رأتني قالت: يا سري، قلت: لبيك، من أنت يرحمك اللَّه؟ قالت: لا إله إلا اللَّه، وقع التناكر بعد المعرفة! أنا تحفة، فإذا هي كالخيال، فقلت: يا تحفة ما الذي أفادك الحق بعد انفرادك عن الخلق؟ فقالت: آنسني بقربه، وأوحشني من غيره، قلت لها: مات ابن المثنى، قالت: رحمه الله، لقد أعطاه مولاه من الكرامة ما لا عين رأت

(2)

وهو بجواري في الجنة، قلت: جاء مولاك الذي أعتقك معي، فلم يكن بأسرع ما عاينتها تلقاء الكعبة ميتة، فلما رآها سيدها لم يتمالك أن سقط على وجهه، فحركته، فإذا هو قد قضى نحبه، فأخذت في جهازهما ودفنتهما.

(1)

المهيمن: هو القائم على خلقه بأعمالهم وأرزاقهم وآجالهم، وقيامه عليها باطلاعه واستيلائه وحفظه، فكل مطلع على كنه الأمر مسئول عليه حافظ له فهو مهيمن له. "سلاح المؤمن لابن الإمام"[ص 259].

(2)

حديث: قال اللَّه عز وجل: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" وكذلك حديث: "حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات" قال النووي: قال العلماء: هذا من بديع الكلام وفصيحه وجوامعه التي أوتيها صلى الله عليه وسلم من التمثيل الحسن، ومعناه لا يوصل الجنة إلا بارتكاب المكاره، والنار بالشهوات، وكذلك هما محجوبتان بهما، فمن هتك الحجاب وصل إلى المحجوب. النووي في شرح مسلم [17/ 136] طبعة دار الكتب العلمية.

ص: 176

‌مجلس في المجاهدة

ومعناها نهي النفس عن الهوى، وحملها على الهدى بتمرينها على قبول الصدق في أمورها في كل ناصح، رهبة ورغبة فيما لديه من مطلوبها، وثمرتها تقوية الأعمال وتصفية الأحوال، قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}

(1)

، وقال:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)}

(2)

أي فإنها غاية للمتقين.

ومن أنكر الأعمال فقد خالف حق اليقين، فربقة الربوبية موجبة لذلك إلى حين.

وقال: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)}

(3)

أي انقطع إليه انقطاعًا كليًا لنريك من آياتنا الكبرى.

وقال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)}

(4)

أي فلا يحقر المجاهد القليل، فإنه استدراج لكثير.

وقال: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا}

(5)

.

(لقيت)

(6)

الأينية والكيفية والكمية، وهذا غاية الأمنية.

(1)

سورة العنكبوت [69].

أي الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحبه وأتباعه إلى يوم الدين {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] أي لنبصرنهم سبلنا أي طرقنا في الدنيا والآخرة.

(2)

سورة الحجر [99].

روى البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن [5] باب قوله تعالى:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} [الحجر: 99] قال سالم: اليقين الموت، وقال ابن كثير: وهكذا قال مجاهد والحسن وقتادة وعبد الرحمن بن زيد وغيره. انظر تفسير ابن كثير [2/ 577].

(3)

سورة المزمل [8]. أي أكثر من ذكره وانقطع إليه وتفرغ لعبادته إذا فرغت من أشغالك وما تحتاج إليه من أمور دنياك، كما قال تعالى:{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7)} [الشرح: 7]، وقال ابن عباس ومجاهد وأبو صالح وعطية والضحاك والسدي {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8] أي أخلص له العبادة، وقال الحسن: اجتهد وأبتل إليه نفسك، وقال ابن جرير: يقال للعابد متبتل. "تفسير ابن كثير [4/ 437] ".

(4)

سورة الزلزلة [7].

(5)

سورة المزمل [20] أي جميع ما تقدموه بين أيديكم فهو لكم حاصل، وهو خير مما أبقيتموه لأنفسكم في الدنيا. "تفسير ابن كثير [4/ 439] ".

(6)

كذا بالأصل.

ص: 177

والآيات في الباب كثيرة معلومة ومنها:

{أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}

(1)

.

ومنها: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}

(2)

.

ومنها: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)}

(3)

.

وقال: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}

(4)

أي فيحصي ولا يهمل وينسى.

وأما الأحاديث فنذكر منها سبعة عشر حديثًا مشتملة على بيان خواص المجاهدة من أنواع الجزاء وتأهل كل عبد لها، وتنوع حكمها وعموم إفادتها واحتياج كل أحد إليها، وأنها محملة للأشخاص والأوقات، فلا رونق إلا بها، ولها من الأوقات ما هو أهم، وما يسهل ملابسها تشجيعًا وتشويقًا وإلذاذًا وموافقة وقرب أمد.

وأنواعها أنها زبدة العمر، وفائدة لتحسين عمل أو صدق عهد أو غير ذلك، وما يربح عذر كل أحد ويدفع الضواري عن إقامتها.

الحديث الأول: عن أبي هريرة مرفوعا: "أن اللَّه -تعالى

(5)

- قال: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه"

(6)

رواه البخاري.

(1)

سورة المجادلة [22].

(2)

سورة المائدة [56].

(3)

سورة النازعات [40، 41].

(4)

سورة البقرة [215]. أي مهما صار منكم من فعل معروف فإن اللَّه يعلمه وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء، فإنه لا يظلم أحدًا ثقال ذرة. "تفسير ابن كثير [1/ 251] ".

(5)

الأحاديث القدسية هي من اللَّه سبحانه وتعالى تلقاها النبي صلى الله عليه وسلم بالإلهام أو المنام دون واسطة جبريل واللفظ من عند النبي صلى الله عليه وسلم والمعنى من عند اللَّه، وهو خلاف القرآن الكريم، فالقرآن بلفظه تلقاه النبي صلى الله عليه وسلم من أمين الوحي جبريل من قبل اللَّه -تعالى- بترتيبه الذي عليه مما راجعه عليه جبريل قبل موته صلى الله عليه وسلم، والحديث القدسي ما أضافه النبي صلى الله عليه وسلم إلى رب العزة -جل وعلا- ورواه عنه، والحديث النبوي: ما رواه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يضفه إلى اللَّه -تعالى- ولم يروه عنه.

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه [6502] كتاب الرقاق، [38] باب التواضع، وابن ماجه في سننه [3989] كتاب الفتن [16] باب من ترجى له السلامة من الفتن، والبيهقي في دلائل النبوة [1/ 13] وفي السنن الكبرى [3/ 346]، وابن أبي شيبة في مصنفه [11/ 477]، وابن حجر في تلخيص الحبير [3/ 117]، والزبيدي في الإتحاف [8/ 102]، وذكره الألباني في سلسلة =

ص: 178

وهو دال على أن خاصة التقرب بالعبادات تنويعًا وتكثيرًا وإدامة وإحرازًا، المحبة الكاملة المستيقنة لأحكامها الشريفة، نحو كنت كنت، وإن وإن، وكفى بذلك شرفًا.

كفى شرفًا أني مضاف إليكم

وأني بكم أجي وأرعى وأعرف.

الثاني: عن أنس مرفوعًا يرويه من ربه -تعالى- قال: "إذا تقرب العبد إليَّ شبرًا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعًا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة"

(1)

رواه البخاري أيضا. وهو أيضا من خواص التقريب.

الثالث: فيه أيضًا عن ابن عباس مرفوعًا: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ"

(2)

وهو أيضًا من الخواص، دفع الغير واحتراز هاتين النعمتين.

الرابع: عن عائشة "أنه كان صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، قلت: لم تصنع هذا يا رسول اللَّه وقد غفر اللَّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أفلا أحب أن أكون عبدًا شكورًا" متفق عليه

(3)

واللفظ للبخاري، ونحوه في الصحيحين من حديث المغيرة

(4)

.

= الأحاديث الصحيحة [1640]، والحاكم في المستدرك [4/ 328].

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [7405] كتاب التوحيد، [15] باب قول اللَّه تعالى {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28]، وقوله جل ذكره {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116]، ومسلم في صحيحه [2 - (2675)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [1] باب الحث على ذكر اللَّه تعالى، وأحمد في مسنده [3/ 210، 277]، والزبيدي في الإتحاف [5/ 5، 6، 7]، والسيوطي في الدر المنثور [1/ 149، 195]، والتبريزي في مشكاة المصاببح [2264]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [9/ 27].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [6412] كتاب الرقاق، [1] باب الصحة والفراغ ولا عيش إلا عيش الآخرة، والترمذي [2304] كتاب الزهد، [1] باب الصحة والفراغ نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، والنسائي في الكبرى، كتاب الرقاق، وابن ماجه في سننه [4170] كتاب الزهد، باب الحكمة، والبيهقي في السنن الكبرى [3/ 370]، والحاكم في المستدرك [4/ 306]، وابن أبي شيبة في مصنفه [13/ 243].

(3)

أخرحه البخاري في صحيحه [4837] كتاب تفسير القرآن، باب قوله:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)} [الفتح: 2]، ومسلم في صحيحه [81 - (2820)] كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، [18] باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة، والترمذي في سننه [412]، والنسائي [3/ 219 - المجتبى]، وابن خزيمة في صحيحه [1182، 1183، 1184]، وابن ماجه في سننه [1419]، وأحمد في مسنده [4/ 251، 255]، والبيهقي في السنن الكبرى [2/ 497].

(4)

حديث المغيرة أخرجه البخاري في صحيحه [1130] كتاب التهجد، [6] باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم =

ص: 179

وفيه أن حكمة المجاهدة متنوعة، فهي بسبب ذلك مفيدة لكل أحد ويحتاج إليها ولو كان كاملا، فقيام المغفور له تحقق العبودية وبالشكر يحصل المقام المحمود، وغيره من الشيم المرضية، فقيام الليل مظنة النيل، ولهذا حافظ عليها أكابر المقربين، وتفطَّرت فيها قدما سيد الأولين والآخرين.

الخامس: منها أيضًا: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجدَّ وشدَّ المئزر"

(1)

متفق عليه.

والمراد العشر الأواخر من رمضان

(2)

.

والمئزر الإزار، وهو كناية عن اعتزال النساء، والتشمير للعبادة، وإنما فعل ذلك لأنه محل التعرض لنفحات الرحمة، فالمجاهدة اسم من غيره فيها إحسانه وجماله وتعظيمه.

السادس: عن أبي هريرة مرفوعًا: "المؤمن القوي خير وأحب إلى اللَّه من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن باللَّه ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل: قدر اللَّه وما شاء فعل

(3)

= بالليل حتى ترم قدماه، وفي رقم [4836] كتاب تفسير القرآن، [25] باب قوله:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)} [الفتح: 2] وفي رقم [6471] كتاب الرقاق، [20] باب الصبر عن محارم اللَّه. ومسلم في صحيحه [79 - (2819)] كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، [18] باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [2024] كتاب فضل ليلة القدر، [5] باب العمل في العشر الأواخر من رمضان، ومسلم في صحيحه [7 - (1174)] كتاب الاعتكاف، [3] باب الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان.

(2)

قال النووي: في هذا الحديث أنه يستحب أن يزاد من العبادات في العشر الأواخر من رمضان، واستحباب إحياء لياليه بالعبادات، وأما قول أصحابنا: يكره قيام الليل كله فمعناه الدوام عليه، ولم يقولوا بكراهة ليلة وليلتين والعشر. "النووي في شرح مسلم [8/ 58] طبعة دار الكتب العلمية".

(3)

قال النووي: قال القاضي عياض: قال بعض العلماء: هذا النهي إنما هو لمن قاله معتقدًا ذلك حتمًا، وأنه لو فعل ذلك لم تصبه قطعًا، فأما من رد ذلك إلى مشيئة اللَّه تعالى بأنه لن يصيبه إلا ما شاء اللَّه فليس من هذا، واستدل بقول أبي بكر الصديق رضي الله عنهما في الغار:"لو أن أحدهم رفع رأسه لرآنا". قال القاضي: وهذا لا حجة فيه لأنه إنما أخبر عن مستقبل وليس فيه رد قدر بعد وقوعه، قال: وكذا جميع ما ذكره البخاري في باب ما يجوز من اللو كحديث "لولا حدثان عهد قومك بالكفر لأتممت البيت على قواعد إبراهيم، ولو كنت راجمًا بغير بينة لرجمت هذه. . . الخ" قال القاضي: فالذي عندي في معنى الحديث أن النهي على ظاهره وعمومه، لكنه نهي تنزيه. "النووي في شرح مسلم [16/ 176] طبعة دار الكتب العلمية".

ص: 180

فإن لو تفتح عمل الشيطان"

(1)

. أخرجه مسلم.

وفيه الإشارة إلى تحصيل كل مصلحة مجاهدة أو غيرها بأيسر طريق وأسهله، وهى الحرص والاستعانة وترك العجز؛ فقوة الهمم الإيمانية ترفع أربابها إلى المعالي الأخروية.

السابع: عنه مرفوعًا: "حُجِبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره".

وفي رواية مسلم

(2)

"حُفَّت" بدل "حُجِبت" وهو بمعناه، أي بينه وبينها هذا الحجاب، فإذا فعله دخلها، وهو دال على أن احتمال المكاره والمشاق بأمر وراءه الجنة سهل يسير.

ما ضرَّ من كانت الفردوس جنته

ماذا تحمل من بؤس وأقتار

وفي حديث علي رفعه: "من اشتاق إلى الجنة سارع إلى الخيرات، ومن أشفق من النار نهى عن الشهوات، ومن ترقب الموت ترك اللذات، ومن زهد الدنيا هانت عليه المصيبات"

(3)

.

الثامن: عن حذيفة بن اليمان قال: "صليت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح بالبقرة، فقلت: يركع بعد المائة، ثم مضى

(4)

مُترسِّلًا، إذا مر بآية فيها تسبيح سبَّح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مر بتعوُّذٍ تَعَوَّذَ، ثم ركع، فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، وكان ركوعه نحوًا من قيامه، ثم قال: سمع اللَّه لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ثم قام قيامًا طويلًا قريبًا مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى، فكان

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [34 - (2664)] كتاب القدر، [8] باب في الأمر بالقوة وترك العجز، والاستعانة باللَّه، وتفويض المقادير للَّه، وابن ماجه في سننه [79، 4168]، وأحمد في مسنده [2/ 370] والبيهقي في السنن الكبرى [10/ 89]، والتبريزي في المشكاة [5298]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [10/ 296].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [1 - (2822)]، [51] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، في المقدمة، والترمذي في سننه [2559] وأحمد في مسنده [2/ 260، 308]، وابن المبارك في الزهد [325]، والخطيب في تاريخ بغداد [8/ 184]، والزبيدي في الإتحاف [8/ 626]، والآجري في الشريعة [390].

(3)

أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء [5/ 10]، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين [9/ 334]، وابن عراق في تنزيه الشريعة [2/ 341]، والخطيب في تاريخ بغداد [6/ 301]، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات [3/ 180].

(4)

كذا بالأصل، ولكن هنا نقص نقلناه من مسلم وهو:"ثم مضى فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها يقرأ مترسلًا. . . . " الحديث كما ذكره المصنف.

ص: 181

سجوده قريبًا من قيامة"

(1)

رواه مسلم.

وفيه تسهيل احتمال المجاهدة وصرف مضضها بتخليل المناجاة والمسامرة والدعاء والثناء، ونحو ذلك في أثنائها مع الترفق والتذلل وإطالة نحو السجود والركوع، وشهود نحو العظمة والكبرياء، فمانع ذوق الحلامة من جلاله.

التاسع: عن أبي مسعود قال: "صليت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليلة فأطال حتى هممت بأمر سوء، قيل: وما هممت به؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه"

(2)

أخرجاه.

وفيه تسهيل المجاهدة بمخالطة أهل الجد والاجتهاد، والاقتداء بهم وبموافقتهم؛ فبتركه ذلك جعل ما همَّ به من أمر سوء عنده، ولم يتجاوز عن الهم إلى الفعل.

العاشر: عن أنس مرفوعًا: "يتبع الميت ثلاثة: أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد؛ يرجع أهله وماله ويبقى عمله"

(3)

أخرجاه، وفيه تسهيل المجاهدة والترغيب البليغ فيها؛ فإنها الرفيق الدائم الذي لا يرجع إذا رجع غيره، وبها تمام النفع والأنس والراحة عند الشدائد.

الحادي عشر: عن ابن مسعود مرفوعًا: "الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [203 - (772)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، [27] باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، وقال القاضي: فيه دليل لمن يقول: إن ترتيب السور اجتهاد من المسلمين حين كتبوا المصحف، وأنه لم يكن ذلك من ترتيب النبي صلى الله عليه وسلم بل وكله إلى أمته بعده، قال: وهذا قول مالك وجمهور العلماء، واختاره القاضي أبو بكر الباقلاني، قال ابن الباقلاني: هو أصح القولين مع احتمالهما. . . . إلى آخر كلامه.

"النووي في شرح مسلم [6/ 55] طبعة دار الكتب العلمية".

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [1135] كتاب التهجد، [9] باب طول القيام في صلاة الليل، ومسلم في صحيحه [204 - (773)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، [27] باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، قال النووي: فيه أنه ينبغي الأدب مع الأئمة والكبار وأن لا يخالفوا بفعل ولا قول ما لم يكن حرامًا، واتفق العلماء على أنه إذا شق على المقتدي في فريضة أو نافلة القيام وعجز عنه جاز له القعود، وإنما لم يقعد ابن مسعود للتأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه جواز الاقتداء في غير المكتوبات، وفيه استحباب تطويل صلاة الليل. "شرح مسلم للنووي [6/ 56] طبعة دار الكتب العلمية".

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [6514] كتاب الرقاق، [42] باب سكرات الموت، ومسلم في صحيحه [5 - (2960)] كتاب الزهد والرقائق في المقدمة، والترمذي في سننه [2379]، وأحمد في مسنده [3/ 110]، والنسائي [4/ 53 - المجتبى]، والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 171]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [10/ 4]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [5167]، وابن المبارك في الزهد [224].

ص: 182

نعله، والنار مثل ذلك"

(1)

أخرجه البخاري.

وفيه التسهيل بقصر الأمل وذكر العاقبة.

الثاني عشر: عن ربيعة بن كعب الصفي قال: كنت أبيت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال:"سلني" فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال:"أو غير ذلك" قلت: هو ذاك، قال:"فأعني على نفسك بكثرة السجود"

(2)

رواه مسلم.

الثالث عشر: عن ثوبان مرفوعًا: "عليك بكثرة السجود، فإنك لن تسجد للَّه سجدة إلا رفعك اللَّه بها درجة، وحط عنك بها خطيئة"

(3)

أخرجه مسلم.

الرابع عشر: عن عبد اللَّه بن بسر الأسلمي -بالسين المهملة- مرفوعًا: "خير الناس من طال عمره وحسن عمله"

(4)

رواه الترمذي وحسنه.

الخامس عشر: عن أنس قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال: يا رسول اللَّه، غبت أول قتال قاتلت المشركين، لئن أشهدني اللَّه قتال المشركين ليرين اللَّه ما أصنع، فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون، فقال: اللهم أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني الصحابة- وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء -يعني المشركين- ثم تقدم فاستقبل سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أحد

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [6488] كتاب الرقاق، [29] باب الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك، وأحمد في مسنده [1/ 387، 413]، والبيهقي في السنن الكبرى [3/ 368]، والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 247]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [7/ 125]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [2368].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [226 - (489)] كتاب الصلاة، [43] باب فضل السجود والحث عليه، وأبو داود في سننه في التطوع، والنسائي [2/ 228 - في المجتبى]، وأحمد في مسنده [6/ 208]، والبيهقي في السنن الكبرى [2/ 486]، والسيوطي في الدر المنثور [2/ 182].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [225 - (488)] كتاب الصلاة، [43] باب فضل السجود والحث عليه، وابن ماجه في سننه [1422]، وأحمد في مسنده [5/ 276]، والمنذري في الترغيب والترهيب [1/ 248]، وابن حجر في تلخيص الحبير [2/ 12]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [897].

(4)

أخرجه الترمذي في سننه [2329] كتاب الزهد، باب ما جاء في طول العمر للمؤمن، وأحمد في مسنده [4/ 188، 5/ 40، 43، 47]، والبيهقي في السنن الكبرى [3/ 371]، والحاكم في المستدرك [1/ 339]، وابن أبي شيبة في مصنفه [13/ 254، 256]، والطبراني في المعجم الصغير [2/ 20]، والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 254]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [9/ 51]، والشجري في أماليه [1/ 255]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [5285].

(5)

قال النووي: قوله: أجده دون أحد، محمول على ظاهره، وأن اللَّه -تعالى- أوجده ريحها من =

ص: 183

قال سعد: فما استطعت يا رسول اللَّه ما صنع، قال أنس: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل، ومثَّل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه.

قال أنس: فكنا نرى ونظن أن هذه الآية نزلت فيه وأشباهه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}

(1)

أخرجاه

(2)

، وفيه الاستدراك عما فات من الخيرات والبذل بالمهج، فيا حسرة من أضاع عمره وأساء عمله.

على نفسه فليبك من ضاع عمره

وليس له فيها نصيب ولا سهم

وفيه الثناء عليهم بصدق المعاهدة إبهاج لا يتمالك في الطرب به أهله.

السادس عشر: عن عقبة بن عمرو

(3)

وقال: لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل على ظهورنا، فجاء رجل فتصدق بشيء كثير فقالوا: مُرائي، وجاء رجل فتصدق بصاع، فقالوا: إن اللَّه لغني عن صالح هذا، فنزلت:{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 79] الآية، أخرجاه

(4)

.

ومعنى نحامل: يحمل أحدنا على ظهره بالأجرة، ونتصدق بها، وفيه أن ذا الفاقة يوسع الهمة والجبلة، ويتسبب ويدخل كل مدخل، ويأخذ بالحظ الوافر من أنواع

= موضع المعركة، وقد ثبتت الأحاديث أن ريحها توجد من مسيرة خمسمائة عام. "النووي في شرح مسلم [13/ 43] طبعة دار الكتب العلمية".

(1)

سورة الأحزاب [23].

(2)

أخرجه البخاري [4048] كتاب المغازي، [17] باب غزوة أحد، وأيضًا البخاري [4783]، كتاب تفسير القرآن، سورة الأحزاب، [2] باب {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23]، ومسلم في صحيحه [148 - (1903)] كتاب الإمارة، [41] باب ثبوت الجنة للشهيد.

والترمذي في سننه [3200] كتاب تفسير القرآن، باب من سورة الأحزاب، والنسائي في الكبرى، كتاب المناقب.

(3)

عقبة بن عمرو بن عبر بن عمر بن عدي بن عمرو بن رفاعة بن مودعه بن عدي بن غنم بن ربيعة بن رشدان بن قيس بن جهينة، أبو حامد أبو عامر الجهني، أخرج له أصحاب الكتب الستة، توفي قرب الستين، صحابي مشهور اختلف في كنيته على سبعة أقوال أشهرها أبو حماد، وكان فقيهًا فاضلًا. ترجمته: تهذيب التهذيب [7/ 242]، تقريب التهذيب [2/ 27]، الكاشف [2/ 272]، تاريخ البخاري الكبير [6/ 430]، تاريخ البخاري الصغير [1/ 123]، الجرح والتعديل [6/ 313]، الثقات [3/ 280]، أسد الغابة [4/ 53]، الإصابة [4/ 520].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [4668] كتاب تفسير القرآن، [11] باب قوله {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 79]، ومسلم في صحيحه [72 - (1018)] كتاب الزكاة، [21]، باب الحمل بأجرة يتصدق بها، والنهي الشديد من تنقيص المتصدق بقليل.

ص: 184

المجاهدة، ويتأسى بالإخوان {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)} .

السابع عشر: عن أبي إدريس

(1)

، عن جندب

(2)

، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا مزو هديته فاستهدوني أهدكم

(3)

، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، با عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم، إنكم لن تبلغوا ضُري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أُحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد اللَّه، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه"

(4)

أخرجه

(1)

أبو إدريس الخولاني عائذ اللَّه ين عيد اللَّه بن عمرو، أبو إدريس الخولاني العوذي الدمشقي الشامي، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وسمع من كبار الصحابة، قال سعيد بن عبد العزيز: كان عالم الشام بعد أبي الدرداء، أخرج له أصحاب الكتب الستة، توفي سنة [80].

ترجمته: تهذيب التهذيب [5/ 85]، تقريب التهذيب [1/ 390]، الجرح والتعديل [7/ 200]، التاريخ الكبير [7/ 83]، الثقات [5/ 277]، سير الأعلام [4/ 272]، الوافي بالوفيات [16/ 595].

(2)

كذا بالأصل وما وجدناه في مسلم "عن أبي ذر".

(3)

قال النووي: قال المازري: ظاهر هذا أنهم خلقوا على الضلال إلا من هداه اللَّه -تعالى-، وفي الحديث المشهور:"كل مولود يولد على الفطرة" قال: فقد يكون المراد بالأول وصفهم بما كانوا عليه قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم لو تركوا وما في طباعهم من إيثار الشهوات والراحة، وإهمال النظر لضلوا، وهذا الثاني أظهر، وفي هذا دليل لمذهب أصحابنا وسائر أهل السنة أن المهتدي هو من هداه اللَّه، وبهدي اللَّه اهتدى، وبإرادة اللَّه -تعالى- ذلك، وأنه سبحانه وتعالى إنما أراد هداية بعض عباده وهم المهتدون، ولم يرد هداية الآخرين، ولو أرادها لاهتدوا خلافًا للمعتزلة في قولهم الفاسد أنه سبحانه وتعالى أراد هداية الجميع، جل اللَّه أن يريد ما لا يقع أو يقع ما لا يريد".

النووي في شرح مسلم [16/ 108] طبعة دار الكتب العلمية".

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [55 - (2577)] كتاب البر والصلة والآداب، [15] باب تحريم الظلم، والبيهقي في السنن الكبرى [6/ 93]، والحاكم في المستدرك [4/ 241]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [5/ 125]، والبخاري في الأدب المفرد [490]، والمنذري في الترغيب والترهيب =

ص: 185

مسلم من حديث سعيد بن عبد العزيز عن أبي إدريس الخولاني، عن جندب، قال سعيد، وكان أبو إدريس إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبته، وقال أحمد: ليس لأهل الشام حديث أشرف منه، وفيه (ما يريح)

(1)

عمله عن الأعذار الصارفة لكثير ممن حُرِم عن المجاهدة.

منها ترك الظلم لما ثارت عليه حميَّة نفسه: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ}

(2)

.

ومنها الاستهداء: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57)}

(3)

.

ومنها الاستطعام والاستكساء لمن يتعلل بمعاشه.

ومنها الاستغفار لمن يتوهم عدم قبول عمله من كثرة ذنوبه وإساءته.

ومنها نفي أن توهم عمله كتاب الموجود كرعايا الملوك، وأن عطاياه لا تنفذ، وقد عمل العاملون ما لا يكثر وصفه.

ومنها: إنما هي أعمالكم لمن يتعلل بالأماني البارعة: {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58)}

(4)

.

وأما الحكايات: فالأولى: بعد إيراد حديث زيد بن أرقم

(5)

رضي الله عنهما قال: كان

= [2/ 475]، والزبيدي في الإتحاف [5/ 60]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [2326].

(1)

كذا بالأصل.

(2)

سورة الزمر [56].

أي يوم القيامة يتحسر المجرم المفرط في التوبة والإنابة ويَوَدُّ لو كان من المحسنين المخلصين المطيعين للَّه عز وجل. "تفسير ابن كثير [4/ 60] ".

(3)

سورة الزمر [57].

(4)

سورة الزمر [58].

أي توَدُّ لو أعيدت إلى الدنيا لتحسن العمل، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أخبر اللَّه سبحانه وتعالى ما العباد قائلون قبل أن يقولوه وعملهم قبل أن يعملوه، ولما تمنى أهل الجرائم العود إلى الدنيا وتحسروا على تصديق آيات اللَّه واتباع رسله، قال اللَّه سبحانه وتعالى:{بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)} [الزمر: 59]. "تفسير ابن كثير [4/ 60] ".

(5)

زيد بن أرقم بن زيد بن قيس بن النعمان بن مالك بن الأغر بن ثعلبة، أبو عمرو، أبو عمارة، ويقال: أبو حمزة أبو سعد الأنصاري الخزرجي المدني، صحابي مشهور، أول مشاهده الخندق، وأنزل اللَّه تصديقه في سورة المنافقين، أخرج له أصحاب الكتب الستة، توفي سنة [66، 68]. ترجمته: تهذيب التهذيب [3/ 394]، تقريب التهذيب [1/ 272]، تاريخ البخاري الكبير [3/ 385] تاريخ البخاري الصغير [1/ 120، 161]، الجرح والتعديل [3/ 554]، أسد الغابة [2/ =

ص: 186

لأبي بكر الصديق مملوك يغل عليه، فأتاه ليلة بطعام فتناول منه لقمة، فقال له المملوك: ما لك كنت تسألني كل ليلة ولم تسألني الليلة؟ قال: حملني على ذلك الجوع، من أين جئت بهذا؟ قال: مررت بقوم في الجاهلية فرقيت لهم

(1)

فوعدوني، فلما كان اليوم مررت بهم فإذا عُرس لهم، فأعطوني، فقال: لا أب لك، كدت تهلكني، فأدخل يده في حلقه وجعل يتقيأ، فجعلت لا تخرج، فقيل له: أن هذا لا يخرج إلا بالماء، فدعا بعس من ماء، فجعل يشرب ويتقيأ حتى رمى بها. فقيل له: رحمك اللَّه، كل هذا من أجل هذه اللقمة؟! فقال: لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها؛ سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به"

(2)

فخشيت أن ينبت شئ من جسدي من هذه اللقمة.

وعن أُبي بن كعب رضي الله عنهما قال: ما من عبد ترك شيئًا للَّه عز وجل إلا أبدله اللَّه به ما هو خير منه من حيث لا يحتسب، وما تهاون به عبد وأخذ من حيث لا يصلح إلا أتاه اللَّه عز وجل بما هو أشد عليه من حيث لا يحتسب.

وقال عبد الواحد بن زيد: قال عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنهما: الحق ثقيل مريّ، والباطل خفيف وبّي، ورُبَّ شهوة أورثت حزنًا طويلًا.

وقال عبد الواحد بن زيد

(3)

: مررت براهب في صومعة فقلت لأصحابي: قفوا،

= 276]، الإصابة [2/ 590]، سير الأعلام [3/ 165] والثقات [3/ 139]، والوافي بالوفيات [15/ 22].

(1)

الرقى بآيات القرآن وبالأذكار المعروفة لا نهي فيه، بل هو سنة، ومنهم من قال في الجمع بين الحديثين أن المدح في ترك الرقى للأفضلية وبيان التوكل، والذي فعل الرقى وأذن فيها لبيان الجواز مع أن تركها أفضل، وبهذا قال ابن عبد البر، وحكاه عمن حكاه، والمختار الأول، وقد نقلوا الإجماع على جواز الرقى بآيات وأذكار اللَّه -تعالى- قال المازري: جميع الرقى جائزة إذا كانت بكتاب اللَّه أو بذكره، ومنهي عنها إذا كانت باللغة العجمية أو بما لا يدرى معناه لجواز أن يكون فيه كفر، قال: واختلفوا في رقية أهل الكتاب فجوزها أبو بكر الصديق، وكرهها مالك خوفًا أن يكون مما بدلوه، ومن جوزها قال: الظاهر أنهم لم يبدلوا الرقى فإنهم لهم غرض في ذلك بخلاف غيرها مما بدلوه. "النووي في شرح مسلم [14/ 142] طبعة دار الكتب العلمية".

(2)

أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء [1/ 31] والزبيدى في إتحاف السادة المتقين [5/ 226، 6/ 8، 10] والسيوطي في الدر المنثور [2/ 284]، والعجلوني في كشف الخفا [2/ 176].

(3)

عبد الواحد بن زيد أبو عبيدة البصري العابد القدوة، شيخ الصوفية بالبصرة، روى عن الحسن وعطاء بن أبي رباح، وعبادة بن نسي، وعبد اللَّه بن راشد وجماعة سواهم، وعنه: وكيع ومحمد بن السماك وزيد بن الحباب وأبو سليمان الداراني ومسلم بن إبراهيم وجماعة، وهو ضعيف الحديث، قال البخاري: عبد الواحد بن زيد تركوه، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال ابن حبان: كان ممن غلب عليه العبادة حتى غفل عن الإتقان، فكثرت المناكير في حديثه. "الذهبي في تاريخ الإسلام، وفيات [151 - 160] ".

ص: 187

وكلمته وقلت له: يا راهب، فكشف سترًا على باب صومعته فقلت له: ما علم اليقين؟ فقال: يا عبد الواحد إن أحببت أن تعلم علم اليقين، فاجعل بينك وبين شهوات الدنيا حائطًا من حديد ثم أرخى الستر.

الثانية: قال أحمد بن الفتح: رأيت بشر بن الحارث في منامي وهو قاعد في بستان وبين يديه مائدة يأكل منها، فقلت له: يا أبا نصر ما فعل اللَّه بك؟ قال: رحمني وغفر لي وأباحني الجنة بأسرها، وقال لي: كل من جميع ثمارها، واشرب من أنهارها وتمتع بجميع ما فيها كما كنت تمنع نفسك الشهوات في الدنيا.

الثالثة: حكي أنه لما حضرت أبا موسى الوفاة قال: يا بَنِيّ اذكروا صاحب الرغيف، قالوا: وما صاحب الرغيف؟ قال: كان رجل يتعبد في صومعة أراه سبعين سنة لا ينزل إلا في يوم واحد، قال: فتنه (أوشب)

(1)

الشيطان في عينيه بامرأة، قال: فكان معها سبعة أيام أو سبع ليال، قال: ثم كشف عن الرجل غطاؤه فخرج تائبًا

(2)

فكان كلما خطا خطوة صلى وسجد، فأواه الليل إلى مكان عليه اثنا عشر مسكينًا، فأدركه الإعياء، فرمى بنفسه بين رجلين منهم.

وكان ثمَّ راهب يبعث إليهيم كل ليلة بأرغفة مع رجل فيعطي كل إنسان رغيفًا، ومر على ذلك الرجل الذي خرج تائبًا ظن أنه مسكين، فأعطاه رغيفًا، فقال المتروك لصاحب الأرغفة: ما لك لم تعطني رغيفي؟ قال: تراني أمسكته عنك، هل أعطيت أحدًا منكم رغيفين؟ قالوا: لا، قال: تراني أمسكته عنك، واللَّه لا أعطيك الليلة شيئًا، فعمد التائب إلى الرغيف الذي دفعه إليه، فدفعه إلى الرجل الذي تُرِكَ، فأصبح التائب ميتًا، فوزنت السبعون سنة بالسبع ليالي، فرجحت الليالي، فوزن الرغيف بالسبع ليالي فرجح الرغيف، فقال أبو موسى: يا بَنِيَّ اذكروا صاحب الرغيف.

فائدة: قال سعيد بن المسيب

(3)

- رحمه اللَّه تعالى: ما أكرمت العباد أنفسها

(1)

كذا بالأصل.

(2)

قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)} [النساء: 17] وقال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 104]، وقال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى: 25].

(3)

سعيد بن المسيب بن حزن بن أبى وهب بن عمرو بن عائذ، أبو محمد القرشي المخزومي العائذي المدني الأعور، قال ابن حجر في التقريب: اتفقوا على أن مراسليه أصح المراسيل، وقال ابن المديني: لا أعلم في التابعين أوسع علمًا منه، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وتوفي سنة [94، 93، 100]. ترجمته: تهذيب التهذيب [4/ 84]، تقريب التهذيب [1/ 305، =

ص: 188

بمثل طاعة اللَّه، ولا أماتت أنفسها بمثل معصية اللَّه تعالى.

الرابعة: عن وهيب بن الورد

(1)

رحمه الله قال: يقول اللَّه عز وجل: وعزتي وجلالي وعظمتي، ما من عبد آثر هواي على هواه إلا أقللت همومه، وجمعت عليه ضيعته، ونزعت الفقر من قلبه، وجعلت الغنى بين عينيه، وتجرت له من وراء كل تاجر.

وعزتي وجلالي وعظمتي، ما من عبد آثر هواه على هواي إلا أكثرت همومه، وفرقت عليه ضيعته، ونزعت الغنى من قلبه، وجعلت الفقر بين عينيه، ثم لا أبالي في أي أوديتها هلك.

فائدة: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنهما: إن أخوف ما أخاف اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فَيُنْسي الآخرة.

نادرة: قال أبو محمد الحريري: من استولت عليه النفس صار أسيرًا في حكم الشهوات محصورًا في سجن الهوى، فحرم اللَّه على قلبه الفوائد، فلا يستلذ بكلامه ولا يستحليه وإن كثر ترداده على لسانه.

الخامسة: عن بعضهم قال: انكسرت بنا السفينة وبقيت أنا وامرأتي على لوح، وقد ولدت في تلك الحال صبية فصاحت بي وقالت: قتلني العطش، فقلت: هو ذا يرى حالنا

(2)

فرفعت رأسي، فإذا رجل في الهواء جالس وفي يده سلسلة من ذهب فيها كوز من ياقوت أحمر وقال: هاك اشربا، فأخذنا الكوز وشربنا منه، فإذا هو أطيب من المسك وأبرد من الثلج وأحلى من العسل، فقلت له: من أنت يرحمك اللَّه؟ فقال: عبد لمولاك، فقلت: بما وصلت إلى هذا؟ فقال: تركت الهوى لمرضاته فأجلسني على الهواء، ثم غاب عني فلم أره.

= 306]، تاريخ البخاري الكبير [3/ 510]، الكاشف [1/ 372]، سير الأعلام [4/ 217].

(1)

وهيب بن الورد بن أبي الورد، أبو عثمان أبو أمية القرشي مولاهم المكي، ثقة عابد، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، توفي سنة [153]. ترجمته: تهذيب التهذيب [1/ 170]، تقريب التهذيب [2/ 339]، الكاشف [3/ 246]، تاريخ البخاري الكبير [8/ 177] الجرح والتعديل [9/ 157]، سير الأعلام [7/ 198]، الثقات [7/ 559].

(2)

قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62] قال ابن كثير، ينبه تعالى أنه هو المدعوُّ عند الشدائد، المرجوَّ عند النوازل كما قال تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67]، وقال تعالى:{ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53] وهكذا قال ههنا: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل: 62] أي من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه، والذي لا يكشف ضر المضرورين سواه. "تفسير ابن كثير [3/ 383] ".

ص: 189

وأنشدوا:

بحق الهوى يا أهل وُدِّي تفهموا

لسان جواد

(1)

بالوجود غريب

حرام على قلب تعرض للهوى

يكون لغير الحق فيه نصيب

السادسة: عن إبراهيم الخواص رحمه الله قال: كنت في جبل لكام فرأيت رمَّانًا فاشتهيته، فدنوت وأخذت منه واحدًا، فشققته فوجدته حامضًا، فمضيت وتركته.

فرأيت رجلا مطروحًا وقد اجتمعت عليه الزنابير

(2)

فقلت: السلام عليك، فقال لي: وعليكم السلام يا إبراهيم، فقلت له: أراك حالًّا مع اللَّه -تعالى- فلو سألته أن يحميك ويقيك من هذه الزنابير، قال: وإذا لك حالا مع اللَّه -تعالى- فالوسيلة أن يقيك شهوة الرمان، فإن لدغ الرمان يجد الإنسان ألمه في الآخرة، ولدغ الزنابير لا يجد ألمه إلا في الدنيا، فتركته ومشيت.

السابعة: حكي أن سبب قطع يد أبي الخير أنه كان في جبال أنطاكية وحواليها يطلب المباح وينام بين الجبال، وأنه عاهد اللَّه تبارك وتعالى أن لا يأكل من ثمار الجبال شيئًا إلا ما طرحته الريح، فبقي أيامًا لم تطرح الريح شيئًا، فرأى يومًا شجرة كمثرى فاشتهى منها، فلم يفعل، فأمالتها الريح إليه، فأخذ واحدة، واتفق أن لصوصًا قطعوا هناك الطريق وجلسوا يقتسمون، فوقع عليهم السلطان، فأخذهم فقطع أيديهم وقطعت يده في جملتهم، فلما هم بقطع رجله عرفه رجل فقال للأمير: أهلكت نفسك؛ هذا أبو الخير، فبكى الأمير وسأله أن يجعله في حل ففعل، وقال: أنا أعرف ذنبي، فلذلك سمي الأقطع، وأنشدوا:

نون الهوان من الهوى مسروقة

فأسير كل هوى أسير هوان

الثامنة: عن شيبان بن إبراهيم رحمه الله قال: لقيت إبراهيم بن أدهم بمكة -شرَّفها اللَّه تعالى- في سوق الليل عند مولد النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي ناحية من الطريق، فسلمت عليه وصليت عنده وقلت له: يا أبا إسحاق ما هذا البكاء؟ قال: خير، فعاودته مرة ثانية وثالثة، فلما أطلت عليه السؤال قال لي: يا شيبان إن أنا أخبرتك تبح به أو تستر عليَّ؟ فقلت له: يا أخي قل ما شئت.

فقال: اشتهت نفسي سكباجًا منذ ثلاثين سنة، وأنا أمنعها جهدي، فلما كان البارحة غلبني النوم، وإذا أنا بإنسان من أحسن الناس وجهًا وبيده قدح أخضر يعلو

(1)

أجاد: أتى بالجيد من قولٍ أو عملٍ، ويقال: أجاد الشيء وفيه: صيره جيدًا.

(2)

الزنبار: حشرة أليمة اللسع من الفصيلة الزنبورية، واحدته زنبارة، جمعها: زنابير.

ص: 190

منه البخاري ورائحة السكباج

(1)

، فأجمعت همتي عنه، فقربه مني وقال: يا إبراهيم كل، قلت: ما آكل شيئًا تركته للَّه عز وجل فقال: ولا إن أطعمك اللَّه؟ قال: فما كان لي جواب إلا البكاء، فقال لي: كل يرحمك اللَّه، فقلت: قد أمرنا أن لا نطرح في وعائنا إلا ما نعلم، فقال لي: كل عافاك اللَّه، فإنما ناولني هذا رضوان وقال لي: يا خضر

(2)

اذهب بهذا الطعام فأطعمه للقس إبراهيم بن أدهم، فقد رحمها اللَّه على طول صبرها على ما يحملها من منعها شهوتها، ثم قال: فاللَّه عز وجل يطعمها وأنت تمنعها يا إبراهيم، إني سمعت الملائكة يقولون: من أعطي ولم يأخذ طلب ولم يعط، فقلت: إن كان كذلك فها أنا بين يديك لم آخذ بالعهد مع اللَّه عز وجل وإذا بفتى آخر قد ناوله شيئًا وقال: يا خضر لَقِّمْه، فلم يزل يطعمني بيده فانتبهت وحلاوة ذلك في فمي، ولون الزعفران في شفتي، فدخلت زمزم فغسلت فمي، فلا الرائحة ذهبت، ولا أثر الزعفران، قال شيبان: فقلت له: أرني، فإذا أثره لم يذهب، فقلت: يا من يُطعِم مناع الشهوات إذا صححوا المنع لأنفسهم، يا من ألزم قلوب أوليائه التصحيح، يا من سقى قلوبهم من شراب محبته، أترى لشيبان ذلك عندك، قال: ثم أخذت يد إبراهيم ورفعتها إلى السماء وقلت: اللهم بقدر هذه الكف وقدر صاحبها وحرمته عندك وبالجود الذي وجده منك يا اللَّه جُد على عبدك الفقير إلى فضلك وإحسانك برحمتك يا أرحم الراحمين، وإن لم يستحق ذلك منك يا رب العالمين.

التاسعة: عن بعضهم قال: لقيت رجلًا بالبصرة يعرف بالمسكى، وذلك من شدة ما كان يوجد منه من ريح المسك، حتى إنه إذا دخل المسجد الجامع يعرف أنه قد جاء من شدة الرائحة، وإذا مرَّ في الأسواق كذلك، فقصدته وبت عنده وقلت له: ما أشك أنك محتاج إلى مال كثير في ثمن الطيب، فقال: ما اشتريت طيبًا قط ولا تطيبت بطيب قط، وأنا أحدثك بحديثي لعلك إذا متُّ تترحم عليَّ إذا ذكرتني، كان مولدي ببغداد، وكان أبي موسرًا يعلمني كل ما يعلم الناس أولادهم، وكنت من أحسن الناس وجهًا، وكان فيَّ حياء، فقيل لأبي: لو أجلست ابنك في السوق لينشط، فأجلسني في دكان بزاز، وكنت أجلس عنده طرفي النهار، فلما كان في بعض الأيام

(1)

السكباج: طعام يعمل من اللحم والخل مع توابل وأفاويه، القطعة منه: سكباجة.

(2)

جمهور العلماء على أنه حي موجود بين أظهرنا وذلك متفق عليه عند الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة، وحكاياتهم في رؤيته والاجتماع به والأخذ عنه وسؤاله وجوابه ووجوده في المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن يحصر وأشهر من أن يستر، وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: هو حي عند جماهير العلماء والصالحين والعامة معهم في ذلك، قال: وإنما شذ بإنكاره بعض المحدثين. "النووي في شرح مسلم [15/ 111] طبعة دار الكتب العلمية".

ص: 191

جاءت عجوز فطلبت منه متاعًا مرتفعًا فأخرج لها ما طلبت، فقالت له: تُوَجهُ معي إنسانًا حتى يأخذ ما نحتاج إليه وندفع له الثمن ونرد الباقي معه، فقال لي: تنشط أن تمضي معها، فقلت: نعم، فمضيت معها حتى أدخلتني إلى قصر عظيم فيه قُبَّة، وعلى بابه خُدَّام وحُجَّاب، فلما وصل إلى صحن الدار إذا أنا ببنيان عظيم؛ قبة عليها شارة، فقالت ادخل القبة واجلس فيها، فدخلت فإذا أنا بجارية على سرير عليه فُرش كلها ذهب لم أر أحسن منها وعليها من كل الحلبي، فنزلت عنه وضربت بيدها فيَّ وأخذتني إليها، فقلت لها: اللَّه اللَّه، فقالت: لا بأس عليك، لك عندى ما تحب، فقلت لها: إني حاقب

(1)

فصاحت بالجواري، فإذا بهن أقبلن، فقالت لهن: قدام مولاكن إلى الخلاء، فلما دخلت الخلاء لم أجد لي فيه مسلكا أفر منه، فحللت سراويلي وتغوطت في كفي ومسحت به وجهي وبدني وقلبت عيناي، فدخلت جارية بيدها ماء ومنديل، فصحت في وجهها كالمجنون، فولت هاربة مني وقالت: مجنون، فجاء الجواري ومعهن بساط فأدرجتني وجملتني فطرحتني في بستان، فلما علمت أنهن مضين قمت فغسلت ثيابي ووجهي وسائر بدني، ومضيت إلى منزلي ولم أُحَدِّث به أحدًا، فرأيت تلك الليلة في منامي رجلًا فقال لي: ابن يوسف بن يعقوب

(2)

بن إسحاق بن إبراهيم خليل اللَّه هل تعرفني؟ قلت: لا، فقال: أنا جبريل، فمسح بيده على وجهي وبدني، فمن ذلك الوقت صار لبدني رائحة المسك يفوح على ثيابي، فهذه الرائحة من يد جبريل صلى الله عليه وسلم، وأنشدوا:

إذا خايلتك النفس يومًا بشهوة

وكان عليها للخلاف طريق

فخالف هواها ما استطعت فإنما

هواها عدو والخلاف صديق

العاشرة: روي أنه كان شاب في بني إسرائيل لم يُرَ في زمانه أحسن منه، وكان يبيع القِفَاف، فبينما هو ذات يوم يطوف بقفافه إذ خرجت امرأة من دار ملك من ملوك

(1)

الحاقب: الذي يخش غائطه.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [3382] في كتاب أحاديث الأنبياء، [18] باب {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} [البقرة: 133]، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم؛ يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام" قال النووي: وأصل الكرم كثرة الخير، وقد جمع يوسف عليه السلام مكارم الأخلاق مع شرف النبوة مع شرف النسب، وكونه نبيًا ابن ثلاثة أنبياء متناسلين أحدهم خليل اللَّه عليه السلام وانضم إليهم شرت علم الرؤيا وتمكنه فيه ورياسة الدنيا وملكها بالسيرة الجميلة وحياطته للرعية وعموم نفعه إياهم، وشفقته عليهم وإنقاذه إياهم من تلك السنين واللَّه أعلم. "النووي في شرح مسلم [15/ 110] طبعة دار الكتب العلمية".

ص: 192

بني إسرائيل، فلما رأته رجعت مبادرة فقالت لابنة الملك: إني رأيت شابًا يبيع القفاف لم أر شابًا قط أحسن منه، فقالت لها: أدخليه، فخرجت إليه وقالت: يا فتى ادخل نشتري منك، فدخل، فأغلقت الباب دونه، ثم دخل بابًا آخر فكذلك، حتى أغلقت ثلاثة أبواب، ثم استقبلته بنت الملك كاشفة عن وجهها ونحرها، فقال: اشتروا حاجتكم، فقالت: إنا لم ندعك لهذا، إنما دعوناك لكذا -يعني تراوده عن نفسه- فقال لها: اتق اللَّه، قالت: إن لم تطاوعني على ما أريد أخبرت الملك أنك إنما دخلت عليَّ تكابدني على نفسي، فوعظها، فأبت، فقال: ضعوا لي وضوءًا، فقالت: أعليَّ يتعلل؟! يا جارية ضعي له وضوءًا فوق الجوسق -مكان لا يستطيع أن يفر منه- قال: وكان من فوق الجوسق

(1)

إلى الأرض أربعون ذراعًا، فلما صار في أعلى الجوسق قال: اللهم إني دعيت إلى معصيتك، وإني أختار أن أرمي بنفسي من الجوسق ولا أرتكب المعصية، ثم قال: بسم اللَّه، وألقى بنفسه من أعلى الجوسق، فأهبط اللَّه إليه ملكًا من الملائكة، فأخذ بضبعيه

(2)

فوقع قائمًا على رجليه، فلما صار في الأرض قال: اللهم إن شئت رزقتني رزقًا تقيني به بيع هذه القفاف، فأرسل اللَّه إليه جرادا من ذهب، فأخذ منه حتى ملأ ثوبه، فلما صار في ثوبه قال: اللهم إن كان هذا رزقًا رزقتنيه في الدنيا فبارك لي فيه، فإن كان ينقص مما لي عندك فلا حاجة لي فيه، قال: فنودي أن هذا الذي أعطيناك جزء من خمسة وعشرين جزءًا من أجرك على إلقائك نفسك من هذا الجوسق، فقال: اللهم لا حاجة لي فيما ينقصني عندك في الآخرة، فرفع ذلك منه، وقيل للسلطان: هلا أغريته بارتكاب الفاحشة؟ فقال: كيف أغوي من بذل نفسه للَّه تعالى.

وللَّه در القائل:

وسائل عنهم ماذا يقدمهم

فقلت فعل به عن غيرهم بانوا

صانوا النفوس عن الفحشاء ولو ابتدا

منهن في سبيل العلياء ما صانوا

الحادية عشرة: عن مصعب بن عثمان قال: كان سليمان بن يسار من أحسن الناس وجهًا، فدخلت عليه امرأة فسالته نفسه فامتنع عليها، فقالت: إذن أفضحك، فخرج هاربًا من منزله وتركها فيه، قال سليمان: فرأيت بعد ذلك يوسف عليه السلام

(3)

ص: 193

فيما يرى النائم، وكأني أقول له: أنت يوسف البريء، قال: وأنت سليمان البريء.

الثانية عشرة: قال وهيب بن الورد رحمه الله: بلغنا أن إبليس -لعنه اللَّه- تَبَّدى ليحيى بن زكريا

(1)

عليهما السلام فقال: إني أريد أن أنصحك، قال: كذبت إنك لم تنصحني، فأوحى اللَّه -تعالى- إليه: يا يحيى سله فإنه يَصْدُقُك، فقال: أخبرني عن بني آدم؟ قال: هم عندنا على ثلاثة أصناف: أما صنف منهم فهم أشد الأصناف؛ يقتل حتى نفسه ثم يفزع إلى التوبة والاستغفار ويفسد كل شيء أدركناه منه، ثم يعود إليه فنعود، فلا نحن نيأس منه ولا ننال حاجتنا، فنحن من ذلك في غنى.

وأما الصنف الآخر: فهم بين أيدينا بمنزلة الكرة بين أيدي صبيانكم؛ نلقيهم كيف نشاء، قد كفونا أنفسهم.

وأما الصنف الآخر: فهم مثلك معصومون لا نقدر منهم على شيء.

فقال يحيى عند ذلك: فهل قدرت مني على شيء؟ قال: لا إلا مرة واحدة، فإنك قدمت طعامًا تأكله فلم أزل أشهيه إليك حتى أكلت أكثر مما تريد فنمت تلك الليلة ولم تقم إلى الصلاة كما كنت تقوم إليها، فقال يحيى عليه السلام: لا أشبع من طعام أبدًا

(2)

قال إبليس: لا جرم، لا أنصح آدميًا بعدك أبدًا، وأنشدوا:

وكم من أكلة منعت أخاها

بأكلة ساعة أكلات دهري

وكم من طالب يسعى لشيء

وفيه هلاكه لو كان يدري

ذكر بعض المصنفين هذين البيتين بعد هذه الحكاية وليس ذلك مناسبًا لحال يحيى عليه السلام وإنما يناسب في هذا المعنى:

وكم من أكلة حرمت كثيرًا

من الخيرات في طاعة مولى

ولذَّاتٍ بخلوات تجلى

بها المولى وقد ناجاه ليلًا

(1)

قال تعالى: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)} مريم [12 - 15]. كان ابن المسيب يذكر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد يلقي اللَّه يوم القيامة إلا ذا ذنب إلا يحيى بن زكريا، قال قتادة: ما أذنب ولا هم بامرأة، وقال محمد بن إسحاق: سنده عن ابن المسيب حدثني ابن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكريا". "تفسير ابن كثير [3/ 117] ".

(2)

روى الترمذي في سننه [2380] كتاب الزهد، باب ما جاء في كراهية كثرة الأكل، عن مقدام بن معدي كرب قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول "ما ملا آدمي وعاءً شرًا من بطنه، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لثرابه وثلث لنفسه"، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

ص: 194

‌مجلس في الحث على الازدياد في الخير في أواخر العمر

قال تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ}

(1)

معناه أولم نعمركم ستين، ويؤيده الحديث الآتي، وقيل ثماني عشرة، وقيل أربعين، وكان أهل المدينة إذا بلغ أحدهم أربعين سنة تفرغ للعبادة. والنذير: الشارع، وقيل الشيب، والأول: هو التدبير النقلي، والثاني: العقلي والآية توبيخ من الجليل.

فيقول للمصطرخين حين ذلك إجابة لقولهم {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا}

(2)

والتوبيخ في المتطاول أعظم، وبين ذلك منادي وغايات آخرها الستون.

وأما الأحاديث فلنذكر منها خمسة، ومدارها على الترغيب في الازدياد؛ فإنه فائدة الخلق والأمر وهو المرتجى لأولي الرأي الصيِّب والكمال الباهر فلا يدوم إلا صنعه يوم القدوم.

أحدها: حديث أبي هريرة مرفوعا: "أعذر اللَّه إلى امرئ أخَّر أجله حتى بَلَّغَهُ ستين سنة"

(3)

أخرجه البخاري، أي بلغه الغاية، ففيه الإعذار لمن بلغه والأنذار.

(1)

سورة فاطر [37]. اختلف المفسرون في مقدار العمر المراد ههنا، فعن زين العابدين أنه قال: مقدار سبع عشرة سنة، وقال قتادة: اعلموا أن طول العمر حجة، فنعوذ باللَّه أن نغتر بطول العمر، قد نزلت هذه الآية، وإن فيهم لابن ثماني عشرة سنة، وعن ابن المبارك بسنده عن وهب بن منبه قال: عشرون سنة، وعن الحسن البصري قال: أربعين سنة، وعن ابن جرير بسنده عن ابن عباس: العمر الذي أعذر اللَّه -تعالى- لابن آدم أربعون سنة، ومن طريق آخر عن ابن عباس قال: العمر الذي أعذر اللَّه فيه لابن آدم في قوله: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر: 37] ستون سنة، قال ابن كثير: وهذه الرواية أصح عن ابن عباس، وهي الصحيحة في نفس الأمر أيضًا لما ثبت من حديث علي رضي الله عنهما أنه قال: العمر الذي عيرهم اللَّه به في قوله: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر: 37] ستون سنة. "تفسير ابن كثير [3/ 576، 577] ".

(2)

سورة فاطر [37].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [6419] كتاب الرقاق، [5] باب من بلغ ستين سنه فقد أعذر اللَّه إليه في العمر لقوله {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37]، والسيوطي في الدر المنثور [5/ 254] وابن كثير في تفسيره [6/ 540]، وبلفظ:"من أتت عليه ستون سنة فقد أعذر اللَّه عز وجل إليه في العمر"، أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده [3/ 320]، والبيهقي في السنن الكبرى [3/ 370]، والشجري في أماليه [2/ 247]، والخطيب في تاريخ بغداد [1/ 290].

ص: 195

ثانيها: حديث ابن عباس قال: "كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه" الحديث إلي أن قال له عمر في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} [النصر: 1]، قال:"هو أجل رسول اللَّه أعلمه له، أي ذلك علامة أجلك"

(1)

ووافقه عمر. رواه البخاري

(2)

، ففيه الإعلام بعلامة الأجل النبوي وهو حصول ما أقيم فيه وتمامه، ومثله في آجال الناس قول الشاعر:

إذا الرجال ولدت أولادها

وبليت من كبر أجسادها

وجعلت أمراضها تَعْتَادُهَا

تلك زروع قد دنى حصادها

ثالثها: حديث عائشة: "ما صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت عليه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} [النصر: 1] إلا يقول فيها: "سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي"

(3)

أخرجاه.

وفي رواية لهما: "كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي" يتأول القرآن

(4)

أي بعد ما أُمر به في قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3].

وفي رواية لمسلم: "كان يكثر أن يقول قبل أن يموت: "سبحانك وبحمدك،

(1)

سورة النصر تعدل ربع القرآن، وذلك فيما رواه الترمذي [2895] في فضائل القرآن، باب ما جاء في إذا زلزلت، عن أنس أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لرجل من أصحابه:"هل تزوجت يا فلان؟ " قال: لا واللَّه يا رسول اللَّه ولا عندي ما أتزوج به، قال:"أليس معك قل هو اللَّه أحد؟ " قال: بلى، قال:"ثلث القرآن" قال: "أليس معك إذا جاء نصر اللَّه والفتح؟ " قال: بلى، قال:"ربع القرآن". . . . الحديث، وقال أبو عيسى: حديث حسن.

(2)

أخرجه البخاري [294] كتاب المغازي، باب [53]، ورقم [4430] كتاب المغازي، [85] باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، ورقم [970] كتاب تفسير القرآن، [4] باب يلي باب {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2)} [النصر: 2]، ورقم [3627] في المناقب، [25] باب علامات النبوة في الإِسلام، وأخرجه الترمذي في سننه [3362]، في كتاب تفسير القرآن، باب من سورة النصر.

(3)

أخرجه البخاري [4967] كتاب تفسير القرآن، [1] باب سورة إذا جاء نصر اللَّه، ومسلم في صحيحه [291 - (484)] كتاب الصلاة [42] باب ما يقال في الركوع والسجود، والنسائي [2/ 132، 192 - المجتبى]، وأبو داود في سننه [887] وابن ماجه في سننه [885]، وأحمد في مسنده [1/ 388، 2/ 494]، والبيهقي في السنن الكبرى [2/ 109]، وابن خزيمة في صحيحه [605، 847]، وعبد الرزاق في مصنفه [2878].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [4968] كتاب تفسير القرآن، [2] باب سورة إذا جاء نصر اللَّه. ومسلم في صحيحه [27 - (484)] كتاب الصلاة [42] باب ما يقال في الركوع والسجود.

ص: 196

أستغفرك وأتوب إليك" قالت: يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما هذه الكلمات التي أراك أحدثتها تقولها؟ قال: "جعلت لي علامة في أمتي إذا رأيتها قلتها

(1)

{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} [النصر: 1] " إلى آخر السورة.

وفي رواية له: "كان يكثر من قول: سبحان اللَّه وبحمده استغفره وأتوب إليه"، قلت: يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أراك تكثر من ذلك، فقال:"أخبرني ربي أني سأرى علامة في أمتي، فإذا رأيتها أكثرت من قول: سبحان اللَّه وبحمده، أستغفر اللَّه وأتوب إليه، فقد رأيتها {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} [النصر: 1] فتح مكة"

(2)

.

وناهيك بأكمل الأمة ارتضى الازدياد ليوم المعاد بأمر رب العباد.

الرابع: حديث أنس: "إن اللَّه تابع الوحي على رسوله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته حتى يوفى أكثر ما كان الوحي"

(3)

أخرجاه، ووجهه حتى يتبعه على أوفر أُنْسٍ وأدوم حضور، وأشد شوق، فليكثر اللبيب من الوداد قبل لقاء الأحباب.

الخامس: حديث جابر مرفوعًا: "يبعث كل عبد على ما مات عليه" أخرجه مسلم

(4)

فالعمل بالخاتمة والأمر بالتمام، فطوبى لمن ختم له بالكمال، وحظي من الوصال بأوفر خصال.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [218 - (484)] كتاب الصلاة، [42] باب ما يقال في الركوع والسجود، قال النووي: معنى يتأول القرآن: يعمل ما أمر به في قول اللَّه عز وجل: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر: 3]، وكان صلى الله عليه وسلم يقول هذا الكلام البديع في الجزالة المستوفى ما أمر به في الآية، وكان يأتي به في الركوع والسجود لأن حالة الصلاة أفضل من غيرها، فكان يختارها لأداء هذا الواجب الذي أمر به ليكون أكمل. "النووي في شرح مسلم [4/ 169] طبعة دار الكتب العلمية".

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [220 - (484)] كتاب الصلاة، [42] باب ما يقال في الركوع والسجود، وأحمد في مسنده [6/ 35، 184]، والطبراني في المعجم الكبير [8/ 362]، والهيثمي في مجمع الزوائد [10/ 109]، وابن السني [138]، وذكره ابن الجوزي في العلل المتناهية [2/ 213].

(3)

بنحوه روى البخاري [4998] في فضائل القرآن، [7] باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة قال:"كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض، وكان يعتكف كل عام عشرًا، فاعتكف عشرين في العام الذي قبض".

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [83 - (2878)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، [19] باب الأمر بحسن الظن باللَّه -تعالى- عند الموت، وأحمد في مسنده [3/ 331، 366]، والحاكم في المستدرك [1/ 340، 2/ 452]، 490، وعبد الرزاق في مصنفه [6746]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [5345]، والزبيدي في الإتحاف [5/ 163، 9/ 583]، وابن كثير في تفسيره [3/ 40، 4/ 416].

ص: 197

‌مجلس في فضل الحب في اللَّه تعالى والحث عليه

وإعلام الرجل من يحبه أنه يحبه، وماذا يقول إذا أعلمه قال تعالى:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}

(1)

إلى آخر السورة.

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ}

(2)

.

وروينا في الصحيحين من حديث أنس مرفوعًا: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون اللَّه ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا للَّه، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه اللَّه منه كما يكره أن يقذف في النار"

(3)

.

وروينا فيهما من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "سبعة يظلهم اللَّه في ظله يوم لا ظل إلا ظله

(4)

: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة اللَّه، ورجل قلبه معلق بالمساجد،

(1)

سورة الفتح [29].

قال ابن كثير: هذه صفة المؤمنين أن يكون أحدهم شديدًا عنيفًا على الكفار، رحيمًا برًا بالأخيار، غضوبًا عبوسًا في وجه الكافر، ضحوكًا بشوشًا في وجه أخيه المؤمن. "تفسير ابن كثير [4/ 204] ".

(2)

سورة الحشر [9].

(3)

اخرجه البخاري في صحيحه [16] كتاب الإيمان، [9] باب حلاوة الإيمان، ورقم [21] في الإيمان، [14] باب من كره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار من الإيمان، ورقم [6041] في كتاب الأدب، [42] باب الحب في اللَّه، ورقم [6941] في كتاب الإكراه، [1] باب من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر، ومسلم في صحيحه [67 - (43)] كتاب الإيمان، [15] باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، والنسائي [8/ 94 - المجتبى]، وأحمد في مسنده [3/ 103، 174]، وابن حبان في صحيحه [285 - الموارد]، والمنذري في الترغيب والترهيب [1/ 14]، وعبد الرزاق في مصنفه [20320].

(4)

قال القاضي: إضافة الظل إلى اللَّه -تعالى- إضافة ملك، وكل ظل فهو للَّه وملكه وخلقه وسلطانه، والمراد هنا ظل العرش، وقد يراد به هنا ظل الجنة، وهو نعيمها كما قال تعالى:{وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا} [النساء: 57]، قال القاضي: قال ابن دينار: المراد بالظل هنا الكرامة والكنف والكف عن المكاره في ذلك الموقف، قال: وليس المراد ظل الشمس، قال القاضي: وما قاله معلوم في اللسان؛ يقال: فلان في ظل فلان أي في كنفه وحمايته، ثم قال النووي: وقوله: "ورجلان تحابا في اللَّه اجتمعا عليه وتفرقا عليه" معناه اجتمعا على حب اللَّه، وافترقا =

ص: 198

ورجلان تحابَّا في اللَّه؛ اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف اللَّه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر اللَّه خاليًا ففاضت عيناه"

(1)

.

وروينا في صحيح مسلم عنه مرفوعًا: "أن اللَّه تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؛ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي"

(2)

.

وروينا عنه مرفوعًا: "والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم"

(3)

.

وروينا عنه مرفوعًا: "أن رجلًا زار أخًا له في قرية أخرى، فأرصد اللَّه له على مدرجته ملكًا" وذكر الحديث إلى قوله: "إن اللَّه قد أحبك كما أحببته فيه"

(4)

وقد سلف.

وروينا في الصحيحين من حديث البراء مرفوعًا في الأنصار: "لا يحبهم إلا

= على حب اللَّه، أي كان سبب اجتماعهما حب اللَّه، واستَمَرَّا على ذلك حتى تفرقا من مجلسهما وهما صادقان في حب كل واحد منهما صاحبه للَّه -تعالى- حال اجتماعهما وافتراقهما. "النووي في شرح مسلم [7/ 108] طبعة دار الكتب العلمية".

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [660] كتاب الأذان، [36] باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، وفضل المساجد، ورقم [1423] في الزكاة، [18] باب الصدقة باليمين، ورقم [6806] كتاب المحاربين، [5] باب فضل من ترك الفواحش، ومسلم في صحيحه [91 - (1031)] كتاب الزكاة، [30] باب فضل إخفاء الصدقة، والترمذي [2391]، في الزهد، باب ما جاء في الحب في اللَّه، والنسائي [8/ 222 - المجتبى]، وأحمد في مسنده [2/ 439].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [37 - (2566)] كتاب البر والصلة والآداب، [12] باب في فضل الحب في اللَّه، قال النووي: قوله تعالى: "المتحابون بجلالي" أي بعظمتي وطاعتي لا للدنيا، وقوله تعالى:"يوم لا ظل إلا ظلي" أي أنه لا يكون من له ظل مجازًا كما في الدنيا، وجاء في غير مسلم:"ظل عرشي" قال القاضي: ظاهره أنه في ظله من الحر والشمس ووهج الموقف وأنفاس الخلق، قال: وهذا قول الأكثرين، وقال عيسى بن دينار: معناه كفاه من المكاره وأكرمه وجعله في كنفه وستره، ومنه قولهم السلطان ظل اللَّه في الأرض، وقيل يحتمل أن الظل هنا عبارة عن الراحة والنعيم. "النووي في شرح مسلم [16/ 101] طبعة دار الكتب العلمية".

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [93 - (54)]، ورقم [94 - (54)] كتاب الإيمان، [22] باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، وأن محبة المؤمنين من الإيمان، وأن إفشاء السلام سبب لحصولها، والترمذي [2688] وابن ماجه [68، 3692]، وأحمد في مسنده [1/ 167، 2/ 477]، والبيهقي في السنن الكبرى [10/ 232]، وابن أبي شيبة في مصنفه [8/ 437]، والهيثمي في مجمع الزوائد [1/ 96، 8/ 30].

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [38 - (2567)] كتاب البر والصلة والآداب، [12] باب فضل الحب في اللَّه.

ص: 199

مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، ومن أحبهم أحبه اللَّه، ومن أبغضهم أبغضه اللَّه"

(1)

.

وروينا في الترمذي مصححًا من حديث معاذ مرفوعًا: "قال اللَّه عز وجل: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور، يغبطهم النبيون والشهداء"

(2)

.

ورواه مالك بلفظ: "قال اللَّه: وجبت محبتي للمتحابين فيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتزاورين فيَّ، والمتباذلين فيَّ"

(3)

.

وروينا في جامع الترمذي مصححًا، وسنن أبي داود من حديث المقدام بن معدي كرب مرفوعًا:"إذا أحب الرجل أخاه، فليخبره أنه يحبه"

(4)

.

وروينا في سنن أبي داود والنسائي بإسناد صحيح من حديث معاذ: "أنه صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وقال: "يا معاذ واللَّه إني لأُحبك" فقال: "أوصيك يا معاذ لا تدعنَّ في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"

(5)

.

وروينا في سنن أبي داود من حديث أنس: "أن رجلا كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فمر رجل فقال: يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إني لأحب هذا، فقال له: "أعلمته؟ " قاله: لا، قال: "أعلمه" فلحقه فقال: إني أحبك في اللَّه، فقال: أحبك الذي أحببتني له"

(6)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [3783] كتاب مناقب الأنصار، [4] باب حب الأنصار من الإيمان، ومسلم في صحيحه [129 - (75)] كتاب الإيمان، [33] باب الدليل على أن حب الأنصار من الإيمان، وعلاماته، وبغضهم من علامات النفاق، والترمذي [3900] كتاب المناقب، باب في فضل الأنصار وقريش.

(2)

أخرجه الترمذي [2390] كتاب الزهد، باب ما جاء في الحب في اللَّه، وأحمد في مسنده [5/ 239]، والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 19]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [2/ 131]، والزبيدي في الإتحاف [6/ 174].

(3)

أخرجه مالك في الموطأ [954]، وأحمد في مسنده [5/ 233]، وابن حبان في صحيحه [2510 - الموارد]، والتبريزي في المشكاة [5011]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [5/ 128].

(4)

أخرجه أبو داود في سننه [5124] كتاب الأدب، باب إخبار الرجل بمحبته إليه، والترمذي [2392] كتاب الزهد، باب ما جاء في إعلام الحب.

(5)

أخرجه أبو داود [1522] كتاب الصلاة، باب في الاستغفار، والحاكم في المستدرك [1/ 273، 3/ 273]، وابن حبان في صحيحه [2345 - الموارد]، وابن خزيمة في صحيحه [751]، وأحمد في مسنده [5/ 245]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [1/ 241]، والشجري في أماليه [1/ 239].

(6)

أخرجه أبو داود في سننه [5125] كتاب الأدب، باب إخبار الرجل الرجل بمحبته إياه، والحاكم في المستدرك [4/ 171]، وعبد الرزاق في مصنفه [6907]، والهيثمي في مجمع الزوائد [10/ 182]، وابن أبي عاصم في السنة [2/ 546، 558]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [517].

ص: 200

‌فصل في علامات حب اللَّه للعبد والحث على التخلق بهذا والسعي في تحصيلها

قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}

(1)

الآية.

وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ}

(2)

الآية.

وروينا في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إن اللَّه -تعالى- قال: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وان سألني أعطيته، ولئن استعاذني لأعيذنه"

(3)

.

وروينا في الصحيحين من حديثه مرفوعًا: "إذا أحب اللَّه العبد نادى جبريل: إن اللَّه يحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي في أهل السماء: إن اللَّه يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض"

(4)

وذكر في البغض مثله.

وروينا فيهما من حديث عائشة: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعث رجلًا على سرية، فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم يختم بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1] فلما رجعوا ذكر ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "سلوه لأي شيء يصنع ذلك" فسألوه، فقال: لأنها صفة

(1)

سورة آل عمران [31].

هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة اللَّه وليس على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في نفس الأمر حتى يبلغ الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله، وقوله:{إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] أي يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول كما قال بعض العلماء الحكماء: ليس الشأن أن تحب إنما الشأن أن تُحب. "تفسير ابن كثير [1/ 358] ".

(2)

سورة المائدة [54].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [6502] كتاب الرقاق، [38] باب التواضع، وابن ماجه في سننه [3989] كتاب الفتن [16] باب من ترجى له السلامة من الفتن، والبيهقي في السنن الكبرى [3/ 346]، وابن حجر في التلخيص [3/ 117]، والحاكم في المستدرك [4/ 328]، والزبيدي في الإتحاف [8/ 102].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [6040] كتاب الأدب، [41] باب المقة من اللَّه، أخرجه مسلم في صحيحه [157 - (2637)] كتاب البر والصلة والآداب، [48] باب إذا أحب اللَّه عبدًا حببه إلى عباده، وأحمد في مسنده [5/ 259]، [5/ 263]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [10/ 306]، وعبد الرزاق في مصنفه [19673]، والزبيدي في الإتحاف [8/ 310].

ص: 201

الرحمن

(1)

، فانا أحب أن أقرأ بها، فقال عليه السلام:"أخبروه أن اللَّه يحبه"

(2)

.

وروينا عن مجاهد قال: "قال لي ابن عمر: أحب في اللَّه وأبغض في اللَّه، وعادِ في اللَّه، فإنك لا تنال ولاية اللَّه إلا بذلك، ولا يجد رجل طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصيامه حتى يكون كذلك" فقد صارت مواخاة الناس في أمر الدنيا، وإن ذلك لا يجزئ عن أهله شيئًا.

وقال أبو موسى: سمعت رجلًا سأل أبا يزيد فقال: دلني على عمل أتقرب به إلى ربي؟ قال: أحبب أولياءه ليحبوك، وإن اللَّه -تعالى- ينظر إلى قلوب أوليائه، فلعله ينظر اسمك في قلب وليه فيغفر لك".

ولنذكر حكايات تليق بذلك: فالأولى: قيل: إن رجلًا أتى العلاء بن زياد

(3)

فقال له: إن آتيًا أتاني في منامي فقال: إئت العلاء بن زياد وقل له: كم تبكي فقد غفر اللَّه لك، قال: فبكى، ثم قال: حق لي أن أبكي.

وما في الأرض أشقى من محب

وإن وجد (المنوي)

(4)

حلو المذاق

تراه باكيًا في كل حين

مخافة فرقة أو لاشتياقي

فبكى إن ناءوا شوقًا إليهم

ويبكي إن دنوا خوف الفراق

(1)

قال النووي في قوله: "لأنها صفة الرحمن فانا أحب أن أقرأ بها""أخبروه أن اللَّه يحبه": قال المازري: محبة اللَّه -تعالى- لعباده إرادة ثوابهم وتنعيمهم، وقيل: محبته لهم نفس الإثابة والتنعيم لا الإرادة، قال القاضي: وأما محبتهم له سبحانه فلا يبعد فيها الميل منهم إليه -سبحانه- وهو متقدس على الميل، قال: وقيل: محبتهم له استقامتهم على طاعته، وقيل: الاستقامة ثمرة المحبة وحقيقة المحبة له ميلهم إليه لاستحقاقه سبحانه وتعالى المحبة من جميع وجوهها. "النووي في شرح مسلم [6/ 83] طبعة دار الكتب العلمية".

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [774 م]، كتاب الأذان، [106] باب الجمع بين السورتين في الركعة، ومسلم في صحيحه [263 - (813)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، [45] باب فضل قراءة قل هو اللَّه أحد، والترمذي [2901] كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في سورة الإخلاص، والنسائي [2/ 171 - المجتبى]، والمنذري في الترغيب والترهيب [2/ 381]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [2129].

(3)

العلاء بن زياد بن مطر بن شريح، أبو نصر العدوي البصري، ثقة، أحد العباد، أرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا، وكان زاهدًا خاشعًا قانتًا للَّه بكَّاء، أخرج له البخاري تعليقًا، وأبو داود في المراسيل، والنسائي، وابن ماجه، توفي سنة [94]. ترجمة: تهذيب التهذيب [8/ 181]، تقريب التهذيب [2/ 92]، الكاشف [2/ 360]، تاريخ البخاري الكبير [6/ 507]، تراجم الأحبار [3/ 171].

(4)

كذا بالأصل.

ص: 202

الثانية: عن خير النساج قال: كنا في المسجد فجاء الشبلي في سكره -أي في حالِ وَرَدَ عليه- فنظر إلينا ولم يكلمنا، وهجم على الجنيد وهو جالس في بيته وعنده زوجته، فارادت أن تستتر، فقال لها الجنيد

(1)

: لا عليك هو غائب لا علم له بك، فصفق الشبلي على رأس الجنيد وأنشأ يقول:

عودوني الوصال والوصل عذب

ورموا بالصدود والصد

(2)

صعب

زعموا حين عاينوا أن جرمي

فرط

(3)

حبي لهم وما ذاك ذنب

لا وحق الخضوع عند التلاقي .... ما جزى من يحب إلا بحب

فاهتز الجنيد وقال: هو ذاك يا أبا بكر، فخر مغشيًا عليه، ثم بعد ساعة بكى الشبلي، فقال الجنيد لامرأته: استتري عنه فقد أفاق.

الثالثة: عن ذي النون المصري

(4)

قال: رأيت في جبل لبنان في كهف رجلًا أبيض الرأس واللحية، أشعث أغبر نحيفًا وهو يصلي، فسلمت عليه بعد ما سلم، فرد السلام وقام إلى الصلاة فما زال راكعًا وساجدًا حتى صلى العصر، ثم أسند إلى حجر وجعل يسبح

(5)

ولا يكلمني، فقال له: رحمك اللَّه ادع اللَّه عز وجل لي، فقال: آنسك اللَّه بقربه، فقلت: زدني، فقال: يا بني من آنسه بقربه أعطاه أربع خصال: عزًا

(1)

الجنيد بن محمد بن الجنيد أبو القاسم النهاوندي الأصل، البغدادي القواريري الخزاز، وقيل: كان أبوه قواريريًا يعني زجاجًا، وكان هو خزازًا، كان شيخ العارفين وقدوة السائرين وعلم الأولياء في زمانه، ولد ببغداد بعد العشرين ومائتين، وتفقه على أبي ثور، وسمع من الحسن بن عرفة وغيره، واختص بصحبة السري السقطي، وأبي حمزة البغدادي، وأتقن العلم، ثم أقبل على شبابه واشتغل بما خلق له، وحدث بشيء يسير. توفي سنة [298].

(2)

صدَّ عنه صدًا وصدودًا: أعرض عنه، وفلانًا عن كذا صدًّا: منعه وصرفه.

(3)

الفَرْط: تجاوز الحد، يقال: من فرط شغفه به أو كرهه له.

(4)

ذو النون المصري الزاهد، اسمه ثوبان بن إبراهيم، ويقال: أبو الفياض بن أحمد، ويقال: ابن إبراهيم أبو الفيض، ويقال أبو الفياض الإخميمي، وأبوه نوبي، روى عن مالك والليث وابن لهيعة وفضيل بن عياض وسفيان بن عيينة وسلم الخواص وجماعة، وعنه أحمد بن صبيح الفيومي وربيعة بن محمد الطائي والجنيد بن محمد ومقدام بن داود الرعيني والحسن بن مصعب النخعي وغيرهم، وقال ابن يونس: كان عالمًا فصيحًا حكيمًا أصله من النوبة، توفى سنة [246]. "تاريخ الإسلام، وفيات [241 - 250] ".

(5)

روى البخاري في صحيحه [844] كتاب الأذان [155] باب الذكر بعد الصلاة، عن المغيرة بن شعبة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة:"لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد".

ص: 203

من غير عشيرة، وعلمًا من غير طلب، وغنى من غير مال، وأنسًا من غير جماعة. ثم شهق شهقة، فلم يفق إلا بعد ثلاثة، وأنشدوا:

ترى المحبين صرعى في ديارهم

كفتية الكهف

(1)

لا يدرون كم لبثوا

واللَّه لو حلف العشاق أنهم .... قتلى من الحب يوم البين

(2)

ما حنثوا

ثم قام فتوضأ وسألني كم فاته من صلاته، فأخبرته فقال:

إن ذكر الحبيب هيج شوقي .... ثم حب الحبيب أذهل عقلي

وقد استوحشت من ملاقاة المخلوقين، وأنست برب العالمين، انصرف عني بسلام، فقلت له: رحمك اللَّه، وقفت عليك ثلاثة أيام رجاء الزيارة، وبكيت، فقال: أحبب مولاك، ولا ترد بحبه بديلا، فالمحبون للَّه هم (يتحابان)

(3)

العبَّاد وعلم الزهاد، وهم أصفياء اللَّه وأحباؤه وعباده وأولياؤه، ثم صرخ صرخة وفارق الدنيا، فما كان إلا هُنَيَّةً وإذا بجماعة من العبَّاد ينحدرون من الجبل، فتولوه حتى واروه التراب، فسأل عن اسمه فقال: شيبان المصاب.

وكان فؤادي خاليًا قبل حبكم

وكان يذكر الخلق يلهو ويمرح

فلما دعا قلبي هواك أجابه .... فلست أراه عن قلبك يبرح

(4)

رميت ببين منك إن كنتُ كاذبًا

وإن كنتُ في الدنيا بغيرك أفرح

فإن كان شيء في البلاد بأسرها

إذا غبت عن عيني بعيني تملح

(5)

فإن شئت واصلني وإن شئت لا تصل

فلست أرى قلبي بغيرك يصلح

الرابعة: عن أبي الجوال المغربي قال: كنت جالسًا مع رجل صالح ببيت المقدس، وإذا شاب قد طلع علينا، والصبيان حوله يقذفونه بالحجارة ويقولون: مجنون.

(1)

قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)} [الكهف: 9].

الكهف هو الغار في الجبل وهو الذي لجأ إليه هؤلاء الفتية المذكورون، وأما الرقيم فقال العوفي عن ابن عباس هو واد قريب من أيلة، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: الرقيم: الكتاب، وقال سعيد بن جبير: الرقيم لوح من حجارة كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف ثم وضعوه على باب الكهف. "تفسير ابن كثير [3/ 75] ".

(2)

البين: ما بين القوم من القرابة والصلة والمودة أو العداوة والبغضاء.

(3)

كذا بالأصل.

(4)

برح برحًا وبراحًا: زال، وبرح مكانه زال عنه وغادره، وبراحًا: فارقه.

(5)

ملح الشيء ملاحة: بهج وحسن منظره فهو مليح، جمعها: ملاح.

ص: 204

فدخل المسجد وهو ينادي: اللهم ارحمني من هذه الدار

(1)

فقلت: هذا كلام حكيم، فمن أين لك هذه الحكمة؟

فقال: من أخلص للَّه الخدمة أورثه طريق الحكمة، وأيده بأسباب المعصية، وليس بي جنون وزلق، بل قلق وفَرَق، ثم جعل يقول:

هجرت الورى في حب من جاء بالنعم

وعِفْتُ الكرى

(2)

شوقًا إليه فلم أنم

ومَوَّهْتُ

(3)

دهري بالجنون على الورى

لأكتم ما بي من هواه فما انكتم

فلما رأيت الشوق والحب بالحشا

كشفت قناعي ثم قلت نعم نعم

فإن قيل مجنون فقد جنني الهوى

وإن قيل سقام فما بي من سقم

وحق الهوى والحب والعهد بيننا .... وحرمة روح الأنس في خَدِينِ الظَّلَم

لقد لامني الواشون

(4)

فيك جهالة

فقلت لطرفي أفصح العذر فاحتشم

(5)

فعاتبهم طرفي بغير تكلم .... فأخبرهم أن الهوى يورث السقم

فبالحلم ياذا المَنِّ لا تبعد منى

وقرب من أرى منك يا باري

(6)

النسم

قال: فقلت: أحسنت، لقد غلط من سماك مجنونا، فنظر إليَّ وبكى وقال: أَوَلَا تسألني عن القوم كيف وصلوا فاتصلوا؟ قلت: بلى أخبري، فقال: طَهَّرُوا الأخلاق، ورضوا منه بيسير الأرزاق، وهاموا من محبته في الآفاق، واتزروا بالصدق، وارَتَدَوْا بالإشفاق، وباعوا العاجل الفاني بالآجل الباقي، وركبوا في ميدان السباق، وشمروا تشمير الجهابذة

(7)

الحذاق

(8)

حتى اتصلوا بالواحد الرزاق، فشردهم في الشواهق

(9)

، وغيبهم عن الخلائق، لا يأويهم دار، ولا يقر بهم قرار، فالنظر إليهم

(1)

روى البخاري في صحيحه [6351] كتاب الدعوات [30] باب الدعاء بالموت والحياة، عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يتمنين أحد منكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد متمنيًا للموت فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي".

(2)

الكرى: النعاس، وجمعها: أكراء.

(3)

موه الشيء: طلاه بفضة أو ذهب، وموه الحق لبسه بالباطل، يقال موه الحديث: زخرفه ومزجه من الحق والباطل، وعليه الخبر: أخبره بخلاف ما سأله عنه.

(4)

وشى به إلى السلطان وِشَاية: نمَّ به وسعى، فهو واش، جمعها: وشاة، والوشاء: النمام والكذاب.

(5)

خشم حشما: خجل، احتشم: استحيا.

(6)

الباري: المخترع الموجد.

(7)

الجهباذ، والجهبذ: النقاد الخبير بغوامض الأمور، جمعها: جهابذة.

(8)

حذق فلان العمل: أوغل في ممارسته حتى مهر فيه، فهو حاذق، جمعها: حُذَّاق.

(9)

شهق البناء والجبل ونحوهما شهوقًا: عظم ارتفاعه فهو شاهق، جمعها: شواهق.

ص: 205

اعتبار، ومحبتهم افتخار، وهم صفوة الأبرار، ورهبان أحبار، مدحهم الجبار، ووصفهم النبي المختار، إن حضروا لم يعرفوا، وإن غابوا لم يفتقدوا، وإن ماتوا لم يُشْهَدُوا، قال: فأُنسيت الدنيا عند حديثه، ثم ولى هاربًا، وأنا متأسف عليه.

الخامسة: عن بعض الصالحين قال: حججت سنة من السنين، وكانت سنة كثيرة الجدب

(1)

والسَّموم، فلما كان ذات يوم وقد توسطنا أرض الحجاز، انقطَعْتُ عن الحجاج وغفوت قليلًا، فلم أشعر إلا وأنا وحدي في البرية، فلاح لي شخص أمامي مسرعًا، فلحقته وإذا به غلام أمرد لا نبات بعارضيه كأنه القمر المنير والشمس الضاحية، وعليه أثر الدَّلال والترف، فقلت: السلام عليك يا غلام، فقال: وعليكم السلام يا إبراهيم، فتعجبت منه كل العجب، ورابني أمره، فلم أتمالك أن قلت: يا سبحان اللَّه!! من أين تعرفني، ولم ترني قبلها؟!! فقال لي: يا إبراهيم ما جهلت منذ عرفت ولا قطعت منذ وصلت. فقلت: ما الذي أوقفك في هذه البرية في مثل هذه السنة الكثيرة الجدب والقيظ؟ فأجابني: يا إبراهيم ما آنست بسواه، ولا وافقت غيره، وأنا منقطع إليه بالكلية، مُقرٌّ له بالعبودية، فقلت له: من أين المأكول والمشروب؟ فقال: تكفل لي به المحبوب، فقلت: واللَّه إني خائف عليك لأجل ما ذكرت لك، فأجابني ودموعه تنحدر كاللؤلؤ الرطب وأنشأ يقول:

من ذا يخوفني بالبر أقطعه

إلى المحب وقد قدمت إيمانًا

الحب أقلقني والشوق أزعجني

ولا يخاف محب اللَّه إنسانًا

فلو أجوع فذكر اللَّه يشبعني

ولا أكون بحمد اللَّه عطشانًا

وإن ضعفت فوجد منه يحملني

من الحجاز إلى أقصى خراسانا

فهل لصغري تكون اليوم تحقرني

دع عنك عذلك لي قد كان ما كانا

قال: فقلت له: سألتك باللَّه يا غلام إلا أعلمتني حقيقة عمرك؟ قال: فلقد آليت عليَّ بأجلّ الأيمان عندي، عمري اثنا عشر سنة، ثم قال: ما ألجأك إلى ذلك؟ فقلت: أذهلني ما سمعته منك، فقال: الحمد للَّه على ما أولانا من نعمه وفَضَّلَنَا على كثير من عباده المؤمنين، قال: فتعجبت من حسن وجهه وبهاء طلعته وحلاوة منطقه، فقلت: سبحان الخالق المصور

(2)

فأطرق الغلام إلى الأرض مليًا، ثم رفع رأسه ينظر

(1)

جدب المكان جدبًا: يبس لاحتباس الماء عنه، ويقال أجدبت السنة: صار بها جدب، والقوم أصابهم الجدب، والأرض وجدها جدبة.

(2)

الخالق المقدِّر، وحمل المفسرون قوله تعالى:{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] على معنى التقدير. المصور: المرتب للصور والمخترعات. "انظر سلاح المؤمن لابن الإمام [ص 259] ".

ص: 206

شزرًا وهو يقول:

ويحي إذا كان الجحيم جزائي

ماذا يحل ببهجتي وبهائي

يُبْلي العذاب محاسني ويشينها

ويطول مني بالجحيم بكائي

ويقول لي الجبار جل جلاله

أنسيت عهد ثَمَّ يوم لقائي

وترى وجوه الطائعين كأنها

بدر بدا في ليلة ظلماء

كشفوا الحجاب فعاينوه فأدْهِشُوا

ونسوا نعيمهم وكل رجائي

وكساهم حلل المهابة والرضا

وحبا الوجوه بنظرة وبهاءِ

ثم قال: يا إبراهيم اعلم أن المنقطع من قطعه الحبيب، والمواصل من أخذ من الطاعة بنصيب، ولكن أنت المنقطع عن الحاج يا إبراهيم، فقلت له: نعم، أنا ذلك، سألتك باللَّه إلا دعوت لي أن ألحق من سبقني من أصحابي، قال: فنظرت الغلام قد لمح بطرفه إلى السماء، وتكلم بكلام حرك بها شفتيه، فعند ذلك لحقتني سِنَةٌ وأُغْمِيَ عليَّ، فلم أفق إلا وأنا في وسط الحاج، وزميلي يقول: يا إبراهيم احذر أن تقع عن الراحلة، ولم أدر أصعد الغلام إلى السماء أم نزل إلى الأرض، فلما وقفنا بعرفة ودخلت الحرم، فإذا أنا به متعلق بأستار الكعبة، وهو يبكي ويقول:

تعلقت بالأستار والقبر زرته

وأنت بما في القلب والسر أعلم

أتيت إليه ماشيًا غير راكب

لأني على صغري محب متيم

(1)

هويتك طفلًا حيث لا أعرف المأوى

فلا تعذلوني إنني متعلم

وإن كان قد حانت لديك منيتي

(2)

لعلي بوصلك منك أحظى وأغنم

قال: ثم أرخى نفسه ووقع ساجدًا وأنا أنظر إليه، فحركته فإذا هو قد مات، فتأسفت عليه كل الأسف، ومضيت إلى راحلتي وأخذت ثوبًا، واستعنت بمن يساعدني عليه حتى أواريه، فأتيت إليه فلم أجده، فسألت عنه الحاجَّ جميعه فلم أر له خبرًا، فعلمت أنه قد ستر عن أعين الخلق وأنه لم يره غيري، فأتيت إلى مكاني وأغفيت قليلًا، فرأيته في المنام في موكب عظيم، وهو في أوائلهم، وعليه من النور والحلل ما لا أحسن وصفه، فقلت له: ألست صاحبي؟ قال: نعم، فقلت له: ألست مت؟ قال: قد كان ذلك، فقلت له: واللَّه لقد طلبتك أُكفنك وأصلي عليك فلم أجدك؟ فقال: يا إبراهيم اعلم أن الذي من بلدي أخرجني، وبحبه شوقني، وعن

(1)

تام الهوى فلانًا تيمًا: استولى عليه وذهب بعقله، وتيمه الهوى أو الحبيب تامه.

(2)

المنية: الموت، جمعها: منايا.

ص: 207

أملي غربني، هو كفنني، ما أحوجني، فقلت له: ما فُعل بك بعد ذلك؟ قال: أوقفني بين يديه وقال: ما بُغْيَتُكَ؟ فقلت: أنت، فقال: أنت عبدي حقًا حقًا، ولك عندي أن لا أحجب عنك، فما تريد؟ قلت: أن تشفعني في القرن الذي أنا فيه، قال: قد شفعتك فيه

(1)

، ثم إنه صافحني، واستيقظت وقضيت بقية مناسكي، ولم يفتر قلبي من ذكره، وصارت يدي لها رائحة من تلك المصافحة، فلم تزل في يده حتى قضى نحبه.

السادسة: عن مالك بن دينار قال: خرجت حاجًّا فإذا بشاب يمشي بلا زاد ولا راحلة، فسلمت عليه، فرد السلام، فقلت: أيها الشاب من أين؟ قال: من عنده، قلت: وإلى أين؟ قال: إليه، قلت: وأين الزاد؟ قال: عليه، قلت: إن الطريق لا يقطع إلا بالماء والزاد، فهل معك شيء؟ قال: نعم؛ تزودت عند خروجي بخمسة أحرف، قلت: ما هي؟ قال: كهيعص

(2)

، قلت: وما معناها؟ قال: الكاف من الكافي، والهاء من هادي، والياء من مؤوي، والعين من عالم، والصاد من صادق، فمن كانت صحبته ذلك لا يضيع ولا يخشى ولا يحتاج إلى حمل ماء وزاد، قال: فلما سمعت كلامه نزعت قميصي على أن ألبسه إياه، فأبى أن يقبله، وقال: العُرْيُ خير من قميص الفناء، حلالها حساب وحرامها عذاب، وكان إذا جنَّه الليل يرفع رأسه نحو السماء ويقول: يا من تسره الطاعات ولا تضره المعاصي هب لي ما يسرك واغفر لي ما لا يضرك، فلما أحرم الناس ولبوا قلت: لم لا تلبي؟ فقال: يا شيخ أخشى أن أقول لبيك،

(1)

مذهب أهل السنة جواز الشفاعة عقلًا ووجوبها سمعًا بصريح قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109]، وقوله:{لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] وأمثالها، وبخبر الصادق صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت الآثار التي بلغت بمجموعها التواتر بصحة الشفاعة في الآخرة لمذنبي المؤمنين، وأجمع السلف والخلف ومن بعدهم من أهل السنن عليها، ومنعت الخوارج وبعض المعتزلة منها، وتعلقوا بمذاهبهم في تخليد المذنبين في النار، واحتجوا بقوله تعالى:{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48]، وبقوله تعالى:{مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18]، وهذه الآيات في الكفار، وأما تأويلهم أحاديث الشفاعة بكونها في زيادة الدرجات فباطل، وألفاظ الأحاديث في الكتاب وغيره صريحة في بطلان مذهبهم وإخراج من استوجب النار. "النووي في شرح مسلم [3/ 31] طبعة دار الكتب العلمية".

(2)

اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السور، فمنهم من قال هي مما استأثر اللَّه بعلمه فردوا علمها إلى اللَّه ولم يفسروها، حكاه القرطبي في نفسيره عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود، وقاله الشعبي والثوري والربيع، واختاره ابن حبان، ومنهم من فسرها، واختلف هؤلاء في معناها، فقال عبد الرحمن بن أسلم: هي أسماء السور، وقال الزمخشري: وعليه إطباق الأكثر، وقال مجاهد: هي فواتح افتتح اللَّه بها القرآن. "تفسير ابن كثير [1/ 36] ".

ص: 208

فيقول: لا لبيك ولا سعديك، لا أسمع كلامك، ولا أنظر إليك، ثم مضى فما رأيته إلا في مِنى وهو يقول:

إن الحبيب الذي يرضيه سفك دمي

دمي حلال له في الحل والحرم

واللَّه لو علمت روحي بمن علقت

قامت على رأسها فضلًا عن القدم

بالآي لا تلمني في هواه فلو

عاينت منه الذي عاينت لم تلُم

ويطوف بالبيت قوم لو بخارجه

باللَّه طافوا لأغناهم عن الحرم

ضحى الحبيب بنفسه يوم عيدهم

والناس ضحوا بمثل الشاة والنعم

للناس حج وفي حج إلى سكني

تهدي الأضاحي وأهدي مهجتي

(1)

ودمي

ثم قال: اللهم إن الناس ذبحوا وتقربوا إليك، وليس لي شيء أتقرب به إليك سوى نفسي، فتقبلها مني، ثم شهق شهقة فخرَّ ميتًا، وإذا بقائل يقول: هذا حبيب اللَّه، هذا قتيل اللَّه، قتل بسيف اللَّه فجهزته وواريته، فرأيته في منامي فقلت: ما فُعل بك؟ قال: كما فُعل بشهداء بدر، قتلوا بسيف الكفار، وأنا قتلت بمحبة الجبار.

السابعة: قيل: لما وقف الشبلي بعرفات لم ينطق بشيء حتى غربت الشمس، فلما جاوز العلمين هملت عينه بالدموع، ثم أنشأ يقول:

أروح وقد ختمت على فؤادي

بحبك أن يحل به سواكا

فلو أني استطعت غمضت طرفي

فلم أنظر به حتى أراكا

وفي الأحباب مختص بوجد

وآخر يَدَّعي معه اشتراكا

إذا اشتبكت دموع في خدود

تبين من بكى ممن تَباكى

وكل يدَّعُون وصال ليلى

وليلى لا تُقرَّ لهم بذاكا

الثامنة: عن الجنيد قال: حججت على الوجدة

(2)

، وجاورت بمكة، فكنت إذا دخلت الطواف وإذا بجارية تطوف وتقول:

يأبى الحب أن يخفى وقد كتمته

واضح عندي قد أباح وطنبا

إذا اشتد شوقي هام قلبي بذكره

وإن رمت قربًا من حبيب تقربا

ويبدو فأفنى ثم أحيا بذكره

ويسعدني حتى ألذ وأطربا

قال: فقلت لها: يا جارية أما تتقين اللَّه؛ في مثل هذا المكان تتكلمين بهذا

(1)

المهجة من كل شيء: خالصه، ودم القلب والروح، جمعها: مهج.

(2)

وجد فلان وجدًا: حزن، ووجد به: أحبه، وتواجد: أي تظاهر بالوجد.

ص: 209

الكلام؟!! فالتفتت إليَّ وقالت:

لولا التقى لم ترني

أهجر طيب الوسن

إن التقى شردني

كما ترى عن وطني

أفر من وجدي به

فحبه هيَّمني

(1)

ثم قالت: يا جنيد تطوف بالبيت أم برب البيت، فقلت: أطوف بالبيت، فرفعت رأسها إلى السماء وقالت: سبحانك سبحانك ما أعظم مشيئتك في خلقك، خلق كالأحجار يطوفون بالأحجار، ثم أنشأت تقول:

يطوفون بالأحجار يبغون قربة

إليك وهم أقسى قلوبًا من الصخر

وتاهوا فلم يدروا من التيه من هم

وحلوا بجار القرب في باطن الكفر

وقد أخلصوا في الود غاية صفاتهم

وقامت صفات الود للحق بالذكر

قال الجنيد

(2)

: فغشي عليَّ من قولها، فلما أفقت لم أرها.

وسيكون لنا عودة إلى هذه الحكاية في مجلس الحج -إن شاء اللَّه تعالى- فإنها تليق به.

التاسعة: عن ذي النون المصري قال: رأيت امرأة في تيه بني إسرائيل عليها مدرعة من شعر وخمار من صوف، وفي كفها عُكَّز من حديد، فقلت: السلام عليك، فردت ثم قالت: وذا للرجال وخطاب النساء عافاك اللَّه، فقلت: أخوك ذو النون، فقالت: مرحبًا بك، حياك اللَّه بالسلام، قلت: ما تصنعين ههنا؟ قالت: كلما أتيت إلى بلد يعصى فيه الحبيب يضيق عليَّ فانا أطلب بقعة طاهرة أخرّ عليها ساجدة أناجيه بقلب ذاب من شدة الشوق إلى لقائه.

قلت: ما سمعت أحدًا يذكر الحبيب أحسن من ذكرك، فأي شيء المحبة؟ فقالت: سبحان اللَّه! أنت الحكيم الواعظ تسألني!! أول المحبة تبعث على الكدّ الدائم، حتى إذا وصلت أرواحهم إلى أعلى الصفاء جرَّعتهم من محبته لذيذ الكؤوس ثم صرخت مغشيًا عليها، فلما أفاقت قالت:

(3)

(1)

هام فلان هيمانًا: خرج على وجهه في الأرض لا يدري أين يتوجه، وهام بفلانة: شغف بها.

(2)

من أقوال الجنيد: ما أخذنا التصوف عن القال والقيل، لكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات، وعن الجنيد قال: أعلى درجة الكبر أن ترى نفسك، وأدناها أن تخطر ببالك يعني نفسك، وقال أبو علي الروذباري: قال الجنيد: سألت اللَّه أن لا يعذبني بكلامي، وربما وقع في نفسي أن زعيم القوم أرذلهم. "تاريخ الإسلام للذهبي، وفيات [291 - 300] ".

(3)

أظنه من شعر رابعة العدوية العابدة البصرية المشهورة بالتأله والزهد، والمتوفاة سنة ثمانين =

ص: 210

أحبك حبين؛ حب الهوى

وحب لأنك أهل لذاكا

فأما الذي هو حب الهوى

فذكرٌ شغلت به عن سواكا

وأما الذي أنت أهل له

فكشفك لي الحجب حتى أراكا

ولا حمد في ذا ولا ذاك لي

ولكن لك الحمد في ذا وذاكا

العاشرة: عن ذي النون أيضًا قال: كنت في الطواف فسمعت صوتًا حزينًا، وإذا جارية متعلقة بأستار الكعبة وهي تقول:

أنت تدري يا حبيبي

من حبيبي أنت تدري

ونحول الجسم والدمع

يبوحان بسرّي

قد كتمت الحب حتى

في الهوى قد ضاق صدري

قال ذو النون: فشجاني ما سمعت منها حتى انتحبت وبكيت، ثم قالت: سيدي ومولاي، بحبك لي إلا ما غفرت لي، قال: فتعاظمني ذلك وقلت: يا جارية أما يكفيك أن تقولي بحبي لك، حتى تقولي بحبك لي؟ فقالت: إليك عني يا ذا النون، أما علمت أن للَّه عبادًا أحبهم قبل أن يحبوه؟ أما سمعت اللَّه يقول:{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}

(1)

فسبقت محبته لهم قبل محبتهم له، فقلت: من أين علمتِ أني ذا النون؟!! فقالت: يا بطّال جالت القلوب في ميدان الأسرار فعرفتك، ثم قالت: انظر من خلفك، فأدرت وجهي فلا أدري؛ السماء اقتلعتها أم الأرض ابتلعتها!!

الحادية عشرة: عن سري السقطي

(2)

قال: اشتريت جارية للخدمة، فكانت تخدمني دهرًا طويلًا، وتكتم أمرها ولها محراب تصلي فيه.

فلما كانت في بعض الليالي وجدتها تصلي تارة، وتناجي أخرى، فسمعتهما

= ومائة، ولها ترجمة بتاريخ الإسلام للذهبي، انظر وفيات [171 - 180] وستأتي ترجمتها قريبًا.

(1)

سورة المائدة [54].

يقول تعالى مخبرًا عن قدرته وعظمته أن من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته فإن اللَّه يستبدل به من هو خير لها منه وأشد منعة وأقوم سبيلًا، كما قال تعالى:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]، وقال تعالى:{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)} [إبراهيم: 19، 20]. "تفسير ابن كثير [2/ 71] ".

(2)

السري بن المغلس أبو الحسن السقطي البغدادي الزاهد، علم الأولياء في زمانه، صحب معروفًا الكرخي، وحدث عن الفضيل بن عياض وهشيم وأبي بكر بن عياش وعلي بن غراب ويزيد بن هارون، وعنه أبو العباس بن مسروق والجنيد وأبو الحسن النوري وإبراهيم بن عبد اللَّه المخرمي، وهو إمام البغداديين في الإشارات، توفي سنة [253]. "تاريخ الإسلام للذهبي، وفيات [251 - 260] ".

ص: 211

تقول: بحبك لي إلا فعلت كذا وكذا، فناديتها عند ذلك: لا تقولي هكذا، لكن قولي بحبي إياك، فقالت: يا سيدي: لولا حبه إياي ما أقعدك وأقامني، فلما أصبحت دعوتها وقلت: إنك لا تصلحين لخدمتي بل تصلحين لخدمة مولاك الأكبر، اذهبي فأنت حرة لوجه اللَّه، ثم وصلتها بشيء وسرحتها وندمت على مفارقتها.

الثانية عشرة: عن أبي الأشهب السايح قال: بينما أنا أطوف إذا بجارية تعلقت بأستار الكعبة وهي تقول:

يا وحشتي بعد أنسي

ويا ذلي بعد العز

ويا فقري بعد الغنى

فقلت لها: مالك، أذهب لك مال؟ أو أُصِبْتِ بمصيبة؟ قالت: لا ولكن كان لي قلب فقدته وأنشدت:

كان لي قلب أعيش به

ضاع مني في تقلبه

رب فاردُدْ عليَّ فقد

عيل

(1)

صبري في تَطَلُّبه

وأغث ما دام بي رمق

(2)

يا غياث المستغيث به

فقلت لها: هذه مصيبتك؟ قالت: وأي مصيبة أعظم من فقد القلوب وانقطاعها عن المحبوب؟ فقلت لها: إن حسن صوتك قد عطّل من سمعه عن الطواف، فقالت: يا شيخ البيت بيتك أم بيته؟ قلت: بيته، قالت: الحرم حرمك أم حرمه؟ قلت: بل حرمه، قالت: فدعنا نتدلل عليه على قدر ما استرارنا إليه، ثم قالت: بحبك لي إلا ما رددت عليَّ قلبي، فقلت لها: من أين تعلمين أنه يحبك؟ فقالت: جيَّش من أجلي الجيوش

(3)

، وأنفق الأموال، وأخرجني من دار الشرك وأدخلني دار التوحيد

(4)

وعرفني نفسه بعد جهلي إياه، فهل إلا لعناية؟ قلت: فكيف حبّك له؟ قالت: أعظم شيء وأجله، قلت: وتعرفي الحب؟ قالت: فإذا جهلته فأي شيء أعرف به حلو المجتبى ما اقتصر، فإذا أفرط عاد حبلًا قاتلًا، وفسادًا معضلًا، وهي شجرة غرسها

(1)

عيل صبره: نفد، فهو معول.

(2)

الرمق: بقية الروح، وجمعها: أرماق.

(3)

تقصد الفتوحات الإسلامية التي وصلت إلى بلادها، وأدخلتها في الإسلام، وكانت هذه نعمة عظيمة تَكَرَّم اللَّه بها عليها.

(4)

روى البخاري في صحيحه [25] كتاب الإيمان، [17] باب {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُم} [التوبة: 5] عن ابن عمر: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على اللَّه".

ص: 212

كريم، (ومجناها) لذيذ، ثم ولت وأنشأت تقول:

وذي قلق لا يعرف الصبر والصبرا

له مقلة غبراء أضر بها البكا

وجسم نحيل من شجى لاعج الهوى

بماذا يداوى المستهان من الضنى

ولاسيما والحب صعب مرامه

إذا عطفت منه العواطف بالفتى

الثالثة عشرة: عن محمد بن الحسين البغدادي قال: حججت مرة، فبينا أنا أدور في شوارع مكة، وإذا أنا بشيخ قابض على يد جارية مُتغِّير لونها، نحل جسمها، وعلى وجهها نور ساطع وضياء لامع، وهو ينادي: هل من طالب؟ هل من راغب؟ هل من زايد على عشرين دينارًا؟ وأنا بريء من كل عيب، قال: فدنوت منه، قلت: وما هو؟ قال: اعلم أنها جارية مهمومة؛ قائمة ليلها صائمة نهارها، لا تأكل طعامًا ولا تشرب (مُدَامًا) قد ألفت الانفراد والوحدة في كل أرض وبلدة، فلما سمعت كلامه أحببتها فاشتريتها ورحت بها إلى منزلي فرأيتها مطرقة إلى الأرض، ثم رفعت رأسها إليَّ وقالت: يا مولاي الصغير من أين أنت يرحمك اللَّه؟ قلت: من العراق، قالت: من البصرة أو من الكوفة؟ فقلت: ولا من واحدة منهن، فقالت: لعلك من مدينة السلام ببغداد؟ قلت: نعم، قالت: بخ بخ؛ مدينة الزهاد والعبَّاد، قال: فعجبت وقلت: يا جارية من حجرة إلى حجرة، ينادى عليها من أين لها معرفة بالزهاد والعبَّاد، ثم أقبلت عليها شبه الملاعب لها، وقلت لها: من تعرفي منهم؟ قالت: أعرف مالك بن دينار، وبشر الحافي

(1)

، وصالح المزي، وأبا حاتم السجستاني، ومعروفًا الكرخي

(2)

، ومحمد بن الحسين البغدادي، ورابعة العدوية

(3)

، وشعوانة،

(1)

بشر الحافي بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء أبو نصر المروزي البغدادي الزاهد الكبير، كان عديم النظر زهدًا وورعًا وصلاحًا، كثير الحديث إلا أنه كان يكره الرواية ويخاف من شهوة النفس في ذلك حتى إنه دفن كتبه. ومن قوله: أمس قد مات واليوم في نزاع وغدًا لم يولد بعد، وعنه قال: لا يفلح من ألف أفخاذ النساء، وعنه قال: إذا أعجبك الكلام فاصمت، وإذا أعجبك الصمت فتكلم، وقيل لأحمد بن حنبل: مات بشر فقال: مات رحمه الله وما له نظير في هذه الأمة إلا عامر بن قيس، فإن عامرًا مات ولم يترك شيئًا، وتوفي رحمه الله سنة [227]. "انظر تاريخ الإسلام، وفيات [221 - 230] ".

(2)

معروف الكرخي زاهد العراق وشيخ الوقت، كان أبوه من أعمال واسط من الصابئة، وقال أبو علي الدقاق قال: كان أبواه نصرانيين فأسلماه إلى مؤدب نصراني، فكان يقول له: قل ثالث ثلاثة، فيقول معروف: بل هو الواحد، فيضربه، فهرب، فكان أبواه يقولان: ليته رجع، ثم أسلم أبواه، وذكر السلمي أن معروفًا صحب داود الطائي ولم يصح، ومن أقواله: من كابر اللَّه صرعه، ومن نازعه قمعه، ومن ماكره خدعه، ومن توكل عليه منعه، ومن تواضع له رفعه، وتوفي رحمه الله سنة [200]. "انظر تاريخ الإسلام للذهبي، وفيات [191 - 200] ".

(3)

رابعة العدوية العابدة البصرية المشهورة بالتأله والزهد، وهي رابعة بنت إسماعيل، كنيتها أم =

ص: 213

وميمونة، فأقبلت عليها وقلت لها: من أين لك معرفة هؤلاء؟ قالت: يا فتى كيف لا أعرفهم وهم واللَّه أطباء القلوب ومنّ المحب على المحبوب. فقلت لها: يا جارية أنا محمد بن الحسين، فقالت: لقد سألت اللَّه أن يجمع بيني وبينك يا أبا عبد اللَّه، ما فعل حسن صوتك الذي يحيى به قلوب المريدين وتبكي به عيون السامعين؟ فقلت: باق على حاله، قالت: فباللَّه عليك أسمعني شيئًا من القرآن، فقرأت "بسم اللَّه الرحمن الرحيم" فصرخت صرخة عظيمة، وغشي عليها.

فرششت على وجهها الماء فأفاقت فقالت: يا أبا عبد اللَّه، هذا اسمه فكيف لو عرفته حق معرفته، وفي الجنان رأيته؟ اقرأ يرحمك اللَّه، فقرأت:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ}

(1)

الآية قالت: يا أبا عبد اللَّه، ما عبدنا وثنًا ولا قبلنا صنمًا، اقرأ رحمك اللَّه، فقرأت:{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29] الآية، فقالت: يا أبا عبد اللَّه، لقد ألزمت نفسك القنوط، روح قلبي بين الرجاء والخوف، اقرأ، فقرأت:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)}

(2)

قالت: واشوقاه إلى لقائه؛

= عمرو، وولاؤها للعتكيين، وقد أفرد ابن الجوزي أخبارها في الشاميات، ورابعة العابدة معاصرة لها، فربما تداخلت أخبارهما، ومن أخبارها أن ناسًا استأذنوا على رابعة ومعهم سفيان الثوري، فتذاكروا عندها ساعة وذكروا شيئًا من أمر الدنيا، فلما قاموا قالت لامرأة تخدمها: إذا جاء هذا الشيخ وأصحابه فلا تأذني لهم؛ فإني رأيتهم يحبون الدنيا، وقال أبو سعيد بن الأعرابي: أما رابعة فقد حمل الناس عنها حكمًا كثيرة، وحكى عنها سفيان وشعبة وغيرهما، توفيت -رحمها اللَّه-[180]. تاريخ الإسلام للذهبي، وفيات [171 - 180].

(1)

سورة الجاثية [21].

يقول تعالى: لا يستوي المؤمنون والكافرون كما قال عز وجل: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)} الحشر: 20]، وقال تبارك وتعالى ههنا:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [الجاثية: 21] أي عملوها وكسبوها {أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} [الجاثية: 21] أي نساويهم بها في الدنيا والآخرة {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136] أي ساء ما ظنوا با وبعد لنا أن نساوي بين الأبرار والفجار في الدار الآخرة وفي هذه الدار. "تفسير ابن كثير [4/ 150] ".

(2)

سورة القيامة [22 - 23].

وقال النووي: اعلم أن مذهب أهل السنة بأجمعهم أن رؤية اللَّه -تعالى- ممكنة غير مستحيلة عقلًا، وأجمعوا أيضًا على أن وقوعها في الآخرة، وأن المؤمنين يرون اللَّه -تعالى- دون الكافرين، وزعمت طائفة من أهل البدع: المعتزلة والخوارج وبعض المرجئة أن اللَّه -تعالى- لا يراه أحد من خلقه، وأن رؤيته مستحيلة عقلًا، وهذا الذي قالوه خطأ صريح وجهل قبيح، وقد تظاهرت أدلة الكتاب واجماع الصحابة فمن بعدهم من سلف الأمة على إثبات رؤية اللَّه -تعالى- في الآخرة للمؤمنين. "النووي في شرح مسلم [3/ 15] طبعة دار الكتب العلمية".

ص: 214

يوم يتجلى لأوليائه، اقرأ، فقرأت:{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17)}

(1)

الآيات، قالت: يا أبا عبد اللَّه أراك قد خطبت الحور العين، فهل بذلت من مهورهن شيئًا؟ قلت: يا جارية، دليني فإني مفلس، فقالت: عليك بقيام الليل وصيام النهار، وحب الفقراء والمساكين، ثم أنشأت تقول:

يا خاطب الحوراء في خدرها

وطالب ذاك على قدرها

انهض بجد لا تكن وانيًا

(2)

وجاهد النفس على صبرها

وقم إذا الليل بدا شطره

وصم نهارًا فهو من مهرها

فلو رأت عيناك إقبالها

وقد بدت رمانتا صدرها

وهي تمشي بين أربابها

وعقدها يشرف في نحرها

لهان في عينيك هذا الذي

تراه في دنياك من زهرها

قال: ثم غشي عليها، فرششت على وجهها الماء، فأفاقت، ثم أنشأت تقول:

إلهي لا تعذبني فإني

مقرٌّ بالذي قد كان مني

فكم من زلة لي في الخطايا

عفوت وأنت ذو فضل ومَنِّي

يظن الناس بي خيرًا وإني

لشرُّ الناس إن لم تعف عني

وما لي حيلة إلا رجائي

لعفوك إن عفوت وحسن ظني

قال: ثم غُشي عليها، فدنوت منها، فإذا هي قد ماتت -رحمة اللَّه عليها- فاغتممت لذلك غمًا شديدًا، وخرجت إلى السوق لآخذ في جهازها، فلما رجعت إذا هي قد كُفنت وحُنطت وعليها خضراوتان من حلل الجنة، مكتوب على الكفن سطران: الأول: لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه، والسطر الثاني:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)}

(3)

.

(1)

سورة الواقعة [17].

(2)

الواني: الضعيف البدن، وني في الأمر: فتر وضعف وكلَّ وأعيا.

(3)

سورة يونس [62].

قال الشوكاني: قال الإمام تقي الدين بن تيمية رحمه الله: أولياء اللَّه على طبقتين: سابقون مقربون، وأبرار أصحاب يمين مقتصدون، ذكرهم اللَّه - سبحانه في عدة مواضع من كتابه في أول الواقعة وآخرها، وسورة الإنسان، والمطففين، وسورة فاطر إلى آخر كلامه. وقال الشوكاني: وليس لمنكر أن ينكر على أولياء اللَّه ما يقع منهم من المكاشفات الصادقة الموافقة للواقع، وهذا باب قد فتحه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم قال:"قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد منهم فعمر منهم" والمحدث: الصادق الظن المصيب الفراسة. "انظر قطر الولي على =

ص: 215

قال: فحملتها أنا وأصحابي وصلينا عليها ودفناها وقرأت عند رأسها سورة يس، ورجعت إلى محرابي باكي العين حزين القلب على فراقها، وصليت ركعتين ونمت، فرأيت الجارية في الجنة وعليها الحلل، وهي في مرج من زعفران أفيح، عليها حلل السندس والاستبرق، وعلى رأسها إكليل مرصع بالدرّ والجوهر، وفي رجليها نعلان من، الياقوت الأحمر يفوح منها ريح المسك والعنبر، ووجهها أضوأ من الشمس والقمر، فقلت: مهلًا يا جارية، ما الذي بلغك هذه المنزلة؟ قالت: حُب الفقراء والمساكين، وكثرة الاستغفار، ونقل الأذى عن طريق المسلمين، ثم أنشأت تقول:

طوبى لمن سهرت في الليل عيناه

وبات ذا قلق من حب ولاه

وراح يومًا على تفريطه وبكى

خوفًا لما قد جناه من خطاياه

= حديث الولي [ص 26، 37] طبعة دار الكتب العلمية".

ص: 216

‌مجلس في الوفاء بالعهد وإنجاز الوعد والحذر من الخيانة

قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}

(1)

.

وقال: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ}

(2)

.

وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]

(3)

.

وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)}

(4)

.

وفي هذه الآيات الأمر بالوفاء وإنكار الخَلْف على ذي إيمان، وتشديد الذم له، وتهديد من نكبه بالمقت عند اللَّه، والمقت أشد البغض، وعند اللَّه أبلغ، وقال:{إنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}

(5)

، وقال:{فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ}

(6)

.

وقال: {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا}

(7)

.

وقال: {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ}

(8)

.

وقال: {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ}

(9)

.

وقال: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ}

(10)

.

(1)

سورة الإسراء [34]. {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} [الإسراء: 34] أي الذي تعاهدون عليه الناس، والعقود التي تعاملونهم بها، فإن العهد والعقد كل منهما يسأل صاحبه عنه {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34] أي عنه. "تفسير ابن كثير [3/ 40] ".

(2)

سورة النحل [91].

(3)

سورة المائدة [1]. قال ابن كثير: {أَوْفُوا بِالْعُقُود} [المائدة: 1] قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد يعني بالعقود العهود، وحكى ابن جرير الإجماع على ذلك قال: والعهد ما كانوا يتعاقدون عليه من الحلف وغيره.

(4)

سورة الصف [2، 3]. استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقًا سواء ترتب عليه عزم للموعود أم لا، واحتجوا أيضًا من السنة بما ثبت في الصحيحين أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"آية المنافق ثلاث: إذا وعد أخلف، وإذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان". "تفسير ابن كثير [4/ 357] ".

(5)

سورة آل عمران [9].

(6)

سورة إبراهيم [47].

(7)

سورة الكهف [98].

(8)

سورة طه [97].

(9)

سورة الأنبياء [9].

(10)

سورة الحج [47].

ص: 217

وقال: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ}

(1)

.

وقال: {وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا}

(2)

.

وقال: {إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا}

(3)

.

وقال: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5)}

(4)

.

وقال: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}

(5)

.

وقال: {وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ}

(6)

.

وقال: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}

(7)

.

وقال: {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}

(8)

.

وقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}

(9)

.

وقال: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ}

(10)

.

وقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}

(11)

.

وقال: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ}

(12)

.

وقال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}

(13)

.

وقال: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ}

(14)

الآية.

وقال: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ}

(15)

الآية.

وقال: {وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ}

(16)

.

وقال: {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا}

(17)

.

(1)

سورة الروم [6].

(2)

سورة الإسراء [5].

(3)

سورة الإسراء [108].

(4)

سورة الذاريات [5].

(5)

سورة الروم [60].

(6)

سورة الأحقاف [16].

(7)

سورة غافر [77].

(8)

سورة القصص [13].

(9)

سورة النور [55].

(10)

سورة الأنفال [7].

(11)

سورة النساء [58].

ذكر كثير من المفسرين ان هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة حاجب الكعبة المعظمة، وكان أسلم في الهدنة بين صلح الحديبية وفتح مكة، وسبب نزولها فيه لما أخذ منه رسرل اللَّه صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة يوم الفتح ثم رده عليه.

(12)

سورة البقرة [283].

(13)

سورة المؤمنون [8].

(14)

سورة الأحزاب [72].

(15)

سورة آل عمران [75].

(16)

سورة الأنفال [27].

(17)

سورة النساء [105].

ص: 218

وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا}

(1)

.

وقال: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}

(2)

.

وقال: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ}

(3)

الآية.

وقال: {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)}

(4)

.

وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} .

(5)

وقال: {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا}

(6)

.

وأما الأحاديث فكثيرة نذكر منها ستة أحاديث:

مشتملة على التحذير من إخلافه وغدر العهد، وعلى بيان أهل الوفاء من النبيين والصديقين الذين يرغب أن ينتظم في سلكهم كل لبيب.

أولها: حديث أبي هريرة مرفوعًا: "آية المنافق ثلاثة: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان"

(7)

متفق عليه، زاد مسلم: "وإن صام وصلى وزعم أنه

(1)

سورة النساء [107].

(2)

سورة الأنفال [58].

يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ} قد عاهدتهم {خِيَانَةً} أي نقضًا لما بينك وبينهم من المواثيق والعهود {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ} أي عهدهم {عَلَى سَوَاءٍ} أي أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حرب لهم وهم حرب لك، وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء، أي تستوي أنت وهم في ذلك، وعن الوليد بن مسلم أنه قال في قوله تعالى:{فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} : أي على مهل {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] أي حتى ولو في حق الكفار لا يحبها أيضًا. "تفسير ابن كثير [2/ 327] ".

(3)

سورة الأنفال [71].

(4)

سورة يوسف [52].

(5)

سورة الحج [38].

(6)

سورة التحريم [10]. قال الثوري بسنده عن ابن عباس في هذه الآية {فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم: 10]. قال: ما زنتا، أما خيانة امرأة نوح فكانت تخبر أنه مجنون، وأما خيانة امرأة لوط فكانت تدل قومها على أضيافه، وقال العوفي عن ابن عباس قال: كانت خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما، فكانت امرأة نوح تطلع على سر نوح، فإذا آمن مع نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به، وأما امرأة لوط فكانت إذا أضاف لوط أحدًا أخبرت به أهل المدينة ممن يعمل السوء، وقال الضحاك عن ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط، إنما كانت خيانتهما في الدين. "تفسير ابن كثير [4/ 393] ".

(7)

أخرجه البخاري في صحيحه [33] كتاب الإيمان، [25] باب علامة المنافق، ورقم [2682] كتاب الشهادات، [28] باب من أمر بإنجاز الوعد وفعله الحسن، ورقم [2749] في الوصايا، [8] باب قول اللَّه - تعالى:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12]، ومسلم في صحيحه [107 - (59)] كتاب الإيمان، [25] باب بيان خصال المنافق، وأحمد في مسنده [2/ =

ص: 219

مسلم"

(1)

.

ولا تحذير أبلغ من ذلك، فمن يختار أن يكون في رتبة المنافقين التي هي أسفل الدرجات.

ثانيها: حديث عبد اللَّه بن عمر مرفوعًا: "أربع من كُنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر"

(2)

متفق عليه أيضًا.

ثالثها: حديث جابر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لو قد جاء مال البحرين لأعطينَّك هكذا وهكذا".

فلم يجئ حتى قُبض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فلما جاء، أمر الصديق من كان له عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عِدَةٌ أو دين فليأتينا، فأتيته وقلت: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لي كذا وكذا، فحثى لي حثية فعددتها، فإذا هي خمسمائة، فقال: خذ مثلها

(3)

متفق عليه أيضًا.

= 357]، والبيهقي في السنن الكبرى [6/ 85، 288]، والخطيب في تاريخ بغداد [14/ 70].

(1)

سورة أخرجه مسلم في صحيحه [109 - (59)] كتاب الإيمان، [25] باب بيان خصال المنافق.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [34] كتاب الإيمان، [25] باب علامة المنافق، ورقم [2459] كتاب المظالم، [17] باب إذا خاصم فجر، ورقم [3178] كتاب الجزية والموادعة، [17] باب إثم من عاهد ثم غدر، ومسلم في صحيحه [106 - 58] كتاب الإيمان، [25] باب بيان خصال المنافق، والترمذي في سننه [2632]، وأحمد في مسنده [2/ 189]، والبيهقي في السنن الكبرى [9/ 230، 10/ 74]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [7/ 24]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 593]، والسيوطي في الدر المنثور [1/ 239]، وقال النووي: وقد أجمع العلماء على أن من كان مصدقًا بقلبه ولسانه، وفعل هذه الخصال لا يحكم عليه بكفر ولا هو منافق يخلد في النار، فإن إخوة يوسف صلى الله عليه وسلم جمعوا هذه الخصال، وكذا وجد لبعض السلف والعلماء بعض هذا أو كله، وهذا الحديث ليس فيه -بحمد اللَّه- إشكال، ولكن اختلف العلماء في معناه، والذي قاله المحققون والأكثرون، وهو الصحيح المختار: أن معناه أن هذه الخصال خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافق في هذه الخصال، ومتخلق بأخلاقهم. "النووي في شرح مسلم [2/ 40] طبعة دار الكتب العلمية".

(3)

أخرجه البخاري [3/ 126، 4/ 110، 119]، ومسلم [60 - (2314)] كتاب الفضائل، [14] باب ما سئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شيئًا قط فقال: لا، وكثرة عطائه، وأحمد في مسنده [3/ 307]، والهيثمي في مجمع الزوائد [9/ 14]، والحميدي في مسنده [1233]، وقال النووي: قوله: "فقال: خذ مثليها" يعني خذ معها مثليها فيكون الجميع ألفًا وخمسمائة لأن له ثلاث حثيات، وإنما حتى له أبو بكر بيده لأنه خليفة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيده قائمة مقام يده، وكان له ثلاث حثيات بيد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وفيه إنجاز العِدَةِ، قال الشافعي والجمهور: إنجازها والوفاء بها =

ص: 220

فالصديق وفَّى موعوده، فإنها تُعادل الدين بالنسبة إلى مقامه الغالي.

رابعها: حديث حذيفة قال: "حدثنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا: "أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال

(1)

، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة" ثم حدثنا عن رفع الأمانة قال: "ينام الرجل النومة فتُقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل الوكت، ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل المجل، كجمر دحرجته على رجلك فنفط، تراه منتبرًا، وليس فيه شيء

(2)

-ثم أخذ حصى فدحرجه على رجليه- فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال: إن في بني فلان رجلًا أمينًا، حتى يقال للرجل، ما أجلده، ما أظرفه، ما أعقله، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان".

ولقد أتى عليَّ زمان وما أبالي أيَّكُمْ بايعت، لئن كان مسلما ليَرُدَّنَّهُ عليَّ دينه، ولئن كان نصرانيًا أو يهوديًا ليرُدَّنَّهُ علي ساعيه، وأما اليوم فما كنت لأبايع

(3)

منكم إلا فلانًا وفلانا"

(4)

متفق عليه.

= مستحب لا واجب وأوجبه الحسن وبعض المالكية. "النووي في شرح مسلم [15/ 60] طبعة دار الكتب العلمية".

(1)

الجذر بفتح الجيم وكسرها لغتان، وبالذال المعجمة فيهما وهو الأصل، قال القاضي عياض رحمه الله: مذهب الأصمعي في هذا الحديث فتح الجيم، وأبو عمرو يكسرها، وأما الأمانة فالظاهر أن المراد بها التكليف الذي كلف اللَّه -تعالى- به عباده، والعهد الذي أخذه عليهم، قال الإمام أبو الحسن الواحدي رحمه الله في قول اللَّه - تعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} [الأحزاب: 72] قال ابن عباس رضي الله عنهما: هي الفرائض التي افترضها اللَّه -تعالى- على العباد، وقال الحسن: هو الدين، والدين كله أمانة، وقال أبو العالية: الأمانة ما أمروا به وما نهوا عنه، وقال مقاتل: الأمانة الطاعة. "النووي في شرح مسلم [2/ 143] طبعة دار الكتب العلمية".

(2)

قوله: "كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرًا وليس فيه شيء" فالجمر والدحرجة معروفان، ونفط بفتح النون وكسر الفاء، ويقال: تنفط بمعناه، ومنتبرًا: مرتفعًا، وأصل هذه اللفظة الارتفاع، ومنه المنبر لارتفاعه لارتفاع الخطيب عليه، وقوله:"ثم أخذ حصى فدحرجه"، ووقع في أكثر الأصول "ثم أخذ حصاة فدحرجه" بإفراد لفظ الحصاة، وهو صحيح أيضًا، ويكون معناه دحرج ذلك المأخوذ أو الشيء وهو الحصاة، واللَّه أعلم. "النووي في شرح مسلم [2/ 145] طبعة دار الكتب العلمية".

(3)

قال القاضي عياض وصاحب التحرير: وحمل بعض العلماء المبايعة هنا على بيعة الخلافة وغيرها من المعاقدة والتحالف في أمر الدين، قالا: وهذا خطأ من قائله، وفي الحديث مواضع تبطل قوله؛ منها قوله:"ولئن كان نصرانيًا أو يهوديًا" ومعلوم أن النصراني واليهودي لا يعاقد على شيء من أمور الدين، واللَّه أعلم. "المرجع السابق [2/ 145] ".

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [6497] كتاب الرقاق، [35] باب رفع الأمانة، ومسلم في صحيحه =

ص: 221

خامسها: حديث حذيفة أيضًا وأبي هريرة "في إتيان الناس يوم القيامة إلى آدم وغيره، إلى أن يأتوا إلى نبينا -صلوات اللَّه وسلامه عليه- فيُؤذن له، وترسل الأمانة والرحم فيقومان جنبتي الصراط يمينًا وشمالًا، فيمر أولكم كالبرق" الحديث

(1)

رواه مسلم.

سادسها: حديث عبد اللَّه بن الزيير الطويل في صحيح البخاري، وأن والده كان يستودع المال فيقول: لا ولكن هو سلف فإني أخشى عليه الضيعة، فمات وعليه من الدين ألفا ألف، فوافى وقسم الباقي، ورفع الثلث، وكان للزبير أربع نسوة، فأصاب كل امرأة ألف ألف ومائتا ألف، فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف

(2)

.

ونذكر من الحكايات أيضًا ستة:

الأولى: قال بعضهم: كنت بمكة فجاءني رجل من أهل اليمن فقال: جئتك بهدية، ثم قال لرجل كان معه: حدِّث ما كان منك، قال: خرجت من صنعاء حاجًا فشيعني جماعة وقال لي رجل منهم: إذا زرت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأقرئه مني السلام وعلى سائر الصحابة، قال: فدخلت المدينة ونسيت ذلك، فخرجنا إلى ذي الحليفة لنُحرم، فتذكرت الأمانة، فرجعت إلى المدينة وفعلت ما استودعني، فأدركني الليل ورحلت القافلة فنمت في المسجد، فرأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: هذا أبو الوفا وأخذ بيدي فوُضعت بمكة، فأقمت زمانًا حتى وردت رفقتي.

الثانية: عن إبراهيم بن أدهم أنه حج، فبينما هو في الطواف، وإذا بشاب حسن قد أعجب الناس حسنه وجماله، فجعل إبراهيم ينظر إليه ويبكي، فقال بعض

= [230 - (143)] كتاب الإيمان، [64] باب رفع الأمانة والإيمان من يحض القلوب، وعرض الفتن على القلوب، والترمذي [2179] كتاب الفتن، باب ما جاء في رفع الأمانة، وأحمد في مسنده [5/ 383]، والبيهقي في السنن الكبرى [10/ 122]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [1/ 271، 8/ 258]، والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 4]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [5381]، وأبو عوانة في مسنده [1/ 52]، والحميدي في مسنده [446].

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [329 - 195] كتاب الإيمان، [84] باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، قوله صلى الله عليه وسلم:"وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط قال النووي: وأما إرسال الأمانة والرحم فهو لِعِظَمِ أمرهما وكبير موقعهما، فتصوران مشخصتين على الصفة التي يريدها اللَّه -تعالى-، وقال صاحب التحرير: في الكلام اختصار والسامع فهم أنهما تقومان لتطالبا كل من يريد الجواز بحقهما. "النووي في شرح مسلم [3/ 60] طبعة دار الكتب العلمية".

(2)

انظر الحديث بطوله في صحيح البخاري [3129] كتاب فرض الخمس، [13] باب بركة الغازي في ماله حيًّا وميتًا مع النبي صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر.

ص: 222

أصحابه: إنا للَّه وإنا إليه راجعون، غفلة دخلت على الشيخ بلا شك، ثم قال: يا سيدي ما هذا النظر الذي يخالطه البكاء؟ فقال له إبراهيم إني عقدت مع اللَّه عهدًا لا أفسخه، هذا الفتى ولدي تركته صغيرًا فارًّا إلى اللَّه، وإني لأستحي أن أعود إلى شيء خرجت عنه، وأنشدوا:

ولا عرضت لى نظرة مذ عرفته

مدى الدهر إلا كان لي حيث أنظر

أغار على طرفي له فكأنني

إذا رام طرفي غيره لست أبصر

أيا منتهى سؤلي وذخري

(1)

وعدتي

ودادك في قلبي إلى يوم أُحشر

ثم قال لي: امض وسلم عليه لعلي أتسلى بسلامك عليه، وأبرد نارًا على كبدي، فأتيته وقلت: بارك اللَّه فيك لأبيك، قال: يا عم وأين أبي؟ إنه خرج فارًا إلى اللَّه، ليتني أراه ولو مرة واحدة، وتخرج نفسي عند ذلك، هيهات، وخنقته العبرة، وقال: واللَّه أود لو أني رأيته وأموت في مكاني، ثم بكى وأنشد:

لقد حكم الزمان عليَّ حتى

يراني في هواك كما تراني

حبيبي إن بعدت فإن قلبي

على مرّ الزمان إليك دابي

وإن بعدت ديارك عن دياري

فشخصك ليس يبرح عن عياني

لقد أسكنت حبك في فؤادي

مكانا ليس يعرفه جناني

كأنك قد ختمت على ضميري

فغيرك لا يمر على لساني

ثم رجعت إلى إبراهيم وهو ساجد وقد بل الحصى بدموعه وهو يتضرع للَّه ويقول:

هجرت الخلق طرًا

(2)

في رضاكا

وأيتمت العيال لكي أراكا

فلو قطعتني في الحب إربًا

لما سكن الفؤاد إلى سواكا

قال: فقلت: ادع اللَّه له، فقال: حجبه اللَّه عن معاصيه وأعانه على ما يرضيه.

الثالثة: عن يوسف بن الحسين قال: بلغني أن ذا النون يعلم اسم اللَّه الأعظم

(3)

فخرجت من مكة قاصدًا إليه حتى وافيته في جزيرة مصر، فأول ما بصرني

(1)

ذخر الشيء ذُخرًا وذَخرًا: جمعه وحفظه لوقت الحاجة إليه.

(2)

طرَّ طرًّا وطرورًا: كان طريرًا ذا رواه وجمال، والطرَّة ما تتزين به المرأة من الشعر الموفى على جبهتها بالقص والتصفيف.

(3)

روى أبو داود في سننه [1493] عن بريدة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت اللَّه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، فقال:"لقد سألت اللَّه باسمه الذي إذا سُئِلَ به أعطى، وإذا دعي به أجاب" وفيه برقم [1495] عن أنس أنه =

ص: 223

رآني طويل اللحية، وفي يدي ركوة كبيرة متزرًا بمئزر، وعلى كتفي مئزر، وفي رجلي (تاسوتة)

(1)

، فاستشنع منظري، فلما سلمت عليه كأنه ازدراني، فلما كان بعد يومين أو ثلاثة ناظره شخص، فاستظهر عليه، فقمت وقطعته، ثم دققت حتى لم يفهم كلامي، فعجب مني وأكرمني، فصحبته سنة، فطلبت منه تعليمي الاسم الأعظم فلم يجبني، وأوهم أنه ربما علمني، فلما كان بعد ستة أشهر بعث معي حاجة الى شخص في طبق عليه (مكبة)

(2)

مشدود بمنديل، فاستخففته، فكشفته، فإذا فيه فأرة هربت، فغضبت ثم رجعت، فلما رآني تبسم وقال: يا مجنون؛ ائتمنتك على فأرة فخنتني، فكيف أأتمنك على اسمه الأعظم؟ اذهب عني.

الرابعة: عن بعضهم قال: دخلت الخلوة أيام بدايتي، وعاهدت اللَّه أن لا آكل شيئًا إلا بعد أربعين يومًا، فمكثت نيفًا وعشرين، واشتدت بي الفاقة، فخرجت ولم أشعر بنفسي إلا وأنا في السوق، وإذا بفقير يتمنى رغيف حواري

(3)

-أي أبيض- ورطل شوي، ورطل حلوى، فاستثقلته، فحصل ذلك له فأعطانيه، وأمسك بأذني وقال: من هو الثقيل؟ الذي نقض العهد وخرج من الخلوة لأجل الشهوة، أو الذي يطلب من الطيبات المعاش ما يرد عليه القوة والحواس، ثم قال: إن الذي يريد طي الأربعين يطويها على التدريج وإلا ثار عليه كَلِبَ الجوع وهاج، ثم لا يعود إلى هذا المذهب، وتركني وذهب.

الخامسة: عن بعضهم أنه عقد مع اللَّه عقدًا أن لا ينظر إلى مستحسنات الدنيا، فمر يومًا بسوق الصرف، فنظر إلى منطقة

(4)

معلقة وأطال النظر فرآه صاحبها، ثم التفت فلم يرها، فأمسكه وقال: أنت سرقتها، وأنت صوفي، فحلفت أني لم آخذ شيئًا، فحمل إلى الأمير وقال: هذا فعال الصالحين؟ فحلفت ثانيًا، فقال رجل من الحاضرين: جردوه، فإذا هي في وسطه، فصرخ الأمير وغشي عليه، فلما أفاق أخبره الخبر، ثم ولى وهو يقول:

يا عدتي في شدتي

إن لم تكن أنت فمن

= كان مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جالسًا ورجل يصلي، ثم دعا: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لقد دعا اللَّه عز وجل باسمه العظيم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى".

(1)

و

(2)

كذا بالأصل.

(3)

الحواري: الخالص المنقى من كل عيب.

(4)

المنطقة: ما يشد به الوسط، والنطاق: حزام يشد به الوسط، وإزار تلبسه المرأة تشده على وسطها أثناء العمل.

ص: 224

ينقذني من الردى

(1)

يا صاحب الفعل الحسن

طوبى

(2)

لمن بات بكم

مشرَّدًا بلا وطن

السادسة: عن بعضهم قال: كنت بالمصِّيصة، فإذا رجلان يتكلمان في الخلوة مع اللَّه تعالى، فلما أرادا أن ينصرفا قال أحدهما للآخر: تعال نجعل لهذا العلم ثمرة، ولا يكون حجة علينا، فقال: اعزم ما شئت، قال: عزمت على أن لا آكل ما لمخلوق مال فيه صنع، قال: فتبعتهما وقلت: أنا معكما، فقالا: على الشرط؟ قلت: نعم، فصعدا جبل لكام ودلاني على كهف وقالا لي: تعبد فيه، فدخلت فيه وجعل كل واحد يأتي بما قسم اللَّه، وبقيت مدة فقلت: إلى متى أقيم هنا؟ أنا أسير إلى طرسوس وآكل من حلال، وأعلم الناس العلم وأقرأ القرآن، فخرجت ودخلتها، وأقمت بها سنة، فإذا برجل منهما واقف علي يقول: يا فلان خُنت في عهده، ونقضت الميثاق، أما إنك لو صبرت كما صبرنا لوهب لك كما وهب لنا، قلت: ما هو؟ قال: ثلاثة أشياء: طي الأرض من المشرق إلى المغرب بقدم واحد، والمشي على الماء، والحجبة إذا (سا)

(3)

ثم احتجب عني فقلت: بالذي وهب لك هذا الحال إلا ما ظهرت لي فقد شوقت قلبي، فظهر وقال: سل، فقلت: هل لي إلى ذلك الحال عودة، فقال: هيهات، لا يؤتمن الخائن، ثم أنشأ يقول:

من سارروه فأبدى السر مشتهرًا

لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا

وأبعدوه ولم يسعد بقربهم

وأبدلوه ما كان الأسر إحياشا

ومن أتاهم فهم لا يحجبوه به

حاشا ودادهم حاشاهم حاشا

لكن لهم وبهم في كل نابية

إليهم ما بقيت الدهر هشاشا

(1)

الردى: الهلاك.

(2)

الطوبى: الحسنى والخير، وفي القرآن {طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)} [الرعد].

(3)

كذا بالأصل.

ص: 225

‌مجلس في الاقتصاد في العبادة

ومعناه الشيء يقصد وهو الوسط بين الإفراط والتفريط، والحسنة بين السيئتين، ومنه {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ}

(1)

.

والقصد: العدل، والاقتصاد: الاعتدال فلا غُلُوّ مسطع، ولا تقصير متساهل.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: "القصد القصد"

(2)

.

قال تعالى: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)}

(3)

.

فنفى كون الشقاء والكد في العبادة مفعولًا من أجله أنزل القرآن الداعي إلى اللَّه وعبادته، وقال تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}

(4)

أي يريد اللَّه بكم اليسر والتخفيف بملة حنيفية سهلة لا إصر

(5)

ولا أغلال فيها، ولا يريد بكم العسر والمشقة والتعب والشقاء.

أما الأحاديث فنذكر منها اثنا عشر حديثًا:

ومدارها الزجر والتحذير البليغ عن غلو الخوارج المارقين، والترغيب في الاقتصاد المعتدل المُرضي للَّه، الموصل إلى اللَّه، المسئول في أم القرى ضمن كل صلاة {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ}

(6)

.

الحديث الأول: عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة، قال:"من هذه؟ "

(1)

سورة لقمان [19].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [8/ 122]، وأحمد بن حنبل في مسنده [2/ 514، 537]، والبيهقي في السنن الكبرى [3/ 18]، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين [9/ 97].

(3)

سورة طه [1، 2]. قال جويبر عن الضحاك: لما أنزل اللَّه القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم قام به هو وأصحابه، فقال المشركون من قريش: ما أنزل هذا القرآن على محمد إلا ليشقى، فأنزل اللَّه - تعالى:{طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)} فليس الأمر كما زعمه المبطلون، بل من آتاه اللَّه العلم فقد أراد به خيرًا.

(4)

سورة البقرة [185].

(5)

أصر الشيء أصرًا: عقده وشده، ولواه وعطفه وحبسه، والإصر: العهد المؤكد الثقيل، وأظنها هي المقصودة في النص.

(6)

سورة النحل [9].

قال مجاهد في قوله: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل: 9] قال: طريق الحق على اللَّه، وقال =

ص: 226

قالت: هذه فلانة؛ تذكر من صلاتها، قال: "مه، عليكم بما تطيقون، فواللَّه لا يملُّ اللَّه حتى تملُّوا

(1)

، وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه"

(2)

متفق عليه.

ومه: كلمة زجر ونهي، ومعنى لا يملُّ اللَّه: أي لا يقطع ثوابه عنكم، وجزاء أعمالكم ويعاملكم معاملة المال حتى تملوا فتتركوا، فينبغي لكم أن تأخذوا ما تطيقون الدوام عليه ليدوم ثوابه لكم وفضله عليكم، فمفاسد (الناو)

(3)

والملل والعجز عن الدوام ونقص الخيرات.

ثانيها: عن أنس رضي الله عنه قال: "جاء ثلاثة رهط إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أُخْبِرُوا كأنهم تقالُّوها، وقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر

(4)

، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا، وقال

= السدي {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل: 9] الإسلام، وقال العوفي عن ابن عباس في قوله:{وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل: 9] يقول: وعلى اللَّه البيان، أي يبين الهدى والضلالة، وقول مجاهد أقوى لأنه -تعالى- أخبر أن ثَمَّ طرقًا تُسلك إليه، فليس يصل إليه منها إلا طريق الحق وهي الطريق التي شرعها ورضيها، وما عداها مسدودة والأعمال فيها مردودة، ولهذا قال تعالى:{وَمِنْهَا جَائِر} [النحل: 9] أي خائر مائل زائغ عن الحق. "تفسير ابن كثير [2/ 580] ".

(1)

قال النووي: الملل والسآمة بالمعنى المتعارف في حقنا محال في حق اللَّه -تعالى- فيجب تأويل الحديث، قال المحققون: معناه لا يعاملكم معاملة المال فيقطع عنكم ثوابه وجزاءه وبسط فضله ورحمته حتى تقطعوا عملكم، وقيل: معناه لا يمل إذا مللتم، وقاله ابن قتيبة وغيره، وحكاه الخطابي وغيره، وفي هذا الحديث كمال شفقته صلى الله عليه وسلم ورأفته بأمته لأنه أرشدهم إلى ما يصلحهم، وهو ما يمكنهم الدوام عليه بلا مشقة ولا ضرر، فتكون النفس أنشط والقلب منشرحًا، فتتم العبادة بخلاف من تعاطى من الأعمال ما يشق، فإنه بصدد أن يتركه أو بعضه أو يفعله بكلفة وبغير انشراح القلب، فيفوته خير عظيم. "النووي في شرح مسلم [6/ 63] طبعة دار الكتب العلمية".

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [43] كتاب الإيمان، [33] باب أحب الدين إلى اللَّه أدومه، ورقم [1151] كتاب التهجد، [18] باب ما يكره من التشديد في العبادة، ومسلم في صحيحه [215 - (782)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، [30] باب فضيلة العمل الدائم من قيام وغيره، وابن ماجه في سننه [4238]، وأحمد في مسنده [6/ 51]، والبيهقي في السنن الكبرى [3/ 17]، وابن خزيمة في صحيحه [1282].

(3)

كذا بالأصل.

(4)

في عبادة النبي صلى الله عليه وسلم روى البخاري في صحيحه [4837] كتاب تفسير القرآن، سورة الفتح، [2] باب قوله:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 2] عن عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه" فقالت عائشة: "لم تصنع هذا يا رسول اللَّه وقد غفر اللَّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ "قال: "أفلا أكون عبدًا شكورًا؟ " فلما كثر لحمه صلى جالسًا، فإذا أراد أن يركع قال فقرأ ثم ركع.

ص: 227

الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما واللَّه إني لأخشاكم للَّه وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي

(1)

فليس مني"

(2)

" متفق عليه.

وفيه أن مفاسده المروق من الدين، "فمن رغب عن سنتي" وحقَّر أهلها وصيامهم وصلاتهم وعبادتهم مع عبادته فليس مني.

ثالثها: عن ابن مسعود مرفوعًا: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثًا أخرجه مسلم

(3)

وهم المتعمقون المتشددون في غير موضع التشديد، فهو مهلك.

رابعها: عن أبي هريرة مرفوعًا: "إن الدين يسر ولن يُشاد الدينَ أحدٌ إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والرَّوحة وشيء من الدجلة"

(4)

رواه البخاري.

وفي رواية له: "سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا وشيء من الدجلة، القصد القصد تبلغوا"

(5)

.

(1)

قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن رغب عن سنتي فليس مني معناه من تركها إعراضا عنها غير معتقد لها على ما هي عليه، أما من ترك النكاح على الصفة التي يستحب له تركه كما سبق، أو ترك النوم على الفراش لعجزه عنه أو لاشتغاله بعبادة مأذون فيها أو نحو ذلك فلا يتناوله هذا الذم والنهي. "النووي في شرح مسلم [9/ 150] طبعة دار الكتب العلمية".

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [5063] كتاب النكاح، [1] باب الترغيب في النكاح لقوله تعالى:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]، ومسلم في صحيحه [5 - (1401)] كتاب النكاح، [1] باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنه، واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم، والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 77]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [145]، والقرطبي في تفسيره [6/ 261، 9/ 328].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [7 - (2670)] كتاب العلم، [4] باب هلك المتنطعون، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين [2/ 50]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [4785]، والطبراني في المعجم الكبير [2/ 50]، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار [1/ 95 و 2/ 211].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [39] كتاب الإيمان، [30] باب الدين يسر، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:"أحب الدين إلى اللَّه الحنيفية السمحة"، ورقم [5673] كتاب المرض والطب، [19] باب تمني المريض الموت، والتبريزي في مشكاة المصابيح [1246]، والزبيدي في الإتحاف [6/ 368]، وابن عبد البر في التمهيد [5/ 121].

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه [6463] كتاب الرقاق، [18] باب القصد والمداومة على العمل، وأحمد في مسنده [2/ 319]، والحاكم في المستدرك [4/ 567]، وابن حبان في صحيحه =

ص: 228

قوله: الدين: هو مرفوع على ما لم يسم فاعله، وروي منصوبًا، وروي: لن يشاد أحد الدين.

قوله صلى الله عليه وسلم: "إلا غلبه" أي غلبه الدين، وعجز ذلك الشاذ عن مقاومة الدين بكثرة، والغدوة: سير أول النهار، والروحة: آخر النهار، والدجلة: آخر الليل.

وهذا استعارة وتمثيل، ومعناه: استعينوا على طاعة اللَّه -تعالى- بالأعمال في وقت نشاطكم، وفراغ قلوبكم، بحيث تستلذون العبادة، ولا تسأمون فتبلغون مقصودكم، كما أن المسافر الحاذق يسير في هذه الأوقات، ويستريح هو ودابته في غيرها، فيصل المقصود بغير تعب، واللَّه أعلم.

فمن شاء فهو مغلوب عاجز عن مقاومته، منقطع عن مرامه، والمقتصد الواصل.

(1)

خامسها: عن أنس رضي الله عنه قال: "دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: "ما هذا الحبل؟ " قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت، فقال صلى الله عليه وسلم: "حُلُّوه، ليصل أحدُكُم نشاطه، فإذا فتر فليقعد""

(2)

أخرجاه.

والفتور: منفر من القيام ينقص فيه، وعادة أهله الرقاد، وغيره ليس بمشروع لهم، فما لهم وله.

سادسها: عن عائشة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نعس أحدكم وهو يصلي

= [1755 - الموارد]، والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 401]، والسيوطي في الدر المنثور [1/ 192، 2/ 227]، والقرطبي في تفسيره [12/ 3]، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة [1161].

(1)

في الحديث الأول المتقدم في هذا الفصل، وقد رواه مسلم عن عائشة في قوله صلى الله عليه وسلم:"عليكم من الأعمال ما تطيقون" قال النووي: أي تطيقون الدوام عليه بلا ضرر، وفيه دليل على الحث على الاقتصاد في العبادة واجتناب التعمق، وليس الحديث مختصًا بالصلاة، بل هو عام في جميع أعمال البر، وفي قوله صلى الله عليه وسلم:"وإن أحب الأعمال إلى اللَّه ما دووم عليه وإن قل" فيه الحث على المداومة على العمل، وأن قليله الدائم خير من كثير ينقطع، وإنما كان القليل الدائم خيرا من الكثير المنقطع لأن بدوام القليل تدوم الطاعة والذكر والمراقبة والنية والإخلاص والإقبال على الخالق سبحانه وتعالى. "النووي في شرح مسلم [6/ 63] طبعة دار الكتب العلمية".

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [1150] كتاب التهجد، [18] باب ما يكره من التشديد في العبادة، ومسلم في صحيحه [219 - (784)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، [31] باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك، والنسائي [3/ 219 - المجتبى]، وأحمد في مسنده [3/ 301]، وابن خزيمة في صحيحه [1180]، والزبيدي في الإتحاف [5/ 160].

ص: 229

فليرقد حتى يذهب عنه النوم

(1)

؛ فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري، لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه"

(2)

أخرجاه.

فالناعس فاقد التمييز، فأنى له العبادة، فالسنة زاجرة عن الإفراط.

سابعها: عن جابر بن سمرة قال: "كنت أصلي مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الصلوات، فكانت صلاته قصدًا، وخطبته قصدًا" أخرجه مسلم

(3)

أي بين الطول والقصر، فالاقتصاد محمود لأنه الهدي المحمدي المحمود، وكفى بذلك مرغبًا.

ثامنها: عن أبي جحيفة: "أنه صلى الله عليه وسلم آخا بين سلمان وأبي الدرداء، فزاره سلمان فرأى زوجته مبتذلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا" الحديث.

وفيه فقال سلمان: "إن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: "صدق سلمان"

(4)

أخرجه البخاري.

فالقصد هو من أعطى كل ذي حق حقه، وغيره معتد {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18].

(1)

فيه الحث على الإقبال على الصلاة بخشوع وفراغ قلب ونشاط، وفيه أمر الناعس بالنوم أو نحوه مما يذهب عنه النعاس، وهذا عام في صلاة الفرض والنفل في الليل والنهار، وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور، لكن لا يخرج فريضة عن وقتها، قال القاضي: وحمله مالك وجماعة على نفل الليل لأنه محل النوم غالبًا. "النووي في شرح مسلم [6/ 65] طبعة دار الكتب العلمية".

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [212] كتاب الوضوء، [55] باب الوضوء من النوم، ومن لم ير من النعسة والنعستين أو الخفقة وضوءًا، ومسلم في صحيحه [222 - (786)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، [31] باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك، وأبو داود في سننه [1310]، والترمذي في سننه [355]، وأحمد في مسنده [6/ 202]، والتبريزي في مكاة المصابيح [1245].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [41 - (866)]، ورقم [42] كتاب الجمعة، [13] باب تخفيف الصلاة والخطبة، وأبو داود في سننه [1101] كتاب الصلاة، باب الرجل يخطب على قوس، وابن ماجه في سننه [1106] كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، [85] باب ما جاء في الخطبة يوم الجمعة، وأحمد في مسنده [5/ 93، 94، 98].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [1968] كتاب الصوم، [51] باب من أقم على أخيه ليفطر في التطوع ولم ير عليه قضاء إذا كان أوفق له، ورقم [6139] كتاب الأدب، باب صنع الطعام والتكلف للضيف، والترمذي في سننه [2413] كتاب الزهد، والسيوطي في الدر المنثور [2/ 309]، والزبيدي في الإتحاف [5/ 167].

ص: 230

تاسعها: عن عبد اللَّه بن عمرو في قصة صلاته وصومه وقراءته وقوله بعد ما كبر: "يا ليتني قبلت رخصة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم" أخرجاه

(1)

بطوله.

فالاقتصاد سنة الأكابر المسددين، ومن شدد شُدِّد عليه

(2)

.

عاشرها: عن حنظلة بن ربيع أحد كتَّاب الوحي قال: "لقيني الصدِّيق فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان اللَّه ما تقول؟! قال: نكون عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيُذكِّرنا بالجنة والنار كأنَّا رأي العين، فإذا خرجنا من عنده عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا كثيرًا

(3)

قال الصديق: فواللَّه إنا لنلقى مثل هذا، وأخبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بذلك فقال:"والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وطرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة" ثلاث مرات. أخرجه مسلم

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [1975] كتاب الصوم، [55] باب حق الجسم في الصوم، ومسلم في صحيحه [182 - (1159)] كتاب الصيام، [35] باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوت به حقًا أو لم يفطر العيدين والتشريق، وبيان تفضيل صوم يوم وإفطار يوم، وأبو داود في سننه [2427] كتاب الصوم، باب في صوم الدهر تطوعًا، وأحمد في مسنده [5/ 188]، وعبد الرزاق في مصنفه [7862].

(2)

قال النووي: في حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص وجمع مسلم رحمه الله طرفه فأتقنها، وحاصل الحديث بيان رفق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأمته وشفقته عليهم وإرشادهم إلى مصالحهم وحثهم على ما يطيقون الدوام عليه، ونهيهم عن التعمق والإكثار من العبادات التي يخاف عليهم الملل بسببها أو تركها أو ترك بعضها، واختلف العلماء فيه؛ فذهب أهل الظاهر إلى منع صيام الدهر نظرًا لظواهر الأحاديث، قال القاضي وغيره: وذهب جماهير العلماء إلى جوازه إذا لم يصم الأيام المنهي عنها، وهي العيدين والتشريق. "النووي في شرح مسلم [8/ 33] طبعة دار الكتب العلمية".

(3)

قوله "عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات" هو بالفاء والسين المهملة، قال الهروي وغيره: معناه حاولنا ذلك ومارسناه واشتغلنا به أي عالجنا معايشنا وحظوظنا، والضيعات جمع ضيعة بالضاد المعجمة، وهي معاش الرجل من مال أو حرفة أو صناعة، ورى الخطابي هذا الحرف: عانسنا بالنون، قال: ومعناه لاعبنا، ورواه ابن قتيبة بالسين المعجمة قال: ومعناه عانقنا، الأول هو المعروف وهو أعم. "النووي في شرح مسلم [17/ 56] طبعة دار الكتب العلمية".

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [12 - (2750)] كتاب التوبة، [3] باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة والمراقبة، وجواز ترك ذلك في بعض الأوقات والاشتغال بالدنيا، وقال النووي: قوله: "نافق حنظلة" معناه أنه خاف أنه منافق حيث كان يحصل له الخوف في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ويظهر عليه ذلك مع المراقبة والفكر والإقبال على الآخرة، فإذا خرج اشتغل بالزوجة والأولاد ومعاش الدنيا، وأصل النفاق إظهار ما يكتم خلافه من الشر، فخاف أن يكون ذلك نفاقًا، فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس بنفاق، وأنهم لا يكلفون الدوام على ذلك، وساعة وساعة: أي ساعة =

ص: 231

(. . . . . . . .)

(1)

للبر والذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون الملائكة الكرام، لكن نومتنا محسوبة كومتنا، فزدنا عليهم هذا التنويع من الخير بإذن السميع العليم.

الحادي عشر: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذ هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل؛ نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه"

(2)

أخرجه البخاري. فالاستدراك إنما هو في المشروع، وغيره مردود ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون.

= كذا وساعة كذا. "النووي في شرح مسلم [17/ 56] طبعة دار الكتب العلمية".

(1)

كلمات غير واضحة نحو ثلاث كلمات.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [6704] كتاب الإيمان والنذور، [31] باب النذر فيما لا يملك وفي معصية، والبيهقي في السنن الكبرى [10/ 75]، والطبراني في المعجم الكبير [12/ 24]، والدارقطني في سننه [4/ 161]، وابن حجر في تلخيص الحبير [4/ 187].

ص: 232

‌مجلس في المحافظة على الأعمال

ومعناه الحفظ والمراقبة من غير تضيع ولا تعريض له، ولا تغافل عن مضيع ولا تهاون في استرداد ما ضاع.

قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}

(1)

الآية

(2)

.

وقال: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} إلى قوله: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}

(3)

.

وقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا}

(4)

.

وقال: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)}

(5)

.

في الآية الأولى النهي عن التشبه بأهل القلوب القاسية، وفي الثانية: بالضلال،

(1)

سورة الحديد [16]. يقول تعالى: أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر اللَّه، أي تلين عند الذكر والموعظة وسماع القرآن فتفهمه وتنقاد له وتسمع له وتطيعه، قال ابن المبارك: حدثنا صالح المري عن قتادة عن ابن عباس أنه قال: "إن اللَّه استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن. "تفسير ابن كثير [4/ 310] ".

(2)

روى مسلم في صحيحه [24 - (3027)] كتاب التفسير، [1] باب في قوله تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16] عن ابن مسعود قال: "ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا اللَّه بهذه الآية {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16] إلا أربع سنين".

(3)

سورة الحديد [27]. هو الكتاب الذي أوحاه اللَّه إليه {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} [الحديد: 27] وهم الحراريون {رَأْفَةً} أي رقة وهي الخشية {وَرَحْمَةً} بالخلق، وقوله:{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} أي ابتدعها أمة النصارى وما شرعناها لهم {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} أي فما قاموا بما التزموه، "تفسير ابن كثير [4/ 315] ".

(4)

سورة النحل [92].

(5)

سورة الحجر [99]. روى البخاري في صحيحه كتاب تفسير القرآن، باب قوله:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} [الحجر: 99] قال سالم - وهو سالم بن عبد اللَّه بن عمر: اليقين: الموت، وقال ابن كثير: ويستدل بهذه الآية الكريمة وهي قوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} على أن العبادة كالصلاة ونحوها واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتًا، فيصلي بحسب حاله كما ثبت في الصحيح عن عمران بن حصين أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب". "تفسير ابن كثير [2/ 577] ".

ص: 233

وفي الثالثة بالحمق، وفي الآخرة الختم بالدوام على العبادة حتى الممات، وهو صفة بعد الانتهاء عما سلف من الملامات.

ونذكر من الأحاديث أربعة:

ومدارها على بيان حكم المحافظة، وإن فاته بعد اجتهاده، وحكم من فوَّت العمل لتهاون أو عذر.

أولها: الحديث السالف في الباب، وكان أحب الدين ما داوم عليه صاحبه، فمن قام بالعمل له البشرى بأحب الدين إلى اللَّه ورسوله.

ثانيها: عن عمر مرفوعًا: "من نام عن حزبه من الليل أو عن شيء منه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل"

(1)

أخرجه مسلم.

فمن فاته العمل بنوم ونحوه من الأعذار، إذا بادر إليه كتب له كالأداء بفضل الجبار.

ثالثها: عن عبد اللَّه بن عمرو قال: قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تكن مثل فلان؛ كان يقوم الليل فتركه"

(2)

أخرجاه، والتفاوت تهاونًا من النهار، إذ فيه تفويت للأعمال الزكيَّات.

رابعها: عن عائشة: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا فاتته الصلاة من الليل من وجع أو غيره، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة"

(3)

أخرجه مسلم، فَيُتَأَسَى به في ذلك، فإنه النهل العذب لنواله في ذلك.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [142 - (747)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، [18] باب جامع صلاة الليل، ومن نام عنه أو مرض، وأبو داود في سننه [1313] كتاب الصلاة، باب من نام عن حزبه، والترمذي في سننه [581] في الصلاة، باب ما ذكر فيمن فاته حزبه من الليل فقضاه بالنهار، والنسائي [3/ 259، 260 - المجتبى]، وابن ماجه في سننه [1343]، والبيهقي في السنن الكبرى [2/ 484، 485]، والطبراني في المعجم الصغير [2/ 7]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [8/ 326]، والشجري في أماليه [1/ 221].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [1152] كتاب التهجد، [19] باب ما يكره من ترك قيام الليل لمن كان يقومه، ومسلم في صحيحه [185 - (1159)] كتاب الصيام، [35] باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوت به حقًا أو لم يفطر العيدين والتشريق، وبيان تفضيل يوم وإفطار يوم، والنسائي [3/ 253 - المجتبى]، وابن ماجه في سننه [1331]، والبيهقي في السنن الكبرى [3/ 14]، وابن خزيمة في صحيحه [1129]، والشجري في أماليه [1/ 6].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [140 - (746)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، [18] باب جامع صلاة الليل، ومن نام عنه أو مرض، وأحمد في مسنده [6/ 95، 258]، والبيهقي في السنن الكبرى [2/ 485].

ص: 234

‌مجلس في الأمر بالمحافظة على السنة وآدابها

قال اللَّه تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}

(1)

أي لأنه ما نطق عن الهوى، فيرد إليه عند التنازع، فإن طاعته من طاعته، فإنه هادٍ بأحكامه وأوامره إلى الصراط الأقوم؛ صراط اللَّه، فليحذر المخالف، وليشكر الموالف.

وقال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)}

(2)

.

وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}

(3)

.

وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}

(4)

.

وقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ}

(5)

الآية.

وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}

(6)

الآية، أي إلى الكتاب والسنة.

(1)

سورة الحشر (7).

أي مهما أمركم به فافعلوه، ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه فإنه يأمر بخير وإنما ينهى عن شر، وروى البخاري في صحيحه [4886] كتاب تفسير القرآن، سورة الحشر، [3] باب {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] عن عبد اللَّه بن مسعود قال: "لعن اللَّه الواشمات والموتشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق اللَّه" فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها: أم يعقوب، فجاءت فقالت: إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت، فقال:"وما لي لا ألعن من لعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومن هو في كتاب اللَّه، فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول، فقال: "لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه؛ أما قرأت {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]" قالت: بلى، قال: "فإنه قد نهى عنه"، قالت: فإني أرى أهلك يفعلونه، قال: "فاذهبي فانظري" فذهبت فنظرت فلم تر من حاجتها شيئًا، فقال: "لو كانت كذلك ما جامعتنا".

(2)

سورة النجم [3].

(3)

سورة آل عمران [31].

(4)

سورة الأحزاب [21].

(5)

سورة النساء [65]. يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنًا وظاهرًا، ولهذا قال:{ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] أي إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا بجدون في أنفسهم حرجًا مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليمًا كليًا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة. "تفسير ابن كثير [1/ 520] ".

(6)

سورة النساء [59].

ص: 235

وقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}

(1)

.

وقال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}

(2)

.

وقال: {فَلْيَحْذَرِ}

(3)

الآية.

وقال: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى}

(4)

الآية. والآيات فيه كثيرة.

ولنذكر من الأحاديث اثنا عشر:

ومدارها على الإغرار والتحذير والإرشاد، فيرغب في المحافظة، ويحذر من الإضاعة.

فنذكر خواص المحافظة وتركها، وذكر عاقبتها، والتلويح إلى أساس السنة وأهلها، والرمز إلى أصل المتأهل للحفظ، والإضاعة حكمها أجلًا وحقًا، والإشارة إلى ما يستحقه الروافض، والحفاظ من هجره ووداده.

الحديث الأول: عن أبي هريرة مرفوعًا: "دعوني ما تركتكم؛ إنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"

(5)

أخرجاه.

فالاختلاف على الأنبياء من المهلكات، والوفاق إذًا من المنجيات.

ثانيها: عن العرباض بن سارية قال: "وعظنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم موعظة وَجِلَتْ

(1)

سورة النساء [80].

(2)

سورة الشورى [52].

(3)

في قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، أي فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول باطنًا وظاهرًا {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} أي في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي في الدنيا بقتل أو حد أو حبس أو نحو ذلك. "تفسير ابن كثير [3/ 316] ".

(4)

سورة الأحزاب [34]. قال ابن جرير: واذكرن نعمة اللَّه عليكن بأن جعلكن في بيوت تتلى فيها آيات اللَّه والحكمة، فاشكرن اللَّه على ذلك واحمدنه {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب: 34] أي ذا لطف بكنَّ إذ جعلكن في البيوت التي تتلى فيها آيات اللَّه، والحكمة هي السنة، {خَبِيرًا} بكن إذ اختاركن لرسوله أزواجًا، وقال قتادة:{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34] قال: يمتن عليهن بذلك. "تفسير ابن كثير [3/ 503] ".

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه [7288] كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، [2] باب الاقتداء بسنن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ومسلم في صحيحه [130 - (1337)] كتاب الفضائل، [37] باب توقيره صلى الله عليه وسلم وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه أو لا يتعلق به تكليف وما لا يقع ونحو ذلك، وأحمد في مسنده [2/ 247، 355]، والبيهقي في السنن الكبرى [1/ 215]، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين [7/ 579]، والهيثمي في مجمع الزوائد [1/ 158].

ص: 236

منها القلوب وذرفت منها العيون

(1)

، فقلنا: يا رسول اللَّه كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال:"أوصيكم بتقوى اللَّه والسمع والطاعة وإن تأمَّر عليكم عبد حبشي، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلافاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة"

(2)

رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

النواجذ: بالذال المعجمة الأنياب، وقيل: الأضراس، فلزوم السُّنَّة والعض عليها بالنواجذ مُخرِج من الفتنة والظلمة والضلالة، وغيرها من المحدثات والبدع تدخل في الظلمة والجهالة.

ثالثها: حديث أبي هريرة مرفوعًا: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى" قيل: ومن يأبى؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى"

(3)

أخرجه البخاري.

فعاقبة المحافظة على طاعة الرسول يورث الجنة، وعاقبة غيره حرمانها، نعوذ باللَّه من المحنة.

رابعها: حديث سلمة بن الأكوع: "أن رجلًا أكل عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بشماله، فقال: "كل بيمينك" قال: لا أستطيع، قال: "لا استطعت" ما منعه إلا الكبر، فما رفعها إلى فيه"

(4)

أخرجه مسلم.

فعاقبة الممتنع منها كبرًا {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)}

(5)

ذوق وبال أمره، وكان

(1)

ذرفت منها العيون: سألت الدموع. ووجلت منها القلوب: أي خافت.

(2)

أخرجه أبو داود [4607] كتاب السنة، باب في لزوم السنة، والترمذي [2676] كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، وابن ماجه في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، وأحمد في مسنده [4/ 126، 127]، والبيهقي في السنن الكبرى [10/ 114]، والحاكم في المستدرك [1/ 96، 97]، وابن حبان في صحيحه [102]، والمنذري في الترغيب والترهيب [78/ 1]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [5/ 220].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [7280] كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، [2] باب الاقتداء بسنن رسرل اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأحمد في مسنده [2/ 361]، والحاكم في المستدرك [1/ 55، 4/ 247]، والزبيدي في الإتحاف [5/ 11]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [143]، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار [1/ 299].

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [107 - (2021)] كتاب الأشربة، [13] باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما، وأحمد في مسنده [4/ 46]، والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 277]، وابن أبي شيبة في مصنفه [8/ 105]، والدارمي في سننه [2/ 97]، والطبراني في المعجم الكبير [7/ 15].

(5)

سورة القيامة [15].

ص: 237

عاقبة أمره خسرا.

خامسها: حديث النعمان بن بشير مرفوعًا: "لتُسوُّنَّ صفوفكم أو ليخالفنَّ اللَّه بين وجوهكم"

(1)

أخرجاه.

وفيه عاقبة المتهاون بالسنَّة سوء ذات البين والمخالفة بين الوجوه، ففيه والحديثين قبله بيان العاقبة دنيا وأخرى.

سادسها: حديث أبي موسى قال: "احترق بيت على أهله من الليل، فلما حُدِّث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بشأنهم قال: "إن هذه النار عدوكم، فإذا نمتم فأطفئوها عنكم"

(2)

أخرجاه.

فأساس السنة وأصلها أعظم نصيحة وأشد رحمة، وأبلغ بيان لكل عدو مؤذ من نار الدنيا

(3)

والأخرى فأنى يصرف عنها اللبيب.

سابعها: عنه مرفوعًا: "إن مثل ما بعثني اللَّه من الهدى كمثل غيث أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع اللَّه بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فَقُه في دين اللَّه -تعالى- ونفعه ما بعثني اللَّه به فعلم وعلَّم، ومثل من لم يدفه بذلك رأسًا ولم يقبل هُدَى اللَّه الذي أُرسلت به"

(4)

أخرجاه.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [717] كتاب الأذان، [71] باب تسوية الصفوف عند الإقامة وبعدها، ومسلم في صحيحه [127 - (436)]، [128] كتاب الصلاة، [28] باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها والازدحام على الصف الأول والمسابقة إليها، وتقديم أولي الفضل وتقريبهم من الإمام، وأبو داود في سننه [663]، والترمذي [227] وأحمد في مسنده [4/ 271، 272]، والبيهقي في السنن الكبرى [2/ 21، 3/ 100].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [6294] كتاب الاستئذان، [49] باب لا تترك النار في البيت عند النوم، ومسلم في صحيحه [101 - (2016)] كتاب الأشربة، [12] باب الأمر بتغطية الإناء وإيكاء السقاء وإغلاق الأبواب وذكر اسم اللَّه عليها وإطفاء السراج والنار عند النوم، وكف الصبيان والمواشي بعد المغرب.

(3)

قال النووي في أمره صلى الله عليه وسلم في إطفاء النار حين النوم: هذا عام تدخل فيه نار السراج وغيرها، وأما القناديل المعلقة في المساجد وغيرها فإن خيف حريق بسببها دخلت في الأمر بالإطفاء، وإن أمن ذلك كما هو الغالب فالظاهر أنه لا بأس بها لانتفاء العلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل الأمر بالإطفاء في الحديث السابق بأن الفويسقة تضرم على أهل البيت بيتهم، فإذا انتفت العلة زال المنع. "النووي في شرح مسلم [13/ 158] طبعة دار الكتب العلمية".

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [79] كتاب العلم، [21] باب فضل من علم وعلَّم، ومسلم في =

ص: 238

فالسنة غيث والقلوب أراضيه، فالطيب الأصل يقبل ويثبت، والمقارب يحبط ويمسك، والخبيث الأصل ضد ذلك، فطوبى لمن جبل على الخير، ويسر له وحفظه من الغير.

ثامنها: حديث جابر مرفوعًا: "مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارًا فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها

(1)

وهو يذُبُّهنَّ عنها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تفلَّتون من يدي"

(2)

أخرجه مسلم.

والجنادب: نحو الجراد والفراش المعروف الذي يقع في النار، والحجز: جمع حجزة، وهى وقعد الإزار والسراويل، والسنَّة مانعة من مواقعة النار بالعقلاء، ومن هو كالفراش ينفلت من يدها، ويحرق نفسه.

{إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)}

(3)

فهذا الحديث والذي قبله لبيان الأصل النفيس والخسيس قلبًا وعقلًا، والبعد حينئذ إلى كل أحد فطنة وغفلة على قدر محافظته وتهاونه.

تاسعها: حديثه أيضًا: "أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بلعق الأصابع والصحفة وقال: "إنكم لا تدرون في أيّه البركة"

(4)

أخرجه مسلم.

= صحيحه [15 - (2282)] كتاب الفضائل، [5] باب بيان مثل ما بعث النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم، وأحمد في مسنده [4/ 399]، وابن أبي عاصم في السنة [2/ 437]، وابن كثير في تفسيره [4/ 370]، والمنذري في الترغيب والترهيب [1/ 99].

(1)

قوله: "فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها": أما الفراش فقال الخليل: هو الذي يطير كالبعوض، وقال غيره: ما تراه كصغار البق يتهافت في النار، وأما الجنادب فجمع جندب، وفيها ثلاث لغات: جُندُب بضم الدال وفتحها والجيم مضمومة فيهما، والثالثة حكاه القاضي بكسر الجيم وفتح الدال، والجنادب هذا الصرار الذي يشبه الجراد، وقال أبو حاتم: الجندب على خلقة الجراد؛ له أربعة أجنحة كالجرادة، وأصغر منها يطير ويَصِرُّ بالليل صَرًّا شديدًا، وقيل غيره. "النووي في شرح مسلم [15/ 14] طبعة دار الكتب العلمية".

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [19 - (2285)] كتاب الفضائل، [6] باب شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته، ومبالغته في تحذيرهم مما يضرهم، وأحمد في مسنده [3/ 392]، والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 453]، والبيهقي في دلائل النبوة [1/ 367]، والزبيدي في الإتحاف [9/ 591]، والقرطبي في تفسيره [5/ 165]، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار [4/ 104، 210].

(3)

سورة الزمر [9].

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [133 - (2033)] كتاب الأشربة، [18] باب استحباب لعق الأصابع والقصعة، وأكل اللقمة الساقطة بعد مسح ما يصيبها من أذى، وكراهة مسح اليد قبل لعقها، وأحمد في مسنده [3/ 177، 290]، وابن أبي شيبة في مصنفه [8/ 108]، والألباني في إرواء الغليل [7/ 31].

ص: 239

وفي رواية: "إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها، فليمط ما كان بها من أذى، فليأكلها ولا يدعها للشيطان"

(1)

فالخلق عقولهم قاصرة عن دراية ما فيه الخير والبركات، وما فيه حظ الشيطان والشر والهلكات، وإذا كانت المصالح والمفاسد بهذه الدقة والخفاء فلا أدري إلا الاعتصام بسنَّة السادة الأنبياء المأخوذة من رب العالمين والسماء {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}

(2)

.

العاشرة: حديث ابن عباس: "قام فينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: "أيها الناس تحشرون إلى اللَّه -تعالى- حفاة عراة غرلا

(3)

{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}

(4)

، وأول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: كما قال العبد الصالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} إلى قوله: {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}

(5)

.

فيقال لي: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم"

(6)

أخرجاه.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [134 - (2033)] كتاب الأشربة، [18] باب استحباب لعق الأصابع والقصعة وأكل اللقمة الساقطة بعد مسح ما يصيبها من أذى، وكراهة مسح اليد قبل لعقها، وأحمد في مسنده [3/ 177]، والزبيدي في الإتحاف [5/ 220]، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار [2/ 5].

(2)

سورة النور [19].

(3)

فال النووي: الغرل بضم الغين المعجمة وإسكان الراء معناه غير مختونين، جمع أغرل وهو الذي لم يختن وبقيت معه غرلته وهي قلفته، وهي الجلدة التي نقطع في الختان، قال الأزهري وغيره: هو الأغرل والأرغل والأغلف بالغين المعجمة في الثلاثة، والأقلف والأعرم بالعين المهملة، وجمعه غرل ورغل وغلف وقلف وعرم، والحفاة جمع حاف والمقصود أنهم يحشرون كما خلقوا لا شيء معهم ولا يفقد منهم شيء حتى الغرلة تكون معهم. "النووي في شرح مسلم [17/ 159] طبعة دار الكتب العلمية".

(4)

سورة الأنبياء [104].

(5)

سورة المائدة [117، 118].

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه [3349] كتاب أحاديث الأنبياء، [9] باب قول اللَّه - تعالى:{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]، وقوله:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ} [النحل: 120]، ورقم [3447] [50] باب {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} [مريم: 16]، ورقم [4625] كتاب تفسير القرآن، [14] باب {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة: 117] الآية، ورقم [4626]، [15] باب قوله {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} [المائدة: 118]، ورقم [4740] من سورة الأنبياء، [1] باب {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا} [الأنبياء: 104]، ورقمي [6525، 6526] كتاب الرقاق، [45] باب كيف =

ص: 240

غرلًا: غير مختونين، وفيه أن المسألة قد تخرج وصاحبها لا يدري له فيه حكمها وعدم عصمتها، فهذا الحديث والذي قبله يسوغ حكمها جلاء في الواضحات، وخفاء في كثرتها، فطوبى لمن حافظ على كلها.

الحديث الحادي عشر: حديث عبد اللَّه بن مغفل: "نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الحذف، وقال: "إنه لا يقتل الصيد ولا ينكأ العدو، وإنه يفقأ العين، ويكسر السِّنَّ"

(1)

أخرجاه.

وفي رواية: "أن قريبًا لابن مغفل حذف، فنهاه وقال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عنه ثم عدت تحذف لا أكلمك".

وفيه: استحقاق المتهاون بعد العلم بالسنة وبحكمها لأن يهجر فلا يُكلَّم أبدًا.

الحديث الثاني عشر: حديث عابس بن ربيعة قال: "رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يقبل الحجر -يعني الأسود- ويقول: إني لأعلم أنك حجر ما تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك"

(2)

أخرجاه

(3)

.

= الحشر، ومسلم في صحيحه [58 - (2860)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، [14] باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة، والنسائي [4/ 114 - المجتبى]، وابن أبي شيبة في مصنفه [14/ 119]، والسيوطي في الدر المنثور [2/ 349]، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين [10/ 456]، وابن حبان في صحيحه [2576 - الموارد].

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [5479] كتاب الذبائح والصيد والتسمية على الصيد، [5] باب الخذف والبندقة، ومسلم في صحيحه [54 - (1954)، 55، 56] كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، [10] باب إباحة ما يستعان به على الاصطياد والعدو وكراهة الخذف.

(2)

هذا الحديث فيه فوائد منها استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف بعد استلامه وكذا يستحب السجود على الحجر أيضًا بأن يضع جبهته عليه فيستحب أن يستلمه ثم يقبله ثم يضع جبهته عليه، هذا مذهبنا ومذهب الجمهور، وحكاه ابن المنذر عن عمر وابن عباس وطاوس والشافعي وأحمد، وانفرد مالك عن العلماء فقال: السجود عليه بدعة، واعترف القاضي عياض المالكي بشذوذ مالك في هذه المسألة عن العلماء، وأما قول عمر رضي الله عنه:"لقد علمت أنك حجر وإني لأعلم أنك حجر وأنك لا تضر ولا تنفع"، فأراد به بيان الحث على الاقتداء برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في تقبيله، ونبه على أنه لولا الاقتداء به لما فعله، وإنما قال:"وإنك لا تضر ولا تنفع" لئلا يغتر بعض قريبي العهد بالإسلام الذين كانوا ألفوا عبادة الأحجار تعظيمًا ورجاء نفعها وخوف الضرر بالتقصير في تعظيمها، وكان العهد قريبًا بذلك، فخاف عمر أن يراه بعضهم يقبله ويعتني به فيشتبه عليه، فبين أنه لا يضر ولا ينفع بذاته.

"النووي في شرح مسلم [9/ 16] طبعة دار الكتب العلمية".

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [1610] كتاب الحج، [60] باب تقبيل الحجر، ومسلم في صحيحه [248 - (1270)] كتاب الحج [41] باب استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف، =

ص: 241

واعلم أن ما ذكرناه من الأحاديث مدارها على المُرضي للَّه، الموصل إلى اللَّه، المسؤول في أم القرى ضمن كل صلاة {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل: 9].

على مهيمن: الإغراء والتحذير والبيان والإرشاد وفي المهم الأول: ست تنبيهات: ترغب في المحافظة على السنة، وترهب من إضاعتها، وذكر خواص المحافظة وعاقبتها، والتلويح إلى أساس السنة وأهلها، والرمز إلى أصل المتأهل للحفظ والإضاعة، وحكمتها جلاء وخفاء والإشارة إلى ما تستحقه الروافض، والحافظ من هجر ووداد.

وفي المهم الثاني: بيان جملة من السنن المباركة المهمة النافعة، فمنها: مجالسة الكبراء، كما في حديث البيهقي، وذلك بأمور: أحدها: ترك السؤال الصادر عما لعله أهم للسامع، وثانيها: حسن الموافقة في كل قول وفعل وإرادة، وثالثها: مقابلة الأوامر والأخبار بالسمع والطاعة، والإيمان والتصديق لا بالعلم والرأي، وهي واضحة من الحديث الأول.

ومنها إفادة الكبير للمريدين بالمواعظ المؤثرة، وبالوصايا النافعة لاسيما إذا طلبت بصدق وبالإشارات المهمة كما في الحديث الثاني.

وفيه أيضًا حسن الاستفادة بأربعة أمور: الإقبال بالفهم والقلب كله على الكثير، وسؤال الوصية والعض بالنواجذ

(1)

على الطريق المرضية، وتجنب ما خالف ذلك، والحذر منه {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ}

(2)

، ومنها ثلاثة أمور: التحذير الأبلغ مما يخالف بداية العقول على وجه من التغيير بدفع، والمراجعة فيما لا ينفهم حتى ينفهم، وأخذ الحذر مما حذَّر منه الناصح فلا يُعصى بشيء من أوامره البتة.

ومنها: الاحتفال بالأكل باليمين والأمر به لمن يتركه، وقبول النصح والبدار إليه، وترك الكبرياء فإنه مُهلك، وترك النفاق، فلا خير في شئ منه، وتحرِّي الصدق في الاعتذار وغيره {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}

(3)

وتغيير حذر سطوة

= والترمذي في سننه [860] كتاب الحج، باب ما جاء في تقبيل الحجر، وأبو داود في سننه [1873] في المناسك، باب تقبيل الحجر.

(1)

الناجذ: الضرس، جمعها نواجذ، ويقال: ضحك حتى بدت نواجذه، ناجذ: استغرق في الضحك.

(2)

سورة يونس [32].

قوله تعالى {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقّ} [يونس: 32] أي فهذا الذي اعترفتم بأنه فاعل ذلك كله هو ربكم وإلهكم الحق الذي يستحق أن ينفرد بالعبادة {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32] أي فكل معبود سواه باطل، لا إله إلا هو واحد لا شريك له. "تفسير ابن كثير [2/ 425] ".

(3)

سورة النحل [105].

ص: 242

الأكابر، وتغيير قلوبهم ودعائهم كما في الحديث الرابع.

ومنها: الاهتمام بآداب ثمانية؛ تسوية الصفوف، ولاسيما للإمام، وأمر المتهاونين فيها به، وترك المواجهة بالموعظة، وتحسين القول كقوله: عباد اللَّه، ولم يقل أيُّها المسيئون.

والاحتفال بالإرشاد وتكريره حتى يرى أن قد عُقِلَ، وإنذار المتعرض للهلاك بجهله، وإيضاحه له، وأخذ الحذر من الشقاق، وتخالف الوجوه، وترك احتقار شيء من السببين فيجبه من الخير ما لا يوصف كما هو جلي من الحديث الخامس.

ومنها: إطفاء النار عند النوم وأن يُؤْخَذَ العبرة مما يتحدث به شأن الناس.

ومنها: التنبيه بضرب الأمثال، ولها فوائد جليلة، فليعنى به الألباء ويتيقن الهدى، والعلم غيب يحيي اللَّه به القلوب، فليحرص على التفقه فيه الناصح لنفسه معظمًا لنعمة اللَّه -تعالى- به، وأن التعليم بعد العلم مهم كالمراعي، وأن الرواية خير كثير فليحمل العلم من كل خلف عدوله كالاجادر

(1)

.

وليبك على نفسه المحروم من كل دراية ورواية ورعاية فإنه قيعان، ومنها إرغام الشيطان بلعق الأصبع والقصعة

(2)

وأكل المتناثر، وإطابة المطاعم حسًّا ومعنى.

ومنه إماطة الأذى عن المأكول والمشروب، والتبرك باستعمال أقوال الصالحين، وترك الحذف، وتقبيل الحجر الأسود، ولا يخفى الفهم بعد ذلك ما يستنبط منه أو يُستزاد، ويؤخذ منه، وباللَّه الإعانة والتسديد.

‌فصل في وجوب الانقياد لحكم اللَّه -تعالى- وما يقوله من دعي إلى ذلك وأمر بمعروف أو نهى عن منكر

قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ}

(3)

الآية

(4)

.

(1)

الجدر: النبت، طلعت رؤوسه أول الربيع.

(2)

قال النووي فيما رواه مسلم من أحاديث باب استحباب لعق الأصابع والقصعة، وقد تقدم بعضها: في هذه الأحاديث أنواع من سنن الأكل منها: استحباب لعق اليد محافظة على بركة الطعام وتنظيفًا لها واستحباب الأكل بثلاث أصابع، ولا يضم إليها الرابعة والخامسة إلا لعذر بأن يكون مرقًا وغيره مما لا يمكن بثلاث وغير ذلك من الأعذار، واستحباب لعق القصعة وغيرها واستحباب أكل اللقمة الساقطة بعد مسح أذى يصيبها، هذا إذا لم تقع على موضع نجس، فإن وقعت على موضع نجس تنجست، ولا بد من غسلها إن أمكن، فإن تعذر أطعمها حيوانًا، ولا يتركها للشيطان، ومنها إثبات الشياطين وأنهم يأكلون. "النووي في شرح مسلم [13/ 172، 173] طبعة دار الكتب العلمية".

(3)

سورة النساء [65].

(4)

روى البخاري في صحيحه [4585] كتاب تفسير القرآن، [11] باب {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى =

ص: 243

وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ}

(1)

الآية.

ومعنى الحكم التدبير الشامل للكونيات والدينيات التكليفية والجزائية، حسية وخلقية، ولا شك أن الإنسان إن خاصم أولًا فله التحكيم، وإلا فالطواعية.

وفيه من الأحاديث حديث أبي هريرة المذكور في أول الفصل قبله، وغيره من الأحاديث.

وروينا في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: "لما نزلت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 284] الآية، اشتد ذلك على أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب فقالوا

(2)

: أي رسول اللَّه، كُلِّفنا من الأعمال ما نطيق، الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أُنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، قال:"أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا، بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" فلما فعلوا ذلك نسخها

(3)

، فأنزل اللَّه تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] قال: "نعم"{رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}

= يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] من سورة النساء، عن عروة قال: خاصم الزبير رجلًا من الأنصار في شريج من الحرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك" فقال الأنصاري: يا رسول اللَّه إن كان ابن عمتك؟ فتلوَّن وجهه ثم قال: "اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، ثم أرسل الماء إلى جارك" واستوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم حين أحفظه الأنصاري، وكان أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة، قال الزبير: فما أحسب هذه الآيات إلا نزلت في ذلك {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65].

(1)

سورة النور [51].

(2)

قال الإمام أبو عبد اللَّه المازري رحمه الله: يحتمل أن يكون إشفاقهم وقولهم لا نطيقها لكونهم اعتقدوا أنهم يؤاخذون بما لا قدرة لهم على دفعه من الخواطر التي لا تكتسب، فلهذا رأوه من قبيل ما لا يطاق، وعندنا أن تكليف ما لا يطاق جائز عقلًا، واختلف هل وقع التعبد به في الشريعة أم لا، واللَّه أعلم. "النووي في شرح مسلم [2/ 126] طبعة دار الكتب العلمية".

(3)

معنى أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالإيمان والسمع والطاعة لما أعلمهم اللَّه -تعالى- من مؤاخذته إياهم، فلما فعلوا ذلك وألقى اللَّه -تعالى- الإيمان في قلوبهم وذلت بالاستسلام لذلك ألسنتهم كما نص عليه في هذا الحديث، رفع الحرج عنهم ونسخ هذا التكليف، وطريق علم النسخ إنما هو بالخبر عنه أو بالتاريخ، وهما مجتمعان في هذه الآية، قال القاضي: وقول المازري: إنما يكون نسخًا إذا تعذر البناء، كلام صحيح فيما لم يرد فيه النص بالنسخ، فإن ورد وقفنا عنده. "النووي في شرح مسلم [2/ 127] طبعة دار الكتب العلمية".

ص: 244

[البقرة: 286] قال: "نعم"{رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] قال: "نعم"{وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} [البقرة: 286] الآية، قال:"نعم"

(1)

. ومدار الحديث على تعظيم أمر اللَّه بنحو {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة: 285] شق أو لم يشق، من وسط القلب، والرفق بالنفس بسؤال التخفيف بنحو {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} [البقرة: 285]

(2)

، وأن تقرن عندها ما يهون عليه التحمل، لو لم يخفف عنها شيء بنحو {وَإِلَيْكَ الْمَصِير} [البقرة: 285].

فالآية الشريفة اشتدت على المؤمنين، فلولا يقينهم وإيمانهم باللَّه واليوم الآخر، لما ألقوا لذلك بالًا. ولولا مراقبتهم لأنفسهم وعلمهم حالها، وبضعفهم عن مثلها، لما ثبتوا لمشقتها عليهم، ولَمَّا شقت الآية عليهم أتوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فتلا عليهم {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 6]

(3)

، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}

(4)

لما سمعوا تيسير ذلك، ولولا حسن ظنهم باللَّه ورسوله لكتموا ما بهم عنها وبركوا على الركب استرحاما للَّه، وذكروا قصتهم، فلولا إخلاص قلوبهم لتظاهروا بغير ما فيها، ولولا مناصحتهم للَّه ولرسوله لَشَكَوْا همَّهم لغيرهما، ولولا إجلالهم للرب جل جلاله لانطلقت ألسنتهم بأكثر من مجرد القصد، واستضعاف أهل الطريق منزلة الخوف والرجاء له موضع يخاض فيه، وكان الشارع أعلم بالمؤمنين لسعة ذلك عليهم، ولكن مهمته ببادئ الحال، ولمَّا تعلقوا أغاثهم بترك التوقف لهم، وذكر أنهم معذورون، أو أنه يسأل اللَّه لهم أو نحو ذلك

(5)

، وصرفه لهم عن كل وجهة مبينًا أن جميع ما

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [199 - (125)] كتاب الإيمان، [57] باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق، وأحمد في مسنده [2/ 412]، وأبو عوانة في مسنده [1/ 77]، والسيوطي في الدر المنثور [1/ 374].

(2)

{غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} [البقرة: 285] سؤال للمغفرة والرحمة واللطف، {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285] أي المرجع والمآب يوم الحساب، قال ابن جرير بسنده عن جابر: لما نزلت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم {آمَنَ الرَّسُولُ} [البقرة: 285] الآية، قال جبريل: إن اللَّه أحسن الثناء عليك وعلى أمتك، فسل تعطه، فسأل {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] "تفسير ابن كثير [1/ 342] ".

(3)

قال البخاري في تفسير سورة ألم نشرح في صحيحه في كتاب التفسير: قال مجاهد: "وزرك" في الجاهلية "أنقض": أثقل، "مع العسر يسرًا": قال ابن عيينة: أي مع ذلك العسر يسرًا آخر، كقوله {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} ولن يغلب عسر يسرين، وقال مجاهد:"فانصب" في حاجتك إلى ربك، ويذكر عن ابن عباس {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)} [الشرح: 1] شرح اللَّه صدره للإسلام.

(4)

سورة الطلاق [2].

(5)

اختلف الناس في هذه الآية فأكثر المفسرين من الصحابة ومَنْ بعدهم على ما تقدم فيها من النسخ =

ص: 245

يحاول، فإنما هو حال أهل الغضب والضلال، ولما علموا أن لا ملجأ من اللَّه إلا إليه أرشدهم لما أرشدهم إليه، فأعظم به رسولًا وهاديًا، فأزال اللَّه -تعالى- انقباضهم ببسط موجه لهم حيث قال:{آمَنَ الرَّسُولُ} [البقرة: 285] الآية، وسارع في رضاهم، فأزال ما شق عليهم بقوله:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]

(1)

فأبهجهم بإجابة أدعيتهم ناجزًا معقبًا كل واحد بنعم، فليبشر المنقاد لحكم اللَّه، لما يرغب عاجلًا أو آجلًا.

جزى اللَّه يوم الروع خيرًا فإنه

أرانا على علاته أم سالم

‌فصل في إجراء الناس على الظاهر وسرائرهم إلى اللَّه تعالى

قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}

(2)

.

يأمر بتخلية المعقود له على مرصد، إذا فعل ذلك.

وروينا في الصحيحين من حديث ابن عمر مرفوعًا: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على اللَّه

= وأنكره بعض المتأخرين، قال: لأنه خبر ولا يدخل النسخ الأخبار، وليس كما قال هذا المتأخر، فإنه وإن كان خبرًا فهو خبر عن تكليف ومؤاخذة بما تكن النفوس والتعبد بما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث بذلك، وأن يقولوا سمعنا وأطعنا، وهذه أقوال وأعمال اللسان والقلب، ثم نسخ ذلك عنهم برفع الحرج والمؤاخذة. "النووي في شرح مسلم [2/ 127] طبعة دار الكتب العلمية".

(1)

أي لا يكلف أحدًا فوق طاقته، وهذا من لطفه -تعالى- بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم، وهذه هي الناسخة الرافعة لما كان أشفق منه الصحابة في قوله:{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] أي هو وإن حاسب وسأل، لكن لا يعذب إلا بما يملك الشخص دفعه، فأما ما لا يملك دفعه من وسوسة النفس وحديثها فهذا لا يكلف به الإنسان، وكراهية الوسوسة السيئة من الإيمان. "تفسير ابن كثير [1/ 342] ".

(2)

سورة التوبة [5].

قال: توبتهم خلع الأوثان وعبادة ربهم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم قال في آية أخرى:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11]، وروى البخاري في صحيحه عن أنس أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه، فإن شهدوا أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا وصلوا صلاتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها؛ لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم".

ص: 246

تعالى"

(1)

.

وروينا في صحيح مسلم من حديث طارق بن أشيم

(2)

مرفوعًا: "من قال لا إله إلا اللَّه، وكفر بما يُعْبَدُ من دون اللَّه، حُزم ماله ودمه، وحسابه على اللَّه"

(3)

.

وفيه وما قبله عصمة دم ومال من أسلم، وترك قتاله حكمنا ظاهر إيمانه، وما يفعله من مباني الإسلام

(4)

.

وقوله: "وحسابهم على اللَّه" تصريح بأن الغيب للَّه، والظاهر هو الذي يعتمده البشر ليس إلا، ولإيراد هذا الحديث بعد الأول فوائد: أحدها: إيضاح أنه لا فرق بين مقاتل وسالم في ذلك.

ثانيها: بيان أن القول هو المراد بالشهادة المذكورة في الأول.

ثالثها: إن عصمة الدم والمال على سبيل التحريم المحتم.

رابعها: أنه عصمة منه عليه السلام ومن كل أحد.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [25] كتاب الإيمان، [17] باب {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]، ومسلم في صحيحه [36 - (22)] كتاب الإيمان، [8] باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. . . .، وأبو داود [1556، 2640]، والترمذي [2606، 2607]، والنسائي [7/ 77، 78 - المجتبى] وابن ماجه [3927، 3928].

(2)

طارق بن أشيم بن مسعود الأشجعي والد أبي مالك سعد بن طارق، صحابي له أحاديث، أخرج له البخاري في الأدب، ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه. ترجمته: تهذيب التهذيب [5/ 2]، تقريب التهذيب [1/ 376]، والكاشف [2/ 40]، أسد الغابة [3/ 69]، الإصابة [3/ 507]، الوافي بالوفيات [16/ 380].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [37 - (23)] كتاب الإيمان، [8] باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه. . . .، والطبراني في المعجم الكبير [8/ 1381] والزيلعي في نصب الراية [3/ 380].

(4)

قال النووي: اعلم أن هذا الحديث بطرقه مشتمل على أنواع من العلوم وجمل من القواعد، ثم ذكرها النووي ومنها: أن الإيمان شرطه الإقرار بالشهادتين مع اعتقادهما واعتقاد جميع ما أتى به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقد جمع ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله:"أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللَّه ويؤمنوا بي وما جئت به" وفيه: وجوب الجهاد، وفيه: صيانة مال من أتى بكلمة التوحيد ونفسه ولو كان عند السيف، وفيه: أن الأحكام تجري على الظاهر، واللَّه -تعالى- يتولى السرائر، وفيه: جواز القياس والعمل به، وفيه: وجوب قتال مانعي الزكاة أو الصلاة أو غيرهما من واجبات الإسلام قليلًا كان أو كثيرًا، وفيه: وجوب قتال أهل البغي، وفيه: وجوب الزكاة في السخال، وفيه: قبول توبة الزنديق. "مختصرًا من شرح مسلم للإمام النووي [1/ 188، 189] طبعة دار الكتب العلمية".

ص: 247

وفي الحديثين بيان الأسباب، والمحل إما محل الحكم، والظاهر بالدنيا فقط، وأما الآخرة، فمدار الحقائق كما يشعر به قوله:"وحسابهم على اللَّه".

وأما الأسباب فمنها: الاستصحاب كما في قوله: "أُمرت أن أقاتل" أي لأن الأصل عدم إيمانهم.

ومنها: إخبار العالم كما في ضميره الذي لا يعلم ما فيه إلا من جهته كما في قوله: "حتى يقولوا أو يشهدوا".

ومنها: اعتناء من أُمر بأعمال هي زاده ليوم مَعَاده بحيث يشق تضييع مثلها، فالتهاون في شرط أو فرض منها، كما في قوله:"ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة".

وروينا في الصحيحين من حديث أبي معبد مقداد بن الأسود

(1)

قال: قلت لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن لقيت رجلًا من الكفار، فاقتتلنا، فضرب إحدى يديَّ بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة فقال: أسلمت للَّه، أأقتله يا رسول اللَّه بعد أن قالها؟ فقال:"لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال"

(2)

.

معناه أنه معصوم الدم، محكوم بإسلامه، وأنت مباح الدم بالقصاص لورثته، لا أنه بمنزلته في الكفر.

وفيه ذكر بعض ما يصرف الناس عن الحكم بالظاهر وهو شهوة الانتقام المشعر به قوله: قطع إحدى يديه، ثم قال ذلك بعد ما قطعها.

وقوله: "وإنك بمنزلته قبل أن يقولها"

(3)

أبلغ منقد وزاجر عن إلغاء قوله

(1)

المقداد بن عمرو بن الأسود الكندي وكان حليفًا لبني زهرة، وكان ممن شهد بدرًا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فالمقداد هذا هو ابن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة، هذا نسبه الحقيقي، وكان الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة قد تبناه في الجاهلية، فنسب إليه وصار به أشهر وأعرف، وكان المقداد رضي الله عنه من أول من أسلم، قال عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنهما: أول من أظهر الإسلام بمكة سبعة منهم: المقداد، وهاجر إلى الحبشة، يكنى بأبي الأسود وقيل أبا عمرو، وقيل أبا معبد، واللَّه أعلم.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [6865] كتاب الديات، مقدمته باب [1]، ومسلم في صحيحه [155 - (95)] كتاب الإيمان، [41] باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا اللَّه، وأبو داود [2644]، وأحمد في مسنده [6/ 4، 6/ 197]، وابن أبي شيبة في مصنفه [12/ 378]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [3449]، والألباني في إرواء الغيل [8/ 136].

(3)

قال النووي: اختلف في معناه، فأحسن ما قيل فيه، وأظهره ما قاله الإمام الشافعي وابن القصار المالكي وغيرهما أن معناه: فإنه معصوم الدم محرم قتله بعد قوله لا إله إلا اللَّه كما كنت أنت قبل أن تقتله، وإنك بعد قتله غير معصوم الدم ولا محرم القتل كما كان هو قبل قوله لا إله إلا اللَّه، قال ابن =

ص: 248

الذي هو مظنة إيمانه.

وروينا فيهما من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: "بعثني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى الحُرقة من جهينة، فصبحنا القوم على مياههم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلًا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا اللَّه، فكف عنه الأنصاري، وطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال لي: "يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا اللَّه" قلت: يا رسول اللَّه إنما كان متعوذًا، قال: "أقتلته بعد ما قال لا إله إلا اللَّه" فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم"

(1)

.

وفي رواية: فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أقال لا إله إلا اللَّه وقتلته؟ " قلت: يا رسول اللَّه إنما قالها خوفًا من السلاح، قال:"أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا" فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ

(2)

، ومعنى مُتعوِّذًا: معتصمًا بها من القتل، لا معتقدًا لها.

وفيه ذكر ما يصرف عنه وهي أنه قالها متعوذًا خوفًا من السلاح، وبيان حكمة الحكم بالظاهر، وهي سلامة مهجة الصادق كما يشير إليه قوله:"حتى تعلم أقالها خوفًا من السلاح أم لا".

وفيه أيضًا بيان سبب مشروعية الحكم بالظاهر، وهو قصور السر عن الاطلاع

= القصار: يعني لولا عذرك بالتأويل المسقط للقصاص عنك. "النووي في شرح مسلم [2/ 91] طبعة دار الكتب العلمية".

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [6872] كتاب الديات، [2] باب قول اللَّه تعالى:{وَمَنْ أَحْيَاهَا} [المائدة: 32]، ومسلم في صحيحه [159 - (96)] كتاب الإيمان، [41] باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا اللَّه، وأحمد بن حنبل في مسنده [5/ 200]. قوله صلى الله عليه وسلم:"أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا" الفاعل في قوله: "أقالها" هو القلب، ومعناه أنك إنما كلفت بالعمل بالظاهر وما ينطق به اللسان، وأما القلب فليس لك طريق إلى معرفة ما فيه، فأنكر عليه امتناعه من العمل بما ظهر باللسان وقال:"أفلا شققت عن قلبه لتنظر هل قالها القلب واعتقدها وكانت فيه أم لم تكن فيه بل جرت على اللسان فحسب، يعني وأنت لست بقادر على هذا فاقتصر على اللسان فحسب، يعني ولا تطلب غيره. وقوله: حتى تمنيتُ أني أسلمت يومئذ، معناه لم يكن تقدم إسلامي بل ابتدأت الآن الإسلام ليمحو ما تقدم. "النووي في شرح مسلم [2/ 88] طبعة دار الكتب العلمية".

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [158 - (96)] كتاب الإيمان، [41] باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا اللَّه، وأبو داود في سننه [2643]، والبيهقي في السنن الكبرى [8/ 19، 192]، والسيوطي في الدر المنثور [1/ 200]، وابن أبي شيبة في مصنفه [10/ 122]، وابن عبد البر في التمهيد [10/ 161].

ص: 249

على حقائق الأمور كما يشعر به قوله: "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم".

وروينا في صحيح مسلم من حديث جندب بن عبد اللَّه

(1)

رضي الله عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعث بعثًا من المسلمين إلى قوم من المشركين، وأنهم التقوا، فكان رجل من المشركين إذا شاء أن يقصد إلى رجل من المسلمين قصد له فقتله، وإن رجلًا من المسلمين قصد غفلته -قال: وكنا نحدِّث أنه أسامة بن زيد- فلما رفع عليه السيف قال: لا إله إلا اللَّه، فقتله، فجاء البشير إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله، فأخبره، حتى أخبره خبر الرجل كيف صنع، فدعاه فسأله فقال:"لم قتلته؟ " قال: يا رسول اللَّه أوجع في المسلمين، وقتل فلانًا وفلانًا -وسمى له نفرًا- وإني حملت عليه، فلما رأى السيف قال: لا إله إلا اللَّه، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أقتلته؟ " قال: نعم، قال:"فكيف تصنع بلا إله إلا اللَّه إذا جاءت يوم القيامة؟ " قال: يا رسول اللَّه استغفر لي

(2)

، قال:"وكيف تصنع بلا إله إلا اللَّه إذا جاءت يوم القيامة؟ " قال: فجعل لا يزيده على أن يقول: "كيف تصنع بلا إله إلا اللَّه إذا جاءت يوم القيامة؟ "

(3)

.

وفيه ذكر ما يصرف عنه من غيره الإسلام، وحدَّة حميَّته لأهل دينه، كما يشعر قوله:"أوجع وقتل من المسلمين" كما يشعر به قوله: وإني حملت عليه، والتهمة المشعرة بها قوله: فلما رأى السيف قال: لا إله إلا اللَّه

(4)

.

(1)

جندب بن عد اللَّه بن سفيان، أبو عبد اللَّه أبو سفيان البجلي العلقي الأحمسي، صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة. ترجمته: تهذيب التهذيب [2/ 117]، تقريب التهذيب [1/ 134، 135]، الكاشف [1/ 88]، تاريخ البخاري الكبير [2/ 221]، الجرح والتعديل [2/ 2102]، أسد الغابة [1/ 361] تجريد أسماء الصحابة [1/ 91]، الإصابة [1/ 508]، الوافي بالوفيات [11/ 193]، سير الأعلام [3/ 174]، الثقات [3/ 56].

(2)

أما كونه صلى الله عليه وسلم لم يوجب على أسامة قصاصًا ولا دية ولا كفارة، فقد يستدل به لإسقاط الجميع، ولكن الكفارة واجبة والقصاص ساقط للشبهة؛ فإنه ظنه كافرًا، وظن أن إظهاره كلمة التوحيد في هذا الحال لا يجعله مسلمًا، وفي وجوب الدية قولان للشافعي، وقال بكل واحد منهما بعض من العلماء، ويجاب عن عدم ذكر الكفارة بأنها ليست على الفور، بل هي على التراخي، وتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز على المذهب الصحيح عند أهل الأصول، وأما الدية على قول من أوجبها فيحتمل أن أسامة كان في ذلك الوقت معسرًا. "النووي في شرح مسلم [2/ 91] طبعة دار الكتب العلمية".

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [160 - (97)] كتاب الإيمان، [41] باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا اللَّه، والتبريزي في مشكاة المصابيح [3451]، وابن كثير في تفسيره [3/ 598]، وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح [12/ 301].

(4)

روى مسلم في صحيحه [43 - (26)] كتاب الإيمان، [10] باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، عن عثمان قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من مات وهو يعلم أن لا إله =

ص: 250

وفيه وجه بليغ من وجوه: أحدها: قوله: "كيف تصنع بها"، وثانيها: قوله: "إذا جاءت يوم القيامة، ثالثها: الإعراض عن الاستغفار له، ورابعها: تكرير ذلك والتأوه منه.

وروينا في صحيح البخاري من حديث عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: "إن ناسًا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم

(1)

، فمن أظهر لنا خيرًا أَمنَّاهُ وقربناه، وليس لنا من سريرته شيء، اللَّه يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءًا لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة".

وفيه أن المانع من الحكم بالظاهر إنما هو يقين الوحي، ونحوه كلام عيسى وصاحب جريج وشاهد يوسف

(2)

وأن مجرد الاحتمالات لا تصلح مانعًا، كما يشعر به قول الفاروق:"وليس لنا من سريرته شيء" وفيه أن الأعمال البشرية إذا تعارضت مع دعوى الخيرية قدمنا الأعمال كما هو جلي من قوله لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة.

وحاصل الأحاديث إيجاب الحكم بالظاهر مرتبًا على سببه وملازمه، وبيان الأسباب ومحل الحكم بالظاهر، وبيان ما يصرف الناس عن الحكم بالظاهر، وحكمة الحكم بالظاهر، وفائدته وما يزجر عن تركه، وسبب مشروعيته، وما يمنع منه، وما لا يصلح مانعًا، وترجح أحد المتعارضين وسنته ذلك قتال الناس حكمًا بان لا أمان لهم بأنه الظاهر على فترة من الرسل، ومثله الإغارة على من لا أذان

(3)

فيهم حكمًا

= إلا اللَّه دخل الجنة"، وقال النووي: مذهب أهل السنة بأجمعهم من السلف الصالح وأهل الحديث والفقهاء والمتكلمين على مذهبهم من الأشعريين أن أهل الذنوب في مشيئة اللَّه -تعالى- وأن كل من مات على الإيمان وتشهد مخلصًا من قلبه بالشهادتين فإنه يدخل الجنة.

(1)

روى أبو داود في سننه [3586] كتاب الأقضية، باب في قضاء القاضي إذا أخطأ عن ابن شهاب أن عمر رضي الله عنه قال وهو على المنبر: يا أيها الناس، إن الرأي إنما كان من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مصيبًا؛ لأن اللَّه كان يريه، وإنما هو منا الظن والتكلف.

(2)

روى الحاكم في المستدرك [2/ 497]، عن ابن عباس قال:"تكلم في المهد أربعة وهم صغار: ابن ماشطة بنت فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى ابن مريم"، ورواه ابن جرير بسنده عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"تكلم أربعة وهو صغار. . . . " الحديث، إلا أن الألباني ذكره في سلسلة الأحاديث الضعيفة [2/ 272] رقم [880].

(3)

روى البخاري في صحيحه [610] كتاب الأذان، [6] باب ما يحقن بالأذان من الدماء، عن أنس بن مالك:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا بنا قومًا لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذانًا كف عنهم، وإن لم يسمع أذانًا أغار عليهم. . . " الحديث.

ص: 251

بكفرهم لأنه ظاهر الإخلال بشعار الدين بعد أن ضرب الإيمان بجرابه، وفيها غير ذلك مما لا يخفى على متأمل ومستوضح ومتمهل.

‌فصل في النهي عن البدع ومحدثات الأمور

والمراد بها ما خالف الحق أو تردد في الصدر أو أنكره القلب أو ردَّته الشريعة.

وهي في اللغة ما ليس له مثال سابق، ومن هذا السنَّة الحسنة

(1)

وغيرها.

واللغوية هي التي انقسمت إلى الأحكام الخمسة، وكل بدعة ليست شرعية فضلالة.

قال تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ}

(2)

فلا واسطة بينهما، فمن أخطأ الحق وقع في الضلال.

وقال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}

(3)

فكل شيء فيه خير ما، فالكتاب المجيد مشتمل عليه لم يفعل ولم يترك بناء على أن الكتاب القرآن، وهو مذهب الجمهور، لا الأجل ولا اللوح المحفوظ.

وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}

(4)

أي الكتاب والسُّنَّة، فيجب الرد إليهما إذ ذلك.

(1)

روى مسلم في صحيحه [69 - (1017)] كتاب الزكاة، [20] باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة، وأنها حجاب من النار، عن جرير بن عبد اللَّه، وفيه:"من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء"، وقال النووي: فيه الحث على الابتداء بالخيرات، وسن السنن الحسنات، والتحذير من اختراع الأباطيل والمستقبحات، وفيه الحث على استحباب سن الأمور الحسنة وتحريم سن الأمور السيئة، وأن من سن سنة حسنة كان له مثل أجر كل من يعمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة كان عليه مثل وزر كل من يعمل بها إلى يوم القيامة، وأن من دعا إلى هدى كان له مثل أجور متابعيه، أو إلى ضلالة كان عليه مثل آثام تابعيه، سواء كان ذلك الهدى والضلالة هو الذي ابتدأه أم كان مسبوقًا إليه، وسواء كان ذلك تعليم علم أو عبادة أو أدب أو غير ذلك. "النووي في شرح مسلم [7/ 92]، [16/ 185] طبعة دار الكتب العلمية".

(2)

سورة يونس [32].

(3)

سورة الأنعام [38].

(4)

سورة النساء [59].

قال مجاهد وغيره من السلف: أي إلى كتاب اللَّه وسنة رسوله، وهذا أمر من اللَّه عز وجل بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة، كما قال تعالى:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] فما حكم به الكتاب والسنة وشهدا له بالصحة فهو الصحة. "تفسير ابن كثير [1/ 518] ".

ص: 252

وقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153] الآية، فاتباع السبيل مفوق عن الإسلام الذي هو صراط أهل الأيمان الموصل إلى أعالي الجنان.

وقال: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}

(1)

، فمن أحب اللَّه اتبع رسوله، ومن اتبعه أحبه اللَّه، فأقبح بالبدعة الصادة عن الحق، ولا خير فيها ولا مرجع إلى اللَّه ورسوله، ولا اتباع بها لصراط اللَّه بل لسبيل يفرق عن سبيل اللَّه، ويبعد عن محبة اللَّه، أعاذنا اللَّه منها بمنه.

والآيات في الباب كثيرة معروفة.

وأما الأحاديث فكثيرة جدًا مشهورة منها:

حديث العرباض السالف في المحافظة على السنَّة، فهو خامة مرتعها قاتل لا يستردف

(2)

سُم، ولا أرجى منه ولا أهلك.

ومنها حديث عائشة مرفوعًا: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"

(3)

أخرجاه.

ولمسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"

(4)

أي فهو زيف مردود لا يتوصل به إلى خير دنيا ولا أخرى.

ومنها حديث جابر رضي الله عنهما قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم، ويقول: "بُعثت والساعة كهاتين" ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى، ويقول: "أما بعد، فإن

(1)

سورة آل عمران [31]. هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة اللَّه وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله، كما ثبت في الصحيح عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد". "تفسير ابن كثير [1/ 358] ".

(2)

أردف الشيء بالشيء: أتبعه.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [3/ 241]، ومسلم في صحيحه [17 - (1718)] كتاب الأقضية، [8] باب نفض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، وأبو داود [4606] كتاب السنة، باب في لزوم السنة، وابن ماجه في سننه [14] في المقدمة، [2] باب تعظيم حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والتغليظ على من عارضه، وأحمد في مسنده [6/ 240، 270]، والبيهقي في السنن الكبرى [10/ 119، 150، 251]، والدارقطني في السنن [4/ 225]، والتبريزي في المشكاة [140]، والمنذري في الترغيب والترهيب [1/ 83].

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [18/ 1718] كتاب الأقضية، [8] باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، وكذلك رواه البخاري في صحيحه [3/ 91، 9/ 132]، وأحمد في مسنده [6/ 16، 180]، والدارقطني في السنن [4/ 227]، والقرطبي في تفسيره [3/ 356، 6/ 33].

ص: 253

خير الحديث كتاب اللَّه، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة"

(1)

ثم يقول: "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالًا لأهله، ومن ترك دينًا أو ضياعًا فإليَّ وعليَّ"

(2)

أخرجه مسلم.

فالمحدث شرّ الأمور المؤذي للدين والقلب، إذ كله ظلم وغل.

‌فصل فيمن سنَّ سُنَّة حسنة أو سيئة

قال تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}

(3)

وهو ظاهر في مدح سؤالها في الدين، إذ هو المتبع المقتدى به، والمراد الحسن.

وقال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}

(4)

فأكرم بهذا الإنعام، وبدأنا بالآية الأولى لاقتضائها الوقوع، وبه يتحقق الإمكان.

وروينا في صحيح مسلم من حديث جرير بن عبد اللَّه البجلي رضي الله عنهما مرفوعًا

(5)

: "من سنَّ في الإسلام سُنَّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص

(1)

قوله صلى الله عليه وسلم: "وكل بدعة ضلالة" هذا عام مخصوص، والمراد غالب البدع، قال العلماء: البدعة خمسة أقسام: واجبة ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة، فمن الواجبة نظم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة والمبتدعين وشبه ذلك، ومن المندوبة تصنيف كتاب العلم وبناء المدارس والربط وغير ذلك، ومن المباح التَّبَسُّطُ في ألوان الأطعمة وغير ذلك، والحرام والمكروه ظاهران. "النووي في شرح مسلم [6/ 135] طبعة دار الكتب العلمية".

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [43 - (867)] كتاب الجمعة، [13] باب تخفيف الصلاة والخطبة، وابن ماجه في سننه [45] في المقدمة، [7] باب اجتناب البدع والجدل، والبيهقي في السنن الكبرى [3/ 206]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [1407]، والزبيدي في الإتحاف [3/ 230، 7/ 114، 115].

(3)

سورة الفرقان [74].

قال ابن عباس والحسن والسدي وقتادة والربيع بن أنس: أئمة يقتدى بنا في الخير، وقال غيرهم: هداة مهتدين دعاة إلى الخير فأحبوا أن تكون عبادتهم متصلة بعبادة أولادهم وذرياتهم، وأن يكون هداهم تعديًا إلى غيرهم بالنفع، وذلك أكثر ثوابًا وأحسن مآبًا. تفسير ابن كثير [3/ 340].

(4)

سورة الأنبياء [73].

(5)

قال النووي: فيه الحث على استحباب سن الأمور الحسنة وتحريم سن الأمور السيئة، وأن من سن سنة حسنة كان له مثل أجر كل من يعمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزر كل من يحمل بها إلى يوم القيامة، وأن من دعا إلى هدى كان له مثل أجور متابعيه أو إلى ضلالة كان عليه مثل آثام تابعيه سواء كان ذلك الهدى والضلالة هو الذي ابتدأه أم كان مسبوقًا إليه، وسواء كان ذلك تعليم علم أو عبادة أو أدب أو غير ذلك. "النووي في شرح مسلم [16/ 185] طبعة دار الكتب العلمية".

ص: 254

من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سُنَّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء"

(1)

وإنما جعل الفعل سببًا من حيث إنه موقظ وموضح ومسهل.

وروينا في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنهما مرفوعًا: "ليس من نفس تُقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم كفل من دمها؛ لأنه كان أول من سنَّ القتل"

(2)

.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [69 - (1017)] كتاب الزكاة، [20] باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة، وأنها حجاب من النار، ورقم [15 - (1017)] كتاب العلم، [6] باب من سن سنة حسنة أو سينة، ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، وأحمد في مسنده [4/ 357، 359]، والبيهقي في السنن الكبرى [4/ 175]، والمنذري في الترغيب والترهيب [1/ 90]، والزبيدي في الإتحاف [1/ 348، 8/ 302].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [7321] كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، [15] باب إثم من دعا إلى ضلالة أو سن سنة سيئة، ومسلم في صحيحه [27 - (1677)] كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، [7] باب بيان إثم من سن القتل، وقال النووي: هذا الحديث من قواعد الإسلام، وهو أن كل من ابتدع شيئًا من الشر كان عليه مثل وزر كل من اقتدى به في ذلك العمل مثل عمله إلى يوم القيامة، ومثله من ابتدع شيئًا من أمور الخير.

ص: 255

‌مجلس في الدلالة على الخير والدعاء إلى الهدى أو الضلالة

قال تعالى: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ}

(1)

.

وقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}

(2)

فالآية الأولى آمرة بالدعاء، وهذه مما يدعى به.

وهذه باعتبار مراتب المدعو في النباهة التامة وسلامة الصدور.

قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}

(3)

.

وقال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ}

(4)

فالآية الأولى معمِّمة لوجوه البِّر، والثانية مبينة بأنه فرض كفاية.

وروينا في صحيح مسلم من حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنهما مرفوعًا: "من دل على خير فله مثل أجر فاعله"

(5)

أخرجه مسلم، وهو حاث على الترغيب بالدلالة.

وروينا فيه أيضًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنهما مرفوعًا: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا"

(6)

.

(1)

سورة القصص [87].

(2)

سورة النحل [125].

(3)

سورة المائدة [2].

يأمر اللَّه -تعالى- عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات وهو البر، وترك المنكرات وهو التقوى، وينهاهم عن التناصر على الباطل والتعاون على المآثم والمحارم، وروى البخاري في صحيحه من حديث أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا" قيل: يا رسول اللَّه هذا نصرته مظلومًا، فكيف انصره ظالمًا؟!! قال:"تحجزه وتمنعه من الظلم فذلك نصره".

(4)

سورة آل عمران [104].

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [133 - (1893)] كتاب الإمارة، [38] باب فضل إعانة الغازي في سبيل اللَّه بمركوب وغيره وخلافته في أهله بخير، وأبو داود في سننه [5129] كتاب الأدب، باب في الدال على الخير، والترمذي في سننه [2671]، وأحمد في مسنده [4/ 120، 5/ 272]، والبيهقي في السنن الكبرى [9/ 28]، وابن حبان في صحيحه [867 - الموارد]، والمنذري في الترغيب والترهيب [1/ 120]، والطبراني في المعجم الكبير [17/ 225، 226].

(6)

أخرجه مسلم في صحيحه [16 - (2674)] كتاب العلم، [6] باب من سن سنة حسنة أو سيئة، ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، وأبو داود في سننه [4609] كتاب السنة، باب لزوم السنة، =

ص: 256

وروينا في الصحيحين من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه: "أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه يوم خيبر: "فواللَّه لأن يهدي اللَّه بك رجلًا واحدًا خير لك من حُمُر النعم"

(1)

.

وأي ترغيب أعظم من هذا في الهداية والتعليم، فإن حُمُر النعم فيها من النفع والجمال لأربابها أنفس شيء وأعزه، فكيف أجرها بالصدقة ونحوها وفي الذي قبله ترغيب في الدعاء إلى الهدى، والتحذير من الدعاء إلى الضلالة بمثل أجر فاعل ذلك.

وروينا في صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنهما: "أن فتى من أسلم قال: يا رسول اللَّه إني أريد الغزو وليس معي ما أتجهز به، فقال: "ائت فلانًا فإنه قد كان تجهز فمرض" فأتاه فقال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُقرئك السلام ويقول: أعطني الذي تجهزت به، قال: يا فلانة أعطيه الذي تجهزت به ولا تحبسي عنه شيئًا، فواللَّه لا تحبسي منه شيئًا فيبارك لك فيه"

(2)

وهو ظاهر في الدلالة على الخيرات كالعالم والعابد والواعظ والمتصدق وغير ذلك من العقائد والنصائح.

ومدار هذه الأحاديث على الترغيب في الدلالة والدعاء والهداية بالقول البين بجزيل الأجر وبالفعل الجاذب إلى الاقتداء.

= والترمذي في سننه [2674]، وابن ماجه [206]، وأحمد في مسنده [2/ 397]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [158]، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة [865].

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [3701] كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، [9] باب مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبي الحسن رضي الله عنهما، ومسلم في صحيحه [34 - (2406)] كتاب فضائل الصحابة، [4] باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، قال النووي: هي الإبل الحمر وهي أنفس أموال العرب، يضربون بها المثل في نفاسة الشيء، وأنه ليس هناك أعظم منه، وقد سبق أن تشبيه أمور الآخرة بأعراض الدنيا إنما هو للتقريب من الأفهام وإلا فذرة من الآخرة الباقية خير من الأرض بأسرها وأمثالها معها لو تصورت، وفي هذا بيان فضيلة العلم والدعاء إلى الهدى ومن السنن الحسنة. "النووي في شرح مسلم [15/ 145] طبعة دار الكتب العلمية".

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [134 - (1894)] كتاب الإمارة، [38] باب فضل إعانة الغازي في سبيل اللَّه بمركوب وغيره، وخلافته في أهله بخير، قال النووي: فيه فضيلة الدلالة على الخير، وفيه أن ما نوى الإنسان صرفه في جهة بر فتعذرت عليه تلك الجهة يستحب له بذله في جهة أخرى من البر، ولا يلزمه ذلك ما لم يلتزمه بالنذر.

ص: 257

‌مجلس في التعاون على البر والتقوى

(1)

كل منهما يشمل الآخر إذ أفرد، ويتميزان عند الاجتماع، فإن الأول فعل الخيرات، والثاني ترك المنكرات.

وفي الكتاب العزيز كثير من ذلك، منه قوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}

(2)

.

وقال تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)}

(3)

الى آخرها.

قال الشافعي: كلامًا معناه أن الناس أو أكثرهم في غفلة عن تدبر هذه السورة، وهو كما قال، فيحتمل أملًا، فأقسم اللَّه بالعصر، وهي الوسطى، والمراد بالإنسان جميعهم، والخسر: النقص، وذهاب رأس المال، فالكافر في ضلال حتى يموت ويدخل النار فيهلك نفسه وعمره أكثر رأس ماله {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [العصر: 3] بالقرآن المجيد، {بِالصَّبْرِ} عن المعاصي.

وروى أبو أمامة

(4)

عن أُبي بن كعب قال: قرأت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(1)

قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} [آل عمران: 104] منتصبة للقيام بأمر اللَّه في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] قال الضحاك: هم خاصة الصحابة وخاصة الرواة يعني المجاهدين والعلماء. "تفسير ابن كثير [1/ 390] ".

(2)

سورة المائدة [2].

(3)

سورة العصر [1، 2].

العصر: الزمان يقع فيه حركات بني آدم من خير وشر، وقال مالك عن زيد بن أسلم هو العصر، والمشهور الأول، فأقسم -تعالى- بذلك على أن الإنسان لفي خسر أي في خسارة وهلاك {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر: 3] فاستثنى من جنس الإنسان عن الخسران الذين آمنوا بقلوبهم وعملوا الصالحات بجوارحهم {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [العصر: 3] وهو أداء الطاعات وترك المحرمات {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3] أي على المصائب والأقدار وأذى من يؤذي ممن يأمرونه بالمعروف وينهونه عن المنكر. "تفسير ابن كثير [4/ 548] ".

(4)

أبو أمامة البلوي الأنصاري الحارثي، اسمه إياس، وقيل: عبد اللَّه بن ثعلبة، وقيل: ثعلبة بن عبد اللَّه بن سهل، صحابي له حديث، أخرج له مسلم وأصحاب السنن الأربعة. ترجمته: تهذيب التهذيب [12/ 13]، تقريب التهذيب [2/ 392]، الثقات [3/ 451]، أسد الغابة [6/ 17]، الاستيعاب [4/ 1601]، تجريد أسماء الصحابة [2/ 148]، التاريخ الكبير [9/ 3]، الخلاصة [3/ 199]، الاستبصار [251].

ص: 258

{وَالْعَصْرِ} [العصر: 1] فقلت: بأبي وأمي يا رسول اللَّه ما تفسيرها؟ فقال: {وَالْعَصْرِ (1)} قسم من اللَّه، أقسم ربكم بآخر النهار، {إِنَّ الْإِنْسَانَ} أبو جهل بن هشام {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} الصديق، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الفاروق، {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [العصر: 3] عثمان، {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} عليّ.

وروينا في الصحيحين

(1)

من حديث زيد بن خالد الجهني مرفوعًا: "من جهز غازيًا في سبيل اللَّه فقد غزا، ومن خلف غازيًا في أهله بخير فقد غزا".

وفيه المعاونة للغازي بالمال، والقيام على العيال بالخدمة البدنية ونحوها، والترغيب في كل منهما بأنه غزو

(2)

.

وروينا في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعث بعثًا إلى بني لحيان من هذيل فقال: "لينبعث من كل رجلين أحدهما، والأجر بينهما"

(3)

.

وروينا فيه أيضًا من حديث ابن عباس أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لقى ركبًا بالروحاء فقال: "من القوم؟ " قالوا: المسلمون، فقالوا: من أنت؟ قال: "رسول اللَّه"، فرفعت

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [2843] كتاب الجهاد والسير، [8] باب فضل من جهز غازيًا أو خلافته بخير، ومسلم في صحيحه [135 - (1895)]، [36] كتاب الإمارة، [38] باب فضل إعانة الغازي في سبيل اللَّه بمركوب وغيره وخلافته في أهله بخير، وأبو داود في سننه 2509]، والترمذي [1628، 1629، 1631]، والنسائي [6/ 46 - المجتبى]، وأحمد في مسنده [4/ 115، 116]، والبيهقي في السنن الكبرى [4/ 240، 9/ 28]، والحاكم في المستدرك [2/ 82]، والمنذري في الترغيب والترهيب [2/ 254].

(2)

قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم: "من جهز غازيًا فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا" أي حصل له أجر بسبب الغزو، وهذا الأجر يحصل بكل جهاد، وسواء قليله وكثيره، ولكل خالف له في أهله بخير من قضاء حاجة لهم، وإنفاق عليهم، أو مساعدتهم في أمرهم، ويختلف قدر الثواب بقلة ذلك وكثرته، وفي هذا الحديث الحث على الإحسان إلى من فعل مصلحة للمسلمين أو قام بأمر من مهماتهم. "النووي في شرح مسلم [13/ 35] طبعة دار الكتب العلمية".

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [137 - (1896)] كتاب الإمارة، [38] باب فضل إعانة الغازي في سبيل اللَّه بمركوب وغيره وخلافته في أهله بخير، وأحمد في مسنده [3/ 490]، والبيهقي في السنن الكبرى [9/ 40]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [3820]، وقال النووي: قد اتفق العلماء على أن بني لحيان كانوا في ذلك الوقت كفارًا، فبعث إليهم بعثًا يغزوهم وقال لذلك البعث: ليخرج من كل قبيلة نصف عددها، وهو المراد بقوله: من كل رجلين أحدهما، وأما كون الأجر بينهما فهر محمول على ما إذا خلف المقيم الغازي في أهله بخير. "النووي في شرح مسلم [13/ 36] طبعة دار الكتب العلمية".

ص: 259

إليه امرأة صبيًا

(1)

فقالت: ألهذا حج؟ قال: "نعم، ولك أجر"

(2)

فيه معاونة الحاج بالمال والبدن، ونية الإحرام.

وروينا في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري مرفوعًا: "إن الخازن المسلم الأمين الذي يُنفِذُ"، وفي لفظ:"يعطي ما أُمِره به، فيعطيه كاملًا مُوَفَّرًا طيبة به نفسه، فيدفعه إلى الذي أُمِر له به أحد المتصدقين"

(3)

فليحرص على الدفع كما أُمر له به من غير مطل بطيب نفس وبشاشة، ومدار هذه الأحاديث على الترغيب في المعاونة، وبيان مجاريها وصفتها، وقس بالأول والثاني إعانة كل دافع للشر، وبالثالث إعانة كل معظم لأمر اللَّه، (وبالرابع من)(*) مشفق على خلق اللَّه، وفي الرابع: الإعانة بمنفعة الوكالة، وفيما قبله بالمال والبدن (حرامته)(*) وخدمة وغير ذلك.

(1)

هذا الحديث فيه حجة للشافعي ومالك وأحمد وجماهير العلماء أن حج الصبي منعقد صحيح يثاب علبه وإن كان لا يجزيه عن حجة الإسلام بل يقع تطوعًا، وهذا الحديث صريح فيه، وقال أبو حنيفة: لا يصح حجه، قال أصحابه: وإنما فعلوه تمرينًا له ليعتاده فيفعله إذا بلغ، وهذا الحديث يرد عليهم، قال القاضي: لا خلاف بين العلماء في جواز الحج بالصبيان، وإنما منعه طائفة من أهل البدع ولا يلتفت إلى قولهم، بل هو مردود بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإجماع الأمة، وإنما خالف أبو حنيفة في أنه هل ينعقد حجه وتجري عليه أحكام الحج وتجب فيه الفدية ودم الجبران وسائر أحكام البالغ، فأبو حنيفة يمنع ذلك كله ويقول: إنما يجب ذلك تمرينًا على التعليم، والجمهور يقولون: تجري عليه أحكام الحج في ذلك، ويقولون: حجه منعقد يقع نفلًا لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل له حجًا، قال القاضي: وأجمعوا على أنه لا يجزئه إذا بلغ عن فريضة الإسلام إلا فرقة شذت ولم يلتفت العلماء إلى قولها. "النووي في شرح مسلم [9/ 84] ".

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [409 - (1336)] كتاب الحج، [72] باب صحة حج الصبي، وأجر من حج به، وأبو داود في سننه [1736] في المناسك، والترمذي [924] كتاب الحج، باب ما جاء في حج الصبي، والنسائي [5/ 121 - المجتبى]، وابن ماجه في سننه [2910] كتاب المناسك، باب حج الصبي، وأحمد في مسنده [1/ 319، 244]، والبيهقي في السنن الكبرى [5/ 155، 156]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [7/ 96، 8/ 295].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [1438] كتاب الزكاة، [27] باب أجر الخادم إذا تصدق بأمر صاحبه غير مفسد، ومسلم في صحيحه [79 - (1023)] كتاب الزكاة، [25] باب أجر الخازن الأمين والمراأة إذا تصدقت من بيت زوجها غير مفسدة بإذنه الصريح أو العرفي، والنسائي [5/ 79 - المجتبى]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [1949]، والمنذري في الترغيب والترهيب [1/ 560]، وقال النووي: معنى هذه الأحاديث أن المشارك في الطاعة مشارك في الأجر، ومعنى المشاركة أن له أجرًا كما لصاحبه أجر، وليس معناه أن يزاحمه في أجره، والمراد المشاركة في أصل الثواب، فيكون لهذا ثواب ولهذا ثواب، وإن كان أحدهما أكثر، ولا يلزم إن يكون مقدار ثوابهما سواء بل قد يكون ثواب هذا أكثر وقد يكون عكسه. "النووي في شرح مسلم [7/ 98، 99] طبعة دار الكتب العلمية".

(*) كذا بالأصل.

ص: 260

‌فصل فى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

والمعروف كل مناسب أن يتقرب به شرعًا والمنكر غيره.

قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}

(1)

.

وقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}

(2)

الآية.

وقال: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ}

(3)

الآية.

وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}

(4)

الآية.

وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ}

(5)

الآية.

وقال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}

(6)

.

وقال تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ}

(7)

.

(1)

سورة آل عمران [104].

يقول تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} [آل عمران: 104] منتصبة للقيام بأمر اللَّه في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] قال الضحاك: هم خاصة الصحابة، وخاصة الرواة يعني المجاهدين والعلماء، وقال أبو جعفر الباقر: قرأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران: 104] ثم قال: "الخير اتباع القرآن وسنتي رواه ابن مردويه. "تفسير ابن كثير [1/ 390] ".

(2)

سورة آل عمران [110].

(3)

سورة الأعراف [199].

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: قوله {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف: 199] يعني خذ ما عفي لك من أموالهم وما أتوك به من شيء فخذه، وكان هذا قبل أن تنزل براءة بفرائض الصدقات، قاله السدي. وقال الضحاك عن ابن عباس {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف: 199] أنفق الفضل، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف: 199] أمره اللَّه بالعفو والصفح عن المشركين عشر سنين، ثم أمره بالغلظة عليهم، واختار هذا القول ابن جرير، قال البخاري: قوله {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} العرف المعروف. "تفسير ابن كثير [2/ 284] ".

(4)

سورة التوبة [71].

(5)

سورة المائدة [78].

(6)

سورة الكهف [94].

يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: وقل يا محمد للناس هذا الذي جئتكم به من ربكم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] هذا ما باب التهديد والوعيد الشديد. "تفسير ابن كثير [3/ 83] ".

(7)

سورة الحجر [94]. =

ص: 261

وقال تعالى: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ}

(1)

الآية، والآيات في الباب كثيرة معلومة.

وروينا في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"

(2)

.

وروينا فيه أيضًا من حديث ابن مسعود مرفوعًا: "ما من نبي بعثه اللَّه في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون

(3)

فمن جاهدهم بيده فهر مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل"

(4)

.

وروينا في الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنهما قال: "بايعنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من اللَّه -تعالى- فيه

= يقول تعالى آمرًا رسوله صلى الله عليه وسلم بإبلاغ ما بعثه به وإنفاذه والصدع به، وهو مواجهة المشركين به كما قال ابن عباس في قوله {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] أي أمضه، وفي رواية: افعل ما تؤمر، وقال مجاهد: هو الجهر بالقرآن في الصلاة. "تفسير ابن كثير [2/ 576] ".

(1)

سورة الأعراف [165].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [78 - (49)] كتاب الإيمان، [20] باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان، والترمذي في سننه [272] كتاب الفتن، باب ما جاء في تغيير المنكر باليد أو باللسان أو بالقلب، والنسائي [8/ 111، 112 - المجتبى]، وأحمد في مسنده [3/ 20، 49، 52]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [5137]، وابن عبد البر في التمهيد [10/ 260].

(3)

قال النووي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية إذا قام به بعض الناس سقط الحرج عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذر ولا خوف، ثم إنه قد يتعين، كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو أو لا يتمكن من إزالته إلا هو، وكمن يرى زوجته أو ولده أو غلامه على منكر أو تقصير في المعروف، قال العلماء: ولا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنه، بل يجب عليه فعله، فإن الذكرى تنفع المؤمنين.

"النووي في شرح مسلم [2/ 20] طبعة دار الكتب العلمية".

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [80 - (50)] كتاب الإيمان، [20] باب يان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان، وأحمد في مسنده [1/ 458]، والبيهقي في السنن الكبرى [10/ 90]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [157]، وأبو عوانة في مسنده [1/ 36].

ص: 262

برهان، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في اللَّه لومة لائم"

(1)

.

المَنْشَط والمَكْرَه بفتح ميميهما: أي السهل والصعب. والأثرة: الاختصاص بالمشترك، وبَوَاحًا: ظاهرًا لا يحتمل تأويلًا، فشرط الإنكار كون المنكر كُفرًا بواحًا

(2)

أن يكون فيه برهان من اللَّه، أي دليل جلي لا يقبل الاجتهاد، وأن رعاية القلوب ليست عذرًا.

فالمؤمن لا يخاف في اللَّه لومة لائم، بل يقول الحق ولو كره المشركون.

وروينا في صحيح البخاري

(3)

من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه مرفوعًا: "مثل القائم في حدود اللَّه -تعالى- والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فكان الذين في إسفلها إذا استقوا من الماء مرُّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا"

(4)

.

معنى القائم في حدود اللَّه: المنكر لها في دفعها وإزالتها، والمراد بالحدود ما

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [41 - (1709)] كتاب الإمارة، [8] باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية، وقال النووي: المراد بالمبايعة المعاهدة، وهي مأخوذة من البيع لأن كل واحد من المتبايعين كان يمد يده إلى صاحبه، وكذا هذه البيعة تكون بأخذ الكف، وقيل: سميت مبايعة لما فيها من المعاوضة لما وعدهم اللَّه -تعالى- من عظيم الجزاء، قال اللَّه - تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] الآية.

(2)

بواحًا بالواو، وفي بعض النسخ براحًا والباء مفتوحة فيهما، ومعناهما كفرًا ظاهرًا، والمراد بالكفر هنا المعاصي، ومحنى عندكم من اللَّه فيه برهان: أي تعلمونه من دين اللَّه -تعالى- ومعنى الحديث: لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرًا محققًا تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم وقولوا بالحق حيث ما كنتم، وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين، قال العلماء: وسبب عدم انعزاله وتحريم الخروج عليه ما يترتب على ذلك من الفتن وإراقة الدماء وفساد ذات البين، فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه، قال القاضي عياض: أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل. "شرح مسلم للنووي [12/ 189] طبعة دار الكتب العلمية".

(3)

رواه البخاري في صحيحه [2493] كتاب الشركة، [6] باب هل يقرع في القسمة والاستهام فيه؟، ورقم [2686] كتاب الشهادات، [30] باب القرعة في المشكلات.

(4)

أخرجه البخاري وقد تقدم، وأحمد في مسنده [4/ 269]، والبيهقي في السنن الكبرى [10/ 288]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 225]، والقرطبي في تفسيره [16/ 86]، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة [69].

ص: 263

نهى اللَّه عنه، واستهموا: اقترعوا، فالأخذ على يد العاصي أهم مهم؛ لأنه كمنع خارق السفينة من خرقها المهلك لجميع من فيها عن عال أو سافل.

وروينا في صحيح مسلم من حديث أم سلمة مرفوعًا: "يستعمل عليكم أمراء فتعرفون منهم وتنكرون، فمن كره فقد برئ

(1)

، ومن أنكر فقد سلم" ولكن من رضي وتابع، قالوا: يا رسول اللَّه ألا نقاتلهم؟ قال: "لا، ما صلوا"

(2)

وفي رواية: قال: "لا، ما أقاموا فيكم الصلاة

(3)

".

ومعناه من كره بقلبه، ولم يستطع إنكارًا بيده ولا لسانه فقد برئ من الإثم وأدى وظيفته، ومن أنكر بحسب طاقته فقد سلم من هذه المعصية، ومن رضى بفعلهم وتابعهم عليه فهو عاص، فالعجز مع الأمراء ونحوهم عذر سقط غير إنكار القلب، وأن العجز عبارة عن توقف التغير عليه مقابلة ونحوها لم يأذن فيها أرباب الشوكة المطاعة.

وروينا في الصحيحين

(4)

من حديث زينب بنت جحش أم المؤمنين: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعًا يقول: "لا إله إلا اللَّه، ويل للعرب من شرٍّ قد اقترب؛ فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه" وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت: فقلت: يا رسول اللَّه، أنهلك وفينا الصالحون؟

(5)

قال: "نعم، إذا كثر الخبث".

(1)

من كره فقد برئ، فظاهره ومعناه من كلره ذلك المنكر فقد برئ من إثمه وعقوبته، وهذا في حق من لا يستطيع إنكاره يده ولا بلسانه، فليكرهه بقلبه وليبرأ، وأما من روى فمن عرف فقد برئ فمعناه -واللَّه أعلم- فمن عرف المنكر ولم يشتبه عليه فقد صارت له طريق إلى البراءة من إثمه وعقوبته بأن يغيره بيده أو بلسانه، فإن عجز فليكرهه بقلبه.

"النووي في شرح مسلم [12/ 203، 204] طبعة دار الكتب العلمية".

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [62 - (1854)]، [63] كتاب الإمارة، [16] باب وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع وترك قتالهم ما صلوا ونحو ذلك.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [65 - (1855)]، [66] كتاب الإمارة، [17] باب خيار الأئمة وشرارهم، والبيهقي في السنن الكبرى [8/ 158]، والدارمي في سننه [2/ 324]، وابن أبي عاصم في السنة [2/ 509]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [3670].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [7059] كتاب الفتن، [4] باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"ويل للعرب من شر قد اقترب"، ومسلم في صحيحه [1 - (2880)]، [2] كتاب الفتن، [1] باب اقتراب فتح ردم يأجوج ومأجوج، والترمذي في مسنده [6/ 428] كتاب الفتن، باب ما جاء في خروج يأجوج ومأجوج، وأحمد في مسنده [6/ 428]، ومالك في الموطأ [991]، والحميدي في مسنده [308]، والهيثمي في مجمع الزوائد [7/ 269].

(5)

قوله: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "إذا كثر الخبث" هو بفتح الخاء والباء، وفسره الجمهور =

ص: 264

قلت: وهو متأيد بمثال خرق السفينة السابق.

وروينا فيهما من حديث أبي سعيد الخدري السابق مرفوعًا

(1)

: "إياكم والجلوس في الطرقات" فقالوا: يا رسول اللَّه ما لنا بد من مجالسنا نتحدث فيها، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه" قالوا: وما حقه؟ قال: "غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"

(2)

.

والمراد بكف الأذى من منكرات العين واليد واللسان وظن السوء.

وروينا في صحيح مسلم من حديث ابن عباس: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأى خاتمًا من ذهب في يد رجل، فطرحه وقال:"يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في أصبعه" فقيل للرجل بعد ما ذهب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: خذ خاتمك انتفع به، قال: لا واللَّه لا آخذه أبدًا وقد طرحه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(3)

.

قلت: وهذا بيان صفة تغيير اليد.

= بالفسوق والفجور، وقيل: المراد الزنا خاصة، وقيل: أولاد الزنا، والظاهر أنه المعاصي مطلقًا، ويهلك بكسر اللام على اللغة الفصيحة المشهورة، وحكي فتحها وهو ضعيف أو فاسد، ومعنى الحديث: أن الخبث إذا كثر فقد يحصل الهلاك العام، كان كان هناك صالحون. "النووي في شرح مسلم [18/ 3، 4] طبعة دار الكتب العلمية".

(1)

هذا الحديث كثير الفوائد، وهو من الأحاديث الجامعة، وأحكامه ظاهرة وينبغي أن يجتنب الجلوس في الطرقات لهذا الحديث، ويدخل في كف الأذى اجتناب الغيبة، وظن السوء، واحتقار بعض المارين وتضييق الطريق، وكذا إذا كان القاعدون ممن يهابهم المارون أو يخافون منهم ويمتنعون من المرور في أشغالهم بسبب ذلك لكونهم لا يجدون طريقا إلا ذلك الموضع. "النووي في شرح مسلم [14/ 86] طبعة دار الكتب العلمية".

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [2465] كتاب المظالم، [22] باب أفنية الدور والجلوس فيها، والجلوس على الصعدات، ورقم [6229] كتاب الاستئذان، [2] باب قول اللَّه - تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا. . .} الآية، ومسلم في صحيحه [3 - (2121)] كتاب السلام، [2] باب من حق الجلوس على الطريق رد السلام، ورقم [114 - (2121)] كتاب اللباس والزينة، [32] باب النهي عن الجلوس في الطرقات واعطاء الطريق حقه، وأحمد في مسنده [3/ 36، 47]، والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 89]، والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 52]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [4641]، والسيوطي في الدر المنثور [5/ 41]، والزبيدي في الإتحاف [6/ 248، 7/ 8].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [52 - (2090)، كتاب اللباس والزينة، [11] باب تحريم خاتم الذهب على الرجال ونسخ ما كان من إباحته في أول الإسلام، والبيهقي في السنن الكبرى [2/ 424]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 99]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [4385].

ص: 265

وروينا فيه أيضًا من حديث الحسن البصري: "أن عائذ بن عمرو دخل على عبيد اللَّه بن زياد فقال: أي بني إني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "شرُّ الرِّعاء الحطمة"

(1)

، فإياك أن تكون منهم، فقال له: اجلس فإنما أنت من نُخالة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: وهل كانت لهم نخالة؟ إنما النخالة بعدهم وفي غيرهم"

(2)

.

ففيه بيان تغيير اللسان، ولم يقل فيه: أنت منهم، وإنما حذَّره، ثم أنكر بلسانه ثانيًا.

وروينا في جامع الترمذي مُحَسَّنًا من حديث حذيفة مرفوعًا: "والذي نفسي بيده لتأمُرنَّ بالمعروف ولتنهوُنَّ عن المنكر، أو ليوشكنَّ اللَّه أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم"

(3)

.

ففيه التهديد البليغ ليُسمع، وفي أدنى من ذلك ما يزجر اللبيب.

وروينا في سنن أبي داود، وجامع الترمذي مُحَسَّنًا من حديث أبي سعيد مرفوعًا:"أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر"

(4)

.

(1)

قوله صلى الله عليه وسلم: "إن شر الرعاء الحطمة" قالوا: هو العنيف في رعيته لا يرفق بها في سَوْقها ومرعاها بل يحطمها في ذلك، وفي سقيها وغيره ويزحم بعضها ببعض بحيث يؤذيها ويحطمها، وقوله:"إنما أنت من نخالتهم" يعني لست من فضلائهم وعلمائهم وأهل المراتب منهم، بل من سقطهم، والنخالة هنا استعارة من نخالة الدقيق وهي قشوره، والنخالة والحقالة والحثالة بمعنى واحد، وقوله:"إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم" هذا من جزيل الكلام وفصيحه وصدقه الذي ينقاد له كل مسلم، فإن الصحابة كلهم هم صفوة الناس وسادات الأمة، وأفضل ممن بعدهم، وكلهم عدول قدوة لا نخالة فيهم، وإنما جاء التخليط ممن بعدهم وفيمن بعدهم كانت النخالة. "شرح مسلم للنووي [12/ 181] طبعة دار الكنب العلمية".

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [23 - (1830)] كتاب الإمارة، [5] باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر، والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم، وأحمد في مسنده [5/ 64]، والطبراني ني المعجم الكبير [18/ 18]، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين [7/ 77]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [6/ 139]، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار [2/ 344].

(3)

أخرجه الترمذي في سننه [2169] كتاب الفتن، باب ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأحمد في مسنده [5/ 389]، والطبراني في المعجم الكبير [10/ 180]، والشجري في أماليه [2/ 231]، والزبيدي في الإتحاف [7/ 12]، والسيوطي فى الدر المنثور [2/ 301، 341].

(4)

أخرجه أبو داود في سننه [4344] كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي، والترمذي [2174]، وابن ماجه في سننه [4011]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 225]، والطبراني في المعجم الكبير [8/ 338]، والخطيب في تاريخ بغداد [7/ 238، 239]، والزبيدي في الإتحاف [7/ 64]، وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح [13/ 53].

ص: 266

ورواه النسائي بإسناد صحيح من حديث طارق بن شهاب البجلي

(1)

مرفوعًا: "إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول ما هذا، اتق اللَّه ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله ولا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب اللَّه قلوب بعضهم ببعض" ثم قال: " {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ} [المائدة: 78] إلى قوله: {فَاسِقُونَ} " ثم قال: "كلا واللَّه، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرًا، أو لتقصرنَّه على الحق قصرًا، أو ليضربن اللَّه بقلوب بعضكم بعضًا، ثم ليلعننكم كما لعنهم"

(2)

رواه الترمذي وحسنه بلفظ: "لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم، وآكلوهم وشاربوهم، فضرب اللَّه قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون".

قال: فجلس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وكان متكئًا فقال: "لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم

(3)

على الحق أطرًا"

(4)

.

معنى تأطروهم تعطفونهم، ولتقصرنَّه: أي لتحبسنه.

ففيه وجوب تكرير الإنكار، ولا يسقط بمرة، وكيف يسقط وقد رأى المعصية تأتي كل يوم؟ ثم المواكلة والمجالسة تأنيس لا يناسب مُلابِسَ العصيان المصرّ عليه.

(1)

طارق بن شهاب بن عبد شمس بن هلال بن سلمة بن عوف بن خثيم أبو عبد اللَّه أبو حية البجلي الأحمسي الكوفي البقري، رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه، أخرج له أصحاب الكتب الستة، توفي سنة [82، 83]. ترجمته: تهذيب التهذيب [5/ 3]، تقريب التهذيب [1/ 376]، الكاشف [2/ 40]، أسد الغابة [3/ 70]، البداية والنهاية [9/ 51]، تجريد أسماء الصحابة [1/ 274]، سير أعلام النبلاء [3/ 486]، الوافي بالوفيات [16/ 380].

(2)

أخرجه أبو داود في سننه [4336] كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي، عن ابن مسعود، والترمذي في سننه [3048] كتاب تفسير القرآن، باب من سورة المائدة، والبيهقي في السنن الكبرى [10/ 93].

(3)

تأطروهم: أي حتى تمنعوا أمثالهم من أهل المعصية: أي لا تنجوا من العذاب حتى تميلوهم من جانب إلى جانب، مأخوذ من أطرت القوس إذا حنيتها: أي تمنعوهم من الظلم وتميلوهم عن الباطل إلى الحق فلا عذر لكم حتى تجبروا الظالم على الإذعان للحق.

(4)

أخرجه الترمذي [3047] كتاب الفتن، باب من سورة المائدة، وأحمد في مسنده [1/ 391]، والمنذري في الترغيب والترهب [3/ 229]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [5148]، والزبيدي في الإتحاف [6/ 152]، وابن كثير في تفسيره [3/ 152]، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار [2/ 150].

ص: 267

وروينا في سنن أبي داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة من حديث أبي بكر الصديق قال: "يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] وإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يَعُمَّهُم اللَّه بعقاب منه""

(1)

.

وفي موضع هذه الآية وجهان: أحدهما: وهو مذهب الصدّيق: أنها فيمن يخاف من كفر أو وقوع عصيان في الوجود، وثانيهما: وهو مذهب ابن مسعود: أنها فيمن سقط الإنكار عنهم، وفيه وجه ثالث: أنها لرفع فرض الإنكار في آخر الزمان، ولا شك أن الإنكار لا يسقط فرضه عند اجتماع شرائطه

(2)

وإذا سقط لانتفاء شرطه لم يضُر الضار إلا نفسه.

‌فصل في تغليظ عقوبة من أمر بمعروف أو نهى عن منكر وخالف فعلُهُ قوله

قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)}

(3)

فنسيان النفس مع نصح الناس مخالفة لبداهة العقول.

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ

(1)

أخرجه أبو داود في سننه [4338] كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي، والترمذي [2168] كتاب الفتن، باب ما جاء في نزول العذاب إذا لم يغير المنكر، ورقم [3057] كتاب تفسير القرآن، باب من سورة المائدة، وابن ماجه [4005] في الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأحمد في مسنده [1/ 7]، والبيهقي في السنن الكبرى [10/ 91]، وابن حبان في صحيحه [1837 - الموارد]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 229].

(2)

في حديث مسلم المتقدم "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه. . . . " الحديث، قال النووي: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فليغيره، فهو أمر إيجاب بإجماع الأمة، وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتاب والسنة واجماع الأمة، وهو أيضًا من النصيحة التي هي الدين، ولم يخالف في ذلك إلا بعض الرافضة، ولا يعتد بخلافهم كما قال الإمام أبو المعالي إمام الحرمين: لا يكترث بخلافهم في هذا، فقد أجمع المسلمون عليه قبل أن يبغ هؤلاء، ووجوبه بالشرع لا بالعقل خلافًا للمعتزلة. "شرح مسلم للنووي [2/ 20] ".

(3)

سورة البقرة [44].

يقول تعالى: كيف يليق بكم يا معشر أهل الكتاب وأنتم تأمرون الناس بالبر وهو جماع الخير أن تنسوا أنفسكم فلا تأمرون بما تأمرون الناس به وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب وتعلمون ما فيه على من قصر في أوامر اللَّه؟ أفلا تعقلون ما أنتم صانعون بأنفسكم فتنتبهوا من رقدتكم وتتبصروا من عمايتكم. "تفسير ابن كثير [1/ 85] ".

ص: 268

اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)}

(1)

فلا مقت أكبر منه.

وقال تعالى إخبارًا عن شعيب عليه الصلاة والسلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88].

فالمخالفة إلى النهي لوم وسقوط مروءة، فالمخالف مخالف للعقل والشرع ولؤم الطبع.

وروينا في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد مرفوعًا: "يؤتى بالرجل فيلقى في النار، فيندلق أقتاب بطنه

(2)

فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان ما لك؛ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟! فيقول: بلى؛ قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه"

(3)

.

ويندلق بالدال المهملة معناه يخرج، والأقتاب الأمعاء، واحدها قتب، وشبهه بالحمار من حيث أنه حمل أسفار العلم ولم يعمل لها، واندلاق أقتابه إما لأن المخالفة كانت للشهوات، وإما لأن جنايته الحسية والمعنوية كانت مكتوبة، وظهر حسنها لما ظهر معناها، فافتضح حسًّا ومعنى.

‌فصل في الأمر بأداء الأمانة

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]

(4)

.

(1)

سورة الصف [2، 3].

إنكار على من يعد وعدًا أو يقول قولًا لا يفي به، ولهذا استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقًا سواء ترتب عليه عزم للموعود أم لا، واحتجوا أيضًا من السنة بما ثبت في الصحيحين أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"آية المنافق ثلاث: إذا وعد أخلف، وإذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان". "تفسير ابن كثير [4/ 357] ".

(2)

قوله صلى الله عليه وسلم: "فتندلق أقتاب بطنه" هو بالدال المهملة، قال أبو عبيد: الأقتاب الأمعاء، قال الأصمعي: واحدها قتبة، وقال غيره: قتب، وقال ابن عيينة: هي ما استدار في البطن وهي الحوايا والأمعاء وهي الأقصاب، واحدها قصب، والاندلاق خروج الشيء من مكانه. "النووي في شرح مسلم [18/ 92] طبعة دار الكتب العلمية".

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [51 - (2989)] كتاب الزهد والرقائق، [7] باب عوقبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله، وينهى عن المنكر ويفعله.

(4)

سورة النساء [58].

يخبر تعالى أنه يأمر بأداء الأمانات إلى أهلها، وفي حديث الحسن عن سمرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" رواه أحمد وأهل السنن وهو يعم الأمانات الواجبة على الإنسان من حقوق اللَّه عز وجل على عباده من الصلاة والزكاة والصيام والكفارات والنذور وغير ذلك مما هو مؤتمن عليه لا يطلع عليه العباد، ومن حقوق العباد بعضهم على بعض =

ص: 269

وقال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأحزاب: 72]

(1)

.

وهو دال على تعظيم أمر الأمانة، وتفخيم شأنها. والمراد بالأمانة الطاعة والأحكام؛ لأنها لازمة كما أن الأمانة لازمة الأداء، ومنهم من فسّرها بالتوحيد أو أدلته، ومباني الإسلام، أو أن لا يغتاب مسلمًا، أو حفظ الفرج، أو غسل الجنابة، وكله واضح، وعرض ذلك على الجمادات إما لعقل خلق لها حينئذ، وإما على سبيل العرض والتمثيل، أو المراد أهلها، وإباؤها من حيث أنه عرض لا إلزام بدليل:{قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] في الإلزام. وحمل الإنسان لها إن كان منع أدائها فالظلم والجهل له لائح، وإن كان لحمله والتزامه فهو ظلوم لنفسه الضعيفة، جهول بما في الأمانة من الشدة، وما لها من خطر العاقبة.

وروينا في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعًا

(2)

: "آية المنافق ثلاث" منها "وإذا ائتمن خان"، وقد سلف في الكلام على الوفاء بالعهد.

وروينا فيهما من حديث حذيفة وقد سلف هناك بطوله، وأن محل الأمانة جذر

(3)

قلوب الرجال، وأنها ترفع، وتارة تبقى لها أثر، حينئذ (تأولو)

(4)

كنت، وتارة لا تبقى بل كأثر المجل.

= كالودائع وغير ذلك مما يأتمنون به من غير اطلاع بينة على ذلك، فأمر اللَّه عز وجل بأدائها، فمن لم يفعل ذلك في الدنيا أخذ منه ذلك يوم القيامة. تفسير ابن كثير [1/ 515].

(1)

سورة الأحزاب [72].

(2)

الحديث تقدم من قبل، وقال النووي: وقد أجمع العلماء على أن من كان مصدقًا بقلبه ولسانه وفعل هذه الخصال لا يحكم عليه بكفر ولا هو منافق يخلد في النار؛ فإن إخوة يوسف عليه السلام جمعوا هذه الخصال، وكذا وجد لبعض السلف والعلماء بعض هذا أو كله، وهذا الحديث ليس فيه -بحمد اللَّه تعالى- إشكال، ولكن اختلف العلماء في معناه، فالذي قاله المحققون والأكثرون وهو الصحيح المختار: أن معناه أن هذه الخصال خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمافقين في هذه الخصال ومتخلق بأخلاقهم. "النووي في شرح مسلم [2/ 40] طبعة دار الكتب العلمية".

(3)

أما الجذر فهو بفتح الجيم وكسرها لغتان، وبالذال المعجمة فيهما وهو الأصل، قال القاضي عياض رحمه الله: مذهب الأصمعي في هذا الحديث فتح الجيم، وأبو عمر يكسرها، وأما الأمانة فالظاهر أن المراد بها التكليف الذي كلف اللَّه -تعالى- به عباده، والعهد الذي أخذه عليهم، قال الإمام أبو الحسين الواحدي رحمه الله في قوله تعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} [الأحزاب: 72]: قال ابن عباس رضي الله عنهما هي الفرانض التي افترضها اللَّه -تعالى- على العباد، وقال الحسن: هو الدين، والدين كله أمانة. "النووي في شرح مسلم [2/ 144] طبعة دار الكتب العلمية".

(4)

كذا بالأصل.

ص: 270

وقوله حتى يقال للرجل ما أجمله! ما أظرفه! وليس في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، إشعار بانتفاء الإيمان، إذ لا إيمان لمن لا أمانة له. وفيه أن رفع الأمانة وقع في زمن حذيفة، وسلف فيه حديث حذيفة وأبي هريرة، وأن الأمانة والرحمة يقومان مقام جنبتي الصراط، وليس إلا لإنجائهما من قام بحقها وإخلائهما من ضيعهما، وأي ترغيب وترهيب مثل هذا، وسلف في حديث عبد اللَّه بن الزبير الطويل، وفيه: أن الاستعانة بالمولى -سبحانه- تزيل كربة معسرها

(1)

وأن حرص الزبير ووصيته المبادرة بقضاء دينه، وحرص وصيته على ذلك أعقب ما لم يكن يحتسب من بركة لا توصف، ثم حساب الدين وضبطه والنداء في الموسم سنين، وهذه أفعال المؤمن الناصح الصادق.

(1)

روى البخاري في صحيحه [6345] عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: "لا إله إلا اللَّه رب العرش العظيم، لا إله إلا اللَّه رب السماوات والأرض ورب العرش الكريم".

وروى أبو داود [1525] عن أسماء بنت عميس قالت: قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ألا أعلمك كلمات تقوليهنَّ عند الكرب -أو في الكرب- اللَّه اللَّه ربي لا أشرك به شيئًا".

ص: 271

‌مجلس في تعظيم حرمات المسلمين وبيان حقوقهم والشفقة عليهم

قال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}

(1)

والحُرُمات جمع حرمة، وهو ما يجب القيام به، ويحرم انتهاكه، والتفريط فيه من الأوامر والنواهي والحقوق والأشخاص والأزمنة والأماكن، وكل ما يجب احترامه.

وقال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}

(2)

والشعائر جمع شعيرة، أي ما أشعِرَ وجعل شِعَارًا وعَلَمًا في دين اللَّه من أعمال البر ومواطنها وعلمائها والدعاة إليها والعمال بها، ونحو ذلك من المعالم الشاملة للحج وغيره، وتعظيم الحرمات والشعائر بأنها واجبة المراعاة والحفظ، ثم القيام بمن أعانه وتوفيته حقوقها.

وقال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}

(3)

أي النزول بهم والتواضع لهم، ولين الجانب معهم، والجلوس بينهم، ونحو ذلك.

وقال تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}

(4)

.

(1)

سورة الحج [30].

أي ومن يجتنب معاصيه ومحارمه ويكون ارتكابها عظيمًا في نفسه {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30] أي فله على ذلك خير كثير وثواب جزيل، فكما على فعل الطاعات ثواب كثير وأجر جزيل، كذلك على ترك المحرمات واجتناب المحظورات، وقال ابن جريج: قال مجاهد في قوله {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} [الحج: 30] قال: الحرمة مكة والحج والعمرة وما نهى اللَّه عنه من معاصيه كلها. "تفسير ابن كثير [3/ 225] ".

(2)

سورة الحج [32].

يقول تعالى هذا {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج: 32] أي أوامره {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] ومن ذلك تعظيم الهدايا والبدن كما قال الحكم عن مقسم عن ابن عباس: تعظيمها استسمانها واستحسانها، وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج: 32] قال: الاستسمان والاستحسان والاستعظام. "تفسير ابن كثير [3/ 226] ".

(3)

سورة الحجر [88].

(4)

سورة المائدة [32]. =

ص: 272

ففيها تنزيل النفس الواحدة منزلة الناس جميعًا في إساءة أو إحسان؛ لأن كل إنسان يُدلي مما يدلي به الآخر من الكرامات على اللَّه وثبوت الحرمة، فإذا قتل بغير حق فقد أهان ما كرَّم اللَّه وهتك حرمته، فإذا قتل بحق فقد عكس فالواحد والجمع إذن واحد، فالآية الأولى مرغِّبة في التعظيم من حيث إنه حرَّمه من حيث إنه شعار، والثالثة تعظيم خفض الجناح، والرابعة: تفخيم ما نوى من إحسان أو إساءة، فخفض الجناح

(1)

ذكر بين سبب ومرتبة، والسبب سابق وهي تابعة الموجود، وفي كل آية مُرغِّب يخصها.

ولنذكر أحاديث مدارها على بيان خاصة المؤمنين، وأصول معاملات الناس، وآثار الرحمة وأنواع الإثارة والتحذير من أذية أحد منهم، وأنواع من الأذى المجتنب والحقوق المؤداة ونوعهما اللذان هما نصرة تدفع المضرَّة، وكرامة تجلب بها المسرَّة.

فروينا في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري مرفوعًا: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا"

(2)

.

قلت: فذلك نعمة تُشكر، ومصلحة تُنشر وتُحمد، وبذلك تنشط النفوس لتعظيم حرماتهم إذ هم عين الإنسان وعضده وقوة ضعفه وأنصاره في مهماته، ونحو ذلك.

وروينا فيها من حديثه أيضًا مرفوعًا: "من مرَّ في شئ من مساجدنا أو أسواقنا ومعه نبل فليمسك أو ليقبض على نصالها بكفه أن يصيب أحدًا من المسلمين منها شيء"

(3)

.

= أي من قتل نفسًا بغير سبب من قصاص أو فساد في الأرض واستحل قتلها بلا سبب ولا جناية فكأنما قتل الناس جميعًا؛ لأنه لا فرق عنده بين نفس ونفس، ومن أحياها أي حرم قتلها واعتقد ذلك فقد سلم الناس كلهم منه بهذا الاعتبار، ولهذا قال:{فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]. "تفسير ابن كثير [2/ 48] ".

(1)

قال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)} [الحجر: 88، 89].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [2446] كتاب المظالم، [5] باب نصر المظلوم، ومسلم في صحيحه [65 - (2585)] كتاب البر والصلة والآداب، [17] باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، والترمذي في سننه [1928] كتاب البر والصلة، باب ما جاء في شفقة المسلم على المسلم، والنسائي [5/ 79 - المجتبى]، وأحمد في مسنده [4/ 404، 405]، وابن أبي شيبة في مصنفه [11/ 22، 13/ 252]، والهيثمي في مجمع الزوائد [8/ 78، 88].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [452] كتاب الصلاة، [67] باب المرور في المسجد، ورقم [7075] كتاب الفتن، [7] باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"من حمل علينا السلاح فليس منا"، ومسلم في صحيحه [124 - (2615)] كتاب البر والصلة والآداب، [34] باب أمر من مر بسلاح في مسجد أو سوق أو غيرهما من المواضع الجامعة للناس أن يمسك بنصالها.

ص: 273

ففيه الحذر البليغ من إيذاء أحد منهم ودفع ما يتوقع من أدنى أذية لهم، وقمع كل مؤذ عنهم، وقد نبه على ذلك بما ذكر من القبض.

وروينا فيهما من حديث النعمان بن بشير مرفوعًا: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى"

(1)

.

ففيه التوجع والتسلية والانقباض والقلق مما يقع بأحدهم مما الإنسان عاجز عن منعه ورفعه كما مثل بالجسد.

وروينا فيهما أيضًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قبَّل النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس

(2)

، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبَّلت منهم أحدًا، فنظر إليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقال:"لا يُرحم من لا يَرحم"

(3)

. وفيه التحنن والتلطف والتأنيث لأطفالهم بالقبلة وغيرها.

وروينا فيهما أيضًا من حديث عائشة قالت: "قَدِمَ ناس من الأعراب على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقالوا: تُقبلون صبيانكم؟ قال: "نعم" قالوا: كلنا واللَّه ما نُقَبِّل، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "وأملك إن كان اللَّه نزع منكم الرحمة""

(4)

.

وفيه رقَّة القلب ورحمته وتأثره لضعفهم بحيث يكون الباطن أشد من الظاهر.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [6011] كتاب الأدب، [27] باب رحمة الناس بالبهائم، ومسلم في صحيحه [66 - (2586)] كتاب البر والصلة والآداب، [17] باب "تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم"، وأحمد في مسنده [4/ 270]، والبيهقي في السنن الكبرى [4/ 353]، والشجري في أماليه [2/ 135، 151]، والزبيدي في الإتحاف [1/ 333، 6/ 253].

(2)

الأقرع بن حابس التميمي المجاشعي أحد المؤلفة قلوبهم وأحد الأشراف، أقطعه أبو بكر له ولعيينة بن بدر، فعطل عليهما عمر ومحا الكتاب الذي كتب لهما أبو بكر، وكانا من كبار قومهما، وشهد الأقرع مع خالد حرب أهل العراق وكان على المقدمة، وقيل إن عبد اللَّه بن عامر استعمله على جيش سيره إلى خراسان فأصيب هو والجيش بالجوزجان، وذلك في خلافة عثمان، وقال ابن دريد: اسمه فراس بن حابس بن عقال، ولقب بالأقرع لقرع برأسه. "تاريخ الإسلام للذهبي، وفيات [سنة 23] ".

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [5997] كتاب الأدب، [18] باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته.

ومسلم في صحيحه [65 - (2318)] كتاب الفضائل، [15] باب رحمته صلى الله عليه وسلم بالصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [5998] كتاب الأدب، [18] باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته.

ومسلم في صحيحه [64 - (2317)] كتاب الفضائل، [15] باب رحمته صلى الله عليه وسلم بالصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك.

ص: 274

وروينا فيهما من حديث جرير بن عبد اللَّه مرفوعًا: "من لا يرحم الناس لا يرحمه اللَّه"

(1)

، وفيه الرحمة الباعثة على المصالح، ولا أبلغ من هذا الترغيب والتهديد، فمن علم أن من لا يرحم لا يُرحم، احتاج إلى أن يرحمهم لاضطراره إلى ربه في كل نَفَسٍ، وعلى كل حال.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إذا صلَّى أحدكم بالناس فليخفف؛ فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير" وفي لفظ "وذا الحاجة، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء"

(2)

.

وفيه نوع من آثار الرحمة وهو تخفيف ما كلفوه، وتسهيل ما تقيدوا به من اقتداء في حال صلاة أو غيرها، فإن فيهم المعذور كما ذكر.

وروينا فيهما أيضًا من حديث عائشة قالت "إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيُفرض عليهم"

(3)

.

وفيه الانفكاك عما يتوقع منه مشقة على أحد، كترك فعل يخشى أن يفرض على الناس لو لم يترك.

وروينا فيهما أيضًا من حديث عائشة قالث: "نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم، فقالوا: إنك تواصل؟ قال: "إني لست كهيئتكم؛ إني يطعمني ربي ويسقيني""

(4)

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [7376] كتاب التوحيد، [2] باب قول اللَّه تبارك وتعالى:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]، ومسلم في صحيحه [66 - (2319)] كتاب الفضائل، [15] باب رحمته صلى الله عليه وسلم بالصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك، وأحمد في مسنده [4/ 358، 360، 362]، والحميدي في مسنده [802، 803]، والهيثمي في مجمع الزوائد [4/ 178]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [7/ 363].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [703] كتاب الأذان، [62] باب إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء، ومسلم في صحيحه [185 - (467)] كتاب الصلاة، [37] باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام، وأبو داود [794]، وأحمد في مسنده [2/ 271]، والنسائي [2/ 94 - المجتبى]، والبيهقي في السنن الكبرى [3/ 117]، ومالك في الموطأ [134].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [2/ 62]، ومسلم في صحيحه [77 - (718)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، [13] باب استحباب صلاة الضحى وأن أقلها ركعتان وأكملها ثمان.

وأحمد في مسنده [6/ 178].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [1962] كتاب الصوم، [48] باب الوصال، ومسلم في صحيحه [55 - (1102)] كتاب الصيام، [11] باب النهي عن الوصال في الصوم، وقال النووي: اتفق أصحابنا على النهي عن الوصال وهو صوم يومين فصاعدًا من غير أكل أو شرب بينهما، ونص الشافعي وأصحابنا على كراهته ولهم في هذه الكراهة وجهان، أصحهما: أنها كراهة تحريم، والثاني: كراهة تنزيه، وبالنهي عنه قال جمهور العلماء وقال القاضي عياض: اختلف العلماء في =

ص: 275

أي يجعل فيَّ قوة من غير أكل وشرب، وفيه إخراج من التزم ما يشق عليه التزامه كالوصال ونحوه.

وروينا في صحيح البخاري من حديث أبي قتادة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إني لأقوم في الصلاة وأريد أن أُطول فيها، فأسمع بكاء الصبي أتجوِّزُ في صلاتي كراهية أن أشق على أمه"

(1)

.

وفيه رعاية القلوب، وإن أدى إلى ترك مصالح جليلة، فَيُجَوِّز مريد التطويل كما ذكر.

وروينا في صحيح مسلم

(2)

من حديث جندب بن عبد اللَّه مرفوعًا: "من صلَّى صلاة الصبح فهو في ذمة اللَّه، فلا يطلبنكم اللَّه من ذمته بشيء فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه، ثم يَكُبُّه على وجهه في نار جهنم".

وفيه التهديد الأبلغ والتحذير الأشد من الإقدام على ترك الذمة والجوار والإقدام على الجراءة على إخفار ذمة الجليل مالك الملك خطير لا يرجى معه حلم.

وروينا في الصحيحين

(3)

من حديث ابن عمرو مرفوعًا: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسْلِمه، من كان في حاجة أخيه كان اللَّه في حاجته، ومن فَرَّج عن

= أحاديث الوصال؛ فقيل النهي عنه رحمة وتخفيف، فمن قدر فلا حرج، وقال الخطابي وغيره من أصحابنا: الوصال من الخصائص التي أبيحت لرسول اللَّه وحرمت على الأمة. "النووي في شرح مسلم [7/ 184] طبعة دار الكتب العلمية".

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [707] كتاب الأذان، [65] باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي، والبخاري أيضًا رقم [868] كتاب الأذان، [163] باب انتظار الناس قيام الإمام العالم، وأبو داود في سننه [789] كتاب الصلاة، باب تخفيف الصلاة للأمر يحدث، والنسائي [2/ 59]، وأحمد في مسنده [5/ 305].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [262 - (657)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، [46] باب فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة، وأحمد في مسنده [4/ 313]، والطبراني في المعجم الكبير [2/ 179]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [627]، والخطيب في تاريخ بغداد [11/ 304]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [5/ 250]، قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم: "من صلى الصبح فهو في ذمة اللَّه" قيل: الذمة هي الضمان، وقيل: الأمان.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [2442] كتاب المظالم، [3] باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه، ورقم [6951] كتاب الإكراه، [7] باب يمين الرجل لصاحبه أنه أخوه إذا خاف عليه القتل أو نحوه، ومسلم في صحيحه [58 - (2580)] كتاب البر والصلة والآداب، [15] باب تحريم الظلم، وأبو داود في سننه [4893]، والترمذي في سننه [1426]، وابن ماجه [2119، 2246]، وأحمد في مسنده [2/ 277، 311]، والبيهقي في السنن الكبرى [5/ 320، 6/ 92، 94].

ص: 276

مسلم كربة فرج اللَّه عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره اللَّه يوم القيامة".

وقد اشتمل على بيان أنواع من الأذى كالظلم والمسلم المتقاعد عن حاجة يسهل قضاؤها وتفريج كربة وستر مسلم.

(1)

وروينا في جامع الترمذي مُحَسَّنًا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام، عرضه وماله ودمه، التقوى ههنا، بحسب امرئ من الشر أن يحتقر أخاه المسلم".

(2)

وهو مشتمل على بيان أنواع أُخر من الأذى.

وروينا في صحيح مسلم

(3)

من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد اللَّه إخوانًا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ههنا".

(4)

(1)

قال النووي: في هذا فضل إعانة المسلم وتفريج الكرب عنه وستر زلاته، ويدخل في كشف الكربة وتفريجها من أزالها بماله أو جاهه أو مساعدته، والظاهر أنه يدخل فيه من أزالها بإشارته ورأيه ودلالته، وأما الستر المندوب إليه هنا فالمراد به الستر على ذوي الهيئات ونحوهم ممن ليس هو معروف بالأذى والفساد، فأما المعروف بذلك فيستحب أن لا يستر عليه بل ترفع قضيته إلى ولي الأمر إن لم يخف من ذلك مفسدة؛ لأن الستر على هذا يطمعه في الإيذاء والفساد وانتهاك الحرمات وجسارة غيره على مثل فعله، هذا كله في ستر معصية وقعت وانقضت، أما معصية رآه عليها وهو بعد متلبس بها فتجب المبادرة بإنكارها عليه ومنعه منها على من قدر على ذلك، ولا يحل تأخيرها فإن عجز لزمه رفعها إلى ولي الأمر إذا لم تترتب على ذلك مفسدة. "النووي في شرح مسلم [16/ 111] طبعة دار الكتب العلمية".

(2)

أخرجه الترمذي في سننه [1927] كتاب البر والصلة، باب ما جاء في شفقة المسلم على المسلم، والهيثمي في مجمع الزوائد [6/ 283]، وآخره أخرجه أبو داود في سننه [4882] كتاب الأدب، باب في الغيبة.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [32 - (2564)] كتاب البر والصلة والآداب، [10] باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله، وأحمد في مسنده [2/ 277]، والبيهقي في السنن الكبرى [6/ 92، 94، 8/ 25]، والألباني في إرواء الغليل [8/ 99]، والزبيدي في الإتحاف [6/ 219، 8/ 50].

(4)

قوله صلى الله عليه وسلم: "التقوى ههنا" ويشير إلى صدره ثلاث مرات: معنى الرواية أن الأعمال الظاهرة لا يحصل بها التقوى وإنما تحصل بما يقع في القلب من عظمة اللَّه -تعالى- وخشيته ومراقبته، ومعنى نظر اللَّه هنا مجازاته ومحاسبته أي إنما يكون ذلك على ما في القلب دون الصور الظاهرة، ونظر اللَّه ورؤيته محيط بكل شيء. ومقصود الحديث أن الاعتبار في هذا كله بالقلب وهو من نحو قوله صلى الله عليه وسلم:"لا إن في الجسد مضغة. . . . " الحديث، قال المازري: واحتج بعض الناس بهذا الحديث على أن العقل في القلب لا في الرأس. "النووي في شرح مسلم [16/ 99] =

ص: 277

ويشير إلى صدره ثلاث مرات "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه". وفيه بيان أنوع أُخر كالتحاسد ونحوها.

والنجش: أن يزيد في ثمن سلعة ينادى عليها ولا رغبة له في شرائها، بل يقصد أن يغر غيره، وهذا حرام.

والتدابر: أن يعرض عن إنسان ويهجره ويجعله كالشيء الذي وراء ظهره ودبره.

وروينا في الصحيحين من حديث أنس مرفوعًا: "لا يؤمن أحدكم حتى يُحب لأخيه ما يحب لنفسه".

(1)

وروينا في صحيح البخاري عنه مرفوعًا: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا" قال رجل: يا رسول اللَّه أنصره إذا كان مظلومًا، أرأيت إن كان ظالمًا كيف أنصره؟ قال:"تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره"

(2)

.

وفيه ذكر أحد نوعي المصالح المحبوبة، وهي النصرة وتقوية اليد والإعانة والإغاثة سواء كان ظالمًا أو مظلومًا.

وفي قوله: "انصر أخاك ظالمًا" إشعار بأن الأخذ على يده نصر له، وحينئذ سهل الأمر على الآخذ والظالم، وبسط الصدر لهم وأشباه هذا مما يندب لو عبر عنه بغير ذلك.

وروينا في الصحيحين

(3)

من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "حق المسلم على

= طبعة دار الكتب العلمية".

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [13] كتاب الإيمان، [17] باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ومسلم في صحيحه [71 - (45)] كتاب الإيمان، [17] باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير، والترمذي [2515] كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، والنسائي [8/ 115، 125 - المجتبى]، وأحمد في مسنده [3/ 176، 276، 278]، وابن ماجه في سننه [66]، والمنذري في الترغيب والترهيب [2/ 578].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [2443]، [2444] كتاب المظالم، [4] باب أعن أخاك ظالمًا أو مظلومًا، ورقم [6952] كتاب الإكراه، [7] باب يمين الرجل لصاحبه أنه أخوه إذا خاف عليه القتل أو نحوه، والترمذي [2282]، وأحمد في مسنده [3/ 99، 201]، والبيهقي في السنن الكبرى [6/ 94، 10/ 90]، وابن حبان في صحيحه [1847 - الموارد]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [3/ 94]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 191]، والهيثمي في مجمع الزوائد [7/ 464]، والطبراني في المعجم الصغير [1/ 208].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [1240] كتاب الجنائز، [2] باب الأمر باتباع الجنائز، ومسلم في صحيحه [4 - (2162)] كتاب السلام، [3] باب من حق المسلم للمسلم رد السلام، وأحمد في =

ص: 278

المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنازة، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس".

وفي رواية لمسلم: "حق المسلم على المسلم ست" قيل: ما هن يا رسول اللَّه؟ قال: "إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد اللَّه فشمته

(1)

، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه"

(2)

، وفيه بيان الحقوق الإلزامية السارة تعاطيها.

وروينا من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: "أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع: أمرنا بعيادة المريض واتباع الجنائز وتشميت العاطس وإبرار المقسم

(3)

ونصر المظلوم وإجابة الداعي وإفشاء السلام، ونهانا عن خواتيم أو تختم الذهب وعن شرب بالفضة وعن المياثر الحُمُر وعن القسي وعن لبس الحرير والاستبرق والديباج"

(4)

وفي رواية: "وإنشاد الضالة" في السبع الأول.

= مسنده [2/ 540]، والبيهقي في السنن الكبرى [3/ 386]، والتبريزي في المشكاة [1524].

(1)

قال ثعلب: يقال سمت العاطس وشمته إذا دعوت له بالهدى وقصد السمت المستقيم، قال: والأصل فيه السين المهملة فقلبت شينًا معجمة، وقال صاحب المحكم: تسميت العاطس معناه هداك اللَّه إلى السمت.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [5 - (2162)] كتاب السلام، [3] باب من حق المسلم للمسلم رد السلام، وأحمد في مسنده [2/ 372]، والبيهقي في السنن الكبرى [5/ 347، 10/ 108]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 426، 4/ 317]، والزبيدي في الإتحاف [6/ 252]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [1525].

(3)

إبرار القسم فهو سنة أيضًا مستحبة متأكدة، وإنما يندب إليه إذا لم يكن فيه مفسدة أو خوف ضرر أو نحو ذلك، فإن كان شيء من هذا لم يبر قسمه كما ثبت أن أبا بكر رضي الله عنهما لما عبر الرؤيا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"أصبت بعضًا وأخطأت بعضًا" فقال: أقسمت عليك يا رسول اللَّه لتخبرني، فقال:"لا تقسم" ولم يخبره، وأما نصر المظلوم فمن فروض الكفاية وهو من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما يتوجه الأمر به على من قدر عليه ولم يخف ضررًا. "النووي في شرح مسلم [14/ 28] طبعة دار الكتب العلمية".

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [1239] كتاب الجنائز، [2] باب الأمر باتباع الجنائز، وفي أرقام [2445، 5175، 5635، 5650، 5838]، ومسلم في صحيحه [3 - (2066)] كتاب اللباس والزينة، [2] باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء، وخاتم الذهب والحرير على الرجل وإباحته للنساء، وإباحة العَلَم ونحوه للرجال ما لم يزد على أربع أصابع، والترمذي في سننه [2809] كتاب الأدب، باب ما جاء في كراهية لبس المعصفر للرجل والقسي، وأحمد في مسنده [4/ 284، 299]، والبيهقي في السنن الكبرى [10/ 35].

ص: 279

المياثر: جمع ميثرة، وهي شيء يتخذ من حرير ويحشى قطنًا أو غيره، ويجعل في السرج وكور البعير، يجلس عليه الراكب.

والقَسِّي: بفتح القاف وكسر السين المهملة المشدده، وهي ثياب تنسج من حرير وكتان مختلطين، وإنشاد الضالة: تعريفها.

ص: 280

‌مجلس في ستر عورة المسلمين والنهي عن إشاعتها

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}

(1)

.

وفيها تهديد بليغ للذين يحبون أن تظهر الفاحشة وتشيع، فما ظنك بمن يشيعها.

ومعنى العورة: العيب والتقص وكل ما يسوء ويستحيا منه، وكل ظل متخوف منه.

وروينا في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا يستر عبد عبدًا في الدنيا إلا ستره اللَّه يوم القيامة"

(2)

.

وفيه الترغيب في الستر

(3)

والتنفير من أن يهتك أحد ستر أحد، وما أذن الشرع في هتكه فيستثنى بدليله.

وروينا في الصحيحين أيضًا عنه مرفوعًا: "كل أمتي معافى إلا المجاهرون، وإن من المجاهرة

(4)

أن يعمل الرجل بالليل عملًا، ثم يصبح وقد ستره اللَّه فيقول يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر اللَّه عليه"

(5)

(1)

سورة النور [19].

هذا تأديب لمن سمع شيئًا من الكلام السيئ فقالم بذهنه شيء منه وتكلم به فلا يكثر منه ولا يشيعه ويذيعه، فقد قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 19] أي يختارون ظهور الكلام عنهم بالقبيح {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا} [النور: 19] أي بالحد، وفي الآخرة بالعذاب الأليم. "تفسير ابن كثير [3/ 283] ".

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [71 - (2590)]، [72] كتاب البر والصلة والآداب، [21] باب بشارة من ستر اللَّه -تعالى- عيبه في الدنيا بأن يستر عليه في الآخرة، وأحمد في مسنده [2/ 404]، والحاكم في المستدرك [4/ 384]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 237]، والزيلعي في نصب الراية [3/ 307].

(3)

قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يستر عبد في الدنيا إلا ستره اللَّه يوم القيامة" قال القاضي: يحتمل وجهين: أحدهما: أن يستر معاصيه وعيوبه عن إذاعتها في أهل الموقف، والثاني: ترك محاسبته عليها وترك ذكرها، قال: والأول أظهر لما جاء في الحديث الآخر يقرره بذنوبه، يقول سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم. "النووي في شرح مسلم [16/ 118] طبعة دار الكتب العلمية".

(4)

بالأصل في البخاري "وإن من المجانة".

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه [6069] كتاب الأدب، [60] باب ستر المؤمن على نفسه، ومسلم =

ص: 281

وهو دال على التنفير من هتك الأستار.

وروينا في الصحيحين أيضًا من حديثه مرفوعًا: "إذا زنت الأمة فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر"

(1)

ففيه النهي عن التثريب وهو التوبيخ والتقبح والتعيير البليغ، والاستقصاء في اللوم.

وروينا في صحيح البخاري عنه أيضًا قال: "أُتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب قال: "اضربوه" قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك اللَّه، قال: "لا تقولوا هكذا؛ لا تعينوا عليه الشيطان"

(2)

.

ففيه النهي عن شتم الآثم وإخزائه المعين للشيطان عليه، إذ يجد طريقًا إلى تبغيض المؤمنين له، وتبغيض مجالسهم ومجامعهم إليه، بل أن يروه أو يراهم، وربما جرَّه ذلك إلى صحبة الأشرار الفُجَّار، ويتعذر الفلاح حينئذ.

فمدار الأحاديث إذن على إمساك اللسان عن التلمظ بمضغة طال ما لفظها الكرام، وعن التعبير والإخزاء بها.

= في صحيحه [52 - (2990)] كتاب الزهد والرقاق، [8] باب النهي عن هتك الإنسان ستر نفسه، والطبراني في المعجم الصغير [1/ 227]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [4830]، والزبيدي في الإتحاف [6/ 172، 8/ 572]، وابن عبد البر في التمهيد [5/ 339].

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [6839] كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، [23] باب لا يثرب على الأمة إذا زنت ولا تنفى، ومسلم في صحيحه [30 - (1703)] كتاب الحدود، [6] باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى، وأبو داود [470]، والترمذي [1433]، وابن ماجه [2566] وأحمد في مسنده [6/ 65، 2/ 249]، والبيهقي في السنن الكبرى [8/ 244].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [6777] كتاب الحدود، [5] باب الضرب بالجريد والنعال، ورقم [6781] كتاب الحدود، [6] باب ما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج من الملة، وأبو داود في سننه [4477] كتاب الحدود، باب الحد في الخمر، وأحمد في مسنده [2/ 300]، والبيهقي في السنن الكبرى [8/ 138]، والسيوطي في الدر المنثور [4/ 256]، والتبريزي في المشكاة [1621].

ص: 282

‌مجلس في قضاء حوائج المسلمين

قال تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}

(1)

.

أمر اللَّه -تعالى- بذلك، والخير يُفسر بصلة الرحم ومكارم الأخلاق.

وقد روينا في الصحيحين من حديث ابن عمر مرفوعًا: "المسلم أخو المسلم"

(2)

إلى آخره، سلف قريبًا في تعظيم حرمات المسلمين.

وروينا في صحيح مسلم

(3)

من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من نَفَّسَ عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس اللَّه عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر يسَّر اللَّه عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره اللَّه في الدنيا والآخرة، واللَّه في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل اللَّه له به طريقًا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت اللَّه يتلون كتاب اللَّه ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة

(4)

وغشيتهم الرحمة وحفَّتهم الملائكة وذكرهم اللَّه فيمن عنده، ومن بطا به عمله لم يسرع به نسبه"

(5)

.

(1)

سورة الحج [77].

(2)

تقدم تخريجه من قبل.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [38 - (2699)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [11] باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، والترمذي في سننه [1425]، وأحمد في مسنده [2/ 252]، والحاكم في المستدرك [4/ 383]، والشجري في أماليه [2/ 179، 180]، والزبيدي في الإتحاف [5/ 8]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [204]، والهيثمي في مجمع الزوائد [8/ 193].

(4)

قيل: المراد بالسكينة هنا الرحمة، وهو الذي اختاره القاضي عياض وهو ضعيف لعطف الرحمة عليه، وقيل: الطمأنينة والوقار وهو أحسن، وفي هذا دليل لفضل الاجتماع على تلاوة القرآن في المسجد وهو مذهبنا ومذهب الجمهور، وقال مالك: يكره، وتأوله بعض أصحابه، ويلحق بالمسجد في تحصيل هذه الفضيلة الاجتماع في مدرسة ورباط ونحوهما -إن شاء اللَّه تعالى- ويدل عليه الحديث الذي بعده، فإنه مطلق يتناول جميع المواضع، ويكون التقييد في الحديث الأول خرج على الغالب لاسيما في ذلك الزمان، فلا يكون له مفهوم يعمل به. "النووي في شرح مسلم [17/ 18] طبعة دار الكتب العلمية".

(5)

قوله: "ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه" معناه من كان عمله ناقصًا لم يلحقه بمرتبة أصحاب الأعمال، فينبغي أن لا يتكل على شرف النسب وفضيلة الآباء ويقصر في العمل.

ص: 283

ومدار الحديثين على مهمين: الترغيب بمضمون تحريهم وصفهم في دفع المكاره عن الإخوان، وجلب المسار إليهم، وذكر أنواع ذلك وأهله ومحله، ففي الحديث الأول التهييج وإثارة الرحمة، وبيان الأهل والمحل بقوله:"المسلم أخو المسلم"

(1)

.

وفيه الترغيب بان يدان المسلم كما دان، وبيان أنواع من الخير كالسعي في حوائج الإخوان، وبعد تفريج الكرب وستر المسلم، ففي التدريج رفع الألام والستر، ودفع الفضائح وإبقاء الرجاء للممات.

وفي الثاني تقديم التنفيس لأنه أهم في بعض الأشخاص أو بعض الأحوال إذ ضيق الحال لا قرار معه، وأردفه بالتيسير على المعسر؛ لأن الإعسار كربة، ثم أردفه بالستر والمعاونة، وهي السعي في الحاجات، ثم ختم ذلك بطلب العلم والاجتماع على التلاوة والتدارس، وهو أهم الحاجات.

(1)

قال النووي في هذا الحديث: في هذا فضل إعانة المسلم وتفريج الكرب عنه وستر زلاته، ويدخل في كشف الكربة وتفريجها من أزالها بماله أو جاهه أو مساعدته، والظاهر أنه يدخل فيه من أزالها بإشارته ورأيه ودلالته، وأما الستر المندوب إليه هنا فالمراد به الستر على ذوي الهيئات ونحوهم ممن ليس هو معروفًا بالأذى والفساد، فأما المعروف بذلك فيستحب أن لا يستر عليه، بل ترفع قضية إلى ولي الأمر إن لم يخف من ذلك مفسدة؛ لأن الستر على هذا يطمعه في الإيذاء والفساد وانتهاك الحرمات وجسارة غيره على مثل فعله، هذا كله في ستر معصية وقعت وانقضت، أما معصية رآه عليها وهو بعد متلبى بها فتجب المبادرة بإنكارها عليه، ومنعه منها على من قدر على ذلك، ولا يحل تأخيرها.

"النووي في شرح مسلم [16/ 111] طبعة دار الكتب العلمية".

ص: 284

‌مجلس في الشفاعة

قال تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا}

(1)

.

وهي التي روعي فيها حق المسلم، ورفع عنه بها شر أو جلب إليه بها خيرًا، وابتغى بها وجه اللَّه، ولم يؤخذ عليها رشوة، وكانت في أمر جائز لا في حد من حدود اللَّه، ولا في حق من الحقوق، والسُّنَّة ما كان بخلاف ذلك.

وقيل الشفاعة الحسنة

(2)

: الدعوة للمسلم، والنصيب قول الملك: ولك بمثل، والسيئة الدعاء عليه، واللبيب متيقظ لحكم القرآن فيقدم على ما يسوغ ويحجم عن ضره غير غرّ ولا متغافل، وذكر النصيب في الخير والكفل في الشر من باب اليقين في البلاغة، ولا يصح أن يقال إن الكفل في الشر، فقد قال تعالى:{يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ}

(3)

.

وروينا في الصحيحين

(4)

من حديث أبي موسى الأشعري قال: "كان رسول

(1)

سورة النساء [85].

أي من يسعى في أمر فيترتب عليه خير كان له نصيب من ذلك {وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء: 85] أي يكون عليه وزر من ذلك الأمر الذي ترتب على سعيه ونيته كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اشفعوا تؤجروا ويقضي اللَّه على لسان نبيه ما شاء" وقال مجاهد بن جبر: نزلت هذه الآية في شفاعات الناس بعضهم لبعض. "تفسير ابن كثير [1/ 531] ".

(2)

في الحديث الآتي: "اشفعوا فلتؤجروا. . . " الحديث، قال النووي: فيه استحباب الشفاعة لأصحاب الحوائج المباحة سواء كانت الشفاعة إلى سلطان ووال ونحوهما أم إلى أحد من الناس، وسواء كانت الشفاعة إلى سلطان في كف ظلم أو إسقاط تعزير أو في تخليص عطاء لمحتاج أو نحو ذلك، وأما الشفاعة في الحدود فحرام، وكذا الشفاعة في تتميم باطل أو إبطال حق أو نحو ذلك فهي حرام. "النووي في شرح مسلم [16/ 146] ".

(3)

سورة الحديد [28].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [1432] كتاب الزكاة، باب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها، ومسلم في صحيحه [145 - (2627)] كتاب البر والصلة والآداب، [44] باب استحباب الشفاعة فيما ليس بحرام، وأبو داود في سننه [5132]، والنسائي [5/ 78 - المجتبى]، وأحمد في مسنده [4/ 404، 409]، والبيهقي في السنن الكبرى [8/ 167]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [4956].

ص: 285

اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه فقال: "اشفعوا تؤجروا، ويقضي اللَّه على لسان نبيه ما أحب" وفي لفظ "ما شاء".

وروينا في صحيح البخاري من حديث ابن عباس في قصة بريرة وزوجها قال: قال لها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لو راجعتيه" قالت: يا رسول اللَّه تأمرني؟ قال: "إنما أشفع" قالت: لا حاجة لي فيه.

(1)

ومدار هذين الحديثين على الترغيب في الشفاعة

(2)

بالقول والفعل، وعلى بيان أنواعها بطلب الشافع، وطلب كل أحد لها، وفي كل محل وعند كل أحد وإيضاح العذر عند المنع، ثم المطلوب منه شفاعة تقبل لا مطلق الشفاعة وعلى أن المشفوع عنده بالخيار إن شاء قبل، وإن شاء رد.

وعلى أن الرد لا ينقص من الشافع ولا من أجره، فعفى اللَّه عن بريرة كيف حمل قلبها رد شفاعة سيد الأولين والآخرين، لا (امترى)(*) لو قبلت ذلك لقلب اللَّه قلبها (راجسة)(*) وبورك لها فيه، واغتبطت به، لكن اللَّه جعل ذلك ليسهل بعده على كل شافع رد من رده، ففيمن شفع عندها أُسوة حسنة وعذرها متلمح من قولها: أتأمرني؟ فلم يقل: نعم.

(1)

رواه البخاري في صحيحه [5283] كتاب الطلاق، [16] باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في زوج بريرة، والطبراني في المعجم الكبير [11/ 345].

(2)

في إعتاق بريرة فيما رواه مسلم [10 - (1504)]، [11، 12، 14] كتاب العتق، [2] باب إنما الولاء لمن أعتق، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم خير بريرة في فسخ نكاحها، وقال النووي: وأجمعت الأمة على أنها إذا أعتقت كلها تحت زوجها وهو عبد كان لها الخيار في فسخ النكاح، فإن كان حرًا فلا خيار لها عند مالك والشافعي والجمهور، وقال أبو حنيفة: لها الخيار، واحتج برواية من روى أنه كان زوجها حرًا، والروايات المشهورة في صحيح مسلم وغيره أن زوجها كان عبدًا، ورواية من روى أنه كان حرًا غلط وشاذة مردودة لمخالفتها المعروف من روايات الثقات، ويؤيده قول عائشة:"كان عبدًا، ولو كان حرًا لم يخيرها" وفي فوائد الحديث قال النووي: فيه ثبوت الخيار للأمة إذا أعتقت تحت عبد، وفيه جواز الشفاعة من الحاكم إلى المحكوم له للمحكوم عليه، وجواز الشفاعة إلى المرأة في البقاء مع زوجها، وفيه لها الفسخ بعتقها وإن تضرر الزوج بذلك لشدة حبه إياها. . . إلى آخره. "مختصرًا من شرح مسلم للنووي [10/ 120، 123] ".

(*) كذا بالأصل.

ص: 286

‌مجلس في الإصلاح بين الناس

قال تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}

(1)

.

ففيه أن الأمر بالإصلاح فيه خير، وإن من عمله ابتغاء مرضات اللَّه سوف يؤتيه أجرًا عظيمًا.

وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}

(2)

.

ففيها الأمر بإصلاح

(3)

الأحوال التي هي ذات البين حتى تكون أحوال أُلفة ومحبة واتفاق واتحاد وتواخ في اللَّه، وتواس فيما رزق اللَّه.

وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}

(4)

.

فالإيمان عقد بين أهله من النسب والسبب ما لا ينقص عن عقد الأخوة، ثم العادة السعي البليغ في الإصلاح بين أخوة الولادة، فالأخوة في الدين أولى بذلك، وأشد منه.

فالآية الأولى أمره بالصلاح، وفي الثانية وقوعه، والثالثة والرابعة الأمر بإصلاح ذات البين وبالإصلاح بين الأخوين.

وروينا في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "كل سُلَامَي

(5)

من الناس

(1)

سورة النساء [114].

يعني كلام الناس {إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} الآية، أي إلا نجوى من قال ذلك فيما رواه ابن مردويه بسنده عن أم حبيبة قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ذكر اللَّه عز وجل أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر". "تفسير ابن كثير [1/ 554] ".

(2)

سورة الأنفال [1].

(3)

قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1] أي واتقوا اللَّه في أموركم وأصلحوا فيما بينكم ولا تظلموا ولا تخاصموا ولا تشاجروا؛ فما آتاكم اللَّه من الهدى والعلم خير مما تختصمون بسببه، وقال السدي:{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1] أي لا تستبوا. "تفسير ابن كثير [2/ 291] ".

(4)

سورة الحجرات [10].

(5)

السلامي: بضم السين المهملة وتخفيف اللام وهو المفصل وجمعه سلاميات بفتح الميم وتخفيف الياء، وفي القاموس: السلامي كحبارى، عظام صغار طول الأصبع في اليد والرجل وجمعه سلاميات.

ص: 287

عليهم صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس؛ تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، وترفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة حتى تعدل بينهما تصلح بينهما يصلح بينهما بالعدل"

(1)

.

وروينا فيهما عن أم كثوم بنت عقبة بن أبي معيط مرفوعًا: "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيرًا أو يقول خيرًا"

(2)

.

ولمسلم زيادة: "ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها".

وروينا فيهما من حديث عائشة قالت: "سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صوت خصوم بالباب عالية أصواتهما، وإذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه

(3)

في شيء وهو يقول: واللَّه لا أفعل، فخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عليهما فقال:"أين المتألي على اللَّه لا يفعل المعروف؟ " قال: أنا يا رسول اللَّه، فله أيَّ ذلك أحب"

(4)

.

معنى يستوضعه: يسأله أن يضع عنه بعض دينه. ويسترفقه: يسأله الرفق. والمتألي: الحالف.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [2707] كتاب الصلح، [11] باب فضل الإصلاح بين الناس والعدل بينهم، ورقم [2891] كتاب الجهاد والسير، [72] باب فضل من حمل متاع صاحبه في السفر، ورقم [2989] كتاب الجهاد والسير، [128] باب من أخذ بالركاب ونحوه، ومسلم في صحيحه [56 - (1009)] كتاب الزكاة، [16] باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، وأحمد في مسنده [2/ 316]، والبيهقي في السنن الكبرى [4/ 188].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [2692] كتاب الصلح، [2] باب ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس، ومسلم في صحيحه [101 - (2605)] كتاب البر والصلة والآداب، [27] باب تحريم الكذب وبيان المباح منه، والبيهقي في السنن الكبرى [10/ 197]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [4825، 5031]، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة [2/ 75].

(3)

قوله: "وإذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه" أي بطلب منه أن يضع عنه بعض الدين ويرفق به في الاستيفاء والمطالبة، وفي هذا الحديث دليل على أنه لا بأس بمثل هذا ولكن بشرط أن لا ينتهي إلى الإلحاح وإهانة النفس أو الإيذاء ونحو ذلك إلا من ضرورة، واللَّه أعلم، وقوله:"أين المتألي على اللَّه لا يفعل المعروف؟ " قال: "أنا يا رسول اللَّه وله أيَّ ذلك أحب" المتألي الحالف والآلية اليمين وفي هذا كراهة الحلف على ترك الخير وإنكار ذلك، وأنه يستحب لمن حلف لا يفعل خيرًا أن يحنث فيكفر عن يمينه، وفيه الشفاعة إلى أصحاب الحقوق وقبول الشفاعة في الخير. "النووي في شرح مسلم [10/ 186] طبعة دار الكتب العلمية".

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [2705] كتاب الصلح، [10] باب هل يشير الإمام بالصلح؟ ومسلم في صحيحه [19 - (1557)] كتاب المساقاة، [4] باب استحباب الوضع في الدين، والبيهقي في السنن الكبرى [5/ 305].

ص: 288

وروينا فيهما من حديث سهل بن سعد الساعدي: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني عمرو بن عوف كان بينهم شيء، فخرج

(1)

رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلح بينهم في أناس معه، فجلس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وحانت الصلاة، فجاء بلال إلى أبي بكر فقال: يا أبا بكر، إن رسول اللَّه قد حبس وحانت الصلاة، فهل لك أن تؤم الناس؟ قال: نعم إن شئت، فأقام بلال وتقدم أبو بكر فكبر وكبر الناس، وجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يمشي في الصفوف حتى وقف في الصلاة، وأخذ الناس في التصفيق، وكان أبو بكر لا يلتفت في الصلاة، فلما أكثر الناس التفت، فإذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأشار إليه رسول اللَّه، فرفع أبو بكر يده فحمد اللَّه ورجع القهقرى وراءه

(2)

حتى قام في الصف، فتقدم رسول اللَّه فصلى بالناس، فلما فرغ أقبل على الناس فقال: "أيها الناس ما لكم حين نابكم في الصلاة أخذتم بالتصفيح

(3)

إنما التصفيح للنساء، من نابه شيء في صلاته فليقل سبحان اللَّه" ثم التفت إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال:"يا أبا بكر ما منعك أن تصلي للناس حين أشرت عليك؟ " قال أبو بكر: ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(4)

.

(1)

في هذا الحديث فضل الإصلاح بين الناس ومشي الإمام وغيره في ذلك وأن الإمام إذا تأخر عن الصلاة تقدم غيره إذا لم يخف فتنة، وإنكار من الإمام، وفي أن المقدم نيابة عن الإمام يكون أفضل القوم وأصلحهم لذلك الأمر وأقومهم به، وفيه أن المؤذن وغيره يعرض التقدم على الفاضل، وأن الفاضل يوافق. "النووي في شرح مسلم [4/ 122] طبعة دار الكتب العلمية".

(2)

وفيه أن الفعل القليل لا يبطل الصلاة لقوله: صفق الناس، وفيه جواز الالتفات في الصلاة للحاجة واستحباب حمد اللَّه -تعالى- لمن تجددت له نعمة ورفع اليدين بالدعاء، وفعل ذلك الحمد والدعاء عقب النعمة، وإن كان في صلاة، وفيه جواز مشي الخطوة والخطوتين في الصلاة، وفي أن هذا القدر لا يكره إذا كان لحاجة، وفيه جواز استخلاف المصلي بالقوم من يتم الصلاة لهم. "المرجع السابق [4/ 122] ".

(3)

التصفيح: في النهاية: التصفيح والتصفيق واحد وهو من ضرب صفحة الكف على صفحة الكف الآخر، وقال النووي: التصفيح أن تضرب المرأة بطن كفها الأيمن على ظهر كفها الأيسر ولا تضرب بطن كف على بطن كف على وجه اللعب واللهو فإن فعلت هكذا على جهة اللعب بطلت صلاتها لمنافاته الصلاة.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [1218] كتاب العمل في الصلاة، [16] باب رفع الأيدي في الصلاة لأمر ينزل به، ورقم [2690] كتاب الصلح، [1] باب ما جاء في الإصلاح بين الناس، وأبو داود في سننه [940] كتاب الصلاة، باب التصفيق في الصلاة، والطبراني في المعجم الكبير [6/ 215].

في هذا الحديث أن التابع إذا أمره المتبوع بشيء وفهم منه إكرامه بذلك الشيء لا تحتم الفعل، فله أن يتركه، ولا يكون هذا مخالفة للأمر بل يكون أدبًا وتواضعًا وتحذقًا في فهم المقاصد، وفيه ملازمة الأدب مع الكبار، وفيه أن السنة لمن نابه شيء في صلاته كإعلام من يستأذن عليه، وتنبيه =

ص: 289

ومعنى حُبِسَ: أمسكوه ليضيفوه، ومدار هذه الأحاديث على بيان أُجرة المُرغِّب فيه وأهله ومحله وشرطه وتوسع الطريق الموصل إليه، وأن الآلية لا تمنع منه، وأن المصالح عليه أنواع، وحسن الانقياد إليه وأنه من لسان الشارع حتى يمضي إليه وإن بَعُدَ عن أهله وجماعة مسجده.

وفي الحديث الأول أن أهله كل ذي سلامى ولا يعمهم مثله، وأن محله كل اثنين فأكثر، وإن شرطه أن يكون بالقول، فلا يحل حرامًا، ولا يُحَرِّم حلالًا، فإنه صدقة يرغب فيها طالب فكاكه من النار.

وفي الثاني أنها محبوبة للشرع حتى أباح من أهله ما هو حرام في غيره من أقوال خير لم تكن مطابقة ونفى شرعًا أن يكون قائلها كذابًا.

وفي الثالث قوله: "أين المتألي على اللَّه لا يفعل المعروف" وإن صاحب الحق قادر لإجابة خصمه، وأن المطلوب كان وضع بعض الدين إبراء، والإمهال والتيسير ترفقًا.

وفي الرابع خروجه صلى الله عليه وسلم مع ناس للإصلاح، واحتباسه عندهم حتى حانت الصلاة ودخل فيها الناس.

= الإمام وغير ذلك.

"شرح مسلم للنووي [4/ 122] طبعة دار الكتب العلمية".

ص: 290

‌مجلس في اليتيم والبنات وسائر الضعفة والمساكين والمنكسرين

والإجابة إليهم والشفقة عليهم والتواضع معهم وخفض الجناح لهم.

قال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}

(1)

.

وقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ

(2)

وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 28]

(3)

.

ففيها الأمر بخفض الجناح وصبر النفس معهم، ومثل ذلك كل وداد وتأنيس

(4)

.

وقال تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)}

(5)

.

قلت: ويلتحق بهما كل إيذاء وتضييق.

وقال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)} [الماعون: 1] إلى قوله: {الْمِسْكِينِ}

(6)

.

(1)

سورة الحجر [88].

(2)

أي اجلس مع الذين يذكرون اللَّه ويهللونه ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه ويسألونه بكرة وعشيًا من عباد اللَّه سواء كانوا فقراء أو أغنياء أو أقوياء أو ضعفاء، ويقال إنها نزلت في أشراف قريش حين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس معهم وحده ولا يجالسهم وضعفاء أصحابه كبلال وعمار وصهيب وخباب وابن مسعود وليفرد أولئك بمجلس على حدة، فنهاه اللَّه عن ذلك. تفسير ابن كثير [3/ 82].

(3)

سورة الكهف [28].

(4)

روى مسلم في صحيحه [45 - (2413)] كتاب فضائل الصحابة [5] باب في فضل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما عن سعد بن أبي وقاص. فيَّ نزلت {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام: 52] قال: نزلت في ستة: أنا وابن مسعود منهم، وكان المشركون قالوا له: تُدني هؤلاء، وفي رقم [46] فوقع في نفس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما شاء اللَّه أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل اللَّه عز وجل {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52].

(5)

سورة الضحى [9، 10].

(6)

يقول تعالى: أرأيت يا محمد الذي يكلذب بالدين، وهو المعاد والجزاء والثواب {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)} [الماعون: 2] أي هو الذي يقهر اليتيم ويظلمه حقه ولا يطعمه ولا يحسن إليه {وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)} [الماعون: 3] كما قال: {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ =

ص: 291

قلت: ويلتحق بالحض على طعام المسكين كل إحسان ومعروف.

ولنذكر أحاديث مشتملة على حفظ قلوب الضعفة، والقيام بمصالحهم قدر الإمكان، وترك المشقة عليهم ورعاية فضلهم وبركتهم مع بيان مجاري ذلك، وما يغري به أو يحذر من تركه وما يترجح عند التعارض، وما يخشى أن يكون منافيًا، وما يستدرك به المنافي ونحو ذلك.

روينا في صحيح مسلم

(1)

من حديث سعد بن أبي وقاص قال: "كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما، فوقع في نفس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما شاء أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل اللَّه تعالى:{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52].

(2)

ففيه حقظ قلوب الضعفة بترك طردهم، وروينا فيه أيضًا من حديث أبي هبيرة عائذ بن عمرو المزني، وهو من أهل بيعة الرضوان: "أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر، فقالوا: واللَّه ما أخذت سيوف اللَّه من عنق عدو اللَّه مأخذها

(3)

، قال: فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال:"يا أبا بكر لعلك أغضبتهم؛ لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك" فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه، أغضبتكم؟ قالوا: لا، يغفر اللَّه لك يا أخي.

(4)

= الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18)} يعني الفقبر الذي لا شيء له يقوم بأوده وكفايته. "تفسير ابن كثير [4/ 554] ".

(1)

تقدم قريبًا.

(2)

قوله تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52] أي لا تبعد هؤلاء المتصفين بهذه الصفات عنك، بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك كقوله:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)} [الكهف: 28]، وقوله:{يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} أي يحبدونه ويسألونه {بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} . "تفسير ابن كثير [2/ 137] ".

(3)

قوله: ما أخذت سيوف اللَّه من عنق عدو اللَّه مأخذها ضبطوه بوجهين: أحدهما بالقصر وفتح الخاء، والثاني: بالمد وكسرها وكلاهما صحيح، وهذا الإتيان لأبي سفيان كان وهو كافر في الهدنة بعد صلح الحديبية، وفي هذا فضيلة ظاهرة لسلمان ورفقته هؤلاء، وفيه مراعاة قلوب الضعفاء وأهل الدين وإكرامهم وملاطفتهم. "النووي في شرح مسلم [16/ 55] طبعة دار الكتب العلمية".

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [170 - (2504)] كتاب فضائل الصحابة، [42] باب من فضائل سلمان وصهيب وبلال، وأحمد في مسنده [5/ 64]، والطبراني في المعجم الكبير [18/ 18]، =

ص: 292

معنى قوله مأخذها: أي لم تستوف حقها منه، وفيه حفظ قلوب الضعفة بترك إغضابهم.

وروينا في صحيح البخاري من حديث سهل بن سعد مرفوعًا: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا" وأشار بالسبابة والوسطى، فرج بينهما شيئًا

(1)

.

وكافل اليتيم القائم بأموره، ففيه القيام بمصالح الأيتام وأمرهم.

وروينا في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة" وأشار الراوي وهو مالك بن أنس بالسبابة والوسطى.

(2)

وقوله: "اليتيم له أو لغيره" معناه قريبه أو الأجنبي منه، فالقريب مثل أن يكون تكفُلُه أمه أو جده أو أخوه أو غيرهم من أقربائه.

وروينا في صحيح البخاري من حديثه مرفوعًا أيضًا: "ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان ولا اللقمة ولا اللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفف"

(3)

، وفي رواية لهما:"لكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يُفطَنُ به فيُتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس"

(4)

.

= والتبريزي في مشكاة المصابيح [6205]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [1/ 346]، والقرطبي في تفسيره [6/ 435].

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [5304] كتاب الطلاق، [25] باب اللعان، ورقم [6005] كتاب الأدب، [24] باب فضل من يعول يتيمًا، وعن أبي هريرة في مسلم في صحيحه [42 - (2983)] كتاب الزهد والرقاق، [2] باب الإحسان إلى الأرملة والمسكين واليتيم، وأبو داود في سننه [5150] كتاب الأدب، باب في مَن ضم اليتيم، والترمذي في سننه [1918]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 346]، والبيهقي في السنن الكبرى [6/ 283]، والطبراني في المعجم الكبير [6/ 213، 8/ 351].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [42 - (2983)] كتاب الزهد والرقائق، [2] باب الإحسان إلى الأرملة والمسكين واليتيم، وأحمد في مسنده [2/ 375]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 346]، والهيثمي في مجمع الزوائد [8/ 162].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [4539] كتاب تفسير القرآن، من سورة البقرة، [48] باب {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]، ومسلم في صحيحه [102 - (1039)] كتاب الزكاة، [34] باب المسكين الذي لا يجد غنى ولا يفطن له فيتصدق عليه، وأبو داود [1631، 1632]، والنسائي [5/ 85 - المجتبى]، وأحمد في مسنده [2/ 260]، والبيهقي في السنن الكبرى [4/ 195، 7/ 11]، والزبيدي في الإتحاف [4/ 172]، والسيوطي في الدر المنثور [1/ 358]، وعبد الرزاق في مصنفه [20027].

(4)

أخرجه البخارى في صحيحه [1479] كتاب الزكاة، [55] باب قول اللَّه تعالى:{لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]، ومسلم في صحيحه [101 - (1039)] كتاب الزكاة، [34] =

ص: 293

قلت: فمثل هذا يبادر إلى القيام بمصلحته.

وروينا فيهما عنه مرفوعًا: "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل اللَّه" أحسبه قال: "وكالقائم الذي لا يفتر، وكالصائم الذي لا يفطر"

(1)

.

قلت: فالقيام والسعي عليها أشرف العبادات وأدومها.

وروينا في صحيح مسلم عنه مرفوعًا: "شر الطعام طعام الوليمة؛ يُمْنَعُها من يأتيها، ويُدعى إليها من يأباها، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى اللَّه ورسوله"

(2)

وفي رواية له وللبخاري من قوله: "بئس الطعام طعام الوليمة؛ يدعى إليها الأغنياء ويترك الفقراء"

(3)

.

وفيه أن القيام في الضيافات بالفقراء أهم من الأغنياء أو مثله.

وروينا في صحيح مسلم من حديث أنس مرفوعًا: "من عال جاريتين حتى يبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو" وضم أصابعه.

(4)

والمراد جاريتين أي بنتين، وفيه القيام بهما حتى يبلغا.

وروينا في الصحيحين من حديث عائشة قالت: "دخلت عليَّ امرأة ومعها ابنتان لها تسأل فلم تجد عندي شيئًا غير تمرة واحدة، فأعطيتها، فقسمتها بين ابنتيها ثم قامت فخرجت، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته فقال: "من ابتلي من هذه البنات بشيء

(5)

= باب المسكين الذي لا يجد غنى ولا يفطن له فيتصدق عليه.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [6007] كتاب الأدب، [26] باب الساعي على المسكين، ومسلم في صحيحه [41 - (2982)] كتاب الزهد والرقائق، [2] باب الإحسان إلى الأرملة والمسكين واليتيم، والترمذي في سننه [1969] كتاب البر والصلة، باب ما جاء في السعي على الأرملة واليتيم، والنسائي [5/ 87 - المجتبى]، وأحمد في مسنده [2/ 361]، والبيهقي في السنن الكبرى [6/ 283]، وعبد الرزاق في مصنفه [20592]، وابن حبان في صحيحه [2047 - الموارد].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [110 - (1432)] كتاب النكاح، [16] باب الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة، وأبو داود في سننه [3742]، وأحمد في مسنده [2/ 267، 405]، والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 191، 262]، والهيثمي في مجمع الزوائد [4/ 53].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [107 - (1432)] كتاب النكاح، [16] باب الأمر بإجابة الداعي إلى دعوته، وأبو نعيم في حلية الأولياء [8/ 267].

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [149 - (2631)] كتاب البر والصلة، [46] باب فضل الإحسان إلى البنات، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 66]، والحاكم في المستدرك [4/ 177]، وابن أبي شيبة في مصنفه [8/ 364].

(5)

قوله صلى الله عليه وسلم: "من ابتلي من البنات بشيء" إنما سماه ابتلاء لأن الناس يكرهونهن في العادة، قال اللَّه تعالى:{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)} [النحل: 58]، وقوله: "من =

ص: 294

فأحسن إليهن كنَّ له سترًا من النار"".

(1)

وفيه الإحسان إلى البنات على الإطلاق، ولو بتمرة أو بشق تمرة.

وروينا في صحيح مسلم من حديثها أيضًا قالت: "جاءتني جارية تحمل ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدة منهما تمرة، ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها، فاستطعمتها ابنتاها، فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها، فذكرت الذي صنعت لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "إن اللَّه قد أوجب لها بها الجنة، أو أعتقها بها من النار"

(2)

وفيه إيثار البنات على البنين.

وروينا فى النسائي بإسناد جيد من حديث أبي شريح خويلد بن عمر الخزاعي

(3)

مرفوعًا: "اللهم إني أُحرِّج حق الضعيفين: اليتيم والمرأة"

(4)

.

معنى أُحرِّج: الحرج وهو الإثم لمن ضيَّع حقهما وأحذر من ذلك تحذيرًا بالغًا، وأزجر عنه زجرًا أكيدًا، فإنه ليس من الشفقة والرحمة تضييع حق لأحد منهما، وخصم من يفعل ذلك هو اللَّه.

وروينا في صحيح اليخاري من حديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال: "رأى سعد أن له فضلًا على من دونه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هل تُنصرون وتُرزقون إلا بضعفائكم؟ ""

(5)

كذا رواه البخاري مرسلا، فإن مصعب بن سعد تابعي، ورواه

= عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو" وضم أصابعه، ومعنى عالهما: قام عليهما بالمؤنة والتربية ونحوهما، مأخوذ من العول وهو القرب، ومنه "ابدأ بمن تعول"، ومعناه جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين "النووي في شرح مسلم [16/ 147، 148] طبعة دار الكتب العلمية".

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [5995] كتاب الأدب، [8] باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، ومسلم في صحيحه [147 - (2629)] كتاب البر والصلة والآداب، [46] باب فضل الإحسان إلى البنات، والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 478]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 66]، والتبريزي في المشكاة [4949]، والسيوطي في الدر المنثور [1/ 338].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [148 - (2630)] كتاب البر والصلة والآداب، [46] باب فضل الإحسان إلى البنات، وأحمد في مسنده [6/ 92]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 66]، والسيوطي في الدر المنثور [1/ 338]، والقرطبي في تفسيره [10/ 118].

(3)

خويلد بن عمرو، أبو شريح مشهور بكنيته الخزاعي الكعبي العدوي، صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة، توفي سنة [68]. ترجمته: تهذيب التهذيب [3/ 171]، تقريب التهذيب [1/ 229، 2/ 434]، تاريخ البخاري الكبير [3/ 224]، تاريخ البخاري الصغير [1/ 160]، الجرح والتعديل [3/ 1828]، الاستيعاب [2/ 455]، الإصابة [2/ 350]، الثقات [3/ 110].

(4)

أخرجه ابن ماجه في سننه [3678]، وأحمد في مسنده [2/ 439].

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه [2896] كتاب الجهاد والسير، [76] باب من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب، وأحمد في مسنده [1/ 173]، والطبراني في المعجم الصغير [1/ 38]، =

ص: 295

البرقاني متصلا عن مصعب عن أبيه.

وروينا في سنن أبي داود بإسناد جيد عن حديث أبي الدوداء عويمر مرفوعًا: "ابغوني الضعفاء فإنما تُرزقون وتُنصرون بضعفائكم"

(1)

.

ففيه تعريف من يجهل أمر الضعفة بركتهم على الموجود وفضلهم على كل موجود بفضل وعاية اللَّه العظيم لهم، ونظره إليهم {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33]، {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ}

(2)

وغير خاف من هذه الأحاديث من بيان مجاري اللطف والإحسان وصفته، وبيان المرغِّبات في ذلك، وأكد زجر من تركه، ودفع الصوارف عنه بسؤال الصناديد طرد الفقراء، وسهل مناولة ذلك، ومزيل نقيضه، والدوام عليه، وأرجحيته على نحو الصيام والقيام، وما يخشى أن يكون منافيًا، وما يستدرك به وأشباه ذلك.

= وأبو نعيم في حلية الأولياء [8/ 290]، والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 149]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [5232]، وابن حجر في تلخيص الحبير [2/ 97]، والقرطبي في تفسيره [3/ 255]، والزبيدي في الإتحاف [10/ 43].

(1)

أخرجه أبو داود في سننه [2594] كتاب الجهاد، باب في الانتصار برذل الخيل والضعفة، والنسائي [6/ 46 - المجتبى]، والبيهقي في السنن الكبرى [3/ 345، 6/ 331]، والحاكم في المستدرك [2/ 106]، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين [10/ 43]، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة [779].

(2)

سورة الفتح [25].

ص: 296

‌مجلس في الوصية بالنساء

قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}

(1)

فأمر بذلك.

وقال: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} الآية

(2)

.

ففيها أن ذلك على التشديد والمقاربة، والنهي عن كل ميل.

وروينا في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "استوصوا بالنساء، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرًا"

(3)

.

وفي رواية لهما: "المرأة كالضلع إن أقمتها كسرتها، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها"

(4)

.

قوله: "على عوج" هو بفتح العين والواو فيه تكرار الوصية التي لا تُرَدّ، وإقامة العذر بأن الاعوجاج ضروري فيهن، وذاتي لهن، والإياس من واحدة منهن مستقيمة، وأن محاولة الإقامة مجرد عناء، ولا تفضي إلا إلى الكسر، وأن الاستمتاع بهنَّ متأت

(1)

سورة النساء [19].

أي طيبوا أقوالكم لهن وحسنوا أفعالكم وهيآتكم بحسب قدرتكم كما تحب ذلك منها، فافعل أنت بها مثله.

(2)

سورة النساء [129].

أي لن تستطيعوا أيها الناس أن تساووا بين النساء من جميع الوجوه، فإنه وإن وقع القسم الصوري ليلة وليلة، فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع كما قاله ابن عباس وعبيدة السلماني ومجاهد والحسن البصري والضحاك. "تفسير ابن كثير [1/ 564] ".

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [5186] كتاب النكاح، [81] باب الوصاة بالنساء، ومسلم في صحيحه [60 - (1468)] كتاب الرضاع، [18] باب الوصية بالنساء، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 50]، والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 295]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [3238]، والزبيدي في الإتحاف [5/ 360]، وابن أبي شيبة في مصنفه [5/ 276]، والسيوطي في الدر المنثور [2/ 156].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [5184] كتاب النكاح، [80] باب المداراة مع النساء، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما المرأة كالضلع"، ومسلم في صحيحه [65 - (1468)] كتاب الرضاع، [18] باب الوصية بالنساء، وأحمد في مسنده [6/ 279، 2/ 428]، والهيثمي في مجمع الزوائد [4/ 303]، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار [2/ 47].

ص: 297

مع ذلك أحسن التأتي، فليستسهل غيره.

وروينا في الصحيحين أيضًا من حديث عبد اللَّه بن زمعة رضي الله عنهما: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول وذكر الناقة والذي عقرها فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: " {إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12)} [الشمس: 12] انبعث لها عزيز رجل عارم منيع في رهطه"

(1)

، ثم ذكر النساء فوعظ فيهن فقال:"يعمد أحدكم فيجلد امرأته جلد العبد، فعلها يضاجعها من آخر يومه" ثم وعظهم في ضحكهم من الضرطة فقال: "إلام يضحك أحدكم مما يفعل".

(2)

ومعنى انبعث: قام بسرعة، والعارم: بالعين المهملة والراء: الشرير المفسد، وفيه التنبيه على منافاة مضاجعتهن وملاطفتهن لمجافاتهن وجلدهن والإغلاظ عليهن.

وفيه منع العرامة

(3)

والجراءة على إماء اللَّه، والاستهانة بميثاقهنَّ الغليظ، وهو الموقع في الشقاء والتعب.

وروينا في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خُلقًا رضي منها آخر" أو قال: "غيره"

(4)

معنى يفرك: يبغض، يقال فرِكت المرأة زوجها وفرِكها زوجها بكسر الراء يفرَكها بفتحها: أبغضها، وفيه أن المؤمن لا بد وأن يجد في المؤمنة ما يرضيه، فيخبر به ما يكرهه {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114].

وإذا المحب أتى بذنب واحد

جاءت محاسنه بألف شفيع

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [4942] كتاب تفسير القرآن، من سورة والشمس وضحاها، ومسلم في صحيحه [49 - (2855)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، [13] باب النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء، والترمذي في سننه [3343] كتاب تفسير القرآن، باب من سورة والشمس وضحاها، والسيوطي في الدر المنثور [6/ 357].

(2)

تقدم تخريجه قبل هذا، وقال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم: "عزيز عارم" العارم بالعين المهملة والراء، قال أهل اللغة: هو الشرير المفسد الخبيث، وقيل: القوي الشرس، وقد عرُم بضم الراء وفتحها وكسرها عرامة بفتح العين وعرامًا بضمها فهو عارم وعرم، وفي هذا الحديث النهي عن ضرب النساء لغير ضرورة التأديب، وفيه النهي عن الضحك من الضرطة يسمعها من غيره بل ينبغي أن يتغافل عنها ويستمر على حديثه واشتغاله بما كان فيه من غير التفات ولا غيره، ويظهر أنه لم يسمع، وفيه حسن الأدب والمعاشرة. "النووي في شرح مسلم [17/ 155] ".

(3)

عرم: فلان عرامة: شرس واشتد.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [61 - (1469)] كتاب الرضاع، [18] باب الوصية بالنساء، وأحمد في مسنده [2/ 329]، والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 295]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 50]، والتبريزي في المشكاة [3240].

ص: 298

وروينا في جامع الترمذي من حديث عمرو بن الأحوص

(1)

الجشمي: أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يقول بعد أن حمد اللَّه وأثنى عليه، وذكر ووعظ ثم قال:"ألا واستوصوا بالنساء خيرًا، فإنما هنَّ عوان عندكم، ليس تملكون منهن شيئًا غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربًا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهم سبيلا، ألا إن لكم على نسائكم حقًا، ولنسائكم عليكم حقًا، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم مَنْ تكرهون، ولا يأذَنَّ في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن".

(2)

معنى عوان: أسيرات جمع عانية بالعين المهملة وهي الأسيرة، والعاني الأسير، شبه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المرأة في دخولها تحت حكم الزوج بالأسير، والضرب المبرح هو الشاق الشديد.

(3)

ومعنى فلا تبغوا عليهن سبيلًا: لا تطلبوا طريقًا تحتجون به عليهن، وتؤذوهنَّ به، فقد اشتمل على بيان أمور: أحدها: إن الذي يملكه الزوج حبسها على طاعته ويجب حكمه.

ثانيها: أنه يؤدب بقدر الحاجة من غير تبريح.

ثالثها: أن الإتيان بالفاحشة المبينة، أي التي لا يحتمل التأويل يؤدبن عليه.

رابعها: أن طاعتهن إذا وجدت انتفى السبيل عليهن.

(1)

عمرو بن الأحوص أبو سليمان الجشمي الكيلاني الأزدي، صحابي له حديث في حجة الوداع، أخرج له أصحاب السنن الأربعة. ترجمته: تهذيب التهذيب [8/ 2]، تقريب التهذيب [2/ 65]، الكاشف [2/ 323]، تاريخ البخاري الكبير [6/ 169]، الجرح والتعديل [6/ 640]، ميزان الاعتدال [3/ 210]، المغني [4499]، تراجم الأحبار [2/ 554]، الوافي بالوفيات [22/ 502].

(2)

أخرجه الترمذي في سننه [1163] كتاب الرضاع، باب ما جاء في حق المرأة على الزوج، ورقم [3087] كتاب تفسير القرآن، من سورة التوبة، وابن ماجه في سننه [1851] كتاب النكاح، [3] باب حق المرأة على الزوج، والسيوطي في الدر المنثور [2/ 156]، والقرطبي في تفسيره [5/ 183]، والألباني في إرواء الغليل [7/ 96].

(3)

قال تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء: 34]. قوله تعالى: {وَاضْرِبُوهُنَّ} أي إذا لم يرتدعن بالموعظة ولا بالهجران فلكم أن تضربوهن ضربًا غير مبرح، وقال الحسن البصري: يعني غير مؤثر، قال الفقهاء: هو أن لا يكسر فيها عضوًا ولا يؤثر فيها شيئًا. "تفسير ابن كثير [1/ 492] ".

ص: 299

خامسها: أن الحق المتوجه إليهن هو العفة والصيانة وحفظ الغيب.

وروينا في سنن أبي داود بإسناد حسن من حديث معاوية بن حيدة

(1)

قال: "قلت: يا رسول اللَّه، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: "أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت "أو اكتسيت" ولا تضرب الوجه ولا تُقبِّح ولا تهجر إلا في البيت"

(2)

.

ومعنى لا تقبح: لا تقول قَبَّحَكَ اللَّه، وفيه بيان ما يجب من حقوقهن، ومجامعه الكفاية وكف الأذى بيد أو لسان أو جفاء، فيواسيها بما يسوغ شرعًا ومروءة. وروينا في جامع الترمذي مصححًا من حديث أبي هريرة مرفوعًا:"أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم".

(3)

قلت: وهذا بيان منه عليه السلام على الدرجات.

وروينا في سنن أبي داود بإسناد صحيح من حديث إياس بن عبد اللَّه بن أبي ذباب قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تضربوا إماء اللَّه" فجاء عمر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: ذئرن النساء على أزواجهن، فرخص في ضربهن، فأطاف بآل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نساء كثيرون يشكون أزواجهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن، ليس أولئك بخياركم".

(4)

(1)

معاوية بن حيدة بن معاوية بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة القشيري، جد بهز بن حكيم، الليثي، صحابي نزل البصرة ومات بخراسان، أخرج له البخاري تعليقًا وأصحاب السنن. ترجمته: تهذيب التهذيب [10/ 205]، تقريب التهذيب [2/ 259]، الكاشف [3/ 156]، تاريخ البخاري الكبير [7/ 329]، الجرح والتعديل [8/ 376]، الثقات [3/ 374]، أسد الغابة [5/ 208، 214]، الاستيعاب [3/ 415، 425]، أسماء الصحابة [75]، طبقات ابن سعد [7/ 35].

(2)

أخرجه أبو داود في سننه [2142] كتاب النكاح، باب في حق المرأة على زوجها، والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 305]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 51]، والسيوطي في الدر المنثور [1/ 276]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [3259].

(3)

أخرجه الترمذي [1162] كتاب الرضاع، باب ما جاء في حق المرأة على زوجها، وأبو داود في سننه [4682] كتاب السنة، باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه، وأحمد في مسنده [2/ 250، 472]، والحاكم في المستدرك [1/ 3]، والطبراني في الصغير [1/ 218]، وابن حبان في صحيحه [1311، 1926 - الموارد]، والهيثمي في المجمع [4/ 303]، والمنذري في التركيب والترهيب [3/ 411]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [9/ 248].

(4)

أخرجه أبو داود في سننه [2146] كتاب النكاح، باب في ضرب النساء، وابن ماجه في سننه [1985] كتاب النكاح، [51] باب ضرب النساء، والدارمي في سننه [2/ 147]، والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 304، 305]، والحاكم في المستدرك [2/ 188، 191]، وعبد الرزاق في =

ص: 300

معنى ذئرن: اجترأن، وأطاف: أحاط، فالذائرات يحتملن ويسامحن، ولا يؤذيهن خيار الناس وأشرافهم، بل شرارهم وأطرافهم.

وروينا في صحيح مسلم من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص مرفوعًا: "الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة".

(1)

قلت: وهذا حسن بالغ، أعنى الخيرية، وتعميم الدنيا بما فيها، ومدار هذه الأحاديث إلى بيان العناية الربانية بهن مع استحالة استقامتهن واستفتاح إهانتهن، وبيان الغرض المثالي والقدر المستفاد بالزواج وما تدعو الضرورة إليه من التأديب، وبيان العدل الواجب لهن، ومرتبة الفضل معهن وإن ذئرن، وبيان النعمة بهن وأشباه ذلك.

= مصنفه [17945]، وابن حبان في صحيحه [1316 - الموارد]، وابن حجر في تلخيص الحبير [3/ 203].

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [64 - (1467)] كتاب الرضاع، [17] باب خير متاع الدنيا المرأة الصالحة.

والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 41]، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار [4/ 101]، وابن كثير في تفسيره [7/ 37].

ص: 301

‌مجلس في حق الزوج على امرأته

قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}

(1)

الآية ففضله عليهن بما قام به من الكمال، وبما يكون منه من النوال، وأنه بذلك يستحق القوامية بالأمر المطاع والتدبير المرجوع إليه، ونحو هذا، كما يقدم الولاة على الرعايا والقنوت

(2)

ملازمة الطاعة والتذلل (والغيب)

(3)

النفس والمنزل والعيال وذات اليد.

والأحاديث في الباب كثيرة منها: حديث عمرو بن الأحوص السالف المجلس قبله.

ومنها: حديث أبي هريرة المرفوع: "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم تأته فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح"

(4)

أخرجاه.

وفي رواية لهما: "إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح"

(5)

، وفي رواية:"والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطًا عليها حتى يرضى عنها"

(6)

.

(1)

سورة النساء [34].

أي الرجل قيم على المرأة أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجت {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 34] أي لأن الرجال أفضل من النساء، والرجل خير من المرأة، ولهذا كانت النبوة مختصة بالرجال، وكلذلك الملك الأعظم، لقوله صلى الله عليه وسلم:"لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" رواه البخاري. "تفسير ابن كثير [1/ 491] ".

(2)

القنوت: الطاعة.

(3)

كذا بالأصل.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [5193] كتاب النكاح، [86] باب إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها، ومسلم في صحيحه [122 - (1436)] كتاب النكاح، [20] باب تحريم امتناعها من فراش زوجها، وأبو داود في سننه [2141]، وأحمد في مسنده [2/ 86، 3/ 519]، والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 292]، والدارمي في سننه [2/ 150]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [3246].

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه [5194] كتاب النكاح، [86] باب إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها، ومسلم في صحيحه [120 - (1436)] كتاب النكاح، [20] باب تحريم امتناعها من فراش زوجها.

(6)

أخرجه مسلم في صحيحه [121 - (1436)] كتاب النكاح، [20] باب تحريم امتناعها من فراش زوجها.

ص: 302

قلت: وأي منفِّر أو محذر مثل هذا.

ومنها حديث أبي هريرة أيضًا مرفوعًا: "لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه"

(1)

أخرجاه، واللفظ للبخاري، ووجهه أن الصوم يمنع الجماع شرعًا، وهذا في التطوعات.

ومنها: حديث ابن عمر مرفوعًا: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسئولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"

(2)

أخرجاه أيضًا، فليحذر من أن يضيع شيئًا من حقه أو تنتهك شيئًا من حرمته.

ومنها حديث أبي علي طلق بن علي مرفوعًا: "إذا دعا الرجل زوجته لحاجته فلتأته، وإن كانت على التنور"

(3)

أخرجه النسائي والترمذي وحَسَّنَهُ، وأي مبادرة وتأكيد طاعة كهذا.

ومنها: حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها"

(4)

رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح، وفيه أن الزوج له

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [5195] كتاب النكاح، [87] باب لا تأذن المرأة في بيت زوجها لأحد إلا بإذنه، والمنذري في الترغيب والترهيب [2/ 131، 3/ 57].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [893] كتاب الجمعة، [11] باب الجمعة في القرى والمدن، ورقم [2409] كتاب الاستقراض وأداء الديون، [20] باب العبد راع في مال سيده ولا يعمل إلا بإذنه، ورقم [2554] كتاب العتق، [17] باب كراهية التطاول على الرقيق وقوله عبدي أو أمتي، ورقم [2558] في العتق، [19] باب العبد راع في مال سيده، ونسب النبي صلى الله عليه وسلم المال إلى السيد، ورقم [2751] كتاب الوصايا، [9] باب تأويل قول اللَّه تعالى:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12]، ورقم [5188] كتاب النكاح، [82] باب {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6]، ورقم [5200] كتاب النكاح، [91] باب المرأة راعية في بيت زوجها، ومسلم في صحيحه [20 - (1829)] كتاب الإمارة، [5] باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم، وأبو داود في سننه [2928] كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب ما يلزم الامام من حق الرعية، والترمذي [1705] كتاب الجهاد، باب ما جاء في الإمام، وأحمد في مسنده [3/ 5]، والبيهقي في السنن الكبرى [6/ 287، 7/ 291]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 48].

(3)

أخرجه الترمذي في سننه [1160] كتاب الرضاع، باب ما جاء في حق الزوج على المرأة، وابن حبان في صحيحه [1295 - الموارد]، والهيثمي في مجمع الزوائد [4/ 295]، والطبراني في المعجم الكبير [8/ 398].

(4)

أخرجه أبو داود في سننه [2140] كتاب النكاح، باب في حق الزوج على المرأة، والترمذي في =

ص: 303

من المنزلة أن تسجد له المرأة ولولا أنه ممتنع شرعًا لأمرته، وأي تعظيم لأحد من الناس يداني هذا.

ومنها حديث أم سلمة مرفوعًا: "أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة"

(1)

رواه الترمذي وحسنه.

وما أكرم هذا الوعد وأيسر هذا الوعد، وأيسر هذا العمل، وأشرف هذه المنزلة.

ومنها: حديث معاذ بن جبل مرفوعًا: "لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين لا تؤذيه قاتلك اللَّه، فإنما هو عندك دخيل يوشك أن يفارقك إلينا"

(2)

رواه الترمذي وحسنه.

وفيه تحذير المرأة من أن تدعو عليها زوجة زوجها من الحور العين، ويغتم له إذا أوذي، وفي إثارة هذا من الغيرة وخوف استجابة اللَّه -تعالى- ذلك الدعاء أبلغ زجر عن إيذاء المرأة زوجها بأي أمر صغير أو كبير.

ومنها: حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما تركت بعدي فتنة أَضَرَّ على الرجال من النساء"

(3)

أخرجاه.

= سننه [1159] كتاب الرضاع، باب ما جاء في حق الزوج على المرأة، وأحمد في مسنده [4/ 381، 6/ 76]، والحاكم في المستدرك، [2/ 187]، والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 291، 292]، وابن أبي شيبة في مصنفه [4/ 306]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [3255]، والطبراني في المعجم الكبير [5/ 237]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 55، 56]، والهيثمي في مجمع الزوائد [4/ 310]، والسيوطي في الدر المنثور [2/ 154].

(1)

أخرجه الترمذي في سننه [1161] كتاب الرضاع، باب ما جاء في حق الزوج على المرأة، وابن ماجه في سننه [1854] كتاب النكاح، باب حق الزوج على المرأة، وابن أبي شيبة في مصنفه [4/ 303]، والحاكم في المستدرك [4/ 173].

(2)

أخرجه الترمذي في سننه [1174] كتاب الرضاع، وابن ماجه في السنن [2014] كتاب النكاح، باب في المرأة تؤذي زوجها، وأحمد في مسنده [5/ 242]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 58]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [5/ 22]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [3258].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [5096] كتاب النكاح، [18] باب ما يتقي من شؤم المرأة، ومسلم في صحيحه [97 - (2740)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [26] باب أكثر أهل الجنة الفقراء، وأكثر أهل النار النساء وبيان الفتنة بالنساء، والترمذي [2780] كتاب الأدب، باب ما جاء في تحذير فتنة النساء، وأحمد في مسنده [5/ 200]، والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 91]، وعبد الرزاق في مصنفه [20608]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [3/ 35]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [3085]، والطبراني في المعجم الكبير [1/ 133]، والزبيدي في الإتحاف [7/ 433]، والقرطبي في تفسيره [4/ 29، 12/ 311].

ص: 304

ففتنة النساء أضرّ على الرجال من كل فتنة، فلتتق اللَّه امرأة كل زوج ولا تفتنه.

فمدار هذه الأحاديث على زجر المرأة أن لا تنتهك حرمة زوجها أو حقه بحسي أو شرعي، وحملها على المبادرة إلى طاعته، وعلى تعظيمه، والحرص على رضا قلبه وتحذيرها من إيذائه وفتنته.

ص: 305

‌مجلس في النفقة على العيال

قال تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}

(1)

ففيه توظيفهما به.

وقال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ}

(2)

الآية، وهذا تفسير للمعروف.

وقال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ}

(3)

وفيها تسهيل ذلك على النفوس بوعد اللَّه لا غيره بأنه لا يخلفه ولا بد إما بثواب في الآخرة إما برزق غيره وإما بغير ذلك.

وروينا في صحيح مسلم

(4)

من حديث أبي هريرة رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دينار تنفقه في سبيل اللَّه، ودينار أنفقته في سبيل اللَّه، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا

(5)

الذي أنفقته على أهلك".

وروينا فيه من حديث ثوبان مرفوعًا: "أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على

(1)

سورة البقرة [233].

أي وعلى والد الطفل نفقة الرالدات وكسوتهن بالمعروف أي بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن من غير إسراف ولا إقتار بحسب قدرته في يساره وتوسطه وإقتاره، كما قال تعالى:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)} [الطلاق: 7]. "تفسير ابن كثير [1/ 283] ".

(2)

سورة الطلاق [7].

(3)

سورة سبأ [39].

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [39 - (995)] كتاب الزكاة، [12] باب فضل النفقة على العيال والمملوك، وإثم من ضيعهم أو حبس نفقتهم عنهم، وأحمد في مسنده [2/ 473]، والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 467]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 61]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [1931]، والزبيدي في الإتحاف [5/ 364].

(5)

قال النووي: مقصود الباب الحث على النفقة على العيال وبيان عظم الثواب فيه؛ لأن منهم من تجب نفقته بالقرابة، ومنهم من تكون مندوبة وتكون صدقة وصلة، ومنهم من تكون واجبة بملك النكاح أو ملك اليمين، وهذا كله فاضل محثوث عليه، وهو أفضل من صدقة التطوع، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في رواية ابن أبي شيبة:"أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك" مع أنه ذكر قبله النفقة في سبيل اللَّه وفي العتق، والصدقة ورجح النفقة على العيال على هذا كله.

"النووي في شرح مسلم [7/ 71] طبعة دار الكتب العلمية".

ص: 306

عياله، ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل اللَّه، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل اللَّه".

(1)

وروينا في الصحيحين من حديث أم سلمة قالت: "قلت: يا رسول اللَّه هل لي أجر في بني أبي سلمة أن أنفق عليهم؟ قال: "نعم، لك أجر ما أنفقت عليهم"".

(2)

وفيه أن في الأولاد أجر النفقة إن كان الطبع يهوى ذلك.

وروينا فيهما من حديث سعد بن أبي وقاص في حديثه الطويل السالف في أوائل الكتاب في النية: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال له: "وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه اللَّه إلا أُجِرْتَ بها حتى ما تجعل في فيّ امرأتك"".

(3)

وروينا فيهما من حديث أبي مسعود البدري مرفوعًا: "إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة".

(4)

وروينا في سنن أبي داود بإسناد صحيح من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص مرفوعًا: "كفى بالمرء إثمًا أن يُضيِّع مَن يقوت".

(5)

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [38 - (994)] كتاب الزكاة، [12] باب فضل النفقة على العيال والمملوك، وإثم من ضيعهم أو حبس نفقتهم عهم، وابن ماجه في سننه [2760]، والبيهقي في السنن الكبرى [4/ 178]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 61]، وأحمد في مسنده [5/ 277، 279].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [1467] كتاب الزكاة، [50] باب الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر، ومسلم في صحيحه [47 - (1001)] كتاب الزكاة، [14] باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد والوالدين ولو كانوا مشركين، وأحمد في مسنده [6/ 293، 314]، والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 478].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [56] كتاب الإيمان، [42] باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة ولكل امرئ ما نوى، ورقم [1295] كتاب الجنائز، [36] باب رثى النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة، وانظر أرقام [2742، 3744، 3936، 4409، 5354، 5659، 5668، 6373، 6733]، ومسلم في صحيحه [5 - (1628)] كتاب الوصية، [1] باب الوصية بالثلث، والبيهقي في السنن الكبرى [6/ 268، 269]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 65]، والزبيدي في الإتحاف [10/ 36].

(4)

أخرجه البخاري [55] كتاب الإيمان، [42] باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، ورقم [4006]، [5351]، ومسلم [48 - (1002)] كتاب الزكاة، [14] باب ففل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد والوالدين ولو كانوا مشركين.

(5)

أخرجه أبو داود في سننه [1692]، وأحمد في مسنده [2/ 160، 194]، والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 467، 9/ 25]، والهيثمي في مجمع الزوائد [4/ 325]، والطبراني في المعجم الكبير [12/ 382].

ص: 307

ولمسلم وغيره معناه: "كفى بالمرء إثمًا أن يحبس عمن يملك قوته"

(1)

، قلت: ولا تهديد مثله.

وروينا في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم اعط منفقًا خلفًا، ولقول الآخر: اللهم اعط ممسكًا تلفًا".

(2)

فهذا دعاء للأول ودعاء على الثاني، فما أشرف السخاء دنيا وأخرى "ما نقص مال من صدقة".

(3)

وروينا في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة عن ظهر غنى، ومن يستعفف يُعفه اللَّه، ومن يستغن يغنه اللَّه".

(4)

ومرار هذه الأحاديث على بيان رتبة الإنفاق وأرجحيته عند التعارض، وحصول الأجر في الأولاد والزوجة، وأنه صدقة، وتحذير المرء أن يضيع من يقوت أو يحبس عنه قوته، والأمر بالبدأة بمن يعول، فليعتن به اللبيب جهده.

(1)

أخرجه سلم في صحيحه [40 - (996)] كتاب الزكاة، [12] باب فضل النفقة على اليال والمملوك، وأبو نعيم في حلية الأولياء [4/ 122، 5/ 87].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [1442] كتاب الزكاة، [29] باب قول اللَّه تعالى:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)} الآية، ومسلم في صحيحه [57 - (1010)] كتاب الزكاة، [17] باب في المنفق والممسك، والبيهقي في السنن الكبرى [4/ 187]، والمنذري في الترغيب والترهيب [2/ 48]، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة [920].

(3)

أخرجه الطبراني في المعجم الصغير [1/ 54]، والهيثمي في مجمع الزوائد [3/ 105]، والزبيدي في الإتحاف [6/ 256، 8/ 39]، والسيوطي في الدر المنثور [1/ 359، 5/ 35].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [1427] كتاب الزكاة، [20] باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، ومسلم في صحيحه [95 - (1034)] كتاب الزكاة، [32] باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى، وأن اليد العليا هي المنفقة، وأن السفلى هي الآخذة، وأبر داود في سننه [1648]، والترمذي في سننه [2343، 2463]، والنسائي [5/ 61 - المجتبى]، وأحمد في مسنده [2/ 4، 67]، والبيهقي في السنن الكبرى [4/ 177، 180]، وابن أبي شيبة [3/ 211، 212]، وعبد الرزاق في مصنفه [20041]، وابن أبي شيبة [3/ 211]، والطبراني في المعجم الكبير [8/ 164، 12/ 149]، والمنذري في الترغيب والترهيب [1/ 581].

ص: 308

‌مجلس في الإنفاق مما يحب ومن الجيد

قال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}

(1)

.

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}

(2)

الآية.

وروينا في الصحيحين من حديث أنس قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالًا من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء

(3)

، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ما فيها طيب" قال أنس رضي الله عنهما:"فلما نزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] قام أبو طلحة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه، إن اللَّه تبارك وتعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة للَّه أرجو برها وذُخرها عند اللَّه، فضعها يا رسول اللَّه حيث أراك اللَّه، قال: فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "بخ ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعتُ ما قلت، وإني أرى أن تجعلهما في الأقربين"

(4)

.

(1)

سورة آل عمران [93].

(2)

سورة البقرة [267].

يأمر تعالى عباده المؤمنين بالإنفاق، والمراد به الصدقة ههنا، قاله ابن عباس، من طيبات ما رزقهم من الأموال التي اكتسبوها، قال مجاهد: يعني التجارة لتشره إياها لهم، وقال علي والسدي {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267]: يعني الذهب والفضة ومن الثمار والزروع التي أنبتها لهم من الأرض، قال ابن عباس: أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه، ونهاهم عن التصدق برذالة المال ودنيئه، وهو خبيثه، فإن اللَّه طيب لا يقبل إلا طيبًا. "تفسير ابن كثير [1/ 320] ".

(3)

قوله: "وكان أحب الاموال إليه ببرحاء" اختلفوا في ضبط هذه اللفظة على أوجه، قال القاضي رحمه الله: روينا هذه اللفظة عن شيوخنا بفتح الراء وضمها مع كسر الباء والراء، قال الباجي: قرأت هذه اللفظة على أبي ذر البروي بفتح الراء على كل حال، قال: وعليه أدركت أهل العلم والحفظ بالمشرق، وقال لي الصوري: هي بالفتح، واتفقا على أن من رفع الراء وألزمها حكم الإعراب فقد أخطأ، قال: وبالرفع قرأناه على شيوخنا بالأندلس، وهذا الموضع يعرف بقصر بني جديلة تجلي المسجد. "النووي في شرح مسلم [7/ 73] طبعة دار الكتب العلمية".

(4)

أخرجه البخاري [1461] كتاب الزكاة، [46] باب الزكاة على الأقارب، وانظر أرقام [2318، 2752، 2758، 2769، 4554، 4555، 5611]، ومسلم في صحيحه [42 - (998)] كتاب الزكاة، [14] باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد والوالدين ولو كانوا =

ص: 309

فقال أبو طلحة

(1)

: أفعل يا رسول اللَّه، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه".

روي: رايح، بالمثناة تحت، أي رايح عليك نفعه، وبالباء الموحدة أيضًا، وبيرحاء: حديقة نخل، بفتح الباء وكسرها.

وفيه المكافاة والاقتداء بالسادات وما يقابل والإشعار بمحبة الخير، والرغبة فيه والمبادرة إليه، واستشارة الأكابر، وقصد العمل بما فضل والتصدق بالمحبوب في الجهات المحبوبة، ومدح أهل الخير وتبشيرهم بعظيم الأجر ترغيبًا لهم ولأمثالهم، فينبغي مساعدتهم على مقاصدهم الصالحة، وأعمالهم الزاكية الرابحة.

= مشركين، وأحمد في مسنده [3/ 141]، والبيهقي في السنن الكبرى [6/ 275]، ومالك فى الموطأ [996].

(1)

قوله صلى الله عليه وسلم: "بخ ذلك مال رابح، ذلك مال رابح" قال أهل اللغة: يقال بخ بإسكان الخاء وتنوينها مكسورة، وحكى القاضي الكسر بلا تنوين، وحكى الأحمر التشديد فيه، قال القاضي: وروى بالرفع، فإذا كررت فالاختيار تحريك الأول منونًا وإسكان الثاني، قال ابن دريد: معناه تعظيم الأمر وتفخيمه، وسكنت الخاه فيه كسكون اللام في هل وبل ومن، قال: بخ بكسره منونًا شبيه بالأصواب، كصه ومه، قال ابن السكيت: بخ بخ، وبه به بمعنى واحد، وقال الداودي: بخ كلمة تقال إذا حمد الفعل، وقال غيره: تقال عند الإعجاب. "النووي في شرح مسلم [7/ 75] طبعة دار الكتب العلمية".

ص: 310

‌مجلس في وجوب أمره أهله وأولاده الممترين وسائر من في رعيته بطاعة اللَّه تعالى ونهيهم عن المخالفة وتأديبهم ومنعهم من ارتكاب منهي عنه

قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}

(1)

قلت: ويلحق بها كل عبادة وخير.

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}

(2)

قلت: فيلزموا بفعل الخيرات، وترك المنكرات، وتصحيح العقائد والنيات، وتحسين الأخلاق والمعاملات مع تسهيل التأديب وقبوله والترغيب فيه بذكر هول النار ووقودها وغلظة خزنتها، ورجوع أمرها إلى مالك الملك ذي البطش جل جلاله.

وروينا في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنهما قال: "أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال صلى الله عليه وسلم: "كخ كخ ارم بها، أما علمت أنَّا لا نأكل الصدقة"

(3)

وفي رواية لهما: "لا تحل لنا الصدقة"

(4)

.

وكخ كخ بإسكان الخاء وبكسرها من التنوين كلمة زجر للصبي من المستقذرات، وكان الحسن إذ ذاك صبيًا.

(1)

سورة طه [132].

أي استنقذهم من عذاب اللَّه بإقام الصلاة واصبر أنت علي فعلها كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6]، {لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132] يعني إذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحتسب، كما قال تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]. "تفسير ابن كثير [3/ 175] ".

(2)

سورة التحريم [6].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [1491] كتاب الزكاة، [62] باب ما يذكر في الصدقة للنبي صلى الله عليه وسلم، ومسلم في صحيحه [161 - (1069)] كتاب الزكاة، [50] باب تحريم الزكاة على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعلى آله وهم بنو هاشم وبنو المطلب دون غيرهم، وأحمد في مسنده [2/ 409]، والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 29]، وابن أبي شيبة في مصنفه [3/ 214].

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [161 - (1069)] كتاب الزكاة، [50] باب تحريم الزكاة على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعلى آله وهم بنو هاشم وبنو المطلب دون غيرهم.

ص: 311

وفيه من أنواع التأديب خمسة: القبيح، ومخاطبة النصوح بما يفهم، كما يوضحها قوله:"كخ كخ"

(1)

، والأمر الموضح للمطلوب، كما في قوله:"ارم بها"، والتذكير والتعليل، كما في قوله:"أما علمت كذا. . " وهو من أخف المراتب وأولها وقوعًا، ثم اليد وفيه من مجاري التأديب بعظيم حرمات اللَّه في الأموال، وكونها مأكولة بلاغًا، وشدَّة الاعتاء لاسيما بالحرام منه، وبيان مستنده، وأن الإمام والعالم أو كبير المكان أو جد الصبي أو قريبه أهل للتأديب، وكيف باجتماعهما كما في النبي صلى الله عليه وسلم مع الحسن.

وفيه من أسباب التأديب التساهل كما في أخذ التمرة وجعلها في الفم، ومثله كل تناول يتداعى إلى الفساد، ومن شرطه وضوح عدم الحل وعدم الإقدام بغير عذر وابداؤه للنواظر كما فعل الحسن.

وفيه من الحوادث علم حكم الشرع ورحمة القلب، وحفظ الأمانة كما يشعر قوله:"كخ كخ" أي إنه مستقذر شرعًا يصير نارًا في البطن كما يشعر بأنه تضييع لحق الفقراء، والمتصدق في قوله:"لا تحل لنا الصدقة".

(2)

وروينا في الصحيحين من حديث أبي حفص عمر بن أبي سلمة عبد اللَّه بن عبد الأسد ربيب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "كنت غلامًا في حجر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يا غلام سم اللَّه وكل بيمينك وكل مما يليك"

(3)

فما زالت تلك طِعْمَتِي بعدُ".

(1)

قال القاضي: يقال كخ كخ بفتح الكاف وكسرها وتسكين الخاء ويجوز كسرها مع التنوين وهي كلمة يزجر بها الصبيان عن المستقذرات فيقال: كخ أي اتركه وارم به، قال الداودي: هي عجمية معربة بمعنى بئس، وقد أشار إلى هذا البخاري بقوله في ترجمة، باب من تكلم بالفارسية والرطانة. "النووي في شرح مسلم [7/ 154] طبعة دار الكتب العلمية".

(2)

الحديث دليل للشافعي وموافقيه ان آله صلى الله عليه وسلم هم بنو هاشم وبنو المطلب، وبه قال بعض المالكية، وقال أبو حنيفة ومالك: هم بنو هاشم خاصة، قال القاضي: وقال بعض العلماء: هم قريش كلها، وقال أصبغ المالكي: هم بنو قصي، وأما صدقة التطوع فللشافعي فيها ثلاثة أقوال: أصحها: أنها تحرم على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وتحل لآله، والثاني: تحرم عليه وعليهم، والثالث: لا تحل له ولهم. "النووي في شرح مسلم [7/ 155] طبعة دار الكتب العلمية".

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [5376] كتاب الأطعمة [2] باب التسمية على الطعام والأكل باليمين، ورقم [5377، 5378] في الأطعمة، [3] باب الأكل مما يليه، ومسلم في صحيحه [108 - (2022)] كتاب الأشربة، [13] باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما، وابن ماجه في سننه [3267]، وأحمد في مسنده [4/ 36]، وابن أبي شيبة في مصنفه [8/ 104]، والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 277]، والألباني في إرواء الغليل [7/ 29].

ص: 312

ومعنى تطيش

(1)

تدور في نواحي الصحفة، وفيه من أنواع التأديب كنداء يا غلام، والأمر بضد المنكر، فمن أكل مما يليه لم تطش يده، وفي الطيشان إخجال يمنع المؤاكلة، وإنجاس له ولأمه من حيث أنه يتيم على مائدة متصدق مهان، فليراع المؤدب أمثال هذا، فعلى من هذه مكارمه أفضل صلاة وتسليم.

وفيه

(2)

من مجازي التأديب ينال التناول، ويلحق به محاولة كل مفعول عادي بما بين الأكابر والعناية الشديدة.

وفيه بدئية التسمية والتيامن، وأن الأكل مما يليه أمر تأديب، وفي جميعها الإرشاد لحفظ العرض والوجاهة وتركه الطعام.

وفيه أن من أهل التأديب زوج الأم مع ما سلف ومن محله الربيب، ولاسيما كونه في الحجر، والصبي مع المخالط لقبول النصح، ولذلك قال:"لم تزل تلك طِعْمَتِي".

وفيه أن من أسباب التأديب الإساءة كما في الطيشان، ويلحق به كل عيب يعافه جليسه، ولا بد من كونه بغير عذر ليخرج الطيشان في الفاكهة.

وفيه من الحوادث الحاملة عليه الحنق والرحمة والنصيحة المفهومة من قوله: "يا غلام" فعليه من ربه المنان به على كل صغير وكبير أفضل صلاة وأزكى سلام.

وروينا في الصحيحين

(3)

أيضًا من حديث ابن عمر مرفوعًا: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته

(4)

؛ الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده

(1)

قوله: تطيش، بكسر الطاء وبعدها مثناة تحت ساكنة، أي تتحرك وتمتد إلى نواحي الصحفة ولا تقتصر على موضع واحد، والصفحة دون القصعة وهي ما تسع ما يشبع خمسة، فالقصعة تشبع عشرة، كذا قاله الكسائي فيما حكاه الجوهري وغيره عنه، وقيل: الصحفة كالقصعة، وجمعها: صحاف. "النووي في شرح مسلم [13/ 163] طبعة دار الكتب العلمية".

(2)

في هذا الحديث بيان ثلاث سنن من سنن الأكل، وهي التسمية والأكل باليمين، والثالثة: الأكل مما يليه، لأن أكله من موضع يد صاحبه سوء عشرة، وترك مروءة؛ فقد يتقذره صاحبه لاسيما في الأمراق وشبهها، وهذا هو في الثريد والأمراق وشبهها، فإن كان تمرًا أو أجناسًا فقد نقلوا إباحة اختلاف الأيدي في الطبق ونحوه، والذي ينبغي تعميم النهي حملًا للنهي على عمومه حتى يثبت دليل مخصص. "النووي في شرح مسلم [13/ 163] طبعة دار الكتب العلمية".

(3)

تقدم تخريجه من قبل.

(4)

قال العلماء: الراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما قام عليه وما هو تحت نظره، ففيه أن كل من كان تحت نظره شيء فهو مطالب بالعدل فيه والقيام بمصالحه في دينه ودنياه ومتعلقاته. "النووي في شرح مسلم [12/ 180] طبعة دار الكتب العلمية".

ص: 313

ومسئول عن رعيته" قال: وحسبت أن قد قال: "والرجل راع في مال أبيه ومسئول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته".

وقد سلف قريبًا وهو مبين لأهله ومحله، وأشد مرغِّب في التأديب إذ السؤال من الديان لا بد له من جواب صواب، فليعين برعايته أُولوا الألباب ليحظوا بسعادة القيام به يوم المآب.

وروينا في سنن أبي داود

(1)

بإسناد حسن من حديث عمرو بن شعيب

(2)

عن أبيه عن جده مرفوعًا: "مُروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع"

(3)

، وفيه من أنواع التأديب والتعليم والأمر به في حال، أو الضرب في آخر.

وفيه من مجاري التأديب الصلاة، ويلحق به ما يطيقه الصبي من صيام وتلاوة وأوراد وغير ذلك من العبادات والتعليم، وفيه صيانة الفروج بالتفريق في المضاجع، وفيه أن المؤدب الوالد، ويلحق به ذو الولاية كما في حديث سبرة بن معبد الجهني

(4)

مرفوعًا: "علِّموا الصبي الصلاة لسبع، واضربوه عليها ابن عشر سنين". رواه أبو داود والترمذي وحسنه

(5)

، ولفظ أبي داود:"مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين".

(1)

أخرجه أبو داود في سننه [495] كتاب الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة، وأحمد بن حنبل في مسنده [2/ 187]، والبيهقي في السنن الكبرى [2/ 11، 14]، والسيوطي في الدر المنثور [1/ 300]، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين [6/ 317، 9/ 14]، والقرطبي في تفسيره [18/ 195]، وابن كثير في تفسيره [8/ 194].

(2)

عمر بن شعيب بن محمد بن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، أبو إبراهيم، أبو عبد اللَّه السهمي المدني الطائفي القرشي الحجازي، صدوق، أخرج له: البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن الأربعة، توفي سنة [118]. ترجمته: تهذيب التهذيب [8/ 48]، تقريب التهذيب [2/ 72]، الكاشف [2/ 331]، تاريخ البخاري الكبير [6/ 342]، الجرح والتعديل [6/ 1323]، ميزان الاعتدال [3/ 263]، سير الأعلام [5/ 165].

(3)

تقدم قبل هذا.

(4)

سبرة بن معبد بن عوسجة الجهني المدني، والد الربيع، صحابي، أول مشاهده الخندق، أخرج له: البخاري تعليقًا ومسلم وأصحاب السنن الأربعة، توفي في خلافة معاوية. ترجمته: تهذيب التهذيب [3/ 453]، تقريب التهذيب [1/ 283، 284]، الكاشف [1/ 348]، تاريخ البخاري الكبير [4/ 178]، الجرح والتعديل [4/ 1281]، أسد الغابة [2/ 325]، الوافي بالوفيات [1/ 58]، الاستيعاب [2/ 579]، الثقات [3/ 176]، أسماء الصحابة الرواة [128]، الإكمال [1/ 232].

(5)

أخرجه أبو داود في سننه [494] كتاب الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة، والترمذي في سننه [407] في الصلاة، باب ما جاء متى يؤمر الصبي بالصلاة، والبيهقي في السنن الكبرى [2/ =

ص: 314

وفيه الأمر بالضرب في سن التمييز وهو ابن سبع ونحوها، والضرب في سن إمكان البلوغ وهو عشر ونحوها، وفيه من أسباب التأديب الحاجة إلى تمرين النفس، واعتيادها الخير، وحفظ الفرج بعد التمييز عند مظنة البلوغ.

والحاصل من هذه الأحاديث بيان أنواع التأديب ومراتبه ومجاريه وأنواعه وأهله ومحله، وبيان سببه وشرطه، وبيان ما يحدث إليه ويعزي به.

= 11، 14]، والحاكم في المستدرك [1/ 97]، والخطيب في الفقيه والمتفقه [1/ 47]، والزبيدي في الإتحاف [6/ 317]، والسيوطي في الدر المنثور [1/ 300]، والقرطبي في تفسيره [18/ 195].

ص: 315

‌مجلس في حق الجار والوصية به

قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} إلى قوله: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} .

(1)

وروينا في الصحيحين

(2)

من حديث ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما قالا: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" وهو دال على تأكد حقه وإظهار شدة الاعتناء بشأنه وتكرير الوصية به.

وروينا في صحيح مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك"

(3)

وفي رواية له عن أبي ذر قال: إن خليلي صلى الله عليه وسلم أوصاني: "إذا طبخت مرقًا فأكثر ماءه، ثم انظر أهل بيت من جيرانك، فأصبهم منها بمعروف".

(4)

وفيه من أنواع حقه إسداء المعروف إليه وتسهيل فعله والدوام عليه.

وروينا في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "واللَّه لا يؤمن، واللَّه لا يؤمن" قيل: من يا رسول اللَّه؟ قال: "الذي لا يأمن جاره بوائقه"

(5)

، وفي لفظ: "لا

(1)

سورة النساء [36].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [36] كتاب الأدب، [28] باب الوصاية بالجار، ومسلم في صحيحه [141 - (2625)] كتاب البر والصلة والآداب، [42] باب الوصية بالجار والإحسان إليه، وأبو داود في سننه [5152]، والترمذي في سننه [1943] كتاب البر والصلة، باب ما جاء في حق الجوار، وابن ماجه [3674]، وأحمد في مسنده [2/ 85، 160]، والبيهقي في السنن الكبرى [6/ 275، 7/ 11]، وابن أبي شيبة في مصنفه [8/ 357]، وابن حبان في صحيحه [2052 - الموارد]، وعبد الرزاق في مصنفه [19745]، والهيثمي في مجمع الزوائد [8/ 165]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 360]، والطبراني في المعجم الكبير [8/ 166، 12/ 360].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [142 - (2625)] كتاب البر والصلة والآداب، [42] باب الوصية بالجار والإحسان إليه، وأحمد في مسنده [5/ 149].

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [143 - (2625)] كتاب البر والصلة والآداب، [42] باب الوصية بالجار، والإحسان إليه، والتبريزي في مشكاة المصابيح [1937]، والبخاري في الأدب المفرد [114]، والزبيدي في الإتحاف [4/ 166، 167]، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار [1/ 226].

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه [6016] كتاب الأدب، [29] باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه، =

ص: 316

يدخل الجنة من لا يأمن جاره بواثقه"

(1)

، والبوائق: الغوائل والشرور، وفيه من أنواع حقه معاملات توجب أمن قلبه وطمأنينته بحيث لا يتوقع شيئًا من البوائق.

وروينا فيهما عنه مرفوعًا: "يا نساء المسلمات لا تحقرنَّ جارة جارتها، ولو فِرسِنَ شاة"

(2)

.

وفيه من أنواع الحق أن هداياه وإن قلت حتى فرسنًا محقرًا لا يحتقر، وقد يلحق به كل إحسان كبشاشة ودعاء وتأنيس وتودد، ونحو ذلك.

وروينا فيهما عنه مرفوعًا: "لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره" ثم يقول أبو هريرة: "ما لي أراكم عنها معرضين، واللَّه لأرمينَّ بها بين أكتافكم"

(3)

.

خشبة: ويروى بالإفراد والجمع، وبالتنوين على الإفراد، وقوله: مالي أراكم عنها معرضين، أي عن هذه السُّنَّة.

وفيه أن سؤاله لا يرد، وطلباته وحاجاته تُقضى له.

= وبلفظ يأتي في مسلم في صحيحه [73 - (46)] كتاب الإيمان، [18] باب بيان تحريم إيذاء الجار، وأحمد في مسنده [2/ 288، 4/ 3، 6/ 385]، والحاكم في المستدرك [1/ 10، 4/ 5، 16]، والشجري في أماليه [1/ 13]، والسيوطي في الدر المنثور [2/ 158]، والهيثمي في مجمع الزوائد [8/ 169].

(1)

أخرجه مسلم وقد تقدم قبل هذا.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [6017] كتاب الأدب، [30] باب لا تحقرن جارة لجارتها، ومسلم في صحيحه [90 - (1030)] كتاب الزكاة، [29] باب الحث على الصدقة ولو بالقليل ولا تمتنع من القليل لاحتقاره، وأحمد في مسنده [2/ 464، 307، 432]، والبيهقي في السنن الكبرى [4/ 177، 6/ 60]، والزبيدي في الإتحاف [6/ 310]، وقال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة" قال أهل اللغة: هو بكسر الفاء والسين، وهو الظلف، قالوا: وأصله في الإبل، وهو فيها مثل القدم في الإنسان، قالوا: ولا يقال إلا في الإبل، ومرادهم أصله مختص بالإبل ويطلق على الغنم استعارة، وهذا النهي عن الاحتقار نهي للمعطية المهدية، ومعناه: لا تمتنع جارة من الصدقة والهدية لجارتها لاستقلالها واحتقارها الموجود عندها، بل تجود بما تيسر، وإن كان قليلًا كفرسن شاة، وهو خير من العدم، وقد قال اللَّه تعالى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)} [الزلزلة: 7]. "النووي في شرح مسلم [7/ 106] طبعة دار الكتب العلمية".

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [2463] كتاب المظالم، [20] باب لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره، ومسلم في صحيحه [36 - (1609)] كتاب المساقاة، [29] باب غرز الخشب في جدار الجار، وأحمد في مسنده [3/ 480]، والطبراني في المعجم الكبير [19/ 447]، وابن حجر في تلخيص الحبير [3/ 45]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [2994]، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار [2/ 214].

ص: 317

وروينا فيهما عنه مرفوعًا: "من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فلا يؤذي جاره، ومن كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليسكت"

(1)

.

وفيه كف كل إيذاء عنه وعن أهله وعن أطفاله.

وروينا في صحيح مسلم من حديث أبي شريح الخزاعي مرفوعًا: "من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فليحسن إلى جاره، ومن كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليسكت"

(2)

، وروى البخاري

(3)

بعضه، وفيه الترغيب في الإحسان إليه.

وروينا في صحيح البخاري من حديث عائشة: "قلت: يا رسول اللَّه إن لي جارين فإلى أيهما أُهدي؟ قال: "إلى أقربهما منك بابًا"

(4)

أي لأنه أقرب جوارًا كما جاء في رواية أخرى.

وروينا في جامع الترمذي مُحَسَّنًا من حديث عبد اللَّه بن عمر مرفوعًا: "خير الأصحاب عند اللَّه خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند اللَّه خيرهم لجاره"

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [6018] كتاب الأدب، [31] باب من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومسلم في صحيحه [75 - (47)] كتاب الإيمان، [19] باب الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت إلا عن الخير، وكون ذلك كله من الإيمان، والهيثمي في مجمع الزوائد [8/ 176، 10/ 300]، والطبراني في المعجم الكبير [10/ 241]، والسيوطي في الدر المنثور [2/ 159]، والخطيب في تاريخ بغداد [11/ 139].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [77 - (48)] كتاب الإيمان، [19] باب الحث عن إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت إلا عن الخير وكون ذلك كله من الإيمان، والدارمي في سننه [2/ 98]، والبيهقي في السنن الكبرى [5/ 64]، وابن ماجه في سننه [3672]، والمنذري فى الترغيب والترهيب [3/ 352، 359]، والزبيدي في الإتحاف [5/ 250]، وابن المبارك في الزهد [125]، والسيوطي في الدر المنثور [2/ 158].

(3)

البخاري في صحيحه [6019] كتاب الأدب، [32] باب من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فلا يؤذ جاره.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [6020] كتاب الأدب، [32] باب حق الجوار في قرب الأبواب، وأحمد في مسنده [6/ 239]، والبيهقي في السنن الكبرى [6/ 275]، والحاكم في المستدرك [4/ 167]، والطبراني في المعجم الكبير [19/ 421، 422]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [1936].

(5)

أخرجه الترمذي في سننه [1944] كتاب البر والصلة، ما جاء في حق الجوار، وأحمد في مسنده [2/ 168]، والحاكم في المستدرك [1/ 443، 2/ 101]، وابن حبان في صحيحه [2051 - الموارد]، وابن خزيمة في صحيحه [5239]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [5987]، =

ص: 318

قلت: فاحرص أن تكون خيرهم عند اللَّه، واستعن باللَّه ولا تعجز.

والحاصل من هذه الأحاديث بيان تأكيد حق الجار، وأنواع ما ينبغي معه، وأولى الجيران عند التزاحم وتفاوت درجات الإحسان لتحرص، ويتنافس في أعلاها المتنافسون.

= والسيوطي في الدر المنثور [2/ 159]، والشجري في أماليه [2/ 139، 176]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 360]، وابن كثير في تفسيره [2/ 262].

ص: 319

‌مجلس في تحريم العقوق وقطيعة الرحم

قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)}

(1)

فالقاطع لُعِنَ وصُمَّ وَعُمِيَ.

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [الرعد: 25] إلى قوله: {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد: 25]

(2)

ذكر ذلك بلام الاستحقاق.

وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]

(3)

الآية، وأُف والنَّهْرُ نوعان نبه بهما على الأعلى بالأدنى.

وروينا في الصحيحين من حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ " قلنا: بلى يا رسول اللَّه، قال:"الإشراك باللَّه وعقوق الوالدين" وكان متكئًا فجلس وقال: "ألا وقول الزور وشهادة الزور" فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت"

(4)

فقرن عقوق الوالدين بالشرك باللَّه، وحكم بأنه أكبر الكبائر،

(1)

سورة محمد [22، 23].

أي عن الجهاد ونكلتم عنه {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22] أي تعودوا إلى ما كنتم فيه من الجاهلية الجهلاء؛ تسفكون الدماء وتقطعون الأرحام، ولهذا قال تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)} [محمد: 23] وهذا نهي عن الإفساد في الأرض عمومًا، وعن قطع الأرحام خصوصًا بل قد أمر اللَّه -تعالى- بالإصلاح في الأرض وصلة الرحم وهو الإحسان إلى الأقارب في المقال والأفعال وبذل الأموال. "تفسير ابن كثير [4/ 178] ".

(2)

سورة الرعد [27].

(3)

سورة الإسراء [23]. يقول تعالى آمرًا بعبادته وحده لا شريك له، فإن القضاء ههنا بمعنى الأمر، قال مجاهد {وَقَضَى} [الإسراء: 23]: يعني وصى، {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أي وأمر بالوالدين إحسانا، كقوله في الآية الأخرى {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14]، وقوله:{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} أي لا تسمعهما قولًا سيئًا حتى ولا التأفف الذي هو أدنى مراتب القول السيئ. "تفسير ابن كثير [3/ 35] ".

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [6919] كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، [1] باب إثم من أشرك باللَّه وعقوبته في الدنيا والآخرة، ومسلم في صحيحه [143 - (87)] كتاب الإيمان، [38] باب بيان الكبائر وأكبرها، وأحمد في مسنده [3/ 131، 5/ 36]، والبيهقي في السنن الكبرى [10/ 121]، والهيثمي في مجمع الزوائد [1/ 103]، والسيوطي في الدر المنثور [2/ 117، 147]، والطبراني في المعجم الكبير [18/ 140].

ص: 320

ولا مرتبة أعلا من هذا.

وروينا في صحيح البخاري من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص مرفوعًا: "الكبائر الإشراك باللَّه، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس"

(1)

.

واليمين الغموس التي يحلفها كاذبًا عامدًا، سميت غموسًا لأنها تغمس الحالف في الإثم، فجعل العقوق بين الشرك وقتل النفس، وهي مرتبة عظمى.

وروينا في الصحيحين عنه مرفوعًا: "من أكبر الكبائر شتم الرجل والديه" قالوا: يا رسول اللَّه، وهل يشتم الرجل والديه؟!! قال:"نعم؛ يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه"

(2)

.

وفي رواية: "من الكبائر أن يلعن الرجل والديه" قيل: يا رسول اللَّه كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: "يسبُّ الرجل أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه"

(3)

.

وهذا النوع من العقوق وهو السب بشتم الناس وبلعنهم إلى أن يسُبَّ الأب والأم

(4)

.

وروينا فيهما من حديث أبي محمد جبير بن مطعم رضي الله عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة قاطع"

(5)

قال سفيان في روايته يعني قاطع رحم، قلت: وهذا غاية في التنفير.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [6675] كتاب الأيمان والنذور، [16] باب اليمين الغموس، ورقم [6870] كتاب الديات، [2] باب قول اللَّه - تعالى:{وَمَنْ أَحْيَاهَا} [المائدة: 32]، ورقم [6920] كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، [1] باب إثم من أشرك باللَّه وعقوبته في الدنيا والآخرة، وأحمد في مسنده [2/ 201]، والسيوطي في الدر المنثور [2/ 147، 621].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [5973] كتاب الأدب، [4] باب لا يسب الرجل والديه، ومسلم في صحيحه [146 - (90)] كتاب الإيمان، [38] باب بيان الكبائر وأكبرها، والترمذي في سننه [1902] كتاب البر والصلة، باب ما جاء في عقوق الوالدين، وأحمد في مسنده [2/ 164، 195]، والبيهقي في السنن الكبرى [10/ 235]، وابن أبي شيبة في مصنفه [9/ 88]، والزبيدي في الإتحاف [7/ 483]، والسيوطي في الدر المنثور [2/ 147].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [5973] كتاب الأدب، [4] باب لا يسب الرجل والديه.

(4)

قال النووي: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "من الكبائر شتم الرجل والديه" إلى آخره، ففيه دليل على أن من تسبب في شيء جاز أن ينسب إليه ذلك الشيء، وإنما جعل هذا عقوقًا يحصل منه ما يتأذى به الوالد تأذيًا ليس بالهين، وفيه: قطع الذرائع، وقال أبو عمرو بن الصلاح في فتاويه: العقوق المحرم كل فعل يتأذى به الوالد أو نحوه تأذيًا ليس بالهين مع كونه ليس من الأفعال الواجبة، قال: وربما قيل: طاعة الوالدين واجبة في كل ما ليس بمعصية ومخالفة أمرهما في ذلك عقوق. "مختصرًا عن النووي في شرح مسلم [2/ 75، 76] طبعة دار الكتب العلمية".

(5)

البخاري في صحيحه [5984] كتاب الأدب، [11] باب إثم القاطع، ومسلم في صحيحه [18 - =

ص: 321

وروينا فيهما من حديث أبي عيسى المغيرة بن شعبة رضي الله عنهما مرفوعًا: "إن اللَّه حرَّم عليكم عقوق الأمهات، ومنع وهات، ووأد البنات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال"

(1)

.

قوله: منع معناه: منع ما وجب عليه، وهات: طلب ما ليس له، ووأد البنات: دفنهن في حال الحياة، وقيل وقال: معناه الحديث بكل ما سمعه، فيقول: قيل كذا، وقال فلان كذا مما لم يعلم صحته ولا يظنها "وكفى بالمرء إثمًا أن يحدث بكل ما سمع"

(2)

وإضاعة المال: تبذيره وصرفه في غير الوجوه المأذون فيها من مقاصد الآخرة والدنيا، وترك حفظه مع إمكان الحفظ، وكثرة السؤال: الإلحاح فيما لا حاجة إليه.

وفي الباب أحاديث مذكورة في باب بر الوالدين كحديث: "واقطع من قطعك"

(3)

، وحديث:"من قطعني قطعه اللَّه"

(4)

فخاصة القطيعة قطع اللَّه لصاحبها ونتائج ذلك من الشفا لا تنحصر.

وحاصل هذه الأحاديث بيان مرتبة العقوق، وأنواع منه ونتائجه وحكمه ومنفرداته وزواجره.

= (2556)[19] كتاب البر والصلة والآداب، [6] باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، وأبو داود في سننه [1696]، والترمذي [1909] كتاب البر والصلة، باب ما جاء في صلة الرحم، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 344]، والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 27]، وأحمد في مسنده [4/ 80، 83]، وعبد الرزاق في مصنفه [20226]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [7/ 308].

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [5975] كتاب الأدب، [6] باب عقوق الوالدين من الكبائر، ومسلم في صحيحه [12 - (593)] كتاب الأقضية، [5] باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة، والنهي عن منع وهات، وهو الامتناع من أداء حق لزمه أو طلب ما لا يستحقه، والبيهقي في السنن الكبرى [6/ 63]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 325]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [4915].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [5 - (5)] في المقدمة، [3] باب النهي عن الحديث بكل ما سمع، وابن أبي شيبة في مصنفه [8/ 408]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [156]، وقال النووي: فيه الزجر عن التحديث بكل ما سمع الإنسان، فإنه يسمع في العادة الصدق والكذب، فإذا حدث بكل ما سمع فقد كذب لإخباره بما لم يكن، وقد تقدم أن مذهب أهل الحق أن الكذب: الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو، ولا يشترط فيه التعمد، لكن التعمد شرط في كونه إثمًا، واللَّه أعلم. "النووي في شرح مسلم [1/ 71] طبعة دار الكتب العلمية".

(3)

رواه البخاري في صحيحه [5987] كتاب الأدب، [13] باب من وصل وصله اللَّه، ومسلم في صحيحه [16 - (2554)] كتاب البر والصلة والآداب، [16] باب صلة الرحم وتحريم قطيعها.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [5988] كتاب الأدب، [13] باب من وصل وصله اللَّه، ومسلم في صحيحه [17 - (2555)] كتاب البر والصلة والآداب، [6] باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها.

ص: 322

‌مجلس في فضل بر أصدقاء الأب والأم

والأقارب والزوجة وسائر من يندب إكرامه.

روينا في صحيح مسلم من حديث ابن عمر مرفوعًا: "أبر البر أن يصل الرجل ودَّ أبيه"

(1)

، وفي رواية له: أن ابن عمر أعطى أعرابيًا دابة وعمامة لأنه كان ودَّ أبيه.

(2)

قلت: وهذا التعبير أعني أنه أبر البر، أعلا المراتب، ولقد كان ابن عمر شديد الاتباع، فبرَّ هذا الأعرابي صديق والده بما قدر عليه.

(3)

وروينا في سنن أبي داود من حديث أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي قال: بينما نحن جلوس عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول اللَّه هل بقي من بر أبويّ شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: "نعم؛ الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما"

(4)

.

وروينا في الصحيحين من حديث عائشة قالت: "ما غِرْتُ على أحد من نساء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، وما رأيتها قط، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة، ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا إلا خديجة؟ فيقول: "إنها كانت وكانت، وكان لي

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [12 - (2552)] كتاب البر والصلة والآداب، [4] باب فضل صلة أصدقاء الأب والأم ونحوهما.

(2)

أخرجه بقصة الأعرابي مسلم في صحيحه [11 - (2552)] كتاب البر والصلة والآداب، [4] باب فضل صلة أصدقاء الأب والأم ونحوهما.

(3)

الود هنا مضموم الواو، وفي هذا فضل صلة أصدقاء الأب والإحسان إليهم وإكرامهم، وهو متضمن لبر الأب وإكرامه لكونه يسببه وتلتحق به أصدقاء الأم والأجداد والمشايخ والزوج، وقد سبق أحاديث إكرامه صلى الله عليه وسلم خلائل خديجة. "انظر النووي في شرح مسلم [16/ 89] طبعة دار الكتب العلمية".

(4)

أخرجه أبو داود في سننه [5142] كتاب الأدب، باب في بر الوالدين، وابن ماجه في سننه [3664] كتاب الأدب، [2] باب صل من كان أبوك يصل، والحاكم في المستدرك [4/ 155]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 323]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [4936].

ص: 323

منها ولد"

(1)

، وفي رواية:"إن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها منها ما يسعهنَّ"

(2)

، وفي رواية:"كان إذا ذبح الشاة يقول: "أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة"

(3)

، وفي رواية قالت:"استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فعرف استئذان خديجة فارتاح لذلك فقال: "اللهم هالة بنت خويلد"

(4)

.

قولها: فارتاح هو بالحاء المهملة، وفي جمع الحميدي فارتاع بالعين ومعناه: اهتم به.

وروينا في الصحيحين من حديث أنس بن مالك قال: "خرجت مع جرير بن عبد اللَّه البجلي في سفر فكان يخدمني، فقلت له: لا تفعل، فقال: إني قد رأيت الأنصار تصنع برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شيئًا، آليت أن لا أصحب أحدًا منهم إلا خدمته"

(5)

.

وحاصل هذه الأحاديث بيان مرتبة بر أصدقاء الأب، وأنه من حقوقه وبيان أنواع منه، ومحله وبيان أنه شأن الأكابر وأهل الوفاء، والترغيب فيه قولًا وفعلًا.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [3818] كتاب مناقب الأنصار، [20] باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وفضلها، ومسلم في صحيحه [75 - (2435)] كتاب فضائل الصحابة، [12] باب فضائل خديجة أم المؤمنين -رضي اللَّه تعالى عنها- والترمذي في سننه [2017] كتاب البر والصلة، باب ما جاء في حسن العهد.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [3816] كتاب مناقب الأنصار، [20] باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وفضلها، ومسلم في صحيحه [74 - (2435)] كتاب فضائل الصحابة، [12] باب فضائل خديجة أم المؤمنين.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [75 - (2435)] كتاب فضائل الصحابة، [12] باب فضائل خديجة أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [3821] كتاب مناقب الأنصار، [20] باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وفضلها، ومسلم في صحيحه [78 - (2437)] كتاب فضائل الصحابة، [12] باب فضائل خديجة أم المؤمنين -رضي اللَّه تعالى عنها- والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 307]، وأحمد في مسنده [1/ 174، 4/ 150]، والطبراني في المعجم الكبير [6/ 47]، والهيثمي في مجمع الزوائد [4/ 164].

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [181 - (2513)] كتاب فضائل الصحابة، [45] باب في حسن صحبة الأنصار.

ص: 324

‌مجلس في إكرام بيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وبيان فضلهم

قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)}

(1)

.

وقال: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]

(2)

وروينا في صحيح مسلم

(3)

من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنهما قال: "قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فينا يومًا خطيبًا بماء يُدعى خُمًّا بين مكة والمدينة

(4)

فحمد اللَّه وأثنى عليه ووعظ وذَكَّر، ثم قال:"أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسولُ ربي فأُجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب اللَّه فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب اللَّه واستمسكوا به" فحث على كتاب اللَّه ورغب فيه، ثم قال:"وأهل بيتي، أذكركم اللَّه في أهل بيتي، أذكركم اللَّه في أهل بيتي، أذكركم اللَّه في أهل بيتي" فقال له الحصين: ومَنْ أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حُرِمَ الصدقة

(5)

بعده، قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي،

(1)

سورة الأحزاب [33].

(2)

سورة الحج [32].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [36 - (2408)] كتاب فضائل الصحابة، [18] باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وأحمد في مسنده [4/ 367]، والبيهقي في السنن الكبرى [2/ 148، 7/ 30]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [6131].

(4)

قوله: "ماء يدعى خمًّا بين مكة والمدينة" هو بضم الخاء المعجمة وتشديد الميم، وهو اسم لغيضة على ثلاثة أميال من الحسنة عندها غدير مشهور يضاف إلى الغيضة، فيقال غدير خم، وقوله صلى الله عليه وسلم:"وأنا تارك فيكم ثقلين" فذكر كتاب اللَّه وأهل بيته، قال العلماء: سُميا ثقلين لعظمهما وكبير شأنهما، وقيل لثقل الحمل بهما. "النووي في شرح مسلم [15/ 146] طبعة دار الكتب العلمية".

(5)

قوله: "ولكن أهل بيته من حرم الصدقة" هو بضم الحاء وتخفيف الراء، والمراد بالصدقة الزكاة، وهي حرام عندنا على بني هاشم وبني المطلب، وقال مالك: بنو هاشم فقط، وقيل بنو قصي، وقيل قريش كلها. قوله في الرواية الأخرى: فقلنا من أهل بيته نساؤه، قال: لا، هذا دليل لإبطال قول من قال: هم قريش كلها، فقد كان في نسائه قرشيات، وأما قوله في الرواية الأخرى: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حُرم الصدقة، قال: وفي الرواية الأخرى، فقلنا من أهل بيته نساؤه، قال: لا، فهاتان الروايتان ظاهرهما التناقض، والمعروف في معظم =

ص: 325

وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس، قال: كل هؤلاء حُرِمَ الصدقة؟ قال: نعم.

وفي رواية له: "ألا وإني تارك فيكم ثقلين أحدهما كتاب اللَّه، وهو حبل اللَّه

(1)

من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة"

(2)

.

وروينا في صحيح البخاري من حديث ابن عمر عن أبي بكر الصديق موقوفًا عليه أنه قال: "اُرقبوا محمدًا صلى الله عليه وسلم في أهل بيته".

(3)

ومعنى ارقبوا: راعوه واحترموه وأكرموه.

= الروايات في غير مسلم أنه قال نساؤه لسن من أهل بيته، تتاول الرواية الأولى على أن المراد أنهن من أهل بيته الذين يساكنونه ويعولهم وأمر باحترامهم وإكرامهم، وسماهم ثقلًا ووعظ في حقوقهم، وذكر فنساؤه داخلات في هذا كله، ولا يدخلن فيمن حرم الصدقة، وقد أشار إلى هذا في الرواية الأولى بقوله نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة فاتفقت الروايتان. "النووي في شرح مسلم [15/ 146] طبعة دار الكتب العلمية".

(1)

قال النووي: المراد بحبل اللَّه عهده، وقيل: السبب الموصل إلى رضاه ورحمته، وقيل: هو نوره الذي يهدي به.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [37 - (2408)] كتاب فضائل الصحابة، [4] باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [3713] كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، 11 باب مناقب قرابة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ورقم [3751] كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، [23] باب مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما.

ص: 326

‌مجلس في فضل الزهد في الدنيا والحث على التقلل منها وفضل الفقر

وهو فيما قال الجنيد:

(1)

استصغار الدنيا ومحو آثارها من القلب.

وقال أبو سليمان الداراني: ترك ما هو أشغل عن اللَّه.

وقال الشبلي: هو غروب النفس عما سوى اللَّه، وثمرته أن لا تفرح بموجود من ذلك، ولا تأسي على مفقود منه.

قال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} [يونس: 24] إلى قوله: {يَتَفَكَّرُونَ}

(2)

.

فأخبر اللَّه أن سرعة الدنيا وإقبالها وسرعة زوالها كالزرع، ثم {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)}

(3)

.

وقال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ}

(4)

إلى قوله: {وَخَيْرٌ أَمَلًا}

(5)

.

(1)

ومن أقواله: أعلى درجة الكبر أن ترى نفسك وأدناها أن تخطر ببالك يعني نفسك، وقال الجريري: سمعته يقول: ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، لكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات، وذكر أبو جعفر الفرغاني أنه سمع الجنيد يقول: أقل ما في الكلام سقوط هيبة الرب جل جلاله من القلب، والقلب إذا عري من الهيبة عري من الإيمان. "تاريخ الإسلام للذهبي، وفيإت [301 - 320] ".

(2)

سورة يونس [24].

ضرب تبارك وتعالى مثلًا لزهرة الحياة الدنيا وزينتها وسرعة انقضائها وزوالها بالنبات الذي أخرجه اللَّه من الأرض بماء أنزل من السماء مما يأكل الناس من زروع وثمار على اختلاف أنواعها وأصنافها وما تأكل الأنعام من أب وقضب وغير ذلك {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا} [يونس: 24] أي زينتها الفانية {وَازَّيَّنَتْ} [يونس: 24] أي حسنت {وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} [يونس: 24] أي جذاذها وحصادها، فبينما هم كذلك إذ جاءتها صاعقة أو ريح شديدة باردة فأيبست أوراقها، وأتلفت ثمارها، ولهذا قال تعالى:{أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا} [يونس: 24]. "تفسير ابن كثير [2/ 422] ".

(3)

سورة الحاقة [8].

(4)

سورة الكهف [45].

(5)

سورة الكهف [46].

ص: 327

وقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ} [الحديد: 20] إلى قوله: {الْغُرُورِ}

(1)

.

فالدنيا ليست إلا من محقرات الأمور، فأي جدوى لها.

وقوله: كفيت، كناية عن سرعة زوالها، وفي الآخرة الأمور العظام الذي يعتنى بمثلها أُولوا النهى.

وقال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} [آل عمران: 14]

(2)

إلى قوله: {الْمَآبِ} ، ففيها بيان الوسائل الموصلة إلى ذلك من نساء وحرث وغير ذلك.

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)}

(3)

، وفيها النهي عن الافترار والانخداع إما بالدنيا حتى يذهب التمتع بها، والتلذذ بمتاعها عن العمل للآخرة، وطلب ما عند اللَّه.

وإما ما يوسوس به الغَرور من أنه لا يغتر من يموت، ولئن بعثت {إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى}

(4)

، وأشباه ذلك ما قعد عن سبيل اللَّه، والتزود للقيامة.

وقال تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)}

(5)

الآية، فعاقبة الإلهاء ومنشؤه الجهل المحض.

(1)

سورة الحديد [20].

(2)

سورة آل عمران [14]. يخبر تعالى عما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من أنواع الملاذِّ من النساء والبنين، فبدأ بالنساء لأن الفتنة بهن أشد كما ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال:"ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" فأما إذا كان القصد بهن الإعفاف وكثرة الأولاد فهذا مطلوب مرغرب. "تفسير ابن كثير [1/ 351] ".

(3)

سورة فاطر [5].

قوله تعالى {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [فاطر: 5] أي المعاد كائن لا محالة {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أي العيشة الدنينة بالنسبة إلى ما أعد اللَّه لأوليائه وأتباع رسله من الخير العظيم فلا تلهوا عن ذلك الباقي بهذه الزهرة الفانية {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33] وهو الشيطان، قاله ابن عباس، أي لا يفتنكم الشيطان ويصرفنكم عن اتباع رسل اللَّه وتصديق كلماته؛ فإنه غرار كذاب أفاك.

"تفسير ابن كثير [3/ 565] ".

(4)

سورة فصلت [50].

(5)

سورة التكاثر [11].

يقول تعالى: أشغلكم حب الدنيا ونعيمها وزهرتها عن طلب الآخرة وابتغائها، وتمادى بكم ذلك حتى جاءكم الموت وزرتم المقابر وصرتم من أهلها، وقال الحسن البصري: ألهاكم التكاثر في الأموال والأولاد. "تفسير ابن كثير [4/ 544] ".

ص: 328

وقال تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ}

(1)

الآية، وفيها ازدراء الدنيا وتصغير أمرها كما يفهمه قوله: هذه، وكيف لا وهي لا تزن عند اللَّه جناح بعوضة

(2)

.

والمعنى وما هي لسرعة زوالها عن أهلها وموتهم عنها غير منتفعين بها بطائل إلا كما يلعب الصبيان ساعة ثم يتفرقون، وأن الآخرة ليس فيها إلا حياة مستمرة

(3)

دائمة خالدة لا موت فيها، فكأنها في ذاتها حياة.

والحيوان مصدر حي، وأصله حييان، وفي بناء حيوان زيادة معنى ليس في بناء الحياة، وهي ما في فعلان من معنى الحركة والاضطراب.

والحياة حركة كما أن الموت سكون، فمجيئه على بناء دال على معنى الحركة مبالغة في معناه.

وحاصل هذه الآيات البدأة بذكر ما فيه الزائل الفاسد، ثم بما فيه الباقيات الصالحات

(4)

، ثم بما يوضح مقاصد الزائل ووسائله الحقيرة، ثم ما ينهي عن الاغترار به، ثم بيان وبال عاقبة ذلك وهو الاغترار.

والآيات في الباب كثيرة مشهورة، ولنختم بالأحاديث، ومدارها على التحذير من الدنيا، وذكر سبب الانحدار بها، وما يسلي عنها وما ينفر عنها، وتحقير أمرها

(1)

سورة العنكبوت [64].

(2)

روى الترمذي [2320] في الزهد، باب ما جاء في هوان الدنيا على اللَّه عز وجل عن سهل بن سعد قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لو كانت الدنيا تعدل عند اللَّه جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها ضربة ماء".

(3)

روى مسلم في صحيحه [40 - (2849)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، [13] باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، عن أبي سعيد قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت، ويقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت" قال: "فيؤمر به فيذبح" قال: "ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت" قال: ثم قرأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: " {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)} [مريم: 39] " وأشار بيده إلى الدنيا.

(4)

قال ابن عباس وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف: الباقيات الصالحات: الصلوات الخمس، وقال عطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير عن ابن عباس: الباقيات الصالحات: سبحان اللَّه والحمد للَّه ولا إله إلا اللَّه واللَّه أكبر، وهكذا سئل أمير المؤمنين عثمان بن عفان عن الباقيات الصالحات ما هي؟ فقال: لا إله إلا اللَّه وسبحان اللَّه والحمد للَّه واللَّه أكبر ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم. "تفسير ابن كثير [3/ 88] ".

ص: 329

وتسهيل الغروب عنها، وكيف ينبغي أن يكون الإنسان فيها وخاصة الزهد.

ومن أهله وما حالهم ومرتبة الدنيا عند اللَّه، وما لولاه لم يخلق وما يسقط الاعتبار منها، وأن الكافي منها قليل، والزائد مذموم مناف لمحبة الشارع، وذم الحرص وطول الأمل، ودلائل منازل الزهد، وذكر فوائده وموجباته ومجاريه.

وجماع ذلك أربعة وثلاثون حديثًا، وإن كانت أكثر من أن تحصى، وهذا الطرف ينبه على ما سواه.

الحديث الأول: حديث عمرو بن عوف الثابت في الصحيحين

(1)

: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، فقدم بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فَوَافَوْا صلاة الفجر مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلما صلى انصرف، فتعرضوا له، فتبسم حين رآهم ثم قال: "أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين؟ " فقالوا: أجل يا رسول اللَّه، قال: "فأبشروا وأملوا ما يسركم، فواللَّه ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم"

(2)

وفيه أن شان الدنيا الإغراء بالتنافس والاتباع في الهلاك الديني والدنيوي بدليل من سلف".

الثاني: من حديث أبي سعيد الخدري الثابت في الصحيحين

(3)

أيضًا قال: جلس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على المنبر وجلسنا حوله فقال: "إن مما أخاف عليكم بعدي ما يُفتَحُ عليكم من زهرة الدنيا وزينتها".

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [4015] كتاب المغازي، باب [12] من شهود الملائكة بدرًا، ورقم [6425] كتاب الرقاق، [7] باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، ورقم [3158] كتاب الجزية والموادعة، [1] باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب، ومسلم في صحيحه [6 - (2961)] كتاب الزهد والرقائق، في فاتحته، والترمذي في سننه [2462] كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب [28]، وابن ماجه في سننه [3997] كتاب الفتن، باب فتنة المال، وأحمد في مسنده [4/ 137]، والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 80]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [4/ 80]، والطبراني في المعجم الكبير [17/ 26]، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين [8/ 87].

(2)

تقدم تخريجه في أوله.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [6427] كتاب الرقاق، [7] باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، ومسلم في صحيحه [123 - (1052)] كتاب الزكاة [41] باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا، وأحمد في مسنده [3/ 21]، والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 183]، والزبيدي في الإتحاف [8/ 53].

ص: 330

وفيه إرشاد إلى أن الدنيا جميع سرور العالم، إذ لا محذور ولا مخوف سواها.

الحديث الثالث: حديثه أيضًا الثابت في صحيح مسلم: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الدنيا حلوة خضرة

(1)

، وإن اللَّه مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء".

(2)

وفيه تصريح بمقتضى ما قررناه، وفيه وما قبله أبلغ تحذير، وفيه بيان ما ينخدع به أبناء الدنيا، وأن استخلافهم فيها كرامة فيما ظنوه وليس ابتلاء.

الحديث الرابع: حديث أنس الثابت في الصحيحين مرفوعًا: "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة"

(3)

.

وفيه ما يسلي عن الدنيا، ورغد عيشها؛ فإنه ليس بعيش حقيقي، والحقيقي هو الأخروي، وهذه اللفظة قالها صلى الله عليه وسلم في أشد حاليه وأشرها تزهيدًا وتصبيرًا.

الخامس: حديثه أيضًا في الصحيحين مرفوعًا: "يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى معه واحد؛ يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله ويبقى عمله"

(4)

أخرجاه.

(1)

قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الدنيا خضرة حلوة. . . . " إلى آخره، قال النووي: معناه تجنبوا الافتنان بها وبالنساء، وتدخل في النساء الزوجات وغيرهن، وأكثرهن فتنة الزوجات ودوام فتنتهن وابتلاء أكثر الناس بهن، ومعنى الدنيا خضرة حلوة يحتمل أن المراد به شيئان: أحدهما: حسنها للنفوس ونضارتها ولذتها كالفاكهة الخضراء الحلوة، فإن النفوس تطلبها طلبًا حثيثًا، فكذا الدنيا، والثاني: سرعة فنائها كالشيء الأخضر في هذين الوصفين، ومعنى مستخلفكم فيها: جاعلكم خلفاء من القرون الذين قبلكم، فبنظر هل تعملون بطاعته أم بمعصيته وشهواتكم. "النووي في شرح مسلم [17/ 46] طبعة دار الكتب العلمية".

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [99 - (2742)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [26] باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء، وبيان الفتنة بالنساء، والترمذي [2191] كتاب الفتن، باب ما جاء ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بما هو كائن إلى يوم القيامة، وابن ماجه في سننه [4000] كتاب الفتن، باب فتنة النساء، وأحمد في مسنده [6/ 364]، والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 69]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [7/ 311]، والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 184].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [6413] كتاب الرقاق، [1] باب الصحة والفراغ ولا عيش إلا عيش الآخرة، ومسلم في صحيحه [126 - (1804)] كتاب الجهاد والسير، [44] باب غزوة الأحزاب وهي الخندق، والترمذي في سننه [3856]، [3857] كتاب المناقب، باب في مناقب أبي موسى الأشعري، وأحمد في مسنده [3/ 172، 276]، والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 48، 9/ 39]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [2/ 301]، وعبد الرزاق في مصنفه [19972]، والطبراني في المعجم الكبير [6/ 230]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [4793].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [6514] كتاب الرقاق، [42] باب سكرات الموت، ومسلم في =

ص: 331

وهذا أول المنفرات، وهو أن الدنيا مودِّع مفارق لا صديق ملازم.

أحلام نوم أو كظل زائل

إن اللبيب بمثلها لا ينخدع

كيف السرور بإقبال وآخره

إذا ما تأمله مقلوب إقبال

السادس: حديثه مرفوعًا: "يؤتى بانعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيرًا قط؟ هل مرَّ بك نعيم قط؟ فيقول: لا واللَّه يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة

(1)

فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مرَّ بك شدة قط؟ فيقول: لا واللَّه يا رب ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط". أخرجه مسلم

(2)

.

وهو ثاني التنفيرات، أي أنها توقع في النار، وحينئذ فكأنها لم تكن {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)}

(3)

.

السابع: حديث المستورد بن شداد رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بم ترجع"

(4)

أخرجه مسلم.

= صحيحه [5 - (2960)] كتاب الزهد والرقائق، في مقدمته، والترمذي في سننه [2379] كتاب الزهد، باب ما جاء مثل ابن آدم وأهله وولده وماله وعمله، وأحمد في مسنده [3/ 110]، والنسائي [4/ 53 - المجتبى]، والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 171]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [10/ 4]، والزبيدي في الإتحاف [6/ 300، 8/ 146]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [5167].

(1)

قوله: "فيصبغ صبغة في الجنة" الصبغة بفتح الصاد أي يُغْمَسُ غمسة، والبؤس بالهمزة هو الشدة، واللَّه أعلم.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [55 - (2807)] كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، [12] باب صبغ أنعم أهل الدنيا في النار، وصبغ أشدهم بؤسًا في الجنة، وأحمد في مسنده [3/ 203]، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة [1167].

(3)

سورة الشعراء [205 - 207].

أي لو أخذناهم وأنظرناهم وأمليناهم برهة من الدهر وحينًا من الزمان وإن طال، ثم جاءهم أمر اللَّه أيَّ شيء يجدي عنهم ما كانوا فيه من النعيم. "تفسير ابن كثير [3/ 360] ".

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [55 - (2858)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، [18] باب فناء الدنيا، وبيان الحشر يوم القيامة، والترمذي في سننه [2323] كتاب الزهد، باب منه - ما جاء في هوان الدنيا على اللَّه عز وجل والحاكم في المستدرك [4/ 319]، وأحمد في مسنده [4/ 229]، والسيوطي في الدر المنثور [3/ 327، 339]، والشجري في أماليه [2/ 160]، والمنذري في =

ص: 332

وهو ثالث المنفرات، وهو أنها تُفوِّت الآخرة ونسبتها في القلة إليها كبلة إصبع بالنسبة إلى اليم، ليت شعري هل يفهم لها نسبة أو هل يعبر عن قلة وحقارة بأبلغ من ذلك، أو هل يصرف النفس عنها بأحسن من ذلك.

الثامن: حديث جابر رضي الله عنهما: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مر بالسوق داخلًا من بعض العالية والناس كنفته، فمر بجدي أسك ميت، فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال: "أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ " فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟! قال: "أتحبون أنه لكم؟ " قالوا: واللَّه لو كان حيًا كان عيبًا فيه، لأنه أسكُّ، فكيف وهو ميت؟ فقال: "فواللَّه للدنيا أهون على اللَّه من هذا عليكم""

(1)

أخرجه مسلم.

قوله: كنفته: أي عن جانبيه، والأسك الصغير الأذن.

وفي هذا البيان المنفر الرابع، وهو أنها أهون عند اللَّه من هوان جدي أسك ميت على من يُعرض عليه بدرهم أو بلا شيء.

التاسع: حديث أبي ذر رضي الله عنهما قال: كنت أمشي مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حرَّة المدينة فاستقبلنا أُحد، فقال: "يا أبا ذر

(2)

" قلت: لبيك يا رسول اللَّه، قال: "ما

= الترغيب والترهيب [4/ 174].

قال النووي: اليم البحر، وقوله بم ترجع ضبطوه بم ترجع بالمثناة فوق والمثناة تحت، والأول أشهر، ومن رواه بالمثناة تحت أعاد الضمير إلى أحدكم، والمثناة فوق أعاده على الأصبع، وهو الأظهر، ومعناه لا يعلق بها كثير شيء من الماء، ومعنى الحديث ما الدنيا بالنسبة إلى الآخرة في قصر مدتها وفناء لذتها، ودوام الآخرة ودوام لذتها ونعيمها إلا كنسبة الماء الذي يعلق بالأصبع إلى باقي البحر. "النووي في شرح مسلم [17/ 159] طبعة دار الكتب العلمية".

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [2 - (2957)] كتاب الزهد والرقائق، في مقدمته، والبيهقي في السنن الكبرى [1/ 139]، والبخاري في الأدب المفرد [962].

(2)

قول صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر" فيه مناداة العالم والكبير صاحبه بكنيته إذا كان جليلًا، وقوله:"من مات من أمتك لا يشرك باللَّه شيئًا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟!! قال: وإن زنى وإن سرق" فيه دلالة لمذهب أهل الحق أنه لا يخلد أصحاب الكبائر في النار، خلافًا للمعتزلة والخوارج، وقال النووي في موضع آخر: مذهب أهل السنة وما عليه أهل الحق من السلف والخلف أن من مات موحدًا دخل الجنة قطعًا على كل حال، فإن كان سالمًا من المعاصي كالصغير والمجنون والذي اتصل جنونه بالبلوغ، والتائب توبة صحيحة من الشرك أو غيره من المعاصي إذا لم يحدث معصية بعد توبته، والموفق الذي لم يبتل بمعصية أصلًا، فكل هذا الصنف يدخلون الجنة ولا يدخلون النار، وأما من كانت له معصية كبيرة ومات من غير توبة فهو في مشيئة اللَّه -تعالى- إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة وإن شاء عذبه القدر الذي يريده سبحانه وتعالى ثم يدخله الجنة، فلا يخلد في النار أحد مات على التوحيد. "النووي في شرح مسلم [1/ 192، 7/ 65]، طبعة دار الكتب العلمية".

ص: 333

يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبًا تمضي عليَّ ثالثة وعندي منه دينارًا إلا شيئًا أرصده لِدَيْنٍ إلا أن أقول به في عباد اللَّه هكذا وهكذا وهكذا" عن يمينه وعن شماله ومن خلفه، ثم مشى فقال: "إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال: هكذا وهكذا وهكذا -عن يمينه وعن شماله ومن خلفه- وقليل ما هم" ثم قال لي: "مكانك لا تبرح حتى آتيك" ثم انطلق في سواد الليل حتى توارى، فسمعت صوتًا قد ارتفع، فتخوفت أن يكون قد عرض للنبي صلى الله عليه وسلم فأردت أن آتيه، فذكرت قوله لي: "لا تبرح حتى آتيك" فلم أبرح حتى أتاني، قلت: يا رسول اللَّه لقد سمعت صوتًا تخوفت فذكرت له، فقال: "وهل سمعته؟ " قلت: نعم، قال: "ذلك جبريل أتاني فقال: من مات من أمتك لا يشرك باللَّه شيئًا دخل الجنة" قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: "وإن زنى وإن سرق"

(1)

أخرجاه والسياق للبخاري.

وهو بيان للمنفر الخامس، وهو أكمل العقلاء عقلًا، ما يسره أن يكون عنده مثل أحد ذهبًا إلى آخر الحديث، ليس ذلك إلا لعلمه بحقائق الأشياء وما فيه منها خير وما لا، ويوضحه قوله:"إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة"

(2)

وفي الرواية الأخرى: "ليسرني أن لا يمر على ثلاث ليال وعندي منه شيء"

(3)

.

وفرق بين قولك: ما يسرني أن يبقى، ويسرني أن لا يبقى.

العاشر: حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لو كان لي مثل أحد ذهبًا لسرَّني أن لا تمر على ثلاث ليال وعندي منه شيء إلا شيئًا أرصده لدين"

(4)

أخرجاه.

الحادي عشر: حديثه أيضًا مرفوعًا: "انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [6444] كتاب الرقاق، [14] باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"ما أحب أن لي مثل أحد ذهبًا"، ومسلم في صحيحه [32 - (991)] كتاب الزكاة، [9] باب الترغيب في الصدقة، وأحمد في مسنده [2/ 399]، والبيهقي في السنن الكبرى [10/ 189]، والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 186]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [5/ 65، 7/ 234]، والزبيدي في الإتحاف [4/ 11، 8/ 145]، والسيوطي في الدر المنثور [2/ 170، 6/ 146].

(2)

انظر ما تقدم.

(3)

هذه الرواية أخرجها البخاري في صحيحه [6445] كتاب الرقاق، [14] باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"ما أحب أن لي مثل أحد ذهبًا"، ومسلم في صحيحه [31 - (991)] كتاب الزكاة، [8] باب تغليظ عقوبة من لا يؤدي الزكاة، والبيهقي في السنن الكبرى [5/ 354]، وابن حجر في تغليق التعليق [827]، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة [1139].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [6445] كتاب الرقاق، [14] باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"ما أحب أن لي مثل أحد ذهبًا"، وقد تقدم تخريجه قبل هذا، وهو في مسلم بلفظ:"تأتي عليَّ ثالثة وعندي منه دينار إلا دينار أرصده لدَيْن عليَّ".

ص: 334

إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة اللَّه"

(1)

أخرجاه والسياق لمسلم، وفي البخاري:"إذا نظر أحدكم إلى من فُضِّل عليه في المال والخَلْق، فلينظر إلى من هو أسفل منه".

(2)

وهذا أول مسهل للزهد على أهله، وهو المنازلة لا العلو.

الثاني عشر: حديثه أيضًا مرفوعًا: "تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة؛ إن أعطي رضي وإن لم يُعط لم يرض"

(3)

أخرجه البخاري.

وهو ثاني مسهل له، وهو دعاء بذلك والإخبار به لمن عبد غير خالقه.

الثالث عشر: عنه أيضًا قال: "لقد رأيت سبعين من أهل الصُّفَّة ما منهم من رجل عليه رداء، إما إزار وإما كساء قد ربطوه في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن تُرى عورته"

(4)

أخرجه البخاري.

وهو ثالث مسهل، وهو حكاية حال الزاهدين وكثرتهم، وفي من ليس مثلهم أُسوة فكيف بهم، وإشارة شديدة لخُلُق المحاكاة.

الرابع عشر: عنه مرفوعًا: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر"

(5)

أخرجه مسلم.

وهو رابع مسهل، فما أفرح المؤمن بضيق دنياه، وما أحزنه باتساعها (لا لكاد)

(6)

ذلك.

(1)

انظر تخريج ما يليه.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [6490] كتاب الرقائق، [30] باب لينظر إلى من هو أسفل منه ولا ينظر إلى من هو فوقه، ومسلم في صحيحه [9 - (2963)] كتاب الزهد والرقائق، في مقدمته، والترمذي في سننه [2513] كتاب صفة القيامة، والرقائق والورع، وابن ماجه في سننه [4142]، وأحمد في مسنده [2/ 482، 254]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [5/ 60].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [6435] كتاب الرقاق، [10] باب ما يتقى من فتنة المال، وابن ماجه في سننه [4135، 4136]، والبيهقي في السنن الكبرى [9/ 159، 10/ 245]، والمنذري في الترغيب والترهيب [2/ 247].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [442] كتاب الصلاة، [58] باب نوم الرجل في المسجد.

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [1 - (2956)] كتاب الزهد والرقائق، في مقدمته، والترمذي في سننه [2324] كتاب الزهد، باب ما جاء أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، وابن ماجه [4113] في الزهد، باب مثل الدنيا، وأحمد في مسنده [2/ 197]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 137]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [8/ 177]، وابن حبان في صحيحه [2488 - الموارد].

(6)

كذا بالأصل.

ص: 335

الخامس عشر: حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: "أخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"".

وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك"

(1)

أخرجه البخاري.

أي لا تركن إليها ولا تتخذها وطنًا، ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها، ولا بالاعتناء بها، ولا تتعلق منها بما لا يتعلق به الغريب في غير وطنه، ولا تشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله.

وهذا بيان حال العاقل في دنياه، ولا أجمع من قوله:"كن" إلى آخره، فإن الغريب والمسافر لا يركن إلى غير مستقره، ولا يُعْنَى به، ولا يتخذه وطنًا، ولا يعلق قلبه بشيء منه كما أوضحناه.

السادس عشر: حديث سهل بن ساعد الساعدي قال: جاء رجل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه، دُلَّني على عمل إذا أنا عملته أحبني اللَّه وأحبني الناس، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ازهد في الدنيا يحبك اللَّه، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس"".

(2)

حديث حسن رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة.

وفيه ذكر خاصية الزهد ولازمه، وهو محبة اللَّه للزاهد، ومحبة الناس له، وكفى بذلك ترغيبًا فيه ومدحًا له.

السابع عشر: حديث النعمان رضي الله عنهما قال "ذكرت لعمر بن الخطاب ما أصاب الناس من الدنيا فقال: لقد رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يلتوي ما يجد دَقَلًا يملأ

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [6416] كتاب الرقاق، [3] باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"، والترمذي في سننه [2333] كتاب الزهد، باب ما جاء في قصر الأمل، وابن ماجه [4114] كتاب الزهد، باب مثل الدنيا، والطبراني في المعجم الكبير [12/ 399]، والطبراني في الصغير [1/ 30]، والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 242]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [5274]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [1/ 313].

(2)

أخرجه ابن ماجه في سننه [4102] كتاب الزهد، [1] باب الزهد في الدنيا، وقال في الزوائد: في إسناده خالد بن عمرو، وهو ضعيف متفق على ضعفه، واتهم بالوضع، وأورد له العقيلي هذا الحديث وقال: ليس له أصل من حديث الثوري، لكن قال النووي عقب هذا الحديث: رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة، وأخرجه الحاكم في المستدرك [4/ 313]، والطبراني في المعجم الكبير [6/ 237]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [5187]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [7/ 136]، والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 156]، والزبيدي في الإتحاف [8/ 309]، والسيوطي في الدر المنثور [3/ 238].

ص: 336

به بطنه"

(1)

أخرجه مسلم.

والدقل بفتح الدال والقاف رديء التمر.

وفيه بيان أهله وحالهم، وأن من الزهاد سيد البرية، بل هو أجَلَّهم، وأنه وصل من زهده إلى هذه الحالة لاسيما في أرض التمر الكثير، فطوبى لمن به تأسى واقتدى واتبع واهتدى.

الثامن عشر: حديث عائشة قالت: "توفي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وما في بيتي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي، فأكلت منه حتى طال عليَّ، فكلته ففني"

(2)

أخرجاه.

وشطر الشعير أي شيء منه، كذا فسره الترمذي.

وهذا دال على استمرار هذه ودوامه حتى الممات بعد أن فتحت البلاد، ودانت العباد.

التاسع عشر: حديث عمرو بن الحارث أخي جويرية بنت الحارث أم المؤمنين قال: "ما ترك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عند موته درهما ولا دينارًا ولا عبدًا ولا أمة، إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه، وأرضًا جعلها لابن السبيل صدقة"

(3)

أخرجه البخاري.

وهو وما قبله دالان على أن اقتناء ما لا بد منه ونحو الأقوات والربط والزواج ونحوه لا ينافي الزهد.

العشرون: حديث خباب بن الأرت قال: "هاجرنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نبتغي وجه

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [36 - (2978)] كتاب الزهد والرقائق، في مقدمته. والدقل: هو بفتح الدال والقاف، وهو تمر رديء، "كذا قاله النووي في شرح مسلم [18/ 85] طبعة دار الكتب العلمية".

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [6451] كتاب الرقائق، [16] باب فضل الفقر، ومسلم في صحيحه [27 - (2973)] كتاب الزهد والرقائق، في مقدمته. قوله:"شطر شعير في رف" الرف بفتح الراء معروف، والشطر هنا معناه شيء من شعير، كذا فسره الترمذي، وقال القاضي: قال ابن أبي حازم: معناه نصف وسق، قال القاضي: وفي رواية هذا الحديث أن البرك أكثر ما تكون في المجهولات والمبهمات، وأما الحديث الآخر "كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه" فقالوا: المراد أن يكيله منه لأجل إخراج النفقة منه بشرط أن يبقى الباقي مجهولا، ويكيل ما يخرجه لئلا يخرج أكثر من الحاجة أو أقل. "شرح مسلم للنووي [18/ 84] طبعة دار الكتب العلمية".

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [4461] كتاب المغازي، [85] باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، وأبو داود في سننه [2863]، وابن ماجه في سننه [2695]، وابن أبي شيبة في مصنفه [11/ 207]، وابن عبد البر في التمهيد [5/ 21]، والدارقطني في سننه [4/ 185].

ص: 337

اللَّه، فوقع أجرنا على اللَّه -تعالى- فمنا من مضى لم يأخذ من أجره شيئًا منهم مصعب بن عمير؛ قتل يوم أحد وترك نمرة، فإذا غطينا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجله بدا رأسه، فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه، ونجعل على رجليه من الإذخر، ومنا من أينعت ثمرته فهو يهدُبُها"

(1)

أخرجاه.

والنمرة: كساء ملون من صوف، وأيعت: نضجت وأدركت، ويهدبها: بفتح الياء وضم الدال وكسرها لغتان: يقطعها ويجتنيها، وهذه استعارة لما فتح عليهم من الدنيا وتمكنوا فيها.

وفيه أن من أهل الزهد اتباعه من السادة المهاجرين قريب مما وصف بهم حالهم، وقوله:"ومنا من أينعت له ثمرته" كالمتحزِّن من خوف تعجيل الأجر ونحو ذلك.

الحديث الحادي بعد العشرين: حديث سهل بن سعد مرفوعًا: "لو كانت الدنيا تعدل عند اللَّه جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء"

(2)

رواه الترمذي وقال: حديث صحيح.

وفيه بيان مرتبة الدنيا عند اللَّه، ولا أبلغ من قوله ذلك، وهل مرتبة أحسن من ذلك.

الحديث الثاني بعد العشرين: حديث أبي هريرة مرفوعًا: "ألا إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر اللَّه وما والاه وعالم أو متعلم"

(3)

رواه الترمذي وحسنه، وقد

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [6448] كتاب الرقاق، [16] باب فضل ليلة القدر، ومسلم في صحيحه [44 - (940)] كتاب الجنائز، [13] باب في كفن الميت. الإذخر: بكسر الهمزة والخاه، وهو حشيش معروف طيب الرائحة، وفيه دليل على أنه إذا ضاق الكفن عن ستر جميع البدن ولم يوجد غيره جعل مما بلي الرأس، وجعل النقص مما يلي الرجلين، ويستر الرأس، فإن ضاق عن ذلك شر العورة فإن فضل شيء جعل فوقها، فإن ضاق عن العورة سترت السوأتان لأنهما أهم، وهما الأصل في العورة، وقد يستدل بهذا الحديث على أن الواجب في الكفن ستر العورة فقط ولا يجب استيعاب البدن عند التمكن. "النووي في شرح مسلم [7/ 7] طبعة دار الكتب العلمية".

(2)

أخرجه الترمذي في سننه [2320] كتاب الزهد، باب ما جاء في هوان الدنيا على اللَّه عز وجل والهيثمي في مجمع الزوائد [10/ 288]، وابن حجر في المطالب العالية [3172]، والخطيب في تاريخ بغداد [4/ 92]، والسيوطي في الدر المنثور [6/ 17]، والقرطبي في تفسيره [6/ 415]، ورواه ابن ماجه في سننه [4110] في الزهد، باب مثل الدنيا، بلفظ "ولو كانت الدنيا تزن عند اللَّه جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها قطرة أبدًا".

(3)

أخرجه الترمذي في سننه [2322] كتاب الزهد، باب منه - ما جاء في هوان الدنيا على اللَّه عز وجل =

ص: 338

يبق في العلم.

وفيه تقرير الحديث الذي قبله، فلعن الدنيا وما فيها ليس مجرد تحقير واستصغار، بل استرذال واستقذار واستفتاح يوجب الطرد والإبعاد، والمشير يشير إلى أن ذلك هو حكمة اتخاذ الدنيا والتنافس في إبقائها ولذلك تخرب إذا رفع العلم والقرآن والخير، فإذا لم يبق ما يقول: اللَّه اللَّه قامت القيامة.

الحديث الثالث بعد العشرين: حديث عبد اللَّه بن مسعود مرفوعًا: "لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا

(1)

رواه الترمذي وحَسَّنه.

وفيه النهي عن أسباب ينشأ عنها الرغبة في الدنيا، منها اتخاذ الضيعة التي هي نوع وطن ويتشعب أسباب عمارتها إلى كل ديني ودنيوي.

الحديث الرابع بعد العشرين: حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: مرَّ علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ونحن نعالج خُصًّا لنا، فقال:"ما هذا؟ " فقلنا: قد وَهَى فنحن نُصْلحُه. قال: "ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك"

(2)

رواه أبو داود والترمذي بإسناد الشيخين، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

الخامس بعد العشرين: حديث كعب بن عياض مرفوعًا: "إنَّ لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال"

(3)

رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح، فالمال فتنة هذه الأمة المحمدية، فأي لبيب يعتني بالفتنة والبلية؟

السادس بعد العشرين: حديث عثمان بن عفان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس

= وابن ماجه في سننه [4112] كتاب الزهد، باب مثل الدنيا، والتبريزي في مشكاة المصابيح [5176].

(1)

أخرجه الترمذي [2328] كتاب الزهد، باب منه - ما جاء في الهم في الدنيا وحبها، وابن حبان في صحيحه [2471 - الموارد]، وابن أبي شيبة في مصنفه [13/ 241]، وأحمد في مسنده [1/ 377].

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (5236) كتاب الأدب، باب ما جاء في البناء، والترمذي في سننه (2335) كتاب الزهد، باب ما جاء في قصر الأمل، والنسائي (2/ 572. المجتبى)، وابن ماجه في الزهد، باب في البناء والخراب، وابن أبي شيبة في مصنفه (13/ 218)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 244)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

(3)

أخرجه الترمذي في صحيحه (2336) كتاب الزهد، باب ما جاء أن فتنة هذه الأمة في المال، والنسائي في الكبرى، كتاب الرقائق، وأحمد في مسنده (4/ 160)، والحاكم في المستدرك (4/ 318)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 178)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5194)، والسيوطي في الدر المنثور (6/ 228)، والعجلوني في كشف الخفا (1/ 277)، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (592).

ص: 339

لابن آدم حق فى سوى هذه الخصال: بيت يسكنه، وثوب يواري عورته، وجلف الخبز والماء"

(1)

رواه الترمذي وصححه.

الجلف: الخبز ليس معه إدام. قاله النضر. أو غليظ الخبز، أو وعاء الجوالق. والخارج عنه

(2)

أقوال، فهذا هو الكافي وما سواه فضول لا ضرورة إليه.

السابع بعد العشرين: حديث عبد اللَّه بن الشخير رضي الله عنهما قال: أتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)} [التكاثر: 1]

(3)

قال: يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت"

(4)

أخرجه مسلم.

فالتكاثر المذموم ليس إلا لملك موهوم، موضحه قولهم: مال الفضول لحادث أو فارث.

والحديث السالف: "أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟. . . الحديث"

(5)

وحديث: "وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت"

(6)

الحديث. وهذا القدر لا يلهي، ولا تكاثر فيه.

الثامن بعد العشرين: حديث عبد اللَّه بن المغفل، قال: جاء رجل لرسول اللَّه

(1)

أخرجه الترمذي في سننه (2341) كتاب الزهد، باب منه. ما جاء في الزهادة في الدنيا، والحاكم في المستدرك (4/ 312)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5186)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 164)، والزبيدي في الإتحاف (9/ 301)، والقرطبي في تفسيره (4/ 26، 7/ 240، 14/ 308).

(2)

غير موجودة بالأصل، ووضعناها ليستقيم الكلام.

(3)

يقول تعالى: أشغلكم حب الديا ونعيمها وزهرتها عن طلب الآخرة وابتغائها؟ وتمادى بكم ذلك حتى جاءكم الموت، وزرتم المقابر وصرتم من أهلها؟ وقال الحسن البصري:{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)} [التكاثر: 1] في الأموال والأولاد. [تفسير ابن كثير (4/ 544)].

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [3 - (2958)] كتاب الزهد والرقائق، في مقدمته، والترمذي في سننه (2342) كتاب الزهد، باب منه. ما جاء في الزهادة في الدنيا، والنسائي في الوصايا، باب الكراهية في تأخير الوصية، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 61)، وأحمد في مسنده (4/ 24، 36)، والحاكم في المستدرك (2/ 534، 4/ 322)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (2/ 211، 6/ 28)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 172).

(5)

هذا الحديث أخرجه البخاري في صحيحه (6442) كتاب الرقاق، [12] باب ما قدم من ماله فهو له، وأحمد في مسنده (1/ 382)، وهو في البخاري بتكملة:"قالوا يا رسول اللَّه ما منا إلا ماله أحب إليه، قال: "فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر".

(6)

انظر ما تقدم قبل هذا.

ص: 340

صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه، واللَّه إني لأحبك. فقال:"انظر ما تقول" قال: واللَّه إني لأحبك. فقال: "انظر ما تقول" قال: واللَّه إني لأحبك، ثلاث مرات. فقال:"إن كنت تحبُّني فاعد للفقر تِجفافا، فإن الفقر أسرع إلى من يحبني من السيل إلى منتهاه"

(1)

رواه الترمذي وقال: حسن.

التِجفاف: بكسر التاء المثناة فوق، وإسكان الجيم وبالفاء المكررة هو الشيء يلبسه الفرس ليتقي به الأذى، وقد يلبسه الإنسان. وذلك مؤذن بالتنافس بين الدنيا ومحبة الشارع. فإن من خاص محبته زوال رأس كل خطيئة.

التاسع بعد العشرين: من حديث كعب بن مالك مرفوعًا: "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه"

(2)

رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. وفيه ذم الحرص على المال والشرف، وهما ركنا الدنيا، ومنافاتهما للدين وإفسادهما له لائح.

الثلاثون: حديث عبد اللَّه بن مسعود قال: "نام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على حصير، فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا: يا رسول اللَّه، لو اتخذنا لك وطاء، فقال: "ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها"

(3)

رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

وهو مشتمل على دلائل الزهد، وهو أن لا يخطر بالبال أدوات الدنيا كنومه على حصير ولم يطلب وطاء، وأن لا تميل النفس إلى قبولها إذا عرضت عليه كما قال:"ما لي وللدنيا"، وأن يكون أمل الزهد قصير كقوله:"إنما أنا في الدنيا" إلى آخره، فلا كان الحرص ولا طول الأمل، لقد أوقعاني في كل رداء وهلكة.

الحادي بعد الثلاثين: حديث أبي هريرة مرفوعًا: "يدخل الفقراء الجنة قبل

(1)

أخرجه الترمذي في سننه (2350) كتاب الزهد، باب ما جاء في فضل الفقر، والقاضي عياض في الشفا (2/ 65)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (9/ 548).

(2)

أخرجه الترمذي في سننه (2376) كتاب الزهد، باب [43] والنسائي في الكبرى، في الرقائق، وأحمد في مسنده (3/ 456، 457)، وابن أبي شيبة في مصنفه (13/ 241)، والزبيدي في الإتحاف (8/ 144، 145)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 540، 548)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5181).

(3)

أخرجه الترمذي في سننه (2377) كتاب الزهد، باب [44]، وابن ماجه في سننه (4109) كتاب الزهد، [3] باب مثل الدنيا، وأحمد في مسنده (1/ 391)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 198)، والشجري في أماليه (2/ 208)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (2/ 102). وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

ص: 341

الأغنياء بخمسمائة عام"

(1)

أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح.

وفيه من فوائد الزهد، وأثره الذي هو الفقر، ودخولهم الجنة قبلهم بذلك المقدار، وكفى بذلك.

الثاني بعد الثلاثين: حديث ابن عباس، وعمران بن حصين مرفوعًا:"أطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء"

(2)

أخرجاه من حديث ابن عباس، وللبخاري من حديث عمران.

(3)

وفيه من فوائده أن أكثر أهل الجنة الفقراء أو عامة من دخلها إذا قام صلى الله عليه وسلم على بابها كما سيأتي، وأهل الجد محبوسون، وكفى بذلكم الحبس منفِّرًا.

الثالث بعد الثلاثين: حديث أسامة مرفوعًا: "قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجدِّ محبوسون، غير أن أصحاب النار قد أُمر بهم إلى النار"

(4)

أخرجاه، والجد: الحظ والغنى.

(1)

أخرجه الترمذي في سننه (2353، 2354) كتاب الزهد، باب ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم، وابن ماجه في سننه (4122) كتاب الزهد، باب منزلة الفقراء، وأحمد في مسنده (2/ 296، 451، 5/ 336)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 139)، وابن أبي شيبة في مصنفه (13/ 246)، والزبيدي في الإتحاف (8/ 222، 9/ 281)، والسيوطي في الدر المنثور (2/ 212).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (6449) كتاب الرقاق، [16] باب فضل الفقر، ومسلم في صحيحه [94 - (2737)] كتاب الرقاق، [26] باب أكثر أهل الجة الفقراء، وأكثر أهل النار النساء، وبيان الفتنة بالنساء، والترمذي (2602) كتاب صفة جهنم، باب ما جاء أن أكثر أهل النار النساء، وأحمد في مسنده (1/ 234، 359، 173)، والهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 26)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2234)، والطبراني في المعجم الكبير (12/ 162، 163).

(3)

وعن عمران بن حصين أخرجه.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (6547) كتاب الرقاق، [51] باب صفة الجنة والنار، ومسلم في صحيحه [93 - (2736)] كتاب الرقاق، [26] باب أكثر أهل الجنة الفقراء، وأكثر أهل النار النساء، وبيان الفتنة بالنساء، وأحمد في مسنده (5/ 205)، والشجري في أماليه (2/ 159، 202)، والزبيدي في الإتحاف (9/ 276)، وابن عبد البر في التمهيد (3/ 322). وقال [النووي: قوله: "وإذا أصحاب الجد محبوسون" هو بفتح الجيم، قيل: المراد به أصحاب البخت والحظ في الدنيا والغنى والوجاهة بها، وقيل المراد أصحاب الولايات، ومعناه محبوسون للحساب، ويسبقهم الفقراء بخمسمائة عام كما جاء في الحديث، وقوله:"إلا أصحاب النار فقد أمر بهم إلى النار" معناه من استحق من أهل الغنى النار بكفره أو معاصيه، وفي هذا الحديث تفضيل الفقر على الغنى، وفيه فضيلة الفقراء والضعفاء. [النووي في شرح مسلم (17/ 44) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 342

الخاتمة: حديث أبي هريرة مرفوعًا: "أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا اللَّه باطل"

(1)

أخرجاه.

وهو بيان مجاري الزهد ومحتمة، فتأمل ذلك، وكل باطل، فحتم على العاقل عزوب النفس عنه، تواصيًا بالحق، وحفظًا للتوحيد المحض ولا براعة ختم كهذا.

ولنذكر الحكايات المتعلقة بالزهد مع طرف منها:

الأولى: روي أن عيسى صلى الله عليه وسلم صحبه رجل وقال: يا نبي اللَّه، أكون معك، فانطلقا فانتهيا إلى شط نهر فجلسا يتغذَّيان ومعهما ثلاثة أرغفة، فأكلا رغيفين، وبقى رغيف، فقام عيسى صلى الله عليه وسلم إلى النهر فشرب ثم رجع فلم يجد الرغيف، فقال للرجل: من أخذ الرغيف؟ قال: لا أدري، فانطلق ومعه الرجل فرأى ظبية

(2)

معها ولدان لها، فدعا واحدًا فأتاه فذبحه وشوى منه فأكل هو وذلك الرجل، ثم قال له بعد ما ذبحه وأكلا منه قم بإذن اللَّه عز وجل فقام، فقال للرجل: أسألك بالذي أراك هذه الآية، من أخذ الرغيف؟ قال: لا أدري، فانطلقا حتى انتهيا إلى مغارة، فجمع عيسى صلى الله عليه وسلم ترابًا وكثيبًا ثم قال: كن ذهبًا بإذن اللَّه عز وجل فصار ذهبًا، فقسمه ثلاثة أقسام وقال: ثلث لك، وثلث لي، وثلث للذي أخذ الرغيف، فقال أنا الذي أخذت الرغيف، قال: فكله لك، وفارقه عيسى صلى الله عليه وسلم فانتهيا إلى رجلان في المغارة ومعه الذهب، فأرادا أن يأخذاه ويقتلاه، فقال: هو بيننا أثلاثًا، فقبلا ذلك، فقال: يذهب واحد إلى القرية حتى يشتري لنا طعامًا، فذهب واحد واشترى طعامًا وقال في نفسه: لأي شيء أقاسمهما هذا المال، أنا أجعل في الطعام سما فأقتلهما وآخذ المال جميعه، فجعل فيه السم، وقالا هما فيما بينهما: لأي شيء نجعل لنا ثالثًا، إذا رجع قتلناه، واقتسمنا المال نصفين، فلما رجع إليهما قتلاه، ثم أكلا من الطعام فماتا، فبقي ذلك المال في المغارة وأولئك الثلاثة قتلى عنده، فمر عليهم عيسى صلى الله عليه وسلم فرآهم على تلك الحالة فقال لأصحابه: هذه الدنيا فاحذروها.

الحكاية الثانية: روي أن عيسى صلى الله عليه وسلم كشفت له الدنيا في صورة عجوز شمطاء عليها من كل زينة، فقال لها: كم تزوجت؟ قالت: لا أحصيهم، قال: فكلهم مات عنك أو كلهم طلقك، قالت: بل كلهم قتلت، فقال عيسى عليه السلام: بؤسًا

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (6489) كتاب الرقاق، [29] باب الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك، ومسلم في صحيحه [3 - (2256)] كتاب الشعر في مقدمته، وابن ماجه (3757)، وأحمد في مسنده (2/ 339)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4786).

(2)

الظبي: جنس حيوانات من ذوات الأظلاف والمجوفات القرون، أشهرها الظبي العربي، ويقال له الغزال الأعفر، وهي ظبية، جمعها: ظباء.

ص: 343

لأزواجك الباقين، كيف لا يعتبرون بالماضين كيف تهلكينهم واحدًا بعد واحد، فلا يكونون منك على حذر.

(1)

الحكاية الثالثة: قال الفضيل رحمه الله: بلغني أن رجلًا عرج بروحه في المنام، فرأى امرأة على قارعة الطريق عليها من كل زينة الحلي والثياب، وإذا بها لا يمر بها أحد إلا جرحته، فإذا أدبرت كانت أحسن الناس عجوزًا زرقاء شمطاء عمشاء، قال: فقلت لها: نعوذ باللَّه منك، فقالت: لا واللَّه لا يعيذك اللَّه حتى تبغض الدرهم

(2)

قلت: من أنت؟ قالت: أنا الدنيا.

الحكاية الرابعة: روي عن عبد اللَّه بن مسعود قال: يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقال له: أدّ أمانتك فيقول: من أين يا رب؟ قد ذهبت الدنيا، فتمثل له الدنيا على هيأتها يوم أخذها في قعر جهنم، فينزل فيأخذها فيضعها على عاتقه، فيصعد بها، حتى إذا ظن أنه خرج بها هوت وهوى في أثرها أبد الآبدين.

الحكاية الخامسة

(3)

: قال طلحة بن يحيى: حدثتني جدتي بنت عوف قالت: دخلت على طلحة فرأيته مغمومًا، فقلت: ما شأنك؟ قال: إن المال الذي عندي قد كثر وأكربني، فقلت: ما عليك؛ اقسمه، فقسّمته حتى ما بقي درهم، قال طلحة بن يحيى: فسألت خازن طلحة كم كان المال؟ قال: أربعمائة ألف.

الحكاية السادسة: قال أنس: بينما عائشة في بيتها إذ سمعت صوتًا رجَّت منه المدينة، فقالت: ما هذا؟ قالوا جِمَال قدمت لعبد الرحمن بن عوف، وكانت سبعمائة راحلة فقالت عائشة: أما إني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "رأيت عبد الرحمن بن

(1)

في الزهد في الدنيا: روى البخاري في صحيحه (6416) في الرقاق، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"، عن ابن عمر، وفيه:"وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك".

(2)

في فتنة المال: روى البخاري في صحيحه (6435) كتاب الرقاق [10] باب ما يتقى من فتنة المال، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض".

(3)

روى هذه القصة بطريق آخر الذهبي في تاريخ الإسلام، وفيات سنة (36) وفيه: "قال أبو إسماعيل الترمذي بسنده عن موسى بن طلحة أن اباه أتاه مال من حضرموت سبعمائة ألف، فبات ليته يتململ، فقالت له زوجته: ما لك؟ فقال تفكرت فقلت: ما ظن رجل بربه يبيت وهذا المال في بيته، قالت: فأين أنت عن بعض أخلائك، فإذا أصبحت فاقسمها، فقال: إنك موفقة. وهي أم كلثوم بنت الصديق - فقسمها بين المهاجرين والأنصار، فبعث إلى علي منها وأعطى زوجته ما فضل، فكان نحو ألف درهم.

ص: 344

عوف يدجل الجنة حبوًا" فبلغ ذلك عبد الرحمن فأتاها فسألها عما بلغه، فحدثته، قال: فإني أشهدك أنها بأحمالها وأقتابها وأحلاسها في سبيل اللَّه عز وجل.

(1)

الحكاية السابعة: عن المِسْوَر قال: باع عبد الرحمن بن عوف أرضًا من عثمان بأربعين ألف دينار، فقسَّم المال في بني زهرة وفقراء المسلمين وأمهات المؤمنين، وبعث إلى عائشة بمال من ذلك المال.

فقالت عائشة: أما إني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لن يحنو عليكم بعدي إلا الصالحون"

(2)

.

سقى اللَّه ابن عوف من سلسبيل الجنة.

الحكاية الثامنة: وهو حديث عن ابن عمر قال: "كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر الصديق وعليه عباءة فدخلها في صدره بخلال

(3)

فقال: "يا جبريل أنفق ماله قبل الفتح" قال: فإن اللَّه يقرأ عليه السلام، ويقول لك: قل له: أراض أنت عني في فقرك أم ساخط، فقال أبو بكر: أسخط على ربي، أنا على ربي راض، قالها أربعًا.

(4)

الحكاية التاسعة: قال عطاء: بعث معاوية إلى عائشة بطوق من ذهب فيه جوهر قوِّم بمائة ألف فقسمته بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.

الحكاية العاشرة: قالت أم ذرَّة:

(5)

بعث الزبير إلى عائشة بغرارتي مال فيهما ثمانون ألفًا أو مائة ألف، فدعت بطبق. وهي يومئذ صائمة. فجلست تقسمه بين الناس، فأمست وما عندها من ذلك درهم. فلما أمست قالت: يا جارية ائتيني بعشائي. فجاءتها بخبز وزيت. فقالت لها أم ذرة ما استطعت فيما قسمت اليوم أن تشتري لنا بدرهم لحما نفطر عليه؟ فقالت: لا تعتبيني، لو كنت ذكرتيني لفعلت (*).

(1)

أخرجه أحمد في مسنده (6/ 115)، والطبراني في المعجم الكبير (1/ 90، 6/ 33)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 98)، والزبيدي في الإتحاف (8/ 216).

(2)

أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 99)، ورواه أحمد في مسنده (6/ 104)، وذكره الحاكم في مستدركه (3/ 311) عن أم سلمة قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأزواجه: "إن الذي يحنو عليكن بعدي لهو الصادق البار، اللهم اسق ابن عوف من سلسبيل الجنة".

(3)

الخِلال: منفرج ما بين الشيئين، والعود الذي يتخلل به، والديار: مضى فيها ومشى خلالها، وهنا يقصد عودًا ضم به العباءة نظرًا لما أصابها من التمزق من القدم.

(4)

أخرجه ابن حجر في لسان الميزان (4/ 486) وذكره الهندي في كنز العمال (35658).

(5)

أم ذرة المدنية مولاة عائشة، مقبولة، أخرج لها أبو داود.

[انظر تهذيب التهذيب (12/ 467، رقم 2944)].

(*) ذكره الذهبي في تاريخ الإسلام، وفيات سنة (51 - 60) وفيه أيضًا عن عروة، رأيتها تصدق بسبعين ألفًا، وإنها لترفع جانب درعها.

ص: 345

الحكاية الحادية عشرة: قال عروة: لقد رأيت عائشة تقسم سبعين ألفًا وهي ترقع درعها (*).

الثانية عشرة: حكي أنه كان لهارون الرشيد

(1)

ولد قد بلغ من العمر ست عشرة سنة، وكان قد رافق الزهاد والعباد، وكان يخرج إلى المقابر ويقول: قد كنتم قبلنا، وقد كنتم تملكون الدنيا، فما أراها تنجيكم، وقد صرتم إلى قبوركم، فيا ليت شعري: ما قلتم وما قيل لكم؟ ويبكي بكاء شديدًا، وكان ينشد:

ترف عني الجنائز كل يوم

ويحزنني بكاء النائحات

فلما كان في بعض الأيام مر على أبيه وحوله وزراؤه وكبار دولته وأهل مملكته، وعليه جبة صوت، وعلى رأسه مئزر صوت، فقال بعضهم لبعض: قد فضح هذا الولد أمير المؤمنين بين الملوك، فلو عاتبه لعله يرجع عما هو عليه؟ قال: فكلمه في ذلك، فقال: يا بني لقد فضحتني بما أنت عليه، فنظر إليه ولم يجبه، ثم نظر إلى طائر على شرفة من شراريف القصر، فقال: أيها الطائر بحق الذي خلقك إلا ما جئت على يديّ. فانقض الطائر على كف الغلام، ثم قال: ارجع إلى موضعك، فرجع على موضعه، فقال: بحق من خلقك إلا ما سقطت في كف أمير المؤمنين، فما نزل، فقال له الغلام: أنت الذي فضحتني بحبك الدنيا، وقد عزمت على مفارقتك، ففارقه ولم يتزود منه بشيء إلا مصحفًا، وانحدر إلى البصرة.

وكان قد وقع في جداري حائط، فخرجت أطلب من يعمله، فرأيت غلاما لم أر أحسن منه وجهًا، وبين يديه زنبيل، وهو يقرأ في مصحف، فقلت له: يا غلام أتعمل؟ قال: ولم لا أعمل وللعمل خلقت؟ ولكن أخبرني في أي الأعمال تستعملني؟ قلت: في الطين. قال: بدرهم ودانق، وأصلي صلاتي؟ قال: لك ذلك، ثم مضيت به إلى العمل وتركته يعمل، فلما كان آخر النهار وجدته عمل عمل عشرة رجال. فوزنت له درهمين فأباهما إلا درهمًا ودانقًا.

فلما كان من الغد خرجت إلى السوق فلم أجده، فسألت عنه فقيل لي: إنه لا يعمل إلا يوم السبت، ثم لا نراه إلا يوم السبت الثاني، فأخرت العمل إلى الثاني ثم أتيته، فوجدته، فقال لي مثل الأول، فمضيت به إلى العمل، فوقفت أنظر إليه من بعيد

(*) ذكره الذهبي في تاريخ الإسلام، وفيات سنة (51 - 60) وفيه أيضًا عن عروة، رأيتها تصدق بسبعين ألفًا، وإنها لرفع جانب درعها.

(1)

هارون الرشيد من أشهر أمراء الدولة العباسية، وقد بلغت فيها الدولة الإسلامية أعظم قوتها واتساعها، وكانت تهابه ملوك العجم من الروم والفرنج.

ص: 346

وهو لا يراني، فأخذ كفا من طين وتركه على الحائط وإذا الحجارة تتركب بعضها على بعض، فقلت: هكذا أولياء اللَّه يعانون. فلما أراد أن ينصرف وزنت له ثلاثة دراهم فأبى أن يقبلها، ولم يقبل سوى درهمًا ودانقًا

(1)

.

فلما كان السبت الثالث جئت على السوق فلم أره، فسألت عنه، فقيل لي: له ثلاثة أيام وجِعٌ يعالج سكرات الموت، فوهبت أجرة لمن يدلني عليه، ومشينا حتى وقفنا عليه في خراب بلا باب، وإذا هو مغشى عليه، فسلَّمت عليه، فإذا تحت رأسه نصف لبنة وهو في حال الموت، فسلمت عليه ثانية فعرفني، فأخذت رأسه فجعلته في حجري فمنعني من ذلك، وأنشأ يقول:

يا صاحبي لا تغترَّ

(2)

بتنعم

فالعمر ينفد والنعيم يزول

وإذا علمت بحال قوم مرة

فاعلم بأنك عنهم مسئول

وإذا حملت إلى القبور جنازة

فاعلم بأنك بعدها محمول

فقلت: يا حبيبي، ولم لا أكفنك في ثياب جديدة؟ فقال: الحي أحوج إلى الجديد من الميت، الثياب تبلى والعمل يبقى، وخذ مئزري وسروالي فادفعهما للحفار، وخذ هذا المصحف والخاتم فادفعهما إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد، ولا تدفعهما إلا من يدك إلى يده، وقل له: يا أمير المؤمنين معي وديعة من غلام غريب، وهو يقول لك: لا تموتنَّ على غرَّتك، أو قال على غفلتك، ثم خرجت روحه. رحمه الله. فعلمت أنه ولد الخليفة، وعملت كل ما أوصاني به، وأخذت المصحف والخاتم ودخلت بغداد، وقصدت هارون الرشيد ووقفت في موضع مشرف، فخرج موكب في تقدير ألف فارس، ثم تبعه عشرة مواكب، كل موكب ألف فارس، وخرج أمير المؤمنين في الموكب العاشر، فناديت: بقرابتك من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يا أمير المؤمنين إلا ما وقفت لي قليلًا، فلما رآني قلت: يا أمير المؤمنين معي وديعة من غلام غريب، ثم دفعت إليه المصحف والخاتم، وقلت له ما أوصاني به.

فنكَّس رأسه وأسال دمعته، وأوصى عليَّ بعض الحجَّاب وقال: ليكن هذا عندك إلى أن أسألك عنه. فلما رجع هو وأصحابه أمر بالستور فرفعت ثم قال للحاجب: هات الرجل، وإن كان يُجدِّد عليَّ أحزاني، فقال لي الحاجب: يا أبا عامر إن أمير المؤمنين مهموم، فإذا أردت أن تكلمه عشر كلمات فاجعلها خمسا، فقلت: نعم.

ودخلت عليه، فإذا مجلسه خالٍ، فلما رآني قال: ادن مني يا أبا عامر، فدنوت

(1)

الدانق: سدس الدرهم، جمعها: دوانق، ودوانيق.

(2)

غرَّ الرجل غرة: جهل الأمور وغفل عنها، واغتر فلان، غفل، وبكذا: خُدع به.

ص: 347

منه، فقال: أتعرف ولدي؟ قلت: نعم، قال: في أي شيء كان يعمل؟ قلت: في الطين والحجارة، قال: استعملته أنت؟ قلت: نعم. قال: استعملته وله اتصال برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: المعذرة إلى اللَّه ثم إليك يا أمير المؤمنين؛ فإني ما علمت من هو إلا عند وفاته. قال: أنت غسَّلته بيدك؟ قلت: نعم. قال: هات يدك، فأخذها وتركها على صدره وهو يقول: بأبي كيف كفنت العزيز القريب؟ ثم أنشأ يقول:

يا غريبا عليه قلبي يذوب

ولعيني عليه دمع سَكُوب

يا بعيد المكان حزني قريب

كدَّر الموت كل عيش يطيب

كان نذرًا عليَّ قضيت لحين

فمضى النذر في الثدي (والقضيب)

(1)

قال: ثم تجهز وخرج إلى البصرة وأنا معه، حتى انتهى إلى القبر. فلما رآه غشي عليه، فلما أفاق أنشد يقول:

يا غائبا لا يؤوب

(2)

من سفره

عاجله موته على صغره

يا قرة العين كنت لي أنسا

في طول ليلي نعم وفي قصره

شربت كأسا أبوك شاربها

لا بد من شربها على كبره

اشربها والأنام كلهم

من كان من بدوه ومن حضره

فالحمد للَّه لا شريك له

قد كان هذا القضاء من قدره

قال أبو عامر: فلما كان تلك الليلة قضيت وردي واضجعت، فإذا (يفتة)

(3)

من نور عليها صحاف من نور، وإذا قد كشف الصحاف، فإذا الغلام ينادي: يا أبا عامر جزاك اللَّه عني خيرا، فقلت: ولدي إلى ماذا صرت؟ قال: إلى رب راض غير غضبان؛ أعطاني ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر

(4)

وآلى على نفسه أن لا يخرج عبد من الدنيا مثل خروجي إلا كرمه مثل كرامتي.

فاستيقظت فرحًا به وبما قال لي وبشرني به - رحمه اللَّه تعالى.

الثالثة عشرة: عن عبد الرحمن بن حفصة قال: إنه رأى عمر يبكي، فجلس يبكي لبكائه.

(1)

كذا بالأصل، وأظنها (وانقلب).

(2)

الأوب: الجهة والناحية، يقال: جاءوا من كل أوب.

(3)

كذا بالأصل.

(4)

حديث "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" أخرجه مسلم في صحيحه [2 - (2824)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها في مقدمته.

ص: 348

ثم جاء محمد فجلس يبكي لبكائهما، فاشتد بكاؤهم جميعًا، فبكى الرسول

(1)

أيضًا لبكائهم، ثم أرسل إلى صاحبه فأخبره بذلك، وأرسل إلى ربيعة بن أبي عبد الرحمن يستعلم عن ذلك البكاء، فجاء ربيعة وذكر ذلك لمحمد، فقال محمد سله؛ فهو أعلم ببكائه، فاستأذن عليه ربيعة فقال: يا أخي ما الذي أبكاك من صلة الأمير؟ فقال: إني واللَّه حسبت أن تغلب الدنيا على قلبي فلا يكون للآخرة فيها نصيب، فذلك الذي أبكاني. وأمر بالمال فتصدق به على فقراء أهل المدينة.

قال: فجاء ربيعة فأخبر الأمير بذلك، فبكى وقال: هكذا واللَّه يكون أهل الجنة.

الرابعة عشرة: عن ذي النون

(2)

قال: بينما أنا أسير في بعض الطرق إذا أنا بفتى حسن الوجه، بين عينيه أثر التهجد، فقلت: حبيبي، من أين قدمت؟ فقال من عنده. فقلت: وإلى أين تريد؟ قال: إلى عنده. قال: فعرضت عليه النقود، فنظر إليَّ مغضبا ثم ولى، وأنشأ يقول:

وكافر باللَّه مولاه

يزداد ضعافا على كفره

ومؤمن ليس له درهم

يزداد إيمانًا على فقره

لا خير في من لم يكن عاقلًا

يمد رجليه على قدره

الخامسة عشرة: قال أبو علي بن جبران: مرَّ أبو تراب بمزيِّن فقال: أتحلق رأسي للَّه تعالى؟ فقال له: اجلس، فجلس، فبينما هو يحلق رأسه إذ مر به أمير من أهل بلده، فسأل حاشيته، فقال: أليس هذا أبو تراب؟ فقالوا نعم. فقال أي شيء معكم من الدنانير؟ فقال له رجل: معي خريطة فيها ألف دينار، قال: إذا قام فأعطه إياها واعتذر إليه، وقل له: لم يكن معنا غير هذه.

فجاء الغلام إليه فقال له: إن الأمير يقرأ عليك السلام، ويقول لك: ما حضر معنا غير هذه الدنانير. فقال: ادفعها إلى المزين، فقال المزين: أي شيء أعمل بها؟ فقال: خذها. فقال: واللَّه ولو أنها ألف دينار ما أخذتها، فقال الغلام: إنها ألف دينار. قال لا حاجة لي بها، إنما حلقت رأسه لوجه اللَّه. فقال له أبو تراب: ردها

(1)

كذا بالأصل، وأظنه الرسول الذي أرسله الأمير إلى عمر، هذا الذي لم يعرف ما هو، وأظنه أحد الزهاد.

(2)

اسمه ثوبان بن إبراهيم، ويقال: أبو الفيض بن أحمد، ويقال: ابن إبراهيم أبو الفيض، ويقال: أبو الفياض الأخميمي، وأبوه نوبي، وروى عن مالك والليث وابن لهيعة وفضيل وسفيان بن عيينة وسلم الخواص، وجماعة، توفي سنة (246، 248).

ص: 349

عليه وقل له إن المزين ما رضي يأخذها، فخذها أنت واصرفها في مهماتك.

السادسة عشرة: قال الشبلي: قال لي خاطري يومًا: أنت بخيل، فقلت: ما أنا بخيل، فقال: بلى أنت بخيل ثلاثا. فنويت أن أول شيء يفتح به علي أعطيه لأول فقير ألقاه، فما تم الخاطر حتى دخل عليَّ إنسان. سماه

(1)

بخمسمائة دينار، فأخذتها وخرجت فأول من لقيت فقيرًا ضريرًا أو قال: أكمه

(2)

بين يدي مزين يحلق شعره، فناولته ذلك، قال: أعطها للمزين. فقلت: إنها دنانير، فرفع رأسه إليَّ وقال: أما قلنا لك إنك بخيل؟ فناولتها للمزيِّن فقال: عقدت مع اللَّه عقدًا أن لا آخذ من هذا الفقير شيئًا.

قال: فأخذتها وذهبت بها إلى البحر فرميتها فيه، وقلت: فعل اللَّه بك وفعل؛ ما أحبك أحد إلا أذله اللَّه.

فإن قلت: كيف رماها الشبلي وساغ له ذلك؟ قلت: يجوز أن يكون غائبا أو شهد فيها سما مهلكا، أو كان ذلك بإشارة مؤذية اضطر إلى ذلك.

السابعة عشرة: عن إبراهيم بن شبيب قال: كنا نتجالس في يوم الجمعة، فأتى رجل عليه ثوب واحد ملتحف به فجلس إلينا وألقى مسألة، فما زلنا نتكلم في الفقه حتى انصرفنا.

ثم جاءنا في الجمعة فأجبناه وسألناه عن منزله، فأخبرنا به، وسألناه عن كنيته فقال: أبو عبد اللَّه. فرغبنا في مجالسته، فمكثنا كذلك زمنًا، ثم انقطع عنا، واجتمعنا وأتيناه في بيته وسألنا عنه فقال: ذاك أبو عبد اللَّه الصياد ذهب يصطاد والآن يأتي، فقعدنا ننتظره، وإذا هو قد أقبل مؤتزرًا بخرقة، وعلى كتفه أخرى، ومعه أطيار مذبوحة، وأطيار أحياء. فلما رآنا تبسم إلينا، فقلنا: قد كنت عمَّرت مجلسنا فما غيَّبك عنا؟ قال: إذًا أصدقكم، كان لي جار أستعير منه ذلك الثوب الذي كنت آتيكم به، وقد سافر. ثم قال: هل لكم أن تدخلوا المنزل فتأكلوا مما رزق اللَّه، فدخلنا وقعدنا، فدخل على امرأته وسلم إليها الأطيار المذبوحة، وأخذ الأطيار الأحياء فباعها بالسوق واشترى خبزًا وملحًا، وقد صنعت المرأة ذلك وهيأته، فقدم إلينا خبزًا وطيرًا وملحًا، فأكلنا وخرجنا.

فقال القوم بعضهم لبعض: ألا تنظرون إلى حال هذا الرجل وما هو فيه من الفقر مع فضله وصلاحه، وأنتم قادرون على أن تجمعوا له ما يقوم بحاله. فاتفقوا على أن

(1)

أي سماه باسمه.

(2)

كَمِهَ الرجل كمها: عمي، فهو أكمه، وهي كمهاء.

ص: 350

يجمعوا له ما يستغني به، وانصرفنا على عزم أن نأتي بما وعدوه به، وهو خمسة آلاف درهم.

فلما مررنا بالمربد إذا أمير البصرة محمد بن سليمان قاعد في منظرة له، وهو يقول: يا غلام ائتني بإبراهيم بن شبيب، قال: فأتيته، فسألنا عن قصتنا، ومن أين أقبلنا، فصدقته الحديث، فقال: أنا أحقكم، فأمر له بعشرة آلاف درهم. ففرحت بذلك وأسرعت، فلما رآها انقلب وتغير لونه وقال: ما لي ولك يا هذا؟ أتريد أن تفتنني؟ فأخبرته الخبر، وأن الأمير أخذ (. . . . .)

(1)

فازداد غضبًا وأغلق الباب، فرجعت إلى الأمير فأخبرته، فقال: حروري، وأمر بضرب عنقه، فسكنته وقلت: أنا آتيك به، فسكن غضبه، ثم أتيته فإذا زوجته تبكي، وقالت: ما شأنكم بأبي عبد اللَّه؟ دخل فنزع ما كان عليه وتوضأ ثم صلى، فسمعته يقول: اللهم اقبضني إليك ولا تفتني، فقضى نحبه.

فأخبرت الأمير، فصلى عليه وعامة أهل البصرة.

الثامنة عشرة: عن عمر بن عبد العزيز أنه قيل له لما حضرته الوفاة: تركت أولادك فقراء لا شيء لهم

(2)

. فقال: أولادي أحد رجلين: إما رجل يتقي اللَّه فسيجعل اللَّه له مخرجا وهو يتولى الصالحين، وإما رجل منكب على المعاصي، فلا أقويه على معاصي اللَّه.

وكان رضي الله عنهما يؤتى بالحلة قبل أن يتولى الخلافة بألف درهم فيقول: ما أحسنها لولا خشونة ما فيها. ويؤتى بالحلة وهو في الخلافة بأربعة دراهم أو ستة فيقول: ما أحسنها لولا نعومة فيها. فقيل له في ذلك، فقال: إن لي نفسا تواقة ذواقة؛ إذا تاقت إلى شيء وذاقت تاقت إلى ما فوقه، فلم تزل تتوق وتذوق إلى أن ذاقت الخلافة فتاقت إلى ما فوقها، فلم تجد شيئًا فوقها إلا ما عند اللَّه تعالى في الدار الآخرة

(1)

كلمة غير واضحة بالأصل.

(2)

قال مالك بن دينار: الناس يقولون: إني زاهد، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي أتته الدنيا فتركها. وقال الفسوي بسنده عن عبد العزيز بن عمر، قال دعاني المنصور قال: كم كانت غلة عمر بن عبد العزيز حين أفضت إليه الخلافة؟ قلت: خمسون ألف دينار، فقال: كم كانت غلته يوم مات؟ قلت: ما زال يردها حنى كانت مائتي دينار.

وبسنده عن مسلمة بن عبد الملك قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز فإذا عليه قميص وسخ، فقلت لامرأته فاطمة. وهي أخت مسلمة: اغسلوا قميص أمير المؤمنين، قالت: نفعل، ثم عدت فإذا القميص على حاله، فقلت لها: فقالت: واللَّه ما له قميص غيره. [تاريخ الإسلام، وفيات [(101 - 110)].

ص: 351

فتاقت إليه، ولا يمكن الوصول إليه إلا بترك الدنيا.

التاسعة عشرة: سئل حاتم الأصم

(1)

فيما أفنيت عمرك؟ فقال: في أربعة أشياء: علمت أني لا أخلو من نظر اللَّه طرفة عين فاستحييت أن أعصيه. وعلمت أن لي رزقا لا يجاوزني، وقد ضمنه لي فوثقت به عن طلبه، وعلمت أن عليَّ فرضًا لا يؤديه غيري فاشتغلت به، وعلمت أن لي أجلا يبادرني فبادرته. وقد سلف في المراقبة.

العشرون: عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب

(2)

أنه خرج حاجًا، ولما نظر إلى البيت بكى حتى علا صوته، فقيل له: إن الناس ينظرون إليك، فلو رفقت صوتك قليلًا. فقال: ولم لا أبكي؟ لعل اللَّه ينظر إليَّ برحمة منه فأفوز بها عنده غدًا. ثم طاف وركع خلف المقام ورفع رأسه من السجود فإذا موضع سجوده مبتل بدموع عينيه. فقال لبعض أصحابه: إني لمحزون، وإني مشتغل القلب. فقيل له: لِمَ؟ قال: إنه من دخل قلبه صافي خالص دين اللَّه شغله عما سواه، وما عسى أن تكون الدنيا؟ هل هو إلا مركب ركبته، أو ثوب لبسته، أو امرأة استحسنتها، أو أكلة أكلتها؟ أو كما قال

(3)

.

الحادية بعد العشرين: قال كعب: استخرجت من التوراة خمس عشرة كلمة فجعلتها في قصبة وربطتها في عنقي، فكنت أقرأها كل يوم خمس عشرة مرة.

أولها: يقول اللَّه: يا ابن آدم لا تخف فوت الرزق ما دامت خزائني مملوءة، وخزائني مملوءة لا ينفد ما فيها أبدًا.

ثانيها: يا ابن آدم لا تخافن من ذي سلطان ما دام سلطاني باقيًا، وسلطاني باق لا ينفد أبدا.

(1)

حاتم الأصم، أبو عبد الرحمن البلخي الزاهد الناطق بالحكمة، له كلام عجيب في الزهد والوعظ، وكان يقال له لقمان هذه الأمة، وصحب شقيق البلخي وتأدب بآدابه.

قال أبو تراب: سمعت حاتم الأصم يقول: لي أربع نسوة، وتسعة أولاد ما طمع شيطان أن يوسوس في شيء من أرزاقهم.

(2)

محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو جعفر، الهاشمي، الباقر، العلوي الفاطمي المدني القرشي، زين العابدين، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو ثقة فاضل.

[تهذيب التهذيب (9/ 350)، تقريب التهذيب (2/ 192)].

(3)

روى مسلم في صحيحه [4 - (2959)] كتاب الزهد، في المقدمة، عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"يقول العبد: مالي مالي، وإنما له من ماله ثلاث؛ ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فأبقى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس".

ص: 352

ثالثها: يا ابن آدم لو أنني أعطيتك الدنيا كلها ما كان لك منها إلا القوت، فإذا أعطيتكه منها وجعلت حسابها على غيرك فأنا محسن إليك.

رابعها: يا ابن آدم لا تأمن مكري حتى تجوز الصراط

(1)

.

خامسها: يا ابن آدم إني خلقت الأشياء كلها من أجلك، وخلقتك من أجلي، فلا يشغلك ما خلقته من أجلك عما خلقتك لأجله.

سادسها: يا ابن آدم ما أنصفتني في المعاملة؛ أنا لعنت إبليس وغضبت عليه وطردته من أجلك، فصالحته وقطعتني.

سابعها: يا ابن آدم كل أحد يريدك له، وأنا أريدك لي، وأنت تفرَّ مني.

ثامنها: يا ابن آدم أنا وحقي لك محب، فبحقي كن أنت لي محبًا.

تاسعها: يا ابن آدم إني خلقت السماوات والأرض ولم أعي بخلقهن، أفيعييني رغيف أسوقه إليك من حيث لا تحتسب؟

(2)

.

عاشرها: يا ابن آدم تغضب علي من أجل نفسك؟!

الحادية عشرة: يا ابن آدم كما لا أطالبك بعمل غدٍ لا تطالبني برزق غدٍ.

الثانية عشرة: يا ابن آدم إن لي فرضا، ولك عليّ رزق

(3)

فإن خالفتني في

(1)

فيما روى مسلم في صحيحه [299 - (182)] كتاب الإيمان، [81] باب معرفة طريق الرؤية، عن أبي هريرة من حديث طويل، وفيه:"ويضرب الصراط بين ظهري جهنم. . . . " الحديث. قال [النووي: وفي هذا إثبات الصراط ومذهب أهل الحق إثباته، وقد أجمع السلف على إثباته، وهو جسر على متن جهنم، يمر عليه الناس كلهم، فالمؤمنون ينجون على حسب حالهم، أي منازلهم، والآخرون يسقطون فيها -أعاذنا اللَّه الكريم منها- وأصحابنا المتكلمون وغيرهم من السلف يقولون: إن الصراط أدق من الشعرة وأحد من السيف كما ذكره أبو سعيد الخدري رضي الله عنهما. [النووي في شرح مسلم (3/ 19) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

روى الترمذي في سننه (2320) كتاب الزهد، باب ما جاء في هوان الدنيا على اللَّه عز وجل، عن سهل بن سعد قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لو كانت الدنيا تعدل عند اللَّه جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء".

(3)

قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات: 56 - 58] أي إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي لا لاحتياجي إليهم، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس:{إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} أي إلا ليقروا بعبادتي طوعا أو كرها.

ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ورازقهم. [تفسير ابن كثير (4/ 238)].

ص: 353

فرضي فلا أخالفك في رزقك على ما كان منك.

الثالثة عشرة: يا ابن آدم إن قنعت بما رزقتك أرحت قلبك وبدنك وأنت عندي مشكور، وإلا أتعبت قلبك وبدنك وسلطت عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البرية ولا ينالك منها إلا ما قسمت لك، وأنت عندي مذموم.

الرابعة عشرة: يا ابن آدم لا تأنس بغيري ما وجدتني فمتى طلبتني وجدتني.

الخامسة عشرة: يا ابن آدم ما خلقتك لأربح عليك إنما خلقتك لتربح عليَّ.

خاتمة: قال أبو جعفر محمد بن علي السالف

(1)

: إن أهل التقوى أكثر أهل الدنيا مؤنة وأكثرهم معونة، إن نسيت ذكروك، وإن ذكرت أعانوك.

قوالين بالحق قوامين بأمره، وأنزل الدنيا منك بمنزله منزل نزلت به أو ارتحلت عنه أو كمال أصبته في منامك واستيقظت، وليس معك منه شيء.

وأنشدوا في معناه:

ألا إنما الدنيا كأحلام نائم

وما خير عيش لا يكون بدائم

تأمل إذا ما نلت بالأمس لذَّة

فأفنيتها أنت إلا كحالم

(1)

كان أحد من جمع العلم والفقه والشرف والديانة والثقة والسؤدد، وكان يصلح للخلافة وولد سنة [56]، وتوفي سنة [114، 117] وله إخوة أشراف: زيد الذي صلب، وعمر، وحسين وعبد اللَّه بنو زين العابدين رحمة اللَّه عليهم. [تاريخ الإسلام وفيات سنة (110 - 120)].

ص: 354

‌مجلس في الدعاء

(1)

قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}

(2)

. إضافة بكاف الخطاب، وكفى به مباهاة، ووعد بالإجابة مؤكد باستقراعه في قالب الاستقبال ليؤذن به في ثاني الحال.

وقال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)}

(3)

.

والتضرع هو حال الاضطرار، والخفية حال الحضور والإخلاص.

ثم أرشد إلى التحذير من الاعتذار فيه ولا يرتكب شيئًا من مخالفة إذنه لئلا يعتدي بسببه.

وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}

(4)

.

ففيه إعلام تقرب الرب المدعو وإجابته دعوة كل داع، ولو من غير صالح.

وقال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}

(5)

الآية.

فالآية الأولى فيها أصل الدعاء والثانية: صفته. والثالثة: المدعو تعالى وقربه،

(1)

قال القاضي عياض: "إن اللَّه أذن في دعائه وعلم الدعاء في كتابه لخليقته وعلم النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء لأمته، واجتمعت فيه ثلاثة أشياء العلم بالتوحيد والعلم باللغة والنصيحة للأمة، فلا ينبغي لأحد أن يعدل عن دعائه صلى الله عليه وسلم وقد احتال الشيطان للناس في هذا المقام فقيض لهم قوم سوء يخترعون لهم أدعية يشتغلون بها عن الإقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأشد ما في الحال أنهم ينسبونها على الأنبياء والصالحين، فيقولون: "دعاء آدم ودعاء نوح ودعاء يونس ودعاء أبي بكر الصديق رضي الله عنهما فاتقوا اللَّه في أنفسكم ولا تشتغلوا من الحديث إلا بالصحيح منه. [مقدمة كتاب سلاح المؤمن لابن الإمام (26، 27)].

(2)

سورة غافر [60].

(3)

سورة الأعراف [55].

(4)

سورة البقرة [186].

روى ابن حاتم بسنده عن معاوية بن صبرة أن أعرابيا قال: "يا رسول اللَّه أقريب ربما فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل اللَّه {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} إذا أمرتهم أن يدعوني فدعوني استجبت. [تفسير ابن كثير (1/ 218)].

(5)

سورة النمل [62].

ينبه تعالى أنه هو المدعو عند الشدائد والمرجو عند النوازل فقال: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} أي من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه، والذي لا يكشف ضر المضرورين سواه. [تفسير ابن كثير (3/ 383)].

ص: 355

والداعي وما يتصف به من الاضطرار.

وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}

(1)

.

ولنذكر تسعة وعشرين حديثا مشتملة على مهمات الترغيب في الدعاء وجوامعه، وبيان أدعية مخصوصة كلية وجزئية مقصورا، ووسيلة وألفاظ مأثورة في طلب المغفرة ونحوها، وفي التعوذ ونحو ذلك وبيان أدعية لزمها الأكابر، واعتنت بشأنها.

الحديث الأول: حديث النعمان بن بشير مرفوعا "الدعاء هو العبادة"

(2)

.

رواه أبو داود والترمذي وقل: حسن صحيح أي مخها وكبدها على نحو "الحج عرفة"

(3)

.

ثانيها: حديث عائشة قالت: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يستحب الجوامع من الدعاء، ويدع ما سوى ذلك"

(4)

.

رواه أبو داود بإسناد جديد.

ووجه شمولها المهمات النافعات الجامعات.

ثالثها: حديث أنس، كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم:"اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" أخرجاه.

(5)

(1)

سورة الأعراف [180].

(2)

أخرجه أبو داود في سنة [1479] كتاب الصلاة، باب الدعاء. والترمذي [3247] كتاب تفسير القرآن باب من سورة المؤمن (غافر). والنسائي في الكبرى فى التفسير، وابن ماجه في كتاب الدعاء، باب فضل الدعاء. وأحمد في مسنده (4/ 271) وابن حبان في صحيحه (2396 - المورد)، والطبراني في الصغير (2/ 97)، والمنذري في الترغيب والترهيب [2/ 477]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [8/ 120]، وابن أبي شيبة في مصنفه [10/ 200].

(3)

أخرجه أبو داود [1949] كتاب المناسك، باب من لم يدرك عرفة. والترمذي في سننه [889]، والنسائي [5/ 256، 264 - المجتبي]، وابن ماجه في سننه [3015]، والبيهقي في السنن الكبرى [5/ 152، 173]، والحاكم في المستدرك [1/ 264، 2/ 278] وابن حجر في تلخيص الحبير [2/ 255]، وابن خزيمة في صحيحه [2822]، والزيلعي في نصب الراية [3/ 92، 93] والزبيدي في الإتحاف [4/ 289]، والبخاري في التاريخ الكبير [2/ 111].

(4)

أخرجه أبو داود في سننه [1482] كتاب الصلاة، باب الدعاء، والتبريزي في مشكاة المصابيح [2246].

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه [4522] في التفسير، [36] باب {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} الآية، ومسلم في صحيحه [26 - (2690)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة =

ص: 356

زاد في روايته: "كان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها، وإذا أراد أن يدعو الدعاء دعا بها فيه" وسبب أكثريته ذلك عذوبة اللفظ وشموله خير الدنيا والآخرة وسيلة ومقصودا وجمعه لطلب الدفع والنفع، ونحو ذلك.

رابعها: حديث ابن مسعود: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى"

(1)

أخرجه مسلم.

وهذا هو الحالة الحسنة في الدنيا، فأي نعمة توزاي الهدى والتقى وعفاف النفس

(2)

وغناها فما مثل هذين في راحة البدن كما أن الأولين ما مثلهما في حياة القلب ونوره وانتعاشه.

الحديث الخامس: حديث طارق بن أشيم قال: كان الرجل إذا أسلم علمه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة ثم أمره أن يدعو بهؤلاء الكلمات: "اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني"

(3)

رواه مسلم.

وفي رواية له عن طارق أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل فقال: يا رسول اللَّه كيف أقول حيث أسأل ربي؟.

قال: "اللهم اغفر لي وارحمني وعافني وارزقني فإن هؤلاء يجمع لك دنياك وآخرتك"

(4)

.

قلت: فهذا هو الحالة الحسنة في الدنيا والآخرة وإنها جامعة للفوز والنجاة

= والاستغفار، [9] باب فضل بـ (اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)، والترمذي [3487]، وأحمد في مسنده [3/ 107]، وابن أبي شيبة في مصنفه [10/ 248] والتبريزي في مشكاة المصابيح [4287].

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [72 - (2721)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [18] باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل، والترمذي في سننه [3489] كتاب الدعوات، وابن ماجه في سننه [3832]، وأحمد بن حنبل في مسنده [1/ 426، 434، 437].

وابن أبي شيبة في مصنفه [10/ 208]، والطبراني في المعجم الكبير [10/ 127].

(2)

أما العفاف والعفة فهو التنزه عما لا يباح والكف عنه، والغنى ما غنى النفس والاستغناء عن الناس وعما في أيديهم. [النووي في شرح مسلم (17/ 341) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [34، 35 - (2697)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [10] باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء.

وأحمد في مسنده [1/ 185، 3/ 472، 6/ 394]، والحاكم في المستدرك [1/ 262]، وابن خزيمة في صحيحه [744، 848]، والطبراني في المعجم الكبير [8/ 379].

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [36 - (2697)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار [10] باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء.

ص: 357

والهداية والعافية الماحية للأمراض القلبية الشاملة للعقاب وغيره والرزق المزيل لكل خلة وفاقة.

الحديث السادس: حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص مرفوعا

(1)

: "اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك" أخرجه مسلم.

وهو منبه على اعتناء الداعي بمثله فيما يشعر بتمام الاقتدار وتعظيم الخوف وشدة الاضطرار.

ولعله ينظر على آخر دعاء الآية السالفة: "وقنا عذاب النار".

الحديث السابع: حديث أبي هريرة مرفوعا

(2)

: "تعوذوا باللَّه من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء" أخرجاه.

وفي رواية قال سفيان أشك أني زدت واحدة منها.

الحديث الثامن: حديثه أيضًا قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر". أخرجه مسلم

(3)

.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [17 - (2654)] كتاب القدر، [3] باب تصريف اللَّه تعالى القلوب كيف شاء. وأحمد في مسنده [2/ 168]، والزبيدي في الإتحاف [7/ 302، 8/ 549].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه 66161، كتاب القدر، 131، باب من تعوذ باللَّه من درك الثمقاء وسوء القضاء. ومسلم في صحيحه [53 - (2707)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار. [16] باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره. قال [النووي: أما درك الشقاء فالمشهور فيه فتح الراء، وجهد البلاء بفتح الجيم وضمها والفتح أشهر وأفصح، فأما الاستعاذة من سوء القضاء فيدخل فيها سوء القضاء في الدين والدنيا والبدن والمال والأهل، وقد يكون ذلك في الخاتمة. وأما درك الشقاء، فيكون أيضا في أمور الآخرة والدنيا، ومعناه أعوذ بك أن يدركني شقاء، وشماتة الأعداء هي فرح العدو ببلية تنزل بعدوه؛ يقال منه: شمت يكسر الميم وشمت بفتحها فهو شامت، واشتمه غيره، وأما جهد البلاء فروى عن ابن عمر أنه فسره بقلة المال وكثرة العيال وقال غيره:"هي الحال الشاقة".

[النووي في شرح مسلم [17/ 25] طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [71 - (2720)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [18] باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل. وأحمد في مسنده [4/ 399]، وأبو نعيم في حلية الأولياء (6/ 46)، والهيثمي في مجمع الزوائد [10/ 109، 111]، والطبراني في المعجم الصغير [2/ 48] وابن حبان في صحيحه [541 - المورد] والتبريزي في مشكاة المصابيح [2483].

ص: 358

الحديث التاسع: حديث على قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "قل اللهم اهدني وسددني"

(1)

. أخرجه مسلم.

وفي رواية له: "اللهم إني أسألك الهدى والسداد"

(2)

قلت: فإذا حصلت الهداية والتسديد، فقد وصل كل مقصد، فإن من سدد سهمه أصاب غرضه وأدرك لحكمه، ومن يؤتها فقد أوتي خيرًا كثيرًا.

الحديث العاشر: حديث أنس قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والهرم والبخل وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات"

(3)

.

وفي رواية: "وضلع الدين وغلبة الرجال"

(4)

. أخرجاه.

الحديث الحادي عشر: حديث أبي بكر الصديق أنه قال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: علمني دعاء أدعوا به في صلاتي.

قال: "اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم"

(5)

.

أخرجاه. "كثيرًا": يروي بالمثلثة وبالباء الموحدة فينبغي الجمع بينهما.

الحديث الثاني عشر: حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعوا بهذا الدعاء: "اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطأي وعمدي وجهلي وكل ذلك عندي".

(6)

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [78 - (2725)] كتاب الذكر والدعاء والاستغفار، [18] باب التعوذ من شر ما عمل، ومن شر ما لم يعمل، وانظر الذي يليه في مسلم.

(2)

انظر تخريج ما قبله.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [6367] كتاب الدعوات، [39] باب التعوذ من فتنة المحيا والممات، ومسلم في صحيحه [50 - (2706)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [15] باب التعوذ من العجز والكسل وغيره.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [6369] كتاب الدعوات، [41] باب الاستعاذة من الجبن والكسل.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه [834] كتاب الأذان، [149] باب الدعاء قبل السلام. ورقم [6326] كتاب الدعوات، [17] باب الدعاء في الصلاة. ورقم [7388] كتاب التوحيد، [9] باب {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134]. ومسلم في صحيحه [48 - (2705)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [13] باب استحباب خفض الصوت بالذكر. والترمذي [3521]، والنسائي [3/ 153. المجتبي] وابن ماجه [3835]، وأحمد في مسنده [1/ 4].

(6)

قيل: قاله تواضعًا وعد على نفسه فوات الكمال ذنوبا، وقيل: أراد ما كان عن سهو، وقيل لما =

ص: 359

"اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير"

(1)

. أخرجاه.

والعصمة من رذائل العامة لا ينافي الاستغفار من ذنوب الخاصة التى هي أشرف ممن دونهم.

الحديث الثالث عشر: حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: "اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت، ومن شر ما لم أعمل"

(2)

. أخرجه مسلم.

الحديث الرابع عشر: حديث أبن عمر قال: كان من دعاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "اللهم اني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفُجَاءَة نقمتك، وجميع سخطك".

(3)

أخرجه مسلم.

الحديث الخامس عشر: حديث زيد بن أرقم قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل والهرم وعداب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها"

(4)

. أخرجه مسلم.

= كان قبل النبوة وعلى كل حال فهو صلى الله عليه وسلم مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فدعا بهذا وغيره تواضعا؛ لأن الدعاء عبادة، قال أهل اللغة: الإسراف مجاوزة الحد. [النووي في شرح مسلم [17/ 33] طبعة دار الكتب العلمية].

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [6398]، [6399] كتاب الدعوات، [62] باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت". ومسلم في صحيحه [70 - (2719)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [18] باب التعوذ من شر ما عمل، ومن شر ما لم يعمل. وأبو داود [1514] والترمذي [3431، 3422]، وأحمد في مسنده [1/ 94، 102].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [66 - (2716)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار وأبو داود [1555]، والنسائي [3/ 56، 8/ 280، 281 - المجتبي] وابن ماجه [3839، 3840]، وأحمد في مسنده [6/ 31، 100، 213].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [96 - (2739)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [26] باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء، وبيان الفتنة بالنساء. وأبو داود [1550]، والحاكم في المستدرك [1/ 531]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [2461] والزبيدي في الإتحاف [5/ 86].

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [73 - (2722)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [18] باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل.

ص: 360

الحديث السادس عشر: حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم لك أسلمت وبك آمنت، وعليك توكلت وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت"

(1)

.

السابع عشر: حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهؤلاء الكلمات: "اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار، ومن عذاب النار ومن شر الغنى والفقر"

(2)

.

رواه أبو داود واللفظ له، والترمذي وقال: حسن صحيح.

وهو متضمن تخوف شر ممن فيه خير من وجه، وشر من آخر.

الثامن عشر: حديث زياد بن علاقة عن عمه قطبه بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء"

(3)

.

رواه الترمذي وحسنه.

فتعوذ من كسب النفوس خلقا، والجوارح عملا والعقول هوى، كل ذي منكر.

التاسع عشر: حديث شكل بن حميد قال: "قلت يا رسول اللَّه علمني دعاء؟ ".

قال: "قل: اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي ومن شر بصري، ومن شر لساني، ومن شر قلبي ومن شر منيي"

(4)

. رواه أبو داود والترمذي وحسنه.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [6317] كتاب الدعوات، [10] باب الدعاء إذا انتبه بالليل، ومسلم في صحيحه [86 - (2717)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [18] باب التعوذ من شر ما عمل، ومن شر ما لم يعمل. وأحمد في مسنده [1/ 302، 308، 358]، والبيهقي في السنن الكبرى [3/ 5]، والزبيدي في الإتحاف [5/ 165]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [2463].

(2)

أخرجه: أبو داود في سننه [1543] كتاب الصلاة، باب في الاستعاذة. والترمذي [3495] كتاب الدعوات، وابن ماجه في سننه [3838]، وابن أبي شيبه في مصنفه [1/ 189]، والحاكم في المستدرك [10/ 541]، وعبد الرزاق في مصنفه [19631]، وأحمد في مسنده [6/ 57].

(3)

أخرجه الترمذي في سننه [3591] كتاب الدعوات، باب دعاء أم سلمة. والحاكم في المستدرك [1/ 532]، وابن حبان في الإحسان [960]. وقال الترمذي: حسن غريب، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم.

(4)

أخرجه أبو داود في سننه [1551] كتاب الصلاة باب في الاستعاذة. والترمذي في سننه [3492] كتاب الدعوات والنسائي في الاستعاذة، باب الاستعاذة من شر السمع والبصر، والاستعاذة من شر البصر. وأحمد في مسنده [3/ 429]، والحاكم في المستدرك [1/ 532]، وابن أبي شيبه في مصنفه [10/ 193]، [15/ 30]. والزبيدي في الإتحاف [5/ 85].

ص: 361

الحديث العشرون: حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من البرص والجنون والجذام وسيء الأسقام"

(1)

رواه أبو داود بإسناد صحيح.

وهذه عوارض الجوارح والعقول.

الحادي بعد العشرين: حديث أبي هريرة: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة"

(2)

.

رواه أبو داود بإسناد صحيح.

الثاني بعد العشرين: حديث على في الترمذي، محسنا أن مكاتبا جاءه فقال: إني عجزت عن كتابتي، فأعني قال: ألا أعلمك كلمات علمنيهن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: لو كان عليك مثل جبل دينا أداه عنك قال: "قل اللهم اكفني بحلالك عن حرامك وأغنني بفضلك عمن سواك"

(3)

.

أي أغنى عن الحرام والسؤال.

الثالث بعد العشرين: حديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أباه حصينًا كلمتين يدعوا بهما: "اللهم ألهمتي رشدي وأعذني من شر نفسي"

(4)

.

رواه الترمذي وحسنه.

الرابع بعد العشرين: حديث العباس قال: قلت يا رسول اللَّه علمني شيئا أسأله اللَّه عز وجل، قال:"سل اللَّه العافية" فمكثت أيامًا ثم جئت فقلت: يا رسول اللَّه

(1)

أخرجه أبو داود في سننه [1554] كتاب الصلاة، باب في الاستعاذة.

وأحمد في مسنده [3/ 192]، وابن أبي شيبه في مصنفه [10/ 188]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [2470]، والزبيدي فى الإتحاف [5/ 86].

(2)

أخرجه أبو داود في سننه [1547] كتاب الصلاة باب في الاستعاذة. والنسائي [8/ 263 - المجتبي]، ابن ماجه في سننه [3354]، والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 10]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [2469] والعجلوني في كشف الخفا [1/ 25]، والتربيدي في الإتحاف [5/ 84]، وابن حبان في صحيحه [2444 - الموارد]، وعبد الرزاق فى مصنفه [19636]، والسيوطي في الدر المنثور [4/ 123].

(3)

أخرجه الترمذي في سننه [3563] كتاب الدعوات، والحاكم في المستدرك [1/ 538]، والمنذري في الترغيب والترهيب [2/ 613]، والزبيدي في الإتحاف [3/ 271].

(4)

أخرجه الترمذي في سننه [3483] كتاب الدعوات، والزبيدي في الإتحاف [5/ 80]، والطبراني في المعجم الكبير [18/ 147].

ص: 362

علمني شيئًا أسأله اللَّه فقال لي: "يا عباس يا عم رسول اللَّه سلوا اللَّه العافية في الدنيا والآخرة"

(1)

.

رواه الترمذي وصححه، والعفو: المحو، وهو صفة الصحة والقوة.

الخامس بعد العشرين: حديث شهر عن أم سلمة كان أكثر دعاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"

(2)

.

رواه الترمذي وحسنه.

السادس بعد العشرين: حديث أبي الدرداء مرفوعًا: "كان من دعاء داود: اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، والعمل الذي يبلغني حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلي من أهلي ونفسي، ومن الماء البارد"

(3)

.

رواه الترمذي وحسنه.

وهو جامع لإعلاء الأحوال والأعمال، وكان داود أعبد البشر.

السابع بعد العشرين: حديث أنس مرفوعًا: "ألظوا بياذا الجلال والإكرام"

(4)

.

رواه الترمذي، ورواه الحاكم من حديث ربيعة بن عامر الصحابي، وقال الحاكم: صحيح الإسناد.

وألظوا: الزموا ذلك، وأكثروا، فهو أصل كل المعارف والأحوال.

الثامن بعد العشرين: حديث أبي أمامه أنه صلى الله عليه وسلم علمهم هذا لأنهم شكوا أنه دعا

(1)

أخرجه الترمذي في سننه [3514] كتاب الدعوات، باب [85] منه.

وأحمد في مسنده [1/ 209، 5/ 231، 235]، وابن أبي شيبة في مصنفه [10/ 208]، والزبيدي في الإتحاف [3/ 282]، والسيوطي في الدر المنثور [6/ 217].

(2)

أخرجه الترمذي في سننه [3522] كتاب الدعوات، باب [90] منه. ورقم [3587] كتاب الدعوات باب منه [125] وأحمد في مسنده [3/ 112، 257، 6/ 91]. وابن ماجه [199]، وابن حبان في صحيحه [2419 - الموارد]، وابن أبي شيبه في مصنفه [10/ 36] والهيثمي في مجمع الزوائد [7/ 210، 10/ 176]، والزبيدي في الإتحاف [7/ 302]، وابن حجر في المطالب العالية [462، 494].

(3)

أخرجه الترمذي في سننه [3490] كتاب الدعوات، باب منه [73]. والزبيدي في إتحاف السادة المتقين [5/ 78، 9/ 549]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [1/ 226]، والسيوطي في الدر المنثور [5/ 320]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [2496].

(4)

أخرجه الترمذي في سننه [3524] كتاب الدعوات، باب [92]. وأحمد بن حنبل في مسنده [4/ 177]، والحاكم في المستدرك [1/ 498]، والطبراني في المعجم الكبير [5/ 60]، والهيثمي في مجمع الزوائد [10/ 158]، والسيوطي في الدر المنثور [6/ 153] والبخاري في التاريخ الكبير [3/ 280].

ص: 363

بدعاء كثير لم يحفظوا منه شيئًا: "اللهم إني أسألك من خير ما سألك منه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ونعوذ بك من شر ما استعاذ منه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وأنت المستعان، وعليك البلاغ ولا حول ولا قوة إلا باللَّه"

(1)

.

رواه الترمذي وحسنه.

التاسع بعد العشرين: حديث ابن مسعود: كان من دعائه عليه السلام: "اللهم إني أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة، والنجاة من النار"

(2)

.

رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم.

‌فصل في الدعاء بظهر الغيب

قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا}

(3)

الآية.

وقال تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}

(4)

.

وقال إخبارا عن إبراهيم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)}

(5)

.

فالآية الأولى فيها مدح عموم المؤمنين بذلك. وفي الثانية: الأمر لنبيه وحبيبه به. وفي الثالثة: أنه كان شأن خليل الرحمن فطوبى لمن كان هجيراه ما أمر

(6)

به الأنبياء والأولياء والأخلاء، فهؤلاء خاصة الخواص. وروينا في صحيح مسلم من

(1)

أخرجه الترمذي في سننه [3578] وابن ماجه [3846] كتاب الدعاء، باب الجوامع من الدعاء. والمنذري في الترغيب والترهيب [1/ 473] وأحمد في مسنده [4/ 138]، والحاكم في المستدرك [1/ 313، 519]، والتبريزي في مشكاة المصالح [2495]، والهيثمي في مجمع الزوائد [2/ 279].

(2)

أخرجه ابن ماجه [1384] كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، [189] باب ما جاء في صلاة الحاجة. والحاكم في المستدرك [1/ 524، 526] والسيوطي في الدر المنثور [6/ 45].

(3)

سورة الحشر [10].

(4)

سورة محمد [19].

(5)

{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [إبراهيم: 41] قرأ بعضهم "ولوالدي" بالإفراد وكان هذا قبل أن يتبرأ منه أبيه لما تبين له عداوته للَّه عز وجل "وللمؤمنين" أي كلهم {يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41] أي يوم تحاسب عبادك فتجازيهم بأعمالهم إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر. [تفسير ابن كثير (2/ 557)].

(6)

كذا بالأصل وأظنها ما نهى.

ص: 364

حديث أبي الدرداء مرفوعًا: "ما من عبد مسلم يدعو لأخيه

(1)

بظهر الغيب إلا قال الملك: ولك بمثل" وروينا فيه أيضًا، من حديثه أيضا أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: "دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة؛ عند رأسه ملك موكل، كلما دعا لأخيه بخير قال الموكل به آمين ولك بمثل"

(2)

.

‌فصل في مسائل من الدعاء

عن أسامة بن زيد مرفوعًا: "من صُنِعَ إليه معروف فقال لفاعله: جزاك اللَّه خيرا، فقد أبلغ في الثناء"

(3)

.

رواه الترمذي وصححه.

وفيه أن الدعاء قد يكون ثناء.

وعن جابر مرفوعًا: "لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من اللَّه ساعة يسأل فيها عطاء، فيستجيب لكم"

(4)

.

أخرجه مسلم. فالإجابة متوقعة كل وقت. وعن أبي هريرة مرفوعًا: "أقرب ما

(1)

قوله صلى الله عليه وسلم: "بظهر الغيب" فمعناه في غيبة المدعو له وفي سره لأنه أبلغ في الإخلاص. قوله: "بمثل" هو بكسر الميم وإسكان الثاء هذه الرواية المشهورة، قال القاضي ورويناه بفتحها أيضا، يقال هو مثله ومثيله بزيادة الياء أي عديلة سواء، وفي هذا أفضل الدعاء لأخيه المسلم بظهر الغيب ولو دعا لجماعة من المسلمين حصلت هذه الفضيلة، ولو دعا لجملة المسلمين فالظاهر حصولها أيضا، وكان بعض السلف إذا أراد أن يدعو لنفسه يدعو لأخيه المسلم بتلك الدعوة لأنها تستجاب ويحصل له مثلها.

[النووي في شرح مسلم [17/ 41] طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [88 - 2733] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [23] باب فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب وأبو داود (1534) كتاب الصلاة باب الدعاء بظهر الغيب، وابن ماجه في سننه [2895] كتاب المناسك [5] باب فضل دعاء الحاج. وابن حجر في تلخيص الحبير [2/ 95]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [2228].

(3)

أخرجه الترمذي في سننه [2035] كتاب البر والصلة باب ما جاء في المتشبع بما لم يعطه، والنسائي في عمل اليوم والليلة ص [75]. والطبراني في المعجم الصغير [2/ 148]، وابن حبان في صحيحه [2071 - المورد]، والبخاري في الأدب المفرد [215]، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3024)، والزبيدي في الإتحاف [4/ 156]، وابن السني [270].

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [74 - (3009)] كتاب الزهد والرقائق، [18] باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر. وأبو داود في سننه [1532] كتاب الصلاة، باب النهي عن أن يدعو الإنسان على أهله وماله. والتبريزي في مشكاة المصابيح [2229] وابن حبان في صحيحه [2411 - المورد].

ص: 365

يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء"

(1)

.

أخرجه مسلم.

فأرجى الأحوال السجود.

وعنه مرفوعًا: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول: قد دعوت ربي فلم يستجيب لي"

(2)

. أخرجاه.

ولمسلم: "لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطعية رحم، ما لم يستعجل".

قيل: يا رسول اللَّه ما الاستعجال؟

قال: "يقول: قد دعوت، وقد دعوت، فلم أر يستجيب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء".

(3)

قلت: فالاستعجال آفة الدعاء، ورجاء الإجابة باق.

وعن أبي أمامة: قيل يا رسول اللَّه أي الدعاء أسمع؟

قال: "جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات"

(4)

.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [215 - (482)] كتاب الصلاة، [42] باب ما يقال في الركوع والسجود. وأبو داود [875]، والنسائي [2/ 26 - المجتبى]، وأحمد في مسنده [2/ 241]، والبيهقي في السنن الكبرى [2/ 110]، والمنذري في الترغيب والترهيب [10/ 249]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [894]، والزبيدي في الإتحاف [3/ 20، 5/ 33]، والعراقي في المغنى عن حمل الأسفار [1/ 149، 307]، وذكره ابن حجر في الفتح [2/ 300، 11/ 132].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [6340] كتاب الدعوات، [22] باب يستجاب للعبد ما لم يعجل. ومسلم في صحيحه [90 - (2735)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [25] باب بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل فيقول دعوت فلم يستجيب لي. وأبو داود [1484]، والترمذي [3387]، وابن ماجه [3853]، وأحمد في مسنده [2/ 396]، والمنذري في الترغيب والترهيب [2/ 490].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [92 - (2735)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [25] باب بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل فيقول دعوت فلم يستجيب لي. والمنذري في الترغيب والترهيب [2/ 490] والبيهقي في السنن الكبرى [3/ 353].

(4)

أخرجه الترمذي [3499] كتاب الدعوات باب [79]، والنسائي في عمل اليوم والليلة ص [51، 52] باب ما يستجيب من الدعاء دبر الصلوات المكتوبات، وأحمد في مسنده [4/ 112، 114]، والبيهقي في السنن الكبرى [2/ 455، 3/ 4]، وابن خزيمة في صحيحه [260]، والمنذري في الترغيب والترهيب [2/ 489].

ص: 366

رواه الترمذي وحسنه.

وعن عبادة بن الصامت مرفوعًا: "ما على الأرض مسلم يدعو اللَّه بدعوة إلا آتاه اللَّه إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم"، فقال رجل من القوم:"إذًا نكثر" قال: "اللَّه أكثر"

(1)

.

رواه الترمذي وصححه.

والحاكم من حديث أبي سعيد وزاد فيه: "أو يدخر له من الأجر مثلها"، قلت: فالإجابة محققة ما لم يدع بمفوِّت حق اللَّه أو حق آدمي.

وعن أبي عباس أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب

(2)

: "لا إله إلا اللَّه العظيم الحليم لا إله إلا اللَّه رب العرش العظيم لا إله إلا اللَّه رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم" أخرجاه

(3)

.

فاللجأ في الكربات والشدائد على الذكر والتذلل والإستكانة والإستغراق في شهود الجلال والعظمة من المهمات.

وفي الحديث الأول: من هذه الأحاديث الدعاء للمحسن وأنه حسن.

وفي الثاني: الدعاء على السيء، وأنه محذور والدعاء لأجبني، وعلى غيره، أو بخير أو شر ونحوهما.

وفي الثالث: توطين الأمر بإكثار الدعاء.

وفي الرابع: الترغيب في إدامته والتحذير من الملل وسوء الظن

(4)

، وذكر شرط الإجابة.

(1)

أخرجه الترمذي في سننه [3573] كتاب الدعوات، في انتظار الفرج وغير ذلك، والحاكم في المستدرك [1/ 497] وصححه ووافقه الذهبي. وقال الترمذي واللفظ له: حسن صحيح.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [6346] كتاب الدعوات، [27] باب الدعاء عند الكرب، ومسلم في صحيحه [83 - (2730)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [21] باب دعاء الكرب. والترمذي [3431]، والنسائي في عمل اليوم والليلة [652]، وابن ماجه [3883]، وأحمد في مسنده [1/ 228، 259]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [2/ 223].

(3)

قال الطبري: "كان السلف يدعون به ويسمونه دعاء الكرب، فإن قيل: هذا ذكر وليس فيه دعاء فجوابه من وجهين مشهورين: أحدهما: أن هذا الذكر يستفتح به الدعاء ثم يدعو بما شاء. والثاني: جواب سفيان بن عيينه فقال: أما علمت قوله تعالى: "من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين". [النووي في شرح مسلم [17/ 39] طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: قيل يا رسول اللَّه ما الاستعجال؟ قال: "يقول: دعوت فلم أر يستجب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء". قال أهل اللغة: يقال: حسر واستحسر إذا أعيا =

ص: 367

وفي الخامس: تحري مواطن الإجابة، فإن له أثرًا.

وفي السادس: إكثار الطلب، فالكريم لا تنفد خزائنه.

وفي السابع: ما سلف.

وأما الخطايا: فالأولى: عن سلمان الفارسي قال: إن العبد إذا كان يدعو في السَّراء

(1)

فنزلت به الضراء فدعا فقالت الملائكة: "صوت منكر من آدمي ضعيف ولا يشفعون له".

الثانية: قال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: ما من عبادة أفضل من عفة بطن أو فرج، وما من شيء أحب إلى اللَّه من أن يُسْأَل، وما يرفع القضاء إلا الدعاء

(2)

.

فائدة: قال الغزالي رحمة اللَّه عليه في الإحياء فإن قلت ما فائدة الدعاء، والقضاء لا مرد له؛ فاعلم أن من القضاء رد البلاء بالدعاء. والدعاء سبب الرد للبلاء، واستجلاب الرحمة كما أن الترس سبب لرد السهم والماء سبب لخروج النبات من الأرض، وكما أن الترس يدفع السهم فيتدافعان، فكذلك الدعاء والبلاء يتعالجان

(3)

.

فائدة أخرى: قال أبو سلمان: سمعت وهبًا يقول. وقد أقبل على عطاء الخرساني. ويحك يا عطاء أتأتي من يغلق بابه، ويظهر لك فقره، ويزوي عنك غناه، وتدع من يفتح لك بابه ويظهر لك غناه ويقول:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} .

= وانقطع عن الشيء، والمراد هنا أنه ينقطع عن الدعاء ومنه قوله تعالى:{لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء: 19] أي لا ينقطعون عنها ففيه أنه ينبغي إدامة الدعاء ولا يستبطئ الإجابة. [المرجع السابق [17/ 42] طبعة دار الكتب العلمية].

(1)

روى الحاكم في مستدركه [1/ 544] وصححه ووافقه الذهبي من حديث أبي هريرة رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من يسره أن يستجاب له عند الكرب والشدائد فليكثر الدعاء في الرخاء".

(2)

روى الحاكم في المستدرك [1/ 492] وصححه ووافقه الذهبي، عن عائشة: قالت قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما قد نزل ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان على يوم القيامة" ويعتلجان: يتصارعان.

(3)

كذا في الإحياء [4/ 202] وتكملة الكلام: وليس من شرط الاعتراف بقضاء اللَّه عز وجل أن لا يحمل السلاح قال عز وجل: {خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] وأن لا تسقى الأرض بعد نبت البذر، فيقال: إن سبق القضاء بالنبات نبت البذرة، وإن لم يسبق لم ينبت، بل ربط الأسباب بالمسببات هو القضاء الأول الذي هو كلمح البصر، أو هو أقرب، وترتيب تفضيل المسببات على تفاصيل الأسباب على التدريج والتقدير هو القدر.

ص: 368

وأنشدوا

(1)

:

أيها السائل العباد ليُعطى

إن للَّه ما بأيدي العباد

فاسأل اللَّه ما طلبت إليهم

وارج فضل المقسِّم العوَّاد

الثالثة: قال يوسف بن أحمد البغدادي: حججت أنا وأبو سليمان، فبينا نحن نسير إذا سقطت السطحية منى، وكان برد عظيم.

فلما افتقدت السطحية قلت: يا أبا سليمان بقينا بلا ماء، فقال: سلِّم وصل على محمد وقل: يا رادَّ الضالة، ويا هاديا من الضلالة أردد الضالة وإذا بواحد ينادي: من ذهب له سطحية؟، فأخذتها منه.

فقال أبو سليمان: تراه يتركنا بغير ماء؟!

فبينا نحن نسير وإذا برجل عليه طمران

(2)

رثان وقد تدرعنا بالفراء من شدة البرد وهو يرشح عرقا.

فقال أبو سليمان: "ألا نعطيك شيئا من ثيابنا" فقال: "يا داراني الحر والبرد خلقان للَّه أن يأمرهما أن يغشياني أصاباني وإن أمرهما أن يتركاني تركاني".

يا داراني تصف الزهد وتخاف من البرد، أنا في هذه البرية من ثلاثين سنة ما انتفضت ولا ارتعدت، يلبسني في البرد فيحا من محبته، ويلبسني في الصيف مذاق برد محبته.

نادرة: قال جعفر الخلدي: ودعت المزين الصوفي فقلت له: زوِّدني شيئا، فقال: إن ضاع منك شيء

(3)

أو أردت أن يجمع اللَّه بينك وبين إنسان فقل: يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه اجمع بيني وبين كذا، فإن اللَّه يجمع بينك وبين ذلك الشيء أو ذلك الإنسان، فما دعوت بها في شيء إلا استجيب.

الرابعة: قال الشيخ أبو بكر الفرغاني: كنت أدفع على شدة الفاقة أياما كثيرة، وربما كنت أسقط مغشيا عليَّ، وكنت حينئذ قليل الدراية.

(1)

قال الواحدي رحمه الله: أنشدنا الأستاذ أبو إسحاق الثعلبي رحمه الله:

وإني لأدعو اللَّه والأمر ضيق

علي فما ينفك أن ينفرجا

ورب فتى سدت عليه وجوهه

أصاب له في دعوة اللَّه مخرجا

(2)

الطمر: الثوب الخلق البالي، جمعها: أطمار.

(3)

روى ابن أبي شيبة في مصنفه [13442] عن ابن عمر في الضالة يتوضأ ويصلي ركعتين ويتشهد ويقول: "بسم اللَّه يا هادي الضال وراد الضالة، اردد علي ضالتي بعزتك وسلطانك فإنها من عطائك وفضلك".

ص: 369

فقلت ذات يوم لو علمتني اسمك الأعظم سألتك به إذا حلَّت بي فاقة متلفة.

فبينا أنا في بعض الأيام بدمشق على باب البريد جالس في المسجد إذ رأيت رجلين قد دخلا المسجد فوقع في نفسي أنهما ملكان فوقف أحدهما بحذائي فقال أحدهما للآخر تريد أعلمك اسم اللَّه الأعظم. فقال له: نعم.

فأصغيت لهما فقال: هو أن يقول يا اللَّه.

فقلت قد تعلمت، فقال أحدهما ليس كما تقول ولكن بصدق اللجأ.

قال الشيخ أبو بكر: صدق اللجأ أن يكون مثل الغريق في لُجَّةِ البحر، لم يبق له شيء يتعلق به ولا له ملجأ إلا اللَّه عز وجل.

الخامسة: عن ثابت البناني

(1)

قال: ما دعا اللَّه المؤمن بدعوة إلا وكَّل بحاجته جبريل فيقول: لا تعجل بإجابته فإني أحب أن أسمع صوت عبدي، وإن الفاجر يدعو اللَّه فيوكل جبريل بحاجته ويقول: يا جبريل عجل إجابة دعوته فإني أحب أن لا أسمع صوت عبدي الفاجر.

السادسة: قال قدامه بن أيوب وكان من أصحاب عتبة الغلام: رأيت عتبة في المنام فقلت: ما صنع اللَّه بك؟

قال: يا قدامة دخلت الجنة بتلك الدعوات المكتوبة في بيتك، فلما أصبحت أتيت إلى بيتي، فإذا بخط عتبة مكتوب على الحائط: يا هادي المضلين وراحم المذنبين، ومقيل عثرات العاثرين، ارحم عبدك ذا الخطر العظيم والمسلمين كلهم أجمعين، واجعلنا من الأخيار المبرورين، من الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين يا رب العالمين، آمين.

السابعة: قال عمر بن ثابت دخلت في أُذن رجل من أهل البصرة حصاة فعالجها الأطباء فلم يقدروا عليها حتى وصلت على صماخه، فأسهرت ليله ونغصت عيشه.

فأتي رجل من أصحاب الحسن، فشكى ذلك إليه فقال: ويحك إن كان شيء

(1)

ثابت بن أسلم، أبو محمد البصري، البناني، القرشي، ثقة، عابد، أخرج له: الستة، توفي سنة [127] وله [86 سنة]. ترجمته: تهذيب التهذيب [2/ 2]، وتقريب التهذيب [1/ 115]، والكاشف [1/ 170]، الثقات [4/ 89] تاريخ البخاري الكبير [2/ 159]، الجرح والتعديل [2/ 1805]، ميزان الاعتدال [1/ 362]، حلية الأولياء [2/ 318]، سير الأعلام [5/ 220]، الوافي بالوفيات [10/ 461]، طبقات ابن سعد [1/ 478].

ص: 370

ينفعك اللَّه به فدعوة العلاء بن الحضرمي

(1)

التي دعا بها في البحر وفي المغاوز. قال وما هي

(2)

؟

قال: يا عليُّ يا عظيم يا حكيم يا عليم.

فدعا بها، فواللَّه ما برحنا حتى خرجت من أذنه ولها طنين حتى صكت الحائط وبرأ ما كان به.

وأنشدوا:

وإني لأدعو اللَّه والأمر ضيق

عليَّ فما ينفك أن ينفرجا

ورُبَّ فتى سُدَّت عليه وجوهه

أصاب لها في دعوة اللَّه مخرجا

الثامنة: قال بعضهم: كنا مع إبراهيم بن أدهم، فأتاه الناس فقالوا: يا أبا إسحاق، الأسد وقف في طريقنا، فأتى إبراهيم إلى الأسد وقال له: يا أبا الحارث إن كنت أمرت فينا بشيء فامض لما أُمِرت به، وإن لم تُؤمر بشيء فتنح عن طريقنا، فأدبر الأسد وهو يهمهم.

فقال إبراهيم وما على أحدكم إذا أصبح وأمسى أن يقول: اللهم احرسنا بعينك التي لا تنام واحفظنا بركنك الذي لا يرام، وارحمنا بقدرتك علينا فلا نهلك وأنت ثقتنا ورجاؤنا.

(3)

أخرى: عن الخواص: قال إبراهيم الخواص: كتب في البادية مرة فسرت في وسط النهار، فوصلت إلى شجرة فنزلت، فإذا بسبع عظيم، فاستسلمت ودعوت، فلما قرب

(1)

العلاء بن الحضرمي، واسم الحضرمي عبد اللَّه بن عمار بن كلب بن ربيعة بن مالك بن عويف رضي الله عنهما، حليف بني أميه، عامل البحرين صحابي جليل عمل على البحرين للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، أخرج له الستة، توفي سنة [14]. ترجمته: تهذيب التهذيب [8/ 178]، تقريب التهذيب [2/ 91]، الكاشف [2/ 359]، التاريخ الكبير [6/ 516] الجرح والتعديل [6/ 357]، أسد الغابة [4/ 74]، سير الأعلام [1/ 262].

(2)

روى الإمام البخاري في صحيحه [6345] عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: "لا إله إلا اللَّه العظيم الحليم، لا إله إلا اللَّه رب العرش العظيم، لا إله إلا اللَّه رب السماوات والأرض ورب العرش الكريم".

(3)

قال يحيى بن عثمان الحمصي: حدثنا بقيه قال: كنا مع إبراهيم بن أدهم في البحر، وهبت ريح هاجت الأمواج واضطربت السفينة وبكى الناس، فقلنا: يا أبا إسحاق ما ترى الناس فيه؟ فرفع رأسه وقد أشرفنا على الهلاك فقال: يا حي حين لا حي ويا حي قبل كل حي، ويا حي بعد كل حي، يا حي يا قيوم يا محسن يا مجمل، قد رأينا قدرتك فأرنا عفوك قال: فهدأت السفينة من ساعته.

[تاريخ الإسلام وفيات (161 - 170)].

ص: 371

مني إذا هو يعرج، فهمهم وبرك بين يدي ووضع يده في حجري، فنظرت فإذا يده منتفخة فيها قيح ودم.

فأخذت خشبة وشققت الموضع الذي فيه القيح وشددت على يده خرقة، ومضى، فإذا أنا به بعد ساعة ومعه شبلان

(1)

يحملا إليَّ رغيفين.

التاسعة: قال الربيع: حج أبو جعفر

(2)

سنة سبع وأربعين ومائة فقدم المدينة فقال لي: ابعث إلى جعفر بن محمد، فتغافل عنه الربيع، فأرسل إليه برسالة قبيحة في جعفر وأمره أن يبعث إليه، ففعل.

فلما جيئ به وأحضر بين يديه قال له: "يا عدو اللَّه اتخذك أهل العراق إماما يجتبون إليك زكاة أموالهم، ونحلت من سلطاني، قتلني اللَّه إن لم أقتلك".

فقال: يا أمير المؤمنين إن سليمان. عليه السلام. أعطى فشكر، وأيوب ابتلي فصبر، وإن يوسف ظلم فغفر.

فقال له أبو جعفر: إليَّ يا أبا عبد اللَّه البرئ الساحة السليم الناحية، القليل الغائلة، جزاك اللَّه خيرًا.

ثم تناول يده وأجلسه معه على فراشه.

ثم قال: يا ربيع ألحق أبا عبد اللَّه جائزته وكسوته، ثم قال: انصرف في حفظ اللَّه وفي كنفه، فانصرف فلحقته فقلت له: إني قد رأيت قبل أن تأتي ما لم تره، ورأيت بعد أن أتيت ما قدر رأيت فما هذا؟ فقال: يا أبا عبد اللَّه حين دخلت قلت: "اللهم احرسني بعينك التي لا تنام، واكنفني بكنفك الذي لا يُرام، واغفر لي بقدرتك عليَّ، لا أهلك وأنت رجائي. اللهم إنك أكبر وأجل مما أخاف وأحذر، اللهم بك أدفع في نحره، وبك استعيذ من شره".

العاشرة: عن سري السقطي قال: كان يسكن في جواري رجل صالح ورع من أهل القرآن. وكان فقيرا ذا عائلة فاشتدت به الفاقه والضيقة في يعض أيامه فوقع في

(1)

الشبل: ولد الأسد، جمعها: أشبال.

(2)

أبو جعفر المنصور عبد اللَّه بن محمد بن علي بن عبد اللَّه بن عباس القرشي الهاشمي العباسي أمير المؤمنين، وأمه سلامة البربرية ولد سنة خمس وتسعين أو في حدودها، وروى عن أبيه ورأى جده، وعنه ولده المهدي، وكان قبل أن يلي الإمامة يقال له عبد اللَّه الطويل، ولى الخلافة بعد موت أخيه السفاح سنة [122] وكان أسمر طويلًا نحيفًا مهيبًا، وكان جمَّاعًا للمال تاركًا للهو واللعب كامل العقل جيد المشاركة في العلم والأدب فقيه النفس، قتل خلقا كثيرا حتى استقام ملكه، وكان في الجملة يرجع إلى عدل وديانة وله حظ من صلاة وتدين، وكان فصيحًا بليغا مفوها، خليقا للإمارة، توفي سنة [158]. [تاريخ الإسلام وفيات (151 - 160)].

ص: 372

نفسه أن يكتب حاله في ورقة ويدفعها إلى اللَّه عز وجل فلما كتبها أدركه الليل، فانتصب في محرابه يصلي ويدعو ويشير بالورقة على السماء، فلم يزل كذلك أكثر ليلته فمسَّه السهر وأعياه القيام.

وجلس يصلي قاعدا إلى أن بقى من الليل قليل فغلب عليه النوم، فرأى في منامه رجلا حسن الوجه يقول له: ما هذه الغفلة التي لحقتك ترفع إلى اللَّه سوادا في بياض؟

قال: فكيف أصنع؟

قال: إذا أردت ذلك فاستمد بيد الشكر من بحر الذكر بقلم الصبر، واكتب على قلبك بياض الفكر على رهب الطلب.

قال: قلت: ماذا أكتب؟

قال: يا من أفضاله أفضل أفضال المتفضلين، وإنعامه أنعم إنعام المنعمين، وعجز عن شكره شكر الشاكرين.

قد جربت غيرك من المأمولين بغيري من السائلين، فإذا كل قاصد إلى غيرك مردود، وكل طريق إلى سواك مسدود، وكل خير عندك موجود وعند سواك معدوم مفقود.

قال: قلت: يا سيدي ما أحسن هذا؟

قال: فإن بقى في بياض بصيرتك وصرح عزيمتك بقية. فاكتب: يا من إليه توسَّلت وعليه في السراء والضراء عوَّلت، حاجاتي مصروفة إليك، وآمالي موقوفة لديك، وكل ما وفقتني له من خير أعمله وأطيقه، فأنت دليل عليه بطريقه.

قال: فقلت: يا سيدي وهذا أحسن.

قال: فإن بقى في بياض بصيرتك وصرح عزيمتك بقية، فاكتب: يا قادرا لا ترده المطالب، ويا مالكا يرغب إليه كل راغب، ما زلت مصحوبا منك بالنعم جاريا على عادات الإحسان والكرم، يا من بكرمه يبلغ الكرم، ومن حمده يزيد النعم.

قال: قلت: يا سيدي وهذا أحسن.

قال: فإن بقى في بياض بصيرتك وصرح عزيمتك بقية فاكتب: يا من جعل البصر عونا على بلائه، وجعل الشكر مادا لنعمائه أسألك صبرًا جميلًا على المحن وتوفيقا للشكر على المنن، فقد عظمت محنتك عن صبري، وجلت نعمتك عن شكري، فتفضل علي بإقراري بعفو أنت أوسع له وأقدر عليه، فإن لم يكن لذنبي عذر تقبله فاجعله ذنبا تغفره.

ص: 373

ثم قال: يا أبا عبد البر قم في مقام التبتل

(1)

، وقف موقف التنصل متعرضا للفضل بخشوع التذلل للقبول بلسان التوسل على العزيز المتفضل.

قال: قلت: يا سيدي ما أحسن هذا.

قال: هو من دعاء خاصة لملك، أفهمت.

قلت: نعم إن شاء اللَّه تعالى، ثم مسح بيده على بطني وصدري، فانتبهت فإذا أنا ذاكر لما خاطبني به، وما ذهب عني حرف.

قال السري: حدثنا أبو عبد البر عند صلاة الفجر بهذا الحديث فاستحسناه وكتبناه - رحمة اللَّه تعالى.

الحادية عشر: قال بعض الصالحين: صعدت جبل لبنان مع نفر نلتمس رجلا من العباد الزهاد المقيمين فيه، فسرنا ثلاثة أيام، فضربت على رجلي، فجلست على جبل شامخ، ومضى أصحابي يدورون في الجبل على أن يرجعوا إلي، فلم يعودوا وبقيت وحدي على غد ذلك اليوم، وطلبت ماء لأتطهر به للصلاة، فوجدت أسفل الجبل عينا فتوضأت منها، وقمت أصلي فسمعت صوت قارئ فلما فرغت من الصلاة اتبعت الصوت، فوجدت كهفا فدخلته فإذا فيه رجل ضرير جالس فسلمت عليه، فرد علي السلام.

وقال لي: أجني أنت أم إنسي؟

فقلت: بل إنسي.

فقال: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، ما رأيت ههنا إنسا منذ ثلاثين سنة غيرك ثم قال لي: لعلك تعبت، اطرح نفسك، فدخلت داخل الكهف فرأيت ثلاثة قبور صفا، فنمت عندها، فلما كان وقت صلاة الظهر صاح بي الصلاة يرحمك اللَّه، ولم أر رجلا أعرف بأوقات الصلاة منه.

فصليت معه، ثم قام يصلي، فلم يزل يصلي إلى العصر، قام قائمًا يدعو فسمعته يقول في دعائه:"اللهم أصلح أمة محمد، اللهم ارحم أمة محمد، اللهم فرج عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم"

فلما صلينا المغرب قلت له: من أين لك هذا الدعاء؟

قال: من دعا به كل يوم ثلاثة مرات كتبه اللَّه من البدلاء.

فقلت له: من علمك هذا الدعاء؟

(1)

تبتل إلى اللَّه: تفرغ لعبادته، بتَّل عمله للَّه: أخلصه من الرياء، وانبتل: انقطع.

ص: 374

قال: لا يحتمل إيمانك ذلك.

فلما صلينا العشاء قال لي: تأكل؟

فقلت: نعم.

قال: ادخل داخل الكهف فكل ما تجد، فدخلت فوجدت صخرة عليها زبيب وجوز وخرنوب وتفاح وتين وحبة الخضراء، كل واحد من ذلك ناحية فأكلت منه ما أردت.

فلما كان وقت السحر أوتر، وذلك أنه لم ينم في ليلته، ثم أكل مما هناك وصليت حتى صلينا الفجر فنام وهو جالس إلى أن طلعت الشمس نحو رمحين.

ثم قام فتوضأ ودخل الكهف، فقلت له من أين هذه الفاكهة؟ فما رأيت أطيب منها.

فقال سترى ذلك معاينة.

فدخل طائر جناحاه أبيضان، وصدره أحمر ورقبته خضراء، وفي منقاره حبة زبيب، وبين رجليه جوزة، فوضع الزبيبة على الزبيب، والجوزة على الجوز.

فلما أحسن بجناحه قال لي: رأيته؟

قلت: نعم.

قال: هذا الطائر يأتيني بهذه الفاكهة منذ ثلاثين سنة.

فقلت: كم يتردد إليك في اليوم؟

قال: سبع مرات.

فعددت فإذا به تردد خمسة عشر مرة، فعرَّفته ذلك، فقال: قد زادك مرة، واجعلنا في حل. ورأيت عليه من اللباس من لحاء شجر يشبه الموز، فقلت له: من أين لك هذا؟

فقال: يأتيني هذا الطائر في كل يوم عاشوراء بقشر قطع من هذا اللحاء، فأسوِّي منه قميصًا ومئزرا وكانت عنده مسلَّة يخيط بهاء اللحاء.

ورأيت بجنبه مما قد خلق من ذلك معروشًا.

ورأيت عنده حجرا يصب عليه الماء، ثم يأخذ الماء الذي ينزل منه فيسمح به الشعر الذي ينبت عليه فيحلقه.

فكنت عنده جالسا فدخل عليه سبعة نفر أعينهم مشقوقة بالطول حمر، وكانت ثيابهم شعورهم فقال لي: بالفارسية لا تفزع منهم، فهم من مسلمي الجن.

فقرأ عليه أحدهم سورة طه والآخر سورة الفرقان وآخر يُلقَّن من سورة الرحمن آيات.

ص: 375

ثم خرجوا وسمعته وهو ساجد يقول في سجوده: اللهم مُنَّ علىَّ بإقبالي عليك، والإصغاء إليك واتصالي بك والفهم عنك والبصيرة في أمرك والنفاذ في خدمتك، وحسن الأدب في معاملتك، ورفع صوته.

فقلت له: من أين هذا الدعاء؟

فقال: أُلْهمته، ولقد كنت أدعو به في بعض الليالي، فسمعت هاتفًا بي يقول: إذا دعوت بهذا الدعاء ففخم فإنه مستجاب.

فأقمت عنده أربعة وعشرين يوما ثم قال لي حدثني بقصتك كيف وصلت علي ههنا؟ فحدثته، وقال لي: لو علمت أن قصتك هذه ما تركتك عندي هذه المدة لأنك قد شغلت قلوب إخوانك، وقد ندموا على ما فرطوا في أمرك ورجوعك إليهم أفضل من مقامك عندي.

فقلت له: إني لا أعرف الطريق.

فسكت، فلما كان وقت الزوال قال لي: قم حتى تمضي.

فقلت له: أوصني وصية.

فقال: عليك بالجوع، وحسن الأدب، فإني أرجو لك أن تلحق بالقوم، وأهدي لك هدية أيضا.

اطلب يوم الزيادة بعد العصر بين زمزم والمقام رجلا وصفه لي.

ثم قال لي: إذا لقيته فاقرأ عليه السلام واسأله أن يدعو لك.

ثم خرج من الكهف وأنا معه، فإذا بسبع قائم على باب الكهف، فتكلم معه بكلام لم أفهمه ثم قال لي: اتبعه فإذا وقف فانظر عن يمينك أو يسارك فإنك تجد الطريق.

فسار السبع أمامي ساعة.

ثم وقف فنظرت عن يميني، فإذا أنا على عتبة دمشق، فدخلت الجامع فلقيت بعض من كان معنا فحدثتهم الحديث، وخرجنا جميعا ومعنا خلق كثير حتى صرنا إلى ذلك الجبل وذلك الموضع بعينه، فطلبنا الكهف ثلاثة أيام فلم نجده.

فقالوا لي: هذا شيء كشف لك وغطى عنا، فكنت أحج كل سنة وألتمس الرجل الذي وصفه لي فما كنت أراه.

حتى كان بعد ذلك بثمان سنين رأيته على الصفة والمكان، فسلَّمت عليه فرد السلام، فسألته الدعاء، فدعا لي بدعوات.

فقلت له: إن إبراهيم الكرماني يقرئك السلام.

ص: 376

فقال لي: وأين رأيته؟

فقلت: في جبل لبنان.

قال: رحمه الله.

قلت: أو قد مات؟

قال: نعم، الساعة دفنته عند إخوتي في الغار الذي كان فيه، وصلينا عليه. فبينا نحن نغسله إذا بالطائر الذي كان يأتيه بقوته قد سقط فلم يزل يضرب بجناحيه حتى مات.

فدفناه عند رجليه.

ثم قام الرجل فدخل في الطواف فلم أره بعد ذلك رحمه اللَّه تعالى.

الثانية عشرة: قال بعضهم أدركتني ضائقة وخوف شديد، فخرجت هائما، فسلكت طريق مكة بلا زاد ولا راحلة. فمشيت ثلاثة أيام، فلما كان في الرابع اشتد بي العطش والحر، وخفت على نفسي التلف ولم أجد في البرية شجرة استظل بها، فوكلت أمري إلى اللَّه، واستقبلت القبلة، فغلبتني عيناي وأنا جالس فرأيت شخصًا في المنام فصافحني وقال: أبشر أنت تسلِّم وتصل إلى بيته الحرام وتزور قبر نبيه صلى الله عليه وسلم.

فقلت له: من أنت؟

فقال: أنا الخضر.

فقلت له: ادع لي.

فقال: يا لطيف بخلقه، يا خبير بخلقه، ألطف بي يا لطيف يا عليم يا خبير ثلاث مرات.

فقلت ذلك.

فقال: هذه تحفة بها غنى الأبد، فإذا لحقتك ضائقة أو نزل بك نازلة فقلها، تكفي وتشفى ثم غاب عني وأنا أسمع شخصا ينادي: يا شيخ يا شيخ، فانتبهت.

فإذا برجل راكب على راحلة فقال لي: يا هذا رأيت لي شابا صفته كذا وكذا؟

فقلت: لا.

فقال: خرج شاب من أهلنا منذ سبعة أيام، وأخبرنا أنه توجه إلى الحج.

ثم قال لي: إلى أين تقصد؟

فقلت: حيث ما شاء اللَّه، فأناخ راحلته ونزل عنها، ومد يده على جراب فأخرج منه قرصي سميد وبينهما حلوى، ونزل بسطحية مملوءة ماء.

ص: 377

وقال: اشرب، فشربت وأكلت قرصًا واحدا فاكتفيت به.

ثم قال لي: اركب، وركب أمامى وسرنا ليلتين ويوما فالتحقنا بالقافلة، فسأل عن الشاب فأخبر أنه في القافلة.

فتركني ومضى، ثم أتاني بعد ساعة والشاب معه وقال: يا ولدي هوَّن اللَّه علي بالاجتماع بك اجتماعي بهذا الرجل.

ثم ودعتهما وانصرفت ولحقني الرجل بكاغدة وناولني إياها، وقبَّل يدي وانصرف.

فوجدت بها خمسة دنانير مصرية، اكتريت منها إلى مكة، وتزودت ببقيتها، وحججت تلك السنة، وزرت النبي صلى الله عليه وسلم والخليل. عليه السلام.

وكلما أدركتني ضائقة أو نازلة أذكر تلك الكلمات التى علمنى الخضر وأعترف بفضله ومنه، وأشكره على نعمته.

تمن على ذي العرش ما شئت إنه

مجيد كريم لا يُخَيِّبُ سائلا

الثالثة عشرة: عن الليث رحمه الله قال: حججت سنة ثلاث عشرة ومائة، فأتيت مكة.

فلما صليت العصر رقيت أبا قبيس، فإذا رجل جالس وهو يدعو فقال: يا رب حتى انقطع نفسه ثم قال: يا اللَّه يا اللَّه حتى انقطع نفسه.

ثم قال: يا حي يا حي كذلك.

ثم قال: يا رحيم كذلك، ثم قال: يا أرحم الراحمين سبع مرات. ثم قال: اللهم إني اشتهيت هذا العنب فأطعمنيه.

اللهم إن بُرْدِي قد خلق.

قال الليث. فواللَّه ما استتم كلامه حتى أُتِيَ بسلة مملوءة عنبًا، وليس على الأرض يؤمئذ عنب. وبردين موضوعين، فأراد أن يأكل.

فقلت: أنا شريك.

فقال لي: ولم؟ قلت: لأنك كنت تدعو وأنا أؤمن.

فقال لي: تقدم فكل ولا تُخبأ منه شيئًا فتقدمت وأكلت شيئًا لم آكل مثله قط، وإذا عنب لا عجم فيه، فأكلت حتى شبعت، والسلة لم تنقضي شيئا.

ثم قال: خذ أيَّ البردين شئت.

فقلت: أنا أغنى عنهما.

قال: توار عني حتى ألبسهما، فتواريت عنه. فائتزر بأحدهما وارتدى بالآخر،

ص: 378

ثم أخذ البردين الذين كانا عليه فجعلهما على يديه، ونزل.

واتبعته حتى إذا كان بالمسعى لقيه رجل فقال: اكسنى كساك اللَّه يا ابن رسول اللَّه، فدفعهما إليه.

فلحقت الرجل فقلت: من هذا؟

فقال: هذا جعفر بن محمد علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فطلبته فلم أجده.

الرابعة عشرة: عن بعض المشايخ قال: كان لي زوجة كنت مشغوفًا بها، فبينا أنا عندها في بعض الأيام في البيت نائم أدركتني حالة في المنام فسمعت ما نطقت به وعاينت حركتي، وكانت حالة عظيمة.

فلما أفقت قالت: ما شأنك يا سيدي؟

فقلت: ما رأيت؟

قالت: خيرًا.

فسكت عنها، ثم خرجت وخليتها.

فقالت لخادم لنا ناد لي أمي وأختي، فناداهما.

فاجتمعت بهما وقالت جرى لزوجي كذا وكذا. وأخبرتها بالصورة، وقالت واللَّه ما بقيت له بزوجة أبدًا، فإنه مجنون فعزلها أهلها عن ذلك وقصدوا ردها فأبت، فقالوا، تقيمين في الدار حتى نجتمع معه.

فلما علمت بذلك أتيت إليها وقلت: ما مقصودك قالت: الفراق وإلا قتلت نفسي، وأنت السبب في ذلك.

فقال: أمهليني سبعة أيام.

فقالت: نعم، ثم إني وجدت مشقة كبيرة في فراقها، فقصدت رضاها بشيء من الدنيا، فأبت فأرسلت إليها جماعة من أهلي فأبت، فلما تيقنت عزمها على ما ذكرت، لحقني وَلَه وتغيرت أحوالي وتشوش خاطري ولم أجد ما يحمل ذلك عني.

فلما بقى من الأجل ليلة واحدة، وقد اشتد بي الحال، وضاقت بي الأرض، رجعت إلى اللَّه وفوضت أمري إليه وعزمت على أن ما يفعله اللَّه أرضى به.

ثم دعوت بهذه الكلمات: اللهم يا عالم الخفيات ويا سامع الأصوات، ويا من بيده ملكوت الأرض والسموات، يا مجيب الدعوات استغثت بك واستجرت بك يا مجير أجرني ثلاث مرات.

ثم جلست حتى كان النصف الآخر من الليل، وأنا مستقبل القبلة وإذا بها قد

ص: 379

دخلت فقبلت رجلي وقالت: سألتك باللَّه العظيم إلا رضيت عني، فقد تبت مما كنت أطلبه منك.

وقد رجعت إلى اللَّه فاسأله أن يقبل توبتي.

فقلت: لا أرضى عنك حتى تخبريني بسبب هذا.

فقالت: كنت البارحة مصرة على ذلك العزم فأتى رجل في المنام وبيده اليمنى سوط، وفي الأخرى سكين وقال لي: إن رجعت عن هذا الأمر وإلا قتلتك بهذا السكين، ثم جلدني ثلاث جلدات.

فانتبهت مرعوبة وحرارة ذلك الضرب في قلبي فقعدت ساعة ثم نمت فرأيت الرجل بعينه قد أتاني وبيده السوط والسكين، وقال لي أما حذرتك ووعظتك وأمرتك، ثم رفع يده على.

فانتبهت مرعوبة وأتيت إليك مسرعة لتقبل توبتي وترضي عني وتسأل اللَّه لي.

ثم كشفت عن جسدها فرأيت أثر ثلاث ضربات فقلت لها: يتوب اللَّه عليَّ وعليك، وقد رضيت عنك في الدنيا والآخرة.

فقالت: صداقي هبة لك، شكرا للَّه، وعندي عشرون دينارا من حليتي، وهي وثيابي للفقراء شكرا للَّه.

فلما أصبحت فعلت ذلك.

ثم نظرت لطف اللَّه بي، وعلمت أنه ثمرة الرضا علي ما فعل، وتيقنت أن الأمور كلها بيده ثم أقمت معها بعد ذلك سبع سنين وأنا في أكمل مسرة، ثم ماتت فرأيتها في المنام في أجمل صورة وعليها من الحلي والحلل ما لا أطيق وصفه. فقلت لها: ما لقيت من ربك؟

فقالت: كما ترى، وأنا منتظرة لقاك رضي اللَّه عنك، كما رضيت عني.

الخامسة عشرة: روى أنه كان على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجل يتجر من الشام إلى المدينة ومن المدينة إلى بلاد الشام.

ولا يصحب القوافل توكلا على اللَّه.

فقدم مرة من الشام يريد المدينة، إذ عرض له لص على فرس فصاح بالتاجر، فوقف وقال شأنك مالي وخلِّ سبيلي.

فقال له اللص: المال مالي، وإنما أريد نفسك.

فقال له: التاجر: انظرني حتى أتوضأ وأصلي وأدعو ربي قال: افعل ما بدا لك.

ص: 380

فقام التاجر فتوضأ وصلى أربع ركعات، ثم رفع يديه وكان من دعائه يا ودود ثلاثا يا ذا العرش المجيد يا مبدئ يا معيد يا فعال لما تريد أسألك بنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك وأسألك بقدرتك التي قدرت بها على جميع خلقك وبرحمتك التي وسعت كل شيء، لا إله إلا أنت، يا مغيث أغثني ثلاثًا.

فلما فرغ إذا بفارس على فرس أشهب وعليه ثياب خضر وبيده حربة من نور، فلما نظر اللص قتله ثم رجع إلى التاجر وقال: اعلم أني ملك من ملائكه السماء الثالثة حين دعوت المرة الأولى سمعنا لأبواب السماء قعقعة فقلنا: أمر حدث، ثم دعوت الثانية ففتحت أبواب السماء ولها شرر كشرر النار.

ثم دعوت الثالثة فهبط جبريل وهو ينادي من لهذا المكروب، فدعوت ربي أن يوليني قتله، واعلم يا عبد اللَّه أن من دعا بدعائك هذا في كل كربة وشدة وكل نازلة، فرج اللَّه عنه وأعانه، وجاء التاجر سالما غانما حتى دخل المدينة، وجاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأخبره بالقصة وبالدعاء.

فقال صلى الله عليه وسلم: "لقد لقنك أسماءه الحسنى التي إذا دعي بها أجاب، وإذا سئل بها أعطى".

السادسة عشرة: روى أنه كان بالكوفة رجل يكاري ويثق به التجار ويأمنونه على أموالهم، فسار وحده في وقت.

فلما خرج من العمران لقيه في طريقه رجل فقال: أين تريد؟

فقال المكاري: أريد كذا وكذا.

فقال له الرجل: لولا قلة مقدرتي على المشي لكنت رفيقك إليها، لكن إن شئت أعطيتك دينارًا، وتحملني على دابتك.

فقال له: أفعل.

فأخذه وحمله على دابته، فلما صار في بعض الطريق ظهر لهما طريقان.

فقال الراكب لصاحب الدابة أيهما نأخذ؟

فقال: الزم الجادة.

فقال له الراكب: أليس هذا الطريق أقصر وأخصب لدابتك؟

فقال: ما سلكتها قط.

قال: أنا سلكتها مرارا كثيرة.

قال: فسر حيث شئت، فسار من النهار حتى رفَّت تلك الطريق، ورمتهم إلى وادٍ مُوحش فيه جيف القتلى كثيرة.

ص: 381

فقال المكاري: أرى هذه الطريق قد انقطع.

فنزل الرجل عن الدابة وأخرج سكينا وقصد قتل المكاري.

فقال له: لا تفعل ودونك البغل وما عليه.

قال: لا واللَّه لا آخذ البغل حتى أقتلك.

فقال له: سألتك باللَّه العظيم إلا ما تركتني وأخذت البغل بما عليه.

فقال: لا بد من قتلك إلا أن يسبقني ملك الموت.

قال: فدعني أختم عملي بركعتين ولا تعجل عليَّ فضحك من كلامه وقال: قم فافعل فإنه قد فعل مثل ذلك كل من ترى، فما نفعتهم صلاتهم ولا خلصهم مني، فعجِّل صلاتك.

فقام يصلي، فكبر، ثم قرأ بأم القرآن ثم تلجلج ولم يدر ما يقول، فنهره وقال: عجِّل: لا أم لك فألهمه اللَّه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}

(1)

.

فرفع صوته وهو يبكي، فإذا بفارس قد خرج من بطن الوادي وبيده رمح، وفي رأسه سنان كأنه كوكب مضيء فأجاب، فقصد الرجل أسرع من اللحظة فطعنه طعنة من ورائه خرَّ بها على وجهه.

ثم التهب في المكان الذي وقع فيه النار.

فلما رأى ذلك صاحب الدابة خر ساجدا للَّه ما شاء اللَّه، ثم رفع رأسه إلى الفارس وقال: سألتك باللَّه الذي رحمني بك من هذا المكان من أنت؟

فقال: أنا عبد لمن يجيب المضطر إذا دعاه.

اذهب حيث شئت فلا بأس عليك.

وأنشدوا:

لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا

وقمت أشكو إلى مولاي ما أجد

فقلت يا أملي في كل نائبة

ومن عليه لكشف الضر أعتمد

أشكو إليك أمورا أنت تعلمها

ما لي على حملها صبر ولا جلد

وقد مددت يدي بالصبر مبتهلًا

إليك يا خير من مدت إليه يد

فلا تردنها يا رب خائبة

فبحر جودك يروي كل من يرد

السابعة عشرة: حكى أن بعض الملوك غضب على بعض الفقراء، فبنى عليه قبة ولم يترك له منفذا ومنعه الطعام والشراب.

(1)

سورة النمل [62].

ص: 382

فلما كان بعد ثلاث وجد الفقير خارجا في عافية فأخبر الملك بذلك، فأحضره فقال له: ما الذي نجاك من هذه الشدة، وفرج عنك هذه الكربة وأنقذك مما كنت فيه.

ما سبب خلاصك؟

قال له: دعاء دعوت به.

قال: وما هو؟

قال: قلت: اللهم إني أسألك يا لطيف ثلاثا، يا من وسع لطفه أهل السموات والأرض، أسألك أن تلطف بي من خفي خفي خفيِّ لطفك الخفي الخفي الخفيّ الذي إذا لطف به لأحد من عبادك كفى.

فإنك قلت وقولك الحق: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [الشورى: 19] الآية.

الثامنة عشرة: حكى أن امرأة إسرائيلية كان لها دار بجوار قصر الملك، وكانت تشين القصر وكلما رام الملك منها بيع الدار تأبى، فخرجت في سفر، فأمر الملك بهدمها.

فلما جاءت قالت من هدم داري؟

قيل: الملك، فرفعت رأسها على السماء، وقالت إلهي وسيدي ومولاي غبت أنا وأنت حاضر، للضعيف معين، وللمظلوم ناصر، ثم جلست فخرج الملك في موكبه، فلما نظر إليها قال: ما تنتظرين قالت: انتظر جواب قصتك.

فهزئ بقولها وضحك، فلما جن عليه الليل خسف به وبقصره، ووجد على بعض حيطانه مكتوب:

أتهزأ بالدعاء وتزدريه

(1)

وما يدريك ما صنع الدعاء

سهام الليل لا تخطئ ولكن

لها أمد وللأمد انقضاء

وقد شاء الإله بما تراه

فما للملك عندكم بقاء

(1)

ازدراه: حقره وعابه، وزري عليه زريا وزراية: عابه وعتب عليه. وأزرى بالشيء تهاون به وقصر.

ص: 383

‌مجلس في الصمت

قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)}

(1)

.

وروينا في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت"

(2)

.

وروينا في جامع الترمذي

(3)

مصححا من حديث معاذ قلت: يا رسول اللَّه أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار.

قال: لقد سألتني عن عظيم، وأنه ليسير على من يسره اللَّه عليه، تعبد اللَّه ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان وتحج البيت، ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل.

قال: ثم تلا {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}

(4)

حتى بلغ {يَعْمَلُونَ} .

(1)

سورة ق [18].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [6018] كتاب الأدب، [31] باب من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فلا يؤذ جاره. ومسلم في صحيحه [74 - (47)] كتاب الإيمان، [19] باب الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت إلا عن الخير، وكون ذلك كله من الإيمان. والترمذي في سننه [1967] كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الضيافة كما هو، والبيهقي في السنن الكبرى [8/ 164]، وابن ماجه في سننه [3971]. وبذلك في الموطأ [929] قال [النووي: قوله صلى الله عليه وسلم: "فليقل خيرا أو ليصمت" فمعناه أنه إذا أراد أن يتكلم فإن كان ما يتكلم به خيرًا محققًا يثاب عليه واجبا أو مندوبا فليتكلم، وإن لم يظهر له أنه خير يثاب عليه، فليمسك عن الكلام، سواء ظهر له أنه حرام أو مكروه أو مباح مستوى الطرفين فعلى هذا يكون الكلام المباح مأمورا يتركه مندوبا إلى الإمساك عنه مخافة من انجراره على المحرم أو المكروه وهذا يقع في العادة كثيرا وغالبا. [النووي في شرح مسلم [2/ 17] طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه الترمذي فيِ سننه [2616] كتاب الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة، وابن ماجه في سننه [3973] كتاب الفتن باب كف اللسان في الفتنة، والنسائي في الكبرى في التفسير. وأحمد في مسنده [5/ 230، 231]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 528]، والطبراني في المعجم الكبير [18/ 351] والسيوطي في الدر المنثور [2/ 337، 5/ 175].

(4)

سورة السجدة [16].

ص: 384

ثم قال: "ألا أخبرك برأس الأمر كله وعموده وذروة سنامه؟ "، قلت: بلى يا رسول اللَّه.

قال: "رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ "

قلت: بلى يا نبي اللَّه، فأخذ بلسانه.

قال: "كف عليك هذا"، فقلت: يا نبي اللَّه، وإنا لمؤاخذون مما نتكلم به؟

فقال: "ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم"

(1)

.

ولنذكر من الحكايات ما يليق بذلك:

فالأول عن ذي النون المصري -رحمة اللَّه عليه- قال: بينا أن أسير في نواحي الشام إذ وقعت في روضة خضراء، وفي وسطها شاب قائم يصلي تحت شجرة تفاح، فتقدمت إليه، وسلمت عليه، فلم يرد علي السلام.

فسلمت عليه ثانيا فأوجز في صلاته، ثم كتب في الأرض بإصبعه:

منع اللسان من الكلام لأنه

كهف البلاء وجالب

(2)

الآفات

فإذا نطقت فكن لربك ذاكرًا

لا تنسه واحمده في الحالات

قال ذو النون: فبكيت طويلًا وكتبت بإصبعي في الأرض:

وما من كاتب إلا سيبلى

ويبقى الدهر ما كتبت يداه

فلا تكتب بكفك غير شيء

يسرك في القيامة أن تراه

قال: فصاح الشاب صيحة فارق الدنيا.

فقمت لآخذ في غسله ودفنه، وإذا بقائل يقول: خل عنه فإن اللَّه عز وجل وعده أن لا يتولى أمره إلا الملائكة.

قال ذو النون:

(3)

فقمت إلى شجرة فركعت عندها ركعتين، ثم أتيت الموضع

(1)

تم تخريجه في أوله.

(2)

جلب الشيء: ساقه من موضع إلى آخر فهو جالب وجلَّاب.

(3)

قال السلمي في كتاب المحن: إن ذا النون أول من تكلم ببلدته في ترتيب الأحوال ومقامات أهل الولاية، أنكر عليه عبد اللَّه بن عبد الحكم وكان رئيس مصر، وكان يذهب مذهب مالك، ولذلك هجره علماء مصر، حتى شاع خبره، وأنه أحدث علما لم يتكلم فيه السلف، وهجروه حتى رموه بالزندقة. قال: فدخل عليه أخوه فقال: إن أهل مصر يقولون: أنت زنديق فأنشأ يقول:

ومالي سوى الإطراق والصمت حيلة

ووضعي كفى تحت خدي وتذكاري

[انظر تاريخ الإسلام للذهبي. وفيات (241 - 250)].

ص: 385

الذي مات فيه فلم أجد له أثرا ولا أعرف له خبرا - رحمه اللَّه تعالى.

فائدة: قال محمد بن حازم: قال وهب: وجدت العزلة كلها في كف اللسان.

وقال وهب: يقال الحكمة عشرة، فتسعة منها في الصمت، والعاشر في عزلة الناس.

قال: فعالجت نفسي على الصمت، فلم أجدني أضبط كل ما أريد منه.

فرأيت أن هذه الأجزاء العشرة عزلة الناس.

الثانية: عن ميمون بن مهران

(1)

قال: جاء رجل إلى سلمان فقال: أوصني، قال: لا تتكلم، فإن تكلمت تكلم بحق أو اسكت.

قال: زدني، قال: لا تغضب.

قال: إنه ليغشاني ما لا أملكه.

قال: فإن غضبت أملك لسانك ويدك.

قال: زدني، قال لا تلابس الناس.

قال: لا يستطيع من عاش في الناس أن لا يلابسهم قال: فإن لابستهم فاصدق الحديث وأد الأمانة.

فائدة: قال عطاء بن رباح: "أن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام، يعدون فضوله ما عدا كتاب اللَّه أن تقرأه وتأمر بمعروف وتنهى عن المنكر، أو تنطق بحاجتك في معيشتك التي لا بد لك منها أتنكرون أن عليكم حافظين كرامًا كاتبين {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ}

(2)

الآية أما يستحي أحدكم لو نشرت عليه صحيفته التي (أخلا)

(3)

صدر نهاره كان أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه.

(1)

ميمون بن مهران، أبو أيوب الجزري الرقي الفقيه، الجريري، وكان يرسل، وهو ثقة فقيه ولي الجزيرة لعمر بن عبد العزيز، أخرج له البخاري في الأدب ومسلم وأصحاب السنن الأربعة، توفي سنة [117 - 118]. ترجمته تهذيب التهذيب [10/ 390]، التقريب [2/ 292].

(2)

سورة ق [17]{إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} [ق: 17] يعني الملكين اللذين يكتبان عمل الإنسان {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: 17] أي مترصد {مَا يَلْفِظُ} أي ابن آدم {مِنْ قَوْلٍ} أي ما يتكلم بكلمة {إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} أي إلا ولها من يرقبها معد لذلك يكتبها لا يترك كلمة ولا حركة كما قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)} [تفسير ابن كثير (4/ 224)].

(3)

كذا بالأصل.

ص: 386

نادرة: قال صالح بن أبي الأخضر

(1)

: قلت لأيوب أوصني قال: اقلل الكلام.

الثالثة: عن محمد بن رافع

(2)

قال: أقبلت من بعض بلاد الشام، فبينا أنا في بعض الطريق رأيت رجلًا عليه جبة من الصوف وبيده ركوة.

فقلت: أين تريد؟

قال: لا أدري، فظننته موسوسًا.

فقلت: من خلقك؟ فاصفر لونه حتى خلته صبغ بزعفران، ثم قال: خلقني من لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.

فقلت: رحمك اللَّه أنا من إخوانك، ومن يأنس إلى أمثالك فلا تنقبض عني، فقال: واللَّه لو جاز لي ترك الجماعات حتى أنفرد في شاهق منيف صعب المرتقى. أو في غار موحش لعلي أجد قلبي ساعة يسلو عن الدنيا وأهلها فعلت.

فقلت: وما جنت عليك الدنيا حتى استحقت عليك هذا البغض؟

فقال: (حنانا)

(3)

بها.

فقلت: هل من دواء يعالج به هذا العمى الذي قد حجب مني ما يراد بي.

قال: ما أراك تقدر على العلاج فاستعمل من الدواء أيسره.

قلت: صف لي دواء لطيفًا.

قال: فما داؤك؟

قلت: حب الدنيا.

فتبسم وقال: أي فرحة أعظم من هذه، ولكن اشرب السموم الطريفة والمكارم الصعبة.

(1)

صالح بن أبي الأخضر اليمامي، البصري مولى هشام بن عبد الملك، ضعيف يعتبر به، أخرج له: أبو داود والترمذي في الشمائل توفي سنة [140] إلى سنة [150]. ترجمته: تهذيب التهذيب [4/ 380]، تقريب التهذيب [1/ 358]، الكاشف [2/ 18]، تاريخ البخاري الكبير [4/ 273]، الجرح والتعديل [4/ 1727]، ميزان الاعتدال [2/ 288]، لسان الميزان [7/ 244]، الوافي بالوفيات [16/ 257]، سير الإعلام [7/ 303].

(2)

محمد بن رافع بن أبي زيد، وأبو عبد اللَّه سابور القشيري، الزاهد، النيسابوري ثقة، عابد، أخرج له أصحاب الكتب الستة عدا ابن ماجه، توفي سنة [245]. ترجمته: تهذيب التهذيب [9/ 160]، تقريب التهذيب [2/ 160]، الكاشف [3/ 42]، تاريخ البخاري الكبير [1/ 81]، الجرح والتعديل [7/ 1391]، العبد [1/ 445]، الوافي بالوفيات [3/ 68]، التمهيد [1/ 255]، سير أعلام النبلاء [12/ 214].

(3)

كذا بالأصل.

ص: 387

قلت: ثم ماذا؟

قال: الوحشة التي لا أنس فيها، والتفرقة التي لا اجتماع فيها.

قلت: ثم ماذا؟. قال: السلو عما تريد، والصبر على ما لا تحب، وإن أردت فاستعمل هذا وإلا فتأخر واحذر الفتن التي كأنها قطع الليل المظلم.

قلت: فدلني على عمل يقربني من اللَّه.

فقال: يا أخي قد نظرت في جميع العبادات.

فلم أر أنفع من الفرار من الناس وترك مخالطتهم، وقلة الكلام، يا أخي رأيت القلب عشرة أجزاء، فتسعة مع الناس وجزء مع الدنيا، فمن يقوى على الانفراد بتسعة أجزاء من القلب.

ثم غاب عني فلم أره.

الرابعة: عن أبي سلمان المغربي قال: كنت أحمل الحطب من الجبل وأتقوت من ثمنه، وكان طريقي فيه التوقي والتحري.

فرأيت في المنام جماعة من البصريين فيهم الحسن البصري وفرقد السبخي

(1)

ومالك بن دينار، فسألتهم من علم حالي فقلت: أنتم أئمة المسلمين دلوني على الحالات التي ليس للَّه عز وجل فيها تبعة ولا للمخلوق فيه منة.

(2)

فمكثت آكل ثلاثة أشهر نيًّا ومطبوخًا في دار السبيل، فظهر لي حديث، فقلت: هذه فتنة.

فخرجت من دار السبيل، ومكثت آكل ثلاثة أشهر أخرى، فأوجدني اللَّه تعالى قلبا طيبا حتى قلت إن كان أهل الجنة بهذا القلب فهم واللَّه العظيم في شيء طيب، وما كنت آنس بكلام الخلق.

فخرجت يومًا إلى بعض الصهاريج، فجلست عنده وإذا أنا بفتى قد أقبل من ناحية يريد طرسوس. وقد بقى معي قطعيات من ثمن الحطب السالف فقلت: أنا قد قنعت بالحباري

(3)

، أعطى هذه هذا الفقير ليأكل به شيئًا.

فلما دنا مني أدخلت يدي إلى جيبي لأخرجها، وإذا أنا بالفقير قد حرَّك شفتيه،

(1)

فرقد بن يعقوب، أبو يعقوب السبخي البصري، الكوفي، صدوق، عابد لكنه لين الحديث كثير الخطأ، أخرج له: الترمذي وابن ماجه، توفي سنة [131]. تهذيب [8/ 262] التقريب [2/ 108].

(2)

مَنَّ عليه منًّا: أنعم عليه نعمة طيبة والمِنَّةُ: الإحسان والإنعام، جمعها: منن.

(3)

الحُبارى: طائر طويل العنق رمادي اللون على شكل الإوزة، في منقاره طول.

ص: 388

وإذا كل ما حولي ذهب يتقد، كاد يخطف بصري، ولبستني منه هيبة، فجاء فلم أسلم عليه من هيبته.

ثم رأيته بعد ذلك خارج طرسوس جالسًا تحت برج بين يديه ركوة فيها ماء.

ثم استدعيت منه موعظة، فمد رجله وقلب الماء ثم قال: إن كثرة الكلام تنشف الحسنات كما نشفت الأرض هذا الماء، قم يكفيك.

شعر:

كن عن جميع الخلق مستوحشا

مستأنسًا بالواحد الحق

واصبر فبالصبر تنال المنى

وارض بما يجري من الرزق

واحذر من النطق وآفاته

فآفة المؤمن في النطق

وجدَّ في السير وشمر كما

شمر أهل السبق للسبق

أولئك الصفوة ممن سما

وخيرة اللَّه من الخلق

ص: 389

‌مجلس من ترك الغيبة

قال تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}

(1)

الآية.

فنهى عنها، ونفر منها بما ذكر بعد، وحذر ورغب في التوبة.

وقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)}

(2)

.

نهى عن اقتفاء ما لا علم له بإباحته، أو تشريعه ولو قيل: المعنى ما ليس لك به علم نافع، لساغ، وقال تعالى:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)}

(3)

.

فينبغي للعاقل التحفظ من ذلك والإمساك عن الكلام، إلا ما ظهر فيه المصلحة، وقد ينجز المباح إلى غيره، فالإمساك أحوط.

فلا تكتب بكفك غير شيء

يسرك في القيامة أن تراه

وروينا من حديث أبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون ما الغيبة؟ " قالوا: اللَّه ورسوله أعلم

(4)

.

(1)

سورة الحجرات [12].

(2)

سورة الإسراء [36].

قال على بن أبي طلحة عن بن عباس يقول: لا تقل وقال العوفي عنه: لا ترم أحدا بما ليس به علم. وقال محمد بن الحنفية: يعني شهادة الزور، وقال قتادة: لا تقل: رأيت ولم ترى وسمعت ولم تسمع وعلمت ولم تعلم فإن اللَّه تعالى سائلك عن ذلك كله ومضمون ما ذكروه أن اللَّه تعالى نهى عن القول بلا علم بالظن الذي هو التوهم والخيال كما قال تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]. [تفسير ابن كثير (3/ 40)].

(3)

سورة ق [18].

(4)

قال النووي: لكن تباح الغيبة لغرض شرعي وذلك لستة أسباب: أحدها: التظلم، فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما. والثاني: الاستغاثة على تغير المنكر ورد العاصي على الصواب فيقول لمن يرجو قدرته فلان يعمل كذا فازجره عنه ونحو ذلك. الثالث: الاستفتاء بأن يقول للمفتي ظلمني فلان أو أبي أو أخي أو زوجي بكذا فهل له ذلك وما طريقي في الخلاص منه ودفع ظلمه عني ونحو ذلك. الرابع: تحذير المسلمين من الشر منها جرح المجروحين من الرواة والشهود والمصنفين والإخبار بعيبه عند المشاورة في مواصلته وغيره. الخامس: أن يكون مجاهرا بفسقه أو بدعته كالخمر ومصادرة أموال الناس وجباية المكوس وتولى الأمور الباطلة فيجوز ذكره بما يجاهر به ولا يجوز لغيره إلا بسبب آخر. السادس: =

ص: 390

قال: "ذكرك أخاك بما يكره". قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟

قال: "إن كان فيه ما تقول، فقد أغتبته وإن لم يكن فيه، فقد بهته"

(1)

رواه مسلم وعن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدروهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم"

(2)

رواه أبو داود.

وفيه والترمذي وقال حسن صحيح من حديث عائشة: قالت: "قلت لرسول اللَّه حسبك من صفية كذا وكذا".

-قال بعض الرواة يعني قصيرة- قال: "لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته" قالت: وحكيت له إنسانا.

فقال: "ما أحب أني حكيت إنسانا وإن لي كذا وكذا"

(3)

.

ومعنى مزجته: خالطته يتغير طعمه أو ريحه لشدة نتنها وقبحها، وإنه لزجر بليغ عنها فشيء يخالط البحر المحيط بالدنيا لا أقبح منه.

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت"

(4)

.

هو ظاهر في السكوت عند عدم الخيرية.

وفيهما من حديث أبي موسى: قلت: يا رسول اللَّه أيُّ المسلمين أفضل؟

= التعريف فإذا كان معروفا بلقب كالأعمش والأعرج والأزرق والقصير والأعمى والأقطع ونحوها. [مختصرا من النووي في شرح مسلم [16/ 117، 118] طبعة دار الكتب العلمية].

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [70 - (2589)] كتاب البر والصلة والآداب، [20] باب تحريم الغيبة. والبيهقي في السنن الكبرى [10/ 247]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [4828].

(2)

أخرجه أبو داود في سننه [4878] كتاب الأدب، باب في الغيبة. والزبيدي في إتحاف السادة المتقين [7/ 33] والسيوطي في الدر المنثور [4/ 150، 6/ 96].

(3)

أخرجه أبو داود في سننه [4875] كتاب الأدب، باب في الغيبة. والترمذي [2502، 2503] كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب [51]، وأحمد في مسنده [2/ 128، 136، 206]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 505]، والبيهقي في السنن الكبرى [10/ 247]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [4857]، والزبيدي في الإتحاف [7/ 503].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [6018] كتاب الأدب، [31] باب من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فلا يؤذ جاره. ومسلم في صحيحه [74 - (47)] كتاب الإيمان [19] باب الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت إلا عن الخير وكون ذلك كله من الإيمان. والترمذي [1967، 2500]، والبيهقي في السنن الكبرى [8/ 164]، وابن ماجه في سننه [3971] والزبيدى في الإتحاف [6/ 306، 7/ 358] ومالك في الموطأ [929] والسيوطي في الدر المنثور [2/ 220].

ص: 391

قال: "من سلم المسلمون من لسانه ويده"

(1)

.

وفيهما من حديث أبى هريرة مرفوعًا: "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها ينزل بها الى النار أبعد ما بين المشرق والمغرب"

(2)

.

ومعنى يتبين: يتفكر أنها حرام أو لا.

وفيهما من حديث سهل مرفوعًا: "من يضمن لي ما بين لحييه، وما بين رجليه أضمن له الجنة"

(3)

.

ورواية الترمذي مصححًا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من وقاه اللَّه تعالى شر ما بين لحييه وشر ما بين رجليه دخل الجنة"

(4)

.

وروينا في صحيح البخاري عنه مرفوعًا: "إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان اللَّه تعالى ما يلقى لها بالا يرفع اللَّه لها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط اللَّه لا يلقى لها بالا يهوى بها في جهنم"

(5)

.

قلت: فليحذر من المعرّات {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15].

وروينا في موطأ مالك، وجامع الترمذي من حديث بلال بن الحارث المزني مرفوعًا: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان اللَّه تعالى ما كان يظن أن يبلغ ما

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [11] كتاب الإيمان، [5] باب أي الإسلام أفضل، ومسلم في صحيحه [64 - (40)] كتاب الإيمان، [14] باب بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل. والترمذي [2504، 2627]، والنسائي [8/ 107 - المجتبي]، وأحمد في مسنده [2/ 191، 206] والبيهقي في السنن الكبرى [10/ 243]، والحاكم في المستدرك [3/ 626]، وابن أبي شيبه في مصنفه [9/ 64]، والطبراني في المعجم الصغير [1/ 253]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 522].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [6477] كتاب الرقاق، [23] باب حفظ اللسان ومسلم في صحيحه [49 - (2988)] كتاب الزهد والرقائق، [6] باب التكلم بالكلمة يهوي بها في النار. والبيهقي في السنن الكبرى [8/ 164]، والحاكم في المستدرك [1/ 45].

والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 536].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [6474] كتاب الرقاق، [23] باب حفظ اللسان. والبيهقي في السنن الكبرى [8/ 166]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [4812].

(4)

أخرجه الترمذي في سننه [2409] كتاب الزهد، باب ما جاء في حفظ اللسان، والحاكم في المستدرك [4/ 357]، والزبيدي في الإتحاف [7/ 450]، والعجلوني في كشف الخفا [2/ 357].

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه [6478] كتاب الرقاق، [23] باب حفظ اللسان، وأحمد في مسنده [2/ 334]، والبيهقي في السنن الكبرى [8/ 165]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 536].

ص: 392

بلغت يكتب اللَّه له بها رضوانه إلى يوم يلقاه وإن الرجل ليتكلم من سخط اللَّه ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب اللَّه له بها سخطه إلى يوم القيامة"

(1)

.

قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

وسخطه تعالى لا طاقة لنا به، فكيف مؤبده نعوذ باللَّه من ذلك.

وروينا من حديث سفيان بن عبد اللَّه قال: قلت يا رسول اللَّه حدثني بأمر أعتصم به. قال: "قل: ربي اللَّه ثم استقم".

قال: يا رسول اللَّه ما أخوف ما تخاف عليَّ، فأخذ بلسان نفسه ثم قال:"هذا"

(2)

.

رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

وأما الحكايات: فالأولى: عن الجنيد رحمه الله قال: كنت جالسًا في مسجد الشوينزيه انتظر جنازة للصلاة، وأهل بغداد على طبقاتهم ينتظرونها رأيت فقيرًا عليه أثر النسك

(3)

يسأل الناس، فقلت في نفسي: لو عمل هذا عملا يصون به نفسه لكان أجمل به.

فلما انصرفت إلى منزلي وكان لي شيء من الوِرْدِ

(4)

بالليل فثقل عليَّ وِرْدِي فسجدت وأنا قاعد وغلبتني عيني، فرأيت ذلك الفقير جاءوا به إليَّ على خوان ممدود وقالوا لي: كل لحمه فقد اغتبته، كشف لي عن الحال، فقلت ما اغتبته وإنما قلت في نفسي شيئًا.

فقيل لي: ما أنت ممن يُرْضَي منك بمثله، اذهب فاستحله.

(1)

أخرجه الترمذي في سننه [2319] كتاب الزهد، باب في قلة الكلام. والنسائي في الكبرى في الرقائق، وابن ماجه [3969] كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة والحاكم في المستدرك [1/ 45]، وابن حبان في صحيحه [1576 - المورد]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 197]، والطبراني في المعجم الكبير [1/ 354].

(2)

أخرجه الترمذي في سننه [2410] كتاب الزهد، باب ما جاء في حفظ اللسان. وابن ماجه في سننه [3972] كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة. وأحمد في مسنده (3/ 413)، والحاكم في المستدرك [4/ 313]، وابن حبان في صحيحه [2543 - المورد] وابن أبي عاصم في السنة [1/ 15]، والطبراني في المعجم الكبير [7/ 78]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 527]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [1/ 65]، والسيوطي في الدر المنثور [3/ 347]، والزبيدي في الإتحاف [7/ 451] وبنحوه أخرجه مسلم في صحيحه [62 - (38)] كتاب الإيمان، [13] باب جامع أوصاف الإسلام.

(3)

نَسَكَ فلان نسكًا: تزهد وتعبد، وتَنَسَّك أي تزهد وتعبد.

(4)

الورْدُ: النصيب من القرآن أو الذكر.

ص: 393

فأصبحت ولم أزل أتردد حتى رأيته في موضع يلتقط من الماء أوراقا مما يتساقط من غسل البقل فسلمت عليه فقال: لا تعود يا أبا القاسم.

قلت: لا، قال: غفر اللَّه لنا ولك.

الثانية: قال: ميمون بن سياه

(1)

تذاكروا عندي رجلا من السلاطين فوقعوا فيه، فلما انقلبت إلى أهلي رقدت إذا بجيفة منتنة، وإذا رجل على رأسي يقول: كل.

فقلت: يا أبا عبد اللَّه لما آكل؟ قال: لما اغتيب عندك فلان، قلت: ما ذكرت منه خيرًا ولا شرًا.

قال: لكنك سمعت ورضيت.

الثالثة: قال خالد الربعي: كنت في مسجد فتناولوا رجلا، وأعنتهم عليه، فرأيت تلك الليلة في المنام كان رجلا أتاني بطبق عليه قطعة من لحم الخنزير، فقال: كل.

قلت: لا آكل، قال: أكلت شرًا منه. ففك لحيي وأدخل فمي منه، فاستيقظت وأنا أجد طعمه في فمي. فمكثت أربعين يوما، وما ذهب نتنه من فمي.

الرابعة: قيل: أوحى اللَّه إلى موسى صلى الله عليه وسلم يا موسى من مات تائبًا من الغيبة

(2)

فهو آخر من يدخل الجنة، ومن مات مصرًا على الغيبة فهو أول من يدخل النار.

الخامسة: قال مالك بن دينار رحمه الله إذا رأيت قساوة في قلبك ووهنا في بدنك وحرمانا في رزقك، فاعلم أنك تكلمت بما لا يعنيك.

السادسة: قال الثوري رحمه الله إني لأرمي رجلا بسهم أحب إلي من أن أرميه بلساني؛ لأن رمي اللسان لا يخطئ، ورمي السهم ربما يخطيء.

السابعة: قال بكر بن عبد اللَّه: إذا رأيتم الرجل موكلا بعيوب الناس ناسيا

(1)

ميمون بن سياه، أبو بحرا البصري، صدوق عابد، يخطيء، أخرج له: البخاري والنسائي. ترجمته: تهذيب التهذيب [10/ 388]، تقريب التهذيب [2/ 291]، الكاشف [3/ 192]، الجرح والتعديل [8/ 1052]، تاريخ البخاري الكبير [7/ 339]، ميزان الاعتدال [4/ 233]، لسان الميزان [7/ 406] المجروحين [3/ 6]، المغنى [6558]، حلية الأولياء [3/ 106].

(2)

من أوجه الغيبة المباحة: إذا كان الإخبار عن العيب عند المشاورة، فإذا رأيت من يشتري شيئا معيبًا أو عبدًا سارقًا أو زانيًا أو ساربا أو نحو ذلك تذكره للمشتري إذا لم يعلمه نصيحة لا بقصد الإيذاء والإفساد. ومنها إذا رأيت مثقفًا يتردد إلى فاسق أو مبتدع يأخذ عنه علمًا وخفت عليه ضرره فعليك نصيحته ببيان حاله قاصدًا للنصيحة ومنها أن يكون له ولاية لا يقوم بها على وجهها لعدم أهليته أو لفسقه فيذكره لمن له عليه ولاية ليستدل به على حالة فلا يغتر به ويلزم الاستقامة.

[النووي في شرح مسلم [16/ 117] طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 394

لعيوب نفسه، فاعلموا أنه قد مكر به.

الثامنة: قال حاتم الأصم رحمه الله ثلاثة إذا كنَّ من مجلس فالرحمة عليهم مصدومة: ذكر الدنيا، والضحك، والوقعية في الناس.

التاسعة: قال مجاهد: إن لبني آدم جلساء من الملائكة، فإذا ذكره بسوء، قالت الملائكة: أيها المستور عورته ارفع على نفسك، وأحمد اللَّه الذي ستر عورتك.

العاشرة: قال بشر بن السري

(1)

: ويحك لو قيل لك لم تغتاب فلانًا وتقع فيه.

قلت: لأنه عدوي، وظلمني، فإن كان كما زعمت فدعه وما جنى على نفسه، فإن اللَّه سينصرك ولا تخفف عنه وتحمل عنه من خطاياه بتوقير ظهرك، ويحك يسألك والدك حسنة فتمنعها وتعطيها أعداءك، ما يفعل هذا عاقل، بل كان حقا عليك لو أن إنسانا اغتابه أخذت على فيه.

وقلت: هذا عدوي فلا (تصبني)

(2)

له خيرًا.

وأنشدوا:

قل للذي لست أدري من يلومه

أنا صح أم علي غل تداحيني

إني لا أعجب مما سمتني عجبًا

يد منك تسخوا وأخرى منك تأسوني

تغتابني عند أقوام وتمدحني

في آخرين وكل منك يأتيني

هذان أمِران (. . . . . .)

(3)

بينهما

فاكفف لسانك في ذمي وتزييني

الحادية عشرة: عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنهما أنه قال: إن العبد ليعطى كتابه يوم القيامة فيرى فيه حسنات لم يكن عملها.

فيقول: يا رب أني لي هذا؟

فيقول: هذا بما اغتابك الناس وأنت لا تشعر.

الثانية عشرة: قال أبو تراب مثل الذي يجلس في مجلس ويغتاب الناس بلسانه، مثل الذي نصب منجنيقًا

(4)

لحسناته فيرميها شرقا وغربا. يذكر واحدا من الشام بسوء،

(1)

بشر بن السري، أبو عمرو البصري الأفوة المكي، ثقة متقن، وكان واعظا طعن فيه برأي جهم ثم اعتذر وتاب، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، توفي سنة [96]. ترجمته تهذيب التهذيب [1/ 450]، تقريب التهذيب [1/ 99]، الكاشف [1/ 155]، تاريخ البخاري الكبير [2/ 75]، الجرح والتعديل [2/ 358] ميزان الإعتدال [1/ 317]، الوافي بالوفيات [10/ 149] سير الأعلام [9/ 332].

(2)

كذا بالأصل وأظنها "تهيب".

(3)

كلمتان غير واضحتان بالأصل.

(4)

المنجنيق: آلة قديمة من آلات الحرب وحصار المدن كانت ترمي بها حجارة ثقيلة على الأسوار فتهدمها.

ص: 395

ويقع في الآخر بالعراق ويغتاب واحدًا من أهل خراسان، فيقوم حاليا من حسناته قد فرقها في بلاد شتى.

نوادر: الأولى: قال سعيد بن جبير

(1)

يؤتى بالعبد يوم القيامة فيدفع إليه كتاب فلا يرى فيه صلاته ولا صيامه ولا شيئًا من أعماله.

فيقول: يا رب هذا كتاب كانت لي فيه حسنات ليست فيه.

فيقال له: إن ربك لا يضل ولا ينسى، ذهب عملك كله بغيبتك للناس.

الثانية: قال وهب بن منبه: قال رجل من بني إسرائيل: اللهم ليس لي مال فأتصدق به، فأيما رجل أصاب عرضي فهو عليه صدقة.

قال: فأوحى اللَّه إلى نبي زمانه إني قد غفرت له.

الثالثة: قال عطاء الخرساني: من اغتيبت له غيبة غفر له نصف ذنوبه.

الرابعة قال يحيى بن معاذ: ليكن حظ المؤمن منك ثلاث خصال حتى تكون من المحسنين: إن لم تنفعه فلا تضره، وإن لم تستره، فلا تغمه وإن لم تتكلم فيه بخير فاسكت عنه.

الحلم زين والسكوت سلامة

فإذا نطقت فلا تكن مهذارًا

ما إن ندمت على سكوت مرة

ولقد ندمت على الكلام مرارًا

غيره:

لسان الفتى نصف ونصف فؤاده

فلم يبق إلا صورة اللحم والدم

فكم من محب ساكت لك معجب

زيارته أو نقصه في التكلم

‌فصل

ومن الأحاديث الواردة فيما نحن فيه حديث ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تكثروا الكلام بغير ذكر اللَّه، فإن كثرة الكلام بغير ذكر اللَّه قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من اللَّه تعالى القلب القاسي"

(2)

. أخرجه الترمذي.

(1)

سعيد بن جبير بن هشام الأسدي الوالبي مولاهم أبو عبد اللَّه الكوفي أحد الأئمة الأعلام سمع ابن عباس وعدي بن حاتم وابن عمرو عبد اللَّه بن مغفل وغيرهم، قال ربيعة الرأي: كان سعيد ابن جبير من العبَّاد العلماء فقتله الحجاج، فلما قتل خرج منه دم كثير حتى راع الحجاج فدعا الطبيب فقال ما بال دمه كثيرًا قال: قتلته ونفسه معه ليس خائفًا. قال إبراهيم النخعي: ما خلف سعيد بن جبير بعده مثله، وقال عمرو بن ميمون عن أبيه: مات سعيد بن جبير وما على الأرض أحد إلا وهو محتاج على علمه. [تاريخ الإسلام للذهبي وفيات (91 - 100)].

(2)

أخرجه الترمذي في سننه [2411] كتاب الزهد، باب [61] منه، باب ما جاء في حفظ اللسان، =

ص: 396

وروينا في مصححًا من حديث عقبة بن عامر قلت: يا رسول اللَّه ما النجاة؟

قال: "أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك وابك على خطيئتك"

(1)

.

وفيه حديث أبي سعيد مرفوعًا: "إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان تقول: اتق اللَّه فينا، فإنما نحن بك؛ فإن استقمت استقمنا، وإن إعوججت إعوججنا"

(2)

.

وروينا

(3)

من حديث معاذ قلت: يا رسول اللَّه أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار؟ قال: "لقد سألتني عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره اللَّه عليه، تعبد اللَّه ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت".

ثم قال: "ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل".

قال: ثم تلا {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16] حتى بلغ {يَعْمَلُونَ} ثم قال: "ألا أخبرك برأس الأمر كله وعموده وذروة سنامه؟ " قلت: بلى يا رسول اللَّه.

قال: "رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد، ثم قال: ألا أخبركم بملاك ذلك كله؟ ".

قلت: بلى يا نبي اللَّه، فأخذ بلسانه.

= وقال: حديث حسن. والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 538] والتبريزي في مشكاة المصابيح [2276]، السيوطي في الدر المنثور [5/ 325].

(1)

أخرجه الترمذي في سننه [2406] كتاب الزهد، باب ما جاء في حفظ اللسان وأبو نعيم في حلية الأولياء [2/ 9]، والشجري في أماليه [2/ 99]، المنذري في الترغيب والترهيب [3/ 524، 4/ 232]، الزبيدي في الإتحاف [6/ 339، 7/ 450].

(2)

أخرجه الترمذي في سننه [2407] كتاب الزهد، باب ما جاء في حفظ اللسان، وأبو نعيم في حلية الأولياء [4/ 39]، أحمد في مسنده [3/ 96]، والزبيدي في الإتحاف [7/ 451]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [4838].

(3)

أخرجه الترمذي في سننه [2616] كتاب الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة. والنسائي في الكبرى في التفسير، ابن ماجه في سننه [3973] كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة، وأحمد في مسنده [5/ 230، 231]، وعبد الرزاق في مصنفه [20303]، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 517، 528) والسيوطي في الدر المنثور [1/ 147، 2/ 221]، الطبراني في المعجم الكبير [18/ 351]، التبريزي في مشكاة المصابيح [295]، والألباني في إرواء الغليل [2/ 138].

ص: 397

قال: "كف عليك هذا".

فقلت: "يا نبي اللَّه، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟

فقال: "ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجهوهم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم"

(1)

أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح وتقدم في الصمت.

وروينا في حديث أبي بكرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم النحر في حجة الوداع: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت"

(2)

. أخرجاه.

وروينا في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه"

(3)

.

‌فصل في تحريم سماعها وأمر من سمعها بردها والإنكار على قائلها، فإن عجز ولم يقبل منه، فارق ذلك المجلس إن أمكنه

قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ}

(4)

وقال: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)}

(5)

.

(1)

تقدم تخريجه في أول الحديث.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [1739] كتاب الحج، [133] باب الخطة أيام منى، ومسلم في صحيحه [29 - (1679)] كتاب القسامة، [9] باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال. وأحمد في مسنده [5/ 40]، والبيهقي في السنن الكبرى [5/ 166]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 502]، وابن حجر في تلخيص الحبير [3/ 53].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [32 - (2564)] كتاب البر والصلة والآداب، [10] باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله. وأبو داود [4882] والترمذي [1927]، وابن ماجه [3933]، وأحمد في مسنده [2/ 277، 360]، والبيهقي في السنن الكبرى [6/ 92، 8/ 250].

(4)

سورة القصص [55].

أي لا يخالطون أهله ولا يعاشرونهم بل كما قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72].

(5)

سورة المؤمنون [3].

أي عن الباطل وهو يشتمل الشرك كلما قاله بعضهم والمعاصي كما قاله آخرون وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال كما قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72].

قال قتادة أتاهم واللَّه من أمر اللَّه ما وقفهم عن ذلك. [تفسير ابن كثير (3/ 246)].

ص: 398

وقال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ}

(1)

الآية.

وقال تعالى {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا}

(2)

الآية.

وروينا في جامع الترمذي مصححًا من حديث أبي الدرداء مرفوعًا: "من رد عن عرض أخيه، رد اللَّه عن وجهه النار يوم القيامة"

(3)

.

وروينا من حديث عتبان بن مالك

(4)

في حديثه الطويل المشهور في الصحيحين قال: قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "أين مالك بن الدخشم"

(5)

فقال رجل: ذلك منافق لا يحب اللَّه ورسوله فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تقل ذلك ألا تراه قال: لا إله إلا اللَّه يريد بذلك وجه اللَّه، وإن اللَّه قد حرم على النار من قال لا إله إلا اللَّه، يبتغي بذلك وجه اللَّه"

(6)

.

وروينا فيهما من حديث كعب بن مالك الطويل في قصة توبته الذي ذكرناه في التوبة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في القوم بتبوك: "ما فعل كعب بن مالك؟ ".

فقال رجل: يا رسول اللَّه حبسه برداه والنظر في عطفيه، فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلت

(7)

، واللَّه يا رسول اللَّه ما علمنا عليه إلا خيرا، فسكت

(1)

سورة الإسراء [36].

(2)

سورة الأنعام [68].

(3)

أخرجه الترمذي في سننه [1931] كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الذب عن عرض المسلم. وأحمد في مسنده [6/ 450]، البيهقي في السنن الكبرى [8/ 168]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 517]، والزبيدي في الإتحاف [6/ 284]، والسيوطي في الدر المنثور [2/ 255، 5/ 352].

(4)

عتبان بن مالك بن عمرو بن العجلان بن زيد بن غنم بن سالم بن عوف بن عمرو بن عوف الأنصاري السلمي، البدري، العجلاني.

ويقال: عتاب بن مالك، صحابي مشهور. أخرج له: البخاري ومسلم وأبو داود في مسند مالك والنسائي وابن ماجه، توفي في خلافة عثمان. ترجمته: تهذيب التهذيب [7/ 93]، تقريب التهذيب [2/ 3]، تاريخ البخاري الكبير [7/ 80] الثقات [3/ 318].

(5)

في روايات الدخئن.

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه [425] كتاب الصلاة، [406] باب المساجد في البيوت، ومسلم في صحيحه [263 - (33)] كتاب المساجد ومواضيع الصلاة، [47] باب الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر.

(7)

قال النووي: قوله "فقال معاذ بن جبل: "بئس ما قلت" هذا دليل لرد غيبة المسلم الذي ليس بمتهتك في الباطل وهو من مهمات الآداب وحقوق الإسلام. [النووي في شرح مسلم [17/ 74، طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 399

رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(1)

.

والعِطْفُ: الجانب، وهو إشارة إلى إعجابه بنفسه.

‌فصل

فيما يباح منها وضابطه إذا كان لغرض شرعي لا يمكن الوصول إليه إلا به، وهو شبه أسباب مجموعة في بيت ذكرته في الشرح الصغير للمنهاج.

لقب ومستفت وفسق ظاهر

والظلم تحذير مزيل المنكر

وأكثرها مجمع عليه، ومن دلائل بعضها حديث عائشة أن رجلًا

(2)

استأذن على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال:"أئذنوا له بئس أخو العشيرة"

(3)

.

أخرجاه، واحتج به البخاري.

وروينا في البخاري من حديثه

(4)

أيضًا قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما أظن فلانا وفلانا يعرفان من ديننا شيئا".

قال الليث بن سعد "كانا من المنافقين" ففيه تقبيح من يقصد التعلم والاستفادة منهما والتحذير من مثل حالهما.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [4677] كتاب تفسير القرآن، سورة براءة [18] باب {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)} [التوبة: 118]. ومسلم في صحيحه [53 - (2769)] كتاب التوبة، [9] باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه. وأحمد في مسنده [3/ 457]، [6/ 387] وابن أبي شيبه في مصنفه [14/ 541]، والبيهقي في السنن الكبرى [9/ 34]، والهيثمي في مجمع الزوائد [10/ 313]، وعبد الرزاق في مصنفه [9744].

(2)

قال القاضي: هذا الرجل هو عيينة بن حصن، ولم يكن أسلم حينئذ وإن كان قد أظهر الإسلام فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين حاله ليعرفه الناس ولا يغتر به من لم يعرف حاله، قال: وكان منه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده ما دل على ضعف إيمانه وارتد مع المرتدين وجيء به أسيرا إلى أبي بكر رضي الله عنهما ووصف النبي صلى الله عليه وسلم له بأنه: "بئس أخو العشيرة" من أعلام النبوة لأنه ظهر كما وصف، وإنما ألان له القول تألفا له ولأمثاله على الإسلام. [النووي في شرح مسلم [16/ 119] طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [6054] كتاب الأدب، [48] باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والريب. ومسلم في صحيحه [73 - (2591)] كتاب البر والصلة والآداب، [22] باب مداراة من يتقى فحشه. والتبريزي في مشكاة المصابيح [4829].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [6067، 6068] كتاب الأدب، [59] باب ما يكون من الظن.

ص: 400

وروينا في الصحيحين

(1)

من حديث فاطمة بنت قيس قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أبا الجهم ومعاوية خطباني.

فقال صلى الله عليه وسلم: "أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو الجهم فلا يضع العصى عن عاتقة" وفي رواية لمسلم: "وأما أبو الجهم فضراب للنساء"

(2)

وهو تفسير لعدم وضع العصى.

وقيل معناه كثير الأسفار، وأغرب منهما أنه كناية عن كثرة الوطء.

وروينا فيهما من حديث زيد بن أرقم

(3)

قال: "خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في سفر أصاب الناس فيه شدة فقال عبد اللَّه بن أُبَيٍّ: لا تنفقوا على من عند رسول اللَّه حتى ينفضوا وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فأتيت رسول اللَّه فأخبرته بذلك".

فأرسل إلى عبد اللَّه بن أبي، فاجتهد في يمينه ما فعل.

فقالوا: كذب زيد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فوقع في نفسي مما قالوه شدة

(4)

، حتى أنزل اللَّه عز وجل تصديقي في {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون: 1] ثم دعاهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم فلووا رؤوسهم

(5)

. أخرجاه.

وفيهما من حديث عائشة

(6)

: قالت هند امرأة أبي سفيان للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبا

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [36 - (1480)] كتاب الطلاق، [6] باب المطلقة ثلاثا لا نفقة لها. وأبو داود [2284] كتاب الطلاق، [39] باب في نفقة المبتوتة. والترمذي في سننه [1135] كتاب النكاح، باب ما جاء أن لا يخطب الرجل على خطبة أخيه، وأحمد في مسنده [6/ 412]، والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 178] ومالك في الموطأ [581]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [3324].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [47 - (1480)] كتاب الطلاق، [6] باب المطلقة ثلاثا لا نفقة لها. وأحمد في مسنده [6/ 412].

(3)

أخرجه البخاري فى صحيحه [4903] كتاب تفسير القرآن، سورة المنافقين، [4] باب {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} الآية ومسلم في صحيحه [1 - (2772)] كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، في مقدمته.

(4)

قال [النووي: في حديث زيد بن أرقم هذا أنه ينبغي لمن سمع أمرا يتعلق بالإمام أو نحوه من كبار ولاة الأمور ويخاف ضرره على المسلمين أن يبلغه ليحتذر منه، وفيه منقبة لزيد.

[النووي في شرح مسلم [17/ 101] طبعة دار الكتب العلمية].

(5)

تقدم تخريجه في أوله.

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه [5364] كتاب النفقات، [9] باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف. ومسلم في صحيحه [7 - (1714)] كتاب الأقضية، [4] باب قضية هند. والنسائي [8/ 247 - المجتبي] وابن ماجه [2293]، وأحمد في مسنده =

ص: 401

سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم.

قال: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"

(1)

.

وهذا استفتاء، وما قبله تحذير.

‌فصل في تحريم النميمة

وهي الكلام بين الناس على جهة الإفساد.

قال تعالى: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)}

(2)

.

وقال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)}

(3)

.

وروينا من حديث حذيفة مرفوعًا: "لا يدخل الجنة نمَّام"

(4)

. أخرجاه

وفيهما من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: "إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، بلى إنه كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول، وأما الآخر يمشي بالنميمة"

(5)

. أخرجاه. واللفظ للبخاري.

وقوله: "في كبير" أي في زعمهما أو كبير تركه عليهما.

وروينا من حديث ابن مسعود مرفوعًا: "ألا أنبئكم ما العضْة؟، هي النميمة

= [6/ 39، 50]، والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 466 - 477]، التبريزي في مشكاة المصابيح [3242]، وابن أبي شيبة في مصنفه [6/ 584].

(1)

قال النووي: هذا مذهبنا -أي الشافعي- ومنع ذلك أبو حنيفة ومالك -رحمهما اللَّه- والأخذ من ماله بغبر إذن القاضي وجهات لأصحابنا في أن إذن النبي صلى الله عليه وسلم لهند امرأة أبي سفيان كان إفتاء أم تضاء، والأصح انه كان إفتاء وأن هذا يجري في كل إمرأة اشبهتها فيجوز، والثاني كان قضاء فلا يجوز لغيرها إلا بإذن القاضي واللَّه أعلم [النووي في شرح مسلم [12/ 8] طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

سورة القلم [11].

(3)

سورة ق [18].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [6056] كتاب الأدب، [5] ما يكره من النميمة. ومسلم في صحيحه [168 - (105)] كتاب الإيمان، [45] باب بيان غلظ تحريم النميمة، وأحمد في مسنده [5/ 391، 396]، المنذري في الترغيب والترهيب [3/ 496]، الزبيدي في الإتحاف [7/ 562].

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه [218] كتاب الوضوء، [59] باب ما جاء في غسل البول، ومسلم في صحيحه [111 - (292)] كتاب الطهارة، [34] باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الإستبراء منه.

ص: 402

القالة بين الناس"

(1)

.

أخرجه مسلم.

العضه على وزن الوجه، مصدر يقال: عَضَهَ عضْهَا أي رماه بالعضه.

وروى العِضَة كالعدة، وهي الكذب والبهتان فمن فعل ذلك كأنما شجر العضاة وهو ذو الشوك نظير "فإنما تسفهم المل".

‌فصل

في النهي عن نقل الحديث وكلام الناس إلى ولاة الأمور إذا لم تَدْعُ الحاجة إليه كخوف مفسدة ونحوها.

قال تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}

(2)

.

وفيه الأحاديث السالفة.

وروينا من حديث ابن مسعود مرفوعًا: "لا يُبَلِّغني أحد عن أحد من أصحابي شيئًا؛ فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر"

(3)

.

رواه أبو داود والترمذي.

‌فصل في ذم ذي الوجهين

قال تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ}

(4)

الآية.

فمن أتى قوما بوجه فإنه يستخفي منهم بالوجه الآخر، وبالعكس.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [102 - (2606)] كتاب البر والصلة والآداب، [28] باب تحريم النميمة، وأحمد في مسنده [1/ 437]، التبريزي في مشكاة المصابيح [3913].

(2)

سورة المائدة [2].

يأمر اللَّه تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات وهو البر، وترك المنكرات وهو التقوى وينهاهم عن التناصر على الباطل والتعاون على المآثم والمحارم.

قال ابن جرير: الإثم ترك ما أمر اللَّه بفعله والعدوان مجاوزة ما فرض اللَّه عليكم في أنفسكم وفي غيركم، وقد قال أحمد في مسنده من حديث أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" قيل يا رسول اللَّه، هذا نصرته مظلومًا فكيف أنصره إذا كان ظالمًا؟ قال:"تحجزه وتفعه من الظلم فذاك نصره"[تفسير ابن كثير (2/ 6)].

(3)

أخرجه أبو داود في سننه [4860] كتاب الأدب، باب في رفع الحديث من المجلس، والترمذي في سننه [3896]، كتاب المناقب، باب فضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وأحمد في مسنده (1/ 369)، والبيهقي في السنن الكبرى [8/ 166، 167]، والبخاري في التاريخ الكبير [3/ 494]، التبريزي في مشكاة المصابيح [4852]، والعراقي في المغنى عن حمل الأسفار [2/ 378].

(4)

سورة النساء [108].

ص: 403

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعا

(1)

: "تجدون الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه". أخرجاه

وروينا في صحيح البخاري من حديث محمد بن زيد أن أناسا قالوا لجده عبد اللَّه بن عمر إنا ندخل على سلطاننا فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم.

قال: "كنا نعد هذا نفاقا على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"

(2)

.

‌فصل في تحريم الكذب

قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}

(3)

.

وقال: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)}

(4)

.

وروينا من حديث ابن مسعود مرفوعا

(5)

: "إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند اللَّه صديقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار

(6)

، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند اللَّه كذابا" أخرجاه.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [3493][3494] كتاب المناقب، [10] باب قوله اللَّه تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، ومسلم في صحيحه [199 - (2526)] كتاب فضائل الصحابة، [48] باب خيار الناس. وأحمد في مسنده [2/ 525]، والخطيب في الفقيه والمتفقه [9/ 18].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [7178] كتاب الأحكام، [27] باب ما يكره من ثناء السلطان وإذا خرج قال غير ذلك.

(3)

سورة الإسراء [36].

(4)

سورة ق [28].

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه [6094] كتاب الأدب، [69] باب قول اللَّه تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة: 119] وما ينهي عن الكذب.

ومسلم في صحيحه [103 - (2607)] كتاب البر والصلة والآداب، [29] باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله. وأحمد في مسنده [1/ 384، 432]، البيهقي في السنن الكبرى [10/ 196، 243].

(6)

قال العلماء: معناه أن الصدق يهدي إلى العمل الصالح الخالص من كل مذموم والبر اسم جامع للخير كله وقيل: البر الجنة ويجوز أن يتناول الحمل الصالح والجنة وأما الكذب فيوصل إلى الفجور وهو الميل من الإستقامة وقيل الانبعاث في المعاصي.

[النووي في شرح مسلم [16/ 131] طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 404

وروينا من حديث عبد اللَّه بن عمرو مرفوعًا: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا"

(1)

الحديث ذكرناه في الوفاء بالعهد.

وروينا من حديث ابن عباس مرفوعًا: "من تَحَلَّم بحُلْم لم يره كُلِّفَ أن يعقد بين شعيرتين، ولن يفعل ومن استمع على حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنه الآنك

(2)

يوم القيامة، ومن صور صورة عُذِّب وكُلِّف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ"

(3)

أخرجه البخاري.

تحلَّم: أي قال أنه حلم في نومه ورأى كذا وكذا، وهو كاذب.

والآنك: الرصاص المذاب، فاللَّه تعالى يكلفه ما لا يكون كما افترى ما لم يكن.

وروينا من حديث سمرة بن جندب قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مما يكثر أن يقول لأصحابه: "هل رأى أحد منكم من رؤيا"

(4)

، فيقص عليه ما شاء اللَّه أن يقص، لإنه قال لنا ذات غداة "إنه أتاني الليلة آتيان وإنهما قالا لي انطلق وإني انطلقت معهما" فذكر الحديث، إلى أن قال:"فأما الذي أتيت عليه يشرشر شدقة على قفاه، ومنحره على قفاه، وعينه إلى قفاه، فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق"

(5)

الحديث بطوله رواه البخاري.

وأي منفر أبلغ من هذا فإنه تقشعر منه الجلود.

(1)

تقدم تخريجه في الوفاء بالعهد.

(2)

الآنك: الرصاص المذاب.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [7042] كتاب التعبير، [45] باب من كذب في حلمه. والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 437] والزيلعي في نصب الراية [4/ 240]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [4499].

(4)

فيه دليل لاستحباب إقبال الإمام المصلي بعد سلامه على أصحابه، وفيه استحباب السؤال عن الرؤيا والمبادرة إلى تأويلها وتعجيلها أول النهار لهذا الحديث، ولأن الذهن جمع قبل أن يتشعب بأشغاله في معايش الدنيا ولأن عهد الرائي قريب لم يطرأ عليه ما يهوش الرؤيا عليه ولأنه قد يكون فيها ما يستحق تعجيله كالحث على خير أو التحذير من معصية ونحو ذلك، وفيه إباحة الكلام في العلم وتفسير الرؤيا ونحوها بعد صلاة الصبح. [النووي في شرح مسلم [15/ 29، طبعة دار الكتب العلمية].

(5)

أخرجه الجاري في صحيحه [7047] كتاب التعبير، [48] باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح.

أوله أخرجه مسلم في صحيحه [23 - (2275)] كتاب الرؤيا، [4] باب رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو داود في سننه [5017] في الأدب، باب ما جاء في الرؤيا، الترمذي [2294] كتاب الرؤيا، باب ما جاء في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 405

نعم يباح الكذب في بعض الأحوال وضابطه ما لا يمكن تحصيل المقصود المحمود إلا به.

وقد يجب إذا كان ذلك واجبا كما إذا طلب ظالم أو طلب ماله أو كان عنده وديعة.

والأحوط التورية.

ومما يستدل به على جواز الكذب في هذه الحالة حديث أم كلثوم المرفوع: "ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا ويقول خيرا"

(1)

. أخرجاه.

زاد مسلم في رواية: قالت أم كلثوم: "ولم أسمعه رخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث يعني الحرب والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل وامرأته وحديث المرأة زوجها".

‌فصل في الحث على التثبيت فيما يقوله ويحكيه

قال تعالى: {لَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}

(2)

.

وقال تعال: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}

(3)

.

وروينا

(4)

من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما يسمع".

أخرجه مسلم.

(5)

وفيه من حديث سمرة مرفوعًا: من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين"

(6)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [2692] كتاب الصلح، [2] باب ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس. ومسلم في صحيحه [101 - (2605)] كتاب البر والصلة والآداب، [27] باب تحريم الكذب وبيان المباح منه.

(2)

سورة الإسراء [36].

(3)

سورة ق [18].

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [5 - (5)] المقدمة [3] باب النهي عن الحديث بكل ما سمع. وابن أبي شبيبة في مصنفه [8/ 408] والتبريزي في مشكاة المصابيح [156].

(5)

قال النووي في شرح مسلم: فيه الزجر عن التحديث بكل ما سمع الإنسان فإنه يسمع في العادة الصدق والكذب، فإذا حدث بكل ما سمع فقد كذب لإخباره بما لم يكن، ومذهب أهل الحق أن الكذب الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو ولا يشترط فيه التعمد لكن التعمد شرط في كونه إثما واللَّه أعلم. [شرح مسلم للنووي [1/ 71] طبعة دار الكتب العلمية].

(6)

أخرجه مسلم في صحيحه في المقدمة، [1] باب وجوب الرواية عن الثقات وترك الكذابين =

ص: 406

وروينا من حديث أسماء أن امرأة قالت: يا رسول اللَّه إن لي ضرة فهل عليَّ جناح إن تشبعت من مال زوجي غير الذي يعطيني؟

فقال صلى الله عليه وسلم: "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور"

(1)

، والمتشبع هو الذي يظهر الشبع. وليس بشبعان.

ومعناه هنا أنه يظهر أنه حصل له فضيلة وليست حاصلة، و"لابس ثوبي زور" أي ذي زور. وهو الذي يزور على الناس بأن يتزيى بزي قوم.

وليس منهم ليغتر به الناس.

‌فصل في غلظ تحريم شهادة الزور

قال تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}

(2)

.

وقال: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}

(3)

.

وقال: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)}

(4)

.

وقال تعالى: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ}

(5)

.

وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}

(6)

.

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ}

(7)

.

وروينا في الصحيحين من حديث أبي بكرة رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ "

(8)

قلنا: بلى يا رسول اللَّه. قال: "الإشراك باللَّه، وعقوق

= والتحذير من الكذب على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والمنذري في الترغيب والترهيب [1/ 111] وأبو نعيم في حلية الأولياء [4/ 356] والطبراني في المعجم الكبير [8/ 144].

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [127 - (2130)] كتاب اللباس والزينة، [35] باب النهي عن التزوير في اللباس وغيره، والتشبع بما لم يعط وأبو داود في سننه [4997]، وأحمد في مسنده [6/ 167، 345، 346]، والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 307]، والطبراني في المعجم الصغير [2/ 106]، والهيثمي في مجمع الزوائد [8/ 98]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [3247]، والزبيدي في الإتحاف [2/ 332].

(2)

سورة الحج [30].

(3)

سورة الإسراء [36].

(4)

سورة ق [18].

(5)

سورة الزخرف [19].

(6)

سورة الفجر [14].

(7)

سورة الفرقان [72].

(8)

قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قول الزور أو شهادة الزور" فليس على ظاهر المبتدر إلى الأفهام منه، وذلك لأن الشرك أكبر منه بلا شك، وكذا القتل فلابد من تأويله وفي تأويله ثلاثة أوجه: أحدها أنه محمول على الكفر؛ فإن الكافر شاهد بالزور وعامل به. والثاني: أنه محمول =

ص: 407

الوالدين" وكان متكئًا فجلس، فقال: "ألا وقول الزور وشهادة الزور"، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت.

(1)

.

= على المستحيل فيصير بذلك كافرا، والثالث: أن المراد من أكبر الكبائر كما قدمناه في نظائره، وهذا الظاهر أو الصواب. [النووي في شرح مسلم [2/ 76] طبعة دار الكتب العلمية].

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [2654] كتاب الشهادات، [10] ما قيل في شهادة الزور. ورقم [5976] كتاب الأدب، [6] باب عقوق الوالدين من الكبائر. ورقم [6273، 6274] كتاب الاستئذان، [35] باب من اتكأ بين يدي أصحابه. ورقم [6919] كتاب إستتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، [1] باب إثم من أشرك باللَّه وعقوبته في الدنيا والآخرة. ومسلم في صحيحه [143 - (87)] كتاب الإيمان، [38] باب الكبائر وأكبرها.

ص: 408

‌مجلس في المناهي الواردة في الباب والأحاديث

وترتيبه على فصول، وقد سلف النهي عن الغيبة والنميمة

(1)

والكذب، ونقل الحديث إذا لم تدع إليه حاجة. وذم ذي الوجهين، والنهي عن عدم التثبيت في الكلام وغلظ تحريم شهادة الزور.

‌فصل في تحريم لعن إنسان بعينه أو دابة

روينا من حديث ثابت بن الضحاك

(2)

العقبي مرفوعًا: "من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبا متعمدا فهو كما قال، ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة، وليس على رجل نذر فيما لا يملكه، ولعن المؤمن كقتلة"

(3)

.

أخرجاه.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا ينبغي لصدِّيق أن يكون لَعَّانًا"

(4)

أخرجه مسلم.

(1)

قال الإمام أبو حامد الغزالي في الإحياء: اعلم أن النميمة إنما تطلق في الأكثر على من ينم قول الغير إلى المقول فيه كما تقول فلان يتكلم فيك بكذا، قال: وليست النميمة مخصومة بهذا بل حد النميمة كشف ما يكره كشفه سواء كره المنقول عنه أو المنقول إليه أو ثالث، وسواء كان الكشف بالكناية أو بالرمز أو بالإيمان فحقيقة النميمة إفشاء السر وهتك الستر عما يكره كشفه، فلو رآه يخفي مالا لنفسه فذكره فهو نميمة قال: وكل من حملت إليه نميمة. [النووي في شرح مسلم [2/ 96] طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

ثابت بن الضحاك بن خليفة، أبو زيد، أبو يزيد الكلابي، الأشهلي، الأوسي المدني الأنصاري، صحابي مشهور، أخرج له: أصحاب الكتب الستة، توفي سنة [45، 64] ترجمته: تهذيب التهذيب [2/ 8]، وتقريب التهذيب [1/ 116]، والكاشف [1/ 171]، تاريخ البخاري الكبير [2/ 165]، الجرح والتعديل [2/ 453]، الإصابة [1/ 391]، والاستيعاب [1/ 76، 205]، الثقات [3/ 44].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [6652] كتاب الأيمان والنذور، [7] باب من حلف بملة سوى الإسلام. ومسلم في صحيحه [176 - (110)] كتاب الإيمان، [47] باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه وأن من قتل نفسه بشيء عذب به في النار وأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة. والبيهقي في السنن الكبرى [10/ 193]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 469].

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [84 - (2597)] كتاب البر والصلة والآداب، [24] باب النهي عن لعن الدواب وغيرها.

ص: 409

أي رتبه الصديقية منافية له.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة"

(1)

.

أخرجه مسلم.

وروينا من حديث سمرة: "لا تلاعبون بلعنة اللَّه ولا بغضبه، ولا بالنار"

(2)

.

رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح.

وروينا من حديث ابن مسعود مرفوعًا: "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء"

(3)

.

رواه الترمذي وحسنه.

وروينا من حديث أبي الدرداء مرفوعًا: "إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يمينا وشمالا، فإذا لم تجد مساغا رجعت إلى الذي لُعِنَ، فإن كان أهلا لذلك وإلا رجعت إلى قائلها"

(4)

.

رواه أبو داود.

وروينا من حديث عمران بن حصين قال: بينما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة فضجرت فلعنتها، فسمع ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال:"خذوا ما عليها ودعوها فإنها ملعونة".

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [85 - (2598)] كتاب البر والصلة والآداب، [24] باب النهي من لعن الدواب وغيرها. وأبو داود في سننه [4907] كتاب الآدب، باب في اللعن. والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 469] والحاكم في المستدرك [1/ 48]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [3/ 259].

(2)

أخرجه أبو داود في سننه [4906] كتاب الأدب، باب في اللعن. والترمذي في سننه [1976] كتاب البر والصلة، باب ما جاء في اللعنة. وأحمد في مسنده [5/ 15]، وعبد الرزاق في مصنفه [1953].

(3)

أخرجه الترمذي في سننه [1977] كتاب البر والصلة، باب ما جاء في اللعنة. والبيهقي في السنن الكبرى [10/ 193، 43] والحاكم في المستدرك [1/ 12]، وابن حبان في صحيحه [48 - المورد]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [4/ 239، 5/ 58]، والزبيدي في الإتحاف [7/ 471، 484].

(4)

أخرجه أبو داود في سننه [4905] كتاب الأدب، باب في اللعن، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 472]، والزبيدي في الإتحاف [7/ 490]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [4850].

ص: 410

قال عمران: فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد

(1)

. أخرجه مسلم.

وروينا من حديث أبي برزة نضلة بن عبيد الأسلمي قال: بينما جارية على ناقة عليها بعض متاع القوم إذ بصرت برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وتضايق بهم الجبل: حَلْ، اللهم العنها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تصحبنا ناقة عليها لعنة"

(2)

. أخرجه مسلم أيضا.

وحل: كلمة زجر للإبل، ومصاحبها

(3)

الشارع فقط لا غيرها من التصرفات، كذا أوله النووي. لكن قد يقال: اطَّلع الشارع على إجابة تلك اللعنة فصارت مبعدة على مقدور على تسليمها.

وقد قال الشرع دعوها.

وأما في زمننا فالإجابة مغنية عنا.

‌فصل في جواز لعن أصحاب المعاصي غير المعينين

قال اللَّه تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}

(4)

.

وقال: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ}

(5)

الآية.

وثبت في الصحيح أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لعن اللَّه الواصلة والمستوصلة"

(6)

.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [80 - (2595)] كتاب البر والصلة والآداب، [24] باب النهي عن لعن الدواب وغيرها. وأحمد في مسنده [4/ 431]، وابن أبي شيبة في مصنفه [8/ 485]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 473]، والزبيدي في الإتحاف [7/ 284]، والطبراني في المعجم الكبير [18/ 190]، والألباني في إرواء الغليل [7/ 240].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [82 - (2596)] كتاب البر والصلة والآداب، [24] باب النهي عن لعن الدواب وغيرها. وأحمد في مسنده [4/ 420]، والبيهقي في السنن الكبرى [5/ 254]، والألباني في إرواء الغليل [7/ 241].

(3)

أي عدم مصاحبته صلى الله عليه وسلم لها أما غير ذلك من التصرفات التي كانت جائزة قبل هذا فهي باقية كالبيع والذبح والركوب لأن الشرع إنما ورد بالنهي عن المصاحبة فبقي الباقي. [انظر النووي في شرح مسلم [16/ 122] طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

سورة هود [18].

(5)

سورة الأعراف [44].

(6)

أخرجه البخاري [5933] كتاب اللباس [83] باب وصل الشعر، ورقم [5940][85] باب الموصولة. ومسلم [115 - (2122)] كتاب اللباس والزينة، [33] باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة. والمتفلجات والمغيرات خلق اللَّه.

ص: 411

وأنه قال: "لعن اللَّه آكل الربا"

(1)

.

وأنه لعن المصورين.

وأنه قال: "لعن اللَّه من غير منار الأرض"

(2)

.

أي حدودها {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] وأنه قال: "لعن اللَّه السارق يسرق البيضة"

(3)

ووجهه أنه محارب الرب جل جلاله منتهك حرمة حماه غير راع لحقه.

وأنه قال: "لعن اللَّه من يلعن والديه"(*).

"ولعن اللَّه من ذبح لغير اللَّه"(*).

أي لأنه تأله لغيره ولم يرع حرمة الأبوة.

وأنه قال: "من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين"

(4)

فلم يرع حق حرمة الذي دعاه لما يجيبه، وأنه قال:"اللهم العن رعلًا وذكوان وعصية عصوا اللَّه ورسوله"

(5)

.

وهذه ثلاث قبائل من العرب قتلوا أصحابه، فلم يراعوا حرمته.

وأنه قال: "لعن اللَّه اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"

(6)

.

(1)

أخرجه مسلم [105 - (1597)] كتاب المساقاة، [109] باب لمن آكل الربا، وأبو داود في سننه (333) كتاب البيوع، باب في آكل الربا وموكله. والترمذي [1206] كتاب البيوع، باب ما جاء في أكل الربا، والنسائي في الطلاق، باب إحلال المطلقة ثلاثا وما فيه من التغليظ [8/ 147 - المجتبي] وابن ماجه في سننه [2277]، والبيهقي في السنن الكبرى [5/ 285]، وابن حبان في صحيحه [1112 - المورد].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [43، 44 - (1978)] كتاب الأضاحي، [8] باب تحريم الذبح لغير اللَّه تعالى ولعن فاعله.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [8/ 199، 200]، مسلم في صحيحه [7 - (1687)] كتاب الحدود [1] باب حد السرقة ونصابها. والنسائي [8/ 65 - المجتبي]، وابن ماجه في سننه [2583] كتاب الحدود، باب حد السارق، وأحمد في مسنده [2/ 253].

(*) تقدما في حديث مسلم "لعن اللَّه من غير منار الأرض" السالف قبل السالف.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [463 - (1366)] كتاب الحج، [85] باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة.

(5)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [2/ 1971] والسيوطي في الدر المنثور [2/ 71]، والهيثمي في مجمع الزوائد [2/ 138]، والطبراني في المعجم الكبير [4/ 255]، والزبيدي في الإتحاف [7/ 481].

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه [1/ 116، 2/ 111] ومسلم في صحيحه [19 - (529)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، [3] باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها.

ص: 412

فأذوا الأنبياء كلهم.

وأنه "لعن المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال"

(1)

.

فلم يرع حق نفسه حتى نسبها إلى غير جنسها.

‌فصل في تحريم سب المؤمن بغير حق

قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}

(2)

الآية.

وروينا من حديث ابن مسعود مرفوعًا: "سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر"

(3)

أخرجاه.

وروينا من حديث أبي ذر مرفوعًا: "لا يرمى رجل رجلا بالفسق أو الكفر إلا ارتدت عليه، وإن لم يكن صاحبه كذلك"

(4)

.

أخرجه البخاري.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما حتى يعتدي المظلوم".

رواه مسلم.

(5)

وروينا من حديثه أيضًا قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل شرب، قال:"اضربوه".

قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده، ومنا الضارب بنعله والضارب بثوبه، فلما

(1)

أخرجه أبو داود في سننه [4097] كتاب اللباس، باب لباس النساء. وابن ماجه في سننه [1904]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 103]، والهيثمي في مجمع الزوائد [8/ 103]، والطبراني في المعجم الكبير [11/ 252].

(2)

سورة الأحزاب [58].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [48] كتاب الإيمان، [37] باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر. ورقم [6044] كتاب الأدب، [44] باب ما ينهى من السباب واللعن. ورقم [7076] كتاب الفتن، [8] باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض". ومسلم في صحيحه [116 - (64)] كتاب الإيمان [28] باب بيان قول النبي صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر".

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [6045] كتاب الأدب، [44] باب ما ينهى من السباب واللعن.

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [68 - (2587)] كتاب البر والصلة والآداب، [18] باب النهي عن السباب. وأبو داود في سننه [4894]، والترمذي [1981]، وأحمد في مسنده [2/ 235، 448] والبيهقي في السنن الكبرى [10/ 235]. وابن حبان في صحيحه [1976 - الموارد] والهيثمي في مجمع الزوائد [8/ 75]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 466].

ص: 413

انصرف قال بعض القوم: أخزاك اللَّه.

قال: "لا تقولوا هذا لا تعينوا عليه الشيطان".

أخرجه البخاري.

(1)

وروينا من حديثه مرفوعًا: "من قذف مملوكه بالزنا يقام عليه الحد يوم القيامة، إلا أن يكون كما قال"

(2)

.

أخرجاه.

‌فصل في تحريم سب الأموات بغير حق ومصلحة شرعية

وهي التحذير من الإقتداء به في بدعته وفسقه ونحو ذلك.

فيه الآية والأحاديث السالفة في الباب قبله.

وروينا في صحيح البخاري

(3)

من حديث عائشة قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا".

‌فصل في النهي عن الإيذاء

فيه الآية السالفة.

وروينا من حديث عبد اللَّه بن عمرو مرفوعًا: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى اللَّه عنه"

(4)

أخرجاه.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [6777] كتاب الحدود، [5] باب الضرب بالجريد والنعال. وأبو داود في سننه [4777] كتاب الحدود، باب الحد في الخمر. والبيهقي في السنن الكبرى [8/ 138، 312] والسيوطي في الدر المنثور [4/ 256]، والزبيدي في الإتحاف [7/ 287]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [1621].

(2)

أخرجه البخاري [6858] كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، [32] باب قذف العبيد، ومسلم في صحيحه [37 - (1660)] كتاب الأيمان، [9] باب التغليظ على من قذف مملوكه بالزنى، والترمذي في سننه [1947]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 476] والبيهقي في السنن الكبرى [8/ 10].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [1393] كتاب الجنائز، [97] باب ما ينهي من سب الأموات. والنسائي [4/ 53 - المجتبي] والبيهقي في السنن الكبرى [4/ 75].

والحاكم في المستدرك [1/ 385]، وابن حبان في صحيحه [1985 - الموارد]، ومشكاة المصابيح للتبربزي [1664]، والزبيدي في الإتحاف [7/ 490].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [10] كتاب الإيمان، [4] باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده. ومسلم في صحيحه [65 - (41)] كتاب الأيمان، [14] باب بيان تفاضل الإسلام، وأي أموره أفضل، وأبو داود في سننه [2481] والترمذي [2627]، والنسائي [8/ 105 - المجتبي] =

ص: 414

فكف الأذى هو الدين الحق والكامل.

وروينا من حديثه أيضًا مرفوعًا: "من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن باللَّه واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يُؤْتى إليه"

(1)

. أخرجه مسلم.

وقد سلف في باب طاعة ولاة الأمور بطوله.

‌فصل في النهي عن التقاطع والتباغض والتدابر

قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}

(2)

.

والتباغض ينافيها.

وقال تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}

(3)

.

وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}

(4)

.

وروينا من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا، وكونوا عباد اللَّه إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث"

(5)

. أخرجاه.

= وأحمد في مسنده [2/ 163، 192]، والبيهقي في السنن الكبرى [10/ 187]، والحاكم في المستدرك [1/ 10، 3/ 517]، وابن حبان في صحيحه [26 - الموارد] وأبو نعيم في حلية الأولياء [4/ 333].

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [46 - (1844)] كتاب الإمارة، [10] باب وجوب الوفاء ببيعه الخلفاء الأول فالأول. وأحمد في مسنده [2/ 169]، وابن أبي شيبة في مصنفه [15/ 6، 7]، والبيهقي في السنن الكبرى [8/ 169]، والسيوطي في الدر المنثور [6/ 56، 2/ 107].

(2)

سورة الحجرات [10].

(3)

سورة المائدة [54] هذه صفات المؤمنين الكمل؛ أن يكون أحدهم متواضعا لأخيه ووليه متعززا على خصمه وعدوه كما قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] وفي صفة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه الضحوك القتال؛ فهو ضحوك لأوليائه قتال لأعدائه. [تفسير ابن كثير (2/ 72)].

(4)

سورة الفتح [29].

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه [6076] كتاب الأدب، [62] باب الهجرة. ومسلم في صحيحه [23 - (2559)] كتاب البر والصلة والآداب، [7] باب تحريم التحاسد والتباغض والتدابر. قال النووي: التدابر: المعاداة، وقيل المقاطعة لأن كل واحد يولي صاحبه دبره، والحسد زوال النعمة، وهو حرام، ومعنى كونوا عباد اللَّه إخوانا أي تعاملوا وتعاشروا معاملة الإخوة ومعاشرتهم في المودة والرفق والشفقة والملاطفة والتعاون في الخير ونحو ذلك [النووي في شرح مسلم [16/ 94] طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 415

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "يفتح اللَّه أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك باللَّه شيئًا إلا رجل كان بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا"

(1)

. أخرجه مسلم.

وله: "تُعرض الأعمال في كل اثنين وخميس"

(2)

وذكر نحوه.

‌فصل في تحريم الحسد

وهو تمنى زوال النعمة عن صاحبها سواء كانت نعمة دين أو دنيا.

قال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}

(3)

. وفيه حديث أنس السالف في الباب قبله.

وروينا في سنن أبي داود من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب" أو قال: "العشب"

(4)

.

‌فصل في النهي عن التجسس والتسمع لكلام من يكره إسماعه

قال تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا}

(5)

.

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)}

(6)

.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [35 - (2565)] كتاب البر والصلة والآداب، [11] باب النهي عن الشحناء والتهاجر.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [36 - (2565)] كتاب البر والصلة والآداب، [11] باب النهي عن الشحناء والتهاجر. والترمذي في سننه [747]، والمنذري في الترغيب والترهيب [2/ 124، 3/ 458]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [2056]، والهيثمي في مجمع الزوائد [8/ 66].

(3)

سورة النساء [54].

يعني بذلك حسدهم النبي صلى الله عليه وسلم يعني ما رزقه اللَّه من النبوة العظيمة، ومنعهم من تصديقهم إياه حسدهم له لكونه من العرب وليس من بنى إسرائيل، وقال الطبراني بسنده عن ابن عباس في قوله:{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ} [النساء: 54] الآية قال ابن عباس نحن الناس دون الناس. [تفسير ابن كثير [1/ 513].

(4)

أخرجه أبو داود في سننه [4903] كتاب الأدب، باب في الحسد. والزبيدي في الإتحاف [1/ 294، 8/ 55] والتبريزي في مشكاة المصابيح [5004]، والسيوطي في الدر المنثور [2/ 173، 6/ 419]، وابن عبد البر في التمهيد [6/ 124]، والبخاري في التاريخ الكبير [1/ 272].

(5)

سورة الحجرات [12].

(6)

سورة الأحزاب [58].

ص: 416

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا:

(1)

"إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد اللَّه إخوانا كما أمركم" وفي رواية: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله، التقوى ههنا، التقوى ههنا" ويشير إلى صدره

(2)

، "بحسب كل امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه".

وفي رواية: "إن اللَّه لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم".

وفي رواية: "لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تناجشوا، وكونوا عباد اللَّه إخوانا".

وفي رواية: "لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد اللَّه إخوانا".

وفي رواية: "لا تهاجروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض" رواه مسلم بكل هذه الروايات

(3)

.

وروى البخاري أكثرها.

والتجسس اتباع العورات وهو مفسد للخلق.

وروينا من حديث معاوية: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول

(4)

: "إنك إن اتبعت

(1)

أخرجه وما يليه من الروايات: البخاري في صحيحه [6064، 6065] كتاب الأدب [57] باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر، ورقم [6066]، [58] باب {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12]، ومسلم في صحيحه [28 إلى 31 - (2563)] ورقم [32 إلى 34 - (2564)]. [91] باب تحريم الظن والتجسس والتنافس والتناجش ونحوها، [10] باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله.

(2)

قوله صلى الله عليه وسلم: "التقوى ههنا" ويشير على صدره ثلاث مرات وفي رواية "إن اللَّه لا ينظر إلى أجسامكم ولكن ينظر على قلوبكم" معنى الرواية الأولى: أن الأعمال الظاهرة لا تحصل بها التقوى وإنما تحصل بما يقع في القلوب من عظمة اللَّه تعالى وخشيته ومراقبته ومعنى نظر اللَّه هنا مجازاته ومحاسبته أي إنما يكون ذلك على ما في القلب دون الصور الظاهرة، ونظر اللَّه رؤيته المحيطة بكل شيء، ومقصود الحديث أن الاعتبار في هذا كله بالقلب وهو من قوله صلى الله عليه وسلم:"ألا إن في الجسد مضغة. . . . " الحديث. [النووي في شرح مسلم [16/ 99] طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

انظر التخريج في أول حديث من الفصل.

(4)

أخرجه أبو داود في سننه [4888] كناب الأدب، باب النهي عن التجسس والطبراني في المعجم الكبير [19/ 379]، والزبيدي في اتحاف السادة المتقين [6/ 269] والبيهقي في دلائل النبوة [6/ 247]، وابن كثير في تفسيره [7/ 358].

ص: 417

عورات المسلمين أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم" (*) حديث صحيح رواه أبو داود، وهو صحيح.

وهو شامل للإمام وغيره فيما يوجب الحد وغيره.

وروينا من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه أتى فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمرًا.

فقال له: إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن أن يظهر لنا شيء نأخذ به". (*)

حديث صحيح. رواه أبو داود بإسناد على شرط الشيخين.

‌فصل في النهي عن ظن السوء بالمسلمين من غير ضرورة

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ}

(1)

الآية.

وهي صريحة في النهي عنه وأنه غير حق.

وقال: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)}

(2)

.

وهو تهديد بالويل الجامع لكل ألم وغم وسوء حال.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم"

(3)

. أخرجه مسلم. وقد سلف بطوله، وفاعل هذا لم يرع للإسلام حقه.

وروينا من حديث ابن مسعود مرفوعًا: "لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر" فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنًا.

فقال: "إن اللَّه جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس"

(4)

.

(*) أخرجه أبو داود في سننه [4890] كتاب الأدب، باب في النهي عن التجسس.

(1)

سورة الحجرات [11] ينهي تعالى عن السخرية بالناس وهو احتقارهم والاستهزاء بهم، كما ثبت في الصحيح عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الكبر بطر الحق وغمض الناس" ويروي: "وغمط الناس" والمراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم وهذا حرام فإنه قد يكون المحتقر أعظم قدرا عند اللَّه تعالى وأحب إليه من الساخر منه المحتقر له ولهذا قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} الآية [تفسير ابن كثير (4/ 212)].

(2)

سورة الهمزة [1].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [32 - (2564)] كتاب البر والصلة والآداب [10] باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله، والترمذي في سننه (1927)، والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 92، 8/ 250)، والزبيدي في الإتحاف (7/ 533)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 546).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [147 - (91)] كتاب الإيمان، [39] باب تحريم الكبر وبيانه، وأحمد =

ص: 418

أخرجه مسلم، وبطر الحق: دفعه، وغمطهم: احتقارهم، وقد سلف بيانه أوضح من هذا في الكلام على الكبر.

وروينا من حديث جندب بن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "قال رجل واللَّه لا يغفر اللَّه لفلان.

فقال اللَّه عز وجل: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان؟! فإني قد غفرت له وأحبطت عملك"

(1)

.

أخرجه مسلم.

وهو دال على أن الاحتقار لشخص عن أن تناله المغفرة محبط للعمل معاذ اللَّه منه.

‌فصل في تحريم الطعن في الأنساب الثابتة ظاهرًا

قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}

(2)

الآية.

وروينا في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "اثنتان في الناس هما بهم كفر، الطعن في النسب والنياحة على الميت"

(3)

.

‌فصل في النهي عن إظهار الشماتة بالمسلم

قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}

(4)

.

= ابن حنبل في مسنده [4/ 133، 134]، والحاكم في المستدرك [1/ 26]، والطبراني في المعجم الكبير [8/ 240، 293]، والهيثمي في مجمع الزوائد [2/ 242، 5/ 132]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [5108]، والزبيدي في الإتحاف [6/ 498].

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [137 - (2621)] كتاب البر والصلة والآداب، [39] باب النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة اللَّه تعالى. قال النووي: "معنى يتألى يحلف والألية اليمين، وفيه دلالة لمذهب أهل السنة في غفرانها بلا توبة إذا شاء اللَّه غفرانها واحتجت المعتزلة به في إحباط الأعمال بالمعاصي الكبائر، ومذهب أهل السنة أنها لا تحبط إلا بالكفر ويتأول حبوط عمل هذا على أنه أسقطت حسناته في مقابلة سيئاته وسمى إحباطًا، مجازا ويحتمل أنه جرى منه أمر آخر وجب الكفر ويحتمل أن هذا كان في شرع من قبلنا وكان هذا حكمهم [النووي في شرح مسلم [16/ 143] طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

سورة الأحزاب [58].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [122 - (68)] كتاب الإيمان، [30] باب إطلاق اسم الكفر على الطعن غي النسب والنياحة. وأحمد في مسنده [2/ 496]، والبيهقي في السنن الكبرى [4/ 63]، والسيوطي في الدر المنثور [6/ 99]، وأبو عوانه في مسنده [1/ 26].

(4)

سورة الحجرات [10].

ص: 419

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} الآية

(1)

.

وهي شماتة، فإن الفاحشة كل ما يسوء من قذف وغيره.

وروينا من حديث واثلة بن الأسقع مرفوعًا: "لا تُظْهر الشماتة بأخيك فيعافيه اللَّه ويبتليك"

(2)

.

رواه الترمذي وحسنه.

ومسلم سلف: وفيه حديث أبي هريرة السالف قريبا: "كل المسلم على المسلم حرام" الحديث

(3)

.

‌فصل في النهي عن الغش والخداع

قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} [الأحزاب: 58] الآية

(4)

.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من حمل علينا السلاح فليس منا، ومن غشنا فليس منا"

(5)

.

أخرجه مسلم.

وفي رواية له وهي مبينة سببه أنه صلى الله عليه وسلم مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللا فقال:"ما هذا يا صاحب الطعام؟ " قال: أصابته السماء يا رسول اللَّه.

(1)

سورة النور [19].

هذا تأديب ثالث لمن سمع شيئا من الكلام السيء فقام بذهنه شيء منه وتكلم به فلا يكثر منه ولا يشيعه ويذيعه فقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 19] أي يختارون ظهور الكلام القبيح {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا} أي بالحد، وفي الآخرة بالعذاب الأليم. [تفسير ابن كثير (3/ 283)].

(2)

أخرجه الترمذي في سننه [2506] كتاب صفة القيامة والرقائق، الورع، باب [54]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 310] وأبو نعيم في حلية الأولياء [5/ 186] والزبيدي في الإتحاف [8/ 53]، والخطيب في تاريخ بغداد [9/ 96].

(3)

الحديث تقدم من قبل.

(4)

سورة الأحزاب [58].

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [164 - (101)] كتاب الإيمان، [43] باب قول النبي:"من غشنا فليس منا"، وأوله في مسلم [161 - (98)]، [163 - (100)] كتاب الإيمان، [42] باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"من حمل علينا السلام فليس منا". والترمذي [1459]، والنسائي [7/ 117] المجتبي وابن ماجه [2575، 2576]، وأحمد في مسنده [2/ 3، 16، 53]، والبيهقي في السنن الكبرى [8/ 20]، والمنذري في الترغيب والترهيب [2/ 571].

ص: 420

قال: "أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس، من غشنا فليس منا"

(1)

.

وروينا عنه مرفوعًا: "لا تناجشوا"

(2)

.

وروينا عن ابن عمر: "أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن النجش"

(3)

أخرجاهما.

فالنجش: غش وخديعة، والنهي عنه وإن لم يكن فاعلة.

وروينا من حديثه ذكر رجل لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه يُخْدَعُ من البيوع، فقال صلى الله عليه وسلم:"من بايعت فقل لا خلابة"

(4)

أخرجاه.

والخلابة: بخاء معجمة، ثم باء موحدة: الخديعة.

فهي إذن ليست من الدين الموسوس على النصيحة وفيه. وعظ زاجر، وموضح معنى "فليس منا"

(5)

.

وروينا من حدبث أبي هريرة مرفوعًا: "من خَبَّب زوجة امرئ أو مملوكة فليس منا"

(6)

.

رواه أبو داود، وخبَّب: بخاء معجمه، ثم باء موحدة مكررة: أفسده وخدعه،

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [164 - (102)] كتاب الإيمان، [43] باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"من غشنا فليس منا"، الترمذي في سننه [1315] في البيوع، باب ما جاء في كراهية الغش في البيوع. وابن ماجه [2224] كتاب التجارات [36] باب النهي عن الغش. والبيهقي في السنن الكبرى [5/ 320]، والحاكم في المستدرك [2/ 9].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [2142] كتاب البيوع، [6] باب النجش، [6] باب النجش، ومسلم في صحيحه [11] كتاب البيوع، وأبو داود [3438]، والترمذي في سننه [65، 1304]، وابن ماجه [2174] والبيهقي في السنن الكبرى [5/ 346]، وأحمد في مسنده [2/ 274]، وابن حبان في صحيحه [1106 - الموارد].

(3)

انظر ما تقدم قبل هذا.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [2117] كتاب البيوع باب ما يكره من الخداع في البيع. ومسلم في صحيحه [48 - (1533)] كتاب البيوع، [12] باب من يخدع في البيع.

(5)

واختلف العلماء في هذا الحديث فجعله بعضهم خاصا في حقه وأن المغابنة بين المتبايعين لازمه لا خيار للمغبون بسببها سواء قلت أم كثرت، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وآخرين وهي أصح الروايتين عن مالك وقال البغداديون من المالكية للمغبون، الخيار لهذا الحديث بشرط أن يبلغ الغبن ثلث القيمة فإن كان دونه فلا، والصحيح الأول؛ لأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت له الخيار، وإنما قال له: قل لا خلابة أي لا خديعة ولا يلزم من هذا ثبوت الخيار؛ ولأنه لو ثبت أو أثبت له الخيار كانت قضية عين لا عموم لها فلا ينفذ منه إلى غيره إلا بدليل، واللَّه أعلم.

[النووي في شرح مسلم [10/ 151] طبعة دار الكتب العلمية].

(6)

أخرجه أبو داود في سننه [2175] كتاب الطلاق باب فيمن خبب امرأة على زوجها، وابن حبان في صحيحه [1318 - الموراد]، والهيثمي في مجمع الزوائد [4/ 180].

ص: 421

وهو من أمثلة النجش، والخداع للزوج والزوجة.

وحاصل الأحاديث التنفير عنه وبيان أنواعه، فمن لم يوافق الشارع، ولم يفعل أفعال المسلمين فيا تعسه وكذا إذا أخفى الغش وأظهر موهم رغبة أو نفاسه أو ما ينفره.

‌فصل في تحريم الغدر

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}

(1)

أمر بالإيفاء المانع من الغر، وعم كل عقد من (حين)

(2)

وضمان وغير ذلك.

وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34]

(3)

.

أي أهل وفائه أو نفس العهد هو المسئول كما في: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8)} أي غير متغافل عنه ولا مهمل يتهاون فيه.

وروينا من حديث عبد اللَّه بن عمرو مرفوعًا: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر"

(4)

. أخرجاه.

وهو صحيح في التحذير من الغدر، وأن مبتغيه من المنافقين.

وروينا من حديث ابن مسعود وابن عمر وأنس مرفوعًا: "لكل غادر لواء يوم القيامة، يقال: هذه غدرة فلان"

(5)

أخرجاه.

(1)

سورة المائدة [1].

قال ابن عاس ومجاهد وغير واحد يعني بالمقود العهود، وحكى ابن جرير الإجماع على ذلك قال والعهود ما كانوا يتعاقدون عليه من الحلف وغيره. وقال علي بن طلحة عن ابن عباس في قوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] يعني العهود، يعني ما أحل اللَّه وما حرم وما فرض وما حد في القرآن كله ولا تغدروا ولا تنكثوا. [تفسير ابن كثير (2/ 3)].

(2)

كذا بالأصل.

(3)

سورة الإسراء [34].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [34] كتاب الإيمان، [25] باب علامة المنافق. ورقم [2459] كتاب المظالم، [17] باب إذا خاصم فجر، ورقم [3178] كتاب الجزية والموادعة [17] باب إثم من عاهد ثم غدر. ومسلم في صحيحه [106 - (58)] كتاب الإيمان، [25] باب خصال المنافق، وأحمد في مسنده [2/ 189]، والبيهقي في السنن الكبرى [9/ 230، 10/ 74]، وأبو نعيم حلية الأولياء [7/ 204].

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه [3186، 3187، 3188] كتاب الجزية والموادعة، [22] باب إثم الغادر للبر والفاجر. ومسلم في صحيحه [12 - (1736)] كتاب الجهاد والسير، [4] باب تحريم =

ص: 422

وما أشنعها هتكة على رؤوس الأشهاد.

وروينا من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا: "لكل غادر لواء عند استه، عند القيامة يرفع له بقدر غدره ولا كادو أعظم غدرًا من أمير عامة".

أخرجه مسلم

(1)

. فهو خزي وعار.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا قال: "قال اللَّه تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، رجل أعطي بي ثم غدر ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره"

(2)

.

رواه البخاري.

وما أعظم جناية هؤلاء، إذ الأول: ما وقَّر الرب جل جلاله والثاني: جنى على رتبة الرب تعالى حيث رفض أحكامه واتبع هواه، والثالث: كذلك إذ جعل منافعه له.

‌فصل في النهي عن المن بالعطية ونحوها

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى}

(3)

.

وقال: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى}

(4)

.

وروينا من حديث أبي ذر مرفوعًا: "ثلاثة لا يكلمهم اللَّه يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم".

قال: فقرأها رسول اللَّه ثلاث مرار.

= الغدر. وأحمد في مسنده [1/ 411، 417]، والبيهقي في السنن الكبرى [8/ 160، 9/ 142]، مشكاة المصابيح [3726]، والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 10].

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [15، 16 - (1738)] كتاب الجهاد والسير، [4] باب تحريم الغدر، والترمذي في سننه [1581] وأحمد في مسنده [1/ 417، 3/ 35].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [2270] كتاب الإجارة، [10] باب إثم من منع أجر الأجير، وابن ماجه في سننه [2442] كتاب الرهون، باب أجر الأجراء، وأحمد في مسنده [2/ 358]، والبيهقي في السنن الكبرى [6/ 121].

(3)

سورة البقرة [264].

(4)

سورة البقرة [262].

يمدح اللَّه تبارك وتعالى الذين ينفقون في سبيله ثم لا يتبعون ما أنفقوه من الخيرات والصدقات منَّا على من أعطوه فلا يمنون به على احد ولا يمنون به لا بقول ولا فعل. وقوله: {وَلَا أَذًى} أي لا يفعلون مع من أحسنوا إليه مكروها يحبطون به ما سلف من الإحسان ثم وعدهم اللَّه تعالى الجزاء الجزيل على ذلك فقال: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي ثوابهم على اللَّه لا على أحد سواه {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [تفسير ابن كثير (1/ 317، 318)].

ص: 423

قال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول اللَّه؟

قال: "المسبل، والمنَّان، والمُنفِّق سلعته بالحلف الكاذب".

أخرجه مسلم.

(1)

.

وفي رواية: المسبل إزاره

(2)

. يعني خيلاء. أسفل من الكعبين.

وفيه آثار شديدة من الغضب الإلهي، معاذ اللَّه منها، وكأن المسبل ينازع الرب جل جلاله في إزار عظمته وكبرياء ردائه.

ومن نازعه فيهما قصمة، والمنان منازع له في حوله وقوته ورزقه، حتى كأنه الرازق.

والمنفق سلعته بالحلف الكاذب متهاون بحرماته مؤثر لدنياه وهواه على مراضيه من غير مبالاة بغضبه.

‌فصل في النهي عن الافتخار والبغي

وهو التعدي والاستعالة.

قال تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}

(3)

.

وقال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ}

(4)

الآية وروينا من حديث عياض رحمه الله مرفوعًا: "إن اللَّه أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يبغى أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد"

(5)

أخرجه مسلم.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [171 - (106)] كتاب الإيمان، [46] باب غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية وتنفيق السلعة بالحلف وبيان الثلاثة الذين لا يكلمهم اللَّه يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم. أحمد في مسنده [5/ 48، 178].

والمنذري في الترغيب والترهيب [2/ 578]، والقرطبي في تفسيره [3/ 410].

(2)

قوله صلى الله عليه وسلم: "المسبل إزاره" فمعناه المرخي له الجار طرفه خيلاء، كما جاء مفسرا في الحديث الآخر: لا ينظر اللَّه إلى من يجر ثوبه خيلاء، والخيلاء الكبر، وهذا التقييد بالجر خيلاء يخصص عموم المسبل إزاره ويدل على أن المراد بالوعيد من جره خيلاء وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وقال:"لست منهم" إذ كان جره لغير الخيلاء.

[النووي في شرح مسلم [2/ 99] طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

سورة النجم [32] أي تمدحوها وتشكروها وتمنوا بأعمالكم {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)} [النساء: 49][تفسير ابن كثير (4/ 257)].

(4)

سورة الشورى [42].

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [64 - (2865)] كتاب الجنة وصفه نعيمها وأهلها، [16] باب الصفات =

ص: 424

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم"

(1)

أخرجه مسلم أيضًا، وأهلكهم بالرفع أعنى الكاف في الرواية المشهورة وروى بنصبها.

وقال هذا النبي لمن قال ذلك عُجْبًا بنفسه وتصاغرًا للناس، وارتفاعا عليهم، وهو حرام.

فأما من قاله لما يرى في الناس من نقص في أمر دينهم، وقاله تحزُّنًا عليهم وعلى الدين فلا بأس.

قاله مالك وغيره من الأعلام.

(2)

.

‌فصل في تحريم الهجران بين المسلمين فوق ثلاثة أيام

إلا لبدعة في المهجور، أو تظاهر بفسق ونحو ذلك قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}

(3)

.

والأخوة مقضية للألفة والمودة والمحبة، ومنافية للهجران والجفاء والقطع،

= التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، وأبو داود في سننه [4895]، وابن ماجه في سننه [4178، 4214]، والبيهقي في السنن [10/ 234]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 558].

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [139 - (2623)] كتاب البر والصلة والآداب، [41] باب النهي عن قول: هلك الناس. وأبو داود في الأدب باب [89]، وأحمد في مسنده [2/ 342]، والتبريزي في المشكاة [4821].

(2)

اتفق العلماء على أن هذا الذم إنما هو فيمن قاله على سبيل الإزراء على الناس واحتقارهم وتفضيل نفسه عليهم وتقبيح أحوالهم لأنه لا يعلم سر اللَّه في خلقه، قالوا: فأما من قال ذلك تحزنا لما يرى في نفسه وفي الناس من النقص في أمر الدين فلا بأس عليه كما قال: لا أعرف من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا أنهم يصلون جميعا. هكذا فسره الإمام مالك وتابعه الناس عليه.

وقال الخطابي: معناه لا يزال الرجل يعيب الناس ويذكر مساويهم ويقول فسد الناس وهلكوا ونحو ذلك، فإن فعل ذلك فهو أهلكهم أي أسوء حالا منهم بما يلحقه من الإثم في عيبهم والوقيعة فيهم، وريما أداة ذلك إلى العجب بنفسه ورؤيته أنه خير منهم واللَّه أعلم. [النووي في شرح مسلم [16/ 144] طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

سورة الحجرات [10].

أي الجميع إخوة في الدين كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه" وفي الصحيح "واللَّه في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"{فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] ويعني الفئتين المتقاتلتين {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي في جميع أموركم {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وهذا تحقيق منه تعالى للرحمة لمن اتقاه [تفسير ابن كثير (4/ 211، 212)].

ص: 425

ومن الإصلاح وقوعه بين المتهاجرين، واتقوا اللَّه فيه.

وقال تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}

(1)

.

وروينا من حديث أنس مرفوعًا: "لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا، وكونوا عباد اللَّه إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث"

(2)

أخرجاه.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "تعرض الأعمال في كل اثنين وخميس فيغفر لكل امرئ لا يشرك باللَّه شيئًا إلا امرأ كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال اتركوا هذين حتى يصطلحا"

(3)

. أخرجه مسلم.

وأي مشمت أعظم من تأخير الغفران، وأي مسلم يسهل عليه إعراض الجليل عنه، أو شماتة عدوه به.

وروينا من حديث أبي أيوب مرفوعًا: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام"

(4)

أخرجاه.

وروينا من حديث جابر مرفوعًا: "إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم"

(5)

. أخرجه مسلم.

والتحريش الإفساد وتغيير قلوبهم وتقاطعهم وما أشد ذلك.

قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ}

(6)

الآية.

(1)

سورة المائدة [2].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [6065] كتاب الأدب، [57] باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر، ورقم [6067] في الأدب، [62] باب الهجرة. ومسلم في صحيحه [30] كتاب البر والصلة والآداب [9] باب تحريم التحاسد والتباغض والتدابر. والترمذي في سننه [1935] باب البر والصلة، باب ما جاء في الحسد. وأحمد في مسنده [2/ 5].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [36 - (2565)] كتاب البر والصلة والآداب، [11] باب النهي عن الشحناء والتهاجر. والترمذي في سننه [747] والمنذري في الترغيب والترهيب [2/ 124]، الهيثمي في مجمع الزوائد [8/ 66] والزبيدي في إتحاف السادة المتقين [4/ 258].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [6077] كتاب الأدب، [62] باب الهجرة، ومسلم في صحيحه [25 - (2560)] كتاب البر والصلة والآداب، [8] باب تحريم الهجر فوق ثلاث، بلا عذر شرعي. وأبو داود في سننه [4911، 1614]، والترمذي [1932] كتاب البر والصلة، باب ما جاء فى كراهية الهجر للمسلم.

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [65 - (2812)] كتاب صفات المنافقين وأحكامهم [16] باب تحريش الشيطان.

(6)

سورة يس [60].

ص: 426

وقال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ}

(1)

.

وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}

(2)

.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار"

(3)

.

أخرجه أبو داود بإسناد على شرط الشيخين، وما أشدة من وعيد.

وروينا من حديث أبي خراش حدرد بن أبي حدرد الأسلمي

(4)

مرفوعًا: "من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه"

(5)

.

رواه أبو داود بإسناد صحيح، وما اشده من تغليظ.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا يحل لمؤمن أن يهجر مؤمنا فوق ثلاث، فإن مرت به ثلاث فلقيه فليسلم عليه، فإن رد عليه السلام فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يرد عليه فقد باء بالإثم وخرج المسلم من الهجرة"

(6)

.

رواه أبو داود بإسناد حسن.

وقال: إذا كانت الهجرة للَّه تعالى فليس من هذا في شيء.

والحاصل أن الحديث الأول: لبيان حكم الهجر.

والثاني: لصفته، والثالث: لما منع من الخير.

والرابع: لما يهضم من الدين، والخامس: لما يجلب من الشرِّ. والسادس: لما

(1)

سورة الإسراء [39].

(2)

سورة النساء [48].

(3)

أخرجه أبو داود في سننه [4914] كتاب الأدب، باب فيمن يهجر أخاه المسلم وأوله عن البخاري ومسلم كما تقدم، والترمذي [1932] كتاب البر والصلة، باب ما جاء في كراهية الهجر للمسلم، والطبراني في المعجم الكبير [4/ 171، 172]، وابن أبي شيبه في مصنفه [8/ 341، 344].

(4)

حدرد بن أبي حدرد، أبو خراش السلمي ويقال الأسلمي، صحابي له حديث واحد، أخرج له: البخاري في الأدب وأبو داود. ترجمته: تهذيب التهذيب [2/ 217]، تقريب التهذيب [1/ 156]، والكاشف [1/ 209]، الجرح والتعديل [3/ 1394]، أسد الغاية [1/ 460]، الإصابة [2/ 44]، الوافي بالوفيات [11/ 479]، الاستيعاب [1/ 408].

(5)

أخرجه أبو داود [4915] كتاب الأدب، باب فيمن يهجر أخاه المسلم. وأحمد في مسنده [4/ 320]، والحاكم في المستدرك [4/ 163]، التبريزي في مشكاة المصابيح [5036].

(6)

أخرجه أبو داود في سننه [4912] كتاب الأدب، باب فيمن يهجر أخاه المسلم. والبيهقي في السنن الكبرى [10/ 63] والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 456]، التبريزي في مشكاة المصابيح [5037]، العجلوني في كشف الخفا [2/ 518].

ص: 427

يوجب غلظ أمره والسابع: لما يخرج من حرجه.

‌فصل في النهي عن تناجي اثنين دون الثالث

بغير إذنه إلا لحاجة، وهو أن يحدث سرًا بحيث لا يسمعهما وفي معناه ما إذا تحدثا بلسان لا يفهمه قال تعالى:{إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ}

(1)

.

وروينا من حديث ابن عمر مرفوعًا: "إذا كانوا ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث"

(2)

.

أخرجاه، ورواه داود قال أبو صالح: قلت لابن عمر: فأربعة، قال: لا يضرك

(3)

.

ورواه مالك في الموطأ.

(4)

وروينا من حديث عبد اللَّه بن دينار قال: كنت أنا وابن عمر عند دار خالد بن عقبة التي بالسوق فجاء رجل يريد أن يناجيه وليس مع ابن عمر أحد غيري، فدعى ابن عمر رجلا آخر حتى كنا أربعة فقال لي وللرجل الثالث الذي دعاه: استأخرا عني شيئا فإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يتناجى اثنان دون واحد"

(5)

.

وروينا من حديث ابن مسعود مرفوعًا: "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر، حتى تختلطوا بالناس من أجل أن ذلك يحزنه"

(6)

. أخرجاه.

(1)

سورة المجادلة [10].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [6288] كتاب الاستئذان، [45] باب لا يتناجى اثنان دون الثالث. ومسلم في صحيحه [37 - (2184)، 38] كتاب السلام، [15] باب تحريم مناجاة الاثنين دون الثالث بغير رضاه. وأبو داود في سننه [4851] كتاب الأدب، باب في التناجي، والترمذي [2825] كتاب الأدب، باب ما جاء لا يتناجى اثنان دون ثالث.

(3)

أبو داود في سننه [4852] كتاب الأدب باب في التناجي.

(4)

في هذه الأحاديث النهي عن تناجي اثنين بحضره ثالث، وكذا ثلاثة وأكثر بحضرة واحد، وهو نهي تحريم فيحرم على الجماعة المناجاة دون واحد منهم إلا أن يأذن، ومذهب ابن عمر رضي الله عنهما ومالك وأصحابنا وجماهير العلماء أن النهي عام في كل الأزمان وفي الحضر؛ والسفر.

وقال بعض العلماء إنما المنهي عنه المناجاة في السفر والحضر؛ لأن السفر مظنة الخوف.

[النووي في شرح مسلم [14/ 140] طبعة دار الكتب العلمية].

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [36 - (2183)] في السلام باب [15] باب تحريم مناجاة الاثنين دون الثالث بغير رضاه. والترمذي في سننه [2825] كتاب الأدب، باب ما جاء لا يتناجى اثنان دون ثالث. وأحمد في مسنده [1/ 431، 2/ 73].

وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة [1402].

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه [6290] كتاب الاستئذان، [47] باب إذا كانوا أكثر من ثلاثة فلا =

ص: 428

‌فصل في النهي عن تعذيب العبد والدابة والمرأة والولد

لغير سبب شرعي، أو زاثد على قدر الأدب، قال تعالى:{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى}

(1)

الآية.

وروينا من حديث ابن عمر مرفوعًا

(2)

: "عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار؛ لا هي أطعمتها إذ هي حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش

(3)

الأرض". أخرجاه.

وخشاش الأرض بالخاء المعجمة المثلثة، وبالشين المعجمة المكررة: هوامُّها وحشراتها.

وفيه تنبيه على أن الخسيس في التعذيب كالجوع ونحوه كالنفيس، وما أشد الجزاء بالنار.

وروينا من حديثه أيضًا أنه مرَّ بفتيان من قريش قد نصبوا طيرًا وهم يرمونه وقد جعلوا لصاحب الطير لكل خاطئة من نبلهم. فلما رأوا ابن عمر تفرقوا، فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ لعن اللَّه من فعل هذا، إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"لعن اللَّه من اتخذ شيئًا فيه الروح غرضًا"

(4)

أخرجاه.

والغرض بفتح الغين المعجمة، والراء: الهدف، والشيء الذي يرمي إليه الفتية.

= بأس بالمسارة والمناجاة. ومسلم في صحيحه [37 - (2184)] كتاب السلام، [15] باب تحريم مناجاة الاثنين دون الثالث بغير رضاه.

(1)

سورة النساء [36].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [2365] كتاب المساقاة، [10] باب فضل سقى الماء. ورقم [3482] كتاب بدء الخلق، [16] باب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه. ورقم [3482] كتاب أحاديث الأنبياء، باب [56]، ومسلم في صحيحه [133 - (2242)] كتاب البر والصلة والآداب، [37] باب تحريم تعذيب الهرة ونحوها من الحيوان الذي لا يؤذي. وأحمد في مسنده [2/ 454]، والبيهقي في السنن الكبرى [5/ 214، 8/ 13].

(3)

خشاش الأرض بفتح الخاء المعجمة وكسرها وضمها حكاهن في المشارق، والفتح أشهر، وروى بالحاء المهملة، والصواب المعجمة وهي هوام الأرض وحشراتها كما وقع في الرواية الثانية، وقيل: المراد به نبات الأرض وهو ضعيف أو غلط. وفي الحديث دليل تحريم قتل الهرة وتحريم حبسها بغير طعام أو شراب. [النووي في شرح مسلم [14/ 201] طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [5515] كتاب الذبائح والصيد والتسمية على الصيد، [25] باب ما يكره من المثلة والمصبورة والمجثمة ومسلم في صحيحه [59 - (1958)] كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، [12] باب النهي عن صبر البهائم. وأحمد في مسنده [4/ 141].

ص: 429

ولا فرق بين الفتى والكهل (والجعل)

(1)

ودونه، والرمي بالنبل ودونه، ورمي التمرن وغبره في اللعنة، وروينا من حديث أنس:"نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن تصبر البهائم"

(2)

أخرجاه.

ومعناه تحبس للقتل، ويدخل فيه أي صابر كان وأي بهيمة كانت، وأي صبر وجد.

وروينا من حديث أبي على سويد بن مقرن قال: لقد رأيتني سابع سبعة من بني مقرن ما لنا خادم إلا واحدة لطمها أصغرنا.

"فأمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن نعتقها"

(3)

أخرجه مسلم.

وفي رواية: سابع أخوة لي.

وهو ظاهر في الأمر بالعتق، يعتق من لطمها أصغر السن، واستواء الصبي والسيد وابنه والخادم وغيره. واللطم وغيره في ذلك، وأن جزاء ذلك إزالة الملك

(4)

، كما قيل به في ناقة لعنت، ومعصفر لبسه رجل، وسواء ما يقوم غيره مقامه أم لا.

(1)

كذا بالأصل.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [5513] كتاب الذبائح والصيد والتسمية [25] باب ما يكره من المثلة والمصبورة والمجثمة ومسلم في صحيحه [58 - (1956)] كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، [12] باب النهي عن صبر البهائم. قال النووي: صبر البهائم هو حبسها لتقتل برمي ونحوه، وقال العلماء: صبر البهائم أن تحبس وهي حية لتقتل بالرمي ونحوه وهو معنى: "لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا" أي لا تتخذوا الحيوان الحي غرضا ترمون إليه كالغرض من الجلود وغيرها. وهذا النهي للتحريم. [النووي في شرح مسلم [13/ 91] طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [32 - (1658)] كتاب الإيمان، [8] باب صحبة المماليك وكفارة من لطم عبده. وأبو داود في سننه [5166] كتاب الأدب باب في حقوق المماليك. والترمذي في سننه [1542] كتاب النذور والأيمان، باب ما جاء في الرجل يلطم خادمه، والنسائي في الكبر في العتق.

(4)

أجمع المسلمون على أن عتقه بهذا ليس واجبًا وإنما مندوب رجاء كفارة ذنبه، فيه إزالة إثم ظلمه، وقال القاضي عياض: "وأجمع العلماء أنه لا يجب إعتاق العبد لشيء مما يفعله به مولاه مثل هذا الأمر الخفيف، قال: واختلفوا فيما كثر من ذلك وشنع من ضرب مبرح منهك لغير موجب لذلك أو حرقة بنار أو قطع عضو له أو أفسده أو نحو ذلك مما فيه مثله؛ فذهب مالك وأصحابه والليث إلى عتق العبد على سيده بذلك ويكون ولاؤه له ويعاقبه السلطان على فعله، وقال سائر العلماء: لا يعتق عليه. [النووي في شرح مسلم [11/ 106] طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 430

وروينا من حديث أبي مسعود رضي الله عنه قال: كنت اضرب غلاما لي بالسوط، فسمعت صوتا من خلفي:"اعلم أبا مسعود" فلم أفهم الصوت من الغضب فلما دنا مني إذ هو رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فإذا هو يقول: "اعلم أبا مسعود أن اللَّه أقدر عليك منك على هذا الغلام" فقلت: لا أضرب مملوكا بعده أبدا

(1)

.

وفي رواية: "فسقط السوط من يدي من هيبته"

(2)

.

وفي رواية: فقلت: يا رسول اللَّه هو حر لوجه اللَّه، فقال:"أما لو لم تفعل للفحتك النار، أو لمستك النار"

(3)

.

أخرجه مسلم بهذه الروايات كلها.

وافهم أنه لا فرق في المعذب بين بدري وغيره، ملكه وغيره، ولا في المعذب بين غلام وجارية، ولا في العذاب بين ضرب وغيره.

وأن جزاءه أن تلفح النار من لم يعتقه.

وفي قوله: "إن اللَّه أقدر عليك منك على هذا الغلام"

(4)

.

تذكير بليغ وعبره وموعظة رادعة، وتهديد زاجر.

وروينا من حديث ابن عمر مرفوعًا: "من ضرب غلاما له حدًّا لم يأته أو لطمه كان كفارته أن يعتقه"

(5)

. أخرجه مسلم.

وروينا من حديث هشام بن حكيم بن حزام رضي الله عنهما أنه مرَّ بالشام على أناس من الأنباط، وقد أُقيموا في الشمس، وصب على رؤوسهم الزيت.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [34 - (1659)] كتاب الأيمان، [8] باب صحبة المماليك وكفارة من لطم عبده. وأبو داود في سننه [5159] كتاب الأدب باب في حقوق المماليك.

والترمذي في سننه [1948] كتاب البر والصلة، باب النهي عن ضرب الخدم وشتمهم، وأحمد في مسنده [4/ 120]، والبيهقي في السنن الكبرى [8/ 10]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 211]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [4/ 218].

(2)

انظر ما تقدم قبل هذا.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [35 - (1659)] كتاب الأيمان، [8] باب صحبة المماليك وكفارة من لطم عبده.

(4)

قول صلى الله عليه وسلم: "أعلم أبا مسعود أن اللَّه أقدر عليك منك على هذا الغلام" قال النووي: فيه الحث على الرفق بالمملوك والوعظ والتنبيه على استعمال العفو وكظم الغيظ والحكم كما يحكم اللَّه على عباده. [النووي في شرح مسلم [11/ 109] طبعة دار الكتب العلمية].

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [30 - (1657)] كتاب الأيمان، [8] باب صحبة المماليك وكفارة من لطم عبده. وأحمد في مسنده [2/ 45]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 211]، والبخاري في الأدب المفرد [180]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [3352].

ص: 431

فقال: ما هذا؟

قيل: يعذبون في الخراج، وفي رواية:"حُبِسُوا في الجزية".

فقال هشام: أشهد لسمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن اللَّه يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا"، فدخل على الأمير فحدثه.

فأمرهم فخلُوا

(1)

. أخرجه مسلم.

والأنباط: الفلاحون من العجم.

وفيه أنه لا فرق في المعذب بين الأمير وغيره ولا في المعذب بين المديون وغيره في الخراج وغيره، المسبي والذمي وغيرهما، والجزاء من جنس العمل سيجزيهم وصفهم.

وروينا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حمارا موسوم

(2)

الوجه، فأنكر ذلك، فقال:"فواللَّه لا أسمه إلا في أقصى شيء من الوجه" فأمر بحمار له فكوي في جاعرتيه، فهو أول من كوى الجاعرتين

(3)

وهما حرفا الوركين حول الدبر.

وروينا من حديث جابر أنه عليه السلام مر عليه حمار قد وسم في وجهه، فقال:"لعن اللَّه الذي وسمه"

(4)

أخرجه مسلم.

وفي رواية له: "نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الضرب في الوجه، وعن الوسم في الوجه"

(5)

.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [117، 118 (2613)] كتاب البر والصلة والآداب، [33] باب الوعد الشديد لمن عذب الناس بغير حق. وأبو داود في سننه [3045]، وأحمد فى مسنده [3/ 404]، والبيهقي في السنن الكبرى [9/ 205]، وابن حبان في صحيحه [1567 - الموارد]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 217]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [3522].

(2)

الوسم: فبالسين المهملة، هذا هو الصحيح المعروف في الروايات وكتب الحديث، قال القاضي ضبطه بالمهملة، قال: وبعضهم يقول بالمهملة والمعجمة، وبعضهم فرق فقال بالمهملة في الوجه وبالمعجمة في سائر جسده، وأما الجاعرتان فهما حرفا الورك المشرفان مما يلي الدبر.

[النووي في شرح مسلم [14/ 81] طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [108 - (2118)] كتاب اللباس والزينة، [29] باب النهي عن ضرب الحيوان في وجهه ووسمه فيه.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [107 - (2117)] كتاب اللباس والزينة، [29] باب النهي عن ضرب الحيوان في وجهه ووسمه فيه.

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [106 - (2116)] كتاب اللباس والزينة، [29] باب النهي عن ضرب الحيوان في وجهه ووسمه فيه.

ص: 432

‌فصل في تحريم التعذيب بالنار في كل حيوان حي (العملة)

(1)

ونحوها

وروينا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال

(2)

: بعثنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بعث فقال: "إن وجدتم فلانا وفلانا لرجلين من قريش سماهما فاحرقوهما بالنار"، ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين أردنا الخروج:"إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا، وإن النار لا يعذب بها إلا اللَّه وإن وجدتموهما فاقتلوهما" أخرجه البخاري.

وروينا من حديث ابن مسعود

(3)

قال: كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجته فرأينا حُمَّرة معها فرخان فأخذنا فرخيها فجاءت الحمرة، فجعلت تغرُشُ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها" ورأي قرية نمل قد حرقناها فقال: "من حرق هذه؟ " قلنا: نحن، قال:"إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار".

رواه أبو داود بإسناد صحيح.

قوله: قرية نمل: معناه موضع النمل.

‌فصل في تحريم مطل الغنى بحق طلبه صاحبه

قال اللَّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}

(4)

.

وقال تعالى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ}

(5)

.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "مطل الغنى

(6)

ظلم، وإذا أتبع أحدكم

(1)

كذا بالأصل.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [3016] كتاب الجهاد والسير، [149] باب لا يعذب بعذاب اللَّه، وأبو داود في سننه [2673] كتاب الجهاد، باب في كراهية حرق العدو بالنار. والترمذي في سننه [1571] كتاب السير باب [20]. وأحمد في مسنده [2/ 307، 338]، والبيهقي في السنن الكبرى [9/ 71].

(3)

أخرجه أبو داود في سننه [2675] كتاب الجهاد، باب في كراهية حرق العدو بالنار. والتبريزي في مشكاة المصابيح [3542]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 205]، والزيلعي في نصب الراية [3/ 407]. وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة [487].

(4)

سورة النساء [58].

(5)

سورة البقرة [283].

(6)

قال القاضي وغيره: المطل منع قضاء ما استحق أداؤه فمطل الغنى ظلم وحرام ومطل غير الغنى ليس بظلم ولا حرام لمفهوم الحديث ولأنه معذور ولو كان غنيا ولكنه ليس مُمَكَّنًا من الأداء لغيبة المال أو لغير ذلك جاز له التأخير إلى الإمكان، وهذا مخصوص من مطل الغنى، أو يقال المراد =

ص: 433

على ملئ فليتبع"

(1)

.

معنى أتبع: أحيل، كما جاء في مسند أحمد في مسنده.

‌فصل في كراهية عود الإنسان في هبة لم يسلمها للموهوب له

وفي هبة وجهها لوالده ولو لم يسلمها.

وكراهة شراء شيء تصدق به من الذي تصدق عليه أو أخرجه عن زكاة أو كفارة أو نحرها، ولا بأس بشرائه من آخر قد انتقل إليه.

روينا من حديث ابن عباس مرفوعًا: "الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه"

(2)

أخر جاه.

وفي لفظ: "مثل الذي يرجع في صدقته كمثل الكلب يقيئ ثم يرجع في قيئه فيأكله"

(3)

. وفي آخر: "العائد في هبته كالعائد فى قيئه"

(4)

.

وروينا من حديث عمر بن الخطاب قال: حملت على فرس في سبيل اللَّه، لأضاعه الذي كان عنده فأردت أن أشتريه منه وظننت أنه بائعه برُخص، فسألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال:"لا تشتره ولا تعُد في صدقتك، وإن أعطاكه بدرهم، وإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه"

(5)

. أخرجاه، ومعنى حملت: تصدقت على بعض

= بالغنى المتمكن من الأداء فلا بدخل هذا فيه. [النووي في شرح مسلم [10/ 192] طبعة دار الكتب العلمية].

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [2287] كتاب الحوالات، [1] باب في الحوالة. ومسلم في صحيحه [33] كتاب المساقاة وأبو داود في البيوع [3345] باب في المطل والترمذي [1308] كتاب البيوع، باب ما جاء في مطل الغنى أنه ظلم. والنسائي [7/ 317 - المجتبي] وابن ماجه [2404] وأحمد في مسنده [2/ 71، 260] والبيهقي في السنن الكبرى [6/ 70]، والمنذري في الترغيب والترهيب [2/ 609].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (2622) كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته، ومسلم في صحيحه [8 - (1622)] كتاب الهبات، [2] باب تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القض إلا ما وهبه لولده وإن سفل.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [5 - (1622)] كتاب الهبات، [2] باب تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض إلا ما وهبه لولده وإن سفل.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (2621) كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، [30] باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته، ومسلم [7 - (1622)] كتاب الهبات، [2] باب تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض إلا ما وهبه لولده وإن سفل.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (2623) كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، [30] باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته، ومسلم في صحيحه [1 - (1620)] كتاب الهبات، [1] باب =

ص: 434

المجاهدين

(1)

.

‌فصل في تأكيد تحريم مال اليتيم

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا}

(2)

الآية.

وقال: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}

(3)

.

وقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى}

(4)

الآية.

فالمخالطة ليست مذمومة إلا لذي إفساد أو شرٍّ.

وروينا من حديث أبي هريرة: "اجتنبوا السبع الموبقات"

(5)

قالوا: يا رسول اللَّه، وما هن؟ قال:"الشرك باللَّه، والسحر، وقتل النفس التي حرم اللَّه إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات"

(6)

أخرجاه.

= كراهة شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه، والنسائي (5/ 108 - المجتبى)، والحميدي في مسنده (15)، وأحمد في مسنده (1/ 25)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1954)، والطبراني في المعجم الكبير (12/ 324).

(1)

في قوله صلى الله عليه وسلم "لا تبتعه ولا تعد في صدقتك" قال النووي: هذا نهي تنزيه لا تحريم؛ فيكره لمن تصدق بشيء أو أخرجه في زكاة أو كفارة أو نذر ونحو ذلك من القربات أن يشتريه ممن دفعه هو إليه أو يهبه أو يتملكه باختياره منه، فأما إذا ورثه منه فلا كراهة فيه، وكذا لو انتقل إلى ثالث ثم اشتراه منه المتصدق فلا كراهة، هذا مذهبنا ومذهب الجمهور، وقال جماعة من العلماء: النهي عن شراء صدقته للتحريم، واللَّه أعلم. [النووي في شرح مسلم (11/ 53) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

سورة النساء (10).

(3)

سورة الأنعام (152)، الإسراء (34).

(4)

سورة البقرة (220).

(5)

الموبقات: هي المهلكات، يقال: وبق الرجل بفتح الباء، يبق بكسرها، ووُبِقَ بضم الواو وكسر الباء، يوبق: إذا هلك، وأوبق غيره: أي أهلكه. وأما المحصنات الغافلات: فبكسر الصاد وفتحها، قراءتان في السبع، قرأ الكسائي بالكسر، والباقون بالفتح، والمراد بالمحضنات هنا العفائف. وبالغافلات: الغافلات عن الفواحش وما قُذِفْنَ به، وقد ورد الإحصان في الشرع على خمسة أقسام: العفة والإسلام والنكاح والتزويج والحرية.

[النووي في شرح مسلم (2/ 72) طبعة دار الكتب العلمية].

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه (6857) كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، [31] باب رمي المحصنات، ومسلم في صحيحه [145 - (89)] كتاب الإيمان، [38] باب بيان الكبائر وأكبرها، وأبو داود في سننه (2874)، والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 284)، والزبيدي في الإتحاف (1/ 219).

ص: 435

الموبقات: المهلكات.

‌فصل في تغليظ تحريم الرِّبا

قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا}

(1)

الآية إلى قوله: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا}

(2)

.

والأحاديث فيها كثيرة مشهورة في الصحيح، منها:

حديث أبي هريرة السالف في الباب قبله.

وحديث ابن مسعود: "لعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله"

(3)

أخرجه مسلم، زاد الترمذي وغيره:"وشاهديه وكاتبه".

‌فصل في تحريم الرياء

قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}

(4)

الآية.

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ}

(5)

الآية.

فالرياء يبطل العمل إبطالا يضرب به المثل، ونضرب بمثله الأمثال.

(1)

سورة البقرة (275).

(2)

سورة البقرة (278).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [105 - (1597)] كتاب المساقاة، [19] باب لعن آكل الربا وموكله، وأبو داود في سننه (3333) كتاب البيوع، باب في آكل الربا وموكله، والترمذي في سننه (1206) كتاب البيوع، باب ما جاء في أكل الربا، والنسائي (8/ 147 - المجتبى)، وابن ماجه في سننه (2277)، وأحمد في مسنده (1/ 83)، والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 285، 9/ 336)، وابن حبان في صحيحه (1112 - الموارد)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 539)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2807)، والزبيدي في الإتحاف (5/ 446)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 367).

(4)

سورة البينة (5).

(5)

سورة البقرة (246).

أخبر أن الصدقة تبطل بما يتبعها من المن والأذى، فما بقي ثواب الصدقة بخطيئة المن والاذى، ثم قال تعالى:{كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} [البقرة: 264] أي لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كما تبطل صدقة من راءى بها الناس فأظهر لهم أنه يريد وجه اللَّه، وإنما قصده مدح الناس له أو شهرته بالصفات الجميلة ليشكر بين الناس، أو يقال إنه كريم ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية مع قطع نظره عن معاملة اللَّه تعالى وابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه. [تفسير ابن كثير (1/ 318)].

ص: 436

وقال: {يُرَاءُونَ النَّاسَ}

(1)

الآية. فهو شأن المنافقين، وكفى به مقتا.

وروينا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول حكاية عن اللَّه تعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه"

(2)

أخرجه مسلم. وما أشد الإعراض.

وروينا عنه مرفوعا

(3)

: "إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتي به فعرَّفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال: تعلمت فيك العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن

(4)

. قال: كذبت؛ ولكنك تعلمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسَّع اللَّه عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأُتي به فعرفه نعمه فعرفها. قال فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق لك فيها إلا أنفقت فيها لك. قال كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه فألقي في النار"

(5)

أخرجه مسلم.

وفيه الاهتمام بهؤلاء الثلاثة؛ إذ هم أول من يقضى فيهم، وما أقبح التوبيخ

(1)

سورة النساء (142).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [46 - (2985)] كتاب الزهد والرقائق، [5] باب من أشرك في عمله غير اللَّه، والشجري في أماليه (2/ 223)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 69)، والزبيدي في الإتحاف (8/ 263، 10/ 51، 63)، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (4/ 241).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [152 - (1905)] كتاب الإمارة، [43] باب من قاتل للرياء والسمعة واستحق النار، والحاكم في المستدرك (1/ 107، 2/ 110)، وأحمد بن حنبل في مسنده (2/ 322)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (205)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 61)، والزبيدي في الإتحاف (10/ 45).

(4)

قوله صلى الله عليه وسلم في الغازي والعالم والجواد وعقابهم على فعلهم ذلك لغير اللَّه وإدخالهم النار دليل على تغليظ تحريم الرياء وشدة عقوبته، وعلى الحث على وجوب الإخلاص في الأعمال، كما قال اللَّه تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] وفيه أن العمومات الواردة في فضل الجهاد إنما هي لمن أراد اللَّه تعالى بذلك مخلصا، وكذلك الثناء على العلماء وعلى المنفقين في وجوه الخيرات، كله محمول على من فعل ذلك للَّه تعالى مخلصا.

[النووي في شرح مسلم (13/ 44، 45) طبعة دار الكتب العلمية].

(5)

تقدم تخريجه في أول الحديث.

ص: 437

الفاضح المخزي، والسحب على الوجه، والإلقاء في النار، أعاذنا اللَّه منه.

وروينا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن ناسًا قالوا له: إنا ندخل على سلاطيننا فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم؟ قال ابن عمر: كنا نعد هذا نفاقا على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رواه البخاري.

فحقيقة الرياء إظهار خلاف ما يبطن كالنفاق.

وروينا من حديث جندب بن عبد اللَّه بن سفيان مرفوعًا: "من سمَّع سمَّع اللَّه به، ومن يرائي يرائي اللَّه به"

(1)

أخرجاه.

ولمسلم من حديث ابن عباس. وسمَّع بتشديد الميم: أظهر عمله للناس رياء. ومعنى سمَّع اللَّه به: فضحه يوم القيامة.

ومعنى: من يرائي يرائي اللَّه به

(2)

: أي من أظهر للناس العمل الصالح ليعظم عندهم، وليس كذلك راءى اللَّه به، أي أظهر سريرته على رؤوس الخلائق، وكفي بذلك شهرة وفضيحة.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من تعلم علمًا مما يبتغى به وجه اللَّه لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة"

(3)

يعني ريحها.

رواه أبو داود بإسناد صحيح، فحقيقة الرياء التوسل بعمل الآخرة إلى إصابة عرض من الدنيا كما صرح به الغزالي في منهاجه.

ومن آثار الرياء البعد عن الرحمة، وعن شم عرف الجنة وعن الكرامات، وكفى به شقاء.

والأحاديث فيها كثيرة وهي مشهورة.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (6499) كتاب الرقاق، باب الرياء والسمعة، ومسلم في صحيحه [48 - (2987)] كتاب الزهد والرقائق، [5] باب من أشرك في عمله غير اللَّه، وأحمد في مسنده (5/ 45)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (4/ 301).

(2)

قال العلماء: معناه: من رائى بعمله وسمَّعه الناس ليكرموه ويعظموه ويعتقدوا خيره سمع اللَّه به يوم القامة الناس وفضحه، وقيل: معناه: من سمع بعيوبه وأذاعها أظهر اللَّه عيوبه. وقيل: أسمعه المكروه، وقيل: أراه اللَّه ثواب ذلك من غير أن يعطيه إياه ليكون حسرة عليه، وقيل: معناه: من أراد بعمله الناس أسمعه اللَّه الناس وكان ذلك حظه منه.

[النووي في شرح مسلم (18/ 90) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (3664) كتاب العلم، باب في طلب العلم لغير اللَّه تعالى، وابن ماجه (252)، وأحمد بن حنبل في مسنده (2/ 338)، والحاكم في المستدرك (1/ 15)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 115)، وابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 543).

ص: 438

‌فصل فيما يتوهم أنه رياء وليس رياء

روينا من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قيل يا رسول اللَّه أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟

قال: "تلك عاجل بشرى المؤمن"

(1)

رواه مسلم.

لكن يوهم المدح رياء (يعبد)

(2)

ولعله لتوهم أنه جزاء.

‌فصل في تحريم النظر إلى المرأة الأجنبية والأمرد الحسن لغير حاجة شرعية

قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}

(3)

الآية.

وقال: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ}

(4)

الآية.

فهو مسئول هل قام بالغرض الثابت فيه أو لا.

وقال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ}

(5)

.

أي علما نجازي به، وفي ذلك زجر عما هو أبلغ منه.

وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)}

(6)

.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مُدْرِك ذلك لا محالة؛ فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطأ، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه"

(7)

أخرجاه. والسياق لمسلم.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [166 - (2642)] كتاب البر والصلة والآداب، [51] باب إذا أثنى على الصالح فهي بشرى ولا تضره. وأحمد في مسنده [5/ 156، 157، 168]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [5317]، وابن أبي شيبة في مصنفه [11/ 53].

(2)

كذا بالأصل.

(3)

سورة النور [30].

هذا أمر من اللَّه تعالى لعبادة المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عما حرم عليهم فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر إليه وأن يغمضوا أبصارهم عن المحارم، فإن اتفق أن وقع البصر على محرم من غير قصد فليصرف بصره عنه سريعا. [تفسير ابن كثير (3/ 290)].

(4)

سورة الإسراء [36].

(5)

سورة غافر [19].

(6)

سورة الفجر [14].

(7)

أخرجه البخاري [6612] كتاب القدر، باب [9]. ومسلم في صحيحه [21 - (2657)] كتاب القدر، [5] باب قدر على ابن آدم حظه من الزنى وغيره. =

ص: 439

ورواية البخاري مختصرة.

وروينا من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا

(1)

: "إياكم والجلوس في الطرقات" قالوا: يا رسول اللَّه ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها.

فقال: "فإن أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه".

قالوا: وما حق الطريق يا رسول اللَّه؟.

قال: "غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر" أخرجاه

(2)

.

وروينا من حديث أبي طلحة زيد بن سهل قال: كنا قعودا بالأفنية نتحدث، فجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقام علينا فقال:"ما لكم ولمجالس الصعدات؟ اجتنبوا مجالس الصعدات"، فقلنا: إنما قعدنا نتذاكر ونتحدث.

قال: "إما لا، فأدوا حقها غض البصر، ورد السلام وحسن الكلام"

(3)

.

وروينا من حديث جرير رضي الله عنه قال: سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة؟ فقال: "اصرف بصرك"

(4)

.

= وأحمد في مسنده [2/ 317] والسيوطي في الدر المنثور [3/ 36]، والزبيدي في الإتحاف [5/ 321]، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار [3/ 99].

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [2465] كتاب المظالم، [22] أفنية الدور والجلوس فيها، والجلوس على الصعدات. ورقم [6229] كتاب الاستئذان، باب [2] ومسلم في صحيحه [114 - (2121)] كتاب اللباس والزينة، [32] باب النهي عن الجلوس في الطرقات وإعطاء الطريق حقه، ورقم [3 - (2121)] كتاب السلام، [2] باب من حق الجلوس على الطريق رد السلام. وأحمد في مسنده [3/ 36، 47]، والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 89، 10/ 194]، والتبريزي في مكاة المصابيح [4641].

(2)

هذا الحديث كثير الفوائد وهو من الأحاديث الجامعة وأحكامه ظاهرة وينبغي أن يجتنب الجلوس في الطرقات لهذا الحديث. ويدخل في كف الأذى اجتناب الغيبة وظن السوء واحتقار بعض المارين وتضييق الطريق وكذا إذا كان القاعدون ممن يهابهم المارون أو يخافون منهم ويمتنحون من المرور في أشغالهم بسبب ذلك لكونهم لا يجدون طريقا إلا ذلك الموضع. [النووي في شرح مسلم [14/ 86] طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [2 - (2171)] كتاب السلام، [2] باب من حق الجلوس على الطريق رد السلام. وأحمد في مسنده [4/ 30]، وابن أبي شيبة في مصنفه [9/ 81]، والطحاوي في مشكل الآثار [1/ 59]. وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح [11/ 11].

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [45 - (2159)] كتاب الآداب، [10] باب نظر الفجأة، وأحمد في مسنده [4/ 361]، وأبو داود في سننه [2148]، والطبراني في المعجم الكبير [2/ 384]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 36]، والطحاوي في شرح معاني الآثار [3/ 15].

ص: 440

أخرجهما مسلم، والإدامة كالابتداء.

وروينا من حديث أم سلمة قالت كنت عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة.

فأقبل ابن أم مكتوم، وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب، فقال صلى الله عليه وسلم:"احتجبا منه" فقلنا: يا رسول اللَّه أليس أعمى لا ينظرنا ولا يعرفنا؟ قال: "أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه"

(1)

. رواه أبو داود والترمذي، وقال: حسن صحيح.

فالرجل كما لا ينظر إلى المرأة كذلك عكسه.

وروينا من حديث أبي سعيد مرفوعًا: "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد"

(2)

رواه مسلم.

‌فصل في تحريم الخلوة بالأجنبية

قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}

(3)

الآية.

وهي شاملة لذلك.

وروينا من حديث عقبة بن عامر مرفوعًا

(4)

: "إياكم والدخول على النساء"، فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحمو. قال: "الحمو الموت" أخرجاه.

الحمو: قريب الزوج كأخيه ونحوه.

(1)

أخرجه الترمذي في سننه [2778] وأبو داود في سننه [4112]، وأحمد في مسنده [6/ 296]، وابن حبان في صحيحه [4157 - الموارد]، وابن حجر في تلخيص الحبير [2/ 112]، والسيوطي في الدر المنثور [5/ 42]، والزبيدي في الإتحاف [6/ 491].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [74 - (338)] كتاب الحيض، [17] باب تحريم النظر إلى العورات، وأبو داود في سننه في الحمام، باب ما جاء في التعري، والترمذي في سننه [2793] كتاب الأدب، باب في كراهية مباشرة الرجال الرجال والمرأة المرأة، وابن ماجه في سننه [6661] في الطهارة وسننها، باب النهي أن يرى عورة أخيه، والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 98]، وابن أبي شيبة في مصنفه [1/ 106]، والحاكم في المستدرك [1/ 158]، وابن خزيمة في صحيحه [72]، التبريزي في مشكاة المصابيح [3100].

(3)

سورة الأحزاب [53].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [5232] كتاب النكاح، [112] باب لا يخلون رجل بإمرأة إلا مع ذو محرم، والدخول على المغيبة. ومسلم في صحيحه [20 - (2172)] كتاب السلام، [8] باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها. والترمذي في سننه [1171] كتاب الرضاع، باب ما جاء في كراهية الدخول على المغيبات، والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 90]، وابن أبي شيبة في مصنفه [4/ 409].

ص: 441

ورويناه من حديث ابن عباس مرفوعًا: "لا يَخْلُوَنَّ أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم"

(1)

أخرجاه.

وروينا من حديث بريدة مرفوعًا: "حرمة نساء المجاهدين على القاعدين، كحرمة أمهاتهم، ما من رجل من القاعدين يخلف رجلا من المجاهدين في أهله فيخونه

(2)

فيهم إلا وقف له يوم القيامة، فيأخذ من حسناته ما شاء حتى يرضى".

ثم التفت إلينا رسول اللَّه فقال: "ما ظنكم". أخرجه مسلم.

(3)

.

وفيه تحذير من خطر الخيانة والخلوة، مؤدية إليه.

‌فصل في تحريم تشبيه الرجال بالنساء وعكسه

في لباس وحركة وغيرها.

روينا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "لعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء"

(4)

.

وفي رواية: "لعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال"

(5)

. أخرجه البخاري.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [5233] كتاب النكاح، [112] باب لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذو محرم، والدخول على المغيبة. ومسلم في صحيحه [424 - (1341)] كتاب الحج، [74] باب سفر المرأة مع محرم الى حج وغيره. والزبيدي في الإتحاف [7/ 429].

(2)

قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم" هذا في شيئين أحدهما تحريم التعرض لهن بريبة من نظر محرم وخلوة وحديث محرم وغير ذلك، والثاني من برهن والإحسان إليهن وقضاء حوائجهن التي لا يترتب عليها مفسدة ولا يتوصل إلى ريبة ونحوها. [النووي في شرح مسلم [13/ 37] طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [139 - (1897)] كتاب الإمارة، [39] باب حرمة نساء المجاهدين وإثم من خانهم فيهن. وأبو داود في سننه [2496]، والنسائي [6/ 50، 51 - المجتبي]، وأحمد في مسنده [5/ 352]، والبيهقي في السنن الكبرى [3/ 173]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 279]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [3798].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [5886] كتاب اللباس، [61] باب المتشبهين بالنساء والمتشبهات بالرجال. وأبو داود في سننه [4930] في الأدب باب في المخنثين، والترمذي في سننه [2785] كتاب الأدب، باب ما جاء في المتشبهات بالرجال من النساء. وأحمد في مسنده [1/ 225، 237، 254]، والطبراني في المعجم الكبير [11/ 283، 314]، والهيثمي في مجمع الزوائد [8/ 103].

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه [5885] كتاب اللباس، [61] باب المتشبهين بالنساء والمتشبهات =

ص: 442

وروينا من حديث أبي هريرة: "لعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسه المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل"

(1)

. رواه أبو داود بإسناد صحيح.

وروينا عنه أيضًا مرفوعًا: "صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، ورؤسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا"

(2)

.

أخرجه مسلم، كاسيات أي من نعمة اللَّه.

عاريات: من شكرها أو يستر بعض بدنها وتكشف البعض، إظهار لجمالها ونحوه، أو تلبس ثوبا رقيقا يصف لون بدنها.

ومائلات: أي عن طاعة اللَّه، وما يلزمهن حفظه، مميلات: يُعَلِّمن غيرهن فعلهنَّ المذموم.

أو مائلات: تمشين متبخرات.

مميلات لأكتافهن أو يتمشطن المشطة المائلة وهي مشطة البغايا، ومميلات يمشطن غيرهن تلك المشطة.

رؤوسهن كأسنمة البخت يكبرنها ويعظمنها بلف عمامة أو عصابة أو نحوه.

‌فصل في النهي عن التشبه بالشيطان والكفار

روينا من حديث جابر مرفوعًا: "لا تأكلوا بالشمال فإن الشيطان يأكل بشمال"

(3)

= بالرجال. وأبو داود في سننه [4097]، والترمذي في سننه [2784] كتاب الأدب، باب ما جاء في المتشبهات بالرجال من النساء، وابن ماجه في سننه [1904] في النكاح، باب في المخنثين.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه [4098]، وأحمد في مسنده [2/ 325]، وابن حبان في صحيحه [1455 - الموارد]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 104]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [4469].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [125 - 2128] كتاب اللباس والزينة، [34] باب النساء الكاسيات العاريات المائلات المميلات. وأحمد في مسنده (2/ 356، 440)، والبيهقي في السنن الكبرى [2/ 234، 247] والزبيدي في الإتحاف [6/ 152]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [9524] والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 95]، والشجري في أماليه [2/ 267]، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحه [1326].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [104 - (2019)] كتاب الأشربة، [13] باب آداب الطعام والشراب وأحكامها، وابن ماجه [3268] وأحمد في مسنده [3/ 334].

ص: 443

في رواية "ويشرب بشماله"

(1)

. أخرجهما مسلم.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم".

أخرجاه

(2)

، والمراد خضاب شعر اللحية والرأس الأبيض بصفرة أو حمرة، وأما السواد فمنهي عنه كما (يستعمله)

(3)

.

‌فصل في نهي الرجل والمرأة عن خضاب شعرهما بسواد

روينا من حديث جابر قال: "أُتِيَ بأبي قحافة والد أبي بكر يوم فتح مكة، ورأسه ولحيته كالثغامة بياضًا، فقال صلى الله عليه وسلم: "غيروا هذا واجتنبوا السواد"

(4)

. أخرجه مسلم

(5)

.

كذا ترجم عليه النووي في رياضة، وذكر هذا الحديث فقط، وكأنه يقيس المرأة عليه.

‌فصل في النهي عن القزع

وهو حلق بعض الرأس دون بعض، وإباحة حلقة كله للرجال دون النساء.

وروينا من حديث ابن عمر: "نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن القزع"

(6)

أخرجاه.

(1)

وأخرجه مسلم في صحيحه [105 - (2020)] كتاب الأشربة، [13] باب آداب الطعام.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [5899] كتاب اللباس، [67] باب الخضاب. ومسلم في صحيحه [80 - (2103)] كتاب اللباس والزينة، [25] باب في مخالفة اليهود في الصبغ وأبو داود في سننه [4203]، والنسائي [8/ 185 - المجتبي]، وابن ماجه [3621]، وأحمد في مسنده [2/ 240، 309]، والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 309]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [4423].

(3)

كذلك الأصل.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [79 - (2102)] كتاب اللباس والزينة، [24] باب استحباب خضاب الشيب بصفرة أو حمرة وتحريمه السواد. وأبو داود [4204] والنسائي [8/ 138 - المجتبي]، وأحمد في مسنده [2/ 499، 3/ 338]، والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 310]، والزبيدي في الإتحاف [2/ 420]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [4424].

(5)

قال النووي: أما الثغامة بثاء مثلثه مفتوحة ثم غين معجمه مخففة، قال أبو عبيد: هو نبت أبيض الزهر والثمر يشبه بياض الشيب به، وقال ابن الأعرابي شجرة تبيض كأنها الملح. [النووي في شرح مسلم [14/ 68] طبعة دار الكتب العلمية].

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه [5921] كتاب اللباس، [72] باب القزع. ومسلم في صحيحه [113 - (2120)] كتاب اللباس والزينة [31] باب كراهة القزع. وأبو داود [4193]، والنسائي =

ص: 444

ولأبي داود عنه على شرط الشيخين: رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صبيًا قد حلق بعض رأسه وترك بعضه فنهاهم عن ذلك وقال: "احلقوه كله أو اتركوه كله"

(1)

.

وله بإسناد على شر الشيخين عن عبد اللَّه بن جعفر أنه صلى الله عليه وسلم أمهل آل جعفر ثلاثة أيام، ثم آتاهم فقال:"لا تبكوا على أخي بعد اليوم" ثم قال: "ادعوا لي بني أخي" فجيء بنا كأنا أفراخ.

فقال: "ادعوا لي الحلاق" فأمر بحلق رؤوسنا

(2)

.

وفي هذا إباحة حلق الكل

(3)

.

وفي الذي قبله أن القزع حلق البعض وترك البعض.

وروينا من حديث علي: "نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن تحلق المرأة رأسها"

(4)

.

‌فصل في تحريم وصل الشعر والوشم والوشر وهو تحديد الأسنان

قال تعالى: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ}

(5)

.

وروينا من حديث أسماء: أن امرأة سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول اللَّه إن ابنتي أصابتها الحصبة، فتمرَّق شعرها، وإني زوجتها أفأصل فيه.

(6)

.

= [13018 - المجتبي] وابن ماجه [3637، 3638]، وأحمد في مسنده [2/ 4]، والبيهقي في السنن الكبرى [9/ 305]، وابن أبي شيبة في مصنفه [8/ 313].

(1)

أخرجه أبو داود في سننه [4195]، والنسائي [8/ 130 - المجتبي]، وأحمد في مسنده [2/ 88]، وعبد الرزاق في مصنفه [19564].

(2)

أخرجه أبو داود في سننه [4192]، والنسائي [8/ 182 - المجتبي]، وأحمد في مسنده [1/ 204]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [4463].

(3)

أجمع العلماء على كراهة القزع إذا كان في مواضع متفرقة إلا أن يكون لمداواة ونحوها، وهي كراهة تنزيه وكرهه مالك في الجارية والغلام مطلقًا وقال بعض أصحابه: لا بأس به في القصة والقفا للغلام، ومذهبنا كراهته مطلقا للرجل والمرأة لعموم الحديث. قال العلماء: والحكمة في كراهته أنه تشويه للخلق، وقيل: لأنه زي الشر والشطارة وقيل: لأنه زي اليهود وقد جاء هذا في رواية لأبي داود، واللَّه أعلم. [النووي في شرح مسلم [14/ 85] طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

أخرجه الترمذي في سننه [914] كتاب الحج، باب ما جاء في كراهية الحلق للنساء، والنسائي [8/ 130 - المجتبي].

(5)

سورة النساء [119].

(6)

هذه الأحاديث صريحة في تحريم الوصل ولعن الواصلة والمستوصلة مطلقا، وهذا هو الظاهر المختار، وقد فصله أصحابنا فقالوا إن وصلت شعرها بشعر آدمي فهو حرام بلا خلاف سواء كان شعر رجل أو امرأة وسواء شعر المحرم والزوج وغيرها بلا خلاف لعموم الأحاديث، وأما الشعر =

ص: 445

فقال: "لعن اللَّه الواصلة والمستوصلة"

(1)

أخرجاه.

وفي رواية: "الموصولة"، وعن عائشة نحوه.

أخرجاه أيضًا. تمرق: بالراء انتثر وسقط.

والموصولة: التي تصل شعرها أو شعر غيرها بآخر.

والواصلة: التي توصل شعرها.

والمستوصلة: السائلة فعل ذلك.

وروينا من حديث حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية عام حج على المنبر وتناول قصة من شعر كانت في يد حَرَسِيٍّ فقال: يا أهل المدينة: أين علماؤكم سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهي عن مثل هذا ويقول: "إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم"

(2)

أخرجاه.

وروينا من حديث ابن عمر: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة"

(3)

. أخرجاه.

وروينا من حديث ابن مسعود أنه قال: "لعن اللَّه الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق اللَّه". فقالت له امرأة في ذلك.

= الطاهر من غير آدمي فإن لم يكن لها زوج ولا صيد فهو حرام أيضًا.

[النووي في شرح مسلم [14/ 87] طبعة دار الكتب العلمية].

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [5935] كتاب اللباس، [38] باب وصل الشعر. ومسلم في صحيحه [115 - (2122)] كتاب اللباس والزينة، [33] باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة. والترمذي [1759، 2783]، والنسائي [8/ 146 - المجتبي]، وابن ماجه [1988]، وأحمد في مسنده [2/ 339، 6/ 111]، والبيهقي في السنن الكبرى [2/ 426]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 119].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [5932] كتاب اللباس، [83] باب وصل الشعر. ومسلم في صحيحه [122 - (2127)] كتاب اللباس والزينة، [33] باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجات والمغيرات خلق اللَّه، وأحمد في مسنده [4/ 98]، والبيهقي في السنن الكبرى [4/ 290]، والمنذري فى الترغيب والترهيب [3/ 121].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [5937] كتاب اللباس، [83] باب وصل الشعر. ومسلم في صحيحه [119 - (2124)] كتاب اللباس والزينة، [33] باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجات والمغيرات خلق اللَّه. وأبو داود في سننه [4168] كتاب الترجل باب في صلة الشعر، وأحمد في مسنده [1/ 434] والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 312].

ص: 446

فقال: "ألا ألعن من لعنه رسول اللَّه، وهو في كتاب اللَّه، قال اللَّه تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] "

(1)

، أخرجاه.

المتفلَّجة التي تبرد من أسنانها لتباعد بعضها عن بعض قليلا وتحسنها، وهو الوشر.

والنامصة: التي تأخذ من شعر حاجب غيرها وترققة ليصير حسنًا.

والمتنمصة التي تأمر من يفعل بها ذلك.

وفي هذا الحديث منشأ سبب النهي، والذي قبله بيان سببه.

‌فصل في النهي عن نتف الشيب من اللحية والرأس وغيرها

وعن نتف الأمرد شعر لحيته عند أول طلوعه.

وروينا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنتفوا الشيب فإنه نور المسلم يوم القيامة"

(2)

.

حديث حسن، ورواه أبو داود والترمذي، والنسائي بأسانيد حسنه، قال الترمذي: حسن.

وروينا من حديث عائشة مرفوعًا: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهم رد"

(3)

أخرجه مسلم.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [5939] كتاب اللباس، [84] باب المتنمصات. ومسلم في صحيحه [120 - (2125)] كتاب اللباس والزينة، [33] باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجات والمغيرات خلق اللَّه، وأبو داود في سننه [4169] كتاب الترجل، باب في صلة الشعر، وأحمد في مسنده [1/ 434].

(2)

أخرجه أبو داود في سننه [4203] كتاب الترجل، باب في نتف الشيب. والترمذي في سننه [2821]. كتاب الأدب باب ما جاء في النهي عن نتف الشيب. والنسائي [8/ 136 - المجتبي]، وابن ماجه في سننه [3721] كتاب الأدب، باب نتف الشيب، وعبد الرزاق في مصنفه [20786]، والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 317].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [18 - (1718)] كتاب الأقضية، [8] باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور. وأحمد في مسنده [6/ 146، 180، 256] والدارقطني في سننه [4/ 227]، وابن كثير في تفسيره [1/ 222، 2/ 25]. قال النووي: هذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام وهو من جوامع كلمة صلى الله عليه وسلم فإنه صريح في رد كل البدع والمخترعات، وفي هذا الحديث دليل لمن يقول من الأصوليين إن النهي يقتضي الفساد، ومن قال لا يقتضي الفساد يقول: هذا خبر واحد ولا يكفي في إثبات هذه القاعدة المهمة وهذا جواب فاسد، وهذا الحديث مما ينبغي حفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الإستدلال به. [النووي في شرح مسلم [12/ 15] طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 447

‌فصل في كراهية الاستنجاء باليمين ومس الفرج باليمين عند الإستنجاء من غير عذر

فيه أحاديث كثيرة صحيحة منها:

حديث أبي قتادة في الصحيحين مرفوعًا: "إذا بال أحدكم فلا يأخذنَّ ذكره بيمينه، ولا يستنج بيمينه، ولا يتنفس في الإناء"

(1)

.

‌فصل في كراهية المشي في خف أو نعل واحد لغير عذر

وكراهة لبس النعل والخف قائمًا بغير عذر.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا يمشِ أحدكم في نعل واحد، لينعلها جميعا أو ليخلعها جميعا"

(2)

.

وفي رواية: "أو ليحفهما جميعًا" أخرجاه.

وعنه مرفوعًا: "إذا انقطع شسع نعل أحدكم فلا يمشِ في الأخرى حتى يصلحها"

(3)

أخرجه مسلم.

وعن جابر أنه صلى الله عليه وسلم "نهى أنه ينتعل الرجل قائمًا"

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [5630] كتاب الأشربة، [25] باب التنفس في الإناء. ومسلم في صحيحه [121 - (267)] كتاب الأشربة، [16] باب كراهية التنفس في نفس الإناء، واستحباب التنفس ثلاثا خارج الإناء وأبو داود في سننه [31] كتاب الطهارة، باب كراهية مس الذكر باليمن في الاستبراء. وابن ماجه [310].

والبيهقي في السنن الكبرى [1/ 112، 7/ 282]، وأحمد في مسنده [5/ 300].

(2)

أخرجه البخاري [5856] كتاب اللباس، [40] باب لا يمشي في نعل واحد. ومسلم في صحيحه [68 - (2097)] كتاب اللباس والزينة، وأبو داود (4136) كتاب اللباس، باب في الانتعال، وابن ماجه [3617]. والترمذي (1774)، وابن أبي شيبة في مصنفه [8/ 228]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [4411].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [69 - (2098)] كتاب اللباس والزينة، [19] باب استحباب لبس النعل في اليمين أولًا، والخلع من اليسرى أولًا وكراهة المشي في نعل واحدة. والترمذي [43]، والنسائي [8/ 118 - المجتبي] وأحمد في مسنده [2/ 314]، وعبد الرزاق في مصنفه [20216]، والطبراني في المعجم الكبير [7/ 337]، والهيثمي في مجمع الزوائد [5/ 139].

(4)

أخرجه أبو داود في سننه [4135] كتاب اللباس، باب في الانتعال. والترمذي [1776]، وابن ماجه [3618، 3619]، والخطيب في تاريخ بغداد [5/ 159]، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة [719].

ص: 448

رواه أبو داود بإسناد حسن.

‌فصل في النهي عن ترك النار في البيت عند النوم ونحوه

سواء كانت في سراج أو غيره.

روينا من حديث ابن عمر مرفوعًا: "لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون"

(1)

أخرجاه.

ومن حديث أبي موسى قال: "احترق بيت بالمدينة على أهله، فلما حُدِّث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بشأنهم قال: "إن هذه النار عدو لكم فإذا نمتم فأطفئوها"

(2)

أخرجاه.

ولمسلم من حديث جابر مرفوعًا: "غطوا الإناء وأوكوا السقاء، وأغلقوا الباب وأطفئوا السراج، فإن الشيطان لا يحل سقاء، ولا يفتح بابًا، ولا يكشف إناء، فإن لم يجد أحدكم إلا أن يعرض على إنائه عودًا، ويذكر اسم اللَّه عليه، فليفعل، فإن الفويسقة تضرم على أهل البيت بيتهم"

(3)

الفويسقة: الفأرة، وتضرم: تحرق.

‌فصل في النهي عن التكلف

وهو فعل وقول ما لا مصلحة فيه بمشقة.

قال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)}

(4)

.

وروينا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "نهينا عن التكلف".

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [6293] كتاب الاستئذان [49] باب لا تترك النار في البيت عند النوم. ومسلم في صحيحه [100 - (2015)] كتاب الأشربة، [12] باب الأمر بتغطية الإناء وإيكاء السقاء، وإغلاق الأبواب وذكر اسم اللَّه عليها وإطفاء السراج والنار عند النوم وأبو داود في سننه [5246]، والترمذي [1813]، وابن ماجه في سننه [3769] وأحمد في مسنده [2/ 7، 8]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [9/ 231].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [6294] كتاب الاستئذان، [49] باب لا تترك النار في البيت عند النوم. ومسلم في صحيحه [101 - (2016)] كتاب الأشربة، [12] باب الأمر بتغطية الإناء وإيكاء السقاء وإغلاق الأبواب وذكر اسم اللَّه عليها، وإطفاء السراج والنار عند النوم. والتبريزي في مشكاة المصابيح [4301].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [96 - (2012)] كتاب الأشربة، [12] باب الأمر بتغطية الإناء وإيكاء السقاء وإغلاق الأبواب وذكر اسم اللَّه عليها وإطفاء السراج والنار عند النوم وكف الصبيان والمواشي بعد المغرب. وابن ماجه في سننه [3410]، وأحمد في مسنده [3/ 355]، والبيهقي في السنن الكبرى [1/ 257] والتبريزي في مشكاة المصابيح [4296]، [4298].

(4)

سورة ص [86].

ص: 449

وعن مسروق قال: "دخلنا على عبد اللَّه بن مسعود فقال: "يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: اللَّه أعلم، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم اللَّه أعلم".

قال اللَّه تعالى لنبيه: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)} [ص: 86]

(1)

رواهما البخاري.

(2)

.

‌فصل في تحريم النياحة ولطم الخد وشق الجيب ونتف الشعر وحلقه والدعاء بالويل والثبور

روينا من حديث ابن عمر مرفوعًا: "الميت يعذب في قبره بما نيح عليه".

وفي لفظ: "ما نيح عليه"

(3)

أخرجاه.

وعن أبي بردة قال: وجع أبو موسى فغشى عليه ورأسه في حجر امرأة من أهله، فأقبلت تصيح برنة، فلم يستطيع أن يَرُدَّ عليها شيئا، فلما أفاق قال: أنا بريء مما برئ منه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة والحالقة التي تحلق رأسها عند المصيبة والشاقة التي تشق ثوبها

(4)

.

وعن المغيرة بن شعبة مرفوعًا: "من ينح عليه فإنه يعذب بما نيح عليه يوم القيامة"

(5)

أخرجاه.

(1)

قال ابن كثير: يقول تعالى: "قل يا محمد لهؤلاء المشركين ما أسألكم على هذا البلاغ وهذا النصح أجرا تعطونيه من عرض الحياة الدنيا"{وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]"أي وما أريد على ما أرسلني اللَّه تعالى به ولا أبتغى زيادة عليه بل ما أمرت به أديته لا أزيد عليه ولا أنقص منه وإنما أبتغي بذلك وجه اللَّه عز وجل والدار الآخرة". [تفسير ابن كثير (4/ 44)].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [4809] كتاب تفسير القرآن، ومن سورة ص [3] باب قوله {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [1292] كتاب الجنائز، [33] باب ما يكره من النياحة على الميت. ومسلم في صحيحه [17 - (927)] كتاب الجنائز، [9] باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه. وابن ماجه في سننه [1593]، وأحمد بن حنبل في مسنده [5/ 10]، وابن أبي شيبة في مصنفه [3/ 389]، والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 348]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [6/ 292] وابن حجر في تلخيص الحبير [2/ 139].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [1296] كتاب الجنائز، [37] باب ما ينهي من الحلق عند المصيبة، ومسلم في صحيحه [167 - (104)] كتاب الإيمان، [44] باب تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه [1291] كتاب الجنائز، [33] باب ما يكره من النياحة على الميت. =

ص: 450

وعن أم عطية نسيبة

(1)

قالت: "أخذ عينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عند البيعة أن لا ننوح"

(2)

أخرجاه.

وفيه تأكيد تحريمها حتى جعل مما يبيعن عليه وعن النعمان بن بشير قال: "أغمى على عبد اللَّه بن رواحه، فجعلت أخته تبكي: واجبلاه واكذا واكذا تعدد عليه، فقال حين أفاق: ما قلت شيئا إلا قيل لي: أنت كذلك" رواه البخاري.

وهو بيان النوح المذموم، وهو تعداد الشمائل. وعن ابن عمر قال: اشتكى ابن عبادة شكوى فأتاه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، وعبد اللَّه بن مسعود.

فلما دخل عليه وجده في غشية

(3)

فقال: "أقد قضى؟ ". فقالوا: لا يا رسول اللَّه فبكى رسول اللَّه، فلما رأى القوم بكاءه بكوا، فقال:"ألا تسمعون، إن اللَّه لا يُعذِّب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا، وأشار إلى لسانه ويرحم"

(4)

. أخرجاه.

وفيه أن النوح أمر لساني، وكذلك الجزع ونحوه بخلاف دمع العين وحزن القلب.

وعن أبي مالك الأشعري مرفوعًا: النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب"

(5)

. أخرجه مسلم.

= ومسلم في صحيحه [28 - (933)] كتاب الجنائز، [9] باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه.

(1)

نسيبة بنت كعب ويقال بنت الحارث أم عطية الأنصارية، صحابية مشهورة سكنت البصرة، وأخرج لها: أصحاب الكتب الستة. ترجمتها: تهذيب التهذيب [12/ 473]، تقريب التهذيب [2/ 616، 622]، الجرح والتعديل [9/ 465]، أسماء الصحابة الرواة [79].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [1306] كتاب الجنائز [45] باب ما ينهي عن النوح والبكاء والزجر عن ذلك. ومسلم في صحيحه [31 - (936)] كتاب الجنائز [10] باب التشديد في النياحة.

(3)

قوله: "وجده في غشية" هو بفتح الغين وكسر الشين وتشديد الياء، قال القاضي هكذا رواية الأكثرين قال: وضبطه بعضهم بإسكان الشين وتخفيف الباء، وفي رواية البخاري في غاشية وكله صحيح وفيه قولان أحدهما: من يغشاه من أهله، والثاني: ما يغشاه من كرب الموت.

[النووي في شرح مسلم [6/ 200] طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [1304] كتاب الجنائز، [44] باب البكاء عند المريض، ومسلم في صحيحه [12 - (924)] كتاب الجنائز، [6] باب البكاء على الميت. والبيهقي في السنن الكبرى [4/ 69]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [1724]، والطحاوي في شرح معاني الآثار [4/ 292].

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [29 - (934)] كتاب الجنائز، [10] باب التشديد في النياحة وأحمد في مسنده [5/ 344]، والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 351]، والتبريزي في مشكاة =

ص: 451

وعن أسيد بن أبي أسيد التابعي: أن امرأة من المبايعات قالت: "كان فيما أخذ علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المعروف الذي أخذ علينا أن لا نعصيه فيه أن لا تخمش وجها، ولا ندعو ويلًا ولا نشق جيبًا ولا ننشر شعرًا".

رواه أبو داود

(1)

بإسناد حسن.

وعن أبي موسى مرفوعًا: "ما من ميت يموت فيقوم باكيه فيقول: واجبلاه، واسيداه، أو نحو ذلك إلا وكِّل به ملكان يلهزانه أهكذا كنت"

(2)

.

رواه الترمذي وحسنه. اللهز: الدفع بجميع الصدر.

وعن أبي هريرة مرفوعًا: "اثنتان في الناس هما بهم كفر، الطعن في النسب والنياحة على الميت"

(3)

، أخرجاه.

‌فصل في النهي عن إتيان الكاهن والمنجم والعرَّاف وأصحاب الرمل والطوارق بالحصى والشعير ونحو ذلك

روينا من حديث عائشة قالت

(4)

: سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ناس عن الكهان فقال: "ليس بشيء" فقالوا: يا رسول اللَّه إنهم يحدثونا أحيانا بشيء فيكون حقًا، فقال:"تلك الكلمة من الحق يخطفها من الجني فيُقِرُّها في أذن وليه فيخلطون معها مائة كذبة" أخرجاه.

وفي رواية للبخاري عنها مرفوعًا: "إن الملائكة تنزل في العنان. وهو السحاب. فتذكر الأمر الذي قضى في السماء فيستشرف الشيطان السمع فيسمعه، فيوحيه إلى الكهان، فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم"

(5)

.

= المصابيح [1721]، وابن أبي شيبة في مصنفه [3/ 390]، وابن عراق في تنزيه الشريعة [4/ 92].

(1)

أخرجه أبو داود في سننه [3131] كتاب الجنائز، باب في النوح.

(2)

أخرجه الترمذي في سننه [1003] كتاب الجنائز، باب ما جاء في كراهية البكاء على الميت. وابن ماجه في سننه [1594] كتاب الجنائز. باب ما جاء في الميت يعذب بما نيح عليه. المنذري في الترغيب والترهيب [4/ 349] والتبريزي في مشكاة المصابيح [1746].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [121 - (67)] كتاب الإيمان [30] باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [5762] كتاب الطب، [46] باب الكهانة. ومسلم في صحيحه [122 - (2228)] كتاب السلام، [35] باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان. وأحمد في مسنده [6/ 87] والبيهقي في السنن الكبرى [8/ 138] والتبريزي في مشكاة المصابيح [4593].

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه [4/ 135] والتبريزي في مشكاة المصابيح [4594] والقرطبي في تفسيره [4/ 7] والسيوطي في الحبائك في الملائك [133].

ص: 452

قوله: فيقرَّها: هو بفتح الياء وضم القاف والراء؛ أي يلقيها، والعنان: بفتح العين. وفيه تحقير أمر الكهان.

وروينا عن صفية بنت أبي عبيد

(1)

، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من أتى عرافًا فسأله عن شيء فصدفة لم تقبل له صلاة أربعين يومًا"

(2)

أخرجه مسلم.

وفي لفظ: "من أتى عرافًا فصدقه".

والعرَّاف من يخبر عن الجن ونحوهم بالغوائب.

وعن قبيصة بنت المخارق قالت: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "العيافة والطيرة والطرق من الجبت"

(3)

.

رواه أبو داود بإسناد حسن، وقال: الطرق: الزجر أي زجر الطير، وهو أن يتيمن أو يتشاءم بطيرانه، فإذا طار إلى جهة اليمين فيُمْنٌ وإلا فشؤم.

قال أبو داود والعيافة الخط.

قلت: والحصى والشعير منه.

قال الجوهري: والجبت كلمة تقع على الصنم والكاهن والتاجر، ونحو ذلك.

وروينا عن ابن عباس مرفوعًا: "من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد"

(4)

رواه أبو داود بإسناد صحيح.

(1)

صفية بنت أبي عبيد بن مسعود، زوج ابن عمر قيل لها إدراك وأنكره الدارقطني، قال العجلي: ثقة، وأخرج لها: البخاري تعليقًا ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، ترجمتها: تهذيب التهذيب [12/ 430] تقريب التهذيب [2/ 603] الوافي بالوفيات [16/ 327] الكاشف [3/ 385] والتمهيد [1/ 204]، تراجم الأخبار [2/ 215]، أعلام النساء [2/ 346]، ثقات [4/ 386].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [125 - (2230)] كتاب السلام، [25] باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان.

(3)

أخرجه أبو داود في سننه [3907] كتاب الطب، باب في الخط وزجر الطير، وأحمد في مسنده [3/ 477] والبيهقي في السنن الكبرى [8/ 139] وابن حبان في صحيحه [1426 - الموارد] والطبراني في المعجم الكبير [18/ 369] وابن أبي شيبة في مصنفه [9/ 43]، والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 39] والتبريزي في مشكاة المصابيح [4583].

(4)

أخرجه أبو داود في سننه [3905] كتاب الطب، باب في النجوم، وابن ماجه في سننه [3726] وأحمد في مسنده [1/ 311] والبيهقي في السنن الكبرى [8/ 138] وابن أبي شيبة في مصنفه [8/ 414] والزبيدي في الإتحاف [9/ 118] التبريزي في مشكاة المصابيح [3598] والسيوطي في الدر المنثور [3/ 35] وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة [793].

ص: 453

والمراد بالنجوم الأحكام دون المنازل والتوقيت ونحوها.

وعن معاوية بن الحكم قال: قلت يا رسول اللَّه إني حديث عهد بجاهلية وقد جاء اللَّه بالإسلام، وإن منا رجالًا يأتون الكهان.

قال: "فلا تأتهم"، قلت: ومِنَّا رجالًا يتطيرون.

قال: "ذلك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصُدَّنَّهم" قلت: ومنا رجالا يخُطُّون، قال: كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه فذاك"

(1)

. أخرجه مسلم.

وهذا الشرط لا يتحقق.

وعن أبي مسعود البدري أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن"

(2)

أخرجاه.

‌فصل في النهي عن التطير

فيه ما سلف في الباب قبله.

وعن أنس مرفوعًا: "لا عدوى ولا طِيَرَة، ويعجبني الفأل" قالوا: وما الفأل؟، قال:"كلمة طيبة"

(3)

.

أخرجاه، وإنما أعجبه لأنه طيب وحسن ظن باللَّه، بخلاف الطيرة.

وعن ابن عمر مرفوعًا: "لا عدوى ولا طيرة، وإن كان الشؤم في شيء ففي

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [33 - (537)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة [7] باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة. ورقم [121 - (537)] كتاب السلام، [35] باب تحريم الكهانة وإثبات الكهان. وأبو داود [3909] كتاب الطب، باب في الخط وزجر الطير، والنسائي [3/ 16 - المجتبي] وأحمد في مسنده [2/ 394]، والبيهقي في السنن الكبرى [2/ 250]، والزبيدي في الإتحاف [9/ 118]، والسيوطي في الدر المنثور [6/ 38].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [2237] كتاب البيوع، [13] باب ثمن الكلب. ومسلم في صحيحه [39] كتاب المساقاة وأبو داود في سننه (3428) كتاب البيوع، باب في حلوان الكاهن، والترمذي [1133] كتاب النكاح، باب ما جاء في كراهية مهر البغي. ورقم [1276] في البيوع، باب ما جاء في ثمن الكلب. والنسائي [7/ 189، 309، 2/ 500 - المجتبي] والبيهقي في السنن الكبرى [6/ 8] والحاكم في المستدرك [2/ 33] والهيثمي في مجمع الزوائد [4/ 87، 91] والطبراني في المعجم الكبير [17/ 265، 266].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [5756] كتاب الطب، [44] باب الفأل. ومسلم في صحيحه [112 - (2224)] كتاب السلام، [34] باب الطيرة والفأل وما يكون فيه من الشؤم. وأبو داود [3916] وابن ماجه [3537] والطحاوي في مشكل الآثار [2/ 342] والخطيب في تاريخ بغداد [4/ 378].

ص: 454

الدار والمرأة والفرس"

(1)

. أخرجاه.

وفي رواية أخرى الجزم بذلك.

وعن بريدة أنه صلى الله عليه وسلم "كان لا يتطير"

(2)

.

رواه أبو داود بإسناد صحيح.

وروينا من حديث عروة بن عامر قال: ذكرت الطيرة عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "أحسنها الفأل، ولا تَرُدُّ مسلمًا، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا باللَّه"

(3)

حديث صحيح: رواه أبو داود بإسناد صحيح.

وفيه ما يدفع حزازات الصد مما يتطير به.

‌فصل في تحريم تصوير الحيوان في بساط أو حجر أو ثوب أو درهم أو دينار أو مخدة ووسادة وغير ذلك

وتحريم اتخاذ الصورة في حائط أو سقف وستر وعمامة وثوب ونحوها، والأمر بإتلاف الصور.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا

(4)

: "إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم أحيوا ما خلقتم" أخرجاه.

وعن عائشة قالت: قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من سفر، وقد سترت سهوة لي بقرام

(5)

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [5753] كتاب الطب، [43] باب الطيرة، ومسلم في صحيحه [116 - (2225)] كتاب السلام، [34] باب تطيرة والفأل وما يكون فيه من الشؤم.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه [3920] كتاب العتق، باب في الطيرة. وأحمد في مسنده [5/ 347]، والبيهقي في السنن الكبرى [8/ 140]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [4588].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [3919] كتاب الطب، باب في الطيرة، والبيهقي في السنن الكبرى [8/ 135، 139] والقرطبي في تفسيره [7/ 266] وابن السني في عمل اليوم والليلة [288].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [5951] كتاب اللباس، [89] باب عذاب المصورين يوم القيامة. ومسلم في صحيحه [97 - (2108)] كتاب اللباس والزينة [26] باب تحريم صورة الحيوان وتحريم اتخاذ ما فيه صورة غير ممتهنة بالفراش ونحوه.

(5)

السهوة بفتح السين المهملة قال الأصمعي: هي شبيهة بالرف أو بالطابق يوضع عليه الشيء، قال أبو عبيد: وسمعت غير واحد من أهل اليمن يقولون السهوة عندنا بيت صغير منحدر في الأرض وسمكه مرتفع من الأرض يشبه الخزانة الصغيرة يكون فيها المتاع، قال أبو عبيد، وهذا عندي أشبه ما قيل في السهوة، وقال الخليل: هي أربعة أعواد أو ثلاثة يعرض بعضها على بعض ثم =

ص: 455

فيه تماثيل، فلما رآه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هتكه وتلون وجهه وقال:"يا عائشة، أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق اللَّه".

قالت: فقطعناه منه وسادة أو وسادتين

(1)

.

أخرجاه، القرام بكسر القاف: الستر.

والسهوة: بفتح السين المهملة، الصفة تكون ببن يدي البيت، وقيل: الطاق النافذ في الحائط.

وروينا من حديث ابن عباس سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صوَّرها نفس فتعذبه في جهنم" قال ابن عباس: "فإن كنت لا بد فاعلا فاصنع الشجر وما لا روح فيه". أخرجاه.

(2)

وعنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "من صوَّر صورة في الدنيا كُلِّف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة، وليس بنافخ"

(3)

.

أخرجاه، وفيه: أن من ادعى مرتبة كلف بتحقيقها فليحذر من الدعوى.

وعن ابن مسعود مرفوعًا: "إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة عند اللَّه المصورون"

(4)

أخرجاه، وسببه المضاهاة.

وعن أبي هريرة مرفوعًا: "يقول اللَّه تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة"

(5)

أخرجاه.

= يوضع عليها شيء من الأمتعة، وقال ابن الأعرابي هي الكوة بيت الدارين، وقيل: بيت صغير يشبه المخدع، وقيل: هي كالصفة تكون بين يدي البيت، وقيل شبيه دخله في جانب البيت واللَّه أعلم. [النووي في شرح مسلم [14/ 75] طبعة دار الكتب العلمية].

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [5954] كتاب اللباس، [91] باب ما وطئ من التصاوير، ومسلم في صحيحه [92 - (2107)] كتاب اللباس والزينة، [26] باب تحريم تصوير صورة الحيوان وتحريم اتخاذ ما فيه صورة غير ممتهنة بالفرش ونحوه.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [99 - (2110)] كتاب اللباس والزينة، [26] باب تحريم تصوير صورة الحيوان وتحريم اتخاذ ما فيه صورة غير ممتهنة بالفرش ونحوه. وأحمد في مسنده [1/ 308]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [4498]، وابن حجر في تلخيص الحبير [3/ 198].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [5963] كتاب اللباس، [97] باب من صور صورة كُلِّف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ. ومسلم في صحيحه [100 - (2110)] كتاب اللباس والزينة، [26] باب تحريم تصوير صورة الحيوان.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [5950] كتاب الباس، [89] باب عذاب المصورين يوم القيامة. ومسلم في صحيحه [98 - (2109)] كتاب اللباس والزينة، [26] باب تحريم تصوير صور الحيوان.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه [5953] كتاب اللباس، [90] باب نقض الصور. ومسلم في =

ص: 456

وهو بيان هذا الشر الموقع في أشد الضرر وقد عجز، وهذا خالع للقلوب مقطع للقلوب مقطع للأوصال، ومفتت للأكباد.

وعن أبي طلحة مرفوعًا: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا صورة"

(1)

أخرجاه.

وعن ابن عمر قال: وعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جبريل أن يأتيه، فراث عليه حتى اشتد على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فخرج فلقيه جبريل صلى الله عليه وسلم فشكى إليه فقال:"إنا لا ندخل بيتًا فيه كلب ولا صورة"

(2)

أخرجه البخاري.

فراث بالثاء المثلثة: أبطأ.

وما أشد هذا الحرمان، فَيُحْرَمُ البركة والإلهام والحماية وعن عائشة قالت: واعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جبريل في ساعة أن يأته، فجاءت تلك الساعة ولم يأتيه.

(3)

.

قالت: وكان بيده عصى فطرحها من يده وهو يقول: "ما يخلف اللَّه وعده ولا رسله"، ثم التفت فإذا جرو كلب تحت سريره. فقال:"متى دخل هذا الكلب؟ ".

فقلت: واللَّه ما دريت به، فأمر به فأخرج فجاء جبريل فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"فجلست لك فلم تأتيني. فقال: منعنى الكلب الذي في بيتك، إنا لا ندخل بيتًا فيه كلب ولا صورة"

(4)

أخرجه مسلم.

= صحيحه [101 - (2111)] كتاب اللباس، والزينة، [26] باب تحريم صور الحيوان.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [5949] كتاب اللباس، [88] باب التصاوير. ومسلم في صحيحه [83 - (2106)] كتاب اللباس والزينة، [26] باب تحريم تصوير صورة الحيوان وتحريم اتخاذ ما فيه صورة غير ممتهنة بالفرش ونحوه. والنسائي [7/ 185، 8/ 212 - المجتبي]، وابن ما [3649]، وأحمد في مسنده [4/ 28]، وابن ابي شيبة [5/ 410]، والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 45].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [5960] كتاب اللباس، [94] باب لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة.

(3)

قال العلماء: بسبب امتناعهم من بيت فيه صورة كونها معصية فاحشة وفيها مضاهاة لخلق اللَّه تعالى، وبعضها في صورة ما يعبد من دون اللَّه تعالى، وسبب امتناعهم من بيت فيه كلب لكثرة أكله النجاسات ولأن بعضها يسمى شيطانا وأما هؤلاء الملائكة الذين لا يدخلون بيتا فيه كلب أو صورة فهم ملائكة يطوفون بالرحمة والتبريك والاستغفار، وأما الحفظة فيدخلون في كل بيت ولا يفارقون بني آدم في كل حال لأنهم مأمورون بإحصاء أعمالهم وكتابتها.

[النووي في شرح مسلم [14/ 72] طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [81 - (2104)] كتاب اللباس والزينة، [26] باب تحريم تصوير صورة الحيوان وتحريم اتخاذ ما فيه صورة ممتهنة بالفرش ونحوه. والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 68] والطحاوي في مشكل الآثار [1/ 377].

ص: 457

وعن أبي هياج حيان بن حصين

(1)

قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تدع صورة إلا طمستها

(2)

ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته"

(3)

أخرجه مسلم.

‌فصل في تحريم اتخاذ الكلب إلا لصيد أو ماشية أو زرع

وروينا من حديث ابن عمر مرفوعًا: "من اقتنى كلبًا إلا كلب صيد أو ماشية، فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان"

(4)

أخرجاه.

وفي رواية: "قيراط".

وعن أبي هريرة مرفوعًا: "من أمسك كلبًا فإنه ينقص من عمله كل يوم قيراط إلا كلب حرث أو ماشية"

(5)

أخرجاه.

ولمسلم: "من اقتنى كلبا ليس بكلب صيد ولا ماشية ولا أرض فإنه ينقص من أجره قيراطان كل يوم"

(6)

.

(1)

حيان بن حصين أبو الهياج الأسدي الكوفي ثقة، أخرج له: مسلم وأبو داود والترمذي. ترجمته: تهذيب التهذيب [3/ 67]، وتقريب التهذيب [1/ 208]، والكاشف [1/ 262]، تاريخ البخاري الكبير [3/ 53]، وتاريخ البخاري الصغير [1/ 194]، الجرح والتعديل [3/ 1081]، الثقات [4/ 170].

(2)

ما وجدناه في صحيح مسلم "أن لا تدع تمثالًا إلا طمسته".

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [93 - (969)] كتاب الجنائز، [31] باب الأمر بتسوية القبر، والحاكم في المستدرك [1/ 369]، وابن حجر في تلخيص الحبير [2/ 134]، والطبراني في المعجم الصغير [1/ 75]، وأحمد في مسنده [1/ 145]، وعبد الرزاق في مصنفه [6487].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [5480] كتاب الذبائح والصيد والتمية على الصيد، [6] باب من اقتنى كلبا ليس بكلب صيد أو ماشية. ومسلم في صحيحه [50 - (1574)] كتاب المساقاة، [10] باب الأمر بقتل الكلاب وبيان نسخة وبيان تحريم إقتنائها إلا لصيد أو زرع أو ماشية ونحو ذلك.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه [2322] كتاب الحرث والمزارعة، [3] باب اقتناء الكلب للحرث. ومسلم في صحيحه [59 - (1575)] كتاب المساقاة، [10] باب الأمر بقتل الكلاب وبيان نسخه وبيان تحريم اقتنانها إلا لصيد أو زرع أو ماشية ونحو ذلك.

(6)

أخرجه مسلم في صحيحه [57 - (1575)] كتاب المساقاة، [10]. باب الأمر بقتل الكلاب وبيان نسخه، وبيان تحريم اقتنائها إلا لصيد أو زرع أو ماشية ونحو ذلك، والنسائي [7/ 189 - المجتبي] البيهقي في السنن الكبرى [1/ 251] والمنذري في الترغيب والترهيب [4/ 67].

ص: 458

‌فصل في كراهية تعليق الجرس في البعير وغيره من الدواب

وكراهية استصحاب الكلب والجرس في السفر.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب أو جرس"

(1)

.

وروينا عنه أيضا مرفوعًا: "الجرس مزامير الشيطان"

(2)

.

رواها، والثاني بيان لحكم الأول.

‌فصل في كراهية ركوب الجلالة وهي البعير أو الناقة التي تأكل العذرة

فإن أكلت علفًا طاهرًا فطاب لحمها زالت الكراهة.

روينا من حديث ابن عمر قال: "نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الجلالة في الإبل أن يركب عليها"

(3)

.

رواه أبو داود بإسناد صحيح.

‌فصل في النهي عن البصاق في المسجد والأمر بإزالته منه

إذا وجد فيه، والأمر بتنزيه المسجد عن الأقذار.

روينا من حديث أنس مرفوعًا: "البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها"

(4)

أخرجاه.

والمراد بدفنها إذا كان المسجد ترابًا أو نحوه.

فنواريها به، وقيل: تخرج منه.

(1)

أخرجه: مسلم في صحيحه [103 - (2113)] كتاب اللباس والزينة، [27] باب كراهة الكلب والجرس في السفر. وأبو داود في الجهاد باب في تعليق الأجراس، رقم (2555). والترمذي [1703] كتاب الجهاد، باب ما جاء في كراهية الأجراس على الخيل.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [104 - (2114)] كتاب اللباس والزينة، [27] باب كراهة الكلب والجرس في السفر.

(3)

أخرجه أبو داود في سننه [2558] كتاب الجهاد، باب في ركوب الجلالة. والحاكم في المستدرك [2/ 34]، والبيهقي في السنن الكبرى [9/ 333].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [415] كتاب الصلاة، [37] باب كفارة البزاق في المسجد. ومسلم في صحيحه [55 - (552)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، [13] باب النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها. وأحمد في مسنده [3/ 173]، والمنذري في الترغيب والترهيب [1/ 201]، والطبراني في المعجم الصغير [1/ 40]، وابن أبي شيبة في مصنفه [2/ 365].

ص: 459

حكاه في البحر، فإن كان مبلطًا أو مجصصًا فينزلها منه بغسل ونحوه، ولا يدلكها بمداسه كما يفعله الجهلة فإنه زيادة للخطيئة، وإكثار للقذر فيه.

(1)

.

وروينا من حديث عائشة "أنه صلى الله عليه وسلم رأى في جدار القبلة مخاطا أو بزاقا، أو نخامة فحكها"

(2)

أخرجاه.

وعن أنس مرفوعًا: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول ولا القذر، إنما هي لذكر اللَّه والصلاة، وقراءة القرآن"، أو كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(3)

.

‌فصل في كراهة الخصومة في المسجد ورفع الصوت فيه ونشد الضالة والبيع والشراء والإجارة ونحوها من المعاملات

روينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من سمع رجلًا ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها اللَّه عليك فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا"

(4)

رواه مسلم.

وعنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح اللَّه تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد ضالة فقولوا: لا ردها اللَّه عليك"

(5)

.

رواه الترمذي وحسنه.

(1)

قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم: "وكفارتها دفنها" فمعناه إن ارتكب هذه الخطيئة فعليه تكفيرها كما أن الزنا والخمر وقتل الصيد في الإحرام محرمات وخطايا، وإذا ارتكبها فعليه عقوبتها. واختلف العلماء في المراد بدفنها، فالجمهور قالوا: المراد دفنها في تراب المسجد ورمله وحصاته إن كان فيه تراب أو رمل أو حصاة ونحوها، وإلا فيخرجها، وحكى الروياني من أصحابنا قولًا أن المراد إخراجها مطلقا، واللَّه أعلم. [النووي في شرح مسلم [5/ 36] طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [407] كتاب الصلاة، [33] باب حك البزاق باليد من المسجد، ومسلم في صحيحه [52 - (549)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، [13] باب النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [100 - (285)] كتاب الطهارة، [30] باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حملت في المسجد وأن الأرض تطهر بالماء من غير حاجة إلى حفرها.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [79 - (568)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، [18] باب النهي عن نشد الضالة في المسجد وما يقوله من سمع الناشد. وأبو داود في سننه [473]، وابن ماجه [767]، وأحمد في مسنده [2/ 349]، والبيهقي في السنن الكبرى [2/ 447]، والمنذري في الترغيب والترهيب [1/ 202].

(5)

أخرجه الترمذي [1321]، البيهقي في السنن الكبرى [2/ 447]، والحاكم في المستدرك [2/ 56]، وابن خزيمة في صحيحه [1305].

ص: 460

وعن بريده أن رجلًا نشد في المسجد فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر فقال صلى الله عليه وسلم: "لا وجدت؛ إنما بُنيَت المساجد لما بُنِيَت له"

(1)

أخرجه مسلم.

وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن الشراء والبيع في المسجد، وأن ينشد فيه ضالة، وأن يُنْشَد فيه شعر"

(2)

.

رواه أبو داود والترمذي وحسنه.

وعن السائب بن يزيد

(3)

الصحابي قال: كنت في المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما فقال: من أين أنتما؟ فقالا: من أهل الطائف.

فقال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(4)

رواه البخاري.

‌فصل في نهي كل من أكل ثومًا أو بصلًا أو كراثًا أو غيرهما مما له رائحة كريهة من دخول المسجد قبل زوال رائحته إلا لضرورة

روينا من حديث ابن عمر مرفوعًا: "من أكل من هذه الشجرة يعني الثوم فلا يقربن مسجدنا"

(5)

أخرجاه.

وفي رواية مسلم "مساجدنا".

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [80 - (569)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، [18] باب النهي عن نشد الضالة في المسجد وما يقول من صمع الناشد. وابن خزيمة في صحيحه [1301]، وعبد الرزاق في مصنفه [1721].

(2)

أخرجه أبو داود في سننه [1079]، والترمذي من حديث أبي هريرة رقم [1321] في البيوع باب النهي عن البيع في المسجد وبلفظ "إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح اللَّه تجارتك. . . " الحديث.

(3)

السائب بن يزيد بن سعيد بن ثمامة بن الأسود، وأبو يزيد الكندي ويقال: الأسدي، الليثي الهزلي، يعرف بابن أخت النمر الأزدي الكندي صحابي صغير له أحاديث قليلة وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة أخرجه له: أصحاب الكتب الستة، توفي في سنة [91، 96، 88] تقريب التهذيب [1/ 283] تهذيب التهذيب [3/ 450].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [470] كتاب الصلاة، [83] باب رفع الصوت في المساجد.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه [853] كتاب الأذان، [160] باب ما جاء في الثوم النيء والبصل والكراث. ومسلم في صحيحه [71 - (563)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، [17] باب نهي من أكل ثوما أو بصلا أو كراثا أو نحوها. وأخرجه مسلم في صحيحه [69 - (561)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، [17] باب نهي من أكل ثومًا أو بصلا أو كراثا أو نحوها.

ص: 461

ومن حديث أنس مرفوعًا: "من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا ولا يصلين معنا"

(1)

.

ومن حديث جابر مرفوعًا: "من أكل ثومًا أو بصلًا فليعتزلنا أو فليعتزل مساجدنا"

(2)

أخرجهما.

ولمسلم: "من أكل البصل أو الثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم"

(3)

.

ومن حديث عمر أنه خطب يوم الجمعة فقال في خطبته: "ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين: البصل والثوم "لقد رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحها من الرجل أمر به فأخرج إلى البقيع"

(4)

، فمن أكلهما فليمتهما طبخًا" أخرجه مسلم

(5)

.

‌فصل في كراهية الإحتباء يوم الجمعة والإمام يخطب

لأنه يجلب النوم، فيفوت استماع الخطبة ويخاف انتقاض الوضوء.

روينا من حديث معاذ بن أنس الجهني "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب"

(6)

. رواه أبو داود والترمذي وحسنه.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [856] كتاب الأذان، [16] باب ما جاء في الثوم النيء والبصل والكراث، ومسلم في صحيحه [70 - (562)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، [17] باب نهي من أكل ثومًا أو بصلًا أو كراثًا أو نحوها.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [855] كتاب الأذان، [16] باب ما جاء في الثوم النيء والبصل والكراث ومسلم في صحيحه [73 - (564)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، [17] باب نهي من أكل ثومًا أو بصلًا أو كراثا أو نحوها.

(3)

مسلم في صحيحه [74 - (564)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، [17] باب نهي من أكل ثوما أو بصلا أو كراثا أو نحوها.

(4)

قال النووي: هذا فيه إخراج من وجد منه ريح الثوم والبصل ونحوهما من المسجد وإزالة المنكر باليد لمن أمكنه. وقوله "فمن أكلها فليمتهما طبخا" معناه من أراد أكلهما فليمت رائحتها بالطبخ وإماتة كل شيء كسر قوته وحدته، ومنه قولهم: قتلت الخمر إذا مزجها بالماء وكسر حدتها. [النووي في شرح مسلم [5/ 46] طبعة دار الكتب العلمية].

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [78 - (567)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، [17] باب نهي من أكل ثومًا أو بصلًا أو كراثًا أو نحوها.

(6)

أخرجه أبو داود في سننه [1110] كتاب الصلاة، باب الإحتباء والإمام يخطب. والترمذي في سننه [514] في الصلاة، باب ما جاء في كراهية الإحتباء والإمام يخطب. وأحمد في مسنده [3/ 439]، والطحاوي في مشكل الآثار [4/ 79].

ص: 462

‌فصل

في نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة وأراد أن يضحى عن شيء أن يأخذ من شعره ولا من ظفره حتى يضحى. رواه مسلم

(1)

.

‌فصل النهي عن الحلف بمخلوق

كالنبي والكعبة والملائكة والسماء والآباء والحياة والروح والرأس، وحياة السلطان ونعمته وتربة فلان والأمانة وهي من أشدها نهيًا.

روينا من حديث ابن عمر مرفوعًا: "إن اللَّه ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفًا فليحلف باللَّه أو ليصمت"

(2)

أخرجاه.

وفي رواية في الصحيح: "من كان حالفًا فلا يحلف إلا باللَّه أو ليسكت"

(3)

.

وعن عبد الرحمن بن سمرة مرفوعًا: "لا تحلفوا بالطواغي ولا بآبائكم"

(4)

أخرجه مسلم.

الطواغي جمع طاغية، وهي الأصنام.

ومنه الحديث: "هذه طاغية دوس" أي صنمهم ومعبودهم. وروى مسلم "بالطواغيت" جمع طاغوت وهو الشيطان والصنم، فليحذر منه؛ فإنه تعظيم يشبه السجود.

(1)

كذا بالأصل ولم يذكر الحديث في مسلم [41 - (1977)] كتاب الأضاحي، [7] باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة وهو يريد التضحية أن يأخذ من شعره أو أظافره شيئًا، عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظافره".

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [6646] كتاب الأيمان والنذور، [4] باب لا تحلفوا بآبائكم، ومسلم في صحيحه [3 - (1646)] كتاب الأيمان، [1] باب النهي عن الحلف بغير اللَّه تعالى، وأبو داود [3249]، والترمذي [1534]، والنسائي [7/ 4، 5 - المجتبي]، وابن ماجه [2094]، وأحمد في مسنده [1/ 18، 36]، والبيهقي في السنن [10/ 28، 29]، والحاكم في المستدرك [1/ 52]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 605].

(3)

أخرجه الترمذي [1534] كتاب النذور والأيمان، باب ما جاء في كراهية الحلف بغير اللَّه.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [6 - (1648)] كتاب الأيمان، [2] باب من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا اللَّه. وابن ماجه في سننه [2095]، والبيهقي في السنن الكبرى [10/ 29]، وعبد الرزاق في مصنفه [15936]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [3408]، والطبراني في المعجم الكبير [7/ 305]، والهيثمي في مجمع الزوائد [4/ 177]، والزبيدي في الإتحاف [7/ 576].

ص: 463

وروينا من حديث بريدة مرفوعًا: "من حلف بالأمانة فليس منا"

(1)

حديث صحيح. رواه أبو داود بإسناد صحيح وما أشده من تبرى؛ فإنها إن كانت ضد الخيانة فهو إشراك فيمن يستحق إفراده بالتعظيم، وإن كانت مما تسميه أهل الكتاب أمانة من عقائدهم فأشد.

وروينا من حديث بريدة أيضا مرفوعًا: "من حلف فقال إني بريء من الإسلام، فإن كان كاذبا، فهو كما قال: وإن كان صادقًا فلن يرجع إلى الإسلام سالمًا"

(2)

.

وروينا من حديث ابن عمر أنه سمع رجلا يقول: لا والكعبة فقال ابن عمر: لا تحلف بغير اللَّه فإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "من حلف بغير اللَّه فقد كفر أو أشرك"

(3)

.

رواه الترمذي، وقال حسن.

قال: وفسَّر بعض العلماء قوله كفر أو أشرك على التغليظ كما روى أنه صلى الله عليه وسلم قال: "الرياء شرك"

(4)

قلت: ومعنى التغليظ أن حقيقته ذلك وإنما لم يترتب عليه مقتضاه لغفلته عن فهمه وعدم القصد إليه لا ما يوهمه الأغبياء من عدم معنى له.

‌فصل في تغليظ تحريم اليمين الكاذبة عمدًا

روينا من حديث ابن مسعود مرفوعًا: "من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه لقي اللَّه وهو عليه غضبان"، ثم قرأ علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب اللَّه تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 77] إلى آخر الآية. أخرجاه.

(5)

.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه [3253] كتاب الأيمان والنذور، باب في كراهية الحلف بالأمانة. والبيهقي في السنن الكبرى [10/ 30]، وابن حبان في صحيحه [1318 - الموارد]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [3420]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 607].

(2)

أخرجه أبو داود في سننه [3258] كتاب الأيمان والنذور، باب ما جاء في الحلف بالبراءة وبملة غير الإسلام.

(3)

أخرجه الترمذي في سننه [1535] كتاب النذور والأيمان، باب ما جاء في كراهية الحلف بغير اللَّه. وأحمد في مسنده [2/ 125]، والحاكم في المستدرك [1/ 521]، والبيهقي في السنن الكبرى [10/ 29]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 606]، وابن حجر في تلخيص الحبير [4/ 168].

(4)

أخرجه: أحمد بن حنبل في مسنده [5/ 428]، والعجلوني في كشف الخفا [1/ 525].

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه [6676] كتاب الأيمان والنذور [17] باب قول اللَّه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77]. الآية. ومسلم في صحيحه [222 - (138)] كتاب الأيمان، [61] باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار. والبيهقي في السنن الكبرى [10/ 254]، والمنذري في الترغيب والترهيب [2/ 619].

ص: 464

وعن أبي أمامة إياس بن ثعلبة الحارثي مرفوعًا: "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب اللَّه له النار وحرم عليه الجنة" فقال له رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول اللَّه؟، قال:"وإن قضيبًا من أراك"

(1)

.

أخرجه مسلم.

وهو إلغاء لأمر المالية، لكن فيه انتهاك حرمة الجليل جل جلاله.

وروينا من حديث عبد اللَّه بن عمر مرفوعًا: "الكبائر الإشراك باللَّه وعقوق الوالدين، وقتل النفس واليمين الغموس"

(2)

رواه البخاري.

وفي رواية له: أن أعرابيا جاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه ما الكبائر؟

قال: "الإشراك باللَّه"، قال: ثم ماذا؟

قال: "اليمين الغموس" قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: "الذي يقتطع مال امرئ مسلم"

(3)

يعني بيمين هو فيها كاذب.

‌فصل في ندب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها

أن يفعل ذلك المخلوق عليه ثم يكفر عن يمينه.

وروينا من حديث عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فات الذي هو خير وكفر عن يمينك"

(4)

أخرجاه.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [218 - (137)] كتاب الأيمان، [61] باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار. والنسائي [8/ 246 - المجتبي] وأحمد في مسنده [5/ 260]، والمنذري في الترغيب والترهيب [2/ 625]، والسيوطي في الدر المنثور [2/ 45].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [6675] كتاب الأيمان والنذور، [16] باب اليمين الغموس والترمذي [3021] كتاب تفسير القرآن. باب من سورة النساء. والنسائي [7/ 88، 89 - المجتبي]، وأحمد في مسنده [2/ 201]، والسيوطي في الدر المنثور [2/ 147، 621].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [6920] كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، [1] باب إثم من أشرك باللَّه وعقوبته في الدنيا والآخرة.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [6622] كتاب الأيمان والنذور، [1] باب قول اللَّه تعالى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] الآية، ومسلم في صحيحه [19 - (1652)] كتاب الأيمان، [3] باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرًا منها. وأبو داود [3277]، والنسائي [7/ 10 - المجتبي]، وأحمد في مسنده [5/ 63]، والبيهقي في السنن الكبرى [10/ 31، 36].

ص: 465

وعن أبي هريرة مرفوعًا: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، فليكفر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير"

(1)

أخرجه مسلم.

وعن أبي موسى رضي الله عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إني واللَّه إن شاء اللَّه لا أحلف على يمين فأرى خيرا منها إلا كفَّرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير"

(2)

أخرجاه.

وهو غاية في التأسي.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لأن يلّجَّ أحدكم بيمينه في أهله، آثَمُ عند اللَّه من أن يعطي كفارته التي فرض اللَّه عليه"

(3)

أخرجاه.

ويلج: بفتح اللام وتشديد الجيم يتمارى فيها، ولا يكفر.

وآثم: بالثاء الثلثة أكبر إثما، وهو دافع لشبهة متوسوس من تحليل يمين عقدها، فإن الذي فرَّ منه توقعه في أشد منه، فإن التحلل فيه فعل الخير، وفعل الكفارة المحللة ليعطيه اليمين، والأخذ برخصة اللَّه المحبوبة لديه والقيام بفرض فرضه اللَّه عليه، مع فوائد التأسي النبوي.

‌فصل في العفو عن لغو اليمين وأنه لا كفارة فيه

وهو ما يجري على اللسان بغير قصد اليمين: كلا واللَّه، وبلى واللَّه ونحو ذلك.

قال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ}

(4)

.

في قول الرجل: "لا واللَّه، بلى واللَّه. . . " رواه البخاري

(5)

.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [12 - (1650)] كتاب الأيمان، [3] باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها، أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه. والترمذي [1530]، وابن ماجه [2108].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [6680] كتاب الأيمان والنذور، [18] باب اليمين فيما لا يملك وفي المعصية وفي الغضب. ومسلم في صحيحه [7 - (1649)] كتاب الأيمان، [3] باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خبرا منها، أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [6625] كتاب الأيمان والنذور، [1] باب قول اللَّه تعالى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89]. الآية، ومسلم في صحيحه [26 - (1655)] كتاب الإيمان، [6] باب النهي عن الإصرار على اليمين فيما يتأذى به أهل الحالف مما ليس بحرام، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 32)، والسيوطي في الدر المنثور [1/ 268]، والقرطبي في تفسيره [6/ 281].

(4)

سورة المائدة [89].

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه [6663] كتاب الأيمان والنذور، [4] باب {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)} ، عن عائشة {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ} [البقرة: 225] قال: قالت أنزلت في قوله: لا واللَّه وبلى واللَّه.

ص: 466

‌فصل في كراهة الحلف في البيع وإن كان صادقا

روينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب"

(1)

أخرجاه.

ومن حديث أبي قتادة مرفوعًا: "إياكم وكثرة الحلف في البيع، فإنه ينفق ثم يمحق"

(2)

أخرجه مسلم. فليحذر من ذلك.

‌فصل في كراهة أن يسأل بوجه اللَّه تعالى غير الجنة

وكراهة منع من سأل باللَّه تعالى أو يشفع به.

روينا في حديث جابر مرفوعًا: "لا يسأل بوجه اللَّه إلا الجنة"

(3)

. رواه أبو داود.

وعن ابن عمر مرفوعًا: "من استعاذ باللَّه فأعيذوه، ومن سأل باللَّه فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه"

(4)

.

حديث حسن.

رواه أبو داود والنسائي بأسانيد الصحيحين.

‌فصل في تحريم قول شاهان شاه للسلطان وغيره

لأن معناه ملك الأملاك

(5)

أخرجاه. قال سفيان بن عيينه: ملك الأملاك مثل شاهنشاه.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [2087] كتاب البيوع، [26] باب يمحق اللَّه الربا ويربي الصدقات واللَّه لا يحب كل كفار أثيم، ومسلم في صحيحه [131 - (1606)] كتاب المساقاة، [27] باب النهي عن الحلف في البيع. وأبو داود في سننه [3335]، والنسائي [7/ 246 - المجتبي] والبيهقي في السنن الكبرى [5/ 265]، والمنذري في الترغيب والترهيب [2/ 590].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [132 - (1607)] كتاب المساقاة، [27] باب النهي عن الحلف في البيع، وأحمد في مسنده [5/ 297، 298].

(3)

أخرجه أبو داود في سننه [1671] كتاب الزكاة، باب كراهية المسألة بوجه اللَّه تعالى. والتبريزي في مشكاة المصابيح [1944]، والعجلوني في كشف الخفا [2/ 520].

(4)

أخرجه أبو داود في سننه [1672] كتاب الزكاة، باب عطية من سأل باللَّه. والنسائي [5/ 82 - المجتبي]، وأحمد في مسنده [1/ 250، 2/ 68]. والطبراني في المعجم الكبير [12/ 397، 418]، والمنذري في الترغيب والترهيب [1/ 601، 2/ 76]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [9/ 56]، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة [253].

(5)

انظر مسلم في صحيحه [20 - (2143)] كتاب الأدب، [4] باب تحريم التسمي بملك الأملاك وبملك الملوك.

ص: 467

‌فصل في النهي عن مخاطبة الفاسق والمبتدع ونحوهما بسيد ونحوه

روينا من حديث بريدة مرفوعا

(1)

: "لا تقولوا للمنافق سيد فإنه إن يك سيدا فقد أسخطتم ربكم عز وجل". رواه أبو داود بإسناد صحيح.

‌فصل في كراهية سب الحمى

وروينا من حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم دخل على أم السائب أو أم المسيب فقال: "ما لك يا أم السائب، أو يا أم المسيب تزفزفين؟ "

(2)

.

قالت: الحمى لا بارك اللَّه فيها.

فقال: "لا تسبى الحمى فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد"

(3)

تزفزفين تتحركين حركة سريعة، ومعناه ترتعد، وهو بضم التاء وبالزاء المكررة، وبالفاء المكررة.

وروى أيضًا بالراء وروى بالزاي المكررة بالفائين.

‌فصل في النهي عن سب الريح

وبيان ما يقال عند هبوبها.

روينا من حديث أبي المنذر أُبَيِّ بن كعب مرفوعًا: "لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: "اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت

(1)

أخرجه أبو داود في سننه [4977] كتاب الأدب، باب لا يقول الملوك "ربي"، "ربتي"، وأحمد في مسنده [5/ 436، 437]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [3780]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 579].

(2)

قوله صلى الله عليه وسلم: "مالك يا أم السائب تزفزفين": بزاءين معجمتين وفاءين والتاء المضمومة قال القاضي: تضم وتفتح هذا هو الصحيح المشهور في ضبط هذه اللفظة، وادعى القاضي أنها رواية جميع رواه مسلم، ووقع في بعض نسخ بلادنا بالراء والفاء ورواه بعضهم في غير مسلم بالراء والقاف معناه تتحركين حركة شديدة أي ترعدين، وفي حديث المرأة التي كانت تصرع دليل على أن الصرع يثاب عليه أكمل ثواب. [النووي في شرح مسلم [16/ 107] طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [53 - (4575)] كتاب البر والصلة والآداب، [14] باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها. والبيهقي في السنن الكبرى [3/ 377]، والكحال في الأحكام النبوية في الصناعة الطبية [1/ 21، 132]. وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة [715، 1215].

ص: 468

به، ونعوذ بك من شر هذا الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به"

(1)

رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "الريح من روح اللَّه تأتي بالرحمة، وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبوها، واسألوا اللَّه خيرها، واستعيذوا باللَّه من شرها"

(2)

.

رواه أبو داود بإسناد حسن، رَوْحٌ، بفتح الراء أي رحمته بعباده.

وروينا من حديث عائشة قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال: "اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به" أخرجه مسلم.

(3)

.

‌فصل في كراهية سب الديك

روينا من حديث زيد بن خالد الجهني مرفوعًا: "لا تسبوا الديك فإنه يوقظ للصلاة"

(4)

. رواه أبو داود بإسناد صحيح.

‌فصل في النهي عن قول مطرنا بنوء كذا

ثبت ذلك في الصحيحين

(5)

من حديث زيد بن خالد الجهني مرفوعا، والسماء

(1)

أخرجه الترمذي [2252]، وأحمد في مسنده [5/ 123]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [2158]، والزبيدي في الإتحاف [5/ 103]، والطحاوي في مشكل الآثار [1/ 398].

(2)

أخرجه أبو داود في سننه [5097]، وأحمد في مسنده [2/ 268، 518]، والبيهقي في السنن الكبرى [3/ 361]، والحاكم في المستدرك [4/ 285]، وابن حبان [1989 - الموارد]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [1516]، وعبد الرزاق في مصنفه [20004]، والسيوطي في الدر المنثور [1/ 165]، والعجلوني في كشف الخفا [1/ 525]، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة [1874].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [15 - (899)] كتاب صلاة الإستسقاء [3] باب التعوذ عند رؤية الريح والغيم والفرح بالمطر. وأبو داود في سننه [2160]، وابن ماجه في سننه [2252]، والبيهقي في السنن الكبرى [3/ 360]، والسيوطي في الدر المنثور (6/ 43)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين [5/ 103]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [1513].

(4)

أخرجه أبو داود في سننه [5101] كتاب الأدب، باب ما جاء في الديك والبهائم. والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 474]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [4136].

(5)

أخرجه: البخاري في صحيحه [846] كتاب الأذان، [156] باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم. ورقم [1038] كتاب الإستسقاء، [27] باب قول اللَّه تعالى:{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)} [الواقعة: 82]، ومسلم في صحيحه [125 - (71)] كتاب الإيمان [32] باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء.

ص: 469

المذكورة فيه: المطر.

‌فصل في تحريم قوله لمسلم: يا كافر

روينا من حديث ابن عمر مرفوعًا: "إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما، فإن كان كما قال، وإلا رجعت عليه"

(1)

.

وعن أبي ذر مرفوعًا: "من دعا رجلًا بالكفر أو قال: يا عدو اللَّه وليس كذلك: إلا حار عليه"

(2)

. أخرجاه.

حار: رجع عن الفحش وبذئ اللسان.

روينا من حديث ابن مسعود مرفوعًا: "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء"

(3)

.

ومن حديث أنس مرفوعًا: "ما كان الفحش في شيء إلا شأنه، وما كان الحياء في شيء إلا زانه"

(4)

. رواهما الترمذي وحسنه.

‌فصل في كراهة التنفير بالكلام

بالتشديد وتكلف الفصاحة واستعمال وحشي اللغة ودقائق الإعراب في مخاطبة العوام ونحوهم.

روينا من حديث ابن مسعود مرفوعًا: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثًا

(5)

أخرجه مسلم.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [6104] كتاب الأدب [73] باب من كفر أخاه من غير تأويل فهو كما قال. ومسلم في صحيحه [111 - (60)] كتاب الإيمان، [26] باب بيان حال إيمان من قال لأخيه المسلم يا كافر.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [4/ 219]، ومسلم في صحيحه [112 - (61)] كتاب الإيمان، [27] باب بيان حال إيمان من ركب عن أبيه وهو يعلم.

(3)

أخرجه الترمذي في سننه [1977] كتاب البر والصلة، باب ما جاء في اللعنة، والبيهقي في السنن الكبرى [10/ 193]، والحاكم في المستدرك [1/ 12]، وابن حبان في صحيحه [48 - الموارد]، والبخاري في الأدب المفرد [312].

(4)

أخرجه الترمذي [1974] كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الفحش والتفحش. وابن ماجه في سننه [4185]، وعبد الرزاق في مصنفه [20145]، والمنذري فى الترغيب والترهيب [3/ 399]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [4854].

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [7 - (2670)] كتاب العلم، [4] باب هلك المتنطعون. والطبراني في المعجم الكبير [10/ 216]، والزبيدي في الإتحاف [2/ 50]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [4785].

ص: 470

وهو المبالغون في الأمور.

ومن حديث عبد اللَّه بن عمرو مرفوعًا: "إن اللَّه يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه، كما تتخلل البقرة"

(1)

.

رواه أبو داود والترمذي وحسنه.

ومن حديث جابر: "إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحسنكم أخلاقًا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون"

(2)

رواه الترمذي وحسنه.

وسلف شرحه في حسن الخلق، ولا منفر كهذه الثلاثة.

‌فصل في كراهة قول: خبثت نفسي

روينا من حديث عائشة مرفوعًا: "لا يقولن أحدكم: خبثت نفسي، ولكن ليقل: لَقِسَتْ نفسي"

(3)

أخرجاه.

ومعنى خبثت: غثت، وهو بمعنى لقست

(4)

، ولكن كره لفظ الخبث.

‌فصل في كراهة تسمية العنب كرمًا

روينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا تسموا العنب الكرم، فإن الكرم المسلم"

(5)

أخرجاه، واللفظ لمسلم.

(1)

أخرجه أبو داود [5005] كتاب الأدب، باب ما جاء في المتشدق في الكلام. والترمذي في سننه [2853] كتاب الأدب باب ما جاء في الفصاحة والبيان. وأحمد في مسنده [2/ 165، 187]، والهيثمي في مجمع الزوائد [8/ 116].

(2)

أخرجه الترمذي في سننه [2018] كتاب البر والصلة، باب ما جاء في معالي الأخلاق، المنذري في الترغيب والترهيب [3/ 406].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [6179] كتاب الأدب، [100] باب لا يقل خبثت نفسي. ومسلم في صحيحه [16 - (2250)] كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، [4] باب كراهة قول الإنسان: خبثت نفسي.

(4)

قال أبو عبيد وجميع أهل اللغة وغريب الحديث وغيرهم: لقست وخبثت بمعنى واحد وإنما كره لفظ الخبث لبشاعة الاسم وعلمهم الأدب في الألفاظ واستعمال حسنها وهجران خبيثها قالوا: ومعنى لقست غثت، وقال ابن الأعرابي معناه ضاقت. [النووي في شرح مسلم [15/ 7] طبعة دار الكتب العلمية].

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه [6183] كتاب الأدب، [102] باب قول صلى الله عليه وسلم:"إنما الكرم قلب المؤمن". ومسلم في صحيحه [8 - (2247)] كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، [2] باب كراهة تسمية العنب كرما. وأحمد في مسنده [2/ 259، 476]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 280]، والزبيدي في الإتحاف [7/ 576].

ص: 471

وفي رواية: "فإنما الكرم المسلم" أخرجاه واللفظ لمسلم.

وفي رواية: "فإنما الكرم قلب المؤمن"

(1)

.

وفي رواية: "إنما تقولون: الكرم، إنما الكرم قلب المؤمن".

وروينا من حديث وائل مرفوعًا: "لا تقولوا الكرم ولكن قولوا العنب والحبلة"

(2)

.

رواه مسلم.

الحبلة: بفتح الحاء، وبفتح الباء وإسكانها.

‌فصل في النهي عن وصف محاسن المرأة لرجل لا يحتاج إلى ذلك لغرض شرعي كنكاح ونحوه

روينا من حديث ابن مسعود مرفوعًا:

(3)

"لا تباشر المرأة المرأة فتصفها لزوجها كأنه ينظر إليها". أخرجاه.

‌فصل في كراهية قول الإنسان في الدعاء: اللهم اغفر لي إن شئت بل يعزم بالطلب

روينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت ليعزم المسألة، فإنه لا مكره له"

(4)

أخرجاه.

وفي رواية لمسلم: "ولكن ليعزم وليعظم لرغبة، فإن اللَّه لا يتعاظمه شيء أعطاه"

(5)

.

(1)

انظر البخاري كما تقدم، ومسلم [9 - (2247)] كتاب الألفاظ، [2] باب كراهة تسمية العنب كرما.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [12 - (2248)] كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، [2] باب كراهة تسمية العنب كرما. والتبريزي في مشكاة المصابيح [4762]، والزبيدي في الإتحاف [7/ 576] وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح [10/ 567].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [5240] كتاب النكاح، [119] باب لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها، وأبو داود في سننه [2150] في النكاح، باب ما يؤمر به من غض البصر، والترمذي [2792] كتاب الأدب، باب في كراهية مباشرة الرجال الرجال والمرأة المرأة.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [6339] كتاب الدعوات، [21] باب ليعزم المسألة، فإنه لا مكره له، ومسلم في صحيحه [9 - (2679)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [3] باب العزم بالدعاء ولا يقل إن شئت. وأبو داود في سننه [1483]، والترمذي [3497]، وابن ماجه [3854]، وعبد الرزاق في مصنفه [19641]، وأحمد في مسنده [2/ 463]، والزبيدي في الإتحاف [5/ 39].

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [8 - (2679)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار [3] باب العزم بالدعاء، ولا يقل إن شئت.

ص: 472

وعن أنس مرفوعًا: "إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة ولا يقولن: اللهم إن شئت فأعطني، فإنه لا مستكره له"

(1)

أخرجاه.

وهو عام في كل دعاء، وطلب الغفران والرحمة في الحديث الأول من باب التمثيل.

‌فصل في كراهة قول ما شاء اللَّه ثم ما شاء فلان

رواه بإسناد صحيح.

‌فصل في كراهة الحديث المباح بعد العشاء الآخرة

(2)

إلا في خير، كمذاكرة علم وعذر.

والأحاديث الصحيحة مصرحة بذلك.

روينا من حديث أبي برزة "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها"

(3)

.

وحديث ابن عمر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى العشاء في آخر حياته، فلما سلم قال:"أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن على رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض اليوم أحد"

(4)

. أخرجاهما.

وعن أنس رضي الله عنهما أنهم انتظروا النبي صلى الله عليه وسلم فجاءهم قريبًا من شطر الليل، فصلي بهم يعني العشاء، قال: ثم خطبنا فقال: "ألا إن الناس قد صلوا ثم رقدوا، وإنكم لن

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [6338] كتاب الدعوات، [21] باب ليعزم المسألة فإنه لا مكره له. ومسلم في صحيحه [7 - (2678)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [3] باب العزم بالدعاء ولا يقل إن شئت.

(2)

قال الترمذي: اختلف أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم في السمر بعد صلاة العشاء الآخرة، فكره قوم منهم السمر بعد صلاة العشاء، ورخص بعضهم إذا كان في معنى العلم وما لابد منه من الحوائج وأكثر الحديث على الرخصة. وقد روى الترمذي في سننه [169] في الصلاة، باب ما جاء من الرخصة في السمر بعد العشاء عن عمر بن الخطاب قال:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يسمر مع أبي بكر في الأمر من أمر المسلمين وأنا معهما".

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [568] كتاب مواقيت الصلاة، [24] باب ما يكره من النوم قبل العشاء، وأبو داود في الصلاة باب [3]، والترمذي [168]، وأحمد في مسنده [4/ 421].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [564] كتاب مواقيت الصلاة، [21] باب ذكر العشاء والعتمة ومن رآه واسعا. ومسلم في صحيحه [217 - (2537)] كتاب فضائل الصحابة، [53] باب قول صلى الله عليه وسلم "لا تأتي مائة سنة وعلى الأرض نفس نفوسة اليوم".

ص: 473

تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة"

(1)

أخرجه البخاري.

‌فصل في تحريم امتناع المرأة من فراش زوجها

إذا دعاها ولم يكن لها عذر شرعي.

روينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فأبت أن تجيء فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح"

(2)

أخرجاه.

وفي رواية: "حتى ترجع".

‌فصل في تحريم صوم المرأة تطوعًا وزوجها حاضر إلا بإذنه

روينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه"

(3)

أخرجاه.

‌فصل في تحريم في رفع المأموم رأسه من الركوع والسجود قبل الإمام

روينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل اللَّه رأسه رأس حمار، أو يجعل صورته صورة حمار"

(4)

أخرجاه.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [572] كتاب مواقيت الصلاة، [26] باب وقت العشاء إلى نصف الليل. والبيهقي في السنن الكبرى [3/ 65].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [5193] كتاب النكاح، [86] باب إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها. ومسلم في صحيحه [122 - (1436)]، كتاب النكاح [20] باب تحريم امتناعها من فراش زوجها. وأبو داود في سننه [2141] في النكاح، باب في حق الزوج على المرأة. والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 292]، والتريزي في مشكاة المصابيح [3246]، والسيوطي في الدر المنثور [2/ 156].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [5192] كتاب النكاح، [85] باب صوم المرأة بإذن زوجها تطوعًا. رقم [5195] كتاب النكاح، [17] باب لا تأذن المرأة في بيت زوجها لأحد إلا بإذنه. ومسلم في صحيحه [84 - (1026)] كتاب الزكاة، [26] باب ما أنفق العبد من مال مولاه.

وأبو داود في سننه [2458]، والترمذي [782]، وابن ماجه في سننه [1761]، وأحمد في مسنده [2/ 316]، والبيهقي في السنن الكبرى [4/ 192، 7/ 180]، والحاكم في المستدرك [4/ 173]، والدارمي في سننه [2/ 62].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [691] كتاب الأذان، [53] باب إثم من رفع رأسه قبل الإمام. ومسلم في صحيحه [114 - (427)] كتاب الصلاة، [25] باب تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود ونحوها. والترمذي في سننه [582]، والبيهقي في السنن الكبرى [2/ 93]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [1141]، وابن خزيمة في صحيحه [1600]، والمنذري في الترغيب والترهيب [1/ 334]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [7/ 226].

ص: 474

‌فصل في كراهة وضع اليد على الخاصرة في الصلاة

روينا من حديث أبي هريرة رضي الله عنهما قال: "نهى عن الخصر في الصلاة". أخرجاه

(1)

.

‌فصل في كراهة الصلاة بحضرة الطعام

ونفسه تتوق إليه، أو مع مدافعة الأخبثين.

روينا من حديث عائشة مرفوعًا: "لا صلاة بحضرة طعام ولا هو يدافعه الأخبثان"

(2)

. أخرجه مسلم.

‌فصل في النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة

روينا من حديث أنس مرفوعًا: "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم؟ " فاشتد قوله في ذلك حتى قال: "ليَنْتَهُنَّ عن ذلك أو لتُخْطَفَنَّ أبصارهم"

(3)

.

رواه البخاري.

‌فصل في كراهة الإلتفات في الصلاة لغير عذر

روينا من حديث عائشة قالت: سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الإلتفات في الصلاة فقال: "هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد"

(4)

رواه البخاري.

(1)

كذا بالأصل وقد أخرجه أبو داود في سننه [947] في الصلاة، باب الرجل يصلي مختصرا، والترمذي في سننه (383) في الصلاة، باب ما جاء في النهي عن الاختصار في الصلاة. والنسائي [2/ 127 - المجتبي]، وأحمد في مسنده [2/ 399]، والحاكم في المستدرك [1/ 264]، وابن أبي شيبة في مصنفه [2/ 48]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [3/ 78]، والبيهقي في السنن الكبرى [2/ 287].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [67 - (560)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، [16] باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله في الحال وكراهة الصلاة. والبيهقي في السنن الكبرى [3/ 73]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [1057].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [750] كتاب الأذان، [92] باب رفع البصر إلى السماء في الصلاة، وأبو داود في سننه [913]، والنسائي [3/ 7 - المجتبي]، وابن ماجه في سننه [1044] وأحمد في مسنده [3/ 109، 112].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [751] كتاب الأذان، [93] باب الإلتفاف في الصلاة، والترمذي في سننه [590]، والبيهقي في السنن الكبرى [2/ 281]، وعبد الرزاق في مصنفه [3275]، وابن خزيمة في صحيحه [484/ 931]، والحاكم في المستدرك [1/ 237]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [9/ 23].

ص: 475

وعن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إياك والإلتفات في الصلاة، فإن الإلتفات في الصلاة هلكة، فإن كان لا بد ففي التطوع لا في الفريضة"

(1)

رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

‌فصل في النهي عن الصلاة إلى القبور

روينا من حديث أبي مرثد كناز بن الحصين مرفوعًا: "لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها"

(2)

رواه مسلم.

‌فصل في تحريم المرور بين يدي المصلي

روينا من حديث أبي الجهم عبد اللَّه بن الحارث بن الصمة الأنصاري مرفوعًا: "لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه من الإثم لكان أن يقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه"

(3)

.

قال الراوي: "لا أدري أقال أربعين يومًا أو شهرًا أو سنةً" أخرجاه.

‌فصل في كراهة شروع المأموم في نافلة بعد شروع المؤذن في الإقامة

سواء كانت النافلة سنة تلك الصلاة أو غيرها.

روينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة"

(4)

أخرجه مسلم.

(1)

أخرجه الترمذي في سننه [589] في الصلاة، باب ما ذكره في الالتفات في الصلاة، والهيثمي في مجمع الزوائد [1/ 271]، والعجلوني في كشف الخفا [1/ 323]، والزيلعي في نصب الراية [2/ 44، 88].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [98 - (972)] كتاب الجنائز، [33] باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه. والنسائي [2/ 67 - المجتبي]، وأحمد في مسنده [4/ 135].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [510] كتاب الصلاة، [101] باب إثم المار بين يدي المصلي. ومسلم في صحيحه [261 - (507)] كتاب الصلاة، [48] باب منع المار بين يدي المصلي، وأبو داود في سننه [701]، والترمذي [336]، وأحمد في مسنده [4/ 169]، والبيهقي في السنن الكبرى [2/ 268]، والهيثمي في مجمع الزوائد [2/ 61]، والمنذري في الترغيب والترهيب [1/ 376].

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [63 - (710)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، [9] باب كراهة الشروع في نافلة بحد شروع المؤذن. وأبو داود في سننه [1466]، والترمذي في سننه [421]، والنسائي [2/ 117 - المجتبي]، وابن ماجه في سننه [1151]، وأحمد في مسنده [2/ 455]، والبيهقي في السنن الكبرى [2/ 482]، وابن خزيمة في صحيحه [1123]، وعبد الرزاق في مصنفه [3989]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [8/ 138، 9/ 222]، والزبيدي في الإتحاف [3/ 462].

ص: 476

‌فصل في كراهة تخصيص يوم الجمعة بصيام أو ليلة الجمعة بصلاة

روينا من حديث أبي هريرة: "لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم"

(1)

رواه مسلم.

وعنه مرفوعًا: "لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوم قبله أو يومًا بعده"

(2)

أخرجاه وبه يخرج تخصيصه.

وعن محمد بن عباد قال: سألت جابرا: "أنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة قال: نعم"

(3)

أخرجاه.

وعن أم المؤمنين جويرية بنت الحارث أنه صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال: "أصمت أمس؟ "، قالت: لا، قال:"تريدين أن تصومي غدا؟ "، قالت: لا، قال:"فأفطري"

(4)

. رواه البخاري.

‌فصل في تحريم الوصال وهو أن يصوم يومين أو أكثر ولا يأكل ولا يشرب بينهما

روينا من حديث أبي هريرة وعائشة "أنه صلى الله عليه وسلم: نهى عن الوصال".

أخرجاه.

(5)

.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [148 - (1144)] كتاب الصيام، [24] باب كراهة صيام يوم الجمعة منفردا. والحاكم في المستدرك [1/ 311]، وابن خزيمة في صحيحه [1176]، وابن حجر في تلخيص الحبير [2/ 215] المنذري في الترغيب والترهيب [2/ 127].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [1985] كتاب الصوم، [63] باب صوم يوم الجمعة، فإذا أصبح صائمًا يوم الجمعة فعليه أن يفطر. ومسلم في صحيحه [147 - (1144)] كتاب الصيام، [24] باب كراهة صيام يوم الجمعة منفردا والترمذي في سننه [743].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [1984] كتاب الصوم، [63] باب صوم يوم الجمعة فإذا أصبح صائمًا يوم الجمعة فعليه أن يفطر. ومسلم في صحيحه [146 - (1143)] كتاب الصيام، [24] باب كراهية صيام يوم الجمعة منفردا.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [1986] كتاب الصوم، [63] باب صوم يوم الجمعة، فإذا أصبح صائمًا يوم الجمعة فعليه أن يفطر. وأبو داود في سننه [2422]، وأحمد في مسنده [2/ 189] والمنذري في الترغيب والترهيب [6/ 320]، وعبد الرزاق في مصنفه [7804]، وابن أبي شيبة في مصنفه [3/ 44].

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه [1964] كتاب الصوم، [48] باب الوصال. ومسلم في صحيحه [58 - (1103)] كتاب الصيام، [11] باب النهي عن الوصال في الصوم.

ص: 477

وعن ابن عمر قال: "نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الوصال"، قالوا: إنك تواصل. قال: "إني لست مثلكم إني أُطْعَمُ، وأُسْقَى" أخرجاه

(1)

.

واللفظ للبخاري.

وهو قاطع في أن الإطعام والإسقاء غير حسي.

وإلا لقال: إنى لست أواصل.

‌فصل في تحريم الجلوس على قبر

روينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه، فيخلص إلى جلده، خير له من أن يجلس على قبر"

(2)

. أخرجه مسلم.

‌فصل النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه

روينا من حديث جابر قال: "نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه"

(3)

. رواه مسلم.

‌فصل في تغليظ تحريم إباق العبد من سيده

روينا من حديث جرير مرفوعًا: "أيما عبد أبق فقد برئت منه الذمة"

(4)

رواه مسلم.

وعنه مرفوعًا: "إذ أبق العبد لم تقبل له صلاة"

(5)

رواه مسلم أيضًا.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [1962] كتاب الصوم، [48] باب الوصال. ومسلم في صحيحه [55 - (1102)] كتاب الصيام، [11] باب النهي عن الوصال في الصوم. وأحمد في مسنده [2/ 102، 143]، والبيهقي في السنن الكبرى [4/ 282]، وابن أبي شبيبة في مصنفه [3/ 82].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [96 - (971)] كتاب الجنائز، [33] باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه. وأبو داود في سننه [3228]، وابن ماجه في سننه [794] المنذري في الترغيب والترهيب [4/ 374].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [94 - (970)] كتاب الجنائز، [32] باب النهي عن تجصيص القبر والبناء عيه. قال [النووي: المراد بالقعود الجلوس عليه، هذا مذهب الشافعي وجمهور العلماء وقال مالك في الموطأ: المراد بالقعود الجلوس، وقال أصحابنا: تجصيص القبر مكروه والقعود عليه حرام، وكذا الأستناد والإتكاء عليه. [النووي في شرح مسلم [7/ 32] طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [123 - (69)] كتاب الإيمان، [31] باب تسمية العبد الآبق كافرا. وأحمد في مسنده [4/ 357، 365]، والبيهقي في السنن الكبرى [8/ 204] المنذري في الترغيب والترهيب [3/ 27].

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [124 - (70)] كتاب الإيمان، [31] باب تسمية العبد الآبق كافرًا.

ص: 478

وفي رواية: "فقد كفر".

‌فصل في تحريم الشفاعة في الحدود

قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي}

(1)

الآية.

وروينا من حديث عائشة أن قريشًا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فكلمه أسامة فقال: "أتشفع

(2)

في حد من حدود اللَّه تعالى".

ثم قام فاختطب فقال: "إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم اللَّه لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"

(3)

أخرجاه. وفي رواية: فتلون وجه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "أشفع في حد من حدود اللَّه؟ " فقال أسامة: ليستغفر لي رسول اللَّه، ثم أمر بتلك المرأة فقطعت يدها

(4)

.

‌فصل في النهي عن التغوط في طريق الناس وظلهم وموارد الماء ونحوها

قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ}

(5)

الآية.

وروينا من حديث أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا اللعانين" قالوا وما اللاعنين؟، قال:"الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلهم"

(6)

. رواه مسلم.

(1)

سورة النور [2].

(2)

أجمع العلماء على تحريم الشفاعة في الحد بعد بلوغه إلى الإمام لهذا الحديث، وعلى أنه يحرم التشفيع فيه، فأما قبل بلوغه إلى الإمام فقد أجاز الشفاعة فيه أكثر العلماء إذا لم يكن المشفوع فيه صاحب شر وأذى للناس، فإن كان لم يشفع فيه وأما المعاصي التي لا حد فيها وواجبها التعزيز فتجوز الشفاعة والتشفيع فيها سواء بلغت الإمام أم لا لأنها أهون. [النووي في شرح مسلم [11/ 155] طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [3475] كتاب أحاديث الأنبياء، آخر باب في هذا الكتاب رقم [56]، ومسلم في صحيحه [8 - (1688)] كتاب الحدود، [2] باب قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود. وأبو داود في سننه [4373]، والترمذي في سننه [1430]، والنسائي [8/ 73 - المجتبي]، والبيهقي في السنن الكبرى [8/ 332]، وأحمد في مسنده [2/ 482]، والهيثمي في مجمع الزوائد [6/ 259].

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [9 - (1688)] كتاب الحدود، [2] باب قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود.

(5)

سورة الأحزاب [58].

(6)

أخرجه مسلم في صحيحه [68 - (269)] كتاب الطهارة، [2] باب النهي عن التخلي في الطرق =

ص: 479

‌فصل في النهي عن البول ونحوه في الماء الراكد

روينا من حديث جابر "أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن يبال في الماء الراكد"

(1)

أخرجه مسلم.

‌فصل في كراهة تفضيل الوالد بعض أولاده على بعض في الهبة

روينا من حديث النعمان بن بشير أن أباه أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي.

فقال صلى الله عليه وسلم: "أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ " فقال: لا، فقال صلى الله عليه وسلم:"فارجعه"

(2)

.

وفي رواية قال: "أفعلت هذا بولدك كلهم؟ ".

قال: لا، قال:"اتقوا اللَّه واعدلوا في أولادكم".

فرجع أبي فرد تلك الصدقة

(3)

.

وفي رواية: فقال صلى الله عليه وسلم: "يا بشير ألك ولد سوى هذا؟ " قال: نعم، قال:"أكلهم وهبت له مثل هذا؟ " قال: لا، قال:"فلا تشهدني إذا، فإني لا أشهد على جور"

(4)

.

وفي رواية: "لا تشهدني على جور"

(5)

.

وفي رواية: "أشهد على هذا غيري"

(6)

.

= والظلال. وأبو داود في سننه [25]، وأحمد في مسنده [2/ 372]، والبيهقي في السنن الكبرى [1/ 97]، والحاكم في المستدرك [1/ 168]، وابن خزيمة في صحيحه [67] المنذري في الترغيب والترهيب [1/ 133].

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [94 - (281)] كتاب الطهارة. [28] باب النهي عن البول في الماء الراكد. وأحمد في مسنده [2/ 288، 492]، وابن أبي شيبة في مصنفه [1/ 141]، والخطيب في تاريخ بغداد [4/ 252، 278]، والطحاوي في شرح معاني الآثار [1/ 15].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [2586] كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، [12] باب الهبة للولد. ومسلم في صحيحه [9 - (1623)] كتاب الهبات [3] باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [2587] كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها [13] باب الإشهار في الهبة. ومسلم في صحيحه [13 - (1623)] كتاب الهبات [3] باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [14 - (1623)] كتاب الهبات، [3] باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة، والنسائي [6/ 260 - المجتبي]، وأحمد في مسنده [4/ 268]، والبيهقي في السنن الكبرى [6/ 176].

(5)

مسلم رقم [16] به.

(6)

ومسلم رقم [17] به.

ص: 480

ثم قال: "أيسرُّك أن يكونوا إليك في البر سواء" قال: بلى، قال:"فلا إذا"

(1)

متفق عليه.

‌فصل في تحريم إحداد المرأة على ميت فوق ثلاثة أيام إلا على زوج أربعة أشهر وعشرة أيام

روينا من حديث زينب بنت أبي سلمة

(2)

قالت: دخلت على أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أبوها أبو سفيان بن حرب فدعت بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره، فدهنت منه جارية، ثم مسَّت بعارضها ثم قالت: واللَّه ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: "لا يحل لامرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر أن تُحِدَّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا"

(3)

قالت زينب: ثم دخلت على زينب بنت جحش حين توفي أخوها، فدعت بطيب فمسَّت منه، ثم قالت: واللَّه ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: "لا يحل لامرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا"

(4)

. أخرجاه.

(1)

ومسلم رقم [17] به ورقم [18] به.

(2)

زينب بنت أبي سلمة بن عبد الأسد، المخزومية القرشية، ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم ماتت سنة [73]، وأخرج لها أصحاب الكتب الستة. ترجمتها: تهذيب التهذيب [12/ 421] تقريب [2/ 600]، أسد الغابة [7/ 131] الثقات [3/ 145]، الإصابة [7/ 675] تجريد أسماء الصحابة [2/ 272]، والكاشف [3/ 471] الخلاصة [3/ 382].

(3)

فيه دليل على وجوب الإحداد على المعتدة من وفاة زوجها وهو مجمع عليه في الجملة وإن اختلفوا في نفصيله، فيجب على كل معتدة عن وفاة سواء المدخول بها وغيرها والصغيرة والكبيرة والبكر والثيب والحرة والأمة والمسلمة والكافرة، هذا مذهب الشافعي والجمهور، وقال أبو حنيفة وغيره من الكوفيين وأبو ثور وبعض المالكية لا يحد على الزوجة الكتابية بل يختص بالمسلمة لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يحل لامرأة تؤمن باللَّه" فخصه بالمؤمنة. [النووي في شرح مسلم [10/ 95] طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [1281، 1282] كتاب الجنائز، [30] باب إحداد المرأة على غير زوجها ومسلم في صحيحه [58 - (1486)] كتاب الطلاق، [9] باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة وتحريمه في غير ذلك إلا ثلاثة أيام. وأبو داود في سننه (2299) والترمذي في سننه [18، 1195، 1196]، والنسائي [6/ 198، 204 - المجتبي]، وابن ماجه (35، 2085، 2086)، وأحمد في مسنده [6/ 37]، والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 437] المنذري في الترغيب والترهيب [4/ 355].

ص: 481

‌فصل في تحريم بيع حاضر لباد وتلقى الركبان والبيع على بيع أخيه والخطبة أيضا إلا بإذن

رينا من حديث أن: "نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد، وإن كان أخاه لأبيه أو أمه"

(1)

. أخرجاه.

وعن ابن عمر مرفوعًا: "لا تلقوا السلع حتى تهبط بها الأسواق"

(2)

.

وعن ابن عباس مرفوعًا: "لا تتلقوا الركبان، ولا يبع حاضر لباد".

فقال له طاوس: ما بيع حاضر لباد؟ قال: "لا يكون له سمسار"

(3)

أخرجهما.

وعن أبي هريرة

(4)

قال: "نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد، ولا تناجشوا ولا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها".

وفي لفظ: "نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن التلقي وأن يبتاع المهاجر للأعرابي، وأن تشترط المرأة طلاق أختها، وأن يسام الرجل على سوم أخيه، ونهى عن النجش والتصرية"

(5)

أخرجاه.

وعن ابن عمر: "لا يبع بعضكم على بيع بعض ولا يخطب على خطبة أخيه إلا أن يأذن له" أخرجاه. واللفظ لمسلم.

(6)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [2161] كتاب البيوع، [70] باب لا يبيع حاضر لباد بالسمسرة، ومسلم في صحيحه [21 - (1523)] كتاب البيوع، [6] باب تحريم الحاضر للبادي.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [2165] كتاب البيوع، [71] باب النهي عن تلفي الركبان وأن بيعه مردود. ومسلم في صحيحه [14 - (1517)] كتاب البيوع، [5] باب تحريم تلقي الجلب.

(3)

أخرجه البخاري [2158] في البيوع، [68] باب هل يبيع حاضر لباد بغير أجر. رقم [2136] كتاب البيوع، [71] باب النهي عن تلقي الركبان، ومسلم في صحيحه [19 - (1521)] كتاب البيوع، [6] باب تحريم بيع الحاضر للبادي.

(4)

أخرجه البخاري [2140] كتاب البيوع، [58] باب لا يبيع على بيع أخيه ولا سوم على سوم أخيه، ومسلم [51 - (1413)] كتاب النكاح، [6] باب تحريم الخطبة على خطبة أخيه حتى يأذن أو يترك. ورقم [2160] كتاب البيوع، [70] باب لا يبيع حاضر لباد بالسمسرة ومسلم في صحيحه [11 - (2000)] كتاب البيوع، [4] باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه وسومه على صومه وتحريم النجش وتحريم التصرية.

(5)

أخرجه البخاري [2727] كتاب الشروط، [11] باب الشروط في الطلاق، ومسلم في صحيحه [12] كتاب البيوع، [4] باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه.

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه [2139] كتاب البيوع، [58] باب لا يبيع على بيع أخيه. ومسلم في صحيحه [50 - (1412)] كتاب النكاح، [6] باب تحريم الخطبة على خطبة أخيه حتى يأذن =

ص: 482

وعن عقبة بن عامر مرفوعًا: "المؤمن أخو المؤمن لا يحل أن يبتاع على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يرد" أخرجه مسلم

(1)

.

‌فصل في النهي عن إضاعة المال في غير وجوهه التي أذن الشرع فيها

روينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إن اللَّه يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل اللَّه جميعا، ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال"

(2)

. أخرجه مسلم.

وعن المغيرة أنه كتب إلى معاوية: "كان ينهى عن قيل وقال وإضاعة المال"

(3)

الحديث، أخرجاه.

‌فصل في النهي عن الإشارة إلى مسلم بسلاح ونحوه سواء كان جادًا أو مازحًا

والنهي عن تعاطي السيف مسلولًا.

روينا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار"

(4)

متفق عليه.

وفي رواية لمسلم: قال: "قال لي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم من أشار إلى أخيه بحديدة فإن

= أو يترك. ومسلم في صحيحه [8 - (1412)] كتاب البيوع، [4] باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [56 - (1414)] كتاب النكاح، [6] باب تحريم الخطبة على خطبة أخيه حتى يأذن أو يترك.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [10 - (1715)] كتاب الأقضية، [5] باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة والنهي عن منع وهات. وأحمد في مسنده [2/ 367]، والبيهقي في السنن الكبرى [8/ 163]، وابن كثير في تفسيره [2/ 74]، والزيلعي في نصب الراية [3/ 277]، والخطيب في الفقيه والمتفقه [1/ 166].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [5975] كتاب الأدب، [6] باب عقوق الوالدين من الكبائر. ومسلم في صحيحه [13 - (593)] كتاب الأقضية، [5] باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة والنهي عن منع وهات. وأحمد في مسنده [4/ 250]، والبخاري في الأدب المفرد [46].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [7072] كتاب الفتن [7] باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من حمل علينا السلاح فليس منا" ومسلم في صحيحه [126 - (2617)] كتاب البر والصلة والآداب، [35] باب النهي عن الإشارة بالسلاح إلى مسلم.

ص: 483

الملائكة تلعنه حتى يردها"

(1)

.

قوله صلى الله عليه وسلم ينزع ضبط بالعين المهملة مع كسر الزاي وبالغين المعجمة مع فتحها: ومعناهما متفاوت، ومعناه بالمهملة يرمي، وبالمعجمة أيضًا يرمي ويفسد، وأصل النزع الطعن والفساد.

وعن جابر رضي الله عنهما "نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن أن يتعاطى السيف مسلولًا"

(2)

رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.

‌فصل في كراهة الخروج من المسجد بعد الآذان إلا لعذر حتى تصلي المكتوبة

روينا من حديث أبي الشعثاء قال: "كنا قعودًا مع أبي هريرة رضي الله عنه في المسجد فأذن مؤذن فقام رجل من المسجد يمشي فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد فقال أبو هريرة: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم"

(3)

.

‌فصل في كراهة رد الريحان لغير عذر

روينا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من عرض عليه ريحان فلا يرده فإنه خفيف المحمل طيب الريح"

(4)

رواه مسلم.

عن أنس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرد الطيب"

(5)

رواه البخاري.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [125 - (2616)] كتاب البر والصلة والآداب، [35] باب النهي عن الإشارة بالسلاح إلى مسلم.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه [2588] كتاب الجهاد، باب في النهي أن يتعاطى السيف مسلولًا. والترمذي [2163] كتاب الفتن، باب ما جاء في النهي عن تعاطي السيف مسلولًا، وأحمد في مسنده [3/ 300، 361]، والحاكم في المستدرك [4/ 290]، وابن أبي شيبة [8/ 395].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [258 - (655)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة [45] باب النهي عن الخروج من المسجد إذا أذن المؤذن، وقال النووي: فيه كراهة الخروج من المسجد بعد الأذان حتى يصلي المكتوبة إلا لعذر واللَّه أعلم. [النووي في شرح مسلم [5/ 134] طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [20 - (2253)] كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، [5] باب استعمال المسك وأنه أطيب الطيب وكراهة رد الريحان والطيب.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه [2582] كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها [9] باب ما لا يرد من الهدية. والترمذي في سننه [2789] كتاب الأدب باب ما جاء في كراهية رد الطيب، وأحمد في مسنده [3/ 133، 261].

ص: 484

‌فصل في كراهة المدح في الوجه لمن خيف مفسده من إعجاب وغيره

وجوازه لمن أمن ذلك في حقه.

روينا من حديث أبي موسى رضي الله عنهما قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يثنى على رجل ويطريه في المدحة قال: "أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل" متفق عليه

(1)

.

والإطراء المبالغة في المدح.

وعن أبي بكر رضي الله عنهما أن رجلًا ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه رجل خيرًا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ويحك قطعت عنق صاحبك" يقوله مرارًا: "إن كان أحدكم مادحا لا محالة فليقل أحسب كذا وكذا، إن كان يرى أنه كذلك وحسيبه اللَّه، ولا يزكى على اللَّه أحدًا"

(2)

. متفق عليه.

وعن هشام بن الحارث عن المقداد رضي الله عنهما أن رجلا جعل يمدح عثمان، فعمد المقداد فجثى على ركبته فجعل يحثو في وجهه الحصباء.

فقال عثمان: ما شأنك؟.

قال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب"

(3)

.

فهذه الأحاديث في النهي.

وجاء في الإباحة أحاديث كثيرة صحيحة.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [6060] كتاب الأدب، [54] باب ما يكره من التمادح، ومسلم في صحيحه [67 - (3001)] كتاب الزهد والرقائق، [14] باب النهي عن المدح إذا كان فيه إفراط، وخيف منه فتنة على الممدوح. قال [النووي: في هذا الباب الأحاديث الواردة في النهي عن المدح وقد جاءت أحاديث كثيرة في الصحيحين بالمدح في الوجه، قال العلماء: وطريق الجمع بينها أن النهي محمول على المجازفة في المدح والزيادة في الأوصاف أو على من يخاف عليه فتنة من إعجاب ونحوه إذا سمع المدح، وأما من لا يخاف عليه ذلك لكمال تقواه ورسوخ عقله ومعرفته فلا نهى في مدحه في وجهه إذا لم يكن فيه مجازفة، بل إن كان يحصل بذلك مصلحة كنشطة للخبر والازدياد منه أو الدوام عليه أو الإقتداء به كان مستحبًا واللَّه أعلم. [النووي في شرح مسلم [18/ 99] طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [6061] كتاب الأدب، [54] باب ما يكره من التمادح، ومسلم في صحيحه [65 - (3000)] كتاب الزهد والرقائق، [14] باب النهي عن المدح إذا كان فيه إفراط وخيف منه فتنة على الممدوح.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [69 - (3002)] كتاب الزهد والرقائق، [14] باب النهي عن المدح إذا كان فيه إفراط وخيف منه فتنة على الممدوح، وأحمد في مسنده [6/ 5]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [4/ 377].

ص: 485

قال العلماء: وطريق الجمع بين الأحاديث أن يقال: إن كان الممدوح عنده كمال إيمان ويقين ورياضة نفس ومعرفة تامة بحيث لا يفتتن ولا يغتر بذلك ولا تلعب به نفسه، فليس بحرام أو مكروه وإن خيف عليه من هذه الأمور كره مدحه في وجهه كراهة شديدة، وعلى هذا التفصيل تنزل الأحاديث المختلفة في ذلك.

ومما جاء في الإباحة قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه: "أرجو أن تكون منهم"

(1)

أي من الذين يدعون من جميع أبواب الجنة لدخولها.

وفي الحديث الآخر: "لست منهم أي لست من الذين يسبلون إزارهم خيلاء"

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: "ما رأك الشيطان سالكًا فجًّا إلا سلك فجًا غير فجك"

(3)

.

والأحاديث في الإباحة كثيرة.

‌فصل في كراهة الخروج من بلد وقع فيه الوباء فرارًا منه

وكراهة القدوم عليه.

قال اللَّه تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}

(4)

.

وقال تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}

(5)

.

وروينا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام.

قال ابن عباس فقال لي عمر رضي الله عنه ادع المهاجرين الأولين

(6)

، فدعوتهم

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [3666] كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لو كنت متخذًا خليلًا"، ومسلم في صحيحه [85 - (1027)] كتاب الزكاة [27] باب من جمع الصدقة وأعمال البر.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [3665] كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لو كنت متخذًا خليلًا".

(3)

أخرجه الترمذي في سننه [3690] كتاب المناقب، باب في مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

(4)

سورة النساء [78].

(5)

سورة البقرة [195].

(6)

قال القاضي: المراد بالمهاجرين الأولين من صلى للقبلتين فأما من أسلم بعد تحويل القبلة فلا يعد فيهم قال: وأما مهاجرة الفتح فقيل: هم الذين أسلموا قبل الفتح فحصل لهم فضل بالهجرة قبل الفتح إذ لا هجرة بعد الفتح، وقيل: هم مسلمة الفتح الذين هاجروا بعده فحصل لهم اسم دون الفضيلة. قال القاضي: هذا أظهر لأنهم الذين ينطلق عليهم مشيخة قريش، وكان رجوع عمر رضي الله عنه لرجحان طرف الرجوع لكثرة القائلين به وأنه أحوط، ولم يكن مجرد تقليد لمسلمة =

ص: 486

فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا، فقال بعضهم خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم معك بقية الناس وأصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولا نرمي أن نُقْدِمَهُم على هذا الوباء.

فقال: ارتفعوا عني، ثم قال ادع لي الأنصار، فدعوتهم فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم فقال: ارتفعوا عني، ثم قال ادع لي من كان هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فدعوتهم فلم يختلف عليه منهم رجلان فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء. فنادى عمر رضي الله عنه إني مُصَبِّح على ظهر فأصبحوا عليه، فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارا من قدر اللَّه؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة -وكان عمر يكره خلافه- نعم نفر من قدر اللَّه إلى قدر اللَّه أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديًا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر اللَّه وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر اللَّه.

قال: فجاءه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وكان متغيبًا في بعض حاجته فقال: إن عندي في هذا علمًا: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فرارًا منه" فحمد اللَّه تعالى عمر رضي الله عنه وانصرف. متفق عليه

(1)

.

العدوة: جانب الوادي.

وعن أسامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا سمعتم الطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها" متفق عليه

(2)

، وفيه دفع شبهة أظلمت المسالك على كل سالك وأورثت من ترك بسببها الدعاء والعبادات ومصالح المعايش المهالك.

= الفتح؛ لأن بعض المهاجرين الأولين وبعض الأنصار أشاروا بالرجوع وبعضهم بالقدوم عليه، وانضم إلى المشيرين بالرجوع رأي مشيخة قريش فكثر القائلون به مع ما لهم من السن والخبرة وكثرة التجارب وسداد الرأي وحجة الطائفتين واضحة مبينه في الحديث. [النووي في شرح مسلم [14/ 174، 175] طبعة دار الكتب العلمية].

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [5729] كتاب الطب، [30] باب ما يذكر في الطاعون، ومسلم في صحيحه [98 - (2219)] كتاب السلام، [32] باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها. وأبو داود في سننه [3103]، وعبد الرزاق في مصنفه [20159]، والطبراني في المعجم الكبير [1/ 94]، والزبيدي في الإتحاف [9/ 531].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [5728] كتاب الطب، [30] باب ما يذكر في الطاعون. ومسلم في صحيحه [92 - (2218)] كتاب السلام، [32] باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها.

ص: 487

‌فصل في التغليظ في تحريم السحر

قال اللَّه تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}

(1)

الآية.

وروينا عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"اجتنبوا السبع الموبقات" قالوا: يا رسول اللَّه وما هن؟

قال: "الشرك باللَّه والسحر، وقتل النفس التي حرم اللَّه إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات" متفق عليه

(2)

.

‌فصل في النهي عن المسافرة بالمصحف إلى بلاد الكفار إذا خيف وقوعه بأيدي العدو

روينا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو"

(3)

متفق عليه.

‌فصل في تحريم استعمال إناء الذهب وإناء الفضة في الأكل والشرب والطهارة

وسائر وجوه الاستعمال.

روينا عن أم سلمة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم"

(4)

متفق عليه.

(1)

سورة البقرة [102].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [6857] كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، [31] باب رمي المحصنات. ومسلم في صحيحه [145 - (89)] كتاب الإيمان، [38] باب بيان الكبائر وأكبرها. وأبو داود في سننه [2874]، والنسائي [6/ 257]، والبيهقي في السنن الكبرى [6/ 284، 8/ 20، 249]، والزبيدي في الإتحاف [1/ 219] المنذري في الترغيب والترهيب [2/ 301]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [52]، والسيوطي في الدر المنثور [2/ 146].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [92 - (1869)] كتاب الإمارة، [24] باب النهي أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار إذا خيف وقوعه بأيديهم. وابن ماجه في سننه [2879] كتاب الجهاد، [45] باب النهي أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو. وأحمد في مسنده [2/ 7، 63، 128]، والبيهقي في السنن الكبرى [9/ 108]، وابن ماجه في سننه وأبي شيبة في مصنفه [14/ 152]، أبو نعيم في حلية الأولياء [8/ 322]، والخطيب في تاريخ بغداد [8/ 374].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [5634] كتاب الأشربة، [28] باب آنية الفضة، ومسلم في صحيحه =

ص: 488

وفي رواية لمسلم

(1)

: "إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الفضة والذهب، وهو تهديد بليغ.

وعن حذيفة رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن الحرير والديباج والشرب في آنية الذهب والفضة وقال: "هن لهم في الدنيا وهي لكم في الآخرة"

(2)

متفق عليه.

وفي رواية في الصحيحين عن حذيفة رضي الله عنه سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب، ولا تأكلوا في صحافها"

(3)

.

وفيه بيان علة التحريم وهي أن الكفار أوتوا كذلك ونحوه طيباتهم في حياتهم الدنيا، فيقال لهم يوم القيامة:{فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأحقاف: 20] الآية.

وروينا في سنن البيهقي

(4)

بإسناد حسن من حديث أنس بن سيرين قال: كنت عند أنس بن مالك عند نفر من المجوس فجيء بفالوذج على إناء من فضة فلم يأكله، فقيل له حوله، فحوَّله على إناء (مدحلح)

(5)

وجيء فأكله وهو حيلة في الاستعمال من الإناء المحرم.

‌فصل في تحريم لبس الرجل ثوبًا مزعفرًا

روينا من حديث أنس: "نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يتزعفر الرجل"

(6)

أخرجاه.

= [1 - (2065)] كتاب اللباس والزينة، [1] باب تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الشرب وغيره على الرجال والنساء.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [1 - (. . .)] كتاب اللباس والزينة، [1] باب تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الشرب وغيره على الرجال والنساء.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [5632] كتاب الأشربة، [27] باب الشرب في آنية الذهب. ومسلم في صحيحه [4 - (2067)] كتاب اللباس والزينة، [1] باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء وخاتم الذهب والحرير على الرجل وإباحته للنساء.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [5633] كتاب الأشربة، [28] باب آنية الفضة. ومسلم في صحيحه [5 - (2067)] كتاب اللباس والزينة، [2] باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء وخاتم الذهب والحرير على الرجل وإباحته للنساء.

(4)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [1/ 28].

(5)

كذا بالأصل.

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه [5846] كتاب اللباس، [33] باب التزعفر للرجال. ومسلم في صحيحه [77 - (2101)] كتاب اللباس والزينة، [23] باب نهي الرجل عن التزعفر، والنسائي [5/ 141، 8/ 189 - المجتبي]، وأحمد في مسنده [3/ 101]، والبيهقي في السنن الكبرى [5/ 36]، وابن خزيمة في صحيحه [2674]، والخطيب في تاريخ بغداد [6/ 230، 10/ 13]. وابن عبد البر في التمهيد [2/ 182].

ص: 489

وهو ظاهر التحريم.

وعن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم عليَّ ثوبين معصفرين فقال: "أأمك أمرتك بهذا؟ " قلت أغسلهما. قال: "بل أحرقهما"

(1)

.

وفي رواية: "أن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها"

(2)

. رواه مسلم.

‌فصل في النهي عن صمت يوم إلى الليل

روينا من حديث علي قال: حفظت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يُتم بعد احتلام ولا صمات يوم إلى الليل"

(3)

. رواه أبو داود بإسناد حسن.

وفسره الخطابي بأن الصمات كان من نُسُك الجاهلية فنهوا في الإسلام عنه وأُمرُوا بالذكر والحديث بالخير.

وروينا من حديث قيس بن أبي حازم قال: دخل أبو بكر الصديق على امرأة من أحمس يقال لها زينب فرآها لا تتكلم فقال: ما لها لا تتكلم، فقالوا: حجت مصمته

(4)

، فقال لها:"تكلمي فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية" فتكلمت

(5)

رواه البخاري.

‌فصل في تحريم إنتساب الإنسان إلى غير أبيه وتوليه غير مواليه

روينا من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعًا: "من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه، فالجنة عليه حرام"

(6)

.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [28 - (2077)] كتاب اللباس والزينة، [4] باب النهي عن لبس الرجل الثوب المعصفر.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [27 - (2077)] كتاب اللباس والزينة [4] باب النهي عن لبس الرجل الثوب المعصفر. والبيهقي في السنن الكبرى [5/ 60]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [4327]. وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح [10/ 304]. وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة [1704].

(3)

أخرجه أبو داود في سننه [2873] كتاب الوصايا، باب ما جاء متى ينقطع اليتم، والبيهقي في السنن الكبرى [6/ 57، 7/ 461]، وذكره الحافظ في الفتح [7/ 150]، وعبد الرزاق في مصنفه [11450، 13899، 15919]، والسيوطي في الدر المنثور [1/ 288]، والطحاوي في مشكل الآثار [1/ 280].

(4)

قوله: مصمته اسم فاعل من أصمت بمعنى صمت أي ساكتة.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه [3834] كتاب مناقب الأنصار [26] باب أيام الجاهلية، والدارمي في سننه [26] في المقدمة.

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه [6766] كتاب الفرائض، [29] باب من ادعى إلى غير أبيه. ومسلم =

ص: 490

ومن حديث أبى هريرة مرفوعًا: "لا ترغبوا عن آبائكم فمن رغب عن أبيه فهو كفر"

(1)

. أخرجاهما.

وروينا من حديث يزيد بن شريك بن طارق قال: رأيت عليا رضي الله عنه على المنبر يخطب وسمعته يقول: لا واللَّه ما عندنا من كتابٍ نقرؤه إلا كتاب اللَّه وما في هذه الصحيفة، فنشرها فإذا فيها أسنان الإبل، وأشياء من الجراحات وفيها قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"المدينة حرام ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين لا يقبل اللَّه منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلًا، ومن والى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلًا، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلًا"

(2)

أخرجاه.

ذمة المسلمين: عهدهم وأيمانهم.

وأخفره: نقض عهده.

= في صحيحه [114 - (63)] كتاب الإيمان، [27] باب بيان حال إيمان من رغب عن أبيه وهو يعلم. قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم: "فالجنة عليه حرام" ففيه تأويلان أحدهما أنه محمول على من فعله مستحلا له، والثاني: أن جزاءه أنها محرمة عليه أولا عند دخول الفائزين وأهل السلامة ثم إنه قد يجازي فيمنعها عند دخولهم ثم يدخلها بعد ذلك. [النووي في شرح مسلم [2/ 45] طبعة دار الكتب العلمية].

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [6768] كتاب الفرائض، [29] باب من ادعى إلى غير أبيه. ومسلم في صحيحه [113 - (62)] كتاب الإيمان، [27] باب بيان حال إيمان من رغب عن أبيه وهو يعلم. وأحمد في مسنده [2/ 526]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [1/ 368]، وأبو عوانة في مسنده [1/ 24].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [1870] كتاب فضائل المدينة، باب حرم المدينة. ورقم [3172] كتاب الجزية والموادعة، باب ذمة المسلمين وجوارهم واحدة يسعى بها أدناهم ورقم [6755] في الفرائض، [21] باب إثم من تبرأ من مواليه. ورقم [7300] كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من التعمق والتنازع في العلم والغلو في الدين والبدع. ومسلم في صحيحه [18 - (1508)]، [19]، ورقم [20 - (1370)] كتاب العتق [4] باب تحريم تولي العتيق غير مواليه. [قال النووي قوله صلى الله عليه وسلم:"من تولى قومًا بغير إذن مواليه" فقد احتج به قوم على جواز التولي بإذن مواليه، والصحيح الذي عليه الجمهور أنه لا يجوز وإن أذنوا كما لا يجوز الانتساب إلى غير أبيه وإن أذن أبوه فيه، وحملوا التقييد في الحديث على الغالب لأن غالب ما يقع هذا بغير إذن الموالي فلا يكون له مفهوم يعمل به. [النووي في شرح مسلم [10/ 127] طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 491

والصرف: التوبة، وقيل الحيلة.

والعدل: الفداء.

وروينا من حديث أبي ذر مرفوعًا: "ليس من رجل ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه إلا كفر، ومن ادعى ما ليس له فليس منا، وليتبوأ مقعده من النار ومن دعا رجلًا بالكفر أو قال: عدو اللَّه وليس كذلك إلا حار عليه"

(1)

. أخرجاه.

واللفظ لمسلم.

‌فصل في التحذير من ارتكاب ما نهى اللَّه عز وجل أو رسوله

قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}

(2)

الآية وقال: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}

(3)

.

وقال: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ}

(4)

الآية.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إن اللَّه تعالى يغار وغيرة اللَّه أن يأتي المرء ما حرم اللَّه عليه"

(5)

أخرجاه

‌فصل ما يقوله وبفعله من ارتكاب ما نهي عنه

قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ}

(6)

.

وقال {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ}

(7)

الآية.

وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً}

(8)

إلى قوله {الْعَامِلِينَ} .

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [4/ 219]، ومسلم في صحيحه [112 - (61)] كتاب الإيمان [27] باب بيان حال إيمان من رغب عن أبيه وهو يعلم. وأحمد في مسنده [5/ 166] المنذري في الترغيب والترهيب [3/ 73]، والقرطبي في تفسيره [14/ 121].

(2)

سورة النور [63].

(3)

سورة آل عمران [28، 30].

(4)

سورة هود [102].

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه [5223] كتاب النكاح، [108] باب الغيرة، مسلم في صحيحه [36] كتاب التوبة، والترمذي [1168]، وأحمد في مسنده [2/ 287] المنذري في الترغيب والترهيب [3/ 242]، والبيهقي في السنن الكبرى [10/ 225]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [3310]، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين [5/ 360].

(6)

سورة الأعراف [200].

(7)

سورة الأعراف [201].

(8)

سورة آل عمران [135].

ص: 492

وقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ}

(1)

.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من حلف فقال في حلفه باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا اللَّه، ومن قال لصاحبه تعال أقامرك، فليتصدق"

(2)

.

أخرجاه، آخر المناهي وللَّه الحمد، وعدة أحاديثه وجملتها نحو الثلاثمائة.

(1)

سورة النور [31].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [6650] كتاب الأيمان والنذور، [5] باب لا يحلف باللات والعزى ولا بالطواغيت. ومسلم في صحيحه [5 - (1647)] كتاب الإيمان [2] باب من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا اللَّه. وقال النووي: إنما أمر بقول لا إله إلا اللَّه لأنه تعاطى تعظيم صورة الأصنام حين حلف بها قال أصحابنا: إذا حلف باللات والعزى وغيرهما من الأصنام أو قال: إن فعلت كذا فأنا يهودي ونصراني أو بريء من الإسلام أو بريء من النبي صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك لم تنعقد يمينه بل عليه أن يستغفر اللَّه تعالى ويقول: لا إله إلا اللَّه ولا كفارة عليه سواء فعله أم لا هذا مذهب الشافعي ومالك وجماهير العلماء، وقال أبو حنيفة تجب الكفارة في كل ذلك إلا في قوله أنا مبتدع أو برئ من النبي صلى الله عليه وسلم أو اليهودية. واحتج بأن اللَّه تعالى أوجب على المظاهر الكفارة لأنه منكر من القول وزور، والحلف بهذه الأشياء منكر وزور. واحتج أصحابنا والجمهور بظاهر هذا الحديث فإنه صلى الله عليه وسلم إنما أمره يقول لا إله إلا اللَّه ولم يذكر كفارة، ولأن الأصل عدمها حتى يثبت فيها شرع، وأما قياسهم على الظهار فينتقض بما استثنوه واللَّه أعلم. [النووي في شرح مسلم [11/ 90] طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 493

‌مجلس في الصدقة والإيثار والمواساة

قال اللَّه تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}

(1)

وهو لائح من مدح الإيثارة وأهله.

وقال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)}

(2)

وهو محتمل لما ترجمنا به وللجود أيضًا وهذه صفة عباد اللَّه الذين يشربون من كافور، ومن توقى شر ذلك اليوم يلقى نضرة وسرورًا، وما أعظمه من وصف.

وروينا في صحيح مسلم من حديث أبي أمامة مرفوعًا: "يا ابن آدم إنك أن تبذل الفضل خير لك، وأن تمسكه شرٌّ لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى"

(3)

.

وروينا في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال جاء رجل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود، فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، ثم أرسل إلى أخرى فقالت مثل ذلك حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا، والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء.

فقال: "من يُضَيِّف هذا الليلة رحمه الله".

فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول اللَّه، فانطلق به إلى رحلة، فقال لامرأته هل عندك شيء؟ قالت: لا، إلا قوت صبياني.

(4)

.

(1)

سورة الحشر [9].

(2)

سورة الإنسان [8].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [97 - (1036)] كتاب الزكاة، [32] باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى وأن اليد العليا هي المنفقة وأن السفلى هي الآخذة. والترمذي في سننه [2343] كتاب الزهد، [32] باب منه. ما جاء في الزهادة في الدنيا. والبيهقي في السنن الكبرى [4/ 182]، المنذري في الترغيب والترهيب [1/ 590، 2/ 49]، والسيوطي في الدر المنثور [1/ 254].

(4)

هذا محمول على أن الصبيان لم يكونوا محتاجين إلى الأكل وإنما تطلبه أنفسهم على عادة الصبيان من غير جوع يضرهم فإنهم لو كانوا على حاجة بحيث يضرهم ترك الأكل لكان إطعامهم واجبًا ويجب تقديمه على الضيافة، وقد أثنى اللَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل وامرأته فدل على أنهما لم يتركا واجبًا بل أحسنا وأجملا رضي الله عنهما. [النووي في شرح مسلم [14/ 12] طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 494

قال: فعلليهم بشيء، فإذا دخل ضيفنا فأطفئ السراج وأريه أنا نأكل، فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه، قال: فقعدوا وأكل الضيف.

فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لقد عجب اللَّه من صنيعكما بضيفكما الليلة"

(1)

وهو أبلغ مدح مرغب في ذلك في الإثيار ومبين أنه من اللَّه تعالى بمكان، كما يشعر به قوله صلى الله عليه وسلم:"لقد عجب اللَّه" إلى آخره.

وفيه من أسباب الإيثار تعظيم الحقوق المشعر به قول الأنصاري: أكرمي ضيف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

وروينا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "طعام الإثنين كافي الثلاثة، وطعام الثلاثة كافي الأربعة"

(2)

.

ولمسلم: "طعام الواحد يكفي الإثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية"

(3)

.

فيه دفع خصاصة المواسي إذا واسا من كفايته.

وروينا في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما نحن في سفر مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له فجعل يصرف بصره يمينًا وشمالًا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له"

(4)

.

قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [5/ 42] ومسلم في صحيحه [173 - (2054)] كتاب الأشربة، [32] باب إكرام الضيف وفضل إيثاره والبيهقي في السنن الكبرى [4/ 185] والتبريزي في مشكاة المصابيح [6252]، والعراقي في المغنى عن حمل الأسفار [3/ 252].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [5392] كتاب الأطعمة، باب طعام الواحد يكفي الاثنين. ومسلم في صحيحه [178 - (2058)] كتاب الأشربة، [33] باب فضيلة المواساة في الطعام القليل، وأن طعام الاثنين يكفي الثلاثة ونحو ذلك. وأحمد في مسنده [2/ 244]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [4177].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [179 - (2059)] كتاب الأشربة، [33] باب فضيلة المواساة في الطعام القليل، وأن طعام الاثنين يكفي الثلاثة ونحو ذلك. والترمذي في سننه [1820]، وابن ماجه في سننه [3254]، والطبراني في المعجم الكبير [7/ 278، 10/ 126]، وابن أبي شيبه في مصنفه [8/ 134]، وعبد الرزاق في مصنفه [19557]، وأبو نعيم في حلية الأولياء [9/ 28]، والهيثمي في مجمع الزوائد [5/ 21].

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [18 - (1728)] كتاب اللقطة [4] باب استحباب المواساة بفضول المال. والبيهقي في السنن الكبرى [4/ 182]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [3898].

ص: 495

قلت: هو مشتمل على أنواع من البر.

وصرفه البصر إشارة إلى السؤال.

وفي الحديث السالف صدح بأنه مجهود فلا منجا بعد بؤس.

(1)

.

وروينا في صحيح البخاري من حديث سهل بن سعد في قصة البردة وأنه صلى الله عليه وسلم أخذها، وأن سائلا سألها فدفعها إليه رجاء أن تكون كفنه فكانت كفنه.

ولو ذكر في باب الجود كما فعل القشيري لكان أجود.

وروينا في الصحيحين من حديث أبي موسى مرفوعًا: "إن الأشعرين

(2)

إذا أرملوا في الغزو، وقل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان في ثوب واحد، ثم اقتسموا بينهم في إناء واحد بالسويَّة، فهم مني وأنا منهم"

(3)

.

معنى أرملوا: فرغ زادهم أو قارب الفراغ.

وأما الحكايات: فالأولى عن الشبلي قال: خرجت ذات يوم أريد البادية فرأيت شابًا صغيرا نحيف الجسم أشعث أغبر عليه ثياب رثة، وهو جالس في الجبانة يمرغ خديه بين القبور وجعل يرمق السماء تارة بعد تارة، ويحرك شفتيه وتسيل الدموع من عينية وهو مستغرق في الذكر والاستغفار، فلا يشغله شاغل عن التسبيح والتقديس والتحميد والتعظيم، فلما رأيت الشاب على تلك الحال مالت نفسي إليه وطابت إلى لقائه فتركت الطريق التي أروح عليها وقصدت نحوه فلما رآني أقبلت إليه انتفض من مكانه وقام يمشي هاربًا فنهضت في إثره لعلى ألحقه فلم أقدر على إدراكه فقلت له: رفقًا يا ولي اللَّه، فقال: اللَّه.

(1)

قال النووي في الحديث المتقدم: في هذا الحديث الحث على الصدقة والجود والمواساة والإحسان إلى الرفقة والأصحاب والاعتناء بمصالح الأصحاب، وأمر كبير القوم أصحابه بمواساة المحتاج وأنه يكتفي في حاجة المحتاج بتعرضه للعطاء وتعريضه من غير سؤال وهذا معنى قوله فجعل يصرف بصره أي متعرضًا لشيء يدفع به حاجته، وفيه مواساة ابن السبيل والصدقة عليه إذا كان محتاجًا وإن كان له راحلة وعليه ثياب أو كان موسرًا في وطنه ولهذا يعطي من الزكاة في هذه الحال واللَّه أعلم. [النووي في شرح مسلم (12/ 30)].

(2)

في هذا الحديث فضيله الأشعريين وفضيلة الإيثار والمواساة وفضيلة خلط الأزواد في السفر وفضيلة جمعها في شيء عند قلتها في الحضر ثم يقسم، وليس المراد بهذا القسمة المعروفة في كتب الفقه بشروطها ومنعها في الربويات واشتراط المراساة وغيرها، وإنما المراد هنا إباحة بعضهم بعضًا ومواساتهم بالموجود. [النووي في شرح مسلم [16/ 52] طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [3/ 181]، ومسلم في صحيحه [167 - (2500)] كتاب فضائل الصحابة، [39] باب من فضائل الأشعريين. والبيهقي في السنن الكبرى [10/ 132].

ص: 496

فقلت: بحقه إلا ما صبرت، فأشار بأصبعه لا أفعل، وقال: اللَّه، فقلت له إن كان حقا ما تقول فأرني صدقك مع اللَّه، فنادي بصوت عال يا اللَّه، فوقع في الأرض مغشيا عليه، فدنوت منه فحركته فإذا هو ميت من ساعته، فتوهمت من ذلك وتعجبت من حالة صدقه مع اللَّه تعالى.

وقلت: يختص برحمته من يشاء، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه ثم تركته في موضعه وسرت إلى حي من الأحياء لآخذ في جهازه وإصلاح شأنه.

فلما رجعت إليه حجب عني، فطلبته في المكان فلم أجد له أثرًا ولا سمعت له خبرًا، فبقيت متحيرًا في أمر هذا الشاب وقلت: من سبقني إليه فسمعت قائلا يقول: يا شبلي قد كفيت أمر الفتى وما تولاه إلا الملائكة فعليك أنت بعبادة ربك، وأكثر الصدقة من مالك، فما بلغ الفتى ما بلغ إلا بصدقته يومًا في الدهر؟

فقلت: سألتك ياللَّه إلا ما أخبرتيني بصدقته يوما في الدهر ما هي؟.

فقال: يا شبلي إن هذا الفتى كان في أول عمره مذنبا عاصيا فاسقا زانيا فعرض اللَّه عليه رؤيا أفزعته وأتلفته وهي أنه رأى في المنام إحليله قد رجع ثعبانًا ودار بفيه ثم انطلق من فيه لهب النار فأحرقه حتى عاد كالفحمة السوداء فقام مسرعًا مرعوبًا وخرج فارًا بنفسه مشتغلًا بعبادة ربه، وله اليوم منذ رجع إلى الطاعة اثني عشرة سنة وهو على حالة التضرع والخشوع.

فلما كان أمس وقف له سائل سأله قوت يومه فخلع ثيابه وسلمها إليه، ففرح السائل بذلك وبسط كفيه ودعا له بالمغفرة، فأجاب اللَّه دعاءه فيه ببركة الصدقة التي فرَّحَهُ بها كما جاء في الحديث:"اغتنموا دعوة السائل عند فرحة قلبه بالصدقة".

الثانية: عن أبي جعفر بن خطاب ويقال إنه من الأبدال، قال: وقف على بأبي سائل، فقلت لزوجتي: هل معك شيء، قالت: أربع بيضات.

فقلت ادفعيهن للسائل، ففعلت.

فلما انصرف السائل أهدي إلي بعض إخواني مخلاة فيها بيض فقلت لزوجتي كم بيضة فيها؟

فقالت ثلاثون بيضة.

فقلت لها: ويحك أعطيت السائل أربع بيضات وجاءت ثلاثون أين حساب هذا؟

قالت: هن أربعون إلا عشرًا مكسورات.

وقيل: في هذه الحكاية كان ثلاث من البيض التي أعطت للسائل صحاح وواحدة مكسورة، فجاء بكل واحدة منهن عشرة على صفتها.

ص: 497

الثالثة: عن أبي أمامة الباهلي أنه كان يحب الصدقة ويجمع لها الذهب والدراهم والفلوس وكان لا يقف به سائل إلا أعطاه ما يتهيأ له حتى يضع في يد أحدهم البصلة.

قالت مولاته: فأصبحنا ذات يوم وليس في بيته من الطعام شيء، ولم يكن عنده غير ثلاثة دنانير، فوقف به سائل فأعطاه دينارًا، ثم وقف آخر فأعطاه الثاني، ثم وقف آخر فأعطاه الثالث.

قالت فغضبت وقلت: لم يبق لنا شيء، فاستلقى على فراشه وأغلقت عليه باب البيت حتى أذن المؤذن بالظهر فجئته وأيقظته فراح إلى مسجده صائمًا.

فرفقت عليه واستقرضت، ما اشتريت به عشاء وهيأت سراجًا وصنعت مائدة، ودنوت من فراشه لأمهده له، فرفعت الوسادة فإذا بذهب، فقلت في نفسي ما صنع الذي صنع إلا ثقته بما جاء به، فعددتها فإذا هي ثلاثمائة دينار فتركتها على حالها حتى انصرف من صلاة العشاء.

فلما دخل ورأى ما هيأت له حمد اللَّه وتبسم في وجهي فقال: هذا خير من غيره، فجلس يتعشى فقلت: يغفر اللَّه لك ورفعت الوسادة.

فلما رأى ما تحتها فزع وقال: ويحك ما هذا؟.

قالت: لا علم لي به إلا أني وجدته على ما ترى فكثر فزعه وعلم أن ذلك بسبب الصدقة بالثلاثة دنانير وأن اللَّه تعالى عوضه ذلك.

الرابعة: حكى أن امرأة تصدقت برغيف على سائل، ثم خرجت تحمل غداء زوجها، وكان يحصد زرعه، فمرت بروضة ومعها ابن لها، وإذا بسبع قد التقم ابنها وإذا يد قد لطمت السبع، فقذف الطفل من فيه.

وإذا بصوت يسمع منه خذي ولدك فقد جازيناك لقمة بلقمة.

الخامسة: عن عطاء قال: كان أبو عبد الرحمن بن حبيب يؤتي بالطعام إلى المسجد فربما استقبلوه في الطريق فيطعمه للمساكين فيدعون له بالبركة فيرد عليهم دعاءهم ويقول: قالت عائشة: "إذا تصدقتم فدعى لكم فردوا الدعاء حتى يبقى لكم أجر ما تصدقتم به".

السادسة: كان علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب يحمل جراب الخبز على ظهره ويتصدق به ليلًا ويقول: إن صدقة السر تطفئ غضب الرب، وكان إذا أتاه سائل رحب به وقال: مرحبًا بمن يحمل زادي إلى الآخرة.

السابعة: قال سفيان: جاء رجل من أهل الشام فقال: دلوني على صفوان بن

ص: 498

سليم

(1)

فإني رأيته دخل الجنة فقلت: بأي شيء؟ قال: بقميص كساه إنسانا قال بعض إخوان صفوان فسألته عن القميص فقال: خرجت ليلة على المسجد في ليلة باردة فإذا برجل عار، فنزعت قميصي فكسوته.

وقال أبو مروان: انصرفت مع صفوان إلى منزله فجاء بخبز يابس فوقف ببابه سائل، فأعطاه شيئًا فاتبعته لأنظر ما أعطاه فإذا هو يقول: أعطاه اللَّه أفضل ما أعطى أحدًا من خلقه.

فقلت له: ماذا أعطاك؟

قال: أعطاني دينارًا.

فائدة: قال بشر بن الحارث: الصدقة أفضل من الحج، قيل ولم ذاك؟

قال: لأن الحاج يركب ويرجع فيراه الناس، وذاك يعطي سرًا لا يراه إلا الرب تعالى.

الثامنة: حكى أنه كان قاضي الري غني، فجاءه فقير يوم عاشوراء

(2)

فقال: أعز اللَّه القاضي أنا رجل فقير ذو عائلة وقد جئتك متشفعًا بحرمة هذا اليوم لتعطينني عشرة أمنان خبزًا، وخمسة أمنان لحمًا ودرهمين.

فوعده القاضي على وقت الظهر فدافعه إلى العصر، فلما جاءه العصر لم يعطه شيئًا.

فذهب الفقير منكسرًا، فمر بنصراني جالس بباب داره فقال له بحق هذا اليوم أعطني شيئًا.

فقال النصراني: وما هذا اليوم؟

فذكر له الفقير من صفاته شيئًا.

فقال لي النصراني اذكر حاجتك؟ فقد أقسمت على تعظيم الحرمة، فذكر له ما

(1)

صفوان بن سليم أبو عبد اللَّه وقيل: أبو الحارث القرشي المدني الزهري الفقيه، ثقة، مفت عابد، رمى بالقدر، أخري له: أصحاب الكتب الستة، توفي سنة [132، 133، 124]. ترجمته: تهذيب التهذيب [4/ 425]، تقريب التهذيب [1/ 368]، الكاشف [2/ 29] تاريخ البخاري الكبير [4/ 307]، تاريخ البخاري الصغير [2/ 19]، الجرح والتعديل [4/ 1858]، سير الأعلام [5/ 364]، والوافي بالوفيات [16/ 317]، الثقات [6/ 468].

(2)

اتفق العلماء على أن صوم يوم عاشوراء سنة ليس بواجب واختلفوا في حكمه في أول الإسلام حيث شرع صومه قبل صوم رمضان فقال أبو حنيفة كان واجبًا، واختلف أصحاب الشافعي على وجهين أشهرهما أنه لم يزل سنة من حين شرع، والثاني كان واجبا كقول أبي حنيفة. [النووي في شرح مسلم [8/ 4، 5، طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 499

سلف فأعطاه عن الخبز عشرة أقفز حنطة، وعن اللحم مائة، وعن الدرهمين عشرين درهما.

وقال هذا لك ولعيالك ما دمت حيا في كل شهر كرامة لهذا اليوم.

فذهب الفقير إلى منزله، فلما كان الليل ونام القاضي سمع هاتفًا: ارفع رأسك، فرفع رأسه فأبصر قصرًا مبنيا بلبنة من فضة ولبنة من ذهب، وقصرًا من ياقوته يبين ظاهره من باطنه.

فقال: إلهي ما هذان؟ فقيل له: هذان كانا لك لو قضيت حاجة الفقير، فلما رددته صارا لفلان النصراني.

فانتبه مرعوبا ينادي بالويل فغدا على النصراني.

فقال له: ما الذي فعلت البارحة من الخير؟

قال: وكيف ذلك؟

فذكر له الرؤيا، ثم قال: بعني الجميل الذي فعلته مع الفقير بمائة ألف درهم.

فقال: لا أبيع ذلك بملئ الأرض ذهبًا.

ثم قال ما أحسن معاملة هذا الرب أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدًا رسول اللَّه، وإن دينه هو الحق.

لا يلحقنَّك ضجرة من سائل

فدوام عزك أن تُرَى مسئولًا

لا تصرفنَّ بالرد وجه مؤمل

فلخير يومك أن ترى مأمولًا

واعلم بأنك عن قليل صائر

خيرًا فكن خيرًا يروى جميلًا

يلقى الكريم فيستدل ببشره

وترى العبوس على اللئيم ذليلًا

وما أحسن قول ذلك السائل وقد وقف على جمع رحمه الله: من جاد من يسره، أو آثر من قلة أو واسا من كفاف؟ فقالوا: لم يترك لأحد منا عذرًا.

ص: 500

‌مجلس في الجد في العمل وترك العجب به

قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ}

(1)

الآية.

روينا في الصحيحين من حديث عائشة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: كان يقوم حتى تنفطر قدماه، فقيل له: لم تصنع هذا يا رسول اللَّه وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أفلا أكون عبدًا شكورًا"

(2)

.

وروينا في جامع الترمذي من حديث أنس مرفوعًا: "لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أكبر منه العجب"

(3)

.

ولنذكر من الحكايات ما يليق بذلك:

فالأولى: حكى أن عيسى صلى الله عليه وسلم مر هو ورجل من الحواريين بلصٍّ في قلعة له، ألقى اللَّه في قلبه التوبة فقال لنفسه: هذا عيسى روح اللَّه، وهذا فلان حواريه وأنت يا شقي لص بني إسرائيل قطعت الطريق وأخذت الأموال وسفكت الدماء.

ثم هبط إليهما تائبًا على ما كان منه، فلما لحقهما قال لنفسه تريدين أن تمشي معهما، لست لذلك أهلًا، بل خلفهما كالخاطئ المذنب.

فالتفت إليه الحواري

(4)

فعرفه فقال: انظر إلى هذا الخبيث ومشيه خلفنا.

فاطلع اللَّه على ما في قلبه من الندامة وتوبته، وازدراء الحواري به وتفضيله نفسه

(1)

سورة التوبة [105].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه كتاب التهجد، [6] باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم، في أول الباب تعليقًا، عن عائشة. وقد رواه البخاري عن المغيرة بن شعبة [1130] كتاب التهجد، [6] باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم، وانظر رقم [4836، 6471]، ومسلم في صحيحه [81 - (2820)] كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، [18] باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة، عن عائشة. وعن المغيرة في مسلم [79 - (2819)]، [80] كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، [18] باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [9 - (2748)] كتاب التوبة، [2] باب سقوط الذنوب بالاستغفار التوبة، والترمذي [3539] كتاب التوبة، باب في فضل التوبة والاستغفار، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 571]، والعجلوني في كشف الخفا [2/ 231].

(4)

الحواريُّ: الخالص المُنَقَّى من كل عيب، والصاحب والناصر، جمعها: حواريون، والحواريون في القرآن الكريم أنصار عيسى صلى الله عليه وسلم.

ص: 501

عليه وعجبه بها.

فأوحى اللَّه إلى عيسى أن مُرْ الحواري واللص أن يستأنفا العمل جميعا، إن اللص قد غفرت له ما مضى لندامته.

وأما الحواري فقد حبط عمله لعجبه بنفسه وازدرائه.

الثانية: قال أبو حازم إن العبد ليعمل الحسنة

(1)

تسره حتى يعملها، وما خلق اللَّه سيئة أضرَّ له، فإن العبد ليعمل السيئة تسوءه حتى يعملها، وما خلق اللَّه من حسنه أنفع له منها وذلك أن العبد حين يعمل الحسنة يتحير فيها ويعجب نفسه ويرى أن له فضلًا على غيره، ولعل اللَّه يحبطها ويحبط معها عملًا كثيرا.

وإن العبد ليعمل السيئة تسوءه ولعل اللَّه يحدث له بها وجلا فيلقي اللَّه وإن خوفها لفي جوفه.

الثالثة: قال سلمان الفارسي رضي الله عنهما: إذا أسأت سيئة في سريرة، فأحسن حسنة في علانية ليكون هذه بهذه أخرى.

وقال علي بن أبي طالب كرم اللَّه وجهه: أوحى اللَّه تبارك وتعالى إلى نبي من الأنبياء أنه ليس أهل بيت ولا أهل دار ولا أهل قرية يكونون على ما أحب فيتحولون إلى ما أكره إلا تحولت لهم عما يحبون إلى ما يكرهون، وليس من أهل بيت ولا أهل دار ولا أهل قرية يكونون لي على ما أكره فيتحولون من ذلك إلى ما أحب إلا تحولت لهم عما يكرهون إلى ما يحبون.

الرابعة: قال أبو حازم لا يحسن أحد فيما بينه وبين اللَّه إلا أحسن اللَّه ما بينه وبين العباد ولا يعوز ما بينه وبين اللَّه إلا أعوز اللَّه ما بينه وبين العباد.

ولمصانعة وجه واحد أيسر من مصانعة الوجوه كلها.

الخامسة: قال يحيى جاء سائل إلى ابن عمر فقال لإبنه أعطه دينارًا، فلما انصرف قال له ابنه تقبل اللَّه منك يا أبتاه.

فقال لو علمت أن اللَّه تقبل مني سجدة واحدة وصدقة درهم لم يكن غائب أحب إلي من الموت.

(1)

روى مسلم في صحيحه [203 - (128)] كتاب الإيمان، [59] باب إذا هم العبد بحسنة كتبت وإذا هم بسيئة لم تكتب، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "قال اللَّه عز وجل: إذا همَّ عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإذا همَّ بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشرًا".

ص: 502

أتدري ممن يتقبل اللَّه؟ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}

(1)

.

أخرى: وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قال: ليس الخير أن يكثر مالك وتعظم دارك، ولكن الخير أن يكثر عملك ويعظم حلمك، فلا خير في الدنيا إلا لأحد رجلين:

رجل أذنب ذنوبًا فهو يدارك ذلك بتوبة.

أو رجل يسارع في الخيرات، ولا يقل عمل في تقوى وكيف يقل ما يتقبل.

أخرى: وقال أبو حازم عجبًا لقوم يعملون لدار يرحلون عنها كل يوم مرحلة، ويدعون أن يعملوا لدار يرحلون إليها كل يوم مرحلة.

أخرى: وقال محمد بن إسحاق: قال أبو حازم إن بضاعة الآخرة كاسدة فاستكثروا منها في أول كسادها فإنه لو جاء يوم نَفَاقِها لم يصلوا منها لا إلى قليل ولا إلى كثير.

السادسة: حكى أن بعض المرابطين بعسقلان قام ذات ليلة يريد التهجد على السطح فإذا هو بهاتف يقول: يا معشر العباد قسمت العبادة ثلاثة أجزاء أولها قيام الليل وثانيها: صيام النهار، وثالثها: الدعاء والاستغفار والتسبيح، وهذا خير القسمة، فخذوا منه بالحظ الأوفر فسقط العابد على وجهه لما دخله من الصوت.

السابعة: قال شقيق البلخي

(2)

: طلبنا خمسًا فوجدناها في خمس: طلبنا بركة القوت، فوجدناها في صلاة الضحى، وطلبنا ضياء القبور فوجدناه في صلاة الليل وطلبنا جواب منكر ونكير فوجدناه في قراءة القرآن وطلبنا عبور الصراط

(3)

فوجدناه

(1)

سورة المائدة [27]. أي ممن اتقى اللَّه في فعله ذلك، وروى ابن أبي حاتم بسنده عن أبي الدرداء قال: لئن استيقن أن اللَّه قد تقبل لي صلاة واحدة أحب إلي من الدنيا وما فيها أن اللَّه يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]. وعنه بسنده عن معاذ بن جبل قال: "يحبس الناس في بقيع واحد فينادي مناد أين المتقون؟ فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب اللَّه منهم ولا يستتر قلت: من المتقون؟ قال قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا العبادة فيمرون إلى الجنة". [تفسير ابن كثير (2/ 44، 45)].

(2)

شقيق بن سلمة أبو وائل الأسدي أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وكان من الأذكياء الحفاظ والأولياء العبَّاد، وكان ثقة كثير الحديث توفي سنة [82]، [99]، [100]، أخرج له أصحاب الكتب الستة. التقريب [1/ 354]، التهذيب [4/ 361].

(3)

مذهب أهل الحق إثباته، وقد أجمع السلف على إثباته وهو جسر على متن جهنم يمر عليه الناس كلهم، فالمؤمنون ينجون على حسب حالهم أي منازلهم والآخرون يسقطون فيها أعاذنا اللَّه الكريم منها وأصحابنا المتكلمون وغيرهم من السلف يقولون إن الصراط أدق من الشعرة وأحد من السيف. [النووي في شرح مسلم [3/ 19] طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 503

في الصوم والصدقة.

الثامنة: روى عن بشر الحافي أنه قال: رأيت رجلا عشية عرفة عليه الوله وهو يبكي وينتحب انتحابًا شديدًا ويقول: سبحان من لو سجدنا بالعيون له على شباك الشوك، والمحمي من الإبر، لم نبلغ العُشر من مِعْشَار نعمته، ولا العُشَيْر ولا عُشْرًا من العُشر.

وقال أيضا:

كم قد زللت فلم أذكرك في زللي

وأنت يا مالكي بالغيب تدركني

كم أكشف الستر جهلًا عند معصيتي

وأنت تلطف بي حلما وتسترني.

ثم غاب عني وحجب فلم أره، فسألت عنه فقيل لي هو أبو عبيد الخوَّاص، أحد الخواص له سبعون سنة ما رفع وجهه إلى السماء، فقيل له في ذلك.

فقال: إني لأستحي أن أرفع إلى المحسن وجهًا مسيئًا فواعجباه من مطيع يستحي ويتذلل مع إحسانه، ومن عاص لا يتذلل ولا يستحي من عصيانه.

التاسعة: عن بعض السلف أنه نام في وقت متوسدا، فأتاه آت في منامه فقال له: قل.

فقال: ما أقول؟ قال: قل.

يا خل إنك إن توسدت لينًا

وسدت بعد الموت (صم)

(1)

الجندل

فاعمل لنفسك في حياتك صالحًا

فلتندمنَّ من غد إذا لم تفعل

العاشرة: عن محمد بن السماك

(2)

قال: كان لي جار بالكوفة له ولد وله من قيام الليل وصيام النهار، وكان إذا جنه الليل يبكي وينشد:

لما رأيت الليل أقبل خاشعا

بادرت نحو مؤانسي بنحيبي

أبكي فيقلقني إليه صبابتي

وأبيت مسرورًا بقرب حبيبي

فإذا كان آخر الليل يبكي ويقول عند السحر

ذكرت في الليل إذا لاحت معالمه

ما كان أنسى فيه لمولاي

ضمنت في القلب حبا قد كلفت به

واللَّه يعلم ما مكنون أحشائي.

(1)

كذا بالأصل.

(2)

محمد بن السماك أبو العباس العطار البصري المذكر الكوفي، ويقال محمد بن صبيح بن السماك، أخرج له أحمد في المسند، قال محمد بن عبد اللَّه بن نمير: حديثه ليس بشيء، ذكره ابن حبان في الثقات، توفي سنة [183]. تعجيل المنفعة [939] الجرح والتعديل [7/ 290].

ص: 504

قال ابن السماك: وكان أبوه شيخا كبيرًا فسألني يومًا أن أكلم ولده يرفق بنفسه.

فبينما أنا ذات يوم جالس على باب داري، ومعي جماعة من أصحابي إذ مر الغلام فناديته: يا فتى إلينا، فأقبل فتأملته، فإذا هو قد صار كالشنِّ البالي لو هبت الريح لرمت به من شدة الضعف، فسلم وجلس، فقلت حبيبي: إن اللَّه قد افترض عليك طاعة أبيك وطاعته، ونهاك عن معصيته كمعصيته.

وإن أباك قد أمرنا بأمر فتأذن لنا بالكلام فيه؟ فقال: يا عم لعلك تريد أن تأمرني بتقصير في العمل وترك المبادرة إلى اللَّه.

فقلت له: لا واللَّه بدون هذا، يردك هذا الشأن الذي تطلب إن شاء اللَّه.

فقال: هيهات إني بايعت على هذا الشأن فتية من الحي على السباق، فجروا واجتهدوا ودعوا فأجابوا ولم يبق غيري، وعملي يعرض عليهم كل يوم مرتين، فما يقولون إذا رأوا خللًا أو تقصيرا؟ ثم قال: يا عم إني بايعت على هذا الشأن فتية فجعلوا الليل لهم مطية.

فقطعوا بها عرض المفاوز وسموا بها ذري الشواهق وإذا أصبحوا نظرت إليهم قد ذبحهم الليل بسكاكين السهر، وفصلت أعضاؤهم بخناجر التعب وخمص البطون من (السدا)

(1)

.

لا يقر لهم قرار، ولا يجاورون الأشرار، دُعُوا فأجابوا الملك الجبار.

قال ابن السماك: فتركنا واللَّه في حيرة ومضى، وما كان إلا ثلاثة أيام حتى قيل: مات الفتى - رحمة اللَّه عليه.

الحادية عشر: عن بعضهم قال: سألت اللَّه تعالى أن يريني مقامات أهل المقابر، فرأيت في منامي في ليلة من الليالي كأن القيامة قد قامت والقبور قد انشقت، وإذا منهم النائم على السندس، ومنهم النائم على الحرير والديباج، ومنهم النائم على الريحان، ومنهم النائم على السرر، ومنهم الضاحك ومنهم الباكي.

فقلت: يا رب لو شئت ساويت بينهم في الكرامة قال: فنادى مناد من أهل القبور: يا فلان هذه منازل الأعمال، أما أصحاب السندس فهم أهل الخلق الحسن

(2)

. وأما أصحاب الحرير والديباج فهم الشهداء، وأما أصحاب الريحان فهم

(1)

كذا بالأصل.

(2)

روى الترمذي في سننه [1987] كتاب البر والصلة، باب ما جاء في معاشرة الناس، عن أبي ذر قال: قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "اتق اللَّه حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن" وقال أبو عيسى: حسن صحيح.

ص: 505

الصائمون وأما أصحاب الضحك فهم أهل التوبة، وأما أصحاب البكاء فهم المذنبون.

وأما أصحاب المراتب فهم المتحابون في اللَّه تعالى.

الثانية عشرة: قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رحمه الله نمت ليلة في سياحتي على رابية من الأرض فجاءت السباع فطافت بي وأقامت حولي إلى الصباح، فما وجدت أنسا وجدته تلك الليلة فلما أصبحت خطر لي أنه قد حصل لي شيء من مقام الأنس باللَّه، فهبطت واديا هناك فيه طيور حجل

(1)

لم أرها، فلما أحست بي طارت في دفعة واحدة كلها، فخفق قلبي رعبًا فسمعت قائلا يقول: يا من كان البارحة يأنس بالسباع، مالك تفزع لخفقات الحجل، ولكنك البارحة كنت بنا والآن أنت بنفسك.

وقال أيضًا: جعت مرة ثمانين يومًا، فخطر أنه قد حصل لي نصيب من هذا الأمر، وإذا بامرأة خارجة من مغارة كان وجهها ضياء الشمس حسناء وهي تقول: منحوس جاع ثمانين يوما فأخذ يُدِلُّ على اللَّه بعمله فأنا لي ستة أشهر لم أذق طعامًا.

وقال أيضا: قلت يوما وأنا في مفازة في سياحتي: إلهي متى أكون لك عبدًا شكورًا.

فسمعت قائلا يقول إذا لم ترى منعما عليه غيرك فقلت: إلهي كيف لا أرى مُنْعَمًا عليه غيري وقد أنعمت على الأنبياء والعلماء والملوك.

فإذا قائل يقول: لولا الأنبياء لما اهتديت، ولولا العلماء لما اقتديت، ولولا الملوك لما أمنت والكل نعمة مني عليك.

الثالثة عشرة: قال إبراهيم الخواص: دخلت البادية فأصابتني شدة فكابدتها وصابرتها.

فلما دخلت مكة داخلني شيء من الإعجاب.

فنادتني عجوز من الطواف يا إبراهيم كنت معك في البادية، فلم أكلمك لأني لم أرد أن أشغل سرك عنه، أخرج هذا الوسواس عنك.

الرابعة عشرة: قال أبو الحسن المزيِّن دخلت البادية على التجريد حافيًا حاسرًا، فخطر ببالي أنه ما دخل البادية في هذه السنة أحد أشد تجريدًا مني، فحدثني إنسان من ورائي وقال: يا حجام كم تمنيك نفسك بالأباطيل.

وأنشدوا:

(1)

الحجل: طائر في حجم الحمام أحمر المنقار والرجلين طيب اللحم.

ص: 506

نظرت في الراحة الكبرى فلم أرها

فقال إلا على حسن من التعب.

والجد منها بعيد في تطلبها

وقد تدرك بالتقصير واللعب.

الخامسة عشرة: قال أبو يزيد: جمعت فكري وأحضرت ضميري ومثلت نفسي واقفا بين يدي ربي فقال لي: يا أبا يزيد بأي شيء أحببتني؟.

قلت: يا رب بالزهد في الدنيا.

قال: إنما كان مقدار الدنيا عندي جناح بعوضه.

ففيما زهدت منها؟، قلت: إلهي وسيدي أستغفرك من هذه الحالة جئت بالتوكل.

قال: يا أبا يزيد ألم أكن ثقة فيما ضمنت لك حين توكلت علي، فقلت: إلهي وسيدي أستغفرك من هاتين الحالتين، جئتك بك أو قال بالإفتقار إليك، فقال: عند ذلك قبلناك. وأنشدوا:

دعوه لا تلوموه دعوه

فقد علم الذي لم تعلموه

علم الهدى فسما إليه

وطالب مطلبا لم تطلبوه

أجاب دعاءه لما دعاه

وقام بحقه وأضعتموه.

بنفسي ذاك من ممدوح قرب

وطاعم مطعم لم تطعموه.

ص: 507

‌مجلس في السخاء

قال اللَّه تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ}

(1)

الآية.

وروينا في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنهما مرفوعًا قال: "قال اللَّه عز وجل: (ابن آدم أنفق أنفق عليك)، وقال: يد اللَّه ملأى سخاء لا يغيضها نفقة شيء الليل والنهار"

(2)

وقد تصدق الصديق بكل ماله، وعمر بالنصف.

وروى أنه أصاب الناس مجاعة فاشترى حبيب العجمي طعاما وفرقه على الفقراء.

ثم أخاط أكياسًا وجعلها تحت رأسه، ثم دعا اللَّه فجاءه أصحاب الطعام يطلبون منه ثمنه، فأخرج حبيب تلك الأكياس فإذا هي مملوءة دراهم فوزنها فإذا هي قدر حقوقهم سواء فدفعها إليهم. وروى أنه أتاه سائل مرة، وقد عجنت امرأته عجينًا وذهبت تجيء بنار لتخبزه فقال للسائل: خذ العجين فأخذه فجاءت وقالت: أين هو؟، قال: ذهبوا به يخبزونه، فلما أكثرت عليه أخبرها بالقصة فقالت: سبحان اللَّه إنه لا بد لنا من شيء نأكله فإذا برجل قد جاء بجفنه عظيمه مملوءة خبزًا ولحمًا.

فقالت له: ما أسرع ما ردوه عليك، قد خبزوه وجعلوا معه لحمًا.

حكاية أخرى: حكى عن بعضهم أنه كان يتعبد في جبل ويؤتي برغيفين يأتيه بهما طائر أبيض، فجاءه مرة بهما فحضر سائل فأعطاه أحدهما، ثم جاءه آخر فأعطاه نصف الآخر.

ثم قال: واللَّه ما هذا النصف بالذي يغني عن هذا الفقير شيئًا ولا هذا النصف بالذي يكفيني ولشبع واحد خير من جوع اثنين، فدفع إليه النصف الآخر.

وبات طاويا، فأتي في منامه فقيل له: سل.

فقال: أسأل اللَّه المغفرة، فقيل له: إن هذا شيء قد أُعْطِيتَه، فسل غيره، فقال:

(1)

سورة البقرة [272].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [6/ 92، 9/ 150]، ومسلم في صحيحه [36 - (993)] كتاب الزكاة [11] باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلق. والمنذري في الترغيب والترهيب [2/ 48]، والتبريزي في مشكاة المصابيح [92]، والخرائطي في مكارم الأخلاق [56].

ص: 508

أسأل أن يغاث الناس وكان عام جدب، فأغيثوا ببركته وبركة دعائه.

حكاية ثالثة: قال ابن مسروق (اخترت)

(1)

أنا وأبو نصر المحب بالكوخ وعليه إزار له قيمة، وإذا بسائل يقول: شفيعي إليكم رسول اللَّه، فشق أبو نصر إزاره ودفع له نصفه، ثم قال: هذا بخيل، فأعطاه الباقي.

حكاية رابعة: عن سلمة بن سلمان قال: جاء رجل إلى ابن المبارك

(2)

وسأله أن يقضي عنه دينًا فكتب عبد اللَّه إلى وكيله فقال له الوكيل: كم عليك؟ قال سبعمائة درهم.

فكتبت له بسبعة آلاف، وكتب إلى عبد اللَّه بذلك وأخبره أن الغلال فنيت، فكتب إليه عبد اللَّه إن كانت فنيت فإن العمر أيضا قد فنى، فادفع له ما سبق قلمى به.

خامسا: قال الوليد بن يسار: جاءت امرأة إلى حسان بن أبي سنان فسألته شيئا فقال حسان لشريكه: زن لها درهمين، فوزن لها مائتين، فعتب في ذلك فقال: إني رأيتها شابة وخشيت أن تحملها الحاجة على ما لا ينبغي، فكرهت ذلك.

سادسة: عن حبيب العجمي أنه اشترى نفسه من اللَّه أربع مرات بأربعين ألف درهم، فأخرج عشرة آلاف وقال: يا رب اشتريت منك نفسي بهذه، ثم أخرج مثلها وقال: إلهي إن كنت قبلت الثالثة

(3)

فهذه شكرها.

سابعة: عن مالك بن أنس قال: كتبت إلى الليث بن سعد أسأله في قليل عصفر نصبغ به ثياب صبياننا فأرسل إلينا ما صبغنا به ثيابنا وثياب صبياننا وثياب جيراننا، وبعنا الفضلة بألف دينار.

ثامنة: عن شقيق قال: بينا نحن ذات يوم عند إبراهيم بن أدهم إذ مر رجل فقال: إبراهيم أليس هذا فلان؟.

قيل له: نعم، فقال لرجل عنده أدركه وقل له: لم لا تُسلِّم؟. فقال له: قال إن امرأته وضعت وليس عنده شيء، فخرج شبه المجنون قال: فأخبرت إبراهيم فقال: إنا للَّه وإنا إليه راجعون، كيف غفلنا عن صاحبنا حتى نزل به هذا الأمر؟

(1)

كذا بالأصل.

(2)

عبد اللَّه بن المبارك بن واضح، أبو عبد الرحمن الحنظلي التميمي مولاهم المروزي، ثقة ثبت فقيه عالم جواد مجاهد جمعت فيه خصال الخير، أخرج له أصحاب الكتب الستة، توفي سنة [181]. [التقريب (1/ 445)].

(3)

كذا بالأصل وأظنها: إن كنت قبلت الأولى فهذه شكرها ثم أخرج الثالثة وقال في الرابعة إن كنت قبلت الثالثة فهذه شكرها.

ص: 509

ثم قال: يا فلان ائت صاحب البستان فاستلف منه دينارين واشترى ما يصلحه بدينار، وأعطه الآخر، فاشتريت بالدينار من كل شيء، وأوقفت البعير ودفعت ما فيه لأهله وكان غائبًا والدينار الآخر، فقالت: على يدي من بُعِثَ هذا؟

قلت: على يد أخيه إبراهيم بن أدهم، فرفعت طرفها إلى السماء، وقالت: اللهم لا تنساها له.

تاسعة: عن بعض الصالحين قال: دخلت مسجدا لأصلي فيه، فإذا فيه رجل عابد، ورجل من التجار جالس قال: فسمعت العابد يقول يا سيدي ومولاي اشتهى عليك اليوم من الطعام لون كذا وكذا، ولون كذا وكذا من الحلوى.

فقال التاجر: واللَّه لو سألني لأعطيته، ولكن هذا يحتال عليَّ ويُرائى حتى أُعطيه، واللَّه لا أعطيه شيئًا.

فلما فرغ من دعائه نام في ناحية من المسجد، وإذا برجل قد دخل ومعه قعبة مغطاة، فنظر يمينا وشمالا فرأى العابد نائما فأيقظه وترك القعبة بين يديه والتاجر ينظر إليه، فوجد اللون الذي اشتهاه من الطعام والحلوى، فأكل منه قدر شهوته، وغطى القعبة وردها.

فقال التاجر للذي جاء بها سألتك باللَّه هل تعرف هذا الرجل قبل اليوم؟ قال: لا واللَّه ما أعرفه، وإنما أنا رجل حمال، وكنت قد اشتهيت على زوجتي وابني هذا اللون منذ سنة، فما طالت يدي إليه، وكان اليوم حملت لرجل فأعطاني مثقالين من الذهب فاشتريت به لحما وغيره، وأتيت به إلى منزلي فصنعته زوجتي فغلبتني عيني فنمت، فرأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: قدم اليوم عليكم ولي من أولياء اللَّه، وهو في المسجد، وقد اشتهى ما عملته زوجتك، فأحمله إليه يأكل منه شهوته، ويجعل اللَّه لك البركة فيما بقى وأنا الكفيل لك بالجنة.

فانتبهت وجئت به كما ترى.

فقال التاجر: قد سمعته يسأل اللَّه ذلك.

ثم قال له: كم أنفقت على هذا الطعام؟

قال: مثقالًا، فقال التاجر: خذ مني عشرة مثاقيل فاجعل لي في أجرك قيراطا.

قال: لا، قال خذ عشرين، قال: لا، قال: خذ خمسين، قال: لا، قال: خذ مائة، قال: لا واللَّه ما بعت شيئًا مما ضمنه لي رسول اللَّه وتكفله، ولو أُعْطِيتُ الدنيا جميعًا.

فلو كان لك نصيب من أجر شهوة هذا الولي لكنت سبقتني أنت إليه، ولكن يختص من يشاء قال: فندم التاجر حيث لا ينفعه الندم، وخرج من المسجد نادمًا على ما فاته.

ص: 510

عاشرة: قال بعض الصالحين: كان لي صديق ابتلى بالجذام حتى ذهبت يداه ورجلاه وعيناه، فأتيت به المجذومين وجعلته معهم، وكنت أتعاهده فغفلت عنه أيامًا ثم انتبهت وقلت: إني قد غفلت عنك.

فقال: إن لي من لا يغفل عني.

فقلت: واللَّه ما ذكرتك.

فقال: إن لي من يذكرني، ثم قال: إليك عني فقد شغلتني عن ذكر اللَّه، فلبثت أيامًا ثم جئت إليه فوجدته قد توفي، فأخرجت كفنًا فيه طول، فقطعت ما فضل عنه وكفنته ودفنته فرأيت في منامي رجلًا وقف عليَّ لم أر أحسن منه صورة.

ثم قال: بخلت علينا بكفن طويل، دونك وكفنك قد رددناه عليك.

وقد كفناه في السندس والإستبرق قال: فاستيقظت وإذا بالكفن عند رأسي، وأنشدوا:

لئن كانت الدنيا تعد نفيسة

فدار ثواب اللَّه أعلى وأنبل

وإن كانت الأقسام رزقا مقدرا

فقلة سعى المرء في الرزق أجمل

وإن كانت الأجساد للموت أنشئت

فقتل امرء بالسيف في اللَّه أفضل

وإن كان الأموال للترك جمعها

فما بال متروك به المرء يبخل

ص: 511

‌مجلس في بر الوالدين وصلة الرحم

قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}

(1)

الآية.

فقضى اللَّه تعالى بالوالدين إحسانا في سلك توحيده مفصلًا ما ينبغي معاملتهما به، وأن يبلغا أو أحدهما عند ولدهما الكبر من الوظائف العشر التي هي كف الأذى بنحو قوله لهما أف، واحتماله ولا ينهرهما فليس إلا قولًا كريمًا، وخفض الجناح لهما تواضعًا وتذللًا ورحمة ورقة وحنانا، أو الدعاء لهما يدا بالعجز عن مكافأتهما، والاعتراف بمكافأتهما بنحو {كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24] وإضمار حبهما وتعظيمهما والنصح لهما، ولعله المشار إليه بقوله تعالى:{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ} (*). وتدارك مما ربما وقع بغير اختيار من هفوة بالندم والاعتذار والاستغفار، وتلا في ذلك بالإحسان كما هو جلى من قوله تعالى:{فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)} (*).

وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} إلى قوله

(2)

: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 36] فأمر اللَّه تعالى بالوالدين إحسانا، وبذي القربى إلى آخره.

(1)

سورة الإسراء [23]. يقول تعالى آمرا بعبادته وحده لا شريك له فإن القضاء ههنا بمعنى الأمر، قال مجاهد:"وقضى" يعني وصى وكذا قرأ أُبَيُّ بن كعب وابن مسعود والضحاك ووصى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه" ولهذا قرن بعبادته بر الوالدين فقال: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} . تفسير ابن كثير [3/ 35].

(*) سورة الإسراء [25] قال سعيد بن جبير هو الرجل تكون منه البادرة إلى أبويه وفي نيته وقلبه أنه لا يؤخذ به، وفي رواية لا يريد إلا الخير بذلك فقال:{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ} [الإسراء: 25]، وقوله:{فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 25] قال قتادة: للمطيعين أهل الصلاة، وعن ابن عباس المسبحين. وفي رواية عنه المطيعين المحسنين، وقال بعضهم هم الذين يصلون العشاءين وقال بعضهم هم الذين يصلون الضحى، وقال شعبة عن يحيى ابن سعيد بن سعيد بن المسيب في قوله:{فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 25] قال الذين يصيبون الذنب ثم يتوبون ويصيبون الذنب ثم يتوبون. [تفسير ابن كثير (3/ 36)].

(2)

سورة النساء [36].

ص: 512

وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ}

(1)

أي أن تقطع.

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}

(2)

.

قلت: ووعدهم بنحو {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ}

(3)

.

وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا}

(4)

.

قلت: فأعظم به من موص لا ترد وصيته.

وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ}

(5)

.

وفيه تكرير الوصية معقبًا بذكر ما يكلف الوالد للولد، وتحمل من أجله وبإيجاب الشكر للَّه تعالى لهما.

وروينا في الصحيحين

(6)

من حديث عبد اللَّه بن مسعود سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى اللَّه؟ قال: "الصلاة على وقتها".

قلت: ثم أي؟، قال:"بر الوالدين"، قلت: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل اللَّه".

ففيه أن بر الوالدين أفضل من الجهاد في سبيله وفضل الجهاد لا ينحصر، فما أعلاها من رتبة. وروينا في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة:"لا يجزي ولد والدًا إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه"

(7)

.

ففيه أن الأبوة منزلة لا يجزيها الولد إلا أن يخرج الأب من رتبة الرق إلى كمال الحرية، الوجود بعد العدم، إذ منافعه لغيره وتصرفه مسلوب فوجوده لغيره.

وروينا في الصحيحين من حديثه أيضًا مرفوعًا: "من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر،

(1)

سورة النساء [1].

(2)

سورة الرعد [21].

(3)

سورة الرعد [22].

(4)

سورة العنكبوت [8].

(5)

سورة لقمان [14].

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه [2782] كتاب الجهاد والسير، [1] باب فضل الجهاد والسير، ومسلم في صحيحه [139 - (185)] كتاب الإيمان، [36] باب بيان كون الإيمان باللَّه تعالى أفضل الأعمال. وأحمد في مسنده [1/ 410، 439].

(7)

أخرجه مسلم في صحيحه [25] كتاب العتق، باب فضل عتق الوالد، وأبو داود في سننه [5137]، والترمذي [1906] كتاب البر والصلة، باب ما جاء في حق الوالدين، وابن ماجه في سننه [3659] كتاب الأدب، باب بر الوالدين، وأحمد في مسنده [2/ 230]، والبيهقي في السنن الكبرى [10/ 289]، والسيوطي في الدر المنثور [4/ 172]، وابن أبي شيبة في مصنفه [8/ 351].

ص: 513

فليقل خيرا أو ليصمت"

(1)

. فأهل البر والصلة هم المؤمنون باللَّه واليوم الآخر.

وروينا فيهما من حديثه أيضًا مرفوعًا: "إن اللَّه تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟

قالت: بلى يا رب، قال: فذاك لك"، ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "فاقرؤوا إن شئتم {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22)} [محمد: 22]

(2)

الآية.

وفي رواية البخاري: "فقال اللَّه تعالى: من وصلك وصلته ومن قطعك قطعته"

(3)

.

فبخاصة الصلة صلة الرب تعالى، فيا سعادة من حصلت له وأربح معاملته.

وروينا فيهما من حديثه أيضًا قال: جاء رجل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟، قال:"أمك"، قال ثم من؟، قال:"أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك". قال: ثم من؟ قال: "ثم أبوك"

(4)

.

وفي رواية: يا رسول اللَّه من أحق بحسن الصحبة قال: "أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك ثم أدناك أدناك"

(5)

. والصحابة بمعنى الصحبة، وقوله ثم أباك هكذا

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [6018] كتاب الأدب، [31] باب من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فلا يؤذ جاره. ومسلم في صحيحه [74 - (47)] كتاب الإيمان، [19] باب الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت إلا عن الخير وكون ذلك كله من الإيمان. والترمذي [1967] كتاب البر والصلة باب ما جاء في الضيافة كم هو، وابن ماجه في سننه [1971]، والبيهقي في السنن الكبرى [8/ 164].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه [5987] كتاب الأدب، [13] باب من وصل وصله اللَّه، ومسلم في صحيحه [16 - (2554)] كتاب البر والصلة والآداب، [6] باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها. والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 56]، والحاكم في المستدرك [2/ 254]، المنذري في الترغيب والترهيب [3/ 338].

(3)

البخاري في صحيحه [5988] كتاب الأدب، [13] باب من وصل وصله اللَّه.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [5971] كتاب الادب، [2] باب من أحق الناس بحسن الصحبة، ومسلم في صحيحه [1 - (2548)] كتاب البر والصلة والآداب، [1] باب بر الوالدين وأنهم أحق به. والترمذي [1897]، وابن ماجه في سننه [3658]، وأحمد فى مسنده [2/ 327]، والبيهقي في السنن الكبرى [4/ 179]، والحاكم [4/ 150].

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [2 - (2548)] كتاب البر والصلة والآداب، [1] باب بر الوالدين وأنهما أحق به.

ص: 514

هو منصوب بفعل محذوف، أي ثم بر أباك.

وفي رواية: "ثم أبوك" وهذا أوضح.

وفيه أن الأحق بالبر أُمُّ الإنسان، ثم أبوه بعدها ثم الأدنى بعده.

وروينا في صحيح مسلم عنه أيضا: "رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف" قيل: من؟ يا رسول اللَّه.

قال: "من أدرك أبويه عند الكبر، أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة"

(1)

.

قلت: فما أشد حسرته وخسرانه، ولا له من أحد رحمة لعامة تفريطه وشدة مهانته وتهاونه.

وروينا عنه أن رجلا قال: يا رسول اللَّه إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيئون إلي وأحلم عنهم ويجهلون علي.

فقال: "لئن كنت كما قلت فكأنما تُسِفُّهُم المَلَّ ولا يزال معك من اللَّه ظهير عليهم ما دمت على ذلك"

(2)

.

وتسفهم: بضم التاء وكسر السين المهملة، وتشديد الفاء، والمَلّ: بفتح الميم، وتشديد اللام وهو الرماد الحار من الألم، فلا شيء على المحسن إليهم لكن ينالهما إثم عظيم بتقصيرهم في حقه، وإدخالهم الأذى عليه.

وفيه أن من وصلته رحمة فقطعها كأنما يسفُّ المَلَّ وهو أشد غبنًا وحرقة من الذي قبله.

وفيه بيان أنواع من العلة وهي الصلة والإحسان والحلم.

وروينا في الصحيحين من حديث أنس مرفوعًا: "من أحب أن يُبسط في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه"

(3)

.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [9 - (2551)] كتاب البر والصلة والآداب، [3] باب رغم أنف من أدرك أبويه أو أحدهما عند الكبر فلم يدخل الجنة. والترمذي [3545]، وأحمد في مسنده [2/ 254، 346]، وأحمد في مسنده [4/ 344]، والسيوطي في الدر المنثور [2/ 158]، المنذري في الترغيب والترهيب [2/ 507، 508].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [22 - (2558)] كتاب البر والصلة والآداب، [6] باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها. وأحمد في مسنده [2/ 300]، قال النووي: المل: بفتح الميم الرماد الحار، وتُسِفُّهم بضم التاء وكسر السين وتشديد الفاء، والدافع لأذاهم وقوله أحلم عنهم بضم اللام، ويجهلون أي يسيئون والجهل هنا القبيح من القول ومعناه كأنما تطعمهم الرماد الحار. [النووي في شرح مسلم [16/ 94] طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [5986] كتاب الأدب، [12] باب من بسط له في الرزق بصلة =

ص: 515

ومعنى: يُنسأ له في أثره: يؤخر له في أجله وعمره.

ففيه فوائد عاجلة وهو بسط الرزق وإطالة العمر.

وروينا فيهما عنه: كان أبو طلحة أكثر الأنصار مالًا. . . الحديث بطوله كما سبق في باب الإنفاق مما يجب.

وفيه أن الذي يرجي بره وذخره عند اللَّه جدير أن يوضع في الآخريين، ويوضحه الحديث الذي بعده، فإن فيه الفائدة الآجلة.

وروينا في الصحيحين

(1)

والسياق لمسلم من حديث عبد اللَّه بن عمرو قال: أقبل رجل إلى نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من اللَّه، قال:"فهل من والديك أحد حيٌّ؟ " قال: نعم، بل كلاهما. قال:"فتبتغي الأجر من اللَّه؟ "، قال: نعم، قال:"فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما".

وفي رواية لهما: جاء رجل فاستأذنه في الجهاد.

فقال: "أحيٌّ والداك؟ "، قال: نعم، قال:"ففيهما فجاهد"

(2)

.

وروينا في صحيح البخاري

(3)

عنه مرفوعًا: "ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها". وقطعت: بفتح القاف والطاء، رحمه مرفوع، وفيه نفي من يقول: لو وصلوني وصلتهم إلى وصل القاطعين، وهو الصلة الحقيقية وغيره مكافأة.

وروينا في الصحيحين من حديث عائشة مرفوعًا: "الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله اللَّه، ومن قطعني قطعه اللَّه"

(4)

.

= الرحم، ومسلم في صحيحه [21 - (2557)] كتاب البر والصلة والآداب، [6] باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها. والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 27]، المنذري في الترغيب والترهيب [3/ 334].

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه [5972] كتاب الأدب، [3] باب لا يجاهد إلا بإذن الأبوين، ومسلم في صحيحه [6 - (2549)] كتاب البر والصلة والآداب، [1] باب بر الوالدين وأنهما أحق به والنسائي [7/ 141، 145]، وأحمد في مسنده [4/ 223]، والحاكم [3/ 424].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [5 - (2549)] كتاب البر والصلة والآداب، [1] باب بر الوالدين وأنهما أحق به.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [5991] كتاب الأدب، [15] باب ليس الواصل بالمكافئ. وأبو داود في سننه [1697]، والترمذي [1908]، وأحمد في مسنده [4/ 163، 190]، والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 27]، والمنذري في الترغيب والترهيب [3/ 340].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه [5989] كتاب الأدب، [13] باب من وصل وصله اللَّه. ومسلم في صحيحه [17 - (2555)] كتاب البر والصلة والآداب، [6] باب صلة الرحم وتحريم =

ص: 516

وفيه ما يشعر بأن الصلة أرجح من صنائع المعروف؛ لأن الرحم معلقة بالعرش، وأي قرب هكذا، ثم هي على مرَّ الأنفاس بقول:"من وصلني وصله اللَّه" وأي دعاء أجمع من هذا أو يسمع له ويستجاب مثله وهل في معروف آخر هكذا.

وروينا في الصحيحين من حديث ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين أنها قالت: أعتقت وليدتي فقال: "أوفعلت؟ ". قالت: نعم. قال: "أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك"

(1)

. وهو ظاهر في أن صلة الأخوال والأخوات أعظم أجرًا من العتق العظيم أجره.

وروينا فيهما من حديث أسماء بنت الصديق قالت: قدمت عليَّ أمي وهي مشركة، فاستفتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أمي قدمت علي وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال:"نعم، صلي أمك"

(2)

. معنى راغبة: طامعة فيما عندي تسألني شيئًا، وهي أمها من النسب على الأصح، وقيل: من الرضاعة. وفيه أن كفر الأرحام ليس بمانع من برِّهم وصلتهم. وفيهما من حديث الثقفية امرأة عبد اللَّه بن مسعود قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "تصدقن يا معشر النساء

(3)

، ولو من حليكن". قالت: فرجعت إلى عبد اللَّه فقلت: إنك رجل خفيف ذات اليد، وإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالصدقة، فأته فاسأله، فإن كان كاف ذلك يجزي عني وإلا صرفتها إلى غيركم، قالت: فقال لي

= قطيعتها. وابن حبان في صحيحه [2034 - الموارد]، وابن أبي شيبة في مصنفه [8/ 348]، والزبيدي في الإتحاف [6/ 311].

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (2592) كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها [15] باب هبة المرأة لغير زوجها وعتقها إذا كان لها زوج، فهو جائز إذا لم تكن سفيهة، فإذا كانت سفيهة لم يجز، ومسلم في صحيحه [44 - (999)] كتاب الزكاة [14] باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد والوالدين ولو كانوا مشركين، والحاكم في المستدرك (2/ 213)، وابن خزيمة في صحيحه (2434)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 337).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (3620) كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، [29] باب الهدية للمشركين، ورقم (3183) كتاب الجزية والموادعة [18] باب حدثنا عبدان. . .، وانظر أرقام (5978، 5979). ومسلم في صحيحه [50 - (1003)] كتاب الزكاة [14] باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد والوالدين ولو كانوا مشركين. وأحمد في مسنده (2/ 344). وعبد الرزاق في مصنفه (9932، 19430). والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 322).

(3)

قال النووي: فيه أمر ولي الأمر رعيته بالصدقة وفعال الخير وعظة النساء إذا لم يترتب عليه فتنة، والمعشر الجماعة الذين صفتهم واحدة. وقوله صلى الله عليه وسلم:"ولو من حليكن" هو بفتح الحاء وإسكان اللام، مفرد، وأما الجمع فيقال بضم الحاء وكسرها، واللام مكسورة فيهما، والياء مشددة. [النووي في شرح مسلم (7/ 75، 76) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 517

عبد اللَّه: بل ائتيه أنت

(1)

. قالت: فانطلقت فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حاجتي حاجتها، قالت: وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد ألقيت عليه المهابة. قالت فخرج علينا بلال فقلنا له: ائت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخبره أن امرأتين بالباب تسألانك: أتجزي الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما؟ ولا تخبره من نحن

(2)

. قالت: فدخل بلال على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"من هما؟ " فقال إمرأة من الأنصار وزينب. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أي الزيانب؟ " قال: امرأة عبد اللَّه. فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لهما أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة"

(3)

. وفيه أن أجر التصدق لبس بمانع من الصلة بالصدقة حتى يتوقف عنها في أولي الأرحام.

وروينا في صحيح مسلم من حديث أبي ذر مرفوعًا: "إنكم ستفتحون أرضًا يذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرا، فإن لهم ذمة ورحما" وفي لفظ: ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها" أو قال:"ذمة وصهرا"

(4)

. ومعنى الرحم الذي لهم كون هاجر أم إسماعيل صلى الله عليه وسلم منهم. والصهر كون مارية أم إبراهيم ابن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منهم، ففيه أن محل الصلة كل رحم قرب أو بعد

(5)

،

(1)

هي زينب بنت معاوية، ويقال: زينب بنت عبد اللَّه بن أبي معاوية الثقفية، زوج عبد اللَّه بن مسعود، صحابية ولها رواية عن زوجها. أخرج لها أصحاب الكتب الستة، ترجمتها: تهذيب التهذيب (12/ 422)، والتقريب (2/ 600)، الثقات (3/ 145)، أسد الغابة (7/ 134)، الإصابة (7/ 681)، أعلام النساء (2/ 115).

(2)

قال النووي: قولهما: "ولا تخبر من نحن" ثم أخبر بهما، قد يقال: إنه إخلاف للوعد وإفشاء للسر، وجوابه أنه عارض ذلك جواب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وجوابه صلى الله عليه وسلم واجب محتم لا يجوز تأخيره، ولا يقدم عليه غيره. وقد تقرر أنه إذا تعارضت المصالح بدئ بأهمها. [النووي في شرح مسلم (7/ 76) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (1466)، كتاب الزكاة [50] باب الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر. ومسلم في صحيحه [45 - (1000)] كتاب الزكاة [14] باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد والوالدين ولو كانوا مشركين. والنسائي (5/ 93 - المجتبى). وأحمد في مسنده (1/ 376، 2/ 373، 3/ 502). وابن خزيمة في صحيحه (2463)، وابن أبي شيبة في مصنفه (3/ 110، 111)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 35)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1934).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [226 - (2543)] كتاب فضائل الصحابة، [56] باب وصية النبي صلى الله عليه وسلم بأهل مصر، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 206)، والطحاوي في مشكل الآثار (2/ 102، 3/ 124)، وابن كثير في البداية والنهاية (6/ 219).

(5)

قال العلماء: القيراط جزء من أجزاء الدينار والدرهم وغيرهما، وكان أهل مصر يكثرون من استعماله والتكلم به، وأما الذمة فهي الحرمة والحق، وهي هنا بمعنى الذمام، وأما الرحم فلكون هاجر أم إسماعيل منهم، وأما الصهر فلكون مارية أم إبراهيم منهم، وفيه معجزات ظاهرة لرسول =

ص: 518

فلا أبلغ من وصيته صلى الله عليه وسلم بأهل إقليم كثير من أجل أن أم جده الأعلى إسماعيل الذبيح صلى الله عليه وسلم منهم، وهو الرحم، والصهر سلف. وما أشد صلة من يصل هذه الأرحام البعيدة الكبيرة جدًا.

وروينا في الصحيحين

(1)

من حديث أبي سفيان صخر بن حرب رضي الله عنهما حديثه الطويل في قصة هرقل أن هرقل قال لأبي سفيان: فماذا يأمركم؟. يعني النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فقلت: يقول: اعبدوا اللَّه وحده ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة

(2)

قلت: لأنها كمال ومعروف في كل عقل وكل ملة.

وروينا في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: "لما نزلت هذه الآية: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)}

(3)

دعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قريشا فاجتمعوا فعم وخصّ، فقال: "يا بني كعب بن لؤي، أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني مرة بن كعب، أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد شمس، أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار. يا فاطمة، أنقذي نفسك من النار؛ فإني لا أملك لكم من اللَّه شيئًا، غير أن لكم رحما سأبُلُّها

(4)

ببلالها""

(5)

ومعناه سأصلها، شبَّه

= اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ منها إخباره بأن الأمة تكون لهم قوة وشوكة بعده، بحيث يقهرون العجم والجبابرة، ومنها أنهم يفتحون مصر، ومنها تنازع الرجلين في موضع اللبنة، ووقع كل ذلك وللَّه الحمد. (النووي في شرح مسلم (16/ 78، 79) طبعة دار الكتب العلمية).

(1)

الحديث بطوله أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7) كتاب بدء الوحي، [6] باب في فاتحته، ومسلم في صحيحه [74 - (1773)] كتاب الجهاد والسير [26] باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام.

(2)

قوله: "قلت يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف": أما الصلة فصلة الأرحام وكل ما أمر اللَّه به أن يوصل، وذلك بالبر والإكرام وحسن المراعاة، وأما العفاف: الكف عن المحارم وخوارم المروءة؛ قال صاحب المحكم: العفة: الكف عما لا يحل ولا يحمل، يقال: عف يعف عفةً وعفافًا وعفافةً وتعففًا، واستعفَّ، ورجل عفٌّ وعفيف، وأنثى عفيفة، وجمع العفيف: أعفة وأعفاء. (النووي في شرح مسلم (12/ 91) طبعة دار الكتب العلمية).

(3)

سورة الشعراء (214).

(4)

قوله صلى الله عليه وسلم: "غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها" ضبطناه بفتح الباء الثانية وكسرها وهما وجهان مشهوران، ذكرهما جماعات من العلماء، قال القاضي عياض: رويناه بكسر الباء وفتحها؛ من بله يبله، والبلال الماء. ومعنى الحديث: سأصلها، شبهت قطيعة الرحم بالحرارة ووصلها بإطفاء الحرارة ببرودة، ومنه بلوا أرحامكم: أي صلوها. (النووي في شرح مسلم (3/ 68) طبعة دار الكتب العلمية).

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [348 - (204)] كتاب الإيمان [89] باب في قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ =

ص: 519

قطعها بالحرارة تطفئ بالماء فتبرد بالصلة، وهذا بمباشرته عليه أفضل الصلاة والتسليم.

وروينا في الصحيحين -واللفظ للبخاري- من حديث عمرو بن العاص قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جهارا غير سر يقول: "إن آل بني فلان ليسوا بأوليائي، إنما وَلِيِّي اللَّه وصالح المؤمنين، ولكن لهم رحمًا أبلها ببلالها"

(1)

وفيه نفى وَهْم من يرى صلة رحم فيعتقدها محبة وولاء فيتولاها {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 9]، فالكافر والفاجر ونحوهم محل للصلة لا للتولي والمودة.

وروينا في الصحيحين من حديث أبي أيوب خالد بن زيد أن رجلا قال: يا رسول اللَّه، أخبرني بعمل يدخلني الجنة؟ فقال صلى الله عليه وسلم:"تعبُد اللَّه ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم"

(2)

ففيه أن صلة الرحم تُدخل الجنة.

وروينا في جامع الترمذي مصححًا من حديث سلمان بن عامر مرفوعًا: "إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر؛ فإنه بركة، فإن لم يجد تمرا فالماء؛ فإنه طهور"، وقال:"الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة"

(3)

وفيه المضاعفة في ثواب الصدقة لأنها صدقة وصلة، وكما سلف في الحديث السالف لها

= الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214]، وأحمد في مسنده (3/ 360)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 452)، والزبيدي في الإتحاف (8/ 45)، والسيوطي في الدر المنثور (5/ 95، 96)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5373).

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (5990) كتاب الأدب [14] باب يبل الرحم ببلالها، والسيوطي في الدر المنثور (3/ 183)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4914)، والقاضي عياض في الشفا (1/ 258)، والقرطبي في تفسيره (16/ 346).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (1396) كتاب الزكاة [1] باب وجوب الزكاة، ومسلم في صحيحه [14 - (13)] كتاب الإيمان [4] باب الإيمان الذي يدخل به الجنة، وأن من تمسك بما أمر به دخل الجنة. وقال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم: "وتصل الرحم" أي تحسن إلى أقاربك ذوي رحمك بما تيسر على حسب حالك وحالهم من إنفاق أو سلام أو زيارة، أو طاعتهم، أو غير ذلك. (النووي في شرح مسلم (1/ 155) طبعة دار الكتب العلمية).

(3)

أخرجه الترمذي في سننه (658) كتاب الزكاة، باب ما جاء في الصدقة على ذي القرابة، وقد أخرجه أبو داود في سننه (2355) كتاب الصوم، باب ما يفطر عليه، وابن ماجه في سننه (1699) كتاب الصيام، باب ما جاء على ما يستحب الفطر. والنسائي في قوله:"الصدقة على المسكين صدقة" في كتاب الزكاة، باب الصدقة على الأقارب، وأحمد بن حنبل في مسنده (4/ 17)، وعبد الرزاق في مصنفه (7586)، والطبراني في المعجم الكبير (6/ 334) والتبريزي في مشكاة المصابيح (1990)، وابن حبان في صحيحه (892)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 142) وابن أبي شيبة في مصنفه (3/ 107).

ص: 520

أجران؛ أجر القرابة، وأجر الصدقة.

وروينا في سنن أبي داود وجامع الترمذي

(1)

. وقال: حسن صحيح. من حديث ابن عمر قال: "كان تحتي امرأة وكنت أحبها، وكان عمر يكرهها، فقال لي: طلقها. فأبيت، فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "طلقها"". قلت: فقوله له في محبوبته: طلقها. لإرضاء أبيه.

وروينا في جامع الترمذي

(2)

مصححًا من حديث أبي الدرداء أن رجلا آتاه فقال: إن لي امرأة، وإن أمي تأمرني بطلاقها. قال أبو الدرداء:"سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه".

وروينا فيه مصححًا من حديث البراء بن عازب مرفوعًا: "الخالة بمنزلة الأم"

(3)

وهو دال على تقارب مراتب الرحم. وفي الباب أحاديث كثيرة في الصحيح مشهورة، منها: حديث أصحاب الغار، وحديث جريج، وسيأتيان. وفي الأول استجابة دعاء من برَّ والديه حتى انفرجت بهم صخرة

(4)

، وفي الثاني أنطق اللَّه ابن الراعي ببراءته لبركة عمارة باطنه بالبرِّ. ومن أهمهما حديث عمرو بن عبسة الطويل المشتمل على جمل كثيرة من قواعد الإسلام وآدابه، وسيأتي في باب الرجاء، وفيه قال: "دخلت

(1)

أخرجه أبو داود في سننه (5138) كتاب الأدب، باب في بر الوالدين، والترمذي في سننه (1189) كتاب الزكاة، باب ما جاء في الرجل يسأله أبوه أن يطلق زوجته، وابن ماجه في سننه (2088) كتاب الطلاق، باب الرجل يأمره أبوه أن يطلق امرأته، والنسائي في سننه (6/ 67، 170 - المجتبى)، وأحمد في مسنده (4/ 33، 211)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 154، 155)، وابن حبان في صحيحه (159، 2024 - الموارد).

(2)

أخرجه الترمذي (1900) كتاب البر والصلة، باب ما جاء من الفضل في رضا الوالدين، وابن ماجه في سننه (2089، 3663)، وأحمد في مسنده (5/ 196، 6/ 445)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 316)، وابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 352)، والسيوطي في الدر المنثور (4/ 173)، والعجلوني في كشف الخفاء (2/ 469).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (2699) كتاب الصلح، [6] باب كيف يكتب:"هذا ما صالح فلان ابن فلان، وفلان ابن فلان" ولم ينسب إلى قبيلته أو نسبه، وأبو داود في سننه (2280)، والترمذي في سننه (1904) كتاب البر والصلة، باب ما جاء في بر الخالة، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 6)، والطحاوي في مشكل الآثار (4/ 173).

(4)

حديث الغار الشهير قال النووي: استدل أصحابنا بهذا على أنه يستحب للإنسان أن يدعو في حال كربه، وفي دعاء الاستسقاء وغيره بصالح عمله، ويتوسل إلى اللَّه تعالى به؛ لأن هؤلاء فعلوه فاستجيب لهم، وذكره النبي صلى الله عليه وسلم في معرض الثناء عليهم وجميل فضائلهم، وفي هذا الحديث فضل بر الوالدين، وفضل خدمتهما وإيثارهما عمن سواهما من الأولاد والزوجة وغيرهم. . (النووي في شرح مسلم (17/ 47) طبعة دار الكتب العلمية).

ص: 521

على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمكة. يعني في أول النبوة. فقلت له: ما أنت؟

(1)

قال: "نبي". قلت: وما نبي؟ قال: "أرسلني اللَّه". قلت: بأي شيء؟ قال: "أرسلني بصلة الأرحام وكسْر الأوثان، وأن يُوَحَّدَ اللَّه لا يُشرك به شيء""

(2)

وذكر تمام الحديث، وناهيك بهذا. وحاصل هذه الأحاديث بيان مرتبة البِرِّ ومنزلة الأبوة وبيان أهل البر والصلة وخاصتهما ونتائجهما وما يُرغِّب فيها ويغري بها وأحق الناس وشدَّة عين من قوَّمها، ولا سيما إن وصلته رحمه، وأنواع من الصلة وفائدتها ونفعها إن عاجلا وآجلا والتنبيه على ما يظن أنه صلة وليس كذلك، وأرجحية الصلة على كل صدقة ومعروف وما يظن مانعا منها ككفر أو قصد تصدق وليس مانعا، وعظيم موقعها عند العقلاء ومحلها، وما يظن أنه ليس بصلة، وأنها من أسباب دخول الجنة مضاعفة الصدقة، وتأكيد إيثار الرحم على حفظ النفس، وتفاوت مراتب الرحم، واستجابة دعاء الباب الوصول، وخرق العادة لمن يعرض على البر وهو من قصده، وأنه الرسالة الإلهية وناهيك بذلك.

وحكي أن اللَّه -سبحانه- أوحى إلى سليمان بن داود عليهما السلام أن اخرج إلى ساحل البحر تنظر عجبا، فخرج ومن معه من الجن والإنس، فلما وصل إلى الساحل التفت يمينا وشمالا فلم ير شيئًا، فقال لعفريت معه: غُص هذا البحر ثم ائتني بعلم ما تجده. فغاصه ثم رجع بعد ساعة فقال: يا نبي اللَّه، إني ذهبت في هذا البحر مسيرة كذا وكذا فلم أصل إلى قعره ولا نظرت فيه شيئًا. ثم أمر آخر بذلك فأخبره بمثل ما أخبر الأول وغاص مثل الأول مرتين، فقال لآصف بن برخياء. وهو وزيره، وهو المعني بقوله:{قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ}

(3)

: ائتني بعلم هذا البحر.

(1)

قوله: "فقلت له ما أنت" قال النووي: إنما قال: ما أنت، ولم يقل: من أنت؛ لأنه سأله عن صفته لا عن ذاته، والصفات مما لا يعقل. قوله صلى الله عليه وسلم:"أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان، وأن يوحد اللَّه لا يشرك به شيء" هذا فيه دلالة ظاهرة على الحث على صلة الأرحام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرنها بالتوحيد ولم يذكر له حزبات الأمور، وأنما ذكر مهمها وبدأ بالصلة. (النووي في شرح مسلم (6/ 101) طبعة دار الكتب العلمية).

(2)

أخرجه سسلم في صحيحه [294 - (832)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، [52] باب إسلام عمرو بن عنبسة، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 454، 6/ 369).

(3)

سورة النمل (40). قال ابن عباس: وهو آصف كاتب سليمان، وكذا روى محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان أنه آصف بن برخياء، وكان صديقا يعلم الاسم الأعظم، وقال قتادة: كان مؤمنا من الإنس واسمه أسطوم، وقال قتادة في رواية عنه: كان اسمه بليخا، وقال زهير بن محمد: هو رجل من الإنس يقال له ذو النور، وقال مجاهد: قال: يا ذا الجلال والإكرام. وقال الزهري: قال يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدًا لا إله إلا أنت ائتني بعرشها. (تفسير ابن كثير (3/ 376)).

ص: 522

فغاص وجاءه بقبة من الكافور الأبيض لها أربعة أبواب: باب من دُرٍّ وباب من ياقوت وباب من جوهر وباب من زبرجد، والأبواب كلها مفتَّحة ولا يدخل فيها قطرة من الماء، وهي في داخل البحر في مكان عميق مثل ما غاص فيه العفريت الأول ثلاث مرات، فوضعها بين يدي سليمان وإذا في وسطها شاب حسن الشباب نقي الثياب وهو قائم يصلي، فدخل سليمان القبة وسلَّم على الشاب وقال له: ما أنزلك في قعر هذا البحر؟!

قال: يا نبي اللَّه، أبي كان رجلا مقعدا، وكانت أمي عمياء فأقمت في خدمتهما سبعين سنة، فلما حضرت أمي الوفاة قالت: اللهم أطل عمر ابني في طاعتك. ولما حضرت وفاة أبي قال: اللهم استخدم ابني في مكان لا يكون للشيطان عليه سبيل فيه. فخرجت إلى هذا الساحل بعدما دفنتهما فنظرت هذه القبة موضوعة فدخلتها لأنظر حسنها، فجاء ملك من الملائكة فاحتملها وأنزلت في قعر هذا البحر. قال سليمان: ففي أي زمان كنت أتيت هذا الساحل؟ قال: في زمن إبراهيم الخليل. فنظر سليمان في التاريخ فإذا له ألفا سنة وأربعمائة سنة، وإذا هو شاب لا شيب في لحيته، فقال له سليمان: ما طعامك وما شرابك داخل هذا البحر؟ قال: يا نبي اللَّه، يأتيني كل يوم طائر أخضر في منقاره شيء أصفر مثل رأس الإنسان فآكله فأجد فيه طعم كل شيء من نعيم الدنيا، فيذهب عني الجوع والعطش والحر والبرد والنوم والنعاس والفترة والوحشة، فقال له سليمان: تحب أن تقف معنا أو نرُدَّك إلى موضعك؟ فقال: رُدَّني يا نبي اللَّه. فأمر بردِّه مكانه فرده آصف، ثم قال لمن حوله: انظروا كيف استجاب اللَّه دعاء الوالدين، فأحذركم العقوق. حكاية ثانية عن الأصمعي

(1)

قال: مات ابن لأعرابية، فما زالت تبكي حتى خدت الدموع في خدها، ثم قالت: إنا للَّه وإنا إليه راجعون، اللهم إنك تعلم فرط حنو الوالدين على ولدهما فلذلك لم تأمرهما ببرهم، وعظمت وزْر عقوق الولد لوالديه، فمن أجل ذلك أمرته ببرِّهما وألزمته طاعتهما، وقد كان ولدي هذا بارا بوالديه فما يكون بر والدين بولدهما، فأخبره عني بذلك صلة ومغفرة ولذّة سرورا ونضرة. فغفر اللَّه له ورحمه بدعاء أمه.

ثالثة: قال بلال الخواص: كنت في تيه بني إسرائيل، وإذا أنا برجل يماشيني فعجبت منه ثم ألهمت أنه الخضر

(2)

، فقلت له: بحق الحق من أنت؟ قال: أخوك

(1)

الأصمعي: هو عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع بن مطهر بن رباح بن عمرو، أبو سعيد الباهلي الأصمعي البصري، صدوق سني، أخرج له مسلم في المقدمة وأبو داود والترمذي، توفي سنة (213، 216، 210). (التهذيب (6/ 415)، التقريب 1/ 521).

(2)

جمهور العلماء على أنه حي موجود بين أظهرنا، وذلك متفق عليه عند الصوفية وأهل الصلاح =

ص: 523

الخضر. قلت: أريد أسألك. فقال: سل. قلت: ما تقول في الشافعي؟ فقال: صديق. فقلت: بشر. قال: لم يخلق بعده مثله. فقلت له: بأي وسيلة رأيتك؟ قال ببرِّك لأُمك. شعر:

ببر الوالدين أصبت خيرًا

وصيرني الإله له وليّا

وبوأني

(1)

به جنات عدن

وفي الفردوس مشترفا عليّا

وقربني إليه واصطفاني

وأهدى منه لي لُطفا خفيّا

فلازم برَّهم واحذر تُهنهم

فطاوع أمرهم ما دمت حيّا

آخره، وللَّه الحمد.

= والمعرفة، وحكاياتهم في رؤيته والاجتماع به والأخذ عنه وسؤاله وجوابه ووجوده في المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن يحصر، وأشهر من أن يستر، وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: هو حي عند جماهير العلماء والصالحين، والعامة معهم في ذلك، قال: وإنما شذ بإنكاره بعض المحدثين، (النووي في شرح مسلم (15/ 111) طبعة دار الكتب العلمية).

(1)

بوأ فلانا منزلًا، وفيه: أنزله، والمنزل له أعده، وتبوأ المكان، وبه: نزله وأقام به. وأباء فلانا منزلًا: هيأه له وأنزله.

ص: 524

‌مجلس من إكرام الضيف

قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24)}

(1)

. ومنها: النوع النفعي، وقد اشتملت على وجوه من الإكرام. وقال تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي}

(2)

. ومنها: النوع الرفقي. فكرم الضيفان من السادات وعادات السادات.

وروينا في حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت"

(3)

. وفيه الحث على إكرامه والإلزام بحقوقه وإبراره.

وروينا من حديث أبي شريح خويلد بن عمرو مرفوعًا: "من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته". قالوا: وما جائزته يا رسول اللَّه؟ قال: "يومه وليلته، والضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه"

(4)

. أخرجاه. وفي رواية: "لا يحل لمسلم أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه

(5)

". قالوا: يا رسول اللَّه، وكيف يؤثمه؟ قال: "يقيم عنده ولا شيء له يقريه به، فأقلها يوم وأكثرها ثلاث وما زاد صدقة"

(6)

. فليحذر ذلك الضيف. وورد من حديث علي قال: "أضافنا رسول

(1)

سورة الذاريات (24). أي الذين أرصد لهم الكرامة، وقد ذهب الإمام أحمد وطائفة من العلماء إلى وجوب الضيافة للنزيل، وقد وردت السنة بذلك كما هو ظاهر التنزيل. (تفسير ابن كثير (4/ 235)).

(2)

سورة هود (78).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (6018) كتاب الأدب [31] باب من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومسلم في صحيحه [74 - (47)] كتاب الإيمان [19] باب الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت إلا عن الخير، وكون ذلك كله من الإيمان، والترمذي في سننه (2500) كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب [50]، وابن ماجه (3971)، والزبيدي في الإتحاف (6/ 306، 7/ 358)، والسيوطي في الدر المنثور (2/ 220).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (1635) كتاب الأدب، [85] باب إكرام الضيف وخدمته إياه بنفسه، ورقم (6476) كتاب الرقاق، [23] باب حفظ اللسان، ومسلم في صحيحه [14 - (48)] كتاب اللقطة، [3] باب الضيافة ونحوها.

(5)

قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يحل له أن يقيم عنده حتى يؤثمه" معناه: لا يحل أن يقيم عنده بعد الثلاث حتى يوقعه في الإثم؛ لأنه قد يغتابه لطول مقامه أو يعرض له بما يؤذيه أو يظن به ما لا يجوز. (النووي في شرح مسلم (12/ 28) طبعة دار الكتب العلمية).

(6)

أخرجه مسلم في صحيحه [15 - (48)] كتاب اللقطة، [3] باب الضيافة ونحوها، وأبو داود =

ص: 525

اللَّه صلى الله عليه وسلم على الأسودين؛ الماء والتمر، وقال:"من أضاف مؤمنا فكأنما أضاف آدم، ومن أضاف اثنين فكأنما أضاف آدم وحواء، ومن أضاف ثلاثة فكأنما أضاف جبريل وميكائيل وإسرافيل، ومن أضاف أربعة فكأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، ومن أضاف خمسة فكأنما صلى الخمس جماعة من أول يوم خلق اللَّه الخلق، ومن أضاف ستة فكأنما أعتق ستين رقبة من ولد إسماعيل، ومن أضاف سبعة أُغلقت عنه أبواب جهنم، ومن أضاف ثمانية فتحت له ثمانية أبواب الجنة، ومن أضاف تسعة كُتبت له حسنات بعدد من عصا من أول يوم خلق اللَّه الخلق إلى يوم القيامة، ومن أضاف عشرة كتب له أجر من صلى وصام وحج واعتمر إلى يوم القيامة""

(1)

وحكي عن محمد بن سلمان قال: بينما أنا أسير في طريق اليمن إذا أنا بغلام واقف على الطريق وهو يُمجِّد ربه بأبيات من الشعر، يقول:

مليك في السما فيه افتخاري

عزيز القدر ليس به خفاء

فدنوت منه وسلمت عليه فقال: ما أنا برَادٍّ عليك السلام حتى تؤدي من حقي الذي يجب عليك. قلت: وما حقك؟ قال: أنا غلام على مذهب الخليل عليه الصلاة والسلام لا أتغدى ولا أتعشى حتى أسير الميل والميلين في طلب الضيف. فأجبته إلى سؤاله فرحب بي وسرت معه حتى قرُبنا من خيمة شعر، فلما قربنا منها صاح: يا أختاه. فأجابته جارية من الخيمة: لبيك يا أخي. قال: قومي إلى ضيفنا. قالت: حتى أبدأ بشكر المولى الرب الذي سبب لنا هذا الضيف. فقامت وصلت ركعتين شكرًا للَّه، فأدخلني الغلام الخيمة ونامت الصبية داخل الخيمة، فكنت أسمع دوّي القرآن الليل كله بأحسن صوت وأرزنه، فلما أصبحت قلت للغلام: صوت من كان البارحة؟ قال: تلك أختي تُحيي الليل كله إلى الصباح. فقلت له: يا غلام، أنت أحق بهذا العمل من أختك. فتبسم وقال: صدقت، ويحك يا فتى أما علمت أنه موفق ومخذول؟

حكاية ثانية: عن الشيخ أبي الربيع المالقي قال: سمعت بامرأة صالحة في بعض القرى قد اشتهر أمرها، وكان دأبنا أن لا نزور امرأة، فدعت الحاجة إلى زيارتها للاطلاع على كرامة اشتهرت عنها وكانت تدعى بالغضية، فنزلنا القرية التي هي بها فذكر لنا أن عندها شاة تحلب لبنا وعسلا، فاشترينا قدحًا جديدًا لم يوضع فيه شيء،

= (3749)، وأحمد في مسنده (2/ 354)، وابن حبان في صحيحه (1143، 2066)، والهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 176).

(1)

ذكره الهندي في كنز العمال (25975).

ص: 526

فمضينا إليها وسلمنا عليها ثم قلنا لها: نريد أن يظهر لنا ما في هذه الشاة. فأُعطيناها فحلبناها في القدح وشربنا، وإذا هو لبن وعسل، فسألناها عن قصة الشاة فقالت: كانت لنا شويهة ونحن قوم ضعفاء فقراء ولم يكن لنا شيء، فحضرنا العيد فقال لي زوجي. وكان صالحا: نذبح الشاة في هذا اليوم. فقلت له: لا تفعل؛ فإنه رخص لنا، واللَّه يعلم حاجتنا إليها. فاتفق أنه استضاف بنا في ذلك اليوم شخص وقد أُمرنا بإكرامه، فأخذ الشاة فذبحها وأراق دمها، وإذا بشاة نزلت إلى البيت فأخبرته وقال: لعل اللَّه أن يكون أبدلنا خيرًا منها. فكانت تلك تحلب اللبن وهذه تحلب اللبن والعسل ببركة إكرامنا الضيف.

ثالثة: عن الشيخ أبي محمد الجريري قال: حضرني باز أشهب فلم أصده، ولي أربعون سنة أنصب حبلي عليه لعلي أظفر به أو بمثله فما ظفرت، قيل لي: يا أبا محمد، وما هو؟ قال: دخل علينا الرباط بعد صلاة العصر شاب مصفر اللون أشعث الرأس حاسره حافي القدمين، فجدد الوضوء وصلى ركعتين ثم جلس ووضع رأسه في جيبه إلى المغرب، فلما صلى معنا المغرب جلس كذلك، وإذا رسول الخليفة يستدعينا في دعوة، فقمت إلى الشاب فقلت له: هل لك أن توافقنا إلى دار الخليفة؟ فقال: لا، ولكني أشتهي عصيدة حارة. فطرحت قوله حيث لم يوافقني والتمس شهوة، وقلت في نفسي: هذا قريب عهد بالطريقة لم يتأدب بعد. وتركته ومضيت إلى دار الخليفة فأكلنا ثم تفرقنا آخر الليل، فلما دخلت الرباط رأيته على تلك الحالة، فجلست على سجادتي ساعة فلهجت عيناي بالنوم، فرأيت كأن جماعة أقبلوا وإذا بقائل يقول: هذا رسول اللَّه

(1)

والأنبياء كلهم عليهم السلام. فدنوت وسلمت فولى بوجهه عني معرضا، فكررت عليه وهو يعرض عني ولا يجيبني فخفت من ذلك، فقلت: يا رسول اللَّه، ما الذي أذنبت حتى تُعرِض عني بوجهك؟ قال:"فقير من أمتي اشتهى عليك شهوة فتهاونت فيها". فاستيقظت مرعبا وقمت نحو الفقير فلم أجده، وسمعت صوت الباب فخرجت في طلبه فإذا به قد خرج، فناديته: اصبر حتى نحضر شهوتك التي اشتهيت. فالتفت إليَّ وقال: إذا اشتهى فقير عليك شهوة فلا توصلها إليه حتى يشفع إليك مائة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبي

(2)

فلا حاجة لي بها. ثم تركني ومضى.

(1)

روى الترمذي في سننه (2276) كتاب الرؤيا، باب ما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم:"من رآني في المنام فقد رآني" عن عبد اللَّه بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من رآني في المنام فقد رآني؛ فإن الشيطان لا يتمثل بي"، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

(2)

اختلف في عدد الأنبياء والمرسلين، والمشهور في ذلك حديث أبي ذر الطويل، والذي رواه ابن =

ص: 527

حكاية رابعة: قال الشيخ أبو عبد اللَّه الدينوري: دخل عليَّ يوما فقير عليه آثار الصبر، فطالبتني نفسي أن للَّه فيه شيء، فهممت أن أرهن نعلي فمنعتني نفسي من ذلك وقالت: كيف يتم لك طهارة مع الحفاء؟! فهممت أن أرهن ما على رأسي فمنعتني نفسي أيضًا وقالت: تبقى مكشوف الرأس. فجعلت أُراجعها في ذلك فقام الفقير وشدَّ وسطه وأخذ عصاة بيده، ثم التفت إليَّ وقال: يا خسيس الهمة، احفظ منديلك؛ فأنا خارج عنك. قال: فعقدت مع اللَّه أن لا آكل الخبز حتى ألقاه. فقيل: إنه قام بعد ذلك ثلاثين سنة لم يأكله.

ما يكرم الضيف إلا من له كرم

ومن على بابه الأرزاق تقتسم

كرامة الضيف لا تحصى فضائلها

طوبى

(1)

لقوم على إكرامه عزموا

فإنها سنَّة في الناس ما برحت

فكن بإكرامك الأضياف تلتزم

إن الضيافة بين الناس قد حمدت

وإن فاعلها في قدره عِظَمُ

لا ينفع المال إلَّا من يجود

(2)

به

وإن كل بخيل ما له قيم

فالمال ينفق إلَّا في مواضعه

ومكرم الضيف تزكوا عنده النعم

فليس أفخر من الطعام ذي سغب

(3)

ومن أضرَّ به الإفلاس والعدم

صانع الجود لا شيء يقاس بها

يثني عليك بها الأعراب والعجم

= مردويه في تفسيره بسنده عن أبي ذر، قال: قلت: يا رسول اللَّه كم الأنبياء؟ قال: "مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا" قلت: يا رسول اللَّه كم الرسل منهم؟ قال: "ثلاثمائة وثلاثة عشر، جم غفير. . . . " الحديث. (تفسير ابن كثير (1/ 585)).

(1)

طوبى: الطوبى: الحسنى والخير، وفي القرآن {طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)} .

(2)

جاد جودًا سخا وبذل، ويقال: جاد بماله فهو جواد.

(3)

سَغِبَ: سغبًا: جاع مع تعب، فهو سَغِبٌ، وهي سغبة، والمسغبة: المجاعة.

ص: 528

‌مجلس في فضل الجوع وخشونة العيش

والاقتصار على القليل من المأكول والمشروب والملبوس وغيرهما من حظوظ النفس وترك الشهوات.

قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ}

(1)

؛ أي من بعد النبيين المذكورين في الآية قبلها، {خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ}

(2)

؛ أي بطنا وفرجا، وهذا عند اقتراب الساعة وذهاب صالحي هذه الأمة، {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}

(3)

؛ أي شرا أو ضلالا عن طريق الجنة، أو وادي بقعر جهنم. وأودية جهنم تستغيث من حرِّه. أُعد للزاني المُصرّ والشارب المُدمن وغيرهما. والخلْف: قوم سوء. وهو بفتح اللام: الصالح. وبالجزم: الطالح. والخلْف بسكون اللام: الرديء من كل شيء. وهم في هذه الآية اليهود ومن لحق بهم، أو في هذه الأمة، {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ} تركوها عن مواقيتها. يعني المفروضة. أخَّروها عن مواقيتها وصلُّوها لغير وقتها. وقال تعالى:{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص: 79] إلى قوله: {صَالِحًا} . وكانت زينته وجاهة وصورًا حسانًا

(1)

سورة مريم (59). لما ذكر اللَّه تعالى حزب السعداء وهم الأنبياء عليهم السلام ومن اتبعهم من القائمين بحدود اللَّه وأوامره، المؤدين فرائض اللَّه التاركين لزواجره، ذكر أنه {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} أي قرون أخر {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ} [مريم: 59]، وإذا أضاعوها فهم لما سواها من الواجبات أضيع؛ لأنها عماد الدين وقوامه، وخير أعمال العباد، وأقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، فهؤلاء سيلقون غيا: أي خسارًا يوم القيامة. (تفسير ابن كثير (3/ 131)).

(2)

قال علي بن طلحة عن ابن عباس: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] أي خسرانا، وقال قتادة: شرًا. وعن ابن مسعود قال: واد في جهنم بعيد القعر خبيث الطعم، وعن أبي عياض: واد في جهنم من قيح ودم (مختصرًا من تفسير ابن كثير (3/ 132)).

(3)

سورة القصص (79، 80). يقول تعالى مخبرا عن قارون أنه خرج ذات يوم على قومه في زينة عظيمة وتجمل باهر من مراكب وملابس عليه وعلى خدمه وحشمه، فلما رآه من يريد الحياة الدنيا ويميل إلى زخارفها وزينتها تمنوا أن لو كان لهم مثل الذي أعطي، فقالوا:{يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ} أي ذو حظ وافر من الدنيا، فلما سمع مقالتهم أهل العلم قالوا لهم:{وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [القصص: 80](تفسير ابن كثير (3/ 414)).

ص: 529

ومواكب وزخرفًا وأرجوان. وقال تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)}

(1)

. وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ}

(2)

الآية. فلم يظفر ببغيته كلها، بل بما شاء اللَّه منها أو من غيرها لا غير، أو لا يظفر بشيء أصلا إنما المرزوق من يؤيده اللَّه، أو يظفر بذلك كله ثم يكون عليهم حسرة. ومآل من يريد العاجلة {جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 18] مطرودا من الرحمة، ومريدها من عقدها همته كأكثر الفسقة والغافلين، وقيل: هو من يريد الدنيا بعمل الآخرة كالمنافق والمُرائي والمهاجر للدنيا والمجاهد للغنيمة والذكر ونحو ذلك. ولنذكر بعد ذلك أحاديث فيها بيان أهل التقلل من الحظوظ ومسهلات التحقيق، وبيان فوائده ومدح القوت وأن فقده شديد وبلوغه لا مشقة معه، وذم الزيادة عليه والتعريف بنعمة قوت يوم، وفضل الكفاف بأوجه ما يرغب أبناء الدنيا والأخرى. ومرتبة الخصاصة وشرف أهلها وذم الشبع وما ينفر منه ويزجر عنه وحد ما ينبغي أن ينتهي إليه إلَّا شدَّة. وأن البذاذة من الإيمان فالعدول عنه ضلال، وأن كل حال من سعة أو تقتير له حكمة مع القصد في السعة أيضًا وغير ذلك. وجماعها نيف وثلاثون حديثا.

أولها: حديث عائشة قالت: "ما شبع آل محمد من خبز شعير يومين متتابعين حتى قُبض"

(3)

. أخرجاه. وفي رواية: "ما شبع آل محمد منذ قدم المدينة من طعام بُرٍّ ثلاث ليال تباعا حتى قُبض"

(4)

. ونفي الشبع لا يثبت الجوع، والوسط هو الاختيار.

(1)

سورة التكاثر (8).

(2)

سورة الإسراء (18). يخبر تعالى أنه ما كل من طلب الدنيا وما فيها من النعيم يحصل له، بل إنما يحصل لمن أراد اللَّه، ومن يشاء، وهذه مقيدة لإطلاق ما سواها من الآيات؛ فإنه قال:{عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ} أي في الآخرة {يَصْلَاهَا} أي يدخلها حتى تغمره من جميع جوانبه {مَذْمُومًا} أي في حال كونه مذموما على سوء تصرفه وضيعه، إذ اختار الفاني على الباقي {مَدْحُورًا} مبعدًا مقصيًا حقيرًا ذليلًا مهانًا. (تفسير ابن كثير (3/ 34)).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (6454) كتاب الرقاق، [17] باب كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتخليهم من الدنيا، ومسلم في صحيحه [22 - (2970)] كتاب الزهد والرقائق في المقدمة، والترمذي في سننه (2357)، وابن ماجه في سننه (3346)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 187)، والهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 314)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4193، 5237).

(4)

أخرجه البخاري (6454) في الرقاق، [17] باب كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتخليهم من الدنيا، ومسلم في صحيحه [21 - (2970)] كتاب الزهد والرقائق، في مقدمته، وابن ماجه (3344، 3343) والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 178).

ص: 530

ثانيها: حديث عروة عنها أنها كانت تقول

(1)

: "واللَّه يا ابن أختي إن كُنَّا لننظر الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهِلَّة في شهرين وما أوقد في أبيات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نار". قال: قلت: يا خالة، فما كان يُعِيشُكُم؟ قالت:"الأسودان؛ التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار وكانت لهم منائح فكانوا يرسلون إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من ألبانها فيسقيناها". أخرجاه. فنفي الشبع في الأول دال على تقلل المأكول، ونفي الاتقاد دال على خشونة العيش.

ثالثها: حديث أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة أنه مَرَّ بقوم بين أيديهم شاة مصلية، فدعوه فأبى أن يأكل وقال:"خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع"

(2)

. الخبر أخرجه البخاري. ومصلية بفتح الميم: أي مشوية. وفيه من المسهلات الاتباع والاقتداء، وفيه روائح {وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة: 120].

رابعها: حديث أنس: "لم يأكل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على خوان حتى مات، وما أكل خبزا مرققا حتى مات"

(3)

. أخرجه البخاري. وفي رواية له: "ولا رأى شاة سميطا بعينه قط"

(4)

. وفيه مسهل واتباع.

خامسها: حديث النعمان بن بشير قال: "لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وما يجد من الدَّقَل ما يملأ به بطنه"

(5)

. أخرجه مسلم، والدقل: تمر رديء. وهو مسهل أيضًا فلا يبقى مالا لغيره ضرورة، فمن العصمة أن لا يجد ولا الدقل.

سادسها: حديث سهل بن سعد: "ما رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم النقى من حين ابتعثه اللَّه حتى قبضه اللَّه. فقيل له: كيف كنتم تأكلون الشعير غير منخول؟ قال: كنا نطحنه وننفخه فيطير ما طار وما بقي ثريناه"

(6)

. أخرجه البخاري. النقى: الخبز الحواري

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (6459) كتاب الرقاق [17] باب كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتخليهم من الدنيا، ومسلم في صحيحه [28 - (2972)] كتاب الزهد والرقائق، في مقدمته، والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 169).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (5414) كتاب الأطعمة، [24] باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأكلون.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (6450) كتاب الرقاق، (16) باب الفقر، والترمذي (363، 1788)، وابن ماجه (3292) والتبريزي في مشكاة المصابيح (4169).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (6457) كتاب الرقاق [17] باب كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم.

(5)

أخرجه: مسلم في صحيحه [36 - (2978)] كتاب الزهد والرقائق في مقدمته، والترمذي (2372) كتاب الزهد [39] باب ما جاء في معيشة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قال النووي: الدَّقَل: هو بفتح الدال والقاف وهو تمر رديء.

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه (5413) كتاب الأطعمة، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأكلون، =

ص: 531

وهو الدرمك، وثريناه بالنار وعجناه. وفيه مسهل وهو التعمد عن مخالطة المسرفين مما لا شعور به من نقى وآلة له وأشباه ذلك ما أسهل اجتنابه، بل في كونه يسمى اجتنابا ما فيه.

سابعها: حديث أبي هريرة: خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال:"ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟ " قالا: الجوع يا رسول اللَّه. قال: "وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما، قوموا". فقاموا معه، فأتى رجلا من الأنصار فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحبا وأهلا

(1)

فقال لها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أين فلان؟ " قالت: ذهب يستعذب لنا من الماء. إذ جاء الأنصاري فنظر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ثم قال: الحمد للَّه

(2)

ما أحد اليوم أكرم أضيافا مني. قال: فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب. فقال: كلوا من هذه. وأخذ المُدْيَةَ، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إياك والحلوب". فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا، فلما أن شبعوا ورووا قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر:"والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم"

(3)

أخرجه مسلم. ومعنى يستعذب: يطلب الماء العذب، وهو الطيب. والعَذق بفتح العين واسكان الذال المعجمة وهو الكباسة

= والترمذي في سننه (2364) كتاب الزهد، [38] باب ما جاء في معيشة النبي صلى الله عليه وسلم وأهله. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقد رواه مالك بن أنس عن أبي حازم.

(1)

الأنصاري هو أبو الهيثم مالك بن التيهان، وقول المرأة:"مرحبا وأهلا" كلمتان معروفتان للعرب، ومعناهما صادفت رحبا وسعة وأهلا تأنس بهم، وفيه استحباب إكرام الضيف بهذا القول وشبهه، وإظهار السرور بقدومه وجعله أهلا لذلك، كل هذا وشبهه إكرام للضيف، وفيه جواز سماع كلام الأجنبية ومراجعتها الكلام للحاجة، وجواز إذن المرأة في دخول منزل زوجها لمن علمت علما محققا أنه لا يكرهه، بحيث لا يخلو بها الخلوة المحرمة. [النووي فى شرح مسلم (13/ 180، 181) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

فيه فوائد، منها: استحباب حمد اللَّه تعالى عند حصول نعمة ظاهرة، وكذا يستحب عند اندفاع نقمة كانت متوقعة، وفي غير ذلك من الأحوال، وقد جمعت من ذلك قطعة صالحة في كتاب الأذكار، ومنها: استحباب إظهار البشر والفرح بالضيف في وجهه وحمد اللَّه تعالى، وهو يسمع على حصول هذه النعمة والثناء على ضيفه إن لم يخف عليه فتنة، فإن خاف لم يثن عليه في وجهه. [النووي في شرح مسلم (13/ 182) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [140 - (2038)] كتاب الأشربة، [20] باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك ويتحققه تماما واستحباب الاجتماع على الطعام، وابن ماجه (3180، 3181)، والطبراني في المعجم الكبير (19/ 257)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4246)، وابن حبان في صحيحه (2536 - موارد) والهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 317، 318).

ص: 532

وهو الغصن. والمُدْيَةُ. بضم الميم وكسرها: السكين. والحلوب: ذات اللبن. والسؤال عن النعيم

(1)

سؤال تعديد لا سؤال توبيخ وتعذيب. وفيه من فوائد الجوع ثلاثة؛ معرفة قدر نعمة اللَّه في رزقه، وتعظيم شكره، وإدخال السرور على قلب المَزور وتكثير الأجر له، ووجدان حرقة الجوع وألم المخرج من البيت، فبئس الضجيع. وفي ذلك من انكسار النفس وخضوعها واستصغار الحاجة والفاقة ما يدفع طغيانها ويردها إلى العبودية التامة أعظم رد، ومحال عليها أن تنازع الربوبية في إزارها أو ردائها ونحو ذلك ما ينشبه من عرفان كماله. وهذا الأنصاري الذي لقوه هو الهيثم بن التيهان، كذا جاء في رواية الترمذي وغيره.

وثامنها: حديث خالد بن عمير العدوي قال: "خطبنا عتبة بن غزوان. وكان أميرا على البصرة. فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن الدنيا قد آذنت بصُرم

(2)

وولت حَذَّاء، ولم يبق منها إلَّا صُبَابَة كصُبَابَة الإناء يتصابُّها صاحبها، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم؛ فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفة جهنم فيهوى فيها سبعين عاما لا يدرك لها قعرًا، وواللَّه لتملأنَّ، أفعجبتم؟

ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة، وليأتين عليها يوم وهو كظيظ من الزحام، ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلَّا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا، فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك

(3)

فاتَّزرت بنصفها واتَّزر سعد بنصفها، فما أصبح اليوم منَّا أحد إلَّا أصبح أميرا على مصر من الأمصار، وإني أعوذ باللَّه أن أكون في نفسي عظيما وعند اللَّه صغيرا، وإنها لم تكن نبوة قط إلَّا تناسخت حتى يكون آخر عاقبتها ملكًا فستخبرون وتجربون

(1)

روى الترمذي في سننه (3358) في تفسير القرآن، من سورة التكاثر، عن أبي هريرة: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن أول ما يسأل عنه يوم القيامة. يعني العبد. من النعيم أن يقال له: ألم نصح لك جسمك ونرويك من الماء البارد".

(2)

أما آذنت فبهمزة ممدودة وفتح الذال: أي أعلمت، والصرم بالضم: أي الانقطاع والذهاب، وقوله: حذاء: بحاء مهملة مفتوحة ثم ذال معجمة مشددة وألف ممدودة: أي مسرعة الانقطاع، والصبابة، بضم الصاد: البقية اليسيرة من الشراب تبقى في أسفل الإناء، وقوله: يتصابها أي يشربها، وقعر الشيء أسفله، والكظيظ الممتلئ. [النووي في شرح مسلم (18/ 80)].

(3)

هو سعد بن مالك بن أهيب، أبو إسحاق القرشي الزهري، وهو سعد بن أبي وقاص، أحد العشرة المبشرين، صحابي مشهور، أول من رمى بسهم في سبيل اللَّه، أخرج له أصحاب الكتب الستة، توفي سنة (51). [انظر التهذيب (3/ 483)، التقريب (1/ 290)].

ص: 533

الأمراء بعدنا"

(1)

. أخرجه مسلم. آذنت. بمد الألف: أعلمت. وقوله: بصُرم؛ هو بضم الصاد المهملة: المنقطعة السريعة. وقوله: يتصابُّها؛ هو بتشديد الباء قبل الهاء، أي يجمعها. والكظيظ: الكثير الممتليء. وقَرِحت: بفتح القاف وكسر الراء، أي صار فيها قروح. وفيه فائدة رابعة وهو ما يشعر به الجوع من معنى، {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ}

(2)

فلو لم تقرح أشداقهم ما صاروا أُمراء الأمصار، فيصير أهل الفاقة يملكون مفاتيح الخير؛ فالصبر مفتاح الفرج {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ}

(3)

الآية. وللَّه الحمد.

تاسعها: حديث أبي موسى الأشعري قال: "أخرجت لنا عائشة كساء وإزارًا غليظًا، قالت: قُبض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في هذين"

(4)

أخرجاه. ففائدة تقلل السادات سلوة الضعيف وانجبار المكسور، وقد قال الأئمة: حُرِّمت أواني النقدين لكسر قلوب الفقراء.

عاشرها: حديث سعد بن أبي وقَّاص: "إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل اللَّه، ولقد كنا نغزو مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام نأكله إلَّا ورق الحُبْلة وهذا السمر، حتى إن أحدنا ليضع كما تضع الشاة ما له خِلْط"

(5)

أخرجاه. والحُبْلة بضم الحاء المهملة وإسكان الباء الموحدة، وهي والسمر نوعان معروفان من شجر البادية. وفيه أن اعتياد الخشونة تسهل العزبة في طلب محاب اللَّه ومراضيه، وأما الترفه

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [14 - (2967)] كتاب الزهد والرقائق في مقدمته. وحديث: "ما بين مصراعين من مصاريع الجنة أربعون سنة" أخرجه أحمد في مسنده (3/ 29)، والهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 397)، والزبيدي في الإتحاف (10/ 527)، والسيوطي فى الدر المنثور (5/ 343).

(2)

سورة القصص (5).

(3)

سورة الأنفال (26).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (5818) كتاب اللباس، [19] باب الأكسية والخمائص، ومسلم في صحيحه [24 - (2080)]، [35] كتاب اللباس، [6] باب التواضع في اللباس والاقتصار على الغليظ منه واليسير في اللباس والفراش وغيرهما. قال النووي: هذه الأحاديث المذكورة في الباب ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الزهادة في الدنيا والإعراض عن متاعها وملاذها وشهواتها وفاخر لباسها ونحوه، واجتزائه بما يحصل به أدنى التجزئة في ذلك كله، وفيه الندب للاقتداء به صلى الله عليه وسلم في هذا وغيره.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (3728) كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم[14] باب مناقب سعد بن أبي وقاص الزهري، ورقم (6453) كتاب الرقاق، [17] باب كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتخليهم من الدنيا، ومسلم في صحيحه [12 - (2996)] كتاب الرقائق في مقدمته، والترمذي في سننه (2366) كتاب الزهد [39] باب ما جاء في معيشة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 534

فاعتياده مضيع لكثرة الخيرات، ومتى تصل الفاقة إلى تقوُّت ورق الحُبْلة والسمر متى يعقد مثله.

الحادي عشر: حديث أبي هريرة مرفوعًا: "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا"

(1)

أخرجاه. أي ما يسد الرمق، قاله أهل اللغة والغريب. أي لا ناقصا عنه ولا زائدا عليه، وهو ترغيب

(2)

بديع ومدح مُطْر، لا سيما إذا بلغ معه وإذا سألت فأعظم الرغبة فإنه يظهر به البرهان.

الثاني عشر: حديث أبي هريرة قال: "واللَّه الذي لا إله إلَّا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشدُّ الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب اللَّه ما سألته إلَّا ليُشْبعَني، فمرَّ ولم يفعل، ثم مرَّ بي عمر فسألته عن آية من كتاب اللَّه ما سألته إلَّا ليُشْبِعَني، فمر فلم يفعل، ثم مر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: "أبا هِرّ". قلت: لبيك يا رسول اللَّه. قال: "الحق". ومضى فتبعته، فدخل فاستأذن فأذن لي فدخل فوجد لبنا في قدح فقال: "من أين هذا اللبن؟ " قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة. قال: "أبا هِرّ". قلت: لبيك يا رسول اللَّه. قال: "الحق إلى أهل الصُّفَّة

(3)

فادعهم لي".

قال: وأهل الصُّفَّة أضياف الإسلام لا يأوُون إلى أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئًا، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصُّفَّة، كنت أحق أنا أن أُصيب من هذا اللبن شَربة أتقوى بها، فإذا جاء أمرني فكنت أنا أعطيهم وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن! ولم يكن من طاعة اللَّه وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (6460) كتاب الرقاق [17] باب كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتخليهم من الدنيا، ومسلم في صحيحه [18 - (1055)] كتاب الزهد والرقائق في مقدمته، وابن ماجه (4139)، والترمذي في سننه (2361)، وأحمد في مسنده (2/ 446، 481)، وابن أبي شيبة في مصنفه (13/ 24)، والبيهقى في سننه (2/ 150)، والزبيدي في الإتحاف (8/ 152).

(2)

قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا" قيل كفايتهم من غير إسراف، وهو بمعنى قوله في الرواية الأخرى "كفافا" وقيل: هو سد الرمق. [النووي في شرح مسلم (18/ 83) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

الصفة: مكان مظلل في مسجد المدينة المنورة كان يأوي إليه فقراء المهاجرين، ويرعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم أهل الصفة. وهذا الحديث أخرجه البخاري، وسيأتي في آخره، وكذلك أحمد بن حنبل في مسنده (2/ 515)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 83).

ص: 535

بُدٌّ، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم وأخذوا مجالسهم من البيت، قال:"يا أبا هرّ". قلت: لبيك يا رسول اللَّه.

قال: "خُذْ فأعطهم". قال: فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرُد علي القدح فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرُد عليَّ القدح فيشرب حتى يروى ثم يرد علي القدح، حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد روى القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إليَّ فتبسم فقال:"أبا هِرّ". قلت: لبيك يا رسول اللَّه. قال: "بقيت أنا وأنت". قلت: صدقت يا رسول اللَّه. قال: "اقعد فاشرب". فقعدت فشربت، فقال:"اشرب". فشربت، فما زال يقول:"اشرب" حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكًا. قال: "فأرني". فأعطيته القدح فحمد اللَّه وسمَّى وشرب الفضلة". أخرجه البخاري

(1)

وفيه بيان ما يؤدي إليه نقص ذلك من الشدة والألم والذِّلَّة والتعوق عن الخير وأنواع الهلع والمنافسة ونحو ذلك، فأي شدَّة كموجب وضع الكبد على الأرض والاعتماد بها عليها؟! وأي ألم كموجب شدِّ الحجر على البطن؟! وأي ذِلَّة وتشاغل كالقعود على طرق المارة للاستعطاء؟! وأي هلع كقوله: فساءني ذلك؟! وأي منافسة كقوله: كنت أحق أن أصيب منه شربة أتقوى بها؟! فلله دُرَّهُم بصائر مثل هذا من أجل صحبة نبي اللَّه واقتباس دين اللَّه والحرص على مراضي اللَّه. ولقد شكر العظيم له ذلك بجبر كسره ورفع قدره وإعلاء ذكره ورزقه الإمرة مع أنه رضي الله عنهما كان قادرا على الصفق في الأسواق كغيره، لكن آثر الصحبة ولو جرى ما جرى.

الثالث عشر: حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: "لقد رأيتني وإني لأخرُّ فيما بين منبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى حجرة عائشة مغشيًّا عليَّ فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى أني مجنون وما بي جنون، ما بي إلَّا الجوع"

(2)

. أخرجه البخاري. وفيه بيان ما هو أشد من ذلك من زوال العقل وسقوط القوى رأسًا.

الرابع عشر: حديث عائشة قالت: "توفي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعا من شعير"

(3)

. أخرجاه. وفيه بيان ما يؤدي إليه من الدين

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (6452) في الرقاق [17] باب كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتخليهم من الدنيا.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (7324) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، [16] باب ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحض على اتفاق أهل العلم، والترمذي في سننه (2367) كتاب الزهد [39] باب ما جاء في معيشة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (2509) كتاب الرهن، [2] باب من رهن درعه، وابن أبي شيبة في =

ص: 536

والرهن، والدين عديل الكفر مع تشديدات فيه شهيرة.

الخامس عشر: حديث أنس قال: "رهن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم درعه بشعير، ومشيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخبز شعير وإهالة سنِخة، ولقد سمعته يقول: "ما أصبح لآل محمد صلى الله عليه وسلم إلَّا صاع ولا أمسى، وإنهم لتسعة أبيات"."

(1)

أخرجه البخاري. الإهالة. بكسر الهمزة: الشحم الذائب. والسنخة بالنون والخاء المعجمة، وهي المتغيرة. وفيه ما يؤدي إليه من رقة قلوب الأحباب المولهة بحيث يسهل في حبها مواجهة الكبير بخبز الشعير وإهالة سنخة، ولولا عاقبتها المحمودة. كما تقدم. لما حمدت مصابرتها ولا مصابرة واحد من ذلك.

السادس عشر: حديث أبي هريرة قال

(2)

: "لقد رأيت سبعين من أصحاب الصُّفَّة ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار وإما كساء قد ربطوا في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته". أخرجه البخاري. وفيه بيان سهولة الأمر مع القوت، فأي محذور نال أصحاب الصفة في فقدهم الأردية بعد أن وجدوا سدادًا من عيش؟

السابع عشر: حديث عائشة قالت: "كان فراش رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من أدم وحشوُهُ من ليف"

(3)

رواه البخاري.

الثامن عشر: حديث ابن عمر: "كنا جلوسا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من الأنصار فسلم عليه ثم أدبر الأنصاري، ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يا أخا الأنصار، كيف أخي سعد بن عبادة؟ " فقال: صالح. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من يعوده منكم؟ " فقام وقمنا معه ونحن بضعة عشر ما علينا نعال ولا خفاف ولا قلانس ولا قُمُص

(4)

،

= مصنفه (6/ 575) والبيهقي في السنن الكبرى (3716)، وفي دلائل النبوة (7/ 274).

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (2508) كتاب الرهن [1] باب في الرهن في الحضر وقول اللَّه عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]، والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 36)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (6/ 280).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (432) كتاب الصلاة، [58] باب نوم الرجل في المسجد، وروى البخاري تعليقا في الباب: وقال عبد الرحمن بن أبي بكر: كان أصحاب الصفة الفقراء.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (6456)، كتاب الرقاق [17] باب كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتخليهم من الدنيا، وأحمد في مسنده (7/ 73).

(4)

قوله: "ما علينا نعال ولا خفاف ولا قلانس ولا قمص" فيه ما كانت الصحابة من الزهد في الدنيا والتقلل منها وإطراح فضولها وعدم الاهتمام بفاخر اللباس ونحوه، وفيه جواز المشي حافيا وعيادة الإمام والعالم المريض مع أصحابه. [النووي في شرح مسلم (6/ 201) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 537

نمشي في تلك السِّباخ حتى جئناه، فاستأخر قومه من حوله حتى دنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين معه"

(1)

أخرجه مسلم. وأي مشقة في فقد النعال وما ذكر معه.

التاسع عشر: حديث عمران بن الحصين مرفوعًا: "خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم". قال عمران: فلا أدري أقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد قرنه مرتين أو ثلاثة. "ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السِّمَن"

(2)

أخرجاه. وفيه بيان ما يؤدي إليه الزائد عن القوت من السمن المذموم والمتعب المقرون بما واسطة عقده يخونون ولا يؤتمنون.

العشرون: حديث أبي أمامة مرفوعًا: "يا ابن آدم، إن تبذل الفضل خير لك وإن تمسك شر لك، ولا تلام على كفاف وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى"

(3)

أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح. وفيه بيان ما يؤدي إليه إمساك الفضل الذي هو شرٌّ لابن آدم دينا ودنيا، وما زاد على المهم ملوم عليه ما لم يتقرب به سواء تناولته حتى سمنت أو أمسكته وبخلت به على نفسك وغيرك، ولا تلام على كفاف فهو الحسنة بين السيئتين الغلو والتقصير.

الحادي بعد العشرين: حديث عبيد اللَّه بن محصن الأنصاري والخطمي مرفوعًا: "من أصبح منكم آمنا في سِرْبه معافى في جسده عنده قوت يومه، فكأنما

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [13 - (925)] كتاب الجنائز، [7] باب في عيادة المرضى.

قال النووي: قال جمهور العلماء في معنى هذا الحديث: المراد بالسمن هنا كثرة اللحم، ومعناه أنه يكثر ذلك فيهم، وليس معناه أن يتمحضوا سمانا، قالوا: والمذموم منه من يستكسبه، وأما من هو فيه خلقة فلا يدخل في هذا، والمكتسب له المتوسع في المأكول والمشروب زائدا على المعتاد. وقيل: المراد بالسمن هنا أنهم يتكثرون بما ليس فيهم ويدعون ما ليس لهم من الشرف وغيره، وقيل: المراد جمعهم الأموال.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (3650) كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم[1] باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه، ومسلم في صحيحه [14 - (2535)] كتاب فضائل الصحابة، [52] باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، والنسائي (7/ 17، 18 - المجتبى)، وأحمد بن حنبل في مسنده (1/ 438)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 74، 123)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 8)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (8/ 391).

(3)

أخرجه الترمذي في سننه (2343) كتاب الزهد، باب منه [32] ما جاء في الزهادة في الدنيا.

والحديث أخرجه مسلم في صحيحه [97 - (1036)] كتاب الزكاة، [32] باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى، وأن اليد العليا هي المنفقة، وأن السفلى هي الآخذة، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 182)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 590، 2/ 49).

ص: 538

حيزت له الدنيا"

(1)

أخرجه الترمذي وحسنه. وسربه. بكسر السين المهملة: نفسه. وقيل: قومه. ويروى بفتح السين؛ أي ملكه وطريقه. قال الجوهري: هو بالفتح: الإبل وما رعى من المال، والإنسان ابن وقته، وهَمّ الغد، عناء الأمن والعافية. وحصول القوت اليومي كحيازة الدنيا كلها؛ إذ مالك الدنيا كلها إنما ينال منها قوته.

الثاني بعد العشرين: حديث عبد اللَّه بن عمرو مرفوعًا: "قد أفلح من أسلم وكان رزقه كفافا وقَنَّعه اللَّه بما أعطاه"

(2)

أخرجه مسلم. ففيه تعريف من حصل له ذلك، فما أعظم ذلك من نعمة، سعادة الدين بإسلامه، والدنيا بكفاية المؤمن وإراحة القناعة لنا له. وما أجمع قوله:"قد أفلح".

الثالث بعد العشرين: حديث فضالة بن عبيد اللَّه الأنصاري مرفوعًا: "طوبى لمن هُدِى للإسلام وكان عيشه كفافًا وقنع"

(3)

رواه الترمذي وصححه. فطوبى له: أي ما أطيب عيشه دنيا وأخرى، ولا ترغيب في الكفاف كهذا وإياك والفضول إياك، {وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ}

(4)

الآية.

الرابع بعد العشرين: حديث ابن عباس: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاويًا وأهله لا يجدون عشاء، وكان أكثر خبزهم خبز الشعير"

(5)

أخرجه

(1)

أخرجه الترمذي في سننه (2346) كتاب الزهد، باب [34]، وابن ماجه في سننه (4141) كتاب الزهد، باب القناعة، والشجري في أماليه (2/ 161)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5191)، والحميدي في مسنده (439)، والزبيدي في الإتحاف (9/ 87، 276)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 590)، والبخاري في الأدب المفرد (300)، والخطيب في تاريخ بغداد (6/ 124)، وابن حبان في صحيحه (2503)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (5/ 249).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه (125 - (1054)) كتاب الزكاة، 43 - باب في الكفاف والقناعة، والترمذي في سننه (2348) كتاب الزهد، باب ما جاء في الكفاف والصبر عليه.

وابن ماجه في سننه (4138) كتاب الزهد، 9 - باب القناعة، وأحمد في مسنده (2/ 168، 173)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 196)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 589، 4/ 169)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (6/ 129).

(3)

أخرجه الترمذي في سننه (2349) كتاب الزهد، باب ما جاء في الكفاف والصبر عليه، وأحمد في مسنده (6/ 19)، وابن حبان فى صحيحه (2541 - الموارد)، والطبراني في المعجم الكبير (18/ 305)، والزبيدي في الإتحاف (8/ 158، 9/ 169)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 161)، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1506).

(4)

سورة التوبة (85).

(5)

أخرجه الترمذي في سننه (2360) كتاب الزهد، باب ما جاء في معيشة النبي صلى الله عليه وسلم وأهله، وابن ماجه في سننه (3347)، وأحمد بن حنبل في مسنده (1/ 255، 374)، والزبيدي في الإتحاف (8/ 121)، والشجري في أماليه (2/ 207)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 187).

ص: 539

الترمذي وقال: حسن صحيح. وفيه أن تأخير الوقت كترك العشاء، ورداءة النوع لا ينافي الكفاف الممدوح.

الخامس بعد العشرين: حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنهما "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى بالناس تخرُّ رجال من قامتهم في الصلاة من الخصَاصَة وهم أصحاب الصُّفَّة حتى يقول الأعراب: هؤلاء مجانين. فإذا صلى رسول اللَّه انصرف إليهم فقال: "لو علمتم ما لكم عند اللَّه لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة""

(1)

. رواه الترمذي وصححه. والخصَاصَة: الفاقة والجوع الشديد. وفيه بيان مرتبة الخصاصة المتحمَّلة من أجل اللَّه ومن أعظم شأنها وحب إبهامها فلم يعبر عنها إلَّا بقوله: "لو تعلمون" إلى آخره.

السادس بعد العشرين: من حديث المقدام بن معدي كرب مرفوعًا: "ما ملأ آدميٌّ وعاء شرًّا من بطنٍ بحسب ابن آدم أكلات يُقِمْنَ صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لِنَفَسِهِ"

(2)

رواه الترمذي وحسنه. وأكلات: أي لُقَم. وفيه ذم الشبع بأبلغ زاجر وأشد محذِّر، وأكثر ما ينبغي الشرّ له ما قسَّمه أثلاثا. وفيه من الإيضاح والحكم ما هو ظاهر عند الفطن.

السابع بعد العشرين: حديث أبي أمامة إياس بن ثعلبة الأنصاري الحارثي

(3)

قال: "ذكر أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوما عنده الدنيا فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ألا تسمعون ألا تسمعون، إن البَذَاذَةَ من الإيمان، إن البذاذة من الإيمان"

(4)

يعني

(1)

أخرجه الترمذي في سننه (2368) كتاب الزهد، باب ما جاء في معيشة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأحمد في مسنده (6/ 18)، والطبراني في المعجم الكبير (18/ 310، 311)، وابن حبان في صحيحه (2538 - الموارد)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 215)، والشجري في أماليه (2/ 185)، وأحمد في الزهد (36) والسيوطي في الدر المنثور (1/ 358).

(2)

أخرجه الترمذي في سننه (2380) كتاب الزهد، باب ما جاء في كراهية كثرة الأكل، والنسائي في الكبرى، في الوليمة، باب ذكر الذي يستحب للإنسان من الأكل، وابن ماجه (3349)، والحاكم في المستدرك (4/ 331)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5192)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 136)، وابن حبان في صحيحه (1348).

(3)

إياس بن ثعلبة، أبو أمامة البلوي الأنصاري الحارثي، حليف بني حارثة، قيل اسمه إياس، وقيل عبد اللَّه بن ثعلبة بن عبد اللَّه بن سهل، صحابي له حديث واحد، أخرج له مسلم وأصحاب السنن الأربعة.

ترجمته: تهذيب التهذيب (1/ 387)، تقريب التهذيب (1/ 87)، والوافى بالوفيات (9/ 462)، والإصابة (1/ 664)، والاستيعاب (1/ 128).

(4)

أخرجه أبو داود في سننه (4161) كتاب الترجل في مقدمته، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4345)، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (341).

ص: 540

التقحُّل. أخرجه أبو داود. والبذاذة. بفتح الباء والذالين المعجمتين: رثاثة الهيئة وترك فاخر الثياب. والتقحُّل بالقاف والحاء، قال أهل اللغة: هو الرجل اليابس الجلد من خشونة العيش وترك الترفه. وفيه مدح البذاذة والتعويض بأن التَّرَفُّهَ مجانب للإيمان، وهو كذلك، فطوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد يوم لم يره.

الحديث الثامن بعد العشرين: حديث جابر بن عبد اللَّه قال: "بعثنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأمَّر علينا أبا عبيدة نتلقَّى عير قريش وزوَّدنا جرابًا من تمر لم يجد لنا غيره، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة

(1)

قال: فقلت: كيف كنتم تصنعون بها؟ قال: نمَصُّها كما يَمَصُّ الصبي ثم نشرب عليها الماء فتكفينا يومنا إلى الليل، وكنا نضرب بعصيِّنا الخبط ثم نبله بالماء فنأكله. قال: وانطلقنا إلى ساحل البحر. . . فذكر قصة العنبر الذي أكلوا منه وتزودوا"

(2)

أخرجه مسلم. والجِراب بكسر الجيم أفصح من فتحها. ونمَصُّها بفتح الميم، والخَبَطُ: ورق معروف. وفيه معرفة قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7]

(3)

الآية. فأبو عبيدة لما قدِرَ عليه رزقه صرفه تمرة تمرة فمضت، ولما وُسِّعَ عليهم بالعنبر أكلوا منه حتى سمنوا وتزودوا، فالتقلل

(4)

مراتب ولكل مرتبة أحوال تناسبها.

الحديث التاسع بعد العشرين: حديث أسماء بنت يزيد قالت: "كان كُمُّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى الرُّصْغِ"

(5)

رواه أبو داود والترمذي وحسنه. والرُّصغ بالصاد. وهو بالسين أيضا: المفصل بين الكف والساعد. فالقصد في الفقر والغنى مطلوب لا في

(1)

أما إعطاء أبي عبيدة إياهم تمرة فإنما كان في الحال الثاني بعد أن فني زادهم وطال لبثهم، والظاهر أن قوله: تمرة تمرة إنما كان بعد أن قسم عليهم قبضة قبضة، فلما قل تمرهم قسمه عليهم تمرة تمرة ثم فرغ وفقدوا التمر ووجدوا الماء لفقدها وأكلوا الخبط إلى أن فتح اللَّه عليهم بالعنبر. [النووي في شرح مسلم (13/ 73) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [17 - (1935)] كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، [4] باب إباحة ميتات البحر، وأبو داود في سننه (3840)، وأحمد بن حنبل في مسنده (3/ 312)، والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 194، 9/ 251).

(3)

سورة الطلاق (7).

(4)

في هذا بيان ما كان الصحابة عليه من الزهد في الدنيا والتقلل منها والصبر على الجوع وخشونة العيش وإقدامهم على الغزو مع هذا الحال. [النووي في شرح مسلم (13/ 72) طبعة دار الكتب العلمية].

(5)

أخرجه أبو داود في سننه (4027) كتاب اللباس، باب ما جاء في القميص، والترمذي في سننه (1765) كتاب اللباس، باب ما جاء في القميص، والنسائي في الكبرى، كتاب الزينة، باب لبس القميص، وابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 211)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4329).

ص: 541

الفقر وحده كان له إلى رصغه اقتصاد لا عجز.

الحديث الثلاثون: حديث جابر في حفر الخندق قال: "إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كُدْيَةٌ شديدة، فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق. فقال: "أنا نازل" ثم قام وبطنه معصوب، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا. ثم ذكر قصة طحن الشعير وذبح العناق وأكل الخندق وهي على حالها"

(1)

أخرجاه بطوله. والكُدْيَةُ: صلبة لا يعمل فيها الناس. وفيه بيان بركة حرهم ثلاثا ولم يذوقوا ذواقا، فمنها الرزق الكافي من حيث لا يحتسب كما أجزأه على يد جابر

(2)

وقلب قلبه إليه، ومنها خرق العادة وتكثير القليل وإظهار الكرامة الغريبة.

الحديث الحادي بعد الثلاثين: حديث أنس قال: "قال أبو طلحة لأم سليم: قد سمعت صوت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ضعيفا أعرف فيه الجوع. وفي رواية: عصب بطنه بعصابة من الجوع. فهل عندك من شيء؟ فقالت: نعم. فأخرجت أقراصا من شعير ثم عصرت عليه عكة فآدمته، وقال فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما شاء اللَّه أن يقول، فأكل منه عشرة عشرة حتى أكلوا أجمع والقوم سبعون رجلا أو ثمانون ولم ينقص"

(3)

أخرجاه بطوله. وفي رواية قالت: عندي كسر من خبز وتمرات، فإن جاءنا رسول اللَّه وحده أشبعناه، وإن جاء آخر معه قَلَّ عنهم. . . وساق الحديث. وفيه من الأعلام ما لا يخفى.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (4101) كتاب المغازي، [31] باب غزوة الخندق وهي الأحزاب، ومسلم في صحيحه [141 - (2039)] كتاب الأشربة، [20] باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك ويتحققه تحققا تاما، واستحباب الاجتماع على الطعام.

(2)

في حديث جابر أنواع من الفوائد وجمل من القواعد، منها: الدليل الظاهر والعلم الباهر من أعلام نبوة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من تكثير الطعام القليل ونبع الماء، وتكثيره، وتسبيح الطعام وحنين الجذع، وغير ذلك مما هو معروف. [النووي في شرح مسلم (13/ 184) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (3578) كتاب المناقب، [25] باب علامات النبوة في الإسلام، ومسلم في صحيحه [142 - (2040)] كتاب الأشربة، [20] باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك ويتحققه تحققا تاما، واستحباب الاجتماع على الطعام، والترمذي في سننه (3630) كتاب المناقب، باب آيات إثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وما قد خصه اللَّه عز وجل به.

ص: 542

‌مجلس في القناعة والاقتصاد في المعيشة والإنفاق وذم السؤال من غير ضرورة

قال اللَّه تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}

(1)

فالرزق مضمون، والضامن مكَّن. وقال تعالى:{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}

(2)

إلى قوله: {إِلْحَافًا} [البقرة: 273]. وفيها مقتضى الآية السالفة ولازمه، فإذا فقد فالإجمال في الطلب لا يسألون الناس إلحافا وإذا وجدوا الاقتصاد، إذ الإسراف مذموم ولعله يكون سببًا لقطع أو لا يخلفه، كما قال تعالى:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا}

(3)

والتنفير ذمَّه سبحانه وتعالى؛ فإنه الجواد الماجد {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ}

(4)

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)}

(5)

قلت: وذلك الحسنة بين السيئتين. وقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56].

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "ليس الغنى عن كثرة العَرَض، إنما الغنى غنى النفس"

(6)

أخرجاه. والعَرَضُ - بفتح العين والراء: المال.

(1)

سورة هود (6).

أخبر تعالى أنه متكفل بأرزاق المخلوقات من سائر دواب الأرض صغيرها وكبيرها، بحريها وبريها، وأنه يعلم مستقرها ومستودعها، أي يعلم أين منتهى سيرها في الأرض وأين تأوي إليه من وكرها وهي مستودعها. [تفسير ابن كثير (2/ 447)].

(2)

سورة البقرة (273).

(3)

سورة النساء (5).

ينهي سبحانه وتعالى عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال التي جعلها اللَّه للناس قياما؛ أي تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها، ومن ههنا يؤخذ الحجر على السفهاء، وهم أقسام، فتارة يكون الحجر للصغير، فإن الصغير مسلوب العبارة، وتارة يكون الحجر للمجنون، وتارة لسوء التصرف لنقص العقل أو الدين، وتارة للفلس، وهو ما إذا أحاطت الديون برجل وضاق ماله عن وفائها، فإذا سأل الغرماء الحاكم الحجر عليه حجر عليه. [تفسير ابن كثير (1/ 452)].

(4)

سورة سبأ (39).

(5)

سورة الفرقان (67).

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه (6446) كتاب الرقاق، [15] باب الغنى غنى النفس، ومسلم في صحيحه [120 - (1051)] كتاب الزكاة، [40] باب ليس الغنى عن كثرة العرض، والترمذي =

ص: 543

وروينا من حديث عبد اللَّه بن عمرو مرفوعًا: "قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه اللَّه بما آتاه"

(1)

أخرجه مسلم، وقد سلف فيما مضى.

وروينا من حديث حكيم بن حِزام رضي الله عنهما قال: "سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني ثم قال: "يا حكيم، إن هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس

(2)

لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى". قال حكيم: فقلت: يا رسول اللَّه، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك حتى أُفارق الدنيا. فكان أبو بكر يدعو حكيما ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئًا، ثم إن عمر دعاه ليعطيه فأبى أن يقبله، فقال: يا معشر المسلمين، أُشهدكم على حكيم أني أعرض عليه حقه الذي قسمه اللَّه له في هذا الفيء فيأبى أن يأخذه. فلم يرزأ حكيم أحدًا من الناس بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى توفي"

(3)

أخرجاه. ويرزأ. براء ثم زاي ثم همزة: أي لم يأخذ من أحد شيئًا. وأصل الرزء النقصان، أي لم ينقص أحدا شيئًا بالأخذ منه. وإشراف النفس تطلُّعها وطمعها بالشيء، وسخاوة النفس هي عدم الإشراف إلى الشيء والطمع فيه والمبالاة فيه والشدة.

= (2373) في الزهد، باب ما جاء أن الغنى غنى النفس، وابن ماجه (4137)، وأحمد بن حنبل في مسنده (2/ 243، 261)، وابن حبان في صحيحه (2520 - الموارد).

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [125 - (1054)] كتاب الزكاة، [43] باب في الكفاف والقناعة، وأحمد بن حنبل في مسنده (2/ 168، 173)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 196)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5165)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 589، 4/ 169)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 67، 361)، وأبو نعيم فى حلية الأولياء (6/ 129)، والزبيدي إتحاف السادة المتقين (8/ 159).

(2)

قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن أخذها بطيب نفس بورك له فيه. . . . " قال النووي: قال العلماء: إشراف النفس تطلعها إليه وتعرضها له وطمعها فيه، وأما طيب النفس فذكر القاضي فيه احتمالين: أظهرهما: أنه عائد على الآخذ، ومعناه من أخذه بغير سؤال ولا إشراف وتطلع بورك له فيه، والثاني: أنه عائد إلى الدافع، ومعناه: من أخذه ممن يدفع منشرحا بدفعه إليه طيب النفس لا بسؤال اضطره إليه أو نحوه. [النووي في شرح مسلم (7/ 112، 113) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (3143) كتاب فرض الخمس، [19] باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، ورقم (6441) كتاب الرقاق، [11] باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"هذا المال خضرة حلوة"، ومسلم في صحيحه [96 - (1035)] كتاب الزكاة [32] باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى وأن العليا هي المنفقة وأن السفلى هي الآخذة، والترمذي (2463) كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، وأحمد في مسنده (3/ 402).

ص: 544

وروينا من حديث أبي يزيد عن أبي موسى الأشعري قال: "خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في غزاة ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه، فنقبت أقدامنا ونقبت قدمي وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخِرَق فسميت غزوة ذات الرِّقاع

(1)

لما كنا نُعصِّب على أرجلنا من الخرق. قال أبو بردة: فحدث أبو موسى بهذا الحديث ثم كره ذلك وقال: ما كنت أصنع بأن أذكره؟! قال: كأنه كره أن يكون شيئًا من عمله أفشاه"

(2)

أخرجاه

(3)

.

وروينا من حديث عمرو بن تغلب أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بمال أو شيء فقسمه فأعطى رجالا وترك رجالا، فبلغه أن الذي ترك عتبوا، فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال:"أما بعد، فواللَّه إني لأعطي الرجل وأدع الرجل، والذي أدع أحب إليَّ من الذي أعطى، ولكني أعطي أقوامًا لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع وأَكِل أقواما إلى ما جعل اللَّه في قلوبهم من الغنى والخير، منهم عمرو بن تغلب". فواللَّه ما أحب أن لي بكلمة رسول اللَّه حُمر النعم"

(4)

أخرجه البخاري. والهلع: هو أشد الجزع، وقيل: هو الضجر.

وروينا من حديث حكيم بن حِزام مرفوعًا: "اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، ومن يستعفف يُعفه اللَّه ومن يستغن يُغنه اللَّه"

(5)

أخرجاه، والسياق للبخاري.

(1)

قوله: "فسميت ذات الرقاع لذلك" هذا هو الصحيح في سبب تسميتها، وقيل: سميت بذلك بجبل هناك فيه بياض وسواد وحمرة، وقيل: سميت باسم شجرة هناك، وقيل: لأنه كان في ألويتهم رقاع، ويحتمل أنها سميت بالمجموع. [النووي في شرح مسلم (12/ 165) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

قوله: "وكره أن يكون شيئًا من عمله أفشاه" فيه استحباب إخفاء الأعمال الصالحة وما يكابده العبد من المشاق في طاعة اللَّه تعالى، ولا يظهر شيئًا من ذلك إلا لمصلحة مثل بيان حكم ذلك الشيء، والتنبيه على الاقتداء به فيه ونحو ذلك، وعلى هذا يحمل ما وجد للسلف من الأخبار بذلك. [النووي في شرح مسلم (12/ 165، 166) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (4128) كتاب المغازي، [33] باب غزوة ذات الرقاع، ومسلم في صحيحه [149 - (1816)] كتاب الجهاد والسير، [50] باب غزوة ذات الرقاع.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (923) كتاب الجمعة، [29] باب من قال في الخطبة بعد الثناء: أما بعد.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (1427) كتاب الزكاة، [20] باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، ومسلم في صحيحه [95 - (1034)] كتاب الزكاة، [32] باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى وأن العليا هي المنفقة وأن السفلى هي الآخذة، والترمذي (2343، 2463)، والنسائي (5/ 61، 69 - المجتبى)، وأحمد في مسنده (2/ 4، 67) والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 177، 180).

ص: 545

وروينا عن معاوية مرفوعًا: "لا تُلْحِفوا في المسألة؛ فواللَّه لا يسألني أحد منكم شيئًا فتخرج له مسألتُهُ مني شيئًا وأنا له كاره فيبارك له فيه فيما أعطيته"

(1)

أخرجه مسلم.

وروينا من حديث عوف بن مالك الأشجعي قال: "كنا عند رسول اللَّه تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال: "ألا تبايعون رسول اللَّه؟ " وكنا حديثي عهد ببيعته، فقلنا: قد بايعناك يا رسول اللَّه. ثم قال: "ألا تبايعون رسول اللَّه؟ " فبسطنا أيدينا وقلنا قد بايعناك يا رسول اللَّه، فعلام نبايعك؟ قال: "على أن تعبدوا اللَّه ولا تشركوا به شيئًا، والصلوات الخمس، وتطيعوا. وأسرَّ كلمة خفية. ولا تسألوا الناس شيئًا". فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدا يناوله إياه"

(2)

أخرجه مسلم.

وروينا من حديث ابن عمر مرفوعًا: "لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى اللَّه تعالى وليس في وجهه مُزْعَةُ لحم"

(3)

أخرجاه. المُزْعَةُ - بضم الميم وإسكان الزاي ثم عين مهملة: القطعة.

وروينا عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر وذكر الصدقة والتعفف عن المسألة "واليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا هي المنفقة والسفلى هي السائلة"

(4)

أخرجاه.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من سأل الناس تكثرا فإنما يسأل جمرا، فليستقل وليستكثر"

(5)

أخرجه مسلم.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [99 - (1038)] كتاب الزكاة، [33] باب النهي عن المسألة، وأحمد في مسنده (4/ 98)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 196)، والحاكم في المستدرك (2/ 62)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 595)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (4/ 81)، والطبراني في المعجم الكبير (19/ 348).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [108 - (1043)] كتاب الزكاة، [35] باب كراهية المسألة للناس، والنسائي (1/ 129 - المجتبى)، والبيهقى في السنن الكبرى (4/ 197)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 578)، والزبيدي في الإتحاف (8/ 161)، والطبراني في المعجم الكبير (18/ 39)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 360).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (1474) كتاب الزكاة، [54] باب من سأل الناس تكثيرا، ومسلم في صحيحه [103 - (1040)] كتاب الزكاة [35] باب كراهة المسألة للناس، وأحمد في مسنده (2/ 15، 88)، وابن أبي شيبة في مصنفه (3/ 208)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 572)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 359).

(4)

تقدم تخريجه قريبا.

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [105 - (1041)] كتاب الزكاة، [35] باب كراهة المسألة للناس، وابن =

ص: 546

وروينا من حديث سمرة مرفوعًا: "إن المسألة كدٌّ يكُدُّ بها الرجل وجهه إلَّا أن يسأل الرجل سلطانا أو في أمر لا بد منه" رواه الترمذي

(1)

وقال: حسن صحيح. والكدُّ: الخدش ونحوه.

وروينا من حديث ابن مسعود مرفوعًا: "من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها باللَّه فيوشك اللَّه له برزق عاجل وآجل"

(2)

رواه أبو داود والترمذي وحسنه. يوشِك. بكسر الشين: أي يُسرع.

وروينا من حديث ثوبان مرفوعًا: "من يكفُل لي أن لا يسأل الناس شيئًا وأتكفَّل له بالجنة؟ " فقلت: أنا. فكان لا يسأل أحدا شيئًا

(3)

رواه أبو داود بإسناد صحيح. وروينا من حديث قبيصة بن المخارق قال: "تحملت حمالة فأتيت رسول اللَّه أسأله فيها، فقال: "قُم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بهذا". ثم قال: "يا قبيصة، إن المسألة لا تحل إلَّا لأحد ثلاثة؛ رجل تحمَّل حَمَالة فحلَّت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يُصيب قواما من عيش -أو قال: سدادا من عيش- ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقة. فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش -أو قال: سدادا من عيش- فما سواهن من المسألة يا قبيصة سُحْتًا يأكلها صاحبها سحتا"

(4)

أخرجه مسلم. الحَمَالة. بفتح الحاء: ما يتحمله ويلتزمه على نفسه.

= ماجه في سننه (1838)، وأحمد بن حنبل في مسنده (2/ 231)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 196)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 575)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 360)، والزبيدي في الإتحاف (9/ 304) وابن أبي شيبة في مصنفه (3/ 259).

(1)

أخرجه الترمذي في سننه (681) كتاب الزكاة، باب ما جاء في النهي عن المسألة.

وأخرجه أبو داود (1639) كتاب الزكاة، باب كم يعطي الرجل الواحد من الزكاة، والنسائي في الزكاة، باب مسألة الرجل ذا سلطان.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (1645) كتاب الزكاة، باب في الاستعفاف، وأحمد في مسنده (1/ 407)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 196)، والحاكم في المستدرك (1/ 408)، والدارمي في السنن (2/ 34).

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (1643) كتاب الزكاة، باب كراهية المسألة، وأحمد بن حنبل في مسنده (5/ 276)، والحاكم في المستدرك (1/ 412)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 360)، وابن عبد البر في التمهيد (4/ 108).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [109 - (1044)] كتاب الزكاة، [36] باب من تحل له المسألة، والبيهقي في السنن الكبرى (17/ 21، 23) والطبراني في المعجم الكبير (18/ 371، 372، 373)، وابن أبي شيبة في مصنفه (3/ 210)، وابن عبد البر في التمهيد (5/ 100)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1837) والسيوطي في الدر المنثور (1/ 361).

ص: 547

والجائحة: الآفة تصيب مال الإنسان. والقوام: ما يقوم في أمر الإنسان من مال ونحوه. والسِّداد. بكسر السين: ما يسُدُّ حاجة المعوز ويكفيه. والفاقة: الفقر. والحجا: العقل

(1)

.

وروينا عن أبي هريرة مرفوعًا: "ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يُغْنيه ولا يُفْطَنُ له فيُتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس"

(2)

أخرجاه.

(1)

الحجى: مقصور: هو العقل، وإنما قال صلى الله عليه وسلم "من قومه" لأنهم من أهل الخبرة بباطنه، والمال مما يخفى في العادة فلا يعلمه إلا من كان خبيرا بصاحبه، وإنما شرط الحجى تنبيها على أنه يشترط في الشاهد التيقظ، فلا تقبل من مغفل، وأما اشتراط الثلاثة فقال بعض أصحابنا: هو شرط في بينة الإعسار فلا يقبل إلا من ثلاثة لظاهر هذا الحديث، وقال الجمهور: يقبل من عدلين كسائر الشهادات غير الزنا، وحملوا الحديث على الاستحباب. [النووي في شرح مسلم (7/ 118، 119) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (1476، 1479) كتاب الزكاة، [55] باب قول اللَّه تعالى:{لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} ، ورقم (4539) كتاب تفسير القرآن، [48] باب {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]، ومسلم في صحيحه [101 - (1039)] كتاب الزكاة، [34] باب المسكين الذي لا يجد غنى ولا يفطن له فيتصدق عليه.، وأبو داود في سننه (1631، 1632)، والنسائي (5/ 85 المجتبى)، وأحمد في مسنده (2/ 260، 395)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 195، 7/ 11)، والزبيدي في الإتحاف (4/ 172)، وعبد الرزاق في مصنفه (20027)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 358، 6/ 114)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 589).

ص: 548

‌مجلس في جواز الأخذ من غير مسألة ولا تطلع إليه

روينا من حديث سالم عن أبيه عن جده قال

(1)

: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول: أعطه من هو أفقر مني إليه. فقال: "خذه، إذا جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه فتموله، فإن شئت فكله وإن شئت تصدق به، وما لا فلا تُتْبعه نفسك". قال سالم: فكان عبد اللَّه لا يسأل أحدًا شيئًا ولا رَدَّ شيئًا أُعْطيه"

(2)

أخرجاه. مُشْرف. بالشين المعجمة: أي متطلع عليه.

(1)

هذا الحديث فيه منقبة لعمر رضي الله عنه وبيان فضله وزهده، وإيثاره، والمشرف إلى الشيء هو المتطلع إليه الحريص عليه. وما لا فلا تتبعه نفسك: معناه: ما لم يوجد فيه هذا الشرط لا تعلق النفس به، واختلف العلماء فيمن جاءه مال؛ هل يجب قبوله أم يندب، على ثلاث مذاهب حكاها أبو جعفر محمد بن جرير الطبري وآخرون، والصحيح المشهور الذي عليه الجمهور أنه يستحب في غير عطية السلطان، وأما عطية السلطان فحرمها قوم وأباحها قوم وكرهها قوم. [النووي في شرح مسلم (7/ 120) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (1474) كتاب الزكاة، [53] باب من أعطاه اللَّه شيئًا من غير مسألة ولا إشراف نفس، ورقم (7163، 7164) كتاب الأحكام، [17] باب رزق الحكام والعاملين عليها. ومسلم في صحيحه [110 - (1045)] كتاب الزكاة، [37] باب إباحة الأخذ لمن أعطي من غير مسألة ولا إشراف، والنسائي (5/ 104، 105 - المجتبى)، وأحمد بن حنبل في مسنده (1/ 17، 21، 2/ 99)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 224، 5/ 186، 6/ 184)، وابن خزيمة في صحيحه (2366)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1845).

ص: 549

‌مجلس في الحث على الأكل من عمل يده والتعفف به عن السؤال والتعرض للإعطاء

قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}

(1)

.

وروينا من حديث الزبير بن العوام مرفوعًا: "لأن يأخذ أحدكم حَبْلَه ثم يأتي الجبل فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها فيكف اللَّه بها وجهه خير من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه"

(2)

أخرجه البخاري.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير من أن يسأل أحدًا فيعطيه أو يمنعه"

(3)

أخرجاه. وعنه مرفوعًا: "كان داود صلى الله عليه وسلم لا يأكل إلَّا من عمل يده"

(4)

أخرجه البخاري. وعنه مرفوعًا: "كان زكريا نجَّارًا"

(5)

أخرجه

(1)

سورة الجمعة (10).

أي إذا فرغ منها {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] لما حجر عليهم من التصرف بعد النداء، وأمرهم بالاجتماع أذن لهم بعد الفراغ في الانتشار في الأرض والابتغاء من فضل اللَّه، كما كان عراك بن مالك رضي الله عنهما إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: اللهم إني أجبت دعوتك وصليت فريضتك وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين. رواه ابن أبي حاتم. [تفسير ابن كثير (4/ 367)].

(2)

أخرجه البخارى في صحيحه (1480) كتاب الزكاة، [55] باب قول اللَّه تعالى:{لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]، ورقم (2075) في البيوع، [15] باب كسب الرجل وعمله بيده، وابن ماجه في سننه (1836)، وأحمد بن حنبل في مسنده (1/ 167)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 522)، وعبد الرزاق في مصنفه (20010، 20013)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 361).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (2074) كاب البيوع، [15] باب كسب الرجل وعمله بيده، ومسلم في صحيحه [107 - (1042)] كتاب الزكاة، [35] باب كراهة المسألة للناس، وأحمد في مسنده (2/ 455)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 192، 2/ 522) والسيوطي في الدر المنثور (1/ 362).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (2073) كتاب البيوع، [15] باب كسب الرجل وعمله بيده، ورقم (3417) في أحاديث الأنبياء، [38] باب قول اللَّه تعالى:{وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} [النساء: 163].

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [169 - (2379)] كتاب الفضائل، [45] باب من فضائل زكريا -عليه =

ص: 550

مسلم. وعن المقداد بن معدي كرب موفوعًا: "ما أكل أحد طعاما قَطُّ خير من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي اللَّه داود كان يأكل من عمل يده"

(1)

أخرجه البخاري.

= السلام، وابن ماجه في سننه (2150)، وأحمد في مسنده (2/ 296، 405)، والحاكم في المستدرك (2/ 590).

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (2072) كتاب البيوع [15] باب كسب الرجل وعمله بيده.

ص: 551

‌مجلس في التنافس في أمور الآخرة والاستكثار مما يتبرك به

قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}

(1)

أي في نعيم الأبرار والنضرة والرحيق المختوم، فيتنافس فيه أولوا الجد.

وروينا

(2)

من حديث سهل بن سعد: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أتى بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ، فقال للغلام: "أتأذن لي أن أُعطي هؤلاء؟ " فقال الغلام: واللَّه يا رسول اللَّه لا أُوثر بنصيبي منك أحدا. فتلَّهُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في يده"

(3)

أخرجاه. تلَّهُ. بالتاء المثناة فوق: وضعه. وهذا الغلام هو ابن عباس رضي الله عنهما وفيه المنافسة في السؤر النبوي، ولهذا بادر باليمين وبقوله: لا أوثر بنصيبي منك. وهو لائح في عظم الهبة والتوقير.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "بينما أيوب صلى الله عليه وسلم يغتسل عُرْيانًا فخرَّ عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب يحثي في ثوبه فناداه ربه. عز وجل: يا أيوب، ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى وعزتك، ولكن لا غِنَا بي عن بركتك"

(4)

أخرجه

(1)

سورة المطففين (26).

(2)

في هذه الأحاديث بيان هذه السنة الواضحة، وهو موافق لما تظاهرت عليه دلائل الشرع من استحباب التيامن في كل ما كان من أنواع الإكرام، وفيه أن الأيمن في الشراب ونحوه يقدم، وإن كان صغيرا ومفضولا؛ لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قدم الأعرابي والغلام على أبي بكر. رضي اللَّه تعالى عنه. وأما تقديم الأفاضل والكبار فهو عند التساوي في باقي الأوصاف. [النووي في شرح مسلم (13/ 169) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (5620) كتاب الأشربة، [19] باب هل يستأذن الرجل من عن يمينه في الشراب ليعطي الأكبر؟، ومسلم في صحيحه [127 - (2030)] كتاب الأشربة، [17] باب استحباب إدارة الماء واللبن ونحوهما من يمين المبتدئ.، وأحمد في مسنده (5/ 333)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 286)، ومالك في الموطأ (927).

قوله: "فتله في يده" أي وضعه فيها، وقد جاء في مسند أبي بكر بن أبي شيبة أن هذا الغلام هو عبد اللَّه بن عباس، ومن الأشياخ خالد ابن الوليد رضي الله عنهما، وفي هذه الأحاديث أنواع من العلم، منها: أن البداءة باليمين في الشراب ونحوه سنة، وهذا مما لا خلاف فيه، ونقل عن مالك تخصيص ذلك بالشراب، وقال ابن عبد البر وغيره: لا يصح هذا عن مالك. [النووي في شرح مسلم (13/ 170)].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (3391) كتاب أحاديث الأنبياء، [باب] قول اللَّه تعالى: {وَأَيُّوبَ =

ص: 552

البخاري. وهو لائح في الاستكثار مما يتبرك به، ووجه التبرك به أنه حديث عهد بربه، وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى الباكورة من التمر قال:"اللهم بارك لنا في كذا وكذا". إلى قوله: "اللهم أريتنا أوله فأرنا آخره". (ذهب ترى ذهب الجنة)

(1)

وصح أنه صلى الله عليه وسلم قال في زمزم: "إنها بركة، إنها طعام طُعم وشفاء سُقم". والذهب كذلك فكان مباركا، وقد قال تعالى:{آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ}

(2)

وهو من إتيانه كماله بركة، وكان ذلك في حق هذا النبي الكريم كرامة والكرامات يتبرك بها، وقد قيل: إن طلب نبينا. عليه أفضل الصلاة والسلام. من غنم الرقية

(3)

ولحم العنبر كان للتبرك.

‌فصل في فضل الغني الشاكر

وهو من أخذ المال من وجهه وصدقه في وجوهه المأمور بها. قال اللَّه تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)}

(4)

وهذا وعد إما بالخيرات وإما بالجنة. وقال: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17)}

(5)

الآية. فيتجنب النار ويُعطى حتى يرضى من خير الدين والدنيا والأخرى. وقال: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ}

(6)

الآية. وفيها إرشاد إلى وجوه الإعطاء من الإبداء والإخفاء وإلى ما يسهل

= إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)} [الأنبياء: 83]، وأحمد بن حنبل في مسنده (2/ 314)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 198)، وابن كثير في البداية والنهاية (1/ 224)، والقرطبي في تفسيره (15/ 210).

(1)

كذا بالأصل.

(2)

سورة الذاريات (16).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [65 - (2201)] كتاب السلام، [23] باب جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار، عن أبي سعيد الخدري أن ناسا من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كانوا في سفر، فمروا بحي من أحياء العرب فاستضافوهم فلم يضيفوهم، فقالوا لهم: هل فيكم راق؟ فإن سيد القوم لديغ أو مصاب، فقال رجل منهم: نعم فأتاه فرقاه بفاتحة الكتاب فبرأ الرجل فأعطى قطيعا من غنم، فأبى أن يقبلها، وقال: حتى أذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال يا رسول اللَّه، واللَّه ما رقيت إلا بفاتحة الكتاب، فتبسم وقال:"وما أدراك أنها رقية؟ " ثم قال: "خذوا منهم واضربوا لي بسهم معكم".

(4)

سورة الليل (5 - 7).

أي أعطى ما أمر بإخراجه واتقى اللَّه في أموره {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)} [الليل: 6] أي بالمجازاة على ذلك، قاله قتادة، وقال خصيف: بالثواب، وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وأبو صالح وزيد بن أسلم:{وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)} [الليل: 6] أي بالخلف، وقال أبو عبد الرحمن السلمي والضحاك:{وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)} [الليل: 6] أي بلا إله إلا اللَّه، وفي رواية عن عكرمة:{وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)} [الليل: 6] أي بما أنعم اللَّه عليه. [تفسير ابن كثير (4/ 518)].

(5)

سورة الليل (17).

(6)

سورة البقرة (271). أي إن أظهرتموها فنعم شيء هي، وقوله: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ =

ص: 553

وجه اللَّه من غير رياء ولا سمعة فلا أراد جزاءً ولا شكورًا، وهو الإخفاء والإبداء للفقراء، وخير الإخفاء جليا لا يخفى.

وقال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)}

(1)

والآيات في فضل الإنفاق في الطاعات كثيرة معلومة.

وروينا من حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلَّا في اثنتين

(2)

رجل آتاه اللَّه مالًا فسلطه على هلكته في الحق؛ ورجل آتاه اللَّه حكمة فهو يقضي بها ويُعلِّمُها"

(3)

أخرجاه. وسلف شرحه قريبا، فمن اتصف بذلك فهو محمود إن حصل على النعمة التامة الحقيقية، وكل ذي نعمة محسود عليها، فيا طرباه دنيا وأخرى.

وروينا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: "لا حسد إلَّا في اثنتين؛ رجل آتاه اللَّه القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه اللَّه مالًا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار". أخرجاه

(4)

والآناء: الساعات، فقضى بذلك على نفسه وغيره وعلَّمه لإخوانه.

= فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271] فيه دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها؛ لأنه أبعد من الرياء، إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة من اقتداء الناس به، فيكون الأفضل من هذه الحيثية. [تفسير ابن كثير (1/ 322)].

(1)

سورة آل عمران (92).

(2)

قال العلماء: الحسد قسمان: حقيقي ومجازي، فالحقيقي تمنى زوال النعمة عن صاحبها، وهذا حرام بإجماع الأمة مع النصوص الصحيحة، وأما المجازي فهو الغبطة، وهو أن يتمنى مثل النعمة التي على غيره من غير زوالها عن صاحبها، فإن كانت من أمور الدنيا كانت مباحة، وإن كانت طاعة فهي مستحبة، والمراد بالحديث: لا غبطة محبوبة إلا في هاتين الخصلتين وما في معناهما. [النووي في شرح مسلم (6/ 84، 85) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (73) كتاب العلم، [16] باب الاغتباط في العلم والحكمة، ورقم (1409) كتاب الزكاة، [5] باب إنفاق المال في حقه، ورقم (7141) كتاب الأحكام، [3] باب أجر من قضى بالحكمة، ورقم (7316) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، [13] باب ما جاء في اجتهاد القضاة بما أنزل اللَّه تعالى، ومسلم في صحيحه [268 - (816)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، [47] باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (7529) كتاب التوحيد، [45] باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"رجل آتاه اللَّه القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار"، ومسلم في صحيحه [266 - (815)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، [47] باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه وفضل هن تعلم حكمة من فقه أو غيره فعمل بها وعلمها، والترمذي في سننه (1936) كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الحسد، وابن ماجه في سننه (4209)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 438).

ص: 554

وروينا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "أن فقراء المهاجرين أتوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول اللَّه، ذهب أهل الدُّثُور بالدرجات العُلى والنعيم المقيم. فقال: "وما ذاك؟ " فقالوا: يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون ولا نتصدق ويعتقون ولا نعتق

(1)

. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أفلا أُعلمكم شيئًا تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلَّا من صنع مثل ما صنعتم؟ " قالوا: بلى يا رسول اللَّه. قال: "تسبحون وتكبرون وتحمدون دُبُرَ كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة". فرجع المهاجرين إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ذلك فضل اللَّه يُؤتيه من يشاء". أخرجاه

(2)

والسياق لمسلم. والدُّثُور: الأموال الكثيرة. وإنما ذهبوا بذلك لقيامهم بالتعظيم لأمر اللَّه صلاة وصيامًا وتسبيحًا وحمدًا، وبالشفقة على خلق اللَّه تصدقًا وإعتاقًا. وقد أقر عليه الشارع أولًا وصرَّح به آخرًا؛ إذ قال:"ذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء" وغير بعيد مع {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ}

(3)

فإنه يؤتيكم ذلك. وحاصل الأحاديث بيان أن الغني الشاكر أهل فضل اللَّه العظيم، وأنه يرتفع فيه أبصار الخلائق حتى يحسد حقا فما أعم نفعه وأحمد جميعه.

(1)

قوله: "ذهب أهل الدثور" هو بالثاء المثلثة، واحدها دثر، وهو المال الكثير، وفي هذا الحديث دليل لمَنْ فَضَّل الغَنِّيَ الشاكر على الفقير الصابر، وفي المسألة خلاف مشهور بين السلف والخلف من الطوائف، واللَّه أعلم. [النووي في شرح مسلم (5/ 78، 79) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (843) كتاب الأذان، [155] باب الذكر بعد الصلاة، ورقم (6329) كتاب الدعوات، [18] باب الدعاء بعد الصلاة، ومسلم في صحيحه [142 - (595)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، [26] باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته.

(3)

سورة النساء (32).

ص: 555

‌مجلس في الكرم والجود والإنفاق في وجوه الخير ثقة باللَّه

قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ}

(1)

. وقال تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ}

(2)

الآية. وقال تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}

(3)

.

وروينا في الصحيحين من حديث ابن مسعود مرفوعًا: "لا حسد إلَّا في اثنتين؛ رجل آتاه اللَّه مالًا فسلَّطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه اللَّه الحكمة فهو يقضي بها ويعلَّمُها"

(4)

فالمراد بالحسد هنا: الغبطة؛ أي لا يغبط أحد إلَّا على إحدى هاتين الخَصلتين.

وروينا في صحيح البخاري من حديثه أيضًا مرفوعًا: "أيُّكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ " قالوا: يا رسول اللَّه، ما منا أحد إلَّا ماله أحب إليه. قال:"فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخَّر"

(5)

وروينا فيهما أيضًا من حديث جابر قال: "ما سئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شيئًا قط فقال: لا"

(6)

.

وروينا فيهما أيضًا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلَّا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا. ويقول الآخر: اللهم أعط

(1)

سورة سبأ (39).

أي مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم به وأباحه لكم فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبدل، وفي الآخرة بالجزاء والثواب، كما ثبت في الحديث:"يقول اللَّه تعالى: أنفق أنفق عليك"، وقال مجاهد: لا يتأولنَّ أحدكم هذه الآية: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39] إذا كان عند أحدكم ما يقيمه فليقصد فيه، الرزق مقسوم.

(2)

سورة البقرة (272).

(3)

سورة البقرة (273).

(4)

الحديث تقدم تخريجه قريبا.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (6442) كتاب الرقاق، [12] باب ما قدم من ماله فهو له، وأحمد بن حنبل في مسنده (1/ 382)، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1486).

(6)

أخرجه مسلم في صحيحه [56 - (2311)] كتاب الفضائل [14] باب ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا قط فقال لا. وابن أبي شيبة في مصنفه (11/ 15).

ص: 556

ممسكًا تلفًا"

(1)

.

وروينا فيهما أيضًا من حديث ابن عمرو: "أن رجلًا سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير؟ قال: "تُطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف"

(2)

.

وروينا في صحيح البخاري عنه مرفوعًا: "أربعون خصلة -أعلاهن منيحة العنز- ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعدها إلَّا أدخله اللَّه تعالى بها الجنة"

(3)

وقد سلف بيانه في كثرة طرق الخير.

وروينا في صحيح مسلم من حديث أبي أمامة مرفوعًا: "يا ابن آدم، إنك إن تبذل الفضل خير لك وإن تمسكه شرٌّ لك، ولا تُلام على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى"

(4)

.

وروينا فيهما من حديث أنس قال: "ما سُئل رسول اللَّه على الإسلام شيئًا إلَّا أعطاه، وقد جاءه رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم، أسلموا؛ فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر. وإن كان الرجل ليسلم ما يريد إلَّا الدنيا فما يلبث إلَّا يسيرًا حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها"

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (1442) كتاب الزكاة [29] باب قول اللَّه تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} ، ومسلم في صحيحه [57 - (1010)] كتاب الزكاة، [17] باب في المنفق والممسك، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 178) والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 48)، والقرطبي في تفسيره (1/ 253، 14/ 307).

قال النووي: قال العلماء هذا في الإنفاق في الطاعات ومكارم الأخلاق وعلى العيال والضيفان والصدقات ونحو ذلك بحيث لا يذم ولا يسمى سرفا، والإمساك المذموم هو الإمساك عن هذا.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (12) كتاب الإيمان، [6] باب إطعام الطعام من الإسلام، ورقم (28)، [20] باب السلام من الإسلام، ورقم (6236) كتاب الاستئذان، [9] باب السلام للمعرفة وغير المعرفة، ومسلم في صحيحه [63 - (39)] كتاب الإيمان، [14] باب بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل، وأبو داود (5194)، وابن ماجه (3253)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 62)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 287، 3/ 424).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (2631) كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها [35] باب فضل المنيحة، وأبو داود في سننه (1683)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 429)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 184)، وأحمد بن حنبل في مسنده (2/ 194).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [97 - (1036)] كتاب الزكاة، [32] باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى وأن اليد العليا هي المنفقة وأن السفلى هي الآخذة، والترمذي في سننه (2343)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 182)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 590، 2/ 49)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 254).

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [57 - (2312)]، [58] كتاب الفضائل [14] باب ما سئل رسول اللَّه =

ص: 557

وروينا فيه أيضًا من حديث عمر قال: "قسم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قسما، فقلنا: يا رسول اللَّه، لَغير هؤلاء كانوا أحق به منهم. قال: "إنهم خيروني أن يسألوني بالفحش أو يُبَخِّلُوني ولست بباخل""

(1)

.

وروينا في صحيح البخاري من حديث جبير بن مطعم: "بينما أنا أسير مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مُقْفلَة من حنين فعلقوه الأعراب حتى اضطروا إلى سمرة فخَطفت رداءه، فوقف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "اعطوني ردائي، فلو كان لي عدد هذه العضاة غنما لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلًا ولا كذَّابًا ولا جبانًا""

(2)

. مقفلة: أي حال رجوعه. والسمرة: شجرة العضاة، شجر له شوك.

وروينا في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "ما نقصت صدقة من مال ولا زاد اللَّه عبدًا بعفو إلَّا عِزًّا، وما تواضع أحد للَّه إلَّا رفعه اللَّه"

(3)

.

وروينا في جامع الترمذي. وقال: حسن صحيح. من حديث أبي كبشة عمر بن سعد الأنماري مرفوعًا: "ثلاثة أقسم اللَّه عليهم وأُحدِّثكم حديثًا فاحفظوه: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظُلم عبد مظلمة إلَّا صبر عليها إلَّا زاده اللَّه عِزًّا، ولا فتح عبد باب مسألة إلَّا فتح اللَّه عليه باب فقر - أو كلمة نحوها". "وأحدثكم حديثا فاحفظوه"، قال: "إنما الدنيا لأربعة نفر؛ عبد رزقه اللَّه مالًا وعلمًا فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم للَّه فيه حقًا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه اللَّه علمًا ولم يرزقه مالًا وهو

= شيئًا قط فقال لا وكثرة عطائه.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [127 - (1056)] كتاب الزكاة، [44] باب إعطاء من سأل بفحش وغلظة، وأحمد في مسنده (1/ 35).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (4/ 115)، وأحمد في مسنده (4/ 82)، والطبراني في المعجم الكبير (11/ 135، 136)، والزبيدي في الإتحاف (7/ 140، 8/ 194)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5907)، وابن كثير في البداية والنهاية (4/ 354).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [69 - (2588)] كتاب البر والصلة والآداب [19] باب استحباب العفو والتواضع، والترمذي في سننه (2029)، وأحمد في مسنده (2/ 235، 386)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 235، 4/ 187)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 5، 3/ 307، 558) وابن خزيمة في صحيحه (2438)، والهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 110)، والطبراني في المعجم الكبير (11/ 405).

أخرجه الترمذي في سننه (2325) كتاب الزهد، باب ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر، وأحمد في مسنده (4/ 231)، والمنذري في الترغيب والترهيب، (1/ 58، 2/ 33)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (8/ 39)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 359، 5/ 35)، والعراقي في المغنى عن حمل الأسفار (4/ 351، 352)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

ص: 558

صادق النية، يقول: لو أن لي مالًا لعملت بعمل فلان. وهو بنيته فأجرهما سواء، وعبد رزقه اللَّه مالًا ولم يرزقه علمًا فهو يخبط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم للَّه فيه حقًا، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه اللَّه مالًا ولا علمًا، فهو يقول: لو أن لي مالًا لعملت فيه بعمل فلان. فهو بنيته فوزرهما سواء".

وروينا فيه أيضًا مصححًا من حديث عائشة أنهم ذبحوا شاة فقال صلى الله عليه وسلم: "ما بقي منها؟ " قالت: "ما بقي إلَّا كتفها". قال: "بقي كلها غير كتفها"

(1)

أي بقيت لنا في الآخرة إلَّا كتفها، فالمعنى: تصدقوا بها إلَّا كتفها.

وروينا في الصحيحين من حديث أسماء بنت الصديق: "قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا توكي فيوكى عليك"

(2)

. وفي رواية لهما: "أنفقي وانفحي وانضحي، ولا تحصي فيُحص اللَّه عليك، ولا توعي فيوعي اللَّه عليك"

(3)

. وانفحي بالحاء المهملة بمعنى: أنفقي. وكذا انضحي.

وروينا فيهما أيضًا من حديث أبي هريرة مرفوعًا

(4)

: "مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما، فأما المنفق فلا ينفق إلَّا سبغت. أو وفرت. على جلده حتى تخفى بنانه وتعفو أثره، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئًا إلَّا لزقت كل حلقة مكانها فهو يوسعها فلا تتسع". الجبة: الدرع. ومعناه: أن المنفق كلما أنفق سبغت وطالت حتى تجر وراءه وتخفي رجليه وأثر مشيه وخطواته.

وروينا فيهما أيضًا من حديثه مرفوعًا: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب.

(1)

أخرجه الترمذي في سننه (2470) كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 6)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1919).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (1433) كتاب في الزكاة، [23] باب التحريض على الصدقة، ورقم (2590) كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، [15] باب هبة، ومسلم في صحيحه [88 - (1029)] كتاب الزكاة [28] باب الحث في الصدقة والإنفاق وكراهة الإحصاء.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (2591) كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، [15] باب هبة المرأة لغير زوجها وعتقها إن كان لها زوج، ومسلم في صحيحه [88 - (1029)] كتاب الزكاة [باب] الحث في الإنفاق وكراهة الإحصاء، وأحمد في مسنده (6/ 139، 345)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 187، 6/ 60).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (1443) كتاب الزكاة، [30] باب مثل البخيل والمتصدق، ومسلم في صحيحه [75 - (1023)] كتاب الزكاة، [23] باب مثل المنفق والبخيل، والنسائي (5/ 72 - المجتبى)، وأحمد في مسنده (2/ 256)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 49)، والسيوطي في الدر المنثور (6/ 198).

ص: 559

ولا يقبل اللَّه إلَّا الطيب. فإن اللَّه يتقبلها بيمينه ثم يُربِّيها لصاحبها كما يُربِّي أحدكم فلُوُّه حتى يكون مثل الجبل"

(1)

. والفَلُوُّ بفتح الفاء وضم اللام وتشديد الواو، ويقال أيضًا بكسر الفاء وإسكان اللام وتخفيف الواو، وهو المُهْرُ.

وروينا في صحيح مسلم عنه مرفوعًا: "بينا رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتًا في سحابة: اسق حديقة فلان. فتنحَّى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرَّة، فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع الماء، فإذا رجل قائم في حديقته يُحَوِّل الماء بمِسْحاتِهِ فقال له: يا عبد اللَّه، ما اسمك؟ قال: فلان. للإسم الذي سمع في السحاب، فقال له: يا عبد اللَّه، لم تسألني عن اسمي؟ فقال: إني سمعت صوتًا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان لاسمك، فما تصنع فيها؟ قال: أما إذا قلت هذا، فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي ثلثًا وأردُّ فيه ثُلُثه"

(2)

. الحرَّة: أرض بها حجارة سود. والشرجة. بفتح الشين المعجمة وإسكان الراء وبالجيم: مسيل الماء

(3)

.

‌فصل في النهي عن البخل والشُّحِّ

قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8)}

(4)

الآية. وقال: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ}

(5)

الآية. وتقدمت جملة من الأحاديث في الباب السابق.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (1410) كتاب الزكاة، [8] باب الصدقة من كسب طيب، ومسلم في صحيحه [64 - (1014)] كتاب الزكاة، [19] باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، وأحمد في مسنده (2/ 331)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 177، 190)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 3)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 365)، والزبيدي في الإتحاف (4/ 126، 146).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [45 - (2984)] كتاب الزهد والرقائق، [4] باب الصدقة في المساكين، وأحمد في المسند (2/ 296)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 123)، والزبيدي في الإتحاف (9/ 125)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 7).

(3)

قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم: "فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة، فإذا شرجة من تلك الشراج" معنى تنحى قصد، يقال: تنحيت الشيء وانتحيته ونحوته إذا قصدته، ومنه سمي علم النحو؛ لأنه قصد كلام العرب. وأما الحرة: بفتح الحاء فهي أرض ملبسة حجارة سوداء. والشرجة: بفتح الشين المعجمة وإسكان الراء، وجمعها شراج بكسر الشين، وهي مسايل الماء في الحرار، وفي الحديث فضل الصدقة والإحسان إلى المساكين وأبناء السبيل، وفضل أكل الإنسان من كسبه والإنفاق على العيال. [النووي في شرح مسلم (18/ 89) طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

سورة الليل (8).

(5)

سورة الحشر (9).

ص: 560

وروينا في صحيح مسلم من حديث جابر

(1)

: "اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشُّح؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم". قلت: ولا أفحش منهما

(2)

.

‌فصل في الورع وترك الشبهات

قال تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}

(3)

وفيهما (استفاف)

(4)

والمتساهل عن تساهله قرب موبقات تُرى أدق من الشعر ورُبَّ شرارة أضرمت نارًا على بلد كبير، إن الأمور صغيرها مما يهيج به العظيم، وقال تعالى:{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)}

(5)

فإن كان بذلك فقد ينزل به سخطه بأمر لا يلقى له بالا {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى}

(6)

.

وروينا من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الحلال بيِّن والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي حول الحِمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، وإن حمى اللَّه محارمه، ألا وإن في الجسد مُضْغَة إذا صلُحَت صلُحَ الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"

(7)

أخرجاه من طرق بألفاظ متقاربة، وهو من أعظم المرغبات في الورع وذكر فوائده العظيمة الشأن، وهو الاستبراء للدين والعرض. وناهيك بأمر يحصل

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [56 - (2578)] كتاب البر والصلة والآداب، [15] باب تحريم الظلم، وأحمد في مسنده (2/ 92)، والحاكم في المستدرك (1/ 11)، والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 93).

(2)

قوله صلى الله عليه وسلم: "واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم": قال القاضي: يحتمل أن هذا الهلاك هو الهلاك الذي أخبر عنهم به في الدنيا بأنهم سفكوا دماءهم، ويحتمل أنه هلاك الآخرة، وهذا الثاني هو الأظهر، ويحتمل أنه أهلكهم في الدنيا والآخرة، قال جماعة: الشح أشد البخل وأبلغ في المنع من البخل، وقيل: هو البخل مع الحرص، وقيل: البخل في أفراد الأمور والشح عام، وقيل البخل في أفراد الأمور والشح بالمال والمعروف، وقيل الشح الحرص على ما ليس عنده والبخل بما عنده. [النووي في شرح مسلم (16/ 110) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

سورة النور (15).

(4)

كذا بالأصل.

(5)

سورة الفجر (14).

(6)

سورة طه (81).

(7)

أخرجه البخاري في صحيحه (52) كتاب الإيمان، [40] باب فضل من استبرأ لدينه وعرضه، ومسلم في صحيحه [107 - (1599)] كتاب المساقاة، [20] باب أخذ الحلال وترك الشبهات، وأبو داود (3329)، والنسائي (7/ 242، 8/ 317 - المجتبى)، وأحمد في مسنده (4/ 269، 270)، والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 334).

ص: 561

الوجاهة عند اللَّه وعند الناس، وإن شئت قلت تطييب السريرة وتحسين السيرة، أو يحيي القلب وينوِّره ويصرف العرض ويطهره، وفيه بيان حقيقة الورع وأنه ليس إلَّا اتقاء الشبهات

(1)

. وتسمية اتقاء المحارم ورعاء حق، ولكن العرف خصَّ اسم المحارم باسم التقى وترك الشبهات باسم الورع وترك ما لا بأس به أو ما لا يعني، إنما سمِّي ورعا لاشتباهه بمخوف العاقبة. وفيه أيضا: التحذير من تركه بذكر آفة التساهل، وهو الوقوع في الحرام إما لتمرينه على التساهل وإما لمصادفة للحرام. فمن الشبهات كما في تمثيله بالرَّاعي يرعى حول الحمى على أنه يحتمل الأول أيضا.

وروينا من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد تمرة في الطريق فقال: "لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها"

(2)

أخرجاه. وفيه مرغب أخر وهو فعل الشارع له فيتجنب ما جهل إباحته.

وروينا من حديث النَّوَّاس بن سمعان رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"البرُّ حسن الخُلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس"

(3)

أخرجه مسلم. حَاكَ بالحاء المهملة والكاف: أي تردد فيه.

وروينا من حديث وابصة بن معبد رضي الله عنهما قال: "أتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "جئتَ تسأل عن البرّ؟ " قلت: نعم. قال: "استفت قلبك، البرُّ ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك""

(4)

رواه أحمد والدارمي في مسنديهما. وهو من مجاري الورع كالذي

(1)

أجمع العلماء على عظم وقع هذا الحديث وكثرة فوائده، وأنه أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، قال جماعة هو ثلث الإسلام، وإن الإسلام يدور عليه وعلى حديث "الأعمال بالنيات" وحديث "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه". [النووي في شرح مسلم (11/ 22) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (2055) في الشهادات، [4] باب ما ينزه من الشبهات، ورقم (2431) كتاب اللقطة، [6] باب إذا وجد تمرة في الطريق، ومسلم في صحيحه [165 - (1071)] كتاب الزكاة، [50] باب تحريم الزكاة على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعلى آله وهم بنو هاشم وبنو المطلب دون غيرهم، وأحمد في مسنده (3/ 292)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 30)، وعبد الرزاق في مصنفه (18642)، وابن أبي شيبة في مصنفه (3/ 214)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 558).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [14 - (2553)] كتاب البر والصلة والآداب، ورقم (15) به، والترمذي في سننه (2389)، وأحمد بن حنبل في مسنده (4/ 182)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 142)، والحاكم في مستدركه (2/ 14)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5073)، والسيوطي في الدر المنثور (2/ 255)، والعجلوني في كشف الخفاء (1/ 334).

(4)

أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده (4/ 227)، والهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 175، 10/ 294)، =

ص: 562

قبله، وهو ما لم تطمئن إليه النفس ولا يخرجه عن ذلك الإفتاء بالحل، {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)} .

وروينا من حديث أبي سِروعة. بكسر السين المهملة. عقبة بن الحارث أنه تزوج ابنة لأبي إهاب بن عزيز، فأتته امرأة فقالت: إني أرضعت عقبة والتي تزوج بها. فقال لها عقبة: ما أعلم أنك أرضعتني ولا أخبرتني. فركب إلى رسول اللَّه بالمدينة فسأله فقال رسول اللَّه: "كيف وقد قيل؟ " ففارقها عقبة ونكحت زوجا غيره

(1)

أخرجه البخاري.

وفيه نوع آخر من مجاريه، وهو ما أخبر بتحريمه من لم يكف قوله في التحريم.

وروينا من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: حفظت من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يُريبك"

(2)

أخرجه الترمذي وحسَّنه. أي اترك ما تشك فيه وخذ ما لا تشك فيه، وهذا نوع آخر منه وهو ما يريب الإنسان ويشك فيه، والريب أشد من مجرد التردد.

وروينا من حديث عائشة قالت: "كان لأبي بكر الصديق غلام يخرج له الخراج وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يوما بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أُحسن الكهانة إلَّا أني خدعته، فلقيني فأعطاني لذلك هذا الذي أكلت منه. فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه"

(3)

أخرجه البخاري.

= والطحاوي في مشكل الآثار (3/ 34)، والزبيدي في الإتحاف (1/ 13، 160، 7/ 42، 60) والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 557)، والعجلوني في كشف الخفاء (1/ 136)، والسيوطي في الدر المنثور (2/ 255).

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (88) كتاب العلم، [27] باب الرحلة في المسألة النازلة وتعليم أهله، ورقم (2052) كتاب البيوع، [3] باب تفسير المشبهات، ورقم (2640) كتاب الشهادات، [4] باب إذا شهد شاهد أو شهود بشيء، ورقم (2659) في الشهادات، [13] باب شهادة الإماء والعبيد، وكذا رقم (2660، 5104)، وأحمد في مسنده (4/ 7، 384)، وابن أبي شيبة في مصنفه (4/ 196)، والطبراني في المعجم الكبير (17/ 353).

(2)

أخرجه الترمذي في سننه (2518) كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، وأحمد في مسنده (1/ 200، 3/ 112، 153)، والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 335)، والحاكم في المستدرك (2/ 13، 4/ 99)، وابن حبان في صحيحه (512 - الموارد)، والطبراني في المعجم الصغير (1/ 102)، والزبيدي في الإتحاف (1/ 157، 158)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (6/ 352، 3/ 264)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 558، 3/ 188).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (3842) كتاب مناقب الأنصار، [26] باب أيام الجاهلية.

ص: 563

والخراج: شيء يجعله السيد على عبده يؤديه إلى السيد كل يوم، وباقي كسبه يكون للعبد. وهذا نوع آخر وهو ما به استدراك السُّحت المتناول من غير علم، وهو من المطعوم ونحوه.

وروينا من حديث نافع عن عمر بن الخطاب: "أنه فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف، وفرض لابنه ثلاثة آلاف وخمسمائة، فقيل له: هو من المهاجرين، فلم نقصته؟ فقال: إنما هاجر به أبوه. يقول: ليس هو كمن هاجر بنفسه"

(1)

أخرجه البخاري. وفيه تنبيه على أن المتورع عنه أنواع، منها: تفاوت العطاء بحسب تفاوت الاستحقاق تورعًا من التسوية.

وروينا من حديث عطية بن عروة السعدي الصحابي مرفوعًا: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا لما به البأس"

(2)

أخرجه الترمذي وحسنه. وفيه بيان تفاوت درجات الورع، وأشد من اتقاء الشبهات اتقاء ما لا بأس به حذرًا مما به بأس.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (3912) كتاب مناقب الأنصار، [45] باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة.

(2)

أخرجه الترمذي في سننه (2451) كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، [19]، وابن ماجه في سننه (4215) كتاب الزهد، باب الورع والتقوى، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 335)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (1/ 159، 6/ 22)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 559)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2775)، والطبراني في المعجم الكبير (17/ 169)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 24).

ص: 564

‌مجلس في استحباب العزلة عند فساد الزمان أو الخوف من فتنة في الدين ووقوع في حرام وشبهات ونحوها

قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)}

(1)

أي: فِرُّوا من المعاصي إلى محبته ومراضيه، أو مما سواه إليه، أو مما لم يكن إلى من لم يزل.

وروينا من حديث سعد بن أبي وقَّاص مرفوعًا: "إن اللَّه يحب العبد التقي الغني الخفي"

(2)

أخرجه مسلم.

والمراد بالغنى غنى النفس

(3)

كما سبق في الحديث الصحيح.

وفيه من خواص العزلة والاختفاء وعموم الذكر محبة اللَّه لمن اتصف بذلك، وناهيك بذلك.

وروينا من حديث أبي سعيد الخدري قال: "قال رجل: أي الناس أفضل يا رسول اللَّه؟ قال: "رجل يُجاهد بنفسه وماله في سبيل اللَّه". قال: ثم من؟ قال: "رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه". وفي رواية: "يتقي اللَّه ويدع الناس من شره""

(4)

أخرجاه.

وفيه: أن المعتزل في شعب أفضل الناس. وفيه ثلاث فوائد للعزلة: عبادة الرب

(1)

سورة الذاريات (50).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [11 - (2965)، كتاب الزهد والرقائق في مقدمته، وأحمد في مسنده (1/ 168، 177)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 439)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 25، 94)، والزبيدي في الإتحاف (8/ 31، 308)، والعجلوني في كشف الخفا (1/ 287).

(3)

المراد بالغنى غنى النفس هذا هو الغنى المحبوب لقوله صلى الله عليه وسلم: "ولكن الغنى غنى النفس" وأشار القاضي إلى أن المراد بالغنى بالمال، وأما الخفي فبالخاء المعجمة، هذا هو الموجود في النسخ، والمعروف في الروايات، وذكر القاضي أن بعض رواة مسلم رواه بالمهملة، فمعناه بالمعجمة الخامل المنقطع إلى العبادة والاشتغال بأمور نفسه، ومعناه بالمهملة الوصول للرحم اللطيف بهم وبغيرهم من الضعفاء، والصحيح بالمعجمة. [النووي في شرح مسلم (18/ 79) طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (6494) كتاب الرقاق، [34] باب العزلة راحة من خلاط السوء، ومسلم في صحيحه [122 - (1888)] كتاب الإمارة [34] باب فضل الجهاد والرباط، وأبو داود في سننه (2485)، والترمذي (1660)، والنسائي (5/ 83 المجتبى)، وابن ماجه (3978).

ص: 565

تعالى، ولا شك أن الفراغ من كل شاغل عن الخير مُيَسِّر للخير وأن التفرد عن الخلق أبعد عن الرياء وأعون على الإخلاص. والفائدة الثانية: تقوى اللَّه، ولا شك أن كثيرًا من المعاصي تتعذر في العزلة فكانت مَطِيَّة التقى. وثالثها: ويدع الناس من شره، وإنها لفائدة جليلة وصدقة جزيلة. وفيه أحد مواطن العزلة وهو شعب من الشعاب، ولزوم البيت قريب منه.

وروينا عنه مرفوعًا: "يُوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن"

(1)

أخرجه البخاري. وشعف الجبال أعلاها. وفيه فائدة أخرى للعزلة وهو الفرار بدينه من الفتن، وكان الغنم خير المال لإعانتها على أشرف الخلال، وقد اعتزل أبو ذر السَّادات ونزل الربذة، فما ظنك بزماننا الخلف وكثرة الأراذل والسفلة.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "ما بعث اللَّه نبيا إلَّا رعى الغنم". فقال أصحابه: وأنت؟ قال: "نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة"

(2)

أخرجه البخاري. قلت: فليُقتُدَ بهم. وكان أويس يرعى إبل قومه نحليًا وتكسُّبًا.

وروينا من حديثه أيضًا مرفوعًا: "من خير معاش الناس لهم رجل ممسك عنان فرسه في سبيل اللَّه يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه يبتغي القتل أو الموت مظانَّهُ

(3)

، أو رجل في غُنيمة في رأس شَعَفة من هذه الشعف أو بطن واد من هذه الأودية يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين، ليس من الناس إلَّا

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (6495) كتاب الرقاق، [34] باب العزلة راحة من خلاط السوء، وأبو داود (4267)، والنسائي (8/ 124 - المجتبى)، وابن ماجه (3980)، وأحمد في مسنده (3/ 6، 30) والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 439)، والزبيدي في الإتحاف (6/ 354).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (2262) كتاب الإجارة، في الإجارات، [2] باب رعي الغنم على قراريط، وابن ماجه في سننه (2149)، والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 118)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3983)، والزيلعي في نصب الراية (4/ 132)، وأبو نعيم في دلائل النبوة (1/ 55)، والذهبي في ميزان الاعتدال (6476).

(3)

معناه: يسارع على زهره، وهو متنه، كلما سمع هيعة، وهي الصوت عند حضور العدو، وهي بفتح الهاء وإسكان الياء: الفزعة، بإسكان الزاي، النهوض إلى العدو. ومعنى يبتغي القتل مظانه يطلبه في مواطنه التي يرجى فيها لشدة رغبته في الشهادة، وفي هذا الحديث فضيلة الجهاد. والرباط الحرص على الشهادة.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "أو رجل في غنيمة في رأس شعفة" الغنيمة، بضم الغين: تصغير الغنم، أي قطعة منها، والشعفة بفتح الشين والعين: أعلى الجبل. [النووي في شرح مسلم (13/ 3، 32) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 566

في خير"

(1)

أخرجه مسلم. يطير: أي يسرع. ومتنه: ظهره. والهيعة: الصوت للحرب. والفزعة نحوه، ومَظَانُّ الشيء: المواضع التي يظن وجوده فيها. والغُنيمة بضم الغين: تصغير الغنم. والشَعَفة بفتح الشين والعين: أعلى الجبل. وفيه مدح العزلة مطلقًا، وفيه أنه ليس من الناس إلَّا في خير كما جمعه هذا الحديث، وهو من جوامع كلمه.

‌فصل في الاختلاط بالناس وحضور جُمَعِهم وجماعاتهم ومشاهد الخير ومجالس الذكر معهم وعيادة مريضهم وحضور جنائزهم ومواساة محتاجهم وغير ذلك من مصالحهم، لمن قدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقمع نفسه عن الإيذاء والصبر على الأذى

هذا الذي كان عليه الشارع

(2)

والأنبياء والخلفاء ومن بعدهم من العلماء وأخيارهم، وهو مذهب أكثر التابعين ومن بعدهم، وبه قال الشافعي وأحمد وأكثر الفقهاء. قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}

(3)

والآيات في معنى ذلك كثيرة معلومة.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [125 - (1889)] كتاب الإمارة، [34] باب فضل الجهاد والرباط، وأحمد بن حنبل في مسنده (1/ 37، 319)، والدارمي في سننه (2/ 251)، وابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 294).

(2)

في إيذاء المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم روى البخاري في صحيحه (4815) كتاب تفسير القرآن، من سورة المؤمن (غافر) عن عروة بن الزبير، قال: قلت لعبد اللَّه بن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد ما صنع المشركون برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. قال: بينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفع عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقال:"أتقتلون رجلا أن يقول ربي اللَّه وقد جاءكم بالبينات من ربكم". وفي إيذاء أصحابه صلى الله عليه وسلم روى أحمد في مسنده (1/ 404) بسنده عن عبد اللَّه بن مسعود، قال: "إن أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد.

فأما رسول صلى الله عليه وسلم فمنعه اللَّه بعمه أبي طالب، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدراع الحديد وأوقفوهم في الشمس، فما من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا غير بلال، فإنه هانت عليه نفسه في اللَّه، وهان على قومه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول أحد أحد".

(3)

سورة المائدة (2).

ص: 567

‌مجلس في تحريم الكبر والإعجاب

قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)}

(1)

. وقال تعالى: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا}

(2)

أي يميله ويعرض عن الناس تكبرًا عليهم، والمرح: التبختر. وقال تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى}

(3)

إلى قوله: {وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص: 81].

وروينا من حديث عبد اللَّه بن مسعود مرفوعًا: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر". فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبُه حسنًا ونعله حسنةً. قال: "إن اللَّه جميل يحب الجمال

(4)

، الكبر بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس" أخرجه مسلم

(5)

.

بَطَرُ الحق: دفعه ورده على قائله. وغَمْطُ الناس: احتقارهم.

(1)

سورة القصص (83).

يخبر تعالى أن الدار الآخرة ونعيمها المقيم الذي لا يحول ولا يزول جعلها لعباده المؤمنين المتواضعين الذين لا يريدون علوًا في الأرض، أي ترفعًا على خلق اللَّه وتعظمًا عليهم وتجبرًا بهم ولا فسادا فيهم، كما قال عكرمة: العلو التجبر. وقال سعيد جبير: العلو البغي، وقال سفيان بن سعيد الثوري، عن منصور، عن مسلم البطين: العلو في الأرض التكبر بغير حق، والفساد أخذ المال بغير حق. [تفسير ابن كثير (3/ 416)].

(2)

سورة لقمان (18).

(3)

سورة القصص (76).

(4)

قوله صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه جميل يحب الجمال": اختلفوا في معناه، فقيل: إن معناه أن كل أمره سبحانه وتعالى حسن جميل، وله الأسماء الحسنى، وصفات الجمال والكمال، وقيل: جميل بمعنى مجمل، ككريم وسميع بمعنى مكرم ومسمع.

قال الإمام أبو القاسم القشيري رحمه الله معناه جليل. وحكى الخطابي أنه بمعنى ذي النور والبهجة، أي مالكهما، وقيل: معنى جميل الأفعال لكم باللطف والنظر إليكم. . . إلى آخره. [النووي في شرح مسلم (2/ 78) طبعة دار الكتب العلمية].

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [147 - (91)] كتاب الإيمان، [39] باب تحريم الكبر وبيانه، والترمذي في سننه (1998، 1999)، وأبو داود في سننه (4091)، وابن ماجه في سننه (59، 4173)، والزبيدي في الإتحاف (6/ 498، 8/ 192، 348)، والسيوطي في الدر المنثور (3/ 79، 4/ 114)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5108).

ص: 568

وأول من تكبر ذلك اللعين.

وروينا من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنهما: "أن رجلًا أكل عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بشماله فقال: "كُلْ بيمينك" قال: لا أستطيع. قال: "لا استطعت" ما منعه إلَّا الكبر، قال: فما رفعها إلى فيه"

(1)

أخرجه مسلم. ومن جملة قبائحه إيقاعه في الكذب بنحو لا أستطيع (لا جد)

(2)

ما عقبه دعاء من لا يُرَدُّ بقوله: "لا استطعت".

وروينا من حديث حارثة بن وهب مرفوعًا: "ألا أخبركم بأهل النار؟ كُلُّ عُتُلٍّ جوَّاظ مستكبر"

(3)

وستعلم شرحه في باب ضعفة المسلمين. وما أعظم هذا النداء، وفيه شمول لنار الدنيا والأخرى الروحانية والجثمانية.

وروينا من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا: "احتجَّت الجنة والنار، قالت النار: فِيَّ الجبَّارون والمتكبرون. وقالت الجنة: فيَّ ضعفاء الناس وسقطُهُم

(4)

فقضى اللَّه بينهما: إنك الجنة رحمتي أرحم بك من أشاء، وإنك النار عذابي أُعذِّب بك ما أشاء، ولكليهما عليَّ مِلؤُها"

(5)

أخرجه مسلم، {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 72]

(6)

.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا ينظر اللَّه يوم القيامة إلى من جرَّ إزاره بَطَرًا"

(7)

أخرجاه. وما أشد هذا الحرمان وإنه لنقيض قصده.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [107 - (2021)] كتاب الأشربة، [13] باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما، وأحمد في مسنده (4/ 46)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 277)، والطبراني في المعجم الكبير (7/ 15)، وابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 105)، والدارمي في سننه (2/ 97).

(2)

كذا بالأصل.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (6071) كتاب الأدب، [61] باب الكبر، مسلم في صحيحه [46 - (2853)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، [13] باب النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء.

(4)

قوله صلى الله عليه وسلم: "وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعجزهم" أما سقطهم فبفتح السين والقاف أي ضعفاؤهم والمتحقرون منهم، وأما عجزهم فبفتح العين والجيم، جمع عاجز، أي العاجزون عن طلب الدنيا والتمكن فيها والثروة والشوكة. [النووي في شرح مسلم (17/ 150) طبعة دار الكتب العلمية].

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [36 - (2847)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، [13] باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، وأحمد في مسنده (2/ 276)، والترمذي في سننه (2561)، والبخاري في الأدب المفرد (554).

(6)

سورة الزمر (72) وسورة غافر (76).

(7)

أخرجه البخاري في صحيحه (5783) كتاب اللباس، [1] باب قول اللَّه تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} ، ورقم (5788) في اللباس، [5] باب من جر ثوبه من الخيلاء، ومسلم في صحيحه [48 - (2087)] كتاب اللباس والزينة، [9] باب تحريم جر الثوب خيلاء، =

ص: 569

وروينا من حديثه مرفوعًا: "ثلاثة لا يكلمهم اللَّه يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم؛ شيخ زَانٍ وملك كذَّاب وعائل مستكبر"

(1)

أخرجه مسلم. والعائل: الفقير. وما أشد من اجتمع عليه هؤلاء الثلاثة لا سيما كلام محبوبه. وفيه أن الكبر قد يفحش ببعض (محاله)

(2)

فإنه لأشد قبحا بالعائل المتكبر.

وروينا عنه مرفوعًا: "العزُّ إزاره والكبرياء رداؤه، فمن ينازعني عذَّبته"

(3)

أخرجه مسلم. وأي مصيبة أعظم ممن ينازع رب الأرباب في ذلك وهو من طين وماء مهين، {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر: 56]، وإن تعذيبه لأقل جزائه.

وروينا من حديثه أيضًا مرفوعًا: "بينما رجل يمشي في حُلَّة يعجب نفسه مُرجِّل رأسه يختال في مشيته إذ خسف اللَّه به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة"

(4)

أخرجاه. مُرجِّل: ممشِّط. ويتجلجل تحتهن: يغوص وينزل. وفيه أبلغ الحذر من الإعجاب بالنفس وإن لم يكن كالكبر.

وروينا من حديث سلمة بن الأكوع مرفوعًا: "لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يُكتب في الجبَّارين فيصيبه ما أصابهم"

(5)

رواه الترمذي وحسَّنه. ويذهب: يرتفع ويتكبر، وفيه التحذير من البوادي المؤدية إلى الإعجاب.

= والترمذي في سننه (1730)، وابن ماجه (3574)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 90).

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [172 - (107)] كتاب الإيمان، [46] باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية.

(2)

كذا بالأصل.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [136 - (2620)] كتاب البر والصلة والآداب، [38] باب تحريم الكبر، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 562)، والزبيدي في الإتحاف (8/ 338).

قال النووي: الضمير في إزارة ورداؤه يعود إلى اللَّه تعالى للعلم به، وفيه محذوف تقديره: قال اللَّه تعالى: ومن ينازعني ذلك أعذبه، ومعنى ينازعني يتخلف بذلك فيصير في معنى المشارك، وهذا وعيد شديد في الكبر مصرح بتحريمه، وأما تسميته إزارا ورداءً فمجاز واستعارة حسنة كما تقول العرب: فلان شعاره الزهد ودثاره التقوى لا يريدون الثوب الذي هو شعارا ودثارا، بل معناه صفته. [النووي في شرح مسلم (16/ 143) طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (5789) كتاب اللباس، [5] باب من جر ثوبه من الخيلاء، ومسلم في صحيحه [49 - (2088)] كتاب اللباس والزينة، [10] باب تحريم التبختر في المشي مع إعجاب بثيابه.

(5)

أخرجه الترمذي في سننه (2000) كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الكبر، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 571).

ص: 570

‌مجلس في حُسن الخُلق

قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)}

(1)

وفيها استعظام خلقه ومدحه. وقال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}

(2)

الآية. وفيها تفاصيل حرمات الأخلاق وإطلاق الإحسان واستدراك الهفوات.

وروينا عن ابن المبارك فيما حكاه عنه الترمذي أن حُسن الخُلق طلاقة الوجه وبذل المعروف وكف الأذى.

وروينا من حديث أنس رضي الله عنه قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلُقًا"

(3)

أخرجاه. فحسن الخلق من سمته، فقصبات السبق حازها، وأي مُرغِّب للألبَّاء في رفقة من هذا صفته.

وروينا من حديثه أيضا: "ما مسست ديباجًا ولا حريرًا ألين من كف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولا شممت رائحة أطيب من رائحة رسول اللَّه، ولقد خدمت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال قط: أُفٍّ، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلت كذا، ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا". أخرجاه

(4)

وما أحسن هذا الخَلق والخُلق.

(1)

سورة القلم (4).

قال العوفي عن ابن عباس: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} هو الإسلام، وكذلك قال مجاهد وأبو مالك والسدي والربيع بن أنس، وقال عطية: لعلى أدب عظيم، وقال معمر عن قتادة: سئلت عائشة عن خلق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قالت: "كان خلقه القرآن"، يقول سعيد: كما هو في القرآن. [تفسير ابن كثير (4/ 402)].

(2)

سورة آل عمران (134).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (8/ 55)، خرجه مسلم في صحيحه [267 - (659)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، [48] باب جواز الجماعة في النافلة، و [55 - (2310)] كتاب الفضائل، [13] باب كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا، وأحمد في مسنده (3/ 212، 270)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 436، 3/ 66، 5/ 203)، وابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 322)، والسيوطي في الدر المنثور (6/ 251) والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (7/ 322، 500).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (3561) كتاب المناقب، [23] باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، ومسلم في صحيحه [81 - (2330)] كتاب الفضائل، [21] باب طيب رائحة النبي صلى الله عليه وسلم ولين مسه والتبرك بمسحه، ورقم [5 - (2309)] كتاب الفضائل، [13] باب كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا.

ص: 571

وروينا من حديث الصعب بن جَثَّامة قال: "أهديت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيًّا فردَّه عليَّ، فلما رأى ما في وجهي قال: "إنَّا لم نَرُدَّهُ عليك إلَّا أنا حُرُم""

(1)

أخرجاه. وما أحسن هذا الاعتذار وألطفه.

وروينا من حديث النواس بن سمعان قال: "سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال: "البرُّ حُسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطَّلع عليه الناس"

(2)

أخرجه مسلم. فبذل المعروف بطلاقة الوجه لا أهم منه بعد كفِّ الأذى وتلافيه.

وروينا من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص قال: "لم يكن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا مُتَفحِّشًا، وكان يقول: "إن من خياركم أحسنكم أخلاقًا"

(3)

أخرجاه. وإنما لم يكن كذلك لأن اللَّه تعالى يبغض الفاحش البذيء كما سيأتي.

وروينا من حديث أبي الدرداء مرفوعًا: "ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن اللَّه يبغض الفاحش البذيء"

(4)

أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح. والبذيء هو الذي يتكلم بالفحش ورديء الكلام، وفيه بيان رتبة الخُلق الحَسن وأنه أرجح من كل محبوب.

وروينا من حديث أبي هريرة: "سُئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يُدخل الجنة، قال: "تقوى اللَّه وحُسن الخلق" وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار، فقال: "الفم

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (1825) كتاب جزاء الصيد، [6] باب إذا أهدي للمحرم حمارًا وحشيًا حيا لم يقبل، ورقم (2573) كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، [6] باب قبول الهدية، ورقم (2596) في الهبة وفضلها والتحريض عليها، [17] باب من لم يقبل الهدية لعلة، ومسلم في صحيحه [50 - (1193)] كتاب الحج، [8] باب تحريم الصيد للمحرم، وأحمد في مسنده (4/ 38)، ومالك في الموطأ (353).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [14 - (2553)] كتاب البر والصلة والآداب، [5] باب تفسير البر والإثم، وكذا رقم (15) به، والترمذي في سننه (2389)، وأحمد في مسنده (4/ 182)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 142)، والحاكم في المستدرك (2/ 14) والطحاوي في مشكل الآثار (3/ 24)، والسيوطي في الدر المنثور (2/ 255) والتبريزي في مشكاة المصابيح (5073)، والعجلوني في كشف الخفا (1/ 334).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (3559) كتاب المناقب، [23] باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، ورقم (3759) كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، [28] باب مناقب عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنهما، ورقم (6029) كتاب الأدب، [38] باب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحشا، ورقم (6035) في الأدب، و [39] باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل.

(4)

أخرجه الترمذي في سننه (2002) كتاب البر والصلة، باب ما جاء في حسن الخلق، وابن ماجه، وأحمد في مسنده (6/ 40)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (5/ 243)، والسيوطي في الدر المنثور (2/ 74)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 403)، والزبيدي في الإتحاف (7/ 323).

ص: 572

والفرج"

(1)

رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

وروينا عنه مرفوعًا: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خُلُقًا، وخياركم خياركم لنسائهم"

(2)

رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. فيه قوة الإيمان ودرجاته متفاوتة كدرجات الإيمان، وفرق بين قولنا الأكمل إيمانا أحسن خُلقا وعكسه كما هو ظاهر من قولنا: أشد الناس شبعا أكثرهم أكلا وعكسه.

وروينا من حديث عائشة مرفوعًا: "إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم"

(3)

رواه أبو داود. وفيه من الجواذب إليه تعريف الحريص على الخير.

وروينا من حديث أبي أمامة مرفوعًا: "أنا زعيم ببيت في رَبَضِ الجنة لمن ترك المِراء وإن كان مُحقًّا وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وببيت في أعلا الجنة لمن حسُن خلقه"

(4)

رواه أبو داود بإسناد صحيح. والزعيم: الضامن.

وروينا من حديث جابر مرفوعًا: "إن من أحبكم إليَّ وأقربكم منِّي مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا، وإن أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني يوم القيامة الثَّرْثَارون والمتشدِّقون والمُتَفَيْهِقُون" قالوا: يا رسول اللَّه، قد علمنا الثَّرثارون والمتشدِّقون، فما المتفيهقون؟ قال:"المتكبرون"

(5)

رواه الترمذي وحسنه. والثرثار هو كثير الكلام تَكَلُّفًا، والمتشدق: المتطاول على الناس بكلام، ويتكلم بملئ فيه تفاصحًا وتعظيمًا لكلامه. والمتفيهقون: أصله من الفهق وهو الامتلاء، وهو الذي يملأ فاه بالكلام ويتوسع فيه ويُغرِب به تكبرًا وارتفاعًا وإظهارًا للفضيلة على غيره وبالمحبة السابقة والقرب من فوز وقرة عين.

(1)

أخرجه الترمذي في سننه (2004) كتاب البر والصلة، باب ما جاء في حسن الخلق، وابن ماجه (4246) كتاب الزهد، باب ذكر الذنوب، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 250)، وابن حبان في صحيحه (1923، 2004 - الموارد).

(2)

أخرجه الترمذي في سننه (1162) كتاب الرضاع، باب ما جاء في حق المرأة على زوجها، وأبو داود في سننه (4682) كتاب السنة، باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه.

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (4798)، وأحمد في مسنده (6/ 90)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 404)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (582)، والزبيدي في الإتحاف (8/ 28)، والسيوطي في الدر المنثور (2/ 75).

(4)

أخرجه أبو داود في سننه (4800)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 131)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 241)، والهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 157، 8/ 23)، والزبيدي في الإتحاف (1/ 300).

(5)

أخرجه الترمذي في سننه (2018) كتاب البر والصلة، باب ما جاء في معالي الأخلاق، وأحمد في مسنده (4/ 193)، وابن حبان في صحيحه (1917 - الموارد)، والهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 21، 9/ 327)، وابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 327)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 412).

ص: 573

‌مجلس في الحلم والأناة والرفق

قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}

(1)

وهذا من صفات أهل الجنة. وقال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)}

(2)

. وإذا طُلب هذا من سيد الكاملين فكيف من أحاد الناقصين. وقال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}

(3)

إلى قوله: {عَظِيمٌ} [النور: 16]. والدفع بذلك بحسم مادة العداوة يُريح من عمومها عاجلًا وآجلًا. وقال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)}

(4)

فهما من عزم الأمور فلا مندوحة عنه لذي عقل، فأعظم بأمر لأهل الجنة والكمال المقرب من اللَّه تعالى فالراحة العاجلة والرأي السديد.

وروينا من حديث ابن عباس أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لأشج عبد القيس: "إن فيك خصلتين يحبهما اللَّه: الحلم والأناة"

(5)

أخرجه مسلم. وكفى بذلك شرفًا له.

وروينا من حديث عائشة مرفوعًا: "إن اللَّه رفيق يحب الرفق في الأمر كله"

(6)

(1)

سورة آل عمران (134).

(2)

سورة الأعراف (199).

قال ابن عباس: {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف: 199] يعني خذ ما عفي لك من أموالهم، وما أتوك به من شيء، فخذه، وكان هذا قبل أن تنزل براءة بفرائض الصدقات وتفصيلها وما انتهت إليه الصدقات. قاله السدي، وقال الضحاك عن ابن عباس:{خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف: 199] أنفق الفضل. [تفسير ابن كثير (2/ 283)].

(3)

سورة المؤمنون (96).

(4)

سورة الشورى (43).

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [25 (17)] كتاب الإيمان، [6] باب الأمر بالإيمان باللَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وشرائع الدين، والدعاء إليه والسؤال عنه وحفظه وتبليغه من لم يبلغه، وأبو داود (5225) كتاب الأدب، باب في قبلة الحسد، والترمذي (2011) كتاب البر والصلة، باب ما جاء في التأني والعجلة، وابن ماجه (4187)، وأحمد في مسنده (3/ 23، 50، 4/ 206)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 102)، وابن حبان في صحيحه (1393، 2267).

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه (6024) كتاب الأدب، [35] باب الرفق في الأمر كله، ومسلم في صحيحه [77 - (2593)] كتاب البر والصلة والآداب، [23] باب فضل الرفق، وأحمد في مسنده (1/ 112، 4/ 87)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 193)، وعبد الرزاق في مصنفه (9251)، وابن حبان في صحيحه (1914)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (8/ 306)، والطبراني في المعجم الصغير (1/ 81، 154)، والهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 18، 3/ 213).

ص: 574

أخرجاه. فهو من صفاته وما أجلَّها.

وروينا من حديثهما أيضًا مرفوعًا: "إن اللَّه رفيق يحب الرِّفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العُنف وما لا يعطي على ما سواه"

(1)

أخرجه مسلم. فكل أمر لا يوصل إليه العنف أو يوصل إليه بشدة فاللَّه تعالى يجعل الرفق موصلًا إليه، أتم إيصال وأجمله.

وروينا عنها أيضًا مرفوعًا: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا يُنزَع من شيء إلا شانه"

(2)

أخرجه مسلم أيضا. وأين الزين من الشين.

وروينا من حديث أبي هريرة قال: "بال أعرابي في المسجد فقام الناس إليه ليقعوا فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوه، وأريقوا على بوله سَجْلًا من ماء أو ذَنُوبا من ماء، فإنما بُعثتم ميسِّرين ولم تُبعثوا مُعسِّرين"

(3)

أخرجه البخاري. السَّجْل بفتح السين المهملة وإسكان الجيم: الدَّلو الممتلئة ماء، كذلك الذنوب. وفيه بيان محل الرفق وصفته، فمحله أولا المنكرات وتغييرها، وصفته نحو "دعوه"، وتلافي ما وقع نحو "أريقوا"، وإسماعه نحو "فإنما بُعثتم ميسرين" فإنه آنس له ما زجر.

وروينا من حديث أنس مرفوعًا: "يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تُنفِّروا"

(4)

أخرجاه، وهو بيان لصفة الرفق.

وروينا من حديث جرير بن عبد اللَّه مرفوعًا: "من يُحرم الرفق يُحرم الخير كله"

(5)

أخرجه مسلم. وهو منفر لتركه، وأكده بقوله: كله.

وروينا من حديث أبي هريرة أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني. قال: "لا

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [77 - (2593)] كتاب البر والصلة والآداب، [23] باب فضل الرفق.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [78 - (2594)] كتاب البر والصلة والآداب، [23] باب فضل الرفق، وأحمد في مسنده (6/ 125)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 415)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (8/ 48).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (220) كتاب الوضوء، [61] باب صب الماء على البول في المسجد، والنسائي (1/ 49، 175 - المجتبى).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (69) كتاب العلم، [12] باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا، ومسلم في صحيجه [8 - (1734)] كتاب الجهاد والسير، [3] باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير.

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [74 - (2592)] كتاب، [75] كتاب البر والصلة والآداب، [23] باب فضل الرفق، وأبو داود في سننه (3687)، وأحمد في مسنده (4/ 362، 366) وابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 322، 323)، والزبيدي في الإتحاف (8/ 46، 47)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2069)، والعجلوني في كشف الخفا (1/ 268).

ص: 575

تغضب". فردَّدَ مرارا، قال: "لا تغضب"

(1)

أخرجه البخاري. والغضب مانع من الحلم والرفق.

وروينا من حديث أبي يعلى شداد بن أوس مرفوعًا: "إن اللَّه كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليُحِدَّ أحدكم شفرته وليُرح ذبيحته"

(2)

أخرجه مسلم. وفيه ما يسهل التخلق بالحلم والأناة فيحصل المقصود من غير كلفة.

وروينا من حديث عائشة: "ما خُيِّر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلَّا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط إلَّا أن تُنتهك حُرمة اللَّه فينتقم للَّه تعالى"

(3)

أخرجاه. فينبغي الاقتداء به في ذلك فنعم الأسوة.

وروينا من حديث ابن مسعود مرفوعًا: "ألا أُخبرُكُم بمن يحرم على النار أو بمن تَحْرُمُ عليه النار؟ تَحرُمُ على كل قريب لين سهل"

(4)

رواه الترمذي وحسَّنه. وفيه ما يصرف مقتضى الحلم والرفق، وأمر بما يحرم صاحبه على النار ليصابر ويستديم.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (6116) كتاب الأدب، [76] باب الحذر من الغضب، والترمذي في سنه (2020)، وأحمد في مسنده (2/ 175، 362)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 105)، والحاكم في المستدرك (3/ 615)، وابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 345).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [57 - (1955)] كتاب الصيد والذبائح، [11] باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة، وأبو داود (2815)، والترمذي (1409)، والنسائي (7/ 227 - 229 - المجتبى)، وابن ماجه (3170).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (6126) كتاب الأدب، [80] باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"يسروا ولا تعسروا"، ومسلم في صحيحه [77 - (2327)] كتاب الفضائل، باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام واختياره من المباح أسهله، وانتقامه للَّه عند انتهاك حرماته، وأبو داود في سننه (4785) كتاب الأدب، باب في التجاوز في الأمر، والهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 15)، وابن عبد البر فى التمهيد (8/ 148، 149).

(4)

أخرجه الترمذي في سننه (2488) كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب [45]، وابن حبان في صحيحه (1097 - الموارد)، والطبراني في المعجم الكبير (10/ 285)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5084)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 562)، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (938).

ص: 576

‌مجلس في العفو والإعراض عن الجاهلين

قال اللَّه تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)}

(1)

وإذا كان هذا الأمر لأقرب الخلق لديه وأكرمهم عليه وأحبهم إليه فما ظنُّك بغيره؟ وقال تعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}

(2)

وهو كالتفسير للإعراض، والمراد بالجميل الذي لا جزع فيه ولا عتب ولا كظم بل بحلم وسماح. وقال تعالى:{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}

(3)

فمن عفا وصفح غُفر له وجزاه وِفاقًا.

وقال تعالى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]. وقال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} [الشورى: 43]. أي فذلك شأن أهل العزم والكمال. والآيات في الباب كثيرة معلومة.

وروينا من حديث عائشة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: "هل أتى عليك يوم أشد من يوم أُحد؟ قال: "لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم

(1)

سورة الأعراف (199).

(2)

سورة الحجر (85).

أخبر تعالى نبيه بقيام الساعة، وأنها كائنة لا محالة، ثم أمره بالصفح الجميل عن المشركين في أذاهم له وتكذيبهم ما جاءهم به، كقوله:{فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)} [الزخرف: 89]، وقال مجاهد وقتادة وغيرهما: كان هذا قبل القتال، وهو كما قالا؛ فإن هذه مكية، والقتال إنما شرع بعد الهجرة. [تفسير ابن كثير (2/ 573)].

(3)

سورة النور (22).

نزلت هذه الآية في الصديق رضي الله عنه حين حلف أن لا ينفع مسطح بن أثاثة بنافعة أبدا بعد ما قال في عائشة ما قال، فلما أنزل اللَّه براءة عائشة وطابت النفوس المؤمنة واستقرت وتاب اللَّه على من كان تكلم من المؤمنين في ذلك وأقيم الحد على من أقيم عليه، شرح تبارك وتعالى -وله الفضل والمنة- يعطف الصديق على قريبه ونسيبه، وهو مسطح بن أثاثة فإنه كان ابن خالة الصديق، وكان مسكينا لا مال له إلا ما ينفق عليه أبو بكر رضي الله عنه وكان من المهاجرين في سبيل اللَّه، وقد زلق زلقة تاب اللَّه عليه منها وضرب الحد عليها، وكان الصديق رضي الله عنه معروفا بالمعروف، وله الفضل والأيادي على الأقارب والأجانب، فلما نزلت هذه الآية قال الصديق: بلى واللَّه إنا نحب أن تغفر لنا يا ربنا، ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال واللَّه لا أنزعها منه أبدًا. [تفسير ابن كثير (3/ 284)].

ص: 577

على وجهي فلم أستفق إلَّا وأنا بقرن الثعالب

(1)

، فرفعت رأسي وإذا أنا بسحابة قد أظلَّتني، فنظرت فإذا فيها جبريل صلى الله عليه وسلم فناداني فقال: إن اللَّه قد سمع قول قومك لك وما ردُّوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال فسلَّم عليَّ ثم قال: يا محمد، إن اللَّه قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت، إن شئت أطبقت عليهم الأخشَبين. فقال صلى الله عليه وسلم:"بل أرجو أن يُخْرِج اللَّه من أصلابهم من يعبد اللَّه وحده لا يشرك به شيئًا"

(2)

أخرجاه.

الأخشبان: الجبلان المحيطان بمكة، والأخشب هو الجبل الغليظ. وفيه: أن أهل العفو والمتصف به سادة الأنبياء وهم أرفع الناس قدرًا وأعلاهم همة وأوفرهم كمالًا وأكرمهم طبعًا وأعزهم نفسا وأشرفهم رتبة، فطوبى لمن سلك سبيلهم واقتفى مآثرهم، والإعراض عن الكف في ذلك العظيم.

وروينا من حديثها أيضا: "ما ضرب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شيئًا قط بيده ولا امرأة ولا خادمًا إلَّا أن يجاهد في سبيل اللَّه، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلَّا أن يُنتهك شيء من محارم اللَّه تعالى فينتقم للَّه تعالى"

(3)

أخرجه مسلم. وما أحسن هذا الخلق العظيم.

وروينا من حديث أنس رضي الله عنه قال: "كنت أمشى مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعليه بُرد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه بردائه جذبة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشية الرِّداء من شدة جذبته ثم قال: يا محمد، مُرْ لي من مال اللَّه الذي عندك. فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء"

(4)

أخرجاه. فانظر ما قابل الإساءة بها وهو الإحسان.

(1)

أي لم أوطن لنفسي وأتنبه لحالي وللموضع الذي أنا ذاهب إليه إلا وأنا عند قرن الثعالب، لكثرة همي الذي كنت فيه. قال القاضي: قرن الثعالب هو قرن المنازل، وهو ميقات أهل نجد، وهو على مرحلتين من مكة، وأصل القرن كل جبل صغير ينقطع من جبل كبير. [النووي في شرح مسلم (12/ 130) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (4/ 139) ومسلم في صحيحه [111 - (1795)] كتاب الجهاد والسير، [39] باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5848)، والقاضي عياض في الشفاء (1/ 255)، والزبيدي في الإتحاف (9/ 88).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [79 - (2328)] كتاب الفضائل، [20] باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام، واختياره من المباح أسهله، وانتقامه للَّه عند انتهاك حرماته، وأبو داود في سننه (4786) كتاب الأدب، باب في التجاوز في الأمر، وابن ماجه في سننه (1984)، وابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 368).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (6088) كتاب الأدب [68] باب التبسم والضحك.

ص: 578

وروينا من حديث ابن مسعود: "كأني أنظر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح عن وجهه وهو يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"

(1)

أخرجاه.

وروينا فيهما عن أبي هريرة مرفوعًا: "ليس الشديد بالصُّرَعَةِ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"

(2)

.

والمراد إنما الشديد الشدة الكمالية النافعة دنيا وأُخرى، وليعتريه اللبيب وإنه لإغراء بليغ عجيب.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (3477) كتاب أحاديث الأنبياء، باب [56] عقب باب حديث الغار، ورقم (6929) كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، [5] باب خلف باب إذا عرض الذمي وغيره بسب النبي صلى الله عليه وسلم، ومسلم في صحيحه [105 - (1792)] كتاب الجهاد والسير، [37] باب غزوة أحد.

(2)

أخرجه البخاري فى صحيحه (6114) كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، ومسلم في صحيحه [107 - (2609)] كتاب البر والصلة والآداب، [30] باب فضل من يملك نفسه عند الغضب، وبأي شيء يذهب الغضب، وأحمد في مسنده (2/ 236، 268)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 235، 341)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 420، 447).

ص: 579

‌مجلس في احتمال الأذى

قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}

(1)

. وقال: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)}

(2)

. وقد سلف في المجلس قبله. وحاصله الترغيب على الاحتمال؛ فإن كظم الغيظ من صفات أهل الجنة، وأهله من المحسنين والباري يحبهم وهو من عزم الأمور

(3)

، وكظم الغيظ أن يتجرعه فيمسك على ما في نفسه منه بالصبر ولا يظهر له أثر، من قولهم: كَظَمَ القربة إذا ملأها وشدَّها، وكَظَمَ البعير إذا لم يجتر.

وروينا من حديث أبي هريرة: "أن رجلا قال يا رسول اللَّه، إن لي قرابة أصِلَهُم ويقطعوني. . . "

(4)

الحديث، وقد سلف بطوله وشرحه في صلة الأرحام، وقد أخبر فيه أنه يناله من الاحتمال والحلم عنهم ألم عظيم وهو شاق من الغيظ كاف؛ فإنه لن يزال معه من اللَّه ظهير عليهم وكفى به وناهيك.

(1)

سورة آل عمران (134).

(2)

سورة الشورى (43).

(3)

قوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} [الشورى: 43] قال سعيد بن جبير: يعني لمن حق الأمور التي أمر اللَّه تعالى بها، أي لمن الأمور المشكورة والأفعال الحميدة التي عليها ثواب جزيل وثناء جميل. [ابن كثير في تفسيره (4/ 119)].

(4)

تقدم تخريجه من قبل في صلة الأرحام.

ص: 580

‌مجلس في الغضب إذا انتهكت حرمات الشرع والانتصار لدين اللَّه تعالى

قال اللَّه تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}

(1)

. رغب في تعظيمها، ومنه الغضب إذا انتُهكت. وقال تعالى:{إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}

(2)

أي في كل موطن دنيا وأخرى. وفي الباب حديث عائشة السالف في العفو.

وروينا من حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو البدري قال

(3)

: جاء رجل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا. فما رأيتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط أشد ما غضب يومئذ فقال: "يا أيها الناس، إن منكم منفرين فأيكم أمَّ الناس فليوجز؛ فإن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة" أخرجاه.

وروينا من حديث عائشة قالت: قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من سفر وقد سترت سهوة له بقرام فيه تماثيل، فلما رآها رسول اللَّه هتكه وتلوَّن وجهه وقال:"يا عائشة، أشد الناس عذابا عند اللَّه يوم القيامة الذين يضاهون بخلق اللَّه"

(4)

أخرجاه. والسهوة

(1)

سورة الحج (30).

أي: ومن يجتنب معاصيه ومحارمه ويكون ارتكابها عظيما في نفسه {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30] أي فله على ذلك خير كثير وثواب جزيل، فكما على فعل الطاعات ثواب كثير وأجر جزيل كذلك على ترك المحرمات واجتناب المحظورات. قال ابن جريج قال مجاهد في قوله:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} [الحج: 30] قال: الحرمة مكة والحج والعمرة وما نهى اللَّه عنه من معاصيه كلها، وكذلك قال ابن زيد. [تفسير ابن كثير (3/ 225)].

(2)

سورة محمد (7).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (702) كتاب الأذان، [61] باب تخفيف الإمام في القيام وإتمام الركوع والسجود، ومسلم في صحيحه [82 - (466)] كتاب الصلاة، [37] باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في إتمام، وابن ماجه في سننه (984)، وأحمد بن حنبل في مسنده (5/ 173)، والطبراني في المعجم الكبير (17/ 208).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (5954) كتاب اللباس، [91] باب ما وطئ من التصاوير، ومسلم في صحيحه [92 - (2107)] كتاب اللباس والزينة، [26] باب تحريم تصوير صورة الحيوان =

ص: 581

كالصفة تكون بين يدي البيت، والقِرام بكسر القاف: ستر رقيق. وهتكه

(1)

: أفسد الصورة التي فيه. وفيه وما بعده وما قبله غضبه للَّه تعالى حتى يُرَى ذلك في وجهه، وكفى بذلك مرغبًا، فالخير كله في اتباعه لأنه أكمل الخلق وأعلمهم باللَّه وبمراضيه، حشرنا اللَّه في زمرته وتحت لوائه. وفيه الغضب عند التنفير من العبادة وبغض دينه وتحمل المشقة الشديدة وتضييع المصالح المهمة والوعظ بأن "منكم منفرين"، والتعليم بـ "أيكم أمَّ الناس فليوجز"، وتعريف الضرورة بنحو:"فإن من ورائه" إلى آخره. وفي الثاني بيان صفة الإزالة باليد.

وروينا من حديث عائشة أيضًا أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

(2)

فكلمه أسامة فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أتشفع في حدٍّ من حدود اللَّه؟ ". ثم قام واختطب ثم قال: "إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايمُ اللَّه لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"

(3)

أخرجاه. وفيه عدم السعي في تعطيل الحدود رعاية لأهل الوجاهة والشرف، وصفة ما يفعل عند ذلك حتى على الحثِّ بنحو:"أتشفع في كذا"، ثم الإسهاب بنحو القيام والاختطاب البيِّن وقال ذلك

= وتحريم اتخاذ ما فيه صورة غير ممتهنة بالفرش ونحوه.

قال النووي: السهوة: بفتح السين المهملة، قال الأصمعي: هي شبيهة بالرف أو بالطاق يوضع عليه الشيء. [النووي في شرح مسلم (14/ 74، 75) طبعة دار الكتب العلمية].

(1)

قولها: "هتكته": هر بمعنى قطعه وأتلف الصورة التي فيه، وقد صرحت في الروايات المذكورات بعد هذه بأن هذا النمط كان في صور الخيل ذوات الأجنحة، وأنه كان فيه صورة فيستدل به لتغيير المنكر باليد، وهتك الصور المحرمة والغضب عند رؤية المنكر، وأنه يجوز اتخاذ السائد، واللَّه أعلم. [المرجع السابق (14/ 73) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أجمع العلماء على تحريم الشفاعة في الحد بعد بلوغه إلى الحاكم لهذه الأحاديث، وعلى أنه يحرم التشفع فيه، فأما قبل بلوغه إلى الإمام فقد أجاز الشفاعة فيه أكثر العلماء إذا لم يكن المشفوع فيه صاحب شرٍّ وأذى للناس، فإن كان لم يشفع فيه، وأما المعاصي التي لا حد فيها وواجبها التعزير فتجوز الشفاعة والتشفيع فيها سواء بلغت الإمام أم لا؛ لأنها أهون، ثم الشفاعة فيها مستحبة إذا لم يكن المشفوع فيه صاحب أذى ونحوه. [النووي في شرح مسلم (11/ 155) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (3475) كتاب أحاديث الأنبياء، [56] آخر باب بالكتاب، ومسلم في صحيحه [8 - (1688)] كتاب الحدود، [2] باب قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود، وأبو داود في سننه (4373) كتاب الحدود، باب في الحد يشفع فيه، والترمذي في سننه (1430) كتاب الحدود، باب ما جاء في كراهية أن يشفع في الحدود، وابن ماجه في سننه (2547)، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 253).

ص: 582

وأنه أهلك الأوائل، ثم إظهار التصميم حتى في الأعز الأحب مؤكدا بالقسم، {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}

(1)

.

وأمَّنْتَني وأهنت نفسي راضيًا

ما من يهون عليك ممن أكرم

وروينا من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نُخامة في القبلة فشقَّ ذلك عليه حتى رُئي في وجهه، فقام فحكَّه بيده فقال:"إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه وإن ربه بينه وبين القبلة، فلا يبزقن أحدكم قِبَل القبلة ولكن عن يساره أو تحت قدمه"

(2)

، ثم أخذ طرف رداءه فبصق فيه ثم ردَّ بعضه على بعض فقال:"أو يفعل هكذا"

(3)

أخرجاه. والأمر بالبصاق عن يساره وتحت قدمه هو فيما إذا كان في غير المسجد، فأما فية فلا يبصقنَّ إلَّا في ثوبه، وفيه الغضب عند انتهاك حرمات اللَّه والاستهانة بشعائره، وحالة رؤية آثار ذلك كالنخامة والمبادرة إلى حكِّها، والتمثيل بما يخجل من (. . . . . .)

(4)

.

(1)

سورة النور (2).

أي في حكم اللَّه أي لا ترأفوا بهما في شرع اللَّه، وليس المنهي عنه الرأفة الطبيعية على ترك الحد، وإنما هي الرأفة التي تحمل الحاكم على ترك الحد؛ فلا يجوز ذلك، قال مجاهد:{وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} قال: إقامة الحدود إذا رفعت إلى السلطان، فتقام ولا تعطل. [تفسير ابن كثير (3/ 269)].

(2)

نهي المصلي عن البصاق بين يديه وعن يمينه، وهذا عام في المسجد وغيره، وقوله صلى الله عليه وسلم:"وليبزق تحت قدمه وعن يساره هذا في غير المسجد، أما المصلي في المسجد فلا يبزق إلا في ثوبه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "البزاق في المسجد خطيئة" فكيف يأذن فيه صلى الله عليه وسلم؟ وإنما نهى عن البصاق عن يمينه تشريفًا لها. [النووي في شرح مسلم (5/ 34) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (405) كتاب الصلاة، [33] باب حك البزاق باليد من المسجد، ورقم (417)[39] باب إذا بدره البزاق فيأخذ بطرف ثوبه، ومسلم في صحيحه [54 - (548، 551)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، [13] باب النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها.

(4)

كلمة غير واضحة بالأصل.

ص: 583

‌مجلس في أمر ولاة الأمور بالرفق برعاياهم ونصحهم والشفقة عليهم والنهي عن غشهم والتشديد عليهم وإهمال مصالحهم والغفلة عنهم وعن حوائجهم

قال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)}

(1)

أمر بتواضعه ولينه لهم فكيف بغيره. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}

(2)

الآية. وفيها تفصيل ما يفعل وما يترك. والتفصيل بعد الإجمال وبيان الجزئيات الناشئة عن أمر بعد التأسيس حُسْن بالغ.

وروينا من حديث ابن عمر مرفوعًا: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته؛ والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته"

(3)

شامل لما فصل قبل ذلك.

وروينا من حديث معقل بن يسار مرفوعًا: "ما من عبد يسترعيه اللَّه رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلَّا حرم اللَّه عليه الجنة"

(4)

أخرجاه. ولمسلم: "ما من

(1)

سورة الشعراء (215).

(2)

سورة النحل (90).

يخبر تعالى أنه يأمر عباده بالعدل، وهو القسط والموازنة، ويندب إلى الإحسان، وقال ابن عباس:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل: 90] قال شهادة أن لا إله إلا اللَّه، وقال سفيان بن عيينة: العدل في هذا الموضع هو استواء السريرة والعلانية من كل عامل للَّه عملا، والإحسان أن تكون سريرته أحسن من علانيته، والفشحاء والمنكر أن تكون علانيته أحسن من سريرته. [تفسير ابن كثير (2/ 600، 601)].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (893) كتاب الجمعة، [11] باب الجمعة في القرى والمدن، وكذا رقم (2409، 2554، 2558، 2751، 5200)، ومسلم في صحيحه [20 - (1829)] كتاب الإمارة [5] باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية، والترمذي في سننه (1705)، وأحمد في مسنده (3/ 5، 54، 111)، والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 287) والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 48)، والزبيدي في الإتحاف (5/ 318، 6/ 327).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (7150) كتاب الأحكام، [8] باب من استرعى رعية فلم ينصح، ومسلم في صحيحه [21 - (142)] كتاب الإمارة، [5] باب فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر، والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 41)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 136).

ص: 584

أمير يلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح إلَّا لم يدخل معهم الجنة"

(1)

. وفيه تحذير كل راع من الغِشِّ وعدم النصيحة والجهد له وما أبلغه من تهديد.

وروينا من حديث عائشة قالت: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به"

(2)

أخرجه مسلم. وفيه الدعاء على من شَقَّ عليهم بتشديد أو غيره والدعاء لمن رفق بهم، فليختر لنفسه ولي الأمر، واللَّه المستعان.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "كانت بنو إسرائيل تسُوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء فيكثرون". قالوا: فما تأمرنا؟ قال: "أوفوا ببيعة الأول ثم أعطوهم حقهم وسلوا اللَّه الذي لكم؛ فإن اللَّه سائلهم عما استرعاهم"

(3)

أخرجاه. وفيه الحث على الشفقة والقيام بالحقوق كلها، إذ من سائله اللَّه لا بُدَّ وأن يجيب فإن خيرًا فخير وإن شرًّا فشرٌّ.

وروينا من حديث عائذ بن عمرو أنه دخل على عبيد اللَّه بن زياد فقال: أي بني، إني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"إن شرَّ الرّعاء الحُطمة، فإياك أن تكون منهم"

(4)

أخرجاه. وفيه التحذير من الإغلاظ والتشديد والغش والإيذاء وكل فساد

(5)

، وفي تسميته بالحُطمة وأنه شرّ الرّعاء ما فيه كفاية.

وروينا من حديث أبي مريم الأزدي أنه قال لمعاوية: "سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "من ولَّاه اللَّه شيئًا من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلَّتهم وفقرهم احتجب اللَّه دون

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [22 - (142)] كتاب الإمارة، [5] باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر، والحث على الرفق بالرعية، والنهي عن إدخال المشقة عليهم، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 176) والزبيدي في الإتحاف (8/ 314).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [19 - (1828)] كتاب الإمارة [5] باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر، والحث على الرفق بالرعية، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 43، 10/ 136).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (3455) كتاب أحاديث الأنبياء، [52] باب ما ذكر عن بني إسرائيل، ومسلم في صحيحه [44 - (1842)] كتاب الإمارة، [10] باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 144)، والألباني في إرواء الغليل (8/ 127)، وابن كثير في البداية والنهاية (2/ 153، 6/ 224).

(4)

قوله صلى الله عليه وسلم: "إن شر الرعاء الحطمة" قالوا: هو العنيف في رعيته، لا يرفق بها في سوقها ومرعاها، بل يحطمها في ذلك، وفي سقيها وغيره، ويزحم بعضها ببعض بحيث يؤذيها ويحطمها. [النووي في شرح مسلم (12/ 181) طبعة دار الكتب العلمية].

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [23 - (1830)] كتاب الإمارة، [5] باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر، والحث على الرفق بالرعية، والنهي عن إدخال المشقة عليهم، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 161)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3688)، وابن كثير في البداية والنهاية (8/ 285).

ص: 585

حاجته وخلَّته وفقره يوم القيامة". فجعل معاوية رجلا على حوائج الناس"

(1)

رواه أبو داود والترمذي. وفيه تهديد من أهمل مصالح المسلمين وتغافل عنهم وعن حوائجهم واحتجب دونهم بما لا طاقة لأحد به.

‌مجلس في الوالي العادل

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}

(2)

الآية. وقال: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}

(3)

. وفي الآية الأولى إشعار بأن العادل امتثل أمر اللَّه، وكفى بذلك جمالًا وعبودية. وفي الثانية أثر ذلك وثمرته وفائدته العُظْمى وهي بشارة أن اللَّه يحب المقسطين.

وروينا من حديث أبي هرير مرفوعًا

(4)

: "سبعة يُظلهم اللَّه في ظله يوم لا ظل إلَّا ظله؛ إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة اللَّه، ورجل قلبه معلَّق بالمساجد، ورجلان تحابا في اللَّه اجتمعا عليه وتفرَّقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف اللَّه، ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر اللَّه خاليا ففاضت عيناه" أخرجاه. وإذا أظل اللَّه تعالى الإمام العادل في ظله فأيُّ مضرَّة أو مذلَّة تناله.

وروينا من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص مرفوعًا: "إن المقسطين عند اللَّه

(1)

أخرجه أبو داود في سننه (2948) كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب فيما يلزم الإمام من أمر الرعية والحجبة عنه، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 101)، وابن كثير في البداية والنهاية (8/ 126)، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (629).

(2)

سورة النحل (90).

(3)

سورة الحجرات (9).

أي اعدلوا بينهما فيما كانا أصاب بعضهم لبعض بالقسط، وهو العدل {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42]، وروى مسلم في صحيحه عن عبد اللَّه بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"المقسطون عند اللَّه تعالى يوم القيامة على منابر من نور على يمين العرش، الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما ولوا". [تفسير ابن كثير (4/ 211)].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (1423) كتاب الزكاة، [18] باب الصدقة باليمين، ومسلم في صحيحه [91 - (1031)] كتاب الزكاة [30] باب فضل إخفاء الصدقة، والترمذي في سننه (2391) كتاب الزهد، باب ما جاء في الحب في اللَّه، والنسائي (8/ 222 - المجتبى)، وأحمد في مسنده (2/ 439)، وابن خزيمة في صحيحه (358)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 217)، والزبيدي في الإتحاف (4/ 112، 5/ 7) وابن حجر في تلخيص الحبير (3/ 115) والتبريزي في مشكاة المصابيح (701).

ص: 586

على منابر من نور؛ الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا"

(1)

أخرجه مسلم. وناهيك بذلك وجاهة ورفعة.

وروينا من حديث عوف بن مالك مرفوعًا: "خيار أئمتكم الذين تحبُّونهم ويحبونكم وتُصلُّون عليهم ويُصَلُّون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم". قال: قلنا: يا رسول اللَّه، أفلا نُنَابذهم؟ قال:"لا ما أقاموا فيكم الصلاة"

(2)

أخرجه مسلم. تُصلُّون عليهم: تدعون لهم، فهؤلاء الخيار {طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ}

(3)

.

وروينا من حديث عياض بن حمار مرفوعًا: "أهل الجنة ثلاثة؛ ذو سلطان مقسط موفق، ورجل رقيق القلب لكل ذي قربى، ومسلم عفيف مُتَعفِّف ذو عيال"

(4)

أخرجه مسلم. وفيه أنهم من أهل الجنة وليس وراعيًا ذات قربة.

‌مجلس في وجوب طاعة ولاة الأمور في غير معصية وتحريم طاعتهم فيها

قال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}

(5)

فأمر تعالى بذلك. فأولوا الأمر: قيل العلماء الدينيون الذين يُعلِّمون الناس الدين ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وقيل: أُمراء السرايا. والأشهر أنهم الحُكَّام وولاة الأحكام، فلما

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [18 - (1827)] كتاب الإمارة [5] باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر، والحث على الرفق بالرعية، والنهي عن إدخال المشقة عديهم، والنسائي (8/ 221 - المجتبى)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (6390)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 60)، وابن أبي شيبة في مصنفه (13/ 127)، والخطيب في تاريخ بغداد (5/ 367).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [66 - (1855)] كتاب الإمارة، [17] باب خيار الأئمة وشرارهم، وأحمد في مسنده (6/ 24)، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 158، 198)، والطبراني في المعجم الكبير (18/ 63)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3670)، وابن أبي عاصم في السنة (2/ 509)، والبخاري في التاريخ الكبير (7/ 271)، والألباني في السلسلة الصحيحة (907).

(3)

سورة الرعد (29).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [63 - (2865)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، [16] باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، وأحمد في مسنده (4/ 162، 266)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 87)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 127)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (2/ 26)، والخطيب في تاريخ بغداد (8/ 458)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4960).

(5)

سورة النساء (59).

ص: 587

أمر تعالى الولاة بأداء الأمانات إلى أهلها وأن يحكموا بالعدل أمر الناس أن يطيعوهم وينزلوا على قضاياهم. والمراد أُمراء الحق لا الجور.

وروينا من حديث ابن عمر مرفوعًا

(1)

: "على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره إلَّا أن يؤمر بمعصية، فإذا أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" أخرجاه. فسبب الوجوب صفة الإسلام بشرط كونه طاعة.

وروينا من حديثه أيضًا قال: "كنا إذا بايعنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة يقول لنا: "فيما استطعتم"

(2)

أخرجاه. وما لا يُستطاع ليس في الوسع: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}

(3)

.

وروينا من حديثه أيضًا مرفوعًا: "من خلع يدا من طاعة لقي اللَّه يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية"

(4)

أخرجه مسلم. وله: "ومن مات وهو مفارق للجماعة فإنه يموت مِيتة جاهلية"

(5)

. المِيتة: بكسر الميم. وفيه التحذير البليغ من المخالفة مع الشرطين.

وروينا من حديث أنس مرفوعًا: "اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبدا حبشيًّا كأن رأسه زبيبة"

(6)

أخرجه البخاري. وليس ذلك بمانع من طاعته، فذو الشَّوكة

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (7144) كتاب الأحكام [4] باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية، ومسلم في صحيحة [38 - (1839)] كتاب الإمارة، [8] باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية، والنسائي (7/ 160 - المجتبى)، وابن ماجه في سننه (2864)، والسيوطي في الدر المنثور (2/ 177)، وابن جرير الطبري في تفسيره (5/ 95).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (7202) كتاب الأحكام (23) باب كيف يبايع الإمام الناس، ومسلم في صحيحه [90 - (1867)] كتاب الإمارة، [22] باب البيعة على السمع والطاعة في ما استطاع، والترمذي في سننه (1593) كتاب السير، باب ما جاء في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم، والنسائي (7/ 152 - المجتبى)، وأحمد في مسنده (2/ 139، 3/ 120)، والبيهقي فى السنن الكبرى (3/ 122).

(3)

سورة البقرة (286).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [58 - (1851)] كتاب الإمارة، [13] باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال، وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 156)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (6/ 122)، والطبراني في المعجم الكبير (19/ 335)، والبخاري في التاريخ الكبير (5/ 205)، وابن كثير في تفسيره (2/ 302)، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (984).

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [53 - (1848)] كتاب الإمارة، [13] باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، وأحمد في مسنده (2/ 83، 154).

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه (7142) كتاب الأحكام، [4] باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية، وابن ماجه في سننه (2860)، وأحمد بن حنبل في مسنده (3/ 114)، والبيهقي في =

ص: 588

يُطاع ولو كان ناقصا.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "عليك السمع والطاعة في عُسرك ويُسْرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك"

(1)

أخرجه مسلم. فليس شيء من هذه الأمور بمانع من وجوب الطاعة.

وروينا من حديث ابن عمرو قال: "كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلا، فمنَّا من يُصلح خِبَاءَه، ومنَّا من ينتضل، ومنَّا من هو في جَشَرِه إذ نادى منادي رسول اللَّه: الصلاة جامعة، فاجتمعنا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "إنه لم يكن نبي إلَّا كان عليه حقا أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شرّ ما يعلمه لهم، وإن أُمتكم هذه جعل عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتنة فيُرقق بعضها

(2)

بعضا، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مُهلكتي، ثم تنكشف، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح من النار ويدخل الجنة فلتأته منيَّته وهو يؤمن باللَّه واليوم الآخر وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليُطعه إن استطاع، فإن جاء آخر يُنازعه فاضربوا عُنُقَ الآخر"

(3)

أخرجه مسلم.

وينتضل: يسابق بالرمي بالنبل والنشاب. والجَشَرُ بفتح الجيم والشين المعجمة

= السنن الكبرى (8/ 155)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3663)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (6/ 121)، والسيوطي في الدر المنثور (2/ 176)، وابن كثير في تفسيره (2/ 302).

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [35 - (1836)] كتاب الإمارة، [8] باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية، وأحمد بن حنبل في مسنده (2/ 381، 5/ 321)، وابن حبان في صحيحه (1545)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (6/ 121).

(2)

قوله صلى الله عليه وسلم: "وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضا" هذه اللفظة رويت على أوجه: أحدها وهو الذي نقله القاضي عن جمهور الرواة: يُرَقِّقُ. بضم الياء وفتح الراء وبقافين. أي يصير بعضها رقيقا أي خفيفا لعظم ما بعده.

فالثاني يجعل الأول رقيقا، وقيل معناه: يشبه بعضها بعضا، وقيل: يدور بعضها في بعض ويذهب ويجيء، وقيل: معناه يسوق بعضها إلى بعض بتحسينها وتسويلها.

والوجه الثاني: فيرْفُق. بفتح الياء وإسكان الراء وبعدها فاء مضمومة. والثالث: فيدفق. بالدال المهملة الساكنة، وبالفاء المكسورة. أي يدفع ويصيب، والدفق الصب. [النووي في شرح مسلم (2/ 195) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [26 - (1844)] كتاب الإمارة، [10] باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول، والنسائي (7/ 153 - المجتبى)، وابن ماجه في سننه (3356)، وأحمد في مسنده (2/ 191)، والسيوطي في الدر المنثور (6/ 56)، وابن أبي شيبة في مصنفه (15/ 5، 128)، وابن كثير في تفسيره (2/ 302).

ص: 589

وبالراء: الدواب التي ترعى وتبيت في مكانها. وترقق بعضها إلى بعض: أي تصير بعضها بعضًا رقيقًا أي خفيفا لعظم ما بعده، فالثاني يرقق الأول. وقيل: تسوق بعضها بعضا بتحسينها وتسويلها. وقيل: تشدّ بعضها بعضا. وفيه أن من بويع أولا فهو أحق بالطاعة

(1)

، فتضرب رقبة الأخير إن أضرَّ وضال.

وروينا من حديث وائل بن حجر قال: "سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي اللَّه، أرأيت إن قامت علينا أُمراء يسألون حقهم ويمنعونا حقنا فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله الثانية أو في الثالثة فجذبه الأشعث بن قيس وقال: اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حُمِّلوا وعليكم ما حُمِّلتم"

(2)

أخرجه مسلم.

وروينا من حديث عبد اللَّه بن مسعود مرفوعًا: "سيكون بعدي أُمراء وأمور تُنكرونها". قالوا: يا رسول اللَّه، كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟ قال:"تُؤدُّون الحق الذي عليكم وتسألون اللَّه الذي لكم"

(3)

أخرجاه.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من أطاعني فقد أطاع اللَّه، ومن عصاني فقد عصى اللَّه، ومن يُطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني"

(4)

أخرجاه. وفيه بيان رتبة الإمارة وكبر شأنها، ولا أبلغ في التعبير عن ذلك بذلك، وهو من الشكل الرابع.

وروينا من حديث ابن عباس مرفوعًا: "من كره من أميره شيئًا فليصبر فإنه من خرج من السَّلطان شبرا فمات عليه إلَّا مات ميتة جاهلية"

(5)

أخرجاه. ولا شك أن الخروج شؤم.

(1)

قوله صلى الله عليه وسلم "فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر" معناه ادفعوا الثاني فإنه خارج على الإمام، فإن لم يندفع إلا بحرب وقتال فقاتلوه، فإن دعت المقاتلة إلى قتله جاز قتله، ولا ضمان فيه لأنه ظالم متعد في قتاله. [النووي في شرح مسلم (12/ 196) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [49 - (1846)] كتاب الإمارة، [12] باب في طاعة الأمراء وإن منعوا الحقوق، والترمذي (2199)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3673)، والبخاري في التاريخ الكبير (3/ 43، 4/ 73).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (3603) كتاب المناقب، [25] باب علامات النبوة في الإسلام، ورقم (7052) كتاب الفتن، [2] باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"سترون بعدي أمورا تنكرونها"، ومسلم في صحيحه [45 - (1843)] كتاب الإمارة، [10] باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول، وأحمد في مسنده (1/ 428، 433).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (7137) كتاب الأحكام، [1] باب قول اللَّه تعالى:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} ، ومسلم في صحيحه [32 - (1835)] كتاب الإمارة، [8] باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (7143) كتاب الأحكام، [4] باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن =

ص: 590

وروينا من حديث أبي بكر مرفوعًا: "من أهان السلطان أهانه اللَّه"

(1)

رواه الترمذي وحسنه. وفيه حسن الأدب والمبادرة للإكرام وكفِّ اللسان ونحو ذلك، فإن السلطان ظل اللَّه في أرضه. وفي الباب أحاديث كثيرة في الصحيح سلف بعضها في مواضع.

‌مجلس في النهي عن سؤال الإمارة واختيار ترك الولايات إذا لم تتعين عليه أو تدع حاجة إليه

قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)}

(2)

.

وروينا من حديث عبد الرحمن بن سمرة مرفوعًا: "يا عبد الرحمن، لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أُعطيتها من غير مسألة أُعنت عليها، وإذا أُعطيتها عن مسألة وُكِّلْت إليها. . . "

(3)

الحديث. أخرجاه.

وروينا من حديث أبي ذرٍّ مرفوعًا: "يا أبا ذر، إني أراك ضعيفًا، وإني أُحب لك ما أُحب لنفسي، لا تأمرنَّ على اثنين ولا تولَّينَّ مال يتيم"

(4)

أخرجه مسلم. ولا أبلغ في النهي عن الولاية من ذلك وذمها. وعنه قلت: يا رسول اللَّه، ألا تستعملني؟ فضرب بيده على منكبي ثم قال:"يا أبا ذر، إنك ضعيف وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلَّا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها"

(5)

أخرجه مسلم

= معصية، ومسلم في صحيحة [56 - (1849)] كتاب الإمارة، [13] باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال، وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة.

(1)

أخرجه الترمذي في سننه (2224)، وأحمد في مسنده (5/ 42، 49)، والزبيدي في الإتحاف (7/ 25)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3695)، والشجري في أماليه (2/ 226).

(2)

سورة القصص (83).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (7146) كتاب الأحكام، [5] باب من لم يسأل الإمارة أعانه اللَّه، ومسلم في صحيحه [13 - (1652)] كتاب الإمارة، [3] باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها، وأبو داود (2929)، والترمذي (1529).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [17 - (1826)] كتاب الإمارة، [4] باب كراهة الإمارة بغير ضرورة، وأبو داود في سننه (2868)، والنسائي (6/ 255 - المجتبى)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 129، 6/ 283)، والحاكم في المستدرك (4/ 91)، والزبيدي في الإتحاف (8/ 318).

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [16 - (1825)] كتاب الإمارة، [4] باب كراهة الإمارة بغير ضرورة، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 95)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 160)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3682)، والزبيدي في الإتحاف (8/ 317).

ص: 591

أيضا. وليس المراد ضعيف البدن إذ لا مدخل له في الإمارة ولا ضعف العلم فإنه حفظ علمًا جمًّا كما قال عمر رضي الله عنه، ولا ضعف الهمة والتصميم على الحق، وإنما المراد الضعف عن احتمال لجاج الخصوم ولددهم وكان خلقه لا يحتمل ذلك، أو عن شدّ أيد أهوالها وحزبها ونكالها فيما يظهر. وقوله:"فإنها أمانة" أي من التي أمنت السماوات والأرض عليها {فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا} [الأحزاب: 72]. وقوله: "فإنها يوم القيامة خزي وندامة" فشهوده عياني لكل موفق. وقوله: "إلَّا من أخذها بحقها" أشد مستوقف عنها لمن فهم قوله: "وأدَّى الذي عليه"، فيها أبلغ مانع وأكف منفر

(1)

.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة وبئست الفاطمة"

(2)

أخرجه البخاري. فالحرص عليها إذن لشهود أنها "نعم المرضعة وبئست الفاطمة".

‌مجلس في حث السلطان والقاضي وغيرهما من ولاة الأمور على اتخاذ وزير صالح وتحذيرهم من قُرَناء السوء والقبول منهم

قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)}

(3)

. وفيها الإغراء بخلة المتقين والتحذير من خلة غيرهم وأنها عداوة في الحقيقة.

(1)

هذا الحديث أصل عظيم في اجتناب الولايات، لاسيما لمن كان فيه ضعف عن القيام بوظائف تلك الولاية، وأما الخزي والندامة فهو في حق من لم يكن أهلا لها أو كان أهلا ولم يعدل فيها فيخزيه اللَّه تعالى يوم القيامة ويفضحه ويندم على ما فرط، وأما من كان أهلا للولاية وعدل فيها فله فضل عظيم تظاهرت به الأحاديث الصحيحة، كحديث "سبعة يظلهم اللَّه. . . " وحديث "إن المقسطين على منابر من نور. . . "، وإجماع المسلمين منعقد عليه. [النووي في شرح مسلم (14/ 177) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (7148) كتاب الأحكام، [7] باب ما يكره من الحرص على الإمارة، والنسائي (7/ 162، 8/ 225 - المجتبى)، وأحمد في مسنده (2/ 476)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 129، 10/ 95)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 160)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (7/ 93)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3681)، والزبيدي في الإتحاف (8/ 317)، وابن أبي شيبة في مصنفه (12/ 216).

(3)

سورة الزخرف (67).

أي كل صداقة وصحابة لغير اللَّه فإنها تنقلب يوم القيامة عداوة إلا ما كان للَّه عز وجل، فإنه دائم بدوامه، وهذا كما قال إبراهيم. عليه الصلاة والسلام. لقومه:{إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت: 25][تفسير ابن كثير (4/ 133)].

ص: 592

وروينا من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "ما بعث اللَّه من نبي ولا استخلف من خليفة إلَّا كان له بطانتان؛ بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالسوء وتحضه عليه، والمعصوم من عصم اللَّه"

(1)

أخرجه البخاري. وفيه تعريف سنة اللَّه في خليقته والمعصوم من عصم اللَّه.

وروينا من حديث عائشة مرفوعًا: "إذا أراد اللَّه بالأمير خيرًا جعل له وزير صدق، إن نسي ذكَّره وإن ذكر أعانه، وإذا أراد به غير ذلك جعل له وزير سوء، إن نسي لم يذكره وإن ذكر لم يعينه"

(2)

. رواه أبو داود بإسناد جيد على شرط مسلم. وفيه تعريف فيمن يريد به خيرًا ومن يريد به غير ذلك، ولا تعارض عند التأمُّل.

‌مجلس في النهي عن تولية الإمارة والقضاء وغيرهما من الولايات لمن سألها

أو حرص عليها فعرَّض بهما. روينا في الصحيحين

(3)

من حديث أبي موسى رضي الله عنهما قال: "دخلت على رسول اللَّه أنا ورجلان من بني عمير فقال أحدهما: يا رسول اللَّه، أَمِّرْنا على بعض ما ولَّاك اللَّه. عز وجل. وقال الآخر مثل ذلك فقال: "إنَّا واللَّه لا نولي هذا العمل أحدًا سأله أو أحدًا حرص عليه".

‌مجلس في الحياء وفضله والحث على التخلق به

روينا من حديث ابن عمر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مرَّ على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"دعه؛ فإن الحياء من الإيمان" أخرجاه

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (7198) كتاب الأحكام، [42] باب بطانة الإمام وأهل مشورته، والنسائي (7/ 158 - المجتبى)، وأحمد بن حنبل في مسنده (3/ 39)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 111)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 219)، والطحاوي في مشكل الآثار (3/ 21، 22)، وابن كثير في تفسيره (2/ 88).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (2932) كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في اتخاذ الوزير، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3707)، والزبيدي في الإتحاف (4/ 324، 6/ 173)، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (2/ 156).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (6923) كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، [2] باب حكم المرتد والمرتدة، ومسلم في صحيحه [14 - (1733)]، [15] كتاب الإمارة، [3] باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها، وأبو داود في الحدود، باب [1]، وأحمد في مسنده (4/ 409)، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 195).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (24) كتاب الإيمان، [16] باب الحياء من الإيمان، ورقم (6118) =

ص: 593

فالحياء منشأه من الإيمان، وكذا كل حالة قلبية فإنها تنشأ من الاعتقاد المناسب لها.

وروينا من حديث عمران بن حصين مرفوعًا: "الحياء لا يأتي إلَّا بخير"

(1)

أخرجاه. ولمسلم: "الحياء خير كله"، أو قال:"الحياء كله خير"

(2)

. فالحياء ثمرته كلها جميلة وأنواعه كلها خير.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "الإيمان بضع وسبعون شعبة أو بضع وستون شعبة، وأفضلها قول: لا إله إلَّا اللَّه، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"

(3)

أخرجاه. والبِضع. بكسر الباء ويجوز فتحها: هو من الثلاثة إلى العشرة. والشعبة: القطعة والخصلة. والإماطة: الإزالة. والأذى: ما يؤذي، كحجر وشوك وطين ورماد وقذر ونحو ذلك. فمرتبة الحياء فوق أدنى الخصال التي هي شعب الإيمان

(4)

ودون أعلاها، وإماطة الأذى فرعه، وأصل الشيء أعلا من فرعه.

وروينا من حديث أبي سعيد قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء

= كتاب الأدب [77] باب الحياء، ومسلم في صحيحه [59 - (36)] كتاب الإيمان [12] باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها وفضيلة الحياء وكونه من الإيمان، وأبو داود في سننه (4795)، والنسائي (8/ 121 - المجتبى)، وأحمد في مسنده (2/ 56، 147)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 397).

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (6117) كتاب الأدب [77] باب الحياء، ومسلم في صحيحه [60 - (37)] كتاب الإيمان، [12] باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها وفضيلة الحياء وكونه من الإيمان، وأحمد في مسنده (4/ 427)، والطبراني في المعجم الكبير (18/ 206)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5071)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 397)، والزبيدي في الإتحاف (8/ 308)، والخطيب في تاريخ بغداد (11/ 195).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [61 - (37)] كتاب الإيمان [12] باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها وفضيلة الحياء وكونه من الإيمان.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (9) كتاب الإيمان، [3] باب أمور الإيمان، ومسلم في صحيحه [57 - (35)]، [58 - (35)] كتاب الإيمان، [12] باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها وفضيلة الحياء وكونه من الإيمان، والنسائي (8/ 110 - والمجتبى)، والزبيدي في الإتحاف (2/ 260)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (6/ 147).

(4)

قال الإمام الحافظ أبو حاتم ابن حبان. بكسر الحاء: تتبعت معنى هذا الحديث مرة، وعددت الطاعات، فإذا هي تزيد على هذا العدد شيئًا كثيرًا، فرجعت إلى السنن فعددت كل طاعة عدها الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان فإذا هي تنقص عن البضع والسبعين، فرجعت إلى كتاب اللَّه تعالى فقرأته بالتدبر وعددت كل طاعة عدها اللَّه تعالى من الإيمان، فإذا هي تنقص عن البضع والستين، فضممت الكتاب إلى السنن وأسقطت المعاد فإذا كل شيء عده اللَّه تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم من الإيمان تسع وسبعون شعبة لا يزيد ولا ينقص [النووي في شرح مسلم (2/ 5) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 594

في خدرها، فإذا رأى شيئًا يكرهه عرفناه في وجهه"

(1)

أخرجاه. وفيه بيان أن أهله أكابر الكرام، ورأسهم فيه سيد الأنام عليه أزكى تحية وأفضل سلام، وأنه تتفاوت درجاته بالقوة والضعف. وحاصل هذه الأحاديث بيان سبب الحياء وثمرته وتنوعه ومرتبته وبيان أهله وتفاوت درجته، وكل منها مرغِّب وجاذب ومناد يمدحه وناطق. فائدة: حقيقة الحياء خلق يبعث على ترك القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق.

وروينا عن أبي القاسم الجنيد

(2)

. رحمه الله. قال: الحياء رؤية الآلاء. أي النعم. ورؤية التقصير، فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء.

‌مجلس في حفظ السِّر

قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}

(3)

فأمر تعالى بإيفائه، وهو شامل لكل عهد واستئمان على سرّ وتعاهده على حفظه وعدم إذاعته، وإنه {كَانَ مَسْئُولًا}: إما مطلوبا من العباد وإما مسئولا عنه وكله لتأكيد الإيفاء به. ولنذكر أحاديث دالة على التحذير من إفشاء السرّ ونشره وبيان تفاوت درجات نشره، وبيان أهل حفظ السر وأنهم أُولوا الأدب والكمال من الرجال والنساء والصبيان وأنه ينبغي قبول عذرهم في الكتمان من غير تكلُّف الإفشاء، وبيان مجاريه المتأكدة وبيان وقت الحفظ والنشر وما ليس بعذر يُستباح. فروينا من حديث أبي سعيد مرفوعًا: "إن من أشرِّ الناس عند اللَّه منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه ثم ينشر

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (3562) كتاب المناقب، [23] باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، ورقم (6102) كتاب الأدب [72] باب من لم يواجه الناس بالعتاب، ورقم (6119) كتاب الأدب [17] باب الحياء، ومسلم في صحيحه [67 - (2320)] كتاب الفضائل، [16] باب حيائه صلى الله عليه وسلم، وأحمد في مسنده (3/ 71، 91)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 192)، وابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 336)، والهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 26، 9/ 17).

(2)

أبو القاسم الجنيد بن محمد بن الجنيد، النهاوندي الأصل البغدادي القواريري الخزاز، وقيل: كان أبوه قواريريًا، يعني زجاجًا، وكان هو خزازًا، ولد ببغداد بعد العشرين والمائتين أو قبلها، وتفقه على أبي ثور، واختص بصحبة السري السقطي والحرمي وأبي حمزة البغدادي، وأتقن العلم، ثم أقبل على شبابه واشتغل بما خلق له، وحدث بشيء يسير، كان شيخ العارفين، وقوة السائرين وعلم الأولياء في زمانه، وتوفي سنة (298). [تاريخ الإسلام للذهبي، وفيات (291 - 300)].

(3)

سورة الإسراء (34).

{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} [الإسراء: 34] أي الذي تعاهدون عليه الناس، والعقود التي تعاملونهم بها، فإن العهد والعقد كل منهما يسأل صاحبه عنه {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} أي عنه. [تفسير ابن كثير (3/ 40)].

ص: 595

سرَّها"

(1)

أخرجه مسلم. وفيه أحد مجاري حفظ السرّ وهو ما يكون بين الزوجين. سُئل عروس عن أمره فقال: لو كان الإخبار من قصدي لم أُغلق الباب ولم أرخ الستر. وفيه من بيان مرتبته أن كل مُفْش لسر شرير، ولكن من أشرِّ الأشرار

(2)

هاتك ستر امرأته. وفيه أن السر قد يعرف بلسان الحال واحتقان الدائن به، والمرأة حريصة على ستر عورتها وأشباه ذلك، ولولا ضرورة الإفضاء ما أفشت من ذلك شيئًا وكذلك الرجل. وفيه أبلغ تحذير ممن هو أشرّ الناس منزلة يوم القيامة عند اللَّه العظيم، وفيه أن ذلك مما يكتم ولا يُفشى أبدًا.

وروينا من حديث عبد اللَّه بن عمر أن عمر حين تأيَّمت

(3)

بنته حفصة قال: "أتيت عثمان بن عفان وعرضت عليه حفصة فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر. فقال: سأنظر في أمري. فلبث ليالي ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي. فلقيت أبا بكر فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر. فصمت أبو بكر فلم يرجع إليَّ شيئا، فكنت عليه أوجد منِّي على عثمان، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إيَّاه فلقيه أبو بكر فقال: لعلك وجدت عليَّ حين عرضت عليَّ حفصة فلم أرد إليك بشيئًا قلت: نعم. قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [123 - (1437)] كتاب النكاح، [21] باب تحريم إفشاء سر المراة، والألباني في إرواء الغليل (7/ 74)، وفى آداب الزفاف (61).

(2)

قال القاضي: هكذا وقعت الرواية: أشر بالألف، وأهل النحو يقولون: لا يجوز "أشر وأخير"، وإنما يقال: هو خير منه وشر منه، قال: وقد جاءت الأحاديث الصحيحة باللغتين جميعا، وهي حجة في جوازهما جمبعا، وأنهما لغتان، وفي هذا الحديث تحريم إفشاء الرجل ما يجري بينه وبين امرأته من أمور الاستمتاع، ووصف تفاصيل ذلك، وما يجري من المرأة من قول أو فعل ونحوه، فأما مجرد ذكر الجماع فإن لم تكن فيه فائدة ولا حاجة فمكروه؛ لأنه خلاف المروءة. [النووي في شرح مسلم (10/ 8) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

قال العلماء: الأيم هنا الثيب، وللأيم معان أخر، قال القاضي: اختلف العلماء في المراد بالأيم هنا مع اتفاق أهل اللغة على أنها تطلق على امرأة لا زوج لها صغيرة كانت أو كبيرة، بكرًا كانت أو ثيبًا، قاله إبراهيم الحربي وإسماعيل القاضي وغيرهما. والأيمة في اللغة: العزوبة، ورجل أيم وامرأة أيم، وحكى أبو عبيدة أنه أيمة أيضًا.

قال القاضي: ثم اختلف العلماء في المراد بها هنا، فقال علماء الحجاز والفقهاء كافة: المراد الثيب. وقال الكوفيون وزفر: الأيم هنا كل امرأة لا زوج لها بكرا كانت أو ثيبا كما هو مقتضاها في اللغة، قالوا: فكل امرأة بلغت فهي أحق بنفسها من وليها وعقدها على نفسها النكاح صحيح، وبه قال الشعبي والزهري، قالوا: وليس الولي من أركان صحة النكاح بل من تمامه، وقال الأوزاعي وأبو يوسف ومحمد: تتوقف صحة النكاح على إجازة الولي. [النووي في شرح مسلم (9/ 173، 174) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 596

عرضت عليَّ إلَّا أني كنت علمت أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذكرها، فلم أكن أفشي سرَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولو تركها لقبلتها"

(1)

أخرجه البخاري. وتأيَّمت: صارت بلا زوج، وكان زوجها توفي. ووَجَدت: غضبت. وفيه مجرى ثان: وهو ما يكون في مجالس الكبراء. وثالث: وهو ما يقع من نحو الشيخ والأستاذ. ورابع: وهو ما يُحدِّث به الصاحب عن شأنه وعزائمه ونحو ذلك، فالصِّدِّيق اعتذر بأنه لم يكن يفشي سرَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(2)

. وفيه أن حافظ الأسرار وكاتمها خير الأمة وصديقها فليقتد به المستأذنون. وفيه أن الصديق عرف أن سر نفريته مجرد الذكر من غير يقين وقوع ذلك، ولو تركها الشارع قبلها. وفيه أن وقت الحفظ ما لم يقع، فالسر بعد وقوعه إذ لا أذى يتوهم حينئذ، فلذلك ذكره الصديق. وفيه أن حفظ قلوب الأحباب الأكابر ليس عذرا في إفشاء السر، فالصديق عرف غضب الفاروق في سكوته كما يصرح به قوله:"لعلك وجدت عليَّ. . . " إلى آخره. ومع هذا كتم السر ولم يفشه وكانت موجدة عمر عليه أسهل من إفشاء سرِّه صلى الله عليه وسلم.

وروينا من حديث عائشة قالت

(3)

: "كُنَّ أزواج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عنده، فأقبلت فاطمة تمشي مشيتها من مشية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلما رآها رحَّب بها وقال: "مرحبا بابنتي"، ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله ثم سارَّها فبكت بكاءً شديدا، فلما رأى جزعها سارَّها ثانية فضحكت

(4)

، فقلت لها: خصَّك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من بين نسائه بالسِّرار ثم أنت تبكين، فلما قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سألتها: ما قال لك رسول اللَّه؟

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (5122) كتاب النكاح، [34] باب عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير.

(2)

قال الذهبي في ترجمته لحفصة أم المؤمنين: تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة ثلاث من الهجرة، قالت عائشة: وهو التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. ويروى أنها ولدت قبل النبوة بخمس سنين، وهي أخت عبد اللَّه بن عمر وأمهما هي زينب أخ عثمان بن مظعون، وكانت حفصة قبل النبي صلى الله عليه وسلم تحت خنيس بن حذافة السهمي، أحد من شهد بدرًا فتوفي بالمدينة. [تاريخ الإسلام، وفيات (41 - 50)].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (3715، 3716) كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، [11] باب مناقب قرابة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومنقبة فاطمة. عليها السلام. بنت النبي صلى الله عليه وسلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"فاطمة سيدة نساء أهل الجنة"، ومسلم في صحيحه، [98 - (2450)] كتاب فضائل الصحابة، [15] باب فضائل فاطمة بنت النبي. عليها السلام.

(4)

قولها: "فأخبرني أني أول من يلحق به من أهله فضحكت" هذه معجزة ظاهرة له صلى الله عليه وسلم بل معجزتان، فأخبر ببقائها بعده، وبأنها أول أهله لحوقا به، ووقع كذلك، وضحكت سرورًا بسرعة لحاقها، وفيه إيثارهم الآخرة وسرورهم بالانتقال إليها والخلاص من الدنيا. [النووي في شرح مسلم (16/ 5) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 597

قالت: ما كنت لأفشي على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سرَّه. فلما توفي رسول اللَّه قلت: عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما حدثتيني ما قال لك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(1)

فقالت: أما الآن فنعم، أما حين سارَّني في المرة الأولى فأخبرني أن جبريل صلى الله عليه وسلم كان يعارضه القرآن في كل سنة مرة أو مرتين، "وأنه عارضني الآن مرتين، وإني لا أُرى الأجل إلَّا قد اقترب فاتقي اللَّه واصبري فإنه نعم السلف أنا لك". فبكيت بكائي الذي رأيت، فلما رأى جزعي سارَّني الثانية فقال:"يا فاطمة، أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة؟ " فضحكت ضحكي الذي رأيت"

(2)

أخرجاه، والسياق لمسلم. وفيه مجرى خامس وهو ما يكون بين الوالد وولده، وفيه أن من أهل حفظ السر سيدة نساء المؤمنين فليُتأسَّى بها. وفيه أن تعريض أم المؤمنين لها بقولها: خصك بكذا وأنت تبكين، ليس عذرا يُستباح بمثله الأشياء، بل بتصريحها المحكي بقولها: فلما مات رسول اللَّه سألتها: ما قال لك؟ وفيه أن المعتذر لا يُكلَّف، والصِّديقة

(3)

لم تُلح على الزهراء فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول اللَّه. وفيه أن الزهراء فهمت كونه سرًّا باختصاصها به دون نسائه. وفيه أن وقت الحفظ مدة الحياة النبوية لقرينة أن اقتراب الأجل سبق الإخبار قبل الموت أما بعده فأي مشقَّة فيه، فمن السر ما يُفشَى لكن وقت الإفشاء كما سلف في قصة الصِّديق.

وروينا من حديث ثابت عن أنس

(4)

قال: "أتى عليَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب

(1)

روى الترمذي في سننه (3878) كتاب المناقب، باب فضل خديجة عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: حسبك من نساء العالمين مريم ابنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون"، وقال الترمذي: هذا حديث صحيح.

(2)

تقدم تخريجه أول الحديث في الصحيحين، وأخرجه أيضًا: الترمذي في سننه (3873) كتاب المناقب، باب فضل فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم والحاكم في المستدرك (3/ 156) وأبو نعيم في حلية الأولياء (2/ 40)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (6/ 244) وتهذيب خصائص علي للنسائي (64).

(3)

كذا كان لقب عائشة: الصديقة بنت الصديق، ولنا كتاب (الحصون المنيعة فى براءة عائشة الصديقة باتفاق أهل السنة والشيعة) من تحقيقنا. [طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

من فضائل أنس بن مالك فيما رواه مسلم [142 - (2481)] من فضائل الصحابة، باب من فضائل أنس، عن أنس قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا وما هو إلا أنا وأمي وأم حرام خالتي، فقالت أمي: يا رسول اللَّه خويدمك، ادع اللَّه له، قال: فدعا لي بكل خير، وكان في آخر ما دعا لي به أن قال:"اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيه".

قال النووي: هذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم في إجابة دعائه.

وفي رقم (143) قال أنس: فواللَّه إن مالي لكثير، وإن ولدي وولد ولدي ليتعادون علي نحو المائة اليوم.

ص: 598

مع الغلمان فسلَّم علينا، فبعثني إلى حاجة فأبطأت على أمي، فلما جئت قالت: ما حَبَسَك؟ قلت: بعثني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لحاجته. قالت: وما حاجته؟ قلت لها: سرّ. قالت: لا تُخبرنَّ بسر رسول اللَّه أحدًا. قال أنس: واللَّه لو حدثت أحدا لحدَّثتك به يا ثابت"

(1)

أخرجه مسلم، وللبخاري بعضه مختصرًا. وفيه مجرى سادس وهو ما يكون بين الرجل وخادمه. وفيه أن من أهل الحفظ أنس، وحُقَّ له إذ تربَّى في بيت النبوة. وفيه قبول أُمِّه عُذره، بل أكدته بقولها: لا تخبرنَّ بسرِّه أحدا. وعرف أنس أنه (. . . . .)

(2)

عليه أو لقرينه، وفيه أن من السرّ ما لا يُفشَى. وفيه أن سؤال الوالدة مع عظم حقوقها

(3)

ليس عذرًا يبلغ الإفشاء به.

‌مجلس في الأمر بالمحافظة على ما اعتاده من الخير

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}

(4)

. وفيه تحذير التارك لخير اعتاده من تغيير اللَّه تعالى نعمه عليه. وقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا}

(5)

. والأنكاث: جمع نكث، وهو الغزل المنقوض. وفيه التنفير من ذلك أيضًا بتشبيهه بامرأة حمقاء نقضت غزلها كما ذكر، فالخير مُقَوٍّ للإيمان والترك له نقيضه، ولا أبلغ من ذلك منفِّرا. وقال تعالى:{وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ}

(6)

. وفيها النهي

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [145 - (2482)] كتاب فضائل الصحابة، [32] باب من فضائل أنس بن مالك رضي الله عنه، وروى البخاري في صحيحه مختصرًا (6289) كتاب الاستئذان، [46] باب حفظ السر، عن أنس بلفظ:"أسر إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم سرًا فما أخبرت به أحدًا بعده، ولقد سألتني أم سليم فما أخبرتها به". وبلفظ البخاري رواه مسلم رقم [146 - (2482)] به.

(2)

قدر ثلاث كلمات غير واضحة.

(3)

من عظم حقوق الأم ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة: "جاء رجل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "ثم أمك" قال: ثم من؟ قال: "ثم أمك" قال: ثم من؟ قال: "ثم أبوك". قال العلماء: سبب تقديم الأم كثرة تعبها عليه وشفقتها وخدمتها ومعاناة المشاق في حمله، ثم وضعه، ثم إرضاعه، ثم تربيته وخدمته وتمريضه وغير ذلك، ونقل الحارث المحاسبي إجماع العلماء على أن الأم تفضل في البر على الأب، وحكى القاضي عياض خلافا في ذلك، فقال الجمهور بتفضيلها، وقال بعضهم: يكون برهما سواء، قال: ونسب بعضهم هذا إلى مالك، والصواب الأول، لصريح هذه الأحاديث في المعنى المذكور واللَّه أعلم. [النووي في شرح مسلم (16/ 83) طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

سورة الرعد (11).

(5)

سورة النحل (92).

(6)

سورة الحديد (16). =

ص: 599

عن مشابهة الغضب والضلال في قسوة ببعد عن الرحمة وتوقع في الفسق والخروج عن الدين فقال تعالى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}

(1)

وفيها العتب والتوبيخ على من لم يرع ما التزمه من الخير حق رعايته.

وروينا في الصحيحين من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص قال: قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يا عبد اللَّه، لا تكن مثل فلان؛ كان يقوم الليل فترك قيام الليل"

(2)

. وفيه النهي عن التأسِّي بالمتخلِّفين. والحاصل من ذلك كله التنفير من التهاون في ذلك والنهي عن اتخاذ أهل المهانة قدوة ومؤتسى.

‌مجلس في استحباب طيب الكلام وطلاقة الوجه عند اللقاء

قال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88]. أمر بخفض الجناح، ومن لوازمه الطلاقة المخالفة لمصاعرة الخد. وقال تعالى:{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]. حذَّر من العبوسة وبيان ثمرتها وهي المعاداة والنفرة والمباعدة؛ إذ منشأها الفظاظة وغلظ القلب.

وروينا من حديث عدي بن حاتم مرفوعًا: "اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم

= نهى اللَّه تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى لما تطاول عليهم الأمد بدلوا كتاب اللَّه الذي بأيديهم واشتروا به ثمنا قليلا، ونبذوه وراء ظهورهم وأقبلوا على الآراء المختلفة والأقوال المؤتفكة، وقلدوا الرجال في دين اللَّه، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون اللَّه، فعند ذلك قست قلوبهم، فلا يقبلون موعظة ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد. [تفسير ابن كثير (4/ 310)].

(1)

سورة الحديد (27).

أي فما قاموا بما التزموه حق القيام، وهذا ذم لهم من وجهين: احدهما: الابتداع في دين اللَّه ما لم يأمر به اللَّه.

والثاني: في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى اللَّه عز وجل. [تفسير ابن كثير (4/ 315)].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (1152) كتاب التهجد [19] باب ما يكره من ترك قيام الليل لمن كان يقومه، ومسلم في صحيحه [185 - (1159)] كتاب الصيام، [35] باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوت به حقا، أو لم يفطر العيدين والتشريق، وبيان تفضيل صوم يوم وإفطار يوم، وأحمد في مسنده (2/ 170)، وابن خزيمة في صحيحه (1129)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 445)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1234)، والقرطبي في تفسيره (16/ 57).

ص: 600

يجد فبكلمة طيبة"

(1)

أخرجاه. فالكلمة الطيبة سِتر من النار.

وروينا من حديث أبي ذرٍّ مرفوعًا: "لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق" أخرجه مسلم

(2)

. فطلاقة الوجه لا ينبغي أن يُحتقر أمره.

‌مجلس في استحباب بيان الكلام وإيضاحه للمخاطب وتكريره ليفهم إذا لم يفهم إلَّا بذلك

روينا من حديث أنس "أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلَّم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تُفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلَّم عليهم سلَّم عليهم ثلاثا" أخرجه البخاري

(3)

.

وروينا من حديث عائشة قالت: "كان كلام رسول اللَّه كلاما فصْلا يفهمُهُ كلُّ من سمعه"

(4)

رواه أبو داود. ففي الاقتداء بسيد المرسلين الكاملين أُسوة حسنة وليس (. . .)

(5)

.

ووقارًا

(6)

وتواضعًا لا يضربون أقدامهم ولا يخفقون بنعالهم مراءً وبَطَرًا، وأهل هذا عباد الرحمن وكفى به ترغيبا.

وروينا من حديث عائشة قالت: "ما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مستجمعا قطُّ ضاحكا

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (6023) كتاب الأدب، [34] باب طيب الكلام، ومسلم في صحيحه [66 - (1016)] كتاب الزكاة، [20] باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، والترمذي (2415) كتاب صفة القيامة، [1] باب في القيامة، والنسائي (5/ 75 - المجتبى)، وأحمد بن حنبل في مسنده (4/ 256، 258)، والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 225، 344)، والطبراني في المعجم الكبير (12/ 164)، والهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 105، 106)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 355، 6/ 382)، والزبيدي في الإتحاف (10/ 470، 6/ 261).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [144 - (2626)] كتاب البر والصلة والآداب، [43] باب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء، وأحمد في مسنده (3/ 483، 5/ 63، 64) والبيهقي في السنن الكبرى (4 م 188، 10/ 236)، وابن حبان في صحيحه (866، 1221، 1450 - الموارد) والزبيدي في الإتحاف (7/ 482، 533).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (94، 95) كتاب العلم [3] باب من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم عنه فقال: "ألا وقول الزور" فما زال يكررها، ورقم (6244) كتاب الاستئذان ثلاثًا، وأحمد في مسنده (3/ 213)، والحاكم في المستدرك (4/ 273)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (208).

(4)

أخرجه أبو داود في سننه (4839) كتاب الأدب، باب الهدي في الكلام، وأحمد في مسنده (6/ 138)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 207)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (8/ 289).

(5)

سقطت الورقة (252) من المخطوط.

(6)

أول الورقة (253).

ص: 601

حتى ترى منه لهواته، إنما كان يتبسم"

(1)

أخرجاه. اللهوات: جمع لهاة، وهي اللحمة التي في أقصى سقف الفم. وفيه الانبساط وصفته، وفيه التبسم دون الاستجماع، وهذه صفة أكرم الخلق على اللَّه وخيرهم سمتًا وهديًا. وقد تضمنت الآية والحديث بيان مجاري الوقار وصفته والترغيب فيه وبيان أهله.

‌مجلس في الندب إلى إتيان الصلاة والعلم ونحوهما من العبادات بالسكينة والوقار

قال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}

(2)

.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إذا أُقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون عليكم السكينة، فما أدركتم فصلُّوا وما فاتكم فأتمُّوا"

(3)

أخرجاه. زاد مسلم: "فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة"

(4)

وفيه الأمر بالسكينة والنهي عن السعي المخالف لها، أما الاهتمام والبدار وحسن الإقبال ونحوها فذلك هو المراد بقوله:{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]

(5)

، {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}

(6)

. وفيه أن إتمام ما تفوته السكينة خير من فضل ما يدركه بالعجلة، وأن الحكمة التي توقع في العجلة ليس إلَّا التلبس بالصلاة وشغل الزمان به دون المشي، وبيان أن ذلك وهْمٌ فاسد.

وروينا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه دفع مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم عرفة فسمع

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (6092) كتاب الأدب، [68] باب التبسم والضحك، والحاكم في المستدرك (2/ 456)، والزبيدي في الإتحاف (7/ 105).

(2)

سورة الحج (32).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (908) كتاب الجمعة، [18] باب المشي إلى الجمعة، ومسلم في صحيحه [151 - (602)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، [28] باب استجاب إتيان الصلاة بوقار وسكينة، والنهي عن إتيانها سعيًا، والترمذي (327)، وابن ماجه (775)، وأحمد في مسنده (2/ 270، 452)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 297، 4/ 228)، وابن خزيمة في صحيحه (1505، 1772)، وعبد الرزاق في مصنفه (3102، 3404).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [152 - (602)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، [28] باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة، والنهي عن إتيانها سعيا.

(5)

سورة الجمعة (9). أي اقصدوا واعمدوا واهتموا في سيركم إليها، وليس المراد بالسعي ههنا المشي السريع وإنما هو الاهتمام بها، كقوله تعالى:{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الإسراء: 19]. [تفسير ابن كثير (4/ 365)].

(6)

سورة آل عمران (133).

ص: 602

رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم زجرًا شديدًا وضربًا للإبل وصوتًا، فأشار بسوطه إليهم وقال:"أيها الناس، عليكم بالسكينة فإن البرَّ ليس بالإيضاع"

(1)

أخرجه البخاري. ولمسلم بعضه، البر طاعة، والإيضاع بضاد معجمة وقبلها همزة مكسورة: الإسراع. وفيه نفي وهم أن العجلة مما يتقرب به إلى اللَّه تعالى، فإن البر ليس بالإيضاع الذي تتهالكون عليه، وأما نحو:{وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}

(2)

فذلك هو البرّ والقربة. وقد تضمنت الآية والأحاديث المذكورة الترغيب في السكينة والأمر بها والنهي عن ضدَّها ونفي توهم التقرب بها.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (1671) كتاب الحج، [95] باب أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسكينة عند الإفاضة، وإشارته إليهم بالسوط، وأحمد في مسنده (1/ 269، 5/ 201، 202)، والحاكم في المستدرك (1/ 465، 3/ 275).

(2)

سورة طه (84).

ص: 603